يجيد القول فيما يرغبه، فلعلَّ أبا الفرج كان من رجال الحرب وأبطالها. أصخ إليه يصف جيش سيف الدولة، فإنه ليصك الآذان بريح الحرب تدوي في قصيده، فقصف الرعد وزمزمته دون صهيل الخيول، ووميض البرق ولمعانه لا يبلغان بريق السيوف، وحوافر الخيل أهلة ونجوم تنافس ذكاء، تلك تضيء في السماء، وهذه تتطاير رجوماً للأعداء، وعين الشمس قد طرفها بعثيره ولكنها احتملته وجعلت منه إثمداً تحتكل به وتستشفى؛ كل ذلك في ألفاظ جزلة وعبارات ضخمة، وطبع قوي، وخيال سري؛ لا ينال من جماله ناقد، ولا يحط من جلاله حاقد، قال:
قاد الجياد إلى الجياد عوابساً ... شُعثاً ولولا بأسه لم تنقد
في جحفل كالسيل أو كالليل أو ... كالقطر صافح موج بحر مزبد
متوقد الجنبات يعتنق القنا ... فيه اعتناق تواصل وتودد
مثعنجر بظبا الصوارم مبرق ... تحت الغبار وبالصواهل مرعد
رد الظلام على الضحى فاسترجع ال ... إظلام من ليل العجاح الأربد
وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناطرين أهلة في الحلمد
وكأن طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد
وهذه أبيات من قصيدة أخرى يمدح بها أبا شجاع فاتك بن يانس، ويصف فيها إحدى وقائعه الحربية التي خلدتها هذه القصيدة بما جاء فيها من تشبيه رائع، ووصف جامع. وأي خلود لموقعة انقلب نهارها ليلاً غاسقاً، لا يكشف حلكته إلا كر الفرسان في الميدان ومبادلة الضراب والطعان، بأسياف لامعة، وصوارم بارقة قاطعة، حتى استحال البر بحراً بما سال في جنباته من دماء الشجعان، ورأى الأعداء أن الفرار رمز الانتصار، وأن أعظم فروسية يعتز بها أن يستطيعوا إعطاء الجياد القياد، لا أن يثبتوا للجلاد والذياد. قال:
واليوم من غسق العجاجة ليلة ... والكر يخرق سجفها الممدودا
وعلى الصفاح من الكفاح وصدقه ... روع أحال بياضها توريدا
والطعن يغتصب الجياد شياتها ... والضرب يقدح في التريك وقودا
وعلى النفوس من الحمام طلائع ... والخوف ينشد صبرها المفقودا
وقد استحال البر بحراً والضحى ... ليلا ومنخرق الفضاء حديدا(228/26)
وأجل ما عند الفوارس حثها ... في طاعة الهرب الجياد القودا
حتى إذا ما فارق الرأي الهوى ... وغدا اليقين على الظنون شهيدا
لم يغن غير أبي شجاع والعلا ... عنه تناجى النصر والتأييدا
وتكفينا في وصف الحرب هاتان القطعتان فهما تغنيان عن قصائد وتبينان عما له في الوصف الحربي من قدم راسخة وأخيلة سامية؛ ولنعرض لأشياء أخرى وصفها فأجاد، فمن ذلك قوله يصف فرساً:
إن لاح قلت: أدُمية أم هيكل؟ ... أو عنَّ قلت: أسابح أم أجدل
تتخاذل الألحاظ في إدراكه ... ويحار فيه الناظر المتأمل
فكأنه في اللطف فهم ثاقب ... وكأنه في الحسن حظ مقبل
وهو من أجود ما وصفت به الجياد، ومن أحسن ما استحدث في تشبيهها بالفهم الثاقب والحظ المقبل، كما أنه أتى في وصف سرعتها بما لم يأت به الكثير ممن وصفوها قبله؛ فأي سرعة تلك التي تتخاذل الألحاظ دون إدراكها، ويحار الطرف المتأمل في معرفة كنهها؟ ومن قصيدة له في وصف النرجس وهي من خير ما قيل فيه:
ونرجس لم يعد مبيضه ال ... كأس ولا أصفره الراحا
تخال أقحاف لجين حوت ... من أصفر العسجد أقداحا
كأنما تهدِي التحايا به ... لطفاً إلى الأرواح أرواحا
يلهى عن الورد إذا مارنا ... ويخلف المسك إذا فاحا
أحبب به من زائر راحل ... عوض بالأحزان أفراحا
فانتهز الفرصة في قربه ... وكن إلى اللذات مرتاحا
وله يصف الورد، وقد ألمَّ في الأبيات بوصف مجلس الأنس فأبدع في الغرضين، وفوق فأصاب في الرميتين، وأتى بأنواع من البديع أزهر من أزهار الربيع، فأشرقت ديباجة شعره عن در منضود وأسفرت عن جوهر منظوم قال:
زمن الورد أظرف الأزمان ... وأوان الربيع خير أوان
أدرك النرجس الجني وفزنا ... منهما بالخدود والأجفان
أشرف الزهر زار في أشرف الده ... ر فَصِلْ فيه أشرف الإخوان(228/27)
واجلُ شمس العقار في يد بدر ال ... حسن يخدمك منهما النيران
وأدرها عذراء وانتهز الإم ... كان من قبل عائق الإمكان
وقال يصف قدحاً أزرق قد صورت عليه تهاويل ورسم عليه نقوش وتصارير، تحسده عليها كؤوس لم تنل ما نال من زينة منحته شعراً خالداً:
كم منة للظلام في عنقي ... بجمع شمل وضم معتنق
وكم صباح للراح أسلمني ... من فلق ساطع إلى فلق
فعاطنيها بكراً مشعشعة ... كأنها في صفائها خلقى
في أزرق كالهواء يخرقه اللح ... ظ وإن كان غير منخرق
كأن أجزاءه مركبة ... حسناً ولطفاً من زرقة الحدق
مازلت منه منادماً لعباً ... مذ أسكرتها الشفاه لم تفق
تختال قبل المزاج في أزرق ال ... فجر وبعد المزاج في الشفق
تغرق في أبحر المدام فيسْ ... تنقذها شربنا من الغرق
فلو ترى راحتي وزرقته ... من صبغها في معصفر شرق
لخلت أن الهواء لاطفني ... بالشمس في قطعة من الأفق
وحسبنا من وصفه الممتع ما قدمناه ففيه صورة رائعة له، ورسم صادق لشعره، يملأ النفس روعة وإعجاباً. وإلى عدد تال نذكر أمثلة لبقية أغراض شعره ونماذج من نثره إن شاء الله
عبد العظيم علي قناوي(228/28)
مقالات إسماعيلية
لأستاذ جليل
حلّ برَقّادَةَ المسيحُ ... حل بها آدم ونوحُ
حل بها (الله) ذو المعالي ... وكلُّ شيء سواه ريحُ
هذا (مَعَدٌّ) والخلائق كلُّها ... هذا (المعزّ) متوَّجاً والدينُ
هذا ضميرُ النشأة الأولى التي ... بدأ الإلهُ، وغيبُها المكنونُ
من أجل هذا قُدِّر المقدور في ... أمّ الكتاب، وكُوِّن التكوينُ
فارزقْ عبادَك منك فضل شفاعة ... واقربْ بهم زلفى فأنت مكين
هذا ما وُعِدَه العالمون والمتعلمون المثقَّفون قرّاءُ (الرسالة الهادية) من (المقالات الإسماعيلية)، وإن الناس منذ الأزمنة القديمة ليتطلعون إلى علْمِ نحلة القوم، وإن الباحثين في الشرق والغرب ليجدّون مفتشين منقبين في كل وقت عن تلك المقالات لينشروها، إذ أنّ أهلها في القديم والحديث قد خبؤوها وكتموها - ويا ليت شعري أيّان يريدون أن يعلنوها؟ - ولم تفدنا كتب (الملل والنحل) لمثل الشهرستاني والأشعري وابن حزم والبغدادي والتصانيف في (مفاضح الباطنية) لمثل الغزالي وابن تيمية - إلا نُتَفاً نُتِشت من مكنونات الجماعة نتشاً. وليس هناك كتاب معروف مطبوع ظاهر ألَمّ بمذهب (الإسماعيليين) إلا (رسائل إخوان الصفاء) فإن فيها خلاصة الإسماعيلية ملفوفة بإسلامية لَفَّ ماكر داه، وهي الإسماعيلية، هي الباطنية، وهم الدهاة دعاتها!
وقد توَّه ما فيها علماءً متعمقين كأبي حيان التوحيدي وشيخه أبي سليمان السجستاني وغيرهم في المتقدمين، وحيّر حاذقين ألمعيين من المتأخرين من أعجميين وعربيين مثل (بارييه دومينار) والدكتور طه حسين. ولولا أن الأمر استعجم عليهم ما قال أبو حيان وشيخه مثل الذي رواه القفطي في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء)، وما كان الدكتور طه حسين سطر في (مقدمته) لتلك الرسائل ما سطر، ولم يكتب دومينار إلى الأستاذ أحمد زكي (رحمه الله) ذلك الكتاب. وإذا كان أمثال هؤلاء البارعين النحارير قد حاروا ودير بهم (فهم في أمرٍ مَريج) فكيف حال من هم دونهم؟
والقصد من هذا الكلام أن (مقالة) الجماعة - وإن ضمتها تلك الرسائل المطبوعة المنشورة(228/29)
- لم تنفك مستورة محجوبة.
وقد قال لي منذ بضع سنين (الدكتور حسين الهمداني) - وهو من شيعة الدعوة القديمة للإسماعيلية - إنه قد اطلع على مائة مخطوطة من كتب القوم منها (زهر المعاني) الذي أخذ بمؤلَّفه فيه درجة (الدكتوراه) من جامعة في لندن، وأنه عازم على نشرها أو نشر طائفة منها. أفنقول - ولم تحقق تلك الأمنية المتمناة -: (وحِيل بينهم وبين ما يشتهون) أم نرتقب تلك الكتب في المرتقبين؟
إذا ضنّ الأضنّاء بالضنائن ولم تصل أيدينا إلى تلك الخبايا في المخادع والزوايا، فليس لنا إلا غزو الغازين من الغربيين، والغازي - وإن كان قوياً - يُغزى. . . والناهب - يا أخا العرب - يُنهب. . .
وكنت إذا قومٌ غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذيّاك (همدانُ) ظالم
وقد قلت لإسلاميتي (الصحيحة) وعربيتي - وأنا أنسج ما ستتلوه -: قفا واسمعا ولا تتكلما. لا تجادلا ولا تناقشا، فليس المقام مقام جدَل، ولا عدْل ميَل، فالمقالات - والنّية هذه - تحكى كما وجدت، وتعطى كما أخذت؛ وإن وجد الخطأ اللغوي لا يُصلح، وإن جاء تصحيف أو تحريف في كلمة أو جملة - حاشا الآيات القرآنية - يُستبْق، وليس لديّ نسخة ثانية حتى أرجع إليها. ورب إبقاء على شيء خير من تغييره، والقارئ الفهِم لا تخفي عليه الكلمة محرفة ولا تستبهم. ولن يصدنا ذلك عن تعليق أو حاشية
ولو قلنا لأصحاب لنا أدباءَ فاضلين من (الحاكمية) و (الإسماعيلية) في بر الشام ممن لا يعبدون (العَدَم) وقد عبَد الأجداد والآباء (العبيديين) وإن كانوا هم - أي الأبناء المثقفون - بعبادتهم كافرين. فلو قلنا لهم: أَطلِعونا يا جماعة على رسائلكم حتى نعارض (نقابل) هذه (المقالات) بها ونصلحها لقالوا: ما عندنا ولا نعرفها، وأنا مسلمون؛ وإنها لديهم، وإنهم يعرفونها، ولكن المتشيطنين يكتمون. . .
ولم يكن في المقالات هذا المسمى بعلامات الترقيم - إلا في اثنتين - فرأيت وضعه حتى لا تقتحم العين الصفحة قد التصق بعضُ عباراتها ببعض فكدّ البصر، وما هذا الصنع بأمر نكر
وقدرُ هذه (المقالات) عظيم. ومن عرف نحلة القوم أو ألمّ بها أدرك مما يتلوه مما نمليه ما(228/30)
لا يدركه غير العارف؛ ولو درى شيئاً من اصطلاحات الباطنية الذين قالوا تائهين ضالين ما قالوه في (رسائل إخوان الصفاء) ما جاءوا خابطي عشوة، وصاروا في عصر البحث والتحقيق ضحكة. ومن قذف بمقال لا ينصره نص ولا يسانده دليل، فهو هذِر، وكلامه هدَر. . .
واعلم أن هذه الإسماعيلية لم تظهر فيها حتى اليوم كتب قديمة تبين كيفية بدئها وحقيقة حالها تبييناً صحيحاً موضحاً شافياً، ولم يهد بحث الباحثين في هذا الزمن إلى شيء من ذلك
قلت مرة لعالم عاقل إسماعيلي: دعْ قول الإسماعيلية في أصلها ودع حديث خصمها، فهل أوصلك تحقيقك الناقد، وتفتيشك المدقق، إلى مصدرها الصحيح ومنبعها؟
فقال: لا
فنحن من نشوء هذه النحلة في ظلمات بعضها فوق بعض. ولعل كتباً قديمة تنجم فتضيء هذا الليل المظلم. ورب علماء محققين لا يجتزئون بالقريب المعروف، بل يمشون أقوياء أشداء صابرين في فلوات البحث فيصلون إلى (عين المعرفة)؛ وربّ غوَاصين يغوصون في بحور البحث والتنقيب غوْصات إثر غوصات فيخرجون لنا شيئاً. ولن يجيء بالدر إلا الغواصون الماهرون
فصل في مناجاة المعز لدين الله
قال هذه:
(إلهي) كنت رتقك، قبل أن تظهر فيّ بفتقك، وأوجدت عني خلقك، وصدرت عني دنياك في الذات والأسماء والصفات. ولست أنا بك متصلا، ولا عنك منفصلا، إذ أنا بك تبعيض، وأنا راجع إليك عند النقلة والتفويض. انقلْ الصورة كيف تشاء، وأعط النور الإلهي لمن تشاء بما قدمت أيديهم ولا نضْم مثقال ذرة. (إلهي) أني كما أنت عظيم في سلطانك، وأنا قدرتك وبرهانك، وإرادتك ومكانك. (إلهي) بمعرفة بي استجبْ وسلمْ وأشرقْ ألوانك، وأني وجدتك بعد أن عرفتني التلاقي، واتلف واضمحل. (إلهي) وأُفني من جهلك، وفاز وبقي من عرفني بالبداية وفضّلك. (إلهي) أترى يعرفك سواك، ويدنو منك إلا إياك، أم يعدو إليك من خرج عن طاعتك، وطاعة حدودك وأوليائك. إلهي بك استدللت ومنك وصلت وإليك (إلهي) ليس غيري لك حجاب، فكيف الوصول إليك من غير باب، فأنا منك بحيث النهوض(228/31)
والنهمة، وأنت أنا بحيث أنا القدرة والعظمة، وحيث أنا بك خلقت أولياءك، وبدعت ملائكتك وأنبياءك، فلما عرفتك كنت ذلك، إذ ليس يعرفك سواك، ويدنو منك إلا إياك، باتصالك بحدودك وأوليائك. (إلهي) إن كثرت الأشخاص، فهي أنت بلا اختصاص، وأنا منك بديت، لأني بحدودك اهتديت؛ إن عرشك عليه استويت. (إلهي) أوجدتني منك في ظاهر الأمر بصفة كانت الموجودات على دفعة واحدة، فأنت بي باطناً وأنا بك ظاهراً. (إلهي) ظهرت الموجودات كلها بي، واخترعت مني كل رسول ونبي، وأنا ابن لك وأنت أبي. أنا منك كالفيض، وشراقه وليف فليس الفيض غير الفيض، فقد غاب، واضمحل كلما في النار وذاب. (إلهي) رامت رؤساء الجهل وأهل العمى والضلال وذوي الإنكار والجحود، وأنهم خرجوا من العدم إلى الوجود، وهم في العدم. يا (إلهي) وصلت إليك، ومنك دخلت عليك، فأنا قدرتك الظاهرة، وعني ظهرت آياتك الباهرة. إلهي حقني ابتلاؤك، لأنها حلاوة رضائك، فنفسي منك وإليك انتهت. (إلهي) ظهرت للخلق حتى يعرفوك من حدودك فحجبتهم عنك لما زادوني إنكارك، وذلك أنهم ضلوا في التكبير عن أبيهم، فلم يجدوا لهم مرشداً أبداً يهديهم، فأظهروك بي لأني أنت، وكوني بك ظاهر، وأنت فيّ حاضر. (إلهي) أنا الكرسي والمكان، والوقت والزمان، وأنا منشئ المثقلات، وأنا بك عالم ما يكون وما كان. (إلهي) أنا اسمك وموجود اسمك، وأنا البشير إليك، والدالّ عليك، والدالّ على من دالّ عليك، فمن تمسك بحدودك نجا، والصورة معادة ورآء ليس دونك حجاب غيره فقصده لا بلاء سواك بأوحد ولا لك اسم سواي فيستطاع ويعبل، وأنا صاحب البقاء، وعلى ذات النطقاء، وأنا فيّ النطق. (إلهي) قصرت لذاتك إنكار الباحثين إذ لم يقصدوا لحجابك، وأحجبتهم عن معرفتك إذ لم يدخلوا إليك من بابك، فهلكوا لما أنكروا لكلمتك، وتاهوا لما عجزوا عن معرفتك. (إلهي) أنت ذاتي ونفسي، ومعدني وقدسي، ونطقي وأنسي، ألا ففيَّ اختفيت فأشرقت، وبي اقتربت فأبرقت. أنا نظرتك بكلمتك الإلهية، وكلمتك القدسية، وذاتك الأبدية، والذات الأزلية الكلية، ونورك، وبي ظهورك، بك ظهرت وبي نهيت وأمرت، فمن عرفني فقد نزهك، ومن اتصل إليك بحدودي (فقد عرفك) فقد عرفتك أنا غيري فتكون أعدادك، ولا أنت غيري فتكون أفرادك. أنا كنت فيك رتقاً، وفيّ ذلك حقاً، فأطلقتني ولم تفصلني في وجودي. أرجوك تعيد ووقت تطلب فتقصد، فأنا منك كضوء(228/32)
السراج من السراج، بلا تبعيض ولا إمزاج. (إلهي) صدق المستجيب لما قال لأبيه، إلهي منك بديت، وإلى معرفتك اهتديت، وإليك توجهت، وإليك تبت، وبك منك إليك سعيت، ولو فرطت فيك لاضمحللت وتلاشيت، ولو اقتديت بغيرك أشركت وتعديت في طاعتي لك فعرفت ودركت (إلهي) كادت نفسي لعظيم امتحانك أن تجهل وتخْفَى كنه علمك وتكفر حتى ألقت عنانها بجودة من نور معرفتك، فجذِبت وتلطف قداراتها بضوء من علمك فمسكت فيه بعد ما كنت جحْت وتبتُ عندما سليت بنعمتك فتهدت بعد (أن) كانت جحدت فأورثها الثبات بالنعيم المقيم والنجاة من العذاب. (إلهي) عجزت المقصرون بنظرهم إليك وقالوا لا يجوز الصفة أن تدرك الصانع، فلو علموا أني بك استقرارهم، وأن تصديقهم هو إنكارهم. (إلهي) هل يعرفك من ليس منك ويتفكر إنما هو أنت محال. (إلهي) لم لم لا تنقل الصورة بما لا تريد، بل في وقت تريد، فلولا نظرك إليها بالمشاكلة لأُفقدَت، ولولا تعطفك بالمناسبة لأُبْعِدتْ. (إلهي) لقد خاب من أنكر معرفة نفسه منك، ولقد ظلم من لم يعرفك بك، وهو بك ظهر، وبي حجابك وفي حجابك استتر، وأنت الناظر بلا حركة. (إلهي) تناهوا الجاهلون في طلب معرفة حدودك وطلبوها معرفة في تيجان الملوك، فلما نظروا حدودك، نكروك. (إلهي) ناجتك المحقون وقالوا يا مبدع الأحد، من غير عدد، تختلف الأعداد بك، بقدرة منك، دعوناك فالذي عرفك منك إليك، عاد إليك. (إلهي) تحيرت العقول عند طلبتك، أتاهت الأبصار في رؤيتك. (إلهي) قالوا الجاهلون في معرفتك وما تُبَيّن فلا عرفوا، (إلهي) لقد غاب من نادى سواك، ومن عرفك بحقيقة المعرفة تيقن أنك دائم، ومن أفضل الغنائم. (إلهي) ظهرت لهم فوق المنائر، فتوهموا أنهم حصلوك بالعناصر، فأثبتوا التشبيه والتمثيل، وعدموا التنزيه والتحصيل. (إلهي) عجزوا عن إثبات النفر ولم يعلموا ما حقيقة العيان من الخبر، فالنظر حجاب عنك لا لك، والمنظور أنت به لا (هو) فيك. (إلهي) من قال إنه لا يعرفك، فقد عدمك، ومن عبدك، من غير حدودك، فقد حال إلى غائب معدوم، فأنا الذي لا تدركه الأبصار، وأنا أدرك الأبصار، وأنا اللطيف الخبير، فاللطيف الخبير، صورني بالصورة المرئية، التي هي الحدود العلوية. (إلهي) بوجود معرفتك اهتديت، وبعّدت المعصرين عنك تباركت وتعاليت. (إلهي) كنت أنت والمكان، لأن المكان هو إشارة بالفيض وتكرير الفكر بإحضار المكان، والمكان هو المركز هو الدال عليك. (إلهي) كلما(228/33)
ظهرت عني صورة فظهّرتها أبدع على أولها اخفيّا لأنقلها عني (وأنا فعال لما أريد)
هذه الأولى من (المقالات الإسماعيلية) والباقيات في الأعداد الآتيات من (الرسالة)
(قارئ)(228/34)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
للدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 28 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي - كونفيشيوس
مذهبه
صدر (كونفيشيوس) في فلسفة النظرية عن نفس النقطة التي صدرت عنها فلسفة عصر ما قبل التاريخ، وفلسفة (لاهو - تسيه)، والتي أشرنا إليها في حينها، وهي نقطة القول بوحدة الوجود التي تفرع عنها نشوء كائن سلبي أو يتأثر عن الكائن الإيجابي المؤثر، ومن اجتماع قولي هذين الكائنين نشأت المادة، وبتأثير النفس على هذه المادة وجدت الكائنات الحية التي بين السماء والأرض
غير أن (كونفيشيوس) تعمق في هذه النقطة وصيرها فلسفية جديرة بالدراسة والتمحيص، إذ أضاف إليها أن جميع جزئيات الطبيعة مشتملة على الانسجام التام الذي هو سر جمالها وتقدمها وصلاحيتها للوجود، وأن هذا الانسجام ليس موجوداً في هذه الكائنات بطريق المصادفة، بل هو تنفيذ لإرادة إلهية مرسومة خطتها في منهج السماء، وأن هذا الانسجام محكم الوضع في جزئيات الطبيعة إلى حد أنه يظهر (ديناميكيا) وأنه هو العلة في تطور الكائنات المادية والظواهر الطبيعية، ولكن كيف ولماذا كان هذا الانسجام علة لذلك التطور؟ لم يجب (كونفيشيوس) على هذا السؤال مطلقاً، لأنه عد البحث فيه فوق طاقة العقل البشري، فوافق في هذه الناحية (لاهو - تسيه) الذي أسلفنا أنه صرح هذا التصريح أيضاً وإن كان لم يكن قد وصل إلى كشف سر هذا الانسجام وأثره العظيم اللذين وفق (كونفيشيوس) إلى كشفهما(228/35)
على أن المشاهد لدينا هو أن كثيراً من الكائنات تتحرك وتعمل مقودة بالهوى، فلا تنتج هذه الحركات إلا السوء والشر والرذيلة؛ فإذا بحثنا عن علة هذا الانقياد للهوى ألفيناها الحيدة عن هذا الانسجام، فكل خضوع للقانون الطبيعي ينتج الخير والفضيلة والتقدم نحو الكمال، وكل انحراف عن هذا المنهج ينجم عنه الشر والأضطراب، لأن الطبيعة في ذاتها ليس فيها للشر أثر البتة، ولهذا كان أهم واجبات الحكيم هو محاولة رد الانسجام إلى كل جزئية فقدته، فأنتج فقدها إياه الشر والسوء. وعلى أساس هذه النظرية بنى (كونفيشيوس) مذهبه الأخلاقي وأعلن أن الواجب ينحصر في تنفيذ أوامر الطبيعة وتطبيق قوانينها القويمة كما سنشير إلى ذلك فيما بعد.
وعنده أن الإنسان مشتمل على قوتين كالطبيعة سواء بسواء؛ وأن كل الفروق الموجودة بين الأفراد البشرية ناجمة عن تغلب إحدى القوتين على الأخرى، فإذا كانت الغلبة في الإنسان مثلا للقوة الإيجابية المؤثرة، كان ذلك الإنسان حكيما بالمعنى الكامل، وإذا غلبت فيه القوة السلبية كان حكيما عادياً، وهذا النوع الأخير يظل هكذا حتى يتعرض لعواصف الأهواء والشهوات المختلفة، فإذا نجا منها ظل كما كان على الفطرة أي في درجة الحكمة العادية، وإذا غلبه الهوى فحاد به عن صراط الطبيعة السوي نزل من درجة الحكمة العادية إلى درجة العامة الذين يحدثون الشر والسوء
وعنده أن الكمال يتحقق لنوعين من البشر: الأول رجل تبدأ السماء في إلهامه الحقيقة من يوم ميلاده دون مجهود شخصي من جانبه، وهو يحصل في المبدأ على ما يحصل عليه الآخرون في النهاية، وهذا الحكيم الموحى إليه أو (شينج - جين). أما الثاني فهو الحكيم الذي يعمل على كسب الحكمة ببحوثه المتواصلة، ومجهوداته المتتابعة فيحصل على الحقيقة، وبها يصل إلى الكمال، ويسمى هذا الأخير: (كيون - تسيه) وفي هذا الصدد يقول (كونفيشيوس) في كتاب (تايو): (إن البعض يحصلون عليها (أي الحقيقة) عند ميلادهم، أما البعض الآخر فإنهم إما أن يتلقوها عن الغير وإما أن يحصلوا عليها بوساطة مجهوداتهم وأعمالهم الشخصية)
وعنده أن الإنسان الملهم هو ابن السماء الذي يحرس الصراط السوي ويرعاه بفضلها في جميع أحوال الوجود، وهو مشتمل على سر إلهي عظيم. أما الحكيم المكتسب الحكمة(228/36)
بمجهوداته فهو ابن الأرض الذي حمايته من الهوى والشر موكولة إلى مجهوده الخاص، والذي لا يعتمد في مقاومة ضعفه وفي احتفاظه بانسجامه الطبيعي إلا على نفسه؛ فإذا نجح اقترب من درجة الحكيم الملهم
وعنده أن حكمة وجود الحكيم الموحى إليه هي إذاعة قانون السماء والسهر على تنفيذه وإنقاذ بني الإنسان من الخروج على الصراط السوي، وما ذلك إلى رحمة بهم وإشفاقاً عليهم من الحيدة عن الواجب الذي لا تُنْقَذُ الإنسانية من الدمار والاضطراب إلا بالحرص عليه والاحتفاظ به
مطابقة الأسماء للمسميات، أو التعريفات العامة
لا تزال الأكثرية الغالبة من المثقفين والعلماء في أوروبا تعتقد أن سقراط هو أول حكيم وضع التعريفات العامة كما صرح بذلك أرسطو. وقد كنت أنا أحد أولئك الذين يؤمنون بهذه الفكرة إلى أن درست (كونفيشيوس) في شيء من الدقة، فتبين لي تبيناً يقينياً أن حكماء الصين قد سبقوا حكيم الإغريق إلى هذه الفكرة، وأن لهم فيها نصوصاً قيمة جديرة بالإعجاب، وأن الحكمة التي أعلن سقراط أنها تدفعه إلى هذا التحديد هي نفسها التي وردت في نصوص (كونفيشيوس) وهي الوصول إلى ضبط الأخلاق وتحديد الفضيلة والقبض على الحقيقة عن طريق التطابق المحكم بين الألفاظ والمعاني أو بين الأسماء ومسمياتها، إذ نحن نعلم أن (السوفسطائيين) لم ينجحوا في إفساد الأخلاق العامة في عهد سقراط إلا بوساطة التلاعب بالألفاظ، فلما أراد سقراط أن ينقذ الفضيلة حارب أعداءها بسلاح الدقة والتحديد فتم له ما أراد. وهكذا كان منهج (كونفيشيوس) إذ أيقن أنه لا سبيل إلى تنفيذ الواجب بدقة إلا بوضع جميع الأشياء في نصابها، وأن هذا الوضع لا يتحقق إلا بالتطابق التام بين القوالب ومحتوياتها، أو الألفاظ والمعاني، أو الأسماء والمسميات، وهو في هذا يقول ردّاً على سؤال وجهه إليه أحد تلاميذه قائلا: ماذا كنت تفعل لو أنك عُيِّنْتَ حاكماً على دولة؟ (كنت أبدأ أعمالي بأن أرد إلى كل مسمى اسمه الحقيقي). ولما لم يفهم التلميذ هذا الجواب سأله قائلا: وما معنى هذا؟ فأجاب الفيلسوف بقوله: (إن الحكيم يجب أن يحتاط في تبصر من كل ما لا علم له به، فإذا لم تتفق الأسماء مع مسمياتها بالضبط وقع الخلط في اللغة، وإذا وقع الخلط في اللغة لا ينفذ شيء من أوامر النظام العام، وإذا لم ينفذ شيء من(228/37)
أوامر النظام العام، أهملت الحشمة واللياقة والانسجام، وإذا أهملت الحشمة واللياقة والانسجام فُقِد توافق العقاب مع الخطأ، وإذا فقد هذا التوافق، أصبح الشعب مضطرباً لا يفرق بين موضع قدميه وموضع يديه. ولهذا يجب على الحكيم أن يضع لكل مسمى اسمه الذي هو له، وأن يعالج كل موجود حسب التعريف الذي وضع له)
ألست ترى معي أيها القارئ أن في هذه النصوص (الكونفيشيوسية) برهاناً ساطعاً على أن حكيم اليونان الأول لم يكن مبدع التعريفات العامة، الجامعة المانعة، ولا أول من قال بالدقة والتحديد؛ ثم ألست توافقني على أن هذه نقطة هامة تضيف إلى ما كشف من مجد الشرق صفحة فخار جديدة، وأنها لهذا جديرة بالعناية والتسجيل كما أن فيها رداً آخر يضاف إلى ردودنا السالفة على أولئك الأذناب المتفيهقين الذين أنكروا على الشرق ميزة التفلسف النظري؟)
مما قدما يتبين أيضاً خطأ بعض الباحثين الأوروبيين الذين سلكوا في مؤلفاتهم سبيل نزع تاج الفلسفة من فوق رأس (كونفيشيوس) وَوَضْعِهِ على رؤوس: (لاهو - تسيه) و (تشوانج - تسيه) و (ميي - تي) وجزموا بأن (كونفيشيوس) لم يكن فيلسوفاً، وإنما كان أخلاقياً، ولم يكن أخلاقياً من النوع العالي، وإنما كان عملياً، بل نفعياً. فأما دعواهم أنه ليس فيلسوفاً فيبطلها ما أسلفناه؛ وأما زعمهم أنه عملي أو نفعي فسندحضه حينما نعرض لدراسة الأخلاق عنده
اعتمد أولئك الباحثون في رميهم (كونفيشيوس) بالخلو من التفلسف النظري على تصريح أثر عنه قال فيه: (إني لم أبتدع شيئاً جديداً، وإنما نقلت تراث الحكماء الأقدمين إلى العصر الذي أعيش فيه). أو (إني لست مساوياً الحكماء، وإنما أنا أحاول التشبه بهم) إلى آخر ما صرح به مما يشبه هذه العبارات ولست أدري كيف يتخذ أولئك الباحثون هذه التصريحات برهاناً على عدم فلسفية (كونفيشيوس) ولا يتخذون أمثالها من كلام سقراط برهاناً على عدم فلسفيته حين نبأته كاهنة (دلفي) بأنه أحكم حكماء الإغريق عامة، فاستكثر ذلك على نفسه وقال: (أنا لست حكيما، ولكني محب للحكمة). فلم عدوا هذا التصريح من جانب سقراط تواضعاً ومن جانب (كونفيشيوس) برهان الخلو من الفلسفة؟؟
نعم إن (كونفيشيوس) أسس مذهبه على نظريات صينية عتيقة ترجع إلى عصر ما قبل(228/38)
التاريخ، ولكن هل (بارمينيد) و (أمبيدوكل) و (زينون الأكبر) و (فيثاغورس) و (سقراط) و (أفلاطون) و (أرسطو) فعلوا غير هذا؟ بل هل (ديكارت) نفسه - على تبرئه من الماضي - استطاع أن يتخلص من أسس التراث العقلي القديم؟ كلا، ولكن سُحقاً للهوى والسطحية، فإن جميع الأخطار الإنسانية ناشئة منهما أو من أحدهما. أما الذي لاشك فيه بعد كل هذا، فإن (كونفيشيوس) فيلسوف نظري عظيم، وأن جميع الباحثين الأدقاء يضعونه في الصف الأول من صفوف الحكماء، لأنهم يعتمدون في ذلك على مجموعة ماله من أراء فلسفية مبتدعة كما يتطلب النقد الحديث، وإنه أخلاقي من طراز (كاْنت) و (اسبنوزا) وأمثالهما من أجلاء فلاسفة العصور الحديثة
(يتبع)
محمد غلاب(228/39)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 13 -
1 - (إن في الرجل شيئاً ينقذ المرأة منه وإن هلك بحبها، وإن هدمت عيناها من حافاته وجوانبه: فيه الرجولة إذا كان شهماً، وفيه الضمير إذا كان شريفاً، وفيه الدم إذا كان كريماً، فوالذي نفسي بيده لا تعوذ المرأة بشيء من ذلك ساعة تجن عواطفه، وينفر طائر حلمه من صدره، إلا عاذت - والله - بمعاذ يحميها ويعصمها ويمد على طهارتها جناح ملك من الملائكة)
2 - (. . . ويسرف عليّ بعضها أحياناً فأتلهب عليها في زفرات كمعمة الحريق حين ينطبق مثل الفك من جهنم على مدينة قائمة فيمضغ جدرانها مضغ الخبز اليابس؛ ثم يسرف على حبها أحياناً فينحط قلبي في مثل غمرات الموت وسكراته بتطوح من غمرة إلى غمرة؛ فأنا بين نقمة تفجأ، وبين عافية تتحول، وكأنه لا عمل لي إلا أن أصعد مئة درجة لأهبط مئة درجة. . .!)
3 - (لقيتها وما أريد الهوى ولا تعمده قلبي، ولا أحسب أن فيها أموراً ستئول مآلها؛ وكنت أظن أن المستحيل قسمان: ما يستحيل وقوعه فلا تفضي إليه، وما يمكن وقوعه فتهمله فلا يفضي إليك، ولكن حين توجد المعجزة تبطل الحيلة؛ ومتى استطردك القدر الذي لا مفر منه، أقبل بك على ما كنت منه تفر)
4 - (. . . إنها لأبلغ ذات لسان، وأبرع ذات فكر، وأروع ذات نفس؛ ولو كنا سليلي أبوة ما شهدت لها بأكثر من هذا حرفاً، ولو كان دمي من أعدائها ما نقصتها من هذا حرفاً، وعلم الله ما أبغض فيها إلا هذه التي اشهد لها. . .!)
5 - (. . . دعني أقول لك: إني أبغض من أحبها. . وإن هذا البغض وجه آخر من الحب، كالجرح: ظاهره له ألم وباطنه له ألم!)(228/40)
6 - (. . . وكما ينشأ الكفر أحياناً من عمل العقل الإنساني إذا هو تحكم في الدين، يأتي البغض من هذا العقل بعينه إذا هو تحكم في الحب!)
(الرافعي)
شعر وفلسفة، وحب وكبرياء
أترى صوتي يبلغ إليها وهي في مستشفاها بالشام ذاهلة اللب شاردة الخيال ضائعة الأمل مستطارة القلب؟
أم ترى صوتي يبلغ إليه تحت أطباق الثرى وبيننا ستة أشهر من عمر الزمان كأنها من البعد وانفساح المدى سنوات وسنوات؟
إنه ليخيَّل إليّ أن هذا الحديث الذي أكتبه عنها وعنه هو رسالة من الغيب إلى هذه الحبيبة الواجدة المحزونة، من الحبيب الذي أحبها أعنف الحب وأرَّقه وما تراءى لها مع ذلك في عمره الطويل إلا الرجلَ القاسي الذي حطم قلبها بقسوته وكبريائه، ومات وما تلقت رسالته الأخيرة فنفذت روحُه من أقطار السموات لتمليها عليّ وفيها المعذرة والاستغفار. . .
آه لو تدرين كم كان يحبك أيتها الحبيبة!. . فهل كنت. .؟ ولكن. . . ولكن لا سبيل إلى ما فات. . .!
لقد أحبها جهد الحب ومداه، حبا أضل نفسه وشرّد فكره وسلبه القرار؛ ولكنه حب عجيب، ليس فيه حنين الدم إلى الدم، ولكن حنين الحكمة إلى الحكمة، وهفوة الشعر إلى الشعر، وخلوة الروح إلى الروح في مناجاة طويلة كأنها تسبيح وعبادة؛ وأسرف عليه هذا الحب حتى عاد في غمراته خلقاً بلا إرادة، فليس له من دنياه إلا هي، وليس له من نفسه إلا ما تهب له من نفسه!
والرافعي رجل - كان - له ذات وكبرياء؛ فأين يجد من هذا الحب ذاته وكبرياءه؟ هكذا سألته نفسه!
وأحبها أديبة فيلسوفة شاعرة تستطيع أن ترتفع إلى سمائه وتحلق في واديه وله مثل قدرتها على الطيران والتحليق في آفاق الشعر والحكمة والخيال؛ فما التقيا مرة حتى كان حديثهما فنوناً من الشعر وشذرات من الفلسفة وقليلا من لغة العشاق في همس من لغة العيون. . .(228/41)
وقال لها مرة: (إن الحب يا عزيزتي. . .) قالت: (إن فلسفة الحب. . .) قال: (بل أعني حقيقة الحب ومعناه. . .) قالت: (دع عنك يا حبيبي. . . إن أحلام الحب هي شيء غير الحب، أفأنت تريد. . .؟) فاختلجت شفتاه وأطرق، وراح يسأل نفسه: (ما الحب وما فلسفة الحب؟ يا ضيعة المنى إن كان الحب شيئاً غير الذي في نفسي!) وتحدث ضميره في ضميرها فابتسمت وهي تقول: (. . . أنا ما أحببتك رجلا بل فكراً وروحاً ونفساً شاعرة، وأنت بكل ذلك ملء نفسي وملء قلبي؛ فلا تلتمس فيّ طباع أنثى وإلا ضل ضلالك أيها الحبيب. .!) قال: (فهل رأيتني يا حبيبتي إلا فكرة تطيف أبداً بك، وروحاً ترفرف حواليك، ونفساً نغترف الشعر والحكمة من وحي عينيك. . .؟) قالت: (دع عنك ذكر عينيّ يا حبيبي. إن الحب ليس هناك، إن الحب. . .) قال: (لا تحدثيني عن الحب. يخيل إلي أني أعرفه لأني أجد مسَّه على قلبي كلذغ الجمر، ولكن آه، ولكنك أنتٍ. . .)
وقالت له نفسه: (إنك يا صاحبي تضرب في بيداء؛ إن الشعر والحكمة والفلسفة لا تلد الحب، فهل أحببتها أنت إلا للشعر والحكمة والفلسفة؟ ولكنك بذلك لن تجد منها الحب، إن الحب من لغة القلب، أما هذه. . .)
وكان يحبها أديبة فيلسوفة شاعرة، فعاد يباعد بينه وبينها أنها فيلسوفة شاعرة. . .!
وامرأة هي كانت - إلى أدبها وفلسفتها - (فتنة) خلقت امرأة، فإذا نظرت إليك نظرتها الفاترة فإنما تقول لقلبك: إذا لم تأت إليَّ فأنا آتية إليك. . . وهي أبداً تشعر أن في دمها شيئاً لا يوصف ولا يسمى ولكنه يجذب ويفتن، فلا تراها إلا على حالة من هذين، حتى ليظن كل من حادثها أنها تحبه وما به إلا أنها تفتنه. . .
(رشيقة جذابة تأخذك أخ السحر، لأن عطر قلبها ينفذ إلى قلبك من الهواء؛ فإذا تنفست أمامها فقد عشقتها. . .
(أما أنوثتها فأسلوب في الجمال على حدة؛ فإذا لقيتها لا تلبث أن ترى عينيك تبحثان في عينيها عن سر هذا الأسلوب البديع فلا تعثر فيهما بالسر ولكن بالحب. . . . . . وتنظر نظرة الغزال المذعور أُلهِم أنه جميل ظريف فلا يزال مستوفزاً يتوجس في كل حركة صائداً يطلبه. . . . . .)
والرافعي رجل كان - على دينه وخلقه ومروءته - ضعيف السلطان على نفسه إذا كان(228/42)
بازاء امرأة؛ فما هو إلا أن يرى واحدة لها ميزة في النساء حتى يتحرك دمه وتنفعل أعصابه؛ وما كان - رحمه الله - يرى في شدة الإحساس بالرجولة وفي سرعة الاستجابة العصبية إلى المرأة إلا أنها أحد طَرَفي النبوغ، أو أحد طرفي النبوَّة كما كان يقول؛ فما كان يرى له وقاية من سحر المرأة حين يحس أثرها في نفسه إلا أن يسرع في الفرار. وكثيراً ما كان يقول: (الفرار الفرار؛ إنه الوسيلة الواحدة إلى النجاة من وسوسة الشيطان وغلبة الهوى. . .!)
وقالت له نفسه: (ما أنت وهذا الحب الذي سلبك الإرادة وغلبك على الكبرياء ويوشك أن يهوى بك من وسوسة النفس وفتنة الهوى إلى أرذال البشرية. . .؟)
فكان لصوت النفس في أعماقه صدى بعيد. . .
وكان يحبها ليجد في حبها ينبوع الشعر، فما وجد الحب وحده، بل وجد الحب والألم وثورة النفس وقلق الحياة؛ ووجد في كل أولئك ينابيع من الشعر والحكمة تفيض بها نفسه، وينفعل بها جنانه، ويضيء بها فكره؛ وكان آخر حبه الألم، وكانت آلامه أول قدْحة من شرار الشعر والحكمة. . .
وقالت له نفسه: (هاقد بلغتَ من الحب ما كنت ترجو، فلم تبق إلا الغاية الثانية وإنك عنها لَعَفٌّ كريم. . .!)
هي فتاة ذات جمال وفتنة، ولها لسان وبيان، وما يمنعها دينها ولا شيءٌ من تقاليد أهلها أن يكون لها مجلس من الرجال في ساعة في يوم من كل أسبوع، يضم من شعراء العربية ورجالاتها أشتاتاً لا يؤلفها إلا هذا المجلس المعطر بعطر الشعر وعطر المرأة الجميلة؛ أفتراهم يجتمعون في دارها كل أسبوع لتتوارى منهم خلف حجاب فلا سمر ولا حديث؟
والرافعي غيور شموس كثير الأَثرة لا يرضيه إلا أن يكون على رأس الجماعة، أو هو نفسه رأس الجماعة. . .
وقال له نفسه: (أأنت هنا وحدك أم ترى لكل واحد من هؤلاء هنا هوى وحبيبا. . .؟)
وكانت القطيعة بين الرافعي وبينها من أجل ذلك كله: من أجل أن له ذاتا وكبرياء، وما يريد أن تفنى ذاته وكبرياؤه في امرأة؛ ومن أجل أنها فيلسوفة وشاعرة، وما تجتمع الفلسفة والحب في قلب حواء؛ ومن أجل أنها أنثى وأنه رجل له دين ومروءة وزوجة ودار؛ ومن(228/43)
أجل أنه بلغ مبلغه منها حين وجد الألم في حبها فوجد ينبوع الشعر الذي كان يفتقد؛ ومن أجل أن الرافعي الغيور الظنين الكثير الأثرة والاعتداد بالنفس. . .!
وخُيِّل إليه حين كتب إليها رسالة القطيعة في يناير سنة 1924 أنه يبغضها، وأن هذا الحب الذي قطعه عن دنيا الناس عاماً بحاله قد انتهى من تاريخه وطواه القدر في مَدْرَجة الفناء، وأن نفساً كانت في الأسر قد خرجت إلى فضاء الله. . .
وأحس في نفسه حديثاً طويلاً يريد أن يفضي به، وشعر كأن في قلبه ناراً تَلظَّى، واصطرعت في نفسه ذكريات وذكريات، وخيِّل إليه أنه يكاد يختنق؛ فصاح من كل أولئك مغيظاً محنقاً يقول: (أيتها المحبوبة، إنني أبغضك. . . إنني أبغضك أيتها المحبوبة!)
ليت شعري، أكان الرافعي يعني ما يقول؟ أكان على يقين حين يزعم أنه يبغضها؟ أم أنه استعار للحب لفظاً متكبِّراً من كبريائه العاتية فسماه البغضَ وما هو به ولكنها ثورة الحب حين يبلغ عنفوانه فتختلط به مذاهب الفكر ومذاهب النظر فلا يبقى فيه شيء على حقيقته؟
كلا، ما أبغض الرافعي صاحبته يوماً منذ كانت ولا استطاع أن يفك نفسه من وثاقها، وما هذه الثورة التي ألهمته كتابيه (رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر) إلا لون من ذلك الحب وفصل من فصوله وكان الخطأ في العنوان؛ فلما ثابت إليه نفسه نزع به الحنين إلى الماضي ولكن كبرياءه وقفت في سبيله، فظل حيث هو ولكن قلبه ظل يتنزى بالشوق والحنين. . .!
وجاءت صاحبته إلى طنطا بعد ذلك بقليل، مدعوَّة إلى حفلةٍ خيرية لتخطب، وكان الرافعي مدعواً لمثل ما دعيت له. وعلى غفلة التقت العيون، فدار رأس الرافعي وذُهب به، وعاد الزمان القهقري لينشر ماضيه على عينيه، وزلزلت نفسه زلزالا شديداً حتى أوشك أن تغشاه غاشية، وحاول أن يتحدث فوقفت الكبرياء بين قلبه ولسانه؛ وخشي أن يفتضح فنهض عن كرسيه منطلقاً إلى الباب؛ ولحقه صديقه الأديب جورج إبراهيم، فأفضى إليه بذات صدره وودع صاحبته بعين تختلج، ومضى. . .
وانتهى الاحتفال، ووقفت (هي) تدير عينيها في المكان فما استقرتا على شيء؛ ووجدت في نفسها الجرأة على أن تقول: (أين الرافعي؟) فما وجدت جواباً. . . وكان الرافعي وقتئذ جالساً إلى مكتبه ينشئ قصيدة لمجلة المقتطف عن بعث الحب. . .! وكان آخر لقاء. . .!(228/44)
ولقيت الرافعي في خريف سنة 1932، فتسرحنا في الحديث عن الحب، فكشف لي عن صدره في عبارات محمومة، وكلمات ترتعش، ثم قال: (. . . وإن صوتاً ليهتف بي من الغيب أن الماضي سيعود، وأنني سألقاها، وسيكون ذلك في تمام عشر سنين من رسالة القطيعة: في يناير سنة 1934. . .) وأخذ يقبض أصابعه ويبسطها ثم قال:
(نعم، بعد أربعة عشر شهراً سيكون هذا اللقاء. . . إن قلبي يحس، بل إنني لموقن. . . بعد أربعة عشر شهراً، في تمام السنة العاشرة منذ فارقتها مغضباً، سنلتقي ثانية ويعود ذلك الماضي الجميل، إنها تنتظر، وإنني أنتظر. . .!)، وظل على هذا اليقين أشهراً وهو يحصي الأيام والأسابيع كأنه منها على ميعاد. . .!
ومضت السنوات العشر، ومضى أربعون شهراً بعدها وما تحقق أمله في اللقاء، حتى لقي الله. . .!
هذا هو الرافعي العاشق، جلوت صورته كما عرفته؛ أما هي، أما صاحبته التي كان من تاريخه معها ما كان، فهل كانت تحبه؟ وما كان هذا الحب، وماذا كانت غايته؟
هذا حديث موعده العدد القادم، فإلى اللقاء
(شبرا)
محمد سعيد العريان(228/45)
قطف الثمار
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأديب عبد الخالق العطار
كانت حياتي أيام الصبا كزهرة. . . تفقد واحدة أو اثنتين من وريقاتها الكثيرة. . . ثم ينسيها الربيع ما فقدت. . . إذا ما وقف ببابها يطلب إحساناً
وودعت الشباب. . . فصارت حياتي كثمرة. . . ليس لها ما تستطيع فقده. . . ولكنها تنتظر من تهب له نفسها كاملة بكل ما تحمل من حلاوة
هل للأوراق الصفراء والزهور الذابلة أن تشارك الورود الناضرة في بهجتها بعيد الصيف؟ وهل لا يرسل غناء البحر أنغامه للأمواج الهابطة. . . كما يشجي بها الأمواج العالية؟
هاهي ذي اللآلئ والدرر. . . قد انتظمت في بساط يقف عليه إلهي. . . ولكن هناك كثيرون. . . ينتظرون صابرين. . . يرجون لمسة من قدمه. . .
ما أقل العقلاء. .!. . وما أعظم من يجلسون إلى جوار سيدهم!
ولكنه هو. . لقد احتوى الساذجين بين ذراعيه. . وجعلني خادمه إلى الأبد. . .
وجدت خطابه مع الصباح. . . عندما استيقظت. . .
ولم أعلم ماذا يقول فيه. . . فإني لا أعرف القراءة. . .
مالي وذاك الرجل العاقل. . . الذي يجلس وحيداً بين كتبه؟ لن أضنيه. . . وهو الذي يستطيع أن يقرأ لي خطابي. . .
دعني. . . دعني أضع الخطاب على جبيني. . . وأضمه إلى صدري
وعندما ينمو سكون الليل. . . وتتناثر النجوم في ظلمته واحدة إثر واحدة. . . سأبسط الخطاب في يدي. . . وأظلَّ صامتاً!
سيقرؤه لي حفيف الأوراق بصوت عال!
ستفنيه لي المياه وهي تندفع في مجراها!
سترتله لي سبعة نجوم هادئة. . . وسأسمع ترتيلها من السماء!
لقد ضل سبيلي. . . وأنا أبحث عما أريد!
لقد استغلق عليّ فهم ما لابد من معرفته!(228/46)
ولكن هذا الخطاب الذي لم يقرأ. . . قد خفف عني العبء
فصارت أفكاري كلها كالأناشيد
لقد ظللت سبيلي حيث تعددت السبل. . .
فلا في المياه الواسعة. . . ولا في السماء الزرقاء. . . أستطيع أن أجد لي طريقاً
لقد اختفى الطريق تحت أجنحة الطير. . . ووراء النجوم الملتهبة. . . وخلف أزهار الفصول المتعاقبة. . .
فتساءلت. . . أي قلبي! ألا تحمل مع ذلك حقيقة الطريق الذي لا أراه؟
عندما كنت اختال ببطء بين كنوزي الثقيلة الموروثة. . . كنت أشعر كأني الدودة التي تعيش في الظلام. . . تتغذى على الثمرة التي ولدت عليها. . .
إني أترك هذا السجن. . . سجن الفساد
إني لا أعبأ إذ أحطم تمثال السكون. . . لأني ذاهب في طريقي باحثاً عن الشباب الدائم. . .
سأتخلى عن كل ما لم يتحد مع حياتي. . .
سأتخلى عن كل شيء. . . إلا ما كان خفيفاً كضحكي
وسأجري خلال الزمان. . .
و. . . آه يا قلبي. . . في عربتك الصغيرة يرقص الشاعر ويغني بينما خياله يسبح
لقد أخذتني من يدي. . . وأدنيتني إلى جانبك. . . وأجلستني أمام الناس جميعاً. . . وفي مقام عال. . . حتى صرت ضعيفاً لا أقوى على النظر ولا السير في طريقي. . . يملؤني الشك. . . ويحيطني الوجل. . . خشية أن أعثر فيصيبني احتقار الناس. . .
ولكني تحررت أخيرا. . .
فقد دوت الصرخة. . . وقرعت الطبول إنذاراً. . . وهبط مقعدي في التراب. . .
وتفتحت السبل أمامي!
إن أجنحتي لتطير بها الرغبة إلى السماء. . .
إني أذهب لأحتل مكاني بين النجوم التي تنطلق في منتصف الليل. . . لتغرق في الظل اللانهائي، إني كسحابة الصيف التي تتقاذفها العاصفة. . . بعد أن ألقت عنها تاجها الذهبي(228/47)
الذي ألبسته إياها الشمس قبل أن تغيب. . . فتعلقت كسيف مسلول على سلسلة من الضوء. . . وإذا الرعد يدوي كلما اهتز السيف
وفي فرح اليائس اجري في الطريق الذي غطاه التراب. . . طريق المنبوذين. وأجيء إلى جانبك لأحييك التحية الأخيرة. . .
والطفل لا يرى أمه حتى يخرج منها. . .
فعندما صرت بعيداً عنك. . . وألقيت بمنأى من جوارك. . . صرت حراً. . . صرت حراً. . . فاستطعت أن أرى وجهك
على بعد وفي هذا المنخفض ينساب نهر الجومنا. . . هادئاً رائعاً. . . والشاطئ بارز فوقه. . . والتلال المظلمة والغابات المتناثرة قد تجمعت حوله. . .
وجلس جوفندا. . . معلم الشيخ الأعظم. . . على صخرة يقرأ الأساطير. . . عندما جاءه تلميذه راجونات. . . فخوراً بثروته فانحنى احتراماً وقال:
(لقد جئتك بهدية صغيرة. . . لا تستحق منك القبول)
قالها ووضع أمام أستاذه سوارين من الذهب المرصع بالأحجار الثمينة. . .
أمسك السيد أحدها. . . وأداره في إصبعه فبرقت الجواهر وأرسلت من الضوء. . . وفجأة. . . أفلت من يده. . . وتدحرج على الشاطئ. . . إلى أن بلغ الماء. . . واستقر في القاع
هتف راجونات. . . (يا إلهي). . . ووثب وراء السوار في الماء. . .
أعاد المعلم بصره إلى كتابه. . . وأمسكت المياه وأخفت ما سرقته. . . وسارت في طريقها. . .
واضمحل ضوء النهار. . . عندما عاد راجونات إلى أستاذه متعباً يتصبب عرقاً وقال: (قد أستطيع استرجاعه لو أنك أشرت إليّ أين سقط)
أمسك المعلم السوار الآخر. . . وقال وهو يلقيه في الماء. . . . . . (إنه هناك)
يا إله السموات. . . إن حديثك سهل بسيط. . . ولكن حديث هؤلاء الذين يتحدثون عنك ليس كذلك. . .
فما أقرب صوت نجومك إلى فهمي. . . وما أبلغ صمت أشجارك.(228/48)
إن قلبي قد تفتح كالزهرة التي ملأتها حياتي في خميلة مختفية. . .
وأناشيدك. . . كالطيور الآتية من بلاد الثلج النائية. . . وتريد أن تبني لها عشاً في قلبي. . . بما فيه من حرارة كحرارة أبريل. . .
ولكم أنا قانع بانتظاري هذا الفصل البهيج
عبد الخالق العطار(228/49)
الأديان والمذاهب في الحبشة
رحل الأستاذ محمد تيسير ظبيان الكيلاني صاحب جريدة
الجزيرة بدمشق إلى بلاد الحبشة فدرس أحوالها دراسة
مستفيضة ثم وضع في ذلك كتاباً يوشك أن يصدر. وقد خص
الرسالة بهذا الفصل من فصوله ننشره لحضرته شاكرين
لما لم يكن لبلاد الحبشة حتى هذه الأيام إحصاء رسمي صحيح يمكن
الاعتماد عليه في تقدير عدد المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات
الأخرى فأننا نكتفي فيما يلي بنشرة زبدة ما حصلنا عليه من
المعلومات المختلفة والروايات المتنوعة في هذا الموضوع
إن الأديان الرئيسية الموجودة في الحبشة هي:
الوثنية، واليهودية، والمسيحية، والإسلام، وقد تضاربت الأقوال في تقدير عدد مسلمي الحبشة فمن قائل إنهم لا يزيدون عن ثلاثة ملايين، ومنهم من يقدرهم بخمسة ملايين، ومنهم من يرفعهم إلى أكثر من ذلك؛ وكل هذا من قبيل الرجم بالغيب
أما من جهتي فمنذ ألقيت عصا تسياري في تلك البلاد أخذت أوجه كل اهتمامي إلى تلك الناحية فرحت أتغلغل في مختلف الأوساط الحكومية والشعبية حتى وفقت والحمد لله للحصول على النتيجة الآتية وهي لعمري نتيجة بحث واف وتمحيص دقيق
الإسلام
إن الإسلام هو أكثر الأديان انتشاراً في بلاد الحبشة ولاسيما بعد أن ضُم إليها مقاطعتا (الصومال الإيطالي والإرترية.) والمسلمون (كما أكد لي موظف مصري مسؤول) كانوا يؤلفون في المئة خمسة وخمسين من مجموع السكان؛ أما الآن بعد أن زالت الأسباب التي كانت تمنعهم من الظهور وبعد أن ضمت منطقة الصومال الإيطالي وجميع أهلها مسلمون، والإرترية وكثرة سكانها من المسلمين أيضاً، فاعتقد أنهم يؤلفون ستين في المئة (على(228/50)
الأقل) من مجموع السكان. نعم لا أنكر أن بعض المناطق ولا سيما منطقة امهرة أكثر سكانها من المسيحيين، ولكن المناطق الأخرى يتفوق فيها العنصر الإسلامي على غيره كما سيأتي
والغريب المدهش أن الديانة الإسلامية تنتشر من تلقاء نفسها بسرعة خارقة في الأوساط الحبشية (وخصوصاً في المناطق الوثنية) رغم سياسة القهر والعسف التي كانت متبعة ضد المسلمين ورغم قلة الوسائل الموجودة لدى هؤلاء لنشر ديانتهم والتبشير بها بالنسبة للديانة المسيحية التي كانت البلاد الحبشية تموج برسلها ودعاتها وبعثاتها التبشيرية المنظمة ومن ورائها الحكومات الكبرى تؤيدها والأموال الوفيرة تغدق عليها والحكومة المحلية نفسها تشد أزرها وتسهل مهمتها
حقاً إنه لسر غريب انتشار الدين الحنيف بسرعة البرق في تلك الأصقاع، وإقبال الأحباش على اعتناقه رغم جميع الصعوبات التي كانت تعترض سبيله وتقف في طريقه، ولا غرو فمظهر المسلم (وإن كان إسلامه ضعيفاً وناقصاً) جذاب يسحر القلوب ويستهوي النفوس؛ فهناك التقوى والصلاح ومكارم الأخلاق والنظافة والشهامة والتواضع والوفاء. . . الخ
ولست أرى من وراء ذلك الحط من قدر الديانات الأخرى اليهودية والمسيحية. كلا، فإنها ديانات سماوية أيضاً، ولكن الأحباش كانوا يتمسكون بقشورها ويتركون لبابها؛ فهم كانوا بذلك أقرب إلى الوثنية
قال لي الأمير عبد الله أبا جفار سلطان جما في أثناء حديثه معي: إن هذه الديار ديارنا ونسبة الأحباش إلى المسلمين نسبة واحدة للعشرين، ولاسيما في بلاد هرر والعروسي والفوارغي وجمار غوما ولمو وجيده؛ فهذه البلاد ليس فيها أثر للمسيحية؛ وأغلب أهالي برنا وواللو ودارا وحفات والدناكل مسلمون. وإذا قدرنا سكان الحبشة حسب الإحصاءات الصادرة عن القناصل والدوائر المسؤولة بعشرة ملايين (بما فيها الصومال والإريترية) فلا يقل عدد المسلمين فيها عن ستة ملايين إن لم يكونوا أكثر من ذلك
وأكثر المذاهب الإسلامية انتشاراً المذهب الشافعي. وليست للمسلمين مع الأسف مدارس عامرة وجمعيات خيرية وأدبية كما هي الحال في مختلف الأقطار الإسلامية إذا استثنينا جمعية الإشفاق الإسلامي التي تألفت في أديس أبابا في عهد الحكومة السابقة، وكان في(228/51)
مقدمة أعمالها تأسيس المدرسة الإسلامية التي سيأتي ذكرها
وليس بين المسلمين علماء واقفون تماماً على أسرار الشريعة الغراء إلا في مقاطعتي جما وواللو؛ ويظهر أنه يوجد في جما نهضة إسلامية لا بأس بها سيأتي ذكرها بمناسبة مقابلتي لسلطانها الأمير عبد الله
الدين المسيحي
ويأتي في الدرجة الثانية من حيث الانتشار الدين المسيحي، وكان دين الحكومة الرسمي وأكثر المذاهب المسيحية انتشاراً:
(المنوفيزية) وقد بثها البطريرك ثيودوسيوس الإسكندري في القرن السادس واتخذ ملوك الحبشة هذا المذهب مذهباً رسمياً
وكنيسة الأحباش قائمة تحت إدارة نائب بطريرك الأقباط المعروف هناك باسم (أبونا) وكان له نفوذ كبير وسلطة واسعة تخوله خلع الملك (النجاشي)
ومن المذاهب المسيحية المنتشرة أيضاً المذهب الكاثوليكي وله مبشرون كثيرون ومرسلون عازاريون وكبوشيون
أما المذهب البروتستانتي فقليل الانتشار
الدين اليهودي
يعرف اليهود في الحبشة باسم (فلاشة) وهم يقيمون في الأقاليم الشرقية، ويقال إنهم متحدرون من القبائل اليهودية الأولى التي توغلت في تلك الجهات. ولا يزيد عددهم عن الخمسين ألفاً، ويوجد منهم في أديس أبابا نحو مائة شخص، وهم يعيشون عيشة مستقلة لا يختلطون بأحد من الأحباش، ولا يتزوجون من غير أبناء دينهم، ويشتغلون بالزراعة وصناعات النسج
العقائد الوثنية
إن العقائد الوثنية على اختلاف أنواعها منتشرة في بلاد الحبشة، ولاسيما في الجهات الغربية، والإرساليات الأجنبية تتصل بالوثنيين وتحاول التأثير عليهم. ويعبد أكثرهم الأشجار (وأخصها شجرة الجميز) والأنهار والأحجار والشمس والبهائم والنار. وقد أخبرني(228/52)
شاب حبشي اسمه جرجس إبراهيم أن طائفة منهم تقطن (الفامبيلا) على حدود السودان، وهم يعيشون في العراء دون أن يستروا أجسامهم، ولهم طريقة خاصة في العبادة، وذلك أنهم يجتمعون في كل عام أمام النيل الأزرق ويرقصون ثم يقدمون له ذبيحه كقربان
ولم أستطع أخذ فكرة صحيحة عن عدد الوثنيين في الحبشة ولكنهم لا يقلون على كل حال عن مليون ولا يزيدون عن مليون ونصف
عادات وثنية غريبة
قيل لي انه توجد قبائل في جهات - ووللأغا - لا تدين بدين أبداً ولها عادات غريبة جداً، منها أن الرجال لا يقتربون من نسائهم إذا كن حبالى، ويضطر الزوج في هذه الظروف أن يبيت خارج الغرفة أو المنزل الذي تبيت فيه زوجته. ولا يحق له أن يأكل معها وهو مجبر أن يحضر لها كل يوم حيواناً يصطاده وإذا أخفق فلا يحق له دخول القرية
وتمتاز هذه القبائل بصلابة الأجسام وصحة الأبدان وسلامتها من الأمراض
الدروز الأحباش
توجد طائفة في بعض مقاطعات الحبشة تسمى (بالدروز) وهي منتشرة بنوع خاص في جهات - غلامو وسيدامو - وعقيدتهم على ما قيل لي خليط من الإسلام والمسيحية واليهودية ولهم أخلاق وعادات شاذة وهم يشتغلون بالنسيج والحياكة
محمد تيسير ظبيان(228/53)
فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(نريد أن ننتهي إلى تقدير واف لمعنى التربية التي تضعنا في مركز نفهم فيه الكون ونكشف الدور الذي علينا فيه أن نلعبه، كيما نتبين كيف أنه يجب علينا، وكيف يمكننا أن نقوم بهذا الدور بكل ما نستطيع)
هكذا يقول الأستاذ في كتابه محاولاً أن يلتمس في الفلسفة تفسيراً أو تقويماً لعملية التربية. ذلك أنا سنسأل ما قيمة التربية في الحياة؟ وما قدر عمر المرء بالقياس إلى الأعمار الجيولوجية السحيقة الهائلة؟ وأي ربح يربحه الإنسان من عمله تحت الشمس؟ جيل يعيش وجيل يموت، والأرض باقية فما جدوى ذلك كله؟ لم يجب أن نعيش؟؟ لم نُلزم بالبقاء في عالم لم نسأل عنه قبل مجيئنا إليه ولا نملك فيه حتى حق الموت؟؟! وما هي الصلة بين مركزنا في الحياة وواجبات هذا المركز؟؟
أولئك جميعاً مسائل عسيرة عتيدة يضج منها الجمهور لأنه لا يستطيع الخوض فيها بحكم عقله الذي لا ينحو نحواً كلياً يفسر به الظروف الجزئية ويسمو عليها. لذلك تراه يقول حسبنا أننا نعيش ما دام الواقع أننا نعيش!! وحسبنا أننا نتعلم ونتربى مادام الواقع أننا كذلك؟!! ولكن الفلسفة لا ترضى منه بهذه القناعة ولا تفتأ تقول له: إياك أن تغفل سؤال (لِمَ تعيش)؟ لا لشيء إلا لأنك تعيش!! ذلك أنك تتقدم من غير شك إذا ما سلطت النقد على حياتك ونظرت قبل القفز ثم بعده!! يقول الأستاذ برادلي في أصول المنطق جـ2 ص721 (إن ديانة العمل من أجل العمل فحسب، أو إن كل شيء من أجل العمل، تنتهي حتماً إلى نتيجة مهدومة في العمل نفسه)
وهكذا تقول الفلسفة للجمهور (قصدك الأساسي هو العمل، أما أنا فقصدي النظر؛ ولكن النظر مع ذلك يسير إلى جانب العمل. أنا أغوص، والعمل يستفيد من غوصي، لأنه بي - وبي وحدي - يستطيع أن يفهم لِمَ يعمل ما يعمل). ذلك أن الفلسفة لا تضرب في الهواء ولكنها تحاول أن تحدد الأشياء بحدودها المنطقية معطية إياها نهاياتها الميثافيزيقية؛ وأن العمل نفسه يصير فلسفة إذا ما نقد نفسه. لذلك لا غرو أن قالوا إن العمل الصحيح هو ذلك(228/54)
الذي يشعر بنفسه!!
سيقول العمل - وهو لابد قائل - (ولكن ذلك يضايق!!) وستقول الفلسفة (إنه حقاً يضايق ولكنه بعد ضروري لأن التقدم لم يضر نفسه إلا عن طريق الغرور! لذلك لابد من هاتيك الأسئلة السقراطية الحصيفة العميقة كيما نأمن مغبة الغرور!!)
وهنا سيعجب (العمل) من قول الفلسفة، وسيبسم فتضحك (الفلسفة) وتقول له: (حسناً لقد اقتربنا! إنك قد بدأت تعجب والتعجب أول خطواتي!! وإذن فكْن معي كما يقول المثل الصيني (كل رغيفاً واشتر بالآخر زهرة!!) وتذكر دائماً أنك تكون إياي حينما تنعكس على نفسك فتختبر حقائقها وترتبها وتبوبها وتجعلها منطقية معقولة!!)
وإذن فليست فلسفة التربية أداة لفهمها فحسب؛ وإنما هي أيضاً أداة لنقدها وإصلاحها. وللفلسفة عدة صور أهمها الميثافيزيقا التي تعطينا فكرة جامعة عن الكون. ونحن في التربية إزاء كائنات راقية هي أفراد الإنسان. وعلم النفس لا يكفي قط لفهم هذه الكائنات بجميع علائقها، وإذاً فلابد من ذلك (التقدير الوافي) الذي تقدمه الفلسفة!! فترى ماذا عسى أن يكون ذلك التقدير؟؟
تبحث الفلسفة كما قدمنا في (الكليات)، وترى (الكل) ممثلاً في الجزء كما نرى الحيوان المنقرض في هيكله العظمي، والإنسان جزء من الكون. وكل أجزاء الكون ترتبط وتندمج في وحدته الكلية. والتربية من أهم تجارب الإنسان إن لم تكن أهمها جميعاً. وسؤال الفلسفة هنا هو ماذا تقوم عليه التربية من أصول، وما قيمة هذه الأصول؟؟ ذلك أن التربية أسلوب زمني يعمل لإعداد الفرد كيما يحقق نوعه بإخراج ملكاته من القوة إلى الفعل، والارتفاع به من الواقع إلى المثل الأعلى؛ ولما كانت أغلب تجارب الإنسان تقع في حيز الزمن؛ ولما كان الزمن يقص علينا قصة المجهول على لسان التطور الذي ما فتئ يعمل في الكون منذ السديم الأول إلى اليوم؛ ولما كانت التربية هي تطور في الفرد مع شعور بهذا التطور؛ ولما كانت سلسلة التطور تمتد في مجرى الزمن وتمتد حتى المطلق - أقول لما كان كل ذلك - فيما يلوح - حقاً، فإنه يرجح لدى الأستاذ هرن صاحب كتاب (فلسفة التربية) أن قصة الإنسان تتطور نحو الكمال، وأن التربية هي وسيلة ذلك التطور. وإذا صح ما يقوله (هيجل) من أن تجارب الإنسان الزمنية ليست إلا مظهراً (للدائم الخالد)، صح أن التربية(228/55)
من أهم هذه التجارب. .!!
وتعترف الفلسفة بالعقل البشري كآخر منحة للجسم العضوي في تطوره؛ وكوسيلة للخروج من اللاشعور إلى الشعور؛ ولذلك نراها تضع يدها عليه لترقيه وتنميه معتبرة إياه أعظم أنواع الحقيقة الزمنية. ويقول هاملتون (ليس في الدنيا أعظم من الإنسان، وليس في الإنسان أعظم من العقل). ولكن من أين أتى هذا العقل؟ أمن العدم؟ أم من شيء غير عقلي؟ لابد من القول هنا (بعقل تام) قائم خلف عقلنا المحدود، وهذا العقل التام هو السبب الأول لمركز التربية في الإنسان - وهو العقل - بل وهو الضامن كما يقول ديكارت (الموضوعية) الحقائق العقلية ذاتها!
وتكون التربية على ذلك تحقيق للإنسانية بجهد خاص قوامه الشعور بالنفس؛ ولكن ما طبيعة هذا الجهد وما صلته بالكون؟
سبق أن الإنسان جزء من كل؛ ويتبع ذلك أنه محدود في شعوره بنفسه لأنه جزء فحسب؛ هذا بينا الكل الذي يحوي الإنسان ويحوي غيره يجب أن يكون مطلق الشعور بنفسه وذو نشاط ذاتي دائب. . . وهذا الكل هو الله
ولما كان الإنسان عقلا بالقوة يتحقق بالفعل بالجهد أو بالنشاط الذاتي، ولما كانت التربية هي ذلك الجهد نفسه أو ذلك النشاط الذاتي؛ كانت عمليتها تقرب حتما ما بين الإنسان وخالقه
وإذا أخذنا بمذهب الحلول قلنا إن الله تعالى مصدر ما في الكون من قوة وحركة ونشاط. وإذن تكون المادة نشاط في نظر العالم الطبيعي، ويكون هذا النشاط درجة من الشعور في نظر الفيلسوف. ويكون الله على ذلك هو وحدة الكون الشاعرة التي تحيا الطبيعة فيها والإنسان. يقول القديس بطرس: (إننا نعيش ونتحرك ونأخذ كياننا فيه)؛ ويكون زمن التربية على ذلك هو فترة تحقيق الناشئ لأحد مظاهر الله. وذلك التحقيق يسر الله من غير ما شك. يقول فيختة (التربية تكميل خالد وطريق لجعل الجزء كلاَّ، إذ الحقيقة الكلية هي الكون أو الله. والحقيقة الزمنية هي الصيرورة. ومن أساليب الصيرورة ذلك الأسلوب الذي يصير به الإنسان ما هو عليه في الأبد. والحياة الأبدية هي أن يكون الإنسان على نحو الله)(228/56)
وخلاصة القول أن التربية تقوم على أن أصل الإنسان هو الله، وأن الإنسان حر الطبيعة خالد المصير؛ وأن أساس التنشئة في الناحية البيولوجية هو ملاءمة الإنسان بين نفسه وبين البيئات المتطورة المتجددة؛ وأساسها في الناحية الفسيولوجية هو العناية بالجسد وتجميله لأنه هيكل الروح المقدس؛ وفي الناحية النفسية هو أنه لا حد لنمو العقل فلنسم به إلى المطلق؛ وفي الناحية الاجتماعية هو أن الله يظهر نفسه في الزمان خلال مثل الإنسان العليا من خير وحق وجمال، وإذا فليكن لهذا الثالوث قداسته واتزانه في حياتنا. . .
ويكون التعريف الجامع المانع للتربية في نظر الأستاذ هورن هو (أنها الطريق الأبدي للملاءمة العليا بين الإنسان الكامل جسما وعاطفة وعقلا، وبين الله ممثلا في البيئة الزمنية للإنسان)
هذا هو تفسير الفلسفة لعملية التربية. أفلا ترى أنه يرفعها ويقدسها ويجعلها جديرة منا بكل إجلال، ومن الدولة بكل عناية وتقدير؟؟
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية(228/57)
رسَالة الشِّعر
غب سماء
للأستاذ فخري أبو السعود
رَوِيَ الطَّرفُ والجوانحُ ريّاً ... في أصيلٍ مُشعشعِ الأضواءِ
من جمال الأشياء لمَّا تراءت ... شائقات الجمال غب سماء
بعد يوم داجي السحاب عَبوسٍ ... دائب السَّحِّ هاطل الأنواء
غائب الأفْق لم يَبِنْ فيه حتَّى ... دَلَفَتْ للمغيب وجهُ ذُكاء
أشرقتْ في غروبها وتَبَدَّتْ ... من ثنايا السحاب باللألاء
فأحالت جهامةَ الجوِّ بِشْراً ... وأَنارتْ جوانبَ الغبراء
وأذابتْ شعاعها الصافيَ الأصْ ... فَرَ في الماء والثرى والفضاء
وكَسَتْ من ضيائها أخضَرَ الأَعْ ... شابِ حُسناً وياَبِسَ الأَكْلاَء
فهما يَزْهُوَانِ في رِيقَةِ القَطْ ... رِ زِهَاَءً وفي شُفوفِ الضياء
واستطار النسيم بعد ركود ... وتَمَشَّى على سطوح الماء
وتراءتْ دون السطوح ظِلالٌ ... ذاهباتٌ في رعشةٍ وانثناء
إنَّ في هذه المجالي لَرَوْحاً ... وغذاءً للنفس أَيَّ غذاء
تُفعِم النفسَ غبطةً وهياماً ... بخلودٍ بها لغير انتهاء
وهْيَ وَحيُ الأشعار لا ذمُّك الده ... رَ وشكوى الهوى وطولُ البكاء
هِيَ شِعْرُ الوجود أَحْرِ بهِ أَنْ ... يُلْهِمَ الشِّعْرَ أَنْفُسَ الشُّعَرَاء
خيرُ ذخرٍ للنفس ديوان شِعرٍ ... قد حوى حُسْنَ هذه الأشياء
يبسم الزهرُ فيه من كل سطر ... ويهب النسيمُ حُلْوَ الزكاء
فكأَنّي أَسيرُ إِذْ أَجتليهِ ... في رياض مُنَضَّراتِ النماء
قد تَهَاَدَتْ بها الأَماليدُ والأَزْ ... هارُ شتَّى الأَلوان والأسماء
يصفُ المبهم الدقيقَ ويُحْصي ... كلَّ شيء بالنظرة الجَلْوَاء
حاكياً مَوْقِعَ الجَمَال ومَهْوي ... فتنةِ الكون في فؤاد الرَّائي
يصف الفجرَ إِذْ يهب على الأَرْ ... وَاحِ رَطْبَ الأَنفاس والأَنداء(228/58)
وضياَء الشروق ينتظم الكو ... نَ بفيْضٍ من روعة وبهاء
وضُحىً مُنْضِراً وُجوهَ الروابي ... وثغور الحدائق الغَنَّاء
وأَصيلاً هِيْنَ النسائم قد شا ... عتْ بأضوائه ظلالُ المساء
فخري أبو السعود(228/59)
ليلة قمراء!
للأستاذ خليل هنداوي
أُحجبي عن مقلتي بدر السما ... أنتِ في عيني وقلبي القمر!
هل لمحت الكون لمَّاع السنا ... كل شيء فيه عين تنظر
كل ما فيه سكون حولنا ... وضياء ضل فيه البصر
ولنا في الغاب ظل وارف ... وغصون للهوى تنهصر
كل دنيانا هنا، ما نبتغي؟ ... لو أَردنا لتدلَّى القمر
قد رآنا الليل من أشيائه ... فتولانا، ونام القدر
وكسانا النور ثوباً راجفاً ... نتراءى فيه أو نستتر
نجعل النور جناحاً وعلى ... غارب النور يطيب السفر
يبتغي البدر بأَن يغريني ... ليتما للبدر عيناً تبصر
فيرى البدر الذي أَلهمني ... سكرة تصحو، وصحواً يسكر!
خليل هنداوي(228/60)
بين ابن زيدون وولادة
شاعر الحب. . .
للأستاذ محمد بهجة الأثري
مهداة إلى الصديق (الزيات) مصور الحقيقة والجمال والخير
(الأثري)
حيِّهِ من شاعرٍ في الغابرينْ ... عاشَ حيّاً في قُلُوب العاشقينْ
شاعرُ الحبِّ، وما أعظَمَهُ ... لَقَباً يَحْيَا به في الخالدين!
شاعرُ الحبِّ، وما الدنيا سوى ... نَغَمِ الحبِّ وشعرِ المُغْرَمين
وبقاياها فضول مُنِيَتْ ... بتعاطيها نفوسُ الأكرمين
هل يروق العيشُ في غيرِ هوى ... أو يروق العيش في غير حنين؟
لا ودلِّ الغِيدِ في فتنتِهِ ... وجلالِ الحسنِ في الخُلْق الحصين
جلَّ ما رقرقه في شعره ... من دموعٍ وزفير وأنينْ
قِطَعٌ من كبِدٍ مقروحة ... صَلِيَتْ في الحب نيرانَ الشجونْ
وفؤادٍ من تباريح الضَّنى ... ذابَ إلاّ رَمَقاً لا يَسْتبين
قطّرتها شَجَناً أنفاسُهُ ... كحنَان الإِلْف ناءاه القرين
وجَلَتْها فتناً أشعارُهُ ... كرُواءِ السحر، تسبي الناظرين
ضحِكٌ في دمعةٍ رقراقةٍ ... وتعالٍ في خضوعٍ مستكين
لَمحَاتٌ تنبري مسرعةً ... كوميض البرق أو نبض الوتين
من ضلالِ النفس في حَيْرتها ... وخداعِ القلب بالوصل الضنين
يرهبُ الفُرقةَ أنْ تُفْزِعَهُ ... ويخاف الدهرَ أَلاَّ يستكين
بين يأسٍ من يقينٍ عنده ... ورجاءٍ يبتغيه في الظنون
ما درى الأمنَ فؤادٌ عاشقٌ ... ساعةً دون ارتياعٍ من كمين
أيُّ قلبَيْنِ إذا ما اجتمعا ... وعيونٍ تتلاقى بعيون!
قفْ تأمَّلْ خفقاتٍ نطقتْ ... بالهوى وارْنُ إلى السحر المبين(228/61)
وتصوَّرْ مبسِمَيْن الْتَقَيَا ... وعناقيْنِ: خَدِيناً لخدين
في أحاديثَ كأنفاس الصَّبا ... وشذا الوردِ ورَقْراق المعين
يقطعانِ الدهرَ في ظلّ الصِّبا ... بين لَثْم وعناق وأنين
كلَّما جَدَّ الهوى زادا به ... لَعِباً يُغْري ولهواً وحنينْ
هل ترى من غِبطةٍ رفَّتْ على ... مشهد أبدعَ يحلو ويَزِيْن؟
وقف الدهرُ عليه ثَمِلاً ... يغبِط الإِلفَيْن كالصبِّ الغَبينْ
لا أخافَ اللهُ قلباً هائماً ... ببنات الحسن من حُور وعِين
يا دعاءً ما استجابَتْه السما ... لعشيقيْن على كرّ السنين
ليتها في عاشقيْ قُرْطُبة ... لبّتِ القولَ لذُلِّ الضارعين
إن ما ذاقاه في ظل الهوى ... من أفاويق حَلَتْ، عادَ وَزِينْ
ضَرَبت أيدي النوى بينهما ... والنوى أقتلُ داءِ العاشقين
النوى؟ سل بالنوى مَنْ ذاقها ... يُزِلِ الشكَّ ويُخْبِرْك اليقينْ
ظمأٌ بَرْحٌ، وشوقٌ دائم ... وجوىً يُذوِي، وسقم وجنون
ما لها طِبٌّ يداوِيها خلا ... عودةَ الوصل قريناً لِقرين
يا لساناً وقَّع الشجوَ الذي ... سَحَرَ الدنيا وهزَّ المُغْرمين
ولدتْ (ولاّدةٌ) أنغامَه ... فتناغى بأفانين اللحون
قد أصاب الحبُّ من قَلْبَيْهما ... عاشقاً طهراً ومعشوقاً رزين
ما مشى الرَّيْبُ إلى قُدْسِهما ... وهوى الناسِ ارتيابٌ ومُجُونْ
يُعْصَمُ النُّبْلُ ويُحْمى حوضُهُ ... بقُوى النفس وبالخُلق المتينْ
يعرِفُ الصدقَ أخو الصدقِ فَدَعْ ... كذِبَ الشكِّ وغَمْزَ الجاهلين
ربَّ حبٍّ كنمير الماء في ... صفوه: طُهْرٌ وعذب ومصونْ
(بغداد)
محمد بهجة الأثري(228/62)
رسَالة الفَنّ
الفن الهندي
النحت والتصوير
للدكتور أحمد موسى
- 3 -
وبلغت الثروة الفنية في النحت الهندي مبلغاً عظيماً من الكثرة والاتقان، وذلك بالنظر إلى ما بقي منها من المعابد والمباني الأثرية الكثيرة التي كان الدافع إلى تشييدها الرغبة الأكيدة في خدمة العقيدة الدينية
وقد انقسمت منحوتات الهنود إلى قسمين أولهما النحت نصف البارز الذي بلغ حيناً درجة التجسم الكامل لولا التصاقه بالأرضية الموجودة تحته، وثانيهما النحت الكامل المعروف بالتماثيل
ولما كانت المنحوتات والتماثيل قد أنشئت للمعابد وما إليها بقصد تنسيقها وتجميلها، فإن معرفة تطور النحت الهندي معرفة صحيحة تكاد تكون غير ممكنة بالنظر إلى السبب السابق التنويه به في المقال الأول
وقد شملت المنحوتات والتماثيل المناظر الخيالية والدينية، ولكنها كانت في جوهرها بعيدة عن الاقتباس من الطبيعة. ثم حاول الفنان الهندي أن يصور الحقيقة في منحوتاته فسار متجها إلى المناظر الحربية، وإلى مناظر حياة بوذا في منحوتات نصف بارزة وجدت في توبا سانتشي
أما بقية المنحوتات البوذية بوجه عام فكانت دينية وقصصية نحتت على الحوائط الداخلية والخارجية للمعابد، وكان من بينها ما تم عمله بحالة فائقة من الدقة التي تدعو للإعجاب. وقد بلغ ارتفاع بعض التماثيل حوالي ثلاثين متراً وهذا ارتفاع هائل شابهوا فيه المصريين بعض الشبه
وسار النحت البراهمي نحو القصة والدين، إلا أنه كان أكثر تعمقاً وأبعد خيالاً؛ فأظهر لنا في وضوح حياة الآلهة والأبطال فضلا عن بعض مناظر لحيوانات خرافية ولراقصات(228/63)
ومغنيات خصصن لخدمة المعابد برقصهن وغنائهن
ولعل الطابع المميز لهذه المنحوتات أنها كانت لا تمثل الحقيقة الخالصة في مجموعها، وهذا يخالف بالطبع ما سبقت مشاهدته من منحوتات الإغريق (راجع الرسالة: أكروبوليس أثينا - النحت) ولم تكن هذه الظاهرة لتمنع من تمتعها بقسط كبير من الحياة وجمال التكوين. فالآلهة التي نحتت بحيث كان لها ستة أيد كانت وجوهها وملامحها دقيقة الإخراج، بدت عليها مظاهر العظمة الدينية. هذا فضلاً عن الدقة والعناية في سير خطوطها التحديدية ولاسيما في الأشكال التي مثلت المرأة عندما عُني الفنان بإظهارها رشيقة
وتناول النحت الهندي ناحية أخرى جديرة بالتسجيل، وهي ناحية المناظر الدراماتيكية، منها قطعة مشهورة اسمها (تطاحن الآلهة)، وأخرى اسمها (أحلام الوصول) وهما وإن كانتا من المناظر الدينية، إلا أنهما أقرب إلى تمثيل النفس الفنية، وما يمكن أن تسبح فيه من خيال، وقد تمكن الفنان من إخراجهما بقوة تمثلت في إظهار فهمه للطبيعة وما يدور فيها من مظاهر الحياة
وتكاد تكون مجموعة معبد إيللورا (راجع المقال السابق) وكدشوارو من خير ما تركه الفن الهندي في النحت
أما التصوير فكانت غالبية مرسومة على حوائط المعابد، إلا أنه مع الأسف لم يبق منه شيء كثير من القطع الكبيرة
ويغلب على الظن أن أروع مصورات هندية هي تلك التي على حوائط معبد أدشونتا (القرن الخامس بعد الميلاد)، وتمثل بوذا والاحتفالات الدينية، وبعض مناظر الحروب والصيد، وكانت خالية من قواعد وأصول الرسم المنظور، ولكن هذا لا يمنع من اعتبار خطوط التحديد جيدة لدرجة أكسبت الأجسام شيئاً كثيراً من الروعة والحياة
أما الألوان فكانت قوية اختارها الهنود جذابة للنظر لما غلب عليها من دقة الاختيار وحسنه. ويتلخص التطور الذي طرأ على فن التصوير الهندي في أن المساحات المشغولة به كانت كبيرة، ثم أخذت في الصغر حتى أصبحت تقرب من تلك التي تعلق على الحوائط في أيامنا هذه، بل إن الكثير منها رسم في مساحة الكتب العادية(228/64)
هذه إلى أنها كانت شاملة في أول أمرها لعدة أشخاص ثم خصصت للتعبير عن الجمال أو مواقف الغرام بين رجل ومعشوقته
ولعلنا بالنظر إلى الصورة المنقولة عن حائط معبد أدشونتا نلاحظ حرص الفنان على صدق المحاكاة بالرغم من بساطة الخطوط، فالتسعة الرؤوس تكاد تكون متشابهة من حيث الملامح والتكوين. أنظر إلى الشعر وإلى العيون والحواجب والشفاه تر أنها كلها لجنس واحد من الناس
وقد أجتهد الفنان في تصوير الأيدي مختلفة الأوضاع؛ فتراه جعلها قابضة مرة على عقد وأخرى مشيرة، وثالثة منبسطة على كتف
وهذه الصورة وإن كانت بسيطة بالنسبة إلى غيرها؛ إلى أنها تعطي فكرة صادقة عن روح التصوير الهندي
أحمد موسى(228/65)
البَريدُ الأدَبيّ
جلالة الملك يحضر دروس الدين في رمضان
يحرص جلالة الفاروق أيد الله ملكه على أن يحيي سنن الراشدين من خلفاء الرسول، والصالحين من ملوك الإسلام، فشاءت جلالته أن يحضر دروس التفسير والحديث التي يلقيها في المسجد الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في مساء كل خميس من شهر رمضان. وقد كان يوم الخميس الماضي افتتاح هذه الدروس بمسجد الأبوصيري في الإسكندرية. ففي الدقيقة الخامسة والعشرين من الساعة التاسعة أقبل موكب المليك الأعظم فاستقبله على باب المسجد العلماء والنبلاء والوجهاء والشيوخ والنواب وجمهور حاشد من طبقات الشعب، ثم أخذ مجلسه المتواضع في بيت الله بين عباد الله وشرع الأستاذ المراغي يلقي درسه الجامع بعد أن مهد له بهذه الكلمة البليغة قال:
(قبل أن أشرع في المحاضرة أرى لزاماً عليّ وأداء للواجب أن أفي لمولاي حضرة صاحب الجلالة (الملك فاروق) الأول أعزه الله ببعض حقه على الإسلام والمسلمين من الثناء والشكران، فقد أعاد سنة من سنن الإسلام بتحيته وبندائه الذي أذاعه أول يوم من رمضان هي سنة الأمر بالمعروف والاعتصام بهدى الله وأوامره تصدر من ولي الأمر، وهو أعزه الله باستماعه لمحاضرات دينية قد أرشد الناس إلى الرجوع إلى الحق وسماع آي الكتاب الكريم والسنة المطهرة
تلك نعم من الله تستوجب الشكر والدعاء بدوامها. ومما يزيدنا غبطة أن هذه الرعاية من المليك المعظم للدين جاءت في وقت نبتت فيه عند الشبان من أبناء الجيل فكرة الرجوع إلى الدين والاعتزاز به
ومما لا ريب فيه أن تعهد هذا الشعور سينميه ويقويه ويصل به إلى أبعد الغايات وأحب الثمرات. حقق الله الآمال وأدام (الفاروق) ذخراً للإسلام والمسلمين ولأهل الوطن أجمعين)
وقد انتهى هذا الدرس الديني في الساعة التاسعة والدقيقة العاشرة فما كاد جلالته ينصرف من المسجد ويبدأ الموكب الملكي في العودة إلى قصر المنتزه حتى هبت عاصفة التصفيق والهتاف بحياة الملك الصالح، وظلت تلاحق الموكب حتى عاد إلى القصر الملكي باليمين والإِقبال(228/66)
الموسوعة الإيطالية (انسيكلوبيديا اتاليانا)
منذ أسابيع قلائل ظهر المجلد الأخير من الموسوعة العلمية الإيطالية (الانسيكلوبيديا أو دائرة المعارف)؛ وهو المجلد السادس والثلاثون. وإصدار هذه الموسوعة الضخمة من أعظم وأجل الأعمال العلمية التي تمت في العهد الفاشستي؛ وقد وضع مشروعها لأول مرة في سنة 1925، وكان روح المشروع هو السنيور موسوليني نفسه؛ وتبرع لمعاونة المشروع عدة من رجال المال الإيطاليين في مقدمتهم السناتور جوفاني تريكاني، وهو من أقطاب الصناعة ومن هواة العلوم والفنون؛ وانتخب العلامة السناتور جنتيلي لإدارة المشروع والإشراف على إخراج الموسوعة؛ وصدر المجلد الأول منها في ربيع سنة 1929، ووعد القائمون بأمرها يومئذ بأن المجلد الأخير منها سيصدر في سنة 1937؛ وكانوا عند وعدهم. ودعا السناتور جنتيلي، وهو من العلماء والكتاب الأجلاء، كتاب العالم وعلماءه في كل فن وفرع ليشتركوا في تحرير الموسوعة الجديدة، وأغدقت عليهم الهبات الوفيرة، ولم تعترض معاونتهم أية اعتبارات حزبية أو قومية، إذ حرص القائمون بالأمر على أن يسود المشروع كله جو علمي بعيد عن جميع الاعتبارات. وقد صرح السناتور تريكاني حين تقديمه المجلد الختامي من الموسوعة إلى السنيور موسوليني بأن الموسوعة الإيطالية اتخذت نموذجها من الموسوعة البريطانية وصدرت على طرازها باعتبارها مثلا أعلى لهذا النوع من العلم المحشود؛ وإنهم مع ذلك حاولوا بإصدارها التفوق على الموسوعة البريطانية. ومن محاسن الموسوعة الجديدة أنها لم تكن مشروعاً تجارياً بل كانت مشروعاً علمياً فقط، وإنها حسبما يصفها المشرفون عليها، قصدت إلى غاية علمية جليلة هي أن تلخص العلم الإيطالي المعاصر والثقافة الإيطالية المعاصرة؛ ولكن هنالك ملاحظة جديرة بالتقدير، وهي أن كل ما تخرجه إيطاليا الفاشستية من صنوف التفكير والثقافة يصطبغ بصبغة الدعاية العميقة للفاشستية ونظمها ومزاياها المزعومة؛ فماذا كان أثر هذه النزعة في إصدار الموسوعة الإيطالية؟ يقول النقدة الذين درسوا الموسوعة إنها جاءت لحسن الطالع مجهوداً علمياً لم تطغ عليه شوائب الدعاية القومية المنظمة؛ وإذا كانت في الواقع تعتبر أعظم وأغزر مصدر لكل ما يتعلق بالفاشستية، فإن ذلك طبيعي لا غبار عليه لأنها تصدر عن بلد النظم الفاشستية. وقد تولى السنيور موسوليني نفسه كتابة المقال المتعلق بشرح(228/67)
النظرية الفاشستية، وكتب السنيور فولبي وزير الطيران تاريخ الفاشستية. وإذا كانت الموسوعة الجديدة تنم عن نزعة ثورية في النظر إلى مناحي العلوم والفنون، فهي أيضاً نزعة طبيعية في بلد يعيش في عهد تطور وثورة؛ بيد أنه يمكن أن يقال بوجه الاجمال، إن الموسوعة الإيطالية مجهود علمي جليل قبل كل شيء، وإنها مفخرة علمية خالدة لإيطاليا الفاشستية، وإنها قد استطاعت أن تحقق إلى غاية بعيدة كل ما قصده المشرفون عليها من تلخيص الثقافة الإيطالية المعاصرة، وإنها قد استطاعت أن تتحرر من كل نزعة قومية أو حزبية أو جنسية أو دينية خاصة، وإنها أخيراً فتح علمي عظيم يستحق كل إعجاب وتقدير
صور بغدادية
أصدرت مس ستارك (مذكراتها) عن بغداد في كتاب بالإنجليزية سمته وقد كتبته في الفترة التي عاشتها في هذه المدينة الخالدة مكبة على تعلم اللغة العربية وأختها الفارسية. والكتاب على طرافته خليط من الحق والباطل والماضي والحاضر؛ وفيه - برغم مزاياه - ظلم كثير للعرب، ونسيان للجميل العظيم الذي ينبغي أن يذكره الإنجليز إلى الأبد لهذا القطر الشقيق. . . وقد كانت المؤلفة تعيش في صميم بغداد، ومن هنا كانت هذه النظرة السوداء لطرق معيشة البغداديين، والنعي على قذارة الحي الذي كانت تعيش فيه. . . ولو أن الآنسة فرايا ستارك عاشت في بعض أحياء لندن القذرة لما سولت لها نفسها إيراد ما أوردته في كتابها عن الحي البغدادي الذي لم يرغمها أحد على أن يكون مستقرها في الفترة التي قضتها في عروس مدن التاريخ. . . هذا وقد تكلمت الآنسة عن العلاقة بين العرب في العراق وبين الإنجليز فصرحت أنها تقوم على النفاق، وأن العراقيين في طول البلاد وعرضها يضمرون للأجانب عامة البغضاء والكراهية، واستنتجت ذلك من مرورها مرة وهي تزور النجف بصانع أحذية طاعن في السن ما كاد ينظرها حتى انصرف عن عمله وراح يحدجها بنظرات عدائية ارتجفت لها أعصابها. . . وهذا بطبعه استنتاج سقيم كان من المآخذ الكثيرة التي استدركتها على الكتاب صحيفة التيمس الأدبية
دور الضيافة الأدبية
منذ عامين أنشأت نقابة الصحافة الفرنسية في باريس بمعاونة الحكومة نادياً للضيافة سمته(228/68)
دار الضيافة الفرنسية وأعدته لنزول الصحفيين الأجانب الذين يزورون باريس زيارة قصيرة؛ فهنالك يحتفى بهم وتقدم إليهم جميع المعاونات والمعلومات اللازمة لتسهيل مهامهم وأغراضهم العلمية والسياحية. وفي هذا العام استطاع نادي القلم الفرنسي أن يحمل الحكومة الفرنسية على أن تخصص داراً عظيمة فخمة لنزول الكتاب الأجانب الوافدين على باريس؛ وتقع هذه الدار في حي الشانزيليزيه أفخم أحياء باريس في شارع بيير شارون، ويمكن لجميع كتاب العالم الذين ينتمون إلى نوادي القلم أن ينزلوا فيها ضيوفاً على الحكومة الفرنسية؛ وقد حددت مدة الضيافة بخمسة أيام فقط نظراً لكثرة الكتاب الوافدين على الدار وفي خلالها يقدم طعام الإفطار إلى الضيوف، وتوضع تحت تصرفهم جميع المعاونات والتسهيلات الممكنة لزيارة المعالم الأثرية والفنية. ومنذ أوائل الصيف الماضي تقوم هذه الدار الفخمة بمهمتها في استقبال الكتاب من مختلف الأنحاء
ونحن في مصر في حاجة إلى دار للضيافة من هذا الطراز؛ ولا نقول إنها يجب أن تعد لاستقبال جميع الكتاب الوافدين إلى مصر، بل يكفي أن تعد لنزول الكتاب والأدباء الذين يفدون علينا من الأقطار العربية والإسلامية؛ ونحن نستقبل الكثيرين من هؤلاء الأخوة في كل عام وكل فصل، ولا نستطيع في معظم الأحيان أن نقدَم إليهم ما يجب من حسن الضيافة والمعاونة. فعلى هيآتنا الصحفية والأدبية أن تبذل السعي اللازم لدى الحكومة حتى تظفر بتحقيق هذه الأمنية التي يعاون تحقيقها في توثيق الروابط الأدبية والاجتماعية بين مصر وشقيقاتها
اكتشاف جديد لسر التحنيط
هل اكتشف العلم الحديث أخيراً سر التحنيط عند الفراعنة؟ هذه مسألة تعنى بها الأوساط العلمية في أوربا وأمريكا منذ حين عناية خاصة، وتبذل الجهود من آن لآخر للوقوف على سر ذلك المحلول العجيب الذي كانت تنقع فيه الجثث المحنطة فيكفي لحفظها من العطب والتحلل آماداً طويلة، بل آلافا مؤلفة من السنين كما تشهد به موميات الفراعنة التي تحتفظ بها مصر وكثير من المتاحف العالمية. ولقد كان التحنيط على هذا النحو فناً من فنون المصريين القدماء برعوا فيه إلى الغاية؛ ولكن تسربت منه على ما يظهر في العصر القديم معلومات إلى بعض الأمم المعاصرة كالآشوريين والفرس؛ بيد أنه لم يبلغ في حضارة من(228/69)
الحضارات القديمة مثل ما بلغه عند المصريين القدماء
وقد بذل العلم الحديث محاولاته لاكتشاف هذا السر مهتدياً بما كتبه المؤرخ اليوناني الكبير هيرودوت عن التحنيط عند الفراعنة حسبما شاهده ودرسه بنفسه لدى المحنطين المصريين وهم الرهبان في ذلك العصر؛ ولكن رواية هيرودوت لم تلق قط على حقيقة المواد التي كانت تستعمل ضوءاً كافياً، وكل ما هنالك أنه يتحدث عن محلول (النترول). وفي أواخر القرن الماضي استطاع بعض العلماء الألمان أخيراً أن يهتدي إلى مركب تحفظ به الجثث المحنطة ولكن إلى أعوام قلائل
والآن تحمل إلينا الأخبار من إيطاليا أن المباحث التي كانت تجرى منذ حين في جامعة تورينو قد انتهت بالوقوف على سر المحلول الفرعوني للتحنيط، وأن الكيميائي الإيطالي السنيور سالفاتوري بيروتا قد استطاع أن يهتدي إلى محلول تحفظ به جثث الحيوانات المحنطة أعواماً طويلة دون أن يصيبها البلى، بل تبقى كأنها حية تماماً. ويقول أساتذة المعهد الكيميائي بجامعة تورينو إن بيروتا قد استطاع حقاً أن يقف على سر التحنيط بهذا الاكتشاف؛ على أنه يبقى أن تثبت التجارب العلمية ما إذا كان هذا المحلول الذي اكتشفه العالم الإيطالي يكفي لحفظ الجثث آماداً طويلة، وهذه هي عقدة المسألة كلها. وقد كان بيروتا طالباً في معهد تورينو وتخرج فيه، ولكنه اضطر لفقره أن يلتحق بوظيفة صغيرة؛ إلا أنه شغف بالتجارب الكيميائية وأنشأ له معملاً صغيراً في منزله وأجرى فيه تجاربه؛ ولما وقفت الجامعة على جهوده سارعت لمعاونته ووضعت معملها الكبير تحت تصرفه حتى اهتدى بتجاربه العديدة إلى اكتشافه المذكور
انعقاد المؤتمر الطبي السنوي في بغداد
قررت الجمعية الطبية المصرية عقد مؤتمرها السنوي العاشر بمدينة بغداد في المدة بين 9 و 13 فبراير القادم
وسيتناول المؤتمر بحث الموضوعات الآتية:
جراحة الكبد والحويصلة الصفراوية - الملاريا - الكوليرا - موضوعات متنوعة جراحية وباطنية (من بينها الحمى المتموجة وحبة بغداد) - توحيد المصطلحات الطبية في اللغة العربية(228/70)
وترجو الجمعية من حضرات الأطباء الراغبين في إلقاء بحوث عن هذه الموضوعات إحاطتها علماً بالموضوع الذي يختاره كل منهم مع ملخص بسيط عنه
أما قيمة الاشتراك في المؤتمر، فهي جنيه مصري يرسل باسم سكرتير الجمعية العام (بريد قصر العيني). وستعلن الجمعية قريباً عن البرنامج التفصيلي الشامل لحضور المؤتمر
أسبوع الكتاب الألماني
جرت عادة الجالية الألمانية في مصر أن تقيم في كل سنة معرضاً تطلق عليه (أسبوع الكتاب الألماني). وقد أقامته هذه السنة في القاعة الكبرى بالبيت الألماني في شارع الترعة البولاقية رقم 7 تحت رعاية وزير ألمانيا المفوض
ومن أهم ما عرض في هذه السنة ما كتبه الألمان عن مصر في مختلف الأزمان، إذ قدم المعهد الأثري الألماني للمعرض نخبة من المؤلفات القيمة في هذا الباب
وظل المعرض مفتوحاً يومي السبت والأحد وأقيمت في منتصف الساعة الثانية عشرة من صباح الأحد أمس حفلة موسيقية اختتم بها أسبوع الكتاب الألماني(228/71)
القَصصُ
من أساطير الإغريق
3 - خرافة جاسون
للأستاذ دريني خشبة
- (ولمه؟ ألست بن ملك مثلها؟ ألست صاحب عرش عظيم؟ أليس لي ملك تساليا بعد أن أعود من رحلتي هذه؟
- بلى يا بني! ولكنها تخشى أباها أشد الخشية. أليس يرى فيك عدوه الأكبر لما تريد من استلابه الفروة الذهبية التي هي أكبر كنوزه؟
- دعي هذا الآن يا أماه، ولكن طمئنيني كان الله لك، هل تحبني ميديا حقاً؟
- ومن أنبأك هذا؟
- نبأَتْنِيه ربة من السماء لا تضل ولا تنسى!
- ربة؟ تقدس اسمها؟! من عساها تكون يا ترى؟
- هي جونو يا أعز الأمهات! لا أكذبك، إنها جونو!
- أتعرف ما تقول؟
- وهل يكذب بشر على آلهته؟
- إن كان ما تقول حقاً. فلا أذيع سراً أذاعته سيدة الأولمب، ومليكة جوف الكبير المتعال؛ أن ميديا يا بني مولعة بك ولوعاً شرد المنام من عينيها، وجعلها في أيام معدودات طيفاً لا يردد لسانه غير اسمك، ولا تذرف عيناه إلا من أجلك. . و. .
- ميديا تبكي؟ ومن أجلي؟ ولم تبكي؟
- تبكي لأنك كلفت بأمور لا تحملها الجبال! وأين أنت من عِجَلْي فلكان والأرض الجَبُوب التي لمارس؟ ومن أنت والجيش العرمرم من المردة من نبات أنياب التنين؟ ثم من أنت وما هذا كله في التنين الهائل الذي يحرس الفروة؟ حقاً لقد جازفت بنفسك حين وافقت الملك على خوض تلك المخاطرة. .
- وما الرأي إذن ولابد مما ليس منه بد؟(228/72)
- الرأي أن تلقى ميديا فهي حبيبتك، وإن عندها، فضلا عن ذلك، أم كتاب السحر، ولن تبخل عليك بعلمها مهما كلفها ذلك من حَنَق أبيها، وإغضاب أربابها
لقد كان الليل يضرب على العالم بجرانه، وكانت النجوم تلتهب في فحمته كقلوب المحبين، والفرقدان يتقدان من هول الزيارة المضروبة بين العاشقة المُدَلّهة، والفتى المقاحم ذي الآمال
وأقبل جاسون فوجد العجوز تنتظره عند الباب الخلفي. . . وهمست إليه فسار في إثرها حتى كانا عند منعرج مُسَوّج بنبات ذي عساليج، يؤدي إلى رحبة واسعة ينتشر في أرجائها أرج الورود والرياحين، حتى ليوقظ القلوب النائمة، ويعطرها بفغمة الحب، ويسكرها برحيقه المختوم الذي كله لغو وتأثيم!
وهناك، كانت تنتظره ميديا بنفس غرثى، وقلب ظامئ خَفِق، فلما رأته غمرها إحساس ثائر، واستولت عليها عاطفة صارخة، لم تستطع معها إلا أن تلقي بنفسها على صدره القوي الرحب، تبلله بدموعها. . .
ووقف جاسون ساكناً هادئاً، كأنما كان يوجس خيفة من هذا الحب الذي أقبل فجأة يهاجمه ويَدّارأ عليه، ويدفع بعضه بعضاً من حوله. . . لقد كان قلبه بارداً كالثلج، وذراعاه جامدتين كالرخام. . . وكانت ميديا تبكي وتنثر اللؤلؤ من عينيها المرتجفتين، ولكنه لم يستطع أن يرد تحية واحدة من تحايا هذه الدموع. . . وكأنما كان يحس، حينما كانت الفتاة تلف ذراعيها حوله، أن حية رقطاء تتحوّى عليه، وتنفث سمها فيه. . . لماذا؟ لم تكن إلا الآلهة وحدها تدري!!
- جاسون. . . أحبك. . . أحبك من أعمق أغوار قلبي! لم أكن أعرفك قبل أن رأيتك من الشرفة تكلم أبي، فلما رأيتك فنيت فيك. . .
- أشكرك يا عزيزتي. . . أشكرك شكراً لا أدري كيف أعبر عنه!
- جاسون! ألا تكون لي إلى الأبد؟
- أنا خادمك. . . بل عبدك إذا شئت!
- لم رَضيت لنفسك ما عرضه عليك أبي يا جاسون؟
- وماذا يخيفني يا ميديا؟ نحن الإغريق لا نرهب الردى، ولا نخاف الموت!(228/73)
- هذا جميل. . . ولكن الموت أكره الأشياء وأقبحها لمثل هذا الشباب!
- قد أنتصر، والنصر، لاسيما في المخاطرات، أجمل تاج يتألق على جبين الشباب!
- هذا محال إذا لم أساعدك!
- تساعدينني؟
- أجل!
- وكيف؟
- عِدْني أولاً!
- وبماذا أعدك يا أعز الناس!
- أن تكون لي. . . أن نتزوج!
- أعدك!
- بل أعطني موثقك!
- أقسم لك!
- بل احلف بجونو؛ فهي حارستك! وأحلف بهياكاتيه!
- أ. . . أ. . . أحلف! أحلف بجونو! وبهياكاتيه!
- تحلف بجونو ماذا؟
- أحلف بجونو أن نتزوج!
- وأن يعيش كل منا للآخر إلى الأبد!
- إ. . . إ. . . إلى الأبد؟!
- إذن. . . لا ضير عليك. . . ستنجو من كل شيء يا جاسون. . . خُذْ!
- ماذا يا ميديا؟
- أسلحتك التي تقيك!
- أسلحتي!؟ هاتان عُلْبَتَان. . . وهذا حجر أسود صغير! أكل هذه أسلحتي؟ ماذا أصنع بها؟
- علبة من فضة إذا فتحتها اصّاعدت منها ريح تفل من حدة عِجْلَيْ فلكان، وتقي وجهك حر النار التي ينفثانها من منخريهما، فتستطيع أن تلجمهما، وتضع على عنقيهما النيّر حتى(228/74)
يكون المِقْوَم بيدك. . . أما الحجر الأسود الصغير فتقذفه وسط المحاربين الذين تنبتهم أرض مارس الجَبُوب، وإنه لحجر مُسَوَّم من سجيل، يجعلهم كعصف مأكول! وأما العلبة الصغيرة الذهبية فتنثر مما بها من طيب في وجه التنين فيسكر وتتخدر أعصابه وينام لساعته، ولك عندها أن تقضي عليه. . .
وسكتت ميديا. . .
ومدت فمها إلى جاسون، فطبع عليه قبلة فاترة خائفة ترتجف وترتعد، مما سمعت من سحر الحجر الأسود، وريح العلبة الفضية، وطيب العلبة الذهبية!!
وكان الجو العبوس القمطرير يزيد في منظر الحفل الحاشد روعةً ورهبة؛ وكان الملك الجبار يملأ بجسمه الضخم عرشه الممرد فوق الأكمة المشرفة على الأرض الجبوب المقدسة باسم مارس، وكان الناس الذين أقبلوا من كل فج مُشَاةً وعلى كل ضامر يجلسون على الشعاف وأَحْيَاد الجبال المطلة على الميدان متزاحمين متدافعين كأنهم في يوم حشر. . . وكان إخوان جاسون يجلسون عصبة بينهم وفي قلوبهم حسرات على صاحبهم، وألسنتهم ما تفتر عن الدعاء له، والتوسل إلى الآلهة من أجله. . . وكانت ميديا العتيدة تجلس في ركن من مقصورة الملك تشعوذ وتُعَوّذ وتطلق الرُّقى. . .
ثم دق الناقوس الكبير فصمت الناس وشملهم سكون عجيب. . وانفتح باب الزّرب فبرز عجلا فلكان ثم جعلا يعصفان ويتلبطان وينفثان من منخريهما شرراً ودخاناً يختلط بهما لهب أزرق ما مسَّ شيئاً في الميدان إلا حرقه. . . حتى العشب الرطب المندّى بَلْه الهشيم اليابس. . .،. . . وبرز جاسون من مكمنه، فانحبست أنفاس الناس، وسكنت الريح، وأشرفت الآلهة من نوافذ السماء تنظر إلى هذا اللقاء العظيم. . . وأهطع أصحاب البطل وطارت ألوان وجوههم، وتحسس كل منهم فؤاده. . . ولكن جاسون الهائل خطر شطر العجلين غير هياب؛ وعليه دروعه، وفي يده سيفه؛ فلما كان قاب قوس منهما جعل يتلطف بهما، ثم فتح العلبة الفضية فصعدت منها ريح هدّأت ثورتهما وأسلست قيادهما فأسرع إلى النير فوضعه على عنقيهما وشد وثاقه، ثم ربط إليه المحراث وبدأ عمله الشاق. . . وكانت الريح السحرية قد بطل عملها أو كاد فعاد العجلان إلى سابق دأبهما من التوحش والقماص والشبوب وعاد منخراهما يقذفان دخاناً أبيض وشواظاً. . . بيد أن جاسون سيطر عليهما(228/75)
حتى أتم حرث الأرض كلها، ثم قادهما إلى زَرْبها وأطلقهما، وغلق عليهما، وقصد ناحية الملك يسأله أنياب التنين ليزرعها. . . فدفعها الحراس إليه وطفق يغرسها في الأرض الرحبة حتى إذا فرغ من عمله، نظر فإذا رؤوس مقنعة في خوذات من حديد تنبت من الأرض، ثم تنمو فتبرز الرقاب، ثم تظهر الصدور وعليها الدروع السابغات، ثم تشقق الأرض وتكون الجذوع كلها من فوقها، وتخلص الأذرع وفي أكفها السيوف المرهفة تلاعب الهواء. . ثم ترتفع الأفخاذ وعليها كل لأْمة دلاص، ثم يقف أمام جاسون جيش عرمرم من هذه الشياطين المسلحة ترغى وتزبد وتزأر، ثم ينقض عليه الجيش بأكمله وقد شرع كل جندي حسامه، فيتلقاهم البطل بأحسن ما علمه شيرون أستاذه العظيم في قوة في كر، وحزم في فر، وحذق في تحرُّفٍ لقتال، ورسم لخطط للنضال. . . وكان الملك ينظر إلى كل ذلك ويتعجب، وكان الشعب يفغر أفواهه من دهش وذهول. . . وكانت ميديا - برغم ما سلحت به جاسون من سحر - تمسك قلبها الخفاق بيدين مرتجفتين. . . أما رفاق جاسون، فوا رحمتاه لهم!! لقد كانوا يرون الأبالسة يحدقون به من كل صوب، ويزلزلون الأرض تحت قدميه، فتزيغ أبصارهم وتقلب قلوبهم، وتتثلج مشاعرهم، وينظر بعضهم إلى بعض، لا يملكون لهذه الحال ردّاً ولا دفعاً
وظل جاسون يناضل ويناضل، وكلما قتل عشرة وقفت مائة مكانها، وكلما جندل مائة بُدلت بألف؛ فانقذف شيء من الرعب في قلبه، وسرى إلى نفسه دبيب من اليأس كاد يقتله، لولا أن أقبلت جونو تكلمه في نسمة روحت عن قلبه، وتذكره بالحجر الصغير الأسود. . . ولكن الحجر الصغير الأسود كان في جيب صداره، فأَنى له به ولو غفل لحظة عن الدفاع عن نفسه لباء بقتلة شنيعة يقطر سمها من ألف ألف سيف!!
وجعل المسكين يحاول مرة بعد مرة أن يخرج الحجر الصغير الأسود. . . ولكن محاولاته كلها ذهبت سدى. . . وكان قد بلغ منه الجهد، وتولاه الإعياء والضنى. . . فلهج لسانه فجأة باسم جونو. . . فأسرعت سيدة الأولمب لنجدته، وأخرجت الحجر الأسود من جيبه، ووضعته في يده، فقذفه جاسون وسط جيش الأعداء المحدقين، فما هي إلا طرفة عين حتى تفرقوا من حوله، ثم تصرّعوا غير مأجورين. . . وماتوا جميعاً
وأهرع أصحاب جاسون إليه، وطفقوا يحيونه ويهنئونه، ويذرفون حوله دموع الفرح لما(228/76)
كشف عنه من غُمة هذا البلاء ثم حملوه وهم يهتفون باسمه أحر الهتاف، وأهرعت الجموع الزاخرة في آثارهم نحو البحر، وهي تفتأ تردد صيحات الإغريق، حتى خاف الملك على عرشه أن يثله شعبه، وأن يجلس عليه جاسون. . لذلك اربد وجهه، وانتشرت عليه سحابة من الكآبة والهم تملأ أساريره
وبلغ الإغريق سفينتهم فشكروا للكولخيين جميل ما حيوا به بطلهم. . . ثم خَلَوْا بعد ذلك إلى جاسون فنضوا عنه ثيابه، وضمخوه بالطيوب والعطور، ثم هيأوا له طعاماً وشراباً، من أفخر ما يقتنون. . وفي الليل أسر إليهم بسره، وانطلق ليلقي ميديا
ولقيته ابنة الملك بابتسامة لم يجزها عليها بمثلها. . . ثم تركها وقتاً غير قليل تغمره بُقُبَلها وتنضح يديه وخديه وجبينه بدموعها وتعبر له عما كان يقيمها ويقعدها حينما انبرى لِعجليْ فلكان، وحين أحدق به أبالسة التنين يقاتلونه ويتكاثرون عليه، وهو صابر لهم، صامد لجموعهم، حتى قذف الحجر فانقذفت في قلوبهم المنايا
- أرأيت إذن يا حبيبي ما صنع الحجر الأسود من السحر أيقدر على مثل ذلك غير من أوتي من العلم ما أوتيت؟
- كلا!
- ما لك لا تتكلم يا جاسون؟
- الفروة الذهبية! أريد أن أفرغ من هذا الهم الطويل؟!
- الفروة الذهبية لك من غير ما ريب، فلا تبتئس! قبّلْني!
وطبع على ثغرها قبلة مَيّتَةً كانت ترتجف من شياطين السحر التي ترقص دائماً في فم ميديا. . . وانطلقا إلى الجانب القصي من الغابة المجاورة، حيث كان التنين الهائل يحرس الفروة المعلقة على شجرة السنديان، وهناك، فتح جاسون العلبة الذهبية ثم اقترب من التنين في غفلة منه، وقذف في وجهه بما كان فيها من قطرات السحر. . . فترنح الوحش المخيف الرائع؛ واستل جاسون جُرَازه، وأغمده في صدر الأفعوان الكريه، فخر يتلبط في دم غزير. . . وانقض الفتى على الفروة الثمينة التي ترجح ألف كنز فانتزعها من الشجرة. . . وعادا عجليْن إلى القصر الملكي الرهيب، حيث كانت وصيفاتها في انتظارها، وقد جمعن كل ما استطعن حمله من أذخار القصر، كما رسمت لهن ميديا من قبل وحين أوشك الجميع أن(228/77)
يغذوا السير إلى الآرجو. . . إذا بالفتى أبْسِرْتوس، أخو ميديا غير الشقيق، وولي عهد الملك، يقبل لبعض شأنه، فتغريه أخته بالسفر معها في رحلة جميلة إلى أبدع بلدان العالم. . . تساليا. . . ويرضى ولي العهد. . . وينطلق الجميع إلى المرفأ حيث رست الآرجو، فيركبون فيها، وتقلع بهم في موج كالجبال
في العدد المقبل (خاتمة ميديا)
دريني خشبة(228/78)
العدد 229 - بتاريخ: 22 - 11 - 1937(/)
ثورة على الأخلاق!
هل الصلاح غير النجاح؟
- ما رأيتك يا محمود على هذه الحال منذ عرفتك! أين السماحة التي تفترُّ في ثغرك، والغبطة التي تشرق في صدرك، والرضا الذي كان يجعل من حياتك نموذجاً لعلماء الدين وجهابذة العلم وفلاسفة الخلق؟
- ماذا أصنع يا صديقي والناس أصبحوا يشككونني في مزايا الأخلاق وقِيَم الفضائل؟ كنت أضطرب في دائرة ضيقة من العيش فيها كل ما في الدنيا الواسعة من لذة الروح بالأهل، وسرور القلب بالإخوان، ومتاع العقل بالكتب، ونشاط الجسم بالعمل؛ وليس فيها البُحران الذي يحدث من حمَّى الهموم، ولا الجحيم الذي يشبُّ من تحاسد الخصوم، ولا اللجب الذي ينشأ من تنافس المجتمع؛ وكنت وأنا في هذا العالم الصغير المحدود أعتقد أن القواعد التي سنها الأخلاقيون لتهذيب الإنسان من الخلال المضادة لغريزته، قد استطاعت على مر القرون أن تخفت في دمه صوت الحيوان، وأن تلائم بين موهوب الطبع وبين مكسوب العادة من تناقض الرأي وتعارض الهوى، وأن تجعل من سلطانها الغالب دستوراً لحياة الناس، فيكون بها مقياس السؤدد، وفيها سبب الرقي، ومنها وسيلة النجاح. نعم يا صديقي كنت أعتقد ذلك وأستبعد أن يكون للمدنية معنى غير الثقافة، وللثقافة مدلول غير الكفاية، وللكفاية نتيجة غير الفوز، حتى ألجأتني طبيعة عملي العامِّ إلى توسيع هذه الدائرة، فوسعتها بمقدار ما استلزمه هذا العمل من ملابسة الشعب ومراجعة الحكومة، فإذا كل ما قرأته زور، وما تخيلته وهم، وما اعتقدته باطل. ماشيت العامة على منهج الدين فلقيت الكفر، وعاملت الخاصة على هوى الخلق فوجدت النفور، وعالجت الأمور على مقتضى القانون فأدركت الخيبة؛ فذهبت أفتش في الناس عن أسباب الفوز فلم أجد من بينها سبباً يمت إلى الفضيلة أو يتصل بالكفاية. هذا الباشا فلان يملك القرى بإنسانها وحيوانها وأطيانها، وله المقعد المرفوع في البرلمان، والصوت المسموع في الحكومة، والأمر النافذ في البنوك، وهو رجل لا يزال على الفطرة الأولى من الوحشية والعنجهية والجهالة. وهذا البك فلان تشغل عمائره الخلاء والهواء من المدينة، وله على أغلب الأسر دَين، وعلى أكثر البيوت اختصاص؛ ولو سألت جيرانه الأولين عن مصدر هذا الثراء الضخم لأجابوك بلهجة(229/1)
المحنَق الموتور بأنه الربا الذي لا يحفل القانون، والغش الذي لا يبالي الفضيحة، والاختلاس الذي لا يخشى الله، والبخل الذي لا يذكر الموت. وهذا الموظف فلان يملك القصر المنيف في أجمل بقعة، والسيارة الفخمة من أعلى طراز، والمرتب الضخم من أول درجة، وله الوصل والقطع في أمور الناس، والمنح والمنع في أموال الدولة. فهل بلغ ما بلغ بعلمه؟ إنه لا يحمل غير الشهادة الثانوية. هل نال ما نال بكفايته؟ إنه لا يحسن غير الإمضاء في الموضع الذي يضع عليه الكاتب الصغير إصبعه من الورقة. إذن لم يدرك الرجل ما أدرك إلا بفضل المرونة التي تكون فيمن خلقوا من المطاط لا من الطين، فرأسه ذو وجهين، ولسانه ذو شقين، وضميره ذو بالين، وشرفه ذو رأيين؛ يداري ويجاري، وينافق ويمالق، ويهان فيغضي، ويستباح فيبيح؛ وهو متفرق الأحاسيس فلا تجتمع له عاطفة، متنافر المنازع فلا ينسجم له رأي، معوج المسالك فلا يستقيم له مذهب
وهذا الأستاذ فلان يأكل في صحاف الذهب والفضة كالنابغة، ويخطر في مطارف النعيم والجاه كابن العميد، ويملك للناس الضر والنفع كابن عبد الملك! فلعله أصاب ما أصاب من وراء علمه وخلقه. ليت ذلك كان فتشذ القاعدة ويخطئ القياس، ولكن الأستاذ نجح وا أسفاه لأنه باع العلم بالسياسة، واشترى الدنيا بالدين، واضطرب في مهب الأعاصير حتى رفعه أحدها على متْنه، ثم استقر على المنحدر الشاهق استقرار الريشة القلقة!
ثم رجعتْ أبحث عن أسباب الفشل فوجدتها لا تخرج عن حدود الفضائل التي تعشقها ابن آدم منذ أدرك! فالعلم والصدق والصراحة والشجاعة والقناعة والأمانة والنزاهة والأنفة والحلم والتواضع والجود، كل أولئك عوائق عن درْك الغنى ونيل الجاه وكسب الشهرة. وأقوى البراهين على إقناعك أن تستقريَ أحوال المصابين بهذه الخلال فهل تجدهم إلا أواخر الموظفين في الديوان، وأخسر المتعاملين في السوق، وأضعف المتنافسين في المجتمع؟
لقد تدبرت الأمر فوجدت الفضائل لا تنتصر إلا في الروايات والقصص؛ أما التاريخ الذي يسجل الواقع ويروي الحق فهو دامي الصفحات بأخبار الأنبياء والعلماء والفضلاء والمصلحين الذين أوذوا في سبيل الدين، وقتلوا في خدمة العلم، ونكبوا في مرضاة الحق، وشقوا في حب الفضيلة. فهل تقول بعد ذلك إن الأخلاق الفاضلة لا تزال عدة النجاح(229/2)
وطريق السعادة؟
فقلت له: أما أنها طريق السعادة فنَعامِ ونَعَم. وأما أنها عدة النجاح فلا أجد في نفسي الآن قوة على تأييده؛ لأن لي في بعض المصالح مسألة لم يفسدها إلا رعايتي للخُلق، وفي بعض الوزارات مسألة أخرى لم يعقدها إلا محافظتي على القانون. فليس لك عليّ إلا أن أعرض رأيك على رجال الدين وحماة القانون ودعاة الأخلاق، ليردوا عليك ما كذب من قولك، أو يردوا إليك ما عزب من عقلك.
أحمد حسَن الزيات(229/3)
بين القاهرة واستنبول
للدكتور عبد الوهاب عزام
1 - دمشق
يا صديقي صاحب الرسالة
أحسبك رأيت من قبلُ دمشق فآنقك مرآها، ونفحتك ريّاها، وآنستك ذكراها، ودارت بك منازهها وطرقها بين الماضي المجيد، والحاضر المجهود، والمستقبل المنشود. ولعلك أشرفت من قاسيون على البلد الجميل تحيط به الحدائق الشجراء متصلة بين المُزة والغوطة فسرحت الطرف والقلب في مرأى جميل ومنظر بهيج. ولا ريب رأيت بَرَدَى يتبطن الوادي، ويتسنم الجبل، وينسرب في شرايين المدينة فيسري في دورها ومساجدها وحماماتها وشوارعها، وتسمع أحياناً خريره في جوف قناة أو جدار لا تتبين مأتاه ومذهبه. ومن قبلُ قال ياقوت:
(فقلّ أن تمرّ بحائط إلا والماء يخرج منه في أنبوب إلى حوض يشرب منه، ويستقي الوارد والصادر. وما رأيت بها مسجداً ولا مدرسة ولا خانقاها إلا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان، ويسحّ في ميضته)
وأحسبك يا أخي مررت بمعاهدها فأحسست وقدة بين الضلوع، أو طرحت كما يقول البحتري ثقلا من الدموع
أدخلت إلى الجامع الأموي من باب جيرون ورأيت في الطريق المفضية إلى الباب صفا من العمد العادية، وتمثلت القرون تنسخ القرون، والعصور تحطم العصور، وولجت الباب العظيم إلى الصحن الفسيح فالتفت إلى شمالك فرأيت صور الدور والأشجار والأنهار مصورة بالفسيفساء منذ عهد الوليد. ثم ملت إلى اليمين فدخلت الجامع تروعك العمد العالية الضخمة تمتد في صفوف مديدة، ورأيت أمام القبلة قبة النسر الشامخة تزهى بما أشرفت على التوحيد في محرابه، وأظلت الحق في جماله وجلاله
وما أحسبك رقيت في المنارة الشرقية، وشهدت في مرتقاك حجرة يقال إن الغزالي كان يعتكف فيها، ثم بلغت القمة بعد جهد فجمعت أمامك المدينة، وزويت الأرض كأنك تطالع منها صورة في رقعة فقلت:(229/4)
صعدت في قمة التاريخ مأذنة ... لها من الحق والتاريخ أحجار
فإذا تركت الجامع الكبير فهناك مشاهد أخرى عظيمة، وذكريات جليلة
- هل مررت بالرجل الصالح نور الدين محمود ثم البطل المجاهد صلاح الدين يوسف؟ هل وقفت على ابن أيوب فقلت:
فيا لك قبراً على قربه ... تظل العقول به في سفر
ويالك قبراً كعين البصي ... ر يحوي العوالم منها صِغر
وهناك المدرسة العادلية وبها المجمع العلمي اليوم، والمدرسة الظاهرية حيث ضريح الملك الظاهر بيبرس وبها دار الكتب، ودار الحديث الأشرفية وكان من نزّالها العالم التقي الذي لم تأخذه في الحق رغبة ولا رهبة محيي الدين النواوي. ولا تزال حجرته بها معروفة. ويقول بعض المحدثين ولعله ابن حجر:
وفي دار الحديث لطيف معنى ... أطوفّ حول مغناه وآوي
لعلي أن أصيب بحُرّ وجهي ... مكاناً مسّه قدم النواوي
وهل صعَّدت في الصالحية إلى ضريح محيي الدين بن عربي أم نفرت من هذا الشيخ الغريب واللغز العجيب؟ على أن بجانبه بطلاً من أبطال الجهاد وسيفاً من سيوف الجلاد: الأمير عبد القادر الجزائري. وإن أردت مزار الرجل العالم الصالح الصوفي الشاعر ذي المناقب الحميدة وصاحب التأليفات الكثيرة الشيخ عبد الغني النابلسي فليس بعيداً من ضريح محيي الدين تسلك إليه طريقاً مقفرة بها مدارس دارسة، منها المدرسة القمرية
فإذا صعدت في الصالحية فهناك من الآثار ما يشق تعداده: مدارس ومساجد ومستشفيات، وهناك جامع الحنابلة الذي قرأ به الذهبي وابن قدامة وغيرهما من كبار العلماء، والمدرسة الضيائية وكانت تحفظ بها خطوط كبار المحدثين وهي اليوم كتَّاب، حتى ينتهي الصعود إلى مقبرة الصالحية حيث قبر محمد بن مالك النحوي في قبور كثيرة للعلماء والكبراء
وفي أطراف المدينة مشاهد كثيرة للصحابة فمن بعدهم. ولا تنس وقفة على قبر بلال في مقبرة الباب الصغير لترى الأذان مضمراً في كتابه، وتسمع الصوت مكنوناً في نايه، بل تسمعه جهيراً مدوّياً يملأ الفضاء، ويبلغ عنان السماء (كالخط يملأ مسمعي من أبصرا) أو كإشارات الموسيقى خطوط في البصر، ونغمات في الأذن، ووجْد في القلب. وهل الأذان(229/5)
في المشرق والمغرب إلا صوت بلال مردداً قد بقي في القبة الزرقاء صدى توالت رُواته واتصلت نغماته؟
وهل جُلْتَ في الغوطة تحنو عليك أشجارها، وتترقرق عليك ظلالها، وتطالعك من بين الغصون شمسها، وتتمادى بك مسالكها بين الزروع والأشجار:
سقى الله أرض الغوطتين وأهلها ... فلي بجنوب الغوطتين شجون
وهناك ضريح سعد بن عبادة قد اعتزل الناس في مماته، كما اعتزلهم في آخر حياته:
وهل سرت إلى دوما ومررت بجَوبَر فذكرت قول القائل:
إذا افتخر القيسي فاذكر بلاءه ... بزرّاعة الضحاك شرقي جوبرا
أو قول الأمير شكيب أرسلان في الصديق الأديب الشاعر خليل مردم بك:
(وإليه تجبى جوبر وكنيسها)
يا أخي وكيف تجيش الفِكَر وتنبع الذِكَر حين يقترب المسافر من المدينة الخالدة فيلقى نضارتها ويجد رَوحها عند الهامة. فإذا أجاز إلى دُمّر فهناك برَدى عن اليمين والشمال متدفقاً في ظلال الأشجار - أشجار الحور الباسقات - ولله مجلس على بردى تذوب في مائه النظرات، وتتساقط عليه من الحور نغمات. فإذا بلغت الشاذروان فَغَمَك عَرف دمشق، وشممت أخلاطاً من الروائح الطيبة أمدّت بها الأشجار والأعشاب، روائح يعجز عنها الوصف إلا أن يسميها (نفحات دمشق). وهل جلست بالربوة فسمعت المعجبين بها يقولون: إنها الربوة التي ذكرها القرآن الكريم في قوله: (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) هناك بَردَى سبعة أنهر تجري في الوادي وعلى الصدفَين وفوق الجبل. ويخر من نهر يزيد - وهو فوق الجبل لا يرى - شلال على الربوة لا يمل الشاهد مرآه ومسمعه
أما أنا يا أخي فلست أملّ التردّد بين دمشق ودّمر أجد هناك جمالاً لا يحد، وسحراً لا ينفد. وقد رُدت هذه المشاهد مرات، ورأيت لها في القمراء آيات؛ يتمعّج بنا الوادي بين الجبال والأشجار، ومياه بردى تسيل بها ربوة أو يوسوس بها ثعب، أو يتغنى بها بستان، فلا تفتأ تسمع منه حديثاً يؤلّف مع حفيف الريح موسيقى هذا الجمال الفتان، والوادي يدور بنا دوراته، والقمر يلاعبنا بطلعاته، عن اليمين والشمال وأمام وخلف. وللقلب بين ذلك مضطرَب، وللشعر مذهب أيّ مذهب. كان يخيل إليّ أن هذه المياه الثرثارة حُزَم من(229/6)
الأشعة، وأن أشعة القمر رشاش من بردى، وأن هذا النسيم المعطر مزيج من الماء والضياء ينضح وجوه السابلة: شعر تفيض به الأرض والسماء، وسحر ينفثه الماء والهواء، وإلهام يفيض به الجنان، ويعجز عنه البيان
يا صديقي قد صدق البحتري إذ قال:
إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن وزمان يشبه البلدا
يُمسي السحاب على أجبالها فرقاً ... ويُصبح النبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا واكفاً خضلا ... أو يانعاً خِضراً أو طائراً غرِدا
دمشق 22 تموز 1937
عبد الوهاب عزام(229/7)
على ذكر الموسوعة الإيطالية
قصة الموسوعة الجامعة
وكيف عرفتها الآداب العربية في العصور الوسطى
للأستاذ محمد عبد الله عنان
سجل العلم الحديث فتحاً جديداً خطير الشأن بصدور الموسوعة الإيطالية (دائرة المعارف) التي بدأ صدورها منذ أعوام ثلاثة فقط، وصدر المجلد الأخير منها (وهو المجلد السادس والثلاثون) منذ أسابيع قلائل. وإذا كنا ممن لا يؤمنون بمزايا النظام الفاشستي، فإنه لا يسعنا إلا أن نحيي ذلك المجهود العظيم الذي حققه العلم الإيطالي في تلك الفترة الوجيزة، والذي يعتبر بحق مفخرة للعهد الفاشستي، خصوصاً وأن الموسوعة الجديدة جاءت حسبما يقرر النقدة مجهوداً علمياً خالصاً بعيداً عن شوائب الدعاية والأهواء
ولهذه الموسوعات العظيمة التي تحشد فيها سائر العلوم والفنون والآداب تاريخ حافل يرجع إلى أقدم العصور؛ وإذا كانت تغدو اليوم مورداً سهلا لكل طالب وقارئ بما انتهت إليه من سهولة في الترتيب والتصنيف، فإنها لم تصل إلى نظامها الحالي إلا بعد أن تقلبت في أطوار عديدة، واشترك في تنظيمها كثير من الأذهان في مختلف العصور والأمم؛ وكان لتفكيرنا العربي، حسبما نرى، نصيب يذكر في هذا الميدان
وأصل الكلمة أي كلمة (انسيكلوبيديا) التي تطلق اليوم في جميع اللغات الحية على جميع الموسوعات العلمية والأدبية يوناني، وأصل الفكرة ذاتها يوناني أيضاً؛ وكانت تعني في اليونانية القديمة مجموعة المعارف التي يجب أن يتزود بها الفتى لاستقبال الحياة العملية؛ ثم استعملها الرومان وأضحت بمضي الزمن تطلق على جميع العلوم مجتمعة في سفر واحد. وأقدم مجموعة من هذا النوع انتهت إلينا هو مؤلف بلني الكبير في التاريخ الطبيعي الذي يرجع إلى القرن الأول من الميلاد، وهو مؤلف شامل يتناول كل ما كان معروفاً في ذلك العصر من الطب والجغرافيا والتاريخ الطبيعي وغيرها من الفنون
ووضعت خلال العصور الوسطى باللاتينية عدة مصنفات شاملة من هذا النوع، وكان واضعوها بالأخص جماعة من رجال الدين الذين توفروا في تلك العصور على جمع(229/8)
أشتات العلوم والفنون، بيد أن هذه المصنفات القديمة كان ينقصها روح التناسق والترتيب العلمي، ولم تظهر فكرة الموسوعة (الانسيكلوبيديا) بمعناها الحديث إلا منذ القرن السادس عشر. ولم تظهر طلائع الموسوعات الحديثة بترتيبها الفني أو الأبجدي إلا في القرن السابع عشر كما سنرى
وهنا، وقبل أن نمضي في استعراض تاريخ الموسوعة الحديثة يجدر بنا أن نشير إلى الدور الذي أداه التفكير العربي في هذا الميدان؛ فقد عرفت الآداب العربية فكرة الموسوعة بمعناها الشامل، وحققت في هذا الباب جهوداً خليقة بالإعجاب والتقدير. ومنذ القرن الثالث الهجري يبدو أثر هذا الميل إلى التصنيف الشامل واضحاً في كثير من الآثار العربية، ونستطيع أن نلمس هذا الأثر واضحاً كثير من الآثار العربية، ونستطيع أن نلمس هذا الأثر في كتب مثل عيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني لأبي الفرج، وهي مصنفات يطبعها طابع الموسوعة فيما تتناول من مختلف الموضوعات والأخبار. كذلك نجد روح الموسوعة ظاهراً في كثير من المصنفات التاريخية العربية؛ فكتاب الكامل لابن الأثير مثلا يعتبر بحق موسوعة تاريخية شاملة تجمع بين مزايا التعميم والترتيب المدهش، وكتاب الوفيات لابن خلكان بلا ريب من أقيم موسوعات التراجم. ومما يلاحظ أن الموسوعة الأوربية الحديثة بدأت كما سنرى بهذا النوع من المصنفات والمعاجم التاريخية الشاملة
على أن الآداب العربية عرفت في مصر نوعاً أتم من الموسوعة الكبيرة الشاملة؛ ونستطيع أن نقول إن القرن الرابع عشر في مصر كان عصر الموسوعات؛ ففيه أخرج شهاب الدين النويري المتوفى سنة 733هـ (1333م) موسوعته الضخمة (نهاية الأرب في فنون الأدب)، وأخرج ابن فضل الله العمري المتوفى سنة 749هـ (1348م) موسوعته الجغرافية والتاريخية العظيمة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)؛ وفي أواخر هذا القرن وضع القلقشندي المتوفى سنة 821هـ (1418م) موسوعته السياسية والإدارية الضخمة (صبح الأعشى)، وفي هذه الآثار النفيسة الشاملة نرى طابع الموسوعة وروحها بارزين لا من حيث الضخامة وسعة الأفق فقط، بل ومن الناحية العلمية والفنية أيضاً؛ فكتاب نهاية الأرب الذي يشغل نحو أربعين مجلداً ضخما هو موسوعة تاريخية وجغرافية وأدبية(229/9)
وعلمية وفنية، يأخذ في كل من هذه النواحي بنصيب وافر؛ وكتاب (مسالك الأبصار) الذي يبلغ نحو عشرين مجلداً، هو موسوعة جغرافية وتاريخية حقة، لا يقل من الناحية العلمية والفنية عن كثير من الموسوعات الأوربية المماثلة التي صدرت في القرن السابع عشر؛ وكتاب (صبح الأعشى) الذي أصدرته دار الكتب المصرية في أربعة عشر مجلداً ضخما، هو موسوعة فذة في نوعها وقيمتها فهو (دار محفوظات) بأسرها جمعت فيه معلومات ووثائق إنشائية وإدارية وسياسية عن الدول المصرية لم تجتمع في أي مؤلف آخر
هذه الآثار العربية التي نذكرها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، تدل دلالة واضحة على أن فكرة التصنيف الجامع أو بعبارة أخرى فكرة الموسوعة الشاملة، عرفت في الآداب العربية وبلغت فيها شأناً يذكر؛ بيد أن هذه المحاولة العلمية الجليلة وقفت مع الأسف في منتصف الطريق وحالت دون تقدمها عصور محزنة من الركود والانحلال توالت على التفكير العربي
ونعود الآن إلى الموسوعة الأوربية، فنقول إن طلائع الموسوعات الحديثة ظهرت منذ القرن السابع عشر، وكان ظهورها بالأخص في فرنسا، حيث صدر في سنة 1674 معجم موِريري التاريخي المسمى (القاموس التاريخي الكبير) مرتباً ترتيباً أبجدياً؛ وصدرت في سنة 1697 موسوعة بايل التاريخية المسماة (القاموس التاريخي النقدي) مرتباً على الحروف أيضاً؛ وظهرت أيضاً في أواخر هذا القرن موسوعة دربلو الشرقية المسماة (المكتبة الشرقية)؛ ثم تطور نظام الموسوعة بسرعة، فاتجهت إلى التوسع والترتيب الفني والأبجدي، وأخذت تغدو شيئاً فشيئاً مرجعاً شاملا لأشتات العلوم والفنون، وتشعبت مناحيها شيئاً فشيئاً حتى غدت مشروعاً علمياً جامعاً، بعد أن كانت مجهوداً فردياً فقط، وساهمت في إخراجها جميع الآداب الحية بأوفر نصيب
ففي إنكلترا بدأت الموسوعة الحديثة بقاموس وضعه القس جون هاريس في أوائل القرن الثامن عشر عن العلوم والفنون ثم تبعه تشامبرز بموسوعته ويعتبر تشامبرز أبا الموسوعة الإنكليزية. وفي سنة 1768، وضع ثلاثة من أهل ادنبورج، وهم وليم سميلي الطابع، واندروبل المصور الحفار، وكولن مكفر كوهار، وهو صاحب مطبعة، مشروعاً لإصدار موسوعة جامعة للعلوم والفنون والآداب، ظهرت في ثلاثة مجلدات في سنة(229/10)
1771؛ وكانت هذه الموسوعة المتواضعة هي الطبعة الأولى من الموسوعة البريطانية التي هي اليوم أمثل وأنفس الموسوعات الحديثة. وظهرت الطبعة الثانية بين سنتي 1777 و 1784 في عشرة مجلدات؛ وتوالى صدور طبعاتها الجديدة حتى صدر منها إلى اليوم خمس عشرة طبعة متدرجة في الضخامة والإتقان؛ وصدرت طبعتها الأخيرة والخامسة عشرة في سنة 1934، في اثنين وثلاثين مجلداً ضخما غير الفهارس والأطالس؛ والرأي مجتمع على أن الموسوعة البريطانية هي خير موسوعة في العالم من حيث مادتها ونظامها وروحها العلمي الخالص
وفي فرنسا، بعد أن ظهرت المعاجم والموسوعات التاريخية التي أشرنا إليها، وضع المفكر الفيلسوف ديدرو وعدة من زملائه الأعلام مثل دالامبر وهولباك وجريم موسوعتهم الشهيرة التي ظهرت بين سنتي 1751 و 1772 في ثمانية وعشرين مجلداً على نمط موسوعة تشامبرز الإنكليزية؛ وكانت هذه الموسوعة التي امتازت بنزعتها الفلسفية المجددة، وبالثورة على القديم في كل شيء فتحاً عظيماً في التفكير الفرنسي، وكان لها أكبر الأثر في توجيه الذهن الفرنسي إلى الأفكار والمبادئ الجديدة التي سادت عصر الثورة الفرنسية فيما بعد. وظهرت في القرن التاسع عشر موسوعات لاروس الشهيرة، ومنها القاموس الكبير الذي يعتبر فوق مزاياه اللغوية دائرة معارف شاسعة، وظهرت منها إلى يومنا عدة طبعات مختلفة؛ وفي أواخر القرن الماضي صدرت الموسوعة الفرنسية الكبرى بين سنتي 1886، 1903 في إحدى وثلاثين مجلداً، بيد أنها بقيت على طبعتها الأولى حتى اليوم، وتخلفت بذلك عن مضمار التجديد والاستكمال
وظهرت في القرن التاسع عشر عدة موسوعات عظيمة أخرى فظهرت الموسوعة الإيطالية لأول مرة بين سنتي 1841 و 1851 في أربعة عشر مجلداً، ثم ظهرت في أواخر القرن الماضي في خمسة وعشرين مجلداً، وظهرت أخيراً بعناية الحكومة الفاشستية في ستة وثلاثين مجلداً، صدر الأخير منذ أسابيع قلائل حسبما قدمنا فجاءت بذلك أحدث الموسوعات الأوربية وأتمها من الوجهة الفنية. وصدرت الموسوعة الألمانية في مائة وسبعة وستين مجلداً تحت عنوان (الموسوعة العامة للعلوم والفنون)، وبدأها الأستاذان أرش وجروبر سنة 1813 واستمر صدورها طوال القرن التاسع عشر ولم تكمل إلا في(229/11)
سنة 1905، ولم يعد طبعها إلى اليوم. وصدرت الموسوعة الروسية حتى سنة 1905 في واحد وأربعين مجلداً، وظهرت طبعتها الثانية في ظل الحكم السوفيتي
ويوجد غير هذه الموسوعات العامة الجامعة موسوعات أخرى في نواح معينة من العلوم أو الفنون، مثل الموسوعة اليهودية موسوعة الدين والأخلاق موسوعة العلوم المتافيزيقية، وغيرها؛ ولهذه الموسوعات قيمة علمية خاصة لأنها تجمع أشتات العلم أو الفن الواحد ومراجعه كلها مرتبة أبدع ترتيب
هذه خلاصة لتاريخ الموسوعة الجامعة (الانسيكلوبيديا) وتطوراتها، نسوقها لمناسبة صدور المجلد الأخير من الموسوعة الإيطالية الجديدة؛ بيد أننا ننتهز فرصة هذه المناسبة لنلفت الأنظار إلى أمنية قديمة كثيراً ما رددتها دوائر الأدب العربي في الأعوام الأخيرة، وهي أن تعمل دوائرنا العلمية والأدبية المسؤولة لإخراج موسوعة عربية جامعة على طراز الموسوعات الحديثة؛ وقد بذلت في العصر الأخير جهود فردية في سوريا وفي مصر لإخراج موسوعة عربية، ولكن هذه الجهود لم تكن ذات قيمة علمية أو أدبية تذكر، خصوصاً وأنها بذلت في وقت لم تكن الآداب العربية قد بلغت فيه من النضج والكفاية الفنية ما تبلغه اليوم. ولم تبق الموسوعة اليوم عملا فردياً كما كانت في الماضي، ولكنها اليوم تنتظم في سلك المشاريع العلمية الجليلة التي تشرف على تنفيذها الدولة أو الهيئات العلمية القوية. ولدينا اليوم في مصر، فضلاً عن وزارة المعارف العمومية، عدة من الهيئات العلمية القوية الرسمية وغير الرسمية؛ ففي وسعها جميعاً أن تتعاون في بحث مشروع الموسوعة العربية، وفي العمل على تنظيمه وإخراجه. ومن المحقق أن مثل هذا المشروع الجليل يلقى من التأييد والنجاح في مصر وفي جميع البلاد العربية، ما لقيه حتى اليوم في جميع الأمم المتمدنة والآداب الحية.
محمد عبد الله عنان(229/12)
في الإسلام ضمان للعرش والديمقراطية
للدكتور محمد البهي قرقر
كان من النتائج المباشرة للحرب العالمية الكبرى بعد أن مارست الأمم الكفاح أربع سنوات أن شعرت الطبقات الشعبية بأنها هي التي قامت بالدفاع، وأنها هي التي كانت تساق إلى ميادين القتال سوقاً، وأن غرم الحرب من الأنفس كان منها ومن الأموال كان مما تدفعه للدولة. شعرت بهذا فشعرت بأن لها الحق في قيادة الأمة في حال السلم والسيطرة على شئونها لأنها وحدها هي التي تنال أذى الحرب وتتحمل خسائرها فمن العدل أن تقودها
قوي هذا الشعور فأصبح مبدأ، وازداد هذا المبدأ تغلغلا في النفوس حتى تحول إلى سياسة عملية، قوامها نصرة الطبقات الشعبية وتمكنها من قيادة دفة الأمور، ولكن في صورة غير مألوفة من قبل
هذه السياسة العملية صحبها انقلاب رئيسي في نظام الحكومات نشأ عنه نوعان من الحكم الشيوعي والفاشستي، يتفقان في ادعاء الديمقراطية وهي تمكين الشعب من حكم نفسه تمكيناً عملياً، ويختلفان في الأسلوب تبعاً لاختلاف العوامل الاجتماعية الأخرى والغاية التي يقصد إليها
الديمقراطية الشيوعية
فالنوع الشيوعي تغالي في المعنى الشعبي وزاد في تقديسه، أو هو أساء في الواقع فهم المنزلة الشعبية؛ وتبع تلك المغالاة العداء للطبقة الأرستقراطية وازدياد السخط على الفرد الممتاز أو السيد الحاكم بأمره. وكانت نتيجة سياسته العملية ذات شقين، أولا إبعاد ذلك الفرد الممتاز عن الحكم، واضطهاد الطبقة الأرستقراطية؛ وبعبارة أوسع الطبقة التي كانت تبيح لنفسها، إما اعتماداً على ما لها من شرف أو لما في يدها من مال، أن تتزعم الطبقات الأخرى الفقيرة والمتوسطة. وثانياً رفع الشعب إلى منصة الحكم
ولكن لم يكد الشعب صاحب هذا النظام يتولى تنفيذ التقويض من جهة والرفع من جهة أخرى حتى اصطدم بالحقيقة الواقعة، وشعر بأن زوال الرأسمالية التي ترى فيها النظرية الشيوعية السعادة المتوهمة لكل أفراد الشعب، وتولي الدولة للشئون الاقتصادية وتوزيع العمل والإنتاج على الطبقات المختلفة تحقيقاً لمساواة صورية، عمل يضاد العدالة المبتغاة،(229/13)
إذ آخر أمره استبداد طائفة من الشعب بأفراد الأمة كلها على صورة قانونية
كما شعر الشعب نفسه، صاحب هذا النظام، بعدما ملك بيده زمام الأمر أن إقصاء صاحب الحق الشرعي في سيادة الدولة وهو القيصر، كان من الأسباب التي سولت لكثير من أفراد الشعب بأن له حقاً في الرياسة العامة إذ أنه يملك القسط المشترك وهو المعنى الشعبي الذي يخول له هذا. فالخصائص الأخرى في نظره عديمة الأهمية أو يجب ألا يكون لها اعتبار
ومن هذا الشعور النفسي تولدت هذه الثورات الداخلية في السوفييت الروسي، وسيستمر لهيبها ما بقي هذا الشعور، وسيظل باقياً مادام مبدأ الشيوعية يعتقد أو بمعنى آخر مادامت هذه الفئة الشعبية تملك قوة تسيطر بها على النفوس
وإذن فالمبدأ الشيوعي لا يتفق مع فطرة الجماعة الإنسانية التي لا تخضع بطبيعتها إلا إلى واحد منها تعتقد فيه مزايا لا تتوفر لكل فرد من أفرادها، وخصائصه تعلو به عن طبيعة الإنسان العادي؛ كما لا يتفق مع طبيعة الأفراد التي لا يمكن أن تكون من نوع واحد؛ فمساواة إنسان بآخر مساواة مطلقة في كل مرافق الحياة إجحاف بأحدهما لا محالة، وإنكار للقوة الكامنة في إنسان دون آخر وهي التي قد تخلق منه شخصية بارزة في أية ناحية يفضل بها غيره
إذن فهو نظام (أوتوماتيك) يحاول أن يخلق من جماعة البشر أعضاء لا إرادة لهم إلا ما يريده مباشر السلطة العليا ولا حياة لهم إلا في ظل الضغط. يريد أن ينشئ من الشعب آلات مسخرة للإنتاج العام، وأن يكون منه جبهة لمقاومة كل نظام آخر يقوم على المبدأ الوطني ويقر بشيء من حقوق التملك للفرد
فغايته إزالة الفوارق الاجتماعية والمالية والطبيعية أيضاً بين الأفراد، ثم قيام الدولة وبعبارة أخرى مباشرة الهيئة الحاكمة بأمرها - وإن زعمت أنها تحكم باسم الشعب - للإنتاج الاقتصادي. وفوق ذلك فهو يرى أن له رسالة عالمية تتمم غايته وهي حمل الشعوب الأخرى على قبول هذا المبدأ الفوضوي
ومحاولة الوصول إلى هذه الغاية إما مستحيلة من الوجهة العملية كإزالة الفوارق السابقة، وما النداء به إلا إغراء للطبقات الشعبية فقط، أو اعتداء بينٌ على الحقوق الطبيعية لأفراد الشعب فضلاً عن الإخلال بحقوق الجوار والتدخل فيما هو من اختصاص الدولة الأخرى.(229/14)
فهو نظام ضد الطبيعة وضد المبدأ الخلقي السائد بين الشعوب وهو مبدأ رعاية الجوار
الديمقراطية الفاشستية
أما النظام الفاشستي فهو نظام ديمقراطي أيضاً، أي نظام مبني على سيادة الشعب لنفسه، ولكنه لا يبالغ في المعنى الشعبي ولا يسيء فهم المساواة بين أفراد الشعب فيجعلها مساواة مزعومة في الإنسانية
فهو يعترف بسيادة الفرد الممتاز: الملك أو الرئيس الجمهوري، وبوجوب المحافظة على سيادته، وبذلك منع الإغراء بالمعنى الشعبي كما أنه لم يجعله وحده سبب التفضيل. فهو إن حرم النظام الأرستقراطي، أي قصر وظائف الدولة الكبرى على طبقة مخصوصة بما لها من شرف مزعوم، إلا أنه أباح لأفراد الشعب أن يتولوا تلك الوظائف إذا وهبوا الكفاية في العمل. وإذن فأساس القيام بالخدمة العامة والانتفاع بسلطة الوظائف الكبرى ليس هو النسب الأصلي على الإطلاق، ولا هو الشعبية بدون قيد، وإنما هي الكفاية والجدارة أينما وجدت. فمعنى إقصاء الأرستقراطية عنده عن الحكم إبعاد تلك الطائفة التي استعبدت الطبقات الفقيرة لا لسبب إلا أنها تنتسب إلى أصل قد تعوّد الحكم مع أنها في نفسها قد تكون مصابة في مزاجها العقلي ومنحطة في مبدئها الخلقي. ومعنى تقريب الشعب من الحكومة إعطاؤه هذا الحق وإزالة مبدأ (الأصل والنسب) من طريقه، أما مباشرة أمر الحكومة نفسها فذلك مرهون بالكفاية الشخصية
ولما كان النظام الفاشستي يقرر مبدأ الكفاية فانه لا يقول بإزالة الفوارق الطبيعية بين إنسان وآخر، أي لا يعمل على إهمالها وعدم اعتبارها لأن ذلك يناقض اتخاذ الكفاية قاعدة للاختيار، بل بالعكس هو يؤيدها ويتعهد القوى الفطرية في الفرد التي تؤهله لأن يقوم بعمل عام فيما بعد برعاية الدولة
ولأن الكفاية الشخصية هي مبدأ التفضيل فقد أصبحت الفوارق الاجتماعية: فوارق الطبقات المختلفة، عديمة الأهمية والاعتبار، كما أصبحت الرأسمالية قليلة الأثر في اختيار من يقوم بالأمر ويتقلد مناصب الحكومة
أما تحويل الإنتاج الأهلي إلى حكومي ومنح حق التملك للحكومة وحدها، كما ترى نظرية النظام الشيوعي تحقيقاً لمعنى المساواة الموهومة المغرية، فلا يجد قبولاً لدى النظام(229/15)
الفاشستي، لأنه من الوجهة العملية عسير التحقيق فوق ما فيه من إخماد للقوى الفردية وإنكار لمنزلتها الأدبية وإنتاجها العملي أيضاً. ولكنه في الوقت نفسه يبيح للدولة التدخل في اختصاص الرأسمالية لمصلحة الفرد العامل وموازنة إنتاج الأمة، فتدخله بمثابة كف لطغيان الرأسماليين في الهيئة العاملة، أو منع محاولة ضغطهم على الحكومة في توجيهها توجيهاً معيناً لمصلحتهم الشخصية أو لغرض سياسي دولي آخر
الديمقراطية البرلمانية
والواقع أن النظام الشيوعي والفاشستي جاءا وقد وجدا أمامهما مسائل كثيرة عجز النظام الديمقراطي البرلماني عن حلها، إما تمشياً مع وجهة نظره أو لكثرة إجراءاته وطول مدتها التي من شأنها العمل على تحويل بعض المسائل الاجتماعية الصغيرة في بدء أمرها إلى معضلات تظهره فيما بعد بمظهر العاجز. ومن أهم تلك المسائل تحكم أصحاب رءوس الأموال في الطبقات الفقيرة الذي تسبب عنه هذا الجفاء الكبير والعداوة الشديدة بين صاحب العمل والعامل
فالديمقراطية البرلمانية الشائعة التي تفهم من المساواة الإخاء الشعبي والعالمي، ومن الحرية تفكير الفرد في دائرة القانون العام وعادات الأمة، ومن العمل أن يتعدى حدود المصلحة العامة إلى غيرها، هذه الديمقراطية التي تسيء في الواقع فهم المساواة وفهم الحرية إن هي نجحت في مكافحة الأرستقراطية أو على الأصح في كبح طغيانها قد ساعدت على تحكم أصحاب رؤوس الأموال بحجة (الحق المشروع) والمحافظة على حرية الفرد في تصرفه فيما يملك ولو كان في ذلك ضرر الغير وضياع المصلحة العامة. وفي الواقع هي لا تحافظ على حرية الفرد وإنما تغريه بما يخرج عن معنى الحرية الفردية الصحيحة؛ تغريه أن يتحكم بما له في الطبقة التي دونه في الثروة أو على تبذيره والإسراف فيه ابتغاء شهواته النفسية؛ تغريه بالاستخفاف بعادات غيره ومعتقد السواد الأعظم من الشعب، كل ذلك باسم الحرية. فهي تؤمن بنظرية الفرد، أكثر من إيمانها بنظرية - تقدِّس الفرد وتضحي بمصلحة المجموع. فللفرد أن يعمل ما شاء وإن فنيت الدولة في عمله. وهذا في الواقع رد فعل لحكم الاستبداد الذي سبق الحكم الديمقراطي البرلماني. فالفردية في الحكم الأرستقراطي كانت مستمرة لا لمصلحة الجماعة بل لمصلحة الفرد الحاكم. فلما جاء النظام(229/16)
الديمقراطي البرلماني حرر الفرد من تبعيته تبعية مطلقة للحاكم المستبد وغالى في ذلك، وكان من الطبيعي أن يفضل مصلحة الجماعة لأنها لم تكن الهدف للكفاح وإنما الذي كان مقصوداً يسعى لتحقيقه هو حرية الفرد ومصلحته
بقيت مصلحة الجماعة مغفلة وحرية الفرد معكوساً فهمها، فلما جاء النظام الشيوعي عمل من جديد على تقييد سلطة الفرد الشعبي وخصوصاً في الناحية المالية، وقصر حق التملك على الدولة التي حلت في الواقع محل الفرد في النظام الديمقراطي البرلماني.
ثم لم يكتف هذا النظام بما فعله نحو الطبقة الأرستقراطية من حد سلطتها بل بالغ في معاداتها، أو هو أساء فهم خصومتها كما أساء فهم نصفة الشعب فجاء نظاماً غير عادي ولا مألوف، نظاماً استبدادياً لا يتفق مع فطرة الفرد ولا مع طبيعة الجماعة
بينما اكتفى النظام الفاشستي بما وقف عنده النظام البرلماني في وضع حد الحكم الأرستقراطي وإن خالفه في فهم معنى الحرية والمساواة. ولذا أجاز لنفسه التدخل في وضع علاقة للرأسمالية مع الفرد العامل، وهو تدخل للمصلحة العامة ولمنع الجفاء بين طبقات الشعب المختلفة. وقد كان من أثر هذا التدخل أن توحدت الأمة، وقد صارت وحدتها في النهاية عن رضا وفهم متبادل بين الطبقات، بينما يتحول اتجاه عداوة الشعب وجفائه في الأمم الديمقراطية البرلمانية من الأرستقراطيين إما إلى الطبقة الحاكمة لأنها تخص نفسها بما له وتضن عليه بما يؤمنه على حياته الضرورية ثم تنظر إليه نظرة صغار لأنها (مهذبة) دونه، وإما إلى أصحاب رؤوس الأموال لعنتهم وتشددهم في حفظ مصالحهم الخاصة
غاية أنواع الحكم الديمقراطية المختلفة ومعايبها
وإذن فالنقص الذي أخذ أسلوب الحكم الحديث على نفسه العمل لتلافيه هو عدم التوازن إما في علاقة الطبقة الأرستقراطية بالشعب، أو في علاقة أصحاب رؤوس الأموال بالطبقات الفقيرة، أو في ارتباط مصلحة الفرد بالجماعة
ومن الطبيعي أن تكون الغاية الإيجابية لأسلوب الحكم في الوقت الحاضر، ولو على سبيل الادعاء، تحقيق الإخاء والمساواة، وبعبارة أخرى العمل على سيادة العدل الإنساني
فالنظام الديمقراطي البرلماني نظر إلى هذه الغاية نظرة إفراط أو نظرة من ناحية واحدة،(229/17)
فبينما هو يشل سلطة الهيئة الأرستقراطية إذا به يبيح لأصحاب رؤوس الأموال بمقتضى إفراطه في منح الفرد حريته التحكم في الطبقة العاملة؛ وبذلك اختل توازن العلاقة من جديد ولكن بين طبقتين من الشعب
والنظام الشيوعي ينظر لتحقيق هذا الإخاء وتلك المساواة نظرة هوج وخيال، فبدل أن يتناول علاقة الطبقة الأرستقراطية بالشعب، ثم علاقة أصحاب رؤوس الأموال بالطبقات العاملة، بالتسوية تناولها بالهدم، فزالت الأرستقراطية وزالت الرأسمالية واختل توازن العلاقة مرة أخرى وأصبحت علاقة حاكم مستبد، مخادع مغرر، بأفراد شعب سلبوا الحقوق الفطرية والاجتماعية بدل المساواة المزعومة
والنظام الفاشستي نظر إليها نظرة قاصرة على الحدود الطبيعية للأمة، فعمل على التوازن أيضاً، ولكن جعل مقياسه مصلحة الجماعة من الشعب؛ فلا داعي لاضطهاد الأرستقراطيين إذا لم يسيئوا لمصلحة الجماعة، كما يجب التدخل في حرية الفرد إذا هددت تلك المصلحة بالخطر. ولأن هذا النظام قصر جهوده على الأمة كان نظاماً وطنياً بحتاً، بينما المعنى الدولي متحقق بكل معانيه في النظامين السابقين قبله. ولذا كانت اليهودية العالمية من ألد خصوم الفاشستية وأعز أنصار الديمقراطية البرلمانية والديمقراطية الشيوعية وإن أزالت هذه الأخيرة نظام رؤوس الأموال لأنها لا تنكر عليهم التوطن في أي جهة
فالرأسمالي اليهودي لا يبيح لنفسه في دولة ديمقراطية فاشستية باسم حرية الفرد أن يطغى على الطبقة الفقيرة كطغيانه في فلسطين التي تتبع في سياستها الرئيسية بلداً ديمقراطياً برلمانياً. فهناك في فلسطين يباح لليهودي المالي أن يجرد العربي الساذج من كل ما يملك، وفي الوقت نفسه يذل العرب في مجموعهم باسم حرية التملك. وإذا طلب من حكومة فلسطين أن تتدخل في الأمر لمصلحة الجماعة أجابت بأنها لا يمكنها ذلك لما فيه من اعتداء على حرية الفرد. أما المصلحة العامة فهي ضحية تلك الحرية التي لم تفهم على وجهها الصحيح. وأما مجموع الشعب فلا مانع من فنائه تدريجياً مادام الفرد يتمتع بحريته التامة
والواقع أن هذا عكس الطبيعة، ولا يقر أحد في أي بقعة من بقاع الأرض أن المجموع يفنى لمصلحة الفرد كما لا يقر تضحية الشعب محافظة على تنفيذ نصوص القانون
وقد يظن لأول الأمر أن النظام الفاشستي هو المعتدل من هذه النظم الثلاثة. وقد يكون في(229/18)
ذلك وجه من الصحة. ولكن جمع السلطة وتركيزها في يد فرد من أفراد الشعب إن أتى بنتائج إيجابية في وقت وجيز يعجب الإنسان منها ومن عظمتهافقد لا يضمن الوفاء بأمثالها في المستقبل إذا ما انتقلت السلطة إلى فرد آخر ربما يستغل هذا التركيز لغير مصلحة الأمة. والمعروف اليوم أنه إذا كان رجال الحكم الفاشستي قد جمعوا كل سلطة في الدولة في أيديهم إلا أنهم لا يبرمون أمراً إلا بمشورة ذوي الخبرة في الأمة وبمعونتهم أيضاً وإن لم تكن لهم علاقة تبعية بالحزب السياسي. وأنا أذكر أن زعيم ألمانيا يحرص الآن على أن يتولى المناصب الاقتصادية الرجال الأخصائيون في المسائل المالية ولو كانوا من غير أتباع حزبه، كما أنه يأخذ برأي وزير الخارجية ووزير الدفاع في كل المسائل الخارجية وهما لم يتبعا في يوم من الأيام الحزب الوطني الاشتراكي
والديمقراطية معنى غير محدود. وكل نظام من نظم الحكم الثلاثة يدعي أنه هو الديمقراطي الصحيح كما ادعى كل فيلسوف من فلاسفة اليونان القدماء أنه هو وحده الذي وصل إلى الحقيقة في العالم. وفي الواقع لم تكن هناك حقيقة مطلقة ولكنها نسبية مقيدة وإذا كانت هناك حقيقة مطلقة فإنها على وفق المقدمات والدعاوى التي يفترضها الفيلسوف لنفسه
الديمقراطية الإسلامية
والآن بعدما تبين أن من معايب الحكم الديمقراطي البرلماني الجوهرية فناء المصلحة العامة أو التغاضي عنها محافظة على حرية الفرد المطلقة وعلى مصلحته الخاصة
ومن معايب النظام الشيوعي أن العلاج الذي يتخذه في توازن طبقات الشعب المختلفة هو الثورة والهدم وأن أسلوب حكمه على العموم هو الفوضى المطلقة
كما أن من نقائص الحكم الفاشستي عدم قابلية الفرد الشعبي الذي بيده سلطة الحكم للعزل مع احتمال طغيانه
بعدما تبين كل هذا نريد أن نعرف رأي الإسلام والحلول التي يقترحها ضماناً للتوازن، وبعبارة أخرى تجاه المسائل الاجتماعية التي يهتم بها نظام الحكم الحديث والتي هي في الحقيقة منذ بدء الجماعة الإنسانية تظهر من حين لآخر في شكل معضلات
نريد أن نعرف رأي الإسلام، وهل هو مع كونه ناجعاً يتجنب تلك الأخطار التي في أسلوب الحكم الخاص؟(229/19)
الإسلام ليس نظاماً روحياً، نظام كهنة وكنيسة، وإنما هو مبادئ خلقية للفرد، وقوانين عامة تحفظ نظام الجماعة. وهو بهذه الصفة يتدخل في علاقة الفرد بالفرد وتنظيم علاقته بالمجموع، وفي علاقته بالمجموع يبغي أيضاً الإخاء والمساواة، يبغي الوحدة ويعمل على تماسكها، يريد التوازن وتأسيسه على قواعد ثابتة
ولكنه في إقراره الإخاء يريد تقرير مبدأ آخر للتفضيل بدل مبدأ الجنسية الذي ساد قبل الإسلام ويسود أيضاً الآن من وقت لآخر، يريد تقرير مبدأ الكفاية والعمل (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فالإخاء معناه عدم اعتبار الانتماء إلى قبيلة أو شعب مرجحاً ومميزاً لفرد عن آخر لمجرد هذا الانتماء كما يقصد اليوم من محاربة الأرستقراطية، وعدم جعلها القاعدة الأولى في الاختيار والتفضيل
وفي إقراره المساواة لا يرى زوال الرأسمالية، ولا منع الفرد من التملك وقصره على الدولة وحدها، وإنما يقصد المساواة أمام القانون، أمام المبادئ الخلقية، أمام التكليف بالواجبات، والقيام بالأعمال العامة. فليس لشريف أن يخلي نفسه من التكليف، ولا لحاكم أن يستبد بمصالح الأمة لنفسه اعتماداً على أنه مميز لمجاله من التهذيب (الرسمي) أو لانتمائه إلى جنس كذا أو قبيلة كذا
وفي إقراره المساواة على هذا النحو لم يمنع التفضيل لصفات أخرى، لم يحرم الفرد أن ينال جزاء مجهوده الشخصي في هذه الحياة الدنيا، ولكنه فرض عليه فيما اكتسبه من علم أو مال أن يخصص جزءاً منه لمن هو دونه: لمن هو أقل منه معرفة، أو أقل ثراءً؛ فرض أن تقرب الخاصة نفسها من عامة الشعب، حتى لا يكون هناك جفاء بين عالم وجاهل أو عداوة منشأها الحقد بين غني وفقير، حتى يكون (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. . .) هذا واجب العالم في علمه في أية ناحية تعلق علمه بها نحو أمته، نحو أكثريتها الجاهلة
أما الغني صاحب الثروة فواجبه في ماله الزكاة لمستحقيها، لفقراء الأمة المعوزين. وهو واجب يخف على النفس عمله، بل يسرها القيام به، لأنه تلبية لنداء الدين ورغبة ناشئة عن إحساس التدين؛ وما نشأ عن التدين والاعتقاد كان كالصادر عن التعود، كالعادة نفسها(229/20)
في المواظبة على عملها وعدم الشعور بمضض في الإتيان بها
وليس من شك في أن التكليف الوضعي أي تشريع الدولة وتقنينها لا يساير التكليف الديني في نتائجه الإيجابية. فنسبة من يعتقد من أفراد الأمة بعدالة قانون وضعي أقل بكثير ممن يعتقد بعدالة قانون إلهي؛ لا لأن القانون الوضعي قد لا يطابق المصلحة العامة، بل لأنه يعتقد على العموم أن واضعه ممن يجوز بل ممن يغلب عليه الخطأ، ولكن من ينسب إليه القانون الديني هو ممن يستحيل عليه فوات الصواب في تشريعه
وهكذا أثر العقيدة الدينية التي تكوِّن من نفس الإنسان جزئها الأعظم. ولذلك كان من المهمة الأولى للدين أن يخلق من التكاليف والالتزامات مبادئ خلقية تُعتقد، جزاء فعلها أو تركها منوط بالخالق القادر، وفي عالم آخر لا اطلاع لإنسان عليه في هذه الحياة الدنيا. وإذن فالشوق إلى جزاء الفعل - كالخوف من جزاء الترك - لا يقاس في تصور النفس له بجزاء القوانين الوضعية، لأنه في عالم محدود معروف فيه أقصى درجة الثواب والعقاب
والمصلح السياسي أو زعيم الدولة الذي يفهم كنه الإصلاح ويهتم بتنفيذه واتباع الشعب له لا يألو جهداً في بناء قوانينه الإصلاحية على مبادئ الدين أو صبغها على الأقل بصبغة دينية حتى يكون لها نصيب من معتقدات الشعب، وبهذا يكون لها قوة الاستقرار والدوام. والاستقرار من أهم عوامل نجاح الإصلاح
فكثير من القوانين الإنكليزية وخصوصاً قوانين العائلة الإصلاحية أسست على مبادئ فلسفية خلقية قام بها بعض الفلاسفة الإنكليز الدينيين
حتى في بعض الحكومات الفاشستية التي يُظن أنها تحارب الدين، نجدها لا تتخلى عن ربط مبادئها السياسية بالمبادئ الدينية العامة؛ فهي في الواقع لا تحارب الدين، وإنما تحارب سلطة الكنيسة، أي سلطة طائفة أخرى تتمتع بنفوذ كبير في الشعب ربما تحد من سلطة الدولة. فخطباء الحزب الاشتراكي الوطني هنا في ألمانيا يعظون الشعب في كل يوم أحد بواسطة الراديو محاولين في وعظهم إرجاع أعمالهم الاجتماعية، كمساعدة الشتاء، وخدمة العمل العام، وتنظيم هدايا عيد الميلاد التي هي أقرب شبه بزكاة الفطر في الإسلام، إلى مبادئ الدين الصحيح حتى يضمنوا للحكومة طاعة الشعب، ومن وراء ذلك تنفيذ أعمالهم الإصلاحية(229/21)
فقاعدة الحكم عندهم مبنية على قيادة الرئيس وعلى طاعة الشعب له. والدين هو خير ضامن وأقوى كفيل بتلك الطاعة عن رضا واختيار ولمدة طويلة
أما بناء السياسة العامة لتركيا الحديثة على إبعاد الدين فلا يصح أن يقوم حجة على أنها مع ذلك سياسة إصلاحية ثابتة أو أنها ستنجح في جيل مقبل. فالثقافة التركية التي كان عمادها الدين قد تزعزعت من أساسها؛ ثم ما يدخله مدعو الإصلاح في تركيا الحديثة من ثقافات البلاد الأجنبية لا يصح أن يعوض ثقافة الشعب الأصلية كما لا يؤمل أن يكوِّن ثقافة ثابتة في المستقبل للشعب التركي. وما تمتعت به الحكومة التركية للآن من طاعة الشعب لها فسببه عقيدة الشعب التي لم تفن بعد من وجوب الطاعة للقائم بالأمر، فهو في الواقع أثر من آثار العقيدة الدينية
فإذا كان الإسلام يتدخل في سلطة الرأسمالية بنظام الزكاة فهو تدخل مقبول لدى النفوس بحكم ما فيها من قوة التدين، وفي الوقت نفسه هو نظام غير مرتبط بقيام فرد بالحكومة دون آخر بل هو كأي نظام ديني أبدي غير مؤقت بوقت
فتقرير مبدأ الإخاء والمساواة على النحو السابق، والاعتراف بالجزاء على المجهود الشخصي من حق التملك، ثم حصر نفوذ الفرد في حدود المصلحة العامة، هو نوع من أسلوب الحكم الديمقراطي الذي لم يصل إليه تشريع وضعي للآن. فقد رأينا كل نوع من أنواع الحكم في العصر الحديث الذي تدعي فيه أوربا أنها وصلت آخر المرحلة التي يمكن للإنسان أن يصل إليها، ومع ذلك فكل نوع منها لا يسلم من أخطار عديدة لاستحالة تنفيذه أو لعجزه عن حل بعض المشاكل الاجتماعية الكبرى، أو لأنه قد لا يضمن الوفاء في المستقبل بمثل ما حققه الآن من نتائج
وبتقرير الإسلام هذه المبادئ كان نظام توازن واعتدال. لا يترك طائفة تتحكم في أخرى حتى تلجأ الطائفة المتحكم فيها إلى عمل ثوري أهوج مبني على العاطفة وحدها غايته الهدم والتخريب. وبتقريره هذه المبادئ كان أيضاً دين الفطرة والطبيعة، أي أنه يساير الطبيعة ويقضي على ما شذ منها
ولكونه دين الفطرة والطبيعة كان لنظام الملك منه سند قوي يعتمد عليه في حكمه، لأنه مغروس في طبيعة الجماعة أن تخضع لفرد واحد منها خضوعاً ناشئاً عن عقيدة؛ وكلما(229/22)
علا شأن هذا الفرد كانت العقيدة بالخضوع له أشد وأعم. وليس بلازم أن تعرف الجماعة ميزة هذا الفرد - بل من المصلحة العامة ألا تتناوله بالتحليل - وإنما يكفي أن تعتقد أنه ممتاز
فإذا كان هذا الفرد الممتاز الذي يجب أن تكون له السيادة وتخضع له الجماعة ليس من عامة الشعب أمنت حكومته انقلاباً شعبياً، ولم تكن هناك أطماع في استبداله بآخر، لأن الشعب مازال يعتقد فيه ميزة ليست لكل فرد. وكلما استقر الحكم في يد من له الأمر كانت نتائجه أثبت وأضمن لمصلحة الشعب نفسه
ونظام الملكية هو أقرب النظم الفطرية للجماعة الإنسانية، بل هو أضمن لوحدة الجماعة، لأنه يحول بين أي فرد من أفراد الشعب وبين أن تسوِّل له نفسه أنه أجدر بالقيام بالأمر من هذا أو ذاك، مما يترتب عليه ثورة داخلية لا ينطفئ لهيبها كما هو حال النظام الشيوعي اليوم
فكما يميل الإسلام إلى نظام الملكية لأنه أقرب نظم الحكم إلى فطرة الجماعة، ويفرض طاعة الأمة لرئيسها الأعلى مادام قائماً بدستور الإسلام وهو كتاب الله وسنة رسوله، كذلك يؤيد روح الشورى ويهيئ الشعب للعمل على وفق مبادئ خلقية، كمبدأ الشعور بالواجب والشعور بالحرية المهذبة والشعور بالمساواة والاعتراف بالكفايات، تلك المبادئ التي منها تتكون الديمقراطية الصحيحة
ففي الوقت الذي يأمر فيه الإسلام الشعب بالطاعة لولي أمره حتى تسلس قيادته، يقيد هذه الطاعة بقيام العدل في الرعية
وفي الوقت الذي ينادي فيه بحرية الفرد حتى فيما يعتقد لا يتركه يتعدى مصلحة الجماعة
وفي الوقت الذي يشجع فيه على اكتساب الرزق ويبيح فيه للفرد حرية التملك، يكلفه بالتنازل عن جزء مما ربحه لمن أشقاه الفقر في حياته
وهكذا يقصد الإسلام دائماً إلى التوازن والاعتدال، فهو دين الفرد والجماعة، بينما الديمقراطية البرلمانية، كما رأينا، تتحيز للفرد وحده، والفاشستية تؤيد الجماعة فحسب، والشيوعية تهدم مصلحة كل من الاثنين
ففيه كدين فطري للجماعة الإنسانية ضمان للعرش، وفيه كمنادٍ بمبدأ الإخاء والمساواة(229/23)
وعاملٍ أيضاً على تحقيق هذا المبدأ بوسائل ناجعة ومنفذ لمبدأ التفاضل على حسب الكفاية والعمل لا غير، اتباع لقواعد الديمقراطية الصحيحة وحاجز حصين ضد الشيوعية الفوضوية
محمد البهي قرقر
دكتور في الفلسفة وعلم النفس
وعضو بعثة الأستاذ محمد عبده(229/24)
من الأدب التحليلي
الوحدة
(مهداة إلى الدكتور إبراهيم مدكور)
للأستاذ علي الطنطاوي
(. . . إن كل عناء في الحياة مصدره أننا نحيا منعزلين. وكل
ما نبذل من جهودنا لا نريد به إلا الفرار من هذه العزلة)
جي دوموباسان (الرسالة 210)
ما آلمني شيء في الحياة ما آلمتني الوحدة. كنت أشعر كلما انفردت بفراغ هائل في نفسي، وأحس بأنها غريبة عني، ثقيلة عليّ، لا أطيق الانفراد بها؛ فإذا انفردت بها أحسست أن بيني وبين الحياة صحارى قاحلة، وبيداً مالها من آخر، بل كنت أرى العالم في كثير من الأحيان، وحشاً فاغراً فاه لابتلاعي، فأحاول الفرار، ولكن أين المفرّ من نفسي التي بين جنبيّ، ودنياي التي أعيش فيها؟
إن نفسي عميقة واسعة، أو لعلي أراها عميقة واسعة لطول ما أحدق فيها، وأتأمل جوانبها، فتخيفني بسعتها وعمقها، ويرمضني أنه لا يملؤها شيء مهما كان كبيراً. . . وهذا العالم ضيق أو لعلي أراه ضيقاً لاشتغالي عنه بنفسي، وشعوري بسعتها، فأراه يخنقني بضيقه. . .
إني أجمع العالم كله في فكرة واحدة أرميها في زاوية من زوايا نفسي، في نقطة صغيرة من هذا الفضاء الرحيب، ثم أعيش في وحدة مرعبة أنظر ما يملأ هذا الفضاء. . .
إني كلما انفردت بنفسي، فتجرأت على درسها، والتغلغل في أعماقها، بدت لي أرحب وأعجب. فما هذا المخلوق الذي يحويه جسم صغير، لا يشغل من الكون إلا فراغاً ضيقاً كالذي يشغله صندوق أو كرسي. . . ويحوي هو (المكان) كله، ويشمل (الزمان)، وينتقل من الأزل إلى الأبد في أقل من لحظة، وينتظم (الوجود) كله بفكرة، وتكاد الحياة نفسها تضل في أغواره؟(229/25)
من المستحيل أن نفهم هذا المخلوق الذي ندعوه (النفس)! لذلك نخاف الوحدة ونفر منها. إننا نخشى نفوسنا، ولا نستطيع أن ننفرد بها، فنحب أن نشتغل عنها بصحبة صاحب، أو حب حبيب، أو عمل من الأعمال. . . ونخشى الحياة، ونحب أن نقطعها بحديث تافه، أو كتاب سخيف، أو غير ذلك مما نملأ به أيامنا الفارغة. وإذا نحن اضطررنا مرة إلى مواجهة الحياة، ومقابلة الزمان خالياً من ألهية تلهو بها، كما يكون في ساعة الانتظار مللنا وتبرمنا بالحياة وأحسسنا بأن الفلك يدور على عواتقنا. أفليس هذا سراً عجيباً من أسرار الحياة: يكره المرء نفسه ويخشاها، وهي أحب شيء إليه؛ ويفر منها. . . ويضيق بحياته، وهي أعز شيء عليه، ويسعى لتبديدها وإضاعتها؟
عجزت عن احتمال هذه الوحدة، وثقل عليّ هذا الفراغ الذي أحسه في نفسي، فخالطت الناس، واستكثرت من الصحابة. فوجدت في ذلك أنساً لنفسي، واجتماعاً لشملي، فكنت أتحدث وأمرح وأمزح وأَضحك وأَضحك، حتى ليظنني الرائي أسعد خلق الله وأطربهم؛ بيد أني لم أكن أفارق أصحابي وأنفرد بنفسي، حتى يعود هذا الفراغ الرهيب، وترجع هذه الوحدة الموحشة
انغمست في الحياة لأملأ نفسي بمشاغل الحياة، وأغرق وحدتي في لجة المجتمع، واتصلت بالسياسة وخببت فيها ووضعت وكتبت وخطبت، فكنت أحس وأنا على المنبر بأني لست منفرداً وإنما أنا مندمج في هذا الحشد الذي يصفق لي ويهتف. . . ولكني لا أخرج من النديّ ويرفضّ الناس من حولي، وأنفرد في غرفتي حتى يعود هذا الفراغ أهول مما كان، وترجع الوحدة أثقل، فكأنها ما نقصت هناك إلا لتزداد هنا، كالماء تسد مخرجه فينقطع، ولكنك لا ترفع يدك حتى يتدفق ما كان قد اجتمع فيه. . . فماذا يفيدني أن أذكر في مائة مجلس أو يمر اسمي على ألف لسان، وأن يتناقش فيّ الناس ويختصموا، إذا كنت أنا في تلك الساعة منفرداً مستوحشاً متألما؟. .
وجدت الشهرة لا تفيد إلا اسمي، ولكن اسمي ليس مني، ولا هو (أنا) فأحببت أن أجد الأنس بالحب وأن أنجو به من وحدتي، فلم أجد الحب إلا اسماً لغير شيء، ليس له في الدنيا وجود، وإنما فيها تقارب أشباح:
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تدان؟(229/26)
وألثم فاها كي تزول صبابتي ... فيشتد ما ألقى من الهيمان
كأن فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن يرى الروحين تلتقيان
ولكن أنى تلتقي الأرواح؟ وأين هذا الحب الجارف القوي الخالص الذي يأكل الحبيبين كما تأكل النار المعدن، ثم تخرجهما جوهراً واحداً مصفى نقياً ما فيه (أنا) ولا (أنت) ولكن فيه (نحن)؟. . .
فنفضت يدي من الحب، ويئست من أن أرى عند الناس الاجتماع المطلق، فعدت بطوعي أنشد الوحدة المطلقة
صرت أكره أن ألتقي بالناس، وأنفر من المجتمعات، لأني لم أجد في كل ذلك إلا اجتماعاً مزيفاً: يتعانق الحبيبان، ولو كشف لك عن نفسيهما لرأيت بينهما مثل ما بين الأزل والأبد؛ ويتناجى الصديقان، ويتبادلان عبارات الود والإخاء، ولو ظهر لك باطنهما لرأيت كلا منهما يلعن الآخر؛ وترى الجمعية الوطنية، أو الحزب الشعبي، فلا تسمع إلا خطباً في التضحية والإخلاص، ولا ترى إلا اجتماعاً واتفاقاً بين الأعضاء؛ ولو دخلت في قلوبهم لما وجدت إلا الإخلاص للذات، وحب النفس، وتضحية كل شيء في سبيل لذة شخصية أو منفعة!
وجدتني غريباً بين الناس فتركت الناس وانصرفت إلى نفسي أكشف عالمها، وأجوب فيافيها وأقطع بحارها، وأدرس نواميسها وجعلت من أفكاري وعواطفي أصدقاء وأعداء، وعشت بحب الأصدقاء وحرب الأعداء. . .
إن من حاول معرفة نفسه عرضت له عقبات كأداء، ومشقات جسام، فإن هو صبر عليها، بلغ الغاية، وما الغاية التي تطمئن معها النفس إلى الوحدة، وتأنس بالحياة، وتدرك اللذة الكبرى ما الغاية إلا معرفة الله
وسيظل الناس تحت أثقال العزلة المخيفة حتى يتصلوا بالله ويفكروا دائماً في أنه معهم، وأنه يراهم ويسمعهم، هنالك تصير الآلام في الله لذة، والجوع في الله شبعاً، والمرض صحة، والموت هو الحياة السرمدية الخالدة. هنالك لا يبالي الإنسان ألا يكون معه أحد، لأنه يكون مع الله
علي الطنطاوي(229/27)
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 3 -
وقد كان لهذه القصائد في نصرة أهل البيت وتأليب الناس على بني مروان أثرها في النفوس، حتى لهج بها الخاصة والعامة، وصار الناس يتقربون إلى الله والرسول بحفظها وتلاوتها ويتناقلون في ذلك رؤى عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان الكميت يرى بعضها، وكان غيره يرى بعضاً آخر منها، فارتفعت بهذا منزلة الكميت وعلت درجته بين قومه بني أسد حتى كانوا يعدونه من مفاخرهم، ويقولون: فينا فضيلة ليست في العالم، ليس منزل منا إلا وفيه بركة وراثة الكميت، لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال له أنشدني:
طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
فأنشده فقال له: بوركت وبورك قومك
ويروي من طريق آخر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه وهو مختف بعد أن هرب من سجن بني مروان فيما سنذكره من سيرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مم خوفك؟ فقال: يا رسول الله من بني أمية، وأنشده:
ألم ترني من حُبِّ آل مُحمدٍ ... أروح وأغْدُو خائفاً أترقّبُ
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اظهر فإن الله قد أمنك في الدنيا وفي الآخرة
وحدث إبراهيم بن سعد الأسدي قال: سمعت أبي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: من أي الناس أنت؟ قلت: من بني أسد، قال: من أسد بن خزيمة؟ قلت: نعم، قال: أهلالي أنت؟ قلت: نعم، قال: أتعرف الكميت بن زيد؟ قلت: يا رسول الله عمي ومن قبيلتي، قال: أتحفظ من شعره شيئاً؟ قلت: نعم، قال أنشدني:
طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
قال: فأنشدته حتى وصلت إلى قوله:(229/28)
فما لِيَ إلا آل أحمد شيعةً ... وما لِيَ إلاَ مشْعَب الحق مشعب
فقال لي: إذا أصبحت فاقرأ عليه السلام، وقل له قد غفر الله لك بهذه القصيدة
وحدث نصر بن مزاحم المنقري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ورجل بين يديه ينشده:
مَنْ لقلبٍ مُتيَّمٍ مستهامِ
قال: فسألت عنه، فقيل لي: هذا الكميت بن زيد الأسدي، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جزاك الله خيراً وأثنى عليه
وإذا كان الكميت قد نصر بشعره أهل البيت هذا النصر الذي كان له هذا الشأن، فإنه وهو الشاعر العالم لم يكن يتجاوز تأييدهم باللسان إلى تأييدهم بالفعل، وكان شأنه في هذا شأن القعدة من الخوارج كعمران بن حطان الشاعر وغيره، ولا غرابة في أن يكون للشيعة قعدة كما كان للخوارج قعدة، بل إن قعدة الشيعة كانوا أكثر من قعدة الخوارج لأخذ الشيعة بالتقية. وقد روى أبو الفرج الأصبهاني أنه لما خرج زيد بن علي كتب إلى الكميت: أخرج معنا يا أعيمش، ألست القائل:
ما أُبالي إذ أحفظتُ أبا لقا ... سم فيكم ملاَمةَ الُّلوَّامِ
فكتب إليه الكميت:
تجودُ لكم نفسي بما دونَ وَثْبَةٍ ... تظلُّ لها الغربانُ حوليَ تحجلُ
ولم يكن هذا منه يغضب أهل البيت عليه، بل كانوا هم أيضاً يضنون على نفسه ضنه عليها، ويحبون أن يبقى لهم بشعره الذي يفعل في هدم بني مروان ما لا يفعله بالسيف غيره
وكان على العراق في هذا العهد خالد بن عبد الله القسري، وعلى عرش بني مروان هشام بن عبد الملك، وقد اضطربت الروايات في وصول خبر الكميت وأشعاره إلى هشام اضطراباً كبيراً، فلنسق هذه الروايات المضطربة، ثم نأخذ بعد هذا في نقدها والترجيح بينها
قال أبو الفرج الأصبهاني: كان خالد بن عبد الله القسري فيما حدثني به عيسى بن الحسين الوراق قال: أخبرنا أحمد بن الحارث الفزاري عن ابن الأعرابي، وذكره محمد بن أنس(229/29)
السلامي عن المستهل ابن الكميت، وذكره ابن كناسة عن جماعة من بني أسد أن الكميت أنشد قصيدته التي يهجو فيها اليمن وهي:
ألا حُيِّيتِ عنا يا مدينا
فأحفظته عليه، فروى جارية حسناء قصائده الهاشميات، وأعدها ليهديها إلى هشام، وكتب إليه بأخبار الكميت وهجائه بني أمية وأنفذ إليه قصيدته التي يقول فيها:
فيا ربِّ هل إلاَّ بك النصر يُرْتجَى ... ويا ربِّ هل إلاَّ عليك المعوَّلُ
وهي طويلة يرثي فيها زيد بن علي وابنه الحسين بن زيد (كذا) ويمدح بني هاشم، فلما قرأها أكبرها وعظمت عليه واستنكرها، وكتب إلى خالد يقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده، فلم يشعر الكميت إلا والخيل محدقة بداره، فأخذه وحبس في المحبس. وكان أبان بن الوليد عاملاً على واسط، وكان الكميت صديقه، فبعث إليه بغلام على بغل وقال له: أنت حر إن لحقته والبغل لك، وكتب إليه: قد بلغني ما صرت إليه وهو القتل إلا أن يدفع الله عز وجل، وأرى لك أن تبعث إلي حبي - يعني زوجة الكميت وهي بنت تكيف بن عبد الواحد وهي ممن يتشيع أيضاً - فإذا دخلت إليك تنقبت نقابها ولبست ثيابها وخرجت، فإني أرجو ألا يؤبه لك
فأرسل الكميت إلى أبى وضاح حبيب بن بديل وإلى فتيان من بني عمه من مالك بن سعيد، فدخل عليه حبيب فأخبره الخبر وشاوره فيه فسدد رأيه، ثم بعث إلى حبي امرأته فقص عليها القصة وقال لها: أي ابنة عم، إن الوالي لا يقدم عليك ولا يسلمك قومك، ولو خفته عليك لما عرضتك له، فألبسته ثيابها وإزارها وخمرته وقالت له: أقبل وأدبر، ففعل، فقالت: ما أنكر منك شيئاً إلا يبساً في كتفك، فاخرج على اسم الله، وأخرجت معه جارية لها، فخرج وعلى باب السجن أبو وضاح ومعه فتيان من أسد فلم يؤبه له، ومشى الفتيان بين يديه إلى سكة شبيب بناحية الكناس، فمر بمجلس من مجالس بني تميم، فقال بعضهم: رجل ورب الكعبة، وأمر غلامه فأتبعه، فصاح به أبو وضاح يا كذا وكذا لا أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم، وأومأ إليه بنعله فولى العبد مدبراً، وأدخله أبو وضاح منزله
ولما طال على السجان الأمر نادى الكميت فلم يجبه، فدخل ليعرف خبره، فصاحت به المرأة: وراءك لا أم لك. فشق ثوبه ومضى صارخاً إلى باب خالد فأخبره الخبر، فأحضر(229/30)
حبي فقال لها: يا عدوة الله احتلت على أمير المؤمنين وأخرجت عدوه. لأمثلن بك ولأصنعن ولأفعلن، فاجتمعت بنو أسد إليه وقالوا: ما سبيلك على امرأة منا خدعت؟ فخافهم فخلى سبيلها
قال: وسقط غراب على الحائط فنعب فقال الكميت لأبي وضاح: إني لمأخوذ، وإن حائطك لساقط، فقال له: سبحان الله! هذا ما لا يكون إن شاء الله، فقال له: لابد من أن تحولني، فخرج به إلى بني علقمة وكانوا يتشيعون، فأقام فيهم ولم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب
قال ابن الأعرابي قال المستهل: وأقام الكميت مدة متوارياً حتى إذا أيقن أن الطلب قد خف عنه خرج ليلاً في جماعة من بني أسد على خوف ووجل، وفيمن معه صاعد غلامه، فأخذ الطريق على القطقطانة وكان عالماً بالنجوم مهتدياً بها، فلما صار سحيراً صاح بنا: هوِّموا يا فتيان، فهوَّمنا وقام يصلي، قال المستهل: فرأيت شخصاً فتضعضعت له، فقال: ما لك؟ قلت: أرى شيئاً مقبلاً، فنظر إليه فقال: هذا ذئب قد جاء يستطعمكم، فجاء الذئب فربض ناحية فأطعمناه يد جزور فتعرقها، ثم أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه وارتحلنا، فجعل الذئب يعوي، فقال الكميت: ما له ويله؟ ألم نطعمه ونسقه؟ وما أعرفني بما يريد! هو يعلمنا أنا لسنا على الطريق: تيامنوا يا فتيان، فتيامنا، فسكن عواؤه، فلم نزل نسير حتى جئنا الشام فتوارى في بني أسد وبني تميم. وأرسل إلى أشراف قريش وكان سيدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص، فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض وأتوا عنبسة فقالوا: يا أبا خالد هذه مكرمة قد أتاك الله بها. هذا الكميت بن زيد لسان مضر، وكان أمير المؤمنين كتب في قتله فنجا حتى تخلص إليك وإلينا. قال فمروه أن يعوذ بقبر معاوية ابن هشام بدير حنيناء، فمضى الكميت فضرب فسطاطه عند قبره، ومضى عنبسة فأتى مسلمة بن هشام فقال له: له يا أبا شاكر مكرمة أتتك، بها تبلغ الثريا إن اعتقدتها، فإن علمت أنك تفي بها وإلا كتمتها، قال: وما هي؟ فأخبره الخبر، وقال: إنه قد مدحكم عامة وإياك خاصة بما لم يسمع بمثله، فقال: عليّ خلاصه فدخل على أبيه هشام وهو عند أمه في غير وقت دخول، فقال له هشام: أجئت لحاجة؟ قال: نعم، قال: هي مقضية إلا أن يكون الكميت فقال: ما أحب أن تستثني علي في حاجتي، وما أنا والكميت! فقالت أمه: والله لتقضين حاجته كائنة(229/31)
ما كانت، قال: قد قضيتها ولو أحاطت بما بين قطريها، قال: هي الكميت يا أمير المؤمنين، وهو آمن بأمان الله عز وجل وأماني، وهو شاعر مضر، وقد قال فينا قولا لم يقل، قال: قد أمنته وأجزت أمانك له، فاجلس له مجلساً ينشدك فيه ما قال فينا. فعقد له وعنده الأبرش الكلبي، فتكلم بخطبة ارتجلها ما سمع بمثلها قط، ومدحه بقصيدته الرائية، ويقال إنه قالها ارتجالاً وهي قوله:
قِفْ بالديار وقوفَ زائِرْ
فمضى فيها حتى انتهى إلى قوله:
ماذا عليك مِنَ الوقو ... ف بها وإنك غيرُ صاغِرْ
درجتْ عليها الغاديا ... تُ الرائحاتُ من الأعاصر
وفيها يقول:
فالآنْ صرتُ إلى أُمَيَّ ... ةَ والأمورُ إلى المصاير
وجعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده فيقول: إسمع إسمع، ثم استأذنه في مرثية ابنه معاوية فأذن له فأنشد قوله:
سأبكيك للدنيا وللدين إنَّني ... رأيت يد المعروف بعدك شُلَّتِ
أدامتْ عليك بالسلام تحيةً ... ملائكةُ الله الكرامُ وصلَّتِ
فبكى هشام بكاء شديدا، فوثب الحاجب فسكته، ثم جاء الكميت إلى منزله آمناً فحشدت له المضربة بالهدايا، وأمر له مسلمة بعشرين ألف درهم، وأمر له هشام بأربعين ألف درهم، وكتب إلى خالد بأمانه وأمان أهل بيته، وأنه لا سلطان له عليهم. وجمعت له بنو أمية فيما بينها مالا كثيراً، وودع هشاماً وأنشده قوله فيه:
ذكر القلبُ إلْفَهُ المذكورَا
وهذه هي الرواية الأولى فيما كان بين الكميت وخالد بن عبد الله وهشام بن عبد الملك بسبب تلك القصائد السابقة
عبد المتعال الصعيدي(229/32)
كتاب حضارة العرب
للكاتب الاجتماعي الكبير غوستاف لوبون
للأستاذ خليل هنداوي
تمهيد
لم يسبق أن تردد لفظ المملكة العربية والأمجاد العربية في يوم مثل هذا اليوم. ففي كل صوب من كل قطر عربي يهب هذا الحلم من نومه ويزحف هذا الراقد الفاني إلى حقيقة تمد ذراعيها وتدعو إلى تحقيق وجودها. وكل شيء من هذه الأحداث عامل يسرع في بيان ضرورة هذه الوحدة التي لا يقوم للعرب كيان بدونها. وما قيمة جسد فيه عضو يتحرك وأعضاء جامدة لا تتمشى فيها حركة؟ وكأن السياسة الاستعمارية أدركت أن هذا التقسيم الذي رمت به الجزيرة العربية إنما هو تخدير موقوت فكيف تعمل على جعله تخديراً دائماً؟ فخلقت النعرات القومية التي جرفها التاريخ فيما جرف، والتي بادت من الحاضر حتى أصبحت لا وجود لها. . . ولقد فتن بهذه السياسة قوم وعادوا يتجردون من القومية العربية ويحملون على الثقافة العربية، لأنها في رأيهم ثقافة لم تحمل شيئاً للإنسانية. وإنها لدعوى ملفقة لم يخلقها إلا الوهم الذي خلقته السياسة الاستعمارية، وجاراها عليه فئة ماتت فيها الفكرة الاستقلالية. وتجاه خطر هذه الفئة المتذبذبة التي لا تعرف لها ديناً ولا لوناً من ألوان القومية وجب أن تقوم حملات صادقة لتحطيمها ودوس كرامتها إن كانت لها بقية من كرامة. وهذا واجب تبعث عليه البواعث الوطنية التي تؤمن بحق العرب وثقافة العرب وعظمة العرب!
لقد تناول تاريخ العرب رجال من الغرب، منهم من كانت تسيره الأهواء، ومنهم من كان يستلهم العقل والحقيقة وما أقل هؤلاء! وقد كان بودنا أن نكتب تاريخنا بأيدينا بالهوى والعاطفة كما يقولون، لأننا نكتبه إذ ذاك بحروف الذهب، ونرسمه بخطوط اللهب، لأنه تاريخ قوميتنا وثقافتنا وغابرنا الذي بيده أمر حاضرنا
ألا يكتب كل قوم تاريخهم كما يشاءون؟ ألا يسجل كل شعب ماضيه كما يرغب؟ فيا كارهي مجد العرب أي عار وجدتموه إلا عار الأنفة والكبرياء؟ وأي وصمة أتوا بها إلا وصمة(229/33)
الفتوح والسيادة؟ ونحن نرى المجد في الخضوع للمستعمر، وفي الذل وخفض الجناح، ونحن نرى الفخر في فتح أبوابنا له يلجها من يشاء متى شاء. وكيف يلتقي فخرنا وذلك الفخر؟ وكيف يصافح مجدنا ذلك المجد؟
لن نعرض لهؤلاء النافرين من مجد العرب شيئاً تسطره أقلامنا وأهواؤنا، ولكنا عارضون لهم صفحات جليلة، كتبها رجل لا يتعصب لنا ولا يريد باطلاً ولا جزاء ولا شكورا. وإنما ينشد حقيقة ما عرف التاريخ شهيداً كمثلها بين الحقائق التي نقلها. فأراد هذا الرجل إنصاف هذه الحقيقة، وأراد إنصاف العرب بما كتب
قلت: كنت أريد أن يكتب تاريخنا بعاطفة وحرارة لأني أعتقد أن التاريخ في الأمم المتيقظة هو قلب قبل أن يكون عقلاً، لأن هذه الأمم - وهي في بدء يقظتها - لأحوج إلى قيادة العاطفة منها إلى قيادة العقل. وإذا عدت إلى استقراء تاريخ كل أمة ألفيت أن العاطفة هي القائدة الهادية، حتى إذا ما مشت هذه الأمة إلى هدفها واستقام سيرها، أخذت العاطفة تقر رويداً رويداً ويتسيطر على جموحها العقل. وهاهي ذي الأمم الغربية التي نقتفي أثرها ونمجد خيرها على رغم ما بلغت من نضج العقل ورسوخ القدم لا نقرأ تاريخها إلا موسوماً بميسم وطنيتها وعاطفتها لأن التاريخ المجرد يأتي هيكلاً مجرداً من الروح، وإذا لم ترد الأمة أن تطبعه بطابع حياتها وحاجتها، فما معنى حاجتها إلى هذا التاريخ إذن؟ على أننا لا نريد أن يأتي تاريخنا مشوهاً متحولاً مخالفاً للحقيقة، ولا نريد أن نسجله تسجيلاً كاذباً مختلقاً. ولو قدرنا على ذلك لما فعلنا، كما فعل ذلك العالم البلجيكي الذي أخذ يلوم أحد قادة الألمان على ما يرتكبون من فظائع في (بلجيكا) خلال الحرب العظمى وهدده بالتاريخ الذي سيحصي عليهم كل صغيرة وكبيرة، فما أجابه ذلك القائد إلا بضحكة استهزاء متمتماً: (هل تهددنا بالتاريخ، وما عسى يضع التاريخ؟ ونحن الأُلى نسجله غداً) يريد أن الظافر هو الذي يتولى كتابة التاريخ وتشويه الحقائق. إننا لا نسجل الآن شيئاً، وإنما رجال غربيون يسجلون. منهم صاحب حضارة العرب يسجل تاريخ حضارتنا كما تفهمه وتلمسه. وما أجدر هذه الفئة المنكرة الجاحدة لتاريخها وقوميتها بقراءة هذه الصفحات والنظر إلى ما راحوا يتنكرون منه ويوارون وجوههم خجلاً! وما كان أحق هذه الفئة بالتقديس لو أن لها من القوة والعبقرية والثقافة جزءاً مما لأجدادهم! ولكنهم قوم عميت منهم الأبصار والبصائر(229/34)
وشغفوا برداء يلبسه جارهم لا حظ لهم منه إلا النظر إذا سمح الجار بذلك
هذا ما بعثني على تعريب هذا الكتاب الذي خرج إلى العالم منذ خمسين عاماً، ولا تزال الخزانة العربية تجهله، أو تعرفه وتتخلف عن تبنيه كأنه لا يمسها في شيء أو لا يعنيها من أمره شيء. على أنه كان خير كتاب سطره يراع غربي في التاريخ العربي. ولعل في إرجاء تعريبه سراً لأنه يخرج الآن في وهلة أصبح تعريبه حاجة ماسة لجيل عربي تيقظ على أمجاد غابرة، وعاد إليه حنينه الأول وحلمه الأسمى! ومن حق هذه الأمجاد أن نعمل على بعثها حتى تغدو أصواتاً تتردد في كل فج، وتصبح أصواتها أصداء تتجاوب في كل رجاء
قد يقول بعضهم: إن بين مصادر المؤلف مصادر واهية يظهر ضعفها، والكتاب ذاته ليس بذي قيمة كبيرة. ولقد يكون هنالك ضعف في المصادر وضعف في بعض المستنتج، وضعف في إحصاء أشياء، ولكن هذا لا يخلع عن الكتاب قيمته العلمية لأنه كتب في عهد بعيد قبل أن تكثر المواد التي جلت تاريخ العرب. وقد أبقينا على هذه الأخطاء لأن القارئ النبيه يستطيع تمييزها بسهولة، لأننا أحببنا أن ننقل الكتاب صورة صادقة أمينة يطلع القارئ خلالها على آراء الغربيين فينا إبان ذلك العصر. ولكن هذه التهمة لم يكن الباعث عليها ضعف المصادر فحسب، وإنما تعود أسبابها إلى أن المؤلف الذي يكتب عن العرب ينبغي له أن يعنى بإظهار سيئاتهم وطرح حسناتهم، وأن يعمل على تصويرهم شعباً مهدماً للمدنية لا بانياً، فجاء غوستاف لوبون العالم الجريء المنصف خارقاً عادات القوم متخطياً بدعتهم السيئة فكتب عن العرب ما لا يكتبه العرب عن أنفسهم، وفتح العيون العمي على ما لهم من حضارة وفضل على الإنسانية بوجه عام، وعلى الحضارة الغربية بوجه خاص، ولذلك لم يلق كتابه الرواج المنتظر في أمته. وناهيك بأن سياسة الغرب في ذلك العصر كانت تعد العدد وتختلق الحيل لاستعمار الشرق فكيف يروقها أن يظهر من يعدد لها فضائل هذه الأقطار التي تريد استعمارها بتهمة الوحشية ودعوة التمدين. فكان عدم رواجه نتيجة منطقية معقولة لهذه الفكرة المسمومة؛ وكانت حملات عليه كاذبة حاولت أن تطعن في العرب وفيمن ينتصر لهم. ومن دواعي الأسف أن هذه الفكرة لا تزال تصاحب هذا الكتاب، وسوف لا تزل مرافقة له حتى ينفض الغرب يده من هذه الأقطار وييأس من(229/35)
استعمارها!
وقد قص عليّ أستاذ صديق أنه خلال وجوده في باريس طلب إلى إحدى مكتبات المطالعة أن يطلع على هذا الكتاب فتأفف صاحب المكتبة، فقال له الأستاذ: أراك مشمئزاً، لعل الموضوع لا يرضيك! فأجابه: ليست المسألة مسألة موضوع، وإنما مسألة انتشاله من تحت أنقاض الكتب المتراكمة فوقه. فمد يده إلى خزانة ربما يطلق صاحبها عليها خزانة الكتب المهجورة والمغفلة، ولبث يقلب حتى علقت يد صاحبنا بالكتاب في قاع الخزانة!
وهذا يدل على أن الفكرة التي شوهته لا تزال ترافقه وأن الغربي قد ألقى في خلده أن كل ما يكتب عن الشرق والعرب بلهجة الإعجاب هو شيء كاذب مدسوس، وإنما الحق كل الحق فيما يتناولهما بالذم والسخرية والتحقير. وكأني بأفراد قلائل قد استطاعوا أن يطلقوا عقولهم من هذه الأوهام وينظفوا دم تفكيرهم من هذه السموم، ولكن عدد هؤلاء محدود، وما أقلهم لو استطاعوا أن يطهروا أنفسهم!
وأسباب ذلك كما قدمت تعود إلى أضاليل الغاية الاستعمارية التي استلهمت أيضاً العصبية الدينية، وتكاتفتا معاً على إخفاء محاسن العرب، وعلى اظهارهم شيئاً هو دون الشعوب. ويقيني لو أن موازناً منهم قارن بين شعب من الزنوج والعرب لشالت كفة العرب ولرجحت كفة الشعب الزنجي لأن هذا الشعب تم لهم استعماره وتحضيره وذلك لم يتم ولما يتم لهم منه شيء
أما أجري الذي أنشده من هذا التعريب فهو أمنيتي التي أرجو أني وصلت إليها في وضع لبنة واحدة في صرح المملكة العربية الحديثة وفي استجلاب كثيرين ممن ضلوا مجد أمتهم الغابر ليحثهم على بناء المجد الحاضر، وما هنا إلا صفحة من صفحات هذا الفاتح الذي ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم منه. . . فاقرءوا أيها العرب وأنفذوا منها إلى بقايا صفحات تاريخكم المجيد
(تتلوه المقدمة)
خليل هنداوي(229/36)
مقالات إسماعيلية
لأستاذ جليل
- 2 -
في معرفة العقل
ومنها حدثني الحسن الموصلي عن علي بن محمد نازل سَوْرة والعباس بن محمد بن الحسين جميعاً عن محمد بن سنان الزاهدي قال: سألت لمولانا (علينا سلامه) عن أول صفات الأزل، فقال لي: العقل، فقلت: وما العقل يا مولاي؟ فقال: أنا. وما علمت أن بي يعقل العاقل، وبي ينظر الناظر، وبي يسمع السامع، وبي يبطش الباطش، وبي يتحرك الساكن، وبي يذاق الطيب، وبي يشم الروائح الطبية، وبي يحس الحواس، وبي أفاضوا الناس؟ فقال له محمد بن سنان فكيف منزلتك من الباري الأزلي؟ فقال له كمنزلة العلم من العالم لم ينفصل منه ولا هو سواه. واعلم يا محمد، أن الأزل أطلع من ذاته نوراً لم يفصله منه، ولا غاب عنه، ثم سماه عقلا، وخاطبه به، فقال له: من أنا؟ أجابه أنت وأنا منك، فقال له أدبر يعني اظهر كالمنفصل مني، فظهر ثم قال له: أقبل يعني غب فيّ واتصل بي، فاتصل فقال له به وخاطبه منه: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً قبلك إلا أنا إذ أنا معدنك، ولا خلق أبداً أحب إليّ منك، لأنك مني بديت، وأنا بك ظهرت. منك نطقت، وبك أدعو، وأنت إشارتي ونودي في سمواتي وارضي، بك آخذ حقي من خلقي، وبك أجازي من عرفني وأقرّ بي، فأنت الواحد إذ لا مثل لك، وأنا الأحد لأني متحد بك. لست حين اطلع بك حركاتي وغيبتك سكوني وأنا العلي الحميد والسلام
- 3 -
فصل في معرفة الإنسان
قال الله (تعالى): (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) اعلم أن الإنسان هو النفس خلقت قبل الجسم زماناً طويلا، فلما ظهرت النفس بصورة الجسم ذكرت وعرفت حتى تعقل منه المعقولات أي تعرف إمام العصر والزمان؛ فإذا عرفت ارتقت إلى عالمها النوراني كما قال الله (عز وجل) (ثم ننجّي الذين اتقوا ونذرُ الظالمين فيها جِثِياً)(229/37)
والجثو هو المعاد فيها. وإذا لم تعرف إمام العصر والزمان تتردد في عالم الكون والفساد على الأجساد ومحل الآلام حتى تعرف إمام زمانها وتدخل تحت طاعته؛ فإذا عرفت خلصت ونجت وارتقت، وإذا لم تعرف لا تزال تتردد حتى تعرف بعد المدد والدهور الطوال. قال بعض العارفين لولده: احرص يا بنيّ أن تخلِّصها في هيكل واحد ولا في هيكل ثان والسلام
- 4 -
(فصل) اعلم (يا أخي) إن النفوس المنكرة لا تزال تتردد في عالم الكون والفساد والنشوء والبلى حتى تعقل منه المعقولات أعني معرفة إمام العصر والزمان. والسلام على من اتبع الهدى، وخشي عواقب الهوى، وأطاع الملك الأعلى، وأمر بالتقوى، وكان من الفائزين، والسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين
- 5 -
(فصل) اعلم أن الجن ثلاث طبقات: الجن الغواصة، والجن الطيارة، والجن المرَدَة. أما بعد فإن الجن الغواصة هم الحكماء الغواصون في العلوم الحقيقية، والجن الطيارة هم الحجج والدعاة الذين يطيرون في علومهم من مكان إلى مكان، والجن المردة فهم أهل الظاهر المرقبون السمع العاندون للحق في كل عصر وزمان، فاعلم ذلك. قال عليّ (علينا سلامه): من عاند الحق هان، ومن تهاون في الدين انهان. وقال أيضاً: من استغنى بعقله ضلّ، ومن عجب بعلمه زل، ومن استعان بغير الله ذل، والسلام
- 6 -
(فصل) اعلم أن دعائم الإسلام سبع، وعند أهل الظاهر خمس، وهي الصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد في سبيل الله (تعالى) والولاية والإمامة، أنكر أهل الظاهر الولاية والإمامة
قال النبي عليه الصلاة والسلام في حق عليّ يوم الغدير: (من كنت مولاه فعليّ مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من نكره، وأدرْ الحق معه حيث دار) هذا في الولاية؛ وقال النبي في الإمامة: (من مات ولم يعرف إمام زمانه معرفة جلية(229/38)
فقد مات ميتة جاهلية، والجاهل كافر والكافر في النار) والسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين
- 7 -
(فصل) النبي (صلعم): (تسلمت من خمس وسلمت إلى خمس، وبيني وبين ربي خمس). (الجواب): فالخمس الذي تسلم النبي منهم، فهم بحيرا الراهب وميسرة وزيد بن عمرو وعمرو بن نفيل وخديجة بنت خويلد؛ والخمس الذي سلم إليهم، فهم الأساس، والداعي، والحجة، والإمام، والوصي؛ والخمس الذين بينه وبين الله (عز وجل) فهم العقل، والنفس، والجد، والفتح، والخيال، وقوله: أنا وأهل بيتي خمس، فهم محمد، وعليّ والحسن، والحسين وفاطمة، عليهم السلام أجمعين، والحمد لله رب العالمين
- 8 -
(فصل) اعلم يا أخي أن العقل نور إلهي مشرق على ظهر العالم فيقبل كل شيء من الأشياء التي تحته تحيي قواه، فلما الإنسان أقرب بنسبه إلى العقل قبل من الفيض أكثر من جميع الموجودات، والنور هو العلم، والعلم هو العقل الإنساني والسلام
- 9 -
(فصل) اعلم يا أخي أن جهنم هي البعد من الله، وهي مركز الأرض ومحل الأجسام عالم الكون والفساد؛ والجنة هي القرب من الله وهي عالم القدس ومحل النفوس والأنوار، وعرضها كعرض السموات والأرض كما قال الله تعالى: (وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) والحمد لله رب العالمين(229/39)
حقيقة الإسلام
للأستاذ خليل جمعة الطوال
(. . . أنا لست مسلماً ولكن ذلك لا يمنعني من أن أقول في
الإسلام الحق. ولقد دفعني إلى هذا ما شاع بيننا نحن
المسيحيين - عن طريق المبشرين وانكشارية الدين المأجورين
- من أن الإسلام دين كاذب قام على السيف
وأصارحك أني كنت على هذا الرأي حتى تنبهت إلى فضائل الإسلام عن طريق الرسالة الغراء، ثم عن طريق القرآن الشريف. لذلك آليت على نفسي أن أعوض عن عدم إسلامي بنشر فضائل الإسلام بقلمي ولساني)
خليل جمعة الطوال
(الإسلام دين بربري قام بقوة السيف. . .)
(فولتير والخصوم)
بهذه الحجة الواهية ينثال على الإسلام خصومه ليشوهوا جماله، وينالوا من روحه الكبرى، وينتقصوا من تعاليمه السامية. وبهذه الحجة أيضاً يتذرع أهل الجهالة والزيغ، إذ يصمون صاحب الرسالة العربية بالكذب والشعر والكهانة، ويدعون أنه مؤسس ديانة بربرية كاذبة، تنافي مبادئها روح الحضارة، وتقف تعاليمها حائلاً دون تقدم المدنية. ولو أنهم خلوا إلى أنفسهم، ونفضوا عنها غبار التعصب، ودرسوا تعاليم الإسلام، وتدبروا آياته في هدأة من أغراضهم الذاتية، لانجابت عن بصائرهم سدف الأرجاف، ولانجلى عن قلوبهم خبث الصدور وصدأ الباطل
يزعمون أن الإسلام قام بقوة السيف. . . ويتمسكون بهذا الزعم على أنه حقيقة واقعة لا غبار عليها. ولكن فاتهم أن القوة التي أعزت الإسلام في بدر، والقادسية، واليرموك، والتي غزا بها المسلمون - على قلة عدهم وضعف عدتهم - وعتادهم العالم، وأمعنوا في جهاته(229/40)
الأربع بالفتح والاستعمار، حتى وسعت إمبراطوريتهم ثلثي الكرة الأرضية - لم تكن إلا قوة إيمانهم بعقيدتهم الجديدة، عقيدة التوحيد بالله وعدم الشرك به، تلك العقيدة السامية التي استمرءوا في سبيلها النكبات، وتجشموا الأخطار والمصائب، فما لانت قناتهم، ولا خضُدتْ شوكتهم، ولا هانت قوتهم. ولئن قام الإسلام ببضعة أسياف ونفر من الرجال، لقد قاومه أعداؤه المشركون بآلاف الصوارم، وكتائب الأبطال. وما انتصاره عليهم إلا انتصار الحق على الباطل، وما هزيمتهم أمامه إلا هزيمة القوة المادية أمام قوة الإيمان الروحية
تبارك الله!! رجل يقوم ضد أمة، فكأنه بقوة إيمانه - وهي كل ذخيرته - أمة بأسرها. فيغلبها حيناً وتغالبه أحياناً، ثم ينصر الله عبده، ويعز كلمته، فإذا القوم يسارعون فرادى وجماعات ليستظلوا تحت راية حقه، وليسترشدوا بنوره، ويهتدوا بهدايته، وإذا محمد رسول الله، ورجل الحق، وعدو الكفر يقف فيهم خطيباً عند باب البيت ليعلن فيهم مبدأ الإخاء والحرية والمساواة، فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدميَّ هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش! إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم خلق من تراب. يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم
تلك هي مبادئ الإسلام السامية التي اهتزت لها أصنام الوثنية وهياكلها، بل تلك هي عدة المسلمين التي فتحوا بها العالم والتي لم تغن عنها (يوم ثور) جيوشُهم اللجبة الجرارة وأسلحتهم الوفيرة المدمرة
بمثل هذه المبادئ قام الإسلام يرشد الناس بنور الهداية، وحسن الموعظة، ولم يلجأ إلى السيف إلا دفاعاً عن حوزته، وإشفاقاً على رسالته، من أن تصبح مضغة استخفاف يلوكها أهل الكفر والإلحاد مدى العمر. وأي شريعة سماوية جديدة قامت ولم يؤيدها السيف في انتشارها؟ أهي اليهودية وقد كانت تأمر برجم كل خارج على الناموس؟. . . أم هي المسيحية ومازالت محاكم التفتيش بأقبائها المروعة المظلمة يتردد صداها في الآذان، وترتعد من فظائعها الأبدان؟ ولمَ نذهب بعيداً في الاستدلال والتاريخ مفعم بذكر الكثيرين من ضحايا المسيحية - أو قل على الأصح إنكشارية المسيحية - ومجازرها؟ وحسبك منها(229/41)
مجزرة القديس (سان برثلمو) التي قتل فيها (25000) نفس، ومجزرة شارلمان بقبائل السكسون التي سالت فيها الدماء البريئة أنهارا؛ وما ارتكبته جيوش فيليب الثاني ملك أسبانيا وحامي ذمار الكاثوليكية في هولندا من الفظائع وضروب التمثيل التي تهتز لهولها الرواسي، وتشيب لمنظرها النواصي. وما فعله الإمبراطور فرديناند الثاني وهو من أسرة هبسبرج حين حاول أن يستأصل شأفة البروتسينتية في ألمانيا، فأرسل إليها جيوشه اللجبة، التي أخذت تعمل السيف في الرقاب والعباد، والنهب في البلاد؛ واختل الأمن، فأبيحت الأعراض، وأزهقت النفوس البريئة، وخرب خمسة أسداس المدن والقرى الألمانية، وتناقص عدد السكان فيها، حتى صار أربعة ملايين بعد أن كان ثمانية عشر مليوناً
ولِمَ نذهب بعيداً وفي الأمس تراجع البابا تلك الذكريات المؤلمة، فيبكي وينتحب لها، ولأن أهل رومية قد أقاموا (لبرونو الإيطالي) الذي أحرقته محاكم التفتيش بالقار والقطران، في حفل رائع من رجال الإكليروس، تمثالاً عظيما في المكان الذي أحرق فيه ضحية لتزمت العصر، وكفارة عن حرية الفكر
ولم تكن البروتسنتية على حداثة عهدها لتختلف عن الكاثوليكية بشيء من حيث تفتيش الضمائر ومخبآت الصدور، واضطهاد أبطال الحرية الفكرية بالسجن حيناً وبالحرق أحياناً، فتلك النيران المخيفة التي التهمت جثة (سرفيتوس الإسباني) ما يزال مشهدها ماثلاً أمام عيني كلفن وهو في جدثه، وما تزال تلك الذكرى تنتاش جثته الهامدة ورمته البالية
لقد اضطهدت المسيحية على اختلاف مذاهبها خلقاً كثيراً من ذوي الحرية الفكرية على حين كان الإسلام على درجة بعيدة من التسامح؛ ولنا من أبي العلاء المعري أكبر دليل على ذلك، فقد شك هذا الفيلسوف العظيم في جميع الأديان، واتهم بالكفر والإلحاد، ومع كل ذلك فقد عاش آمناً مطمئناً على حياته، ولم ينله من الحكومات الإسلامية أدنى أذى مع أنه قد تمادى في كفره وشكه لدرجة تكفي للحكم عليه بالقتل والحرق
ومن الحق هنا أن نسجل أن جميع الديانات حتى الوثنية منها تأمر بالخير والإحسان وأن المسيحية لم تبح سفك الدماء واضطهاد الأبرياء، ولكن ما العمل وقد اضطهدت هذه النفوس البريئة باسمها! وذلك إرضاء للنفوس الدنيئة، والأطماع السافلة!!
لقد قام الإسلام يدعو إلى التوحيد، فأعطى أهل الكتاب الحرية التامة في إقامة شعائرهم(229/42)
الدينية ومعتقداتهم، ولم يعمد إلى السيف في إخضاع المشركين وردهم إلى حظيرة الإيمان بالله إلا إذا أبوا أن يلبوا دعوة الله بالحجة البينة، والموعظة الحسنة، واختاروا الحرب
أفبعد هذا يزعمون أن الإسلام دين كاذب؟! ليت شعري، أية كذبة تماشي العصر، وتساير الزمن، وتعيش مع الدهر - بين الخصوم - أربعة عشر قرناً، وتنطلي تمويهاتها على أربعمائة مليون من الناس، وتظل عندهم طيلة هذه الأحقاب موضع الإجلال والإكبار، تهز قلوبهم للرحمة وأكفهم للخير؟
ألا إن الإسلام بريء مما نسب إليه، فهو دين عربي صادق يدعو إلى توحيد الله دون أن يلجأ إلى التواء المنطق وغث التأويل. (ولئن فاتني حظي من النسب، لن يفوتني حظي من المعرفة)
هذا هو الإسلام الذي قال فيه شاعر الألمان وأعظم عظمائهم (جايتي): إذا كان ذلك هو الإسلام فكلنا إذاً مسلمون. نعم كل من كان فاضلاً شريف الخلق فهو مسلم
(شرق الأردن)
خليل جمعة الطوال(229/43)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 14 -
(. . . أتذكر إذ التقينا وليس بيننا شابكة، فجلسنا مع الجالسين لم تقل شيئاً في أساليب الحديث، غير أننا قلنا ما شئنا بالأسلوب الخاص باثنين فيما بين قلبيهما؟
(. . . وشعرنا أول اللقاء بما لا يكون مثله إلا في التلاقي بعد فراق طويل، كأن في كلينا قلباً ينتظر قلباً من زمن بعيد؟
(ولم تكد العين تكتحل بالعين حتى أخذت كلتاهما أسلحتها. . . وأثبت اللقاء بشذوذه أنه لقاء الحب؟
(وقلت لي بعينيك: أنا. . . وقلت لك بعيني: وأنا. . . وتكاشفنا بأن تكاتمنا؟
(وتعارفنا بأحزاننا كأن كلينا شكوى تهم أن تفيض ببثها؟
(وجذبتني سحنتك الفكرية النبيلة التي تضع الحزن في نفس من يراها فإذا هو إعجاب؛ فإذا هو إكبار؛ فإذا هو حب؟
(وعودت عيني من تلك الساعة كيف تنظران إليك؟
(وجعلت أراك تشعر بما حولك شعوراً مضاعفاً كأن فيه زيادة لم تزد؟
(وكان الجو جو قلبينا. . .
(وتكاشفنا مرة ثانية بأن تكاتمنا مرة ثانية. . .؟)
(هي)
(. . . بماذا أصف مكاناً للحب كأنما مر به سر الخلود فإذا الوقت فيه لا يشبه نقصاناً من العمر بل زيادة عليه؛ وكانت يا حبيبتي كل دقيقة وثانيتها في مجلسك الساحر كأنها بعض الفكرة والحس لا بعض الزمان والمكان. . .
(. . . وكنت وما أشعر من سحرك إلا أني بازاء سر وضعني في ساعة من غير الدنيا(229/44)
وحصرني فيك وحدك. . .
(وهاجمتني من يقظتي واقتحمت عليّ من حذري. . .
(وخليتني وعينيك، وخليتني وما كتب عليّ. . .
(واتسعت روحي لتشملك، فما كنت تتكلمين ولا تضحكين ولا تخطرين في غرفتك ولكن في داخل نفسي. .
(. . . وكنا نتكلم ولكن ألفاظنا تتعانق أمامنا ويلثم بعضها بعضاً من حيث لا تراها إلا عيناي وعيناك
(وتراءت النفسان فملأتا المكان بأفراح الفكر، واستفاض السرور على جمالك بمعنى كلون الزهرة النضرة هو عطرها للنظر
(وقلت لي بجملتك: أنا. . وقلت لك بجملتي: وأنا. .)
(هو)
هي وهو؟
إني لأعرفه عرفاني بنفسي، فما بي شك فيما أكتب عن حبه؛ ولقد خلطني بنفسه زمنا فإني لأسمع نجواه وأقرأ سره، وأعرف ذات صوره، فما أصف من حبه إلا مستيقناً كأنما أنقل عن لوح مسطور في فؤادي، أو أثبت من حادثة في تاريخ أيامي ماثلة في نفسي بصورها وألوانها وحوادثها فما يغيب عني منها شيء. ولولا تقاليد الناس وآداب الجماعة لمزقت النقاب عن وجه الحديث وجلوته على القراء في بيان سافر كإشراق الضحى، ولكن. . . ولكنها هي. . .
أما هي فما في يدي شيء من خبرها إلا ما حدثني به الرافعي أو حدثتني رسائله، فما أتحدث عن حبها إلا راوية يكتب ما يسمع لا ما يشهد، أو محققاً يضع كلمة إلى كلمة، ويزاوج بين رسالة ورسالة، ليخرج منهما معنى ليس في يده من حقيقته شيء إلا ما يهديه الفكر وصواب الرأي وملابسات الحادثة
وإنها لأديبة شاعرة يعرفها كثير من قراء العربية وأعرفها عرفانهم أو يزيد، وحسبي هذا مقدمات إلى النتيجة، وما يعسر على من يمسك طرف الخيط أن يصل إلى آخره. . .(229/45)
لقد التقيا وما بينهما شابكة ولا يربطهما سبب؛ فما كانت إلا نظرة وجوابها حتى ارتبطا قلباً إلى قلب؛ وكان الأدب رباط بينهما أول ما كان، ثم استجرهما الحديث إلى فنون من الكلام فكشفت له عن آلامها وكشف لها عن آلامه فكان عطف وإشفاق؛ ثم تحدثت عن أحلامها وتحدث عن أحلامه، فكان الحب؛ ثم. . . ثم كانت القطيعة حين بلغ الحب غايته ونال مناله من نفسها ومن نفسه، فافترقا حين كان يجب أن يبدأ اللقاء ليتذوقا سعادة الحب ويقطفا من ثمراته. . . وضرب الدهر من ضرباته فإذا هو تحت الرغام، وإذا هي في المستشفي تتمرض من داء هيهات أن تجد له الدواء!
لم تكن (هي) تقصد الحب ولا تعمدته ولا كان هو، ولكنها أديبة تعرف موازين الكلام، لقيت الأديب الذي تعجب به ويفتنها بيانه، فأحبته (عقلاً جميلا) كما تسميه في بعض رسائلها. . .
وكان سعيه إليها يلتمس الشعر والحكمة، والشعر والحكمة هما رابطتها إليه وفاتنتها به؛ فتصنعت له لتفنه وتزيده شعراً وحكمة، ثم تصنعت لتزيده، ثم تصنعت لتزيده، ثم تصنعت لتزيد هي به؛ لأنها وجدت به نفسها، ووجدت به الشعر والحكمة والبيان؛ فأحبته (أستاذها ومرشدها) لأنه أوحى إليها ما عجز دونه الآخرون، لأنه فجر لها ينبوع الشعر وعلمها البيان هكذا تقول في بعض رسائلها. . .
وهي فتاة لم يسالمها الدهر ولم تزل منذ كانت - غرضاً لسهام الأيام، تنوشها الآلام من كل جانب، ولها نفس شاعرة تضاعف أحزانها فتجعل لها من كل همٍّ همين، وإن حواليها لكثيراً من الأصدقاء يزدلفون إليها ويخطبون ودها، ولكن. . . ولكنها تريد الصديق الذي يستمع إلى شكواها من الأيام فتستريح إليه، أكثر مما تريد الصديق الذي لا تسمع منه إلا كلمات الزلفى والتحبّب واصطناع الهوى والغرام. . . وتحدث إليها الرافعي وتحدثت إليه، وقصت عليه من أحزانها فاخضلّتْ عيناه وأطرق فوضعت يدها على يده وهي تقول:
(سأدعوك أبي وأمي متهيبة فيك سطوة الكبير وتأثير الآمر، وسأدعوك قومي وعشيرتي، أنا التي أعلم أن هؤلاء ليسوا دواماً بالمحبين؛ وسأدعوك أخي وصديقي، أنا التي لا أخ لي ولا صديق؛ وسأطلعك على ضعفي واحتياجي إلى المعونة، أنا التي تتخيَّل فيّ قوة الأبطال ومناعة الصناديد!(229/46)
(وسأبين لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك وأنت لا تدري. . .!)
وأحبته (صديقاً) تفزع إليه إذا ضاقت بآلامها وحزبتها الهموم. . .
وهي الفتاة التي لم تعرف في حياتها إلا التجهم والعبوس، ولم تعرف من دنياها إلا الجد الصارم؛ وما كان لها من عمل غير الاستغراق في الفكر، أو الاستغراق في الفن؛ وإنها لأنثى وإن كانت فيلسوفة شاعرة. . .
والرافعي رجل - كان - لا يحمل من هم، فما يدع النكتة ولا يترك المزاح والدعابة وإن الدنيا تصطرع حواليه، وإن كان القضاء منه بمرصد يراه ويتوقعه؛ وإنه ليهزل في أجدِّ الجد وأحرج الساعات هزله في أصفى حالاته وأسعد أيامه؛ فما يجالسه ذو هم إلا سُرِّى عنه كأنما يمسح قلبه فيمحو أحزانه. . .
وتحدث إليها وتحدثت إليه، فأحبته (الرفيق الأنيس) الذي تسيطر عليها روحه فينتزعها من دنياها العابسة إلى دنياه. .
واستمعت إلى صوته يتحدث، فكان له في نفسها رنين؛ ونظرت إلى سحنته الفكرية النبيلة فرأت فيها مرآة نفس صافية لا تعرف الخداع والتزوير؛ ولمحته يبتسم، فجذبتها إليه ابتسامه لم تجد مثلها إلا زيفا على شفاه الرجال؛ ونظر إليها ونظرت إليه، وقال وقالت، وتحدث قلب إلى قلب، وتناجيا في صمت؛ وتركها وهي في نفسه، ومضى وهو في مجلسها؛ وأحست في نفسها إحساساً ليس لها به عهد؛ فتناولت قلمها لتكتب إليه:
(. . . سأستعيد ذكرك متكلما في خلوتي لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك، حكاية البشر المتجمعة في فرد واحد؛ وسأتسمع إلى جميع الأصوات علِّي أعثر فيها على لهجة صوتك، وأُشرِّح جميع الأفكار وأمتدح الصائب من الآراء ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكارك. . . وسأبتسم في المرآة ابتسامتك
(في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك. . .
(سأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عاديِّ الانفعال برزانة وشهامة لتستسلم ببسالة وحرارة إلى الانفعال النبيل. . .
(وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخوراً، لأنك أوحيت إلي ما عجز دونه الآخرون.(229/47)
أتعلم ذلك، أنت الذي لا تعلم؟ أتعلم ذلك، أنت الذي لا أريد أن تعلم. . .!)
وكان حبها إعجاباً بالعقل الجميل، ثم تقديراً لأستاذها الذي فجر لها ينبوع الشعر والبيان، ثم إجلالا للصديق الذي وجدت مفزعها إليه، ثم انعطافاً إلى الرفيق الأنيس الذي كشف لها عن أفراح الحياة، ثم. . . ثم حباً يستأثر بنفسها ويسيطر عليها في غيبه ومشهده فما لها عمل إلا أن تفكر فيه. . .
وأضلها الهوى وأضله؛ وخيل إليها أنها تستطيع أن تكون أرفعَ محلاًّ لو أنها منعته بعض ما تمنحه، وخيل إليه أنه يستطيع وقالت له: (أنا لا أشفق على آلامك؛ وهل تراني أكره لك النبوغ والعبقرية؟) وقالت له كبرياؤه وغيرته وظنونه غير ما قالت صاحبته؛ ومضى كل منهما إلى طريق والقلب يتلفت؛ وما عرفت إلا من بعد أنه يحبها حباً لا يطيق أن يتسع أكثر مما تتسع له نفس إنسان؛ وما عرف إلا من بعد أنها كانت تجافيه لتطلب إليه أن يكون في الحب أجرأ مما كان. . .
وعرف وعرفت، ولكن العقدة لم تجد من يحلها وبينهما فلسفة الفيلسوف وكبرياء المتكبر؛ وظلّ وظلت وبينهما البعد البعيد على هوى وحنين. . . حتى جاء الموت فحل العقدة التي استعصت على الأحياء. . .!
إن كثيراً ممن يعرفونها ويعرفونه ليدهشون إذ يقرءون قصة هذا الحب، وسيتناولونها بالريبة والشك؛ وسيقول قائل، وسيدعي مدع، وسيحاول محاول أن يفلسف ويعلِّل؛ ولا عليّ من كل أولئك مادمت أقص القصة التي أعرفها وأستيقنها، والتي كان لها في حياة الرافعي الأدبية تأثير يُردّ إليه أكثر أدبه من بعد، وحسبه أنه كان الوحي الذي استمد منه الرافعي فلسفة الحب والجمال في كتبه الثلاثة: رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وحسبي أنني قدمت الوسيلة لمن يريد أن يدرس هذه الكتب الثلاثة على أسلوب من العلم جديد
(شبرا)
محمد سعيد العريان(229/48)
أبو الفرج الببغاء
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 4 -
أهلَّ أبو الفرج الببغاء في أعقاب عصر، وفي طلائع عصر آخر؛ أما العصر الأول فكانت الكتابة فيه جزلة مرسلة، تسير ذللاً لا أمت فيها ولا عوج، وترسل طبيعية لا تعمل فيها ولا تكلف، لا يلتفت الكاتب إلى غير المعنى الواضح الناصع في اللفظ المحكم والنسج المبرم؛ فقد كانت الأمة حينئذ - أواخر دولة بني أمية وأوائل دولة بني العباس - لا يزال بها رسيس من بداوة، وكتابها لا يفتأون ناهجين في أساليبهم نهج العروبة الخالصة، لم تشبها كدرة العجمة. ومن كان منهم أعجمي التفكير فإنه عربي قح في التعبير، ومن أريدت له من أبناء العجم - وما أكثرهم - المنزلة الرفيعة والحظوة المكينة لدى رجالات عصره وسراة دولته، فأداته الأولى حذق العربية والتبحر فيها، وممارسة الأدب والبراعة فيه، والاحتفال له، واتخاذ صناعة الكتابة وسيلة زلفاه، وسبب علياه، والمشرع الذي يشرعه لا يحلّئُه عنه أحد، ولا يذوده دون وروده ذائد؛ هو شدو اللغة بين بدوها، ينهل من قطرها ونبعها. ولقد كان أرباب السلطان يهيبون بمن يتخيلون فيهم مخايل الفطنة والموهبة والذكاء والنبوغ أو يتوسمون منهم فوقاً وحذقاً وبراعة ونبلاً؛ يهيبون بهم أن يهبطوا أول أمرهم في البادية تشرق فيها قرائحهم عن أفكار صافية، وتجري ألسنتهم على الألفاظ السليمة الخالصة، ثم يعوجوا إلى رهط الحضر يعبُّون من أخيلته السامية، ويعلُّون من معارفه الزاخرة، ولم تكن الفارسية قد زحمت العربية إلا بقَدر، والعجمة لا تزال محدودة البيئة والوطن؛ لأن كلتا الدولتين الغاربة والشارقة، أو الأموية والعباسية إبان ذلك تبغي مأرباً واحداً؛ فالأولى تريد لعرشها نهوضاً ولملكها رسوخاً، على ظبات الرماح وعلى أسلات اليراع؛ والأخرى تطلب لنجمها الصاعد سطوعاً وتبني ملكاً ثابت الأساس، فرجالهما في حاجة إلى من يملك أسماع جمهور العامة بفصاحته الضَّافية، ويخلب ألباب قارئيه من الخاصة ببلاغته الصافية؛ وما حديث عبد الحميد الكاتب إلا شاهد ما نقول من أن دولة الكتابة كانت - ولا تزال - عماداً قوياً لدولة السياسة
قام أبو مسلم الخراساني بالدعوة العلوية أو العباسية وظهر في كثير من الأقاليم، وذاع أمره(229/49)
واستشرى خطبه، فأراد عبد الحميد أن يحاربه بكتبه لا بكتائبه، وأن يأسره بلسانه لا بسنانه، فكتب إليه على لسان مولاه مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية كتاباً يستصفيه وده ويستخلصه إليه، وقال لمولاه: قد كتبت كتاباً متى قرأه بطل تدبيره؛ فإن يك ذلك وإلا فالهلاك. ولكن أبا مسلم داهية الفرس ودهقانها وقائد خراسان ومحنكها لم يكن بالغر يلعب بعقله الأدب، وتشغله عن واجبه الكتب، فلم يعبأ بالكتاب ولا بالاه، بل أمر بإحراقه وتركه تذروه الرياح، وكتب على قطعة منه إلى مروان:
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب
في أعقاب عصر عبد الحميد وابن المقفع وأضرابهما وفي طلائع العصر الثاني الذي تحوّل فيه حال الكتابة وتبدل أمرها؛ إذ طغى العجم على العرب واستهتر الكتاب بالمجون والخلاعة، وصّيروا الكتابة أداة من أدوات اللهو، وسبباً من أسباب الدعة، وجعلوا لها من الأغراض ما للشعر وزيادة، أهلَّ أبو الفرج، وعلى لوائها أبو الفضل بن العميد، وقد فُتن ومن لاحقه باللفظ المبهرج والأسلوب المزخرف، فالعبارات موشحة مرصعة، والفقرات مجنسة مطبقة، وأنواع البديع في الكتابة كزهر الربيع إلا أنها لا تجيء عفو الخاطر أو ربيبة القريحة كما كانت قبلا، بل تأتي بكد ذهن وعصر مخ وإعمال فكر؛ أما المعنى فكانت له لدى كتاب هذا العصر المنزلة الدنيا، فالأفكار ضيقة، والأخيلة محصورة محدودة؛ لذلك سرى في الكتابة روح غير روحها الأول، وسار الكتاب وئيداً إلى غير النهج الأمثل. على أن ابن العميد ولداته ومنهم أبو الفرج لم يغلوا غلواً ممقوتاً، ولا تطرفواِ تطرفاً ممجوجاً، فعل من أتى بعدهم ممن سار على دربهم، فلم يصلوا إلى ما وصل إليه أسلافهم، فقد كانت أخيلة ابن العميد فارسية في حلة عربية، وألفاظه زائنات معانيه، ومعانيه درر كشفت عنها ألفاظه. ولقد ضرب به المثل فقيل: (بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد) وكأني بصاحب هذا المثل يريد أن يكسف شموساً أشرقت من بعده وفي عهده، وأن يخسف بدوراً سطعت على كثبه لا فضل له عليهم إلا أن الدنيا لم تسر في ركابهم، والملك لم يقف على بابهم. وهذا أبو الفرج سرى على ضوئه وارتشف من نبعه حتى روي؛ وسار في عدوائه وضرب، حتى بلغ غاية المتأمل، ووصل إلى مرتبة المتفضل. وسأعرض قطعة من غرر نثر ابن العميد ترسل إلينا قبساً من سناه، وتكشف لنا عن سمو نثره وعلاه،(229/50)
ثم أقدم بين يدي القارئ الكريم أخريات لأبي الفرج، وأترك الحكم للحاذق الفهم. ولا أظن أن الببغاء قصر كثيراً عن رئيس الكتاب سوى أن الدنيا أقبلت على الرئيس ابن العميد فمنحته محاسن غيره، وسلبت غيره محاسنه وأولته مثالب ومساوئ
كتب ابن العميد إلى أبي العلاء السرويّ وهو من أصفى خلصائه فالكتابة إليه في نهاية الجودة كما يقول الثعالبي (لصدوره عن صدر مائل إليه محب له مناسب بالأدب إياه) كتب إليه يشكو شهر رمضان وهو من الأغراض التي لم يحاك فيها سابقاً قال:
(كتابي - جعلني الله فداك - وأنا في كد وتعب منذ فارقت شعبان، وفي جهد ونصب من شهر رمضان، وفي العذاب الأدنى - دون العذاب الأكبر - من ألم الجوع ووقع الصوم، ومرتهن بتضاعف حرور لو أن اللحم يصلى ببعضها غريضاً أتى أصحابه وهو منضج، وممتحن بهواجر يكاد أوراها يذيب دماغ الضب، ويصرف وجه الحرباء عن التحنق، ويزويه عن التبصر يقبض يده عن إمساك ساق، وإرسال ساق:
ويترك الجاب في شغل عن الحقب ... ويقدح النار بين الجلد والعصب
ويغادر الوحش وقد مالت هواديها
سجوداً لدى الأرطى كأن رءوسها ... علاها صداع أو فواق يصورها
ومنها:
(وممنو بأيام تحاكي ظل الرمح طولاً، وليال كإبهام القطاة قصراً، ونوم كلا ولا قلة، وكحسو الطائر من دماء الثماد دقة، وكتصفيقة الطائر المستحر خفة. .
كما أبرقت قوماً عطاشا غمامة ... فلما رجوها اقشعت وتجلت
(و)
كنقر العصافير وهي خائفة ... من النواطير يانعَ الرطب)
وهي طويلة وفيما قدمنا منها غنية عما تركنا. وقد جلت لنا طريقته في الكتابة التي سلكها من عاصره ومن تابعه. ونعرض صوراً متنوعة من كتابة أبي الفرج علنا نؤدي واجبه كاملا دون تحيف أو تزيد
هنأ ممدوحه سيف الدولة بظفره في إحدى وقائعه فقال من كتاب طويل:
والشجاعة أقل أدواته، والبلاغة أصغر صفاته، تطرق الدنيا إذا نطق، وينطق المجد إذا(229/51)
افتخر، فالآمال موقوفة عليه، والثناء أجمع مصروف إليه، نهض بما قعدت همم الملوك عن ثقله، وضعف الدهر عن معاناة مثله، بهمم سيفية، وعزائم علوية، فرد شمل الدين جديداً، وذميم الأيام حميداً، بحق أوضحه، وخلل أصلحه، وهدى أعاده، وضلال أباده
فلا انتزع الله الهدى عز بأسه ... ولا انتزع الله الوغى عز نصره
وأحسن عن حفظ النبي وآله ... ورعى سوام الدين توفير شكره
فما تدرك المداح أدنى حقوقه ... بإغراق منظوم الكلام ونثره
لأن أدنى نعمة تستغرق جميع الشكر، وأيسر منة تفوت المبالغة في جميل الذكر، فأما هذا الفتح الشريف خطره، الحميد أثره، المشهور بلاؤه، الواجب ثناؤه، الباسق فرعه، العام نفعه، فأشرف من أن يحد بالصفات، أو يعد بأفصح العبارات)
وله من أخرى فيه أيضاً:
(شهاب ذكاء، وطود وفاء، وكعبة فضل، وغمامة بذل، وحسام حق: ولسان صدق، فالليالي بأفعاله مشرقة، والأقدار لخوفه مطرقة، تحمده أولياؤه، وتشهد له بالفضل أعداؤه
يقابلنا البدر من برده ... ويشملنا السعد من سعده
ولو فخر المجد لم تلقه ... فخوراً بشيء سوى مجده)
ولما مات سيف الدولة ولي نعمته كتب إلى عُدَّة الدولة يذكر له رغبته في خدمته وأن يطوي باقي أيام حياته تحت رحمته قال:
(ومن أبرز لسيدنا صفحة رجائه، ووفق للانقطاع إلى سعة نعمائه، فقد استظهر لما بقي من عمره، وحكم لنفسه بالفوز على دهره
فما يقدح الفقر في حاله ... ولا يطمع الدهر في قصده
وكيف وقد صار ضيف الغما ... م وهو قريب على بعده
ومن علقت بأبي تغلب ... يداه احتذى البدر من سعده
همام قضى الله من عرشه ... له بالإمارة في مهده
فطود السيادة في دسته ... وشمس الرياسة في برده)
وقد أجاب الأمير مسألته، وأناله مألكته، فكتب إليه من رسالة طويلة:
(أفصح دلائل الإقبال، وأصدق براهين السعادة - أطال الله بقاء سيدنا - ما شهدت العقول(229/52)
بصحته، ونطقت البصائر بحقيقته، ونعمة الله تعالى على الدين والدنيا بما أولاهما من اختيار سيدنا لحراستهما بناظر فضله، وسترهما بظل عدله، مفصحة بتكامل الإقبال، مبشرة بتصديق الآمال)
وفيها:
(للصدق كلامه، وللعدل أحكامه، وللوفاء ذمامه، وللحسام عناؤه، وللقدر مضاؤه، وللسحاب عطاؤه:
دعوته فأجابتني مكارمه ... ولو دعوت سوى نعماه لم تجب
وجدته الغيث مشغوفاً بعادته ... والروض بجنى بما في عادة السحب
لو فاته النسب الوضاح كان له ... من فضله نسب يغني عن النسب
إذا دعته ملوك الأرض سيدها ... طراً دعته المعالي سيد العرب)
هذه فقر مشرقة الديباجة مزهرة الرقعة، انتظمت الحسن كله، وضمنت الجمال جميعه، فهي على - حد تعبيرنا الحديث - الشعر المنثور، أو النثر المنظوم، والدر المنضود، أو السحر المرسوم أوحى به عقل أبي الفرج، وجرى به خاطره، فسجله الزمان في كتبه؛ وما استعرضناه من نثره يبيح لنا أن نقول:
إنه كان مغرماً بالسجع القصير الفقر الموشي الحبر، فالجناس يزينه، والطباق يجمله، هذا إلى الاستشهاد بالأمثال السائرة والأبيات الشاردة
وإني أرجو أن أكون قد وفيت ما إليه قصدت من تفصيل حياة رجل غمر غمره التاريخ وطواه. فإن أكن قد بلغت فللرسالة أكبر الفضل، وإلا فعلى رمضان بعض العتب، وما توفيقي إلا بالله قصرت أو أوفيت
عبد العظيم على قناوي(229/53)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
301 - الصوم في الليل
في (المِراح في المُزاح) شكى عيينة بن حصن إلى نعيمان صعوبة الصيام، فقال له: صم الليل. فروى أن عيينة دخل على عثمان وهو يفطر في شهر رمضان، فقال: العَشاء
فقال: أنا صائم
فقال عثمان: الصوم في الليل؟!
فقال: هو أخفّ عليّ
فيقال: إن عثمان قال: إحدى هنات نعيمان. . .
302 - ولا مناع أكل طعام
ابن قتيبة: قدم إعرابي على ابن عم له بالحضر فأدركه شهر رمضان، فقيل له: أبا عمرو، لقد أتاك شهر رمضان. قال: وما شهر رمضان؟ قالوا: الإمساك عن الطعام. قال: أبالليل أم بالنهار؟ قالوا: لا، بل بالنهار. قال: فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا: تضرب وتحبس. فصام أياماً فلم يصبر، فارتحل عنهم وجعل يقول:
يقول بنو عمي وقد زرت مصرهم: ... تهيّأ (أبا عمرو) لشهر صيام
فقلتُ لهم: هاتوا جرابي ومزودي ... سلام عليكم، فاذهبوا بسلام
وبادرت أرضاً ليس فيها مسيطر ... عليّ ولا منّاع أكل طعام
303 - أعمد لصومك واتركني وإفطاري
قال بعضهم: مررت بأعرابي يأكل في شهر رمضان، فقلت له: ألا تصوم يا أعرابي؟ فقال:
وصائم هبّ يلحاني فقلت له: ... اعمِدْ لصومك واتركني وإفطاري
واظمأْ فإني سأروى ثم سوف ترى ... من ذا يصير إذا متنا إلى النار؟
304 - أنا مثلك. . .
وجد يهودي مسلماً يأكل شواء في نهار من شهر رمضان فطلب أن يطعمه، فقال له المسلم: يا هذا إن ذبيحتنا لا تحل لليهود. فقال: أنا في اليهود مثلك في المسلمين. . .(229/54)
305 - فتوى
قال الربيع بن سليمان: كنت عند الشافعي فجاءه رجل برقعة فقرأها ووقع فيها، فمضى الرجل وتبعته إلى باب المسجد فقلت: والله لا تفوتني فتيا الشافعي، فأخذت الرقعة من يده فإذا فيها:
سل المفتي المكي هل في تزاور ... وضمّة مشتاق الفؤاد جناح
فوجدت الشافعي قد وقع:
فقلت: معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح
قال الربيع: فأنكرت على الشافعي أن يفتي لحدث بمثل هذا. فقلت: يا أبا عبد الله، تفتي بمثل هذا لمثل هذا الشاب؟ فقال لي: يا أبا محمد، هذا رجل هاشمي قد بنى على أهله في هذا الشهر - يعني شهر رمضان - وهو حدث السن، فسأل هل عليه جناح أن يقبّل أو يضم - وهو صائم - فأفتيته بهذا
قال الربيع: فتتبعت الشاب فسألته عن حاله، فذكر لي مثل ما قال الشافعي، فما رأيت فراسة أحسن منها
306 - شتان بين قرى وبين رجال
في (المحاسن والمساوئ) للبيهقي: نظر المأمون يوماً إلى ابنه العباس وأخيه المعتصم فابنه العباس يتخذ المصانع ويبني الضياع والمعتصم يتخذ الرجال فقال:
يبني الرجال، وغيرهُ يبني القرى ... شتّانَ بين قُرى وبين رجالِ
307 - أنظر كيف شئت
قال ابن سعيد المغربي: كان بنو حمود من ولد إدريس العلوي الذين توثبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس يتعاظمون ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس؛ وكانوا إذا حضرهم منشد لمدح أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم يتكلم من وراء حجاب. والحاجب واقف عند الستر يجاوب بما يقول له الخليفة. ولما حضر عبد الرحمن بن مقانا الغنداقي الأشبوني وأنشد إدريس بن يحيى الملقب بالعالي قصيدته النونية:
أَلبرْقٍ لائح من أندرين ... ذرفت عيناك بالماء المعين(229/55)
لعبت أسيافه عارية ... كمخاريق بأيدي اللاعبين
ولصوت الرعد زجر وحنين ... ولقلبي زفرات وأنين
وأناجي في الدجى عاذلتي ... ويْك لا أسمع قول العاذلين
عيّرتْني بسقام وضنى ... إن هذين لدين العاشقين
قد بدا لي وضح الصبح المبين ... فاسقنيها قبل تكبير الأذين
أسقنيها مُزّة مشمولة ... لبثت في دنها بضع سنين
مع فتيان كرام نجب ... يتهادَون رياحين المجون
شربوا الراح على خدِّ رشاً ... نوّر الورد به والياسمين
فلما بلغ إلى هذا البيت:
أنظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين!
رفع الخليفة الستر بنفسه وقال: أنظر كيف شئت. وانبسط مع الشاعر، وأمر له بإحسان. فكان هذا من أنبل ما يحكى عنه
308 - الحمرة التي تعلو وجهها من الحياء
في (الظرائف واللطائف) للمقدسي: قيل لبنت أرسطا طاليس: ما أحسنُ ما في المرأة؟
قالت: الحمرة التي تعلو وجهها من الحياء
309 - المقابلة
في (خزانة ابن حجة): المقابلة من أنواع البديع وهي التنظير بين شيئين فأكثر، وبين ما يخالف وما يوافق. ومن معجزات هذا الباب قوله تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله) ولأبي الطيب في مقابلة خمسة بخمسة:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وأخبرني مولانا قاضي القضاة الشافعي نور الدين الحاكم بحماسة المحروسة المشهور بخطيب الدهشة أنه كان بحماة يهودي يطوف بالحناء والصابون على رأسه ويقول: معي حناء أخضر جديد، وصابون يابس عتيق
310 - مضطر(229/56)
قال أبو سعيد السيرافي: رأيت متكلماً ببغداد بلغ به نقصه في العربية أنه قال في مجلس مشهور: إن العبد مضطَر بفتح الطاءَ، والله مضطِر بكسرها. وزعم أن من قال: مضطَر عبده إلى كذا بالفتح - كافر. فانظر أين بلغ به جهله، وإلى أي رذيلة أداه نقصه(229/57)
رسَالة الشِّعر
البلبل
للأستاذ إيليا أبي ماضي
يا أيها الشادي المغرد في الضحى ... أهواك إن تنشد وإن لم تنشد
الفنْ فيك سجية لا صنعة ... والحب عندك كالطبيعة سرمدي
فإِذا سكت فأنت لحن طائر ... وإذا نطقت فأنت غير مقلد
لله درك شاعراً لا ينتهي ... من جيد إلا صبا للأجود
مَرَح الأزاهر في غنائك والشذا ... وطلاقة الغدران والفجر الندِي
وكأن زورك فيه ألف كمنجة ... وكأن صدرك فيه ألف مردد
كم زهرة في السفح خادرة المنى ... سكنت على يأسٍ سكون الجلمد
غنيتها فاستيقظت، وترنحت ... وتألقت كالكوكب المتوقد
وجرى الهوى فيها وشاع بشاشة ... من لم يحب فإِنه لم يولد
وكأنني بك حين تهتف قائلاً ... للزهر: إن الحسن غير مخلد
فاستنفدي في الحب أيام الصبا ... واسترشديه فهو أصدق مرشد
واِستشهدي فيه، فمن سخر القضا ... ألا تذوقيه. . . وأن تستشهدي!
يا فيلسوفاً قد تلاقى عنده ... طرب الخلي وحرقة المتوجد
رفع الربيع لك الأرائك في الربى ... وكسا حواشيها بُرُود زبرجد
أنت المليك له الضياء مقاصر ... وتعيش عيش الناسك المتزهد
مستوفزاً فوق الثرى، متنقلا ... في الدوح من غصن لغصن أملد
متزوداً من كل حسن لمحة ... شأن المحب الثائر المتمرد
وإذا ظفرت بنغمة وبقطرة ... فلقد ظفرت بروضة وبمورد
تشدو وتبهت حائراً، متردداً ... حتى كأنك حين تعطي، تجتدي
وتمد صوتك في الفضا متلهفاً ... في ذلة المسترحم المستنجد
فكأنما لك موطن ضيعته ... خلف الكواكب في الزمان الأبعد
طوردت عنه إلى الحضيض فلم تزل ... متلفتاً كالخائف المتشرد(229/58)
يبدو لعينك في العقيق خياله ... وتراه في ورق الغصون المُيَّد
صوراً معددة لغير حقيقة ... كالآل لاح لمعطَش في فدفد
فتهم أن تدنو إليه وتنثني ... حتى كأنك خائف أن تهتدي!
وكأنه حلم يصح مع الكرى ... فإِن انتهيت من الكرى يتبدد
كم ذا تفتش في السفوح وفي الذرى ... عنقاء أقرب منه للمتصيد
يا أيها الشادي المغرد في الضحى ... أهواك إن تنشد، وإن لم تنشد
طوباك إنك لا تفكر في غد ... بدء الكآبة أن تفكر في غد
إن كنت قد ضيعت إلفك إنني ... أبكي على إلفي الذي لم يوجد!
إيليا أبو ماضي(229/59)
وحي جديد
للأستاذ سيد قطب
في خِفّةِ الطيْرِ ... في نضرة الزهرِ
لاقيتُها عَرَضا ... بسّامةَ الثغر
فتّانةً تُغرِي ... بالسحر والطهر
تهفو فتحسبُها ... لحناً هفا يسري
في لَفْتةِ الجيدِ ... في خَفقةِ الصدر
(تقسيم) موسيقي ... منغومةِ النّبْرِ
يا بسمةَ الفجرِ ... يا نفحةَ العِطْرِ
أسْكرتِ وجداني ... من لونك الخمرِي
ألهبتِ إحساسي ... بالشوق كالجمرِ
وهمستِ في قلبي ... وهتفتِ في صدري
وبعثتنِي أشدو ... للحُبِّ بالشعر
وكأنني روح ... تَقْفُو خُطا سحر
مفتونة ترنو ... للكونِ في سُكْر
والكونُ يشملها ... بالأنس والبشر
عَجَبي لما أَلْقى ... من لغزِك السِّحرِي!
وحيٌ يوسوس لي ... في السر والجهر
حوَّلتِ عمريَ من ... شطر إلى شطر
حبَّبْتِني، عجبا! ... في عيشةِ الوكر
قد كنتُ أرهبها ... كالنَّاب والظُّفْر!
وأخالها شركا ... في البر والبحر!
إذ كنت أدْمَغُها ... بالشك والغدر
فملأتِني ثقةً ... بجمالها المُغْري
ورسمتِ لي صورا ... لفراخِها الخضر(229/60)
تَزْقُو فنطعمها ... بحناننا النضر
ونَرِيشُ أجنحة ... من ريشها النّزر
فتطير هازجةً ... في جوِّنا الشعرِي
وتؤوب وادعة ... للعش كالطير!
يا فتنتي، هذا ... طيف من السحر
إن تأذني أضحى ... شطراً من العمر
فهبي لي روحا ... من رُقيةِ الثغر
هي قبلة تُمضي ... ما شئتِ من أمر
وكأنها قَدَرٌ ... بسعادتي يجري
سيد قطب(229/61)
رجاء نفس
للأستاذ خليل هنداوي
لا تيأسي يا نفس واعتزمي ... صبراً، فليس اليأس من خلقي
هذا مطاف المجد فانطلقي ... قُدُماً، وهذا العز فاستبقي
جارت على عصفور روضتنا ... هوجاء تخبط خبطة القدر
والآن جدد عشه فرِحاً ... واختال يبسم بسمة الظفر
النور في الآفاق ملتمع ... فتجلببي يا نفس بالنور
والأفق قد ضحكت مشارقه ... والسحب ترقص رقصة الحور
هذا الوجود صفت مشاربه ... فترنحي كالشارب الثمل
لنجدد الآمال ثانية ... ما أَوسع الأَيام بالأَمل!
عودي إلى دنياك ناشطةً ... نبني على الأنقاض والرمم
لم يوخ من أودي بمظهره ... للحي معنى اليأس والسأَم
أنا من إذا هدمَتْ بنى وإذا ... عبس القضاء بوجهه ابتسما
أنا من إذا سأَمٌ تعاورَنِي ... صيرتُ لهواً ذلك السأَما. . .
خليل هنداوي(229/62)
القَصصُ
من أساطير الإغريق
4 - خرافة جاسون
للأستاذ دريني خشبة
تتمة
أقلعت الآرجو وطفقت تطوي عباباً من بعده عباب، ولجة من ورائها لجة؛ وبدا الطريق كأنه يطول، والأفق كأنه يحلو لك، والسحب كأنما تتجمع من كل صوب لتنعقد فوق الآبقين بكنوز إيتيس وابنته وولي عهده. . .
ونمى الخبر المفزع إلى الملك فجن جنونه، وهب من فوره يعد أساطيله ليقتفي آثار جاسون، عسى أن يقبض عليه، ويعود بابنيه وأعز كنزه. . . وانطلق هو الآخر يطوي العباب، ويتواثب بأسطول فوق أعراف الموج، ووقف بين الملاحين يحضهم ويحرضهم، ويستحثهم ويشجعهم، حتى لاحت الآرجو لهم كالنكتة السوداء في حمرة الشفق، أو المطوّقة الورقاء في صحيفة الأفق، فضاعفوا الجهود وشدوا الأذرع، واستبقوا إليها من كل فج؛ وكانت سفينة الملك في المقدمة كالطائر الدليل يتبعه سائر السرب؛ ونظر الأرجونوت فأبصروا السفينة تنقذف فوق نواصي الموج نحوهم، فراحوا بدورهم يعملون المجاديف ويُهدْهِدُون الشراع للريح؛ وكلما اقتربت السفينة منهم خفقت قلوبهم وشاع فيها الذعر فجمد عليه ببرده. وكانت ميديا تنظر إلى مركب أبيها وترتعد فرائصها من الغَرَق. . . وفكرت في ألف حيلة وألف سحر، ولكن أفكارها ذهبت كلها أباديد، وبطل سحرها كله فهو لا ينفع ولا يفيد. . . واقتربت سفينة أبيها حتى صارت على رمية سهم. . . وأخذ أبوها المسكين يهتف بها وينادي، ويتوسل أن تعيد إليه ابنه. . . ابنه الأوحد. . . أبستروس. . . (ميديا! ابنتي! أنا أبوك! أتوسل إليك! ردي عليّ ولدي واذهبي أنى تشائين! إنه أملي في الحياة! إنه ولي عهدي وحافظ ذريتي! ميديا! أرسليه في زورق واذهبي أنت. . .!) ولكن الفتاة غَلّقتْ فؤادها وسدّت بالجحود سمعها! وا أسفاه! يا للقاسية! يا لبرودة القلب الذي لا يحس، والنفس التي لا ترحم؟ لقد أمرت ميديا بالفتى فأحضر إليها، ثم شحذت سِكّيناً وأغمدته في(229/63)
صدره، وتدفق الدم الحار. . . دم الشباب الفينان. . . يلطخ اليد الأثيمة المجرمة. . . اليد الشقية، يد ميديا التي طَوّعت لها نفسها المغلقة قتل أخيها، ثم تقطيعه إربْا. . .؟
ماذا خطر برأس الساحرة؟ أواه! لقد أخذت تمزق أخاها مِزَقاً مِزَقَا، وكلما اقتطعت منه شلْواً قذفت به في الماء، وأبوها المسكين المجنون يرى، فيضطر أن يتلبث عند الشلو لينتشله، ثم يتلبث عند الشلو الذي يليه. . . وهكذا دواليك، حتى انتشل آخر الأمر الرأس العزيز. . . الرأس الصغير الذي كان يبسم لأينع الآمال.، ويحلم بأجمل الأماني. . . رأس أبستروس. . . ولي العهد، والأمل المدّخر لأمة بأسرها. . .
لقد انتشر الظلام في عيني الملك. . . وغمر قلبه قنوط مر. . . وأمر الملاحين فطووا الشراع، وأخذوا يعودون أدراجهم إلى الوطن في بحر هادئ كله هم، وكله حزَن؛ وجلس إيتيس وبين يديه أشلاء ولده يغسلها بدموعه، ويخضبها بالدم الذي تذرفه عيناه
- (آه يا بني! أية فروة وأي كنز؟ ليتك خلصت لي بكل مُلكي! ميديا! غضبت عليك آلهة السماء يا عاقة! تبت يداك يا أغدر البنات! ألا ليت أمك لم تلدك. . .! أبستروس! رد عليّ أيها الحبيب. . .!) وهكذا ظل الملك المحزون يجتر أشجانه حتى عاد إلى الوطن!
ولكن جاسون ما خطبه؟! مسكين! لقد كان ينظر إلى ميديا وهو مأخوذ بما تصنع! ولقد حاول أن يمنعها من ارتكاب هذا الإثم. . . لكنها حدجته بنظرة آمرة كان يرقص فيها ألف جني، فسكت! وهل كان في وسعه أن يفعل شيئاً؟! أليس يذكر الحجر الواحد الصغير الأسود الذي أهلك جيشاً بأكمله؟ ورد عنه كيد ألف ألف مقاتل من المردة الجبابرة؟! بيد أنه عرف الآن ماذا كان يحجز بين قلبه وبين فم هذه المرأة الهائلة حين كانت تغمر خديه وجبينه بالقبل! لقد كان السر الرهيب المطوي في صحائف الغيب هو الذي يصون جاسون من مبادلتها حباً بحب وغراماً بغرام، وقبلاً حارة ملتهبة بمثلها!
وقد فكر جاسون في ملكه الضائع المغتصب، وفي أبيه الضعيف الطريد، وفي عمه الجبار العَتي، وفكر في قوة ميديا الخارقة، فآثر أن يبقي عليها عسى أن تنفعه. . . لهذا أظهر لها التودد، وتعمل في حضرتها البشاشة. . . حتى وصلت الآرجو إلى إيولكوس، حاضرة تساليا. . .
وحمل جاسون الفروة الثمينة، وقصد إلى عمه. . .(229/64)
وذهل بلياس. . . وجعل يحملق في الكنز العظيم الذي أتاه به ابن أخيه. . . وجعل يلمسه بيديه كأنه لا يصدق. . . ولكن كيف لا يصدق وهذا بريق الذهب يكاد يذهب سناه ببصر عينيه جميعا؟!
- (ترى ماذا صنع هذا الفتى حتى وسعه أن يقهر ملك كولخيس على هذا الكنز العظيم؟ إن الملك كان أحرص عليه من نفسه التي بين جنبيه؟ ألا كم هلك أناس طمعوا في فروة فركسوس؟ عجلا فلكان! وأرض مارس! وجيل بأكمله ينبت من أنياب التنين. . .؟ والأفعوان الهولة الذي يحرس الفروة؟ أَظفر جاسون - هذا الفتى - بكل أولئك؟ جاسون ابن أخي؟ عجيب وحق الآلهة. . .؟ بل أسأله، فلابد من سر في هذا الأمر. . .) وسأله، وتبسم جاسون، وراح يلفق قصة طويلة قذف بها الرعب في جوانح عمه، وظل يتغنى بشجاعته، ويصف ما كان من ظفره بعجلي فلكان، وحرثه الأرض الجبوب، وغرسه أنياب التنين، ثم هذه الحرب الزبون التي شبها عليه المردة وما كان من إفنائه لجموعهم، وتلك الملحمة التي قتل فيها التنين الرهيب الذي وكلت إليه حراسة الفروة العظيمة. . . ثم إنه لم يشر بكلمة إلى ميديا
وأكرم عمه مثواه. . . وكلما طلب إليه جاسون أن يتنزل له عن العرش، مطله وراوغه، وزخرف له الأماني. . . حتى أيقن جاسون أن عمه يعبث به، بل يدبر له غيلة يخلص له العرش من بعدها، ولا يعكر عليه صفو الحياة أيٌّ من تلاميذ شيرون!!
ولقي جاسون أباه، فراعه أن يرى كومة من العظام نخرها الكبر، وجللها المشيب، وأوهاها الحزن، وأوهنها الألم المتصل، وناءت تحت كوارث الزمان. . . وبكى جاسون! ولكن أباه انتهره وقال له: (أي بني ليس لرجل مثلك شب على فضائل شيرون أن يبكي! إنما يبكي النساء والمستضعفون من الرجال. على أنه ماذا يبكيك؟ ألا إن كان يبكيك اقتلاع أبيك من العرش فلهذا عهدت بك إلى أستاذك العظيم، وأحسبه قد ذكر لك ما كان من وصاتي له حينما عهدت بك إليه يهذبك ويؤدبك. . . ولقد أصبحت رجلاً شيخاً هالكا، أما أنت فمن صباك في إبان، ومن عنفوانك في ريعان، وأنت بالعرش أحق مني وأولى، وهو بك مني ومن عمك أليق، ولن أغفر لك قعودك عنه، وليس في تساليا إلا شعب يحبك، ورعية تلهج بالثناء عليك، فشمر عن ساعدك، واطلب حقك بالقنا يا جاسون)(229/65)
وذهب الفتى وقد اضطرم بين جنبيه جحيم من النقمة على عمه، فلقي أول من لقي ميديا
- ماذا، فيم أنت مقطب هكذا يا حبيبي؟
- لا شيء. . . لا شيء مطلقاً!
- لا شيء؟ وكيف؟ ألا تفهم ميديا ما في نفسك؟ حدثني ولا تخْفِ عليّ!
- لا شيء وحقك يا ميديا
- أوَ مُصرٌّ أنت على كتمان دخيلتك عني؟ إذن لقد كان أبوك يعظك!
- أجل! وبهذه المناسبة أريد أن أقول لك كلمة. . .
- قل يا حبيبي! تكلم يا جاسون!
- إن لك إلماماً تاماً بغرائب السحر، وعلم التعاويذ والرُّقَي ولقد نفعني علمك في أحرج مواقفي. . . ولن أنسى مساعدتك يوم لقيت عِجْلَيْ فلكان، وحاربت المردة، وقتلت التنين. . . إنما فعلت كل أولئك بمعونتك، ولي رجاء إليك. . .
- رجاء؟ أي رجاء يا حبيبي؟ إنما أنت تأمر. . .
- شكراً! ألا تستطيعين يا ميديا أن تردي الشباب إلى أبي؟ إنه رجل شيخ محطم، وإن الأيام لتنحدر به إلى القبر، كما تنحدر صفوانة من شاهق. . . فهل عزيز على علمك أن ترديه إلى ما ولى من الصبى؟. . . خذي من عمري فَصِلي عمره إن استطعت! أتوسل إليك يا ميديا أن تفعلي!. . .)
- اطمئن يا حبيبي فليس أيسر مما طلبت، وسأرده إلى ميعة شبابه بقليل من العناء. . . وسأزيد في عمره ما أحببت. . . على ألا تنقص سنوك شيئاً بل تزيد إن شئت؟!
لقد كان البدر تماً، والليل الفضي الجميل أروع ما ينثر لجينه على الطبيعة النشوانة، وكل ما في البرِّية نائما ساكناً، والعشب الحلو كان نائماً كذلك. . . وكانت ميديا تخطر كالشبح الأبيض بين الآكام وملء الأدغال حتى أتت إلى ربوة تشرف على كل ما حولها فصعدت فوقها. . . وتلبثت قليلا تفحص الطبيعة الرائعة في الأرض والسماء بعينيها الجبارتين ثم بدأت تتلو تعاويذها وتقرأ رُقاها. . . وترسل للنجوم صلاة سحرية كان يحملها الليل الصامت إلى أرجاء السماء وإلى القمر الحالم الساهم. . . ثم سبحت سبحاً طويلاً باسم هيكاتيه ربة السفل والسحر، وباسم تللوس ربة هذه الأرض العجيبة النائمة التي تنبت البقل(229/66)
والعشب لِما تعمل ميديا. . . وصَلَّت كذلك لآلهة الغاب والأنهار والبحار والغدران، ولآلهة الرياح والضباب والسحاب، وصلت لجميع الآلهة، ولم تفتر تطلق التعاويذ وترسل الرقي. . .
ثم سكتت. . . وصمت حولها كل شيء. . . حتى الرياح كتمت أنفاسها. . . ثم تشققت السماء فكانت وردة كالدهان. . . ثم انفتح فيها باب كبير من ذهب، وبرزت منه عربة عجيبة يجرها أفعوانان هائلان، فلم يزالا يطويان الرحب حتى كانا عند قدمي ميديا. . . وتقدمت الساحرة وهي تبتسم فركبت في العربة، وانطلق الأفعوانان يجرانها في الهواء، ويرفان بها فوق الوديان والغيران، وفوق قلل الجبال وهضاب الأرض، وفوق الغاب الساكن المستسر، وفوق الأنهار والبحار. . . وفوق كل شيء. . . حتى انتهت إلى آخر أقطار الأرض حيث تنبت الأعشاب العجيبة التي تنفعها في سحرها. . . وهناك. . . مكثت الساحرة تسع ليال بعيدة عن العالم تجمع العشب وتنتقي البقل ذا الأسرار؛ ثم ركبت عربتها وانسابت في الهواء حتى أتت بيت جاسون، فنزلت بحملها العجيب وعرج الأفعوانان في السماء. . .
وفي الصباح، فوجئ جاسون بوجودها فذعر ذعراً يشوبه شيء من التفاؤل بعودة الشباب إلى أبيه كما وعدت. . . وأمرت أن يخلي بينها وبين إيسون حتى لا ترى عين إلى ما تصنع، ولا تنكشف أسرار سحرها لأحد ما من العالمين. . . ثم إنها أقامت مذبحين عظيمين أحدهما باسم هيكاتية ربة السفل والسحر، والآخر باسم هيب ربة الشباب، وذبحت لكل شاةً سوداء فاحمة السواد، ثم صبت على دمائهما صلاةً للربتين من خمر ولبن. . . وتوسلت بعد ذلك إلى بلوتو رب هيدز، وإلى زوجه بروز ربين، ألا يعجلا بقبض روح إيسون. . . ثم بدحت نحو الرجل فتمتمت بِرُقْية أسلمته إلى نوم عميق، وأضجعته على فراش مهدته له من الأعشاب العجيبة التي حملتها من أقصى الأرض، وطفقت بعد هذا تخطر وتدور حول الجثة، وشعرها المتهدل يداعبه النسيم، وصدرها المنكشف ناهد نحو السماء. . . حتى إذا أتمت دورات ثلاثاً وقفت، وشحذت سكيناً ماضياً، وجعلت تشعل أعواداً من عشبها وتنظمها حول المذبحين. . . ثم تناولت إدَاوَتَها التي حفظت بها أعشابها ذوات الأسرار، وحفظت بها أزهاراً فيها من الرحيق السحري ما هو آية، وجعلت فيها من(229/67)
حجارة الشرق ورمال البحر المحيط، ومن البَرَد الذي جمعته أثناء رحلتها في ضوء القمر، وجعلت فيها رأس بومة وجناحيها، وحَوَايا ذئب، وبقايا من صدفة سلحفاة، ومزقاً من كبد غزال، ورأس غراب ومِنْسَره، وما إلى أولئك من آثار الحيوانات المعمرة؛ ثم صبت على ذلك كله ماء وتمتمت بكلمات، وأشعلت ناراً فجعلت عليها الإداوة بما فيها، وتركتها تغلي وتفور، وهي فيما بين هذا وذاك تعوّذ وتهمهم، وتتمتم وتغمغم، ثم تُقلب ما في الإداوة بغصن زيتون أملود. . . فما كاد السائل يفور حتى نمت في الغصن أفنان من الورق الأخضر، وحبات من الزيتون يكاد زيتها يقطر منها، وكلما نثرت منه على الأرض شيئاً نما مكانه عشب حلو أخضر كأحسن ما ينمو العشب في إبان الربيع!
ثم شحذت سكينها مرة ثانية، ثم أهوت على حلقوم الشيخ فقطعته، وتركت دمه ينبجس من الجرح الكبير حتى سال أجمعه؛ ثم إنها صبت من الإداوة في الجرح وفي الفم، كأنما تجعل منه مكان ما سال من الدم. . . وما هي إلا لحظة حتى دبت الحياة الفتية في جوارح الرجل المهدم المحطم. . . فهذا شعره يَسْوَدُّ ويصير فاحماً غربيباً. . . وهذا وجهه الجعد ذو الأسارير يمتلئ باللحم والدم، وهذا ظهره المحني يستقيم ويمتلئ قوة وعنفواناً، وهذا دم الشباب يجري في عروقه كقبل أن يكتهل، وهاهو ذا يثب كالغلام الأمرد السمهري، ويشب على إخمصيه كأرشق ما يفعل الصبيان!! وهاهو ذا الوجه يكتسي جمال العصر الخالي. . . ثم هاهو ذا جاسون يقبل من بعيد فينظر إلى أبيه وكأنه في حلم. . . ويعانقه ويهنئه. . . ويشكر ميديا. . . ويبكي!!
- أرأيت يا حبيبي؟ أليست لك حاجة بعد؟
- وكيف يا ميديا؟ إني مفتقر أبداً إلى واسع علمك، ومبين سحرك!
- أمهمة أخرى؟
- أجل يا ميديا! ألا ترين إلى والدي مطروداً من عرشه، وإليَّ يقتلني الحزن من أجل ذلك؟ ألا تصنعين شيئاً ينفعنا في ذلك؟
- ولم لا نقتل عمك؟ ألا يستحق القتل بعد كل هذه الجرائم؟
- أنا ضعيف يا ميديا. . . وهو رجل جبار وله جند. . .
- إذن أنا أكفيك مؤونة ذلك. . .(229/68)
وأخذ إيسون يجوب شوارع المدينة فيراه الناس، ويعجبون لهذا الشاب الذي تدفق في بردتيه، فيسجدون له وإن منعهم الجند وطاردوهم. . . وعلم بنات الملك بما رَدّت ميديا على عمهم من رونق الصبى، وما ألبسته من رواء الشباب. . . وكان أبوهم قد بلغ من الكبر، ورزح تحت أعباء الملك المغتصب، فوددن لو أتين له بميديا لتصنع معه ما صنعت مع إيسون. . . واتصلن بالساحرة، وأغرينها بالمال، فرحبت وقبلت مختارة أن ترد إلى أبيهن الصبى، حتى لا يغلبه على الملك إيسون ولا ولده جاسون. . . وأحضرت الإدواة بما وعت من عشب، ثم جيء لها بالشاة السوداء، ولكنها حين تمتمت بكلماتها السحرية، وكانت الإداوة تغلي بما فيها من سائل عجيب، قفزت الشاة فكانت في الإداوة، ثم قفزت منها فكانت حَمَلاً وديعاً جرى إلى السهول يرعى العشب. . . وطرب البنات حين شهدن آية السحر وإعجازه. . . ثم جيء بالملك وحراسه ليشهدوا. . . وأعطت ميديا كلا منهن سيفاً مسلولاً وتمتمت بكلمات فدارت الأرض برأس بلياس وصحبه وحراسه، فسقطوا وغطوا في سبات عميق. . . وأشارت ميديا إلى البنات أن يضربن بسيوفهن عنق أبيهن وصدره لتبدأ هي عملها. . . فتلكأن أول الأمر. . . ثم أطعن، وحركن أيديهن بالسيوف في ضعف وفرق فأحدثن به جروحاً أيقظته. . . فلما شهد بناته تأوه وتوجع وصرخ بهن: (ويلاه! بناتي يقتلنني!؟) وخافت ميديا أن يبطل سحرها فبدت في صورة إحدى بناته، واستلت سيفاً مرهف السنان وأغمدته في صدر الملك اللص. . . فمات إلى الأبد. . . وأغمض عينيه ليفتحهما في هيدز. . . وفي هيدز فقط. . .
وكانت ميديا قد هتفت بالآلهة فأرسلت إليها العربة التي يجرها الأفعوانان، وكانت قد فعلت فعلتها حين بدأ الفجر ينبلج، فركبتها ولاذت بالفرار قبل أن يكشف صنعها أحد!
سبحان مقلب القلوب!! إن كل هذا السحر لم ينفع ميديا! لقد كان قلب جاسون مغلقاً دونها برغم أنه بر بوعده فتزوج منها وأولدها أطفالاً أبرياء أطهاراً نقيين كالثلج!! لقد أحب جاسون الأميرة كروزا ملكة كورنث، وأحب هذه المرة حباً صريحاً لا يشوبه ذعر. . . ولا تعكره التعاويذ. . . ولا تتلفه رُقي السحر. . . وأعلنت الخطبة، فجن جنون ميديا. . . واسودت الدنيا في قلبها وعينيها. . . وهالها نكران جاسون لجميلها الذي ناله مثنى وثلاث ورباع. . . ولِمَ لا؟ أليست هي التي مهدت له سبيله إلى العرش؟ أليست هي قاتلة بلياس.(229/69)
إذن فالويل له!!
ودست إلى أميرة كورنثا ثوباً لو اجتمعت الجن والإنس لم تقدر على مثله؛. . . فلما كانت ليلة الزفاف، لبسته كروزا، ولكنها ماتت لساعتها! أواه! لقد كان الثوب مسموما. . . وكان ما به من سم يكفي لقتل شعب بأسره. . .
ولم تكتف الساحرة بذلك، بل شحذت سكينها، وأعادت مأساة أبستروس، فقتلت جميع أبنائها من جاسون. . . وأشعلت النيران في القصر الملكي. . . وفرت إلى أثينا على العربة السحرية لتتزوج من ملكها إيجيوس، ولتلقى ثمت مصرعها
دريني خشبة(229/70)
البَريدُ الأدبيّ
جائزة فاروق الأول لإحياء العلوم والفنون والآداب
أرسل حضرة صاحب السعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا وزير مصر المفوض في لندن إلى وزارة المعارف مذكرة يقترح فيها إنشاء جائزة مالية سنوية باسم (فاروق الأول) تمنح للمصريين المتفوقين في العلوم والآداب والفنون
وقد أحالت الوزارة هذا الاقتراح إلى لجنة لبحثه فأبدت طائفة من الآراء نشير إليها فيما يلي:
وافقت اللجنة سعادة المقترح على فكرة المباريات لما لها من الأثر الحسن في نهضة التأليف وإبراز ما يجول بخواطر العلماء والمفكرين من النزعات العلمية والفكرية، بعد أن انصرف الكثيرون منهم عن البحوث والدراسات لأسباب مختلفة؛ ولكنها تشترط في الكتب التي تقدم لهذه المباريات: أن تكون مثلاً صالحاً للابتكار، وأن تكون جديرة بإحداث الأثر المرجو؛ على ألا تكون هذه الكتب مترجمة ولا منقولة إلا ما يؤخذ من ذلك على وجه الاستشهاد أو الاقتباس
وتقترح اللجنة أن تكون الموضوعات التي تعرض في هذا السبيل سبعة: تاريخ الأدب المصري، والنقد الأدبي، وتاريخ مصر، والاجتماع والتشريع والاقتصاد فيما له علاقة بمصر. ومسائل التربية والتعليم وتطبيقها في مصر. والزراعة في مصر. والعلوم في مصر
وترى اللجنة أن تكون الكتب مطبوعة، وأن تنتظم لجان التحكيم فيها كبار العلماء والأدباء، على أن يتم اجتماع هذه اللجان مرة في كل عامين
ثم أقرت الرأي القائل: بأن تتوج الجوائز (باسم فاروق الأول) فيقال: جائزة (فاروق الأول لتاريخ الأدب المصري) أو جائزة (فاروق الأول للعلوم) وهكذا
وقد تقرر أن تعقد لجنة يرأسها وكيل وزارة المعارف وتضم الوكيل المساعد ومراقبي التعليم لدراسة هذه الآراء والمقترحات وإعداد تقرير عنها توطئة لإصدار تشريع خاص بذلك، لأنها ستكون جائزة رسمية للدولة
رامسي مكدونالد الكاتب والمفكر(229/71)
لما نعى المرحوم المستر رامسي مكدونالد السياسي البريطاني الكبير ورئيس الوزارة البريطانية الأسبق أفاضت صحفنا في استعراض حياته السياسية؛ ولكنها نسيت في حياته ناحية خطيرة هي ناحية التفكير والكتابة؛ ذلك أن مكدونالد كان كاتباً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً، وله في هذه الناحية آثار عديدة قيمة نذكر منها: (العمل والإمبراطورية) (سنة 1907)؛ (الاشتراكية والحكومة) (1909)؛ (يقظة الهند) (1910)؛ (الحركة النقابية) (1912)؛ (البرلمان والثورة) (1919)؛ (الاشتراكية الناقدة والمنشئة) (1921)، وغيرها
وقد كان مكدونالد كاتب الاشتراكية الإنكليزية ولسانها، وكتابه عن الاشتراكية الذي صدر لأول مرة في سنة 1921 ثم أصدره بعد ذلك في سنة 1924، وقت أن كان رئيساً لوزارة العمال الأولى، يعتبر من أقوم الكتب الإنكليزية التي صدرت في هذا الموضوع لا من الناحية العلمية والفنية، ولكن من ناحية أنه يعبر أحسن تعبير عن ميول الاشتراكية الإنكليزية ومثُلها. وقد كان مكدونالد مدى أعوام طويلة زعيماً لحزب العمال الإنكليزي وزعيم الحركة العملية الإنكليزية، والمعبر عن أمانيها ومثلها؛ وفي كتاب (الاشتراكية) يدلل مكدونالد بشروحه على أن الاشتراكية الإنكليزية لم تتقدم كثيراً في مثلها الاقتصادية والاجتماعية عن الاشتراكية الفابية أو الاشتراكية الإصلاحية، وإنها أبعد ما تكون عن روح الثورة الاجتماعية والاقتصادية التي ترمى إليها اشتراكية القارة الأوربية وتعمل لها. ولما تولى حزب العمال الحكم برآسة مكدونالد ظهرت هذه الحقيقة بصورة عملية في سياسة الحزب الداخلية والخارجية، وظهرت الاشتراكية الإنكليزية في صبغتها القومية العميقة. والخلاصة أن كتاب مكدونالد في (الاشتراكية) هو رسالة الاشتراكية الإنكليزية وحدها، وهو يعتبر من جانب أنصار الاشتراكية المتطرفة رجعياً في نظرياته وشروحه
جوائز نوبل
حملت إلينا الأنباء الأخيرة أسماء الفائزين ببعض جوائز نوبل لهذا العام؛ فقد منحت لجنة جامعة استوكهلم جائزة نوبل للكيمياء للعالم النرويجي كارلر والأستاذ هاويت الإنكليزي؛ ومنحت جائزة نوبل للعلوم الطبيعية للأستاذ وارسون الأمريكي والأستاذ تومسون الإنكليزي(229/72)
وفاز بجائزة نوبل للآداب، وهي في الواقع أشهر جوائز نوبل، الكاتب الفرنسي روجيه مارتان دوجار ومسيو دورجار من جيل الكتاب الشبان الذين ظهروا في عالم الصحافة بادئ ذي بدء، ثم نبهت أقلامهم في عالم الأدب؛ واشتهر بالأخص بفصوله الأخبارية الشائقة. وتنقل مسيو دوجار في دوائر الأدب، وتزعم جماعة من الكتاب الشبان الذين انضووا تحت لواء مجلة الأخبار الأدبية ولبث مدى أعوام مديراً لهذه الصحيفة الأدبية الهامة، ولم يتركها إلا منذ حين، إذ حل مكانه في إدارتها الكاتب ليفبر؛ وظهرت في مجلة الأخبار الأدبية بقلم مسيو دوجار فصول ومقالات شائقة كثيرة معظمها عن مشاهدات وسياحات، وكان منها عدة فصول نشرت عن مصر، ونالت استحساناً عظيما. وله غير مقالاته الصحفية العديدة كتب وقصص تمتاز بقوة العرض وطلاوة الأسلوب
ويلوح لنا أن دوائر ستوكهلم المشرفة على جوائز نوبل أضحت تميل إلى تقدير النوابغ من الكتاب الذين لم تهيئ لهم الظروف من الشهرة والمكانة ما يتفق مع عبقريتهم، ولم تعد تتقيد كما كانت في الماضي باختيار أولئك الأعلام الذين تربعوا في ذروة الشهرة والنفوذ، ومن ثم كان اختيارها لكتاب مثل إيفان بونين، ودوجار، لم يبلغوا - قبل فوزهم بجوائز نوبل - مكانة عظيمة من الشهرة في عالم الأدب فرفعتهم باختيارها إلى المكانة اللائقة بفنهم وعبقريتهم
كيف يشجعون الآداب والفنون
يظهر أن السويد قد وطدت العزم على أن تغدو أولى الأمم في حماية الآداب والفنون، فهي فضلاً عن جوائز نوبل الشهيرة التي تمنحها كل عام لعدة من أكابر العلماء والكتاب في مختلف الأمم، والتي تغدق بمقتضاها على الفائزين عشرات الألوف من الجنيهات كل عام، تضرب كل يوم مثلا جديداً في هذا الميدان.
وآخر ما انتهى إلينا من ذلك أن هبة جديدة قدرها مليون كرون (نحو 55 ألف جنيه) قد رصدتها دار النشر السويدية الشهيرة (ألبرت بونير) لتشجيع المؤلفين والفنانين، وذلك لمناسبة الاحتفال بعيدها المئوي. وقد أطلق على هذه الهبة (التذكار المئوي لألبرت بونير) وذلك تنويهاً بانقضاء مائة عام على صدور أول كتاب أصدرته هذه الدار؛ وخصص دخل هذا الاعتماد للمؤلفين والصحافيين الذين يكتبون باللغة السويدية والفنانين الذين يتولون(229/73)
التصوير للكتب؛ وندب لإدارته مجلس يتألف من ممثلي الواهبين، والصحافة، ودوائر الأدب والفن السويدية؛ ويجري توزيع الجوائز السنوية تحت إشراف الجامعة السويدية
وهكذا تضرب الأمة السويدية الأمثلة الرائعة على رفيع تقديرها لعبقرية الفكر وعبقرية الفن. وقد كان نوبل صاحب الجوائز العلمية والأدبية العظيمة من رجال المال والصناعة؛ وصاحب الهبة الجديدة، وهو الدكتور بونير من رجال المال والصناعة؛ ومع ذلك فإن أولئك الممولين استطاعوا أن يقدروا ما للآداب والفنون من الأثر العظيم في نهضة الأمم وفي ازدهار الحضارة
أما في مصر فإن الآداب لم تنل حتى اليوم تقديراً ولا تشجيعاً، لا من الجهات الرسمية، ولا من رجال المال؛ وما زالت فكرة الجوائز الرسمية لتشجيع التأليف تتردد منذ أعوام بين اللجان والجهات المختلفة دون أن تحظى بالتنفيذ العملي
محاضرات ألمانية عن الفن المصري
قرأنا في البريد الألماني الأخير خلاصة لبعض محاضرات يلقيها العلامة الأثري الألماني الدكتور جورج ريدر في همبورج عن أثر الفن المصري في تطور الفن اليوناني والفن الروماني. ومن رأي العلامة ريدر أن الفن المصري القديم بدأ من فجر التاريخ مستقلاً بنفسه منعزلاً عن غيره إلى نحو ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، ثم اتصل الفن اليوناني عندئذ بالفن المصري؛ ودلل المحاضر على نظريته بعرض صور مختارة من تراث مصر الفرعوني غير الآثار الفرعونية المعروفة. ومن قبل المسيح بنحو ثلاثة آلاف عام لبث الفن المصري كما هو ثابتاً في أساليبه وألوانه؛ فلما وقعت الصلة بين الفنين اليوناني والمصري تأثر الفن اليوناني بالفن المصري تأثراً كبيراً، ولبث هذا التأثير ظاهراً إلى ما قبل المسيح بنحو ثلاثة قرون، ثم تطور بعدئذ إلى أصوله وأساليبه الخاصة؛ ثم كان بعد ذلك تأثر الفن الروماني بالفن اليوناني
كتاب جديد عن مأساة التامبل
هذا كتاب جديد عن لويس السابع عشر وضعه المؤرخ الإنكليزي مورتون بعنوان ولي العهد وولي العهد هو الطفل لويس شارل ولد لويس السادس عشر وماري انتوانيت، وقد(229/74)
ترك وحيداً في سجن التامبل بعد قتل والده ثم والدته على نطع الجلاد؛ ولبث في سجنه الرطب القذر يلقى من حراسه أغلظ معاملة حتى مرض وأصابه انحلال مادي ومعنوي شديد. وهنا يسدل على مصير هذا الأمير الطفل حجاب كثيف، هل توفي في التامبل حسبما تؤكد الروايات المعاصرة والتقارير الرسمية؟ أم هل استطاع الملكيون أن يستبدلوا به طفلا آخر، وأن يمهدوا له سبيل الفرار إلى حيث شب وترعرع وقضى حياة مجهولة؟ هنا يضطرم الجدل وتكثر الروايات المدهشة؛ وهنا تبدو قصة الطفل الشهيد فصلا من أغرب فصول القصة. وفي أوائل القرن التاسع عشر انتحل كثيرون في مختلف الأنحاء شخصية الأمير، وزعم كل منهم أنه هو الطفل لويس شارل وأنه هو ولي العهد الفار، نجا من سجنه بأعجوبة، وكان أشدهم إلحاحاً في ذلك شخص ظهر في ألمانيا واسمه كارل ناوندورف، كان لمزاعمه صدى عميق ووصلت إلى القضاء الفرنسي. وفي عصرنا ظهرت روايات عديدة أخرى عن مصير ولي العهد قدمها إلينا مؤرخون مثل لينونز، خلاصتها أن الأمير الطفل فر من سجنه وسافر إلى بعض جزر الهند الغربية وتوفى هنالك في بعض المشاغبات المحلية. وفي الكتاب الجديد يسرد مستر نورتون كل هذه الروايات والقصص بأسلوب شجي مؤثر يطبعه طابع علمي رزين
السينما للأمهات
قامت شركة الفحم وغاز الاستصباح البريطانية بعمل جليل لا يمت إلى أعمالها بصلة، وهو وإن يكن من قبيل الإعلان عن نفسها إلا أن له قيمته الكبيرة وأثره في أوساط التربية ودور العلم. . . ذلك أنها عملت شريطاً سينمائياً لحياة الصغار في مدارس رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، وأنفقت عليه مبالغ طائلة من مالها الخاص فجاء آية للأشرطة التربوية، ومثالاً يحتذى. . . وقد عنيت الشركة بإظهار وسائل الحياة في مدارس الأطفال وتلك العلائق المحببة التي تقوم بينهم وبين المدرسات على المودة والمحبة والألفة والحرية التي لا حد لها. . . ويبدأ الشريط بعرض حياة الأطفال من وقت قيامهم من الفراش إلى أن يعودوا إليه، فلا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها. . . ولما كانت الحياة في رياض الأطفال مثالاً عالياً لما ينبغي أن تكون عليه تنشئة الصغار فقد اقترحت صحيفة (عالم المعلمين) على الشركة عرضه في منتديات السيدات ودور السينما والمجتمعات العامة،(229/75)
على أن يشهده فيها جميع الأمهات بالمجان، ليترك فيهن أثره المرجو، ولتضمن بريطانيا جيلاً جديداً ينشأ على وسائل علمية نيرة كان يجهلها الجيل القديم. ثم لتكون كل البيوت الإنجليزية بهذا العرض رياضاً للأطفال. . . ونحن بدورنا نقترح على وزارة المعارف عمل هذا الشريط التربوي الجميل ليعرض في طول البلاد وعرضها على الأمهات، ليقبسْنَ منه ويَقِسنَ عليه في تنشيء فلذات أكبادهن
الاحتفال بالذكرى الألفية لوفاة المعري
قررت وزارة المعارف السورية بمناسبة مرور ألف عام على وفاة أبي العلاء المعري إقامة مهرجان ألفي لإحياء ذكراه تدعى إليه مصر وجميع الأقطار العربية
وقد انتهت الحكومة السورية من وضع تصميم لبناء ضريح الشاعر الفيلسوف في مسقط رأسه (المعرة) من ولاية حلب
المرحوم العلامة كمبفماير
نعت أبناء برلين الأخيرة المرحوم العلامة الدكتور جورج كمبفماير المستشرق الألماني الكبير، ورئيس جمعية الدراسات الإسلامية الألمانية وأستاذ اللغة العربية سابقاً بمعهد اللغات الشرقية ببرلين. توفي في نحو الثمانين من عمره بعد حياة علمية حافلة أسدى فيها للمباحث الإسلامية والآداب العربية خدمات جليلة؛ وكان من طبقة المستشرقين الأكابر التي تنقرض اليوم أمثال نيلدكه وزاخاو وبيكر وغيرهم من زملائه وأصدقائه. وتخصص الدكتور كمبفماير في دراسة الآداب العربية، وتبع بالأخص تطورات التفكير الشرقي الحديث والثقافة العربية المعاصرة؛ وله في ذلك بحوث نقدية عديدة نشر معظمها في مجلة معهد اللغات الشرقية ولبث مدى أعوام طويلة ركناً من أركان معهد اللغات الشرقية، ولم ينقطع عن التدريس فيه إلا في الأعوام الأخيرة إذ تفرغ لدراساته وكتاباته في مجلة العالم الإسلامي التي كان يصدرها باسم جمعية الدراسات الإسلامية والتي قطعت إلى اليوم زهاء عشرين عاماً من عمرها
وفي سنة 1928 قام الدكتور كمبفماير برحلة دراسية في مصر وبلدان الشرق الأدنى، واشترك بعدئذ في وضع كتابين انتفع فيهما بهذه الدراسة: أولهما كتاب زعماء الأدب(229/76)
العربي المعاصر الذي وضعه بالإنكليزية مع تلميذه وصديقه الدكتور طاهر خميري الذي يقوم الآن بتدريس اللغة العربية في معهد همبورج الشرقي، والثاني كتاب (أين يتجه الإسلام) الذي وضعه بالإنكليزية عدة من أكابر المستشرقين، وتولى الدكتور كمبفماير كتابة القسم الخاص بمصر فيه؛ وكان للعلامة الراحل أصدقاء عديدون في مصر وجميع البلاد العربية، وكان بارعاً في كتابة العربية والتحدث بها. وسنوافي القراء في فرصة أخرى بدراسة مفصلة لحياة العلامة الراحل وآثاره
معرض لذكرى لورد بيرون
وضع أخيراً في إنكلترا مشروع لتخليد ذكرى الشاعر الإنكليزي الكبير لورد بيرون بصورة دائمة، وذلك بأن يقام في المنزل الذي كانت تملكه أسرة الشاعر في قرية (نيوستيد أبي) معرض دائم لتراث الشاعر ومخلفاته وكل ما يتعلق بحياته وشعره. وقد كان هذا المنزل الريفي الذي نشأ فيه الشاعر وأحبه أعز ما لديه، ولكنه اضطر إلى بيعه في سنة 1817 حينما سافر إلى اليونان ليدافع عن قضيتها الوطنية. وأخيراً قررت بلدية توتنهام شراءه من أصحابه الحاليين ووقفه لتخليد ذكرى الشاعر. وسيكون بين محتويات هذا المعرض الذي سمي (بمعرض بيرون) مجموعة كاملة من مؤلفات بيرون في طبعاتها المختلفة، ومخطوطات الشاعر، وأوراقه ورسائله، وأوراق أسرة بيرون كلها. وبين الخطابات التي تتألف منها هذه المجموعة خطاب مؤثر من خادم اللورد بيرون، وليم فلتشر، ينعى فيه سيده إلى أسرة الشاعر، ويصف وفاته في ميسو لونجي في إبريل سنة 1824
وقد صدر بهذه المناسبة فهرس قيم لآثار الشاعر وأوراقه وفيه وصف شامل لها: وبه أيضاً خلاصة وافية لحياة الشاعر ومذكرات مختلفة عن جوانب من حياته، وصور له ولزوجه وأمه وأخته وابنته
وهكذا يحظى الشاعر الكبير أخيراً بأثر حي يخلد ذكراه بصورة دائمة، وكانت هذه أمنية قديمة (لأصدقاء) بيرون والمعجبين بشعره وعبقريته وحياته الروائية المؤثرة
أثر تذكاري للشاعر الإنجليزي كيبلنج(229/77)
أقيمت في لندن وليمة شائقة احتفالاً بافتتاح العمل لإنشاء أثر تذكاري للشاعر الإنكليزي كيبلنج ترأسه الارل اثلون وكانت برفقته زوجته البرنسس أليس ابنة الدوق البني وحفيدة الملكة فكتوريا. وقد تليت أثناء الوليمة رسالة من الملك جورج السادس يظهر بها ارتياحه إلى اجتماع ممثلين من جميع أنحاء الإمبراطورية توطئة لإقامة تذكار مناسب لشاعر يعد نبوغه تراثاً لجميع المتكلمين باللسان الإنكليزي. وقد اشترك في هذه الوليمة ألف رجل وامرأة من المعجبين بأشعار كيبلنج في كل العالم. وقد تليت رسائل من رؤساء حكومات الهنود والدومنيون تمنوا بها النجاح لهذا المشروع الذي بلغت الاكتتابات المالية له حتى الآن 35 ألف جنيه(229/78)
العدد 230 - بتاريخ: 29 - 11 - 1937(/)
ثورة على الأخلاق
للدكتور عبد الوهاب عزام
يا أخي صاحب الرسالة!
أبلغ أخي محمودا الذي لا أعرفه هذه الكلمة عني:
(قرأت في الرسالة ما نقله الأستاذ الزيات من رأيك في مزايا الأخلاق والفضائل فهالني ما قرأت، وعزمت على أن أبادر بالكتابة إليك على ضيق الوقت وفتور الصيام. وكيف لا يرتاع من يسمع أن رجلاً من ذوي الأخلاق خاب ظنه فيها فثار عليها ويئس منها؟ فاقرأ يا أخي كلمتي ثم أبِن لي رأيك من بعد:
دخل أعرابي مسجد المدينة ورسول الله وأصحابه هناك فصلى ثم دعا فقال: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحدا) فضحك صلوات الله عليه وقال: (لقد حجّرت واسعاً يا أعرابيّ).
وكذلك أنت يا أخي قد حجّرت واسعاً حين خيّل إليك أن دائرة عملك التي (وسَّعتها بمقدار ما استلزمه هذا العمل من ملابسة الشعب ومراجعة الحكومة) هي الأمة كلها، وأن الأمة هي العالم كله، وأن العالم الحاضر هو الزمان كله. وإن شئت أن تقول إني لم أحجّر واسعاً ولكني وسّعت محجّرا فلك رأيك، والنتيجة في الحالين واحدة
أود قبل أن أناقشك في رأيك أن أعدّك موافقي، كما وافق صديقنا الزيات، على أن الخلق الفاضل سبيل إلى سعادة صاحبه وطمأنينته ما في هذا ريب، وأن الرجل الحرّ الأبيّ الفاضل يعيش في سعة من نفسه، وعزة من خلقه، ونعيم من وجدانه، لا يدركها أصحاب الجاه العظيم والثراء العريض ممن وجدوا كل شيء وفقدوا أنفسهم، وأن الحرّ الكريم يرى نفسه في عزتها وحريتها ورضاها فوق هذا العالم الذي تباع فيه النفوس رخيصة وتبذل فيه القلوب ذليلة، ويعدّ نفسه أسداً قوياً مهيباً قد ربض حجرة من معترك الذئاب ومُهتَرش الكلاب
إنما خلافنا في النجاح في المعايش ونيل الجاه والثروة؛ أسبيله الخلق القويم أم العمل الذميم؟ وإني أعجّل لك الجواب في قضية نتفق عليها لنفرغ لما بعدها فأقول: حق أن الرجل التقي الحرّ الأبيّ لا يرى إلى الجاه والمال إلا طريقاً واحدة هي الطريق التي يسنّها(230/1)
الحق والشرف والأباء والمروءة، وأن أمام الفساق والأذلاء والأدنياء طرقاً شتى من التلصص والكذب والتزوير والخداع والنفاق والملق والذلة والشره والظلم والقسوة والأثرة وهلمّ جرّا. وحق كذلك أن من الأحرار من يخفق في عمله حين يُلزم نفسه هذه الطريق الواحدة، ويقسرها على هذه المحجة الواضحة، وأن من العبيد عبيدِ المطامع والأهواء، ومرضى النفوس والأخلاق، من يظفرون في هذه السبل بما يريدون، ويبلغون الغاية التي يقصدون. ولست أجحد كذلك أن الجماعة قد تعتلّ فيكثر فيها المبطلون الظافرون، والمحقّون المحرومون. كل هذا يا أخي حق، ولكن استمع:
كثيراً ما يحرم الحر الصالح لعزوفه عن معترك المطامع وصدوفه عن الاتجار في أسواق الحياة، وتنكّبه السبل التي جعلتها سُنن الجماعة وسائل إلى الجاه والثروة. فليس إخفاق هؤلاء بأخلاقهم، ولكن بكبريائهم وتقصيرهم في اخذ الأهبة وإعداد العدة، على حين يتأهب الأشرار، ويجدّ الفجّار. فلا جرم يخفق أولئك ويُنجح هؤلاء، فإن للحياة قوانين وللمعايش سُنناً. والقرآن الكريم يقول: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يُبخسون.) ويقول: (كلاًّ نمد: هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظوراً.) ولكن إذا أخذ الرجل أهبته للعراك في الحياة وتسلّح بالخلق الطيب فلن يكون هذا الخلق سبباً إلى إخفاقه وسبيلاً إلى خيبته أبدا. ربما تعتلّ الجماعة فينتصر المبطل ويخذّل المحقّ، ويفتتن بهذا كثير من الناس، ولكن هذا لا يكن ديدنا. ثم علة الجماعة لا تدوم؛ وليست الجماعات كلها عليلة. وما تزال الجماعات منذ ألّفها الله وعلّمها وبعث فيها الهداة المرشدين، ووضع لها السنن أيْداً لأنصار الحق وعوناً لأهل الفضيلة، وخذلاناً لجند الباطل والرذيلة. مازال الصانع الذي يتقن صنعته، ويحسن معاملته ويصدق وعده، أنجح عملاً وأكثر مالاً من الصانع الكذاب سيئ المعاملة. ومازال التاجر الصادق في قوله، الأمين في فعله، الذي يقلّب تجارته على شرائع من الصدق والأمانة والقناعة والإخلاص، ولا يلبس على الناس الجيد بالرديء، والغالي بالرخيص - مازال هذا التاجر أربح متجراً واملأ يداً وأحظى برضا الناس وإقبالهم من التاجر الكاذب الغاشّ الشره المخادع. أترى في هذا ريباً؟ إن كنت في ريب فابحث كما تشاء واسأل من تشاء. ولا يزال المزارع الذي يزرع الأرض فلا يتزيد فيما أنفق عليها، ولا يسرق من زرعها، بل يصدُق مالك الأرض(230/2)
فيما أنفق وما جنى؛ ومستأجر الأرض أو الدار الذي يشق على نفسه ليؤدي الأجرة في حينها؛ لا يزال هذا وذاك أحب إلى المالكين وأظفر بما يريد
ولا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة موضع المودة والثقة. ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته؛ إن استقرض أُقْرض، وإن استعار أعير. له من ثقة الناس رأس مال لا ينال منه الخسار، وتجارة لا يدركها البوار. ربما يتَّجر في ألف وليس عنده إلا مائة، ويزرع عشرة فدادين وليس بيده إلا أجرة فدان واحد؛ ويستخدم في المتاجر والمصانع دون كفيل أو ضمين. سل يا أخي الناس في كل قبيلة، وطالع التاريخ في كل جيل
على أن الأمم في هذا مختلفات، والتاريخ درجات: أمة تسدّ الطريق على كل فاجر مخادع كذاب، وتؤثر بمالها وكرامتها كل برْ أمين صادق؛ وأمة يجد المخادعون فيها طريقاً ولكنها وعرة، ومذهباً ولكنه ضيق، ورواجاً ولكنه قليل؛ وأخرى تتسع فيها مجال الأشرار، وتروج فيها سوق الفجّار. ولكن لا تبلغ أمة من الفساد أن تسن في الرذائل سُنَناً، وتشرع في المخازي شِرَعاً تجعل الأشرار المخادعين فائزين حيثما ساروا، وتردّ الأبرار الصادقين خائبين أين توجهوا. مهما تشتد العلة فالخيبة أكثرها للأولين، والنجح أكثره للآخرين. فإذا أرادت تجعل الفساد سّنة فموتها دون الغاية، وزوالها قبل نهاية الطريق
أحسب يا أخي أن الذي لبس عليك الأمر لبساً، وملأ عليك العالم حزناً، وملأك على العالم سخطاً، أنك نظرت أول ما نظرت إلى دواوين الحكومة فرأيت جماعة من خفاف الأحلام صغار النفوس شالت كفتهم فارتفعوا، وآخرين من راجحي العقول كبار النفوس ثقلت موازينهم فنزلوا؛ فلما امتلأت نفسك أسفاً وأملك في الناس خيبة، نظرت إلى أنحاء الأمة ساخطاً متشائماً، فنفضت عليها هذا السواد، ونفثت عليها هذه الغضبة، واتهمتها بهذه التهمة
إن دواوين الحكومة أقرب المواضع إلى ما زعمت، وأكثرها تعرضاً لما وصفت. ذلك بأن الرزق فيها لا يُنال بالسعي والكد، والجهد والدأَب، والاحتكام إلى سنن الاجتماع وقوانين الطبيعة؛ ولكن الرزق فيها يُقسم بأيد قليلة، ويصرّف بآراء معدودة، فإذا فالت هذه الآراء، وطاشت هذه الأيدي، وقع الفساد، ثم شاع وعمّ حتى يبلغ أمده. وكثيراً ما تفيل الآراء وتطيش الأيدي بأهواء السياسة ومنازع التحزب؛ على أن هذا مهما كثر لا يبلغ أن يكون(230/3)
قاعدة العمل وسّنة الجزاء
ولا تنس يا أخي أن هذه الدواوين حديثة عهد بأيدي الأجانب ومن تربّى في عبوديتهم؛ وكانت سنة الأجنبي أن يرفع من استسلم إليه وتوكل عليه، ولا يكون هذا الاستسلام وذاك التوكل إلا احتقاراً للكرامة وازدراء بالخلق الفاضل؛ ونحن لا نزال في أول عهدنا بالاستقلال لم تهذبنا التجارب ولم تتمكن أيدينا من وضع القواعد الصالحة، وسن السنن القديمة، وإقامة الوزن بالقسط بين الناس أجمعين
فإن رأيت جوراً في الدواوين وظلماً بين الموظفين فهي علة زائلة. فلا تنشرها على الأمة كلها، ولا تمدها على الزمان جميعه. واعلم أن الظفر للحق والخيبة للباطل، وأن النصر للفضيلة والهزيمة للرذيلة، وأنها الغمرات ثم ينجلين، والعاقبة للمتقين. والسلام عليكم ورحمة الله
عبد الوهاب عزام(230/4)
النماذج والأفراد في الأدب
للأستاذ عباس محمود العقاد
أشرت في مقالي السابق إلى رأي (لونارد وولف) في كتابه (بعد الطوفان) وخلاصته أن الشعراء والقاصين كانوا يرسمون للناس قبل القرن السابع عشر نماذج من طوائف وجماعات، أما بعد القرن السابع عشر وانتشار الديمقراطية فقد أصبح أبطال القصص (أفراداً) مستقلة قلما تتكرر في غمار السواد. وعلاقة الديمقراطية بهذا التغير الواضح أن المساواة قد خولت الفرد حرية الظهور فبرزت الخصائص واستحقت من الشعراء والكتاب عناية لم تكن تستحقها حين كان الجمهور أرقاماً متكررة على نموذج واحد، أو حين كان النبلاء طرازاً مرسوم المراسم لا يختلف فيه إنسان عن إنسان
أشرت إلى هذا الرأي وقلت إنني سأعود إليه ببعض الشرح والتعليق في مقال آخر؛ وأظن أن تاريخ الآداب لا يفهم حق فهمه إلا بتجلية هذا الرأي وأمثاله والوقوف على مبلغ ما فيها من الحقيقة والتمييز بين الأدب القديم والأدب الحديث، لأن تاريخ الآداب إن هو إلا المعالم التي نميز بها عصراً من عصر وطريقة من طريقة وموضوعاً من موضوع، سواء أكان هذا الموضوع بطلاً موصوفاً في رواية أو قصيدة، أم كان عاطفة إنسانية يصورها الراوي والشاعر حسبما يراه
لقد كان اليونان يصورون الإنسان لأنه يستحق النظر إليه ويقولون: إذا كنت لا تجد من ينظر إليك فكيف تجد من يصورك؟ وعلى هذا كان تصويرهم مقصوراً على الجميل والنبيل والرائع والمشهور، وهي الصورة التي تسترعي الأنظار وتشغل الخواطر وتفعم النفوس بالفتنة والإعجاب
كان ذلك شعارهم في عالم التصوير الفني، فهل تغير اليوم هذا الشعار؟
لا. لم يتغير، ولم يزل من دأب القاصين والشعراء والرسامين والمثالين والكتاب المسرحيين أن يصوروا ما يستحق النظر، وأن يقولوا كما كان اليونان الأقدمون يقولون: إذا كنت لا تجد من ينظر إليك فيكف تجد من يصورك؟!
لم يتغير شعار الفن القديم، وإنما تغير الذين يستحقون النظر فأصبح الدميم والسقيم والوضيع والخامل مستحقين أن ينظر إليهم الناظر، وأن يبحث فيهم الباحث، وأن يتناولهم(230/5)
التشريح، وأن يتعلق بعرفانهم عرفان أخلاق الإنسان وأطوار الجماعات وأدواء الأجسام وآفات الضمائر، وأصبح الهمل المنبوذون أهلاً للدرس والفحص والمراقبة مذ أصبحت جثة الميت أهلا للعناية بها ومراقبة الأدواء والأدوية فيها. فإذا قال القائل الحديث: كيف تجد من يصورك وأنت لا تجد من ينظر إليك؟ فهو معبر عن رأي الأقدمين والمحدثين على حد سواء؛ ولكنه إذا سأل: من الذي يستحق النظر أو من الذي يستحق التصوير؟ فهنا يظهر الخلاف ويتبين الفارق بين شعار الفن القديم وشعار الفن الحديث
وقد أصاب (لونارد وولف) حين قرن بين هذا التغيير وبين الديمقراطية، وأصاب أكثر من ذلك حين قال: إن الأديان فتحت باب هذا التغيير حين عرفّت الإنسان أن له روحاً مستقلاً بحسابه، منفرداً بثوابه وعقابه، معدوداً أمام الله خلقاً لا يفنى في غمار الخليقة، ولا يزال له ميزانه وكتاب حسناته وسيئاته لا يختلط بميزان غيره ولا بكتابه
وتلك في الحقيقة هي أول خطوة خطاها الإنسان في إظهار (الفرد) وتمييزه من غمار الجنس كله أو الطائفة برمتها
فمنذ أصبح الإنسان (فرداً) معزولاً في حكم الدين، لا اختلاط بين حسناته وسيئاته وبين حسنات الآخرين وسيئاتهم، ولا التباس بين ثوابه وثوابهم وعقابه وعقابهم؛ هنالك أصبحت كل نفس بما كسبت رهينة، وأصبحت كل نفس حقيقة بالمحاسبة والإحصاء والمراقبة، ورسخت جذور الديمقراطية في التاريخ فلم يبق إلا أن تظهر لها على وجه الأرض فروع وأوراق وثمار
وغاية الفرق بين الفردية الدينية والفردية الديمقراطية أن حساب الدين إنما يكون في الآخرة فلا ضرورة لفرز الأفراد في هذا العالم الأرضي ولا لتمييزهم بالخصائص الدنيوية وما يتصل بها من الخلائق الاجتماعية والملامح الفكرية والأطوار السياسية
أما الديمقراطية فلا مناص فيها من التمييز بهذه المزايا ولا من فرز الناس على حسب ما يتراءى بينهم من فوارق الدنيا وعلامات الحياة وشياتها. ومن ثم بدأ التحليل النفسي بعد ظهور الديمقراطية ولم يبدأ تواً بعد ظهور الأديان؛ وكان من دواعي ظهوره مع الديمقراطية عدا ما تقدم أنها جاءت على أثر النهضة العلمية وعلى أثر انتشار العلوم والمباحث في أطوار الناس مجتمعين ومنفردين، فتيسر التحليل النفسي الذي لم يكن(230/6)
ميسوراً قبل ذلك في صدر المسيحية أو في صدر الإسلام، وأمكن التفريق بين الأفراد في الطائفة الواحدة والجنس الواحد، لأنهم من جهة قد ملكوا الحرية التي يبرزون بها خصائصهم ونزواتهم، وينطلقون بها مع أهوائهم ورغباتهم؛ ومن جهة أخرى قد وجدوا من يدرسهم ويطبق عليهم قواعد العلوم ويصوب إليهم مجاهر النقد والملاحظة. ولم تكن أسباب ذلك كله مهيأة عند ما جاءت الأديان بدعوة الفردية الدينية وجعلت كل إنسان (روحاً) له حسابه وكتابه وليس بالقطرة المنسية في الغمار
على أن العبقريات الرفيعة قد سبقت نهضة الديمقراطية إلى تمييز (الخصائص الفردية) على اختلافها ولو كانت في أوضع النفوس وأهونها وأبشع مياسمها. فكان المصور العظيم (ليوناردو دافنشي) يتعقب المشوهين والمسخاء في الطرقات ويغريهم بالخمر والمال، حتى يتكشفوا عن سرائر نفوسهم، ويخرجوا من حجاز الكلفة والمهابة، فيرقص منهم من يرقص، ويهذي منهم من يهذي، ويقهقه منهم من يقهقه؛ وتزداد بذلك بشاعة وجوههم وفسولة طبائعهم، وهو ناظر إليهم يترقب لمحة عارضة فيسجلها بقلمه دون أن يقطع عليهم مجانتهم وخلاعتهم. وكان شكسبير يصور عشرات النساء وكل واحدة منهن امرأة غير سائر بنات حواء في حبها وبغضها وحيلتها وكيدها وكلامها وسلوكها، حتى لا مشابهة بين صاحبة هملت وصاحبة عطيل وصاحبة مكبث وبنات الملك لير إلا في صفة الأنوثة التي تشمل جميع النساء
أما من عدا هذه الطبقة من العبقريين فأبطالهم كما قال (لونارد وولف) نماذج يشترك في صفاتها المئات والألوف، فحسن التاجر البصري مثلاُ هو تاجر كسائر التجار، وهو عنوان طائفة وليس بفرد من الأفراد، وكذلك عجيب وغريب وغيرهما من أبطال ألف ليلة وليلة، هم نماذج للفرسان والأمراء، وللأخيار والأشرار وللشيوخ والشبان، لا تحس فرقاً بين أحدهم وبين غيره من أبناء قبيله وعامة أقرانه وزملائه، ولا مشابهة بينهم وبين أبطال القصص الحديثة - ولاسيما التحليلية منها - حيث ترى البطل فرداً ليس بالمتكرر وليس بالشائع بين أبناء صنعته وإخوان طرازه، وإن شابههم في صفة من الصفات فبمقدار ما يستدعيه اتفاق الصناعة واتفاق البيئة دون أن يفنى معهم في الغمار أو يغيب وراء العنوان
يلوح لي أن هذا الرأي الذي أجملته وتصرفت في تفسيره بما أخلى المؤلف من تبعاته -(230/7)
هو على الجملة رأي صواب لا غنى عنه في نقد الفنون والآداب
ولكني أفضل أن أقول إن التحليل النفسي لم يكن نتيجة الديمقراطية وإنما كانت الديمقراطية والتحليل النفسي معاً نتيجة شيء آخر: هو انتهاء الكشوف الظاهرة وابتداء الكشوف الباطنة، أو هو انتهاء السياحات الجغرافية وابتداء السياحات النفسية الإنسانية
ففي الوقت الذي ظهرت فيه القصة التحليلية كان الإنسان قد فرغ من كشف الأرض ووصل إلى أقصى مجاهل العالم المعمور
ولم تكن هناك قصة تحليلية قبل كشف الهند وكشف أمريكا وكشف المجاهل الآسيوية والأفريقية
فلما كشف كل هذه الأصقاع ووقف حب الاستطلاع والتماس الغرائب، من هذه الناحية، بدأ الالتفات إلى دخائل النفس وأخذت غرائب الأخلاق في الظهور، وأخذت العناية بها والتوفر على درسها في التقدم والشيوع
لقد كان معظم الرواية القديمة رواية رحلات ورحالين وكان الإنسان مشغولا بكشف (المكان) الذي يحيط به ويغريه بسحره ووعوده ومجازفاته، فكان شغفه بالاستطلاع والإحاطة بالدنيا مستغرقاً كله أو جله في هذه الناحية، وكان أمامه من العالم شيء يستوفيه ويستكمله ولا يزال له متعقباً متأثراً حتى ينتهي به إلى مداه
ولم يكن مجرد اتفاق ولا مصادفة أن تمت الكشوف الجغرافية وبدأت الكشوف النفسية في عصر واحد، فقد فرغ الإنسان من كشف الظاهر فانقلب إلى كشف الباطن، وعرف العجائب من البقاع المجهولة، فانثنى إلى العجائب من الخلائق الخفية، وكان هذا هو الترتيب الطبيعي المعقول في تاريخ الكشف والاستطلاع، فإن الاهتداء إلى المكان أسهل وأوجب من الاهتداء إلى سرائر الأخلاق، والعلم الذي يحتاج إليه المرء في سياحة جغرافية أقل من العلم الذي يحتاج إليه في سياحات الضمير، إذ هو في الواقع ملتقى جميع العلوم ومشتجر الفلسفات والديانات والمذاهب أجمعين
لقد بدأت الديمقراطية وبدأ التحليل النفسي معاً بعد كشف الأمريكتين وكشف الهند وكشف المجاهل الآسيوية والأفريقية، ولولا انكشاف الأرض للإنسان لبقي مشغولاً بالمجهول منها عن سرائره وخصائصه وما يتميز به الأفراد من حقوق وواجبات(230/8)
عباس محمود العقاد(230/9)
الكتابة وحالات النفس
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كتب إليّ بعضهم يسألني: هل صحيح ما روته إحدى المجلات من أني لا لأكتب حديثاً للإذاعة اللاسلكية إلا قبيل موعده بوقت قصير، وأني إذا كتبته قبل ذلك بزمن طويل فالأغلب والأرجح أن أمزقه وأكتبه مرة أخرى؟ وما سبب ذلك أو داعيه؟
فأما أني أمزق شيئاً مما أكتبه - حديثاً كان أو مقالاً أو قصة - فغير صحيح، ولست أعرف أني راجعت كلاماً أكتبه أو عنيت به بعد أن أفرغ منه. فقد غدوت كالثور المشدود إلى الساقية وعيناه معصوبتان، حتى لا يدور رأسه من كثرة الدوران واللف، وكلما وقف يستريح صاح به صاحبه: (عا) ولمسه بالعصا أو السوط، فيتحرك الثور ويستأنف الدوران، لأنه أخف مؤونة وأسلم عاقبة من الوقوف. وكذلك أراني، في حياتي، وإذا كان الثور يدري لماذا يجشم عناء هذا اللف كله، فإني أدري لماذا تكلفني الحياة هذا الجهد. وليست على عيني عصابة وإني لأنظر بهما وأرى، ولكني لا أدرك ما وراء ذلك، وليس ثم سوط يلهب ظهري، ولا عصا هناك تقع عليه، ولكن الحياة تدفعني من حيث أشعر ولا أشعر، وللحياة وخز وحفز وإغراء محسوس وغير محسوس؛ ولعل الذي لا نفطن إليه أفعل وأقوى من الذي ندركه من وسائلها. وكثيراً ما أشعر أني مدفوع إلى الكتابة وأني لا أملك التحول عنها أو إرجاءها، وأني سأشقى وأسقم إذا لم أذعن لهذا الدافع الغامض، فأجلس إلى المكتب وليس في رأسي شيء سوى الإحساس العام الثقيل بالحركة وبأنها يوشك أن تتمخض عن خاطر معين أو خالجة بينة، ويكون القلم في يدي في تلك اللحظة فأخطط به على الورقة وأنا حائر، ذاهل، لا أحس ما حولي، بل لا قدرة لي على الإحساس بشيء مما يحيط بي إلا إذا حملت نفسي على ذلك حملا، وخرجت بها من ضباب الحيرة والذهول والسهو بجهد واضح، ثم تخطر لي عبارة فأخطها، وأنا لا أدري إلى أين تفضي بي، ويغلب أن يطول ترددي في البداية ثم يمضي القلم بعد ذلك بلا توقف ويستغرقني الموضوع وتستولي روحه عليّ، فلا يبقي لي بال إلى شيء، حتى إذا انتهى الأمر ونضب المعين ألقيت القلم والورقات ورحت أتثاءب وأتمطى كأنما كنت نائماً، ويكون هذا آخر عهدي بما كتبت في يومي(230/10)
وقد استعملت لفظ (التمخض) وأنا أعنيه، فليس ثم أدنى فرق فيما أعلم وأحس بين التمخض بالجنين، وبين حركة التوليد في النفس؛ وكما تفتر المرأة بعد أن تضع طفلها، ولا ينازعها في ذلك الوقت شوق إليه أو تحس فرحاً به، وإنما يكون إحساسها بالفرج بعد الضيق الذي كانت فيه والكرب الذي كانت تعانيه، والراحة بعد الجهد والمشقة والعذاب، والتفتير الذي يورثها إياه ما تجشمت، كذلك يكون الأديب بعد أن يستريح من أزمة النفس أو الفكر
ويخطر لي أحياناً أني كالمسافر الذي لا يذهب إلى المحطة إلا والقطار يوشك أن يتحرك، فما أراني أكتب إلا في اللحظة الأخيرة؛ وقد ألفت أن أرجئ الكتابة مادام في الوقت فسحة، وأحسب أنه لو وسعني أن أكف عن الكتابة لفعلت، فأني أوثر الراحة على هذا العناء الباطل، وبي مثل بلادة التلميذ الذي لا يذهب إلى المدرسة إلا محمولاً على ذراع الخادم، فليت من يدري أهذه عادة اعتدتها أم هي طباع وفطرة واستعداد؟ على أني أعرفني من المرجئين في كل شيء: الدَّين أفر من أدائه ما وسعني الفرار، والنوم أكره أن أستيقظ منه، والفراش يشق عليّ أن أترك نعيمه، واليقظة أستثقل أن أنزل عنها - كل حالة أكون فيها أشتهي أن تطول وتدوم، إلا التنغيص والألم كما لا أحتاج أن أقول
وقد جربت أن أكتب ولا انشر، فكتبت رواية (طويلة) ودسستها في درج المكتب، ومضت شهور، وسافرت إلى لبنان فحملتها معي لأراجعها هناك قبل طبعها، فلما أجلت فيها عيني وجدت أن الحالة النفسية التي كتبتها بها قد ذهبت، وأن حالة أخرى قد استولت عليَّ، فحاولت أن أستعيد تلك الحالة الأولى فأعياني ذلك، فأجريت القلم في الرواية بالتبديل والتغيير، والتقديم والتأخير، والحذف والاضافة، وإذا بالرواية قد صارت شيئاً جديداً فقلت لا بأس، وطويتها، وفي عزمي نشرها بعد الأوبة إلى مصر. فلما صرت في بيتي خطر لي يوماً أن أخرجها وأتصفحها، فإذا بي في حالة نفسية جديدة لا تسمح لي بالرضى عن الرواية في صورتها الثانية. . . فأعملت فيها القلم ومسختها مرة ثانية، ومازلت بعد ذلك أرجع إليها بالمسخ كل بضعة شهور حتى يئست فانتزعت منها فصولاً تصلح أن تكون قصصاً قصيرة ومزقت الباقي. وحمدت الله على الراحة بعد طول العناء. وأيقنت أنه خير لي ألاَّ أكتب إلا إذا وثقت من النشر بعد أن أضع القلم(230/11)
وأذكر أن بعضهم سألني مرة (أي كتبك أحب إليك؟) فلما قلت: (ولا واحد) استغرب جوابي وأنكره، وذكرني بأني قلت مرة إن هذه المفاضلة عسيرة لأن الكتب كالأبناء، والوالد لا تخفى عليه مزايا أبنائه وعيوبهم، ولا يجهل أن هذا ذكي وذاك غبي مثلاً، ولكنه مع ذلك يحبهم جميعاً على السواء وإن كان يعرف فضل بعضهم على بعض. وهذا صحيح، على الجملة، وفي الأغلب والأعم، ولكني رجل دأبي أن أراجع نفسي، ولا تنفك حالاتي النفسية تتغير، فنظرتي إلى الشيء وإحساسي به يختلفان من يوم إلى يوم. وثم أمر آخر هو ما يتمثل لي من صور الكمال وما يبدو لي في عملي من وجوه النقص والقصور، وليس لي حيلة إلا أن أقيس ما أخرجت إلى ما كنت أحب أن يكون، وإلا أن أحدث نفسي أنه كان في مقدوري أن أصنع خيراً مما صنعت، ولو كنت أعتقد أن هذا هو غاية ما يبلغه الجهد ويصل إليه الإمكان لرضيت وقنعت واغتررت، ولكني أحس أني أقدر على خير مما أفعل؛ وقد يكون هذا إحساساً كاذباً، كالجوع الكاذب، وقد يكون خدعة من خدع الغرور، فإن يكن كذلك فإنه ولاشك بلاء، ولكنه الواقع على كل حال. وما أكثر ما أسمع من يثنى على كتاب لي، فأتركه يثني فإن الثناء حبيب إلى النفوس، وأتعجب له فيما بيني وبين نفسي وأسألها: ماذا أعجبه يا ترى؟ أما لو أن رجلاً نقد نفسه. . .؟ وأزداد غرورا، وأشعر أني فوق هذا المادح. . . ولكني أتواضع وأقول له وأنا مطرق - ووجهي فيما أعتقد وأرجو مضطرم من فرط الحياء - (أستغفر الله! أستغفر الله! يا شيخ قل كلاماً غير هذا!) الخ الخ
فإذا كنت لا أكتب إلا قبيل أوان النشر بأوجز فترة فذاك لأني بليد ولأن نفسي تتعاقب عليها حالات مختلفة فأسخط على ما كنت أرضى عنه وأذم ما حمدت، واستضئل ما أكبرت، ولا حيلة لي في ذلك. وماذا أصنع إذا كنت أحس أني مسوق إلى جسّ نفسي وقياس قدرتها إلى ما ينبغي مما ترتسم صوره في نفسي وتتمثل لي في خواطري؟
إبراهيم عبد القادر المازني(230/12)
في سبيل الإصلاح
الحلقة المفقودة
للأستاذ علي الطنطاوي
نحن اليوم (في الشرق الإسلامي) في دور انتقال ليس له وضع ثابت، ولا صفة معروفة، فلا نحن نعيش حياة إسلامية شرقية كما كان يعيش أجدادنا، ولا نحن نعيش حياة غربية خالصة كالتي يحياها الأوربيون، ولكنا نعيش حياة مختلطة مضطربة متناقضة فيها ما هو شرقي إسلامي، وفيها ما هو غربي أجنبي، وفيها ما ليس بالشرقي ولا بالغربي، ولكنه منقول نقلاً محرفاً مشوهاً عن هذا أو ذاك. بل أنت إذا دققت وأنعمت النظر في حياتنا وجدت لها جانبين مختلفين، ولونين متباينين: الجانب الذي يميل إلى المحافظة، والجانب الذي يجنح إلى التجديد. وهذان الجانبان تلقاهما في كل عهد من عهود الانتقال في التاريخ؛ ففي مطلع العصر العباسي كنت تجد في بغداد المحدثين والزهاد والفقهاء كسفيان والفضيل وأبي حنيفة، وإلى جانبهم الفساق والمجان كبشار وأبي نواس، والمتعصبين للعربية والشعوبيين، ومن كل صفة زوجان، ولكل أمر ناحيتان، وكذلك كان شأن الرومان أول اختلاطهم باليونان
قف ساعة في أي شارع كبير في أي مدينة من مدن الشرق الإسلامي واعرض الأزياء، تر الإزار والعقال إلى جانب العمة، إلى الطربوش، إلى القبعة، إلى اللاطية. حتى أن أجنبياً وقف مرة هذا الموقف فظن أن القوم في عيد المساخر (الكارنفال). وادخل عشرة بيوت تجد البيت الشرقي ذا الصحن الواسع والإيوان المشمخر والبركة ذات النوافير، إلى جانب البيت الأوربي المسقوف المتداخل الذي لا ترى فيه السماء إلا من الشرف. ولج البيت الواحد تجد الغرفة ذات الفرش العربي: الأسرّة والمتكات والوسائد والبسط والنمارق، إلى جانب الغرفة الأوربية ذات المقاعد والمناضد. . . واعرض أهل الدار تجد بين الأب وابنه قرناً كاملاً في اللباس والتفكير والعادات. وفتش عن الأب المساء تَلْقَهُ في المسجد أو قهوة الحي، ثم انظر الابن تجده في أحدث مرقص أو أكبر ناد للقمار أو للتمثيل أو المحاضرات. وانظر إلى الأم المحتجبة المصلية الصائمة، وابنتها السافرة التي لا تعرف من أين القبلة، ولا تدري ما هو الصيام. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكنه تعداه إلى الثقافة والعلم(230/13)
وسائر الأمور التي تتصل بحياة الأمة اتصالا ماساً، فجعل فيها هذا الازدواج وهذا التناقض. اجتمع باثنين من المثقفين بالثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، تر الثاني ينكر المكتبة العربية جملة، ويجحدها مرة واحدة، وينبزها بالكتب الصفراء والثقافة الرجعية الجامدة، لا يدري أن المكتبة العربية أجل تراث علمي عرفه البشر وأعظمه، وأنها رغم ما أصابها من نكبات: منها نكبة هولاكو حين ألقى الكتب في دجلة حتى اسود ماؤه - فيما نقلوا - من خبرها، ونكبة الأسبان حين أحرقوا الكتب وفيها حصاد أدمغة البشر قروناً طويلة، ولبثوا ليالي يستضيئون بنورها إلى الصباح؛ ورغم ما أضاعه الجهل والإهمال لا تزال مخطوطاتها تغذي المطبعات في الشرق والغرب من خمسين سنة إلى الآن دأباً بلا انقطاع، ولا يزال فيها ما يغذيها خمسين سنة أخرى في ناحية من نواحي التفكير وفي كل فرع من فروع العلم
وتجد الأول ينكر العلم الحديث كله ويجحده بجملته ويعيش اليوم بعقل جدّه الذي كان قبل ثلاثمائة سنة، فلا علم عنده إلا علم العربية والدين والمنطق، ولا أدب إلا الأدب العربي، ولا كتب إلا هذه الحواشي والشروح التي لم تصلح أبداً حتى تصلح اليوم، والتي لا يتصور العقل طريقة في التأليف أشد عقماً منها، إذ تذهب ثلاثة أرباع جهود المدرس والتلميذ في فهم عبارتها وحل رموزها والربع الباقي في فهم مادة العلم التي لا يخرج منها التلميذ على الغالب بطائل
فرجالنا المثقفون وعلماؤنا بين رجلين: رجل درس الثقافة الإسلامية، ولكنه لم يفهم شيئاً من روح العصر، ولا سمع بالعلم الحديث، ورجل فهم روح العصر ودرس العلم الحديث، ولكنه لم يدر أن في الدنيا شيئاً اسمه ثقافة إسلامية. . . فمن أي هذين الرجلين ننظر النفع؟ لا من هذا ولا من ذاك، ولكننا ننظر النفع من الرجل الذي عرف الإسلام وعلومه، وفهم روح العصر وألم بالعلم الحديث، هذه الطبقة المنتظرة من العلماء، هذه الحلقة المفقودة هي التي يرجى منها أن تقوم بكل شيء، وهي التي سينشئها الأزهر المعمور ودار العلوم العليا، والمدارس التي شيدت لتجمع بين الثقافتين كالكلية الشرعية في بيروت، ودار العلوم في بغداد، وبنشئها من يتخرج في المدارس العليا والجامعات ويكون ذا ميل إلى الدين، ويكون له إلمام بعلومه(230/14)
من هذه الطبقة ينتظر النفع والفلاح، وعلى هذه الطبقة واجبات كثيرة يجمعها أصل واحد، هو دراسة الإسلام على أساس العلم الحديث واستخراج رأيه في مشاكل العصر، وحكمه في الأحداث التي لم يعرفها الفقهاء ولم تحدث في أيامهم. وأهم من هذا كله الآن استخراج القوانين الأساسية والحقوقية والجزائية من الفقه الإسلامي، بدلاً من أخذ القوانين الأجنبية برمتها وتطبيقها في البلاد الإسلامية التي انبثق منها أعظم تشريع عرف إلى الآن وأرقاه. وهذا العمل يبدأ بالدراسات العلمية الفردية ثم يصل إلى الغاية المتوخاة، وهي أن تتم إحدى الحكومات الإسلامية العمل الذي بدأته لجنة المجلة (مجلة الأحكام العدلية) لكن بمقياس أوسع ونسبة أكبر، فلا تتقيد هذه اللجنة بمذهب واحد من المذاهب الأربعة، بل لا بأس أن تأخذ بعض الأقوال من مذهب آخر، ولا تقيد بالمذاهب الأربعة بل لا بأس أن تأخذ بقول لبعض الأئمة الذين اندثرت مذاهبهم، كالثوري والأوزاعي والليث والبطري والظاهري، إن صح مستند هذا القول، ولا تتقيد أيضاً بهذه الأقوال بل تجتهد كما اجتهد الأئمة، وتأخذ الأحكام من الكتاب والسنة رأساً، وأن تبحث عن المصلحة التي يقتضيها النص، فإن الشريعة ما أنزلت عبثاً، والأحكام لم تشرع لغواً، ولكن لكل حكم مصلحة. ومن دقق في اجتهادات الخلفاء الراشدين وجد أنهم يدورون مع المصلحة أينما دارت. هذا عمر رضي الله عنه علم أن المصلحة المرادة من إعطاء المؤلفة قلوبهم سهماً من الزكاة إنما هي تقوية الإسلام وإعزازه، فلما حصلت المصلحة وعز الإسلام أسقط سهم المؤلفة وهو منصوص عليه في القرآن الكريم. وهذه مسألة طلاق الثلاث بكلمة واحدة كان يقع واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر، فرأى عمر أن المصلحة (في أيامه) في إيقاعه ثلاثاً فأوقعه مع أن الآية صريحة في أن الطلاق مرتان (وقد عادت المصلحة اليوم في إيقاعه طلاقاً واحداً والرجوع إلى الأصل المعروف من الكتاب والسنة). وعطل عمر حد السارق في عام المجاعة. وهذا عثمان جمع الناس على حرف واحد من حروف القرآن، مع أن القرآن أنزل على سبعة أحرف لأن المصلحة تقتضي هذا الجمع. وهذا عليّ حرّق وهو يعلم حكم الله في القتل لأنه رأى المصلحة في هذا العقاب البليغ. والحكومة الإسلامية التي يؤمل منها تحقيق هذا المشروع العظيم هي مصر وحدها، لأنها الحكومة الإسلامية الكبرى، ولأنها وحدها التي ينص دستورها على أن(230/15)
دينها الرسمي الإسلام، ولأن فيها الملك المسلم التقي فاروق أعز الله به الإسلام، ولأن فيها الأزهر المعمور وفيها العلماء، ولأن فيها اتجاهاً إسلامياً قوياً ظهر في السنين الأخيرة، ودعوة قوية إلى استبدال القوانين الإسلامية بالقوانين الأجنبية
ولو أني وجهت هذه الدعوة قبل عشر سنين مثلا لعرضت لها المعارضة من ناحيتين: ناحية المشايخ الجامدين، وناحية الشباب الجاحدين. أما الأول فلأنهم كانوا يعتقدون أن الاجتهاد سد بابه إلى يوم القيامة، وأن الفقهاء لم يدعوا شيئاً إلا بينوا حكمه مع أن المسألتين مردودتان، لأن سدّ باب الاجتهاد معناه الحظر على الله أن يخلق مثل أبي حنيفة، وهذا محال. ومادامت الأرحام تمتلئ، والنساء تلد، فليس مستحيلاً أن ينشأ مجتهدون وأئمة ونابغون يفوقون الأولين - ولأن الفقهاء وإن بذلوا الجهد، وفرضوا في كثير من المسائل أبعد الفرضيات، وبينوا حكمها، فإن من البديهي أنهم لم يتكلموا في المسائل التي ظهرت الآن ولم يعرفوها. وإذا كان الإمام الشافعي قد غير رأيه في أكثر مسائل المذهب، حين انتقل إلى مصر، ورأى أفقاً جديداً، حتى صار له مذهبان قديم وجديد، فلم لا يتغير الرأي في كثير من المسائل، وقد تغير العالم كله، وتبدلت الدنيا، والإسلام صالح لكل زمان ومكان، والأحكام تتغير بتغير الأزمان؟
أما الشباب الجاحدون فقد كانوا يعارضون هذه الدعوة لأنهم كانوا ينفرون من كل ما يتصل بالإسلام، أو يمتّ إلى الدين بسبب، ويموتون عشقاً لأوربة، ولكل ما له علاقة بأوربة
أما الآن فقد اعتدلت الطائفتان، فلم يبق على وجه الأرض عالم مسلم يقول بسد باب الاجتهاد، ويدعي أن الفقهاء لم يتركوا شيئاً كان أو يكون إلا بينوا حكم الله فيه؛ ولم يبق في الشباب المتعلمين (والمثقفين حقاً) من ينفر من الدين، ويفزع من اسمه، بل إن العقلية العربية (ولاسيما في مصر) قد اتجهت نحو الإسلام اتجاهاً قوياً ملموساً؛ فعلماء مصر، وطلاب مصر، ورجالات مصر، مؤيدون للإسلام متجهون إليه، وهذا مما يسر، ويبعث الأمل في نشوء هذه الحلقة المفقودة، وإنجاز هذه الواجبات كلها
والمسائل التي تحتاج إلى نظر وبحث واجتهاد كثيرة لا أستطيع الآن - ولا أريد - أن أستقريها كلها، ولكني أمثل لها بأمثلة قليلة قريبة
هذا رمضان قد جاء. أفلا يجب إعادة النظر (مثلاً) في مسألة ثبوت الهلال؟ أليست هذه(230/16)
الطريقة المتبعة اليوم في أكثر البلدان الإسلامية مؤدية إلى الفوضى الظاهرة والنتائج الغريبة المضحكة؟ ألم تمر سنوات ثبت فيها رمضان في بعض البلدان الإسلامية السبت، وفي غيرها الأحد، وفي أخرى الاثنين. . . إلى الأربعاء فاختلف ابتداء رمضان، من السبت إلى الأربعاء، وهو يبدأ في الواقع في يوم واحد؟ ألا يبدو هذا مخالفاً لجوهر الدين؟
أنا لا أدعو إلى بدعة جديدة، فقد تكلم الفقهاء في هذه المسألة، فمن فقهاء الحنفية من قال بأن رؤية الهلال في قطر توجب الصيام على الجميع، فلماذا لا نتخذ مرصداً منتظماً في إحدى البلدان الإسلامية، ثم تذاع نتائج رصده على البلدان الإسلامية كافة فيعمل بها؟ أنكون بذلك مخالفين أو مبتدعين، والفقهاء قد قالوا بهذا؟
ومن فقهاء الشافعية كالقفال والرملي وابن سريج من قال بالأخذ بالحساب، والاعتماد على العلم الثابت، فلماذا لا نأخذ بهذه الأقوال، ونحن في عصر ترقى فيه العلم، وصار يعرف موعد الخسوف مثلاً، بالدقيقة والثانية، ويثبت خبره عياناً، أفلا يعرف موعد ولادة القمر وظهوره؟
إن الاعتماد على الشهادة في رؤية الهلال ينتج أموراً عجيبة، من ذلك أن جماعة من قرية دوما شهدوا عند القاضي بدمشق أنهم رأوا الهلال، وأثبت القاضي رمضان اعتماداً على شهادتهم، فقال عمي الشيخ عبد القادر الطنطاوي (وهو شيخ انتهى إليه الآن علم الفلك الإسلامي في الشام) قال للقاضي: إن هذه الشهادة كاذبة وإن الهلال لا يمكن أن يرى الليلة الثانية، فضلاً عن الأولى. وذهب مع القاضي وجماعة من وجه الشام إلى دوما، وأحضر الشهود، ووقف معهم في المكان الذي زعموا أنهم رأوا منه الهلال في الجهة عينها، والساعة ذاتها، وسألهم: أين الهلال؟ فلم يروا شيئا. ثم قال واحد: هاهو، فقال الجميع: هاهو، فأخرج عمي نظارة مكبرة وأراهم، فإذا الذي رأوا غمامة طولها متران، انقشعت بعد ثوان!
وقد حدث مثل هذا كثيراً. سمعت من مشايخي، ولم أر ذلك في كتاب، أن أنس بن مالك رضي الله عنه شهد عند شريح القاضي أنه رأى الهلال، فقال له: هلم أرنيه يا عم. وذهب معه، فقال: هاهو. فنظر شريح وهو الشاب الحديد البصر، فلم ير شيئاً وأنس يقول: هاهو. . . فنظر شريح فإذا شعرة من حاجب أنس بيضاء متدلية يراها فيحسبها هلالا. . .(230/17)
فأزاحها فلم يعد يرى شيئا
ومنها مسألة الطلاق، لقد بلغت مسألة الطلاق حداً لا يجوز السكوت عنه، ولابدّ من إعادة النظر فيها. وشرع قانون لها يؤمن المصلحة العامة، ويحقق غرض الشارع
يكون الرجل في السوق يبيع أو يشتري، فيحلف بالطلاق على أمر، فتطلق امرأته وهي في دارها، ويتشرد أولادها، وتنهدم دار على رؤوس أهلها؛ أو يغضب من أمر فيحلف بالطلاق، مع أن الذي أفهمه أنا أن الزواج عقد يعقد قصداً يراد به ضم حياة الرجل إلى حياة المرأة، وأن الطلاق عقد مثله يراد به حلّ العقد الأول، ولا بأس أن يكون حلّ العقد بيد الرجل وحده ولكن لابدّ من ثبوت القصد، وأعني بالقصد أن يطلق الرجل وهو يفكر في معنى الطلاق ونتائجه، ويقصد فك الرابطة الزوجية فيجب أن يكون القصد شرطاً في وقوع الطلاق، ويجب أن نجد طريقة مادية لإثبات القصد، كأن يشترط تبليغ الزوجة الطلاق بواسطة موظف مخصوص ينصبه القاضي فإن طلق رجل وهو قاصد من غير واسطة هذا الموظف، يقع الطلاق ديناً، ولا تسمع به الدعوى
هذا وأنا لا أجتهد في هذه المسألة ولكن أدعو إلى الاجتهاد فيها ودرسها
وهناك مسائل كثيرة، لا أعمد الآن إلى استقصائها
متى وجدت هذه الحلقة المفقودة درست هذه المسائل كلها، فحققت حاجات العصر وأجابت مطالبه، ولم تخرج على أصول الإسلام، ولم تخالف قواعده، ودرست الإسلام من كافة النواحي العلمية والفنية والاجتماعية، فإن درسنا الحقوق الأساسية العامة، درسنا الحقوق الأساسية في الإسلام، وإن بحثنا في الاشتراكية بحثنا عن رأي الإسلام في الاشتراكية، وإن انقطعنا إلى التاريخ درسنا التاريخ الإسلامي درساً حديثاً، وإن اشتغلنا بالفلسفة درسنا تاريخها في الإسلام، وحكم الإسلام في نظرياتها ومسائلها. . .
عند ذلك يمحى هذا الازدواج، وهذا التناقض من حياتنا، ونحيا حياة كاملة قد اصطبغت كل ناحية فيها بالصبغة الإسلامية وهذا هو مثلنا الأعلى الذي يجب أن نطمح إليه. . .
(دمشق)
علي الطنطاوي(230/18)
مقدمة حضارة العرب
لغوستاف لوبون
للأستاذ خليل هنداوي
قد علم قراء كتبنا الأولى هذا الكتاب الحديث، وعلموا أننا بعد انتهائنا من درس الإنسان والمجتمعات ينبغي أن ننصرف إلى درس تاريخ الحضارات!
كان كتابنا الأخير (الإنسان والمجتمعات) مختصاً بوصف الأشكال المتتالية للأشكال الطبيعية والعقلية عند الإنسان، والمواد المختلفة التي تتألف منها المجتمعات. ولقد أوضحنا في ذهابنا إلى أقصى العصور الغابرة كيف تألفت الجماعات الإنسانية، وكيف تولدت الأسرة والمجتمعات، وجميع أصناف الفنون والمعتقدات، وكيف استحالت هذه المظاهر خلل العصور، وكيف كان مبدعو هذه الاستحالات!
وبعد أن درسنا الإنسان المنعزل وحركة المجتمعات، يجب علينا لكي يتم غرضنا الذي قصدنا إليه أن ندرس الحضارات الكبرى بحسب هذه المناهج التي عرضناها
أجل! إن المشروع واسع، ومشاكله كبيرة. لا نتكهن إلى أي مدى نستطيع أن نصل به. ونحن نريد أن يأتي كل كتاب من هذه الكتب كاملاً مستقلاً حتى إذا استطعنا أن ننجز الثمانية أو العشرة - بما يتم هدفنا به جاء عمل تصنيفها ودرس الحضارات المختلفة عليها أمراً يسيراً!
وقد بدأنا بحضارة العرب لأن حضارتهم جلتها لنا رحلاتنا وعرفتنا بهم تعريفاً حسناً؛ وحضارة العرب هي من الحضارات التي كمل سيرها، وظهر فيها تأثير المؤثرين ممن جربنا أن نحدد عملهم ونعين تأثيرهم، وهي تعد من الحضارات التي يشوق تاريخها ومع ذلك لبثت مهملة
إن حضارة العرب تسيطر - منذ أثنى عشر قرناً - على القطر الواسع الذي يمتد من شواطئ الاطلانطيك إلى البحر الهندي، ومن شواطئ البحر الأبيض حتى رمال أفريقية الداخلية، والشعوب والقبائل التي تسكنه تدين بدين واحد وتنطق بلسان واحد، وتتلقن تعاليم واحدة، وفنوناً واحدة، وهم يؤلفون جزءاً من المملكة
إن النظر نظراً شاملاً إلى مظاهر هذه الحضارة عند الشعوب التي سيطرت عليها، وأتت(230/20)
بالمعجزات التي غادرتها في الأندلس وأفريقيا، وفي مصر وسوريا، وفي فارس والهند: هو نظام لم يجرب بعد! والفنون ذاتها التي يرتكز عليها صميم الحضارة العربية لم تخضع بعد لهذا الدرس الشامل! وأولئك المؤلفون القليلون الذين دنوا من وصفها كانوا يقررون أنها ناقصة، ولكن خطأ أدلتهم وأسانيدهم حال بينهم وبين تجريبها. ومن الحق الذي لا ريب فيه أن مشابهة العقائد قد رمت إلى توطيد قربى قوية الوشائج في مظاهر فنون هذه الأقطار المختلفة الخاضعة للإسلام، ولا يقل عن هذا وضوحاً أن اختلاف الذريات والبيئات يجب أن يولد تبايناً واختلافاً كبيرين. فما كانت هذه المجانسات؟ وما كانت هذه الاختلافات؟ والقارئ الذي يطلع على هذه الصفحات المختصة من كتابنا بدرس فن العمارة والفنون، سيجد أن العلم الحاضر لم يعط جواباً على هذه الأسئلة!
وكلما توغلت في درس هذه الحضارة رأيت النتائج قد اتسعت والأفق قد فسح مداه، وعلمت أن القرون الوسطى لم تعرف تاريخ الأجيال القديمة إلا بواسطة العرب، وأن الجامعات في الغرب لبثت طوال خمسة قرون تتهافت على كتبهم في الرياضيات والمباحث العقلية والأخلاق. هؤلاء هم الذين مدنوا أوربا وعمروها بأنوار الحضارة؛ وعندما يدرس دارس آثارهم العلمية ويقف على اكتشافاتهم يجد أنه لا شعب أنتج ما أنتجوه في عهد قصير الأمد، وعندما نمتحن فنونهم نعلم حق العلم أنهم كانوا يملكون مقدرة على الإبداع لا تعلو عليها مقدرة
إن أثر العرب - على عظمته في المغرب - كان أعظم تأثيراً في الشرق ولم يعرف التاريخ عن شعب تأثيراً مثله بلغ قوته وروعته فالشعوب التي سيطرت على العالم من آشوريين وفرس ومصريين ويونان ورومان قد توارت بين أطواء الأجيال وثنايا العصور، ولم تغادر وراءها إلا ركاماً! أما دياناتهم ولغاتهم وفنونهم فقد بادت ولم يبق منها إلا ذكريات. والعرب قد تواروا بدورهم كما توارى أولئك، ولكن عناصر حضاراتهم، تلك العناصر القوية من دين ولغة وفن لا تزال حية. وهناك عدد يربو على مائة مليون (يبدو للقارئ أن إحصاء المسلمين بهذا العدد إحصاء مغلوط) يتوزعون بين المغرب والهند لا يزالون قائمين على تعاليم الرسول
فاتحون كثيرون اقتحموا الغرب وما سمعنا بفاتح واحد أراد أن يستبدل حضارة بالحضارة(230/21)
التي أنشأها العرب، وكل هؤلاء الفاتحين قد اعتنقوا ديانتهم، وقبسوا منهم فنونهم، وأخذ جلهم لغتهم، وإن شريعة هذا الرسول - وإن تزعزعت في بعض مواطن - لشريعة يشبه أنها قامت لتكون ثابتة إلى الأبد. ففي الهند قد جرفت في طريقها ديانات بلغت من الكبر عتياً، وحولت مصر القديمة الفرعونية بأسرها إلى مصر العربية، وهي البلد الذي لم يؤثر فيه الفرس واليونان والرومان إلا قليلاً! والشعوب الهندية والفارسية والمصرية والأفريقية كان لها معلمون وهداة غير خلفاء محمد، ولكنهم منذ اعتنقوا شريعة هؤلاء الخلفاء ثبتوا عليها ولم يستبدلوا بها ديناً
حقاً إنها لمعجزة في التاريخ، معجزة هذا المأخوذ الرائع الذي أخضع صوته هذا الشعب الجموح الذي أعجز الفاتحين نضاله لاسم تزلزلت منه أقوى المماليك، وهو اليوم تحت أطواء لحده يخضع ملايين الناس لشريعته
إن العلم الحديث ينعت هؤلاء العظماء، ومؤسسي الديانات بالمأخوذين وللعلم الحق في هذه النظرة إذا توخينا محض الحقيقة ولكن يجب احترام هؤلاء. لأن روح جيل ما، وعبقرية شعب ما مرتبطان بهم، وسلالات كثيرة ضائعة في ظلام العصور إنما تتكلم بألسنتهم. إن هؤلاء المبدعين للمثل العليا لا ينشئون في الحقيقة إلا أخيلة، ولكن هذه الأخيلة المشكوك فيها هي التي أبدعتنا على هذا التقويم. وبدون هذه الأخيلة لم تستطع أية حضارة أن تحيا! وليس التاريخ إلا قصة الحوادث المتممة يقوم بها الإنسان ليخلق مثلا أعلى يعبده أو يجربه!
والحضارة العربية أنشأها شعب فيه ما فيه من ريح البربرية، خرج من ظلمات الصحراء العربية واقتحم معاقل الفرس واليونان وحصون الرومان وألف مملكة واسعة تمتد حدودها من الهند حتى الأندلس وأبدع هذه الآثار الرائعة التي تثير في روع كل ناظر عوامل العجب
فأي خالقين عملوا على إنشاء هذه الحضارة وهذه المملكة في بدء نشأتها؟ وما كانت علة هذه الرفعة وعلة هذا الانحطاط؟ إن العلل التي تمرس بها المؤرخون جاءت في الحقيقة ضعيفة واهية، وإن مذهباً من مذاهب التعليل لا يمكن امتحانه امتحاناً حسناً إلا إذا جرى تطبيقه على شعب كهذا الشعب(230/22)
قد ولد الغرب من الشرق، وفي الشرق يجب أن نطلع على مفتاح الحوادث الماضية، إذ على سطح هذه الأرض العجيبة تهيأت الفنون واللغات وأكثر ديانات البشر. ورجالها اليوم ليسوا كرجال الأمس، لقد تبدلت الأفكار غير الأفكار والعواطف غير العواطف، والأطوار تمشي فاترة بطيئة بحيث إذا أقبل عليها الدارس استطاع أن يقف على سلسلة تلك الأعمار المطوية! فالفنانون والعلماء والشعراء يتكررون دائماً. . . كم مرة جلست إلى ظل نخلة أو فيء جدار أحد الهياكل مستسلماً إلى أخيلة طويلة تنتابني مفعمة بأخيلة ذلك الماضي المتواري، أتنهد تنهداً خفيفاً، وفي الأعماق الشاعة تتعالى مدن غريبة تتوهج قصورها وأعمدتها ومناراتها تحت سماء ذهبية. وتجوز قوافل البدو والجماعات الآسيوية ذات الألوان البراقة، وطوائف العبيد ذات الجلود البرونزية والنساء المحجبات! لقد اندثرت اليوم أكثر هذه المدن القديمة. (نينوى ودمشق والقدس وأثينا وغرناطة وممفيس وطيبة ذات المئة باب) قصور آسيا وهياكل مصر عفاها القدم وآلهة بابل وسوريا والكلدان وشواطئ النيل لم يبق منهم إلا ذكريات، ولكن كم من أشياء مستورة في هذه الخرائب! وكم من أسرار مبثوثة يجدر سؤال هذه الذراري عنها! من أعمدة (هركول) إلى سهول آسيا الخصبة القديمة، ومن شواطئ بحر (ايجه) الأخضر إلى رمال الحبشة المحرقة
يُحمل كثير من التعاليم والعقائد من هذه الأقطار الشاسعة ويضيع فيها أيضاً كثير من المعتقدات، ودرسها يرينا كم عمق هذه الهوى التي تفصل بين الناس، وإلى أي مدى يذهب وهم أفكارنا في الحضارة الإنسانية، والإخاء الإنساني، ويبدي لنا الحقائق والمذاهب التي يخال أنها مجردة مطلقة كيف تتبدل في الحقيقة من بلد إلى بلد
هنالك أسئلة كثيرة تعرض للمتأمل في تاريخ العرب، وأكثر من درس نحفظه، فإن هذا الشعب هو خير شعب حرر ذراري الشرق على اختلافها من ذراري الغرب. إن أوروبا لا تعرف عن هذا الشعب إلا قليلا، وإنما يجب عليها أن تعمل على معرفته لأن الساعة دانية حيث ترتبط مقدراتها وحظوظها بمقدراتهم وحظوظهم!
إن الخلاف بين الشرق والغرب اليوم عظيم حتى لا يرجى أن يقبل أحدهما تفكير الآخر، ومجتمعاتنا القديمة تتحمل تطورات عميقة، فمراحل العلم السريعة والصناعة قلبت قواعدنا الطبيعية والأخلاقية، والنزاع الحاد في جسم المجتمع، والألم الشامل الذي يدفعنا دائماً إلى(230/23)
تبديل تعاليمنا لكي نعالج الأدواء الاجتماعية التي تنشأ عن التطور ذاته، منها خطأ التوفيق بين العواطف القديمة والعقائد الجديدة، وإبادة الأفكار التي نشأ عليها الأقدمون. هذا ما يحف بالغرب الآن، فنظام الأسرة والمنزل والدين والأخلاق والإيمان كله يتغير أو سائر في طريق التغير، والأصول التي عشنا عليها حتى الآن قد وضعتها المذاهب العصرية تحت المناقشة! وما سوف يخرج من العلم الحديث لا يستطيع أحد أن يفوه به! الجماعات تهيم اليوم وراء تعاليم بسيطة تؤلفها من نظرات سلبية غريزية، ولكن نتائج هذه السلبية لم تستشفها بعد نظراتها. هنالك الوهيات جديدة حلت محل ألوهيات قديمة، والعلم الراهن يجرب أن يذود عنها، فمن ذا يستطيع القول بأنه سوف يذود عنها في المستقبل؟
أما في الشرق فالحالة مباينة لما هي عليه في الغرب. فبدلاً من أقسامنا وأسباطنا وبدلاً من حياتنا المتوقدة نرى الشرق يعيش في وسط تسعده السكينة والراحة العميقة. وهذه الشعوب التي تؤلف بعددها أعظم نوع في البشرية قد بلغت منذ زمن طويل هذا الاستقرار الهادئ الذي يقال أقل ما فيه انه صورة السعادة. وهذه المجتمعات القديمة قد صانت من صلابتها ومتانتها ما فقدته مجتمعاتنا، والإيمان الذي فقدناه مازال الشرقيون يعتصمون به، والأسرة التي بدأت تتحول وتتشقق - عندنا - لا تزال ثابتة صلبة عندهم، والمذاهب التي أضاعت كل تأثير عندنا لا تزال مسيطرة عليهم، والدين والأسرة والتعاليم وسلطة التقاليد والعادات وكل القواعد التي جاءت بها المجتمعات القديمة والتي تقوضت دعائمها في الغرب نراها حافظت على ملامحها في الشرق، والأمر الأعجب فيها أن الشرقيين لم يفكروا في تبديل هذه القواعد أو انتقاء سواها
خليل هنداوي(230/24)
صورة
المولد الأحمدي
للأستاذ إبراهيم بك جلال
خرج أهل القرى جماعات وقوافل من أسفل الأرض ومن صعيدها فكانوا أسراباً يتعاقب بعضهم على آثار بعضه، يزحمون السبل المعبدة وأشباه السبل، قد شمر الرجل عن ساقيه، وبسط على الساعد قضيباً تناط به صرة جافة، وإلى يمينه آخر ينوء كاهلاه (بغرارة) من تلك الأقراص، وثالث به رمق من سعة يوهم جاريه أن تحته مطية ويظل يحرك ساقيه كلما تحركت المطية
أما المرأة فتضن بخفيها على البلى فتجمعهما على أم رأسها فإذا أوفت على المدينة آوت إلى الخفين تمشي فيهما حجلا
وغالب هذا الحجيج مشاة حفاة سرابيلهم من أسمال ومظاهرهم فاقة ومسكنة، نفروا خفافاً متوسمين فضلة الموائد ونهلة من طعام الحضر وحلواه
وفيهم صنوف وألوان من أهل الطريق تنم عليهم تلك القلانس وما يتدلى من عذباتها، وبأيديهم أعلام مصبغة، وحولهم صنوج تدق وطبول تدوي كأنصار المهدي يوم فتح السودان. فإذا غربلهم ناقد خرج ببضعة نفر من أهل العلم والتقى قدموا حسبة وقربى لله يذكرونه في تقى وخشية، ويتعففون عن قرابين هذا العيد، طعامهم أقراص وتمر، ومضاربهم مقفرة من زهو الدنيا، مهادهم بواري بسطت على أديم الأرض يؤثرون بها الزائر فيحل بين أدب واتضاع وعلم
أولئك هم مصابيح الدجى، وأعلام الهدى لمن كانت هجرته لله ورسوله
وفي المدينة دعة وجاه، ونسق جميل ومصابيح وبنود تخفق فوق الدروب وبأيدي الناس، وترى السوق المفضية إلى كعبة هذا الحجيج قد ترامت فيها السلع أكداساً على المناكب وفي الحوانيت، وفيها القمص والجوارب والنعال والأكسية والقلانس والجباب، ويليها عرائس الدمى المزوقة، والدفوف الموشاة، والأساور والأقراط والخلاخل والعقود والمرايا، وكل طلي تحبه بنات القرية وبنوها، ويلي ذلك باعة الحلوى والحمص جاثمين على الموائد يلوحون بالجواليق(230/25)
ويجوس الخلال باعة الشراب يدقون الكؤوس، وبين هؤلاء وأولئك يندس جماعة السراق يفترصون الغرات ويفرون بأسلابهم
وللمتسولة جنود أهل بأس يرودون الأسواق والمضارب والمشارب كالذباب حول الموائد ولهم أديم من معدن الصفاقة وجلد على هوان النفس في المسألة
وإن تلك الجموع الزاخرة من أهل القرى لتحوم حول كل متجر ويمنعها الإملاق من أن تمد له يداً حتى لكأنها الحرب الضروس بين العرض الملح وبين تنحي الناس وإعراضهم وكأنما أقيمت مناحة للكساد موتاها سلع البلاد
وتبلدت ألوف الدهماء في مواقفها فنثرتها سياط الشرط بدداً ثم جمعتها يمنة ويسرة، وكلت المناكب بباب المسجد، وعز الولوج لغير السواعد وأهل البأس، وإنك لتحس بين الضجيج أنات لأضالع وأعناق تدق ثم تنجلي عن شيوخ وغلمان ونسوة يزخرون بين الصحن والرواق وحول المحاريب ولهم دوي كألسنة الرعود لا يرعون جانب الله وما ينبغي لحرمة بيته من سكينة وخشوع فيحملون على الأكف كل أبرص ومجذوم ومعتوه. ويلوذون بأشباه الرجال ذوي الأزياء المنكرة من التمائم والمسابح ويرفعون عقائرهم بالرجس والإثم عدواناً على هذا الدين الحنيف، وإيلاماً لذلك التقيِّ المغيب في آزال الله وكرامته
وعند باب الضريح طائفة من السدنة من أهل الخطر والعزة في الرقيق الموشى من الديباج وعلى تيجانهم سمات الحسب العالي يرمقون صفوف العواد والزائرين حين يلجون الباب وحين يعرجون، ولهم آذان مرهفة لترتيل آيات الذهب والفضة في خزائن النذور
لقد كان النبي صلوات الله عليه جد هذا السيد البدوي يدعو لشد الرحال إلى ثلاثة: إلى بيت الله الحرام، وإلى الحرم المدني، وإلى بيت المقدس بغير مزيد
فما أشد وجيعة ذلك السبط الهاشمي، وأهل مصر يتخذون قبره مثابة للناس. وما أبعد الوجيعة في قلوبنا معشر آل بيت النبي
إبراهيم جلال(230/26)
ليلى المريضة بالعراق
للدكتور زكي مبارك
- 1 -
أخي الأستاذ الزيات
تحيتي إليك وإلى السامرين في نادي الرسالة من كرام الأصدقاء. وتحيتي إلى القاهرة التي لا تقع فيها العين إلا على نجم أزهر أو كوكب لماح. وسلامي على مصر الجديدة وعلى سنتريس. ولو شئت لسلمت على مكتب تفتيش اللغة العربية بوزارة المعارف حيث يحلو الجدل ويطيب الضجيج!
وبعد فإنك تعرف كيف رحلت إلى بغداد. أنت تذكر ولا ريب أن حكومة العراق طلبت أستاذا للأدب العربي بدرجة دكتور؛ وتذكر أن وزارة المعارف المصرية فهمت أن الغرض من ذلك مداواة ليلى المريضة بالعراق. وقد صرح بهذا حضرة صاحب العزة الأستاذ عوض إبراهيم بك؛ وكان من المفهوم أنه لا يصلح لهذه المهمة غير مؤلف مدامع العشاق!
تلك هي الأسباب التي قضت برحيلي إلى العراق، ولولا ذلك لبقيت في القاهرة أحارب من أحارب وأسالم من أسالم، وفقاً للنزق والطيش، وطاعة لصديقنا الشيطان!
ولا أستطيع أن أصف كيف كانت الأيام التي سبقت رحيلي إلى العراق. فقد قضيتها في درس الطب النفساني والروحاني، وزودت عقلي بأهم ما يعرف أقطاب العلم الحديث، من أمثال الدكتور محجوب ثابت، والدكتور محمد عبد الحي، والدكتور منصور فهمي، والدكتور طه حسين
ولم يفتني أن أستفتي بعض المولعين بدرس المشكلات الغرامية كالأستاذ محمد الهراوي، والأستاذ محمد مسعود، والموسيقار محمد عبد الوهاب
وكان في النية أن أستفتي بعض الأقطاب من علماء الأزهر الشريف، ولكن ضاق الوقت عن ذلك
وجاء يوم الرحيل، والتفت فإذا محطة القاهرة تموج بعدد كبير من كرام الأصدقاء، وكنت أظنهم جاءوا مودعين، ثم دهشت حين رأيتهم لم يجيئوا إلا ليحمّلوني التحية إلى ليلى المريضة بالعراق!(230/27)
وعند ذلك عاهدت نفسي وعاهدت الواجب أن أكون عندما يرجو المصريون والعراقيون من الظن الجميل. ولم يكد القطار يبرح محطة باب الحديد حتى أسلمت خيالي إلى مغريات الأحلام. ولما وصلت إلى بيروت رجاني بعض الأدباء أن أقيم أسبوعاً في ضيافة لبنان فأبيت وقلت كيف أتلبث في الطريق والواجب يدعوني إلى عيادة ليلى المريضة في العراق؟ وكذلك كان حالي حين وصلت إلى دمشق، فقد رجاني الأستاذ كرد علي والأستاذ عبد القادر المغربي أن أقيم مدة بالشام في ضيافة الأكرمين من أهل تلك البلاد، فأبيت وقلت كيف أتمهل في الطريق والهوى يدعوني إلى موافاة ليلى المريضة بالعراق!
ثم قضيت أربعاً وعشرين ساعة في الطريق من دمشق إلى بغداد. ولا تسلني كيف قضيت تلك الساعات الطوال، فقد كانت الساعة كألف سنة مما تعدون بسبب القلق على ليلى المريضة بالعراق
ولما وصلت ألقيت أثقالي في الفندق، ومضيت بسرعة البرق إلى وزير المعارف أتلقى تعليماته فيما يختص بذلك الروح العليل
ستمضي الشهور والسنون ولا أنسى كيف لقيت وزير المعارف في العراق، فقد بدا رجلاً شاعراً لا يهمه غير الاطمئنان على ليلى المريضة بالعراق
وجلست فتحدثت معه في كثير من الشؤون، ولكنه لم يفتح الحديث عن ليلى، فأخذ مني العجب كل مأخذ، وخشيت أن تكون (قصة) ليلى قصة مخترعة، وأنني كنت مخطئاً حين صدقتها من كبار الأطفال!
وذهبت إلى دار المعلمين العالية فأعطاني المدير جدولاً يقصم الظهر، وهو دروس في الأدب وفقه اللغة وتفسير القرآن، وليس فيه أية إشارة إلى مداواة ليلى المريضة بالعراق. فتأكدت مرة ثانية أن قصة ليلى من اختراع الخصوم الألداء الذين أرادوا أن يستريحوا مني فزينوا لي الرحيل إلى العراق
ثم خطر بالبال خاطر طريف؛ فقد حدثتني النفس بأن مرض ليلى لا يهم أهل العراق، وإنما يهم المصريين؛ وإذن فلابد أن تكون المفوضية المصرية على بينة من هذه القضية. فأخذت عربة ومضيت إلى هناك فوجدت رجال المفوضية لا يعرفون شيئاً عن ليلى المريضة بالعراق، وأن هذه القصة من أوهام الشعراء(230/28)
وكذلك عرفت مرة ثالثة أن تلك الحكاية لم تكن إلا خداعاً في خداع
قضيت الأسبوع الأول وأنا في همٍّ مُقْعِد مقيم. وهل كان يعوزني أن أدرس الأدب وفقه اللغة والتفسير؟ هل ضاقت معاهد القاهرة عن رجل مثلي حتى يرحل إلى العراق ليكون أستاذاً للأدب في مدرسة عالية؟ إنما كنت أرجو أن أؤدي رسالة عجز عنها الزيات والسنهوري وعزام، ثم قضى الحظ العاثر أن أكون رجلاً (عبيطاً) لا يدرك وجه المِحال، في أحاديث الرجال
وفي الأسبوع الثاني تلقيت رسالة من القاهرة: رسالة من الآنسة جيمي التي ملكت نهاي حيناً من الزمان، وهي تسأل وتلح في السؤال عن ليلى المريضة بالعراق. وللآنسة جيمي حقوق، فقد كانت أوهمتني في السنين الخالية أن الهوى إله معبود؛ وبالرغم من تجنِّيها في الأيام الأخيرة فقد أحسست أن إشارتها أمر يجب أن يطاع. ومنَّيت نفسي برضاها في الليالي المقبلات، حين يسمح الدهر بمسامرة الأنجم الزهر على ضفاف النيل. فهل تراني أعيش إلى ذلك العهد يا صديقي الزيات؟ وهل أعاقر الهوى من ذلك الرضاب بعد أن تدول دولة الفراق؟
ولكن ماذا أصنع؟ هل أخترع قصة جديدة عن ليلى المريضة بالعراق أصل بها إلى قلب الآنسة جيمي؟ وكيف وأنا رجل لا يجيد اختراع الأقاصيص؟ ومعشوقتي تميز بين الصحيح والمزيف من أحاديث الوجدان! رعاك الله يا جيمي وأراني وجهك الجميل؟
ما أعجب ما تصنع المقادير! هذا رجل يسأل عني بالتليفون تسع مرات في كل يوم؛ وهاهو ذا ينقلني بسيارته إلى منزله الفخم بالكاظمية، ويسألني كيف وجدت ليلى، فأتضاحك وأنا محزون، وأقرر أن ليلى اسم اخترعه العابثون من الشعراء؛ وعندئذ ينفجر الرجل بالبكاء ويقول: إن ليلى لا تزال مريضة بالعراق، ولكن العراقيين يتجاهلون ذلك، لأنهم في هذه الأيام مرضى بالجد والنشاط ولا يحبون أن يعرف أحد أنهم أهل وجدان. ولا تعجب إن كتم عنك رجال المفوضية المصرية أخبار ليلى، فهم قوم دبلوماسيون لا يرون الخروج على الوقار الذي تصطنعه حكومة العراق
وما أكاد أسمع هذا حتى أجذب الرجل من ذراعه وأمضي به كالمجنون لأعرف كيف حال ليلى، وما هي إلا لحظات حتى تقف السيارة على بيت متواضع في شارع العباس بن(230/29)
الأحنف، أحد شوارع بغداد، وأطرق الباب برفق كأنني على ميعاد، وتخرج وصيفة فتقول: (من الطارق؟) فأقول: (أنا الدكتور زكي مبارك) فتقول: (أدخل بسلام، فإن ليلى تنتظرك منذ سنين)
(للحديث بقية)
زكي مبارك(230/30)
ألحان صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
جيتنجالي كلمة هندية بنغالية معناها (القرابين الغنائية) وهي
أناشيد صوفية تبلغ 103 نشيد، نظمها طاغور في البنغالية ثم
نقلها بنفسه إلى الإنجليزية، وشهرتها في الأدب العالمي
كشهرة رباعيات الخيام، وهي تمثل الروح العالية على فلسفة
طاغور من جهة، والطبيعة الصوفية المميزة للبوذية من جهة
أخرى. وسننشرها كلها مترجمة بقلم الأستاذ كامل محمود
حبيب
- 1 -
أنت خلقتني أبدياً، تلك مشيئتك. وهذا الحطام الفاني - جسمي - أنت تفرغه مرة ومرة ثم تملأه بالحياة الغضة
هذا الناي الصغير أنت علوت به وهبطت، ثم وقَّعت عليه أنغاماً سحرية خالدة، وحين لمست يداك قلبي الضعيف لمسة إلهية شاع فيه السرور وانبعث منه لحن أخّاذ، وبين يديّ الضعيفتين استقبلت آلاءك العظمى، والأعوام تتصرم وأنت ما تزال تحبوني وفي قلبي شوق وطمع
- 2 -
وحين أمرتني أن أرتل نشيدي خُيِّل إلي أن قلبي يهتز من أثر الفرح والكبرياء معاً؛ ثم(230/31)
رحت أتوضح وجهك فاغرورقت عيناي بالدموع
كل ما في حياتي من شدة وضيق يذيبه لحن جميل، وصلواتي تنشر عليّ جناحين رفيقين كما يفعل الطير الطروب وهو يدف بجناحيه فوق أمواج البحر
أنا أوقن أن أغانيَّ تطربك، وأني حين أغني أكون في حضرتك
وبرغم أن أغانيّ وهي تعلو مصعدة تكاد تبلغ قدميك؛ فأنا لا أستطيع أن أصل إليها
لقد غُمّ عليّ حين سيطرت عليّ نشوة التغريد، فناديتك: يا صديقي؛ وأنت إلهي
- 3 -
لست أدري كيف ترسل ألحانك، يا إلهي! وأنا - دائماً أتسمع في لهفة
إن نور موسيقاك يضيء العالم، وأنفاسها تنقل من سماء إلى سماء، وسَكْبها المقدس يحطم العوائق الصلبة لينفذ
لقد تعشق قلبي أن يسمع ألحانك، ولكن عبثاً حاول أن يظفر بصوت. سأتحدث حديثاً لا يحور إلى أغنية. بل إلى صيحة اليأس. آه إن ألحانك الأبدية قد جذبت إليها قلبي، يا إلهي
- 4 -
يا روح حياتي سأحفظ - دائماً - جسمي طاهراً لأنني أعرف أن لمساتك الرفيقة تحوطني
سأحول - دائماً - بين أفكاري وبين الأكاذيب، لأنك وأنت الحق، بعثت في قلبي شعاع الحق
سأنزع - دائماً - عن قلبي الرذائل ليظل حبي لك طاهراً فأنت تتربع في قلبي
ثم أجعل همي أن أكشف أمامك عن كل ما أعمل، لأنك أنت الذي تسبغ عليّ القدرة على العمل
- 5 -
أنا أسألك لحظة فيها الرضا أجلس فيها إلى جانبك، وأؤجل ما بين يدي من عمل إلى ما بعد
إن قلبي لا يستقر ولا يهدأ إن حرمت النظر إلى طلعتك لأغتمر في لجة من العمل المضني. . . لجة لا شاطئ لها
اليوم نفح الصيف أول زفراته لدى نافذتي، والنحل بين الزهور يرتل أنغامه(230/32)
هذا وقت أجلس فيه بازائك هادئاً؛ وفي هذا الصمت والفراغ والهدوء، أترنم بأناشيد الحياة المقدسة
- 6 -
اقطفْ هذه الزهرة الصغيرة - يا سيدي - وخذها. لا تستأن! فأنا أخشى عليها الذبول والسقوط؛ لعلها لا تجد مكاناً في بستانك، ولكن شرِّفها بلمسة بنانك، فأنا أخاف أن تنطوي الأيام قبل أن أستطيع تقديمها لك هدية
إن لوها ليس أخاذا، وريحها ليس نفاذا؛ ولكن اقطفها فقد يكون فيها النفع. . . اقطفها حين تسنح الفرصة
- 7 -
لقد نزعت عني لحني الزخرف، فما فيه برقشة ولا تنميق؛ لأن زخرف القول يفسد ما بيننا، ويحول بيني وبينك، ورناته تخفي عني همساتك
إن عبارات الصلف في شعري تتلاشى أمام ناظريك يا إله الشعر. أنا جاثم عند قدميك أريد أن تنفث في حياتي البساطة والنقاوة كنغم ساحر انبعث من نايك
- 8 -
إن الطفل الذي تثقله مطارف الإمارة، وتزينه القلائد الذهبية، لا يجد اللذة في ألعوبته لأنه يرسف في قيود من ثيابه
وهو ينزوي عن العالم خشية أن تتلوث أو تتعفر، فهو يخاف كل شيء حتى الحركة
أيتها الأم! لا تثقلي ابنك بالزينة فهي تحجبه عن تراب الأرض الصحي، وتسلبه من النهج القويم الذي يقوده إلى البهجة العظمى في حياة الإنسان العامة
- 9 -
يا لحمق الغبي الذي يحاول أن يحمل نفسه على كتفيه إن كدّه السير! يا لغفلة الشحاذ الذي يقف أمام باب داره يستكف
ألق ما أثقلك بين يدي من لا يثقله أن يحمل كل شيء، ثم لا تلتفت إلى وراء في حسرة
إن أمانيك تطفئ بأنفاسها نور السراج. حرام أن تأخذ ما ليس لك بيدين آثمتين، ولكن خذ(230/33)
ما أعطيت في قناعة ورضا
- 10 -
هنا آثار سيرك؛ وهناك تطمئن قدماك. . . هناك حيث يعيش الفقير والوضيع والضائع
وإذا سجدت لك فجبهتي لا تبلغ الأعماق حيث تطمئن قدماك بين الفقير والوضيع والضائع
إن الكبرياء لن تبلغ موطئ قدميك وأنت تتهادى في ثوب من التواضع بين الفقير والوضيع والضائع
إن قلبي لا يجد السبيل إلى حيث تصحب من لا رفيق له بين الفقير والوضيع والضائع
- 11 -
دع عنك التراتيل والأغاريد والتسابيح! من الذي تتحنث له في هذا الخلاء المظلم من متعبَّدِك وبابك مغلق؟ افتح عينيك فلن تجد إلهك أمامك!
إنه هناك عند الفلاح وهو يعزق الأرض الصلبة، هو عند العامل وهو يحطم الصخور القاسية؛ إنه بازائهما تحت حرور الشمس ووابل المطر، ولباسه معفر بالتراب. اخلع طيلسانك المقدس واهبط مثله إلى تراب الأرض
التواكل؟ أين هو التواكل؟ إن إلهنا نفسه قد أخذ نفسه - في لذة - بأن يتكفل عباده؛ وهو بيننا إلى الأبد
انزع عنك تأملاتك، ودع أزهارك وبخورك! ماذا يضيرك إن مزقت ثيابك ولوّثت؟ أخر إليه، وقف بازائه كادحاً والعرق يرفضُّ من جبينك
- 12 -
إن سفري بعيد وطريقه طويل
لقد انطلقت عند أول شعاع من النور، واندفعت أضطرب في أنحاء العالم الموحش أرى هدْى أمري بين النجوم والكواكب
إنها مسافة أطول مما يخيّل إليك، وهي تجربة قاسية تنتهي إلى السهولة. . . إلى لحن
إن المسافر يضطر إلى أن يقرع كل باب ليتعرف بابه هو، وهو يضرب في أرجاء الأرض ليصل - في النهاية - إلى المحراب العظيم(230/34)
لقد انطلق بصري يطوق العالم قبل أن أحشدهم وأغلق عليهم الباب ثم أقول: (هاأنتم هنا؟)
ودوت الصيحة: (أوه! أين؟) ثم ذابت الصيحة إلى عبرات تتدفق؛ ثم غمر الأرض سيل من الإيمان ينادي (أنا!)
كامل محمود حبيب(230/35)
الإسلام والسيف!
للأستاذ محمد كامل حته
(مهداة إلى الأستاذ خليل جمعة الطوال)
إن من الجناية على الحق والافتراء على التاريخ أن يقول قائل إن الإسلام قد انتشر بالسيف! أي سيف كان يحمله محمد، وهو الأعزل الذي لا حول له ولا قوة، الوحيد الذي لا ناصر له ولا معين، يناله السفهاء بالأذى فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ويأتمر به قومه ليقتلوه فيفر بحياته إلى يثرب؟. . .
لقد ظل محمد - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يكن له من سلاح غير ثقته بالله وإيمانه بأنه على حق، ولقد لاقى هو وأصحابه في سبيل هذه الدعوة من ضروب الفتنة والاضطهاد ما لا يثبت عليه إلا الذين عمرت قلوبهم بالإيمان، واستيقنت أنفسهم من نصر الله!
كان الرسول يوماً يصلي في الكعبة، وبينما هو ساجد إذا بعقبة بن أبي معيط، يطأ عنقه الشريف حتى كادت عيناه تبرزان. . .
وخنقه بردائه خنقاً شديداً، والناس من حوله شامتون، حتى أقبل أبو بكر مشتداً وخلص الرسول منه وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟
ولما خرج إلى الطائف يدعو أهلها للإسلام، أغروا به سفهاءهم فترصدوا له بالطريق وأخذوا يحصبونه بالحجارة حتى تخضبت قدماه بالدماء!
ولما أبى عمه أبو طالب أن يسلمه إليهم ليقتلوه تعاهدوا على مقاطعة أوليائه من بني هاشم، ودامت هذه المقاطعة ثلاثة سنين لقي فيها هذا البيت الكريم من العنت والإرهاق أعظم البلاء. . .
وعذب عمار بن ياسر وأهله عذاباً شديداً، فكان الرسول يمر بهم وهم في العذاب ويقول: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة!
ومن ذلك أن أبا جهل طعن سمية أم عمار بحربة فقضى عليها فشكا عمار ذلك إلى الرسول قائلاً: يا رسول الله، بلغ منا العذاب كل مبلغ! فقال صلى الله عليه وسلم: (اصبر أبا اليقظان، اللهم لا تعذب من آل ياسر أحداً بالنار!)(230/36)
وقد استشهد أفراد هذه الأسرة الكريمة في سبيل الله، ولم يبق منهم إلا عمار الذي كان يعذب حتى لا يعي ما يقول
وممن عذب في سبيل العقيدة بلال بن رباح كان مملوكاً لأمية ابن خلف، فلما اعتنق الإسلام حنق عليه سيده وأمره بالرجوع إلى عبادة الأصنام، فلم ينصع لأمره لأنه ذاق حلاوة الإيمان، فأنزل به ألواناً من العذاب: كان يطرحه على الرمضاء، ويصهر على صدره دروع الحديد، ويضع عليه الأحجار الثقيلة حتى قُدّ ظهره! وهو يهتف دائماً: أحد، أحد، إلى أن أنقذه أبو بكر فاشتراه من سيده، وأعتقه لوجه الله. . .
وكثير غير هؤلاء ممن آمنوا بمحمد في مبدأ بعثته، كانوا يلاقون العذاب الهون والبلاء العظيم، حتى أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن ليس له أنصار يحمونه من هذا العدوان أن يفر بدينه إلى الحبشة، فهاجر إليها جم غفير. واستأذن أبو بكر في الهجرة إليها فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم له، فلما كان على مسيرة يومين، لقيه ابن الدغنة سيد قومه فسأله: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال: إن مثلك لا ينبغي أن يَخرج أو يُخرج من أرضه؛ ثم رجع به إلى قريش وأدخله في جواره، على شرط أن يعبد الله
فابتنى أبو بكر مسجداً بفناء منزله، وصار يصلي فيه ويتلو كتاب الله، فكان نساء قريش وشبانهم يجتمعون حول داره، يستمعون لتلاوته، ويؤخذون ببلاغة القرءان وروعته! ففزع القوم وشكوا أبا بكر إلى حليفه، فأغلظ الحليف لأبي بكر في القول وقال له: إما ألا تستعلن بعبادتك، وإما أن تعيد إليّ ذمتي. فقال أبو بكر: إني أرد لك جوارك وأرضي بجوار الله عز وجل
فكيف اجتمع هؤلاء الناس على محمد؟ أبالسيف وهو أعزل لا يستطيع أن يعصم نفسه؟ ومتى كان السيف وسيلة لتكوين العقائد في النفوس؟
ولماذا باعوه أرواحهم يبذلونها رخيصة في سبيل دعوته؟ أطمعاً في مال وهو فقير لا يكاد يملك من حطام الدنيا شيئاً؟ ومتى كان للمال هذا السلطان القاهر على العقول والأفهام؟
كلا؛ لا بهذا ولا بذاك، وإنما بهذا الدين الحنيف الذي استحوذ على العقول وأخذ بمجامع القلوب، وبهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي حين سمعه(230/37)
وفد الحبشة من القسس والرهبان، خشعت قلوبهم وفاضت أعينهم وأسلموا لله رب العالمين، فنزل فيهم قوله تعالى: (. . . ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين)
ولقد ظل المسلمون على هذه الفتنة الطاغية فترة من الزمن، حتى إذا استفحل الخطب وعظم البلاء، شرع الله لهم القتال دفاعاً عن النفس وذباً عن الدين، فقال تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)، (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير)
كان موقف الإسلام إذن موقفاً سلبياً في حروبه الأولى، لا يقصد به غير الدفاع عن أهله، ورد عدوان المعتدين. فلما استقرت قواعده، وانتهت إليه الخلافة في الأرض، كان عليه أن يقف موقفاً إيجابياً لحماية المؤمنين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)
وهذا يدل على أن الحرب في الإسلام وسيلة لدرء المفاسد وإقرار السلام، لا إرضاء لشهوة الفتح والاستعباد. وإذا كان الإسلام قد حث على الاستعداد الحربي بقوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) فإنما يرمي بذلك لإطفاء جذوة الحرب في نفوس الأعداء، وهو ما يعرف في هذا العصر بالتسلح السلمي!
وهذه مبادئه الحربية شواهد ناطقة بعدله ورحمته وإحسانه، انظر إليه يأمر بالسلم إذا جنح إليها العدو، ولو كان جنوحه خداعاً ومخاتلة: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم؛ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله، هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)
وما تم في معاهدة الحديبية، يدل على مبلغ حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على(230/38)
السلم وكراهية الحرب، فقد رضى أن توضع الحرب بين المسلمين والمشركين عشر سنين، في الوقت الذي كان المسلمون يتحرقون على القتال، وينتظرون منه كلمة واحدة، يندفعون بعدها كالسيل الجارف صوب مكة، حيث ينتصفون لأنفسهم وللإسلام من أولئك الذين أخرجوهم من ديارهم بغير حق، فكان الرسول حائلاً بينهم وبين ما يشتهون، حتى كادت تحدث بينهم فتنة عمياء لولا أن الله سلم. . .
وكان الرسول يوصي أتباعه دائماً في الحروب بقوله: (اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله؛ لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعته، ولا تحرقوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناء!)
هذه مبادئ الإسلام في الحرب، وهي أرحم بالإنسانية وأشرف غاية من المبادئ السلمية - ولا أقول الحربية - التي تطبقها الدول القوية على الأمم الضعيفة باسم المدنية في هذا العصر
وإليك هذا الموقف الرائع النبيل، حين فتح الرسول مكة، ومكنه الله من رقاب قريش، وقد وقف على باب الكعبة والناس من حوله ينتظرون كلمة الفصل: فإما موت وإما حياة! فقال لهم: ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء! فكان ذلك سبباً في إسلام قريش بأجمعها، وحقن دمائهم ودماء المسلمين
فالقول إذن بأن الإسلام انتشر بالسيف فرية باطلة، وإنما انتشر الإسلام بالحجة والبرهان، وبسماحة مبادئه ومتانة أصوله. ولا عجب فهو الذي يقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم)
(حلوان الحمامات)
محمد كامل حته(230/39)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 15 -
(هي رسائل الأحزان، لا لأنها من الحزن جاءت، ولكن لأنها إلى الحزن انتهت؛ ثم لأنها من لسان كان سلما يترجم عن قلب كان حربا؛ ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة وكان الحياة ماضيا إلى قبر. . .!)
(الرافعي)
رسائل الأحزان
خرج الرافعي عن مجلس صاحبته مغضباً، في نفسه ثورة تَؤجّ وفي أعراقه دم يفور، وفي رأسه مرجل يتلهب؛ وكتب إليها كتاب القطيعة وأرسل به ساعي البريد، ثم عاد إلى نفسه فما وجد فيما كتب شفاء لنفسه، ولا هدوءاً لفكره، ولا راحة في أعصابه؛ وأحس لأول مرة منذ كان الحب بينه وبين صاحبته أنه في حاجة إلى من يتحدث إليه؛ وافتقد أصحابه فما وجد منهم أحدا يبثه أحزانه ويفضي إليه بذات صدره ويطرح بين يديه أحماله. لقد شغله الحب عن أصحابه عاماً بحاله لا يلقاهم ولا يلقونه ولا يتحدث إليهم ولا يتحدثون؛ فلما عاد إليهم كان بينه وبينهم من البعد ما بين مشرق عامٍ ومغربه بلياليه وأصباحه وتاريخه وحوادثه. وثقلت عليه الوحدة وضاقت بها نفسه، ففزع إلى قلمه يشكو إليه ويستمع إلى شكاته، فكتب الرسالة الأولى من (رسائل الأحزان) إلى صديقه الذي خصه بسره. . . إلى نفسه. . .
كان ذلك في مساء 21 من يناير سنة 1924
وترادفت رسائله من بعد مسهبة ضافية يصف فيها من حاله ومن خبره وما كان بينه وبين صاحبته، في أسلوب فيه كبرياء المتكبر، ولوعة العاشق، ومرارة الثائر الموتور، و. . .(230/40)
وذِلة المحب المفتون يستجدي فاتنته بعض العطف والرحمة والحنان
وانتهى من كتابة (رسائل الأحزان) في مساء 17 من فبراير سنة 1924
يخاطب الرافعي نفسه في (رسائل الأحزان) على أسلوب (التجريد)، فهو يزعم أنها رسائل صديق بعث بها إليه، فتراه يوجِّه الخطاب فيها إلى ذلك الصديق المجهول يستعينه على السلوان بالبث والشكوى؛ ثم يصطنع على لسان ذلك الصديق نتفاً من الرسائل يدير عليها أسلوباً من الحديث في رسائله هو، وما هناك صديق ولا رسائل، إلا الرافعي ورسائله، يتحدث بها إلى نفسه عن حكاية حبه وآماله وما صار إليه
أو قل: إن الرافعي في هذه الرسائل جعل شيئاً مكان شيء، فأنشأ هذه الرسائل إلى صاحبته ثم نشرها كتاباً تقرؤه لتعلم من حاله ما لم تكن تعلمه، أو ما يظن أنها لم تكن تعلمه؛ فهي رسائله إليه على أسلوب من كبرياء الحب، تشفي ذات نفسه ولا تنال من كبريائه
وفي بعض حالات الحب حين تقف كبرياء العاشق بينه وبين ما يريد إعلانه، وتقف النفس وقفتها الأليمة بين نداء القلب وكبرياء الخُلق، يتمنى العاشق لو كان له ملءُ الفضاء ليهبه إلى من يحمل عنه رسالة إلى حبيبته من غير أن يعترف بأنه رسول. . .! وتكون أبلغ الرسائل عنده أن يكتب إلى حبيبته: (إنه يحبك) يعني: (أنا أحبك!) ويتحدث إليها عن نفسه بضمير الغائب وهو من مجلسها على مرأى ومسمع، ومن لفتات قلبها وقلبه على مشهد قريب. . .!
وبهذا الأسلوب تحدث الرافعي عن نفسه بضمير الغائب في رسائل الأحزان
(أنا. . .) هذا الضمير الذي لا يتحدث به متحدث إلا سمعتَ في نْبره معنى شموخ الأنف، وصَعَر الخد، وكبرياء الخُلق؛ لا يؤدي في لغة الحب إلا معنى من التذلل والشكوى والضراعة، فما تسمعه من العاشق المفتون إلا في معنى اليد الممدودة للاستجداء، وما تقرأ ترجمته في أبلغ عبارة وأرفع بيان وأكبر كبرياء إلا في معنى: (أنا محروم. . .!)
يا عجباً للحب! كل شيء فيه يحول عن حقيقته حتى ألفاظ اللغة وأساليب الكلام. . .!
وكذلك كان الرافعي يقول في رسائل الأحزان: (هو) ويعني: (أنا. . .) لأنه لا يريد أن يبتذل كبرياءه في لغة الحب. . .
إنني أحسب الرافعي لم يكتب رسائل الأحزان لتكون كتاباً يقرؤه الناس، ولكن لتقرأه هي،(230/41)
وهي كل حسْبه من القراء؛ فمن ذلك لم يجر فيها على نظام المؤلفين فيما يكتبون للقراء من قصة فيها اليوم والشهر والسنة، وفيها الزمان والمكان والحادثة؛ بل أرسلها خواطر مطلقة، لا يعنيه أن يقرأها قارئها فيجد فيها اللذة والمتاع أو يجد فيها الملل وحيرة الفكر وشرود الخاطر
ولم يكتبها - كما يزعم - رسائل أدبية عامة تتم بها العربية تمامها في فنٍّ من فنون الرسائل لم يُؤثْر مثلُه فيما نقل إلينا من تراث الكتاب العرب، ليحتذيه المتأدبون وينسجوا على منواله؛ بل هي رسائل خاصة تترجم عن شيء كان بين نفسين في قصة لم يذكرها في كتابه ولم ينشر من خبرها
وبذلك ظلت (رسائل الأحزان) عند أكثر قراء العربية شيئاً من البيان المصنوع تكلَّفَه كاتبُه ليحاول به أن يستحدث فنا في العربية لم يوفق إلى تجويده. على أنه كتاب فريد في العربية في أسلوبه ومعانيه وبيانه الرائع، ولكنه بقيةٌ قصةٍ لم تنشر معه، فجاء كما تأكل النار كتاباً من عيون الكتب فما تُبقى منه إلا على الهامش والتعليق وصُلْبُ الكتاب رماد في بقايا النار. . .
فمن شاء أن يقرأ رسائل الأحزان فليقرأ قصة غرام الرافعي قبل أن يقرأه، فسيجد فيه عندئذ شيئاً كان يفتقده فلا يجده، ولسوف يوقن يومئذ أن الرافعي أنشأ في العربية أدباً يستحق الخلود
قلت: إن الرافعي أنشأ رسائل الأحزان ليكون رسالة إليها هي، فهذا كان أول أمره فيما بينهما من الرسائل التي قلت عنها فيما سبق إنهما كان يتبادلانها على أعين القراء من غير أن يذيع السر أو ينكشف الضمير، ومن غير أن يسعى بينهما حامل البريد؛ ولقد ردّت صاحبته ردَّها على رسالته هذه برسالة مثلها بعثتْ بها إليه مع بائع الصحف والمجلات. . . ثم تتابعت رسائلهما من بعد على هذا الأسلوب العجيب
وسيأتي يوم يُدرس فيه أدب (فلانة) صاحبة الرافعي، وسيجد الباحثون يومئذ لوناً لذيذاً من البحث إذ يعثرون على رسائلها إليه في بعض كتبها ومقالاتها، وليس بعيداً أن يقرأ الأدباء يومئذ كتاباً جديداً بعنوان (رسائلها ورسائله) بتاريخها وزمانها وأسبابها، مقتبسةً مما نَشر ونشرتْ في الصحف والمجلات من مقالات وأقاصيص بين سنة 1924 وسنة 1936(230/42)
أيها الباحث الذي سيأتي أوانه، ابحث عن حَشْو القول وفضول الكلام في مقالاتها ومقالاته، واقِرنْ تاريخاً إلى تاريخ وسبباً بسبب، لتنشر لنا رسائلها ورسائله في كتاب. . .!
أراني لم أتحدث عن (رسائل الأحزان) كما يتحدث كاتب من الكتاب عن كتاب من الكتب، فليس هذا إليّ، وإنما قدمت وسائل القول لمن يريد أن يقول؛ وأحسب أن كلاماً سيقال عن رسائل الأحزان من بعدُ غيرَ ما كان يُقال، وأعتقد أن الدكتور طه حسين بك لن يكرر مقالته التي قالها فيه من قبل، يوم أشهدَ الله على أنه لم يفهم منه حرفاً؛ وأعتقد أن الدكتور منصور فهمي بك لن يقتصر على قوله فيه من قبل: (إن معانيه من آخر طراز يأتي من أوربا. . .) لأنه سيجد مجالاً للقول في غير معانيه وبيانه
ولكن في رسائل الأحزان شيئاً غير ما قدمت من أشيائه، ذلك لأن الرافعي - رحمه الله - كان ولوعاً بأن يضيف إلى كل شيء شيئاً من عنده؛ وتلك كانت طبيعته في الاستطراد عند أكثر ما يكتب
سيجد الباحث في رسائل الأحزان عند بعض الرسائل وفي هامش بعض الصفحات من الكتاب، كلاماً وشعراً لا يتساوق مع القصة التي رَويت. ألا إن الرافعي كانت تغلبه طبيعته الفنية في الكتابة أحياناً فيستطرد إلى ما لا يريد أن يقول؛ ليثبت معنى يخشى أن يفوته، أو ليذكر حادثة يراها بالحادثة التي يرويها أشبه، أو لأن تعبيراً جميلاً وجد موضعه الفني من الكلام وإن لم يجد موضعه من الحادثة؛ فإن رأى الباحث شيئاً من ذلك فلا يداخلْه الريب فيما أثبتّ من الحقيقة التي أرويها كما أعرفها
وسيجد في بعض الرسائل حديثاً وشعراً عن لبنان وأيام لبنان؛ وما عرف الرافعي صاحبته إلا في مصر وإن كان مولدها هناك. فليعلم من يريد أن يعلم، أن صاحبة الرافعي هذه لم تكن هي أولى حبائبه، وقد كان له قبل أن يعرفها في الغرام جولان؛ وكان بعض من أحب قبلها فتاة أديبة عرفها في لبنان، وهي سَمية صاحبتنا هذه؛ وكان بينهما رسائل أثبت الرافعي بعضها في (أوراق الورد)، ومن أجلها أنشأ الرافعي كتابه (حديث القمر)، على أن عمر الحب لم يَطُل بينهما، إذ تزوجت وهاجرت مع زوجها إلى أمريكا لتشتغل بالصحافة العربية هناك - وما تزال - فما جاء في رسائل الأحزان من حديث لبنان وذِكر أيامٍ هناك، فهو بقية من ذكرى صاحبة (حديث القمر) أقحمه في رسائله حرصاً عليه وبخلا به على(230/43)
الضياع
لقد كان حب الرافعي الأخير حادثة في أيامه فعاد حديثاً في فكره، ورسائل الأحزان هي أول ما أنشأ من وحي هذا الحب؛ على إن قارئه يقرؤه فما يعرف أهو رسالة عاشق ألحّ عليه الحب أم زفرة مبغض يتلذّع بالبغض قلبه؛ والحق أن الرافعي أنشأه وهو من الحب في غمرة بلغت به من الغيظ والحنق أن يتخيل أنه قادر على أن يبغض من كان يحب، بغضاً يرد عليه كبرياءه وينتقم له؛ فما فعل إلا أن أعلن حبه في أسلوب صارخ عنيف كما تحنو الأم على وليدها في عنفوان الحب فتعضه وإنها لتريد أن تقبله، أو كما تقسو ذراع الحبيب على الحبيب تضمه في عنف وما بها إلا الترفق والحنان. . .!
وطبع الرافعي كتابه وأنفذه إلى صاحبته، فكتبت إليه. . . وثارت ثورة الرافعي مرة ثانية فأصدر (السحاب الأحمر)
(شبرا)
محمد سعيد العريان(230/44)
مقالات إسماعيلية
لأستاذ جليل
- 9 -
(فصل) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عرف نفسه عرف ربه) وقال عليه الصلاة والسلام: (عرفت ربي بربي) أشار إلى أنك لست أنت إنما هو أنت بالهو أنت لا هو داخل فيك، ولا أنت داخل فيه، ولا (هو) خارج منك، ولا أنت خارج منه. وما عنى بذلك أنك موجود وصفتك هكذا بل عنى به أنك ما كنت ولا تكون إلا بنفسك لا هويتك المضنونة هي العدم، فأنت لا فان ولا موجود. أنت هو وهو أنت بلا علة من هذه العلل، فإن عرفت وجودك هكذا فقد عرفت الله تعالى وأكثر العارفين (أضافوا) معرفة الله تعالى إلى فناء الوجود وإلى فناء فنائه (فهذا) إثبات الشرك؛ فإن معرفة الله تعالى (لا) تحتاج إلى فناء الوجود، ولا إلى فناء فنائه، ولا شيء لا وجود شيء، وما لا وجود (له) لا فناء له، فإن الفناء لا يكون إلا بعد إثبات الموجود، والوجود الإضافي عدم، والعدم لا شيء، فإن عرفت نفسك بلا وجود ولا فناء فقد عرفت الله تعالى. قال السيد راشد الدين (علينا منه السلام): (لولانا بشهوتنا للأشياء لما كان إلا الله ولا شيء سواه. وفي إضافة معرفة الله تعالى (إلى) فناء الوجود وإلى فناء فنائه إثبات الشرك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عرف نفسه عرف ربه) ولم يقل من أفنى نفسه عرف (ربه) فإن إثبات الغير تناقض فنائه، وما لا يجوز ثبوته لا يجوز فناؤه، ووجودك ووجوده لا شيء لا يضاف إلى شيء. أشار عليه الصلاة والسلام إلا أنك معدوم كما كنت قبل متكوناً التقدر فلا أن الأزل والأبد والله تعالى (موجودون) هو وجود الأزل والأبد، وذات جميع الموجودات والوجود ولو لم يكن كذلك ما كان إلا الله وحده بنفسه لا يوجد الله تعالى فيكون رباً ثابتاً وهو محال، فليس لله تعالى شريك في ملكه ولا ند ولا كفؤ. ومن (جعل) لا شيء مع الله وهو محتاج إلى الله فقد جعل ذلك الشيء شريكا له لأنه محتاج إليه. ومن توهم موجوداً سواه قائماً به ثم يصير فائناً فناءه ويصير فائناً في فنائه فتسلسل الفناء بالفناء شركا بعد شرك. ومن كان هذه معرفته فهو مشرك لا عارف، والعارف بالله وبنفسه هو الذي يعلم أن الله كان ولم يكن معه شيء وهو الآن كان، فإن قيل: إن النفس ليست هي الله ولا الله تعالى هو النفس، قلنا: إن(230/45)
النفس هي وجودك وحقيقتك إلا النفس اللوامة والأمارة والمطمئنة. وأشار النبي صلعم إلى الأشياء الموجودة فقال عمّ (ربي أرني الأشياء كما هي) وعني بالأشياء كما توُهِّمَ أنها غير الله (تعالى) أي عرفني ما سواك من سائر الأشياء لا أعلم هل هي أنت أم غيرك؟ وهل هي قديمة أم باقية أم فانية؟ فأراه الله ما سواه، فإذا هي نفسه بلا وجود ما سواه، فرأى الأشياء كما هي، أعني رأى الأشياء ذات الله بلا كيف ولا أين لأنه هو تعالى هوية الكل بالحقيقة، واسم الأشياء يقع على النفس من الأشياء، فإن وجود النفس ووجود الأشياء شيئان في المشيئة التي عرفت الأشياء وعرفت النفس، ومتى عرفت النفس عرفت الرب، لأنه الذي تظن أنه غير الله ليس هو سوى الله، ولكنك ما تعرفه وأنت (لا) تراه، ولا تعلم أنك هو فإذا عدّمت إياك في ذاته بذاته لذاته علمت أنه كنه مقصودك وغاية مطلوبك وعلمت أن (كل شيء هالك إلا وجهه) أعين لا موجود إلا هو وجود لغيره مع وجوده فيحتاج (كل شيء) إلى الهلاك، ويبقى وجهه أعني لا شيء إلا وجهه، أعني لا نفس إلا نفسه، ولا وجود إلا وجوده، كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تتبقَّ الدهر بَانَ الله) أشار بذلك لا وجود للدهر، وجود الله تعالى ووجود جميع الكائنات وجوده؛ ليس للأشياء من ذاتها إلا العدم جداً ووجودك ووجوده لا إله إلا الله وأنا لا أنا هو كما وجب وجوده وجب عدم ما سواه، فإن الذي تظن أنه غيره ليس هو غيره إذ لا وجود مع وجوده أنى وجوده ظاهراً وباطناً، ومن مات موتاً معنوياً عدمت ذاته وصفاته، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (موتوا قبل أن تموتوا) أي: اعرفوا نفوسكم واعرفوا ذاتكم العديمة لتعاينوا عين الهوية الحقيقة، وكانت كل حالة لله تعالى لأنه كان هو، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد يتقرب بي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) لأن حركاته وأفعاله كلها لله تعالى لا له فالذي عرف نفسه يرى وجود ذاته بل كان جاهلاً بمعرفة وجوده؛ فمتى عرفت نفسك ارتفعت في عينيك وعرفت أنك لم تكن غير الله تعالى. وحقيقة معرفة النفس أن تعلم (أن) وجودك ليس بموجود ولا معدوم، فإنك لم تكن كائناً ولا كنت ولا تكون تعرف معنى قوله: (لا إله إلا الله)، ولا وجود لغيره ولا غيره سواه، لا إله إياه، وليس هذا بل بتعطيل الربوبية لأنه لم يزل رباً ولا مربوباً، ولم يزل خالقاً ولا مخلوقاً، خلاقيته وربوبيته(230/46)
لا تحتاجان إلى مخلوق، ولا إلى مربوب، ووجود الأشياء كان الله، ولا شيء سواه، وهو الآن ولا شيء سواه، فوجود الموجودات وعدمها شيئان فلا هو إلا هو، وما سواه عدم والسلام
(* * *)(230/47)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعَاف النشاشيبي
إلى سيدي العلامة الأستاذ الكبير حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي - أدام الله مجده، ونفع المشرقين بعلمه وفضله
(نقل الأديب) للنشاشيبي ما هو إلا من ذلك الميراث القديم العظيم، وقد ورث الأستاذ كما ورثت، وعرف من قدْر ما ترك الأكرمون الأولون مثل الذي عرفت، بل أكثر مما عرفت. وما أنا بالمستأثر بكنوز القوم وما أنا بالمستبد، وما أنا بالوارث الأوحد
وإن هذا المال الموروث لدَثْر كثير، ولكل في التدبير والتثمير والإنفاق منه طريق. وعند الأستاذ التالدُ، وعنده - والحمد لله - الطريف؛ فهو السريّ المثري، وكم في سوق الأدب من صُعلوك وكم من صَعْفوق
وليست تسميتُه ولدَه - وكتابُ المرء ولدهُ المخلد - باسم ولدي (وقد زيد الحبيب) إلا تواضعاً؛ والعلماء الكبار يتواضعون. وعزوهُ الفضلَ إليّ بإظهاره تلك الطرائف التونسية هو أدبُ نفس، سليلُ ملك المَريّة به مشهور. فمرحباً مرحباً بـ (نقل الحبيب إلى الأديب) وحَيَّهَلْ، حيّ هلا بمتضاعف الحسن في العلم والفضل والاسم، ومد الله في عمره
محمد إسعاف النشاشيبي
311 - فإن شهرك في الواوات قد وقعا
محمد بن علي بن منصور بن بسام:
قد قرّب الله منا كل ما شسعا ... كأنني بهلال الفطر قد طلعا
فخذ للهوك في شوال أهبته ... فإن شهرك في الواوات قد وقعا
312 - الجمة السكينية
في (أغاني أبي الفرج): كانت سُكَينة أحسن الناس شعراً وكانت تصفف جُمّتها تصفيفاً لم ير أحسن منه حتى عرف ذلك وكانت تلك الجمة تسمى (السكينية)، وكان عمر بن عبد العزيز إذا وجد رجلا يصفف جمته السكينية جلده وحلقه
313 - بردى ساق وخادم. . .(230/48)
ذكر أبو بكر بن العربي في رحلته أنه دخل بدمشق بيوت بعض الأكابر فرأى فيه النهر جارياً إلى موضع جلوسهم ثم يعود من ناحية أخرى. قال أبو بكر: فلم أفهم معنى ذلك حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا، فأخذها الخدم ووضعوها بين أيدينا، فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني وما معها في النهر الراجع فذهب بها الماء إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدم تلك الناحية. فعلمت السر، وإن هذا لعجيب
314 - أشهى إليّ من الدنيا وزخرفها
علي بن الجهم:
لجلسةٌ مع أديبٍ في مذاكرة ... أنفي به الهم أو أستجلب الطربا
أشهى إليَّ من الدنيا وزخرفها ... وملئها فضة أو ملئها ذهبا
315 - اللغة والدولة
في (الإحكام في أصول الأحكام) لابن حزم: إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم. وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمونٌ منهم موت الخواطر؛ وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم. هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة
316 - السلطان، الملك
في (طبقات الشافعية الكبرى للسبكي): مصطلح الدول أن السلطان من ملك إقليمين فصاعدا. فإن كان لا يملك إلا إقليماً واحداً سمي بالملك، وإن اقتصر على مدينة واحدة لا يسمى بالملك ولا بالسلطان بل بأمير البلد وصاحبها. ومن هذا يعرف خطأ كتاب زماننا حيث يسمون صاحب حماة سلطاناً، ولا ينبغي أن يسمى سلطاناً ولا ملكا لأن حكمه لا يعدوها، فكأنهم خرجوا عن المصطلح. ومن شرط السلطان ألا يكون فوق يده يد، ولا كذلك صاحب البلدة الواحدة، فإن السلطان يحكم عليه، وأما حكم السلطان على الملك وعدم حكمه فيختلف باختلاف القوة والضعف(230/49)
317 - بطل أندلسي
في (الإحاطة في أخبار غرناطة) لمحمد لسان الدين بن الخطيب: خرج إبراهيم بن محمد بن مفرج (همشك) متصيداً وفي صحبته قارعو أوتار الغناء في مائة من الفرسان، فما راعهم إلا خيل العدو هاجمة على غرة في مائتين من الفوارس. فقال: إذا كنتم أنتم لمائة وأنا لمائة فنحن قدرهم؛ ثم استدعى قدحاً من شرابه وصرف وجهه إلى المغني وقال: غن لي:
يتلقى الندى بوجه حياء ... وصدور القنا بوجه وقاح
هكذا هكذا تكون المعالي ... طرقُ الجدّ غير طرق المزاح
فغناه، واستقبل العدو وحمل عليه بنفسه وبأصحابه حملة رجل واحد، فاستولت على العدو الهزيمة، وأتى على معظمهم القتل، ورجع غانماً إلى بلده. ثم عاد للصيد في موضعه ذلك، وأطلق بازه على حجلة فأخذها، ورأى نصلا من نصال المعترك من بقايا الهزيمة فأخذه من التراب، وذبح الطائر، واستدعى الشراب، وأمر المغني فغناه بيت أبي الطيب:
تذكرتُ ما بين العذَيب وبارق ... مجرَّ عوالينا ومَجرى السوابق
وصحبة قوم يذبحون قنيصهم ... بفضلة ما قد كسّروا في المفارق(230/50)
نكبة السيل في سورية
الفاجعة!
للأستاذ أمجد الطرابلسي
عجبٌ فعالُكَ يا غَمامْ! ... أَفتكتَ في الشهرِ الحرامْ؟
يا ليت شعريَ! هل نَهِم ... تَ فقمتَ تلتهم الصِّيام؟
أَعملتَ رأيكَ في الظلا ... مِ، وبئس غدَّارُ الظلام!
ومكرتَ، والحُلُمُ الهَني ... ءُ يُهدهدُ المُقَلَ النّيام
والغادةُ الفرحى تُقبِّ ... لُ ثغرَها صُوَرُ الهيام
والطّفلُ عانقَ أمَّه ... وغفا ودُنياهُ ابتسام
حتى الشَّبابُ الأهوجُ ال ... مِصْخابُ أَسكره المنامْ
فغفا ومازالتْ تَرِ ... نُّ برأسه ذِكَرُ الغرام
والشيخُ في محرابهِ ... يبكي ويخشعُ في القِيام
يدعو لصبيتهِ الصّغا ... رِ وهم على شُرَفِ الفِطام
يدعو لهمْ منْ لا يُخَيَّ ... بُ مُرتجيهِ ولاَ يُضام
يرجو ابتساماتِ الحيا ... ةِ لهمْ وإدراكَ المَرام
ويذوبُ في صَلَواتِهِ ... نَشوانَ من أسمى مُدام
وبَنوهُ قد رقدوا ورفَّ م ... على مُهوِدِهُم السَّلام
فصَبَبْتَ وَبلَكَ ساخطاً ... من دونِ ذنبٍ واجترام
ماذا نقِمتَ عليهمُ ... فأذقتهم شرَّ انتقام؟
أرسلتَ صَوْبَكَ أيَّ بح ... رٍ زاخرِ الأمواجِ طام
في الّليلِ يقتحِمُ الخدو ... رَ وأهلَها أَيَّ اقتحام
ويُباغتُ الشَّملَ الجمي ... عَ مُصَدِّعاً كلَّ التئام
هَبّوا يرومون النَّجا ... ةَ، ولا نجاةَ ولا اعتصام
يَعلو نَحيبُهم فيُط ... فِئه الدَّوِيّ والانهدام
يا لهفَ نفسيَ! ما الفِرا ... رُ من القيامةِ إذْ تُقامْ؟(230/51)
سيلٌ تَعوم بهِ العذا ... ري والولائدُ والسَّوام
والأَيكُ والوُكُناتُ وال ... هضْبُ المنيعةُ والرِّجام
لَقِفَ الحظائرَ والخِيا ... مَ وأهلَ هاتيكَ الخيام
وسطا على الأكواخِ ينسِ ... فُها ويجترفُ الحُطام
. . . وبدا الصّباحُ كما تخضَّ ... بَ بالدّمِ القاني الحُسامْ
فإذا الدّيارُ مقابرٌ ... يختالُ فيهنَّ الحِمامْ!!
يا ابن الحسينِ أَلا نفض ... تَ صفيحَ قبرك والرَّغام
فرأيتَ كيفَ طغى العُبا ... بُ وغالَ دُنيا في منام!
سِرْ والصِّحابَ تَرَ المنَا ... زِلَ لا مُناخَ ولا مُقامْ
وَتَرَ الملاعبَ والحدَا ... ئقَ لا اتّساقَ ولا انتظام
لا عَنْ ميامِنكم (ضُمَيْ ... رُ) ولا وَراَء ولا أَمام
مُحِيَتْ من الدنيا كما ... تمحوا السّطورَ يدُ الغُلام
وطوتْ معالمَها السُّيو ... لُ فلا رسومَ ولا رِمام
قَلَمونُ! يا فرحَ الشَّام! ... وفرحةُ الدّنيا الشّام
يا مرتعَ الآرامِ والأ ... حلامِ والحَدَقِ السِّقام
يا مهبطَ الشّعرِ الحَلا ... لِ ومَمْرَحَ الحُسْنِ الحَرام
هل سامعٌ فيكِ السَّلا ... مَ، إذا أَطَلتُ لكِ السَّلام؟!
كلُّ الجراحاتِ التي ... نَزَفتك في قلبي دَوَام
يا جَنَّةَ الأطيارِ والأ ... لحانِ! ما فعلَ الحمَامْ؟
أتُراه قد هَجَرَ الخما ... ئِلَ والجداولَ أم أَقام
لما مضى بِوُكورِهِ ... وبزُغْبِهِ الموتُ الزُّؤام
يا مسطعَ الأنوارِ هل ... أذوَى مباسِمَكَ السِّقام؟
هل شفَّ (يَبْرودَ) الشَّحو ... بُ ولفَّ (جَيْرودَ) القَتام؟
كيفَ الحدائقُ والكرو ... مُ سُلِكْنَ في أَبهى نظام؟
كيف العشيَّاتُ العِذا ... بُ وكيف في الرَّوضِ الزِّحامْ(230/52)
من كلِّ هيفاءِ القَوا ... مِ وكلّ عَشَّاقِ القَوام
لهفي عليكَ وللسُّيو ... لِ على جوانبكَ النظامْ
كالفلكِ في لُجَجِ البحا ... رِ السُّودِ أعياها الخصام
لا الموجُ يَرْحَمُها ولا الإِ ... عْصارُ يُسْلِمُها الزِّمام
فتقطَّعَتْ عُقَدُ الشِّرا ... عِ وشَقَّ جُؤجُؤَها الصِّدام
وتناثرت أشلاؤُها ... حيناً. . . وغَيَّبَها الظَّلامْ!
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(230/53)
في مستهل الشتاء
زهرة تتغنى
للأديب أحمد فتحي مرسي
الرَّوْضُ مَعْقُودُ اللَّهَا هَاجِدٌ ... قَدْ صَوَّحَ النَّاضِرُ مِنْ زَهْرِهْ
والرِّيحُ فِي الآفَاقِ عَصَّافَةٌ ... وَالطَّيْرُ قَدْ عاَدَ إلى وَكْرِهْ
يَا وَيْلتَا! ماذا أَصَابَ الضُّحَى ... حَتَى غَدَا كالَّليْلِ فِي قُرِّهْ
لاَ الرَّوْضُ مَمْطُورُ الثَّرَى زَاهِرٌ ... كَلاَّ. . وَلاَ الأَمْوَاهُ فِي نَهْرِهْ
وَالغُصْنُ ذَاوٍ فِي الرُّبَى ذَابِلٌ ... قَدْ صَلُبَ الريَّانُ مِنْ خَصْرِهْ
يَلُوحُ كالْمَذْعُورِ فِي رَجْفِهِ ... مُنْتَفِضَ الأَطْرَافِ مِنْ ذُعْرِهْ
يَنْفُضُ فِي الرَّوْضِ وُرَيْقَاتِهِ ... والذَّاوِيَ اليَابِسَ مِنْ نَوْرِهْ
كَطَائِرٍ يَنْفُضُ عَنْ رِيشِهِ ... مَا خَلَّفَ الوَابِلُ مِنْ قَطْرِهْ
أُنَقِّلُ الطَّرْفَ فَمَا إنْ أَرَى ... إِلاَّ هَشِيمَ الرَّوْضِ فِي قَفْرِهْ
هذِي الرِّيَاحُ النُّكْبُ مِنْ عَصْفِهَا ... قَدْ بِتُّ كالثَّامِلِ فِي سُكْرِهْ
وَذَا نَسِيمُ الَّليْلِ فِي هَبِّهُ ... يَهْصِرُ بِي مَا شَاَء مِنْ هَصْرِهْ
قَدْ خَدَّشَ الخَدَّ بأَنْفَاسِهِ ... وَأطْفَأَ المُؤتجَّ مِنْ جَمْرِهْ
فَي بَسْمَةِ الصُّبْح وَفِي صَمْتِهِ ... وَفِي البَهِيِّ النَّضْرِ مِنْ فَجْرِهْ
وُلِدْتُ فِي الأَفْنَانِ مُخْضَلَّةً ... فَضَمَّنِي الغُصْنُ إلى صَدْرِهْ
رَخِيَّةُ الصَفْحَةِ لَوْ مَسَّها ... ثَغْرُ امْرِئٍ ذَابَتْ عَلَى ثَغْرِهْ
أَجْرَى عَلَى خَدِّي النَّدَى قَطْرَهُ ... وَأَسْبَلَ المُنْهَلَّ مِنْ خَمْرِهْ
مَنْزِلَتِي فِي الرَّوْضِ مِنْ زَهْرِهِ ... مَنْزِلَةُ الْوُسْطَى عَلَى نَحْرِهْ
تُخَايِلُ الأَفْنَانُ بِي فِي الرُّبَى ... وَيَنْثَنِي غُضْنِيَ مِنْ فَخْرِهْ
حَتَّى إذا أَرْخَى الدُّجَى سُجْفَهُ ... وَلَفَّ هَذا الكَوْنَ فِي سِتْرِهْ
فَجِسْمِيَ الذَّاوِي عَلَى غُصْنِهِ ... لاَ تَأْتَلِي الأَنْسَامُ فِي نَثْرِهْ
وَشِيكةُ المَوْتِ وَلَمْ أَنْتَهِلً ... مِنْ رَوْعَةِ الكَوْنِ وَمِنْ سِحْرِهْ
ماذا عَلَى الأَقْدَارِ لَوْ صَابَرَتْ ... قَدْ يَجْتنِي الصَّابِرُ مِنْ صَبْرِهْ(230/54)
كأَنَّنِي حُلْمٌ لَطِيفُ الرُّؤَى ... قَدْ طَافَ بِالوَسْنَانِ فِي فِكْرِهْ
حَتَّى إذا وَلَّتْ سِنَاتُ الكَرَى ... لَمْ يَبْقَ فِي القَلْبِ سِوَى ذِكْرِهْ
أَيْنَ الرَّبِيعٌ الطَّلْقُ فِي حُسْنِهِ ... أَيْنَ الشَّذَا الْفَوَّاحُ مِنْ عِطْرِهْ
أَيْنَ السَّنَا اللَّمَاحُ مِنْ نُورِهِ ... أَيْنَ الفَمُ الوَضَّاحُ مِنْ بِشْرِهْ
كَمْ عِنْدَهُ مِنْ رَائِعٍ خَالِدٍ ... يَعْيَا اللِّسَانُ الطَّلْقُ فِي حَصْرِهْ
قَدْ مَرَّ بالرَّوْضِ قَرِيبَ المَدَى ... كَخُطْوَةِ العَجْلاَنِ فِي مَرِّهْ
وَشَيَّعَ المُبْتَلَّ مِنْ غُصْنِهِ ... وَوَدَّعَ المُخْضَلَّ مِنْ زَهْرِهْ
وّآذَنَ الدَّهْرَ بِهِجْرَانِهِ ... فَرَوَّعَ الأَفْنَانَ مِنْ هَجْرِهْ
وَالدَّهْرُ أَطْوَارٌ تَقَضَّى بِنَا ... مَا مَرَّ لا يَرْجِعُ مِنْ طَوْرِهْ
وَذَلِكَ العَيْشُ بِهِ مِعْبَرٌ ... تَفَاوَتُ الأَعْمَارُ فِي عَبْرِهْ
الصَّفْوُ وَالكَدْرُ سَوَاءٌ بِهِ ... وَعُسْرُهُ أَهْوَنُ مِنْ يُسْرِهْ
وَشَرُّهُ ماضٍ إلى خَيْرِهِ ... وَخَيْرُهُ غَادٍ عَلَى شَرِّهْ
كَمْ فِي حَياَتِي عِظَةً لِلوَرَى ... لَوْ نُبِّهَ الغِرُّ إلى أَمْرِهْ
كُفِّنْتُ فِي مَهْدِي ولمَّا أَزَلْ ... ذَكِيَّةَ الأذْيَالِ مِنْ طُهْرِهْ
فَلَحْظَةٌ عُمْرِي. وَكَمْ يَشْتَكِي الْ ... إنسان قُرْبَ المَوْتِ في عُمْرِهْ
شَكِيَّةُ الإنسان مَا تَنْتَهِي ... وَإنْ يَعِشْ دَهْراً عَلَى دَهْرِهْ
مَا أَغْدَرَ المَوْتَ بأَعْمَارِنَا ... وَأَغْفَلَ الإنسان عَنْ غَدْرِهْ
وَأَلعَبَ الجَدَّ بآمَالِنَا. . . ... وَأَقْرَبَ المَولُودَ مِنْ قَبْرِهْ
(القاهرة)
(فتحي)(230/55)
رسَالة العلم
الزنك كعنصر أساسي لنمو النبات
للأستاذ عبد الحليم منتصر
كان المعتقد إلى عهد قريب أن العناصر الأساسية لنمو النبات، أي التي لا يستطيع أن يتابع نموه بحالة طبيعية بدونها هي الكربون والأيدروجين والأكسجين والأزوت والكبريت والفسفور ثم الحديد والبوتاس والمغنسيوم والكلسيوم، ولم يجد العلماء كبير عناء في إثبات أهمية أي عنصر من هذه العناصر، ولم يصادفوا أية مشقة في دراسة الدور الذي يقوم به كل منها في بناء النبات، بل لقد عرفوا تفصيل كل ذلك بصورة قاطعة لم يعد الشك يتطرق إليها. فالثلاثة الأول تكون الكربوايدراتات التي توجد بالنبات، ومنها مع الثلاثة التالية، يتكون البروتبلازم ومركباته. أما العناصر الأربعة الأخرى فهي ضرورية جداً للنبات على رغم عدم دخولها في تركيب مادته. فالحديد والمغنيسيوم ضروريان جداً لتكوين مادة الخضير التي بدونها لا يستطيع النبات الأخضر تحضير مواد غذائه، كما أنه لا يستطيع تكوين النشاء إذا انعدم البوتاس من عناصر تغذيته، كذلك يدخل الكلسيوم في تكوين هيكل النبات الداخلي، أي في جُدُر خلاياه، كما أنه لازم ليكون انقسام الخلايا في الأجزاء النشطة عادياً
وليس ثمة شك في أساسية هذه العناصر التي يأخذها النبات - ماعدا الكربون والأكسجين للتنفس - من التربة. والقول بأن هذه العناصر أساسية لا يقصد منه أن غيرها لا لزوم له، بل على النقيض من ذلك قد يوجد بالنبات عشرات من العناصر الأخرى لها بعض الأثر في نمو النبات وأزهاره وأثماره، ولكنه لا يكون لانعدامها هذا الأثر الذي نلاحظه عند حذف أي عنصر من هذه العناصر سالفة الذكر. ويمكن القول بأن هذه العناصر هي الأساسية إجمالاً أو إطلاقاً، أما غيرها فقد يكون لازماً لبعض النباتات دون البعض الآخر، ولكن فقدها بالكلية ليس قوي الأثر على حياة النبات أي ليس مهلكا له
على أن هذا الثبت من العناصر قد أخذ يتزايد على مر الأيام نتيجة لنشاط العلماء وتجاريبهم الدقيقة، فقد قال بعضهم بضرورة عنصر البورن، وأثره البالغ في تحسين المحصول وحالة البذور جودة ومناعة. . . كذلك قيل عن أهمية المنجنيز لتنشيط الخمائر،(230/56)
والنحاس ودوره في التفاعلات الكيميائية بالنبات، والكلور وأثره في زيادة خضرار النبات وقلة نتحه، كذلك الفلور واليود وأثرهما في زيادة نمو النبات. وعن السليكون وأهميته في تمثيل حامض الفسفوريك في النبات، والصوديوم وفائدته في حالة قلة البوتاسيوم. وغير هذه العناصر كثير مما تحدث عنه العلماء نتيجة لتجاربهم وملاحظاتهم مما جعل بعضهم يضيفها إلى قائمة العناصر الأساسية، وإن كانوا لا يعنون في أغلب الأحوال أن تكون أساسية إطلاقاً، أي أنها لازمة لكل أنواع النبات، أو أن فقدها يسبب هلاك النبات. وسترى فيما نعرض في هذا الحديث مكان الزنك بين هذه العناصر المختلفة التي يحتاجها النبات، والآثار التي تترتب على فقده، والأخطار التي يتعرض لها النبات عند حرمانه منه، وذلك ما جعل موضوع أساسيته محل البحث والدرس عند العلماء في الوقت الحاضر
ولقد كان (رولن) أول من لاحظ ضرورة وجود الزنك لنمو بعض الفطريات، وأثبت أنه في حالة عدم وجوده يضعف نمو الفطرة ويقل ازدهارها، وقال إنه حتى في حالة عدم إضافته يكون موجوداً مع مركبات العناصر الأخرى نظراً لعدم نقائها، ولعل ذلك هو السر في تجاهل شأن الزنك. وقد عضده في ذلك (جافييه) بتجارب أجراها على الفطرة (اسبرجلس) ثم أعاد (شتينبرج) تجارب (جافييه) محاولاً تنقية مركبات العناصر التي كان يغذى بها الفطرة من أي أثر للزنك، فوجد أن نموها قد تأثر كثيراً. على أن أحداً من هؤلاء لم يقطع بأن الزنك عنصر أساسي لنمو النبات. بل لقد افترضوا آنئذ أن الزنك ما هو إلا حافز في حالة الفطرة. ولكن (رولن) أبدى رأيه في أساسية الزنك للنباتات الراقية، بيد أنه كان متحفظاً، فلم يقطع بذلك بل تركه للزمن يحققه ويمحصه
وقد أثبت كثير من العلماء تأثر النبات بكمية الزنك التي تضاف إليه، ومن أخص هؤلاء (ميز) و (سومر) و (ليبمان) الذين كانت تجاربهم مضرب المثل في الدقة والعناية والبعد عن مظان الضعف أو مواطن التشكيك، كاختبار الزجاج الذي تجري به التجارب للتأكد من خلوه من الزنك، كذلك خلو الماء الذي تروى به النباتات أو الغبار الذي يعلو المزرعة، أو المركبات الكيميائية التي تستعمل في المحاليل الغذائية، مثل هذه التجارب كان من أهم نتائجها إثبات ضرورة الزنك لنمو النباتات
وقد أثبت (هامس) في سنة 1932 فائدة الزنك لأشجار الليمون كما أوضح (هجلاند) في(230/57)
سنة 1936 أعراض المرض الذي ينتاب كثيراً من النباتات عند حرمانها قطعياً من الزنك. كما أثبت في كثير من الحالات تحسن المحصول وزيادة النمو في الحقل بعيداً عن تجارب المعمل، وذلك بإضافة الزنك للتربة فيكون له هذا الأثر البارع من اطراد في النمو وازدياد في الإيناع إلى شفاء من أعراض المرض، فإضافة بضعة كيلو جرامات من كبريتات الزنك للفدان قمينة بزيادة محاصيل كثير من الأنواع النباتية كالقمح والشوفان والذرة والترمس والبسلة وكثير من أنواع الفاكهة. وقد أثبت (موري) و (كامب) وغيرهما أن إضافة مركبات الزنك للتربة تفيد كثيراً في حالات تبقع الأوراق وتجعدها وجفاف الأفرع، وغير ذلك من الأعراض التي تصيب النبات نتيجة حرمانه من الزنك. كان من نتائج تقدم هذه البحوث أن استطاع علماء النبات توفير ملايين من الجنيهات كانت تضيع هباء في أمريكا نتيجة لما يصيب الموالح والتفاح والجوز والعنب من التبقع والاصفرار والانكماش مما يؤثر تأثيراً بليغاً في المحصول. وقد ظهر أن السبب هو نقص الزنك، وأن العلاج هو الزنك دون سواه، ولهذا سمي المرض نقص الزنك أو الحرمان من الزنك
ما هي أعراض هذا المرض، وكيف نشخصه بدقة، وما هي طرائق علاجه بمركبات الزنك؟ سيكون ذلك موضوع حديثنا في عدد الرسالة المقبل.
عبد الحليم منتصر(230/58)
القَصصُ
أقصوصة من اثيل مانن
حب في روما
للأستاذ دريني خشبة
يخطئ من يحسب أن الحب وقف على جماعة الأرستقراطيين من الناس، وخاصة الحب الرفيع السامي، الذي هو ينبوع آدميتنا والذي تبتعثه السماء في قلوبنا ليصهرها بآلامه الحلوة، وأشجانه الجميلة؛ وليفجر منها دموع الرحمة والمودة والحنان. . . وقد ينمو الحب في كوخ من قش، كما ينمو في قصر، وقد يكون في الكوخ أصدق منه في البيت ذي العماد، وقد يكون في ركن منسي، أصفى منه في جنة فيحاء. . . وهكذا كان حب هذا الفتى ميشيل، الخادم الفقير في أحد فنادق روما
لله ما أقسى المقادير! لقد كان ميشيل، الفتى الإيطالي المرح، أحق بأن يكون شاعراً يودع روحه في قصائد رنانة، ينشدها ويتغنى بها، لا خادماً ينضد الوسائد، ويُعنى بالسُّرر، ويَنْفض السجاجيد. . . و. . . ينظف أحذية النازلين!! وكانت له أم لولاها ما اضطر لأن يعمل كي يكفلها، إذ مات عنها زوجها في السنوات الأولى من البناء بها. . . وكان يؤوب إليها آخر كل نهار بحبه لها، وحرصه على إسعادها، ثم بليرات قليلة تشفي السغب، وتضمن السَّتْر، وتقيم أَوَدَ الحياة. . .
وكان ميشيل يحب الموسيقى، ويغرم بالقصص الإيطالية، ويشغف بمآسي الحب، وكان يتمنى له وفق إلى أن يكون واحداً من أولئك الأبطال الذين يملأون الروايات بالدموع والآهات، وإن لم يعيشوا مع ذاك إلا في أدمغة مبتدعيهم من الكتاب والمؤلفين
وكانت تعمل معه في الفندق فتاة لم تكن في رأيه أول الأمر شيئاً مذكوراً، وإن يكن شعرها الذهبي يلفت نظره أحياناً، وساقاها الجميلتان اللتان لهما ظلال خفيفة من بنفسج الأبنين تثيران في قلبه (استلطافاً) لم يفكر مرة في أنه ينتج حباً أو يتأصل فيكون غراماً. . . لا. . . لم يفكر ميشيل مطلقاً في أن هذه الفتاة البائسة مثله، ستكون حلمه وأمنيته، وأنه من أجلها سيقضي أطول لياليه مسهداً كما يقضي الشعراء لياليهم في عوالم شاسعة من المنى والأحلام(230/59)
وكان ميشيل ينقطع عن العمل نصف يوم عطلة في كل أسبوع وكانت الفتاة ماريا، من أجل ذلك ترهق بالعمل، وكان يرهقها أكثر، وجودها مع نادل آخر شرس الطباع، لئيم الخلق، يدعى فراري. . . كان يتعمد أن يترك لها كل عمل مجهد، على أن يستخف هو باليسير الأقل. . . وكان فراري ينقطع عن العمل أمسية واحدة كل أسبوع كما ينقطع ميشيل، وطالما كان يختار أمسيته في نفس اليوم الذي كان ينقطع فيه زميله، فكانت ماريا المسكينة توزع نفسها على جميع أنحاء الفندق، وكان بهو الطعام يتعبها أكثر من كل شيء، لاختلاف أمزجة الآكلين وكثرة طلباتهم، وضرورة مراعاة ترتيب النداءات، وإلا فالويل لماريا من هؤلاء (السياح) الإنجليز المتغطرسين الذين يغشون هذا الفندق دائما
وقد لحظ ذلك ميشيل، فكان يتعمد أن يبقى في أمسيته، دون أن يذهب لإجازته، ناسياً أن أمه العجوز الرؤوم المريضة المشفية على الموت، تنتظره ليسمر إليها، ويخفف عنها آلامها. . كان ميشيل ينسى هذا الواجب المقدس، ولكنه كان لا يلتفت إلى أن في عمله هذا تقصيراً، بل بالعكس من ذلك، كان يرى فيه إنسانية سامية، وعطفاً تحتمه عليه رجولته، على هذه الفتاة ذات الشعر الذهبي والساقين اللتين لهما ظلال جميلة من بنفسج الأبنين. . . ولم يفكر ميشيل مرة أنه فجر الحب ينبلج في قلبه، وأنها أنفاس الغرام العطرية تجذبه كالفراش إلى هذه الزهرة الحلوة الغضة. . . كلا. . . بل لم يفكر قط في أن أمه الرؤوم المريضة كانت أحوج إليه وإلى لحظات ينفقها عليها، من هذه الفتاة اللعوب الطروب ذات الفم الدقيق، ماريا التي تعمد ألا يغادر الفندق ليساعدها وليخفف عنها هذا العبء الهائل، من رفع الأطباق وجمع الأكواب، وتنضيد البهو، وتلميع الموائد. . . حتى لا يهان هذا الشعر الذهبي المغدودن الذي يرف كأنفاس الحور على صدرها الناهد وظهرها العاجي، وحتى لا ترهق الساقان الملفوفتان اللتان لهما هذا السحر الجميل المنعكس من بنفسج الأبنين!!
ولم تشكره ماريا قط، ولم تتعب تفكيرها في السبب الذي كان يصرف زميلها عن التمتع بإجازته القصيرة، وكانت كلما همت بعمل شاق من أعمال البهو، وأقبل هو مهرولا ليؤديه نيابة عنها أنغضت برأسها الذي يتخابث صغيراً في شفق الشعر الذهبي، ومضت لطيتها، تاركة لميشيل أن يقوم بكل عسير شاق من أعمال الصالة. . . ووقفت تعبث بدمية أو بباقة من الزهر، أو تصلح صورة أو تسقي أصيصاً. . . وكان الفتى مع ذاك يخالسها نظرات(230/60)
كالودق يخرج من بين السحاب، وكان مع ذاك أيضاً لا يشعر بتعب ولا يناله إعياء. . . وكان يسعد سعادة لم يكن يعرفها كلما سمع صوت ماريا يرن في فضاء البهو الكبير، فيرن جرسه الفضي في جوانحه، ويوقظ فيها أمانيه لتي كان يتصورها لياليه الخاليات ولا يظفر بتحقيقها
وأخيراً عرف أنه الحب. . .
وكانت مفاجأة حلوة لروحه الصادية أن تروى أول ما تروى من هذه الكأس المترعة بمفاتن ماريا ذات الشعر الذهبي، والساقين الملفوفتين في بنفسج الأبنين. . . وكانت مفاجأة حلوة كذلك أن تتبرج الدنيا القبيحة هكذا فتصبح جميلة سافرة بسامة، بعد أن كانت عبوساً قمطريراً معتمة حين كان قلبه لا يعرف الحب. . . ويصبح كل ما حوله ضاحكاً يتأرج ويتبرج ويهتز كما تهتز الأعطاف بالبشر
ولكن ميشيل كان حيياً. . . وكان كلما هم بمحادثة ماريا عما يجيش من حبها في قلبه ارتبك وانعقد لسانه، والتوت الكلمات فكأنها من حديد لا يلين، وخفق قلبه وأزلزل، وهرب الدم من خديه، فينصرف حزيناً محسوراً. . . ولكن نظرة واحدة إلى شعر ماريا وساقيها كانت تعيد ابتهاجه، وترد صوابه، فيرضى بالصمت الذي لا يد له في غيره. . .
وظل حبه دفيناً في قلبه يشفه ويضنيه؛ وظل هو قانعاً راضياً بأن يكون في جوار ماريا دائماً. . . وفي ظلها الوارف أمسية من كل أسبوع؛ يحمل عنها أوزارها، ويقوم بكل ما يشفق عليها أن تؤديه من مشاق
وكأنما لحظ الخبيث فراري، الكهرباء التي تزلزل أركان ميشيل فأقسم ليكيدن له؛ وكان فراري فَتىً لَعَّاباً يجيد إلى درجة الخطورة إعمال عينيه وقسمات وجهه، ويتقن زخرفة الكلمات التي تقع عليها قلوب العذارى كما يقع الفراش في النيران. . . وكان هو الآخر يرى في ماريا غادة لم تخلق لهذا العناء، وكان يزن جمالها بعقله لا بقلبه. . . أي أنه كان يراها تصلح كزوجة نافعة تجلب اليسر والرخاء للرجل الذي يحظى بها، لأنها لو عملت في فندق آخر لحصلت على أضعاف ما تحصل عليه هنا. . . ولم لا؟ أليس لها هذا الشعر الذهبي الذي هو في نفسه كنز؟ أليس لها هذا الجسم الممشوق والقد المعتدل، والخطى الراقصة التي تلفت الأنظار وتكهرب القلوب؟! إذن لينافس فراري زميله ميشيل. . .(230/61)
وليطلب من مديرة الفندق استبدال أمسيته التي يستريح فيها ليعمل مع ماريا حين يكون ميشيل في إجازته، وليظفر فراري بكل ما تصبو إليه نفسه، وليتهم ميشيل، وليلفق له التهم، ولتصدق المديرة الحمقاء ما يُتهم به الفتى البائس الذي قضى عليه سوء طالعه أن يعاشر هؤلاء اللئام وأن يأكل من أيديهم كفافه، في حين كان ينبغي أن يكون شاعراً أو أديباً يسمو بأدبه على الأدباء. . . لا على خدم الفنادق. . . مسكين ميشيل! لقد كدر عليه هذا الإبليس المقتدر الملفق صفو حبه المضمر الذي يلذه بقدر ما يشقى به. . . وأثاره ومزق قلبه ما رأى من العلائق بين ماري وبينه، ما لم يستطع هو أن يظفر بشيء منه برغم كده وتضحيته وحرصه على التقرب من الفتاة والتودد إليها
وأخذت الدنيا تسمج مرة ثانية في عين الفتى، وتكتسي سربالاً أسود اللون قاتماً. . . وعادت نفسه الأديبة الشاعرة تختلج بما تختلج به نفوس الشعراء البائسين. . . وعاد يوماً إلى داره فوجد أمه تعالج سكرات الموت. . . فلما رأته أشارت إلى صليبها وهي لا تقوى على حمله، فأدناه من فمها فقبلته، ونظرت إليه بعينين مغرورقتين، ثم تمتمت بكلمات هي من غير شك دعاء له؛ ثم لفظت آخر أنفاسها. . . فذعر ميشيل وانخلع قلبه وطفق يبكي ويُعول، وينظم ألحانه فيسرها في نفسه
ولما عاد إلى الفندق بعد ثلاثة أيام، كان يحدث نفسه - إذ هو منطلق في الطريق - أن ماريا لابد عاطفة عليه، معزيته أحسن العزاء وألطفه، جالسة إليه تواسيه وتذهب عنه الحزن. . . وكان يتصورها معه في بهو المطعم تلاطفه وتظهر له الألم من أجل وفاة أمه. . . وأنه مستطيع لابد أن يظهرها على حبه، وأن يتعرف لها بمكنون قلبه. . . وصمم على أن يكون جريئاً مقداماً هذه المرة وأن ينتهز الفرصة ليقهر هذا العذول: فراري، وأن ينحيه عن فتاته مهما كلفه ذلك، فإن لم تصخ له وتنصره عليه، فلينصرف عن هذه الدنيا المخادعة، ولْيَلُذ بأطراف الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، فلن يعدم لقيمات تسد مسغبته، وقطرات من ماء تبل أواره. . . وهكذا تداعت هواجسه، وتسلسلت أفكاره؛ وكان كلما تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فذهب به مذاهب شتى. . . حتى إذا وصل إلى الفندق، وتسلم عمله، راح يتنسم ماريا ويتشمم عبيرها، ولكنه، وا أسفاه، لم يجد عندها شيئاً!! إنها سراب بقيعة!! لقد ذهبت ماريا. . . وذهب فراري. . . وذهبا معاً في يوم واحد، وفي لحظة(230/62)
واحدة، ولسبب لم تستطع مديرة الفندق أن تذكره لميشيل، لأنها لم تستطع أن تعرفه!!
وضاقت عليه الأرض بما رحبت؛ وكيف لا تضيق وقد فقد أمه وفقد هواه في أسبوع واحد؟ لقد فقد القلب الذي كان يعفو والقلب الذي كان لا يعرف. . . فقد في الأول المحبة والظل الوارف، والتسامح والرضى؛ وفقد في الثاني هذا الأمل الذي حبب إليه الحياة، وجعلها حلوة مشرقة بسامة، لأنها تضم ماريا. . . ماريا ذات الشعر الذهبي الهفهاف، والوجه المتألق المشرق، والساقين ذاتي الظلال من بنفسج الأبنين؟ أين ذهبت ماريا يا ترى؟ أين ذهب بها الشيطان فراري إن كانت قد ولت معه؟ ولماذا ذهبا معاً؟ لقد كانت تضيق به، وتشكو منه، ولا تكاد تستنشق هواء يشركها فيه؟ فأين ذهبا معاً؟ ولم ذهبا هكذا من دون أن يعلم أحد؟
وانطلق ميشيل يطوي الطريق السادرة النائمة في ظلال البلوط والصنوبر، المؤدية إلى ضاحية تيفولي، وهو ينظر بعينين موجعتين محزونتين إلى هذه الشمس الرومانية الغاربة، التي تتوهج كالجمرة الكبيرة في هشيم الطبيعة، وينظم في أعماقه ألحانه، ويستمع إلى خرير الجداول مختلطاً برنين الناقوس الكبير الذي يحيي بدقاته السماء، ويسألها للناس الرحمة. . . ولقد بدا له أن يعرج إلى هذا البيت المنيف من بيوت الله فيصلي له، ويسجد ويخبت، لعل روح ماريا تكون معه فتسجد هي الأخرى، وترق له، وتكفر عما أعرضت عنه. . . بيد أنه مضى في طريقه لا يلوي على شيء، لأن هذه فكرة واحدة من آلاف الفِكَر التي كانت لا تفتأ تطيف برأسه وهو لا يعي
واشتد خبَله، وظمئت روحه إلى ماريا ظمأ شديداً، وصار يلتمس لها المعاذير من هذا النكران الذي ما تعمدته ولا قصدت إليه لأنها لم تكن تدري ما يضمره لها من هيام في سويدائه، وظل يهتف باسمها في نومه كما يتغناه في يقظته، لكنه كان يتغنى به كما يتغنى الصوفي المجذوب أسراره. . . وهو لا يدري ما يقول!! وجلس مرة يقلب صحائف مجلة إنجليزية فوقع بصره على صورة ماريا. . . ماريا بعينها!؟ يا عجبا! ومن أين لماريا هذا الصيت البعيد والذكر المنتشر؟ إنها كانت مثله لا تعرف كلمة إنجليزية واحدة، وهذه مجلة للآداب والمسرح، وليس معقولاً أيضاً أن تكون ماريا قد التحقت بالمسرح الإنجليزي نجمة عظيمة من أنجمه، وليس معقولاً أيضاً أن تكون قد أصبحت في أيام معدودات أديبة واسعة(230/63)
الإلمام بأدب هذه اللغة الإنجليزية التي كان يحسبها ميشيل - لصعوبتها في نظره - من لغات الشياطين! فما ماريا وهذه المجلة الإنجليزية يا ترى؟ وما لها هي وما للأدب الإنجليزي والمسرح الإنجليزي؟! ونظر أسف الصورة ليقرأ اسم صاحبتها. . . ولشد ما كانت دهشته عظيمة هائلة إذ وجد اسم صاحبة الصورة (إيزابل هايس)!! المؤلفة الكبيرة والقصصية البارعة، التي طالما قرأ لها روائع وآيات مترجمة إلى لغته الإيطالية؟!
لا بأس. . . إنه لم يحصل مرة على صورة ماريا، وهاهي ذي صورة إيزابل لا تفترق عنها في شيء. . . فليحتفظ إذن بها، وليجعلها بين شموع وضاءة تلتهب بالقبس المقدس الذي يتأجج ملء قلبه. . . وليصلَّ لها كل مساء وحين يصبح. . . وليذكر في فمها الرقيق الصغير تلك الأقحوانة التي كانت تنفرج عنها شفتا حبيبته. . . ولتباركه الصورة المستعارة بكلمات صامتة لا تبين، فقد كانت ماريا لا تبين كذلك. . . وليرَ هو في وجهها الوضاء جمالاً جديداً كل يوم جديد، وليعش على الأماني يبهرجها لنفسه، ولا بأس من أن يضع الصورة كلما نام تحرسه عند رأسه. . . وبالاختصار، لتكن حياته أحلاماً في أحلام. . .
غير أن الفندق صار شيئاَ كريهاً لا يطاق، لأن ماريا لم تعد ترسل في أجوائه أنفاسها. . . بيد أنه مع ذاك جميل محبب لأن في كل ركن من أركانه ذكرى لماريا تغذي أحلام ميشيل، وترسل دموعه كلما جفت؛ وهو مع ذاك أيضاً هيكل حبه الأول الذي استيقظ فيه قلبه من سبات العدم فخفق بنعمة الهوى. . . لهذه المتناقضات سيقيم ميشيل فيه. . . وليكن رئيس الخدم بعد شهر أو شهرين، وليتضاعف راتبه، وليشتر بجانب كبير منه كثيراً من قصص إيزابل هايس التي لم يقرأها، لأنه أصبح يرى في آثار هذه الكاتبة الإنجليزية روح ماريا. . . . وليحاول أن يتعلم الإنجليزية ليقرأ المؤلفة في لغتها، وليفشل في هذه المحاولة، فقد أوري إحساساً شريفاً نحو صورة لسيدة تشبه ماريا، وكفى بذلك برهاناً على وفائه لذكرى فتاة لم تعرف قط أنه يهواها. . .
وأقبل فوج من (السياح) عظيم من أغنياء الإنجليز فنزلوا في هذا الفندق، وأعجبوا بحديقته إعجاباً شديداً، فقد كانت ظلال الأبنين البنفسجية تعكس على نضرتها وخضرتها ألواناً شعرية تصول فيها الأرواح وتجول
وحان موعد الغداء فانتشر النازلون في بهو المطعم الوردي، وجلسوا إلى موائدهم(230/64)
مسرورين فرحين، وراح النُّدل بينهم وجاءوا، هذا يحمل الأطباق الحافلة، وذاك يحمل الماء المثلوج، وثالث الكامخ الإيطالي اللذيذ. . . وأشرف ميشيل على الجميع بملابسه الناصعة، ووجهه الحزين الباسم، فطفق يأمر هذا ويشير إلى ذاك، ويدعو هذه ويحث تلك، والسياح مقبلون على آكالهم وأشرباتهم آخذون في سمر هامس، وكلام رقيق. . . شأن السادة الإنجليز في كل فج. . .
ثم وقف ميشيل أمام حسناء إنجليزية فجأة ولم يرم!
ما له وقف هكذا كالتمثال ويداه مقبوضتان! إنه لا ينبس ولا يتحرك! بل سمر عينيه في السيدة المشغولة عنه بطعامها وشرابها، ولما يأبه للنداءات والأجراس التي تهتف به من كل صوب!. . . ودهش النازلون فجعلوا يحدجونه وإن لم يشتغلوا به عن طعامهم ثم استبطأته المديرة فانطلقت إليه كي ترى. . . فلما وجدته يقف عن كثب قريباً من السيدة الإنجليزية لكزته لكزة هينة لينة، لكنه لم ينتبه. . . فنظرت المديرة إلى السيدة السائحة نظرات سريعة فعرفت كل شيء
- أستميحك عذراً يا سيدتي فهذا النادل ميشيل أديب مشغوف بك، يقرأك ويكب على قراءتك، وليست لك قصة أو درامة منقولة إلى الإيطالية إلى وقد اقتناها. . . والأعجب من كل ذلك أنه اقتنى صورتك من إحدى المجلات التي تكتبين فيها، ووضعها في إطار ثمين، وأولاها من عنايته ما لم يول حياته الخاصة! أندريا! أندريا!
وأقبل الخادم أندريا فقالت له المديرة:
- انطلق إلى غرفة ميشيل فأحضر صورة السيدة إيزابل هايس!
ونظرت السيدة الأديبة إلى صورتها فدهشت لاحتفاظ النادل الإيطالي بها، وشاع فيها برغم طبعها الإنجليزي المعروف إحساس بالكبرياء والزهو. . . حتى إذا فرغت من طعامها هتفت بميشيل وسمحت له بالجلوس إليها يكلمها وتكلمه. . وكانت تجيد الإيطالية فكان الحديث بينهما جميلاً جذاباً ذا شجون. . .
ومما سحر ميشيل أنه سمع من فم الأديبة الإنجليزية صوت ماريا، ورأى فوق رأسها سلوكا هفهافة من الذهب تشبه شعر حبيبته، ووجد الجسم السمهري الممشوق هو هو جسم صاحبته وقوامها. . ولم يكن باقياً إلا أن تكون الأديبة إيطالية. . ونادلة. . لتكون ماريا. .(230/65)
وسكنت إيزابل في الطابق العلوي في الغرفة الأخيرة من البهو الكبير. . . واستدعت المديرة فأوصتها ألا يرتفع للخدم ضجيج ولا لغط لأنها اختارت هذه الغرفة لتخلو إلى نفسها فتكتب ما هو مطلوب منها من القصص. . . وطمأنتها المديرة. . . وذهبت
وأقبل فوج آخر من السياح، فنهضت المديرة تدبر له الغرف اللازمة. . . وكانت قريباً من غرفة إيزابل غرفة تقوم للبهو مقام مخزن. . . فاستدعت ميشيل وخادمة أخرى لتساعده في نقل الصناديق والأمتعة المحفوظة بها. . . ثم أمرتهما أن يلزما السكينة والصمت، وألا يقطعا على النازلة في الغرفة رقم 17 هدوءها. . . (لأنها تكتب لك قصة رائعة يا ميشيل!)
وامتثل الخادمان، وأخذا يحملان ما بالغرفة. . . ولم يبق إلا هذا الصندوق الثقيل الذي لا يعرفان ماذا كان بداخله. . . فلما أخرجاه من الغرفة، وشرعا يحملانه في البهو. انفلت من يد الخامة فهوى إلى الأرض، وانتثر ما بداخله من أطباق وزجاج، فصار هشيماً، وأحدث في البهو صوتاً مزعجاً كأنما هوى الفندق كله وصار أنقاضاً على أنقاض. . . وأقبلت المديرة ترغي وتزبد وتصخب، وتلعن وتسب. . . وبرزت إيزابل كالمجنونة لأن كل أفكارها طارت كالحمام من برج رأسها. . . - كما عبرت هي - واجتمع السياح والخدم يشهدون ويتسلون بدافع الفضول. . . ثم التفتت المديرة إلى ميشيل، وهي تنظر في الوقت نفسه إلى إيزابل وقالت له: (أما أنت أيها المشئوم فمفصول من عملك، ولا حاجة للفندق بك!)
وغضب الفتى وإن لم يتكلم. . . وقبل أن يذهب لشأنه هتفت به الأديبة الإنجليزية وواسته بكلمة، ثم صافحته، ودست في يده ورقة مالية كبيرة. . . واعتذرت مع ذاك إليه، لأنها كانت سبب ما لحق به من أذى. . .
ولم يذهب ميشيل البائس ليأخذ متاعه ويمضي. . . بل انطلق كالمجنون يذرع طرقات روما العتيدة، حتى كان عند تخومها. . . وهو ما يزال قابضاً على الورقة المالية، ولا يدري ما هي؟! ثم نظر في البطاح القريبة فرأى ضاحية تيفولي ببلوطها الرائع وحورها الجميل، وشجر السرو المعجب البارز في جنباتها. . . فانطلق في طريقه إليها. . . حتى إذا بلغها، كان قد نال منه الجهد، وأحس بتعب شديد. . . ولم يكن ثمة مكان يستريح به إلى(230/66)
هذه الفنادق الهائلة التي تشتهر بها هذه الضاحية. . . فلم يبال. . . ودخل أول واحد منها، ثم انحط على كرسي كبير عند مائدة، وأسند رأسه وراح يحلم بماريا. . . وبأيام ماريا. . . ويسكب دموعاً حارة. . .
له الله! كم ألف فكرة طافت برأسه الثائر وقلبه المشبوب!!
ثم أقبلت نادلة فهمست به وهو في سكراته: ماذا يطلب. . . بيد أنه كان غارقاً في هواجسه وأحلامه، فلم ينظر إلى الفتاة. . . ومدت هي يدها الصغيرة اللينة توقظه. . . أو تنبهه. . . فرفع رأسه قليلاً. . . لكنه أحسن كأنما الدنيا تدور به، وكأنما الأرض تسوخ تحت قدميه. . . وصرخ يقول:
- ماريا. . . أنت هنا. . .؟
وانهمرت دموع الفتى المسكين تغسل خديه الأشحبين. . . وقالت ماريا تجيبه، وكأنما حُلّت عقدة السحر. . . (أجل يا ميشيل أنا. . . هنا! فمن جاء بك؟)
- لقد طردوني يا ماريا. . . فذهب قلبي يبحث عنك حتى اهتدى إليك. . .
- شكراً للمقادير يا عزيزي. . . ولكن. . . أما تزال تحبني؟
- وكيف عرفت يا ماريا؟
- لقد كنت أحسبك تعبث بي. . . وهذا ما جعلني أفر مع فراري غليظ الكبد، وأتزوجه في نابلي. . . نابلي! آه لهذه البلدة المتوحشة!!
- أنتِ؟ تزوجت من فراري. . .؟
- أجل. . . ولكنه كان زواجاً منحوساً. . . لقد عشت معه ثلاثة أشهر، كانت نكداً كلها. . . والحمد لله. . . لقد قتل في شجار نشب بينه وبين عصبة من رعاع نابلي، فأراحني الله منه. . .
- إذن أنت خالصة الآن لي؟!
-. . .؟. . .
- إذن هلمي يا ماريا. . . هلمي. . .
- أهذه ورقتك؟ ماذا؟ ورقة مالية كبيرة. . . بخمسين ليرة؟!
- لا. . . إنها ليست لي، ولكنها لسيدة إنجليزية تصدقت بها علي. . .(230/67)
واستقالت ماريا من فورها. . . وانطلقت مع ميشيل إلى روما. . . وقوبلا في الفندق مقابلة ثائرةً صخابة. . . ولقيتها المديرة بالترحاب، وبالغت في الاعتذار لميشيل، لأنها علمت أنه لم يتسبب في تهشيم الصندوق. . . ولكن الفتى ازور عنها، وسأل الكاتب ظرفاً كبيراً من الورق وضع فيها الورقة المالية. . . وصعد إلى الطابق العلوي فاستأذن على إيزابل هايس الأديبة الإنجليزية فأذنت له. . . ولم يجلس، بل قدم إليها الظرف بما فيه. . . وانطلق شاكراً
وحمل متاعه. . . وصحبته ماريا إلى بيته القديم الذي لم يدخله مذ ماتت أمه. . . وهناك، طفق الحبيبان ينفضان غبار الموت والفقر والذكريات المشجية عن الأثاث القديم. . . وكشف في صندوق أمه عن فضل قليل من المال كان حسْبه للعقد على ماريا، ولحياة ثلاثة أشهر كانت كلها عسلاً. . . وكتب خلالها قصته. . . وباعها بمبلغ كبير من المال. . .
وعاش في ظل ماريا. . . من أنبغ الأدباء الإيطاليين
(ملخصة)
دريني خشبة(230/68)
البَريدُ الأدَبيّ
الأستاذ زيجفريد وأثر العلوم السياسية في تكوين الأمم
ألقى الأستاذ اندريه زيجفريد الأستاذ بالكوليج دي فرانس ونزيل مصر الآن في كلية الآداب بالجامعة المصرية محاضرة شائقة عن العلوم السياسية وأثرها في تكوين الأمم والحكومات؛ ومن رأي الأستاذ زيجفريد أن العلوم السياسية من العناصر الضرورية لتكوين الحكومات والرأي العام في الأمم الديموقراطية، وأن الأداة الحكومية يجب أن ترتكز على عناصر مثقفة من الناحية السياسية لتستطيع القيام بمهمتها؛ أما رجال السياسة فيرى الأستاذ زيجفريد أنه ليس من الضروري أن يلموا بكثير من التفاصيل الإدارية والفنية ليتولوا مهام القيادة والحكم، وليس من السهل أن يتعلموها، وللسياسي العظيم شخصية ومواهب خاصة تغنيه عن معرفتها. ففي السياسة يجب أن يكون الإنسان شخصاً ما. أما في الإدارة فيجب أن يكون الإنسان شيئاً ما
كان اللورد كيرزون نائب الملك في الهند يقول: إن الحاكم يحكم بشخصيته. بيد أن هنالك فريقاً من الساسة يجمع بين الصفتين أعني المزايا السياسية والمزايا الإدارية، ومن هؤلاء نابوليون وثيير وبسمارك وكافور وموسوليني؛ وهنالك أيضاً بعض الساسة الذين تعوزهم الصفات الإدارية والفنية حكموا بأعظم قسط من النجاح، ومن هؤلاء لويد جورج، وارستيد بريان
على أنه إذا كان الرجل العبقري يستطيع الاستغناء عن هذه التفاصيل فإن الحكومات لا تستطيع الاستغناء عنها؛ وتتفاوت كفاية الحكومات في الحكم بقدر ما تملكه من المزايا الإدارية والفنية؛ والحكومات القوية العظيمة هي التي تتمتع بأعظم قدر من هذه المزايا؛ ودراسة العلوم السياسية هي أول عنصر يمهد للتمتع بها
وبهذه المناسبة نذكر أن الأستاذ زيجفريد، فضلاً عن كونه أستاذاً بالكوليج دي فرانس، عضو بالمجمع العلمي الفرنسي؛ وله عدة كتب هامة في الاقتصاد السياسي والاقتصاد الاجتماعي؛ ومن أشهر كتبه: (الولايات المتحدة اليوم): ' ' (وأمريكا اللاتينية) ' (والأزمة البريطانية في القرن العشرين) وغيرها وهو يعد الآن مؤلفاً من هذا النوع عن مركز فرنسا في البحر الأبيض المتوسط ويعنى أثناء دراسته بمصر بملاحظة أثر(230/69)
مدنية البحر الأبيض في وادي النيل
دراسة علمية لتاريخ العراق الحديث
صدر أخيراً كتاب بالإنكليزية عن العراق يعتبر من خير المراجع التي صدرت عن العراق الحديث؛ وعنوان هذا المؤلف الجديد هو: (العراق: دراسة لتطوره السياسي) ومؤلفه مؤرخ ومستشرق أمريكي هو الأستاذ ب. و. إيرلاند والكتاب عبارة عن دراسة سياسية اجتماعية دقيقة لتاريخ العراق وتطوراته الحديثة حتى عصر الاستقلال. ويبدأ المؤلف دراسته منذ ظهور النفوذ البريطاني في العراق لأول مرة، حيث ظهرت جمعية الهند الشرقية البريطانية في القرن الثامن عشر ورأت في العراق مركزاً هاماً للتجارة الهندية، واضطرت للمحافظة على مصالحها التجارية أن تقوم من آن لآخر بحملات بحرية تأديبية ضد عرب السواحل
ويستعرض المؤلف تدخل إنكلترا الحديث في شئون العراق بعد زوال الحكم التركي، ويقول إن الاستعمار الإنكليزي كثيراً ما ينحدر إلى مغامرات وتجارب خاطئة؛ ولكنه كان بعيد النظر حينما استقدم الملك فيصلاً ليتبوأ عرش العراق. وقد كان الملك فيصل في رأي المؤلف من طبقة (المستبدين الأخيار) وكانت جهوده تتجه على العموم إلى خير البلد الذي وضعته الأقدار على عرشه. ثم يقول المؤلف إن مستقبل العراق تحفه بضع الريب المظلمة، ويتوقف بالأخص على ما يبديه الشعب العراقي من جهود حازمة تشبه تلك الجهود الموفقة التي أبداها حتى وصل إلى الاستقلال؛ ويعاني العراق كثيراً من المتاعب الجنسية والطائفية، ومشاكل البدو، وهذه جميعاً تعوق تقدمه؛ ومن ثم فإن الوطنية العراقية يجب أن تتجه إلى ما وراء الاستقلال، وأن تروض نفسها على حمل أعباء الدولة والإدارة السياسية. ويمتاز الكتاب بطابعه العلمي الدقيق وكثرة مراجعه ووثائقه
العلامة كارير الفائز بجائزة نوبل
أشرنا في العدد الماضي إلى الفائزين بجوائز نوبل هذا العام وقلنا نقلاً عن الأنباء البرقية إن الذي فاز بجائزة نوبل للكيمياء هو العلامة النرويجي كارلر؛ ولكنا بمراجعة البريد الألماني الأخير علمنا أن الذي فاز بهذه الجائزة هو العلامة السويسري الدكتور باوو كارير(230/70)
بالاشتراك مع الأستاذ هواث الإنكليزي
وقد منح العلامة كارير هذه الجائزة لمباحثه القيمة عن أنواع الفيتامين، وأثر ألوان النبات فيها. وملخص ترجمته أنه درس الكيمياء دراسة عميقة، ومنذ سنة 1913 وهو يشغل كرسي الكيمياء في جامعة تسيرنج، وفي سنة 1919 عين مديراً للمعهد الكيميائي؛ وفي سنة 1932 حصل الدكتور كارير على جائزة مارسيل بنوا من أجل مباحثه ورسائله عن (هيدرات الفحم) ثم ظهر بعد ذلك بمباحثه عن الفيتامين، ولفتت إليه أنظار الدوائر العلمية الدولية؛ ومن أجلها منحته جامعة برزلاو إجازة الشرف في الطب سنة 1933؛ وله عدة رسائل ومؤلفات في الفيتامين وألوان النبات تعتبر حجة عالمية في بابها
تمثال للثقافة العربية
تألفت لجنة من بعض المستشرقين الإيطاليين والشرقيين المقيمين في إيطاليا للعمل على إقامة تمثال للثقافة العربية، في مكتبة الأمير وزيانة، أسوة بالتماثيل المقامة لعباقرة الأمم الأخرى
وقد بعثت إلينا اللجنة بكتاب تضمن السؤالين التاليين، واللجنة ترجو من المعنيين بالثقافة العربية أن يجيبوا عن هذين السؤالين، وهما
1 - من هو الشخص العربي المبرز في النظم، أو النثر، أو الفلسفة، وتفوق على السلف والخلف، حتى تمثلت فيه الثقافة العربية؟
2 - متى أجمع الرأي على واحد بين الأقدمين، مثلاً، ولم يكن له صورة فهل من المستطاع رفع تمثال له؟ وإذا ما أمكن ذلك، فأي شعار أو رمز يصح أن يمثل الثقافة العربية بكل معانيها؟
والمرجو إرسال الرد على هذين السؤالين إلى سكرتير اللجنة بعنوانه الآتي:
, 6 -
معرض مدرسي لدور العلم الحديثة
أقام المجمع الملكي للمعماريين البريطانيين معرضاً عظيماً في لندن في أكتوبر الماضي (12 - 19) لدور العلم الحديثة جمع فيه صوراً شمسية ونماذج مجسمة لأحدث ما استجد(230/71)
من وسائل التعليم في الممالك الراقية (الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وشمال غرب أوربا) وقد عني أكبر العناية بإبراز مستحدثات مدارس التعليم في الهواء الطلق. وكان مما استلفت الأنظار معروضات القسم الفرنسي، ومنها كرة هائلة جداً تمثل الأرض بجميع قاراتها ومحيطاتها وبحارها وجبالها وممالكها وأشهر أنهارها ومدنها. وقد أحيطت هذه الكرة الكبيرة بسلم عظيم دائري يبدأ من القطب الشمالي ويلف حولها حتى ينتهي إلى القطب الجنوبي، بحيث يبدأ التلاميذ زياراتهم ومشاهداتهم من أول الدرج فيرون كل دقائق العالم في جميع أرجائه حتى ينتهوا إلى القطب الشمالي. . . والعجيب أن هذا السلم يتسع لزيارة مدرسة يربي عددها على الأربعمائة من التلاميذ. . . وبعد أن ظل المعرض فاتحاً أبوابه للجماهير أسبوعاً بأكمله اقترحت الحكومة أن ينتقل في سائر أنحاء الجزر البريطانية على أن يلبث أسبوعاً في كل مدينة كبيرة ليستطيع الناس ورجال التعليم أن يلموا بما فيه، وأن يطبقوا ما يرونه ثمة في مدارسهم؛ وسيقضي المعرض في رحلته هذه عامين كاملين حتى ينتهي منها في أكتوبر سنة 1939
تزوير وبراءة
علمت أن مجلة (المكشوف) البيروتية نشرت في أحد أعدادها الأخيرة خطاباً زعمت أني أرسلته إليها ومقالاً عن الأدب المصري نسبته إليّ؛ فأثار ذلك مني دهشة واستنكاراً لأني لم أكتب مطلقاً إلى هذه الصحيفة أي خطاب ولم أرسل إليها أي مقال؛ وما كنت أتصور أن هذه الصحيفة التي عرفت بإمعانها في الطعن في مصر والكتاب المصريين والنيل منهم تذهب في جرأتها إلى حد التزوير عليهم
فإلى أن أتخذ الإجراءات القانونية ضد الصحيفة المذكورة لأدحض هذا التزوير الشائن أعلن على صفحات الرسالة بكل قواي أني لم أرسل إليها في حياتي أية رسالة ولم أنشر فيها حرفاً واحداً
وفي هذا التكذيب الحاسم ما يكفي الآن
محمد عبد الله عنان
كذا. . .!(230/72)
رأى قراء الرسالة الغراء في العدد الماضي هذه الكلمة (كذا) حاشية على كلمتين في بيتين من قصيدتي (وحي جديد)
أما الأولى فعلى كلمة (منغومة) في البيت السادس:
تقسيم موسيقى ... منغومة النبر
وهي هنا (كذا) حقيقة، كما أردتها وكتبتها، لأن (منغومة) نعت لكلمة (موسيقى) وهي مؤنثة، وتكون المعنى هكذا:
في لفتة الجيد ... في خفقة الصدر
تقسيم موسيقى ... منغومة النبر
أما الثانية فعلى كلمة (لي) في البيت الثلاثين:
فهبي لي روحاً ... من رقية الثغر
وهي هنا ليست (كذا) ولكنها غلطة في الكتابة والنقل، وصحتها (له) بدلاً من (لي)
(حلوان)
سيد قطب
(الرسالة): لا تزال (كذا) موضوعة على (منغومة) لأن
الأستاذ الشاعر أعربها ولكنه لم يذكر في أي استعمال عربي
أو في أي قاموس لغوي وجدها
لازلو مصور الملوك
نعت أنباء لندن الأخيرة فيليب دي لازلو المصور المجري الشهير الملقب بمصور الملوك لأنه قام بتصوير جميع ملوك العالم المعاصرين؛ ويعتبر لازلو من أعظم مصوري العصر الحديث، وقد ظهر نبوغه منذ أوائل هذا القرن بصورة بارزة؛ ومنذ سنة 1914 انتقل لازلو إلى لندن وعاش فيها وتجنس بالجنسية الإنكليزية؛ ومما يذكر أنه قدم إلى مصر منذ أعوام؛ وعمل صورة رسمية للمرحوم الملك فؤاد الأول، وصورتين لصاحب السمو الملكي(230/73)
الأمير فاروق ولي العهد يومئذ، فحازت هذه الصور أعظم إعجاب وتقدير
ويعتبر لازلو أستاذاً لمدرسة التصوير المجرية الحديثة، وله عدة مجموعات بديعة تزين متاحف التصوير الحديث في معظم العواصم الأوربية، هذا عدا ما يزين منها قصور أوربا الملوكية
لمناسبة العيد المئوي لبوشكين
نذكر أن روسيا احتفلت منذ بضعة أشهر بالعيد المئوي لوفاة شاعرها الأكبر بوشكين؛ وقد نشرت بعض الصحف الأدبية أخيراً أرقاماً مدهشة عما بيع في روسيا بهذه المناسبة من كتب بوشكين وآثاره. ويقال إن ما بيع من آثار بوشكين والكتب المتعلقة بحياته وشعره بلغ ثمانية ملايين نسخة، وذلك كله مما قامت بطبعه مكتبة الدولة؛ وبيعت مقادير وافرة من مجموعات آثار بوشكين، وترجمت إلى جميع اللغات الذائعة في روسيا مثل الأوكرانية والأرمينية والتترية؛ وقد أخرج شريط مصور (فلم) عن شباب بوشكين، وتخرج الآن أشرطة أخرى عن حياته وعن موته المؤسي
سيرانو دي برجراك للسينما
أحب المخرج الإنجليزي المعروف (مستر كوردا) أن يخرج شريطاً لرواية الشاعر المشهورة، ولكنه لم ترقه التراجم الإنجليزية لهذه الرواية، فاقترح ترجمة جديدة اشترط أن تكون حرفية تنعدم فيها شخصية المترجم؛ فقدمها إليه الكاتب الكبير همبرت ولف بعد ثلاثة أسابيع من إعلان الاقتراح. . . ولسنا ندري ماذا صنع المترجم في هذه الأيام القليلة، ولا كيف جاءت ترجمته، ولا ماذا صنع بالمقطوعات الشعرية المنتثرة في رواية إدمون روستان. . .؟! ترى هل استعان بالشياطين في نقلها إلى النظم الإنجليزي؟ سنرى حين تصل الترجمة إلى مصر(230/74)
الكُتبُ
سيرة السيد عمر مكرم
صفحة مجيدة من جهاد الشعب المصري في الدفاع عن أرضه
وحرياته وحقوقه
للدكتور رياض شمس
في حلكة ذلك الجزء المظلم من تاريخ مصر الذي يبدأ قبيل الحملة الفرنسية، وينتهي في أوائل حكم محمد علي باشا، تألق نجم رجل امتاز بخلقه المتين، ووطنيته الصادقة، واستحق التفاف الشعب حوله؛ فكان لا يأتمر إلا بإشارته، ولا يخضع لغير رأيه، ولا يفزع في الملمات إلا إلى شخصه العظيم. وقد استطاع هذا الرجل أن يحرز لمواطنيه بقدوته السامية، وبفضل إيمانه بقوة الشعب، انتصارات باهرة على أعداء البلاد من فرنسيين وأتراك ومماليك، وكانت نتيجة انتصارات الشعب على يديه تغيير اتجاه تاريخ مصر الحديث
وهأنذا أحاول أن ألقي نظرة خاطفة على بعض مواقف ذلك الزعيم الشعبي، لأن سيرته في الواقع هي سجل ممتاز لفترة هامة من تاريخ مصر السياسي الحديث، ولأني أجد هذه الفترة وثيقة الاتصال بتاريخنا الحاضر، وأجد فيها من العظات السياسية والاجتماعية ما ينبغي أن يظل ماثلا أمام عيني الشعب المصري، مستقراً في صميم قلوب الشباب في فاتحة عهدنا الجديد
وقد كنت أجهل قدر هذا الرجل لأني مع الأسف الشديد كغيري من غير المتخصصين، تكاد تنحصر معلوماتنا عن تاريخ العصور المصرية الماضية، ولاسيما العصر الذي عاش فيه ذلك الزعيم فيما درسناه موجزاً في المدارس الثانوية، ونسيناه عاجلاً بعد تخرجنا فيها
ولكن مؤرخاً معاصراً تربطه بذلك الزعيم صفات مشتركة من متانة الخلق، وصدق الوطنية، والإيمان الراسخ بقوة الشعب، استطاع بعد سنين طويلة من البحث والتحقيق أن يستخلص لنا من ظلمات الماضي القريب ضياء وضاحاً حجبه عن أبصارنا كر الغداة ومر العشي مدي قرن من الزمان(230/75)
اقتحم الغزاة الفرنسيون بلادنا فرأى مواطننا العظيم أن أمراء المماليك لا يعنون بغير إخفاء أموالهم ثم الذهاب إلى الحرب ليبادروا بالهروب لدى الصدمة الأولى، فأهاب بالشعب أن يشمر للذود عن حياضه. وهنا أترك الكلمة للمؤرخ الجليل الأستاذ محمد فريد أبو حديد مؤلف (سيرة عمر مكرم). قال في الصفحة الحادية والخمسين:
(وكان جواب الشعب باهراً نبيلاً، إذ لبى جميعه نداء الواجب فخرج كل من في القاهرة وضواحيها من الرجال والشبان حتى لم يبق أحد إلا الضعفاء والنساء، وجاد كل منهم بما عنده من مال قليل دراهم اقتطعها الفقراء من أقواتهم وأقوات عيالهم وجادوا بها ليشتروا سلاحاً وخياماً وذخيرة. . .)
فلما هزمت المماليك في موقعة امبابة، وقرر شيوخ القاهرة أن يعلنوا التسليم للقائد الفرنسي، أنف السيد عمر مكرم أن يعود إلى القاهرة إلا إذا كانت عودته على جهاد، رغم أنه يعلم أن اسمه في طليعة الأسماء التي اختار القائد أصحابها ليحكموا البلاد بجانب الفرنسيين. وأنت تقرأ تعليق المؤلف على هذا الموقف الكريم على الصفحة 56 وما بعدها:
(ولو كان نظره إلى نفسه ومصلحتها لآثر العودة كما عاد السادات والشرقاوي، على أن يكون أحد زعماء العهد الجديد، فلا يتحمل التشريد والنفي والحرمان والفقر ومعاناة الأهوال والشدائد؛ ولكنه لم يكن ينظر إلى نفسه وما تتجشمه من الأخطار وما تتكبده من المشقة، بل كان ينظر إلى بلاد شهد أول تحركها نحو التحرر، وذكر حقها في الحياة الحرة المستقلة فلم يجد له وسيلة إلا أن يضحي بنفسه راضياً في سبيل الجهاد، مهما يكلفه ذلك من عناء. . .
(مع أن مراداً وإبراهيم ومن معهما من الأمراء لو استطاعوا أن يعودوا إلى الحكم بالاتفاق مع الفرنسيين لما ترددوا في ذلك لحظة، فلم تكن بأحدهم رغبة في الجهاد لنجاة البلاد من حكم الأجنبي، أو للمحافظة على حياتها وحريتها، بل كان كل ما يرمون إليه أن يسترجعوا السيادة، ويعودوا إلى سيرة طغيانهم وعسفهم؛ ولو وجدوا من الفرنسيين ميلاً إلى الاتفاق على أن يعودوا إلى الحكم تحت علمهم وحمايتهم لما ترددوا في ذلك. .)
ولاشك أن تأنق المؤلف في عرض موقف المماليك وبراعته في المقارنة بين الوطنية الحقيقية والمنفعة الشخصية، قد أعاد إلى ذاكرة القارئ عشرات المواقف في تاريخنا السياسي الحديث، منذ سنة 1919 إلى الآن، حيث كان قادة الأمة الأمناء يضربون عن(230/76)
الاشتراك في الحكم بكل صور الإضراب، ويتحملون ألوان المصادرة والنفي والسجن والتشريد، بينما يتهالك غيرهم على التقاط الفتات المتساقط من مائدة الغاصب على حساب الوطن وحرية البلاد
ثم اسمع المؤلف يروي لك في الصفحة 72 قصة ثورة مارس سنة 1800 قال:
(سارع (السيد عمر مكرم) إلى الخروج من عزلته إذ رأى الواجب يناديه إلى العمل. . واجتمع في قلوب الشعب عامة عوامل تدفعه وتذكي حماسته من غضب الكريم لكرامته، وخوف الشريف على شرفه، واشتعلت العاطفة الوطنية في الصدور، تثيرها ذكريات المجد التالد من ماضي القرون، فلم يكن إلا أن صاح السيد عمر صيحته. . . حتى هبت الثورة المصرية الكبرى التي دامت تضطرب في القاهرة سبعة وثلاثين يوماً، ودخلت في أثنائها قلوب المصريين عامة في بوتقة الانصهار ليكون منها شعب جديد يتقارب فيه الأمير من العامي، ويمتزج فيه الكبير بالصغير، وتنبغ من غمرات ذلك أمة حديثة، يحس فيها الفرد بأنه للمجموع، ويحس فيها المجموع بأنه من الأفراد)
. . . ص81 (كان السيد عمر قد عاد إلى مصر مضطراً، ثم حاول أن يقاوم الأجنبي عندما لاحت له الفرصة فلم تواته الظروف وعجز، ولكنه كان لا يزال يأمل أن يبقى على جهاده حتى تحين فرصة أخرى، فلم يرض أن يقيم على أرض مصر مادامت أقدام الأجنبي تطؤها، فآثر العودة إلى الهجرة والبعد عن وطنه، وأن يتكبد المشقة والفقر ولوعة الفرقة من أحبائه وأشياعه على أن يقيم في بلاده لا يستطيع أن يتنفس فيها حراً)
ص87 (. . . وأصبح السيد عمر بعد رجوعه من الجيش المنتصر رجل مصر وزعيمها. اجتمعت فيه الزعامة والجهاد والتضحية، وقد علاه عند ذلك تاج الانتصار والانخراط في سلك رجال الدولة الجديدة. ودخل القاهرة فكان دخوله يوماً من الأيام المشهودة، إذ خرج الناس للقائه والترحيب به)
أنشأت أطالع الصفحة الأولى من (سيرة السيد عمر مكرم) فلم أكد أبدأ الكتاب حتى وجدتني عاجزاً عن تركه لحظة؛ ومازلت به حتى وصلت إلى الصفحة 219
ولما فرغت من دراسته ضممته إلى أحب مراجعي إلي، وألفيتني على ظمأ إلى نهلة أخرى من مورد تاريخنا الحديث. ذلك المورد العذب الذي طالما حالت ظروف مصر السياسية(230/77)
دون تصويره للطلبة المصريين تصويراً صحيحاً يغذي الروح القومية ويذكي في الشباب المتعلم نعرة الاعتزاز بالماضي المشرف، ويبعث في نفسه حمية التطلع إلى أن يكون لبنة قوية في بناء صرح بلاده، ويزيده حرصاً على الاضطلاع بمسئولياته كمواطن شريف في بلد لم يقصر مواطنوه في الماضي قريبه والبعيد عن أداء واجبهم الوطني بكل ما لديهم من وسائل
إن الأسلوب الذي ابتدعه الأستاذ الكبير فريد أبو حديد في كتابة (سيرة عمر مكرم) ليعد بحق فتحاً جديداً، بل فتحاً مجيداً، في تاريخ المؤلفات التاريخية المصرية
فقد استطاع هذا الكاتب الموهوب أن يلقي ضياء وضاء على تاريخ القومية المصرية، وأن يستخرج من الحقائق التاريخية المدعمة بالأسانيد، ذخيرة صالحة وغذاء شهياً للشباب المصري الذي كان إلى عهد قريب لا يجسر على تقليب صفحات الماضي خشية ألا يجد فيها ما يشرف
وقد كان لنا بعض العذر، فقد عودنا المؤلفون الأجانب والمترجمون المصريون أن نقرأ صفحات الماضي في ظلال التحامل على القومية المصرية، والانتقاص من قدر أمتنا النبيلة المجاهدة
وإن كان ما نتمناه أن يتاح لطلبة مدارس مصر الثانوية أن يطالعوا سيرة عمر مكرم، وأن يحرص كل مصري يحترم نفسه ويعتبر بماضيه على دراسة هذا السفر النفيس
أما المؤلف فأنا لا نستطيع أن نشكره لأنه قد دعانا إلى مائدته فقدم لنا لوناً من طعام فاخر لا عهد لنا به، فلما استوعبناه تفتحت شهيتنا إلى المزيد. وهانحن أولاء نغشى موائد الثقافة فلا نجد هذا الطراز من المؤلفات التاريخية التي نحن أشد ما نكون حاجة إلى تذوقها بعد ما تذوقنا من لذة سيرة السيد عمر مكرم
لذلك نطالب مؤرخنا النابغة أن يخرج لنا سلسلة من الكتب تكشف عن أمجاد ماضينا القريب تكون حافلة بالعظات البالغة، العظات السياسية والخلقية والاجتماعية على نحو ما ألفناه في كتاب عمر مكرم
فإذا اضطلع بهذا الواجب، وهو على مثله من النابغين فرض حتم، كان لنا أن نسميه بحق: (منصف تاريخ القومية المصرية في الأزمنة الحديثة)(230/78)
رياض شمس
تصويب
ورد في فاتحة مقال (قصة الموسوعة الجامعة) الذي نشر في عدد الرسالة الماضي (ص1885) ما يأتي: (سجل العلم الحديث فتحاً جديداً خطير الشأن بصدور الموسوعة الإيطالية التي بدأ صدورها منذ أعوام ثلاثة فقط) والصواب (منذ أعوام قلائل فقط)(230/79)
العدد 231 - بتاريخ: 06 - 12 - 1937(/)
ثورة على الأخلاق
شقشقة هدرت ثم قرت
أخي عزام
قرأت مقالك البليغ في عدد الرسالة السابق، وكان محمود خصمك حاضراً فكفاني ما كلفتني من إبلاغه. وهو في هذه الساعة لين الحاشية، لأنه قام منذ هنيهة عن مائدة الإفطار الغنية الشهية، ممتلئ البطن من خير الله، رطيب اللسان بحمد الله، لا يذكر أن العالم ضيق رزق، ولا أن في الناس سوء خلق. ولذلك قال حين ذكَّرته برأيه وخبَّرته برأيك ما قال الإمام علي رضي الله عنه: تلك شقشقة هدرت ثم قرت! فكانت حاله التي حالت بين الأمس واليوم دليلاً جديداً لعلماء الاجتماع الذين يردون ثورات الشعوب المختلفة إلى العوامل الاقتصادية المحض من الحرمان والجوع. والواقع الذي لا يرفعه زخرف القول أن الناس يدورون بعواطفهم وأخلاقهم حول مادة العيش، فإن أعطوا منها رضوا، وأن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون.
على أن مجلسنا كان حافلاً بغير محمود من رجال العلم والدين والأدب وكلهم كانوا له وعليك، وليس ذهابهم إلى رأي خصيمك انصرافاً عما قررت من حميد الأثر لأخلاقنا المقدسة في ألفة الناس وسعادة النفس، فإن ذلك موضع اتفاق لا يشذ عنه إلا ميت الضمير أو مريض العقل. إنما كان موضع الجدل أن الأخلاق الفاضلة لا تصلح أن تكون عدة النجاح إن لم تكن عدة الفشل. والنجاح في جهاد العيش لا يدل على تمام معناه إذا قصدنا به الكفاف من ميسور الرزق، يصيبه الصالح والطالح، ويقنصه البازي والرخم. فإذا ضربت له مثلاً نجاح الصانع الصادق والتاجر الأمين والمزارع الوفي والعامل القانع، كانوا أحرياء أن يتهكموا بقداسة هذه الأخلاق إذا كان قصارى أمرها هذا النجاح الحقير وهي الدستور الأعلى لبلوغ السموات وامتلاك الأرض. فإن هؤلاء الطيبين الأخيار الذين وصفتهم بالقناعة وخصصتهم بالرضى لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً من رجال المال والأعمال كصيدناوي والبدراوي وعبود. أما حين تقصد النجاح بمعناه الأتم فإنهم يرونك تنزع إلى مقالة محمود وتعلل بمنطقك السليم فشل التقي الأبي الحر بأنه (لا يرى إلى الجاه والمال إلا طريقاً واحدة هي الطريق التي يسنها الحق والشرف والأباء والمروءة، وأن أمام الفساق(231/1)
والأذلاء والأدنياء طرقاً شتى من التلصلص والكذب والتزوير والخداع والملق والذلة والشره والظلم والقسوة والأثرة وهلم جرا، وأن من الأحرار من يخفق في عمله حين يلزم نفسه هذه الطريق الواحدة، ويقسرها على هذه المحجة الواضحة، وأن من العبيد عبيد المطامع والأهواء ومرضى النفوس والأخلاق من يظفرون في هذه السبل بما يريدون، ويبلغون الغاية التي يقصدون) وما دام جوهر الرأي واحداً فالسبيل القاصدة إذن أن نطبَّ لهذه الحال بما يوائم بين طموح الناس وكرامة الأخلاق وسلامة المجتمع. وليس هناك إلا وسيلة من وسيلتين: إما أن نصد الناس جميعاً عن هذه الطرق المتعددة، ونقصرهم على هذه الطريق الواحدة، بقوة الأديان والسلطان والتربية، وذلك ما عناه الرسول (ص) بقوله: (عليكم بالجادَّة ودعوا البُنَيَّات)؛ وإما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق فلعل فيه ما لا يرافئ تقلب العصر وتطور المجتمع. فأما الوسيلة الأولى فقد سجل الماضي ودلل الحاضر على أنها خيال نبيل لا يقع في الإمكان، وحلم جميل لا تقوم عليه يقظة، وتعليل ذلك لا يعزب عنك فلا حاجة إلى تقريره. وأما الوسيلة الأخرى فهي على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد.
ما معنى أن يظل التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل على إطلاقها فضائل وأنت ترى بعين الواقع أن المتواضع موضوع والقانع مهمل والزاهد محروم والمدارى مستذل والمتوكل عاجز؟ أليس صلف الإنجليزي أبلغ في العزة، وطمح الفرنسي أليق بالحياة، وطموح الإيطالي أخلق بالرجولة، وصراحة الألماني أدعى إلى الهيبة، واستقلال الأمريكي أضمن للفوز؟ ما معنى أن يظل الربا في عصر الاقتصاد رذيلة وقد أختلف اليوم في معناه ومرماه عن ربا (شيلوك) وأنت تعلم أن الغرب لم يستعبد الشرق إلا عن طريق بنوكه. فقد كانت تأخذ القناطير المقنطرة من أموال المسلمين بغير ربا لتقرضها إخوانهم المساكين بالربا الفاحش. ولو أنهم أخذوا رباها وأنفقوه في وجوه الإصلاح والبر لما بقى على أرضهم أجنبي، ولما ظل تحت سمائهم فقير. ولا أريد أن أعرض لغير الربا من الرذائل فلا نزال في حاجة إلى التقية والمصانعة. وإذا سلمنا أن مقياس الفضائل والرذائل هو النفع والضرر، فما كان مؤدياً إلى منفعة سمي فضيلة، وما كان مؤدياً إلى مضرة سمي رذيلة، سهل قياس الأخلاق على هذا الأساس، وأمكن بعد ذلك الاتفاق على نتيجة هذا القياس.(231/2)
ذلك يا عزام قولهم بأفواههم يريدون أن يصل إليك عن طريق الرسالة. أما محمود فقد ظل صامتاً طول الحديث كأنه ليس منه في قالٍ ولا في قيل. ولا أدري إذا ما خلا جوفه من طعام رمضان الدسم المريء أيعود إلى جدالك، أم يكتفي بتعليق أصحابه على مقالك. وأما أنا فلا أزال أهيب بدهاقنة الدين وفلاسفة الأخلاق أن تتدخل جماعتهم في سوق الفضائل معدِّلة أو هادية، كما تتدخل الحكومة في سوق الأقطان مشترية أو حامية.
أحمد حسن الزيات(231/3)
بين القاهرة واستنبول
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
من دمشق إلى القسطنطينية
يا صديقي الزيات:
لعل رسالتي التي حدثتك فيها بطرف من أحاديث دمشق قد بلغتك، وهذه رسالة أخرى أطرفك فيها ببعض ما وعت النفس من مشاهد الطريق بين دمشق والقسطنطينية. وأرجو أن أواصل الرسائل من بعد:
ترددت برهة كيف آخذ طريقي من دار الأمويين إلى دار البيزنطيين. أأركب إليها البحر من بيروت وأرجع من طريق البر، أم أخترق اليبس إلى غايتي؟ وكنت ركبت السفينة بين الإسكندرية والقسطنطينية مرتين قبلاً، فقلت لنفسي: ماذا تفيدين من رؤية ما رأيت، وحافظ الشيرازي يقول:
من جرّب المجرّب ... حلت به الندامة
وماذا تُجدي عليك رؤية الدأماء صباح مساء؟ لجة واحدة وأمواج متشابهة، كأنها ساعات الزمان في بحر العمر!
صح العزم على سفر البر، فخرجت من دمشق بعد ظهر الثلاثاء 19 جمادى الأولى (27 تموز) في سيارة أعدتها شركة السكك الحديدية لإبلاغ المسافرين حمص ليركبوا منها سكة الحديد إلى حلب. وقد ابتليت برفقة ليس بيني وبينهم سبب فأرحت لساني وأذني، وسرّحت طرفي في الفضاء، وفكري في مسارح لا تحد بين الماضي والحاضر، والقريب والبعيد. وكان للسيارة سوّاق ذكرنا بقول القائل: (قد لفّها الليل بسوّاق حُطم) فانطلق بنا لا يألو إسراعاً حتى يكاد الماء في جوف السيارة يشتعل، فيقف ريثما يفثأ الماء، والطريق أكثرها صحراء جرداء تسايرها جبال وتلال، وتزينها بين الحين والحين قرى ومدن ومشاجر ومياه، ولا سيما قرب حمص. ولم نقف على الطريق إلا في النبك لبثنا فيه قليلاً.
هذه حمص بعد سبع سنين ولات حين تلبث. إن الوقت لا يمهلك حتى لزيارة خالد بن(231/4)
الوليد فاصبر حتى تعود أدراجك من هذه الطريق فتقضي حق العين والفؤاد من هذه المشاهد.
بعد قليل جاءت من طرابلس عربة كعربة ديزل المعروفة في مصر، وتسمى في الشام باسمها الفرنسي (أوتومتريس) أخذت مكاني بها وانطلقت سريعة تطوي ما بين حمص وحلب، والطريق هنا أكثر ماء وشجراً وزرعاً. وفي الطريق لاحت حماة في زينات من شجرها ومائها، ونغمات نواعيرها منثورة في السهل تدور بالماء والماء بها يدور لا تفتر نهاراً ولا ليلاً وتذكرت قول القائل:
ناعورة مذعورة ... للبين حيرى سائرة
الماء فوق كتفها ... وهي عليه دائرة
وتذكرت أني حين قرأت هذين البيتين في المدرسة ظننت الناعورة هي الساقية بلسان أهل مصر، ثم عرفت فرق ما بينهما حين ذهبت إلى الشام أول مرة. ومن رأى نواعير الفيوم فقد رأى صورة صغيرة من نواعير الشام الماثلة في الفضاء على نهر العاصي عالية رائعة.
وبلغنا حلب بعد الساعة الثامنة من المساء فقصدت إلى فندق البارون. اضطرني إليه، على نفرتي من هذه الأسماء الإفرنجية في البلاد العربية، أني أُنزلت به مرة، ولم أعرف من فنادق حلب غيره. وقضيت به بقية الليل. وأصبحت مبكراً إلى القطار قطار الشرق السريع. لم أر في حلب شيئاً ولم ألاق بها صديقاً. وسأعود إلى حديث حلب وحمص في رجوعي إلى الشام إن شاء الله.
وجاء القطار الفخم قد كتب عليه بالفرنسية والتركية ذات الحروف اللاتينية: (قطار الشرق السريع) وما سألت أحد عمال القطار عن عربات النوم فقال لصاحب له بالتركية: (دلّه عليها) فقلت: هذا أول العُجمة وطلائع الغربة.
أخذت مكاني بالقطار موّطناً النفس على السفر ستاً وثلاثين ساعة، ورفيقي فكري وخيالي وديوان البحتري. سار القطار والساعة سبع من الصباح، وكان شريكي في المقصورة إنكليزياً ذاهباً من العراق إلى بلده في إجازة قصيرة، ولكني وجدت عن ملازمته ميلاً ومندوحة في مقصورة أخرى خالية خلوت فيها بصاحبي البحتري. وسأحدث القارئ حديثه(231/5)
بعد؛ على أني لم أذمم من الإنكليزي الشيخ صحبة، وكنت ألقاه حيناً فحيناً فنتحدث ونتفكه، وكنت أجده جالساً وبجانبه عدة السفر من البيبة والسجائر والكتب. ولست أنسى رثائي له حينما أضل منظاره فاضطرب حيناً يبحث عنه، ثم جلس كئيباً يقول: أني لا أستطيع القراءة بدونه، وكيف أقطع الطريق إلى لندرة بغير قراءة؟ إنه منظار ثمين، إنه يلائم عينيّ؛ ثم يهيج فيتهم خادم القطار بالسرقة؛ وييأس، فأعيد الأمل في نفسه، فيعود يبحث عنها وأبحث معه. وجاء الخادم يقول: لعلها في حقيبتك. ففتح الحقيبة مغضباً وأخرج ما فيها من ورق وقال للخادم بالإنكليزية - وهو عالم أنه لا يعرف منها كلمة -: أنظر! أنجدها هنا؟ أأنت على يقين أنها ليست هنا؟ أمطمئن أنت إلى أنها ليست هنا؟ ثم رجعت إليه بعد حين فإذا هو متهلل الوجه مسرور، فلما رآني وثب يريني كيف أنزلق منظاره وراء الباب وكيف وجده، فشاركته السرور وأعدنا الحديث عنه ضاحكين بعد أن أطلنا الحديث عنه آسفين. . .
وبعد ساعتين من حلب دخلنا إقليماً جبلياً مشجراً تخلل القطار فيه أنفاقاً كثيرة متعاقبة على سفوح الجبال حتى بلغنا ميدان أقبس على الحدود بين سورية وتركية، والساعة تسع وخمسون دقيقة، فوقف القطار زهاء نصف ساعة. وجاء موظف تركي فسأل: من أين؟ قلت: من مصر. قال: إلى أين؟ قلت: استانبول. قال: أمعك أشياء للجمرك؟ قلت: لا. قال: كم معك من النقود التركية؟ قلت: قليل لا يتجاوز كذا. قال: مع السلامة.
وبلغنا، والساعة ثلاث ونصف، محطة أسمها مصيص. قلت لنفسي: هذه ولا ريب المصيصة التي كانت ثغراً بين البلاد الإسلامية وبلاد الروم زمناً طويلاً. هنا نهر جيحان، وهنا مغازي سيف الدولة؛ وفي هذا الإقليم وما يجاوره نظم المتنبي ما نظم من قصائده. أليس يقول أبو الطيب لسيف الدولة:
سريت إلى جيحان من أرض آمد ... ثلاثاً لقد أدناك ركض وأبعدا
ومن قبل قال عديّ بن الرقاع العاملي:
فقلت لها كيف اهتديت ودوننا ... دُلوك وأشراف الجبال القواهر
وجيحانُ جيحانُ الملوك وآلس ... وحَزن خزارى والشعوب القواسر
أجل وهنا أطراف العواصم التي يفيض بذكرها التأريخ والشعر.(231/6)
وسرنا بعد المصيصة ثلاثين كيلا شطر الغرب فاتسع السهل وانتشرت الخضراء ووافينا أطنة والساعة أربع. ندع حديث أطنة وما يليها إلى العودة، ونسير إلى الشمال زهاء ساعة فنوافي جبال طوروس، وما أعظمها منظراً جميلاً رائعاً هائلاً: سفوح مخضرة يصعّد فيها الطرف حتى يبلغ قمماً شاهقة تكاد العين تقصر دونها، قمم متنافسة متسامية إذا صعد البصر إلى إحداها انزلق على السفح ليرقى في سفح آخر إلى قمة أخرى، وإذا أسفَّ النظر إلى الحضيض فهناك الأودية العميقة السحيقة يهول الناظر عمقها ويروقه بين الحين والحين مياه تجري مسرعة مزبدة متعرجة كأنها الأراقم راعها القطار فانسابت إلى مجاحرها. وتتوالى مرائي طوروس في جمالها وجلالها واختلاف ألوانها وارتفاعها واستقالها وما يشغل العين والفكر من صورها، والقطار على السفح موف على هذه الأودية الهائلة يصعد متمهلاً وينبهر أحياناً فيقف زاحراً زافراً لا يقوى على المرتقى. فإذا أعد العدة من مائه وناره وبخاره عزم فصعد جاهداً مجهوداً. وبعد نصف ساعة على هذه السفوح تعاقبت أنفاق لبث القطار فيها نحو عشرين دقيقة كلما بشرّ الضوء بانتهاء أحدها أقبل الآخر في ظلامه يلتهم القطار.
ومن بدائع الجناس أو المقابلة في هذا الجمال البديع أذواد من الإبل في أودية طوروس، لم تذهب بجمالها وروائها مناظر الجبال العظيمة؛ وأما سرب المعزى الذي رأيته هناك فلا أدري من أي أنواع البديع مرآه هناك.
وتوالت ذِكَرُ الآل والأصحاب فإذا لساني يترنم بهذه الأبيات:
ذكرتك إذ طوروس في اللُّوح مُصعِد ... يظلّ بأهداب السحاب يُعمَّم
يطير بيَ الإعجاب بين سفوحه ... وقماته والقلب فيه مقسَّم
ويفزع من وديانه كل ناظر ... ويحتار فيه الطرف كيف ييّمم
جمال ترود العين بين رياضه ... عليه جلال بالمهابة مفعم
فأيقنت أنْ ذكراك أروع مشهداً ... وأجمل من طوروس عندي وأعظم
وانتهى بنا الإصعاد إلى مكان أسمه أولوقشلة وهو أعلى موضع في طريق طوروس؛ وبعده بقليل تلتقي الطريقان: الطريق الآتية من أنقرة، والآتية من قونية.
وجن الليل وبات القطار يسري فأصبحنا عند أنقرة والساعة سبع من الصباح: وأستأذنك يا(231/7)
صديقي أن أطوي المسافة بين أنقرة واستنبول والحديث عنها إلى العودة فكان فقد نصيبي من هذه الديار في عودتي أوفر، وأنسي بها أطول، ثم أخشى أن تمل الحديث الطويل والرسالة المسهبة. فسلام عليك إلى أن أكتب إليك.
استنبول 30 تموز
عبد الوهاب عزام(231/8)
في التاريخ السياسي
مصر وإيطاليا
عبر الماضي دلائل الحاضر
بقلم باحث دبلوماسي كبير
لما كشفت إيطاليا الفاشستية في أوائل سنة 1935 عن نياتها الاستعمارية نحو الحبشة توجس أولئك الذين يشفقون على حرياتهم وحريات الشعوب الآمنة شراً، واستشعروا الخطر الاستعماري جاثماً وراء تأكيدات رومة بأنها لا تبغي من وراء اهباتها العسكرية سوى الدفاع عن أملاكها الأفريقية. ولم تمض أشهر قلائل حتى صدق الظن ووثبت إيطاليا بالحبشة وثبتها المعروفة، واستشهدت ضحية جديدة من ضحايا الاستعمار.
وكان لهذه المأساة الاستعمارية في مصر وقع خاص؛ ولم يكن ذلك فقط لأن مصر ترتبط مع الحبشة بروابط تاريخية قديمة، ولها في الحبشة نفوذ ديني خاص بواسطة كنيستها القبطية، ومنابع نيلها تقع في الحبشة، ولكن لأن مصر شعرت على الأخص بأن خطراً استعمارياً جديداً قد استقر على مقربة منها ومن سودانها ونيلها، وأن الفاشستية الطموحة المتوثبة قد أصبحت تطوق وادي النيل من ناحيتيه، وأن استشهاد الحبشة على هذه الصورة المروعة إنما هو عبرة يجب أن يكون لها بالغ الأثر.
وقد كانت المعاهدة المصرية الإنكليزية التي عقدت في 26 أغسطس سنة 1936 نتيجة محتومة لهذه المأساة؛ ولم يكن في وسع مصر وبريطانيا العظمى أن يتجاهلا أهمية ذلك التطور الخطير في أحوال وادي النيل؛ ولم يكن في وسعهما أن يمضيا بعد في نزاع طال أمده، وأن يغفلا بذلك عن الخطر الذي تواجهانه معاً؛ ومن ثم كان عقد المعاهدة المصرية الإنكليزية عملاً حكيماً من الجانبين، وكانت ضرورة أملتها الظروف والحوادث. والآن تبدو أهمية التحالف بين مصر وبريطانيا العظمى؛ فتطور الحوادث في البحر الأبيض المتوسط، وحالة التوتر التي تسود علائق الدول الفاشستية والدول الديمقراطية، والكدر الذي يشوب علائق إيطاليا وبريطانيا، وما تبديه الفاشستية الإيطالية من بوادر التحفز والطموح، وما تقوم به من الأهبات العسكرية في جزيرة بانتلاريا الواقعة بين تونس وصقلية، وفي جزيرة(231/9)
رودس، وما تحشده من القوات الجرارة في طرابلس على مقربة من الحدود المصرية: كل أولئك يجب أن يلفت الأنظار، ويثير الريب، ويقضي على أولئك الذين تعنيهم هذه الحالة أكثر من سواهم بالتيقظ والحذر والاستعداد.
ولا ريب أن مصر في مقدمة الدول التي يجب أن تعنى بهذه التطورات؛ بل هنالك ما يدل على أنها ليست بعيدة عنها، وأنها لا تستطيع أن تطمئن إليها؛ وليس ذلك فقط لأن الحوادث قد جمعت بين مصر وبريطانيا العظمى، ووثقت بينهما في جبهة صداقة وتحالف دائمين، ولأن الفاشستية الإيطالية في خصومتها لبريطانيا العظمى لا بد أن تقصد إلى خصومة مصر في نفس الوقت باعتبارها حارسة لشريان من أهم شرايين الإمبراطورية البريطانية: نقول ليس ذلك فقط، بل كذلك لأن الفاشستية الإيطالية ليست بعيدة عن التفكير في مصر لذاتها.
إن الفاشستية الإيطالية تضطرم اليوم بأعظم الأحلام الإمبراطورية، وترتد ببصرها إلى الإمبراطورية الرومانية؛ وليست مصر في نظرها إلا كطرابلس ولاية رومانية سابقة. وما زلنا نذكر إشارة السنيور موسوليني في إحدى خطبه أيام الحرب الحبشية إلى مصر وقوله إنها كانت أهراء الغلال لرومة، والفاشستية ترنو في حلمها الإمبراطوري إلى مصر، ولا سيما بعد استيلائها على الحبشة. وقد دللت على ذلك في مواطن عديدة ومناسبات كثيرة وهي تحاول منذ أعوام أن تقوي نفوذها ودعايتها في مصر بمختلف الوسائل؛ وسواء أكانت الفاشستية ترنو إلى مصر من خلال خصومتها لإنكلترا، أو كانت تقصد إليها بالذات كحلم استعماري رائع يمكن تحقيقه، فان الذي لا ريب فيه هو أن مصر تواجه اليوم مرحلة من أدق مراحل تاريخها.
ولقد توالت من خلال هذا القلق الشامل تصريحات المقامات المسئولة في رومة بأن إيطاليا الفاشستية لا تضمر شراً لمصر ولا يمكن أن تفكر في الاعتداء عليها، وأنها بالعكس تشعر نحوها بأكرم عواطف الصداقة والود؛ وأما الجيوش الجرارة التي تحشد في برقة، وأما الأهبات العسكرية الهائلة التي تتخذ هنالك على مقربة من الحدود المصرية، فليست سوى إجراءات تحفظية تقرر اتخاذها منذ بعيد. هكذا نسمع من رومة بين حين وآخر، وهكذا أكد لنا السنيور موسوليني نفسه في حديث أفضى به منذ أسابيع قلائل، وهكذا يؤكد ممثل(231/10)
إيطاليا في مصر للحكومة المصرية كلما أبدت دهشتها وتساؤلها من سير الأحوال في برقة.
بل هنالك ما هو أكثر من ذلك، وهو أن الحكومة الإيطالية عرضت أكثر من مرة، وما زالت تعرض بواسطة ممثلها في مصر على الحكومة المصرية أن تعقد معها ميثاق صداقة وعدم اعتداء. ويقال إنها تقدمت إلى الحكومة المصرية بمثل هذا العرض حتى قبل أن تعقد المعاهدة المصرية الإنكليزية.
ومصر تغتبط بلا ريب بمثل هذه التأكيدات الودية من جانب حكومة رومة، وتود لو أنها تستطيع أن تؤمن بها وتطمئن إليها.
ولكن مصر لا تستطيع أن تؤمن ولا أن تطمئن؛ ولها في ذلك أكبر العذر؛ فالتاريخ يعيد نفسه دائماً، وشواهد الماضي قرائن الحاضر؛ ولإيطاليا الحديثة في نقض المواثيق والعهود تاريخ متصل لم تنقطع حلقاته حتى اليوم؛ وهو يدل دلالة واضحة على أنه إذا كانت إيطاليا الحديثة الناشئة قد آثرت مدى نصف قرن أن تجري على سياسة انتهاز الفرص ونقض العهود، فإن إيطاليا الفاشستية التي تجيش بمختلف المطامع والأماني لا يمكن أن تكون أحفظ للعهد وأجدر بالثقة والاطمئنان.
وإليك منطق التأريخ الحاسم: لم تكد إيطاليا الفتية تستكمل وحدتها واستقلالها في أواخر القرن الماضي حتى أخذت تساورها نزعة الاستعمار والتوسع، وتلتمس لتحقيقها جميع الخطط والوسائل؛ وكانت تتردد يومئذ بين فرنسا وألمانيا لترى أي الناحيتين أكفل للغنم؛ وكان وزيرها الشهير كرسبي رجل المطامع والمغامرات، بل يمكن أن يقال إنه هو الذي وضع أسس سياسية التوسع التي تنزل إيطاليا إلى ميدانها اليوم. فلما احتلت فرنسا تونس في سنة 1880 اضطرمت إيطاليا سخطاً لأنها كانت تطمع في احتلالها؛ وتحول كرسبي إلى ألمانيا خصيمة فرنسا يخطب ودها، وانتهى الأمر بدخول إيطاليا في المحالفة الثنائية الألمانية النمسوية التي غدت المحالفة الثلاثية من ذلك الحين (سنة 1882) ثم تجددت في سنة 1887؛ ولبثت قائمة حتى نشوب الحرب الكبرى.
ولكن ما الذي حدث عند نشوب الحرب الكبرى؟ التمست لإيطاليا الوسيلة لنقض عهود تحالفها مع الدول الوسطى والتزام الحيدة أولاً، ولم يمض عام حتى انقلبت إلى الحلفاء. ثم انضمت إليهم وأعلنت الحرب على حليفتيها القديمتين لتشترك مع الحلفاء في تحطيم(231/11)
الإمبراطورية النمسوية والاستيلاء على نصيبها من أسلابها.
وحصلت إيطاليا على نصيبها من أسلاب الدول المهزومة؛ وكانت أوفر الحلفاء حظَّاً في أوربا لأنها فضلاً على الفوز بتحطيم الإمبراطورية النمسوية جارتها القوية وخصيمتها القديمة، استولت على التيرول الجنوبي واستيريا ودلمانيا، وكفلت بذلك حدوداً منيعة في الشمال والشرق.
ثم قامت الفاشستية الإيطالية ولم يرضها ما حصلت عليه لإيطاليا من أسلاب الحرب، بل اعتبرته غبناً لها وانتقاصاً لحقوقها فشهرت سياستها المعروفة في سبيل التوسع الاستعماري، وعززتها بالتسلح والأهبات العسكرية العظيمة، وأخذت تترقب الفرص لتحقيق مشاريعها وأمانيها.
وكانت لإيطاليا قد عقدت منذ سنة 1906 معاهدة ثلاثية مع بريطانيا العظمى وفرنسا تقضي بالعمل المشترك بينها لحماية أراضيها ومصالحها في شرق أفريقية، وتنص على وحدة الحبشة واستقلالها مع التنويه بمصالح إيطاليا في الحبشة؛ وجددت هذه المعاهدة في سنة 1925. وفي سنة 1928 عقدت إيطاليا مع الحبشة معاهدة صداقة وتحكيم، وجددت عهودها للحبشة باحترام استقلالها ووحدتها، وكانت إيطاليا من أشد المؤيدين لدخول الحبشة عصبة الأمم.
ولكن الفاشستية الإيطالية كانت في الوقت الذي تقطع فيه على نفسها هذه العهود والمواثيق تتحين الفرص، وتدبر اعتداءها سراً على الحبشة، حتى إذا سنحت الفرصة نفذت مشروعها الاستعماري على مرآي ومسمع من العالم، ولم تبال بمواثيق أو عهود، وسخرت من كل اعتراض أو احتجاج، وتم لها ما أرادت من القضاء على حريات أمة آمنة مستقلة.
ولما اضطرمت الحرب الأهلية الأسبانية ظهرت إيطاليا الفاشستية من وراء الثوار تشد أزرهم وتذكي أوار الحرب بجنودها وسلاحها، وما زالت تمضي في سياستها حتى اليوم تنفيذاً لمآرب ومشاريع استعمارية تبغي اجتناءها. ولما نظمت اليابان اعتداءها الأخير على الصين بادرت إيطاليا بإظهار عطفها وتأييدها لليابان المعتدية لأنها تسير في نفس السياسة الاستعمارية التي تسير عليها.
هذا هو ماضي إيطاليا، وهذا هو حاضر الفاشستية الإيطالية في نقض العهود والمواثيق(231/12)
وتمزيق المجتمعات، وفي ترقب الفرص غير المشروعة وتنظيم الاعتداءات الاستعمارية.
والواقع أن الفاشستية الإيطالية لا تنكر جنوحها إلى هذه الخطط، فهي تنادي علناً بأن الحق للقوة وحدها، وتسخر من كل عهد أو ميثاق أو حق لا تؤيده القوة، وهي تجري على سياسة مكيافيلية خالصة تبرر لتحقيق الغاية كل الوسائل.
فكيف تستطيع مصر بعد ذلك كله أن تثق بتأكيدات رومة الودية وتطمئن إليها؟ إن التاريخ يعيد نفسه دائماً، ومصر ترجو ألا تكون ميداناً للوثبة القادمة.
ومصر لا يمكن أن تطمئن إلا لنفسها ومقدرتها على الدفاع عن كيانها، وهي تشعر شعوراً صادقاً بالخطر الذي يلوح لها في الأفق؛ ولكن مصر تثق أيضاً في مستقبلها وطالعها، وتعتزم ألا تسمح لأحد بالاعتداء عليها. ومن حسن الطالع أنها تستطيع أن تعتمد في مثل هذا الظرف على معونة صديقتها وحليفتها العظيمة بريطانيا العظمى. ومن حسن الطالع أن مصلحة مصر ومصلحة بريطانيا تتفقان هنا وتمتزجان؛ فالاعتداء على مصر يكون في نفس الوقت اعتداء على ما تعتبره بريطانيا مركزاً حيوياً لمواصلاتها الإمبراطورية.
على أن مصر يجب أن تعمل منذ الآن للاعتماد على نفسها قبل كل شئ، فنحن في عصر القوة لا في عصر الحق، ويجب أن تتذرع الأمم للذود عن حرياتها وكيانها بكل ما تدخر من القوى المادية والمعنوية؛ وهذا ما ستفعله مصر بلا ريب.
ثم إننا نؤمن من جهة أخرى بأن هذه النظم الطاغية والخطط الاستعمارية الباغية التي تصول اليوم في ميدان القوة والعدوان سوف تنهار متى وقع الاصطدام الحقيقي؛ هذا إذا لم تسارع قبل ذلك إلى تمزيق نفسها بنفسها.
(* * *)(231/13)
مسكين
بين إنجليزي ولبوته
أثر العادة والتدريب في الإنسان والحيوان
كنت قد أبصرت في بعض الصحف صورة شبل مع إنجليزي وطلَّتُه أو لَبْوتَه. . . وهما يشربان الشاي (أو الشاهي كما يقولون في الحجاز) والثلاثة: الرجل والرَّجلة وأبن الليث يتناظرون صامتين. وفي الصحيفة حديث أنس الوحش، فلم أتعجب إذ رأيت هذا المسكين (أعني الشبل) يقاعد إنجليزياً، ولم أنكر، ولم أقل: إن ذلك البريطاني قد تطبع بطبع الأسد الوحشي حتى ائتلفا واصطحبا لأن الإنجليزي إنسان من الاناسية والناس لا يحتاجون كما يعرف العارفون إلى تدرب على طبيعة من طبائع الضواري والكواسر أو الجوارح، فالقرابات كما حققت علوم كثيرة في هذا الزمان بين منتصبي القامات اليوم وبين الماشيات على أربع والطائرات والزحافات واشجات قريبات؛ ووراثة الأجداد البعيدة (بل القريبة) وهي التي يقال لها في اللسان الإفرنجي ' ما زايلتهم في حين، وما ضاع والحمد لله. . . منها شئ؛ وفي كل يوم ألوف ألوف من الأدلة المثبتة المسكتة، المخجلة المخزية. وابْل من شئت ممن تفخمهم تفخيماً وتبجلهم تبجيلاً وتحسبهم - وهم من البشر - ملائكة، فإنه (يكاد أفضلهم رأياً يردّه عن فضل رأيه الرضا والسخط، ويكاد أصلبهم عوداً تنكأه اللحظة، وتستحيله الكلمة الواحدة)
(والناس شجرةَ البغي)
(وجدت الناس إن قارضتهم قارضوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك)
(وجدت الناس أخبْر تَقْلِهْ):
يلقاك بالماء النمير الفتى ... وفي ضمير النفس نار تَقِدْ
يعطيك لفظاً ليّناً مسُّه ... ومثل حدّ السيف ما يعتقدْ
فالناس هم الناس، و (هم - كما قال عالم إفرنجي - لم يزالوا حتى اليوم في الأفق (الدور) القردي الشبنزي أو الشنبنزي) إنهم بعد لفي هذا الأفق وإن مشوا في الأرض متغطرسين متكابرين متبجحين على إخوانهم الأقربين (ذوات الأذيال. . .) بما سمّته لغاتهم تقدماً وارتقاء وإن أسمعك بعضهم - وأنت في القاهرة مقيماً - صوت الحبيبة في (نيويورك)(231/14)
وأراك صورة من تهوي في بلاد (النمسة):
من في العراق يراك في طرسوسا
فالناس هم الناس:
فلا تلزمن الناس غير طباعهم ... فتتعب من طول العتاب ويتعبوا
أعود إلى أول كلامي فأقول: لا، لا، لم أقل: إن ذلك الإنجليزي قد تخلق بنحيزة ضارٍ فألف كلُّ صاحبه؛ فالإنسان - كما أثبت علم العلماء وأثبت عمله هو - سبعي بالطبع، بل ازددت بعد تلاوة ذلك الحديث إيقاناً بأثر العادة والتعويد، وإيماناً بأن التدريب يقدر أن يذلل الضاري ويقتاده - كان الله في عونه - إلى ملابسة إنجليزي (أو غير إنجليزي) ولا شئ في الدنيا أصعب من مخالطة الناس.
وفي العربية أقوال كثيرة في العادة والمرون والتضرية والتدريب والتألف. وهذا خبر حسن بارع مجزئ عن كثير في هذا المعنى، وهو في الشرح الكبير (للنهج) لأبن أبي الحديد:
(إن لم تكن حليماً فتحلم، فأنه قل من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم) صحيحٌ في مناهج الحكمة؛ لأن من تشبه بقوم وتكلف التخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، واستمر على ذلك ومرن عليه الزمان الطويل، اكتسب رياضة قوية وملكة تامة وصار ذلك التكلف كالطبع له، وانتقل عن الخلق الأول. ألا ترى أن الأعرابي الجلف الجافي إذا دخل المدن والقرى وخالط أهلها، وطال مكثه فيهم انتقل عن خلق الأعراب الذي نشأ عليه وتلطف طبعه، وصار شبيهاً بساكني المدن، وكالأجنبي عن الوبر. وهذا قد وجدناه في حيوانات أخرى غير البشر كالبازي والصقر والفهد التي تراض حتى تذل وتأنس، وتترك طبعها القديم، بل قد شاهدناه في الأسد وهو أبعد الحيوان من الأنس. وذكر أبن الصابي (أبو اسحق) أن عضد الدولة بن بويه كانت له أسود يصطاد بها الصيد فتمسكه عليه حتى يدركه فيذكيه، وهذا من العجائب الطريفة).
(ق)(231/15)
إلى أخي النازح إلى باريز!
للأستاذ علي الطنطاوي
(هذا الذي أقوله لأخي، يقال لكل طالب مسلم يدرس في
أوربة)
(ع)
يا أخي!
لمّا دخلت (مسابقة البعثة) أمّلت لك بالفوز لما عوّدك الله من التوفيق والمعونة، وخفت عليك الخيبة لأن (الوزارة) لا تريد إلا مبعوثاً واحداً في (العلوم الرياضية) من سورية كلها، وأنى لك أن تكون ذاك الواحد؟
ولما ظهرت النتيجة، وكنت أنت الناجح في (فرع الرياضة)، وكنت ناجح في (الطبيعة) أيضاً، حمدت الله على هذه المنة، وذهبت أستعجلك بالسفر.
ولما عزمت أعددت لك ما تريد وأنا فرح مستبشر مسرور
كنت مسروراً لأني أعلم أنك ذاهب تطلب العلم، وتخدم الوطن، وتقوم بالواجب.
ولكن لم يكد يتحقق الأمر، ويأزف الرحيل، الباخرة الفخمة (ماربيت باشا) رابضة حيال المرفأ (في بيروت) تسطع أنوارها وتتلألأ، وألقي نظري على هذا البحر الهائل الذي يمتد في الفضاء أسود مثل الليل، حتى يغيب في السماء، أو تغيب فيه السماء. . . لم أكد أرى ذلك حتى أدركت الحقيقةالواقعة، وعلمت أنك مودع نازح، فغلبت علىّ العاطفة، وفاضت نفسي رقة وحناناً.
لم أستطع أن أودّعك، ولم أقوَ على رؤيتك وأنت في الباخرة، ماخرة بك عباب أليمّ، تنأى بك عني، حتى تصير نقطة صغيرة على شاطئ الأفق، ثم تنحدر إليه، وتختفي وراءه، وتختفي أنت معها، وتصبح في نظري عدماً، لأني لا أحس لها وجوداً. .
والوداع - يا أخي - جماع آلام الحياة وأساسها ومصدرها، وأشد ألوان الوداع وآلمها وأمرّها وداعٌ في البحر، ذاك الذي لا يطيقه ذو قلب. .
ودعتك وداعاً عادياً، ولبثت في مدرستي ألقي درسي وأنا هادئ الجوارح ساكن الطائر،(231/16)
ولكن في القلب مني زلزلة، وفي الأعصاب ناراً. . .
حتى إذا عاد أخوك ناجي الذي صحبك إلى الباخرة فخبرني أنك سرت (على أسم الله)، أحسست كأن قلبي قد هبط من هذا الزلزال كبناء هوى، وأن هذه النار قد تركت أعصابي رماداً منطفئاً فسقطت على كرسي. . . لا أدري فيم هذا الضعف، ولا أحبه في نفسي، ولكني أدري أني أتخيلك الآن وحيداً فريداً لا ترى حولك قريباً ولا صديقاً، تطل من شرفة الباخرة فلا ترى إلا السماء والماء، وقد أخذك دوار البحر فلم تجد معيناً ولا مسعفاً. وأتصورك في ذلك البلد الغريب الذي لا ترى فيه إلا وجوهاً تنكرها، وأنت الذي لم يفارق أهله قط، ولم يغب عن بيته ليلة، ولم يسافر وحده أبداً. . . فلذلك ما أحزن، وفي ذلك أفكر.
ولكنها - يا أخي - خطيئة تربيتنا الاتكالية. لو أن آباءنا عودونا، ولو أنا عوّدناك على الحياة الاستقلالية الصحيحة، وتركناك وأنت في الثانية عشر تذهب وحدك وتعود وحدك، وعودناك حمل التبعات وأيقظنا فيك شخصيتك ولم ندعها ضائعة في شخصياتنا، ودفعناك إلى استثمار مواهبك ولم نتركها معطلة، ولو فعلنا ذلك وأنت في الثانية عشرة لما خفت عليك السفر وحدك إلى باريز وأنت في طريق العشرين!
يا أخي.
إنك تمشي إلى بلد مسحور (والعوذ بالله)، الذاهب إليه لا يؤوب، إلا أن يؤوب مخلوقاً جديداً وإنساناً آخر غير الذي ذهب. . . يتبدل دماغه الذي في رأسه، وقلبه الذي في صدره، ولسانه الذي في فيه؛ وقد يتبدل أولاده الذين هم في ظهره إذا حملهم في بطن أنثى جاء بها من هناك!
إي والله يا أخي، هذه حال أكثر من رأينا وعرفنا (إلا من عصم ربك)، يذهبون أبناءنا وإخواننا وأحباءنا، ويعودون عداةً لنا، دعاةً لعدونا، جنداً لاستعمارنا. . . لا أعني استعمار البلاد، فهو هيّن لين، ثم إننا قد شفينا منه بحمد الله أو كدنا. . .
وإنما أعني استعمار الرؤوس بالعلم الزائف، والقلوب بالفنّ الداعر، والألسنة باللغة الأخرى، وما تبع ذلك من الارتستات والسينمات وتلك الطامات، من المخدرات والخمور، وهاتيك الشرور. . .
فانتبه لنفسك واستعن بالله، فإنك ستقدم على قوم لا يبالي أكثرهم العفاف، ولا يحفل(231/17)
العرض. سترى النساء في الطرقات والسوح والمعابر يعرضن أنفسهم عرض السلعة، قد أذلتهن مدنية الغرب وأفسدتهن، وهبطت بهن إلى الحضيض، فلا يأكلن خبزهن إلا مغموساً بدم الشرف، وأنت لا تعرف من النساء إلا أهلك، مخدرات معصومات كالدّر المكنون، شأن نساء الشرق المسلم، حيث المرأة عزيزة مكرّمة، محجوبة مخدرة، ملكة في بيتها، ليست من تلك الحطة والمذلة في شئ. . . فإياك أن تفتنك امرأة منهن عن عفتك ودينك، أو يذهب بلبك جمال لها مزوّر، أو ظاهر خدّاع. هي والله الحيّة: ملمس ناعم، وجلد لامع، ونقش بارع، ولكنّ في أنيابها السمّ. . . إياك والسم!
إن الله قد وضع في الإنسان هذه الشهوة وهذا الميل، وجعل له من نفسه عدوّاً (لحكمة أرادها)، ولكنه أعطاه حصناً حصيناً يعتصم به، وسلاحاً متيناً يدرأ به عن نفسه، فتحصن بحصن الدين، وجرد سلاح العقل توَقّ الأذى كله. . . واعلم إن الله جعل مع الفضيلة مكافأتها: صحة الجسم، وطيب الذكر، وراحة البال؛ ووضع في الرذيلة عقابها: ضعف الجسد، وسوء السمعة، وتعب الفكر، ومن وراء ذلك الجنة أو الجهنم. . .
فان عرضت لك امرأة بزينتها وزخرفها فراقب الله، وحكم العقل، وأذكر الأسرة والجدود. . . لا تنظر إلى ظاهرها البراق بل أنظر إلى نفسها المظلمة القذرة وماضيها الخبيث المنتن، أتأكل من إناء ولغت فيه كل الكلاب؟؟
يا أخي!
إن في باريز كل شئ: فيها الفسوق كله، ولكن فيها العلم. فان أنت عكفت على زيارة المكتبات وسماع المحاضرات وجدت من لذة العقل ما ترى معه لذة الجسم صفراً على الشمال (كما يقول أصحابك الرياضيون)، ووجدت من نفعها ما يعلقك بها حتى ما تفكر في غيرها. فعليك بها، استق من هذا المورد الذي لا تجد مثله كل يوم. راجع وابحث وألّف وأنشر، وعش في هذه السماء العالية، ودعْ من شاء يرتعْ في الأرض، ويعش على الجيف المعطرة. . .
غير أنك واجد في ثنايا هذه الكتب التي كتبها القوم المستشرقون عن العربية والإسلام، وفي غضون هذه المحاضرات التي يلقونها، عدواناً كثيراً على الحق، وتبديلاً للواقع، فانتبه له واقرأ ما تقرأ وأصغ لما تسمع وعقلك في رأسك، وإيمانك في صدرك. لا تأخذ كل ما(231/18)
يقولون قضية مسلمة وحقيقة مقررة، فالحق هو الذي لا يكون باطلاً، وليس الحق ما كان قائله أوربياً فانظر أبداً إلى ما قيل، ودع من قال!
ثم إنك سترى مدينة كبيرة، وشوارع وميادين، ومصانع وعمارات. . . فلا يهولنك ما ترى، ولا تحقر حياله نفسك وبلدك كما يفعل أكثر من عرفنا من روّاد باريس. وأعلم أنها إن تكن عظيمة، وإن يكن أهلها متمدنين، فما أنت من سودان أفريقية ولا بلدك من قرى التبّت. . . وإنما أنت أبن المجد والحضارة، أبن الأساتذة الذين علموا هؤلاء القوم وجعلوهم ناساً، أين الأمة التي لو حذف أسمها من التاريخ لآض تأريخ القرون الطويلة صحفاً بيضاً لا شئ فيها، إذ لم يكن في هذه القرون بشر يدوّن التاريخ تاريخه سواهم. . . فمن هؤلاء الذين ترى؟ إنما هم أطفال أبناء أربعة قرون، ولكنّ أمتك بنت الدهر لما ولد الدهر كانت شابة، وحين يموت الدهر تكون شابة. . .
لا. لا أفخر بالعظام البالية، ولا أعتز بالأيام الخالية، ولا أذكر لك الماضي لتقنع به وتنام، ولكن أذكره لك لأهز فيك نفسك العربية المسلمة، لأستصرخ في دمك قوى الأجداد التي قتلت وأحيت، وهدمت وبنت وعلمت، واستاقت الدهر من زمامه فانقاد لها طيعاً. . . إن هذه القوى كامنة في عروقك، قائمة في دمك، فليفُر هذا الدم وليثر ويضطرم تظهر ثانية وتعمل عملها.
لا تقل: ماذا يصنع طالب مثلي ضعيف في أمة قوية، فإن الأندلس المسلمة كانت بالنسبة لعصرها أقوى، وكانت روادها من طلاب الفرنجة أضعف، ولكنهم استطاعوا على ضعفهم أن يضعوا (هذه القوة) التي تعجب بها أنت، ويذوب فيها دين غيرك وخلقه. . . إن الدهر يا أخي دولاب، والأيام دول. وإن في الشرق أدمغة، وفي الشرق سواعد، وفي الشرق مال، ولكن ينقص الشرق العلم فاحمله إليه أنت وأصحابك، وعودوا إلى الشرق شرقيين معتزين بشرقيتهم الخيرة العادلة، كما يعتز الغربيون بغربيتهم الظالمة الطاغية. واعلموا أن مهمتكم ليست ورقة تنالونها، قد تنال بالغش والاستجداء والسرقة. . . ولكن مهمتكم أمة تحيونها.
يا أخي!
إذا وجدت واسعاً من الوقت فادرس أحوال القوم وأوضاعهم في معايشهم وتجارتهم وصناعتهم ومدارسهم، وابحث عن أخلاقهم ومعتقداتهم، على أن تنظر بعين الناقد العاقل(231/19)
الذي يدّون الحسنة لنتعلمها، والسيئة لنتجنبها. ولا تكن كهؤلاء الذين كتبوا عن باريز من أبناء العرب، فلم يروا إلا المحاسن والمزايا، ولا كأولئك الذين كتبوا عن الشرق من أبناء الغرب، فلم يبصروا إلا المخازي والعيوب، ولكن كن عادلاً صادقاً أميناً.
وإياك وهذه الحماقة التي يرتكبها بعض الكتاب من الفرنجة حين يهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يعلمون، كهذا الأخرق الصفيق الذي عمل أطروحة موضوعها (الحج) قدمها إلى جامعة كبرى وهو يجهل العربية، ولا يعرف أي كتاب من كتب المسلمين بحث في الحج، وإنما جمع الأخبار من الصحف ومن أفواه العامة؛ وكتب في نظام الريّ في الغوطة، وزعم أنه وفّى البحث وأتمّه، وهو لا يعرف منه إلا ما خبره به ثلاثة فلاحين لقيهم في قرية ذهب إليها، مع أن نظام الريّ في الغوطة لا يكاد يعرفه في دمشق إلا نفر قليل. . . وذاك الذي كان معلماً أولياً في بلده فصار عندنا مدير دار المعلمين العالية، فذهب مع طلابه إلى ظاهر دمشق، فمشى ينظر على جانبي طريق (الربوة) هناك وهناك. . . فوجد في الجبل أثراً للماء، فقال: من أين جاء هذا الماء؟ لا بدّ أن يكون جاء من بردى، إذ لا ماء في دمشق إلا من بردى. فماذا تكون نتيجة البحث (البحث العلمي) في هذه المسألة؟ هي أن بردى كان يصل إلى هنا. . . إذن فقد كان عرض بردى في الماضي أربعمائة متر. . . وانطلق يقرر دائماً هذه الحقيقة!
وبعد يا أخي، فأعلم أن أثمن نعمة أنعمها الله عليك هي نعمة الأيمان، فاعرف قدرها، واحمد الله عليها، وكن مع الله ترَ الله معك وراقب الله دائماً، وأذكر أنه مطلع عليك، يعصمْك من الناس ويُعذْك من الشيطان، ويوفقْك إلى الخير.
وفي اللحظة التي تشعر فيها أن دينك وأخلاقك في خطر، احزم أمتعتك وعد إلى بلدك، وخلّ (السوربون) تَنْعِ من بناها. . . وانفض يدك من العلم إن كان لا يجئ إلا بذهاب الدين والأخلاق. . .
أستودع الله نفسك ودينك وأخلاقك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
علي الطنطاوي(231/20)
أطراف من تاريخ الملابس عند المسلمين
للعلامة المستشرق دوزي
للأديب محمد طه الحاجري
كاد فن صناعة الملابس أن يكون مجهولاً في العهود الإسلامية الأولى، يوم كان العرب كلهم بدواً إلا قليلاً، وكانت المدن صغيرة ضئيلة الخطر، فكانت الأردية البسيطة المفردة كافية في الوقاية من البرد والحر. وما كانوا يحسبون أن من الممكن أن تصنع الملابس على أسلوب رشيق، بل كان ناسج الثوب هو وحده الذي يقوم بالأمر. ولكن العرب حين فتحوا وشيكاً قسماً كبيراً من آسيا وأفريقية وأوربا، اتصلوا بالشعوب التي غلبوها، وكانت قد وصلت إلى درجة عالية من الحضارة، فلم يلبثوا أن تركوا شيئاً فشيئاً حياة البادية، وأخذوا يستقرون في المدن. وكذلك أدركوا أن في مكنتهم أن يصنعوا لأنفسهم ثياباً أرشق مما كانوا يلبسون، فأخذوا كثيراً من زي الشعوب التي غلبوها. ولما كانت مظاهر الترف قد تقدمت عند الفرس تقدماً عظيماً، فقد أحس بلاط بغداد إحساساً مطرداً بنفوذ جيرانه ورعاياه، كما أن تقدم الحضارة والتجارة أنشأ مصانع من كل نوع. وما أسرع ما ضمت بغداد عدداً عظيماً منها، كان مقدار ما فيها من الثياب الحريرية الفاخرة، والأقمشة المصفوفة بالذهب والفضة وما إليهما، يتضاعف مضاعفة مستمرة.
أما في المغرب فكان الأمر على العكس من ذلك، إذ اختلط العرب بالمراكشيين والبرابرة، وهم شعوب جافية، دون فاتحيهم في الحضارة، فكانت مظاهر الترف مجهولة لديهم، فأخذ العرب منهم إلى حد ما زيهم البسيط الغليظ.
أما في الأندلس فقد استخلص العرب لأنفسهم جزءاً كبيراً من زي الفرسان المسيحيين، ولا سيما في العهد الأخير من عهود ملكهم. ويصرح أبن سعيد بأن أقبية عرب الأندلس كانت تشبه أقبية المسيحيين. ويقول أبن الخطيب المؤرخ، وهو يتحدث عن محمد بن سعد بن محمد بن أحمد بن مردنيش المتوفى في النصف الثاني من القرن السادس الهجري: (وآثر زي النصارى من السلاح والملابس واللجم والسروج).
أما في مصر والشام فقد عانى الزي تغيرات عظيمة بسبب غارة الأتراك.
وقد أحدث امتزاج العرب بالأجانب أن وجد دائماً اختلاف كبير بين أزياء الشعوب المختلفة(231/21)
التي تكون الإمبراطورية العربية الشاسعة، حتى أنه ليستطاع لأول وهلة أن يميز عربي الشرق من عربي الغرب. ويقول أبن إياس، وهو يتحدث عن المؤرخ الشهير أبن خلدون: (واستقر لما تولى القضاء وهو بزي المغاربة فعد ذلك من النوادر) ويقول النويري وهو يروي وفاة الملك القاهر بهاء الدين أبي محمد عبد الملك بن الملك المعظم: (وكان يلبس ملابس العرب ويتزيا بزيهم ويركب كمركبهم ويتخلق بأخلاقهم في كثير من أفعاله) وحتى الذين يسكنون المدن القريب بعضها من بعض كانوا يختلفون في أزيائهم، فقد كتب أحد المغاربة - وسماه مارمول - يقول، حينما حرم فيليب الثاني على مغاربة الأندلس أن يلبسوا زيهم الوطني: (إن زي نسائنا ليس مغربياً بل هو زي مدني كما في قشتالة، وإن الشعوب الإسلامية في البلاد الأخرى لتختلف في أغطية الرأس وفي الثياب والأحذية. ومنذا الذي ينكر أن زي مراكشيات أفريقية والتركيات يختلف عما تلبسه نساؤنا في غرناطة؟ وكذلك تختلف أزياء الرجال، فليس زي فاس كزي تلمسان، وليس زي تونس كزي مراكش، وكذلك الأمر في تركيا والممالك الأخرى).
وهناك فوق ذلك اختلاف كبير في زي الطبقات المختلفة التي تتكون منها الجماعة الإسلامية حتى ليستطاع تمييز الرجل الخاصي من العامي والجندي من شكل العمامة على الأخص، وكذلك كانوا يعرفون بها المنصب الذي يشغله من يلقونه.
بيد أنه يجب ألا يؤخذ هذا القول بوجه عام إلا عند أهل المدن، أما البدو فقد احتفظوا تقريباً بالزي القديم، ولاحظوا تعاليم الدين أكثر من الحضريين.
ولقد حدث محمد (ص) أحاديث عديدة ليمنع مظاهر الترف في الثياب من أن تتغلغل في أمته، وقد استخلص فقهاء الإسلام من هذه الأحاديث نظاماً بالمبادئ والقوانين الخاصة بالزي، وسنعرضها هنا وفقاً لما جاءت به كتب الفقه الحنفي والمالكي.
إن وظيفة الملابس، على ما يقول كتاب ملتقى الأبحر، هي ستر العورة والوقاية من الحر والبرد؛ والأفضل أن تكون من القطن أو الكتان غير مغالى فيها ولا شديدة الرثاثة. وليس أخذ الزينة حراماً متى كان لإظهار نعم الله التي تفضل بها علينا. أما حين تصدر عن الكبرياء فانه ممنوع. وكثيراً ما أوصي عظماء العرب والفرس بالتواضع في هيئة اللباس، ويقول النويري، مثلاً، وهو يمدح صلاح الدين:(231/22)
(وكان لا يلبس إلا ما يحل كالكتان والقطن والصوف) ويقول في موضع آخر بمناسبة موت الأمير جمال الدين ايدغدي العزيز: (وكان مقتصداً على ملبسه يلبس الثياب القطن من الهندي والبعلبكي وغيره مما يباح ولا يكره لبسه) (راجع: , 56 , 58).
والحرير مباح للنساء محرم على الرجال إلا أن يتخذوا منه حاشية لثيابهم لا يتجاوز عرضها أربعة أصابع فذلك جائز لهم؛ ويرى البعض ألا تتجاوز إصبعيين؛ أما المالكية فيرون ألا يبلغ عرضها عرض إصبع واحد. وقد نهى النبي (ص) نهياً مشدداً عن الملابس الحريرية فقال: (من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة) وقال: (إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة) ويجيز الحنفية للرجال أن يلبسوا ثياباً سداها من الحرير ولحمتها من غيره، وأما عكس هذا، أي أن تكون اللحمة من الحرير والسدى من غيره فلا يحل إلا في الحرب. ولا يتفق المالكية فيما بينهم في جواز لبس القماش المسمى بالخز، وهو ما سداه حرير ولحمته صوف، ولكن الأكثرين على منعه.
والأكثر استحباباً من الألوان الأبيض والأسود؛ أما الأبيض فلقول الرسول (ص): (إن الله يحب الثياب البيض وإنه خلق الجنة بيضاء).
ويقول مؤرخ أفريقي وهو يمدح عبد الرحمن الأول أول ملوك الأندلس: (كان يلبس البياض ويعتم به)، وأما الأسود فلأن محمداً (ص) كان يلبس يوم فتح مكة جبة سوداء وعمامة سوداء كذلك. أما الشيعة فعلى العكس من ذلك يحرمون السواد، إذ نقرأ في رحلات شردان ما يأتي:
(ولا يلبس الأسود في الشرق ولا سيما في فارس لأنه لون مشئوم بغيض لا يمكن النظر إليه، ويسمونه لون الشيطان) أما اللونان الأحمر والأصفر فمكروهان من غير أن نعرف سبب كراهيتهما؛ غير أني أفرض أن الأصفر مكروه لأنه لون البغض، والأحمر لأنه لون الدم. ومع هذا فكثيراً ما يلبس المسلمون ثياباً حمراء وصفراء. ويقول أبن جني والواحدي: إن الفتيات يلبسن عادة ملابس حمراء. أما الملابس الخضراء فلا يلبسها إلا أشراف سلالة الرسول (ص).
ويظهر أنه ليس بين الحنفية والمالكية والشافعية كبير خلاف في فصل الملابس، ولكن يظهر أن مذهب أبن حنبل، وهو أكثر المذاهب تشدداً، قد أبعد في التشدد في هذه المسألة.(231/23)
وهو ذا ما جاء في تأريخ مصر للنويري (في حوادث سنة 716).
(وفي هذه السنة فوض قضاء قضاة الحنابلة بدمشق إلى شمس الدين أبي عبد الله محمد، ووصل إليه بتقليد القضاء من الأبواب السلطانية في يوم السبت ثامن صفر. وقريء بجامع دمشق بحضور القضاة والأعيان، وخرج القاضي شمس الدين المذكور من الجامع ماشياً إلى دار السعادة، فسلم على نائب السلطنة، ثم نزع الخلعة السلطانية وتوجه إلى جبل الصالحية وجلس للحكم في سابع عشر صفر، وما غير هيئته ولا عادته في مشيه وحمل حاجته، ويجلس للحكم على مئزر غير مبسوط، بل يضعه في يده ويجلس عليه، ويكتب في محبرة زجاج، ويحمل نعله بيده فيضعه على مكان؛ وإذا قام من مجلس الحكم حمله أيضاً حتى يصل إلى آخر الإيوان فيلقيه ويلبسه. هكذا أخبرني من أثق بأخباره؛ واستمر على ذلك، وهذه عادة السلف).
ولست أدري إن كان كل الحنابلة على هذا التواضع الشديد أم هم القضاة وحدهم؟ ويؤسفني أن ليس لدي من فقه الحنابلة ما أراجعه في هذه المسألة، بل يظهر أن هذا الفقه نادر جداً في أوربا.
ولكي نكوّن لأنفسنا فكرة عن التطورات التي طرأت على زي العرب نقارن ثوب محمد صلى الله عليه وسلم بثوب رجل من الطبقة المتوسطة من أهل القاهرة في القرن السادس عشر بعد غارة الأتراك.
كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يلبس قميصاً من القطن الأبيض تصل أكمامه إلى المعصم، وسروالاً من القماش؛ وما كان فوق القميص والسروال - فيما يظهر - إلا ثوب واحد هو الجبة؛ وهي ثوب طويل من الصوف، وحواشيه من الحرير، مفتوح من أمام، ضيق الأكمام؛ أو القباء، وهو ثوب طويل مهيأ بالأزرار من أمام. وكان يلبس في بعض الحالات - بدلاً من هذه الثياب - كساءً من القماش الغليظ، وهو عادة قطعة كبيرة من الصوف السميك رمادية اللون مخططة، ويلف بها الجسم، وهي (البردة). وكان محمد (صلى الله عليه وسلم) يلبس العمامة البيضاء أو السوداء ويرخي طرفاً منه على ظهره. وأما حذاؤه فكان نعالاً مصنوعة من جلد الإبل، مربوطة بسيرين يمر أحدهما بوسط القدم والآخر بين الإبهام وما يليه.(231/24)
فنحن نرى أن زي الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان في غاية البساطة، ولا يزال هو زي أهل الصحراء في أيامنا هذه.
فالبدو لا يلبسون - مثل الرسول - إلا قميصاً من القطن، وثوباً طويلاً، وقد يستعيضون عنه بكساء من الصوف.
أما زي الرجل القاهري في القرن السادس عشر، فيتألف من عدد عظيم من الملابس - فلا تزي بحال ما تلك البساطة التي كانت تميز زي الرسول، والتي لا تزال ترى في زي البدو - فكان يلبس فوق القميص والسراويل قفطاناً من الحرير في ألوان مختلفة قد خالط بعضها بعضاً، ولهذا الثوب أكمام فضفاضة؛ ثم يلبس فوق القفطان حزاماً من الحرير أو الوبر أو الصوف، ثم جبة طويلة مفتوحة من الأمام، ذات كمين قصيرين لا يصلان إلى المعصم حتى يظهر طرفا كمي القفطان وقد تجاوز الأصابع؛ وهذا الثوب أقصر قليلاً من الأمام عنه من الخلف، وهو مصنوع من القماش الأحمر أو الأزرق أو الرمادي؛ ثم يلبس فوق الجبة ثوب فضفاض يصنع عادة من الوبر، ويزين أحياناً بالفراء، وهو الفراجية. أما غطاء الرأس فيتكون من طاقية صغيرة من القطن وطربوش أحمر وقطعة طويلة من الشاش (الموسلين) تستدير حول الرأس. وأما الحذاء فمن الجلد المراكشي الأحمر.
وجمال الثياب وعددها يخلعُ على لابسها في الشرق العظمة ويبعث على احترامه ويقول المثل الفارسي (قربت بلباس) ويفسره تافرينيه بقوله: بمقدار ما تتجمل في ثيابك، تقابل بالإجلال، وتنال الحظوة في القصر والقربى لدى العظماء. أما في مصر فهناك ما جاء من ذلك في كتاب (وصف مصر)، ' كلما كدس الناس من الثياب على أجسامهم ضاعفوا الاحترام والتقدير الذي يبغونه لأنفسهم)؛ فليس يبدو غريباً إذن أن يعنى الشرقيون بأن تكون ثيابهم نظيفة طيبة الرائحة، وقد جاء في الأغاني عبارة: (ملائمة طيبة) كما نقرأ في تاريخ مصر للنويري أنه وجد في ذخائر أحد العظماء لعبة من العنبر على قدر جسده، برسم ثيابه، توضع ثيابه عليها لتكتسب رائحتها. وورد في (ألف ليلة وليلة) هذا البيت من الشعر:
وتميس بين مزعفر ومعصفر ... ومعنبر وممسّك ومصندل
كما وردت فيه أيضاً هذه الفقرة: (لبست تلك البذلة الفاخرة وكانت مطيبة) وفي موضع آخر(231/25)
منه: (فقعدت تبخره فطارت شرارة فأحرقت طرفه). ويقول بوركهارت عن وهابيي نجد أنهم يعنون بتطييب الكوفية بأنواع من الطيوب
وتخص الأرادن بالتطييب، ففي قصيدة للمتنبي يقول:
أتت زائراً ما خامر الطيب ثوبها ... وكالمسك من أرادنها يتضوع
أما عادة منح الثياب للدلالة على التقدير فعادة شرقية قديمة؛ ومع ذلك يقول المقريزي: إن أول من استعملها هو هرون الرشيد حينما خلع على نديمه جعفر بن يحيى البرمكي. ويسمى ثوب الشرف هذا خلعة، ثم سمى بعد هذا تشريقا. ثم لما تغلغلت هذه العادة أصبحت من القوة بحيث كان الأمير يخلع الرداء الذي يرتديه، فيلبسه الشخص الذي هو موضع تكريمه أو أجازته. ولكن يظهر أن الأمراء لم يكونوا بعد ذلك يهبون من الثياب إلا مما هو مودع في خزائن ثيابهم، أو ما كان جديداً كل الجدة؛ ولكنه كان من دلائل الشرف دائماً أن يلبس الرجل ثياباً كان الأمير يلبسها من قبل؛ ولم يفت المؤرخين أن يشيروا إلى ذلك، فمما يحكي النويري هذه العبارة: (أنعم على الأمير سيف الدين بوشربوش كان قد لبسه).
أما حين يراد معرفة أنواع الثياب التي تتألف منها الخلعة أو التشريف، فقد أشرفنا على مسألة شديدة الصعوبة؛ وإن يكن يخيل إلى أن الأمر كان يرجع، في حكم بعض الأسر، إلى اختيار الأمير المطلق؛ ومع هذا، فإذا كان فييرس يحسب أن الخلعة كانت تتكون غالباً، أو مطلقاً، من القباء وحده، فإني أرى لزاماً على أن أدل هنا على أن هذا رأي خاطئ الأساس. وإذا كان صحيحاً أن ثوب الشرف كان يتكون، في حكم حسن باشا لليمن، من القباء، فأن الأمر لم يكن كذلك في بغداد ومصر مثلاً، فقد كانت الخلعة أو التشريف تتكون من ثياب مختلفة غير ذلك. فالنويري يذكر لنا أن الخلعة التي وهبها خليفة بغداد للملك الناصر داود كانت تتكون من قباء حريري وشربوش، كما يحكى في موضع آخر أن الخلعة التي أعطاها الخليفة العباسي المعتصم بالله كانت تتكون من عمامة سوداء وفراجية موشاة بالذهب. وتقرأ فيما بعد ذلك أن ثوب الشرف الذي منحه الخليفة كان يتألف من عمامة من الحرير الأسود المطرز بالذهب ودراعة. أما الخلعة كانت تعطى للوزير في مصر فكانت تألف من جبة وفراجية وطرحة. وكذلك كان التشريف يتكون من ثياب مختلفة. وأخيراً تدلنا عبارة أخرى للنويري على أن ثياب الشرف كانت تختلف في القماش الذي صنعت(231/26)
منه، والقطع التي تتألف منها حسب مرتبة من تقدم إليه، أو حسب الخدمات التي أداها للأمير.
وكان الأمير في كثير من الأحوال، يقدم إلى جانب الخلعة خنجراً وحصاناً وأشياء أخرى. كما أنا كثيراً ما تقرأ عن خلعة كاملة وتشريف كامل.
وكانت ثياب الشرف التي يهبها الخلفاء العباسيون تكاد تكون دائماً سوداء.
ولم تكن الغاية من الثياب منحصرة لسوء الحظ، في الزينة بل كان شيطان البغض والانتقام يستعملها في انتزاع الحياة بطريقة دنيئة. ومن المعروف عند الغربيين أن الثياب كانت تستعمل في القرون الوسطى لهذه الغاية. ويكفي قليل من الأمثلة المأخوذة من التاريخ الإسلامي لإثبات أن هذا الأسلوب من الانتقام الدنيء لم يكن مجهولاً في الشرق. والنويري يقص علينا أن السلطان الأيوبي، الملك المعظم، أضمر سخطاً شديداً على قاضي القضاة لأنه أقنع أخت صلاح الدين والملك العادل ست الشام بنت أيوب أن توقف أموالها على بعض المؤسسات الدينية، فخيبت حماسة القاضي الدينية آماله. ولقد حاول الأمير عبثاً أن يجد حجة يستطيع أن ينتقم بها من القاضي، ثم لما وجد أخيراً هذه التعلّة أرسل إليه وهو في مجلس حكمه، وحوله جماعة كثيرة من العدول والمتحاكمين، فلما جاءه الرسول قال له: السلطان يسلم عليك ويقول لك: الخليفة، سلم الله عليه، إذا أراد أن يشرف أحداً من أصحابه خلع عليه من ملابسه، ونحن نسلك طريقه؛ وقد أرسل إليك من ملابسه، وأمر أن تلبسه في مجلسك هذا وأنت تحكم بين الناس؛ وكان الملك المعظم أكثر ما يلبس قباءاً أبيض وكلوتة صفراء. وفتح الرسول البقجة، فلما نظر القاضي إلى ما فيها وجم. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة فأخبرني الرسول الذي أحضر هذه الخلعة والرسالة بذلك. قال وكان السلطان أمرني أن ألبسه إياها بيدي إن امتنع أو توقف، فأشرت عليه بلبسها وأعدت الرسالة عليه، فأخذ القباء ووضعه على كتفه، ووضع عمامته على الأرض ولبس الكلوتة الصفراء على رأسه، ثم قام ودخل بيته، ومرض إثر هذه الحادثة ورمى كيده ومات؛ ويقال أن ذلك كان في يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وسبعمائة).
ويذكر بعض المؤرخين الأسبان أن ملك قشتالة الدون انريك مات مسموماً لأن ملك غرناطة محمداً أهدى إليه حذاءين غمرا في السم.(231/27)
وكانت الثياب السوداء تلبس قديماً للدلالة على الحداد، سواء في لبسها لذلك الرجال والنساء. ومن المعلوم أن زي العباسيين الأسود إنما أنتحل حداداً لموت الأمام إبراهيم بن محمد وكذلك جاءت هذه العبارة في تأريخ مصر للنويري: (شق القاهرة وهو لابس السوداء، وأعلامه كذلك، حزناً على الظاهر).
ولكن الرجال في الأزمنة المتأخرة صاروا لا يلبسون ثياب الحداد، إذ كانت تيدو كأنها دليل على عدم الصبر على ما قدر الله أما النساء فلا يزالون يلبسونها في الشرق، ولكن عند موت الزوج أو القريب الأدنى، ولا يلبسونها في موت من تقدم به العمر؛ وقد جاء في معجم الأعلام الذي وضعه ابن الخطيب أن الشاعرة الشهيرة حفصة، عشيقة أبي جعفر أحمد بن سعيد، الشاعر الشهير ووزير صاحب غرناطة، لبست الحداد حين بلغها أن حبيبها قد قتل، ولكن هذا من غير شك شذوذ من العادة العامة.
ويكون الحداد بأن تصبغ المرأة بالنيلة قميصها وقناعها الذي تغطي به رأسها وتستر به وجهها ومنديلها صبغة زرقاء قاتمة أو قريبة من السواد. وتلبس النساء ثياب الحداد فترة الأيام السبعة أو الخمسة عشر أو الأربعين في بعض الأحيان.
أما في الأندلس، أثناء حكم الخلفاء الأمويين فكانت ثياب الحداد بيضاء. إذ نقرأ في تأريخ الأندلس للمقري هذه العبارة: (عليهم الظهائر البيض شعار الحزن).
ويلبس العرب ثياباً حمراء أو صفراء حينما يريدون الدلالة على الغضب. وقد جاء في كتاب ألف ليلة وليلة هذه العبارة: (لبس بدلة الغضب وهي بدلة حمراء) ولكن هذه العادة ربما كانت عادة تركية
أما في الغرب فكان اللون الأصفر هو الذي يدل على الغضب فقد لاحظ بيدودي سن أولون وويندوس أن ملوك مراكش كانوا إذا اعتزموا أن يسفكوا دماً لبسوا في الغالب ثياباً صفراء.
محمد طه الحاجري(231/28)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 13 -
إن اللحن الذي جئت لأترنم به ظل مكفوفاً في نفسي للآن
وتصرمت الأيام وأنا أشد أوتار قيثاري وأرخيها.
لم يأن لي أبداً فالكلمات لم تواتني، غير أن الرغبة الملحة تتنزى في قلبي.
إن الكِمّ لم يتفتح، ولكن الريح تزف حواليه.
لم أر وجهه، ولم أسمع رنات صوته، غير أني استشعرت خطواته الرفيقة وهو يسير
الهوينى أمام داري.
ومر اليوم الطويل وأنا أهيئ له مكاناً، ولكني لم أستطع أن أدعوه إلى داري لأن سرجي
كان هامداً.
وهأنذا أعيش بالأمل في لقياه، ولكن اللقيا لم تحن.
- 14 -
إن رغباتي كثيرة، وفي صيحاتي الألم؛ أفتردني في رفض قاس والرحمة منبثة في
أضعاف حياتي هنا وهناك؟
وعلى مَرّ الأيام جعلتني أستأهل من آلائك العظيمة ما أنعمت به عليّ دون سؤال: هذه
السماء والنور، هذا الجسم والحياة والعقل ثم نجيتني من خطر الرغبة الجامحة.
في حين كنت أتباطأ في فتور؛ وفي حين آخر كنت أهب مسرعاً إلى الغاية؛ ولكنك كنت
تخفي نفسك عني في قسوة.
وعلى مر الأيام جعلتني أستأهل منك القبول المحض بعد طول رفضك إياي، وأنت
جنبتني خطر التخاذل والرغبة المضطربة.
- 15 -(231/29)
أنا هنا لأردد لك الأناشيد، ولأجلس في زاوية من فنائك
لا عمل لي في دنياك، فحياتي الخاوية تتفجر عن ألحان لا غاية لها
وعند منتصف الليل، حين تدق الساعة في محربك المظلم، مؤذنة بصمت العبادة الرهيب؛
مرني، يا إلهي، أن أقف واطلب إلي لأرتل أغاني.
وبين نسمات الفجر، وقيثارك الذهبية تصدح، شرفي واطلب إلي أن أتقدم نحوك.
- 16 -
لقد لبيت الدعوة إلى مهرجان الحياة، فكانت حياتي سعيدة، أن عيني تبصران ومسمعي
تسمعان.
وكان عملي في هذا الحقل أن أعزف على قيثاري، فبذلت غاية جهدي.
والآن، أسأل: أفلم يأن لي أن أنطلق لأرى وجهك وأحييك في صمت وهدوء.
- 17 -
أنا أنتظر من أحب لألقي بنفسي بين ذراعيه. هذا هو عذري حين أبطأت، وهو ذنبي
حين أهملت.
لقد جاءوا جميعاً وبين أيديهم القانون ومواده ليوثقوا به قيدي فأفلت من قبضتهم لأنني
أنتظر من أحب لألقي بنفسي بين ذراعيه.
والناس يلومونني ويرموني بالغفلة، ولا ريب فهم على حق.
انفضت السوق، وأنجز كل ذي عمل عمله، وانصرف الذين جاءوا ينصحونني وفيهم
الغيظ والغضب؛ وأنا أنتظر من أحب لألقي بنفسي بين ذراعيه.
- 18 -
إن السحب تتكاثف في السماء والدنيا تظلم؛ آه، يا من أحب، لماذا تركتني وحيداً في هذا
العراء؟ عند الظهر في ساعات العمل، أندفع بين الزمر. والآن فهذا اليوم الظليل الهادئ هو لك يا من تعلق به أملي.
فإذا لم تطلع عليّ لأجتلي النور من وجهك، وتركتني وحيداً فكيف أقضي هذه الساعات
الطويلة الممطرة.(231/30)
أنا أحدق في السماء المتجهمة، وقلبي المضطرب يئن مع الرياح العاصفة.
- 19 -
إذا لم تتحدث حديثك فأملأ قلبي من صمتك العميق واحمله راضياً؛ سأطمئن وأنتظر
كالليل لتسهر كواكبه ورأسه مطأطأ في صبر.
لا ريب فالصباح آت ليبدد الظلمات، وسيتدفق صوتك في مجاريه الذهبية يخترق أطباق
السماء، وسيرفرف كلمك في جناحي لحن كأنه طيري الغريد، وتتفتح أنغامك عن زهر في أنحاء حديقتي.
- 20 -
يا أسفاً! في اليوم أينعت زهرة اللوتس. كان عقلي مضطرباً فلم أحس بها، وكانت سلتي
فارغة ولكن الزهرة طلت مكانها
الآن شملني حزن عميق، فهببت من حلمي لأستروح نسمات عطرية تحملها رياح
الجنوب.
فبعثت هذه النسمات الحلوة في قلبي آلام الحنين، وتراءت لي كأنها زفرات الصيف
العاشق وهو يفتش عن نصفه الآخر.
ما كنت أعلم أن هذه الزهرة على خطوات مني، وأنها هي لي، وأن الحلاوة قد تفتحت
في أعماق قلبي.
- 21 -
لا بد أن أتناول غدائي على الشاطئ، ومرت الساعات متباطئة على الشاطئ. فيا أسفي!
لقد تفتح الربيع عن زهراته وأوراقه الخضراء، وأنا أضرب في الأرض منتظراً وعلى
كتفي حمل من زهراتي الذابلة الذاوية.
الأمواج تضطرب في صخب، وعلى الشاطئ شجرات من الخوخ يانعة تعصف الريح
بأوراقها الصفراء.
لماذا تحدق في الفضاء! أفلا تستشعر في الهواء هزات تحمل نغم لحن جاء في أضعافها
من الشاطئ الآخر.(231/31)
- 22 -
تحت ظلال شهر يوليه المطير، تسير أنت في خطوات هادئة وفي صمت لا يشعر به
الرقيب.
واليوم أغمض الصباح جفنيه، لا يعبأ بصفير الرياح الشرقية وهي تلح في ندائها، وقد
أسدل نقاب كثيف على وجه السماء الأزرق المتألق.
وأمسكت الغابة عن ترديد لحنها، وغلقت الأبواب؛ وأنت. . . أنت يا عابر السبيل
تضرب في الطريق الصحراوي وحيداً. أوه، يا صديقي العزيز، يا من أحب، إن باب داري مفتوح على مصراعيه فلا تمر به كأنك حالم.
- 23 -
يا صديقي، أفِأنت في العراء تتم رحلة الهوى في هذه الليلة العاصفة؟ وإن السماء تئن
كأنها مصدور بنفس عن نفسه.
لقد أرقت الليلة، يا صديقي وباب داري مفتوح فأنظر إليه في هذا الظلام الدامس. أنا لا
أرى - في هذا الظلام - شيئاً مما أمامي، فلا أستطيع أن أجد الطريق إليك.
عند شاطئ أي نهر مظلم قاتم، لدى حافة أية غابة سوداء حالكة، وفي ثنايا أي عمق معتم
مضل، جلست يا صديقي، ترسم في نفسك الطريق إلي.
- 24 -
إذا انطوى النهار، وصمتت الطيور الغريدة، وهدأت الرياح الزفزافة؛ فانشر علي قناعاً
صفيقاً من الظلمة كما نشرت على الأرض أستار النوم، وكما لففت أوراق زهرة اللوتس الذابلة في غيابة الظلام.
نحِّ عن السائح الذي نفد زاده، وتمزقت ثيابه، وتشعث وأغبر، وخارت قوته، انطفأت
منته، قبل أن يبلغ غايته. . . نحِّ عنه الضنا والفقر، وانفث فيه من روح الحياة ليكون كزهرة تلفعت برداء الليل الرفيق.
- 25 -
في الأمسية التي أكدّني فيها الجهد، دعني أنم هادئاً وفي نفسي الأيمان بك.(231/32)
ولا تطلب إليّ أن أرهق نفسي المتعبة بعبادتك.
فأنت الذي أن حسرت عن عيني النهار نقاب الظلام ليبدو فيها النشاط والمرح من جديد
بعد أن أضناها التعب والأسى.
كامل محمود حبيب(231/33)
أبو إسحاق الصابي
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
بعثني إلى الكتابة عن أبي إسحاق الصابي رغبة حافزة في أن أربط بينه وبين أبي الفرج الببغاء أديبين عفى عليهما الدهر، ثم أراد لأدبهما بعثاً، كما ربطت بين روحيهما أواصر الأدب، فتعارفا متباعدين وتآلفا متقاربين، فقد قدمنا أن الصلة بينهما كانت في الحياة وثيقة العرا محكمة الحلق، لم تشبها شائبة حفيظة، ولقد جعلني الحديث عن أبي الفرج على ذكر متصل بأبي إسحاق لا يبرح أفق تفكيري ولا يحيد عنه، ولا يريم عن محيط ذهني ولا يقصو دونه. ولعل من أهم عوامل علوق أسمه بذاكرتي، ورسوخ شخصه في مخيلتي، أن حظه في دنياه كان كحظ صنوه، بل إنه كان أسوأ من أخيه جداً وأنكد دهراً، وأتعس رجاء وأملاً، فكلما تقدم به الأجل وأشرق له الأمل أدركته حرفة الأدب، فتضاعف عليه الألم، لا يغني عنه ما أوتى من ألمعية نادرة، ولا يصرف صروف الدهر دونه ما وهب الله له من مواهب فياضة زاخرة، فغير الدهر تنصب عليه انصباباً، ونوبة تتقاذفه تقاذفاً، وأحداث الزمان تتعاوره كهلاً أناخ به المشيب، وخطوبة تتناوبه شيخاً بما لا يقوى عليه الفتى الصليب. وهكذا دواليك: غمرات تترى، ونكبات تتوالى، ولا يجد على تعاقب الليالي إلا ضيماً، وتسومه الأيام بكرها خسفاً وظلماً؛ حتى أنشد وأنشد وتمنى، فكانت المنية هي أصدق المنى، فلله هو إذ يقول:
إذا لم يكن للمرء بدّ من الردى ... فأسهله ما جاء والعيش أنكد
وأصبعه ما جاء والعيش راتع ... تطيف به اللذات والعيش مسعد
فإن أك شر العيشتين أعيشها ... فإني إلى خير المماتين أقصد
وسيان يوما شقوة وسعادة ... إذا كان غِبا واحداً لهما الغد
وما زال هذا شأنه لا يحول حاله إلا إلى سوء، وذلك ديدنه لا يتغير أمره إلا إلى غير، وهو يندب جده آنا وآنا، ويشكو بؤسه حيناً وحينا، فلا يجد لشكواه سكينة أو أونا، ولا يعرف إلى الحين مهيعاً أو سبيلاً؛ حتى صار ملجأ أمراض وأسقام، ومحط أوصاب وآلام. وهاهو ذا يشكو زمانته، وآثار الهرم في كيانه وحاجته إلى محفة يتخذها بدل قدميه اللتين ناءتا بحمله، وشاركتا الدهر في استثقال ظله، وقد بعث بقصيدته تلك إلى الشريف الرضي، وقد(231/34)
كان يشفق عليه ويرحمه، ويأسو كلومه ويرأمه، قال منها:
إذا ما تعدت بي وسارت محفة ... لها أرجل يسعى بها رجلان
وما كنت من فرسانها غير أنها ... وفت لي لما خانت القدمان
نزلتُ إليها عن سراةِ حصان ... بحكم مشيبي أو فراشَ حصان
فقد حملت مني ابن تسعين سالكاً ... سبيلاً عليها يسلك الثقلان
كما حمل المهدُ الصبيَّ وقبلها ... ذعرت ليوث الغيل بالنزوان
فجاءت مواساة الشريف له سخية وفية، وعطفه براً سابغاً ضافياً، فقد لأم جروحه بقصيدة تفيض بالعطف أشطارها وتفعم بالود أبياتها منها!
لئن رام قبضاً من بنانك حادث ... لقد عاضنا منك انبساط جنان
وإن بُزّ من ذاك الجناح مطاره ... فرب مقال منك ذي طيران
وإن أقعدتك النائبات فطالما ... سرى موقراً من مجدك الملوان
وإن هدمت منك الخطوب بمرها ... فثم لسان للمناقب بان
مآثر تبقى ما رأى الشمس ناظر ... وما سمعت من سامع أذنان
من هذه الأبيات ندرك تعاسته وبؤسه، ونتبين آلامه وأسقامه، وما زال يغالب الزمان ويجالد الحدثان حتى أراد الله له الدعة التي طالما تمناها، وآتاه الطلبة التي كثيراً ما طلبها فعزت عليه. وافاه أجله وقد جاوز التسعين سنة حلب فيها الدهر أشطره فذاق شره مترعاً وقلما طعم خيره، وشرب كئوس البؤس دهاقاً، ولما ما ألمّ بالنعيم، ولقد كان في فتوته أسعد حالاً منه في كهولته وعاش في شبيبته أنعم بالاً منه في شيخوخته، وإليك حديثه عن ذلك في خيال صاف وديباجة مطرزة:
عجباً لحظي إذا أراه مصالحي ... عصر الشباب وفي المشيب مغاضبي
أمن الغواني كان؟ حتى ملني ... شيخا، وكان على صباي مصاحبي
أمع التضعضع ملني متجنباً؟ ... ومع الترعرع كان غير مجانبي
يا ليت صبوته إليّ تأخرت ... حتى تكون ذخيرة لعواقبي
وبعد تلك الإلمامة بحاله نتحدث عن نشأته وحياته: يروي ياقوت في معجمه أن أبا إسحاق إبراهيم بن هلال بن زهرون ولد بحران سنة ثلاث عشرة وثلثمائة هجرية، وأدركته منيته(231/35)
لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر شوال لسنة أربع وثمانين وثلثمائة؛ فسنه على هذه الرواية إحدى وسبعون سنة، وهو يقول في تعزيز روايته تلك: (وذكر أبو منصور الثعالبي في كتابه (يعني كتاب يتيمة الدهر) أنه بلغ من العمر تسعين سنة والذي أوردته من تأريخ حفيده، وهو به أعلم) ويقصد بحفيده أبا الحسين هلالاً بن المحسن بن إبراهيم الصابي، ويعقب الأستاذ شارح معجم الأدباء على ياقوت فيقول: (إنما قال الثعالبي إنه خنق التسعين أي قاربها) والحق أن الثعالبي ذكر سن أبي إسحاق في موضعين فقال في صدر الحديث عنه، وهو بصدد التعريف به (وكان قد خنق التسعين في خدمة الخلفاء وخلافة الوزراء) ثم قال في نهاية الفصل الذي كتبه عنه تحت عنوان وفاته (توفي في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة من شوال سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وكانت سنوه إحدى وتسعين سنة قمرية).
وإني إلى تحقيق الثعالبي أميل لوجوه أعدد منها:
أولاً: يكاد أبو منصور الثعالبي يعتبر معاصراً لأبي إسحاق الصابي، فقد توفي أبو منصور عقبه بنحو خمس وأربعين سنة، وهو أمد قصير في أعمار التاريخ والمؤرخين.
ثانياً: السن التي ذكرها صاحب اليتيمة وردت في قصيدة لأبي إسحاق إذ يقول:
فقد حملت مني ابن تسعين سالكا ... سبيلا عليها يسلك الثقلان
وقد كان إنشاء هذه القصيدة قبل وفاته بنحو أربعة أشهر
ثالثاً: قد يكون حفيد أبي إسحاق صادراً في حديثه عن غير تروٍّ وتدبر للحقيقة، لأنه حديث يسمع وينسى لا كما يصدر حديث عن مؤلف يتحرى الصدق ويلتزم جادة الدقة؛ لأنه خبر يخلد ويبقى.
رابعاً: سن السبعين لا توهي جلداً ولا توهن عظماً، وإن كان صاحبها متزاحمة عليه النائبات مولعة به النكبات إلا في القليل النادر.
وسواء أكان موته عن إحدى وتسعين أم عن إحدى وسبعين فقد خلف في الأدب أخلد الأثر، وضرب في النبل والوفاء أصدق المثل، فلقد ولد ومات على دين الصابئة، والصابئون كما يقول الأمام الكبير الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر. . . الخ الآية): (قوم يعبدون الكواكب ثم لهم قولان: الأول إن خالق العالم هو الله سبحانه، إلا أنه سبحانه أمر بتعظيم هذه الكواكب(231/36)
واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم. والثاني: إن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، والخالقة لها، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم، ثم إنها تعبد الله سبحانه).
على هذا الدين ولد أبو إسحاق وعليه مات في عصر الإسلام فيه مزدهر والكلمة العليا له، والمكانة المكينة في العالم لرجاله، ولا فضل لمن لم يوله قلبه، ويهب له نفسه، وإن بقاءه على صابئته - على الرغم مما يحوطه ليدل أعظم الدلالة على أن الإسلام دين سمح، أساسه العفو والأمر بالعرف، والإعراض عن المشركين دون أن يصيبهم أذى، أو ينالهم حيف، أو تحل بهم نقمة مخلوق؛ لأنه دين العقل والحجة والمنطق والموعظة الحسنة، ولولا تسامح ذلك الدين القويم ما وجد مثل الصابئ كنفاً يلجأ إليه أو وزراً يحميه، فكيف وقد عاشر الخلفاء والأمراء والملوك والوزراء؟ وكذلك عاش أمثاله في رغد ورفهية؛ عاشوا موفوري الكرامة مرفوعي الرءوس مجدودي الحياة؛ ولقد بصر أبو إسحاق بالدين الإسلامي ورغب في الإسلام وألف قلبه، وأجزل له من أجل ذلك، فلم يهد الله قلبه للإيمان؛ لأنا لا نهدي من نحب، ولكن الله يهدي من يشاء؛ لذلك لم يصخ بسمعه إلى دعوة اليقين والداعون إليها هم سادته ومواليه وأرباب نعمته ومالكو زمام أمره إن شاءوا رفعوه وأعزوه، وأن أرادوا وضعوه وأذلوه. ولقد حدث التاريخ أن عز الدولة بختيار عرض عليه الوزارة على أن يسلم، فأباها مفضلاً أن يبقى على دين آبائه الغابرين؛ وإن وفائه لملته، وإخلاصه لنحلته لمصدر عجب لمن أراد العجب؛ إذ لم يعرف عنه أنه أرتكب أمراً حرم عليه، ولا جاء وزراً نهى عنه شرعه. ويروي المؤرخون أنه حضر مائدة للوزير المهلبي بن أبي صفرة، وكان أبو إسحاق من خلانه الأدنين وخلصائه المصطفين، فامتنع عن لون من ألوان الطعام محرم لدى الصابئة، فقال له المهلبي: لا تبرد وكل معنا من هذه الباقلاء. فقال: أيها الوزير لا أريد أن أعصي الله في مأكول، فكان موفقاً في إجابته مسدوداً في مجانته. وروي أن عز الدولة بختيار بذل له ألف دينار على أن يأكل الفول وهو مما يحرم أكله أيضاً في دينه، فرفضها متعففاً وهو الفقير إليها فأين من أولئك الذين لا يتناهون عن منكرات يجترمونها، ولا يتعففون عن محرمات يجترحونها غير مبالين ما ينتظرهم من حساب شديد وعذاب(231/37)
أليم؟ وآية نبله أنه مع تعصبه هذا وتشدده وتزمته في دينه كان جميل العشرة للمسلمين صادق الإخاء كريم الصنيع حسن المعونة، فكان يصوم رمضان لا تحنثاً بل تجملاً، ويحفظ القرآن الكريم إجلالاً له وعرفاناً بخطره؛ لأنه رأى فيه مهبط الحكمة ومصدر البلاغة، ومشرع اللسن والفصاحة، فظهر أثر ذلك على أسلة يراعه، وجرى على عذبة لسانه. وإليك ما يقوله أبو منصور الثعالبي في يتيمته عنه في تلك الناحية من خلقه وأدبه: (كان يعاشر المسلمين أحسن عشرة، ويخدم الأكابر أرفع خدمة، ويساعدهم على صيام شهر رمضان، ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه وسن قلمه، وبرهان ذلك ما وردته في كتاب الاقتباس من فصوله التي أحسن فيها كل الإحسان وحلاها بآي من القرآن)
ومن آيات وفائه ونبله أنه كان صديقاً ودوداً للشريف الرضي حتى أتهم بأنه يدعو له بالخلافة، ويتمنى أن ينال مطمحه ويدرك مأربه، وهو لم ينف ذلك عن نفسه، بل إنه جهر به في قصيدة بعث بها إلى الشريف، وهو لا بد عالم بوقعها في نفوس أعدائه وحاسديه، ولكنه لم يعبأ بما قد يصيبه بسببها، لأنه أسير وجدانه، وينطق إذ ينطق عن شعوره وإحساسه، وما عليه إذ يرضيهما من بأس، وهذا بعض ما قاله فيها:
أبا حسن لي في الرجال فراسة ... تعودتُ منها أن تقول فتصدقا
وقد خبَّرتني عنك أنك ماجد ... سترقي من العلياء أبعد مرتقى
فوفَّيتك التعظيم قبل أوانه ... وقلت أطال الله للسيد البقا
وأضمرت منه لفظة لم أبح بها ... إلى أن أرى إطلاقها لي مطلقا
فإن عشت أو إن مت فاذكر بشارتي ... وأوجبْ بها حقاً عليك محققاً
وكن لي في الأولاد والأهل حافظاً ... إذا ما اطمأن الجنب في موضع البقا
ولقد كان مع هذا محببا إلى الخلفاء والوزراء، كلهم يطلب يده ويبتغي أن يقصر خدمته عليه دون غيره، فمنهم من كان يسلك إلى إربته طريق البذل والرفد، ومنهم من كان يطرق سبيل العقوبة والحقد، فعاش محسداً إن رضى عنه وزير غضب عليه آخر، وإن صفا له أمير جفاه خليفة. وممن اصطفاه ولم يجتوه وأحبه ولم يجفه الصاحب بن عباد، ولعل الأدب هو الذي قرب بين نفسيهما وألف بين روحيهما، فلم تقع بينهما نبوة، ولا لحق صدقتهما جفوة، فكثيراً ما بثه شكواه، واستمطر غيثه وكان موضع نجواه، ولقد كان أول أمره يأنف(231/38)
أن يتصل بالصاحب مادحاً أو أن يطلب صلته مانحاً؛ حتى استوزر الصاحب فنزل عن أنفته وقنع من مطاولته بمصاحبته، وكان الصاحب يعجب به أشد الإعجاب، ويراه أحد أفذاذ الأدب، فقد حدَّث عنه أنه كان يقول: (كتاب الدنيا وبلغاء العصر أربعة: الأستاذ أبن العميد، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق الصابي ولو شئت لذكرت الرابع) وكان يعني بالرابع نفسه. ويقول الثعالبي (وأما الترجيح بين هذين الصدرين أعني الصاحب والصابي في الكتابة فقد خاض فيه الخائضون، وأخب فيه المخبون، ومن أشف ما سمعته في ذلك أن الصاحب كان يكتب كما يريد وأبو إسحاق كان يكتب كما يؤمر، وبين الحالتين بون بعيد) وأحسب أنه يقصد تفضيل الصابي لأن الذي يستطيع أن يكتب ما يراد منه ويؤمر به لاشك مستطيع أن يكتب مات يرده هو، وعلى هذا فقد برع في الناحيتين وفاق صاحبه فيما قصر فيه، وإلى أمد قاصد نكمل عنه الحديث متناولين جزءاً آخر من تاريخه الأدبي.
عبد العظيم علي قناوي(231/39)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي 1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 16 -
(لا يصح الحب بين أثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا. . . ومن هذه الناحية كان البغض بين الحبيبين - حين يقع - أعنف ما في الخصومة، إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة. وأكبر خصيمين في عالم النفس (هما) متحابان تباغضاً. . .)
(الرافعي)
السحاب الأحمر
ترى ماذا كتبت إليه صاحبته بعد ما قرأت رسائل الأحزان فأثارت نفسه بعد هدأتها وردته من الغيظ والحنق إلى أن يقول: (يا هذه لا أدري ما تقولين؛ ولكن الحقيقة التي أعرفها: أن نفس المرأة إذا اتسخت كان كلامها في حاجة إلى أن يغسل بالماء والصابون وهيهات. .!) ويقول: (يجب على المدارس حين تعلم الفتاة كيف تتكلم أن تعلمها أيضاً كيف تسكت عن بعض كلامها)؟
من لي بأن أعرف ما كان وقع رسائل الأحزان في نفسها ما وردت به؟
إنه يتحدث في السحاب الأحمر عن التهمة والظنون، والكلام الذي لا يغسله الماء والصابون، والنجمة الهاوية، وخداع النظر في الحب، وفساد الرأي في الهوى، وطيش القلب في الاستسلام، ثم. . . ثم يحاول أن يعتذر. . .!
هنا الحلقة المفقودة في تأريخ هذا الحب، فلست أدعي المعرفة؛ ولقد كنت مع الرافعي مرة في مكتبه وبيننا السحاب الأحمر يقرأ لي بعض فصوله، فأشرت إليه عند فقرة من الكلام ليجيبني عن سؤال يكشف عن شئ من خبرها ومن خبره؛ فوضع الكتاب إلى جانبه وحدق في طويلاً ثم سكت، وسبحت خواطره إلى عالم بعيد، وراحت أصابعه تعبث بما على المكتب من أشيائه، ثم قال: (أرأيت القلم الذي تراءى لي السحاب الأحمر في نصابه بين(231/40)
عيني والمصباح. . .؟) ثم دس يده في درج المكتب فأخرجه ودفعه إلي وهو يقول: (ضع النصاب بين عينيك والمصباح وأنظر. ألست ترى سحاباً يترقرق بالدم كأن قلباً جريحاً ينزف؟ في شعاعه هذا النور تراءت لي هذه الخواطر التي تقرؤها في السحاب الأحمر. . .) ثم عاد إلى الصمت ولم أعد إلى السؤال. . .
أحسب أن الرافعي حين أنشأ السحاب الأحمر كان في حالة عصبية قلقة لست أعرف مأتاها ومردها، ولكن فصول الكتاب تتحدث عن خبرها في شئ من الغموض والإبهام.
لقد أنشأ الرافعي رسائل الأحزان ليكون رسالة إليها يتحدث فيها عن حبه وآلامه؛ ولست أشك أن صاحبته حين تأدَّت إليها رسائله قد فهمت ما يعنيه وعرفت ذات صدره، وأحسبها - وهي الأديبة الشاعرة - قد سرها أن تكون هي فلك الوحي لما في رسائل الأحزان من كل معنى جميل. أفتراها قد بدا لها أن تهيجه بالدلال والإغراء وقسوة العتب وتصنع الغضب لتفتنه وتزيده وحياً وشعراً وحكمة. . .؟
إن كانت هذه رسالتها إليه فما أراها قد بلغت بها إلا أن هاجت كبرياءه وأثارت نفسه، فكتب كتابه ولكن لغير ما أرادت وما قصدت إليه. . .
يقوم السحاب الأحمر على سبب واحد، يدور حول فلسفة البغض، وطيش الحب، ولؤم المرأة. . .!
على أن كل ما فيه لا يشير إلا لمعنى واحد: وهو أن قلباً وقع في أسر الحب يحاول الفكاك فلا يستطيعه؛ فما يملك إلا أن يصيح بملء ما فيه: إني أبغضك أيتها. . . أيتها المحبوبة!
وكما يفزع الشخص إذا حزبه أمره إلى أصدقائه يستعينهم ويستلهمهم الرأي في بلواه، كذلك فزع الرافعي في السحاب الأحمر، ولكن إلى أصدقاء من غير عالمه يستعينهم على أمره؛ فهذا صديقه الشيخ علي صاحب المساكين، وهذا صفيه وصاحب نشأته الشيخ أحمد الرافعي؛ وذلك أستاذه ومثله العالي في دينه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده؛ وهذه أم ضل ولداها الحبيبان، وتلك زوج يفارقها زوجها الحبيب إلى السجن؛ وهذا، وهذه، وتلك، يحدثونه جميعاً حديثهم عن الحب في رأى العين، وفي رأى القلب، وفي رأى العقل، ويحدثهم حديثه. . . فما تلمح من أحاديث هؤلاء جميعاً إلا أن الرافعي في جهاد عنيف بين قلبه وعقله، يريد أن يثبت الغلبة لعقله على هواه ليخرج من أمر صاحبته برأيه وفكره(231/41)
وكبريائه، ثم لا تكون الغلبة في النهاية إلا للحب على رأيه وفكره وكبريائه.
على أن كتاب السحاب الأحمر ليس كله خالصاً لصاحبته وأن يكن من وحيها؛ ذلك أن نسقه العجيب، ومحاولة الرافعي به أن ينصرف عنها، قد شرع له في الكتاب مسالك من القول لم تكن مما يقتضيه ما بينه وبين صاحبته.
في الفصل الأول من السحاب الأحمر، يتحدث الرافعي عن فتاة (عرفها قديماً في ربوة من لبنان، ينتهي الوصف إلى جمالها ثم يقف!) وهو يعني صاحبته التي أملت عليه (حديث القمر) وإنك لتقرأ حديثه عنها، ووصفه لها، وما كان من أثرها في نفسه؛ فتسأل نفسك: أي شئ رده إلى هذه الذكرى البعيدة فأيقظها في نفسه بعد اثنتي عشرة سنة محا الزمان بها في قلبه وأثبت؟ فلا تلبث أن تجد الجواب في الأسطر الأخيرة من هذا الفصل:
(إن من النساء ما يفهم ثم يعلو في معاليه الجميلة إلى أن يمتنع، ومن النساء ما يفهم ثم يسفل في معانيه الخسيسة أن يبتذل. . .
(إن من المرأة ما يحب إلى أن يلتحق بالإيمان، ومن المرأة ما يكره إلى أن يلتحق بالكفر. . .
(من المرأة حلو لذيذ يؤكل منه بلا شبع، ومن المرأة مر كريه يشبع منه بلا أكل. . .!)
أتراه بهذا يوازن بين واحدة وواحدة، ليقول لهذه: أن تلك كانت خيراً منك؟ وهل تحسبه كان يعتقد ذلك؟ أما أنا فاعرف من أخلاق الرافعي أن هذا معنى لم يكن يعنيه، ولكنها مساومة في الحب يريد بها أن يهيج غيرة صاحبته ليردها إليه، أو أنه أراد أن ينقذ كبريائه فيزعم لصاحبته أنه لم يكن يعنيها برسائل الأحزان، لأن هنالك أخرى. . .
وتقرأ (النجمة الهاوية) في الفصل الثاني، فتسمعه يقول: (تتم آمالنا حين لا نؤمل!) فما تشك أن هناك رسالة إليها، رسالة يمليها الحب المغيظ المحنق، يحاول فيها أن يوهمها أنها لم تعد شيئاً في نفسه، وأنه قد تمت آماله واستراحت نفسه فليس له فيها أمل ولا يتعلق بها رجاء؛ ثم يستطرد في معاني البغض والهجر والقطيعة بأسلوب قاسٍ عنيف، ولكن قلبه العاشق المفتون ينبض في كلماته؛ فما ينتهي الفصل حتى يستعلن حبه من وراء كلمات البغض وهو يقول: (أشأم النساء على نفسها من لا تحب ولا تبغض، وأشأمهن على الناس من إذا عدت مبغضيها لا تعد إلا الذين أحبوها. . .!) وأنني لأعرف الرافعي وأستمع إلى(231/42)
همسات قلبه، فهل ترى ترجمة هذه العبارة إلا أنه يقول: (إنني أحبك يا أشأم النساء!)؟
اقرأ في آخر هذا الفصل الصاخب قوله:
يا من على الحب ينسانا ونذكره ... لسوف تذكرنا يوماً وننساكا
إن الظلام الذي يجلوك يا قمرٌ ... له صباح متى تدركه أخفاكا
ويتحدث في الفصل الثالث عن السجين تحمله عربة السجناء إلى قضائه، وزوجته التي تحبه تشيعه بنظراتها الجازعة؛ فتعرف من وصفه لساعة الفراق بين الزوجين الحبيبين، أي خاطرة في الحب ألهمته هذا الفصل البديع، وكأنك تسمع الرافعي يتحدث فيه عن نفسه مما فعل به الفراق: (ما الفراق إلا أن تشعر الأرواح المفارقة أحبتها بمس الفناء لأن أرواحاً أخرى فارقتها؛ ففي الموت يمس وجودنا ليتحطم، وفي الفراق يمس ليلتوي؛ وكأن الذي يقبض الروح في كفه حين موتها، هو الذي يلمسها عند الفراق بأطراف أصابعه!
(وإنما الحبيب وجود حبيبه لأن فيه عواطفه؛ فعند الفراق تنتزع قطعة من وجودنا فنرجع باكين ونجلس في كل مكان محزونين كأن في القلوب معنى من المناحة على معنى من الموت. . .
(. . . ترى العمر يتسلل يوماً فيوماً ولا نشعر به، ولكن متى فارقنا من نحبهم نبه القلب فينا بغتة معنى الزمن الراحل، فكان من الفراق على نفوسنا انفجار كتطاير عدة سنين من الحياة. . .)
ويتحدث في الفصلين الرابع والخامس عن تجارة الحب، وعن المنافق، فتلمح من وراء حديثه معنى لا يريد أن يفصح عنه، وإنه لبسبب مما كان بينه وبين صاحبته؛ أفتراه يشير به إلى شئ من أسباب القطيعة؟
وفي الفصل السادس يتحدث عن حب الأم في قصة والدة ضل ولداها الصغيران ثم اهتدت إليهما:
(الحب! ما الحب إلا لهفة تهدر هديرها في الدم، وما خلقت لهفة الحب أول ما خلقت إلا في قلب الأم على طفلها. . . حب الأم في التسمية كالشجرة: تغرس من عود ضعيف، ثم لا تزال بها الفصول وآثارها، ولا تزال تتمكن بجذورها وتمتد بفروعها حتى تكتمل شجرة بعد أن تفنى عداد أوراقها ليالي وأياماً. وحب العاشقين كالثمرة: ما أسرع ما تنبت، وما(231/43)
أسرع ما تنضج، وما أسرع ما تقطف؛ ولكنها تنسى الشفاه التي تذوقها ذلك التاريخ الطويل من عمل الأرض والشمس والماء في الشجرة القائمة.
(لا لذة في الشجرة ولكنها مع ذلك هي الباقية وهي المنتجة، ولا بقاء للثمرة ولكنها على ذلك هي الحلوة وهي اللذيذة وهي المنفردة باسمها.
(وهكذا الرجل أغواه الشيطان في السماء بثمرة فنسى الله حيناً، ويغويه الحب في الأرض بثمرة أخرى فينسى معها الأم أحياناً!).
وتراه في فصول الثلاثة الباقية كأنما يحاول أن يروض نفسه على السلوان، ويقنعها بأن الحب ليس هو رجولة الرجل، وليس هو إنسانية الإنسان، وليس هو كل ما في الحياة من لذة ومتاع، في كلام يجريه على ألسنة شيوخه وأصدقائه: الشيخ علي، والشيخ أحمد، والشيخ محمد عبده؛ يحاورهم ويحاورونه، فنستمع في هذا الحوار إلى النجوى بينه وبين نفسه، والى الصراع بين عقله وهواه.
إن الرافعي بكبريائه وخلقه ودينه واعتداده بنفسه، لم يخلق للحب! ولكنه أحب؛ فمن ذلك كان حبه سلسلة من الآلام، وصراعاً دائماً بين طبيعته التي هو بها هو، وفطرته التي هو بها إنسان. وإنك لتلمح هذا الصراع الدائم في كل فصل من فصول السحاب الأحمر.
وفي كتاب السحاب الأحمر، تقرأ رأي الرافعي في القضاء والقدر؛ وإنه ليشعرك برأيه ذلك مقدار ما فعل به الحب وما فل من إرادته، فتراه يؤمن بأن الإنسان في دنياه ليس له كسب ولا اختيار فيما يعمل، ولكنه قضاء مقدور عليه منذ الأزل لا طاقة له على الفكاك منه؛ وإنه على ذلك لموقن بأن لله حكمه فيما قضى وقدر وإن دقت حكمته على الإفهام:
(ألا يا ماء البحر، ما أنت على أرض من الملح؛ فبماذا أصبحت زعاقاً لا تحلو ولا تساغ ولا تشرب؟ إنك لست على أرض من الملح ولكنك يا ماء البحر ذابت فيك الحكمة الملحة. . .!).
قلت في مقالي السابق: إن رسائل الأحزان عند أكثر قراء العربية هو شئ من البيان المصنوع تكلفه كاتبه ليحاول به أن يستحدث فناً في العربية لم يوفق إلى تجويده. . . لأنه بقية قصة لم تنشر معه - هي قصة غرام الرافعي - فجاء كما تأكل النار كتاباً من عيون الكتب فما تبقى منه إلا على الهامش والتعليق وصلب الكتاب رماد في بقايا النار.(231/44)
أما السحاب الأحمر فهو كتاب كامل. احذف منه فصلاً أو فصلين في أوله، وشيئاً من فضول القول في سائره، تجد فناً في العربية لا يقدر عليه إلا الرافعي، فجرده من قصته أو أنسبه إليها فأنك واجد فيه أدباً يستحق الخلود، وبياناً يزهي على البيان، وشعراً وحكمة ما زال الأدباء يدورون عليها حتى وجدوها في أدب الرافعي.
في رسائل الأحزان أراد الرافعي أن تعرف صاحبته من حاله ومن خبره ما أراد، فأغراها بالترفع والدلال عليه. وفي السحاب الأحمر حاول أن يشعرها أنه قد فرغ من أمرها وفرغت من أمره فمالها عنده إلا البغض والإهمال، وماله عندها إلا اللهفة على ما كان من أيامه. أفتراه في السحاب الأحمر قد بلغ ما أراد؟
هيهات أن يخفى الهوى!
استمع إليه يحاول أن يهيج فيها الغيرة ويبعث اللهفة ويوقظ الحنين ويؤرث البغضاء ويثير الندم؛ فلا يكاد يبلغ آخر الرسالة حتى ينسى ما قصد إليه ليدع لقلبه أن يقول:
وبلى على متدلِّل ... ما تنقضي عني فنونهْ
كيف السُّلُوُّ وفي فؤا ... دي لا تفارقني عيونهْ؟!
يرحمك الله يا صديقي!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(231/45)
فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 2 -
(الفلسفة بوجه عام هي المحاولة المتكررة للوصول إلى معرفة
منتظمة مفهومة لصور وعلاقة ومعنى ومحمول الأشياء)
(بولزن
رأيت في المقال السابق ذلك (التقدير النزيه) الذي تقُوّم به الفلسفة عملية التربية، وتبينت إلى أي حد ترتفع التربية بذلك (التقدير) وتسمو على سائر التجارب الإنسانية. وأحب اليوم أن أتنقل بك إلى العلاقة بين الفلسفة والتربية، والى فحوى فلسفة التربية لدى الإنجليز والأمريكيين على الخصوص، تمهيداً للكلام على مسائل أخرى تختص بأغراض التربية ومنهجها، وتطبيقات العلم والديمقراطية عليها.
العلاقة بين الفلسفة والتربية قوية إلى أبعد حد. بل أن (جون ديوي) الفيلسوف الأمريكي الذي يحمل لواء التربية في هذا العصر يذهب إلى القول بأن الفلسفة اليونانية - وهي أول فلسفة دقيقة معروفة - لم تنشأ إلا من ضغط مسائل التربية على عقول المفكرين. وإذن فلم يكن (الطبيعيون الأولون) عنده إلا فصلاً في تأريخ العلم! أما الفسطائيون وسقراط، فأولئك هم الذين اضطرتهم شئون التربية في عهدهم إلى أن (يتفلسفوا)! فكان لنا منهم كلام في التربية تأدى بهم إلى كلام في الفلسفة!!
ومهما يكن من أمر هذه المبالغة الظاهرة في كلام (ديوي) فلا شك أن التربية لا تستطيع أن تستغني قط عن الفلسفة، لا في غاياتها ولا في تقدير وربط نتائج علومها الكثيرة بعضها ببعض. بل نحن إذا نظرنا في مسائل الفلسفة الكبرى وجدنا أن أغلبها يقوم محوراً لعملية التربية ذاتها.
ولقد كانت الفلسفة إلى ما قبل (العلم التجريبي) مجرد نظريات ومبادئ تخوض في متاهات ميتافيزيكية كثيرة. أما اليوم بعد أن نجح هذا العلم في إقناع العالم بنجاحه وجدارته، وبعد(231/46)
أن اتجهت أمريكا على الخصوص اتجاهاً (عملياً) في فهم الكون وتقدير القيم المختلفة للموجودات - فقد أصبحت (الفلسفة) تسير في التربية على الضوء الذي يبعثه العلم ولا تكاد تميل عنه إلا قليلاً، وبالأحرى هي كذلك لدى (جون ديوي) ومدرسته. فهي كما يقولون لا تستطيع أن تفهم الوجود بأكثر مما يسمح به الواقع المحدود!! وهي (في التربية) تأخذ ذلك (الواقع المحدود) من علوم الحياة، ووظائف الأعضاء، والنفس، والاجتماع، وتاريخ الثقافة والسياسة والتربية والفن والدين، ثم تكون منه نظرة كلية فيها شرح وتفسير وتقويم وتشريع!
وإذن ففلسفة التربية في هذا المذهب لا تكاد تعدو أن تكون النظرية العامة التي تجد تطبيقاتها في عملية التربية بجميع نواحيها ذلك أنها تعالج التربية كوظيفة ضرورية غير منفصلة عن الحياة بحكم طبيعة الحياة نفسها، وتنقد وتشرح الطرق والمواد المستعملة في هذه العملية على أساس تلك الوظيفة الآنفة، وتمدنا بالأصول التي تجعل التربية فعالة، وتوضح المبادئ التي تنفث الحياة في مصالح الجماعة والتي تبرر النظام القائم أو لا تبرره، كما تعطي الجماعة ذاتها شعوراً شاملاً قوياً بمعنى الأساليب المختلفة التي تباشرها في تدريب أعضائها، وبأساس هذه الأساليب وقيمتها
ولئن قال قائل أن التفكير غالباً ما يولي هارباً تحت ضغط الحوادث تاركاً العمل للعاطفة، أو الانفعال، أو الضرورة الغالبة بحيث إنا لا نستطيع دائماً (التفلسف) في أساليب حياتنا: فالجواب هو أن التفكير لا يزال بالرغم من ذلك الأداة الوحيدة التي تخرجنا من الأزمات بما يقدمه من حلول ممكنة، ووسائل محتملة، ثم هو وإن كان لا يخلق قيماً جديدة فهو على كل حال يميز بين القيم المختلفة، ويقدم لنا تلك التي توصلنا أكثر من غيرها إلى غايتنا.
وإذن فالتربية القائمة على غير فلسفة تسندها تكون كالساري بالليل من غير دليل، والتربية القائمة على فلسفة خاطئة مصيرها الفشل المحتوم. . .
والأمر في الفرد والمجتمع على السواء. فلكل فرد فلسفته الخاصة في الحياة. ولكل جيل أو مجتمع نظريته العامة التي يطبقها في سلوكه؛ وعلى قدر دقة هذه النظرية وصحتها يكون النجاح أو الفشل، والسعادة أو الشقاء.
كلمة فلسفة التربية الحديثة في اتجاهات اليوم(231/47)
وإذا كان العصر الحاضر يمتاز بثلاث اتجاهات أساسية هي: الديمقراطية، والصناعة والتجارة، والعلم التجريبي، فإن الأستاذ (جون ديوي) عندما يكتب عن (فلسفة التربية) (في دائرة معارف التعليم للأستاذ منرو) لا يكاد يخرج عن هذه الاتجاهات الثلاثة. فنراه من حيث الاتجاه الأول (الديمقراطية) ينادي بتعليم الجميع وبتساويهم في فرصة إظهار كفايتهم الخاصة حتى يمسك فخ التعليم بالذكاء والنبوغ على نحو تعبير (ويلز) القصصي الفيلسوف، كما نراه ينادي باحترام الفرد ولكن على أن يؤدي واجبه في المجتمع وهو راضي مطمئن.
وهو من حيث الاتجاه الثاني (الصناعة والتجارة) يدعو إلى ضرورة إشراك العمل مع النظر في التربية، والى بث روح التعاون بين الطبقات، والى العناية بعلوم الطبيعة وعدم الإفراط في التخصص الذي يجعل من الآلة إلهاً جباراً. هذا إلى جانب غرس الذوق السليم، ومحاربة التبذل والإسفاف والترف المقيت وإضاعة الفراغ في غير متعة بريئة، والى جانب التحذير الدائم من عواقب التعسفات الرأسمالية.
أما من حيث الاتجاه الثالث (اتجاه العلم التجريبي) فنراه يلح في نبذ تلك (السلبية) البغيضة التي قد أوقفنا وما زلنا نوقف فيها الطفل إزاء عملية المعرفة، ويدعو بقوة إلى جعل التعليم عملية (كشف) يدرب فيها الطفل حواسه وقواه العقلية ويمضي فيها كما سيمضي غداً في الحياة، فيفترض الفروض أمام المشكلات ويجرب ويحقق آناً بنفسه وآناً بإرشاد الأستاذ، ذلك إلى حصر الدراسة في المواد التي يحتاج إليها العصر الراهن من ناحية، والكمال الإنساني من ناحية أخرى.
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية(231/48)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
318 - ما أشبه فروع الإحسان بأصوله
البحتري: قال إبراهيم بن الحسن بن السهل: كان المأمون يتعصب للأوائل من الشعراء، ويقول: انقضى الشعر مع ملك بني أمية. وكان عمي الفضل بن سهل يقول له: الأوائل حجة وأصول، وهؤلاء أحسن تفريعاً. إلى أن أنشده يوماً عبد الله بن أيوب التيمي شعراً مدحه فيه، فلما بلغ قوله:
ترى ظاهر المأمون أحسن ظاهر ... وأحسن منه ما أسرّ وأضمرا
يناجي له نفساً تريع بهمة ... إلى كل معروف وقلبا مطهرا
ويخشع إكباراً له كلُّ ناظر ... ويأبى لخوف الله أن يتكبرا
فقال للفضل: ما بعد هذا المدح، وما أشبه فروع الإحسان بأصوله!
319 - أشعر الشعراء
في (المثل السائر) لابن الأثير: يُروي عن بشار أنه وصف نفسه بجودة الشعر والتقدم على غيره، فقيل له: ولِمَ ذاك؟ فقال: لأني نظمت اثنتي عشر ألف قصيدة وما تخلو واحدة منهن من بيت واحد جيد، فيكون لي اثنا عشر ألف بيت. وقد تأملت هذا القول فوجدته على بشار لا له، لأن (باقلا) لو نظم قصيداً ما خلا من بيت واحد جيد. وقد وصل إلى ما بأيدي الناس من شعره فما وجدته بتلك الغاية التي ادعاها لكن وجدت جيده قليلاً بالنسبة إلى رديئه، وتندر له الأبيات اليسيرة. وبلغني عن الأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما أنهم قالوا هو أشعر الشعراء المحدثين قاطبة، وهم عندي معذورون لأنهم ما وقفوا على معاني أبي تمام وأبي الطيب ولا على ديباجة البحتري. وهذا الموضع لا يستفتي فيه علماء العربية، وإنما يستفتي فيه كاتب بليغ أو شاعر مفلق، فإن أهل كل علم أعلم به. على أن علم البيان من الفصاحة والبلاغة محبوب إلى الناس قاطبة؛ وما من أحد إلا يحب أن يتكلم فيه حتى أني رأيت أجلاف العامة وأغتام الأجناس كلهم يخوضون في فن الكتابة والشعر، ويأتون بكل مضحكة. والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريراً والأخطل أشعر(231/49)
الشعراء أولاً وآخراً، ومن وقف على دواوينهم علم ما أشرت إليه. وأشعر من هؤلاء عندي الثلاثة المتأخرون وهم أبو تمام والبحتري والمتنبي فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء؛ أما أبو تمام وأبو الطيب فربا المعاني، وأما أبو عبادة فرب الألفاظ في ديباجتها وسبكها.
320 - الشعر المغسول
في (الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء) لأبي عبيدة الله المرزباني: قال البحتري: دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه، وأفضنا في أشعار المحدثين إلى أن ذكرنا أشجع السُّلَمي. فقال لي: إنه (يُخلى) وأعادها مرات ولم أفهمها، وأنفت أن أسأله عن معناها، فلما انصرفت أفكرت في الكلمة، ونظرت في شعر أشجع فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة، وليس فيها بيت رائع، وإذا هو يريد هذا بعينه: إنه يعمل الأبيات ولا تصيب فيها بيتاً نادراً كما أن الرامي إذا لم يصب من رشقه كله الغرض بشيء قيل (أخلي) فجعل ذلك قياساً، وكان علي بن الجهم عالماً بالشعر.
321 - وإنما لمعان تعشق المصور
أبو القاسم غانم بن أبي العلاء الأصبهاني:
قوم لو أنهمُ ارتاضوا لما قرَضوا ... أو أنهم شعروا بالنقص ما شعروا
لا يحسن الشعر ما لمُ يسترقَّ له ... حرّ الكلام، وتستخدمْ له الفكَر
أنظرْ تجدْ صور الأشعار واحدة ... وإنما لِمعانٍ تعشق الصور
322 - اختيار الوزن والقافية
قال الصاحب في رسالته (الكشف عن مساوئ شعر المتنبي): كنت أقرأ على (الأستاذ الرئيس ابن العميد) شعر ابن المعتز متخيراً الأنفس فالأنفس، فابتدأت قصيدة على المديد الأول، فرسم تجاوزها، وقدَّرته يحفظها ولا يرضاها. فسألته عنها، فقال: هذا الوزن لا يقع طلبه للمحدثين جيد الشعر. فتتبعت عدة قصائد على هذا الضرب فوجدتها في نهاية الضعف. وسمعته (أيده الله) يقول: إن أكثر الشعراء ليس يدرون كيف يجب أن يوضع الشعر، ويبتدأ النسج، لأن حق الشاعر أن يتأمل الغرض الذي قصده، والمعنى الذي(231/50)
اعتمده، وينظر في أيّ الأوزان يكون أحسن استمراراً، ومع أي القوافي يحصل أجمل اطراداً، فيركب مركباً لا يخشى انقطاعه والتياثه عليه.
323 - فلقى الله شبعان ربان دفيئاً
قال أعرابي وهو يدعو الله بباب الكعبة: اللهم ميتة كميتة أبي خارجة. فسألوه، فقال: أكل بَذَجاً وشرب وطبْاً من اللبن، وتروى من النبيذ، ونام في الشمس فمات؛ فلقي الله شبعان ريان دفيئاً.
324 - طلعها كأنها رؤوس الشياطين
في (الكامل): التشبيه جار كثير في كلام العرب حتى لو قال قائل هو أكثر كلامهم لم يبعد. قال عز وجل وله المثل الأعلى: (الزجاجة كأنها كوكب دري) وقال: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين). وقد اعترض معترض من الجهالة الملحدين في هذه الآية فقال: إنما يمثل الغائب بالحاضر، ورؤوس الشياطين لم نرها فكيف يقع التمثيل بها؟ وهؤلاء في هذا القول كما قال الله: (بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله). وهذه الآية قد جاء تفسيرها في ضربين: أحدهما أن شجراً يقال له: (الآستَن) منكر الصورة يقال لثمره: رؤوس الشياطين، وزعم الأصمعي أن هذا الشجر يسمى الصوم. والقول الآخر - وهو الذي يسبق إلى القلب -: إن الله شنع رؤوس الشياطين في قلوب العباد، وكان ذلك أبلغ من المعاينة، ثم مثل هذه الشجرة بما تنفر منه كل نفس.
325 - إلا التنقل من حال إلى حال
في (تأريخ الطبري): قال أبو العتاهية: وجّه إليّ المأمون يوماً فصرت إليه، فألفيته مطرقاً مفكراً، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال، فرفع رأسه فنظر إليّ، وأشار بيده أن ادنُ فدنوت، ثم أطرق ملياً، ورفع رأسه فقال: يا أبا اسحق، شأن النفس الملل وحُبُّ الاستطراف، تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة. فقلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت. قال: وما هو؟ قلت:
لا يُصلح النفس إذ كانت مقسَّمَةً ... إلا التنقّلُ من حال إلى حال(231/51)
رسالة الشعر
نكبة السيول
للسيد أحمد عبيد
(أيها الأخوان هلا عطفة=تجبر الكسر وتحيي من غبر)
هجع السامر وانقضّ السمرْ ... وتوارى البدرُ والنجم استسرّْ
وسجا الليل فما من نَبْسةٍ ... بفم الليل إذِ الليل اعتكر
وخلا الأفق سوى من ومضةٍ ... تتجلى فيه آناً وتمرّ
والكرى يبعث أضغاث الرُّؤى ... زاخراتٍ بتهاويل الصوَر
غَفَل الناسُ بها من كونهم ... والرزايا راصداتٌ والغِيَر
هجعوا والمُزنُ مرجوُّ الحَيا ... والغوادي حافلاتٌ بالدِّرَر
فإذا السحبُ رُكامٌ مطبقٌ ... عابسُ الطلعة مرهوبُ النظر
وإذا السيلُ أتيٌّ ماردٌ ... عَرِم الطغيانِ مشهودُ الضرر
غادر السهلَ كبحرٍ مُزْبِدٍ ... طَمَثَ الأمواج فيه فانفجر
قلّما مر على شئٍ ولم ... يَمْحُ من أعلامه كلًّ أثر
فأتى البنيانَ من آساسه ... وتعاطى كلَّ نفسٍ فعقر
لم يَئِلْ من شرّه نَبْتٌ ولم ... يَنْجُ منه حيوانٌ أو بشر
والردى يدهق في دَأْمائه ... كأسَ موتٍ وهلاكٍ ما أمرّْ
فترى الأَشلاء تطفو فوقه ... زاهقاتِ الأنفس الطهرِ الغُرَر
رب طفلٍ أبصر السيلَ ولم ... يقوَ أن ينجوَ منه أو يفرّْ
صاح يرجو نجدةً من أمه ... وأبيه وهما فيمن غمر
فعلا الجِذْعَ يُرَجِّي عنده ... نجوةً فانْبَتَّ فيه وانكسر
وفتاةٍ طَفلةٍ ناعمةٍ ... ذاتٍ دلٍّ وعفافٍ وخَفَر
عصف السيلُ بها فانهتكت ... وطواها في مطاويه القدر
وغِنّيٍ كان مرموقَ السَّنا ... حاشداً نَدْباً كريمَ المُعتْصَر
تركته النكبة الكبرى لَقىً ... يَنْشُد العيشَ ويبكي من قبر(231/52)
أيها الإخوان هلاّ عطفةٌ ... تجبر الكسرَ وتحيي من غَبَر
أنفقوا مما تحبون فمن ... يفعلِ الخير يَجِدْه مُسْتَطَر
ليس يغني الدمعُ في تَسكابه ... عن بلاءٍ جلَّ أو خطبٍ أبرّ
أتبعوا سيلَ الَحَياَ سيلَ النَّدى ... ينتعشْ بعضُ الذي كان عثر
واشكروا لله إذ أنجاكم ... بالجَدَا فاللهُ يجزي من شكر
لِيَجُدْ ذو الفضل بالعفو ومن ... جاد من جُهدٍ فقد أسنى وبرّ
(دمشق)
أحمد عبيد(231/53)
لوحة الشاعر
للشاعر السوداني المرحوم التيجاني يوسف بشير
الحسنُ - يهفو بجَفْنِهِ الوسنُ - ... كلُّ خبيءٍ من سحره حسنُ
للحسن عندي وللهوى صورُ
وهي لعمري وعمرُها غُرَرُ
ذخيرةٌ للفؤاد أَوْ أَشرُ
من الجمال الحبيبِ يُعتَصَر
يرقد في حِجْرِها فتىً أثِرُ ... يفتنُّ في خَلْقِها ويفتتن
سكرى لها في الحياة مُنْحَدَر ... دوني. وفي لوحتي لها منن
مسحورةٌ في الدماء تضطربُ ... تَسْمَعُ منها دويَّها الأذنُ
أطيافُ دنيا سماؤُها عجبُ
تنأى وتدنو آناً وتقترب
فيها غيومٌ وعندها سحب
تبرز آناً منها وتحتجب
أضيعُ شيءٍ في أرضها الذهب ... يجري بعيداً عن كونها الزمن
وتلك دنيا للسحر مضطرب ... فيها وللساحرين مُرتَهَنُ
تحسبها في النَّديِّ إن سمرت ... أو هزَّها في مراحها الدَّدَنُ
جنّاً نَآدَى ما غازلت طفرتْ
إلى مراقي السماء وانحدرت
وما أصابت من قُبلةٍ سكرت
تطِنُّ كالنحل كلما ظفرت
بشاطئٍ للنعيم ما عبرت ... إلاَّ على مدمع به السفن
وملعب للملاح كم خطرت ... فيه دياركم مشت مُدُن
أية دنيا هاتيك ظلُّ شبح ... من كل فَنٌ يحفها فنن
وكنزها العبقري شقُّ قدحْ(231/54)
أخي هَزارِ إن حركته صدح
أو عابَثَتْه على الدِّنان سبح
ذات ظلال سحرية وملح
أُكرومة الفن من أَسىً ومرح ... ترقد فيها القصور والدمن
لَوَّنها في الزمان قوس قزح ... وذاب فيها السرور والحزن(231/55)
عودتنا الثانية
للأستاذ خليل هنداوي
غداً عندما تتهادى اللحود ... وتنفضنا من حنايا الترابْ
وقد لمستنا أكف الخلود ... وردت علينا ثياب الشباب
غداً عندما تنهلين الحياة ... شرباً ويا برد ذاك الشرابْ
وقد رف للحب كالأُقحوان ... فم لا يزال عليه الترابْ
أَنخفق مثل الفراش الجميلْ؟ ... نُزوِّق ألواننا من هوانا
أَنطلع مثل زهور الحقول؟ ... ونملأ جو الهوى من شذانا
إلى أين نمشي وأنَّى نطير! ... وقد ملأ العاشقون اللحودْ
وفي كل صوب تهب الحياة ... ويحيا الهوى، ويفيق الوجودْ
تعالى إلى لحدنا المطمئن ... نجدد سيرتنا أو نُعيدْ
لقد كان مثوى فناء عتيق ... وأصبح مأوى غرام جديدْ!
خليل هنداوي(231/56)
رسالة العلم
الزنككعنصر أساسي لنمو النبات
للأستاذ عبد الحليم منتصر
- 2 -
أعراض مرض الحرمان من الزنك
لقد اصبح من السهل تشخيص هذه الحالات المرضية، التي تعتري النبات، نتيجة لحرمانه من الزنك، وذلك بعد التجارب العديدة التي أجريت، والملاحظات القيمة التي أبديت، وبعد أن ظهر جلياً أن علاج هذه الأعراض لا يكون إلا بإعطائه حاجته من الزنك، على أن يكون ذلك بإحدى الطرائق التي سنوردها فيما بعد.
وأظهر هذه الأعراض ما يعتري الأشجار التي تتساقط أوراقها خريفاً، وذلك بأن تظهر الأوراق عند حلول الربيع، في قمم الأفرع الصغيرة، لا يتجاوز طول الورقة بوصة، ويكون عرضها نحو ربع البوصة، وهي إلى جانب ذلك محمرة اللون، جافة قليلاً، قصيرة العنق، مبقعة في الغالب. وقد تكون هذه الأفرع ذاتها محملة في غير قممها بأوراق سليمة لا أثر لهذه الأعراض عليها؛ بيد أن مقاومة هذه الأجزاء مؤقتة، أي أنها لا تستطيع متابعة النمو الطبيعي مدة طويلة، وفي الحالات الشديدة تظهر الأعراض نفسها عليها هي الأخرى، فترى أوراقها صغيرة مبقعة ذات أشكال غير طبيعية. وقد لوحظ أن مثل هذه الأشجار قد تذوى وتموت بعد عام أو عامين على الأكثر، وإن أظهر بعضها مقاومة مرض الحرمان من الزنك مدة أطول.
وفي الحق أن هذه الأعراض تختلف باختلاف الأشجار أو النبات، فهي في المشمش غيرها في الكريز أو التفاح والجوز واللوز والموالح وغيرها، وما ذلك إلا لأن درجة الاحتمال ليست واحدة، حتى إنه ليصعب على غير ذي الدربة تمييز هذا المرض من غيره إذ تشابه أعراضه أعراض سواه.
كما أن من المحقق أن ثمار مثل هذه الأشجار المصابة لا تكون طبيعية الشكل والحجم، فالخوخ والبرقوق تكون ثمارها صغيرة مفرطحة ومدببة أطرافها، كذلك المشمش والليمون.(231/57)
وذلك علاوة على النقص البين في المحصول. وعلى الجملة فإن أشجار الفاكهة في الحدائق وغيرها من أشجار الزينة تبدي أعراض مرض الحرمان من الزنك، بيد أن درجات احتمالها ومقاومتها متفاوتة، فعلى حين تكون أشجار الخوخ والكريز مثلاً قد أذبلها وأذواها هذا المرض، أو لعله قد صيرها مشرفة على الهلاك، يكون غيرها من جوز ولوز وتفاح وكمثرى وبرقوق وعنب ومشمش وتين وموالح أكثر مقاومة، وإن كان حتماً أنها تصل إلى نفس المصير ما لم تسعف بالعلاج ولن ترضى بغير الزنك بديلاً.
وتختلف درجة مقاومة النبات للمرض تبعاً لطبيعة التربة التي ينمو بها، فهو أكثر مقاومة إذا ما كانت الأرض طينية، قادر على احتمال نقص الزنك من ألوان غذائه فيها. أما إذا كانت الأرض رملية أو كانت حصباء، فأن أعراض المرض لا تلبث أن تظهر إذا كانت كمية الزنك غير مناسبة لحاجة النبات منها.
ومن الملاحظات التي سجلت على الخوخ أنه بعد أن تابع نموه مدى أعوام خمسة كان يعطي فيها أوفر محصول. . ظهرت أعراض تأثره بنقص الزنك في أواخر صيف العام الخامس، وكانت النتيجة موت أغلب الأشجار خلال ثلاثة الأعوام التالية؛ وعندما زرعت مكانها أشجار أخرى ظهرت أعراض المرض في العام الأول مباشرة. وعندما عولجت بالزنك اطرد التحسن وزاد المحصول.
طرائق العلاج
وتتلخص طرق علاج مرض الحرمان من الزنك فيما يأتي من الوسائل التي جربت وثبتت صلاحيتها:
1 - إضافة محلول كبريتات الزنك إلى التربة.
2 - وضع قطع من الزنك في ثقوب تعمل لهذا الغرض في جذوع الأشجار وفروعها.
3 - وضع كبريتات الزنك في ثقوب بالشجرة.
4 - رش الأوراق بكبريتات الزنك والجير.
5 - الرش بأكسيد الزنك.
6 - الرش - بعد سقوط الأوراق - بكبريتات الزنك.
7 - الرش بكلورور الزنك.(231/58)
على أنه لوحظ أن العلاج عن طريق التربة هو من أنجع هذه الوسائل، وخاصة إذا وضع مركب الزنك غير بعيد من الجذع.
وقد وجد أن وضع نحو ثلاثمائة كيلو جرام للفدان الواحد مذراة فوق أرضه تبقى نافذة الأثر في العلاج مدى ثلاث سنوات تباعاً. كما أن وضع مائة كيلو جرام فقط، توضع بالملعقة قيد قدمين من جذع الشجرة يعطي نفس الفائدة ولذات المدة.
أما العلاج عن طريق حقن الجذع بكبريتات الزنك في ثقوب تكون متقاربة، يوضع في كل ثقب من جرامين إلى ثلاثة، ثم يقفل الثقب بالشمع؛ مثل هذه الطريقة لم يخب مفعولها مطلقاً في علاج أمراض الحرمان من الزنك، بل أن أثرها ليبقى مدة ثلاث سنوات على الأقل؛ إلا أنه وجد أن الخشب الرخو يتأثر بهذه الطريقة، كما أن الثقوب قد تكون سبباً في جلب أمراض أخرى، وذلك إذا أهمل إحكام غلقها.
كما أن إدخال قطع من الزنك أو الحديد المغطى بالزنك (وتفيد المسامير العادية في بعض الحالات) في الجذع والفروع، يعطي نفس الأثر من علاج حاسم سريع للمرض، إلى تقدم محسوس في نمو النبات ودرجة إزهاره وإثماره. ويستحسن في هذه الحالة أن يدق عدد من المسامير على أبعاد وأغوار مناسبة. وقد ثبت أن هذه الطريقة هي أنجع الطرائق المذكورة إطلاقاً، فهي أقواها مفعولاً وأدومها أثراً. ومما يستحق الملاحظة في هذه الطريقة أننا إذا ثبتنا مسماراً أو عدداً من المسامير في أحد الأفرع فأن أثر العلاج يتبدّى واضحاً جلياً على الجزء من الفرع الذي يبدأ بموضع المسمار أو المسامير وينتهي بالقمة، على حين يظل الجزء من الفرع الذي يبدأ من هذا الموضع نفسه وينتهي بالجذع الرئيسي أو الأرض، يظل هذا الجزء كما هو لا تبدو عليه أي علائم التحسن أو آثار العلاج.
وطريقة الرش هي أيضاً بارعة الأثر في كثير من الحالات، فقد وجد أن رش الأوراق بمزيج مكون من عشرة أرطال من كبريتات الزنك ومائة جالون من ماء الجير، مفيدة جداً كعلاج لأعراض مرض الحرمان من الزنك، وخاصة للموالح والمشمش والعنب، وإن كان من الحق أن نقول: إنها كانت غير وافية بالغرض في بعض حالات أخرى. وقد وجد أنه في حالة استعمال هذه الطريقة يحسن أن يعاد رش الأشجار المصابة مدى عامين متتاليين إذا كان مرض الحرمان قد أثر تأثيراً سيئاً على النبات.(231/59)
كيف تؤثر طبيعة التربة وصفاتها الكيميائية في سير مرض الحرمان من الزنك؟ وكيف يستجيب النبات لهذه المؤثرات؟
وما هو الدور الذي يقوم به الزنك في النبات؟ سيكون ذلك موضوع حديثنا في عدد الرسالة المقبل إن شاء الله تعالى.
(يتبع)
عبد الحليم منتصر
ماجستير في العلوم(231/60)
القصص
مشهد غرامي من أنتوني ترولوب
غرام راهب
للأستاذ دريني خشبة
لم يكن لَبقاً سيدنا الحَبْر الجليل - المستر سلوب - حين حاول هذه المرة أن يُنَقّل فؤاده حيث شاء من الهوى. . . فلقد عرف الناس أنه مشغوف بالسيدة (. . . بولد) وأنه يسعى جهده ليحظى بها زوجة مثرية غنية ذات مال وذات جمال، وذات ريع ثابت يَقُدْره العارفون بألف أحمر رنان تقبضها غير منقوصة كل سنة. . . عرف الناس هذا، وحرص سيدنا الحَبْر الجليل على ألا تفلته هذه الفرصة النادرة التي تضمن له غَرْفةً من كنوز قارون في كل مطلع عام جديد، فيضمن نوال الدنيا و. . . حسن ثواب الآخرة!!
ولم يكن أحد يعيب عليه قط مجازفته الغرامية هذه، لأنها كانت في سبيل الزواج. . . والزواج شيء عادي أقرته الأديان ونزلت به الشرائع. . . أما أنه راهب فلا بأس، فإنها رهبانية ما فرضها الله على أحد، فلم يفرضها سيدنا الحَبْر الجليل - المستر سلوب - على نفسه؟!
وسيدنا الحَبْر الجليل رجل يعرف حق الدنيا كما يعرف حق الآخرة ويعطي لقلبه من هذه الدنيا تسعة وتسعين من أنصبتها المائة المقسمة بينه وبين عقله. . . لذلك كان شعوره يطغى على تفكيره. . . وكان هواه المتقد وعاطفته المشبوبة لا يتفقان ومركزه الذي أساسه أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر والبغي.
فلقد عرف هذا الحَبْر السيدة (. . . بولد) الأرمل، بعد أن مات زوجها، وبعد أن ترك لها هذه الثروة الهائلة التي أسالت لعاب المستر سلوب، وشبت أطماعه. . . فلم ير بأساً أن يصل أسبابه بأسبابها، وأن يملقها ويدهن لها، وأن يزخرف لها حباً يوهمها به أن له ناراً تتأجج في قلبه، وتندلع بين أضالعه. . . وكان للأرمل الغنية شيء من الجمال غير قليل. . . وإن كان جمالها يذهب به كثرة اللحم والشحم، وقصر الرقبة واستكراش البطن، وترهل الثديين قليلاً. . . ولكن وجهها كان ذا رواء وسيماء، خصوصاً حين تعالجه بالأصباغ(231/61)
والدمام، وسائر فنون التطرية. . . لقد كانت تجلب له حسناً مصنوعاً يغري المساكين من أمثال سيدنا الحَبْر الجليل المستر سلوب، فكيف وقد حازت هذا الثراء الضخم، والغنى الواسع، والدخل المضمون؟. . . إنها ما أغنى وما اقنى، فلم لا يغضي الحَبْر الجليل عن بعض العيوب التي جرها الشحم واللحم؟ ولم لا يذكر أنه هو الآخر ليس وسيماً قسيماً، ولا نحيل القد ممشوق القوام، ولا له لفتة الظبي ولا خيلاء الطاووس!؟ بلى، ينبغي أن يذكر لحيته الهائلة التي تحجب عين الشمس عما تحتها من وجه مكلثم، وصدر كأنه نصف جبل حملته ساقا عفريت. وهكذا ينبغي أن يخجل قلبه المنهوم بالجمال قليلاً، فنظرة خاطفة في المرآة تقنعه بمحاسن الأرمل السيدة بولد، ونظرة أخرى إلى ثروتها الكبيرة تجعلها أجمل حسان الدنيا.
ولكن قلب الحَبْر الجليل ليس من هذه القلوب الرطبة التي تقنع بصيد واحد، لا سيما إذا كان هذا الصيد وثناً من أوثان الدنيا التي تغري بالذهب، وتجذب بالثروة، وتتكلم بالدنانير. . لا. . ليس لمثل هذا الصيد يخفق قلب الراهب الذي يشغفه الجمال فهو ينبض له، وتجذبه مفاتن الحسن فهو يهيم بها. . . إن لمثل هذا القلب في هذه الدنيا حقوقاً يقتضيها من خدود الغيد وعيون الخرَّد الأماليد، وهو لا شأن له بالذهب الذي يضمن سعة الحياة ورغد العيش وإقبال الأيام. . . ومن أجل ذلك فليس لقلب المستر سلوب من هذه الأرمل الغنية نصيب، فهي صيد نفيس سمين لأطماعه، ومن أجل ذلك فلينطلق هذا القلب في دنيا الجمال ينشد صيده، فهو لا يعنيه أن يعكف على وثن من الذهب يتعبده ولا يهواه.
هذه هي السيدة. . . بولد. . . أما السينورة نيروني، فزوجة وفية للسينور نيروني من كبار رجال السياسة والطب، وقد تزوجها السينور لجمالها البارع، ولهذه الألغاز العميقة التي تمتلئ بها عيناها السحريتان؛ وتلك الظلال الحزينة الفاتنة التي تموه جبينها بمثل ظلال الغروب. . . وليس شك أن السينور يحبها ويحرص على مرضاتها، وأكبر ما يعطف قلبه عليها أنها مقعدة، أو كالمقعدة، لأنها أصيبت بلين في عظام ساقيها بعد أن بنى عليها. . . ولسنا ندري إذا كانت السينورة تحبه، أو تحب أحداً من العالمين. . . فلقد عبست للحياة وتنكرت لمباهجها وأول هذه المباهج الحب. . وكان السينور يفرط في منحها حرية الاجتماع بمن تشاء، والخلوة بمن تحب؛ وكانت هي كالعنكبوت الصناع التي لا تفتأ تنسج(231/62)
شراكها للذباب، فلم يكن أحد يخلو إليها حتى تصمي قلبه بنظرة أو نظرتين من عينيها القتالتين فتزلزله ويصبح لها عبداً وبها هائماً وكأنما كانت تنتقم لنفسها من الناس فهي تعذبهم بالحب الذي لم تبُله، وتكوي قلوبهم بالغرام الذي لم تعرفه. وقد أولعت بذلك حتى صار طبعاً ثانياً لها، وهي لا تستحي أن تفخر بذلك وتباهي به، فتقول لأختها: (إنها لا تعجز عن إذلال قلوب الجبابرة وقسرهم على التمرغ تحت قدميها. . .) ولم يكن بدعاً إذن أن يكثر عشاقها حتى يربوا على العشرين. . . وكان أحرهم شغفاً بها هو هذا الحَبْر الجليل العلامة المستر سلوب، الذي لم يكد يراها حتى نسى نفسه ووسوس له شيطانه، فعقد أواصر بأواصر السينور نيروني، ثم بأواصر السينورة من بعد. . . وأي بأس في أن يحتفظ بالسيدة بولد لنفسه الأمارة الطماعة، وبالسينورة لقلبه المنهوم بكل هيفاء حسناء. . . لا بأس قط. . . فليضع في قوس كيوبيد وَترين عردّين، ولْير كيف يصيب بهذه القوس إن كان مثله يحسن أن يحمل مثلها. . . ثم ليكن جريئاً. . . فلا يبالي رجال الكهنوت وهذه المعاطف الفضفاضة السود، ومقالة السَّوء التي يثلبونه بها. . . وليزر السينور نيروني في الوقت الذي لا يكون السينور موجوداً فيه في منزله، ولا جرم أن السينورة ستلقاه حينئذ، وسيشرب في حضرتها قدحاً من القهوة. . . وربما أمرت له بكوب من نبيذ بردو يبعث الدم حاراً في عروقه فيزداد جرأة وإقداماً، وقد يجد الفرصة الجميلة فيكشف عن خبيئة قلبه لهذه السيدة اللعوب. . . ليس ضير أن يفشل مرات ومرات في البوح لها. . . على أن السينورة الحصيفة اللبيبة قد عرفت ما يجتاح قلبه من حبها لأول زَوْرَة من زياراته الصباحية المفتعلة التي حسب أنه شرفها بها. . . ولقد كانت السينورة واسعة الثقافة، بل كانت أكثر من ذلك، كانت فيلسوفة بفطرتها، تجيد الفلسفة التطبيقية في كل أحوالها. . . وكانت تجيد ذلك على الخصوص مع رجال الدين. . . فما بالك بحبر جليل من عظمائهم ينسى نفسه بين يديها، وينسى وظيفته في الحياة، وينسى دقات الناقوس التي توقظ الغافلين وينسى بيانه الذي يرهب به ويرغب. . . وينسى كل شيء. . . حتى صور القديسين والحواريين التي كانت تهاجمه كلما خلا إلى السينورة فلا يأبه بها، ولا يعنى بهتافها به كما يعنى بانتقاء العطور التي يضمخ بها نفسه، والبنيقات التي يحرص أن تكون نظيفة ناصعة، وبكل ما يظهره فتى في عين السينورة، من منديل جميل وقفاز جديد. . . و. . .(231/63)
وذهب الراهب الوقور ليسأل كعادته عن السينور فلم يجده، وأدخل إلى السينورة فلم تعن به إلا كما يعني الصبية بغماز الشص ينبه عن فريسة السمك. . . ووجدها كدأبها دائماً مضطجعة فوق كنبة وثيرة عند مكتبها الفخم، وبيدها يراعها الأبنوس الثمين، وأمامها صحيفة تخط فيها كلاماً قالت عنه وهي تتخابث إنه خطاب أوشكت أن تكتبه للحبر الجليل. . . ثم مدت يدها الجميلة البضة لسيدنا الراهب فتناولها في يده المرتجفة، وانحنى برأسه الكبير ولحيته المنكرة فلثمها، وهو يخيل إليه أنه يسرق القبلة الذهبية من كنوز سليمان. . . يا له من منظر عجيب!! لقد كان شيء كبير هائل شائه كرأس ثور، ينحني فيبحث في زهرة يانعة جنى عليها المنجل فقذفها في طعامه. . . . . . بل كان أغرب من هذا. . . لقد كان كالتنين الهولة يغازل فينوس ربة الحسن!
- لقد أوشكت أكتب إليك، فأما وقد جئت، فلألق بما كتبت في سلة المهملات. . .
- لا. . . لن يكون مصير ما تتفضلين بكتابته إلى هذا المصير. . . لأحتفظ به إلى الأبد، فإذا كان لا بد من إبادته، فلأحرق له بخوراً ولألق به في ناره! أليس كانت ديدو تصنع مثل هذا؟
- أنا لا أحترم ديدو هذه أيها الأب. . . لقد كنت أوثر أن تكون ديدو مثل كليوبترة حين رأت ما حاق بحبيبها فآثرت أن تلحق به، حتى بين المطرقة والسندال. . . أيها الأب الكريم مستر سلوب، أرجو ألا تخلط بين جد الحياة وبين عبث الحب!)
وصبغت حمرة الخجل وجنات الحَبْر الجليل لأنه أيقن أن السينورة تعرض بما بينه وبين المسز بولد، وأنها تشتهي أن تذله كما أذلت عشرين عاشقاً لها من قبل. . . ثم لم تشأ أن تقسو عليه فقالت تعبث به متلطفة:
- ماذا؟ إني ما أزال أقولها لك في صراحة: لا تخلط بين عبث الحب وجد الحياة. . . إن أمامك ثروة واسعة، ومدينة من الذهب شاسعة، وإنك تشتهي أن تكون صاحبها، فأقدم بحزم، ولا تتلف أطماعك بهذا الحب الطارئ؛ فإن كنت في عرض الدنيا زاهداً، فأحب كما ينبغي أن يكون الحب. . . هب الحب كل قلبك فالحب يكره أن يشركه أحد في القلب. . . فإذا أبيت إلا أن تصيب الحسنيين فأعلم أنك من الآن فاشل. . . فأيهما تؤثر أيها الأب: المال، أم الحب والجمال؟!(231/64)
وطافت برأسه طائفة من الأفكار، ولكنها طافت بسرعة البرق، فقال: (بل الحب، ولا شيء غير الحب. . . الحب الذي ينبغي أن يقهر كل رغبة وأن يسود جميع الأطماع. . .)
- بل آثر أن تستمع إلى نصيحتي، وتذكر ما بعد نشوة الأسبوعين أو الثلاثة الأسابيع من عمر الحب. . .! إنها الخيبة وانعكاس الأمل. . . إنه ما حدث في الأساطير لنميزيس التي لم يحب أحد كما أحبت ولا أكتوى عاشق بمثل ما اكتوت. . . أن التفاني في الحب يعني الفشل فيه. . . والحب الصحيح يعدل الفنوط من جني الثمرة المشتهاة. . . أو لم تحب جولييت؟ أو لم تحب ديدو؟ وهايدي كذلك! وترويلوس؟ ألم يحب حباً طمس رجولته؟
- بلى. . . لقد أحب ترويلوس ولكن تغفلته حبيبته، ويستطيع كل إنسان أن يحب ولا يكون ترويلوس، فليس كل النساء كرسيدز!
- هذا حق، ولكن عدم الإخلاص ليس كله من جانب المرأة، بل لكم النصيب الأوفى فيه. . . فلقد أخلصت إملوجين، فماذا كان جزاؤها؟ ألم يتهمها زوجها أنها صبت إلى أول ضيف انفردت وإياه لأول مرة في غيابه؟ وديدمونا؟ لم خنقها بعلها؟ ألم تكن مخلصة وفية؟ وأوفليا؟ ألم تجنّ بإخلاصها؟ إنه يبدو لي ألا سعادة في الحب إلا في خاتمة القصة الإنجليزية! أما هذه الدنيا السحرية ففي ذهبها وجمالها وفتنتها وخيراتها سعادة محسّة لا مراء فيها. . . سعادة يسع كل أحد أن يهنأ بها ويرشف ما شاء من معينها. . .
وارتبك الحَبْر الجليل قليلاً ثم قال: (أوه! كلا. . . إن كل هذه الدنيا بجميع ما حوت من حطام لا يمكن أن تؤدي إلى السعادة!)
- إذن ما الذي يستطيع أن يجعلك سعيداً أيها الأب؟ ما المعين الذي لا ينضب، الذي تنشد منه سعادتك؟ لن تقول ألا معين لك، فلكل من الناس معينه الخاص!
وغلب الحَبْر خباله الديني فأجاب: (قد يبحث الإنسان عن سعادته فيعييه البحث، ذلك لأننا نبحث عنها دائماً في هذه الأرض، وهي لا تكون إلا في السماء!!
- صه، ويلك! إنك تقول بلسانك ما ليس في قلبك. . . إنها تعاليمكم التي لم تستطع أن تشفي أطماعكم في هذه الدنيا. . .! إذا لم يكن شيء من السعادة حقاً في هذا العالم الفاني فلم جاهدت أن تكون قساً وجاهد أصحابك معك؟ لم طمعتم في حطام هذا الفناء وتشبثتم به؟
- ذلك لأني لم أطّهر من شوائب آدميتي، فإن لي كما لجميع الناس أطماعاً. . .(231/65)
- صدقت، ولذلك قلت لك إنك تقول بلسانك ما ليس في قلبك، وإنك تسلم بما لا تؤمن، وإنك تبيع للناس عظات لا تعتقد بصحتها. . . لقد كان القديس بول مؤمناً حقاً، ولذلك لم تفسد الدنيا بكل ما فيها من زخارف تعاليمه؛ وكان مثله القس اللاهوتي المتزمت، الذي قضى نصف عمره قائماً فوق عمود في أرض الفراعنة. . . أنا أجل هؤلاء واضرابهم، لأنهم يؤمنون بالشيء فيبدو إيمانهم في كل ما يصدر عنهم. . . فإذا دعا رجل الدين إلى فضيلة ولم يكن متحلياً بها، فتعساً له، وتعساً للفضيلة تخرج من فمه فتكون رغاءً. . .
وانعقد لسان الحَبْر الجليل فلم يحر جواباً. . . وأنى له أن يستذكر تعاليم مولاه التي أعطى مركزه ليبشر بها بين الناس ما دام الشيطان يملك زمامه، ويؤجج نيران الجحيم بين يديه. . . ثم أنى له أن يجسر على هذه التعاليم فيذلها لشهواته، وهو يعلم ويؤمن، أن مولاه الإله محيط به، ما تكاد تكون له نجوى إلا هو عالم بها؟! وقد طربت السينورة لما بدا عليه من بدوات الحيرة والقلق والأرتباك، فقالت له: (يبدو لي أن ذكاءك وتوقد ذهنك يسلمان بهذه القضايا، بيد أنني ألحظ أن قلبك وعاطفتك عميَّان عنها، أليس كذلك؟)
- قلبي!! أنك أنت التي توجدين ثغرة هائلة بين ذهنك وبين قلبك، بين ذكائك وبين عاطفتك. . . إني أتهمك بما تتهميني به. . .)
ثم حمل كرسياً ودنا من السينورة بحيث لم يعد يحجز بينهما إلا زاوية المكتب الفخم الذي كانت تكتب عليه، وكانت يدها الجميلة الساحرة ممتدة عليه، فبلع سيدنا الحَبْر الجليل ريقه، ووضع يده الثقيلة الملتهبة عليها. . . فقالت له:
- هذا يعني أنك. . . تحب! وأنك تجعل مني جنَّةً مقمرة لأحلامك؟!
- ولم لا! إن حبك يصلح لأن يكون جنة واسعة مقمرة لأحلام ملك!
- لأحلام ملك؟ هه! بل قل لأحلام رئيس أساقفة يا عزيزي المستر سلوب!! ولمه؟ إنكم دائماً تعسلون لنا زخرف القول أيها الرجال! وأنتم خاصة أيها الأحبار أمهر الناس في توشية الكلام. . كن شجاعاً يا عزيزي المستر سلوب وانظر إلي بمجاميع عينيك.
وكانت قد سحبت يدها الجميلة الساحرة بعيداً من يده فنظر إليها بعينيه الجائعتين المنهومتين نظرة الوامق الملتاع، ومد يده ليقبض على يدها، لكنها رمقته بعينيها الجميلتين الصارمتين وقالت له: (لقد رجوتك أن تحول حماسة يديك الجبارتين إلى عينيك الحالمتين(231/66)
يا مستر سلوب لكنك لم تفعل. . .)
وكان قلب الحَبْر الجليل قد انماث من لوعة الحب، وتعذيب الحبيبة، فصرخ شاكياً:
- أوه مدلين!!
فتبسمت عن ثنايا كاللؤلؤ وقالت له: (حسن، أن أسمي مادلين، هذا لا ريب فيه، ولكن أحداً من العالمين لا يجرؤ أن يناديني به إلا أن يكون من أسرتي، أفتريد أن أفهم من ذلك يا مستر سلوب أنك تحبني وتتعشقني؟!)
وارتبك الحَبْر الجليل، ولم يدر ماذا يصنع، لأنه إنما أتى إلى بيت السينور ليجلس جلسة غرامية من غير أن يصرح بلسانه أنه يحب، فلما بدهته هي بهذا السؤال لم يستطع إلا أن يجثو على ركبتيه أمام الأريكة، ويصرح أنه إنما يحب السينورة حقاً، ولكن لا كما يحب الناس!! فلما قالها. . . بدهته السينورة بسؤال آخر فقالت:
- (والآن، أتستطيع أن تخبرني متى تتزوج بالسيدة ألينور بولد؟!)
ولم يستطع المسكين إلا أن يقول: (ولأمر ما ترمينني بتهمة النفاق والتغرير بك يا عزيزتي؟
- نفاق! أنا لم أقل شيئاً من هذا أيها الأب! ولكنه يبدو لي أنك تحب أن تدافع عن نفسك فيما يتعلق بي؟ فلم هذا؟ لم لا تبقي دفاعك لتقدمه بين يدي السيدة ألينور؟ إنها هي التي ستتزوج منك، أما أنا فامرأة ذات جمال راقتك، وليس هذا شيئاً، ألا ما أبرعكم في التخريج يا رجال الدين؟
- لقد بحت لك يا عزيزتي السينورة أنني أحبك. . أهواك. أعبدك. . . فلم تعيّرينني؟
- أُعيرّك؟ يالله! هلم أيها الأب فخبرني! ألا تتزوج من السيدة ألينور بولد؟
- لا. . . لن يكون هذا!
- بل أؤكد لك أنك من عبَّادها!
- وأنا أنفي ذلك من كل قلبي!
- ولم لا أيها المستر سلوب؟ إنها أولى النساء بك. . . بل تزوجها تكن لأطفالك أما ولبيتك ربة. . . ثم لا تنس أنها أرمل جميلة ذات ثراء!
- ألا ما أقساك يا سينورة!(231/67)
- أو تلك قسوة؟
- أجل. . . إذ كيف يصبو فؤادي الذي هو لك إلى امرأة سواك!؟
- إذا كانت هذه قسوة أيها الأب، فماذا إذا صرحت لك أني لا أملك أن أبادلك حباً بحب ولا عاطفة بعاطفة؟ فإذا كنت لا أملك هذا، فخبرني كيف أجزيك على حبك؟ أأجزيك عليه بأن تحضر كل يوم فتسبح بحبي وتذكر محاسني! أواه! ما أقساك أيها القدر!!
وكان الأب الجليل ما يزال راكعاً بين يدي مادلين، فلما أهوت على قلبه بهذا التصريح هب منتفضاً كالغراب (!) الذي بلله القطر، وجلس على كرسي قريب.
- وهل تسمحين أن أعطف عليك. . . مجرد عطف. . . على ما نابك؟
- تعطف عليّ؟ بل تريد أن ترثى لي لأني شبه مقعدة؟ إني إذن أحتقرك!
- أوه مادلين! أردت أن أقول (أحبك!)
ثم انقض على يدها الضعيفة الجميلة يمطرها آلاف القبل. . . فقالت له بعد إذ لم تستطع أن تذوده:
- هذا جميل! ولكن لنفرض أن السينور نيروني فاجأك الآن، فماذا عساك أن تفعل؟ وأفاق من سكرة حبه على الاسم المخيف فقال: (سينور نيروني؟!)
- أجل. . . سينور نيروني؟ أترسله إلى الأسقف وزوجه السيدة برودي؟)
- ولم تسألين؟
- لم أسأل؟ إني أحببت أن تعلم أن هناك رجلاً لا تذكره يدعى السينور نيروني؟!
- لا. . . بل أنت تنسين قلبك حين تذكرين السينور زوجك! إنك لا تحتفظين له بإثارة من الحب لأنه غير خليق بك
- القلب مرة أخرى؟! مالك كيف تتكلم أيها الأب؟ تريد أن تقول أن المرأة التي لا تضمر حباً لزوجها لها الحق في أن تخونه؟ أو على الأقل لها ألا تخلص له! والذي يقول هذا كبير أساقفة الكنيسة الإنجليزية
واشتعلت الجحيم في رأس كبير الأساقفة، وعجب كيف تذله امرأة مقعدة كالسينورة نيروني، وتمنى لو استطاع فجعلها تسجد بين قدميه تطلب حبه كما فعل هو، وتمنى كذلك لو انتزع حبها من قلبه فقذف به من حالق. . . ولكن شتان بين أن يتمنى المرء وبين أن(231/68)
يقدر، فلقد سحقته السينورة لأنها عرفت من مآسي الحياة ما لم يعرف القس، وبلت من تجاريبها ما لم يبل. . . وذلك أنه ما كاد يرفع عقيرته بالاحتجاج حتى غلبه هواه، وسجد مرة أخرى تحت قدميها يستعطف كالتلميذ الذليل. . . لكنها وصلت سخريتها به فقالت له:
- ولم لا تضحي حبك أيها الأب ما دام زيفاً وبهتاناً!
- زيف وبهتان؟ أتريدين أن تقولي أن حبي لك زيف؟
- زيف وأي زيف!! وإلا، فافرض أنني حنثت في سبيلك بيميني أن أكون إلى الأبد مخلصة لزوجي وفية لاسمه الذي حملت، وأنني زللت لأرضي حبك وأشفي لوعتك، فهل ترضى إذا أخرجت من هذا البيت أن تذهب معي فنقف أمام المذبح لتعلن للملأ أنك رضيتني زوجة لك. . .؟ أنا. . .؟ هذه المقعدة التي لا يسندها في فؤادك إلا مسحة من الجمال تفتنك الآن، ولا تدري ماذا تكون في غد؟ - ولكن الحَبْر الجليل لم ينبس ببنت شفة، فقالت مادلين: (ماذا؟ تكلم! ماذا تضحي من أجلي إذن إذا ضحيت لك بكل ما عرفت!؟)
فقال الأب: (لو أنك حرة الآن لرضيتك زوجة لا أرضى بها ملء الأرض ذهباً!)
فقالت مادلين: (لو أنني حرة! أنا حرة! هاأنا ذي حرة! لننطلق إذن من هنا. . . هلم فاحملني إلى دارك! لم تقف جامداً هكذا؟)
لكن الأب لم يبد مع ذاك حراكاً. . .
- آه! لقد خشيت أن تضحي الدنيا الواسعة المترعة بالخيرات من أجل امرأة مقعدة مثلي! إذن فهلم نكون صديقين. . . صديقين فحسب. . . لا تنس هذا. . .)
وانحط على الكرسي القريب منها، ثم تناول يدها الجميلة الساحرة وطفق يقبلها أكثر وأحر مما فعل قبل. . . حتى لكأن الدرس القاسي الذي تلقاه لم يكن له أثر. . . وزاد الطين بلة فقال وهو يبكي:
- (مادلين. . . مادلين. . . قولي إني أحبك. . . قولي يا مادلين!)
وهنا سمع وقع أقدام في الخارج فنهرته السينورة وهي تقول: (صه أيها الأب! إن أمي قادمة وأخشى أن تشهد دموعك. . . هلم فأصلح من شأنك. . .)
ووثب الأب الجليل مروعاً. . . ولم يعن بإصلاح شأنه. . . بل أنطلق على وجهه من(231/69)
الباب الخلفي، ولم يعد أحد يسمع به. . . لأنه لم يذهب إلى الكنيسة منذ ذلك اليوم. . .
(ملخصة)
دريني خشبة(231/70)
البريد الأدبي
إلى صحف القطر الشقيق
نشرت في عدد (الرسالة) الماضي على أثر ما علمته من أن جريدة المكشوف البيروتية نشرت خطاباً ومقالاً زعمت أني أرسلتهما إليها - كلمة موجزة كذبت فيها هذه الواقعة بطريق حاسم وقلت أن ما فعلته المجلة المذكورة إنما هو تزوير شائن.
والآن بعد أن أطلعت على بعض الصحف البيروتية التي نقلت المقال المزعوم أو علقت عليه (وذلك لأني لم أستطع الحصول على عدد المكشوف الذي حدث فيه النشر المزور) عرفت أن الصحيفة المذكورة قد عمدت إلى مقال قديم كنت قد نشرته في (السياسة الأسبوعية) سنة 1931 واقتضبت منه عبارات مسختها وزعمت أنها مقال أرسلته إليها، ونشرت إلى جانبه الخطاب الذي زعمت أنها تلقته مني.
وقد أرادت الجريدة المذكورة أن تلقى بذلك من روع قرائها أنني أؤيد الحملة الدنيئة المستمرة التي تشهرها على التفكير المصري والكتاب المصريين، والتي لا تلقى هنا وهنالك سوى ما تستحق من الإعراض والزراية، وأرادت أن تدلل على ذلك ببعض فقرات اختلستها من مقالي المذكور.
فأقرر هنا أني كتبت هذا المقال منذ سبعة أعوام لمناسبة حالة أدبية معينة لاحظت أعراضها يومئذ، ورأيت في تلك الأعراض بعض وجوه ضعف يجب إصلاحها وتداركها. والحركة الأدبية المصرية ليست معصومة، ولم يقل أحد إنها بلغت ذروة الكمال، بل هي ككل حركة فكرية واجتماعية قابلة للنقد والإصلاح؛ ولكن لما كانت الحركة الأدبية المصرية تثب بخطى الجبابرة فان هذه الآراء لا يمكن أن تعبر إلا عن الوقت والظروف التي قيلت فيها.
أما أن تعمد جريدة المكشوف إلى اقتضاب بعض ما ورد في هذا المقال ثم تزعم أني أرسلته إليها، بل وتذهب في الافتراء إلى أبعد من ذلك فتقرن المقال المزعوم بخطاب تدعي أني أرسلته إليها فأقل ما يقال في ذلك إنه عمل إجرامي دنيء.
ما كان لمثلي أن ينزل إلى مثل ذلك فيمالئ وريقة عرفت بحقدها المضطرم على الثقافة المصرية، وعلى النيل من ثقافة بلاده التي يعتز بها، والتي يتشرف هو بأن يشترك في(231/71)
حمل لوائها الخفاق.
ولقد رأيت في بعض صحف القطر الشقيق بعض مقالات وتعليقات على هذه الدسيسة الأدبية المثيرة، نشرت بلا ريب بحسن نية، ولما كان من المتعذر على أن أكتب إليها جميعاً فإني أكتفي بأن أوجه إليها هذه الكلمات على صفحات الرسالة لتقف منها على الحقيقة ولتذيعها نصرة للحق والأنصاف.
أما الصحيفة القاذفة المزورة فأمرها إلى القانون يحاسبها، وإلى الرأي العام يصدر حكمه عليها.
محمد عبد الله عنان
ذكرى وفاة أبي الفرج الأصبهاني
في انتهاء عامنا الهجري هذا يكون قد مضى ألف سنة على وفاة المؤلف العظيم أبي الفرج الأصبهاني علي بن الحسين الأموي المرواني الذي يعد من أعاظم المؤرخين والبحاثين، فقد بلغ عدد ما عرف من مؤلفاته خمسة وثمانين مؤلفاً من أثمن المؤلفات العربية في التاريخ والاجتماع والأدب، وأشهرها (الأغاني)؛ وقد أجمع المؤرخون على أنه لم يصنف مثله في هذا الباب، ولولاه لضاع شعر الجاهلية والإسلام؛ وقد ألفه في مدة خمسين سنة ولم يزل هذا الكتاب المطبوع في 21 مجلداً منذ ألف سنة حتى اليوم ينبوعاً صافي المورد، ومنهلاً عذب الارتشاف، يرده الأدباء والمتأدبون وهم ظماء، ويصدرون عنه وهم رواء. فكم من أديب نابغ قد تخرج عليه، وعلم من أعلام البيان العربي كان يرجع بيانه إليه، وشاعر فحل زكت شاعريته ونمت موهبته بالرواية عنه والأخذ منه. . .
وقد عن لي بهذه المناسبة - مناسبة مرور ألف عام على وفاته - أن أقترح على علماء العراق وأدبائه وأهل الفن فيه إقامة مهرجان ألفي في بغداد موطن المؤلف التي كتب فيها جميع مؤلفاته وتوفي فيها بعد أن خلد اسمها إلى أبد الدهر. ولا أظن أن من الأقطار العربية من يتأخر عن الاشتراك في هذا الاحتفال وتعديد مناقب رجل جمع بين علوم الدين والدنيا في الإسلام.
(كربلا)(231/72)
عباس علوان الصالح
وفاة علامة هندي عظيم
نعت إلينا أنباء الهند الأخيرة العلامة الهندي الكبير السير جاجاديس شندرا بوزن أعظم علماء النبات المعاصرين، توفى في نحو الثمانين من عمره؛ وكان مولده بالهند في سنة 1858، ودرس في كلكوتا وكامبردج؛ وبدأ حياته أستاذاً في جامعة كلكوتا، وتخصص في علم النبات وأبدى فيه براعة خاصة. ثم انقطع بعد ذلك لدراسة حياة النبات، ووفق أثناء تجاربه إلى عدة اكتشافات باهرة لفتت إليه أنظار العالم، وكان أهمها ما أثبته بالتجارب العلمية وهو أن النبات كأي إنسان يشعر ويحيا، وله كالإنسان نبض يمكن جسه وإحصاؤه؛ ولإثبات نظريته الجديدة اخترع السير بوز آلة سماها (كرسكوجراف) تسجل حياة النبات ونبضه، وتكبرها بنسبة مائة ألف مرة؛ وبهذا الآلة يمكن مشاهدة نمو النبات وتأثره بالعوامل الجوية، وبالعناصر الغريبة التي يلقح بها كالأسمدة أو السموم أو غيرها. وقد عرض السير بوز تجاربه في أنحاء العالم فحازت إعجاب العلماء وتقديرهم جميعاً. ومما يذكر أنه قدم إلى القاهرة في شتاء سنة 1927، وعرض تجاربه أمام جمهور من العلماء والمشاهدين فأدهشهم جميعاً بما عرضه من حركات النبات ودلائل حسه ونبضه. وللسير بوز عدة آلات دقيقة أخرى اخترعها لتسجيل الحياة النباتية، وله عدة كتب تعتبر في هذا الباب مرجعاً وحجة، منها:
(جواب النبات)، (تهيج النبات)، (حركات الحياة في النبات)، (الجهاز العصبي للنبات) وغيرها؛ وهو يعتبر عميد العلوم النباتية في العصر الحديث.
مذكراتي في نصف قرن
منذ أيام قلائل صدر القسم الثالث والأخير من كتاب (مذكراتي في نصف قرن) بقلم الأستاذ الجليل أحمد شفيق باشا وقد استطاع قراء القسمين الأولين من هذه المذكرات النفيسة أن يقدروا اليد الجليلة التي أسداها الأستاذ شفيق باشا لتاريخ مصر الحديث بتدوين هذه المذكرات ثم بإخراجها؛ وكان تدوينها في الواقع عملاً دقيقاً شاقاً شغل حياة مدونها، بيد أنها كانت سلوى حياته لا يغفل عنها، ولا ينسى متابعتها قط مهما ادلهمت من حوله الخطوب(231/73)
والحوادث؛ وكان فوق ذلك أجدر الناس بتدوينها، وأقدرهم على الاستفادة من عبر الحوادث وفهم أسرارها وتطوراتها؛ ذلك أنه كان مدى ثلث قرن شخصية بارزة في القصر الخديوي، بل كان مدى أعوام طويلة اعظم رجال البطانة الخديوية نفوذاً وأشدهم تأثيراً في توجيه الخديو؛ وكان بحكم منصبه ومراقبته لسير الأمور من أكثر الناس إطلاعاً على سير الحوادث، وعلى أسرار الوثائق، وأكثرهم فهماً للرجال العموميين فما يقدمه إلينا من مذكراته هو أصح وأدق ما يستطيع مؤرخ معاصر أن يقدمه عن حوادث عصره.
ويشمل القسم الثالث من هذه المذكرات النفيسة مرحلة الحرب الكبرى وما بعدها، من سنة 1915 إلى سنة 1923؛ ونحن نعرف أن الخديو عباس حلمي كان منذ صيف 1914 متغيباً في استانبول، وأن الخلاف وقع بينه وبين الإنكليز منذ نشوب الحرب الكبرى، فلم يعد بعد ذلك إلى مصر، وأنه لعب أثناء الحرب أدواراً خطيرة، واشترك في كثير من مشاريع السياسة الألمانية التركية نحو مصر. وقد كان المؤلف خلال هذه الأعوام المدلهمة إلى جانب مولاه في المنفى مع نفر من كرام المصريين، يتتبع عن كثب تطورات الحوادث ويقيدها. وهو يقص علينا في مذكراته ناحية من المأساة لم تكن مصر خلال الحرب تدري شيئاً عنها؛ ومن الصعب أن نتتبع محتويات الكتاب في هذا المقام الضيق، ولكنا نستطيع أن نقول باختصار إنها كل حياة الخديو السابق وكل حركاته وأعماله منذ سنة 1915 إلى سنة 1920 وهي صفحة غريبة مشجية من تأريخ مصر السري لا نعرف عنها سوى القليل؛ ومن حولها معلومات وتفاصيل كثيرة عن المصريين الذين اشتركوا فيها أو اتصلوا بها، ومنهم كثير من الزعماء اللاحقين؛ ويقرن المؤلف ذلك بتفصيل أعماله وحياته وصلاته مع الخديو وغيره حتى عوده إلى الوطن من المنفى في سنة 1923.
ونحن نهنئ الشيخ الوقور أحمد شفيق باشا بتوفيقه في إتمام ذلك العمل الجليل الذي استغرق أعواماً كثيرة من حياته واقتضى منه جهوداً عظيمة تستحق تقدير مواطنيه وتقدير التاريخ؛ أمد الله في حياته الحافلة النافعة.
الآداب الفرنسية وجائزة نوبل
تحدثت الصحف الفرنسية لمناسبة فوز الكاتب الفرنسي روجيه مارتان دوجار بجائزة نوبل للآداب عن الكتاب الفرنسيين الذين ظفروا قبله بهذا الشرف، فذكرت إنهم قلائل جداً(231/74)
بالنسبة إلى من ظفروا بجوائز نوبل من الأمم الأخرى، وهم لا يتجاوزون خمسة: أولهم سولي برودوم، وقد حصل عليها في سنة 1901؛ والثاني الشاعر البروفنسي مسترال، وقد حصل عليها في سنة 1904 والثالث رومان رولان، وقد حصل عليها سنة 1916؛ والرابع أناتول فرانس، وقد حصل عليها سنة 1921، والخامس الفيلسوف هنري برجسون، وقد حصل عليها سنة 1928؛ ومنذ عشرة أعوام لم يظفر كاتب فرنسي بجائزة نوبل، في حين أن الآداب الإنكليزية أو الألمانية أو الإيطالية لا يكاد يمضي عام أو اثنان حتى تظفر إحداهما بهذا الشرف.
ولكن الصحف الفرنسية ترى من جهة أخرى أن الآداب الفرنسية كانت موفقة من الناحية المعنوية أعظم توفيق، لأن أولئك الذين حصلوا على جوائز نوبل منذ قيامها إلى الآن هم خيرة ممثليها في مراحلها المختلفة؛ وقد كان مارتان دروجار حقاً ممثلها من نوع يستحق التقدير العالمي.
والمعروف أن لجنة استوكهلم قد منحته جائزة نوبل من أجل قصته الشهيرة (تيبول) التي تقف حوادثها عند صيف سنة 1914، والتي استؤنفت بعد ذلك خلال الحرب الكبرى؛ وهي القصة التي ظفر من أجلها أيضاً بجائزة مدينة باريس الكبرى التي رتبها بلدية باريس لأحسن مؤلف قصصي أو تاريخي، ثم توجتها عقب ذلك جائزة نوبل. وقد أحدث حصوله على جائزة استوكهلم دهشة في بعض دوائر الأدب الفرنسي إذ كانت تتوقع أن يكون الفائز بها هو الشاعر الكبير بول فاليري، ولكنها اغتبطت على أية حال لأن الفائز بها فرنسي.
جائزة نوبل للسلام
وعلى ذكر جوائز نوبل أيضاً نقول أن الذي فاز بجائزة نوبل للسلام هو السياسي الإنكليزي الكبير اللورد روبرت سسل، وذلك من أجل جهوده في سبيل قضية السلم العالمي. وقد درس اللورد سسل في جامعتي إيفون واكسفورد، وخاض حياة سياسية باهرة، وانتخب عضواً في مجلس العموم منذ سنة 1904 وتقلب في المناصب الكبيرة حتى غدا في سنة 1918 وزيراً للخارجية.
ولقد لعب دوراً كبيراً في مؤتمر الصلح وإعداد دستور عصبة الأمم؛ ومثل إنكلترا في جلساتها مراراً ثم ناب عن إنكلترا في لجنة السلاح، وكان له في أعمالها مواقف نبيلة دلت(231/75)
على تحمسه في مناصرة قضية السلم. واللورد سسل من أعظم أنصار عصبة الأمم ومبدأ السلامة الإجماعية. وقد استقال من جميع المناصب الحكومية ليتفرغ لخدمة قضية السلم، وله في ذلك مواقف وخطب رنانة؛ وله كتاب قيم عنوانه (سبيل السلام) ضمنه خطبه وأحاديثه السلمية، وكلها تدل على تمكنه من موضوعه. وهو في الوقت نفسه من أشد خصوم النظم الفاشستية، وله في شأنها حملات خطابية وكتابية شديدة، وهو اليوم في الثالثة والسبعين من عمره، ولكنه لا يزال يعمل لخدمة السلام بهمة الشباب.
مواطن الجواد قبل التاريخ
عثر المنقبون في سفالوف في جنوب السويد على عظام قديمة ظهر من فحصها أنها عظام الجواد الوحشي، وأنها ترجع إلى نحو عشرين ألف سنة. ويرى العلماء الرسميون الذين فحصوها أنها بلا ريب من بقايا الجواد القديم المنقرض، وقد كانت هذه المسألة مثار خلاف بين العلماء، فجاء هذا الاكتشاف مؤيداً لأقوال القائلين بأن الجواد كان ضمن الحيوانات التي تعيش في هذه المناطق منذ عصر ما قبل التاريخ.
بريطانيا العظمى وفلسطين
صدر في إنجلترا منذ أسابيع هذا الكتاب عن فلسطين الشقيقة للكاتب الإنجليزي هربرت سيد بوتهام. وقد تصفحناه فوجدناه كتاباً مغرضاً أغلب الظن أنه طبع بأموال يهودية ليبشر بالدعاوة لليهود في سائر أنحاء العالم على العموم وفي إنجلترا وبين أنصار حزب المحافظين على الخصوص. . . فلقد سرد تاريخاً مملاً مشوهاً لفلسطين منذ أن فتحها محمد علي الكبير إلى اليوم واعتبر هذا الفتح مبدأ لحركة الدعاوة لإنشاء الوطن القومي لليهود الذي لم يتحقق إلا في السنوات الأخيرة، وقد اعتبر اليهود سفراء المدنية الغربية إلى الشرق، وتبجح فنعى على العرب قلة عرفانهم بهذا الجميل الذي أسدته إليهم بريطانيا إذ سخرت لهم الذهب اليهودي والذكاء اليهودي لينهضا بهم، كأن العرب كانوا قد نسوا مدينتهم ومجدهم وافتقروا إلى السحت لإحياء ماضيهم الغابر. ومما يثير عجب القارئ ويبتعث ضحكه أن ينعى المؤلف على بريطانيا استخذاءها تلقاء العرب (الذين يعتبرون التأدب البريطاني جبناً والرحمة الإنجليزية ضعفاً فترد وفودهم إلى لندن ليملوا شروطهم كأنهم(231/76)
انتصروا على بريطانيا في معارك حربية. . .) ولسنا نعرف أن بريطانيا قد استخذت يوماً في فلسطين فيما يتعلق بالجانب العربي، اللهم إلا أن يعتبر المؤلف ضرب السكان بالنار ونسف المدن بالديناميت استخذاءً. ولسنا نعرف أيضاً ماذا كان من نكران العرب لجميل بريطانيا؟ أفمن هذا النكران وقوف العرب صفاً بجانب الإنجليز في الحرب الكبرى ضد إخوانهم المسلمين؟ أم من هذا النكران تمسكهم ببلادهم وافتداؤهم لها بدمائهم؟ ما كان أجمل أن يذكر المؤلف كيف سند العرب بريطانيا في الشرق، ولو لم يفعلوا لتغير مجرى التاريخ، وتغير تبعاً لذلك وجه الأرض. . .
وبعد، فليقرأ الفلسطينيون هذا الكتاب ولينظروا في وقاحته، فقد عرض بالسوء لرجالاتهم، وجرح بالباطل زعماءهم وهم برد مزاعمه أولى.(231/77)
العدد 232 - بتاريخ: 13 - 12 - 1937(/)
ثورة على الأخلاق
معدة قرقرت ثم استقرت
للدكتور عبد الوهاب عزام
فأما صاحبك فقد ساءتني حربه وسلمه، وهو في سلمه اشد إساءة وأعظم جناية؛ صورته لي غاضباً للأخلاق، راثياً للفضيلة، ثائراً على الناس، يقذفهم بالتهم، ويرميهم بالحمم؛ يشتط في غضبته ويغلو في ثورته، فقلت: حر غضب فأخطأ، وكريم ثار فجار، وأبيٌّ برٌّ أسخطته المذلة، وهاجه الفجور، فانطلق لا يقف عند حد. ثم صورته قنوعاً مستسلماً فقلت: وا سوأتا! أهذا المبطان جادلت، وهذا الجبان نازلت؟ لقد كان جهاداً في غير عدو. لم تكن شقشقة هدرت ثم قرت، بل معدة قرقرت ثم استقرت. وما الشقاشق إلا لفحول الجمال، وأشباههم من فحول الرجال.
وأما أنت يا أخي الزيات فما أحسبك إلا شريك محمود في رأيه، أو أصاحب وحيه؛ قدمته للكلام ونطقت على لسانه، وعرضته للنضال ونزعت في قوسه، ولا أقول أقمته مقام الوثن من سادنه، والصنم من كاهنه. فلما تبين انه في الخصام غير مبين، وفي المآزق غير دفاع، وفي المعارك لا يثبت للمصاع؛ وإنه لجوع يثيره، وشبع يرضيه، أبدلت به جماعة حسبتهم أقوم بحجتك، واشد هيبة في صدور خصومك فقلت: (على أن مجلسنا كان حافلاً بغير محمود من رجال العلم والدين والأدب، وكلهم كانوا له وعليك) واكبر ظني أن هؤلاء (رجال العلم والدين والأدب) شركوا محموداً في المائدة. وإلا فكيف جمعهم بمحمود المجلس وقد (قام منذ هنيهة عن مائدة الإفطار الغنية الشهية)؟ والعجيب أن تذهب المائدة بثورة محمود وتثير سخط هؤلاء. ولعله كان أثبتهم على المائدة حملة، وأطيشهم في الصحاف يداً. ولعلهم آثروا القناعة، واصطنعوا الحياء، وتمسكوا بالأخلاق فحرموا، فكانت ثورتهم على الأخلاق.
وبعد فموضع الخلاف بيننا هذه القضية: هل الخلق الفاضل سبيل النجاح؟ قال محمود إبان ثورته: لا، وقلت: نعم نعم. وضربت مثلاً الصانع المجيد، الحسن المعاملة، الصادق الوعد، والتاجر الأمين المخلص، والمزارع الأمين. ثم قلت: (ولا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة موضع المودة والثقة؛ ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته، إن(232/1)
أستقرض اقرض، وإن استعار أعير، الخ) فبأي هذا يرتاب أصحابك؟ يقولون: ما أهون الأخلاق إن كان قصاراها هذا النجاح الحقير ويقولون إن الذين ضربتهم مثلاً من الأخيار لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً من رجال المال والأعمال كفلان وفلان - وأنا يا صديقي ما خصصت بقولي ضرباً من النجاح دون ضرب. ولم يكن ذكري التاجر والصانع والمزارع إلا مثلاً و (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما، بعوضة فما فوقها) ولا أتم الآية إشفاقاً على أصحابك أني أقولها كلمة عامة شاملة: الخلق الفاضل، في اغلب الأحوال، سبيل إلى النجاح في كل طرائق الحياة؛ إن اخفق حينا نجح أحياناً، وإن أكدى مرة أورى مرارا. فالحاكم الخير، والرئيس البر، والقائد الصالح، والمؤلف الصادق، والأديب النزيه، والصانع والتاجر والزارع، بل الموظف، كل أولئك اقرب إلى النجح واظفر بالطلبة في اكثر الأحوال من أمثالهم من الأشرار، بعد أن يتخذوا للمقاصد سبلها، ويعدوا لكل أمر عدته. فان قصروا في الأهبة وتوانوا في اتخاذ العدة فماذا يجديهم الخلق وحده؟ إن بعض الأخيار تجنبوا المعارك، وأشفقوا من المهالك، وضيعوا الحزم، فلما أوفت بهم الأعمال على نتائجها التبس الأمر على كثير من الناس فحسبوا إخفاقهم بما استمسكوا بالحق والخلق الطيب، وخالوا نجاح أضدادهم بما ركبوا إلى غاياتهم مراكب الباطل والرذيلة. فقل لهؤلاء: أعيدوا النظر واحسنوا التفكير، ولا تقصروا النجاح على المال فيجور بكم المنطق؛ فهناك الكرامة والجاه والرياسة والزعامة، وهناك الطاعة والمودة. وانظروا إلى الزعماء الذين يسوسون الأمم أهم من أصحاب المال؟
وقلت في مقالي السابق: إن للأخيار إلى مقاصدهم سبيلاً واحدة، وللأشرار سبلاً شتى، ولكن هذه السبيل الواحدة أحرى بان تؤدي إلى الغاية، وتوفي على المطلوب. فقلت إن أصحابك يرون في قالتي هذه نزوعاً إلى رأي محمود. ثم قلت: (ومادام جوهر الرأي واحداً فالسبيل القاصدة أن نطب لهذه الحال بما يوائم بين طموح الناس وكرامة الأخلاق وسلامة المجتمع) ثم قلت انه لا معدى عن إحدى وسيلتين: أن تحمل الناس بالدين والسلطان على سبيل الحق الواحدة وذلك (خيال نبيل لا يقع في الإمكان)، وأما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق، وهذا (على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد)
وجوابي انه ليس في كلامي نزوع إلى رأى محمود إلا أن تقطع المقدمات بعضها عن(232/2)
بعض، ويفصل بين أول الحجة وآخرها. وإما الدعوة إلى إعادة النظر في الأخلاق فأنا لم اعد في مقالي جملة الأمر إلى تفصيله. لم أجادل عن خلق بعينه، ولم اقل أن خلقا ما صالح لهذا الزمن أو غير صالح، ولكني قلت إن الأخلاق الفاضلة التي تتفق عليها أمة أو أمم لا تكون سبلا إلى الخيبة والحرمان. وإن أردت أن نعيد النظر في الأخلاق فما أنا بمنكر أن الأخلاق تقبل بعض التغير، ولكني لا أخال إعادة النظر ستغير تغيراً ذا بال فيما سارت عليه الأمم منذ هداها الوجدان والعقل إلى سبل الخير؛ ولن تحلل هذه الإعادة رذائل كالكذب والسرقة والتزوير والظلم، أو تحرم فضائل كالصدق والأمانة والعدل. ومهما تكن النتيجة فالأخلاق القديمة أو الجديدة لا تكون قرينة الخيبة والشقاء.
وقد ذكرت أيها الأخ الكريم أخلاقاً تجعلها مثلا لما تريد تغيره. ذكرت التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل، وهذه أمور يختلف فيها النظر وليست من قواعد الأخلاق. فقل فيها ما يهديك إليه النظر الصائب. ورأيي أن التواضع محمود ما لم يكن ذلة، والقناعة حميدة بقدر ما تحول بين الإنسان وبين الشره والاستكلاب. فان كانت ضعفاً في الهمة وعجزاً عن الإدراك فهي رذيلة. وكذلك الزهد. وأما التوكل فان يكن استكانة للحادثات، وخنوعاً لكل ما هو آت، فلا يرضاه إنسان؛ وان كان ثقة بالنفس وانطلاقا في سبل الحياة لا ترده دون غايته المشاق والأهوال فما أحوج الناس إليه.
يا أخي: قد أساء العجز والذل تأويل هذه الأمور. أنت تعرف أن المثل الأعلى للرجل المسلم أن يكون طماحاً إلى ابعد غايته، واثقاً بنفسه إلى غير نهاية، حراً لا يقر بعبودية، أبياً لا يقيم على دنية؛ يرى نفسه قائماً في هذا العالم بالقسط قد وكل الله إليه تصريف الأمور وتقسيم الأرزاق، والهيمنة على الأخلاق. وأين هذه مما فهمه الناس من التواضع والتوكل. الخ
وأما الربا فلا يتسع المقام للكلام فيه. وحسبك هذه الثورات الثائرة حوله، والمعارك الهائجة فيه بين البلشفية والرأسمالية. وأما قياس الأخلاق بالنفع والضر فقد ذهب إليه بعض علماء الأخلاق، ولكن مذهباً ينتهي إلى منفعة الجماعة وضررها لا منفعة الفرد وضرره. ولن تقوم لأمة قائمة أن جعلت مقياس أخلاقها نزوات كل إنسان ونزغات كل فرد.
وبعد فيا صديقي ارني حدت عن الموضوع الأول استطراداً معك، فارجع إلى محمود احمده(232/3)
على ثورته مخطئاً، وأذمه على هدوئه مصيباً. فقد تمثل لي في الأولى حرا ثائراً يريد أن يقلب نظم الأخلاق في الأمة، وتمثل لي في الثانية تُكلةً نكساً مبطاناً لم يدع على المائدة فتاتاً، ولم تدع فيه المائدة فيه بقية لهمة أو عزيمة أو ثورة. فرحمه الله جوعان ثائراً، وأخزاه الله شبعان خائراً
عبد الوهاب عزام(232/4)
هل الحرب ضرورة؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
جرئ من يقول أن الحرب ليست من ضرورات الطبيعة الإنسانية في هذا الزمن الذي قلما نسمع فيه إلا حديث حرب وخوفاً من حرب واستعداداً لحرب وبحثاً في محالفات ومؤتمرات ليس الغرض منها إلا اتقاء العداوات والحروب.
والواقع أن محاربة الحرب في العصر الحاضر تحتاج إلى كل ما في الإنسان من شجاعة، وكل ما عنده من رأى، وكل ما ينطوي عليه من سجية، لأنه يحارب أقوى القوى متضافرات متشابكات: يحارب قوة المال وقوة السلاح وقوة الجهل وهي أقوى عناصر هذا الثالوث.
وربما كان خير الميادين للغلبة على الحرب ميدان الثقافة وما يلحق به من ميدان التربية والتعليم. فإن التربية تصلح ما أفسدته التربية، ثم تزيد فتصلح ما لم تفسده قبل ذلك، وهي على كل حال سلاح لا غنى عنه في هذا الميدان، لأن وسائل السلم كلها لن تفيد في تعويد الناس غير ما تعودوه ما بقيت تربيتهم وتثقيفهم عقولهم على الحال التي هي عليه
في طليعة الكتاب المعنيين بفلسفة الحرب (الدوس هكسلي) حفيد العالم الإنجليزي هكسلي الكبير.
وهو وأقرانه في هي هذا الجهاد الإنساني الشريف لا يبحثون عن الحرب بحث الصحف والأخبار والمؤتمرات والوزارات، فإنهم يعتقدون وهم على حق فيما يعتقدون أن سياسة الأمم اعمق وأخفى واعرق من هذه الجوانب التي يتناولها السواس وتلغط بها صحف الأخبار، ولكنهم يبحثون الطبيعة الإنسانية وينقبون في تواريخ الأمم ليعرفوا منها ما هو طبيعي أصيل، وما هو عرضي قابل للتهذيب والتبديل. ومعظم النابهين بين كتاب هذه الطائفة ينتهون إلى أن الحرب بدعة طارئة وليست ضرورة من ضرورات الطبيعة الإنسانية ولا قانوناً من قوانين الاجتماع، وهذا هو الرأي الذي يلوح غربياً ممعناً في الغرابة للذين سمعوا وطال سماعهم لقوانين تنازع البقاء وإرادة القوة وإرادة الحياة، وحسبوا أن هذه القوانين ودوام الحرب معنيان مترادفان
كتاب (الغايات والوسائل) هو آخر كتب هكسلي في هذا العام، وإن كان قد ردد فيه بعض(232/5)
الآراء التي شرحها في كتبه السابقة منذ سنوات.
وفصل الحرب في هذا الكتاب من أبرع الفصول التي كتبها هذا الأديب اللوذعي المطلع القدير، وهو الفصل الذي نلخصه في هذا المقال، ونعتقد إننا - نحن المصريين والشرقيين - خلقاء أن نبحث الحرب من هذه الناحية بعد أن طال حديثنا عنها من نواحيها العرضية التي تجيء وتذهب مع الأخبار، بل لعلنا أحوج ما نكون إلى تدعيم بحوثنا كلها على هذا الأسس وعلى هذه الأصول
يقول هكسلي ما خلاصته أن الحرب ظاهرة إنسانية لا وجود لها في عالم الحيوان، لأن الحيوان يتقاتل في إبان الثورة الجنسية أو طلباً للطعام أو لهوا ولعباً في قليل جداً من الأحايين، وليس من الحرب بالبداهة أن يقتل الذئب الشاة أو تلعب الهرة بالفأر، فإنما هذا شبيه بعمل الجزار حين يقتل ما يطعمه الناس، أو شبيه بعمل الصياد حين يتعقب الثعلب والأرنب. نعلم أن بعض علماء الحياة وعلى رأسهم السير أرثركيت يزعمون أن الحرب كالمنجل في يد الطبيعة تقطع الفاسد وتبقي من أفراد الحضارة وشعوبها كل صالح للبقاء
ولكن هذا كما هذا ظاهر لغو فارغ، لأن الحرب تقضي على الشبان والرجال الأشداء وتترك الضعفاء والشيوخ الذين لا يذهبون إلى الميدان. وقد دلت التجربة على أن اعنف الشعوب وأصلحهم للحرب لم يكونوا قط افضل الشعوب وارفعها في مراتب الأخلاق والثقافة، إذ ليس انفس بني الإنسان وأغلاهم قيمة في معيار الحضارة أوفاهم (نزعة حربية) وضراوة في حومة القتال.
وأوجز ما يقال في هذا الصدد أن الحرب تختار الأفراد على طريقة عكسية فتفني الأقوياء وتترك الضعفاء، وإنها تختار الشعوب على سنة المصادفة والمناسبات الموقوتة، فكثيراً ما تفنى الشعوب المقاتلة وتترك الشعوب الموادعة، وكثيراً ما كان انطباع الأمة على الحرب طريقاً لها إلى الوبال والاستئصال.
والذي يدل اكبر دلالة على أن الحرب أليست طبيعة في الإنسان ولا في الاجتماع إنها لم تظهر في التاريخ إلا بعد ظهور درجة من الحضارة ونوع من الحكومة، فهي مجهولة بين قبائل (الإسكيمو) التي تسكن الأصقاع الشمالية حتى اليوم. وقد كانت مجهولة في أطوار الإنسانية الأولى فلم يعرف عن الإنسان في تلك الأطوار انه اتخذ السلاح للقتال وحب(232/6)
الغلب والسيادة، إنما كان يتخذ السلاح لدفع الضواري أو لصيد بعض الحيوان
وصحيح أن (تنازع البقاء) قانون قائم في عالم الإنسان كما هو قائم في عالم الحيوان، ولكن من أين لنا أن تنازع البقاء مستلزم داوم الحرب كما ألفناها ونألفها في الحضارات الغابرة والحاضرة؟ ومتى شوهد الحيوان وهو يتجمع مئات وألوفاً ليقاتل بعضه بعضاً من فصيلة واحدة؟ فليس في عالم الطبيعة كلها ظاهرة تشبه اجتماع جيش لمحاربة جيش آخر، ولم يعلم قط أن قطيعاً من الذئاب احتشد الهجوم على قطيع مثله، أو أن سرباً من الطير فعل مثل ذلك على سنة الآدميين في الحروب.
فالقول بان الحرب قانون طبيعي قول لا يستند إلى اصل من الطبيعة الحيوانية في حالي التفرد والاجتماع، إنما هو تفسير خاطئ لقانون صحيح.
إن الآداب الأوربية قد شوهت الأخلاق حتى وهم الناس أن التضحية بالحياة أنبل ما يستطيعه الإنسان، وان الشهيد أي الميت الحسن على زعمهم افصل من الرجل العامل أي الحي الحسن. وعلى خلاف ذلك كانت آداب الشرقيين في الهند والصين، فعند اتباع كنفشيوس أن المغامرة بالحياة لا تليق، وان الحكمة افضل من الشجاعة البدنية، وان العاملين في السلم افضل من العاملين في القتال وان الفضيلة العليا أن يحجم المرء عن الكبرياء والعدوان ويروض نفسه على الوداعة ومجازاة الإساءة بالإحسان
ولما جاء المسيح بدين الوداعة والمسالمة دخلت المسيحية بين شعوب أوربا المقاتلة فجعلوا (الاستشهاد) غاية الغايات في النبل والفضيلة، لأنهم هكذا ينظرون إليه في لآداب العسكرية حتى التبست دعوة السلام بدعوة القتال.
أما في الهند فالحضارة البوذية تأبى العدوان على أحد من الأحياء وتوصي بمحاربة الشر بالكف عن مقابلته بمثله، وهو ما يسمونه عندهم (اهمسا) أي اجتناب الأذى مع الأحياء كافة حتى ما يؤذيه الآخرون طلباً للطعام.
وفي شرع البوذيين أن (الغضب) رذيلة دائماً وان الإكراه محظور في جميع الأحوال، فشاعت البوذية وعمت بين مخالفيها دون أن تلجأ إلى اضطهاد أو جاسوسية أو محكمة تفتيش
وعلى هذا، وعلى ما تقدم من نفي ضرورة الحرب، يسوغ لنا أن نعتقد أن الدعوة إلى إلغاء(232/7)
الحروب ليست بالدعوة التي تقاوم مجرى الطبيعة أو تعارض تيار السفن التاريخية، وانه من الجائز أن يشيع السلام في وقت من الاوقات، وبخاصة في العصور المقبلة القريبة بعدما استفحل خطر الحرب وتعذرت النجاة منه على المسالمين في البيوت والمقاتلين في خطوط النار.
واستطرد الكاتب إلى إجمال أسباب الحرب فقال ما خلاصته أنها أسباب نفسية قبل أن تكون اقتصادية أو سياسية كما يزعم الاشتراكيون ورجال السياسة، وان كان هذا لا يمنع أن لها أسباباً اقتصادية تعالج بترياق غير ترياق الدماء.
فمن أسباب الحرب الخوف، فهو يدفع إلى الاستعداد، والاستعداد يضطر الأمم إلى الحرب، لأنه يهيئ الأذهان لها بكثرة التوقع والشك في إمكان اجتنابها، وأحرى أن يكون ذلك في العصور الحديثة والبلاد المتحضرة، حيث اصبح السلاح عرضة للتغير والبلى بعد قليل من سنوات، فمن العسير أن تنفق الدول الملايين ثم تلقى بها في التراب.
ومن أسبابها شيوع الملل في الحضارة إذ يشيع الكفر بالأمثلة العليا فتعود الحياة عبثاً ثقيلاً لا غرض له ولا وجهة ولا متعة فيها أمتع من الإهاجة واستفزاز الشعور، والحرب تهيج النفوس فتدفع الملل والسآمة وتقل حوادث الانتحار كما ثبت من إحصاءات علماء النفس وفي طليعتهم دركيم وهلباش.
ومن أسباب الحرب الحرب نفسها حين تهجم أمة على أمة أخرى لانتزاع موقع لازم للتحصين ودرء المخاوف واتقاء الهجوم
ومن أسبابها المجد الكاذب وطغيان الأقوياء وتحويل أنظار الشعوب في الأزمات إلى ما يشغلها عن الثورة والانتقاض
ومن أسبابها التربية القائمة على الإفراط في اتباع النظام فان الإفراط في النظام ينشئ (العقلية العسكرية) ويجني على استقلال الأفراد، فتسهل قيادتهم إلى ما يريده القابضون على أعنة الأمور. ولو تربى الأطفال مستقلين لما استطاع القادة سوقهم إلى المجازر كما تساق الأنعام.
أما الأسباب الاقتصادية والسياسية فهي دون ما تقدم في القوة وصعوبة العلاج، وسنعود إليها والى مناقشة آراء الكاتب في غير هذا المقال(232/8)
على أن الرأي الذي نود أن نختم به مقالنا هذا هو إصرار هكسلي على السخر بكل ما يقال عن الحروب التي تختم الحروب
فعنده أن التاريخ الإنساني ليس (كرة أرضية) يخرج فيها الإنسان إلى اليابان فيلقى نفسه في أقصى المغرب من طريق الشرق البعيد
إنما التاريخ الإنساني خط مستقيم، فإذا أردت أن تتقدم فيه إلى إلغاء الحرب فلن تصل إلى وجهتك بالرجوع إلى الوراء
عباس محمود العقاد(232/9)
القلب الغريب
في ليلة عيد
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات
هل تذكر ما حدثتني به منذ سنين؟ هل تذكر انك تشهيت مرة أن توجه إليّ خطاباً على صفحات البلاغ عنوانه (من غريب إلى غريب) وكنت الغريب في بغداد وكنت الغريب في باريس؟
ولم تحدثني عما أوحي إليك أن تفكر في إنشاء ذلك الخطاب، فهل أستطيع أن ارجح أن ذلك كان بعد أن نشرت أنا رسالة (من غربة إلى غربة بين القاهرة وباريس) تلك الرسالة التي فضحت بها مكتوم صدري ومكنون هواي؟
على أنني لن اكتب مثل تلك الرسالة مرة ثانية فقد انتهى عهد الغربة بالقاهرة، وقضى الحب أن اشهد كيف تنهمر دموع الملاح يوم رحيلي إلى العراق
انتهى عهد الغربة بالقاهرة، وحل عهد الاغتراب عن القاهرة، فمن يردني إليها ليلة أو ليلتين لأقضي حق التحية، تحية المغاني الآهلة التي كانت تتشوق إلى العيد، لتراني مع العيد!
ليتك يا صديقي تعرف نعمة الله عليك في بلد لك فيه أهل وأحباب، ولا أراك الله حسرتي وعذابي وأنا أتجرع كأس الغربة في ليلة عيد!
ولكن هل من السياسة أن أعلن غربتي في بغداد، وقد لقيت فيها أهلاً بأهل وجيراناً بجيران؟
إن قيل ذلك فأنا أعلن إني لا أعاني غربة العقل وإنما أعاني غربة القلب
وكيف أعاني غربة العقل ومحاضراتي يشهدها المئات من عشاق العلم والبيان، ولا أخطو خطوة إلا وأنا محوط بالعطف والإعجاب، ولا ادخل نادياً إلا تلقاني أهله وسامروه بالترحيب والتبجيل؟
ولكن هل يكتفي مثلي بحياة العقل؟ يا ضيعة العمر إن كتب علينا ألا نظفر بغير الثناء من عقلاء الرجال! وما أضيق العيش إن كانت لا تلمع بروقه إلا من صرير القلم وسواد(232/10)
المداد!
إن الحياة العلمية ليست إلا خدعة يتلهى بها أرباب القلوب. وهل يخفي عليك ما يعانيه رجل مثلي حين يعود وحيداً إلى منزله بلا أنيس ولا رفيق؟ هل يعزيه حينذاك أن يتذكر انه كان منذ لحظات يعاقر الفكر والرأي وهو يلقي محاضرته على جمهور من العلماء والأدباء؟
ليتك تراني وأنا ادخل إلى غرفتي شارد اللب فأزيح الستائر عن النوافذ ثم أطفئ المصباح لأقف وجهاً إلى وجه مع ظلام بغداد. ويا رحمة الله من ظلام بغداد في لياليها الطوال!
ولكن ما الذي يدعوني إلى معانقة الظلام في بغداد؟ لا اعرف ولكن يخيل أليّ أن الظلام يؤنسني بعض الإيناس، لأنه يوهمني أني في فترة من الزمن تأنس فيها القلوب بالقلوب، وتسكن الأرواح إلى الأرواح. وربما كان الظلام في غرفتي فرصة طيبة أتبين فيها بصيص النور في منزل قريب أو بعيد فأتمثل أخيلة النجوى والعتاب، وأتوهم ضجيج المرح في ليالي الوصال
أما بعد فهذا غروب اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان وهذا مكاني على المائدة في المطعم الذي تخيرته بشارع الرشيد، وهذه أطياف ترد على القلب، من أحباب القلب، أطياف من مصر الجديدة والزمالك، تلك البقاع التي لم تر فيها النجوم قلباً مثل قلبي، ولم تسدل ستائرها على هوى اعنف من هواي. . . وليقل من شاء ما شاء!
واسأل جاري على المائدة: هل ثبتت الرؤيا؟
فيجيب: سنعرف ذلك بعد ساعة أو ساعتين
وأخرج فأتصفح الوجوه في شارع الرشيد بلا نفع ولا عناء، ثم أميل على الشرطي أسأله:
هل ثبتت الرؤيا؟
فيجيب: لم تثبت، ولكن المحكمة تنتظر برقية من النجف
فأدمدم: برقية من النجف؟ وهل يسر من في النجف أن يفطر من في بغداد؟ إن كان الأمر لعلماء النجف فسيضيفون إلى الصوم يومين، ولولا أن يفضحهم الهلال لزادوا الصوم أسبوعين
واذهب إلى نادي المعارف لأسمر لحظات مع الزملاء من المدرسين فيفرحون بلقائي(232/11)
ويسألون: كيف غبت امس؟ فأجيب: غبت أمس لأحضر اليوم. ولكن حدثوني هل عندكم أخبار عن الهلال؟ فيجيبون: سنعرف ذلك بعد الساعة العاشرة. فأقول: والشمس تغرب في الخامسة فهل يمكن أن يكون بين الخامسة والعاشرة مجال لرؤية الهلال؟
وبعد لحظة تحول إبرة المذياع إلى مصر فاسمع فتاة تباغم المستمعين فتقول: سادتي وسيداتي، وهذا آخر العهد برمضان! فأقول: يا إخواني، يا حضرات الأساتذة يا مسلمين يا أولاد الحلال، هذه في مصر ليلة العيد.
فيجيب أحدهم وهو يبتسم: علمت شيئاً وغابت عنك أشياء. ألم تعلم أننا صمنا يوم الجمعة، وصام المصريون يوم الخمس، فهم حتماً يسبقوننا إلى العيد؟
فأقول: من هنا تعلمون أن مصر تقدمت في كل شئ، فلها السبق في الصوم ولها السبق في العيد وانصرف محزون الفؤاد هذه غرفتي موحشة لا يؤنسني فيها غير أرواح الموتى من المؤلفين وسيكون الغد يوم عمل، لأن يوم الوقفة لا عطلة فيه في بغداد، وإذن فسأعطي غداً درساً في التفسير، وهو درس متعب لأنه في الكشاف، وفي آية يختلف فيها أهل السنة مع أئمة الاعتزال
وكيف اعد هذا الدرس، يا رباه وأنا اعرف أنها ليلة عيد في مصر الجديدة وفي الزمالك، ويا ويلتاه من لوعة القلب حين أتمثل مصر الجديدة والزمالك؛ وغضبة الله على من تمر بباله خاطرة ملام وأنا اردد أسماء تلك المغاني، حرسها الله وأدام لأهلها نضرة النعيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وانتم لا تشعرون)
قال جار الله الزمخشري. . .
هذه طلقة مدفع!
وقال ابن حجر في الرد عليه. . .
وهذه طلقة ثانية!
وكيف نوفق بين القولين؟
وهذه طلقة ثالثة!(232/12)
ولكن ما الساعة الآن؟
الساعة العاشرة! إذن ليست هذه مدافع السحور ولا مدافع الرفع، وإنما هي مدافع العيد
وأطفأت المصباح وتلفت إلى النافذة لأرى ظلام بغداد وقلت هذه ليلة عيد بالإجماع، فلأرح نفسي من الكشاف، ولجاجة صاحب الكشاف ولأقبل على قلبي أتبين ما فيه من فطور وندوب.
تذكرت أنني كنت اكتب رسالة وجدانية في كل ليلة عيد ثم انقطعت رسائلي بعد إذ مات أبي يرحمه الله، لأنني أنفت أن ابكي بعده على غرض مضيع أو هوى مفقود
ثم بدا لي في هذه الليلة أن أبي لا يسرة في قبره أن تعيش مهجتي بلا لوعة، ومقلتي بلا دمعة وكان يرحمه الله جذوةً من الوجدان
وعدت إلى الظلام استلهمه واستوحيه فلم أجد من أحاوره غير الرجل الحزين الذي اسمه احمد، احمد حسن الزيات
صديقي!
هل تذكر فكاهتك الطريفة إذ تحدث إخوانك انك عرفتني أول مرة عن طريق البوليس؟ هل تذكر أن البوليس دعاك مرة إلى زيارة المحافظ فتوجست خيفةً ثم رأيت أن الخطب هين لأنك دعيت لتتسلم رسالة من الشيخ زكي مبارك الذي اعتقلته السلطة العسكرية أيام الثورة المصرية؟
ألا فلتعلم أن الحظ قضى عليك إلا تتلقى مني رسالة إلا في ظروف تحيط بها شبهات، فان كانت الرسالة الأولى في عهد ثورة فهذه أيضاً في عهد ثورة، وربما كانت هذه اعنف وافظع لأنها تحدثك عن صديق حزين يناضل الأرق والسهاد في ليلة عيد
صديقي!
لا تعجب من رجل يضنيه الحزن والإبتئاس مع أنه ينهض بأثقل الأعباء، فدنيا القلب غير دنيا العقل والشواغل الجسام لا تلهي الرجل عما يساوره من لواذع الإحساس، وأنا رجل يؤمن بان القلب أدق ميزاناً من العقل وكيف لا يكون كذلك وهو يأخذ هدايته من الفطرة، على حين لا يهتدي العقل إلا بالبراهين، وهي في الأغلب تقوم على مقدمات لا تخلو من تضليل(232/13)
صديقي
هذه الساعة الأولى بعد منتصف الليل، وستقرأ هذه الرسالة فتذكر انك أرقت في ليلة العيد بلا سبب معروف فلتفهم حين تقرا هذه الرسالة أن ذلك الأرق إنما كان هدية أرسلها إليك الغريب في بغداد، الغريب الذي يوحي الحزن إلى أشقياء الغرباء
والآن أطفئ المصباح لأعانق الظلام في المدينة السحرية التي شقي بليالها ملايين الرجال فلا أرى غير بصيص ضئيل لمصباح أقامته الحكومة على شاطئ دجلة، فافهم أنني أخاطب الأموات لان مصابيح الحكومة لا تدل على شيء ولا يهتدي بها غير لصوص الجيوب
الآن تهدا بغداد بعد أن تسدل أستارها على الغافين من السعداء والبائسين، ويبقى المسهد الغريب الذي لا يعرف ربيع القلب، ولا نعيم الجفون
في هذه الليلة تهدأ جُنوب، وتقلق جنوب، وجنبي هو الجنب الحائر تحت سماء بغداد.
في هذه الليلة تتلفت عيون فلا تراني، عيون كنت لها أمتع من إغفاءة الفجر، وانضر من بياض الصباح في هذه الليلة تشتاقني أكبادٌ رقاقٌ علمتها كيف تطيب ليالي الأعياد
ولكن لا باس، فسنعيش حتى نرد ديون الهوى، وسيعلم من أبكاهم الفراق أن الدمع لا ينفع، وسنرجو إلا يسمحوا لنا بعد هذه المرة بالتعرف إلى محطة باب الحديد.
أخي الأستاذ الزيات
لا انتظر منك دمعة عند قراءة هذا الخطاب، ولكن لي إليك رجاء، فاحفظ عهد أخيك ولا تمش في شوارع القاهرة إلا مشية الخاشعين، فليس في تلك المدينة بقعة إلا ولي فيها صبوات، وليس فيها شارع ولا مشرب ولا ناد إلا ولي فيه أحباب وخلان
ولو شئت لكلفتك تبليغ التحية إلى أصفياء القلب في مصر الجديدة، وفي الزمالك، ولكن مثلك وا أسفاه لا يؤتمن على نقل التحية إلى أسراب الملاح، فلتكن (الرسالة) رسولي إلى من أذالوا غاليات الدموع يوم رحيلي إلى العراق والسلام عليهم وعليك من الغريب الحزين
زكي مبارك(232/14)
حرق الميت
العرب أول من أعلن (بقاء المادة)
لأستاذ جليل
وصى (مكدونالد) الإنجليزي الاسكتلندي من رؤساء الوزراء السابقين في بلاد البريطانيين قومه أن يحرقوه إذا هلك فاحرقوه في هذا اليوم. وحرق الميت طريقة هندية برهمية، وقد زينها (المعري) في (اللزوميات) للناس فقال الخبيث - جزاء الله جزاءه -:
فاعجب لتحريق أهل الهند ميتهم ... وذاك أروح من طول التباريح
إن حرقوه فما يخشون من ضبع ... تسري إليه ولا خفيٍ وتطريح
والنار أطيب من كافور ميتنا ... غبا وأَذهب للنكراء والريح
ومن اجل هذا وغيره اتهم الرجل بالتبرهم، ففي (لسان الميزان) لابن حجر: (من عجيب رأى أبي العلاء تركه كل مأكول ل لا تنبته الأرض شفقة على الحيوانات حتى نسب إلى التبرهم)
والبرهمي يتقرب بالحريق إلى الله. وقد يحرق بعضهم نفسه (جسمه) بنفسه وهو حي متفنناً في إحراقه، فقد قال (البديع) في إحدى رسائله:
(وربما عمد أحدهم - يعنى الهنود - فاتخذ لرأسه من الطين إكليلا، ثم قور قحفه فحشاه فتيلاً، ثم أضرم في الفتيل ناراً ولم يتأوه، والنار تحطمه عضواً فعضواً)
وغير البرهمي إنما يفر بالحرق من الله - وهل من الله (ياغر) مفر - ففي (الفائق) للزمخشري: (أن رجلاً رغسه الله مالاً وولداً حتى ذهب عصر وجاء عصر، فلما حضرته الوفاة قال: أي بني، أيَّ أب كنت لكم؟
قالوا: خير أب
قال: فهل انتم مطيعي؟
قالوا: نعم
قال: إذا مت فحرقوني حتى تدعوني فحما، ثم اهرسوني بالمهراس، ثم أذروني في البحر(232/15)
في يوم ريح، لعلي أضل الله
وهيهات أن يضل الله، أن يفوت الله هارب من عذابه (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون)
وهيهات أن يضمحل في الوجود شئ؛ إن (الكتاب) يقول: (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً، إن الله على كل شيء قدير) (يا بني إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) والعلم العربي قد أعلن (بقاء المادة) ونادى أن لا تلاشي للأشياء. قال عبد الحميد بن هبة الله في كتاب شرحه لنهج البلاغة: (إنا نرى الحيوانات الميتة إذا دفنت في الأرض تتقص أجسامها وكذلك الأشجار المدفونة في الأرض؛ على أن التحقيق أن المحترق بالنار والبالي بالتراب لم تعدم اجزاؤه، وإنما استحالت إلى صور أخرى)
ذلك قول الله، وقوله الحق. وهذا قول العلم العربي المثبت بالعلم الغربي فلن يضل الله محروق أو غريق أو مفرفر في الغيل مأكول، ولن يضيع في العالم ضائع ولن يعدم في الوجود كائن. إن الطبيعة خزانة الله حافظة أمينة (وكان الله بكل شيء محيطا)
(فويل للذين ظلموا من عذاب يوم اليم)
الإسكندرية
(* * *)(232/16)
فلسفة التربية كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 3 -
(خلق الله تعالى الإنسان وأودعه بذرة كماله المنشود، ثم
المنشود ثم تركه للمعلم ينمي فيه هذه البذرة حتى إذا ما اشتد
ساعده واصل تربية نفسه بنفسه محققاً إرادة السماء)
,
بينت في المقال السابق ما بين الفلسفة والتربية من علاقة، وذكرت فحوى فلسفة التربية الحديثة لدى جون ديوي ومدرسته وسأتناول في هذا المقال معنى التربية وضرورتها وقدرتها:
أما معناها فكان وما زال موضع خلاف في التصور والتعبير، فمثلاً دائرة معارف تقول: (إن كل شيء يعلم الإنسان وان التربية على الخصوص هي صب الأطفال في قالب خاص) (أنظر فصل كيف نتصور التربية) (التربية تطور متناسق للملكات يتفق وطبيعة العقل)؛ هذا بينما يقول بستالوتزي: (كل عمل المعلم هو أن يمنع ما يعرقل طبيعة الناشئ حتى تستطيع أن تنمو نمواً طبيعياً على مثال صورة الله تعالى)، وبينما يقول ديوي: (التربية هي الأسلوب الذي يصير المرء في امتلاك متواصل متزايد لنفسه ولقواه، بواسطة الاشتراك المتواصل المتزايد في أعمال الجنس)
هذا ويعلل لنا الأستاذ أمين مرسي قنديل عدم الاتفاق على تعريف جامع مانع للتربية بقوله: (التربية من حيث هي علم لم يستقر، بعد فهي لا تزال في دور التحول والتكوين) (انظر أصول التربية والتعليم ج 2ص35)
ومهما يكن من شيء فالأستاذ هورن التربية على نحوين: نحو عام هو تلك (العملية) الطويلة الهائلة التي يتعلم فيها الجنس البشري تحت رعاية ذلك (الروح الأبدي) المتجلي في الطبيعة والإنسان؛ ونحو خاص هو (عملية) المدرسة منذ روضة الأطفال إلى نهاية المدرسة العليا. ولذلك كانت دراسة التربية من حيث معناها العام دراسة للمدنية بأجمعها(232/17)
ودراستها من حيث معناها الخاص دراسة لتاريخها ومثلها الأعلى وفنها العملي وفلسفتها (انظر هذا عن معناها. وأما ضرورتها فها هو (هربارت) يقول: (إنها (أي التربية) مهمة دينية ورسالة مقدسة!) وهاهو (كانت) يزعم (أن الإنسان لا يصير إنساناً إلا بها)!! ولا شك إنا نستطيع أن نلمس ضرورتها في نواح عديدة أهمها الثلاث الآتية:
1 - الناحية النفسية
ذلك إنا إذا أخذنا طفل (الرجل المتمدن) وألقيناه في إحدى الغابات، وفرضنا أن الطبيعة سترعاه حتى يستطيع أن يطعم نفسه ويدافع عنها، لوجدنا أن نشأته بين الأشجار ستكون بدائية بحتة ترجع بالإنسانية آلاف السنين إلى الوراء
وكذلك قد لوحظ أن الطفل الاسكتلندي الأصل إذا ما انتقل إلى الوسط الفرنسي تغير كثيراً وأضحى غير زملائه في وسطه الأول
ومعنى هذا أن الوراثة الاجتماعية تعدل في الوراثة البيولوجية تعديلا خطيراً. ومادام الأمر كذلك فمجال (الإمكان) في التربية إذن فسيح، ومجال سلطانها على مستقبل الناشئ، بل والعالم كله، من حيث السعادة والشقاء، والتقدم والتأخر، إذن عظيم وخطير! يؤيد ذلك قول تورندايك في (إن التربية اعظم مساعد للناس جميعاً على تحقيق خيرهم المطلق) وقول الأستاذ آدم سمث في (إن الفرق في كثير من الأحيان بين الفيلسوف ورجل الشارع ناشئ في العادة من التربية اكثر مما هو ناشئ من الطبيعة)، وقول هيوم (هما المران والممارسة ينشئان العامل الماهر)
بل إن البعض ليذهب إلى اكثر من ذلك فهم يدعون أن علم الوراثة سيستطيع أن يقدم للتربية في الغد ما يمكنها من (خلق) العقل والجسم المنشودين!!
2 - الناحية الاجتماعية
والإنسان فضلا عما تقدم كائن اجتماعي. ولما كانت الحياة في ذاتها نمو وتطور وتجدد كانت التربية هي الأداة الفعالة التي يستطيع المجتمع أن يحفظ بها كيانه ويجدد نفسه. وكلما تعقدت أساليب الحياة في المجتمع احتيج إلى تربية نظامية دقيقة، والأفراد يموتون ولكن الجماعة تبقى!، والصغير محتاج - كما يواصل حياة الجماعة فيما بعد - إلى أن يأخذ من(232/18)
الكبير الذي سيموت تاركاً له التراث الأكبر!، فيجب إذن (ترقيع) الجماعة دائما! وإلا فلا يجد الصغير درعاً يساعده على البقاء! ومعنى هذا أن التربية في الجماعات المتمدنة قد أصبحت تقوم مقام الصلاحية للبقاء في الحيوانات والجماعات المتوحشة!
زد على هذا أن الجماعة لكيما تكون وحدة ناجحة سليمة يجب أن تتحد في المطامح والعقائد والفهم العام. وليس كالتربية وسيلة لتحقيق مثل تلك الوحدة الناجحة. ذلك أنها ترتب الميول المراد تنميتها وتساعد عملية النمو؛ كما أنها تطهر وترفع مستوى العادات الاجتماعية القائمة؛ وتوجد بيئة متوازنة، هي المدرسة، تعد الطفل لمواجهة البيئة الكبرى. . .
3 - ناحية النمو
ويقول السير جون آدمز إن اغلب تعاريف التربية تحوي معنى النمو. فكومنيوس وبستالوتزي مثلاً يتفقان في أن العقل كالبذرة ينمو من الداخل. والحق أن الحياة في الفرد وفي المجتمع وفي تاريخ الكائنات جميعاً ليست إلا عملية نمو هائلة متسلسلة ينطق بها لسان التطور؛ ويحتاج النمو الصالح إلى مرونة تجدها التربية في الطفولة والشباب. وبهذه المرونة نتعلم من التجربة ونكتسب العادات الآلية التي تضمن لنا السيطرة على الطبيعة، وحسن التكيف في الموقف الجديد، والاختراع والابتكار والخلق والإبداع
وما دام الأمر أمر نمو فان المدرسة الحديثة تعارض فكرة الأعداد (للغد فحسب) كل المعارضة حتى لا تصرف المتعلم عن فرصة الحياة الحاضرة بما فيها من ميزات
يقول (ديوي) في (المدرسة والاجتماع ترجمة الأستاذ قندلفت): (لا يتاح لأمة أن تفي حق الأمانة لنفسها إلا بان تكون أمينة على إنماء أفرادها التي تتألف منها. ولا عامل كالمدرسة ينيلها ما تريد)
بقي بعد ذلك أن نتكلم عن قدرة التربية كما أشرنا إلى ذلك من قبل. والحق أننا نستطيع أن نتحدث هنا دون أي حرج. وها هو ذا إرازمس , يقول انه لو سيطر على التربية بضع سنوات لغير الدنيا. وبسمارك يردد: (إن من يدير المدرسة يوجه مستقبل الأمة. . .) وقديماً حاول أفلاطون أن يخلق المدينة السعيدة الفاضلة بالتربية. وحديثاً يسود الإنجليز ويستمدون عظمتهم من تربيتهم لا من جيوشهم وأساطيلهم.
وأخيراً إذا كان العالم يسير اليوم متشائماً نحو الحرب والدمار فلأنه قد نشأ نفسه وا أسفاه(232/19)
على أساس من تربية فلسفتها البقاء للأصلح، وقوامها الوطنية الكليلة والقومية الحمقاء!!!؟
لذلك كله يرجو دعاة السلام والإصلاح من التربية خيراً جزيلاً؛ ويحاولون جهدهم أن يستغلوا (إمكانات) علم النفس في تعديل الغرائز وتهذيبها والتسامي بها أيما استغلال، ولكنهم يشعرون - واشعر معهم - انهم لا يزالون بعد في حاجة قصوى إلى إقناع الساسة والشعوب بفلسفتهم الجديدة القائمة على أن العالم هو الوطن الأكبر، وعلى أن الإنسانية في التعاون والتعاضد والبناء والتشييد، لا في التنابذ والتحاسد والتخريب والتدمير. .!!
فهل يستطيعون لهذا الإقناع سبيلا وأبواق الحرب تهرف في كل مكان بدعاية مجنونة، ورجال السلاح ينفثون سمومهم وأحقادهم ومطامعهم في نفوس بريئة لا تملك النقد ولا تعرفه؟؟
وكيف السبيل لذلك الإقناع ورجال الحرب يسيطرون على الحكومات ويوجهون برامج التعليم إلى حيث تتحقق فلسفتهم الجوفاء؟؟
ومصر في عصرها الديمقراطي المستقل الراهن أترى للتربية فيها فلسفة ناضجة؟؟ وإذا كان لها فلسفة ما: أفلا تتطلب هذه الفلسفة تعديلا يلتئم وحاجات العصر الجديد من ناحية، ويتمشى وحقائق علوم التربية الحديثة من ناحية أخرى؟؟
ذلك ما أدعوك للتفكير فيه أيها القارئ العزيز على ضوء الحقائق التي ذكرتها وساذكرها؛ وما اعدك بتناوله بعد الفراغ من هذا الموضوع
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية(232/20)
مجادلة طريفة واقعة حول
معجزات الإسلام
للأستاذ خليل جمعة الطوال
هل تطلبون من المختار معجزة ... يكفيه شعب من الأحداث أحياه
وكيف ساس رعاة الإبل مملكة ... ما ساسها قيصر من قبل أو شاه
(غنيم)
استويت إلى مكتبي المتواضع، وفي النية أن اكتب فصلا (للرسالة الغراء) عن نخاسة الأعراض وتجارة الزواج في شرق الأردن؛ وفيما أنا أفكر في عناصر الموضوع وطريقة الدخول إليه واستجمع له الخواطر الشاردة، والأفكار الطافية فوق هموم العيش والإفلاس، إذ بطارق يقرع على الباب ثلاث قرعات متوالية، ثم يقتحم الغرفة بدون استئذان ويجلس بالقرب مني على مقعد خشبي قديم أشبه ما يكون بمقاعد مقهى العتالين في باب العامود. وكانت بادرة الفكر أن أحوله عن هذا المقعد الوضيع الذي لا يتفق ومكانة الزوار، ولكنه تشدد عليّ وأبى إلا أن يلازم مكانه الذي ظل جالساً فيه وكأنما يستجمع قواه ليقفز
كان طوالاً أجناً، ياسر الوجه، أترم الثنية اليسرى، متغطرفاً وعواعاً، قد تفشغ الشيب في لمته وذقنه الحليق، توضحته فتبينت في أسارير وجهه قصة طويلة، إلا أنها خفية المعنى، عديمة الإبانة، غامضة الإشارة فألقيت عليه تحية المساء ثم سكت عله يبدأ الحديث ولكنه ظل مبرطما، ينكث السجادة بعصاه دون أن ينبس ببنت شفة فتنهمت كعادتي؛ فحدجني بنظرة شزرة حسبت فيها سخط الإنس والجن ثم اخذ يتثاءب ويتمطى فكأنما كان يحمل حملاً ثقيلاً أزيح عنه بالتثاؤب، إذ انبسطت أسارير وجهه، وزال برطامه، ولكنه ظل مع ذلك مطرقاً لا يتكلم فاستثقلت جلسته - كما قد يستثقل القارئ هذا الحديث - وقلت لنفسي لا بد من أن استدرجه إلى الحديث وإلا فهذا المجلس المكروه إن طال سيضيق عطني ويستفز كامن عصبيتي، فاهتبلت فرصة تثاؤبه وابتدرته بالحديث قائلاً:
- الحمد لله على سلامة الشيخ
- وهل يعرف المتعلم رباً فيحمده؟. . . أنت ملحد. . . كافر. . . درزي لا دين لك(232/21)
- (فتذكرت الحكمة القائلة: داروا سفهاءكم) درزي. . .! أليس للدرزي دين. . .! يا شيخ كيف تتهمني بالكفر؟
- كيف أكفرك. . .! ألست مسيحياً أباً عن جد؟
- بلا! وليت ذلك لم يكن؛ إذن لكنت حراً في نوع صوفيتي مع الله؟ وفي تكوين عقيدتي بالله. . .!
- أفلا تعتقد بقول المسيح: من ليس معي فهو علي؛ وبقوله يخاطب الكهنة: من سمع منكم فقد سمع مني، ومن احتقركم فقد احتقرني؟ ثم الست الزاعم بان الإكليروس هم انكشارية الدين المأجورون؟ وذلك نصرة لبدعة فاسدة ادعاها رجل كاذب يدعى محمد. قل لي هل يستوي النور والظلام؟
- لا. لا يستويان
- فكيف إذن تجمع بين المسيح - الذي هو طريق الحق والحياة - ومحمد؟ وكيف تدافع عن محمد وأنت من جند المسيح؟
- يا سيدي!. . . قل لي أمن الإيمان أن نمتهن بقية العقائد؟. . . ثم ما رأيك في الشريعة الموسوية؟. . أليست - في حكمك - شريعة كاذبة لأنها ليست من تشريع المسيح؟. . وهل كان الرسل لينسخ اللاحق منهم شريعة السابق أم ليكملها؟ وهل فاتك قول المسيح ما جئت لأنقض بل لأتمم؟. . فموسى ومحمد إذن حكمهما من حيث الصدق والكذب واحد
- حاشا! حاشا أن اعتقد ذلك فشتان بين موسى كليم الله الذي أنقذ أمته وجعل العصا في يد فرعون حية، وأخرج من الصخر الأصم مياهاً نقية، وبين محمد - نبيك - الذي لم تؤثر عنه مكرمة، ولا سمعت له معجزة
- وأية مكرمة افضل من إخراج محمد قومه من حظيرة الشرك إلى حظيرة التوحيد؟
- ليته لم يفعل ذلك. إذن لسهل على المسيحية أن ترد هذه الخراف الضالة إلى قطيعها
- ولم تردها الآن مادامت ضالة عن القطيع!. . .
- هيهات ذلك، هيهات أن يفلت الحمل من مخلب الذئب
- بل هيهات أن يسلم الذئب من رصاصة الراعي وعصاه، وان يصل الباطل إلى قمة الحق وذراها. والآن دعنا نحسم هذا الجدل العنيف، وقل لي ما الذي تشترطه على محمد(232/22)
لتتم له النبوة؟
- الأمر واضح فلا نبوة بغير معجزة
- وأنا معك في ذلك، وإلا لادعى النبوة كل مشعوذ، ولصار الناس جميعهم أنبياء. والآن أعرني سمعك لأبين لك معجزة الإسلام
لقد كان العرب في جاهليتهم يعبدون إما الأصنام التي كانوا يقيمونها من بعض الحجارة والمعادن، وإما بعض مظاهر الطبيعة المتعددة كالشمس والهواء والبحر والسماء، ولكن العربي المتبدي لم يكن يقدم لآلهته هذه التي راح يلتجئ إليها كلما حز به أمر أو داهمه خطر الذبائح والقرابين، ولا كان يقيم لها الشعائر الدينية والمراسيم، كما كان يفعل الآشوريون والفينيقيون ومن إليهم، بل لم يكن يتحرج عن إهانتها وتحطيمها ولا سيما إذا استقسم عندها بأقداحه فخرج منها ما يكره - كما فعل امرؤ القيس بن حجر الكندي - ذلك لان العربي في الجاهلية كان قلما يهتم بما وراء الطبيعة
ولقد تسربت إليهودية والمسيحية إلى جزيرة العرب فارتدتا عنها بالإخفاق والفشل ذلك لان أحلام الأولى وأمالها، وأسرار الثانية ومعمياتها؛ فمن إله متأنس، إلى رب مصلوب إلى أقانيم ثلاثة بجوهر واحد إلى استحالة الخبز والخمر إلى جسد ودم؛ كانت جميعها مما ينفر منها الطبع البدوي الساذج، أما الإسلام وإن اصطدم بالعنجهية العربية، وتصارع مع وثنية البادية حيناً من الدهر، فإنه تمكن أخيراً من أن يظهر عليهما بالنصر، ذلك لأنه دين يتساوق مع العقل والقلب، يسوي بين الدين والدنيا، ويجعل الفقير بذمة الثري، فهو في حقيقته مجموعة قواعد خلقية سامية، ومبادئ اجتماعية مثلى، وهل الدين في حقيقته إلا إصلاح النفس ولأخلاق في الفرد، وإقامة الفضيلة واجتثاث السوءات في المجتمع؟
ولئن كان معجزة موسى أن حول العصا أمام فرعون حية، لقد كانت معجزة الإسلام ابلغ منها، ذلك لأنه حول مادية النفسية البدوية الضارية التي طبعت على حب الغزو والنهب، وعلى استباحة المنكرات إلى شعلة روحية تشع في أرجاء الكون بنور المبادئ العالية، والفضائل السامية.
ولم نذهب بعيداً في الاستدلال؟ وهذا البدوي الجلف الذي كان بالأمس ينفر من ظل الدين، ويستحل جميع أنواع المنكرات، ولا يتحرج من سفك الدماء البريئة باسم مجد القبيلة(232/23)
وجاهها، تثخنه اليوم باسم الدين والتوحيد أسنة المشركين في أُحد جراحاً ما زالت تثعب دماً، وتمزق إهابه نبال الفرس في القادسية وقسي الروم في اليرموك، فيستقبلها بصدر عامر بالإيمان، ويستمرئ آلامها غير جزع ولا هياب، ذلك لان معجزة الإسلام أخرجت نفسه من حدود هذا العالم المادي الضيق الذي يتعين بجهات الأرض الأربع، إلى عالم روحي فسيح يتعين بعقيدة التوحيد، وبحدودها الأربعة: التي هي: التقوى في الدين، والحرية، والإخاء، والمساواة في الدنيا.
ولئن كان فتى الجزيرة قبل الإسلام راعي ابل وغنم، تختلف عنقه بين نيري الفرس والروم وتصعر خده أيدي الغزاة الطامعين من بقية الشعوب، فأنه اليوم بفضل المعجزة الكبرى التي تزحزح لإشراقها أس الإيوان، وانصهر من حرارتها التاج والصولجان، قد فتح ثلثي الكرة الأرضية في اقل من ثلثي قرن. فهذا خالد بن الوليد الذي لم ينهزم قط في حياته يفتح دمشق وهذا عمرو بن العاص يوغل في الديار المصرية، وهذا طارق بن زياد يعبر المضيق الذي لا يزال يحمل اسمه حتى اليوم، يريد أن ينفذ من الشطوط الإسبانية إلى سفوح جبال البرينية ثم إلى غسقونيا وبوردو. وهذا موسى بن نصير يسرح بخيول مضر وعدنان في شرق الأندلس وغربها؛ في قرطبة وطليطلة، وأشبيلة، وقادس، وغرناطة، وغيرها
ثم انظر إلى هذا الفتى الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من العمر بعد، كيف اخترق السند وظل ممعنا بفتوحاته، حتى ادخل الهند ضمن الإمبراطورية الإسلامية. أليس بفضل معجزات الإسلام يربط هذا الفتى (تورس) غرب باريس ببحر الهند على ما بينها من الشقة الواسعة والمسافة النائية؟
أفلا يعد معجزة في الإسلام أن يضاهي عصر المأمون في بغداد عصر بركليس في اثينة، وعصر الناصر في الأندلس عصر أغسطس في رومية؟ ونحن الذين كنا بالأمس نرعى الإبل والشاء ونأكل الضباب والعظاة.
انظر إلى ما يقوله فينا (غوستاف لوبون) في كتابه (زعم المؤرخون أن التأثيرات العلمية والأخلاقية العجيبة التي أثرها المسلمون في العالم كان بفضل مادياتهم، ولكن لا يصح اليوم أن نجهل أن هذه المؤثرات قد دامت في مجراها حتى بعد أن أضاع المسلمون(232/24)
مادياتهم ونفوذهم السياسي، فإن المسلمين في الصين يزيدون على عشرين مليوناً، وفي الهند على خمسين، ولا يزال هذا العدد في نمو وإن المسلمين بعد الرومان هم الأمة الممدنة الوحيدة التي نجحت في نقل تهذيبها الاجتماعي ودينها وأوضاعها وعلومها إلى العناصر المختلفة التي افتتحها وتسربت بينها. هذا التأثيرات لا تضمحل بل على العكس نراها آخذة في النمو، تتعدى الحدود التي بلغتها في أيام القوة المادية. إن القرآن وما اشتق منه هو إلى الفطرة بحيث يلتئم مع حاجات الناس الأولية، حتى أن قبوله آخذ حكمه على مر الدهور لا يعوقه عائق؛ وحيث ينزل المسلمون ولو كانوا تجاراً سذجاً تتدخل أوضاعهم ومعتقداتهم وكلما توغل الرواد من أهل المدينة الحديثة في صميم أفريقية شاهدوا قبائل تنتحل الإسلام. والمسلمون الآن يمدنون قبائل أفريقية على نحو ما يستطيعون ويجاهدون في تلك القارة الغربية على حين يطوف الأوربيون في الشرق فاتحين كانوا أو متجرين ولا يتركون وراءهم أثراً لنفوذ أدبي أفبعد هذه الشهادة تطلب من الإسلام معجزة وله في سجل التاريخ مثل هذه الصفحة الرائعة المجيدة؟
(شرق الأردن)
خليل جمعة الطوال(232/25)
أثر حروب محمد علي في الأدبي الألماني والفرنسي
للأديب السوداني المبارك إبراهيم
لم يكد يتولى محمد علي الكبير حكم القطر المصري باسم الدولة العلية، في أوائل القرن التاسع عشر، حتى بات يتحين الفرص لبسط ظله على الأقطار المجاورة. ففي عام 1818 م انتصر على الوهابيين في الأراضي الحجازية. وفي عام 1821 م وحد بين شطري وادي النيل بضم السودان لمصر، وفي عام 1832 م كانت بلاد الشام تدين بالطاعة والولاء لمحمد علي
وعندما توترت العلاقات بينه وبين حكومة الباب العالي سير جيوشه ليغزو تركيا ويخضعها لسلطانه، بدلا من أن يظل هو خاضعا لسلطانها! ففي ديسمبر 1832 هزمت الجيوش المصرية الجيوش التركية هزيمة منكرة، وباتت على مسير بضعة أيام من استامبول عاصمة سلاطين آل عثمان!
لقد كان طموح محمد علي إلى السيطرة والحكم لا يقف عند حد، إذ كان يتوق إلى إنشاء إمبراطورية مصرية مترامية الأطراف لا تغيب عنها الشمس! على أن هذا التوسع الاستعماري من جانب محمد علي لم يرق الأسد البريطاني، فوقف في طريق محمد علي يزمجر غاضباً ويكشر عن أنيابه ويلوح بذيله! وتحت ضغط الظروف القاهرة اضطرت جيوش محمد أن تنسحب من الأراضي التركية قبل أن يهاجمها هذا الليث الإنجليزي الهصور، وغيره من دول أوروبا التي لا يرضيها تقدم الحكام الشرقيين في الميادين السياسية والحربية، وبهذا التدخل من قبل الدول الأوربية بات الرجل المريض (تركيا) في مأمن من مداهمة محمد علي له والإجهاز عليه لان هذه الدول الأوربية كانت تطمح في الاستيلاء على تركة الرجل المريض (الأراضي التركية) واقتسامها فيما بينها. وقد وضعت هذا الدول أيديها فعلا على معظم هذه الأملاك التركية
وفي عام 1840 م ابرم الأسد البريطاني والدب الروسي، والنسر البروسي، اتفاقية سياسية تدعى اتفاقية لندن، فكان فيها القضاء المبرم على الإمبراطورية المصرية التي كان يحلم بإنشائها ذلك الحاكم الشرقي العصامي العظيم محمد علي. إذ قسرته هذا الاتفاقية التي تآمرت فيها هذه الدول عليه أن يتخلى عن الولايات التركية التي استولى عليها بحد السيف(232/26)
في بلاد الشام وشبه جزيرة العرب
هذا، ولما كانت فرنسا صديقة لمحمد علي، تقف إلى جانبه وتشد أزره، فقد سلبتها هذه الاتفاقية هي أيضا حقها في الشاطئ الأيسر من نهر الرين، ومنحته لألمانيا فعسكرت فيه بعض كتائبها
ومن جراء هذه الاتفاقية التي أضاعت جزءا من أملاك فرنسا تحمس الرأي السياسي العام في باريس، حتى أن الملك لويس فيليب نفسه صرح بأنه مضطر إلى لبس القبعة الحمراء، وأن ينزع عن النمر كمامته. وهو يعني بذلك المناداة بالثورة الحربية في وجه ألمانيا
وبعد هذا التمهيد نقول: إن هذه الأزمة السياسية الدولية التي سببتها حروب محمد علي قد دعت إلى صراع أدبي عنيف بين أدباء ألمانيا وفرنسا ترك أثراً حياً في الشعر الألماني والفرنسي
قالوا إن الشاعر الألماني بيكر كان جالساً ذات يوم مع أصدقاء له في إحدى الحانات، يشرب الجعة ويطالع الصحف السياسية الواردة من فرنسا. وبعد أن رجع الشاعر إلى داره نظم وهو تحت تأثير نشوة الخمر وحماسة السياسة، قصيدته (أنشودة الرين) فما كادت تنشر حتى لحنت وراح يترنم بها الألمان في غدواتهم وروحاتهم
والقصيدة هي:
لم ينالوا الرين ذلك النهر الألماني الحر
وإن كانوا يطلبونه بنعيبهم كالغربان الجشعة!
لن ينالوه ما دام يترقرق ساكنا في ثوبه الأخضر!
وما دام هناك مجداف يضرب في مياهه!
وما دامت الصخور قائمة وسط مجراه!
وما دامت الكاتدرائيات الشاهقة تعكس خيالها في مرآته!
لن ينالوا الرين ذلك النهر الألماني الحر
لن ينالوه ما دام الفتيان الحديدو القلوب يغازلون الفتيات الممشوقات القوام!
وما دامت هناك سمكة تسبح في أعماقه!
وما دام على شفاء المنشدين أنشودة تردد!(232/27)
لن ينالوا الرين ذلك النهر الألماني الحر
لن ينالوه حتى تدفن عظام آخر رجل في طيات أمواجه!
ولما ذاق الشاعر الألماني بيكر حلاوت الشهرة عقب ذيوع هذه الأنشودة بعث بنسخة منها إلى شاعر فرنسا الكبير: لامارتين، وكان ذلك منه على سبيل الأدب والتحدي معاً!
غير أن لامارتين كان داعية سلم ووئام ولم يكن في يوم من الأيام بوقاً للحرب والخصام؛ وكان يقول: أنا ابن الإنسانية قبل أن أكون ابن فرنسا؛ ولتهلك أمتي إذا كان في هلاكها حياة الإنسانية
ولهذا جاءت قصيدته في الرد على الشاعر الألماني تفيض بروح المحبة والسلام وقد دعاها فعلاً: (مارسيليز السلام) ومنها:
يا نهر الرين يا نيل الغرب!
يا كأس تستقي منها الأمم!
سر حراً متكبراً في مجراك بين عرض شاطئيك!
واحمل في طياتك مطامع الشعوب الساكنة المرتوية من مائك الشيم!
لن يدنس بعد اليوم بلور مياهك دم الفرنسي الأحمر، ولا دم الجرماني الأزرق كما أن
البارود لن يقوض بعد اليوم الجسور الممتدة فوقك بين الشعبين كاليد الممتدة لمصافحة!
سر في مجراك يا نهر ولا تبال إذا كان الذين تحملهم أو ترويهم هم قاطني شاطئك
الشرقي أو الغربي. وطن كل إنسان هو الإقليم الذي يمتد إليه عقله، فأنا مواطن لكل إنسان يفكر، فالحقيقة هي بلادي!
النسر والثور يشربان من مياهك فليقترب إذن الإنسان وليشربا من مياهك!
وعندما نشر رد لامارتين هذا على أنشودة الشاعر الألماني قابله الشعب الفرنسي بشيء من الفتور عظيم وذلك لخلوه التام من الروح الحربي والحاسة الوطنية، حتى أن فريقاً من النقاد اتهم لامارتين ظلماً بعدم الإخلاص للوطن في حين أن الشاعر معروف بوطنيته الصادقة، ولكنه كان يمقت الدعاية للحرب وإراقة الدماء البريئة، وترميل النساء، وتيتيم الأطفال وتخريب المدن الجميلة العامرة
ولقد كانت الصالونات الأدبية في باريس في ذلك الأوان لا حديث لها إلا (أنشودة الرين)(232/28)
لبيكر، و (مارسيليز السلام) للامارتين
وكان صالون مدام جيرارون غاصاً ذات يوم برهط من أدباء فرنسا وعلى رأسهم الشاعر الشهير: الفرد دي موسيه، وكان الحديث يدور رد لامارتين، فأنبرت ربت الصالون تقول:
لا مشاحة في أن قصيدة لامارتين آية في البلاغة ولكنني كنت أوثر رداً اكثر إيلاماً منها، فأنا متطرفة في الوطنية، ولا تزال عقيدة الوطن راسخة في ذهني وكم كنت أود لو تصدى واحد من شعرائنا لذلك الشاعر الألماني المتحمس، فكال له الصاع صاعين! فقال لها الفرد دي موسيه: وأنا على رأيك يا سيدتي. وهنا صاح به الحاضرون: عليك بالرد إذن. . . عليك بالرد، وقد أحاطوا به ملحين. ثم اقتادوه إلى حديقة لدار، وأوصدوا باب الصالون دونه، بعد أن زوده بالورق والقلم، ولفافتين من التبغ! ولم يمص إلا وقت وجيز حتى أتوا إليه فوجدوه قد احرق اللفافتين ونظم القصيدة التالية في الرد على نشيد الرين وهي: -
قد نلنا الرين نهركم الألماني!
وقد وسعه جام من جاماتنا!
فهل لأنشودة يسير بها القوم هازجين أن تمحو الأثر العظيم الذي تركته حوافر جيادنا
المصبوغة بنجيع دمائكم؟!
قد نلنا الرين نهركم الألماني!
فان في أحشائه جرح يسيل دامياً من عهد ما مزق (كونديه) القائد الفرنسي الظافر ثوبه
الأخضر!
ولا شك في أن الأبناء لمارون حيث مر الآباء!
قد نلنا الرين نهركم الألماني!
أين كانت فضائلكم الجرمانية يوم كان بابليون القدير يبسط ظل سلطانه على سهولكم؟!
وأين وقع آخر عظم من عظام رجالكم؟!
قد نلنا الرين نهركم الألماني!
فان كنتم نسيتم تاريخكم، فإن بناتكم اكثر احتفاظا بذكرانا منكم، فقد صببنا في كؤوسنا
نبيذكم الأبيض!
قد نلنا الرين نهركم الألماني!(232/29)
وإذا كان الرين لكم فاغسلوا فيه ثيابكم
وإذا ما تكلمتم عنه فاخفضوا الصوت، فكم كنتم من غربان في اليوم العصيب حول النسر
المحتضر: بابليون
فليتدفق نهركم الألماني بسلام
ولتنعكس خور كاتدرائياتكم الغوطية في مياهه!
ولكن أحذروا، فإن أناشيدكم الخمرية قد توقظ الأموات من رقادها الدموي!
فما كاد موسيه ينتهي من إنشاد قصيدته النارية على السامعين حتى دوى المكان بالتصفيق وتعالى هتاف الاستحسان والتقريظ
وعندما تلقت القصيدة الصحف الفرنسية نشرتها في أمكنه بارزة، مشفوعة بالتهليل والتكبير
وقد ازداد بسببها هياج الرأي العام في فرنسا وألمانيا
وكان من الضباط الألمان من أرسلوا إلى الشاعر الفرنسي دي موسيه رسائل يدعونه فيها للمبارزة!
ولكن دي موسيه أجاب: إذا لم يكن من المبارزة بد، فهو لا يبارز إلا رصيفه الشاعر الألماني بيكر. ولكن بيكر لم يلبي الدعوة
ويقال أن هذا الصراع الأدبي بين شعراء فرنسا وألمانيا في عام 1840 م كان من ضمن الشرر الذي أشعل نار الحرب بين الشعبين بعد مضي ثلاثين سنة، عام 1870م، وهي الحرب المعروفة في تاريخ أوربا بحرب السبعين.
أم درمان السودان
المبارك إبراهيم(232/30)
في وجه الثورة على الأخلاق
للأستاذ أمين الخولي
الأستاذ بكلية الآداب
يا صاحب الرسالة
أبلغت قراءك ثورة محمود على الأخلاق فتحدث إليه الأستاذ عزام، وسكت محمود حين امتلأ بطنه؛ لكن كان المجلس حافلا بغير محمود من رجال العلم والدين والأدب، فكانوا كلهم لمحمود وعلي عزام. . . وإما كان موضع الجدل أن الأخلاق الفاضلة لا تصلح أن تكون عدة النجاح أن لم تكن عدة الفشل. . . وإن هؤلاء الطيبين الأخيار الذين وصفهم الأستاذ عزام بالقناعة، وخصهم بالرضا، لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً ما من رجال المال والأعمال كصيدناوي والبدراوي وعبود
فل نسأل الثائرين عن هذا ثم ننتقل إلى غيره: لم لا تصلح الأخلاق الفاضلة أن تكون عدة النجاح؟ هل يتحدث الواقع الصحيح بهذا؟ لا اظن؛ بل اعتقد دائماً أن فشل الفاشلين لعجزهم أو ضعفهم أو نقصهم يعلل بالفضيلة والأخلاق وإلا فهل خرج إلى ميدان واحد من الحياة رجلان تساوى فهمهما لهذه الحياة، وتساوى تسلحهما لما يبغيان من غاية، وكان أحدهما نبيلا، والآخر فسيلا فنجح الثاني وسقط الأول، أو نجح الثاني اكثر من نجاح الأول بغير فارق إلا فضيلة الأول ورذيلة الثاني؟ لا أظن، فلو كانا في عمل حر ولهما هذا التساوي التام لأكد الواقع أن أي مجتمع مهما اشتد فساده سيجد في فضيلة الأول نوعاً من الدقة والثبات، وسبباً للطمأنينة إليه، ويدفعه كل أولئك إلى الإعجاب به وإيثار معاملته؛ بل لا شك في أن الثاني السافل لن ينجح إلا إذا اصطنع هذه الفضيلة وحقق آثارها بل ادعاها في غير مناسبة كما هو شان أعداء الفضيلة دائماً. ولو تخلفت هذه النتيجة فنجح النذل أو زاد نجاحه لغير فارق آخر بين الرجلين فما أظن هذا يكون إلا عن نسبة من الندرة تؤكد القاعدة ولا تهدمها؛ وأنا كفيل بان تجد دائماً في مثل هذه الحالة فارقاً في الكفاية والاستعداد واليقظة وما إلى ذلك
وإن ذهب وهم القارئ - كما ذهب وهم أصحاب هذه الثورة - إلى أن النذل سيصطنع بعد(232/31)
الكفاية والاستعداد أساليب منحطة لا يلوى عليها النبيل، فقد فاته أن يقظة النبيل تقضي عليه باحتياط نبيل لهذه الأساليب، وعمل على كشفها وفضحها، وإلا كان ناقص الاستعداد محدود الفهم لواقع الحياة ونذالة الأنذال، وعاد النقص على استعداده ولم يكن الذنب لفضيلته.
هذا حين يتحد الميدانان؛ لكن الثائرين سيقولون إن الميادين متعددة وسبيلها إلى الوصول مختلفة، وسيتخير النذل أقصرها وأسرعها فيصل في غير مشقة، على حين يكد الفاضل فيصل متأخراً ولا يصل إلا لبعض الشيء. فهب أحدهما اتجر في الغلال أو الأقطان لأنه فاضل، واتجر الثاني في المخدرات أو الرقيق الأبيض لأنه لا يبالي؛ حسن، سيربح الأول ربحاً يسيراً ثابتاً غير مهدد بالتضحية من اجل حمايته أو الوصول إليه لأنه اكشف الوجه واضح الطريق، ربحاً غير مهدد بالمطاردة، غير مهدد بالمخاطرة، غير مهدد بالمرض، وقصف العمر سريعاً؛ وسيربح الثاني ربحاً وافراً سريعاً يبذل غير القليل منه لحمايته أو الوصول إليه، ربحاً مهدداً بالخطر، مهدداً بقصر العمر اثر الجهد والاحتيال والمجازفة بل مهدداً بالموت السريع، والفضيحة العاجلة. . . إلى آخر مالا أزعج القارئ به من آفات تكفي ايسر نظرة متأنية لتبينها وتشهد بان لذة زوجة شريفة من زوجية غير سعيدة اكثر في مجموعها وأقوى في جملتها من لذة مومس هائلة، لا تزيد حياتها في ذلك على بضع سنوات حين تطول حياة الزوجة عقوداً بعد تلك السنين والعملية الحسابية المادية تحدث نتيجتها دائماً لو احسن حساب اللذائذ والآلام، والخسائر والمكاسب بان الفضيلة قد اختيرت لعائدتها فوق ما فيها من النبل، وان ليس الفشل لسبب خلقي بل لغيره دائماً
وهنالك الوظائف والدواوين لجريان الأمر فيها على الهوى واضطراب السياسة قد تظهر ميداناً غير خاضع لهذه القاعدة، ميداناً قد ترتفع فيه نسبة الشذوذ والتخلف لكن حتى هذا الميدان تنتهي فيه النظرة المتأنية إلى تلك النتيجة نفسها، فلو دخله موظفان قد تساويا في كل شيء، واختلفا في الخلقية لم يهن أن ينجح النذل لنذالته لا غير إلا حين يسلك طرائق يأباها الشريف فيتقدم هذا كلما اضطرب الميزان وضعف الرئيس، لكنه تقدم غير مطرد؛ انه تقدم مهدد بمثل ما يهدد تاجر المخدرات أو قريباً منه طفرة سريعة ونكسة غير بطيئة؛ ولا اقل مم ألم الخوف والفزع بعدم ثبات الحالة، وتغير السيد والرأس والناكسة والعجز عن(232/32)
دعوى الفضيلة والكرامة التي يحرص مثل هؤلاء على ادعائها. آلام تنتهي بها العملية الحسابية إلى قريب من نتيجتها المطردة؛ وفي الجانب الثاني لذائذ لا يرضى الشريف أن يدع مكانه مستبدلا بها آلام خصمه، ولو ساومته على ذلك لرفض. هذا إذا كان كل الفرق بينهما الأخلاق؛ أما إن وجدت شيئاً وراء ذلك كما هو الكثير الغالب، بل الذي يقع دائماً، من لباقة وحسن بيان، ومعرفة بالرغبات، ومرونة في العمل، وطلاقة وجه، وما إلى ذلك، فقد عادت اللائمة على وخامة الثاني ونقصه لا على أخلاقه، ولم تكن الأخلاق سبيلا إلى الفشل ولا عائقاً عن النجاح
أما دعوى الثورة أن الطيبين القانعين المخصوصين بالرضا لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً ما من رجال المال والأعمال كفلان وفلان فدعوى يقول الأستاذ الزيات على لسان أصحابها: ما معنى أن يظل التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل على إطلاقها فضائل؛ كما يقول: أليس صلف الإنجليزي ابلغ في العزة، وطمع الفرنسي أليق بالحياة، وطموح الإيطالي اخلق بالرجولة، وصراحة الألماني ادعى إلى الهيبة واستقلال الأمريكي اضمن للفوز؟
تلك هي الدعوى؛ لكن هذا المعنى للفضائل التي عدت معنى لا تعرفه خلقية دينية، ولا تقره خلقية فلسفية؛ فإنما التواضع أن تكون رفيع القدر فلا تتغطرس، وليس التواضع إتضاعاً. وإنما القناعة أن تملك فلا تشره، وليست القناعة ترك مادة الحياة وإفساح الطريق لعاد أو غاصب. إنما الزهد أن تستطيع فلا تنهم، وليس الزهد العجز عما في الدنيا والحسرة على ما في أيدي الناس. وإنما التوكل أن تقدم واثقاً لا أن تحجم عاجزاً. وأما المداراة فما عرفناها بين الفضائل. والخلق والدين يقرران أن صلف الإنجليزي قبيح افضل منه عزة المؤمن الذي يرى العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فحسب. وطمع الفرنسي قبيح أليق منه قيام المتدين وذي الخلق بحق الحياة وواجبها. وطموح الإيطالي مفتعل اصل منه تلك العزة الروحية وهذا الإباء الساعي لإعلاء كلمة الحق، المتقدم إلى الدنيا بمهمة اجتماعية، وعمل إنساني يرغم من اجله ويجهد في سبيله. واستقلال الأمريكي بعض مغامرة الذي يقدم واثقاً بإحدى الحسنيين. وصراحة الألماني بعض شجاعة الذي لا يخشى في الحق لومة لائم. وما هذا الذي يعيب الثائرون من صور التواضع المتضع، والزهد العاجز، والقناعة المحرومة،(232/33)
والتوكل الخامل، إلا صور لا تعرفها الأخلاق ولا يفشل أصحابها لأخلاقهم بل يفشلون لفشل أخلاقهم.
وأما هذا الربا الذي جاء في عداد تلك الأخلاق فمسالة اقتصادية عملية، لا خلقية أدبية؛ وهي فكرة اقتصادية، يقرن فيها النظام الإسلامي الكامل الذي قررها بالنظم الاقتصادية الأخرى ليحكم لهذا أو ذاك، وليست تلك المسالة من أسباب الثورة على الأخلاق في شيء
ويعرض الأستاذ الزيات على لسان تلك الثورة أن يكون مقياس الفضائل والرذائل هو النفع والضرر، فما كان مؤديا إلى منفعة سمي فضيلة، وما كان مؤدياً إلى مضرة سمي رذيلة. وهذا مقياس لا يأباه الدين ولا الخلق، فالمذهب المنفعي قديماً وحديثاً معروف بين مذاهب الخير؛ ولكن ليس بهذا اليسر والسهولة التي تفهمها الثورة على الأخلاق وتأخذ فيه باللمحة الطائرة. فما المنفعة المحكمة؟ وما المضرة المتقاة؟ أمنفعة الفرد أم منفعة الأسرة أو الأمة أو العالم؟ المنفعة المادية الحاسية أم المنفعة المعنوية العقلية أم هما أم فرع منهما وما هو؟ المنفعة العاجلة أم المنفعة الآجلة أم هذه وتلك؟ ومتى تكون هذه ومتى تكون تلك؟ وإذا تعارضت منفعة ومضرة فكيف يوازن بينهما وبأي شيء؟ وإذا وجدت منفعتان في عملين فكيف يفاضل بينهما وبأي شيء؟ وإذا وإذا. . . من مضايق شائكة يسلكها الباحث ليخرج منها بمقياس للأخلاق منفعي. وقد انتهى كل أولئك الباحثين على اختلاف ما بينهم إلى أن هناك فضيلة ورذيلة، واحبوا هذه، وثاروا على تلك؛ فلن يكون تحكيم المنفعة منهياً للثورة على الأخلاق. وهأنذا قد حكمت المنفعة فيما مضى من موازنة بين نجاح تاجر الغلال وتاجر المخدرات فلم تخرج النتيجة شاهدة بفشل الأخلاق
وأخيراً يا صاحب الرسالة: اسمح لي أن أحملك رسالة إلى الثائرين. قل لهم: استعدوا للحياة بعد فهمها فهماً صحيحاً قبل أن تلقوا تبعة فشلكم على الأخلاق. ولا تحكموا على الفضائل بعمل الناس فتحكموا بفشل الأخلاق، لأن للفضائل حقائق ثبتت على الاختبار، وأيدتها التجربة بعد بحث لا تزال الإنسانية تمنحه قوتها وجهدها. وانظروا إلى النتائج البعيدة والقريبة للأعمال، ودققوا في الموازنة بين فاشل وناجح فبل أن تحكموا بان هذا فشل لأخلاقه دون غيرها، وهذا نجح برذائله دون غيرها. ولا تظنوا طيبة القلب وسلامة الضمير والبعد عن إيذاء الناس وسائل وأسلحة تكفي وحدها للنجاح كما ظن ظانون أن(232/34)
الإيمان وحده كاف لهزيمة الأعداء؛ لأن الله قد سير هذا الكون على نواميس لا تتخلف، وجعل الميزات المعنوية والنفسية مرجحات بين من تساويا مادياً وفهما النواميس فهماً واحداً؛ وبدل أن تهيب بدهاقنة الدين وفلاسفة الأخلاق أن يتدخلوا في سوق الفضائل معدلين، أهب بزعماء الثورة أن يتدخلوا في تقدير الحياة مدققين؛ فان ثاروا بعد ما كملت لهم هذا الدقة فعلى الدهاقنة أن يعيدوا النظر فيعدلوا ويحوروا
أمين الخولي(232/35)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 26 -
لقد دلف إليّ وجلس إلى جانبي ولكني لم استيقظ. يا لتعس هذه النومة، ويا لشقاوتي!
جاء والليل ساج وفي يده قيثاره، فرن نغم لحنه العذب خلال أحلامي
يا اسفاه، اهكذا تضيع ليالي؟ آه، لماذا أُحرم - دائماً - النظر إليه وأنفاسه تداعبني في
نومي؟
- 27 -
النور؛ أوه، أين هو النور؟ أشعله بنار الرغبة المتأججة
ها هو المصباح ولكنه لا يضيء أبداً؛ انه مظلم كحظك يا قلبي! آه، إن الموت خير لك
إن البؤس يقرع بابك ليوحي إليك بان سيدك يقظان يناديك إلى ميعاد الهوى في غسق
الليل
السماء مثقلة بالغيوم والمطر ما يبرح يهطل مدراراً، وأنا لا اعرف ماذا يضطرب في
جوانحي، ولا اعي له معنى
إن وجهي يكفهر لومضات البرق، وقلبي يتلمس طريقه إلى حيث موسيقا الليل تناديه
النور؛ أوه، أين هو النور؟ أشعله بنار الرغبة المتأججة! السماء ترعد، والرياح تهب
هوجاء تملأ الفضاء، والليل قاتم كالصخرة السوداء؛ فلا تدع الظلام يخيم علينا وأشعل مصباح الهوى بنور حياتك
- 28 -
إن صلابة الرأي عقال يتألم قلبي حين أحاول أن أتخلص منه
إن الحرية هي كل ما ابتغي، وأنا استشعر الخجل حين أتمناها(232/36)
أنا أومن بان بين يديك الثراء العريض، وانك أنت صديقي الحميم، ولكني لا أجد في
نفسي الجرأة على أن أزيل كل ما يملأ حجرتي من بهرج
إن هذا السجف التي يسترني هو كفن من التراب والموت أنا ابغضه غير أني أضنى به
إن ديوني كثيرة وخطاياي أعظم، وعيوبي التي أخفيها في نفسي تثقلني؛ وحين انطلق
لأطلب إليك الإحسان تسيطر عليّ رعدة شديدة خشية إلا تتقبل صلاتي
- 29 -
إن في هذا البناء - جسمي - شبحاً يذرف الدمع في خلوته وأنا دائماً في شغل شاغل
أشيد حوله سوراً عالياً، وعلى مر الأيام أرتفع سمكه فعميت عن حقيقة وجودي وأنا في ظلامه القاتم
لقد أخذتني العزة بهذا السور الشامخ فاندفعت اطليه بالطين والرمل خشية أن تكون به
فرجة، ولكن ما بذلت من جهد أعماني عن حقيقة وجودي
- 30 -
ها أنا أتيت وحيداً لأفي بوعدي؛ ولكن من هذا الذي يتبعني في دجى الليل وسكونه؟
وعبثاً تحولت عن طريقي لأضلله
إنه يثير الغبار وهو يمشي الخيلاء وهو يردد قولي في صوت أجش
إنه روحي الضئيل - يا الهي - وهو لا يستشعر الخزي، وانا استحي ألج بابك برفقته
- 31 -
قلت: (يا أيها السجين؛ خبرني، من ذا الذي قيدك هنا؟)
قال: (هو سيدي، لقد ظننت إني أبذ كل إنسان على الأرض بما لدي من ثراء وقوة، وبين
يدي بيت المال وهو ينضم على كل ما يملك مليكي. وحين يغلبني النعاس انطرح على فراش كان في - يوم ما - سرير سيدي؛ وحين استيقظ أجد نفسي سجيناً في بيت المال)
قلت: (يا أيها السجين؛ خبرني، من ذا الذي صنع هذه السلسلة الصلبة؟)
قال: (بيدي الصناع ابتدعتها وخيل إلي أن قوتي الكامنة ستقبض على العالم كله وأظل أنا
طليقا في أمان، فقضيت عمراً من عمري أهين هذه السلسلة استعين بالنار والمقامع(232/37)
الحديدية الشديدة؛ فلما فرغت من عملي وتمت حلقاتها وجدت نفسي مقيداً بها)
- 32 -
لقد حاول أحبائي على الأرض جهدهم أن أعيش بين أيديهم في أمان؛ ولكن حبك أنت
يفوق حبهم. أنت يا من تكفل حريتي أنهم يلازمونني دائماً خيفة أن أنساهم، وها هي الأيام تمر سراعاً وأنت ما تزال تتستر خلف الحجب
وإذا لم أتوسل إليك في صلواتي، وإذا لم أحفظك في قلبي، فحبك لي ما يزال ينتظر حبي
لك
- 33 -
وحين يسفر وجه الصبح يفدون إلى داري رمزاً ويقولون (سننزل في هذه الغرفة الضيقة)
ثم يقولون (سنشد أزرك في عبادة ربك لننال فضل إحسانه) ثم قبعوا في ركن في هدوء
وتواضع
وفي هدأة الليل تدافعوا إلى هيكلي المقدس في صخب، يستلبون القرابين من محراب
الرب في شره
- 34 -
هب لي بعض نفسي فأذكرك كلك
هب لي بعض عزمي فاشعر بك في كل مكان، وانزع إليك في كل عملي وأحبوك بحبي
في كل آن
هب لي بعض نفسي فلا استخفي منك
هب لي بعض هذه الأغلال فأنا مقيد بمشيئتك، وما تريده فهو آت. . . هذه القيود هي
قيود حبك
- 35 -
حين يطمئن الفؤاد فلا يستولي عليه الذعر فيرتفع الرأس عالياً
حين تكون حرية الرأي،
حين لا يتصدع العالم شيعاً وتفرق بينه الحدود الضيقة،(232/38)
حين تنبعث الكلمات من أعماق الحقيقة، حين يمد التناحر الدائم ذراعيه صوب الكمال،
حين يهتدي الرأي الناضج إلى طريقة السوي فلا يضل في متاهات التقاليد البالية،
حين تجذب العقل إليك. . . إلى الفكرة والعمل الأبديين إلى سماء الحرية؛ انزع - يا
الهي - عن وطني سباته العميق
- 36 -
ها هي صلواتي إليك - يا الهي -: حبذ أصول العوز من قلبي؛
امنحني القدرة على أن احمل أفراحي وأتراحي معاً
امنحني القدرة على أن اخلق من حبي عملاً صالحاً
امنحني القدرة على إلا انهر فقيراً وألا أخرّ على ركبتي أمام غطرسة الجبار
امنحني القدرة على أن أسمو بعقلي فوق السخافات الأرضية
ثم امنحني القدرة على أن انزل في رضا عن كبريائي أمام مشيئتك
- 37 -
يتراءى لي كأن رحلتي قد انتهت عند الغابة، عند آخر نزوة من نزوات قوتي ... ها هو
الطريق قعد اغلق أمامي، ونفد زادي وآن لي أن استريح في سكون الظلام
ولكن يخيل إلي أن إرادتك لا تجد في النهاية، فحين تموت الكلمات الرثة على شفتي
يتفجر القلب بنغم عذب، وحين تنسد أمامي المسالك القديمة يتفتح أمامي عالم جديد فيه العجائب
- 38 -
إنني أهفو إليك، إليك وحدك - دع قلبي يرددها مرات ومرات في غير نهاية. إن
الوساوس التي تلح عليّ صباح مساء، لتصرفني عنك، إن هي إلا جوفاء خداعة
حين يتوارى الليل خلف سجوفه ينتظر بسمة الفجر، ترن في أعماق قلبي صيحة: إنني
أهفو إليك، إليك وحدك
حين تعدو العاصفة الهوجاء في طريقها تبتغي الهدوء فتبدد هي السكون في صولة ويأس.
. . في هذا الحين تعصف ثورتي الجامحة بحبك وهي ما تزال ترسل صيحاتها: إنني أهفو(232/39)
إليك، إليك وحدك
كامل محمود حبيب(232/40)
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 4 -
وأما الرواية الثانية في سبب المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله فقد نقلها أبو الفرج الأصبهاني من كتاب محمد بن يحي الخراز، قال حدثني احمد بن إبراهيم الحاسب، قال حدثني عبد الرحمن بن داود بن أبي أمية البلخي، قال كان حكيم بن عباس الأعور الكلبي ولعاً بهجاء مضر، فكانت شعراء مضر تجيبه ويجيبهم وكان الكميت يقول هو والله اشعر منكم. قالوا فاجب الرجل قال أن خالد بن عبد الله القسري محسن إلي فلا اقدر أن أرد عليه. قالوا فاسمع بإذنك ما يقول في بنات عمك وبنات خالك من الهجاء؛ وانشدوه ذلك، فحمى الكميت لعشيرته فقال المذهبة:
(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مَدِينا)
فاحسن فيها، وبلغ خالداً خبرها، فقال لا أبالي ما لم يجر لعشيرتي ذكر فانشدوه قوله:
ومن عجبٍ علي لَعَمْرُ أمٍّ ... غَذتْكَ وغير هتيَّا يمينا
تجاوزتَ المياهَ بلا دليلٍ ... ولا علم تَعَسُّفَ مخطئينا
فانك والتحوُّلَ من مَعَدٍّ ... كهيلةَ قبلنا والحالبينا
تخطتْ خيرهم حَلْباً ونَسْئاً ... إلى الوالي المغادر هاربينا
كعنزِ السُّوءِ تنطح عالفيها ... وترميها عِصىُّ الذابحينا
فبلغ ذلك خالداً فقال: فعلها والله لأقتلنه. ثم اشتري ثلاثين جارية بأغلى ثمن، وتخيرهن نهاية في حسن الوجوه والكمال والأدب، فرواهن الهاشميات، ودسهن من نخاس إلى هشام بن عبد الملك فاشتراهن جيمعاً. فلما انس بهن استنطقهن فرأى فصاحة وأدباً، فاستقرأهن القران فقرأن، واستنشدهن الشعر فأنشدنه قصائد الكميت الهاشميات، فقال: ويلكن من قائل هذا الشعر؟ قلن: الكميت زيد الأسدي، قال: وفي أي بدل هو؟ قلن: في العراق ثم بالكوفة، فكتب إلى خالد: أبعث إلي برأس الكميت بن زيد. فبعث خالد إلى الكميت في الليل فأخذه(232/41)
وأودعه السجن. ولما كان من الغد أقرأ من حضره من مضر كتاب هشام واعتذر إليهم من قُتله، وآذنهم في إنفاذ الأمر فيه في غد. فقال لأبان بن الوليد البجلي وكان صديقا للكميت: أنظر ما ورد في صديقك، فقال عز عليّ والله ما به. ثم قام أبان فبعث إلى الكميت فأنذره فوجه إلى امرأته، ثم ذكر الخبر في خروجه ومقامها مكانه كما ذكر من تقدمه، وقال فيه: فأتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به، فقال: إني أخشى ألا ينفعك جوراي عنده، ولكن استجر بابنه مسلمة بن هشام، فقال: كن أنت السفير بيني وبينه في ذلك، ففعل مسلمة وقال لابن أخيه: قد أتيتك بشرف الدهر، واعتقاد الصنيعة في مضر، وأخبره الخبر
فأجاره مسلمة بن هشام، وبلغ ذلك هشاماً فدعا به ثم قال: أتجير على أمير المؤمنين بغير أمره؟ فقال: كلا ولكني انتظرت سكون غضبه. قال: أحضرنيه الساعة، فانه لا جوار لك. فقال مسلمة للكميت: إن أمير المؤمنين أمرني بإحضارك. قال: أتسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلا ولكني احتال لك. ثم قال له: إن معاوية بن هشام مات قريباً، وقد جزع عليه جزعاً شديداً، فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا ابعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق فإذا دعا بك تقدمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك، ويقولوا هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحق من أجاره
فاصبح هشام على عادته متطلعاً من قصره إلى القبر. فقال: من هذا؟ فقالوا: لعله مستجير بالقبر. فقال: يجار من كان إلا الكميت، فإنه لا جوار له، فقيل: فإنه الكميت قال: يحضر أعنف إحضار، فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون: يا أمير المؤمنين، استجار بقبر أبينا وقد مات، ومات حظه من الدنيا فاجعله هبة له ولنا، ولا تفضحنا فيمن استجار به. فبكى هشام حتى انتحب، ثم اقبل على الكميت فقال له: يا كميت أنت القائل:
وإنْ لا تقولوا غيرها تتعرَّفوا ... نواصيها تردى بنا وهي شُزبُ
فقال: لا والله ولا أتان من أتن الحجاز وحشية، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قال: أما بعد - فإني كنت أتدهدى في غمرة، وأعوم في بحر غواية، أخنى على خطلها، واستفزني وهلها، فتحيرت في الضلالة، وتسكعت في الجهالة، مهرعاً عن الحق، جائراً عن القصد، أقول الباطل ضلالاً، وأفوه بالبهتان وبالاً، هذا مقام العائذ مبصر الهدى، ورافض(232/42)
العماية، فأغسل عني يا أمير المؤمنين الحوبة بالتوبة، واصفح عن الزلة، واعف عن الجرمة، ثم قال:
كم قال قائلكم لعاً ... لك عند عثرته لعاثِرْ
وغفرتُمُ لذوي الذنو ... ب من الأكابر والأصاغر
أبني أُميَّةَ إنكم ... أهلُ الوسائل والأوامر
ثِقتي لكل مُلِمَّةٍ ... وعشيرتي دون العشائر
أنتم معادنُ للخلا ... فة كابراً من بعد كابر
بالتسعة المتَتَابعي ... نَ خلائفاً وبخير عاشر
والى القيامة لا تَزَا ... لُ لشافعٍ منكم وواتر
ثم قطع الإنشاد عاد إلى خطبته فقال: إغضاء أمير المؤمنين وسماحته وصباحته مناط المنتجعين بحبله، من لا تحل حبوته لإساءة المذنبين، فضلاً عن استشاطة غضبه بجهل الجاهلين.
فقال له: ويلك يا كميت، من زين لك الغواية، ودلاك في العماية؟
قال: الذي أخرج أبانا من الجنة، وأنساه العهد فلم يجد له عزما
فقال: إيه أنت القائل:
فيا موقداً ناراً لغيرك ضوءُها ... ويا حاطباً في غير حبلك تحطبُ
فقال: بل أنا القائل:
إلى آل بيت أبي مالكٍ ... مُناخٌ هو الأرحب الأسهلُ
نَمُتُّ بأرحامنا الدَّاخلا ... ت من حيث لا يُنكرُ المدخل
بِمُرَّةَ والنَّضْر والمالك ... ين رهطٌ هم الأنبل الأنيل
وبارَي خزيمةَ بدرَ السما ... ءِ والشمسَ مفتاحُ ما نأمل
وجدنا قريشاً قريش البطا ... حِ على ما بنى الأوَّلُ الأوَّل
بهم صلح الناسُ بعد الفسا ... دِ وحيص من الفتق ما رَعبُلوا
قال له: وأنت القائل:
لا كعبد المليك أو كوليدٍ ... أو سليمانَ بعدُ أو كهشامِ(232/43)
منْ يمتْ فقيداً ومن يح ... يى فلا ذُو إلِّ ولا ذو ذمام
ويلك يا كميت، جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، فقال: بل أنا القائل يا أمير المؤمنين:
فالآن صرتُ إلى أُميَّ ... ةَ والأمور إلى المصايرْ
والآن صرت بها المصي ... ب كمهتدٍ بالأمس حائر
يا ابن العقائل للعقا ... ئل والجحاجحة الأخاير
من عبد شمس والأكا ... بر من أُميةَ فالأكابر
إن الخلافة والإلا ... ف برغم ذي حسد وواغر
دَلفا من الشرف التلي ... د إليك بالرِّفدِ الموافر
فحللتَ مُعتلجَ البطا ... ح وحلَّ غيرك بالظواهر
قال له: فأنت القائل:
فقل لبني أُمية حيث حلوا ... وإن خفَت المهندَ والقطيعا
أجاع الله من أشبعتموهُ ... وأشبع من بجوركم أُجيعا
بِمرْضِىِّ السياسة هاشميٍّ ... يكون حياً لأمته ربيعا
فقال: لا تثريب يا أمير المؤمنين إن أردت أن تمحو عني قولي الكاذب، قال بماذا؟ قال بقولي الصادق:
أورثتهُ الحَصانُ أمَّ هشام ... حسباً ثاقباً ووجهاً نضيرا
وتعاطى به ابن عائشة البد ... ر فأمسى له رقيباً نظيرا
وكساه أبو الخلائف مروا ... نُ سَنيَّ المكارم المأثورا
لم تجهم له البطاح ولكن ... وجدتها له معاناً ودورا
وكان هشام متكئاً فاستوى جالساً وقال: هكذا فليكن الشعر يقولها لسالم بن عبد الله بن عمر وكان إلى جانبه، ثم قال: قد رضيت عنك يا كميت. فقبل يده وقال: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تزيد في تشريفي، ولا تجعل لخالد عليّ إمارة، قال: قد فعلت وكتب له بذلك وأمر له بأربعين ألف درهم وثلاثين ثوباً هشامية وكتب إلى خالد أن يخلي سبيل امرأته، ويعطيها عشرين ألفاً وثلاثين ثوباً، ففعل ذلك(232/44)
وأما الرواية الثالثة فقد قال فيها أبو الفرج الأصبهاني: اخبرني احمد بن عبد الله بن عمار، قال حدثنا النوفلي علي بن محمد بن سليمان أبو الحسن، قال حدثني أبي قال: كان هشام بن عبد الملك قد اتهم خالد بن عبد الله، وكان يقال له إنه يريد خلعك فوجد بباب هشام يوماً رقعة فيها شعر، فدخل بها على هشام فقرأت عليه، وهي:
تألَّق برقٌ عندنا وتقابلت ... أثافٍ لِقِدْر الحرب أخشى اقتبالَهَا
فدونكَ قِدْرَ الحربِ وَهْيَ مُقرَّةٌ ... لكفَّيك واجعل دون قِدْرٍ جِعَالَهَا
ولن تنتهي أو يبلغَ الأمرُ حدَّهُ ... فَنَلْهَا برْسل قبل ألاّ تنالها
فَتَجْشمَ منها ما جَشمَتْ من التي ... بُسَورَاَء هَرَّتْ نحو حالكَ حالها
تَلاَفَ أمورَ الناس قبل تفاقُم ... بعُقْدَةِ حزمٍ لا تخاف انحلالها
فما ابرم الأقوامُ يوماً لحيلة ... من الأمر إلا قلَّدُوكَ احتيالها
وقد تخْبرُ الحربُ العوانُ بسرِّها ... وإن لم تَبُحْ من لا يريد سؤالها
فأمر هشام أن يجمع له من بحضرته من الرواة فجمعوا، فأمر بالأبيات فقرأت عليهم فقال شعر من تشبه هذه الأبيات؟ فأجمعوا جميعاً من ساعتهم أنه كلام الكميت بن زيد الأسدي، فقال هشام: نعم هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد الله، ثم كتب إلى خالد بخبره وكتب إليه بالأبيات، وخالد يومئذ بواسط فكتب خالد إلى واليه بالكوفة يأمره بأخذ الكميت وحبسه، وقال لأصحابه: أنه بلغني أن هذا يمدح بني هاشم ويهجو بني أمية فأتوني من شعره هذا بشيء فأتوه بقصيدته اللامية التي أولها:
ألا هل عَمٍ في رأيه متأمل ... وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
فكتبها وأدرجها في كتاب إلى هشام يقول فيه: هذا شعر الكميت، فإن كان قد صدق في هذا، فقد صدق في ذاك
فلما قرئت على هشام اغتاظ، فلما قال:
فيا ساسة هاتوا لنا من جوابكم ... ففيكم لعمري ذو أَفانين مقول
اشتد غيظه، فكتب إلى خالد يأمره أن يقطع يدي الكميت ورجليه ويضرب عنقه، ويهدم داره ويصلبه على ترابها. فلما قرأ خالد الكتاب كره أن يستفسد عشيرته، وأعلن الأمر رجاء أن يتخلص الكميت، فقال: لقد كتب إلي أمير المؤمنين، وإني لأكره أن أستفسد(232/45)
عشيرته وسماه فعرف عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ما أراد، فأخرج غلاماً له مولداً ظريفاً، فأعطاه بغلة له شقراء فارهة من بغال الخليفة، وقال: إن أنت وردت الكوفة فأنذرت الكميت لعله أن يتخلص من الحبس فأنت حر لوجه الله والبغلة لك، ولك على بعد ذلك إكرامك والإحسان إليك فركب البغلة وسار بقية يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبحها، فدخل الحبس متنكراً، فخبر الكميت بالقصة، فأرسل إلى امرأته وهي ابنة عمه يأمرها أن تجيئه ومعها ثياب من لباسها وخفان ففعلت، فقال: ألبسيني لبسة النساء ففعلت، فخرج فمر بالسجان فظن انه المرأة فلم يعرض له، فنجا وانشأ يقول:
خرجتُ خروجَ القِدْحِ قدْحِ ابنُ مُقبِلٍ ... على الرًّغم من تلك النوابح والْمُشْلِ
علىَّ ثيابُ الغانياتِ وتحتها ... عزيمةُ أمرٍ أشبهتْ سَلَّةَ النّصْل
وورد كتاب خالد على والي الكوفة يأمره فيه بما كتب به إليه هشام، فأرسل إلى الكميت ليؤتى به من الحبس فينفذ فيه أمر خالد، فدنا من باب البيت فكلمتهم المرأة وخبرتهم أنها في البيت وأن الكميت قد خرج، فكتب بذلك إلى خالد فأجابه: حرة كريمة فدت ابن عمها بنفسها، وأمر بتخليتها، فبلغ الخبر الأعور الكلبي بالشام، فقال قصيدته التي يرمي فيها امرأة الكميت بأهل الحبس ويقول:
(إسْودِينَا وحْمِرِينَا)
فهاج الكميت ذلك حتى قال:
(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مدينَا)
وهي ثلاثمائة بيت لم يترك فيها حياً من أحياء اليمن إلا هجاهم وتوارى وطلب فمضى إلى الشام فقال شعره الذي يقول فيه:
(قِفْ بالديار وقوفَ زائِرْ)
ويقول:
يا مَسْلَمُ ابن أبي الولي ... د لَميِّتٍ إن شئتَ ناشر
اليوم صرتُ إلى أُمَيَّة والأمور إلى المصاير
فأذن له ليلاً، فسأله أن يجيره على هشام، فقال: إني قد أجرت على أمير المؤمنين فأخفر جواري، وقبيح برجل مثلي أن يخفر في كل يوم، ولكني أدلك فاستجر بمسلمة بن هشام(232/46)
وبأمه أم الحكم بنت يحيى بن الحكم، فإن أمير المؤمنين قد رشحه لولاية العهد، فقال الكميت بئس الرأي، أضيع دمي بين صبي وامرأة، فهل غير هذا؟ قال: نعم، مات معاوية بن أمير المؤمنين وكان يحبه، وقد جعل أمير المؤمنين على نفسه أن يزور قبره في كل أسبوع يوماً - وسمى يوماً بعينه - وهو يزوره في ذلك اليوم، فامض فاضرب بناءك عند قبره واستجر به، فإني سأحضر معه وأكلمه بأكثر من الجوار
فعمل ذلك الكميت في اليوم الذي يأتيه فيه أبوه، فجاء هشام ومعه مسلمة فنظر إلى البناء فقال لبعض أعوانه: انظر ما هذا؟ فرجع فقال: الكميت بن زيد مستجير بقبر معاوية بن أمير المؤمنين فأمر بقتله، فكلمه مسلمة وقال: يا أمير المؤمنين إن إخفار الأموات عار على الأحياء فلم يزل يعظم عليه الأمر حتى أجاره
عبد المتعال الصعيدي(232/47)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 17 -
(. . . إنه ليس معي إلا ظلالها، ولكنها ظلال حية تروح وتجيء في ذاكرتي. وكل ما كان ومضي هو في هذه الظلال الحية كائن لا يفنى، وكما يرى الشاعر الملهم كلام الطبيعة بأسره مترجماً إلى لغة عينيه، أصبحت أراها في هجرها طبيعة حسن فاتن مترجمة بجملتها إلى لغة فكري
(كان لها في نفسي مظهر الجمال ومعه حماقة الرجاء وجنونه ثم خضوعي لها خضوعاً لا ينفعني. . . فبدلني الهجر منها مظهر الجلال ومعه وقار اليأس وعقله، ثم خضوعها لخيالي خضوعاً لا يضرها. . .
(وما أريد من الحب إلا الفن، فإن جاء من الهجر فن فهو الحب. . .
(كلما ابتعدت في صدها خطوتين رجع إلي صوابي خطوة)
(لقد أصبحت أرى ألين العطف في أقسى الهجر، ولن أرضى بالأمر الذي ليس بالرضا، ولن يحسن عندي مالا يحسن ولن أطلب الحب إلا في عصيان الحب. أريدها غضبى، فهذا جمال يلائم طبيعتي الشديدة، وحب يناسب كبريائي. ودع جرحي يترشش دماً، فهذه لعمري قوة الجسم الذي ينبت ثمر العضل وشوك المخلب، وما هي بقوة فيك إن لم تقو أول شيء على الألم. . .
(أريدها لا تعرفني ولا أعرفها، لا من شيء إلا لأنها تعرفني وأعرفها. . . تتكلم ساكتة وأرد عليها بسكوتي. صمت ضائع كالعبث ولكن له في القلبين عمل كلام طويل. . .)
الرافعي
أوراق الورد(232/48)
هدأت ثائرة الرافعي هوناً ما، وفاءت إليه نفسه، واعتدلت مقادير الأشياء في عينيه، وعاد إلى حالة بين الرضى والغضب، وبين الحب والسلوان؛ فاستراح إلى اليأس. . . لولا إثارة من الحنين تنتزع به إلى الماضي، وبقية من الشوق واللهفة على ما كان وفرغت أيامه من الحادثة لتمتلئ من بعد بالشعر والحكمة والبيان
ومضت سبع سنين والحياة تذهب به مذاهبها، والذكرى تغشاه في خلوته وتداعبه في أحلامه، والأمانيّ التي بعثرتها الكبرياء بدداً في أودية النسيان تتخايل له في شكول وألوان، وخواطره من وراء ذلك تعمل، ونفسه الشاعرة تحس وتشعر وتنفعل بما يتعاقب عليها من الرُّؤى والأحلام. وأتم نظم قصيدته البارعة في (أوراق الورد) في سنة 1931
أوراق الورد هو طائفة من الخواطر المنثورة في فلسفة الحب والجمال، أنشأه الرافعي ليصف حالة من حالاته، ويثبت تاريخاً من تاريخه، في فترة من العمر لم يكن يرى لنفسه من قبلها تاريخاً ولا من بعد
ويقول الرافعي إنه جمع في أوراق الورد رسائلها ورسائله. أما رسائله فنعم ولكن على باب من المجاز، وأما رسائلها فما أدري أين موضعها من الكتاب، إلا رسالة واحدة وجزازات من كتب ونتفاً من حديثها وحديثه
بلى، إن في أوراق الورد طائفة من رسائله إليها، ولكنها رسائل لم تذهب إليها مع البريد، بل هي من الرسائل التي كان يناجيها بها في خلوته، ويتحدث بها إلى نفسه؛ أو يبعث بها إلى خيالها في غفوة المنى، ويترسل بها إلى طيفها في جلوة الأحلام إلا رسالتين أو ثلاثاً مما في أوراق الورد. . . فلما أتم تأليفها وعقد عقدتها، بعث بها إليها في كتاب مطبوع بعد سبع سنين من تاريخ الفراق!
ولكن أوراق الورد ليس كله من وحي (فلانة)، وليست كل رسائله في الكتاب إليها؛ فهنالك الأخرى، هنالك صاحبة (حديث القمر)، تلك التي عرفها في ربوة من لبنان منذ تسع عشرة سنة، وهنا فلانة. . .
هما اثنتان لا واحدة: تلك يستمد من لينها وسماحتها وذكرياتها السعيدة، معاني الحب التي تملأ النفس بأفراح الحياة وهذه يستوحيها معاني الكبرياء والصد والقطيعة وذكريات الحب الذي أشرق في خواطره بالشعر وأفعم قلبه بالألم!(232/49)
لقد مضت سبع سنين منذ فارق صاحبته (فلانة) كان قلبه في أثنائها خالصا لها، ولكن فكره كان يدور على معاني الشعر يلتمسه من هنا ومن هناك؛ فلما اجتمع له ما أراد ضم أوراق الورد إلى أشواكه، وأخرجها كتاباً للفن أولا ثم لها من بعد
هو كتاب ليس كله من نبضات قلبه الذي يعشقها وما زال متيماً في هواها، ولكن فيه إلى جانب ذلك فكر المفكِّر وعقل الأديب وحيلة الفنان
بلى، إنه كان يحبها حباً لا يتسع القلب لأن يشرك فيه غيرها فكان (قلبه) لها من دون النساء جميعاً، ولكن الذكريات كانت تتوزع (فكره) فتوحي إليه من هنا ومن هنالك ومما يستجد على خواطره من بعد في معاني الحب والبغض والود والقطيعة
هو كتاب يصور نفسه وخواطره في الحب؛ ثم يصور فنه وبيانه في لغة الحب؛ ثم. . . ثم لا يصور شيئاً من بعد ما كان بينه وبين صاحبته على وجهه وحقيقته، إلا أن يتدبر قارئة ويستأني ليستخلص معنى من معنى على صبر ومعاناة في البحث والاستقراء
فما رأيت من رسالة فيها اللهفة والحنين، وفيها التذلل والاستعطاف، وفيها تصنع الغضب ودعوى الكبرياء، وفيها المنى الحالمة تواثب بين السطور في خفة الفراشة الطائرة؛ وما رأيت من معنى تحاول أن تمسكه فيفلت؛ فهو فصل يؤدي أداءه في قصة هذا الحب العجيب
وما قرأت من رسالة تصف ما كان في خلوة نفس إلى نفس، وتقص عليك في لغة الماضي حديث قلب إلى قلب، وتكشف لك عن سر الابتسامة ومعنى النظرة، وتتحدث إليك عن جمال الطبيعة وفلسفة الكون؛ فهو ذكرى من الماضي البعيد، كان حباً في القلب فصار حديثاً في الفكر، ثم استتبع شيء شيئاً
وما قرأت من قول مزوق، وبيان منمق، ومعنى يلد معنى، وفكرة تستجر فكرة، وعبارة تتوكأ على عبارة؛ فهو من أداء الفن وولادة الفكر.
ولقد تجد رسالة كلها حنين ولهفة، أو حادثة وذكرى، أو فن من الفن؛ ولقد تجد كذلك رسالة غيرها تجمع هذه الثلاثة في قرن؛ ففيها قلب ينبض، وذكر تعود، وبيان مصنوع
فإذا أنت عرفت هذه الثلاثة، عرفت الكتاب، وعرفت صاحبه، وخرجت منه بشيء
يبدأ أوراق الورد بمقدمة بليغة في الأدب يتحدث فيها عن تاريخ رسائل الحب في العربية(232/50)
بأسلوب هو أسلوب الرافعي، وإحاطة هي إحاطته، وسعة اطلاع لا تعرفها لغيره؛ وهذه المقدمة وحدها هي باب في الأدب العربي لم ينسج على منواله ولم يكتب مثله، تذكر قارئها ذلك النهج البارع الذي نهجه الرافعي العالم المؤرخ في كتابه (تاريخ آداب العرب) فكان به أول من كتب في تاريخ الأدب وآخر من كتب. . .
وتأتي بعد هذا الفصل مقدمة الرسائل، وفيها سبب تسمية الكتاب، وهو شيء مما كان بينه وبين صاحبته؛ يقول إنه كان في مجلسها يوماً ومعها وردة؛ فأخذت تحدثه عن الحب وعمر الحب، وعن الورد وعمر الورد، وكأنها تقول له: إحذر أن تجعل حظك من الوردة اكثر من أن تستنشيها على بعد من دون لمسة البنان، وأحذر في الحب. . . قال: (ثم دنت الشاعرة الجميلة فناطت وردتها إلى عروة صاحبها، فقال لها: وضعتها رقيقة نادية في صدري، ولكن على معان في القلب كأشواكها. . . فاستضحكت وقالت: فإذا كتبت يوماً معاني الأشواك فسمها أوراق الورد. . . وكذلك سماها)
ويمضي في هذه المقدمة يتحدث عن حبه، وآلامه في الحب ورأيه في الحب، وشيء مما كان بينه وبينها؛ ثم يتحدث عن نهجه في هذه الرسائل، وما أراد بها وما أوحاها إليه؛ في أسلوب كله حنين وكله شوق وألم
ثم تأتي بعد ذلك فصول الكتاب متتابعة على ما أوضحت طريقها من قبل: فيها حنين العاشق المهجور، وفيها منية المتمني وفيها ذكريات السالي، وفيها فن الأديب وشعر الشاعر؛ وفيها من رسائلها ومن حدثيها. . .
من أراد أوراق الورد على أنه قصة حب في رسائل لم يجد شيئاً؛ ومن أراده رسائل وجوابها في معنى خاص لم يجد شيئاً؛ ومن أراده تسلية وإزجاء للفراغ لم يجد شيئاً؛ ومن أراده نموذجاً من الرسائل يحتذيه في رسائله إلى من يحب لم يجد شيئاً؛ ومن أراده قصة قلب ينبض بمعانيه على حاليه في الرضى والغضب، ويتحدث بأمانيه على حاليه في الحب والسلوان - وجد كل شيء
وهو في الفن فن وحده، لا تجد في بيانه ومعانية ضريباً له مما أنشأ الكتاب وأنشد الشعراء في معاني الحب؛ على أنه بأسلوبه العنيف وبيانه العالي وفكرته السامية في الحب، لا يعرف قراءه في العربية. وكم قارئ استهواه عنوان الكتاب وموضوعه فتناوله بشوق(232/51)
ولهفة، فما هو إلا أن يمضي فيه إلى صفحات قليلة حتى تسلمه يمناه إلى يسراه إلى الزاوية المهملة في مكتبته، ثم لا يعود إليه. . . وكم قارئ كان لا يعرف الرافعي الشاعر الثائر العنيف في حبه وبغضه وكبريائه، فلما قرأ أوراق الورد عرفه فأحبه فاستخلصه لنفسه فما يعرفه من الأدباء إلا أنه مؤلف أوراق الورد
وكم وكم. . . ولكن أوراق الورد ما يزال مجهولاً عند اكثر قراء العربية وإن كان في مكتباتهم، لأن القارئ الذي يلذه أوراق الورد ما زال يتعلم في المدرسة كيف يقرأ ليستفيد ويضم فكراً إلى فكره، لا ليتسلى ويهرب من فكره! لأن العربية ليس لها قراء. . .!
ليت شعري أفي العربية كلها شاعر يستطيع أن ينظم ورقة واحدة من أوراق الورد أو يجمع معانيها في قصيدة؟ ابحثوا عن جمهور هذا الشاعر وقرائه يوم تسمعون قصيده. . .
أرأيت إلى المنجم الذي يمتد في الأرض ويتغلغل بعروق الذهب؟ إنه كنز، ولكن منذا يصبر على المعاناة في استخراجه والبلوغ إليه إلا أن يكون صاحبه أيد وقوة؟ إنه كنز يطلبه الجميع ولكنك لن تجد في الجميع من يقدر على استخلاصه من بين الصخور المتراكبة عليه وحواليه من طبقات الأرض إلا الرجل الواحد المحظوظ الذي يكون معه الصبر
إن أوراق الورد منجم من المعاني الذهبية، لو عرفه المتأدبون من شبابنا لوضعوا يدهم على أثمن كنز في العربية في معاني الحب والجمال يكون لهم غذاءً ومادة في الشعر والبيان
وكان الرافعي - رحمه الله - يعتز بأوراق الورد إعزازه بأنفس ما أنتج في أدب الإنشاء ويباهي ويفتخر؛ وما احسبه تعزى عن صاحبته بقليل إذ تعزى بما لقي من النجاح والتوفيق في إنشاء أوراق الورد؛ وكما تجد الأم سلوتها في ولدها العزيز عن الزوج الحبيب الذي طواه الموت، وجد الرافعي العزاء في أطفال معانيه عن مطلقته العنيدة. . . لقد فارقها ولكنه احتواها كتاب!
إن الأم لا تنسى زوجها الحبيب إذا فارقها وخلف بين يديها بضعة منه، ولكنها تجد العزاء عنه بشيء منه وإن قلبها ليخفق بذكراه في عيني هذا الحبيب الصغير. وكذلك لم ينس الرافعي ولكنه وجد السلوان. . . لقد أفلتت من يده ولكنها خلفت ذكراها معه، ذكرى حيةً(232/52)
ناطقة تتمثل معاني وكلمات في كتاب يقرأه كلما لج به الحنين فكأنه منها بمسمع ومشهد قريب!
يرحمه الله! لقد مات ولكن قلبه ما يزال حياً ينبض يتحدث عن آلامه وأشواقه في قلب كل محب يقرا كتابه فيجد فيه صورة من قلبه وعواطفه وآماله. . . يرحمه الله!؟
(طنطا)
محمد سعيد العريان
هنا ينتهي حديث الرافعي العاشق لنبدأ عنه من الأسبوع المقبل إن شاء الله في حديث جديد(232/53)
الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية
للدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 29 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي - كونفيشيوس
الأخلاق عنده
جزم اكثر المستصينين بأن غاية (كونفيشيوس) من فلسفته العملية كانت إصلاح الهيئة الاجتماعية في عصره، وإحداث تجديد أخلاقي وعمراني وسياسي في الدولة، ولكن العالم المحقق (زانكير) يرى أن هذا غير صحيح، ويصرح بأن حكيمنا لم تكن له غاية تحقيق الواجب في ذاته، وأن النظريات التي ترمي إلى المنفعة أو إلى السعادة أو التي تعلل الأمر والنهي الأخلاقيين بعلة خارجة عن الواجب لا أثر لها في مذهبه وهو في هذه الناحية يشبه (كانت) في رأي الأستاذ (زانكير) إذ كلاهما يأمران باتباع الواجب لذاته لا لشيء آخر، وهو يستدل على صحة رأيه بالنص الآتي من كلام (كونفيشيوس) في كتاب (لون - يو): (إن الحكيم يتعطش إلى الفضيلة، والرجل العامي يتحرق إلى اللذائذ المادية، وإن الحكيم يعنى بأن يلاحظ الواجب ويذعن له والرجل العامي لا يهتم إلا بأن يتصيد ما فيه من فوائد، وإن الحكيم لا يفهم في العموم إلا الواجب، أما العامي، فهو لا يفهم إلا منفعته)
لا ريب أن هذا النص يؤيد الأستاذ (زانكير) فيما ذهب إليه لأنه صريح في أن الحكيم لا يأبه إلا للواجب في ذاته، وأنه إذا حاد عن هذا الطريق فاكترث بأي شيء آخر كلذة أو منفعة هوى إلى صفوف العامة والجماهير، والآن وبعد أن أثبتنا أن (كونفيشيوس) كان في مقدمة القائلين بـ (الفيذاتية) المطلقة، نريد أن ندرس مذهبه الأخلاقي على ضوء نصوصه كما هي طريقتنا دائماً في هذه الدراسات.
قال (كونفيشيوس) في كتاب (تشونج - يونج) ما نصه: (إن الطبيعة هي الإرادة الإلهية(232/54)
الخالدة، وإن الحياة بحرية أو اتباع الطبيعة هو واجب الإنسان أو (تاوو)، وإن معرفة الواجب هي الدين نفسه. إن الواجب هو ذلك الشيء الذي ليس بمسموح لأحد إبعاده لحظة واحدة، لأنه لو سمح بالبعد عنه لحظة لما اصبح هو الواجب، ولهذا يعنى الحكيم في شيء من الانتباه بما لا يرى في داخله ويخشى في شيء من القلق ما لا يسمعه بأذنه، ويجب ألا يعالج بالكشف ولإيضاح إلا ما هو مخفي في داخل نفسه، ويجب ألا يكون شيء أوضح لديه من أعمق طيات قلبه، ولأجل ذلك يلقي الحكيم بنفسه بين أعطاف هذه المعالجات التوضيحية كلما خلا بنفسه، وحينما تكون النفس غير مهتاجة بأحاسيس حب أو غضب أو حزن أو سرور يقال عنها أنها في حالة الاعتدال أو (تشونج)، وحينما تتولد هذه الأحاسيس في النفس دون أن تتجاوز الحد المعتدل، قيل عن هذه النفس: أنها في حالة الانسجام (تاوو) وإذاً، فالاعتدال هو الأصل، والانسجام هو القانون العام وحينما يلحق الاعتدال والانسجام غايتهما يسود النظام في السماء وعلى الأرض، وتنمو جميع الكائنات)
من هذه النصوص يتبين مذهب هذا الحكيم في لأخلاق جيداً، وتتضح فكرته عن الواجب والاعتدال والانسجام، ومن الجملة الأخيرة بنوع خاص نلمح مذهب (كانت) قبل وجوده بأكثر من أربعة وعشرين قرناً، وهو القائل بان الاعتدال هو أصل أساسي في النفس، وبأن الحيدة عن الصراط المستقيم طارئة على الإنسان بسبب أحاسيس الحب والبغض والغضب والرضى والسرور والحزن، وبأن الحرية الأخلاقية هي منشأ مسئولية، وبأن الانسجام ضرورة سماوية لبقاء العالم ونموه وسيره نحو الكمال وما أقوى الشبه بين نص (كونفيشيوس) القائل: (وحينما يلحق الاعتدال والانسجام غايتها يسود النظام في السماء وعلى الأرض، وتنمو جميع الكائنات) ونص (كانت) القائل: (إن كل ما لو عم لصلحت الأرض هوالخير، وكل ما لو عم لفسدت الأرض هو الشر)
بل ما أحكم الصلة بين نص (كونفيشيوس) القائل: (إن الاعتدال هو الأصل والانسجام هو القانون العام) وبين نص (كانت) القائل: (إن إرادة كل فرد عاقل معتدل هي المؤسسة للقانون العام)
يرى (كونفيشيوش) كما يرى (كانت) أن كل إنسان إذا حقق الانسجام الطبيعي وثبته في داخل نفسه كما شاءته الإرادة الالهية، فقد حقق الواجب، وهو يرى كذلك أن الحرية النفسية(232/55)
يجب أن تسبق تأدية الواجب، وأن الإرادة البشرية ليست موفقة دائماً لتحقيق الواجب، وإنها تستطيع أن تبتعد عنه، ولكن ليس معنى هذا الابتعاد أن يتغير الواجب، كلا، بل هو كما تبعته الإرادة البشرية أو لم تتبعه، وهذا يدل - كما يرى الأستاذ (زانكير) - على أن قانون الأخلاق هو معتبر في ذاته أو هو مطلق عام لا شخصي مقيد، ولولا ذلك الإطلاق وهذه العمومية لما كان قانوناً أخلاقياً لكل أفراد الإنسانية، بل للسماء والأرض
وعنده أيضاً أن جميع أفراد بني الإنسان متساوون أمام هذا القانون الأخلاقي، وأنه في درجة من الوضوح لا تخفى على أي فرد، لأن العلم به فطري، وهو يرى لذلك أن الواجب لا غاية له إلا ذاته، وأنه إذا لوحظت في تأديته غاية أخرى من منفعة أو لذة أو أية غاية أخرى خرج عن كونه واجباً عاماً وأصبح غير صالح للجميع، لأن الناس يختلفون في غاياتهم الشخصية، فإذا أخضعنا الواجب لبعض تلك الغايات المتباينة لم يعترف به الآخرون الذين ليس لديهم مثل هذه الغايات، وبهذا يفقد كل شئ.
وعنده أيضاً كما عند (كانت) أن العمل إذا قصد به غير وجه الواجب سقطت قيمته الأخلاقية وأصبح نفعياً، وأن اتباع الإرادة للواجب يصيرها سامية فوق اعتبارت الحياة العامية، وإن الحكيم يشعر في داخل نفسه عند أداء الواجب بأقصى أنواع السعادة وهو في كل هذا يقول: (إن الإنسان ذا الأخلاق الكاملة (جين) هو الذي يقدم المتعب المضني على النافع اللذيذ ولا يلتفت عند أداء الواجب إلى ما يستفيده منه) ويقول أيضاً: (إن الإنسان بدون الأخلاق لا يستطيع أن يحتمل الفقر ولا الغنى وقتاً طويلاً. وإن الأخلاقي يجد في الأخلاق كل ترضية وإن الحكيم لا يصيره شرهاً نهماً إلا كنز الفضيلة)
لا ريب أن عدم احتمال الفقر عند غيبة الأخلاق أمر مفهوم لأن من تعوزه فضيلة الصبر يتعذب بمرارة الفقر، أما عدم احتمال الغنى في تلك الحالة فلعل الحكيم يقصد به أن الغنى في حالة فقد الفضيلة خطر لا يحتمله حتى صاحبه. بقي علينا الآن أن نشرح كلمة (جين) الواردة في هذا النص الذي أسلفناه لك كما فهمها المستصينون، ومعناها: الأخلاق، أو الواحد لأجل الجميع، أو الفرد للمجموعة.
وجه بعد ذلك سؤال إلى (كونفيشيوس) من معاصريه قالوا له فيه: كيف يتبع الإنسان الواجب دائما؟ وما هي الوسيلة العملية لتحقق هذا الواجب؟ وما هو ذلك الصوت الذي(232/56)
تقول انه ينادي دائما بالإذعان للواجب؟ وأي ضمان يطمئن الإنسان على أنه سائر دائماً في طريق الواجب؟ فأجاب بقوله: إن الطريق العملي لتحقق الواجب هو الإذعان لهذا الصوت الداخلي، وإن الضمان المطمئن هو إدمان مراقبة النفس حتى يكشف جميع دواخلها، فإذا حصل للفرد هذا الكشف وصل إلى درجة الحكمة، لأن القلب حينما يقوده الهوى ينسحب إلى الشر دون أن يشعر فيصبح الإنسان يرى ولا يبصر ويسمع ولا يعقل. والعلة في هذا هي أن العواطف والأهواء تسود أعمالنا وتمنعنا من أن نحكم أحكاماً صحيحة على أنفسنا وعلى العالم الخارجي.
أحسب أن الباحث لا يجد عسراً في ربط هذا الجواب الأخير بقول حكيم اليونان الأول: (اعرف نفسك بنفسك) تلك الحكمة التي وجدها (سقراط) - فيما تقول الأساطير الإغريقية - مكتوبة بالذهب على عتبة معبد (دلفى) واستغلها فكان أساساً صالحاً لفلسفته وفلسفة تلميذه العظيم (أفلاطون) بل إنها ظلت تتغلغل ساطعة في غيابات المستقبل حتى كانت أحد أسباب جلال (ديكارت) وخلوده حيث صرح بعد اثنين وعشرين قرناً بقوله: (إني لما كشفت الأنا حملت مصباحه الذي على سناه كشفت كل اللاأنا)
على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أن الأستاذ (زانكير) يرى أن فلاسفة اليونان الذين قالوا بمبدأ (اعرف نفسك بنفسك) لم يتنبهوا إلى العقبات التي تعترض سبيل الإنسان عندما يحاول هذه المعرفة، وهو يصرح بأن (كونفيشيوس) إن لم يزد على أولئك الفلاسفة في هذه النقطة فهو من غير شك يساويهم فيها. وبناء على ذلك، فالقائلون بأن (كونفيشيوس) حتى لو كان قد تنبه إلى معرفة النفس بالنفس فإنه قصر في معالجة العقبات الناشئة من هذه المحاولة هم على خطا في هذا الرأي، لأن تلك العقبات لم يعرض لها إلا علماء النفس في العصور الحديثة. وإذن، ففلاسفة الإغريق وحكيم الصين في هذا الموقف متساوون
يختلف (كونفيشيوس) مع (لاهو - تسيه) في وسيلة الوصول إلى الكمال الخلقي، فأما (لاهو - تسيه) فهو يرى أن التأمل النفساني كافٍ لوصول الإنسان إلى الكمال أو إلى تحقيق الانسجام المطلق في جميع حركاته. والانسجام عنده هو المسمى بالسكون الطبيعي الذي لا ينقصنا إلا حينما ننشغل بالظواهر، ومتى فصمنا عرى صلاتنا بها عاد إلينا. أما (كونفيشيوس) فيرى أن من المستحيل قطع صلاتنا بالظواهر الخارجية وإن كل محاولة في(232/57)
هذا السبيل فاشلة، وإن الإنسان لا يصل أبداً إلى الانسجام المطلق في جميع حركاته وإنما يصل إلى انسجام نسبي يقترب من الإطلاق بعض الشيء، وإن التأمل وحده ليس كافياً، وإنما يجب أن تضم إليه الثقافات والمعارف الخارجية، بل أن الثقافة هي الجوهر الأساسي للوصول إلى المعرفة والفضيلة الكاملتين، وهو لهذا يقول: (إن الشغوف بالدراسة يمنح الفضيلة الحكمة، وإن من يقوم بمجهود يمنح فضيلة حب الإنسانية، وإن الذي يحمر وجهه خجلاً من أنانيته يمنح فضيلة القوة) وهذه الفضائل الثلاث هي عنده الواجب أو ضروريات الكمال. وهو يرى أن الدراسة المحققة للثقافة والفضيلة يجب أن تتناول حقائق الأشياء: معنوياتها ومحساتها تناولاً دقيقاً مؤسساً على النقد الذي لا يعرف هوادة ولا ليناً، ولا يخضع لرحمة ولا عاطفة ولا هوى، فإذا نبت الدراسة عن هذه العوائق أنتجت أسمى النتائج وأرقاها. وفي هذا يقول: (حينما تدرس طبيعة الأشياء عن قرب وبانتباه تصل المعرفة إلى أعلى آواجها. وحينما تبلغ المعرفة أقصى آواجها تصبح الإرادة كاملة، وحينما تصبح الإرادة كاملة تصير حركات القلب منظمة متفقة مع القانون. وحينما تصبح حركات القلب منظمة يتخلص الإنسان من الآثام. وبعد أن يتخلص الفرد من الآثام يشرع في توطيد دعائم النظام والانسجام في الأسرة. وإذا ساد الانسجام في الأسر بلغ الحكم في المدينة درجة الكمال، وإذا بلغ الحكم في المدينة حد الكمال استمتعت الإمبراطورية بالسلام التام)
أحسب انه بعد كل الذي قدمناه من آراء هذا الحكيم القيمة وبعد هذه الموازنة التي أسلفناها بينه وبين أولئك الفلاسفة القدماء والمحدثين لا معنى لأن يغمطه بعض الباحثين الغربيين حقه فيرموه تارة بأنه ليس فيلسوفاً، وأخرى بأنه عملي أو نفعي. وأحسب كذلك أنه لا ينبغي أن نتأثر في حكمنا على هذا الفيلسوف بذلك التشويه الذي أصاب مذهبه بعد عصره، بل يجب علينا أن نضع نصب أعيننا ذلك السمو الفلسفي، والنبل الأخلاقي اللذين تفيض بهما مؤلفات (كونفيشيوس) وأن نذكر دائماً أنه وضع للمتفلسف ثلاثة شروط أساسية، الأول الإخلاص الكامل في كل ما يخطوه من خطوات علمية أو عملية. الثاني البدء بدراسة (الأنا) ليتوصل به إلى كشف كل (اللاأنا). الثالث الدراسة النقدية العميقة لجميع الأشياء الخارجية. فإذا لاحظنا كل هذا جزمنا بأن كل من لا يسمو بهذا الفيلسوف إلى الصف الأول من صفوف مفكري الإنسانية كان غير موفق في دراسته وحكمه.(232/58)
(يتبع)
محمد غلاب(232/59)
رسالة الشعر
الليل. . . .
للأديب محمود السيد شعبان
أَسْبِلْ على الدُّنيا سُتُورَ الكَرَى ... وَلُفَّها يا ليلُ في ضُلْمَتِكْ!!
الصَّمْتُ في وادِيكَ حَيٌّ يُرى! ... والوَحْدَةُ الَخرْساَءُ في عُزْلَتِكْ!
والموْتُ في نادِيكَ يَرْعَى البَشَرْ ... يا مَوْطِنَ الُهلْكِ وَمثْوَى النَّهَمْ!
وفيِ دياَجِيكَ يَطِيِشُ القَدَرْ ... وَيفْتِكُ الَهمُّ ويَطْغَى السَّأَمْ!
أأنْتَ مَعْنىً مِنْ معَانِى الرَّدىَ ... أَمْ أَنْتَ طَيْفٌ مِنْ طُيُوفِ الملَلْ؟
قدْ ضاَعَ في وَادِيكَ عُمْرِي سُدَى ... وماَ جَنَتْ كَفَّاىَ إِلاَّ العِلَلْ!
يا مَوْطِنَ الأَشْباَحَ يا اُبنَ العَدَمْ ... ماَ أَناَ مَنْ يخشاكَ أَوْ يَرْهَبُكْ!
وفي فُؤَادِي غَيْهَبٌ مِنْ أَلَمْ ... يَرْوِى دُجاَهُ بالأَسَى غَيْهَبكْ!
أَطَلْتُ يا لْيلُ إِلَيْكَ النَّظَرْ ... فماَ رَأَتْ عَيْناَىَ شَيْئاً يُرَى!!
ياَ وَيلَتاَ لِي كيْفَ أَهْوى السَّهَرْ ... وكلُّ مَنْ فِي الارْضِ يَهْوَى الْكَرَى؟
نَمْ يا فُؤَادِي كلُّ شَيْءٍ هُناَ ... أَغْفَى عَلَى أُمْنِيَّةٍ تُرْتَجَى!!
وَهَدْهَدَتْهُ بِاسَماتُ الْمنُى ... في هَدْأَةِ الَّليْلِ وَصَمْتِ الدُّجَى!
لَمْ تُبْقِ لي الأيَّامُ مِنْ مَأْمَلِ ... في حاضِرِي أَرْجُوهُ أَوْفي غدِى!
قدْ غَاضَتِ اْلآماَلُ مِنْ جَدْوَلِي ... وقدْ نَفَضْتُ الآنَ مِنْها يَدِى!
مالي ولْلأَغْلاَسِ تُعْيىِ الْبَصَرْ ... ولَيْسَ لي في الليْل إِلْفٌ يُرى!
يا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ جفَاَنِي الْبَشَرْ ... أَمْ أَنَّنِي وحْدِي جَفَوْتُ الْوَرَى؟
يا نَجْمُ ماذَا في الدُّجَى أَعْجَبَكْ ... الَّلْيلُ يا نجمُ عُباَبُ القَدَرْ؟!
أَأَنْتَ يا نجمُ تُحِبُّ الْحَلكْ ... أمْ أنْتَ مِثْلِي مُولَعٌ بالسَّهَرْ؟
يا ساَهِداً لَمْ يَدْرِ مَعْنَى الْكَرَى ... كُنْ مُؤْنِسِي إِنِّي وَحِيِدٌ هُناَ!!
أَماَ تَرَانِيِ قَدْ هَجَرْتُ الوَرَى؟ ... فَلَيْتَنِي أَسْطِيعُ هَجْرَ الدُّناَ!
أَلِيَّةً يا نَجْمُ قُلْ لِلسَّحَرْ: ... تعالَ إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ الْغَلَسْ!!
ما في الدُّجَىِ مِنْ مُتْعَةٍ لِلْبَصَرْ ... ولَيْسَ في وَادِيهِ إِلاَّ الَخرَسْ!!(232/60)
يا رَاقِداً حَفَّتْ بِهِ العاَفِيَهْ ... ودَاعَبَتْ أَجْفاَنَهُ الَحالِمَهْ!
أَلَمْ تُثِرْ أَشْجاَنِىَ الباكِيَهْ ... لَفْحَ الأَسَى في نفسِكَ النَّاعِمَهْ؟!
عَلَى سَرِيِرِ الوَرْدِ نَمْ إِنَّنِي ... على سَرِيِرِ الشَّوْكِ أَسْتَشْهِدُ!!
أُرِيدُ أَنْ أبْكي فَلا تَلْحَنِي ... لَعَلَّ هَذَا الدَّمْعَ لِي يُسْعِدُ!!
نَمْ يا حَبيِبي لاَ يَرُعْكَ الأَسَى ... ماَ أَناَ في الظَّلْماَءِ إِلاَّ شَبَحْ!!
أَو ْزَوْرَقٌ في بَحْرِهِ ماَرَساَ! ... أو تاَئِهٌ عَنْ دَارِهِ قَدْ نَزَحْ!
نَمْ يا حَبيِبي ناَعماً لا تَخَفْ! ... مِنْ عاَبِرٍ أَضْناَهُ طُولُ السُّرى!
وَهَبْ لِرُوحِي قُبْلَةً مِنْ تَرَفْ ... لَعَلَّ عَيْنِي تَسْتَطِيِبُ الكَرى!
يا لَيْلُ مالِي مِنْ حَبِيبٍ َفلاَ ... تَسْأَلْ فُؤَادِي: فِيِمَ ذِكْرُ القُبَلْ!؟
هَذَا خَياَلٌ زَائِفٌ ماَسَلا ... عَنْ ذِكْرِهِ قَلْبٌ يُحِبُّ الْغَزَلْ!
يا وَهْمُ ما أَحْلاَكَ مَوِّهْ مَعِي ... عَيْشِي بأَطْياَفِ الرُّؤَى اِلخادِعَهْ!
وَاُسْكُبْ لُحُونَ البِشْرِ في مِسْمَعِي ... وَاُمْلأْ حيِاتِي بالمُنَى الرَّائِعَهْ!
يا وَيْحَ قلبي ماَتَ فِيهِ الَهوَى ... وماَ تَبَقَّى مِنْهُ غيْر الَخبَلْ!!
وَكانَ ماَ كانَ فلَمَّا انْطَوى ... مَضَى الرِّضى عنْهُ وغاَضَ الجذَلْ!
وهاَمَ في الظلمة بِى يَسْأَلُ: ... أََيْنَ الَهوى يا لَيْلُ أيْنَ المرَحْ؟!
يا قلبُ لا تَسْأَلْهُ ماَ يَجْهَلُ! ... وَدَعْ لِمَنْ ضَلَّ الأَسَى والترَحْ!
يا لْيلُ دَعْنِي قدْ دَهاَني القَلَقْ! ... وَحَطَّمَتْنِى عادِياَتُ القَدَرْ!!
وَارْحَلْ فقد يَذْهَبُ عنِّي الأَرَقْ ... إِنْ اُنْتَشَتْ رُوحِي بِعِطْرِ السَّحَرْ!
قدْ أَقْبَلَ الفجرُ فلاَ تَيْأَسِي! ... ما ضاَعَ يا نَفْسِي اصْطِباَرٌ سُدَى!
وأَغْمِضِي جَفْنَيْكِ ثُمَّ اْنَعسِي! ... ولاَ تَخَافي إِنْ أَتاَكِ الرَّدَى!!
(الإسكندرية)
محمود السيد شعبان
على زهرة ذاوية
للسيد جورج سلستي(232/61)
عَبَثَتْ برونقِها يدُ الدهرِ ... وبدا البِلى بعروقِهِا يَسريِ
وتناثرتْ اوراقُها - وَثَوَتْ ... فوق الثرى - كتنُاثرِ الدرِ
لهفي على حسنٍ تصحّوهُ ... أيدي العفاءِ وسطوة الغدرِ
كانتْ تَزيُنُ الرَوضَ روعتُها ... وتضمِّخُ الأرجاَء بالعطرِ
كانت وكان الفجرُ يعبدها ... بين الرياض ولم تكنْ تدري
جاسَ الغرامُ فؤاده وكوى ... منه الضلوعَ بلمسهِ السحري
فبدا له، فأراقَ مهجتهَ ... فيها، فكانتْ ديمة القطر
ليس الندى إلاّ دماه، ألا ... لله من فعل الهوى العذري
يا زهرة روَّيتُها بدمي ... وسقيتُها بمدامعي الحمرِ!
نامي بحضنِ الأرضِ هانئةً ... إنَّ الردى خيرٌ من العمر!
إنَّ الحياةَ لمَرَّةٌ أبداً ... ملأى من الآثام والشرِّ!
أسقتنيَ الأيامُ من مَدَرٍ ... وغذتنيَ الأقدارُ بالمرِّ
صافَ الهنا عنِّي، وقد نَفَرتْ ... مني السعادةُ كالظِبا الُعفْرِ
قد كان لي يا زهرتي أَملٌ ... لكنما اودى به دهري
وحبيبةٌ كالصبح طلعتُها ... غَدَرَتْ كأنَّ الحسنَ بالغدرِ
يا زهرتي، يأتي الربيعُ غدا ... وينمِّق الجنّاتِ بالزهرِ
ناميِ بحضنِ الأرضِ حالمةً ... بمجيئهِ، وببسمةِ الفجرِ
لكنّ آمالي وقد غَربتْ ... ليست تعودُ؛ غلبتُ في أمري
لك في مماتكِ عودةٌ وأنا ... بعد المماتِ أظَلُّ في قبري!
(بيروت)
جورج سلستي(232/62)
الأسرار
للأستاذ إيليا أبو ماضي
يا ليتني لص لأسرق في الضحى ... سرّ اللطافة في النسيم الساري
وأجس مؤتلق الجمال بأصبعي ... في زرقة الأفق الجميل العاري
ويبين لي كنه المهابة في الربى ... والسر في جذل الغدير الجاري
والسحر في الانغام والالوان وال ... أنداء والأشذاء والأزهار
وبشاشة الموج الخصيب ووحشة ال ... وادي الكئيب وصولة التيار
وإذا الدجى ارخى عليَّ سدوله ... أدركت ما في الليل من أسرار
فلكم نظرت إلى الجمال فخلته ... ادنى إلى بصري من الأشفار
فطلبت وإذا المغالق دونه ... وإذا هنالك ألف ألف ستار
باد ويعجز خاطري إدراكه ... وافِتنْنَي بالظاهر المتواري!
إيليا أبو ماضي(232/63)
رسالة العلم
الزنك كعنصر أساسي لنمو النبات
للأستاذ عبد الحليم منتصر
تتمة
بينا في المقال السابق الأعراض التي تبدو على النبات المحروم من عنصر الزنك من بين ألوان غذائه، وأتينا على طرائق علاج هذه الحالات المرضية التي تعتريه بإعطائه حاجتهمن هذا العنصر، ووعدنا بتفصيل العلاقة بين طبيعة التربة وصفاتها الكيميائية وبين سير هذا المرض وتأثر النبات به ودرجة احتماله إياه ومقاومته له. فقد ثبت من التحاليل الكيميائية الدقيقة التي أجراها (هبرر) و (إلين) و (بوجز) أن النبات لا يستخلص كل الزنك الذي بالتربة ولكن لسبب ما - لعله الحموضة أو القلوية الموجودة أكثر من اللازم - يجعل التربة تحبس زنكها عن النبات، فإذا كانت قلوية كان السبب عدم ذوبان مركبات الزنك في هذا المحلول القلوي. وإذا كانت حامضة كان السبب عدم سهولة الاحتفاظ بالزنك في المحلول بالتربة، ويكون آنئذ سريع الانتشار. فمن ذلك نرى أن هناك علاقة بين ظهور أعراض المرض وبين درجة الحموضة أو القلوية للتربة، بمعنى أن المرض يظهر ويشتد في درجة حموضة أو قلوية خاصة، على حين لا تبدو آثاره في درجة أخرى. فقد وجد أنه إذا كانت درجة القلوية من 7 إلى 7. 3 تكون أعراض المرض شديدة جداً، بل يندر أن ينجو من خطره أقوى أنواع النبات احتمالاً، لأن درجة احتفاظ التربة بالزنك في هذه الحالة تكون ضعيفة مسرفة في الضعف. أما إذا كانت هذه الدرجة من 8 إلى 9 في ارض طينية فانه يندر أن تتأثر الأشجار كثيراً بنقص الزنك لان مثل هذه التربة تحتفظ بالزنك إلى درجة كبيرة، وهي في الوقت نفسه لا تحبسه عن النبات
ومن العوامل الطبيعية التي تؤثر في سير المرض حرارة الجو وكمية الضوء، فهو في الشتاء حين الحرارة منخفضة وكمية الضوء قليلة ضعيف الانتشار؛ وعلى نقيض ذلكتكون الحال في الصيف.
وهناك من الحقائق ما يثبت أن في التربة المصاب نباتها من العوامل ما يمنع الجذر من(232/64)
امتصاص الزنك، أو المساهمة في نقله إلى قمم الأشجار أو سائر أعضاء النبات. وقد وجد في بعض الأشجار التي تعاقبت على إصابتها السنون دون علاج أن كثيراً من أجزاء الجذر قد ماتت فعلاً. والمرجح أن عنصر البوتاسيوم لا يلبث أن يخرج من قلف الجذر في النبات المصاب، فقد ثبت أن ما به منه لا يتجاوز 10 إلى 25 % من البوتاسيوم الموجود بقلف الساق أو بقلف جذر نبات سليم أو معالج بالزنك. وبما أن الزنك يتحد بمركبات عضوية، ويكون أحد مقوماتها غير العضوية، فربما كان خروج البوتاسيوم يساعد على استمساك الجذور بزنكها واحتفاظها به، فلا يتصاعد إلى القمم. وكانت نتيجة التحاليل الكثيرة التي أجريت إثبات تجمع الزنك بالجذر في بعض الحالات
على أن الواقع أن معالجة الأشجار بالرش، أو بإيلاج قطع الزنك في الفروع دون التعرض للتربة، من شأنه أن يشفى النبات ويجعله في حالة جيدة، مما يدل على أن الجذر برغم عدم جعل العلاج عن طريقه مباشرة، يقوم بوظيفته الطبيعية في سهولة ويسر
ومن الإحصاءات البديعة ما قدمه (باركر) عندما قارن بين الأشجار المعالجة برش الزنك وتلك التي لم تحظ بهذا العلاج، إذ وجد أن الشجرة المعالجة قد أعطت 477 رطلاً من الثمار على حين كان ما أنتجته الثانية لا يزيد على 56 رطلاً فقط؛ وذلك فضلاً عن أن ثمار الأولى أكبر حجماً وأجمل منظراً، وهي بالتالي أسرع نفاذاً في السوق، لكثرة الإقبال عليها من المستهلك. كذلك وجد (باركر) في حالة البرتقال (أبو سرة) أن محصوله قد تضاعف فاصبح ستة أمثاله قبل العلاج
وقد بينا أنه في حالة وضع قطع من الزنك في الفرع تظهر آثار العلاج في الجزء من قمة الفرع إلى مكان الزنك فيه، نمواً وإزهاراً وإثماراً على حين يكون الجزء الأسفل ما يزال يعاني آثار المرض، وإن ثبت أن بعض التحسن يبدو عليه بعد ذلك كنتيجة لاطراد التقدم سنة بعد أخرى، وذلك من آثار الصحة والنشاط التي ستتبدى في الأوراق بعد العلاج، فيعم خيرها على النبات كله بالتدريج.
وقد أوضح بعض الباحثين منهم (آرك) و (هجلاند) الأثر الذي تنتجه الكائنات الدقيقة التي توجد بالتربة في ظهور هذا المرض أو اشتداد آثاره، تلك التي كانت نتيجة إبادتها بالفورمالين أو الحرارة أو الأثير زوال الأعراض السالفة أو تخفيف بعض آثارها مما يدل(232/65)
على أن لهذه الكائنات فعلاً في إظهار المرض وسيره. ولكن الواقع أن معالجة التربة بهذه الطرائق أي المطهرات أو الحرارة غير متيسرة إلا في الصُّوَب (بيوت زجاجية لتربية النبات) ولذلك فهي غير مجدية في الحقول أو الحدائق. أما إضافة الزنك إلى التربة فأنها أكيدة النفع محققة الغرض
على أننا نتساءل الآن: ماذا عسى أن يكون هذا الدور الذي يلعبه الزنك في النبات؟ فالمعروف أن لكل عنصر يدخل النبات دوراً يقوم به في تغذيته وتركيبه، أو في العمليات الفسلجية التي تجري به. ولما كانت نسبة الزنك في النبات ضعيفة جداً خصوصاً إذا قورنت بأي عنصر من العناصر الأخرى، فهي لا تكاد توازي جزءاً واحداً لكل ألفين أو ثلاثة آلاف جزء من الأزوت مثلاً. بيد أن نقص الزنك أنتج مرض حرمانه كما رأينا من الآثار السيئة الشديدة التي تصيب النبات من هذا الحرمان. وذلك رغماً من أن الزنك لا يدخل دائماً في تركيب البروتبلازم أو مركباته، كما هي الحال مع الفسفور أو الكبريت أو الأزوت. والمعتقد أن للزنك دوراً هاماً يقوم به في بعض العمليات الفسلجية بالنبات، وخاصة عمليات التأكسد التي لولاها لتكونت مواد ثانوية ضارة هي التي تؤخر النمو وتكون السبب في ظهور البقع والأوراق الصغيرة المحمرة وغيرها من الأعراض؛ كما أن له أثراً آخر قد لا يقل عن سالفه، وهو أن مركب الزنك يعتبر عاملاً مساعداً يسرع بالعمليات الكيميائية وخاصة ما يتصل منها بالمواد الكربوايدراتية. ودليلنا على ذلك شدة الأعراض في الصيف إذ يكون اليوم طويلاً فتتجمع المواد النشوية كذلك في حالة الأشجار التي تتساقط أوراقها شتاء؛ فهذه الأعراض تبدو قوية الأثر آنئذ بسبب تراكم المواد النشوية فتتحسن حالته في أوائل الربيع، وذلك عندما يأخذ النبات أهبته ويستأنف نشاطه، فيستغل ما تجمع فيه من مواد لنموه. وقد ظهر من المشاهدات والبحوث العديدة التي أجريت في هذا الصدد أن عنصراً غير الزنك لا يستطيع أن ينتج نفس الأثر أو يمنع عوارض المرض، فقد استعملت مركبات الكوميوم والزئبق والفضة والنيكل والكروم والبورق والتيتانوم فكانت النتائج سلبية. وكذلك الحال باستعمال مركبات الصفيح والزركونيوم والتنجستن والموليبدنوم.
من هذه الحقائق مجتمعة، يصح لنا أن نعتقد أن الزنك عنصر أساسي للنبات، سواء منه(232/66)
الفطريات أو النباتات الراقية. وإن من المناسب إضافته إلى ثبت العناصر الأساسية الهامة التي تلزم لكي يحيا النبات حياة طبيعية هادئة، وحتى تستقيم له أسباب نموه وإراقه وإزهاره.
ولعل الصعوبة التي كانت تحول دون هذا الاعتبار إنما ترجع إلى الحقيقة الواقعة من أن كمية ضئيلة منه تكفي، ثم أنه من السهل وجود مثل هذه الكمية في المركبات الكيميائية المختلفة التي توجد بالتربة أو التي تضاف إليها، وذلك لان مركباته ذائعة الانتشار جداً مع المركبات الأخرى عندما تكون غير نقية، أو غير تامة النقاء. ولقد رأينا كيف أن عدم وجود الزنك بين عناصر الغذاء يسبب مرض الحرمان الذي أشرنا إليه في هذا الحديث، وأن علاجه يكون بالإضافة إلى التربة، أو في ثقوب بالجذع والفروع، أو بدق مسامير مطلية بالزنك، أو برش مركبات الزنك على الأوراق والفروع. أما المقدار الذي يضاف إلى التربة فإنه يختلف تبعاً لطبيعة التربة والنبات والكائنات المجهرية التي بالتربة. كما أن المرجح حتى الآن أن الدور الذي يقوم به الزنك في العمليات التي تجري بالنبات هو دور العامل المساعد في بعض التفاعلات التي تتصل بتمثيل المواد الكربوايدراتية.
عبد الحليم منتصر
ماجستير في العلوم(232/67)
القصص
من روائع القصص الواقعي الإسلامي
عمار بن ياسر
لأستاذ دريني خشبة
(يا ابن سمية، لا يقتلك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية!)
(حديث شريف)
- 1 -
(عير من اليمن)
الحارث - ولم لا تعود معنا يا أخانا إلى اليمن؟
ياسر - اليمن وطني، ولكني والله أشم ريحاً بمكة لا تهب إلا من السماء؛ وإن قلبي ليهفو إلى مسراها. فاذهبا أنتما حتى يأذن الله!
مالك - يا أخانا، أنأتي إلى الحجاز لنعود أربعة إن وجدنا أخانا الضائع، فلا نعود إلا اثنين؟ أي ريح هذه التي تهب من السماء وإنك لتهفوا إلى مسراها؟
ياسر - والله يا ابن أم ما أدري. وما أكاد أنصح لكما ألاّ تعودا أدراجكما حتى ننشقها جميعاً. . .
مالك - بل تبقى أنت ونرتحل نحن غداة غد. . .
ياسر - ومع ذاك فلا أحب إليّ من أن تبقيا!
الحارث - بل تبقى أنت ونرحل نحن
- 2 -
(في مضارب بني مخزوم)
ياسر لأعرابي - عم صباحاً يا أخا العرب
الأعرابي - عم صباحاً! من أنت؟ ومن أي البطون أقبلت؟
ياسر - أنا رجل يمني أقبلت في عير معي أخوي لنبحث عن أخ لنا رابع أبق(232/68)
الأعرابي - ما عن ذاك سألت!
ياسر - بلى، وأريد أن أحالف سيد هذه العشيرة. فمضارب من هيه؟
الأعرابي - مضارب سيد العرب أبي حذيفة بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم وإنه لقادم فألقه إن شئت!
(يقبل أبو حذيفة)
أبو حذيفة - ممن الرجل وماذا يبغي؟
ياسر - يمني يعربي قحطاني يبغي أن يحالف سيد العرب فيخلص له!
أبو حذيفة - على عهد بعل وهبل!
ياسر -. . .!. . .
أبو حذيفة ينادي: يا كعب. . . يا كعب. . . خذ الرجل فاعهد إليه بالإبل!
- 3 -
أبو حذيفة - وحق بعل وهبل يا ياسر إنك للمخلص الأمين وإني مزوجك أمتي الجميلة العاقلة سمية هذه
ياسر -. . . الحمد لله!
أبو خذيفة - بل لهبل!
ياسر - الحمد لله لي ولك يا سيدي على ما رزقني
أبو حذيفة - إحمد هبلاً وإحمد بعلاً يا ياسر، فإنهما الإلهان!
- 4 -
(في مقابر بني مخزوم)
ياسر - لفي هذا الثرى ترقد يا أبا حذيفة! أما والله انه لا بعل نفعك ولا هبل. . . أما والله لقد عجل بك الموت عن الطريق السوي. . .
عمار - ماذا تقول يا أبتاه! ما الطريق السوي؟. . .
ياسر - والله يا بني إنا لفي زمان أظلنا فيه فيء نبي، وإني لأجد شميمه، وإني والله تخلفت عن أعمامك فلم أضرب بطون المطي إلى اليمن من اجل هذا لأن اليهود تقول أنه من(232/69)
قريش
عبد الله - وما بكاؤك هذا كله على أبي حذيفة؟
ياسر - أكرم مثواي وزوجني سمية أمكما فرزقتكما منها يا بني؛ وقد أعتقني فما رضيت أن أفارقه. ولشد ما أخشى أن أهون بعده!
- 5 -
(بيت بالصفا بلحف أبي قبيس)
ياسر - اسمعي يا ابني ما أحلى ما يقرأ محمد والمسلمون معه!
عمار - وماذا يقرءون يا أبي؟
ياسر - يقرءون ما يقضي إلى محمد وحيه من الله. لله ما أحلى ولله ما أعلى!
عبد الله - أليس هو من عند بعل يا أبتاه!
ياسر - بعل حجر لا ينطق وهم خلقوه. ولله لقد حام حين بعل!
عمار - ولم لا ندخل فنقرأ معهم يا أبي؟
ياسر - والله إني لهذا جئت إلى الصفا يا بني ووالله إني لأجد الريح التي تنشقتها مذ قدمت من اليمن. ومن اجلها استأنيت الحجاز وخالفت أخوي!
عمار - إذن نطرق الباب لنكون من السابقين!
ياسر - والله لنكونن منهم بإذن الله. . اطرق يا بني فلقد شرح الله صدورنا لهذا الأمر
(عمار يطرق الباب)
صوت الداخل - (من؟
عمار - مؤمنون بمحمد يريدون رسول الله!
الصوت - حباً حباً إخواننا في الله!
ياسر - يدك يا رسول الله. أشهد وبنيَّ أنه لا إله إلا الله وإنك رسول الله
(يمد له الرسول يمينه فيبايعونه)
ياسر - انطلق يا عمار فآت بسمية تشهد معنا وتغنم هذا الخير، إن ههنا مؤمنات مسلمات خابتات خاشعات!
- 6 -(232/70)
(رمضاء مكة وقت الظهيرة)
(يقدم بنو مخزوم ومعهم عمار وأبوه ياسر وأمه سمية)
أحدهم لياسر - نم يا صاحب محمد! ذق عذاب السعير الذي ينذرنا به نبيك!
(ويضربه ويضع الحجارة على صدره)
أحدهم لعمار - وأنت يا ابن الأمة! قل كفرت برب محمد! قل! اخلع هذه الثياب فلنفصلن لك ثياباً من رمضاء مكة تكويك وتشويك
(ينزع عنه الثياب ويقيده ويحثو التراب على رأسه)
أترى إلى هذا الجعل؟ قل هو ربي! قل هو خير من إله محمد! قل آمنت ببعل وود ويغوث ويعوق وهبل، وكفرت بإله محمد!
عمار - بل الله الله! الله ربى وبعل حجر أنتم خلقتموه!
(الكافر يركله ويحمي حديداً في نار موقدة ويكويه به)
الكافر المخزومي - قل كفرت بإله محمد أو أسمل عينيك
عمار - اقض ما أنت قاض. إنما تقضي هذه الحياة الدنيا!
الكافر - انظر إلى أبيك وأمك كيف يتعذبان! ألا تستر أمك فتكفر بمحمد وإله محمد يا ابن الأمة!
عمار - بل يصبران لبلاء الله كما اصبر. . . الله. الله. الله!
أحدهم لسمية وهو يعذبها - انظري يا أمة بعل، هذا زوجك وهذا ولدك، إلا تكفرين بإله محمد فنرسلك ونرسلهما؟
سمية - وكيف وقد هداني الله؟ لعذابكما أهون من حر جهنم. بل ربي الله لا اعبد إلا إياه. . .
الكافر المخزومي - وولدك هذا الذي يكوى بالنار؟
سمية - يصبر اليوم خير من ألا يصبر غدا!
الكافر المخزومي - ولن أدعك حتى تكفري بمحمد
(يضربها على يافوخها فتحتضر)
سمية - بل ربي الله! آمنت بالله وبرسوله(232/71)
(يمر رسول الله فيرى ما يقع بآل ياسر)
رسول الله - (صبراً آل ياسر! موعدكم الجنة. صبراً آل ياسر! موعدكم الجنة)
آل ياسر - لقد بعنا لك أنفسنا يا رسول الله فانظر ما يفعل السفهاء بنا
سمية - صوت من؟ الرسول الكريم! محمد! آمنت بك يا محمد! آمنت بك يا محمد! اشهد يا محمد ما يصنع بنا بنو مخزوم. . .
الكافر المخزومي - تعال يا محمد فخلص عبيدك!
(ويضربها الكافر بحجر كبير على رأسها فتموت ويستعبر النبي)
الرسول الكريم - يا رب. يا رب. يا رب!
أبو جهل (يحضر فيشهد فيقول لياسر) - يا فاجر تكفر بأربابك وأرباب آبائك؟ ها هو ذا محمد أدعه يمنعك!
(يمضي أبو جهل فيحثو التراب على رأس الرسول ويعود)
أرأيت ها هو ذا محمد! تركت دين أبيك يا ياسر وهو خير منك. لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك!
(يضربه ويمضي)
أبو سلمة المخزومي - يا لقومي! أتقتلون أناساً أن يقولوا ربنا الله!
أبو جهل - اسكت يا أبا سلمة أو لنرجمنك ونضعن شرفك!
- 7 -
(النبي والصحابة يبنون مسجد المدينة)
مدني لأنصاري - من أخوكم هذا الرجل الآدم الطوال المضطرب الأشهل الذي يحمل لبنتين ولا يحمل أيهم إلا لبنة واحدة؟
الأنصاري - ألا تعرف من هذا؟ إنه حبيب نبينا الرجل المؤمن الذي ما تعذب أحد من المسلمين كما تعذب. . . هذا عمار بن ياسر. . .
المدني - ومن هذا الرجل النظيف المتنظف يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كفيه ونظر إلى ثوبه، فإذا أصابه شئ من التراب نفضه؟
الأنصاري - هذا الرجل الصادق عثمان بن عفان(232/72)
(علي بن أبي طالب يرى ما نصنع عثمان فينشد)
علي بن أبي طالب:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها راكعاً وساجداً
وقائماً طوراً وطوراً قاعداً ... ومن يرى عن التراب حائداً!
(عمار يسمع علياً فيحفظ ما يقول وينشده فيسمعه عثمان)
عثمان - يا ابن سمية ما اعرفني بمن تعرض. لتكفن أو لأعترضن بهذه الجريدة وجهك
(النبي يسمع ما يقول عثمان)
عمار - جلدة ما بين عيني وأنفي، فمن بلغ ذلك منه فقد بلغ مني. . .
بعض المسلمون لعمار - إن رسول الله قد غضب فيك ونخاف أن ينزل فينا قرآن!
عمار - أنا أرضيه كما غضب!
(يقصد نحو النبي)
عمار - يا رسول الله مالي ولأصحابك؟
رسول الله - ومالك ولهم؟
عمار - يريدون قتلي. . . يحملون لبنة ويحملون عليّ لبنتين
(النبي ينفض عنه التراب بيديه الكريمتين ويطوف به)
النبي - ويح عمار! تقتله الفئة الباغية. . . يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. . . للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك من الدنيا شربة لبن
- 8 -
(سنة 37 هـ يوم صفين في الفتنة بين علي ومعاوية)
مجلس شورى
علي بن أبي طالب بعد خطباء - أيها الناس! أنه قد بلغ بكم وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلا آخر نفس، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغوا منكم ما بلغوا، وأنا غاد عليهم بنفسي بالغداة فأحاكمهم بسيفي هذا إلى الله!
(خطباء كثيرون يرون الحرب ويرى غيرهم الموادعة)(232/73)
عمار بن ياسر - أما والله لقد أخرجها إليك معاوية بيضاء، من أقر بها هلك ومن أنكرها هلك. مالك يا أبا الحسن؟ أشككتنا في ديننا ورددتنا على أعقابنا بعد مائة ألف قتلوا منا ومنهم؟ أفلا كان هذا (الاحتكام إلى كتاب الله) قبل السيف وقبل طلحة والزبير وعائشة؟ قد دعوك إلى ذلك فأبيت، وزعمت أنك أولى بالحق، وأن من خالفنا منهم ضال حلال الدم، وقد حكم الله تعالى في هذا المال ما قد سمعت. . . فإن كان القوم كفاراً مشركين فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، وإن كانوا أهل فتنة فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. والله ما اسلموا ولا أدوا الجزية ولا فاءوا إلى أمر الله ولا طفئت الفتنة. . .
علي - والله إني لهذا الأمر كاره!
- 9 -
(في حرب صفين)
عمار - أيها الناس! ائتوني بضباح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء (يشرب ويحمد الله ويقول:) إن رسول الله قال لي إن آخر شربة أشربها من الدنيا شربة لبن. . . اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن اقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته. . . اللهم انك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في صدري ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت. وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم أن عملاً من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته. . .
(عمار يهتف بالمسلمين من أصحاب علي)
- ألا من يبتغي رضوان الله علية ولا يؤوب إلى مال ولا ولد. . .؟
- (يقصد إليه مسلمون كثيرون فيهتف بهم)
- أيها الناس! اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبغون دم عثمان ويزعمون انه قتل مظلوماً؛ والله ما طلبتهم بدمه، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فأستحبوها واستمرءوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم. ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم فخدعوا اتباعهم أن قالوا إمامنا قتل مظلوماً ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا. . تلك مكيدة بلغوا بها ما ترون. . . ولولا هي ما تبعهم من(232/74)
الناس رجلان. . . اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم!
(ويمضي بمن معه من المحاربين)
عمار - يا عمرو بن العاص
عمرو - ما لك يا عمار؟
عمار - تباً لك بعت دينك بمصر! تباً لك تباً! طالما بغيت في الإسلام عوجاً. . . يا عبيد الله بن عمر بن الخطاب!
عبيد الله - ما لك يا عمار؟
عمار - بعت دينك من عدو الإسلام وابن عدوه؟
عبيد الله - لا، ولكن اطلب بدم عثمان
عمار - أشهد على علمي فيك انك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله عز وجل، وانك إن لم تقتل اليوم تمت غداً، فانظر إذا أعطى الناس على قدر نياتهم ما نيتك!. . . أما والله لقد قاتلت صاحب هذا الراية مع رسول الله ثلاثاً، وهذه الرابعة ما هي بأبر ولا اتقى
(عمار يهجم بمن معه ويقول لهاشم حامل الراية)
تقدم يا هاشم. . . . الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل. وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين؛ اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه
(يهجم عليه أبو غادية المزني من أصحاب معاوية فيقتله)
أبو غادية - إليك أيها الرجل فأنا قاتله. . .
عقبة بن عامر - بل أنا صاحبه. إليك إليك. . . لي رأسه أحتزه بسيفي!
أبو غادية - فتذهب بها إلى معاوية!
(ويقبل معاوية ومعه عمرو بن العاص)
عمرو بن العاص - والله إن يختصمان إلا في النار!
(ينصرف الرجلان بعد تسليم الرأس)
معاوية - ما رأيت مثل ما صنعت! قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما إنكما تختصمان في النار(232/75)
عمرو - والله ذاك! والله إنك لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة. . لقد أسلم قبلي وقبلك وأوذي ما لم نؤذ، وأحبه رسول الله، وحضر كل وقائع النبي. . . وقال الرسول تقتله الفئة الباغية!
معاوية - ويك يا عمرو! أنحن الذين قتلناه. . لقد قتله من أخرجه لهذا اليوم!
عليك السلام يا عمار. . . ليت قوماً غير المسلمين قتلوك!
دريني خشبة(232/76)
البريد الأدبي
كتاب عن الصحاري المصرية
من الكتب التي استرعت الأنظار أخيرا في إنكلترا وأمريكا كتاب صدر عن الصحاري المصرية بقلم الماجور جارفيس بك عنوانه: (صحراوات ثلاث) وقد كان جارفيس بك مدى ثمانية عشر عاماً حاكماً إدارياً في الصحاري المصرية وكان إلى عامين حاكم محافظة سيناء، ثم أقيل من الخدمة فيمن أقيل من الموظفين الإنكليز، وعكف على إخراج كتابه. وقد درس جارفيس بك خلال خدمته الطويلة أحوال الصحاري المصرية من الوجهة الجغرافية والوجهة الاجتماعية، ودرس اللغة العربية ولهجات البدو دراسة حسنة، فكتابه ثمرة لدراسة مستفيضة. وهو يقص علينا تجاربه الأولى حينما أرسل إلى العامرية محافظاً للصحراء الغربية ليشرف على ضبط الأمن والنظام في منطقة صحراوية شاسعة يجهل خواصها وأحوال سكانها. ومن رأيه أنه خير لأهل هذه الواحات النائية أن يبقوا على حالهم من البداوة والتأخر؛ وهو أيضاً خير لحكامهم، وتزداد مهمة الحاكم صعوبة كلما تقدم هؤلاء البدو في المعرفة والتمدن. غير أنه قد أضحى من المستحيل اليوم أن تطبق هذه النظرية بعد أن تطورت طرق المواصلات السريعة، وانتشرت الطيارة والراديو، وخرجت الصحراء عن عزلتها القديمة، وأضحت ترتبط بالعالم المتمدن. وهنا ينظر جارفيس بك إلى مهمته نظرة استعمارية فيحمل على مواطنيه الذين يضطلعون بمثل مهمته، ويجهلون كيف تساس هذه المجتمعات المتأخرة، وكيف تحشد لواء المستعمر. على أن كتاب جارفيس بك يحتوي بالرغم من صبغته الاستعمارية على كثير من المعلومات القيمة، وقد زين بكثير من الخرائط والرسوم
شاعر إنكليزي كبير يحاضر بالقاهرة
دعت كلية الآداب بالجامعة المصرية الأستاذ لاسيل ابركرومبي الشاعر الإنكليزي الكبير ليلقي بالقاهرة بعض محاضرات عن الشعر الإنكليزي والشعراء الإنكليزية وستبدأ هذه المحاضرات اليوم 13 ديسمبر بمحاضرة عن الشاعر (بن جونسون) ثم تعقبها محاضرات أخرى
والأستاذ ابركرومبي من أعظم الشعراء والنقدة المعاصرين في الأدب الإنكليزي؛ ويعتبر(232/77)
اليوم بعد وفاة توماس هادري وكبلنج ودرنكوانز عميد الشعر الإنكليزي. وهو عضو في الأكاديمية البريطانية؛ وقد شغل منصب الأستاذية في عدة من الجامعات الإنكليزية الكبيرة مثل جامعة ليدز وجامعة لندن، وموضوعه الشعر والشعراء. وهو يشغل اليوم في إنكلترا نفس المكانة التي يشغلها زميله وقرينه الشاعر بول فاليري في فرنسا
وسيكون ضمن محاضراته أحاديث عن التجديد في الشعر الغنائي والتجديد في فن الدرامة، وهما من الموضوعات التي اختص بدراستها وله فيها آراء جديرة بالتقدير.
رينه دوميك
نعت أنباء باريس الأخيرة الكاتب الفرنسي الكبير رينه دوميك سكرتير الأكاديمية الفرنسية. وكان دوميك مدى ثلث قرن في طليعة الكتاب والصحفيين البارزين؛ وقد بدأ حياته أستاذاً للأدب في كلية استانسلاس، ثم عالج الكتابة في الصحف فلم يلبث أن ظهر بصفاء أسلوبه وقوة نقدة. ولما تبوأ مركزه في الصحافة العالمية، اشتغل حيناً في جريدة (الديبا) ثم دعي إلى التحرير في مجلة العالمين الشهيرة وهنالك ظهر على صفحات هذه المجلة العظيمة إلى جانب زميله وصديقه الكاتب الكبير جول ليميتر. ولبث دوميك أعواما طويلة يعمل في أسرة مجلة العالمين، وكان لجهوده أثر بارز في تقدم هذه الصحيفة في العصر الأخير. واستقر المطاف بدوميك أخيراً في الأكاديمية الفرنسية حيث عين سكرتيراً دائماً لها. وهنالك بذل دوميك أيضاً جهوداً عظيمة في تنظيم الأعمال العلمية والاجتماعية. واشتهر دوميك بأسلوبه الذي يغلب عليه طابع الدقة والتحقيق. وله عدة مؤلفات أدبية ونقدية أشهرها كتابه في تاريخ الأدب الفرنسي.
كتاب جديد عن مكتشف أمريكا
صدر أخيراً بالفرنسية كتاب جديد عن كريستوف كولمبمكتشف أمريكا عنوانه (سر كريستوف كولمب) بقلم الكاتبين شارل دي جافري ورينه لي جانتي وفيه يحاول الكاتبان تمحيص جميع الأساطير التي ذاعت حول مولد كولمب وشخصيته وجنسيته؛ ودحض المطاعن والروايات القاذفة التي ثارت حول أعماله في أواخر حياته وقد أسبغت هذه الروايات على سيرة المكتشف وعلى خلاله كثيراً من الريب، وألقت على بطولته(232/78)
حجاباً كثيفاً. ويعترف الكاتبان أن بحثهما النقدي المستفيض لم يبدد كل غموض في حياة المكتشف العظيم، بيد أنه يلقي عليها كثيراً من الضياء الجديد
وفاة أديب عراقي في القاهرة
توفي الأستاذ محمود السيد سكرتير مجلس النواب العراقي يوم الجمعة الماضي بمستشفى الروضة على أثر عملية جراحية خطيرة ظل ثلاثة أشهر يكابد غصصها بعيداً عن وطنه، غريباً عن أهله حتى قضى نحبه المحتوم بين عناية أطبائه وعطف أصدقائه وقد أوصى وهو في سياق الموت أن يدفن في القاهرة. والأستاذ الشاب محمود السيد كان من السابقين الأولين في ميدان الأقصوصة، وقد بدأ شوطه فيها بداية حسنة، وهو وتيمور وصاحب الحاصد البغدادية طلائع النهضة القصصية في العالم العربي. رحمه الله رحمة واسعة وعزى فيه الشباب العراقي خير العزاء
الرطانة واللغة الإنجليزية
لما فتح العرب فارس والشام ومصر فشت الرطانة في اللغة العربية. ونقصد بالرطانة ما أطلق عليه المؤرخون (اللحن) وقد أثرنا الرطانة لأنها أعم، إذ اللحن لا يعدو الخطأ في الإعراب. وما حدث للغة العربية منذ ثلاثة عشر قرناً يحدث مثله اليوم للغة الإنجليزية. فقد فشت في آسيا الشرقية وجزر المحيط الهادي رطانة إنجليزية أطلقوا عليها هذه اللفظة بدجن، فقالوا وهي خليط من الإنجليزية والصينية لا يعسر على الإنجليزي أن يفهمها بعد أسابيع من إقامته هناك. . . وقد فشت هذه الرطانة الإنجليزية في دور العلم والمعاهد الصينية ولاسيما في هونج كونج التي تنفذ منها الثقافة الإنجليزية إلى قلوب الصينيين. . . ويحاول الإنجليز جهدهم تخفيف هذه الرطانة ولكنهم لا يفلحون
باكونين
صدر في إنجلترا في الأسبوع الفارط كتاب عن الفوضوي الروسي باكونين هو أكبر مؤلف في غير الروسية عن هذا الرجل السياسي الخطر الذي يرجع إليه الفضل في الحركة النهلستية التي أقضت مضجع القيصر وأقلقت بال حكومته، والتي كمنت في الشعب الروسي البائس، لتنفجر في هذه الثورة الجامحة الهدامة التي قام بها لنين وتروتسكي(232/79)
واتباعهما. . . ومؤلف الكتاب هو الأديب المؤرخ الإنجليزي الكبير ا. هـ. كار. . . وقد استطاع أن يلم بحياة المترجم إلماماً يثير الإعجاب ومن أحسن ما قال فيه: (فلإن تكن جهود باكونين قد انتهت آخر الأمر إلى أيدي عصابة من الأبالسة، فليس الذنب ذنب تعاليمه، فالرجل كان ينشد لروسيا حرية وحكومة صالحة أمينة على مرافق الأمة، لا حكومة جبارة حمراء، تستمد حمرتها من الدماء الزكية التي تسفكها. . . وقد كان باكونين غولاً يرتعد منه القيصر، فلما فر الزعيم من وجهه إلى أوربا ناشد قياصرتها باسم المودة أن تقبض عليه وتبعث به إليه. . . وقد فعلوا. . . فقد قبض عليه في درسدن وحوكم بتهمة التآمر على سلامة الدولة وحكم علية بالإعدام، وأرسلت به الحكومة إلى النمسا ولا ندري لماذا، فأيدت الحكم عليه بالإعدام محاكمها الإمبراطورية. . . ثم أرسل من هناك إلى روسيا، فصدر عليه نفس الحكم؛ ثم خفف بالنفي إلى أصقاع سيبريا. . . وقد ظل هناك بضع سنين. . . وكتب إلى القيصر يستعطفه ويرجوه أن يمنح البلاد بعض الحقوق الدستورية، ولكن القيصر سخر بكتابه. . . غير أن باكونين فر من منفاه، واستطاع أن يركب البحر إلى أمريكا، ومنها إلى أوربا، ووصل إلى كوبنهاجن، ولكن عيون القيصرية كانت تترصده، فثنى عنانه إلى فرنسا، واستقر في ليون، يعاني شظف العيش ويتجرع غصص الحياة، حتى وافته منيته سنة 1875). هذا وقد تأثر كبار أدباء الروس بتعالم باكونين وفي مقدمتهم دستوفسكي وتولستوي وترجنيف
تطور القصة البوليسية
تشغل القصة البوليسية اليوم أوسع مكان في الأدب القصصي، بل هي اليوم احب أنواع القصص الشعبي وهي تستهوي الشباب بنوع خاص، ومن ثم كانت العناية بتهذيبها وصقلها اليوم. ويعتقد البعض خطأ أن القصة البوليسية حديثة العهد بين أنواع القصص؛ والواقع أنها قديمة النشأة وتجد مادتها في التاريخ بكثرة غير أنها اتخذت في العصر الحديث صبغتها الفنية الجديدة، واصبح بطلها التقليدي رجلاً مغموراً لا أسرة له، يستهويه بحث الغامض وتحقيق القضايا المعقدة ومطاردة الجناة البارعين في التستر والتخفي. وقد كان هذا البطل في البداية يقدم إلينا في صور وصفات بغيضة أخصها القسوة والخشونة وحب التنكيل والتشفي؛ وفي مثل هذه الصورة يبدو لنا (جافير) أحد أبطال قصة (البؤساء) لفكتور(232/80)
هوجو؛ ولكن هذه النزعة تطورت في العصر الأخير تطوراً ظاهراً وغدا بطل الرواية البوليسية شخصاً محبوباً يتصف بالتواضع والبراعة والخلال الحسنة، ويحب الخير، ولا يقسو إلا على المجرمين العابثين. وكان أول من قدم إلينا هذا النوع من الأبطال الكاتب الفرنسي (أميل جابوريو)، وهو بلا مراء أعظم كتاب القصة البوليسية في فرنسا؛ وتلاه بعد ذلك جمهرة من الكتاب البارعين أضحت أبطالهم البوليسية شخصيات محبوبة تثير الإعجاب. ومن هؤلاء السير كونان دويل مبتكر شخصية شرلوك هولمز؛ وبوتسون دي تيراي مبتكر شخصية روكامبول اللص البارع والبوليس المدهش معا؛ وموريس لبلان مبتكر شخصية أرسين لوبان وغريمه الشرطي جانيمار، وغيرهم. وتتجه القصة البوليسية اليوم إلى نوع من القصص التهذيبي المفيد بعد أن ظهر أنها أحب أنواع القصص إلى الشباب.(232/81)
الكتب
قصة معمل الذهب
القصة الثالثة عشرة من القصص المدرسية
للأساتذة: سعيد العريان، أمين دويدار، محمود زهران
للأستاذ أبو الفتوح محمد التوانسي
عنوان القصة الجديدة من القصص المدرسية وهي أولى المجموعة الثالثة من هذا القصص الرفيع، فماذا يوحي هذا العنوان الطريف العجيب الذي يثير الرغبة ويهيج الشوق؟
لا شك عندي أن الطفل سيسر حين يطالع قصته، وسيغرق في الضحك حين يعلم أمر الأب توت مع الشقي حابي، وسيدفعه هذا وذاك إلى إدراك جمال القصة، وقريب من أذهان الطفولة تلك الأسمار الشائعة التي لا يزال يرويها عامة القصاص في القرية من حكايات العفاريت التي يتخللها كثير من صور المسخ والتقمص. وفي اعتقادي أن هذا أثر عريق من آثار مصر القديمة في عهدها الأسطوري لا زال عالقاً بالأذهان، رغم تقادم الحقب وامتداد الزمن؛ فالشراب الذي يحيل الحيوان الناطق إلى حيوان نكير الصوت شبيه بالكيمياء الذهبية، وتلك خرافة قديمة
وما زالت الخرافة عند الشعوب منشأ الفلسفات والأديان؛ فالقصة التي تصوغ الحقيقة الواقعة في أسلوب خرافي هي أدنى إلى منازع الطفولة، وقصة معمل الذهب تقوم على فكرة من هذه الفكر التي تنتهي حتما إلى غرض تهذيبي، وإذا فماذا يفهم الطفل من قصته الجديدة؟ سيعرف بلا ريب أن السرقة التي حرمتها الأديان لا تليق بكرامته، لأن مصيره ربما كان كمصير اللص حابي ومن لف لفه.
فإذا انتقلنا من هذا العرض الموجز ألفينا في القصة أسلوباً قصصياً بارعاً، نسج برده طبع قصصي، فهو يملك سمع الطفل ويحرك فيه شهوة القراءة، ثم يمنحه زاداً لغوياً نافعاً ويسوقه في رفق إلى تذوق التعابير الصحيحة التي هي الغاية من تعليم اللغة. فقصة معمل الذهب وشقيقاتها السابقات طريق سهل واضح المسالك إلى تعليم الإنشاء العربي. وما تزال طريقة هذا الفن في مدارسنا في حاجة إلى التجويد، وإن تكن قد بلغت منزلة مشكورة من(232/82)
الإجادة الفنية في حسن الاختيار والتصرف والشرح. والأمر في قبضة المعلم الحازم الذي يولد من القصة موضوعات شائقة في الإنشاء. وما أحب هذا النوع من الكتابة الفنية لدى الأطفال والناشئين من تلاميذنا! ومما يرفع من شأن القصص المدرسية في جملتها وعنايتها الصادقة بتصحيح التراكيب والمفردات التي كان يظن أنها في فسولة العامية، وليس هذا بالأمر الهين فهو مما يحتاج إلى جهود متضافرة، واطلاع شامل، وخبرة تامة بأساليب اللغة العامية أما الخيال في هذه القصة وفيما سبقها فبعيد مداه، ليس له أفق محدود، وهذا العنصر من عناصر القصة متى أجاده المؤلف وواتاه فيه الطبع أكسب القصة سحراً وتأثيراً.
هذا وقد بلغ التحليل النفسي الغاية في دقة الوصف، وأثر ذلك واضح في تصوير بطلي القصة الأب توت، ذلك الحكيم الكيماوي، وحابي الأثيم الذي كم ذاق صنوفاً من الشقاء. وقد أصاب مؤلفو القصص المدرسية في هذه الناحية توفيقاً كبيراً يدل على قدرة عجيبة في فهم طبائع الأشخاص، ودراسة ممحصة لأحوال البيئة المصرية، تجد ذلك في العرض الدقيق في سائر القصص للعادات والتقاليد والأوضاع الاجتماعية في بيئتنا، مع صدق في اللهجة، وجمال في الفن وبساطة في التعبير، وابتكار متجدد، فتلك جريدة التلميذ الملحقة بقصتنا الجديدة نوع مستحدث ومستطرف يرمي إلى غرس الملكات الأدبية في نفوس الناشئين
وكل ذلك مما يجعل القصص المدرسية مورداً عذباً لدراسة عقلية نافعة، ومثلا عليا للتلميذ تحببه إلى الفضيلة وتعمل على رفع مستواه الخلقي، وتشحذ من عزيمته، وتقوي من استقلاله الفكري
وبعد فماذا في تلك القصص؟ إنها مجهود أدبي في أدب الطفل يسير في طريق تحقيق الغاية من إيجاد الأدب القومي الذي يجمع بين الموروث عند العرب في الثقافة اللغوية، وبين موضوعات البيئة التي نعيش فيها.
فإلى من يهتمون باللغة القومية في العهد الجديد من المسئولين وغيرهم نوجه الحديث، فإن في تشجيع ذلك المجهود شداً لأزر الفصحى في المدارس
(الجيزة)
أبو الفتوح محمد التوانسي(232/83)
العدد 233 - بتاريخ: 20 - 12 - 1937(/)
الأخلاق
بين النجاح والفشل
تعال يا صديقي! جعلتموني مظهراً لثورتكم على الأخلاق فحسب الناس أني ثائر معكم عليها وهي مصدر سعادتي ومنبع رضاي. فلماذا لا تمضي ما تقول باسمك كما يفعل كل رجل له رأي وفيه صراحة؟
فقال صاحبي وقد استوى على المقعد الذي يحبه من المكتب وكفَّاه تدوران على عدد مطوي من الرسالة أظنه الأخير:
إن مقال الثائر المجهول كقبر الجندي المجهول يعبر عن فكرة ويرمز لطائفة. ولو كان ذلك رأيي الخاص لأمضيتُه، ولكنه رأى جميع المنكوبين بأخلاقهم وإخلاصهم اضطرب على لساني حديثاً بعدما اضطرم في نفوسهم ثورة. ولقد كان فيما قلتُ وقال الإخوان تفريج لما كرَب صدورنا من وقاحة الحال وصراحة الواقع؛ غير أن في نفسي بعد أن قرأت هذا العدد كلمة
قلت وماذا تريد أن تقول بعدما أجرَّتْ لسانَك الأخلاقُ بعقلين متيني الحجة من عقول دعاتها وحماتها؟
فقال: (إن الأستاذين الجليلين عزاماً والخولي أطلا علينا من قُدْس الأقداس وكلمانا بلغة الدين الذي يتجاهل الكفر، ولهجة الحق الذي يتناسى الباطل. وقدس الأقداس كما تعلم مكان بين النجوم ينزله الأحبار والفلاسفة فينظرون إلى السماء أكثر مما ينظرون إلى الأرض، ويتصلون بالملائكة أكثر مما يتصلون بالناس، ويدبرون أمر هذا الكوكب المظلم على أنه مَرَاد الصلاح الخالص والخير المحض، فلا يريدون أن يقيموا وزناً للمنكر، ولا أن يلقوا بالاً إلى الشر، حتى أنهم ليغفلون ذكر الفواحش في كتب الدراسة ليجهلها الناشئ، كأنما جهلك الشيء يمحوه من الوجود! والشر منذ معصية آدم وجريمة قابيل قسيمُ الخير في الأرض. والرذيلة هي الطبيعة الحرة لهذه الحياة، أما الفضيلة فهي قيد لها وحدٌّ منها
لا أريد أن أقول لعلماء الأخلاق زاوِجوا بين الخير والشر ينتج منهما مزاج مستقل لا هو الخير كله، ولا هو الشر كله، فتلك تجربة نعوذ بالله من غوائلها إذا طاشت؛ ولكني أطلب إليهم أن يعالجوا مشكلة الفضائل على أساس التسليم بأن للرذائل جاذبية ومنفعة، وأن(233/1)
مصلحة الفرد لا ينبغي أن تذوب هذا الذوبان في مصلحة الجماعة. ذلك أدنى إلى أن يكون العلاج أنجع والشفاء أتم. أما أن تكون القاعدة في رأي الأستاذ الخولي أن الفاضل لابد أن ينجح، والرذيل لابد أن يخيب، إذا تساويا في الاستعداد والاجتهاد والكفاية، فإذا وقع العكس كان شذوذاً يؤكد هذه القاعدة ولا يهدمها، فذلك على ما أظن حكم لا يصححه القياس ولا يناصره الواقع. وليس الأستاذ الخولي بالرجل الذي نضرب له الأمثال من الماضي، ونذكر له الشواهد من الحاضر، فإنه يعلم علم اليقين أن تاريخ الدنيا يسجل في كل زمان وفي كل مكان أثر الرذيلة الخطير في النجاح الخارق، سواء أكانت الرذيلة في الناجح أم فيمن يلابسه. هذان فرسان رائعان اشتركا في خصائص القوة والفتوة، ثم ضُمِّرا على نمط واحد، وركبهما في السباق فارسان على كفاية واحدة؛ فلو أنهما تراكضا بالحق لاستوليا معاً على الأمد؛ ولكن صاحب أحدهما حقنه بمادة يعرفها بياطرة السباق ويحظرها القانون، فجعلت من كل شعرة فيه جناحاً بلغت به الغاية قبل أن يتوسط قِرْنه الميدان. وأحرز الفرس المحقون الرهن الضخم فأصبح ملك الخيل وسبع الليل. وشبيه بهذين الفرسين رجلان تماثلا في الشهادة والكفاية والاستعداد والخلق، ثم سارا معاً في طريق الحياة جنباً إلى جنب، وكان لأحدهما زوجة جميلة لبقة، فحقنت زوجها حقنة تعرفها هي، جعلته في اليوم التالي سيداً للناس ورئيساً على الآخر. لا يستطيع المسبوق أن يستعد لمثل هذه الرذيلة لأنه لا يعرف مأتاها، ولو عرف لما استطاع أن يحتقن بمثل هذه الحقنة وهو عالم. ولو تقصينا أسباب النجاح السريع - وهو الكثرة الفاحشة - لوجدنا هذه الحقنة هي جماع تلك الأسباب في شكول مختلفة. وحصر الدعة واللذاذة في الثراء الحلال البطيء آت من شعور الأستاذ نفسه. فإنه إذا لم يجد المراءة والهناءة إلا في لحم الخروف، وجدهما ألوف غيره في لحم الخنزير. وإذا عد الأستاذ تاجراً من تجار الغلال أثري بطيئاً وهو وادع بفضل الخلق، عددنا له ألفاً من تجار المخدرات أثروا سراعاً وهم آمنون بفضل الشُّرَط
يقولون إن نجاح الأخلاق الفاضلة مشروط باستعداد الفاضل. والاستعداد أهبة الكفاح ووسيلة النجاح ما في ذلك شك؛ ولكن كيف اتفق أن يكون أكثر الأراذل قادرين وأكثر الأفاضل عجزة؟ لقد ذكَرْنا بذلك فكاهة من قال إن أكثر أهل الجنة الأغفال والبُله من النساك والمشعبذين والجهلة، وأكثر أهل النار العباقرة والأفذاذ من الفلاسفة والحكام والقادة.(233/2)
لم لا يجوز أن يفسَّر هذا النقص العام في الفضلاء بأنهم يُلزمون أنفسهم الطريق الوعر إلى الغاية البعيدة، بينما يجد غيرهم إلى الغاية الواحدة ألف طريق؟
لقد سرني أن فسر الأستاذان الجليلان ما عبنا من بعض الفضائل هذا التفسير، فإنه - وإن كان أبعد المعاني عن فهم الناس لهذه الأخلاق - أقربها إلى القصد الذي تتوخاه من التعديل والإصلاح. ولعلك تلمح في هذا التفسير اعترافاً مضمراً بأن من الفضائل ما لا يلائم بمفهومه الشائع طبيعة هذا العصر ولا روح هذا المجتمع و. . . . . .)
ورأيت صاحبي يتمكن في مقعده الوثير، ويسحب سيكارة من علبته الأنيقة، ويريد أن يرخى للحديث العنان. فقلت له: حسبك! حسبك! فقد انتهت الصفحة وضاق الوقت. وليته اتسع حتى أسرد عليك حديث أحد السعداء الناجحين بالأَخلاق أَفضى به إليَّ قبل أن تدخل علي، فربما وجدت فيه ما يرضيك ويهديك. فإِلى فرصة أخرى
أحمد حسَن الزيات(233/3)
وكان صباح
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
جاء يوم العيد، وطلع نهاره، وارتفعت شمسه، وأنا لا أرى أحداً يدخل عليّ فيقرئني السلام ويحييني تحية الصباح، ويهنئني بهذا العيد الجديد، ويتمنى لي كثيراً من أمثاله، وأمثال أمثاله إن شاء الله. شيء بارد!! أين هذه الزوجة التي كنت أظنها صالحة، والأولاد الذين كنت أرجو أن يكونوا بررة؟؟
وأنا يحلو لي الحديث على الريّق، بين نوبات التثاؤب والتمطي تحت اللحاف أو الملاءة، ولا أذكر أني عدمت قط من يحدثني في صباح - حتى قبل أن أستيقظ! - يدخل عليّ أحد الصغيرين اللعينين فأسمع صوتاً ناعماً يناديني: (بابا. . . بابا) فأتقلب في فراشي وأحدث نفسي أن هذا حلم، ولكن الصوت يلح عليّ بالنداء (بابا. . . بابا) فأفرك عينيّ بيد، وأدس الأخرى تحت الوسادة لأخرج الساعة وأنظر، فإذا هي الخامسة صباحاً! فأصيح: (يا خبر أبيض. . .! ما لك يا ولد!؟ فيقول (صباح الخير) فأقول: (أي خير يا أخي؟ حرام عليك!) فلا يعبأ بي، ولا يشفق عليّ، ويقول (هات القررررش) - هكذا ينطقها - فأحتال لأصرفه عني برفق وأقول له في جملة ما أقول (اذهب إلى أمك. . . خذه منها) فيأبى اللعين أن يتزحزح ويقول: (نائمة!) فأحدق في وجهه مستغرباً وأسأله (نائمة؟ بالذمة؟) فيؤكد لي أنها نائمة، فأقول (وأنا؟؟) فيقول (صاحي!) فأقول (تمام. . . في محله. . . لا بأس. . . ولكن القرش تحت الوسادة التي تريح عليها أمك النائمة خدها الأسيل، فاذهب إليها وادفع يدك تحت المخدة. . . بقوة. . . وخذ القرش، فإذا لم تجده هناك، فستجده لا محالة بين أسنانها، فإنها ماكرة، فافتح لها فمها وانتزعه من بين أضراسها)
فيضحك الخبيث وقد راقه الكلام، ويسألني (وإذا عضتني؟) فأطمئنه وأؤكد له أني سأعضها انتقاماً له! فيذهب عني مسرورا. . .
أو تقبل الخادمة، ويحسن أن أقول إن لها في بيتي عشر سنوات، فتقف على رأسي وراء شباك السرير وتقول بصوت خافت ولكنه ملح: (سيدي. . . سيدي. . .)
فأنظر في الساعة التي تحت الوسادة، وأقرض أسناني من الغيظ، ولكني أتجلد وأقول: (يا صباح الفل، نعم يا ستي. . . هل تريدين أن أفسر لك حلماً؟)(233/4)
فتبتسم - أعرف أنها تبتسم وإن كنت لا أراها - وتقول (هل تريد الشاي خفيفاً أو ثقيلاً؟)
فأتنهد، فإن هذا سؤالها كل يوم منذ عشر سنوات، وأقول لها ما قلت كل يوم في هذه السنوات العشر:
(خير الأمور الوسط يا شيخه!)
فتسأل (نعم؟)
فأقول على سبيل الشرح (متوسط. . لا بالخفيف ولا الثقيل. . ماذا تصنع الست؟)
فتقول: (نائمة)
فأقول: (يا بختها! ليتني كنت الست في هذا البيت السعيد!)
فتقول الفتاة معترضة (يا سيدي!)
فأقول: (اسمعي. . . إذا كنت تحبين ألا أكون الست، فاذهبي إلى هذه الست التي تغط في نومها إلى الآن (الساعة الخامسة) وأيقظيها وقولي لها إني أصبح عليها وأقبل وجنتيها، واسأل عن الشاي الجديد أين خبأته؟ افعلي هذا، والله يحفظك)
والدعاء للخادمة واجب، فما ثم شاي جديد، ولا خبأت الست شيئاً، ولكن لماذا يزعجني كل من في البيت في هذه الساعة المبكرة دونها؟
ويعلو الضجيج، ثم تدخل الست مرغية مزبدة، وهي تصيح بي: (ألا يمكن أن تكف عن هذا العبث؟ حرام عليك يا شيخ. . والله ما نمت إلا ساعتين)
فأقول (كالقطط. . . تأكل وتنكر. . . أنا أيضاً لم أنم إلا دقائق. . . ضاع الليل كله في أحلام. . .)
فتنحي عني اللحاف، وتشد يدي، أو رجلي، وهي تقول (طيب قم. . .)
فأصيح بها (إلى أين؟)
فتقول (وهل أنا أعرف؟ قم والسلام، وليكن هذا جزاؤك على إقلاق راحتي)
فأقول: (اتقي الله يا مسلمة)
فتقول: (ولماذا لا تتقيه أنت؟)
فأؤكد لها أني سأتقيه من الآن فصاعداً، وأرجو أن تتركني أنعم بالرقدة، ولكن هيهات، فقد استيقظ كل من في البيت، فلا سبيل بعد ذلك إلى راحة أو نوم(233/5)
ولكن الساعة قاربت التاسعة في يوم العيد، ومازال البيت ساكتاً على خلاف عادته، فقلقت عليهم ونهضت، ودخلت غرفهم واحدة واحدة، ونظرت في وجوههم وجسست نبضهم لأطمئن، وأردت أن أستوثق وأن أنفي كل شك في أنهم مازالوا أحياء وبخير وعافية، فوضعت أذني على صدورهم - أعني قلوبهم - لأسمع دقاتها، ولم يكفني هذا، فقد كانت بقية من الشك تختلج في صدري، فما رأيتهم يتحركون، فرحت أقرص هذا وأشد أذن ذاك لأرى هل يحسون أو لا يحسون، فقاموا جميعاً فزعين يصيحون ويحتجون، فلما سكنت الضجة قليلاً قلت لهم: (ما هذا النوم؟ قوموا يرحمكم الله وتعالوا هنئوني)
فمشوا ورائي وحفوا بي حيث جلست، وأقبلوا عليّ يسألونني؛ وتعلق بي الولدان اللعينان فرحين، ووقف الباقون ينتظرون أن أفضي إليهم بالسر، فأغرقت في الضحك ثم قلت وأنا أنهض:
(أليس في البيت شيء يؤكل؟ إني أتضور جوعاً)
فقالت الزوجة الصالحة: (شيء يؤكل؟ هل تعني أنك أزعجتنا جميعاً على هذه الصورة الفاضحة، لا لسبب سوى أنك تريد أن تأكل؟)
فقلت: (اسمعي يا امرأة. . . لا تجدفي. . . إن الطعام شيء مقدس. . . لا تذكريه إلا بلهجة الاحترام والتوقير. . . فما خلقنا إلا لنأكل. . . على الأقل هذا ما يبدو لي أنا. . . لا تقاطعي من فضلك. . . أنت تظنين أنك خلقت لتنامي. . . ولكنك مخطئة. . أوه جداً. . . الأكل أحلى، وأوفق، وأليق بالحي. . . أما النوم؟ ما الفرق بالله بين الميت والنائم؟)
فقاطعتني وقالت: (يعني ضحكت علينا وأجريتنا وراءك بعد أن أوهمتنا أن هناك داعياً للتهنئة. . .؟)
قلت: (كلا. . . لم أضحك على أحد. . . أليس اليوم يوم عيد؟ تعالوا إذن قبلوا يدي بأدب، وهنئوني، وادعوا لي بالسعادة وطول العمر. . . مالكم؟)
ولم أسمع جواب السؤال، ولم أعد أعنى بأن أسمعه، فقد شغلت عنه بالنار التي اندلعت في بدني، من القرص الذي انهال به عليّ الكبار والصغار، حتى خيّل إليّ أني في خلية من خلايا النحل، لا في بيت يسكنه آدميون. . .
وقلت وأنا أنظر إلى وجهي في المرآة: (ليتكم تفعلون بي هذا كل صباح. . لقد صار وجهي(233/6)
أكبر. . وأحمر. . وأحلى. . ما شاء الله!)
فقالت الزوجة الصالحة: (كابر. . . كابر. . .)
قلت: (لا مكابرة. . . هي الحقيقة. . . لقد صار خداي كالوردتين. . .)
قالت: (حسن. . . سنصبحك ونمسيك بما يحفظ لك حمرتهما. مستعدون يا أولاد؟)
فصاحوا جميعاً: (أيوه. . .)
فقعدت، وقد نويت أن آخذ بثأري. . .
وكان صباح. . .
إبراهيم عبد القادر المازني(233/7)
ليلى المريضة بالعراق
للدكتور زكي مبارك
- 2 -
. . . ودخلت أعدو خَلْف الوصيفة في بصر زائغ، وقلب خفاق، فلم أكد أتبين مدخل البيت، وعثرت قدمي على السلم عثرة خفيفة سلم الله منها ولطف، وانتهيت إلى غرفة صغيرة فيها أريكة وثلاثة مقاعد، وتركتني الوصيفة وزاحت تدعو ليلى، فتلفت أدرس أساس الغرفة في لهفة وشوق، فوجدت على الحائط قطعة من القطيفة نقش عليها هذا البيت:
يقولون ليلى بالعراق مريضةٌ ... فيا ليتني كنت الطبي المداويا
ورأيت بجوار تلك القطيفة صورة السيدة نادرة التي جمعت عواطف العرب حول ليلة بفضل ما أبدعت في ترجيع هذا البيت، ورأيت فوق المنضدة كتابين: رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، وذكريات باريس للشيخ زكي مبارك، فيا عجباً كيف جاز لمنزل ليلى أن يجمع بين الهوى والضلال!
وغابت ليلى ولم تعد الوصيفة، واستمر الحال كذلك عشرين دقيقة، فدفعني الملال إلى التلهي بالنظر في سلة المهملات، وما أدري كيف وقعتُ في هذا الفضول، فهل تصدقون أني رأيت بين الخطابات الممزقة رسالة من (فلان) يؤكد لها أن زكي مبارك أديب وليس بطبيب؟ سامحك الله يا دكتور فلان، ولا أراك نعمة الهوى والجنون!
لعل ليلى في زينتها، وإلا فكيف أعلل صبرها عن لقائي كل هذا الزمن الطويل؟
ثم فتح الباب، ودخلت امرأة ملفوفة بالسواد لا تقع العين منها على شيء، ولم لا أقول دخل شبح أسود نحيل كأنه عود الخلال؟
وانحط ذلك الشبح على أحد المقاعد، ولكن هذه الجفوة لم تمنع قلبي من تواتر الخفوق. وبعد لحظات طوال كأعمار الأحزان تكلمت ليلى
رباه! ماذا أسمع؟ إن أذنيّ لا عهد لهما بمثل هذا الصوت المتكسر الناعم الحزين
ومضت ليلى تتكلم وتسهب، ولكني لم أفهم شيئاً، فقد كنت مشغولا بدرس طبيعة هذا الصوت، هذا الصوت الذي يذكرني بتلك الفتاة التي خفق القلب لها أول خفقة، والتي قلت فيها أول قصيدة، وسكبت عليها أول دمعة، تلك الفتاة المنسية التي تنام في قبر مجهول(233/8)
تحت سماء سنتريس
ما هذا الصوت؟ يا رباه! أفي الحق أني سمعت أمثال هذه النَّبرات على كثرة ما طوَّفتُ في البلاد؟
لا أكذب الحق، هذا جوهر لم أشهد مثله في سنتريس ولا باريس، وإنما هو من جواهر العراق، هو صوت تحدر عن تلك الإنسانة التي قال فيها أحد المفتونين في بغداد:
وكأنَّ رَجْعَ حديثها ... قِطعُ الرياض كسِين زهرا
هو صوت تحدر عن تلك الإنسانة التي قال فيها أحد القدماء:
رُهبانُ مديَنَ والذين عهدتُهم ... يبكون من خوف العذاب قُعودا
لو يسمعون كما سمعتُ حديثها ... خروا لعزةَ ركَّعاً وسجودا
هو صوت ليلى يا بني آدم، ليلى المريضة بالعراق، ولو سمعه الشيخ فلان لسال منه اللُّعاب
ثم انتبهت، فقلت في نفسي: إن ليلى بخير، فهذا الصوت الضعيف يحمل قوة تهد رواسي الجبال
ثم انطلقنا نعدد في شجون الأحاديث، فسألتني عن مصر، وسألتني عن صاحبة الذهبية التي ترسو على الشاطئ الأيمن خلف جسر إسماعيل؛ فعجبت من أن تصل أخباري إلى ليلى وهي مريضة بالعراق، وقلت: إن تلك الإنسانة بخير، ولكنها تركت الذهبية وعادت إلى منزلها بمصر الجديدة، وقد صحا القلب يا ليلى فلم يَعُد بيننا تلاق منذُ ربيع سنة 1935 والله المستعان على مكاره الصدود!
فتنهدت ليلى وقالت: حتى أنت تنسى العهود! وماذا خليت لِغُلْف القلوب؟
ومضت تتحدث عن الحياة الأدبية في وادي النيل، وسألتني عن كثير من الأدباء، فكنت أذكرهم جميعاً بما يحبون أن يذكروا به في بغداد، ورأيت أن أكون أميناً في تبليغ التحيات فقلت: إن الأستاذ الزيات يسلم عليك. فقالت: لا أحب أن أسمع اسمه. فقلت: وكيف؟ فقالت: هل تصدق أنه أقام سنين في بغداد ولم يسأل عني؟ فتشجعت وقلت: لعل له عذراً وأنت تلومين! ذلك رجل يتهيب أقاويل المرجفين
واستطردت فقلت: ولعل الدكتور السنهوري قام بالواجب.(233/9)
فضحكت ضحكة عالية كادت تخرق النقاب وقالت: السنهوري أغلظ كبداً من ذلك!
فقلت: وما صنع الدكتور عبد الوهاب عزام؟
فأجابت: أوَ كنت تحسبني أنتظر زيارة الدكتور عزام؟ إنه رجل أديب، ولكن انشغاله بالتحريم والتحليل لم يترك في قلبه مجالاً لرقيق الأحاسيس
فقلت: لقد مرّ الأستاذ أحمد أمين ببغداد منذ سنين، فماذا فعل؟
فقالت: هو رجل صافي الذهن، ولكن يظهر أنكم أوهمتموه في مصر أن العالم الحق لا يليق به أن يُشغَل بشؤون الوجدان
ثم أغرقتْ في صمت مُوحِش حسبتُه لوناً من العتاب
وجاءت أقداح الشاي، فتجرأتُ وقلت: وأين أكواب الصهباء؟ نحن في حضرة ليلى وتحت سماء بغداد!! فقالت: أنا امرأة مسلمة ونحن في رمضان؟ وأنتَ؟
فقلت: وهل حسبتني من الكافرين؟
وفهمتُ أنني أخطأت فغيّرت مجرى الحديث
- مولاتي ليلى!
- نعم، يا مولاي!
- إنما جئت للعناية بصحتك، كما تعلمين
- أعرف ذلك، وهو فضل سأذكره ما حييت. سأذكر أن الحكومة المصرية كانت أعرف الحكومات الشرقية بالواجب نحو امرأة عليلة أوحت ما أوحت من الشعر والخيال ثم أضرعها الداء فتناساها الأهل والأقربون
فقلت: البركة في الحكومة العراقية
فقالت: الحكومة العراقية؟ سامحها الله! هل تصدق يا دكتور أن الحكومة العراقية تبيح لمحطة الإذاعة أن تذيع جميع الأغاني والأناشيد، إلا الصوت الحزين:
يقولون ليلى في العراق مريضة ... فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
وهنا تنبهت إلى أني لم أسمع هذا الصوت في بغداد
فقلت: وكيف تحرِّم الحكومة العراقية هذا الصوت؟
فأجابت: إن الحكومة في هذا الزمن لا تعرف غير الجيش والرماح والسيوف والمدافع،(233/10)
وهي تبغض أحاديث الوجدان كل البغض، ولا يرضيها أبداً أن يتحدث إنسان عن ليلى المريضة بالعراق
فقلت: وكيف يصح ذلك وعندكم وزير مشرق الجبين هو المدفعيّ، وعندكم وزير أديب هو الشبيبي؟
فقالت: أما المدفعيّ فله من اسمه نصيب، لأنه منسوب إلى المدفع؛ وأما الشبيبي فلا تغرّنك بسماته العِذاب، فقد كان شاعراً فيما سلف، أما اليوم فهو من دواهي العراق، العراق الذي يعبد النضال
ومرت لحظات صمت كانت أبلغ من الإفصاح
- مولاتي ليلى!
- نعم يا مولاي!
- إنما جئت للاهتمام بصحتك
- أشكر لك يا دكتور، ولكنك تكرر هذه العبارة. فماذا تريد؟
- أريد أن أرى وجهك ويديك
- وهل تريد أن تخطبني؟
- ليس هذا ما أريد، فلي بحمد الله أهلٌ وأبناء
- إذن ماذا تريد؟
- اعقلي يا ليلى، إن الأمر كله جِدّ، والأمة المصرية تهتم بصحتك أبلغ اهتمام، وقد نزلت الحكومة عند إرادة الأمة فأوفدتني إليك، ثم بالغتْ في الاحتياط فأوعزتْ إلى الدكتور علي باشا إبراهيم أن يقترح على الجمعية الطبية أن تجعل مؤتمرها المقبل في بغداد، وأنا أحب ألا يعقد المؤتمر إلا وأنت في عافية الفرس الجموح، فإن لم يمكن ذلك فلا أقل من أن أقدِّم للمؤتمرين تقريراً ضافياً يشهد بأنني لم أضع الوقت في التعرف إلى عيون الظباء. وسيَقْدَم الدكتور محجوب ثابت وهو من خصومي، الألدّاء، وأخشى أن يشي بي فيصرح لمعالي الأستاذ نجيب الهلالي بك بأنني لم أكن في الحرص على مهمتي من الصادقين
وبدأت ليلى فكشفت عن يديها، فانخلع قلبي من الرُّعب، حين وقع البصر على تلك الأنامل الصُّفر الدِّقاق(233/11)
فتماسكتُ وقلت: وعيناك؟
فألقت النقاب عن وجه مليح التقاسيم كان له في ماضيه تاريخ جميل، وتأملت أنفها مرات ومرات فرأيت فيه أخيلةً من الملاحة قلما يجود بمثلها الزمان
ثم ارتقيتُ فوقعتُ على عينيها وقُوعَ الطائر الظمآن على الوِرد النمير
الله أكبر! ما هذا السحر المبين؟ أأنت مريضة يا ليلى ولك هاتان العينان؟
فابتسمت وقالت: صدق الدكتور فلان حين كتب إليّ أنك أديب ولست بطبيب!
فقلت: إنما أريد بعث الطمأنينة في قلبك المروعّ يا مريضة العراق
وقضيت ساعتين في مسامرة ليلى ثم استأذنت في الانصراف والله المحمود على نعمة ذلك الحديث
والآن أوجه القول إلى الأمة المصرية، الأمة القلقة على المريضة بالعراق، ولاسيما الأستاذ محمد الهراوي الذي دسّ في جيبي دينارين على المحطة، أجرة برقية أرسلها من بغداد ليطمئن على ليلى المريضة بالعراق، إليهم أوجِّه الكلام فأقول:
بني وطني:
إن ليلى تملك عنصرين مهمين من عناصر الحياة: رخامة الصوت، وملاحة العينين؛ ولكنها مع ذلك فريسة الضَّنى والنحول، وسأبذل جهد الجبابرة لأصل بها إلى ساحل النجاة
وقد كلفت السيدة جميلة المقيمة بشارع صريع الغواني أن تحتال في دعوة وصيفة ليلى لقضاء سهرة بريئة في منزلي بشارع الرشيد، فإن حضرت تلك الوصيفة فسأعرف سِرَّ ليلى. سأعرف كيف قضت أهوال الحب بأن تصل إلى ذلك النحول
فإن تمت لك المحاولة فقد أصل إلى شيء، وإن لم تتم فستذهب جهود المؤتمر الطبي أدراج الرياح
وأنا أرجو صديقي الأستاذ الزيات أن يقف أطباء مصر على تفاصيل هذه المعضلة، فما أحب أن يعودوا خائبين، فيسيئوا إلى سمعة الحكومة المصرية بلا موجب معقول
وأنت أيتها السيدة التي اسمها جميلة، والتي زعمت أنني فتى جميل، اسمعي؛ ليس يهمني بالدرجة الأولى على حد تعبيركم في بغداد أن تغسلي ثيابي، وأن تحضري لي مائدة فخمة في كل أسبوعين؛ يا بخيلة، وإنما يهمني أن تقودي وصيفة ليلى إلى منزلي، إلى غرفة(233/12)
الاستقبال يا لئيمة لا غرفة السرير، فإن عند تلك الفتاة أسراراً تكشف المحجوب من حياة ليلى المريضة بالعراق
يا جميلة! لقد كنت في صباك جميلة، فكوني عندما أرجوه من محمود الظنون
يا جميلة! أنا أنتظرك مع وصيفة ليلى في الساعة العاشرة من مساء السبت المقبل، والله بالتوفيق كفيل
(للحديث بقية)
زكي مبارك(233/13)
مصرع شجرة الدر
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت كليوباتره آخر ملكة جلست على عرش مصر الفرعونية، وكانت شجرة الدر أول وآخر ملكة جلست على عرش مصر الإسلامية. وكانتا كلتاهما آية الجمال والسحر، وعنوان البطولة والحزم، زينة الملك، وملاذ العرش والدولة؛ وقد لقيتا كلتاهما مصرعها في ظروف روائية مؤثرة؛ ولكن بينما تحيط الأسطورة بحياة كليوباترة وتكاد تغمر حوادث مصرعها، إذا بشخصية شجرة الدر تبرز واضحة خلال الفترة القصيرة التي تبوأت فيها عرش مصر، وإذا مصرعها مأساة قصر تحيط بها جميع العوامل والظروف التي تجتمع حول مآسي القصور
لم تكن شجرة الدر كما تريد أن يصورها القصص أحياناً، غانية قصر تعتمد على سحرها النسوي فقط في تبوء المكانة التي سمت إليها؛ ولكنها كانت فوق سحرها الجم، امرأة رفيعة الخلال وافرة الذكاء والعزم؛ بدأت حياتها جارية وحظية للصالح نجم الدين أيوب ولد الملك الكامل ملك مصر مذ كان نائباً عن أبيه بالولايات الشرقية. ولما توفي الملك الكامل، وتولى ولده الملك العادل دون أخيه الأكبر الصالح نجم الدين، وأعلن الصالح الثورة على أخيه بقيت شجرة الدر إلى جانبه في جميع الوقائع والخطوب التي خاضها، وشاركته مرارة الحرمان والأسر. ولما خلع الملك العادل وتولى الصالح مكانه ملك مصر في سنة 637هـ تألق نجم شجرة الدر وتبوأت ذروة النفوذ والسلطة وغدت كل شيء في البلاط وفي الحكومة. وكان الصالح قد فتنته خلالها الرفيعة فأعتقها وتزوجها، ورزق منها ولداً يدعى خليل. ولم تبق بعد حظية تسمو بجمالها وسحرها، ولكنها غدت سيدة القصر الشرعية، وأم ولده المحبوب؛ كانت هذه الجارية التركية أو الرومية تلعب يومئذ في بلاط القاهرة نفس الدور الذي لعبته من قبل صبح النافارية (البشكنسية) جارية الحكم المستنصر وأم ولده المؤيد في بلاط قرطبة. ولما توفي ولدها خليل حدثاً بعد ذلك بأعوام قلائل، لم تزعزع هذه الضربة الأليمة مركزها، بل لبثت محتفظة بنفوذها وتأثيرها في توجيه الشئون
ولما قدم الفرنج الصليبيون إلى المياه المصرية بقيادة ملكهم لويس التاسع في أوائل سنة 647هـ (1249م)، وحاصروا دمياط، كان الملك الصالح مريضاً وكان البلاط في حيرة،(233/14)
وكانت مصر تضطرب من أقصاها إلى أقصاها؛ فأبدت شجرة الدر في هذه الآونة العصيبة ثباتاً مدهشاً، واستطاعت بعزمها وبراعتها أن تسير الشئون، وأن تشرف على أحوال الدفاع؛ ثم توفي الملك الصالح بعد ذلك بأشهر قلائل، فأخفت شجرة الدر نبأ وفاته، حتى استقدم ولده ثوران شاه من الشام، ولبثت مدى حين تخرج الأوامر والمناشير ممهورة بالعلامة السلطانية. ولما وصل ثوران شاه إلى مصر وتقلد الملك باسم الملك المعظم، أساء السيرة، واختلف مع شجرة الدر ومع مماليك أبيه، فأتمروا به وقتلوه لنحو شهرين فقط من ولايته، واتفقوا على تولية شجرة الدر، فتبوأت عرش مصر في عاشر صفر سنة 648هـ
وكانت ولاية شجرة الدر حادثاً فريداً في التاريخ الإسلامي، فلم تجلس امرأة قط من قبلها أو بعدها على عرش مملكة مسلمة مستقلة؛ وكان للحادث وقع عميق في العالم الإسلامي حتى قيل إن الخليفة المعتصم بالله العباسي نعى على مصر أن تجلس على عرشها امرأة، ونعاه بعض فقهاء العصر. وشعر المماليك الذين ولوها بهذا الشذوذ، فعينوا إلى جانبها أميراً منهم هو عز الدين أيبك التركماني ليكون مقدماً للعسكر ومشرفاً على الشئون. ودعى لشجرة الدر على المنابر، ونعتت في الخطبة (بالجهة الصالحية ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة السلطان الملك الصالح) وكانت علامتها على الأوامر والمراسيم: (والدة خليل). وتولت شجرة الدر الأمور بحزم، وكان الجيش المصري قد استطاع في تلك الأثناء أن يقف زحف الصليبيين وأن يسحقهم في موقعة المنصورة الشهيرة (المحرم سنة 648)؛ وأُسر لويس التاسع وعدد كبير من أُمرائه، وبدأت مفاوضات الصلح بين الفريقين، فأشرفت شجرة الدر على هذه المفاوضات، وانتهت بانسحاب الفرنج من الأراضي المصرية والإفراج عن ملكهم لقاء فدية كبيرة؛ وأبدت شجرة الدر في ذلك كله براعة ومقدرة تخلق بأعظم الرجال
على أن شجرة الدر كانت تشعر بضعفها كامرأة فرأت أن تتزوج من عز الدين أيبك، فتقوي بذلك مركزها كملكة، وتدعم عصمتها كامرأة. ولما شعرت أن هذا الزواج لم يحقق كل شيء، ورأت أن جلوسها على العرش قد أثار الفتنة في الشام ويخشى أن يثيرها في مصر، نزلت عن العرش لزوجها، وجلس أيبك مكانها على عرش مصر باتفاق المماليك البحرية باسم الملك المعز، وذلك في آخر ربيع الآخر، وبذلك لم يطل ملك شجرة الدر أكثر(233/15)
من ثمانين يوماً
وعادت شجرة الدر امرأة وزوجاً فقط، ولكنها لبثت كما كانت أيام زوجها الأول الملك الصالح سيدة القصر والبلاط، وكان المعز طاغية ظلوماً، ولكنه كان يخشى هذه المرأة القوية التي رفعته إلى الملك، ويصدع بأمرها ووحيها؛ وكانت شجرة الدر كثيرة الغيرة بالرغم من كونها قد جاوزت سن الشباب، فأرغمت المعز على طلاق زوجته الأولى، وكانت تحدث بينهما المناظر العاصفة من وقت إلى آخر. ولما سئم المعز هذه الحياة الزوجية النكدة فكر في اختيار زوجة أخرى، وبعث بالفعل إلى بدر الدين صاحب الموصل يخطب ابنته؛ ولعله لم يكن في الوقت نفسه بعيداً عن التفكير في التخلص من شجرة الدر، والتحرر من نيرها المرهق؛ ولكن شجرة الدر كانت ترقبت حركاته ومشاريعه، فثارت نفسها سخطاً وكبرياء، وأدركت بثاقب فكرها وخبرتها لدسائس القصر أنها إذا لم تبادر إلى التخلص منه، فإنه سيعاجلها بالتخلص منها
فلم تضع وقتاً، ولجأت إلى دهاء المرأة وخديعتها؛ وكان المعز يقيم منذ أيام في مناظر اللوق بعيداً عنها، فبعثت إليه تتلطف به وتدعوه إلى قصر القلعة، فاستجاب إليها المعز؛ وكانت قد رتبت له من غلمانها خمسة ليقتلوه، وعلى رأسهم الخادم سنجر الجوهري. وفي مساء اليوم الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 655هـ ركب المعز إلى القلعة، فاستقبلته شجرة الدر بحفاوة، وبعد أن مكث حيناً دخل الحمام فانقض عليه الغلمان الخمسة وهو عار لينفذوا فيه حكم الإعدام الذي أصدرته شجرة الدر. وتنقل الرواية إلينا عن مصرعه روايات مثيرة، فيقال إن القتلة أخذوا بخصيتيه حتى زهق، أو أن شجرة الدر أخذت تضربه بالقبقاب على رأسه وهو يستغيث حتى أجهزت عليه. وعلى أي حال فقد تمت الجريمة وقتل المعز قتلة مروعة بتحريض زوجه الغادرة الخؤون
وحاولت شجرة الدر على أثر ذلك أن تقيم في السلطة أميراً آخر تستتر وراءه في الحكم فلم توفق؛ ونادى الأمراء المعزية بتولية الملك المنصور ولد المعز، وهو يومئذ صبي في نحو الخامسة عشرة، ووافق الأمراء الصالحية على توليته اتقاء الفتنة؛ وامتنعت شجرة الدر بجناحها بالقلعة مع نفر من خدمها وجواريها، وطالب الأمراء المعزية بالقبض عليها، وحاولوا اقتحام الدار فمنعهم الأمراء الصالحية حماية لشجرة الدر، وكادت تقع بين الفريقين(233/16)
فتنة لولا أن تعهد الأمراء المعزية بتأمين شجرة الدر وعدم التعرض لشخصها. وفي اليوم التاسع والعشرين من ربيع الأول أُخرجت شجرة الدر باتفاق الفريقين من جناحها الملكي واعتقلت في البرج الأحمر أحد أبراج القلعة مع بعض جواريها، وقبض على الخدم الذين اشتركوا في الجريمة وزعيمهم سنجر وصلبوا جميعاً، وأعدم عدة كبيرة من الغلمان والطواشية، وقبض على الوزير الصاحب بهاء الدين بن حنا بتهمة الاشتراك في الجريمة، ولم يفرج عنه إلا بعد أن افتدى نفسه بمبلغ طائل
وأصر الأمراء المعزية بعد ذلك، بتحريض الملك المنصور وأمه، على معاقبة شجرة الدر، واعترض الأمراء الصالحية أياماً؛ ولكنهم كانوا الفريق الأضعف فلم تغن معارضتهم شيئاً. وفي يوم السبت الحادي عشر من ربيع الثاني (أو الجمعة 17 منه على رواية أخرى) نفذ المماليك المعزية إلى البرج الأحمر، وقبضوا على شجرة الدر، وحملوها إلى أم الملك المنصور لكي تتولى عقابها بنفسها. وهنا يقول لنا المقريزي (فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت في يوم السبت؛ وألقوها من سور القلعة إلى الخندق وليس عليها سوى سراويل وقميص، فبقيت في الخندق أياماً، وأخذ بعض أراذل العامة تكة سراويلها، ثم دفنت بعد أيام - وقد نتنت وحملت في قفة - بتربتها قرب المشهد النفيسي؛ وكانت من قوة نفسها، لما علمت أنها قد أحيط بها، أتلفت شيئاً كثيراً من الجواهر واللآلئ كسرته في الهاون)
وهكذا زهقت تلك التي لبثت مدى أعوام طويلة زينة البلاط المصري وصاحبة الحول والسلطان فيه؛ وزهقت بنفس الأسلوب المروع الذي زهق بها زوجها الملك المعز؛ وكان القصاص مثيراً ولكن عادلاً، وكان الفصل الأخير مأساة قصر بدأت رائعة باهرة، ثم انحدرت إلى ظلمات الجريمة
محمد عبد الله عنان(233/17)
حياة الأمة العربية بين الماضي والمستقبل
للأستاذ ساطع بك الحصري
مدير الآثار العامة في بغداد
يسرني أن أحيي فريق الكشاف العربي، تحت سقف هذا البناء القديم، باسم دائرة الآثار القديمة
إنني أحيي فريق الكشاف العربي باسم دائرة الآثار العربية مع علمي بأن الكثيرين من الحضور سيستغربون قولي هذا وسيتساءلون: ما شأن الآثار القديمة في الأعمال الكشافية؟
في الواقع أيها السادة أن الكشاف يمثل (الشباب المتجدد) وأعمال الكشافة كلها بمثابة (استعداد للمستقبل) في حين أن هذه البناية هي (موئل القديم) وكل ما فيها (مثال الماضي ومرآة التاريخ) فجمع الكشافة في هذه البناية القديمة بين القاعات المملوءة بالآثار القديمة، يظهر في الوهلة الأولى كأنه (الجمع بين الأضداد) مثل (الجمع بين الماضي والمستقبل)
غير أنا، أيها السادة، إذا تعمقنا في البحث قليلاً نضطر إلى التسليم بأن الماضي والمستقبل ليسا متناقضين إلا من حيث المعنى اللغوي؛ أما من جهة العمل الاجتماعي فإنهما مرتبطان متلازمان، فإن الماضي منبع المستقبل دائماً، كما أنه من عوامل الدفع إلى الأمام في كثير من الأحيان ولاسيما في حياة الأمم التي تستفيق من سباتها وتنزع إلى النهوض بعد الرقود
لقد قال أحد المفكرين: (إن الأموات لا يرقدون في المقابر في حقيقة الأمر، بل إنهم لا يزالون يعيشون في نفوس الأحياء ويسيطرون على الكثير من أعمالهم في كثير الأحيان) إن هذا القول يحتوي على قسط كبير من الحقيقة ولاسيما في حياة الأمم. فلأجل أن نقتنع بذلك جيداً يجدر بنا أن نلقي نظرة عامة على أهم مقومات الأمم
إن كل أمة من الأمم تكون شخصية معنوية تتصف بالحياة والشعور وتمتاز ببعض النزعات والميول
إن حياة الأمة تقوم بلغتها بوجه عام، أما الموت بالنسبة إلى الأمة فليس - في حقيقة الأمر - إلا في الحرمان من اللغة الخاصة بها. إن الأمة التي تدخل تحت حكم دولة أجنبية تفقد استقلالها وحريتها، تصبح مستعبدة لها ولكنها لا تفقد حياتها ما بقيت محافظة على لغتها، فقد قال أحد المفكرين: (إن الأمة المحكومة التي تحافظ على لغتها تشبه السجين الذي يمسك(233/18)
بيده مفتاح باب سجنه) إنها تبقى حية ما بقيت محافظة على لغتها؛ إنها تبقى مستعدة للتحرر والاستقلال مادامت مستمسكة بلغتها. أما إذا فقدت هذه اللغة فإنها تكون قد فقدت الحياة؛ تكون قد اندمجت في الأمة المستولية عليها وفقدت كل ما لها من عناصر الكيان. إنها تكون قد زالت من عالم الوجود وبتعبير أقصر (ماتت) بكل معنى الكلمة. إن اللغة التي تكون بهذه الصورة هي (روح الأمة وحياتها) وتمثل (أهم عناصر القومية وأثمن مقوماتها). أليست ميراث الأجيال الماضية وهدية الحوادث التاريخية بوجه عام؟ أفلا يحق لنا أن نقول إنها تربط الماضي بالمستقبل دائماً؟.
هذا ويجدر بنا أن نلاحظ، أيها السادة، فضلا عن كل ذلك أن الحياة ليست كل ما يهم الوجود. فإن هناك شيئاً آخر لا يقل أهمية عن الحياة وإن كان تابعاً له، ألا وهو الشعور. إن للأمم شعوراً كما للأفراد. فالشعور القومي بالنسبة إلى حياة الأمم مثل الشعور الشخصي بالنسبة إلى حياة الأفراد.
قلنا إن حياة كل أمة من الأمم تقوم بلغتها، ويجب أن نعرف في الوقت نفسه أن شعور كل أمة من الأمم يتكون من ذكرياتها التاريخية الخاصة بها
فالأمة التي تحافظ على لغتها وتنسى تاريخها، تكون بمثابة فرد فاقد الشعور، بمثابة فرد يغط في النوم، أو بمثابة مريض في حالة الإغماء. نعم إنه لا يزال على قيد الحياة، ولكن حياته هذه لا تكتسب قيمة إلا إذا استيقظ من نومه واستعاد الشعور الذي فقده مدة من الزمن
فيحق لنا أن نقول إن إهمال التاريخ القومي يكون بمثابة الاستسلام للذهول والكرى؛ وأما نسيان التاريخ المذكور فيكون بمثابة فقدان الشعور. . .
هذه حقيقة يعرفها جيداً رجال الحكم والاستعمار ويستفيدون منها دائماً، فهم عندما يستولون على أمة من الأمم يبذلون قصارى جهدهم لإبعاد ذاكرتها عن تاريخها الخاص. إنهم يتوسلون بكل الوسائل الممكنة لتخدير الأمة وتنويمها عن طريق الحيلولة بينها وبين تاريخها القومي. إنهم يعرفون جيداً أن الشعور القومي عند الأمم المحكومة يأخذ في الخمود والتضاؤل كلما أسدل النسيان سدوله على (التاريخ القومي) إلى أن ينعدم تماماً بنسيان التاريخ الخاص نسياناً تاماً
أما عودة الشعور القومي إلى مثل هذه الأمم المحكومة فلا تتم إلا باستعادة الذكريات(233/19)
التاريخية. إن حركات النهوض والانبعاث وجهود الاستقلال والاتحاد عند تلك الأمم تبدأ بوجه عام بتذكير الماضي واستلهام التاريخ. استعرضوا تواريخ استقلال الأمم التي كانت مغلوبة على أمرها، ثم نهضت وتخلصت من ربقة الاستعباد تفهموا جيداً منها أن حب الاستقلال يتغذى بذكريات الاستقلال المفقود، والتوقان إلى السؤدد والمجد يبدأ بالتحسر على السيادة الماضية والمجد السالف، كما أن الإيمان بمستقبل الأمة يستمد قوة من الاعتقاد بماضيها الباهر؛ والنزوع إلى الاتحاد يزداد شدة وحماسة بتجدد ذكريات الوحدة المضاعة. . .
ومما يجب أن يلفت أنظارنا في هذا المضمار أن خطة استلهام الماضي والاستفادة من التاريخ تظهر للعيان حتى في أعمال الأمم التي تقوم بثورات عنيفة وتحاول قلب حياتها الاجتماعية رأساً على عقب بصورة جدية وفورية. إن تلك الأمم تثور في حقيقة الأمر على (الماضي القريب) وحده، وتحاول في خلال ثورتها هذه أن تستمد قوة من الماضي البعيد. أنعموا النظر في تاريخ ثورات ووثبات تلك الأمم - مثل اليابان وتركيا الحديثة - تجدوا فيها أيضاً، بجانب حركات التجديدات الجندية، اهتماماً متزايداً بالأبحاث التاريخية، وتغلغلاً مستمراً في استخدام التاريخ لتقوية الروح القومية وإيجاد النزعات التجديدية
إن أمر الاهتمام بالتاريخ والالتفات إلى الماضي ليس من الخطط الخاصة بالأمم التي كانت في حالة تأخر وسبات، بل هي من الأمور التي تشمل جميع الأمم بدون استثناء. تعمقوا في دراسة أحوال أرقى الأمم العصرية، وأنعموا النظر في أحسن الشوارع والميادين في أرقى المدن الحديثة تجدوا في جميعها آثار اهتمام عظيم بالماضي والتاريخ، تجدوا في جميعها عدداً كبيراً من الأنصاب والتماثيل والألواح التذكارية وسلسلة طويلة من المهرجانات والاحتفالات يقصد منها تذكير الماضي للناس، وترسيخ التاريخ في الأذهان
ولهذه الأسباب كلها أقول في كل حين: إن الماضي منبع فياض للمستقبل والتاريخ قوة مهمة في حياة الأمم
ولهذه الملاحظات رأيت من الواجب على فريق الكشاف العربي أن يذهب إلى سامرا ليقضي يوماً كاملاً في التجوال بين أطلالها، ويطلع على الآثار الباقية من عند الإمبراطورية العربية العباسية فيها، ثم يعود إلى هنا ليجتمع معنا في هذه البيئة التاريخية(233/20)
ويتأمل مدة في ماضي أمتنا العزيزة، ويستمد من ذكريات هذا الماضي قوة جديدة لجهوده القادمة. ولهذا أقدمت على تحيته باسم دائرة الآثار القديمة
إنني لا أحب المغالاة في مثل هذه الأمور، بل أنزع دائماً إلى مجابهة الحقائق من كل وجوهها. وبعد أن شرحت لكم ما أعتقده في خطورة الدور الذي يلعبه التاريخ في حياة الأمم أرى من واجبي أن أقول لكم كلمة عن مضاره أيضاً، لكي أحذركم منها
إن الحياة الاجتماعية غاية في التعقد؛ والعوامل الاجتماعية في منتهى التشابك. ولذلك قلما نجد بين تلك العوامل ما هو مفيد على الإطلاق، ومجرد عن الشوائب والأضرار في كل الأحوال. إن الفوائد والأضرار في الحياة الاجتماعية تتشابك بشكل غريب، فاقتطاف الفوائد مع توقي الأضرار يحتاج إلى يقظة كبيرة وانتباه شديد في معظم الأحوال
إن تأثير التاريخ والماضي في حياة الأمم، لا يشذ عن هذه القاعدة العامة، فإنه أيضاً قد يصبح مضراً في بعض الأحوال
فإن التاريخ يكون مفيداً عندما يفرغ في شكل (قوة دافعة) تحركنا إلى الأمام كما ذكرت لكم؛ غير أنه يصبح مضراً إذا أخذ شكل (قوة جاذبية) تدعونا إلى العودة إلى الوراء. فلا يجوز لنا أن نعتبر الماضي هدفاً نتوجه نحوه، ونسعى للعودة إليه، بل يجب علينا أن نجعل منه (نقطة استناد) نستند إليها في سيرنا إلى الأمام، يجب علينا أن نكون منه قوة فعالة حافزة تدفعنا نحو المستقبل الجديد، وبتعبير أوجز: شعارنا في هذا الباب يجب أن يكون: (تذكر الماضي، مع التطلع إلى المستقبل دائماً)
واسمحوا لي أن أشرح لكم قصدي من هذا الشعار بذكر بعض الأمثلة:
كلكم تعلمون أن سيرة خالد بن الوليد من أجلِّ السير التي سجلها التاريخ، فيجب علينا أن ندرسها بكل اهتمام؛ ولكن لماذا ولأي قصد؟ ألقصد الحصول على دروس في فنون التعبئة والحرب؟ كلا؟ فإن الخطط الحربية التي كانت تضمن النجاح والنصر في عصر خالد بن الوليد لا يمكن أن تفيد في هذا العصر بوجه من الوجوه. ولا مجال للشك في أن الخطط الحربية التي تضمن النصر والنجاح في عصر الدبابات والطيارات والغواصات والمدافع الضخمة والقذائف الهدامة والغازات الخانقة - تختلف كل الاختلاف عن الوسائل التي كانت تؤدي إلى النصر في حروب العصور السالفة. فكل من يحاول أن يجد في خطط خالد(233/21)
بن الوليد دروساً في فنون الحرب قابلة للتطبيق في العصر الحاضر يكون قد أقدم على عمل لا يتفق مع العقل والمنطق
غير أنه يجب أن نعرف أن الحروب لا تتم بالوسائط والقوى المادية وحدها، بل إنها تحتاج إلى قوى معنوية متنوعة فضلاً عن القوى المادية، أهمها: الوطنية الصادقة، والإيمان بإمكان النصر مع الإقدام على إحرازه بحزم وثبات، وجرأة وشجاعة لا تتأخر عن نوع من أنواع التضحية. إن هذه القوى المعنوية لعبت ولا تزال تلعب دوراً هاماً في الحروب في جميع العصور، مهما كانت الوسائط المادية المستعملة في خلالها، سواء أكانت من نوع السهام أم الدبابات، أم الجمال أم الطيارات. إن سيرة خالد بن الوليد مملوءة بأمثلة عليا عن هذه القوة المعنوية؛ وإذا ما أقدمنا على درس سيرة خالد بن الوليد يجب أن ندرسها لكي نستفيد من تلك القوى المعنوية؛ وإذا ما بحثنا عنها يجب أن نبحث عنها بقصد استثارة قوى معنوية مماثلة لها، لا بقصد محاولة الحرب على الطريقة التي مشى خالد بن الوليد عليها
وكذلك كلكم تعلمون بأن أجدادنا العظام أسدوا إلى الطب من الخدمات ما لا ينساه التاريخ، فيجب علينا أن ندرس تلك الخدمات، ونطلع عليها ونتذكرها دائماً، ولكن لماذا؟ وبأي قصد؟ هل يجوز لنا أن نفعل ذلك بقصد الاستفادة من آراء كبار أطباء العرب في مداواة الأمراض؟ لا مجال للشك في أن ذلك يكون في منتهى السخافة. يجب علينا أن ندرس خدمات العرب للطب، لا بأمل أن نجد في اكتشافاتهم ما يفيدنا في أمر التطبيب والمداواة، بل لنزداد مباهاة بأعمال أجدادنا العظام، ولنزداد إيماناً بحيوية أمتنا الكامنة، ولنحصل على دوافع باطنية تحفزنا على القيام بخدمات تشبه خدماتهم الغالية. إن أطباء العرب القدماء خدموا الطب خدمة كبرى، ومشوا في مقدمة العالم في هذا المضمار قروناً عديدة. إن خدمات هؤلاء يجب أن تولد في نفوسنا طموحاً لإحراز مكانة عالية في الطب الحديث، مثل المكانة التي كان أحرزها هؤلاء في العصور التي عاشوا وعملوا فيها
ولذلك قلت إنه يجب علينا أن نستمد من التاريخ قوة معنوية، تثير في نفوسنا نزعات التقدم إلى الأمام، وتحفزنا إلى العمل لمجد المستقبل
أما أهم النزعات التي يجب أن نستلهمها من التاريخ فهي في نظري الإيمان بحيوية الأمة العربية، وبإمكان حصولها على مجد جديد لا يقل شأناً عن المجد الذي كانت نالته في سالف(233/22)
العصور
إننا في حاجة إلى مثل هذا الإيمان في هذا الزمان أكثر من أي زمان آخر، لأن المصائب انصبت على العالم العربي من كل حدب وصوب. ومن المعلوم أن كثرة المصاعب والمصائب تفتح باباً إلى تسرب الفتور والقنوط إلى القلوب التي لا تتجهز بالأمل القوي، ولا تتقوى بالعقيدة الراسخة
ونحن نعلم أن الأمل من أهم عوامل السعي والعمل، وأما القنوط فهو من أفعل دواعي التقاعد والشلل. ولهذا السبب نستطيع أن نقول: إن تطهير القلوب من شوائب الفتور والقنوط وتجهيزها بالأمل والإيمان يجب أن يكون من أهم أهداف العاملين، ولاسيما في الظروف التي أحاطت بالعالم العربي في خلال هذه السنين
وبهذه الوسيلة، وقبل أن أختم كلمتي هذه أود أن أذكركم بإحدى الأساطير اليونانية، وهي (أسطورة باندور):
باندور كانت إلهة جمة الخصال تكونت من عطايا جميع الآلهة: أعطتها كل إلهة من الآلهة الموجودة في ذلك الحين شيئاً من خصالها، ولهذا السبب سميت هذه الإلهة الجديدة باسم (باندور) بمعنى (عطية الكل)
عندما غضب جوبيتير على هرقل وأراد أن ينتقم منه فكر في إغرائه بواسطة باندور، فسلمها علبة سحرية، وطلب إليها أن توصلها إليه من غير أن تفتحها وتطلع على ما فيها. وحملت باندور هذه العلبة، غير أنها لم تستطع أن تتغلب على ميل الاستطلاع في نفسها، ففتحت العلبة في طريقها؛ وعند ذلك أخذ يخرج من العلبة جيش عرمرم من المساوئ والشرور، وينتشر في الأرض بسرعة العاصفة مع أزيز هائل. اندهشت باندور من كل ذلك، وأخذت تبذل كل ما لديها من قوة لإعادة إقفال العلبة بسرعة؛ غير أنه قد خرج من العلبة جميع الشرور قبل أن تتمكن من ذلك، ولم يبق فيها إلا شيء واحد، وكان ذلك الشيء الذي بقي في العلبة مقابل جميع تلك المساوئ والشرور هو (الأمل)
إن حالة العالم العربي الآن تشبه الحالة التي حدثت عند انفتاح علبة باندور المذكورة في هذه الأسطورة. لقد انتشرت المصائب والشرور في العالم العربي، ولم يبق بين أيدي أبنائه شيء غير (الأمل)، فيجب علينا ألا ننسى أن الأمل هو من أهم عوامل العمل، ولابد أن(233/23)
نحرص عليه كل الحرص فلا نترك سبيلاً إلى تسلل القنوط إلى قلوبنا. فليكن قلب كل واحد منا شبيهاً بعلبة باندور (يحفظ الأمل) بل لا يكتفي بحفظه فيسعى إلى تغذيته وتقويته إلى أن يتحول إلى (إيمان لا يتزعزع) يدفعنا إلى العمل المتواصل بروح التضحية والإخلاص.
ساطع الحصري(233/24)
إلى الأستاذ الزيات
تكيف الأخلاق الفاضلة
للأستاذ خليل جمعة الطوال
- بلى يا محمود! وهل تشك في ذلك. . .! إن الأخلاق الفاضلة هي مبعث كل سعادة، وأس كل نجاح، ولولا فضيلة الخلُق لكان للعالم شأن غير هذا الشأن. فهي الصخرة الناشزة في طريق الكفر التي تحطمت عليها أصنام الوثنية في قريش؛ وهي القوة العظيمة التي بدَّلت نواميس الطبيعة التي لا تتبدَّل يوم هرب موسى بشعبه من ظلم فرعون الطاغية؛ بل هي العدة الوافرة التي تسلح بها المسلمون في جهادهم فجعلت سيوف المشركين في أيديهم خشبا، وحملها العرب في فتوحاتهم فإذا بها لغم تداعت له جوانب الإيوان وشرفاته، وتلاشت فيه أبهة التاج ومجوهراته. ولكن ما العمل فقد تطور الحال، واستحال الزمان، ولم يعد ابن الأمس - المتوحش على زعمنا - في قياس هذا العصر بإنسان، ولا أخلاقه الرجعية بالتي ترجح فيها كفة الفضيلة في الميزان؟
يا أخي! إنها (لموضة) تعم كل شيء، وتجتاح كل ما في سبيلها، وتخضعه لحكمها؛ فلا فرق في ناموسها بين الأخلاق الفاضلة والسراويل المخرفجة التي يلبسها خصيان الأتراك. ومتى انتشرت (الموضة) فعار على الإنسان أن يتخلف عنها. ولقد نظرتُ في تاريخ المدنية فرأيت فيه أزياء من الأخلاق بعدد (موضات) الملابس، ورأيت أن الأخلاق تتكيَّف بالزمن وملابساته، تكيف الجسم بالمحيط ومؤثراته. وما تعمل الأخلاق غير هذا. . . إنها مكرهة عليه لتحتال لنفسها على البقاء وتنجو من يد الفناء، فهو طريقها في شهوة الخلود، ولا محيص لها عن سلوكه. ألا فانظر كيف يقلم الإنسان أظفاره لاستغنائه عنها، ويدرمها (بالمونيكير) مجاراة للموضة، وكيف حسر عن رأسه ليظهر شعرهُ السبطُ اللامعُ المطيب بأطايب (الموضة) أفلا يسفر بعد هذا عن أخلاقه!. . . ولقد نظر في ناموس الأخلاق، فرأى أن الفضائل التي كانت فيما مضى قائمة به إلى معالي الأمور، حافزة له على عظيم المآثر، هي القاعدة به اليوم عن عالي الرتب، وعريض الجاه؛ وهي السالكة به طريق الفشل، والصادة له عن محجة النجاح؛ فلا عجب بعد هذا أن يتنكب جادتها، ويصد عن ورد شرعتها؛ فالكرمُ الذي كان يتهالك عليه المرءُ فيما مضى، إذ كان طريق السؤدد(233/25)
ومحمدة ما فوقها من محمدة أصبح اليوم - في عرف هذا العصر - تبذيراً وهوساً. وأعوذ بالله ممن يرميه الناس بالتبذير، ألا يتهمونه بالهوس؟ والحلم أصبح ضعفاً وعجزاً، والتقوى تزمتاً ورجعية، والحياءُ نقصاً في الرجولة وأنوثة. وما الفضائل الجلى، والخطوة البالغة، والمكانة السامية إلا في الطباع اللئيمة، والكذب الصراح، والتملق الشائن، والخلق اللدن، والمثالب الفاضحة، والسفالة الواضحة.
هي الأخلاق تنصهر بالموضة وتميع، ومتى ماعت جرت - حسب قوانين السوائل من فوق إلى تحت - من ذروة سمو النفس، إلى دركة حيوانية الطبع، وتشكلت بشكلها والعياذ بالله!
أين ذاك الزمان الذي كان يتنافس فيه الأقران على اجتذاب حبل الفضيلة بوأد حيوانية الطبع، وعلى سمو النفس بصلب سفالة الشهوة، وعلى زعامة الخلق بإنكار أنانية الذات، مِن هذا العصر الذي تدلت فيه معنويات الفضيلة، فحبل الشهوات البهيمية على الغارب، وخسة الطبع والقحة هما من الأخلاق في ذروتها، والتبجح الكاذب مدار الحديث في كل مجلس وناد؟ والأغرب أن الناس إنما يتجاحشون على الرذيلة باسم الفضيلة، ويتمرغون في حمأة الموبقات باسم الأخلاق، ويرتكبون اللتيا والتي باسم التجديد! التجديد الذي شمل الأخلاق وعم الفضائل، فحور فيهما وبدل، ما حور وبدل في الثياب
استعرض الناس على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم، وانظر علامَ يتجاحشون! أعلى الصدق وهم يرونه آفة على جمع المال الذي احتكرته المخاتلة والخداع؟ أم على الحياء وقد أصبح صاحبه مقروناً بالحرمان، كما أصبحت الحظوة من مدلولات القحة؟ أم على الكفاية وقد تغير مقياسها - بتغير الموضة - ولم تعد دليلاً على مقدار رسوخ قدم صاحبها في العلم والعرفان، ولا على مقدار ما في نفسه من معنويات الشرف، وطهارة الوجدان، وإنما على مقدار ما له من جاه عريض، وأصل أثيل، وعلى عدد ما في بطانته من أرباب الرتب الملحوظة، والألقاب الضخمة، والشخصيات المنفوخة: إن صح هذا التعبير كالأفندية! والباكوية! والباشوية! كلا ليس على شيء من هذه الفضائل يتجاحشون، ولِمَ يتجاحشون عليها وهم يرونها - جميعها - قد اختلطت، وتفاعلت، وتركبت في جوهر واحد فقط هو الوظيفة؟(233/26)
أفلا تراهم يشترون أحط الوظائف دركة بماء وجوههم اللدنة ونخاسة سمعتهم السافلة، وفضيلتهم الدابرة، حتى إذا ظفروا بها بطروا، وضحوا في سبيل استبقائها والحرص عليها بجميع أخلاقهم وبضمائرهم الموبوءة، وما ذلك إلا ليكونوا من ذوي الزلفى، وليثملوا بنشوة الغرور، إذ يقول فيهم الناس، تزلفت إلى البيك في الديوان وزرت الأفندي في الديوان، وتوسطت في الأمر لدى الباشا في الديوان
قد يسوءك الأمر ويغمك، ولكن الأخلاق الفاضلة غير مسئولة عن ذلك لأنها تطورتْ وأنت تحجرتَ - في عرف أهل الموضات - وتقدمتْ فتخلفتَ
يا أخي! لقد تلقحت أخلاقنا الفاضلةُ الأصيلة بأخلاق سِفلة الشعوب الوضيعة فنغلت وصارت كالخنثى، لا هو ذكر ولا أنثى، بل كالبغل ليست فيها أصالة الحصان ولا ضعف الأتان
هي (الموضة) يا عزيزي. . .! وقد أبت الأخلاق إلا أن تتكيف بها، فتصبغت وتطيبت ثم تدلت وانتهت إلى هذه الحالة التي تشكو منها. وما شكاتك إلا شكاة الفضائل بأسرها، والأخلاق العالية بكاملها. هي (الموضة) وعبثاً يحاول الإنسان أن يجاري المدنية ولا يجاريها، فهي من مقوماتها الأولى، ومستلزماتها الرئيسية
أفبعدَ هذا - يا محمود - تطمح إلى النجاح في القرن العشرين وعدتك له عدة الجدود الغابرين؟
(شرق الأردن)
خليل جمعة الطوال(233/27)
صور وخواطر
بعد المرض
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . يقولون إن الإنسان يأكل ليعيش، ولكني أعيش في هذه الأيام لآكل. آكل بشراهة ونهم، حتى أحس الامتلاء ولا يبقى في المعدة مكان لذرّة. . . فأدع الطعام آسفاً، وأنظر إلى الأطباق وما فيها نظرة المودّع الحزين، ثم أقوم إلى كتابي فأفتحه، أو إلى شباكي أطلّ منه، أتلهى بهذا أو بذاك حتى أحس أو أتوهم أني أحس جوعاً، فأدعو بالطعام، أو تمضي ثلاث ساعات، فآكل ولو لم أكن جائعاً. . . ألم يقل لي الطبيب: كلْ كلّ ثلاث ساعات؟!
ذلك لأني لبثت عشرين يوماً أشتهي قطعة الخبر، فأطلبها وألح في طلبها، فتمتنع عني، وأحرمها فأراها في منامي، وأحلم بها في يقظتي تجسمها لي أمانيّ وأفكاري، فأتخيل أين قد نلتها، فإذا أنا لم أنل إلا هذا اللبن (الحليب) الذي برمت به واجتويته، والذي يفضل المريض رؤية عزرائيل على رؤيته يطالعه في الصباح وفي المساء، والذي كرهت لأجله كل أبيض، حتى بياض الفجر وبياض النحر. . . والذي أصبح قذىً في عيني لا أطيق رؤيته، وسمّاً في فيّ لا أقدر على تذوقه. . . ثم فرّج الله عني بعد الضيق وأنالني ما أشتهي من الأطعمة وأريد، فكيف لا أهجم عليها بشراهة ونهم، وكيف تبلغ بي الحماقة أن أقوم عن المائدة وفي الأطباق بقية؟
لا أكاد أشبع من الطعام ولا من القراءة، ولا من النظر في هذا الفضاء الفسيح، وهذه الجنات المتسلسلة تبدو من شباكي يعانق بعضها بعضا، حتى يستلقي آخرها في أحضان قاسيون. لا أكاد أشبع من شيء، لأني خرجت من هذا المرض كمن ولد ولادة جديدة، فهو لا يعرف الدنيا قط وهو ينظر إليها بعيني طفل ذكي يدهشه كل شيء ويود لو يمتلكه ويأكله أو تحتويه يده. . . ولأني خرجت منه ضعيفاً مهدوداً، ولقد كنت من قبله قوياً نشيطاً. استحممت يوماً في البحر، ثم خرجت منه متوثباً متحفزاً، أكاد أطير مما أحس في جسمي من النشاط، فسرت على الشاطئ حتى حاذيت الصخرة (الروشة!)، تلك الصخرة القائمة في البحر كأنها الطاق العظيم، أو كأنها قوس نصر، أقامه الماء الهيّن الليّن الذي انتصر بصبره وثباته في جهاده، على هذه الصخرة العاتية المتكبرة، فجعلها فارغة جوفاء، ولا تزال على(233/28)
عتوها وكبرها سنة الله في المتكبرين، لا يكونون إلا فارغين. . . تلك التي يدعونها في بيروت صخرة الانتحار، لأن المجانين أعداء أنفسهم وأوطانهم، يلقون بأنفسهم منها يثبون إلى. . . إلى جهنم! وكانت الشمس مائلة إلى المغيب، تمنح البحر آخر هباتها، فيبدو براقاً لامعاً، قد لبس حلّة من النور، فأكبرت هذه المخلوقات: الشمس والبحر والصخر، ووقفت صاغراً حيال عظمة الطبيعة وجلال الطابع (جلّ جلاله)، ثم غلب عليّ هذا النشاط الذي أحسّ، وبلغ دماغي فملأه ادعاء وكبراً وغروراً؛ والمرء في فكره وعواطفه خاضع أبداً لحالة جسمه، ودرجة صحته، فرأيت هذا الصخر إلى زوال قد عبث به الماء، والماء إلى ذهاب قد بخرته الشمس، والشمس إلى غياب قد ابتلعها البحر، ورأيتني وحدي الذي يبقى، أنا الذي فتّت الصخر، وأنا الذي أذلّ البحر، وأنا الذي اتخذ الكون كله معمل تجارب لعقله وسخّره لمنفعته، وأنا الذي يحوي في صدره عالماً أكبر من هذا العالم، ونوراً أبهى من هذه الشمس وعواطف أعمق من هذا البحر، وأرقّ من هذا الماء، وأشد من هذا الصخر. . .
وذهبت إلى المدرسة، وأنا أقول (أنا)، والعياذ بالله من (أنا) فإنها كلمة إبليس. . . ذهبت ماشياً فأكلت من ساعتي أكل من لبث في البحر ساعتين، ومشى ساعة كاملة، من (الروشة) إلى الحرج، وكانت سكرة النشاط، ونشوة (أنا) لا تزال ضاربة في رأسي، فذهبت مع الطلاب أمشي وأعدو وأثبت، وأفعل كل ما لا يفعل عاقل، ولم أعد إلى المدرسة إلا غارقاً في العرق فشربت قازوزتين مثلجتين من (القازوز)، وصارعت. . . واغتسلت بالماء البارد، ونمت فأصبحت مريضاً!
يا لهذاالمغرور الأحمق الذي أصاب ذرة من العلم، وعبث بالكون عبث الوليد، يرفع ويضع فلم يعد يرضيه إلا أن يدّعي الألوهية، أو (يؤلّه هذا العلم). . . يا لهذه القوة الكاذبة، وهذه السطوة الفارغة، هذا القويّ الجبار الذي فتت الصخر، وأذلّ البحر، يذله مخلوق من أصغر مخلوقات الله، لا تراه لهوانه العين؛ يعيش الملايين منه في قطرة ماء، مخلوق واحد من أضعف المخلوقات يلقي الإنسان محطوماً، ويطّير هذه الأفكار كلها من رأسه حتى يعود ذليلاً خانعاً. . . فكيف ويحك لو أصابك الله بعذاب من عنده؟ يا للأحمق المغرور!
أصبحت فإذا أنا قد نسيت أفكار الأمس ونسيت الأمس كله وأحسست بالبعد عن الدنيا التي آلفها وأحبها. ولقد انقطعنا مرة في قلب جزيرة العرب، وتهنا في رمالها الموحشة سبعة(233/29)
عشر يوماً نسير وراء حدود العالم مع الوحش والآكام، والشمس والعطش والموت، فما أحسست بأني بعيد عن الدنيا ولا بلغ بي ذلك كله ما بلغ بي هذا المرض القصير. . . لقد أصبحت بلا ماض ولا مستقبل ولا حاضر إلا هذا الحاضر الضيق الأليم الذي يستقر في بطني حيث (الزائدة) الملتهبة، وفي خاصرتي حيث الرمل في الكلية. اصطلحت عليّ العلل، واجتمعت المتناقضات، فالالتهاب لا يطفئه إلا كيس الثلج، ونوبة الرمل لا يصلحها إلا الماء الحار، فإن داويت هذه زدت تلك، وإن عالجت تلك انتقضت هذه. . .
أنساني المرض كل شيء، حتى ما أذكر أني كنت يوماً من الأيام أمشي وآكل وأشرب واقرأ وأكتب وأمارس أنواعاً من الرياضة، ولا أذكر أني كنت أستطيع التفكير في آلاف المسائل وأعالج المئات من الأمور، وماتت الدنيا في عيني، وأصبح هذا الألم دنياي كلها، فأنا أطلق الفكر من عنانه، فلا يخرج عنه، ولا يجول إلا فيه، يتخيل أبشع أنواع المرض، وأفظع ألوان الخطر ثم ينطلق الفكر إلى العملية التي أكد الأطباء أنه لابد منها، فلا يكاد يشرع في تصورها حتى تسود الحياة في عيني، وأراها كلها ألماً وشراً، وأتمنى أن لو كان أبي على مذهب المعري، أو لو أن أمي لم تلدني. . . ويوسوس لي الشيطان أن ما حق أبيك في أن يقضي عليك فيجيء بك، أليست حياتك متعلقة بك وحدك؟ فهل استشارك فيها، أو هو قد ضحى بك وبحريتك وسعادتك في سبيل لذته، أو هو لم يفكر فيك أبداً، ولم تخطر له على بال؟. . . فأرى الشيطان يريد أن يزيدني على مرض جسمي مرض ديني، فألعن الشيطان وما جاء به، وإن مما يجيء به الشيطان لما يسمونه فناً وابتكاراً وتجديداً، ولكنه يبقى أبداً فناً شيطانياً. . . أدع هذا وأعود بفكري إلى سرير العمليات الذي حملني إليه المدير مرة ووكل بي الممرضات، وأقام عليّ طالبين يحرسانني، وذهب إلى الطبيب يحضره فوثبت أحمل أوجاعي وأناضل دون حريتي حتى بلغت الشارع حافياً، وركبت إلى الكلية أول سيارة رأيتها وأنجاني الله من العملية والأطباء. والأطباء - والرجاء عدم المؤاخذة - قوم برئوا من العاطفة وانبتوا من الشفقة يشقون بطون الناس - نسأل الله السلامة - ويخرجون أمعاءهم فيضعونها في طبق. . . ويكسرون جماجم البشر، ويعبثون في أدمغتهم ويفعلون ما لو فعله غيرهم للحقه الشرط، واصطف له القضاة، وفتحت له أبواب السجون، وأعدت له حبال المشانق؛ ثم يتصدرون المجالس يفتخرون بأنهم أصدقاء(233/30)
الإنسانية أفأعطيهم بطني ليشقوه، ويردوني مريضاً بعد إذ أنا معافى وأتعجل الداء بنفسي؟ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين
لم يكن يفزعني شيء وأنا مريض مثل ما يفزعني الليل بسواده وامتداده. كنت أخافه أشد الخوف، وأحسب لمجيئه الدقائق والثواني، وأرقبه كما يرقب المحكوم ساعة القتل، ذلك أني لم أكن أستطيع النوم ولا أطيق الجلوس، وإنما أستطيع أمراً واحداً، هو الاضطجاع على قفاي أحدّق في السقف ليلاً ونهاراً. . . ولطالما رأيت في السقف بقعة سوداء، فخيل إليّ لطول التحديق فيها، أنه حية تريد أن تنقضّ عليّ أو رتيلاء كبيرة ذات تسع وتسعين رجلاً وعشرة رءوس، أو مجموعة من العقارب أو عفريت من الجن، أو جني من العفاريت، فأصيح فزعاً وأنطلق أهذي هذيان محموم حرارته أربعون. . .
إني لأضحك الآن، وأكركر من الضحك حين يعيدون عليّ ما كانوا يسمعون مني إذ أهذي، وأرى فيه صورة واضحة لكثير مما نقرأ في الصحف والمجلات ينشره أصحابه على أنه أدب، ويقرؤه الناس على أنه ثرثرة وهذيان محموم!
وكان أحبّ شيء إليّ وأنا مريض أن يكثر الناس من حولي، ثم يتحدثوا شتى الأحاديث لأخلص من وحدتي وأتسلى عن ألمي وأذكر جانباً مما في الحياة. . . ولكني كنت أسمع أصواتهم كأنها خارجة من جوف بئر سحيق، أو أعماق مغارة بعيدة، وأراهم من خلال ضباب كثيف، فلا أتبين صورهم ولا أصواتهم، وسرعان ما أملّ منهم وأطلب جديداً. كانت أيامي متشابهة متشاكلة، فكنت أحب أن أجد كل لحظة شيئاً جديداً
ضعفت قواي وضاعت إرادتي ولم يبق لي طاقة على المشي، ولا قدرة على المحاكمة العقلية، ولم يبق حياً فيّ إلا لساني. . . أكل ذلك لأن جرثومة صغيرة دخلت جسمي. . .؟ يا لضعف هذا الإنسان القويّ!
تألمت في هذا المرض لكني تعلمت. تعلمت في الحياة درساً جديداً، وما الحياة إلا دروس. . . هو أن المرض نعمة ليس بنقمة، وأنه لازم للإنسان لا يدرك قيمة الصحة ولا يعرف معنى الحياة ولا يرجع إلى نفسه إلا إذا مرض، هنالك يدرك معاني هذه الأشياء التي يمرّ بها وهو صحيح مراً سريعاً لأنه مشغول عنها بما لا نهاية له من الصغائر والترهات، وإن للمريض - قبل كذة الصحة - لذتين، لذة هذا العطف الذي يحاط به والحب الذي يغمره،(233/31)
ولن أنسى أبداً عطف مدير الكلية وناظرها عليّ وحبّ الطلاب إياي وإني لأسيغ ذكرى الألم إذا تصوّرت هذين الطالبين اللذين كانا يقيمان الليل كله بجانبي، إذا قلت آه أو انقلبت من جنب إلى جنب كانا واقفين أمامي. آثراني على أهلهما وفضّلاَ راحتي على راحتهما، أما عطف اخوتي وأهلي فلست أذكره. . .
ولذة أخري، وهي اللذة الكبرى التي يجدها ساعة يلجأ إلى الله، ويدعوه مخلصاً مضطراً، وكنت إذا وصف لي مريض به مثل ما بي اليوم، يُدار بي من الرثاء له، والخوف مما هو فيه فلما غدوت مريضاً، لم أجزع ولم أخف، وكانت تمر بي لحظات أضيق فيها بهذا القيد إلى السرير وهذا الألم، ويبلغ بي الضيق في الليل أقصاه، ولكنها كانت تمر بي لحظات كنت أرضى فيها كل الرضى، وأفئ فيها إلى ربي، وأرى ما أنا فيه امتحاناً لصبري، ونعمة من الله تزيد في أجري، فأطمئن ويبلغ بي الأمر إلى أكثر من الاطمئنان إلى نوع من اللذة الخاصة لا أشعر بمثلها في الصحة، وإلى لون من النشاط والقوة لا أعرفه قط وأنا معافى، وأحسب أن لو أصبت بأشد الأمراض وأقواها، وأنا أقدر على هذا الرضا، وأحس هذا الاطمئنان لما وجدت فيه إلا لذة. هذا ما كنت أجده لا أبالغ ولا أتخيل، فأرجو أن يصدقني القراء، وهذه نعمة من نعم الله الخفية على الإنسان، ومظهر من مظاهر القوة الهائلة التي أعطاه، فلا يحكم الإنسان على المريض أو البائس بظاهره. فيشك في عدل الله ورحمته، ولكن ليدخل إلى الداخل، لعل وراء الجدار الخرب قصراً عامراً، ولعل خلف الباب الضخم كوخاً خرباً، ولعل في هذه الثياب الرثة، وهذا الجسم الممزّق البالي نفساً مشرقة سعيدة وإنساناً كاملاً. . .
وتعلمت من المرض أن المساواة التامة هي سنة الله في الحياة. انظروا المرض هل يعرف غنياً أو فقيراً؟ هل يمتنع منه الملك الجبار رب القصر والحراس؟ وهل تمنع أبوابه وجنده هذا المخلوق التافه الصغير من الدخول؟ سد الأبواب، وأغلق النوافذ، وأقم الجند بالسلاح، وعش في صندوق مغلق، إنه يدخل مع الهواء الذي تنشقه، والماء الذي تشربه، والطعام الذي تأكله، ويحتل جسمك، ويعيش في عينك وفمك، ويسبح في دمك
ترفع عن المساكين، وتكبر على الفقراء يرجعك المرض إلى صفوف المساكين والفقراء، فتألم كما يألمون، وتصيح مثل ما يصيحون، وكل ما في الحياة يسوّى بينك وبينهم؛ هل(233/32)
تنشق أيها الغني من الهواء هواء معطراً، وينشقه الفقير بغير عطر، أم إن الهواء وهو قوام الحياة لك وله، قد سوى فيه بينك وبينه؟ هل تشرب ماء العيون معسولة مذاباً فيها السكر، ويأخذها الفقير ملحاً أجاجاً. . إن الهواء والماء والشمس والقمر والصحة والمرض والولادة والموت كل أولئك سطور خط فيها الله على صفحة الحياة: إن الناس متساوون. هل سمعتم أن ابن الملك يولد إذ يولد مرتدياً الحرير، يمشي على رجليه إلى سريره ويلقي بنفسه خطبة ميلاده، ويشرف من شباكه على شعبه، وابن السوقي يولد أخرس عارياً؟ افتحوا القبر المجصص الفخم، وارفعوا ما فوقه من نصب وتماثيل وكتابات ونقوش هل تجدون فيه عظاماً تضوع بالمسك، وتفوح بالند، لأنها كانت تلبس الحرير، وترتدي الديباج؟
هذا ما تعلمته من المرض!
وبعد، فلقد أطلت الكلام، وآن أوان الطعام، ولابد من قطع هذا الحديث! وأنا أحمد الله على الصحة والمرض، وأحمده على كل حال
(بيروت)
علي الطنطاوي(233/33)
التزوج بالغربيات
تحريمه بفتوى وقانون
لأستاذ جليل
هلاكُ الشيوخ والشبان منا معشر المصريين على التزوج بالغربيات أجلَ أن نهدّم (قاصدين أو غير قاصدين بُلْهاً أو متفلسفين) الأسرة المصرية بل الأمة المصرية - أجبر على كتْب هذه السطور:
قال الله تعالى: (اليومَ أُحِلّ لكم الطيبات، وطعامُ الذين أوتوا الكتاب حِلّ لكم، وطعامكم حلّ لهم، والمحصناتُ من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين ولا مُتخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عملُه، وهو في الآخرة من الخاسرين)
صدق الله العظيم، وقول الله بيّن، وظاهرُه طوَّع لائمةٍ نكاحَ الكتابية: اليهودية والنصرانية. بيد أن لنزول الآيات أسباباً يوردها المفسرون، وقد يكون المغزى في آية غير ما يلوح أولَّ وهلة. والصحابة والتابعون هم أدرى بكتاب الله ومراميه من تابعي التابعين ومن مجتهدين مولدين محدثين (وللمجتهد فضل وقدر وأجر) فقد جاء في (مفاتيح الغيب):
(كان ابن عمر (رضى الله عنهما) لا يرى التزوج بالذمية، ويحتج بقوله: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ) ويقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها: (إن ربها عيسى) ومن قال بهذا القول أجاب عن التمسك بقوله تعالى (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) بوجوه: (الأول) إن المراد الذين آمنوا منهم، فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج بها أم لا، فبين تعالى بهذه الآية جواز ذلك. (الثاني) روي عن عطاء أنه قال: إنما رخص الله تعالى في التزوج بالكتابية في ذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة، وأما الآن ففيهن الكثرة العظيمة، فزالت الحاجة، فلا جرم زالت الرخصة. (الثالث) الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار كقوله (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وقوله: (لا تتخذوا بطانة من دونكم) ولأن عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة، ويصير ذلك سبباً لميل الزوج إلى دينها، وعند حدوث الولد فربما مال الولد إلى دينها، وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة. (الرابع) قوله تعالى في خاتمة هذه(233/34)
الآيات: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين) وهذا من أعظم المنفرات عن التزوج بالكافرة، فلو كان المراد بقوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر هذه الآيات عقيبها كالتناقض، وهو غير جائز)
وروى محمد بن جرير هذا الخبر معنعنا:
(من نساء أهل الكتاب من يحلّ لنا، ومنهم من لا يحل لنا، ثم قرأ: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية) فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحلَّ لنا نساؤه)
فهذا الخبر يُحلّ نكاح النصرانية المصرية (القبطية العربية) لا النصرانية الغربية الأوربية، الأمريكية، و (حنانيك) كما قال الشاعر وجاء في مثل. وفصل الخطاب في هذا الباب عندي وعند كل مصري (مسلم أو قبطي) حريص على وقاية المصرية وصونها ونجاتها - هو خطة (الفاروق) - رضي الله عنه - فقد جاء في (جامع البيان):
(. . . شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أصناف النساء - إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات - عن كل ذات دين غير الإسلام. وقال الله (تعالى ذكره) ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله. وقد تزوج طلحة بن عبيد الله يهودية، وتزوج حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) غضباً شديداً حتى هَمَّ بأن يسطو عليهما، فقالا: نحن نطلق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب، فقال: لئن حلّ طلاقهن لقد حلّ نكاحهن ولكن أنتزعهن منكم صغرة قَمْأة)
إن هذا الشر، شر نكاح الغربيات قد اشتد واستفحل بل استأسد، فإذا لم يُدرك الناسَ في مصر رجالُ الدين والدنيا وشيخ الإسلام ومفتيه وهيئة كبار العلماء، بالدواء الناجع، بالفتوى المحرِّمة، والقانون المانع، دارئين بذلك هذا البلاء، هذه الداهية الدهياء، هذا التزوج بالغربية - فحولقْ (أيها المصري) واسترجعْ، واقرأ الفاتحة (على الأسرة) وقل السلام على (الأمة)!
وإني في هذا المقام أذكّرُ عاملا بقول الله: (وذكّرْ فإن الذكرى تنفع المؤمنين) رئيس الدولة(233/35)
وشيخ الإسلام بأن (موسوليني) الطلياني و (هتلر) الجرماني قد سارا سيرة (الفاروق) في التحريم. فحرّم الأول على قومه نساء الأحبوش أو الحُبشان، وحرَّم الثاني بنات يَهود. وما لامهما في الناس لائم. وحري بمن امتلّ ملة (الفاروق) - ومن أعرف بدين الله من عمر؟ - أن يستن بسنته، وينقذ من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة بني أمته، والله يقول: (أنا لا نضيع أجر المصلحين) (أنا لا نضيع أجر من أحسن عملا)
اللهم، إني قد بلغت في (الرسالة) الإسلامية، العربية، وقلت، وذكّرت
اللهم، اشهد
(الإسكندرية)
(* * *)(233/36)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 39 -
حين يتصلّب قلبي ويتحرّق، صب عليّ رشاش رحمتك
حين ينزع الحنان من على الأرض، ابعث إلي بنشيدك العذب
حين يعلو ضجيج العمل فيشمل كل مكان فيباعد بيني وبين الناس جميعاً، أرسل إلي - يا إله الصمت - فيض الهدوء والأمان
حين يخرّ قلبي الضعيف ساجداً في عزلته، افتح الباب - يا مليكي - وتعال إليّ في أبهة الملك
حين تعمي الرغبة الملحة قلبي وتنفث فيه الغواية، إليّ - أيها المقدس - في برقك ورعدك
- 40 -
لقد كفّ غيثك - يا إلهي - عن قلبي الظمآن منذ أيام وأيام، والأفق قفر ليس فيه غمامة رقيقة ولا أثر قطرة واحدة
وإذا شئت فانفخ من عواصفك الهجوم ما يحمل ريح الموت ثم املأ السماء بالبرق الخاطف
ولكن رُدَّ عني - يا إلهي - هذه الحرارة المتسعرة الصامتة فهي في شدتها وقسوتها تلفح القلب بنار اليأس القاتل
ثم دع سحائب الرحمة تنهل علينا من علٍ كأنها نظرات أُم عطوف ترى الأب يتنزّى غضباً فتترقرق فيها عبرات الحنان
- 41 -
يا من أحب، أين مكانك من وراء الزمر، وأنت تتوارى في ظلالهم؟ إنهم ينطلقون على الطريق التَرب، يمرون بك فلا يلتفتون إليك؛ وأنا هنا أنتظر الساعات الطوال في قلق(233/37)
وبين يدي الهدايا، وحين يمرون بي يلتقطون زهوري واحدة واحدة وسلتي تكاد نفرغ
لقد تصرَّم النهار، وجاء الليل ينشر ظلامه، والنعاس يداعب جفنيّ، والناس ينطلقون إلى دورهم، وفي أعينهم نظرات التهكم والسخرية، وفي قلبي الخجل. إنني هنا أنتظر في جلسة الشحاذ، أرخي فضل ثوبي على وجهي، وحين يستخبرونني أعرض عنهم في صمت
أوه، كيف أخبرهم بأنني أنتظرك وأنني منك على ميعاد؟ كيف أستطيع أن أقول لهم إنني أقدم فقري مهراً لك؟ آه، سأكتم كبريائي في أعماق قلبي
أنني أقضي الساعات على الحشائش الخضراء أحدق في السماء وأرخي لخيالي العنان أحلم بساعة اللّقيا الجملية - فيخيل إليّ أن النور يسطع وأن الرايات الذهبية تخفق فوق مركبتك، والناس على جانبي الطريق يحدقون في ذهول حين يرونك تهبط من عليائك لتنتزعني من التراب، ولتجلس إلى فتاة فقيرة ترتدي الأسمال، وهي تضطرب من أثر الحياء والكبرياء كأنها حشرة تتهادى بين نسمات الصيف
إن الساعات تمر وأنا لا أحس صوت عربتك. كم حفل مر بي في ضجة ولجب فيه سحر الأبهة! أفتبقى أنت من ورائهم تتوارى في صمت وأنا أقضي حياتي أنتظر عبثاً أبكي وقلبي يتفطر؟
- 42 -
في بكرة الصباح سمعت همسة: ستبحر معه في قارب، أنتما معاً فقط، وما في العالم من يعرف شيئاً عن هذه السفرة، فهي إلى غير غاية وإلى غير نهاية
في أضعاف ذلك اليم اللانهائي وعند بسمتك الرقية الهادئة ستحور أغانيّ إليّ لحن طليق كالموج. . . لحن لا تحده الألفاظ
أفلم يأن لي؟ أفلا يزال هناك ما يشغلك عني؟ يا أسفا! لقد أسدل الليل أستاره على الشاطئ ونزع الطير إلى وكره
من يدري متى ترفع السلاسل ويندفع القارب فيتوارى في أحشاء الليل كأنه آخر شعاع من أشعة الطَّفَل؟
- 43 -(233/38)
ما كنت أهيئ نفسي للقياك حين وجدت السبيل إلى قلبي، فدخلت إليه - يا مليكي - دون إذن كأنك واحد من الشعب غريب عني، فطبعت على لحظات من عمري بطابع الخلود
واليوم كشفت عن تلك اللحظات - على حين فجأة - فألفيتها منثورة على التراب وعليها خاتمك ومزاجها ذكرى أيام قليلة من حياتي الغابرة فيها الأسى والطرب في وقت معاً
لا ترتد عني محتقراً سني طفولتي حين كنت ألهو باللعب في التراب، فإنه ليتراءى لي أن خطواتي وأنا أدرج في حجرتي بين اللعُّب تشبه تلك التي يدوي صداها بين النجوم
- 44 -
إن متعتي في أن أجلس على جانب الطريق أنتظر وأرقب الظلام وهو يطارد النور، والمطر وهو يتعقب صفاء الصيف
ورسلك يمرون بي وعليهم بشرى السماء يحيونني وينطلقون في سبيلهم فيهتز قلبي طرباً وأنا أستروح النسمات الحلوة
من الفجر لدن الغسق وأنا جالس بازاء بابي لأنني أوقن بأن فترات السعادة آتية لا مرية فيها، آتية حين أرى. . .
في هذا الحين سأخلو إلى نفسي أبسم وأترنم والهواء يتضوع بأريج الوعد
- 45 -
أفلم تحس وقع خطواته الهادئة؟
هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
في كل لحظة وحين، في كل يوم وليلة؛ هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
لقد شدوت بألحان كثيرة ما تزال رناتها تقول: (هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت)
في اليوم الصحو العطر من شهر أبريل، وعلى طريق الغابة هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
في عبوس الليلة المطيرة من شهر يوليه، وعلى مركب السحب المزمجرة هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
إن خطواته هي التي تسحق قلبي في لحظات الأسى والحزن ولكن لمسات قدميه الذهبية(233/39)
هي التي تبعث الطرب في قلبي مشرقا
- 46 -
لست أدري منذ كم من الزمان وأنت تهفو تريد لقياي؛ وما تستطيع شمسك ولا كواكبك أن تحجبك عني إلى الأبد
ما يزال وقع قدميك يرن في مسمعيّ كل صباح وكل مساء، وما يزال وحيك يهتف في قلبي ويناديني سراً
لست أدري لماذا تضطرب حياتي في هذه الأيام، وفي قلبي نبضات السرور
لكأني أرى الأيام تهم لتنجز عملي، وأنا أستروح النسيم الحلو يبشرني بقدومك
- 47 -
أوشك الليل ينحسر وأنا أنتظر عبثاً. إنني أخشى أن يحضر والفجر، وقد غلبني النعاس والتعب معاً. فيا صاحبي دع الطريق أمامه مفتوحاً ولا تقف في سبيله
وإذا لم توقظني خطواته فلا تفزعني أنت عن منامي؛ فما أريد أن يزعجني عند انبثاق الفجر، لحن الطائر الغرّيد، ولا زفيف الريح. ذرني هادئاً في نومي ولو جاء سيدي إلى بابي
أيها النوم، أيها النوم اللذيذ، إنك تنتظر لمساته لتطير عني. آه، سنفض نورُ بسماته عن عينيَّ ثقلَ الكرى، وهو أمامي كأنه حلم لذيذ يلمع بين ظلمات الهجوع
فليأت أمام ناظريّ كأول شعاع أضاء وكأول شبح بدا. إن نظرّاته ستبعث في حياتي العابسة أول هزات الطرب. وحين أعود إلى نفسي فلتكن عودتي إليه هو
- 48 -
إن صمت الفجر العميق يمزقه رجع تغريد الطير؛ والأزاهير نشوى على جانبي الطريق، وبين تفاريق السحب تنثر الثروة الذهبية؛ أما نحن فنهرع إلى العمل في شغل لا نلتفت
ليس في ألحاننا النشوة والطرب؛ ولم تنطلق إلى القرية طلباً للفائدة؛ ولم تنفرج شفاهنا عن كلمة أو ابتسامة، وما تريثنا على الطريق؛ ولكن رحنا نستحث الخطو كلما انطوى الزمن
تكبدت الشمس السماء والبط يمرح تحت وارف الظل، وأوراق الشجر تضطرب في(233/40)
الهاجرة، وغفا الراعي في ظل شجرة الرند يحلم؛ أما أنا فاستلقيت إلى جانب الغدير مرسلاً أطرافي المكدودة على الحشائش
لقد سخر مني صحابتي وانطلقوا في سفر فلم يعقب واحد منهم ولم يستأن، ثم غابوا عند الأفق. لقد اجتازوا مهامه ومروجاً وبلاداً نائية عجيبة. لك المجد يا من تملك الطريق اللانهائي! إن السخرية واللوم أفزعاني عن مكاني، وإن لم أجد الرضا في نفسي فلقد فقدت نفسي في أعماق الخشوع الجميل. . . فقدتها في ظلال النشوة الغامضة
إن وشي الشمس الجميل انتشر في بطء على قلبي فإنساني ما انطلقت على أثره فأسلمت عقلي - في غير عناد - إلى مباهج الظل والأغاني
وأخيراً حين استيقظت من سباتي وجدتك إلى جانبي تنزع عني النوم بابتساماتك. كم خشيت أن يكون الطريق إليك طويلا وعراً، وأن يعجزني أن أصل إليك!
كامل محمود حبيب(233/41)
بين القاهرة واستنبول
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 3 -
المتحف العسكري
يا أخي صاحب الرسالة
سلام عليك. لا أقول هذه ثالثة الرسائل خيفة أن تقول في نفسك (ثالثة الأثافي) بل أقول هذه الرسالة الثالثة أرسلها إليك من استنبول لأصف لك مما رأيت
خرجت من مسكني في تقسيم أؤم المتحف العسكري ومعي زميلي الدكتور زيادة، فلما أجزنا الجسر - جسر غلطة شرعت السماء ترذّنا، حتى إذا بلغنا ساحة أياصوفيا وملنا شطر قصر (طوب قبو) انهمر المطر فأوينا إلى الباب، وهو باب شاهق واسع عليه الطغراء السلطانية، يمتدّ على جانبه سور عال كأسوار القلاع، أوينا إليه مع من ألجأهم المطر؛ وازداد المطر انهماراً فطال بنا الوقوف. ولست أنسى مشهداً رائعاً شهدته هنالك: إلى اليسار سبيل السلطان أحمد في جمال هندسته وحسن نقشه، وحلىً من الخط والمعنى تتجلى بها أبيات من الشعر أطافت به؛ وإلى اليمين جامع أياصوفيا يبدو جانب من قبته ومأذنتان من مآذنه الأربع؛ وأمامي على بعد جامع السلطان أحمد في جلال قبابه. وجمال بنائه، قد علت قبته ومآذنه السّت أهّلةٌ ذهبية يزيدها المطر اشتعالاً. وهيهات أن تذهب بنور التوحيد سُدَف الدجن أو شآبيب المطر، وجامع السلطان أحمد أجمل جوامع استنبول في رأيي وأكثرها إضاءة في قلب الداخل وعينه. ما يزال الطرف يتقلب بين جدرانه وأساطينه وقبابه حتى إذا بهره الجمال والجلال استراح إلى مرأى البحر من خلال النوافذ الزجاجية الجميلة. وقد دخلته قبل ثماني سنين، فلما رأيت هذه الأساطين الأربع الهائلة قلت (يا لك أربعة أساطين حملت الدنيا والدين!)
خف المطر فأسرعنا صوب المتحف العسكري فإذا هو مقفل إلى الظُّهر فأوينا إلى باب (الضربخانة). ولما أذن المطر بالمسير انصرفنا نسير في أرجاء المدينة. ثم عدنا إلى المتحف، وهو في كنيسة قديمة اسمها سنت أدنيا، رُصّت خارجه مدافع كثيرة جاهدت في(233/42)
عصور مختلفة. فيها مدفع كبير بجانبه قذائف مكورة من الحجر وقد نقش عليه بالعربية بيتان يدلان على أنه من مدافع سليمان، وأنه صنع سنة 928هـ وهناك مدافع أخرى نقش عليها أسماء صانعيها؛ وأمام المتحف قنبلة سوداء مخروطية طويلة هي بعض ما ألقاه الأسطول الإنكليزي على الجيوش العثمانية حينما سدّت طريق الدردنيل بأبدانها وإيمانها
وفتحنا الباب فإذا دهليز على جانبيه تمثالان لجنديين دارعين من انكشارية القرنين الثامن والتاسع من الهجرة. ثم سلكنا الدهليز بين بنادق كثيرة من صنع القرن الماضي والقرن الحاضر. ولست أستطيع ولا أستحسن أن أصور لك كل ما رأيت في هذا المعرض العظيم من تاريخ الصناعات ومجد العثمانيين وعبر التاريخ: أكدس من الوقائع والعبر، يضيق عنها النظر والفكر، وإنما أصف لك ما غلب على الذاكرة، من بينها: المتحف كنيسة قديمة تقوم على ساحتها قبة كبيرة عالية ويدور بها طبقتان من الأروقة سرنا في الرواق إلى اليمين ودرنا معه فإذا بنادق ومدافع وآلات حربية كثيرة ومناظر لبعض الحروب، حتى انتهينا إلى سيارة في نوافذها ثقوب؛ فهذه السيارة التي قتل فيها المرحوم محمود شوكت باشا وهو صدر أعظم في عهد السلطان محمد الخامس؛ وبعدها صور وآثار كثيرة لمتأخري القواد العثمانيين: علمدار مصطفى باشا ومختار الغازي وأنور وغيرهم. ثم خرجنا إلى وسط الكنيسة فرأينا في صدرها صورة الغازي مصطفى كمال باشا بجانبها أنواع من الأسلحة القديمة والحديثة. وسرنا قليلاً فإذا درع قديمة تتخطاها العين غير حافلة، حتى إذ أوقفها التطلع قرأت عليها: (درع الفاتح) فأخذها جلال الذكرى وأدركت فرق ما بين المظاهر والحقائق، بجانب الدرع سيوف من ذلك العهد وتروس محكمة الصنع منها ترس محمود باشا أحد الصدور في عهد الفاتح، وترس يعقوب جلبي بن السلطان مراد الأول. ويقال إن السلطان بايزيد أمر بقتله وهو يتعقب العدو في موقعة قوصوه الأولى سنة 791، ثم سيوف لسليمان القانوني فيها سيف كتب عليه:
على الله في كل الأمور توكلّي ... وبالخمس أصحاب العباء توسُّلي
ورأينا بعد هذه خوذات أهداها نابليون إلى السلطان سليم الثالث، وعلماً رفعه العثمانيون في موقعة قوصوه الأولى، ثم مخلفات السلطان عبد الحميد. وهكذا نطوي العصور في لمحات. فالفاتح وبايزيد وسليم وعبد الحميد طواهم التاريخ في سجله، وجمعهم الزمان في معرضه،(233/43)
فدار بهم الزائر في خطوات، وحواهم بطرف في نظرات، وقبض الدهر هذه العصور المتطاولة في كلمة واحدة: (الماضي). . .
وفي الدهليز الذي إلى اليمين سنان رمح كان للإمبراطور جستنيان، وبركار كان للمعمار سنان. قلت لنفسي: شتان ما بين السنانين هذا للحرب والفناء، وهذا للعمران والبقاء. قد فنيت آثار سنان جستنيان، وللفناء كان طعانه، وبقيت آثر بركار سنان، وللبقاء كان بنيانه. وحسب سنان خلودا هذا الجامع الرائع والأثر العظيم الذي يدل على الصانع: جامع السلطان سليمان. على أن هذه اليد الماهرة المعمرة شادت في أرجاء المملكة أربعمائة بناء (عمر المعمار سنان أكثر من مائة عام وتوفى سنة 996 ودفن في الجامع الذي ينسب إليه في استنبول) وبعد هذين صورة تمثل الأمير البطل عبد القادر الجزائري وهو يقابل القائد الفرنسي بعد معاهدة تفنة سنة 1838م
وفي الطبقة الثانية تماثيل كثيرة تمثل رجال الدولة وخدم الملوك في أزيائهم القديمة. فهذا شيخ الإسلام على أريكة قد جلس أماه أعوانه، وهذا قاضي العسكر بجانبه قاضي مكة وآخرون. وهذا أغادار السعادة، وهذا قزم كان يضحك السلاطين، وهذه صور الانكشارية في أزيائهم العجيبة، وهذا الجلاد واقفاً كالقضاء ينفذ أمر السلطان - صور من التاريخ مبكية مضحكة، وفي هذه الطبقة خرائط مجسَّمة تمثل القسطنطينية وما يحيط بها، وألواح فيها آيات من القرآن أو كلمات مأثورة. . .
وبعد فحسبي اليوم هذه السطور. ولعل الرسالة الآتية تبلغك عما قليل، والله يرعاك والسلام عليك
استنبول 3 أغسطس سنة 1937
عبد الوهاب عزام(233/44)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 18 -
(كتب كاتب في العدد الأخير من مجلة المقتطف الغراء شيئاً بعنوان (سيرة الرافعي) فيه أشياء أعرفها ويعرفها قراء الرسالة، وفيه أشياء لا أعرفها ولم أسمع بها على طول صحبتي للرافعي وما رويت من خبره عن أهله وخاصته، وفيه أشياء أنا على خلافها؛ ولو كان لي أن أعرف مصادر الكاتب إلى هذا العلم لاتهمت نفسي؛ ولكني أحسب كل مصادره أنه يسرف في الاستنباط، فرجائي إليه أن يمايز بين أجزاء الكلام ليعرف ما هو له وما هو للحقيقة، فإن فكر المفكر غير حوادث التاريخ، وما تراه أنت رأياً في الحادثة قد يراه غيرك على نقيض؛ والحياة حادثة وقصة واحدة لا خلاف فيها، ولكنها على اختلاف من ينظر فيها من أهل الرأي والفلسفة قصص وحيوات؛ وإن عليّ للرافعي لديناً يدعوني إلى السهر على تراثه، فمن ذلك أرى عليّ أن أتوجه إلى الكاتب بهذا الرجاء، وأن أتوجه بالعتب إلى الأستاذ فؤاد صروف القائم على تحرير المقتطف، وهو الخبير بموازين الكلام، وهو هو الذي كان للرافعي صديقاً من خاصة أصحابه وأصفيائه)
(العريان)
الرافعي الناقد
سأحاول في هذا الفصل أن أتحدث عن شيء مما كان بين الرافعي وأدباء عصره، وإنه لحديث شائك، وإنني منه لفي حرج شديد. لقد مات الرافعي ولكنه خلف وراءه صدى بعيداً مما كان بينه وبين أدباء عصره من الخصومات الأدبية؛ فما أحد منهم إلا له عنده ثأر، وفي صدره عليه حفيظة أو له عليه معتبة. ولقد اهتزت بلاد العربية كلُّها لنعي الرافعي وما اختلجت نفس واحد من خصومه فكتب إلى أهله كلمة عزاء، إلا رجلاً واحداً هو الدكتور(233/45)
طه حسين بك، إذ كتب برقية إلى ولده؛ فلا جرم كان بذلك - على تفاهته - أنزهَ خصوم الرافعي وأعرَفهم بالأدب اللائق!
ولقد مضى بضعة أشهر منذ ترك الرافعي دنياه؛ فهل رأيتَ أحداً منهم كتب شيئاً عنه يناله بالمدح أو المذمة؟ وهل رأيت اللجنة التي اجتمعت لتأبينه قد استطاعت أن تحمل واحداً من هؤلاء على أن يشاركها فيما تعمل لتأبين الرافعي، أو قل لتأريخ عصر من عصور الأدب قد انطوى تاريخه بين أعيننا ويوشك أن يضيع في مدرجة النسيان؟
ليت شعري أكان الرافعي من الهوان في المنزلة الأدبية بحيث لا يذكره ذاكر من زعماء الأدب العربي ولما ينقض على موته بضعة أشهر، وبحيث تجتمع له لجنة التأبين وتنفض وتحدد الموعد ثلاث مرات ثم لا تجد من يتقدم إليها ليقول في تأبين الرافعي فتوشك أن تنسأ الأجل إلى غير ميعاد. . .؟
ولكنه هو - يرحمه الله - الذي ألَّب على نفسه هذه العداوات حياً وميتاً. لقد كان ناقداً عنيفاً حديد اللسان، لا يعرف المداراة ولا يصطنع الأدب في نضال خصومه. وكانت فيه غيرة واعتداد بالنفس؛ وكان فيه صراحة وصرامة؛ وكان له في الأدب مذهب وحده؛ وكان فيه حرص على اللغة (من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء: لا منفعة فيهما معا إلا بقيامهما معا) وكان يؤمن بأنك (لن تجد ذا دِخْلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدتَ له مثلها في اللغة). . . فكان بذلك كله ناقداً عنيفاً، يهاجم خصومه على طريقة عنترة: يضرب الجبان ضربة ينخلع لها قلب الشجاع. . .!
اقرأ له في أول كتاب المعركة: (. . . إنما نعمل على إسقاط فكرة خطرة، إذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غداً فيمن لا نعرفه؛ ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء، لا جهلّنا من نجهله يلطّف منه، ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ فيه. . . فإن كان في أسلوبنا من الشدة أو العنف، أو القول المؤلم أو التهكم، فما ذلك أردنا؛ ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتديَ أن يضل، فما به زْجرُ الأول بل عظة الثاني. . .)
وأول ما أعرف للرافعي في النقد، مقاله في الثريا عن شعراء العصر في سنة 1905؛ ثم مقاله في الرد على المرحوم المنفلوطي في المنبر، وكان نشر مقالاً يعارض به رأي الرافعي في الشعراء وينتصف به لصديقه المرحوم السيد توفيق البكري، فكتب المرحوم(233/46)
حافظ إلى الرافعي يقول: (قد وكلت أمر تأديبه إليك. . .!)
ثم كانت مصاولات أدبية بينه وبين الجامعة المصرية غداة نشأتها في سنة 1908، ثم مقالات عن الجديد والقديم، والعامية والفصحى، في مجلتي البيان والزهراء؛ ثم خصومة بينه وبين لجنة النشيد القومي في سنة 1921؛ ثم وقعت الواقعة بينه وبين الدكتور طه حول كتاب رسائل الأحزان في سنة 1924 في السياسة الأسبوعية؛ فكان هذا أول ما بينهما؛ ثم كانت المعارك العنيفة بينه وبين العقاد، وبينه وبين عبد الله عفيفي، وبينه وبين زكي مبارك، إلا ما لا ينتهي من المصاولات بينه وبين أدباء عصره
على أن أشهر هذه المعارك شهرةً هو ما كان بينه وبين طه وبينه وبين العقاد، بل لعلها أشهر وأقسى ما في العربية من معارك الأدب، وإنها لجديرة بأن يؤرخ بها في تاريخ النقد كما كان العرب يؤرخون بأيامهم. . .!
وإنني لأشعر أن عليّ واجباً أن أكشف عما أعرف من الأسباب الخاصة أو العامة التي نشأت بها هذه الخصومات الأدبية أو انتهت إليها، وإنني لأشعر بجانب ذلك أنني أكلف نفسي بهذا فوق ما أستطيع
إن كل ما تناولته إلى الآن من تاريخ الرافعي كان له هو وحده، فلا عليَّ مادمت مطمئن النفس إلى ما أكتب؛ أما الآن. . . أما الآن فسيكون إلى جانب اسم الرافعي أسماء، وإنهم لذوو حول وسلطان، فما أدري أيرضون ما أكتب عنهم أم يسخطون. ولقد رأيت ما فعلتْ بالرافعي شجاعتُه فمات لم يذكره أحد منهم أو يترحم عليه؛ وما أنا كفء لهذه العداوات، ولست لها بأهل، وما لي طاقة بالدفاع عن نفسي، ولا لي أنصار ذوو لسان وبيان، وما تهون عليَّ نفسي. . .!
ولكن. . . ولكن من عَذيري يوم الحق من كتمان الشهادة؟ ولكن. . . ولكن ما أنا إلا راوية يكتب ما رآه لا ما ارتآه. ولكن. . . ولكنَّ فلاناً وفلاناً اليوم أناسيّ تصول وتجول، وإنها غداً لصفحات من التاريخ تتحدث. ولكن. . . ولكن التاريخ قد وقع فلا سبيل إلى مَحْوٍ فيه أو إثبات. ولكن. . . ولكن الندم على ما كان لا يمحو من تاريخ الإنسان ما كان. . .
فهذا عذري عند فلان وفلان ممن يتناولهم حديثي بما يغضب أو يسوء، فإن كان لي عندهم عذر من الكتمان إن كتمت الشهادة فليحدثوني لأطوي من الحديث ما قد يغضب أو يسوء. .(233/47)
أمَا وإن تاريخ الرافعي في هذا الفصل هو تاريخ الأدب في جيل من الأدباء، فإن كان من حق أحد أن يعتب عليّ لنشر هذا الفصل فإن حق الأدب لأوجب؛ وما أريد من فلان وفلان شيئاً، وما لي عندهم حاجة ولا لهم عليّ يد؛ فليغضب من يغضب للحق أو لنفسه فلا عليّ من غضبه أو رضاه، وإني لماض فيما أنا بسبيله. . .
بين الرافعي وطه
في سنة 1922 كانت السياسة الأسبوعية هي صحيفة الأدب والثقافة؛ وفيها كان يعمل الدكتور طه حسين في الأدب وفي السياسة معاً؛ ولم يكن بين الرافعي وطه يومئذ شيء يثير ثائرة في الصدر، أو يدعو إلى عتاب وملامة، ولكنّ إرهاصات كانت تسبق ذلك ببضع عشرة سنة. . .
كان طه حسين في سنة 1909 هو الطالب المرموق في الجامعة، وكان الرافعي الشاعر ماضياً في الشعر على سنته، لا يعرف له أحد مذهباً غير الشعر؛ فلما نشر مقاليه المشهورين في (الجريدة) ينقد بهما أساليب الأدب في الجامعة، تنبهت إليه العيون؛ فلما أنشأ كتابه تاريخ آداب العرب في سنة 1911، عرف الأدباء الرافعي العالم المؤرخ الرواية، وعرفه طه حسين الطالب بالجامعة.
أفكان الطالب طه حسين يرشح نفسه من يومئذ ليكون أستاذ الأدب بالجامعة، فنفس على الرافعي أن يؤلف كتاباً في تاريخ آداب العرب فكتب ينقد كتابه ويقرر أنه لم يفهمه، ثم يقررها ثانية في نقد (حديث القمر) وثالثة في (رسائل الأحزان)؟
الحق أن الرافعي كان يطمع في أن يكون إليه تدريس الأدب في الجامعة منذ أنشئت الجامعة، وقد كشف عن رغبته هذه في مقاليه الأول والثاني بالجريدة؛ ولكن طه يومئذ كان طالباً في الجامعة، فمن الإسراف في المزاح أن ننسب ما كان بينهما من بعدُ إلى النفاسة أو المنافسة على كرسي الآداب في الجامعة! ولكنه صدر من تاريخ هذه الخصومة الأدبية له قدره في هذا الفصل فلابد من الإشارة إليه
ونفخت السياسة الأسبوعية في الأدب روحاً جديدة، واتخذت لها أسلوباً في الدين وفي العلم وفي الأدب، قال عنه جماعة من الأدباء: إنه إلحاد وكفر وضلال. وقالت طائفة: إنه(233/48)
المذهب الجديد في الدين والعلم والأدب. ثم مضت السياسة بما تكتب وبما تفسح من صدرها للكتاب، تقسم الأدباء إلى فرق ومعكسرات، وقديم وجديد، ورفعت في الجهاد راية. . .
والرافعي رجل - كان - فيه عصبية للدين، وعصبية للقديم؛ فأيقن منذ قرأ العدد الأول من السياسة الأسبوعية أن سيكون له شأن مع السياسة وكتاب السياسة في غد. . .
ونال الرافعي رشاش من بعض المعارك وإنه لبعيد عن الميدان، فأحس في نفسه رغبة في الكفاح فتحفز للوثبة. . .
ودسّ كلمةً إلى طه يذم أسلوبه بما يشبه المدح، ويعيب عليه التكرار وضيق الفكرة، فنشرها طه في السياسة قبل أن يستبين مغزاها وما ترمي إليه. . . ثم عرف. . .
وتهيأت أسباب الحرب ولم يبدأ أحدٌ بالعدوان. . وتربّص الرجلان في انتظار السبب المباشر لبدء المعركة. . .
ثم أصدر الرافعي رسائل الأحزان، فسعى راجلاً إلى دار السياسة ليهدي إليها كتابه. وهناك التقى الرافعي وطه حسين وجها لوجه. . . ونظر الرافعي إلى طه، واستمع طه إلى حديث الرافعي، وتصافح الخصمان قبل أن يصعدا إلى حلبة المصارعة، ونفخ الدكتور هيكل بك في صفارة الحكم، وبدأت المعركة. وكانت مشادة حادة خرج الرافعي يتحدث عنها وصمت طه
لمن يا ترى كانت الغلبة؟ الرافعي يقول: أنا. . . ولكن طه لا يتكلم، والدكتور هيكل ضنين بالحديث
ومضت فترة، ثم نشر طه حسين رأيه في رسائل الأحزان في السياسة الأسبوعية، فرفع راية العداء وأعلن الحرب. ورد الرافعي يقول:
يسلِّم عليك المتنبي ويقول لك:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم!
ثم مضى في رده يهزأ ويسخر ويتجنى ويتحدى، في مقال طويل تقرؤه في ص 109 - 122 من كتاب المعركة؛ وطارت الشرارة الأولى، فاندلعت ألسنة النار فما خمدت حتى أحدثت أزمة وزارية، وأنشأت جفوةً بين سعد وعدلي، وأوشكت أن تؤدي بعلي ماهر إلى(233/49)
المحاكمة، وهزّت دوائر البرلمان، ثم انتهت في النيابة العمومية. . .
وفي الأسبوع المقبل بقية الحديث عما كان
(شبرا)
محمد سعيد العريان(233/50)
أبو إسحاق الصابي
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 2 -
لعل أبا اسحق الصابي أصدق مثل يضرب لمن يماري في وجوب نزول الآباء على إرادة الأبناء فيما يحبون من فروع العلوم أو ينزعون إليه من آفنان الفنون، وأن خير ما يؤخذ به المتعلم هو الرغبة الحافزة لا الرهبة القاسية، إذ لا يرتجي كثير نجاح في قسر الأبناء على علم بعينه يريده الآباء، ولا أخذهم بدراسة مخصصة لا يبغيها أولئك ويحتمها هؤلاء، فإن ذلك قاتل لملكاتهم رافع بهم إلى الاستيئاس من النجاح، أو على الأقل الأدنى نازع بهم إلى القصور في كل علم، والتقصير فيما لا يميلون إليه من الفن، وضارب بهم في مهامه لا يعرفون وجه المحجة فيها، وموقع بهم في مفاوز إن نجوا منها فبعد لأي وعناء؛ ولاسيما متى كان ذكاؤهم محدوداً ونبوغهم قاصراً. ورضى الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث يقول: (لا تقسروا أبناءكم على آدابكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم) وإذا كان رضوان الله عليه قد قصد بالتأديب معناه الأخص فهو على وجه العموم أولى، وبشموله كل أدب أجدى
دفعني إلى تلك التقدمة أني رجل تربية من واجبي تنبيه الأذهان إلى ترك الحرية العلمية للتلميذ ينهج فيها نهجه الذي يحبه. فلقد حاول أبو الحسن والد إبراهيم الصابي تعليمه منذ نشأته صناعة الطب وحذق الحكمة سيرا على سنن آبائه ونهجا على منهج أسلافه، إذ كان جلهم رجال طب وحكمة. وبذل في سبيل ذلك غاية الجهد، وجهد لتنفيذ أربته إلى أقصى غاية، وقد وجد من ابنه سميعاً ومن إبراهيم مطيعاً، لا عن رغبة وحب، بل عن رهبة وأدب، وقسر وزجر. ولو غير أبي إسحاق لرمى بكلام أبيه عرض الأفق، ولكنه كان باراً بأبيه عالماً بواجبات الأبوة لا يعصى له أمراً وإن جاء قاسياً، ولا يخالف له رأياً وإن بدا له رأياً خاطئاً، وإن هذه النزعة فيه نزعة البر والحدب والحب والولاء ليعبر عنها شعره تعبيراً قوي الأسر صادق النزعة، فهو أي أن الإنسان بعد فقد والديه ليس شيئاً مذكوراً، وأنه يعيش في الدنيا غريباً، لأنه لا يجد فؤاداً يحنو عليه ولا عيناً ترمقه، وأنه يعيش - متى كان حي الوجدان - جنيب صفاء وأليف شقاء، فمن هذا قوله:(233/51)
أسرة المرء والداه وفيما ... بين حضنيهما الحياة تطيب
فإذا ما طواهما الموت عنه ... فهو في الناس أجنبي غريب
ولا يختلف شأنه مع أبنائه عن شانه مع والديه، فإنه ليعطف عليهم عطف الأم الرءوم لا الأب الرحيم، ويتجاوز عن جرائرهم ويجعل هفواتهم دبر أذنه، حتى لا تقع عليهم لعنة الله ولا تحق فيهم كلمته؛ شأن الأب الكريم، وشيمة الرجل الحليم الحكيم. وهو إذ يتحدث عن ذلك يتحدث في زهو، ويقصه في فخر معلما أولئك الآباء القساة طرائق في التربية تسعدهم وتسعد أبناءهم، ومتى أغنت النظرة فلا حاجة إلى الكلمة، وفي مثل ذلك يقول:
أرضى عن ابني إذا ما عقني حذَرا ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي
ولست أدري بما استحققت من ولدي ... أقذاء عيني وقد أقررت عين أبي
واستمع إليه يرد على رسالة وردته من ابنه أبي علي المحسّن كان قد كتبه تسلية له في إحدى نكباته، وجاء في رسالة أبي علي هذان البيتان:
لا تأس للمال إن غالته غائلة ... ففي حياتك من فقد اللُّهى عوض
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعْت ... يداك من تالد أو طارف عَرَض
فكتب تلك الأبيات التي أحسبها من حبات قلبه نسيجها، ومن عبرات عينيه نظيمها، فكل حرف شفقة وعطف، وكل كلمة بر ورحمة، قال:
يا درة أنا من دون الردى صدف ... لها أقيها المنايا حين تعترض
قد قلت للدهر قولاً كان مصدره ... عن نية لم يشب إخلاصها مرض
دع المحسّن يحيا فهو جوهرة ... جواهر الأرض طرا عندها عرض
فالنفس لي عوض عما أصبتُ به ... وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض
أتركه لي وأخاه، ثم خذ سلبي ... ومهجتي فهما مغزاي والغرض
فلا غرو إذا ما نزل، وهذا خلقه وتلك شيمه، على أمر أبيه كارهاً، وأطاعه تكلفاً، وجامله فيما كلفه إياه مصانعاً، فتعلم الطب مخلصاً في تعلمه، وإن لم ينته عن التعرض لما تصبو إليه نفسه، ويرغب فيه طبعه، فكان يزاول في أوقات خلوته وسويعات فراغه من كتب الحكمة - أشتات علوم اللغة والأدب وما إليهما، فإن علم أبوه ذلك عنه نهاه وزجره، حتى يأخذ فيما يؤهله له، ولا يصرف وقته فيما لا غناء فيه في نظره. وأجدر بي أن أسوق(233/52)
حديث أبي إسحاق عن نفسه في هذا الموقف، فإنه يقول: (كان والدي أبو الحسن يلزمني في الحداثة والصبا قراءة كتب الطب والتحلي بصناعته، وينهاني عن التعرض لغير ذلك، فقويت فيها قوة شديدة، وجعل لي برسم الخدمة في (البيمارستان) عشرون ديناراً في كل شهر، وكنت أتردد إلى جماعة من الرؤساء خلافة له، ونيابة عنه، وأنا مع ذلك كاره للطب، ومائل إلى قراءة كتب الأدب، كاللغة والشعر والنحو والرسائل والأدب؛ وكان إذا أحس بهذا مني يعاتبني عليه، وينهاني عنه، ويقول: يا بني لا تعدل عن صناعة أسلافك. فلما كان في بعض الأيام ورد عليه كتاب من بعض وزراء خراسان يتضمن أشياء كثيرة كلفه إياها، ومسائل في الطب وغيره سأله عنها، وكان الكتاب طويلا بليغاً، قد تأنق منشئه وتغارب. فأجاب عن تلك المسائل، وعمل جملا لما يريده، وأنفذها على يديّ إلى كاتب لم يكن في ذلك العصر أبلغ منه، وسأله إنشاء الجواب عنه. قال: فمضيت وأنشأت أنا الجواب، وأطلته وحررته، وجئت به إليه، فلما قرأه قال: يا بني سبحان الله! ما أفضل هذا الرجل وأبلغه! فقلت له: هذا من إنشائي، فكاد يطير فرحاً، وضمني إليه، وقبلني بين عيني، وقال: قد أذنت لك الآن، فامض فكن كاتباً
ومن ذلك اليوم هجر أبو إسحاق الطب إلى الأدب وقلى الحكمة ليواصل اللغة، فكان كاتباً أريباً وشاعراً مجيداً، جرى اسمه في كل مجلس، سواء في ذلك مجالس الأنس والنحس، وحلق في كل أفق لا يبالي أكان الأفق ساطعاً أم ملبداً، وبرع في كل فن حتى صار ملء الأسماع ومهبط الآماق؛ ولله در واصفه إذ يقول:
أصبحت مشتاقاً حليف صبابة ... برسائل الصابي أبي إسحاقِ
صوب البلاغة والحلاوة والحجا ... ذوب البراعة سلوة العشاق
طوراً كما رق النسيم وتارة ... يحكى لنا الأطواق في الأعناق
لا يبلغ البلغاء شأو مبرز ... كتبت بدائعه على الأحداق
وإن أدبه - كما يقول معاصروه - لسلوة الحزين، وشفاء الكليم، وأنيس المسافر والمقيم، وسمير الصديق والحميم، مما يدل على أنه كان أمة عصره ونابغة دهره، يشهد له بذلك البعيد والقريب، والعدو والحبيب، ولن أبلغ في وصف أدبه الغاية كما بلغ لداته، فهذا أحدهم يقول:(233/53)
يا بؤس من يمني بدمع ساجم ... يهمي على حجب الفؤاد الواجم
لولا تعلله بكأس مدامة ... ورسائل الصابي وشعر كشاجم
ولكنه لبؤس حاله ونكد طالعه نشأ في عصر أفعم بالفتن، فسياسته مختلة، ورياسته معتلة، والخلافة اسم ليس له مسمى، ورسم لا حقيقة، وملوك الديلم تتأرث بينهم الأحقاد، وتحاك الدسائس وتفشو الفتن، والرجل ذو المروءة لا يسلم روحيّاً وحسيّاً، فإما النفاق فيسخر ضميره لكل حاكم، ويكتب بكل قلم، ويأكل على كل مائدة، ويمنح عقله كل راغب، ويعطي لسانه كل خاطب؛ وإلا فالمحابس مفتحة، والسلب والنهب أيسر عقاب. ولقد كان إبان شبابه قبل أن تستشري الفتن، ويتنزى الاضطراب وتتأصل في النفوس السخائم، يتسامى ويتصاعد، وجده يتعالى ويتماجد، حتى صار من العظماء الممدوحين لا من الأدباء المادحين، فسعى إلى أبي الطيب المتنبي راغباً إليه أن يمدحه بقصيدتين ولا يمنعه رفده، أو يقطع عنه سيبه بل يرفده بخمسة آلاف درهم، فبعث إليه المتنبي قائلاً: (والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب عليَّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك تنكر لك الوزير (يقصد المهلبي) وتغير عليك لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال، فأنا أجيبك إلى ما التمست، وما أريد منك مالاً، ولا عن شعري عوضاً؛ فتنبه إلى موضع خطئه ولم يعاوده بعدئذ. وإن دلنا ذلك الحديث الذي رويناه عن ياقوت على شيء فإنه يدل على سمو نفسه واعتزازه بقدره، فمن أسمى من ممدوح المتنبي؟ كما يدل على علو منزلته لدى أبي الطيب، وعلى أن هذا كان شديد الإخلاص وفير الوفاء لصداقته، فلو قد فعل دون تحذير أو تنبيه لبكرت عليه النكبات، ولفقد ولياً طالما بذل له رفده، ولعب على ضوء وده
وكان لذيوع اسمه بين الكتاب والشعراء موجدة إن نأى ومحبة إن دنا في نفوس الملوك والوزراء، وما أكثرهم في ذلك العصر، فهو إن أخلص لهذا عوقب، وإن والى ذلك عوتب، وإن لزم الحيدة أنب، وإن أعلن عن رأيه أدب، فهو ملوم في كل حال، مستحق العقوبة في كل زمان ومكان، فكان نزيل السجن مسلوب الوفر، وهذا ما جناه على نفسه. فلو أنه أطاع أباه وانصرف إلى الطب لعاش سعيداً ومات سعيدا، ولكنه تنكب الطريق السوي فكان من أمره ما سنفصله في مقال تال(233/54)
عبد العظيم علي قناوي(233/55)
يوميات نائب في الأرياف
للأستاذ أحمد الزين
أهدى الأستاذ توفيق الحكيم إلى الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين كتابه (يوميات نائب في الأرياف) فأجابه الأستاذ الزين على هديته بهذه الأبيات:
إنْ يفخر العَربُ الكرام بكاتب ... فَلْيَفْخروا بيراع ذاك النائبِ
قلمٌ بتصوير السَّرائر مُولَع ... غَيْبُ النفوس عليه ليس بغائب
يَسري إلى طي الصدور شعاعُه ... أمضى وأنفذ من شهابٍ ثاقب
يصف النفوس كما بَرَاها ربها ... ويميط عنها كلَّ ثوب كاذب
فكأَنما يدعو النفوس فتلتقي ... في الطرس سافرة سفور الكاعب
سحر البيان يبين كل خفية ... أين المصوِّر من يراع الكاتب
إيهٍ أديبَ الشرق، هات روائعا ... قصصاً تُوَشِّيها بظرف خالب
وأَفِض على اللغة الكريمة ثروةً ... فالعُرْب أشْكرُ أمة للواهب
أحمد الزين(233/56)
رسَالة الشِّعر
وحي المصيف
بين الأمواج وفوق الشاطئ
للأستاذ محمد الأسمر
ليس الفؤادُ وإن حرصتَ بسالِم ... فاقرعْ على ما كان سنَّ النادمِ
ناديته - والموج فيما بيننا - ... فأجابني: دعني فما من عاصم
الذنبُ ذنبي حيث أنزل لاهياً ... في البحر أسبحُ بين سرب حمائم
ما كُنَّ من وُرْقِ الوكور وإنما ... وُرْقٌ هزأنَ بكل ريش ناعم
يَسْبَحْن فوق الماء ألين ملمساً ... منهُ وأبهى من فرند الصارم
سِرْبٌ تقاسمَ مهجتي ومضى بها ... فرحان يلعبُ كالإِوز العائم
وعلى الرمالِ من الحسان جآذرٌ ... كدراهمٍ نُثِرتْ حيالَ دراهم
متبسماتٌ للهواء وللهوى ... يَمْرحْنَ ما يمرحْنَ غير أواثم
مستلقياتٌ كاللآلئ رونقاً ... نهبَ النواظر، والخيال الهائم
لكأنَّ (بحر الروم) أخرج دُرَّه ... فمشت به الأمواجُ جِدَّ رواغم
حملته وهي غواضبٌ وأتت به (ال ... مصطافَ) بين هماهم وزمازم
أو ما تراها لا يقر قرارها ... في كل ناحيةٍ زئيرُ ضراغم
قذفتْ به فوق الرمال أوانساً ... من نسل أعرابٍ، ونسل أعاجم
فوق الظهورِ أو البطونِ رواقدٌ ... متناوماتُ الجفن غير نوائم
حيث الهواء الطلقِ، والشمس التي ... تَفْترُّ عن ثغر هنالك باسم
جاذْبَننِي عقلي فطاوعَ بعدما ... قد كان لي في البحر ألومَ لائم
فالآن لا قلبي، ولا عقلي معي ... إلا خيالاً مثل حلم الحالم
محمد الأسمر(233/57)
طيفها. . .
للأديب محمود السيد شعبان
يا مَنْ أراها بِرَغْمِ البُعْدِ دَانيَةً ... ولاَ يَراها برغْم القُرْبِ مَنْ تَصِلُ!
لا تَجْحَدِي خاطراً قد جَالَ في خَلَدِي ... أَوْحَتْهُ لِي مِن سَموَاتِ الهوى رُسُلُ
أوْ تُنكِري ما رَأَتْ نفسِي وما نظرتْ ... فَالدَّمْعُ يَشْهَدُ إنْ أنْكَرْتِ والقُبَلُ!
يا طَالَما زُرْتِنِي والفجرُ مُبْتَسمٌ ... وطَالَما جِئْتنِي واللَّيْل مُنْسَدِل!
أَلَسْتِ أنتِ التي أنْشَدْتِنِي نَغَماً ... هو الرِّضَى والهوَى والشَّوقُ والغَزَلُ؟!
أَلَسْتِ أنتِ التي أَهْدَيْتنِي قُبَلاً ... كالسِّحْرِ يَكْمُنُ في طيَّاتِهِ الخَبَلُ؟!
تذكَّري لا تقولي: لَسْتُ ذاكرةً ... فإنَّما البشْرُ قد أنْسَاكِ والجَذَلُ!!
يا طيْفَها هل تراني كنْتُ في حُلُمٍ ... أَمْ أَنَّه الحقُّ لاَ مَيْنٌ ولاَ خَطَلُ؟!
ذهَبْتَ يا طيفَها عنِّي إلى وطنٍ ... تَقَطَّعَتْ دُونَهُ الأسْبابُ والسُّبُلُ
فكْيفَ أحياَ غريباً عنكَ مبتعداً ... والحسْنُ فنٌّ فريدٌ فيكَ مكْتَمِلُ؟!
أَمُدُّ كَفِّيَ أرجو أَنْ تصافِحَنِي ... فلاَ تَمُدُّ يداً نحوِي وتَرْتَحِلُ!
تعالَ يا طيفها زُرْنِي كمن كَرُمُوا ... ولا تكن مثل مَنْ ضَنُّوا ومن بَخِلُوا!
خَلَّفْتَنِي مُفرداً لهفانَ لا وَطَرٌ ... بِه أُعَلِّلُ أنْفَاسِي ولا أَمَلُ!
أَضُمُّ ظِلَّكَ مِن شوْقٍ فيتركني ... يا حسرتاهُ وحيداً ثم يَنْفَتِلُ!
وَالآنَ. . . يا طْيفَها أَقْبِلْ لِنَنْهل مِن ... موارِدِ الحبِّ طهْراً مثل مَن نهلوا!
(الإسكندرية)
محمود السيد شعبان(233/58)
أنا نبأ كاذب
جبران - عن نعيمة -
للأستاذ خليل هنداوي
ويا ناعتي بسمو الخيال ... أنا نبأ كاذب فاجر
لقد سكن الوحش في باطني ... وإن لان مني لك الظاهر
يُهذب نفسي الخيال الرقيق ... ويغمرني بالهدى غامر
ولكنني أبداً في انخفاض ... يجاذبني طبعي الماكر
ويغلب فيَّ الدنيءُ البريءُ ... ويسطو على الشاكرِ الغادرُ
وتنزع نفسي إلى فحشها ... وثوبي - بعين الورى - طاهر
أَتزعم أَني لطبعي قهور ... إذا شئتُ، وهْو لي القاهر
أَأَقهر إرث زمان طويل ... بنفسي، فأنت إذا جائر!
عوالم أحمل آثارها ... من الشعر يخطئها الناظر
عوالم تنبثُّ في اللاشعور ... يُقَادُ بها الوعيُ والخاطر
وتحسَبُ أنيَ كون حديث ... وفيَّ انطوى العالم الغابر
وهل أَنا إلاَّ صدى للبعيد ... يردده صوتي الحاضر!
خليل هنداوي(233/59)
صورتان
للأستاذ زكي المحاسني
أيا صورةً منسيةً وهي في نفسي ... أشاهدها مادمت أصبح أو أمسي
مددت إلى الأوراق كفاً وعهدها ... قديم كأني كنت أعهدها أمسِ
تلمستها مثل الذي نال ضائعاً ... ولم أدر أن الكهرباء لدي اللمس
رجفت وأصماني من الحزن سكتة ... بقيت لها حيناً كأَني من الخرسِ
بكيت على تلك المباسم في الثرى ... وعهدي بها كالورد مخضلة الغرس
فيا طول ذاك النأي ما منك رجعة ... وهل يرجعن الدهر ميتاً من الرمسِ
أقبل منك الرسم وهو بقية ... كما قنع الصديان من فضلة الكأْس
على مَ التجافي يا حبيبي وإنما ... خلقنا لكي نحيا أليفين في أنسِ
فوالله مهما عشت لست ببائع ... هواكَ ولو أمعنتَ بيعي في بخسِ
لو أن المنى حقت لجزنا مع الهوى ... إلى مطلع الأفلاك حتى مدى الشمس
تعالي أمثل فيك رسماً مجدداً ... لصورة محبوب تصور في حسي
وأُعظِم فيك الطهر والحب والوفا ... كما تُعْظَمُ الأوثان في الهيكل القدسِ
يناديكِ، لو أُسمعتِ، بي كل خافقٍ ... فإن قلتِ كذابٌ فها كبدي جُسّي
إذا شئتِ بيضتِ الحياة بناظري ... وخليتِ لي دنياي ترقص كالعُرسِ
وإلاَّ تشائي الحب كوني صديقتي ... أجدْكِ عزاءً لي إذا عضني بؤسي
زكي المحاسني
أستاذ اللغة العربية في تجهير دمشق(233/60)
القَصصُ
أقصوصة من مرجريت ستين
الحلقة الأخيرة
للأستاذ دريني خشبة
(هل الحياة الحب؟ أم الحياة العمل)
لقد كانت مفاجأة عجيبة حقاً من تلك الفتاة الجميلة العذراء (ديانا. . .) حين ذكرت لصديقتها الآنسة تمارْ كوري أنها متزوجة! فلم تكن الصديقة الوفية تعرف عن صديقتها إلا أنها تحب الفتى القسيم الوسيم كليف صولوي، وأن الفتى القسيم الوسيم صولوي يحبها، إن لم يكن يتعبدها، وأنه إنما رحل منذ عشر سنوات إلى كندا الإنجليزية يلتمس الثراء الضخم والغنى الوافر ليضمن لمعبودته نعيم الخلد بما ضمنت له نعيم الحب، وليهيئ لها عيشة رغداً، لا يتلف جمالها عمل، ولا يذهب بروائها عناء. لذلك قالت لصديقتها حينما سألتها سبب هذا الكتمان الطويل إنهما أرادا بذلك أن يضمن أحدهما الآخر أثناء هذا البعاد الطويل
وقد جلست ديانا تشكو لصديقتها ما تحس به من شتى الأحاسيس نحو فتاها صولوي الذي عرفته وأحبته حين الصبا في شَرْخه، والشباب في ميعته، والقلب في فتوته، وربيع الحياة في إبانه. فكانت هذه السنوات العشر بما حَوّرت وطَوّرت، وبدلت وغيرت. فكأنما القلب غير القلب، والسمع غير السمع، والحياة غير الحياة!
ذلك أن الفتاة ديانا، ذات القوام والقد، والجيد والخد، والفم الأنيق والأنف الدقيق، والجمال والفِتنْ. . . اليتيمة مع كل ذلك، والتي أضفى يُتمها على جمالها ظلالاً من السحر العميق اضطرت أن تبرز إلى ميدان الحياة لتجاهد في سبيل قوتها بعد إذ ارتحل حبيبها إلى أمريكا بشهر واحد، لأن عّمتها التي كانت تكفلها وتكفيها عناء العمل. . . ماتت بعد هذا الشهر أيضاً ولم تترك لها من حطام الحياة إلا نصيباً نَزْراً من المال ظل يَتَسقط من راحتيها اللتين لم يعرفا مَساكا حتى لم يبق منه إلا دريهمات
وساعدتها صديقتها تمارْ كوري فقدمتها إلى أحد بيوت النشر الإنجليزية فربطوا لها راتباً بسيطاً. وكان عملها ثمة أن تقرأ الرسائل الكثيرة المتنافرة ذوات الخطوط المختلطة، التي(233/61)
كان أكثرها أشبه بفرق من راقصات الزنوج يترنحن على القراطيس. ولم تلبث ديانا أن خبرت من الحياة تجاريب لم تعرفها من قبل كان محورها جميعاً المال. . . المال!. . . المال الذي تدور حوله كواكب الآمال السيارة، والذي بدونه يقف دولاب كل شيء. . . حتى دولاب الحب، كما بدأت ديانا تعتقد!
لقد كانت تشهد كيف تتم الصفقات في البيت الذي تعمل فيه، وكيف كان أصحاب العمل يجنون أشهى الثمرات بقليل من الجهد، حتى لا يكاد أحدهم يبذل في سبيل المئات التي يحصل عليها آخر كل سنة بعض ما يبذلها أبسط الموظفين في الشركة. . من أجل ذلك دأبت ديانا تدخر مبالغ صغيرة من راتبها التافه، حتى إذا اجتمع لديها قدر غير قليل أخبرت صديقتها تمار فعقدت أسبابها بأسباب خبير مالي من رجال الأعمال يدعى لويس كراوفورد، له دراية واسعة بالصيرفة، فنصح للفتاة بالمضاربة في أحد البيوت المالية المربحة بنصف ما معها، حتى إذا غنمت شيئاً عادت فضاربت بنصف ما تملك. . . وهكذا. . . واعتمدت ديانا على الله، ثم على هذه الآمال البراقة التي تولدت في نفسها مذ وضعت رجليها في شركة النشر. . . وضاربت كما أشار المالي لويس. ولشد ما شدهها أن ربحت مبلغاً لم تكن قط تحلم به منذ أن ضيعت مائة الجنية التي تركتها لها عمتها. . . ودق قلبها البشائر واتسعت أمامها آفاق الأماني، واصطبغت أحلامها ببريق الذهب وقويت إرادتها وثبتت عزيمتها، فضاربت بنصف ما اجتمع لها من المال، وقد صار شيئاً كثيراً في حسبانها. . . وربحت. . . وفرحت فرحاً شديداً بهذا الحظ المواتي. . . وتعلمت أشياء لم تكن تعرفها. . . دروس الحياة وأفانين المال وعجائب العمل. . . وضاربت مرة ثالثة ورابعة. . . واجتمع في قبضتيها كنز من الذهب رَوّأ لها الآمال ووسع في قلبها الأماني، حتى لباتت تفكر في شراء بيت النشر الذي تعمل فيه!
أما كليف صولوي. . . الفتى القسيم الوسيم، ذو العينين الزرقاوين اللتين تختلط بزرقتهما خضرة الأطلنطيق الواسع الخضم فقد عمل هو الآخر وجد، وسعى واجتهد، واشترى مرجاً واسعاً من مروج كندا الشاسعة، جلب له قطيعاً من الغنم الأمريكي ذي الصوف الغزير، وجعل في الله رجاءه أن يغل له المال الوفير ليبني لحبيبته ديانا القصور والعلالي
وتصرمت سنون خمس؛ وكتب صولوي إلى منية نفسه خطاباً يقول في شطره: (لم أستطع(233/62)
بعد يا حبيبتي أن أشيد لك القصر الذي حلمنا به، على رغم جهادي الطويل الشاق. . . إن هو إلا مرج شاسع حلو العشب، لا ينقصه إلا شخصك المعبود ليكون جنة ذات أعناب!) وتناولت ديانا يراعها وجلست تكتب إلى حبيبها وقد اختلطت في قلبها دنيا الأطماع بعالم الحب والأحلام: (حبيبي! لشد ما أود أن أجتاز الأطلنطيق إليك الآن. . . الآن. . . في هذه اللحظة. . . لأشفي حاجات الفؤاد المعذب. . . ولكن أصغ إلي. . . ألا نستطيع أن نتلبّث هكذا. . . كما نحن (!) حلقة أخرى من الزمان! خمس سنوات أخرَ يا صولوي، وأعود إليك امرأة ذات مال يا حبيبي! ألا نحتاج مالاً كثيراً نعمل به في مَرجك الشاسع فيضمن لنا حياة واسعة مخفرجة، نقضي نصفها كل عام في إنجلترا ونصفها الثاني في أمريكا؟ يا حبيبي! ألا تكون حماقة منا أن نهجر الطريق الذي يؤدي إلى أبدع الأماني بعد أن قطعنا نصفه. . .؟) وعندما ذهبت لتلقي بالخطاب في صندوق البريد، ذرفت دموعاً غزيرة، وتجاوب صدى وقع الخطاب في الصندوق في فراغ قلبها الذي ما يزال حب صولوي يملأه. . .
وكتب إليها صاحبها يقول: (أختاه! لقد علمتنا السنوات الخمس الماضية دروساً صارمة في فن العيش. . . علمتنا الأنفة والكبرياء. . . إننا الآن في مباراة عقيمة. . . وكل منا يشتهي أن يكون السابق المجلي. . . لقد نسيت أن أذكر لك في خطابي السابق أن المرج الذي أُنَضِّره لك ليكون جنتك الفيحاء، هو مرج من أبناء الطبيعة الذين لم تتلفهم المدنية، ولم تفسد سليقتهم الحضارة ذات البهارج. . . ولو أنك وافقت لصار بك الفردوس الموعود. . . ألا ما أروع السكون هنا؟ لا ضجيج كما هو عندكم في لندن. . . على كل سأبذل جهدي فأبتني القصر المشيد الذي يليق بأبهة مليكتي. . .!)
وجازفت ديانا فاشترت شركة النشر؛ وقد أحدثت هذه الخطوة الجريئة انقلاباً قوياً في حياتها، فقد باتت لا تفكر إلا في تنمية مواردها، ومضاعفة النجاح الذي كان لهذه الشركة قبل أن تحمل الاسم الجميل الجديد: (هـ. بْلَنْدِلْ) وقد اتسعت أعمال الشركة فعلا، واضطرد تقدمها، وبعث كل ذلك في نفس ديانا كثيراً من الزهو وكثيراً من الخيلاء، وكثيراً من هذا الشعور الذي هو نتيجة نجاح الطفرة وأثر من آثارها
لذلك كانت مفاجأة غريبة ألا تعلم تمار كوري، أعز صديقات ديانا وأوفاهن، إلا ذلك اليوم،(233/63)
بزواج صديقتها من حبيبها كليف صولوي، وهو موشك أن يصل من كندا، بل هو واصل منها غداً بعد غياب عشر سنوات
ما كان أطولها ليلة مملوءة بالهواجس، مزدحمة بالوساوس، عاجَّةَ بالأفكار، هذه الليلة التي تقلبت فيها ديانا على فراش القلق وما كان إلا من ديباج. . . وما كان أشقاها بهذا الشوك الذي يخز جسمها الغض، وما لبست إلا شفا أنعم من خدود الورد. .
لقد باتت تفكر في الـ (هـ. بلندل) وأولئك العمال الكثيرين الذين أصبحت هي ضرورة لهم، وهؤلاء العملاء الذين يصبون أنهار الذهب في خزائنها. . . وتلك الأبهة وهذه العظمة. . . والحياة العالية الأرستقراطية المحفوفة بالوقار. . . ثم تنتقل من كل ذلك إلى هذا المنفى السحيق وراء الأطلنطيق في ذاك المرج النائي المهجور. . . ولكنها كذلك كانت تفكر في حبيبها صولوي القسيم الوسيم فتذكر أحلام الصبا وأفاويق الشباب وموسيقى القبل، وتذكر أيضاً أنه زوجها الذي ارتبطت به برباط السماء العلوي المقدس. . . وتذكر فوق ذلك جميعاً أنها لا تستطيع الحياة بغير صولوي كما لا يستطيع صولوي الحياة بدونها. . . وهنا تتحير وترتبك، وتسبح في بحر لجي تتقاذفها أمواجه فتعلو بها وتسفل
وتنظر إلى رأسها في المرآة فلشد ما تذهل وتراع! لقد رأت أولى شعراتها البيض نذيراً صارخاً من مارد الشيب الجبار يؤذن بخاتمة الثلاثين. . . فتزعج وتنزعج. . . وترسل في المرآة آهة تغطيها بضبابة تستر ما افتر باسماً ساخراً من شيبها!.
ولبثت ترهف أذنيها لرنين جرس الباب. . . فقد دنا موعد وصول صولوي. . . ولم تشأ أن تنزع الشعرة البيضاء، بل آثرت أن تتركها حيث هي ليشهد حبيبها حقيقة ما كان. . . وهي بذلك قد سخرت من نذير الشيب الذي شاء أن يسخر هو منها. . .
ورنَّ الجرس. . . وأهرعت إلى الباب فتلقت حبيبها ملء ذراعيها، وضمها هو إلى صدره الواسع الرحب بذراعين مفتولتين جبارتين، لم تكونا له قبل أن يرتحل إلى كندا، ثم انحنى على الفم الرقيق المرتجف يقبله، وما كاد يفعل حتى قاومت ديانا. . . وجاهدت حتى انفلتت من صولوي، وفرت منه إلى ركن الردهة القصي! ووقفت ثمة تحدجه، وتقلب فيه عينيها الثاقبتين!
لقد كبر صولوي وتغيرات معالم شبابه! ما هذا الصدر العظيم والعضل المكتنز والوجه ذو(233/64)
الأسارير؟ وعيناه؟ أين زرقة السماء التي كانت تختلط بخضرة الأطلنطيق؟ وأين هذا الكوكب الدري الذي كان يتألق في أغوارهما فيرسل منهما بريقاً أي بريق؟ وما هذه الملابس الغليظة الخشنة والحقائب الثلاث البالية؟ وما هذه السحب الكثيفة من دخان التبغ يرسلها صولوي فيتلف بها سماء الحب القديم الصافية. . . لقد وقف كليف المسكين، وقد أشعل لفافته ينفث الدخان من فمه! فيتلف على ديانا أخيلتها، ويمسخ أمانيها. . .
ثم انفجرت ضاحكةً وانفجر ضاحكا
- أوه! حبيبي! هلم! أدخل أولا! لقد شببت!
- أجل يا حبيبتي! هَيَّا. . . لقد أحضرت كنوزي لأضعها بين يديك. . .)
وانحنى صولوي فحمل الحقيبتين الكبريَيْن، وحملت ديانا الحقيبة الصغرى، حتى إذا بلغت غرفتها الفخمة التي تدير منها أعمال شركتها، لم يلبث كليف أن قال:
- حبيبتي، إني لا أطيق أن أنظر إلى هذه الغرفة ما لم تكوني أنتِ فيها!)
وفهمت ديانا ما يقصد صولوي أن يقول، فقالت له. . .
- لا عليك، فسنصعد سوية إلى الطابق العلوي يحملنا؛ إذ لا أحد معنا يحمل هذه الحقائب المثقلة عنا. . .
ومضيا في سبيلهما صعدا، وظلت ديانا تنظر إلى بعلها الذي كان يبدو كأنما تقدمت به السن عشراً على عمره، بينما كانت تبدو هي، برغم الشعرة البيضاء، كأنما تأخرت بها السن عشراً عن عمرها. . . وظلت كذلك تفكر فيما قال عن غرفة إدارتها. . لقد أحست أن روحه نفرت من هذه الغرفة التي بعثت الكبرياء والعجب في نفسها، وهذا أقل ما تفعله فترة من الزمان قدرها عشر سنوات
- هذه غرفة الخادمة يا صولوي. . . لقد ذهبت لتمضي الليلة عند أهلها
وفتحت باب الغرفة فدهش صولوي لما فيها من أثاث ورياش. . . وعجب كيف يغطي سرير خادمة هذا اللحاف الإيطالي الموشى، وكيف تزين أركان غرفتها هذه الأصص الفاخرة من السوسن المصنوع الجميل!
- أما تلك فغرفتي. . . أنظر. . . أتراها جميلة؟
ونظر صولوي فذهل. . . وسرعان ما ذكر أيامه القريبة بمرجه القفر في فلوات كندا،(233/65)
وكوخه الموحش الخشن ذا السرير الحديدي الصدئ، والأرائك البالية، التي ظل يتقلب فوقها طوال عشر سنوات، لا يفكر في زخرفتها وتوشيتها! ووضع يديه في جيبيه خاشعاً وقال:
- أحسب أنه آثر لدينا أن نستأجر خصاً في ريف لندن فنعيش فيه شهراً قبل أن نحضر إلى هنا. . . ألا توافقين؟)
وفهمت ما يريد أن يقول هذه المرة أيضاً فقالت: (ما أجمل أن يكون هذا. . .!)
وحان موعد العشاء، فذهبت به إلى حجرة الطعام الغنية الحافلة، حيث راعته المائدة النظيفة الناصعة، التي صُفت فوقها الأطباق والأكواب وكؤوس الخمر، وقوارير البلور، وملاعق الفضة ذوات الطنين وذوات الرنين. . . وأكلا. . . ودار بينهما هذا الحديث:
- لن تمضي خمس سنوات يا ديانا حتى يكون لك القصر الذي حلمنا به في مرجنا الواسع الجميل. . . لقد اشتريت لك حصاناً يا له من حصان. . . وأسميته هصار. . . وستروقك منه قوائمه البيض التي تشبه جوربات الربيع. . . إنني إذن أستطيع أن أعين وكيلا عني فنقضي نصف كل سنة في إنجلترا كما أشرت!)
وكانت صدمة لروح ديانا هذه السنوات الخمس. . . هذه الحلقة الأخرى من الزمان الطويل اللانهائي. . . ولمه؟ أليست هي الآن في رغد من العيش؟ ما الذي يقسرها على ذلك المنفى البعيد الموحش الخشن؟ إذن، فلتصارحه!
وروت ديانا قصتها، وكادت تجلس كأفروديت الساحرة على عرش جمالها، ثم طلبت إليه، أو أومأت إليه، أنه ينبغي أن يهجر مرجه ليعمل معها في الـ (هـ. بلندل): فقال صولوي واجماً: (سأنظر في هذا. . . سأنظر!) ثم عبس وبسر، وغاب من عينيه هذا الملاك الكريم الحالم، وأطل مكانه شيطان رجيم مارد، ثم قال: (طبعاً. . . إنك لن تتركي كل هذه الدنيا التي تلفت حواليك لتذهبي معي إلى أمريكا فتبني لي عشاً هناك. . .!) وكان روح الازدراء تتدفق في لهجته المرة، فروعت ديانا وقالت تجيبه: (ماذا يا صولوي! اهدأ ماذا أصابك؟ إني لم أرد أن أسوءك؟) لكن صولوي لم يهدأ، بل زادت ثورته، واشتدت حدثه، فقالت ديانا: (تالله يا صولوي إن كل هذه الدنيا التي تحيط بي لا تهمني. . . أنظر. . . أترى هذه الصورة الصينية الفاتنة؟ إنها أثر قيم اشتريته بالمئات. . . وصديقتي تام تقدر عمرها(233/66)
بالقرون. . . أنظر. . .) ثم قذفت بالصورة إلى المدفأ فذهبت بها ألسن النيران
- لا أدري والله ماذا تعنين بهذا؟
- أعني أنني لا تهمني زخارف الحياة كما زعمت!
- إذن ماذا يهمك؟
- يهمني هذا العمل العتيد الذي بذلت له جهدي وقواي. . الـ (هـ. بلندل) يا صولوي! كيف أدعه يتلاشى!؟)
- غير أنك كنت تعلمين أنني قادم إليك!
- أجل، كنت أعلم هذا، بيد أنك تقول إنك في حاجة إلى خمس سنوات أخر، إلى حلقة ثالثة لتضمن لنا عيشاً هانئاً، وكيف؟ كم بقي من العمر لنقضي منه خمس سنوات تضيع عبثاً وعناء؟ وهذا العمل العظيم الذي شدته؟ كيف يضيع هو أيضاً عبثا؟ بل أقيم أنا هنا، لأنني أصبحت ضرورة لحياة كثيرين، أما هناك، أما في المرج البعيد النائي، فإنني أكون عبئاً عليك وعلى نفسي، وقد تقتلني الوحشة والركود يا صولوي! ماذا أكون هنالك؟ ماذا أعمل وقد تعودت العمل؟ أأكون متعة فقط؟
- لا. لا رأيت في حياتك مكروهاً كهذا المكروه! وكيف تكونين متعة لراعي قطعان!
- خمس سنوات أخر؟ ثم ماذا؟ ما الحياة يا صولوي حتى تريدها أن تحتمل كل هذا؟ لقد علمتنا الحياة فنونها القاسيات. . لقد علمتنا أن ننظر إليها بعين غير العين التي تعودناها في الصبا. . لقد كشفت لنا عن المعميات يا حبيبي! لقد وضحت لنا حقائقها بقدر ما غاضت أحاسيسها وترهاتها!)
- وما هي هذه الحقائق بالله عليك!؟
- هي الصراحة والجد، والجهاد والعمل، والتحصيل الذي يضمن للإنسان حياة طيبة موفورة قليلة البؤوس، حياة كريمة تتفق وكبرياء المرء، يرضى بها عقله، كما يستريح إليها جسمه!)
- وإذا عرضت عليك هذه الحياة، ولكن في مرج بكندا فلم ترفضين؟
- لشد ما يعزب عنك ما أريد يا صولوي! إن المادة لا تهمني إلى هذا الحد، ولكن يهمني ألا تتعذب روحي في هذا الركن من أركان الدنيا. . . أنا لم أتعود هذا اللون من الحياة الذي(233/67)
تريده لي يا حبيبي، وقد أحتمله لوقت قصير، بيد أنه لا جرم أنني سأضيق به، وعندها يُقضي على كل شيء. . . حتى على حبنا!
- لا تتحدثي عن حبنا أرجوك! إنني أرى ما وراء الأكمة! إني أرى ماذا تضمرين! بل كوني صريحة. . . ماذا يرضيك بعد هذا. . .؟
- ولم لا أبقى أنا حيث أنا الآن حتى تشيد قصرك وتعد العدة لحياتنا المنشودة، وأستطيع بذلك أن أدير أعمالي الواسعة هنا، ثم نلتقي بعد أية فترة من الزمان. . . بعد عام أو عامين أو أكثر أو أقل. . .؟
- إذن تريدي أن تَقصريني على خطتك دائماً. . . توجهينني حيثما تريدين وكيفما تشائين. . . لا. . . لقد تكلمت عن الوحشة والوحدة فيما مضى وفيما خفت أن يأتي. . . إذن. . . أنا لا أربطك
- ثم. . .؟
- ثم لا شيء. . . إنك إذا استعملت أحداً في عمل لك ولم يؤده لك حسب هويتك استغنيت عنه واستعملت غيره مكانه، أليس كذلك؟
وسرت قشعريرة من الذعر في جسم ديانا، وبدا الارتباك في محياها، فلم يعبأ صولوي وقال متماً حديثه: (أنت تفضلين عملك المالي على أن تكوني زوجة لرجل راع صاحب قطعان في كندا، أليس كذلك؟ لا بأس، فزوجة الراعي لن يكون لديها وقت طويل للأعمال المالية. . .
- هل تريد أن تجعلني أفهم أنك قد عولت على الاستعاضة بامرأة سواي؟
- لقد أخلصت لك سنوات عشرا في جميع أمري. . . ولشد ما آسف على هذا البله الذي حصل مني!
- صولوي!
- لا. . . بل لابد من إنقاذك من هذا الغل الذي وضعته بإخلاصي حول عنقك. . . فلا تبتئسي ولا تحزني. . . لابد أن يتبدل الأمر غير الأمر!
- بل أنت تحب امرأة أخرى!
- ولم لا؟. . . على الأقل امرأة تعني بشأني. . . لقد أخلصت لي، وصدقتني الحب. .(233/68)
فَرَىْ لنفسك فقد صرحت لك!
- إنك تعني الطلاق. . مضحك. . مضحك جداً يا صولوي!
- عرفت إذن! لا خير! فلقد أخطأنا حينما كنا صغيرين فلم لا نتدارك خطايانا وقد شببنا. . . اسمعي يا ديانا ينبغي أن أذهب الآن. . . سأنزل في فندق، وسأخبرك عن اسمه بعد، وإذا احتجتك فسأدعوك في التلفون. . .
- صولوي. . . صولوي. . .!
وفي اليوم التالي لقيت صديقتها تمار كوري، فلما سألتها عما كان قالت لها ديانا: انتهى كل شيء، حيث كان ينبغي أن يبدأ كل شيء!
- ماذا تعنين؟ أتقصدين أنك قذفت به من حالق بعد أن انتظرته كل هذه السنوات العشر؟
- بل هو قد قذفني من حالق يا أختاه! لقد ظهر أنني كنت كَلاًّ عليه. . . أليس هذا عجيباً؟
- أكبر ظني أن هذا كان نتيجةً لخطئك؟ ماذا قلت له؟
- قلت له إنني لا أستطيع أن أهجر عملي هنا في الـ (هـ. بلندل) لأعيش في قفار كندا. . . ماذا كنت أقول له غير هذا؟ أذلك يعني أن حبي له قد نقص؟
- فو. . .!! يا بلهاء! بمثل هذه الحماقة يفلت من يديك كليف؟ يا له من كنز؟ ما الذي عوقك كل هذه السنين الطوال إن لم يكن هو حبك لصولوي؟ وما الذي عوقه هو الآخر؟ ما الذي جاء به من كندا؟ لقد كان لك في لويس كراوفورد، أو في الشاب ستيفن، خير زواج لو أردت ذلك منذ سنين، فما الذي حال بينك وبينهما؟ أليس هو حبك وجميل وفائك لصولوي؟ والآن؟ أتدعينه يفر منك هكذا؟ يا بلهاء؟ يا حمقاء؟
- يا أختاه فكري قليلا فيما عسى أن تكون حياتي في كندا بعد هذه السنين العشر الحافلة في لندن الصاخبة. . . سنوات عشر يا تام! كلها جِهاد. . . كلها قتال. . . كلها حرب على الحياة!
- حرب! إي والله! الحرب التي تتعشقين! أنت لا تهوين سواها! الحرب التي كوَّنت لك الـ (هـ. بلندل!) أليس كذلك؟ ومم كونت لك هذه الحرب أعمالك الباهرة؟ من دريهمات أريتها لي يوم لقيتني قبل أن تلتحقي بعملك الذي در عليك أخلاف الرزق فأعماك!! إنك من أجل الـ (هـ. بلندل) ترفضين ما عرضه عليك كليف من السعادة في أكناف مرجه بكندا،(233/69)
وقد علمت أنه عمل أبهر من عملك أضعافاً مضاعفة. . . الـ (هـ. بلندل!) هذه اللعبة! بل هو الفتى الخبيث ستيفن الذي فتنك، والذي تظنين أنه يضمن لك حياة الخلد في باحات لندن! يا ديانا! لقد عرفت ستيفن قبل أن يعرفك فاحذري. . . إنه يصبو إلى ثروتك ليعتصرها ثم يقذف بك. . . ثم لا يكون الـ (هـ. بلندل) بنك إنجلترا بعد. . .؟
- ليس ما تقولين حقاً يا تام!. . .
- شْو. . . دعيني أتم حديثي. . . إنك لا هم لك إلا الحرب والقتال. . . حتى أصدقاءك تحاربينهم. . . حتى الرجل الذي أحببته وأحبك فأخلص لك الحب. . . بل هناك حد إذا وصلت إليه الكبرياء انقلبت فصارت غفلة وحماقة. . . ولقد وصلت إلى هذا الحد بأذن الله!
- تعنين أنه ينبغي أن أذهب فأنتظر السعادة في قفار كندا بعد خمس سنوات طوال يبنى لي بعدها صولوي بيتاً يضمني ويؤوي أبنائي؟. . .
- لابد أن يصل كليف إلى كل مطمحه يوماً ما. . . ولكن لا تنسي خطاباته إليك، فلقد شهدت أكثرها. . . لا تنسي أنه دعاك إلى كندا قبل خمس سنوات فأبيت، فوافقك، فلم لا توافقين اليوم. . .؟ ثقي أن كل حرب إلى نهاية، ولقد حاربت بما فيه الكفاية. . . واعلمي أن ما أنت مقبلة عليه لن يحيق شره إلا بك!
- ماذا تعنين؟
- أعني أن الكبرياء التي تحسبينها لك الآن ستكون له. . أعني أنه هو الذي سيرفضك فيقف مكانك وتقفين مكانه، وتنعكس الآية، ويصعب عليك إصلاح الحال!
- وكيف وقد انتهى كل شيء يا تام؟
- بل لم ينته كل شيء يا أختاه. . . المرأة التي عركت الحياة لن تفقد وسيلة لبلوغ مآربها. . . وكيمياء الحظ ماهرة صناع
وجلست ديانا في غرفة إدارة الـ (هـ. بلندل) مضطربة كاسفة البال. . . وطفقت تذكر ما كان من حبها لصولوي، وإخلاصها له طيلة هذا الزمان، ثم ما كان من لقائه هذا اللقاء المضني. . ثم هذا الحب الذي زعمه لها أنه يشغل قلبه. . ورددت حديث صديقتها وسبب نعمتها تمار كوري، وراحت تسائل نفسها: ما عقبى هذا الجهاد الطويل الذي كانت تتخذه(233/70)
سبباً فأصبحت تتخذه غرضاً. .؟ وجعلت تتخيل هذه المرأة التي سحرت حبيبها فشغلته عنها؟ من هي؟ وما جمالها؟ وما مالها؟ وما جسمها. . . وجعلت تقارن كل ذلك بنفسها. . . ثم تبسمت حين ذكرت مرج صولوي والحصان الذي اشتراه لها وقوائمه البيض. . .
واستيقظت في باكورة الصباح فدقت التليفون إلى الـ (هـ. بلندل)، وكلمتها إحدى العاملات فأخبرتها أنها لن تنزل إلى الشركة اليوم. . . وعجبت العاملة لذلك أيما عجب، إذ لم يحصل أن تأخرت المديرة خلال السنوات الخمس لأي سبب من الأسباب. . وانتظرت ديانا أن يكلمها صولوي في التلفون كما وعد فلم يصنع، ولم يرسل أي خطاب منه يعلمها به ماذا انتهى إليه عزمه. . . ورن جرس التلفون فجأة فدق معه قلبها. . .
- مِسْ بلندل؟ هنا محل المصور لمشيرييرز. . . لقد طلب إلينا شخص يدعى كليف صولوي أن نعطيه صورة لك عن إحدى السلبيات التي لك عندنا، فهل نفعل؟
- لا بأس، ولكن هل أعطاكم عنوانه؟
- كلا. . . ولكنه حدد يوم الأربعاء لتسلم الصورة
- هل التي تكلمني هي المس موريس؟
- أجل يا مس بلندل، أنا هي. . .
- أرجو إذا حضر المستر كليف لتسلم الصورة أن تدعيني في التيلفون وأن تعطليه لديك حتى أحضر لمقابلته، فهل تذكرين!؟
- بكل تأكيد يا مس!
وهكذا كان كليف صولوي أبعد في لندن منه في كندا، لولا هذه المفاجأة التليفونية. . .
ورن جرس التليفون يوم الأربعاء، فدق قلب ديانا معه. . . ولكن بشدة. . .
- مس بلندل. . . المستر كليف هنا. . .
- أرجو أن تذكري ما أوصيتك به. . . سأصل حالاً
- أخشى ألا نستطيع حجزه طويلا. . . لقد احتج بأن عنده ميعاداً قريبا. . .
وأهرعت ديانا المسكينة إلى تحت ووجدت لحسن الحظ سيارة ركوب لدى الباب فطارت بها إلى الأستوديو. . .
وا أسفاه. . . لقد أخذ كليف الصورة ومضى لطيته. . .(233/71)
واسودت الدنيا في عيني ديانا. . . وعادت في سيارتها تترنح في شوارع لندن ذات الضجيج. . . ولم تسمج في عينها لندن كما سمجت ذلك اليوم، ولم تكره صخبها كما كرهته الساعة. . .
ثم لمحت كليف واقفاً عند عمود مصباح وسط الشارع المزدحم فجأة فأشارت إلى السائق فوقف، ونزلت وهي لا تكاد تعي وذهبت من فورها إلى حبيبها، غير عابئة بآلاف السيارات التي تطوي الشارع. . . والتي أشار إليها الشرطي ذو الذراع البيضاء فوقفت جميعا. . .
- صولوي. . . ما هذا الظرف الذي تحمله؟
وانتزعت منه الظرف الكبير الذي كان يحمل دعوى طلاقها فمزقته قصاصات قصاصات، وبعثرت الوريقات في الشارع. . . والناس ينظرون ويبتسمون. . .
- صولوي. . . سأتبعك. . . سأتبعك ولو إلى القطب الجنوبي. . . سأعيش معك. . . لن نفترق. . . ستكون هذه السنوات الخمس حلقة تجاريبنا الأخيرة!
دريني خشبة(233/72)
البَريدُ الأدَبيّ
مشروع جديد لدراسة القانون
وضع معالي وزير المعارف بصفته الرئيس الأعلى للجامعة المصرية مشروع إصلاح جديد لدراسة القانون في كلية الحقوق؛ وأهم عناصر المشروع الجديد هو تخفيض مدة الدراسة من أربعة أعوام إلى ثلاثة، وإنشاء قسم جديد لإجازة الدكتوراه تجري الدراسة فيه باللغة العربية، وتكون مدتها سنتين. وقد كان دراسة الحقوق حتى الآن تستغرق أربعة أعوام؛ ولم يكن بالكلية من قبل قسم للدكتوراه، فكان الطلبة المصريون الذين يرغبون في الحصول على هذه الإجازة يقصدون بعد إتمام دراستهم بمصر إلى جامعات فرنسا؛ وأنشئ أخيراً قسم للدكتوراه بكلية الحقوق ولكنه لم يحقق الغاية المرجوة من إنشائه لأن الدراسة فيه كانت بالفرنسية، وكان الإقبال عليه لذلك ضعيفاً. وينص المشروع الجديد على حذف بعض مواد الدراسة التي أضحت غير ضرورية حتى تكون دراسة الأعوام الثلاثة شاملة لكل ما هو ضروري فقط. والواقع أن توحيد القوانين الأهلية والمختلطة، وتقدم القضاء المصري بجهاته المختلفة في ميدان التوحيد، وتمصير الإدارة الداخلية مما يسهل تبسيط الدراسة القانونية التي كانت تحتوي من قبل على عناصر كثيرة من الدراسات القانونية والإدارية والمالية لم يبق لها اليوم ضرورة. ومن جهة أخرى. فإن المشروع الجديد يقرب إلى طلبة الليسانس دراسة الدكتوراه ويشجعهم بذلك على التقدم في دراسة العلوم القانونية العليا. وقد كان لهذا التعديل في مناهج الدارسة وقع حسن لدى طلبة الحقوق
مجمع اللغة العربية الملكي
يفتتح مجمع اللغة العربية الملكي المصري دورته الجديدة في الثامن عشر من ديسمبر، والمفهوم أن هذه الدورة ستكون خاتمة اجتماعات المجمع طبقاً للنظام الحالي. وفي خلال الدورة البرلمانية الحاضرة ينتظر أن يوضع نظام جديد للمجمع ينص على الزيادة في أعضائه وعلى تنظيم اختصاصاته وتوسيعها، إذ لا يخفى أن المجمع الحالي قد أنشئ في ظروف خاصة، وقصد به إلى تحقيق غاية ضيقة، وأن عناصر مصرية تمتاز بمكانتها العلمية الرفيعة قد أبعدت عنه لاعتبارات خاصة؛ والمفهوم أن هذه العناصر ستتبوأ مكانتها الحق في المجمع الجديد؛ وسيكون المجمع الجديد أداة لغوية علمية صالحة للعمل المثمر(233/73)
لخير اللغة العربية وتقديمها وتدعيم نهضتها، وسيجري على خطته من الاستعانة بالعناصر الممتازة في هذا الميدان من أبناء البلاد العربية الأخرى وكذلك من العلماء المستشرقين، على أن تتخذ هذه المعاونة صورة المراسلة العلمية والمؤتمرات العامة كما هو متبع في الهيئات العلمية المماثلة في أوربا
مؤتمر الرمد الدولي
اختتم مؤتمر الرمد الدولي الذي عقد بمدينة القاهرة منذ 8 ديسمبر الجاري أعماله في الرابع عشر منه. وهذا المؤتمر هو الخامس عشر من نوعه؛ وقد وجهت مصر الدعوة إلى عقده بها منذ عام، واشتركت في إجابة الدعوة معظم الدول الكبرى وفي مقدمتها إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وأمريكا. وشهد المؤتمر وفود كبيرة من أعلام الطب المردي في أنحاء العالم. وقد كان لعقد هذا المؤتمر في القاهرة أهمية خاصة، لأن مصر تعتبر موطن الأمراض الرمدية؛ وقد تقدمت بها مباحث الرمد تقدماً عظيماً، ولأطبائها الرمديين شهرة عالمية. وقد نوه أعلام الأطباء الأجانب في المؤتمر بما كان للعرب من فضل عظيم في هذا الميدان. ومما هو جدير بالذكر أن هذا هو أول مؤتمر رسمي يفتتحه صاحب الجلالة الملك فاروق الأول بعد توليه الملك، وقد آثر حفظه الله أن يفتتحه باللغة العربية بعد أن كانت المؤتمرات المماثلة تفتتح دائماً باللغة الفرنسية، وبذلك وضع جلالته سنة جديدة نبيلة
معهد فرنسي جديد للدراسات الاجتماعية
قررت مدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة أن تفتتح قسما جديداً يسمى معهد الدراسات الاجتماعية المصرية؛ وقد بدأت الدراسة بالفعل في هذا المعهد الجديد منذ 16 الجاري؛ وصرح مديره الأستاذ بواييه أن الدراسة فيه ستجري على مثل الدراسة في مدرسة العلوم السياسية بباريس، وأنها ترمي إلى توسيع الثقافة القانونية والسياسية والاقتصادية، وإعداد الطلاب للالتحاق بالأعمال في الشركات الأجنبية
ونستطيع أن نذكر بهذه المناسبة أن فرنسا تبدي في العهد الأخير عناية خاصة نحو تدعيم نفوذها الثقافي في مصر؛ فمنذ أسابيع قلائل افتتحت في هليوبوليس مدرسة فرنسية جديدة (ليسيه)، ويفد إلى مصر في كل شتاء عدة من الأساتذة والكتاب الفرنسيين يلقون(233/74)
المحاضرات المختلفة وينوهون دائماً بما لفرنسا من مكانة ثقافية قديمة في مصر. وفرنسا تشعر أن صرح ثقافتها القديمة في مصر قد وهنت أركانه منذ بعيد ولم يبق منه إلا أطلال الجيل الماضي. وقد جاء اتفاق مونترو بإلغاء الامتيازات الأجنبية ضربة جديدة لهذا النفوذ الثقافي، ولم يبق في وسع مدرسة الحقوق الفرنسية أن تمضي في مهمتها؛ فافتتاح معهد الدراسات الاجتماعية هو محاولة جديدة للتمشي مع العهد الجديد، واستدراك بعض ما طرأ على الثقافة الفرنسية في مصر من عوامل الوهن والضعف
دور مصر في بناء الحضارة
ألقى العلامة الدكتور هارتمان محاضرة في بهو قصر ميرابل بمدينة سالزبورج تحدث فيها عن (الدور الذي أدته مصر في تاريخ الحضارة) فذكر أن مصر القديمة بلد العجائب من وجوه كثيرة، فهي مهاد الأديان والعبادات الأولى، ومهد الفنون والبناء؛ وليس من شك في أن الحضارة المصرية القديمة كان لها أثر عظيم في بناء الحضارة الأوربية ما يزال ماثلا إلى عصرنا. وقد كان اليونانيون القدماء الذين يعتبرون من آباء الحضارة الأوربية، يعتبرون المصريين أساتذتهم في الحكمة المقدسة وفي كل ضروب المعارف والحضارة؛ وكانت مصر أول مهد في التاريخ لفنون النحت والتصوير، وقد وضع المصريون القدماء المباحث الأولى لمسائل العالم الخالدة، وهي المولد والحياة والموت، ودعوا فكرة الخلود والبعث ومثلوهما في النقوش والقربان، وتحتفظ مصر الفرعونية بأقدم آثار في هذا الميدان. وليس من ريب في أن تقاليد الموت الفرعونية مازالت تمثل في كثير من تقاليدنا، وقد أوضح الدكتور هارتمان محاضرته بعدد من الصور البديعة
وهذه المحاضرة التي ألقاها الدكتور هارتمان أخيراً هي واحدة من سلسلة من المحاضرات الأثرية والتاريخية التي يلقيها أثناء موسم الشتاء عن حضارة مصر الفرعونية وتاريخها
الصحافة والترجمة بكلية الآداب
تفتتح كلية الآداب بالجامعة المصرية قريباً قسماً جديداً للصحافة والترجمة والتحرير يلتحق به الحائزون لإجازة الليسانس في الآداب، وسيسد هذا القسم الجديد فراغاً كانت الحاجة تدعو إلى سده؛ وسيكون مهداً حسناً لتخريج شباب يجيدون الترجمة والتحرير والأعمال(233/75)
الصحفية الفنية
المعجزة، الشعبذة
في (الرسالة) الغراء - الجزء 232 - في (مجادلة في معجزات الإسلام) للسيد خليل جمعة الطوال - هذا القول: (الأمر واضح فلا نبوة بغير معجزة - وإلا لادعى النبوة كل مشعوذ) والمعجزة في (الأديان) هي مضادّة السنن الكونية، والسير الطبيعية. والعلماء الغربيون المتحررون يكفرون بالمعجزات ويرونها شعبذات، ويقولون: إن الأنبياء لم يأتوا بها، وإنما نسبها أتباع تلك الشرائع بعد حين أو قرون إلى شارعيها. ولهم في موسى والمسيح (صلوات الله عليهما) ووجودهما أقوال كثيرة. ففقدان (المعجزة) عندهم في دين هو من مزايا ذاك الدين. وهم يسخرون من كل نحلة تدعيها، ويعيبون كل طائفة تؤمن بها. ومن أئمة هؤلاء القوم في بلاد الغرب (م. جيو) صاحب كتاب (اللادينية في المستقبل) وهو كتاب مهم احتوت عليه خزانة (فريدريك نتشه) وقد قرأه هذا المفكر الجرماني، وله في ذلك الكتاب تعاليق ذات بال. وهذا ما أورده (م. جيو) في مصنفه في مبحث فيه أرويه بلغته، قال:
' ' , , , ; -
فلو تعلّم صاحب (الخليل) وعقل كلام هذا العالم الفرنسي لاستحى من أن يقول في (المعجزة) ما قاله إن كان من أهل الحياء
وبعد فليعلم من يجهل أن معجزات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التي كتبتها مؤلفات المسلمين تزيد على معجزات النبيين كلهم أجمعين قاطبة
(قارئ)
إلى الأستاذ عبد الله عنان
اطلعت على الكلمة التي استنكرت بها فرية صاحب (المكشوف) في بيروت بنشره مقالات لك قديماً وادعائه أنك أرسلت إليه عتاباً لطيفاً مع المقال. وقد عجبت قبل ذلك وداخلني الشك في العتاب والمقال، وقلت في نفسي كيف أقدم الأستاذ عنان على هذا التملق والاستخذاء لجريدة عرفت مراميها التجارية في بث الفتنة وإيقاع العداوة بين الأدباء فضلا(233/76)
عن إمعانها في التزوير والطعن على قادة الأدب العربي في القطر المصري الشقيق. ولما رأيت الأستاذ أبا شبكة يعلق على مقالك في صحيفة (الجمهور) أبديت استغرابي بمقال نشرته (صوت الأحرار) ومما قلت فيه: (ومن الغريب أن يستخذى الأستاذ عنان فيبعث للمكشوف بعتاب لطيف ومقال عتيق عرض فيه لوجوه الضعف في الحركة الأدبية المصرية، ترضية لجريدة عرفت غايتها في شن الغارة على أدب إخواننا المصريين، وكان ينبغي أن يربأ بقلمه عن الخوض في هذا المجال حرصاً على كرامته)
أما وقد أعلنت مرتين استنكارك لتزوير صاحب (المكشوف) وإقامتك الدعوى الجزائية عليه - وأنت المحامي - فإني أعتذر إليك عما كتبت بنية خالصة. ولا ريب أن الصحافة اللبنانية تستنكر مثلك هذا التحرش، فتنصح صاحب (المكشوف) بالإقلاع عن خطته الشائنة، أو تدعو كل عربي لمقاطعة صحيفته القاذفة، إن الباطل كان زهوقا
(دمشق)
وداد سكاكيني محاسني
إلى الأستاذ علي الطنطاوي
تعقيب على بعض ما جاء في رسالته إلى أخيه بباريس
عفا الله عنك أيها الأخ الكريم
أيجدر بك - وأنت المنتصر للشرق الغيور على الإسلام - أن تجعل من بلد شرقي مسلم مضرباً لأمثال السوء؟ لئن كان عيب السودان لونهم الأسمر أو بشرتهم القاتمة، فإن خلف تلك السمرة وذلك القتام قلوباً عامرة بالإيمان، ونفوساً أبيّة تَعِفُّ عن مواطن المسكنة وتربأ عن الهوان، وعقولاً على نزر ما تلقى من الثقافة - بحكم مركز السودان السياسي - جبارة دائبة التفكير فيما يعلي شأن بلادها، لا تخلد إلى الراحة ولا تستمرئ الخمول
سل مصر الشقيقة تنبئك عنا وتصل أسباب التعارف بينك وبين أخيك النائي، فقد حان الوقت الذي يجب أن يعرف فيه بعضنا بعضاً حتى نعمل يداً واحدة فننهض برسالة الشرق والإسلام. وإن تذرع الأخ بأنه إلى غير سوداننا قصد فلا ينس أن كلمة (السودان) شاملة وأنه لابد أن يلحقنا كِفْلٌ من المسبة(233/77)
عفا الله عنك أيها الأخ الكريم! على أني لازلت معجباً بما تكتب، فخوراً بغيرتك على الإسلام وانتصارك للشرق. وأصدقك القول بأني على رغم ما اضطرني إلى إثبات هذه الكلمة لم أقف قراءتي دون خاتمة الرسالة
(أم درمان - سودان)
(سوداني)
(الرسالة) جاءنا من إخواننا السودانيين رسائل كثيرة في هذا
المعنى فاكتفينا بهذه الرسالة لاعتدالها وإيجازها.
في المسرح الروسي الحديث
يقاسي المسرح الروسي الحديث كثيراً من العنت بسبب الدكتاتورية الفاسدة التي يفرضها الطاغية ستالين. . . وقد كان المظنون أن البلشفية الروسية هي أشهى ثمار الأدب الروسي الذي تقدمها ومهد لها، ووضع لها في قلوب الفقراء أسساً من الثورة والتبرم والاشمئزاز من الوسائل القيصرية العاتية في حكم الشعب، وهو ما نلحظه واضحاً تمام الوضوح في قصص دستوتفسكي وتولستوي وترجنيف وتشيخوف ومن إليهم من أعلام الكتاب الروسيين. . . وكان المظنون أيضاً أن فقيد روسيا العظيم جوركي سيقف حائلا بين الأدب وبين طغيان الحكومة التي حاولت إفساده بإخضاعه لنظمها واستخدامه للتبشير بين الجماهير، فلما شجر الخلاف بينه وبين رجال الثورة في إبانها استبشر المغرمون بالأدب الروسي خيراً، ولكنهم سرعان ما فوجئوا بعودة جوركي إلى روسيا وصلحه مع طغاتها، وصيرورته مبشراً بتعاليمهم، بل من أشد المتحمسين لهم، حتى خاب الظن، ووثق الجميع أن مجد الأدب الروسي قد انهار، وأنه ركد ركوداً لا أمل في انتعاشه منه قط. . . ولولا أن كان جوركي أديباً بطبعه، ولولا أن حياته امتدت في ظل البلشفية، لكانت نكبة الأدب الروسي بتعاليمها نكبة حاسمة، إلا أن هذا الرجل الذي لم تلهه حياة الفراغ والدعة قد ستر هذا النقص فيما جناه هذا النوع الفوضوي من الحكم على الأدب في روسيا، فلما مات خبا آخر قبس من هذه النار المقدسة التي ظلت أعواناً تؤجج قلوب الروسيين ومشاعرهم. . .(233/78)
وقد هال موت جوركي رجال الحكم في روسيا وعلى رأسهم ستالين، وهوبا ينصرون الأدب فيما يخيل لهم عن طريق المسرح، وهم يبذلون جهود الجبابرة لإقالة عثرته، بيد أنهم لمبالغتهم في جعل المسرح للبلشفية، لا البلشفية للمسرح، ومبالغتهم أيضاً في بلشفة كل ما يتعلق بالتمثيل قد باءوا بالفشل من حيث كانوا ينشدون النجاح. . . وهم يعترفون بهذا، ولذا دأبوا على إبراز درامات جوركي على أكثر مسارحهم، حتى أن روايته الأخيرة (بيجور بوليشوق) تمثل في الليلة الواحدة في أكثر من ستة مسارح من مسارح العاصمة. . . وتبدو الروح البلشفية المفتعلة في درامات أكثر الكتاب، إما لاضطرارهم إلى إرضاء الحكومة وتملقاها، وإما لعجزهم عن وصل ما انقطع من جهود أسلافهم العظام. . . فهذه درامة (الأرستقراطيين) للكاتب نيقولا بوجودين تكاد تكون حرباً على الأرستقراطية التي يجهلها شباب روسيا تمام الجهل. . . وكذلك رواية إيفان كوشرجا (الساعاتي والدجاجة) إن هي إلا درامة فارغة برغم الطبل المدوي الذي دقه النقاد الروسيون لها، وبرغم الجائزة السنية التي نالها صاحبها بسببها. على أن بعض الكتاب الذين احتفظوا باستقلالهم قد استطاعوا أن يكتبوا قطعاً فنية رائعة وإن تكن تحمل الطابع البلشفي أحياناً. . . ومن هؤلاء الكاتب فسوفولود فشنفسكي مؤلف (المأساة التي تبشر بالخير) والتي اضطر أن يقحم عليها روحاً من نوع الميلودرام إرضاء للسادة الحاكمين
ومن أعجب العجب خمول كتاب نابهين مثل كرشون وأفينوجنيف. . . ويبدو أن سبب خمولهم عائد إلى عدم استطاعتهم هضم هذه الدكتاتورية التي يفرضها ستالين وأذنابه على روسيا، وهي الدكتاتورية التي حاربوها من قبل في شخص القيصر نفسه(233/79)
العدد 234 - بتاريخ: 27 - 12 - 1937(/)
رجل سعيد
وعدتك أن أقص عليك حديث الرجل السعيد بخلقه ودينه عسى أن تجد فيه ما يبرد غيظك ويرد حلمك ويقر بالك. وهأنذا اليوم أسوق إليك هذا الحديث على سرده:
دخل علي هذا الرجل وأنا مكب على عمل دقيق حافز، فلم يسعني حين رأيت ما عليه من سمت الوقار وسيما الخير إلا أن أدع ما في يدي وأفرغ له
- نعم يا سيدي
- أنا رجل من أهل. . . قرأت ما كتب في الرسالة عن الأخلاق ونكولها أمام الغرائز الوصولية في الإنسان، فسأني وأيم الله أن تشتبه المعالم حتى يضل الهادي، وتعترك الظنون حتى يشك المؤمن. وليس لي قلم أضعه بين هذه الأقلام فيدلها على موضع الحق أو يعينها على مقطع الحكم، فآثرت أن أشخص إليك لأكون أمامك مقالاً حياً يقرر، ودليلاً ناطقاً يؤيد
وفي الحق أن الرجل كان في بزته العربية المهندمة، ولهجته الطبيعية المتزنة، كأنما ينطق عن وحي الفضيلة العليا. فقلت له: أتظن أن الفاضل ينجح بمحض فضله في هذا العصر الآلي الأصم؟
فقال: لا أظن، وإنما أعتقد؛ ولا أنكر مع هذا الاعتقاد أن الفضيلة وعرة الطريق، وأن الخير صعب المرتقى. وفي قول الرسول الكريم: (حفت الجنة بالمكاره)، و (القابض على دينه كالقابض على الجمر) ما يصدق ذلك. ولكن الفضائل تعليم وتعويد ورياضة؛ فإذا أوف غرسها في النشء، وضعف أثرها في المجتمع، دل ذلك على فشل التربية لا على فشل الفضيلة.
أنا رجل واسع الثراء سابغ النعمة؛ وقد جمعت مالي الوفر من ذلك الطريق السوي الذي ألزمني إياه أبي منذ الصغر؛ فليس في نصابه قرش زائف ولا متر مغتصب. ورثت عن أبي الدين الصحيح على أنه دستور الدنيا، والخلق الصريح على أنه جوهر الدين؛ ثم زاولت التجارة بالصدق والصبر فاستغنيت، واقتنيت العمائر والضياع فأثريت، وأديت الصلاة فوصلت ما بيني وبين الله، وآتيت الزكاة فأصلحت ما بيني وبين الناس. ثم أحصنت نفسي بالزواج الباكر فوهبت البنين، وعصمت شهوتي من المتع الحرام فرزقت العافية. وطهرت قلبي من الطمع الحاسد والخصام الحاقد فأوتيت السكينة. ثم جهلت البنك(234/1)
فجهلت الربا والدين، وأنكرت المحكمة فأنكرت العداوة والظلم، ووضعت فضل مالي في أيدي ذوي الخلق من التجار يحفظونه لي ويستثمرونه لهم، وجعلت أرضي في ذوي الدين من الزراع يريعونها علي ويستغلونها عليهم، ومسست بالمواساة والرحمة قلوب البائسين حولي فسللت منها الضغينة؛ ثم كان لي في كل مبرة سهم، وفي كل مستشفى سرير، وفي كل مشروع وطني يد. فأنا أمشي في الناس ملحوظ الشهادة محفوظ الغيب، لا تمتد يد إلى مالي لأنه مبذول للسائل والمحروم، ولا ينبسط لسان في عرضي لأن جاهي موقوف على العاطل والمظلوم، ولا يأتمر أحد بحياتي لأن وجودي أمان للشقي من البؤس والجريمة
أما سعادتي في نفسي وولدي فهي أعظم وأتم من سعادتي في عملي ومالي: أجدني كنف الرجاء لكثير من الأسر الفقيرة، ومصدر العزاء لطائفة من القلوب الكسيرة؛ وأرى في كل نظرة وفي كل بسمة وفي كل كلمة معاني لا تتناهى من العرفان والحنان والشكر، فتعظم سعادتي في نفسي، وتجمل دنياي في عيني، ويغمرني شعور من عزة المؤمن وزهو الخاشع، لأن حياتي لها هذا الخطر في حياة بعض الناس. ثم أنظر إلى بني الثمانية فأرى في وجوههم صورتي، وفي صدورهم محبتي، وفي شعورهم عاطفتي، وفي ميولهم رضاي، وفي آمالهم مناي، فأقبل يدي ظاهراً وباطناً وأقول لنفسي: احمدي الله واشكريه فإن علياً لن يموت، وإن ثراءه لن يبيد، وإن بناءه لن يتقوض!
ذلك كله يا سيدي بفضل الخلق. فإذا كان قد تهيأ لمثلي على جهله بقواعد المدنية وضروريات العلوم أن يجمع بمعونة الله وحده هذه الثروة الضخمة وليس له رأس مال من إرث ولا فيض رزق من حكومة، وإن ينال هذا الجاه العريض وليس له نسب عريق في أسرة ولا سبب وثيق إلى سلطان، وأن يخلق من حوله هذا النعيم المقيم فيغرق فيه أهله وعشيرته وبيئته، وأن يرفع بناء الأخلاق الفاضلة في بنيه بالتربية وفي أهله بالقدوة وفي مواطنيه بالتقليد، فكيف لا يستطيع معلمو المدرسة ووعاظ المسجد ومشرعو البرلمان أن يخلقوا في كل مكان هذه البيئة وتلك الجنة فيصلح المجتمع ويسعد العالم؟
فقلت له وقد أعجبني عقله وأمتعني حديثه: يا سيدي، إن من سعادتك وسعادة الناس بك أنك صاحب عمل لا صاحب علم، ورجل عزيمة لا رجل رأي. ولو كنت من كهنة العلم لصعدت إلى قدس الأقداس وظللت تقرأ الفلسفة والأخلاق لرياضة العقل أو للذة المعرفة أو(234/2)
لشهوة الجدل، ثم رميت الناس من عليا سمائك بالآراء المتعارضة والأحكام المتناقضة لتصطرع في المطابع حيناً ثم تموت في الكتب
لا يزال المربون يا سيدي يجادلون في أغراض التربية ويجربون نظرياتها المختلفة في حقولهم الخاصة. فليت شعري وشعرك أيتاح لهؤلاء في دهر من الدهور أن يقبضوا على أعنة الأمم ويتولوا القيادة في ركب الحياة!؟ أدع الله للناس أن يلهمهم من الحق ما ألهمك، وأن يعلمهم من قواعد الخير ما علمك!
قال صاحبي الثأر وقد شبا وجهه بشي من الإيمان والاطمئنان: وهل تستطيع أن تعد كثيراً من الناس على غرار هذا الرجل؟ فقلت له: يا صاحبي! ليست المسألة مسألة إحصاء وعد، إنما هي مسألة إمكان وواقع. ومتى ثبت أن الأخلاق الفاضلة استطاعت أن تصنع من هذا الرجل هذا المثال، فلم لا تستطيع أن تصنع غراره ملايين من الرجال؟
أحمد حسن الزيات(234/3)
هل الحرب ضرورة؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
- 2 -
ظهور المذهب في الأمة شيء، وشيوع العمل بذلك المذهب شيء آخر
لكن ظهور المذاهب مع هذا لا يخلو من دلالة قوية على طبيعة الأمة ومعدن أخلاقها وطرائق معيشتها، ولو لم يعمل به الناس أو يتقيدوا بأحكامه في الحياة اليومية
فالجنود والفلاسفة ورجال المال وأصحاب التجارات الواسعة موجودون في بلاد الحضارة كافة، وربما تساوت (النسبة) بينهم في العدد والقوة والجاه، ولكن مما لاشك فيه أن البلد الذي (مثله الأعلى) رجل الحرب غير البلد الذي يتخذ له (مثلاُ أعلى) من الرجل الغني أو من الرجل الحكيم أو من الرجل الزاهد. فإذا ظهر في الصين حكيم يوصي الناس بالوداعة وحب السلم وكراهة القتال فليس بالمعقول ولا بالميسور أن يشيع العمل بوصاته حتى يمتنع ظهور الجند ووقوع القتال بين تلاميذه ومريديه؛ ولكن ليس بالمعقول كذلك إن نسوي بين هذا البلد وغيره من البلدان التي يتمنى حكماؤها شيوع الحرب أو شيوع الثروة أو شيوع الزهد والرهبانية، إذ يكفي أن يتمنى الإنسان شيئاً ليكون مختلفاً في تفكيره وشعوره ممن لا يتمنونه وقد يتمنون نقيضه، ولا يسوى بينهم بعد ذلك أنهم يشتركون في عمل واحد يعمله بعضهم مضطراً مسوقاً إليه، ويعمله بعضهم مختاراً شديد الرغبة فيه
لقد أوصى حكماء الصين بالسلام وبغضوا الناس في الحرب وفيمن يجعلها صناعته وهمه وهجيراه، فليس معنى هذا أن حرباً لم تقع في الصين وأن حكيماً لم يظهر بين أهلها يحثهم على الكفاح كلما دعت إليه حاجة أو قضت به مصلحة سياسية؛ فقد ظهر من الصينيين فلاسفة بالغوا في تمجيد الحرب كما يبالغ فيها اليوم فلاسفة المذاهب (الفاشية) أو مذاهب العسكريين. وقال أحدهم وهو (كنج سوف يانج): (إن الأمة التي تجتمع فيها القوة حقيقة أن ترهب وتصبح عظيمة البأس والمهابة؛ أما الأمة التي تلهو بالكلام فهي وشيكة التمزيق. ولو أن ألفاً اشتغلوا بالزرع والحرب وواحداً بينهم أشتغل بنظم القصيد ورواية التاريخ وتنميق الأحاديث لأفسد عليهم أعمالهم أجمعين. . .) إلى أمثال هذا الكلام الذي يخيل إلى قارئه أنه من عربدة المعسكرات لا من نصائح الوعاظ والحكماء(234/4)
ظهر في الصين من قال بهذا وظهر فيها من قال بغيره وهو الفريق الغالب والقدوة العامة المرموقة من الأكثرين، وربما كان ظهور الحكماء المسالمين وانتشار حكمتهم هو الباعث إلى ظهور المخالفين لهم وإغراقهم في دعوة الحرب وآداب القتال، كما يصيح الإنسان ويبالغ في الصياح كلما أحسن أنه ضائع الصوت والصدى محتاج إلى جذب الأسماع ولفت الأنظار؛ وإنما عبرة هذا جميعه أن النيات لها دلالة قوية وليست الدلالة كلها للأعمال والوقائع؛ فإذا رأينا أناساً ينوون السلم ويحاربون فليس بالصحيح أن نسوي بينهم وبين من ينوون الحرب ويحاربون: هم مختلفون وإن تشابهوا في عمل واحد، ونحن رابحون إذا أشعنا دعوة السلم وإن لم يتبعها على الأثر شيوع السلم وبطلان القتال
ومن الأشياء التي لها دلالتها في العصر الحديث كثرة الناعين على الحروب بين الأمم الحرة، وكثرة المنكرين لمظاهر الزهو التي كانت تحيط فيما مضى برجال الفتوح والغزوات، فسيكون لذلك كله أثره كما كانت له دلالته وكانت له دواعيه. وحسبنا أن العمل في هذه الوجهة ليس بالعبث ولا بالعقيم، بل حسبنا أنه واجب محمود، بل حسبنا أنه ليس بذميم، ليكون ذلك من أسباب المضي فيه والإقبال عليه
يقال إن الضراوة ليست من طبيعة الوحش في حالة التأبد والسهولة. ويقول هدسون: إن ألبوما - وهو من أشد السباع الأمريكية - لا يهجم على أحد إلا وهو مدافع عن حياته. ويقول كومستوك: إن الثعابين والدببة وغيرها من السباع لا تتعلم الضراوة إلا حين يظهر بينها الإنسان ويوغل بينها في الصيد والاعتداء والتحرش والإيذاء. وحسبنا من ذلك أن الضراوة ليست أصلاً في الخليقة حتى بين السباع والعجماوات، وإنها ضرورة وليست بشهوة مطلوبة، وأنها تحول إذا امتنعت الضرورة وتغيرت الأسباب. فلا نزعم كما يزعم الفاشيون أن تربية الإنسان على الحرب فضيلة متى ثبت أن الحرب رذيلة ليس عنها محيد: ذلك خطأ لا ريب فيه، لأنه لم يثبت أولاً أن الحرب طبيعية في الأحياء، ولن يثبت بعد ذلك أن الرذيلة تصبح فضيلة مرغوباً فيها متى علمنا أنها عسيرة الاجتناب
ولست أكبر من شأن الدلالة التي أشار إليها الكاتب (الدوس هكسلي) صاحب كتاب الغايات والوسائل حين قال: إن الإنسان في دور الفطرة لم يكن يعرف الحرب على نظامها المعروف بين أصحاب الحضارة، فإن الرجل الذي يحارب ليس بأبشع ولا أقسى من(234/5)
الرجل الذي يقتل بعد تدبير وإصرار؛ ولعله أقل بشاعة وقسوة لأنه يقتل وهو مهتاج مستثار بما يثير الجنود في حومة الصراع. إلا أنني أومن بما تواترت به الآراء عن قلة الضراوة بين الأحياء التي تعيش على الفطرة في حالة التبدي والسهولة، فإن ذلك معناه أن الحرب آفة قابلة للعلاج في زمن من الأزمان، وأنها متى بطلت أسبابها الأولى ووضحت أضرارها الجسام وكثر المصابون بتلك الأضرار خفيت من عالم الإنسان المتحضر كما خفيت من عالم الإنسان الفطري أو من عالم الحيوان
وربما لاح عجيباً للمصريين أن يعلموا أنهم أول أمة في العالم قد اخترعت (فن الحرب) على النظام المعروف؛ فقبل الحضارة المصرية لم تكن حرب منظمة ولا تعبئة مدروسة ولا حركات يتعلمها القادة كما يتعلم صناعته كل ذي صناعة محفوظة الأصول والقواعد؛ وإنما كانت هناك مشاجرات يدخل فيها استخدام السلاح ولا تعتمد في فنون التعبئة على نظام سابق. فما أعجب أن يكون المصريون الموادعون هم اسبق الأمم إلى اختراع فن القتال! وما أعظم ما في ذلك من دواعي التفاؤل عند أناس ودواعي التشاؤم عند آخرين! فأما التفاؤل فذاك لأن هذه العجيبة دليل على أن الحرب ضرورة معيشة في بعض حالات الحضارة الأولى، وليست بشهوة مقرونة بالوحشية التي تناقض الوداعة والمسالمة؛ وأما التشاؤم فذاك أن يقول القائل: هذا شأن الموادعين فكيف بالضراوة المقتحمين؟!
ومع هذا نقول ويقول هكسلي: إن علاج الحرب نفسي وليس باقتصادي على زعم الاشتراكيين أصحاب التفسير المادي للتاريخ، وإن المعيشة تابعة لحالة النفس قبل أن تكون الحالة النفسية تابعة للمعيشة. فهذب الرجل وأصلح من ذوقه وتفكيره ينتقل من منزل إلى منزل ومن حي إلى حي ومن كساد إلى كساد ومن طعام إلى طعام، وهكذا يكون العلاج لآفات الأمم في هذا الزمان
وقد وعدنا في المقال السابق أن نلم بأسباب الحرب الاقتصادية كما يراها مؤلف الكتاب. فأهمها وأسبقها تاريخاً في نظره هو التماس المرعى الخصيب وانتزاعه من أيدي مالكيه؛ ثم تبدل هذا الباعث في زماننا فحل التماس الأسواق محل التماس المرعى الخصيب، وأدى التماس الأسواق إلى إنشاء المصانع في البلاد المستعمرة فقام النزاع بين المصالح في أيدي الأقوياء والضعفاء على السواء(234/6)
ومن أهم أسباب الاقتصادية معامل السلاح ونفوذ المنتفعين بترويج الأسلحة بين المتحاربين. وليس من العلاج الناجع في رأي هكسلي أن تستولي الحكومات على هذه المعامل فتبطل الدعاية للحروب، لأن الحكومات تحتاج إلى المال كما تحتاج إليه الشركات؛ ويزيد على المشكلة مشكلة جديدة وهي أن الحكومات أقوى على الجملة من الشركات
ويمضي الكاتب في سرد أمثال هذه الأسباب مجتهداً في إبراز غرضه الأصيل من كتابة الكتاب وهو تغليب العوامل النفسية على العوامل الاقتصادية وتوجيه الأذهان إلى ابتغاء العلاج الأدبي مع العلاج الاقتصادي في وقت واحد. وخلاصة العلاج الأدبي ترجع بنا إلى مذهب كمذهب أهل الهند أو مذهب المتصوفة القائلين بأن عظمة الإنسان على مقدار استغنائه عن قيود اللذات والشهوات وقيود الأوجاع والهموم، وأن المثل الأعلى في التربية هو الترفع عن الحاجات وليس الخضوع لها والانقياد لغوايتها. أما خلاصة العلاج الاقتصادي فهي العناية بالوسائل الزراعية التي يجريها الدكتور ولكوكس صاحب كتاب (الأمم تعيش على مواردها الداخلية)؛ وفحواها أن الأمة بالغاً ما بلغ عدد سكانها قادرة على استخراج طعامها من أرضها إذا هي عمدت إلى تطبيق بعض الأساليب العلمية التي حققها بالتجربة المشهودة. ويتوقع هكسلي أن طريقة ولكوكس ومثلها طريقة الأستاذ جريك في كليفورنيا ستحدثان في العالم انقلاباً شاملاً لا يذكر إلى جانبه انقلاب الصناعة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلا كما تذكر التوافه واللمم في معرض الأخبار الجسام
وجميع هذه الخلاصات إنما هي فهرس للعناوين يشوق من يعنيه الأمر إلى المراجعة والاستقصاء. فإذا راجع واستقصى علم أن الجزاء أكبر من العناء، وأن من مباحث الزراعيين في عصرنا هذا ما يلذ القارئ كما يلذه البحث في الأدب والفن والفلسفة وأصول العقائد وقوانين الاجتماع، فلا سبيل إلى علاج عالمي يعصف بآفات القرون الأولى ويحيط بعواملها الفكرية والشعورية ما لم يكن مصحوباً بدراسة هذه الشؤون
عباس محمود العقاد(234/7)
ليلى المريضة بالعراق
للدكتور زكي مبارك
- 3 -
. . . في صباح يوم السبت توجهت إلى بهو أمانة العاصمة لأؤدي واجب التحية، تحية العيد إلى وزراء الدولة. وقد ظنني فخامة الرئيس عراقياً، لأني كنت بالسدارة، فسرني ذلك. وكانت فرصة طيبة عيدت فيها على رجال كنت أحب أن أذهب إليهم في منازلهم؛ وراقني أن يعرف العراقيون مكاناً عاماً يلتقون فيه يوم العيد، وهي عادة حسنة كنت دعوت إليها في الرسالة التي قدمتها للمباراة الأدبية الرسمية: رسالة (اللغة والدين والتقاليد)
وتلفتّ فرأيت الدكتور حسين كامل يشير اليّ، وما هي إلا لحظة حتى كانت يد كريمة تصافحني وتقول: أنا الدكتور شوكة الزهاوي رئيس الجمعية الطبية العراقية، وقد سألت عنك مرات لأن أسمك يرد كثيراً في المخابرات التي تجري بيننا وبين الجمعية الطبية المصرية. والحمد لله على أن اهتديت إليك بعد التشوف والاشتياق
ثم أستطرد فقال: إيش لون ليلى؟ (واللون في عرف العراقيين هو الحال في عرف المصريين)
فقلت وأنا أبتسم: ستعرف ذلك يوم ألقي بحثي في المؤتمر الطبي عن ليلى المريضة بالعراق
فقال: عجل بدفع الاشتراك ليحفظ لك مكانك بين الخطباء
فأخرجت ديناراً لم يكن معي سواه وقلت: إليك الدينار في سبيل ليلى! والله المستعان
والظاهر أنه لم يعرف شيئاً عن الرسالة التي كلفت الأستاذ الزيات تبليغها إلى الجمعية الطبية المصرية (ولا تغضب يا صديقي الزيات من كلمة تكليف، فكذلك قلت، وما أكذب عليك)
وفي المساء ذهبت إلى نادي المعارف واشتركت في استقبال الكشافة السورية، وألقيت خطبة تناسب المقام. وما كادت تنقضي الحفلة حتى عدوت إلى منزلي لأنتظر وصيفة ليلى
وجاءت الساعة العاشرة ولم يحضر أحد، فقلت في نفسي: هذا جزاء الفضول!
ثم تذكرت أني أؤدي خدمة وجدانية سيذكرها التاريخ فأنشرح صدري بعض الانشراح(234/8)
وهدأت، ثم أخذت أقلب أوراقي في سكون واطمئنان
وبعد نصف ساعة أحسست يداً رفيقة تطرق الباب، فخففت إليه في وقار مصنوع وفتحته بدون أن أسأل عن أسماء الزائرين. وما الحاجة إلى ذلك وأنا أعرف جوهر الزيارة في نصف الليل؟ وليتها كانت زيارة تذكر بالأيام الخوالي حين كنت أدرس الطب في باريس، وحين كنت أترك الباب بلا رتاج لتدخل الصغيرة المحبوبة حين تشاء
إنها زيارة جرداء ستنقضي في السؤال والجواب، وأنا اليوم طبيب مسؤول عن رعاية الحرمات
دخلت جميلة أولاً، وتبعتها ليلى. دخلتا ملفوفتين، مع أن المرأة جميلة جاوزت الستين؛ وشعرت بشيء من الخجل للفقر البادي في غرفة الاستقبال، ثم تماسكت حين تذكرت أن هاتين المرأتين تفهمان بلا ريب أني طبيب غريب وأن الوقت لم يتسع لتأثيث العيادة والبيت
- يا جميلة، ما أسم هذه الوصيفة؟
- اسمها ظمياء، ولكن ما ذنبي عندك يا دكتور حتى تغير اسمي؟
فقلت: لن أذكر أسمك الصحيح في علاج ليلى، لأني لا أريد أن تغتنمي الفرصة فتصبحي علماً على حسابها يا حيزبون!
وأخذت المرأة في اللجاجة ولكني انصرفت والتفت إلى ظمياء
- إيش لون ليلى؟
- بخير، يا دكتور، وقد سرت في روحها البشاشة منذ الوقت الذي رأتك فيه، ولكن في نفسها منك شيء
فقلت وأنا منزعج: وما هو ذلك الشيء؟ أعوذ بالله من كيد الشياطين!
فأجابت: كتب إليها كثير من أدباء مصر يؤكدون أنك أديب ولست بطبيب
فقلت: هؤلاء دساسون، وقد آذوني قبل ذلك أبلغ إيذاء، فقد كنت خطبت فتاة في باريس وطاب لي معها العيش، إلى أن تدخل المفسدون وحدثوها أني متأهل، وأن لي خمسة أبناء. وأنا يا آنستي رجل محسود لا أخطو خطوة إلا وحولي رقباء لا ضمائر لهم ولا قلوب
فقالت: ولكن ليلى رأت في صدور كتبك أنك دكتور في الآداب(234/9)
فقلت: هذا تواضع مني، لأن الطبيب الحق لا يقول إنه طبيب، ومع ذلك فلا بأس من إخبارك بكل الحقيقة لتبلغي ليلى فتطمئن. عندي يا آنستي ثلاث دكتوراهات: الأولى في الآداب، والثانية في الطب، والثالثة في القانون
فتهلل وجه ظمياء وقالت: الآن فهمت ما ينشر في الجرائد من أنك تلقي محاضرات في كلية الحقوق
فقلت: هو ذلك يا آنستي. وستقرئين في الجرائد بعد حين أني ألقي محاضرات في كلية الطب!
والآن ندخل في صحيح الغرض من هذه الزيارة الليلية، ولندرس الموضوع من جميع الأطراف، لأني لا أستريح إلى دعوتكما لزيارتي مرة ثانية، فإن العيون تترصدني من كل جانب، وسمعة الطبيب هي كل ما يملك، وأنت في الحق فتاة حسناء وأخشى أن تحيط بي من أجلك الظنون
فتنهدت وقالت: العفو يا دكتور! إن مرض ليلى هدني ولم يبق مني على شيء
فقلت وقد غاظني أن تحسبني أتغزل: أسمعي، ليس الوقت وقت دلال، أنت هنا في خدمة الواجب، أجيبي على الأسئلة بصدق وصراحة، واحذري عواقب المداورة في الجواب
- هل ترين ليلى امرأة مصونة؟ هل يحيط بسمعتها قليل من الشبهات؟
- ليلى مصونة كل الصيانة يا دكتور، بالرغم من كثرة الحواسد لم تستطع امرأة أثيمة أن تقول في حقها كلمة سوء، فهي مثال الطهر في بغداد، وحديثها كالعطر في جميع أرجاء العراق
- وكم سن ليلى الآن؟ وكيف كان ماضيها في الحياة الزوجية؟
- هي في حدود الأربعين، ولا تزال عذراء
(وعندئذ دونت في مذكرتي أن المرأة التي تصل إلى سن الأربعين وليس لها زوج ولا أطفال معرضة لكثير من الأمراض، وهذه أهم نقطة أعرضها للدرس في المؤتمر الطبي)
ثم رفعت بصري إلى ظمياء وقلت: ولكن كيف أتفق أن تعيش ليلى كل هذا العمر عذراء؟
فتلجلجت الفتاة ثم لاذت بالصمت، فنهرتها بعنف، فأجابت وما تكاد تبين:
- كانت تحب الضابط عبد الحسيب(234/10)
- ومن هو الضابط عبد الحسيب؟
- فتى كان في الجيش العراقي وأبوه من مصر وأمه من لبنان
(للحديث بقية)
زكي مبارك(234/11)
ضبط النفس
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
علمتني الحياة ضبط النفس، والحياة مع الأسف مدرسة ولكنها فيما يبدو لي عقيمة، فإن الدروس فيها لا تنتهي، ولا يكاد المرء يظن أنه حذق بعضها وآن له أن ينتفع بما تعلم منها حتى تسلمه الأقدار إلى العفاء! ففيم كان طول التتلمذ هذا؟ وما خيره إذا كان العمر ينتهي به؟ وما الفرق إذن بين الجهل والعلم والطيش والحكمة؟ ولماذا يعني المرء نفسه بالنظر والتدبر والتحصيل؟؟
قلت هذا مرة لصديق إنجليزي فلم يستغربه، لأنه لا جديد فيه، ولكنه سألني: (أيشق عليك هذا؟) فاحتجت أن أدير عيني في نفسي لأتبين، فما أدري والله أهو يشق أم يهون. ثم قلت له: (لا أظن. . فإني حائر. . أجهل ما تنطوي عليه نفسي. . ولكني أريد أن أفهم وأن أهتدي إلى الحكمة. . . فإني أراني أتعب وأكد في التحصيل والنظر. . . وسأقضي حياتي كلها في هذا، ثم يجيء يوم فأطوى. . . ويطوى معي كل ما تعبت في إفادته ولم أنفع به أحداً. ولو أني كنت أموت ويبقى ما أفدت لأختلف الحال، ولكن عقلي يبطل، وإحساسي ينعدم، فكأني ما عشت ولا كنت. فما هذا الموت الذي تموت به كل المعاني الحاصلة، والحكمة المستفادة، والمعارف والاحساسات؟ هذا هو الذي يثقل علي، وإن كان لا مفر منه. وفي سؤالك ما يشعر أنك لا تستثقله كما أفعل، وهذا راجع إلى طبيعة المصري، فأنها غير طبيعتكم. نحن المصريين يختلط في نفوسنا الشعور بالحياة بالشعور بالموت، وتفكيرنا في هذه بتفكيرنا في ذاك. حياتنا كلها وآثار آبائنا الأقربين والأقدمين تثبت ذلك، ولكنكم تفكرون في الموت كأنه شيء مستقل عن الحياة، يعترضها ولكنه ليس منها، هو عندكم طارئ غريب. . . أو قل إنكم لا تحسون به كإحساسنا نحن. . .)
وقصصت عليه قصة تجلو فرق ما بيننا وبين الإنجليز في هذا، وتلك أن سيدة استأجرت غرفة في بيتها في لندرة روت لي يوماً أن جارها توفي أبوه، وقالت إنه الآن مسجى على سريره في غرفته ينتظر يوم الدفن، وكان الابن يحب فتاة ويشتهي أن تكون زوجته، وقد تودد إليها وأطلعها على ما يجن لها من الحب وخطبها فشكرته وأسفت واعتذرت، وكان له صديق يحب الفتاة أيضاً وينافسه عليها، وقد ظفر منها بكلمة القبول في نفس اليوم الذي(234/12)
مات فيه أبو صاحبه، فزاره ليعزيه، ثم لم يسعه إلا أن يفضي إليه بما يملأ قلبه من السرور وأن يبلغه أن الفتاة رضيت أن تكون زوجته، فأحتمل الرجل الصدمتين: صدمة الموت وصدمة الحرمان، وتناول زجاجة الويسكي وناول صديقه كأساً وتناول هو أخرى، قالت السيدة: وقد ظلا يشربان إلى الهزيع الثاني من الليل. وقد كانت تروي لي هذه القصة وهي معجبة بسعة صدر ذلك المفجوع في أبيه وفي حبه، وعظم ضبطه لنفسه؛ ولم يكن إعجابها به لأنه أستقبل صديقه وراح يسامره وأبوه الميت لا يزال في البيت فإن الموت مألوف لا جديد فيه، ولا خير من تقطيع القلب حسرات من جرائه، وإنما كان الإعجاب لأنه أحتمل الهزيمة في ميدان الحب على هذا النحو الكريم
مثل هذا لا يمكن أن يحدث في مصر. ولو أن اثنين تنافسا على فتاة، لما كان من سلامة الذوق أن يذهب الفائز بها إلى مزاحمه ليطلب منه تهنئته بذلك ومشاركته في سروره، فإن هذا في عرفنا أشبه بأن يكون شماتة ومكايدة، فكيف إذا كان أحدهما أبوه ملفوف في أكفانه ينتظر أن يحمل إلى قبره؟
وأكثر ما نراه من مظاهر الحزن أو الجزع عندنا من التكلف ولاسيما بين النساء. ولكن لماذا يتكلف المصريون هذا ويحرصون على إبدائه؟ أترى تكلفهم هذا يرجع الأمر فيه إلى الجهل أم إلى شعور بشيء في الطباع؟ لا أدري، ولكن الذي أدريه أن التجلد يكون مما يتحدث به الناس ويلهجون بذكره، كأنما الأصل هو الجزع. وإني لأذكر أني تظاهرت بالاطمئنان، وتكلفت الابتسام لما ماتت أمي، بين يدي، وكنت أخادع أخي وأخادع سيدات كثيرات كن في تلك الساعة في البيت، وقد كرهت أن ينفجرن بالصراخ والعويل واللطم، وأمي بينهن في ثيابها التي كانت تلبسها لما حضرتها الوفاة، فلما عرف أخي ما دبرت ساءه هذا مني وكبر عليه أني زعمت له أنها نائمة وهي ميتة، وأني تبسمت وكان حقي أن أبكي، وبقي أياماً لا يكلمني، وإذا لقيني ترقرقت الدموع في عينيه؛ ولا أدري ماذا كان يجديه أن يعلم أن روحها فاضت قبل ساعة أو بعد ساعة، وأحسب هذا من الحزن، ولم أكن دونه حزناً، بل لعلي أعمق منه حزناً عليها، ولكنه كان عليّ ما لم يكن عليه من الواجبات في تلك الساعة فاحتجت إلى خنق شعوري حتى أفرغ من الأمر على ما أحب
وكانت لي طفلة صغيرة ماتت، فاحتلت حتى استطعت أن أواريها التراب وأمها تعتقد أن(234/13)
بنتها لا تزال على قيد الحياة، وكانت الأم مريضة، وقد أوصاها الطبيب بالتزام السكون واجتناب الحركة والأنفعال، فلم يسعني أن أفعل إلا ما فعلت، وكان هناك عامل آخر غير الموت يزيد في ألمي، وذاك أني موقن أن الإهمال هو الذي جر الموت، والآجال بيد الله، ولكن لكل شيء سبباً، وكانت البنت قد أصيبت بالحصبة، فاحتجنا - لمرض أمها - أن نكل العناية بها إلى خادمة كنا نظنها حاذقة ذكية، فأصيبت البنت بالتهاب رئوي قضى عليها وأودى بها؛ غير أن ما كان كان، ولا حيلة فيه لإنسان. فكظمت غيظي، وكتمت ألمي، وتشددت لأعين الأم المسكينة على الصبر. وجاءني بعض الأصدقاء يعزونني في المساء فألفوني أبتسم وأضحك وأمزح فتعجبوا، ولا محل للعجب في الحقيقة، وأحسب الأمر قد صار عندي عادة وما أظن بي إلا أني أصبحت (كالحانوتي) والمرء مما تعود
ولم أكن هكذا في صغري. وإني لأستحيي أن أقول كيف كنت أحمق طياشاً قليل الصبر سريع التأثر، ولو شئت لقصصت على القارئ مائة حكاية وحكاية، ولكني لا أنوي أن أفضح نفسي، وقد صرت يهون على كل شيء إلا أن يراني الناس لا أملك زمام نفسي، ولا أستطيع ضبطها وكبحها. ومن العسير أن أعرف البواعث التي أغرتني بهذا الكبح وزينته لي حتى أصبحت لا يسخطني شيء كأن يتلفت زمام النفس من يدي. وفي وسعي أن أقول في هذه البواعث، ولكني لا أحسب أني قادر على الإحاطة بها أو مهتد إلى الخفي منها. وما ذكرت الموت إلا لأنه في مصر مما يغتفر الجزع حياله، وإن كان المرء يلقى في حياته ما هو شر منه وأدهى، وقانا الله السوء ولطف بنا. ولم تهن علي الحياة، ولكني مللت طول الحيرة التي يورثنيها النظر في وجوهها وأضجرني العجز عن الاهتداء والفهم، فنفضت يدي يائساً وقلت فليكن ما يشاء الله أن يكون، ولأعش كما يتيسر لي أن أعيش والسلام، ولأدع عناء التفكير والنظر لمن أراد أن يحطم رأسه، فإني أنا لا أشتهي هذا التحطيم، وقد جربته فلن أعود إليه. ومن هنا قلة مبالاتي. وماذا أبالي بالله؟
إبراهيم عبد القادر المازني(234/14)
هل انتهت السياحات والكشوف الظاهرة
في القرن السابع عشر أو بعده؟
للأستاذ أديب عباسي
إذا كتب الأستاذ الكبير - العقاد - أطرف وأبدع، فلا يسع القارئ الذي يصح أن نطلق عليه هذا الاسم إلا أن يقرأ ما كتب الأستاذ. وإذا قرأ له القارئ فلا يسعه إلا أن يقرأ مترفقاً مستأنياً، فليس الأستاذ العقاد بالذي تستطيع أن تقرأ له على الطريقة الأمريكية، طريقة الخطف واللمح والقراءة بالأسطر والفقرات بدل القراءة بالجمل والكلمات. وليس ذلك لإبهام في الرأي الذي يبسط الأستاذ أو التياث في الرأي الذي يشرح، وإنما هو راجع إلى خصلة التركيز الشديد والعمق الصادق التي تتسم بها كل آثار العقاد. وإذا قرأ القارئ الحصيف ما يكتب الأستاذ العقاد هذا النوع من القراءة المتئدة المترفقة فالأرجح أن يخرج مما قرأ له على وفاق معه لا يشوبه تردد الإبهام ولا شك المداورة. ذلك بأن الأستاذ، في صميم ما يكتب، لا يحاول أن يكتب ليفحم، إنما يكتب ليفهم، ويناقش ليقنع لا ليدهش. أقول هذا لمناسبة ما كتب الأستاذ في موضوعي (الحد الحاسم) و (النماذج والأفراد في الأدب) اللذين نشرا في عددي 228 و 229 من الرسالة. هذان المقالان يكادان يكونان نموذجاً لما تتصف به كتابات العقاد من العمق وسلامة المنطق وقوة التوجيه مع الشمول والإحاطة. ومن هنا بادرت أتهم نفسي بالتواء القصد عليها حينما رأيتني أخالف الأستاذ فيما ارتأى ختام موضوعه الثاني فأرى هذا الرأي الذي أبسطه في بقية هذه الكلمة، ولكنني برغم ما اتهمت نفسي واعدت قراءة الموضوع لم أوفق إلى شيء يردني إلى رأي الأستاذ أو يوافق بين رأيه ذاك، ورأيي الذي أبسطه هنا ليتكرم فيصلحه لي، إن رآني مخطئاً، أو يصلح رأيه إن رآني مصيباً
لخص الأستاذ في مقاله الأخير رأياً للأستاذ أدولف وولف في علاقة الديمقراطية والدين بظهور الخصائص المستقلة في الصور الأدبية بعد القرن السابع عشر فقال: (فمنذ أصبح الإنسان فرداً معزولاً في حكم الدين لا اختلاط بين حسناته وسيئاته وبين حسنات الآخرين وسيئاتهم ولا التباس بين ثوابه وثوابهم وعقابه وعقابهم، هنالك أصبحت كل نفس بما كسبت رهينة، وأصبحت كل نفس حقيقة بالمحاسبة والإحصاء والمراقبة، ورسخت جذور(234/15)
الديمقراطية فلم يبق إلا أن تظهر لها على وجه الأرض فروع وأوراق وثمار)
وكان من هذه الفروع - كما يرى الأستاذ - ظهور الخصائص الفردية والسمات المميزة والفوارق القوية في الصور الأدبية الحديثة. هذه الخصائص والسمات والفوارق يجعلها الأستاذ وولف - كما لخصه لنا الأستاذ العقاد - رهناً بظهور التحليل النفسي الذي كان بدوره رهناً بشيوع الروح الديمقراطية والنظر إلى الفرد نظرة خاصة فاحصة، فلا تفنى معالم شخصيته ومظاهر سلوكه في غمار الجمهور والنماذج التقليدية المرسومة. إنما يؤثر الأستاذ العقاد، في ختام موضوعه، أن يرجع التحليل النفسي والديمقراطية معاً إلى شيء آخر (هو انتهاء الكشوف الظاهرة وابتداء الكشوف الباطنة، أو انتهاء السياحات الجغرافية وابتداء السياحات النفسية الإنسانية)
هنا يسمح لنا الأستاذ العقاد أن نخالفه ويسمح لنا أن نسأل: أصحيح أن الكشوف الظاهرة أو الكشوف الجغرافية انتهت في القرن السابع عشر أو حواليه، ومن ثم بدأت الكشوف الباطنة للنفس كنتيجة لانصراف الذهن البشري عن الدراسات والسياحات الظاهرة إلى الدراسات والسياحات الباطنة؟! إنني أشك في صحة هذا الزعم، بل أكاد أنفيه قاطعاً
ليست السياحات الظاهرة وقفاً على الضرب في مجاهل الأرض واكتشاف كل رجأ من أرجائها، وليس الاستشراف للمجهول في خارج حدود النفس الإنسانية قاصراً على الحدود الجغرافية لقارات الكرة الأرضية؛ فهناك السماء بعوالمها الشاسعة، وأكوانها المبثوثة في رحاب الكون وأسرارها المحيرة؛ وثمة الذرة بصفاتها العجيبة وسلوكها الغريب وأسرارها الدقيقة؛ وهناك أمواج الأثير من ضوء وحرارة وكهرباء وأشعة كونية وخلافها؛ وهناك النبات والحيوان؛ وهناك ما يسيطر على كل أولئك من قوانين خالدة وقوى منظمة. أفبعد كل هذه العوالم العجيبة نستطيع أن نقول: لقد انقضى عهد الكشوف الظاهرة في القرن السابع عشر أو انتهى مجالها؟! كلا! والدليل القاطع هذه الكشوف الرائعة التي انتهى إليها الإنسان في سياحاته بين أجواز الفضاء ورحاب الكون أو في حقائق الذرة ومعاقلها المنيعة. ومن يستطيع أن يقول: إن الكشوف الظاهرة التي تمت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداءة هذا القرن في عوالم الطبيعة والحياة تقل روعة وأسراً للخيال وشدها للإنسان عن أروع المغامرات الجغرافية التي تمت في القرن السابع عشر أو بعده؟ ثم هذه الكشوف(234/16)
الجغرافية ذاتها هل انتهت حقاً في القرن السابع عشر؟ أين مغامرات سكوت وشاكلتون وبيرد وغيرهم؟ قد يقال هذه المغامرات منها ما جاء متأخراً ومنها ما لم يقع إلا في أوائل هذا القرن، ولكن هذا في اعتقادي ليس بالشيء المهم، فالتطورات الفكرية والنفسية العامة تحسب بالأجيال والقرون، ولا تحسب بالأيام والشهور والسنين.
وقد يسأل الأستاذ العقاد: إذن بماذا نفسر ظهور الدراسات الباطنة، وما تلاه من تأسيس علم النفس التحليلي الذي تهداه أدباء الأجيال الحديثة في كتابة القصة التحليلية؟ وأجيب أن هذه الدراسات الباطنة للنفس كانت مظهراً عادياً يتساوق مع المظهر العام لنشاط الفكر البشري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فلما كشفت الكشوف الفلكية والطبيعية والكيميائية والفزيولوجية، كشف كذلك الكشوف في مجاهل النفس وخوافي الحس. فمنذ اصطنعت الطريقة العلمية في البحث وأخذ العلماء يجرون على أسلوب المشاهدة والفحص والاختبار اتخذت دراسة النفس خطة منظمة مجدية، فظهر أولا علم النفس العام، وتلاه علم النفس التحليلي؛ ولكننا نعود ونقول: إن هذه الدراسة لم يكن الحافز فيها والباعث عليها انتهاء الكشوف الظاهرة، وإنما كان الحافز عليها اتساع هذه الكشوف وسيرها على خطة علمية منظمة مجدية شملت الجماد والحيوان والإنسان جميعاً. هذا وأحب أن أقرر هنا أن الدراسات النفسية لم تحد ولم تخرج عن حدود الحدس والتخمين وإيهام الفلسفة الذي قيدها من زمن أرسطو، إلا حينما تابع رجالها أسلوب العلم الطبيعي في المشاهدة والاختبار، بل لقد استفادت الدراسات النفسية فائدة مباشرة مما كشفه البحث من العلاقة الوثيقة بين تركيب الجسم الفزيولوجي ومظاهر النشاط الفكري والنفسي. ومن هنا كانت الدراسات النفسية باعتبار الزمن تابعة للدراسات الطبيعية مقلدة لها في أسلوبها مستفيدة من حقائقها. وقد بلغ من اعتماد علماء النفس اليوم على الطريقة العلمية في البحث بحيث غدوا لا يؤمنون بأسلوب الاستبطان والدراسة الذاتية وأضحى همهم أن يدرسوا النفس البشرية دراسة موضوعية مبنية على المشاهدة الظاهرة والاختيار المنظم
وجملة ما نريد أن نقرره هنا أن الكشوف والسياحات الخارجة لم تنته قط في القرن التاسع عشر، بل هي زادت واتسع نطاقها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبداءة هذا القرن إلى الحد الذي يكاد يكظ الأذهان ويتخم الفكر. وإذن ليس صحيحاً أنه جاء يوم انقطع(234/17)
فيه الإنسان الباحث المفكر عن الكشف الظاهر فتسنى له مع ذلك الانقطاع أن ينصرف إلى السياحات الداخلية والكشوف النفسية. والصحيح أن الإنسان الباحث تنبه إلى الكشوف الباطنة لما أرتفع مستوى البحث والتطلع وأتسع نطاقه ومجاله حتى شمل كل موضوعات النظر والبحث وفيها صفات الإنسان النفسية والفكرية.
أديب عباسي(234/18)
الحضارة المصرية في عهد الدولة القديمة
بحث للعلامة الأثري اريك بيت
للأستاذ أحمد نجيب هاشم
جغرافية مصر وأثرها
ليست هناك بلاد يمكن أن يتتبع فيها أثر البيئة في طبيعة أهلها أكثر من مصر. فلفهم الحضارة التي قامت في مصر القديمة يجب علينا أولا أن نصف المظاهر الطبيعية لهذا القطر
تنقسم مصر قسمين لكل منهما ميزات خاصة: مصر العليا، ومصر السفلى. والأولى شريط من الوادي يمتد من رأس الدلتا أو القاهرة الحالية إلى الشلال الأول، وهي مسافة يبلغ طولها 547 ميلا، ولا يزيد عرضها في أي أتساع على أثني عشر ميلا، وقد لا تزيد في جهات على مائة ياردة. ويقع هذا الجزء في منخفض حوالي ثلاثمائة قدم عن مستوى الأراضي المحيطة به. ويرى فريق من الجغرافيين أن النيل هو الذي حفر لنفسه هذا الوادي العظيم أيام أن كانت الصحراء التي تحيط به غزيرة الأمطار. ويقول آخرون: إن هذا الوادي العيبي كان بمثابة الخط الأقل مقاومة للمياه المتجمعة في الجهات المرتفعة في الجنوب
عاش ساكن الصعيد في واد ضيق يحد أفقه من الجانبين صخور جيرية تقع في أعلاها الصحراء، وهي أرض تكاد تكون عديمة الأثر في حياته. وقد قسم المصري الأرض إلى نوعين: الأرض السوداء، وهو أسم أطلقه على وادي النيل بسبب لون تربته الداكن، والأرض الحمراء، وأراد بها الصحراء الرملية. وكانت معرفته بالممالك الأجنبية بسيطة إن لم تكن معدومة، فكان يرمز إليها في لغته الهيرغليفية كأنها بلاد جبلية بالنسبة لسهل مصر المستوي. وأتخذ المصري مجرى النيل مرشداً له في غدواته وروحاته، فالشمال عنده هو الجهة التي يجري إليها النهر، والجنوب الجهة التي يجري منها. فكان يقول صعد أو نزل مع النهر بمعنى سار جنوباً أو شمالاً، وعلى ذلك لما بلغ المصري نهر الفرات ببلاد العراق سمى ذلك النهر بذي المياه المنعكسة المجرى التي تنزل مع النهر أي تسير جنوباً بدلاً من(234/19)
أن تجري شمالاً. وليس هناك ما يدل على عزلة المصري القديم من اعتقاده هذا
أما في الدلتا فقد كانت الأحوال مختلفة كل الاختلاف إذ أن هذا المثلث المستوى والذي هو حديث التكوين نسبياً يكاد يكون خالياً مما يحدد أفق سكانه. ولابد أنه ظهر لهم كأنه سهل متسع يمتد حتى الأفق في كل الجهات لا تتخلله تلال ولا مرتفعات؛ بيد أن شروط العمل على الأرض كانت شبيهة بدرجة كبيرة بمثيلتها في الصعيد
ولا ريب أن أتساع الأفق أمام سكان الدلتا وانعدام صخور الصحراء مما بث شعور الحرية في كل جهة، أنتج على عقولهم نتيجة مخالفة. وكان من سوء الحظ أن رسوب غرين النيل في الدلتا مضافاً إليه حاجة الزراعة جعلت أغلب المدن الفرعونية القديمة وراء علم الباحث، ولذا لا يمكننا أن نقدر الدور الذي لعبه في تطور التاريخ المصري القديم
أما من حيث الجو فمعروف أن الوجهين البحري والقبلي يتمتعان بجو جميل على العموم، ويسقط المطر في الدلتا ويكاد ينعدم في الصعيد، وقد ينهمر عليه سيل غزير مرة في كل عشر سنوات
وتشتد الحرارة في الصعيد وتزداد شدتها كلما اتجهنا جنوباً. هذه هي أهم المظاهر الطبيعية لمصر، ولا يقل عنها أهمية موقعها الجغرافي، وهي تحمي مدخل أفريقية ضد الغزو من جهات أسيا الغربية، فقد كانت تلك الأجزاء على الدوام مركزاً للاضطرابات التي كانت أحياناً تشتد جداً إذا كان سكانها يميلون إلى الهجرة إلى دلتا مصر الخصبة، وتكررت غزواتهم وكان لكل نتائج وقتية. ولا شك أن هذه الغزوات حالت دون الاطراد في تقدم مصر. ففي كل مرة خرجت فيها مصر من الضربة التي أصابتها استنفذ هذا الخروج كثيراً من نشاطها، وكان من الممكن أن تستنفذه في نيل تقدم حقيقي
ولم تكن الدلتا أسلم في جهة الغرب منها في جهة الشرق، فهناك عاشت قبائل ليبية لم تقتصر في سكناها على الإقليم الساحلي، بل نزلت أيضاً في الواحات التي تمتد جنوباً داخل أفريقية؛ وربما استولى بعضها فعلا على الجزء الغربي من الدلتا في عصر ما قبل الأسرات. وعلى كل حال كانت هذه القبائل الليبية طول التاريخ المصري القديم تنتهز ضعف الحكومة في مصر أو قيام نزاع داخلي فيها فتنقض على الأراضي الخصبة التي اعتقدت إنها ميراثها القديم(234/20)
أما الصعيد فلم تهدده غزوات تقريباً؛ إذ ليس له جيران في الشرق ولا في الغرب؛ ثم إن الصحراء نفسها كانت بمثابة سد منيع ضد أي إغارة من الجهتين
أما من جهة الشمال والجنوب فقد كان من السهل الدفاع عن البلاد بمقدمة حربية لا تزيد على ميل أو ميلين بل لا تزيد أحياناً على بضع مئات من الياردات
وكانت الدلتا من جهة الشمال سداً منيعاً ضد غزو الأسيويين من الشرق والليبيين من الغرب
أما من جهة الجنوب فإن القبائل المتوحشة في النوبة العليا والسودان لم تزعج مصر إزعاجاً يذكر إلا في عهد الفاتح بعنخي في القرن الثامن قبل الميلاد
على ذلك نرى الأحوال في الصعيد كانت تنعم بالاستقرار الذي كان ينقص الدلتا. وفي كل مرة تقع فيها الدلتا فريسة للغزو الأجنبي نرى الصعيد ينجو منها ويصل تقدمه السياسي والاجتماعي، بل يكون على استعداد عندما تتخلص البلاد من غزاتها الأجانب أن يعيد المياه إلى مجاريها في الداخل والعمل على توسيع ملكها في الخارج
مصر قبل الأسرات
كانت مصر العليا والنوبة قبل قيام الأسرة الأولى في يد جنس واحد له مدنية واحدة ونسميه شعب ما قبل الأسرات. ولا يزال البحث العلمي يكشف لنا شيئاً عن هؤلاء القوم الذين يمكننا أن نتبع حوادثهم في مقابر البدارى، وعندما نسمع عنهم لأول مرة لا نراهم متوحشين بل نجدهم قد عرفوا النحاس ولهم فنونهم وحرفهم؛ وأهم من كل هذا أنهم عرفوا الزراعة واشتغلوا بها
وهذه الحقيقة الأخيرة هي أساس فهم حياة مصر الاجتماعية، فنظامها قائم على الزراعة - ولا نعرف أين نشأت لأول مرة بل ليس من المؤكد أيضاً أنها ظهرت في تلك الجهات مثل وادي النيل أو الفرات حيث الظروف أكثر مناسبة لها، وإنما يمكننا أن نقول إن الزراعة وما تطلبته من صناعات تقدمت بسرعة بعد أن قامت في مصر وأخذت تؤثر في أخلاق الناس ونظمهم
أما الصيد وهو إحدى الوظائف الثلاث الهامة التي أشتغل بها الإنسان الأول فلم يلعب دوراً هاماً في الحياة المصرية. نعم يرجح أن الصحراء التي تقع على جانبي وادي النيل كانت(234/21)
تأوي كثيراً من الحيوانات المتوحشة، فهناك لوحة يرجع تاريخها إلى ما قبل الأسرات عن حملة منظمة أرسلت لصيد الأسود. ثم نرى في مقابر أشراف المصريين القدماء طول مدة تاريخهم مناظر تمثل أصحابها وهم يقومون بحملات لصيد الأسود والفهود والوعول مستعملين لذلك السهام. على أن الصيد كان ولا يزال عندهم وسيلة من وسائل الرياضة عند الأشراف ولم يتخذه الأهالي وسيلة للارتزاق؛ فإن هؤلاء كانوا يحصلون على حاجاتهم من اللحوم من طيورهم وحيواناتهم المستأنسة. وفي الوقت نفسه يظهر أن صيد الوعول وغيرها من حيوانات الصحراء الصغيرة التي تربى وتسمن وتقدم على المائدة مع (الدواجن المألوفة) كان ذلك من الأشياء التي تمارس لتكون مرتزقاً
أما الطيور والسمك فقد كانت برك الدلتا ملأى بكثير منها، وكانت تصاد بشباك ثم تربى للأكل. وقد عثر على بقايا الفخاخ التي كانت مستعملة لذلك. والمقابر ملأى بالرسوم التي تمثل الطيور
وقد أتخذ النبلاء صيد الطيور وسيلة للرياضة أيضاً فترى من هذه الرسوم صوراً تمثل النبيل في قاربه المصنوع من البردي وهو يصيب الطير بعصاه
وقد أولع المصريون بصيد السمك إذ كان طعاماً أساسياً للأهالي. وكان الصياد يصيده بالشص؛ أما النبيل الذي يتخذ هذا الصيد وسيلة من وسائل الرياضة والتسلية، فقد كان يصيده برمح. وقد كانت هذه الطريقة في الأصل مستعملة في عصر ما قبل الأسرات كما يستدل على ذلك من الحراب المصنوعة من العظام والنحاس التي عثر عليها الباحثون
هكذا لم يكن المصريون الأوائل صيادين بمعنى الكلمة فلم تدفعهم الحاجة إلى تتبع فريستهم مما يجعل شعب الصيادين متنقلاً غير مستقر، فقد يفر الأسد وعجل البحر أو الفيل من الصعيد إلى النوبة ثم إلى السودان ولكن المصري لم يحاول أن يقتفي أثرها
قد يختلف علماء الأنتربولوجيا في النقطة الآتية: هل من الممكن لشعب أن ينتقل من طور الصيد إلى طور الزراعة دون أن يمر بطور الرعي؟ ولكن هذه المسألة لا تعنينا هنا فإننا نجد في مصر في عهد ما قبل الأسرات، الزراعة والرعي قائمين جنباً إلى جنب
ولهذا السبب لا يمكننا أن نعتبر المصريين قوماً رعاة بمعنى الكلمة، وليست مصر على أي حال بلاداً من طبيعتها الرعي. أجل قد يكون من الجائز أن الزراعة لم تشمل كل البلاد في(234/22)
الزمن العريق في القدم، وأنه كانت هناك أرض مغطاة بالأعشاب مخصصة للماشية. على أي حال فإن أراضي الرعي في عهد الدولة القديمة كانت قليلة في الصعيد لدرجة كبيرة حتى اضطر القوم أن يرسلوا ماشيتهم في عهدة رعاة إلى الدلتا مدة أشهر الصيف. ولعل هذه الحال تغيرت فيما بعد وأصبحت كما هي اليوم حيث تربي الماشية على علف خاص يزرع لها
أستأنس المصريون قليلاً من الحيوانات منها الماشية التي اتخذوا منها اللبن وزودت الأغنياء باللحوم وأستعملها فوق ذلك وسيلة من وسائل النقل. وإن أهم حيوان في هذه الناحية كانت الإبل. أما الغنم فلم تقتصر الفائدة على لحومها بل كانت هامة أيضاً لأصوافها؛ ثم استعملت الخنازير فيما بعد (للدوس) فوق البذور بعد بذرها
ومن الحيوانات التي استأنسها المصريون الجدي والكلب السلوقي والقط؛ أما الحصان فلم يعرف إلا بعد دخول الهكسوس مصر. وكذلك ظل الجمل مجهولاً حتى عهد اليونان
وكان للثور أهمية كبيرة كأهمية الجاموسة في العصر الحالي. وكان الفلاحون يعملون على تسمينه بإعطائه خميرة من العجين إذا قل غذاؤه الطبيعي. وكان الرجال يحلبون البقر بدلاً من أن يقوم النساء بهذه العملية
وترى في النقوش التي تمثل لنا حياة المصريين (جنباً إلى جنب) مع الحيوانات المستأنسة صورة غزالة خجلة، وكانت هذه من الأطعمة الفاخرة للأغنياء وقد عملوا على تسمينها بإعطائها خميرة - كما كان الحال مع الماشية - وليس هناك ما يدل على أنها ربيت، بل يرجح أنها كانت تصاد من الصحراء بشباك أو فخاخ
ولم يستأنس المصريون الطيور إذ كانت برك الدلتا ملأى بالبط على أنواعه، وأدرك القوم أن صيدها بالشباك وتسمينها في مدة قصيرة قبل ذبحها للأكل أوفر لهم من الإنفاق عليها لاستئناسها
وهنا يجب أن نذكر أن الدجاج لم يعرفه المصريون حتى عهد الدولة الحديثة عندما عادت إحدى حملات تحوتمس الثالث بأشياء عجيبة من بينها طيور (تبيض كل يوم بيضة)
على أن الزراعة كانت أهم ما أشتغل به أكثر المصرين على الأقل في فترات معينة من السنة، فقد كان النيل كريماً من ناحية وقاسياً من ناحية أخرى على البلاد: فهو كريم بما(234/23)
يجلبه من غرين يلقيه على تربة الأرض فيجعل السماد غير ضروري تقريباً، وهو قاس لأنه بمجرد أن يتم فعل هذا يأخذ في الانخفاض فيصعب على الفلاح أن يروي أرضه منه. وإذا كانت مصر شحيحة الأمطار كانت سعادتها متوقفة على نشاط الزراع ومجهودهم في رفع المياه من النهر وتسييرها في قنوات وترع إلى أرضهم. والغريب أن الطريقة التي استعملوها لذلك هي نفس الطريقة التي يستعملها الفلاح اليوم أي بالشادوف
أهم المحصولات
كانت أهم المحصولات في العصر القديم والقمح والكتان؛ وكانت طرق الزراعة غاية في البساطة، فحينما ينخفض ماء النيل يحرث الفلاح الأرض بمحاريث من الخشب كان يجرها في عصر المملكة القديمة الثيران، ثم يبدر الحبوب وتدوسها الغنم كي تغرسها في الأرض (وقد استخدمت الخنازير فيما بعد في هذه العملية) ثم يلي ذلك أسابيع يقضيها الفلاح في العمل بنشاط أمام الشادوف. فإذا طاب الزرع حصد الفلاح القمح وترك العيدان في الأرض، ونقل القمح المحصود في شكل حزم على الحمير إلى الجرن، وهناك تدوسه الحمير والماشية، ثم يذرى في الهواء بمذراة من الخشب فينفصل التبن عن القمح (الحب) ثم يوضع القمح في الزكائب وينقل إلى مخازن خاصة تتكون من بناء من اللبن كالقباب له فتحة صغيرة في أعلاه يصب القمح منها، وفي أسفل البناء باب لسحب الغلال حسب الحاجة. وكان الكاتب يشرف على هذه العملية فيدون في لفائف ورق البردي التي يحملها ما يخزن من الغلال زكيبة زكيبة وما يخرج منها
وقد استعمل الشعير والقمح في صنع الخبز وعمل الجعة. وزيادة على هذه المحاصيل كانت هناك نباتات أخرى أهمها الخضر المختلفة وخصوصاً البصل، وكان غذاء أساسياً؛ ثم فواكه كثيرة أهمها التمر والتين والعنب، وكانت تكثر زراعته في الدلتا، وقد صنع المصريون من التمر نوعاً من النبيذ والعرق
توحيد القطرين
كانت مصر قبل الأسرة الأولى منقسمة إلى مملكتين منفصلتين: مملكة الوجه القبلي ومملكة الوجه البحري. وكانت هاتان المملكتان مقسمتين إمارات لكل منها طوطم خاص كان بمثابة(234/24)
علم الإمارة الذي كان يحمل أمام رئيسه. ومما لا شك فيه أن بعض هذه الرموز كانت اسماً للمقاطعة باللغة الهيرغليفية، وكان البعض الآخر رموزاً للقبيلة؛ ومن هذه الرموز ما هو في شكل حيوان كالأرنب والوعل
ويعتقد العلماء أن أصل هذه الرموز راجع إلى إن مصر كان يسكنها في وقت ما قبائل مستقلة، كل قبيلة ترمز لنفسها بنوع خاص من الحيوانات أو النباتات يكون معروفاً لجميع أهلها ويميز كل قبيلة من غيرها
وحدث قبل قيام الأسرة الأولى أن انضمت قبائل الوجه القبلي وكونت مملكة واحدة، وكذلك فعلت قبائل الوجه البحري ثم قامت محاولات لتوحيد القطرين، وتم ذلك على يد رجل واحد عرف باسم مينا. ويرجح أنه بقيام الأسرة الأولى انتهى الدور الطوطمي بمدلولاته الاجتماعية؛ وأهم ما تركه من آثار مجموعة الآلهة التي في جسم إنسان ورأس حيوان مثل تحوتي ورمز له بطائر أبي منجل، وسبك ورمز له بالتمساح، وحوريس ورمز له بالصقر
كان اندماج القبائل في كل من الوجهين القبلي والبحري أمراً طبيعياً، لأن انتشار الزراعة أدى إلى الرغبة في الاستقرار وإدراك المصلحة المشتركة؛ أما انضمام الوجهين إلى بعضهما فقد كان أقل ضرورة، إذ كون كل منهما وحدة جغرافية قائمة بنفسها؛ ولذلك يرجح أن هذا الضم تم على يد رجل ذكي دفعته أطماعه إلى ذلك. هكذا استطاع مينا أن يوحد القطرين وأصبح الميدان حراً لظهور شعور قومي. ومع أن المصريين حافظوا على ذكر هذا الضم وحرصوا على إظهاره في ألقاب الملك وفي أسماء دواوين الحكومة إلا أن الاندماج كان في الواقع تاماً وأبدياً فأصبحت مصر منذ ذلك الوقت - عدا فترات الفوضى القصيرة - مملكة واحدة
(البقية في العدد القادم)
أحمد نجيب هاشم
أستاذ بمعهد التربية للبنات(234/25)
نجوى للشمس الغاربة
للكاتب الفنان الفرنسي (بيير لوؤيس)
للأستاذ خليل هنداوي
أركاس - أيتها الغادة ذات العينين السوداوين. . .
ميلينا - لا تمسني!
أركاس - لن أمسك، وإنما سأظل بعيداً عنك يا أخت أفروديت! أيتها الغادة ذات الغدائر المدلاة كالعناقيد، إنني أقف على حافة الطريق لا أستطيع أن أتزحزح عنه لا إلى من ينتظرونني ولا إلى من غادرتهم
ميلينا - اذهب! إنك تنطق عبثاً، يا راعياً بدون قطيع! ويا سارحاً في الطرق المبهمة! إذا لم تستطع أن تتبع الطريق فخض خلل الحقول، ولكن لا تدخل في حقلي يا من لا أعرفك. أذهب وإلا دعوت. . .
أركاس - ومن عسى تدعين في هذه العزلة؟
ميلينا - الآلهة الذين ينتظرونني
أركاس - آه أيتها الغادة الصغيرة! إن الآلهة هم أبعد عنك مني الآن. ولو أنهم كانوا حولك لما منعوني أن أقول لك إنك جميلة. إنهم يباهون فخورين بوجهك لأنهم يعلمون أنه أثر رائع منهم
ميلينا - أسكت أيها الراعي وأبرح هذا المكان فإن أمي منعتني أن أسمع أية كلمة من رجل. إنني هنا أرعى نعاجي حتى غروب الشمس. لا أريد أن أسمع أصوات الفتيان العابرين الطريق مع ريح المساء.
أركاس - ولماذا؟
ميلينا - لا أعلم السبب، ولكن أمي تعلمه خيراً مني. . . لم يمر علي ولادتي فوق هذا السرير القائم من أوراق الشجر إلا ثلاثة عشر عاماً؛ وإني سأكون غبية جاهلة إذا أغفلت عمل ما تطلبه مني أمي.(234/26)
أركاس - إنك لم تفهمي أيتها الصغيرة عن أمك الحسنة العاقلة المحترمة. . . إنها حدثتك عن الرعاع الذين يعبرون البراري والعقد في أذرعهم والسيوف مشهورة بأيديهم. إن هؤلاء لئام بالنسبة إليك لأنك ضعيفة وهم أقوياء. وهم في الأقطار التي نزلوها ذبحوا عذارى كثيرات لهن مالك من الجمال. ولو رأوك لما أشفقوا عليك. ولكن مثلي أي شر يحمله لك؟ ليس لي إلا جلد على كتفي وخاتم في يدي. حدقي في مليا، هل ترينني مرعباً؟
ميلينا - لا أيها الراعي، إن كلماتك عذبة سوف أصغي إليها طويلاً. ولكن الكلمات الأعذب هي الأغدر عندما يتوجه بها رجل إلى واحدة منا
أركاس - وهل إلى جواب من سبيل؟
ميلينا - بلى!
أركاس - بماذا كنت تحلمين تحت الزيتونة السوداء خلال عبوري؟
ميلينا - لا أريد أن أقول
أركاس - أعرف ذلك
ميلينا - قل إذن
أركاس - إذا أذنت لي بالدنو منك وإلا لبثت صامتاً، لأنني لا أستطيع أن أقول إلا همساً. لأن هذا سرك لا سري. إنك تريدين أن أقترب منك وأن أتناول يدك
ميلينا - بماذا كنت أحلم؟
أركاس - بنطاق العذراء!
ميلينا - آه! من قال لك؟ هل قلت ذلك عالياً؟ هل أنت إله أيها الراعي فتقرأ ما يرتسم من بعيد في عيون الفتيات؟ لا تنظر إلي هذه النظرة ولا تحاول أن تقرأ ما أفكر فيه الآن. .
أركاس - إنك تحلمين بنطاق العذراء وبذلك المجهول الذي سيحله بمثل هذه الكلمات العذبة التي رحت تخشينها. . . فهل تكون إذ ذاك هذه الكلمات غادرة؟
ميلينا - إنني لم أسمع أبداً مثلها
أركاس - ولكنك تسمعين كلماتي وترين عيني
ميلينا - لا أريد أن أراهما
أركاس - إنك تنظرينهما في حلمك(234/27)
ميلينا - أيها الراعي. . .
أركاس - عندما آخذ بيدك لماذا تجفين؟ وعندما يلتف ذراعي على صدرك لماذا تنحنين؟ ولماذا يبحث رأسك الضعيف عن ذراعي؟
ميلينا - آه أيها الراعي
أركاس - كيف تكونين عارية هكذا بين ذراعي إذا لم أكن بعلك؟
ميلينا - لا لا، إنك لن تكونه. دعني وحدي، إن أحشائي ترعد من الخوف فأذهب عني! إنني لا أعرفك. دعني! إن يدك تؤلمني، لا أريد
أركاس - لماذا تتكلمين بلهجة أمك؟
ميلينا - ليست أمي هي التي تكلمك وإنما أنا! إنني عاقلة فاتركني أيها الراعي. إنني لأستحيي أن أفعل ما فعلت (تاييس) أو (فيليرا) أو (كلوا) اللواتي لم ينتظرن ليالي أعراسهن
أركاس - ولماذا؟ وما عسى أن أصنع لك؟. . . على أنني أهجرك وأتركك وحيدة. أذهبي! لماذا لا تذهبين؟
ميلينا - ذرني أذرف الدمع
أركاس - أتخالين أنني أحبك حباً ضعيفاً يأذن لي بتركك وحدك؟ وهل كنت أتكلم من بدء إصغائك إلي لو لم أطلب إليك إلا لحظة سرور قد تستطيع أن تمنحني إياها كل الراعيات؟ ألم تعلمك عيناي شيئاً؟ ولكنك لا تنظرين فيهما، في عيني. . إنك توارين عينيك وتبكين. . .
ميلينا - بلى!
أركاس - إذا شئت فإني أسفح على قدميك حياة كلها حب وكلمات عذبة، وألف بذراعي جسدك، وألقي رأسي على صدرك، وفمي على فمك، وأنت تحلين غدائرك المعقودة لتغمري قبلاتنا بالعطف والرقة
اسمعي! إذا شئت أقمت لك كوخاً أخضر الأفياء من الغصون الزاهرة والأعشاب الندية تصيح خلالها الصراصير الشادية ذات الألوان الذهبية اللامعة. هنالك تقلقين عليّ كل الليالي، وعلى السرير الأبيض الذي يغطيه جلدي الممدود سيخفق قلبانا إلى الأبد قلباً على(234/28)
قلب
ميلينا - آه دعني أذرف الدمع أيضاً!
أركاس - بعيدة عني؟
ميلينا - على ذراعيك، وفي عينيك
أركاس - يا محبوبتي! المساء يلف الكون، والنور يتوارى كأنه كائن مجنح نحو السماء، والأرض قد غمرها الظلام، ولا يرى في الأعلى إلا طريق المجرة الطويلة التي تسطع كنهر من النجوم حول حقلنا. ما أشد هذا الستار اللامع!
ميلينا - إنه لامع جداً. قدني إلى حيث تشاء!
أركاس - تعالي! فالغاب الذي نجوس خلاله بين الغصون الحانية هو غاب عميق، حتى الإلهات يخشين سلوكه في النهار. هنالك لا يرى - على طرقه - من يتبع خطوات الجنيات. هنالك لا يرى - بين أوراقه - العيون الخضراء واقعة على عيون الرجال الخائفة. ولكنا لن نخاف ما دمنا معاً أنت وأنا. . .
ميلينا - لا. . . إنني أبكي بالرغم مني، ولكني أحبك وأتبعك. إن إلهاً في قلبي. حدثني. . . حدثني أيضاً. إن إلهاً في صوتك
أركاس - أسدلي غدائرك على عنقي، وأرخي ذراعك حول أزاري، وضعي خدك على خدي. خذي حذرك، هنا حجارة وصخور؛ واخفضي عينيك، هنا جذور؛ والأعشاب لها حفيف خفيف تحت أقدامنا العارية؛ والثرى ندى، ولكن صدرك حار تحت يدي
ميلينا - لا تبحث عن صدري فإنه صغير، ليس بجميل. في الخريف الغابر لم أر منه إلا ما رأيته يوم ولادتي. . . إن صويحباتي يسخرن مني. ولكن في الربيع وجدته ينمو مع براعم الأشجار. لا تدغدغه هكذا. إنني لا أستطيع أن أمشي
أركاس - تعالي، نحن هنا في الظلام، لا أرى وجهك. نحن هنا شيء لا هو أنا ولا هو أنت. لا تعطني شفتيك. أريد أن أرى عينيك. تعالي إلى هذه الشجرة الكهلة التي تسطع تحت رواء القمر. إن ظلها يزحف نحونا فاتبعيه. . .
ميلينا - إنه ظل ضخم كالقصر
أركاس - قصر عرسك الذي تتفتح أبوابه لنا في أعماق الليلة السرية(234/29)
ميلينا - أسمع ضجة، هذا حفيف النخيل
أركاس - النخيل النامي في موكب العرس
ميلينا - وهذه النجوم
أركاس - إنها المشاعل
ميلينا - وهذه الأصوات
أركاس - هي الآلهة
ميلينا: أيها الراعي! دخلت هذا المكان عذراء (كأرتميس) التي تضيء لنا بعيداً خلل الغصون السوداء والتي قد يمكن أن تسمع عهودنا. فلا أعلم هل أحسنت صنعاً في أتباعك حيث سلكت. ولكن نفخة في صدري، وروحاً ولدها صوتك، إنك منحتني السعادة كشيء خالد بإعطائك إياي يدك
أركاس - أيتها الغادة ذات العينين السوداوين. لا أبوك ولا أمك هيئا اتحادنا بغناك أو غناي. إننا فقيران فنحن إذن حران. وإذا كان أحد سهل قراننا هذا المساء فهم آلهة الأولمب الذين يحرسون الرعيان!
ميلينا - يا زوجي، قل لي ما اسمك؟
أركاس - اسمي أركاس. وأنت ما اسمك!
ميلينا - اسمي ميلينا. . .
خليل هنداوي(234/30)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 19 -
بين الرافعي وطه (2)
لم تكن بداية هذه المعركة تنذر بما آلت إليه، فما كانت في أولها إلا خصومة بين مذهبين في الأدب وأسلوبين في الكتابة، فما لبثت من بعد أن استحالت إلى حرب شعواء يتقاذف فيها الفريقان بألفاظ الكفر والظلال والإلحاد والغفلة والتعصب والجمود، وانتقلت من ميدان الأدب واللغة إلى ميدان الدين والقرآن، ثم إلى ميدان السياسة والحكومة والبرلمان، ثم إلى ميدان القضاء. والدكتور طه رجل لا تستطيع أن تفرق بين مذهبه في الأدب ومذهبه في الدين، ولا بينهما وبين مذهبه في السياسة. والرافعي رجل كان لا يفرق بين الدين والأدب، ولا يعرف شيئاً منهما ينفصل عن شيء أو يتميز منه، ولكنه في السياسة كان يتحلى بفضيلة الجهل التام، فلا تعرف له رأياً في السياسة تؤاخذه به أو تناقشه فيه، لأنه كان لا يعرف من السياسة إلا حادثة اليوم بأسبابها، لا بأصحابها. وكم جر عليه هذا الجهل السياسي من متاعب! وكم ألصق به من تهم! ولكنه هنا كان من عوامل توفيقه في هذه المعركة
في سنة 1925 كانت الحكومة للأحرار الدستوريين ولأصدقائهم. والأحرار الدستوريين حزب طه حسين، نشأ بينهم ووقف قلمه على الدعاية لهم. فلما رأى علي ماهر باشا أن يضم الجامعة المصرية إلى وزارة المعارف، أنضم معها الدكتور طه حسين أستاذ الأدب العربي بالجامعة.
ومضى الدكتور طه يحاضر طلابه في كلية الآداب محاضرات في الأدب الجاهلي، على الأسلوب الذي رآه لهم؛ فلما استدار العام جمع طه محاضراته في كتاب أخرجه للناس باسم (في الشعر الجاهلي)؛ وقرأ الناس كتاب الدكتور طه حسين بعد أن سمعه طلابه منجماً في(234/31)
كلية الآداب، فقرءوا رأياً جديداً في الدين والقرآن رجح ما كان عندهم ظناً بالدكتور طه حسين وكتاب السياسة الأسبوعية. فقال الأكثرون من القراء: هذا كفر وضلال. وقالت طائفة: هو خطأ في الفكر وإسراف في حرية الرأي. وقال الأقلون: بل هو الأسلوب الجديد لتجديد الآداب العربية وتحرير الفكر العربي. وظل الرافعي ساكتاً، إذا لم يكن قد قرأ الكتاب بعد، فما نبهه إلى خطره إلا مقالان نشر أحدهما الأستاذ عباس فضلي القاضي في السياسة الأسبوعية، وكتب ثانيهما الأمير شكيب أرسلان في كوكب الشرق، فكان فيهما الإنذار للرافعي بأنه قد آن أوانه. . .
وانتضى الرافعي قلمه وكتب مقاله الأول فبعث به إلى جريدة (كوكب الشرق)، ثم مقالات ثلاثاُ بعده، ولم يكن قد قرأ الكتاب ولا عرف عنه إلا ما نشرت الصحف من خبره؛ فكانت المعركة بذلك في ميدانها الأول: خصومة بين مذهبين في الأدب وفي الكتابة وفي طرائق البحث. على أن الرافعي لم ينس في هذه المقالات أن له ثأراً عند طه، فجعل إلى جانب النقد الأدبي في هذه المقالات شيئاً من أسلوبه المر في النقد، ذلك الأسلوب الذي لا يريد به أن يفحم أكثر مما يريد أن يثأر وينتقم. ثم تلقى كتاب الدكتور طه حسين فقرأه، فثارت ثائرته لأمر جديد. . .
لقد كان شيئاً منكراً أن يزعم كاتب أن له الحق في أن يتجرد من دينه ليحقق مسألة من مسائل العلم، أو يناقش رأياً من الرأي في الأدب، أو يمحص رواية من الرواية في التاريخ؛ لم يكن أحد من كتاب العربية ليترخص لنفسه في ذلك فيجعل حقيقة من حقائق الدين في موضع الشك، أو نصاً من نصوص القرآن في موضع التكذيب؛ ولكن الدكتور طه قد فعلها وترخص لنفسه، ومنح نفسه الحق في أن يقول قالةً في القرآن وفي الإسلام وتاريخ الإسلام؛ وقرأ الرافعي ما قال طه، فغضب غضبته للدين والقرآن وتاريخ المسلمين، ونقل المعركة من ميدان إلى ميدان. . .
وكان طه في أول أمره عند الرافعي كاتباً يزعم أن له مذهباً جديداً في الأدب، فعاد مبتدعاً مضلاً له مذهب جديد في الدين والقرآن؛ فكما ترى البدوي الثائر لعرضه أن ينتهك، كان الرافعي يومئذ؛ فمضى يستعدي الحكومة والقانون وعلماء الدين أن يأخذوا على يده ويمنعوه أن تشيع بدعته في طلاب الجامعة. . . وترادفت مقالاته ثائرةً مهتاجة تفور بالغيظ(234/32)
وبالحمية الدينية وبالعصبية للإسلام والعرب، كأن فيها معنى الدم
ونسي في هذه المقالات كل اعتبار مما تقوم به الصلات بين الناس، فما كان يكتب نقداً في الأدب، بل يصب لهيباً وحمما وقذائف لا تبقي على شيء. وكان ميدانه في جريدة كوكب الشرق، وكوكب الشرق يومئذ هي جريدة الأمة وجريدة سعد وجريدة الشرق العربي كله؛ فمن ذلك لم يبق في مصر قارئ ولا كاتب إلا صار له رأي في طه حسين وفي دينه، وإن للأمة من قبل لرأياً في وطنيته ومذهبه، وحسبك بها من وطنية في رأي الشعب، وطه حسين هو عدو سعد
ووقفت الدوافع السياسية إلى جانب الرافعي تؤيده وتشد أزره، وإن لم يكن للرافعي في السياسة باع ولا ذراع
وبلغت الصيحة آذان شيوخ الأزهر، فذكروا أن عليهم واجباً للدفاع عن الدين والقرآن فجمعوا جماعتهم إلى جهاد
وتساوقت الوفود إلى الوزارة تطلب إليها أن تأخذ طه بما قال؛ وإن طه لأثير في وزارة الأحرار الدستوريين وأصدقائهم، ولكنها لم تستطع أن تتجاهل إرادة الرأي الإسلامي العام. . .
ومضى الرافعي في حملته تؤيده كل القوى وتشد أزره كل السلطات
ونشطت النيابة العمومية لتنظر في شكاوي العلماء وتحدد الجريمة وتقترح العقاب، فعرف الدكتور طه حسين أن عليه وقتئذ أن يقول شيئاً، فكتب كتاباً إلى مدير الجامعة يشهده أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولكن الرافعي لم يقنع فمضى في النقد على جادّته
ولم تجد الجامعة في النهاية بداً من جمع نسخ الكتاب من المؤلف ومن المكتبات لتمنع تداوله، لعل ذلك يرد الفتنة التي توشك أن تعصف بكل شيء حتى الجامعة، ولكن الرافعي لم يقنع فأستمر في حملته على الدكتور طه حسين، وظهيرُه يومئذ هو الدكتور زكي مبارك. . .!
لقد كانت هذه المقالات التي ينشرها الرافعي في كوكب الشرق صيحةً مدوية وصلت إلى كل أذن؛ فما أحسب أحداً في أدباء العربية وقرائها قد فاته منها شيء. لقد كان المصريون(234/33)
وقتئذ مكمومة أفواههم عن السياسة والحديث في شئونها فلعلهم وجدوا في هذه المقالات ما يعزيهم عن شيء بشيء، إذ كان طه عندهم يومئذ ما يزال هو طه حسين عدو سعد، ومحرر جريدة السياسة، وعضو الأحرار الدستوريين
لا أزعم أن اهتمام الناس جميعاً في مصر بهذه المقالات لأنهم جميعاً قد صار لهم في شئون الأدب رأي، أو لهم في الذود عن الإسلام حمية، لا؛ ولكنه نوع من التعصب السياسي جاء اتفاقاً ومصادفة في هذا الوقت نفسه ليكون تأييداً لقول الله وانتصاراً لكلمته؛ على أن هذه المقالات بإقبال الناس عليها - لسبب أدبي أو لسبب سياسي - قد بعثت روحاً دينية كانت راقدة، وأذكت حمية كانت خامدة، وألفت قلوباً إلى قلوب كانت متنافرة، ونبهت طوائف من عباد الله كانت أشتاتاً لتعمل للذود عن دين الله
وإني لأذكر مثلاً مما كان من إقبال الناس على هذه المقالات أنني - وكنت طالباً. . . لم أكن أطيق الانتظار حتى يجيء بائع الصحف إلى الحي الذي أسكنه لآخذ منه كوكب الشرق، بل كنت وجماعة من الطلاب نستعجل فنقطع الطريق من المنيرة إلى باب اللوق راجلين لنشتري من الأعداد المبكرة المسافرة إلى حلوان، لنقرأها قبل أن يقرأها الناس
وتطورت السياسة المصرية، وتخلى زيور باشا عن الحكم، وعادت حكومة الشعب يؤيدها برلمان سعد؛ وعكف نواب الأمة على تراث الحكومة الماضية يفتشون عن أخطائه؛ وما يزال في آذانهم صدى يرن عما كان من أمر الجامعة وأمر طه حسين، فأبدى البرلمان رغبته في محاكمته. وقال النواب: نحن نريد. وقالت الحكومة: وأنا لا أريد. وتشاد عدلي رئيس الحكومة وسعد رئيس النواب؛ فقامت زوبعة، ونشأت ضجة، وحدثت أزمة وزارية، ولوح عدلي بالاستقالة، وأصر سعد على وجوب تنفيذ رأي الأمة، وتعقدت المشكلة. . .
وسعى الوسطاء بالصلح بين الزعيمين؛ فما كان الحل إلا أن يتقدم النائب الجليل عبد الحميد البنان بشكواه إلى النيابة العمومية فتسقط التبعة عن الحكومة، وينفذ رأي الأمة، ثم تسير القضية إلى غايتها أمام القضاء وكان بعد ذلك ما كان
وإذ كان انضمام الجامعة إلى وزارة المعارف عملاً من أعمال علي ماهر وزير المعارف، فإن ما ثار حول الجامعة بسبب الدكتور طه حسين قد دعا نائباً أو نواباً إلى اقتراح محاكمة علي ماهر بما فعل للجامعة، وبما غير من نظام التعليم العام من غير أن يكون ذلك من حقه(234/34)
الدستوري. . . ولكنه ظل اقتراحاً لغير التنفيذ
ليست كل هذه الحوادث من تأليف الرافعي، ولكنها شيء يتصل بتاريخه وله أثر فيه أي أثر؛ فلولا ما كان من الخصومة بين الرافعي وطه، لما قامت هذه الضجة، ولا ثارت هذه الثائرة، ولما كان في التاريخ الأدبي أو السياسي لهذه الحقبة شيء مما كان
على أن هذه المعركة قد خلفت لنا شيئاً آخر، هو أغلى وأمتع، ذلك هو كتاب: (المعركة تحت راية القرآن) وهو جماع رأي الرافعي في القديم والجديد، وهو أسلوب في النقد سنتحدث عنه بعد
ولقد ظلت الخصومة قائمة بين الرافعي وطه إلى آخر أيامه، بل أحسبها ستظل قائمة ما بقيت العربية وبقي تاريخ الأدب؛ فما هي خصومة بين شخص وشخص تنتهي بنهايتهما؛ بل هي خصومة بين مذهب ومذهب سيظل الصراع بينهما أبداً ما دام في العربية حياة وقدرة على البقاء
وما أعرف أن الرافعي وجد فرصة ليغمز طه في أدبه، أو وجد طه سانحة لينال من الرافعي في فنه ومذهبه، إلا أفرغ كل منهما ما في جعبته. وكم مقالٍ من مقالات طه حسين قرأه علي الرافعي فقال: اسمع، أنه يعنيني. وكم مقال أملاه علي الرافعي أو قرأته له فوجدت فيه شيئاً أعرف من يعنيه الرافعي به. ومرة أو مرتين قال الأستاذ الزيات للرافعي: أرجو أن تعدل في أسلوب هذا المقال - مما ينشر في الرسالة - فإني لا أحب أن يظن طه أنك تعنيه بشيء تنشره في الرسالة وعلي تبعته عنده
ولما ثارت في الجامعة في العام الماضي مسألة المسجد والمصلي والدروس الدينية وفصل الفتيان عن الفتيات، كتب الرافعي مقالا للرسالة غمر فيه طه وحيا شباب الجامعة، ولم يجد الأستاذ الزيات بداً من نشره. وفتن الرافعي بمقاله ذاك وحسن عنده وقعه، فأنشأ تتمة له بعنوان (شيطان وشيطانة) يعني طه وتلميذته، ولكن الزيات وقف له واحتج حجة، رعاية للصديق القديم طه. وكان أول مقال يكتبه الرافعي فترده له الرسالة. وقد أغتاظ الرافعي لذلك غيظاً شديداً، وأحسبه مات وفي نفسه حسرة من عدم نشر هذا المقال. لو كان لي أن أعرف أين صورة هذا المقال لأوجبت على الرسالة أن تنشره بحق التاريخ الذي لا يحابي الأحياء ولا الأموات، ولكن أين أجده؟ الأستاذ الزيات يقول: لقد رددته إليه. والدكتور(234/35)
الرافعي يقول: لم أجده على مكتب أبي؛ وما كان بين هذا المقال وبين أجل الرافعي إلا قليل
ولم يتلاق الرافعي وطه وجها لوجه في النقد بعد هذه المعركة حول كتاب (في الشعر الجاهلي)، ولكن المعارك بينهما ظلت مستمرة من وراء حجاب، تنتقل من ميدان إلى ميدان
ولما أشترك الرافعي في المباراة الأدبية في العام الماضي، ونال في بعضها من الجائزة دون ما كان يطمع، لم ينسب ذلك لشيء إلا لأن طه كان عضواً في اللجنة. . . وطه خصم عنيد. . .
أما بعد فهذا شيء للتاريخ أثبته على ما فيه، ليس فيه رأيي ولا رأي أحد معي؛ ولكنه شيء مما حكاه لي الرافعي أو قرأت في كتبه، فكتبته في موضعه من هذا البحث بضمير المتكلم ومالي فيه إلا الرواية، وذلك حسبي من العذر إن كان علي معتبة أو ملام
(شبرا)
محمد سعيد العريان(234/36)
ثورة على الأخلاق
للأستاذ علي صرطاوي
إلى الأخ محمود بواسطة الأستاذ الزيات
قرأ أصدقاؤك والمعجبون بأدبك في الأقطار الشقيقة شكواك البليغة في عدد الرسالة (229)، فعتبوا عليك، وأسفوا أن تمر بسمائك سحابة صيف من مآسي الحياة في ظرف من الظروف الأليمة التي يطيش فيها حلم الحليم، فتحجب عن بصرك ذلك القبس الإلهي الذي كان يجبب إليك أن تحترق كالشمعة لتنير الطريق إلى الذين لا يعرفون الفضيلة في الدنيا؛ وأن تتحمل كل ما في الألم من مرارة وما في الاضطهاد من معنى، في سبيل الأخلاق الفاضلة والذود عنها والدفاع عن حرمتها، فتنقلب في طرفة عين إلى خصم لدود يطعنها تلك الطعنات القاتلة، فكنت كالذي أوشك أن يتم جداراً لاقى النكد في بنائه، فأنقلب إليه يهدمه إلى وجه الأرض لأن حجراً وقع عليه
لا يجادلك فيما ذهبت إليه في شكواك إنسانٌ في الدنيا، ولا يوافقك على الأسباب التي أدعيتها علة النجاح من له دين وتفكير إلا إذا كنت تريد أن يتدهور البشر إلى مستوى العجماوات حيث يعيشون للطعام والشراب، وأن يتلاشى ذلك التراث الإنساني الثمين الذي ورثته البشرية عن الأنبياء والمصلحين.
إن نجاح التاجر الذي يغش ويسرق، والموظف الذي يتلون حسب الظروف، والظالم الذي لا تعرف الرحمة طريقاً إلى قلبه، لا يقوم دليلاً على ما ذهبت اليه، ولا شأن للأخلاق فيه، إذ ليس ذنب الماء العذب أن يزعم مريض أنه كريه المذاق، ولا الشمس المشرقة أن يجادل في رؤيتها أعمى. فالذنب يا سيدي الكريم هو ذنب المجتمع المريض الذي يسمي الأشياء بغير أسمائها، فيرى الجبل شجرة، والحجرة كتاباً، والجمرة تمرة. ولو كان لنا مجتمع تعيش فيه الصراحة والجرأة الأدبية ويشرق عليه نور الخلق الفاضل والتربية العملية الدينية الصحيحة، لتضور أمثال هؤلاء جوعاً فيه
وراع الدكتور عزام طعنك في الأخلاق على النحو الذي قرأه الناس جميعاً، فأسرع يكتب إلى صاحب الرسالة كلمته البليغة لتصل إليك في العدد (230) وظن القراء أن فيما أورده الدكتور من الآراء الصائبة ما يكفي لإرجاعك إلى الحق، والرجوع إليه فضيلة؛ وانتظروا(234/37)
أن يقرءوا ذلك في العدد (231) وإذا بصديقك الزيات يقول إن المجلس الذي أبلغك فيه رأي الدكتور، وكان حافلا بغيرك من رجال العلم والدين، كانوا لك وعليه، وأنك ظللت صامتاً ولم تحر جواباً
لقد أعجبني صمتك، لأن السكوت دليل على التسليم، ولكني لم أرض أن يزعم أن مجلسك كان حافلاً برجال العلم والأدب والدين، ويقول على لسانهم بأن السبيل (القاصدة إذن أن نطب لهذه الحال فيما يوائم بين طموح الناس وكرامة الأخلاق وسلامة المجتمع، وليس هناك إلا وسيلة من وسيلتين: إما أن نصد الناس جميعاً عن هذه الطرق المتعددة ونقصرهم على هذه الطريق الواحدة بقوة الأديان والسلطان والتربية، وذلك ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (عليكم بالجادّة ودعوا البنيَّات) وإما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق فلعل فيه ما لا يرافئ تقلب العصر وتطور المجتمع. فأما الوسيلة الأولى فقد سجل الماضي ودلل الحاضر على أنها خيال نبيل لا يقع في الإمكان وحلم جميل لا تقوم عليه يقظة، وتعليل ذلك لا يغرب عنك فلا حاجة إلى تقريره. وأما الوسيلة الأخرى فهي على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد)
يزعم أصدقاؤك أن إلزام الناس طريق الفضائل عن طريق الأديان والسلطان والتربية (خيال نبيل لا يقع في الإمكان، وحلم جميل لا تقوم عليه يقظة) ويؤكدون أن الماضي قد سجل ذلك، وأن الحاضر قد دلل عليه. . .
أما السلطان فأوافقهم على ذلك إذ:
لا ترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
وأما الأديان، فأي ماض قد سجل ذلك؟ هل قرأ أصدقاؤك التاريخ العربي قبل الإسلام وبعده؟ من هم أولئك الذين كانوا يأكلون الدم والميتة، ويئدون البنات، ويتزوج العشرة منهم امرأة واحدة؟ ومن هم أولئك الذين صهرتهم حرارة الدين فأخرجت منهم أبا بكر وعمر، ووطئت خيولهم الصين وسهول اللوار، وملئوا الدنيا والتاريخ عدلاً، وخاطب خليفتهم في بغداد السماء بأن تمطر أنى تشاء فالخراج لهم؟
إذا تعلم أفراد المجتمع الدين تعلماً عملياً صحيحاً، وساروا على صراطه المستقيم، فعسير أن يعيش بين أفراده مثل من ذكرهم صديقك الزيات. فعلة العلل أننا لا نعرف الناحية(234/38)
العملية من الدين. . . وهذا ما كان سبباً في تهكم أحد رؤساء الجامعات الأوربية على دروس الأخلاق النظرية التي وجدها في أحد برامج بعض المدارس العربية العالية. . . إذ قال بأن الشرقيين لا يزالون في الضلال يعمهون حين يظنون أن في المستطاع تكوين الخلق الفاضل بعيداً عن الناحية العملية. وأما الحاضر الذي دلل على ضعف الدين، فهو حاضر لا يمت إلى الدين بشيء
والإصلاح الجديد الذي يراه أصدقاؤك يجلب على المجتمع الدمار والبؤس والفوضى التي يئن تحتها المجتمع الأوربي في مظاهر مدنية النار والحديد
ويرى أصدقاؤك في صلف الإنجليزي العزة، وفي طموح الإيطالي الرجولة، وفي طمع الفرنسي الحياة، وفي صراحة الألماني الهيبة، وفي استقلال الأمريكي الفوز، ويرون في قناعة العربي الإهمال، وفي زهده الحرمان، وفي مداراته الذل، وفي توكله العجز. ولست أظنهم ينصفون الحقيقة في هذا الرأي، فمقياس الفضيلة هو مقدار الناحية العملية الصالحة منها، وحسب أصدقائك أن يقارنوا بين فضائل من ذكروا، وبين فضائل العربي وهو قريب من عهد الرسالة، وهي منتزعة من صميم الدين، والتي لا تمت بصلة إلى الأسماء التي تطلق عليها الآن، وهو على أبواب مدينة حمص حينما هاجمها الروم للمرة الثانية، فتدفع تلك الفضائل العربي أن يعيد لأهل المدينة الجزية التي أخذها منهم، فيرفضون أخذها ويدفعون الروم بكل ما يملكون. والأمثلة كثيرة، وثقافتك الواسعة وعروبتك الصادقة في غير ما حاجة إلى إقامة دليل
وأما الربا فيريدون ألا يظل في عصر الاقتصاد رذيلة، وحجتهم أن الغرب لم يستعبد الشرق إلا عن طريق بنوكه، وأن ربح الأموال التي كانت تضيع على المسلمين في البنوك، لو صرفت على طرق الإصلاح ووجوه البر لما بقي أجنبي في أرضهم ولما ظل تحت سمائهم فقير. والواقع لا يدل على ذلك أبداً، فلقد حرم الدين الربا لحكمة لا نستطيع بعقولنا المادية المحدودة إدراكها. ويجب أن يبقى كذلك عملاً بأوامر الدين. وأما استبعاد الشرق عن طريق البنوك، فمسألة فيها نظر وليست قضية مسلمة، ودليل ذلك أن الإنجليز كانوا يطمعون في مصر منذ سنة 1845. ويقرأ ذلك من يشاء في رحلة الإسكندر وليم كنج لاك في بلاد الشرق الأدنى في السنة المذكورة التي سماها (يوثين) حيث تنبأ وهو أمام(234/39)
أبي الهول باحتلالهم مصر قبل أن تشق قناة السويس. وأما طرق الإصلاح ووجوه البر، فلو صرفت عليها الزكاة التي فرضها الدين لما بقي فقير بين المسلمين
وبعد فسيضل الخلق الفاضل عدة النجاح مادام هنالك دين في الدنيا والسلام عليك.
(جينين)
علي صرطاوي(234/40)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 49 -
لقد هبطت عن عرشك لتقف بازاء باب كوخي
كنت جالساً وحدي في زاوية أترنم بألحان ألقيت أنت إليها سمعك فهبطت عن عرشك لتقف بازاء باب كوخي
وفي فنائك أحتشد العظماء والأغاني تتردد هناك في كل حين؛ غير أن لحناً بسيطاً أرتفع بين هذه الأغاني فجذبك إليه؛ هو لحن قصير فيه الشجن أختلط بموسيقى العالم العظمى فهبطت ومعك هدية من زهر. . . هبطت لتقف بازاء باب كوخي
- 50 -
وانطلقت أتكفّف الناس وأنتقل من باب إلى باب على طريق القرية. ثم بدت عربتك الذهبية عند الأفق كأنها الحلم اللذيذ فعجبت: ترى من يكون ملك الملوك هذا!
ولمع الأمل في نفسي وخيل إلي أن أيام السوء قد انقضت فوقفت أنتظر الهبات، وهي تعطي في غير سؤال، والمال وهو ينثر هنا وهناك
ووقفت العربة بازائي. وحين وقع بصرك علي دلفت نحوي وعلى شفتيك ابتسامة، فاستشعرت السعادة في نفسي؛ وعلى حين فجأة مددت إلي يمناك وأنت تقول: (ماذا عندك لتهبه لي؟)
آه! إنها دعابة ظريفة أن تمد يدك تسأل شحاذاً. واضطربت وسيطرت عليّ الحيرة ثم تناولت من سلتي أصغر حبة قمح. . . تناولتها في بطء وقدمتها إليك
لشد ما عجبت حين أفرغت سلتي عند الغروب، فألفيت بين متاعي الحقير حبة من ذهب في قدر حبة القمح، فرحت أبكي في حرقة وأسى لأنني لم أجد في نفسي القوة على أن أقدم إليك كل ما أملك(234/41)
- 51 -
أظلم الليل وانتهى عملنا اليومي، وخيل إلينا أن آخر ضيف قد قدم لأن أبواب القرية غلقت؛ غير أن قائلاً قال: (سيأتي الملك) فسخرنا منه وقلنا: (لا، لا يمكن!)
وبدا لنا كأن طارقاً يدق الباب فقلنا إنه الريح؛ ثم أطفأنا المصابيح وانطلقنا إلى الفراش؛ غير أن قائلاً قال: (إنه رسول!) فضحكنا منه وقلنا: (لا، بل هي الريح!)
وفي أعماق الليل دوى صوت فخيل إلينا - والنعاس يغالبنا - أنه هزيم الرعد؛ ثم زلزلت الأرض زلزالها، واضطربت الحيطان ففزعنا عن مراقدنا، وقال قائل: (إنه صوت عربات) فقلنا في صوت الحالم: (لا، إنه جلجلة السحب!)
وفي جوف الليل رن في مسامعنا دوي الطبل، ونادى مناد: (هبوا، لا تنوا!) فوضعنا أيدينا على قلوبنا والخوف ينفضنا نفضاً شديداً، وقال قائل: (ويلي، هاهي ذي راية الملك تخفق!) فاندفعنا نصيح: (لقد أزف الوقت فلا تتكاسلوا!)
لقد جاء الملك، ولكن أين المشاعل؟ أين الأكاليل؟ أين العرش ليستوي عليه؟ يا للفضيحة، يا للعار! أين الدار؟ أين الزينة؟ فقال قائل: (عبثاً تصيحون، حيوه بأيد فارغة وادعوه إلى حجراتكم المعطلة. . .)
افتحوا الأبواب، واعزفوا الألحان! ففي جوف الليل جاء الملك إلى بيتنا الموحش المظلم. إن الرعد يزمجر في السماء وإن البرق يزيح أستار الظلام. هات فراشك البالي وأفرشه في الفناء؛ فهو قد جاء على حين بغتة مع العاصفة الهوجاء. . . هو رب الليل الحالك المهيب. . .
- 52 -
لقد أردت أن أطلب إليك عقد الورد الذي تحلي به جيدك غير أني لم أجسر، فانتظرت حتى تبرح عند الصباح. وحين غادرت وجدت بقايا منثورة على الفراش، وفي السحر رحت أفتش عن الوريقات المفقودة كأنني شحاذ
آه، ماذا وجدت؟ ماذا تركت ذكرى هواك؟ إنك لم تترك الزهر ولا العبير ولا زجاجة عطر بل سيفك العظيم يتألق كشعلة من لهب، وهو ثقيل كالصاعقة. لقد أخترق نافذتي أول شعاع(234/42)
فتيِّ من أشعة الصباح فهم الطير يسقسق ويسأل: (أيتها الفتاة، ماذا أصبت؟) لا، لم يكن الزهر ولا العبير ولا زجاجة عطر، بل هو سيفك المهيب
وجلست أفكر في دهشة: ماذا عسى أن تكون هذه الهدية؟ لم أجد له مخبأ، وإني لأخجل أن أتقلده وأنا حطام متهدم، وإنه ليؤذيني إن ضممته إلى صدري، ولكني سأحمل في قلبي هذا الشرف. . . هذا العبء الثقيل من الآلام. . . هذه الهدية الغالية والآن لم يبق في هذه الدنيا ما أخافه لأنك أنت نصيري. لقد نزعت عن رفيقي الموت، فسأفديه أنا بروحي. إن سيفك معي لأحطم به قيودي فلا يبقى في هذه الدنيا ما أخافه
سأنزع عن نفسي - منذ الآن - زخرف الحياة؛ ولن أتوارى بعد - يا مليك القلب - في ركن أبكي، ولن أستحي أو أرقق من خلقي فأنت قد حبوتني سيفك لأزين به فلن أتحلى بسواه من زينة الحياة
ما أجمل سوارك وقد زينته النجوم، ورصعته كواكب الحلية؛ غير أن سيفك أحلى منه في عيني وهو يلمع كأنه جناح طير فينشو المقدس، وقد انتشر في أشعة الغروب الحمراء، إنه يضطر كأنه آخر أحاديث الحياة حين يسيطر الألم على الإنسان في ساعة الاحتضار فيذهله عن نفسه؛ ثم هو يتألق كأنه شعاع الوجود الطاهر حين يرسل شرارة حامية فتلتهم كل العواطف الأرضية
ما أجمل سوارك وقد زينته كواكب الحلية! غير أن سيفك - يا إله الرعد - قد رصع بجمال باهر يفوت الوصف ويفوق الخيال
- 53 -
لن أطلب إليك شيئاً؛ ولن أذكر اسمي عند مسمعيك. وحين تنأى عني سأقف في صمت. لقد كنت لدى البئر وحدي والظل وارف، والفتيات ينطلقن إلى دورهن، يحملن جرارهن المترعة؛ لقد نادينني: (تعال معنا، إنه يضنيك أن تنتظر من لدن الصباح حتى الظهر) غير أني ترددت حيناً ثم ذهلت عن نفسي وسط الخواطر المضطربة
ما سمعت دبيبك حين جئت، وكان في نظراتك الأسى حين وقع بصرك علي، وكان في صوتك أثر الأين والتعب حين قلت: (آه، إنني مسافر ظمآن) ففزعت عن أحلامي لأصب الماء في كفيك، فحفت الأوراق من فوقنا، وانبعث شدو الطير يمزق سكون الظلام، وفاح(234/43)
أريج عطر الزهرات من منعطف الطريق
ووقفت صامتاً في خجل حين سألتني عن أسمي، ماذا أسديت إليك فتسأل عن أسمي لتذكرني؟ ولكن ذكرى الماء الذي أطفأت به حرتك ستعلق بقلبي وتبعث فيه الرضى. إن ساعات الصباح قد انطوت، والطير يغرد في كلال، والأوراق تحف من فوقي، وأنا جالس إلى نفسي أفكر وأفكر
- 54 -
ما يزال الفتور يسيطر على قلبك، والنعاس يستولي على عينيك
أفلم يبلغك أن الزهرة تحكم بين الشوك في كبرياء؟ أستيقظ؛ أوه، انتبه! لا تدع الزمان يمر عبثاً
عند نهاية الطريق الصخري وفي بلاد الوحدة الطاهرة. . . هناك يجلس صاحبي في عزلة، فلا تخدعه. أستيقظ؛ أوه، انتبه!
ماذا لو أن السماء تلهبت واضطربت في قيظ الظهيرة المحرق. . . ماذا لو أن الرمال المتأججة نشرت لظى الظمأ. . .
أفلا تجد الطرب في قرار قلبك؟ أفلا تتفجر قيثار الطريق - في كل خطوة من خطواتك - عن لحن شجي فيه الألم؟
- 55 -
إن رغبتك تامة فيّ، وإنه أنت الذي هبطت إليّ؛ فمن عسى أن يكون حبيبك - يا إله الملك - إن لم أكُنْه؟
لقد اتخذتني لك شريكاً أقاسمك هذا الثراء العريض؛ ففي قلبي السرور اللانهائي أستمده منك، وفي حياتي مشيئتك تسيطر عليّ
لهذا زينت نفسك - وأنت ملك الملوك - بالجمال الخلاب لتأسر قلبي، ولهذا بذلت حبك في سبيل من تحب، فظهرت للأعين كاثنين امتزاجا معاً
- 56 -
أيها النور، أيها النور الذي تشرق على العالم، وتقبل العيون وتنفث البهجة في القلوب!(234/44)
آه، إن النور يرقص - يا عزيزي - في أعماق حياتي إنه يضطرب بين أوتار قلبي؛ إن السماء تنفرج، والريح تهب عاصفة، ورنات الضحك تتردد على الأرض
إن الفراش ينشر أجنحته على لجة النور، والزنبق والياسمين يضطرب فوق موجها
لقد تحطم النور فوق كل سحابة - يا عزيزي - إلى قطع من لجين استحالت إلى جواهر تتألق
إن البهجة تتناثر - يا حبيبي - على أوراق الشجر فيعم السرور، وإن نهر السماء يفيض على شاطئيه فيملأ الطرب كل مكان
كامل محمود حبيب(234/45)
فلسفة التربية كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 4 -
جولة في أغراض التربية
أوردت لك فيما سبق تفسير الفلسفة للتربية، وكشفت عما بينهما من علاقة، وأبنت ضرورة الأولى للثانية، ثم تناولت الثانية ذاتها ببعض الشرح والتحديد. وأحب اليوم أن أجول بك في (أغراض) هذه (العملية الكبرى) التي اصطلحنا على تسميتها بالتربية والتعليم!
لِمَ يتعلم الناس؟ وفيم تقام لهم هذه المدارس وتلك الجامعات التي تنفق فيها الجهود الطائلة والأموال الجسيمة؟ أظنك قد أصبحت ترى معي أن من حق الفلسفة بل من واجبها أن تناقش ما عسى أن يكون لهذه (العملية الكبرى) من أغراض، علها تستطيع أن تهدينا إلى (الغرض الأسمى)!
والحق أنه إن لم يكن للتربية غرض واضح محدود صريح فإن عمليتها لا تعدو أن تكون ضرباً في الهواء مصيره الفشل المحتوم!؛ ولما كانت حياة (الأفراد) على ظهر الأرض واحدة لا رجعة لها ولا تكرار؛ ولما كانت (التربية) هي الأداة التي تعدنا لهذه الحياة الواحدة القصيرة، فإنه لا شك في ضرورة (إيجاد) ذلك (الغرض الأسمى) الذي نستطيع به - وبه وحده - أن نستغل (العمر) إلى أبعد حدود الأستغلال، وأن نتمتع به إلى أقصى وأرفع حدود التمتع
ولكنك تعلم أن الفلسفة حينما تعرض لمثل هذا (المشكل) لا تستطيع أن تنجو من ذلك (التباين) الهائل الذي يبدو في أغلب مذاهبها
يقول الأستاذ بولزن في أسلوب عذب رشيق (يريد المرء أن يلعب ويتعلم، وأن يعمل ويكتسب، وأن يملك وينعم، وأن يكون ويخلق، وأن يحب ويعجب، وأن يطيع ويحكم، وأن يجاهد ويفوز، وأن يردد الشعر ويحلم، وأن يفكر ويبحث وأن يجرب علاقة الابن بأبيه، والتلميذ بأستاذه، والخادم بسيده، وأن يعيش قنوعاً؛ أخا بين أخوة، وصديقاً بين أصدقاء، وزميلاً بين زملاء، ومواطناً بين مواطنين، وحبيباً وعدواً، وزوجاً ووالداً ومربياً؛ كل ذلك(234/46)
على نحو طبيعي خاص؛ فإذا ما تحقق له ذلك شعر أن حياته قد كملت، وأنتظر النهاية الأخيرة برضا وارتياح، لأنه سيلحق بعدها بآبائه وأجداده.)
وأنت ترى أن ذلك الغرض طويل غير محمل وإن كان صحيحاً في كل أجزائه، وأنه يرمي إلى تكوين الفرد الاجتماعي الناجح السعيد.
ويقول فيخته (إن غرض التربية هو تكوين الوطني العارف بحقوق الوطن وواجباته). ولكن من ذا يستطيع أن يحصر الحياة في دائرة الوطنية فحسب؟ أليست الوطنية إحدى نواحي الحياة الشاملة الفسيحة؟
ويقول هربارت (إن غرض التربية هو تكوين إنسان عارف بحقوق الإنسانية؛ وإن غايتها القصوى هي اكتساب الفضائل والتحلي بمكارم الأخلاق). ولكن ترى ما هي حقوق الإنسانية التي يتركها لنا هربارت غامضة من غير ما تفسير؟ وإذا كانت الأخلاق هي غاية التربية القصوى، فأين يقع (التفكير الخالص) من هذه الغاية وقد وضعه (ارسطو) فوق جميع الغايات عندما ينصب على أسمى موضوعات التفكير وهو الله؟
ويقول ديوي (إن غرض التربية الأسمى هو النمو) ولكن ما معنى النمو وما مقياسه المضبوط؟ يلمس (ديوي) بنفسه ذلك الغموض ويرسم لنا مثلاً أعلى (للإنسان النامي) فإذا هو (كائن ذو عادات بصيرة حساسة بعيدة النظر خاضعة لمسئوليات أكثر). وذلك قول جامع ولكنه لا يخلو مع ذلك من غموض. . .
ويقول الأستاذ ريدجر (تلائم التربية بين الفرد وبين عناصر البيئة المعترف بها في الحياة الحديثة، وهي تعمل على تنمية وترتيب وتدريب قواه حتى تصبح ذات (فاعلية) مشروعة النفع) وذلك أيضاً قول دقيق لولا ما قد ينتاب (هذه الملاءمة) من القضاء على روح الثورة في الناشئ. تلك الثورة التي نريدها منه كلما رأى ما هو جدير بها في حياة المجتمع
ويقول الأستاذ تورندايك (إن أقصى غايات التربية هو غرس رغبة (الخير) وتكوين القدرة على الحياة السعيدة والمتعة النبيلة البريئة) ولكن ترى ما هي الحياة السعيدة ذات المتعة النبيلة البريئة؟ أما نحتاج هنا لتحديدهما؟
أما (سبنسر) فيلسوف التطور فيقول (إن غاية التربية هي أولا وقبل كل شيء حفظ الحياة). ولكن من الثابت الواضح أن (حفظ الحياة) وسيلة وليس بغاية؛ إذ في سبيل أي(234/47)
شيء نحفظها؟ يقول سبنسر نفسه: (إن واجب التربية هو الأعداد للحياة بأوسع معانيها. وأهم ما في الحياة هو الحكم الصائب في كل الاتجاهات وجميع الظروف، ثم تربية الجسم والعقل، ثم الإعداد للعائلة والسعادة والوطن وخدمة المجتمع) وذلك كلام له وجاهته الخاصة دون ما شك. ولكن ألسنا نرى فيه إغفالا أو شبه إغفال لناحية الشعور بما فيه الدين؟
ويبسط لنا الأستاذ ريدجر غرض الملاءمة الآنف في فصل طريف فحواه الحياة بالعقل والروح ثم بالجسد في جو خلقي دائب التجدد، يقوم فيه الدين إلى جانب الفن، ويتسلط فيه الإنسان تسلطاً عاقلاً على البيئة، شاعراً أنها وطنه الذي يجد فيه المتعة العقلية والفنية، منتفعاً في نفس الوقت بكل ما فيها مما يفهمه ويقدره
أما الأستاذ فيقول إن غرض التربية (هو النمو المتشابه لقوى الفرد) وذلك قول له طرافة من الناحية النفسية التي تطالبنا بإيجاد التوازن بين قوانا بحيث لا يطغي فيها العقل على العاطفة، أو العاطفة على العقل، ولكنه لا يزال بعد مفتقراً إلى (تشريع) يوجه هذا النمو المتشابه به في نواحيه المنشودة
وأما أبناء العم سام فأغراض التربية عندهم هي:
(1) عضوية الأسرة الناجحة (2) المهنة الموفقة (3) الفراغ الممتع (4) التمدن العاقل (5) الصحة الحسنة (6) المعاملات الطبية
ولكن واضح أن ذلك المستوى شعبي بحت لا يتناول (الفكر الراقي) كما ينبغي أن يتناوله
وتلك كما ترى آراء كثيرة توسع من مدى فكرنا وإن كانت لا تقف به عند رأي حازم جازم لأن طبيعة (الغاية الأخيرة) ذاتها تتطلب ذلك الخلاف مادام أن الأفراد أنفسهم هم الذين يتناولونها بالبسط والتحديد لأنها غايتهم. ويشعر الأستاذ ديوي نفسه بصعوبة الموقف فيقول: (ليس للتربية غاية أو غرض خاص، ولذلك يجب أن نأخذ في حسابنا نشاط من يراد تعليمهم وحاجاتهم الطبيعية والاكتسابية عندما نحدد للتربية والتعليم أغراضهما)
ويعقب الأستاذ يعقوب فام على هذا الرأي بقوله: (ليس التعليم منفصلاً عن الحياة حتى يقال إنه وسيلة لها، بل هو والحياة أمر واحد) ومعنى ذلك أن غاية التربية هي هي غاية الحياة. فترى ماذا عسى أن تكون تلك الغاية؟ أهي ذلك الثالوث الأقدس الذي ينادي به الأستاذ فيكتور كوزن في كتابه الطريف ثالوث الخير والحق والجمال؟ أم هي (التفكير الخالص)(234/48)
في أسمى موضوعات التفكير كما يقول أرسطو؟
ومهما يكن من شيء فإن الأستاذ (ديوي) يعطينا مقياساً طريفاً نطبقه على الأغراض (المطروحة) لنختبرها به وهو: (1) قيام الغرض على الظروف الراهنة (2) وقدرته على القيادة والمرونة (3) والاتفاق التام بينه وبين الوسيلة. ثم هو يعطينا مقياساً آخر نقيس به مواد الدراسة هو (درجة وطريقة ما تجلبه على الطالب من شعور بيئته الاجتماعية، وما تمده من قدرة يفسر بها قواه الخاصة من ناحية قابليتها لخدمة المجتمع) ويفسر لنا الأستاذ (باجلي) مدى هذه (القابلية) بقوله: (إنها تتضمن أن يكون المرء فاعلاً في المجتمع منتجاً أو مرشداً الناس إلى الإنتاج، متدخلاً في مجهودات الآخرين بأخلاقه الصالحة، عاملاً على تكميل القوى الاجتماعية أي إنجاح الجماعة) ويعزز الأستاذ ديوي نفسه ذلك الرأي بقوله: (أعتقد أن كل تربية يجب أن ترمي إلى مشاركة الفرد في الوجدان الاجتماعي)
ولا بأس من أن نختم هذا الفصل بقول الأستاذ وهو: (أننا لا نستطيع أن نحصر أغراض التربية في غرض واحد، وكل ما هنالك أن التربية يجب أن تشمل الإبقاء على الماضي إبقاء لا يستر عيوبه ولا يعمينا عن خيرات الحاضر، ثم الوقوف على الأزمنة والبيئات والطبقات المختلفة حتى نوسع من مدى اتصال الناس بعضهم ببعض، ثم تمدين ومحو الوحشية من بينهم، أي انتشال العقول من الأدوية المظلمة، والعواطف من الغرائز الحيوانية، ثم غربلة الناشئين وتوجيه كل منهم إلى الطريق الذي يتفق وميوله الخاصة حتى يبلغ أقصى ما هو كفء له، ثم غرس العادات الحسنة من غير استبعاد الناشئ لها)
وبعد، فماذا تريد أن أقول؟ وأي الأغراض تحب أن أزجيها إليك؟
أليس من الخير أن نترك هذا الباب مفتوحاً لرجال التربية في الشرق، كما يدلوا فيه بآرائهم السديدة، ويرسموا لنا تلك (الغاية الأخيرة) التي يجب أن ينشدها الشرق في تربيته على الخصوص؟
ثم أنت ترى المعاهد في مصر كثيرة والخريجين أكثر، فهل تستطيع أن تتبين وراء تلك المعاهد (غرضاً واضحاً محدوداً) وهل تستطيع أن تتلمس (الطريقة) التي يحقق بها هذا الغرض وما عسى أن يكون فيها من ضعف وقوة؟
أحب أن تفكر في هذا قليلاً. لا، بل كثيراً(234/49)
(شبرا)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية(234/50)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشة
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الرؤى والألغاز
- 1 -
وعندما تناقل البحارة خبر وجود زارا بينهم وكان بلغهم ذلك من رجل دخل السفينة معه قادماً من الجزر السعيدة ساد الجميع شيء من القلق وباتوا يتوقعون حدثاً في وجوده، غير أن زارا بقي يومين جامداً تساوره أحزانه؛ تحدق فيه الأنظار فلا يلتفت، وتوجه إليه الأسئلة فلا يجيب. وأخيراً أصغى لما يقال حوله متوقعاً سماع أبحاث لها خطورتها تدور على هذه السفينة القادمة من بعيد والمتجهة إلى أماكن سحيقة. وما كان زارا لينفر من الأسفار البعيدة ومن الأخطار، وبعد أن أصغى طويلاً حلت عقدة لسانه فأنطلق يقول:
- إليكم أيها الشذاذ الجريئون أياً كنتم، أيها المستسلمون للشراع الغدار على هائجات الأمواج
إليكم أيها الثملون بخمرة الأسرار، المنجذبون بين خيوط الظلمات والأنوار، إلى نغمات كل شبابة تنوح في المجاهل الخفية. إنكم تنفرون من تلمس طريقكم بيد مرتجفة على ما نصب من دليلات الحبال إذ تفضلون الإدراك بالحس على الإدراك بالاستقراء
إليكم دون سواكم أوجه الخطاب لأخبر بما تجلى من ألغاز وبما خطر من رؤى لأشد الناس استغراقاً في عزلته.
لقد اجتزت الغسق في أشد فتراته وجوماً. اقتحمته وقد تقلصت شفتاي وعلا وجهي الاغبرار وكنت شاهدت من قبل شموساً كثيرة تجنح إلى الغروب
رأيت أمامي طريقاً يتسلل على جروف المرتفعات، طريقاً وعراً تعرى جانباه من كل نبات فدفعت عليه أقدامي أتحداه فأسمع صريف حصاه تحتها.
مشيت صامتاً أحاول تثبيت الحصى المتطايرة بخطواتي لأنجو من الانزلاق عليها
واعتليت فإذا بروح الكثافة وهو عدوي الألد يشد بي إلى الأعماق، واعتليت أيضاً فإذا بهذا(234/51)
الروح المطبق عليّ كالقزم من الناس والخلد من سكان الأوجار يسكب في أذني ودماغي كلمات ثقيلة كالرصاص فسمعته يقول لي متمهلاً هازئاً:
أي زارا أيها الحجر المدعي الحكمة، لقد رشقت نفسك إلى ما فوق، ولكن أي حجر أرتفع ولم يسقط عائداً إلى مصدره؟
أي زارا أيها الحجر الحكيم المنقذف إلى العلا ليزعزع الكواكب في مدارها ما أنت إلا القاذف والمقذوف معاً، فلابد لك من السقوط ككل حجر يرشق إلى ما فوق. لقد حكمت بالرجم فكان حكمك به على نفسك، وهذا الحجر الذي فوّقته سيرجع ساقطاً عليك
وسكت القزم طويلاً حتى ضاقت من سكوته أنفاسي، فالرفيق الصامت يشعرك بوحشة الانفراد أكثر مما تشعر بها وأنت وحدك لا رفيق لك
وارتقيت أيضاً وأنا تائه في تفكيري وأحلامي شاعراً بتزايد الضيق في صدري كأنني عليل نبهته أضغاث أحلامه فاستفاق ليشعر بأوجاعه
غير أنني أعهد بنفسي قوة أسميها شجاعة وهي القوة التي أرغمت بها كل وهن في نفسي، بهذه الشجاعة تذرعت فصحت بالقزم قائلاً:
إن واحداً منا يجب عليه أن يتوارى
ما من قاتل كالشجاعة التي تهاجم، وما من فيلق يتقدم إلا وفي طليعته الأنغام الحاديات
إن أوفر الحيوانات شجاعة إنما هو الإنسان الذي قهر بشجاعته سائر الحيوانات وتغلب على جميع الأوجاع ماشياً وراء حاديات الأنغام بالرغم من أن أوجاع الإنسان أشد ما في الكون من أوجاع
وللشجاعة أيضاً فضيلة ردع الدوار المستولي على الرؤوس حين تحدق في الأعماق، وما من موقف للإنسان لا هاوية تحته وما عليه إلا أن يحدق ليرى المهاوي من أي موقف في مواقفه،
إن الشجاعة خير ما يقتل فإنها تقتل الإشفاق أيضاً؛ وما من هاوية أبعد قراراً من الإشفاق لأن نظر الإنسان ليذهب وهو يسبر الآلام إلى أقصى مدى يبلغه عند سبره الحياة نفسها
إن خير ما يقتل إنما هي الشجاعة إذا هاجمت، لأنها ستتوصل أخيراً إلى قتل الموت نفسه لأنها تقول في ذاتها: (يا للعجب! أهذا ما كانت الحياة؟ إذن لأرجعن إليها مرة أخرى) إن(234/52)
في مثل هذه العقيدة أشد حداء يدفع إلى الإقدام. ومن له أذنان سامعتان فليسمع
- 2 -
واستوقفت القزم قائلاً: يجب أن يبقى أحدنا ويفنى الآخر. إنني أنا الأقوى لأنك لا تدرك أعمق أفكاري، وما أعمقها إلا فكرة لا قبل لك باحتمالها. فارتمى القزم عن كتفي فخف حملي، فإذا بهذا القزم يجلس القرفصاء على حجر أمامي، وإذا نحن تجاه باب كأنه وجد صدفة هناك فقلت لرفيقي:
أنظر إلى هذا الباب فإن له واجهتين، وهنا ملتقى مسلكين لم يبلغ إنسان أقصاهما، أحدهما منحدر يمتد إلى البرية، والآخر مرتفع يمتد إلى البرية الأخرى، والمسلكان يتعارضان متقاطعين عند هذا الباب وقد كتب أسمه على رتاج واحد (الحين)
فقلت: أتعتقد أيها القزم أن من يتوغل في إحدى هذين المسلكين يبقى معتقداً بأن اتجاه أحدهما معارض لاتجاه الآخر؟
فقال القزم بازدراء: إن كل اتجاه على خط مستقيم إنما هو اتجاه مكذوب، فالحقيقة منحرفة لأن الزمان نفسه خط مستدير أوله آخره
فأجبته قائلاً: لا تستخف بالأمر أيها الروح الكثيف وإلا غادرتك فتعطب حيث أنت، ولا تنس أنني أنا حملتك إلى الأعلى. تفكر في (الحين) الذي نحن فيه الآن، فإن من بابه يمتد سلك أبدي لا نهاية له متراجعاً إلى الوراء، فإنما وراءنا البرية يا هذا
أفما كان لزاماً على كل شيء معززٍ بمعرفة السير أن يجتاز هذا السلك فيما مضى؟ أفما تحتم على كل شيء له طاقة الوصول أن يكون قد وصل فيما مضى فأتم سيره وعبره؟
وإذا كان كل موجود الآن قد وجد من قبل فما هو اعتقادك في هذا الحين؟ أفما كان لهذا الباب وجود سابق؟
أفما ترى الأشياء كلها متداخلة، وأن هذا (الحين) يجر وراءه كل ما سيكون، بل يجر نفسه أيضاً؟
أفما يتحتم والحالة هذه على كل معزز بقوة السير أن يندفع مرة أخرى على هذا المسلك المتجه إلى فوق؟
أنظر إلى هذه العنكبة التي تدب على مهل تحت شعاع القمر! أنظر إلى شعاع القمر نفسه(234/53)
وإلى ذاتي وذاتك مجتمعتين تحت هذا الباب تتهامسان بأسرار الأبد! أفما تعتقد أنه لابد أن نكون وقفنا جميعاً من قبل في هذا المكان؟
أفليس علينا أن نعود أيضاً للتدفع تكراراً على المسلك الآخر الذاهب أمامنا متصاعداً مستطيلاً مروعاً؟ أفما لزم علينا أن نعود تكراراً وأبداً؟
هكذا كنت أتكلم بصوت يتزايد انخفاضه وقد أرعبتني أفكاري وما كمن وراء أفكاري فإذا بي أسمع نباح كلب على مقربة منا
خيل إليّ أنني سمعت مثل هذا النباح من قبل، ورجعت بتذكاري إلى الماضي فإذا هو يسمعني هذا النباح في أبعد أيام طفولتي ويمثل لي مثل هذا الكلب الذي أراه الآن وقد وقف شعره ومد رقبته مرتجفاً في أشد الليالي سكوناً حيث يتراءى للكلاب أيضاً أن في العالم أشباحاً
ونبه نباح الكلب إشفاقي إذ تذكرت أنه عندما عوى منذ هنيهة كان القمر يطل من وراء البيت صامتاً كالموت؛ ومنذ هنيهة كان هذا القمر يستقر فوق السطح كقرص ملتهب يراود ما ليس له، وذلك ما أثار غضب الكلب لأن الكلاب تؤمن بالسارقين والأشباح
عندما سمعت هذا النباح للمرة الثانية عاودني الإشفاق تكراراً
أين توارى القزم الآن ومعه الباب والعنكبة وأحاديث المناجاة؟ أكنت في حلم فاستفقت فأنا الآن وحيد بين جرداء الصخور لا سمير لي غير شعاع القمر المنفرد في السماء
ولكنني رأيت رجلاً مسجى على الأرض وكان الكلب يقفز وقد أقشعر جلده وهو يهدر هديراً، وإذ رآني قادماً نحوه بدأ بالنباح فتساءلت عما إذا كنت سمعت من قبل كلباً ينبح بمثل هذا الصراخ المستغيث
والحق أن ما رأيت في ذلك المكان ما كنت رأيت مثله، لأنني شاهدت أمامي راعياً فتياً ينتفض محتضراً، وقد أرتسم الروع على وجهه وتدلت من فمه أفعى حالكة السواد، فتساءلت عما إذا كنت رأيت قبل الآن مثل هذا الاشمئزاز والشحوب على وجه من الوجوه. لعل هذا الراعي كان يغط في رقاده عندما أنسلت الأفعى إلى حلقه وانشبكت فيه
وبدأت أسحب الأفعى بيدي، ولكني شددت عبثاً، فسمعت من داخلي صوتاً يهيب بالراعي قائلاً: عض عليها بأسنانك ولا تني حتى تقطع رأسها، وهكذا سمعت بهذا الهتاف أصوات(234/54)
رعبي واشمئزازي وضغينتي وإشفاقي كأنها صوت واحد يتعالى مني
فيا أيها الشجعان المحيطون بي، أيها الشذاذ المكتشفون يا من تقتحمون مجاهل البحار مستسلمين للشراع الغدار وأنتم تسرون بالمعميات والألغاز، عبروا رؤى المنفرد وحلوا ما رأى من معميات وقد كمن فيها ما كان وما سيكون
أيّ هذه الرموز يدل على ما فات وأيها يدل على ما هو آت؟
من هو الراعي الذي اندست الأفعى في فمه، ومن هو الإنسان الذي سيصاب بمثل هذه الداهية الدهماء؟
على أن الراعي بدأ يشد بأسنانه منفذا ما أشرت به، وما لبث أن تفل دافعاً برأس الأفعى إلى بعيد، ثم أنتفض ووقف على قدميه
وتبدلت هيئة الراعي فلم يعد راعياً حتى ولا إنساناً، إذ جلله الإشعاع وضحك ضحكة ما سمعت حياتي مثلها
لقد سمعت يا أخواني ضحكة ليست من عالم الإنسان ولم أزل منذ ذلك الحين أحترق بشهوة لا أجد ما يطفئها. إن شهوة هذه الضحكة تنهش أحشائي فكيف أرضى الموت بعد الآن
هكذا تكلم زارا
(يتبع)
فليكس فارس(234/55)
رسالة الشعر
وحشة!
للأستاذ أمجد الطرابلسي
ما أرى الينبوع في هذه الفلاه=فالتمسه اليوم في أعماق نفسك!
أيها الغربانُ يا شؤمَ الربوعِ ... انعبي ما شئتِ في صدري وقَرّي
يُنشدُ الشاعرُ في عرسِ الربيع ... وأنا أَستلْهِمُ الوحشةَ شعري!
هذه الصّحراءُ ما بين ضلوعي ... كاد يُذوي شوكَها فرطُ صَداها
أَعولتْ في الصَّدرِ تَسْتَجدى دموعي ... فأبى مُسْتكبِرُ الدمع وتاها
هذه الصّحراءُ حولي أين سرتُ ... تفزعُ الجِنَّانُ من وحشتِها
قد عوى في جوِّها الويلُ المُشِتُّ ... وتنزّي الرملُ في شُعلتِها
تتعبُ الأَعينُ في آفاقِها ... كشراعٍ بينَ أَمواجِ العُباب
ويَضِجُّ الغمُّ في أعماقِها ... ضجَّةَ الأغلالِ في دار العذاب
يا لصحراوَيْنِ في قلبي وحولي ... أَتمنَّى فيهما لمعَ سراب
أنا ما بينهما أرقبُ ظِليّ ... فأَراهُ سَلوتي وسْطَ الرّحاب
أيّها الوحشةُ خَلّي العنكبوتْ ... تنُسجِ الأكفانَ في أحناءِ صدري
وانشري اللّيلَ على كهفي الصَّموتْ ... وأصبِغي باليأسِ والأهوالِ فجري
أَظمئي زهري وزيدي سَأَمي ... وارتعي في خاطري يا وَحشتي!
أنا منْ صمتِكِ أَغذو نَغَمي ... وَبِوَيْلاتِكِ أسقي جنّتي!!
إنّ غَمّاً لم يزلْ في الصّدرِ يُطوى ... هو كنزي ومَعينُ الشّعرِ عندي
لا تُهنْه أَيّها القلبُ بشكوى ... إنّ فيها هونَ آمالي ومجدي
إيهِ يا نضوَ الفلا حسبُك صمتا ... غّنِّ في الوَحدةِ أَلحانَ التَّصافي
لستَ بالشاعرِ يا قلبيَ حتّى ... تُطلعَ النّرجسَ من شوكِ الفيافي!
عَبَثاً تخرسُ في الصَّدرِ الّلحونْ ... أيّها المُصْحِرُ صَنّاً وإِباَء
أنت كالبلبلِ في هام الغصونْ ... عيشُهُ أَنْ يُسكرَ الروضَ غِناَء(234/56)
يَتَمّنى الصّمت - لو كانَ مُتاحا - ... ضَرَمٌ في صَدرِهِ مُسْتَبْسِلُ
لا الجوى لا الغَمُّ لا الويلُ جِراحا ... تُسكتُ البلبلَ، عاشَ البلبلُ!!
أَيّها الضاربُ في عُرِضِ الصَّحارى ... تَتَمنَّى واحة تأوي إليها
عَبَثاً تطلبُ في الصّحراءِ دارا ... تطرحُ الأعباَء ما بينَ يديْها
أيها الهارب من دُنيا الجُحودْ ... إنَّ في صدرك أَنغامَ الوفاء!
أيها المُدلجُ في ليلِ الجُمودْ ... إنَّ في نفسكَ آفاقَ الضِّياء!
أيها الظمآنُ في هذا العَدَمْ ... أنتَ نبعٌ ترتوي منهُ الظِّماءْ
أنتَ فيه يائسٌ تشكو السَّقمْ ... وَهْوَ منْ يأسكَ يستسقي الرّجاء!
غنّ هذا الموتَ ألحان الحياهْ ... وأسقِ صحراوَيْكَ من خَمرِة حِسِّكْ
ما أرى الينبوعَ في هذي الفلاهْ ... فألتمسهُ اليومَ في أعماقِ نفسِك!
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(234/57)
الصدى والنرجس
للأستاذ خليل هنداوي
مهداة إلى الأستاذ دريني خشبة
(نرجس كان فتى سليل إلهين من آلهة الماء، فأحبته (الصدى) فصد عنها وجفاها، فشكت أمرها إلى الآلهة (هيرا) زوجة (أبولون) فلم يذعن ولذا مسخه أبولون زهرة هي زهرة النرجس، فكانت على غراره مصوبة برأسها لأنه كان يقف على حوافي الغدران وينكس رأسه ليستجلي جماله في مائها. أما الصدى فأصابها الهزال حتى لم يبق منها إلا القدرة على ترديد الأصوات)
أيها الرجل! لا تصم سمعك عندما تناديك المرأة فهي شيء غير الحب والجمال
(خ. هـ)(234/58)
نرجس
على وجنتيه يرفُّ الشباب ... وتزهو على الفجر ألوانه
ومن مُقلتيهِ يشعُّ الضياء ... كأن الكواكبَ أخدانه
يفيض على الكون من حسنه ... كأن حمى الحسن أوطانه
تمثَّلَ في قلب كل الحسان ... فكان الرجاء، وكان المثل
لكم تهادى عليه القلوب ... وكم تتهادى عليه المقل
على كل ثغر يطوف أسمه ... كأن أسمه - عندهن - الأمل!
رأته التي راعها حسنه ... فراحت تذيع جواها به
وظلت تلازم محرابه ... كراهب دير بمحرابه
فيا من رأى من جفاها الكرى ... موزعة النفس في بابه!
لقد شفها منه هذا النفور ... وصيَّرها الحب مثل الخيال
أيشعر رب الجمال الفتون ... بما في قلوب المها للجمال
فقالت: لآتيه في خلوة ... أبث هواي له في اعتزال
وأشكو وأبكي لما حف بي ... فيرحم ما سال من أدمعي
وإمَّا أستخف كشفت الضلوع ... وأعلنت ما تحتوي أضلعي
وأمَّا نبا قلت: قف يا فتى! ... لتشهد عن كثب مصرعي
فيرسم في مقلتي حسنه ... وتسقط شكواه في مسمعي
ويلبث مستعبراً مشفقاً ... ويحنو كئيباً على مضجعي
وإذ ذاك أغفو على راحة ... لأن حبيبي يقيم معي!(234/59)
لقاء
رأته مُكباً على دافق ... كمن تتراءى له خاطره
فما مدَّ عيناً لمن أقبلت ... ولا لفت الطرف للزائره
ولكنها وجمت وهلة ... تلملم آمالها الحائره
رأت وجهه في رقيق الغدير ... يرى الحسن منه ولا يشبع
فقالت: أتيتُ بلا موعد ... إلى حاجة لم تكن تُدفع
فكان على زهوه ذاهلاً ... عن الصوت، يصغي ولا يسمع
أما راق عينيك حسني النضير؟ ... وهذا المقبل والمعتنق؟
لقد لثم الفجر ثغري الصغير ... وضرَّج خدَيَّ لونُ الشفق
صفا كل معنى بجسمي الرشيق ... وراق به كل شيء ورق. . . .
تسللتُ والفجر في غبشة ... جرى في حواشي الدجى تبره
وجئتك يقتادني لاهب ... من الوجد لا يتقى حره
أتغفو على الحب غفو الخلي ... ومضناك يقتله صبره؟
هنالك غيد تطير الأماني ... بهن لحسنك أنى ائتلق
ولكنني شبح هائم ... أبيت على أرق أو قلق
تعال! فما بيَ إلا رمق ... وإلا تباريح تُذكي الحُرق
أراك تميل ولا تطمئن ... فأَهو عليَّ! ولا تبخل
ألا رشفة منك فيها الرحيق ... تقطر من ريقك السلسل
ألا قبلة يا حبيبي النفور! ... ولكنه سار لم يحفل!(234/60)
في قمة الأولمب
وزفَّت إلى قمة الآلهات ... وقد هالها منه ما هالها
وقصت على (هير) ما عالها ... وأذهب في الحب آمالها
فحنت لها آلهات الأُلمب ... وكل بكى أو تباكى لها
لقد لج بي الوجد يا ربتاه ... فقولي له يعطني ما أشاء
أهم بتقبيله عنوة ... فيزجرني زاجر الكبرياء
فنادوه حتى يلبي النداء ... فزاد عتوَّا. . فكان الجزاء(234/61)
نرجس والصدى
تعالين يا فاتنات الوجوه ... تأملن في النرجس الهائم
// لقد مسخوا شخصه نرجساً ... يظل على الماء كالحائم
يطيف بكل مسيل رقيق ... ويحدق في حسنه الناعم
مهبك يا ريح زاكي الأريج ... فمن أين يا ريح نفح العبير؟
حنت حين هبت على نرجس ... شذاه العبير، هواء العذير
وقد بلَّل الماء أعراقه ... فطاب النسيم ورق النمير
وأما الصدى فهي ولهى تجوب ... من القفر كل بعيد المدى
وتحسب كل نداء نداه ... فتمضي تجيب النِّدا بالنِّدا
لقد شحبت من أساها الصدى ... فليس تردد إلا الصدى. . .
خليل هنداوي
-(234/62)
من مشاهد دجلة في الشتاء
للأستاذ محمد بهجة الأثري
ويومٍ ببغدادَ في شَتْوَةٍ ... كما تلسَعُ العقربُ الشائلهْ
فليس الدثارُ يقي بردَها ... ولا النارُ مشبوبةً هائلهْ
ترى المرَء يَصْلى بكانونها ... وتأخُذُه رجفةٌ خاذلهْ
لمحتُ بدجْلَةَ فيه أمْرَءًا ... تجرَّدَ كالإِبْرَةِ العاطلهْ
فطوراً يُكِبُ على جسمه ... كما تَرْحَضُ الرَّيْطَةَ الغاسلهْ
وطوراً يعومُ بتَيّارها ... كما انْسابتِ الحيَّةُ الوائلهْ
يغوصُ كما الصخر يُلْقى بها ... إلى أنْ تَظُنَّ بهِ النازلهْ
فيطفُو على مَتْنها جائِلاً ... شبِيهَ الحَبَابِ طَفَتْ جائِلهْ
تَفَنَّنَ في عَوْمِهِ جاذِلاً ... كراقصةٍ رقصةً جاذِلهْ
نظرتُ إليه وبي دهشةٌ ... كما يَجِمُ القلبُ في الآزِلهْ
تعجَّبْتُ منه ومن حالتي ... ولي حالةٌ عكسه حائلهْ
حرامٌ عليَّ سوى فائِرٍ ... من الماء في القيظِ في القائِلهْ
تعجَّبتُ منه ولو راءني ... لَقَهْقَهَ قهقهةً هازلهْ
كلانا عجيبٌ. فسُبْحانَ مَنْ ... برا الناسَ شاكِلةً شاكِلهْ
ترى خَلْقَه ظاهراً جائراً ... وباطنه حكمةٌ عادِلهْ
تدِقُّ عن الفهم أسرارُها ... وإنْ بَلَغَ الرتْبَةَ الكامِلهْ
هو الكونُ أحْجَّيةٌ أعجزتْ ... بنى الأرضِ قافلةً قافلهْ
عَلَوْاً لُجَّهُ الغَمْرَ من آدَمٍ ... وغاصُوا وما عَرَفُوا ساحلهْ
بدائعُ دَلَّتْ على مُبْدِعٍ ... وأَعْظَمُها القوّةُ العاقلهْ
فلا يَزْعُمَنْ جاهلٌ فِطنةً ... فَيَجْحَدَ من جهله جابِلَهْ
ألا إنما العقلُ مُسْتَبْصِرٌ ... فهل ينزِع النزعة الجاهلهْ؟!
(بغداد)
محمد بهجة الأثري(234/63)
رغبة
للشاعر الألماني شيللر
للسيد عارف قياسه
من يستطيع أن يتصور غبطتي وابتهاجي، حين أجد مخرجاً من هذا الوادي، حيث سحب الضباب الصفيقة تنعقد في وجوه، وتتلبد على عدوتيه، وأقذف بنفسي في الفضاء الرحيب
ثمة تصافح عيني هضبات ضاحكة مستبشرة، كللتها خضرة أبدية، وزينتها فتوة سرمدية
وا حسرتاه! ليتني عصفور! ليت لي أجنحة! إذن لدوّمت ثمة ورّنقت فوق هاتيك الربى وتلك الهضبات
فلطالما رنت في أذني ألحان علوية، ليس لي بها من عهد، أفلتت من موسيقى ذلك العالم الطرب المفراح
ولطالما بلغني أريجه العبق الفواح، ممتطياً أجنحة النسيمات الرقيقة، فسطع في أنفي
ثمة أرى أثماراً ذهبية اللون تتألق خلال الأوراق الكثيفة ونباتات تتلألأ بالنوار، لا تخاف قر الشتاء ولا صبارته
تالله ما أرغد الحياة وأهناها فوق هاتيك الربى حيث تذهبها بآرادها شمس أبدية!
ولكن أمواج تيار جياشة مزبدة، تخطر الاقتراب عليّ، وتمنعني من الدنو، وتملأ قلبي فرقاً ورعباً
فالزورق ينوس قرب الشاطئ ويرجحن، ولكن وا حسرتاه ليس له من ربان يدير دفته! وماذا يضير؟ فلنلجه في غير وجل ولا إشفاق، فإن شرعه لمنشورة. . . فلنأمل ولا نقنط، ولنجترئ ولا نفرق، ومن يرج النجاة فليسلك مسالكها
إن أعجوبة فريدة تستطيع أن تنقلني إلى ذلك العالم الجميل المفعم بالأعاجيب والمليء بالمعجزات.
(حماه - سوريا)
عارف قياسه(234/65)
القصص
قصة شرقية من كاتلين رودس
زبيدة
للأستاذ دريني خشبة
من دأب الزائرات في بعض الممالك الإسلامية أن يلبسن كَوْثاً أحمر يخلعنه لدى باب حجرة الزائرين ليراه الرجال فلا يدخلوها ما دمن فيها. وهذه قصة الزوج المسكين صادق علي، الذي رأى الكوث الأحمر فلم يستطع أن يلج باب الحجرة ليلقى زوجه بعد سفر طويل عبر الصحراء الملتهبة المتلظية، وما حل بصاحب الكوث من دمار
زبيدة ابنة الصائغ فتاة جميلة بارعة الحسن ساحرة اللفتات، تميس كالغصن الرطب في الروضة الفيحاء، وتبسم كالزهرة الناضرة في الخميلة الغناء. . . لم تكد تبلغ من العمر سنتها الثانية عشرة حتى حبسها أبوها في ظلام الخدر، وأسبل على بدرها السافر خمار الأسر، كما تعود الشرقيون أن يفعلوا ببناتهم إذا ما بلغن هذه السن المبكرة، التي تعد فيها الفتاة لزواج مبكر كذلك، بينما يكون بناتنا (في إنجلترا) يتلاعبن في الحدائق، ويتثقفن في المدارس، دون أن تبدو عليهن بداوات الأنوثة الفائرة الثائرة، التي هي أول إرهاصات الزواج
وكان جميع موسري المدينة ينتظرون اكتمال شباب الفتاة ليخطبوها من أبيها لأبناهم، وكان كل منهم حريصاً أشد الحرص على أن يفوز بها لأبنه دون جميع الناس. وكانت حمرة الخوخ التي تتأرج بالعطر من خديها، وتفتير النرجس الذي ينفث السحر من عينيها، ثم هذه القسمات التي تتحوى حول فمها الدقيق الرقيق. . . كان جميع ذلك مخلوقاً للحب، موقوفاً على الهوى، غير ميسر إلا لشباب غض مثله ريان كما إنه ريان
وتقدم الأباء إلى الصائغ يخطبون زبيدة، ولكن الصائغ كان يغلو في تقدير مهرها ليتخلص ممن لا يراه كفءاً لها، وطمعاً منه ألا يكون أحد قد قبض لأبنته مهراً أكثر من مهر زبيدة. ولم لا؟ أليست زبيدة أجمل فتيات المدينة وأرشقهن وأوفرهن فتنة وأخفهن روحاً؟ وهي مع ذاك كاتبة قارئة تحفظ قدراً غير قليل من آيات الله وحديث الرسول وقصائد الشعراء، ثم(234/66)
هي تجيد الإنشاد والغناء حتى لا يغني مثلها بلبل، ولا يجيد أن يرسل مثل نغمها ناي ولا عود. . . أضف إلى ذلك كله مهارة فائقة في الحياكة وأشغال الإبرة وشواغل المنزل. . .
وكان أغنى أغنياء المدينة - صادق علي - رجلاً شيخاً، أشرف على الستين، وكان صديقاً للصائغ، يقضي كل يوم شطراً من فراغه عنده؛ وكانت أسعد لحظاته تلك التي يرى فيها زبيدة الصغيرة تلهو بعرائسها أو تبعث بِبِلْيها، وهي مشرقة أمام الدكان بين أترابها كالقمر الحالم بين الأنجم الحَسْرى. . . ولم يكن أحد يفكر في أن هذا الشيخ الذي أوهنه الكبر قد ثوى في فؤاده من حب زبيدة ما لم يثو في أفئدة الشبان اليوافع؛ وأنه صمم على أن يشتري هذا الجمال وذاك الكمال بذهبه الذي لا يكاثره في ضخامته أحد. . . فلما تقدم خاطبا زبيدة إلى أبيها، هش الرجل وبش، وعده فخراً أي فخر أن يصهر إلى صادق علي ذي الكنوز والضياع والأملاك الشاسعة، والقصور المنيفة العامرة
وذعرت زبيدة أيما ذعر لما صعقها أبوها بهذا النبأ. وكيف لا تذعر وهي تعرف الرجل أحسن المعرفة، وطالما قدمت له أقداح الشاي المعطر، وفناجيل القهوة العربية، في دكان أبيها؟ وكيف لا تذعر، وهي يعز عليها أن يذبل شبابها الفينان، في هاتين اليدين المثلوجتين، وتحت ظلال تلك الشيبة الناصعة، وهذا البدن المهزول المعروق. . . إن سنيها الثلاث عشرة لتنوء تحت كلكل السنين الستين التي يرزح تحتها هذا الرجل. . . وإن حمرة الخوخ وتفتير النرجس وقسمات الخدين وجنة بدنها الخصب الناضج، لأعز من أن تشرك صادق علي في قبره القريب! فلم لا تفزع الفتاة من النبأ المزعج الذي فجأها به والدها في أمسية شقية فتقول له:
- أبتاه! عمرك الله ماذا تقول؟ ما أظنك إلا ساخراً بي! إن صادق علي رجل عادل، وأحسبه لا يرتضي هذا الظلم الذي يوشك أن يحل بي، فهو شيخ عجوز طاعن في السن، وأنا بعد فتاة صغيرة لم تكد تنقضي طفولتي، فأين أنا وأين هو. . . لا لا يا أبي. . .
فيتلطف أبوها ويقول: (هذا حق، إلا أنه يا ابنتي رجل موسر غني ضخم الثراء، وقد مهرك مهراً لم تمهر بمثله فتاة في المدينة؛ وهو مع هذا يحبك وسيحرص عليك كروحه، وحين تصبحين زوجة سيحترمك الجميع وتكونين على رأس السيدات قاطبة. . . ثم هو برغم سنه قوي فتي مفتول العضل، غض الإهاب موفور الشباب. . .(234/67)
فتعبس الفتاة وتقول شاكية: (أوه يا أبي! ولكني لا أستطيع أن أحبه. . . هل ضقت بي ذرعاً يا أبي فتريد أن تقذف بي ولما أستمتع بعد بشبابي؟! دعني أعش معكم قليلاً يا أبتاه! دعني أستمتع بالشباب الحلو، وأهنأ بأفاويق الصبا الغريض!
وأتقد عينا الأب الجشع بالغضب، وهم أن يبطش بزبيدة المسكينة التي تقدمت في سذاجة وخوف، فطوقت أباها بذراعيها اللدنتين، وأسندت رأسها الصغير إلى صدره الكبير، وانطلقت تبكي
- أسكتي يا ابنتي! إن الفتاة العاقلة المهذبة هي التي لا تضطر أباها إلى أخذها بالشدة، بل ما على الوالد إلا أن يأمر، وما عليها إلا أن تطيع. إنني لست كهؤلاء الآباء الذين نشأوا أبناءهم على احترام العصا، ولكنني أرجو ألا أضطر إليها إذا ركبت رأسك ولم تصيخي ولم تسمعي!
وأزلزل قلب الفتاة، وذكرت ما كان يعاملها أبوها به من اللطف والظرف والرقة والرفق، وأنه ما ساءها قط بضرب ولا تأنيب، وأنها، وما تزال، كانت كل شيء له في هذه الحياة، لأنه لم يكن له ولد غيرها، وأنه طالما جلب لها اللعب، وترضاها بالدمى. . . فسكنت وقالت: (عفواً يا أبي. . .) وسر الرجل التاجر، وقبل أبنته وقال: (الآن أنت ابنتي حقاً. . . أنت زبيدة المؤدبة المهذبة المطيعة. . . غداً يحضر صادق علي فينثر ذهبه تحت قدميك، ولا يمضي شهر حتى تزفي إليه
وكان لزبيدة خادمة نوبية أبنوسية السواد، وكانت بها حفية وعليها عطوفا، فأهرعت إليها زبيدة تقول:
- فاطمة! فاطمة! هل علمت؟ لقد أمر أبي أن أتزوج من صادق علي العجوز الغني الأرمل الذي سنه أضعاف سني؟! وهو يقول إنني سأزف إليه قبل شهر، فهل رأيت؟ آه يا فاطمة أنا لا أطيق هذا! ساعديني بربك حتى أنجو من هذا العذاب
- آه يا صغيرتي العزيزة! لا بد أن تتم مشيئة أبيك! حقاً إن صادق علي رجل عجوز أرمل، ولكنه غني واسع الغنى، وستنعمين عنده بما لا تحلم به فتاة!
فجحظت عينا زبيدة، وقالت للنوبية المشئومة:
- حتى أنت يا فاطمة! وسري الذي ألقيته إليك أمس؟ هل نسيته؟(234/68)
فوضعت النوبية إصبعها الأبنوسي في فمها المرجاني، وأنشأت تقول:
- صه! أسكتي يا صغيرتي! إياك أن تنبسي بهذا الهذر بعد فقد يذهب به طائر سوء إلى من تكرهين أن يعلمه. . . حقاً، أنا لم أنسى ما قصصت عليّ من غرام عمران الشاب صاحب الناي. . . ولكن هذا العبث لابد أن ينتهي الآن، ويجب ألا تلتقيا بعد اليوم!
- بيد أنني أحبه يا فاطمة! إنه جميل ويافع. . . وعزفه أحب إليّ وأحلى من غناء النسيم في أفنان شجرات اللوز، وصفاء عينيه أوقع في النفس من صفاء الماء النمير في الغدير. . . إن له لملمساً ناعماً كأوراق الورد يا فاطمة! أواه لو أنني زففت إليه بدلاً من صادق علي!
- حسبك! إنك إذن كنت تلقينه! والله لو علمت بهذا لفضحتك عند والدك منذ أسابيع!
وهكذا اسودت الدنيا بأسرها في فؤاد الفتاة، فلقد كانت ترجو أن تعينها فاطمة على بلواها، فانعكست الآية، وأنتشر ليل أحزانها من وجه النوبيه البغيض
لقد أحبت زبيدة عمران، وأحب عمران زبيدة، لأنهما نشآ في مهد الطفولة الناعم، وشبا على غرار الشباب الغريض، فبارك الله قلبيهما، ومشى عليهما بيده الرحيمة الطاهرة. ولما وقفا مرة قبيل حجاب زبيدة، تحت ظلال أشجار البرتقال في حديقة بيت الصائغ، نقل الأرج الحلو شذى حبهما من قلب إلى قلب، وعرفا لأول مرة سر الوجود، ونظر بعضهما إلى بعض نظرات عميقة جديدة مغرورقة بالدموع، تنسكب من أغوار الفؤاد لا من أطراف العين. . . وظلت أشجار البرتقال هيكلهما الحبيب، يتناجيان في ظله ويتشاكيان، هي في الثالثة عشرة أو في فجر الرابعة عشرة؛ وهو في الثامنة عشرة، أسود العينين، مسبل الشعر، وضاح الجبين؛ ثغره الباسم كالأقحوانة، وخده المكسو بالخمل مهيأ للقبل، وشبابه اليانع كنضرة الحديقة، وماءة حسنة تسكب نداها في روح زبيدة، القسمة الوسيمة، المفتان الحسان التي لها هذا الفم وذاك الجسم. . . تبارك الله!. . .
يا للقضاء الساخر! لقد قطف الحبيبان جنا القبلة الأولى. . . القبلة الشهية السحرية التي غيرت معالم الأرض، ودارت برأسيهما حولها. . . في صبيحة اليوم الأسود الذي تكلم فيه الصائغ مع فتاته، فصعقها بالنبأ المشئوم
لقد باتت زبيدة ليلة يا لها من ليلة، تتقلب على فراش من الشوك، وتجتر صنوفاً مهلكة من الهموم، وتطيف برأسها المتقد شهب من الأفكار تقذف روحها بالصواعق. . . حتى إذا(234/69)
انبلج الفجر، وأنفلق الصباح، وثبت كالقطاة من سريرها الكئيب وطوت الدرج دون أن تنتعل حذاء يقي قدميها المعبودتين، وذلك مخافة أن توقظ أحداً من النُّوام الأشقياء، ثم انفلتت إلى الحديقة قبل أن يهتف المؤذن هتاف الصباح الرهيب: (الله أكبر! الله أكبر!) وقبل أن تنتثر أوراق الورد على جبين المشرق. . . ومضت إلى الهيكل. . . بيت المقدس الحبيب. . . إلى شجرات البرتقال، ووقفت ثمة ترتقب عمران الذي كان منها على موعد. . . ولم تبال بقطرات الندى التي كانت تهل معطرة بفغمة الورد، وعبير أزهار اللوز، وروح الزئبق والياسمين، لأنها ملائكة الحب تجبر القلوب الكسيرة، وتمسح الدمع من عيون العشاق. . .
وأقبل عمران في ظلام البعد يسكب في آذان الطبيعة النائمة موسيقاه، ويساعد المؤذن التقى بنايه الفردوسي، فتصحو البرايا وتهتف مع المؤذن ومع عمران: (الله أكبر)
وروع عمران ما رأى من وجوم حبيبته، وما لمح من لؤلؤ دمعها الذي يوشك أن ينهمر: (ماذا؟ زبيدة! ما لك يا حبيبتي؟ لقد كنا بخير أمس! فماذا؟ ما بالك باهتة هكذا كأننا في أخريات رمضان؟) ولفت زبيدة ذراعيها الحبيبين حول عنق فتاها، وجعلت تصعد آهاتها وتقول: (آه يا حبيبي! لقد كان ما لم يكن في الحسبان. لقد خطبت! وقضى أبي أن أزف إلى صادق علي العجوز الأرمل بعد شهر من الزمان!)
وتصدع قلب الوامق المحب، وبكى، وبكت معه زبيدة؛ وطفقا ينعيان أحلامهما، ويتغنيان آلامهما، ولا يدريان ماذا يصنعان. وكان الفجر الحزين يبكي معهما بدموع الندى
وجلسا على العشب المبلل ساعة، وزبيدة نائمة غارة في صدر حبيبها، وكلما حاول عمران أن يتكلم انحبس منطقه وتكلمت جفونه، ولم يملك إلا أن يغمر حبيبته بالقبل، يطبعها في شعرها المغدودن، وفوق جبينها الشاحب، وعلى صدرها المرتجف، حتى ذر قرن ذكاء، وآذنتهما بالفراق، فهب الفتى المتبول يعانق زبيدة وزبيدة تعانقه، ويقبلها وتقبله. . . ثم افترقا. . . هي كالشبح في ظلال الأشجار إلى القصر الرهيب، وهو كسير القلب، مهيض الجناح. . . إلى. . . الصحراء، لا يدري أيان يذهب
وجعلوا يسمنون زبيدة فيقدمون لها كرات الشهد معجونة بالأفاويه، ويدسمون لها السمان، ويبالغون في انتقاء الآكال. . .(234/70)
ولكن زبيدة مع ذاك جعلت تشحب وتشحب، ويذبل جسمها ويضوي، وأبوها القاسي يرى ذلك فيحزن، ثم يواسيها بكلمة جافة فتبدي له الرضى. حتى إذا كانت ليلة الزفاف، وخرجت الفتاة من الحمام، وسيقت إلى سجن زوجها، أخذت تودع الحديقة عن كثب، وترمق هيكل الحب المقدس تحت ظلال البرتقال، وتذرف العبرات الحرار، وفاطمة الخبيثة تشهد ولا تتصدع، بل تبسم وتتفكه. . . وتزغرد وتغني. . .
ومضت الأيام. . . ولم يأل صادق علي جهداً في ملاطفة زبيدة ومداعبتها، ولم يترك حلية من ذهب أو ماس أو لؤلؤ إلا اشتراها لها مهما كان ثمنها. . . ولكن الفتاة كانت مع ذاك تشحب وتشحب، ويشتد شحوبها. . . لأنها لم تنس عمرانها الفتى الجميل الذي زاد جماله وتضاعف حبه بازدياد كراهتها لصادق علي. . .
ولم يكن الشيخ العجوز يسمح لزبيدة بمغادرة باب القصر. . . حتى ولو إلى الحديقة الواسعة الفيحاء التي تحيط به، فكانت تصعد إلى السطح، لتتنسم أخبار حبيبها في أديم السماء، ولتنشق عبير الحب القديم على أجنحة الذكريات!
فبينا هي على السطح يوماً إذا بها تسمع موسيقى حلوة في حديقة القصر، وإذا الموسيقى إرنان ناي كناي حبيبها. . . فأطلت لترى من صاحب الناي، فوجدت بستانياً يجمع الأوراق المتناثرة فوق عشب الحديقة. . . وكأنما جذبته روحها اللهفانة فرفع رأسه إلى السطح. . . والتقت الأعين. . . وعرف كل حبيبه
لقد عمل عمران بستانياً لدى صادق علي. . . لينشق الهواء الذي تنشق منه سالبة لبه، وساكنة قلبه. . . وهو مع ذاك لا يحلم بلقائها. . .!
ودارت الأرض مرة أخرى. . . واستيقظت آمال وأحلام!
وكان يحس عمران هذه اللحظة السعيدة التي يرى فيها كل أصيل وجه حبيبته، وتلتقي عيناه بعينيها. . . لكن الحب أجرأ من هذا وأشجع. . . وهو لا يبالي أن يسلك سبل الجحيم ليصنع ما صنع يَاوْلو وفرنشيسكارا. . . فتبدلت النظرة فصارت ابتسامة ثم تمتمة، ثم تلويحاً بأعواد من الياسمين. . . ثم محاولة لقاء. . .
ولقي صادق زوجته فشدهه منها تبدل حالها وتدفق الدم الشاب الفتي في خديها. . . وأخبرها أنه مزمع سفراً طويلاً في الصحراء قد لا يعود منه قبل أسبوع، لأن الشيطان(234/71)
نزغ بين نفر من أقاربه، فهو ذاهب لإصلاح ذات بينهم، وإحلال الصفاء محل الجفاء فيهم؛ ثم أوصاها بالقصر، وحذرها - في تلطف - من مغادرة بابه، حتى يؤوب. . . ووعدته أن تكون عند ظنه بها، وفية له، حفية به، عاملة على ما فيه رضاه!
وسافر صادق علي. . . واستطاعت زبيدة أن ترسم الخطة للقاء عمران. . . وكلمته حين أمنت مكر الخدم وقت غدائهم، خلال (مشربية) مشرفة على الحديقة، فاتفقا أن يزورها في زي امرأة (!) وأن يعد لذلك كوثاً أحمر وملاءة سوداء ونقاباً. . . وأن يتخذ اسماً مستعاراً، وليكن (مرسينه). . . ولم يكن أحد من الخدم يعرف من هي هذه السيدة مرسينه التي تريد لقاء سيدتهم، ولكنهم لم يشكوا قط في إحدى زائرات القصر، ولهذا كانت الخادم، بعد إذ تقدم أكواب الشاي المعطر، أو أقداح القهوة العربية، للسيدة مرسينه، تنسحب من الطابق كله. . . فيخلوا الجو للحبيبين المشوقين!!
ومضى الأسبوع على أحسن حال بينهما من تساقي الحب وتشاكي الهوى، وبلّ أوار القلوب، ثم جاء رسول من لدن صادق علي يحمل رسالة من مولاه، أن قد شجر خلاف آخر، وأنه قاض أسبوعاً آخر عند أهله. . .
وفرح عمران أيما فرح. . . وطفر قلب زبيدة. . . وما كان أجمل عمران وهو يبث حبه إلى فتاته، وهو يعانقها في شدة وحرارة ويقول: (أسبوع أخر؟ وما سبعة أيام يا زهرة حياتي وننفصل بعدها، وتقبل الشفتان الكريهتان فتقطف القبل الحلوة المعسولة من فمك الرقيق الدقيق، وينحط الصدر البغيض الميت فوق صدرك الناهد الأغيد، وتنقلب السلاسل الذهبية التي تربط قلبينا بأغصان الورد فتؤذي قلبك بأصفاد من حديد؟!)
بيد أن صادق علي أنجز أعماله في ثلاثة أيام أو نحوها، وأقبل يحث المطي عبر الصحراء، فوصل قبل ميعاده. . . وصل والمحبان يرشفان كؤوس الهوى، ويتبادلان سلافة الحب، فلما أقبل الزوج مشوقاً إلى لقاء زوجه، نظر فوجد الكوث الأحمر لدى الباب، فلبث قليلاً، وجعل يروح ويجيء، وينتظر بجدع أنفه أن ينصرف الزائر فلا ينصرف. . ثم يسأل الخادم فيعلم أنها امرأة تدعى مرسينة (تطيل اللبث يا مولاي عند سيدتي، وتحضر إلى هنا كل يوم. . . و. . . و. . .)
ويمضي الرجل المسكين فيدخل إلى الحمام ليذهب عنه غبار السفر(234/72)
ويصعد الخادم فيرهف سمعه، وينصت ليسمع حديث من في الغرفة. . . ولكنه بدلاً من أن يسمع حديثاً ترن في أذنيه قبل فضية، وآهات موجعات. . . ثم ينصت. . . فيسمع شكوى ونجوى. . . وسباباً مقذعا، فيعلم السر. . . ويسقط في يده: (تالله لو علم مولاي لذبح حبيبها أمام عينيها)
وفضل الخادم أن ينقذ الموقف، فنقر بإصبعه على الباب واستوى عمران وأستتر. . .
- أدخل!
- سيدتي. . . لقد عاد مولاي صادق علي فجأة. . . وهو يريد أن يراك! وارتبكت زبيدة، وأسقط في يدي عمران
- لا بأس. . . أذهب أنت!
وتبادل الحبيبان القبل مع ذاك، ثم فتحت له زبيدة شباك (المشربية) فانفتل منه وقد لبس الكوث الأحمر
وخرجت زبيدة لتلقى زوجها وهي مطمئنة آمنة. . . ولكن ساعة بأكملها مضت دون أن يخرج من الحمام. . . ومضت ساعة أخرى. . . وأرخى الليل سدوله. . . وأمرت الخدم فأوقدوا السرج. . . وآثرت أن تذهب إلى الحمام لتلقى زوجها. . . وما كادت تفعل حتى برز صادق علي من إحدى الغرف وقد بدل ثيابه، فعانق زبيدة عناقاً حاراً وطفق يغمرها بقبل لا جنية ولا مشتهاة!
- قط ما عرفت الشوق كما عرفته في هذا السفر يا زبيدة!
-. . .؟. . .
- لقد أحضرت لك هدايا وألطافاً جمة. . . يا غلام! أحضر السلال والحقائب
وأحضر الغلام السلال والحقائب، وطفق صادق علي يحل الأربطة، ويخرج عقود اللؤلؤ وأقراط الذهب وأساور الفضة، ثم يضع كل ذلك موضعه من عنق زبيدة وجيدها وأذنيها وذراعيها. . . ثم فتح حقيبة وأخرج ثوباً ثميناً موشى فخلعه عليها فبدت فيه كامرأة هرون الرشيد!
- هذا جميل. . . أشكرك
- وأجمل منه الهدية التالية. . . يا غلام. . . أحضر السفط! وأحضر الغلام السفط الكبير(234/73)
فقال صادق علي:
- أما والله لا يفتح السفط إلا زبيدة. . .
فارتجفت يدا زبيدة كأن فيهما كهرباء، وفتحت السفط، ثم جعلت تخرج ما فيه من طرف وتحف. . .
ولكنها اقشعرت فجأة، حينما اصطدمت يداها بكوث أحمر. . . ثم بثوب فيه شيء ثقيل. . .
ماذا. . . وا حرباه!! رأس عمران الجميل. . . الرأس الذي كان يرسل عينيه الساحرتين الدعجاوين في عينيها الوامقتين المشغوفتين. . .! الرأس الذي كان لسانه يصوغ أحلى عبارات الغزل! الرأس الذي كان فمه ينفخ في الناي فترقص الملائكة. . .
- زبيدة!! أحزينة أنت!
- اقتلني. . . اقتلني يا صادق!
- لا. . . بل أعاقبك بأشد من القتل! ستعيشين لي! انظري! هاتان الشفتان المرتعشتان ستنطبقان على شفتيك برغمك. . . لا شفتا عمران! وهذا الوجه المكلثم المجعد الشائه سيزعجك دائماً. . . وهذا الصدر الثقيل سيضايقك أبداً. . . ستكونين لي بعد عمران يا زبيدة! لن يشركني فيك أحد بعد اليوم! أليس كذلك؟ ها ها. . . ها. . .)
ولفت الدنيا برأس زبيدة، ولكن فكرة طافت بدماغها فجأة فجثت تحت قدمي صادق علي، وطفقت تتوسل وتتضرع، وتلف يديها على وسطه، حتى إذا لمست خنجره، انتزعته بقوة، ثم أغمدته في صدرها. . .
- لا لأن أكون لك أيها المسخ، وسأكون إلى الأبد لعمران. . . سأضل وفية لك يا عمران. . . لك وحدك. . . يا. . . عمران!. . .
الشباب للشباب يا شرق. . . وإلا. . . فالكوث الأحمر يعمل عمله
دريني خشبة(234/74)
البريد الأدبي
جوائز أدبية مصرية
تنشر الرسالة في هذا الباب كثيراً من أنباء الجوائز الأدبية التي ترتبها مختلف الأمم لتشجيع الآداب والعلوم، ولكنها لم تستطع أن تنشر حتى اليوم أنباء (الجوائز الأدبية المصرية) ذلك لأن هذه الجوائز لم توجد مع الأسف حتى اليوم؛ بيد أنه مما يدعو إلى الغبطة أن تكون وزارة المعارف قد فطنت أخيراً إلى هذا النقص، فأمامها الآن مشروع قدمه منذ حين صاحب السعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا سفير مصر في لندن يقضي بإنشاء خمس جوائز أدبية تمنح للمتفوقين من كتاب العربية في الآداب والعلوم؛ وقيمة هذه الجوائز ألف جنيه لكل منها مائتا جنيه قد تزاد إلى مائتين وخمسين، ويمنح منها أربع للمصريين، وترصد الخامسة لأبناء الأقطار العربية الشقيقة. ولم توضع نصوص المشروع النهائية بعد، ولكن هناك تفكيراً في أن يكون باب التشجيع والمنافسة مفتوحاً لكل كتاب العربية من مختلف الأقطار في جميع الموضوعات الأدبية العامة مثل الشعر وتاريخ الأدب والقصة والقطع المسرحية وأمثالها؛ وأما الموضوعات المصرية المحضة فتقصر المباراة فيها على المصريين. وعلى أي حال فإن الغاية الأساسية من ترتيب هذه الجوائز هي تشجيع الآداب العربية بصفة عامة، وهي غاية نحمدها ونرجو أن توفق الجهات المختصة إلى تحقيقها. ذلك أن الأمر لا يتعلق هنا بوزارة المعارف فقط، ولا يكفي فيه أن ترتب جوائز خمس؛ فهنالك الجامعة المصرية وكلياتها المختلفة، وهنالك الجامع الأزهر وكلياته المختلفة، وهنالك مختلف الهيئات العلمية والفنية، فهذه كلها يطلب إليها أن ترتب الجوائز الأدبية والعلمية. وإذا كانت وزارة المعارف تعتمد في كل عام نحو عشرة آلاف جنيه لتشجيع الحركة المسرحية، وتغدق من هذا المبلغ معظمه على الفرق التمثيلية الأجنبية، فإنه يكون من التقتير الواضح أن ترصد ألف جنيه فقط لتشجيع الحركة الأدبية. لذلك نحب أن نعتبر مشروع الجوائز الحالي بداية فقط نرجو أن تثمر ثمرها المرغوب، وأن تؤازرها جميع هيئاتنا العلمية، فترتب كل جوائزها لتشجيع التفكير العربي في مختلف نواحيه
إغلاق مقهى أدبي شهير
من أنباء باريس أن مقهى (كافيه ده كرواسان) الشهير قد أغلق نهائياً بعد أن لبث مدى(234/75)
تسعين عاماً منتدى للأدباء والصحفيين. وكان هذا المقهى التاريخي يقع على زاوية شارع مونمارتر عند التقائه بشارع كرواسان الصغير؛ وقد اشتهر منذ أواخر القرن الماضي بأنه مقهى الأدباء الناشئين. ثم غدا قبيل الحرب مجمع الصحفيين يحتشدون فيه صباحاً ومساء ليكتبوا أخبارهم أو مقالاتهم؛ وهكذا كانت تحرر فيه معظم الصحف الباريزية، وتعقد فيه الاجتماعات الأدبية والصحفية. وكان صاحبه مسيو فيدمان أديباً يشرف على كثير من الاجتماعات الأدبية التي تعقد في مقهاه. ومما هو جدير بالذكر أن جان جوريس الكاتب الفرنسي والزعيم الاشتراكي الشهير قتل في أغسطس سنة 1914 أثناء جلوسه في شرفة هذا المقهى
وقد تحول تيار الأدباء والفنانين في العهد الأخير من مونمارتر إلى مونبارناس، وأخذت مقاهي مونمارتر ومطعمها الشعبية تواجه الأزمات نظراً لانصراف أصدقائها القدماء عنها، بينما أخذت مقاهي مونبارناس، ومعظمها جديد، تزخر بعملائها الجدد، وقد عرفت مقاهي هذا الحي الباريزي الشهير دائماً بأنها مجمع الفنانين، ولكنها اليوم تغدو أيضاً مجمع الأدباء والكتاب من كل ضرب
اقتراح إنشاء جامعة عراقية
أقام أدباء بغداد حفلة تكريم للدكتور زكي مبارك فألقى في تحيتهم خطبة جاءت في ختامها الكلمة الآتية:
(لقد رحلت عن مصر وأنا مصمم على الاستبسال في الدعوة إلى إنشاء جامعة عراقية، فلما وردت العراق لم أجد من يشجعني على تحقيق ذلك الأمل النبيل، وصارحني بعض الرجال بما يعترض إنشاء الجامعة العراقية من عراقيل
فأنا أنتهز هذه الفرصة لتسجيل هذه الرغبة بطريقة علنية، وأصافح بيمناي أنصارها الأوفياء، وأدعوكم إلى الكتابة عن هذه الأمنية في كل يوم، والكلام عنها في كل مجتمع، والإلحاح بها على جميع الوزراء. وأعلموا أن من العار أن تخلو بغداد من جامعة وباسمها الخالد تتعطر الأفواه في جامعات الشرق والغرب
إن الحجة في أيدينا أيها الزملاء، فعندنا نواة الجامعة العراقية، عندنا النواة السليمة لأربع كليات، فلنبادر بتأسيس الجامعة العراقية بصفة رسمية، ولنبادر بخلق الصلات العلمية(234/76)
والأدبية مع الجامعة المصرية وجامعة باريس، ولنقرر منذ هذه الساعة أن نفتتح الجامعة بمهرجان مشهود في آذار المقبل، شهر الأزهار والرياحين
أيها الصحفيون الشرفاء
لقد كنتم عند ظن الوطن الغالي في ظروف كثيرة، فشدوا من عزائمكم لنصرته هذه المرة، وحققوا أشرف غاية لحملة الأقلام وهي إعزاز العلوم والآداب والفنون
أيها الزملاء
لقد كرمتموني بهذا الاحتفال الرائع، فهل تعرفون متى أرد لكم هذا الدين النبيل؟
سأرده يوم يتقرر بفضل مسعاكم إنشاء الجامعة العراقية، ويومئذ لا أكتفي في تكريمكم بألوان الحلوى وأكواب الشاي، وإنما أعقر لكم الذبائح من عرائس الشعر الجميل)
وقد نوهت جميع الجرائد العراقية بهذه الدعوة التي صادفت هوى من أنفس الحاضرين وفيهم أقطاب التعليم بوزارة المعارف العراقية
المهرجان الملكي لجماعة الأسبوع الصحي
رأت جماعة الأسبوع الصحي أن تقيم لمناسبة زواج جلالة الملك الميمون مهرجاناً في إبان الزفاف، تسهم فيه بنصيبها في أفراح الأمة، وتعلن عظيم سرورها بذلك الأملاك الكريم. وقد تألفت من بين الأعضاء القائمين بهذا المهرجان لجنة أدبية لتدعو الشعراء والكتاب والخطباء والزجالين إلى مبارزة بيانية تقام في مكان وزمن يعلن عنهما فيما بعد. وإن في التقدم إلى تلك المباراة تسجيل فخار وشرف لما لموضوع القول من جلال الخطر، وسمو الشأن، وكرم المنصب، وشرف المحتد، وعلو القدر بين العالمين
وإن ميدان البيان البليغ لمتسع، شباب رائع فتي، وعقل ألمعي، وقلب تقي، وخلق عظيم، ودين مكين، قد ضرب أروع الأمثال للشباب الطاهر، فسارع إلى الزواج، وهو سنة الإسلام ونصف الدين، وبادر إلى إحصان، ليكون أسوة حسنة لشباب مصر في إجابة دعوة الرسول الأمين
وإن اللجنة لتتقدم داعية رجال الأدب إلى تلك الحلبة الطاهرة المباركة ليتقدموا إليها بشعرهم، وخطبهم، وكتاباتهم، وأزجالهم وأدعيتهم الضارعة إلى الله تعالى أن يبقي مليك مصر خائنة الأعين وما تخفي الصدور(234/77)
ومن يقع الاختيار على كلامه يكن له حق إلقائه في يوم المهرجان، أو يسجل في كتاب يرفع إلى مقام المليك، وينشر بين الناس تذكاراً خالداً. وستضع اللجنة جوائز مختلفة لمن يحوز قصب السبق في المباراة. وإن أقصى ميعاد يرسل فيه الأدباء ما تجود به قرائحهم هو يوم الاثنين 10 يناير سنة 1938
وترسل إلى الأستاذ محمد عبد الجواد المدرس بدار العلوم العليا بالمنيرة بمصر
مقرر اللجنة
محمد أبو زهره
المدرس بكلية الحقوق
معركة الفاشستية والديمقراطية
يتخذ النضال الدولي يوماً فيوماً صورة صراع واضح بين معسكرين من المبادئ الخصيمة: الفاشستية والديمقراطية؛ وهذه الظاهرة تستغرق اليوم اهتمام المفكرين والساسة في جميع الأمم.
وقد ظهر أخيراً كتاب يتناول هذا الموضوع بقلم الكاتب السياسي الأمريكي هاملتون ارمسترنج عنوانه (إما نحن وإما هم) ونحن يقصد بها الكتلة الديمقراطية، وهم يقصد بها الكتلة الفاشستية. ويستعرض الكاتب ظروف هذه المعركة بقوة ووضوح، وهو يدرسها ويستعرضها منذ أعوام في مجلة الشئون الخارجية الأمريكية التي يشرف على تحريرها ببراعة. ومن رأيه أن توجد اليوم بين هاتين الكتلتين من المبادئ هوة لا يمكن إجتيازها، وإن إحداهما ستقتل الأخرى بلا ريب؛ وكل ما هنالك هو السعي لمعرفة من يكون الظافر. فهل تنتصر الشعوب الحرة وتلك التي تريد أن تستعيد حريتها، أم تنتصر عصبة الفاجرين الحمقى الذين يريدون أن يجعلوا من البشرية أداة حية لخدمة الحكم المطلق؟
ويدحض الكاتب بقوة الزعم الذي تستتر وراءه الفاشستية منذ حين وهو أنها تخاصم الشيوعية وتعمل لسحقها؛ ومع أنه ليس بالاشتراكي ولا بالشيوعي فإنه ديموقراطي في تفكيره مؤمن بمبدأ سيادة الشعب وحكومة الشعب. وهو يرى أن الحرية هي أسمى ما يمكن أن يتمتع به شعب حر، ولكنه يحمل على تلك الديمقراطية البرجوازية التي تعترف بعجزها(234/78)
عن تهيئة الأعمال للعاطلين وفتح الأسواق للأعمال والتجارة، ومحاربة الصناعات المحتكرة، وتخفيض مستوى العيش؛ مثل هذه الجماعة أو الحكومة ليست جديرة في نظره بالبقاء والحياة، وليست بالأخص جديرة لأن تخاصم وتناضل أنواع الحكم الأخرى
ويشرح الكاتب نظرياته بأمثلة عملية من حوادث التاريخ الحديث والمعاصر؛ ويرى في المسألة الإسبانية ومسألة الصين أعظم ميدان لاصطدام القوتين الخصيمتين، ويحمل بشدة على سياسة الدول الديمقراطية في هاتين المسألتين، ويرى فيها دلائل الاضطراب والضعف. وفي اعتقاده أنه ليس ثمة ما يحمل الدول الديموقراطية على كل هذه التقديرات الخطيرة التي ترتبها على مقابلة الهجوم بمثله، وإنه قد يكون الخطر في الميدان الدولي أقل بكثير إذا قامت الدول الديموقراطية بعمل ما مما لو استمرت في موقفها السلبي الحاضر
روح العصر في معرض باريس
كانت المعارض إلى عهد قريب تعنى بإبراز البهارج التي تلفت الأنظار، وتثير إعجاب البسطاء، وإن عنيت أحياناً بعرض مدى التقدم الذهني في أمة من الأمم. ففي المعرض البريطاني الذي أقيم في عام 1851 أنشئ هذا البيت العظيم الجميل الذي أطلق عليه (القصر البلوري)، والذي دمره الحريق أخيراً وكان دائماً آية ذلك المعرض، وحامل ذكراه للأجيال؛ وفي معرض باريس الذي أقيم عام 1889 أنشئ برج إيفل، وكانت النزعة التي تمخض عنها نزعة فرعونية كالتي حدت بزوسر وخوفو وخفرع إلى بناء الأهرام، وإلا فقد كان الفولاذ الذي أستخدم في بناء هذا البرج كافياً لبناء أسطول صغير يدفع بعض الأذى عن فرنسا. أما في معرض باريس الأخير (1937) فقد تجلى روح العصر، وتناسى العارضون بعض هذه العنجهية التي كانت تجعلهم يبنون القصر البلوري ويقيمون برج إيفل. هذا وإن يكن المعرض الأخير يفوق كل المعارض السابقة رونقاً وعظمة وجلالا. وأحسن ما يشهد لهذا المعرض بتفوق روح العصر هذه الدار العظيمة التي أقيمت في المعرض، والتي أطلق عليها (دار الاستكشاف) والمراد الاستكشاف العلمي الذي تدين له الحضارة الحديثة بكل ما تتيه به على غابر القرون. فقد حشدت في هذه الدار الهائلة جميع الاستكشافات التي أدت إلى تقديم الإنسانية، وخطت بالعالم أشواطاً بعيدة نحو الكمال. وهي مع ذاك لم تهمل الاستكشافات القديمة التي كانت سبباً مباشراً أو غير مباشر لما أبدعته(234/79)
القرائح الحديثة. . . فبينا ترى جهازاً أتوماتيكيا (آليا) يكلمك ويشرح لك نظريات نيوتن وجاليليو في الحركة والجاذبية إذا بك تنظر إلى جهاز آخر يوضح لك كيف تستنبط الكهرباء بأبسط الوسائل، وكيف استخدمت الكهرباء بعد الاهتداء إليها في الإضاءة وتحريك الآلات ونقل الصوت باللاسلكي والصور بالتلفيزون. . . وتسير بضع خطوات فترى فوقك العالم السماوي بأكمله، وقد جرت فيه كل النجوم والكواكب، ووضحت فيه سدم المجرة، وهكذا تعرف من الفلك ما كان يعوزك أن تعرفه في أعوام. . . ثم تنتقل فترى معهداً للحياة يضع بين يديك لامارك وهكسلي وداروين، ويريك كيف تدرجت الحياة من الذر إلى هذا العالم الحافل بعجائب المخلوقات. . . وأنت فيما بين هذا تشهد التجارب المدهشة لإثبات قوانين مندل في الوراثة واستكشافات باستير وكوخ في عوالم المكروب. . . وقل مثل ذلك في كل ما أفاد العلم في البر والبحر وتحت الماء وفي أجواز الفضاء. . . وقد تكلفت هذه الدار ملايين الفرنكات، على أنها عوضت ما أنفق عليها، إذ قد زارها حسب إحصائية المعرض في المدة من 25 مايو إلى 7 أكتوبر الماضي 1 , 600 , 038 زائراً دفعوا جميعاً رسوم الدخول. وزارها غير هؤلاء 400 , 000 طالب وعالم وأستاذ، من جميع أنحاء الأرض، وعقدت فيها المؤتمرات العلمية الطريفة لتبادل الآراء ومناقشة أحدث المستكشفات
ألف ليلة بالإنجليزية
ما يزال كتاب ألف ليلة وليلة موضع إعجاب الأمم الأوربية عامة والإنجليزية خاصة، ولقد ظهرت ترجمات كثيرة لبعض قصص الكتاب في لغات شتى، ولكنه لم يترجم ترجمة كاملة إلا هذا العام، وقد ظهرت الترجمة بالإنجليزية في أربعة أجزاء $ تعرض للبيع بأربعة جنيهات وربع الجنيه، وهو ثمن يبهرنا نحن الشرقيين ويزعج جيوبنا، ولكنه يدل على الروح العالي الذي يتقبل به الإنجليز كنوز المؤلفات الرفيعة. ومترجم ألف ليلة هو الأديب الإنجليزي الكبير بويس ماتر، وقد وضع نصب عينيه وهو يترجم الكتاب أن يتحاشى العيوب التي ظهرت في ترجمة جالان الفرنسية (1704 - 1712) وترجمة لينز الإنجليزية (1840م) وترجمة سير ريتشارد برتون (1880م) - ولم يفته أن ينتفع بمحاسن الترجمة الفرنسية التي وضعها الدكتور ج. ماردروس (1899) وقد قلد هذه(234/80)
الترجمة في بعض صورها فنقل الأشعار العربية إلى شعر إنجليزي رائع، وإذا عرفنا أن المترجم شاعر فذ علمنا إلى أي حد وفق في نقل أشعار ألف ليلة
إلى الأخ السوداني
كنت قادماً من بيروت. فلم أكد أنزل من السيارة حتى استقبلني من كان في (مكتبة عرفة) وهي مجمع الأدباء في دمشق، بكلمتك الرقيقة الصادقة ونصبوا من أنفسهم محامين عنك، فوجهوا إلى أمر العتاب، وأشد الملام، حتى اضطررت إلى الأعتراف، لأني لم أجد لنفسي عذراً، وقديماً قالوا الاعتراف يذهب الاقتراف
أي والله يا أخي إننا إخوة وإن أختلف الألوان، وتباينت الديار، وحد بيننا الشرق، ووحدت بيننا الآلام والآمال، وآخى بيننا الله من فوق سماواته، قال الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة). وللسودان والله على سواد بشرتهم، أطهر أفئدة، وأسمى نفوساً، وأدنى إلى الفضيلة والحق من كثير من بيض الجلود. وما أردت والله إلا أولئك السود من سكان أفريقية الوسطى، وكانت كلمة أسرعت إلى اللسان، قبل أن يتدبرها الجنان. فمعذرة يا أخي وشكراً لك على حسن ظنك بي، والسلام عليك ورحمة الله
من أخيك: علي الطنطاوي
الكومنترن أو الشيوعية الدولية
ترددت كلمة الكومنترن هذه الأيام بمناسبة الاتفاق الثلاثي الذي تم بين ألمانيا وإيطاليا ثم اليابان لمقاومة الشيوعية - وكثير من القراء لا يعرفون ما هو الكومنترن الذي هو في الحقيقة اسم منحوت من كلمتي أي شيوعية أي دولية، فالكومنترن هي الشيوعية الدولية وهو أسم جديد للدولية الثالثة التي تحكم روسيا الآن. . . والمدهش أن روسيا اليوم لا أثر فيها لتعاليم الكومنترن الأصلية التي وضعها الزعيم لينين، ولكن الحكومة الروسية تدأب على نشر هذه التعاليم خارج حدودها لأنها ألد أعداء السلام العالمي
تصويب
وقع في مقال (مصرع شجرة الدر) الذي نشر في العدد الماضي تحريف في علمين أولهما (ثوران شاه) وصوابه توران شاه والثاني الخليفة المعتصم العباسي وصوابه المستعصم بالله(234/81)
العدد 235 - بتاريخ: 03 - 01 - 1938(/)
الرسالة في عامها السادس
ننقل اليوم خطوتنا السادسة في سبيلنا القاصدة إلى غايتنا البعيدة؛ وليس لنا عدة غير الإيمان، ولا زادٌ غير الصبر، ولا عونٌ غير الله. وعَسِيٌّ بالمؤمن الصابر المتوكل أن يبلغ وإن طال الأمد!
تعودنا منذ صدرت الرسالة أن نتحدث إلى قرائها وأصدقائها في مثل هذا اليوم من كل عام، نجدد لهم العهد الذي أعطيناه، ونعرض عليهم الشوط الذي قطعناه، ونتصل من وراء الغيب بأرواحهم العارفة العاطفة الآسية؟، نسترفه بنجواها من الشُّقَّةِ الجاهدة، ونستعين بهداها على المرحلة الجديدة.
أما العهد فإننا نجدده ونؤكده. ولله علينا ألا يحله إلا خروج النفس أو نكول العافية. وأما الشوط فكان رهَقُه محنة المجاهد وبلاء الدليل. انبثقت على جانبيه العوائق المثبطة من إلحاح المرض وغلاء الورق واضطراب السياسة ونغل الصداقة وشيوع الأدب الهزيل، فثبتت الرسالة في مكانها لا تهِن، واستقامت في طريقها لا تحيد. وطريقها هو الطريق الوحيد الذي سنَّه الخُلق الفاضل؛ وهو أقرب الطرق إلى الغاية لأنه مستقيم. على أن استقامته طالما كانت - وا أسفاه - علة الإبطاء والبعد. فقد يعترضك وأنت مطمئن إلى السير فيه النهر الذي لا يُعبر، أو الجبل الذي لا يجتاز، أو العقبة التي لا تقُتحم، أو السبع الذي لا يُهاجم؛ فتقف مضطراً تعالج هذا العائق بالعزيمة والحيلة والجهد، لأن الأخلاق الرقيبة لا تنفك تهيب بك من جهاتك الست:
(لا تتنكب الجادّة المثلى، ولا تزغ عن الصراط السوي).
وتنظر حواليك فلا تجد إلا الفراغ والوحشة، لأن الركب الذي كنت تسايره راعه الأمر وخذله الصبر وأعجلته الغاية، فتبدد ذات اليمين وذات الشمال يرتاد المسالك السهلة، وخلَّفك وحدك على سواء الطريق عرضة للجوع والخوف! فإذا سمعت من هذا السائر المتروك صرخة ثائرة فاعزُ حدتها إلى الحائل الذي قام، وإلى الرفيق الذي نكص!
ليس من طبع الرسالة أن تمالق الرغبات بالتَّمْنية، ولا تستميل الشهوات بالوعد. فإن العمل الصامت أنطق الأدلة على توخي الحق؛ والماضي المعلوم أضمن الوثائق للمستقبل المجهول.
هذه مجلدات الرسالة التسعة! أليست هي شهادتها الصادقة على أنها أوفت بما عاهدت(235/1)
القراء عليه من إحياء الأدب القديم، وإنشاء الأدب الحديث، وتدعيم الأدب المصري بقواعد الفن، وتطعيم الأدب العربي بنتاج الآداب الأُخَر؟
أليست هي ديوان العرب المشترك جمعت فيه الأشتات إلى الأشتات، ووفقت بين الأصوات والأصوات، ثم ألَّفت من هذه الآلات المنفردة جوقة موسيقية متحدة تسكب في مسامع الوجود أناشيد الخلود؟
أليست هي كتاب الشرق الجديد تجد في صفحاته المشرقة روحيته وريحانه، وتحس في معانيه ومراميه إلهامه وإيمانه؟
إن الإشادة بمجهود الرسالة حق علينا لأولئك الأقلام الكريمة التي أخلصت لله وللناس وللفن فجعلت منها هذه المجموعة التي لا تجد لها مثيلاً في عصر من عصور اللغة.
ليت شعري متى تغلظ الأيام فنكتب هذه الكلمة السنوية خالية من الشكاة والألم؟ هيهات هيهات لما نَوَد! إن شكوى الرسالة في كل عام هي شكوى الأدب في كل يوم. وستدوم إن شاء الله ما دامت الحكومة لا تبالي الأدب، والطبقة المتعلمة لا تقرأ الجد، والكثرة الفاحشة لا تعرف القراءة.
قلنا وقال الناس لولاة الأمر إن الأمة لا يمكن أن تكون جسماً من غير عقل، ومنفعة من غير عاطفة، ومادة من غير أدب؛ وإن الحكومة التي لا يعدو همها إصلاح الأرض وتوفير العدة وتقويم البدن لا تخلق إلا مجتمعاً من الشهوات الفاجرة والنزوات الثائرة والغرائز الخشنة؛ وإن المدرسة وحدها لا تستطيع مهما انفسخ ذرعها واتسع مداها أن تربي العقول وتهذب الأخلاق وتثقف العواطف. فأخطروا ببالكم أولئك المجاهدين في سبيل الروح، المجدين في خدمة الفكر، الذائدين عن قدس الخلق؛ أولئك هم الأدباء الأحرار الأبرار الذين يبلغون رسالة الحق في كتاب، أو يؤدون أمانة الخير في صحيفة. أعينوهم على أكلاف العيش بالرعاية، وشجعوهم على إجادة الإنتاج بالجوائز. ولا تكلوهم إلى هوى النفوس وجهل العامة فينطفئوا انطفاء السراج في عين الأعمى، ويموتوا ميتة البلبل في أذن الأصم.
ولكن الأديب كتب عليه أن يجاهد ويجالد ويضحي. لا يستمد العون إلا من ربه، ولا يلتمس العزاء إلا من قلبه، ولا يبتغي الثواب إلا من سلطان ضميره.(235/2)
والرسالة لا تملك أن تحيد عن الطريق الوعر الشائك الذي نهجه الله لعباده المصطفين من رجال الدين والعلم والأدب. وحسبها أن تحيا بالعمل سعيدة، وأن تموت في الجهاد شهيدة!
على ذلك تجدد العهد لأصدقائها وقرائها مرة أخرى، معتمدة على فضل الله، معتدة بإخلاص القلب، معولة على إتقان العمل؛ وفي بعض ذلك الضمان الأوفى والسند الأقوى والمرفأ الأمين.
أحمد حسن الزيات(235/3)
في الأدب وغيره
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
زارني مرة لفيف من الشبان قال قائلهم: إنهم جاءوا ليسألوني عن رأيي في الأدب ويستفتوني في مسائل، فساءني هذا ولم يسرني، فقد كنت مشغولا، وكان العمل الذي ينبغي أن أفرغ منه كثيرا، فسألت الذي كان يتكلم: (كم سنك؟ ولا تخش أن أذيع السر؟).
قال (اثنتان وعشرون).
قلت (يا أخي، أني كنت في مثل سنك صاحب رأي، في الأدب وغيره، وصاحب مذهب أدعو أليه وأحاول هدم ماعداه؛ وكان لي ديوان شعر مطبوع، وزوجة ووظيفة أيضا. ولا أنكر أن رأيي قد تغير في مسائل كثيرة، ولكن هذا لماذا؟ إنه دليل على أني أديم النظر والتفكير والتدبر، ولعلي كنت في أمسي على صواب، وعسى أن أكون في يومي على خطأ، ولكن المرء لا يطالب بالتوفيق، وإنما عليه أن يسعى، وأنا اذكر لكم هذا لأني أتعجب لكم واستغرب أمركم. فلماذا بالله لا تنظرون بعيونكم، ولا تفكرون بعقولكم؟ ولماذا ينبغي أن اتعب أنا لكم - أقرأ وأحصل وأفكر وأنخل وأغربل، وانتم مستريحون ليس عليكم ألا أن تتجشموا تعب الحضور إلى هنا، وإلا أن تؤدوا أجرة الترام، أو الأمنيبوس، ومن يدري لعلكم آثرتم المشي فإنكم شبان أقوياء، والأحذية التي تبلى يؤدي ثمنها آباؤكم فلا خسارة عليكم تشعرون بها، وليبق القرش فوق القرش ليتيسر أن تقضى السهرة في مرقص!).
فضحك أحدهم، ورآه الآخرين يضحك، فأبتسم البعض وقهقه البعض، فقلت، وأنا أحس أن عفريتا قد ركبني: (صحيح قولوا. . . كم كتابا عنيتم بأن تشتروا في حياتكم منذ عرفتم الكتابة والقراءة إلى الآن - أعنى غير الكتب المدرسية التي لا تفتحونها إلا لأداء الامتحان؟).
فلم يجيبوا، وماذا عسى أن يقولوا، وأنا أعرف أن هذا الجيل يندر فيه من يحصل من العلوم أو الفنون أو الآداب شيئا غير ما يتلقى في المدرسة؟ وحتى الذي يفيده في المدرسة ينساه بعد الامتحان، ولم يسعني وأنا أحاول أن أوقظ نفوسهم وأبث فيهم روح الطلب إلا أن أذكر كيف كنا في صبانا نفرح بما يجتمع في أيدينا من المال القليل ونخف به إلى المكاتب ونروح ندير عيوننا في مئات الكتب المرصوصة على رفوفها ولا نخرج إلا وقد نفذ ما(235/4)
معنا أو كاد.
وكان الذي أسخطني على هؤلاء الشبان هذا الكسل والاعتماد على الغير، والرغبة في إفادة المعرفة - كائنة ما كانت قيمتها - بلا عناء أو مشقة. ومن أدراهم أن ما يسمعون مني أو من سواي هو الصواب؟ وهم يتلقون ما تفضي به إليهم منرأى ناضج أو فطير بالتسليم والتصديق وبلا مناقشة.
وأحسست من هيئاتهم ونظراتهم أن الأولى بي أن أدخر جهدي، فأسلمت أمري لله وقلت لهم: (تفضلوا. . . سلوا ما بدا لكم).
فأدنوا كراسيهم، وقد نسوا العلقة التي استقبلتهم بها، وأقبلوا عليّ يسألونني عن الأدب والغاية منه، فضحكت وقلت: (والله ما أعرف له غاية؛ وإني لحي، ولكنى أجهل الغاية من الحياة، فكيف تريدون مني أن أعرف الغاية من الأدب؟ وأعترف أني كنت قبل سنوات طويلات المدد، قد أقنعت نفسي بأن للأدب غاية، وكان الذي جسم لي الوهم هو ما قرأته في هذا الباب، فرحت أنسج على منواله وأقول كلاماً شبيها به؛ ويتفق أن يقع في يدي شيء مما كتبته في ذلك الزمان فلا يسعني أن أضحك ساخرا، لأنه كان من الجهل أو التقليد - كلا. لا أعرف غاية للأدب. . . وقولوا ما شئتم، ولكن الحقيقة هي أني نظرت ونظرت، وحدّقت، وحملقت، حتى كادت عيني تخرج، فلم أر شيئاً؛ وأني فكرت وفكرت، فلم يهتد عقلي هذا إلى شيء. وكل ما اعرفه هو أني أزداد حيرة كلما علت بي السنّ، وإن كل ما كنت أعده من الحقائق الثابتة يخامرني الآن فيه شك كبير. . . والسبب في ذلك، فيما يبدو لي، هو أني أتلقى ما أقرأ بالتسليم، أما الآن فأنا أجادل وأكابر بالخلاف في كل شيء، وقد ينتهي بي الأمر ألي التسليم والموافقة، ولكنى أجد لذة في هذه المكابرة).
فسألني بعضهم: (لماذا قل الشعر السياسي في هذا الزمان؟).
قلت: (لا أدري، وعسى أن يكون السبب أن الناس صاروا أصح فهما للأدب، وأتم إدراكا له، وأكبر عقولا، وأوسع نفوسا. نعم أظن هذا هو السبب، فقد كان الشعر السياسي هو الذي يكثر فيه القول، وكان شعراء ذلك الزمان إذا قالوا في غير الحوادث لا يفعلون ذلك إلا على سبيل التسلي، وليقال عنهم إنهم يجيدون النظم في كل باب. ولكن الناس يدركون الآن أن شعر الحوادث ليس إلا باباً واحداً صغيراً من مئات وآلاف من أبواب القول، أو من(235/5)
(بواباته). ولم يكن شعر الحوادث شيئا مستحدثاً أو جديداً، لأنه لم يكن أكثر من ضرب من التقليد للشعر القديم، فكما كان المتنبي يقول في حروب سيف الدولة، كذلك كان شوقي يقول في الخديوي وأعياده ورحلاته وفي السلطان وأعماله، ثم بعد ذلك في الحوادث السياسية التي يلح عليه أصدقاؤه أن ينظم فيها كلاما. وكان حافظ يقول في العميد البريطاني وفي سياسة الأنجليز، لأنه لم يتصل بأمير كما اتصل شوقي، فحل الشعر أو الرأي العام عنده محل الأمراء الذين كان الشعراء السابقون ينظمون الشعر لإرضائهم، واقتضت المنافسة بين الرجلين أن يكون حافظ شاعر الشعب، كما كان شوقي شاعر الأمير. وقد تغير كل هذا، وزهد الأدب الحديث في التقليد، ونظر رجاله بعيونهم، وأحسوا بأعصابهم، وفكروا بعقولهم، ففتحت لهم آفاق رحيبة جداً صرفتهم عن القول في الحوادث العارضة، وشغلتهم بما هو أعمق وأصدق في الحياة؛ فلست تراهم يقولون في الحوادث إلا إذا استفزت نفوسهم وحركاتها تحريكا قويًّا يجري الشعر على ألسنتهم، لا تكلُّفا ولا تقليداً، بل لأنهم لا يسعهم في هذه الحالة إلا أن يقولوا. ولاشك أن ثم أسباباً أخرى، أسوق منها على سبيل التمثيل، أن الأدباء يعمل أكثرهم في الصحف، وهم يكتبون كل يوم تقريبا في الحوادث، فلا معنى لأن يقولوا الشعر فيها أيضا، إلا إذا عرضت مناسبة فذة قوية تحرك النفس كما قلت. والكتابة أسهل، والإقناع بها أقرب، والشعر لا يصلح للجدل السياسي كما تصلح الكتابة، ولكني أعتقد أن صحة الإدراك للأدب هي السبب الأول، كائنة ما كانت الأسباب الأخرى. ولا مانع من أن يقول الشاعر في السياسة والحوادث إذا أحس دافعاً إلى ذلك، كما يقول في غير ذلك إذا بعثته البواعث).
فنهضوا، ومدوا أيديهم ليصافحوني، وتمتم بعضهم بالشكر، فابتسمت وقلت لهم (والله إني لتحدثني نفسي بأن أنقض لكم كل ما سمعتم مني، وأن أثبت لكم أن كل ما قلت خطأ في خطأ، وأن الصحيح والصواب غير ذلك. وإني لقادر على هذا. والسر في قدرتي أني أراكم أهملتم هذه العقول التي ركبها لكم الله؛ ولا شك أن له سبحانه وتعالى حكمة في خلق عقول لا يريد أصحابها أن ينتفعوا بها. فليتكم تستطيعون أن تعيروني بعضها ما دمتم لا تنتفعون بها، فإن رأسي قد كل وتعب ومل).
فضحكوا وانصرفوا، وقعدت وأنا أهز رأسي وأمط بوزي آسفا متعجباً. . .(235/6)
إبراهيم عبد القادر المازنى(235/7)
ليلى المريضة بالعراق
للدكتور زكي مبارك
- 4 -
- ضابط في الجيش العراقي أبوه من مصر وأمه من لبنان؟ كيف اتفق ذلك يا ضمياء؟
- لذلك يا سيدي تاريخ. . .
- انتظري قليلا. . . قبل أن ندخل في تاريخ ليلى مع الضابط عبد الحسيب، أحب أن أسال: هل كان حبها ذلك الضابط أول حب؟
- نعم يا سيدي أول حب.
- منذ كم سنة أحبت ذلك الضابط؟
- منذ أثني عشر عاما.
- تذكري يا ظمياء أنك قلت إن ليلى في حدود الأربعين فهل يُعقل أن تظل عذراء القلب إلى الثامنة والعشرين؟
- نعم يا سيدي، وما أقوله تشهد به الست جميلة، وتعرفه الخالات والعمات والجارات في شارع العباس بن الأحنف وشارع صريع الغواني.
- ولكن هذا غير معقول، فما يمكن أن تظل فتاة عذراء القلب إلى الثامنة والعشرين!
- أنت يا سيدي غريب بهذه المدينة ولا تعرف النساء في بغداد.
- بغداد في عينك يا ظمياء! وهل بغداد تحمى المرأة من أن تكون لها عين تنظر وقلب يميل؟
- أؤكد لك يا سيدي أن ليلى لم تحب أحدا قبل الضابط عبد الحسيب.
- ولكن كيف اتفق أن تظل بلا زوج إلى الثامنة والعشرين؟
- لقد حفيت أقدام الخاطبين وهي ترفض بلا سبب معقول.
(فدونت في مذكرتي أن الفتاة التي ترفض الزواج، ويطول بها ذلك، لابد أن تكون أصيبت بنوبة حب، ولا بد أن يكون ذلك الحب صور لها فحولة الرجل في صورة فلسفية أو أدبية، ولكن هذا الحب سيظل مجهولا ما دامت ليلى تكتمه، وما دام النساء اللائى يحطن بها يتمتعن بقسط وافر من الغفلة، على قلة ما نرى من النساء الغافلات. ويظهر أن موقفي(235/8)
سيكون دقيقا في المؤتمر الطبي، لأن المؤتمرين سيسألون عن الصور الفلسفية والأدبية لفحولة الرجال في أخيلة النساء، ولكن لا بأس فهي فرصة طيبة لشرح آراء شيث بن عربانوس في هذه القضية. على أني سأجد مفاتيح هذا السر المدفون حين أقف على قصة الضابط عبد الحسيب، وربما كان من الخير أن أرجع إلى البحث الممتع الذي نشره الدكتور عبد الواحد بك الوكيل عن أثر الحب في الأمراض العصيبة).
- دكتور! ماذا تكتب؟
- اسمعي يا بلهاء.
- هذا جزاء من يصنع الجميل!
- أستغفر الله! إنما أردت أن أقول اسمعي يا ظمياء. أنا يا بنيتي أقيد ملاحظات تنفعني في مداواة ليلى؛ ومرضها كما تعلمين عصيب، وأحب أن أستعد لمداواتها أتم استعداد، والله المعين.
(ولكن ألا يمكن أن يقال إن ليلى مرضت في صباها بالغفوة الروحية، ولم تفق إلا في الثامنة والعشرين؟ ومن يصدق حديث الغفوة الروحية؟ لقد كنت الطبيب الوحيد الذي استكشف هذا المرض الخبيث، وألقيت عنه محاضرة في باريس بعد أن أديت الامتحانات النهائية في الطب، ثم نشرت خلاصة بحثي في المجلة الطبية المصرية، ولم أظفر، واأسفاه، بغير السخرية يواجهني بها زملائي في مصر، ويراسلني بها أساتذتي في باريس).
- دكتور، ألا ترى كيف أقفقف من البرد؟
- اسمعي يا بلهاء، فما عندي لك دفء.
(وما الذي يمنع من انتهاز هذه الفرصة الثمينة، فرصة انعقاد المؤتمر الطبي في بغداد، لإعلان نظرية الغفوة الروحية بطريقة دولية؟ إن الشواهد تحت يدي، فأنا أعرف ناسا بأعيانهم انخرطوا في سلك الكهنوت وهم شبان، وعاشوا عيش الطهر والعفاف إلى سن الثلاثين. ثم استيقظت أرواحهم فجأة فهربوا من الكنائس والصوامع وأقبلوا على الدنيا إقبال المنهومين، ومنهم صديقي فلان الذي عرفته في حانات مونمارتر سنة 1927 وصديقي فلان الذي عرفته في مرقص الكوبول سنة 1933، ولكن كيف أقول هذا الكلام في المؤتمر الذي يعقد في بغداد وأنا أشتغل بالتعليم في بغداد؟ الخطب سهل: أنا أتكلم في المؤتمر باسم(235/9)
الدكتور مبارك الطبيب، والناس جميعا يعرفون أني أحرزت الدكتوراه في الطب قبل أن أحرز الدكتوراه في الآداب).
- دكتور، أروح؟
- وين تروحين؟ اجلسي يا بلهاء.
- أنا اسمي ظمياء.
- اجلسي يا ظمياء.
(ولماذا أفضح نفسي في المؤتمر بأحاديث مونمارتر ومونبارناس؟ لماذا لا أكتفي بالشواهد التي أعرفها في مصر؟ ألم يكن صديقنا فلان من أعف الناس في صباه؟ ألم يكن يحوقل ويستغفر ويسترجع حين يطرق أذنيه بيت من النسيب؟ رحمة الله على أيامه الطيبات، أيام كنا نتقرب إلى الله بتقبيل يمناه! فمن يصدقني اليوم إذا قلت إنه كان في صباه فتى عفيفا؟ وكيف يصدقني الناس إذا ادعيت ذلك وهو اليوم ألطف ما جن وأظرف عربيد؟!).
- دكتور!
- اخرسي يا بنت!
- شنو؟
- ما أدري شنو!!
(إن حال ليلى في جوهره يرجع إلى فرضين: الفرض الأول أن تكون رأت في مطلع صباها صورة مست شغاف القلب ثم اختفت تلك الصورة، وظلت المسكينة تترقب ملامحها في أوجه الخاطبين بدون أن يتحقق لها رجاء، فلما وقع بصرها على الضابط عبد الحسيب رأت فيه ملامح الحبيب الضائع فأقبلت عليه وقد استيقظ هواها القديم يقظة مرعبة ضجت لها بغداد؛ والفرض الثاني أن تكون أصيبت بالغفوة الروحية، ذلك المرض الخطر الذي تفردت باستكشافه والذي سيجعل لي مقام صدق في عالم الطب، وقد عاشت المسكينة تحت سيطرة هذا المرض إلى أن بلغت الثامنة والعشرين ثم عوفيت فجأة، فكانت عيناها الناعستان وابتسامتها الساحرة من نصيب الضابط عبد الحسيب).
- دكتور! طال مقامي عندك، وليلى ستظن الظنون!
- أي ظنون يا ظمياء؟(235/10)
- قد تحسبك كالطبيب فلان الذي خُرِّبت عبادته بسبب امرأة ألمانية كانت تزوره في العشيات.
- وأنت تلك الألمانية يا ظمياء؟ ما هذا الغرور الفظيع الذي لا تخلو منه امرأة شوهاء!
(وهنا ضحكت المرأة جميلة ضحكةً رجت أركان البيت).
- اعقلي يا ظمياء! أنا رجل غريب، والغريب يدخل سجن الفضيلة وهو راغم. فأنت في حماية هذا التخوف، تخوف الغريب من قالة السوء. وسأعيش في بلدكم ما أعيش، ثم أخرج بأذن الله وأنا أبيض الصحائف وضاح الجبين.
- هل معنى ذلك أني في أمان؟
- في أمان يا ظماء، سبحان الله!
- أنت تهينني! فأنا عندك فتاة شوهاء لا تهيج الغواية في قلوب الرجال!
(وهنا دونت في مذكرتي أن المرأة لا يسرها أن تكون في أمان، لأنها لا تكون في أمان إلا حين تزهد فيها القلوب. وأشهد أن ظمياء فتاة شريفة، ولكن تغلب عليها نزعة الجنس، فهي تحب أن يكون شرفها بفضل التصون، ويؤذيها أن تصل إلى الشرف عن طريق الزهد، الزهد فيما تدعيه لنفسها من حسن مرموق).
- دكتور، أروح؟
- وين تروحين؟ حدثيني عن قصة ليلى مع الضابط عبد الحسيب.
- كانت بداية القصة في سنة 1926 حين ثار حزب الشعب على المرحوم عبد المحسن عبد المحسن السعدون، وكانت الجرائد العراقية أطنبت في وصف المعرض الزراعي والصناعي الذي أقيم في الجزيرة بالقاهرة في ذلك التاريخ، وكانت ليلى ضجرت من ضجيج السياسة في بغداد فاستأذنت والديها رحمهما الله لترى ذلك المعرض علها تنسى ضجيج بغداد، فرفض أبوها، وشجعتها أمها، والمرأة تغلب الرجل حين تشاء، فلم ينتصف شهر آذار، شهر الأزهار والرياحين، إلا وليلى تطالع سِفر الحياة على شواطئ النيل وطن مولاي الطبيب.
(للحديث بقية)
زكي مبارك(235/11)
سنان شيخ الجبل
صفحة من تاريخ الأدب السياسي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في القرن السادس الهجري (القرن الثاني عشر الميلادي) كانت الأمم الإسلامية تجتاز مرحلة عصيبة من تاريخها، ففي هذه الحقبة استقر الفرنج الصليبيون في فلسطين وثغور الشام، وقامت مملكة نصرانية لاتينية في بيت المقدس في قلب ديار الإسلام، وانقسمت الكتلة الإسلامية في المشرق إلى دويلات صغيرة متنازعة؛ ونشب بين الإسلام والنصرانية في تلك المهاد صراع مستمر طويل الأمد؛ وكانت المعارك سجالا بين هذه القوى الخصيمة المتفرقة؛ ولكن الفرنج الصليبين احتفظوا لأنفسهم مدى حين بنوع من التفوق؛ ذلك لأن الخلافة الفاطمية كانت تجتاز مرحلة انحلالها، وكانت الإمارات الإسلامية في شمال الشام مشغولة بمعاركها المحلية؛ وكان الفرنج ينتهزون الفرص السانحة فيعملون على إذكاء الخلاف ويظاهرون أميراً على أمير، ويحققون لأنفسهم ما استطاعوا من الأسلاب والمغانم.
ففي تلك الفترة العصيبة المضطربة كانت الشام فوق كونها مسرحا للحروب الأهلية والمعارك الصليبية المتواصلة مسرحا لنشاط بعض الجماعات السرية التي الفت فرصتها في تلك الفوضى السياسية والاجتماعية الشاملة، وكانت في مقدمة هذه الجماعات طائفة فرسان المعبد أو الداوية، وطائفة الاسبتارية، وطائفة الإسماعيلية الباطنية؛ وكانت الأولى والثانية طائفتين نصرانيتين ظهرتا بعد قيام المملكة الصليبية، وأنشئتا في البداية لبواعث وظروف دينية، ثم انقلبت كلتاهما بعد ذلك إلى جمعية سرية فدائية وكانت الثالثة تحسب ضمن الطوائف الإسلامية المذهبة، وقد أنشئت في أواخر القرن الخامس على يد داعية إسماعيلي بارع هو الحسن بن الصباح الحميري، ونظمت أولا في شمال فارس، حيث استحالت غير بعيد إلى عصابة إرهابية قوية تعتصم ببعض القلاع المنيعة، وتعتمد في تنفيذ مآربها على الإرهاب السياسي والاغتيال المنظم؛ وفي أوائل القرن السادس لما اشتدت مطاردة الأمراء السلاجفة للإسماعيلية في فارس، فر بعض دعاتهم إلى الشام، ولبثوا حيث يبثون هناك دعوتهم سراً؛ وكان الأمراء المحليون مثل صاحب حلب وصاحب دمشق يلجئون أحيانا إلى هؤلاء الدعاة الخطرين في تنفيذ مشاريعهم واغتيال خصومهم،(235/13)
وبذلك أضحوا قوة سياسية يحسب حسابها، ولما كثر جمعهم وقوى أمرهم طلب زعيمهم بالشام بهرام الاستراباذي من صاحب دمشق حصنا يأوي إليه مع أنصاره، فأقطعه قلعة بانياس (سنة 520هـ)، فتحصنوا بها، ولم يأت منتصف القرن السادس حتى كانت لهم في الشام سلسلة من القلاع المنيعة بين طرابلس وحماة، يتخذونها قواعد للإغارة والدفاع، وحتى غدوا عاملا قويا في حوادث هذا العصر وتطوراته.
كان الدواية والاسبتارية يعملون في البداية لخدمة القضية الصليبية ونصرة الأمراء الصليبين، وكانت نظمهم ووسائلهم تشبه من بعض الوجوه نظم الإسماعيلية ووسائلهم من حيث اعتمادهم على التآمر والدس والاغتيال المنظم، ثم استحالوا غير بعيد إلى جماعات سرية نفعية ترتكب جرائمها، وتبحث عن مغانمها حيثما استطاعت دون النظر إلى اعتبار الدين أو القومية؟ أما الإسماعيلية فإنهم بالرغم من ثوب الرياء المذهبي الذي أسبغوه على عقائدهم الدينية والسياسية، ظهروا على مسرح الحوادث طائفة مغامرة لا عهد لها ولا ذمام تبحث وراء طالعها في هذا المعسكر أو ذاك، وتتقلب في خدمة المسلمين والفرنج طبقا للحوادث والظروف، وتدس ما استطاعت بين أمراء الفرنج وأمراء المسلمين لتجني ثمار دسها؛ وكان يحسب أعظم وأقوى الأمراء من الفريقين؛ وقد ارتكب دعاتها عدة جرائم سياسية رنانة ذهب ضحيتها جماعة من أكابر الأمراء والقادة، وكان لها أثر كبير في تطور الحوادث والمعارك في بسائط الشام.
كان الإسماعيلية يمثلون في الشام نفس الدور الذي كان يمثله زملاؤهم في فارس، وكان أولئك الدعاة والمتآمرون الأذكياء يبثون أينما حلوا بذور التوجس والروع، وكانوا يمتنعون بقلاعهم الشاهقة يتحينون فرص العمل الخفي الغادر؛ وكان الفدائية منهم - وهم الذين يناط إليهم تنفيذ الجرائم السياسية - رجالا من أخطر طراز يمتازون بالإقدام المدهش، لا يتهيبون الموت، ولا يردهم عن غايتهم شيء؛ ولم يتخذ زعماء الإسماعيلية قط لقب السلطنة أو الإمارة، ولكنهم كانوا يقنعون بلقب المقدام أو الشيخ أو شيخ الجبل؛ وكان هذا اللقب الأخير يطلق بنوع خاص على زعيم الإسماعيلية في الشام، وإن كان الرحالة مركوبولو الذي عرف الإسماعيلية ودعاتهم في فارس يحدثنا بأن كبيرهم ينعت أيضا بشيخ الجبل؛ وعلى أي حال فإن كلمة الشيخ تعني هنا السيد أو الرئيس خلافا لما ذهب إليه(235/14)
الرواة الفرنج المعاصرون من اعتبارهم الشيخ هنا بمعنى (الرجل العجوز)، وهو خطأ شائع في معظم التواريخ الفرنجية.
وكان مقدم الإسماعيلية أو شيخ الجبل في الشام في أواسط القرن السادس زعيماً وافر الجرأة والذكاء هو راشد الدين سنان ابن سلمان؛ ولا تعرف الرواية سناناً إلا بأنه مقدم الاسماعيلية، ولا تحدثنا عن أصله ونشأته، ولكن لاريب في أنه أحد أولئك الدعاة المغامرين الذين يكتنف الغموض حياتهم الأولى، ثم يظهرون فجأة على مسرح الحوادث. وكان مقره في حصن مصياب (أومصياف) على مقربة من طرابلس وهو يومئذ أمنع حصون الإسماعيلية بالشام؛ وكان هذا الداعية الإسماعيلي يخفي مشاريعه ومطامعه الدنيوية تحت ستار من الورع المؤثر، ويبدو دائما في صفة الإمام الديني، ويرتدي الثياب الخشنة، ويعظ أنصاره طول اليوم من فوق رابية، ويحيط كل حياته بحجاب من الغموض حتى قيل إنه لم يوقظ نائماً أو آكلاً أو شارباً؛ على أنه كان بالرغم من هذه المظاهر الورعة الخلابة مغامراً لا ذمام له، يتربص فرص الوثوب والفتنة، ويتقلب في خدمة الصديق والعدو معاً؛ ولم ير سنان بأسا من مخالفة الفرنج الصليبين، فنراه يتصل بأموري ملك بيت المقدس، ويرسل إليه الداعي بهاء الدولة سفيراً ليسعى لديه إلى إعفاء الإسماعيلية من الجزية التي تعهدوا بدفعها؛ ونجح السفير في مهمته، ولكن قتلة الداوية (فرسان المعبد) حين عودته؛ وخشي ملك الفرنج عواقب هذه الجريمة، فاعتقل القتلة وقضى عليهم بالسجن، وذلك استبقاء لمودة الإسماعيلية واتقاء بطشهم.
ولعب سنان في حوادث هذه الفترة دوراً عظيما؛ ومع انه لم يكن قويا بجسمه وقواه المادية، فقد كان قويا بدسائسه ووسائله الإرهابية الخطرة؛ وكان أمراء الشام المسلمون يرهبون جانبه ويلتمسون محالفته؛ ولما تألق نجم صلاح الدين وقبض على زمام الأمور في مصر اتجهت أبصار خصومه إلى الإسماعيلية أو الحشيشية كما تسميهم الروايات المعاصرة، لما عرف من انهم كانوا يأكلون أوراق الحشيش؛ ففي سنة 569هـ (1173م) دبر أنصار الدولة الفاطمية الذاهبة مؤامرة لقلب حكومة القاهرة، واغتيال صلاح الدين، وفكروا في الاستعانة بالفرنج كما فكروا في الاستعانة بسنان شيخ الجبل، فبعثوا إليه ليدبر كميناً لاغتيال السلطان (صلاح الدين) على يد بعض الفدائية سواء في الشام أو في مصر(235/15)
ووعدوه بالمنح والعطايا الجزيلة؛ ولكن سرعان ما افتضحت المؤامرة وقبض على مدبريها وأعدموا، ولم تسنح الفرصة في هذه المرة ليعمل شيخ الجبل؛ ولكن الفرصة سنحت غير بعيد؛ ففي أوائل سنة 571هـ (1175م) كان صلاح الدين على رأس جيشه في شمال الشام على مقربة من حلب، وكان من برنامجه سحق الإمارات المستقلة التي تمزق الشام وتجعل منه فريسة هينة للفرنج الصليبين؛ وكان أتابك الموصل عز الدين مسعود يخشى على ملكه إذا استولى صلاح الدين على الشام، فاتفق مع سنان شيخ الجبل على اغتيال صلاح الدين أثناء وجوده بالشام؛ وكان الإسماعيلية أو الحشيشية يرون في تقدم صلاح الدين خطراً داهماً على سلطانهم فكانوا يرحبون بكل مؤامرة أو مشروع لسحقه؛ ففي الحال بعث سنان بعض الدعاة الفدائية إلى معسكر السلطان (صلاح الدين) فاندسوا إليه متنكرين. وفي ذات مساء استطاع أحدهم أن يصل إليه وهو في خيمة بعض الأمراء يفحص خطط الدفاع، ثم انقض عليه وطعنه في رأسه بخنجره، وكان صلاح الدين يعرف غدر الباطنية ويحترز منهم بارتداء الدروع المصفحة، فحالت قلنسوته الصلبية دون إصابته؛ فحول القاتل عندئذ خنجره إلى خده فجرحه جرحا شديدا، ثم دفعه إلى الأرض وحاول أن يجهز عليه؛ وذهلت بطانة السلطان لهذه المفاجأة الغادرة مدى لحظة، ولكنهم بادروا إلى القاتل، وطعنه أحد الأمراء بسيفه فأرداه؛ فبرز من جوانب الخيمة آخرون من الباطنية الفدائية متنكرين في زي الجند، وحاول أحدهم أن ينقض على السلطان، فتلقاه بعض البطانة وقتلوه، واشتد الاضطراب والهرج، وقتل في هذه الواقعة عدة من الدعاة الإسماعيلية؛ ونجا صلاح الدين من خناجرهم بأعجوبة، وانهار مشروع شيخ الجبل وحلفائه مرة أخرى.
وأدرك صلاح الدين ما يحيق به وبسلطانه من الخطر من غدر الإسماعيلية ومؤامراتهم، فعول على مهاجمة قلاعهم وسحق نفوذهم، فسار إليهم في العام التالي (سنة 572هـ)، وحاصر مصياب أمنع قلاعهم، وفيها مركز زعامتهم؛ فاستغاث سنان شيخ الجبل بصاحب حماة وهو خال السلطان، ورجاه أن يشفع لديه فيهم، وتعهد له بالتزام الحيدة والولاء نحو السلطان، وهدده في نفس الوقت إذا أبى هذه الشفاعة، فخشي الأمير من وعيدهم، وبذل وساطته لدى السلطان حتى أقنعه بالعفو عنهم، فغادر قلاعهم بعد أن أخذ عليهم المواثيق والعهود؛ ولزم الإسماعيلية وزعيمهم بعد ذلك خطة الولاء نحو السلطان إما خشية سطوته،(235/16)
وإما لأنهم خشوا رجحان كفة الصليبين إذا اختفى صلاح الدين من الميدان.
ولبث الإسماعيلية من بعد شيخهم سنان زهاء قرن آخر، يمتنعون بقلاعهم في الشام، وينتهزون فرص المعارك والأحداث المختلفة ليظهروا على مسرح الحوادث حيثما آنسوا الغنم، وشغل بلاط القاهرة عنهم طوال هذه الحقبة بمكافحة الفرنج ورد الخطر الصليبي؛ فلما كان عهد الظاهر بيبرس، سارت حملة مصرية إلى الساحل في سنة 668هـ (1269م)، وحاصرت قلاع الإسماعيلية، واقتحمت مصياب أمنع حصونهم ومقر زعامتهم وخربت قلاعهم ومزقت قواهم كل ممزق؛ وبذلك انهار نفوذهم في الشام كما انهار في فارس قبل ذلك بقليل واستحالت هذه الطائفة الإرهابية الخطرة بعد ذلك إلى شراذم لا أهمية لها سواء من الوجهة السياسية أو المذهبية، وانتهى بذلك تاريخها الحافل بالجرائم والمؤامرات المدهشة.
محمد عبد الله عنان(235/17)
في ليلة رأس العام
أنا. . . بين الطبيعة والله!
للأستاذ علي الطنطاوي
انصرف الطلاب إلى بنية النوم حين سمعوا الساعة الكبيرة تطنّ عشر طنات، وخلت ردهة المكتبة ونشر عليها الصمت أجنحته السود، فلم أكن ألمح في خلاله إلا رنين طنّات الساعة وأصداء أصوات الطلاب الذين كانوا هنا منذ لحظة واحدة يتسامرون ويتحدثون. . . ترن هذه الأصداء في أذني، فإذا أنا أراها بعيني تتراقص بين طيات الصمت الأسود حتى تنحدر إلى أغواره العميقة، ويشمل السكوت الرهيب بنية التدريس (في كلية بيروت الشرعية) ويتمدد في أبهائها وغرفها وممراتها. . .
فجلست أصغي إلى أناشيد الصمت التي كانت تسمع من حولي باستمرار فأجدها تملأ قلبي مرارة وأسى. . .
ثم رفعت رأسي فجأة إلى التقويم فنظرت فيه وجمد بصري عليه. . .؟ أمن الممكن هذا؟ أيحدث هذا كله في هدوء. . . يموت في هذه الليلة عام ويولد عام، يمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبداً، ويقبل القادم فاتحا ذراعيه ليأخذ قطعة من نفوسنا، وقسما من حياتنا، ولا يعطينا بدلاً منها شيئاً. . . وهل الحياة إلا أعوام فوق أعوام؟ وهل النفوس إلا الذكريات واللذائذ والآلام؟
وجلست بين المأتم والمولد أفكر وأتذكر وأحلم. . . ولقد تعودت أن أجلس هذه الجلسة كلما تصرّم عام، أصفى حالي مع الحياة، أنظر ماذا أخذت، وماذا أعطيت، وأراقب هذه القافلة من السنين التي بدأت مسيرها منذ. . . منذ بدأ الزمان، لست أدري متى بدأ الزمان، والتي تنتهي حيث لا يدري أحد.
تعودت أن أعطي نفسي من فكري ساعة في العام، أفكر فيها في نفسي وفي الوجود. . .
نظرت فلم أجد إلا كتاب التفسير أحضر منه درسي الذي سألقيه غدا، وكتب البلاغة التي أكسر بها دماغي وأدمغة الطلاب في غير طائل. . . فنحيتها كلّها ووجدت ركام (الوظائف) التي يجب علي أن أنظر فيها وأصححها، وأقرأ كل ما تفيض به هذه القرائح الفتية من سخف وهراء، يدعوه أصحابه (إنشاء). . . فبعثرتها في غيظ وحنق. . .(235/18)
أنا في هذا البلاء منذ عشر سنين، عشر سنين يالها من دهر طويل! كان ربيع حياتي، وزهرة شبابي، أضعته كله في هذا العناء، فماذا استفدت؟ لا شيء إلا أن أحرقت نفسي كالشمعة لأضيء لهؤلاء الفتية طريقهم إلى المجد، هؤلاء الذين أحببتهم وأخلصت لهم الحب، وعشت بهم دهراً ولهم، واعتصرت ماء شبابي لأنضر شبابهم، ثم فرّق الزمان بيني وبينهم، فلم أعرف مكانهم من الشام أو العراق، ولم يعرفوا مكاني لأنهم لم يفكروا في أن يعرفوه. . .
إذن فأنا أحترق كالشمعة! يا للحقيقة المرة المروّعة! يا لشمعة شبابي التي ذوت وخبت وأوشكت أن تنطفئ!
إني أعيش في العدم، أعيش في الماضي بالذكرى، وفي المستقبل بالأمل، مع أن الحاضر وحده هو الموجود، لقد مضى الغد إلى حيث لا رجعة ولن يأتي المستقبل أبدا. . .
أين هو هذا المستقبل؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يصل إليه؟ لقد جلست في مثل هذه الليلة من العام الذي يموت الآن، في شرفة منزلي بالأعظمية (بغداد) أحلم بالمستقبل بهذه الليلة التي كانت هي مستقبلي، أسعى إليها، وأؤمل أن أدركها، فلما أدركتها صارت (حاضرا)، وطفقت أسعى إلى مستقبل آخر. إنني كالثور يسعى ليدرك حزمة الحشيش التي يراها على شبر واحد منه فيهلكه السعي، ولا ينالها أبدا، لأنها معلقة بقرنيه تسعى أمامه!
يومض شعاع الأمل من بين فرج الغد، فنسعى لندركه فلا نجده إلا سرابا. إن الأمل مصباح لا يضيء إلا من بعيد. أفليس من سخافات الفكر الإنساني أن يضع في اللغة كلمة الأمل ولفظة المستقبل؟ أليس وجودهما في المعاجم دليلا على تأخر البشرية وانحطاطها، وأنها لم تدرك بعد حقائق الحياة؟
لقد كنت في (الأعظمية) غبيا جاهلا، لأني كنت مطمئنا متفائلا. كنت كلما ودعت بالخيبة عاما، انتظرت آمالي عند آخر، ولكني صحوت الآن فلا آسف على ماض، ولا أؤمل في مستقبل.
لقد قدر علي ألا أشهد ولادة العام إلا غريبا عن موطني بعيدا عن أهلي تارة في مصر، ومرة بالحجاز، وحينا في العراق. وهاأنذا الآن غريب من جهتين: هذا السد الهائل من الجبال: جبال لبنان بيني وبين أخوتي في دمشق؛ وهذا البحر الواسع بيني وبين أخي في(235/19)
باريس؛ والدهر والأبدية بيني وبين آمالي؛ والقبر بيني وبين والديّ؛ وأنا بعد هذا كله غارق في كتب البلاغة، (ووظائف) الإنشاء، نسيت مشروعاتي الأدبية التي رسمت خططها، وأقمت أسسها، وأهملت بحوثي ومطالعاتي، وبعت ذكائي ومواهبي وشبابي برغيف من الخبز. . .
هذا ما قدر عليّ، وإني راض بما قدر!
إني أعيش الآن بلا غاية، ولكن غايتي أن أعيش، أن أثبت وجودي في هذه الدنيا، كتلميذ كسلان ما جاء ليتعلم، ولكن ليعدّ في التفقد موجودا، أو موظف خامل مقصر. . .
فلماذا إذن أعيش؟
الآن لي حق الحياة؟ فلماذا لا يكون لي إذن حق الموت؟ ألا أملك أنا أمر نفسي، ولكن من أنا؟ ومن نفسي؟ أأنا اثنان في واحد؟. . .
إنني لا أستطيع التفكير في هذا. . .
وملأ نفسي الشعور بالوحشة، وأحسست في نفسي وفيما حولي فراغاً مخيفاً، وشعرت كأن هذه الغرفة تتسع ثم تتسع، حتى صار بين الجدران فضاء لا يدركه البصر!
ثم ضاق بي الفضاء - حتى كدت اختنق فيه، فخرجت إلى الشارع. . . وكان موهن من الليل. . .
تركت ميدان البرج يضحك بالكهرباء، ويرقص على ألحان الأشعة، التي تنسكب على الميدان من ذرى البنى الرفيعة فتغمره بجو فاتن وتسيل على جوانبه، وتنسج فوقه شبكة من الأشعة منسوجة من ملايين الخيوط الملونة بمئات الألوان، وتركت الناس يحتفلون بعيد رأس السنة، يتأملون معاني الوجود، وفلسفة الخلود، وحقيقة الزمان في هذه المراقص الصاخبة، الغارقة في الخمر والعهر. . .
ويممت شطر البحر أمشى في الطرق المظلمة المنعزلة الخالية إلا من أعقاب السابلة ممن هو حليف البؤس أو الرذيلة فخلا الجو لفكري فانطلق. . .
قالت النفس: إن العالم يموت، أفلا نودّعه بحسرة. . . أو نسكب على جثته عبرة؟
فلم يعرف العقل ما هو الموت ولم يصدق بوجوده. . .
قال العقل: ما هو الموت؟ إن كان انتقالا من حال إلى حال فليس موتا؛ وإن كان الموت(235/20)
عدما فإن العدم ليس له وجود أبداً.
قلت: ولكن أبي قد مات؟
قال: لا، إنه لم يمت، تذكره ويعيش حيّاً في ذاكرتك، وليس في الذاكرة شيء ليس له وجود في الواقع.
قلت: وأين يوجد؟
قال: لست أدري، هو في ذاكرة الكون.
قلت: إن العام يموت الآن!
قال العقل: إن العام (365) يوما وبعض من اليوم هو ست ساعات و (47) دقيقة، وبعض منها هو (33) ثانية، وبعض الثانية فلنفرض هذا البعض (20) ثالثة، وبعض الرابعة فلنفرض هذا البعض (25) خامسة وبعضا. . . وهكذا يمشي العقل حتى يصل إلى أصغر الأجزاء الزمنية، ولكنه لا يزال يمشي لا ينتهي أبدا. . . إن عام الهجرة مثلا لا تزال له بقية في الوجود، أجزاء من الزمن بالغة في الصغر حدا لا يدركه العقل، ولكن تدركه الذاكرة. . . إن هذه البقايا هي ذكريات الأعوام في نفس العام الجديد!
قلت: إني لم أفهم شيئا!
وقفز عقلي فجأة من أجزاء الزمن الصغيرة إلى الزمان المطلق، وراح يمشي على هذا الخط الطويل يقطعه في لحظة، ولكنه لا يستطيع أن يبلغ طرفيه، فلا يني يحاول بلوغهما ولا ينقطع عن السؤال. . . إلى أين ينتهي هذا الخط؟ من أين يبدأ؟ أليس له نهاية؟ ما هي اللانهاية؟
وذهب العقل يفكر: إن عمر عشر حشرات ساعة من عمري، وعمر عشرة رجال ساعة من عمر الصحراء، وعمر الصحارى كلها ساعة من عمر الشمس، فما هي الساعة إذن؟ ما هو العام؟ ما هي حقيقة الزمان؟
وما هو المكان؟ إني لم أر مكانا قط، ولم أر إلا موجودات لا أعرف نهايتها، ولا أدرك آخرها، فكيف لي أن أرى مكاناً ليس فيه شي؟ ما حقيقة المكان والزمان؟ ما عمرهما؟ ماذا وراءهما؟
ألا أستطيع أن أعرف هذا العالم الهائل الذي تحجبه عن عيني هذه الطبيعة كما تحجب(235/21)
الكف الدنيا الواسعة وهي كف واحدة. . .
وضجرت من هذه الفلسفة، فانصرفت عن العقل وتركته يهذي وحده.
وكنت قد بلغت البحر، فوقعت في حجر الطبيعة أتأمل وأناجي وأحلم. . .
لقد نفضت يدي من الناس ولجأت إلى هذه الطبيعة السخية الوفية الوادعة الجميلة أجد عندها أنس نفسي وراحة قلبي، أنظر إليها فتمحى هذه الأبعاد والمسافات، وتبدو لعيني لوحة فنية حافلة بالألوان التي لا يستطيع أبرع مصوّر أن يجمعها في لوحة. ومن لعمري يصوّر ألوان الغروب، أو ألوان الزهر في الروض أو يثبتها على لوحة بالألفاظ والأوزان أو بالأصبغة والألوان؟ إن الطبيعة أبرع في الألوان، ولكن الفن البشري أبرع في الأصوات. إن الطبيعة ليست موسيقية فنانة. . . عندها من الألوان مالا نهاية له ولكن ليس عندها إلا هدير الموج، وخرير النهر، وحفيف الأشجار، وتغريد البلابل، وسجع الحمام، وقصف الرعد. . . هذه موسيقاها، ومن هنا كانت الموسيقى أسمى الفنون لأنها ابتكار وتجديد، على حين أن الأدب والتصوير تقليد. . .
هذه الطبيعة التي أجد في حماها الحب والعاطفة والجمال، كلما لجأت إليها فراراً من الناس، وضيقا بالحياة، وما ذهبت مرة إلى بسّيمة وأطللت من (بيت طه) على هذا الوادي الصغير الذي يشبه همسة حلوة من همسات الحب، أو بيتاً بارعاً من قصيدة الجمال، إلا نسيت الدنيا كلها وأحسست أني مع حبيب قد وضع رأسه على فخدي، ونام. . . هذا الوادي الذي تجري فيه العين الخضراء لينة الأعطاف، فاتنة المحاسن، كأنها فتاة مدللة تخطر بحسنها وفتنتها على سفح الجبل، تغمز بردى بعينها وتغريه بجمالها وهو يلحقها جريا في بطن الوادي، متحدراً متكسراً كشاب قوي متين العود، جهير الصوت، قد اكتملت رجولته كما اكتملت أنوثتها، وأشجار الحَوْر (حُور كواشف عن ساق) يرقصن في عرس الفتاة المدللة والفتى القوي، رقصة الحب، يتمايلين على العروسين وقد تعانقا بعد قليل، وضم الفتى عروسه حتى اختفت بين ذراعيه، وطار بها إلى دمشق، لتكون جلوتها في الغوطة جنة الأرض. . .
وهذه الجبال الحمراء، تقوم على الباب، تحرس الوادي أن يدخله واش أو عذول يفجأ العروسين العاشقين، وتمنع الشمس الملتهبة أن تدنو منهما أو تعكر عليهما خلوتهما، فيبقى(235/22)
الوادي جنة تري من تحتها الأنهار، والدنيا من حوله في جحيم الصيف. . .
غبت في تأملي وأنا على شاطئ البحر فلم ينبهني إلا المطر يساقط على وجهي ويديّ، فنظرت فإذا السحب قد نسجت في السماء ليلاً آخر، وإذا المطر يهبط بشدة، ثم يستحيل بردا طياشا؛ ثم تهب الريح وتجن الطبيعة جنونها، فتنطلق تعول وتولول، وتنتف شعرها، وتحطم كل ما بلغته يدها، فماجت نفسي واضطربت كهذا البحر الذي يزمجر ويلكم صخور الشاطئ حتى تكل سواعده، فيستلقي على الرمال فلا تكون إلا لحظة حتى ينزل سوط الرياح على ظهره دراكا، فيهب فزعاً مرتاعاً، ويعود إلى ضرب الصخر في غير ما طائل، والريح تدير هذه المعركة كلها، تقفز على رؤوس الجبال، وتبعثر البرد يمينا وشمالاً، وتنثر الرياح ثم تجمعها ثم تعبث بها. . .
جنت الطبيعة جنونها، ولكني لم أخفها ولم تكبر في عيني، وإنما ازدريتها وأبغضتها، ما هذه المخلوقة الضعيفة العاجزة التي لا يدري بها أحد من سكان هذا الكون الواسع؟ لقد رأيتها من قمة لبنان نقطة، فكيف يراها المشتري؟ وهل يعبأ نجم القطب بثورتها وجنونها. .؟
وانصرفت إلى نفسي أفكر آسفا. . .
إن العام يتصرم وليس حولي صديق أطمئن إليه، وأحمل معه أعباء الوداع، وأشاركه دمعة يذرفها معي على الفقيد الراحل، وبسمة يمنحها هذا المولود الجديد. . .
عرفت أن الصداقة ليس لها وجود، فنفضت يدي منهم ولجأت إلى الطبيعة أتخذها صديقي المخلص وأوليها حبي وقلبي فكانت هذه هي النتيجة. صادقت مجنونة طياشة بكاشة لا تعرف إلا التخريب والتدمير وتجهل ما هو الحق، وما هو الشعور؟
أهذا كل ما لي عندك يا صديقتي؟ ألجأ إليك في ساعة من أحرج ساعات حياتي قد تركت فيها أهلي وعفت صحبي لألقى بنفسي في أحضانك، وأخفي وجهي بين ثدييك، وأنشق عبيرك الطاهر، وأغتسل بدموع محبتك وعطفك، وأدفن آلامي في صدرك، فلا تلفينني إلا بهذا الجنون وهذا العويل؟
كلا، إنك لا تعرفين الحق ولا الشعور!
وأين لعمري مكان الشعور من الطبيعة؟(235/23)
أنا أشعر بجمال الربيع، ولكن هل يشعر الربيع بجمال نفسه؟ لقد رأت الكونتس دي نواي في الطبيعة مخلوقا حيا ذا شعور وعانقت الربيع، وجالست المساء، ولكن ماذا رأى الربيع في الكونتس دي نواي؟ هل يفرق الربيع بين الفتاة تقطف الزهرة لتقدمها بفمها إلى حبيبها، والبقرة تقطف الورقة لتملأ بها معدتها.
وأنت أيها الجبل؟ كم رأيت من الفواجع التي تفتت الأكباد وتذيب القلوب، فهل شعرت بشيء منها؟ هل حزنت هل تألمت؟
أشعرت بالأمس القريب يوم عصفت الأثرة برؤوس نفر من القواد، فأطفئوا بأفواههم شعلة السلام، وملئوا العالم ظلاماً ثم نهضوا يبنون من الجماجم مجدهم في التاريخ، فلما امتلأت الأرض بالدم وتغطت بالجثث، وغسلت بالدموع، وتجلببت بالآلام والأوجاع والثكل واليتم، ولما كان الأمهات يبكين أبناءهن الذين ضاعت قبورهم كما ضاعت أسماؤهم، والأطفال يهتفون: بابا. ينادون من ليس يجيب. . . كان القواد العظماء يحتفلون بالظفر. . . أشعرت بشيء من ذلك يا لبنان؟ أشعرت بالأرامل والصبايا والأطفال يفتشون عن الخبز. . الخبز الأسود، فلما لم يجدوه توسدوا رجلك ونظروا إليك صامتين. ثم ماتوا جائعين. . كما مات ألوف وألوف في سبيل مجد القواد الظافرين!
ألان قلبك الذي قدّ من جلمد الصخر؟ أذرفت يا لبنان من عيونك الصافية دمعة حنان؟
وكم رأيت يا لبنان من متع الحب! وكم أوى إليك العاشقون فاستظلوا بظلك، وتعانقوا في حجرك، وشربوا خمر العيون، وسكروا بنجوى الحب، وتحدثوا بوسوسة القُبَل، ونسوا الدنيا كلها والزمان والطبيعة، ونسوا أنفسهم حين التقت الشفاه بالشفاه، وأغمضت العيون لترى القلوب مفاتن هذا العالم المسحور وتستمتع بهذه الدنيا المعطرة الحلوة المغنية دنيا القبلة الكاملة.
أهاج ذلك عاطفتك يا لبنان؟ أحرك قلبك كل ذلك أيها الشاب التياه الذي يخطر بحلله الخضراء الزاهية ويتيه بعطره الخالد؟
فأين هو مكان الشعور من الطبيعة؟
أأنت أيها البحر الرقيق السيال أرهف شعورا وأرق عاطفة؟ أيحزنك منظر البؤس والشقاء، وأنت تلتهم الأحياء، وتخنق البشر، وتفتح فاك لابتلاعهم، أأنت ذو الشعور؟. . .(235/24)
أين هو الشعور؟ وأين أجد العاطفة في الطبيعة؟ أأبتغيها في البركان الهائل المحرق، أم في العاصفة العاتية المدمرة؟
وأين هو الحق في الطبيعة؟
أنا أرى في الطبيعة عاصفة تكسر الأغصان، وتقلع الأشجار؛ وأرى صاعقة تهدم الدور؛ وأرى سيلا يجرف المدن، ويكتسح في طريقه كل شيء؛ وأرى البركان الثائر؛ وأرى الرياح العاتية. كل هذا وجود مادي للقوة، فأين هو الوجود المادي للحق؟
لقد اتضح الأمر، وخسرت صديقتي الطبيعة الجامدة الظالمة الميّتة. . .
فلمن ألجأ؟
لمن ألجأ ويحك يا نفس؟ هذا العام يوشك أن يموت!
فعجزت النفس ولم تجب، وانطلق العقل يتفلسف، قال: إن في الطبيعة لحسّاً وتمييزا، ضع ذرة واحدة من الفحم، وخمسا من الأيدروجين يأخذ الفحم أربعا ويدع الواحدة، ومهما ضاعفت العدد تبقى النسبة ثابتة، أفليس هذا دليلا على أن الجماد يميز؟
وضع الذهب بين عشرة معادن وألق عليه الزئبق فإنه يعانق الذهب ويدع كل ماعداه، أفليس في هذا دليل على أن في الجماد شعورا وعاطفة؟
ولكني لم أنتبه لما قال العقل؟
ونظرت إلى البحر فقلت: ما البحر؟ ما الطبيعة؟ أنا لا أرى إلا هذا العالم المادي؛ ولكن ماذا وراء المادة من عوالم؟ إن الروح أول محطة في طريق هذه العوالم، فهل استطعنا أن نبلغها؟ إن العقل البشري يمشي إليها منذ بدأ صناعة التفكير، ولا يزال في الطريق لم تبن له معالمها. . . إنه تعب وملّ ويئس. . . افتح الآن أي كتاب من كتب (علم النفس) إنك لا ترى في فهرسه اسم الزوج ولا النفس. . .
وفكرت في العام الراحل فقلت: ما هو العام؟ ما وجوده؟ ما حقيقته؟ ولم أسمع جواباً فأغمضت عينيّ كما أغمضت قبة الأعظمية عينيها منذ عام، ولكني لم أحلم ولم أتذكر، وإنما لبثت صامتا محدقا في غير شيء كالأبله أو المشدوه، وتركت عقلي المغرور يتيه وحده في قضاء اللانهاية. . . إنه لا يستطيع أن يعرف شيئا مما وراء المادة. . . كما أن عقل الجنين لا يقدر أن يعلم شيئا عن هذا العالم ولا يؤمن بوجوده. . .(235/25)
وكنت قد نسيت الطبيعة الجامدة الميتة التي لا شعور فيها ولا عاطفة، ونسيت هذه المخلوقات التافهة الحقيرة التي يدعونها (الناس)، ونسيت هذه الذرة التائهة في رياح الوجود التي اسمها (أنا)، وتوجهت إلى العظيم الباقي الذي هو وحده الخير المطلق والحق والجمال. . . توجهت إلى الله أسأله أن يلبس هذا العام القادم ثوب السعادة، ويضفي على العام الراحل حلة الغفران. اللهم آمين.
(بيروت)
علي الطنطاوي(235/26)
بين القاهرة واستنبول
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 4 -
متاحف طوب قبو سراي
يا أخي صاحب الرسالة:
سلام عليك والله يرعاك
أكتب إليك اليوم بعض ما شهدته أمس في متاحف قصر طوب قبو الذي كان مباءة السلاطين عصورا متطاولة. وعسى أن أكتب إليك من بعد طرفا من تاريخ هذا القصر الأفيح الذي يمتد على إحدى هضاب المدينة من جامع أيا صوفيا إلى رأس السراي (سراي بورنو) على بحر مرمرة:
للقصر أسوار بعد أسوار. الأبواب الخارجة تؤدي إلى حدائق واسعة. وقد ذكرت في رسالتي السابقة أحد هذه الأبواب حين ألجأني المطر أليه.
سرنا في الحديقة حتى انتهينا إلى باب آخر أسمه باب السلام فولجناه إلى حديقة أخرى واسعة تحيط بها أروقة، ويبدو فيها إلى اليسار بناء ذو قباب، أمامه رواق جميل. دخلنا فإذا حجرتان تتصل بهما حجرة مغلقة. اسم هذا البناء (قبة آلتي) أي تحت القبة. وكان في العصور الغابرة مجلس الوزراء. وكان الوزراء من اجل هذا يسمون وزراء القبة أو جلاّس القبة (قبة نشين). فالحجرة التي إلى اليسار فيها أرائك للوزراء تتوسطها أريكة الصدر الأعظم.
ويرى فوق مجلس الصدر نافذة عليها شباك من الحديد ناتئ كان السلاطين يشرفون من هذه النافذة ليسمعوا مفاوضة الوزراء أو يروا استقبال الصدور السفراء. وكتبت إلى جانب النافذة كلمة الشهادة وطرتان، بخط السلطان أحمد الثالث، والحجرة التي إلى اليمين كانت للكتّاب وفيها طرة للسلطان مصطفى الرابع، وسجادة يقال إنها نسجت قبل خمسة قرون. وكانت الحجرة المغلقة لاستراحة الكتاب.
وبني هذا البناء في عهد سليمان القانوني سنة 933.(235/27)
ووراء هذه البَنيّة برج يعلو في الهواء 42مترا عليه منظرة تطّلع على المدينة كلها وكان حوله بناء.
وعلى مقربة من (قبة آلتي) حجرة كبيرة هي اليوم خزانة الأسلحة القديمة أسلحة الملوك والأمراء. يرى الداخل أمامه بلطات كثيرة من سلاح مماليك مصر، والى يمينه خزائن زجاجية يطّلع فيها على سيوف لبايزيد وسليمان. وهذا سيف السلطان الغوري وهذا سيف طومان باي. وأما سيف قايتباي هذا فقد طبعه من حديد وجده عند الحجرة النبوية سنة 881. وهذان سيفان لمحمد الفاتح؛ هذا الطويل المحلى للمحافل، وهذا القصير العاطل للمعارك.
وبينا نتأمل هذه السيوف ونعجب من قدمها، أرانا المعرض ما هو ابعد في التاريخ وأجل شأنا؛ هذا سيف عليه اسم معاوية وهذه سيوف أموية طويلة مستقيمة، وهذا سيف لعبد الله بن عمر، وآخر لكعب الأحبار. وهذا السيف الطويل العريض المذّهب قائمه قد كتب عليه: (معاذ بن جبل كاتب رسول الله) بل هذا سيف عثمان بن عفان. سعدت حينا بالذِكَر ولم أكدرها بتحقيق الأسانيد.
وتقدمت قليلا لأرى دروعا لمماليك مصر: وهذه درع كاملة: قميص وسراويل وعلى الصدر أضلاع من الحديد.
ومشيت إلى جانب آخر من الحجرة فرأيت الأقواس والسهام ريشها ونصالها، والجُعَب، وهي قِسىّ تركية من نبات القرنين العاشر والثالث عشر هـ. وهذه جعاب (تراكش) محلاة مزركشة، وهذه درع هنجارية محلاة الصدر بالذهب والفصوص الكريمة، وهذه درع كتب عليها اسم الشاه عباس الصفوي، ولا أدري أي العباسين الأول أم الثاني؟
وليت شعري لمن هذه الدروع التي اتخذت جُنة من الآيات والدعوات تقرأ عليها: يا خفيّ الألطاف نجنا مما نخاف. فالله خير حافظا، يا مالك الملك، يا منجي من المهالك، أنت الباقي وكل شيء هالك. وبيِّن أن السجع يقتضي أن يكون: يا مالك الممالك الخ ولعله تحريف الكاتب أو الطابع.
سنتقدم ونمر إلى خفتانات من الجلد أو النسيج الصفيق ومغافر من الجلد والحديد. بل هذه مغافر للخيل؛ والفرس صديق الفارس في المآزق يحتاط له كما يحتاط لنفسه. وكانت الخيل(235/28)
تلبس المغافر على رؤوسها والتجافيف على أبدانها. وفي شعر أبي الطيب:
حواليه بحر للتجافيف مائج ... يسير به طود من الخيل أيهم
ثم ترى قوائم أعلام يعلم الله ما شهدت من ظفر وهزيمة، ثم بنادق من عصور مختلفة فيها المحلى بالصدف الذي يضرب بالزند والصوان، وفيها بنادق القلاع الثقيلة، وضروب أخرى كثيرة.
- 2 -
تركنا خزانة السلاح وسرنا حتى اجتزنا الباب الثالث إلى رحمة واسعة، ويفضي الباب إلى رواق مستطيل مع الجدار، وعلى الباب من الداخل كتابة وثلاثة ألواح مستديرة فيها أسماء السلاطين وتواريخ ولايتهم ووفاتهم من عهد عثمان إلى محمد السادس وهي تشغل لوحين ونصف الثالث، وبقي الفراغ فيه ناطق بانتهاء الدولة.
وأمام الباب حجرة يتقدمها رواق. وهي حجرة العرض (عرض أوده سي) وكانت مجلس السلطان لمقابلة السفراء، ورجال الدولة أيام الأعياد وفيها سرير منجد تعلوه قبة من الخشب المصنع المزين وكان أثاث الحجرة وزينتها من آيات الإتقان والبذَخ ولكنها احترقت سنة 1273 وبقي بعض آثارها.
وفي جانب الحجرة نافورة يقال إنها كانت تفتح حين يُسر السلطان حديثه حتى لا يسمع الذي في الخارج.
وفي الرواق الذي أمام الحجرة حجر من المرمر يقال إن قتلة السلطان سليم الثالث وضعوا جثّته عليه وأروها للصدر علمدار مصطفى باشا.
وتقدمت فملنا ذات اليمين إلى (الخزينة) وفيها من نفائس التاريخ وأعلاق الملوك ما يكل الطرف دون تأمله؛ الحجرة الأولى والثانية بهما أدوات الطعام والقهوة من الصيني الجميل في ندرة من الألوان، وفتنة من بدائع النقش، صحون وطسوت وأباريق وفناجين، وأدوات من البلور والنحاس المذهب، وخوانات من الفضة ومواقد الخ الخ.
هذه المرائي اللألأة تبهر العين حيثما توجهت فتشغل الناظر عن التفكير فيما وراءها من التاريخ. قلت ماذا أرى وماذا أدع؟ هذه للعابر متعة دقائق، وللباحث درس أشهر، وللمفكر عبرة الدهر.(235/29)
ثم حجرة الملابس، ياله منظرا مهيباً ومقاماً هائلا! صف ينتظم السلاطين من الفاتح إلى عبد المجيد. هاأنت ذا في حضرة السلاطين الذين رجفت بهم الأرض قرونا وامتلأت صفحات التاريخ أجيالا. هوّن عليك لا تُرَع. ما هي إلا ألبسة تحملها أعواد. أجل! هذه الجبة، وهذه العمامة الكبيرة، وهذه الشارة (سرغوج) التي تعلو العمامة محلاة بالماس، وهذا الخنجر المذهب الذي تثقله هذه الزمردة الكبيرة - أجل هذا لباس الفاتح وزينته وسلاحه، ولكن لا تُرَع إن هو ألا لباس على أعواد. اضحك إن شئت، وتحدث كما تشاء، ولا تأخذك هيبة الفاتح وصولته، وإن شئت فقف خاشعا مطرقاً مفكراً فإنها ذكرى واقعة وتاريخ ماثل، فإذا أخذتك سورة الذكرى واستشعرت رهبة الملك فارفع رأسك وانظر فليس أمامك الفاتح، ولكن جبته وقفطانه وعمامته وخنجره.
وانظر بجانبه ملابس بايزيد الصوفي: عقد من الزمرد حول حلقة من الجواهر يزين هذه العمامة، وعلى مقبض الخنجر ثلاث قطع من الفيروزج زرقاء صافية. وتقدمت فوقفت أمام سليم وسليمان! ولست أبالي حضرة سليم وسليمان، فقد ذهب الدهر بسليم وسطواته، وذهبت الريح بملك سليمان.
وانظر إلى من بعد سليم وسليمان: هذان سليمان الثاني ومحمد الرابع على رأسيهما عمارتان تخالفان ما رأيت قبلا، عمارة حمراء عليها لفافة صغيرة، وشارة عظيمة جداً؛ ثم انظر العمائم الطويلة المضلعة على رأس مصطفى الثاني ومن بعده.
وهذا محمود الثاني الذي بذل في اٌلإصلاح جهده وبطش بالإنكشارية بطشته في زي أوربي على رأسه طربوش عليه قطيفة سوداء وشارة. ثم عبد المجيد على رأسه الطربوش والشارة فقط. وهكذا يسير التاريخ متمهلا من أبهة الماضي واستقلاله وجلاله إلى يسر الحاضر وتقليده وجماله.
وفي وسط الحجرة صوالج لعبت بالأمور حتى لعبت بها الأقدار. وليت شعري ما خَطبُ هذا المهد السلطاني الصغير؟ بل أي طفل من بني السلاطين ترجّح فيه، وأي يد من أيدي الأميرات أو الخادمات هزته؟ وماذا كان حظ صاحبه من هذا المهد إلى ذاك اللحد؟
وأما هذا العرش العظيم المسبغ الجوانب ذو القوائم الأربع فيقال إنه عرش الشاه إسماعيل. . .(235/30)
وبعد فيا صديقي الزيات! أخشى أن يطول الحديث فليقف الكلام عند عرش إسماعيل وموعدنا الرسالة المقبلة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله.
عبد الوهاب عزام(235/31)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفليسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 57 -
انتظم في نشيدي الأخير كل فنون الطرب: الطرب الذي يكسو وجهه بخضرة النبات المتراكم؛ الطرب الذي يبعث التوأمين - الموت والحياة - في أنحاء الأرض يطوفان معا؛ الطرب الذي يهبط جارفاً في ثنايا عاصفة فينفث في الحياة روح اللذة والمرح، الطرب الذي يستقر في هدوء وعبراته على زهرة اللوتس الحمراء وهي تتفتح؛ الطرب الذي ينثر كل ما يملك على الثرى ثم هو لا يستطيع حديثا.
- 58 -
نعم، أنا أوقن بأن هذا ليس شيئا سوى حبك، يا حبيب القلب! هذا الشعاع الذهبي المتألق على أوراق الشجر، هذه السحب المتكاثفة وهي تسبح في الفضاء، هذا النسيم العليل وهو يهب ندياً يداعب وجهي.
لقد ملأ نور الصباح عينيّ، وهو رسالتك إلى قلبي، إن وجهك يطل على من علٍ، وعينيك تحدقان في، وقلبي يلمس قدميك.
- 59 -
على شاطئ بحر الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال، ومن فوقهم السماء تمتد في سكون إلى اللانهاية، وبازائهم الأمواج المضطربة تزمجر، وعلى شاطئ بحر الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال في هياج ومرح.
وهم يتخذون من الرمال قصورا، ومن الأصداف الفارغة لعبا؛ ويشيدون من الأوراق الذابلة قوارب يدفعون بها على صفحة الماء الغمر في لذة. إن الأطفال يجدون السلوة على شاطئ بحر الكون.(235/32)
إنهم لا يستطيعون السباحة ولا يعرفون كيف تلقى الشباك. إن الغواص يندفع يفتش عن اللآلئ، والتاجر ينطلق على الفلك يجمعها، ولكن الأطفال يجمعون الحصى وينثرونه لأنهم لا ينقبون عن الكنوز الخفية، فهم لا يعرفون كيف تلقى الشباك.
البحر يموج كأنه يقهقه، ورمال الشاطئ الصفراء تشف عن بسمة رقيقة، والأمواج إلى جانب الأطفال تردد أغاني لا معنى لها كأنها صوت أم تهدهد طفلها وهو في مهده. إن البحر يداعب الأطفال، ورمال الشاطئ الصفراء تشف عن بسمة رقيقة.
على شاطئ بحر الكون اللانهائي، يتلاقى الأطفال والعاصفة تزمجر في الفضاء، والسفن تتحطم في مجاهل الأمواه. الموت هناك، وهنا الأطفال يلعبون. على شاطئ بحر الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال لقاءهم العظيم.
- 60 -
أفيستطيع إنسان أن يعرف من أين يهبط النوم الذي يداعب جفني الطفل؟ نعم، إن الإشاعة تدوي أنه يتخذ له مسكنا في القرية الجميلة التي بين تفاريق الغابة الظلماء لا ينيرها سوى الشعاع الضئيل المنبعث من الفراش المضيء، هناك تتدلى زهرتان فيهما الحياء والفتنة تنفثان ريح النوم فينطلق ليقبل عيني الطفل.
أفيستطيع إنسان أن يعرف من أين تهب البسمة الساحرة التي ترسم على شفتي الطفل وقد غمره النوم؟ نعم، إن الإشاعة تدوي أن شعاعاً رفيقاً ندياً انبعث من القمر وهو هلال فلمس حافة سحابة من سحب الخريف وهي تكاد تتلاشى، فولدت - أول ما ولدت - الابتسامة في أحلام الصباح الندي. . . هذه هي الابتسامة الساحرة التي ترتسم على شفتي الطفل حين يغمره النوم.
أفيستطيع إنسان أن يعرف أين كان يتوارى النشاط الحلو الرقيق الذي يضطرم في أطراف الطفل؟ نعم، حين كانت الأم فتاة ألقت بقلبها في هدوء بين خفايا الحب. . . الحب، إنه هو النشاط الحلو الرقيق الذي يضطرم في أطراف الطفل.
- 61 -
حين أحمل إليك - يا بني - اللعب الجميلة الملونة أستطيع أن أعرف لماذا ارتسمت هذه(235/33)
الألوان على السحب، على الماء، ولماذا صبغت الأزهار اليانعة بألوان جذابة. . حين أحمل إليك - يا بني - اللعب الجميلة الملونة، حين أغني أمامك لترقص على نغم أغاني؛ أعرف حقا لماذا تنبعث الموسيقى من حفيف أوراق الشجر، ولماذا يرسل الموج ألحانه في قلب الأرض الصامتة. . حين أغني أمامك لترقص على نغم أغاني.
حين أقدم لك الحلوى فتتقبلها في شغف؛ أعرف أنا لماذا امتلأ كأس الزهرة رحيقا، ولماذا انضمت الفاكهة على عصير حلو. . . حين أقدم لك الحلوى فتتقبلها في شغف.
حين أقبل جبينك - يا عزيزي لتبسم؛ أستطيع أن ألمس اللذة في شعاع الصباح المنير، وأن أحس النشوة التي تنفثها في نسمات الصيف. . . حين أقبل جبينك لتبسم.
- 62 -
أنت عرّفت علي أصدقاء لا أعرفهم، وحبوتني بمكان في كل دار وليس لي واحدة منها، وأنت كشفت لي عن كل مبهم، ومننت علي برفيق في الغربة.
إن قلبي ليضطرب حين أهجر مأواي الذي سكنت إليه. لقد نسيت أن القديم يتحدر إلى الحديث فيعيش معه، وأنك أنت أيضا.
بين صراع الحياة والموت، على هذه الأرض أو على سواها، تقودني أنت أنى شئت. . . وأنت رفيقي الأوحد في هذه الحياة الأبدية، رفيقي الذي تجذب إليك قلبي بنفثات من الطرب المجهول.
إن الذي يعرفك لا يستشعر الغربة في هذا العالم ولا تسد في وجهه الأبواب. أوه، تقبل صلواتي كي لا أفقد لذة لمساتك - أيها الفرد - في سبيل المجموع.
- 63 -
عند منحدر النهر الموحش، وبين الحشائش النامية سألتها (يا سيدتي، إلى أين تذهبين وأنت تسترين سراجك بين طيات ملاءتك؟ إن داري مظلمة خاوية فأعيريني ضوءك!) فأرسلت من عينيها السوداوين نظرات نفاذة اخترقت أستار الظلام، واستقرت علي حينا ثم قالت (لقد جئت إلى النهر لأضع مصباحي على صفحة الماء حين ينطفئ مصباح النهار) فوقفت وحيداً بين الحشائش أرقب نور مصباحها الخافت وهو يتناثر بدداً على صفحة الماء.(235/34)
وفي صمت الظلام سألتها: (يا سيدتي، لقد همد مصباحك فإلى أين تنطلقين ومعك سراجك؟ إن داري مظلمة خاوية فأعيريني ضوءك!) فأرسلت من عينيها السوداوين نظرات نفاذة استقرت علي حيناً، ثم قالت: (لقد جئت لأقدم مصباحي إلى السماوات) فوقفت أرقب الضوء الخافت وهو يضطرب - دون جدوى - في الفضاء.
وفي أعماق الليلة الظلماء سألتها: (يا سيدتي، لماذا تضمين مصباحك إليك؟ إن داري مظلمة خاوية فأعيريني ضوءك!) فتلبثت قليلاً تفكر نظرت إلي وقالت: (لقد جئت بمصباحي لأنضم إلى الحفل) فوقفت أرقب الضوء الخافت وهو يغوص وسط المصابيح.
كامل محمود حبيب(235/35)
من الشعر الإنجليزي.
القبرة
للشاعر العبقري الإنجليزي (شيللي)
للأستاذ خليل هنداوي
(تعد هذه القطعة أكمل ما جاء في الشعر الإنجليزي وقد نظمها صاحبها في إيطاليا، وهو في الثامنة والعشرين من عمره. وقد قالت امرأته: إنه كان في أحد أيام الصيف يتجول في الغابات وقد سمع صوت قبرة، فأوحت إليه قصيدة من أسمى قصائده)
(خ. هـ).
سلاما عليك أيتها الروح المرحة!
أنت لستِ بطائر
يا من تسكبين من السماء ومن الطباق المجاورة
ألحانا مبتكرة - علينا - يطفح قلبك بها
تطيرين إلى الأعلى، دائماً إلى الأعلى
وتنقذفين من الأرض كسحابة من نار،
وتطيرين فوق الأعماق الزرقاء
شادية وأنت محلقة
محلقة وأنت شادية لا تنتهين.
وفي لمعات الشمس الغاربة التي يسطع لها السحاب
تسبحين وتركضين كفرح طليق متوثب بدأ سباقه؛
صفرة المساء الأرجواني تنتشر حولك
وكنجمة غمرها نور النهار الواضح تصيحين متوارية،
ولكني لا أزال أسمع هتافك الطروب.
الفضاء والأرض مفعمان بصوتك
كعهدهما عندما يرسل القمر أشعته من وراء سحابة منعزلة(235/36)
في الليلة الصافية
والسماء يفيض على حواشيها شعاعه
خرير الينابيع بين الأعشاب اللامعة
والأزهار النائمة التي ينبهها المطر
وكل ما أطرب وأفرح وسر ألا يفوق لحنك منه شيء
علمنا أيها الطائر!
أي جمال في أفكارك!
فإني لم أسمع مقطوعة في حب أو خمر تفجر في النفس كمثل
ما يفجره لحنك من الغبطة الإلهية
إن الحان العرس وأغاني النصر إذا قيست إلى ألحانك لا
تبدو إلا ضجة فارغة أو فراغاً لا معنى له.
لأية غايات تترامى ينابيع صيحاتك الفرحة؟
أية حقول وأية أمواج أو جبال؟
وأية مشاهد في الأرض أو في السماء؟
وأي حب للقريب؟ وأي جهل للشقاء؟
إن العناء لا يسكن مع فرحك الظاهر القوي؟
وخيال الضجر لا يَمسُّك أبداً
إنك تحيين ولكنك لم تعرفي أبداً شبح الحب الكئيب
سواء كنت نائمة أو يقظى، فإن لك أفكاراً على الموت اثبت
حقيقة مما نحلم به
وإلا فكيف تسبح أنغامك كالأمواج البراقة؟
إننا ننظر أمامنا ووراءنا، وإنا لنشحب بعد الفناء؛
وضحكتنا الأكثر صفاء هي مشوبة ببعض الألم؛
واجمل أغانينا الأغاني التي ترجع لنا أفكارنا الكئيبة،
على أننا لو قدرنا أن نجتنب الخوف والبغض والكبرياء(235/37)
ولو ولدنا لكي لا نبكي أبداً،
فإني لا ادري كيف لا يستطيع فرحك أن يستعطف أنفسنا!
إن فنك الذي يزدري الأرض
يكون - عند الشاعر - افضل من أوتار الألحان الرائعة
ومن كل الكنوز التي تصونها الكتب.
آه لو علمتني - أيتها القبرة - نصف فرحك الذي يعرفه قلبك
أو صوتاً مطرباً يفيض من شفتي يسمعه مني الناس كما اسمع الآن(235/38)
قبرة شيللي
للشاعر الإنجليزي توماس هاردي
كتبت في إيطاليا حيث كتب شيللي مقطوعته الشهيرة (القبرة)
هنا بعض شيء - حول هذا المكان - يستريح ملاصقاً أمينا للأرض الناسية العمياء
بعض شيء ترك قلب الشاعر فياضاً
قبضة مجهولة من تراب لا يُرى
تراب القبرة التي سمعها شيللي وخلدها لكل الأزمان
على أنها لم تعش إلا كمثل عصفور من العصافير
ولم تعلم أنها أصبحت مخلدة
قضت حياتها العذبة ثم سقطت يوما كتلة من ريش وعظام.
أما سؤالك كيف هلكت وهي ترجع أنشودة الوداع
وأين استقر رمادها
فهذا أمر مجهول.
ربما تستريح تحت عيني في التراب
وربما تخفق بين أوراق الرياحين
وربما تنام في ظاهر لون عنقود يتلون في منحدر التلال
بعيداً عن البحر
ألا فتشن عنها أيتها الجنيات!
ألا فتشن عنها هذه القبضة الصغيرة من الرماد من غير ثمن
وخذن آنية موشاة بالفضة مغشاة بالذهب، مرصعة باللؤلؤ
إننا سنضعها فيها بأمان، ونسلمها إلى أبد الزمان
لأنها بلغت ذروة الذهول السامي في التفكير والألحان
خليل هنداوي(235/39)
فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 5 -
الديمقراطية والحياة المثلى
(أية قطعة من الخليقة هو الإنسان؟ كم هو عظيم في عقله وليس بمحدود في ملكاته؟ وكم هو رائع وسريع في صورته وحركته؟ وكم هو كالملاك في عمله وكالإله في فهمه؟ إنه جمال العالم وتاج الحيوان!!)
شكسبير - هملت.
(على التربية اليوم أن تصلح الأخطاء التي فشلت السياسة في إصلاحها، وأن تخدم قضية الديموقراطية أفضل خدمة).
,
عرضت عليك في المقال السابق ألواناً من أغراض التربية وصوراً، وأشرت إلى دقة الموضوع وصعوبته، ثم تركته مفتوحاً لرجال التربية في الشرق كيما يدلي كل منهم فيه برأيه الخاص؛ وأعود اليوم فأجول بك في (الحياة المثلى) ما دمنا نريد من التربية أن تعدنا لمثل تلك الحياة. . .
ولكن ترى ماذا عسى أن تكون هذه (الحياة المثلى) لذلك (الإنسان العظيم) الذي تصوره شكسبير؟؟ وأي علم من العلوم، أو فن من الفنون، يصلح للخوض في ذلك الموضوع غير الفلسفة والشعر؟؟ ومن أين تستمد التربية هذه الحياة إذا هي لم تستمدها من الفلسفة والشعر؟؟
الحق أن الناس قد اختلفوا وما زالوا يختلفون في تصورهم للحياة، وأن الفلاسفة والشعراء قد تباينوا تباينا عظيما فيما قد رسموه لها من (مثل عليا) دافعوا عنها ودعوا الناس إليها! وأنت ترى بعد ذلك أن الموضوع خطير كل الخطورة ما دامت حياتنا هنا واحدة لا عودة لها ولا تكرار!(235/40)
إذن فيم تقوم (الحياة المثلى)؟ أفي الزراعة وحكمة الأقدمين كما يقول (غاندي)؟ أم في السرور كما يزعم (ماتيو أرنولد)؟ أم في العمل بالتئام مع إرادة حاكم الكون كما يردد (زينو)؟ أم في النشاط الفكري الدائر حول أسمى موضوعات الفكر - وهو الله - كما يؤكد (أرسطو)؟ أم في إشباع الحاجات الطبيعية دون إفراط أو تفريط كما يطالب (سبنسر)؟ أم في التأمل في الجمال المطلق كما يسمو (أفلاطون)؟ أم في حياة الفضيلة كما نصح الرواقيون؟، أم في الحياة الطبيعية البعيدة عن العلم والفن كما صرح (روسو)؟ أم في أداء الواجب فحسب كما ألح (كانت)؟
تلك جمعياً تصورات (للحياة السعيدة) فيها من التشابه والاختلاف الشيء الكثير. ولقد حاول (ديوي) في نزعته الاجتماعية الجارفة أن يدلي برأيه في الموضوع فقال: (إن السعيد من الناس هو من ينظر إلى قوى نفسه من ناحيتها الاجتماعية فلا يدبر أمراً أو يرغب فيه إلا بالإشارة إلى أثره في الجماعة التي هو جزء منها. ذلك أن سعادته إنما تقوم في تنمية (النشاط الاجتماعي) دون النظر إلى ما عسى أن يكون في ذلك من لذة أو ألم) ومعنى ذلك أن الإنسان - مهما سما في الفكر أو اغتنى بالمادة - لا يستطيع أن يتذوق السعادة الحقة إلا في ظل الجماعة التي هو جزء منها، والتي لها عليه واسع الفضل وعظيم النعمة؛ وليست هذه النزعة في الواقع إلا صدى لتيار (الديمقراطية) الذي أغرق بأمواجه المدوية الجارفة خرافة (التفريق بين الناس)، وحمل (الشعب) على ظهره إلى فردوس الكرامة والرقي!
وماذا عسى أن تكون هذه الديمقراطية؟ وماذا عسى أن تكون تطبيقاتها في التربية؟
أما هي فيعرفها (ديوي) بأنها (حكم الشعب لأجل الشعب وبالشعب)! ويفسرها بأنها اشتراك الأفراد في المصالح العامة بحرية تامة وفي دائرة الخير العام؛ هذا بينا يعرّفها (باستور) (بأنها النظام الذي يمكن الجميع من تحقيق أقصى مجهوداتهم).
وأما تطبيقاتها في التربية وفي غير التربية فخطيرة وعظيمة بحيث لا يكاد يتسع لها مثل هذا البحث. . . وحسبك أن تعلم آثارها في نظام الحكومة، ونظام العمل والعمال، ونظام التعليم الشعبي، بل نظام العالم كله كما يتصوره السلميون العالميون لتعلم حقيقة ما أقول:
وهاهو ذا (وولف يشترط في أعمال الفرد الديمقراطي أن (تكون شائقة جذابة وإلا دفعت به إلى الفساد الخلقي)!(235/41)
وهاهو ذا (هوبهوس) يحرم الحرب في الديمقراطية لأنه يراها تقتل (الحرية)، وهذه - كما تعلم - أساس الديمقراطية.
بل هاهو ذا الأستاذ يرى مع (ديوي) وغيره أن الديمقراطية يجب أن تسود التربية في جميع مراحلها وتطبيقاتها ويرجو من التربية ذاتها أن تكون خير مساعد في نشرها كيما تستطيع غدا أن تصلح تلك (الأخطاء الهائلة) التي رزح العالم تحت أثقالها سنين طوالاً، وكان الجاني عليه فيها سياسة عمياء، ونزعة حمقاء، وجهل مطبق!
تطبيقات الديمقراطية على التربية
وما دمنا هنا إزاء التربية فلا بد من أن نجعلها صالحة لخلق ذلك المجتمع الديمقراطي المنشود - لابد من أن نجعلها تعد الفرد لا لملء مركز خاص كما كان الحال في (خرافة الطبقات)، بل لخلق مركز مناسب يعمل فيه كوحدة مرنة متسقة محترمة قادرة على مواجهة التغير المنتظر في كل وقت، وغير خاضعة لسياسة تعسفية مفروضة!
ولم ذلك؟ ألم تفشل مدارسنا الراهنة في تعليمنا أن الحياة مغامرة فيها من المفاجآت القاسية بقدر ما فيها من المداعبات الهينة؟ ألم تخرج لنا أولئك المتكبرين المتعجرفين الذين لا يصلحون لشيء غير ملء المقاعد وتسويد الأوراق، والذين تقوم بينهم وبين الشعب هوة من الإنسانية الكسيرة، والكرامة المهيضة والشرف المذبوح؟
نريد إذن عالماً أحسن؟! عالماً لا تثور فيه الحرب، ولا تطغى الآلة، ولا يذبح فيه (العلم المادي) الإيمان فيؤخر السمو الخلقي ويعوقه عن اللحاق بالتقدم العلمي!! عالماً لا يدخل عليه التغير الحتمي فيغرق أبناءه في جحيم من الفوضى كما نرى في كل مرحلة انتقال تجتازها أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات!!
وسبيل ذلك كله هو تحويل (المدرسة والتدريس) إلى (شيء آخر) تنمو فيه شخصية الطفل، وتقوى على مواجهة الظروف، وتكون مرنة لا تأسرها العادات، وذات فراغ كاف بريء يكسبها حكمة العلم ورقة الفن ويسمو بها فوق الآلات!! ذلك إلى عمل (مفهوم) وشائق وجذاب، وإلى ثقافة راقية تفهم صاحبها مركزه في الكون ووظيفته في الجماعة التي يجب أيضا أن تكون مفهومة لديه!! ثقافة خالية من (لصوص التاريخ وسفاكيه) كما يقول هازئاً (برناردشو) وبذلك يكون لدينا عضواً فعالاً، متعاوناً مستقلاً، عادلاً، يحترم المعارضين،(235/42)
ويشك، وينقد، ويجازف، ويسمو في إنسانيته فوق العجماوات، عضواً يرى السلاح حقارة كما يقول (برتراند رسل)، ويمقت البدع الدينية ومروجيها من ذوي الطيالس واللحى، عضواً كله إقدام وتفاؤل وأمل، لا خوف وتردد ويأس. . .
وستسأل بعد ذلك عن الأساس الفلسفي الديمقراطي؟! وسأجيبك أن الله الذي خلق الإنسان (على مثله وصورته) ما كان ليرضى له ذلاً أو استعباداً، أو أي مظهر آخر من مظاهر الاستبداد الذي يخمد إنسانيته ويعوقها عن كمالها المنشود.
أوَ ليس (الإنسان) عظيماً في عقله، وغير محدود في ملكاته، ورائعاً في صورته، وسريعاً في حركته؛ وكالملاك في عمله، وكالإله في فهمه؟ لأنه جمال العالم وتاج الحيوان؟
إذن فما لنا نأبى عليه إنسانيته الرفيعة هذه، ونلقي به في هوة فيها ما شئت وما لم تشأ من حيوان وشيطان؟
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية(235/43)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 20 -
تحت راية القرآن
الجديد والقديم. . .! هنا ميدان الخصومة بين الرافعي وأدباء عصره؛ فمنذ نحله أديب منهم زعامة المذهب القديم في مقال كتبه لمجلة الهلال سنة 1923، نشط الرافعي ليجاهد هذه الدعوة التي يدعون إليها بتقسيم الأدب إلى قديم وجديد؛ إذ لم تكن هذه الدعوة عنده إلا وسيلة إلى النَّيل من العربية في أرفع أساليبها، وسبيلاً إلى الطعن في القرآن وإعجاز القرآن، وباباً إلى الزراية بتراث الأدباء العرب منذ كان للعرب شعر وبيان. ومن ذلك اليوم نصب الرافعي نفسه ووقف قلمه على تنفيذ دعوى التجديد؛ فجعل همَّه من بعد أن يتتبع آثار الأدباء الذين ينتسبون إلى الجديد ليردَّ عليهم ويكشف عن باطلهم. وما كان يرى في عمله ذلك إلا أنه جهاد لله تحت راية القرآن؛ فمن ذلك كان اسم كتابه الذي جمع به كل ما كتب في المعركة بين الجديد والقديم، من سنة 1908 - 1926.
هو كتاب لم ينشئه ليكون كتاباً، ولكنها مقالات تفرقت أسبابها واجتمعت إلى هدف واحد، وكانت مزقاً مبعثرة في عديد من الصحف والمجلات فجمعها بين دفتي كتاب، فاجتمع بها رأي الرافعي في القديم والجديد على اختلاف أسبابه ودواعيه وما كُتب له؛ على أنك لا تكاد تبلغ من صفحات هذا الكتاب إلى الصفحة المائة من أربعمائة حتى يخلو الميدان من كل أنصار الجديد إلا رجلاً واحداً هو الدكتور طه حسين بك، ويتوجه إليه الخطاب والرد في كل ما بقي من صفحات الكتاب؛ فكأنما أنشأه الرافعي وجمعه كتاباً للرد عليه هو وحده، وكأنه هو وحده الذي يدعو إلى الجديد وينتصر له ويحمل رايته؛ فإذا أوشكت أن تفرغ من الكتاب فرغت من الرافعي ومن رأيه ومن حديثه، لتقرأ جلسة من جلسات البرلمان يرأسها سعد ويتداول الحديث فيها طائفة من النواب عن طه حسين ورأي طه حسين في الأدب(235/44)
وفي الدين وفي القرآن، ويحتدم فيها الجدل بين حكومة عدلي وبرلمان سعد في شأن هو إلى الأدب أدنى منه إلى السياسة؛ وإنها لجلسة ممتعة خليقة بأن تكون في موضعها من كتب الأدب وتاريخ النقد الأدبي.
وليس الكتاب على استواء واحد في أسلوبه؛ ففي المقالات الأولى منه تقرأ رأي الرافعي هادئاً متزناً فيه وقار العلماء وحكمة أهل الرأي ورحابة صدر الناقد البريء؛ فإذا وصلت من الكتاب إلى قدر ما، رأيت أسلوباً وبياناً غير الذي كنت ترى، وطالعتك من صفحات الكتاب صورة جَهْمةٌ للرافعي الثائر المغيظ المحنق، جاحظ العينين كأنما يطالب بدم مطلول، مزبد الشدقين كالجمل الهائج، منتفخ الأنف كأنما يشم ريح الدم، سريع الوِثاب كأن خصماً تراءى له بعدما دار عليه طويلاً فهو يخشى أن يفر، وهو هنا يعني طه حسين وحده!
وليس عجيباً أن ترى هذين اللونين من النقد لأديب واحد بين دفتي كتاب؛ فإن هذه المقالات وإن صوَّبتْ إلى هدف واحد قد اختلفت دواعيها وأسبابها ومن كُتبت له؛ وقد كان بينها في التاريخ الزمني سنوات وسنوات، والكاتب المتجدد لا يثبت على لون واحد من عام إلى عام.
على أنك تقرأ للرافعي من هذا الكتاب رأيه في طريقة تدريس الأدب بالجامعة غداة تأليفها سنة 1908، فتراه يدعو إلى مذهب جديد في تدريس الأدب، وتقرأ له - من الكتاب نفسه - ردَّه في سنة 1926 على طه في طريقته الجديدة لتدريس الأدب، فتراه ينكر عليه هذا الجديد؛ فتعلم من هذا وذاك أن الرافعي لم يكن يعني بحملته أن يناهض كل جديد، بل كانت غايته أن يردَّ إلى الأفواه كل لسان يحاول بدعوى الجديد أن يتنقص من القديم ليخلص من ذلك إلى النيل من لغة القرآن ولغة الحديث ومن تراث أدباء العربية الأولين.
ليس يعنيني هنا أن ألخص رأي الرافعي في الجديد والقديم، فمراجع البحث عن رأيه في ذلك واسعة مستفيضة، إنما قصْدت إلى تعريف هذا الكتاب إلى قراء العربية في عرض موجز ووصف كاشف؛ أما ما دون ذلك فله من شاء من أهل الرأي والنظر، وله مني غير هذا المجال من الحديث.
والآن سأتجاوز الفصول الأولى من الكتاب لأتحدث عن أسلوبه في سائره؛ ويبدأ هذا الجزء(235/45)
من صفحة 104 - 405 وفيه تفصيل ما كان بين الرافعي وطه حسين منذ بدأت الخصومة بينهما حول (رسائل الأحزان) إلى أن انتهت عند مجلس النواب حول كتاب (في الشعر الجاهلي)، وهو فصول عدة، فيها ألوان من النقد مختلفة، وأساليب في البيان متباينة؛ ففيها التهكم المر، وفيها الهجوم العنيف، وفيها المصانعة والحيلة، وفيها رد الرأي بالرأي، وفيها تقرير الحقيقة على أساليب من فنون النقد، وفيها المراوغة ونصب الفخاخ للإيقاع، وفيها الوقيعة بين فلان وفلان، وفيها الزلفى إلى فلان وفلان، وفيها العلم والأدب والاطلاع الواسع العميق، وفيها شطط اللسان ومر الهجاء؛ وفيها فن بديع طريف، فيما حكى الرافعي عن كليلة ودمنة. . .
ولكن اكثر هذه الفصول يطرد على مثال واحد إذا أنت نظرت إليه في جملته، فيبدأ كل فصل منها بأسلوب اليم من التهكم يفتنّ الرافعي فيه فنوناً عجيبة حتى يبلغ نصف المقال؛ ثم يميل إلى طرف من موضوع الكتاب المنقود، فيتناوله على أسلوب آخر هو اقرب الأمثلة إلى ما ينبغي أن يكون عليه النقد الأدبي، لولا عبارات وأساليب هي لازمة من لوازم الرافعي في النقد إذا كان بينه وبين من ينقده ثأر. . . بلى إنها نموذج عال في النقد العلمي الصحيح لولا تلك العبارات وهذه الأساليب!
كليلة ودمنة
على أن مبالغة الرافعي في التهكم قد شققت له فنوناً من المعاني والأساليب، لولا الناحية الشخصية منها لكانت نماذج لها اعتبار وقيمة في أدب الإنشاء؛ وأبدع هذه الأساليب حديثه عن كليلة ودمنة وما نحلهما من الرأي في طه حسين. وكليلة ودمنة كتاب في العربية نسيج وحده، لم يستطع كاتب من كتاب العربية أن يحاكيه منذ كان ابن المقفع، إلا مصطفى صادق الرافعي. وكانت أول هذه المحاكاة اتفاقاً ومصادفة، في مقالة من مقالات الرافعي في طه حسين؛ إذ أراد أن يتهكم بصاحبه على أسلوب جديد، فبعث كليلة ودمنة ليقول على لسانهما كلاماً من كلامه ورأياً من رأيه؛ فلما أتم تأليف هذا الفصل عاد يقرؤه، فإذا هو عنده يكاد من دقة المحاكاة وقرب الشبه أن ينسبه - على المزاح - إلى ابن المقفع فلا يشك أحد في صدق روايته، فنشره بعدما قدم له بالكلمة الآتية: (عندي نسخة من كتاب كليلة ودمنة ليس مثلها عند أحد. . . ما شئت من مثل إلا وجدته فيها؛ وقد رجعت إليها اليوم فأصبت(235/46)
فيها هذه الحكاية. . .
(قال كليلة: أما تضرب لي المثل الذي قلت يا دمنة؟ قال دمنة: زعموا أن سمكة في قدر ذراع. . . . . .) ومضى في اختراعه وتهكمه حتى انتهى إلى رأي دمنة في الدكتور طه حسين. . .
ثم استمر ينقل عن (نسخته الخاصة) من كليلة ودمنة ما يجعله مقدمة القول للتهكم فيما يلي من مقالات في الرد على الدكتور طه حسين، فنشر منها ثمانية فصول طريفة ممتعة في كتاب المعركة. وإن قارئ هذه الفصول الثمانية ليرى فيها لوناً طريفاً من أدب الرافعي، لو أن الظروف واتته لأتمه فأنشأ به في العربية إنشاء جديداً له خطر ومقدار. على أن الرافعي لم يكن يقصد أول ما قصد أن يتمه كتاباً، إنما دفعه إلى إنشاء هذه الفصول السبعة بعد الفصل الأول، ما لقي من استحسان القراء لهذا اللون الجديد من أساليب التهكم في النقد؛ وأحسب أن الدكتور طه حسين نفسه كان معجباً بهذه الفصول الثمانية من كليلة ودمنة مع ما يناله فيها مما يؤلم ويسيء، كما كان يعجب فلان بما ينشر بما ينشر له من الصور الرمزية الساخرة لأن فيها فناً ومقدرة. . .!
وانتهى الرافعي من حديث كليلة ودمنة بعد انتهاء هذه المعركة وظل مهملاً (نسخته الخاصة) ست سنين بعد ذلك، حتى تذكرها في سنة 1932 أو 1933 في إبان المعركة بينه وبين العقاد حول (وحي الأربعين) فنشر الفصل التاسع منها في البلاغ بعنوان (الثور والجزار والسكين) ثم نشر في الرسالة سنة 935 الفصل العاشر بعنوان (كفر الذبابة!) يعني بها مصطفى كمال وحركته الدينية، وفصلاً آخر لا أذكره.
وقد كان في منية الرافعي أن يتم هذه النسخة من كليلة ودمنة يعارض بها كتاب ابن المقفع أو يتمه، ولكنه لم يوفق، وكان في ذلك خير؛ فهذه الفصول في موضعها من الكتب التي نشرت بها اجمل وأخف، وإفرادها بالنشر يحملها على تكلف الصنعة ويباعد بينها وبين أذواق القراء. على أن هذه الفصول لا اتصال بينها في موضوعها بحيث تصلح للنشر متساوقة متتابعة كما تتساوق الفصول والأمثال في كتاب ابن المقفع.
هذا مجمل الرأي وملخص الموضوع في كتاب المعركة تحت راية القرآن وما احتواه. وهو وكتاب آخر اسمه (على السفود) خلاصة مذهب الرافعي في النقد وأسلوبه في الجدال؛(235/47)
وفيهما أشلاء المعركتين الطاحنتين بينه وبين طه وبينه وبين العقاد، بدمائهما، ورمامهما، ولهيبهما المستعر، ودخانهما الخانق، وغبارهما الكثيف. .
لو تجرد هذان الكتابان من بعض ما فيهما لكانا خير ما أنتجت العربية في النقد، واحسن مثال في مكافحة الرأي بالرأي مع الاطلاع الواسع والفكر الدقيق. ولكن وا أسفا، إن الإطار يحجب ما في الصورة من جمال، فمنذا - غير مالك الصورة - يستطيع أن يحطم هذا الإطار ليجعلوا الصورة في جمالها على أعين الناس!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(235/48)
نهضة القصة في لبنان
للسيدة وداد سكاكيني
كان من حظ لبنان أن هبت عليه ريح الثقافة اللاتينية بعد الحرب الكبرى، فدبت في أرجائه حياة أدبية جديدة نفخت في أبنائه روحاً طوحاً، فذاق المتعلمون منهم أطيب ثمار الآداب الفرنسية؛ ومنها فن القصة الذي كان له في نهضة فرنسا الحديثة تأثير كبير سايرها في شتى مناحي الحياة. وليس بغريب أن يسمو فن القصة في أمة ناهضة استيقظت على صرير الأقلام الحرة، فقد عرف قادتها في الرأي والتفكير كيف يشقون الدروب للموهوبين في القصة والأقصوصة فكرموهم اجمل تكريم وضمنوا لهم حياة راضية حفزتهم للإجادة بالتنافس، فتسابق البارعون منهم إلى المجامع العلمية والندوات الأدبية يرفعون إليها قصصهم لينالوا جوائزها المعدة للفائزين.
وأولى هذه الجوائز التي ظهرت في فرنسا اعترافاً بالسمو الأدبي جائزة غونكور، وما تزال موضع رجاء يتطلع إليه الأدباء بلهفة وإكبار. وقد تعد لديهم أعلى مكانة وأرفع قدراً من مقعد خالد في الأكاديمية. وهناك جائزة فمينا وميركورد وفرانس والشاعر مالارميه، كما أن المجمع الفرنسي يهب كل عام آلاف الفرنكات للمجيد في كتابه القصة.
ليس بعجيب كما أسلفت إذا كانت الأمة الفرنسية تعني وهي في أوج مجدها بالفن القصصي وتحذو حذو الروس لتمهيد السبيل لعباقرة الرواية الذين استطاعوا أن يخلقوا بفنهم الرفيع آفاقاً جميلة تعيش فيها جماعات وأفراد تترفع عن الإسفاف وتدنو من الكمال، إذ ليس مثل القصة وسيلة لسرور الأسرة ورفعة الوطن ورقي المجتمع. ويحق للقصة أن يسطع نجمها في الآداب العالمية لأنها اصدق مصور للحياة بأفراحها وأتراحها، تؤدي أغراض الإنسانية المنوعة على الوجه القريب الكامل، وتبث في النفوس ما ترمي إليه من أهداف وآراء بسهولة وإغراء.
ولقد تأثرت ناشئة لبنان في عهده الجديد بآداب الفرنسيس الطريفة فذاقوا حلاوتها، ونشقوا عبيرها، وكان من إقبالهم عليها وفهمهم إياها ما نراه اليوم من شغف ظاهر بفن القصة ومحاولات موفقة في إنشاءها وترجمتها، وتوجيهها إلى الصدق والإبداع.
إذن لم يشهد لبنان نهضة في الفن القصصي إلا منذ عهد غير بعيد لأنها في أدبه العربي(235/49)
الحديث وليدة الأمس القريب، وكما يكون كل عمل في أوله غثاً وكل غيث قطراً، فكذلك ابتدأت القصة حياتها في لبنان، وكان أول من اطلع من أفقه شمسها في نهضتها الحديثة كرم ملحم كرم، فقد انشأ مجلته (ألف ليلة وليلة) لتكون عاملاً قوياً في بناء القصة العربية، فكان يزجي لقرائه كل أسبوع هدية أدبية إما من وضعه أو تعريبه، وما يزال هذا دأبه منذ عشرة أعوام ونيف، ولكنه برغم ما أوتي من موهبة فنية مرهفة ولسان عربي مبين لم يطبع قصصه الأسبوعية إلا قليلا بطابع الآداب الرفيعة، فقد دعته مساوقة اكثر القراء إلى أن ينزل بقصصه إلى مراتبهم ووفق متناولهم من ثقافة أو معرفة؛ وعذيره في ذلك أنه يقدم للمجموع ما يفهم ويرغب ويعود عليه بما يثبت قدمه في عمله الصحافي. فلو أن الحكومة اللبنانية تسير على غرار الحكومات في الغرب فتخصص الإعانات المالية والجوائز للكتاب الذين لهم في يقظة الشعب وتغذيته وإصلاحه أكبر الأثر كي يتوفروا على أعمالهم الأدبية ويخلوا إلى تجويدها والتفوق بها بسكينة واطمئنان للمعاش - لكان هذا الأديب زعيم القصة بلا منازع في نهضتها الحديثة بلبنان. بيد أن الأستاذ كرماً مع انهماكه بجهده المرهق الموزع بين الصحافة والأدب استطاع أن يخلد فنه القصصي في روايتيه (صرخة الألم) و (المصدور) وبعض أقاصيصه البارعة التي كفلت له منزلة القصصي العربي في عصرنا الحديث. على أن مجهوده في سبيل القصة بلبنان سيسجله تاريخ هذا الفن العريق بأحرف من نور. ولن ينسى فضله المنشئون المخلصون الذين عرفوا من تأليفه وتعريبه معنى القصة فسلكوا سبيله، بالاقتداء والاحتذاء، فكان له فضل البادئين السابقين إلى توجيه الفن القصصي اتجاهه الراهن.
وحين ملأ الأستاذ كرم أجواء لبنان وبيئاته بشذا رواياته قام نفر من نوابغ الكتاب ينشرون القصة والأقصوصة في معناها الحديث. وهذه الطائفة من الأدباء وفقت في محاولتها ففتحت في الأدب القصصي فتحاً مبيناً، إذ اتسع أفقه وتوفرت موضوعاته ورأينا من اجله حدباً عليه وتشجيعا لكتابه، فقد أقامت مجلة (الدهور) البيروتية مباراة للأقصوصة عام 934 فاز بجائزتها الكاتب فؤاد الشايب وهو من أدباء الشام الذين يملئون ما يكتبون بأدب الصراحة والحياة.
وفي العام الماضي تبرع الشاعر يوسف غصوب بجائزة للأقصوصة العربية في جريدة(235/50)
(المكشوف) اللبنانية تعزيزاً لهذا الفن الذي يقدره الشاعر وله فيه صور خالدة. وقد نالت جائزة غصوب كاتبة هذه السطور. وما انفك الأدب العربي في لبنان مولياً وجهه شطر القصة موالياً السير إلى الأمام بهمة المضطلعين بتسديد خطواته من الأعلام الغُيُر.
على أن من البر بالحقيقة ومن الواجب عليّ - خدمة للتاريخ - أن أذكر أديبين كان لهما اثر واضح في النهضة القصصية الجديدة، فقد كتبا الأقصوصة ببراعة وشجاعة فوفقا فيها وتهافت قراؤهم عليها، فاستحقا الشكر لدفعهما النشء العربي عن تلك الأقاصيص المبتذلة التي تنشرها الصحف التجارية لتسلية القراء ولهوهم.
لقد نوهت الأقلام في العامين الماضيين بقصص الأديب الموهوب توفيق يوسف عواد الذي أكب على كتابة الأقصوصة التي تمثل الطبقة الدنيا في المجتمع اللبناني، وكان الفن معواناً له على وصف البؤس العنيف الذي يفتك بأبناء الشوارع والصعاليك وذوي العاهات. غير انه يغلب على نسج قصصه الأسلوب الصحفي بحكم عمله اليومي. وقد نشر مجموعتين: (الصبي الأعرج) و (قميص الصوف) والأمل معقود بهذا الشاب، فان له شأناً في القصة اللبنانية. وأقول اللبنانية لان قصصه موسومة بكل ما هو لبناني إقليمي. وليس هذا بضائره فإن أكابر القصصيين في عصرنا يمتاز كل منهم بوصف ناحية من نواحي الحياة أو بدرس أطوار جماعة من الناس أو بتصوير الألوان المحلية في البيئة التي يعيش في جوها، ويتنفس هواءها ويرى نورها.
وبينما الناس معجبون بباكورة عواد القصصية أقبل عليهم أديب رفيع العماد هو خليل تقي الدين. لقد نشر قصصه العشر أو التسع على الأصح لان إحداها مترجمة لا موضوعة فرفع بأسلوبه المشرق وديباجته الأنيقة قدر الأقصوصة العربية، ورأينا في قصصه التي سلخها من صميم الحياة ما هو حري بأن يتخذ مثالاً للرواية الفنية الحديثة.
لا أعدو الحقيقة ولا أغلو إذا قلت إن هذه البوادر الطيبة كانت تباشير النهضة القصصية في لبنان ففيها الأمل كل الأمل بتقدمها وازدهارها. وكيف كان الأمر ليقظة القصة ونهضتها في لبنان، فإن مصر اليوم زعيمة القصة العربية، وهي السباقة في حلبتها والقدوة لغيرها، ولن ينزع منها زعامتها الأدبية هراء حاسد ولا حملة حاقد.
هذا قول عاجل. وسأعود قريباً إلى دراسة المؤلفات اللبنانية في القصص وتحليل مضامينها(235/51)
وألوانها.
وداد سكاكيني(235/52)
الحضارة المصرية في عهد الدولة القديمة
بحث للعلامة الأثري أريك بيت
للأستاذ أحمد نجيب هاشم
(تابع)
دل قيام الملكية الواحدة في مصر على تقدم عظيم، تقدم جعل كثيرين يعتقدون انه راجع إلى إغارة شعب أجنبي أكثر حضارة، ولكن المستكشفات الحديثة لا تؤيد هذا الرأي. أجل إن مقابر الأسرة الأولى تفوق بمراحل مقابر ما قبل الأسرات مباشرة، ولكن يجب أن نتذكر أن هذه المقابر الأخيرة إنما هي مقابر عامة الناس، ولم يعثر على مقابر ملوك ما قبل الأسرات، فلا يصح أن نقرن مقابر عامة الناس في عصر ما بمقابر ملوك في عصر آخر.
والحقيقة نفسها توضح لنا كيف أن الكتابة تظهر فجأة في الأسرة الأولى بشكل بعيد عن حالتها الأولية، إذ كان الخط المستعمل هو الخط الهيراطيقي، وهو كما لا يخفى اختزال الهيروغليفي فلابد أذن أن يكون هذا الأخير مستعملاً قبل حكم الأسر بزمن طويل. وإذا قصرنا أنفسنا على نوع واحد من المقابر رأينا أن الانتقال من قبل الأسرات إلى عهد الأسرات حدث تدريجياً. ثم إن الأعمال الفنية في الفترة الأخيرة السابقة للأسرات ومن أهمها لوح (نارمر) الإردوازي ومقبض سكين جبل العرك تدل على أن فن الأسرة الأولى هو ثمرة نمو تدريجي لأهل البلاد.
أما وقد قامت الملكية فكان لابد للأنظمة الاجتماعية والسياسية أن تتطور إلى حد بعيد، ولم يكن الملك المصري في أول الأمر ألا رئيساً محلياً ممتازاً.
وكان رئيس القبيلة حاكماً وكاهناً أكبر ومشرعاً لقبيلته فأصبحت هذه الوظائف كثيرة على الملك بعد أن اندمجت القبائل قهراً وطوعاً وأصبحت مصر مملكة واحدة، لذلك اضطر أن يتنازل عن بعض هذه الوظائف، ولكنه ظل نظرياً الكاهن الأكبر لكل إله، فنراه في نقوش المعابد يرأس كل الحفلات الدينية الهامة، وإذ كان من المستحيل أن يوجد في مكانين في آن واحد كان لابد أن ينوب عنه كهنة، وبذلك نرى في أيام المملكة القديمة نواة طائفة الكهنة المحترمين آخذة في التكون.(235/53)
ولا نعرف شيئاً كثيراً عن تاريخ الملكية في عهد الأسرات الثلاث الأولى؛ فإذا وصلنا إلى الأسرة الرابعة وجدنا مادة كثيرة نستطيع أن نكون منها صورة هامة عنها، ومع ذلك يجب أن نذكر أن مادتنا هذه تتكون إلى درجة كبيرة من ألقاب، وهذه قد تكون مضللة لاسيما وأن فرعون كان يغدقها عن سعة على المقربين إليه حتى اضطر أصحاب الوظائف الحقيقية أن يلجئوا في كثير من الظروف إلى إضافة كلمة الحقيقي بعد لقبهم تمييزاً لهم عن غيرهم.
الحكومة المحلية
كانت حكومة البلاد في يد إدارات محلية تشرف عليها الحكومة العليا وعلى رأسها الملك. وكانت الولاية هي الوحدة الإدارية ويرأسها الأمير أو حاكم الإقليم، وكان حاكماً وقاضياً ومديراً في ولايته وهو فوق ذلك الكاهن الأكبر لإلهها المحلي ويتمتع بحرية كبيرة داخل حدود ولايته.
على أن هذا الحاكم كان مسؤولاً أمام الحكومة العليا عن ضرائب ولايته، وعن إدارته لها إلى حد ما. والظاهر أن انقسام البلاد إلى إمارات على هذا الشكل هو أثر لانقسامها إلى قبائل قبل هذا التاريخ. وكان الأمراء يتوارثون الحكم في الولايات بعد موافقة الملك لان الأرض نظرياً كانت كلها ملكه.
الحكومة العليا
وليست معلوماتنا عن الحكومة العليا اكثر منها عن الحكومة المحلية إن لم تكن أقل؛ فالملك هو الرئيس الأعلى، وفي عهد الأسرة الثالثة بدأ فرعون يختار وزيراً لمساعدته في المسائل القضائية والإدارية، ونجد أن ملوك الأسرة الرابعة يختارون وزراؤهم من أبنائهم، ثم أصبح فرعون يختار وزيره بعد ذلك من أسرة أخرى إذا شاء. وكان أكثر رجال المملكة مسؤولية لأنه كان الرئيس المباشر لأعمال الموظفين في الحكومة الفرعونية كافة من إداريين وكتبة من أكبرهم إلى أصغرهم، وكان يشترط فيه أن يكون بارعاً في فن العمارة، ومن أهم وزراء الأسرة الثالثة الوزير الحكيم (امحتب) الذي برع في الطب والعمارة وشيد لمليكه زوسر هرم سقارة المدرج.
ويساعد الملك غير الوزير عدد من الموظفين، وكانت أعمال خزانة الدولة في يد بيت(235/54)
الفضة والشونة المزدوجة إشارة إلى الشونة الملكية، كذلك نسمع عن كنوز الإله أي الملك وكنوز ملك الوجه البحري (وهذا من غير شك لقب قديم ظل بعد اتحاد القطرين) ونقرأ أيضاً عن مراقبي بيت الفضة ومخازن الغلال. ويرجح أن تجزئة إدارة القطر المصري بين وجهيه لم تذهب إلى أبعد من التجزئة الاسمية، وقد حافظ المصريون على هذا الازدواج الاسمي في مصالح الحكومة، مع أن وجهي مصر انضما معاً تحت إدارة واحدة، وإنما فعلوا ذلك احترماً للقديم الراسخ في الأذهان ولكن بالرغم من أن الملك اضطر أن يتنازل عن بعض وظائفه إلا انه ظل ملكاً مطلقاً.
من السهل أن نتبين مزايا هذا النظام وعيوبه، فمتى كان فرعون قوياً يمكنه أن يضع حداً لمطامع الأمراء فالنظام سليم لأن الحكومة في كل إقليم كانت في يد أشخاص خبيرين بالشئون المحلية. أما إذا كان الملك ضعيفاً فان تلك السلطة الهائلة التي يتمتع بها الحكام المحليون تصبح خطراً على الدولة يهدد كيانها، ولهذا السبب عينه يرجع سقوط الدولة القديمة في نهاية الأسرة السادسة ثم إغارة الآسيويين أثر ذلك على الدلتا فقد أخذت قوة الأمراء تزداد تدريجياً على حساب الملكية.
والآن علينا أن نسأل كيف كان نظام المجتمع في ذلك العصر؟
الملك وبلاطه
كان على رأس الدولة الملك وبلاطه، وقد كونوا بيروقراطية كبيرة تهتم بالألقاب اهتماماً عظيماً فنرى ألقاب البعض يقرب عددها من الثلاثين أو الأربعين اغلبها لا معنى له، وبجانب هذه البيروقراطية المركزية نجد بيروقراطية أخرى مشابهة لها في قصبة كل إمارة، وكان لكثير من هؤلاء الموظفين أملاك واسعة في ولاياتهم.
الفلاحون
يفصل الموظفين عن الفلاحين بون شاسع، لان هؤلاء كانوا يشتغلون كعبيد في مزارع الملاك، يحرثون الأرض ويروونها، ويتعهدون الماشية والأغنام، ولا نسمع عن وجود طائفة وسطى بين الطبقتين الآنفتي الذكر؛ فإن كان هناك طبقة من هذا النوع - ولابد أن التجار وأصحاب المهن والحرف كونوا طبقة - فإنها لم تكن غنية بدرجة تكفيها لأن تفاخر(235/55)
بفضائلها في مقابر منقوشة نقشاً جميلاً، ولابد إنها كانت معتمدة على نفسها ولم تعد من طبقة الخدم، لأننا نجد الأمراء يولعون برسم خدمهم على جدران مقابرهم. كذلك لا نعرف شيئاً عن مركز الكهنة الاجتماعي، وإنما نعرف أن عددهم كان وافراً، وانهم كانوا يعيشون على الهبات التي تقدم إلى المعابد؛ وإن صح لنا أن نذكر تعميماً عن الحياة في المملكة القديمة فإننا نميل إلى القول بأن الأمراء وكبار الموظفين كانوا سعداء الحظ بينما كان الفلاحون تعسين فهم عبيد يلحقون بالضياع الواسعة، وينتقلون من مالك إلى آخر كأنهم جزء لا يتجزأ عن الأرض ليس لهم حقوق على أسيادهم، إذا ارتكب واحد منهم أقل هفوة فالجلد المضني عقابه، وأشد من هذا وأنكى أنه لم يكن لهم سيد واحد بل اثنان، فإذا جاء الفيضان وغطى ماؤه الأرض واصبح العمل في الحقل مستحيلاً لمدة طويلة كان على الفلاح أن يقوم بعمل آخر في خدمة الملك، إذ عليه أن يذهب لينقل الأحجار التي قطعها العمال من المحاجر الواقعة تجاه منف فيشتغل هو وزملاؤه تحت إشراف موظفي الحكومة، وينقلون الأحجار فوق الحقول المغطاة بالمياه إلى حيث يريد الملك أن يبني هرمه، ولم يكن لهذه العملية نهاية فإن أول ما يفكر فيه الملك عند إخلائه العرش هو بناء مقبرة له، فإذا أتمها قبل أن يموت أخذ يحسن ويوسع فيها، وإذا انتهت أيامه فهناك هرم خلفه لابد من بنائه.
وقد اهتم المصريون القدماء كما نفعل اليوم بفيضان النيل، وهذا أمر طبيعي فإن سقطت الأمطار بغزارة على الجبال القائمة في الجنوب الشرقي من مصر خافوا فيضاناً عالياً يهدد حياتهم، ويغرق جزءاً كبيراً من أراضيهم، وإن قلت الأمطار توقعوا فيضاناً منخفضاً يتلوه قحط ومجاعة في البلاد، فكانوا إذا اقترب وقت الفيضان يتحدثون عن النعم التي يغدقها عليهم (نيل طيب) ويبدؤون في البحث عن الوسائل التي يجب عليهم اتخاذها وقت الخطر، إذ كان كل واحد منهم يتأثر بهذا الحادث السنوي - كل حريص على محصوله - أما موظف الحكومة فعليه أن يحسب مقدماً مقدار ما ستأخذه الحكومة من محصول كل شخص، وهذا هو الضريبة الرئيسية. كذلك كان يعد الحازمون من الحكام العدة لإطعام فقراء إقليمهم إذا ما انخفض الفيضان، ويخزنون الحبوب للمستقبل أن كان المحصول اكثر من المتوسط.
(البقية في العدد القادم)(235/56)
أحمد نجيب هاشم(235/57)
رسالة الشِّعر
تحية الرسالة في مستهل عامها السادس
للأستاذ محمود الخفيف
البَسي الحسن رداَء ... واملأي الدنيا رُوَاَء
ابزغي كالشمس نوراً ... وحياة وعلاَء
أَقرضي الشرقَ سَنَاهُ ... وخُذِي الحمدَ جَزَاَء
واسحبي في المجدِ ذيلاً ... لم يُعَوَّدْ خُيَلاَء
وارفعي للنجم طرْفاً ... أبداً يَهْوَى السمَاَء
وانشري ما سِرْت في الأر ... ض طموحاً وإباَء
واجعلي عهدَك في الشَّرْ ... قِ سلاماً وإِخاَء
أيْقِظِي العِزَّةَ فيه ... والعلا والكبْرِياَء
جَدِّدِي رُوحاً بها أم ... س على الدُّنْيا أَضَاَء
لَمَعَتْ في طور سينا ... ومَشَتْ تَبغي حِراَء
إيهِ يا شمسُ، بها الشر ... ق مع النيل استضاَء
جَمَعَتْ فَضْلاً وعلماً ... وجَلالاً وذكاَء
الشبابُ الطامحُ الحُرُّ ... اجْتَلى فِيكِ اللواَء
سار في ضوءك للعل ... ياء ما شِئتِ وشاَء
رقرقي الأضواء في الآ ... فاق واجتازي العَمَاَء
وابعثي فيها من الرأ ... ي وميضاً وسنَاَء
احْفِزِي للفوز أبنا ... ءً كرَاماً بُسَلاَء
ذَكِّرِيهِمْ عَهْدَ قَوْمٍ ... رفعوا أمس البناَء
عصبة شقوا إلى العزَّ ... ة والنصرِ الجِوَاَء
يا ابنةَ الضَّادِ لَكُمْ أَحْ ... سَنْتِ في الضَّادِ البَلاَء
قد سما فَضْلُك حتى ... فَاتَ في القَدْرِ الثناَء
دانَ بالفَضْل لك اليا ... نِعُ والغَضُّ سواَء(235/58)
وجَدَا عِنْدَكِ خِصْباً ... وحياةً ونَمَاَء
وجَنىً حُلْوَا وسَلْسَا ... لاً وظِلاًّ وشِفَاَء
وجَمَالاً عَبْقَرِيّاً ... وصفاءً وبهاَء
أنْتِ أَوحَيْتِ إلى الأفْ ... رَاخِ في الرَّوض الغِنَاَء
وبعثتيهم عن الماض ... ين سلوى وعَزَاَء
أنْتِ قَرَّبْتِ على البُعْ ... دِ بَنِيكِ الفصحاَء
وحَشَدْتيهم على الح ... ق جنوداً أوفيَاَء
فِتْيَةً صاروا بِمَسْعَا ... كِ لِمِصْرٍ أوْلِيَاَء
طُفْتِ بالكأْس دهاقاً ... وسَقَيْتِ النُّدَمَاَء
أدَباً كالكوْثرِ العَذْ ... بِ نَقَاءً وَصَفاَء
فيهِ آمالُ بِلادٍ ... بِتْنَ لِلْمَجْدِ ظِمَاَء
وسُلافاً من حَدِيثٍ ... يَمْلأُ القَلْبَ انتشاَء
كنسيم الصُّبْح يجرِي ... عَاطِرَ الذَّيلِ رُخَاَء
باعثاً ذِكرى عهودٍ ... قد تواثبْنَ انقضاَء
وبياَناً مثل وَشيِ الرَّ ... وض قد رَاقَ ابتدَاَء
يُعْجبُ الرَّاسخَ صوغاً ... واتِّسَاقاً وجَلاَء
وَيُرى النَّاشئَ فنّاً ... يتوَخَّاهُ اقتداَء
ضمَّ للقلب معاً والع ... قْلِ رِيّاً وغِذَاَء
يا عَرُوساً عِيدُها يُو ... حِي إلى النَّفْسِ الوفاَء
لَسْتُ أنسىَ لكِ عِندي ... مِنَناً غُرّاً وِضاَء
كشَفَتْ يُمْنَاكِ عن عَيْ ... ني وعن قلبي الغِطاء
حُزْتُ في حِجْرِكِ فَضْلاً ... وصَحِبْتُ الفُضَلاء
يا عَرُوسَ السِّحْرِ والحِك ... مةِ مُلِّيتِ البقَاء
وتَزَيدْت عَلَى الدَّ ... هْرِ عُلُوّاً وارْتقَاء
عشْتِ للفُصْحَى لواء ... وَمنَاراً وَرَجاء(235/59)
(القاهرة)
الخفيف(235/60)
نجوى الحرية
للأستاذ محمد بهجة الأثرى
الحسنُ أنتِ مثالُهْ ... والكونُ أنتِ جمالُهْ
وأنتِ في دَيْر قلبي ... تسبيحُهُ وابتهالُهْ
عَبَدْتُ فيكِ الكمالا ... كما عَبَدْتُ الجمالا
ما أنتِ إِلا مَلاكٌ ... عن العيوبِ تعالى
أَشْبهتِهِ رِفَةً والْ ... تماحَةً وخَيالا
فما أَرى لكِ بين الْ ... مَلا - لَعَمْري - مثالا
وإنما أنتِ معنى ... في الكونِ أعيا مِثالُهْ
رُوحٌ ولكنْ مُجَرَّدْ ... نَعَمْ، ونُورٌ مُجَسَّدْ
غشَّاه، وهو لَمُوعٌ، ... إِفْرِنْدُهُ فَتَوَقَّدْ
تألُّقَ البَرْقِ في الأفْ ... قِ وَهْوَ يُنْضَى ويُغْمَدْ
والبَدْرِ في صفحةِ الما ... ءِ والنسيمُ تَنَهَّدْ
يا بَسْمَةَ الكونِ أنتِ الْهَوَى ... وأنتِ وصالُهْ
البَدْرُ لاحَ تِماماً ... يَفيضُ منكِ سَنَاهُ
والزَّهْرُ فاح ذكيّاً ... يَنمُّ عنكِ شَذَاهُ
والقَطْرُ ساح نقياً ... يَرْوي صفاكِ صَفاهُ
والفَجْرُ لاح بَهيّاً ... من وجنتَيكِ ضياهُ
والطيرُ ناحَ شجيّاً ... عليكِ منكِ انْفعالُهُ
رقَّتْ حواشيكِ حتى ... رقَّ الهوا لِخِلالِكْ
لكن قلبكِ قاسٍ ... علي مُرِيدِ وِصالِكْ
بَخِلْتِ حتى خَيَالاً ... فَمَنْ له بخيالِكْ؟
أَينَ الوُعودُ اللواتي ... مَنَّينَني باقْتبالِكْ؟
شهرُ الصيام تَوَلى ... فالعيدُ أين هِلالُهْ؟
غُمَّتْ عليهِ السماءُ ... أم طاولَتْ (أسماءُ)؟(235/61)
بلى، وما كانَ ظني ... ألاّ يكونَ انجِلاءُ
مارَسْتُها فتأَبَّى ... عليَّ منها الوَلاءُ
ألهكذا كلّ حسنا ... َء ما لديها وَفاءُ؟
يا وَيْحَ صَبٍّ تَعايا ... في الوَصْل عنه غزالُهْ
يا رَوْحَ قلبي المُعَنَّى ... كلُّ الوعودِ رِياحُ
ما في الأَماني أمانُ ... إنْ لم يُعنك السلاحُ
تلك العروسُ ولكن ... أين الصِداق المتاحُ؟
قد زاحَمَتْكَ عليها ... مناكبُ وصِفاحُ
فاحتلْ عليها عسى أنْ ... يُجْدِي الكريمَ احتيالُهْ
(بغداد)
محمد بهجة الأثرى(235/62)
أحب وأحتقر!
للأستاذ أمجد الطرابلسي
أُحبُّ الجبالَ الشّامخاتِ كأَنّها ... على جَبهةِ الدّنيا تصولُ عواتيا
تَضاحَكُ من عصفِ الرياحِ وزأرها ... وتحتضنُ السيل الحَرونَ المُعادِيا
وتلهو عن الزّلزالِ وهْوَ مُزَمْجَرٌ ... يَضجُّ ببطنِ الأرضِ غضبانَ واريا
وأحتقرُ الكُثبانَ تُرعشها الصِّبا ... ويفزعها الإِعصارُ إن مَرَّ لاهيا
وتحملُها الأرياحُ أنى توجَّهت ... ألاعيبَ في أسفارها وألاهيا
وَإِنِّي لأهوى السَّيلَ يَنْحَط مزبداً ... ويَدفُقْ جَيَّاشاً ويهدِرُ صاخبا
عَتِيّا على السَّدِّ المنيع يَدُكُّهُ ... ويحملُهُ نحو السُّهول خَرائبا
يمرّ على العُشْبِ الضعيفِ مُسامِحاً ... ويلتقفُ الدّوح العَنيدَ المغالبا
وتحقرُ عيني جَدولاً في خميلةٍ ... يحوِّل طفلُ الحيِّ مجراهُ لاعبا
يكَدِّرُهُ حتى النسيمُ ملاطفاً ... ويُفزِعُهُ حتى فمُ الطفلِ شارِبا
أُحبُّ العُقابَ اَلجوْنَ يختال في الذرا ... ويركب متنَ الجوِّ جذلانَ باسما
ويخترقُ الريحَ العَصوف لقصدِه ... ولو حطَّمتْ من جانحيه القَوادما
يموتُ ولا يشكو الجراحَ ولا ترى ... له آكلاً بينَ الأنامِ وهاضماً
وأحتقر الورقاَء تألفُ سجنَها ... وتبكي ما تلقى من الناسِ راحماً
وهل غيرُ ضَعفِ الوُرْقِ سوَّغَ حَبْسَها ... وصَيَّرَ شدواً نوحَها والمآتما
وإني لأهوى نحلةً تدهَمُ الرُّبا ... فتنهلُ من ثغرِ الزهورِ رحيقَها
ترشَّفُ من كأسِ الأقاحي صبوحَها ... ومن خمرةِ الوردِ النَّدِيِّ غَبوقَها
حَصَانٌ تَروعُ العاشقينَ بوخزها ... إذا ما تَمَنّوا لو يذوقونَ ريقَها
وتحقرُ عيني نملةً تألفُ الوَلى ... وتملأُ من بَخْسِ الفُتاتِ خُروقَها
تدِبُّ على الأقدام هُوناً وذلةً ... وتسلكُ من تحتِ النِّعالِ طريقَها
أُحبّ شَموخَ الدَّوحِ في ربواته ... يُجابهُ هَوْلَ العاصفاتِ ويثبُتُ
أبيّاً على حربِ الأعاصيرِ ظافراً ... تكُرُّ جموعاً حولَهُ فَتَشتَّتُ
وإنْ خرَّ في الميدانِ بعد نضالِها ... تراها عليه نائحاتٍ تُصَوِّتُ(235/63)
وَأَحتقرُ الأعشابَ تحني رُءوسَها ... فتسلَمُ من رَيْبِ المنونِ وتُفْلِتُ
تدورُ مَعَ الإِعصارِ حيثُ يُديرها ... ويلطِمُها هوناً فترضى وتسكُتُ
وإني لأهوى الليث يستعذبُ الطوى ... ويأنفُ أن يُدنى إلى جيفةٍ يدا
يسيرُ أَشَمَّ الأنفِ مستكبرَ الخُطا ... فترتجفُ البيداءُ إن راحَ أو غدا
ويَجْبهُ وحشَ البيدِ في حُرِّ وَجْهها ... ولا يَدَّري أعداءه مُتَصَيِّدا
وتحقرُ عيني ثُعلباناً مخادِعاً ... جَباناً خليعَ القلبِ يغدِرُ بالعِدا
يُصيبُ فُضالاتِ السّباع وينثني ... ليشكرَ رزّاق العبيدِ ويَحْمدا
أحبُّ الفتى يَفري الفلاةَ مُهَجّراً ... فلا يشتكي أيناً ولا يتظلَّمُ
إذا لذَّعتهُ الشَّمْسُ سَدَّدَ وَجْهَهُ ... إليها حديدَ الطَّرفِ لا يتبرَّمُ
ويمشي على الرَّمضاء مُتَّئِدَ الخُطا ... جَليداً، ونيرانُ الرمالِ تضرَّمُ
وأَحقر نكساً يستظلّ بغيره ... ويخفضُ رأساً وهو شاكٍ يدَمْدِمُ
تساورُهُ الأَشباحُ في القفرِ رَهْبةً ... فَيَرْعَشُ منهُ القلبُ والطَّرفُ والفَمُ
أحبُّ الفتى والغُلُّ يثقلُ عُنُقَهُ ... وسيفُ الأَعادي بينَ عينيهِ مُشْهَرُ
يصيحُ بأعلى صوتِه ينكرُ الأَذى ... ويضحكُ من بطشِ الطُّغاةِ ويَسْخَر
ويشمخُ بالأَغلالِ رأساً وإن غدتْ ... تَحُز ومن أنيابها الدَّمُ يَقْطُرُ
وأحتقرُ الأحرارَ يحنونَ رأسهم ... وليس عليهم سَيِّدٌ أو مُسَيْطِرُ
إذا كانَ قلبُ المرءِ عَبْداً ورَأْيُه ... فَقُل لي - هُديتَ الخيرَ - ماذا تُحَرِّرُ
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(235/64)
القصص
أقصوصة من لويزا ألكون
في عيد الميلاد
للأستاذ دريني خشبه
قبل أن يتنفس صباح عيد الميلاد استيقظت الفتاة (جو) والفجر لم يكد ينبلج في الأفق الشرقي، ولا الخيط الأبيض قد انسرق من زجاج النافذة لينير ظلام الحجرة الدافئة. . . ولكن جو استيقظت مشوقة إلى هدايا العيد، ومدت يدها الصغيرة المرحة إلى جوربها المعلق في (شباك) السرير ليملأه الملاك بأحب اللعب. . . ولشد ما شعرت بالخيبة حين وجدت الجورب فارغاً مما أمّلت أن يمتلئ به، فكتمت أنفاسها، وأخفت حسراتها في أغوار قلبها، ودست يدها تحت الوسادة التي تحدرت فوقها دموعها. . . بيد أن أصابعها اصطدمت بشيء يشبه الكتاب تحت الوسادة، فأمسكت به، فإذا هو كتاب حقاً ذو جلد سميك مقوى، لم تدر من وضعه هنا. . . وقفزت من فراشها، وأشعلت المصباح، ونظرت في الكتاب، فراعتها جلدته الجميلة الزرقاء، وصوره الخلابة الملونة، وطبعه الأنيق المتقن. . . وقرأت فيه قليلاً فعرفت انه قصة حاج يطوف بأقصى الأرض ليبلو أعاجيب الدنيا. . . فتبسمت جذَلاً، وبادرت إلى أخواتها توقظهن:
- (ماجي! انهضي يا أختاه. . . لقد أهدى إلى الملاك كتاباً فيه صور جميلة. . . بت! قومي! استيقظي! انظري إلى الكتاب الذي أهداه الملاك إلي! إيمي! هلمي فتفرجي. . .!).
واستيقظت ماجي فسألت أختها وهي تفرك عينيها أين وجدت الكتاب؟ فلما أخبرتها أنها وجدته تحت الوسادة، دست ماجي يدها تحت وسادتها فوجدت كتاباً مثل كتاب أختها، ولكن جلدته خضراء، ورأت فيه صوراً رائعة ملونة أجمل من الصور التي في كتاب أختها. . . ففرحت فرحاً شديداً. . . ولما استيقظت بث، وجدت هي الأخرى كتابها ذا الجلدة الحمراء، وكذلك وجدت إيمي كتابها، ولكن إيمي وجدت جوربها ممتلئاً بالحلوى والمُلَبس والفستق، فصاحت بملء فيها صيحة الفرح، وراحت تنافس أخواتها وتفخر عليهم. . . وقد أحس أخواتها بانتصارها حقاً، واتهمن الملاك الكريم بأنه لم يعدل في القسمة، وإلا فإنه كان ينبغي(235/65)
أن يملا جورباتهن كما ملأ جورب إيمي. . . وطال حوارهن، واشتد صخبهن، وكان حواراً وصخباً مملوءين بالضحك، مفعمين بالاستبشار بعيد الميلاد السعيد. . . وكانت بهجة تلقين بها العيد قبل مطلع الشمس كالبهجة التي يتلقى بها الطفل قبل أن يولد.
وذهبت جو إلى غرفة أمها - وكان أبوها على سفر - لتوقظها فلم تجدها، وظنت لساعتها أنها ذهبت إلى الكنيسة لتشكر للملاك الكريم ما أتحف بها بناتها من الكتب الجميلة ذوات الصور الملونة، وما. . أتحف به إيمي من الحلوى. . فعادت جذلانة إلى الغرفة، وما كادت تتحسس جوربها المعلق في (شباك) السرير حتى وجدته مثقلاً! فاستبشرت وطفر قلبها، وأفرغت ما في الجورب فوجدت قدراً هائلاً من الفستق المعالج بالسكر والكستناء المثلوجة. . . شيء عجيب حقاً، لقد تحسست الجورب منذ ساعة فلم يكن فيه شيء من هذا. . . لله ذاك الملاك الكريم البار. . . وعجب البنات عجباً شديداً، فذهبت كل تتحسس جوربها فوجدته مفعماً. . . فطرن من الفرح، واشتد الصخب من جديد وعلا الضحك. . . وأشرقت الشمس. . . ووقفت جو وسط أخواتها تهتف كأنها إمبراطور: (أخواتي! اسمعي يا بث، أصغي يا ماجي. . . انتبهي يا إيمي لنبق على الحلوى حتى تعود أمنا فتشركنا فيها. . . ولنشرع من الآن في قراءة الصفحة الأولى من الكتاب الجديد، حتى إذا عادت الوالدة سرت بذكائنا سروراً لا مزيد عليه. . . وبذلك نرضي الملاك الكريم الذي أتحفنا بالكتب وبالحلوى، ولم يعدنا صغاراً فلم يتحفنا بما كان أحجى أن يتحفنا به من اللعب. . . هو ملاك كريم على كل حال فلنشكره قبل أن نبدأ. . .
ورفع الصغار أيديهم إلى السقف. . . وركعن على ركبهن ورحن يشكرن الملاك الكريم، ثم اعتدلن، وأخذن في قراءة الصفحات الأوليات. . . وكان منظرهن كمنظر الملائكة الأطهار الأبرار الأخيار. وإن تكن إيمي الصغرى لم تكن تفكر في هذا الملاك الذي ضايقها بهذا الكتاب، ولم يتحفها بلعبة تفخر بها على أترابها إذا كان الصباح، وبرز الأطفال في الشارعيتنافسون ويفخرون. . . ولم تكد تفهم من اجل هذا سطراً واحداً من الصفحة الأولى من كتابها، بل سمرت وجهها في الصورة الملونة، وراحت تفكر وتدمن التفكير، في شح هذا الملاك الكريم باللعبة التي لا محيص منها في عيد الميلاد!
ولم يكد الصغار ينتهين من قراءتهن حتى دخلت أمهن وفي إثرها حَنّة الخادمة العجوز،(235/66)
مثقلين بكثير من اللعب وشيء غير قليل من الرقائق والشطير والفطير وحلوى الكاكاو للإفطار ولقينها بالبشر، ولقيتهن بقبلة سعيدة طبعتها على جبين كل منهن إلا إيمي الصغيرة فقد طبعت لها قبلة طويلة على خدها. . وسرعان ما غفرت إيمي للملاك الكريم ما كان منه من شح بلعبة عيد الميلاد حين أخذت حصانها الخشبي الكبير فَعَلتْ صهوته، وأنشأت تمرح وتصخب، وتقول: (كتاب! أنا لم اقرأ حرفاً واحداً من الصفحة الأولى يا جو. . .) ولكن جو نظرت إليها في ظرف، ثم قالت لامها: (ولكنا قرأنا الصفحة الأولى كلها يا أماه، وسنقرأ كل يوم صفحة أو صفحتين حتى نفرغ من كتبنا. . . حقاً أن بابا نويل لملاك كريم) فردت بت تقول: (ويظهر أنه يجيد الرسم ويحذف التلوين يا أماه! انظري صوره الجميلة التي رسمها في كتابي). . . فتضاحكت أخواتها، ولكن ألام الرزينة لم تضحك، فتساءلت جو: (لم لا تضحكين يا أماه؟ فيم تفكرين؟ في أبي. .؟ سيأتي حالاً. . . هو لا شك يفضل أن يقضي عيد الميلاد بيننا!) فقبلتها أمها قبلة تفيض حناناً وحباً، ثم قالت: (اسمعن يا صغيراتي. . . لقد ذهبت فأحضرت لكنَّ اللعب من بابا نويل، وحينما كنت عائدة سمعت أنيناً في منزل جارتنا الفقيرة، فطرقت بابها ففتحت الباب ابنتها الكبرى، فلما سألتها ما هذا الأنين ذكرت لي أن أمها كانت تلد، وأنها وضعت غلاماً لا تدري فيم تلفه لتقيه البرد، وقالت لي إنهم لا يملكون حطباً يستدفئون به ولا طعاماً يأكلونه في هذا العيد السعيد، فدخلت فسلمت على ألام، ورأيت وليدها، ورأيت الصغار محتشدين في الفراش الفقير وهم ينتفضون من البرد، ويلتصق بعضهم ببعض ليستدفئوا. . . وراعني أن يطلب أخوهم الوحيد الأصغر طعاماً فتنظر إليّ أمه، وتمتلئ عيناها بالدمع ولا تقول شيئاً. . . منظر مؤلم حقاً يا جو. . . أليس كذلك يا بت؟).
وتنظر جو إلى أخواتها، وتتبلل عيناها بالدمع، وتقول: (مؤلم جداً يا أماه! وتقول إيمي: (وأين بابا نويل؟ لِمَ لم يرسل إليهم حلوى وفطيراً كما أرسل ألينا؟ فتقول ألام: (يظهر أنه نسي يا إيمي. . . جو. . . أليس يحبنا الله ويدخلنا جناته إذا نحن حملنا حلوانا وفطيرنا، وذهبنا لنفطر مع هؤلاء المساكين!).
فتسكت جو لحظة، وتنظر إلى أخواتها، ثم تقول: (والله إنها فكرة جميلة يا أماه. . . هيا. . . سأحمل جوربي كله بما فيه من كستناء وفستق) وقالت بت: (وأنا أيضاً. . . ولكن(235/67)
الحلوى لا تشبع الجوعانين. . . هاتي الفطير يا حنة) وتقول ماجي: (لا. . . سأحمل أنا الفطير. . . لتحمل حنا الحطب. . .) أما إيمي، فقد نظرت إلى أمها مرة، والى الكتاب أخرى، ثم قالت: (وأنا. . . سآخذ هذا الكتاب لأفرحهم بصوره. . . أنا لا أستغني بحال عن حلواي!) فضحكت ألام، وضحكت حنة، ولكن جو قالت لأختها جادة: (سندخل نحن الجنة ونتركك ببابها يا إيمي؟) فقالت الفتاة وقد صدقت قول أختها: (بل ادخل قبلكن. . . سآخذ لعبتي أيضاً. . .)
وحملت كل منهن حلواها. . . وتذكرت جو اللعب، وما عساها تبعث في المساكين من مرح في هذا اليوم المبارك، فأسرعت إلى الدولاب فأخرجت كال اللعب القديمة، وكان فيها (طراطير!) من العام الماضي، فأحضرتها، وألبست كلا من أخواتها طرطوراً، ثم انطلق الجميع بأحمالهن إلى بيت جارتهن. . ولم يكن الشارع قد ازدحم بكثير من المارة، فكن يتضاحكن مرة، وينتفضن من البرد الشديد أخرى. . .
وطرقن الباب فانفتح. . . وتقاطرن داخل البيت، وأخذن ينشدن نشيد عيد الميلاد، ويملأن البيت سعادة وبهجة. وقصدن إلى السرير فأيقظن الصغار. . . وأسرع هؤلاء وعيونهن تفيض دمعاً ودهشاً. . وجعلوا يحملقون في الملائكة الأطهار اللائى جئن يسعفنهم بالحلوى والغذاء والسعادة. . . أما حنة فقد أوقدت الحطب. . . وأما ألام البارة فقد أخذت الوليد من أمه البائسة ولفته في مزق أحضرتها لهذا الغرض، ثم جلست تواسي الوالدة المسكينة بكلمات طيبات.
وأقبل المساكين والمسكينات على الفطير يلتهمونه التهاماً، كأنهم قد لبثوا أياماً دون أن يذوقوا طعاماً. . . وكان البنات يشهدن ويعجبن، لأنهن لم يرن ناساً يأكلون بهذه السرعة، ولا طعاماً يزدرد بهذا الشره. . . ولكن جو كانت تنظر وتتألم ثم تصطنع العبث وتجهد أن تضاحك الصغار ما استطاعت. . . ثم إنها أخذت الطراطير من أخواتها، فجعلتها على رؤوس البائسين. . . وهنا أخذ هؤلاء يضحكون ويقهقهون. . . ونسوا ما كان بهم من فاقة وعوز وجوع، حين دبت الدماء حارة في أبدانهم من الشبع، فلما أخذت جو تفرق اللعب القديمة بينهم ثارت بينهم وبينهن عاصفة من المرح، وسرت فيهم موجة جارفة من السرور. . . وقالت فتاة منهن صغيرة: (شكراً لك يا بابا نويل، لقد حسبنا أنك نسيتنا،(235/68)
ولكنك أرسلت إلينا اللعب والطعام والحلوى. . . والنار. . . النار اللذيذة التي تؤججها أمنا حنة. . . فشكراً لله وشكراً لك. . . وشكراً لأخواتنا هؤلاء. .) وكانت ألام تصغي إلى ما تقول ابنتها، وعيناها تفيضان بالدمع. . فتواسيها ألام الأخرى، وتمسح عبراتها بأطيب الكلم الصالح. .
وعادت العائلة المقدسة أدراجها إلى المنزل.
وجلسن حول المائدة كعادتهن كل يوم، فقدم لهن الفطور العادي من لبن وجبن وخبز، فاقبلن عليه، واحتسين الشاي، وأحسسن إحساساً عميقاً بسعادة فذة في نوعها. . . سعادة لا تقدر الحلوى ولا يستطيع الكستناء ولا الفستق أن يصنع شيئاً منها. . سعادة الخبز والبر. . . وسعادة التقوى. . . وسعادة الله!
وجلست ألام مع ذاك تشكر بناتها، وتذكر لهن ما كان يصنع القديسون والشهداء في هذا اليوم من ضروب الإيثار وفنون التضحية. . . وكان البنات يصغين في لهفة واشتياق ويكاد الدمع ينهل من عيونهن.
ونهضت كل إلى لعبتها لتفرح بها.
ونظرت إيمي إليهن. . . وكانت قد حملت حصانها فأهدته لجماعة المساكين. . . ولم يهمنا قط أن تكون عاطلا وأخواتها حاليات. . فتأثرت ألام، وانطلقت معها إلى بائع اللعب، فاشترت لها حصاناً اكبر من الذي تصدقت به على الفقراء، فعادت إيمي وقلبها يفيض بالبشر، وراحت تفاخر أخواتها، وأخواتها مع ذاك قانعات راضيات.
وبينا هن ضاحكات مستبشرات، إذا بطارقٍ بالباب، فتمضي حنة لترى، وتعود لتذكر أن الجار الغني، صاحب القصر المنيف القريب، يريد لقاء سيدتها. . .
وتلقاه السيدة في غرفة زائريها المتواضعة. . . ويشدهها منه أن ترى معه سلة كبيرة بها أشياء فهمت أنها هدية. . .
- مرحباً يا سيد! عيد سعيد أن شاء الله!
- عيد سعيد يا سيدتي.
ترى ما الذي جاء بهذا الرجل الغني في هذا الصباح؟ لقد عرف عنه انه رجل عزوف عن الناس، عزوف لأنه غني. . . هو يرى نفسه من طبقة غير طبقة هؤلاء المساكين الذين إذا(235/69)
تصدقوا بحلوى عيد الميلاد لم يجدوا حلوى غيرها! فماذا جاء به، وهو هو الذي كان يمر بصاحب هذا المنزل فلا يقرئه السلام من عظمة وكبرياء. . .! لقد كان فيه انقباض دائماً. . . وكان يشيح بوجهه عن أخوته من بني آدم. . . فماذا جاء به اليوم؟ ثم ما هذه السلة التي غطاها بورق كثيف؟ هذا تطور عظيم في حياة هذا الجار الجافي الغليظ المتكبر، فما باله يا ترى؟
- لقد شهدت يا سيدتي ما صنعت صباح اليوم، فتأثرت من عاطفتك الكريمة وإيثارك العجيب!
- عفواً يا سيدي. . . أشكرك.
- ولست ادري إذا كنت مخطئاً. . .
- مخطئاً في أي شيء. .؟
- لقد رأيت أن أقدم لصغارك شيئاً من الحلوى تعوض عليهم ما تصدقوا به. . . فلقد علمت منذ أيام أن زوجك الفاضل قد فصل من عمله لخطأ ارتكبه. . . وانتم لابد في ضيق مالي. . . فإذا تفضلت فأخذت هذا القدر القليل من المال أكون شاكراً.
وهنا. . . إحلولكت الدنيا بأسرها في عيني ألام، وضاع ما شعرت به منذ الصباح من الغبطة والبشر، وانقلب الهناء الذي غمر قلبها في عيد الميلاد هماً وغماً وابتئاساً!
- ماذا تقول يا سيدي؟
- أقول إنني شهدت ما صنعت للعائلة البائسة، وتأثرت جد التأثر من صنيعك الجميل، ومع ما أنت فيه من الضيق.
- وأنت ما شأنك وما أنا فيه؟
وارتبك الرجل وتلعثم لسانه، وانشأ يقول:
- لا. . . لا. . . شيء. . . فقط. . . أدرت أن أساعدك!
- على كل حال أنا أشكرك، ولكني أسائلك: هل بهذا الأسلوب تفهمون الخير أيها الأغنياء؟
- لا افهم ما تقولين!
- لا تفهم ما أقول، فكيف إذن فهمت أننا محتاجون، ولم تفهم أن جارتنا البائسة كانت في اشد العوز والحاجة إلى مساعدة أمثالك!(235/70)
- هذا حق. . . هذا لا ريب فيه.
- وما دام هذا حقاً، فلم لا تفعل؟!
- لقد أخطأت.
- أذن لقد أحضرت لنا حلوى في هذه السلة؟
- اجل. . . بقد فعلت؟
- وماذا دفعك إلى هذا؟
- محبة الخير، وتأثري بما شهدت.
- وكيف لم تتأثر بما علمت من بؤس جارتنا؟
- لا ادري والله!
- أذن تذهب إليها بهذه السلة فهي في اشد الحاجة إليها، ولا تنس أيضاً أن تنفحها بالمال الذي أعددته لنا. . .
- سأفعل! اسمحي لي بالانصراف إذن!
- لا. . . انتظر قليلاً! أتحب يسوع أيها العزيز؟
- وكيف لا احبه!
- أذن فاخرج من مالك عن شيء يكفل الستر لجارتنا. . فإنك غني جداً. . . أتعرف أن وزجك قد مات؟
- لا والله. . . لم أكن أعرف!
- أذن لقد عرفت مبلغ فاقتها!
-. . .؟. . .
- أذن فانك خارج عن بعض مالك لها ولأبنائها. . . هل علمت أنها وضعت غلاماً سادساً اليوم؟
- لا والله. . . لم أدر إلا منك!
- أذن فقد لمست بيديك مبلغ حاجتها إلى بر أمثالك!
-. . .؟. . .
- انطلق إذن! سأزورها اليوم وسأرى ماذا تصنع!(235/71)
وانطلق الغني ذو الجاه والثراء الضخم. . . ولكن. . . إلى داره.
وبعد ساعة أو نحوها طرق البيت صاحب الدار، ووجهه طافح بالبشر، ضاحكاً متهللاً. . وزف البشرى إلى زوجته، واخبرها أنه بُرِّئ، وعاد إلى عمله، ومنح مكافأة مالية. . . وقد احضر حلوى كثيرة لأطفاله، ولعباً شتى لعيد الميلاد. . . فلما قصت عليه قصة الصباح، وما كان من أمر جارهم الغني، تمتم وعيناه تغرورقان بالدمع: (إذن. . تعيش المرأة وأولادها معنا. .)
دريني خشبه(235/72)
البريد الأدبي
الآداب والشعر عند المصريين القدماء
ألقى العلامة الأستاذ الدكتور شايدل أستاذ الأثريات المصرية بجامعة لايبزج محاضرة شائقة في متحف الجامعة على الآداب والشعر عند الفراعنة، فذكر أن الفراعنة فضلاً عما تركوا لنا من النقوش وأوراق البردي الأثرية الفياضة بالمعلومات التاريخية والقضائية والطبية، قد تركوا لنا تراثاً أدبياً بمعنى الكلمة؛ فمن ذلك باب القصص الخرافي، وقد ترك الفراعنة لنا منه نوعاً معروفاً هو القصص المتعلق بدخول اللصوص إلى خرف الكنوز الملكية ومن إحدى هذه القصص اقتبس الشاعر الألماني بلاتن مسرحيته المشهورة: (كنز رامسنيت)، وهناك نوع آخر من القصص النثري يتعلق بتواريخ الملوك وسير الآلهة، وتمجيد الحوادث التاريخية الهامة. أما الشعر الغنائي فانه يتمثل في الأناشيد الدينية الحماسية والتوسل إلى القوة العليا. ومن أناشيد الحب التي تمثلها أنشودة سالومنيس. وقد وجدت على جدران القبور أغنية عمال، ومنها أنشودة شهيرة تجري على لسان الذين يحملون الهودج ويختتمونها بطلب العطية. على أننا نجد اعظم ثروة أدبية للفراعنة في كتب الموتى التي توضع في التابوت إلى جانب الموتى، ففيها أقوال ومواعظ أخلاقية، وفيها أحاديث الحكمة التي تشرح للناس كل شؤون الحياة، وتصرف الإنسان إزاء الضيف، وإزاء المستجير، وعلاقة الزوجين وواجباتهما. وفي هذه الأحاديث نجد الأدلة على سمو تفكير المصريين القدماء. ومما هو جدير بالذكر أن الشعر عند الفراعنة لم يصدر عن لسان شاعر بعينه، ولكنه صادر عن مجموعة الشعب وباسم الشعب.
العلم والدين
كانت العلاقة بين العلم والدين وما تزال من أهم المسائل التي تشغل الذهن البشري في كل عصر وقطر؛ وقد كان لها في تفكيرنا العربي نصيب وافر، ولابن رشد الفيلسوف في ذلك رسالة شهيرة. على إنها اتخذت في العصر الحديث صورة نضال عنيف بين الدين والعلم على أثر الاكتشافات البيولوجية والطبية الحديثة التي قام بها علماء مثل داروين ولامارك في أصول الأنواع وغيرها. وأنكر بعض العلماء الأقطاب مثل باستور أن يكون بين العلم والدين اتصال أو اتفاق. ورأى مفكرون من الغلاة مثل الفيلسوف مكس نرداو أن العلم يهدم(235/73)
الدين؛ ولكن رأى كثير من العلماء أيضاً أن لا تناقض بين العلم والدين، وان الوفاق بينهما ممكن غير مستحيل.
وقد صدر أخيراً في هذا الموضوع كتاب خطير بقلم العلامة الدكتور جورج ريجار الأستاذ بجامعة لوزان عنوانه (دراسة بيولوجية وعلمية لمسائل الدين العظمى) ريجار طبيب وعالم وبارع، وهذا ما يسبغ على بحثه قيمة خاصة. وقد تناول في كتابه جميع المسائل الهامة التي تتعلق بهذا الموضوع الدقيق، مثل الجبر، والتحكيم الحر، والأخلاق البيولوجية، والمعاناة والألم والله والدين. ويلجأ المؤلف في عرضه لهذا الموضوعات الدقيقة إلى الوقائع المادية، ثم يستخلص منها النتائج الفلسفية والأخلاقية. ومما يلفت النظر أنه على رغم مادته العلمية الخالصة يبدو مؤمناً، وهو يحاول أن يدعم أيمانه بالأدلة العلمية والعقلية، ويقدم أدلته بصورة متزنة معقولة؛ وهو يعارض بشدة أولئك الذين يرون في العلم عدواً لدوداً للدين. على أنه يرى من جهة أخرى أن التعاليم الدينية يجب أن تتطور وأن تساير العقل الوضعي حتى يمكن أن يفتح الطريق لقيام العقائد الروحية في صورة تلائم اتجاهات التفكير الحديث.
وعلى مثل الدكتور ريجار نشر العلامة الأثرى الدكتور فيجال أخيراً رسالة يدلل فيها على أن المباحث الأثرية والتاريخية في تراث مصر القديمة تقدم إلينا كثيراً من الأدلة والحوادث المادية التي تتفق تمام الاتفاق مع منطوق كثير من السير والتعاليم الدينية.
الرافعي وخصومه
أخي الأستاذ الزيات
تحيتي إليك، وإلى الوجوه التي أحبها بنادي الرسالة، وجوه الأدباء الأمجاد الذي يرون في مسامرتك معاني لا يجدونها في الطواف بشارع فؤاد وشارع إبراهيم وشارع. . .
وبعد فهل تعلم أني صبرت طويلاً على الأستاذ محمد سعيد العريان؟ لقد صبرت عليه لغرض نبيل يعرفه، ويعرفه أصدقاء تحملهم أقدامهم إلى الزمالك ومصر الجديدة. ولكن للصبر حدود، فقد شاء أن يسم أدباء مصر بميسم العقوق حين زعم أن خصوم الرافعي لم يرثوه. وهو قد شاء أن يضيفني إلى خصوم الرافعي مع أن الخصومة لم تشبَّ بيننا غير خمس مرات. وإن الجزع ليبلغ مني كل مبلغ حينما أتذكر أني كنت آخر من خاصمه(235/74)
الرافعي في دنياه، ولكن الأديب العريان نسي أو تناسى أني كنت أول من رثى الرافعي في خطاب نشرته جريدة المصري، وأثنى عليه كل الذين قرؤوه وعدوه دليلاً على وفاء الخصوم الشرفاء.
ولم أتفرد برثاء الرافعي يوم مات، فقد رثاه الأستاذ ألمازني بمقال بليغ نشرته جريدة البلاغ، ونشرت الرسالة وغيرها مقالات كثيرة تشهد بأن المصريين لم ينسوا ذلك الفقيد.
فكيف صح للأستاذ العريان أن يزعم التفرد بإحياء ذكرى الرافعي؟
إنني أرجوه أن يتثبت مما يقول، فإن له في هذه المقالات أخطاء كثيرة. وقد آذاني ما كتبه عن (فلانة) التي جلست معي جنباً إلى جنب أربع سنين في الجامعة المصرية، وعرفت من شؤونها ما لا يعرف. وآذاني وآذى الحقيقة بما كتب عن الدكتور طه حسين، لأنه يوهم قراءه بان الرافعي كسب المعركة، مع أن التاريخ الذي نسيه يشهد بأن الدكتور طه حسين كان معقول القلم واللسان بفضل الإشارات التي صدرت إليه بأن يترك العاصفة تمر حتى لا يهزم أنصاره أمام الحكومة وأمام البرلمان.
وجملة القول أن ما كتبه ذلك الأديب عن خصوم الرافعي يحتاج إلى تصيح. فإن لم يرجع إلى الأسانيد فسنعاونه على تحرير هذه المسائل بعد حين. والسلام.
زكي مبارك
ضيف العراق
الاحتفال بتوزيع جوائز نوبل
قرأنا في البريد الأخير تفاصيل الاحتفال الفخم الذي أقيم في ستوكهلم في العاشر من ديسمبر احتفاء بتوزيع جوائز نوبل على مستحقيها من مختلف الأمم. والعاشر من ديسمبر هو تاريخ وفاة الفرد نوبل المخترع السويدي الكبير وواقف هذه الجوائز الشهيرة.
وعقد الاحتفال في بهو الموسيقى الكبير بحضور ملك السويد وأعضاء الآسرة الملكية، ورجال الحكومة، وممثلي الدول الأجنبية؛ وبعد أن ألقى رئيس لجنة الهبة خطابه قدم الفائزين بالجوائز تباعاً، وكان كل يتسلم من يدي ملك السويد التحويل المالي والشهادة الفخرية والشارات الذهبية التي يستحقها. وكان أول المتقدمين الأستاذان: دافيد سون(235/75)
الأمريكي، وتومسون الإنكليزي، وقد نالا معاً جائزة العلوم الطبيعية، وكلاهما قام بأبحاث هامة في مسالة تعرض البلور للتيارات الكهربائية. ثم تقدم الأستاذان هوارث الإنكليزي وكارير السويسري، وقد نالا معاً جائزة الكيمياء، وذلك لمباحثهما عن أنواع الفيتامينات. وتلاهما الأستاذ زنث جيرجي المجري وقد نال جائزة الفسيولوجيا والطب من أجل مباحثه في عمل الأكسوجين والهيدروجين في حرق أغذية الجسم البشرى. ثم تلاه الكاتب الفرنسي روجيه مارتان دوجار الذي فاز بجائزة الأدب من أجل قصته الشهيرة (آل تيول)
وأقيمت في مساء نفس اليوم في (البهو الذهبي) مأدبة فخمة جريا على الرسوم المعتادة وخطب فيها مسيو دوجار، فنوه بالدور العظيم الذي تؤديه الآداب لخدمة السلام، وقال إنه يعتبر أن فوزه بجائزة نوبل لم يكن من أجل كتابه فحسب، ولكن بالأخص من أجل المعنى السلمي الذي يمثله هذا الكتاب، وما ورد فيه عن صيف سنة 1914 من الصور المؤثرة، وأن في عبر الماضي ومآسيه ما يكفي لأن يحمل الأمم على التبصر والاعتبار.
إليك
قرأت في كلام أديب مشهور هذه العبارة: (إليك الدينار في سبيل فلانة) يقصد بإليك هاك، خذ. فتذكرت نقد الأستاذ عبد العزيز الميمني في (سمط اللآلئ) وهو (الذي يستمله العصريون كلهم ولا أستثني منهم أحداً، إليك بدل هاك هو غلط فاحش) والنقد حق، وقوله (لا أستثني منهم أحداً) باطل وخطأ متفاحش. وهذا الإطلاق شيء عجيب، ففي العصر كثيرون لم يغلطوا فيما نقده، منهم حضرته (اعني الأستاذ الميمني) وإن غلط في غيره. . .
وإليك من أسماء الفعل. قال سيبوبه في (الكتاب): (وإليك إذا قلت: تنحَّ. وحدثنا أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقال له: إليك، فيقول: إليّ، كأنه قيل له: تنحّ، فقال: أتنحّى).
وفي (النهاية): (وفي حديث الحج: وليس ثمَّ طرد، ولا إليك، إليك، هو كما يقال: الطريق الطريق، ويُفعل بين يدي الأمراء، ومعناه تنحَّ وابعدْ، وتكريره للتأكيد).
وممن غلط في (إليك) هذه من المتقدمين مهذب الدين أحمد ابن منير الطرابلسي في قصيدته المشهورة التي مطلعها:
عذبتَ قلبي يا تَتَرْ ... وأطرت نومي بالفِكَرْ(235/76)
فقال في أحد أبياتها:
وإليكها بدويةً ... رقت لرقها الحضرْ
(الإسكندرية)
(? ? ?)
فردنند دلسبس ومحمد سعيد باشا
لفردنند دلسبس صفحة من تاريخ مصر الحديث تجمع بين مجده الباهر وشقاء المصريين بهذا المجد. . . وقد قرأنا كتاباً ألفه عن هذا الفرنسي الكاتب المؤرخ الكبير هـ. ج. سكونفليد وأصدره منذ أسابيع، وتناول فيه بطبيعة الحال نشأة دلسبس والصداقة المتينة التي كانت بين والده وبين عزيز مصر الكبير محمد علي. وأول مجيء دلسبس ليعمل قنصلاً لفرنسا (الذي نعرفه أنه عين مساعداً للقنصل الفرنسي في مصر) في الديار المصرية، وكيف قرأ كتاب المسيو لوبير مهندس الحملة الفرنسية عن مشروع شق قناة تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض إذ هو في المحجر الصحي قبل دخوله مصر. . . ثم الصداقة التي توثقت بين الأمير محمد سعيد وبين دلسبس والتي عقدت أواصرها (أطباق المكرونة!) تلك الأطباق التي كان لها الفضل الأكبر في شق قناة السويس. . . وقد أغرقنا في الضحك الممزوج بأشد الآلام عندما قرأنا ما ذكره المؤلف من حديث هذه المكرونة العجيبة وهو تخريج سيكولوجي عجيب يقفنا على الطرائق الحديثة في كتابة التاريخ، ومدى ما يلقف به المؤرخون براهينهم في تعليل الحوادث. . . فلقد ذكر المؤلف أن محمداً علياً لم يعجبه أن يرى ولده سعيداً ذا جسم ضخم كثير اللحم والشحم فحرم عليه ألوانا من الطعام وأمر إلا يقدم إليه شيء منها، ثم عهد به إلى فردنند ابن ماتيو دلسبس صديقه الحميم فعلمه ركوب الخيل وحبب إليه فنوناً من الألعاب والرياضة البدنية. . . ولكن هذه الرياضة كانت تجهد الأمير الصغير وتورثه جوعاً شديداً، ولم تكن مقادير الطعام التي تقدم إليه لترد مسغبته، فكان ينسرق من القصر ويهرول إلى منزل فردنند فتقدم له هناك أطباق المكرونة، فيقبل عليها إقبالاً شديداً. . . ومن هنا، تضاعف هيام سعيد بفردنند، فلما ولي أمر مصر بعد عباس، كان فردنند قد ترك القطر وتقلب في مناصب سياسية هامة أشهرها هذا المنصب(235/77)
الذي مهد له القيام بالدور الخطير الذي لعبه في سبيل تقريب وجهة النظر بين دولته، والجيوش الفرنسية وبين زعيم إيطاليا مازيني. . . وما إن علم فردنند بتربع صديقه سعيد على أريكة مصر حتى أرسل إليه يهنئه فأرسل إليه سعيد يستدعيه. . . وكانت ذكريات أطباق المكرونة أول حديث دار بينهما بعد هذا الفراق الطويل. . . وفي نفس اللحظة تكلم دلسبس عن مشروع قناة السويس فوافقه سعيد باشا ونسى وصايا أبيه بوجوب الأعراض عن هذا المشروع. . . ومن المؤرخين من يعزو نجاح المشروع إلى شغف سعيد باشا بركوب الخيل وإعجابه بدلسبس كراكب ماهر. . . وسيان. . .
تجديد قصر هشام بن عبد الملك
من أخبار دمشق أن مدير الآثار كتب إلى وزارة المعارف السورية يطلب إليها رصد 25 ألف ليرة سورية في ميزانية دار الآثار لتجديد قصر هشام بن عبد الملك المكتشف في قرية الحير وإلحاق هذا القصر ببناء متحف دمشق الجديد.
وقد كتبت الوزارة إلى رياسة مجلس الوزراء للموافقة على هذا المبلغ فعاد الجواب بالموافقة بعد أن اتخذ المجلس قراراً رقم 195 بهذا الشأن.
لذلك أرسلت وزارة المعارف إلى رياسة المجلس النيابي استناداً على كتاب مدير الآثار بلزوم اعتماد المبلغ المذكور في ميزانية الآثار لتتمكن من إعادة قصر هشام الذي يعد من أكبر الآثار في البلاد السورية ونظراً لقيمته من الوجهة التاريخية والأثرية.
مدارس الفوهور العجيبة
لا تني النازية الهتلرية تبتكر الغرائب لخلق ألمانيا الجديدة. ومن آخر أنبائها أنها اعتزمت إنشاء أربع مدارس حديثة ليتعلم الشبان فيها ما يسمونه هناك أو مراقبة التطور العالمي، أو ما يعني بالإنجليزية إن خاننا التعبير العربي. وستضم كل من هذه المدارس ألف تلميذ من خيرة شباب ألمانيا؛ ويختار طلبتها بشروط خاصة من حيث الذهن والجسم. ويمكث تلاميذ كل مدرسة عاماً واحداً في مدرستهم ينقلون بعده إلى مدرسة أخرى - فيبدأ التلاميذ تعلمهم في مدرسة بوميرانيا التي تبعد عن شمال برلين أربع ساعات بالقطار، ثم ينقلون إلى المدرسة الثانية عند الحدود البلجيكية ليلبثوا بها عاماً ينقلون بعده إلى المدرسة الثالثة(235/78)
عند شاطئ بحيرة كونستانس في أقصى الجنوب، ثم ينقلون إلى مدرسة مارينبرج عند الحدود الشرقية. وسيتعلم التلاميذ في هذه السنين الأربع أرقى الأساليب السياسية وفن الحياة على أن تناط بهم بعد تخرجهم كل الوظائف التي يراد بها تنوير الشعب وقيادته وبث روح الوطنية بين أفراده. ومعنى هذا أن يأتي يوم لا يتولى وظيفة من وظائف الدولة رجل جاهل بما تتطلبه الدولة ويقتضيه مستقبل ألمانيا. . . أما كيف يعد الأطفال للالتحاق بهذه المدارس فتتولى الدولة انتخاب الصبية في سن العاشرة على أن تلحقهم بمدارس خاصة حتى يبلغوا الثماني عشرة، ثم ينخرطون بعد ذلك فيما يسمي (معسكر العمل) حيث يقضون ستة أشهر يباشرون خلالها أعمالاً عامة تعودهم شظف العيش والحياة الخشنة، حتى إذا انتهت الأشهر الستة انخرطوا في صفوف الجيش حيث يعملون في فصائله المختلفة لمدة عامين يلتحقون بعدهما في وظائف الدولة لمدة سنة يستطيع كل منهم خلالها أن يتزوج ويكون أسرة؛ فإذا تصرم العام اختير من بين الجميع ألف طالب كدفعة أولى لمدارس الفوهرر، ويطلق عليهم حينئذ لقب أو الشباب (الجنتلمان) - وسيتحرى في اختيار هؤلاء أن يكونوا جميعاً من طول واحد، وأن تكون صدورهم من مقاس متفق عليه، وأن يكونوا ألمانيين خلصاً ومن جنس نوردي آري لم يمتزج بدم جنس آخر إلى ما قبل سنة 1800. . . وسينشئون في هذه المدارس تنشئة إسبرطية بكل معاني الكلمة فيزاولون الرياضة ويشبون على الشجاعة والإقدام والتضحية.
أما المنهاج الدراسي، فسيتعلم التلاميذ في مدرسة بوميرانيا ثقافة العصرين الحجري والحديدي. . . وبالطبع سيقحم مجد ألمانيا في هذين العصرين إقحاما قومياً. . . وفي مدرسة الحدود البلجيكية سيلقنون دروساً في الديانة المسيحية باعتبارها إحدى السياسات التاريخية فينقد المذهب البروتستانتي كما ينقد المذهب الكاثوليكي بحرية مطلقة. . . أما في مدرسة الجنوب البافارية فسيتعلمون النازية الحديثة وعلم الأجناس الجديد من وجهة النظر الهتلرية. . . فإذا ذهبوا إلى مدرسة الحدود البولندية تعلموا ثمة فنون الدعاية الجديدة والمشروعات المتعلقة بسياسة ألمانيا الشرقية كما تناولها هتلر في أل
وليتساءل القارئ بعد هذا: إلى أين تسير ألمانيا؟!
جوائز جونكور وفمينا(235/79)
منحت أكاديمية جونكور أخيراً جائزتها السنوية للكاتب البلجيكي شارل بلسنييه من أجل كتابة (الزواج) الذي صدر منذ عام؛ وهذه أول مرة تمنح فيها هذه الجائزة الفرنسية كاتباً غير فرنسي، وليس في قانون أكاديمية جونكور ما يحرم نيل جائزتها على غير الفرنسيين؛ ولكنها تجري في ذلك منذ نشأتها على تقاليد الأكاديمية الفرنسية التي تقضي بالا يتشرف بعضويتها غير الفرنسيين. ولكن حدث في صيف هذا العام أن زار وفد كبير من أعضاء الأكاديمية البلجيكية زملاءهم أعضاء الأكاديمية الفرنسية، وكانت الكاتبة الشهيرة كوليت قد منحت عضوية الأكاديمية البلجيكية، لأن النساء لا يقبلن في الأكاديمية الفرنسية، فرأت أكاديمية جونكور من جانبها أن تخرج على تقليدها القديم، وأن تمنح جائزتها للكاتب المتفوق في الكتابة بالفرنسية، واختارت لذلك شارل بلسنييه.
ونالت مدام رايمون فنسان جائزة (فمينا) عن روايتها (الريف) وهي كما يدل عنوانها قصة نصف الحياة الريفية. وقد نشأت مدام فنسان نشأة ريفية ولم تتلق دراستها المدرسية إلا في سن متأخرة، ولكنها تتمتع بمواهب أدبية بديعة.
ونال الكاتب الناقد رومان روسل جائزة الحلفاء الأدبية عن روايته (واد بلا ربيع)(235/80)
رسالة النقد
أبو تمام والمقتطف
لأستاذ جليل
قالت مجلة (المقتطف) الغراء في حديثها عن كتاب (أخبار أبي تمام) للصولي: (أبو تمام أمير من أمراء العصر العباسي، خرج لأهل عصره بجديد لم يألفوه فخرجوا عليه، وساعد في ذلك وجود البحتري فناصره الناس، وفضلوا رقته ورشاقة ديباجته على تعاظل أبي تمام وتعمقه، وطالت الخصومة، وكسب الأدب منها ما كسب من كتب النقد، وكان مما كسبه كتاب الصولي الذي أراد به الانتصار لأبي تمام على كتاب الآمدي (الموازنة بين أبي تمام والبحتري) الذي ناصر فيه مؤلفه البحتري.
قول المقتطف: (أبو تمام أمير من أمراء العصر العباسي) فيه بعض التسامح، فما كان حبيب أميراً من الأمراء، وما ترفعه عندنا إمارة، ولن تخفضه قروية؛ وفلاح عامل أو عالم خير من آلاف من أمراء أغبياء كسالى، وقد كان ابن آوس فلاحاً ابن فلاح من قرية جاسم.
قول المقتطف: (خرج لأهل عصره بجديد لم يألفوه فخرجوا عليه) فيه لبس كثير، فقد جاء أبو تمام بما جاء به ورأى الناس إبداعاً ونبوغاً وعبقرية فبهرهم ذلك واستجادوه واستجزلوه وتقبلوه (ولم يخرجوا على صاحبه) ولم ينكر ذاك الشعر العلوي العبقري ولم يعبه إلا جاهل أو حاسد أو عدو. ومتى تخلص النابغون أو العبقيريون من مناكرين ومعادين؟ وإن عاب الطائي مثل ابن الأعرابي ودعبل فقد أجله أيما إجلال مثل المبرد وابن الزيات. وقصة أرجوزة حبيب وابن الأعرابي (وهي مشهورة) تبين مقدار العداوة إذا اشتدت وجارت. ودعبل، أقواله وأهاجيّه مساخر دعبلية. . . وقد أعلن أبو الفرج في كتابه (الأغاني) والصولي في (أخبار أبي تمام) مقاصد ناقدين في نقدهم حبيباً. قال أبو الفرج: (هم أقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه، ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك ليقول الجاهل إنهم لم يبلغوا علم هذا وتمييزه إلا بأدب فاضل وعلم ثاقب) وقال الصولي: (صنف أَلَف في الطعن عليه كتباً ليجري له ذكر في النقص إذ لم يقع له حظ في الزيادة، ومكسب بالخطأ إذ حرمه من جهة الصواب) وإن شاعراً أخمل في زمانه خمسمائة شاعر - إلا واحداً - كلهم مجيد لا يستبدع أن يعاديه معادون، وينبحه شويعرون، وينغر(235/81)
عليه ويغلي شعراء مبرزون. ومن يقرأ شعر ابن الرومي في البحتري يستعجب ويستغرب في الضحك، يقول في مقطوعة خلاصتها: (أن الشاة لا تجزع من ألم الذبح ولا السلخ لكنها تشفق أن يكتب في جلدها شعر البحتري).
قول المقتطف: (فناصر الناس البحتري وفضلوا رقته ورشاقة ديباجته على تعاظل أبي تمام وتعمقه) هذا القول هو الظلم العبقري، وللمعاظلة معانٍ كلها شر؛ والتعمق هنا هو التنطع. وهذا تصوير لشعر ابن أوس مستشنع، ووصف منكر. ولو قالت (المقتطف) وفضلوا رقة البحتري على جزالة أبي تمام لاقتربت من الحق، فقد قال صاحب (المثل السائر): (أعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر، فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دماثة ولين أخلاق ولطافة مزاج؛ ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم، واستلأموا سلاحهم وتأهبوا للطراد. وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي) وهي طبيعة المرء (أو مزاجه) تدعوه إلى طريقة في القول بل عقيدة في الدين فيستقيد لها ويستجيب. ولن تضير ذا الرقة رقته، ولن تعيب ذا الجزالة جزالته؛ وقوة حبيب ما حرمته لطفاً، وسهولة البحتري ما منعته فحولة. فوصف صاحب المثل هو قول عدل في شعر الطائيين من جهة الألفاظ؛ وأما من جهة (الاستخراجات اللطيفة والمعاني الطريفة) كما يقول المبرد أو لطف المعاني وسموها أو العبقرية الشعرية، فالبحتري دون أبي تمام، والوليد في ذلك تلميذ حبيب. وما أصدق البحتري إذ يقول: (أنا والله تابع لأبي تمام، لائذ به، آخذ منه، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه) وفي (الموشح): (سرقات البحتري من أبي تمام نحو خمسمائة بيت) وعندي أنها أكثر مما قال. وهنا نكتة تروي في هذا المقام: رآني ذات يوم أديب شاعر أقرأ في كتاب فقال: ما هذا؟ قلت: شرح ديوان أبي تمام. فلما أبصر الكتاب وعرفه قال: هذا ديوان البحتري. قلت: نعم. ففهم النكتة. وليس القصد من هذا الكلام تنقص البحتري وتهجينه، بل تقرير الحق وتبيينه. والبحتري هو صاحب القول الطل الجميل، وهو في الشعر العربي ثالث ثلاثة ما جاء قبلهم ولا بعدهم مثلهم. وأستاذ الاثنين - على إبداعهما وعلوهما - هو حبيب. وإن شئت فقل كما قال المتنبي: (حبيب أستاذ كل من قال الشعر بعده) وأبو الطيب(235/82)
يدري بما يقول، ويعرف ما يعني، وهو خريجه وإن لم يجثُ بين يديه، ومعاني أبي تمام في أبيات المتنبي سوافر غير متلثمات، ينطقن بالحق فصيحات.
وعناية حبيب بألفاظه مثل عنايته بمعانيه لا كما جاء في (موازنة الآمدي): (إن اهتمامه بمعاينة أكثر من اهتمامه بتقويم ألفاظه، وأنه إذا لاح له المعنى أخرجه بأي لفظ استوى من ضعيف أو قوي) فإن هذا قول باطل، الحق يعانده، والأدلة تدحضه، وسبك حبيب العجيب يكذبه؛ فليس في العربية شاعر احتفل في المعنى واللفظ معاً احتفال أبي تمام، فهو إذا غزا المعنى العالي أنزله من اللفظ في خير مكان؛ فهو محكم المعنى مرصّن اللفظ (وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف الجزل لفظ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة، ولا النظام متسقاً؛ وتضاؤل المعنى الحسن تحت اللفظ القبيح كتضاؤل الحسناء في الأطمار الرثة). وفي (العمدة) لابن رشيق قال: (قال بعض من نظر بين أبي تمام وأبي الطيب: إنما حبيب كالقاضي العدل يضع اللفظة موضعها، ويعطي المعنى حقه بعد طول النظر والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع يتحرى في كلامه ويتحرج خوفاً على دينه؛ وأبو الطيب كالملك الجبار يأخذ ما حوله قهراً وعنوة، أو كالشجاع الجريء يهجم على ما يريده لا يبالي ما لقي، ولا حيث وقع)
وقد حقق حبيب جل شعره، وأحكم نظم أكثره، وله المتوسط، وله الرديء، والجيد جيد، والغث غث، فصف كلاً بصفته، ولا تلبس الحسن بالقبيح، وخذ الطيب وذر الخبيث، (وليست إساءة من أساء في القليل وأحسن في الكثير مسقطة إحسانه) كما قال أبو الفرج
قول المقتطف: (وكان مما كسبه كتاب الصولي الذي أراد به الانتصار لأبي تمام على كتاب الآمدي: الموازنة بين أبي تمام والبحتري) فيه تسامح كثير، فقد ألف الصولي كتابه والحسن ابن بشر الآمدي شادٍ لم يجادل ولم يوازن ولم يؤلف شيئاً. وليس في الكتابين دليل على أن أحدهما قصد مناقضة الآخر. فالصولي ينعى على جماعات مقالات لهم زائغة، والآمدي يوازن بين الطائيين وضلعه مع الوليد على حبيب. وممن يعنيهم الصولي أدعياء في الأدب أو علماء من دعاة القديم، والآمدي أديب يكبر الشعراء المحدثين.
المقتطف مجلة أجلها، وكيف لا أعظم صحيفة منشئها علامة العرب ومعلمهم (الدكتور يعقوب صروف) لكنها قالت فقلت.(235/83)
قارئ(235/84)
العدد 236 - بتاريخ: 10 - 01 - 1938(/)
التأليف والنشر في مصر
للدكتور عبد الوهاب عزام
حدثني بعض الأصدقاء أن أحد أصحاب المعالي وزراء الدولة في الحكومة القائمة دعا إليه جماعة من الكتاب وحدثهم في تنشيط التأليف في مصر ومكافأة المؤلفين ووعد في هذا وعوداً حسنة الخ
وهذا رأي محمود نرجو أن يتلوه العمل فيؤتى ثمراته بعد حين؛ وهذه فرصة أنتهزها للتنبيه إلى أمر طالما أهم المفكرين من قراء العربية في الشرق والغرب، وطالما ترددت منه الشكوى وأخذت به مصر قبل الأقطار الأخرى؛ ذلكم أمر النشر نشر الكتب القديمة والحديثة التي مات مؤلفوها. فهو أمر تتحكم فيه الفوضى. يستطيع الواحد من تجار الكتب أن يعمد إلى كتاب من الأمهات في الأدب أو التاريخ أو غيرهما، ويعهد به إلى من يصححه ويقدمه للطبع. وحسب هذا المصحح أن يستطيع قراءة الكتاب قراءة يتصرف فيها خياله وحظه القليل من العلم، ونشاطه التي تحده المكافأة القليلة التي ينالها من الناشر، ووجدانه الذي لا يحفل بالأمانة العلمية كثيراً. وأحياناً يتصدى لنشر الكتب بعض العارفين بأساليب النشر الحديثة، فيعهد بتصحيحه إلى بعض الأسماء النابهة، ويتخذ من وسائل الترويج ما يشاء له طمعه في الربح والصيت؛ فيستبشر الأدباء ويرجون خيراً ويتربصون على قلق حتى يظهر الكتاب فيكبوا على قراءته فإذا الأمر لا يعدو ما ألفوه من طرق النشر التي لا تصوب غلطاً، ولا تزيل شكاً، ولا تنال طمأنينة القارئ
لا يعوز الباحث أن يتابع الأدلة من الكتل المشوهة، أو الكتب التي بذل في تصحيحها جهد قليل قصر بها دون الغاية:
نشر بعض الناشرين كتاباً قديماً في الفرق الإسلامية فمر على أغلاطه لم يعرض لها وحرف بعض عبارات ظنها غلطاً وهي صواب. وحسبي أن أذكر من فعلاته هذه الواحدة: ذكر المؤلف رجلاً فنسبه إلى قبيلة وقال إنه (من ثَوْر هَمْدان) أي قبيلة ثور إحدى قبائل همدان لا من قبيلة ثور الأخرى إحدى قبائل مضر. فحرف الناشر الكلمة إلى (ثغور همذان) وأمتن على القراء في الحاشية بأنه أدرك الحق في هذه الجملة المحرفة. وأذكر أن ناشراً عمد إلى ترجمة كتاب كلستان للشيخ سعدي الشيرازي الشاعر الفارسي العظيم فطبعه(236/1)
وكتب على صفحة العنوان: (كتاب جلستان: بقلم العلامة جلستان الفارسي)
وليس العهد بعيداً بكتاب معجم الأدباء، وما أهمل من غلطاته، وحرف من عباراته، وزيد عليه من شرح يتجلى فيه الخطأ والفضول. وقد أخرج للناس في موكب من التشهير والترويج، وهو في الحق حري أن يكون عيباً لمن أخرجه وعاراً على وزارة المعارف التي احتملت التبعة فيه فكتبت على صفحة العنوان: (راجعته وزارة المعارف). وكنت كتبت خمس مقالات في نقد الجزأين الأول والثاني ثم وعدت القارئ أن أعود إلى النقد بعد أن تطبع الأجزاء الأخرى لأبين أهي خير من هذين الجزأين أم مثلهما. ولعلي أفي للقراء بهذا الوعد بعد هذا المطال الطويل. بل كتب الأدب التي بأيدي الطلاب في مدارس الوزارة فيها كثير من الغلط وإذا وقع الغلط والتحريف في مثل هذه الكتب فماذا يرجى من الكتب السوقية التي يتولى نشرها تجار أكبر همهم النفقة القليلة والربح الكثير؟
كان أسلافنا يكتبون الكتب بأيديهم إذ لم تكن عندهم من وسائل الطبع والتصوير ما عندنا. فكان عليهم أن يصححوا كل نسخة من كل كتاب. وقد اضطلعوا بهذا العمل الفادح جهد طاقتهم وبذلوا فيه من فكرهم وعافيتهم ونومهم وراحتهم ما تشهد به آثارهم وأخبارهم. كان المتأدب منهم يقرأ الكتاب على أديب ثقة، ويكتب عليه أنه قرأه على فلان، ويغلب أن يكون الشيخ الذي قرء عليه الكتاب قد قرأه على آخر، وهكذا حتى تنتهي القراءة إلى المؤلف أو الشاعر أو الكاتب. ويكتب هذا السند المتصل على الكتاب فيعلم قارئه أن بيده كتاباً عمدة يطمئن إليه، بل فعلوا هذا في الدواوين المتواترة التي يتداولها الحفظ والنسخ كل حين كديوان المتنبي. وعندنا اليوم نسخ من الديوان تحمل سندها من أبي الطيب إلى سبعة قرون أو أكثر من بعده. وهذا العكبري شارح الديوان في القرن السابع لم يجز لنفسه أن يشرحه حتى قرأه على شيخين من شيوخ الأدب: مكي بن ريان بالموصل، وعبد المنعم بن صباح التيمي بمصر. وقد وضع أسلافنا أصولاً اصطلحوا عليها وسموها (أصول السماع) بينوا فيها كيف يتثبت راوي الخبر أو راوي الكتاب حتى يتحرز عن الغلط جهده.
ومن عجيب ما يروى في هذا ما حدثني به بعض الثقات أن القاضي عياضاً ذكر في كتابه (الإلماع في أصول السماع) أن أبا علي القالي صاحب الأمالي أعار الحكم المستنصر الأموي خليفة الأندلس كتاباً من كتبه وطالت غيبة الكتاب عنه. فلما رد إليه أبطل الرواية(236/2)
به وقال لا آمن أن يكون قد أصابه تحريف وهو في يد غيري
ذلكم جهد السلف ودأبهم في التثبت، على ما حملهم هذا من عناء ونصب. فكيف وقد تيسر طبع الكتب بما خلقت المدنية الحاضرة من وسائل - كيف نتهاون في التصحيح والتحقيق فنخرج كتباً تنوء بأغلاطها؟ إن ناشر الكتاب اليوم يكفيه أن يصحح نسخة واحدة لتصح له آلاف النسخ فيتواتر الكتاب، ويؤمن عليه الغلط والتحريف، والزيادة والنقص من بعد. ليت شعري بأي عذر نعتذر، وبأي تعلة نتعلل؟ لا عذر ولكنه التهاون والكسل أو القصور والجهل ليس فيها خيار لمتخير
فالذي نرجوه أن تؤلف الحكومة أو تكل إلى الجامعة، تأليف هيئة لمراقبة النشر وبخاصة نشر الكتب القديمة فلا يؤذن لناشر أن ينشر كتاباً حتى تتوثق هذه الهيئة أن القائمين على تصحيح الكتاب هل لتصحيحه وإخراجه على حال يسكن إليها أولو العلم والأدب. ولهم في لجنة التأليف والترجمة والنشر أسوة حسنة ومثال صالح
ذلكم أقرب إلى التحقيق، وأبعد من الفوضى، وذلكم أجدر بنا وأولى بسمعتنا، وأحفظ لتاريخنا وآدابنا. فإن توهم متوهم أن الخطب في هذا أمم يوكل إلى الزمن إصلاحه ولا يحتاج إلى عناية الأمة والحكومة فليسأل الباحثين من علمائنا وأدبائنا ليشكوا إليه ما قاسوا من الكتب المحرفة، والنصوص المضللة. وإنا لراجون أن تبادر الحكومة إلى تبشير الأدباء بما تعتزم في هذا الأمر العظيم ثم تتبع البشرى العمل والوعد الإنجاز
عبد الوهاب عزام(236/3)
في عليين
للأستاذ عباس محمود العقاد
سلفادور مدرياجا أديب إسباني كان أستاذاً للدراسات الإسبانية بجامعة أكسفورد. ثم ظهر في عالم السياسة الأوربية على أعقاب الثورة التي قام بها في بلاد الأسبان جمهرة الأدباء والمثقفين، فمثل حكومته في عصبة الأمم والولايات المتحدة وفرنسا، وراجت تواليفه التي تتمثل فيها عبقرية بلاده، فترجمت إلى معظم اللغات الغربية
وقد لازمته روح الأدب حتى في أعماله السياسية فرويت له طرائف شتى أثناء المناقشات المحتدمة في مشاكل الدول وأزمات الحكومات، ومنها انه حضر (مؤتمر السلاح) وسمع ما يقترحه كل فريق من الدول القوية من تقييد هذا السلاح أو السماح بذاك على حسب اختلاف العدة عند كل فريق، فأصغي إلى الأعضاء الجادين في مناقشاتهم ومساجلاتهم ثم قال:
(أيذكر مسيو لتفينوف خرافة الحيوانات التي اجتمعت للبحث في التقليم والتجريد؟ لقد نظر الأسد في ذلك المؤتمر إلى النسر ثم قال: علينا أن نلغي المخالب؛ ونظر النمر إلى الثور ثم قال: علينا أن نلغي القرون؛ ونظر الثور إلى النمر ثم قال: علينا أن نلغي الأظافر؛ ونظر الدب إليهم أجمعين ثم قال: بل نلغي كل شيء إلا حق الصراع والعناق!)
وعجب الناس من هذه المؤتمرات التي تجتمع ثم تفترق، وتفترق ثم تجتمع، وهي لا تأتي بنتيجة وتعلم أنها غير آتية بنتيجة. فذهب إليه مراسل بعض الصحف وسأله: ما جدوى كل هذا الاجتماع والافتراق وكل هذا الافتراق والاجتماع؟ وما يعني الساسة المحنكون بهذا العناء في غير طائل؟ فكان جواب مدرياجا للمراسل:
(أسمعت قصة الصبي اليهودي؟ إن كنت لم تسمعها فاعلم أن صبياً يهودياً تعود أن يصرف ريالاً أرباعاً ثم يصرف الأرباع سنتيمات ثم يعود فيرد السنتيمات في دكان آخر إلى أرباع فريال صحيح؛ وهكذا كل يوم بغير تحول ولا انقطاع. فتعقبه بعضهم يوماً بعد يوم ولحق به في طريقه بين الدكاكين فسأله كما تسألني الآن: فيم هذا العناء على غير جدوى؟ قال الصبي: لابد من يوم يقع فيه بعض الناس في خطأ حساب، ولن أكون أنا بعض الناس هؤلاء!)(236/4)
وقس على ذلك طرائفه التي يتناول بها معضلات السياسة بين الجد والمزح والنوادر والأمثال
آخر كتاب لهذا الأديب اللبق الأريب ظهر في اللغة الإنجليزية هو كتابه (في عليين) وهو على هذه الوتيرة محاورات وأمثال ومحادثات وقعت كما تخيلها في عليين بين أرواح العظماء المرفوعين إلى السماء:
منها روح فولتير الفرنسي وجيتي الألماني وكارل ماركس زعيم الاشتراكية وواشنطون ونابليون وماري ستيوارت ونخبة من طراز هؤلاء
وهي غير مقصورة على أرواح الأموات دون الاحياء، بل يشترك فيها بعض الأحياء الذين يستدعيهم أولئك العظماء من الأرض في حالة النعاس أو حالة الغيبوبة
ويدور البحث بين هذه الأرواح في كل ما يخطر لتلك العقول من مسائل الفن والسياسة والاجتماع، ويتخلل ذلك كلمات بعضها مخترع وبعضها مما روي عن قائليه أثناء الحياة؛ وقراءتها من أمتع ما يطلع عليه القارئ في الأدب الحديث
من أمثلة ذلك أنهم اختلفوا على مشاركة الولايات المتحدة للأوربيين في حل المعضلات العالمية. فأمر واشنطون باستدعاء روح من رجال مجلس الشيوخ المعارضين في ذلك. فجاء الروح وكان أول ما استشهد به قول الرئيس واشنطون في خطاب الوداع، وجرى الحوار على هذا المنوال
الشيخ - ولم يا سيدي؟ إن الجواب لظاهر. وتوقيراً لذكرى الرئيس واشنطون أعيد كلماته التي يعيها جميع الأمريكيين في أطواء القلوب. . . لقد قال: (إن لأوربا طائفة من المصالح الأولية التي لا مصلحة لنا فيها أو تكون علاقتنا، بها جد بعيدة، ومن ثم نتورط في أسباب الخلاف والشقاق التي لا تني تتعاقب وتتلاحق، وهي أسباب غريبة عن شواغلنا، فليس من الحكمة أن نزج بأنفسنا في غمارها، ونعقد الروابط المصطنعة بيننا وبينها، في أحوال سياستها المألوفة أو علاقات الصداقة والعداوة بين أجزائها)
ثم قال: (إن سياستنا هي أن ندير شراعنا بعيداً عن رياح الدول الأجنبية)
فالتفتوا جميعاً إلى القائد واشنطون فإذا به يقول:
واشنطون - عجيب! إنني لم. . . متى قلت ذلك يا حضرة الشيخ الموقر؟(236/5)
الشيخ - أخالك أنت الرئيس واشنطون إنك لشبيه بتمثالك ولكن ليس بالشبه كله، أفأنت الرئيس واشنطون بعينه؟
واشنطون - نعم يا سيدي: ما يخلد منه
الشيخ - إني سعيد بلقائك أيها الرئيس. إن الكلمات التي سمعتها هذه اللحظة مقتبسة من خطاب وداعك
واشنطون (متذكراً) - وما ذاك؟
الشيخ - حسن أيها الرئيس. إنه الخطاب الذي ألقيته لدواع لست اذكرها الساعة، ولكني أذكر منها أنك ألقيته يوم اعتزمت ألا تغزو ميدان الانتخاب للرآسة
واشنطون - أغزو؟ أنا ما غزوت قط ميدان الانتخاب، ولكني أفهم ما تعنيه وإن كانت عباراتك غريبة عني بعض الغرابة
الشيخ - لم تكن من عباراتك. إلا أننا نحفظ دروسك عن ظهر قلب. لا اشتباك في المسائل الأجنبية!
واشنطون - ومع هذا يا حضرة الشيخ أقول لك إن الابتعاد عن حوافر الخيل سياسة حسنة لصغار الجراء، ولكنها ليست بالسياسة الحسنة لكبار الأفيال
ومن أحاديث الرسالة كلمة توجهها ماري ستيوارت إلى الشاعر جيتي - وهو أستاذها ودليلها في السماء - فتقول له:
(إنك أيها الأستاذ العزيز تطلب (الحرية في النظام) ولكني أرى أن الحرية راجحة على النظام، لأن الحرية خلاقة موجدة. أما النظام فقصاراه أن يحفظ ما هو موجود، وهو يحفظ كل شيء؛ ويا له من شيطان مسكين: يحفظ ما يستحق الحفظ وما هو حقيق بالتلف والزوال، وكأنه ربة البيت المجنونة بالشح والتدبير، فهو يحيط الحياة بنطاق من حديد؛ ثم تأتي الحرية - حرية الأرواح القوية - فتحطم النطاق ولا تزال تفتحه فتحاً يوسع أطراف الحياة)
ومن أقوال ماري ستيوارت في هذا الحديث: (ليست الحياة متاجرة، ولكنها مقامرة. وليست هي مقامرة الرجل مع رجال آخرين، وإنما هي مقامرة الرجل مع الحياة نفسها)
ويقول فولتير في بعض أحاديثه: (لست أزعم أنني موضع ثقة الإله وأنني مؤتمن على(236/6)
سره كالدكتور جيتي الذي يطلع على الأسرار الإلهية! بل إنني معترف بقلة الفهم لأساليبه، ومن ثم لست على يقين من أسباب لجميع هذه الأشياء)
فيقاطعه واشنطون قائلاً: لابد من أسباب على كل حال. فتصيح بهم ماري ستيوارت: أفكل شيء يجري على حكم العقل وحكم أسبابه؟ ما أحسب ذاك!
فيجيبها كارل ماركس: (ليست الدنيا مستشفى مجاذيب)
فيعود فولتير قائلاً: (أحقاً؟ لست أدري، ولكن إذا جرت الأمور على هوى أتباعك الاشتراكيين وأتباع الإمبراطور - يعني نابليون - العسكريين. فمن يدري؟)
ومن فكاهات فولتير في الرسالة قوله: (إن مذهب الشيوعيين الذين يدعون إلى استيلاء الحكومة على كل شيء لا يختلف عن مذهب الرهبان الذين يقولون باستيلاء الكنيسة على كل شيء) ثم يقول: (إن الشيوعيين هم الطبقة العصرية لطائفة اليسوعيين! الغاية تبرر الواسطة، وإلا فالأقوال الحتمية والتعميم والطاعة، كأنما الإنسان جثة ميتة باختياره، وإلا فهو جثة ميتة على الفور بغير اختيار، ولا احتمال لمذهب غير المذهب، ثم لابد من تسليم البضاعة. . .)
ويدور بعض الأحاديث في الرسالة عن الحرب كما يلي:
كارل ماركس - حرب. حرب. في أوربا كثير من أسباب الحرب غيري أنا. . .
جيتي - على التحقيق، ولكن أوربا كانت تعالج إصلاحها ومحوها، واليك مثلاً عصبة الأمم
كارل ماركس - فشل كامل!
جيتي - أتراك تنفض يديك من الشيوعية عند أول تجربة فاشلة؟
كارل ماركس - كلا! لأنني موقن بنجاحها الأخير
جيتي - وكذاك نجاح العصبة الأخير لا شك فيه
نابليون - لا. لا يا دكتور جيتي. هذا يدهشني أن أسمعه من رجل حكيم كما عهدتك
جيتي - إنما دهشتي من دهشتك
نابليون - نهاية كل قول أن الحضارة قائمة على القوة
واشنطون - كلا. بل الحضارة قائمة على العقيدة
كارل ماركس - العزة الإلهية مرة أخرى!(236/7)
واشنطون - ليس هذا ما عنيت الساعة يا سيدي. وإن كنت أرى أننا لو تعمقنا في الرأي الذي أبديته فنحن منتهون لا محالة إلى العزة الإلهية
نابليون - ولكنك حين تقول إن الحضارة قائمة على العقيدة أيها الجنرال ماذا تريد؟
واشنطون - أعني الصلة الروحية التي تبعث الناس إلى عمل يعلو على مآربهم الحيوانية القريبة. أفتحسب أن جنودك ماتوا من أجلك لأنك أكرهتهم على ذلك؟
نابليون: إنما أحسب جيشي دعامة حضارتي، وإن جيشي على كل حال قوة!
واشنطون - ما كان جيشك إلا شجاعة، وإيمان بك، وحب لفرنسا
نابليون - ومدافع وذخائر وطعام
واشنطون - كل أولئك (مادة ميتة) بغير العقيدة
نابليون - أتريد عقيدة بغير مدفع؟
واشنطون - خير من مدفع بغير عقيدة
جيتي مخاطباً نابليون - فالمي يا سيدي! تذكر معركة فالمي؟ لقد غلبت العقيدة بغير المدفع على المدفع بغير العقيدة في تلك المعركة. إنني معك أيها الرئيس، وإني لشاكر لك إجابة الإمبراطور وإن كان توجيه سؤاله إلي لعجبه من إيماني بعصبة الأمم. ولقد أردت أن أقول له إنني لم أؤمن بالعصبة إلا لإيماني بأن الجماعة من الناس ينبغي أن تبادر إلى حكم نفسها ساعة وجودها أو ساعة شعورها بوجودها، فأما وجد الشعور بالجماعة الدنيوية فالحكومة الدنيوية لابد لها من وجود)
ومناقشة أخرى تدور بين فولتير وكارل ماركس عن سخافة الروايات الروسية الحديثة، فيشير ماركس إلى أسباب اقتصادية لسخافتها، ويعود فولتير فيقول:
فولتير - حتى تثبت أن غباوة جماهير المدينة نجمت من أسباب اقتصادية
كارل ماركس - حقيقة ذلك ظاهرة
فولتير - بل هي على نقيض ذلك، فما الأسباب الاقتصادية إلا وقائع ثانوية؛ أما الوقائع الأولى فهي دوافع النفوس
كارل ماركس - كلمات وليس إلا كلمات
فولتير - أأنت فأر مدينة أم فأر خلاء (تلك حقيقة ثانوية أما الحقيقة الأولى فهي أنك فأر(236/8)
على كل حال)
وجيء إلى السماء بوليام جننجز بريان الذي حارب أستاذاً لأنه علم مذهب داروين في بعض المدارس الأمريكية
قال فولتير - فما هو إلا أن ارتفع إلى هنا حتى مثل بين يدي العزة الإلهية. فتهلل وليام جننجز بريان بشراً، ولكنه لم يلق ترحاباً من جانب العزة الإلهية. فقال وهو في حماسة تشغله أن يلمح ما حوله من قلة الترحاب في هذا الجو لأنه قد صعد في الأرض بحماسة كافية لأجواء عديدة: رب. هأنذا. لا يزال يغشاني غبار المعركة. لقد كانت حرباً زبوناً، ولكن الظفر كان لنا
فأجابه الله بصبره السماوي - إن لغة المعركة والحرب والظفر لا تعجبني
قال بريان - لكنك يا الله رب الجنود. أو ليس هذا اسمك في كتاب العهد القديم؟
قال الرب في حلمه السرمدي يلطف ما به: لقد كنت يومئذ ناشئاً ألهم أنبياء إسرائيل إلهام الناشئين! ولعلك نسيت أنني أرسلت إليكم منذ عشرين قرناً رسول حب وسلام
فحار بريان ثم توسل قائلاً وهو في ريب مما يسمع: ولكني يا رباه قد حاربت أعداءك
فوسعه حلم الرب وسدده إلى الصواب وهو يوحي إليه أن ليس لي يا بني أعداء. كل ما لي يا بني خلائق
فاضطرب الكتابي المسكين والشك يأكل قلبه، وصاح. لكن آراء دارون رباه تخالف أقوال كتابك
فأكد له الله قوله في حلم وحزم: (كل ما أخلص كاتبوه في كتابته فهو وحي من عندي، وكل ما استقام على الصراط فهو من مصدر الاستقامة)
وفي بعض المحادثات يقول ماركس لجيتي: إن من يعمل يعيش. فيقول جيتي: إنك إن أقمت حق العامل على عمله لا على صنعته الإنسانية قتلته، ولاسيما حين تكثر الآلات وتقل الحاجة إلى الأعمال والعاملين
وهكذا تفيض الرسالة بالطرائف التي لها مثل هذه الطلاوة أو هذه الدقة أو هذه الفكاهة. وقد رأيت أن أشرك قراء العربية في نصيب منها حتى ينقلها ناقل برمتها وهي قلما تربي على مائة صفحة صغيرة(236/9)
عباس محمود العقاد(236/10)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 5 -
أخبار قصيرة
1 - اعترضت مجلة الحاصد على عبارة (ليلى المريضة بالعراق) وقالت: إن البيت المشهور يجعلها مريضة في العراق لا بالعراق، وتسألنا عن معاني الباء، ولكنا نعرف أن الجدل في النحو أخرج سيبويه من بغداد وهو محموم، فلنصرح بأن الباء في العنوان القديم لم يكن لها في ذهننا معنى غير الظرفية، على حد ما قيل
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريبُ
فاتركنا يا سيد أنور ما تركناك!
2 - نشرت جريدة البلاد كلمة لحضرة سكرتير الإذاعة اللاسلكية ينفي بها ما نشر في مجلة الرسالة عن إغفال اسطوانة السيدة نادرة:
يقولون ليلى في العراق مريضة ... فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
ويؤكد أنه لم تصدر أية إشارة من أية جهة بمنع هذه الأسطوانة من الإذاعة، ونجيب بأننا سمعنا ذلك الكلام من ليلى وهي عندنا أصدق
3 - كثر الاستفهام عن السيد الذي يقيم بالكاظمية والذي تفضل فهداني إلى منزل ليلى، ولكن لذلك السيد مكانة اجتماعية تجعل من العسير أن نصرح باسمه في هذه الأحاديث الوجدانية
4 - طلب جماعة من أدباء بغداد أن أعلن أن ليلاي غير ليلى الزهاوي، فإن الزهاوي كانت ليلاه هي العراق، وأنا أصرح بأن ليلاي في بغداد هي ليلى المريضة في العراق، وهي معروفة لجميع الناطقين بالضاد
وبدت لي ظمياء فتاة شاعرة العواطف حين وصفت آذار بأنه شهر الأزهار والرياحين. وغلب الأدب على الطب فأحببت أن أعرف كيف رأت مصر وكيف رأت النيل. والحق أن ظمياء في جوهرها فتاة مليحة، ولكني أغالب نفسي فأقول إنها شوهاء مداراة للمرأة جميلة(236/11)
التي تفحص أسارير وجهي بعينين كأنهما عينا العقاب، وما أدري والله كيف نجحت في اصطناع التجمل والتوقر وكنت طول حياتي مفضوح النظرات
- ظمياء
- نعم يا مولاي
- كيف كان طريقكما إلى مصر يا بنيتي؟ بالسيارة أم بالطيارة؟
- لم يكن السفر بالطيارة مألوفاً في سنة 1926 وإنما ذهبنا بالسيارة إلى الشام، ثم اخترقنا فلسطين حتى وصلنا إلى قناة السويس، وقد قضينا على شاطئ القناة ثلاث ساعات مرت كلمحة الطرف بفضل ما غرقنا فيه من التأملات
- وهل التأمل يقصر الوقت يا ظمياء؟
- لا أعرف يا سيدي الطبيب، وإنما أذكر أن ليلى كانت تحفظ قصيدة شوقي في قناة السويس فظلت تنشد طول الوقت وهي في حلاوة الرشأ النشوان
- لا أعرف أن لشوقي قصيدة في قناة السويس، وإنما أعرف أن له فيها آية من آيات النثر الفني
- لا. يا سيدي، هي قصيدة
- هل تحفظين منها شيئاً؟
- أحفظ المطلع:
تلك يا ابْنَيَّ القناه ... لقومكما فيها حياه
- هذه ليست قصيدة يا ظمياء
- ليلى تقول إنها قصيدة
- القول ما قالت ليلى! ثم ماذا يا ظمياء؟
- كانت ليلى تنشد ما تنشد ثم تحاورني في أمر المصريين الذين حفروا القناة، ومن رأي ليلى أن حفر القناة أعظم عمل قام به المصريون في التاريخ
- ولكنها أضرت مصر يا ظمياء
- هذا يا سيدي كلام الساسة لا كلام الأطباء. وهل يضر مصر أن تكون صاحبة الفضل على العالمين فتنشئ من المرافق ما بخلت به الطبيعة القاسية على الإنسانية؟ إن الحياة يا(236/12)
سيدي الطبيب لا تنهض إلا بفضل التضحية، وقد ضحت مصر بمالها وسلامتها في سبيل الإنسانية، وسيجزيها الله على ذلك خير الجزاء
- هذه فلسفة يا ظمياء، وما تهمني الآن، ثم ماذا؟
- ثم دخل الليل ونحن على الشاطئ، وطلع القمر فتحول الوجود إلى موجة فضية تفتن القلوب، ونظرت إلى ليلى فرأيت انعكاسات القمر على وجهها آية من آيات السحر والفتون
- دخلنا في الغزل يا ظمياء
- أنت الذي شجعتني على الوصف يا مولاي
- اسمعي، هنا سؤال مهم: هل رأيت ليلى على القناة في حال تختلف عما كنت تعهدين وهي في بغداد؟
- أنا أصغر من ليلى سناً كما تعرف
- مفهوم، مفهوم، وهل تخفى على مثلي هذه الفروق!
- لم أكن أعرف يومئذ ما هو الحب، لولا علاقة سطحية بابن عمي عبد المجيد
- يظهر أنك فتاة متعبة وحمقاء. ما شأني بعلاقاتك السطحية أو العميقة مع ابن عمك عبد المجيد؟
- أنا أريد يا سيدي أن أقول إني لم أكن يومئذ أدرك كيف تتغير أسارير الفتاة حين يطلع القمر، أو حين يهب النسيم، وإنما فطنت إلى ذلك بعد ما ثارت العواصف حول ليلى. وأقول لك إني فهمت الآن أن ليلى كانت تتأهب لحب مجهول، فقد كان للقمر على وجهها أضواء وظلال يطير لها لب الحكيم، وقد مددت ذراعي فطوقتها فانعطفت علي وقبلتني قبلة عطف لن أنساها ما حييت!
(وهنا تذكرت الوجه الذي كان القمر يسبغ عليه ألوان الأضواء والظلال، وجه الإنسانة النبيلة التي أتحفتني بصورتها الغالية لأدفع بها ظلام الليل في بغداد. وكدت أتنهد ثم تماسكت ولي قدرة على ضبط النفس في بعض الأحوال)
- كفى، كفى
- تحب يا سيدي أن أصف كيف رأينا القاهرة أول مرة؟
- إن كنت تحبين ذلك. . .(236/13)
- أحب أن أقول لتسمع الست جميلة، فهي تحب ذلك
- وأنا أيضاً أحب أن أسمع وصف القاهرة، فقد طال شوقي إلى القاهرة
- تعرف يا سيدي محطة باب الحديد؟
- أراها يا بنيتي في طيف الخيال!
- لقد أرهقنا الحمالون. . .
- أنت يا ظمياء تتكلمين بلغة السائحين. إن لمحطة باب الحديد سحراً لا تعرفينه يا حمقاء
(ثم سكت لحظة، فقد تذكرت أني زرت تلك المحطة أكثر من مائة مرة على غير ميعاد، لأشهد أسراب المودعين والمودعات في القطار الذي يقوم إلى بور سعيد كل مساء. وتذكرت أني كنت أضحى بمكاني في قطار البحر فلا أصعد إليه إلا بعد أن يدق الناقوس لأمتع عيني وقلبي بالحسن الذي يموج فوق الرصيف وتذكرت الفتاة التي استقبلتها في تلك المحطة عند منتصف الليل في الشتاء الماضي، تلك الفتاة التي جاءت من نورمنديا خاصة لتزور معي الأهرام في ليلة قمراء. تذكرت وتذكرت حتى كاد يفضحني الدمع، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهو وحده يعلم ما يقاسي قلبي من الغربة بين القلوب)
- ثم ماذا يا ظمياء؟
- ثم اخترقنا شارع كامل
- هو اليوم شارع إبراهيم
- أفادك الله!
- يا لئيمة، فيك أشياء من دعابة بغداد!
- ثم نزلنا عند أسرة عراقية تقيم في شارع قصر النيل، وكانت ليلى قد تعبت فظلت في البيت يومين كاملين
- وهل في الدنيا إنسان يرى القاهرة أول مرة ثم يحبس نفسه في البيت يومين؟
- قلت إن ليلى كانت تعبت، والحق أن ربة البيت الذي نزلنا فيه نهتنا عن الخروج، لأننا نزلنا القاهرة ملفوفتين بالثياب على نحو ما ترى عقائل بغداد، وكانت تلك السيدة تخشى إن خرجنا بتلك الصورة أن يرانا الجمهور من الغرباء، والغريب لا يسلم من فضول الناس. وفي يومين اثنين أحضرت تلك السيدة الكريمة ما ترى أن نلبس من الثياب. أما أنا ففرحت(236/14)
بثيابي ورأيت أني تجددت؛ وأما ليلى فقد غضبت أشد الغضب وأعلنت أن الخروج بهذه الثياب ينافي الحياء. وفي الحق أن ليلى بدت في تلك الثياب كالحورية الهاربة من الفردوس، فقد كان يجب أن تمشي في الجادة وهي سافرة الوجه، وكان الثوب المصري يكشف بعض الطلائع من صدرها الجميل. ولو رأيت ليلى في تلك الساعة وهي غاضبة لرأيت العجب العجاب، فقد توهمت المجنونة أن الشبان المصريين سيخطفونها حين تقع أبصارهم على حسنها المرموق، وبلغ بها الوهم أن تزعم أن خطفها سيكون فضيحة للعراق
وعندئذ قهقهت ربة البيت وقالت: (اسمعي يا ليلى، إن المصريات لا يخرجن إلى الشارع بهذا الثوب وإنما يلبسن فوقه المعطف. فسكنت ليلى قليلاً، ثم لبست المعطف فوق الفستان، ونظرت في المرآة فرأت أن حالها مقبول، ولم تر بأساً من الخروج بهذه الصورة لرؤية المعرض)
- ثم ماذا؟
- وخرجنا فعبرنا جسر قصر النيل
- هو اليوم جسر إسماعيل
- أفادك الله!
- يا مضروبة، هل تخرجت في الأزهر الشريف!
- دخلنا المعرض، أو دخلت أنا ثم تبعتني ليلى، وقد كانت على غاية من التهيب والاستحياء، ثم رأينا أفواجاً من الشبان قيل إنهم طلبة الجامعة المصرية وعلى رأسهم أستاذ يشبه سيدي الطبيب
(وهنا ابتسمت ابتسامة خفيفة لأنه لا يبعد أن أكون ذلك الأستاذ، فقد كنت صحبت جماعة من تلاميذي لزيارة المعرض، فيهم إبراهيم رشيد وإبراهيم نصحي ومحمود سعد الدين الشريف ومحمود محمد محمود ومحمد عبد الهادي شعيرة ومصطفى زيور وعزيز عبد السلام فهمي ومحمد حمدي البكري وعبد الحميد مندور ومحمود الخضيري، ويسرني أن أقول إنهم أصبحوا اليوم رجالاً يتشرفون بخدمة الوطن الغالي. ثم شعرت بحسرة لاذعة حين تذكرت أنه كان يمكن الفرار من أولئك الطلبة الشياطين لرؤية من في المعرض، ولعلني كنت أعثر بليلى فأصبح من أقطاب الشعراء، ولكن ما فات فات فاقتل نفسك إن(236/15)
شئت يا صريع الملاح)
- ثم ماذا يا ظمياء؟
- ثم طوفنا بالمعروضات فلم يرقنا غير معروضات سليم عبده
- مات، يرحمه الله
- يا عيني، لقد كان رجلاً لطيفاً، ومن عنده اشترينا أشياء كثيرة، وقدم إلينا هدايا لا نزال نحتفظ بها إلى اليوم
- ثم ماذا؟
- ثم ركبنا القطار، قطار المعرض، وكان أمامنا شاب يسارقنا النظر بعينين خضراوين، فتكلفت الشجاعة وهممت بزجره، ولكن ليلى ضغطت على يدي فاعتصمت بالصفح الجميل
(للحديث بقية)
زكي مبارك(236/16)
فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 6 -
تطبيقات الديمقراطية على التربية والثقافة المثلى في جماعة
ديمقراطية
(إن الإنسانية التي تخلصت من الرق تستطيع التخلص من
الحرب)
(سير فردريك بلوك)
(يستطيع التاريخ أن يغير عقل الأمة أو يصلحه تبعاً لطريقة
تدريسه)
(موسار)
عرفت في المقال السابق كيف يؤمن (جون ديوي) وغيره بالديمقراطية كمحور (للحياة المثلى)، وكيف يريد أن يتخذ من التربية وسيلة فعالة لتحقيق تلك (الحياة)؛ وسترى في هذا المقال ما تتطلبه الديمقراطية في المعلمين والمتعلمين والمدارس والمواد وطرق التدريس جميعاً
1 - في المعلم
وأنت تعرف من هو المعلم. هو الذي قال فيه شوقي إنه كاد أن يكون رسولاً، وإنه ذلك الذي يبني أنفساً وعقولاً!!؛ ولقد حاول (فروبل) أن يبرر عمله (العظيم) فقال: (إنه جزء من الكون، فعمله إذن جزء محدود في الكون، ومركزه يلتئم تماماً ومركز الكون، ولذلك عندما يفرض قوانينه على الطفل لا يفعل أكثر من إخضاعه لقوانين الوجود الخالدة)،(236/17)
وقال: (تتعارض القوى في الطبيعة لتتلاشى وينشأ منها قوة جديدة. وكذلك الأمر بين المعلم والمتعلم). . . هذا المعلم يجب أن يكون (ديمقراطياً) أولاً وقبل كل شيء، ديمقراطياً في خلقه الخاص، وديمقراطياً في طريقة احتكاكه بالتلاميذ حتى لا يحجر على شخصياتهم. زد على ذلك أن (الدولة) يجب أن تكون (ديمقراطية) معه هي أيضاً! يجب أن تشركه في وضع (المقرر)، ويجب أن تطلعه على الكتب المدرسية، ويجب أن تأخذ رأيه في أنسب طرق التدريس لأنه المنفذ الروحي والمادي للخطط الموضوعة، فما يجوز أن تفرض عليه هذه الخطط فرضاً، ولأنه المتصل بالعقول الناشئة فهو أقدر من غيره على فهم استعدادها، ولأنه المجرب لهذا المنهج أو ذاك فيجب أن يكون لرأيه التقدير الواجب؛ أما أن تبعث إليه البرامج ويساق سوقاً إلى تدريسها، وأن يحمل النشء على الرجوع إلى كتب يراها هو غير متمشية وما انتهى إليه من رأي، وأن يقترح ويكتب، ويصرخ ويستغيث دون ما جدوى، كأنما هو في واد والدولة في واد آخر - فذلك كما ترى هدم لركن من أركان التربية جدير وخطير، وإغفال لتجارب ناطقة لا سبيل إلى التقدم السريع إلا بالاستفادة منها
2 - في المتعلم
وأما هذا فما يجوز أن يكون شخصية سلبية تستمع إلى الدرس دون ما فكر، وتحفظه وتعيه على أساس (الطريقة الصماء) وتذهب إلى المدرسة كارهة وتخرج منها مسرورة، فإذا كانت الحياة المستقلة طار المعلم وانمحى، وحل الكسل والفراغ الآثم والاستمتاع الحقير، هذا إلى الفشل في معالجة أهون مسائل الحياة، والى الكبرياء والترفع عن (السوقة) والأعمال الحرة! أجل!. . . ما يجوز شيء من هذا. . .! وإنما يجب أن نسير معه على أساس البحوث النفسية الصحيحة التي تقول مثلاً إن (العقل) إذا مر في الحياة بمشكل راح يحدده ويفكر في وسائل حله، فيفترض الفروض ويحققها ويمتحنها؛ أو أن الشيء لا يثير الاهتمام ولا يعلق بالذاكرة إلا إذا كان شائقاً ومتصلاً بالحياة اتصالاً وثيقاً. . . إلى آخر هذه النظريات التي نعرفها ولا نعرف السبيل إلى تحقيقها. . .! وإذن فلتكن موضوعات الدراسة على هيئة مشاكل يقف الطفل حيالها (موجباً) أي محدداً ومفترضاً ومحققاً ومجرباً، ولتكن بقدر الإمكان متصلة بالحياة حوله حتى يستسيغها في مراحله الأولى، ويقبل عليها بلذة وشغف، وبذلك وبغيره ننتهي إلى جعل (التعليم) عملية لذيذة لا أهوال بها ولا مكاره،(236/18)
وجعل (المعرفة) متعة سامية بريئة يقبل (المتخرجون) على التزود منها أثناء فراغهم بدلاً من الجلوس في المقاهي وغير المقاهي مما تعرف وما لا تعرف يا قارئي العزيز!، هذا إلى خلق الشخصية الديمقراطية التي تتعاون مع غيرها في المسائل العسيرة كما تعاونت بالأمس في موضوعات الدراسة، والتي تستطيع أن تكافح حقاً في الحياة وتحتقر (الديوان) وتمضي إلى الكفاح بجرأة وبأس وإقدام. . .
3 - في المدرسة
وأما المدرسة فهي كما تعلم البيئة التي تعدنا للحياة الخارجية، ولذلك يجب أن يشملها التغيير، وأن تنقلب انقلاباً خطيراً؛ ومعنى هذا أن تصبح دار عمل وتجريب شائق لذيذ مجهد كله حرية وتعاون واحترام؛ ففيها يزرع التلاميذ الشجرة ويشاهدون نموها ويسجلونه قبل أن يقرؤوا عنه، وفيها أدوات البناء والطهي، والغزل والنسج، وأشغال الخشب والإبرة وما أشبه؛ ويقف المدرس هنا ليضع الطفل أمام التجاريب ويشعره بحاجته الماسة إليها. وبذلك تكون المدرسة كما يقول الأستاذ (يعقوب فام): (صورة مصغرة للمجتمع البشري، فهي إذن ليست وسيلة للجمعية البشرية. والفرق بينها وبين المجتمع هو أولاً أنها صورة مصغرة له، وثانياً أنها يسهل التحكم في عواملها بخلاف المجتمع، وثالثاً أنها غير معقدة؛ فهي ليست إذن مكاناً للتعليم فقط، وإنما هي للأطفال دنيا يعيشون فيها ويصرفون جهودهم ونشاطهم ثم يتعلمون). . . (ومثل هذه المدرسة لا تشوق دون جهد، ولا تجهد دون تشويق، وإنما يتأتى ذلك عن ربط المادة نفسها بحياة المتعلم)
وعلى ذلك لا يكون الطفل فيها دائرة معارف متحركة فحسب وإنما يكون آخذاً بناصية الوسائل والأدوات والمصادر التي تساعده في البحث الذي يجريه بنفسه متعاوناً ومسترشداً. وهكذا يستطيع أن يعيش وينمو على أساس الديمقراطية والعلم. . .
ههنا إذن تعاون بحت، وتنافس في الكيف لا في الكم، وتعليم للحياة بالحياة، وعمل منتج ذو غاية، ودرس لمواد متصلة لا منفصلة انفصالاً لا مبرر له، واحترام للعمل والعاملين، واكتساب للنظرة العلمية التجريبية الصحيحة، علم مقرون بعمل، وغني إلى جانب فقير، وعمل طامح مستبشر يرنو إلى شيء أكثر من ورقة ممهورة بخاتم الوزير!
4 - في الثقافة(236/19)
ويتبقى بعد ذلك أن نقرر روح الثقافة المثلى في الجماعة الديمقراطية. وحسبك أن تعلم أن هذه الثقافة لا تفرق بين النظر والعمل تفريقاً كبيراً، وتنظر (للتغير) كقانون عام يتطلب المرونة المطلقة والتجديد السريع، ولا تأخذ بغير الطريقة العلمية التي لا طلاسم فيها ولا خزعبلات؛ ولا تفرق بين مسلم ومسيحي ويهودي خشية أن تلوث تاريخ العالم بالدماء كما قد تلوث طوال الماضي الأثيم. الدين عندها لله والجميع لديها إخوان. ثم هي لا تستعبد الفكر قط، ولا تغرس فيه الأفكار الاجتماعية أو السياسية الخاطئة بالإيحاء الآثم. العقل عندها مقدس فما يجوز أن تشوهه، ومثلها الأعلى في قيمة الدراسات هو ما تقدمه من خير يكمل الفرد والجنس، ومذهبها التوازن بين الجسد والقلب والعقل حتى لا يؤدي الأمر إلى وحشية رائعة من جانب أحد أركان هذا الثالوث ضد الركنين الآخرين وغايتها خلق ذلك الرجل المثقف الثابت في تتبع ما يريد، المستعد لتعديل خطته إذا لزم الأمر، المتفتح العقل لكل ما تقدمه العلوم والفنون، النابذ للأحكام التقليدية متى ما اقتنع بخطئها، المرحب بالأفكار الجديدة، ولكن بعد نقدها وتمحيصها، المتقدم للمساعدة كلما استطاع، والمقنع المجتمع بأهليته للثقة والاحترام. ذلك الرجل الذي لا يسيء إنساناً بقصد أو بغير قصد، والذي يترك مالا يعرف لأنه لا يقوى على معرفته، والذي هو أبداً مطمئن البال ومصدر راحة لنفسه ولغيره. ذلك الذي هو حكيم لسعة اطلاعه، والذي لا يحكم إلا بعد تمحيص وروية والذي يحسن مخاطبة الناس جميعاً برقة ولباقة وظرف؛ والذي يعرف معنى ما يقول ويتكلم بصراحة ووضوح وجلاء، ذلك الذي يعبر بفكره الزمان والمكان ويفهم نفوس الغير سريعاً. ذلك الذي يعلم شيئاً عن كل شيء، وكل شيء عن شيء ما، فلا تكون (الإنسانيات) وغيرها عنده مجهولة كل الجهل؛ ذلك الذي ليس باللاذع في نكاته، وليس بالمسرف المتبذل في شهواته، لأن الجسد عنده هيكل الروح المقدس؛ ذلك الذي إذا شهد التمثيل المحزن أو المضحك استمع له في صمت وجلال وانفعل في صمت وجلال! ذلك الذي لا يذهب إلى الحرب إلا مقتنعاُ بجدارة السبب والذي يعيش مسروراً دائماً مهما أخطأ، فإذا مات لم يطمع في أن يسجل له ذووه على قبره مفخرة واحدة!!
وهذه الثقافة كما ترى تدعو للعالمية بكافة الطرق، وتستبدل بأبطال الحرب أبطال الإنسانية والعلم، وتدرس التاريخ تدريساً بعيداً عن العصبيات الوطنية كما نصح المسيو موسار في(236/20)
مؤتمر التربية الخلقية الذي عقد بباريس منذ أعوام، أعني أنها لا تعتبر نابليون بطلاً مغواراً وقائداً عظيماً بقدر ما تصوره مصلحاً لم تبق من آثاره إلا تلك الأعمال السلمية النافعة.
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية(236/21)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 21 -
شاعر الملك فؤاد
وهذا فصل آخر مما يتصل بموضوع الحديث عن الرافعي في النقد؛ إذ كان هو أول ما بين الرافعي والأستاذ عبد الله عفيفي؛ فإني لأقدم به للقول عن خبر ما كان يبنهما من الخصومة التي مهدت للرافعي من بعد أن ينشئ كتابه (على السفود) في نقد ديوان الأستاذ العقاد
في سنة 1926 كان ناظر الخاصة الملكية هو المرحوم محمد نجيب باشا، وكانت السياسة المصرية تسير في طريق ذي عوج، مهد لطائفة من رجال الحكم والسياسة أن ينشئوا حزباً ينسبون إليه الولاء للقصر؛ فهيئوا لطائفة غيرهم من السياسيين أن يزعموا أنهم أولياء على حقوق الشعب، حراص على سلطة الأمة، فنشأت بذلك قوة بإزاء قوة، وتناظر سلطان وسلطان، وكان لكل طائفة لسان وبيان. . .
في تلك الآونة، تقدم المرحوم محمد نجيب باشا إلى الرافعي أن يكون شاعر الملك؛ فلقي ذلك العطف الكريم بحقه من الشكر والرضى وعرفان الجميل
وشاعر الملك أو شاعر الأمير لقب قديم في دولة الأدب، وله في تاريخ العربية تاريخ، منذ كان النابغة والنعمان، وزهير وهرم بن سنان، والأخطل وبنو أمية، والنواسي وأبو العتاهية في بني العباس، والبحتري في إمارة المتوكل، والمتنبي في بلاط سيف الدولة؛ إلى شعراء وملوك لا يحصيهم العد. ولا ننس في تاريخ مصر الحديث أن نذكر الشاعرين: أبا النصر، والليثي؛ وليس بعيداًعنا أمير الشعراء المرحوم شوقي بك (شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية)، وقد كان من الولاء والحب لمولاه بحيث لم تطمئن السلطة الحاكمة إلى بقائه في مصر بعد خلع الخديو عباس، فنفته إلى الأندلس
ولقد كان شاعر الملك قبل الرافعي هو الشاعر المرحوم عبد الحليم المصري؛ فلما مات(236/22)
تطلعت إلى موضعه نفوس الشعراء؛ وكان أكثرهم زلفى إلى هذا المنصب هو المرحوم حافظ إبراهيم، إذ كان ما يزال في نفسه شيء يهفو به إليه، مما كان بينه وبين شوقي من المنافسة الأدبية في صدر أيامه على رتبة شاعر الأمير
وعاد الرافعي إلى الشعر بعد هجر طويل؛ إذ كان آخر ما نشر من الشعر هو ديوان النظرات في سنة 1908، ثم لم يقل بعهد إلا قصائد متفرقة في آماد متباعدة، لحادثة تنبعث لها نفسه، أو خبر ينفعل به جنانه. وكان أكثر ما قال الشعر فيما بين ذلك، في سنة 1924، في إبان العاصفة الهوجاء من حب فلانة، وأكثر شعره عنها منشور في كتبه الثلاثة التي أنشأها للحديث عن هذا الحب؛ ثم انبعث البلبل ينشد أهازيجه من جديد، على الشجرة الفينانة في حديقة قصر الملك، فصغت إليه القلوب وأرهفت له الآذان. . .
واستمر يرسل قصائده في مديح الملك لمناسباتها، من سنة 1926 إلى سنة 1930، حتى وقع بينه وبين الأبراشي باشا أمر - بعد موت المرحوم نجيب باشا - فسكت، وعاد ما بينه وبين الشعر إلى قطيعة وهجران، بعد ما أنشأ الخصومة بينه وبين عبد الله عفيفي. . . وعند الأستاذ إسماعيل مظهر تفصيل ما سأرويه من خبر هذه الحادثة بعد
وقصائد الرافعي في مديح الملك فؤاد نظام وحدها في شعر المديح: تقرأ القصيدة من أولها إلى آخر بيت فيها، فتقرأ قصيدة في موضوع عام من موضوعات الشعر، ليس من شعر المديح ولا يمت إليه؛ فلولا بيتان أو أبيات في القصيدة الخمسينية أو السبعينية يخص بهما الملك ويمدحه، لما رأيتها إلا قصيدة من باب آخر، تسلكها فيما تشاء من أبواب الشعر إلا باب المديح. إقرأ قصيدة الخضراء - يعني الراية - وقصيدة الصحراء في رحلة الملك إلى الحدود الغربية، واقرأ غيرهما؛ فإنك واجد فيه هذا الذي ذكرت، وواجد فناً في الشعر تعرف به الرافعي في المديح فوق ما عرفت من فنونه؛ فإذا حققت هذه الملاحظة في مدائح الرافعي وثبتت عندك، فارجع إلى تاريخ هذه الفترة من السياسة المصرية ثم التمس لها تفسيراً من التفسير، أو فارجع إلى تاريخ الرافعي نفسه واذكر ما تعرف من أخلاقه تعرف تفسيرها ومعناها
لقد كان الرافعي يجهل السياسة جهلاً تاماً، ولكن كانت فيه أخلاق السياسي ناضجة تامة: من الاحتيال، والروغان، وحسن الإعداد للتخلص عند الأزمة. بلى كانت له أخلاق(236/23)
السياسيين في إبداع الحيلة والاستعداد للمخرج، ولكن لم يكن له في يوم من الأيام هوى مع أحد من أقطاب السياسة، أو يعرف له رأياً فيها، أو يدري من خبرها أكثر مما يدري رجل من سواد الناس يقرأ جرائد المتطرفين والمعتدلين على السواء
ولم يكن للرافعي أجر على هذا المنصب في حاشية الملك، إلا الجاه وشرف النسب، وجواز مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد، ودلال وازدهاء على الموظفين في محكمة طنطا الكلية الأهلية، حيث كان يعمل جنباً إلى جنب مع مئات من الكتبة والمحضرين وصغار المستخدمين. . . . . .!
ولكنه إلى ذلك قد أفاد من هذا النسب الملكي فوائد كبيرة؛ فقد تعطف الملك الكريم فأمر بطبع كتاب (إعجاز القران) على نفقة جلالته؛ كما أذن بإرسال ولده محمد في بعثة علمية لدراسة الطب في فرنسا؛ فظل يدرس في جامعة ليون إلى سنة 1934 على نفقة الملك، حتى شاء الإبراشي باشا لسبب ما أن يقطع عنه المعونة الملكية ولم يبق بينه وبين الإجازة النهائية غير بضعة أشهر، فقام أبوه بالإنفاق عليه ما بقي. ومن أجل ما كان يرسل إلى ولده كل شهر في فرنسا من نفقات العيش والجامعة كان هو يعمل في (الرسالة) بأجر، وإن عليه من أعماله الخاصة ما ينوء به جسده وتنتهك أعصابه. . .!
قلت إن الرافعي ظل في حاشية الملك فؤاد إلى سنة 1930 ثم كان بينه وبين الأبراشي باشا أمر - بعد موت المرحوم نجيب باشا - فسكت؛ إذ خشي أن تعصف به السياسة أو تعبث به الدسائس فترمي به إلى تهلكته. . .
حدثني الرافعي قال: (كنت في عهد نجيب باشا أذهب إلى القصر فيلقاني بوجه طلق، ويحتفي بي، ويبسط لي وجهه ومجلسه، ويثلج صدري بما يروي لي من عطف المليك ورضاه؛ فما أغادر القصر إلا وأنا اشعر كأن نفسي تزداد عمقاً وتمتد طولاً وتنبسط سعة؛ ثم جاء الأبراشي باشا، فلم تدعني داعية إلى لقائه حتى كان يوم وجدتني فيه منطلقاً إلى هناك، لأسأله في أمر من الأمر. . .
قال: (وذهب الساعي إليه بالبطاقة ودعاني إلى الانتظار، فجلست، وما أظن إلا أنها دقائق ثم أدعى إليه. . . وطال بي الانتظار، ومضت ساعة، وساعة، وساعة، وأنا في هذا الانتظار بين الصبر والرجاء؛ وحولي من ذوي الحاجات وجوه عليها طوابع ليس على(236/24)
وجهي منها، ونظرت إليهم والى نفسي فضجرت، فعدت أستأذن عليه وقد جال بنفسي أنه قد نسي مكاني، فعاد إليّ حاجبه يقول: الباشا يعتذر إليك اليوم، ويسألك أن تمر به غداً في الساعة كذا. . .
قال الرافعي: (وآذاني ذلك ونال مني، ولكني اعتذرت عنه. فلما كان الغد، جاءني النبأ ينعى إلي زين الشباب المرحوم أمين الرافعي بك؛ فآدني الهم وثقل علي، وضاقت نفسي بما فيها وتوزعتني الوساوس والآلام؛ وما نسيت وأنا أمشي في جنازة الفقيد العظيم أن علي موعداً بعد ساعات، فما هيل عليه التراب حتى كنت في طريقي عدواً إلى القصر وفاء بالوعد الذي اتعدت، وجعلت من وراء ظهري ما علي من واجب المجاملة لمن جاءوا يعزونني في أخي وابن عمي وصاحب الحقوق علي. لقد كان الذي مات زعيماً من زعماء الوطنية له مقداره، ولكني جعلت الوفاء بالوعد فوق ما علي من الواجب للزعيم الذي مات؛ وإنه لأخي، وإن في أعراقه من دمي وفي أعراقي. . .!
قال: (ووقفت بالباب أنتظر أن يؤذن لي فأدخل، وطال بي الانتظار كذلك وإن في دمي جمرات تتلهب. ومضت ثلاث ساعات وأنا في مجلسي ذاك أطالع وجوه الداخلين والخارجين من غرفة الباشا ولا يؤذن لي. . .!
قال الرافعي: (وهاجت كبريائي وثارت حماقتي. . . لا أكذبك يا بني، إن في لحماقة. ولكن. . . إن صرامة عمر بن الخطاب قد انحدرت إلي في أصلاب أجدادي من النسب البعيد؛ ولكن صرامة عمر حين انحدرت إلي صارت حماقة. إن هذه الحماقة عندي يا بني هي تلك البقية من صرامة عمر، بعد ما تخطت إلى هذا الزمن البعيد في تاريخ الأجيال. . .!
قال: (ولما بلغ الحنق بي مبلغه نهضت وفي يدي عصاي، فتقدمت إلى الباب خطوة فدفعته بالعصا وأنا مغيظ محنق، فإذا أنا أمام الإبراشي باشا وجهاً لوجه، والى جانبه رجل أوربي يحدثه. . .، فلم أعبأ، ولم أكترث، ولم أذكر وقتئذ أين موضعي وموضعه، فقلت ما كنت أريد أن أقول، وانتصفت لنفسي، وثأرت لكبريائي. وأحسبني قد خرجت يومئذ عن حدود اللائق في الحديث معه، ولكني لم ألق بالاً إلى شيء من ذلك. وما كان في نفسي إلا أنني قد قلت ما ينبغي أن أقول لأحفظ كرامتي وأصون نفسي، ولا علي بعد ذلك من غضبه(236/25)
ورضاه. . .
(ولكن. . . ولكنه مع ذلك لم يغضب، ولم يعتب، بل اعتذر إلي وألح في الاعتذار. . . وصدقته حين ابتسم. . .!)
وأسرها الابراشي باشا في نفسه؛ فلما كان الموسم التالي نظم الرافعي قصيدته وأرسل بها إلى القصر، ورصفت حروفها مشكولة في مطبعة دار الكتب - كما جرت العادة - ثم أرسلت بحروفها مجموعة إلى الجريدة المختارة، ومعها قصيدة أخرى مرصوفة مشكولة مزينة، من نظم الأستاذ عبد الله عفيفي المحرر العربي بديوان جلالة الملك. ونشرت القصيدتان جنباً لجنب في جريدة واحدة، وعلى نظام واحد، وكلاهما في مدح الملك، فما يفرق بينهما في الشكل إلا توقيع الشاعرين في ذيل الكلام
وقرأ الرافعي قصيدة منافسه الجديد، فثار وزمجر، وقال لمن حوله: (أترون كيف يصنع بي؟ إنه يريد أن ينال مني. (يريد الأبراشي) أهذا شعر يقرن إلى شعري؟ أيراني وإياه على سواء؟ أيحسب أن الأدباء سيخدعهم هذا الزخرف في الطباعة فيجعلون صاحبه شاعراً من طبقتي أو يجعلونني شاعراً من طبقته؟ أيراني من الهوان بمنزلة الذي يرضى عن هذا العبث؟ أفيريد أن يمهد لصاحبه حتى يخلعني عن مرتبة (شاعر الملك) ليجعله مكاني؟ أم يراه أهلاً ليقاسمني المنزلة والمقدار عند صاحب التاج. . .)
ومضى الرافعي يومه يفكر ويقدر، وما كان إلا في مثل حال الرجل الذي يعود إلى داره التي يملك فإذا له فيها شريك يحتلها بقوة ساعده لا بحقه؛ فما يجد له حيلة في إجلائه عن الدار إلا أن يرفع أمره إلى القاضي. . . وكان القاضي عند الرافعي في هذه القضية هو الرأي الأدبي العام، فرفع أمره إليه. . .
وتحدث بنيته إلى صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور، فأوسع له صفحات من مجلته ليبدأ الحملة على الأستاذ عبد الله عفيفي في مقالات عنيفة صارخة بعنوان: على السفود!
وما كان الرافعي يجهل أنه يتناول موضوعاً دقيقاً حين يعرض لنقد هذا الشاعر؛ فإنه ليعلم علم اليقين أن هذه المقالات سيكون لها صدى بعيد، تصل به إلى آذان لا يسره أن تعلم من كاتب هذه المقالات، فتنكر وأخفى نفسه. . .(236/26)
(لها بقية)
محمد سعيد العريان(236/27)
في سبيل الإصلاح
أخلاقنا. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
نحن اليوم (في أكثر بلدان الشرق الإسلامي) في دور يقظة، ومطلع نهضة، ولكل نهضة جسم وروح؛ أما الجسم فهذه السياسة وما يتصل بها، وهذه الدواوين الحكومية وما يكون فيها، وهذه القوانين والأنظمة وما ينشأ عنها؛ وأما الروح فهو الأخلاق والعقائد والمثل العليا. فروح الحكم الإخلاص والقناعة والعدل بين الناس، وروح الوظيفة الاستقامة ومعرفة الواجب، وروح الديمقراطية الإرادة المشتركة وضمان المصلحة العامة، وروح المدرسة تنشئة جيل المستقبل على المثل العليا، وروح الصحافة نشر الحق والفضيلة والخير. . . فهل امتدت نهضتنا إلى الروح، أم هي قد اقتصرت على الجسم وحده، لم نعن إلا به، شأننا في كل أمر من أمورنا حين نهتم بالقشور ونقف عند الظواهر؟
الجواب عند القراء، لا حاجة إلى إثباته في هذا المقال. ولكن الحاجة ماسة إلى كتاب ومربين وعلماء، يستقرون أخلاقنا التي نحن عليها، ويصنفونها ويقومونها، ويرون ما يجب أن يبقى فيعملون على تثبيته ونشره، وينظرون ما ينبغي أن يبدل أو يعدل، فيسخرون المدرسة والصحافة والقوانين لتبديله وتعديله، لنتشأ أمة المستقبل على الأخلاق الصالحة التي تستطيع أن تبلغ بها ما تريد من مجد وعلاء، وتتبوأ المكان اللائق بها بين الأمم، وتلقي هذه الأخلاق التي ورثناها من الحكم التركي الطويل، وبلغت بنا قعر الهاوية التي نحاول اليوم النجاة منها، ونعود إلى أخلاقنا الإسلامية التي قبسها منا الغربيون فأفلحوا بها ونجحوا. . .
من هذه الأخلاق التي يجب أن نتخلص منها أننا لا نعرف التعاون ولا نقدر أن نعمل مجتمعين. فالفرد منا عامل منتج، ولكن الجماعة عاجزة عقيمة، ومن نظر إلى انتشار الشركات في الغرب على اختلاف أنواعها، والجمعيات على تنوع غاياتها، والأحزاب والنوادي، ورأى ما عندنا من ذلك رأى أنه ليس إلى المفاضلة من سبيل. . . وعلة ذلك الأنانية المفرطة، والأثرة الجامحة، وحب الذات الطاغي، فالرجل منا يريد أن يكون هو كل شيء في الجمعية أو الشركة، رئيسها إن كان لها رئيس، أو ناموسها (سكرتيرها) إن لم(236/28)
يكن رئيس، وعضو الإدارة إن كان مجلس إدارة، وأن يكون له الرأي إن أخذت الآراء. . . بل إنا نرى كلاً منا يعطل أعمال الآخرين ويبطلها، ويعمل على هدمها، بينما نراه مؤمناً بلزومها، معتقداً بالحاجة إليها، ساعياً إلى القيام بمثلها، فهو يعرف الحاجة إلى ناد أدبي ولكنه يحارب النادي لأنك أنشأته أنت؛ وهو يعلم الحاجة إلى مدرسة دينية ويدعو إليها، ولكنه إذا رآها قد فتحت ونالت قسطاً من النجاح أصلاها حرباً حامية، وجعل أكبر همه هدمها وتخريبها. ذلك أن دعوته الأولى لم تكن عن إخلاص ولم يكن يريد بها وجه الله والمصلحة، ولكنه يريد الفخر والشهرة والنفع واللذة، فلما رآك أنت السابق إليها والذاهب بفخرها، خان المصلحة وعصى الله ليرضي أثرته ويستجيب لأنانيته. . وهو شاعر بالحاجة إلى جمعية خيرية يسعى إلى تأليفها بحماسة وجد ودأب قد ملأت فكرتها نفسه وحياته فهو لا يتحدث إلا بحديثها، ولا يشتغل إلا لتأسيسها، فإذا تم له الفلاح بعد التعب والكفاح وقامت الجمعية ولم يكن هو الرئيس أو هو الناموس انفصل عنها وحاربها حرباً لا هوادة فيها وسعى إلى هدم ما بناه بيده. . .
هذا داء من أشد أدوائنا الخلقية، إن لم نعالجه فشت جرثومته في جسم الأمة، فشلت أعضاءها وعطلت أعمالها:
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟
وأين هو الإخلاص، وأين هو الصدق، فيمن يدعو إلى الخير أو الدين أو الفضيلة، وغايته استغلال الدين والخير والفضيلة لمصلحة نفسه وإطاعة هواه؟
ومن هذه الأخلاق أننا لا نعرف قيمة الوقت، وأنا نضيع أوقاتنا سدى، ونذهب أعمارنا عبثاً لا نعرف لها قيمة وهي أثمن ما نملك. وإذا كان فينا من يحسن الاستفادة من وقته، وينفقه في علم أو أدب أو شيء مما ينفع الناس، لم يعدم من الثقلاء من يضيع عليه وقته، ويسرق عمره ولا يتوهم أنه أساء أو أخر. . . وما أظن أن في القراء من لا يذكر حادثة في هذا الباب. . . كنت ذاهباً إلى المدرسة ذات مرة، وكان علي محاضرة لم يبق دون موعدها إلا مسافة الطريق، وكنت مسرعاً لا أكاد أبصر طريقي فاعترضني رجل كبير كان ناظراً للمدرسة الثانوية التي كنت فيها وله في البلد حرمة ومقام، فأقبلت عليه أحييه وأفهمته برفق أن علي محاضرة قد حان موعدها فقال: طيب. . . لحظة. وانطلق يتكلم، فلا والله ما سكت(236/29)
إلا بعد ساعة ونصف ساعة ألقى هو فيها المحاضرة علي، وأنا أتململ وأتحرك ويربد وجهي وأحس النار تشتعل في عروقي. . . فلما انتهى قال:
- أظن أننا وقفناك. . . عدم المؤاخذة!
قلت: أستغفر الله، ومضيت عنه. . .
هذه علة أخرى من عللنا الأخلاقية. . . لا شك في أنها من أشدها وأدواها لأن حفظ الوقت ألد وسيلة إلى النجاح، وخير طريقة لرفعة الفرد والمجموع. أذكر أن الدكتور نمر تحدث إلى قراء المقتطف في العدد الخاص بعيد المقتطف بين لهم أن أثمن ما استفاده من الأمريكان في كليتهم هو تقدير الوقت، وأن ذلك هو الذي أعانه وزميله الكبير الدكتور صروف على النجاح وأتاح لهما تحقيق هذا المشروع العظيم، والأمريكان خاصة والغربيون على التعميم يعرفون كيف يستفيدون من أوقاتهم، فيقوم أحدهم في اليوم بأعمال لا تقوم بمثلها الجماعة منا في أسبوع. وكذلك كان أجدادنا الذين تركوا هذه الآثار العلمية الضخمة، وكان فيهم من بلغت تصانيفه الثلاثمائة فما فوقها. . كانوا يحسنون الاستفادة من أوقاتهم، ولا يدعون دقيقة واحدة تمر إلا في عمل مفيد، أو راحة مقدرة، أو قضاء حق لله أو للجسم أو للعيال. . والوقت لا يضيق بعمل إذا عرفنا طريق استغلاله والانتفاع به. ولو أحصى الواحد منا ما يذهب من عمره هدراً في المقاهي أو دور اللهو، وفي الأحاديث الفارغة، ومطالعة الصحف الجوفاء، والمجلات المؤذية، وقدر ما يمكن أن يعمل في مثل هذا الوقت من جليل الأعمال ونافعها لهاله الأمر ورأى شيئاً عظيماً
وانظر إلى التلميذ إذا دهمه الامتحان كيف يقرأ الكتاب في ليال ويحفظه كله، والموظف إذا اضطر إلى العمل، أو الصحفي إذا كان موسم من موسم الصحافة، والمؤلف إذا طمع في الجائزة الكبرى؛ انظر إلى هؤلاء كلهم، وانظر إلى هؤلاء الأفراد الممتازين الذين يشتغلون بالسياسة ويبرزون فيها، ويؤلفون في الأدب وينبغون فيه، ويطالعون كثيراً من الكتب، ولا يقصرون في حقوق أنفسهم وأهليهم، وحقوق الناس، تعلم أن الوقت واسع جداً، ولكن الجاهل المهمل يضيقه على نفسه
ومن الأخلاق التي يجب أن نتعلمها تقدير المصلحة العامة. وإهمالنا هذه المصلحة باب آخر من أبواب الأثرة (الأنانية) منشؤه أن أكثر الحكومات التي تتالت على بلدان الشرق(236/30)
الإسلامي في هذه القرون الأخيرة لم تكن من الشعب ولا إلى الشعب، ولم تكن تحرص على مصلحته، فزالت ثقته بها، ونظر إليها نظره إلى عدو مقاتل، وغدا يرى كل أذىً يلحقه بها، أو مال يستلبها إياه، أو حق لها يضيعه، يرى كل ذلك بطولة وفخراً، وغدا كل واحد منا يسعى جهده ليفر من الخدمة العسكرية أو يحتال بحيلة تنجيه من دفع الضرائب، أو يتوسل بوسيلة إلى اختلاس مال الخزينة. ولعل له في ذلك عذراً، هو أن الخدمة العسكرية كانت لحماية الحكومة دون الشعب، والضرائب لحياتها هي؛ وكان مال الخزينة مالها ينفق على أفرادها. ولا تزال الموازنة عندنا إلى الآن مصروفاً ثلثاها على الموظفين رواتب لهم وأجوراً، والثلث أو ما دونه على المصلحة التي أنشئت من أجلها الحكومة
ونحن في حاجة إلى التخلص من هذا المرض. نحن في حاجة إلى الإيمان بأن مصلحة الفرد في مصلحة المجموع وأن رفعته في رفعة الأمة. . . يجب أن تسأل الأم ابنها كل ليلة؟ ماذا عملت لأجل الأمة؟ بماذا خدمت اليوم الوطن؟ هل أحسنت إلى سائل؟ هل تبرعت بقرش لجمعية خيرية؟ هل تعلمت مسألة نافعة؟ هل كنت مهذباً مع رفاقك؟ ويجب أن يسأل كل منا نفسه هذا السؤال عندما يضع رأسه على الوسادة قبل أن يستسلم إلى النوم
ومن هذا الباب إطاعة القوانين واحترام النظام، ذلك الذي لم نتعلمه بعد ولا نعرفه أبداً لأن زماناً غبر (ولم يتبدل بعد) كانت القوانين والأنظمة توضع فيه لغير مصلحتنا وتفرض علينا فرضاً فتعودنا ألا نطيعها وألا نحترمها، ولكنا دخلنا اليوم في طريق الاستقلال (أو كأن قد) وصرنا نضع قوانيننا (إلى حد ما) بأنفسنا فيجب أن يتبدل ذلك كله وأن يرسخ في نفوسنا احترام القوانين وإطاعتها، لا خوفاً من العقاب بل لأن إطاعتها واجبة
ومن هذا الباب أو ما هو شبيه به احترام الراحة العامة. نمت ليلة في فندق كبير في بيروت، فنزل في الغرفة اللاصقة بغرفتي جماعة من أكابر حلب حلوا بعد نصف الليل فبعثوا أحدهم بحاجة لهم إلى السوق، فلما بلغ الشارع ذكروا حاجة أخرى يأمرونه بقضائها فأطل أحدهم من شرفة الطبقة الخامسة وناداه وكلمه بصوت يوقظ الموتى، فلم يبق حي في الفندق إلا قام. ولما عاتبوه ولاموه لم يستطع أبداً أن يفهم أو يتصور أنه أتى أمراً نكراً
وانحدرت مرة من الأعظمية إلى بغداد في سيارة عامة من هذه السيارات التي يسمونها هناك (الباص) فركب معنا جزار معه خروف مسلوخ وضعه على ركبته وألقى برقبته على(236/31)
ثيابي، ورأيت الناس ينظرون إليه نظر المقر الموافق فاضطررت إلى النزول من غير أن أشتبك معه بقتال
وكثيراً ما نسمع رجلاً أو جماعة يمرون في الشارع قبيل الصبح فيأخذهم الطرب فيغنون بمثل الصوت الذي ذكره ربنا في الكتاب، ولا يقدرون أو يتصورون أنهم يسيئون إلى أحد
ولا يمضي على الواحد منا يوم لا يرى فيه ما يسوء ويزعج من بصاق في الترام أو المقهى، أو حديث في المكتبة العامة، أو خصومة حامية في المسجد، أو غير ذلك من المزعجات المنغصات التي لا يزيلها إلا عناية المدرسة بتعليم الطلاب احترام الراحة العامة، وحث الصحف الشعب على ذلك. . .
ومن الأخلاق التي يجب أن نسرع إلى تعلمها احترام الواجب والاستقامة والإصغاء إلى صوت الضمير. إن المعلم لا يتورع إذا أمره رئيس أو رجاه صديق أو نالته منفعة، أن ينجح التلميذ الذي يستحق السقوط في الامتحان، وأن يزيد في الدرجات وأن يفعل كل شيء؛ والقاضي لا يمتنع عن تبرئة الظالم وعقاب المظلوم؛ والوزير لا يتقاعس عن إيثار الشفاعات والوساطات على الكفايات والشهادات؛ والطبيب لا يبالي بأن يجهض أو يأتي كل أمر يستطيعه مادام في ذلك لذة له أو فائدة؛ والموظفون يقبلون الرشوة والناس يعطونها؛ ولا تكاد تجد من عرف الواجب عليه وأكبره إكباراً، وضحى في سبيل القيام به بكل شيء. ولا أعني أن كل المعلمين أو القضاة أو الوزراء أو الأطباء متنكبون سبيل الشرف مضيعون للواجب، ولكن الذي أعنيه أن بهم من هذا شأنه، وأن احترام الواجب لم يذع فينا ولم يصبح شعاراً دائماً لنا، وأن المدرسة والصحافة والقانون وواضعه، كل أولئك مقصرون لا يولون هذا الأمر ما يستحق من العناية والاهتمام في حين أنه من الأسس الثابتة والدعائم الكبرى في بناء الأمم
ونحن في حاجة إلى تعلم الصدق، لأن الكذب قد فشا فينا وعم وأصبح أسهل شيء علينا، فنحنن نكذب في الأمور الهينة ونكذب في الجليلة، ونعلم أولادنا الكذب. من منا لا يقرع بابه فيقول لابنه: قل له إن أبي ليس هنا! ومن منا يلقى رفيقاً له أو رجلاً عرفه فيقول له: كيف حالك أو زيك؟ فلا يقول له: بغاية الشوق، وهو لا يشتاقه ولا يفكر فيه، وقد يكون مبغضاً له يرى البعد عنه غنيمة. . . فمجاملاتنا وحياتنا الاجتماعية كلها قائمة على الكذب.(236/32)
ومن جرب أن يصدق يوماً كاملاً رأى العجائب، وقد أدرك ذلك العامة فجاء في أمثالهم (الصادقة): الكذب ملح الرجال، والعيب على الذي يصدق. . .
هذا وشبهه (وما أكثر أشباهه) روح النهضة وقوامها، فإذا لم تعتن به الحكومات والأحزاب والجمعيات والمدارس، ومن يشتغل بالوطنية، ويبث في نفوس الأطفال، ويوضع في نظم التربية والتعليم، كانت نهضتنا جسماً لا روح فيه!
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
علي الطنطاوي
المدرس في الكلية الشرعية بيروت(236/33)
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 5 -
وقد روى لنا أبو الفرج الأصبهاني هذه الروايات الثلاث في سبب المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، وكان عليه أن يبين لها وجه الصواب فيما تتعارض فيه من وجوه كثيرة، ولكن أبا الفرج رحمه الله لم يكن يعنى في الأكثر بنقد رواياته، وإنما كان يهمه جمعها وسردها، وعلى القارئ بعد هذا أن يحكم رأيه فيها
فالرواية الأولى تذكر أن سبب المنافرة بينهما قصيدته التي هجا فيها اليمن:
(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مَدِينا)
وقد اتفقت الرواية الثانية في هذا معها على خلاف قليل بينهما؛ أما الرواية الثالثة فتذكر أن سبب المنافرة بينهما شعر الكميت الذي حرض فيه هشاماً على خالد، واتهمه فيه بأنه يريد خلعه. وتفيد هذه الرواية أن قصيدة كميت التي هجا فيها اليمن كانت بعد سجنه لا قبله، وأنه قالها رداُ على الأعور الكلبي في قصيدته التي رمى فيها امرأة الكميت بأهل الحبس، ويقول فيها:
(أسْوِدِينَا واحمْرينَا)
والرواية الأولى تذكر أن خالداً روى الهاشميات جارية واحدة والرواية الثانية تذكر أنه رواها ثلاثين جارية
والرواية الأولى تذكر أن أبان بن الوليد البجلي عامل واسط هو الذي سعى في تهريب الكميت من السجن. وقد اتفقت الرواية الثانية في هذا معها على خلاف قليل بينهما، أما الرواية الثالثة فتذكر أن الذي سعى في تهريبه عبد الرحمن بن عنبسة ابن سعيد
والرواية الأولى تفيد أن خالد بن عبد الله كان بالكوفة حينما أمر بسجن الكميت. وهكذا تفيد الرواية الثانية، وإن كانت تفيد مع هذا أن خالداً قرأ على أبان بن الوليد كتاب هشام بقتل الكميت، مع أن أبان بن الوليد كان في ذلك الوقت بواسط. أما الرواية الثالثة فتذكر أن(236/34)
خالداً كان بواسط حينما أمر بسجن الكميت، وأنه كتب بسجنه إلى واليه بالكوفة
والرواية الأولى تذكر أن الكميت حينما أتى إلى الشام مشت رجالات قريش في أمره إلى عنبسة بن سعيد بن العاص، فمشى فيه إلى مسلمة بن هشام فأمنه وأجاز أبوه هشام أمانه؛ أما الرواية الثانية فتذكر أنه حينما أتى الشام قصد مسلمة بن عبد الملك، وتذكر أن مسلمة لا عنبسة هو الذي مشى فيه إلى مسلمة بن هشام، وأن مسلمة بن هشام أجاره فلم يجز أبوه جواره، فاحتال له بقبر أخيه معاوية وأولاده، وقد اتفقت الرواية الثالثة معها في هذا على خلاف قليل بينهما
والرواية الأولى تذكر أن الكميت حينما عرض عليه الالتجاء إلى مسلمة بن هشام رضي به، وقد اتفقت الرواية الثانية في ذلك معها على خلاف قليل بينهما، أما الرواية الثالثة فتذكر أنه لم يرض بالالتجاء إليه، وأنه قال لمسلمة بن عبد الملك حينما عرض ذلك عليه: بئس الرأي! أضيع دمي بين صبي وامرأة، فهل غير هذا؟
وهذه هي أهم وجوه الخلاف بين هذه الروايات المضطربة، وقد يكفي هذا عند بعض الناس لدفعها كلها، وعدم الوثوق بشيء منها، ولكن ما قيمة البحث في هذا العصر إذا كانت تقنعه هذه الغاية السهلة، ويكفيه في مثل هذا أن يقول إني أشك في هذه الرواية، أو نحو هذا مما لا يكلف الباحث عناء ولا تعباً؟ وإنما قيمة البحث الحديث في تمحيصه أمثال هذه الروايات، والاجتهاد في ترجيح بعضها على بعض، والوصول إلى الحقيقة بالتعمق في البحث
ونحن نرجع أن الهاشميات نفسها هي التي كانت سبباً في المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، لأنه لا يعقل أن يسكت خالد عن تبليغ أمرها إلى هشام بن عبد الملك، وهي من الخطورة بهذا الشأن الذي أقام هشاماً وأقعده حينما بلغته. وقد كانت هذه العهود مملوءة بالوشايات والدسائس، وكان ولاة بني مروان معرضين بهذا للنكبات الشديدة التي كانت تصيبهم منهم، ولا يخفى أمرها على من يعرف تاريخهم. ولا شك أن هذا كان يوجب على هؤلاء الولاة أن يحتاطوا لأنفسهم في مثل هذه الأمور، وألا يسكتوا عن تبليغ مثل الهاشميات إلى ملوكهم إلى أن تبلغ من غيرهم، ويتخذ بها أعداؤهم حجة عليهم عند ملوكهم
وقد يكون حديث الجاريات الحسان اللاتي رواهن خالد الهاشميات صحيحاً، ويكون هذا منه(236/35)
تلطفاً في الحيلة إلى تبليغها إلى هشام بن عبد الملك، أو تخلصاً من تبعة تبليغها عند قوم الكميت وأشياعه، لأن حال الولاة في مثل هذه العهود المضطربة يكون مضطرباً بين إرضاء ملوكهم وإرضاء الرعية الناقمة عليهم. والظاهر كما يؤخذ من بعض هذه الروايات أن خالداً هو الذي سهل للكميت سبيل الهرب من سجنه، وأنه كان يسلك بذلك كله موقفاً يخرجه من هذه المشكلة. وقد أرضى هشام بن عبد الملك وجعل لنفسه بعض العذر عند أنصار الكميت، إذ كان يؤثر في سياسته ملاينة الشيعة
أما المعارضة بين الكميت والأعور الكلبي فالظاهر أنها كانت بعد سجن الكميت ورضا هشام عنه، كما يؤخذ من الرواية الثالثة لأنه كان يمدح في قصيدته التي يعارضه فيها بني مروان ويفخر بهم عليه، وقد كان قبل سجنه يطعن فيهم أشد طعن، ويهجونهم في هاشمياته شد هجاء، فلا يعقل أن يجمع في هذا العهد بين هجائهم ومدحهم والافتخار بهم، وهو لم يلجأ إلى مدحهم إلا مضطراً بعد ما لقي من السجن والحكم عليه بالقتل
ومما يؤيد هذا ما رواه أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني عمي وابن عمار، قالا حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله الطلحي عن محمد بن سلمة بن أرتبيل: أن سبب هجاء الكميت أهل اليمن أن شاعراً من أهل الشام يقال له حكيم بن عياش الكلبي كان يهجو علي بن أبي طالب عليه السلام وبني هاشم جميعاً، وكان منقطعاً إلى بني أمية، فانتدب له الكميت فهجاه وسبه فأجابه ولج الهجاء بينهما، وكان الكميت يخاف أن يفتضح في شعره عن علي عليه السلام لما وقع بينه وبين هشام، وكان يظهر أن هجاءه إياه في العصبية التي بين عدنان وقحطان، فكان ولد إسماعيل بن الصباح بن الأشعث بن قيس وولد علقمة بن وائل الحضرمي يروون شعر الكلبي، فهجا أهل اليمن جميعاً إلا هذين، فإنه قال في آل علقمة:
ولولا آلُ علقمةَ اجتدعْنَا ... بقايا من أنوفِ مُصَلَّعينَا
وقال في إسماعيل:
فإن لإسماعيل حقاً وإنَّنا ... له شاعبو الصدعِ المقاربِ للشَّعْب
وكان لآل علقمة عنده يد، لأن علقمة آواه ليلة خرج إلى الشام، وأم إسماعيل من بني أسد، فكف عنهما لذلك(236/36)
فهذه الرواية صريحة في أن هذه المناقضة كانت بعد الذي وقع بين الكميت وهشام من عفوه عنه، فلا يصح أن تكون هي السبب في المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، وما جرته هذه المنافرة من السجن ثم العفو، بل الظاهر أن بني مروان بعد أن وصلوا إلى إسكات الكميت، عن المضي في هاشمياته أخذوا يعملون على إبطال أثرها في النفوس، فسلطوا الأعور الكلبي على مناقضتها، وهجاء علي عليه السلام وبني هاشم جميعاً
وأما ما ذكر في الرواية الثالثة من أن سبب المنافرة بين الكميت وخالد شعر الكميت في تحريض هشام على خالد، واتهامه إياه بأنه يريد خلعه - فهو أقرب إلى الصحة مما ذكر في الرواية الأولى والثانية، ولعل الكميت فعل هذا سعياً في إفساد الأمر بين بني مروان وولاتهم، لا حباً في هشام وإرادة النصح له. وما نريد بعد هذا أن نمضي في تمحيص ما تعارضت فيه تلك الروايات، لأن ثمرة هذا التمحيص لا توازي عناءنا فيه، ولا تذكر بجانب الملل الذي يصير بنا إليه
وقد أخذ الكميت بعد عفو هشام عنه يمدحه ويمدح ولاته ووجوه دولته، ويقبل في ذلك صلاتهم وجوائزهم، ولكن مدحه لهم في نظير ذلك كان مدحاً تجارياً كسائر ما مدحوا به من شعراء عصره، ولم يكن لغاية نبيلة كتلك الغاية التي مدح بها بني هاشم في هاشمياته
والحقيقة أنه لم يكن مخلصاً في مدح بني مروان مع ما كان يناله من دنياهم، وإنما كان يأخذ في ذلك بالتقية التي يأخذ بها الشيعة في مذهبهم جميعاً، ولم يكن ذهابه إلى هشام بالشام إلا برضا أهل البيت وشيعتهم ليحقنوا بذلك دمه، ويخلصوه مما كان يراد به
وإذا كان الكميت قد أجاد في مدح بني مروان فإنما كان ذلك منه لأنه كان شاعراً فحلاً لا يرضى أن يكون شعره في ذلك دون غيره، فكان بذلك يقضي حق شعره عليه، ولا يقضي حق بني مروان في عطائهم وبذلهم له، لأنه لم يكن من أولئك الشعراء الذين يمدحون للعطاء، كما سبق ذلك في رفضه عطاء بني هاشم على مدحه لهم. وقد قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني محمد بن خلف بن وكيع، قال حدثني أبو بكر الأموي، قال حدثني إسماعيل بن حفص، قال حدثنا ابن فضيل، قال سمعت ابن شبرمة قال: قلت للكميت إنك قلت في بني هاشم فأحسنت، وقلت في بني أمية أفضل، قال: إني إذا قلت أحببت أن أحسن فلم يكن الكميت إذن يمدح بني مروان عن عقيدة كما كان يمدح بني هاشم، ولم يكن إحسانه(236/37)
في مدحهم إلا لأنه إذا قال أحب أن يحسن قوله لئلا يؤخذ عليه من الناحية الشعرية؛ ولكنا نخالف ابن شبرمة فيما ذكره من أن ما قاله في مدح بني مروان أفضل مما قاله في مدح بني هاشم، لأن أشعاره في مدح المروانيين لا تمتاز عن سائر المدائح الجوفاء في الشعر العربي، ولا يصح أن تذكر بجانب الهاشميات التي سلك فيها الكميت ذلك المسلك الجديد في المدح، وقام بما يجب عليه لأمته من مقاومة ذلك الحكم الظالم
وهناك بعد هذا أخبار متوافرة تدل على ما ذكرناه من رضا بني هاشم بما سلكه الكميت مع بني مروان، وعلى أن هذا لم يقطع صلته بهم في السر والعلن، وقد كانوا مع رضاهم بمسلكه معهم يحاسبونه إذا أسرف في مدحهم، فلا يتركهم حتى يرضيهم بصرف هذا المدح عن ظاهره، فكان يؤوله على نحو ما يفعل بعض الباطنية من الشيعة في تأويلاتهم
قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني جعفر بن محمد بن مروان الغزالي الكوفي، قال حدثني أبي، قال حدثنا أرطاة بن حبيب عن فضيل الرسان عن ورد بن زيد أخي الكميت، قال: أرسلني الكميت إلى أبي جعفر فقلت له: إن الكميت قد أرسلني إليك وقد صنع بنفسه ما صنع، فتأذن له في مدح بني أمية؟ قال: نعم، هو في حل، فليقل ما يشاء
وقال أيضاً: أخبرني محمد بن خلف بن وكيع، قال حدثني إسحاق بن محمد بن أبان، قال حدثني محمد بن عبد الله بن مهران، قال حدثني ربعي بن عبد الله بن الجارود بن أبي سيرة عن أبيه قال: دخل الكميت بن زيد الأسدي على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام فقال له: يا كميت أنت القائل:
والآن صرتُ إلى أمَيَّ ... ةَ والأمور إلى المصايرْ
قال: نعم قد قلت، ولا والله ما أردت به إلا الدنيا، ولقد عرفت فضلكم، قال: أما إن قلت ذلك إن التقية لتحل
وقال أيضاً: قال محمد بن أنس حدثني المستهل بن الكميت، قال: قلت لأبي: يا أبت إنك هجوت الكلبي فقلت:
ألا يا سلم مِنْ تِرْبِ ... أفي أسماَء من تِرْبِ
وغمزت عليه فيها ففخرت ببني أمية وأنت تشهد عليها بالكفر، فألا فخرت بعلي وبني هاشم الذين تتولاهم، فقال: يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية وهم أعداء علي(236/38)
عليه السلام، فلو ذكرت علياً لترك ذكري وأقبل على هجائه، فأكون قد عرضت علياً له، ولا أجد له ناصراً من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية وقلت: إن نقضها علي قتلوه، وإن أمسك عن ذكرهم قتلته غماً وغلبة، فكان كما قال، أمسك الكلبي عن جوابه، فغلب عليه وأفحم الكلبي
وإذا كان ذلك كله قد تم برضا بني هاشم وتدبيرهم لشاعرهم فلا يمكن أن يؤخذ عليه شيء فيه، أو يقدح به في عقيدته وإخلاصه، بل إن في ضن بني هاشم عليه بالقتل، وإيثارهم له مواراة بني مروان على بذل دمه في سبيلهم - لدلالة كبيرة على عظم تقديرهم له، وأنهم كانوا يثقون به إلى آخر حدود الثقة
عبد المتعال الصعيدي(236/39)
مقدمة حضارة العرب
لغوستاف لوبون
(تتمة)
للأستاذ خليل هنداوي
والآن عرضنا من مناهج البحث ما نخاله كافياً فيما يتعلق بدرس الحوادث التاريخية، بل سيكفي منه ذكر الأكثر ضرورة
إن تصور العلة التي تهيمن اليوم على درس الأشياء العلمية تهيمن كذلك على درس المسائل التاريخية، والمناهج التي تتعلق بهذا تتعلق أيضاً بذلك. فإن حادثاً اجتماعياً إنما يجب درسه كحادث طبيعي أو كيميائي مهما ذهب أمره، فهو خاضع لبعض مذاهب، أو قل إنه خاضع لسلسلة مرتبة من الضرورات المحتمة. فالإنسان يعمل والقوة السامية تقوده سواء دعوت هذه القوة الطبيعية أو العناية أو القدر أو الحظ. ونحن منذ الولادة حتى الموت تفيض علينا قوات من الخير والشر لا نستطيع لها قهراً ولا غلبة. وغايتنا الكبرى هي الوصول إلى معرفة بعض أحوال وأسباب من مظاهرها
وتاريخ الإنسانية نستطيع أن نعتبره سلسلة واسعة كل أجزائها متماسكة. قد تعود أجزاؤها الأولى إلى أبعد جذور في أرضنا. والحادث التاريخي مهما ذهب أمره هو دائماً نتيجة حلقة طويلة الأحداث الداخلية. فما الحاضر إلا لدة الماضي. والماضي يحمل الغد في أطوائه كجنين، وفي الحوادث الحاضرة يستطيع العقل الموهوب أن يتلو التعاقب اللانهائي للأشياء. ولكن مثل هذا العقل يبدو أنه لن يظهر أبداً. فبينا نعمل على معرفة مجموعة العاملين الذين ولدوا الحاضر ومعرفة قوة كل واحد منهم نرى من المحال إخضاع هؤلاء العاملين للتحليل. فعلم النجوم يعجز عن أن يعين بواسطة الحساب الهدف الذي يرمي إليه جسم يخضع لثلاثة أجسام فقط، فكيف والحالة هذه في مسألة تضم ملايين الأجسام؟
إن كل الشرائع الوهمية التي يخال أنها تؤخذ من دراسة التاريخ ما هي في الحقيقة إلا تثبيت امتحاني لبعض الأعمال. وبها يمكننا أن نقارنها مع الملحوظات الامتحانية التي يقوم بها أصحاب علم تقويم البلدان(236/40)
هنالك مليون من الناس يستطيعون أن يتنبئوا بكل يقين عمن يموت منهم في عهد ما وفي عهد آخر، وعما ينشأ فيهم من جنايات لأن تجاريب الماضي تسهل لهم هذه التنبؤات. إن الصعود إلى أسباب الأعمال الملحوظة مستحيل أبداً، والعاملون الجازمون هم عدد كثير، واستمالة الصعود بعيداً في سلسلة الأسباب التي تعين أو تحدد حاثاً اجتماعياً قد ألقت شيئاً من الكره لعلم التاريخ في نفوس العلماء الذين حاولوا التعمق فيه. وهنالك عالم نبيه هو (رينان) نعت علم التاريخ بأنه علم حقير وهمي، لا يكاد يرفع حتى يتقوض بدون نهاية، ولا يشيد حتى يتهدم؛ وهو أحد الأشياء المهملة بعد مائة عام. على أنه سيأتي دور في حياة الإنسان نراه لا يتعلق بماضيه لمصلحة ما. وإني لأخشى جداً أن كتابة كتابنا في المجتمع الأدبي والفني الذين صححوا ووضحوا بعض الآثار التاريخية أن يبلوا قبل أن يتلوا)
والكاتب نفسه يفكر في أن المستقبل سيكون للعلوم الطبيعية لأنها هي العلوم التي ستعطينا سر الوجود والعالم والإله كما ينبغي أن يعطى هذا السر. لكل إنسان حق التأمل في هذا، ولكن شيئاً واحداً حتى الآن لم يحقق أملاً من آمالهم، ولا فكرة من أفكارهم. وهاهي ذي العلوم الوضعية لم تعطنا شيئاً عن العلة الأولى لحادث واحد، وهي لا تكتشف إلا بساطة العلاقات التي تؤلف قواها الظاهرة، حتى إذا اصطدمت بحوادث مركبة رأيتها تتلاشى وتضل في الظنون والأحداس. إن العلوم الحديثة قد بدأت بصورة ضعيفة أن تتمتم (من التمتمة) في الجواب عن أسئلة يضعها الإنسان كل يوم. فمن المهد إلى اللحد تغرس الطبيعة طريقنا بمسائل لا تقبل الحل. ورغبتنا في المعرفة، هذه الرغبة المتأججة لا ينطفئ أوارها أبداً. العلم يستدعي أفكاراً ولكنه لا يحل مسائل. وكرتنا الأرضية ستعانق في الفضاء العوالم القديمة الباردة قبل أن يجيب أبو الهول الخالد على سؤال واحد
يجب علينا ألا نقف على باب العلوم مغررين بأنفسنا، طالبين إليها أن تعطينا مالا تقدر عليه. إنها تقدر أن تعطينا ما نتبين به حالة إنسان أو حيوان أو مجتمع أو نبات، وما نضم به صورة أمينة لدراسة عصر ما. وما نعين به سلسلة من أمهات الحوادث التاريخية. وحذار أن نطلب أكثر من هذا إلى المؤرخ
على أن العمل مع هذا هو من العسر بمكان لما يقتضيه من الاعتناء. فالمواد التي تسمح لمؤرخ أن يضم منها صورة لحضارة ما يعسر عليه جمع أطرافها. والأعسر من ذلك أن(236/41)
يخرج بها إلى حيز العمل. إذ ليس في تسلسل ذراري الملوك، ولا في قصص المعارك والحروب التي تشكل لب التاريخ المدرسي نستطيع أن نبحث عن تلك المواد. وإنما نجدها في درس اللغات والفنون والآداب والمعتقدات والتعاليم السياسية والاجتماعية لكل عصر من العصور. وأما المواد الغريبة لحضارة ما فلا يمكننا أن نعتبرها نتيجة هوى الناس أو القدر أو إرادة الآلهة، ولكنها وليدة الحاجة والفكر والعاطفة في الذراري التي تجلت فيها، فإن ديناً ما وفلسفة ما وأدباً ما وفناً ما قد يحتوي على أشكال ثابتة من الشعور والتفكير ولا يحتوي على غيرها. ومما لا جدال فيه أن الأعمال والآثار تتلو علينا أفكار أصحابها. إنها تقرأ علينا أفكارهم وتسمح لنا بأن نؤلف صورة ذلك العصر. ولكن هذه الصورة تبقى ناقصة فيجب علينا أن نوضح تركيبها، لأن الشعب الذي يدرس في لحظة معينة لم يتكون في وثبة واحدة. وإنما هو وليد ماض طويل بعيد، ووليد مؤثرات مختلفة للبيئة التي نشأ فيها وخضع لها، ولذلك وجب علينا أن نرجع إلى ماضي ذلك الشعب حتى يمكننا تحليل وضعه الحاضر. وبالإمكان أن ندعو دراسة هذا التكوين القائم من مواد مختلفة متنوعة يتألف منها المجتمع بعلم الجنين. وهذه الدراسة تغدو قاعدة راسخة للمؤرخ في عمله، كما هو الحال في أن علم تشكل الكائنات الحية أصبح اليوم أمتن قاعدة وأصدق مرجع لعلماء طبقات الأرض
كائنات حية ومجتمعات يجب أن تمر بتطور بطيء يبدل مظاهرها الخارجية قبل أن تصل إلى حالات الكمال، وهذه المظاهر المختفية لا يوحيها علينا التاريخ دائماً. فكم من حدود لهذه المظاهر قد توارت حالياً! وإنما الملاحظة وحدها تسمح لنا بأن نستدعي الحدود الضرورية؛ وكالكائنات الحية نرى أن كل المجتمعات لم تبلغ بذات الأجيال انقلابها، وأنت ترى أن كثيراً منها لم يجتز بعد هذه المراحل التي انتهى العرب من اجتيازها، هذه المراحل التي تمثل صورة الماضي الثابتة. وقد يستطيع السائح في أرجاء الأرض أن يرى المجاري الرئيسية أو المراحل الأساسية لتاريخ الإنسانية منذ العهد الحجري حتى العهد الحاضر وبهذا يمكننا أن نتوصل إلى تمثيل ماضي شعب ما، وتمثيل تطور المواد التي تألفت منها حضارتها
هنالك مواد مختلفة: منها العمارة والأدب واللغة والتعليم والاعتقاد نستطيع أن نستفيد منها(236/42)
في بناء تاريخ الحضارة وتكوينها، ولكن من النادر أن نملك عليها جميعها. وفي مثل هذه الحالة نجتزئ بما نقدر أن نجمعه منها لنجد المفقود! وذات النظرية التي تسمح لنا بأن نعرف حيواناً ما بمجرد اطلاعنا على قطع من هيكله العظمي هي النظرية التي يجب أن نفرضها في التاريخ، إذ أن مظهر بعض الصفات يستلزم دائماً وجود صفات أخرى
على أن كل هذه المواد التي نحددها قد تكون ناقصة في بعض الحالات بالنظر إلى الوضوح، فالعلم الحديث سيترك مواد أكثر صحة ودقة للجيل القادم. وقد يسهل التنبؤ بأن مؤرخي المستقبل سيكتبون كتباً في التاريخ تختلف عن كتبنا فيه، ففي تاريخ حضارة القرن العشرين سيكون الموضوع خاضعاً بدون ريب لعنوان الأثر مرفقاً برسوم وخرائط وخطوط نافرة تمثل كل أطوار الحوادث الاجتماعية، وأن عظمة ما، وقوة ما، وبقاء ما ووزناً ما نستطيع أن نستشفه خلال خط مرسوم أو سطر مرقوم
وليس هنالك حادث نفسي أو اجتماعي مهما كان مركباً يفترض بأنه لا يمكن اعتباره كقيمة رياضية يمكن حلها عددياً، وإنما يكفي أن نجد له في مواده الضرورية مقياساً، فإن علم تقويم البلدان هو أقل العلوم الحديثة تقدماً في طريق التكوين. والذي علمنا إياه هذا العلم يسمح لنا بأن نستكشف ما سوف يعلمنا إياه في المستقبل. فإنتاج بلد وإنفاقه وغناه وحوائجه والقابلية الخَلقية والخُلقية للذرية التي تقطنه، واختلاف عواطفها ومعتقداتها وتأثير القائمين عليها، كلها أشياء قد جلاها لنا المقومون بأعداد يجمعونها اليوم
ونحن نرقب هذا الجيل القادم الذي تتبدل فيه المشاحنات التاريخية بصور وخرائط ومعارج هندسية تمثل حالة كل الحوادث الاجتماعية وأطوارها المتبدلة، وإنما يجب الجهد الكثير في انتقاء الصور الأكثر وضوحاً من الصور التي تركها لنا الماضي، ومن هذه المواد التي أحصيناها نمسك المواد الضرورية التي تقدم لنا صورة واضحة شاملة للحضارات الغابرة وتاريخ تكونها، ولكي نستطيع أن نخرج هذه المواد إلى حيز العمل وجب علينا أن ندرس هذه البقيات التي تركتها هذه الحضارات في مواطنها
فإن مشهد الأشياء وحده يمكن أن يعطينا من ماضي ذلك الغيب ما لا يمكن أثراً غيره أن يعطيه. والعلوم الطبيعية والاجتماعية لا يمكن أن يتعلمها الإنسان مجردة في الكتب، ولاسيما إذا كانت المسألة الشعبية كمسألة العرب الذين تعددت آثارهم في البلدان التي(236/43)
ازدهرت فيها حضارتهم وشعت مدنيتهم. فعند ذلك يجب أن تدرس بيئتهم درساً لازماً لا مندوحة عنه. وليس هناك إلا الرحلات والأسفار تنقذنا من نير الآراء المصنوعة والأوهام الثقيلة الموروثة. وسيجد القارئ الأصول التي طبقناها هنا بصورة موجزة. وهذه الأصول ستقود القارئ إلى أن يتجرد من الآراء المدرسية في أكثر المسائل التي تمس الشرقيين من ديانة محمد صلى الله عليه وسلم والرق والحروب الصليبية والعلوم والمعارف والفنون وأثر العرب في أوربا وغير ذلك. . .
- 3 -
على أن البقايا التي تخلفت من حضارة العرب هي بقايا كثيرة العدد، كافية لأن ندرسها بأجزائها الضرورية. إننا سنأخذ أكثرها من الآثار الفنية والأدبية والعلمية والصناعية والاعتقادية؛ ومن بين هذه الآثار كلها ستكون اكثر استيحاء من الآثار التصويرية، فهي بشكلها الملموس تكلم عقولنا بوضوح. فيها نجد التعبير الصادق عن الحاجات والعواطف والأجيال التي ولدت فيها، وفيها نحس أثر الذرية والبيئة إحساساً جلياً. ففي آثار عصر ما مهما كان نوع منتجاته يستطاع استقراء ذلك العصر استقراء تاماً. فقافلة في العصر الحجري، وهيكل مصري، ومسجد أو كنيسة، وملجأ قطر، ومخدع غانية، وحسام ذو قبضتين، ومدفع ثقيل الوزن، في كل هذا ما هو أفصح بياناً من المناقشات. ولوصف الآثار الفنية للشعب يوجد طريقة واحدة هي تقديمها؛ فإن صور (البارتنون) والحمراء وفينوس في نظرنا أفضل من مجموعة كتب يكتبها كل مؤلفي العالم عليها. ولاعتقادنا بأهمية هذه الصور التي تنقل إلى العقل الصورة الكاملة للعصر الذي قامت فيه عمدنا إلى أن نلتقط هذه المنتجات؛ والقارئ الذي يلتفت فقط إلى الصور المرسومة في هذا الكتاب قد يكون أكثر علماً بحضارة العرب وأطوارها التي تحملتها في أقطار مختلفة من قارئ قصر اطلاعه على مطالعة الكتب التي تبحث عنها، وان وضع الآثار تحت العيون يغني في الوقت ذاته عن الأوصاف المسهبة التي لا تعطي أية فكرة عن الأشياء التي تزعم أنها تصفها وقد يقال بحق: إن مائة صفحة مكتوبة لا تساوي صورة تامة بل قل - ولا غلو - ولا مائة كتاب
عندما نعمل على تحديد الأشكال نجد أن الكلمات في أية لغة غير كافية. ولاسيما إذا كان الموضوع يمس الشرق حيث تكون الصور ضرورية. هنالك بالعيون وحدها تمكن معرفة(236/44)
مناظره ومعابده وآثاره الفنية والذراري المختلفة التي تولت أمره؛ والأسلوب الغني بتصويره لن يعطي أبداً ذلك التأثير الذي يعطيه مشهد الأشياء من حيث صورتها الأمينة
ولكن هذه الآثار وهذه المشاهد والأعمال الفنية وأشكال الذريات وفصول الحياة إنما ينبغي أن يذهب الإنسان بعيداً في درسها، وإذا أراد درسها بأمانة فإن الصورة وحدها تستطيع أن تعطيها، ومن الصورة تأخذ الصورة الأمينة. وإن أياماً تمدها أيام لا تسمح للفنان الماهر مهما ذهب بأن يبلغ الإتقان الذي تحققه الصورة في ثوان معدودة
إذا أريد الاختصاص فقط بتمثيل العمارات فإن فناناً ماهراً يكون له الزمن مادة لا قيمة لها قد يصل إلى أن يتنازع مع الصورة ولكن إزاء ألوف الفصول من الحياة الشاملة التي تؤلف جزءاً كبيراً من وجود الشعب لا يمكن أن يثار نزاع حولها. فالصورة الحقيقية هي وحدها القادرة على تصوير الأشياء في حركاتها بأمانة من شارع حي ومن جواد يعدو خبباً، ومن موكب عرس وغير ذلك. ومن عهد قريب شاعت مذاهب جديدة تدعوا إلى السياحة والرحلات وقد نفذت هذه المذاهب للمرة الأولى في هذا الأثر.
وقد لعب الرسم دوره في كل شيء وعمل على أن يظهر بأمانة من عمارة، ومن أكوان، فالصورة الشمسية يجب أن تحل محله الآن، والصورة في كتب العلم والتاريخ والأسفار تكون الوسيلة الوحيدة، ولقد تكون شاقة في الأسفار النائية، ولكنها ضرورية لكل مسافر ولكل عالم
فإذا كانت الصورة العامة بما تضمنت من عوامل تعطي القارئ صورة واضحة عن الزمان الذي قامت فيه فالغاية إذن أصبحت محققة والهدف المنشود موجوداً
(انتهت المقدمة)
خليل هنداوي(236/45)
قبرة شيلي
للأديب نظمي خليل
نقل الأستاذ خليل هنداوي إلى قراء الرسالة في العدد 235 قصيدة القبرة للشاعر شيلي نقلاً مختصراً فآثرت أن أنقلها على نصها الكامل
سلام عليك أيها الروح الخفيف!
سلام عليك أيها الطائر الذي لم تلامس الأرض، ولكنك تحلق في أطباق السماء العامرة
بينابيع الفن الأصيل حيث تنسكب في قلبك!
تشيل من الأرض وتسمو عالياً وعالياً كسحابة من نار وترفرف بجناحيك في طبقات الجو
الصافي. ثم تشدو وأنت تحلق وتحلق وأنت تشدو!
في الأنوار الذهبية للشمس الغارقة في بحار السحب تطير وتسبح. . .!
أيها الطائر. إنك وإن كنت بعيداً عن أنظارنا، ولكني أسمع أنشودة سرورك. . .!
تملأ الأرض والجو بصوتك إذا ما خلع الليل رداء السحب وسقطت أشعة القمر الباردة
فغمرت الكون. . .!
أما أنت، فلن ندركك. فما الذي يشبهك. . .؟
إن قطرات المياه التي تسحها السحب لا تبهجنا كتلك القطرات الموسيقية التي تهبط من
لدنك!
إنك شاعر مختبئ في ضوء الفكر يترنم بأناشيد الخلود حتى يتنبه له العالم فيحنو على
الآمال ولا يعبأ بالمخاوف
أو كعذراء كريمة الأصل في قصرها الحصين قد اختلست ساعة تسري عن نفسها جوى
الحب بموسيقاها العذبة التي تغمر خميلتها. . .
أو كحشرة ذهبية وهاجة في رض ندية ترسل لونها الشفاف في صمت وخفاء بين
الأزهار والحشائش التي تحجبها عن الأنظار
أو كوردة مستترة في أوراقها الخضراء تفتحت أكمامها بريح ساخنة ففاح شذا عرفها
القوي الجذاب. . .
إن صوت قطرات الربيع على الحشائش النضرة كان مبهجاً عذباً، ولكنها دون موسيقاك.(236/46)
خبرني أيها الخيال أو العصفور أي أفكار سامية أفكارك؟
إن لغتك أسمى من لغة الحب وحميا الكأس!
أهو نشيد مرتمين، أم أغنية نصر قد بارتك. فلم تكن إلا ادعاء كاذباً. . .!
من أي الينابيع تستقي سعادتك. . . أمن الحقول، أم من الأمواج، أم من الجبال، أم من
الأجواء، أم من السهول. .؟
إن سرورك العميق الصافي لن يفتر أو يقل. .!
شبح الكدر لن يحوم حولك. .!
إنك تحب. ولكنك لم تعرف ثمالة الحب المحزنة
تفكر في الموت يقظان ونائماً. وفي أشياء أسمى وأصدق مما نحلم به نحن الفانين وإلا
فكيف استطعت التحليق في هذا الجو البلوري
أما نحن، فإننا ننظر أمامنا وخلفنا. ونذوب أسى للشيء الغامض الخفي ويشوب سرورنا
بعض الألم. .!
إن أعذب أناشيدنا ما كانت تفصح عن أحزن الأفكار لو استطعنا أن نزدري البغضاء
بالكبرياء والخوف. بل لو خلقنا لا نذرف دمعة واحدة لما عرفنا سر اقترابنا من فرحك دائماً!
أيها المزدري الأرض، إن مهارتك كانت أجدى على الشاعر من ضروب الأصوات
السارة، ومن جمع الكنوز التي تحتويها بطون الكتب!
هبني نصف الفرح الذي حواه فؤادك. .!
لقد خرج هذا الحنق الموسيقي من شفتي. .!
وعلى العالم أن يصغي كما أصغي أنا الآن. .!
نظمي خليل(236/47)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 64 -
أي شراب مقدس تريد أن ترشف - يا إلهي - من كأس حياتي المترعة؟
يا شاعري، أفيلذك أن ترقب خلْقك من خلال عينيَّ، وأن تقف عند أذنيّ صامتاً تتسمع لحنك الخالد؟
إن دنياك عبارات تضطرب في خيالي، وإن مرحك يبعث فيها النغم الموسيقي. لقد نزلت علي عن نفسك في رضا لتستشعر حلاوة كمالك فيّ
- 65 -
تلك التي تستقر دائماً في أعماق حياتي، في تباشير الصباح اللامعة المضيئة، تلك التي ما ترفع النقاب عن وجهها أبداً في ضوء النهار، تلك - يا ألهي - هي هديتي أزفها إليك ملففة في لحني الأخير
لقد تساقطت حولها عبارات الاستعطاف كليلة؛ ورحت أستميلها عبثاً بكلمات فيها الشوق والحنين
إنني أضطرب في أنحاء الأرض وهي ما تنفك في زاوية من قلبي، ومن حولها يشب ويخبو غالي حياتي وغثها
وهي قد سيطرت على خواطري وأفعالي، على غفوتي وأحلامي؛ غير أنها سكنت وحيدة وفي منأى عني
كنم من إنسان طرق بابي يسأل عنها ثم ارتد في يأس
ليس في العالم من توضّحها وهي ما تبرح في خلوتها تنتظرك
- 66 -(236/48)
إنك أنت السماء وأنت العش في وقت معاً
يا ذا الجمال، إن الذي في العش هو حُبك الذي يغمر الروح باللون والصوت والأريج
إن الصبح يسفر وفي يمناه سلته الذهبية وقد امتلأت بالزهور الجميلة يكلل بها وجه الأرض
والليل يسدل أستاره على المروج الممحلة وما فيها سوى أعشاب تعافها الأنعام، وعلى الطرقات الموحشة، وبين يديه جرته الذهبية وفيها رشفات باردة من الأمان، أتى بها من المحيط الغربي الساجي
ولكن هناك. . . هناك حيث تمتد السماء إلى اللانهاية فتجد الروح مكاناً فسيحاً ترفرف فيه، يتألق دائماً النور الأبيض فلا نهار ولا ليل، ولا شبح ولا لون، ولا. . . ولا حديث
- 67 -
إن شعاع شمسك ينطق إلى أرضي ممتد الزراعين، فيقف بإزاء بابي طيلة اليوم ليرتد إليك وبين يديه معاني عبراتي وأناتي وأغاريدي
في لذة النشوة لففت صدرك المرصع بالنجوم في ملاءة من السحب الندية استحالت إلى أشكال وطيات ثم بهرجتها بأصباغ ما تزال تتغير
إنها براقة متقلبة، رقيقة دامعة ومظلمة، لذلك أنت تتعشقها أيها الطاهر النقي، وهذا هو السبب في أنك تخيرتها لتغطي على ضوءك الساطع المهيب بظلها الرفيق
- 68 -
إن تيار الحياة الذي يتدفق في عروقي صباح مساء هو الذي يتحدر في أنحاء العالم فيهتز على نغم لحن جميل
وهو الحياة التي تخترق الأرض مرحة في نبات لا عداد له ثم تتفجر عن موج مضطرب من الأوراق والأزهار
وهو الحياة التي تهدهد في مهد محيط الحياة والموت، بين المد والجزر
إنني أستشعر الجلال في أطرافي من أثر لمسات دنيا الحياة؛ وكأن كبريائي وهي أثر خلجات الحياة في العصور الماضية، كأنها تضطرب في عروقي هذه الساعة(236/49)
- 69 -
أفلا يلذك أن تطرب لهذا اللحن الحلو، وأن تتقاذفك نشوته المروعة فتغمرك وتحطمك؟
إن كل الأشياء تندفع في طريقها فلا تستأني ولا تعقب، وما من قوة تستطيع أن توقف تيارها وهي تندفع في طريقها إلى الأمام
كن بازاء هذه الأشياء في ميعة حضرها: الموسيقا السريعة والأيام وهي تقبل لترقص حيناً ثم تدبر. . . إن الألوان والألحان والأريج تتدفق جميعاً في المجرى اللانهائي في نشوة الطرب. . . الطرب الذي يتناثر ويتضعضع ويفنى في كل حين
- 70 -
لأن أعزز نفسي وأبعثها في جميع النواحي، فإني أنشر على ضيائك أستاراً من الظل ذات ألوان، لأن نفسي كأنها هي فتاتك (مايا)
لقد أسدلت دونك حجاباً ثم أعلنت عن ذاتك في فنون كثيرة، ولكن هذا الانفصال الذاتي حل في جسمي أنا
وتردد صدى اللحن العنيف في أضعاف السماء في أشكال مختلفة من الدمع والابتسام من اليأس والامل؛ والموج يعلو ويهبط، والأحلام تتبدد وتتجمع، ولكن فيّ بعض نفسك
وعلى الستر الذي أقمت رسوم كثيرة صورتها ريشة الليل والنهار؛ ومن ورائها عرشك وقد نسج في منحنيات غامضة أخاذة ليس فيها الخطوط المستقيمة القفرة
إن المهرجان العظيم. . . مهرجانك وإياي قد هز آفاق السماء واضطربت نغماتك وإياي في أرجاء الهواء، وانطلقت تفتش عنك وعني كل الأجيال الماضية
- 71 -
إنه هو. . . هو الباطن، الذي أيقظ الحياة في نفسي بلمساته الخفية العميقة
إنه هو الذي نفث من سحره في هاتين العينين، ووقع في سرور على أوتار قلبي لحن الطرب والألم في وقت معاً
إنه هو الذي نسج خيوط (مايا) في أصباغ حائلة من الذهب والفضة. . . أصباغ زرقاء وخضراء؛ ومن بين ثناياها أطلت قدمه، وبلمسة لمساتها ذهلت عن نفسي(236/50)
إن الأيام تطلع علينا ثم تنطوي، وهو هو الذي يحرك قلبي في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة، وخفقات من الفرح والألم
كامل محمود حبيب(236/51)
الحضارة المصرية في عهد الدولة القديمة
بحث للعلامة الأثري اربك بيت
للأستاذ أحمد نجيب هاشم
(تتمة)
ولما كان الكهنة هم أكثر الناس علماً كان منهم الموظفون المسئولون عن الفيضان وعمل الترتيبات اللازمة له فكان بمعابدهم مقاييس لمعرفة زيادة النيل، وكانت بسيطة التكوين، كل منها بئر حلزونية أو مربعة الشكل توجد على مقربة من النهر ومتصلة به فكل ارتفاع أو انخفاض في النهر يصحبه بطبيعة الحال المثل في البئر، وبالبئر أرقام تقيد هذا الارتفاع أو الانخفاض، وبها درجات يستطيع المرء أن ينزل عليها كي يقرأ مستوى المياه الذي وصلت إليه يوماً بعد يوم فيعرف مقدار الزيادة، ولما كان الفيضان يبدأ غالباً حوالي الوقت نفسه كل عام سهل على الكهنة ملاحظة هذه العملية وتدوين أرقامها، وبموازنتها بالأرقام التي قيدوها في السنوات السابقة أمكنهم أن يعرفوا حالة الفيضان المقبل إن كان مرتفعاً أو منخفضاً بالنسبة لسابقه، وبذا كان في استطاعتهم أن يحددوا الوقت الذي تفتح فيه الجسور كي تغمر المياه الأرض كلها فإن كان الفيضان مرتفعاً جداً أرسلوا تحذيراً إلى الناس كي يقيموا السدود، وكانت الحكومة في هذه الساعة تسخر كل الناس في هذه العملية، وكان للفيضان أثر آخر، ذلك أن مياهه بعد أن نغمر الأرض مدة ستة أو سبعة أسابيع كانت تمحو الحدود التي بين أرض الفلاح وزميله أو تغطيها بالطمى، فعمد المصريون إلى مسح الأرض كي يعرف كل فرد مساحة أرضه بالضبط، وبذلك بدءوا علم الهندسة إذ وجدوا في مسح الأرض أضبط مقياس وأنه أفضل من وضع أحجار على الحدود، ولا تزال مشكلة ضبط الحدود موجودة في مصر، فالنيل في أثناء الفيضان يزيد مساحة الأرض الواقعة على حدود الصحراء، ولذا يحاول الفلاحون هناك الانتفاع بهذه الزيادة التي تسمى بطرح البحر بضم جزء منها إلى أملاكهم القليلة، وقد لا تبلغ هذه الزيادة ثلاثين أو ستين سنتيمتراً كل عام ولكنها تزداد على مر السنين، ولذلك يهتم مفتشو الحكومة بحراستها كما كان يفعل زملاؤهم من آلاف السنين(236/52)
الفنون
الحفر والرسم: رأينا نواة التقدم الفني في العهد السابق للأسرات إذ وصل الحفر البارز درجة عالية كما تدل على ذلك مقابض السكاكين العادية والألواح الأردوازية والتماثيل التي وجدت في (قفط) كذلك يرينا لوح (نارمر) الذي يرجع إلى أول الأسرة الأولى كثيراً من قواعد الرسم التي استعملت فيما بعد في الفن المصري، فالرسوم الدقيقة القليلة البروز كانت مناسبة لمملكة تسطع فيها الشمس ويشتد الظل، وقدر للحفر نجاح عظيم في تاريخ مصر، وليس في وسعنا أن نتتبع هذا التطور في الأسرات الثلاث الأولى لقلة الأمثلة وبعد بعضها عن بعض، ولو أن لوح قبر الملك (زت) وقطعاً صغيرة كثيرة من مقابر الملوك في (أبيدوس) تدل على تقدم مضطرد في الأسرتين الأوليين لاسيما من حيث المقدرة الفنية وحسن استعمال المواد، ثم تصل هذه الأمثلة فجأة إلى أجمل مقابر الأسرتين الخامسة والسادسة كمقبرة (تي) في سقارة فهناك نرى الفن المصري في أوج عظمته وتنتقل العين بين الرسوم انتقالاً سهلاً، وهذه هي ميزة الفن في هذه الفترة، ولكن نلاحظ أن قواعد المنظور تكاد تكون معدومة في رسوم هذا العصر ونقوشه، فإذا أريد رسم شيء فوق آخر فما على الفنان سوى أن يضعه فوقه، كذلك كان يرسم الإنسان عادة جانبياً، ولكن مع ذلك نشاهد كتفيه كأنما ينظر إليها من الأمام، وعلى هذه الطريقة استمر المصريون يرسمون نقوشهم طول عهد المملكة القديمة وبالرغم من هذه الغلطات فإن النقوش البارزة على الألواح الخشبية التي عثر عليها في مقبرة حي من الأسرة الثالثة تعد من أجمل القطع الفنية في العالم، فهي تمتاز بما تبعثه في النفس من أفكار لا نهاية لها
النحت: وقد سار النحت جنباً إلى جنب مع الرسوم البارزة، فأخرجت مصر من الأسرة الرابعة إلى السادسة أكبر مقدار أخرجته من التماثيل في تاريخها بعد ذلك. وكان الدافع إلى عمل التماثيل دينياً أكثر منه فنياً إذ اعتقد المصريون أن الشخص بعد موته يعيش في مقبرته عيشة لا تختلف كثيراً عن حياته في الدنيا فاهتموا بتحنيط جثته مخافة أن يلحق هذه المومياء العطب ورأوا ضرورة وجود التمثال حتى تحل فيه الروح، والى هذا الاعتقاد الغريب يرجع الفضل في وجود كثير من أجمل التماثيل في العالم وقد وضع المصريون بعض التماثيل من الخشب ومن الحجر، والقليل منها من الجرانيت والصوان، وصنعوا(236/53)
كثيراً من التماثيل من حجر الجير الملون، ومن أهم تماثيلهم تمثال (خفرع) المصنوع من الصوان وتمثال (شيخ البلد) (والكاتب الجالس القرفصاء) المحفوظ باللوفر (وتمثال نفرت مع الأمير راع حوتب الذي وجد بميدوم وهو محفوظ الآن بالمتحف المصري)
العمارة
بدأ ظهور فن العمارة في مصر منذ أخذ إنسان ما قبل الأسرات يبطن جدران مقبرته بقوالب من طمى النيل المجفف في الشمس، ولعله استعمل هذه القوالب في بناء بيته الساذج الأول ولا يبدأ أهم دور في تطور العمارة في مصر إلا ببدء العصر التاريخي إذ استعمل الحجر لأول مرة في البناء في عصر الأسرة الأولى فبنيت أرضية مقبرة الملك (دن) بأبيدوس من حجر الجرانيت وهذا أقدم مثل معروف لنا، وبعد أن تنقضي أسرة كاملة تجد في مقبرة (خاستخموي) أول ملوك الأسرة الثالثة حجرة بأكملها مبطنة بالحجر الجيري
ولا بد أن فن البناء تقدم بخطى حثيثة في الأسرتين الأولى والثانية، وتدل الحفريات الحديثة في سقارة على أنه وصل إلى درجة عالية أيام الأسرة الثالثة، ولذا يعتبر العلماء أن هذا التقدم هو نهاية لا بداية عصر معماري عظيم فقد عثر هناك على أعمدة من الطراز الدوري وكانت النماذج الوحيدة المعروفة لهذا الطراز هي تلك التي عثر عليها في مقابر الأسرتين الحادية عشرة والثانية عشرة في بني حسن، أي بعد النماذج السابقة بحوالي 900 سنة
ويلي آثار سقارة من حيث الترتيب الزمني معابد أهرام الدولة القديمة ومعابد الشمس في أبي صير، وإذ كانت عمارة هذا العصر معروفة لنا من المباني الجنائزية فعلينا أن نبحث أولاً تطور بناء المقبرة عند أولئك المصريين الأول
أخذت المقبرة في أواخر عهد ما قبل الأسرات تتطور في إحدى طريقين منفصلين وهما المقبرة ذات الدرجات والمقبرة التي قي شكل حفرة ولكل منهما تطور طويل في عهد الدولة القديمة
تكون كل قبر مصري من جزأين رئيسيين: اللحد وهو تحت الأرض وتدفن الجثة فيه ثم مكان العطايا وهو فوق الأرض ويضع فيه أقارب الميت الهبات اليومية من طعام وشراب وغير ذلك مما يحتاجه كي يواصل حياته في القبر، ويحتمل أن بعض المقابر الأولى كانت(236/54)
خلواً من هذا الجزء أو لعله اقتصر على كوم من الرمل أو الحصى، وسواء هذا أو ذاك فقد تطور هذا الجزء منذ عهد السرة الأولى إلى شكل مصطبة ذات جوانب مائلة في أحدها كوة صماء لوضع العطايا تجاهها
وبتولي الأسرة الرابعة الحكم كانت هذه المباني البسيطة قد تطورت إلى تلك المصاطب الحجرية الهائلة التي بناها الأشراف لأنفسهم حول أهرام ملوكهم، ويقع اللحد تحت المصطبة الأولى نفسها وبداخل المصطبة حجرات لوضع العطايا من أكل وشراب
اختلف هذا النظام اختلافاً بسيطاً في الهرم، أجل كان الملك يدفن في حجرة تحت الأرض منحوتة في الصخر ويعلوها هرم كان كالمصطبة تذكاراً ظاهراً فوق القبر إلا أن الهرم لم يكن بداخله حجرات العطايا بل بنيت هذه في الجهة الشرقية منه ونظراً لكثرتها فقد أطلق عليها اسم معبد الأهرام؛ فإن كان الهرم هو تطور المصطبة كما يقول البعض فما المعبد إلا تطور الكوة الصماء التي كانت توضع العطايا تجاهها
ولما كان الهرم ومعبده قائمين على هضبة مرتفعة عن مستوى الحقول المحيطة بهما بنحو 100 قدم فقد بنى صاحبه طريقاً منحدراً مرصوفاً كي يسهل الوصول من الوادي إلى المعبد وبنى في أسفل هذا الطريق معبداً صغيراً سمي بمعبد الوادي، ويقول البعض إن زيارة المعبد الرئيسي كانت قاصرة على أقارب فرعون ورجال بلاطه وإن معبد الوادي كان لزيارة عامة الشعب
ويرى فريق آخر أن معبد الوادي لم يكن سوى مكان يتطهر فيه الزائر قبل أن يصل إلى المعبد الرئيسي، وما المعبد المعروف بمعبد أبي الهول إلا معبد الوادي لهرم (خفرع) وقد كشف الأستاذ سليم بك حسن تحت الطريق الواصل بينه ويبن المعبد الرئيسي للهرم نفسه عن أقدم نفق في العالم نحته مهندس ذلك الملك العظيم في الصخر الصلب كي يختصر المسافة لمن يريد الوصول من الجهة الشمالية للهرم إلى جهته الجنوبية ويوفر عليه السير الطويل حول الطريق المذكور
وتبين لنا هذه المعابد الأولى أغلب مظاهر المباني الدينية المصرية كما نراها فيما بعد هذا العصر، فكلها متينة البناء والمسقف منها مسقف بكتل حجرية أفقية قائمة على أعمدة لا أقبية فيها، على أن المصريين لم يجهلوا طراز القبو كما يتضح ذلك من مقابر الأسرة(236/55)
الثالثة. وهكذا نجد في الدولة القديمة الظاهرتين الأساسيتين في بناء المعابد المصرية، فهناك البهو ذو السقف الكامل القائم على أعمدة موزعة في كل أنحاء أرضية المعبد، وهناك أيضاً البهو ذو الأعمدة ويتكون من فناء مفتوح يمتد على جانب أو اكثر فيه جزء مسقف يقوم سقفه على صف أو صفين من الأعمدة
ومن المباني الدنين التي تنتسب إلى عصر الدولة القديمة معابد الشمس التي بناها ملوك الأسرة الخامسة في أبي صير وكانت تشبه معابد الأهرام السالفة الذكر من حيث وجود معبد الوادي والمعبد الرئيسي والطريق المنحدر الواصل بين الاثنين، ولكن بدلاً من الهرم الذي كان يقام فوق المقبرة بنا ملوك الأسرة الخامسة هرماً ناقصاً صغيراً تعلموه مسلة هي رمز إله الشمس (رع)
أحمد نجيب هاشم(236/56)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
326 - لا تجعل قلبك مثل السفنجة
في (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) لابن قيم الجوزية: قال لي شيخ الإسلام (رضي الله عنه) - وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد -: (لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته. وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليك صار مقراً للشبهات)
فما أعلم أني انتفعت بوصية كانتفاعي بذلك
327 - يزيدهم حرصاً على الإسلام
في (الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم: أن رسول الله لما خرج إلى بني قريظة والنضير قال له أبو بكر وعمر: يا رسول الله، إن الناس يزيدهم حرصاً على الإسلام أن يروا عليك زياً حسناً من الدنيا، فانظر إلى الحلة التي أهداها لك سعد بن عبادة فالبسها، فليرك اليوم المشركون أن عليك زياً حسناً
قال: أفعل
328 - إن الاحتمال قبر المعايب
قال الأنباري في (طبقات الأدباء): كان شيخنا ابن الشجري (هبة الله بن علي) وقوراً في مجلسه، ذا سمت حسن لا يكاد يتكلم في مجلسه بكلمة إلا تتضمن أدب نفس أو أدب درس. اختصم إليه يوماً رجلان من العلويين فجعل أحدهما يشكو ويقول عن الآخر: إنه قال في كذا وكذا. فقال له الشريف (ابن الشجري): يا بني، احتمل فإن الاحتمال قبر المعايب
وهذه كلمة حسنة نافعة فإن كثيراً من الناس تكون لهم عيون فيغضون عن عيوب الناس ويسكتون عنها فتذهب عيوب لهم كانت فيهم، وكثير من الناس يتعرضون لعيوب الناس فتصير لهم عيوب لم تكن فيهم
329 - يريد أن يموت(236/57)
أبو القاسم اليزيدي: كان أبو عمرو بن العلاء في مجلس إبراهيم بن عبد الله، فسأل عن رجل من أصحابه فقده، فقال لبعض من حضره: اذهب فاسأل عنه. فرجع فقال: تركته يريد أن يموت. فضحك منه بعض القوم وقال: في الدنيا إنسان يريد أن يموت!
فقال إبراهيم: لقد ضحكتم منها عربية؛ إن (يريد) في معنى يكاد، قال الله تعالى: (جداراً يريد أن ينقض) أي يكاد
فقال أبو عمرو: لا نزال بخير ما كان فينا مثلك
330 - وأرى الغيب فيه مثل العيان
أبو القاسم المحسن بن عمرو بن المعلى:
لست أدري ولا المنجم يدري ... ما يريد القضاء بالإنسان
غير أني أقول قول محق ... وأرى الغيب فيه مثل العيان:
إن من كان محسناً قابلته ... بجميل عواقب الإحسان
331 - اتفاق عجيب
قال ابن بسام: من عجائب ما جرى لأبي العلاء صاعد بن الحسين البغدادي - الوافد على الأندلس - أنه أهدى أيلاً إلى المنصور بن أبي عامر - ملك الأندلس - وكتب على يد موصله قصيدة منها:
عبدٌ جذبتَ بِضَبْعِه ورفعت من ... مقداره أهدى إليك بأيل
سميتُه (غرسيّة) وبعثته ... في حبله ليصحّ فيه تَفَؤُلي
فقضى في سابق علم الله أن ملك الروم (غرسية) أسر في ذلك اليوم الذي بعث فيه بالأيل بعينه، وسماه باسمه على التفاؤل، وكان غرسية أمنع من النجم. وسبب أخذه أنه خرج يتصيد فلقيته خيل للمنصور من غير قصد فأسرته وجاءت به، فكان هذا الاتفاق مما عظم به العجب
332 - لكن عندي عتيق سنتين
قال ياقوت: قال المرزباني: قال عبد الله بن عياش: كنت أنا وسفيان الثوري وشريك بن عبد الله (القاضي، الفقيه) نتماشى بين الحيرة والكوفة فرأينا شيخاً أبيض الرأس واللحية(236/58)
حسن السمت والهيئة، فظننا أن عنده شيئاً من الحديث، وأنه قد أدرك الناس. وكان سفيان أطلبنا للحديث، وأشدنا بحثاً عنه، فتقدم إليه وقال: يا هذا، هل عندك شيء من الحديث؟
فقال: أما حديث فلا، ولكن عندي عتيق سنتين
فنظرنا فإذا هو خمار. . .!
333 - . . . قبل مضي أسبوع
في (حلبة الكميت): لشمس الدين النواجي: يقال: إن من نظر إلى البدر في ليال متعددة، وخاطبه بهذين البيتين وهو مشغوف القلب اجتمع بمن يحب قبل مضي أسبوع وهما:
يا أيها القمر المنير الزاهر ... الأبلج البدر البهي الباهر
بلغ شبيهتك السلام وصف لها ... شوقي وأني في هواها ساهر
334 - كتبه علي بن الحسن الجويني
ياقوت الحموي: كان من شيمة الجويني الكاتب أنه ما كتب شيئاً بخطه كثر أو قل، دق أو جل إلا يكتب في آخره: كتبه علي بن الحسن الجويني(236/59)
رسالة الشعر
في عيد الإحسان
فاروق حبك في القلوب عقيدة
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
نوران: نور هدى ونور تبسم ... سطعا، فراح الشعر يسطع من فمي
فهتفت: يا دنيا الملائك طهري ... وترى، ومن آيات وحيك ألهمي
هاتي لي النغم الجديد، بغيره ... ما اهتز للشعراء سمع الأنجم
هاتي فإن بعرش مصر مملكاً ... تاج العصور بمثله لم ينعم
أوفي فرحت إلى الخمائل هاتفاً: ... هاتي الشذا من زهرك المتبسم
فضي لحون الطير من لهواتها ... ومري أغانيها ترن بمرقمي
ودعي الصباح ونوره، ودعي الضحى ... وعبيره ينساب طهراً في دمي
إني سأهتف للمليك بآية ... بيضاء مثل جبينه المتوسم
مولاي! فاهتز الوجود مهللاً ... طرباً، وإن لم يشد أو يتكلم
من رام تغريداً بظلك فليكن ... لبلابل الخلد السواجع ينتمي
الله أكبر! ما لسمعك هزة ... بسوى حمام الجنة المترنم!
(فاروق) حبك في القلوب عقيدة ... أخذت سراها في القلوب مع الدم
قسمت مع الإيمان قدس مكانه ... في اروح، وهو لغيرها لم يقسم
الشرق يقرأ في جبينك آية ... فجر الربيع بنورها لم يوسم
النيل فسرها له متخايلاً: ... هذي منارة كل قلب مظلم
فيها عزاء الشرق عن آلامه ... ومناه بعد أسى وطول تجهم
الله سطرها لتاريخ الحمى ... بشرى وثوب للعلا وتقدم!
يا عاهل الإِسلام كرم عصره ... وأنر به حلك الوجود المعتم
ألقت إليك يد الحنيف زمامها ... فأقلت عثرتها، وقلت لها اسلمي!
وبعثت عهد الراشدين بصولة ... شرع السماء بها حديد المعصم(236/60)
فرعيت عز الصولجان ومجده ... وخطرت في ورع النبي الملهم
وحملت مسبحة كأن مدارها ... فلق الهدى للحائر المتبرم
حباتها فلذ القلوب خواشعاً ... عطلن باللثمات آمال الفم
نسق من الملك انفردت بعزه ... لسواك في التاريخ لم يتقدم
في دولة الإحسان قامت عصبة ... للخير في جنبات عرشك تحتمي
تأسو إذا جرح الزمان، وتنبري ... قدراً يكفكف دمعة المتيتم
كم ثاكل ردت فواجع قلبها ... نعماً، وأسبغت النعيم لأيم
ستارة الأعراض يغمر جودها ... ليل الحرائر في بياض الأنعم
وترابها للمعوزين غرائس ... للقوت، تثمر في خريف المعدم
تعطي ولا مَنٌّ يشوب عطاءها ... وتجود جود العدل للمتظلم
منن تدب إلى النفوس خفية ... يجري بها قدر الإله المنعم
فكأنها الأحلام تهبط في الدجى ... للبائسين بخشعة وتحرم
شرف العطايا أن تزف وحيدة ... كالسر بين تخفر وتحشم!
هي كعبة - للبؤس من إحسانها ... بشر النبات بغيثه المترحم
للعلم في أكنافها ري النهى ... ولشكوة العلات برء المسقم
مولاي أسعدها بنورك إنها ... بهداك تفرع سابحات الأنجم
همم سبقن خطى الزمان بعزمة ... أوقدتها سبق القضاء المبرم
هتفت بك الدنيا فرد هتافها ... شعب يفدي بالقلوب وبالدم!
محمود حسن إسماعيل(236/61)
حوَّاء
للأستاذ إبراهيم العريض
تمثّل الحبُّ للفنان بين يدَيْ ... ذكراه كالنار تغشى طورَ سيناءِ
وقال حين رآه في تململه ... يقلّب الطرفَ بين الزهر والماءِ:
(يا من عكفتَ على الدنيا وزينتِها ... حتى صممت عن الأنغامِ من نائي
تحيا الحياةَ بلا إلفٍ تلوذ به ... إلا ارتيادكَ في أفياءِ فيحاءِ
حتى كأن ضلوعاً أنت حاملُها ... تُطْوَى على كبدٍ ليست بحرَّاء
هذا الوجودُ إطارٌ لا كفاَء له ... وغاية الفنّ فيه رسمُ حوَّاء
لها الشبابُ الذي تَشْفى برقيته ... ما كابد القلبُ من صدٍ وإغراء
لها الجمالُ الذي تعنو لعزته ... فيما تشاهدُ من ظلٍّ ومن ماء
لها الوداد الذي تَبقى أشعّتُه ... تنير خطوَكَ في طوفانِ أهواء
كأنها الشمس إشراقاً. . تبادلها ... مرآةُ قلبك لألاءً بلألاء
لا تكذِبِ النفس في مجد حلُمَت به ... فلست تحسن إلا قولَ: أهواها
شغفتَ بالحسن لا تنفك تطلبُهُ ... عيناكَ. حتى ولو في كأسِ صهبَاءِ
وليس أجملَ ما في الكون من أثرٍ ... إلا اقتباساً بدا من شكل حسناء
أنظر إلى شفتيها. هل ترى زَهراً ... يفترّ عن نُقَط كالطلّ وطفاء
أنظر إلى وجنتيها. هل ترى شفقاً ... يلوح من شَعْرِهَا في وسْطِ ظلْمَاء
أنظر إلى ناظريها. هل ترى ألَقاً ... كأنه صادرٌ عن كوكب ناءِ
ما في الطبيعة من حسن فمنعكِسٌ ... عن صدرها البضِّ في عينيك يا رائي
وأطيب الطيب ما في الخلد من زَهَر ... وإنما غرسَتْها كفّ حوّاء
فكيف تُكبِرُ من شأنِ الجميلِ ولا ... تثيبُهُا عن يدٍ قبَّلتَ بيْضاء
وما تؤمِّل في الفردوس منفرداً ... لولا رجاؤك أن تحظى بلقياها)
إبراهيم العريض(236/62)
هي عيناك
للأديب حلمي عطا الله
حرقة في القلب يذكيها الألم
صدمة للنفس يتلوها الندم
وأنا وحدي أسير الليل أطوي الظلماتِ
لا أبالي ما أرى في وحدتي من عقبات
أسدل الليل جناح الحلم فوق الفلوات
ألم الليل شديد الوطءِ مرّ العبرات
هي أشجاني التي توقظ فيَّ الحسرات
يا لعينيك التي تحرمني طعم السبات:
هي عيناك التي تحرقني فأهيم
هي عيناك التي تشعلني كالجحيم
قسوة الهجر على القلب العليل تقتله
كثرة التبريح بالجسم الهزيل تثقله
هذه شكواي من عينيك يا ذات الدلال
من يراعيها ويرعاني إذا طال النضال؟
هل أذوق الشهد أم أقضي حياتي في الخيال؟
أم أقاسي الصدَّ؟ كلا، إن هذا لمحال
أنا لا أطمع في النوح ففي النوح الزوال
أنا لا أبغي سوى الوصل، فذا الوصل الحلال
هي عيناك التي تأمرني فأطيع
هي عيناك التي تذهلني فأضيع
حيفا
حلمي عطا الله(236/63)
القصص
أقصوصة لاذعة من أناطول فرانس
مشعوذ المادونا
للأستاذ دريني خشبة
كان يعيش في أيام الملك لويس مشعبذ فقير من كومبين يقال له برنابا، وكان لا يني يذرع أقطار الأرض ليعرض على الناس ألعابه الخارقة التي كان يبهرهم بها في خفة وحذق وبيد صناع. وكان ينتهز أيام الصحو فينتحي ناحية في الميادين العامة، ثم يفرش على الأرض قطعة من بساط خلق لم يكن يفارقه أينما سار. . . وبكلمات يقولها، وإشارات وحركات علمه إياها مشعبذ أكبر منه سناً يجتمع حوله أطفال وغلمان ومتسكعون، ثم يسوق الفضول غيرهم فيكون في حلقة من الناس من كل صنف يستهويهم بشعبذاته، ويثير عجبهم بالبراعة الفائقة التي يقف بها سكرجة من صفيح مطلي على أرنبة أنفه، وهو مع ذاك يميل ويميد ويتخلج. . . فإذا فرغ من هذا انقلب في الهواء فوقف على رأسه ويديه، ثم راح يرسل في الهواء كرات ستاً صغيرة من نحاس أحمر لامع، فيتلقاها بقدميه العاريتين في مهارة خارقة، بحيث لا تسقط منها واحدة حتى يستوي؛ وكان الناس يختلفون في أمر هذا المشعبذ، ولكنهم سرعان ما يتفقون على أنه ألعبان داهية حين يتقوس ويتقوس، حتى يعمل بجسمه المنقلب عجلة من لحم، ثم يرسل في الهواء اثنتي عشرة سكيناً مزهفة فيظل يتلقفها بيديه في سرعة تخطف البصر وتطلق أيدي النظارة بالتصفيق، وحناجرهم بالهتاف الطويل، ثم يمطرون بساطه الخلق بالدوانق والدريهمات
ولم يكن برنابا مع ذاك بدعاً من الناس، فلقد كان واحداً من هذه الآلاف المؤلفة التي تكتسب الكفاف من العيش بعرق جبينها، وكان يشقى كما يشقى إخوانه البائسون في كل زمان وفي كل مكان، بل لقد كان نصيبه من شقوة الحياة، ومضض العيش، والأوزار التي كتب في الأزل أن تنقض ظهور الناس جيلاً عن جيل عن أبيهم آدم، كبيراً مضاعفاً. . .
ولم يكن يستطيع أن يصل عمله الشاق المضني في كل وقت، فهو واحد من مئين من الأحياء التي يعج بها العالم، ويزخر بها وجه الأرض، والتي تحتاج إلى حرارة الشمس،(236/65)
ودفء الهواء، لتدب الحياة فيها وتنتعش. . . لذلك كان الشتاء أكبر أعدائه، إذ كان يقاسيه كما تقاسيه الشجرة التي نفضت أوراقها، وبدت خلاله نصف ميتة. . . وكان الصقيع الذي يغطي وجه الأرض يقضه ويزعجه، ويثلج يديه وقدميه، فتسقط الكرات وتجرحه السكاكين، ولكنهه مع ذاك يبسم ويهش، متشبهاً بالصرصر المذكور في قصة مريم الأفرنسية، والذي يشدو ويرقص جوعان من. . . البرد!! أو من الجوع. . . أو منهما معاً!! وكان لسذاجة قلبه، وقناعته، يقاسي في سكون وصمت. فلم يفكر مرة في كيفية توزيع الثروة بين الناس، ولا في علة هذا التفاوت الكبير بين أقدار البشر، وكلهم من آدم، وآدم من تراب. . . لا. . . لم يفكر برنابا الطيب في شيء من هذا ولا ذاك، بل كان مؤمناً ساذج الإيمان، وكان يعتقد أن الخير الذي فاته في هذه الدنيا لابد مواتيه في الآخرة، وأن سيئات هذه الحياة ستحتسب في صحيفته حسنات يوم يوفى للناس حسابهم. ولم يكن برنابا من هؤلاء اللبقين الألبة الذين باعوا أنفسهم لسيد الأبالسة، بل كان يؤمن بالله ولا يكفره، ويلهج لسانه دائماً باسمه، وكان يحيا حياة أمينة طاهرة كلها تقوى وعفة، ولم تحدثه نفسه مرة أن يمد عينيه إلى ما متع الله به جاره من زوجة جميلة حلوة مفتان، مع أنه لم تكن له زوجة حلال. . . وكان يؤمن بخطر المرأة على شباب الرجل وعنفوانه، وكانت له أسوة بما حدث من ذلك لشمشون كما هو مشهور مأثور
وهكذا لم يك برنابا بهيمياً ولا شهوانياً، بل هو لم يفكر مرة في هذه اللذة الدنسة التي تستعبد أمثاله من المشعبذين، بيد أنه إن سلم من ذاك، فلقد كانت تأسر لبه الخمر، وكان يرى فيها منجاة من فتنة النساء والوقوع في كيدهن؛ ولم يكن برنابا مدمناً مع ذاك، وإن حب الخمر وصبا إليها من كل قلبه، لاسيما إذا كان الفصل شتاء والطقس بارداً زمهريراً. . . فإذا استثنينا شغفه بالخمر وجدناه رجلاً صالحاً يخاف الله ويتبتل إليه، وتملأ قلبه محبة العذراء، مريم الطاهرة البتول، التي كان يخبت لها ويصفيها عبادته، ويركع بين يدي صورتها كلما دخل كنيسة فيصلي هذه الصلاة: (مولاتي! أبتهل إليك أن تباركي حياتي في هذه الدار حتى يتأذن الله فيقبضني إليه، فإذا فعل، فاشفعي لي عنده أن يفيء علي من نعيم الخلد. آمين!)
وانطلق في أمسية يذرع الطرقات غب مطر وابل حزيناً واجماً كاسف البال، وتحت إبطه كراه ومزقة البساط وفيها سكاكينه، وكل همه أن يجد خاناً يؤويه فيقضي فيه ليله على(236/66)
الطوى، لم يذق عشاء ولم يتبلغ بلقمة. . . فبينما هو هائم على وجهه هكذا، إذا به يرى راهباً يذرع الطريق مثله، وفي مثل الجهة التي يسير فيها، فحياه في أدب وظرف، ورد الراهب تحيته بأحسن منها، ثم قال يحدثه:
- مرحى أيها الرفيق! مالك مسربلاً بهذه الثياب الخضر من ناصيتك إلى إخمصيك. . . أذاهب أنت لتمثل البلياتشو في ملهاة خرافية؟
- كلا والله أيها الأب! إن اسمي برنابا، وحرفتي الشعبذة وحبذا لو كان عملي أن آكل متبطلاً، وأسمن واستريح من عناء الحياة!!
- أتعني ما تقول أيها الأخ برنابا؟ حذار من أن يكون في ستور كلامك لمز أو كناية! فإن أشرف عمل في هذه الحياة الدنيا هو أن تبيع نفسك لله. . . الرهبانية يا برنابا. . . إن الراهب ما يني يسبح بحمد الله، وباسم العذراء، وبأسماء القديسين! ألا وإن حياة الراهب أنشودة سرمدية ليسوع المسيح!
- وقال برنابا يجيبه: (إني أقر أنني تكلمت كما يتكلم الجهلاء أيها الأب، فعفواً ومعذرة. . . إن بيننا لبوناً شاسعاً وفارقاً عظيماً، وإنه إن يكن لشعبذاتي قيمتها عند الناس، فكذلك نسكك وترهبك مع فارق بين الصناعتين، لأنك مهما عجزت عن رقصة أقوم أنا بها في منتهى ما تتصور من سهولة ويسر، ومهما عجزت عن أن تقف سكرجتي هذه على أرنبة أنفك وتميل كما أميل، وتميد وتتخلج، فإن لرهبانيتك مع ذاك قيمتها التي لا تساميها قيمة عملي الحقير وصنعتي التافهة. . . أيها الأب الكريم! تالله إنه ليس أحب إلي من أن أنقطع مثلك للعبادة فألهج بذكر الله، وأستقل عن العلمين ليتحد قلبي بالبتول المقدسة. . . العذراء الطاهرة التي كرست نفسي وحياتي لعبادتها ومحبتها! وإنه ليس آثر عندي من أن أهجر حرفتي التي عرفت بها في ستمائة قرية وقرية، من سواسون إلى بوفيه، لكي أذهب إلى الدير، وأخلص للتأمل والعبادة والترهب!)
ووقرت سذاجة المشعبذ في فؤاد الراهب، واستشف فيه نفساً تقية وقلباً صالحاً، من تلك القلوب النقية التي قال المسيح في أصحابها: (عليهم السلام في الأرض) فقال يجيبه: (إذن هلم معي أيها الصديق برنابا وسأدخلك الدير الذي أنا رئيسه، وإني أسأل الله الذي هدى مريم المصرية في مهامه الصحراء أن يوفقني في هدايتك إلى ما فيه خلاصك)(236/67)
وهكذا أصبح برنابا (البلياتشو!) راهباً!
وبهره أن يرى إخوانه الرهبان يخلصون في محبتهم للعذراء إخلاصاً عجيباً، ويكرسون حياتهم ونبوغهم وجميع ملكاتهم لخدمة مجدها وتخليد ذكراها. . . فهذا رئيس الدير يؤلف في فضائلها المؤلفات، ويشيد فيهن حسب السنة بأياديها على العالمين وهذا الأخ موريس يتناول مسودات تلك المؤلفات فيسطرهن بيده النابغة الصناع، وبخطه الرائق الشائق على رقوق وكواغد ثم هذا الأخ الإسكندر ينقش فيهن نقوشه، ويرسم تصاويره، فيجعل مليكة السموات جالسة على عرش سليمان، وقد ربضت عند قدميها أربعة أسود ضياغم تحرسها وتسهر عليها، ومن فوق الهالة التي تنعقد بالنور حول رأسها ترف سبع حمامات ورق هن هدايا روح القدس السبع: الخوف، والتقوى، والمعرفة، والقوة، والعدالة، والذكاء، والحكمة، وجلس معها ست عذارى حسان ذوات شعر مغدودن ذهبي: الدعة، والكبرياء، والاعتزال والاحترام، والعذرية، والطاعة. . . هذا وقد سجد عند قدميها شبحان عاريان يشعان نوراً ولألاء، وكانا يمثلان الأرواح الخاطئة، وكانا يتوسلان إلى العذراء أن تدرك أصحابهما برحمتها التي وسعت كل شيء فتمنحهم الخلاص
وقد صور الأخ الاسكندر في صحيفة أخرى أمنا حواء في حضرة العذراء البتول حتى يرى القارئ كيف تتمثل الخطيئة والفداء في حواء الذليلة ومريم الشماء!
ومن أحسن صوره أيضاً صورة بئر المياه الحية، وصورة النبع، والزنبقة، والقمر، والشمس، والجنة المغلقة، وما إلى ذلك مما ورد ذكره في نشيد الإنشاد. . . فهذه، وصورتا بوابة السموات، ومدينة الإله؛ كلها صورت في محبة العذراء ورسمت باسمها
وكان الأخ ماربود كذلك من أطفال مريم المخلصين. . . وكان ما يفتأ ينحت التماثيل من الحجارة فتتشعث لحيته وشعره وأهدابه بغبار الرخام الأبيض، وتنتفخ عيناه وتنهمر مدامعه؛ وبالرغم من سنه المتقدمة، وشيخوخته الضعيفة، فلقد كان ماربود يصل ليله بنهاره في عمل التماثيل في حب مريم لتباركه، وتثبت خطاه نحو الأبدية. . . وكان يمثلها محمولة في محفة، وتتألق على جبينها هالة من أغلى اللآلئ. . . وكان ينصب أكبر النصب في تجعيد ثنايا ثوبها من فوق قدميها ليسترهما. . . القدمين الحبيبتين قدمي العذراء، اللتين قال في صاحبتهما النبي: (حبيبتي أشبه بجنة مغلقة!)(236/68)
وكان يمثلها أحياناً طفلة رائعة فينانة، تكاد تنطق فتقول: (يا يسوع! أنت إلهي!)
وكان في الدير رهبان شعراء ما ينون ينظمون في العذراء المقدسة أغانيهم باللسان اللاتيني. . . وكان فيهم زجال بيكاردي ينقل أغاريدهم إلى اللسان العامي الرشيق
شهد برنابا هذه الحماسة التي جعلت إخوانه الرهبان يتنافسون في خدمة العذراء وتقديسها، وتكريس كل ملكاتهم لعبادتها بالقلب وبالذهن وباليد وباللسان؛ فحزن حزناً شديداً، وراح يندب حظه، ويبث جهله المطبق وسذاجته وقلة معرفته، وكان يمشي مرة في ظلال الحديقة الصغيرة التي يحضنها سور الدير، فجعل يتفجع ويقول: (وا أسفاً لشد ما يحزنني ألا أستطيع أن أعبد عذرائي تلك العبادة القيمة التي يؤديها رفاقي الرهبان مع ما بذلت من حبي لها، وبرغم ما وقفت كل تقديسي عليها! ما أتعسني إذن يا أم الإله! أنا هذا الجاهل الغبي الذي يعبدك بلسان لا يعي إلا أتفه الأدعية وأحقر التسبيحات، وهو مع ذاك يرددها لا كما ينبغي. . . ويلي من غبي جاهل لا قدرة له على فن جميل، ولا عمل من ورائه طائل! أين أنا مما ينحت الناحتون للعذراء البتول، وما يصور المصورون، وما ينظم أولئك الشعراء من أغراد وأوراد! وا أسفاه! إني لا أملك من كل ذلك قليلاً ولا كثيراً!)
وهكذا ظل برنابا يتفجع ويتألم
وجلس مرة يصغي إلى رفاقه بينما كانوا يتلهون بالحديث فيما بينهم، فسمع أحدهم يقص حكاية الراهب الذي عاش عمره جميعاً لا يستطيع أن يعبد العذراء إلا بهذه العبارة القصيرة المقتضبة: سلام على مريم. . . سلام على مريم. . . يرددها في صباحه وفي مسائه، ولا يفتر عن ترديدها لسانه. . . وكان إخوانه يزدرونه لجهله وقلة عرفانه، فلما مات، وأقبلوا عليه، رأوا، ويا ما أغرب ما رأوا، أربع وردات نواضر قد خرجت من فمه، فعرفوا أنهن برزن ثمة تقديساً للأحرف الأربعة التي يتركب منهن اسم العذراء. . . وهكذا تقدس الراهب بعد موته، وبعد ما لقي من ازدراء رفاقه في الحياة الدنيا. . .
ولما سمع برنابا هذه الحكاية ابتهجت نفسه وغمر السرور قلبه وعظمت ثقته في مريم البتول الخيرة. . . بيد أنه لم يتسل بهذا المثل الجميل، لأنه كان يود لو استطاع أن يصنع مثل ما يصنع إخوانه من تقديس العذراء بالقلب واللسان وباليد. . . فراح يفكر ويفكر، ويعمل ذهنه في الوسيلة التي تنيله ما يريد. . . ولكن. . . عبثاً حاول أن يجد برنابا تلك(236/69)