الطويل، لأن مؤلفاتي الأخرى مثل (نابليون) و (بسمارك) و (لنكولن) و (غليوم الثاني) قد ألفتها خلال فصل صيف، من مارس إلى نوفمبر. وأما قصصي التمثيلية، فقد كان يلزمني يومان اثنان لأكتب كل فصل منها. وعلى الضد من ذلك قد قضيت عشر سنوات لأضع مأساة نهركم العظيم التي أردت أن تكون من القوة بحيث تمثل أبطالي من البشر، فخلصت من الوقائع والإحصاءات والوثائق لأعيد في ذهن القارئ جو ما عبرت من أماكن، وما استنشقت من عطر لا سبيل إلى نسيانه. . . لأن منشأ أكثر مؤلفاتي هو أثر شعور يتمكن مني؛ فكتاب (ابن الرجل) مثلاً قد تمثل إلى ذهني ذات مساء بينا كنا في طريقنا من بيت المقدس إلى الناصرة)
ولما سألته عن الشخصيات المصرية التي احتك بها، حدثني عن تشرفه بلقاء المغفور له الملك فؤاد فقال:
(لقد كان يتمنى لو وضعت حياة الخديو إسماعيل، ولما كان الموضوع لا يلهمني الإلهام الكافي فقد وعدته بأن أخصص بضع صفحات من (النيل) لذكرى والده
والحق أن خير رجال الحكم المصريين الذين أتيح لي لقياهم هو سفيركم في لندن: الدكتور حافظ عفيفي باشا؛ وفي خلال مروري بلندن في يونيه الماضي تحدثت طويلاً إليه. وقد أراد تقدمتي إلى جلالة (الملك فاروق) لولا أن سفري إلى أمريكا قد حرمني هذا الشرف)
وكان المسيو لودفيج عائداً فعلاً من الولايات المتحدة حيث قضى زمناً بالقرب من الرئيس روزفلت في بيته الخلوي بهايدبارك. وهو يحمل لرئيس الحكومة الأمريكية أشد الإعجاب، إذ قال:
(إنه رجل من نوع جديد، ظهر لأول مرة في الحياة العامة، رجل القرن العشرين، الباسم أبداً، المستبشر المتفائل على الدوام. فإنني ما رأيت قط نظرة أصفى من نظرته، ولا وجهاً أشد من وجهه حزماً وعزماً. وهو رجل الحكم الوحيد السعيد الذي عرفت. . . وسيكون أسم كتابي عن حياة روزفلت: (بحث في الهناء والمقدرة). والرئيس يود بكل جوارحه لو فرض على سياسة العالم التآلف والوفاق. وأعظم أمانيه وأعزها تدعيم السلام في أوربا
وله في هذا الصدد آراء دقيقة ثمينة، غير أني أخشى أن يكون قد سبق السيف العذل ولات حين تدخل؛ ولم أستطع أن أخفي عنه رأيي في هذا، فإني أرى أوربا تندفع، منخفضة(219/72)
الرأس، نحو حرب جديدة؛ وأشفق من أن تقع الواقعة حتى قبلما يترك روزفلت الحكم
والبحث عن الكوارث المقبلة لا يكون في الصعوبات المادية التي تعانيها أوربا بل في روح الشر والعداء المشبعة بها بعض الدول، ولكن روزفلت ساهر؛ والفرق بينه وبين الديكتاتوريين أنهم يريدون أن يخافهم الناس وروزفلت يريد أن يحبوه)
وعبثا حاولت معرفة رأي المسيو لودفيج في المعاهدة الإنجليزية المصرية، فقد قال:
(إن كل شيء يتوقف على السياسة الدولية وعلى الحرب القادمة التي لا أرى مفراً منها)
ومع ذلك فهو لا يخفي عطفه الشديد على الفلاح المجاهد العنيف الذي يشتغل بقوة؛ وهو يعني كثيراً بما ينتظره من مصير. وكذلك يتمنى لو جمعت الأخوة يوماً ما بين العرب واليهود
على أن تشاؤمه لا يحول بينه وبين الأمل في مستقبل حضارتنا المهددة فهو يقول:
(إن ما ينبغي هو إنقاذ الميراث الأدبي المجيد للشاعر جيته من المتوحشين. وإذا عشت حتى عام 1939 فإنني سأعيد كتابة حياة مؤلف فاوست. فهو الرجل العظيم الوحيد الذي لا أمل الإعجاب به طرفة عين. أما الآن فقد أتممت كتاباً يختلف اختلافاً محسوساً عن كل ما كتبته حتى اليوم وهو (كليوباترة)، وقد كتبته في أربعة أسابيع، كأنني كنت في حلم)
وهكذا تراني قد ظللت وفياً لبلادكم وأرجو أن أسافر إلى القاهرة هذا الشتاء في شهر فبراير، وأتحدث في الجامعة.
ج. قطاوي
حول مهمة دار الكتب
تحتفظ دار الكتب المصرية، فضلاً عن مجموعة مخطوطاتها الحافلة، بطائفة كبيرة من المطبوعات النفيسة النادرة؛ ومنها ما يرجع تاريخ صدروه إلى القرن السادس عشر أو القرن السابع عشر، وكثير منها من مطبوعات القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؛ وهذه المجموعة من المطبوعات القديمة هي في الواقع أنفس ما تحتفظ به دار الكتب بعد مخطوطاتها، من المصادر والمراجع القيمة التي لا يستغني باحث عن الرجوع إليها؛ ومنها معظم المراجع في المباحث الإسلامية والشرقية؛ ومنها مراجع عربية مثل تاريخ(219/73)
العميد بن المكين المطبوع في القرن السادس عشر، ونزهة المشتاق للإدريسي المطبوع في أواخر هذا القرن، وتاريخ ابن عربشاه، وتاريخ ابن العبري المطبوعان في القرن السابع عشر، ومراجع نفيسة أخرى تعتبر في حكم النادر والمخطوط. وقد جرت دار الكتب حتى اليوم على تيسير سبيل البحث والمراجعة للباحثين القلائل الذين يعتمدون في مباحثهم على هذا التراث، وكانت تسمح لهم باستعارة هذه الكتب خارج الدار بإذن خاص، ولمدد محدودة؛ ولكن حدث أخيراً أنها قررت حبس هذه المراجع وعدم التصريح بخروجها من الدار وقصر المراجعة فيها على القراءة بالدار ذاتها؛ وحجة دار الكتب في ذلك المنع هو أن هذه المراجع أصبحت لندرتها كالمخطوطات يجب المحافظة عليها من الضياع، وإبقاؤها أبداً داخل الدار في متناول الباحثين
ونحن مع دار الكتب بلا ريب في المحافظة على نفائسها والحرص عليها من الضياع والتبديد؛ ولكنا نلاحظ أن هذا القرار معطل لمهمة دار الكتب الأصلية. ذلك أن دار الكتب لا تحتفظ فيما عدا هذه المجموعة من المطبوعات القديمة، بكثير من الكتب والمراجع الحديثة القيمة، وجل ما اقتنته الدار في الثلاثين عاماً الأخيرة من كتب القصص والأدب السائر والمؤلفات العادية، وأما ما اقتنته من الكتب والمراجع النفيسة في هذه الفترة فقليل جداً بالنسبة إلى الآلاف المؤلفة من كتب القصص الفرنسي والإنكليزي التي ما زالت تجد في اقتنائها؛ ومعظم ما يقرأ ويعار لا يخرج عن هذه الدائرة، وهذه نتيجة يؤسف لها، ولكن هذا هو الواقع؛ وخير ما تقوم به دار الكتب هو معاونة البحث العلمي وذلك بوضع مجموعتها من المراجع القيمة تحت تصرف الباحثين؛ فإذا كانت تريد اليوم أن تحبس هذه المجموعة بحجة المحافظة عليها فإن ذلك يعطل البحث والمراجعة، لأن معظم الذين يستفيدون من هذه المجموعة لا تسمح لهم ظروفهم بالمكث ساعات طويلة في دار الكتب، ومن المستحيل عليهم أن يترددوا عليها بلا انقطاع ليقوموا بمباحثهم في حجراتها. وخير لدار الكتب أن تعود إلى نظامها القديم في إباحة استعارة هذه الكتب، مع اتخاذ التحوطات والضمانات اللازمة. هذا مع سعيها في نفس الوقت إلى تجديد هذه المجموعة، وذلك بشراء الطبعات الجديدة للكتب التي صدرت لها طبعات جديدة وهي كثيرة تعد بالآلاف. أما إذا كانت دار الكتب تريد أن تغدو متحفاً آخر، وإذا كانت تريد أن تقتصر مهمتها الثقافية على(219/74)
تقديم كتب القصص والأدب الخفيف للشباب، فذلك ما لا نسيغه ولا نعتقد أنه متفق مع وجودها ومهمتها الحقيقية.
تحقيق صحفي شائق
قال الرئيس جفرسون ذات مرة في تعليقه على مهمة الصحافة: (إن إلغاء الصحافة لا يجرد الأمة من مزاياها بقدر ما يجردها إغراقها في الكذب. وإن المرء لا يستطيع أن يصدق اليوم شيئاً تنشره الصحف)، وقد مضى منذ عهد الرئيس جفرسون عصر طويل تطورت فيه الصحافة وغدت قوة عالمية يخشى بأسها. بيد أنه يبقى أن نتساءل دائماً: هل تؤدي الصحافة دائماً مهمتها طبقاً لمبادئ الحق والخلاق؟ هذا ما تصدى لتحقيقه بالنسبة للصحافة الأمريكية اثنان من أكابر الصحفيين الأمريكيين هما مدام سوزان كنجسبوري وهورنل هارت؛ وقد نشرا نتيجة تحقيقهما في كتاب صدر أخيراً تحت عنوان (الصحف والأخبار) وجرى هذا التحقيق تنفيذاً لرغبة (محسن مجهول) رصد لهذا الغرض مبلغاً كبيراً من المال لدي كلية (برين مور)، وقدم إليها مجموعة كبيرة من قصاصات صحفية لبث يجمعها مدى أعوام. وقد استعرض المؤلفان في كتابهما حالة الصحافة الأمريكية اليوم، والقواعد الأخلاقية والثقافية التي تسير عليها طبقاً لدستور الصحافة الأمريكي؛ وخرجا من ذلك بأن الصحافة تجري في تغذية قرائها على أسلوب آلي محض، فتقصد قبل كل شيء إلى إثارة الشعور والحس، وإذكاء تطلع القراء؛ وإن معظم قراء الصحف الكبرى يستقون معلوماتهم ويكونون أفكارهم من قراءة العناوين ورؤوس الموضوعات. وأما من حيث الناحية الأخلاقية فان الصحف لا تسير على وتيرة واحدة، وكل منها تخرج الخبر المعين في الصيغة التي تناسب اتجاهها السياسي أو الاجتماعي؛ ويترتب على ذلك أن الخبر الواحد يحدث آثاراً شتى طبقاً للصيغ والتعليقات المختلفة التي أخرج بها؛ ومن هنا تضعف الحقيقة في رواية الأخبار. كذلك يتناول المؤلفان مسألة الإعلانات وما تحدثه من اثر في أذهان القراء. ومما يلاحظانه أن الصحف الزنجية تغرق في نشر إعلانات السحر؛ وبذلك تستمر على تغذية عقول الزنوج بهذا الضرب من التخريف. وإلى جانب ذلك تكثر الصحف البيضاء من نشر إعلانات المنجمين وقراء الطالع. وينوه المؤلفان في تحقيقهما بنتيجة خطيرة هي أن الصحافة كانت مسئولة في العصر الأخير عن زعزعة الإيمان(219/75)
بالديمقراطية والثقة في مزاياها، وذلك لما تغرق فيه من تشويه نتائج الحكم الديمقراطي، ومن نشر الأنباء التي تسبغ الريب على صلاحيته من النواحي الاجتماعية والأخلاقية والسياسية.
نقول: وإنه ليجدر بأحد الصحفيين المصريين النابهين أن يقوم بمثل هذا التحقيق، فيحدثنا عن الآثار التي أحدثتها الصحافة في العصر الأخير في عقلية المجتمع المصري، وعن مدى التزام الصحافة المصرية في أساليبها وفي مقاصدها للقواعد الأخلاقية والثقافية الحقة.
توماس مان والجامعات الألمانية
كانت جامعة بون الألمانية ضمن الجامعات التي منحت كاتب ألمانيا الأكبر توماس مان درجاتها الفخرية، وكان ذلك قبل قيام الوطنية الاشتراكية في ألمانيا، وأيام أن كان الكاتب الكبير في إبان مجده؛ ولكن ألمانيا الهتلرية تنكرت لجميع الكتاب الأحرار، وكان توماس مان في مقدمة ضحايا النظام الحالي، فغادر ألمانيا إلى إنكلترا مع أخيه الكاتب الكبير هينريش مان؛ ثم نزعت عنه الحكومة الهتلرية جنسيته الألمانية؛ وعلى أثر ذلك سحبت جامعة بون منه درجتها الفخرية، وأعلنته بهذا التجريد في خطاب موجز جاف؛ فرد عليها توماس مان بخطاب مسهب يفيض وطنية ونبلا؛ وفيه يحمل على النظام الحالي في ألمانيا ويستعرض آثاره المخربة للحضارة الألمانية والتفكير الألماني؛ ثم يعرب عن حزنه لما أصاب الجامعات الألمانية في هذا العهد من الصغار والذل. ويقول: (إن الجامعات الألمانية تحمل قسطاً عظيماً من المسئولية في المحنة الحاضرة لأنها أساءت فهم مهمتها التاريخية، وسمحت بأن تكون مهاداً لتغذية القوى الهمجية التي خربت ألمانيا من الوجهات الأخلاقية والسياسية والاقتصادية. . . وإن كاتبا ألمانيا يدرك مسئوليته وتتوق وطنيته إلى الإعراب من الوجهة المعنوية عن كل ما يحدث في ألمانيا لا يستطيع أن يغض الطرف عن ذلك البلاء الذي يعصف بوطنه، والذي يسحق الأجسام والعقول والأرواح ويسحق الحق والصدق). وقد ظهرت رسالة توماس مان هذه إلى جامعة بون أخيراً بالإنكليزية وأحدث نشرها أثراً عميقاً في إنكلترا وأمريكا. وتوماس مان هو بلا ريب أعظم كتاب ألمانيا المعاصرين، وهو يحمل جائزة نوبل للآداب
مدرسة اللغات الشرقية وخلف السير دينسون روس فيها(219/76)
أعلنت (الصنداي تيمس) أن مدرسة اللغات الشرقية قد ساعدها الحظ فوجدت خلفاً للسر دينسون روس من بين رجالها هو المستر رالف ترنر. وكان قد عين أستاذاً في جامعة (سانسكرت) بلندن سنة 1923 واشتغل مع السر دينسون روس في مدرسة اللغات الشرقية
ومن المحتمل أن يكون المستر ترنر أقل معرفة بالشرق الأوسط من السر دينسون، ولكنه من المستشرقين الذين لهم شهرة عالمية. وقد تخصص في فقه اللغات الهندية الآرية
كاتب فرنسي يزور مصر
وصل إلى الإسكندرية الأستاذ كلودفارير الكاتب القصصي الفرنسي المعروف. وسيزور القاهرة ويقضي يومين فيها ثم يبرحها عائداً إلى فرنسا
والمسيو كلودفارير ينتسب إلى جماعة من البارزين في المجتمع الفرنسي والمشتغلين بالثقافة؛ وتنظم هذه الجماعة الآن رحلة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط للدرس والسياحة(219/77)
الكتب
الربع الخالي
تأليف الشيخ عبد الله فلبي
للأديب محمد عبد الله العمودي
المستر سنت جون فلبي، صديق العرب وخليفة لورنس، يعدُّ من أبرز شخصيات الاستشراق في العالم العربي
اتصل بالملك ابن السعود فأحبه وأخلص له، ورافق البدو في البوادي كثيراً فبهرته عظمة الصحراء فارتادها، وتقلب في كثير من أقاليمها، وتكاد آثاره تنحصر على قلب البلاد العربية حيث الملك ابن السعود وأقوامه الوهابيون.
له مؤلفات جليلة، ومجهودات جبارة، عرف فيها عالم الغرب بشعب العرب الفتى الناهض وقائدهم الأعظم
وهذه المؤلفات هي المرجع الوحيد لمن يبتغي تاريخ نجد، وحركة (الأخوان) الأخيرة، وكلها باللغة الإنجليزية منها:
(قلب جزيرة العرب) و (بلاد الوهابيين) و (تاريخ بلاد العرب) و (الربع الخالي) أخيراً. . .
وهذا السفر الذي نحن بصدده يعد بحق من أروع الأسفار وأخلد الآثار، وأدهش الأخبار، وإلا فهل يخطر ببال أحد أن هذه الصحراء العربية التي طالما تهيبها الغزاة، وارتدت عنها أنظار المستكشفين، يقتحمها المستر فلبي فيبرز لنا عالماً مجهولاً، وبقعة مسحورة؟!
هذا الربع الخالي يقع بين حضر موت ونجد، واليمن وعمان؛ وهو عبارة عن مفازة عظيمة، واسعة الأكناف، مترامية الأطراف تتناوح فيها الرياح، وتدوي بها الأعاصير؛ وللبدو فيها خرافات وأوهام يحار المرء في صحتها كقولهم بوجود قصور قائمة، وعيون جارية، ومدن مطمورة تحت الرمال! وما إلى ذلك من غريب الأخبار. . . والمؤرخ في مثل هذه الحال لا يمكنه أن يرفض كل أخبار هذه البقاع لما عُلِم من أنها كانت آهلة(219/78)
بالعمران والسكان في عصور واغلة في القدم. . . وما نعلم أحداً طعن في هذه الرمال وكتب عنها تقارير قيمة، وأبحاثاً لها أهميتها في عالم الكشف سوى ثلاثة من الأوربيين هم: برترام توماس، وجيزمان والمستر فلبي أخيراً. . .
وكتبهم هذه لا تتعدى المشاهدة والملاحظة التي مرت بهم في أثناء سيرهم في طريق خاص، بل في طريق مأهول. فياليت شعري ما علم المناطق المجهولة التي لم تطأها حتى أقدام البدو من أبنائها؟؟
ومهما كانت الإحاطة محدودة وضيقة بهذه البقاع فإن المستر فلبي قد نشر لنا صفحة من صفحها المطلوبة، وصورة من صورها الغامضة، وقفنا على الشيء الكثير من أسرارها وخفاياها
وأمنيته في اختراق هذه الآفاق تعود إلى سنة 1918 حتى تحقق حلمه في عهد الملك ابن السعود بعد أن أخذ عليه إقراراً كتابياً إنه غير مسؤول إذا ما لحقه سوء في الطريق؛ فأمضى المستر فلبي وتوكل على الله. وانحدر من (الهفهوف) أو (الهفوف) بإقليم الحسا في عشرين رجلاً و32 جملاً محملة بالماء والزاد والمتاع، واستغرقت رحلته أكثر من شهرين، اخترق الجنوب ثم انعطف نحو الشمال حتى بلغ (السُّليِّل) من أعمال (نجران)
ومؤلفه هذا يقع في 400 صفحة من القطع المتوسط، ومحلى بصور رائعة تمثل مناظر ذلك العالم المجهول. وقد قسم كتابه إلى ثلاثة أقسام؛ الأول يشمل صحراء (جافوره) و (جبرين) وهاتان المنطقتان تقعان جنوب الحسا فيهما عيون ونخيل، وهِجر (للأخوان) ثم تليهما إلى الجنوب منطقة (الرمال) وهي عبارة عن مفاوز ذات سطح متموج؛ ويأتي القسم الثالث وهو (الربع الخالي) ويمضي المستر فلبي ويصور لنا شبحه المخيف كما يتصوره البدو وكيف يبتلع الأرواح، ويدفن الأشباح! وبعد هذا القسم في نهاية الكتاب تأتي شذرات قيمة، وملاحظات دقيقة، لبعض العلماء الطبيعيين في المتحف البريطاني بلندن عن النيازك التي سقطت في بقاع الربع الخالي، وعن أنواع غريبة الشكل من الطيور والحيوانات والحشرات، ومن الأخيرة جمع صناديق قدمها للمتحف البريطاني. . .
والقيمة العلمية لهذا الكتاب يلمسها المرء في ثنايا السطور، فهو يرسم لنا مناظر خلابة للصحراء، والأشياء المتصلة بمظاهر البادية تصويراً طبيعياً، قريب الانتزاع، صادق(219/79)
النظرة، من وصف الأطلال التي مر عليها، ومراتع الوحوش التي أبرد فيها. وآفاق البادية المجلوة التي كانت من أمتع المناظر ساعة الأصيل!
وقد أفاض في حياة الأفراد والجماعات التي تعيش في ذلك العالم المجهول وأخصهم (بني مرة) و (المناصير) فعرض لحياتهم البسيطة الساذجة، ومراعيهم المتجهمة المتناثرة في عرض الصحراء، وكيف أنهم يعتمدون في قوتهم على لحوم الغزلان والوعول والأرانب التي تكثر في تلك البراري. .
وفي هذا الكتاب يكشف لنا المؤلف عن ناحية سياسية مجهولة بين حضرموت ونجد؛ فمن المجزوم به أن القبائل الحضرمية المتاخمة لحواشي الربع الخالي من الصعب عليها الاتصال والأمتيار من بلاد نجد، لوجود هذه الفلاة الفاصلة، ولكن المؤلف يميط اللثام، ويرفع الظن، ويعلمنا أن صلات القبائل الحضرمية في الشمال وأخصها الصّيْعر والعوامر والمناهيل متينة بالبلاد النجدية، ولابن السعود سلطة نوعية على هذه القبائل، فقد روي المؤلف في ص103 حادثة (سيف ابن طناف) شيخ مشايخ المناهيل في (حضرموت) وكيف فاض إلى نجد من أقصى حدود حضرموت ومعه هجين من الأصائل ليقدمه لأبن حلوي حاكم الحسا السابق دليلاً على الولاء والخضوع!
ومن عجيب ما حدثنا به المؤلف في ص116 أنه بينما كان يجوس خلال بعض الغياض يطارد الجعلان لاحظ سائلاً قرمزي اللون يسيل على لحاء إحدى الشجيرات؛ فتبينه فوجده مادة صمغية تشبه تلك المادة التي أنزلها الله في البرية على بني إسرائيل ليقتاتوا بها عند رحيلهم من مصر وهي (المن) الواردة في القرآن الكريم في قوله تعالى (وأنزلنا عليهم المن والسلوى). وقد ذهب العالم الإسرائيلي الدكتور يهودا إلى أن هذه اللفظة مصرية قديمة بمعنى (لا نعرف) وذلك أنه لما خفي أمرها على بني إسرائيل، ولم يدركوا حقيقتها وكنهها كسوها هذا اللفظ الذي معناه في المصرية ما تقدم. ويزيد هذا العالم أن هذه اللفظة لا تزال شائعة الاستعمال في اللسان العبري الدارج: فهل لأستاذنا الدكتور ولفنسون أن يتكرم بإماطة اللثام عن أصل هذه الكلمة ومصدر اشتقاقها، وشجرة المن وما ورد عنها في الآثار اليهودية؟
ويمضي المستر فلبي ويصف لنا الشيء الكثير من القصور المتهدمة، والآثار التي تشير(219/80)
إلى الماضي السحيق وخاصة في منطقة جبرين، كما عثر هناك على حلق مفككة، وخرز مبعثر هنا وهناك، وشظايا خزف، وجرار مدفونة في الرمال!
ويعجبنا من المؤلف أنه كان أثناء الرحلة حركة فعالة، فقلما ترك فرصة إلا وشغلها في البحث والتنقيب، خلال الأشجار وثنايا المخارم، وادعاص الرمل؛ وكان في سيره لا يساير القافلة بل كان في اتجاه آخر يتعثر بين أنجاد الفلاة وأغوارها، عله يقع على جديد، أو يتوصل إلى شيء غريب، وقد كان له ما أراد فقد وضح لنا أن منابت الربع الخالي لا تنبت إلا العبل والعندب والعلقة والبركان والمرخ والحمض والغضا والحرمل والسمر والسرح، وهذه النباتات يقتات بها حيوان ذلك الإقليم وتساعف الجمال في رحلاتها الطويلة الشاقة. ومن أدهش ما حدثنا به المؤلف أنه توجد في تلك الصحارى الغبراء مروج مخضلة ومناضر ساحرة، لمسارح الإبل، ومراعي الشاء!
ولعل الظاهرة الطبيعية في ذلك البلقع من الأرض، هي الرياح فقد كانت شديدة الدوي، قوية الأعتكار، ومع هذا فلها موسيقى عذبة، ولحن مطرب، ترنحت لها أعطاف الشيخ عبد الله وخال نفسه في الـ وذلك عندما اعتلى قوزاً من الأقواز، وكانت الرياح تصفر حواليه، وهناك استرعى انتباهه لحن عذب، ظنه لأول وهلة صادراً عن أحد رفاقه، ولكن تبين له أخيراً أنها أغان مبعثها الرمل وقد استكتب المؤلف أحد العلماء الطبيعيين عن أسبابها في فصل أدرجه في خاتمة الكتاب
وهذه الرياح الهوج كانت من أكثر الصعاب في عرقلة سير الاستكشاف ومضايقة المؤلف في أبحاثه، فهو يحدثنا في ص188 كيف ثارت الطبيعة، فعصفت الرياح، وانبعثت الأعاصير، فزعزعت المضارب وحطمتها ثم استوى عليها الرمل وما أخرجوها إلا من بطن الأرض
وهذه الظاهرة ليس للشك فيها مجال، فكثيراً ما سمعنا في حضرموت أن الرجل يقف في وسط هذا الرمل فما تمضي عليه عشر دقائق حتى يصير مغروزاً فيها؛ والحضارمة لا يسمونه إلا (البحر السافي!)
ويمضي المؤلف ويصف لنا الآبار في هذه الأصقاع، فيحدثنا أنها كثيرة جداً، وما على البدوي إلا أن ينبش الأرض على بعد بعض قوائم، فيرى الماء وقد نزا من جوفها! وحفظ(219/81)
هذه الآبار من سفى الرياح غريب، فيقول إن البدو يغطون أفواهها بالجلود العريضة وأغصان الشجر، وهم على اتفاق تام على رعاية هذه المصلحة العامة في جميع تطوافهم
وعندما دخل المؤلف منطقة (شنة) ص228 تراءت له منبسطات من الرمل محاطة بكثبان تكون شكل بحيرات وأخرى منها مستطيلة، أدى بحثه إلى أنها بحيرات كانت موجودة من العصر الجيولوجي الثالث، وكانت تتدفق إليها الأنهار من شتى أنحاء الربع الخالي، حاملة الطمي معها، ثم لم تلبث هذه البحيرات أن جفت وفاضت عليها أنفاس الرياح فغمرتها بكثبان الرمل!
ويظن المستر فلبي أن بلدة (شنة) لا تبعد عن البقعة التي كان وادي الدواسر يصب مياهه فيها في الأعصار القديمة؛ ويعزز رأيه بأن حفافي تلك البحار لا تزال محسوسة حتى هذه الساعة في الأجراف التي تعود إلى العصر الميوسيني في طرقات (جيبان) وأفاض المؤلف في هذه الظاهرة الجيولوجية العجيبة التي خرجنا منها بأن بقاع الربع الخالي كانت آهلة في عصور سحيقة بالسكان والعمار، وكانت حضرموت وظفار وجبال القرا، بل الشاطئ الجنوبي من الجزيرة العربية مغموراً بالمياه؛ وكانت وديان الدواسر وتثلث وحبونة وسحبة وبيشة أنهاراً تصب مياهها في رحاب الربع الخالي؛ فلما جفت هذه الأنهار، وأضحت ودياناً كما هي اليوم أنحسر الماء عنها فخلت تلك البقاع فلم يبق فيها إلا هذه الآثار من الأصداف وأحجار البحر، وفضلات الزجاج، والصخور الغريبة التي شاهدها المؤلف وشحن منها صناديق. وقال عن وادي الدواسر إنه أعظم الأنهار القديمة ينحدر من جبال عسير واليمن فيمر على (دام) و (السُّليِّل) فيلقي بنفسه في أحضان الربع الخالي!
وهذه النظرية المحيرة لم يقل بها المستر فلبي وحده، بل فطن لها كثير من علماء الجيولوجيا كملطبرون والعالم الإيطالي كاتاني داتيانو، إذ يعتقدون استناداً إلى الأدلة الجيولوجية أن الجزء الجنوبي من بلاد العرب كان في يوم ما مزدهراً بحضارة عظيمة تعود إلى ما قبل التاريخ، أيام كانت هذه البقاع تأهل بأقدام أمم الأرض وأشدها قوة من بني عاد. . .
وهذا السفر الجليل الذي خدم فيه المؤلف العرب لم يسلم من بعض الهنات، من ذلك ما جاء في ص77 عند الكلام على قبيلة (المناصير) فقال، استناداً إلى ضعف رواية، إنها قبيلة(219/82)
كانت تدين بالمسيحية واسمها يدل عليها!
وفي ص78 تكلم عن أجود أنواع الإبل، فقال إنها الإبل التي تنتمي إلى قبيلة (آل بوشامس) من قبائل عمان، وهذه القبيلة لا تعد من المسلمين! بل تنتمي إلى المذهب الأباضي، ولهم صلاة عجيبة!
وهذه شطحة من (أخينا الشيخ عبد الله)، فالأباضية فرقة من فرق الإسلام!
وفي بقاع الربع الخالي يوجد حيوان من نوع الماعز يسميه الأهالي (الوضَيْحي) وقد أطلق المؤلف عليه اللفظ الإفرنجي وهذه اللفظة لا تعني إلا (الوعل) وهو يختلف عن (الوضيحي) في انتصاب قامته، وتقوس قرنيه مع انتظام عقد عليهما، وهذا الحيوان يوجد بكثرة في جبال حضرموت، أما الوضيحي فيظهر أن أسمه العلمي
وفي الكتاب نبدة عن رملة (وبار) الشهيرة إذا ساعفتنا الظروف نقلنا منها شيئاً لقراء الرسالة
وأخيراً، لا يسعنا إلا أن نهتف هتاف المعجبين بهذا المجهود الذي بذله المستر فلبي فقدم للعرب خدمة تذكر له أبد الدهر
محمد عبد اله العمودي
بدار العلوم(219/83)
العدد 220 - بتاريخ: 20 - 09 - 1937(/)
حقيقة النفس
هل إليها من سبيل؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان (ويندل هولمز) يقول - ولا يزال، على الأقل في كتابه فقد شبع موتاً من زمان - إن الإنسان في حقيقته ثلاثة؛ وإن (أحمد) - مثلاً - توجد منه ثلاث صور: فهنا احمد كما يعتقد هو في نفسه، وهناك احمد ثان كما هو في رأي محمد، وهناك احمد ثالث هو الذي يتكون من اعتقاده في رأي محمد فيه، وعلى هذا القياس يمكن أن يكون هناك ألف احمد أو أكثر، ولا يكون لأحمد الحقيقي وجود في الواقع، لأنه ضائع بين شخصياته المتعددة، ولأنه هو نفسه قلما يعرف حقيقة نفسه فكيف بمعرفة غيره؟
كنت أفكر في هذا الذي قاله ويندل هولمز لأن صديقاً لي كان يبدو لي كأنه طائفة من النقائض جُمعت وخُلط بعضها ببعض وعُجن التراب فيها بالنار، ثم صيغ من هذا المزيج المتنافر وغيره، مما يخفى علينا، إنسان نعرفه باسمه، ولا نعرف كنهه وحقيقته؛ وابتسمت وقد خطر لي أنه كالمهربات التي يجد رجال الجمارك مكتوباً على صناديقها: (بطاطس) أو (زيتون) ويفتحونها فإذا البطاطس أو الزيتون هناك، ولكن حشوه حشيش أو رصاص أو غير ذلك من المحضورات! وكنت أعجب له هل يدرك، يا ترى، أن له بواطن وظواهر مختلفات، وأنه أشخاص كثر لا شخص واحد، وأن في أعماقه تيارات شتى تتلاقى لتتدافع لا لتتساير؟ فسألته عن ذلك فقال: (إنك لست أقل مني تعدداً، أنت أيضاً لك جوانب كثيرة) فبينت له أني لا أنتقد ولا أعيب، وإنما أريد أن أفهم، فكان مما سمعته منه: (إنك أنت أيضاً لك سيرة في حياتك العامة، وسيرة أخرى في حياتك الخاصة، ولك رأي تذيعه ورأي تضمره، وشخصية تكشف عنها وأخرى تسترها، ونزعة تبديها ونزعة تحجبها؛ أو لعلك لا تتعمد شيئاً من ذلك ولا تفطن إليه ولا تدريه ولكنك على التحقيق تغير جلدك في اليوم الواحد أكثر من مرة)
قلت: (إذن ما حقيقة الإنسان؟)
قال: (حقيقته يعلمها الذي خلقه وركبه فيما شاء من الصور)
قلت: (قد تؤدي هذه الحيرة إلى إنكار المرء لنفسه. أين أنا بين هذه الصور العديدة(220/1)
المتناقضة التي تبدو لي كأنها لي؟)
قال: (وما المانع؟)
قلت: (وإذا ضاعت نفسي؟ إذا خفيت عني حقيقتها؟)
فصاح بي وهو يضحك: (إذا؟ تقول إذا؟ إن حقيقتها ضائعة يا صاحبي من قبل أن تفطن إلى احتمال ضياعها! تعال. . . تعال)
قلت: (إلى أين؟)
قال: (وما سؤالك هذه؟ أتكره أن تريح رأسك المتعب أو أن تنظر إلى صورة لجانب من نفسك الخفية المضمرة؟)
قلت: (ماذا تعني؟)
قال: (أعني أن النفس كتاب فيه ورق كثير. . . كثير جداً. . . ولكنه مطوي. . . يحتاج إلى يد تفتحه وتقلب صفحاته؛ هذه الأيدي هي المناسبات والظروف. وكثير من الناس تظل كتب نفوسهم مطوية لأن حياتهم لا تتيح لهم أسباباً تدعو إلى فتح الكتاب والنظر إلى ما فيه. . . وقد تكون نفيسة جداً، ولكنها تبقى مغلفة مجلدة، لأن حياتهم تتدفق بانتظام في مجرى مألوف مثلاً، لا يحوج إلى الرجوع إلى الكتاب والاستمداد من وحيه والاسترشاد بما فيه. . . ملايين وملايين من الخلق هكذا، وتراهم فترى البساطة والوضوح والجلاء. . . لاشيء يبدو خفياً أو معقداً. . . ولكن من يدري كيف يكونون لو أن الكتاب فتح مرة؟ وماذا ترى يبقى حينئذٍ من البساطة والوضوح؟ تعال، تعال).
قلت: (هل لي أن أعرف أي يد ستفتح لي اليوم كتابي وتقرئني بعض ما فيه؟)
قال: (فتاة رشيقة ظريفة تنسيك الدنيا والسعي والكدح وراء الرزق).
قلت: (ومعنا رابع أو رابعة؟)
قال: (رابع: أخوها)
فهممت بسؤال ولكنه زجرني عنه، وقال: (اركب اركب)
وبلغنا البيت فأطلق النفير فأطل الذي هو (أخوها) وصاح: (حالاً. حالاً)
وخرجنا إلى روضة على النيل وكانت جلسة ظريفة وممتعة، نعمنا فيها بالضحك والحديث وأنس المجلس ثم رجعنا، فسألني لما صرنا وحدنا: (ما رأيك؟)(220/2)
قلت: (لا أدري ماذا تستفيد من هذه المجالس إلا الحسرة. أولى بك أن تقصر. . . هو أحجى وأرشد)
قال: (لا أستطيع. إني مدبر فعيني لا تزال تتلفت إلى ما أُوَلَّي عنه. أنت أصغر مني فالذي أمامك لا يزال إن شاء الله أطول مما خلفت وراءك. وهل وراءك إلا الطفولة الغافلة والحداثة الجاهلة والشباب الغرير؟ ولكني أنا ورائي خير ما في العمر. . . فلا يسعني إلا أن أنثني وأتلفت وأدور وأتوقف. غير أني لا أتحسر لأني أصح إدراكاً لحقائق الحياة من أن أفعل ذلك؛ وحسبي متعة النظر ولذة الحديث، ومن متعي أن أرى الشباب كيف يلهو كما كنت ألهو. ولست أحجم عن اللهو إذا تيسرت لي أسبابه وإلا ففي لهو العقل الكفاية)
قلت: (اسمع. إني لا أرى مما يليق بك أن. . .)
فصاح بي: (خل ما يليق بي لي، فإنه شأني. واسمع. إن لي حياتين: حياة العمل وهذه مشتركة بيني وبين الناس وأنا فيها جاد صارم، وحياتي الخاصة وهذه لي وحدي وليس للناس شأن بها فيما لا يمسهم منها. . . لا تعترض. . . إن الناس جميعاً كذلك ومنافق كذاب من يدعي غير هذا)
ومن آرائه أن أهل المدن المتحضرين ليسوا أقل خشونة وجلداً من أهل الريف، ولا أرق ولا أطرى كما يتوهمهم البعض. ومن قوله لي في ذلك: (إنكم تنظرون إلى أفراد معدودين من ذوي اليسار والترف، وتقيسون أهل المدن جميعاً على هؤلاء الآحاد وتنسون أن كثرة الناس من الفقراء الذين لا يكفون عن السعي والكدح في سبيل الرزق ليلاً ونهاراً. . . أين في الريف من يتعب كتعب أهل المدينة؟ أين في الريف من يعدم قوتاً، ويبيت طاوياً كما يبيت الكثيرون من سكان المدن؟ وأين هو هذا الترف في حياة المدينة؟ وليس في المدن رذيلة إلا وفي القرى مثلها؛ ولكن المدن مزدحمة غاصة، وتيار الحياة فيها زاخر، فالعيوب تبدو أبرز. كلا، الإنسان هو الإنسان سواء أكان في قرية سحيقة أم في المدينة، ولكن الحياة في القرية أهدأ وضغطها على الأعصاب وإتلافها لها أخف وأقل؛ فالناس في المدن أطلب للترفيه، وأكثر مصارحة بالرغبة فيه)
وآراؤه في مجالسه العامة غير آرائه في مجالسه الخاصة، فهو مثلاً في حياته العامة لا ينحرف مقدار شعرة عن تأييد التقاليد المقررة، ولا يكف عن الدعوة إلى مغالبة النفس(220/3)
وضبطها وكبحها والحرص على الفضائل الاجتماعية، ولكنه حين يكون بين إخوانه الذين اصطفاهم لا يتردد في المعالنة بإنكار الخير والشر والفضيلة والرذيلة، ويذهب إلى أن هذه كلها أكاذيب يستعان بها على تنظيم حياة الجماعة ووقايتها ما تجره الفوضى؛ ويؤدي إليه إرسال النفس على السجية الساذجة بلا كابح. وعنده أن الإنسان حيوان مصقول لا أكثر، ولكن الصقل لا يمنع أن تطغى عليه حيوانيته إذا استفزها شيء، فلا تعود طبقة الدهان - وإن كانت سميكة - تنفع أو تصد. وما من إنسان في رأيه يحجم عن الشر حتى من غير استفزاز إذا وسعه أن يقدم عليه وهو آمن. وكل امرئ يشتهي أن يكون له مال الأغنياء، وقوة الأقوياء، وسطوة الحاكم، وبطش الظالم، وفجور الفجار؛ ولكنه يقيس قدرته إلى شهوته فبطلب ما في طوقه، ويقصر عما عداه، وتفعل العادة والنظام المألوف والشرائع فعلها أيضاً.
ولست أعرفه مشى في جنازة أو بكى على ميت، فأن هذه عنده سخافة. وحبه مع ذلك للحياة وجزعه من الموت أقوى ما عهدت، ووفاؤه لإخوانه وحدبه ورقة قلبه من الفلتات المفردة في هذه الدنيا. وهو حين يذكر نظرية قديمة ظهر بطلانها وعفي عليها الزمن، يخيل إليك أنه يؤبن ميتاً على قبره من فرط شعوره بالزوال؛ وإذا سمعته يبين فساد رأي رأيته يترفق بالرأي ولا يعنف في تفنيده كأنما يتقي إيلامه وجرحه.
وقد قلت له مرة: (إنك تهدم بيد ما تبني بالأخرى) فقال: (كلا، فإن الذين أصارحهم بما انطوي عليه من الآراء الخاصة - أو على الأصح أدع نفسي تتفتح على هواها بلا كابح في حضرتهم - يسعهم أن يفهموا ويقدروا، بل أن يهتدوا إلى أصح وأصدق من آرائي؛ أما سواد الناس فأصلح لهم أن يبقوا على التقاليد، وأن تتحدر حياتهم في المجاري المقررة المحفورة من قديم الزمان، وإلا ارتدوا إلى الهمجية. ثم إني أخشى أن أكون مخطئاً فكيف أستبيح أن أزلزل للناس نفوسهم؟ ألا يمكن أن يكون الناس على صواب وأكون أنا الذي ركبت من الغلط أبلد الحمير؟ جائز. . . كل شيء جائز).
صحيح! كل شيء جائز! ولهذا تضيع الحقيقة.
إبراهيم عبد القادر المازني(220/4)
توارد الخواطر
للأستاذ عباس محمود العقاد
قبل أربع عشرة سنة كتب صديقنا الأستاذ المازني مقالاً عن الخيام ألمع فيه إلى تصوف الخيام واستغرب أن يدين رجل مثله بخيالات المتصوفة وشطحاتهم البعيدة عن تحقيق الحلم وتقرير الواقع لأنه (كانت له موهبة تنأى به عن التصوف: ذلك أنه كان رياضياً بارعاً؛ ومما يذكر له في هذا الباب تنقيحه التقويم السنوي تنقيحاً أظهر فيه من الحذق والأستاذية ما أطلق لسان جيبون المؤرخ الإنجليزي بالثناء عليه. وله كذلك طائفة من الجداول الفلكية ومؤلف في علم الجبر بالعربية؛ والذهن الرياضي مجاله وعمله ضبط الحدود والحصر وتعليق النتائج بأسبابها والمعلول بعلته، وهو عمل يتطلب من الدقة والعناية والترتيب والتبويب ما لا يطيقه أو يقوى عليه ذهن المتصوف. ومن العجيب أن فتزجرالد لم يفطن إلى دلالة هذا ولا خطر له أن يسوق هذه الحجة فيما ساقه لتبرئة الخيام من التصوف).
ومن رأيي الذي لا أزال أراه أن الملكات الرياضية أقرب الملكات إلى التصوف والفروض البعيدة والعقائد الخفية، فكتبت يومئذٍ بصحيفة البلاغ مقالاً عن القرائح الرياضية والتدين، ناقشت فيه رأي الأستاذ المازني وبينت فيه أسباب العلاقة بين القريحة الرياضية وبين التدين والإيمان بالغيب؛ وأهمها أن حقائق الرياضة ذهنية وليست خارجية، فهي أقرب إلى الفروض وأبعد عن مراجعة الواقع الذي يراجعه علماء الحس والتجربة والمشاهدات العملية؛ فاعتماد الرياضيين على البديهة أكثر من اعتمادهم على الملاحظة، واستعانتهم بالفرض أكثر من استعانتهم بالتجربة: وموقفهم أمام المجهول موقف يسلم به فرضاً ولا يستبعد فيه أي شيء، وهذا سر تدينهم وإخباتهم وميلهم إلى تصديق المعجزات والخفايا وما شاكلها مما يلي البديهة الغامضة ولا تكاد تجمعه بظواهر الأشياء صلة. وفي عصرنا هذا لم يشتهر أحد من الرياضيين كما اشتهر أوليفر لودج الإنجليزي وفلامريون الفرنسي وأديسون الأمريكي، وكلهم من أعظم علماء الرياضيات، وكلهم مسترسل في إثبات أسرار الروح وكشف غوامض الاستهواء.
قلنا: (لهذا تتآخى فروع هذه الحقائق أحياناً وتتآلف العلوم التي تبحث فيها وتتقارب الملكات التي تكون في المشتغلين بها، فيكثر من يجمع بين الفلسفة والرياضة ولا يندر أن ترى من(220/5)
يجمع بينهما وبين الموسيقى معاً. فالفارابي مثلاً كان رياضياً مبتكراً في الموسيقى، وفيثاغورس أقدم فلاسفة ما وراء الطبيعة عند اليونان كان يبني فلسفة الكون كله على النسب الموسيقية بين الأعداد. وقد مر بمصر قبل أيام نابغة من أفذاذ الرياضة هو ألبرت اينشتين صاحب الفلسفة النسبية التي دهمت الناس ببدع في تعريف الوقت والفضاء يكفي أن نذكر منها أن الخط المستقيم ليس من اللازم أن يكون أقرب موصل بين نقطتين. وهو فيلسوف رياضي وموسيقار بارع في العزف على القيثار. وليس يخفى الشبه القريب بين ملامح العظماء من الفلاسفة والرياضيين وملامح العظماء من نوابغ الموسيقيين. فقد تلتبس عليك صورهم حتى لا تكاد تميز بعضهم من بعض ولا سيما في نظرات العين وسعة الجبهة وارتفاعها. . .) ومن ذلك أن ينبغ العازفون والحاسبون والعدادون في الطفولة الباكرة وفيما دون الخامسة أحياناً ولا يحصل ذلك في سائر العلوم.
ذكرني ذلك البحث القديم الجديد اتفاق عجيب بين أمور متعددة لا رابطة بينها في هذه الأيام.
فالأستاذ المازني يكتب عن توارد الخواطر، وفي مقالي الأخير بالرسالة كلمة عن الرياضيات واتصالها بعالم الروح، وبينما أفكر في هذه الموضوعات إذا بكتاب جديد يصدر من مطبعة (جولانكز) الإنجليزية عنوانه (عظماء الرياضيين) لمؤلفه الأستاذ (بل) الرياضي المشهور في الجامعات الأمريكية. فتصفحته واستقصيت بعض تراجمه فإذا به لا يقول ما قلته عن الصلة بين التدين والرياضة والموسيقى والحقائق الفرضية، ولكنه يعرض لنا تراجم العظماء الرياضيين وعجائب آرائهم ونوادر صباهم وطرائف أخبارهم فلا يسع القارئ إلا أن يخرج منه بتلك النتائج التي أجملناها قبل أربع عشرة سنة كأنها استقصاء ثم تلخيص لكل ما ورد في ذلك الكتاب.
من ذلك أن الرياضي الكبير سلفستر يقول: (ألا يجوز إذن أن توصف الموسيقى بأنها رياضيات الحس، وأن توصف الرياضيات بأنها موسيقى العقل، وأن يقال إن الموسيقار يحس رياضياً وأن الرياضي يفكر موسيقياً؟ فالموسيقى هي حلم الحياة، والرياضة هي عمل الحياة، وكلتاهما تستوفي نصيبها من الأخرى حين يرتقي الذهن البشري إلى أوجه الأعلى، ويسطع في مزدوج من العبقرية يجمع بين موزار وديرشليه، أو بين بيتهوفن(220/6)
وجاوس، وهو الازدواج الذي تجلى وميض منه في عبقرية هلمهولتز وأعماله).
ومن ذلك أن الرياضي السويسري النادر المثال ليونارد إيلر الذي قيل فيه إنه يصنع المعادلات كما يتنفس الهواء، كان شديد التدين، وكان يصلي بالأسرة في منزله؛ وخطر له أن ينتقل من ألعوبة دبروها في البلاط الروسي للفيلسوف (ديدرو) إلى الجد كل الجد في إثبات وجود الله بالمعادلات الرياضية. فلما تمادى ديدرو في تكفير رجال الحاشية الروسية ومجادلتهم في وجود الله تعمدت كاترين الكبيرة أن تداعبه وتفحمه من طريق الرياضيات التي كان يجهلها كما يجهل اللغة الصينية، فوكلت به إيلر فواجهه في جد ورصانة ولفق له معادلة وتحداه أن يجيب إن استطاع الجواب. . . فلم يدر الفيلسوف بماذا يجيب، وكانت أضحوكة البلاط إلى حين.
قال الأستاذ (بل) مؤلف الكتاب: (ولم يقنع إيلر بفكاهته الفاخرة بل حاول بعد ذلك أن يجلو الزنبقة وراح وهو جاد غاية الجد يركب المعادلات والبراهين الرياضية التي تثبت أن الله موجود وأن الروح مجردة من المادة. وقيل إن هذه البراهين تسربت إلى فلسفة الفقه والتصوف على أيامه فكانت على الأرجح نخبة الأزاهير التي تتمثل فيها عبقريته الرياضية بمعزل عن الشؤون العملية).
ومن ذلك أن جاوس الملقب بملك الرياضيين عرف تصحيح الحساب قبل بلوغه الثالثة من عمره. وكان أبوه رئيساً لطائفة من العمال، فلما كان يوم السبت واستدعاهم لإحصاء ما لهم وما عليهم بمسمع من طفله الصغير غلط في الجملة فصاح به الطفل: (يا أبتاه! ليس هذا بصحيح، وإنما الصحيح كيت وكيت) وروجع الحساب فإذا هو على صواب.
ويقول المؤلف: (ومما تشوق ملاحظته - لما هو معهود في الرياضيين من الميل إلى الموسيقى - أن فيرستراس الكبير لم يكن يقبل الأنغام على ضروبها مع اتساع مشاركاته، فلم تكن تعنيه ولم يزعم هو أنها تعنيه).
وعندنا أن هذا غريب حقيق بالملاحظة كما قال المؤلف، إلا أن غرابته تهون كثيراً متى ذكرنا أن فيرستراس هو القائل إن الرياضي لا تستقيم له ملكة الرياضة إلا بقسط من الشاعرية فيه، وأنه كان يعارض إخوته في تعلم الموسيقى لأنهم كانوا يروضونه بها على الرقص وشهود المجتمعات.(220/7)
وكان (كبلر) يزعم أنه اهتدى إلى نسبة بين حركات الكواكب السيارة ومواقعها تشابه النسب التي بين الأنغام الموسيقية والمقامات.
وتعددت الأقوال التي ترجع بتركيب الكون كله إلى النسب الرياضية ولا سيما بعد ما ظهر في السنوات الأخيرة من تحليل النور ورد المادة كلها إلى الإشعاع، ورد الإشعاع كله إلى مقدورات عددية يوشك أن تخرج به من عالم المادة إلى عالم الحساب. فبعد مقال أفلاطون: (إن الله يهندس) ومقال جاليلي: (إن كتاب الطبيعة العظيم مكتوب بلغة الرياضيات) ومقال جاكوبي: (إن الله يحسب) يقول الأستاذ جينس في كتابه (الكون الخفي) وهو من أقطاب العصر الحديث: (إن مهندس الكون الأعظم قد بدا لنا اليوم محض رياضي. . . وإن الكون يلوح لنا رياضياً على منوال مخالف لكل معنى تصوره الفيلسوف (كانت) أو كان في وسعه أن يتصوره في أيامه؛ فإن الرياضيات بالإيجاز تهبط إلى الكون من عل ولا تصعد إليه من الأدنى).
ومن الاتفاق الذي ينساق في هذا المساق ما رواه الأستاذ جينس في كتابه المتقدم عن رأي هكسلي في المصادفات وتوارد الخواطر. فهو يعتقد اعتقاده أننا لو أسلمنا الآلات الكاتبة إلى ستة قرود يدقون على حروفها بغير قصد ولا معرفة، ملايين بعد ملايين من السنين لكان لزاماً أن يجيء الوقت الذي (تنكتب) فيه بهذه الوسيلة جميع الكتب التي في المتحف البريطاني).
ولا يخفى ما يريده هكسلي بهذه النكتة المنطقية، ولكنه على كل حال قد خرج بالمسألة إلى (ما وراء الطبيعة) وأبطل حكم العقل والإرادة فيها. فمهما يطل عمر الإنسان فما هو ببالغ أن يفسر لنا على هذا النمط اتفاق الخواطر في صفحة واحدة بله الألوف من المجلدات التي تحويها دار الكتب البريطانية.
ولا حاجة إلى القرود الستة وملايين السنين والآلات الكاتبة لتعليل توارد الخواطر في الآراء أو في العبارات، فإن علم النفس يغنينا حيث لا يغني التطوح ملايين السنين وراء المشهود والمحسوس. وقد كان علم النفس كافياً حتى الآن لتعليل حفظ العقول صفحات عديدة في حالة (الغيبوبة) أو حالة التنويم المغناطيسي أو حالة (التنويم الذاتي) أو ما يشبه هذه الحالات من عوارض الحمى العصبية. فإذا رأينا حالة كالتي رواها صديقنا الأستاذ(220/8)
المازني يستوعب فيها الإنسان بضع صفحات لا يخرم منها حرفاً ولا نقطة ثم يعيدها وهو معتقد أنه يمليها من وحي بديهته فلنرجع إلى علم النفس في وصف العوارض التي تأتي بهذه الغرائب فإنه لكفيل بتعليلها أو بإبداء مقطع الحق فيها.
وإنما العبرة من جميع ما تقدم أن نسأل: ترى لو صدر كتاب (عظماء الرياضيين) قبل كتابة المقال الذي ناقشت به الأستاذ المازني منذ أربع عشرة سنة، أما كان أقرب الاحتمالات إلى الذهن أنني قرأت ذلك الكتاب واستوحيت منه التحليل الذي فرقت به بين عقول الطبيعيين وعقول الرياضيين وعقول الموسيقيين؟ أم كان من المستغرب يومئذٍ أن يقال إنني لم أطلع على ذلك الكتاب وإن كان مؤلفه لم يبسط فيه الرأي الذي بسطته، ولم يتجاوز أن جمع أخبار الرياضيين وعجائبهم في سجل واحد؟
فأما وصدور الكتاب بعد كتابة المقال محقق لا شك فيه فهذا التوافق يبدو سهلاً جائزاً خلواً من الغرابة. ومن ثم ينبغي أن نقدم الاستقراء العقلي - في تمحيص الخواطر المتواردة - على استقراء التاريخ مع رجاحة هذا وصعوبة الاستغناء عنه، لأن استقراء التاريخ وحده لا يكفي للبت في جميع الأمور.
ونعني بالاستقراء العقلي أن نمتحن ذهن الكاتب وأن نتابع وجهته في تفكيره؛ فإذا عرفنا أنه قمين أن يقول ما قال، وأن يخوض حيث خاض، ويتوجه حيث توجه، فالاتهام بعد ذلك ضرب من اللغو والتمحل، وإن لم يكن كذلك فهو متهم ولو لم يكشفه استقراء التاريخ.
أما حين يقع الاتفاق في العبارات والحروف صفحات متواليات فليس من المروءة أن نجزم باستحالة ذلك قبل أن نحتكم إلى الاستقراء العقلي من طريق علم النفس ودرس الذهن الذي تقع له أمثال هذه الغرائب، فقد يهدينا الحكم الوئيد هنا حيث يضلنا الحكم السريع، ولا ضير علينا إذا تطابق الحكمان في النهاية بعد الموازنة والمقابلة بين جميع الفروض.
عباس محمود العقاد(220/9)
1 - مصر في أواخر القرن الثامن عشر كما يصفها
الرحالة سافاري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت مصر خلال العصور الوسطى كعبة لطائفة كبيرة من الرحل والباحثين يفدون عليها من المشرق والمغرب، تجذبهم عظمتها وآثارها وعلومها وفنونها؛ وقد ترك لنا كثير من هؤلاء الرحل آثاراً قيمة عن مصر وأحوالها في مختلف العصور. ونستطيع أن نذكر من هؤلاء ابن حوقل وعبد اللطيف البغدادي وابن بطوطة، والبلوي، وابن خلدون من الرحل والعلماء المسلمين، ومركوبولو ودي جوانفيل وبيترو مارتيري من الرحل الغربيين. ولم ينقطع ورود هذا الرهط من الرحل بعد الفتح العثماني، بل نلاحظ بالعكس أن الرحل والباحثين الغربيين يفدون على مصر منذ القرن السابع عشر في فترات متقاربة ويضعون عنها المؤلفات والبحوث المطولة؛ ولدينا منهم في القرنين السابع عشر والثامن عشر ثبت حافل؛ ولدينا من آثارهم مجموعة نفيسة من الوثائق والصور عن مصر في هذه الفترة. وإذ كان العصر العثماني من أغمض عصور التاريخ المصري وأشدها ظلاماً، فإن هذه المجموعة من آثار الرحل الغربيين تعتبر من أهم مراجعنا في دراسته وتصويره.
بيد أنه مما تجدر ملاحظته هو أن القرن الثامن عشر كان بالنسبة للدولة العثمانية فترة انحلال وضعف؛ فقد كانت قواها العسكرية تنهار تحت ضربات روسيا القوية، وكانت الاضطرابات والمتاعب الداخلية تقوض من صرحها القديم الشامخ؛ وكانت مصر في ذلك الحين قد أخذت تتحرك من سباتها الطويل، وتترقب الفرص لتحطم ذلك النير الغاشم الذي يعصف بقواها المادية والروحية منذ قرنين. وفي منتصف القرن الثامن عشر استطاع زعماء مصر، بقية الأمراء من الشراكسة أن يستردوا نوعاً من الاستقلال المحلي، وأن يبسطوا حكمهم الفعلي على مصر، وأن يجعلوا سلطة الدولة العثمانية اسمية رمزية فقط؛ وتعاقب في حكم مصر منهم عدة بدأت بإبراهيم بك ورضوان بك، ثم علي بك الكبير. فمحمد بك أبي الذهب، فمراد وإبراهيم. على أن هذا الحكم الداخلي المستقل كان نوعاً من المغامرة التي لا تستند إلى قوة مادية يخشى بأسها أو تأييد شعبي حقيقي، وكانت مصر عاجزة عن مواجهة الأخطار الخارجية دون معاونة الدولة العثمانية. ففي تلك الفترة التي(220/10)
انهارت فيها قوى الدولة العثمانية، والتي تركت مصر فيها مفتحة الأبواب دون حماية حقيقية، نرى ثبتاً من الرحل الغربيين يفدون عليها في فترات متقاربة، ويدرسون أحوالها وشئونها بعناية ودقة؛ وكان جل هؤلاء الرحل من الفرنسيين والإنكليز؛ فهل كان مقدمهم إلى مصر في تلك الظروف أمراً عرضياً؟ وهل كانوا طلاب سياحة وثقافة ودرس فقط؟ أم كانوا طلائع الاستعمار الغربي المتوثب يومئذٍ، قدموا إلى مصر يجوسون خلالها ويتفقدون شئونها وأسرارها تمهيداً لمشاريع يجيش بها هذا الاستعمار؟ ويلوح لنا أن هذه الرحلات والدراسات المستفيضة لم تكن بريئة كل البراءة، ولم تكن بعيدة كل البعد عن وحي الاستعمار ومشاريعه؟ ولقد ألفى الاستعمار في هذه الدراسات كل ما يرغب في معرفته عن مصر وعن أحوالها الاقتصادية والسياسية وبالأخص عن قواها الدفاعية. وفي خاتمة القرن الثامن عشر دبر الاستعمار الأوربي أول مشاريعه لافتراس مصر، وجاء بونابرت إلى مصر تحدوه أحلام إمبراطورية عظيمة، كان يعتقد أنه يستطيع أن يتخذ مصر قاعدة لتحقيقها.
وكان في مقدمة الرحل الذين قدموا إلى مصر قبل الفتح الفرنسي بقليل رحالة ومستشرق فرنسي ترك لنا عن مصر في أواخر القرن الثامن عشر أثراً من أنفس الآثار وأقيمها، فإن الرحالة العلامة هو كلود إتيان سافاري الذي قدم إلى مصر في سنة 1776، تحدوه أحلام مشرقية باهرة؛ وكان مولده في فتري سنة 1750، ودرس دراسة جامعية حسنة في رون وباريس، وكان في السادسة والعشرين من عمره حينما اعتزم الرحلة إلى المشرق يجذبه بهاء المشرق وروعته؛ وقضى في مصر ثلاثة أعوام طاف خلالها أرجاء الديار المصرية من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وزار جميع معالمها ومعاهدها وآثارها، ودرس جميع أحوالها وشئونها ومجتمعاتها، ودرس اللغة العربية والدين الإسلامي: ثم زار الجزر اليونانية، وعاد إلى فرنسا سنة 1781 بعد غيبة دامت خمسة أعوام؛ ووضع عن رحلته ودراساته في مصر طائفة من الرسائل المستفيضة ملأت ثلاث مجلدات، ونشرت بين سنتي 1785 و 1789؛ ثم نشر ترجمة حسنة للقرآن وأتبعها بكتاب في تفسير قواعد الدين الإسلامي تحت عنوان وترجم بعض قصص ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية، ووضع أجرومية للغة العربية والعامية ظهرت بعد وفاته. وتوفي في باريس سنة 1788، وهو دون(220/11)
الأربعين.
كان سافاري إذاً رحالة من طراز خاص، أعدته مواهبه ومعارفه للقيام بدراسات حسنة في بلاد المشرق؛ فقد درس اللغة العربية، وعرف تاريخ المشرق، وعرف كثيراً عن الإسلام والشريعة الإسلامية؛ ومن ثم كانت رسائله عن مصر تمتاز بطابع من الدقة لا نجده في كثير من الكتب والدراسات المماثلة، وهو يقدم إلينا هذه الرسائل تحت عنوان (رسائل عن مصر) ' ويصف لنا محتوياتها فيما يأتي: (بها وصف لخلال أهل مصر القديمة والحديثة ووصف لنظم الدولة، وأحوال التجارة والزراعة، وغزو القديس لويس لدمياط منقولاً عن جوانفيل والروايات العربية، ومعها خرائط جغرافية). ويهدي سافاري كتابه إلى (صاحب السمو أخي الملك. . لما أسبغه عليه من مؤازرة مكنته من نشر رسائله، وإنه لشرف عظيم أن يتوجها باسم مولاه. .) ويوجه رسائله إلى هذا الأمير أخي الملك؛ وقد كان ملك فرنسا يومئذٍ هو لويس السادس عشر وأخوه الدوق دورليان. ويبدو مما كتبه سافاري في رسالته الأولى أن الأمير المشار إليه هو الذي نصحه عند سفره أن يدرس أحوال المجتمعات التي اعتزم زيارتها وخلالها وعاداتها ولغاتها.
وقد كان لآثار مصر الفرعونية وذكرياتها القديمة في نفس سافاري أعظم الأثر، وهو يعرب لنا في مقدمته عن عظيم إعجابه بذلك التراث الباهر، ويقول لنا: (إن من يرى الآثار التي تحتفظ بها مصر، يستطيع أن يتصور أي شعب هذا الذي تحدت صروحه أحداث الزمن. فهو لم يكن يعمل إلا للخلود؛ وهو الذي أمد هوميروس وهيرودوت وأفلاطون بكنوز معارفهم التي أسبغوها على بلادهم؛ وإنه لمن الأسف أن العلم لم يستطع بعدُ أن يكشف عن أسرار النفوس الفرعونية (الهيروغليفية) التي تغص بها هذه البلاد الغنية، فمعرفة هذه الأسرار تلقي ضياء على التاريخ القديم، وتبدد الظلمات التي تكتنف عصور التاريخ الأولى) وقد تحققت أمنية سافاري بعد ذلك بقليل، إذ اكتشف حجر رشيد ووقف العلم على أسرار اللغة الفرعونية، وبدأت البحوث الأثرية بين الأطلال والآثار الفرعونية تكشف تباعاً منذ أوائل القرن التاسع عشر عن روعة هذه المدنية الفرعونية الباهرة التي ما زالت هياكلها وآثارها العظيمة، مدى العصور مثال الإعجاب والإجلال والتقدير.
ويبدأ سافاري رسائله عن مصر من الإسكندرية في 24 يوليه سنة 1777 بعد أن مكث في(220/12)
مصر أكثر من عامين، ويوجهها جميعاً إلى هذا الأمير الذي يهدي إليه كتابه، ويستهلها بوصف جامع لجغرافية مصر، ثم وصف بديع لمدينة الإسكندرية وآثارها الرومانية؛ ويستعرض بعد ذلك حوادث الفتح العربي، ودخول الإسكندرية في ظل الحكم الإسلامي، ويعطف على قصة مكتبة البطالسة الشهيرة، وينقل خرافة إحراقها بأمر عمر عن بعض الروايات العربية. ويبدو مما يكتب سافاري أن الإسكندرية كانت في أواخر القرن الثامن عشر لا تزال تحتفظ بقسط من عظمتها القديمة وتجارتها الزاخرة برغم الأحداث الكثيرة التي مرت بها. وكان مما أثار اهتمام الرحالة بنوع خاص منظر عمود السواري وما يحيط به من الأسرار المغلقة، والمسلات التي كانت تسمى يومئذٍ (إبرة كيلوباترة) والمقابر الرومانية، أو كما يسميها مدينة الأموات.
ولم يفت سافاري أن يلاحظ آثار الفتح العثماني المخربة؛ فهو قد درس تاريخ مصر الزاهر في عهد الدولة الإسلامية، واستطاع أن يقدر مما شاهده يومئذٍ من أحوال مصر تلك النتائج المحزنة التي انتهت إليها بعد قرنين ونصف قرن من حكم غشوم عاسف جاهل؛ وهو يقول لنا بحق إن الفتح التركي كان خاتمة لمجد مصر وإن حكم الباشوات قضى على العلوم والآداب، وخرب التجارة والصناعة والزراعة، وأسبغ حجاباً من العفاء الشامل على كل ما كان لمصر الإسلامية من عظمة ورخاء.
ثم ينتقل سافاري من الإسكندرية إلى رشيد، ويقضي بها ردحاً من الزمن، ويصف لنا رشيد وأهلها وأحوالها الاقتصادية والاجتماعية في عدة رسائل شائقة؛ ويقول لنا إن الحياة فيها ساحرة مغرية، وإن لأهلها أزياء خاصة، وإنهم يقصون الشعر ويرسلون اللحى؛ ثم يقصد بعد ذلك إلى القاهرة في مركب شراعي، ويخترق فرع رشيد ماراً ببعض القرى الشهيرة يومئذٍ مثل برمبال ومحلة أمير، ويصف لنا هذه الرحلة البطيئة الشائقة، ويصف لنا بالأخص منظر القرويات على الشاطئ، وكيف يهرعن إلى النهر لأخذ الماء وغسل الثياب والاستحمام أحياناً، وكيف شهد كثيرات منهن يسبحن في النهر نحو المركب وهن يصحن: (يا سيدي هات ميدي) ويقول لنا في لغة شعرية: إنهن يسبحن في كثير من الظرف، وإنهن يتمتعن بأجسام رشيقة ساحرة، وبشرة سمراء بديعة.
وفي هذه المواطن وأمثالها تبدو براعة سافاري الوصفية، وتبدو قوة بيانه. والواقع أن(220/13)
سافاري يكتب بأسلوب رفيع سواء من الناحية العلمية أو الناحية الأدبية؛ ولا يفوته أن يقدم إلينا خلال وصفه كثيراً من المقارنات التاريخية والأدبية الشائقة؛ وهو من هذه الناحية يتفوق على كثير من الرحل الذين كتبوا عن مصر؛ كما أن رسائله تمتاز كما قدمنا بطابعها العلمي الدقيق.
وسنرى عندما يتم سافاري رحلته النيلية، ويصل إلى مدينة القاهرة أي صور قوية شائقة يقدمها إلينا هذا الرحالة العلامة عن حياة العاصمة المصرية والمجتمع المصري في أواخر القرن الثامن عشر؛ وسنرى أي وثيقة نفيسة تقدمها إلينا رسائله عن تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في هذه الفترة المضطربة التي تعز مصادرها ووثائقها.
فينا في أوائل سبتمبر
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان(220/14)
أسباب التقليد في التعليم والتشريع بمصر الحديثة
للدكتور محمد البهي قرقر
في مقال سابق حاولت أن أبين أن التقليد هو أساس التعليم والتشريع اليوم في مصر، أساس التعديل في برامج التعليم والتغيير في القوانين المدنية والجنائية، وخصصت بالذكر هاتين الناحيتين لأنهما مظهر الأمة الثقافي والطابع العقلي الذي يعبر عن (نفسية) الشعب.
وإذا ذكرت التقليد فلا أريد منه الناحية الإيجابية التي يجب أن تشجع وتُنمى في زمن الطفولة، فذلك لم يكن هو النظرية السائدة في التعليم والتشريع بمصر، وإنما أقصد النوع السلبي الذي هو ذاك، أقصد النوع الذي لا يتعدى محاكاة الظواهر المقلدة ولا ينفذ إلى كيفية تكونها وهو الذي تدفع إليه العاطفة المجردة عن الروية. ولهذا قلما تتخذ الظاهرة المقلدة صفة الثبات والاستقرار، بل سرعان ما تنمحي من الوجود إذا خفيت العاطفة التي بعثت على تقليدها أو تغلبت عليها عاطفة أخرى تحمل على تقليد مظهر آخر.
لكل كاتب أو مؤرخ أن يبدي رأيه في علل هذا التقليد وأن يوضح الباعث عليه. له أن يعتقد مثلاً أن السبب هو رغبة مصر الحديثة الفتية النشأة في مسايرة المدنية الحاضرة والتقدم بسرعة إلى مصاف الدول الراقية، فهي لذلك لا غنى لها عن التقليد، ولا مفر إذن من أن تتعثر في طريقه مرة أو أكثر. ولكن التقليد الناشئ عن مثل هذه الرغبة في الأمم الأخرى هو دائماً أشبه بسياسة مرسومة ثابتة نعرف إلى أي شيء تنتهي وأي طريق تسلك، فهو نوع إيجابي من التقليد، وذلك ما لا أعتقده في الحركة التقليدية السائرة اليوم في مصر لأنها حركة هوجاء متقلبة، تهدم اليوم ما بنته بالأمس، وتبني في الغد من جديد على غير أساس.
لذلك الكاتب أو هذا المؤرخ أن يعتقد أيضاً أن العلة هي الضعف، إذ يشاهد أن الأمة الضعيفة تقلد القوية في مظاهرها لأنها ربما تتخيل الجمال مفرغاً في تلك المظاهر - فهي لانحطاطها لم تتكون عندها ملكة مستقلة للجمال، مطبوعة بطابعها الخاص، أو على الأقل لم تنضج عندها تلك الملكة بعد، أو لأنها ربما تحاول بذلك أن تستر ما بها من ضعف ونقص؛ فما دام شعار القوي مثلاً هو القبعة، أو مادامت ميزته في قوم هو ليس منهم العجمة في التعبير، فربما يُخيَّل الضعيف لنفسه إذا ما وضع القبعة فوق رأسه، أو إذا ما(220/15)
أفصح عن مراده في أمته بغير لغته الوطنية. أو لهج لسانه من حين لآخر بكلمات أجنبية، أنه قد أصبح في منزلة القوي وأن له أن يتيه كبراً وخيلاء، ولم يدر أن سلوكه العملي الناشئ عن صفات نفسية خاصة به، وأن طريقه في التفكير الخاضع لبيئته وما ورثه في دمه عن أسلافه ينم عن أنه ما زال هو الضعيف، ولكنه تزيى بزي القوي فحسب.
وربما يكون الضعف هو السبب الرئيسي والعلة غير المباشرة لكثير من صور التقليد، ولكن البحث النفسي الحديث يتجنب الآن بقدر الإمكان استنتاج قوانين عامة لجملة من الظواهر النفسية - لأن ذلك قد مضت مدته بفقدان العلوم الطبيعية والرياضية نفوذها على العلوم العقلية، وتأثيرها في تكوين كليات لها عامة تشرح بها جزئيات متعددة - ويفتش لكل ظاهرة عن علتها الخاصة بها والمباشرة في تكوينها.
والتقليد الآن في مصر في أهم ناحيتين من نواحيها الثقافية والعقلية: في ناحيتي التعليم والتشريع، ظاهرة تغلب على نفسية الشعب، أو بعبارة أدق على رجاله المسئولين في توجيه سياسته العامة. وإذن لبحث هذه الصفة يجب استعراض المؤثرات التي أوجدتها في نفسية هؤلاء وتعهدتها إلى درجة النضوج. وأظن أننا إذا رجعنا ببصرنا إلى تاريخ مصر الحديثة في جيل سابق وجدنا تلك المؤثرات بادية في شيء واحد: في الابتعاد عن التربية الوطنية الذي كان نتيجة لخطة إحدى مدارس التعليم في مصر ولسياسة أخرى تعليمية كانت تهيمن على مدرسة ثانية منها.
فالتعليم في مصر ليس واحداً، والمدرسة التي تخرج منها الشعب متباينة النزعة مختلفة الغرض. فبينما نرى مدرسة وطنية، وهي الأزهر، تعتمد في تهذيب أبنائها على ما ورثته الأمة من ثقافة في صورتها التي احتفظت بها من عصور مضت، إذ بنا نرى مدرسة أخرى، وهي مدارس الإرساليات الأجنبية، تلقن الناشئة المصرية مبادئ تنتهي بخلق أمم متعددة في أمة واحدة، وبفئات من الناس مختلفة لا تجمعهم وحدة في التفكير ولا وحدة في الغرض. وبينما نشاهد هذه وتلك إذا ببصرنا يقع مرة أخرى على مدرسة ثالثة، وهي مدارس وزارة المعارف، ليس بينها وبين اللتين قبلها من صلة إلا أنها ربما تكون أو تحاول أن تكون مزيجاً منهما، ولكنه مزيج لا ينتج عنصراً جديداً كما فقدت فيه كل من مادتيه خواصها.(220/16)
فالأزهر - في نظر علماء الشعوب والاجتماع - لاشك أنه المدرسة الوطنية التي تربط الأمة بماضيها - وإن كان ينقصها ربط الحاضر بالماضي، وتلقن جيل اليوم ما كان لخلفه من دين ولغة وعادات خلقية وقومية، وهو لهذا كان ولم يزل مكان الخطر على الاستعمار الغربي وعلى سياسته في حكم الشعوب الإسلامية كما يراه الأوربيون أنفسهم الذين تخصصوا في السياسة وفي فلسفتها. ففي المجلة العلمية السياسية الألمانية لمخرجها الأستاذ الفيلسوف السياسي الأستاذ بجامعة بحث جدير بالاعتبار عرض كاتبه لبيان صلة الإسلام ومقدار علاقة الأزهر على الخصوص بالحركات الوطنية في الشرق تحت عنوان (الإسلام والفاشستية) فكاتب هذا البحث يرجع الحركة الوطنية الحالية ضد السيادة الفرنسية في تونس ومراكش والجزائر إلى الأفراد الذين غلبت عليهم الدراسة الوطنية - الإسلامية - وعلى الأخص إلى أولئك الذين تلقوا علومهم في الأزهر بالقاهرة. فالأزهر في رأي هذا الكاتب وفي رأي كثير من أمثاله منبع الخطر على السيادة الأجنبية في الشرق كله.
وفوق ما للأزهر من هذه الصبغة الوطنية فهو مدرسة الشعب والسواد المنتج من الأمة. ولسبب ما، إما لأسلوبه في التعليم (وعدم تمشيه في وقت من الأوقات على نظم التربية الحديثة)، أو لشعبيته، أو لسبب آخر غير هذا وذاك، وآلت الطبقة المثرية من الأمة من أرباب المناصب الكبرى في الحكومة وجهها نحو مدارس الإرساليات الأجنبية، وقصدت الطبقة المتوسطة إلى النوع المزيج وهو النوع الحكومي، وقنع الأزهر بالشعب وبأبنائه، طوعاً أو كرهاً، واضطر لهذا أن يكون بعيداً عن أفق سياسة الدولة، لأن سيادة الروح (الأرستقراطية) وجدت في ظل الحكم التركي ثم في حكم الاحتلال كل أنواع التأييد. فأسلوب التعليم في هذه المدرسة بعيد في ذاته عن التهيئة إلى موجة التقليد الطافحة اليوم في مصر والتي تنذر بالخطر، لأنه هو نفسه ضد التقليد والعقبة في طريقه، وكذا رجالها ليسوا ممن يتبعون سياسة التقليد لأنهم أبعدوا عن السياسة العامة للدولة واكتفوا بالتحدث إلى الشعب عن الحياة الآخرة والسبل الموصلة إلى السعادة فيها، وإن فرطوا بهذا الاكتفاء في حق أنفسهم كأبناء الشعب وفي حق دينهم لإظهاره بالمظهر الروحي فحسب، ثم أخيراً في حق وطنهم لإقصاء أنفسهم وهم أكثرية عن سياسة توجيه الأمور في الدولة أو لرضاهم بهذا الإقصاء.(220/17)
والمدرسة الثانية، وهي مدارس الإرساليات الأجنبية كانت - ولا تزال - تعمل على قطع الصلة بين الوطن وتراثه العلمي والديني والخلقي، وبين أطفاله وشبانه من أهل الطبقة العالية الذين ولوا الأمر فيما بعد، إذ كانت القاعدة أن ينتخب أولو الأمر منهم؛ ثم زودتهم بثقافة أجنبية ملؤها الدعاية لأمة من أمم الغرب طبقاً لجنسية الإرسالية. وإن نوع هذه الثقافة قد يكون مختلفاً - وفي الواقع هو كذلك - عن ثقافة البلد الذي تنتمي إليه الإرسالية اتباعاً لخطة سياسية مرسومة لم يُرد بها - كما يدعي أو كما يفهمه الشرقي البسيط - القيام بعمل خيري من نشر ثقافة حديثة ومكافحة الأمية؛ وإنما قصد بها ضمان السيطرة على النفوس والتصرف في ميولها؛ فنشأت في الأمة فئة تجهل الأمة نفسها، تجهل عقليتها وطباعها، تحتقر الشعب وتهزأ بتقاليده، ثم بعد ذلك شاء القدر أن يكوم زمامه بيدها.
ولاختلاف ميول هذه الثقافة واتجاهاتها - وإن كانت متحدة في غرض الدعاية - كانت وجهة هذه الفئة الحاكمة مصوبة على العموم نحو ظواهر المدنية الغربية، واقتباس ما يوحي به ميلها الثقافي، لا اقتباس ما قد يتفق مع مدنية الأمة وثقافتها القديمة وما يتطلبه الشعب ولا يتعارض مع قوانينه الخلقية وسننه الطبيعية. وهنا نجد مظاهر شتى لهذا التقليد أنشأتها ميول الثقافة الأجنبية المختلفة. فمن تثقف بالثقافة الفرنسية من تلك الفئة - وهو عدد كبير - كان المثل الأعلى في نظره حضارة فرنسا وحريتها المزعومة، وعمد إلى التقليد في مظاهر الحضارة الفرنسية، وإلى الاقتباس من القانون الفرنسي، لأنه يمثل في نفسه، كما تلقن، صورة العدالة، وينطوي في نظره على (حب) الحرية وتقديس معنى الإنسانية - وما كان القانون الفرنسي، ولا أي قانون وضعي آخر يمثل في يوم من الأيام صورة العدالة على الإطلاق، ولا ينطوي على حب الحرية للحرية نفسها، ولا يقدس الإنسانية للإنسانية؛ وإلا لما أعطي للقسوة صفة خلقية، وأنكر على الوطني المستعمر حقه الطبيعي في الحياة ما دام في ذلك حفظ للسيادة الفرنسية. وما شهرة فرنسا بحب العدالة وبحب الحرية وبتقديس الإنسانية إلا لما قامت به من الثورة، كرد فعل نفسي ضد حكم الظلم والاستبداد؛ ثم استغل بعد ذلك استغلالاً أدبياً في صالحها. وللإرساليات التعليمية في الدعاية به وخصوصاً في الشرق قسط غير قليل. ثم تكون نتيجة هذا التقليد عكسية، ونهاية الاقتباس خاطئة، لأن مصر الشرقية غير فرنسا الغربية، ومصر الضعيفة الحديثة النشأة(220/18)
غير فرنسا المستعمرة. وبالرغم من ظهور الخطأ وعكسية النتيجة لا يدير المقلد وجهه نحو أمته ويدرس حالتها النفسية والاجتماعية، ثم يقتبس ما تدعو إليه هذه الدراسة، لأنه لم يألف الأمة ولم يتعرفها منذ طفولته.
ومن تثقف بالثقافة الإنكليزية عشق تقاليد الأمة الإنكليزية وأعجب على الأخص بالبرلمان الإنكليزي وبعراقة الدستور الإنكليزي ونظام الأحزاب الإنكليزية وبتمتع الأقلية بحرية المعارضة، فيهوى وفقاً لميله تقليد إنكلترا في مظاهرها الدستورية ونظامها البرلماني؛ ولكنه يخطئ أيضاً في تقليده، لأن الشعب المصري ذو صفات نفسية تغاير تمام التغيير صفات الشعب الإنكليزي؛ له طريق آخر في التفكير وأسلوب آخر في المعاملة؛ هو شعب ناشئ لم تتركز طبائعه بعد، ولم يروض على عادات خلقية تتناسب وفطرته، فإذا نوقش في خطأ تقليده أصر عليه وسرد تأييداً لإصراره أقوال الساسة الإنكليز والعرف الدستوري في البرلمان الإنكليزي. وأولى به أن ينظر إلى الواقع وفي أي شعب هو يعيش. أولى به أن يتعلم خواص الشعوب بدل أن يحلق في خيال نظري (قانوني) لا طائل تحته. ولكن ميله الثقافي هو الذي حدد له نهاية الطريق وأملى عليه برنامج السير.
ومن تثقف بالثقافة السويسرية يستهويه نظام التعليم ونظام الأسرة فيحاول تقليد الشعب السويسري، أو بعبارة أخرى يضطر أن يسير في طريق ميوله الثقافية، والتعليمية - وليس إلا طريق التقليد طبعاً - ثم لا يلبث أن يرى نتيجة تقليده بين يديه خاسرة، لأن المصري في طبعه وفي ميوله الغريزية غير السويسري الذي هو نفسه يغاير نفسه - وبناء على هذا يتغير نظام تعليمه - في منطقة أخرى من مناطق الاتحاد السويسري. والأسرة المصرية التي حددت عاداتها طريق سلوكها في الحياة وعين دينها ولغتها طريق تفكيرها وفهمها لما يحيط بها، غير الأسرة السويسرية التي تتطلب أيضاً بحكم الوراثة وبحكم العادات وطبيعة البلاد أسلوباً في التعليم خاصاً بها.
وهكذا دواليك نجد العمل الجدي لهذه الفئة تقليداً سلبياً قلما يتحول إلى محاكاة إيجابية، إلى (التمصير) الذي هو عملية نفسية يقوم بها الفرد كالأمة، عملية تتطلب أولاً أن تنشأ الأفراد تنشئة وطنية ثم تزود بثقافة أخرى أجنبية. وإذن يكون عمل الفرد كعمل الأمة مصبوغاً بصبغة وطنية وفي الوقت نفسه مسايراً لخطى الأمم الراقية. فالأمة اليابانية مثلاً تقلد(220/19)
الحضارة الغربية ولكنه تقليد إيجابي، لأنها تنظر إليها ثم تحاكيها لا في صورتها الأولى ولكن في صورة يابانية شرقية بعد ما تكون قد مزجت بينها وبين حضارتها الموروثة ووفقت بينهما. وهو لهذا تقليد فيما ينفع، وتقليد لا يمس بالخطر العوامل الأولى المكونة لحضارة الأمة، كأمة مستقلة.
فجهل الوطن وما فيه والنزوع إلى التلون بلون غربي - كما هي النتيجة الحتمية لأسلوب هذه المدرسة - من الأسباب القوية لهذا التقليد السلبي؛ ثم اختلاف النزعة نحو هذا التلون، تبعاً لاختلاف نوع الثقافة، من أكبر العوامل في كثرة التغيير والتعديل اليوم في سياسة الأمة التشريعية والتعليمية.
وربما تكون تبعة المدرسة الثالثة، وهي مدارس وزارة المعارف، في هذا التقليد أقل من المدرسة السابقة، ومع ذلك فعليها تبعة كبيرة أيضاً، لأنها لم ترسم لها خطة تعليمية وطنية، أو أرغمت، فطاوعت، على السير وراء سياسة استعمارية، سياسة أوربية أجنبية. فالاتجاه الذي توحي به وتخلقه في تلامذتها لا يخلو من مبالغة في عظمة الغرب واحترام المدنية الغربية، كأبلغ شيء وصل إليه العقل الإنساني - ولكن لا لخدمة الإنسانية ولكن لسيادة القوى - وذلك يقوي غريزة التقليد في الطفل ويدفعها إلى ناحية معينة قلما تحيد عنها أو تتصرف في تقليدها؛ ثم في الوقت نفسه لا يخلو ذلك الاتجاه من النظر إلى الشرق كوطن والى تقاليده ودينه ولغته كمقومات لثقافته من إلقاء نظرة بسيطة عليها قلما يصحبها احترام أو يتبعها تقديس مما يدعو إلى الارتباط بها والحنين إليها.
وهكذا يسير الشعب إلى غير وطنه ويقاد في غير طريقه الطبيعي ويدفع به في كفاح لم يتهيأ ولن يتهيأ له، وهو كفاح ضد الطبيعة ومقتضياتها؛ وهيهات أن يفوز إن لم تهلكه الحرب هلاكاً بطيئاً، وذلك شر أنواع الهلاك وآلمه.
فمبدأ التقليد ليس معيباً إذا كان إيجابياً، لأنه إلى جانب الفكرة الخالقة والعقل المستقل في الإنشاء من عوامل تقدم الأمة، فما كان لأمة أن تستقل في نهضتها العقلية بنفسها ولكن يجب عليها أن تكيفها بشخصيتها وطابعها. وهذا التكييف نفسه مدين إلى حد كبير بالاعتماد على ثقافة الأمة الموروثة أو هو نفسه المحافظة على تلك الثقافة والاعتزاز بها.
واليوم آن للأزهر أن يعمل على تأدية رسالته، من ربط حاضر الأمة بماضيها، في ثبات(220/20)
وجرأة؛ وهي رسالة شاقة، ولكنه راعى الواقع، فلا يدري إنسان متى تتهيأ الفرصة للأزهر من جديد، فيمنحه الدهر رجلاً مستقل الفكر، قوي الإرادة، صادق العزيمة، متفهماً للحياة كما منحه في السابق رجل التاريخ والإصلاح، وكما يمنحه اليوم بصنوه. فما أشد تقاربهما في الفكرة، ولكن ما أبعد المسافة بين توليهما شؤون تلك الجامعة العالمية.
وإذا كانت روح السياسة العامة الآن للدولة مشبعة بمجاملة الأجانب ومنحهم حرية كاملة في تعليم جالياتهم وعدم إلزامهم بثقافة البلد الوطنية - كما هو الشأن في البلاد الأوربية نفسها - فلا يصح أن تقصر تلك السياسة في حق أبناء الأمة وتكل أمر تربيتهم إلى جهة أخرى غير الأمة نفسها. يجب أن تفهم حد المجاملة وتدرك ما ينطوي عليه حق الأمة في استقلالها وحريتها.
وإذا كانت وزارة المعارف اليوم تعنى بالثقافة الوطنية بعض العناية فيجب أن يكون الدافع لها عليها مصلحة الوطن والعمل على تحقيق استقلال الأمة لا الرغبة في كسب عواطف الشعب أو استمالة طائفة منه خاصة، فما أكثر تغير الشعب في عواطفه، ولكن ما أثبته على حب من أخلص إليه في خدمته!
محمد البهي قرقر
دكتور في الفلسفة وعلم النفس وعضو بعثة الإمام الشيخ
(محمد عبده)(220/21)
من الأدب الرمزي
فيما وراء الطبيعة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
رَكْبٌ مَسُوق إلى ما يجهل بعصاً قاهرة يقظة فلا التفات ولا اعتراض ولا جُموح. . .
من الذَّرَّات التي لا تدركها الأبصار لدقتها وصغرها. . . إلى الذرات الضخمة التي لا تدركها الأبصار لجلالتها وكِبَرها، يتألف الركب المسوق المدفوع الذي لا يعرف من أين ولا إلى أين
لقد وُلد فيه كل شيء أثناء الرحلة فحَيَّ مسافراً وهَلَك مسافراً. .
يسير الزمان والمكان في الركب المهدود، وتسير الأبعاد والحدود، والمُهود واللُّحود، والحركة والجمود، والموت والحياة، والظلمات والنور، أضداداً مؤتلفة ونقائض مجتمعة في صمت.!
السموات شاخصة العيون إلى الأرض. . والأرض مشرئبة الأعناق إلى السماء. . واللجة مقبلة في لَهْفة على الشاطئ. . . والشاطئ واقف يترقب اللجة. . وهكذا يرنو كل شيء إلى كل شيء. . زوارق سائرة في لجة لا يعلم لها شاطئ. . . أجسام هابطة أبداً إلى غير قرار. . . كل شيء يدور على نفسه نحو كل أفق ليرى النهاية، فلا يرى إلا أشياء دائرة مثله. . .
أبداً تخرج الحياة من الموت ويخرج الموت من الحياة ليشهدا سير الركب؛ ثم يفنيان في الطريق. . .
أبداً تسافر الأضواء في ملايين سنيها محاولة كشف النهاية فلا تقع إلا على ذرات ترسل أضواءها. . .
الرحلة طويلة شاقة ومع ذلك فليس فيها مراحل ولا مواقف. . .
الصمت والصبر شعار القافلة إلا صُراخاً ينبعث من (أكثر شيءٍ جَدَلاً). من الإنسان. صاحب الجمجمة الدائبة على التلفت إلى الوراء والتطلع إلى الأمام، وسؤال كل شيء: ما أنت؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين تنتهي؟ ولماذا نحن هنا؟ (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟) فيجيبها كل شيء: (ما المسئولُ بأعلمَ من السائل. . .) ثم يردد كل شيء صدى تلك(220/22)
الكلمة الكبيرة المعزِّية: (ما أَشهَدتُهمْ خَلقَ السموات والأرض ولاَ خَلْقَ أنفُسِهم)
الركب سائر بانسجام ونظام. . . وهذا هو موسيقاه التي تستحثه وتنسيه وعثَاء السفر. . .
ومن جَمِح وحاد عن طريق الركب ضل واحترق ضلالَ النيازك والشهب واحتراقها. . .
كل شيء قانعٌ بالنظر إلى عصا القهر المرفوعة عليه أبداً، إلا هذه الجمجمة. .! فهي تحاول جهدها أن ترى اليد القابضة على العصا. . . ومن هنا تعبت من النظر وزاغ منها البصر وتراجع حتى لم تَعدْ ترى العصا إلا في يدها هي المصنوعة من الطين. .! فعبَدَت نفسها وسجدت لها. .!
ألا يا عايد البطولة الإنسانية وفاديها ومالئ كئوسها من دمه ومحرق حبة قلبه بخوراً لها. .! ليس هذا موقع العبادة من قلب الإنسان والفكر المدله من رأسه. . . وإنما هذه العصا المرفوعة أبداً هي مكان السجود. . . فارفع جبهتك كثيراً كثيرا لتسجد عليها فوق. .!
أنظر إليها وحدها واجمد كما جمد لها قلب الجبل. . . واخفق كما خفق لها جوف البحر. . . واعصف كما عصفت لها جوانح الريح. . . واصفر كما اصفر منها وجه الصحراء. . . والتهب كما التهب بها وجه الشمس. . . وسر كما سار أمامها الركب المسوق. .!
أنظر إليها دائماً فهي تشير إلى الطريق. . . فإذا عميت عنها فهي شعلة تحرق البصر. . . وسر في طوعها دائماً فهي حماية وسلاح. . . فإذا شردت كارهاً فهي صوت وصاعقة. .!
قال لي ضباب مبهم في نفسي: لم تحوم حول اللجة ولا تضرب في أعماقها؟
قلت: أنا عاجز قاصر ضئيل محدود. . . فليس لي يدان باقتحام عالم القدرة والاستطالة والجلالة واللانهائية!
قال: لقد أتيت بشيء مما في اللجة وأنت لما تزل على الساحل. . .
قلت: كذلك الذي يأتي به الطير البحري المتربص على الساحل: سمكة ميتة طافية قذف بها جوف البحر. . . أو صغيرة خفيفة مبذولة لأنها ليست من الرجاحة بحيث تختفي في عالم العمق والاحتجاب. . .
قال: لقد أفرغت نفسك من كل شيء وهيأتها لصداقة الطبيعة وأفهمتها أن تتصل بها اتصال بُنُوَّة بأمومة؛ فلا تفزع من هولها وقسوتها ولا تجفُل من غموضها وإبهامها، ولا تشمئز من وجوه القبح فيها، ولا تجمُد أمام وجوه الجمال بها، ولا تغفل عن الدقيق، ولا تقصر عن(220/23)
إدراك الجليل؛ وحقيق على من انتهى إلى هذا أن يبتدئ بشيء آخر. . .
قلت: أجل! كما يبدأ ثور الطاحون من حيث ينتهي. .!
قال: لولا الغطاء الذي على عيني الثور لجمح وأبى الدوران على محيطه الضيق.
قلت: لو استطاع الثور أن يزيح ذاك الغطاء عن عينيه لحُلَّت العقدة. . . فما دامت هناك يد غير مدفوعة تضع ذاك الغطاء فهو عاجز مملوك يرى السلامة في التسليم والدوران. . . وإلا فظهره مبسوط مكشوف والسوط له حاضر. .
لقد قلت لنفسي يوماً: سأبعثك للارتياد فيما وراء الزمن والفلك فاصنعي الريش وأعدي الجناحين. . . فإذا وقفت هناك فلا يَخْسأنَّ بصرك دون أن ترىْ طرفي الركب المسوق. . سيكون ذلك عسيراً ولكن تجردي وامتدي فإن فيك قوة على ذلك. .
وقلت لها: إن المكان سينتهي. . . فترين الفراغ وعماياته ومهاويه التي ليس لها قرار. . فطيري فيه مغمضة العين، واضربي فيه بمجموع الإدراك لا بأفراده فإنها تغرق في لججه وظلماته. .
وقلت لها: أعدي السمع للموسيقى التي تميتُ طرَباً، والعينَ للأضواء التي تحرق لهباً. . واللمس والذوق لما لا يلمس ولا يذاق.
وقلت لها: هناك كلام دائم قديم فاملئي معانيك منه واحذري أن تحدثي به ناس الأرض. . وسترين كل ما كان في الأرض هناك في منطقة الصمت الذي يصعق، والسكون الذي يهول. . سترين ما يقال إنه تبدد من الأضواء والأصوات وأمواج الخلائق ووَمضَات المعاني. .
وقلت لها: ستمرين بالقوى المطيعة أبداً، العاملة بلا ضعف يلحق ولا فتور ولا سأم، القائمة على مراقبة الذرات في حركاتها وتنقلها، والحبات في تولدها وانفلاقها، والرياح في انسيابها واندفاعها، والأمواج في رحلاتها ومدها وجزرها، والأضواء في انبثاقها وفيضانها، والظلمات في انطباقها وانفراقها، والأجرام في نثارها ونظامها. . . فقفي هناك طويلاً وتعجبي من صبر هذه القوى المجندة ويقظتها وطاعتها، واملئي سمعك بنشيدها وهي هاوية صاعدة راكعة ساجدة تحت المشيئة الواحدة القاهرة الضاربة على العوالم بنطاق من العلم والقهر، فلا رد ولا اعتراض ولا هرب من أقطارها. . .(220/24)
وقلت لها: ربما تستطيعين الوصول في خطفة من خطفاتك إلى المنطقة الثابتة التي لا تتغير. . . فإن كان ذلك فاحذري أن تتوغلي في متاهاتها! فربما لا ترجعين إلى ثوبك الأرضي ثابتة فيترك في الأرض معذباً مَجْفوًّا لا يفهمه الناس ولا يرحمون. . . فاحذري!
وقلت لها: التراب عنصر كثيف ثقيل يزيد (ثقله النوعي) كلما بعد عن نطاق الأرض، ولو كان نضرة خد أو حرير ورد، أو عبير زهر، أو نغم وتر! فخففي رحلك منه حتى تسرعي. . .
وقلت لها: لا تنسي أن تلقي بنظرة منك على الذَّرَّة التي أنت منها. . . وحاولي أن تتبيني مكان هذا الذي يقول فيها: أنا إله! سترينه قزماً يدب ممسوخ القوام. . . وقد كان يستطيع أن يتطاول ببعض ما فيه لو عقل وأراد ورأى عصا القهر التي تدفع عجلة الفلك. . .
قلت لها كل ذلك فقالت: يا هذا الذي يصنع الألفاظ ويحاول خديعتي بها.! يا من
يُشَمِّر للُّجِّ عن ساقه ... ويغمره الموج في الساحل!
عشْ كهذا الطير الساحلي مكتفياً بالنظر إلى اللجة الرجراجة الهائلة، قانعاً بما تقذفه إليه من النفايات، عالماً بأنه مخلوق مُعَدٌّ للساحل وحده، فهو دائماً ينكتُ بمنقاره في الرمل والقواقع وغثاء البحر. . .
وهو يعلم أن في جوف اللجة سمكاً كثيراً صغيراً وكبيراً يشبع جوعه الذي يحسه في دوام. . . ولكنه يعلم كذلك أنه لو تقدم خطوة نحو اللجة لابتلعته حقيقة من حقائقها وغاب فيها قبل أن يبتلع إحداها وتغيب فيه. . . عش هكذا دائراً على نفسك في محيطك الضيق ما دام على عينيك الغطاء. . .
وابحث في لجة نفسك عن الأشياء التي تنشدها فلعلك تجد منها صوراً صغرى تدركها بالوحي الصغير إدراك النبوة للكبرى بالوحي الكبير. . .
ومع هذا لا يزال الضباب المبهم يناديني ويسألني سؤاله. . . وأنا أنادي:
لمحة من النور الذي عندك ضحاه الدائم الذي لا يغيب يا هادي الركب وصاحب القافلة. . . النور الذي تهتدي به ظلمات الدنيا وأضواؤها إلى مسالكها ومساربها ومواقعها. . . النور الذي أعطيت به كل شيء خلقه ثم به هديته. . .
النور الذي اهتدت به كل ذرة في بناء العالم وكل خلية في جسمه وكل قوة من قواه إلى(220/25)
مكانها وعملها. . . ثم إيماءة بطرف عصاك إلى المخبوء وراء الزمان والمكان والأجرام والشواخص والكثافات. . . ثم قدرة على الانفصال عن الركب لأشهده كله وهو يسير. .!
(الإسكندرية)
عبد المنعم خلاف(220/26)
ابن العديم وتآليفه
للأستاذ محمد كرد علي
كان كمال الدين عمر العقيلي الحلبي رئيس الشام (666هـ) من بيت علم. تولى خمسة من أهله منصب قاضي القضاة بحلب، وأكثرهم على جانب من الأدب والفضل، وكلهم مذ كان الإسلام يحفظ القرآن. وكان كمال الدين هذا محدثاً حافظاً مؤرخاً صادقاً فقيهاً مفتياً منشئاً بليغاً كاتباً محموداً. درس وأفتى وصنف، وترسل عن الملوك، وكان رأساً في الخط المنسوب لا سيما النسخ والحواشي (يقرأ الخط العقد كأنه يقرأ من حفظه. وأما خطه في التجويد والتحرير والضبط والتقييد فسواد مقالة لأبي عبد الله ابن مقالة، وبدر ذو كمال، عند علي بن هلال) (وهو أكتب من كل من تقدمه بعد ابن البواب) ترجم له ياقوت في معجم الأدباء وعرض لتراجم أهله، وكان ياقوت اجتمع بكمال الدين، وأخذ عنه وبالغ في مدحه، وقال إن من أجداده بني أبي جرادة، وكان أبناء العديم يُعرفون بهذا اللقب وقد كتب بخطه ثلاث خزائن من الكتب: واحدة لنفسه وخزانتين لابنيه، لكل منهما خزانة قال ياقوت وأنشدني لنفسه وبإملائه بحلب في ذي الحجة سنة 619 (وكان كمال الدين شاباً):
وساحرة الأجفان معسولة اللَّمى ... مراشفها تهدي الشفاء من الظما
حنت لي قوسي حاجبيها وفوَّقت ... إلى كبدي من مقلة العين أسهما
فواعجبا من ريقها وهو طاهر ... حلال وقد أضحى علىَّ محرما
فإن كان خمراً أين للخمر لونه ... ولذته مع أنني لم أذقهما
لها منزل في ربع قلبي محله ... مصون به مذ أوطنته لها حمى
جرى حبها مجرى حياتي فخالطت ... محبتها روحي ولحميَ والدما
تقول إلى كم ترتضي العيش أنكدا ... وتقنع أن تضحى صحيحاً مسلما
فسر في بلاد الله واطَّلب الغنى ... تفز منجداً إن شئت أو شئت مُتْهما
فقلت لها إن الذي خلق الورى ... تكفل لي بالرزق مَنًّا وأَنعما
وما ضرني أن كنت رب فضائل ... وعلم عزيز النفس حراً معظما
إذا عدمت كفاي مالاً وثروة ... وقد صنت نفسي أن أذل وأحرما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأَخدم من لاقيت لكن لأخدما(220/27)
ونظن البيت الأخير مقحماً إقحاماً في هذه القصيدة، لأنه بيت من قصيدة مشهورة لعلي بن عبد العزيز القاضي من أهل القرن الخامس التي يقول في مطلعها:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
قال ياقوت بعد إيراد هذه القصيدة: ولا يظن الناظر في هذه الأبيات أن قائلها فقير وقير، فأن الأمر بعكس ذلك لأنه، والله يحوطه، رب ضياع واسعة، وأملاك جمة، ونعمة كثيرة، وعبيد وإماء وخيل، ودواب، وملابس فاخرة وثياب. ومن ذلك أنه بعد موت أبيه اشترى داراً كانت لأجداده قديماً بثلاثين ألف درهم؛ ولكن نفسه واسعة، وهمته عالية، والرغبات في الدنيا بالنسبة إلى الراغبين، والشهوة لها على قدر الطالبين. قال ياقوت: وكان إذا سافر يركب في محفة تشيله بين بغلين، ويجلس فيها ويكتب، ورحل إلى العراق ومصر والحجاز.
ويقول ياقوت أيضاً إن كمال الدين صنف مع هذه السن كتباً منها كتاب (الدراري في ذكر الدراري)، جمعه للملك الظاهر غازي، وقدمه إليه يوم ولد ولده العزيز الذي هو اليوم سلطان حلب. وكتاب (ضوء الصباح في الحث على السماح)، وصنفه للملك الأشرف، وكان قد سير من حَرَّان بطلبه، فإنه لما وقف على خطه اشتهى أن يراه فقدم عليه فأحسن إليه وأكرمه، وخلع عليه وشرفه. وكتاب (الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة) وأنا سألته جمعه فجمعه لي وكتبه في نحو أسبوع وهو عشرة كراريس. وكتاب في الخط وعلومه، ووصف آدابه وأقلامه وطروسه، وما جاء فيه من الحديث والحكم، وهو إلى وقتي هذا لم يتم. كتاب (تاريخ حلب) في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها ومن كان بها من العلماء، ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية والملوك والأمراء والكتاب، وشاع ذكره في البلاد، وعرف خطه بين الحاضر والباد، فتهاداه الملوك. ومن كتبه تبريد حرارة الأكباد، في الصبر على فقد الأولاد. وكتاب (دفع التجري عن أبي العلاء المعري) وكتاب (التذكرة) وهو في أجزاء في دار الكتب المصرية أولها الجزء الخامس وآخرها الجزء السادس عشر، وفي هذه الأجزاء قصائد جميلة لأناس من معاصريه ورسائل منثورة وغيرها (راجع ما كتبناه في هذه التذكرة في المجلد السابع من مجلة المقتبس ص811). ومما نقله أبيات للسابق أبي اليمن محمد بن الخضر المعري وهي:(220/28)
حلب معهد الصبا والتصابي ... فسقاها الوسمىُّ ثم الوليّ
موطني بعد موطني فكأني ... لغرامي بحبها البحتري
إلى أن قال:
فلديها كل الفنون وفيها ... ما اشتهاه الشرعيُّ والفلسفيُّ
غير أني أرى الأطايب شزراً ... وحليف الإفلاس عنها قصيّ
وكان في حلب في ذاك الزمن جلة من العلماء كما قال الشاعر، بل أن من قراها ما كان أشبه بدار علم مثل معرة النعمان وكفر طاب، وكفر طاب اليوم مزرعة خربة.
ومما اقتبسه في هذه التذكرة أبيات لسنان صاحب الدعوة
لو كنت تعلم ما علم الورى ... طراً لكنت صديق كل العالم
لكن جهلت فصرت تحسب أن من ... يهوى خلاف هواك ليس بعالم
فاستحْي إن الحق أصبح ظاهراً ... عما تقول وأنت شبه النائم
وسنان هذا هو أبو الحسن سنان بن سليمان بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الدعوة دعوة الإسماعيلية، ومقدم الفرقة الباطنية بالشام، وإليه تنسب الطائفة السنانية. وهو الذي كتب إلى صلاح الدين يوسف بن أيوب جواب كتاب هدده فيه، على ما نقل ذلك ابن خلكان في وفيات الأعيان، وافتتحه بقوله:
يا ذا الذي بقراع السيف هددنا ... لأقام مصرع جنبي حين تصرعه
قام الحمام إلى البازي يهدده ... واستيقظت لأسود البر أضبعه
أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه ... يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه
ثم أردف هذه الأبيات بكتاب كله تهديد لصلاح الدين. وقد كتب مرة أخرى:
بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت ... بيوتك فيها واشمخر عمودها
فأصبحت ترمينا بنبل بنا استوى ... مغارسها منا وفينا حديدها
وفي خزانة المجمع العلمي العربي بدمشق نسخة من كتاب دفع الظلم والتجري، وسماه هناك (كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري) وهو مخروم من آخره نقص منه بيت القصيد وهو تبرئة المعري من التعطيل، وكان أعداؤه ينحلونه أبياتاً ليصححوا دعواهم عليه انحلال العقيدة. وفي هذا الكتاب فصول جميلة في(220/29)
نشأة المعري وعماه وشيوخه ورحلته إلى بغداد وقوة حافظته. وقد استفدنا منه أنه كان عند أبي العلاء أربعة كتاب في جرايته وجارية يكتبون عنه ما يكتب إلى الناس، وما يمليه من النظم والنثر والتصانيف، وكتب له جماعة من المعرة أخصهم أنسباؤه ومنهم ابن أخيه، وكان ملازماً لخدمته ويكتب له تصانيفه، ويكتب عنه الإجازة والسماع عمن يسمع منه ويستجيزه، وكتب تصانيفه بخطه حتى يقع بخطه من المصنف الواحد نسختان وأكثر. واستفدنا منه أن المعري زار دار العلم ببغداد لا دار العلم في طرابلس، ولم يكن في طرابلس دار علم، وإنما جدد دار العلم بها القاضي جلال الملك بن عمار في سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة. وأبو العلاء مات قبل جلال الملك في سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
وأهم مصنفات ابن العديم على ما يظهر تاريخ زبدة الحلب في تاريخ حلب، ومنه نسخة في دار الكتب المصرية، أخذت بالتصوير الشمسي من إحدى خزائن الأستانة وهي في ثلاثة مجلدات. بدأ كتابه بجغرافية حلب والبحيرات التي في أعمالها، وما فيها من الجبال وما جاء في صحة تربة حلب وهوائها واعتدال خراجها وصفة مائها، وما ورد من الكتابة القديمة على الأحجار بحلب وعملها. وعقد فصلاً في بيان أن معاوية ومن كان معه بصفين لم يخرجوا عن الإيمان بقتال عليّ عليه السلام، وفصلاً في ذكر ما جاء في الكف عن الخوض في حديث صفين. وذكر الرواندان وعين زربة وبهسني والمرزبان والشغروبكاس وعربسوس، وفصلا في ذكر فضائل الشام، وحلب وفويق نهر حلب وما ورد فيه وذكر الغراب ومخرجه ومعرفة من حفره، وذكر جتيمان نهر المصيصة وسيحان نهر أذنة والعاصي نهر إنطاكية وحماة والبردان نهر طرسوس، وذكر البحر الشامي ويعرف ببحر الروم. وأشار إلى ما يتعلق بحلب وأعمالها من الملاحم وأمارت الساعة. وعقد فصلاً فيمن نزل من قبائل العرب بأعمال حلب ومن كان قبلهم في سالف الحقب، وهو من أهم فصول كتابه. وذكر من نزل في أعمال حلب من حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وعقد باباً في فتح حلب وقنسرين وما تقررت عليه أحكامها، ونقل شرط عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) على أهل قنسرين وهو على الغنيّ ثمانية وأربعون، وعلى الوسط أربعة وعشرون، وعلى المدقع اثنا عشر يؤديها بصغار - والغالب أنها دراهم والدرهم على الأكثر عشر الدينار، ويقدر الدينار بنحو نصف جنيه مصري ذهباً - وعلى مشاطرة النازل(220/30)
بينهم وبين المسلمين وألا يحدثوا كنيسة إلا ما كان في أيديهم ولا يضربوا بالناقوس إلا في جوف بيعة، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة، ولا يرفعوا صليباً إلا في كنيسة، وأن يؤخذ منهم القبلى من الكنائس للمساجد، وأن يُقْروا ضيوف المسلمين ثلاثاً، وعلى ألا يكون بين ظهراني المسلمين الخنازير، وعلى أن يناصحوا المسلمين ولا يغشوهم ولا يمالؤا عليهم عدواً، وأن يحملوا راجل المسلمين من رستاق إلى رستاق، وألا يلبسوا السلاح ولا يحملوه إلى عدو، ولا يدلوا على عورات المسلمين، فمن وفى وفى المسلمون له، ومنعوه بما يمنعون به نساءهم وأبناءهم، ومن انتهك شيئاً من ذلك حل دمه وماله وسباءُ أهله وبرئت الذمة منه؛ وكتب بذلك كتاباً. وهذا الكتاب فيما نذكر لم يرد بهذا النص في كتب الفتوح والبلدان المشهورة.
ومما روى ابن العديم قال: وأخبرنا قاضي العسكر أبو الوليد محمد بن يوسف بن الخفر قال: كانت حلب من أكثر المدائن شجراً فأفنى شجرها وقوع الخلف بين سيف الدولة بن حمدان وبين الإخشيد أبي بكر محمد بن طفج، فإن الإخشيد كان ينزل على حلب ويحاصرها ويقطع شجرها، فإذا أخذها وصعد إلى مصر جاء سيف الدولة وفعل بها مثل ذلك، وتكرر ذلك منهما حتى فنى ما بها من شجر. واتفق بعد ذلك نزول الروم على حلب وأخذ المدينة في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة ففنى شجر الشربين لذلك، وكانت الوقعة بين سيف الدولة وبين الدمستق في هذه السنة في سفح جبل بانقوسا وسميت وقعة بانقوسا. وقال في سيف الدولة إنه كان يتشيع فقيل على أهل حلب التشيع لذلك.
ومما ذكره جبل برصايا وقال إنه جبل عال شامخ شمالي عزاز يشرف على بلد عزاز وكورة الأريتق (الأرتيق) وتحتهما قرية يقال لها كفر شيغال وقفها نور الدين محمد بن زنكي على مصالح المسلمين. وهذا الجبل بين عزاز وقورس. وذكر ما في حلب من اعزازات وما فيها وفي أعمالها من العجائب والخواص والطلسمات والغرائب. وقال إن حلب من الأرض المقدسة، وإن أهل حلب في رباط وجهاد، وإنها كانت باب الغزو والجهاد، ومجمع الجيوش والأجناد، وذكر صفة مدينة حلب وعماراتها وأبوابها وما كانت عليه أولاً وما تغير منها وما بقى. ثم ذكر فصولاً أخرى في فضلها وفضل قنسرين وفصولا في إنطاكية، ومنبج، ورصافة هشام وخناصرة، وبالس، وحياد بني القعقاع، ومعرة(220/31)
النعمان - نسبة للنعمان بن بشير - ومعرة مصرين، وحاضر قنسرين وسرين وكفر طاب، وأفامية، وشيزر، وحماة، وبغراس (بيلان اليوم) والمصيصة، وعين زربة، وأذنة، والكنيسة السوداء، وطرسوس، وذكر كيفية النفير بطرسوس وكيف كان يجري أمره، وعقد فصلاً لفضل طرسوس والحصون المجاورة لها وللمصيصة وإنطاكية، وذكر حصن ثابت بن نصر وهو الذي كان مشهوراً قبل الثغور وبنائها، وذكر حصن عُجَيْف، وحصن شاكر، وحصن الجوزات، وعرض لتل جبير، وأولاس ويقال له حصن الزهاد، وذكر الهارونية، وحصن الأسكندرونة، والتينات، والمثقب، وسيسيه ويقال لها سيس وهي مدينة قريبة من عين زربة إلى غيره من الحصون، وذكر مرعش والحدث المعروفة بالحدث الحمراء، وزبطرة، وحصن منصور، ومكظية، وسُمَيْساط، وربمان، ودلوك، وقورض وكيسوم. فاستدللنا بهذا أن عمل حلب كان يتناول قسماً مهماً من الجزيرة ومعظم بلاد قاليقلا، وبعض بلاد آسيا الصغرى (ويقع الكتاب في 518 صفحة وعدد أوراقه 196)
محمد كرد علي(220/32)
تطور علم الكلام في رسالة إنقاذ البشر من الجبر
والقدر
للأستاذ محمد علي كمال الدين
من آثار الماضين المطمورة في الخزائن رسالة (إنقاذ البشر من الجبر والقدر) للشريف المرتضى المتوفى سنة 436هـ. قام بنشرها وطبعها الشاب الفاضل علي الخاقاني النجفي عضو منتدى النشر فيها.
لم تقتصر هذه الرسالة على طلاوة الحديث وسهولة الأسلوب فقط، بل استهلت بمقدمة وجيزة متقنة الترتيب والتنسيق والتأليف، عرضت لتاريخ تطور علم الكلام لم نجد لها مثيلاً في مطولات الكتب. ويدرك الباحث قيمة هذه المقدمة عند مقارنتها مع مقدمة مختصر كتاب الفرق بين الفرق؛ فقد كان المؤلفان متعاصرين فضلاً عن أن لهما سبقاً في التأليف على معظم مؤلفي الكتب المتداولة اليوم في مثل هذه الموضوعات.
لقد قارنا بين المقدمتين فوجدنا شبهاً بين مسلكي المؤلفين، ولو أن بين موضوعي الكتابين فرقاً ظاهراً. أما وجه الشبه فإن كلتا المقدمتين تبحثان عما جد من نقط الخلاف بين المسلمين. وأما وجه الافتراق فأن مقدمة مختصر كتاب الفرق بين الفرق لم توضح العوامل النفسية والاجتماعية الداعية لهذا الاختلاف، وأنها لم ترنا نظرية جديدة في أسباب هذه الحركة الفكرية؛ أضف إلى ذلك أنها قرنت نظرية الاستطاعة مع نظرية القدر في حين أن هذا الاقتران لا يصح منطقياً إلا على رأي القائل: إن القدر مرادف للجبر، وهو خلاف رأي ذلك المؤلف نفسه؛ فإن بحث الاستطاعة وتقدمها وتأخرها عن الفعل إنما حدث بين علماء الجبر أنفسهم، فكأنما المؤلف غفل عن التطور الفكري والظروف والمدارج العقلية التي يمكن للنظريات أن تحل أو تخلق فيها؛ في حين أن مقدمة المرتضى كما ستراها علمية فنية، فقد بدأت في نظرية نسبة المعاصي ونفيها عن الله، ثم أعقبت ذلك بنظرية العدل فنظرية الاعتزال يعني المنزلة بين المنزلتين، وتلاها بنظرية القدر ويعني بها الجبر؛ على أنه راعى في ذلك كله العوامل النفسية والاجتماعية المباشرة لخلق مثل هذه النظريات التي جاءت مرتبة بعضها وراء بعض فكان منها علم الكلام
وهذا هو الذي دعاني إلى العناية بدراسة هذه المقدمة وإلى تحليلها فلعلنا نستنتج تاريخ علم(220/33)
الكلام وتطور نظرياته. قال الشريف:
(واعلم أن أول حالة ظهر فيها علم الكلام وشاع بين الناس في هذه الشريعة هو أن جماعة ظهر منهم القول بإضافة معاصي العباد إلى الله سبحانه، وكان الحسن ابن أبي الحسين البصري ممن نفى ذلك ووافقه في زمانه خلق كثير من العلماء كلهم ينكرون أن تكون معاصي العباد من الله، منهم محمد الجهني وأبو الأسود الدؤلي ومطرف ابن عبد الله ووهب ابن منبه وقتادة وعمر ابن دينار ومكحول الشامي وغيلان وجماعة كثيرة لا تحصى؛ ولم يك ما وقع من الخلاف يومئذٍ يتجاوز باب إضافة معاصي العباد إلى الله سبحانه ونفيها عنه وغيره من هذا الباب)
فأنت ترى أن الشريف بدأ مقدمته ببحث نفسي علمي عن الحالة التي ظهر فيها علم الكلام وهو وإن لم يصور في المقدمة تلك الحالة بوضوح وجلاء إلا أن تحليلها العلمي يكشف لنا عنها، فقد درج فيها مثلاً جماعة من أكابر التابعين ممن تصدوا لنفي ذلك القول؛ ومن تصدي مثل هؤلاء العلماء تتجلى لنا أهمية هذا القول وقيمة القائلين به ومبلغ تأثيرهم وتأثيره في أفكار الناس، كما أن وجود أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69هـ بين هؤلاء الجماعة النافين، وهو المعروف بعلمه ومكانته، يدل دلالة صريحة على أن البدء في هذا القول لا يعدو هذا التاريخ، أي لا يعدو سنة 69 كما يدل على وجود رأي خاص بعلماء النفي. فنحن الآن نبحث نقطتين إحداهما العوامل التي كونت ذلك القول، وثانيتهما علماء النفي ورأيهم وكيفية تكون هذا الرأي.
(1) عوامل نسبة المعاصي إلى الله.
أما الحالة والعوامل النفسية التي دفعت إلى هذا القول فيمكن استنتاج رأي الشريف فيها من موضوع البحث نفسه. بحث المعاصي، فإنه من الواضح أن العرف والعادة يقضيان باستحالة ظهور هذا البحث فجأة وبدون أسباب، في حين أن الذي كان عليه المسلمون ونشئوا عليه هو الطاعة طاعة الله ورسوله التي تجلت أسبابها في عهد النبي والصحابة. فهل يمكن تغيير اتجاه الأمة فجأة، من هذا التوغل في الطاعة إلى البحث في المعاصي دون أن تجد عوامل اجتماعية وروحية مما تدفع إلى هذا التغير.
والسيد المرتضى لم يساعده الإيجاز في مقدمته على بيان عوامل البحث في المعاصي،(220/34)
وربما كان معتمداً على فهم القارئ واستنتاجه فإن الباحث إذا رجع إلى الأحداث التاريخية قبل سنة 69 يجد أنها بدأت في مقتل عثمان وثنت بوقعة الجمل وحروب صفين، وناهيك بمفعول هذه الأحداث وعظيم أثرها على الفطرة العربية والإيمان المتغلغل، فكان أن تمخضت عن خروج الخوارج المتصلبين في نظرياتهم الدينية والذين لم يكتف بعضهم بتخطئة علي ومعاوية وأصحابهما بل يريدون من الناس أن يحكموا بكفرهم وكفر من ناصرهما. وهذه الأحداث هي التي كونت نظريتهم في تكفير مرتكب الكبيرة وهي كما ترى عين نظرية المعاصي المبحوث عنها غير أنها توسعت بنسبة هذه المعاصي إلى الله.
وهنا يجد السؤال: كيف ومتى توسعت نظرية تكفير ذوي المعاصي فشملت إضافة هذه معاصي العباد إلى الله تعالى؟ وبتعبير أوضح كيف تطور الموضوع من إيجابي لدى فريق إلى سلبي لدى فريق آخر، ومن تكفير مطلق إلى تبرئة مطلقة، في حين أن طبائع الجماعات والأحزاب المتطاحنة تسترسل بالطعن بعضها في بعض بإصرار وشدة. وإن رأت الاعتدال فإنما يكون بالإعراض والإغفال لا في التبرئة، فإن من المعلوم أن نسبة عصيان العبد إلى ربه تستلزم نقض ذلك التكفير وتخفيف وطأته، وذلك يستحيل تحقيقه عقيب تلك الأحداث الدموية أي عقيب سنة 40، نعم يمكن أن يتكون من إصرار الخوارج على التكفير ومن حركاتهم الطفيفة ضد معاوية والعنيفة ضد ابن الزبير، ومن تفاقمها ضد عبد الملك وعامله الحجاج يمكن أن يتكون من جميع ذلك عوامل لتهيئة نفسية الأمة في تكوين جماعة ذات رأي في تبرئة الصحابة بقصد مناضلة الخوارج، والوقوف ضد تيارهم كما أن الأحداث التي قام بها يزيد بن معاوية والتي فتنت الناس في دينهم ولطخت ثيابهم بدم الحسين وبدماء أهل المدينة، وأيضاً حصار مكة المكرمة من قبل الحجاج لا بد أنها ولدت في نفوس الناس الشك والحيرة في العاقبة وسوء المنقلب، فمن الجائز أنهم لجئوا إلى وسيلة تبرئة الصحابة والتابعين كيما يحصلوا هم على هذه التبرئة ضمناً فنسبوا معاصي العباد إلى الله. ونحن نرى أن نشوء فئة تبرئ الأحزاب وتصحح أعمالها وأغلاطها لا يحصل عادة إلا بعد استقرار الوضع السياسي واطمئنان النفوس، وأيضاً بمعونة جيل جديد ينضم إلى بقايا تلك الأحزاب؛ فمن هذا النشء الجديد ومن أولئك البقية الذين كانوا شباناً عند تلك الحروب والفتن الداخلية التي انغمسوا فيها مسبوقين غير مختارين؛ فمن هؤلاء(220/35)
وأولئك يجوز أن تتكون فئة مختلطة تفكر أو تعتقد بتبرئة السلف - وبتعبير آخر يمكن أن يحدث على عهدها مثل هذه النظرية التي خلقها التطور الفكري - والسيد المرتضى وإن اكتفى بذكر النظرية عن تحديد وقتها أو تعيين الجيل الذي اعتنقها فإني أرى أن خير جيل وأفضل وقت يمكن أن تتجلى فيه نظرية نسبة عصيان العبد إلى الله هي المدة بين سنة 60 و 69 مراعين في ذلك سنن الاجتماع ومدى تطور عقلية الجماعة.
وإجمال القول أننا جعلنا التسعة والعشرين عاماً بين سنة 40 و 69 هي المدة التي تطورت فيها النظرية من قضية بسيطة إلى قضية مركبة، أو من دور الشعور بها فالتفكير، إلى دور نضوجها وبروزها نظرية ثم معتقداً، ذلك المعتقد الذي اضطر أبا الأسود الدؤلي وإخوانه التابعين إلى إنكاره. ومن الأدلة على صحة رأينا هذا هو المكانة العلمية التي كان عليها الحسن البصري كما يظهر من قول المرتضي (وكان الحسن بن أبي الحسين البصري ممن نفى ذلك) فإنك تعلم أن مثل هذه المكانة لا يبلغها إلا من قارب عمره 39 عاماً وقد كانت ولادة البصري سنة 30 هـ وعليه لا بد وأن تكون المدة من 60 إلى 69 هي القدر المتناسب لخلق نظرية نسبة المعاصي لله.
(2) علماء النفي ورأيهم:
أما علماء النفي فيظهر لنا من المقدمة أن المرتضي يرى أنهم جمع غفير من السلف الصالح فإنه بعد ما ذكر سلسلة صالحة من التابعين ألحقها بقوله: مع جماعة كثيرة لا تحصى. والمنطق يحكم في ذلك. فإن سواد الأمة ورجال العمل فيها مسوقين طبعاً لرفض نسبة معاصي العباد إلى الله، ذلك القول الذي ينفر منه الحس ولا يقبله العرف فقد عسر على فهم الناس الإذعان بأن الكفر والفسق وسائر الإجرام التي يرتكبها العصاة عادة - تنسب إلى الله وهو في الوقت نفسه العادل الرؤوف الرحيم. فكان رأي هؤلاء القول بالعدل وأنهم ينفون أن تنسب معاصي العباد إلى الله.
ويضيف المرتضي إلى ذلك أنه لم يكن في ذلك الدور الذي حصرناه بين 60 و 69 غير بحث المعاصي نفياً وإثباتاً.
فإن قيل إن النقطة الأولى أعني البحث في نسبة المعاصي لله يؤول إلى القول بالقدر الذي هو بمعنى الجبر على رأي المرتضي، وأيضاً النقطة الثانية أعني البحث في نفيها عنه(220/36)
بنسبتها إلى الإنسان تؤول إلى القول بالاختيار وهو الذي يدعوه المرتضي العدل. قلت: ولكن هذا المآل لا يتحقق فعلاً قبل تفهم الأمة حقيقة بواعثه نفسها وقتلها بحثاً ودرساً ثم تطبيقاً، ومن الجائز تحقق ذلك وتحقق هذا المآل ولكن بعد سنة (69) أي بعد تقادم نظرية نسبة المعاصي ونفيها، وأيضاً بعد مرور زمن يتناسب مع مدى تقدم عقلية الأمة، وعليه فيكون عهد نظرية القدر ونظرية الاختيار متأخراً كما قال المرتضي بعد عهد طويل.
ولا يذهبن بنا الظن إلى أن معنى تأخر هاتين النظريتين أنهما لم تخطرا ببال أحد ولم يعرض لهما الكتاب والسنة والأحاديث مطلقاً، فقد عرض الكتاب في مختلف الموارد إلى القدر والاختيار تصريحاً وتلميحاً وكناية، وكذلك الحديث؛ غير أنا لا نرى أن ذلك يستلزم أن تصبح علماً مفرداً لدى الناس إذ ليس كل ما يعرض له الكتاب والسنة يتفهم الناس نظرياته العلمية فعلاً، فقد جاء أن الكتاب يحوي بين دفتيه علوماً لم تكتشف بعد. ولذلك رأينا الشريف المرتضي قد خطأ القائلين أن القدر أول موضوع في علم الكلام فقال: ولم يك ما وقع من الخلاف حينئذٍ يتجاوز باب نسبة معاصي العباد إلى الله ونفيها عنه. ومن هنا نعرف أن رأي المرتضي لا يتفق مع رأي القائلين بأن معبد الجهني وغيلان الدمشقي هما أول القائلين بالقدر وإنما يرى فيهما كما عرفت في أنهما يقولان بنفي معاصي العباد عن الله وهي النظرية العدلية. وخلاصة رأي المرتضي كما يأتي:
(1) إن أولى النظريات في علم الكلام الإسلامي هي نظرية نسبة المعاصي إلى الله
(2) ثانيتهما النظرية العدلية وهي رأي علماء النفي
(3) يستنتج أن عام 60 - 69 هو أعلى حد يمكن أن يكون مبتدأ لتاريخ علم الكلام؛ وذلك لأنا ضبطنا الأرقام على أساس تاريخ وفاة العلماء أي على أخس المقدمات. ومن هنا يعرف القارئ أن تاريخ علم الكلام يجوز أن يتقدم على سنة 60 ولا يمكن أن يتأخر عن سنة 69، وهكذا الشأن في جميع أرقام بحثنا التالية فيجوز عليها التقدم ولا يجوز التأخر وسيتجلى رأي المرتضى أكثر في أجزاء المقدمة التالية قال:
(بيان القدرة والمقدور وما أشبهه. فأما الكلام في خلق أفعال العباد في الاستطاعة وفيما اتصل بذلك وشاكله فإنما حدث بعد دهر طويل، ويقال إن أول من حفظ عنه القول بخلق أفاعيل العباد جهم بن صفوان فإنه زعم أن ما يكون في العبد من كفر وإيمان ومعصية فالله(220/37)
فاعله كما فعل لونه وسمعه وبصره وحيويته، وأنه لا فعل للعبد في شيء من ذلك ولا صنع، والله تعالى صانعه، وإن لله تعالى أن يعذبه في ذلك على ما يشاء ويثيبه على ما يشاء. وحكى عنه علماء التوحيد أنه يقول مع ذلك إن الله خلق في العبد قوة بها كان فعله، كما خلق غذاء يكون به قوام بدنه، ولا يجعل العبد كيف يصرف حاله فاعلاً لشيء على حقيقة، فاستبشع من قوله أهل العدل وأنكروه مع أشياء أخرى حكيت عنه. ولما أحدث جهم القول بخلق أفعال العباد قبل ذلك ضرار بن عمرو بعد أن كان يقول بالعدل فانتفت عنه المعتزلة واطرحته، فخلط عند ذلك تخليطاً كثيراً وقال بمذاهب خالف فيها جميع أهل العلم وخرج عما كان عليه واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد بعد ما كان يعتقد فيهما من العلم وصحة الرأي لأنه كان في الأول على رأيهما وأخذ عنهما)
(لها بقية)
(العراق - النجف)
محمد علي كمال الدين(220/38)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 22 -
الفلسفة الصينية
العصر الأول
عقيدة العامة
لا يستطيع الباحث أن يحصل على نتائج قيمة في دراسة عقيدة شعب من الشعوب إلا إذا صعد مع الماضي إلى العناصر الأولى لهذه العقيدة بقدر المستطاع. ولا شك أن العقيدة الصينية هي إحدى تلك العقائد القديمة التي تتكون من عناصر مختلفة وأساطير شعبية متباينة. ولهذا وجب علينا قبل أن ندرس الوحدتين الصينيتين: الدينية والفلسفية أن نلم بمعتقدات العامة في عصور ما قبل التاريخ، حتى إذا ما وصلنا إلى العصور الراقية، استطعنا أن نربط بين الأصل والفرع على نحو يرضي البحث العصري.
تتكون عقيدة العامة عند الصينيين من أقدم عصورهم من عبادة الأرواح الخفية والقوى الغامضة التي كانوا يشاهدون آثارها دون أن يدركوا كنهها على نحو ما فعلت جميع الشعوب الغابرة. وكانت هذه الأرواح المعبودة مؤلفة من نوعين: أرواح الموتى: من آباء وأجداد وغيرهم، وتسمى عندهم بالـ (كُوِي) وأرواح القوى الطبيعية مثل الشمس والقمر والكواكب وتسمى عندهم (شين).
وكانت هذه الأرواح بنوعيها تنقسم من حيث المكان إلى قسمين: الأرواح العليا أو السماوية، وهي جميع الكواكب والنجوم؛ والأرواح الدنيا أو الأرضية، مثل: الأنهار والبحيرات والمنابع، والغابات والمروج والأودية والجبال والتلول والربوات. وتندرج في هذا القسم الأدنى أو الأرضي أرواح الموتى كذلك.(220/39)
ولقد كان الصينيون ولا يزالون إلى اليوم يؤمنون بأن هناك أرواحاً موكلة بالمطر، وأخرى بالجفاف، وثالثة بالإنبات، وغير ذلك، وأن هناك أرواحاً خاصة لحماية المنازل ورعاية أفراد الأسر.
كان هذان النوعان الـ (كُوِي - شين) إذن هما اللذين يحكمان الكون، ويسيران كل حركاته. ولهذا كان من الطبيعي أن تنحصر تفكيرات أفراد الشعب وحكامه ومشاغل قلوبهم في البحث عن نيات هذه الأرواح ومقاصدها، وما يرضيها، وما يغضبها، لكي يعمل كل فرد من أفراد الأمة حاكماً كان أو محكوماً على اجتذاب رضى هذه الأرواح، وجلب خيرها ودفع شرها. وكانت هناك وسائل كثيرة تستعمل للحصول على هذه الغاية مثل السحر والرقى واستنطاق الوحي على لسان رجال الدين
تمتاز العقيدة الصينية القديمة عن عقائد الشعوب الأخرى بالمغالاة في تقديس الأجداد إلى حد لم يعرف له نظير عند الأمم الغابرة، ففي الماضي قدموا عبادتها على عبادة أرواح السماء، وقد حافظوا على هذا التقديم من أي تغير طوال هذه العصور السحيقة، ولا يزالون إلى هذا العصر يشعرون الباحث في معتقداتهم بنفس هذا الشعور الذي يذكرنا بطفولة الإنسانية، ولكن لعل هذا النوع من العبادة قد بقي إلى الآن، لأنه يحمل في ثناياه مبادئ أخلاقية سامية تدفع الأبناء إلى احترام الآباء في حياتهم وبعد مماتهم وليس بغريب عن الصينيين أن يكون أثبت العقائد عندهم هو ما يمت بصلة إلى الأخلاق كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الماضي
هناك ناحية أخرى قد تميز الشعب الصيني عن غيره، وهي الإغراق في تقديس الأرض وعبادتها حتى كانوا يطلقون عليها اسم: (القوة المحسنة التي تتسم البذور لتردها ثماراً مضاعفة) ولا ريب أن السبب في هذا هو أن الشعب الصيني كان شعباً زراعياً يضع الاستغلال والاستنبات في المنزلة الأولى في الحياة.
عقيدة الخاصة أو عبادة السماء
بقدر ما كان العامة يقدسون الأرض لما تفيضه عليهم من نعمة الخصوبة ووفرة الإنبات، كان الخاصة يعبدون السماء لما يرونه بعين الفكر كامناً فيها من قوة معنوية لها كل السلطان على الأرض وما فيها، وهكذا ظهر الفرق منذ أقدم العصور واضحاً بين عقيدة العامة(220/40)
الساذجة التي تأمر بعبادة الأجداد وغيرهم من الموتى، وعقيدة الخاصة التي تحصر العبادة في السماء أو في (شانج - تي) أي السلطان الأعظم
لم تكن عقيدة الخاصة هذه مستحدثة في العصور المتأخرة، وإنما هي قديمة جداً، إذ نراها مسطرة في أقدم فصول كتاب (إِي - كينج). ولقد كانت الرياسة في هذه العبادات الراقية مقصورة على الملك الذي كان يسمى: (تي) أي السلطان وكانوا يلقبونه أيضاً بابن السماء؛ وقد تطورت هذه الرياسة في العصور المتأخرة فتجاوزت الملك إلى حكام المقاطعات والأقاليم
لم تكن عقيدة الخاصة مجرد عبادات وطقوس دينية فحسب، وإنما كانت ممتزجة بتفكيرات قيمة حول الكائن من حيث هو كائن وتحليلات لا بأس بها للقوى الطبيعية السماوية والأرضية التي كانوا يشاهدون آثارها، وكان ذلك مقصوراً على الخاصة ومحرماً على العامة تحريماً قاسياً. ويتضح هذا التحريم من قراءة أقدم فصول (إِي - كينج) إذ لا يكاد الباحث يتصفحها حتى يجزم بأنها لم تكتب إلا للحكماء والملوك وخاصة الأمراء وعلماء كبار رجال الدولة
وفي الواقع أن حكماءهم كانوا يقولون: ليس من العقل أن تُسَلَّم إلى الجمهور الأداة التي يسيء استعمالها، والتي قد تجرحه فترديه قتيلاً. وقد ظلت فكرة (المضنون به على غير أهله) قائمة في بلاد الصين حتى هذه العصور الحديثة، ولهذا قال: (لا أُو - تسي) حكيمهم المتنسك في العصور التاريخية: (كما أنه من غير الممكن إبعاد الأسماك عن الماء دون أن تموت، كذلك من المستحيل أن تكشف أسرار الدولة أمام العامة دون أن تفسد الحال)
من هذا نعرف مقدار حرص الخاصة على عدم تسرب أسرار عقيدتهم إلى العامة. والآن نريد أن نشير إلى شيء من تفاصيل هذه العقيدة، وعلى أي نحو كانت العقلية الصينية تفهم القوى المتصرفة في الكون وتؤمن بها وتوجه إليها التقديس. وإليك هذه الإشارة:
كان أولئك الخاصة من أقدم العصور يسندون التأثير في جميع الكائنات إلى قوتين عظيمتين: السماء والأرض؛ ولكنهم كانوا يرون في السماء وحدها السلطان الأعلى (اللامحدود) القوة، وكانوا يعتقدون أن السماء نفسها كائن حي متحرك بالإرادة، وبعبارة أدق: أن السماء هي العالم الحي المتحرك حسب نظام دقيق عجيب، وأنها هي كل الكون،(220/41)
وأن الأرض وجميع ما عليها من خصوبة وتناسل ومظاهر أخرى ليست إلا رمزاً تمثيلياً من رموز السماء. وقد كانت الأرض هي الرمز النسوي للسماء لما يظهر على سطحها من خصوبة ونباتات؛ ولكن ليس معنى هذا أن خاصة الصينيين كانوا يعتقدون - كما اعتقدت بعض الشعوب الأخرى القديمة - بأن الكائنات تناسلت من زواج السماء مع الأرض، كلا. وإنما كانوا يعتقدون بالوحدة المطلقة وبأن الأرض ليست إلا مظهراً للسماء بحيث يستحيل تصور فصلها عنها كما تستحيل تثنيتهما في الحقيقة، لأن كل واحدة منهما هي الأخرى، وهي أصل جميع الكائنات في نفس الوقت. ولئن وجدنا في كتاب (إِي - كينج) أن عناصر الوجود الإيجابية مستقرة في السماء وعناصره السلبية موجودة في الأرض مثلاً، وأن الأرض تدعى بالأميرة المخصبة، فليس معنى هذا هو التثنية الحقيقية، وإنما هي رموز لا أكثر ولا أقل
وهكذا نتلاقى عند هذه النقطة من الفلسفة الصينية بوحدة الوجود سافرة جلية بعد أن قصرها أولئك المتفيقهون على العقلية الآرية وجزموا بأنها برهان السمو الفكري. وليست هذه الوحدة موجودة في الفلسفة الصينية بهيئة غامضة، أو قابلة للفرض والتخمين، كلا، بل إنهم يصرحون بأن كل كائن من الكائنات الموجودة حية كانت أو جامدة إنما هو نتيجة لإحدى حركات الوحدة المطلقة، وأن جميع الحوادث الكونية ليست ناشئة إلا عن تغير المظاهر الطبيعية، وأن هذه الوحدة هي المنشأ والمرد لجميع الموجودات بغير استثناء. غير أن هذا التأثير لا يتجه من الوحدة إلى الكثرة الناشئة عنها بطريقة مباشرة، وإنما يتجه إليها بوساطة قوى هي كذلك ناشئة عن تلك الوحدة، وعلى هذا النحو تحدث الموجودات. فمثلاً الرعد يحدث الحركات الأبدية التي تجذب أحد الضروريين إلى الآخر، والهواء يحدث فرقتهما وكذلك المطر يحدث الخصوبة، والشمس تحدث الحرارة، والجبال تحقق السكون، والماء يحدث السرور؛ وهكذا تحدث القوة الطبيعية وحدها بعض الحوادث حيناً، وتتكاتف مع إحدى القوات الأخرى إحداث البعض حيناً آخر، وتتضارب مع قوة ثالثة إما للإحداث أو للكف عنه حيناً ثالثاً، وبناء على ذلك كله فليس للعالم عند الصينيين منشئ أجنبي عنه، وإنما المنشئ هو عين المنشأ، كما هي الحال عند الهنود وعند الرواقيين مع الاحتفاظ بالفروق الدقيقة المميزة لكل واحدة من هذه الفلسفات(220/42)
وعلى أن أهم ما يجمل بنا أن نشير إليه في هذا الموضع هو تصريح الفلسفة الصينية أو عقيدة الخاصة منذ عصور ما قبل التاريخ بأن جميع الكائنات هي نتائج التغير والتحول الدائمين والناشئين من الحركة. تلك النظرية التي طالما تلألأت في سماء الفكر الإغريقي في عصر ما قبل (سقراط) وكانت منشأ مجد (هيراكليت) ومبعث تلك المجادلات الفلسفية التي احتدم أوارها بينه وبين (بارمينيد) وتلميذه (زينون الإيليائي).
وليست هذه هي النظرية الفلسفية الوحيدة التي سبق الصينيون فيها الإغريق، بل إنهم قد سبقوا أفلاطون بتلك النظرية التي أسلفناها آنفاً، وهي تصريحهم بأن السماء كائن حي، متحرك بالإرادة. وإذا أردت التوسع في إيضاح هذه النظرية فارجع إلى أفلاطون أو إلى كتب ابن سينا وابن رشد فإنك ستجد فيها الفصول الضافية والبحوث المستفيضة.
لا يفوتنا قبل أن نغادر هذا الفصل أن نعلن أن هذا الكون الأوحد عند الصينيين لم يكن مادياً محضاً، وإنما كان طبيعياً أي مادة مشتملة على روح، بل إنهم صرحوا بأن الجانب المادي في الطبيعة لم يحتفظ بنظامه كاملاً إلا بفضل الجانب الروحي، وكذلك ينبغي أن نشير إلى أن الإنسان له عندهم منزلة خاصة، بل إنهم كانوا يعتبرونه عالماً مستقلاً ويضيفون اسمه إلى اسمي السماء والأرض كمظهر قوى من مظاهر الوحدة الكونية أو الكون الأوحد، لأنه هو المشتمل على الروح من بين جميع الكائنات وفي هذا يقول كتاب (شو - كينج): (إن السماء والأرض هما أبوا الكائنات جميعها، والإنسان من بين جميع الكائنات هو وحده الموهوب روحاً).
ولكن ليس معنى إضافة اسم الإنسان إلى اسمي: السماء والأرض هو تكوين ثالوث كثالوث الهنود أو المسيحيين، بل إنها وحدة مطلقة كما أسلفنا. وكذلك يجب أن نعلن أن هذه النظريات الراقية لم تكن يوماً ما عامية ثم تهذبت، وإنما هي وليدة أفكار الخاصة والمهذبين استخلصوها مباشرة من دراسة ما حولهم من الظواهر الطبيعية
(يتبع)
محمد غلاب(220/43)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
214 - لقد صغرت عظيماً
سأل رجل خالد بن صفوان فقال: هب لي دنينيراً. فقال خالد: لقد صغرت عظيما (صغرك الله!) الدينار عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف ديتك
215 - ألم العيون للذة الآذان
كان جحظة البرمكي ناتئ العينين جداً، قبيح الوجه، وكان طيب الغناء، ممتد النفس، حسن المسموع، حلو النادرة كثير الحكاية، صالح الشعر فقال فيه ابن الرومي:
نبئتُ جحظة يستعير جحوظه ... من فيلِ شِطرنج ومن سرطان
وا رحمتا لِمُنادميه! تحمّلوا ... أَلَمَ العيون للذّة الآذان
216 - عتاب بين جحظة والزمان
في (الإيجاز والأعجاز) للثعالبي: كان الشبلي يرقص على قول جحظة:
ورَقّ الجوُّ حتى قيل: هذا ... عتابٌ بين جحظةَ والزَّمان
217 - نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة
قال يونس بن محمد المفتي: أخبرنا عبد الله بن منظور قال: لما سرنا إلى الزيارة، وانتهينا إلى باب الخشبة، وهو الباب الذي يفضي إلى القبر (قبره صلوات الله عليه) نزل رجل عن راحلته وأنشد:
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركباً
فلما سمعه الناس نزلوا عن رواحلهم ومشوا إلى القبر
وتمثل هذا الرجل بهذا البيت احسن من مدح أبي الطيب المتنبي من مدحه به، وقاله فيه
218 - يا كفى الله شر ما هو حاك
أبو عامر بن الفضل التميمي و (هذا كلام عليه إمارة الإمارة وله ملاحة البداوة ورشاقة الحضارة):(220/44)
واصلتني الهمومُ وصلَ هواكِ ... وجفاني الرقادُ مثلَ جفاكِ
وحكى لي الرسول أنك غضبى ... يا كفى الله شر ما هو حاك!!
219 - ذهب ذلك القليل
في (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء): قال شعيب بن حرب:
قال لي شعبة: عقولنا قليلة فإذا جلسنا مع من هو اقل عقلا منا ذهب ذلك القليل. وإني لأرى الرجل يجلس مع من هو اقل عقلا منه فأمقته
220 - إرجاف العوام مقدمة الكون
كان ابن الزيات يقول: إرجاف العوام مقدمة الكون. نظمه جحظة:
وإرجاف العواِم مقدّماتٌ ... لأمرٍ كائن لا شكّ فيهِ
221 - لا. . .
كان ابن الليث قاضي مصر يكتب في فتيا فسمع جارية تقول:
ترى في الحكومة يا سيدي ... على من تعشق أن يُقتلا؟
فرمى القلم من يده وهو يقول: لا
222 - فكيف حالي لو كنت أعبد ثلاثة؟
في (نفح الطيب): كان محمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من اعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب، فيلسوفاً ماهراً، آية الله في المعرفة بالأندلس يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها. ولما تغلب طاغية الروم على مرسية عرف له حقه فبنا له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود. وقال له يوماً وقد أدنى منزلته: لو تنصرت وحصلت الكمال كان لك عندي كذا، وكنت كذا. فأجابه بما اقنعه، ولما خرج من عنده قال لأصحابه: أنا عمري كله اعبد إلهاً واحداً، وقد عجزت عما يجب له، فكيف حالي لو كنت اعبد ثلاثة كما طلب الملك مني؟!
223 - واستشهد بالموتى
في (كشكول العاملي): قيل لأعرابي: كيف غلبت الناس؟ فقال: كنت أبهت بالكذب،(220/45)
واستشهد بالموتى. . .
224 - إنها لم تجعد عني
في (الكشاف): شهد رجل عند شريح (القاضي) فقال: إنك لسبط الشهادة!
فقال الرجل: إنها لم تجعد عني
فقال: لله بلادك! وقبل شهادته
225 - علم الله نيتي من سمائه
في (أمالي) القالي: كان الجماز منقطعاً إلى أبي جزء الباهلي، فتنسك أبو جزء وقال للجماز: لا احب أن تخالطني إلا أن تتنسك، فاظهر الجماز النسك وأنشأ يقول:
قد جفاني الأميرُ حين تقرّى ... فتقرّيت مكرهاً لجفائهْ
والذي انطوى عليه المعاصي ... علم الله نّيتي من سمائهْ
226 - المصغر لا يصغر
في (وفيات الأعيان): اجتمع الكسائي يوماً بمحمد بن الحسن (الشيباني صاحب أبي حنيفة) في مجلس الرشيد فقال الكسائي: من تبحر في علم يهدي إلى جميع العلوم. فقال له محمد: ما تقول فيمن سهى في سجود السهو، هل يسجد مرة أخرى؟ قال الكسائي: لا. قال محمد: لماذا؟ قال: لآن النحاة تقول: المصغر لا يصغر
فقال محمد: فما تقول في تعليق الطلاق بالملك؟ قال: لا يصح قال: لِمَ؟ قال: لأن السيل لا يسبق المطر.
227 - والى العقول
في كتاب (الزهرة) لعلي بن داود (الظاهري): ليتحر الساقي العدل فإنه والي العقول، وإلا ناله من خجلة الاستعفاء ما ينال الوالي من خجلة العزل.
228 - قل لي متى
أحمد بن فارس:
إذا كان يؤذيك حرُّ المصيف ... وكرب الخريف، وبرد الشتا(220/46)
ويلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذُك للعلم قل لي متى؟
229 - الله اعدل
قال المنصور لبعض أهل الشام: ألا تحمدون أن دفع عنكم الطاعون منذ وليناكم؟
فقال الشامي: إن الله اعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون. . .
230 - أف على النرجس والآس
في (نزهة الجليس) للعباس بن علي المكي: كتب الشاه إسماعيل ملك العجم إلى الملك الأشرف قايتباي - ملك مصر - هذين البيتين:
السيفُ والخنجرُ ريحانُنا ... أفّ على النرجس والآس
شرابنا من دم أعدائنا ... وكأسنا جمجمة الرأس(220/47)
رسالة الشعر
المال
للأستاذ فخري أبو السعود
إِيَّاكَ يبغي رائح أو مغتد ... وإليك يسلُكُ حائد أو مهتد
وعليك أنت تجمّعوا وتفرّقوا ... كلٌّ إلى أَرَبٍ يروح ومقصد
وعلى هواك تواصلوا وتباغضوا ... متزاحمين عليكَ عَذْبَ المورد
متنافسين على جَدَاكَ فغارق ... فيما يُجَمِّعُهُ وغصّانٌ صَدِ
مَن نال مِن جدواك رَاَمِ تزيُّداً ... هيهات مهما زِدْتَه لم يَزهد
أَحبِبْ إِلى أَسماعهم وقلوبهم ... بصداك لا بل باسمك المتردد
قطبُ الحياة وملتقَى طلابها ... طراً وسِلْكُ نظامها المتبدد
يُعْلىِ مكانك عالمٌ بصروفها ... وبطبعها المتقادم المتجدد
بك تُطْلَبُ الدنيا ويُدْرَكُ ما بها ... مِن متعةٍ لأَخي النُّهى المتَزَيِّد
وتَصُونُ ماَء الوجه يومَ ملمة ... وتَقومُ دون الحادثات بمرصد
وأَراك تَقْحَمُ كل حصن مغلق ... أَشِب وتفتح كل باب موصد
وأراك عدة كل حر ناهض ... يَقْضِي حقوقاً للعلا والسودد
وأراك جيشاً للغَنِّيِ مؤزِّراً ... يمشي بجند حيث سار مؤيِّد
وكأنّ هذا الكونَ دولةُ مَن مشى ... في جانبيه بُمطْرَفٍ أو مُتْلَد
أَنا إِنْ حَوَيْتُ قليلَ فَيْضِكَ خلُتني ... مَلِكاً على هذا السَّوَاد المُجْهَد
يشقَوْن كي أَهْنَا وأَخطر مُكْرَماً ... فيهم وأُدْعى بينهم بالسّيد
ويسارعون إلى رضاي مُحَكَّماً ... في خير ما صَنَعَ الصَّنَاعُ وأَجْوَد
وتهش لي أَنَّي ذهبتُ ديارُهم ... طرباً ويُبْشِرُ عند مَقْدَمِيَ النَّدِي
فإِذا خَلَتْ كَفِّي فيالي مُجْتَوى ... إِن جاء أُنْكِرَ أو مَضَى لُم يُفقْدَ
أنت الصديق الصادق الفرد الذي ... يُغْنِي إِذا اُفْتُقِدَ الصديقُ ويفْتَدِي
نِعْمَ المصاحبُ في المُقام وحبذا ... خِدناً لِذِي السَّفَرِ المفِذِّ المبْعِدِ
فتشتُ عن وجه الصديق فلم أجد ... فيمن عرفت سوى الطَّلُوب المجتدي(220/48)
مَنْ ليس في يوم الرفيهة مُؤْنِسِي ... بحديثه أو في الكريهة مُسعدي
حتى إذا أَقصيتُ كلَّ مُساَئلٍ ... عنّي وصاحب حاجةٍ متودِّد
ألفيتُني فرداً لعمرك واحداً ... فنبذتُهم وَوَفَرْتُ ما مَلكَتْ يَدِي
فخري أبو السعود(220/49)
ريحانتي الأولى أو الحرمان
للأستاذ سيد قطب
ريحانتي الأولى وروْح شبابي ... أئذا دعوت سمعتُ رجع جواب
أنا في الجحيم هنا وأنتِ بجنة ... من روْح إعجاب وريْق شباب
أنا في الجحيم وأنت ناعمةُ المنى ... خضراءُ ذات تطلّع وطِلاب
أنا لا أريدك ها هنا في عالمي ... إني أعيذكِ من لظًى وعذاب
لكنها الذكرى تثور بخاطري ... مجنونةً حمقاء ذاتَ غِلاب
عيني رعتكِ وأنت نابتةٌ فلم ... تغفل ولم تفتر ولم تتألم
وتعهدتك يدي وأنت نحيلة ... وغذاكِ من نفسي الحنانُ ومن دمي
فنموتِ والآمالُ حولك تنتشي ... وتهم راقصةً وتهتف بالفم
حتى إذا أينعتِ وانطلق الشذى ... ألفيتُ نفسي في صميم جهنم
ملقًى هنالك لا أحس ولا أرى ... إلا الشواظَ وكلَّ داجٍ معتم
بيني وبينكِ شُقة لا تنتهي ... أبداً أُقارب حولها وأُباعد
هي شقة النفسِ الخرابِ، وإنها ... لمجاهل لم تُكتشف وفدافد
الشمس فيها لا تطلُّ وما بها ... إلا الرواكدُ والظلام البارد
أنا لستُ سالكَها وأنتِ حفيةٌ ... أن تجْنبيِ عنها ونجمك صاعد
فإِذا الذي بيني وبينك كلُّهُ ... ذكرى تطل برأسها وتعاود
وأراكِ من خلل الغيوم أسيفةً ... إذ تذكرين رعايتي وجهودي
وتريْن حاضرنا وغابرنا معاً ... وتراجعين مواثقي وعهودي
نفسي فداك فلا أراك شجية ... ترقي الغضونُ لوجهك المعبود
وقف عليك تطلعي وتلهفي ... وقف عليك قصائدي ونشيدي
لكن أعيذك خطرة في عالمي ... إني أعيذك وحشتي وركودي(220/50)
أيها البحر
للآنسة نفيسه السيد
سرِّحْ الطَّرفَ في الَجَلالِ وَهاَتِ ... نَفَحَاتٍ مِنْ آيِهِ البَيِّناَتِ
وامْلأَْ النَّفْسَ مِنْ معاَنيهِ سِحْراً ... مُسْتَفِيضاً في أَرْوَع الآياتِ
مَوْطِني بُورِكَ المقَامُ حَوالْي ... كَ كريمَ الغُدْوَات والرَوَحاتِ
حَيْثُ نُشِّئتُ في ظِلالِكَ أرعَى ... شاَطِئ الَيمِّ فيِ مَراح الَحيَاةِ
وَملاذُ النُّفُوسِ أنْتَ إذا ما ... أثْقلتْها الأَيَّامُ بالَحادِثاَتِ
فَتُوَلِّي إليْكَ مَنْطَلِقاَتٍ ... مِنْ قُيُودِ الهُمُوم والَحسَراتِ
ناَئياتٍ عَنْ عاَلم الأرْضِ تحْيىِ ... فَتَراتٍ مِنَ المنَى صاَفِياَتِ
دُولٌ أَقْبَلتْ عليكَ ودالتْ ... مِن قديم وأنت في الرَّاسِياَتِ
مُشبهٌ للزَّماَنِ تأخُذُ عَنْهُ ... سَرَّهَ مِن تَقَلُّبٍ وثَباَتِ
فَحَدِيثُ الأَيَّامِ فيكَ مُعَادٌ ... فِي قَدِيمٍ من العُصُور وآتِ
(إسكندرية)
نفيسه السيد(220/51)
من وحي جنائن دمشق
تعالي
للسيد جورج سلستي
تعاَليْ لنسهرَ حتى السَحَرْ ... فللمغرمينَ يلذُّ السَهَرْ،
فهذا الغدير، وهذى الرياض ... التي تعشقين، وهذا الزَهَرْ
أطلَّ عليها جميعاً، كوجهك ... غبّ الشجونِ، أخوكِ القَمَر
يوشِّعُها من سناءِ ضياه ... ووهْج أشعَّتهِ بالبِدَر!
تعاَليْ فقد رقَدَ المرجفون، ... وغطَّ الوشاةُ، ونامَ القَدَر!
سجاَ الليلُ إلاَّ هبوبَ النسيم ... العليلِ، وإلاَّ حفيفَ الشجر
وأبلسَ إلاَّ خريرَ الغديرِ ... وجرجرةَ الماءِ في المنحدر
تعاَليْ أُساقطُ منكِ الكلامَ، ... فإِنّ كلامَ الحسانِ دُرَرْ
وتحت ستارِ الدُجى يُستطابُ ... حديثُ القلوبِ ويحلو السَمَر
تعاَليْ فكلّي جوارحُ تهفو ... لمرأى المحيَّا الوسيم الأغرّ
تعاَليْ فشوقي إليكِ تلظَّى ... وأنَّ حنيني إليكِ استَعَرْ
تعاَليْ أبثك نجوى الفؤادِ ... وأشكِو إليكِ صُرُوف الغِيرْ
وما فعلتْ بَي أيدي البعادِ ... وما خلَّفتْ من بليغ الأَثَرَ!
هنا مجتلى عبقريُّ الرواءِ، ... وضئُ المحاسنِ، فَذُّ الصور
زها بغلائلهِ الفاتناتِ ... وماجَ بوشْيِ الربيع النَضَر
كأنَّ جنانَ الخلودِ عليه ... تجلَّينَ بالرَوْنَقِ المبْتَكَر!
مراءٍ تشعُّ بسحرٍ الجمال ... فتسبي العقولَ، وتسبي النَظَر
هنا الروضُ يطفحُ بالنُعمياَتِ ... فيشأو جميعَ الرياضِ الأُخَر
هنا متعةُ النفسِ يا منيتي ... وراح النُهى ومراحُ الفِكَر
هنا جنةُ اللهِ في أرضه ... إذا كانَ من جنةٍ للبَشَر
تعاَليْ فإِنَّ لقاَءكِ فيها ... لسرُّ الحياة ونعمى العُمُر
تعاَليْ نذوب غراماً فنبقى ... حديثَ الدهورِ ونجوى العُصُر(220/52)
جورج سلستي(220/53)
رسالة العلم
مملكة النحل
عيشة النحل وتربيته الحديثة
بقلم جمال الكرداني
تتمة ما نشر في العدد الماضي
ومن العوامل التي تسبب خراب الخلية وتؤدي إلى دمارها ظاهرة تسمى بالتطريد، والتطريد هو هجر الملكة الخلية مع بعض الحاشية لتكوين مستعمرة أخرى، وذلك لضيق الخلية أو وجود منازع لها في الملك. ويحدث التطريد في الربيع أي في أوائل أبريل حيث تكون الخلايا قوية وآهلة فتحس الملكة بضيق المكان فتضطر للمهاجرة. وعندما ترى الملكة نخاريب (عيون) ملكية تتنبه إلى أنه سيخرج منها يوماً ما ملكات تنازعها الملك فتعمد للسعها داخل عيونها ويمنعها من ذلك الشغالة حديثة السن فيعز على الملكة ذلك وتؤثر الرحيل
عند ذلك ترسل الملكة بضع نحلات هي الكشافة للبحث عن محل لائق للهجرة، وهو عادة الأشجار والجدران العالية؛ ثم يخرج النحل الكبير في السن ويتجمع بالقرب من باب الخلية ويتماسك بواسطة الأرجل حتى تتكون كتلة تسمى بالطرد
وعند تمام اجتماع الطرد تخرج الملكة وتركب وسط هذا المتن ثم يطير الطرد قاصداً المكان الذي تهديه إليه الكشافة
ويسبق هذه الهجرة ظواهر يمكن النحال ملاحظتها، وهي انقطاع الملكة عن العمل وربما كان ذلك لانشغالها بفكرة الرحيل، ويلاحظ كذلك تجمهر النحل على أبواب الخلية. كذلك يوجد غالباً دوي غير عادي داخل الخلية. وفي استطاعة النحال منع التطريد إذا فطن له فيعمل على توسيع المكان بوضع براويز جديدة كلما لزم ذلك مع ملاحظة مسألة التهوية. ويجب أخذ البراويز التي بها بيوت ملكات أو قطع البيوت منها أولاً بأول حتى لا تفقس. وإذا كانت مهارة النحال فائقة فيمكنه عزل الملكة القديمة (الأصلية) في برواز سلكي يوضع في الخلية فيرى النحل ملكته ولكن لا يرى لها بيضاً على الأقراص فتذهب نزعته(220/54)
للتطريد. وإذا رأى النحال أن الملكة لا تستحق مثل هذا الحفظ يخرجها من الخلية ويميتها ويدخل ملكة جديدة، فيظن النحل أن التطريد قد تم، وأن هذه الملكة زعيمته الجديدة؛ ويمكن منع التطريد بتاتاً بقص أجنحة الملكة من جانب واحد
النحل والعسل
عرف النحل من قديم الزمن، وكانت الجماعات منه تسكن شقوق الصخور والتجاويف التي توجد في سوق الأشجار وعند تحقيق فائدته استأنسه الإنسان، ونقله قدماء المصريين إلى جانب بيوتهم، وكونوا له بيوتاً أرقى من الأولى، وهذه ما زالت ترتقي حتى كونت الحديثة
وتنجح تربية النحل في الحدائق والمزارع حيث تحاط الخلايا بأشجار تظللها، ويحسن أن تكون قصيرة متساقطة الأوراق مثل التفاح والخوخ والبرقوق، لأن الأشجار العالية تساعد على التطريد كما أن الخضرة الدائمة تمنع أشعة الشمس. ويستحسن تظليل الجهة الشرقية والجهة الجنوبية قليلاً لتسمح لأشعة الشمس بالوصول إلى الخلايا إذ أنها من العوامل المنشطة للنحل؛ ويقام عادة سياج في الجهتين الشمالية والغربية لمنع الأهوية الباردة عن الخلايا
وخلايا المناحل المصرية نوعان بلدية وأفرنكية؛ أما البلدية فعبارة عن اسطوانة من نوع طين القلل طولها 120 سم وقطرها 15 سم تسد بقرصين أحدهما به ثقب وتلتصق بجدران الداخلية إلا من أسفل أقراص الشمع ويبلغ عددها من 20 إلى 25 قرصاً
أما الأفرنكية فعبارة عن صندوق خشبي يتصل بقاعدته أربع قوائم قصيرة وغطاؤه محكم القفل سهل الفتح، ويرتكز على حافتي جانبين متقابلين من هذا الصندوق عشرة براويز مساحة السطح المحصور بين دائر كل برواز 35. 5 21. 5 سم2 وعرض حافته العليا 2. 5 سم وبين كل برواز والذي يليه مسافة قدرها 1. 5 سم. كما أن مستوى القاعدة ممتد من أحد جوانب الصندوق إلى الخارج مسافة 12 سم لوقوف النحل قبل دخوله الخلية أو طيرانه منها؛ ويخرج النحل من الخلية ويدخلها عن طريق فتحة عرضية في قاعدة وجه الصندوق من جهة الامتداد.
وأهم جزء من أجزاء الخلية سواء كانت بلدية أو أفرنكية هو القرص الشمعي، ويقوم النحل في الخلايا البلدية ببنائه كله؛ أما في الخلايا الأفرنكية فيثبت أساس شمعي على كل برواز(220/55)
ويكون عمل النحل هنا قاصراً على تعلية أضلاع الأشكال المسدسة المنقوشة على هذا الأساس الشمعي، وهذا الأساس يقلل من تعب النحل في بنائه من جهة ويجعله يبذل هذا المجهود في عمل عسل من جهة أخرى. وقد وجد أن المجهود اللازم لعمل أربعة أرطال من العسل يبذل في صنع رطل واحد من الشمع. وهذا الشمع يتكون من دخول العصير الذي تمتصه النحلة من الأزهار في غدد لها أسفل الجسم فيستحيل إلى شمع فإذا ملئت هذه الغدد فاض منها الشمع على شكل قشور تزيلها النحلة برجليها الخلفيتين، وباستعمال فمها ورجليها الأماميتين يمكنها بناء الأقراص أو تعلية الأساسات
ولون القرص الشمعي أبيض في الابتداء ويحفظ لونه إذا استعمل في تخزين العسل، أما إذا استعمل الأفراخ فأن لونه يسمر. ويمكن الاحتفاظ بالقرص صالحاً الاستعمال مدة حمس سنوات إذا اعتنى به ولم يكسر عند استخراج العسل.
وعند تمام بناء القرص تقوم الشغالة بجمع العسل وتخزينه وطريقة ذلك أن تمتص النحلة رحيق الأزهار وترسله إلى حوصلة خاصة موجودة بالجزء الأمامي من البطن حيث تحصل فيه تغيرات كيميائية وغيرها ويكتسب الطعم الخاص به، وبعد وضع العسل في العيون يتبخر ماؤه قليلا ثم تغطيه الخناث بغطاء من الشمع. ويخزن العسل في الجزء العلوي والجانبي من القرص، أما الجز الأوسط منه فتشغله الأفراخ.
ويقطف العسل مرة في السنة عادة في أغسطس أو سبتمبر، ولكن إذا كانت الخلايا قوية والنحل مجداً يقطف العسل مرتين في أغسطس وأكتوبر. ويلاحظ عند قطف العسل ترك ربع المقدار في الخلية ليكون غذاء للنحل في الشتاء. وفي الطريقة البلدية توضع الأقراص فوق بعضها في إناء من الفخار مثقوب من أسفل، فتراكم الأقراص يسبب سيل العسل وخروجه من الثقب إلى إناء معد لذلك. وهذه الطريقة طبعاً غير مرضية لما يشوبها من الأوساخ وغيرها وخصوصاً إذا استعملت الأيدي لتكملة العصر
أما في الطريقة الحديثة فنحصل على العسل بوضع البراويز المحتوية عليه في جهاز يسمى الفراز يديرها دورات سريعة، وبنظرية الطرد المركزي ينفصل العسل من البرواز ويسقط في اسطوانة محيطة بالجهاز، وعند ضمان نظافة الجهاز يكون العسل نقياً رائقاً حلواً شهياً.(220/56)
وكلنا طبعاً لا نجهل لذة طعم العسل وحلو مذاقه وخصوصاً وقت طفولتنا كما أننا لا ننسى أنه يدخل في معظم الفطائر والمربات فيزيد طعمها حسناً.
ويستعمله الغربيون بدل السكر فيضعونه في أقداح الشاي وما شاكل ذلك. وكثيراً ما يدخل في العقاقير الطبية ليزيل شيئاً من مرارتها ويكسبها طعماً مقبولا. والعقاقير التي يلزم الإنسان منها مقادير صغيرة جداً ولا يتسنى للفرد أخذها بمقاديرها الحقيقية وهي على حالتها الراهنة، تمزج بالعسل بحساب معلوم ويتعاطى الإنسان منها مقادير تحتوي على هذه الكميات الضئيلة من العقاقير وقد قال الله تعالى (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس)
جمال الكرداني
بكلية الزراعة
تعليق
ورد في مقال (مملكة النحل) المنشور في العدد الماضي من الرسالة أن يرقات ذكور النحل تتغذى بخبز النحل مع جزء من الغذاء الملكي (اللبن) بعد ثلاثة الأيام الأولى، والحقيقة أن يرقان الذكور والشغالة بعد تغذيتها في الثلاثة الأيام الأولى بالغذاء اللبني تتغذى بغذاء نصف مهضوم من العسل وحب اللقاح (انظر مملكة النحل العدد الرابع من المجلد الثامن - أبريل 1937)
يوسف أحمد موسى
معاون أعمال فرع النحل بوزارة الزراعة(220/57)
القصص
من قصص التاريخ
جاسبار هوزيه 1812 - 1833
الأستاذ عبد اللطيف النشار
إن كان البؤس مؤهلاً لبقاء الذكرى فليس أحد أحق بأن يعيش في ذاكرة الناس من جاسبار هوزيه.
أربى عمره على العشرين ولكنه لم يعش في الواقع إلا أربعة أعوام، وذلك لأن بقية عمره يجب أن تحذف من حساب الأعمار. عاش ما بين العام الذي ولد فيه وبين اليوم الذي بلغ فيه من العمر ثمانية عشر عاماً، وهو يجهل تمام الجهل ما يعلمه الأطفال دون عمد - ما يعلمونه بالغريزة وحدها. كان يجهل مثلا أن في الدنيا مزارع وأن في هذه المزارع طيوراً وزهوراً؛ وكان يجهل أن في الدنيا رجالا وأن هؤلاء الرجال يمشون ويضحكون ويبكون؛ وكان يجهل أن فوقنا سماء وأن في السماء كواكب وأن أحد هذه الكواكب يضئ في النهار وبقيتها تنير في الليل.
هكذا عاش ثمانية عشر عاماً وهو لا يعرف شيئاً عن الدنيا ولا عن الناس ولا عن الأفراح ولا عن الأحزان.
وفي يوم 26 مايو سنة 1828 وجد جاسبار هوزيه عند باب مدينة نورمبورج في بافاريا وكان هذا أول عهد الناس به وعهده بالناس.
ولما ترك هذا الباب حاول المشي ولكن قدميه خانتاه لأنه لم يعتد المشي فوقع. وهو الآن يمشي لأول مرة في الطريق وهمهم بأصوات غير مفهومة لأنه لا يعرف الكلام. ولو كان يعرفه لخاطب الناس بمثل هذا القول:
(في هذا اليوم أترك في المرة الأولى سجناً مظلماً وضعت فيه منذ مولدي ولم أنتقل منه، ولم أعرف غيره. ولست بالأعمى ولكن لأول مرة ترى عيناي اليوم ضوء الشمس، ولست بالأصم ولكني إلى ما قبل لحظات لم أكن أعرف ما الأصوات؛ وهكذا أنا بينكم لا أستطيع المشي ولا السماع ولا النظر. إنني رجل ولكنني أقل بينكم من الأطفال.(220/58)
وكانت قوانين هذه المدينة شديدة على المتشردين، فلما رأى الجنود جاسبار مرتمياً على الأرض قادوه إلى قسم البوليس، ولكن كان عبثاً ما حاول المحققون من الحصول على إجابة منه
وخطر ببال واحد منهم أن أمامه دواة وقلماً وورقة، فلما رأى جاسبار هذه الأشياء تناول القلم وكتب اسمه فاستدل المحققون بذلك على أنه يدعي الخرس والصمم، وعلى أنه متشرد فأرسلوه إلى السجن
وكان من بين الذين حضروا التحقيق معه طبيب اسمه الدكتور (دومر) وقد استرعت هذه الحالة اهتمامه فصار يعوده في السجن ويترقب تصرفاته
ولما جيء إليه في السجن بقطعة من اللحم وبقدح من الجعة ارتاع ورمى بالقدح، وجيء له بقطعة من الخبز وبقدح من الماء فتهلل وجهه وتغدى منشرحاً ثم نام
وفي خلال الأيام الأولى زار السجن عدد كبير من الناس ليروا هذا المجهول. وكان بعضهم يحمل إليه الكعك، والبعض يحمل إليه اللعب
وكان الفريق الآخر حكيما لأن المعاملة المعقولة مع مثل هذا المخلوق هي معاملة الأطفال. لكن جاسبار كان يرفض كل ما كان يقدم إليه إلا جواداً خشبياً حين رآه تهلل وأبدى رغبة دالة على نفاذ الصبر في الحصول عليه. فأدرك النظارة من ذلك أنه كان يملك مرة مثل هذا الجواد الخشبي، وانه كان في يأس من استرجاعه
وعلى التدريج استطاع جاسبار رؤية النور وسماع الأصوات، وكان من قبل يبكي عندما يسمع دقات الساعة من الكنيسة المجاورة وينزعج عندما تمر بالقرب من السجن فرقة موسيقية. وقد أغمي عليه في أول مرة سمع فيها الألحان
وكان الدكتور (دومر) يراقب في اهتمام شديد كل هذه التطورات، فلما اقتنع بإمكان تعليمه طلب إلى ولاة الأمور تسليمه إليه. وبدأ يعلمه ووجد تقدمه مستمرا. وبعد مدة كتب جاسبار تاريخ نفسه في العجالة الآتية:
(كنت لا أعرف كم عمري لأني لم أكن اشعر بوجود الأيام والليالي ولا بمدلول العمر، ولكني كنت أشعر بوجودي في الغرفة المظلمة التي لم أعرف غيرها. وكان رجل يزورني كل يوم ويأتي بالطعام، وكنت اشعر بأني غير وحيد في هذه الدنيا. وقد وضع الرجل أمامي(220/59)
شيئاً لم أكن أعرف ما هو لكن شكله كان يسرني، وهو جواد خشبي، وكنت أرى ذلك الرجل يمشي فأحاول المشي مثله ولكني كثيراً ما كنت أقع أو يصطدم رأسي بالحائط. وافهم الآن - ولكني لم أكن أفهم من قبل - أن ثيابي كانت بين حين وآخر تتبدل بثياب انظف وأن شعري كان يقص. واحسب أن ذلك الرجل كان يضع في طعامي مخدراً ليتمكن من إحداث هذا التغيير دون أن اشعر
وفي يوم من الأيام جاء بدواة وقلم وورقة وأمسك بيدي وعودني كتابة اسمي ولم أكن أعرف معنى لهذه الحركة ولا للاسم الذي كنت أكتبه. ولكن سهل علي ذلك بحكم الاعتياد. وأظن تعلمي كتابة اسمي قد أستغرق نحو عام من العمر. وأحسب أن هذا الاسم ليس هو اسمي الحقيقي ولكنه الذي أرادوا أن يطلقوه عليّ. على أنني غير راض عنه وأريد إن مت أن يكتب على قبري: (المجهول)
ولست أشك في أن أبي أراد إنكاري ولم يرد قتلي وهذا هو الذي يجعلني أعتقد أن اسم جاسبار هوزيه ليس اسمي. ويظهر أنني أصبحت عبئاً ثقيلاً عليهم بعد إذ بلغت هذا العمر فأرادوا التخلص مني. ففي أحد الأيام دخل الرجل الذي أعتاد أن يحمل إلي الطعام والشراب ولكنه لم يقدم لي طعاماً ولا شراباً فاستغربت وزاد استغرابي لما وضع عصابة على عيني وحملني فلم أسائل نفسي عما يراد أن يصنعوه بي
وهنا تخونني ذاكرتي ولكن أحسب أن وجودي في الطريق لأول مرة صدم أعصابي وأظن أنهم أزالوا العصابة عند باب (نورمبورج)
وأقام جاسبار عند الدكتور (دومر) وصار يرافقه في الأسواق ويظهر بين الناس. وفي أحد الأيام أصيب جاسبار وهو يدخل باب المنزل بطعنة من خنجر قذف به فجرح في جبينه ولكن الجرح كان خفيفاً. ولم يتمكن أحد من معرفة الذي شرع في قتله
لكن هذا الشروع كان كافياً للدلالة على أن حياة جاسبار لم تكن في مأمن بتلك المدينة
وطلب اللورد ستانهوب وهو من أغنياء الإنكليز إلى الدكتور دومر أن يترك له جاسبار فتركه له. وأرسل جاسبار إلى مدرسة في إنكلترا. وكان يقيم بها في منزل الدكتور منهرمان.
وفي يوم ما كان جاسبار يسير بالقرب من متحف أوزن فأصيب بطعنة وهرب الذي طعنه.(220/60)
وعلى الرغم من أن الطعنة كانت مميتة فقد تمكن جاسبار من العودة إلى منزل الدكتور منهرمان. وكان كل ما استطاع أن يفوه به قبل موته أنه ولد في 30 ابريل سنة 1812 في بافاريا.
وأعلن اللورد ستانهوب أنه يكافئ من يرشد عن قاتله بخمسة آلاف فلورين، ولكن البحوث الرسمية وغير الرسمية ذهبت كلها سدى. ومات جاسبار في17 ديسمبر سنة 1833.
عبد اللطيف النشار(220/61)
البريد الأدبي
تشجيع جلالة الملك للكتاب والمؤلفين
تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك فأمر بمنح الأستاذ محمد بدران ناظر مدرسة بنبا قادن الابتدائية والعضو في لجنة التأليف والترجمة والنشر خمسين جنيهاً تشجيعاً له على ما بذله من جهد في ترجمة كتاب (إبراهيم باشا) فقابل الأستاذ بدران هذا العطف الملكي الكريم بالشكر والضراعة إلى الله أن يحفظ لمصر فاروقها
مدالية ذهبية إسلامية إلى فضيلة الأستاذ شيخ الجامع الأزهر
تلقت مشيخة الأزهر في الأيام الأخيرة كتاباً من وزارة الخارجية، جاء فيه أن جمعية (إسلام سيفا سماج) - وهي جمعية إسلامية كبرى في بومباي - قد قررت منح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر (المدالية الذهبية الإسلامية) التي أنشأتها هذه الجمعية وجعلتها وقفاً على كبار المسلمين الذين يؤدون أعمالا ذات أثر ملموس في تاريخ النهضات الإسلامية الحديثة
وقد أرسلت الجمعية هذه المدالية الذهبية منذ أيام إلى فضيلة الأستاذ الأكبر مشفوعة بصورة من قرار مجلس إدارتها
متى يعلن الأدب المصري عن نفسه
ظهرت أخيراً ترجمة ألمانية لرواية تركية من قلم الكاتب التركي قربان سعيد عنوانها (علي ونينو) فأثار ظهورها اهتماماً في دوائر النقد الأدبي، وظهرت عنها في الصحف الألمانية عدة مقالات نقدية، ووصفها أحد النقدة المعروفين في إحدى الصحف النمسوية الكبرى بأنها رحلة بديعة في القوقاز وبلاد الكرج وفارس، وفي تلك المناطق التي لا يؤمها الأوربي كثيراً والتي تختلط فيها المذاهب واللغات المختلفة في صعيد واحد. وليست هذه أول مرة يترجم فيها الأدب التركي الحديث إلى اللغات الأوربية، ولكن المهم هو أن كاتباً تركياً يستطيع بإنتاجه الأدبي أن يتقرب إلى الذوق الغربي، وأن يثير اهتمام الدوائر النقدية الأوربية. ولا ريب أن الحركة الفكرية في تركيا الحديثة لم تبلغ ما بلغته الحركة الفكرية في مصر من القوة والتقدم، ولكنها تمتاز بخاصة لم يبلغها الأدب المصري بعد، وهي أنها(220/62)
استطاعت في بعض النواحي أن تجاري الحركات الأدبية الأوربية وأن تعرف عن نفسها، وأن تلفت أنظار النقد الأوربي، وأن تنال استحسانه في بعض الأحيان. أما في مصر فمن بواعث الأسف أننا لم نوفق في هذه الناحية بعد، ولا تزال الأمم الأوربية تجهل كل شيء عن أدبنا وتفكيرنا. نعم ترجمت في الأعوام الأخيرة بعض القصص المصرية إلى بعض اللغات الأوربية، ولكنها لم تثر اهتماماً نقدياً كافياً، وكان نقلها إلى الأدب الأوربي نتيجة اتصالات شخصية، ولم يكن مترتباً على مزاياها الأدبية الخاصة. وما دام الإنتاج القصصي في مصر يعتمد على النقل والاقتباس، ولا يتحرى الطرافة ودراسة الحياة والظروف القومية فانه سيبقى حيث هو مجهولا من الأدب الأوربي
أما قصة (علي ونينو) هذه التي أثارت استحسان النقد الأوربي، فهي قصة غرامية شائقة وقعت حوادثها في مدينة باكو حيث كان (علي) يدرس في جامعتها، وحيث عرف (نينو) أجمل فتاة في العالم، وهي تقدم لنا صوراً حسنة عن الحياة الشرقية في القوقاز وبلاد الكرج وفارس، وعن العواطف والمشاعر والأخلاق في هذه الأنحاء
الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية في عصبة الأمم
هبطت على (الأهرام) برقية من جنيف في اليوم السادس عشر من هذا الشهر تقول:
(ظهر علي الشمسي باشا مندوب مصر في عصبة الأمم للمرة الأولى في اللجنة السادسة التابعة لهذه العصبة فأحرز فيها نجاحاً جديراً بأن تفاخر مصر به وبان تشكره عليه جميع البلاد التي تتكلم باللغة العربية
فمن المعلوم أن جميع البيانات والمنشورات التي تتعلق بالتعاون الفكري كانت تصدر حتى الآن باللغتين الفرنسوية والإنجليزية. ولكن علي الشمسي باشا أظهر ما لمصر من المكانة منذ افتتاح جلسة اللجنة بتدخله في المباحثة تدخلاً باهراً أثبت على أثره الفائدة العظيمة والحاجة الماسة إلى الاعتراف للغة العربية بمثل الحقوق التي تتمتع بها اللغتان الفرنسوية والإنجليزية)
وقد أوضح هذه النظرية ببلاغة نادرة، وأيدها بحجج دامغة وافق عليها جميع المندوبين وهم من أعظم المفكرين في جميع البلدان
وهكذا قبل اقتراح علي الشمسي باشا ووافقت اللجنة بإجماع الآراء على استعمال اللغة(220/63)
العربية فدخلت هذه اللغة دخولاً باهراً في الميدان الدولي وأصبح من الواجب الاعتراف بعلي الشمسي باشا بأنه أدى لمصر وجميع البلاد العربية أعظم الخدم وأجلها
معرض باريس
هل كان معرض باريس الدولي دعاية حسنة لفرنسا، وهل تحقق ما كان معقوداً علية من الآمال؟ هذا ما تتساءل عنه معظم الصحف الفرنسية؛ وترى صحف اليسار الاشتراكية أن المعرض كان نجاحاً عظيماً لحكومة الجبهة الشعبية التي افتتح في ظلها، والتي أشرفت على مراحله الأخيرة، ولكن صحف الكتلة الوطنية ترى أن معرض باريس كان كارثة على سمعة فرنسا، وأنه كان فشلاً ذريعاً للحكم الاشتراكي؛ وتقول في التدليل على ذلك إن المعرض قد فتح بصفة رسمية منذ 25 مايو الماضي، ولكنه فتح قبل أن تتم معظم أقسامه، ولا تزال إلى اليوم بعد أشهر من افتتاحه أقسام لم يتم إعدادها. ولم يجذب معرض باريس إليه إلى اليوم ما كان منتظراً من الزائرين، ولم تقم حكومة الجبهة الشعبية بدعاية قوية في هذا السبيل، ولم تقدم من التسهيلات ما يغري بزيارته. وقد شعرت الحكومة بفشلها ففكرت أن تمد أجل المعرض عاماً آخر ابتداء من نوفمبر القادم وهو الموعد الذي حدد لإغلاقه؛ ولكن تقوم دون ذلك صعاب كثيرة يجب تذليلها، وذلك لأن كثيراً من الأمم الكبرى المشتركة في المعرض مثل ألمانيا وإنكلترا تعارض في مد الأجل لأنها تحتاج إلى معروضاتها لتعرض في جهات أخرى، ولأنها لا تستطيع أن تستمر في الأشراف على أقسامها في معرض باريس إلى أجل غير مسمى، والحكومة الفرنسية تسعى إلى مد الأجل لكي تستطيع تحصيل نفقات المعرض وهي تقدر بمليارات الفرنكات؛ وتقدر إدارة المعرض أنه يجب لتحصيل هذه النفقات أن يزور المعرض على الأقل عشرون مليون من الزائرين، وهو عدد لم يتحقق إلى اليوم سدسه ولا خمسه. وعلى أي حال فان مصير المعرض لن يتطور قبل نوفمبر القادم وهو موعد إغلاقه الأصلي
ضوء جديد على اللغز الروسي
مازالت روسيا لغزاً مغلقاً على المؤرخ والسياسي، يصعب النفاذ إلى روحها وعقليتها؛ فهي تخرج من ثورة إلى ثورة، وتتحرر من طغيان القيصرية لتقع بين براثن طغيان أشد(220/64)
وأروع هو طغيان البلشفية. وقد ظهر أخيراً بالإنكليزية كتاب قيم يلقي كثيراً من الضياء على اللغز الروسي، ويشرح لنا تكوين روسيا السياسي في مراحله المختلفة؛ وعنوانه: (تاريخ روسيا السياسي والدبلوماسي بقلم الأستاذ المؤرخ فرنادسكي ويقول الأستاذ فرنادسكي إن نظام الطغيان هو نوع الحكم الوحيد الذي يصلح لروسيا، وإن روسيا عاشت مدى الأربعمائة عام الماضية تحت نير الطغيان؛ ويستعرض العوامل الجغرافية والتاريخية التي تؤيد هذه النظرية؛ فروسيا أعظم أمم الأرض من حيث المساحة، وكما أن حرمان ألمانيا من الحدود الطبيعية جعلها دائماً دولة عسكرية من الطراز الأول، فكذلك حاجة روسيا إلى الدفاع عن أقاليمها الشاسعة يجعلها في حاجة إلى اليد والنظم الحديدية. ولروسيا مهمة جعلتها قبلتها دائماً هي حماية الشعوب السلافية؛ وروسيا السوفيتية تسير على هذه السياسة لأن ظروفها وعواملها لم تتغير. ويقول لنا الأستاذ فرنادسكي أيضاً أنه يستحيل علينا أن نفهم روسيا المعاصرة إلا إذا وقفنا على العناصر الني تتكون منها، وكتاب الأستاذ فرنادسكي الجديد هو في الواقع ملحق لكتابه القيم عن تاريخ روسيا الذي ظهر في سنة 1929أأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأااااالللللللااالحج08984564674897، وأثار إعجاب الدوائر الأوربية والتاريخية بدقة عرضه وقوة تصويره ورزانة استنتاجه؛ وقد وصفته الدوائر النقدية يومئذٍ بأنه أعظم كتاب ظهر عن روسيا في عصرنا، وقد استقبل كتاب الأستاذ فرنادسكي الجديد بمثل ما استقبل به كتابه الأول من الإعجاب والتقدير؛ ويعتبر فرنادسكي أعظم أستاذ في عصرنا للتاريخ الروسي.
جائزة جيته
كانت لجنة نوبل بجامعة استوكهلم قد منحت في أوائل هذا العام جائزة نوبل للسلم للكاتب الألماني فون أوسيتسكي، وكان لذلك وقع سيئ لدى حكومة ألمانيا النازية، لأن فون أوسيتسكي كاتب ديموقراطي يدعو إلى السلام ومقاطعة الحرب، وهذا ما لا يروق لزعماء ألمانيا الحاضرة؛ وكان أوسيتسكي معتقلاً في أحد المستشفيات حينما أسند إليه هذا الشرف الدولي العظيم؛ وقد احتجت الحكومة الألمانية يومئذٍ على ما اعتبرته تحدياً لها، وقرر الهر هتلر أن يحرم الكتاب على الكتاب الألمان قبول جوائز نوبل، وأمر بإنشاء جائزة أدبية كبرى تسمى بجائزة (جيته) وتخصص لأعظم كاتب ألماني يخدم بقلمه ودعوته الحركة(220/65)
الاشتراكية الوطنية الألمانية. وفي الأنباء الأخيرة أن جائزة (جيته) منحت للكاتب الألماني أروين جيدو كولنهاير، وهو من الكتاب الشيوخ، ولكنه استطاع أن يجاري النازية، وأن يحوز استحسان زعماء ألمانيا الحاضرة؛ ولم تكن له شهرة أدبية من قبل، ولكن الاعتبار الأول في منحه هذه الجائزة الكبرى، هو أنه خدم الحركة النازية بقلمه ودعايته؛ وقد علق أحد الكتاب الألمان المنفيين على ذلك بقوله: (إن النجاح الذي أسبغته جائزة جيته على كولنهاير قد عوضه عن الفشل الذي ما فتئ يلاقيه في حياته الأدبية)
الأستاذ استراتمان
في اليوم الرابع من شهر سبتمبر سنة 1927 بلغ الأستاذ الكبير المستشرق الستين من عمره، وهو مدير المعهد الشرقي بجامعة هامبورج، والأستاذ الألماني الوحيد المتخصص في الفرق الإسلامية والمخرج لمجلة
لهذا الأستاذ كثير من الأبحاث الإسلامية وله مؤلفات عدة تمتاز بالدقة العلمية والمنطق السليم وتعد لهذا من المراجع الأولى في الأوساط الأوربية للاستشراق، لأنه إذا كتب يكتب عن تفكير وروية ثم عن احتياط شديد. وهذا غاية ما يمتاز به العالم.
وفوق ما له من المزايا العلمية وسعة الاطلاع فهو وديع هادئ لا يحب الظهور، ولا يميل إلى الإعلان عن نفسه؛ يسير مع طلبته كأحدهم ولكنه مع ذلك لا يتهاون في النقد العلمي معهم، بل قد تكون له في ذلك أحياناً ثورة نفسية باعثها الرغبة الشديدة في تعويد تلامذته الكتابة العلمية، ومن ورائها قلب طاهر يضمر لهم كل محبة وإخلاص.
يرحب بالمصريين ولا يضن عليهم بإرشاداته القيمة وإن أخذت كثيراً من وقته؛ ويعمل دائماً على تعريفهم بمشاهير علماء الاستشراق في أوربا، فإذا وفد إليه وافد من هؤلاء سارع إلى دعوة طلبته وفي مقدمتهم المصريون إلى منزله البهيج النظر لتبادل الحديث والتعرف بالوافد ثم يشيعهم بعد ذلك بكل عطف. فضلاً عن أنه يدعوهم من وقت لآخر لتوثيق عرى الرابطة بينهم.
فإذا بلغ اليوم الستين من عمره فإنما يبلغها ووراءه مفخرة عظيمة من الأبحاث العلمية المستقلة وطلبة نجباء في كثير من بقاع الأرض.
دكتور محمد البهي(220/66)
ماذا تعني الفاشستية
لم تثر مسألة من المسائل في عصرنا من الجدل قدر ما تثير الفاشستية؛ ومع ذلك فلا يزال معنى الفاشستية ومراميها الحقيقية بعيداً عن فهم الرجل العادي. وقد صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب يوضح هذا اللغز ويفسره عنوانه (الفاشستي) بقلم الكاتب السياسي ا. أشتون وفيه يحلل معنى الفاشستية ويستعرض مثلها بطريقة واضحة. ومما يلاحظه في مقدمة كتابه أن من العبث أن ندرس الفاشستية من واقع عقائدنا وآرائنا السياسية، بل لا بد لذلك من أن نلبس جلد الفاشستي؛ وهو يحاول ذلك في كتابه؛ ويلخص لنا مستر أشتون مركز الفرد في الدولة الفاشستية بما يأتي: (إن الفرد لا قيمة له في نظر الدولة مطلقاً، وليس له حق البقاء إلا كفرد من المجتمع؛ وقد استبدلت حقوقه الشخصية بتسليم كل أفكاره ومشاعره ورغباته إلى الدولة، فلا حق له في التفكير أو التقدير؛ ولهذا أصبحت قوة التقدير عنده معطلة جامدة، وكل ما يسمح له أن يفكر فيه هو ما تسمح به الدولة أن يفكر؛ وهو يدهش إذ يرى في العالم أناساً لا يعتقدون أن الفاشستية هي خير طريق إلى الحياة)
ويلاحظ المؤلف أيضاً أن من خطل الرأي أن نعتقد أن الأكثرية من الدولتين الخاضعتين للنظم الفاشستية، وهما إيطاليا وألمانيا، ساخطة على هذه النظم؛ ولكن يلاحظ من جهة أخرى أن ألمانيا وإيطاليا هما دولتان في طور الفتوة، وليست لإحداهما كما لإنكلترا أو فرنسا أو أمريكا تقاليد ديمقراطية عريقة؛ بل لقد كانت الفكرة الديمقراطية لديهما طارئة، ولم يرسخ غرسها؛ ومن ثم قد استحالت الديمقراطية في إيطاليا غير بعيد إلى حالة من الفوضى يستغلها المحترفون، وأما الشعب الألماني فهو بطبعه شعب عسكري يجنح إلى النظام والالتفاف تحت الألوية العسكرية، ويقدم خضوعه للنظم التي تشبع بهذه الروح بسهولة لا توجد في الشعوب الأخرى.
مصاير الحرب والسلام في أوربا
لفت أنظار الدوائر السياسية في إنكلترا وفي القارة كتاب سياسي خطير ظهر أخيراً بالإنكليزية عن نيات ألمانيا ومشاريعها العسكرية عنوانه: (مؤامرة هتلر ضد السلام) ' ومؤلفه الدكتور اكنر (وهو غير الطيار الشهير) أحد الكتاب الألمان المنفيين؛ وفيه(220/67)
يستعرض أغراض هتلر العسكرية كما يبسطها في كتابه المعروف (كفاحي) ويدلل على أن ألمانيا النازية قد قطعت شوطاً كبيراً في الاستعداد لتنفيذ هذا البرنامج بالعنف والسيف؛ وهذه مسألة ليست جديدة في الواقع، ولكن الجديد في كتاب الدكتور اكنر هو المعلومات الهامة التي يذيعها عن جهود الحكومة النازية لتكوين العقلية العسكرية في الشعب الألماني وإقناعه بأن الحرب هي وحدها طريق المجد والرخاء، وعن الدعاية المدهشة التي تنظم في ألمانيا ضد الدول التي يعتبرها النازي عقبة في سبيل أحلام ألمانيا. كذلك يقدم لنا المؤلف طائفة من المعلومات الجديدة عن مشاريع ألمانيا في أسبانيا وآمالها في محالفة الحكومة الفاشستية التي تحاول أن تعاون في إقامتها فيها، وعن أطماع ألمانيا في المشرق ووسائلها لتمهيد لهذه الأطماع؛ وهذه الحقائق الغريبة يدعمها المؤلف بطائفة من الوثائق والأدلة الهامة السرية والعلنية. والكتاب صفحة هامة من التاريخ السياسي تلقى ضياء كبيراً على مصاير الحرب والسلام في أوربا
كتاب عن المسألة الاستعمارية
أضحت المسألة الاستعمارية من أخطر المشاكل الدولية التي تهدد سلام العالم؛ وما زالت المأساة الحبشية ماثلة أمام الأعين بكل روعتها، فقد ذهبت أمة عريقة في الاستقلال هي الحبشة ضحية لهذه الشهوة الاستعمارية الخطرة وأدركت الأمم الصغيرة مرة أخرى أن الحق والسلام والعدالة كلمات جوفاء إذا لم تدعمها القوة الغاشمة. وقد صدر أخيراً كتاب خطير عن المسألة الاستعمارية عنوانه (المسألة الاستعمارية: أهميتها الدولية) , بقلم الأستاذ الدكتور بون؛ وفيه يبحث الكاتب دعاوى الدول المحرومة من المستعمرات مثل ألمانيا وإيطاليا واليابان في المساواة الاستعمارية ويستعرض ثروات الأمم الاستعمارية الكبرى وعدد سكانها ومواردها الطبيعية وموارد مستعمراتها، ويقارن مزاياها الاقتصادية، ويخرج من بحثه بأن القيمة الاقتصادية للمستعمرات مبالغ فيها لأنها ليست في الواقع عاملاً مفيداً في تخفيف ضغط السكان في الدول الكبرى، هذا فضلا عن أن عبء الدفاع عنها وقت الحرب يثقل كاهل أصحابها
ويرى الدكتور بون أن عصر بناء الإمبراطوريات الاستعمارية قد انتهى، وأن عصرنا هو عصر انحلال لهذه الإمبراطوريات وكل ما تستطيع الدول المحرومة أن تشهده وهو عملية(220/68)
التصفية؛ وينوه المؤلف بالأخص بالعامل النفسي في الدول المحرومة ويصف حقد ألمانيا لفقد مستعمراتها بواسطة معاهدة فرساي؛ ويرى أيضاً أن الشروط التي يجب توفرها لضمان سلام العالم هي عود الأمم إلى التعاون، وتنازل الأمم الاستعمارية عن بعض امتيازاتها للدول المحرومة، وعود الأمم المحرومة إلى موقف التعقل والرشاد.
أدب البحر
أقامت جمعية (أبولو) في الإسكندرية في الأسبوع الماضي حفلة شعرية عن أدب البحر نظمها سكرتير الجمعية الدكتور أبو شادي. واشتراك فيها جمع حفيل من حضرات الشعراء والمستمعين. . .
وقد بدأت الحفلة بكلمة الدكتور أبي شادي، ثم تلتها قصيدة رائعة للأستاذ (أحمد محرم) ثم توالى الشعراء في إلقاء قصائدهم وكانت من القصائد المبرزة في الحفلة قصائد حضرات الشعراء (يوسف فهمي، ومحمد السيد، وزكي غازي، وفتحي الشهابي ومصطفى السحرتي)
ثم نهضت الآنسة نفيسة السيد وألقت قصيدة جميلة هزت الأسماع ننشر بعضها في هذا العدد تشجيعاً لها على المضي في هذا الميدان. . . متجاوزين عن بعض هنات بسيطة لا تشوه من جمال القصيدة.
وقد لاحظنا في الحفلة أن كثيراً من شعرائها قد خرجوا في إلقائهم عن قواعد اللغة البسيطة. . . فمثلا نرى الشاعر (محمد السيد) قد خرج بكثير من كلمات القافية عن صحتها. . . فنراه ينطق كلمة (زفاف) بفتح الزاي وصحتها بالكسر وكلمة (هتاف) بكسر الهاء وصحتها بالضم. . . وكذلك نرى الشاعر (مصطفى صبحي) ينطق (ريح الشمال) بكسر الشين وصحتها بالفتح. . . إلى غير ذلك مما تعصانا عنه الذاكرة
والحفلة في مجموعها مجهود موفق نشكره للدكتور أبي شادي ولحضرات الشعراء الأفاضل، ونهنئ به الإسكندرية التي تلبثت زماناً طويلاً بعيدة عن أمثال هذه المحافل الأدبية
فتحي. م
ذكرى شاعر قوقازي(220/69)
احتفل أخيراً في بلاد الكرج والقوقاز بالعيد المئوي لمولد الشاعر الكرجي إيليا شافشفادزي، أعظم شعراء الكرج في القرن التاسع عشر وكان هذا الشاعر زعيماً وطنياً لعب دور عظيم في إذكاء الروح الوطنية بين مواطنيه، واتخذ الشعر والأدب سلاحاً لدعوته، ولبث مدى أربعين عاماً زعيم أمته الفكري؛ وقد نظم الشعر بكثرة وبراعة واشتغل بالأدب والصحافة، وكان له مع القيصرية مواقف وطنية مؤثرة؛ ولما صدر الدستور الروسي على أثر ثورة سنة 1950، احتفظت القيصرية بكراسي مجلس الشيوخ لصنائعها من رجال البلاط؛ ولكنها لم تجد بداً من النزول على ضغط الحركة الوطنية في القوقاز، ورأت أن تهدئها باختيار ممثل لها في مجلس الشيوخ؛ وكان هذا الممثل هو الشاعر الكبير شافشفادزي أو البرنس شافشفادزي، وهو الأول والأخير الذي حظي بهذا الشرف؛ وقد انتظم الشاعر مع ذلك في صف خصوم القيصرية منذ مقدمه إلى بطرسبرج، فكانت النتيجة أن القيصرية توسلت إلى التخلص منه بوسائلها المعروفة. وكان أن قتل بعد ذلك بأشهر قلائل على أثر عودته إلى القوقاز. ولكن القيصرية لم تستطيع أن تقتل الحركة الوطنية التي أذكاها شافشفادزي بقلمه ولسانه، بل لبثت آثارها ماثلة في الجيل الذي خلفه، والذي استطاع فيما بعد أن يعاون في هدم القيصرية والطغيان. ومما هو جدير بالذكر أن ستالين زعيم روسيا وطاغيتها الحالي هو من مواطني الشاعر وتلاميذه في الوطنية والحركة التحريرية(220/70)
رسالة النقد
كتاب إحياء النحو
تأليف الأستاذ إبراهيم مصطفى
للأديب السيد عبد الهادي
تتمة
واصل الأستاذ بدوي نقده، في مقاله الثاني، لمعاني الإعراب وأخذ يناقش بعض الأمثلة الواردة في الكتاب دون اعتماد على نقل قديم أو سند من رأي. فبينا ترى الكتاب قد امتلأ بآراء أئمة النحو القدماء وبالنصوص القديمة الصحيحة مؤيدة بأسماء الكتب وأرقام الصفحات، وذلك شأن الباحث الحديث الذي لا يقطع صلته بالماضي ولكنه لا يقف عند حده، ترى نقد الأستاذ قد خلا منه تماماً؛ وخلو النقد من أمثال هذه النصوص والآراء يسقط قيمته ويحيله إلى مجادلات لفظية لا تغني عن الحق شيئاً.
ولعلي لا أجد بياناً أوفى ولا حجة أقطع فيما بيني وبين الأستاذ بدوي من خلاف حول معاني الإعراب إلا أن أقدم للقارئ الكريم صورة صحيحة دقيقة عن رأي المؤلف فيها، وإذ ذاك يستطيع القارئ بنفسه أن يحكم للكتاب أو عليه وأن يقدر فضل المؤلف ودقة نظره وأن يعرف إلى أي حد كان هذا النظر صحيحاً جديراً بأن يكون إحياء للنحو بكل ما في كلمة الإحياء من معنى.
فاللغة العربية لغة معربة أي تتغير حركات الحرف الأخير من كلماتها تبعاً لتغير التراكيب، وهذه أهم ظاهرة تلفت النظر في اللغة العربية، وقد كان العرب شديدي العناية بالإعراب، وكان حسهم به دقيقاً يقظاً؛ وقد قالوا: اللحن هجنة على الشريف. وقال عبد الملك بن مروان: شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن. هذا شأن حركات الإعراب ومنزلتها في اللغة العربية.
أما الحركات الأخرى التي ليست حركات إعراب وهي التي تكون في أوائل الكلمات أو في أوساطها فليست أقل شأناً في العربية من حركات الإعراب فإنها أداة للتفريق بين المعاني المختلفة، فهي تفرق بين اسم الفاعل والمفعول في مثل مكرَم ومكرِم، وبين فعل المعلوم(220/71)
وفعل المجهول في مثل كَتَب وكُتِب، وبين الفعل والمصدر في مثل عِلم وعلْم، وبين الوصف والمصدر في مثل فرِح وفرَح وحَسن وحْسن، وبين المفرد والجمع في مثل أسَد وأسْد، وبين الفعل والفعل في مثل قدِم وقدُم، وبين معان أخرى كثيرة يتبينها الناظر في مفردات اللغة العربية بسهولة وبكثرة عظيمتين.
من هذا نرى عناية اللغة العربية بالحركات على اختلاف أنواعها وحرصها على الدقة فيها حرصاً شديداً.
وقد حاول علماء النحو أن يعرفوا أن منشأ حركات الإعراب، وفكروا في ذلك طويلا وأنعموا النظر ودققوا الإحصاء، فهداهم كل ذلك إلى أن حركات الإعراب ليست إلا نتيجة لعامل مذكور في الجملة، وإن لم يكن مذكوراً فلا بد من تقديره حتى يسلم العقل بوجود حركة الإعراب لأنها عرض حادث لا بد له من محدث، ومحال أن يوجد الحادث من غير محدث؛ وقد أطالوا الكلام في العامل لأنه في نظرهم سبب حركات الإعراب، فجعلوا الأصل في العمل للأفعال، والأسماء تعمل حملا عليها، وبعض الحروف يعمل حملا على الفعل؛ وجعلوا بعض العوامل قوياً وبعضها ضعيفاً. وعلى الجملة قد وفوا العامل حقه من البحث والإحصاء، وألفوا كتباً تجمع قواعد النحو تحت عنوان العوامل. وقد عشنا على هذه النظرية طوال هذه السنين حتى أحالها الزمن إلى عقيدة ثابتة يؤمن بها الصغير والكبير، فأعطينا للكلمات المختلفة قوة ترفع وتنصب وتجزم، ولم نعطي لأنفسنا هذه القوة، ونحن الذين ننشئ الكلمات ونغيرها ونبدلها ونحن الذين نرفع وننصب ونجزم.
وقد جاء المستشرقون وحاولوا أن يجدوا أصلا لحركات الإعراب فافترضوا أنها بقايا لزوائد كانت تلحق بالأسماء، وقد انقرضت الزوائد وبقيت الحركات دالة عليها، وهذا مجرد فرض لم تقم على صحته أدلة كافية باعتراف المستشرقين أنفسهم
ثم جاء الأستاذ الجليل مؤلف (إحياء النحو) ونظر فيما قرره النحاة في منشأ حركات الإعراب وما انتهى إليه المستشرقون، أطال النظر فيما سبقه من الآراء والنظريات، وأطال الاتصال بالعربية وأساليبها الصحيحة فلم يرقه ما قرره أولئك ولا هؤلاء في منشأ حركات الإعراب، واهتدى بثاقب فكره إلى أن حركات الإعراب إنما هي إشارة إلى معنى خاص يقصده العربي حين يلتزم الفتحة أو الكسرة أو الضمة، ولم يستقم عنده أن يكون(220/72)
الإعراب حكما لفظياً يتبع لفظ العامل دون أن تكون له إشارة إلى معنى خاص، أو أثر في تصوير المفهوم؛ فما كان للعرب أن يلتزموا هذه الحركات ويحرصوا عليها الحرص الشديد وهي لا تعمل في تصوير المعني شيئاً؛ ونحن نعلم أن العربية لغة الإيجاز، فالعرب يحذفون الكلمة إذا فهمت والجملة كذلك، ويهملون ما لا حاجة إليه رغبة في الإيجاز كعلامة التأنيث في الصفات الخاصة بالمؤنث، كما في أيم وظئر ومرضع، فهل يعقل في لغة هذا شأنها من الإيجاز أن تلتزم حركات إعراب مختلفة دون أن تكون هذه الحركات دالة على معان مختلفة
نرى في اللغة العربية ظاهرة التعدد في صيغ الكلمات والأدوات التي تؤدي وظيفة واحدة، ولكن لكل واحدة معنى خاص تشير إليه كصيغ الجموع المختلفة، كل صيغة لها دلالتها الخاصة، والصيغ المختلفة للصفة المشبهة لكل صيغة دلالتها الخاصة، وأدوات النفي لكل أداة معنى خاص في النفي، وأدوات الشرط المختلفة كذلك لا يعدل عن واحدة إلى الأخرى إلا تبعاً للمعنى؛ وهكذا في كل الظواهر التي نشاهدها في اللغة العربية، وما علامات الإعراب إلا ظاهرة من هذه الظواهر الكثيرة تسير على منهاجها وتأخذ حكمها، وتكون دالة على معان مختلفة، وتتغير تبعاً لتغير هذه المعاني؛ فالذي يعدل بالعربي عن حركة من حركات الإعراب إلى الأخرى إنما هو المعنى وليس عاملا من العوامل. ذلك ما أرتاه الأستاذ الجليل مؤلف (إحياء النحو) في حركات الإعراب. اشهد ويشهد معي كل منصف أنه فتح جديد في فهم العربية
فما عسى أن يقول الأستاذ بدوي في ذلك وما عساه أن يقول في هذه العبارة (نريد أن نفهم حركات الإعراب كما نفهم الظواهر الأخرى في اللغة العربية كصيغ الجموع المتباينة وصيغ الصفات المختلفة وأدوات النفي المتنوعة من حيث دلالة كل واحدة منها على معنى خاص؟)
وأخير لم يرق لدى الأستاذ الناقد أن تضم أبواب الفاعل والمبتدأ ونائب الفاعل تحت باب واحد هو المسند إليه وحجته أن المبتدأ لا يصح أن يكون نكرة والفاعل يصح أن يكون كذلك وللمبتدأ أحكام مع الخبر من حيث تأخره وتقدمه عليه ووقوع الخبر جملة حيناً ومفرداً حيناً آخر وليس للفاعل حظ من ذلك. والجواب عن ذلك سهل يسير؛ فلو أن الأستاذ فهم(220/73)
كيف وحد المؤلف أحكام المبتدأ والفاعل وأزال وجوه التفرقة بينهما لانتفت عنده كل شبهة ولآمن بأن البابين باب واحد شطرته الصناعة الفاسدة شطرين، وذلك أننا حينما ننظر إلى المبتدأ والفاعل كشيء واحد هو المسند إليه نستطيع أن نوحد أحكامهما المختلطة؛ واهم ما يفرقون به بين الفاعل والمبتدأ أن الفعل يوحد مع الفاعل الجمع أو المثنى، وأما المبتدأ فلابد أن يطابقه الخبر، ولكن المؤلف جمعهما في هذا الحكم بقاعدة سهلة يسيرة هي أن المسند إليه إذا تقدم وجب أن يطابقه المسند في العدد وإذا تأخر وجب أن يكون المسند مفرداً وهي قاعدة مضطردة لا يقام لسبيلها والحال كذلك في التعريف والتنكير، وذلك أنه إذا تقدم المسند إليه وجب أن يكون معرفة، وإذا تأخر جاز أن يكون نكرة، والحال كذلك في التقديم والتأخير، فإذا كان المسند إليه من ألفاظ الصدارة وجب تقديمه، وإن أوقع تقديمه في لبس وجب تأخيره والعكس بالعكس، وهكذا نجمع أحكام الأبواب الثلاثة تحت باب واحد فنسهل بذلك على الدارس المبتدئ ونحببه في دراسة النحو ولا نفوت من أحكام اللغة حكماً واحداً صغيراً أو كبيراً.
وإني أسأل الأستاذ بدوي سؤالاً واحداً بعد ذلك كله: ألم يجد في كتاب إحياء النحو شيئاُ واحداً يستحق التقدير والثناء حتى كان كل نقده من أول حرف إلى آخر حرف ذماً وانتقاصاً؟ لا أظن أحداً من الناس يوافقه على أن كتاباً خرج في مائتي صفحة ليس فيه موضع لثناء أو تقدير، ولو أن كتاباً خرج كذلك بالفعل لوجب على من يريد أن يحاربه أن يتلمس له موضع حسن حتى يوهم الناس أن نقده بريء خال من الهوى والتعصب.
السيد عبد الهادي
بالدراسة العليا بكلية الآداب(220/74)
الكتب
كتاب إحياء النحو
اكتشاف لغوي مهم
للأستاذ يوسف كركوش
تمتاز اللغة العربية عن سائر اللغات بحركات الإعراب التي تلحق أواخر الكلم، إلا ما يقال عن بعض اللغات السامية: كاللغة السريانية: من أن لها علامات إعرابية، وهي لغة ميتة. وأما سائر اللغات سواء الحية منها أو الميتة فان أواخر كلماتها ساكنة، مهما تغير موقع تلك الكلمات من الجملة، وأما باقي أبحاث اللغة: من صرف، واشتقاق، وبلاغة، إلى غير ذلك فهي موجودة في أكثر لغات العالم
وقد بذل علماء اللغة العربية - منذ القرن الأول للهجرة - جهوداً جبارة للكشف عن حقيقة هذه الظاهرة الإعرابية، ومعرفة أسبابها، فاستنبطوا قواعد وضوابط زعموا أنها تكشف عن حقيقة هذه الظاهرة ومعرفة أسبابها. فكان من نتيجة استنتاجهم أن هذه الحركات الإعرابية متأثرة بعامل يكون في الجملة، فكأنهم اعتبروها كائنات حية تؤثر أثرها. وإنا لنعترف لهم بالفضل لتتبعهم واستقرائهم كلام العرب، منظومه ومنثوره ورحلاتهم الطويلة الشاقة لأجل مشافهتهم الأعراب: ولكنهم لم يوفقوا في استنباط هذه القواعد والدساتير
وقد أولعت منذ نعومة أظفاري - بدرس اللغة العربية ومدارستها، وقرأت كل ما وصل إلى يدي من مؤلفاتها؛ ومع ذلك لم يزل الشك يساورني في صحة هذه القواعد والدساتير التي وضعها علماء اللغة لها، هذا مع اعترافي بصحة هذه الظاهرة الإعرابية.
فكنت على الدوام أتطلب وأتساءل وأجمع المعلومات لعلي أهتدي إلى تعليل صحيح لهذه الظاهرة بحيث يكون قريباً من الذوق الفطري.
وصادف أني اجتمعت بزميل لي يشاركني هذه الفكرة ويجول في ذهنه ما يجول في ذهني ويتمنى لو تسني له أن يزيل اللثام عن هذه القضية. فقد احتلت حيزاً كبيراً من عقله فكان حين صادفني هذه المرة أن قال لي قبل كل شيء: البشرى. فقلت له: ومثلك من يبشر بخير. فقال: طلع علينا كتاب من مصر لأستاذ مصري اسمه إبراهيم مصطفى واسم الكتاب(220/75)
(إحياء النحو) فيه تحقيق فكرتنا. ثم ناولني نسخة من هذا الكتاب فكان سروري به عظيما لا يوصف. فقرأته بإمعان وترو متجرداً من عواطف الحب والكره، فرأيت المؤلف قد علل الحركات الإعرابية من ضم وفتح وكسر، وكذا التنوين وعدمه بتعليل طبيعي فطري يجري مع الذوق السليم. فكدت أطير فرحاً وزال عني ذلك الكابوس الذي كان جاثماً على صدري
فالكتاب جليل عظيم القدر، لا باعتبار مادته، بل باعتبار نزعته التجديدية، وترتيب معلوماته ترتيباً منطقياً لاستجلاء تلك الفكرة السامية. فهو بحق (إحياء النحو). وهذا العمل اكتشاف مهم في اللغة العربية: لإظهاره ما للغة العربية من مزايا جليلة، ولإزالته عناء البحث عن طالبيها، فبعد أن كان الطالب يحتاج إلى مدة كبيرة لمعرفة أسباب هذه الظاهرة صار يكفيه من الوقت لمعرفة ذلك أقل بكثير
وكنت أعتقد أن هذا الكتاب سوف يحدث ضجة في العالم العربي ولا سيما مصر، وأن الأقلام ستأخذه بالنقد والتحليل لإظهار حقيقته؛ ولكن - مع كل الأسف - لم يقع بعض هذا، مع أن في العالم العربي لا سيما في مصر فطاحل العلماء في اللغة العربية. هذا مع خطورة هذه المسألة، فهي جديرة بالبحث لأنها مسألة حيوية لها صلة بالتفكير والتعبير. ولو أن مثل هذا الكتاب ظهر في إحدى البلدان الغربية لأعاروه أهمية عظمى. وأني لأربأ بأبناء أمتي أن يبلغ بهم الجمود هذا الحد فيصدق فيهم قول أعدائهم من الأجانب: إن الأمة العربية أمة بعيدة عن التطور عدوة لكل تجديد.
والعجب كل العجب من الأستاذ (احمد أمين) أنه حين كتب في (الرسالة) حول موضوع (ضعف اللغة العربية) لم يجعل الضعف ناشئاً من قبل قواعد اللغة، بل اعتبره ناتجاً من قلة كفاية المعلم، وما إلى ذلك من مناهج، وتفتيش ووسائل التربية. وهذا لا ينكر أن لها أثراً في ضعف اللغة، ولكنها في المرحلة الثانية، وهي غير خاصة باللغة العربية، بل تشمل سائر الدروس
وبصفتي فرداً من أبناء الأمة العربية - أقترح: أن يشكل (مجمع اللغة العربية الملكي بالقاهرة) لجنة تنظر في هذا الكتاب وتمحصه تمحيصاً دقيقاً، وتختبر هذه النظرية التي دعا إليها المؤلف في كتابه وتضع لنا قواعد على ضوء هذه النظرية. إذ أن مثل هذا العمل من أهم أغراض المجمع المذكور، فان من جملة أغراضه أن يبحث كل ما له دخل في تقدم(220/76)
اللغة العربية
(الحلة - العراق)
يوسف كركوش
كتاب في قصور دمشق
ثلاثون قصة وقصة (من لب الحياة)
تأليف الأستاذ محمد النجار
أخذ الاهتمام بالقصص يزداد في العالم العربي لما تبين من نفاسة قيمته الفنية والأدبية، وعظم فائدته القومية والإنسانية. وكانت مصر وما تزال مجلية في الحلبة؛ ثم بدا نمو هذه الحركة ونشاطها في لبنان. أما دمشق فظلت في تأخر حتى إذا ظهر كتاب (في قصور دمشق) رحب به الأستاذ منير العجلاني في المقدمة التي كتبها له واستزاد مؤلفه من أمثاله وحثه على الاستمرار في الكتابة
وأقاصيص الكتاب صغيرة تتراوح بين ثلاث وأربع صفحات تفضح - إذا صح القول - كثيراً مما في زوايا الخدور في صراحة يستهجنها بعض المتأدبين ويحبها المحافظون، وفيه كثير من الأساليب واللهجات العامية
تلذ قراءة هذا الكتاب للفتيان لأنهم يذهبون مع رغباتهم ويستطيبون لذات الحياة مهما كبحوا جماح أهوائهم وربما فسروا حكاياته مع ما يتفق وغرورهم، أما الكهول فلعلهم لا يجدون في هذه الأساطير كبير غرابة لأنها أحاديث تملأ المجالس الخاصة، وما هي بالأمر الذي يطغي على دمشق بل هو ناحية صغيرة من نواحيها الجديرة بالاهتمام. وليست هذه الحال تختص بدمشق وحدها ففي كل بلد من عجائب أسرار البيوت ما تعافه النفوس الأبية.
ولا ريب أن الأستاذ النجار قد عانى مر المشاق في سبيل تلقف هذه القصص وجمعها من مجالس اللذات وأفواه الهامسين وأحاديث الأندية، وهو على عنايته بإبراز هذه الصور واضحة مجردة عناية يشكره الأدب الواقعي عليها، مصلح ينبه قومه إلى هذه الأسواء وضرورة معالجتها.(220/77)
(دمشق)
مظفر البقاعي(220/78)
العدد 221 - بتاريخ: 27 - 09 - 1937(/)
مصر العربية
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
أبهجتنا معشر العرب ونعشتنا كلمة مصر المعرقة في العربية والكرم في (عصبة الأمم) في هذا اليوم، ذودا عن فلسطين إحدى الولايات (المديريات) المصرية من قبل، وحدتني على أن أبعث إلى (الرسالة) مجلة الأمم العربية بهذا القول، وقد أنشأته إذ سمعت ضباح غر غمر في عربية مصر، ومصرية عمرو
لما كان مهرجان شاعر العربية الأكبر أحمد شوقي (رحمه الله) في شوال سنة (1345) وجئت القاهرة: الحاضرة اللغوية للأمم العربية كيما أجهر بكلمتي في ذلك اليوم المشهود، استهللتها بهذا الكلام: (ليست دار العربية رمال الدهناء أو هضبات نجد أو الحجاز أو إقليم الشام أو أرض العراق، بل دارها كل مكان ينطق بالضاد أهله، ويتلو فيه كتاب محمد (صلوات الله عليه) قراؤه؛ وأقوى القوم عربية بل العرب العرباء أعرفهم بأدب العربية، فأهل مصر إذن هم القبيل المقدم في العربية، وهم سادات العرب)
وهذا التاريخ المصري، وهذى أحاديثه، وهذه الإسلامية المشرقة في مصر، وهذه العربية المنورة في مصر، وتلكم الأيادي البيض، وتلكم الآثار، وهذه المساعي في هذا الزمان، وهذه كلمة مصر المجلجلة في (دار العصبة) ذائدة عن فلسطين في هذا الوقت. كل ذلك يقول لي: صدقت، صدقت!. . .
فقد ساندت مصر العاملين في إعزاز العربية وإعلائها يوم كانوا يعملون، وقد حمت مصر هذه العربية حين لا أباة ضيم ولا حماة يحمون
حملت مصر دونهم هيكل الدين وروح البيان من فرقانه
وإن كانت إنما وقت عربيتها وحمت إسلاميتها، إذ الإسلامية والعربية والمصرية كلمات في هذا الوجود مترادفات
وما يجادل في عربية المصرية ومصرية العربية إلا كافر بالشريعة الكونية، وإلا محترق محتقد على هذه الإسلامية، وإلا ناشئ أضلته على علم (وهو غافل) هذه المدرسة الغربية، وإلا وغد سمسار باع الغلي رخيصاً في سوق العلوج والفرنج والحكومات الأجنبية، وإلا غبي جاهل، ولهذا يقال:(221/1)
قد اطلعت على سري وإعلاني ... فاذهب لشانك ليس الجهل من شاني
وإن مصرياً يجهد أن ينسلخ من عربيته لطالب في الدنيا محالا، ولن يكون مرغبه إلا من بعد أن يفارق نحلته، وينسى لغته، ويضمحل أدبه، ويفنى مجده في ثلاثة عشر قرناً، ويمحى حسبه، فكون مراده إنما هو بعدمه، ولن يكون هذا إلا ألا يكون هو
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
وإذا ذكرنا العربية فإنما نعني هذه العبقرية ذات التعاجيب المحمدية، وهذه القوة الخلقية، وهذه المقاصد القرآنية، وهذه الآداب الإلهية، وتلك الحضارة والمدنية
هذه هي العربية، وإن أظل وهن، وإن جاء ضيم، فالقوة في النفوس ما بدت، والعزة في غد (إن مع اليوم غداً يا مسعدة) وإن درج أهلها الأولون أنشد المصريون المنشدون:
فان يك سيار بن مُكرم انقضى ... فانك ماء الورد إن ذهب الورد
وإن قال عربي منتم إلى العربية، ما معه من العربية شيء: لست بعربي، فليس لمصري أن يقول مقاله، ويضل ضلاله؛ إن المصري هو وارث ذاك المجد، والمصرية هي وارثة العربية. وإن لم يكن المصري هو العربي، فليت شعري من يكون العربي؟ وإن لم تكن مصر دار العربية، فأين - يا قوم - في الدنيا دارها؟
وإن قال زنيم نيط بالمصرية: لست في شيء من العربية، قالت له المصرية: ولست في شيء من المصرية. أنكر العربية فأنكرته المصرية
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
إذا لم يكن المصري هو العربي كل العربي فهل العربي هو المغربي أو العراقي أو الشامي أو الحجازي أو النجدي أو اليماني أو الحضرمي أو العماني أو ذلك البدوي، ذلك الأعرابي
هل ذهب كل هؤلاء بمنقبة العربية وقعد المصري حجرة العربية حجر عليه. . .؟؟!!
إن العربية لن تنكر بنيها كبروا أو حقروا، نأوا في الدار أو قربوا، قل عديدهم أو كثروا، فكل أولئك بنوها، ولكن يحزنها ويغضبها عقوق في بنيها، وأقرب الأبناء إلى أمهم ابن في الدنيا بر. وهل رأت العربية في حين أبر بها من مصر؟
وليست العربية بالعزوة، ليست العربية نسبة، ولكنها عقيدة ونحلة وملة، ولكنها خليقة وأدب ولغة(221/2)
ليست العربية نسبة، ولكنها جامعة تؤلف بين القلوب، وفيها وفي شريعتها الحرية، وليست كمثل جامعة غربية، لأهلها ضجيج وعجيج (وأولئك الأغلال في أعناقهم)
فالعربي هو ذلك المتمدن المتحضر المهذب المثقف، المتعلم العالم العزيز الأبي الناطق بلسان القرآن. وليس بعرب (خراب بادية غرثى بطونهم) ولا قراضيب في (الجزيرة) ولا مد لغفون
وآنف من أخي لأبي وأمي ... وإذا ما لم أجده من الكرام
وقد قلت من قبل: ألا إننا كلنا أجمعين عرب أو عربيون وإنه ليحق هذا لهجة عربية ألهجنا منذ القديم بها، وأدب عربي نجعنا به وتروينا منه، وخلق عربي اشتملنا عليه. وما الأمة إلا لغتها وأدبها وخلقها، وكفى بذلك جامعاً، وإن النسب الواشج إلا زائدة، ولو عزا العازي كل أمة وفتش أصلها لتشظت وراحت أمم. . .
وهو قول لم يلاق مكذباً، ولم يجد أحد عنه متعقباً
وإن هذه العربية أم العلم، وربة التفكير، وزعيمة البحث والنظر - لن تقول لمصري من أبنائها - وهنالك في وادي النيل ما هنالك وهناك التاريخ الناطق، وهناك مجد باسق، فلن تقول له: طلس وطرس، بل تقول له: مجد وقدس؛ إنك قد سكنت جنتين، وكنت ذا المنقبتين، وكانت دارك مصدر المدنية، وموئل العربية قد جمعت العز من أطرافه: سؤدد (المصري) ومجد العربي
مصر مصدر العلم والمدنية
مصر موئل العرب والعربية
مصر! حيا الله مصر! حيا الله ربعها
محمد اسعاف النشاشيبي(221/3)
سلوك المرأة وسلوك الرجل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أمر النساء في كل حال عجيب. وإذا كان أحد من الرجال يفهمهن - كما ينبغي أن يفهمهن - فأنا والله بهن جاهل. ولي العذر، فما أراهن يفكرن في شِأن على نحو ما أفكر أنا أو يتناولنه من الناحية التي أتناوله منها. وأحسب أن هذا الضرب من الجهل هو الوحيد الذي لا يعيب المرء أو يسقط قيمته أو يزري به. قالت لي مرة فتاة من معارفنا: (ما قولك؟) قلت: (خير إن شاء الله! نعم يا ستي!) قالت: (هل يشغلك شيء غداً؟) قلت: (إذا كنت تعنين بالشيء العمل فإنه لا ينقطع؛ على أن أمري بيد الله ثم بيدي فأشيري كيف تأمرين، والعوض على الله) قالت: (اسمع. نريد. .)
فقاطعتها: (نريد؟. هكذا؟ بلفظ الجمع؟)
قالت: (لا تقاطع من فضلك. اسمع. . . نعم أختي وبنت عمي وأنا)
قلت: (أهلاً وسهلاً. . تفضلي)
قالت: (الجو في هذه الأيام بديع. . تهيئ لنا زورقاً حسناُ نظيفاً مريحاً، نركبه في النيل ونقضي يومنا كله على متن الماء، ونتغذى فيه أو في إحدى (المقاتات) التي نمر بها في طريقنا)
قلت: (اقتراح جميل، ولكن. . أنا وحدي أكون معكن؟ وفي خدمتكن؟ ارحمن تينمي يا فتيات!)
فقالت: (تستطيع أن تدعو فلاناً وفلاناً)
فدعوتهما وأعددنا الطعام ومررنا بهن فحملناهن إلى قصر النيل حيث كان الزورق ينتظر، ولم ألق إليهن نظرة حتى نزلن من السيارة وشرعن ينحدرن إلى مكان الزورق؛ فدهشت، فقد كانت ثيابهن زاهية نظيفة مكوية، بل كانت أفخر وأبرع ما رايتهن فيه، فتناولت ذقني بيدي وقلت: (هيه. . . نهارك أسود يا أبا خليل) ولم أكد أهز رأسي هزتين حتى نادتني إحداهن فنظرت إليها مستفسراً فقالت: (خذ بيدي فإني أخشى أن أزل وأقع على التراب أو تغوص قدمي فيه) فسألتها وأنا أتناول يدها:
(أين تحسبين نفسك؟ في سباق الخيل؟ ما هذه الثياب التي لبستها؟)(221/4)
قالت وهي تحني رأسها لتنظر إلى قدميها: (مالها؟ ألا تعجبك؟)
قلت: (تعجبني وتعجبني. . ولكنها لن تعجبك بعد نصف ساعة في الزورق)
ولا أطيل. ركبن، ووثبنا نحن وراءهن فأشرنا إليهن أن يجلسن فنظرن إلى المقاعد - ولم يكن بها سوء والله - متأففات مترددات فنفضنا لهن التراب الموهوم عن الحشايا المطروحة على المقاعد. وصحيح أنها ليست وثيرة جداً، ولا جميلة المنظر، ولكنها نظيفة. غير إن فتياتنا تبادلن نظرات تنبئ بالامتعاض ولا تنبئ بالرضى، ثم انتهين بأن جلسن متلاصقات جداً محاذرات أشد الحذر؛ وكان لابد أن أغضى عن ذلك فليس ذنبي إنهن جئن في ثياب لا تصلح إلا على الأرض اليابسة، وناولت أحد إخواني مجدافا وأخذت أنا الآخر، وتركنا الدفة لثالثنا، وقام الملاح فدفع الزورق عن الشاطئ بالمردى، ثم بدأنا نجدف، وكنت أضرب الماء برفق شديد حتى لا يطير منه شيء، ولكن رشاشاً منه كان يصيبهن على الرغم من ذلك فيصرخن ويتلاغطن ثم يتدانين ويعبسن ويمسكن عن الكلام ولا تبقى لهن عين يدرنها في المناظر التي جئن لينعمن بالنظر إليها
وأخيراً قال الذي بيده الدفة: (خذ أنت الدفة واعطني المجداف)
فلم أتردد في القبول فما كان يسرني أن أكون سبب التنغيص. واتخذ صاحبي مقعده وراح يضرب الماء بعنف فيتعالى الصراخ فلا يعني بأن يلتفت إليهن ولا يزيد على أن يقول وهو يضحك: (لا بأس! سينشف الماء ثم يفرك الوحل فلا يبقى شيء. . .) وقد حرن ماذا يصنعن لاتقاء هذا المطر، وكنت ربما ضحكت إذ أراهن يخرجن مناديل في سعة الكف وينشرنها على حجورهن كأنما من الممكن أن تستر شيئاً.
وأخيراً بلغنا مكاناً دنونا من شاطئه، وقال الملاح: إن الأحسن أن يجر الزورق بالحبل. وقام فاخرج حبلا طويلا شده إلى الزورق ووثب إلى الشاطئ وراح يجر، وقعد أحدنا عند الدفة ليضبط الزورق فلا يجنح أو يلصق بالأرض. فعاد إلى الفتيات البشر وانطلقت ألسنتهن وان كن لم ينسين موجدتهن علينا لما أصابهن من البلل. ثم تهامسن ونهضن وجعلن يصحن بالملاح وهو بعيد لا يسمع ونحن نسألهن ماذا يبغين وهن لا يباليننا أو يجبننا. وسمع الملاح فوقف وارتد إلينا، وإذا بهن يردن أن يتولين هن جر الحبل أو (اللبان) كما يسميه النواتيه. فنصحنا لهن آلا يفعلن وحذرناهن وأنذرنهن فأبين إلا أن(221/5)
يفعلن، وفي ظنهن أن هذا أسلم لثيابهن، وأشرح لصدورهن وأجلى للصدأ وأجلب للصحة أيضاً، فتركناهن يفعلن وأدنينا لهن الزورق من الشاطئ وحملناهن واحدة واحدة إلى الأرض. فذهبن يجرين إلى أول الحبل حيث تركه الملاح ودفعنا نحن السفينة إلى الماء مرة أخرى وكنا نراهن فإذا باثنتين منهن يتناولان الحبل معاً وكانت الثالثة تدور حولهما ولا تصنع شيئاً فمرة تكون أمامهما وتارة تكون خلفهما وهكذا، فانتهى الأمر بأن التف الحبل على سيقانهن جميعاً فصرخن ووقفن يحاولن تخليص أرجلهن مما أحاط بها فخلصت أرجلهن ولكن الحبل صار على صدورهن وأعناقهن، والزورق يضطرب بنا ونحن نحاول أن نضبطه بالمجداف. واستطعن أخيراً وبعد لأي وصراخ فظيع أن يتجنبن شنق أنفسهن، فتهامسنا بأن أولى بنا أن نسكت وندعي الجهل بما حدث وأن ننظر ماذا يصنعن بعد ذلك. ويظهر أنهن خجلن أن يقلن شيئاً فعدن إلى الحبل واستأنفن جره فحمدنا الله ولكنهن كن يمشين شيئاً، ثم يقفن فجأة وعلى غير انتظار منا، فيضطرب بنا الزورق فناديناهن، فلما تنبهن إلى أننا نريد أن نكلمهن وقفن وأقبلت علينا واحدة منهن وقفت بعيداً وأشارت إلينا تسألنا عما نريد، فصحت بأعلى صوتي: (لا تقفن) فقالت ويدها على أذنها: (إيه؟) فقلت لصاحبي: (صوتكما أقوى فكلماها وأفهماها أن الوقوف يضايقنا ويتعبنا، ففعلا. فلما عرفت ما نريد بدأت تسألنا هل نحن مسرورون، وهل هن يحسن جر الحبل؟ فأثنينا على براعتهن، وامتدحنا حذقهن، وأكدنا لهن أن الدولة حين تحتاج إلى ربابنة ونواتية للسطول فانهن سيكن خير المرشحات أو خير أساتذة المدرسة البحرية. وكنا نرجو أن تعود إلى زميلتها فيستأنفن جر (اللبان) ولكنها تذكرت أن بها حاجة إلى منديل مما في حقيبتها فأخرجناه لها وحملناه إليها فذهبت به وإذا بثانية تعود وتصيح بنا أنها هي أيضاً تحتاج إلى منديل فناولناها إياه، وبد لها أن الثالثة قد تطلب منديلها فيحسن أن تأخذه له على سبيل الاحتياط، فأجبناها إلى ماطلبت، فذهبت ثم عادت وقالت إن الثالثة لا تريد المنديل فهي ترده لنضعه حيث كان فاطعنا ومضت، وبعد دقائق أخرى عادت الثالثة تقول: إنها رأت أن الأحسن على كل حال أن تأخذ المنديل، فدعونا الله أن يعيننا على الصبر وأعطيناها المنديل فذهبت وأوعزنا إلى الملاح أن يلحق بها وأن يتولى هو الحبل ولا يدع للفتيات إلا المظهر(221/6)
ولما جاء وقت الطعام تخيرنا لرقعة من الأرض خضراء ظليلة وتأهبنا للجلوس فنظرت الفتيات إلى الأرض مشفقات من البلل كأنما بقي ما يخشين على ثيابهن التي خططها الحبل بالوحل خضراء ظليلة فنشرنا لهن مناديلنا فان مناديلهن لا تصلح لشيء إلا للزينة. فجلسن عليها كالرماح استقامة، وكنا نشعر أنهن غير مرتاحات وأن الجلسة متعبة لهن، وأن خوفهن البلل ينغص عليهن ولكن ماذا كان يسعنا أن نصنع؟ ولو كان يسعنا أن ننقل لهن بعض أثاث البيت من سجاجيد وحشايا ومتكآت وما إلى ذلك لفعلنا. ولكنا لم نكن نعلم أنهن سيرتدين هذه الثياب التي تصلح للعرض ولا تصلح لرحلة على النيل.
وانحدرت الشمس قبل أن نعود إلى قصر النيل فكدن يبكين لأنهن تأخرن وكن على موعد مع الخياطة، فعجبنا لا تعادهن معها في يوم يخرجن فيه لمثل هذه الرحلة التي طلبنها وأردن أن تستغرق النهار كله. . . ولكن المرأة هكذا أبداً. . . تكون لها عين في الجنة وعين في النار. ولست ألومها أو أعيبها فأنها طبيعتها التي لا حيلة لها فيها، ولكني أرجو ألا ألام - وأن أعذر - إذا كنت أشعر بالحيرة والعجز في كثير من الأحيان عن الفهم الصحيح والتقدير المرضي المريح؛ واحسب أن الرجال جميعا مثلي جهلة مساكين. ولا شك أن المرأة يحيرها كذلك مالا تفهم من طباع الرجل وسلوكه، فالعجب بعد ذلك أن الجنسين يستطيعان أن يقنعا أنفسهما بأنهما متفاهمان، وأن كل شيء بينهما على ما يرام
إبراهيم عبد القادر المازني(221/7)
2 - مصر في أواخر القرن الثامن عشر
كما يصفها الرحالة سافاري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أشرف سافاري على القاهرة بعد رحلة ممتعة في النيل، فلم ترقه العاصمة ولم تبهره مناظرها كما بهرته مناظر السكندرية؛ ذلك أن القاهرة التي كانت خلال العصور الوسطى أعظم مدن الإسلام، انتهت في أواخر القرن الثاني عشر إلى مدينة متواضعة تحيط بها التلال والخرائب ويصف لنا سافاري خطط العاصمة المصرية يومئذ، وضيق شوارعها وأزقتها؛ ولكن القاهرة كانت مع ذلك تلفت النظر بمساجدها الثلاثمائة وقلعتها التاريخية المنيفة، ويقدم إلينا سافاري عن القلعة وعن أبنيتها وسكانها صورة شائقة، فيقول لنا إنها فقدت مناعتها القديمة منذ اخترع الديناميت، وان لها مدخلين تحرسهما ثلة من الانكشارية وستة مدافع مصوبة نحو مسكن (الباشا) ذلك أن الانكشارية يمالئون البيكوات المصريين، والبيكوات هم الذين يملون إرادتهم على الباشا، وفي داخل القلعة قصر سلاطين مصر السالفين، قد غلب عليه العفاء والخراب، ولكن بقيت منه عدة أعمدة فخمة وجدران زاهية؛ وفي أحد أبهائه المهجورة تصنع الكسوة النبوية التي يحملها أمير الحج كل عام. ويسكن الباشا بناء كبيراً يطل على (قره ميدان)، ويعقد الباشا الديوان ثلاث مرات في الأسبوع في غرفة الديوان الشاسعة، وقد خضبتها دماء البكوات المصريين الذين فتك بهم الباب العالي قبل ذلك بأعوام قلائل. أما اليوم فهم سادة مصر، وليس لمثل السلطان أية سلطة فعلية، وإنما هو أداة في أيديهم يحركونه طبق أهوائهم، بل هو سجين في القلعة لا يستطيع أن يغادرها دون إذنهم. أما الانكشارية فيسكنون في قصر صلاح الدين وقد بقيت منه أطلال تدل على عظمته السابقة، وأربعون عموداً من الجرانيت الأحمر؛ وإلى جانبه توجد منظرة عالية تشرف على القاهرة، يرى منها منظر المدينة الرائع بميادينها ومآذنها وحدائقها وهنا لا يتمالك سافاري نفسه من أن يصيح: (أن المطل من هذه المنظرة لتأخذه نشوة من التأملات اللذيذة) ولكن يغشاه في الحال كآبة، فيقول لنفسه: (أن هذه البلاد الفنية التي كانت عصوراً ملاذ العلوم والآداب والفنون يحتلها اليوم شعب جاهل بربري يسومها سوء الخسف؛ أجل إن الطغيان ليسحق بنيره الحديدي أجمل بلاد العالم؛ والظاهر أن شقاء(221/8)
الإنسان يزداد بنسبة ما تقدمه الطبيعة لإسعاده. . .)
هكذا يقدم لنا سافاري ذلك المنظر المحزن منظر مصر الإسلامية وقد أودى الحكم التركي الغاشم بكل عظمتها وبهائها السابقين.
ويصف لنا سافاري ثغر بولاق الذي كان مدخل القاهرة يومئذ، ومرساه الضخم الذي يغص بمئات السفن، وما به من الخانات التي خصصت لسكنى التجار الأجانب وتخزين بضائعهم. وفي مياه بولاق أيضاً كانت ترسو سفن النزهة البديعة التي يتخذها البيكوات وغيرهم من الأكابر للنزهة والسمر في النيل أيام الصيف الحارة ولا سيما في الليالي المقمرة. ثم يصف الرحالة بعد ذلك جزيرة الروضة والمقياس، ويستعرض تاريخ مقاييس النيل وقصة وفائه؛ وهنالك في الروضة على مقربة من المقياس كانت طائفة من القصور الفخمة التي خصصها البيكوات للتنزه فيها مع حريمهم وهي منعزلة تحيط بها الرياض الفيحاء، ولا يسمح لإنسان بالاقتراب منها ولا سيما حينما يوجد بها حريم الأمراء.
أما الحياة الاجتماعية المصرية فيخصها سافاري بكثير من عنايته، ويفرد لها عدة رسائل شائقة؛ وهو يصف المصري بالكسل، ويقول لنا إن الجو يؤثر في عزيمته، ومن ثم فانه يميل إلى الحياة الهادئة الناعمة، ويقضي يومه في عمله وفي منزله، ولا يعرف المصري صخب الحياة الأوربية وضجيجها، وليست له أذواق أو رغبات مضطرمة. ونظام العائلة المصرية عريق في المحافظة، فرب البيت هو السيد المطلق؛ ويربي الأولاد في الحريم ويدينون للوالد بمنتهى الخضوع والطاعة والاحترام، ويعيش أفراد الأسرة جميعاً في منزل واحد، ويتمتع الوالد بكل مظاهر التكريم والإجلال ولا سيما في شيخوخته. ويجتمع أفراد الأسرة حول مائدة الطعام جلوساً على البسط؛ وبعد الغذاء يأوي المصريون إلى الحريم حيناً بين نسائهم وأولادهم؛ وفي المساء يتريضون في النيل في قوارب النزهة، ويتناولون العشاء بعد الغروب بنحو ساعة. وهكذا تجري الحياة على وتيرة واحدة. ويشغف المصري بالتدخين ويستورد الدخان من سورية ويخلط بالعنبر. وللتدخين أبهاء خاصة منخفضة يجتمع فيها السيد مع مدعويه؛ وبعد انتهاء الجلسة يأتي الخادم بقمقم تحترق به العطور، فيعطر للمدعوين لحاهم، ثم يصب ماء الورد على رؤوسهم وأيديهم.
والمرأة المصرية ماذا كانت أحوالها في ذلك العصر؟ يقول لنا سافاري إنها كانت كالرقيق(221/9)
لا تلعب أي دور في الحياة العامة؛ وإذا كانت المرأة الأوربية تسيطر على العروش، وتقود الآداب والعادات، فان دولة المرأة في مصر لا تتعدى (الحريم) ولا علاقة لها بالشئون العامة. وأعظم أمانيها أن تنجب الأولاد، واهم واجباتها أن تعني بتربيتهم. والحريم هو مهد الطفولة ومدرستها، وفيه يربى الأولاد حتى السابعة أو الثامنة. كذلك يعني النساء بالشئون المنزلية، ولا يشاركن الرجال في الظهور، ولا يتناولن الطعام معهم إلا في فرص خاصة، ويقضين أوقات الفراغ بين الجواري والغناء والسمر؛ ويسمح لهن بالخروج إلى الحمام مرة أو مرتين في الأسبوع. وهنا يصف لنا سافاري حمامات القاهرة، ومناظر الاستحمام والزينة، وكيف يشغف النساء بالذهاب إلى الحمام مع جواريهن، وهنالك يقضين أوقاتاً سعيدة بين مجالي التزين واللهو، ويستمعن في الأبهاء الوثيرة إلى الغناء وقصص الحب
وتستقبل المرأة زوارها من النساء بأدب وترحاب، ويحمل الجواري القهوة، ويدور الحديث والسمر، وتقدم أثناء ذلك الفاكهة اللذيذة، وعند الانتهاء من تناولها تحمل الجواري قمقم ماء الورد فيغسل المدعوات أيديهن، ثم يحرق العنبر وترقص الجواري. وفي أثناء هذه الزيارات النسوية لا يسمح للزوج أن يقترب من الحريم، إذ هو مكان الضيافة الخاصة، وهذا حق تحرص المصريات عليه كل الحرص. وقد ينتفعن به أحياناً لتحقيق أمنية غرامية، إذ يستطيع العاشق أن ينفذ إلى الحريم متنكراً في زي امرأة، فإذا لم يكتشف أمره فاز ببغيته، وإذا اكتشف أمره كان جزاءه الموت. والمرأة المصرية مفرطة في الحب والجوى، مفرطة في البغض والانتقام، وكثيراً ما تنتهي الروايات الغرامية بفواجع مروعة
وتوجد طبقة خاصة من نساء الفن هي طبقة القيان (العوالم)، وهؤلاء العوالم يمتزن بالذلاقة ومعرفة الشعر والمقطوعات الغنائية، ولا تخلو منهن حفلة، وتقام لهن منصة يغنين من فوقها، ثم ينزلن إلى البهو ويرقصن في رشاقة ساحرة، وأحياناً يبدين في صور مثيرة من التهتك، ويدعون دائماً في كل حريم، وهنالك يروين القصص الغرامية ويخلبن الألباب بذلاقتهن ورشاقتهن وفصاحتهن.
وهكذا يحدثنا سافاري بإفاضة عن الحياة الاجتماعية المصرية في أواخر القرن الثامن عشر، ولأحاديثه في هذا الموطن قيمة خاصة؛ فهي أحاديث باحث مطلع درس وشهد بنفسه، وملاحظات عقلية مستنيرة، تمتاز باتزانها ودقتها فيما نلاحظ وفيما تصف وتعرض(221/10)
وأخيراً يصف لنا سافاري آثار هليوبوليس والجيزة؛ ويقدم لنا عن الأهرام وأبي الهول صوراً شعرية ساحرة، ويستعرض مختلف الروايات عن أصلها وبنائها منذ هيرودوت إلى عصره. ويصف لنا منفيس وأطلالها، ويحدثنا عن الجيزة وخططها وتاريخها وعن الفسطاط ومعالمها وكنائسها وآثارها، كل ذلك بإفاضة ممتعة تتخللها مقارنات وملاحظات تاريخية قيمة؛ ثم يحدثنا بعد ذلك عن رحلته في دمياط وضواحيها، وكيف تتبع في رحلته سير حملة القديس لويس الصليبية منذ نزولها في دمياط وسيرها بعد ذلك حتى مدينة المنصورة. ويقدم إلينا خلاصة تاريخية لهذه الحملة الشهيرة مشتقة من المصادر الإسلامية ومذكرات دي جوانفيل مؤرخ الحملة وأحد شهودها
وإلى هنا تنتهي رسائل سافاري عن الوجه البحري ومدينة القاهرة والحياة الاجتماعية المصرية، وهذه الرسائل تشغل الجزء الأول من مؤلفه عن مصر، وهي أهم وأقوم ما في المجموعة. أما بقية الرسائل، وهي تشغل الجزأين الثاني والثالث، فيخصصها سافاري لوصف رحلته في الوجه القبلي، ووصف مدنه وآثاره وواحاته، ثم وصف الجو والإقليم والزراعة والتجارة، وديانة المصريين القدماء وآلهتهم، والنيل وخواصه الأزلية؛ وهذه الرسائل تحتوي كثيراً من البحوث والملاحظات القيمة، بيد أنها لا تقدم إلينا جديداً يعتد به، ولذا اكتفينا بالإشارة إليها
هذه خلاصة شاملة لرسائل العلامة المستشرق سافاري عن مصر في أواخر الثامن عشر، وهي رسائل لا شك في قيمتها وأهميتها؛ وإذا استثنينا مذكرات الجبرتي، فإن رسائل سافاري تعتبر أنفس وثيقة من نوعها عن أحوال مصر في هذه الفترة المظلمة من تاريخها؛ وتبدو قيمة هذه الرسائل بنوع خاص فيما تقدمه إلينا من صور الحياة الاجتماعية المصرية بإفاضة لا نجدها في مصادر أخرى؛ فهي من هذه الناحية وثيقة ذات أهمية خاصة. وقد كانت بحوث سافاري بلا ريب مصدراً من أقوم المصادر التي انتفع بها علماء الحملة الفرنسية فيما بعد حينما وضعوا موسوعتهم الشهيرة في (وصف مصر) بعد ذلك بنحو ربع قرن
تم البحث
(فينا في أوائل سبتمبر)(221/11)
محمد عبد الله عنان(221/12)
على تمثال فوزي المعلوف
كلمة الأستاذ فليكس فارس
في حفلة إزاحة الستار عن تمثال الشاعر فوزي المعلوف في
12 - سبتمبر في مدينة زحلة - لبنان
عندما أزيح الستار عن هذا النصب كأنه إنسان عين لبنان، وحبة القلب في بلاد العرب، رأيت الذرى المحدقة بهذا الوادي تميد من جهاتها الأربع وقد أطلت من ورائها طغمات أصنام تتراشق نظرات الاستغراب وتتبادل هتفات الاستنكار
إنني أعاينها بالجرح الوسيع فتحته في القلب أدواء البلاد ونكبات الأمة، واسمع صخبها وضجيجها بالإذن التي لم تزل تدوي فيها زفرات البائسين وصيحات المشردين والشهداء
أولئك هم أصنام الشعب المستضعف الفلول، استفزهم ما راود أمجادهم من حذر، وخامر أحلامهم من وساوس، فتراكضوا من مقاعد الزعامات والمناصب المنتزعة بدهاء الجهل ودسيسة المعجزة، ومن أبواب الهياكل والمعابد وجوانب القوى المسيطرة على العناصر الحائرة المتعثرة، هرعوا يتصايحون:
نحن أرباب هذه الأرجاء وأسياد شعبها. . نحن الأحياء يعبدنا الأحياء، فمن ترى هذا الصنم الجامد لا يملك سمعاً ولا بصراً يرفع على مثل أنصابنا فيحني الناس الرؤوس أمامه خاشعين؟
من هذا الدخيل الجامد الصامت تقحمه الهيكل قوة مجهولة وتفرض به على النفوس عبادة لا توجه إلينا، محرقة عند قدميه بخوراً لا يتعالى نحو تيجاننا؟ وصاح أحد صغار الأصنام بأسياده الجسام: أفما عرفتموه؟ إنه ذلك الفتى الضعيف الناحل الذي كان يحدجنا بلفتات الاحتقار ويقرع أسماعنا بأناشيد زهوه واغتراره. إنه هو الذي أنكر ألوهيتنا المتعددة السائدة على عشرات العناصر المتقاطعة، فادعى أن للوطنية إلهاً واحداً وأن قطعاننا قطيع واحد لراع واحد هو حق الحياة
أفليس هذا الصنم الجامد، ذلك الفتى الذي رأى في عزتنا مذلة لقومه، وفي عظمتنا صغارا لبلاده، فتوارى وفي دمعته نار وفي أنينه إرعاد(221/13)
فقالت طغمة الأصنام: ومن يجرؤ على رفع هذا الإنسان المتحجر إلى مصاف الأرباب فيقتعد المنصة العالية فوق مستوى الرعية؟
أوصل هذا الإنسان إلى نفوذ سر السيادة فرقص على الحبلين، وتعارج على الساقين، موهما الشرق انه ذو الحول والطول وراء ستائر الغرب، ثم عاد موهما الغرب أنه يقود من بلاده قطعاناً له تخديرها إذا شاء واستنفارها إذا شاء؟
ألهذا الرجل منبسطات السهول ومرتفعات الأنجاد ليستغلها بالسياط تلهب ظهور العاملين فيستقطر من جلودهم نضارة ويقيم على عبوديتهم زعامته. .؟
أعرف أن يستغل نزعات طائفة أو مطامح عنصر أو تعصب فئة فاستنبت زعامته من الضغائن وأنماها من الأحقاد؟
أورث مالاً من جدوده فابتاع من متسولات الضمائر مقاماً يسمع الناس منه روائعه وبدائعه؟
أجهل لغة قومه أم تجاهلها، وأعرض عن تقاليد أجداده أم استنكرها، محاولا اقتباس مظاهر تتمرد سريرته عليها؟ هل أقام المآدب وأحيا المراقص فخاصر واستخصر ليثبت أنه آهل للمدنية وقيادة الشعوب إلى النور أم هو توسل على الأقل بالمتابعة متخذاً منا موقع الذنب؟
بأية فضيلة من فضائلنا تحلى هذا الابن ليرفعه من حوله إلى مقام الأرباب؟
ووجمت الأوثان التي عبدت حتى الأمس القريب متسائلة عما إذا كان العهد الجديد المشرقة أنوار ضحاه ولو بعد حين سيرفع لأمثال هذا المتمرد من الأموات أنصاباً وسينادي بأمثاله من الأحياء أرباباً. إن أنوار الحق تتفجر على كل قطر عربي؛ ففي لبنان كما في مصر والعراق وسوريا وبلدان الجزيرة كلها أبطال يقوضون مقاعد الأصنام في السياسة كما قوضها من قبل في الدين رسل الله وأنبياؤه. وها هي ذي أوثان الأمس تتلمس رؤوسها بسواعدها المرتجفة متراجعة بخطوات من فقد ثقته بنفسه
اغربي أيتها الأوثان أيا كنت ومن أية جهة طلعت رسومك على الآفاق، فما النصب الذي يحييه أحرار الأمة الآن بالصنم الذي يزاحمك في هيكل الوثنية، وقد آن لها أن تضمحل. ما نصبنا إلا تمثال عزتنا الجريحة وقوميتنا المضللة؛ إن هو إلا الرمز الكامل لآلامنا وجهادنا في المرحلة التي قدر علينا أن نجتازها، ليرد الاختبار سوانا إلى محجة الصواب ولنعرف نحن أن نميز بين طريق سلامتنا ومهاوي انقراضنا.(221/14)
ليس المقام مقام تأبين وتفجع على من يمثل هذا التمثال فإن صفحات تاريخ الأدب مليئة بكلمات أمراء البيان عمن خشع الغرب لبيانه الشرقي وما حلق فوقه من متقدميه ولا من معاصريه بيان. ولئن كان مأتم فوزي من أروع الأيام وأفجعها على الشرق العربي بأسره فإن يوم فوزي إنما هو اليوم الذي يرتفع فيه تمثال صفحة خالدة طبعت عليها مساوئ فترة الانتقال وفجائع طور التجاريب.
أي أخي فوزي! يا شاعر الأمة المشردة. إنني وأنا أنظر إلى ابتسامتك المرة وإشراق جبينك المتجهم اسمع صوتاً يقرع الفضاء من أصداء هذا الوادي مردداً قولك:
أنا الغريب فلا أهل ولا وطن ... إذا انتسبت أمام الناس وانتسبوا
ومن يكون غريباً في موطنه ... لا بدع إن أنكرته الأرض والشهب
ويليه، صوت آخر يتردد على ذلك الشاطئ الحزين صداه
قسما بأهلي لم أفارق عن رضى ... أهلي وهم ذخري وركن عمادي
لكن أنفت بأن أعيش بموطني ... عبداً وكنت به من الأسياد
أسمع هذا الإنشاد فيخيل إلي أن صيحات جيل كامل في أمة مروعة فقدت قوميتها فخسرت أوطانها
إن لخطرات الحظ تأثيرها على الأمم كما لها تأثيرها على الفرد؛ وليس للفرد كما ليس للمجموع أن يظفر من سلسلة الوقائع إلى مستقر يستحدثه فجأة لنفسه؛ غير أن هنالك قوة سمها الإرادة الجزئية إن شئت تتمرد على الانقياد لما يضير، فإذا هي تنبهت صمدت بوجه التيار بالمقاومة السلبية حتى يعبر الكاسح فتتمكن من استئناف سيرها نحو وجهتها، وإن هي استسلمت وجبنت فقدت الشعور بذاتها ومشت متطايرة مع العاصف ينثرها هباء على مراكضه. . إن هذه الأمة التي كونت شخصيتها من مبادئ واحدة في الأصل ومن ثقافة انطوت سريرتها عليها منذ أجيال، ومن بيان وعي علوم المتقدمين، وما قصر عن استيعاب علوم المتأخرين لا يستقيم لها أمر ولا يستعاد لها مجد ما لم تتوصل إلى إحياء حضارة تتوافق وما كمن فيها من فطرة وحوافز
لقد مرت بهذه الأمة أدوار من التاريخ قضت على استقلالها وحضارتها فذهبت قطعاناً مبددة تتراكض وراء كل ناعق يجزها ويحز رقابها، ولو أن العناية لم تستبق لنا في كل حقبة(221/15)
أنموذجا لكياننا ورسماً لما كنا ولما يجب أن يكون لما بقي لنا من صفاتنا الأصلية شيء نستدل به على حقيقتنا
إن سريرة الأمم المبتلاة بالانحطاط المرهقة بالمظالم تنكمش منسحبة من كتل الشعب لتتجلى من حين إلى حين لمعات أنوار في بيان عباقرته المتمردين. وإذا نحن استعرضنا فيلق المجاهدين من أول منبه للفاضلين تحت الأطلال إلى هذا المنتصب بيننا الآن كأروع رمز لشخصية الأمة الكامنة وراء تشردها وتقاطعها، لما رأينا واحداً من هؤلاء المجاهدين ينزع مثل هذه المنازع الضليلة التي يتوغل فيها المشككون الحائرون في هذه الأيام
إذا شئنا أن نتبين حقيقة موقفنا من أنفسنا ومن سوانا، وإذا صعب على البعض منا أن يتميز طريقه إلى قوميته ووطنيته فليتنصت إلى ما تصدوا به أجواء البلدان العربية كلها من أقوال المصلحين الذين عاشوا بآمال أمتهم وماتوا بعللها وأدوائها
أولئك المضطهدون هم أولى بإنارة سرائرنا ممن كانت حياتهم لهم لا للناس، فما شعروا بذل الأمة لأنهم استغلوه، وما أحسوا بأنهم غرباء في أوطانهم لأنهم أنكروا كيانها ومالئوا على حقها
ما يثير النعرات الدينية والإقليمية في هذه البلاد إلا الأنانيون الذين يرون في تبدد الأقوام تجارة رابحة لسعايتهم، أما الأرواح الجبارة التي أشبعت من مبادئ الشرق العليا حرية واستقلالاً ومجداً فأنها تمر بأجنحتها محلقة فوق كل عنصر ثقافته من وحي الشرق، وإلهامه وبيانه من لغة كفلت حياتها قوة لا تطاولها قوة. . .
لقد كان زمن أمكن فيه للأمة أن تبعث جسماً واحداً حين مزقت كفنها وشقت لحدها، ولكنها انتثرت بين أنامل الجامعين وقد عبثت بالرمة أهواء الحياة بعد أن جمعتها روعة الموت، فإذا بالميت الواحد هياكل عظام عديدة تهب من مرقدها منفرطة يتسلق كل منها ذروة لاستقبال أنوار الضحى وأوائل شعاع الشمس
تلك سانحة من الدهر ولت ولن تعود ما لم نستعدها بعشرات الأعوام جهود من يذكرون أن جميع هذه الهياكل القزمة، وقد بدأت تدب فيها الحياة، إنما هي هيكل جبار واحد جرعه سيف واحد وتسجى طوال الأجيال جثة واحدة في قبر واحد
لا يضع للأمة دستورها الحقيقي إلا من مثلوا سريرتها وثقافتها شاملة لروح المذاهب(221/16)
والعناصر كلها؛ وما أدري أن بين عباقرة الشرق العربي أحياء وأمواتا من سجن روحه بين جدران طائفته وحطم جناحي عبقريته في قفص إقليمه منكراً وطن فكرته الواسع الأرجاء. . .
هنالك تحت ظلال الأرز نصب لم يزل يهتف من أعلى ذرى لبنان بقوله:
أنا مسيحي ولي الفخر بذلك، ولكنني أهوى النبي العربي الكريم، وأحب مجد الإسلام وأخشى زواله. إنني اسكن المسيح شطراً من حشاشتي ومحمداً الشطر الآخر
أنا شرقي ولي الفخر بذلك؛ ومهما أقصتني الأيام عن بلادي أظل شرقي الأخلاق، سوري الأميال، لبناني العواطف
ذلك هو نداء جبران! فبماذا تجيبه يا فوزي؟
أفما أنت شاعر الأمة المشردة؟ أفما تمازجت في روحك كل عظمة من وحي أنبياء الشرق جميعهم، ومن إلهام عباقرته وفروسيته أبطاله في كل زمان ومكان؟. . .
افترضي أن يضرب حولك من لبنان نطاق يوقفك في طريق النهضة وقفة تمثال أودنيس في جبيل وباعال وباخوس بين أعماد بعلبك المحطمة؟. . .
لا وحقك يا فوزي، ما أنت في تقدير أخيك الذي قاد أوائل خطواتك نحو قمة الخلود، وفي تقدير كل نافذ لروحك ومدرك لعظمتك إلا المثل الأعلى للوطنية الحقه التي عشت من أجلها شريداً ومت من اجلها شهيداً. . .
اليوم لا ترى حولك إلا فئة قليل عديدها تطوف ممجدة فيك الشاعر المبدع الكبير، ولكنك سترى غداً أفواجاً من كل عنصر ومن كل قطر عربي تتوارد إليك لتحي فيك بطلاً من طليعة الفيلق الذي حطم سلاسل الأمة بتحطيم أصنامها والقضاء على أرباب شركها وأوهامها
فليكس فارس(221/17)
محمد بن جعفر الكتاني
بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاته
للأستاذ محمد المنتصر الكتاني
تمهيد
في تاريخ الرجال كثير من الخلاف يكاد يعجز الباحث والمؤرخ عندما يريد التوفيق - وتاريخ رجال المغرب ورجال المشرق في هذا سواء - فبينا أنت تقرأ عن خالد مثلا انه ولد في القرن الثاني إذا بك تجد في تاريخ آخر أنه مات في القرن الرابع، ثم هو نفسه تارة يصوره لك بعض المؤرخين في صورة العابد العالم الثقة الصدوق، وحيناً تقرأ عنه عند غير المؤرخ الأول انه لم يكن بالعالم ولا الثقة وإن هو إلا كذاب مضل. وفي كتب التراجم أمثلة لهذا النوع كثيرة.
ويريد جمع من النقاد معرفة السبب فتعييهم المعرفة ويملهم تعداد الأسباب والاحتمالات فيقفون عندها دون جزم بواحد منها
وعندي أن لذلك أسباباً كثيرة أهمها:
(1) فقدان الثقة في كثير من المترجمين. إذ هؤلاء يكتبون - عمداً - ما توحيه إليهم أغراضهم وإن خالفت ما يعرفون.
(2) جهل بعضهم بحالة المترجم، فهم إذا سئلوا عنه حملهم الاعتداد الكاذب بالنفس أن يجيبوا بصفات لو قدر وعاش المسؤول عنه وسمعها لنفاها وأنكر أن تكون فيه؛ وقد يضطر هذا المجيب لكتابة ما أجاب به فيزيده تنميقاً وتزويراً في جمل مغرية مشوقة يستر بها تضليله وكذبه.
(3) الخصومة المذهبية. فترى المؤرخ في هذه الحالة يهتم اهتماماً مريباً بالبحث عن النقائص، حتى أنه ليجهد نفسه إلى حد الإعياء ليخرج له معايب من قصص وحوادث تافهة لا يؤبه لها عادة. وكنا نحسن الظن في هذا الخصم المذهبي لو اعتنى بالمزايا اعتناءه بالنقائص ولكنه لا يعرج له على مزية ولو كانت كوضح الشمس، وبالعكس الحب المذهبي، فبقدر ما يخفى من مزايا الأول ومحاسن يستر هذا الثاني العيوب والمخازي.(221/18)
(4) الاستسلام لإحدى عاطفتي الحب والبغض، فذاك صديق المؤرخ أو سلف لصديقه توجب عليه المجاملة والإطراء المتبادل أن يخضع لمقتضيات هذه الصداقة فيحسن القبيح ويقبح الحسن ويعرف المجهول ويجهل المعروف، وبالعكس لو كان المترجم عدواً له أو سلفاً لعدو؛ وقد يكون الحامل على الحب أو البغض غير الصداقة والعداوة
(5) الخوف من ذي نفوذ أو سلطان، فهو إذا تكلم بالحقيقة عذب وأهين فيتحاشا هذه الإهانة وذاك العذاب - إذ لم يكن من الكلام بد - بالتقية متأولا على أنها مذهب لكثير من طوائف المسلمين إن لم يكن ديناً فتديناً! وقد يستغني عن التأويل. وهذا السبب الخامس لم يكد يخلو منه أحد من مؤرخي المتقدمين والمتأخرين
(6) الجبن الأدبي أو يسمونه بفقدان الشجاعة الأدبية، فهو إذا تكلم خاف ألا يقبل كلامه أو يتهم فيه بغرض، ومن خصائص هذا الجبان الأديب الخوف من النقد لحد الهلع، وإن تحمس يوماً واقتحم هذه الأوهام وكتب شيئاً لا يجرؤ أن يوقعه باسمه الصريح بل يكتفي بالرمز؛ وهذه العلة هي داء كثير من الثقات في هذا العصر لو تغلبوا عليها لأنتجوا وأفادوا
وأزيدك شيئاً وهو أني لا أرى علاجاً لهؤلاء أنفع من وجوب اعتبار الشروط المطلوبة في رواة الحديث من عدالة وضبط ومعرفة في مؤرخي الرجال، فكما أن المحدث لا تقبل روايته إذا فقد منه أحد الشروط الثلاثة فكذلك المترجم لا يلتفت لكلامه إلا إذا عرفت ثقته وعدالته ومعرفته بالرجل الذي يترجم له معرفة يثبت سندها ومصدرها؛ وبهذا فقط تسلم الأعراض من الأغراض وتحفظ الحقوق فلا يوضع رفيع ولا يرفع وضيع
لهذه الأسباب التي جعلتها كقواعد جامعة لما لم أذكر من العلل ولغيرها سقطت قيمة كثير من كتب التراجم قديماً وحديثً. وتمتاز الحديثة منها (والحمد لله الذي لا يحمد على شر سواه) بالتفنن في أساليب الطعن والغمز واللمز ببراعة لا يفطن لها الكثير من الناس إلا قارئ عنى بها عناية خاصة أو قارئ أتيحت له معرفة دخائل جامعيها ونواياهم. أضف إلى هذا ما فيها من تراجم قوم لم يعرفوا بين عشيرتهم حتى بالطلب قد أغدقوا عليهم من بحور العلم ما غمرهم ومن جبال السنة ما دك كواهلهم دكا، ومن صفات النبل والكرم ما أصبحوا به ملائكة تعوزهم الأجنحة إلا أن معرفة مرافقيهم بهم قصتها، ومن ضروب الإصلاح والإرشاد ما يشرحه العارفون بلغتهم على النقيض من ظواهر اللفظ والمعنى، وهنا يجمل(221/19)
المذهب القائل بان لكل لفظ ظهراً وبطناً واحداً ومطلعاً.
وبعد فهذه ترجمة إمام كبير عرفه الناس قبلي وترجموه لكن باختصار وعلى غير هذا الأسلوب، تربطني به صلة هي صلة الوالد بالولد، بل صلة الروح بالجسد؛ ولكي يطمئن قارئي ويهدأ روعه أعاهده عهداً أدين بوفائه ألا أكون أحد أولئك المترجمين الستة؛ وسأحمل نفسي على تناسي هذه الصلة الكريمة زمناً؛ وسأعني بالحق المجرد ولو كان علي أو عليه مقتصراً على ذكر حياته - دون تحليل - في شيء من التفصيل وتاركاً كثرة تلك التعاليق الفضفاضة التي اعتادها الناس اليوم والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على نفس المؤرخ أكثر مما تدل على نفسية المؤرخ له، ولا يفرغ إليها غالباً إلا من فقد مادة القول في أحوال من يترجمه وما جرياته. وفي اعتقادي أن ذلك مما يشوه الحقائق التاريخية ويغطيها بحجاب كثيف يعسر على الناقد النزيه تمزيقه ويقصي القارئ عن تفهم الأشياء بعقله لا بعقل سواه غير متأثر ببيئة أو مذهب
وقد رتبت حياته على فصول، فأذكر أولاً أسرته ثم نسبه فنشأته فمشايخه فتلاميذه، معرجاً على وصف خلقه وخلقه ومذهبه ومعارفه وثناء الكبار عليه ومدائح الشعراء فيه وتعلق الملوك به، ثم أرجع فأتحدث عن رحلاته ومؤلفاته وشرح العلماء لها أو ترجمتها أو نقدها واختم الترجمة بحادثة وفاته ورثائه ونقله فذكر مترجميه فأوهام بعضهم فمصادر الترجمة
وقد أخالف هذا الترتيب أو أسهب في فصل وأختصر في آخر مضطراً في الإسهاب والاختصار لما بيدي من ثروة المادة أو فقرها
أسرته
تنحدر أسرة الإمام ابن جعفر من سلالة الفاتح بن الفاتح إدريس بن إدريس المطلبي الهاشمي الحجازي ثم تتشعب بطوناً وأفخاذاً حتى تنحصر في ملك زواوة الكتاني يحيى بن عمران
كانت فاس مقر أسلافه في ظلال ملوك دولتهم الأدريسية التي ملكت مائتي سنة وثلاث سنين سوى شهرين تقريباً وكان عملها بالمغرب من السوس الأقصى إلى مدينة وهران وقاعدة ملكهم مدينة فاس ثم البصرة، وكانوا يكابدون مملكتين عظيمتين ومتغلبين كبيرين هما دولة العبيديين بمصر وأفريقيا ودولة بني أمية في الأندلس، وكانوا ينازعون الخلفاء(221/20)
إلى درك الخلافة العظمى ويقعدهم ضعف سلطانهم وقلة مالهم بالنسبة إلى هاتين الدولتين
وفي سنة 317 تغلب موسى بن أبي العافية السفاح البربري على جميع بلاد المغرب بعد حروب وفتن طالت وأزمنت بينه وبين الأدارسة انتهت أخيراً بانتصاره والانتقام منهم انتقاماً خسيساً فقتل كثيراً وذبح كثيراً ومن أفلت منهم أجلاهم عن بلادهم وأخرجهم من ديارهم مغلوبين على ملكهم مطرودين عن دار عزهم التي بناها أسلافهم وفروا بأجمعهم إلى قلعة حجر النسر فتبعهم السفاح إليها وشدد عليهم الحصار وحاول استئصالهم والقضاء عليهم لولا تقريع رؤساء المغرب وأكابر دولته له إذ قالوا (أتريد أن تقطع دابر أهل البيت من المغرب وتقتلهم أجمعين؟ هذا شيء لا نوافقك عليه ولا نتركك له) فخاف قولهم (ولا نتركك له) واعتبره تهديداً بالثورة عليه فارتحل عنهم لفاس وخلف عليهم قائده أبا الفتح التسولي في ألف فارس يمنعهم من التصرف
وقد ذكر الإمام المقري في كتابه الكنوز أسماء جماعة من الأدارسة الذين فروا من قلعة حجر لهذا الحصار المخنق الذي تركه عليهم بن أبي العافية، وذكر المواضع التي فروا إليها، فكان من بينهم جد أسرة الإمام الملك يحيى بن عمران. ولفظ المقري: (ثم فر إلى زواوة الكتاني أمير المؤمنين يحيى بن عمران بن عبد الجليل بن يحيى بن يحيى بن محمد بن إدريس)
وما أن وطئ يحيى بن عمران هذا التراب زواوة حتى بايعه أهلها ولقبوه بأمير الناس. يؤخذ هذا من كلام بن جزى في مختصر البيان حيث عرف الكتاني يحي وهو يتكلم عنه بملك زواوة أمير الناس. ومن كلام المقري حيث نعته بأمير المؤمنين بل صرح ببيعة قبائل زواوة ليحيى العلامة الشريف الزكي المدغري قال في درته: خرج هذا الجد - يعني يحيى - من فارس مع أبناء عمه واستقر معهم في حجر النسر ثم انتقل إلى جبل زواوة حوز الجزائر فاراً بنفسه وبويع بذلك الجبل وسمي أمير الناس.
ونقل عنهم هذا جماعة من متأخري المؤرخين
ويدل على وجود هذه الإمارة أو هذه الدولة التي لم أعرف من ملوكها غير يحيى بن عمران ما خلفت من معاهد وآثار في القطر الجزائري لا تزال مائلة إلى اليوم مما لا يكون عادة إلا من أثر الملوك والدول. ومن هذه الآثار مسجد سيدي الكتاني بقسطنطينية، قال(221/21)
عنه مؤرخ الجزائر الأستاذ احمد توفيق المدني: هو من أجمل وأبدع مساجد القطر الجزائري. ومنها مدرسة سيدي الكتاني التي بجانب المسجد قال عنها المؤرخ المدني: ولا تزال إلى يومنا مدرسة علم. وذكر في النبذة أن لها أوقافاً وناظراً ومدافن لبعض أهل العلم
وبما سقت من النقول والأدلة على إمارة الكتاني يحيى يظهر خطأ العلامة القاضي محمد الطالب ابن الحاج إذ يقول عنه في كتابيه الأشراف ونظم الدر: وكان يعرف بأمير الناس مع كونه لم تتقدم له ولاية إذ لم أقف على من ذكره من الأمراء. وإذا علمت أن حجة القاضي بن الحاج في نفي الإمارة عن يحيى إنما هي عدم وقوفه على من ذكره من الأمراء علمت وهن هذه الحجة بوقوف غيره على من ذكره منهم كابن جزى الكلبي والمقري والشريف المدغري - وكلهم أقدم منه - وغيرهم ممن نقل كلامهم؛ على أن قول القاضي: ولعل ذلك - يعني شهرة يحيى بالكتاني - لظهور الخباء من الكتان أيام إمارة بعض أسلافه ما يشعر باضطرابه في نفي هذه الأمارة إذ المعروف عند كافة من أرخ للعائلة - وهم كثير سيأتي ذكر بعضهم - أن يحيى هذا هو أول من استبدل خيام الصوف والشعر بالكتان أيام إمارته هو لا إمارة بعض أسلافه كما يزعم بن الحاج ويؤكده إجماع المؤرخين - وبن الحاج منهم - على أن يحيى بن عمران أول من لقب بالكتاني لهذا السبب
وفي بحر القرن السادس في دولة السلطان المرشد عبد المؤمن ابن علي الموحدي رحمه الله رجع أسلافه من زواوة إلى المغرب الأقصى واستوطنوا مدينة شالة وقيل بل استوطنوا قبيلة بني الحسن، ووفق الإمام في النبذة بين القولين بأن قبيلة بني الحسن كانت إذ ذاك من عمالة شالة فهي في حكم المحل الواحد. وهو توفيق وجيه، وتسمية الممالك باسم قواعدها استعمال شائع بين كل الناس منذ القدم، ويجوز في النبذة أن يكون الراحل الأول من زواوة هو الشريف محمد بن عبد الله بن هادي بن أمير الناس الكتاني يحيى وأن يكون ولده الشريف أبا بكر حفيد حفيد الكتاني الأمير
وفي سنة 656 أو 654 كما ذكر جماعة من المؤرخين، وقال الشريف الفضيلي سنة 666 أو 664 انتقل أسلاف الأمام رحمه الله من شالة إلى مكناسة الزيتون، وأفاد مؤرخ لا أعرفه! إن المنتقل الأول إلى مكناسة هو الشريف موسى بن أبي بكر بن محمد
واشتهر منهم بهذه المدينة علماء أجلة وفقهاء مهرة وعارفون كبار ترجم لبعضهم مؤرخ(221/22)
البيت المالك النقيب ابن زيدان في تاريخ مكناس
وفي آخر القرن التاسع كما حقق الإمام رجع من مكناس إلى فاس مدينة الآباء والجدود أول قادم منهم وهو الشريف محمد بن قاسم بن عبد الواحد ونزل بحي عقبة بن صوال وبقيت بها منهم فرقة انقرضت في أواخر القرن الثاني عشر وهم أولاد الشريف أحمد بن علي بن أحمد ولم تزل فاس عشهم إلى الآن سوى أفراد اختاروا السكنى بغيرها من مدن المغرب وآخرين طوح بهم الزمن إلى السنكال وصعيد مصر ودمشق
وكان أسلافه في كل هذه المدن التي حلوا بها كقبائل زواوة وتلمسان وضواحيها وشالة ومكناس الذروة والسنام لشهرتهم بينهم بالدين المتين والتقوى والعلم والفقه والشرف المتواتر
قال ابن خلدون في مقدمة العبر على شرف بني ادريس - وآباء الإمام منهم - إنه قد بلغ من الشهرة والوضوح مبلغاً لا يكاد يلحق ولا يطمع أحد في دركه إذ هو نقل الأمة والجيل من الخلف عن الأمة والجيل من السلف
وقال العلامة القاضي محمد الطالب أبن الحاج في نظم الدر واللآل: واشتهر هنالك - زواوة أولاده - الملك الكتاني يحيى - بصراحة الشرف، وظهروا ظهور النار على الشرف. قال ثم انتقلوا من زواوة إلى بني الحسن من عمالة ومنها لمكناسة الزيتون وكان لهم فيها الصيت الشهير بصراحة النسب وعلو المكانة وعظيم الحظوة عند ملوك بني مرين، ومنها انتقلوا إلى فاس ومن لدن انتقلوا إليها وأهلها يعظمون قدرهم، ويعدون في المحافل فخرهم، ويثبتون تواتر شرفهم ويتنافسون في مصاهرتهم، ويتفاخرون بمجاورتهم ومصاحبتهم
(له بقية)
محمد المنتصر الكتاني(221/23)
في سبيل الإصلاح
بحث في الوظيفة والموظفين
للأستاذ علي الطنطاوي
الوظيفة في اللغة: ما يقدر للرجل في اليوم من طعام أو رزق أو نحوه؛ والوظيفة العهد والشرط؛ والتوظيف تعيين الوظيفة؛ والمواظفة الموافقة والمؤازرة
والوظيفة في العرف عمل يقوم به الرجل للمنفعة العامة، (أي المنفعة المشتركة بين جميع الأفراد الساكنين في المكان القومي) ويأخذ عليه أجره من الخزانة العامة
طبيعة الوظيفة ومنشؤها
البحث في منشأ الوظيفة يقتضي البحث في ظهور الحكومة لأنها مجموع الموظفين، أو بالعبارة الثانية مجموع الأشخاص الذين يقومون بأعمال ضرورية لا تقتصر منفعتها عليهم وحدهم بل تمتد إلى الهيئة الاجتماعية التي يكون لهم عليها حق الطاعة والانقياد
وقد أكثر الباحثون من الكلام في منشأ الحكومة وظهر في ذلك كثير من النظريات أشهرها نظرية (العقد الاجتماعي) التي أثارها الفيلسوف الإنكليزي هوبس (1588 - 1679) واشتهر بها من بعد جان جاك روسو، وكان لها أكبر الأثر في الثورة الفرنسية الكبرى؛ غير أنها سقطت الآن، وأصبحت في رأي العلم أسطورة خرافية، واجمع العلماء على اطراحها، لأن هذا العقد لم يوجد أبداً، وهوبس وروسو وان اختلفا في المبدأ - فرأى الأول أن الإنسان مفطور على الشر، وأن الإنسان ذئب الإنسان واعتقد الثاني العكس - وان اختلفا فيها فهما متفقان على أن الإنسانية اجتازت دوراً طبيعياً مطلقاً من كل القيود، قبل أن تدخل في الحياة الاجتماعية وتنشئ الحكومة، وتلك فرضية باطلة. والحقيقة إن الإنسانية لم تعرف هذه الحياة الطبيعية ابداً، وانما عاشت من البدء حياة اجتماعية ساذجة تتمثل في القبيلة والأسرة والجماعة. وهذا الذي يراه العلماء المحدثون مطابق لما جاء في الكتب السماوية
ولن نفيض في هذا البحث لأنه ليس من غرضنا تحقيق المقال في منشأ الحكومة، ولكن غرضنا عرض مسألة (الوظيفة والموظفين) عرضاً اجتماعياً، وبيان صلتها بالحياة العامة،(221/24)
لتعالج وينظر فيها في هذا العهد الذي تقف فيه مصر والشام وغيرهما من الأقطار العربية على مفترق الطرق تصفى حساب الماضي تصفية عامة، فتبقى على الصالح وتلقي الفاسد. لذلك ندع الكلام في منشأ الوظيفة، وننظر إليها نظرنا إلى (ضرورة اجتماعية) نشأت من ميل الإنسان الفطري إلى الحياة الاجتماعية. وما ظهر في هذه الحياة من حاجات جديدة ليست حاجة فرد دون فرد، ولكنها حاجة المجموع، استلزم القيام بها انقطاع جماعة من الناس إليها تكفل لهم الناس بالمعيشة وعاهدوهم على الطاعة ليمكنوهم من إنجاز عملهم الذي انقطعوا له، على نحو ما يفعل الذين ينتسبون إلى جمعية أو نادٍ أو شركة، حين ينتخبون جماعة منهم يديرون الشركة أو الجمعية ويجعلون لهم راتباً معيناً ويعطونهم حق اتخاذ القرارات ويتعهدون بطاعتها وتنفيذها؛ غير أن جماعة الموظفين أو الحكام لم تنشأ بعقد كهذا العقد، ولكنها نشأت بالتدريج وبشكل طبيعي. والراجح إنها كانت تستند في أول أمرها إلى القوة والطغيان، وأنها كانت إرادة طرف واحد، هو الطرف القوي (الحكام) اضطر الفريق الثاني (الشعب) إلى قبولها والخضوع لها، لأنه ضعيف ولأنه رأى وجود هذا الحاكم القوي الظالم أخف الضررين وأهون الشرين؛ إذ لولاه لكانت الحالة فوضى وإذن يكون كل قوى حاكماً على كل ضعيف، فيكون بدل الظالم الواحد ألف ظالم
ثم تبدل هؤلاء الحاكمون الأقوياء على مر الأيام حتى استحالوا أخيراً موظفين خاضعين لنوع من الأنظمة والقوانين يختلف رقيها وشدتها باختلاف الممالك والبلدان
أما طبيعة هذه الوظيفة فليس لها شبيه في الحقوق الخاصة
وخير ما يمكن أن يقال فيها أنها تمثيل شخصية الدولة الحقوقية، والتعبير عن إرادتها، وقديماً كان يشبهها فريق من العلماء بالوصاية، ويرون الحكام بمثابة أوصياء على الشعب، ثم اتضح أن الوظيفة لا تشبه الوصاية بشيء، وأنها اقرب إلى الوكالة. فساد الرأي بأن الحكام وكلاء عن الشعب يقومون بأعمالهم بالنيابة عنهم، ويعبرون عن إرادتهم؛ بيد أن هذه الوكالة تحتاج إلى موافقة جميع الأفراد، وهذا غير واقع ولا ممكن. فما هي طبيعة هذه الوظيفة إذن؟
إنها كما قلنا من طبيعة خاصة لا شبيه لها في الحقوق الخاصة. (وغاية ما يستطاع أن يقال في هذا الشأن هو تشبيه الحكام - كما أشار إلى ذلك الأستاذ - بالمتبرعين بالعمل، أي(221/25)
بأفراد يقومون بإدارة مصالح الدولة من دون أن يعهد إليهم بها من قبل جميع الأفراد الذين تتألف منهم الجماعة، ولكن هذا التبرع يختلف عن مثيله في الحقوق الخاصة بأنه لا يحتاج إلى إجازة المتبرع له)
وكون الوظيفة ضرورية يبرر هذا الوضع الشاذ للسلطة العامة، أو هيئة الحكام أو الموظفين
حقوق الموظفين وواجباتهم
تبين أن تقسيم الهيئة الاجتماعية إلى طبقة الحكام (أعني الموظفين) والمحكومين (أي الشعب)، وتكليف المحكومين بالعمل والكسب لإعالة الحاكمين ضرورة حيوية، ولما كانت القاعدة في الضرورة أنها تقدر بقدرها. وان لها أحكاماً خاصة. وجب أن يمنح هؤلاء الحكام (أي الموظفين) أقل قسط ممكن من الحقوق، لتخف أحمال الشعب، وتقل أتعابه، ويحملوا أكبر مقدار من الوجائب، ليتحقق على أيديهم أكبر قسط ممكن من الخدمة العامة
أما أن يكون على الموظفين وجائب فأمر أساسي اقتضته طبيعة الوظيفة؛ أما أن يكون لهم حقوق، فأمر ناشئ عن تلك الوجائب، يستحيل قيامهم بها دون الحصول على هذه الحقوق.
وأول الوجائب في الوظيفة أن تكون الغاية من إحداثها تحقيق منفعة عامة ضرورية لا يستغني عنها ولا يمكن تحقيقها إلا بإحداث هذه الوظيفة، وبغير هذا الشرط لا تكون الوظيفة مشروعة، بل تكون شكلاً من أشكال الاستبداد كما لو أحدثت لمنفعة شخص أو لإرضائه، أو لتأمين مصلحة خاصة لحزب من الأحزاب، أو جمعية من الجمعيات السياسية
وثانيها أن يختار من الأشخاص أقدرهم على تأمين هذه المنفعة وأن يراعى في اختياره الكفاية الشخصية والمواهب الذاتية، لا الأسرة ولا اللون الحزبي ولا الشفاعات.
ولهم بعد ذلك حق الطاعة على الرعية من غير أن تحتاج عقودهم وأعمالهم ومقرراتهم إلى المصادقة الفردية من جميع المحكومين أو تحتاج إلى حكم قضائي. يؤيد ذلك اعتبار الحكام (الموظفين) منتخبين من قبل الشعب، وحائزين لثقته، وأنهم (لما هم عليه من الصفات والمزايا) اقل خطأ من سائر الأفراد، وأنه لو أعطي الأفراد حق الاعتراض على كل العقود العامة وإقامة الدعاوى دائماً لأدى ذلك إلى الفوضى وعرقلة سير القضايا العامة وضياع المصلحة التي من أجلها أوجدت الحكومة(221/26)
وبديهي أن حق الطاعة لا يكون للحكام إلا إذا اتبعوا الدستور وساروا على القوانين والعادات المرعية
ومن حق الموظفين الذين انقطعوا عن الكسب لأنفسهم وعن تأمين مصالحهم الخاصة أن تؤمن هذه المصالح من قبل الدولة وأن يمنحوا بعض الامتيازات، ويتمتعوا ببعض الحصانات.
أي أن للموظف قبل كل شيء أن يأخذ راتباً من خزانة الدولة ولكن كيف يقدر هذا الراتب؟ وما هو الأسلوب الصحيح لتعيين مقداره المشروع؟
جاء في البخاري عن عائشة: (أن أبا بكر رضي الله عنه لما استخلف قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مئونة أهلي وشغلت بأمر المسلمين فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال)
وكان الذي فرضوا له برديه إذا أخلقهما وضعهما واخذ مثلهما، وظهره (دابته) إذا سافر، ونفقته على اهله، كما كان ينفق قبل أن يستخلف؛ فرضي بذلك
وهذا الأسلوب طبيعي ومقبول، ولكنه شخصي لا يصح اتخاذه قاعدة عامة، لأنه يؤدي إلى الفوضى، ولا يجعل للرواتب أسلوباً معروفاً، ولا أصلاً ثابتاً، ثم إن فيه حيفاً على الموظفين المقتصدين الذين كانوا يعيشون قبل الوظيفة عيشة ضيقة أو النابغين المفلسين الذين لا يجدون قبل الوظيفة ما ينفقون، كما أن فيه منفعة للمسرفين وتشجيعاً لهم على إسرافهم. وقد يرد هذا الاعتراض الأخير بان الموظف لا يعطي إلا ما فيه تأمين حاجاته الضرورية، غير أن في ذلك ظلماً للموظف ظاهراً
فما هي القاعدة المقبولة إذن في هذه الرواتب؟. . .
هي أن يعطي الموظف اقل بقليل مما يستطيع أن يحصله من العمل الحر، أو ما يحصله رجل مكافئ له في المواهب والسجايا والكفاءة من عمل مشابه لعمله؛ وهذا تقدير معقول دائم الاعتبار يختلف باختلاف البلدان والشعوب، وغناها وفقرها، ورقيها وانحطاطها، وكون ما يعطاه الموظف أقل بقليل مما يستطيع تحصيله في العمل الحر، ناشئ عن فكرة الدوام في الوظيفة بالنسبة للعمل الحر والراحة والاطمئنان فيها؛ فالتاجر لا يضمن لنفسه مقداراً من الربح كل شهر، كما تضمن الدولة للموظف راتبه، والتاجر مهدد بالإفلاس(221/27)
والضياع، وليس على الموظف شيء من ذلك. ثم إن الدولة توفر للموظف من راتبه قسطاً كبيراً يكفيه ويغنيه أيام مرضه وتقاعده عن العمل، والتاجر موكول إلى نفسه
وللرواتب ضابط آخر هو ألا تزيد نسبتها في الميزانية العامة عن الخمس (عشرين في المائة) وهذا طبيعي لأن الغاية من الحكومة ضمان المنفعة العامة، وهؤلاء الموظفون وسيلة إلى هذه الغاية. أفيعقل أن تكون الوسيلة غاية؟ أيعقل أن يأخذ الأعضاء الإداريون في الشركة نصف الأرباح؟ كذلك لا يعقل أن يأخذ الموظفون نصف موازنة الدولة رواتب لهم
وقبل أن ندع الحديث عن وجائب الموظفين وحقوقهم نعرض هذه المسالة: هل الموظفون عمال يقومون بعمل بعينه ثم إذا وفوه كانوا أحراراً في أوقاتهم وأعمالهم، أم هم مقيدون خارج الوظيفة ببعض القيود؟ وبالعبارة الثانية: ما هي علاقة الأخلاق والسلوك بالوظيفة؟ لا أعني التفكير والاتجاه السياسي أو العمل الأدبي، فإنه لا خلاف في أن للموظف أن يفكر كما يشاء أو يعمل أي عمل علمي أو أدبي أراد، ويأتي كل ما يجيزه القانون لغيره من الأعمال العامة ولكن أعنى السلوك الشخصي، واكثر الناس على التفريق بين الأخلاق الاجتماعية، كالصدق والأمانة والأخلاق الشخصية كالعفاف فلا يرون ما يمنع الموظف إذا كان أميناً على أموال الدولة، قائماً بما أسندت إليه من عمل أن يسلك سبيل اللهو، وينتهز اللذات، ويلبي صوت نفسه وجسمه، ولا يرون ذلك قادحاً، ولا يجدون له صلة بالوظيفة
وهذا الرأي باطل كل البطلان، لا سيما في بلاد كبلادنا لا يزال الناس ينظرون فيها إلى الموظف (والموظف الكبير على التخصيص) نظرة إجلال وإكبار، ويتخذونه قدوة ويسلكون مسلكه، وقديماً قيل: الناس على دين ملوكهم، فإذا فسد الموظفون فسدت الأخلاق العامة، ثم إن من الوظائف ماله علاقة ماسة بالأخلاق وما ينبغي في صاحبه الكمال حتى يكون في نظر الناس سالماً من الشوائب منزها عن المعايب كوظائف المعارف (التعليم) والعدلية (القضاء)، جاء في الحديث: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. فما ظنك بمدرس يقوم في النهار واعظاً معلماً، يوفى التبجيل، يكاد يكون رسولا. . . فإذا كان الليل اجتمع هو وتلميذه في الحانة أو الماخور، أو اجتمع معه على الباطل. . . وما ظنك بمفتش يدخل الصف على المدرس، ممثلا القانون والأمة والدين، يراقب ويسجل ويكون لقراره صفة التقديس فلا يرد ولا يكذب، وتكون مقدرات المدرس معلقة به، ما ظنك بهذا المفتش(221/28)
إذا ذهب في المساء يؤم الحانات أو يطرق أبواب المعلمات. . . أو يأتي المنكرات؟ وقل مثل ذلك في القاضي، بل ربما كان احتياج القاضي إلى الكمال، في كل أحواله، وفي كافة أموره، أشد من احتياج المعلم، لأنه يجلس مجلس الأنبياء، ويقوم مقام رسول الله (ص)، لذلك عنيت القوانين الشرعية، بأخلاق القاضي فلم تكتف بالعلم، وإنما اشترطت فيه بعض الشروط الأخلاقية، فأوجبت فيه أن يكون حكيما فهيما مستقيما أميناً مكيناً متيناً (محلة - مادة: 1792) وقيدته ببعض القيود فألزمته اجتناب الأفعال والحركات التي تزيل المهابة (مادة: 1795) ومنعته من قبول هدية الخصمين أبداً (1796) ومن الذهاب إلى ضيافة كل من الخصمين قطعاً (1797) الخ
فيا حبذا لو عمل بهذه الأحكام، ووضع مثلها للمدرسين ورجال المعارف خاصة، وللموظفين عامة
وقد يعترض معترض بان هذه قيود لا يجوز أن يقيد بها الموظف، بل يجب أن يتمتع بحريته كما يتمتع بها كافة الناس، والجواب أنها قيود حقيقة، ولكنها ضرورية لتأمين الغاية من وجود الموظفين، وهي المنفعة العامة، فإذا كانت هذه القيود شاملة الموظفين، وإذا دخلوا في الوظيفة على معرفة بها، لم تعد قيوداً اضطرارية وإنما تكون بمثابة شرط اختياري، ثم إن في امتيازات الموظفين وحقوقهم التي يمتازون بها من سواد الشعب ما يبرر تقييدهم ببعض القيود اللازمة
تعيين الموظفين
درسنا الوظيفة على أنها ضرورة حيوية، الدافع إليها والغاية منها المنفعة العامة، وأبنا أن الواجب في اختيار الموظفين، ملاحظة قدرتهم على تحقيق هذه الغاية وكفاءتهم للقيام بها، وهذا هو الحق الذي يقضي به العقل والنقل، جاء في الحديث عن ابن عباس: من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين
وفي الحديث عن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعدما قال رسول الله (ص): من ولي من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم.(221/29)
وكان الشأن في المسلمين الأولين أنهم يفرون من الولاية ويخشونها، ولا سيما القضاء فربما عرض عليهم فأبوا، فنالهم أذى فصبروا واحتسبوا ولم يقبلوا. وحديث الأئمة في هذا الباب أبي حنيفة ومالك وغيرهما مشهور معروف، والأحاديث في التنفير من طلب الوظيفة كثيرة جداً حتى عقد لها الحافظ عبد العظيم في (الترغيب والترهيب) باباً مستقلاً. جاء في الحديث الصحيح (الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم) عن عبد الرحمن بن سمرة: يا عبد الرحمن لا تسال الإمارة، فانك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها
وروى أبو داود الترمذي عن أنس عن النبي (ص) أنه قال: من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده
وروى مسلم وأبو داود عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر: إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها
وكان النبي (ص) لا يولي أحداً حرص على الولاية أو سألها. جاء في الحديث (الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود) عن أبي موسى. قال: دخلت على النبي (ص) أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله، أمرنا على بعض ما ولاك الله تعالى. وقال الآخر مثل ذلك. فقال: إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه
هذا هو الأصل في تعيين الموظفين، يختار الأصلح للعمل، الأقدر عليه وهو مقيم في بيته، ويحتال عليه بالإقناع وبالتهديد حتى يقبل مكرهاً، فانتهى الأمر عندنا إلى ما يعلمه الناس كلهم، وأصبحت تعرض المائة من الموظفين فلا تكاد تجد اثنين من أهل الكفاءات، وإنما تجد من أدخلته الوظيفة شفاعة شفيع، أو جاه وسيط؛ وخير شفيع اليوم (شفيع النواب) وخير وسيط (الأصفر الرنان) أو غير ذلك مما يعلم ولا يقال، وما في قلب كل قارئ منه غصة، وما يحفظ منه كل قارئ حوادث وأخباراً. . .
الموظفون في بلادنا
وما دمنا في الحديث عن بلادنا. وما دامت غايتنا الإصلاح فلنصور الداء كله. . .
قدمنا الكلام في أن الوظيفة ضرورة تقدر بقدرها وان عدد الموظفين يجب أن يكون معلقاً(221/30)
بالمنفعة العامة، فلا يقل عن العدد اللازم، كيلا يحمل الموظفون ما لا طاقة لهم بحمله فتتعطل المصلحة، ويقف دولاب العمل، ولا يزيد حتى يرهق الشعب، وأن نسبة الرواتب يجب ألا تتجاوز خمس الموازنة وان ينفق الباقي على المصلحة ذاتها كما ينفق جل أرباح الشركة على المنفعة العامة للأعضاء كلهم، لا على منفعة مجلس إدارتها القائم عليها
على حين أننا نرى في بعض هذه البلدان العربية بلداً يأخذ
موظفوه خمسة أسباع الموازنة (57) وينفق سبعان فقط (27)
على المصلحة ذاتها. . . أليس معنى هذا أن الشعب كله
أصبح خادما لهذه الفئة، بدل أن تكون هي خادمة له؟ وان
غاية الوظيفة حياة الموظفين وسعادتهم لا المنفعة العامة
الضرورية؟
وقدمنا بان حد الراتب أن يكون أقل بقليل مما يحصله الموظف في العمل الحر على حين أن الراتب عندنا يزيد أضعافاً مضاعفة على ما يحصل من العمل الحر. بل لا نسبة بينهما مطلقاً وقد نشأ عن ذلك أن كان عندنا طبقتان طبقة مترفة سعيدة هي طبقة الموظفين، وهي الأقل عدداً، وطبقة مرهقة متألمة شقية هي طبقة جمهور الشعب. وإني لأقول (عن استقراء وبحث) إنه ليس في المائة ممن أعرف من الموظفين اثنان أو ثلاثة يستطيعون إذا أخرجوا من وظائفهم، تحصيل نصف الراتب أو ربعه من العمل الحر، ذلك أن علو الوظائف وكثرة الراتب لم تكن قائمة على الكفاءة، بل مر وقت كانت تقاس فيه كفاءة الموظفين بمقدار اتصالهم بالأجنبي المسيطر وتزلفهم إليه. فنشأ عن هذا أن اتسعت الهوة بين الشعب والحكام (أي الموظفين). وحمل لهم الشعب في نفسه اشد البغضاء، وأمر النقمة، حين رأى المئات من المكلفين لا يقوم ما يدفعونه كلهم من الضرائب ينتزع انتزاعاً من أفواه عيالهم وأعناق بناتهم - لا يقوم براتب موظف واحد كبير. وحين رأوا في القانون خروقاً كثيرة يسقط منها المال على الموظفين الكبار، فيأخذونه بلا ورع ولا حياء من أجور سفر إلى تعويضات إلى غير ذلك مما أضرب عليه مثالا واحداً شاهدته بعيني في إحدى البلدان(221/31)
العربية: جاء مفتش اللغة الإنكليزية من داره التي لا تبعد عن المدرسة اكثر من خمسمائة متر ماشياً على رجليه، فلبث في المدرسة نحواً من نصف ساعة، ثم ذهب لشأنه فعلمت علم اليقين أنه قدم إلى الوزارة القائمة الآتية (مصروفات تفتيش):
فرش صاغ
40 أجرة سيارة (من أقصى المدينة إلى المدرسة)
10 ثمن أوراق وأقلام للتفتيش
30 ثمن غداء ومصروفات متفرقة
80 المجموع
فاخذ ثمانين قرشاً (وهي اليوم اكثر من مائة فرنك) ولم ينفق منها فلساً واحداً
الوظيفة في بلادنا قد خرجت عن الأصل الذي قررناه في أول هذه المقالة، فلم تعد ضرورة حيوية ولم تعد غايتها المصلحة العامة، بل أصبحت باباً للكسب وطريقاً إلى المعيشة وأصبحت قبلة الناشئين وهدفهم، لا تخلو وظيفة إلا أقدم عليها المئات من الشباب المتعلمين ولو كانت وظيفة عامل بريد أو كاتب ديوان ولو كانوا ليسانسيين ودكاترة، وتوصلوا إلى رضا الرؤساء (وأكثرهم من بقايا العهد البائد) بشتى الوسائل الباطلة والطرق الدنسة الملتوية، ثم إذا فاز منهم من فاز ثابر على إطاعتهم لأن بقاءه معلق بهم ورقيه موقوف على رأيهم؛ وإذا كان هذا الفائز في الوظيفة شريفاً، أو كان على بقية من المبادئ التي تلقاها في المدرسة، واحب أن يعيش في الوظيفة بإخلاص وشرف واستقامة، ذاق الأمرين واصلاه الرؤساء حرباً حامية، حتى يخرج أو يخرج غير مودع ولا مأسوف عليه
ضاع الشرف واضمحلت الأخلاق ومات النبوغ فكم من نابغ موهوب وعبقري نادر دفن نبوغه وعبقريته في وظيفة خاملة. الوظيفة في بلادنا خصيمة النبوغ. هذا الرافعي الذي لم ينشأ في العربية في كل عصورها كاتب أبلغ منه عاش ومات كاتباً في محكمة صغيرة، وهؤلاء الجاهلون في أرفع وظائف المعارف، والظالمون في أعلى درجات القضاء. . .
إن مسألة الوظيفة عقبة من أشد العقبات في طريق هذه الشعوب العربية الناهضة، فيجب أن ينظر إليها ويبحث فيها، ويوليها الكتاب والمفكرون وأولوا الأمر والحكام الوطنيون أكبر العناية، ويحلونها من الاهتمام في أرفع مقام(221/32)
علي الطنطاوي(221/33)
من وحي الشجرة الضالة
على طريقة الشعر المنثور
للأستاذ خليل هنداوي
- 1 -
أتدرين لماذا أحبك أيتها الشجرة القديمة
التي اشتركت جذورها مع جذور الزمان. . .
لا احبك لأنك قوية عالية المناكب غليظة الجذع، ولا أحبك لكهولتك التي لا تزال تتدفق بالحياة كالشباب، ولا أحبك لأنك رمز القدم. . .
احبك لأمر واحد وأحب معه كل قديم من أجله. . .
لأن في القديم شيئاً من حيواتي الغابرة التي لا أعيها
وربما كان لي عين إلى أعماقك!
وربما كان لي ثغر في عروقك. . .
وربما رأيت الحياة بك مرات كثيرة. . .
إنك أقدر على تفسير اللاشعور في نفسي من نفسي. . .
- 2 -
ما أضل أولئك الذين يظنون انهم استطاعوا أن يقولوا:
(قد وجدنا ما أضعنا)
أيستطيعون أن يتمثلوا ما أضاعوا حتى يجدوه؟
لو كان الشيء الذي أضعته واحداً لقلت:
ما أهون الأمر!
ولكني أضيع كل يوم شيئاً ولا أجد هذا الشيء. . .
وشقائي أنني كلما ذهبت أفتش عن هذا الضائع، أضعت معه شيئاً آخر كان معي!
فحياتي أشياء ضائعة، وسعي ضائع وراءها.
فأين تريدون أن أجد أجزاء نفسي التي تناثرت مني على طريق العمر؟(221/34)
وبينا كنت أحمل هذه الأجزاء كعوامل لسعادتي وحياتي أمسيت أحملها ذكريات ثقيلة
هل بإمكاني أن أطرح هذه الذكريات عني كما تطرحين أيتها الشجرة هذه الأوراق البالية عنك كل خريف؟
أتعاودك ذكرى الأوراق المتساقطة بعد أن يكسوك الربيع سواها؟
فإذا لم تعاودك ذكرى الورقة الأولى فلماذا تعودين إلى إبداع الورقة الجديدة - كل ربيع - على مثال الورقة الأولى؟
أليست الورقة الأولى هي مصدر إلهامك ومدار حياتك؟ وحقك! أينما رأيت أوراقك قلت: هذه الورقة الأولى!
دعيني إذاً أفتش في هذه المسارب قبل أن تغمض عيناي. .
لأقول: هنا سحبت قدميها مرة، ففي هذا المكان جزء منها فلأحاول أن أوقظ هذا الجزء. . .
وأقول: هنا جلسنا ذات يوم وضحكت لنا الحياة. فلأحاول أن أستعيد هذه الضحكة من الآن من التي طوتها
وأقول: هنا تركت بقية منها لم تعد تحملها نفسها ولا يجدها أحد سواي. فلأجرب أن أستنقذ هذه البقية من النسيان!
وأقول: هنا يعبق الجو بأشذاء وعطور من جسدها يوم كان يتفتح للمياه كالزهرة، فلأجرب أن أغمر روحي بهذه الأشذاء وهذه العطور.
وهنا يطفح المكان بألوان محاسنها التي تحولت. . . فلأعمل على إحياء هذه الألوان الباهتة.
وهنا أمس أشياء كثيرة! أحسها ولكني لا أقدر أن أمسكها لأنها أفلتت مني كما أفلتت منها. . .
دعيني إذاً أفتش عن أجزاء نفسي في كل مكان، قبل أن يطو يني الزمان.
- 3 -
أيها الزائر لحدي - هنا - لا تكثر التأمل في الأرض حيث ذرات جسدي تقيم لأنك لن تجدني هناك. . .(221/35)
ولكن تأمل في الشجرة التي تغمرني ظلالها وتحنو علي أغصانها وتشدو لي أطيارها
إنك تجدني فيها على كل ورقة تتحرك، وفي عصارة كل عود يرتجف، وتسمع همسي في كل خشخشة منها!
أنا ميت في الأرض، وحي في الشجرة.
خليل هنداوي
-(221/36)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 23 -
الفلسفة الصينية
أخلاق العصر الأول أو الفلسفة العملية
أشرنا في الفصل السابق إلى أن فلسفة الخاصة لم تتأثر ألبته بأفكار العامة ولم تحمل أي طابع من طوابع العقلية الشعبية ونجزم هنا بأن عكس ذلك هو الذي وقع أي أن العامة هي التي تأثرت بفلسفة الخاصة، ولكنه تأثر أخلاقي فحسب، وإنما نقول فحسب، لأن فلسفة الخاصة النظرية ليس لها على عقيدة العامة إلا آثار طفيفة لا تكاد تذكر، فبينما نرى فلسفة الخاصة تعجز عن رفع الجماهير إلى الإيمان بـ (شابخ - تي) وهو السلطان الأعلى نشاهد فلسفتها العملية تسود الشعب كله خاصة وعامة، بل وتلون عقيدة الجمهور بذلك اللون الأخلاقي الراقي
نحن نعلم أن الصينيين كانوا يرون أن السماء كائن متحرك تبعاً لقانون منظم، وهذا القانون يربط القوى الثلاث: السماء والأرض والإنسان ربطاً محكماً، وإن كان لكل واحدة من هذه القوى في الظاهر طريق خاص أو غاية مقصود تحقيقها. فغاية السماء تسمى: (تيان تاو). وغاية الأرض تسمى: (توتاو). وغاية الإنسان تسمى: (جين تاو) إلا أن هذه الغايات ليست في الحقيقة إلا غاية واحدة، وهي غاية العالم أو قانون الطبيعة أو واجب الموجودات
لهذا الارتباط المحكم بين تلك الغايات الثلاث أثره العميق في كل شيء، إذ لا يكاد اضطراب بسيط يحدث في أحدها حتى يتردد صداه في جميع جزئيات الآخرين، فمثلا إذا حاد الإنسان عن الطريق السوي، فاقترف جريمة من الجرائم حدث في الحال اضطراب في السماء والأرض، وليس الكسوف والخسوف والزلازل وظهور الكواكب ذوات الأذناب(221/37)
والجدب والأوبئة ليس كل ذلك إلا نتائج جرائم الإنسان وحيدته عن الطريق المستقيم، فإذا ما حدث في السماء هذا الاضطراب الناشئ من سلوك الإنسان وأعقبه اضطراب الأرض عاد الأثر من جديد إلى السماء فتضاعف اضطرابها. ولهذا تقول (أونج فان) أو القاعدة العظمى، وهي أقدم مستند فلسفي صيني: إن سلوك احترام من يستحق الاحترام يجلب الغيث في الوقت المراد والتبصر يجلب الحرارة في الوقت المراد والتمرن على التأمل يجلب البرودة في الوقت المراد، وحكمة الملك تجلب الهواء في الوقت المراد، ولكن الفظاظة تديم المطر من غير انقطاع، والكسل يديم الحرارة من غير انقطاع، والتهوس يجلب البرد من غير انقطاع، واحتقار ما يستحق الاحترام يجلب الجدب، والحماقة تجلب العاصفة)
وإذا رأينا أن الصين يربطون المظاهر الطبيعية بالفضائل والأخلاق إلى هذا الحد، استطعنا أن نجزم بأن الواجب هو الذي كان له القيادة العليا في هذا الشعب، وبأن كل فرد كان يحاول بقدر طاقته أن يكون فاضلا حتى لا يكون مجلبة للوباء أو للجدب فتشقى بسببه الأمة جمعاء، ولكن الفضيلة عندهم لم تكن تتحقق بعمل أو ببضعة أعمال خيرية وإنما هي كمال الخلق وتحقيق الاستنارة التامة للنفس، واتباع الصراط السوي في كل شيء، ذلك الصراط الذي هو موجود بالفطرة لدى كل روح بشرية والذي هو برهان احترام النفس الإنسانية وارتباطها بالسماء. وأكثر من ذلك أن المستصينين الذين اشتغلوا باللغة الصينية عثروا في دراساتهم على أن كلمة: (تاو) التي هي الطريق المستقيم أو الغاية المثلى لكل الكائنات أو تحقيق الواجب تدل أيضاً على نصيب الإنسان الممنوح له من السماء، وهذا برهان آخر على ارتباط الفضيلة والواجب بحظ الإنسان في الحياة عند هؤلاء القوم.
وعند الصينيين أن الإنسان خير بفطرته، لأنه جزء الطبيعة والطبيعة هي الإله، ولكن الإنسان ليس مجبراً على اتباع طبيعتها الخيرة دائماً مثل النبات أو الحيوان، وإنما هو كائن مفكر له كسب واختيار قد يبعدانه أحياناً عن الصراط السوي الذي هو صوت السماء أو صوت الطبيعة. أما الخير الموجود في نفسه، فليس كامل التكوين، وإنما هو موجود على هيئة استعداد فقط وعليه هو أن يحققه حتى تصبح الفضيلة طبيعة عملية له.
وهنا أحسب أني لست في حاجة إلى التنبيه إلى أن الصينيين قد سبقوا الرواقيين إلى هذه(221/38)
النظرية بعدة قرون حيث قرر هؤلاء الأخيرون أن الإنسان هو جزء الطبيعة التي هي الاله، وأنه خير بفطرته، وأن الشر لا يقع منه إلا إذا حاد عن طبيعته، وأن هذه الحيدة لا تأتيه إلا من التفكير وحرية الاختيار.
وعلى ذكر حظ الإنسان الذي تمنحه إياه السماء ينبغي لنا أن نشير هنا إلى أن القدر كان عند الصينيين على نوعين: الأول هو الأقدار الناشئة عن أفعال الإنسان نفسه، وهذا النوع لا يمكن تعديله أو التغيير فيه. والنوع الثاني هو الحظ الذي تبدأ السماء بتوزيعه على الإنسان، وهذا يمكن تلطيفه أو تحويل شره إلى خير كما ينص على ذلك كتاب (شو - كينج)
رفع الصينيون إلههم إلى أسمى آواج الكمال الخلقي فنزهوه عن الظلم وعن الاستثناء (المحسوبية) فمن المستحيل مثلاً أن ينزل بالبشر الآلام والازدراء اتباعاً لهواه، أو أن يطرد من رحمته إنساناً لم يجرم، أو أن يعفو عن آثم لم يقلع عن إثمه كما كان يفعل آلهة البابليين والعبرانيين؛ وإنما هو إله فاضل يمنح النعمة والسعادة للأخيار، ويقسو إلي أقصى حدود القسوة على المجرمين والشرار. وفي هذا يقول كتاب (شو - كينج) ما نصه. (إن الفضيلة وحدها هي التي تؤثر في السماء، وإنه لا يوجد أمام الفضيلة ألبته شيء بعيد بحيث تعجز عن اللحوق به، وإن المتكبر منخفض، والمتواضع مرتفع؛ فإذا لاحظت ذلك، فإنك ستسير على صراط السماء. . .)
من الفضائل الهامة التي نصت عليها الأخلاق الصينية الرحمة التي تجب للصغير على الكبير، وللضعيف على القوي، وللفقير على الغني. ويحدثنا أحد العلماء بأن الآية الموجودة في الإنجيل في هذا الصدد موجودة بنصها في اقدم الكتب الصينية وهي: (إنما السعداء هم الرحماء) راجع الإنجيل وكتابي (شو - كينج) و (إي - كينج)
ومما لا شك فيه هو أن الفلسفة العملية الصينية لم تكف لحظة عن مهاجمة العنف وعن الأمر بالرحمة في المعاملات، بل وعن إفهام الأقوياء والأغنياء أن الضعفاء والفقراء خير منهم؛ وأن هذه الخيرية سر غامض كامن وراء هذه المظاهر السطحية الخداعة من غنى وقوة وجاه. ومن هذا ما يقوله كتاب (إي - كينج): (إن الهواء الذي يصفر في السماء إنما هو تصوير لقوة الرجل الذي يظهر صغيرا، وإن الرجل الذي يمشي فوق ذيل النمر دون(221/39)
أن يعضه هو الذي سينجح، وإن التواضع يخلق النجاح، وإن الحكيم المتواضع يستطيع أن يجتاز البحر الأعظم)
ويعلق أحد الباحثين على هذا بقوله: ولكننا يجب علينا ألا نفهم أن الرحمة التي تدعو إليها الديانة الصينية هي الرحمة التي تجر إلى الضعف، وإنما هي الثبات في وداعة والصلابة في تحقيق الواجب. وعلى الجملة هي المقياس المضبوط في كل شيء أو هي الاعتدال أو التوسط في كل شيء، وهذا التوسط كانوا يسمونه: (تشونج) أي الفضيلة في ذاتها، وفيها يقول (إي - كينج): (إن احتمال فظاظة الأفظاظ في وداعة، واختراق الأنهار في ثبات وشجاعة، وعدم إهمال البعيد، وعدم الانشغال بالغير، كل هذا مجتمعاً هو الذي يحقق السير في طريق الاعتدال الوسط)
وهناك نص يعد من أقدم نصوص كتاب (شو - كينج) يقول: (إن الفضائل التي تصير الإنسان غاية في الكمال: هي الممنونية مع الجد، والتخلي مع الثبات، والحشمة مع البساطة، والحزم في السلطان مع الحكمة، وسهولة الانقياد مع القوة، والصلابة في الاستقامة مع الوداعة، والرحمة مع التمييز، والشدة مع الإخلاص، والشجاعة مع العدالة. فإذا اتبع رعاياك هذه المحامد، فإنهم سيكونون مستقيمين في الطريق السوي)
من خلال هذا كله نلمح في سهولة أن الأخلاق الصينية قد أقيمت منذ أقدم عصورها على أساسين جوهريين: الأول المثالية العليا والثاني سعادة المجتمع. ويعلق العالم (زانكير) على هذا بقوله: ولقد فهم بعض الباحثين أن الأخلاق الصينية نفعية جافة فظة. وفي الواقع أن النظرة السطحية المتسرعة في فلسفة الصينيين لابد أن تنتج هذه النتيجة، إذ لا يكاد الباحث يتصفح كتبهم حتى يلتقي فيها بقاعدة (الفضيلة طريق السعادة) أو (السعادة غاية الفضيلة) فإذا كان الباحث من أولئك الذين لا يكلفون أنفسهم التعمق جزم بنفعية هذه الأخلاق، بل بأنانيتها ولكن نظرة فاحصة، وتأملة دقيقة، تظهران أن السعادة المقصودة ليست هي سعادة الفرد، وإنما هي سعادة المجتمع، وليس ذلك النجاح الموعود به لمكافأة الفضيلة هو نجاح الشخص، وإنما هو النجاح في تحسين أحوال البيئة العمرانية التي يقيم فيها الفضلاء. وفي الحق أن الثرة عند الصينيين من أقبح الرذائل، وان الغيرية أو الإيثار في رأيهم ن أجل الفضائل، وأن الفضيلة بوجه عام تنحصر في الخضوع الحر الذي يصدر من الفرد نحو(221/40)
مجتمعه صدوراً إدارياً، لأن ذلك المجتمع الممثل في أوامره الحية إنما هو عندهم صور أمينة للأوامر السماوية. وهكذا نرى أن القانون والحرية هما الدعامتان الجوهريتان للخلاق الصينية، وفوق ذلك فهما تذكراننا بعبارة (كانت) القيمة، وهي: (إن السماء التي تسطع نجومها فوق رأسي هي عين القانون الأخلاقي الذي في داخل نفسي)
نظام الأسرة
كان لرب الأسرة في الصين كما كان في روما حق الحياة والموت على جميع أفرادها بدون استثناء ودون أي تذمر أو اعتراض، ولكن بقدر ما كان أرباب الأسر في روما قاسي القلوب متحجري الأكباد لا يبالون بتضحية فرد أو عدة أفراد في سبيل هوى من الأهواء أو شهوة من الشهوات. كان رؤساء الأسر في الصين على العكس من ذلك تماماً تفيض الرحمة من قلوبهم، وينبع الحنان من بين جوانحهم، ولا يسلكون مع جميع أفراد أسرهم إلا سبل العدالة والاستقامة، ولا يتخذون في معاملاتهم إياهم رائداً غير الفضيلة، وإن كانوا لا يتوانون لحظة واحدة في اتخاذ أقسى أنواع الحزم إذا تطلبت الحالة الأخلاقية أو الاجتماعية ذلك. أما واجبات المرؤوسين نحو رؤسائهم في الأسرة من احترام وإخلاص وطاعة فإننا نكتفي بما أشرنا إليه منها عند حديثنا عن الأخلاق العامة.
السلطان
تنتقل السلطة إلى الملك عند الصينيين من السماء مباشرة، ولهذا يجب أن يكون فاضلاً، مستقيماً، حكيماً، بل قديساً منزهاً عن النقص، لأنه الابن الحقيقي للسماء؛ وليست البنوة المادية هي المعتبرة، بل إن الاصطفاء المعنوي هو كل شيء، وإن منحة السماء لا تتوقف على جاه ولا مولد، وفي هذا يقول (شو - كينج): (إن من يستضيء بالفضيلة الساطعة هو وحده الذي يمكن أن يسمو ولو كان ابن فلاح) وهذه القاعدة الأخلاقية تعلن في صراحة أن (الإمبراطور) إذا حاد عن الصراط السوي، فإن السماء تسلب منه السلطة؛ وهذا طبيعي لأن الملك مادام قد قطع برذيلته صلته الداخلية بالسماء، فيجب أن تزول صلته الخارجية بها. ولقد تجسمت هذه الفكرة حتى خصص (كونفيشيوس) فيما بعد في قانون العقوبات الذي أنشأه مادة لعقاب الفرد الذي يفقد صلته بالسماء.(221/41)
أقنعت هذه النظرية الملوك بأن الحكم بحد السيف والخنجر مستحيل، وبأن السلطة الوحيدة الدائمة إنما هي المنبثقة من الفضيلة، وفي هذا يقول كتاب (إي - كينج) في وعظ الأمراء: (إن القوانين القاسية لا تستطيع أن تحقق الرخاء، وإن نصيب الحزم يساوي نصيب الخيرية، وإن القسوة يجب أن تقف عند التوسط، فإذا ما تعدته فقدت نتيجتها النافعة. ومن يطبق القانون بوداعة مع حزم، وبخيرية مع قسوة معتدلة، يفز بالشهرة، إذ يكون قد أدى وظيفته على وجه الكمال. إن الشعب إذا أحس بقسوة القانون عصاه دون اقل تأنيب من الضمير) ويقول أيضاً: (إن الوداعة الداخلية، والحزم المعتدل، والترضية الممنوحة للجميع من غير استثناء، والأمانة، والاستقامة، كل ذلك هو الذي يحقق تحسين حال الشعب ويعظم امتداد الثقة حتى تتناول الخنازير والأسماك)
لم تكن هذه القواعد الأخلاقية عند الصينيين مجرد نظريات علمية تسجل في الكتب دون أن تحقق في الواقع، كلا، وإنما كانت أخلاقاً عملية طبقها الشعب: عامته وخاصته وملوكه. ومن هذا السمو الأخلاقي العملي ما تحدثنا به الأساطير الصينية عن أحد ملوك عصر ما قبل التاريخ، وهو (هوانج - تي) أي الإمبراطور الأصفر الذي عاش حوالي القرن السابع والعشرين قبل المسيح، والذي تمثله لنا الأسطورة مثلاً أعلى للفضيلة والحكمة، وإن كانت الكتب المقدسة لا تذكر عنه شيئاً
أما (شو - كينج) فهو يحدثنا أن بلاد الصين كانت سعيدة قوية في عهد ملوك الأسرتين: الأولى والثانية أي أسرتي (هيا) و (شانج - إين) لأن ملوكهما كانوا فضلاء وحكماء؛ وكذلك امتدت السعادة إلى أول عهد الأسرة الثالثة التي أسسها (وين - وانج) الحكيم الذي كان يطلق عليه اسم الملك المهذب، والذي هو النموذج الأعلى لكونفشيوس، والذي ساهم بخطه في نسخ (إي - كينج) وقد حكم في سنة 1122 قبل المسيح
غير أن السلطة انتقلت إلى ملوك غير مستقيمين فسلبت السماء سلطتها منهم، وسقط الشعب في حضيض التنازع والتفرق، واخذ صغار الحكام يستأثرون بالسلطة. وعلى الجملة ساد الشقاء والبؤس تلك البلاد خمسة قرون كاملة انتهى بانتهائها هذا العصر وبدأ العصر الذي سنتحدث عنه في الفصل الآتي
(يتبع)(221/42)
محمد غلاب(221/43)
الخريف
للشاعر شارل هوبر ميلله فوي
ترجمة السيد عارف قياسه
(ميلله فوي شاعر فرنسي رقيق من شعراء القرن التاسع عشر (1782 - 1816) طبع بطابع الحزن العميق. تجرع كأس الحمام والغصن أملود والشباب ريق، عقب هزال ألح عليه إلحاحاً فحطم جسمه تحطيما. نظم ميلله فوي مراثي عديدة - وبذاك نبه ذكره وعلا شأنه - ولعل أشهرها
أحس الشاعر الشاب بالموت يدب في مفاصله اللدنة وأعضائه الغريضة فعمد إلى يراعته وقرطاسه واثبت هذه الآية الشعرية يبكي فيها حياته الفقيدة وشبابه الراحل وغصنه الذاوي. وأنت حين تقرأ غير هذه المرثية مما سجلته يراعة (ميلله فوي) تحس بالكآبة تسيل من كلماته وتفيض وتفيض حتى تغمر قلبك فلا تستطيع أن تحبس عينك عن إرسال أدمعها)
(عارف)
تناولت يد الخريف الغابات فنضت عنها ثيابها، وعرت الأشجار من أوراقها الذاوية، وكست أديم الغبراء بطبقة صفيقة منها، ففقدت الغابة سرها، وصمت البلبل الغريد عن الشدو
شاب مريض تبلغت به العلة - أفعم الأسى فؤاده في فجر حياته، ودب دبيب الموت في جسمه في ميعة صباه - اخذ يطوف بخطى بطيئة متمهلة في الغابة العزيزة على سنيه الأولى وينشد هذه الألحان:
(أيتها الغابة التي أحب! وداعاً ما بعده من لقاء. المنية تنشب أظفارها في جسمي. حدادك أنذرني بجدي العاثر. إني أرى في كل ورقة تساقط آية من آيات موتي
أي عرافة (أبيدور) المشئومة! لقد قلت لي:
(ستذوي أوراق الأشجار وستصفر في نظرك ولكن للمرة الأخيرة)
السرو الخالد المتموج المياد أرخى فوق رأسه أفنانه الطويلة وابتدرني قائلاً:(221/44)
(سيذوي شبابك. سيذوي قبل ذوي عشب المرج وعسلج الهضاب)
يا لله! هاأنذا أقضي نحبي. مسني قر نكباء حر جف
أرمي ربيع حياتي يتلاشى (كتلاشي الشموع في زفرة اللظى الحمراء)
تساقطي أيتها الورقة الزاهقة تساقطي!
غشاؤه على الأبصار وحجاب الأعين هذه السبيل
إنها تخفي علي يأس أمي مقري في الغد
ولكن إذا توجهت حبيبتي - مع دلوك الشمس - شطر المسلك المنعزل، شعثاء الشعر، مشقوقة الجيوب تبكي علي، أيقظي بهمساتك الخفيفة ظلي القرير.
قال ذلك، ثم طفق يبعد. . . وبلا إياب
الورقة المتساقطة أخيراً أعلنت انطفاء شعلته
تحت السنديانة شق لحده. ولكن حبيبته لم تأت لزيارة جدثه، وراعي الوادي هو الوادي هو الوحيد الذي يكدر صفو الرمس بوقع أقدامه
حماه (سوريا)
عارف قياسه(221/45)
تطور علم الكلام
في رسالة إنقاذ البشر من الجبر والقدر
للأستاذ محمد علي كمال الدين
تتمة ما نشر في العدد الماضي
يظهر للباحث عنوان المرتضى (بيان القدرة والمقدور) ومن قوله عن زعم جهم بأن ما يكون في العبد من كفر وإيمان ومعصية فالله فاعله. يظهر أن المرتضى يرى أن نظرية جهم في خلق الأفعال هي عينها نظرية القدر، وهي هي نظرية الجبر؛ وقد صرح بذلك في رسالته في معرض صفات الله عند نهاية صفحة 40 بقوله: (سبحانه وتعالى عما وصفه به القدرية المجبرة المفترون) وعليه يكون القدر في عنوان كتابه: (إنقاذ البشر من الجبر والقدر) عطف تفسير على الجبر
كما يظهر أيضاً من قوله: ولما أحدث جهم القول بخلق أفعال العباد قبل ذلك ضرار بن عمرو بعد أن كان يقول بالعدل فانتفت عنه المعتزلة واطرحته. يظهر أن النظرية العدلية كانت هي السائدة بين طبقات الأمة حتى بعد حدوث الاعتزال أي بعد القرن الأول، وأنها سبقت نظرية الاعتزال في الحدوث وسبقت نظرية خلق الأفعال؛ وأيضاً عند تدقيق أسطر المبحوث عنها ولا سيما ما يخص ضرار بن عمرو نستنتج النقط الآتية:
(1) إن واصلاً وعمراً هما رجلا الاعتزال وإن ضراراً كان معتزلياً؛ ونعرف هذا من أستتباع المرتضى انتفاء المعتزلة على ضرار بخروجه عما كان عليه واصل وعمرو بعد أن كان على رأيهما واخذ عنهما
(2) إن الزمن الذي حدث فيه الاعتزال هو عند المائة الأولى، ويدل على ذلك أن ولادة واصل كانت سنة 80 والعادة تقضي أن المرء لا يكون عالماً قبل أن يتجاوز العشرين من عمره وبإضافة العشرين إلى الثمانين تكمل المائة، وهو نتيجة طبيعية للتطور العقلي فإن للجدل العنيف بين طبقات الأمة في تكفير ذوي الكبائر أو تفسيقهم يؤدي عادة إلى خلق جماعة وسطى لذوي الكبائر منزلة بين المنزلتين
(3) إن الزمن الذي حدثت فيه نظرية خلق أفعال العباد يكون بعد المائة الأولى بدلالة(221/46)
اطراح المعتزلة لصاحبها ضرار لأنه وافق جهماً في نظريته الجديدة؛ ونرجح أن يكون الزمن الذي حدثت فيه النظرية هو المدة المحصورة بين وفاة الحسن البصري سنة 110 وبين مقتل جهم سنة 131. على أن هذا الزمن المفروض حري أن تحدث فيه النظريات العلمية لكثرة انتشار العلم والدرس مع ازدياد عدد العلماء وشدة تضارب الآراء والأهواء
(4) في هذا الظرف الذي حدثت فيه نظرية جهم ظهرت آراء ومقالات غريبة لم يصرح بها المرتضى؛ غير أنه أضاف في عرض حديثه عن ضرار انه خلط تخليطاً كثيراً وقال بمذاهب خالف فيها جميع أهل العلم. ولم أجد مسوغا للمرتضى في عدم تصريحه بنوع هذه الآراء في حين أن صاحب الملل والنحل ذكر كثيراً منها. ولو أن المرتضى ذكر بعضها لوجدنا من مقدمته سلماً كاملاً للتطور الفكري. ونعود الآن إلى بقية أجزاء المقدمة، قال:
(ثم تكلم الناس بعد ذلك في الاستطاعة فيقال إن أول من أظهر القول بأن الاستطاعة مع الفعل يوسف السمني، وإنه أستزله إلى ذلك بعض الزنادقة فقبله عنه؛ ثم قال بذلك حسين النجار وانتصر لهذا القول ووضع فيه الكتب فصارت مذاهب المجبرة بعد ذلك على ثلاثة أقاويل: أحدها أن الله تعالى خلق فعل العبد وليس للعبد في ذلك فعل ولا صنع، وإنما يضاف إليه لأنه فعله كما يضاف إليه لونه وحيويته، وهو قول جهم. الثاني أن الله تعالى خلق فعل العبد، وأن العبد فعله في استطاعة حدثت له في حال الفعل لا يجوز أن تتقدم الفعل، وهو قول النجار وبشر المريسي ومحمد بن برغوث ويحيى بن كامل وغيرهم من متكلمي المجبرة نحو الشاعرة وغيرهم)
قبل تحليل هذا القسم نلفت نظر القارئ إلى كلمة المرتضي (مذاهب المجبرة) بدون أن يقرنها بكلمة القدرية، فهي وإن لم تدل على رجوعه عن رأيه في مرادفة الجبر والقدر ولكن يشم منها حدوث كلمة جبر ومجبرة، وأنها غلبت في نسبتها إلى جهم وجماعته بدلاً من لفظة القدر التي حاول أن يهرب عنها الفريقان المتطاحنان، ولو أردنا التماس سبب لغلبة جهم في هذا التملص من صفة (القدرية) ربما وجدناه في مطابقة فهم العامة لمعنى كلمة الجبر مع النظرية ولا سيما وإن جهماً ونظريته وأصحابه فرس أقحاح، فهم أحرى أن يتحاشوا ويعملوا على الخلاص من وصمة الحديث (القدرية مجوس هذه الأمة)
ولنعد إلى بحثنا فقد استأنف المرتضى بحثه مراعياً تدرج الموضوعات بمقتضى تاريخها(221/47)
وتسلسلها الطبيعي فعرض لنا صورة من الجدل الذي جد بعد قرن وربع قرن بين علماء الجبر أنفسهم إضافة إلى النقاش الحاد بينهم وبين العدلية والمعتزلة؛ فهذا ضرار لم يأخذ بنظرية صاحبه جهم كما هي، بل حاول الجمع بينها وبين لون من الاختيار فقال: إن الإنسان وإن يكن مجبراً على خلق الأفعال فإن هذا الجبر لا يتنافى على رأيه مع الاستطاعة على القيام بالعمل، أي أنه لا يتنافى وجود فاعلين على أن يكون أحدهما كالقوة البخارية والثاني كالآلة المحركة؛ وزاد أن هذه الاستطاعة سابقة على حدوث الفعل بخلاف جهم الذي سلب هذه الاستطاعة من أساسها، وادعى أن إسناد الأفعال للإنسان على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة كما يسند إليه لونه وحيويته، وكما يقال أمطرت السماء، وكسفت الشمس، وخسف القمر إلى غير ذلك
والذي يرمي إليه المرتضى حدوث بحث وموضوع جديد في علم الكلام هو بحث الاستطاعة ولم يعين وقت حدوثه كما هي عادته ولكن سنة التطور العقلي تقضي بأن حدوثه إذا لم يكن في حياة جهم أي قبل سنة 131 فعقيب مقتله. على أن تعدد الآراء في بحث الاستطاعة مع تعقد النظريات يدل على طول زمن البحث فيها كما تقتضيه الأبحاث الفلسفية التي غمرت المجتمع بعد عهد المنصور أي بعد سنة 136. . . وعليه سوف لا يجد غرابة في بعد الزمن الذي حدث خلاله الرأي الثالث في الاستطاعة أو القول الثالث من أقاويل المجبرة كما اصطلح المرتضى وهو قبل سنة 189 أي قبل زمن وفاة يوسف بن خالد السمني صاحب هذا القول؛ على أنه إذا كان الرأيان أو القولان الأولان يقرران نفي الاستطاعة مطلقاً أو وجودها سابقة على الفعل فبمقتضى التطور لا مناص أن يكون القول الثالث هو حدوث الاستطاعة حتى الفعل حيث لا رابع لها. بقي علينا أن نعرف السبب الذي ساق المرتضى إلى نسبة هذا القول للزنادقة. أقول إن اقتران تحقق الاستطاعة مع الفعل صريح بأن هذا الاستطاعة أمر غير ذهني فلا يمكن أن يتصوره العقل مجرداً بل يتحقق خارجاً كما تتحقق الحرارة مع النار، وهذا عين مقالة الزنادقة القائلين بعدم وجود أمور ذهنية غير واقعة تحت الحواس، لذلك نسب المرتضى إليهم هذا القول
أما شخصية يوسف بن خالد السمني هذا وهل نسبته هذه إلى مذهب (السمنية) من مذاهب الهند القديمة فذلك ما لم أستطع تحقيقه الآن لانعدام المآخذ لدي(221/48)
ولكن الذي يلفت نظر الباحث اهتمام المرتضى بهذه المقالة: الاستطاعة مع الفعل، فقد جعلها مفتاحاً إلى مقالة كثير من المجبرة مثل بشر بن غياث المريسي المتوفى سنة 218، ومحمد بن عيسى الملقب ببرغوث، ويحيى بن كامل من أصحاب بشر، وأيضاً الحسين بن محمد النجار الذي وضع في هذه المقالة الكتب وغيرهم. فكأن المرتضى يشير إلى أن تاريخ اتساع علم الكلام وتشعب نظرياته عند المسلمين بدأ عند هذه المقالة ومنها أخذ يزداد توغلاً وعمقاً فكثر فيه المؤلفون والمجادلون والمجالدون؛ غير أن تحقيق تطور هذه النظرية الذي هو موضوع بحثنا يحتاج إلى دقة وبحث واستقصاء أكثر ولا سيما وقد شغلت عهداً طويلاً يبتدئ من سنة 131 ويستمر إلى سنة 218 وهو عهد وفاة بشر المريسي ثم إلى عصر الأشعري وهو سنة 300. والآن نأتي على آخر أجزاء المقدمة، قال المرتضى:
(ثم تكلم الناس من بعد ذلك فيما اتصل بهذا من أبواب الكلام في العدل واختلفوا فيه اختلافاً كثيراً والكلام في ذلك أوسع أبواب العلم)
فكان العدل هو العامل الأكبر في خلق علم الكلام فقد ابتدأ مع أول نظرية وهي نسبة المعاصي لله أو للعبد نفسه، واطرد مع جميع نظرياته، وأخيراً أصبح العدل موضوعاً مستقلاً لدى المعتزلة بل اصبح أوسع أبواب العلم كما يقول المرتضي؛ غير أن المجبرة والصفاتيه والأشاعرة تحاشوا التوغل فيه كما تتوغل المعتزلة
جدول تطور علم الكلام
الآن وقد أنهينا مقدمة المرتضي مع تطور علم الكلام الذي أرتاه وحاولنا البرهنة على صحة رأيه في هذا التطور فلا ندري إن كنا موفقين في بعض هذه البرهنة أو غير موفقين، غير أن القارئ ربما أدرك ما لاقيناه من العناء في هذا السبيل. وإكمالاً للفائدة رأينا أن نلخص رأي المرتضي بالتطور في الجدول آلاتي:
النظرية
أصحابها
نقيض النظرية
أصحابه(221/49)
الزمن
نسبة المعاصي لله
نسبتها للإنسان والقول بالعدل
السلف
من 60 إلى 100
تفسيق ذوي الكبائر وتكفيرهم
السلف والخوارج
منزلة بين المنزلتين
المعتزلة
100 - 110
القدر أو الجبر ونفي الاستطاعة
جهم بن صفوان
الاختيار ومطلق الاستطاعة
السلف والمعتزلة
110 - 131
الجبر والاستطاعة قبل الفعل وعنده
ضرار بن عمرو
الاختيار ومطلق الاستطاعة
السلف والمعتزلة
131 -
الجبر والاستطاعة حال الفعل
يوسف السمني وبشر المريسي
الاختيار ومطلق الاستطاعة
السلف والمعتزلة
131 - 218(221/50)
الجبر والاستطاعة حال الفعل
النجارية والأشاعرة
الاختيار ومطلق الاستطاعة
المعتزلة
218 - 324
نتيجة البحث ورأينا الخاص
يلاحظ القارئ أنا حاولنا أن نتلمس رأي المرتضي نفسه لنكشفه أمام القارئ كيما يمكنه أن يستخلص منه طريقة تطور علم الكلام. وقد آن لنا أن نعرض أمام القارئ آراءنا الخاصة والنتائج التي حصلنا عليها، وللقارئ أن يأخذ بها أولا يأخذ. وهي تتلخص في أربعة أمور: زمان علم الكلام، المكان الذي نشأ فيه، عوامل تكوينه، صبغته
(1) أما الزمن الذي نشأ فيه علم الكلام فهو عصر خلافة الإمام علي وحركات الخوارج وجدالها معه، وأول نظرية هي بحث المعاصي والكبائر وتكفير مرتكبيها سنة 38
(2) المكان الذي نشأ فيه علم الكلام هو العراق وبعض ما جاوره من بلاد الفرس بدلالة أن هذه الأقطار كانت منبت الخوارج ومراكز حروبهم ونظرياتهم فضلاً عن أن معظم علماء الكلام كانوا من أهل هذين القطرين
(3) إن عوامل تكوين علم الكلام لم تكن دراسية بالأساليب والمناهج التي نعرفها بل كونتها ثورة فكرية عامة صدع بها الدين والكتاب المقدس وسندتها قابلية الفرد والمجتمع وغذتها الخميرة العلمية الموروثة تلقيا وتلقينا من دراسة الأمم والمدارس القديمة من سريانية وكلدانية وحيوية وجنديسابورية وحرانية وعبرية وإسكندرية، فكانت هذه الثورة الفكرية بما كان لها من مقومات ومغذيات هي المدرسة الكبرى لعلم الكلام وناهيك بالمجتمع مدرسة عظمى سريعة النمو طيبة النتاج
(4) كانت صبغة علم الكلام منذ نشأته الأولى في الصدر الأول فطرية، فمشت نظرياته بمقتضى العقلية العربية الإسلامية، وقد كفلتها الذهنية الخصبة فتوصلت إلى نتائج تلك النظريات طفرة ومن دون تعمل، وأخذت بها كآراء صحيحة وإن لم تراع الترتيب والتبويب العلمي. ولا أظن أن هذا الأسلوب من الدراسة يمنع من أن ندعوه علم الكلام أو(221/51)
يمنع من اصطباغ معتنقي نظرياته بصبغة علماء الكلام. وعليه يكون لعلم الكلام دوران: أولا صبغته الفطرية وهي تبتدئ منذ سنة 38 وتنتهي سنة 136؛ والدور الثاني صبغته الفلسفية الحاضرة وتبتدئ منذ عصر الترجمة سنة 136هـ
وتقريباً للأذهان سنضرب للقارئ مثلاً يرتضيه الخيال ويتفق مع النواميس الاجتماعية، فربما أعطانا صورة لتلك الثورة الفكرية، وهذا المثال هي الثورة الثقافية والاجتماعية الماثلة لدى الشعوب والحكومات الشرقية التي استقلت بعد الحرب العامة فقد شاهدنا هاته الشعوب والحكومات كيف سارعت وتطورت في دراسة نواحي الاستقلال وما يلابسها من نظريات اجتماعية وسياسية ومدنية وقضائية وعلمية وفنية وعسكرية وما إلى ذلك من خصومات الحضارة الأوربية وأساليبها - درست جميع ذلك بطريقة عملية تلقينية وبأساليب التفكير والتجربة والتقليد إذ لم تكن لدى تلك الحكومات ما يصح أن يقال لها مدارس فنية أو عسكرية قضائية أو اقتصادية، ومع ذلك وجدنا ابن الريف والفلاح الأمي قد سارع في تلك البلاد إلى تلقي الأنظمة والفنون الحربية بما فيها آلاتها وأدواتها الميكانيكية كما وجدنا الحضري ساق السيارة والباخرة والقطار، والتاجر والصانع أصبح سياسياً أو إدارياً أو صحافياً أو مهندساً في حين أن معظم هؤلاء وأولئك لم يكونوا قد سمعوا بشيء في ذلك فضلا عن مشاهدته والقيام بما يتطلب. والأغرب من ذلك كله أن جميع هؤلاء الفنيين أو المدربين الشرقيين قد نجحوا ومهروا ببضعة سنين
ونحن نرى في هذا المثال صحة المقارنة وانطباقها مع تلك الموجة العربية الإسلامية كل الانطباق إلى درجة لم يبق معها مجال للحيرة والشك في سرعة قبول المسلمين لنظريات علم الكلام وفي كيفية امتزاج هذا العلم وأشباهه مع الدين الإسلامي
(العراق. النجف)
محمد علي كمال الدين(221/52)
في الأدب العربي
دعبل الخزاعي الشاعر المتمرد
للأستاذ عبد الحليم عباس
قال دعبل: مضى علي ستون عاماً ما تصرم منها يوم إلا وقلت فيه شعراً. وقد يكون مغالياً في هذا ولكن الشيء الذي ليس فيه مغالاة أنه نظم كثيراً أضعاف ما خلص إلينا، فقد ضاع الكثير من شعره؛ وليس هذا الضياع بالمستغرب، وإنما المستغرب أن يصل إلينا شيء من شعره فقد كان الرجل طلعة، ومرعباً بهجائه. وحسبك أن تعلم أن من جملة من أقذع في هجومهم خمسة من الخلفاء، وفئة صالحة من الأمراء والوزراء والقواد، ثم كان إلى جانب ذلك شيعياً. أفلا ترى أن الزمن كان متسامحاً إذ أبقى على شيء من شعره؛ على أن هذه البقية كافية للحكم على شعره، وتقديره من حيث الجودة، ولكنها لا تكفي أبداً لدراسته من الناحية النفسية، فليس يمكننا أن نعرف معرفة صحيحة أسباب تمرده، ولا أن نجزم في الحكم على بواعث ثورته؛ وقصارى جهدنا أن نفترض وأن نتخذ من الكلمة الصغيرة ترد في سيرته مفتاحاً للغوص على هذه النفس العجيبة. . .
كان البحتري يتعصب لشعره، ويفضله على مسلم بن الوليد، ويقول في أسباب هذا التفضيل: (إن شعره أدخل في كلام العرب من شعر مسلم. . .) أما إنه أدخل في كلام العرب من شعر مسلم فمما لا يمتري فيه اثنان، بل لعله أدخل في كلام العرب من شعر كل الشعراء الذين تقدموه في الدور الأول للدولة العباسية؛ وأما أنه خير من مسلم فالبقية الباقية لا تجيز لنا هذه المقارنة. هو متين السبك، شديد أسر التراكيب، فحل الأسلوب، حتى لو دعته الضرورة أن يقول شعراً في أقل الأمور التي لا تدعو إلى الاحتفال بالشعر ولفظه، قال:
أسر المؤذن صالحٌ وضيوفه ... أسر الكمى هفا خلال الماقط
بعثوا إليه بنيه ثم بناتهم ... ما بين ناتفةٍ وآخر سامط
يتنازعون كأنهم قد أوثقوا ... خاقان أو هزموا كتائب ناعط
وما هذا المؤذن الذي أسره صالح وضيوفه، كأنهم أسروا الخاقان وهزموا الكتائب؟ ديك دجاج لا أكثر ولا أقل. أتينا بهذه الأبيات، لندلل على أن دعبل لا يتنزل عن فحولة اللفظ(221/53)
حتى في أتفه المواقف. . ولكن واأسفاه لقد ضاع جلة هذا الشعر الفحل. ولنترك الآن الأسف والحكم على شعره فليس ذلك بمجٍد شيئاً. . ولندرسه على ضوء ما تبقى من شعره ومن سيرته
والآن أيهما الشقي بصاحبه: أدعبل وهو يحمل خشبته - على حد تعبيره - فلا يجد من ينزو به الغيظ وتثور به الحمية فيصليه عليها، أم أهل عصره وهم يتجرعون غصص ثورته، ويصطلون بنار هجوه، يمدحهم مرة فيغدقون عليه النعم، ويتملقونه بالهبات، عله يفيء إلى الرضا، ولكنهم ما يعتمون - لا لشيء إلا أن دعبل أراد - أن يرو الرضا ينقلب سخطا، والمدح هجاءً مقذعاً، لا تشفع فيه عارفة، ولا ينهنهه الخوف من سلطان.
لم يترك وزيراً ترهب صولته، ولا قائدا يخشى فتكه، إلا شنع عليه حتى الخلفاء رقى إليهم، فأقض مضاجعهم، وبعث فيهم من الوجل أضعاف ما بعث فيه سلطانهم. تصافي والمأمون - عقب هجائه لأبيه - فلا أذن سمعت، ولا قصيدة اشتهرت حتى كان كما يقول تاريخ عصره أول داخل على الخليفة، وآخر من يترك مجلسه، ولكنها أيام. . . وإذا ببغداد تنشد قصيدة جديدة في هجو الخليفة من نظم دعبل
ويأخذ الرشيد بطبعه، وهو الخامل بعد لم تعرفه أندية الشعر ولا محافل بغداد، وتصله هبته قبل أن تراه عينه، ثم يموت الرشيد فيكون رثاؤه إياه. . .
قبران في طوس: خير الناس كلهم، ... وقبر شرهم هذا من العبر
لا ينفع الرجسُ من قرب الزكىِّ ولا ... على الزكىِّ بقرب الرجس من ضرر
والرجس هاهنا هو الرشيد. . .
ونعجز إن نحن لاحقناه، نذكر من تصدى لهجائهم، فحسبك أن تعلم أنه لم يسلم منه - كما يقولون - أقرباؤه ولا عشيرته الأدنون، فقد هجا خزاعة، وما خزاعة غير قبيلته التي أراد أن يكون فيها نسبه، فالبعض يهمس همساً خفياً - فرقاً منه - أنه دعي النسب في خزاعة. فأيهما الشقي؟ اهو بعصره، أم عصره به؟
أما هو فقد استمرأ طعم الشقاوة، بل نظن أنه كان يجد فيها لذته
ما أطول الدنيا وأعرضها ... وأدلني بمسالك الطرق
الحق أن أهل عصره هم الأشقياء به، هو بلاء صب عليهم في أرفه العصور وأحلاها:(221/54)
لقد طبع - أبو علي - وهذه كنيته - على الهجاء، وما هو بالهجاء، وإنما الحريق يأتي على العدو والصديق، فم علة هذا؟ أهي نفس فطرت على الشر بطبيعتها؟ أم أن هناك دوافع وحوافز ساقته إلى النقمة وقسرته على هذا التمرد؟ هذا ما نحاول جهدنا أن نتلمسه في سيرته وما نأسف - من أجله - على ضياع الكثير من شعره
وأول ما يتبادر للذهن انه قد يكون في عقيدته الدينية تعليل لنقمته على عصره، فقد كان شيعياً كما أسلفنا، أشاد بمدح العلويين فمن المحتمل أن يكون انساق مع عاطفته الدينية، فاخذ يشنع على العباسيين، الخلفاء والوزراء وكل من له صلة بهم؛ على أن هذا إن يصدق على شاعر فعلي غير دعبل، فالعصر العباسي شهد ثلاثة من الشعراء المتشيعين، دعبل، والسيد الحميري، وديك الجن، واوسطهم أخلصهم للعلويين، السيد الحميري هو الذي اتخذ مدح العلويين مجالاً لشعره، أما الاثنان الآخران فقد كان تشيعهم من النوع الحقيقي - إن صح هذا التعبير - انهمك الشاعر السوري في رثاء جاريته وردة، وفي البكاء والحنين على جوار أخر. . . أما دعبل فقد وجد في الهجاء متسعاً يلهيه عن التشيع. . . لم تعرف له في العلويين قصيدة عبقرية خلا واحدة
مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ ... ومنزلُ وحيٍ مقفر العرصات
صحيح أنها صادقة اللوعة، تنم عن إخلاص، وهو شيء لا ننكره، وإنما الذي نذهب إليه وتؤيده سيرته نفسها أن يكون مصدر نقمته على الذين هجاهم نظرته إليهم كمغتصبين أو كأعوان لمغتصبي حق أبناء علي، وإلا فما يمنعه أن يلمح إلى أفضليتهم في خلال هجائه للعباسيين على الأقل؟ مرة واحدة ذكرهم في هجو الرشيد
وليس حيٌ من الأحياء نعرفه ... من ذي يمان من بدو ومن حضر
إلا وهم شركاءٌ في دمائهم ... كما تشارك أيسارٌ على جزر
وليس يرد على هذا المأمون جد في طلبه لهذه القصيدة فغير دعبل يستشعر الخوف، أو يتدبر العواقب. أليس هو القائل للمأمون نفسه:
إني من القوم الذين سيوفهم ... قتلت أخاك وشرفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واسترفعوك من الحضيض الأوهد
والقائل المتوكل:(221/55)
ولست بقائل قذعاً ولكن ... لأمر ما تعبدك العبيد
وللمعتصم:
ملوك بني العباس في الكتب سبعةٌ ... ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... خيارٌ إذا عدوا وثامنهم كلبُ
وشيء آخر إذا كان كرهه للخلفاء، ومناصبته إياهم العداء، تشيعاً لأبناء علي، فما ذنب أقربائه؟ ما ذنب عشيرته خزاعة، بل ما ذنب هؤلاء الذين ليس لهم من جريرة غير موافقة أسمائهم للقافية في شعر دعبل
ما جعفر بن محمد بن الأشعث ... عندي بخير أبوة من عثعث
عد البيوت التي ترضى بعشيرتها ... تجد فزارةً العكلي من نسبك
إذن فلم تكن العقيدة الدينية هي كل السر في هذه الثورة، وعامة هذا الهجاء، لعله تعصبه للقحطانية على النزارية، لا على الأرجح، لأن من بين من هجاهم من ليسوا من نزار، بل نظن أن هذه كلها دوافع جاءت متاخرة، وإنما السر كله في تركيبه
يقول لأحد أصدقائه: ما كانت لامرئ عندي من منةٍ إلا وتمنيت موته. فما عسى يرى علماء النفس في هذه الخاطرة؟؟ أباء منحرف عن وجهته؟ كيفما يكن فما هو بالرجل الخير هذا الذي يود أن يكافئ المحسن إليه بتمني الموت له
وما ترى فيمن تهتاج نفسه لقول الشعر، فتضيق عليه فنون الشعر إلا أن ينشئه هجاء، فإذا سأله سائل: لمن؟ قال: (لم يستحقه أحد بعد، حتى إذا ما لاحاه أحد، ذكر اسمه فيه، ونشره في الناس
ودعبل يعلل هذه الظاهرة في نفسه بأن الهجاء آخذ بطبع الشاعر من المديح وأن الناس له أرهب. وقد قال مثل هذا بشار وقد يكون بشار صادقاً بالقياس لنفسه، بل هو صادق ما في ذلك شك، ولكن دعبلاً قد أخطأ في تعليل ظاهرة الهجاء فيه؛ إنه مسوق إليه بطبيعته، إنه يفتن فيه، ويتخذه مجالاً لفنه، كما يتخذ بعض الشعراء الغزل مجالاً للقريض
وعدا هذه الطبيعة المتمردة والناقمة فيه منذ نشأته الأولى، فقد كان يرافق الشطار واللصوص، واتهم مرة بالقتل
وبقي هذا الخلق ملازماً له كل حياته، فكان يلاقي قطاع الطرق يؤاكلهم ويؤانسهم، فلا(221/56)
يؤذونه (ولا هو يتعرض لهم بأذى) قال أحدهم: ما زلت أعرف فيه مشية الشطار
هو ناقم ولكنك لا تلمح فيه هذه النقمة إلا هينة لينة، فلا يشكو الزمن كما يشكوه غيره من كبار الناقمين، كأنه أعلى من أن يضج بشكوى. . .
حملت على زمنٍ ظالعٍ ... فوف تكافى بشكر زمن
وهو إذ يتهجم على الأحياء ويستفد جهد ثورته، لا يوازن بين قدره وأقدارهم كما يفعل ابن الرومي في الهجاء، ولعل مرد هذا إلى أن دعبل لم يكن معجباً بنفسه كما كان ابن الرومي الذي أضعف أدواته الشعر
وإذا كان الهجاء آخذا بطبع الشاعر، فما باله يكره ملاقاة الخلفاء أمنية كل شاعر؟ أراد ابن المدبر أن يقدمه للخليفة فاعتذر أحد أصدقائه: إن أبا علي موسوم في الهجاء ومنيته أن يخمل ذكره. فقال دعبل لصديقه: ما عدوت الذي بنفسي
ولسنا نحب أن نختم هذا الفصل دون أن نشير إلى شيء من التسامح الذي تحلى به عصره. أحب أبو مسعد المخزومي أن يوغر عليه صدر المأمون فأنشد هجاءه فيه، فقال: أجبه، قال: لو أمرتني أن آتيك بالذي على منكبيه لفعلت. قال: أما هذه فلا. . .
إن العصر الحديث جد محتاج إلى ملوك وأمراء ووزراء يستبقون القتل والسجن لغير رجال الأدب
(شرق الأردن)
عبد الحليم عباس(221/57)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
حكمة البشر
ليست الأعالي ما يخيف بل الأعماق، فعلى الجرف تحدق العين في الهاوية وتمتد اليد نحو الذرى فيقبض الدوار بالإرادتين على القلب
أفتعلمون أيها الصحاب ما هي إرادة قلبي المزدوجة؟ إن الخطر المحدق بي على منحدري إنما هو اتجاه نظري إلى الذروة بينما تتلمس يدي مستنداً في الفضاء. وما أعلق إرادتي إلا على الإنسان فتشدني إليه مرهقات القيود لأنني منجذب منه إلى الإنسان المتفوق فإليه تندفع إرادتي الثانية. إنما أنا أحيا بين الناس كالضرير لا يعرف من حوله، كيلا تفقد يدي ثقتها من الوقوع على مستند مكين
أنا لا أعرفكم، أيها الناس، تلك هي ظلمتي أتلفع بها وتعزيتي ألجأ إليها
فأنا جالس أمام الباب متوجهاً إلى الأوغاد صائحاً بهم: إلي يا من يريد أن يخدعني
إن أول حكمة بشرية أعمل بها هي أن أستسلم لخداع الناس فلا أضطر إلى الوقوف أبداً موقف الحذر لأن في الناس من يخدعون
ولو أنني وقفت هذا الموقف في العالم أكان يتسنى للإنسان أن يثقل منطادي فيمنعه من الانفلات والانطلاق إلى أبعد الآفاق؟
إن إغفالي للحذر إنما هو عناية تسهر علي لإيصالي إلى ما هو مقدور
إذا أنت امتنعت عن الشرب من كل كاس فإنك هالك ظمأ، فإذا أردت أن تبقى طاهراً بين الناس فعليك أن تتعود الاغتسال بالماء القذر
لكم ناجيت قلبي، فقلت له: صبراً أيها القلب الهرم، إنك لم تفلح بهذه النقمة فتنعم بها كأنها نعمة
وهذه حكمتي البشرية الثانية: إنني أداري المغرور بأكثر مما أداري الفحور، لأن الغرور الجريح مبعث كل النائبات، في حين أن العزة الجريحة تستنبت جرحها ما هو خير منها(221/58)
إذا لم يحسن الممثلون لرواية الحياة أدوارهم فيها فخير لك ألا تشهدها؛ وليس أمهر من أهل الغرور في التمثيل لأنهم يقومون بأدوارهم وكل إرادتهم متجهة إلى اكتساب رضى المشاهدين وإعجابهم، وهم لا يدخرون وسعاً في سبيل خلق شخصيتهم وتمثيلها، لذلك يلذ لي أن أنظر من خلالهم إلى الحياة فهم خير دواء للسوداء. إنني أداري أهل الغرور لأنهم أساة أحزاني المقيمون الإنسان ممثلا أمام عياني
وفوق ذلك فمن له أن يسير الأعماق في تواضع المغرور فأنا أريد له الخير وأشفق عليه بسبب اتضاعه، فهو يريد أن يقتبس منكم ثقته بنفسه متغذياً من نظراتكم، متسولاً الثناء من تصدية أكفكم. إن المغرور ليصدق أكاذيبكم إذا ما أحسنتم إيرادها عنه، فما هو إلا حائر يشك بأعماق نفسه في قيمة نفسه
إذا كانت الفضيلة الحقيقية تجهل ذاتها فالمغرور كذلك لا يعرف شيئاً عن تواضعه
أما حكمتي البشرية الثالثة فقائمة على إنني لا أدع لاستحيائكم سبيلا إلى تنفيري من مشاهدة الأشرار، فأنا أسر بالنظر إلى ما تخلق حرارة الشمس من عجائب المخلوقات كالنمور وأشجار النخل والأفاعي ذوات الأجراس. ولكم بين الناس مثل هذه المخلوقات العجيبة أفقستها حرارة الشمس أيضاً، وفي الأشرار أيضاً من البدائع الشيء الكثير. . .
إن أوفركم عقلا لا يبلغ في نظري منتهى الحكمة، كذلك لا أرى الشر إلا مبالغاً في وصفه. ولكم تساءلت مشككا: لماذا لا تزال الأفاعي تطن بأجراسها؟
إن لكل شيء مستقبله حتى الشرور، فالظهيرة البالغة التناهي في إشراقها لم تنكشف للإنسان حتى اليوم. لكم من أمور تعتبر شروراً في هذا الزمان وهي لا تتجاوز الثلاث عشرة قدماً حجماً، ولا الثلاثة أشهر بقاء، وغداً سيولد ما هو أعظم منها. ولا بد من أن تخلق الحياة التنين المتفوق خليقاً بالإنسان المتفوق، فان شموساً محرقة ستدخل حرارة الإبداع في الغابات الغضة الرطبة لم تمسسها يد بعد
لا بد من أن تصبح وحوشكم نموراً وعقاربكم تماسيح، فيجد القناص في الغاب ما يرضيه
والحق أن فيكم كثيراً من المضحكات يا رجال العدل والصلاح. ولشد ما يضحكني خوفكم ممن دعوتموه إبليساً. لقد بعد المجال بين روحكم وكل عظيم، فإذا ما لاح لكم الإنسان المتفوق بصلاحه أورثكم خوفاً ورعباً. فانكم، ايها الحكماء والعلماء، ستولون الأدبار إذا ما(221/59)
لفحتكم الحكمة المشعة على الإنسان المتفوق في غبطته وعريه.
لقد وقعت عيني عليكم، آيها العظماء، فأدركت هذا السر، وهاأنذا أعلنه لكم، إنكم ستصفون الإنسان المتفوق الذي أنبئكم به بأنه شيطان الشياطين.
أتعبني هؤلاء العظماء، وأشدهم إرهاقاً أوفرهم عظمة، فأنا أتوق إلى اجتياز مرتبتهم فأفوتها وأنا أتجه إلى الإنسان المتفوق
لقد عرتني هزة عندما شاهدت خيار العظماء في عريهم فشعرت بجناحين استنبتهما ساعداي لأحلق بعيداً عنهم في آفاق الدهور الآتية. إنني أتوجه إلى الدهور البعيدة، إلى الظهيرات الغارقة بأنوار لم يحلم بها الفن من قبل، فهنالك تتجلى الآلهة خجولة من كل ما يقع من حوادث على الأرض.
ليتني أراكم متنكرين، أيها الاخوة والأقرباء، أهل الصلاح والعدل، فتبدون بحللكم وقد نفخها الغرور، وليتني أجلس بينكم متنكراً أنا ايضاً، كيلا أعرف من أنتم ولا أعرف من أنا، لأن هذه آخر حكمة من حكم البشر.
هكذا تكلم زارا. . .(221/60)
مناجاة. . .!
حبيبي! إنْ دنا ثغري ... إلى خدَّيْك لهفاناَ. . .
فلا تغضَبْ! فقد يُغرى الْ ... هوى باللثم أحياناَ!
وما ذنبي إذا ما كن ... تُ في وجدي مِنَ الناسِ؟!
هو الحبُّ! وما في الحبِّ (م) ... يا فتَّانُ مِن باسِ
فقم نمرح مع الأطيا ... ر إنَّ الله يرعاناَ!
وبادِلْني - فداك الرُّو ... ح - أنفاساً بأنفاسِ!
حبيبي! نم على كَفِّي ... لأروي العين مِن حُسْنِكْ!
وأسقي روُحيَ الظَّمْأَى ... إلى الأنوار مِن دَنِّكْ!!
وأطوي ساعةً همِّي ... وآلامي وأكدارِي
وأحيا بين أحلامي ... وأنغامي وأشعاري
وترنو ساعةً عينا ... يَ في صَمْتٍ إلى عَيْنِكْ!
وثغري خاشِعُ يمُلىِ ... على أذْنَيْكِ أسْرَارِي!
حبيبي! هاتِ لي وحدِي ... رحيق الخلْدِ مِن ثغرِكْ!
ودعني ارشف الألحا ... ن والأشواق مِن شَعرِكْ!!
لأهدِي نفسِيَ الحيْرى ... واروِي قلبيَ الصَّادِيَ
وأسْتاَفُ الصَّباَبة والْ ... هوى مِن نورك الهادِي!
عشقتُ الحسْنَ فيكَ وما ... عَشِقْتُ الحسْنَ في غيْرِكْ!!
فهيَّا قم بنا نشدو ... مع الأطيار في الوادي!
عبدْتُ اللهَ في محِرَا ... بِ أشواقي وأشجانِي!
وفيما شاهدَتْ عيْنيِ ... وفيما قال شيطانِي!!
وفي الأطيار والأنها ... ر والأزهار والعُشْبِ
وفي حِسِّي وفي رُوحِي ... وفي نفسِي وفي قلبي!
وفي الحسْناءِ أُبْصِرُها ... فأهواهاَ وتهواني!!
وأنشدها من الأشعا ... ر ما يوحيه لي حُبِّي!
وداعاً يا هوَى نفسِي ... عرفْتُ الحبَّ والوَجْدَا!(221/61)
ومَن تامَتْهٌ غانيةٌ ... يرى في غَيِّهِ رُشْدَا!
وداعاً! قد وهبْتُ الحبَّ (م) ... آهاتي وأنفاسي
وأوهامي وأحلامي ... وتفكيري وإحْسَاسِي!
فدعني! ليس في دُنْياَ ... يَ ما يُرْجى وما يُهدا!
فلم يترك ليَ المحبو ... بُ ما أعطيهِ للنَّاسِ!!
(إسكندرية)
محمود السيد شعبان(221/62)
حظي من الناس!
// لي الله من مستهدف شفَّه السقم ... فليس له روح يقوم بها جسم
مشت في حياتي والشباب مصاحبي ... هموم لها في محو آثاره هُّم
حياة يعاف الهامدون صروفها ... وينكر مسراها به الدم واللحم
لأجمل منها في تجهمه البلى ... وأحلى مذاقاً من لذاذتها السم
نصيبي من دنياي مالأ أحبه ... وحظي من أبنائها الكاشح الفدم
وحولي ممن يظهرون لي الرضا ... قلوبٌ إذا هبت سخائمها سحم
محضت صحابي الأقربين مودتي ... وباعد عني كيد أعدائي السلم
فمالي أصلي الشدّ في وحدتي وما ... لقلبي تغشاه الكآبة والغم
وما للآلي في الغيب قد نذر وادمي ... وجوههم تندى وأحقادهم تنمو
إذا لم يكن غير الرياء خليقة ... فأجدى لهذا الكون من أهله العقم
ألا أيها الشاكي الذي ليس ينتهي ... متى ينجلي عن فجر أيامك الوهم
طويت على يأس شبابك كله ... ولو شئت لم تيأس ولم يرعك السقم
أتشقى بما قالوا ويؤذيك ما لغوا ... وتشفق من عدوانهم كلما هموا؟
وتجزع إما نال منك معاشر ... ضئال لهم في كل مخزية سهم؟
عزاءك إن ضافت فؤادك غمة ... فإِن سمام البغي ترياقها الحلم
وصبرك للأعداء أنفي لكيدهم ... وشكواك من ظلم اللئيم هي الظلم
(حمص)
رفيق فاخوري(221/63)
القصص
من أساطير الاغريق
غرام أورورا
للأستاذ دريني خشبة
رأته على رمال الهلسبنت يرتع ويلعب، فوقفت تملأ عينيها وقلبها بجماله، ثم نظرت إليه وهو يداعب البحر المضطرب، ويتواثب فوق عبابه الزاخر، فسحرها قوامه، وفتنتها قسماته، ونسيت أنها ربة الفجر الوردية الهيفاء، وأن من ذكران الآلهة من هو أكثر من هذا الشاب تيتون - بن بريام ملك طروادة - جمالاً وأشد فتنةً وأخلق بحب ربة جميلة لعوب مفتان، مثل أورورا. . . ولكن ماذا يصنع أهل هذا العالم في قلوبهم، ولا سلطان لأحدهم على فؤاده؟ يستوي في ذلك الأرباب وغير الأرباب
لقد كان تيتون يتقلب بين الموج، فتتقلب نفس أورورا في جحيم من الهوى، وتتلظى في سعير من الحب، وتنجذب نحو الفتى الجميل المفتول بكل ما فيها من نورانية وقداسة. . . وكان يبرز من الماء ليستجم على الشاطئ الناعم الوادع، فتكاد تجن به، وتود لو ترشف قطرات الماء التي تنحدر على جسمانه ذي العضل وتتلألأ في ثنايا شعره الأسود الفاحم
وطفقت توسوس لها نفسها المغرمة بالأماني! وتزخرف لها الأحلام، فصممت أن تتكشف له، وتتبرج على مقربة منه، وتدل وتميس، عسى أن تأسر لبه، وتسبئ قلبه، فيسلس قياده، وينخذل فؤاده، دون مشقة أو عناء. . . ولكن تيتون أبى، واستكبر قلبه أن يلين؛ ولم يستطع ذلك المرمر الناصع الذائب في ساقيها، ولا هذا الورد المتفتح في خديها، ولا الأبالسة الراقصة في عينيها وفوق ثدييها، أن ترقق من عناده، أو تنتصر على فؤاده، أو تسكب في نفسه صبابةً أو هوى
- إذن أنت ما تشتهي!
- أشتهي ماذا أيتها الغادة؟ أذهبي فاعرضي مفاتنك الرخيصة على غيري!
- ومن أنت حتى تكلم أورورا ربة الفجر هكذا؟
- أورورا؟ كيف؟ ما يدريني؟(221/64)
- أجل، أنا أورورا. . . انظر
وأخذت ترف في الهواء، وتسبح في السماء، وتغوص في الماء، وتأتي من آيات الإعجاز ما بهر تيتون
- الصفح إذن يا ربة؟!
- لا صفح إلا أن تهب لي حبك، وتلقي بين يدي قلبك!
- وكيف، وأنا بشري عاجز، ولا ألبث أن أفني في بضع سنين، وهذا أبي الضعيف الشيخ قد خطب لي حسناء من بنات الملوك؟
- (أما أنك عاجز فلا؛ وأما أنك لا تلبث أن تفنى في بضع سنين فسأهبك الخلود، وسيخلعه عليك زيوس سيد الأولب فلا تموت أبداً، بل تحيا كالآلهة إلى لا نهاية الأزل؛ وأما أبوك الضعيف الشيخ فلا أحب إليه من أن يراك في كل ما ذكرت، ولا سيما إذا علم أنني سأكون لك من دون هذه الفتاة التي خطبها لك، والتي لا تلبث أن يخط الشيب رأسها، ويعصر الزمان عودها فتجف، وتذوي، وتحملها أنت كأثقل الأعباء إلى القبر. . . حيث الدود والذباب، والكلاب والذئاب. . .)
- ولكن. . . ألا تأذنين لي في لقاء أبي؟
- لن يكون هذا أبداً. . .
- هذه قسوة يا ربة!
- ستفتنك هذه القسوة بعد قليل
وانطلقت تداعبه وتلاعبه، وتضاربه وتقالبه، حتى زالت عنه وحشته، فأنس إليها، وأقبل بكل مشاعره عليها، واتفقا على الرحيل من فورهما إلى اولمب، فانطلقا يطويان الرحب
- من هذا يا بنية؟
-. . .؟. . .
- صيد جميل، ومجازفة جديدة؛ أليس كذلك؟
- أجل يا أبي، وليست مجازفات أبنائك أروع من مجازفاتك
- مجازفاتي أنا؟ أية مجازفات يا أورورا؟
- مجازفاتك الغرامية التي لا تحصى مع الغيد الرعابيب من عبادك(221/65)
- أي غيد رعابيب يا أورورا؟ جراءة بالغة!
- لعل الإله الأكبر، سيد الأولمب، قد نسى! على كل حال فسيدة الأولمب حيرا العظيمة لا تنسى. . . لقد شهدتك تلهو مع يو، وتعبث مع لاتونا، وتتساقى كؤوس الغرام مع يوروبا. . و. . . و. . .
- أسكتي. . . إنك ابنة لا خير فيك. . . وماذا تبتغين لهذا الشاب الغرانق الجميل يا أورورا؟
- الخلود. . . الخلود يا أبي. . . ينبغي أن يعيش أبداً. . . لن يموت. . . لن يموت. . . ألا تراه جميلاً يا أبتاه؟ ألا تبهرك منه وسامته وقسامته؟ ألا تنظر إليه كيف هو عبل قوي عبقري سمهري؟ لقد لقيته عند شاطئ الهلسبنت، ورأيته يشق اليم فعلقه قلبي، وهويته نفسي. . . وكان الموج يلفه في أعرافه، ثم يسجد تحت قدميه كأنه يقبلهما، فلما خرج من الماء، رأيت الدنيا كلها تحف به، وتغازله وتناغيه، فلم أر أن يفوز به غيري، ولا أن يستأثر بجماله سواي، وقد رضى أن يتبعني إلى أولمب، فتفضل يا أبتاه وامنحه الخلود، فالموت لمثل هذا الجمال قسوة هائلة، وذبول هذا الحسن شيء مخيف جداً. . . ينبغي أن يعيش إلى الأبد حبيبي تيتون. . . أليس كذلك يا أبي؟ أليس كذلك؟ أليس خليقاً بالخلود كالآلهة؟
وتقدم تيتون فسجد بين يدي سيد الأولمب، وتفضل رب الأرباب فمنحه الخلود. . . وا أسفاه! ألا ليته ما فعل. . . ألا ليته ما فعل؟!
قال زيوس وهو يحدث نفسه:
(أذهبي يا أورورا، سأعذبك بهذا الحبيب، وسأنتقم لكبريائي منك، وسيكون تيتون عبئاً ثقيلاً على قلبك، وسيعيش إلى الأبد بجانبك كما اشتهيت، وسأعلمك كيف تستحبين أن تكلمي أباك كما فعلت. . . فوعزتي وجلالي لأعذبنك بألف حبيب وحبيب!)
وعاشت أورورا مع حبيبها أحسن عيش وأجمله، واستمتعا بسنين كانت أشهى من الأحلام، وأنجبا طفلهما اليافع الجميل ممنون فكان لهما كالقبلة الحلوة فوق ثغر الحياة الباسم
ومرت الأيام، وأورورا جميلة وردية كما هي، لأنها ربة، ولأن قوانين الزمان من قدم وحداثة لا تجوز على الآلهة لأنه لا أول لهم ولا انتهاء؛ فأورورا جميلة دائماً، وردية أبداً لا(221/66)
يني قلبها يخفق بالحب وينشده، ويهيم بالجمال ويفتقده، ونفسها عاشقة وامقة كذلك، وإن أماني الغرام تجيش في صدرها دواماً، فهي إن خلت إلى حبيبها تيتون ألزمته فنوناً من العزل، وضروباً من النجوى، إذا صبر لها الشباب، واحتملها الصبا، فليس المشيب بصابر لشيء منها، ولا محتمل القليل الأقل من تكاليفها، ولا له جلد على أفانينها
- ما هذه الشعرة البيضاء التي بزغت في سواد شعرك كما تبزغ نجمة الفجر في أخريات الليل يا حبيبي؟
- (أية شعرة بيضاء يا أورورا؟ ربما كانت نذير المشيب يا حبيبتي!
- (المشيب؟! كلمة غريبة لم اسمعها إلا منك! ماذا تعني؟
- آه! أنتم معشر الآلهة لا تعرفون المشيب، أما نحن، معشر البشر، فسرعان ما يذهب صبانا، ويولي شبابنا، فنشيخ ونهرم، وتصبح لنا رؤوس مجللة بشعر أبيض يشبه إبر الشوك، يقول الشعراء إنه نور قبيح يسعى بين أيدي الكهول ليشق لهم ظلام القبور!!
- يا للهول؟ إن هذا الضرب من خيال الشعراء يخيفني!
- اطمئني! أنا باق إلى جنبك آخر الدهر. أليس قد وهبني الخلود سيد الأولمب؟
- بلى! ولكن. . .
- لكن ماذا؟
- هذه الشعرة البيضاء التي قال فيها شعراؤكم ما قالوا؟
- الشعرة البيضاء؟ ما لها هذه الشعرة البيضاء؟ ليست شيئاً ما دام سيد الأولمب قد وهبني الخلود؛ إن الذي أفزع الشعراء من الشيب هو ما ينذر به غروب شمس الحياة!
- ولكن الشعرة البيضاء تنذر بأكثر من هذا؟
- آه! قد فهمت ما يوسوس في صدرك؟ ألم أعد جميلا يا أورورا؟
- بل أنت ما تزال جميلا يا حبيبي.
- إذن لا عليك من هذه الشعرة البيضاء.
وتمتعا سنوات أخريات؛ ولكن الشعرة البيضاء أصبحت شعرات وشعرات، حتى غلب نور المشيب حلك الشباب؛ ولم تعد لطرة تيتون المصفوفة تلك النضارة وهذه اللمعة، وذلك السحر الذي كان يرف مع النسيم على جبينه المشرق الناصع فيثير الغرام في قلوب(221/67)
العذارى. . . بل حال لونها الأسود الفاحم، ونبت فيها قتاد شائك تنفشه الرياح على جبين متغضن بآسر ذي أسارير، يبعث الرهبة في أفئدة العفاريت!
- تيتون!
- نعم يا حبيبتي!
- لا! لا! لا تناديني بهذا النداء.
- ولمه؟
- لم يعد يصلح. . . لقد اشتعل رأسك شيباً، وتغضن جبينك، وترهل خداك وبرزت عظامهما، وغارت عيناك جداً وانطفأ فيهما بريق الشباب الغض، والصبي الغريض. وعضلاتك لقد عصرتها السنون يا تيتون! وي! مالك تنحني هكذا؟ هل ضاعت منك درة ثمينة، فأنت تبحث في أديم الأرض بعكازك هذا الغليظ؟ آه! بل ضاع منك شبابك أيها الشيخ الهرم فأنت تبحث عنه في هذا الثرى!
- حسبك يا أورورا. . . حسبك يا ربة!
- (لا، أبداً، ليس حسبي، أغرب عني أيها المسخ الشائه ظل في عقر الدار حتى أرتد إليك!!
وانطلقت ربة الفجر الوردية غاضبة صاخبة، وذهبت تطوي الفيافي وتهيم في الرحب، حتى كانت من غير قصد عند شاطئ الهسبنت، حيث لقيت لأول مرة حبيبها الجميل الشاب تيتون أبن بريام ملك طروادة، منذ نصف قرن من الزمان!! أواه تيتون!! يا للذكريات الحلوة التي تطيف بالقلب كما تطيف أطيب الأحلام بعيني نائم!! هنا، على رمال ذلك الشاطئ الهادئ، وبين طيات ذلك الموج الذي يبدو كأنه لم يتغير، رأت أورورا الوردية تيتون البارع، وشعره الأسود الفاحم يتهدل على جبينه الوضاح، ثم لا يلبث أن يستوي حين تمر عليه أمشاط الأمواج. وهنا. . . ثارت عاصفة الغرام القديم في قلب ربة الفجر الوردية لأول مرة، وشب لظى الحب ملء جوانحها. . . وفوق هذه الرمال السافيات تكتشف أورورا لتيتون الفتى لتخلب لبه وتملك عليه قلبه، ولكنها ما استطاعت إلى ذلك من سبيل، حتى تقلبت تحت قدميه، وتبرجت بين يديه، فرضى ما عرضت عليه، وانطلق معها إلى أولمب! فما لها اليوم غاضبة على تيتون؟(221/68)
مشت على شاطئ غرامها الأول فثارت في فؤادها الذكريات وأرسلت عينيها تفتش بين طيات الموج الجياش عن تلك الصورة الحبيبة الرائعة، التي تطفو هناك. . . هناك فوق ذاك الثبج كحلم جميل. . . صورة تيتون وهو يصطرع مع اليم فيصرعه، ويغالب اللجة فينتصر عليها. . . ثم جلست على صخرة مشرفة على البحر الممتلئ بالذكريات. . . وطفقت تبكي!
لا ريب أنها عنفت نفسها على ما صنعت أمس مع تيتون! ما ذنبه؟ ما جريرته؟ بأي حق تنعى عليه شيبته ولا يد له فيها؟ ولماذا تخزه بقوارص الكلام لأن جبينه تغضن وأمتلأ بأسارير الكبر؟ ولماذا تعيب عليه عينيه الغائرتين المنطفئتين؟ ولم تذكره بشبابه وتتهكم عليه فتقول له إنه يبحث عنه بعكازة في التراب؟
لا ريب أنها كانت قاسية، ولا ريب أنها لامت نفسها، لأن كل تلك الأفكار ترددت في أعماقها؛ وقد سألت روحها المتألمة ألف سؤال فلم تستطع أن تراها محقة فيما صنعت. . .
وعادت أورورا أدراجها إلى تيتون البائس الهرم فهشت له وبشت، وراحت تملق له، وتتحايل على قلبها ترجو لو تستطيع ن تخدعه فيسيغ هذه الكومة المتراكمة من القبح والشوه والدمامة؛ قبعت في ركن سحيق تحمل أوضار السنين وتنوء بكارثات الليالي
ولبثت تتغفل نفسها بضع سنين؛ ولكن للآلهة كما للبشر قوة محدودة من الاحتمال، ومدى غير واسع من الصبر؛ وقد جاهدت أورورا نفسها مجاهدة طويلة شاقة، عادت بعدها إلى التبرم بتيتون، والضيق بشيخوخته الثقيلة، والنقمة على تلك اللحظة الأسيفة التي لقيته فيها، ونوبة الجنون التي جعلتها تتورط لدى سيد الأولمب فتسأله أن يهب حبيبها نعمة الخلود
- وفيم كل هذا الحزن يا أختاه؟
- وما العمل للخلاص منه؟
- أنت المخطئة، ذلك لا ريب فيه
- مخطئة! وكيف؟ هل كنت علمدة أن أقصد إلى الهلسبنت لأراه ثمة؟
- أبداً وليس هذا ما عنيت
- إذن كيف كنت مخطئة؟
لأنك سألت سيد الأولمب أن يهب حبيبك الخلود، ونسيت أن تسأليه أن يديم له شبابه،(221/69)
ويحفظ عليه صباه. إذن كنت تمتعت بجماله الفتان أبد الحياة!! أليس كذلك يا أورورا؟
- بلى، هو ذاك ولكن. . . لقد سبق السيف العذل!
- على كل حال هناك من هو أجمل من تيتون فلا تبتئسي
- أجمل من تيتون؟ وكيف الخلاص من تيتون قبل كل شيء؟
- (لا أيسر من ذلك، إسحريه!
- أسحره؟! آه، أسحره؟ فكرة يا أختاه! ولكن من هو هذا الشاب الوسيم الذي عنيت أنه أجمل من تيتون؟
- وي! لابد من صيد آخر قبل أن تطلقي سراح الصيد القديم؟!
- لا بد يا أختاه لابد؟
- إذن فاذهبي إلى جبل هيماتوس حيث يرعى سيفالوس الجميل قطعانه!
- (ثم. . .؟
- ثم عودي فاسحري تيتون واخلصي منه!
- وماذا ترين أن أسحره إليه؟
- إنه عجوز هرم يدب على عكاز. . . ألا تسحرينه (نطاطا)؟
- بلى! فكرة أخرى نابغة يا أختاه!
ولقيت أورورا حبيبها الجديد سيفالوس الراعي فهويته وشغفته حبا؛ أما تيتون فيا ويحه، ويا ويح للعشاق من قلوب العذارى!
إنه ما يزال إلى اليوم يثب مع آلاف الجنادب في الحقول والغيطان بعد إذ سحرته أورورا
دريني خشبة(221/70)
البريد الأدبي
مصاير تراث أسبانيا الفني
ماذا كان مصير ذخائر أسبانيا الفنية بعد عام من حرب أهلية طاحنة سحقت في طريقها كل شيء؟ لقد أثار مصير هذا التراث الفني العظيم جزع جميع الدوائر العلمية والفنية في جميع أنحاء العالم، وهو جزع من حقنا أن نشاطر فيه بنوع خاص؛ ذلك أن بين هذا التراث آثار وذخائر إسلامية عزيزة هي البقية الأخيرة من ذكريات الأندلس الإسلامية. وقد رأت حكومة الجمهورية الأسبانية إزاء هذا الجزع أن تدعو العلامة الأثري الإنكليزي السير فريدريك كنيون إلى إسبانيا ليتحقق بنفسه مما بذلته الحكومة من جهود عظيمة لصون هذا التراث؛ فاستجاب السير كنيون إلى هذه الدعوة وطاف أياماً بمدريد وبلنسية، وعاين الأماكن التي نقلت إليها المخطوطات والصور والتحف الفنية، ونشر نتائج تحقيقه في جريدة التيمس. وخلاصتها أن الحكومة الجمهورية قد استطاعت أن تنقذ معظم تراث أسبانيا الفني، وان مجموعة قصر (برادو) التي ظن أنها أتلفت، وهي من أعظم المجموعات الفنية قد نقلت على عجل إلى بلنسية، وحفظت في قلعتها المنيعة في صناديق غير قابلة للحريق؛ وحفظت مجموعة البسط والمنسوجات الملكية أيضاً في أحد أبراج القلعة، ومنها عدة من مجموعة الدوق ألبا الشهيرة. أما مجموعة الأسكوريال من الكتب والمخطوطات، وهي التي تضم بينها المكتبة العربية الأندلسية، فقد نقل منها نحو ألف مخطوط إلى بلنسية؛ ونقل إليها أيضاً مجموعة كبيرة من نفائس المكتبة الوطنية، وحفظت باقي الكتب والمخطوطات بمدريد في مستودعات أمينة أحيطت بجميع الوسائل الممكنة للصيانة والإنقاذ. ومن ذلك يتضح أن جميع محتويات مكتبة الأسكوريال الشهيرة، ومنها المجموعة العربية الأندلسية التي تضم نحو ستة آلاف وخمسمائة مخطوط عربي قد أنقذت من ويلات الحرب، وحفظت سليمة إلى اليوم، وذلك بالطبع يثلج صدر كل عربي وكل مسلم
ولا زالت مجموعة كبيرة من الصور تحفظ بقصر (برادو) غير تلك التي نقلت إلى بلنسية وفيها كثير مما حمل من قصر الأسكوريال؛ ونقلت مجموعة كبيرة من الذخائر المختلفة من صور وتحف خزفية وأثاث وتماثيل إلى أقبية المتحف الأثري، وإلى أقبية كنيسة سان(221/71)
فرنسيسكو، وهي وإن لم تنظم وتصنف فان كل قطعة منها تحمل تعريفها
أما مجموعة الدوق ألبا الشهيرة فقد أصابها بعض التلف، وقد هدم قصر الدوق ألبا المسمى قصر (ليريا)، ولكن أنقذت معظم محتوياته ونقلت مجموعة الصور إلى بلنسية، وكذلك الأواني الذهبية والفضية، والبسط الثمينة. أما المكتبة فقد أنقذت أيضاً ونقلت إلى دار البلدية، وكذلك نقل إليها عدة من قطع الأثاث التي أمكن إنقاذها
وأما مجموعة طليطلة فليس يعرف مصيرها؛ وقد نقلت الحكومة بعضها مما كان في الكنيسة الكبرى قبل إخلائها، ولكنها تركت الباقي ومنها صور جريكو وإنجيل سان لويس الشهير وغيرها، ولا يعرف ماذا أصاب هذه الذخائر بعد استيلاء الثوار عليها
صور بالفرنسية من الحياة المصرية الشعبية
من الآثار التي أخرجتها أخيراً بالفرنسية أقلام مصرية كتاب للسيدة قوت القلوب هانم الدمرداشية عنوانه (الحريم) وقد أصدرته دار النشر الفرنسية (جايمار) ضمن المجموعة التي يشرف على إصدارها الكاتب الكبير بول موران؛ ومهد له بول موران نفسه بمقدمة جميلة نوه فيها بما يحتويه الكتاب من صور ساحرة تطبعها البساطة، وتمثل في ألوان زاهية طرفاً من الحياة المصرية في المجتمعات الشعبية؛ ويقول لنا بول موران في خاتمة كلمته إن هذه الصور التي استخرجت من روائع مصر المضطرمة تبعث إلى النفس متاعاً وحرارة وتقترب منا، وتلمح فيها من خلال النسمات الساحرة أن شمسها هي شمسنا: شمس البحر الأبيض المتوسط)
أما الصور التي يقدمها بول موران إلى قرائه فهي: شم النسيم. عقد الزواج. ليلة الحناء. ميلاد. طلاق. قهوة الهانم. ليلة من ليالي رمضان. العيد. ليلة في القرافة. يوم الأضحى. العودة من الحج. سوق البطيخ. مقهى في مصر القديمة. الذكر في جامع سيدي المغربي. المدير في القرية. . . وغيرها وهي صور مألوفة لنا نعرف جميعاً كيف تدور في أوساطنا الشعبية؛ ولكن الطريف هو أن هذه الصور تقدم إلينا بالفرنسية في ألوان أخرى يرى فيها القارئ الغربي متاعاً خاصاً قد لا تسبغه عليها صورها الأصلية؛ وتقدم إلينا المؤلفة هذه الصور المختارة من الحياة المصرية الشعبية بأسلوب بسيط، ولكنه لاذع في مواطن كثيرة ينم عن تمكنها من تفاصيل هذه الصور، وتذوقها لروح هذه التقاليد الغربية التي أخذت(221/72)
تختفي شيئاً فشيئاً من الحياة المصرية. وإذا كان ثمة ما يبعث إلى الأسف فهو أننا لم نوفق بعد إلى إخراج صور من حياتنا الشعبية باللغة العربية تنبو عن ذلك الابتذال الذي يقترن بتصويرها عادة، وتنفث ذلك الروح اللاذع الذي يسبغه عليها الطابع الأجنبي
آراء جديدة في التربية للكاتب ولز
عقد أخيراً في إنكلترا مؤتمر للتربية برياسة الكاتب الباحث الاجتماعي الشهير هـ. ج. ولز، بسط فيه آراءه في التربية، وهي آراء طريفة خلاصتها أن المواد التي تدرس للنشء يمكن تقسيمها إلى قسمين: قسم يعمل لتكوين الذهن البشري، وقسم لتلقين المعارف. ويرى ولز أنه يجب أن يخصص للقسم الأول ثلاثة أرباع الوقت. ويحمل ولز على نظم التعليم الحاضرة، وخصوصاً في تعليم التاريخ والجغرافيا ويرى من السخف أن تحشد في رؤوس التلاميذ أسماء الأنهار والجبال والمدن، وقصص حب الملوك والملكات والمعارك الحربية السخيفة على النحو الذي تلقى به. ومن رأيه أن تعليم التاريخ يجب أن يدور حول تاريخ النوع البشري، وما وفق إليه الذهن البشري من الاختراعات العظيمة وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية في حياة المجتمع؛ أما التاريخ القومي الذي يتخذ اليوم أداة لبث الدعايات المختلفة فيجب أن يكون قطعة من التاريخ العام. ومن العبث أن يحكم على الماضي لصالح الحاضر، أو على الحاضر لصالح الماضي كما هو الشأن اليوم في معظم الدراسات
ولآراء ولز في تعليم التاريخ قيمة خاصة لأنه أستاذ هذه المادة وقد سبق أن عالجها في فرص كثيرة، وكتابه الشهير في خلاصة تاريخ العالم يتأثر بهذا الاتجاه الجديد الذي يريد أن يسير فيه تعليم التاريخ
علم أوراق البردي
دارت في مؤتمر أوراق البردي الدولي الذي عقد أخيراً في اكسفورد مناقشة حول تعريف (علم البردي) (بابيرولوجي) فذكر العلامة السير كنيون أنه يشك في وجود علم حقيقي يمكن أن يطلق عليه هذا الاسم، وأنه من الواجب أن نعترف بأنه لا يوجد مثل هذا العلم، أو أنه إذا وجد فهو علم محدود المدى. وعلم البردي هو العلم الذي يبحث في جميع الكتابات التي تلقيناها على صفحات البردي؛ والمبرر الوحيد لمعاملته كوحدة علمية خاصة هو أن النقوش(221/73)
التي تلقيناها تتعلق في جميع الأحوال إما بزمن خاص أو موضوع خاص أو بهما معاً. ولقد تلقينا عن طريق البردي معلومات عن الإنجيل والتوراة هي أقدم معلومات من نوعها؛ وقد ألقت ضياء على تاريخ الكتب المقدسة في عصور مظلمة جداً، وردت كثيراً من النصوص إلى أصولها، وأثبتت أن الفساد لم يتطرق إلى النصوص أيام العصر البيزنطي فقط. كذلك تلقينا عن طريق البردي معلومات كثيرة عن الكتابات اليونانية، وتلقينا عن طريقها معلومات نفيسة عن مصر الفرعونية خلال عصر يربي على ألف عام.
والسير كنيون هو أعظم العلماء الأخصائيين في مباحث البردي، وقد بدأ مباحثه فيها منذ نحو خمسين عاماً. ومؤتمر البردي المشار إليه هو الخامس من نوعه. وقد شهده مائة وخمسون عالماً من جميع الأنحاء.
من خطبة واصف غالي باشا الثانية في عصبة الأمم دفاعا عن
فلسطين
(إني أشترك من صميم فؤادي مع مندوب نروج في الثناء على مهمة عصبة الأمم وعلى أعمال الدول المنتدبة في مختلف البلدان الواقعة تحت الانتداب، كما أني أقدر الخدمات الجليلة التي يقدمها الذكاء اليهودي للعالم في جميع ميادين النشاط البشري، ولكني لا أكتم أسفي لأن الخدم التي أداها العرب للحضارة عامة وللحضارة الأوربية بنوع خاص أهمل أمرها ولم ينوه بها التنويه الكافي)
(وأنا لا أريد أن أتوغل في هذا البحث ولكني أقول على سبيل التذكير إن أوربا في القرون الوسطى لم تطلع على آثار اليونانيين إلا من التراجم العربية، وإن الفلاسفة والشعراء العرب أثروا تأثيراً عظيماً في الفلسفة والشعر في أوربا الجنوبية، وإن تأثير الفروسية عند العرب في أخلاق القرون الوسطى التي كانت جافية في أول الأمر ساعد على تهذيبها وتثقيفها وتجميلها)
استخدام اللغة العربية في الإذاعة الدولية
من أخبار جنيف أن سكرتارية عصبة الأمم العامة ستدرس في آخر الدورة كيفية استخدام اللغة العربية في نشرات الإذاعة اللاسلكية التي تهم التعاون الفكري، وقد وافقت اللجنة(221/74)
بالإجماع على استخدام اللغة العربية، على أن هناك حاجة للقول بأن الأموال المرصودة في ميزانية السنة الحالية لا تساعد على نشرات الإذاعة اللاسلكية في مدى كبير، ولكن السكرتارية مصممة تصميما صادقاً على أن تبدأ في تنفيذ القرار وستخصص مبلغاً لهذه الغاية. والبعض يأمل في أن تعطى مصر إعانة مالية كبيرة للبدء في الدعاية التامة.
والإذاعة باللغة العربية فرض أساسي على مصر لأنها أكبر وأغنى البلاد التي تتكلم هذه اللغة. ومع ذلك فمن العدل أن تشترك في ذلك جميع البلدان التي يهمها الأمر بما تسمح به وسائلها المادية
وواجب كذلك على البلدان الأوربية الكبيرة التي لها عدد كبير من الرعايا العرب، كما أنه واجب على البلدان العربية الأخرى التي هي من أعضاء أو من غير أعضاء عصبة الأمم أن تساهم في هذا العمل، فمسألة التعاون الفكري متعلقة لا بالبلدان التي هي أعضاء في عصبة الأمم، بل بجميع البلدان
إلى سيدي الأستاذ الزيات
أشكر لك رأيك فيما كتبت من مقالات عن فقيد الأدب العربي المرحوم مصطفى صادق الرافعي، وأعتذر من عدم استطاعتي تقديم شيء لهذا العدد والعدد السابق؛ وأنت أعلم بما علي من واجبات ثقال في هذه الأيام تحول بيني وبين كثير مما أحب، وأعد بأن أرسل الجزء التاسع من هذه المقالات للعدد الآتي؛ وأرجو أن تتهيأ لي الظروف التي تعينني على الاستمرار في كتابة تاريخ الرافعي وفاء للرجل الذي وقف حياته للدفاع عن الإسلام والعربية، فلما مات أوشك أن ينساه من المسلمين والعرب إلا قليل من أهل الوفاء. والسلام عليكم ورحمة الله. . .
(شبرا)
محمد سعيد العريان
وفاة الأستاذ كابيتان
توفي الأستاذ هنري كابيتان العضو في المعهد الفرنسي والأستاذ في كلية الحقوق بباريس، والأستاذ كابيتان معروف لدى كثير من المصريين الذين تلقوا علومهم في كلية الحقوق(221/75)
بباريس، حيث كان الفقيد يدرس القانون المدني منذ سنين طويلة. وقد توفي عن 72 عاماً. وكان إلى جانب عضويته في المعهد، عضواً في أكاديمية العلوم الأدبية والسياسية والمجلس الأعلى للمعارف، كما كان يمثل فرنسا في الهيئة الدولية لتوحيد القانون الخاص. وللفقيد مؤلفات قانونية كثيرة جلها خاص بالقانون المدني، وله في (سبب الالتزام) نظرية معروفة.
وكان الأستاذ كابيتان رئيساً للجنة الامتحانات التي جاءت السنة الماضية لامتحان طلبة مدرسة الحقوق الفرنسية في القاهرة وقد طلب من الأستاذ كابيتان حينذاك الإسراع بالعودة إلى باريس بسبب وفاة نجله.(221/76)
رواية المصدور
تأليف الأستاذ كرم ملحم كرم
للسيد جورج سلستي
أطلت القصة الحديثة على الأدب العربي مستحيرة الوضاءة مكتملة العناصر والتكوين، فهفت إليها الأبصار هفوها إلى الجمال المتألق الضاحي، وتعلقتها الأفكار تعلقها للجديد المستطرف الأخاذ، وتشربتها النفوس بلذة وشغف؛ ونفوس الأدباء أبداً ظمأى للخمرة العلوية يترع الفن بها أقدامهم فيعبون منها ولا يرتوون
والقصة اليوم - وهي تتبوأ الذروة في الأدب - رسالة من رسالات الفكر النير يزفها هدى للناس فنان ملهم، ومشعل من مشاعل الثقافة الشاملة يحمله للورى عبقري فذ؛ رسالة تمشي بالناس نحو هدف من أهداف الإنسانية الكبرى، ومشعل ينير لهم من خفايا نفوسهم ما يجهلون.
فلا غرو إذن - وللقصة هذا المقام الرفيع - إن رأينا أدباءنا يعالجون فنها الساحر على ضوء النظريات الحديثة، ويقدمونها للقراء نتاج ما وصلت إليه قرائحهم من قدرة على تفهم أسرار النفس البشرية الغامضة، واستطاعة على الإبانة عن الشعور بالحق والحب والجمال.
والأستاذ كرم ملحم كرم استهوته القصة وهو أديب ناشئ طرير العود، وقد طلع على الناس بمجلته الروائية الأسبوعية (ألف ليلة وليلة) وهو محرر في جريدة (الأحرار) فعرفنا به أول أديب في قطر الشام وقف جهوده كلها في سبيل الفن الروائي. وهو لا يزال منذ عشر سنوات خلت حتى اليوم يتحف الأدب بروايات شائقة جلها يمت إلى القصص العالي الرفيع، ولا سيما الموضوعة فقد بلغ الكثير منها في الحوار والتحليل وسرد الوقائع شأواً بعيداً في الجودة
و (المصدور) قصة إنسانية، وقائعها مستمدة من صميم الحياة، محورها الحب الشهيد وقطبها العاطفة المقهورة، تتلخص في أن طالباً من أبناء الموسرين هام بحب قروية عذراء أهلها خدم في أملاك أبيه في ضواحي المدينة، وهامت هي به كذلك دون أن يأبها الهوة السحيقة التي تفصل بين مقاميهما. وعاهدها على الزواج مهما اعترضته العراقيل،(221/77)
وعاهدته على الوفاء حتى الموت
وهنا يبدأ النضال الشريف في سبيل الحب الطاهر الوثيق بين القلبين الكبيرين، ومن هنا تبدأ الآلام النفسانية المرهقة التي لا تنتهي إلا بمأساة فاجعة
فأهل الحبيب المعمود لم يكادوا يدرون بما يتأجج في فؤاده من هوى مبرح لربيبة نعمتهم حتى ثارت ثائرتهم، وحتى راحوا ينهون فتاهم عن هذا الحب الأعمى الغرار تارة باللطف والحسنى، وطوراً بالتهديد والوعيد، وحتى حالوا بينه وبين تردده على أملاك أبيه في (نهر الكلب) مسرح حبه ومرتع أمانيه
وأهل الفتاة الولهى ما علموا بهوى ابنتهم لابن سيدهم ومولاهم حتى خشوا أن تحل بهم النكبات من جراء هذا الحب المتهور الطائش، ويطردهم أسيادهم من المزرعة التي صرفوا فيها سني حياتهم الهانئة على ما فيها من عناء ووصب، فزجروا الفتاة وعنفوها وزينوا لها حب أبناء القرى العف البريء من المآثم، ونعوا عليها حب أبناء المدن المتقلب الأرعن المليء بالجرائم، فما كانت لترعوى عن غيها في رأيهم وضلالها
ورأى الأهل جميعاً أن يلجئوا إلى الحيلة والإكراه فأوهموا الفتاة أن ابن سيدها الذي تجرأت فرفعت إلى عليائه عينيها الخاطئتين قد تزوج ولم يعبأ بوعوده لها ولا بعهوده، وأرغموها على خطبة من لا ينبض بحبه فؤادها الموله، فاسودت في نظرها الحياة، وآثرت أن تترهب على أن تزف لغير الحبيب ففرت إلى الدير بعد أن وضعت بعض ثيابها على ضفة النهر في يوم عاصف الأنواء لتوهم أهلها أنها انتحرت
وضللوا الفتى، فقالوا له إن فتاته خطبت إلى فتى من بيئتها أليق بها منه وأنها ستتزوج في العاجل بعد قليل، وأنها سعيدة كل السعادة في حبها الجديد لخطيبها الفلاح
وحتموا عليه أن يتزوج بالفتاة التي انتقوها له لينعم، فرضخ لإرادتهم القاهرة وبنى بابنة بيت رفيع العماد ليشقى!
ولم يلبث أن عاف زوجته واجتوى منزله، وراح ينفق ماله ويبذل شبابه بين الأقداح والغواني لينسى حبه الشهيد البكر، فهزل جسمه وانكفأ لونه من الإدمان في الشراب والإسراف في طلب الهوى الأثيم؛ وما زال كذلك حتى عراه السقام، وعشش في صدره السل الوبىء(221/78)
في مصح ظهر الباشق بلبنان التقى الحبيبان على غير ميعاد بعد طول البعاد لقاءً مراً على حلاوته الظاهرة، فتى ينفث رئتيه، وراهبة نذرت نفسها لله تعتني بالمرضى من عباده البائسين. فآسته بحنانها في أيامه القلائل المعدودات؛ وبين يديها الطاهرتين، وعلى مرأى من الأبوين الجانيين، فاضت روحه إلى باريها تشكو جور الآباء وجنايتهم على الأبناء
هذه هي القصة بظاهرها، وهذا هو هيكلها؛ أما روحها، أما التحليل الدقيق لنفسيات أبطالها، أما المواقف الغرامية العذرية، وأما ما يتخللها من مفاجآت حادة عنيفة ولطيفة رفيقة معاً، وأما السبك المتين والوصف الأنيق، فهذا ما ملأ به الأستاذ كرم مائتي صفحة تقرأها مندفعاً وأنت تود ألا تنتهي؛ وهذا ما أود من القراء الكرام أن يستمتعوا بمطالعته مثلي، وينعموا في لذة قراءته كما نعمت، فليس الخبر كالخبر، ولا السماع كالنظر
قوام القصة اليوم المقدرة على سرد الحوادث في حينها وعلى تحليل أبطالها تحليلاً نفسانياً متقناً وعلى الإبانة عن هذين العنصرين الرئيسيين - السرد والتحليل - بالأسلوب الشائق الممتع، واللغة الصحيحة الفصيحة من غير ركاكة ولا إسفاف
والأستاذ كرم لم تغب عنه هذه الحقائق عندما كتب (المصدور) فوضعها نصب عينيه فوفق بذلك إلى حد بعيد
وإن يكن من شيء آخذه عليه في هذا الصدد فهو صورة زوجة شفيق بطل القصة؛ فقد جاءت مشوهة لا يرضى عنها الذوق الفني.
فشفيق مال بعد زواجه القهري إلى الدعارة والشراب يدفن فيهما إخفاقه وآلامه، وهذه. ثورة من ثورات النفس الجامحة، ونزوة من نزوات اليأس القاتل التي تجتاح من كان مثل شفيق وفي حالته، ولكن ما بال زوجته تنحدر إلى مثل هوته وهي التي لم ترغم على الزواج منه كما أرغم هو؟ وما بالها تتمرغ في مثل حمأته وقد بنت به بمطلق رضاها.
أما الأسلوب في القصة فشائق جذاب، ولغته متينة عالية وألفاظه عذبة منتقاة وليس فيها من الخطأ اللغوي إلا النزر اليسير
وما كنا نرغب أن نتعرض لذكرها لولا ضننا بهذا السفر النفيس أن تعلق به أمثال هذه الهنات.
قال المؤلف: (حازت منها نظرة دميعة) وصوابها: دمع أو دمعة يقال: امرأة دمعة ودمع(221/79)
بغيرها إذا كانت غزيرة دمع العين ورجل دميع.
(الحب البئيس) صوابها: البائس من بئس الرجل إذا نزل به عدم أو بلية يرمم لها؛ وأما البئيس فمن بؤس الرجل إذا اشتدت جرأته فان كان هذا مراده فلا غبار عليها.
(العيش المرير) صوابها: العيش المر.
(نواحها الفجيع) صوابها: الفجوع من صيغ المبالغة أي الكثير اللهفة والأسف أو فاجع اسم الفاعل.
(زوجها المجندل أمام الموقد) صوابها: المجدل بتشديد الدال ومعناها المصروع على الجدالة من جدل الفارس قرنه أي رماه على الأرض الصلبة.
على أن أمثال هذه الهفوات اليسيرة لا تذهب برونق الكتاب ولا تنقص من قيمته. ويقيننا أن كرماً سيتداركها في الطبعة التالية إن شاء الله.
جورج سلستي(221/80)
العدد 222 - بتاريخ: 04 - 10 - 1937(/)
مقتضيات الحروب الحديثة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كانت الحرب في الأزمنة القديمة لا تدور أرحاؤها إلا بين الجيوش: أي بين الجماعات المجعولة للقتال والمدربة عليه ولا عمل لها في الحياة إلا هذا؛ ومتى غلب جيش جيشاً وألحق به هزيمة تضعضعه وتمنع أن تكون له قدرة على الكر انتهى الأمر ووضعت الحرب أوزارها وسلم المغلوب للغالب بما تفرضه القوة الراجحة. ولكن الحال اختلفت في عصرنا هذا وصارت الحرب صراعاً بين الأمم والشعوب لا بين الجيوش المحترفة وحدها؛ وهذا بعض ما أفضى إليه التقدم الآلي في النواحي المختلفة. فلم تعد الجيوش وحدها تكفي، ولم يبق من الممكن الاجتزاء بها والتعويل عليها وحدها كما كان الحال في العصور الغابرة، بل صارت الحالة تدعو إلى إعداد الأمة كلها للحرب وتدريب كل فرد من أفرادها على فنونها وتهيئته لما تقتضيه حاجاتها ومطالبها؛ وما نرى من عناية الدول المختلفة بأن ينشأ شبانها نشأة عسكرية من الصغر وتدريبهم على الحركات الحربية واستعمال أدوات القتال البرية والبحرية والجوية لتكون منهم للدولة ذخيرة تستمد منها وتعتمد عليها إذا وقعت الواقعة. وقد توسعت الدول في هذا الاستعداد حتى امتد الأمر إلى المرأة، فالطالبات أيضاً لهن فرق يتعلمن هذه الحركات العسكرية ويحملن البنادق ويتدربن على تسديدها إلى الأهداف وعلى مشقات الحياة في الخنادق فضلا عن واجبات التمريض والصناعات اللازمة للحرب مثل الذخيرة وما إلى ذلك؛ وهو توسع في الأهبة لا حيلة فيه ولا مفر منه إذا شاءت الأمة أن تأمن وتطمئن بعد أن صار من السهل أن يتخطى العدو الجيوش الراصدة له وأن يمطر القرى والمدن وابلاً من القنابل المخربة والغازات الفتاكة. وبعد أن أصبح كل شيء وكل مكان صالحاً لأن يكون غرضاً للعدو وميدان للقتال
ولم يسع الأمم العربية والشرقية إلا أن تحتذي هذا المثال، وإلا أن تنسج على ذلك المنوال. ففي تركيا تتدرب الفتيات كما يتدرب الفتيان على أساليب الحرب وآلاتها بلا فرق. وفي العراق أدخل التعليم العسكري في المدارس الثانوية، فكل طالب فيها يتلقى هذا التعليم كما يتلقى غيره من العلوم والمعارف المدنية في الساحات المجعولة لذلك؛ وقد سميت فرق الطلبة: (فرق الفتوة). وكنا قد شرعنا في مثل ذلك في مصر ولكن على غير نهج مقرر أو(222/1)
خطة مرسومة معروفة الوسائل والغايات؛ وذلك أن الجامعة رأت في العام الماضي أن تعنى بالتربية الرياضية وألبست الطلبة أردية خاصة واستقدمت لتدريبهم رجالاً من رجال الجندية، ورغبت في تدريبهم على استعمال البنادق فاستأذنت أولي الأمر، وقيل أنهم أذنوا، ولكنا لم نر أثراً لهذا الإذن، وكان ذلك ختام ما بدأته الجامعة
أما في هذا العام فإن المرجو والمنتظر أن يكون هذا الأمر جدا، أو هو ينبغي أن يكون كذلك. وقد طلبت البعثة العسكرية البريطانية التي جيء بها لتدريب الجيش المصري إدخال التعليم العسكري في المدارس الثانوية وفي الجامعة على الأخص. ولا غرابة في هذا الطلب أو الاقتراح، فإن البعثة تدرك أدق ما يقتضيه التطور الحديث في الحرب ومطالبها، فإن الجيوش لا تكفي ولا غناء لها - مهما بلغ من ضخامتها ووفاء عدتها ووفرة أسلحتها - ولا مهرب من أن تكون الأمة كلها جيشاً عند الحاجة بعد أن انتفى الفرق من حيث التعرض لحملات العدو بين الذين يكونون في الصفوف الأولى من خطوط القتال والذين يكونون في بيوتهم أو قراهم في أقصى طرف من البلاد
ولاشك أن الحرب بلاء ونقمة، وأن الرقي الآلي الحديث قد جعلها آفة ماحقة، ولكن الرجاء في السلامة من هذا البلاء لا يكون بالاكتفاء بالإنحاء عليها، وبسط اللسان فيها، والقول بأنها شر مستطير وخراب شامل؛ وإنما يكون الرجاء في أخذ الاهبة، واستيفاء العدة، ولاسيما إذا كانت البلاد مكشوفة كبلادنا ومطموعاً فيها ومهددة بالغزو في أي لحظة تستعر فيها نار الحرب كما نحن مهددون
على أن التدريب العسكري أو الرياضي - إذا آثرت هذا اللفظ الذي لا يزعج - حسن في ذاته ومحمود، بغض النظر عن الأغراض الحربية؛ ويكفي أنه يقوم الأجسام، ويصلح الأبدان، ويهذب النفس ويقويها، ويجعل المرء على العموم أكفأ وأقدر على القيام بفرائضها والاضطلاع بتكاليفها
على أنا أمة مهددة بأن تصبح بلادها أوسع ميادين الحرب وأهولها إذا شاءت المقادير أن تشب نارها بين دول الغرب، فلا حاجة بنا إلى قول شيء في فضل التربية الرياضية ومزيتها وقيمتها فقد صار الأمر لا معدى عنه بحكم الظروف والأحوال لا بالاختيار والرأي والهوى. وهذه الأحوال تقضي علينا بأن نختار أحد أمرين: الأول أن نوطن أنفسنا على أن(222/2)
تأكلنا أول دولة تطمع فينا وتتاح لها فرصة العدوان علينا، فإذا آثرنا هذا المصير الزري فليس علينا حينئذ إلا أن نقعد منتظرين من يجيء ليستولي علينا؛ والثاني نوطن أنفسنا على الذود الواجب عن حقيقتنا والدفاع عن حريتنا واستقلالنا ورد كل عدوان عليهما، فإذا كان هذا هكذا فالأمر بين، وعلينا إذن أن نعد العدة لهذا الدفاع وأن نتخذ له كل أهبة يفرضها التطور الحديث في الحرب ووسائلها وأساليبها وآلاتها؛ ولابد حينئذ من تهيئة الأمة لمطالب هذه الحرب المخوفة على نحو يكفل للدولة الانتفاع التام بقوى الرجال والنساء فيها جميعاً، فللنساء ما يستطعن أن يحسن من الأعمال، ولا خفاء بهذه فإنها معروفة، وعلى الرجال أن يكون كل واحد منهم مستعداً لحمل السلاح والسير إلى حيث تحتاج إليه الدولة لعمل من أعمال الدفاع القومي؛ ولا يتسنى هذا إلا إذا دربنا الفتيان من الآن في المدارس والجامعة على إتقان ما عسى أن يطالبوا به إذا دعاهم داعي الوطن
وقد يتوهم البعض أن هذه الدعوة التي أرسلها لا تخلو من إسراف وشطط ومبالغة في تصور الأخطار وتجسيمها والتهويل بها، ولكني أعتقد أن الأمر على خلاف ذلك وأن الحال على نقيضه وأعني بذلك أننا أسرفنا في الاطمئنان وبالغنا في الإخلاد إلى دواعي الأمن والثقة والاستراحة إلى انتفاء المخاوف؛ وقد آن لنا جداً أن ندير عيوننا فيما حولنا، وأن نتدبر دلالة ما نرى، وأن نمد بصرنا إلى أبعد من يومنا الحاضر. والمثل يقول: (من مأمنه يؤتى الحذر) فكيف بالذي لا يحذر شيئاً، ولا يتقي أمراً؟ وهب أنه لا مطمع فينا فإن خلو بلادنا من وسائل الدفاع الكافي، وضآلة عدتنا يغريان بنا الطامعين. ومازال الضعف إغراء كافياً للقوى بالوثب. ولنحن غير أهل للاستقلال إذا لم نحسن الحرص عليه والضن به ولم نعد العدة لطول الذود عنه والكفاح دونه. وقد يجيء زمن تبطل فيه الحروب وتعيش فيه الأمم إخواناً متآزرين متعاونين؛ غير أنه إلى أن يجيء هذا الوقت السعيد لا يسع أمة تعرف لحقها في الحياة قيمته وتدرك ما تقتضيه المحافظة عليه إلا أن تستعد للحرب دونه. وعسير جداً أن تحيا أمة عزلاء في أمان من المخاوف بين أمم مدججة شاكية في البر والبحر والهواء
إبراهيم عبد القادر المازني(222/3)
الفيلسوف الحاكم
للأستاذ عباس محمود العقاد
شهدنا بعد الحرب عجباً من عجب السياسة والرآسة لم يشهده جيل واحد من تاريخ بني الإنسان
شهدنا موسيقاراً على رأس دولة، وفيلسوفاً على رأس دولة أخرى، وهو قبل ذلك ابن حوذي وتلميذ حداد، ونقاشين وأفقيين على رؤوس دول أخرى يجلسون على عروش القياصرة والخواقين، ويسوسون شعوباً كبيرة بلغ بعضها الذروة من الحضارة والنظام
أحب هؤلاء جميعاً وأولاهم بعطف النفس الإنسانية فيما نظن هو الفيلسوف الحاكم (مازاريك) الذي قام على جمهورية التشك والسلواق بعد الحرب العظمى، وقضى نحبه في الشهر الغابر وهو في السابعة والثمانين
قرأت له قبل أن أسمع الشيء الكثير عن سيرته في الجهاد الوطني وعن مساعيه في السياسة الدولية: قرأت له كتابه الحافل عن (روح الروسيا) فأكبرت منه اطلاعاً واسعاً يخيل إليك أن صاحبه لن يفرغ معه لعمل من الأعمال الجسام. وخلاصة ما يقال في الكتاب أنه لم يدع فيلسوفاً واحداً من الأقدمين أو المحدثين إلا ألم برأيه وتعقب الصلات الفكرية والاجتماعية بينه وبين عقول الدعاة البارزين من فطاحل الروسيين
ووقعت لي بعد هذا الكتاب شذور من تواليفه الكثيرة يكفي لبيان نطاقها الواسع وموضوعاتها المختلفة أنها تناولت التنويم المغناطيسي كما تناولت فلسفة باسكال وهيوم، وتناولت أدب الصقالبة كما تناولت الثورة العالمية، وصدرت في ذلك كله عن صدر رحب بريء من العصبية والضغينة وعن ذهن شامل مفتح المنافذ على شتى الأنحاء
في تاريخ هذا الرجل عبر لا تنتهي لمن شاء أن يتأمل في أخلاق الناس وفي موازين العدل والأنصاف بين الأمم، وفي ضعف الإنسان ولو كان من الحكماء وكان من الحاكمين
كنت أقرأ الثناء عليه وأقرأ الزراية على (روجر كازمنت) الشهيد الأيرلندي في وقت واحد
وكنت أقرأ الثناء والإزراء على عمل واحد في وقت واحد وصحافة واحدة، فأعجب للعقول وأعجب للأهواء، وأعجب لمن خطر لهم أن يقولوا مرة من المرات ولو من قبيل التجوز والمزاح: كل شيء بالعقل في هذه الدنيا!! وما في هذه الدنيا شيء إلا وللعقل فيه حيرة،(222/4)
وللضلال فيه جانب مقرون بجانب الهداية
هرب مازاريك من بلاده واتفق مع الحلفاء على تأليف جيش من أبناء وطنه الأسرى والمبعدين، ونجح فكان من الأبطال وأقام في قصور هابسبرج، ومات بين التعظيم والمحبة والإطراء
وصنع (روجر كازمنت)، ما صنع مازاريك فهرب من بلاده واتفق مع الألمان على تأليف جيش من أبناء وطنه الأسرى والمبعدين، وفشل فكان من الخونة المجرمين، وسيق إلى القبر وهو ينظر إلى الشمس السافرة ويهتف: ما أجمل هذا الصباح! ولكنه كان صباحه الأخير
والصحف البريطانية يومذاك تذكر هذا وتذكر ذاك، فأما مازاريك فبطل كريم، وأما كازمنت فخائن أثيم. ويتبع ذلك ما يتبع الإخفاق والخزي من فرية المفتري، وأكذوبة الكاذب، واجتراء اللئيم
كان مازاريك في صباه عوناً للمستضعفين ولو كانوا مبغضين منبوذين، وكان نصيراً للحق ولو كان الباطل أدنى منه إلى الشهرة والإعجاب. فدافع عن اليهود في بلاد لا يطاق فيها اسم أبناء إسرائيل، وزيف الأسانيد الموروثة التي يفخر بها أبناء قومه ويعتدونها من تراث الوطن الحرام المضنون به على النقد والتشكيك، فكان أبوه أول من صدق فيه تهمة القادحين وذهب إليه يستأديه بعض المال الذي قبضه من مصارف اليهود، وكان الغلاة من دعاة الوطنية في بلاده أول من تبرأ منه وخاض في عرضه حتى قال قائلهم: (إن عاراً على وطنه أن يكون بين نسائه امرأة حملت في بطنها مازاريك)
ودارت الأيام دورتها فإذا بهذا العار هو عنوان وطنه، وهو القائل باسمه والكاتب باسمه والوكيل الذي اجتمع وكلاء بلاده بعد الحرب العظمى يعلنون على الملأ الأوربي أن كل ما وقعه مازاريك في ديار الهجرة والاغتراب هو صك نافذ على البلاد تدين به وترعاه
وجرى حديث مستفيض بين الحاكم الفيلسوف وبين المؤرخ المشهور أميل لدفج استغرق أياماً، وجمعه لدفج في كتاب جاوزت صفحاته ثلاثمائة صفحة، واختار له عنواناً: (حامي الديمقراطية. أو مازاريك يتكلم)
من قرأ هذا الكتاب سمع أفلاطون وأرسطو يتكلمان في العصر الحديث؛ غير أن الإيمان(222/5)
بالديمقراطية فيه أكبر من إيمان صاحب المدينة الفاضلة وصاحب السياسة المدنية، لأن الحاكم الفيلسوف لا يعدل بالحرية الفردية نعمة من نعم الأرض ولا نعم السماء؛ وينعى على كارل ماركس كما ينعى على موسوليني أنهما يطويان الفرد في الحكومة، ويضحيان بالواحد على مذبح الجملة؛ ويسأله لدفج أيهما أحق لديه بالتقديم والإيثار: السلطان أو الحرية، وإرادة الحكومة أو إرادة الأفراد؟ فيقول: (ليس في وسعي أن أعتقد أن ضمير الفرد مطوي في ضمير اجتماعي واحد. إذ ليس في الدنيا من شيء محقق غير الضمائر الفردية. وليس أمام السياسة إلا أفراد اجتمعوا على هذا النحو ليتألف منهم مجتمع واحد يكون على ضروب شتى ومنها الفاشية. أما أنا - وأنا من الفرديين - فليس يسعني أن أسيغ فكرة الإدماج أو إلغاء الأفراد، وأن تكون الحكومة أو الأمة أو الشعب ممثلة في شخص واحد. ولا أنسى أن هنالك علماء اجتماعيين ودعاة سياسيين يقبلون ما يسمونه ضمير المجتمع وينكرون ضمائر الأفراد متفرقين، ولكنها فكرة لا يقرها العلم، ومصدرها النزعة الأرستقراطية في السياسة. . .)
ووددت لو أن (مازاريك) حين مات كنت محتفظا له بتلك الصورة التي تناسقت وتلاحقت من جهاد الشباب ومن ثورته في الكهولة، ومن بحوثه ومصنفاته، ومن رسالة الديمقراطية التي قام بها على سرير الدولة كما قام بها من قبل على منصة التعليم وعلى منبر الدعاية
ولكن الفيلسوف الذي يستبقي في الحكم صورة أفلاطون أو صورة (السياسة الغدرية) إن هو إلا أسطورة من أساطير الخيال، نتوهمها بالنظر ونترسمها بالأمل، ولا نلمحها بعين الواقع ولو أغضينا عن كثير
قبل أن يقضي الموت قضاءه في الحاكم الحكيم بأشهر معدودات وقع لي كتاب عن أوربا الوسطى للكاتب الإنجليزي هنري بوتسي أسماه (اليد السوداء على أوربا) أحصى فيه مظالم الشعوب الصغيرة التي ضمتها معاهدة فرساي إلى حكومات لا تحبهم ولا يحبونها، ومنها شعب السلواق المضمومين إلى حكومة (مازاريك) رسول الديمقراطية ونصير كل شعب مظلوم أيام كان الظلم نازلا بتلك الشعوب من آل هابسبرج!
وكان مازاريك قد عاقد وكلاء السلواق المقيمين بالولايات المتحدة في السادس والعشرين من شهر مايو سنة 1915 أن تكون حكومتهم مستقلة في داخل الدولة على مثال الولايات(222/6)
المتحدة الأميركية، وأن يكون لهم مجلسهم النيابي، ومحاكمهم التي يضعون لها شرائعها، ولغتهم في التعليم والإدارة والحياة العامة
فلما جاء يوم الإنجاز وقامت الدولة التي مهد لها أولئك الوكلاء إذا بأرضهم مستعمرة مملوكة، وإذا بهم أتباع مسخرون، وإذا بالعقد المبرم قصاصة مهملة، وإذا بالحاكم الحكيم يتحلل من عقده فيلجأ إلى حيلة لم يلجأ إليها عاهل من عواهل هابسبرج ولا متحذلق عندنا من صناع الفتاوى وطلاب الحيل الشرعية، فيقول لوكلاء الشعب المهضوم إن العقد إنما أبرم في يوم بطالة رسمية عند الأمة الأميركية، وذلك في شرع البلاد التي أبرم فيها مبطل لشروطه ناقض لفحواه!
ويلي ذلك قصة أليمة من قصص المظالم والدعايات الكاذبة، بحت فيها الأصوات وذهبت فيها صرخات المغلوبين على آذان عصبة الأمم كما تذهب زمجرة البحر الصاخب بين أجواز الفضاء
سيرة الرجل عبرة لا تنقضي ودروس لا تنفد. أولها: أن الفيلسوف لم يسلم من لوثة الحكم والسياسة ولو أضمر الخير وأسلف الجهاد الطويل في قضايا المظالم والشكايا
وثانيها: أن الديمقراطية لا تسلم في وطن تختلف أجناسه ولغاته وأديانه وطبقات الحضارة فيه إلا على أساس (الولايات المتحدة) التي يستقل فيها كل فريق بالحكم والتشريع
وثالثها: أن أوربا الوسطى لا تزال كما كانت قبل الحرب العظمى غيلاً تصطرع فيه ضواري الأحقاد ويوشك أن يندفع بالعالم مرة أخرى إلى حرب لا تؤمن لها عاقبة
وإننا على ما أنتاب الديمقراطية من خيبة، وما تعاورها من نقض وتقويض، لا نزال على إيمان وثيق بها أنها هي كهف السلام ومعقل بني الإنسان، ومآل الحكم في المستقبل البعيد إن لم يعجل لها النصر في مستقبل قريب
فالدول الديمقراطية لا تبغي الحرب كما تبغيها الدول الدكتاتورية، وبريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة لا يخشى منها على سلام العالم كما يخشى من إيطاليا وألمانيا واليابان والجمهوريات الروسية
ولقد يقال إن بريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة إنما تسالم الدول الأخريات لأنها شبعت من المستعمرات فلا حاجة بها إلى المشاكسة ولا إلى اقتحام المشكلات، لكنه(222/7)
اعتراض وجيه في ظاهره غير وجيه في لبابه. إذ أن المسالمة والاكتفاء شأن جميع الدول الديمقراطية ولو لم تكن لها مستعمرات ولا أسواق مملوكة في بلاد المستضعفين؛ وهذه الدنمرك والسويد والنرويج وسويسرة لا تمتلك أرضاً وهي من اليسر والرواج في حال يحسدها عليه المالكون؛ وربما خلت من الجند والسلاح فليس بها إلا قليل من الشرطة وما يحتاجون إليه من أداة
إنما الحقيقة أن الدكتاتورية والحرب قرينان لا يفترقان، لأن الدكتاتورية لا تقوم إلا على عسكرية، والعسكرية لا تستقر طويلاً بغير قتال، ولا أمان للعالم كله إلا باتجاه سريع إلى الديمقراطية يقصيه من زبانية الاستبداد سواء كانوا من أهل اليمين أو من أهل الشمال
عباس محمود العقاد(222/8)
الفنادق والمقاهي التاريخية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كما أن الآثار والأطلال والذكريات الباقية تستمد جلالها من الحوادث والمناسبات التاريخية التي ارتبطت بقيامها، فكذلك تستمد جلالها من الزمن؛ وقد يكون الزمن كل شيء فيما تتشح به الأطلال الدوارس أحياناً من روعة الخلود؛ وأقدم الهياكل والآثار هي بلا ريب أعرقها من هذه الناحية؛ فالقديم مهما كانت ضالته من الناحية التاريخية أو الفنية يبعث إلى النفس أثراً خاصاً ويحملها إلى تلك العصور الذاهبة الذي يرجع إليها ويرتبط بها
فما بالك إذا كان هذا الأثر أو الصرح القديم لا يزال كسابق عهده يقوم بمهمته التي أنشئ لها منذ الأحقاب المتعاقبة، ويمتلئ حياة وبهجة، ويساير العصر، ويربط الحاضر بالماضي بأوثق الصلات؟
لسنا نريد أن نحدثك في هذا المقال عن معاهد أو آثار تاريخية من هياكل أو صروح أو معاهد أو غيرها مما أصطلح على اعتباره آثاراً تاريخية تمتاز بقيمتها الفنية وبالمناسبات العظيمة التي أنشئت من أجلها؛ ولكنا نريد أن نحدثك عن نوع آخر من هذه المنشآت التي قامت دون مناسبة تاريخية خاصة لتقوم بمهمة من مهام الحياة العادية، ثم استطاعت أن تغالب صروف الزمن، وأن تحمل رسالتها المتواضعة خلال أحقاب وأحقاب، وأن تبقى إلى اليوم قائمة بنفس مهمتها، وأن تكتسب بذلك جلال القديم وروعته
نريد بذلك الفنادق والمقاهي التاريخية
أنه لمن الشائق حقاً أن تنزل في فندق ما، أو تجلس في مقهى أو مطعم ما، فيقال لك إن هذا الفندق أو المطعم أو المقهى يرجع قيامه إلى أربعة قرون أو خمسة، وأنه لا يزال كما نشأ باسمه وأوضاعه القائمة لم يتغير منه شيء إلا ما اقتضاه الزمن من أعمال الصيانة، وإن كثيراً من الشخصيات التاريخية العظيمة قد مرت به قبلك، ونزلت حيث تنزل أو جلست حيث تجلس. إن في ذلك ما يذكي الخيال ويبعث إلى النفس جلالا خاصا هو جلال هذه الأحقاب الطويلة التي مرت بهذه النشأة المتواضعة، وجلال تلك الشخصيات التاريخية العظيمة التي مازالت ذكرياته وأشباحها تطوف بالمكان وتسبغ عليه من روعتها ما لم يسبغه التاريخ(222/9)
ولقد آنست هذه المشاعر في كثير من المنشآت الاجتماعية التاريخية التي أتيحت لي زيارتها خلال تجوالي في العواصم الأوربية وآنستها هذا العام بنوع خاص خلال رحلة قمت بها في بلاد التيرول النمسوية: فذكرت أننا في مصر لا نعرف اليوم أمثال هذه المنشآت، ليس فقط لأن أحداث الزمن لم تبق منها على شيء، بل لأننا أيضاً فقدنا في عصور الانحطاط خلة الاستمرار، فلا نعرف في مصر منشأة تجارية أو اجتماعية أو فندقاً أو مقهى أو غيرها من المنشآت المماثلة تخطت قرناً محافظة على قديمها، متصلة بحديثها، وهو ما يعتبر من الأمور العادية في العواصم الأوربية حيث يرجع كثير من هذه المنشآت إلى أحقاب وقرون. ولقد عرفنا هذه المنشآت في العصور الوسطى، فكان للقاهرة فنادق ومقاهٍ، تخطت دولاً وعصوراً وهي تقوم بمهمتها الاجتماعية؛ وإنه ليحضرني الآن منها مثلٌ هو فندق مسرور أو خان (مسرور) الذي يحدثنا عنه المقريزي في غير موضع، والذي لبث عصوراً مهبط الواردين إلى القاهرة من كل صوب يتناقل السياح اسمه في جميع الأقطار الإسلامية، والذي تذكره قصص ألف ليلة وليلة في مواضع مختلفة ترجع إلى عصور مختلفة كأنه علم على القاهرة، وكانت القاهرة أيام السلاطين تموج بأمثال هذه المنشآت المعمرة من ربط وفنادق وخانات ووكالات شهيرة دثر معظمها أيام العصر التركي. وفي خطط المقريزي بيانات شائقة عن هذه المنشآت التي لعبت مدى عصور دوراً كبيراً في الحياة الاجتماعية المصرية.
أما اليوم فإن القاهرة التي تغص بالآثار والصروح التاريخية العامة لا تعرف شيئاً من هذه المنشآت الخاصة التي يسبغ عليها القديم جلاله، والتي تساير الحياة الاجتماعية في عصورها ومراحلها المتعاقبة
مما يلفت نظر السائح في مدينة أنزبروك عاصمة التيرول فندق (النسر الذهبي) وهو صرح متواضع يقوم على صف من الحنايا المعقودة على الطراز القوطي؛ ولكن هذا الصرح المتواضع يقوم حيث هو، ويؤدي نفس مهمته في إيواء السياح وإطعامهم منذ نحو خمسمائة عام، وفي مدينة انزبروك القديمة التي تمتاز بدروبها الضيقة وأبنيتها القوطية العتيقة، عدة من هذه الفنادق والمطاعم القديمة التي طوت أجيالاً عديدة من حياتها؛ ولكن (النسر الذهبي) يمتاز عنها جميعاً بتاريخه المجيد؛ فقد حفلت غرفه الضيقة وأبهاؤه(222/10)
المنخفضة التي لم يغير تعاقب الزمن شيئاً من أوضاعها بكثير من الملوك والعظماء في مختلف العصور؛ وقد وضعت على بابه لوحتان من الرخام نقشت عليهما أسماء هؤلاء الملوك والعظماء وتواريخ نزولهم فيه؛ ولفت نظرنا بين هذا الثبت بنوع خاص اسم أمير تونس حيث نزل في فندق النسر الذهبي مع حاشيته في سنة 1540م، واسم يوهان فولفجانج فون جيته شاعر ألمانيا الأكبر حيث نزل فيه سنة 1798م، وأسماء عدة أخرى من ملوك أوربا وأمرائها نزلوا فيه في القرن السادس عشر أو السابع عشر أو الثامن عشر؛ وإن الإنسان ليتلو هذا الثبت التاريخي الحافل متأثراً، وهو يرجع بذهنه إلى تلك التواريخ والعصور البعيدة فيأخذه شعور من الإجلال والروع لهذا القديم التالد الذي مازال يمتلئ حياة ورغبة في مسايرة الزمن. ولقد كان مقام جيته في فندق (النسر الذهبي) حادثاً ذا أهمية خاصة خلدت ذكراه إلى يومنا بإقامة مطعم باسم جيته إلى جانب الفندق مازال مقصد الواردين من كل صوب؛ يجذبهم اسم الشاعر وذكراه قبل أن تجذبهم الأطعمة الشهية التي يتناولونها، وروح الشاعر ترفرف عليهم
وتوجد بالمدينة أيضاً عدة منشآت أخرى من فنادق ومطاعم وأبهاء للنبيذ يرجع معظمها إلى قرنين أو ثلاثة قرون ومنها بهو النبيذ الشهير (أوتوبرج) الذي يرجع قيامه إلى نحو قرنين، ولا زال حيث هو يشرف على نهر (إن) ويقوم بنفس مهمته في استقبال الآكلين والشاربين
وفي العاصمة النمسوية فينا جملة كبيرة من هذه الفنادق والمقاهي التاريخية التي قطعت قروناً من أعمارها، وشهدت عصور الإمبراطورية الزاهرة، ولم تؤثر في حياتها أحداث الزمن، ولا زالت تقوم في جنبات العاصمة النمسوية تستطع بالليل كأنها قطع من النور؛ وهي تزهو جميعاً بماضيها كما تزهو بحاضرها. وقد يضيق بنا المقام إذا حاولنا هنا تعداد الأمثلة، وربما أتيحت لنا بعد فرصة أخرى للتحدث عن هذه المقاهي الشهيرة التي تلعب أكبر دور في الحياة الاجتماعية النمسوية، ولكنا نذكر سبيل على التمثيل مثلين يلفتان النظر بحق: أولهما مطعم (لنده) الشهير الذي يقوم حيث هو منذ أكثر من خمسمائة عام في شارع (البرج الأحمر)، (روتنتوم) والذي شهد حصار الترك الأول للعاصمة النمسوية سنة 1570م، واحتفل منذ حين بمرور خمسمائة عام على قيامه، ومن الشائق أن ترى تاريخ(222/11)
إنشائه منقوشاً على ما يقدم إليك من آنية الطعام، فيذكرك دائماً بعمره المديد وماضيه الحافل؛ والثاني مثل (منزل الطرب) الشهير في حي براتر، وقد أنشئ في أوائل القرن السادس عشر، ولا يزال يقوم حيث هو؛ وهو اليوم مطعم ومرقص، ولكنه كان من قبل منزل راحة ورياضة ملكيا؛ وقد بدأ حياته الجديدة من نحو قرن وكان خلال القرن الماضي مسرحاً لعدة من الحوادث الاجتماعية الشهيرة، وكان بالأخص منتدى محبوباً للأرشيدوق رودلف فون هبسبرج ابن الإمبراطور فرانز يوسف وولي عهده، يقصده مع صحبه لقضاء السهرات المرحة، ولا زالت ذكريات هذا الأمير المنكود الذي زهق في ريعان شبابه في ظروف غامضة، ماثلة في هذا البهو الأنيق تطوف بزائريه، وتذكرهم بالمأساة الشهيرة التي اقترنت بمصرعه في يناير سنة 1889م
وفي معظم العواصم الأوربية نجد أمثال هذه المنشآت تذكر السائح المتجول بالمناسبات والعصور التي قامت فيها، وتقدم إليه طائفة من الذكريات السابقة التي يلذ استعراضها وتأملها
وهذه المنشآت الاجتماعية القديمة فضلا عن كونها تزين العواصم الجليلة، تلعب في الواقع دوراً عظيماً في الحياة الاجتماعية الخارجية؛ وكثير منها يعتبر بحق نوعا من الآثار القيمة التي تجب المحافظة عليها لا من الوجهة الأثرية أو الفنية لأن معظمها يتطور ويتجدد من هذه الناحية مسايراً للعصر وللحياة، ولكن حرصاً على قديمها وعلى تراثها من الذكريات القديمة التي امتزجت بحياة المدينة وحياة الشعب. ولا زلنا نذكر بهذه المناسبة تلك الضجة التي قامت منذ أعوام في الصحف الفرنسية بمناسبة هدم البناء القديم الذي كان يشغله الملهى الباريزي الشهير المسمى (بالطاحونة الحمراء) (مولان روج) عندما أريد تجديد الشارع الذي يقوم فيه فقد ثارت الصحف يومئذ لهذا الأجراء وعز عليها أن يختفي هذا الملهى الشهير الذي امتزجت فيه ذكرياته الساحرة بالحياة الباريزية الليلية حيناً من الدهر، وأصبح من أشهر المنتديات الاجتماعية التي تجذب كل زائر لباريس
وفي معظم الأحيان تقترن أسماء هذه المنشآت الاجتماعية القديمة بأسماء كثير من الشخصيات التاريخية، فنجد مقهى أو منتدى معيناً يؤمه كتاب العصر وشعراؤه، وفي هذا المقهى يجتمعون ويتسامرون، ويكتبون وينظمون، وفيه تتفتح مواهب الكثير منهم، وفيه(222/12)
يتألق نجم بعضهم وتسبغ أسماؤهم فيما بعد على المكان كثيراً من رنينها وشهرتها. فمثلا نجد اسم (المقهى الإنكليزي) (كافيه أنجليه) الذي سطع في باريس في أواخر القرن الماضي يقترن بأسماء كثير من أعلام السياسة والتفكير والأدب في هذه الفترة، وفيه بزغ مجد الكثير منهم
والخلاصة أن الفنادق والمقاهي التاريخية تستحق أن تؤرخ كما تؤرخ الهياكل والصروح الأثرية، وإذا كانت الهياكل والصروح العظيمة تجد دائماً من يتصدى لدراستها وتاريخها من النواحي الأثرية والفنية، فإن الفنادق والمقاهي تستحق أن تدرس من وجوه أخرى تمت بأكبر الصلات إلى تاريخ المجتمعات التي تقوم فيها، وتاريخ الأخلاق والعادات الشعبية، وهي وجوه لا تخفى أهميتها. ولقد قرأت منذ أعوام في إحدى الصحف الفرنسية عدة مقالات شائقة لأحد مشاهير الكتاب (حياة مقهى باريزي عظيم) فأعجبت بطرافتها وتلاوتها وودت لو أننا نستطيع أن نقدم إلى قرائنا مثل هذه الصور الاجتماعية الساحرة. ورحم الله مؤرخنا الكبير تقي الدين المقريزي إذ فطن منذ خمسة قرون إلى أهمية هذه النواحي الاجتماعية في حياة الأمصار العظيمة فأنفق أعواماً طويلة من حياته في دراسة الأحياء والدروب والصروح والمعاهد والمنتديات الاجتماعية، وقدم إلينا في (خططه) مجموعة من الصور الاجتماعية والشعبية لمدينة القاهرة حتى عصره ولم ينس الفنادق والمقاهي التاريخية
(بادن فينا) في منتصف سبتمبر
محمد عبد الله عنان(222/13)
الأزهر وطريق إصلاحه
ربط حاضر الأمة بماضيها
للدكتور محمد البهي قرقر
ليست فكرة إصلاح هذا المعهد العظيم حديثة النشأة؛ وليست كل محاولة لإصلاحه كانت ناجحة؛ وليس كل من قام بأمر الإصلاح كان فيه موفقاً. ولا أريد هنا أن أسرد الأدوار التي مر بها الإصلاح، وعدد الخطوات التي أخفق فيها المسعى، والأخرى التي كان له فيها بعض النجاح؛ إذ كل باحث في أمره يوقن أن الخطوة الأولى التي كانت موفقة فيه هي التي خطاها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأنه هو الذي يعتبر أول مصلح كانت له فكرة، وبجانبها شخصية ذات إرادة مستقلة، وبسببه حافظ الأزهر على حياته، وإن كانت حياة الهرم الذي تعوزه زيارة الطبيب الحاذق من وقت إلى أخر. وبالرغم من وهن هذه الحياة كان ما قام به الأمام هو دور المصلح وداعية البطولة في زمنه
استمر الأزهر بعد ذلك في حياته التي يحس فيها بضعف، تارة يشتد إذا لم يجد في طبيبه صفة المهارة - وكثيراً ما كان ذلك - وطوراً يخف إذا واتاه القدر بمن يواسيه أكثر ممن يطببه. تغيرت فيه عدة مناهج واستبدلت نظم بأخرى باسم الإصلاح؛ ومع ذلك لم يتم إصلاح أو لم يتكون أساسه، لأن الإصلاح الذي يجب أن يكون، وبعبارة أخرى الذي يحمل عليه قانون الوجود الحالي المبني على تنازع البقاء وحياة الأصلح ليس علاجاً مؤقتاً وإنما هو إيجاد حياة من نوع أخر، حياة فتوة لها قوة ممانعة ومقاومة وقوة كفاح وهجوم. ظل أمره كذلك حتى هيأ القدر له، وشاء أن يكون تلميذ الإمام، رجلا من أولئك الذين لهم عقول مستقلة بعيدة المدى في التفكير، ولها قوة إرادة في التنفيذ في صمت ورزانة. فأول خطوة ضرورية رآها للإصلاح أنه عمل على إشعار الأمة بالأزهر واتصال الأزهر بالأمة، فحياته إذن يجب أن تكون من نوع حياة الأمة، ومصر أمة ناشئة فتية
أيدت هذا العمل عقلية أخرى من هذا الطراز - وعقول الإصلاح دائماً متفقة متجانسة - ولكنها أشعرت الأمة هذه المرة بصورة أخرى هي أن لا غنى للأمة المصرية ولا للعالم الإسلامي عن الأزهر. ولكن كيف يؤدي رسالته الوطنية والعالمية في القرن العشرين؟
تنبهت الأذهان وعني الكتاب والباحثون في الشئون الاجتماعية والعلمية بهذا الموضوع(222/14)
ودونوا لهم آراء في ذلك وآسف أني لم أطلع عليها. وقد يجوز أن يكون هؤلاء قد عالجوا الموضوع من نواح عدة، وأظهروا رغباتهم الإصلاحية لهذا المعهد التاريخي الكبير في صور يرون فيها مهمته في العصر الحديث. ربما يكون بعضهم قد تناول مثلا تحديده كمدرسة عالية لفئة خاصة من الأمة يجب عليها قبل الالتحاق بها استيفاء شروط مخصوصة ودراسة إعدادية على نمط خاص أو غير ذلك من التنظيم والمناهج
ولا أريد أن أبحث الآن: كيف يكون الأزهر معهداً نظامياً كمعاهد الحكومة العالية، لأني لا أبغي أن يكون الأزهر على هذا النمط الآلي، وإنما أريد أن أبحث: كيف يتحول الأزهر إلى جامعة علمية حديثة مع الاحتفاظ بصبغته الماضية التي خولت له أن يكون هو المدرسة الوطنية الوحيدة في مصر في الوقت الحاضر بحكم اعتمادها على ثقافة الأمة الموروثة، والتي منحته صفة روحية باعتبار أنه المكان الأول في العالم الإسلامي للعناية بالدين ونشره، ثم كيف يكون الطريق العملي لذلك، إذ كثيراً ما كتب دعاة الإصلاح وكثيراً ما حاول القائمون بأمره أن يصلحوه، ولكنها كانت كتابة يغلب عليها الخيال، ومحاولة كان أساسها تقليد نظم مدارس أخرى: مدارس وزارة المعارف التي هي في نفسها أيضاً بناء مرقع رعوي فيه تقليد رسوم متباينة؛ وهذه المحاولة كادت تخرجه عن الغرض الذي يجب أن يكون له الأزهر والذي كان له منذ قرون مضت
وغاية الأزهر (أولا) تهذيبية علمية وطنية، لأنه يقوم بتربية جزء عظيم من أبناء الأمة ويعده فوق ذلك لتولي عدة مصالح في الشعب، لا يمكن تعويضها فيها، لها قيمتها في إصلاح نواحيه الخلقية والاجتماعية، وبالأخص في رعاية الأسرة التي هي الدعامة الأولى في بناء الأمة. و (ثانياً) دينية عالمية لأنه المرجع الأول لحل المسائل الدينية التي لها ارتباط وثيق بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية لأمم العالم الإسلامي والتي يتوقف تقدم تلك الأمم أو تأخرها بنسبة كبيرة على فهم الروح الدينية (الفقهية) أو عدم فهمها لهذه المسائل الحيوية
ومن يفكر أو يحاول أن يحمل غيره على أن يعتقد أن غاية الأزهر روحية بالمعنى الكنسي، فمبعث تفكيره هذا التقليد السلبي الذي طغى على النواحي العقلية في مصر الحديثة، ومنشأ محاولته جهل أو تجاهل بالتاريخ أو سوء فهم للإسلام وللأزهر ولأثره في(222/15)
تكوين النهضة الوطنية، أو هو نفسه لا يقيس الوطنية إلا بمقياس العاطفة، وما كانت العاطفة في يوم من الأيام إحدى الدعامات في بناء راسخ!
ولكن الأزهر الآن يؤدي مهمته كما كان يؤديها في الغابر من تلقين ما للماضي من ثقافة؛ وربما يدَّعى أن هذا التلقين وحده لا يعد الناشئة للكفاح في الحاضر ولا يقرب فهم المسائل الدينية والاجتماعية من ضوء الواقع الحالي، فذلك التلقين لا يفي لهذا بالغاية من وجود الأزهر، لأنه أداء جزء من مهمة يجب أن يتصل به تواً أداء البقية وهي ربط الحاضر بالماضي. وهذا هو الطريق العملي، فيما أظن، لتحقيق غاية الأزهر التهذيبية والدينية
ربط الحاضر بالماضي ليس معناه ضم ثقافة أجنبية جديدة على حدة إلى ثقافة الماضي، وإضافة علوم حديثة مستقلة إلى ما كان للأمة في الأزمان الغابرة، وإنما هو السير في البحث العلمي على أثاث الثقافة الموروثة، ولكن في ضوء مقتضيات العصر الحاضر. وهذا السير يتطلب التخصص في العلوم المختلفة ولكن في موضوعات الفن الواحد. فمثلا في الفقه يجب أن يكون هناك أساتذة فنيون في موضوعاته مزودون بثقافة أخرى لها ارتباط وثيق بالموضوع المتخصص فيه. فيجب أن نرى أساتذة في الفقه الجنائي، وهو يشمل على سبيل التقريب: الديات وفرض مبدأ التعويض المالي. التعزير بالحبس. القصاص. إعفاء الوالي من إقامة الحد إذا رأى المصلحة العامة في ذلك. . . وأساتذة في الفقه المدني والتجاري، وهو يشمل على سبيل التقريب: عقود البيع، نظرية الربا وربط الفائدة. الرهن. الايجارة، الشفعة. عقود الشركات المختلفة. مبدأ الضمان والكفالة. الهبة. الوصية. . . وأساتذة في فقه الأحوال الشخصية، وهو يشمل على سبيل التقريب: عقد النكاح، حقوق الأسرة. النفقة، الإرث، نظرية إثبات النسب والتبني وعلاقة ذلك بالمجتمع وتكوين الأسرة. نظرية الحضانة الفردية وارتباطها بنظرية قيام الدولة بالعناية بالأطفال إجبارياً لشقاق في العائلة أو طروء جنون على أحد الزوجين أو مشاكل ذلك. . . وأساتذة في الفقه الإداري والسياسي، وهو يشمل على سبيل التقريب: معاملة الأجانب ونظرية الأقلية في اعتبارها هيئة منعزلة لها احترام عاداتها ما لم تخل بنظام الأكثرية وعليها ضريبة (الجزية) للقيام برعايتها وحفظ مصالحها. مبدأ الجهاد. قوانين الأسر والعتق. مبدأ الشورى في نظام الحكم الداخلي. مبدأ التفويض للوالي. الاستقلال في السياسة الخارجية(222/16)
(نحو العدو مثلاً) وإعلان الحرب
وفي الفلسفة والأخلاق يجب أن يكون هناك أيضاً فنيون في موضوعاتها المختلفة على هذا النمط، فأخصائيون في فلسفة الإسلام، وتشمل على سبيل التقريب: محافظة الإسلام على وحدة الأمة والرغبة في عدم تصدعها. نظرية الإيمان بوحدة الخالق. تفضيل صلاة الجماعة. ضرورة الاجتماع كل أسبوع في مكان واحد لا فرق بين غني وفقير ورفيع ووضيع لتجديد عهد الإخاء وهو الغرض من صلاة الجمعة. ضرورة اجتماع أغنياء مسلمي العالم في أول مكان للدعوة الإسلامية كل عام لتذكر عهد النشأة والاستمرار في التمسك بالعقيدة والعمل على نشرها، وهو الغرض من الحج. العمل على إشعار ذو النفوذ المالي بوجوب العطف على الفقراء إبقاءً لمالهم في أيديهم وقمعاً لثورة نفسية بين الطبقات المعدمة ربما تتبعها ثورة أخرى اجتماعية (بلشفية) تقلب نظام الحكم في الأمة وتنزع رؤوس الأموال من أيدي أصحابها. . وهو الغرض من الزكاة. وأخصائيون في الفلسفة الإسلامية، وتشمل على سبيل التقريب: لا حكاية ما قال ابن سينا وتبعية ابن رشد لأرسطو طاليس وأمثال ذلك مما ينقل فحسب، وإنما قبل كل شيء بيان منزلة الفلسفة الإغريقية، وهي الفلسفة الإلهية وعلاقتها بعلم (التوحيد) الإسلامي، ثم مقدار نصيب الإسلام من هذا العلم. ثم بيان مساهمة العلماء الإسلاميين ومساهمة الثقافة الإسلامية في خلق فلسفة إسلامية وتكييفها. . . وأخصائيون في أخلاق الإسلام والأخلاق الإسلامية: وتشمل على سبيل التقريب: المبادئ الخلقية التي جاء بها الإسلام. مقارنة ذلك بالنظريات الأخلاقية الإسلامية التي أشتغل بها علماء الإسلام والتي قد لا يمت بعض مبادئها إليه بصلة إيجابية. مقارنة ذلك أيضاً بالنظريات الخلقية الحديثة. دراسة المبدأ الخلقي ونظرية اعتباره المطلق أو المقيد. . .
وهذا التخصص ليس تبويباً جديداً أي صورياً فحسب، وإنما هو أبحاث علمية مستقلة يجب على من يقوم بها دراسة ما يشبهها في الثقافات الأخرى حتى يتكون مبدأ المقارنة والاستنتاج، ثم يتبعه مبدأ التطبيق العملي، وهما من عوامل التقدم في البحث العلمي، لأن حكاية ما قيل فقط لا يسمى بحثاً فضلا عن وصفه بالعلمي. فأستاذ الفقه الجنائي مثلاً يجب أن يدرس علم النفس الجنائي: الذي هو مختص ببحث أنواع الإجرام النفسي، ثم بحث(222/17)
التشريع الجنائي الحديث وكيفية بنائه على التجارب النفسية بوساطة هذا العلم. وأستاذ الفقه المدني والتجاري عليه أن يلم بالنظم الاقتصادية الحديثة. وأستاذ الفقه السياسي ينبغي أن يلم بالتاريخ الاقتصادي والسياسي وبفلسفة الحرب وفلسفة مبدأ حكم الأقليات
وبواسطة هذا يتسنى لهؤلاء الأساتذة لا بيان مزايا الدين الإسلامي فحسب في هذه الموضوعات مثلاً، بل حمل الأمم الإسلامية على الاعتماد في تشريعها الحديث في كل أنواعه على مبادئ الفقه الإسلامي، ثم في الوقت نفسه رد حملات العلماء الأجانب على الإسلام التي سببها الجهل أو الرغبة في إبعاد المسلمين عن أتباع دينهم باسم (خدمة العلم) و (حرية البحث) حتى يدب فيهم ضعف الشقاق، بين المصمم على أتباعه وبين الواهم في التخلي عنه، بين (الرجعي) و (المجدد) وبين (القديم) و (الحديث). وما خدمة العلم هنا إلا الرغبة في السيادة واستمرار سيطرة (الحضارة الأوربية) على الشرق الإسلامي
وعلى هذا النمط في التخصص يسير الأمر في العلوم الأخرى. وبخاصة تجب مراعاة هذه القاعدة بدقة في قسم الوعظ والإرشاد. ففضلا عن أن تتبع فيه دراسة أساليب التبشير الحديث يلزم دراسة نفسيات الشعوب الإسلامية المختلفة وعاداتها ولغاتها. وبناء على هذه الدراسة الأخيرة ينشأ التخصص والتوزيع، فيجعل: قسم للوعظ والإرشاد للشعب المصري: فالنوع الحملي منه: يتولى قبل كل شيء بحث نفسية المجرمين ونوع الأجرام الذي يرتكب بكثرة بمساعدة الإحصائيات الرسمية لذلك، ثم دراسة أسلوب الوعظ الذي يمكن أن يؤثر في مثل هذه النفسية ويحملها على الإقلاع أو التقليل من هذا الإجرام. . .
والنوع الثقافي الأخر: يتولى الأعداد لتهذيب شعبي مبني على البساطة، وكيفية الخطابة في المساجد، وإعطاء دروس للشعب فيما هو في حاجة إليه من الثقافة الخلقية والواجبات الفردية والجمعية
ويجعل قسم للوعظ والدعاية: لشعوب الشرق الأدنى
ويجعل قسم للوعظ والدعاية: لسكان الشرق الأوسط والهند وجاوة
ويجعل قسم للوعظ والدعاية: لشعوب البلقان
ويجعل قسم للوعظ والدعاية: لسكان السودان والحبشة وجنوب أفريقيا
ويجعل قسم للوعظ والدعاية: لسكان أمريكا الجنوبية(222/18)
وفي كل قسم من هذه الأقسام تدرس فضلاً عن لغة الشعب، القواعد الخلقية التي يسير عليها، والمذهب الفقهي السائد فيه. وبناء على هذه الدراسة تحدد موضوعات الوعظ الديني التي تجب دراستها في كل قسم، لأن الغاية من الوعظ هي حمل الشعب بطريقة التأثير في نفسه على اتباع قواعد خلقية معينة يقتضيها النظام العام لحفظ وحدة الأمة وبغية سعادتها. والغاية وإن كانت واحدة فأن الطرق إليها مختلفة لضرورة اختلاف النفسيات التي تخضع في تكونها إلى الوراثة والتربية الأولى والمجتمع فيما بعد، وهذه العوامل ليست متشابهة في كل أمة
هذا فضلا عن دراسة نفسيات هذه الشعوب وثقافتهم هي في نفسها دراسة إسلامية يرجى من ورائها تعارف الأمم الإسلامية وتزايد الرابطة بينها
وبهذه الأهمية أصبحت دراسة علم النفس التجريبي اليوم، ومن خصائصه وصف النفسيات المختلفة للأفراد والأمم، العامل الأول في السيطرة على النفوس إما لغرض إصلاحها أو بغية استعمارها. ولم يعن الأوربيون بدراسة النفس الشرقية على ضوء التجارب والسلوك الشخصي وكذا بقية الأمم الضعيفة وإنشاء المعاهد المختلفة لدرس ثقافاتهم وأديانهم ولغاتهم حباً أفلاطونياً في العلم وغراماً خيالياً بالبحث، وإنما عنوا بها رغبة في السيطرة والاستعمار العسكري أو التجاري
وإذا كان التخصص في الموضوعات الفنية يحتاج إلى الاتصال بالأوساط العلمية الأخرى، الأجنبية عن الأزهر، فإن التخصص في أقسام الوعظ أشد احتياجاً إلى الاتصال بالشعوب الإسلامية المنتشرة في بقاع الأرض ودراسة أحوالها النفسية والشعبية لبناء الوعظ على أساس متين تكون من ورائه الفائدة محققة، وتتقوى بذلك رابطة مصر العلمية والأدبية بالأمم الإسلامية الأخرى، وهي رابطة يجب أن تحافظ عليها لأنها سبب عظمة مصر فيما بينها وتعلق تلك الشعوب بها
وبهذا يكون للأزهر صلة حية بالشعب إذ يصبح المدرسة العالية لثقافة وطنية مؤدية لمقتضيات العصر الحاضر، ومعهد البحث للتشريع الوطني الحديث؛ وفي الوقت نفسه يقوم برسالته الروحية في بقية العالم الإسلامي، ومن ورائها يؤدي رسالة مصر الأدبية في الخارج. وما هذه المنزلة العالية التي تتمتع بها مصر اليوم في الشرق إلا لهذه الصلة(222/19)
الروحية واعتقاد أن مصر تملك أكبر مكان للدراسات الإسلامية كما تملك مكة المكرمة أول مكان للدعوة إلى الإسلام. ولولا الأزهر لما نالت مصر تلك المنزلة بين الأمم الشرقية، فهي تمثل سياسياً تقريباً في كل بلدان العالم الأخرى التي لا تتصل بالإسلام اتصال تدين، وتنفق على ذلك مبالغة جسيمة، ومع هذا فمصر الحديثة صاحبة النهضة التي لا تقل شأناً عن نهضة كثير من بلدان أوربا الجنوبية والشرقية مازالت هنا في أوربا هي مصر الأفريقية
إن الأزهر قارب أن يبلغ ألف سنة، وتلك مفخرة لم تصل إليها إحدى الجامعات العالمية بعد، والعالم يريد أن يرى رؤية محسوسة مبلغ التطور الذي وصل إليه والذي هو مقياس نهضة مصر العلمية الوطنية، لا التقليدية، ويعرف أي القواعد يسير عليها في بحثه، وأية نظرية يأخذ بها في تأدية رسالته، بعدما وقف بالبحث عند طريقة القرون الوسطى زمناً طويلاً وبعدما كان في حيرة من أمر رسالته، حيرة سببها عدم معرفته بها
إن مصر اليوم والعالم الإسلامي يشهد بما لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي من عمل جدي ملموس في إصلاح هذه الجامعة العالمية ويعترف بقدرته على إتمامه اعترافاً مرجعه الاقتناع بأن له شخصية مصلح في التاريخ الحديث، وما أقل وجودها في العالم وأندرها في مصر وأشدها ندرة بين الأزهر. كل يعقد عليه أملاً كبيراً، أمل البناء والتشييد في الإصلاح. كل يرتقب ثورة فكرية، وانقلاباً إصلاحياً له حدثه التاريخي؛ فالوقت تأخر، والحاجة ماسة، والعقول متهيئة لهذا الانقلاب، والنفوس ملت هذه التعديلات الصورية
مولاي المراغي: إذا كان المصلح الأول والوحيد قبلك وهو الأستاذ الأمام، قد حافظ على حياة الأزهر فحسب، ولم يتركه لك فتياً بل سلمه إليك كهلا يعاني ألم الضعف، فإن ذلك ما أمكنه وأمكن زمنه معه أن يؤديه للأمة والتاريخ؛ ولكنك أنت في زمن توفرت فيه وسائل الإصلاح وانبثقت روح الشباب والتجدد في كل شيء، فمهمتك من هذا النوع، ولها حباك القدر بتلك الشخصية، وبتأديتها ستكون موضوعاً للتاريخ والبحث
محمد البهي قرقر
دكتور في الفلسفة وعلم النفس وعضو بعثة الإمام الشيخ محمد
عبده(222/20)
صاحب النحلة السنانية
رسالته، دهاؤه، بيانه
لأستاذ جليل
ذكر العلامة الأستاذ محمد كرد علي مقاله المحقق: (ابن العديم وتآليفه) في (الرسالة) الغراء - الجزء 220 في 14 رجب 56 - سنانا الإسماعيلي (صاحب النحلة السنانية أو الحشيشية) وروى أبياتاً من شعره، وأشار إلى رسالته إلى السلطان صلاح الدين. وقد رأيت أن أنشر تلك الرسالة الأنيقة لنفاستها، وقد نقلت - كما قال ابن خلكان - من خط (القاضي الفاضل) وما قولك في شيء يعجب عبد الرحيم البيساني فينسخه بنفسه؟ ثم أورِدُ ما أملاه صاحب (شذرات الذهب) من أنباء سنان هذا وفيه حديث عجيب في الكيد أو الدهاء ما بلغ دهاة مناكير مبلغه، ولا سمع السامعون شبهه. ثم أروي (بياناً) لسنان إلى جماعته لجلالة قيمته في تاريخ النحل وقد عثر عليه العرباني (م. ستان جوارد) ونقله إلى الفرنسية. و (البيان) يبين لنا أن (أبا الحسن راشد الدين) قد ادعى دعوى الجماعة في الألوهية أو حاولها، ولم يشأ أن يحتكرها في القاهرة محتكرون، ويستبد بها فاطميون - كما يقولون - أو عبيديون، وهو قد عرف من (أسرار الدعوة. . .) ما عرفوه. . . وما حل في مصر حل مثله في الشام. . .
الرسالة
يا للرجال لأمر هال مُفظِعهُ ... ما مر قط على سمعي توقّعهُ
قام الحمام إلى البازي يهدده ... وكشّرت لأسود الغاب أضبعه
أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه ... يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه
يا ذا الذي بقراع السيف هددني ... لا قام مصرع جنبي حين تصرعه
إنا منحناك عمرا كي تعيش به ... فإن رضيت وإلا سوف ننزعه
وقفنا على تفاصيله وجمله، وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله، فيا لله للعجب من ذبابة تطن في أذن فيل، وبعوضة تعد في التماثيل. ولقد قالها من قبلك قوم آخرون فدمرنا عليهم وما كان لهم من ناصرين. أو للحق تدحضون، وللباطل تنصرون (وسيَعْلمُ الذين ظلموا أَيَّ(222/22)
مُنقلَبٍ ينقلبون). وأما ما صدر من قولك في قطع رأسي، وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي، فتلك أماني كاذبة، وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض. كم بين قوي وضعيف، ودني وشريف! وإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات، فلنا أسوة برسول الله في قوله: ما أوذي نبي كما أوذيت. ولقد علمتم ما جرى على عترته، وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال، والأمر مازال، ولله الحمد في الأولى والآخرة، إذ نحن مظلومون لا ظالمون، ومغصوبون لا غاصبون (وقل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا) ولقد علمتم ظاهر حالنا، وكيفية رجالنا، وما يتمنونه من الفوت، ويتقربون به إلى حياض الموت. قل (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولن يتمنوْه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) وفي أمثال العامة السائرة: (أوَ للبط، تهددين بالشط) فهيئ للبلايا جلباباً، وتدرع للرزايا أثواباً، فلأظهرَنَّ عليك منك، ولأفنينهم فيك عنك. . . فتكون كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه (وما ذلك على الله بعزيز) فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن لأمرنا بالمرصاد، وأقرأ أول (النحل) وآخر (صاد)
الخبر
وفي سنة (588) توفي راشد الدين أبو الحسن سنان بن سلمان مقدم الإسماعيلية، وصاحب الدعوة بقلاع الشام. وأصله من البصرة، قدم إلى الشام في أيام نور الدين، وأقام في القلاع ثلاثين سنة، وجرت له مع السلطان صلاح الدين وقائع وقصص، ولم يعط طاعة قط، وعزم السلطان على قصده بعد صلح الفرنج، وكان (سنان) قد قرأ كتب الفلسفة والجدل
قال المنتجب: أرسلني السلطان إلى سنان مقدم الإسماعيلية ومعي القطب النيسابوري، وأرسل معنا (تخويفاً وتهديداً) فلم يجبه بل كتب على طرة كتاب السلطان: (الأبيات في الرسالة المتقدمة) ثم كتب بعد الأبيات خطبة بليغة (هي تلك الرسالة) مضمونها عدم الخوف والطاعة، فلما يئس صلاح الدين منه جنح إلى صلحه، ودخل في مرضاته
قال اليونيني في تاريخه: إن سناناً سير رسولا وأمره ألا يؤدي رسالته إلا خلوة، ففتشه السلطان صلاح الدين فلم يجد معه ما يخافه فأخلى له المجلس إلا نفراً يسيراً فامتنع من أداء الرسالة حتى يخرجوا فخرجوا كلهم غير مملوكين صغيرين فقال: هات رسالتك، فقال:(222/23)
أمرت ألا أقولها إلا في خلوة فقال: هذان ما يخرجان
قال: ولِمَ؟
قال: لأنهما مثل أولادي
فالتفت الرسول إليهما وقال: إذا أمرتكما عن مخدومي بقتل هذا السلطان تقتلانه؟
قالا: نعم، وجذبا سيفيهما. فبهت السلطان، وخرج الرسول وأخذهما معه فجنح صلاح الدين إلى الصلح وصالحه. ودخل في مرضاته
البيان
(بسم الله الرحمن الرحيم: فصل من اللفظ الشريف للمولى راشد الدين عليه السلام، وهو أفضل البيان تقوتي بربي لا إله إلا هو العلي العظيم. أيها الرفقاء، غبنا عنكم غيبتين: غيبة تمكين وغيبة تكوين؛ واحتججنا عن أرض معرفتكم، فضجت الأرض، وتقلقلت السموات، وقالت: يا باري البرايا الغفور، فظهرت بآدم، وكانت الدعوة حواء، فحوينا على قلوب المؤمنين الذين ضجت أرض قلوبهم شوقاً إلينا، فنظرنا في سماء نفوسهم رحمة منا، فمضى دور آدم ودعوته، ونفذت رحمة منا في الخلائق حجته. ثم ظهرت بدور نوح فغرقت الخلائق في دعوتي، فنجا بدعوتي ولطفي من آمن بمعرفتي، وهلك من الخلائق من أنكر حجتي. ثم ظهرت في دور إبراهيم على ثلاث مقالات: كوكب وقمر وشمس فخرقت السفينة، وقتلت الغلام، وأقمت الجدار جدار الدعوة فنجا بلطفي ورحمتي من آمن بدعوتي؛ وخاطبت موسى بخطاب ظاهر غير محجوب للسائل هرون، ثم ظهرت بالسيد المسيح فمسحت بيدي الكريمة عن أولادي الذنوب فأول تلميذ قام بين يدي يوحنا المعمداني، وكنت بالظاهر شمعون، ثم ظهرت بعلي الزمان وسترت بمحمد، وكان المتكلم عن معرفتي سلمان، ثم ذر أبو الذر الحقيقي في أولاد الدعوة القديمة بقيام قائم القيامة حاضراً موجوداً فما تم لكم الدين حتى ظهرت عليكم براشد الدين فعرفني من عرفني وأنكرني من أنكرني، وأنا صاحب الكون وما خلت الدار من أفراخ القدم. أنا الشاهد والناظر، ولي الرحمة في الأول والآخر، فلا يغرنكم تقلب الصور؛ تقولون فلان مضى وفلان أتى، أقول لكم أن تجعلوا الوجوه كلها وجهاً واحداً، ما يكون في الوجود حاضراً موجوداً صاحب الوجود! لا تخرجوا عن أمر ولي عهدكم من عربها وعجمها وتركها ورومها فأنا المدبر، ولي الأمر(222/24)
والإرادة. فمن عرفني باطناً قد تمسك بالحق، ولا تكمل معرفتي بغير ما أقول. عبدي اطعني واعرفني حق معرفتي أجعلك مثلي حياً لا تموت وغنياً لا تفتقر، وعزيزاً لا تذل. اسمعوا وادعوا تنتفعوا. أنا الحاضر وأنتم الحاضرون بحضرتي. أنا القريب الذي لا أغيب، فإن عذبتكم فبعدلي، وأن عفوت عنكم فبكرمي وبفضلي، أنا صاحب الرحمة وولي الغفر والحق المبين، والحمد لله رب العالمين، وهذا بيان)
هذا بيان راشد الدين وقد نشر أمثاله من رسائل العبيدين بعد حين
(قارئ)(222/25)
الأزهريون والخدمة العسكرية
للدكتور محمد عبد الله ماضي
في الأيام الأخيرة قامت ضجة حول ما أشيع من عزم وزارة الحربية المصرية على وضع تشريع يقضي بتجنيد حملة القرآن الشريف، وطلبة العلم بالمعاهد الدينية، حتى إن بعض الهيئات المحترمة قررت استنكار هذا الأمر، ورأت فيه ما لا يتناسب وحرمة الدين، وما يتنافى مع تكريم أهله. ولعل لأصحاب هذا الرأي بعض العذر، ولعل لديهم من القرائن البعيدة عن جوهر الموضوع وما حملهم على الاستنكار، وجعلهم يرون في مثل هذا التشريع مساساً بكرامة الدين وأهله؛ ولكني أريد هنا أن أحاول معالجة موضوع التجنيد العام في ذاته، وأن أبين رأي الإسلام فيه
ولابد لنا أن نعرف أولاً أن غزيرة الكفاح من الغرائز البشرية ذات الأثر الفعال في حياة الأفراد، وفي نظام الجماعات وتكوينها؛ ولقد كان هذا الأثر واضحاً في كل العصور، وفي جميع تطورات الجماعة من البسيطة الهمجية إلى الراقية المتحضرة. فالكفاح الدائم بين الأفراد والجماعات من سنن الطبيعة وقوانينها مادامت الطبيعة وما عاش الإنسان؛ وهو الوسيلة لبقاء الأصلح، وفناء العاجز الضعيف؛ وهو إذاً سبيل الحياة الدائمة المتواصلة، كما يقول نوفيكوف وبقية أصحاب نظرية الكفاح من علماء الاجتماع
والحرب نوع من أنواع الكفاح القاسية التي نراها لا تزال تتكرر في مختلف العصور بالرغم من بغض الناس لها، وبالرغم مما تجره وراءها من ويلات. وإن الدعوة إلى السلام الدائم بين جماعات الشعوب أمر محمود، ولكنه لا يغير من الواقع شيئاً، وحلم لذيذ لم نر إلى الآن أن الوقائع التاريخية والحوادث الاجتماعية تساعد على تحقيقه. ففي الحوادث التي وقعت في السنوات الأخيرة بين الشعوب المنتسبة إلى عصبة الأمم - حصن الدعوة إلى السلام الدائم - وفيما تكرر ويتكرر من اعتداء قويهم على الضعيف منهم ما يبين لنا أن دعاة السلم لم يتعدوا في دعوتهم حدود القول، ولم يأتوا بشيء عملي لتحقيق ما يدعون إليه
فلا غرابة إذن إذا كنا نرى الأمم القوية في كل العصور تنادي بالسلام وهي تستعد للحرب؛ أما الشعوب الضعيفة فإنها تتخدر أعصابها بالدعاية إلى السلم، وتصم آذانها عن نداء الواجب صيحة السلام التي يرسلها القوى المدججة بالسلاح معمياً، حتى لا تزال هذه الأمم(222/26)
الضعيفة في عمى عن الحقائق، فريسة له، عاجزة عن الدفاع عن نفسها أمام هجماته، وميداناً لتحقيق مطامعه. والشعوب الحية العزيزة، التي تشعر بالكرامة، وتأبى الضيم والمذلة على استعداد دائم للدفاع عن نفسها، ورد اعتداء المعتدي، فهي تأخذ أفرادها بالمران على الأعمال الحربية، تقوي أجسامهم، وتربي العزة في نفوسهم، وتحبب إليهم التضحية بالنفس والنفيس في سبيل دفع الاعتداء عن أمتهم، ورد المهانة وسلامة الكرامة، والاحتفاظ بالحرية. فالروح العسكرية، وتربية الشعب تربية عسكرية أمر لابد منه لكل أمة تريد أن تعيش مرفوعة الرأس، عزيزة الجانب بين الأمم؛ أمر لابد منه لأشعار أفراد الشعب بمعنى العزة والكرامة، وحتى يؤمنوا بأن الموت العزيز خير من الحياة الذليلة
هكذا صنعت وتصنع الأمم الحية الكريمة، وهكذا كان شأن الأمة الإسلامية في مبدئها، وفي العصر الذي كان المسلمون يعملون فيه بتعاليم الإسلام الصحيحة قبل أن تختلط بالمبادئ الدخيلة التي أعطيت صبغة الإسلام وهي ليست منه في شيء. فكما تأمر مبادئ الإسلام بتعليم النشء وتثقيفه، فهي تأمر أيضاً بأخذه بأنواع الرياضة، وتدريبه على فنون الحرب. وقد جاء في الحديث الشريف (حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي) وفي التعليق على حديث (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي) يقول صاحب نيل الأوطار: وكرر ذلك للترغيب في تعلمه (الرمي) وإعداد آلاته؛ وفيه دليل على مشروعية الاشتغال بتعليم آلات الجهاد، والتمرن فيها، والعناية في إعدادها، ليتمرن بذلك على الجهاد ويتدرب فيه، ويروض أعضاءه
وليكن لنا في رسول الله أسوة حسنة، وهو المثل الأعلى للرجولة الكاملة، فلقد ساهم عليه السلام بنفسه في كثير من أنواع الرياضة، والتمرينات الحربية، فسابق في العدو، ورمى، وصارع؛ ولقد شاهد اللعب بالحراب، واشترك في سباق الخيل. كان يفعل كل هذا، ويأمر به، ويشجع عليه أفراد أمته، حتى النساء منهم، فلقد كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها جريا على الأقدام، فمرة تسبقه ومرة يسبقها. أرأيت كيف أن هذا لا ينافي الوقار والشرف والعلم والفضل وعلو السن؟! هذا هو حكم الإسلام في الرياضة البدنية؛ وهذا هو حكم الإسلام في الخدمة العسكرية، وتعليم أفراد الأمة فنون الحرب، وأخذهم بآداب الجندية
ولم تزل الشعوب قوية عزيزة الجانب حتى أخذت روح الجندية تضعف في نفوس أفرادها،(222/27)
وأخذ استعدادهم للدفاع عن حمامهم يضعف ويقل؛ فأخذ العدو يهاجم بما لا حول لهم به ولا قوة، حتى وصلت بهم الحال إلى ما هم عليه من الضعف، وحتى استعبدهم الغير؛ وما فتئت الدول المستعمرة في العصور الأخيرة تعمل على قتل روح الجندية، روح القوة والرجولة في الأمم الإسلامية المغلوبة على أمرها، لتطول مدة حكمها لها، ولتأمن جانبهم في الدفاع عن أنفسهم. عملت على هذا، ووضعت لتنفيذه خططاً مدبرة محكمة، كان من أشدها خطراً عندنا في مصر قانون البدل والإعفاء من الخدمة العسكرية؛ إذ ظن المعفون خطأ أن في ذلك ميزة لهم وشرفاً اكتسبوه؛ وكانت نتيجة هذا الأجراء المدبر أن انحصرت الخدمة العسكرية في أفراد الطبقة الفقيرة الجاهلة من الشعب؛ وعومل هؤلاء أثناء تأدية الخدمة من رؤسائهم معاملة إذلال وقهر، غرست في نفوسهم البغض لما هم فيه، وقتلت فيهم الروح المعنوية التي لابد لها منها لانتصار الجنود إذا اشتدت الخطوب، ووقع القتال؛ هذه الروح المعنوية التي جعلت العشرين من جند النبي وأصحابه يغلبون مائتين، والمائة يغلبون ألفين
هذه العوامل وغيرها ولدت في نفوس الشعب عندنا بغض الخدمة العسكرية وتحقيرها، حينما تفخر الشعوب الحية بها وتعتز؛ وبهذا فقد شبابنا كثيراً من معاني القوة والرجولة. ومن عجائب الدهر أن تجعل الخدمة العسكرية عقوبة للطالب الأزهري يعاقب بها إذا رأى ولاة الأمور خروجه عن النظام، وقرروا إنزال العقاب به؛ فهم حينئذ يمحون اسماه من سجلات الطلبة الأزهريين ويبلغون الجهات المختصة لتحرمه من امتياز الإعفاء من الخدمة، وتعاقبه فتجعله يؤدي الخدمة العسكرية - كما وقع ذلك في بعض عصور الأزهر الغابرة -
ألا إن هذا عكس الحقائق، ووضع للأمور في غير نصابها؛ هذه الروح يجب أن تزول، وأن يحل محلها روح الشعور بأن الجندية شرف لا عقوبة
الواجب على أولي الأمر بعد أن حصلنا على معاهدة الاستقلال، وأطلقت يدنا من عقالها في كثير من الشئون أن يصلحوا ما أفسده الدهر من أمر الخدمة العسكرية في بلادنا. وإذا أراد أن يسلم لنا شرفنا فلنعمل على تربية روح العزة والكرامة، ولنتعهد روح الرجولة بما ينميها في نفوس الأفراد، فيجب أن تكون الخدمة العسكرية عامة إجبارية على كل من(222/28)
يصلح لها من أبناء الشعب بلا تفريق بين طبقة وطبقة، وبغير تمييز بين أهل حرفة دون حرفة، ليشعر أبناء الشعب جميعاً بالأخوة والمساواة، وليدخلوا جميعاً مدرسة الرجولة
وعلى جميع طبقات الأمة أن ينادوا بهذا، ويطالبوا ولاة الأمور بتنفيذه؛ وعلى حملة القرآن الشريف، والأزهريين منهم خاصة - من أصحاب الامتياز المزعوم - أن يطالبوا أولي الأمر مع المطالبين، بل في مقدمتهم بالتجنيد الإجباري العام، فإنهم أبناء الأمة، وعليهم أن يشركوا إعداد أنفسهم للدفاع عنها إذا دعا الداعي. ولهم أن يفخروا بشرف الانخراط في سلك الجندية، فلقد حان الوقت ليخرج الأزهريون من عزلتهم، وليأخذوا أنفسهم بتعاليم الإسلام الصحيحة، وينفوا ما زيف عليهم منها
فليس من الإسلام أن حملة القرآن الشريف، وطلبة الأزهر يعفون من خدمة العسكرية، فالإسلام دين الرجولة يمقت كل ما يمت إلى التخنث بصلة؛ وليس من الإسلام هذا الوقار المزعوم الذي يتخيله العامة عندنا في المشية المتثاقلة المتئدة البعيدة عن النشاط وخفة الحركة، فلقد كان النبي عليه السلام يسير ملقياً جسمه إلى الأمام مسرع الخطو ثابته.
محمد عبد الله ماضي
دكتور في التاريخ والاجتماع وعضو بعثة تخليد ذكرى الشيخ
محمد عبده بألمانيا(222/29)
في تاريخ الأدب العربي
كليلة ودمنة
للأستاذ عبد الله محمود إسماعيل
لست أزعم أن أدلة هذا البحث - على قوتها - مما لا يستطاع نقضه أو أضعافه. ولست أزعم أن موضوع البحث مما لم يسبق لبعض الأقلام تناوله. ولكن الذي أستطيع زعمه أن أكثر ما سأعتمد عليه في تدعيم وجهتي طريف مبتكر لا يشينه سطو ولا تعكره إغارة
وقد يكون مرجع الفضل في إثارة هذا البحث إلى رسالة صغيرة كتبها عن ابن المقفع الزميل (الأستاذ محمد قابيل) ذهب فيها مذهب بعض المستشرقين من القول بأن نسبة كتاب كليلة ودمنة إلى غير عبد الله بن المقفع يعوزها الدليل القوي، وأن الكتاب في مجموعه لا يخرج عن حكايات وضعها ابن المقفع أو نقلها عن الآداب الدخيلة. يريد بذلك ألا يجعل للكتاب أصلا في الفارسية أو الهندية بهذا الاسم، وهو يؤيد اختياره هذا بما يلمس في الكتاب من بلاغة عبارة، وقوة أداء، وخلو من المسحة الدخيلة، مما لا يتهيأ لكتاب مترجم حرص فيه على الأمانة؛ وبأن مؤرخي الهنود وعلماء أوربا يجهلون كتاباً بهذا العنوان والتبويب في الهندية، كما يجهلون شخصي (بيدبا) و (دبشليم) وكلا الدليلين ساقط، لأن هذه القوة البلاغية في الترجمة، وسبك الألفاظ وفق أرجح أساليب العربية ليس مما يستغرب من ابن المقفع وقد (كان في نهاية الفصاحة والبلاغة مضطلعاً باللغتين - العربية والفارسية - فصيحاً بهما)
وما لنا نذهب بعيداً وفي المكتبة العربية الآن كتب مترجمة عن الفرنسية والإنجليزية والألمانية أتت، على الرغم من سحر بيانها وشريف أسلوبها، أمينة على الأصل، حريصة على روح المؤلف، وهذه قصة البائسين لحافظ بك. ورفائيل وفرتر للأستاذ الزيات، فقد جاءت مع الأصل كالحسناء وخيالها في المرآة. وتلك حالة لا يجد فيها المترجم كبير عناء متى كان متمكناً من لغة المنقول عنه والمنقول إليه، خبيراً بآدابهما، وطرائق الحسن فيهما. كما كان الشأن مع ابن المقفع
على أنني لا أرى هناك ما يحمل على التمسك بالحرفية والأمانة في ترجمة مثل كتاب كليل ودمنة، فليس هو بالكتاب العلمي الخطير، ولا القصة الفنية التي يذهب التصرف فيها شيئاً(222/30)
من جمالها وروعتها، وهو في النهاية لا يعدو أن يكون كتاب تخريف وسمر للخواص وأرباب البيان على الرغم من هذه الطنطنة التي ملأت صدر الكتاب. ولاشك أن ابن المقفع كان يفهم هذا فأباح لنفسه بعض التصرف في الأصل فرفع بذلك عن قلمه كثيراً من الحرج والتهيب
أما ما يقال عن جهل مؤرخي الهنود وعلماء أوربا بدبشليم وبيدبا، وبكتاب له هذا الاسم والتبويب في اللسان الهندي، فلا يمكن أن يتخذ منه دليل قاطع على وضع ابن المقفع للكتاب، فإن صلاحيته للقول بهذا أضعف من صلاحيته للقول بأن الفرس هم وضعة الكتاب، فقد نقل هذا الرأي أحد مؤرخي القرن الرابع الهجري؛ قال محمد بن إسحاق النديم: (فأما كتاب كليلة ودمنة فقد أختلف في أمره، فقيل عملته الهند، وقيل عملته ملوك الإسكانية، ونحلته الهند، وقيل عملته الفرس ونحلته الهند، وقال قوم أن الذي عمله بزرجمهر الحكيم) الفارسي. على حين لم أعثر في الكثير الذي قرأته من المراجع القديمة على من يصرح بأن ابن المقفع هو واضع الكتاب
وإن هذا التأييد التاريخي للقول الثاني مع ما ذكروا من أن المراجع الهندية والأوربية تجهل وجود كتاب كليلة ودمنة في السنكسريتية، كما تجهل وجود ملك يسمى دبشليم ليجعلني أميل إلى الأخذ به وترجيحه على ما سواه. ولن يضعف منه تاريخ المسعودي لدبشليم الملك ضمن من ذكر من ملوك الهند الأقدمين وقوله أنه الواضع لكتاب كليل ودمنة، فإن جل ما كتبه عن هذه العصور القديمة لا يخرج عن دائرة الجمع الذي لا يقوم على أساس صحيح من التحقيق والتحري، ويكفي لصدك عن التعويل على ما كتب أن تعرف أنه جعل ملك (دستلم) أو (دبشليم) مائة وعشرين سنة؛ وأن ما ذكره بعد ذلك عنه وعن (فور) سابقه لا يتجاوز ما ذكر في مقدمات كليلة ودمنة؛ الأمر الذي يحملنا على الظن بأن المسعودي ما عرف هذين الاسمين إلا عن طريق هذا الكتاب
وليس ببعيد على الفرس وضع كتاب كليلة ودمنه وإلباسه هذا الثوب الهندي، فهم جيران الهنود وإخوانهم في جنسيتهم الآرية يشركونهم في ذكائهم وتعقلهم وخيالهم (وهم أول من صنف الخرافات وجعل لها كتاباً وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان)
ولا محل للاعتراض هنا بأن الكتاب ولو كان من عمل الفرس لتضمن شيئاً من المجوسية(222/31)
والمذاهب الفارسية الأخرى؛ لأنه لم يوضع لتدوين عقيدة أو إذاعة مذهب ديني خاص؛ وهذا كتاب (مزدك) الذي نقله عن الفارسية ابن المقفع وأبان بن عبد الحميد، (فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن الكتاب يبحث عن مذهب مزدك، ولكن الأستاذ (براون) ذكر في كتابه (تاريخ آداب الفرس) نقلا عن (نولدكي): أنه كتاب أدب وضع للتسلية، ويعد في مصاف كتاب كليلة ودمنة ولا تضر قراءته مسلماً)
على أننا لو سلمنا باحتواء الأصل على شيء من هذه المذاهب الفارسية، فإننا نرجع نقاء الترجمة العربية منها إلى ما ذكرنا من تصرف ابن المقفع، ولعل الذي حمله على هذه التصفية عقيدته الإسلامية الجديدة أو خوفه من تشكك المنصور فيه إن سمحنا لأنفسنا بالطعن في صدق إسلامه
وإن مما يكاد يحملنا على الجزم بأن ابن المقفع ناقل لكليلة ودمنة لا واضع له ما ذكره صاحب الفهرس من أن جماعة من النقلة عن اللسان الفارسي - وفيهم من عاصر ابن المقفع أو قارب وقته - قاموا بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية. قال العلامة جورجي زيدان: (يظهر أن بعض الأدباء حسد ابن المقفع على شهرة الكتاب فأعادوا نقله، واشتغل بعضهم بنظمه، وتصدى آخرون لمعارضته). ولا غير هذا يفسر لنا سر الاختلاف الذي ذكره ابن النديم في عدد أبواب الكتاب، فقد قال: (هو سبعة عشر باباً، وقيل ثمانية عشر، ورأيت أنا في نسخة زيادة بابين)
وكان أقدم من نقل الكتاب إلى العربية نظماً أبو سهل الفضل بن نوبخت الفارسي من خدم المنصور ومن العاملين في خزانة الحكمة لهارون الرشيد (وقد كان معوله في علمه على كتب الفرس) ثم عبد الله بن هلال الأهوازي، نقله ليحيى بن خالد البرمكي في خلافة المهدي سنة 165 هجرية، ثم أبان بن عبد الحميد اللاحقي، قال محمد بن اسحق (وقد نقل من كتب الفرس وغيرها ما أنا ذاكره: كتاب كليلة ودمنة، كتاب السندباد، كتاب مزدك. . .) وقد كان أبان هذا (صديقاً للبراكمة، متصلا بهم اشد اتصال. . . وكان أديبهم الرسمي) ومن المختصين بالرشيد. ويظهر أن نقله الشعري - على جدته - كان على جانب من الجودة فقد (أعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار، ولم يعطه جعفر شيئاً وقال: ألا يكفيك أن أحفظه فأكون روايتك؟!)(222/32)
ولو قدرت الحياة لهذه التراجم الأخرى أو لبعضها لقطعت الشك باليقين، ولوضعت بين أيدينا الدليل المادي على أن موقف ابن المقفع من الكتاب لم يكن إلا موقف المترجم البليغ والمهذب البصير؛ أما وقد نالها من عوادي الزمان وتقلب الأحداث ما أودعها عالم الفناء فليس لنا إلا الاعتماد على دراسة ما بقى مما كتبه عنها الثقات من رجال الأدب والتاريخ، وما اقتبسته كتبهم عن بعض هذه التراجم، وفي هذا وذاك كثير من الغناء والعزاء
ولئن ذكرنا بالفضل صاحب الفهرس لما أفادنا في هذا المقام فلا يسعنا إلا أن نذكر بمزيد الإعجاب فضل إبراهيم الصولي، فقد نقل لنا في كتابه الأوراق ستة وسبعين بيتاً من ترجمة أبان النظمية، ولولاه ما بقي لنا منها إلا الأبيات الأربعة التي ذكرها أبو الفرج وهي لا تغني في البحث شيئاً
وفي هذه الطائفة التي ذكرها الصولي من المنظومة دليل آخر على أن أبان استقى من مصدر فارسي، وأنه لم يعتمد على نسخة ابن المقفع، إذ لم يقع له من عباراتها إلا ما جاء وليد المصادفة أو الاستعانة وهو نادر، كما يلاحظ على منظومته قلة تداخل حكاياتها والاقتصاد في سوق الحكم، وربما ذكر الشيء في غير الباب الذي وضعه فيه ابن المقفع
ابتدأأبن نظمه بالبيت المعروف: -
هذا كتاب كذب ومحنة ... وهو الذي يدعي كليله دمنة
ثم ذكر في الأبيات الأربعة التي تليه أن الكتاب من عمل الهند وصفوا فيه الآداب على ألسنة البهائم، ليشتهي السخفاء هزله وليعرف الحكماء فضله: -
وهو على ذاك يسيرُ الحفظِ ... لَذٌّ على اللسان عند اللفظ
ثم أتى الصولي بعد ذلك باثنين وعشرين بيتاً يبدو أنها ليست من هذا التمهيد الذي وضعه أبان؛ وإنما هي من باب برزويه تبدأ عند مناجاة هذا الحكيم نفسه بقوله: (يا نفس أما تعرفين نفعك من ضرك؟! ألا تنتهين عن تمني ما لا يناله أحد إلا قل انتفاعه. . .) وفيها يحدث نفسه بأن الدنيا بما لنا فيها من أحباء وأصدقاء كثيرة الآلام، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يعرض نفسه للهلاك في سبيل جمع ما يرضي به أهله ومحبيه؛ وأن في النسك وترك الدنيا لمن يشقى بها النجاة من الشرور. وختم أبان الأبيات بالإقرار الوجدانية وأنه مرتهن بعمله إن خيراً فخير وإن شر فشر؛ ثم اقتبس الصولي من باب الأسد والثور تسعة وأربعين(222/33)
بيتاً في مواطن مختلفة من الباب ذكر فيها طرفاً من الحديث الذي دار بين كليلة ودمنة حول التقرب من الملك ثم كيد دمنة للثور عند الأسد؛ ثم تحدث عن المال وما فيه من عز وجمال، وامتدح العقل ومشورة غير أهل التهمة
ولكي يتضح بعد المنظومة عن ترجمة ابن المقفع نلفت النظر إلى أن حديث المال الذي ذكره أبان في باب الأسد والثور جعله عبد الله في باب الحمامة المطوقة. وإليك الأبيات التي ذكرها في هذا الموضوع لتتحقق بعد الموازنة من صدق ما ارتأينا من المباينة بين الترجمتين:
الأهل والأخوان والأعوان ... عند ذوي الأموال حيث كانوا
والمال هادي الرأي والمروّه ... وهو على كل الأمور قوه
والمال فيه العز والجمال ... والذل حيث لا يكون المال
وربما دعا الفقيرَ فقرهُ ... إلى التي يُحبط فيها أجرهُ
فيخسر الدين كما كان خسر ... دنياه والخسران ما لا ينجبر
وليس من شيء يكون مدحا ... لذي الغنى إلا يكون بَرْحا
على الفقير ويكون ذما ... كذاك يدعى وبه يسمى
فإن يكن نجداً يقولوا أهوج ... كذاك عند الحرب لا يعرج
وهْو إذا كان جواداً سيّداً ... سُمي للفقر مُضيعاً مفسدا
أويك ذا حلم يُقل ضعيف ... أويك بساماً يُقل سخيف
وقد يظن كثير من الأدباء أن ابن المقفع عرف كيف يخلد اسمه باختياره ترجمة كتاب كليلة ودمنة أو ادعائه ذلك؛ ولكن الذي لا يتطرق إليه الاحتمال عندي أن كتاب كليلة ودمنة إنما كتب له الخلود، وبقي على توالي الأحداث والأيام لأن عبد الله ابن المقفع تصدى لترجمته فألبسه هذا الثوب الرائق من بلاغته وتهذيبه ومعرفته. ولقد يدهش أصحاب ذلك الظن إذا قلنا لهم إن الكتاب لم يكن له في الفارسية من الخطر ما صار له بعد نقله إلى العربية على يد ابن المقفع، ولكن دهشهم سيتبدد متى عرفوا أن الفرس أنفسهم حينما رأوا الكتاب في صورته الجديدة المنسجمة استولى عليهم الإعجاب، وأخذوا ببلاغته فنقلوه إلى الفارسية مرة أخرى، وأهملوا أصوله التي بين أيديهم فأذهبا النسيان؛ حتى لقد ذكر ابن النديم أنهم نقلوه(222/34)
(إلى اللغة الفارسية بالعربية) ليتمكن من يتكلم الفارسية ولا يكتبها من قراءته بالحروف العربية التي سرى استعمالها بينهم
وأني لأسأل نفسي الآن عن المصير الذي كان ينتهي إليه كليلة ودمنة لو لم يكن عبد الله بن المقفع ضمن من ترجموه!! إنه ول شك مصير مظلم؛ أو قل هو المصير الذي انتهت إليه التراجم والنقول الأخرى
(أسيوط)
عبد الله محمود إسماعيل(222/35)
محمد بن جعفر الكتاني
بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاته
للأستاذ محمد المنتصر الكتاني
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وكان أسلافه يعرفون قديماً بعدة ألقاب: بالكتانيين وأمراء الناس والزاويين وشرفاء عقبة ابن صوال، وحديثاً بالكتانيين فقط
فأما شهرتهم باللقبين الأولين: فنسبة إلى جدهم الأول أمير الناس الكتاني يحيى بن عمران الذي يعده المؤرخون أول ملك مغربي استعمل في معسكراته خيام الكتان فنسبوه إليها، وما كانت تعرف قبله غير خيام الصوف والشعر، وأول ملك بويع باسم أمير الناس، فلزم بنيه لقبه الأول إلى اليوم، وورثوا عنه الثاني ردحاً من الزمن
ذكر هذا القاضي بن الحاج في كتابيه نظم الدرر والأشراف، والشريف المدغري في الدرة، وأبو زيد السيوطي المكناسي ووالده أبو بكر في كتابيهما في الأنساب
وأما شهرتهم باللقب الثالث: فنسبة إلى زواوة وهي قبائل بربرية كبيرة مواطنها في الجزائر (بنواحي بجاية ما بين مواطن كتامة وصنهاجة، أوطنوا عنها جبالاً شاهقة متوعرة، تنذعر منها الأبصار، ويضل في غمرها السالك) فر إليها الكتاني يحيى حين تغلب السفاح بن أبي العافية على ملك أسلافه فنصبوه ملكا عليهم وتدبرها بنوه من بعده قرنين كاملين وثلاثين سنة تزيد قليلاً أو تنقص قليلا
ذكرهم بهذا اللقب ابن عمرو العبدي في كتابه الكوكب الساني في النسب الكتاني
وأما شهرتهم باللقب الرابع فنسبة إلى حي معروف من أحياء فاس يعرف بعقبة بن صوال، كان نزولهم به أول ما رجعوا من مكناس في آخر القرن التاسع
عرفهم به القاضي بن الحاج في الأشراف وعلى هذا اللقب وضع فيهم كتابه الشهير (نظم الدر واللآل في شرفاء آل عقبة ابن صوال) وبه ذكرهم أيضاً الشريف القادري في الدر السني
ولا يعرف اليوم أحدهم بلقب من تلك الألقاب الثلاثة - أمراء الناس، الزاويين، شرفاء(222/36)
عقبة بن صوال - التي أصبحت تاريخية وفي بطون الكتب ليس غير، ولا أدري إذا كانت بعض الأسر بالجزائر أو غيرها من الأقطار التي أقاموا بها لا تزال تحمل أحد هذه الألقاب
واللقب الأول والأخير هو (الكتاني) فقط الذي بقي علماً لآبائه من القرن الرابع إلى الآن
ولعل من العبث أن أعيد القول فأذكر أنه تقدم في السلافة أئمة أعلام شاركوا في توريث التراث المحمدي، فهدوا وعلموا وعذبوا وألفوا، وفي الخزائن العامة والخاصة الدليل الناطق، وقد بلغ ما عده بعضهم من مؤلفاتهم فيها المئين وكتب المؤرخين طافحة بتراجمهم
ومن منهم لا يعرف (علي بن موسى) و (عبد الواحد بن عمر) وولده (أحمد) و (محمد بن أحمد بن علي) و (محمد بن عبد الوهاب) و (المأمون بن عمر) و (إدريس بن الطائع) ومَنْ من المغاربة يجهل (جعفر بن إدريس) وأولاده الأربعة صاحب الترجمة، و (أحمد) و (عبد الرحمن) و (عبد العزيز) و (عبد الكبير بن محمد) وولده (الشهيد محمد) و (عبد الكبير بن هاشم) و (الطاهر بن حسن) و (عبد الحفيظ بن محمد) رحمة الله عليهم أجمعين
اشتهر بلقب (الكتاني) قديماً خلق كثير في الأندلس والمغارب الثلاثة وبغداد ودمشق لا يمت واحد منهم لأسلاف الإمام بصلة، فيهم الوالي الأمير والمحدث والفقيه والطبيب الأديب وو. . . وقد وقفت على تراجمهم عند عياض في المدارك والخطيب في تاريخ بغداد والسمعاني في أنسابه وابن الجزري في طبقات القراء والذهبي في التذكرة وتاريخ الدول والميزان والضوء اللامع والحافظ في اللسان والدرر الكامنة وابن عثمان النابلسي في مختصر طبقات الحنابلة وابن القاضي في الجذوة والقادري في النشر وابن جعفر (المترجم) في السلوة
وقد عني بتاريخ أسلافه جمهرة من المؤرخين قديماً وحديثاً وأولهم - فيما أعلم - أبو عبيد البكري صاحب المسالك الذي يعد كالمعاصر للملك الكتاني يحيى بن عمران إذ أبو عبيد مات في آخر القرن الخامس والكتاني مات في آخر القرن الرابع
وهأنذا مورد طائفة من الكتب التي فيها تاريخ أسلافه بعضها خاص بهم والبعض الآخر مذكورون فيها ضمن باقي الأسر المغربية عرفت من القسم الثاني (المسالك والممالك) لأبي عبيد و (تاريخ الأدراسة) للبرنسي و (أنيس الأنيس) لا أعرف مؤلفه (وكتاباً) للأزوارقاني و (مختصر البيان في نسب آل عدنان) للشيخ الإمام المقرئ أبي العباس أحمد بن محمد بن(222/37)
عبد الله بن جزي الكلبي و (معدن الأنوار في التعريف بأولاد النبي المختار) الإمام أبي العباس أحمد بن محمد بن عبد الله المقري التلمساني و (ابتهاج القلوب بخبر أبي المحاسن وشيخه المجذوب) للشيخ الإمام عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي وهما نسختان: قديمة وقع له فيها خلط كثير أجمع على نقدها وتزييفها نطقاً وكتابة كل من وقف عليها من المؤرخين والنسابين - وفيهم شيخ أخوة الجماعة محمد وجماعة من آل بيته - وجديدة نقحها واستدرك فيها على نفسه، وتجديد المؤلف لهذا الكتاب بنفس العنوان الأول معناه عنده التنبيه على عدم اعتماد النسخة القديمة خصوصاً وقد زاد في الجديدة أشياء لم تكن في الأولى وحذف منها ما تعثر فيه قلمه من الأخطاء، وكلا النسختين في متناول اليد. . . و (درة التيجان ولقطة اللؤلؤ والمرجان في الإعلام بغرر الأنساب وذكر بعض الأشراف ذوي الأحساب) للإمام الكبير محمد بن محمد بن محمد الدلاني البكري و (شرحها) للعلامة المشارك محمد بن أحمد بن محمد بن عبد القادر الفاسي و (الدر السني في بعض من بفاس من أهل النسب الحسني) للعلامة الكبير الشريف عبد السلام بن الطيب القادري و (التنبيه من الغلط والتلبيس في بيان أولاد الإمام محمد بن إدريس) للفقيه العالم المؤرخ الشريف محمد بن أحمد بن علي الكتاني، وكتاباً في (الأنساب) للشيخ الإمام أبي بكر بن محمد السيوطي المكناسي، وكتاباً آخر في (الأنساب) أيضاً لولده الإمام النسابة أبي زيد السيوطي و (عقد اللآلئ المستضيئة النورانية لنفي ظلام التلبيس في سلالة مولانا إدريس بن إدريس) له أيضاً، وكتاباً فيه الجواب على أسئلة تتعلق بالسبطين) للشاعر الكاتب أحمد بن عبد القادر القادري و (الروضة المقصودة والحلل الممدودة في مآثر بني سودة) و (السر الظاهر فيمن أحرز بفاس الشرف الباهر من أعقاب الشيخ عبد القادر) كلاهما للأديب الكبير العلامة الشريف سليمان بن محمد الحوات و (سلوك الطريق الوارية في الشيخ والمريد والزاوية) للصوفي الواعظ الكبير الشريف محمد بن علي المنالي الزبادي و (تحفة الحادي المطرب في رفع نسب شرفاء المغرب) للمؤرخ الأديب الشهير أبي القاسم بن أحمد بن علي بن إبراهيم الزياني و (الدرة الفائقة في أبناء علي وفاطمة) للعلامة الشريف الزكي بن محمد المدغري و (الإشراف على بعض من بفاس من مشاهير الأشراف) للعلامة المؤرخ القاضي محمد الطالب بن حمدون بن الحاج و (الدرر البهية والجواهر النبوية) للعلامة(222/38)
النسابة الشريف إدريس بن أحمد الفضيلي
وأما الكتب الموضوعة فيهم خاصة فعرفت منها (الكوكب الساني في النسب الكتاني) للفقيه العالم المدرس مبارك بن عمر العبدي الأسفي و (نظم الدر واللآل في شرفاء عقبة ابن صوال) للقاضي ابن الحاج صاحب كتاب الأشراف المتقدم ذكره، وشرفاء عقبة هو اللقب الذي كان يعرف به أسلاف الإمام في القرن العاشر كما ذكرت قريباً و (الروضة المنيفة في النسبة الكتانية الشريفة) لقاضي حد كورت الحالي العلامة المؤرخ عبد الحفيظ الفاسي و (الرياض الربانية في الشعب الكتانية) لوالد المترجم شيخ الإسلام الشريف جعفر الصادق و (النبذة اليسيرة النافعة التي هي لأستار جملة من أحوال الشعب الكتانية رافعة) للإمام المترجم و (الجوهر النفيس في النسب الكتاني) لأخي المترجم العلامة الكبير الشريف عبد الرحمن و (منتهى الأماني في التعريف بالنسب الكتاني) و (الجوهر المكنون في ذكر فرع الحلبي المصون) كلاهما للعلامة الشريف طاهر بن حسن الكتاني و (المظاهر السامية في النسبة الشريفة الكتانية) لصاحب التراتيب الإدارية
هذا مجمل تاريخ أسلافه في المغربين - الأقصى والأوسط - وبهذا فقط اعتنى مؤرخو المغرب وكنت أحسب كغيري أن سلفه لم يرحلوا إلى الشرق قديماً وبالحري أن يكون لهم فيه ذكر أو تاريخ حتى كشف (الغيب) عن خطئي وتقصير جميع مؤرخينا إذ ثبت لهم أن بالشرق الأقصى - جاوى - تاريخاً خالداً ومجداً لا يبيد
لما رجع الأستاذ الهاشمي التونسي من رحلته الطويلة لبلاد جاوى مر في طريقه على مصر فاستقبله الصحافي السيد محي الدين رضا مندوباً عن جريدة المقطم ليسأله عن حالة جاوى العامة، فأجابه الرحالة التونسي بحديث مسهب نشرته المقطم في عدديها الصادرين في 13 و 14 سبتمبر سنة 1929 ونقلته عنها مجلة الدهناء الجاوية التي تصدر بمدينة سورابايا في عدديها (19 و 20) من السنة نفسها الموافق لربيع الثاني سنة 1348. أقتطف من هذا الحديث ما يتعلق ببحثي، قال الأستاذ الهاشمي:
(. . . دينهم - الجاويين - الإسلام اعتنقوه في أواخر المائة الثامنة من الهجرة وأوائل القرن التاسع على يد طائفة من رجالات المغاربة من أسرة الكتاني الموجودة إلى اليوم في مراكش حسبما هو مكتوب ومنقوش على المشاهد وألواح المرمر التي فوق قبور أولئك(222/39)
الدعاة والتي لا تزال ماثلة واضحة القراءة بخطوط بديعة، وهذه القبور تعرف حتى الآن بين عامة الجاويين بقبور المغاربة في مدينة (نبتام) في أقصى الجزيرة الغربي ومدينة (سوربايا) في أقصى الجزيرة الشرقي ومدن (الطوبان) و (شربون) و (سومدانج) و (دماك) في قلب الجزيرة الجاوية ومن يراجع تاريخ سديو الفرنسي ير في الفصل المعقود لتقدم العرب في الملاحة كيف أن عرب الأندلس والمغرب أول من أجتاز جزائر الخالدات إلى خليج غينيا ورأس الرجاء الصالح متوجهين رأساً إلى أقصى الشرق من طريق أقصى الغرب
وحين كنت بالأزهر الشريف سنة 1353 سألت عن هؤلاء المغاربة الدعاة الطلبة الجاويين - وهم كثير بالأزهر - فأجابوني بما معناه: من الطفل الرضيع إلى الشيخ الفاني في جاوى كلهم يعرفون أن الكتانيين المغاربة هم من هدى الله للإسلام على يدهم خمسين مليوناً من القطر الجاوي، وهذه أضرحتهم الفخمة في مختلف مدن بلادنا لا تزال ناطقة بذلك ما دامت جاوى جزءا من أجزاء المعمور)
ولما كنت لا أعتبر تاريخ دخول الإسلام لجاوى رابطة عائلية فحسب بل أعتبره صلة متينة بين جاوى والغرب
ولما كنت لا أعرف سوى ما قصه عليه الأستاذ الهاشمي وأيده لي الطلبة الجاويون بالأزهر
ولما كنت في شك مما نشر في المقطم حيث تتبعت كل ما كتبه زعيمنا الإسلامي العلامة شكيب أرسلان في تعاليقه على حاضر العالم الإسلامي فلم يذكر كون الدعاة الناشرين للإسلام بجاوى هم من آل الكتاني، على أنه صرح بأنهم مغاربة، وتركني أشك في هذا ما أعتقده فيه من الإطلاع الواسع الذي (أعدم نظيره) في هذا العصر على الدقيق والجليل من أحوال الأقطار الإسلامية النائية ويكفي للتدليل على ما أقول تعاليقه الريانة فوائد وعلوماً على (حاضر العالم الإسلامي) فضلا عن عشرات المؤلفات التي يتحف بها العالم الإسلامي بين حين وآخر وكلها مشهورة بل محفوظة عن (ظهر قلب) فأنا أرجو من سمو الأمير وحضرة الرحالة التونسي وسماحة العلامة الكبير مؤرخ جاوى الحبيب محمد ابن عبد الرحمن ابن شهاب العلوي الحضرمي ومن كل له من له خبرة واطلاع على الموضوعات أن يفدونا - مشكورين مأجورين - عن وقت دخول هؤلاء المغاربة الكتانيين إلى جاوى،(222/40)
وعن أسمائهم وتراجمهم وما سبب رحلتهم هذه الطويلة - من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق - وهل تركوا عقباً بها، وبماذا يعرف اليوم مع ذكر المصادر بأي لغة كانت المطبوع منها والمخطوط
محمد المنتصر الكتاني(222/41)
شد الرحال إلى الجبال
للأستاذ عز الدين التنوخي
وأخيراً عاد الأمير شكيب أرسلان من جُنَبرة إلى لبنان! وبعد أن قرت عين المسافر بالإياب، وألقى عصاه بين أهله والأحباب، حركني وصديقي الشيخ محمد بهجة البيطار شوق مبرح إلى زيارة أمير البيان في رحابه، فشددنا الرحال إلى الجبال، أو بالحري أدرنا العجلات نحو الهضبات؛ وأحب أن يرافقنا في السيارة لهذه الزيارة: الشيخ بهجة الأثري البغدادي والشيخ ياسين الدّواف النجدي والشيخ علي الطنطاوي الدمشقي الذي لا يجهله قراء الرسالة. ومازالت سيارتنا بسم الله مجراها ومرساها تصعد في الجبال تارة وتصوب في بطون الأودية أخرى حتى بلغنا العشية عين صوفر عرين الأمير، فعلمنا أنه في كورة الشوف يرد الزيارة لوفود القرى التي استقبلته يوم رجوعه إلى ربوعه، وكان علينا أن نكتب إليه بزيارتنا من دمشق، فذلك الإهمال أو النسيان، قد دهانا بهذا الإخفاق أو الحرمان، ولم يخفف شيئاً من حسرتنا إلا علمنا بأن أمير البيان سيهبط الغوطة بعد أيام قليلة، ولذا عولنا على العودة إلى الفيحاء من طريق الفالوغة وفيها خليل لنا مصطاف يقال له إبراهيم، ولما هبطنا بالسيارة واديه، وحللنا ناديه، ونلنا قسطنا من الراحة وحظنا من الراح نهضنا لامتطاء سيارتنا فأقسم علينا: لا رحيل لكم اليوم ولا براح، فلم نجد بداً من النزول عليه مكرهين ومكرمين
وغداة غدٍ صعدنا إلى (عين الصحة) المعدنية في جبل الفالوغة والتي تعلو سطح البحر بنحو 1500 متر، وقد اشتهرت بأنها للرمل حطوم، وللأطعمة هضوم، اشتهار (عين بُقين) في وادي الزبداني من مصايف دمشق. وأخبرني الكيماوي الثقة الذي حلل الماءين أن ماء بقين أخف مياه الشام في الثقل، وأشفاها لآلام الكلى والعلل، وإنما سميت بعين بقين لأن المريض إذا عب منها عبتين، أو شرب كما يقول العامة بقين، هضم الطعام وشفى الكليتين
وإلى جانب عين الصحة مقهى صغير تناولنا فيه صبوحنا من صهباء الماء والخبز المرقوق واللبن الخاثر والبيض المسلوق؛ وقد شاركنا في رحلة الصباح هذه وفي الاصطباح صديقان كريمان: القاضي خليل رفعة والصوفي شمس الدين، وتخلف في الفالوغة السيد إبراهيم معتذراً وقد خشي أن يبهره الصعود، فاغتاظ رفاقه لتخلفه هذا لأن(222/42)
شرط المرافقة الموافقة، وأغروني بهجوه فقلت لهم على العين، هذين البيتين، ومسحة الارتجال بادية عليهما:
إذا لم تزر فالوغة ورياضها ... ولم تشهد الجنات حولك ألفافا
وإن أنت لم تصعد إلى عين صحةٍ ... ولم تروَ منها لم تكُ الدهر مصطافا
وعلى يسار المقهى خيام أربعة من الطيارين الفرنسيين مع أزواجهم وأطفالهم، وبذلة أحدهم تتألف من سريويل قصير أزرق وقميص شفاف أبيض، والنحور والصدور والظهور حواسر، والأفخاذ والسوق والأقدام ظواهر؛ وهؤلاء الرفاق يأتون من مطار رياق للاستشفاء بالماء والهواء، فيقضون في الأسبوع يوما كاملا في مثل خيام الكشافة ويعيشون فيها عيشة الكشافة ومعهم جميع أدوات المطبخ فلا يحتاجون في طهي الأطعمة إلى شيء غير ماء العين. ولعل الارتياض على الحياة الكشفية في الصغر قد ذلل لهم في الكبر صعابها وألان لهم رقابها وجعلهم يبتغون لها الوسائل والأسباب
وفي نحو الثامنة من الصباح وقفت على العين سيارة ترفع علماً فرنسياً صغيراً يدل على أن ركابها من المفوضية الفرنسية ببيروت وفتح الباب فنزل منها أبوان شيخان وأطفال ثلاثة يحمل كل منهم عصاً ذات زج كالمزراق، وعلى ظهره حقيبة الجند، وعلى رأسه قبعة كبيرة تحاكي مظلات اليمن والجزائر، وفي رجله حذاء صفيق الجلد ناتئ المسامير يذكرنا بمداس الأصمعي الذي قال فيه: (نعم قناع القدري هذا)
وألتفت إلي رب المقهى قائلاً: هذان الجدان هما المسيو بريال وزوجه، وهؤلاء الثلاثة الأولاد أحفاده؛ يأتي بهم في الأسبوع مرة ليصعد إلى قمة الجبل، ويترك على العين سيارته وهو يرتاض بذلك وزوجه العجوز التي جاوزت الستين، ويروض أحفاده على حياة الجنود، والغربيون يعودون أطفالهم صغاراً ما يضطرون إليه كباراً، مجارين في ذلك غرائز الطبيعة؛ لأنا نشاهد الأولاد يركبون العصي استعداداً لركوب الجياد، ونرى البنات يكثرن الوقوف أمام المرأة تعوداً لما يعملنه وهن أمهات
إن حياتنا الشرقية ركود وكسل، والحياة الغربية حياة نشاط وعمل؛ فالجماعة منا إذا خرجوا إلى ظاهر المدينة للتنزه جلسوا على ضفة بردى أو النيل أو الفرات، وأخذ بعضهم يغلي شراب الجاء، وشرع الآخرون في الحديث أو الغناء، وإلى جانبهم مضطجعون، أو على(222/43)
الأرائك متكئون؛ وإذا خرجت رفقة من الأوربيين إلى التنزه وأخذوا في الارتياض بأنواع الرياضيات والألعاب، فهذا يلاكم وذا يصارع، وهذا عداء وذلك وثاب، وهذان فريقان يجران الحبل، أو يتقاذفان الكرة بالراحة أو القدم؛ فالتنزه في عرفنا للطعام والشراب أو الاضطجاع أو السماع؛ وفي عرف الغربي للعدو والوثب والصراع، والحركة يراها بركة، والتواني والسكون هلكة
ثم التقينا على العين بإخوان لنا من رجال العراق، فتجاذبنا أطراف الأحاديث إلى أن تحدثنا عن الانقلاب العراقي الأخير فحمدنا الله على حدوثه، ولم يستشر فساد أو تعم فتنة، وعلى إرساله لإنقاذ الموقف الخطير ذلك الرجل الإداري الحكيم، والجندي العربي الصميم (السيد جميل المدفعي) الذي قضى حياته في الدفاع عن حوزة العروبة، والذي أجمعت الكلمة لسلامة دواعي صدره على الثناء عليه وعلى محبته، والاعتصام في هذا المأزق الضيق بعروته، ثم ودعنا إخواننا بعد أن تزودنا من شرب الماء عبا، ونزلنا راجعين إلى حمانا ونحن نمتع العيون بسواحر المناظر من وادي حمانا الذي غنى باسمه من قبلنا لامرتين، وكان منظر الصنوبر الأخضر على الجبال أروع هاتيك المناظر وأبدعها وأشدها للعين بهراً وللقلب سحراً، فقد جعل كل من أصحابي يترنم ببعض الأغنيات، وجعلني أرتجل الشعر مغنياً بهذه الأبيات:
أَوَادي حّمانا سقيت وأُخصبت ... رُباك مغاني الحسن والحسناتِ
شهدتُ لقد شَاهدت فيكَ صنوبراً ... يبدّد ما في القلبِ من حسراتِ
وخلت الغواني في الجبال حواملاً ... مِظلاّتهن الخضر والنضراتِ
وسربَ نعامٍ أبصر السيل هادراً ... فأسندَ مرتاعاً إلى الهضباتِ
هل المسكُ من هاماتك الخضر فائحٌ ... أم المسك من غاداتك العطِرَاتِ
لَطبتَ أيا وادي الصنوبر وادياً ... وبارككنّ الله من شجراتِ!
(دمشق)
عز الدين التنوخي(222/44)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
أعمق الساعات صمتاً
ماذا جرى لي يا صحابي؟ لقد سادني الاضطراب فأضعت هداي وأراني مندفعاً بالرغم مني إلى الرحيل والابتعاد عنكم وآسفاه
أجل، على زارا أن يعود إلى عزلته، غير أن الدب يرجع إلى مغارته كئيباً حزيناً. ماذا جرى لي ومن ترى يضطرني إلى الرحيل؟
إنها (هي) مولاتي الغاضبة، لقد كلمتني فأعلنت لي إرادتها وما كنت ذكرت لكم اسمها حتى اليوم، هي أعمق ساعاتي صمتاً وهي نفسها مولاتي القاهرة، كلمتني أمس
وسأقص عليكم ما جرى فلا أخفي عنكم شيئاً كيلا يقسو قلبكم علي وأنا أفاجئكم برحيلي عنكم
أتعلمون ما هي خشية من يستسلم للكرى؟ إنه الذعر يستولي على الإنسان من رأسه إلى أخمص قدميه، لأن أحلامه لا تبتدئ ما لم تنسحب الأرض من تحته
إنني أضرب لكم أمثالا، فأصغوا إلي:
أمس عند أعمق الساعات صمتاً خلت الأرض من تحتي وبدأت أحلامي
وكان العقرب يدب على ساعة حياتي في خفقانها، وما كنت سمعت من قبل مثل هذا السكوت يسود حولي ويروع قلبي
وسمعتها (هي) تقول لي، ولا صوت لها: إنك تعرف هذا يا زارا
فصحت مذعوراً عند سماعي هذه النجوى وتصاعد الدم إلى رأسي
فعادت هي تقول، ولا صوت لها: أنت تعرف هذا يا زارا ولكنك لا تعلنه
فانتفضت وأجبت بلهجة المتحدي: - أجل أنني أعرف هذا ولكنني لا أريد أن أعلن ما أعرف
فقالت (هي) ولا صوت لها: أصحيح أنك لا تريد؟ لا تخف نفسك وراء هذا التحدي يا زارا(222/45)
فأخذت ابكي وأرتعش كالطفل قائلا: ويلاه، أريد أن أصرح، ولكن هل ذلك بإمكاني؟ أعفني من هذه المهمة لأنها تفوق طاقتي
فقالت، ولا صوت لها: وما أهميتك أنت يا زارا قل كلمتك وتحطم
فقلت: أهي كلمتي ما يهم، فمن أكون أنا؟ إنني انتظر من هو أجدر مني بإعلانها وما أنا أهل لأصطدم بالمنتظر فأنحطم عليه
فقالت، ولا صوت لها: وما أهميتك أنت مادمت لم تصل بعد إلى ما أريده من الاتضاع؟ وما أقسى ما يتشح به الاتضاع، وما أصلب جلده
فقلت: لقد تحمل جلدي اتضاعي كثيراً؛ فأنا ساكن عند قاعدة ارتفاعي ولم يدلني أحد بعد على ذراه العاليات، ولكنني تمكنت من سبر أغواري ومعرفتها.
فقالت، ولا صوت لها: أي زارا، وأنت المعد لنقل الجبال من مكان إلى مكان. أفما بوسعك أن تنقل أغوارك ومهاويك أيضاً؟
فقلت: لم تنقل كلمتي الجبال بعد، فإن ما قلته لم يبلغ حتى آذان الناس، لقد أتيت إلى العالم غير أنني لم أتصل به بعد.
فقالت، ولا صوت لها: وما يدريك. .؟ إن الندى يتساقط على العشب في أشد أوقات الليل سكوتاً.
فأجبت: لقد هزأ الناس بي عندما اكتشفت طريقي ومشيت عليها، والحق أن رجلي كانت ترتجفان إذ ذاك، فقال لي الناس: لقد ضللت سبيلك يا زارا، بل أصبحت لا تعرف أن تنقل خطاك
فقالت، ولا صوت لها: وأية أهمية لسخريتهم؟ لقد تخلصت من الطاعة يا زارا فوجب عليك أن تأمر الآن. أفلا تعلم أن من يحتاج الجميع إليه بأكثر من احتياجهم إلى أي شيء إنما هو من يقضي في عظائم الأمور؟
إن القيام بالكبائر صعب، وأصعب من هذا أن يأمر الإنسان بها. إن ذنبك الذي لا يغتفر هو أنك ذو سلطان ولا تريد أن تحكم
قلت: ليس لي صوت الأسد لأصدر أوامري
فقالت - كأنها تهمس همسا -: لا يثير العاصفة إلا الكلمات التي لا صوت لها؛ إن من يدير(222/46)
العالم إنما هي الأفكار التي تنتشر كأنها محمولة على أجنحة الحمام. عليك أن تسير يا زارا كأنك شبح لما سيكون يوماً في آتي الزمان؛ وهكذا تندفع في سبيلك إلى الأمام وأنت تتولى الحكم
فقلت: إن الخجل يتولاني
فعادت تقول، ولا صوت لها: عليك أن تعود طفلا فيذهب خجلك عنك؛ إن غرور الشباب لما يزل مستولياً عليك لأنك بلغت الشباب متأخراً، ولكن على من يريد الرجوع إلى طفولته أن يتغلب على شبيبته
واستغرقت في تفكيري وأنا أرتجف، ثم عدت إلى تكرار كلمتي الأولى قائلاً: لا أريد. وعندئذ ارتفع حولي صوت قهقهة مزقت قلبي وصدعت أحشائي
وقالت (هي) للمرة الأخيرة: أي زارا، إن أثمارك ناضجة، غير أنك لم تنضج أنت لأثمارك، فعليك أذن أن تعود إلى العزلة لتزيد في قساوتك ليناً
وعاد الضحك يتعالى، فشعرت أنها انصرفت عني (هي) وعاد الصمت يسود بأعمق مما كان حولي، أما أنا فبقيت منطرحاً على الأرض سابحاً في عرقي
والآن، وقد أعلنت لكم كل شيء أيها الصحاب، فهأنذا أعود إلى عزلتي وما أخفيت عنكم شيئاً. أرحل عنكم بعد أن علمتكم أن تعرفوا من هو أشد الناس تكتماً ومن يريد أن يكون كتوماً
وا أسفاه، أيها الصحاب، إن لدي ما أقوله لكم أيضاً، ولدي ما أبذله، فلماذا لا أبذله الآن؟ ألعلني أصبحت شحيحاً؟
وما نطق زارا بهذا حتى أرهقه سلطان حزنه لأضراره إلى الرحيل، فبكى منتحباً وما تمكن أحد من تعزيته، ومع هذا ما أرخى الليل سدوله حتى ذهب زارا وحده تحت جنح الظلام متخلياً عن صحبه
(يتبع)
فليكس فارس(222/47)
خواطر
في الموت والخلود
للأديب عبد الوهاب الأمين
لي صديق لا يخشى الموت لأنه لا يفكر فيه، ولهذا الصديق فلسفة رائقة في الاطمئنان، تعجبني لأنني لا أعتقد بها؛ وقد حاولت أن أحاوره فيها فرأيت أنه يحتمي بالعقل ويجعله مدار التفكير، ولا يقيم وزناً لعاطفة الخوف من الموت أو الجزع من لقائه، فهو مطمئن أولاً، ومعتقد بتفاهة الموت ثانياً؛ وقد أختلط هذا الاطمئنان بذاك الاعتقاد فتشكل منهما شعور جديد، فكأن صاحبي هذا لا يفكر بعقله بل يفكر بعاطفته
يقول صاحبي:
(إن الموت خاتمة طبيعية محتومة لحياة الإنسان، فالتفكير فيه عبث لا طائل تحته، مادام أن التفكير، مهما طال وعمق، لا يغير تلك النتيجة المحتومة، حتى ولو صدقت ادعاءات بعض المشتغلين بالعلم من أمر إطالة العمر، أو تجديد الشباب، فإن هذين لا يعنيان الخلود. فلو فرض إن إعادة الشباب كما يصورها الدكتور (فرونوف) صحيحة ومؤكدة علمياً، فإن من الصحيح والمؤكد كذلك، إن نهاية هذه الحياة، مهما طالت، هي الموت؛ والتفكير في الموت مهما كانت كيفيته، سخيف لا طائل تحته
(هذا لو كان التفكير في الموت في حد ذاته لا يؤثر تأثيراً سيئاً في أعصاب الإنسان، أما وأنه يورث السوداء، ويسيء إلى الأعصاب، بل ينهكها، ويضع غشاوة بين ناظري الإنسان وبين مناظر الحياة، فأحرى بالعاقل ألا يشتري بسعادة الاطمئنان والغفلة قلق التخوف وانتظار الشر، وان يستمتع بالحياة كما تأتيه لا أن يضع في كأسها سم التخوف والتفكير في الموت)
فاعترضت قائلاً:
(إن التفكير في الموت سخيف كما تقول، ولكن الإنسان يفكر في الموت بالرغم منه، وهو لو وجد سبيلا إلى النسيان والغفلة عنه لما تردد في ذلك، ولكني أجدني في بعض الأحايين ترهقني أخيلة الموت وأنا على أتم ما أكون صحة وراحة بال، ولا يكون تفكيري هذا بإرادة مني، فإني لا أرغب أن أشوب حالة الراحة التي أنت فيها بقلق غير مرغوب)(222/48)
فقال:
(إن هذا الوهم الذي تمكن منك بسيط، فأنت تعتقد حين يردد ذكر الموت على خاطرك أن ذكره لا يرتفع من وهمك، وتتصور العجز، ومن تصور حالة من الأحوال النفسية واعتقد أنه فيها، فهو فيها لا محالة؛ وكذلك من يتصور أنه مريض اعتقاداً جازماً، فأنه يمريض)
قلت: فما الحل إذن؟
فقال:
(إن أبسط الوسائل للتخلص من هذه الأحوال النفسية هو الرجوع إلى العقل). فلو فكر المرء واستعمل عقله استعمالا صحيحاً في هذه القضية، فإن الرهبة والجزع من الموت لا يزولان منه فحسب، بل يرى فيهما مثالاً من أمثلة السخف تدعو إلى الرثاء.
(إن الخوف من الموت بالطبع يستلزم وجود الألم. أي أن الإنسان لا يخشى الموت إلا لأنه يتصور أن فيه ألماً جسمياً أو روحياً؛ وقليل من التروي يؤدي إلى سخافة هذا الرأي، فإن حالة الموت لا تكون إلا إذا انتفت الحياة الشاعرة، أو القدرة على إدراك الألم في الإنسان. أي أن الإنسان لا يموت إلا وهو مائت، ولا يشعر بألم الموت لأنه لا يشعر بالألم إلا الجسم الحي. ومادام الجسم حياً فهو غير ميت طبعاً، وإذا مات فإنه لا يشعر، وفي كلتا الحالتين ليس هنالك ألم ولا موضوع للألم يخشاه الإنسان
(هذا إذا كان أساس الخوف هو تصور وجود الألم، أما إذا كان أساسه الفزع من فقدان الحياة، فإن الأمر أدعى إلى الرثاء! فإن الذي يخشى أن يفقد شيئاً يحبه أحرى به أن لا يفكر في فقدانه، فالتفكير في ذلك مدعاة إلى تشويه حسن ذلك الشيء، وهؤلاء السوداويون الذين يدعون حب الحياة وهم يفكرون دوماً أن هذه الحياة زائلة وأنهم فاقدوها لا محالة مخطئون ولا شك، وأحرى بالمرء أن يعيش كما جاء إلى الدنيا، فلا يسأل ولا يضع موضوعاً للتسآل أمام عينيه، فإنه سيموت قبل أن يصل إلى جواب)
وقد جرني التفكير فيما يجري في هذا السبيل إلى التفكير في (الخلود) ضد الموت وعدوه، فالمرء بطبيعة الحال يخشى الموت ولا يرغب فيه، وهو بذلك كأنه يريد الخلود، فما هو الخلود يا ترى؟ وكيف يرى الحياة مخلوق خالد، لو أمكن تصوره؟
وقد قرأت كثيراً في كتب الأدب عن الفكرة التي تمثل للأديب في صدد الخلود، والحياة(222/49)
الخالدة و (الفردوس) ولكني لا أكتم القارئ أنني لم أستطع أن أرضي شعوري الفني بلذة الحياة الخالدة، فضلاً عن أني لا أستطيع أن أفهم كيف تكون هناك (حياة) في (خلود)! كما أن من المعلوم أيضاً أن الخلود لم يجد من الأدباء على وجه العموم التفاتاً جدياً بل كان في أكثر كتابات الكاتبين الرمزيين والخياليين فقط؛ ولعل الأستاذ المازني أشد أدباء العربية سخرية بالخلود وبالأدب الخالد.
ومادمنا في حديث الخلود في الأدب فما هو يا ترى المقصود به؟ وأي أدب خلد أو سيخلد؟ وهل في وسع المرء أن يتصور للخلود عمرا؟
لا ريب أن تاريخ الأدب لا يتعدى بضع مئات من السنين، وأرجو أن لا يسارع القارئ فيذكر لي أوراق البردي وشعراء الفراعنة فهذه الآثار لم تخلد - إن صح أنها خلدت - لأنها من الأدب بل لأنها من التاريخ. . . فما قيمة مئات السنين هذه في عمر الدنيا؟ وهل هذه المئات من السنين هي المفهوم من معنى (الخلود) في الأدب؟ إن كان ذلك فما اشد بؤس الأدب وما أحوجه إلى خلود أطول عمراً!
هذا في الأدب، أما في حياة الفرد فالرزء أعم كما أسلفنا، وبالرغم من أن جميع البشر يتمنون الخلود فإنه ليس أبرد منه وأخلى من السعادة الموموقة. وأمامي قطعة من شعر العقاد لعله لم يقلها في هذا المعنى، ولكنه يستفاد منها وهي:
لو علمنا حظنا من يومنا ... ما بكى الصبية في غض السنين
أي كنز قد سفكناه على ... حسرات تضحك القلب الحزين!
حجبت عنا مزايا عمرنا ... فبكى من هو بالصفو قمين
وقضينا العمر لا ندري بما ... بين أيدينا وندري ما يبين
نجهل الورد فنرميه ولا ... يجهل الشوك الفتي وهو طعين
أترانا لو علمنا حظنا ... من غد نقنع بالحظ الرهين؟
أم ترانا نحمد الخطب إذا ... حان علماً بالذي سوف يحين؟
إن شكونا قيل لا تشكو فقد ... أنصفتكم هذه الدنيا الخؤون
لو درى الطفل بما سوف يرى ... شقي الطفل بما سوف يكون
والمازني يقول في أحد كتبه ما مؤداه: تعساً للجيل الذي يكون في حاجة إلى أدبنا هذا. وهو(222/50)
يقولها في سخرية، فلعله لا يقصد أن يقتصر على هذه السخرية فقط فإن في هذه الكلمة معنى حقيقياً عظيم الأهمية
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين(222/51)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعَاف النشاشيبي
231 - وأما بذل بقول فمحال
في (محاضرات الأدباء): كان محمد بن بشير ولي فارس فأتاه شاعر فمدحه فقال: أحسنت! وأقبل على كاتبه وقال: أعطه عشرة آلاف درهم، ففرح الشاعر، فقال: أراك قد طار بك الفرح بما أمرت لك. يا غلام، أجعلها عشرين ألفاً. فلما خرج قال الكاتب: جعلت فداك! هذا كان يرضيه اليسير، فكيف أمرت له بهذا المال؟! فقال: ويحك! أو تريد أن تعطيه ذلك؟ إنما قال لنا كذبا سرنا، وقلنا له كذبا سره، فما معنى بذل المال؟ أما قول بقول فنعم، وأما بذل بقول فمحال
232 - فتركتها للناس لا لله
أبو جعفر القرطبي:
وأبي المدامة وما أريدُ بشربها ... صلَفَ الرقيع ولا انهماك اللاهي
لم يبق من عصر الشباب وطيبه ... شيء كعهدي لم يحل إلا هي
إن كنت أشربها لغير وفائها ... فتركتها للناس لا لله
233 - راقه باعتداله وهندسته
في (أدب الكتاب) للصولي: كتب سليمان بن وهب كتاباً إلى ملك الروم في أيام المعتمد (العباسي) فقال: ما رأيت للعرب شيئاً أحسن من هذا الشكل، وما أحسدهم على شيء حسدي إياهم عليه
وإنما راقه باعتدالته وهندسته وحسن موقعه ومراتبه
234 - وهذا أيضاً مما يكتب
كان أبو حاتم السجستاني يكتب عن الأصمعي كل شيء يلفظ به من فوائد العلم حتى قال فيه: أنت شبيه الحفظة تكتب لغط اللفظة. فقال أبو حاتم: وهذا أيضاً مما يكتب
235 - الحجاج الكهاكه(222/52)
في (الفائق) للزمخشري: الحجاج كان قصيراً أصعر كُهاكِهاً: هو الذي إذا نظرت إليه كأنه يضحك وليس بضاحك، من الكهكهة
236 - فأجتمع له العمى من جهتين
ابن الأثير في كتابه (المثل السائر): بلغني عن أبي العلاء ابن سليمان المعري أنه كان يتعصب لأبي الطيب حتى أنه كان يسميه الشاعر، ويسمي غيره من الشعراء باسمه، وكان يقول: ليس في شعره لفظة يمكن أن يقوم عنها ما هو في معناها فيجيء حسناً مثلها. فيا ليت شعري أما وقف على هذا البيت:
فلا يبرم الأمر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم
فلفظة حالل نافرة عن موضعها وكانت له مندوحة عنها لأنه لو أستعمل لفظة (ناقض) لجاءت اللفظة قارة في مكانها. لكن الهوى - كما يقال - أعمى. وكان أبو العلاء أعمى العين خلقة وأعماها عصبية. فأجتمع له العمى من جهتين
237 - لصحت بهذا البيت
في (الكنز المدفون): روى عن الشيخ العارف بالله أبي العباس السياري أنه قال: لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت:
أتمنى على الزمان محالا ... أن ترى مقلاتيَ طلعةَ حرِّ
238 - بأنامل الحور على النور
قال جحظة في أماليه: حدثني أبو حرملة قال: قال علي بن عبيدة الريحاني: حضرني ثلاثة تلاميذ لي فجرى لي كلام حسن فقال أحدهم: حق هذا الكلام أن يكتب بالغوالي على خدود الغواني
وقال الآخر: بل حقه أن يكتب بقلم الشكر في ورق النعم
وقال الآخر: بل حقه أن يكتب بأنامل الحور على النور
239 - وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم
قال الحريري في كتابه توشيح البيان: كان أحمد بن المعذل يجد بأخيه عبد الصمد وجداً(222/53)
عظيماً، على تباين طريقيهما؛ لأن أحمد كان صواماً قواماً، وكان عبد الصمد سكيراً خموريا وكانا يسكنان في دار واحدة ينزل أحمد في غرفة أعلاها وعبد الصمد في أسفلها، فدعا عبد الصمد ليلة جماعة من ندمائه، وأخذوا في القصف والعزف حتى منعوا أحمد الورد، ونقضوا عليه التهجد، فاطلع عليهم وقال: (أفأمن الذين مكروا السَّيئاتِ أن يخسف الله بهم الأرض)
فرفع عبد الصمد رأسه وقال: (وما كانَ الله ليعذِّبهم وأنتَ فيهم)
240 - جمال، جلال، كمال
قال أحد العلماء: تجلى الله على المسجد الأقصى بالجمال، وعلى المسجد الحرام بالجلال، وعلى مسجد الرسول بالكمال
فذلك يوقف النواظر، وذاك يملأ الخواطر، وهذا يفتح البصائر
241 - وتسكينها حركات الطرب
في (المُغرب في حلي المَغرب): قال أمين الدين بن أبي الوفاء شاعر الفسطاط في مغن مبدع:
تنبّأ محمدُّ في فنّه ... وآيته أن شدا أو ضربْ
بقولِ أعاجم أوتاره ... أقاولُ تخرس فصْح العربْ
فتحريكُها سكنات الأسى ... وتسكينُها حركات الطربْ
242 - رأينا العفو من ثمر الذنوب
في (خاص الخاص): كان الصاحب إذا أنشد بيت السلاميّ
تبسّطنا على الآثام لما ... رأينا العفو من ثمر الذنوب
يقول: هذا (والله) معنى قد كان يدور في خاطر الناس فيحومون حوله ويرفرفون عليه ولا يتوصلون إليه على قرب مأخذه، حتى جاء السلامي فأفصح عنه، وأحسن ما شاء، ولم يدر ما رمى به
243 - بيضاء وخضراء وسوداء
يونس النحوي: الأيدي ثلاث: يد بيضاء، ويد خضراء، ويد سوداء. فاليد البيضاء هي(222/54)
الابتداء بالمعروف، واليد الخضراء هي المكافأة على المعروف، واليد السوداء هي المن بالمعروف
244 - . . وامش حيث شئت
سأل رجل أحد الأئمة: إذا شيعنا جنازة فقدامها أفضل أن نمشي أم خلفها؟
فقال: اجهد أن لا تكون عليها وامش حيث شئت. . .(222/55)
البعاد
للأستاذ فخري أبو السعود
أه ما أَعذَبَ البِعادَ وإن أَز ... رَى عليه من قبلِنا العاشقونا
إنني أشتهي البعاد زمانا ... مثلما اشتهي التواصل حينا
لا أُحِبُّ اللقاء عهداً مقيما ... مستمراً به نُقضِّي السنونا
ما أَلَذَّ الهوى لقاً ووداعاً ... وكتاباً أَدَّى التحايا أمينا
إن هذا البعادَ يُذكي بيَ الح ... بَّ ويحي ولائي المكنونا
فأُفَدِّيكِ في النوى بحياتي ... حيثما تُصبحين أو تُمسينا
وأحيِّيك كلما ذكَّرتني ... ك رياضٌ رفَّتْ علينا غصونا
وأَرى أَن ودَّنا يعبر السه ... ل ويَرْقَى الربى ويطوي الحزونا
إن هذا البعاد يبعث بي الأَشْ ... واقَ حَرَّى ويستجيش الحنينا
ويُعيد العِذَابَ مِن ذكرياتي ... وقديماً في عهدنا ودفينا
ويثير المنى بنفسي ولن أَلْ ... قَى بأَسمى المنى سواك قمينا
أَتمنى اللقا بيوم لنا أَر ... جِعُ فيه إِليك أو ترجعينا
أتمنى اللقا وفيكِ وفاءٌ ... باتَ عندي بأن تَبِّري ضمينا
حُّبنا مِن صِفاتِهِ أنه بَرٌّ ... وثيق الذمام يعلو الظنونا
وأَحَبُّ الأَيام عنديَ ما أرْ ... قُبُ فيه لقاَءك الميمونا
أُنْفِقُ العمرَ مسرفاً فإِذا أَق ... بَلَ يومُ اللقاء كنتُ ضنينا
كلَّ حين لنا لقاءٌ سعيدٌ ... ووداع أَطوِي عليه شجونا
وتزين في البعاد جمالا ... ورواء وبهجة وفتونا
وتزين في الشمائل إِينَا ... ساً وعطفاً كما أُحبُّ ولينا
وتزيدين كلَّ حينٍ سموّاً ... وعلوّاً فَاتَ الذرى والقنونا
أنتِ كنز من المحاسنِ أُخفي ... هـ نفيساً عن ناظريَّ ثمينا
كي أراه إنْ عُدتُ أبغيه قَدْ زا ... دَ جمالاً يسبي النهى والعيونا
كلَّ يوم أُجدِّد الحبَّ بالبُع ... د وأُحْييِ منه فنوناً فنونا(222/56)
فكأَني عشقتُ أَلفاً ومازل ... تُ الفتى الوافيَ الذي تعرفينا
ما أحَبَّ الهوى افتقاداً ووِجدا ... ناً وقرباً حينا وبعداً شَطُونا
فخري أبو السعود(222/57)
فريسة البغاء
للأستاذ ضياء الدين الدخيلي
شلت يد قادتكِ للهاوية ... وانتبذت جهلاً سواء السبيل
ورغبة جياشة عاتية ... عمت فأغرتكِ بمرعى وبيل
جنايةَ المجتمع الفاشل ... كُسِفتُ في حمأة آثام
طويتِ دون لذة العاجل ... تاريخ أجيال وأقوام
للشهوة العمياء أسلمت لم ... ترعى نواميس صلاح العباد
فعدت من خزي بإكليل ذم ... شعار موت النفس نهب الفساد
يا أم ضيعتِ وكنتِ الحنون ... لو راعت الأمة آمالها
قد عاقبتها بالضياع السنون ... إذ وأدت بالشر أشبالها
أمسيت فيناً شبحاً للفناء ... وكنت للنوع ضمان الخلود
صلتِ عليه بجراثيم داء ... كم هدمت آلامه من وجود
النجف الأشرف - العراق
ضياء الدين الدخيلي(222/58)
رسالة الفن
الفن الهندي
للدكتور أحمد موسى
مقدمة
كان لما كتبناه على صفحات (الرسالة) من الأثر ما شجعنا على مواصلة البحث والتحرير في موضوع ظننا لأول وهلة أنه ليس من الموضوعات التي يقبل القراء على قراءتها إقبالهم على غيرها، وقد وصلتنا رسائل عدة، استفهم كاتبوها مرة عن بعض التفاصيل وأخرى امتدحوها فيها خطتنا في الدرس والبحث، وثالثة يطالبوننا بأن نكثر من الكتابة عن الفن الشرقي على وجه الخصوص.
ولما كان تاريخ الفن لا يعنى بعينه دون سواه، ولما كانت رغبتنا هي العمل على إيجاد ثقافة فنية أقرب إلى الكمال، وغايتنا هي الوصول إلى ما يسمو بذوق القارئ، فيستطيع تقدير الجمال والتعرف على ناحية فذة في تاريخ الحضارة الإنسانية كلها، وجدنا أننا نستطيع الآن أن نبدأ بدرس الفن الهندي - وهو فن شرقي - لاسيما وقد فسرنا مميزات الفن المصري، وأوضحنا في شيء من الإسهاب آثار أكروبوليس أثينا، وآثار بابل وآشور كما تناولنا بالبحث بعض أقطاب الفن أمثال روبنز ورمبراندت وجويا وليوناردو وميكيلانجلو ورفايللو دون عناية بترتيب زمني أو مدرسي وقصدنا بذلك تبسيط الدرس
على أن درس الفن الهندي يكاد يكون من الدراسات المعقدة ولاسيما أن معرفتنا بتفاصيل العقائد الدينية في تلك البلاد تكاد تقرب من المعرفة الإجمالية، كما أن المعالم الأولى للفن الهندي مفقودة تماماً بالنظر إلى أن المشيدات الفنية أقيمت كلها من الخشب في أول الأمر فتلاشت معالمها بمضي القرون وأصبحنا أمام آثار حجرية بدأت بعد الوصول بالفن الهندي إلى درجة عظيمة تستحيل معها معرفة المرحلة الابتدائية لهذا الفن؛ كل هذا إلى أن الهند محاطة من الشرق والجنوب والغرب بالمياه، ومن الشمال بجبال عظيمة، جعل الفن الهندي قائماً بذاته لا تجد له نظيراً بين الفنون الأخرى من الوجهة العامة. نعم يرى الدارس المدقق أوجه الشبه بينه وبين الفنون الأسيوية، ولكننا هنا لا نتعمق في البحث والاستقصاء، وكل(222/59)
ما نريده هو الإحاطة الإجمالية، وفهم أبرز المميزات للفن الهندي، والوقوف على مدى ما وصل إليه الفنان في هذا المجال
وخير وسيلة وابسطها لهذه الغاية هي تقسيم الفن الهندي إلى ثلاث مراحل: الأولى مرحلة البراهمة التي أستمر أثر حضارتها إلى حوالي سنة 250 ق. م. والثانية مرحلة البوذيين التي بدأت عندما نادى بوذا بمذهبه في القرن السادس قبل الميلاد، وظلت حتى كان المذهب البوذي هو الدين الرسمي للبلاد بواسطة الملك أسوكا حوالي سنة 250 ق. م. أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة البراهمية الجديدة التي بدأت عند إدماج المذهب البوذي في المذهب البراهيمي صاحب الغلبة في القرن السابع بعد الميلاد. وقد بلغ الفن الذروة فيما بين القرن الثامن والثاني عشر بعد الميلاد، وبعدئذ دخل الإسلام بسطوته إلى تلك البلاد من القرن الثاني عشر
وبدأ الفن الهندي بمعناه الكامل في المرحلة البوذية حيث توجد أقدم الآثار الجديرة بالتسجيل والدرس والتي يرجع عهدها إلى عصر الملك أسوكا
وخير الأمثلة عليها المباني بأعمدتها التذكارية في (الله أباد) و (دهلي) وغيرهما، وفيها كلها أقيمت هذه العمائر لتسجيل النصر لبوذا
وطراز الأعمدة التذكارية يتخلص في أنها أقيمت على قواعد مستديرة الشكل تحمل تيجاناً على هيئة زهرة اللوتس وعليها الأسد رمزاً لبوذا
هذا إلى جانب بناء مجموعات من الأعمدة التذكارية على قواعد مستديرة الشكل تحمل مباني صامتة من الحجر المحروق، وقد أخذ شكلها التكويني هيئة القباب، وإلى جانبها خصصت غرفة صغيرة لدفن الأجسام المقدسة، أحيطت جميعها بسور عالٍ ذي بوابة كبيرة من الخشب. وأقدم أنموذج لهذا النمط البناء المسمى ستوبا سانتشي، يرجع تاريخه إلى عصر أسوكا، وقد بلغ ارتفاعه سبعة عشر متراً، وبه أربع بوابات ذات نقوش وزخارف بديعة.
هذا إلى جانب المعابد المنحوتة في الصخر والتي يتمثل فيها الفن الهندي البوذي تمثيلاً جيداً، نحتها وهيأها البوذيون، وكانت النمط الذي سار عليه البراهميون فيما بعد. فأنشأوا المعبد على هيئة مربع قسموه بواسطة الأعمدة إلى ثلاثة أجنحة (أشبه بالكنائس بازيليكا)(222/60)
فكان الجناح الضيق منتهياً بفتحة كقبلة صغيرة على هيئة نصف دائرة وضع فيها تمثال بوذا أو صورته. أما الحوائط فكانت كلها مزخرفة ومنقوشة، وإلى جوار هذا المربع غرف كثيرة وطرق ومسالك وردهات. كل هذا منحوت في الصخر مما يثير الإعجاب حقاً، كتلك التي نحتها المصريون في الصخر أيضاً (راجع الرسالة - الفن المصري، العمارة المصرية)
أما المدخل العام فكانت واجهته جميلة التكوين، تأخذ بلب الناظر إليها لما فيها من مظاهر العناية الفائقة والدقة المتناهية، هذا إلى جانب التماثيل والمنحوتات التي لا تقل قيمة فنية عن بقية البناء.
أما الدعامات والأكتاف الساندة فكانت مختلفة التكوين سائرة على غير قاعدة هندسية فنية ثابتة. والناظر إليها يرى أنها تشبه في بعض أجزائها تلك التي عملت على الطراز الباروكي في أوربا لولا ما غلب على حلياتها من الخيال الشرقي
وكانت الأعمدة حيناً مضلعة، وقد بلغت أضلاع بعضها أحياناً الستة عشر ضلعاً؛ وكانت التيجان أعلاها مربعة الشكل أو على قطعة حجرية ذات ثمانية أضلاع أو مربعة الشكل أيضاً. وكانت حيناً آخر مستديرة تسير على طولها قنوات رفيعة وتيجانها مستديرة مرة، وعلى هيئة كرة منبعجة مرة أخرى
وأهم وأبرز نماذج لهذه الأنماط المعمارية تنحصر في حدود الهند الشمالية الغربية بالقرب من بمباي وكارلي وأدشونتا وبهايا وإيلورا، وأقدم هذه كلها يرجع تاريخه إلى سنة 150 ق. م، وأعظمها وأشهرها وأجملها أقيمت في وقت الانتقال من الديانة البوذية إلى البراهمية بين سنة 500 وسنة 800 بعد المسيح
وتعد معابد إيلورا الصخرية على الخصوص من عجائب العمارة الهندية وتشمل الطرازين البوذي والبراهمي معاً، وبعض هذه المعابد على سفح الجبل الجرانيتي، وبعضها الآخر منحوت فيه من الداخل وكلها تقرب من ثلاثين معبداً وديرا
(له بقية)
أحمد موسى(222/61)
القصص
(القصة الخالدة التي أوحت إلى شاكسبير بروميو وجوليت)
من أساطير الإغريق
التوت الأبيض والتوت الأحمر
أو (بيرام وتسبيه)
للأستاذ دريني خشبة
كان أجمل شباب بابل، وكانت أجمل حسانها
كانت فتنة في فتنة، في جسم قوي، وقلب حمي، وخلق حيي، وقوام مفتول، ونفس حلوة ساكنة سجواء. . . وكانت قسيمة وسيمة، خفية لطيفة، غضة كالورد عطرية كأنفاس البنفسج؛ تفتر عن فم خمري شتيت، وترنو بعينين دعجاوين نجلاوين؛ وترسل شعرها المغدودن على ظهرها العاجي تارة، وصدرها المرمري أخرى، يداعبه النسيم، وتقبله الآلهة، وتنتظم فيه حبات القلوب
وكان بيتاهما متلاصقين، فكان يراها وكانت تراه، وكان يلقاها وكانت تلقاه؛ وكانا يتلاعبان في الصغر، طفلين كالملائكة ثم شبا، فكانا ينفران إلى الخلاء والأدغال، ويلتقيان عند النبع القريب، ويتسلق بيرام أشجار التوت الأبيض - ولم يكن التوت الأحمر قد عرف بعد - فيهز أغصانها وأفنانها، ويساقط الثمر الشهي اللذيذ على سندس العشب، رطباً جنياً. . . فتأكل تسبيه، وتقر به عيناً!!
ثم ترعرعا أيضاً؛ ودبت الحياة الحلوة الجميلة، حارة متدفقة زاخرة، في قلبيهما الصغيرين؛ وأخذ الفؤادان الصغيران يثبتان إلى الأعين السعيدة النقية الطاهرة، يرى كل إلى صاحبه، ويتزود كل من جمال أخيه زاد الهوى وذخيرة الحب، للأيام المقبلات
ولم يعرفا أنه الحب، ذاك الذي يخفق في صدريهما أول الأمر ولكنهما عرفاه، وعرفاه معرفة كلها شجو وكلها حنين حين ألح عليهما وحين كانا يفترقان أشوق ما يكونان إلى لقاء، وأصبى ما يكونان إلى اجتماع. . . ثم عرفا كيف يتشاكيان وكيف يتباكيان وكيف يكون(222/63)
الليل جحيما حينما يقبل فيفصل بينهما بظلامه، ويجمع بين روحيهما بسهده ودموعه وطويل أنينه، وكيف يكون فردوساً خالداً حينما يجمع بينهما في يقظة أو منام
ولم يقو بيرام على عذاب البعد، فاتفق وتسبيه على أن يكلم أباه ليكلم أباها في الخطبة، ولكن الوالد أبى واستكبر، ورفض أن تكون هذه الفتاة التي هي مطمح أبصار شبان المدينة زوجة لولده، وكذلك أبى والد الفتاة؛ ثم شجر الخلاف واتسع، وكثرت شياطينه، وأحيا عداوات قديمة، فتدابر القوم وتناكروا ولكن ما في قلبي الحبيبين ظل على ما كان عليه؛ بل ألهب البعد الذي جرت إليه الخصومة أوار حبهما، فازداد هياماً، وذابا غراماً، وكانت عداوة أهليهما عليهما برداً وسلاماً
ولم يعد يفكر إلا فيها، ولم تعد تفكر إلا فيه، وراح ينظم الشعر يتغنى به برحاءه، ويرسل موسيقاه يكلم بها السماء عسى أن ترق له آلهتها فترحمه مما يقاسي. . . وراحت هي تبكي وتتكلم بلغة الدموع إلى نفسها الملتاعة، وترسل آهاتها في صميم الليل تردد بين النجوم الخفاقة الكلمى تتوسل إلى أرباب الرحمة والحب أن تدرك بلطفها ضعف الحبيبين المظلومين
وتصدعت السماء، وانهمرت شآبيب الرحمة، وانهل فيض الحنان، وأمرت الآلهة فزلزلت الأرض زلزالها. . . وكانت الغرفة التي ينام فيها بيرام ملاصقة للغرفة التي تنام فيها حبيبته تسبيه، وكان يفصلهما جدار مشترك بين المنزلين المختصمين، فأحدث الزلزال في هذا الجدار صدعاً صغيراً كالشعرة، فوصل هواء الغرفتين، وحمل كلام الحبيبين، وأخذت موسيقى بيرام وغناؤه ينسابان إلى غرفة تسبيه، وأخذ بكاء تسبيه وآهاتها تنساب في غرفة بيرام؛ وأخذت النجوى الحلوة، والشكوى الجميلة، وغزل الكلام، وحنين القلوب، ينتقل في بروج هذا الجبل الشق كأنها كواكب السعد تحدوها الآهات الملتهبة، وتذهب بها القبلات الحارة، ترف بأجنحة من أثير من فم إلى فم. . .
- تسبيه، تسبيه!
- من؟ من يناديني؟
- تسبيه، هو أنا، أنا بيرام!
- من أين تتكلم؟(222/64)
- من هنا. . . ألم تشعري بالزلزلة؟
- آه! شعرت بها في العشاء الآخرة ليلة أمس
- إنها أحدثت في الحائط الذي يفصل بيننا شقا. . . وأنا أكلمك منه
- بيرام!
- تسبيه!
- إذن لقد رثت الآلهة لحالنا!
- واستجابت دعائنا يا تسبيه، لقد كانت حركتها موسيقاي!
- إذن كنت تعزف وتتغنى، بينما كنت أبكي وأئن وأذوي!
- لا! ولكني كنت أسكب نفسي دموعاً على أوتار القيثار!
- يا لقسوة هذا الجدار يا بيرام! إنه يفصل بيننا بشدة!
- هو على كل ارحم بنا من أبوينا. . . أليس قد انفرج ليصل حديثنا؟
- نشكره، إن من الصخر لما يتفجر منه الماء!
- نشكره جداً يا تسبيه. . . وأشكره أنا خاصة لأنه فرج عن قلبي بالتحدث إليك
- بيرام!
- حياتي!
- هل الجنة أجمل من سجننا هذا؟
- أنه أجمل من أنظر الجنان يا تسبيه!
- وهذا الظلام! أليس هو أضوء من سنا الضحى؟
- لأننا نتحدث فيه يا أختاه!
- أحب أن اسمع موسيقاك يا ببرام تتدفق في روحي خلال هذا الجدار
- ليس أحب إلي من ذلك يا تسبيه
- أنا لم أسمعك تغني مذ تناكر أهلونا
- سأفعل إن وددت!
- وماذا عساك تغني؟
- كل أغنياتي التي ترنمت بها فيك؟(222/65)
- ألا تغني شيئا آخر؟
- للآلهة! لأنها أنعمت عليّ بحبك!
وهكذا كانت أحاديث الحبيبين المعذبين كلما جنهما الليل، وضمها غاشي الظلام؛ أحاديث كأوشية الروض، وأفواف الزهر ونجوى البلابل، ممزوجة بعبرة أو عبرتين يريقانهما على جفاء الأهل، ولدد الطباع، وقسوة الأيام
ولم يحتملا هذه الحال طويلاً، فلقد شفهما الهوى، وأنحلتهما الصبابة، وفعل الحب في قلبيهما الضعيفين أفاعيله. ففي ليلة سافرة البدر، ساجية النسيم، صمتت فيها الطبيعة، وتكلم القمر، دار بين العاشقين الحديث الأتي:
- تسبيه؟!
- بيرام!
- أوشك القمر أن يكون بدراً يا حبيبتي!
- إنه جميل الليلة، وحبذا لو ظل جميلاً الليالي المقبلة. . .
- إن القمر جميل دائماً. . . أليس هو ابتسامة هذه الدنيا في ليالي العاشقين؟
- لكنه صامت أبداً. . . إنه أبكم لا يعي!
- سو. . . لا تقولي ذلك يا تسبيه. . . قد تسمعك ديانا فتغضب!
- هل يتكلم؟ هل يفهم؟
- أما أنه يتكلم فحق. . . لكنه لا يتكلم بلسان كلساننا. . .
- أنه يتكلم بلسان من فضة يا تسبيه، لسان له رنين حلو في أعماق الروح. . . ثم هو يفهم آلام المحبين لأنها تصعد إليه مع آهاتهم. . .
- خيال شاعر وفلسفته!
- بل هو الحق يا حبيبتي! لقد كان يكلمني وكنت أكلمه. وكان يفهمني وكنت أفهمه، كان يكلمني بآراده وأضوائه، وهي لسان صامت ولكنه بليغ لسن، وكنت أكلمه بوجداني مرة، وموسيقاي أخرى، فكان يضحك في الأولى، ويرقص في الثانية. . . تسبيه!
- ماذا يا بيرام؟
- أتمنى لو غمرتنا أشعة القمر غداً، في هذا السهل المنبسط(222/66)
- غداً؟ وكيف؟
- ولم لا؟ ألا ترغبين؟
- وكيف أرفض؟ أنا أتمنى ذلك
- إذن سنلتقي!
- وكيف أفعل يا بيرام؟
- تنسرقين إذ نام أهلك. . . ولن يشعر بك أحد
- وأين نلتقي؟
- عند مقبرة نينوس
-. . .؟. . .
- ألا تعرفينها؟
- مكان رهيب!
- لكنه جميل رائع! سنجلس ثمة بين يدي القمر ونتحدث، ونشفي أنفسنا مما تجد!
- وتعزف وتغني؟
- وقد نبكي!
-. . .؟. . .
- اتفقنا! أليس كذلك؟
- اتفقنا
- إذن أنتظرك، إذا لم أجدك هناك، عند النبع القريب. تحت التوتة البيضاء! وكذلك تفعلين
- أفعل ماذا؟
- تنتظريني ثمة إذا سبقتني!
- ترى ماذا تبتغي ديانا مني؟
- لا شيء. . . لا شيء. . .
ما كان أجملها من ليلة سطع في حوشيها القمر، ودحرج لآلئه على مياه النبع، ودغدغ بأضوائه العشب وأفنان الشجر فتبسمت وتضاحكت، ونشر في أجوائها بخوره المصاعد من مجامر الورد، ومداهن البنفسج، احتفاء بمقدم تسبيه! يا لجمال الطبيعة! لقد كان كل ما فيها(222/67)
موسيقى صامتة تنشر أحلى النغم حوالي هذه الحبيبة التي انسرقت تحت إسدال الظلام تمشي كالقطاة وترسل من فوق رأسها خماراً رقيقاً كسحابة الصيف تستر ما وراءها وليست شيئاً! لقد كانت تتوجس في نفسها خيفة وهي تدب في سكون الليل، كما يسري الحلم الجميل في خلد النائم
وذهبت تطوي الطريق وفي رأسها ألف فكرة عن هذه المجازفة؛ وبلغت مقبرة نينوس آخر الأمر، ولكنها لم تجد حبيبها عندها. ترى؟ ماذا عوقه؟ لقد كان رخام المقبرة نظيفاً ناصعاً، ولقد كان شبح الفناء جاثماً فوقها يلمع في ضوء القمر، كأنه يتلاعب بالسنين والأحقاب، وكأنه يسخر من كل شيء فوق الأرض! وبدا للفتاة الضعيفة كأنه يرقص كالسكران فوق الشاخص الرخامي، ولكنها أخذت تصرف عن عينها رؤى عفاريت الليل، وتصاوير الوهم المريض؛ ثم سخرت من خوفها وذكرت التوتة البيضاء، والنبع الذي عندها، فارتدت إليهما لتجلس ثمة، ترتقب زورة الحبيب
وجلست عند جذع التوتة، وجعلت تحدج الثمر الأبيض، وتشتهي لو سقط منه شيء تأكله حتى يحضر بيرام. . . ثم سمعت دبيباً يقترب، فلم تشك أن بيرام قد أقبل، ونبض قلبها بشدة وانذرفت من عينها عبرة لم تفكر هذه اللحظة أن تذرفها. . . ثم أبطأ الدبيب. . . ووثبت تسبيه تمد عينيها الثاقبتين في أرجاء الدنيا الصامتة الرهيبة، ولكنها لم تر شيئاً، وعادت عفاريت الليل ترقص في وهمها، ولكنها لم تبال، وجعلت تجاهد نفسها مجاهدة لينة مرة، عنيفة مرة أخرى، وهي في هذا وذاك تفكر في حبيبها بيرام، وتضرب في تأخره أخماساً لأسداس. . . ثم ذعرت الفتاة ذعراً كبيراً، وساخت الأرض تحت قدميها المرتجفتين أو كأن قد. . . ذلك إنها لمحت شبح لبؤة تخرج من دغل قريب فجأة، ثم تيمم شطر النبع الذي تعرش من فوقه التوتة. ماذا؟ إنها لبؤة ضارية أقبلت ترتوي من ظمأ ملح وجواد شديد. . . وهي تتبهنس مع ذاك كأنها عروس ولكن من الجن
وأطلقت الفتاة ساقيها للريح، ولم تحفل بها اللبؤة، لأنها قد افترست فريسة قبل ساعة ونهشتها، وهذا فمها ملوث بالدم الغريض الدافئ. . .
لم تصنع اللبؤة شيئاً، إلا أنها رأت الخمار الأبيض الذي كانت تسبيه ملتفعة به، ملقى على الأرض، فعاثت فيه، وكأنما أرادت أن تمسح فمها به، فلوثته بالدم، ثم هممت نحو النبع(222/68)
فارتوت على مهل، وعادت أدراجها نحو الدغل الذي تركت فيه فريستها لتأتي على بقاياها
أما الفتاة فقد ظلت تجري حتى بلغت شجرة ضخمة وجدت في أصلها فراغاً فاختبأت فيه، وراحت تلهث من الذعر والتعب، وتتمنى أن ألا ترتد اللبؤة إليها. . . وقد أيقنت أن ديانا، إلهة القمر، قد سمعتها حين عابت على البدر عيه وبكمه، فساقت إليها هذا الوحش في هذا الليل
ولم يمض طويلاً على تلك الأحداث حتى أقبل بيرام وفي نفسه لهفة، وبقلبه قلق، فقصد إلى مقبرة نينوس فلم يجد عندها شيئاً؛ ووقف قليلاً يبحث عن تسبيه في كل شيء! في شجيرات الورد وفسائل الزنبق، وفي العشب الخائف المذعور حول المقبرة؛ وتولاه طائف من الوجد والذهول فراح يبحث في السحابة الرقيقة البيضاء التي انتشرت على وجه القمر في هذه اللحظة، مشبهة خمار تسبيه على وجهها الرقيق الناحل. . . ثم ذكره ميعاده عند النبع القريب تحت التوتة البيضاء، فانثنى ميمما شطرها. . .
(يا للهول! ويا للفزع الأكبر!! ما هذا؟ خمار حريري أبيض؟ لمن هذا الخمار يا ترى؟ أواه! إنه خمارها لا ريب! لقد شهدتها تلتفع به مراراً! يا أرباب السماء! ما هذا الدم؟ وا أسفاه عليك يا تسبيه! لقد قتلتك الوحوش فلن أراك بعد اليوم! أنا السبب يا حبيبتي! لقد جررت عليك هذا باقتراحي الضال! ألا ليت أمي لم تلدني! أي وحش ضار اغتذى بك يا تسبيه؟ أيها القمر القبيح الأبكم لم أغريتنا بهذا اللقاء؟ أنت تستر الآن حياء وخجلا من فعلتك التي فعلت، وكنت بالأمس سافراً متبرجا! أغرب أيها الأصفر كصفرة الموت فلا جمال فيك! رد علي موسيقاي وأغاني فأنت جبس لئيم لا تستأهل منها شيئاً! هات كل ما عندك لي هات! هات دموعي وأشجاني وآهاتي! هات سهدي وعبادتي ومناجاتي! قتلت تسبيه تحت سمعك وبصرك ما أقساك يا صاحب الليالي المواضي! أوه. . . ولكن. . . لا. . . أنا الذي قتلتها، لا ذنب لك يا قمر. . . إني أستغفرك؛ أبق كل ذكرياتي عندك، فلا أمن عليها إلا أنت! أما أنا. . . فهلم يا حسام أسكن هنا. . . في حبة القلب. . . أروَ من هذا الدم الدافئ فلا أمل لصاحبك في الحياة بعد اليوم. . .)
وألقى الفتى المسكين نظرة على كل شيء حوله، لا حرصاً على الحياة المرة؛ ولكن لينظر إلى كل ما نظرت إليه تسبيه قبل أن يأكلها الوحش، وليتزود من الأثر الذي تركته في(222/69)
الوجود عيناها الحزينتان المفزوعتان. . .
ثم أغمد سيفه في صدره. . . وسقط يتجرع سكرة الموت!
وهدأ روع تسبيه، فبرزت من مكمنها في أصل الدوحة، لنرى من أين كان يتردد في أذنيها هذا النداء الحبيب. وكان شبح اللبؤة ما يزال يتمثل لها فيفزعها في الفينة بعد الفينة، ولكنها كانت تسير بخطى وئيدة، لأنها ما شكت مطلقاً في أن النداء لحبيبها، ولأن الصوت الفضي الذي كان يمتزج بأضواء القمر فيغمر أذنيها وقلبها، كان ما يزال يداعب أذنيها الصغيرتين. . . ثم بدا لها أن تحث الخطى حتى تنبه بيرام إلى وجود لبؤة في هذا السهل الجميل جعلته كالفلاة. . . فأسرعت، وأسرعت!!
- من هذا المستلقي على حفاف النبع؟ هو من غير شك!
ثم أسرعت أكثر من ذي قبل
- بيرام؟ ما هذا؟ السيف في صدرك؟ لِمَهْ؟ حبيبي! رد علي! كلم تسبيه! هاأنا ذي! لم قتلت نفسك يا بيرام؟ آه! هذا الخمار الأبيض! وَيْ! إنه ملوث بالدم؟ عاثت فيه اللبؤة الملعونة!
- تس. . . سبيه!
وأرسل القتيل هذا الاسم المحبب وحشرجة الموت تعتلج في صدره، ثم فتح عينه قليلاً فرأى فتاته تبكي فوق رأسه، فتبسم. . . ثم مات!
- بيرام! لا! لا تمت! لابد أن تعيش من أجلي!
ولكنه مات برغم هذه الأماني
- إذن أنا التي قتلتك يا حبيبي؟ أشهدي يا توتتنا البيضاء!
ثم رفعت بصرها إلى فوق، ولكنها بدلاً من أن ترى الثمر الشهي الأبيض، رأت ثمراً أحمر يقطر دماً قانياً
- أوه! رويت من دمه أيتها الشجرة فضرجت ثمرك من حبنا وسعادتنا؟! تعالوا يا أهل! تعالوا أيها القساة! فتشوا عن الرحمة في قلوبكم المتحجرة اذرفوا دموعكم علينا. . احذوا أن تفرقوا بعد اليوم بيننا، فقد ربطت بين جسومنا المنايا. . . لقد أبيتم في أن نجتمع في الحياة فلا تفرقوا بيننا بعد الموت. . . وداعاً أيها القمر. . . وداعاً فقد ظلمناك!)
ثم جذبت السيف من صدر حبيبها وأغمدته في صدرها بعد أن قبلت بيرام الميت قبلة(222/70)
الوداع. . . وسقطت تتخبط في دمائها جانبه. . . ثم عالجت سكرات المنون فوضعت رأسها الجميل، وشعرها المغدودن فوق صدره. . . ولفظت ثمة آخر أنفاسها
وأقبل أهلوهما في الصباح فبكوا كثيراً، واستغفروا لذنوبهم، ثم أقاموا للحبيبين قبراً واحداً من الرخام الناصع عند حفافي النبع. . . تحت التوتة الحمراء!
دريني خشبة(222/71)
البريد الأدبي
أسطورة الاطلانطس
هل كانت الاطلانطس التي مازالت مستقى خصباً لأقلام القصصيين حقيقة قارة أو منطقة مفقودة؟ لقد ظهرت في العصر الأخير عدة قصص رنانة عن خرافة (الاطلانطس) وكان أخرها رواية لبيير برتران عضو الأكاديمية الفرنسية. ولكن (الاطلانطس) ما تزال خرافة يكتنفها الغموض المطبق. وقد حاول كاتب إنجليزي هو جيمس برايمول أخيراً أن يدرس قصة (الاطلانطس) دراسة تاريخية علمية، فوضع عنها كتاباً سماه (الاطلانطس المفقودة) جمع فيه كل ما ورد في الروايات القديمة والحديثة وفي التقاليد المأثورة، وفي الشعر والقصص عن هذه الأسطورة، وفي رأيه أن هذا (الاطلانس) لابد أن تعني شيئاً ولو أن ما يحيط بها من الغموض يحول دون معرفة الحقيقة، وأن هذه القارة ربما كانت على الأغلب جزائر (آزورس) في عصر غابر جداً قد يرجع إلى عشرة آلاف عام قبل المسيح. والواقع أن الأسطورة تثير في الإنسان الجانب الشعري قبل أن تثير فيه الناحية العلمية؛ وإذا كانت جزائر (الآزورس) يمكن أن تكون فرضاً أول للقارة المفقودة، فكذلك يمكن أن تكون قادسة وقرطاجنة؛ وهنالك غير ذلك فروض كثيرة ذهب إليها مختلف الباحثين. وأما الحوادث التي ترتبط بهذه الأسطورة فلا حصر لها، وهي قد ترجع إلى عصر الأهرام أو عصر أفلاطون، وأفلاطون ممن تحدثوا عن (الاطلانطس)؛ بيد أن مستر برامويل يرى رواية أفلاطون خارقة مستحيلة إذ يقول أن (الأطلانطس) أو القارة الوسطى قد اختفت في الماء في يوم واحد، لأن العوامل الجيولوجية لا تحدث أثرها بمثل هذه السرعة الخارقة؛ ومن جهة أخرى فإن أسطورة (الأطلانطس) ليست في ذاتها أكثر إغراقا من أساطير تاريخية أخرى لها مكانة في التاريخ، فحصار طراودة وقصة هيلين التي خلدها هوميروس في الإلياذة؛ وقصة ملكة سبأ التي شغلت الباحثين والرواد في الأعوام الأخيرة وأمثالهما من الروايات المغرقة التي تبدو مع ذلك ذات مسحة تاريخية هي من نوع أسطورة الاطلانطس، ولو أنها من الناحية الزمنية ترجع إلى عصور أكثر ظلاماً وغموضاً، وعلى أي حال فإن كتاب (الاطلانطس المفقودة) يقدم إلينا مجموعة من الروايات والفروض الشائقة التي تتعلق بهذه الأسطورة منذ فجر التاريخ إلى عصرنا(222/72)
مر، مرير، ممر
نقد السيد جورج سلستي في (الرسالة) لفظة (المرير) في (رواية المصدور) وقد كان العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي قد أنكر هذه الكلمة في مجلته (الضياء) كما أنكر ألفاظاً عربية صحيحة غيرها. والشيخ إبراهيم والسيد جورج كلاهما مخطئ في نقد تلك اللفظة، فالمرير مثل المر والممر؛ وهي في كتب اللغة وكلام العرب ورسائل البلغاء، قال (أساس البلاغة) للإمام الزمخشري: (وشيء مر ومرير وممر) قال:
إني إذا حذرتني حذور ... حلو، على حلاوتي مرير
ذو حدة، في حدتي وقور
وفي نهج البلاغة - وصوّاغه من أئمة الفصاحة والبلاغة: (وإن كان ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة)
فقال: المر، أو المرير، أو الممر، إذا اقتضت ذلك حال، ولكل مقام لفظ ومقال. . .
(الإسكندرية)
* * *
أوراق البردي ونصوص التوراة
ظفر المنقبون في العصر الأخير بكثير من أوراق البردي التي تتضمن نصوصاً من التوراة في عصور مختلفة، ووجدت معظم هذه النصوص الأثرية ضمن أوراق البردي المصرية؛ وقد استطاع المستر شستر بيتي المثري الإنكليزي المعروف في مصر بأنه من أكبر هواة الآثار أن يحرز عدة من أوراق البردي الهامة التي تلقي ضوءاً على نصوص التوراة الأولى؛ ووصفت هذه الوثائق أخيراً وترجمت نصوصها في كتاب بقلم العلامة الأثري الإنكليزي السير فردريك كينون، وعددها أثنتا عشرة وثيقة منها عدة تكون قسما من نسخة من التوراة كتبت في القرن الثالث الميلادي. وهذه التوراة كما يصفها السير كينون كانت مجموعة واحدة تحتوي على ستة وخمسين صفحة من البردي لصقت معاً ونظمت في ملف؛ وقد استطاع السير كينون أن يقرر بالاعتماد على هذه الوثائق كثيراً من الحقائق التاريخية التي تتعلق بتطور النصوص ونتائجها؛ وأهم هذه الحقائق هو أن نص التوراة(222/73)
كما ورد في كتاب (إيسيا) ليس هو أصح النصوص التي انتهت إلينا. وهنالك بعض وثائق أخرى ترجع إلى القرن الرابع الميلادي وكلها مما يعاون في تتبع النصوص وتحقيقها
الرئيس مازاريك والحركة الفكرية
فقدت الحركة الفكرية في أوربا الوسطى بوفاة الدكتور مازاريك محررا تشيكوسلوفاكيا ورئيسها السابق ركنا من أهم أركانها. ذلك أن الرئيس الراحل لم يكن وطنياً وسياسياً عظيما فقط بل كان أيضاً مفكراً وكاتباً مبرزاً، وقد درس الفلسفة واشتغل في شبابه بالتدريس وكان مدى أعوام طويلة أستاذاً للفلسفة في جامعة براج؛ وله رسائل وبحوث فلسفية قيمة. كذلك أشتغل الرئيس مازاريك بالصحافة والأدب، وله عدة أثار أدبية ونقدية لها مكانة في أدب أوربا الوسطى، وكان الرئيس مازاريك أيضاً من أعظم هواة الكتب، وقد جمع أثناء حياته مكتبة عظيمة كانت كعبة الزوار من كل صوب، وقد تركها لأمته
رحلة في بلاد التركستان
لا تزال التركستان الصينية من المناطق التي يجهل العالم الخارجي الكثير من أحوالها؛ وقد وقعت في الأعوام الأخيرة بهذه البلاد النائية عدة أحداث وتطورات سياسية هامة لفتت إليها الأنظار، وزارتها عدة بعوث أوربية لتكشف ما هنالك من الحوادث والظروف، ولتدرسها من الوجهة الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية، وكان من هذه البعثات بعثة أوفدتها الحكومة الإنكليزية إلى مدينة أورمش في أعماق التركستان سنة 1935 لتعقد الصلات السياسية والتجارية بين إنكلترا والحكومة الجديدة؛ وكانت هذه البعثة برياسة السير أريك تيشمان، يعاونه ثلاثة من المغول واثنان من الصينيين؛ وسافرت البعثة من بكين في سيارتين كبيرتين تتقدمهما قافلة من الجمال تحمل البنزين والمؤن؛ واخترقت البعثة صحراء جوبى الشاسعة مدى ألف وخمسمائة ميل إلى أورمشي؛ ثم سارت منها إلى مدينة كشغر عاصمة التركستان الصينية فقطعت بذلك نحو ألفين وخمسمائة ميل في أربعين يوماً. وقد دون السير تيشمان رحلته ودراساته لهذه الأقطار المجهولة في كتاب ظهر أخيراً عنوانه (الرحلة إلى تركستان) ومرض السير تيشمان مدى حين في كشغر، ولكنه استطاع أن يتم مهمته. وأن يخترق بعد ذلك صحراء البامير المروعة على ظهر مهر،(222/74)
ومنها انحدر نحو حدود الهند الشمالية الغربية، ثم عاد إلى الصين عن طريق الهند
ويقدم إلينا السير تيشمان في كتابه خلاصة قيمة عن تاريخ التركستان الصينية، وعن أحوالها وظروفها الحالية؛ ويفيض في وصف الفيافي الشاسعة والجبال الشامخة التي شاهدها، وفي وصف الأجناس البشرية التي لقيها في طريقه، ولغاتها ومعتقداتها وأساليب الحياة
في دار المحفوظات النمسوية
يتردد صديقنا الأستاذ عنان الذي يقضي الآن أجازته في فينا على دار المحفوظات النمسوية ليدرس الملفات الخاصة بحياة ولي العهد السابق رودلف فون هبسبرج وبمصرعه المؤسي في حادثة مايرلنج الشهيرة، وقد كانت هذه الملفات السرية التي تحتوي على كثير من الوثائق المخطوطة محفوظة في قصر (البورج) ولم يتح لإنسان أن يطلع عليها إلا بعد الحرب الكبرى حيث نقلت المحفوظات الإمبراطورية إلى محفوظات الدولة؛ وبين هذه الوثائق مذكرة خطية مستفيضة عن مصرع الأمير رودلف في قصر مايرلنج مكتوبة بقلم كبير حاشيته الكونت فون هويوش وفيها يفصل الظروف والعوامل النفسية والاجتماعية التي دفعت بالأمير إلى الانتحار. وينوي الأستاذ عنان بعد دراسة هذه الملفات أن يضع مؤلفاً عن مأساة مايرلنج الشهيرة مستسقي من أوثق المصادر والمراجع
بعثة ثقافية مصرية إلى فرنسا
وجهت الحكومة الفرنسية الدعوة إلى الحكومة المصرية لإيفاد ثلاثة من خريجي كلية الآداب واثنين من خريجي كلية الحقوق لزيارة فرنسا والإقامة بها عاماً دراسياً كاملا
وقد خصصت جمعية أصدقاء الشرق لكل مبعوث مصري من الذين تقرر الجامعة إيفادهم عشرة آلاف فرنك طول مدة الإقامة على أن تتكفل أيضاً بنفقات الانتقال على البواخر الفرنسية والسكك الحديدية المصرية والفرنسية
وقد تلقت وزارة المعارف أمس الأول كتاباً من قنصل فرنسا يطلب إليها فيه دعوة المبعوثين لمقابلته والتعرف إليهم. ونذكر في هذا الصدد أن جمعية أصدقاء الشرق بباريس لم تضع للبعثة برنامجاً وإن كان المفهوم أن الدعوة مقصود بها توطيد صلات الصداقة(222/75)
وإيجاد علاقات أدبية وثيقة بين الشعبين المصري والفرنسي عن طريق إيفاد مثل تلك البعثات؛ وقد وقع اختيار الجامعة على أعضاء البعثة وسيغادرون مصر في هذا الشهر
الحياة الطبيعية للإنسان 150 سنة
وصل الأستاذ (لازارف) مدير معهد البيولوجيا في روسيا - بعد سنوات من البحث - إلى أن العمر الطبيعي للإنسان ينبغي أن يكون 150 سنة وأن السبب الوحيد لعدم مقدرة الجيل الحاضر على الوصول إلى هذا السن هو عدم الاهتداء إلى سر التغلب على عملية التفكك في الجسم الإنساني. ويعتقد الأستاذ أن الإنسان يصل إلى عنفوان قوته في سن العشرين وبعد ذلك تبتدئ عملية التفكك وأنه سوف لا يمضي وقت طويل حتى يتمكن العلم من وقف هذه العملية وبذلك يتمكن الجزء الأعظم من سكان العالم من التعمير مائة وخمسين سنة. وربما استخدمت في ذلك مجهزات كيميائية أو أشعة خاصة يستطيع بها المخ أن يحتفظ بقوة وظيفته. ويستدل الأستاذ على تأثير هذا في بعض الأمراض التي كانت تعتبر عضالة منذ خمسين سنة وقد أصبحت الآن سهلة الشفاء
تعيين سكرتير لجمعية مارك توين في مصر
اختارت جمعية مارك توين الدولية مستر جون هوجورف ليكون سكرتيراً لها في مصر
وهذه الجمعية مؤلفة على نمط أندية شكسبير، وتتجه أغراضها إلى نشر كتابات مارك توين وتشجيع الملكات الأدبية من أية جنسية كانت، ولها فروع في الولايات المتحدة الأمريكية، والإمبراطورية والبريطانية وفرنسا وإيطاليا وألمانيا واليابان وغيرها من البلاد. ويؤيد جمهورها كثيرون من أقطاب العالم بينهم السنيور موسوليني ومستر هوفر، وايرل بلدوين، ومستر رامسي ماكدونالد، والجنرال سمطس؛ ومن أعضائها ستيفن كيلوك، وأوجيني أونيل، وجيوفاني بابيني، وويلز وأندريه موروا(222/76)
العدد 223 - بتاريخ: 11 - 10 - 1937(/)
فلسطين والسياسة الإنجليزية الجديدة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
آثرت الحكومة البريطانية أن تغلط في فلسطين غلطتها في مصر، فاعتقلت رجال اللجنة العربية العليا، وحملتهم في بارجة حربية تمضي بهم الآن إلى سيشيل. وهذا عين ما صنعته في مصر لما ضاقت بالحركة الوطنية فيها ذرعاً، وتوهمت أنها إذا قبضت على رجال الوفد سهل عليها بعد ذلك أن تكفل الراحة لنفسها، والاطمئنان على تحقيق غاياتها في مصر. فذهب الزعماء إلى سيشيل وبقوا فيها ما شاءت السياسة البريطانية، فلم تخمد الحركة الوطنية، ولم يعدل المصريون عن مطالبتهم بالاستقلال، ولم يكفوا عن السعي لاسترداد حريتهم القومية، ولم ترجح كفة المعتدلين بعد أن أقصى الذين كانت تسميهم المتطرفين، وانتهى الأمر بالإفراج عن المعتقلين وإطلاق سراحهم وعودتهم إلى وطنهم، ثم لم تجد السياسة البريطانية بداً من الرجوع إلى هؤلاء المتطرفين وغيرهم من زعماء البلاد للاتفاق معهم على حل تستقر به العلاقات بين البلدين على حدود معقولة معروفة
والذي فعلته السياسة البريطانية في مصر وأخفقت فيه، ولم تجد منه جدوى، تفعله الآن في فلسطين، وما نظن بها إلا أنها ستخفق هناك أيضا. فإن رجال اللجنة العربية العليا ليسوا رجال تهييج، ولا هم الذين يحرضون على أعمال الإرهاب أو الاغتيال التي أثارت ثائرة البريطانيين، وأغرتهم بهذا العنف الذي تأخذ به زعماء العرب الآن، وإنما هم رجال سياسة يطالبون بحق بلادهم ويدافعون عنه، ويسعون للفوز به بالطرق المشروعة. ومن غرائب التفكير المقلوب أن الصحف البريطانية تقول في تعليقها على هذا الاعتقال والنفي إن القبض على المتطرفين خليق أن يفسح المجال لغيرهم من المعتدلين، ويشجعهم على الظهور والمعالنة بآرائهم التي كانوا يخافون الجهر بها. وتنسى هذه الصحف أن الأمر ليس أمر اعتدال وتطرف، وإنما هو أمر حق للبلاد يطلبه الجميع بلا فرق، ويجمعون عليه بلا تفاوت أو شذوذ أو اختلاف. ومن البعيد جداً أن يجرؤ أحد على التقدم باسم الاعتدال والمعتدلين بعد أن نكلت الحكومة البريطانية برجال اللجنة العربية العليا. وأخلق بكل عربي من أهل فلسطين أن يستنكر هذا العنف الذي لا مسوغ له، وذاك الظلم الذي ينزل برجال اللجنة العربية. والمعقول أن يمتنع العرب - متطرفوهم والمعتدلون منهم إذا صح(223/1)
أنهم فريقان - عن التقدم إلى الإنجليز لمفاوضة أو مباحثة قبل أن يرفع الظلم عن إخوانهم. وإذا صح أن في فلسطين اعتدالا وتطرفاً وأن المعتدلين كانوا يخشون الظهور بآرائهم الحقيقية أمام المتطرفين - وهو ما لا نعتقد أنه صحيح - فالبداهة تقول إن هؤلاء حقيقيون أن يخشوا الظهور الآن بعد الذي كان من الاعتقال والنفي حتى لا يتهموا بالتواطؤ مع البريطانيين على إقصاء رجال اللجنة العربية عن الميدان
فالذي فعلته الحكومة البريطانية لا خير فيه ولا جدوى منه؛ وكل ما هو خليق أن يثمره هو أن يوقع في روع العرب أن بريطانيا ممالئة للصهيونية، ومناوئة للعب؛ وأنها تلجأ الآن إلى وسائل الضغط والعنف والتخويف والإرهاب بعد أن أعيتها الأساليب السياسية. وإلا فلماذا تختص بريطانيا العرب بهذا العنف وتخاشنهم على حين تسالم الصهيونيين وتحاسنهم؟ وإذا كانت حوادث الاغتيال التي وقعت هي التي استوجبت اللجوء إلى هذه الأساليب العنيفة، فقد كان يحسن بالحكومة البريطانية أن تذكر أن الذين اغتيلوا كان أكثرهم من العرب، وأن ممن وقع الاعتداء عليهم بعض زعماء العرب أنفسهم، وأن هناك اغتيالات وقعت من الصهيونيين أيضا، وهذا ما لاشك فيه. فلماذا تأخذ العرب وحدهم بذلك وتدع الصهيونيين؟ على أن زعماء العرب لم يكفوا قط عن دعوة الشعب إلى التزام السكينة والهدوء وضبط النفس والمحافظة على اتزان الأعصاب حتى في أعصب الأوقات، لأنه ليس مما يساعد على تحقيق غاية العرب ويكفل للزعماء الفوز بالحصول على ما ينشدون من الحرية ومن المحافظة على حقوق البلاد أن يقع اضطراب يمكن أن يستغله خصوم القضية العربية وأنصار الوطن القومي والصهيونية. فحوادث الاغتيال التي وقعت هي في الحقيقة معاكسة لمساعي العرب وإساءة إليهم؛ ولو وسع زعماء العرب أن يقطعوا دابرها ولما ترددوا، ولكنهم ليسوا الحكومة، وليس أمر الأمن والنظام إليهم، ولا في أيديهم زمامه؛ فمن أشد الظلم وأصرخه أن يؤخذوا بما يشكون هم منه، ويرون فيه إحباطاً لسعيهم ومناوأة لهم
ومن الواضح أن هذا مظهر اضطراب شديد في السياسة البريطانية، فقد كان المفهوم من موقف ممثليها في عصبة الأمم أنها لم تعد ترى في مشروع التقسيم حلاً مقبولاً لمسألة فلسطين، وأنها ستعيد النظر في الأمر؛ بل لقد صرحت أنها تنوي أن تبعث إلى فلسطين(223/2)
بلجنة أخرى تتناول الموضوع بالدرس والبحث من جديد، وتفاوض رجال العرب وزعماءهم وممثلي الصهيونية لعلها تهتدي إلى حل آخر يكون أكفل بإرضاء الفريقين. وكان المفهوم أيضاً أنها بهذا تفسح لنفسها في الوقت وترجئ الحل إلى أن يتيسر؛ ولا يتفق هذا وسلوكها العنيف، فإن الذي يريد المفاوضة والتفاهم لا يلجأ إلى الشدة والضرب على الأيدي والتحبيس. ومن عساها تفاوض أو مع من ترجو أن تتفاهم إذا كانت تشرد الزعماء في نواحي الأرض وتقصيهم؟ أتفاوض العامة أو من يا ترى؟ وما هي الجدوى على كل حال من هذه السياسة العنيفة؟ سؤال نلقيه ونحن نتعجب، فإن اعتقال رجال اللجنة العربية لا ينفع أحداً من الإنجليز أو الصهيونيين، لأن هؤلاء الرجال إنما يمثلون رأي الأمة ويتكلمون باسمها، والإنجليز يشاءون أن يشكوا في ذلك، وأن يزعموا أن هناك معتدلين مستعدين للظهور والتقدم متى خلا المجال من هؤلاء المتطرفين الإرهابيين. وسيرى الإنجليز أنهم في هذا مخطئون كخطئهم في اعتقال زعماء المصريين مرتين ونفيهم أولا إلى مالطة ثم جزيرة سيشيل. وسيتبين الإنجليز أنهم أوغروا صدور العرب بلا موجب ومن غير عوض، وحملوا العرب في كل مكان على إساءة الظن بالسياسة البريطانية بعد أن كان العرب يعتقدون أن بريطانيا حليفة طبيعية لهم، وأنها أولى بصداقتهم ومحالفتهم. ولا ندري ماذا تكسب بريطانيا من اسخاط العرب وإيغار صدورهم؛ ولكنا ندري أن يأسهم من صداقتها ومن إمكان التفاهم بالعدل والإنصاف قد يدفعهم إلى ما تكره بريطانيا ويحملهم على النظر في أمرهم من ناحية جديدة، وعلى طلب حقهم بوسائل جديدة. فإذا كان في هذا مكسب للسياسة البريطانية فإنه ينقصنا أن نعرفه. ولن يكون العرب إلا معذورين إذا التمسوا حقهم من طريق آخر غير طريق الاعتماد على روح العدل والإنصاف عند بريطانيا
إبراهيم عبد القادر المازني(223/3)
في التاريخ السياسي
حوادث الشرق الأقصى
والحرب بين الصين واليابان
بقلم باحث دبلوماسي كبير
تضطرم الحرب في الشرق الأقصى بين الصين واليابان منذ ثلاثة أشهر؛ وهي حرب غير رسمية، بدأت لأسباب تافهة، واتسع نطاقها بسرعة، وأضحت خطراً حقيقياً على السلام. ومن المحقق أنها لم تكن لتنشب لو لم ترد اليابان نشوبها. وأن اليابان تشهرها على الصين وفقاً لخطة مقررة، وتحقيقاً لغايات بعيدة المدى؛ وهي ليست في الواقع إلا خطوة جديدة في سبيل تنفيذ السياسة التي رسمتها اليابان لبسط نفوذها على الصين واستعمار مناطقها الغنية تباعاً؛ وقد بدأت هذه السياسة منذ سنة 1) 31 حينما غزت اليابان ولاية منشوريا بحجة المحافظة على مصالحها وأرواح رعاياها من فوضى الإدارة الصينية، وانتهت بفتح هذه الولاية واقتطاعها من الصين، وإقامة حكومة صورية فيها تخضع لرأيها وتأتمر بأوامرها؛ وكان فتح اليابان لمنشوريا اعتداء صريحاً على الأراضي الصينية تؤيده القوة الغاشمة وحدها؛ ولكن اليابان لم تحفل بما أثاره الاعتداء يومئذ لدى الدول العظمى من ضروب الاحتجاج والتوجس، ولم تحفل بنوع خاص بتدخل عصبة الأمم ولا بما اتخذته ضدها من قرارات تقرر مسئوليتها وعدوانها، بل قابلت هذا التدخل بالانسحاب من العصبة، ومضت في تنفيذ خطتها بجرأة لا مثيل لها. ولم تكتف بفتح ولاية منشوريا والاستيلاء عليها، بل حاولت أن ترغم الصين على الاعتراف بهذا الفتح، فبعثت جيوشها إلى الأقاليم المجاورة لتقضي على كل مقاومة صينية، وغزت ثغر شنغهاي لكي تهدد حكومة نانكين الوطنية وتحملها على الخضوع لمطالبها؛ ولكن الحكومة الوطنية قابلت القوة بمثلها، واستطاعت أن ترد القوات اليابانية عن ثغر شنغهاي بعد معارك طاحنة، ووقفت الأمور يومئذ عند هذا الحد وقنعت اليابان مؤقتاً بغنيمتها الأولى
ومن ذلك الحين واليابان تفصح بين آونة وأخرى عن خططها ونياتها نحو الصين بأعمال وأقوال لا تترك مجالاً للشك في مقاصدها الحقيقية؛ فهي لم تكد تستقر في منشوريا حتى(223/4)
عادت تهدد الأقاليم الصينية الشمالية في منطقتي شاهار وجيهول، وتغير عليها من آن لآخر لمختلف الأعذار والحجج. ولما كانت الحكومة الصينية الوطنية في ظروف لا تمكنها من إرسال جيوشها إلى تلك الأقاليم النائية، فقد تركت أمر المقاومة للجيوش المحلية؛ ولكن الجيوش المحلية قاصرة الأهبة والعدد، ولا يضمن ولاؤها دائماً؛ ومن ثم استطاعت اليابان بتفوقها الحربي أن تبسط على منطقة شاسعة من الأقاليم الشمالية شبه حماية عسكرية. كل ذلك وحكومة نانكين الوطنية تستغيث بعصبة الأمم وبالدول العظمى التي ضمنت بمعاهدة (الدول التسع) استقلال الصين وسلامة أراضيها، فلا تجد مغيثاً غير الاحتجاج والتصريحات العقيمة؛ واليابان فيما بين ذلك تتوغل تباعاً في أراضيها لا تلوي على شيء
ومنذ عامين طلعت اليابان على الدول بتصريح جديد في غاية الخطورة، خلاصته أن اليابان لا تطيق بعد أي تدخل جديد من الدول الغربية في شئون الصين، وأنها تعتبر أي محاولة جديدة من جانب الدول الغربية لتوسيع نفوذها أو مناطق امتيازها في الصين عملاً غير ودي بالنسبة إليها. ولم تقصد اليابان بهذا التصريح الذي صيغ على مثال تصريح منرو الأمريكي أن تعلن عطفها على الصين أو تضامنها معها ضد عدوان الدول الغربية، كما قصدت السياسة الأمريكية باعتناق الرئيس منرو وطبقته منذ نحو قرن بهذا المعنى بالنسبة للدول الأمريكية، ولكنها قصدت غاية أخرى أبعد مدى، وهي أن تجعل من الصين ميداناً لنشاطها الاستعماري دون الدول الأخرى، وأن تستأثر وحدها بتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي في مناطقها الغنية، وان تقتطع من أراضيها ما استطاعت كما فعلت بالنسبة لكوريا ومنشوريا. وعلى هذا الأساس الغريب أرادت اليابان أن تفهم فكرة الجامعة الأسيوية وأن تطبقها، فهي ترى أنها أحق الأمم باستعمار الصين، وأنه إذا كانت الصين لا تستطيع أن تنظم شئونها وتجمع كلمتها ولا أن تدافع عن نفسها الاستعمار الغربي، فان اليابان تأخذ على نفسها تلك المهمة بوضع الصين تحت نفوذها وحمايتها، وبذلك يمكن في نظر اليابان أن تحقق فكرة الجامعة الأسيوية ومبدأ آسيا للأسيويين. وقد كان لهذا التصريح وقع عميق في أوربا وأمريكا، ولكنه مر كما تمر باقي الحوادث في الشرق الأقصى أمام نظر الدول وسمعها ولم يثر سوى الاحتجاجات الدبلوماسية العادية. ذلك أن أوربا مشغولة بمشاكلها الخاصة، والدول العظمى متخاصمة مفرقة الكلمة، ولم يعد للجبهة الأوربية القديمة(223/5)
قيمة دبلوماسية ذات شأن؛ واليابان تعرف هذه الظروف وتستغلها، وتعرف أن سياسة المفاجأة والأمر الواقع في الشرق الأقصى لا يمكن أن تلقى في مثل هذه الظروف من أوربا الممزقة المشغولة بخصوماتها وخلافاتها مقاومة يعتد بها
وعلى هذا المنوال قامت اليابان في العام الماضي بحركتها لفصل الصين الشمالية عن الصين الجنوبية، وحاولت بالقوة القاهرة أن تملي إرادتها على زعماء الشمال وعلى حكومة نانكين وأن تفرض على الولايات الشمالية نوعاً من الحكم المستقل يكون تحت إشراف السلطات العسكرية اليابانية، وقرنت الوعيد بالعمل فغزت الأقاليم الشمالية وهددت بكين العاصمة القديمة، ووجهت بلاغاً نهائياً إلى الحكومة الوطنية؛ بيد أن الحكومة الوطنية أبت أن تذعن للوعيد؛ ولكنها اضطرت أن تترك الشمال لمصيره، واستطاعت اليابان أن تحقق مشروعها بإرغام زعماء الشمال على إنشاء إدارة مستقلة عن حكومة نانكين
ولم تمض على هذه الحركة التي تفصح عما وراءها بضعة أشهر حتى شهرت اليابان على الصين تلك الحرب الجديدة التي يتسع نطاقها يوماً عن يوم، والتي شملت الشمال والجنوب، والبر والبحر والهواء؛ وانتحلت اليابان لإثارتها عذراً تافهاً هو أن حامية بكين أطلقت النار على جنود يابانية كانت تقوم بمناورات في البقعة المجاورة وظهر فيما يبعد أن جنود الحامية اعتقدوا خطأ أن اليابانيين ينظمون على الحامية هجوماً حقيقياً. ولو كانت اليابان تعمل عن حسن نية وتقصد الانتصاف لجنودها فقط لاكتفت بالإجراءات الدبلوماسية التي تتخذ في مثل هذه الأحوال من طلب الاعتذار والتعويض؛ ولكن اليابان، وهي تعمل وفقاً لخطة استعمارية مرسومة، اتخذت هذا الظرف ذريعة للقيام بحركة جدية واسعة النطاق لتحقيق خطتها، فوجهت إلى الحكومة الوطنية إنذاراً نهائياً بقبول مطالبها الخاصة بفصل الأقاليم الشمالية، وغزت جنودها في الحال إقليم شاهار، وبعثت جيشاً وأسطولاً إلى شنغهاي أعظم الثغور الصينية، ونفذت قواتها البحرية إلى النهر الأصفر (ينج تسي) متجهة إلى نانكين عاصمة الصين الوطنية، وضربت الحصار البحري على جميع شواطئ الصين، ونظمت على العواصم الصينية الآهلة مثل كنتون ونانكين وبكين عدة غارات جوية فتكت بالسكان الآمنين، وما زالت الجيوش اليابانية تتدفق على الصين من الشمال والجنوب، ونطاق الحرب يتسع بسرعة مروعة. أما الحكومة الصينية الوطنية فقد رفضت(223/6)
منذ البداية كل المطالب اليابانية وأعلنت عزمها الثابت على مقاومة الاعتداء بكل قوتها؛ وأعلن الماريشال تشانج كايشك رئيس الحكومة الوطنية وقائد جيوشها أن الصين سوف تقاوم حتى يجلو آخر ياباني عن الأراضي الصينية. وهكذا اضطرمت الحرب في الصين بين الجيوش اليابانية المغيرة وبين الجيوش الصينية المدافعة، ومع أنها لم تعلن بعد بصفة رسمية، فإنها تكاد تشمل اليوم كل المناطق الهامة في الشمال والجنوب ويتلخص الموقف ألان فيما يأتي: غزت الجنود اليابانية شاهار وزحفت على شانص شمالاً؛ ونفذت إلى شانغهاي والنهر الأصفر جنوباً، وهذه هي أهم ساحات القتال لأن فيها تقع معظم مناطق الدول الممتازة مثل بريطانيا العظمى وفرنسا وأمريكا. وتجد اليابان مصاعب جمة في التقدم في هذا الاتجاه نحو نانكين عاصمة الصين الوطنية، لأن الدول تأبى إخلاء مناطق امتيازها وتنذر اليابان بسوء العاقبة إذا وقع الاعتداء عليها. وقد ارتكبت الجنود اليابانية أكثر من حادث أثار احتجاج الدول مثل إلقائها القنابل على سيارة السفير البريطاني وجرحه. وتشتد المقاومة الصينية في هذه المنطقة بنوع خاص لأنها مركز الحكومة الوطنية ومجمع قواتها. وقد كانت اليابان تؤمل أن تحرز نصراً سريعاً يرغم الصين على قبول مطالبها؛ ولكنها ما زالت بعد ثلاثة أشهر من القتال حيث بدأت، ولم تذعن الصين ولم يهن عزمها؛ وقد اضطرت اليابان إزاء ذلك أن تعلن أنها ستمضي في الحرب إلى النهاية: وألقى البرنس كونوي رئيس الحكومة اليابانية تصريحات رسمية حدد فيها أغراض اليابان من الحرب بما يفيد أن اليابان ترمي إلى تحطيم الجيوش الصينية الوطنية وحزب الكوفتباح (الحزب الوطني) لأنها هي التي تثير روح الخصومة والمقاومة ضد اليابان، وأن اليابان على استعداد لمهادنة حكومة صينية جديدة تقبل التعاون معها؛ فإذا لم تقبل الصين هذا التعاون السلمي فان اليابان على أهبة لحرب طويلة الأمد. والمفهوم من هذه التصريحات أن اليابان تؤمل أن تفضي هزيمة الجيوش الوطنية إلى قيام حكومة صينية جديدة مستعدة لقبول مطالب اليابان في استقلال الصين الشمالية والاعتراف بحكومة منشوكيو (منشوريا)، ومنح اليابان امتيازات اقتصادية كبيرة، وقبول المستشارين اليابانيين في معظم الإدارات الهامة؛ أو هي تؤمل بعبارة أخرى قيام حكومة تخضع لوحيها ورأيها وسلطانها
ولكن تطور الحوادث لا يؤيد هذه الآمال، بل لقد أفضى اعتداء اليابان بالعكس إلى نتائج(223/7)
هامة لم يكن يتوقعها اليابان؛ فان الخطر على كيان الصين القومية أثار في الصين روحاً جديداً، وجمع كلمة الزعماء والقادة المحليين، فانضموا جميعاً إلى الحكومة الوطنية في مقاومة الغزو الياباني، ومن أسطع الأمثلة على ذلك أن الحزب الشيوعي الذي كان أخطر منافس للحكومة الوطنية، أعلن انحلاله ووضع قواته العسكرية تحت تصرف الحكومة الوطنية؛ وهكذا تلقى اليابان أمامها بدلاً من الصين الممزقة المتخاصمة جبهة موحدة تجمع على الكفاح والمقاومة؛ وهكذا يثير الخطر الخارجي ضرام الوطنية الصينية مرة أخرى بعد ما فترت في الأعوام الأخيرة، ويمد الصين بقوى معنوية عظيمة في هذا الصراع الذي يقصد به تمزيق وحدتها والقضاء على كيانها القومي. وسيكون الفصل في هذا الصراع للقوة المادية قبل كل شيء، ولكن لا ريب أن اليابان تزج بنفسها في مغامرة عظيمة خطيرة العواقب، وهي قد تحرز اليوم بتفوقها الحربي بعض الانتصارات العاجلة، ولكن الصين قطر بل قارة عظيمة مترامية الأطراف، ذات موارد هائلة، وكلما طالت الحرب ثقل عبئها على اليابان وعلى مواردها المحدودة؛ هذا إلى أن الصين الوطنية قد اكتسبت في الحروب الأهلية المتوالية خبرة عسكرية لا بأس بها؛ وسوف نرى في المستقبل القريب ماذا تسفر عنه هذه الحرب الاستعمارية التي لا سند لها من الحق أو العدالة أو القانون(223/8)
ياقوت
للأستاذ محمد كرد علي
كان مولد ياقوت عبد الله شهاب الدين في بلاد الروم سنة 574 وأخذ أسيراً وهو صبي فقيل له الرومي، واشتراه في بغداد تاجر يعرف بعسكر الحموي فنسب إليه فقيل له ياقوت الحموي أيضاً. ونشأ نشأة إسلامية فجعله سيده في الكتاب يتعلم ما يستفيد هو منه في ضبط متاجره، وقرأ شيئاً من النحو واللغة، وشغله مولاه بالأسفار ثم أعتقه في سنة 596، فاشتغل بالنسخ بالأجرة، وحصل بالمطالعة فوائد، وعاد مولاه فأعطاه شيئاً وسفره إلى كيش وعُمَان؛ ولما عاد ياقوت من سفرته كان مولاه قد مات، فأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به، وبقيت بيده بقية جعلها راس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً، وسهل عليه بتجارته أن يطوف الشام والعراق والجزيرة وخراسان، واستوطن مرو ودخل خُوارَزمْ وغيرها، أو كما قال عن نفسه إنه جاب البلاد ما بين جيجون والنيل. وأقام مدة في حلب عند الصاحب الأكرم القفطي المصري وزير حلب، وأهدى إليه كتاب معجم البلدان، وفي حلب مات سنة 626هـ
لقي ياقوت في حياته هناء وشقاء، شهد وقائع التتر في خراسان، ووصف ما فعلوه في بلاد الإسلام، وانهزم منهم لا يلوي على شيء، وفقد ثروته حتى عد من المفلوكين. وكان مرة في دمشق فناظر بعض من يتعصب لعلي بن أبي طالب، وجرى بينهم كلام، فثار الناس عليه ثورة كادوا يقتلونه فسلم منهم، وخرج من دمشق منهزماً إلى حلب. وقال عن نفسه إنه كان قدم نيسابور في سنة 613 وهي مدينة الشاذياخ فاستطابها، وصادف بها من الدهر غفلة خرج بها عن عادته، واشترى بها جارية تركية ما رأى أن الله تعالى خلق أحسن منها خَلقاً وخُلقاً، وصادفت من نفسه محلاً كريماً، ثم أبطرته النعمة فاحتج بضيق اليد فباعها فامتنع عليه القرار، وجانب المأكول والمشروب حتى أشرفت نفسه على البوار، فأشار عليه بعض النصحاء باسترجاعها فعمد لذلك، واجتهد ما أمكن، فلم يكن إلى ذلك سبيل، لأن الذي اشتراها كان متمولاً، وصادفت من قلبه أضعاف ما صادفت منه، وكان لها إليه ميل يضاعف ميله إليها، فخاطبت مولاها في ردها على ياقوت بما أوجبت به على نفسها عقوبته، فقال في ذلك قصيدة منها:(223/9)
أئِنُّ ومن أهواه يسمع أنتي ... ويدعو غرامي وجده فيجيب
وأبكي فيبكي مسعداً لي فيلتقي ... شهيق وأنفاس له ونحيب
ومن جملة ما ألف ياقوت من الكتب ثلاثة مطبوعة، أولها (معجم البلدان) وثانيها (المشترك وضعاً والمختلف صقعاً) وثالثها (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) أو طبقات الأدباء. رتب معجم البلدان على حروف المعجم وذكر فيه أسماء البلدان والجبال والأودية والقيعان، والقرى والمحال والأوكان والبحار والأنهار والغدران والأصنام والأوثان مضبوطة بالشكل. واعتمد في تأليفه على من كتب قبله في الجغرافيا من العرب، وعلى اللغويين ودواوين العرب والمحدثين وتواريخ أهل الأدب، والتقط من أفواه الرواة وتفاريق الكتب، وما شاهده في أسفاره وحققه بنفسه من أسماء البلدان ما عظمت به فائدته. وفي كل ما كتب ظهرت إجادته وما ينقله عن غيره قد يكون فيه نظر، ويتبرأ هو من عهدته. فقد قال مثلاً في مدينة الصفر: ولها قصة بعيدة من الصحة لمفارقتها العادة، وأنا بريء من عهدتها، إنما أكتب ما وجدته في الكتب المشهورة التي دونها العقلاء. وقال فيما نقل عن الصين: هذا شيء من أخبار الصين الأقصى ذكرته كما وجدته لا أضمن صحته، فإن كان صحيحاً فقد ظفرت بالغرض وإن كان كذباً فتعرف ما تقوله الناس، فان هذه بلاد شاسعة ما رأينا من مضى إليها فأوغل فيها وإنما يقصد التجار أطرافها. فكأن ياقوت بما ينقل من الأوهام والخرافات إلى جانب الحقائق الثابتة يريد ألا يخلي كتابه من كل أطروفة ولو كانت سخيفة ليستفيد منه الجاهل، ويتفكه به العالم، ويتعلم المتعلم الأديب، ويقتبس الباحث. وتوسع خاصة في الكلام على المدن التي أنشأتها العرب وحرص على الإلمام بأخبار فتوح البلاد وحاصلاتها وأموالها وعمرانها وعادياتها ومصانعها وأخلاق أهلها، وما وقع فيها من الوقائع التاريخية المهمة وما قيل فيها من الأشعار البديعة، فأمتع قارئه بكل مفيد، بحسب ما وصل إليه علمه وعلم جيله، أو قرأه في كتاب، أو استقراه بنفسه ونقله عن الثقات. وهذا القسم جماع ما في معجمه مما أدركه في عصره، أو اقتبسه من الأصول المتقنة في خزائن مرو، قال: وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مجلد وأكثر، وبغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار. وما كان يفارق مرو لولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد، وما كان لهم من الأثر القبيح في خرابها. ويتألف من الأبيات والقصائد التي استشهد بها ياقوت في معجم البلدان ديوان(223/10)
جميل، يحوي كل ما يفيد من رائق الشعر، وكذلك من عجائب البلدان الخليقة وأخلاق الناس، ودرجة الرفاهية والثروة في عصره، وأفاض في كلامه على البلدان بذكر من خرج منها أو نسب إليها من الأعيان، ولا سيما رجال الحديث. وكتابه خاص ببلاد الإسلام والشرق وذكر بعض أسماء المدن في بلاد الإفرنج وهو يتحفظ فيما ينقل عن حال البلاد الأخرى. ومما قال في الروم: (وفي أخبار بلاد الروم أسماء عجزت عن تحقيقها وضبطها فليعذر الناظر في كتابي هذا، ومن كان عنده أهلية ومعرفة، وقتل شيئاً منها عليَّ، فقد أذنت له في إصلاحه مأجوراً)
أما كتاب (المشترك وضعاً والمفترق صقعاً) فقد انتزعه بنفسه من معجم البلدان، واقتصر فيه على ما اتفق من أسماء البقاع لفظاً وخطا، ووافق شكلاً ونقطا، واقترن مكاناً ومحلاً، توفيراً لوقت المطالع الذي يحب السرعة في تلقف الفوائد، وبعداً به عما ذكره في معجمه الكبير من الاشتقاق والشواهد والنكت والفوائد والأخبار والأشعار. ودعا ياقوت على من يختصر بعده كتابه معجم البلدان، وما خلا مع هذا من بضعة مؤلفين حاولوا ذلك وفيهم صفي الدين عبد المؤمن سمى مؤلفه (مراصد الاطلاع) قال ياقوت في الكلام على اختصار كتابه: اعلم أن المختصر لكتاب كمن أقدم على خلق سويّ فقطع أطرافه فتركه أشل اليدين أبتر الرجلين، أعمى العينين، أصلم الأذنين، أو كمن سلب امرأة حليها فتركها عاطلاً، أو كالذي سلب الكمي سلاحه فتركه أعزل راجلاً. وقد حكي عن الجاحظ أنه صنف كتاباً وبوبه أبواباً، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: يا هذا إن المصنف كالمصور، وإني قد صنفت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما، أعمى الله عينيك، وكان لها أذنان فصلمتهما، صلم الله أذنيك، وكان لها يدان فقطعتهما، قطع الله يديك، حتى عدَّ أعضاء الصورة. فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار، وتاب إليه عن المعاودة إلى مثله
بقي أن نطلق القول في كتاب ياقوت الثالث وهو (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وقد جمع فيه ما وقع إليه من أخبار النحويين واللغويين والنسابين والقراء المشهورين والإخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين والكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة وأرباب الخطوط المنسوبة وكل من صنف في الأدب تصنيفاً، مثبتاً وفياتهم(223/11)
ومواليدهم وتصانيفهم وأخبارهم وأنسابهم وأشعارهم. قال: فأما من لقيته أو لقيت من لقيه، فأورد لك من أخباره وحقائق أموره مالا أترك لك بعده تشوقاً إلى شيء من خبره. وقال جمع للبصريين والكوفيين والبغداديين والخراسانيين والحجازيين واليمنيين والمصريين والشاميين والمغربيين وغيرهم على اختلاف البلدان، وذلك على حروف المعجم أيضاً. وقال في الاعتذار عن نفسه، وعمن يقول له إن الاشتغال بأمر الدين أهم: (إن هذه أخبار قوم عنهم أخذ القرآن والحديث، وبصناعتهم تنال الإمارة ويستقيم أمر السلطان والوزارة وبعلمهم يتم الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام) وإن كتابه هو علم الملوك والوزراء والكبراء يجعلونه ربيعاً لقلوبهم، ونزهة لنفوسهم.
وإرشاد الأريب من أوسع كتب التراجم؛ وقد لا تتعادل التراجم فيه، فيكتب في الرجل العشرين والثلاثين صفحة حتى لم يبق زيادة لمستزيد؛ وقد يكتب في العظيم أيضاً أسطراً معدودة وخصوصاً في أواخر الكتاب حتى ليظن من لم يقف على ترجمة المترجم به أنه من المغمورين. وما أدري إن كان أتى ذلك من المؤلف أم من النساخ والناشرين. وعلى كل فإرشاد الأريب أو الجزء الذي طبع منه كنز ثمين للأدب، ومنجم فيه الركاز والذهب، فرائد يلتقطها صاحبها ولا سيما وأن ياقوت نقل كتب جليلة ضاع بعضها على نحو ما نقل من كتب مرو وقال إن أكثر فوائد معجم البلدان منقول من خزائنها
وقال في كتابه إرشاد الأريب أيضا: وربما قال بعضهم إنه تصنيف روميّ مملوك، وما عسى أن يأتي به؟ إن القوم لا ينظرون ما قيل إنما يسألون عمن قال. ولو عاش ياقوت ورأى بعد أكثر من سبعة قرون كتابيه معجم الأدباء ومعجم البلدان اللذين لا يستغني عنهما باحث ولا أديب وأنهما من الكتب الأمهات التي حوت كل طريف مفيد تزيد على القرون حسناً وتتبين حاجة الناس إليها، لأغتبط وعرف أن ما كان يقوله الناس فيه، قالوه في أمثاله في كل عصر ثم ذهب لغط المتقولين والطاعنين وثبت علم العالمين والمتأدبين والباحثين
محمد كرد علي(223/12)
إلى لبنان
صور وخواطر
للأستاذ علي الطنطاوي
لقيني الأستاذ عز الدين التنوخي، وكنت قادماً من سفر فقال لي: هلمّ!
قلت: إلى أين؟
قال: إلى الجبل نزور أمير البيان، ورجل الإسلام شكيب أرسلان
قلت: ما أعدل والله بزيارته شيئاً؛ ولكني آت من سفر ولم أبلغ داري
قال: اطمئن فان الدار في محلها لم تطر، وما عليك أن تراها غداً؟
قلت: ما علي من شيء، وسرت معه. ولم أعد أرى السفر شيئاً، لأني أصبحت في هذه السنين الأواخر كذلك الذي كان (موكلاً بفضاء الله يذرعه) فلا أكاد ألقي عصا التسيار وأحط الرحال من سفر، حتى أتهيأ لآخر. أطوّف ما أطوّف، ثم آوي إلى هذه الغرفة الصغيرة أجلس بين ركام الكتب أحسب ما كسبت من هذا العناء الطويل، فلا أجدني كسبت إلا صوراً في الذاكرة أضمها إلى صور، وذكرى في النفس أجمعها بذكري، وصفحة في دفتري أضيفها إلى صفحة أسعد بتدوينها، وأسرّ ببقائها، وإن كنت لا أدوّن إلا الأقل مما أراه وأشعر به، ولا أذكر إلا التافه مما يمر بي. وإن كنت أعلم أن صور الذاكرة إلى امحاء، وذكريات النفس إلى ضياع، وقصص الدفتر إلى السكين والنار لا يزهدني ذلك بها، ولا يصرفني عنها، لعلمي أن الحياة نفسها ستموت، والوجود سيعدم، ولا يبقى في الوجود إلا الموجد
وكنا خمسة في السيارة: الأستاذ التنوخي، وأنا، والأستاذ الشيخ بهجة البيطار، والأستاذ الشيخ بهجة الأثري، والشيخ ياسين الرداف معتمد المملكة السعودية في دمشق سابقاً. . .
خرجنا من دمشق مع الغروب. . . وكان اليوم جمعة، وكانت ليلة قمراء، فسالت الطرق بالدمشقيين على عادتهم في مثل هذه الليالي فامتلأت جوانب بردى، والمرجة الخضراء، والربوة، ووادي الشاذروان أجمل أودية الدنيا وأحلاها - بخير الفتيان، وأجمل الفتيات، وأحلى الأطفال؛ فلم يكن أمتع للعين، ولا أشهى للقلب، من ذلك المشهد. فسرنا في هذا العالم الساحر، مترفقين متمهلين، لأننا لا نمشي في طريق وإنما نمشي في بحر من العيون(223/13)
والقلوب والمفاتن جمع كل جميل بارع أخاذ، حتى بلغنا دمّر:
والحور في دمّر أو حول هامتها ... حور تكشف عن ساق وولدان
فوقفنا نمتع الأنظار بحوْرِها وحورها، وشموسها وبدورها؛ وأنت مهما عرفت دمشق لا تزال ترى فيها أبداً جمالا تجهله ولا تعرفه، ففي كل يوم جمال جديد، وفي كل مكان فتنة جديدة، فلا تدري أين تقف، وماذا تنظر، وأيا تفضل؟ أوادي الشاذروان أم جنائن الغوطة، أم جبال بلودان، أم العين الخضراء، أم سهول الزبداني، أم العيون التي لا يحصيها عدد؟. . .
سقى الله ما تحوي دمشق وحياها ... فما أطيب اللذات فيها وأهناها
نزلنا بها واستوقفتنا محاسن ... يحنّ إليها كل قلب ويهواها
لبسنا بها عيشاً رقيقاً رداؤه ... ونلنا بها من صفوة اللهو أعلاها
سلام على تلك المعاهد إنها ... محط صبابات النفوس ومثواها
رعى الله أياماً تقضت بقربها ... فما كان أحلاها لديها وأمراها
خلينا الهامة وجمرايا بلدة ابن واسانة والوادي كله عن أيماننا، وأسندنا إلى الجبل نستقبل الصحراء إلى ميسلون بلاط شهدائنا، ومشهد أبطالنا، ومبدأ تاريخنا الحديث، ومثوى الأسد الرابض يوسف العظمة، الذي وقف هو وأشبال دمشق العزل الأقلاء في وجه ثاني دولة قوية ظافرة، فما ضعفوا ولا استكانوا ولا جبنوا؛ وما زالوا يقاتلون ويدافعون عن العرين ثابتين ما ثبتت الروح في أجسامهم، حتى أعجزهم أن يعيشوا أشرافاً فماتوا أشرافا؛ فكان موتهم حياة لهذه الأمة التي حفظت العهد وحملت الأمانة؛ وكانت قبورهم مناراً أحمر في طريق هذا الشعب المجاهد المستميت لن يقف أو يتباطأ حتى يأخذ (الكل) الذي (أعطى) الآن (بعضاً) منه، ولن ينام حتى يرى هذه الصحراء قد آضت جنات ألفافا، تحمل الزهر الذي لا يسقى إلا بالماء الأحمر الملتهب تحمل أزهار الحرية
سيبقى هذا اللحد لتمر عليه الأجيال الآتية، الأجيال الحرة العزيزة، فتذكر جهاد أسلافنا، وتعرف الثمن الذي دفعوه، ولتعلم أن القوة إن غلبت الحق حيناً، فان الحق يصنع القوة التي يغلب بها دائماً
سأذكر ما حييت جدار قبر ... بظاهر جلق ركب الرمالا(223/14)
مقيم ما أقامت ميسلون ... يذكر مصرع الأسد الشبالا
تغيب عظمة العظمات فيه ... وأول سيد لقى النبالا
مشى ومشت فيالق من فرنسا ... تجر مطارف الظفر اختيالا
أقام نهاره يلقى ويلقى ... فلما زال قرص الشمس زالا
فكفن بالصوارم والعوالي ... ووسد حيث حال وحيث صالا
إذا مرت به الأجيال تترى ... سمعت لها أزيزاً وابتهالا
ثم أخذت السيارة تصعد بنا في مسالك ملتوية مستديرة تزيغ الأبصار من استدارتها وعلوها، حتى إذا ظننا أننا بلغنا قنة الجبل تكشفت لنا قنن فإذا نحن لا نزال في الحضيض، وما فتئنا نعلو ونتسلق وندور حتى حاذينا (بلودان) درة المصايف الشامية، وبدا لنا فندقها الفخم الضخم أكبر فندق في سورية كلها (إي ولبنان) الذي بنته الحكومة ليملأ الخزانة مالاً والجيوب ذهباً فملأ النفوس فساداً، والأخلاق انحطاطاً، لما أنشئوا فيه من بلايا وطامات زعموها حضارة ورقيا، ورأيناها الموت الأحمر والبلاء الأزرق فكنا حين نبيع الأخلاق بالمال كمن يطرد ابنه من بيته ويربي فيه ذئبا. . .
ثم عدنا نهبط، وهذه سنة الحياة: (ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع) ولا علا رجل إلا هبط، إلا رجلاً علا بعلمه وبأخلاقه ومواهبه، فذاك الذي لا يهبط أبداً بل يزداد رفعة، لأن علمه لن ينسى، وأخلاقه لن تذهب، ومواهبه لن تضيع، أما من علا على قوائم الكراسي وأعناق الشعب، فأحْرِ به أن يسقط مهما استمر علوّه وطال بقاؤه
أقول: إننا ما زلنا نهبط حتى انتهينا إلى سهل البقاع الخصب الأفيح الجميل، الذي يفصل لبناننا (الشرقي) الأجرد المهيب الرهيب الذي أدرّع المهابة، واتشح بوشاح الخلود، ولاحت عليه سمات الجلال، والجد والوقار، ولبنانهم (الغربي) المرح الفرح الخضر الجميل، الذي اتزر بالسحر، وارتدى رداء الشعر، وكلاهما أخّاذ فاتن، ولكن الأول جليل والثاني جميل، والجنات الخالدات والفراديس الباقيات، في دمشق على سفح لبنان الشرقي. . . قال شوقي:
نبئت لبنان جنات الخلود وما ... نبئت أن طريق الخلد لبنان
وأنت حين يحتويك لبنان الغربي تحسّ بجماله وروعته ولكنك تشعر انك أنت له، وأنك جزء منه، ولكنك تحس حين تكون في لبناننا أنه هو لك، وأنه جزء منك، وشتان بين ما(223/15)
تكون أنت في قلبه، وما يكون هو في قلبك، وأنت حين تكون في لبنان الغربي تجد يد الإنسان لم تبق من جمال الطبيعة إلا قليلاً، وتجد أكثره في المدن الكبرى، ولكنك حين تكون في لبنان الشرقي تجد الطبيعة الحلوة الفاتنة التي لم تبدلها يد الإنسان، وإنما أحاطتها بإطار يحفظها ويظهر جمالها
وقد زعموا الجبلين جبلاً واحداً، صدعته حوادث أرضية (جيولوجية) من زمن قديم، لا أدري متى كان لأني لم أدركه ولا أدركه أبي، أعني آدم عليه السلام الذي توفى في الأمس القريب. وعلى ذكر آدم. . . أليس من العار علينا أن نقيم حفلات الذكرى والتكريم لفلان وفلان ممن خدموا البشرية وننسى هذا الرجل العظيم الذي كان له اكبر الأثر في خدمة البشر؛ ولم لا يفكر الناس في إقامة حفلة تذكارية كبيرة لهذا الرجل، يشترك فيها عارفوا فضله، ومن (بقي) حقيقة من نسله؟
قلت: إن الجبلين كانا جبلاً واحداً، والأمتين فيها أمة واحدة، ولكنك واجد في هذه المسافة التي لا تتجاوز الساعتين جمهوريتين مختلفتين، وعَلَمين متباينين، وحدوداً كحدود ألمانيا وفرنسا. . .
ألقاب مملكة. . . . . .
وسبحان خالق الهر، وخالق الأسد، وخالق كل شيء!
وأنخنا رواحلنا (أعني وقفنا سيارتنا، ولم يكن معنا رواحل ولا راحل) في شتورة، عروس السهل، نستريح فيها قليلاً قبل أن نتسلق بالسيارة الجبل الذي لا تبلغ الطير ذراه، ونصبح في نصف طريق السماء. وإذا أنت شئت أن تتصوّر مبلغ ما نعلو، فتصوّر شارعاً طوله قرابة كيلين اثنين، قد وقف على رأسه، وكنت أنت فوقه تطلّ على الدنيا من عل. . .
علونا في جبال شجراء ضاحكة، نجتاز القرى المتناثرة على السفوح والذرى ونرى الينابيع تتدفق من أعالي الصخور، وتسيل في بطون الأودية حالمة سكرى. وما زلنا في علو ولفّ ودوران، حتى بلغنا ظهر البيدر حيث صرنا فوق السحاب، لا على المجاز أو المبالغة كما يقول الشعراء، بل على الحقيقة التي يشاهدها الناس فقد كان السحاب يمسّ الذرى التي تحتنا ويلفح وجوهنا ويحجب عنا السهل والسفوح، وكنا نعلو عليه أحياناً فلا يبلغنا ولا يمسنا، ونراه يمر من تحتنا، أشبه شيء بالغبار الأبيض تحمله الريح. حتى درنا تلك الدورة(223/16)
الكبير، وأشرفنا على وادي (صوفر - حمانا) العظيم أوسع أودية لبنان وأجملها وقد أزدهى بالصنوبر وانتثرت على سفوحه عشرات القرى ولاحت مبانيها العظيمة وقصورها الشمّ
والروابي توسدت راحة السح ... ب ونامت على وشاح مرفق
والذرى البيض في العلاء نسور ... حومت تكشف الخفي المغلق
نشرت في الفضاء أجنحها الزه ... ر فأسنى بها الوجود وأشرق
والقرى غلغلت بأخبية الغي ... ب وضاعت بين الغمام المنمق
والينابيع ضاحكات من الزه ... وترامى فيها السنا وتألق
وتراءى البحر البعيد كحلم=مبهم راجف الخيال ملفق
سرقته السماء في الأفق النا ... ئي فمن أبصر الخضمات تسرق
تمر على الإنسان ساعات بل لحظات ينسى فيها العالم المادي، وهذه الحياة القصيرة الناقصة، ويحس كأنه يعيش بنفسه حياة أكمل وأجمل، تخالط نفسه مشاعر لا عهد له بها، ولا يقدر على وصفها، وتغمر قلبه لذة لا يعرف أي شيء هي، فيشعر أنه انتقل إلى عالم سحري جني عجيب، كهذه اللحظات التي تمر علينا في غمرة التأمل النفسي، أو في هزة الموسيقى، أو في نشوة الحب، أو حين الاستغراق في العبادة والمناجاة. . .
هذه هي اللحظات التي تمرّ عليك حين تشرف وادي (صوفر - حمانا) أو تجلس في الشاغور، أو تصعد إلى عين الصحة في فالوغا. . .
لست أريد الدعاية للبنان، وما لبنان في حاجة إلى دعاية، وما في لبنان سرير في فندق، أو غرفة في دار إلا وقد امتلأت حتى أننا لم نجد في صوفر وقد وصلناها ليلا مكاناً نبيت فيه، وكلما دخلنا فندقاً خرجنا منه بخفي صاحبنا حنين الاسكاف. . . حتى قادنا المطاف إلى فندق لطيف معتزل، قاعد في منتصف الطريق بين صوفر وبحمدون، ولم يكن بعده فندق نأوي إليه. فتعلقنا بصاحبه، وتوسلنا إليه وأطمعناه حتى رضى أن يعد لنا مكاناً في الردهة (الصالون) فقبلنا، ووضعت لنا سرُرُ صغار كسرر الجند وطلبة المدارس الداخلية جاء بها من بيته، فحمدنا الله عليها
ولما دخلنا الأوتيل: عمامتان عاليتان على رأسي البهجتين: بهجة العراق وبهجة الشام، وعقال نجدي فخم على هامة أمير من أمراء نجد، ونحن الاثنان (المطربشان) الأستاذ عز(223/17)
الدين وأنا، تعلقت بنا النظار ودارت حولنا الأبصار، وحفّ بنا شباب يسلمون علينا. فقلنا: وعليكم السلام يا إخواننا. . . فما راعنا إلا أنهم ضحكوا وضحك الحاضرون. . .
فقلت لأحدهم: من فضلك قل لي، لماذا تضحك؟
هل تجد في هيئتي ما يضحك يا سيدي؟
فازداد الخبيث ضحكا، فهممت به. فوثب الحاضرون وقالوا: يا للعجب! أتضرب فتاة؟
قلت: وا فضيحتاه! فتيات بسراويل (بنطالونات) وحلل (بذلات)؟ وأين الشعر وأين اللحم؟
قالوا: أنت في لبنان
قلت: عفواً، لقد حسبت أني في لبنان
وفررنا ونحن مستحيون. نحاول ألا نعيدها كرّة أخرى ولما خرجت في الليل لمحت في طريقي واحدة من هؤلاء النسوة فحيتني، فقلت لها: مساء الخير يا مدموازيل
فقالت: مادموازيل إيه يا وقح؟
قلت في نفسي إنها متزوجة وقد ساءها أن دعوتها بالمدموزايل (الآنسة) وأسرعت فتداركت الخطأ وقلت: بردون مدام
قالت: مدام في عينك قليل الأدب، بأي حق تمزح معي أنا (فلان) المحامي
قلت: بردون، بردون
ووليت هارباً، فذهبت إلى صاحب الأوتيل فرجوته أن يعمل لنا طريقة للتفريق بين الرجل والمرأة، فدهش مني ووجم لحظة؛ ثم قدر أني امزح فانطلق ضاحكا
قلت: إني لا أمزح، ولكني أقول الجدّ وقصصت عليه القصة. . .
قال: وماذا نعمل؟
قلت: لوحات صغيرة مثلا من النحاس، كالتي توضع على السيارات لبيان رقمها، أو على الدراجات. . . يكتب عليها رجل. امرأة. تعلق في الصدر تحت الثدي الأيسر أو تتخذ حلية من الذهب أو الفضة عليها صورة ديك مثلا أو دجاجة، أو. . . أو شاة أو خروف، أو شيء آخر من علامات التذكير والتأنيث. . .
فراقه اقتراحي وقبله على أنه نكتة، ولكنه لم يفكر بالعمل به لأنه لم يجد حاجة إلى هذا التفريق ما دام المذهب الجديد يقول بمساواة الجنسين؟(223/18)
ولم نطل الإقامة في صوفر، لأننا لم نجد الأمير شكيب فعدنا أدراجنا إلى دمشق
(دمشق)
علي الطنطاوي(223/19)
الأدباء المحترفون
للأستاذ مصطفى جواد
الأدب في كل أمة غذاء النفوس من كدر المادية المُبْرَأَة من أمراض الطمع والجشع، السالمة من إسار المكايد والخدائع؛ والأدباء في كل شعب هم الطبقة الرفيعة في المراتب البشرية، المحلقة في سماء الصفاء بأجنحة لطف ارق من الهواء. والمادية لا تؤمن بدين الأدب ولا عطف لها على البشرية ولا رحمة، فالأديب نورانيّ والمادة بهيمية ترجع بالإنسان إلى عصور كان ينازع فيها الوحوش فرائسها، وبعد الشبع والري من الدنيا نفائسها؛ وكلما رقى العقل في الصناعات انخفضت العاطفة واستبدت المادية واستحكمت الوحشية، فلولا الأدباء بين الناس كالنجوم الزهر في السماء الدنيا لبدا ليل المادية اشد ظلاماً وأهول منظراً. ولعله سيأتي زمان يتخفى فيه الأدباء كما كان الأنبياء يتستّرون من الناس في أول الاستنباء، ورأس المحنة وأيام الدعوة، خشية الاستهزاء والإزراء والتعذيب والتقتيل، وإذن لا يعصم الأدباء يوم ذاك من ضربة المادية إلاّ شبه جمهورية أفلاطون وإلا مثل المدينة الفاضلة التي أفكر فيها فيلسوف فاراب. أما ما فعله الشيوعيون لأدباء الشيوع في روسيا من قصرهم في قريةٍ نزهةٍ وإمدادهم بضروري المادة ليستهتروا بالاستشاعة ويدعوا إلى التشارك فهو أخلق بالأدب المبتذل والشعور المنتحل والعواطف المعطوفة والنفوس المأسورة والانفعالات المكبوته، فما أغنى الشيوعيين عما فعلوا وما كان أحرى الأدباء بالإباء على هذا الازدراء! وكلما علت امتاز الأدباء عن أهل المادة وعبدة الحيوانية، فيعيشون منفردين معتزلين كالمتصوفة في الربط الهادئة إلا من تسبيح وتحميد، وكالرهبان في الأديار الواجمة إلا من تكفير وارتسام، يزرعون فيحصدون ويغرسون فيجتنون، لا تجارة تلهيهم ولا تكالب يقسيهم ولا انخداع يؤذيهم، فهم حينذاك صفوة الصفوة، وأيتام الإنسانية وملائكة البشر، يضيع أحدهم بين الناس كما يضيع إذا هبط بين البشر، بل هو أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، فويل لأهل الأدب من شر قد اقترب.
الأدب عدوّ المادة، والمادة غائلة الأدب. وأعني بالأدب في كل ما أسلفت من القول (مولدات العواطف ونتائج العقول من وصف حزين وأسباب حزنه، ونعت فرح وأسباب فرحه، مزخرفاً ببدائع الكون، أو مطلياً ببهرجه وغلوائه، ممهداً له بوصف الجمال وذكر(223/20)
القبح وتبيان الخلق أو سوئه والتصريح بالمدح والقدح، فيكون ذلك للأدب كالحلي للعروس أو كالحطب للنار) وحد هذا الأدب (حركة العواطف واشتغال العقل والتأسيس على الحقيقة والخيال) فهو - كما قدمنا - غذاء النفوس البشرية الرائقة وحبيب الإنسانية وربيب الحقيقة والامكان؛ فالمحترف بحرفة المادة لا يقدر على دخول جنة الأدب؛ والأديب لا يستطيع الخروج إلى جهنم المادة وما أعفه عن ذاك. فكيف يبلغ امرؤ أن يتردد بين الجنة والنار ويجمع بين السلم والحرب؟ وإذا ما رأينا واحداً قد ألم بالبرزخ تنفح إليه نسمات جنة الأدب من أمام، وتلفحه شرارات المادة من وراء، فهو لا أديب ولا مادي بل صاحب اختيار في الاختبار، ثم يصير إمّا إلى الجنّة وإما إلى النار، فلذلك ومن ذلك قل الأدباء المحترفون لجمع المادة واحتجان البيضاء والصفراء؛ وإنما سميناهم على سبيل أدب القدماء؛ وهم في رأينا (برزخيون) وصلهم الأدب كوصوله لمن قال (وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل) وماتوا وهم في عهد الاختبار والفتن والمحنة. ومن الأدباء من يضطره الزمان إلى الاحتراف فيستدفع الحرفة ضنك الزمان، ولو ترك ونفسه وأنجى من ذل الحاجة ما لجأ إلى الحرفة ولا قاربها. ومن الأدباء المحترفين أبو القاسم نصر بن أحمد بن نصر بن مأمون الخبزأرزي، نسبة إلى حرفته (خبز الأرز) فقد كان هذا أميّاًلا يتهجى ولا يكتب، وكان يخبز الأرز بمربد البصرة في دكان له، وينشد الناس أشعاراً مقصورة على الغزل، والناس يزدحمون عليه، ويطربون باستماع شعره، ويتعجبون من حاله وأمره؛ وكان أبو الحسين محمد بن محمد المعروف بابن لنكك البصري الشاعر المشهور - مع علو قدره عند البصريين - ينتاب دكانه ليسمع شعره، وقد اعتنى به وجمع له ديوانا؛ وذكره الثعالبي في اليتيمة، والخطيب في تاريخ بغداد، وياقوت الحموي في معجم الأدباء، وابن خلكان في الوفيات. قال ياقوت: (وكان ممن يفضلون الذكور على الإناث، فكان أحداث البصرة يلتفون حوله، ويتنافسون بميله إليهم، ويحفظون شعره لسهولته ورقته) وقد نزل نصر هذا بغداد وأقام بها دهراً طويلاً وقرئ عليه ديوانه فيها. حدّث الخطيب بسنده إلى أبي محمد عبد الله بن محمد الأكفاني البصري، قال: خرجت مع عمي أبي عبد الله الأكفاني الشاعر وأبى الحسين ابن لنكك وأبي عبد الله المضجع وأبي الحسن السماك في بطالة عيد، وأنا يومئذ صبي أصحبهم، فمشوا حتى انتهوا إلى نصر بن أحمد الخبزأرزي وهو جالس يخبز على(223/21)
طابقه، فجلست الجماعة عنده يهنئونه بالعيد ويتعرفون خبره، وهو يوقد السعف تحت الطابق، فزاد في الوقود فدخّنهم، فنهضت الجماعة عند تزايد الدخان؛ فقال نصر ابن احمد لأبي الحسين بن لنكك: متى أراك يا أبا الحسين؟ فقال له أبو الحسين: إذا اتسخت ثيابي؛ وكانت ثيابه يومئذ جُدَداً على أنقى ما يكون من البياض للتجمل بها في العيد؛ فمشينا في سكة بني سمرة حتى انتهينا إلى دار أبي أحمد بن المثنى، فجلس أبو الحسين ابن لنكك وقال: يا أصحابنا، إن نصراً لا يخلي هذا المجلس الذي مضى لنا معه من شيء يقوله فيه، ونحب أن نبدأه قبل أن يبدأنا واستدعى دواة وكتب:
لنصر في فؤادي فرط حب ... أنيف به على كل الصحاب
أتيناه فبخرنا بخوراً ... من السعف المدخن للثياب
فقمت مبادراً وظننت نصراً ... أراد بذاك طردي أو ذهابي
فقال: متى أراك أبا حسين ... فقلت له: إذا اتسخت ثيابي
وأنفذ الأبيات إلى نصر فأملى جوابها فقرأناه فإذا هو قد أجاب:
منحت أبا الحسين صميم ودي ... فداعبني بألفاظ عذاب
أتى وثيابه كقتير شيبٍ ... فعدن له كريعان الشباب
ظننتُ جلوسه عندي لعرس ... فجئت له بتمسيك الثياب
فقلت متى أراك أبا حسين ... فجاوبني: إذا اتسخت ثيابي
فإن كان التقزز فيه خير ... فَلِمْ يكنى الوصي أبا تراب
وحكى الخالديّان الشهيران في كتاب الهدايا والتحف أن الخبزأرزي بن نصر بن احمد هذا أهدى إلى ابن يزداد والي البصرة فصاً وكتب معه:
أهديتُ ما لو أن أضعافه ... مطرح عندك ما بانا
كمثل بلقيس التي لم يبن ... إهداؤها عند سليمانا
هذا امتحان إن ترضهُ ... بإن لنا أنك ترضانا
قال ابن خلكان (وأخبار نصر ونوادره كثيرة وتوفي في سنة سبع عشرة وثلاثمائة. وتاريخ وفاته فيه نظر، لأنه ذكر في تاريخه أن احمد بن منصور النوشري المذكور سمع منه سنة خمس وعشرين وثلاثمائة) قال الخطيب: (روى عنه مقطعات من شعره المعافى بن زكريا(223/22)
الجريري واحمد بن منصور النوشري وأبو الحسن بن الجندي وأحمد بن محمد العباس الأخباري وغيرهم؛ وذكر النوشري أنه سمع منه ببغداد بباب خراسان في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة) والصحيح أن وفاته في سنة 327 كما ورد في معجم الأدباء، ومما أورده له ابن خلكان:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشي إلى عبد؟
أتى زائراً من غير وعد وقال لي: ... أجلك عن تعليق قلبك بالوجد
فما زال نجم الوصل بيني وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطوراً على تقبيل نرجس ناظرٍ ... وطوراً على تعضيض تفاحة الخد
ألم يكفني ما نالني من هواكم ... إلى أن طفقتم بين لاهٍ وضاحكِ
شماتتكم بي فوق ما قد أصابني ... وما بي دخول النار في طرّ مالكِ
كم أناس وفوا لنا حين غابوا ... وأناس جفوا وهم حضّارُ
عرضوا ثم أعرضوا واستمالوا ... ثم مالوا وجاوروا ثم جاروا
لا تلمهم على التجني فلو لم ... يتجنوا لم يحسن الاعتذارُ
بات الحبيب منادمي ... والسكر يصبغ وجنتيه
ثم اغتدى وقد أبتدأ ... صنع الخمار بمقلتيه
وهبت له عيني الكرى ... وتعرضت نظراً إليه
شكراً لإحسان الزما ... ن كما يساعدني عليه
كم أقاسي لديك قالاً وقيلا ... وعدات تترى ومطلاً طويلا؟
جمعة تنقضي وشهر يُوَلِّي ... وأمانيك بكرةً وأصيلاً
إن يفتني منك الجميل من الفع ... ل تعاطيتُ عنك صبراً جميلا
والهوى يستزيد حالاً فحالاً ... وكذا ينسلي قليلاً قليلاً
ويكَ لا تأمننْ صروف الليالي=إنها تترك العزيز ذليلا
فكأني بحسن وجهك قد صا ... حت به اللحية: الرحيلَ الرحيلا
فتبدلت حين بُدّلت بالنو ... ر ظلاماً وساء ذاك بديلا
فكأن لم تكن قضيباً رطيباً ... وكأن لم تكن كثيباً مهيلا(223/23)
عندها يشمت الذي لم تصله ... ويكون الذي وصلتَ خليلا
رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النظر
فلم أدر من حيرِتي فيهما ... هلال الدجى من هلال البشر
ولولا التورّد في الوجنتين ... وما راعني من سواد الشعر
لكنت أظن الهلال الحبيبَ ... وكنتُ أظن الحبيبَ القمر
وذاك يغيبُ وذا حاضر ... وما من يغيبْ كما من حضر
ومما ذكره له ياقوت الحمويّ:
شاقني الأهل لم تشقني الديار ... والهوى صائر إلى حيث صاروا
جيرة فرقتهم غربة البي ... ن وبين القلوب ذاك الجوارُ
كم أناس رعوا لنا حين غابوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلى آخر الأبيات المتقدّم ذكرها منقولة عن الوفيات
فلا تمنَّ بتلفيق تَكلَّفُهُ=لصورةٍ حسنها الأصلي يكفيها
إن الدنانير لا تجلى وإن عتقت ... ولا تزاد على الحسن الذي فيها
وأورد له الخطيب:
بأبي أنتَ من مَلولٍ ألوف ... رُضتني بالأمان والتخويفِ
حار عقلي في حكمك الجائر العد ... ل وفي خلقك الجليل اللطيفِ
أنتَ بالخصر والمؤزّر تحكي ... قوّة الشوق بالفؤاد الضعيفِ
ليس عن خبرة وصفتك لكن ... حركات دلّت على الموصوفِ
لك وجه كأنه البدر في التم ... م عليه تطرّق من كسوف
وأغرب ما في الحياة هذا الرجل المشهور بمزاورة اللذات وملابسة الشهوات وقوفه موقف الحكيم المتنصح والعفيف المتنطس فتسمع منه قوله:
كم شهوة مستقرّة فرحاً ... قد انجلت عن حلول آفاتِ
وكم جهول تراه مشترياً ... سرور وقتٍ بغم أوقات
كم شهوات سلبن صاحبها ... ثوب الديانات والمروءات
وقد جمع جملة من الحكم وأشتاتاً من الأخلاق وركاماً من التجارب في قوله:(223/24)
لسان الفتى خنق الفتى حين يجهل ... وكل امرئ ما بين فكيه مقتل
إذا ما لسان المرء اكثر هذره ... فذاك لسان بالبلاء موكل
وكم فاتحٍ أبواب شر لنفسه ... إذا لم يكن قُفل على فيه مُقفل
كذا من رمى يوماً شرارات لفظه ... تلقته نيران الجوابات تشعَل
ومن لم يُقيّد لفظه متجمّلاً ... سيطلق فيه كل ما ليسَ يجمل
ومن لم يكن في فيه ماء صيانةٍ ... فمن وجهه غصن المهابة يذبلُ
فلمْ تحسبنَّ الفضل في الحلم وحده ... بل الجهل في بعض الأحايين أفضل
ومن ينتصرْ ممن بغى فهو ما بغى ... وشرّ المسيئين الذي هو أوّلُ
وقد أوجب الله القصاص بعدله ... ولله حكم في العقوبات منزلُ
فان كان قولٌ قد أصابَ مقاتلاً ... فان جواب القول أدهى وأقتل
وقد قيل في حفظ اللسان وخزنه ... مسائل من كل الفضائل أكملُ
ومن لم تقرّ به سلامةُ غيبهِ ... فقربانُهُ في الوجه لا يتقبّل
ومن يتخذ سوء التخلف عادةً ... فليس لديه في عتاب مُعوَّلُ
ومن كثرت منه الوقيعة طالباً ... بها عزّةً فهو المهين المذلّلُ
وعدلٌ مكافأة المسيء بفعله ... فماذا على من في القضية يعدل
ولا فضل في الحسنى إلى من يخسها ... بلى عند من يزكّو لديه التفضل
ومن جعل التعريض محصول مزحه ... فذاك على المقتِ المصرّح يحصلُ
ومن أمن الآفات عجباً برأيه ... أحاطت به الآفات من حيث يجهل
أعلمكم ما علمتني تجاربي ... وقد قال قبلي قائل متمثّل:
إذا قلت قولاً كنت رهن جوابه ... فحاذر جواب السوء إن كنت تعقل
إذا شئت أن تحيا سعيداً مسلماً ... فدبّر وميّز ما تقول وتفعل
وذكر له الخطيب أبياتاً ثلاثة تدل على ارتباكه في الهوى وهي:
ما جفاني من كان لي أنِساً ... أنِست شوقاً ببعض أسبابهْ
كمثل يعقوب بعد يوسف إذ حنْ ... ن إلى شمّ بعض أثوابهْ
دخلتُ باب الهوى ولى بَصرٌ ... وفي خروجي عميتُ عن بابِهْ(223/25)
(بغداد)
مصطفى جواد(223/26)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 24 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي
لم يكد حكم أسرة (تشو) ينتهي حوالي القرن السابع قبل المسيح حتى هوت بلاد الصين في أعمق أنواع الفوضى والاضطراب، وظلت ترزح تحت نير هذا التدهور السياسي والاقتصادي والأخلاقي نحو خمسة قرون. فلما ضيقت هذه الأزمة الاجتماعية الخناق وأحكمت الضغط، كان من الطبيعي أن تنفجر العقول الجبارة بعد أن استاءت الضمائر النبيلة؛ وكان من الطبيعي كذلك أن يحدث هذا الاستياء وذلك الانفجار آثاراً بارزة في الحياة الاجتماعية عامة، وفي الحياة العقلية بنوع خاص، وهذا هو الذي كان، إذ لم يكد ينتهي الثلث الأول من القرن السادس حتى كان كوكب تلك الشخصية البارزة الممتازة وهي شخصية (لاهو - تسيه) قد سطع في سماء الصين سطوعاً أعقبه انفجار ينبوع عبقرية أخرى فاقت الأولى عمقاً وسمواً، وتكاتفت وإياها على رفع الفلسفة الصينية إلى صفوف منتجات الأمم الراقية، تلك هي عبقرية (كونفيشيوس)
عرف (كونفيشيوس) (لاهو - تسيه) ولكنه لم يكن معه على وفاق في الآراء الفلسفية، بل كان وإياه على طرفي نقيض في أهم النظريات، إذ لم يكد (كونفيشيوس) ينضج ويعلن مذهبه حتى لاحظ الناس أن بين المذهبين خلافاً جوهرياً في القواعد الأساسية؛ ولم يكن هذا الخلاف حول عقيدة دينية أو رأي نظري، وإنما كان في الفلسفة العملية، لأنه نشأ من سؤال هام دعت إليه الحالة الاجتماعية في بلاد الصين، وهو: (ما هي الوسيلة الناجعة لإنقاذ البلاد من هذا التدهور؟)(223/27)
بينما كان (لاهو - تسيه) يرى أن التنسك والزهادة واحتقار الحياة العملية هي الوسيلة لهذا الإنقاذ المفتقد، كان (كونفيشيوس) يعلن أن الوسيلة الوحيدة لهذه النجاة هي العناية الفائقة بتنظيم الحياة العملية على أساس الخير الأخلاقي الذي ينتهي حتما إلى الصلاح الاجتماعي، وصرح أن الاهتمام بالعمران المنظم والقضاء على الرذائل التي تنخر في بناء صرحه هما وحدهما الكفيلان بإعادة الرفاهية والهدوء إلى الدولة، وقد كان من المفهوم بعد تأسيس هذا الخلاف أن يتسع البون بين هذين المذهبين في أكثر نظرياتهما الهامة، وهذا هو الذي حدث بالفعل
غير أنه ينبغي لنا أن نشير إلى أن محاولة حل هذه المشكلة ليست من مستحدثات هذين الفيلسوفين، وإنما هي محاولة قديمة ترجع إلى عصر ما قبل التاريخ؛ غاية ما هنالك أن ذلك الخلاف كان في الماضي نظرياً فحسب، لأن البلاد لم تكن قد هوت بعد في هذا التدهور، أما في هذا العصر فقد أضحت هذه المشكلة عملية يجب الاعتناء بها
الآن وبعد أن ألمعنا إلى هذين الفيلسوفين هذه الالماعة العاجلة نريد أن نتناولهما في شيء من التفصيل بادئين بأولهما
لاهو - تسيه
حياته
ليست هذه الكلمة اسمه ولا اسم أسرته، وإنما معناها: (الأستاذ القديم) أو (العالم القديم) أو (الحكيم القديم)؛ أما اسمه الحقيقي، فهو (بي - يانج)، واسم أسرته (لي) وقد دعاه الناس بعد موته: (تان)، وهو لقب مشرف كان الصينيون يطلقونه على الحكماء بعد موتهم
ولد هذا الحكيم في سنة 604 قبل المسيح في قرية (كيو - جين) بمملكة (تشو) التي هي الآن في مقاطعة (أونان) وكل ما يعرفه التاريخ الصحيح عن حياته هو ما يحدثنا به (سي - ما - تسيان) أقدم مؤرخ صيني من أنه أمضى الأكثرية الغالبة من حياته في (تشو). وفي أواخر حياته عين مديراً لدار المحفوظات الملكية، ولكن أحداً لا يعرف ما هي الوظائف التي شغلها هذا الحكيم قبل هذه الإدارة ولا كم سنة قضاها فيها، وإنما روى لنا هذا المؤرخ انه حينما تقدمت به السن اعتزل الخدمة في الحكومة، وانسحب إلى وادي(223/28)
(هان - كو) حيث اعتزل الناس جميعاً وظل فيه عاكفاً على تأملاته الفلسفية أميناً لمبادئه الأخلاقية. وفي أثناء هذه العزلة جاءه (بين - سي) وهو أحد اخصاء تلاميذه الأوفياء وألح عليه قائلا: (من حيث إنك أردت أن تدفن نفسك في هذه العزلة الموحشة، فأنا أتوسل إليك أن تؤلف كتاباً لتؤدبني به) فلم يسع هذا الحكيم بازاء ذلك الرجاء الجار الملح إلا أن يجيب تلميذه إلى سؤله، فألف كتاب (تاو - تي - كينج) وعلى اثر فراغه من كتابته غادر ذلك الوادي الذي عرفه الناس فيه وانسحب إلى حيث لم يره بعد ذلك أحد
وقد حدثنا (سي - ما - تسيان) أيضاً أنه أعقب بعده ابناً يسمى (تسونج) صار بعد أبيه من عظماء الدولة؛ وكان قائداً كبيراً من قواد جيوشها، وأن مشاهير رجال المملكة الذين لعبوا أهم الأدوار السياسية والاجتماعية فيها كانوا من ذريته
أما الأساطير الشعبية فقد أحاطت هذا الحكيم بغابة كثيفة من الروايات والحوادث التي ثبتت الاستحالة الزمنية في بعضها، وتحقق الاستبعاد في بعضها الأخر، كما أنه قد غلبت الحقيقة على البعض الثالث. فمن هذه الأساطير ما يحدثنا عن تلك المقابلة الهامة التي حدثت في سنة 525 قبل المسيح بين (لاهو - تسيه) و (كونفيشيوس) وما دار فيها من محاورات بين الحكيم والشيخ الهادئ الواثق مما يقول، وبين العبقري الشاب المتحمس المفعم بالآمال العذبة في المستقبل المنير
تحدثنا هذه الأسطورة أن الشيخ أعلن في حديثه أن إصلاح الحياة الاجتماعية بوساطة النشاط العملي مستحيل، وأنه لا يتيسر إلا بوساطة التنسك والزهادة والاعتزال، وانه لم يقل بهذا الرأي إلا بعد تجارب طويلة استغرقت سبعين سنة، وأن (كونفيشيوس) حينما سمع من الحكيم الشيخ هذا الرأي، لم يتردد في الحكم عليه بأنه خاطئ باطل، وبأن نتيجته هي الخمول واليأس؛ ثم سأله قائلاً: (إذا كان واجب كل فرد من أفراد الدولة أن ينسحب في كهف من الكهوف، فمن ذا الذي يعمر المدن، ويفلح الأرض وينشئ الصناعات، ويديم النوع البشري على سطح الأرض؟ وإذا كان هذا الاعتزال من واجب الحكماء فحسب، فمن ذا الذي سيربي الإنسان ويؤدبه ويصون الفضيلة والأخلاق؟)
وتحدثنا هذه الأسطورة أيضاً أن المقابلة بين هذين الحكيمين كانت من أجل هذا الخلاف فاترة، وان سوء التفاهم قد ساد بينهما على اثر هذه المحاورة. ويعلق أحد (المستصينيين)(223/29)
على هذا النبأ بقوله: (ما دام قد ثبت تاريخياً أن (لاهو - تسيه) كان مديراً لدار المحفوظات في مدينة (لو) في نفس التاريخ الذي زار فيه (كونفيشوس) هذه العاصمة، بل إنه قد ثبت أنه زار دار المحفوظات نفسها وطلب الاطلاع على بعض ما فيها من وثائق قديمة كانت دراسته في حاجة إليها، أفليست هذه الظروف كلها تدعونا إلى تصديق الأسطورة لاسيما إذا كان ما حدثتنا عنه من خلاف صحيحاً صحة علمية؟)
ومن هذه الأساطير أيضاً ما يروى لنا أن (لاهو - تسيه) بعد أن اعتزل الخدمة ارتحل إلى بلاد الهند واخذ ينشر تعاليمه هناك، وقد تلاقى مع (بوذا) فتتلمذ هذا الخير عليه، وتلقى عنه تلك المعارف الصينية القيمة التي كانت فيما بعد أساساً لمذهبه
ويستبعد الأستاذ (زانكير) صحة هذه الأسطورة، لأن (بوذا) لم يولد بعد هذا الحكيم بمائة وخمسة وعشرين عاما؛ وإذا صح سفره إلى الهند، فلا يمكن أن يصح لقاؤه مع شخص بقى على مولده خمس وأربعون سنة، فضلا عن نشأته واستعداده لتلقي العلم؛ فإذا أضفنا إلى هذا أن حكيمنا لم يعتزل الخدمة إلا بعد بلوغه سن الثمانين استطعنا في سهولة أن نجزم باستبعاد صحة هذه الأسطورة
هناك أسطورة ثالثة تنبئنا بأن هذا الحكيم قد كتب ألف كتاب، منها تسعمائة وثلاثون في شرح فن الحياة العملية والأخلاق والسلوك والمعاملات الإنسانية، والسبعون كتاباً الباقية في السحر، وعلى الأخص في صنع التمائم التي يجلب حملها السعادة للأحياء
لا ريب أن هذه الأسطورة لا تقل عن سابقتها بطلانا، لأن هذا الحكيم لم يثبت عنه أنه كتب غير كتاب (تاو - تي - كينج) الذي أشرنا إليه آنفا، والذي خصصه لتسجيل مذهبه الفلسفي. بل إن النقاد المحدثين يجزمون بأن هذا الكتاب على حالته الراهنة ليس من تأليف (لاهو - تسيه) وإنما هو مجموعة من آرائه وحكمه مضافاً إليها آراء وحكم لبعض القدماء الذين سبقوا عصر هذا الحكيم، ويرجحون أن هذا الكتاب قد كتب بعدة أقلام مختلفة، بعضها لتلاميذ هذا الحكيم، والآخر لبعض المتمذهبين بمذهبه
مذهبه
اختلف الباحثون المحدثون في المذهب النظري لهذا الحكيم اختلافات شتى جعلت اليقين عسيراً على كل من يحاول الحكم على هذه الفلسفة (اللاهو - تسية) والسبب في وقوع كل(223/30)
هذه الاختلافات بين العلماء هو صعوبة معنى كلمة (تاو) التي اتخذها هذا الحكيم عنواناً لكتابه؛ ولكن ليس معنى هذا أن تلك الكلمة كانت في الأصل غامضة أو عويصة؛ كلا، فقد مرت بنا في عصر ما قبل التاريخ وعرفنا أن معناها إما (الصراط السوي) وإما (واجب الإنسان) أو (الفضيلة العليا) أو (الغاية المثلى) ولكن الصعوبة حدثت من المعنى الجديد الذي أسبغه حكيمنا على هذه الكلمة حين اختارها عنواناً لكتابه الفلسفي ولم يصرح في تحديده بكلمة قاطعة؛ بل ترك الباحثين يستنتجون هذا المعنى الحديث من المشاكل التي درست في هذا الكتاب؛ فلما عالج العلماء الأوربيون هذا البحث ذهب كل منهم مذهباً يناقض مذهب الآخر؛ بل إن بعضهم ألقى سلاحه بازاء هذا العنوان وانسحب من الميدان؛ ومن هذا القسم الأخير المسيو (دينيس سورا) الذي أعلن أن هذه الكلمة غير مفهومة. وإذاً فالمذهب النظري لهذا الحكيم غير مفهوم. أما الأستاذ (زانكير) فقد أفاض في شرح هذه الكلمة وتعقب مراميها المختلفة تعقيباً يروي غلة الباحث الشغوف. وخلاصة ما قاله في هذا الشأن أن هذه الكلمة تحمل من المعاني ما لا يمكن أن يؤدى بلفظة أوربية. ولهذا يكون خاطئاً كل من حاول ترجمتها بكلمة واحدة من لغاتنا الحديثة، بل الواجب ترجمتها بجملة طويلة أو بعدة كلمات، فمن معانيها مثلا: الروح الأزلي المشتمل على جميع القوى الحيوية، والكائن النقي، والجوهر الأساسي لكل موجود، والحياة الحقة لكل كائن، والمدبر العام للكون كله، وفوق ذلك كله فهذه الكلمة قد احتفظت بمعانيها القديمة التي كانت له في عصر ما قبل التاريخ، وهي: الصراط السوي، والفضيلة، والواجب، والغاية، والتطور، ولكن ينبغي أن نعلم أن هذا التطور ليس إلا أثراً ظاهراً لهذه القوة، أما هي نفسها فثابتة لا تتغير
واكثر من هذا أن (لاهو - تسيه) يصرح بأن (تاو) هو الـ (في ذاته)، بل هو الكائن الغير القابل لِمُدْرِكِيَّة العقل البشري، لأن أي كائن متى حصره التفكير الإنساني ووضع له اسماً مُحدِّداً، فقِد فَقَدَ نقاءه ولا نهائيته
ولا شك أن من يلقي نظرة عاجلة على المدرسة الأفلاطونية الحديثة ويستعرض ما قاله (أفلوطين) عن الإله يجد الشبه عظيماً بينه وبين هذا الرأي
(يتبع)
محمد غلاب(223/31)
الفروسية والتربية
للسيد جرجيس القسوس
كلمة تمهيدية
يعاني العلم مشقة كبيرة في التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة؛ وما عرف التاريخ منذ بدئه حرباً أشد هولاً من هذا النزاع بين الفرد والمجموع برغم محاولة الفلاسفة وعلماء الاجتماع ورسل الأديان التوفيق بينهما. إذ تؤثر الجماعة المحافظة، وتكره كلَّ ظاهرة يرجى من ورائها انتقاض كيانها وهدم صرح نظمها وتقاليدها. بيد أنه ينهض أحياناً فردٌ يشهر عليها حرباً عواناً فيصطدمان، فإن كتب الخلود انتصر عليها، وغلا طمس أثره وراح ضحية شذوذه
ولقد برهن التاريخ أن الحق في أغلب الأحيان للقوة، لذا ترى أن عدد أسماء العظماء في التاريخ قليل جداً إذا ما قيس بعدد من خضع لأحكام الجماعة وسلطتها، وتمشى بموجب تقاليدها ونظمها. والعظيم بحق هو من فاضل الجماعة وغلبها، وتمكن من أن يسيرها حسبما يراه صالحاً
أما في العصور الوسطى فقد كانت للجماعة السلطة التامة على الفرد، دينياً وعلمياً واجتماعياً. فهناك الكنيسة تستأثر بالسلطة الدينية، وترى أن ما تسنه للفرد على الأرض من شرائع وقوانين يُسنُّ في السماء، وتتسلح ضده محاكم التفتيش والقطع والتأديب، وتتذرع بكل سلطة زمنية فوق الدينية لتقي حقها الذي هو حق الجماعة، وتحارب الزنادقة وهم - في رأيها - من شذّوا عن مبادئها وخالفوا أحكامها. ويلحق الكنيسة نظام الرهبنة وقد حل هذا النظام محل معاهد التربية في نشره الفضيلة، وتعزيزه ناحية من نواحي الرسالة النصرانية. وهنالك الطريقة الزهدية التي دعت إلى الزهد وعيشة التقشف والاتصال بروح الله في الحياة الدنيا، فسيطرت بذلك على فكر الفرد وحياته الروحية وقيدتهما مدة ليست قصيرة
أما الطريقة هيمنت على عقل الفرد، ووضعت له قواعد وحدوداً ثابتة، ليس له أن يتعداها أو يشذ عنها في حياته الفكرية. آما الاجتماع والسياسة فمعهدهما - كما سترى - لم يختلف كثيراً عن فعل غيره من الأنظمة والمعاهد التي ذكرناها(223/33)
كل هذه الأنظمة تعاونت وتضافرت على صيانة الحضارة في العصور الوسطى وخاصة المظلمة منها، لكنها كانت تتوخى دائماً إعلاء كلمة الجماعة واخفات صوت الفرد، فحالت بذلك دون تقدم الحضارة تقدماً حثيثاً، إذ كلما حاولت سفينة الحضارة الإقلاع، ألقت الجماعة مرساتها لتوقفها وتعيقها عن السير المطرد. والصراع بين الفرد والمجموع قائم على هذا الأساس. فالفرد يبتغي رفع المرساة وتحطيمها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بينا الجماعة تريد خلاف ذلك. ومهمة التربية والتعليم في كل عصر ومكان - كما بينا - التوفيق بينهما، وإصلاحهما إصلاحاً يكفل معه تقدم الحضارة. وسنتناول في هذا المقال الفروسة ونرى كيف كان مرساة للنظم والمبادئ الاجتماعية والأخلاقية، وما كان فضله على التربية خصوصاً
الفروسة، طبيعتها، نشأتها
الفروسة في أكمل وضع لها: نظام أو معهد اجتماعي لا ديني (من حيث نشأته)، ذو مبادئ، ومثل اجتماعية وأخلاقية عالية قائمة على قواعد وتقاليد رسمية راسخة. ومن شروط الانتظام في هذا السلك أن يكون المرء حر المولد، شريف المنبت، (أو يكون قد نال النبل من أحد الملوك)، يملك ضيعة، ويستطيع أن يعول نفراً من الضعفاء. ولم تمنح العضوية إلا لمن زاد عمره على الحادية والعشرين، اللهم إلا في آخر عهد هذا النظام، فقد كانت تمنح لأبناء العائلات المالكة الذين لم يبلغوا، أو تجاوزا السن القانونية لنيل هذه العضوية. وكان لابد لكل طالب من أن يقضي مدة معينة يجوز في خلالها بعض الامتحانات والمراسيم، ويتقن العلوم والفنون، ويتحلى بالسجايا التي يقتضيها شرف هذه المهنة. وقد اقتصرت العائلات النبيلة على هذا النوع من التربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد، خصوصاً مع عدم توفر العلوم فيه كما سترى
كانت مبادئ الفروسية ومثلها العليا خليطاً مما ورثته عن النصرانية والحضارة الرومانية، واحتفظت به من عادات قبائل البربر الجرمانية وطباعها. وكان للفروسة صبغة عسكرية في القرون التي تلت سقوط الدولة الرومانية حتى القرن التاسع والعاشر للميلاد، فكل ملك أو بارون أو لورد أو نبيل، سافر أو ناضل على ظهر جواد، وكان له اتباع وحشم عُدَّ فارساً: فالفروسة والإقطاع هما في الحقيقة توأمان من حيث نشأتهما وشيوعهما. ولقد(223/34)
ازدهر نظام الفروسة واستكمل نموه منذ الغزوات الصليبية الأولى في القرن الحادي عشر للميلاد، وما فتئ ينمو حتى أوائل القرن السادس عشر. فكان المعهد التربوي الوحيد خلال تلك القرون للعائلات النبيلة والمالكة، حتى جاء عصر العالية، فحلت هذه محل الفروسة وغيرها من المعاهد والطرائق التي سبق الإيماء إليها
مبادئها وصفاتها
لعهد ليس بالبعيد كانت هناك مبادئ وصفات تؤهل الفرد لاكتساب لقب (جنتلمان) تلك التي إذا ما حازها عُدَّ فارساً. من هذه المبادئ والسجايا الشجاعة والأنفة واحترام النفس والانتصاف للشرف واللطف والرقة في المعاملة ونكران الذات وطلب الشهرة عن طريق الحرب، وغير هذه من الصفات الخشنة كالشراسة والقسوة والغضب إلى حد الجنون، والتبهرج والإسراف والرغبة في الحياة العسكرية العنيفة الجافة، والإيمان القويم بالله. وكما إن للرهبنة فضلاً على الناحية الدينية من علمي التربية والأخلاق، فللفروسة فضل على الناحية اللادينية منها، إذ رفعت من شان فكرة لدى قوم غلاظ الطباع، وذلك بأن فرضت عليهم شروطاً وقواعد لابد لهم من مراعاتها مدة انضوائهم تحت لواء الفروسة. ولو أنعمنا النظر قليلاً في هذه الفكرة لألفينا انه حينما وجدت الطاعة والخدمة، وجد معها الاستعباد والقسوة. فإذا كان تشجيع الطاعة والخدمة من حسنات الفروسة، فتعزيز الاستعباد والإذلال هو من سيئاتها
ولم تكن الفروسة في الواقع إلا خادمة للرسالة النصرانية، فقد ولدت في معهد الكنيسة، ثم نشأت وانتشرت تبشر بمبادئها، وتنشر النصرانية بين برابرة الجرمان. وحينما تحولت الكنيسة إلى السلطة الزمنية تستنجدها وتستفزعها لمهاجمة المسلمين في عقر دارهم، كانت الفروسة أول من لبى نداءها. وقد كان لاتصال الفروسة بالكنيسة اثر ملموس في خلق الفارس، فكان لابد له، إذا نشد الكمال، من أن يتوخى مبدأ الاعتدال في حياته وأن يستسلم لأسياده وينقاد إليهم انقياد الأعمى، ويتضع لمن هم دونه رتبة، ويشفق على الضعفاء والفقراء ويحسن إليهم، وأخيراً أن يجل الجنس اللطيف كل الإجلال
ويجازي من نكث هذه الشروط بأن يطلب للبراز مع غيره مبارزة قد تؤول إلى هلاكه. بذا وبغيره من الوسائل السلبية والإيجابية، وبالمزاولة الطويلة ثبت نظام الفروسة ورسخت(223/35)
قواعده ومبادئه رسوخاً متيناً، وانتشر انتشاراً عمّ مختلف طبقات المجتمع البشري في أوروبا حقبة طويلة من الزمن.
ومن الصفات التي لم يكن يقتضي اكتسابها تعليماً خاصاً ومجهوداً كبيراً الشجاعة والإقدام؛ بيد أن ما يرافقهما من التمرن على حمل السلاح واستعماله، والتفنن في ركوب الخيل، أمور يتلقاها الفرد في سلك الفروسة. وما يصدق على الشجاعة يصدق على الشهامة واحترام السيدات، فإن ذلك لم يكن يقتضي تعليماً رسمياً. على أنه لابد لاكتساب كل سجية مطبوعة بطابع الفروسة الخاص من وقت طويل وعناء كبير لدقتها وتعقدها. وفيما يلي نبذة للمؤرخ (كورنشْ) تبين باختصار مبادئ الفروسة وأثرها في حياة الفرد والمجموع يقول:
(لقد علمت الفروسة العالم واجب الخدمة الطوعية الشريفة ورفعت من شأن الشجاعة، والخضوع لحكام السلطة، ووقفت قوتها العسكرية على خدمة الدين، وشجعت السخاء والإحسان والإيمان القويم ونكران الذات والشهامة؛ وفوق كل هذا إجلال السيدات. ومع أن للفروسة فضلاً كبيراً على علمي التربية والأخلاق فمثالبها شتى، لأنها كانت تشجع بعض الرذائل كالغرور وحب القتال وازدراء الرعاع والتهتك والخلاعة. ولا مراء في أن هذا المعهد - على ماله من مناقب ومثالب - كان ملائما لروح العصر والبيئة اللذين نشأت فيهما.)
نظامها ومنهاجها
للتربية في هذا النظام ثلاث مراحل، تبتدئ أولاها من السنة السابعة وتنتهي بالرابعة عشرة، ويسمى الفتى في هذا العهد وتبتدئ المرحلة الثانية من السنة الخامسة عشرة وتنتهي بالحادية والعشرين، ويطلق على الفتى في هذه السن لقب (الرفيق) أما المرحلة الثالثة والأخيرة فتبتدئ من السنة الحادية والعشرين، وفيها يعرف الفتى بالفارس
كان يجري التعليم والتمرين في معهد بلاط أحد الملوك أو قلعة أحد النبلاء. ففي قلاع النبلاء يجري التعليم الخاص بالطبقة التي هي دون النبلاء. أما النبلاء فيبعثون أولادهم إلى بلاط الملك حيث يخدمون في حاشيته؛ وفي كثير من الأحيان يمارس أبناء الملوك الخدمة في قصور آبائهم كسائر أبناء النبلاء، ولم يجر التعليم في بيوت العامة لندرة وسائله، وقلة معدات التمرين فيه؛ لهذا كانت دور النبلاء وقلاعهم وقصور الملوك مزدانة بالفتيان(223/36)
والفتيات طيلة سني التعليم والتمرين، ولقد كان للفتيات كما للفتيان حق ونصيب من التربية في هذا المعهد، فقد كان في عصر الإقطاع شريعة تقضي بأن يرث النبيل ضياع آباء الفتيان والفتيات الذين هم في خدمة النبيل، وتخوله حق السلطة على أولئك الفتيان والفتيات والتصرف بهم كما يشاء قبل أن يدركوا سن الحادية والعشرين. فأدى هذا الحق، أعني التحكم في أولاد الميت وبناته إلى تزويجهم حسبما يراه النبيل صالحاً، بهذا كان التزاوج بين الفتيان والفتيات شائعاً جداً في قلاع النبلاء، وخصوصاً في القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد. وطبيعي أن يقوم النبيل بكل ما تتطلبه معيشة هؤلاء الفتيان والفتيات ماداموا قاصرين وعاجزين عن القيام بذلك من تلقاء أنفسهم
أما الفتيات فقد كُنَّ يتلقين العلوم والفنون المنزلية من خياطة ونسج وموسيقى وغناء ثم الفرنسية وبعض اللاتينية. وكانت تعلم هذه العلوم في مدارس الأديرة؛ من هذه في إنكلترا دير (دارتْفوردْ) في كنتْ، وقد اختصَّ ببنات العائلة المالكة، ودير (كاروْ) قرب نوردش وكان خاصاً ببنات الطبقة النبيلة، ومدرسة دير ماري في ونشستر وغيرها. وبعد أن تتم الفتاة تحصيلها في هذه المدارس تعود إلى قلعة النبيل المتولي أمرها، حيث تكتسب صفات الفروسة، وتجالس الفتيان في (الصالون) حتى تصل إلى اختيار زوجها منهم. وغالباً ما دفعت هذه العادة الكثيرين إلى أن يبعثوا بناتهم وأبنائهم إلى هذه القلاع، ليلتحقوا في خدمة النبيل ظاهراً، وينشدوا التزوج باطناً. فالتزوج هو في الحقيقة غاية ما كانت ترمي إليه تربية الفروسة في هذه المرحلة، لأن من كان خليقاً بالزواج عن هذه الطريق كان جديراً بنيل شرف الفروسة
نعود الآن إلى الوصيف لنرى كيف يتدرَّج في مراحل هذه التربية حتى يصبح فارساً. ينشأ الوصيف والوصيفة مع نساء حاشية النبيل حتى السنة السابعة، وفي خلال هذه المدة يكون الوصيف قد ألف ركوب الخيل، وتعلم هو والوصيفة القراءة والكتابة وبعض مبادئ العلوم البسيطة التي تقتضيها الخدمة المنزلية. وكلما تقدم الوصيف في السن، تعقدت العلوم التي يتلقاها وصعبت. فحينما يصل سن السابعة يشرع في تعلم فنون الصيد واللعب بالسيف والترس ورمي القرص والرمح. وليست هذه الفنون سهلة المنال يظهر؛ ففن الصيد مثلا يتطلب إلماماً بقوانين الغاب وهو ينقسم إلى قسمين: -(223/37)
(1) صيد الغزال وما كان من فصيلته وعلى شاكلته
(2) والبيزرة؛ وهذا القسم ضرب معقد من ضروب الصيد يقتضي معرفة بأنواع الطيور وكيفية اقاتتها وتدريبها على الصيد. وعدا هذا يتعلم الوصيف أصول المصارعة والملاكمة والجري وركوب الخيل واللعب بالسيف والرمح ومبارزة الدببة والجواميس. كان الوصيف مشغوفاً بهذه الفنون العملية كل الشغف، لأنها كانت ذات أثر مباشر في حياته؛ لهذا لم يُعن كثيراً بتعلم القراءة والكتابة والموسيقى. بيد أن إعراضه عن هذه العلوم النظرية إلى غيرها لا يعني عدم اهتمام مدارس الفروسة بها، فقد كان للوصيف فرصة سانحة ليتعلم فيها العزف على بعض الآلات الموسيقية والتدرّب على الغناء. وقد تخرّج في هذا المعهد المنشدون الكثيرون الذين كانوا يرحلون من بلد إلى آخر، ويحلون حيث غواة الموسيقى وعشاق الفن. ولقد عنيت بعض العائلات المتدينة بتعليم الموسيقى والنشيد الديني، فكان منها مدارس خاصة، عدا نظام الفروسة
كان الوصيف يصرف أوقات فراغه في الخدمة المنزلية، ومشتركاً في حياة النبيل العائلية؛ فتراه يرافق سيدته (زوجة النبيل) أنى ذهبت، ويقوم بخدمتها المنزلية بكل طاعة وإذعان. ومن الخدمات البسيطة التي اختص بها تجفيف عرق سيدته، وذب الذباب عنها ساعة نومها بمروحة لا تكاد تفارق يده طيلة أشهر القيظ
وما يكاد الوصيف يشب ويصبح (رفيقاً) حتى يشرع في تعلم فنون جديدة كفن المناداة وهو فن معقد يقتضي إتقانه ومجهوداً كبيرين، و (تقطيع اللحم) وهذا أيضاً فن قائم بذاته، وقد أهمل وتنوسي على مرور الزمن. وأهم واجباته المنزلية في هذا العهد تحضير الموائد، فهو الذي يقطع اللحم - كما قلنا - ويتناولصحون الأطعمة وكؤوس الخمر من الوصفاء، ويوزعها على الضيوف. وعلى الرفيق أن يُعدّ فراش النبيل، وأن يتولى سياسة حصانه، وان يقوم بتعبئة البنادق وصقلها وتنظيفها. وعليه أن يرافق سيده في سفراته الطويلة، ويتولى رعايته وحراسته في الليل، فلا يغمض له جفن ما دام سيده نائماً. وعلى (الرفيق) أن يلقن كل ما تقتضيه الخدمة المنزلية، وتتطلبه الحياة العملية كركوب الخيل، وتعلم اللغات الألمانية والإنكليزية وبعض اللاتينية (أما الوصيفات فالفرنسية)، والعزف على الناي والقانون، والرقص والغناء ولعبة الشطرنج، ومبادئ الفروسة وقوانينها. ومن الكتب(223/38)
التي كانوا يعتمدونها في تعلم مبادئ الفروسة وصفاتها في إنكلترا خصوصاً كتاب (سلوك الغلام على المائدة) لقروستست ' وعلى (الرفيق) أن يرافق زوجة النبيل في روحاتها وجيئاتها وأن يلاعبها الشطرنج ويراقصها ويعزف ويغني لها. أما علاقته معها فعفيفة غاية العفة، بريئة غاية البراءة، قلما تؤدي إلى الفعل المنكر، لنه بمرافقته وإذعانه لها يكتسب صفة من أسمى صفات الفروسة وأنبلها، ألا وهي إجلال الجنس اللطيف وإيناسه. وكان يتجلى هذا الشعور في المرحلة الأخيرة من مراحل الفروسة وخصوصا في أوان المبارزة. فعندما تعقد حفلات المبارزة تهرع إليها أجمل الفتيات وأنبلهن؛ وقد تستغرق الحفلة الواحدة ثلاثة أيام أو أكثر. وللمبارز إذا انتصر على خصمه أن يجرده من سلاحه وجواده، وأن يمر بالفتيات، فيتعهدهن بنظره حتى يقع بصره على إحداهن، فيختارها لتسمى ملكة الحب والجمال فتتوج بإكليل وتشرف على بقية الحفلات بينا السيدات يحطن بها من كل جانب، راغبات في التقرّب منها تشرفاً
وللكنيسة أثرٌ ملموس في حياة الفارس، فتراها إذا ما قارب السنة الحادية والعشرين من عمره، سيطرت عليه، ووجهت حياته السلمية والحربية إلى ما فيه خيرها ونفعها. فتعرض له بعض المراسيم والامتحانات الدينية المعقّدة التي لابد له من اجتيازها. أهم هذه ما يجيء في الحفلة النهائية التي يصبح فيها (الرفيق) فارساً؛ وتستغرق هذه الحفلة أحياناً عدة أسابيع، فيصرف بضعة أيام في الصوم وليلة في إحدى الكنائس القديمة المظلمة، مسترسلا في التأمل والتفكير، ثم يستحمّ، ويعترف عند أحد الكهنة، وبعد ذلك تعقد الحفلة النهائية، ويترأسها أحد الكهنة، وفيها يخلع عليه الكاهن ثوباً أبيض رمز الطهر والنقاوة، وآخر أحمر إشارة إلى ما سيسفكه من الدم في الدفاع عن مبدئه ودينه، وسُتْرةً سوداء قصيرة تذكره بشبح الموت الذي سيلقاه دون خوف أو وجل، ثمّ يصغي إلى عظة بليغة يلقيها الكاهن عن حياة الفروسة. وفي النهاية يقسم الفارس يمين الفروسة الرسمي وخلاصته: (أن يذود عن الكنيسة، ويكافح الشرار، ويحترم رجال الدين، ويجل الجنس اللطيف، ويصون الضعفاء، ويحسن إلى الفقراء، وألا يحجم عن سفك دمه في الدفاع عن بني دينه وجنسه). ثم ينادي فارساً باسم الله، والقديس جورج، والقديس ميخائيل، ويناول السيف والمهماز ويلطم على وجهه لطمة خفيفة رمزاً إلى آخر إساءة يستطيع أن يصفح عنها، وإلى حياة العنف والجهاد(223/39)
التي سيحياها
ويقضي الفارس السنين العشر الأولى التي تسبق السنّ القانونية للالتحاق بالفروسة في الدرس المتواصل، والاستعداد الدائم لهذه الحفلة التي تعد أكبر حادث في حياته. ولقد ورد في رسالة كتبها دي روم لتلميذه الملك هنري دي جاند في صغره بعض الموضوعات والدروس التي يتعلمها (الرفيق) والصفات التي لا مناص له من اكتسابها لكي يكون فارساً، منها الإحسان والشجاعة والاعتدال؛ والقسم الخير من الجزء الثاني من هذه الرسالة ذكر واجبات (الرفيق) نحو الكنيسة. أما الفصل السابع فيقتصر على الموضوعات العلمية كتعلم اللاتينية والإلمام بالفلسفة، وعلم البيان وهذا خاص بأبناء الأمراء والملوك، وعلم الحساب الذي لابد منه لإتقان الموسيقى، وتعلم الهندسة التي لا غنى لطالب علم الفلك عنها. كل هذه العلوم خاصة بأبناء الطبقة الوسطى وهناك عدا الفنون السبعة المعروفة فنون وعلوم أخرى لابد للطالب من تعلمها وهي:
(1) العلوم الطبيعية لأنها تتعلق بطبيعة الأشياء
(2) علم ما فوق الطبيعة لأنه يبحث عن الله وملائكته
(3) علم اللاهوت
(4) علم الأخلاق لأنه يعلم الفرد ضبط نفسه
(5) علم السياسة لأنه يعلم إدارة المدن والممالك
وشعار الفارس في حياته - كما رأيت - الدين والحب والحرب، فهو الخادم الأمين المطيع للكنيسة ولسيدته التي تمثل الجنس اللطيف كله، ولسيده الذي يمثل الملوك والنبلاء
وترى مما تقدم أن الفروسة لعبت دوراً باهراً في تاريخ التربية خصوصاً والحياة الاجتماعية عموماً، وأن منهاجها لا يقل عن منهاج الجامعات والمدارس القرن الثالث عشر للميلاد خصوصاً؛ وأثره في أدب الإفرنج لا يقل عن آثره في التربية والاجتماع والسياسة. فقد أصبح مستقى فياضاً لآدابهم، وعلى الفروسة تدور بعض القصص الرائعة والقصائد الحماسية والأناشيد الشائقة؛ وحسبنا في هذا المقام أن نذكر أن الرجوع إلى العصور الوسطى عموماً والفروسية خصوصاً لاختيار الموضوعات الأدبية كان من اكبر خواص ومظاهر العصر الابتداعي في الأدب الإنكليزي في القرن التاسع عشر. واثر هذا(223/40)
ظاهر في بعض قصص سرْ ولتر سكوت وخاصة (إيفنهو) (وتلسمان) (والأبوت)
وفي إحدى قصص وليم أعني (هنري إزموند) وفي غير ذلك العصر من عصور الأدب الإنكليزي كعصر الياصابات مثلا وخصوصاً في بعض ملاهي شكسبير مثل (جعجعة ولا طحن) و (رجلا فيرونا) (وكما تشاء)
والمقام يضيق عن التوسع في هذه الناحية، فعسى أن يقوم من بين الأدباء من يجد في نفسه الكفاية للبحث في علاقة الفروسة بكل من الأدب والسياسة وفضلها وتأثيرها عليهما.
جريس القسوس
الجامعة الأمريكية: بيروت
مصادر هذه الرسالة
1. '
2. '
3.
4.
5. '
مقالة الأستاذ عبد الله عنان عن (الفروسة) في (أحسن ما كتبت) ص25 6.(223/41)
أبحاث تاريخية جديدة
الإسلام في غرب أفريقية
مدى انتشاره في تلك الأقاليم ومبلغ أثره في الأهلين
للأديب جمال الدين محمد الشيال
تقدمه
بدا الإسلام في شبه جزيرة العرب. . . ومنها انتشر سريعاً في مختلف أنحاء العالم فوصل إلى الصين شرقاً امتد إلى الأندلس والمحيط الأطلسي غربا. وأينما وصل الإسلام ونشأت حضارة إسلامية جديدة أخذت عناصرها من حضارة الإقليم الهرمة المحطمة ومن حضارة الدين الجديد وتعاليمه. . . ثم استقرت هذه الحضارات، كل حضارة في إقليمها الخاص بها. . . وظهرت لها بمرور الزمن مميزات خاصة. . . ولكن هذه الحضارات كانت تتصف بصفات مشتركة تجتمع فيها عند نقطة واحدة تميزها جميعاً. . . تلك هي أنها حضارات إسلامية
وفي كل بلد من هذه البلاد الإسلامية وجدت معاهد للعلم ونشأ العلماء في كل فن. . . ونبغوا. . . ورحلوا. . . ونشروا دينهم. . . وكتبوا الكتب تتحدث عن كل علم وفن. . . وتصف كل قطر عرفوه أو رحلوا إليه أو نقلوا إليه دينهم. . .
وكانت بلاد المغرب إحدى تلك الأقاليم التي انتشر فيها الإسلام وإحدى تلك الأقاليم التي نشرت الإسلام في طول الصحراء وعرضها حتى وصل إلى حدود الكمرون جنوباً وإلى شاطئ المحيط الأطلسي غرباً. . . وقد تحدث المؤرخون الإسلاميون عن هذه الجهات في كتبهم ورحلاتهم. . .
فأبو عبيد البكري الأندلسي وابن فياض الأندلسي وابن خرداذبة كلهم يتحدثون عنها وعن حدودها فيقولون: (فأول بلاد المغرب مما على ساحل البحر الرومي مدينة أنطابلس المعروفة ببرقة، وآخرها مما على ساحل البحر الأعظم مدينة طنجة، وطنجة هذه آخر بلاد المغرب المحقق وما بعدها من البلاد فإنما هو في الجنوب إلى أن يأتي بلاد الحبشة والهند. . .)(223/42)
أما ابن بطوطة فقد جاب الصحراء المسلمة واتصل بقبائلها وملوكها ووصل حتى بلدة كارسخو بين نهري النيجر والشنغال. وابن بطوطة رحالة عاش في النصف الأول من القرن الرابع عشر، وقد طاف في معظم الجهات الإسلامية المعروفة في ذلك الحين ومنها غرب أفريقية؛ وقد أحببت أن أنقل عنه أخبار انتقاله باختصار لتكون دليلاً مادياً على وصول الإسلام لتلك الجهات وإن كان الرجل يخلط خلطاً غريباً بين نهري النيل والنيجر، ولكن له في الواقع عذره لجهل العالم كله في ذلك العصر بأواسط أفريقية ومنابع أنهارها. يقول ابن بطوطة:
(ثم سرنا من زاعزي فوصلنا إلى النهر الأعظم وهو النيل وعليه بلدة كارسخو؛ والنيل ينحدر منها إلى كابرة، ثم إلى زاغة؛ ولكابرة وزاغة سلطانان يؤديان الطاعة لملك مالي. . . وأهل زاغة قدماء في الإسلام ولهم ديانة وطلب للعلم؛ ثم ينحدر إلى تنبكتو، ثم إلى كوكو، ثم إلى بلدة مولي من بلاد الليمين - وهي آخر عمالة مالي - ثم إلى يوفي، وهي من اكبر بلاد السودان، وسلطانها من أعظم سلاطينهم؛ ثم ينحدر إلى بلاد النوبة وهم على دين النصرانية؛ ثم إلى دنقلة، وهي اكبر بلادهم وسلطانها يدعى بابن كنز الدين أسلم أيام الملك الناصر؛ ثم ينحدر إلى جنادل، وهي آخر عمالة بالسودان، وأول عمالة أسوان من صعيد مصر)
(ثم سرنا من كارسخو فوصلنا إلى نهر صنعرة، ثم رحلنا إلى بلدة ميمة فنزلنا منها على آبار بخارجها، ثم سافرنا منها إلى مدينة تنبكتو، ومن تنبكتو ركبت النيل في مركب صغير منحوت من خشبة واحدة، ثم سرت إلى مدينة كوكو وهي مدينة كبيرة على النيل؛ ثم سافرت منها إلى تكدَّا، ووصلنا إلى كاهر من بلاد السلطان التكركري؛ ثم سرنا بعد ذلك خمسة عشر يوماً في برية لا عمارة فيها إلا أن بها الماء، ووصلنا إلى الموضع الذي يفرق به طريق غات الآخذ إلى ديار مصر وطريق ثوات، وسرنا من هنالك عشرة أيام ووصلنا إلى هكار وهم طائفة من البربر ملثمون، وسرنا من بلاد هكار شهرا، ووصلنا يوم عيد الفطر إلى بلاد برابر، ثم وصلنا إلى بودا وهي من أكبر قرى ثوات، وأقمنا ببودا أياماً ثم سافرنا في قافلة، ووصلنا في أواسط ذي القعدة إلى مدينة سجلماسة. . . الخ)
وهو إذ يتحدث عن معدن النحاس ص320 يقول (ويحملون النحاس منها إلى مدينة كوبر(223/43)
من بلاد الكفار - وإلى زغاي - وإلى بلاد برنو وهي مسيرة أربعين يوماً من تكدا وأهلها مسلمون ولهم ملك اسمه إدريس. . .)
من هذا نستبين بكل وضوح أن أقصى ما وصل إليه ابن بطوطة غرباً هو مدينة (كارسخو) وهو في كل تلك المنطقة التي طاف بها يذكر أنه كان ينزل بسلطان الولاية المسلم فيرحب به ويجمعه بقضاة الولاية وعلمائها. غير أن ابن بطوطة لم يصل إلى شاطئ المحيط من جهة الغرب في حين أن الإسلام كان منتشراً في غانة في ذلك الحين كما سنرى من قول ابن خلدون المعاصر لابن بطوطة في كتابه (المغرب في تاريخ الدول الإسلامية بالمغرب) وهو يبدأ بتحديد بلاد المغرب وغرب أفريقية على عهده، وقوله في ذلك ثقة لأنه نشأ في تونس وتنقل في معظم بلاد المغرب كتلمسان وبسكرة وبجاية وغيرها. واتصل بالحكام في كل تلك الأقاليم، وله كتابه المشهور (العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر)
حدود المغرب كما جاءت في كتاب (المغرب) لابن خلدون
(إن المغرب قطر واحد متميز الأقطار، فحده من جهة الغرب البحر المحيط، وعليه كثير من مدنه مثل طنجة وسلا وأدفو وأنفى وأسفى، وهي كلها من مساكن البربر وحواضرهم؛ وأما حده من جهة الشمال فالبحر الرومي المتفرع من هذا البحر المحيط يخرج في خليج متضايق ما بين طنجة من بلاد المغرب وطريف من بلاد الأندلس؛ وأما حده من جهة القبلة والجنوب فالرمال المستهيلة الماثلة حجزاً بين بلاد السودان وبلاد البربر، ويعرف عند البادية بالعرق، وهذا العرق سياج على المغرب من جهة الجنوب مبتدئ من البحر المحيط وذاهب في جهة الشرق على سمت واحد إلى أن يعترضه النيل الهابط من الجنوب إلى مصر فهنالك ينقطع؛ وأما حده من جهة الشرق فيختص بطرابلس وما وراءها إلى جهة المغرب مثل أفريقية والزاب والمغرب الأوسط والمغرب الأقصى والسوس الأدنى والأقصى. هذا هو المغرب في العرف لهذا العهد وهو الذي كان في القديم ديار البربر ومواطنهم)
ومن هذا نرى أن ابن خلدون في وصفه للبلاد أدق بكثير من غيره من كتاب العرب؛ وتبدو لنا دقته من وصفه لتفرع بحر الروم من البحر المحيط، وتبدو لنا دقته بوضوح بعد هذا(223/44)
بقليل عندما يتتبع العرق حتى يصل إلى النيل. وسيبدو لنا ابن خلدون أكثر دقة عند كلامه عن شعوب البربر، وقد أردت أن أبدأ بوصف جونستون لهذه الشعوب ثم أتبعه بوصف ابن خلدون؛ وسنرى بعد قراءة الوصفين أن ابن خلدون على تقدم عصره كان أجمل وصفاً وأدق تعبيراً من جونستون. ولا غرو فابن خلدون ابن تلك الفيافي والبلاد. وسنأتي الآن بتقسيم جونستون لجماعات البربر: في أوائل القرن السابع كان الجنس الليبي أو بربر شمال أفريقية الذين كانوا يسكنون كل المنطقة بين الحدود الغربية لمصر (بعد واحة سيوه) شرقاً وساحل مراكش غرباً ينقسمون إلى: -
(1) البربر الشرقيون أو الليبيون (لواتا وهوارة وأوريغا ونفوسة ويسكنون قيرينيقا وطرابلس وتونس وجزءاً من شرق الجزائر
(2) البربر الغربيون أو صنهاجة وكانوا يشغلون سواحل الجزائر وغربيها وكل مراكش حتى يصلوا إلى حدود الصحراء جنوبا
(3) أقتم لوناً وقد انحدروا من وقد يتصلون في الأصل بالغولا الذين سكنوا في القرن السابع أجزاءً كانت تقل أو تكثر من الإقليم الصحراوي جنوب الجزائر وتونس ومراكش ومن زناتة انحدر البربر المزاب الحديثون وقبائل الورجلي وبنو مرين الذين أسسوا أسرة حكمت البربر فيما بعد
وقد دفع كثير من زناتة السود إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط في فترات مختلفة، كما أن كثيرين من البربر الشرقيين أو الليبيين قد دفعوا إلى قلب الصحراء تحت تأثير العرب الفاتحين ومنهم نشأت مزقة الطوارق فيما بعد. وكذلك هاجر كثيرون من البربر الغربيين أو الصنهاجيين في القرن السابع إلى الصحراء جنوباً واستقروا شمال نيجيريا وشمال حدود السنغال فليس هناك من شك أن كلمة (اسم قبيلة من قبائل البربر) قد أخذت من صنهاجة ثم حرّف البرتغاليون زناجا فيما بعد فأصبحت (سنغال)
وفي القرن السابع كذلك كانت هناك علاقات تجارية بين زنوج جنوب وشرق ليبيا ووصلت هذه العلاقات حتى كانم وبحيرة شاد ودارفور وكردفان، فكانت هذه الطرق أكبر مسهل للعرب في فتوحهم المستقبلة للسودان وبلاد المغرب
هذا ملخص تقسيم جونستون لهذه القبائل. ولنر الآن ماذا يقول ابن خلدون في وصفها قال:(223/45)
(هذه الأمم السودان من الآدميين هم آهل الإقليم الثاني وما وراءه إلى آخر الأول، بل وإلى آخر المعمور متصلون ما بين المغرب والمشرق يجاورون بلاد البربر بالمغرب وأفريقية وبلاد اليمن والحجاز بالوسط، والبصرة وما وراءها من بلاد الهند بالمشرق؛ وهم أصناف وشعوب وقبائل أشهرهم بالمشرق والحبشة والنوبة، وأما أهل المغرب فنحن ذاكروهم، وأما نسبهم فإلى حام بن نوح)
(وعد ابن سعيد من قبائلهم وأممهم تسع عشرة أمة فمنهم بالمشرق الزنج على بحر الهند ولهم مدينة منبسة وهم مجوس ويليهم بربرا، والإسلام لهذا العهد فاش فيهم ولهم مدينة مقدشوا على البحر الهندي يعمرها تجار المسلمين، ومن غربيهم وجنوبهم الدمادم وهم حفاة عراة؛ ويليهم الحبشة وهم اعظم أمم السودان وهم مجاورون لليمن على شاطئ البحر الغربي منه؛ ويليهم البجا وهم نصارى ومسلمون ولهم جزيرة مدينة دنقلة غرب النيل وأكثرهم نصارى؛ ويليهم زغاوة وهم مسلمون ومن شعوبهم تاجرة؛ ويليهم كانم وهم خلق عظيم والإسلام غالب عليهم ومدينتهم حيمي ولهم التغلب على بلاد الصحراء إلى فتران؛ ويليهم عن غربيهم كوكو وبعدهم نقارة والتكرور ولمى وغنم وجابي وكوري وانكرار ويتصلون بالبحر المحيط إلى غانة في الغرب)
(ولما فتحت أفريقية المغرب دخل التجار بلاد المغرب منهم فلم يجدوا فيها أعظم من ملك غانة. كانوا مجاورين للبحر المحيط من جانب الغرب وكانوا أعظم أمة ولهم اضخم ملك، وكانت تجاورهم من جانب الشرق أمة أخرى فيما زعم الناقلون تعرف بصوصو. ثم بعدها أمة أخرى تعرف بمالي. ثم بعدها أمة أخرى تعرف بكوكو ويقال لها كاغو. ثم بعدها أمة أخرى تعرف بالتكرور. ثم إن أهل غانة ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم واستفحل أمر الملثمين المجاورين لهم من جانب الشمال مما يلي بلاد البربر واعتزوا على السودان واستباحوا حماهم واقتضوا منهم الأتاوات والجزى، وحملوا كثيراً منهم على الإسلام فدانوا به؛ ثم اضمحل ملك أصحاب غانة وتغلب عليهم أهل صوصو المجاورون لهم من أهل السودان واستعبدوهم وأصاروهم في جملتهم. ثم إن أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك وأستطالوا على الأقاليم فتغلبوا على صوصو وملكوا جميع ما بأيديهم من ملكهم القديم، وملك أهل غانة إلى البحر المحيط من ناحية الغرب وكانوا مسلمين يذكرون(223/46)
أن أول من أسلم منهم ملك اسمه (برمندانة). ثم يذكر ابن خلدون بعد ذلك من تولى الحكم بعد هذا الملك حتى يصل إلى الملك ساكورة (سبكرة) فيقول عنه: (وحج أيام الملك الناصر وقتل عند مرجعه بتاجور وكانت دولته ضخمة اتسع فيها نطاق ملكهم وتغلبوا على الأمم المجاورة لهم وافتتح بلاد كوكو وأصارها في ملكة أهل مالي فاتصل ملكهم من البحر المحيط وغانة بالمغرب إلى بلاد التكرور في المشرق، واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان وارتحل إلى بلادهم التجار من بلاد المغرب وأفريقية. . . الخ)
هذا هو كلام ابن خلدون وقد تعمدت أن أنقله في هذه السطور الكثيرة لأنه قد شرح ما ألم به ابن بطوطة وما أجمله جونستون، فمن كلام ابن خلدون نستطيع أن نفهم بوضوح أي القبائل كانت تسكن في كل تلك الأقاليم، ونستطيع أن نفهم بوضوح أي هذه القبائل كانت تدين بالإسلام وإلى أي حد وصل الإسلام؛ ولكن ابن خلدون عاش في أوائل القرن الرابع عشر كما قلنا وهو إذ يتحدث عن هذه الديار يتحدث عنها كديار إسلامية انتقل إليها الإسلام من مختلف الجهات واستقر بها وأثر في أهلها، ولكننا قد نتساءل بعد هذا: كيف دخل الإسلام إلى تلك الجهات وكيف اقتحم على أولئك الزنوج غاباتهم وإحراجهم وبيوتهم ومدنهم؟ وكيف أثر في الأهلين وفي عاداتهم وأخلاقهم؟ هذا ما سنتناوله الآن بالبحث
(يتبع)
جمال الدين محمد الشيال(223/47)
الهيكل
لشاعر الحب والجمال لامارتين
ترجمة السيد عارف قياسة
(مهداة إلى أستاذنا الزيات اعترافاً بما لترجمته من فضل على
المترجمين)
(عارف)
(ولج الشاعر ذات مساء بيعة قرية، فإذا ضوء خافق ينير ظلمتها، وإذا نفسه الطاهرة تجيش بالخواطر، وإذا قلبه الخاشع يفيض بالشعر، وإذا هو يخرج من البيعة ويمتشق يراعته ويسجل هذه القصيدة في صفحة الخلود):
ما أحيلاه حين يصعد الشفق إلى القبة الزرقاء، وقد سبق محفة الليل الهادئة الوادعة، وحين يتنازع النور والظلام عرش الغبراء. ما أحيلاه إذا ما ضرب في أعماق الوادي، والقلب عامر بالتقوى، زاخر بالورع، مولياً وجهه شطر الهيكل القروي حيث تخلع الطبيعة على أروقته الساذجة ثوباً من الأشنة، وحيث تزال الحجب وتكشف الأغطية، وحيث تتحدث السماء إلى قلوب طفحت بالتقوى
تحية أيتها الغابة المقدسة! تحية يا أيها الحقل الذي رفرف الحمام فوقه، يا حارس أجداث القرية! إني لأبارك أرماسك المتواضعة في غدوي ورواحي. ويح الأولى مشوا على رفات العباد اختيالا! جثوت على ركبتي أمام قبورهم إجلالا وقد رنت أقدامي في صخرة الهيكل. الليل ساج داج، والضوء خافت مرتعش في المحراب، ينبعث من سراج وهاج، تألق قرب (المذابح) المقدسة، سراج يتلألأ حين يبسط الكرى أجنحته على الكون رمز الإحسان الساهر، ماسحِ مدامع البؤساء، وجامع آهات الأشقياء
دلفت إلى الهيكل، فلم يرن أذني غير اهتزاز فِنائه تحت وقع أقدامي الموزونة. أيتها الجدران المباركة! أيتها المذابح المقدسة! إِني لفريد وحيد، وإن نفسي لتود لو سكبت أمامكن آلامها الممضة، وغرامها المضني، وأودعت السماء كلمات خفية، ستدرك كنهها هي وحدها، وستسمعنها أنتن وحدكن(223/48)
ولكن لِمَ أزهف إلى تلك المذابح غير هياب ولا وجل؟ أي ربي العظيم! إني لأجرؤ أن أحمل في هذا الهيكل الخاشع قلباً يرمضه الألم، ويضنيه الغرام. رحماك ربي! إني لأحس بالرعدة تسري في كياني! اغفر ما اجترحت في بيتك من خطايا وآثام. كلا! إن نار الجوى التي تلتهمني لا تصبغ وجهي بحمرة الإثم. الحب طاهر ما أذكت الفضيلة لظاه، نقي نقاوة من أخلصت لها الوداد. إن غرامي ليلذع قلبي ولكن بجذوة مقدسة، فالصبر يشرفه والشقاء ينقيه ويطهره
لقد ذكرته إلى الغبراء، وإلى الطبيعة الحسناء؛ ذكرته أمام مذابحك المقدسة في غير وجل ولا إشفاق، وإني لأجرؤ على ذكره أمام عظمتك أيها الرب القدير! أجل! لقد تمتمت شفاهي بأسم إلفير برغم ما قذفه هيكله من الروع في فؤادي. إن ذلك الاسم الحبيب الذي تعيده الأجداث إلى الأجداث، وتهمس به الأموات في آذان الأموات، ليكدر سكون المقبرة الرهيب كما يكدره شقي زفر آهة معولة
تحية أيتها الرموس المقرورة! تحية أيتها المنازل المقدسة! لقد أعاد صدى الليل سويعاتنا السعيدة واويقاتنا الحبيبة حين أذريت دمعي أمامكن. شاهدت السماء مدامعي المسفوحة فقرت عيني وطابت نفسي
لعل (إلفير) التي تساهر وحيدة صورتي الحبيبة، تدلف في تلك اللحظة إلى معبد داج، مخضلة العينين بالدموع، وتجثو أمام المذابح القفرة تودع آلامها وأشجانها كما أودعت آلامي وأشجاني
حماة (سوريا)
عارف قياسة(223/49)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
245 - مكشوف الرأس
في (شذرات الذهب) لابن العماد الحنبلي: في سنة (456) توفي عبد الواحد بن علي بن برهان العكبري النحوي صاحب التصانيف، قال الخطيب: كان مطلعاً بعلوم كثيرة منها النحو واللغة والنسب وأيام العرب، وله أنس شديد بعلم الحديث. وقال ابن ماكولا: سمع من ابن بطة، وهب بموته علم العربية من بغداد؛ وكان أحد من يعرف النساب ولم أر مثله؛ وكان فقيهاً حنفياً، أخذ الكلام عن أبي الحسين البصري وتقدم فيه. وقال ابن الأثير: له اختيار في الفقه، وكان يمشي في الأسواق مكشوف الرأس
246 - عن ابن الرومي عن النرجس. .
ابن الرومي:
أرى حسن هذا النرجس الغضّ مخبراً ... عن الله أن ليس النبيذ محرما
247 - وكنتم قبله سراً يموت في ضلوع كاتم
مهيار:
ما برحت مظلمة دنياكم ... حتى أضاء كوكب في هاشم
نبلتم بهِ وكنتم قبلة ... سراً يموت في ضلوع كاتم
248 - نوارة لا تحتمل أن تحك بين الأكف
سئل أبو العباس بن البناء، وكان رجلا صالحا، في قوله تعالى: (قالوا إن هذان لساحران) لِمَ لَمْ تعمل إن في هذان؟ فقال: لما لم يؤثر القول في المقول، لم يؤثر العامل في المعمول
فقال له: يا سيدي، هذا لا ينهض جواباً فإنه لا يلزم من بطلان قولهم بطلان عمل إن
فقال له: إن هذا الجواب نوارة لا تحتمل أن تحك بين الأكف
249 - رفه
في (اليتيمة): كان سيف الدولة قلما ينشط لمجلس الأنس لاشتغاله عنه بتدبير الجيوش،(223/50)
وملابسة الخطوب، وممارسة الحروب. فوافت حضرته إحدى المحسنات من قيان بغداد، فتاقت نفس أبي فراس إلى سماعها، ولم ير أن يبدأ باستدعائها قبل سيف الدولة، فكتب إليه يحثه على استحضارها:
محلُّك الجوزاء أو أرفعُ ... وصدرك الدهناء أو أوسع
وقلبك الرحب الذي لم يزل ... للجِدّ والهزل به موضع
رفِّهْ بقرع العود سمعاً غداً ... قرع العوالي جُلّ ما يسمع
فبلغت البيات المهلبي الوزير فأمر القيان بحفظها وتلحينها، وصار لا يشرب إلا عليها
250 - كيف يصبح؟ كيف يمسي؟
عبيد الله بن العباس الربيعي:
يا شادناً رام إذ مرّ ... في السعانين قتلى
تقول لي: كيف أصبحت؟ ... وكيف يصبح مثلي؟!
البديع الهمذاني:
يا سائلي، كيف تمسي؟ ... أخو الهوى كيف يمسي؟!
251 - الصلاة رحمة
في (كتاب أخبار النساء) لابن قيم الجوزية: قال بعضهم: سمعت يحيى بن سفيان يقول: رأيت بمصر جارية بيعت بألف دينار فما رأيت وجهاً أحسن من وجهها صلى الله عليها!
فقلت له: يا أبا زكريا، مثلك يقول هذا مع ورعك وفقهك؟.
فقال: وما تنكر علي من ذلك؟! صلى الله عليها وعلى كل مليح! يا ابن أخي، الصلاة رحمة
252 - يحترس بها من الغيلان
في (الموشح) للمَرْزُباني: قال احمد بن عبيد الله مما أنُكر على أبي العتاهية قوله لما ترفق في نسيبه بعُتبة:
إني أعوذ من التي شعفت ... مني الفؤاد - بآية الكرسي
وآية الكرسي يهرب منها الشياطين، ويُحترس بها من الغيلان - كما روي عن ابن مسعود في ذلك - وأبو العتاهية مع رقة طبعه، وقرب متناوله، وسهولة نظم المنثور عليه،(223/51)
وسرعته إلى ما يعجز المتأني بلوغه - لا يخلو من الخطأ الفاحش والقول السخيف
253 - لأن العناية من ثم
قال أبو بكر بن العربي في رحلته: كان بمدينة السلام إمام من الصوفية يعرف بابن عطاء، فتكلم يوماً على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه. فقام رجل من آخر مجلسه - وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة - فقال: يا شيخ، يا سيدنا، فإذن يوسف همّ وما تمّ
فقال: نعم لأن العناية من ثمّ
فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وفطنة العامي في سؤاله، والعالم في اختصاره واستيفائه
254 - ما زعزعتك
روى أن رجلا مر ببشار وهو مستلق على قفاه في دهليزه كأنه فيل! فقال يا أبا معاذ إنك تقول:
إنّ في بردىّ جسماً ناحلاً ... لو توكأت عليه لانهدمْ
وإنك لو أرسل الله الريح التي أهلكت عاداً ما زعزعتك
255 - فإنها قد مثلت في الضمير
ضرير:
وغادة قالت لأترابها: ... يا قوم، ما أعجب هذا الضرير!
أيعشق الإنسان ما لا يرى؟ ... فقلت - والدمع بعيني غزير -:
إن لم تكن عيني رأت شخصها ... فإنها قد مثلت في الضمير
256 - لو رآه ابن ليون لاختصره
كان ابن ليون التجيبي - وهو من شيوخ لسان الدين بن الخطيب - مولعاً باختصار الكتب، وتآليفه تزيد على المائة
ومما حكى عن بعض كبراء المغرب أنه رأى رجلاً طوَّالا فقال لمن حضر: (لو رآه ابن ليون لاختصره) إشارة إلى كثرة اختصاره للكتب
257 - فلا يزال عليه أوبه طرب(223/52)
مما يستحسن في وصف العود قول ابن القاضي:
جاءت بعود تُناغيه ويسعدها ... فانظر بدائع ما خصت به الشجر
غنت على عودها الأطيار مفصحة ... غضاً فلما ذوى غنى به البشر
فلا يزال عليه أو به طربٌ ... يَهيجه الأعجمان: الطير والوتر
258 - وتشبهوا أن لم تكونوا مثلهم
في رسالة (أخلاق الكتاب) للجاحظ: حدثني عمر بن سيف أنه حضر مجلس أبي عباد ثابت بن يحيى يوماً في منزله وعنده جماعة من الكتاب فذكر ما هم عليه من ملائم الأخلاق، ووصف تقاطعهم عند الاحتياج، وعدم تعاطفهم عند الاختلال فقال:
معاشر الكتاب، لا أعلم أهل صناعة أملأ لقلوب العامة منكم، ولا النعم على قوم أظهر منها عليكم. ثم إنكم في غاية التقاطع عند الاحتياج، وفي ذروة الزهد في التعاطف عند الاختلال. وانه ليبلغني أن رجلاً من القصابين يكون في سوقه، فيتلف ما في يديه، فيخلي له القصابون سوقهم يومه ويجعلون له أرباحهم فيكون بربحها منفرداً، والبيع منفرداً، فيسدون بذلك خلته، ويجبرون منه كسره(223/53)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
المسافر
وكان قد انتصف الليل عند ما توجه زارا إلى أكمة الجزيرة وهو يجد في السير ليبلغ الشاطئ الآخر عند بزوغ الفجر إذ كان يقصد الإبحار من هذه الجهة حيث ترسو بعض المراكب لتقل طلاب المهاجرة من الجزر السعيدة
وتذكر زارا الرحلات التي قام بها منفرداً منذ صباه فمرت بمخيلته رسوم الجبال والتلال والذرى التي تسلقها في حياته فقال: (ما أنا إلا رحالة ومتسلق مرتفعات وما تستهويني منبسطات الأرض ولا يستقر بي مقام. ومهما قُدّر عليّ ومهما وقع لي فلا تعدو الحوادث أن تكون في نظري رحلة واعتلاء. فما لي أن أرى من الآفاق إلا ما انطبع منها في نفسي. ولقد مضى الزمن الذي كان لي فيه أن أتوقع الحوادث من خطرات الحظ. وهل لي أن أنال من الدهر شيئاً لم يستقر في نفسي من قبل؟
إن كل ما يطرأ عليَّ بعد الآن إنما هو ذاتي العائدة تكراراً بعد انفراطها وتمازجها في الأشياء وتصاريف الزمان. غير أنني أصبحت الآن على مدرج آخر الذرى أمام أصعب مسلك ما اقتحمت مثله في حياتي، فأنا أبدأ الآن أشد رحلاتي عناء وأرعها وحشة
وأنىّ لمثلي أن يتجنب مثل هذه الساعة التي تهتف قائلة: إنك على مبدأ طريق المجد حيث تتداخل الذرى في المهاوي. أنت تسير على هذه الطريق وكنت تراها قبلاً آخر ما تقتحم من أخطار فأصبحت لديك آخر ملجأ تهرع إليه
إنك تسير على طريق المجد فعليك أن تتذرع بالحزم الأوفى لتقطع بنفسك خط الرجوع على نفسك
إنك تسير على طريق المجد، فأنت منفرد عليها لا يزحمك أحد من ورائك، وقد محت أقدامك آثار خطاك على ما وراءك من المسالك، ولاحت كلمة المستحيل بعينيك على آفاق هذه الطريق(223/54)
ولابد لك إذا ما خلت المدارج تحت أقدامك أن تتسلق قمة رأسك إذ لا سبيل لك للاعتلاء إلا إذا اتجهت إليه وغلى ما وراءه وأنت تدوس على قلبك، وهكذا سيشفيك ما كان يحلو لديك
إن من أفرط في ادخار جهوده لا يلبث حتى يُبتلى بالخمول، تبارك كل جهد يشد العزم، فلا خير في أرض تدر اللبن والعسل؛ ومن يطمح إلى الإحاطة بأمور كثيرة فليتدرب على إرسال أبصاره إلى ما وراء حدود ذاته. وعلى كل متسلق للذرى أن يتعزز بمثل هذا الحزم إذ لا يسع من يتحرى الأمور متجسساً بفضوله إلا الوقوف عند أسهل الأفكار مثالا. وأنت يا زارا تطمح إلى الإحاطة بالعلل وإلى نفوذ خفايا الأمور، فعليك أن تحلق فوق ذاتك فتجتازها متعالياً حتى ترى ما فيك من كواكب متصاغرة في كل أفق دون أفقك الرفيع
أجل إن ذروتي إنما هي حيث أقف ناظراً إلى الأعماق فأرى فيها ذاتي وكواكبها، تلك هي آخر هضبة اطمح إلى بلوغ قمتها)
بهذا كان يناجي زارا نفسه وهو يصعد المرتفع معللا بالتعاليم الصارمة ما في قلبه من جراح
وعندما بلغ الذروة انبسط البحر أمام ناظريه فوقف مبهوتاً واستغرق في صمت طويل، وكانت السماء لا تزال تتألق بالنجوم والهواء يهب بارداً على الأكمة
وهتف زارا حزيناً: (لقد تبينت ما قُدّر عليَّ، وهاأنذا مستعد للأقدام فهذه آخر عزلة أقتحمها
سأنحدر إليك أيها البحر المظلم المنبسط عند أقدامي، أنت الليالي المفعمة بالأحزان، أنت القضاء والقدر أيها الخضم البعيد
إنني أقصد أرفع جبالي مقتحما أبعد أسفاري فعلي إذاً أن أهبط إلى مهاوٍ أبعد في أغوارها من كل ذروة رقيتها حتى الآن
عليَّ أن أذهب من الأسى إلى أغوار ما رسبت في مثلها من قبل فاصل إلى قرارة ما في الأحزان من ظلمات. ذلك ما قدّر عليَّ فأنا على أهبة لاقتحامه
لقد تساءلت فيما مضى عن منشأ الجبال فعرفت أخيراً أنها نهدت من البحار كما تشهد صخورها وجروف ذرواتها، فما يبلغ الأعلى مقامه إلا لانطلاقه من المقام الأدنى)
هكذا تكلم زارا وهو ماثل على قمة الجبل تدور به لفحات الصقيع، ولكنه ما بلغ الشاطئ ووقف بين نتوءات صخوره حتى حل عليه التعب وتزايدت أشواقه فقال:(223/55)
(إن البحر هاجع أيضاً فعينه الوسنى تحدجني بلفتات غريبة وأنفاس الحرى تهب عليَّ. إنه مستغرق في أحلامه يتقلب مضطرباً على جافيات مسانده. إنني أستمع لهديره كأنه يئن بتذكارات مفجعات، وقد يكون هذا الهدير نذيراً بالشؤم آتي الزمان
إنني أشاطرك الأسى أيها المدى المظلم الوسيع، فأنا بسببك ناقم على نفسي أتمنى لو طالت يدي فأنقذك من أصفاد أحلامك)
وانتبه زارا فإذا هو يضحك ساخراً من ذاته فتمرمر وتساءل عما كان سيبلغ به حماسه إلى إطلاق إنشاده لتعزية البحار، وعما إذا كان سيستمر مضعضعاً في سكرة غرامه واستسلامه فقال: (لقد عرفتك في كل زمان يا زارا تقتحم الأمور الخطيرة بلا كلفة وبلا مبالاة، وقد رأيتك طوال حياتك تدغدغ الوحوش المفترسة فكان يكفيك منها أن تهتاج حبك بأنفاسها الحرى وبنعومة مخالبها لتجتذبك إليها
ليس من خطر اعظم من الحب يحدق بالمستغرق في عزلته فإن المنفرد يحب كل شيء يتنسم فيه الحياة؛ وما اعجب جنوني بالحب وتساهلي فيه)
هكذا تكلم زارا وقد عاد إلى الهزء بنفسه؛ غير انه تذكر من هجر من خلانه إليه أنه يسيء إليهم بتفكيره فيهم، فنقم على نفسه وانقلب من ضحكة إلى البكاء فسالت دموعه مريرة يتمازج فيها الغضب والشوق
فليكس فارس(223/56)
العلويين والتقمص
في أوقات مختلفة، لكتاب مختلفين، نشرت (الرسالة) مجلة الأدب الراقي والفن الرائع، بعض الآراء عن بعض المعتقدات والمذاهب المتفرعة عن الإسلام
بحثها الأستاذ عنان على سبيل التاريخ، وغيره على ضوء المعلومات الحديثة والاختبارات الشخصية
وقد أجمع الكتاب والناس على أن الدروز يؤمنون بالتقمص؛ وقد كان إجماعهم في هذه المرة صادقا لا يلوثه شك. أما أنا فأقول إن العلويين (النصيرية) يؤمنون بالتقمص كإخوانهم الدروز. ولست أطلع بهذا النبأ طلوع من يجهل. فلقد تحريت هذا الاعتقاد بنفسي بين إخواننا فألفيته موجوداً مستساغاً لا شك فيه ولا غبار عليه. وللعلويين في اعتقادهم هذا حكايات جميلة، ونكت حلوة لا بأس إذا نقلنا (للرسالة) شيئاً منها
قال لي أحدهم: ألا تعتقد يا أخي بالتقمص وقد أوجسنا من دلائله ما حملنا على الإيمان به أشد الإيمان وأقواه؟ قلت: ما هذه الدلائل؟ قال: اسمع، ولدٌ في قرية (كذا) يقصد امرأة مات زوجها عنها ويدعى أنه تحول إليه، يذكرها بعهود الصبا، وبأيام قضاها وإياها، ويحدثها بأسرارهما الزوجية السالفة، فتدهش لهذا وتعجب وتهبه من مالها الكثير وتؤمن أنه رجلها الراحل. قلت: هذا لا يكفيني. قال: إن كان لا بد فدونك:
لا شك أنك تعرف في القرية الأجير (فلاناً) وقد تدرك احترام معلمه له، وقد ترى حب أم معلمه له الحب الجم، وحياءها منه الحياء الكثير، ولا بد أنك لحظت في كفه آثار طلق ناري يظهر لك عتيقاً. قلت: وما تعني بهذا؟ قال:
أما الأجير فإنه أب للمعلم، وزوج لأمة، وهو يعاتبها لتزوجها بعد وفاته، إنه أكد أبوته العتيقة بآثار الطلق وبحوادث وأعمال صدقها بعض قدماء القرية، وقد جرت بينهم وبين الراحل أمثالها، ولو علمت أنه أتى عالم النور يوم مات أبو معلمه لصدقت بعض الشيء مما أقول
ذاك ما روى الرجل أثبته للتأكد من إيمانه بهذا المذهب، وهذا ما حدث لي معه. وقد روى بعضهم أن اعتناق التقمص إنما يثير عدم مبالاة بالحياة، وقد رأينا من العلويين الشيوخ شيئاً من هذا، وقد رأينا من بعضهم شجاعة ربما كان من جملة بواعثها - غير طبيعتهم الجبلية في سوريا - اعتقادهم بمذهب التقمص.(223/57)
حماة (سوريا)
محسن شيشكلي(223/58)
رسالة الشعر
الشعر
للأستاذ فخري أبو السعود
ألا يا صدى النفس قد بات حاكياً ... تترجم عنها شجوها والأمانيا
تبوح بذكراها وتحكي شعورها ... وتروي رُؤَاها صادقاً والمعانيا
وتكشف من أسرارها كل مبهم ... خبيراً بأغوار السريرة داريا
لأنَت نديم النفس في صَبَوَاتها ... وإِنْ عَنَّ خطب كنت أنت المواسيا
لها منك في الأشجان يا شعرُ مَفْزَعٌ ... تُدافِعُ عنها اليأسَ بالبِشْرِ ماحيا
وأنت قرين البأس والمجد والعلى ... وكم تلهِم العليا وتوِحي التساميا
وما أنت ألفاظٌ تُصاغ لباقةً ... ولكنْ شعورُ النفس قد فاض طاميا
مَعِينٌ بنفْس المرء يجري ترقرُقاً ... إذا حَسِبتَه غِيضَ جَرْجَرَ داويا
أهَاب به من حادث الدهر نازلٌ ... فأقْبلَ دفَّاقاً يلبّي المناديا
وما كنتُ يوماً نَاظمَ الشعرِ إنما ... غدوتُ له في صفحة الكون تاليا
أقلّب من ديوان ذا الكون صفحةً ... تلي صفحةً أتلوه للناس راويا
صحائفُ ما تَبْلَى على الدهر جِدَّةً ... وكم بات تَالوها عظاماً بواليا
صحائف حُسْنٍ قد عبدتُ صفاتهِ ... وصورتُ منه في القصيد مَجَاليا
وأودعته آمالَ أَمسِ وَهَمَّه ... وأيام حسْنٍ قد مضت ولياليا
إذا رُحتُ أَتلوها ما خططتُ رأيتُني ... كأَنِّيَ أحيا ذلك العهد ثانيا
وما العيش إلا أنْ تَرَى فتنة الورى ... وتودِعها من بعد ذاك القوافيا
فلا عشتُ إلا ناظراً متملّياً ... أُهذِّبُ شعراً يَعرِضُ الكونَ حاليا
يصوّر حسنَ الأفْق بالشمس سافراً ... ويرسم سحر البدر يغْشَى الدياجيا
وأَقدامَ طودٍ حفَّها الموجُ غاسلاً ... وهاماتِ هضبٍ لَفَّها الغيم كاسيا
ويحكي ائتلاف النور والظل والشذا ... ويحكي خُفَوقَ الغصن بالغيث ناديا
ويحكي خرير النهر يجري مُسَلْسَلاً ... وألحان طير بات في الغصن شاديا
أميرُ الفُنُونِ الشعرُ جَمَّع شملها ... وأَترعَ منهنَّ النفوس الصواديا(223/59)
رَوَى كلَّ عينٍ ناقشاً ومصوراً ... وكلَّ سَمَاع شادياً ومناجيا
وفيه مجالٌ للخيال وملعب ... بهِ الفكرُ يُدني كلَّ ما كان نائيا
ويمضي مع الأحلام في كل مذهب ... وترْمِي به شتى الطيوف المراميا
ويخلُق منها عالَماً بعد عالَم ... مليئاً بأسباب المسرات حاليا
ويدفعه حبُّ البعيدِ فينثني ... مع الريح يمضي أوْ إلى النجم راقيا
ويَصْدَع أَنيارَ الثرى وقيودَه ... ويمْرَحُ في طلْق السمواتِ ساريا
ويمعن في ماضي الزمان مُجَوِّلاً ... ويسبُر محجوباً من الغيب آتيا
ويجمع أطراف الحياة وتلتقي ... على وِرْدِهِ الأجيالُ شتى تواليا
فخري أبو السعود(223/60)
من الشعر الرمزي
تعالي. . .!
للأديب محمود السيد شعبان
تعالَيْ نشرب الكأس الَّ (م) ... تِي عتَّقها الرَّبُّ. . .!
وأحْلاها لِكَيْ يصبو ... إِليها الثَّغرُ والقلْبُ
كُؤُوس لَمْ تحرِّمْها ... دِيانات ولا رُسْلُ!
إذَا طاشَ الحِجا يوماً ... ففيها اللُّبُّ والعقْلُ!!
وفيها السِّحْرُ والإِلها ... مُ والنَّشْوَةُ والحُبُّ!
تعالَيْ!. . . مالنا نشقَى ... وفي إمكانِنا الوَصْلُ؟
خَيالٌ أنتِ في فكرِي ... أُحيِّي فيهِ أحلاِمي. .
تعالَيْ! لا يُرَوِّعْكِ الْ ... أَسَى يا بِنْتَ أوْهامي!
عشقتُ السِّحْرَ والأحلا ... مَ والدنيا التي فيكِ!!
وما زال الهوَى بالشِّع ... رِ والألحان يَبْنيكِ!
تعالَيْ! إنَّنِي صَدْيَا ... نُ في بَيْدَاءِ ايَّامي
وثغرِي ظامئٌ يا ليْ ... تَني أرْوِيهِ مِنْ فِيكِ!!
تعالَيْ أدفئِي صدرِي ... وما يحوِي بأنفاسِكْ!
تعالَيْ زاوِجِي ما بيْ ... نَ إحسَاسي وإحسَاسِكْ
تعالَيْ يا ابْنَةَ الآما ... ل نقْضِ العمرَ لاهِينَا!!
وهيَّا ننْفُضِ الأشجا ... ن يوماً مِن أيادينا
وَصُبِّي النورَ في كأسِي ... وصُبِّي الوَجْدَ في كاسِكْ!
وَبُثِّي رائعَ الأحْلا ... مِ حِيناً في أمَانِينَا. . .
تعالَيْ! رافقِي ذَاتِي ... تعالَيْ! غازِلِي حِسِّي. . .!
تعالَيْ! أَسْقِكِ الأسْرا ... رَ مِن دَنِّى ومِن كأسِي!
فما في الوَحْدَةِ الخرْسَا ... ءِ ما تهْوَاهُ ألحانِي
وهذا الصَّمْتُ لا يرضا ... هُ لي حُبِّي وتحْنانِي(223/61)
أريدُك كَيْ أجاهدَ فِي ... كِ عن طوْعي هوى نَفْسي!
فما لَكِ لا تُلبِّينِي ... إذَا ما الطُّهْرُ لبَّانِي؟!
تعالَيْ! بَدِّدِي شجْوِي ... تعالَيْ! جدَّدِي قلبي
فما يهنْيكِ أَنْ أحيا ... على الدنيا بِلا حُبِّ!
وأَنْ تبقَى معي نفْسي ... بِلا إلْفٍ يُوافيها!
وتحيا ما ترى في النا ... سِ إنساناً يواسِيها!
دعينِي بالهوَى أشدو ... إلى أَنْ يَنْقَضي نَحْبي. . .
لأمضِي غيرَ محزُونٍ ... على الدنيا وما فيها!!
أرادَ الحسْنُ يا قلبي ... لنا أَنْ نعشَقَ الدنيَا!
وشاء اللهُ إِذ أوْحَى ... إلينا الشوقَ أَنْ نحيا!!
أخذْنَا الحبَّ والنجوَى ... عن الأطيار تَلقِينَا. . .
وتامَتْنَا رُؤَى الدنيا ... فكاد القبحُ يُصْبِينَا!!
فؤادِي! قد طوَى هذا الْ ... هوى عنَّا الأسَى طَيَّا
فأَنشدْ رُوحِيَ السَّكْرى ... نشيداً للمُحِبَّينَا!!(223/62)
الفن الهندي
للدكتور أحمد موسى
العمارة
- 2 -
قلنا إن من أهم النماذج الفذة للعمارة الهندية مجموعة معابد إيللورا الصخري، لأنها شاملة لكلا الطرازين البوذي والبراهمي ومبنية على سفح الجبل الجرانيتي؛ فضلاً عن كونها جميلة التكوين رائعة النقوش والزخارف. واهم هذه المجموعة مما يمكننا تناوله بشيء من التنويه هنا معبد كايلاسا الذي نحت في الصخر ثم فصل منه فأصبح كأنه قائم بذاته، ويبلغ ارتفاعه ثلاثين مترا، وصحنه مقسم إلى خمسة أجنحة فصلت عن بعضها بقوائم، وحوائطه الخارجية مليئة بالمنحوتات التمثيلية بلغت كلها غاية الدقة؛ وعلى المدخل يوجد فيلان كبيران على اليمين واليسار؛ وهذا يذكرنا مع الفارق بما كنا نراه على مدخل المعابد المصرية كالمسلتين اللتين اعتاد المصريون إقامتهما عند مداخل معظم معابدهم
وأعقب ذلك الفن البنائي الهندي اتجاهاً جديداً في مرحلة أسماها مؤرخو الفن المرحلة البراهمية الحديثة، وأهم معابدها التي ساروا في تشييدها على نمط الطراز البوذي، لا من النحت في الصخر فقط، بل أيضاً من حيث الوضع التكويني والإنشائي بالذات، فضلاً عن تشييدهم المعابد قائمة بنفسها. أما من حيث الطراز الفني فقد اختلف الإجراء والاتجاه في شمال الهند عنه في جنوبها، وهذا مقبول بالنظر إلى بعد الشقة بين الشمال والجنوب وكانت صفة معابد الشمال أنها أقيمت مكعبة الشكل في مجموعها التكويني، قد توسطها صحن مربع أو ما يقرب من هذا الشكل، وتعلوه قبة مربعة الجوانب السفلى الملاصقة للحوائط ومنتهية في آخرها بالتقاء الخطوط الزّاويّة، فكانت بذلك أشبه بهرم مقوس الأضلاع
وقبل الوصول إلى الصحن وبالقرب من المدخل عملت ردهة تؤدي إليه على نفس الطراز. أما المظهر الخارجي العام للمعبد فكان كثير التعاريج والأضلاع المتشعبة وواجهاته مغطاة بالتماثيل وكلها من الحجر الرملي. ويوجد كثير من طراز هذه المعابد في(223/63)
مقاطعة أوريسا في الشمال الشرقي
وقد توسعوا في التصميم الكلي للمعبد بإضافة مبان ملحقة به، لها قباب ينطبق عليها الوصف السابق؛ وأقيمت المعابد على هذا النحو في مقاطعة راجا أو راجبوتانا
وخير الأمثلة التي يمكنني أن أسوقها مما يستحق الإعجاب كثيراً معابد كاجوراو وتبلغ الأربعين عدّاً معظمها راجع إلى القرن العاشر بعد المسيح، وهي تعتبر بحق المثل الفنية للعمارة الهندية إجمالا، وتبلغ مساحة المعبد الواحد مساحة كتدرائية مسيحية، ولم يتركوا أي معبد دون شحنه بالزخارف والمنحوتات على واجهاته وبداخله
وتعتبر مجموعة معابد دجانيا (طريقة دينية معينة) من الدرجة الأولى في الفن الهندي. منها معبدان قائمان على قمة جبل أبو (ش3) يرجع تاريخهما إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر وهما مبنيان من الرخام الناصع، ويحيط بالصحن ستون حقلا حملت سقفها على أعمدة عديدة رائعة
أما المعابد الجنوبية فأبرزها دون نزاع أسموها الباجودا وهي عبارة عن مجموعة مبان متجاورة أحيطت بأربعة حوائط من جهاتها الأربع، وفي واحدة منها وجد المدخل (جوبورا) بتكوين ذي طراز نموذجي للفن الهندي أسفله بناء مربع وأعلاه سقف على هيئة هرم مدرج ناقص، أي أن قاعدته العليا مسطحة وقد بلغت درجاته الخمس عشرة. وفي داخل البناء ردهات وصالات ذات أعمدة خصص بعضها للحجاج (تشولتري)، ولميختلف المكان المقدس (فيمينا) في شكله الكلي عن النمط الذي ساروا عليه في إنشاء المدخل إلا أنه مربع الأرضية
وعلى ذلك تميزت المعابد الجنوبية عن الشمالية بهرمها المدرج وصالاتها وردهاتها ذات العمدة ومبانيها التي عملت من الآجر.
ولعلنا نسجل هنا أهم ما أقيم في المرحلة الزمنية المنحصرة بين القرن العاشر والقرن السابع عشر من روائع هذا الطراز، فباجودا تانجورا بمدخلها البالغ طوله 61 متراً وباجورا سرينينجام وطول واجهتها كيلو متر تقريباً، وباجودا شيللا بروم ومادورا كل هذه تجل عن الوصف، ولا تدع مجلا للشك بأن الفن الهندي - وإن كان الدرس المفصل به عسيراً بالنظر إلى الأطراف النائية لهذه البلاد - من أهم الفنون الشرقية التي يجب علينا(223/64)
العناية بها والفات النظر إلى ما فيها من جمال وروعة
احمد موسى(223/65)
البريد الأدبي
ترجمة جديدة لجان جاك روسو
كتبت حياة جان جاك روسو فيلسوف النفس والطبيعة مراراً وتكراراً؛ وحتى لم تحرم العربية من ترجمة لروسو وتحليل لنظرياته وكتبه بقلم الدكتور هيكل بك، ولكن الباحث في حياة روسو يجد فيها دائما من الجديد والطريف ما يشجع على استعراضها وتصويرها. وقد صدر أخيراً بالألمانية كتاب جديد عن حياة روسو عنوانه (الأحلام والدموع) ? بقلم الكاتب النمسوي هانز يوليوس فيلي تناول فيه حياة المفكر من ناحية جديدة هي ناحية العاطفة والمشاعر؛ وربما كانت هذه الناحية من حياة روسو هي أخصب وأدق ناحية في شخصية ذلك الذي أراد أن يصوغ الحياة طبقا للعاطفة والمشاعر الإنسانية. والواقع أنك إذا حاولت أن تحكم على شخصية روسو من أعماله وحوادث حياته فقط، فان مثل هذا الحكم لا يمكن أن يتفق مع خلال هذه العبقرية العظيمة، بل يتنافى مع كل ما فيها من الاضطرام والسمو؛ وإذا كان روسو هو ذلك الروح المضطرم الذي يرتفع بالفكرة الإنسانية إلى أسمى مواطنها، وإذا كان هو مؤسس المذهب (الرومانتيكي) وإذا كان قد نفذ بتأثيره الساحر إلى عبقريات مثل جيته وشلر، فإن في جوانب حياته الخاصة ما يلقي حجابا على عبقريته وسمو خلاله، فهو، وهو الذهن الحر، يأبى مدى ثلاثة وعشرين عاماً أن يسبغ على شريكة حياته وأخلص النساء إليه - تيريز ليفاسير - شرف الزوجية، ويقول لنا إنه تزوجها رغبة ودون إرادة؛ وهو المؤسس لمذهب جديد من التربية، يرغم زوجته على أن تبعث بأولادها الخمسة إلى ملجأ اللقطاء؛ وهو رجل النفس والعاطفة يطأ بقدميه أقدس وأعمق عواطف زوجه، وهو في جميع أعماله وتصرفاته ينم عن أثرة عميقة لا تتفق مع النظريات الإنسانية والأخلاقية السامية التي يبشر بها في كتبه؛ على أن مواطن الضعف الشخصي والشهوات الشخصية لا يمكن أن تكون مقياساً للحكم على عبقرية ما من نواحيها العامة، وقد كان روسو عبقرية لا شك في عظمتها، فيجب أن يحكم عليه من هذه الناحية العامة ليس غير
هذه الصور كلها يقدمها إلينا يوليوس فيلي بقوة وإفاضة، ويقف بنا طويلا عند حياة تيريز وشخصيتها الساذجة، إلى جانب حياة المفكر الأثرية، وهو يرى في تيريز شخصية إنسانية(223/66)
تحمل على الاحترام والعطف، ويرى أنها كانت مثالاً للتضحية، وهو على العموم يصور لنا روسو رجل النفس والعاطفة قبل كل شيء
على مثال نوبل
رفع ألفرد نوبل المثري العظيم، بهبته الطائلة التي رصدت جوائز لأقطاب التفكير والسلام في أنحاء العالم، اسم أمته - السويد - إلى السماكين؛ وفي كل عام توزع جوائز نوبل العظيمة إلى مستحقيها بين آيات التقدير والإعجاب للمحسن العظيم. واليوم يتقدم مثر سويدي آخر هو المالي الكبير اكسل فنرجرين، ويوقف من ثروته الطائلة مبلغ ثلاثين مليوناً من الكرونات على الأعمال والمباحث العلمية، والجهود العقلية التي تفيد الإنسانية كلها بوجه عام. وقد نظمت هذه الهبة العلمية على مثل هبة كارينجي المشهورة، وسيبدأ تنفيذ ما فيها في حياة الواهب على يد مجلس مؤلف من الواهب وزوجته وخمسة آخرين من بين رجالات السويد المشهورين. وقد استطاع المحسن الجديد أن يحرز ثروته الطائلة كسلفه العظيم نوبل من بعض المخترعات الصناعية. وهو يعنى عناية خاصة بالمشاريع العلمية والفكرية؛ وقد اشترى أخيراً الجريدة السويدية المشهورة (نيا دا جلجت الهاندا)، ووقفها للدعوة إلى التفكير المستقل وإلى معاونة الحركة الفكرية وتشجيعها
وهكذا تنافس السويد أمريكا في رصد الهبات العلمية، وتحرز من هذه الناحية ظفراً بعد ظفر؛ وسيكون لهبة فنرجرين من الأثر المعنوي العظيم ما لهبة سلفه نوبل؛ وستكون دعامة جديدة في صرح التقدم العلمي والإنساني
إحياء النحو لإبراهيم مصطفى
جاء في مجلة الآداب الشرقية التي تصدر بالألمانية عن هذا الكتاب بقلم طاهر خميري ما يأتي: -
الكتاب يقتصر على معالجة إعراب الاسم في العربية جاعلاً هدفه إبدال القواعد الكثيرة المبنية على نظرية العامل بأخرى أقل منها عدداً وتقوم على أساس من طبيعة اللغة (ص 195)
والمؤلف إذ أغضينا عن استثناء واحد (ص 43) يستعين بمصادر عربية فقط(223/67)
وأساس الفكرة أن الضمة علم المسند إليه والكسرة علم الإضافة بينما الفتحة لا تدل عل شيء بل الحركة الخفيفة التي تهرع إليها اللغة مادام الأمر لا يدور حول إسناد أو إضافة (ص 50). أما تفاصيل هذه النظرية فيناقشها المؤلف في صورة واضحة ملزمة وإن لم تكن كل أجزائها في نسق واحد من الإقناع
فالمؤلف مثلا - على حق كل الحق إذ يتخذ من إغفال علامة النصب في كل من جمعي المذكر والمؤنث السالمين (ص 111) مؤيداً لنظريته السالفة وإن كان الطريق مفتوحاً أمام احتمالات أخرى؛ ولكن ليس كذلك حكمه بأن اسم إن كان ينبغي له حقاً أن يرفع لولا أن النحاة ضلوا في هذه النقطة (ص 64)، هذا الحكم الذي يبنيه على مستثنيات قليلة يحوم حولها الريب وعلى نظائر لا صلة لها بما نحن فيه
كذلك كان المنتظر أن كل بحث حول علامة النصب يتخذ له من المفعول به نقطة ارتكاز ولكن مما يلفت النظر أن المؤلف أعرض عن ذلك إعراضاً تاماً
ومما يدعو إلى السرور أن باب الاجتهاد في النحو العربي قد فتح أخيراً على يد مؤلف عكف على موضوعه سبع سنين صدق فيها الاعتكاف (أنظر المقدمة) يحدوه الأمل في أن يشيد بناء النحو العربي من جديد، ولهذا لا يسعنا إلا أن نتجه إليه شاكرين
هذا ولما كان المؤلف يعتزم إخراج جزء آخر في الفعل وقد أكد هذا العزم فصرح بأن عنده مبادئه وتخطيطاته كاملة، كان لنا ألا نسد الطريق أمام كلمة أخيرة
وإنه من الضروري الذي لا مفر منه في عمل من هذا القبيل ألا يغفل عن متابعة الخطوات الأخيرة في مباحث علم اللغة العام فان هذا - مثلا - كان حرياً بلا شك أن يحفظ من زلل كثيرة في استنباط نتائج قد يؤدي إليها كون تغير المعنى بمساعدة الحركات من خصائص اللغة العربية (ص 45) اهـ
عقد مؤتمر عالمي في القاهرة للبحث في مسائل الشريعة
الإسلامية
كانت الجامعة الأزهرية قد اشتركت في مؤتمر تاريخ الأديان الذي عقد أخيراً في مدينة لاهاي، وقد رفع المندوبون الأزهريون إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر(223/68)
تقريراً ضافياً ضمنوه المناقشات والقرارات التي اتخذها المؤتمرون فيما يتعلق بالبحوث الإسلامية التي تقدمت إلى المؤتمر
وقد عني فضيلة الأستاذ الأكبر بدراسة هذا التقرير، واجتمع مراراً بحضرات المندوبين الأزهريين وكان معهم الأستاذ عبد الرزاق السنهوري بك عميد كلية الحقوق ومندوب الجامعة المصرية في هذا المؤتمر. وعلى أثر هذه الاجتماعات اتصل فضيلة الأستاذ الأكبر بالدوائر الرسمية المختصة وتحدث معها فيما كسبت من النتائج العملية في هذا المؤتمر وما أفادته الجامعتان المصرية والأزهرية من الاشتراك فيه.
وقد علمنا أن الآراء انتهت إلى أن في الشريعة الإسلامية من مسائل التشريع الجنائي والمدني والتجاري ما يصح أن يؤلف قواعد ذات صبغة قانونية يمكن الأخذ بها في مختلف التشريعات الحديثة كالوقف والوصية والميراث وشروط البيع والشراء والإيجار إلى غير ذلك من مختلف المسائل الشرعية ذات الصفة العامة
ثم رؤي أن كثيراً من التشريعات الحديثة اقتبست أحكام بعض هذه المسائل وجعلتها جزءاً من القانون العام، وان من الإنصاف أن نسمع آراء علماء القانون في هذه المسائل حتى يمكن تمحيصها وتكون ملائمة لروح هذا العصر
لذلك استقرت الآراء على عقد مؤتمر عام في مدينة القاهرة يدعى إليه مندوبو الجامعات والهيئات العلمية في العالم لتعرض عليه هذه المسائل للبحث فيها ولتقرير صلاحيتها لتكون أساساً ومصدراً في التشريع الحديث
وقد تقرر أن تقوم مشيخة الأزهر بالاشتراك مع الجامعة المصرية بالدعوة إلى هذا المؤتمر، وجرت بحوث في كيفية تأليف اللجنة التحضيرية التي تبحث هذا الموضوع وتحدد الموضوعات الإسلامية التي تعرض على المؤتمر وتعين الزمان والمكان لانعقاده. وقد انتهت هذه البحوث إلى أن تؤلف هذه اللجنة من بعض علماء الأزهر وبعض رجال القضاء الشرعي ورجال القانون وستنظم هذه لدعوة جميع البلدان الإسلامية
تعديل التقويم الغريغوري
طلبت سكرتيرية لجنة المواصلات في عصبة الأمم إلى الحكومة المصرية موافاتها برأيها فيما يتعلق بالتقويم الغريغوري واقتراح تعديله(223/69)
وقد رأت وزارة المعارف أن تساهم في هذا الأمر مساهمة جدية فأحيل الموضوع إلى أحد كبار موظفيها المبرزين في المسائل التاريخية لبحثه ووضع تقرير عنه
ونذكر في هذا المقام أن في أوربا وأمريكا هيئتين علميتين تسعيان لتعديل التقويم الجريجوري وتبذلان الجهد لدى لجنة المواصلات والمرور بالعصبة لتحقيق أغراضهما وغايتاهما. وقد رأت هذه اللجنة أن الموضوع خطير لاتصاله بحياة الشعوب والأفراد جميعاً، فوجهت الدعوة إلى الأمم الممثلة في العصبة وغير الممثلة، فتألفت من مختلف الممالك والأقطار هيئات محلية ولجان أهلية لدراسة هذا الموضوع واقتراح الوسائل التي يمكن أن ينفذ بمقتضاها؛ حتى إذا ما استجمعت اللجنة الآراء والمقترحات في أنحاء العالم، تقدمت إلى العصبة لدراسة الموضوع جملة في اجتماعها
وقد لخصت لجنة المواصلات الفكرتين الأوليين اللتين تشير بهما هاتان الهيأتان العلميتان في أوربا وأمريكا
فالاقتراح الأول يرمي إلى جعل عدد شهور السنة 12 شهراً ويوماً واحداً في السنين البسيطة ويومين في السنين الكبيسة. وأن يسمى اليوم الأول (يوم السنة) ويكون عقب شهر ديسمبر، ثم يسمى اليوم الثاني (اليوم الكبيس) ويكون عقب شهر يونيو
ومن خصائص هذا الاقتراح أن يجعل الشهر 31 يوماً ليناير وأبريل ويوليو وأكتوبر، و30 يوماً في الشهور الأخرى. وبذلك يكون مجموع شهور السنة الاثني عشر هو 364 يوماً. ومن مزاياه أيضاً أن تبدأ السنة بيوم (أحد) وأن تبدأ شهور يناير وأبريل ويوليو وأكتوبر بيوم (الأحد) وشهور فبراير ومايو وأغسطس ونوفمبر دائماً بيوم (أربعاء)، وشهور مارس ويونيو وسبتمبر وديسمبر بيوم (جمعة)
أما الاقتراح الثاني فيرمي إلى جعل السنة 13 شهراً وأن يكون عدد أيام الشهر 28 يوماً، على أن يضم إليها يوم واحد في السنين البسيطة وفق الاقتراح المتقدم. أما الشهر الثالث عشر فيكون موقعه عقب شهر يونيو ويسمى (الشهر الوحيد)
ومن مزايا هذا الاقتراح أن يجعل الشهور متساوية في عدد الأيام والأسابيع وأن يجعلها جميعاً مبتدئة بيوم واحد هو يوم (الأحد). ويذهب أصحاب هذا الاقتراح إلى أن فوائده كثيرة متعددة من النواحي الزراعية والمالية والاقتصادية والحسابية والتعليمية وهي تلخص(223/70)
فيما يلي:
1 - جعل كل شهور السنة متساوية الأيام، ويجعل الأيام ثابتة لا تتغير، وبهذا يمكن معرفة تاريخ أي يوم إذا عرف موضعه في أي أسبوع من أسابيع الشهر، وكذلك يمكن معرفة اسم اليوم إذا عرف تاريخه
2 - توحيد الأيام، فيسهل تنظيم الأعمال الخاصة والعامة، كصرف الأجور ومعرفة أيام الأسواق والمواسم والأعياد والإجازات وافتتاح الدراسة وانتهاؤها. الخ
3 - تقسيم الشهر إلى أربعة أسابيع متساوية، فيسهل تطابق الحسابات الأسبوعية والحسابات الشهرية، ويرتفع الخطأ الذي ينشأ عادة من اختلاف الشهر وأسابيعه
4 - تسهيل مقارنة الإيراد والمنصرف في كل شهر في الشئون التجارية والمالية والمنزلية
5 - لما كانت أجزاء الأسابيع تلغي وفق هذا النظام، فإنه يسهل وضع الإحصاءات، إذ يعطي مقياساً ثابتاً لإيرادات الحكومة وصادراتها ووارداتها
هذا هو تلخيص الاقتراحين. وستبدأ الوزارة في دراستهما ولما كان هذا الموضوع لا يعني الحكومات وحدها، بل يتصل بحياة الهيئات والجماعات والأفراد فإن الوزارة ترحب بكل ما يبدي من الرأي في هذا الموضوع
إلى صديقي الأستاذ علي الطنطاوي
تتعب نفسك يا صديقي وتتعب المنطق معك إذا حاولت أن تجادل من يفهم أن ما ينشر في (الرسالة) بغير إمضاء يجب أن يكون لرئيس تحريرها، ثم يعين الاسم على هذا الفهم، ويقيم المناقشة على هذا الأساس. ومن بدائه الصحافة كما تعلم أن ما ينشر في الصحيفة من غير إمضاء إنما ينسب إليها لا إلى شخص بعينه؛ ورئيس التحرير مسئول، ولكن مسئوليته ليس معناها في اللغة ولا في الاصطلاح أنه يكتب ما لا يمضيه غيره. فأعف قلمك يا صديقي من مثل هذا الجدل، وأجره بما عودت قراءك المعجبين بك من ملهمات الحق والخير والجمال
الزيات(223/71)
من أساطير الإغريق
يوم القيامة. . . أو طيش فيتون
للأستاذ دريني خشبة
عاد الفتى الساذج فيتون إلى أمه الحسناء الهيفاء كليمين، بعينين مغرورقتين، ونفس مكلومة، وفؤاد خافق متصدع، فجرى بينهما هذا الحديث:
- مالك يا حبيبي! لماذا تبكي؟
-. . .؟. . .
- لا. لا. . . فيتون يبكي؟ هذا عجيب! أيكون أبوك أبوللو وتبكي؟!
- أبوللو أبي؟ كذب، كذب!
- كذب؟ وكيف يا فيتون! أمك كذابة؟
- لا. لا. عفواً يا أماه! أنت لا تكذبين، ولكن ربما يكون كلامك سخرية بي!
- ولم أسخر بك يا بني؟
- الأولاد في المدرسة يغمزونني في أبي، وكلما حلفت لهم أن أبى أبوللو ضحكوا!
- دعهم يضحكوا يا فيتون. ماذا يضيرك؟
- يضيرني أنني لم يعد لي وجه أريق ماءه بينهم، لابد إذا كان أبوللو أبي أن ألقاه
- تلقى أبوللو؟
- ولم لا؟ أليس الأبناء يلقون آباءهم؟ فلم لا ألقى أبي؟ أأنا بدع من الناس؟
- لست بدعا، ولكن أبوللو في بلاد بعيدة. . . إنه في الهند!
- ولم لا أذهب إلى الهند لأرى أبي؟ صفى لي الطريق بحق الآلهة عليك يا أماه
- أذهب إلى الأرض التي تشرق من أفقها ذُكاء. فهناك ترى أباك
وذهب إلى الهند التي تقع في مشرق الشمس مباشرة؛ وكان عند شاطئ المحيط قصر باذخ منيف، لا يبلغ البصر مداه، ولا يدرك الطرف أوله ولا آخره. . . وكان مع ذاك قائماً على عماد رفيعة من ذهب ركبت فيها ماسات كبيرة ذات سناء وذات لآلاء. وكان سقفه العظيم المطعم بالعاج المصقول يلمع، ويكاد سناه يذهب بالأبصار؛ أما أبوابه فصيغت من الفضة الخالصة ونقشت فيها أبهى الرسوم؛ وافتنّ فلكان فصور فوق الجدران بالرسم البارز(223/72)
الأرض والبحر والسماء بما فيها من قُطّان؛ فأقام في الأرض غابها وأدغالها ومدنها وأنهارها وجبالها ووديانها. . . حتى آلهتها. وأبرز في البحر عرائسه المائسات الفاتنات، فجعل منهن سابحات يتواثبن فوق الموج، وجالسات على النؤي يمشطن شعورهن الداكنة التي تحكي خضرة البحر، وراكبات على ظهور السمك وحيوان الماء يتلاعبن ويتضاحكن. . . وجعلهن ذوات صور متشابهات وغير متشابهات، دليلاً على حذقه وجليل قدرته؛ وجعل فوق هذا كله صورة السماء بكل بروجها الإثني عشر، بحيث جعل منها ستة إلى اليمين، ومثلها إلى اليسار. . . خَلْقَ فلكان، ومن أحسن من فلكان خلقا؟!
وهكذا كان قصر الشمس آية من آيات الفن عجبا، ومع هذه الأبهة البالغة والعظمة الأخاذة، فقد تقدم فيتون غير هياب، ودخل في غير وجل، وكان يلمح اللمحة من الرسوم الجميلة والتصاوير الساحرة، ثم يسلك في سبيله قدما حتى كان في البهو الأعظم الذي يستوي في صدره أبوه، على عرش ممرد ناصع، تنعكس منه أضواء لامعة خاطفة، تبهر النظر، وتُخَسّي الأبصار. وسار الفتى مسافة قليلة، ثم وقف مكانه عَشِيّاً من شدة الخطف والإيماض، ولم يدر أيان يذهب؛ وكان أبوه متشحاً بوشاح فضفاض أرجواني، وعن يمينه وعن يساره وقفت الأيام والشهور والسنون، ثم الساعات في صفوف منظومة متلاحقة؛ ثم وقف الربيع - وتمثله هنا امرأة - وفوق رأسه إكليل جميل من الغار والزهر؛ ومن بعده وقف الصيف، وقد نضا جيب قميصه عن صدره، وقبض على حزمة من سنابل القمح الناضجة بيمينه؛ ثم همَّ الخريف متهالكاً على نفسه، وعلى قدميه أثارات من عصير العنب. . . أما الشتاء بدأ شيخاً وقوراً جلل الشيب رأسه، وتراكم الثلج والبرد على شعره الناصع
وقد لمح أبوللو ولده فيتون حيث سمر مكانه، وقد خطفت الأضواء بصره، وأخذه المنظر العجيب الذي سحره عن نفسه، فيهتف به ويباركه ويقول:
- فيتون! فيم قدمت يا بني! لأمر ذي بال، ليس من ذاك بد؟
- أوه! يا نور السموات والأرض يا فوبوس: يا أبي إن أذنت لي أن أناديك بهذا النداء! إن كنت حقاً ابنك فزودني ببرهان أقدمه للناس حين أقول إني أنا ابن أبوللو
- برهان؟
- اجل، هب لي من لدنك برهاناً يثبت أبوتك لي، فلقد استهزأ بي التلاميذ، وفضحوني في(223/73)
بنوتي لك. لابد من دليل، هل تسمع؟ لا بد من دليل!
- لا عليك يا بني! لك ما أردت. على أنه كان ينبغي أن تصدق كل ما قالت لك أمك؛ وأنا من جهتي لست أنكرك، فأنت ابني وأنا والدك، والآن سل ما شئت فأني مانحك أيّاً ما تريد
- صحيح يا أبي؟
- أولا تصدق ما أقول؟
- بلى، ولكن ليطمئن قلبي!
- صحيح يا بني، وأقسم لك بهذه البحيرة المقدسة التي يحلف بها الآلهة
فيلتفت فيتون حوله ليرى البحيرة، ولكنه لا يجد لها أثراً
- وأين هي تلك البحيرة يا أبتاه!
- ولد ظريف يا فيتون! أنا ما رأيتها قط، ولكنا نحلف بها في كل أمر جلل يا بُني!
- إذن هب أن أسوق محفة الشمس يوماً واحداً بدلاً منك
- وي! فيتون! أي طلب هذا؟
- لابد!
- محال يا ولدي! أنت حدث، ثم أنت بشري من بني الموتى! سل ملء الأرض ذهباً أمنحك ما تريد!
- كلا، كلا. . . لابد أن أسوق محفة الشمس من المشرق إلى المغرب ليراني سفهاء التلاميذ، وليتأكدوا أنني ابن أبوللو!!
- إنها ستحرقك وتحرق التلاميذ إخوانك قبل أن يروك!
- لا. . . لن تحرقني، أنت قادر على أن تجعلني أحتمل كل شيء! ألَسْتَ إلهاً!
- بلى، ولكن. . .
- لكن ماذا؟ لابد، محال أن أسألك شيئاً آخر!
- يا بني إن ليس في طوقك، إنك ضعيف صغير، والعمل الذي تطلب أن تتولاه شاق حتى على الآلهة، إني أقوم به والرعب يملأ قلبي، وأنا من أنا يا فيتون. . . إن سيد الأولمب نفسه الإله الأكبر، جوف، جل سناؤه، وتقدست أسماؤه، لا يستطيع أن يسوق عربتي الملتهبة ذات اللظى يوماً أو بعض يوم، فما بالك أنت؟ إن الثلث الأول من الطريق صعب(223/74)
المرتقى لأنه يميل قليلا قليلا عن خط العمود؛ وخيلي ترقى مزالفه في صعوبة ليس بعدها صعوبة؛ والثلث الثاني عال شديد العلو، لأنه يرتفع فوق قمة العالم، حتى لأجزع أنا نفسي من أن أنظر إلى أسفل تقية للدوار يأخذ في رأسي حين أرى إلى البحر المتمرد والبطاح الشاسعة والجبال الشم تزدلف من تحتي؛ أما الثلث الأخير فحدور شاق كمهاوي الجبل إذا وقفت عليه فوق شَعَفَتِهِ، ولذا فهو يقتضي الحذر وَحصْر البصر؛ حتى إن تأثير الواقف في نهايته ليتلقاني، يرتعد من الخوف عليّ، والرثاء لي، خشية أن أتردى في هاوية اللانهاية. هذا، ولا تنس السماء التي تجري فوقي لمستقر لها، بكل ما فيها من كواكب وأجرام، فإذا غفلت لحظة، أو أخطأت قيادة العربة، جرفتني في دورتها إلى حيث لا أعلم أين تذهب أو تستقر بي. ثم تدبر معي قليلا يا فيتون، إذا أنا سمحت لك بقيادة العربة، فماذا يصيبك من الهلع حين تنظر إلى السُّفل فترى الأرض تلف، والسباع تهمهم في الأدغال، والناس يكظون المدن، والآلهة تطل من قصور الأثير، والأشباح تسري حواليك كالسمادير؟ ماذا من الروع يعتريك يا ولدي؟ هل تستطيع أن تكبح جماح الخيل أو حتى تملك ألاّ يفلت العنان منك؟ إنك ستمر بين قرني الثور أمام الحوت، وعلى مقربة فكي العقرب وذراعي السرطان. . يا بني! هل تستطيع أن تقود الخيل التي تنفث اللهب من مناخرها وأفواهها وسط هذه الدُّنى الدائبة؟ اختر لنفسك يا بني ولا تجعل الناس يقولون أهلكه أبوه)
وتشبث فيتون وركب رأسه، ولم يشأ أن ينكل قيد شعرة؛ فلم يسع أبوللو أن ينطلق به حيث عربة الشمس! العربة العظيمة المطهمة، المصنوعة كلها من الذهب الخالص، وقليل من الفضة المزركشة بالآلي والجوهر، وأحجار الماس التي تعكس أشعة الشمس جميعاً فتضاعف أضواءها، وتزيد كثيراً في لآلائها
وتقدمت ربة الفجر ففتحت أبواب المشرق، ونضرت بالورد طريق أبوللو؟ ثم أخذت النجوم تثب كالحمائم قِبَلَ المغرب وفي أثرها نجمة الصبح فريدة كأنها الورقاء
وتلفتت أبوللو إلى الساعات المنتشرة عن جانبيه، فأمرهن أن يسرجن الخيل، فأطعن، وقصدن إلى إسطبل الكبير حيث وجدن الخيل قد التهمت كفايتها من العلف المقدس، فوضعن في أفواهها اللجم، وأسرجتها بكامل عدتها
وتناول أبوللو وجه ولده فنصحه بطيوب إلهية، وضمخه بدهن كريم، ثم قطر في عينيه(223/75)
قطرات من ماء أولمب، كي يقوى الفتى على تحمل الحرارة الفائقة، والصبر لضوء الشمس القوي؛ ثم وضع على رأسه الصغير هالة النور الربانية، وأشار إليه فاستوى على العربة العظمى التي تجر الشمس، فتنير أقطار السموات والأرض، وقال يوصيه:
- (أي بني! ها قد استويت على عربة أبيك التي ما قادها من قبل أحد غيره، ولا يقدر عليها أحد سواه! أي بني فاشدد إليك أعنة الخيل، وتجنب أن تلهبها بهذا السوط، فهي قد مرنت على الطريق وهي لا تبطئ حتى تحتاج إلى أن تساط. أي بني ولا تنحرف عن شمالك أبداً، وظل منتهجاً سبيل الاستواء الذي هو الدائرة الوسطى من الدوائر الخمس؛ وأحذر أن تعلو إلى الدائرة العليا أو أن تسفل إلى الدائرة السفلى؛ وسترى أثار رحلاتي من قبل، فسر على دربها تصل إن شاء الله. أي بني ولا ترتق معارج السموات فتصيب مساكن الآلهة، ولا تهو قريباً من الأرض فتجعل كل ما فيها جرزاً، بل خذ الطرق الوسطى أبداً، فإن خير الأمور أوساطها. . . فإذا أفلتت الأزمة من يديك، فظل حيث أنت، ولا تذهب مذاهب شتى في رحب السماء. وسأتولى أنا بعد ذلك إنارة الأرض والسموات. أي بني وما دمت قد اخترت لنفسك برغمي، فلا أقل أن تعي نصيحتي والسلام عليك)
ورد فيتون على أبيه السلام. . . وانطلق من أبواب المشرق وطفقت الخيل الصافنات تنفث اللظى فتموه السحب بالذهب، وتسابق أنفاس النسيم التي تهب هي الأخرى رخاءً من أبواب المشرق
وعجبت الخيل بعد شوط قصير من هذا الحمل الخفيف الذي لا عهد لها به؛ وعجبت أكثر حين أحست بالعربة تتأرجح خلفها كالزورق الذي ليس له صُبرَةٌ تثبت به في مهب الأعاصير
وجمحت الخيل. . . وانطلقت في غير طريقها المعهود. . . ولأول مرة ارتفعت حتى كادت تتلمس الدبين الأكبر والأصغر، فثار ثائرهما من لفح الحر؛ ولأول مرة كذلك تحرك الثعبان المنحوى فوق نجم الشمال حين أحس الدفء فنفث سمه الذعاف، وفرت من طريقه الكواكب. . . ونظر فيتون تحته، فرى الأرض تلف كالخذروف فريع قلبه، وزلزلت نفسه، وسقطت من يديه أعنة الخيل فجرت به في السفل حتى اقتربت من الأرض. . . ونظر وراءه. . فرأى أنه لم يقطع من الثلث الأول إلا أقله؛ ثم نظر أمامه فوجد أكثر الطريق(223/76)
وأوعره، فزادت حيرته واسقط في يديه، وترك كل شيء للقضاء والقدر. . . وضاعف ربكته نسيانه أسماء الجياد. . . وحدث أن ارتفعت هذه فجأة. حتى كانت قاب قوسين من فكي العقرب، ذلك الهولة المخيف الذي أوشك يبتلع العربة بمن فيها. . وشدهت ديانا ربة القمر حين رأت عربة أخيها تتخبط في الآفاق، وتصطدم بالكواكب، فتحدث الشهب، وتحرق العوالم السماوية: (ترى ماذا أصاب أبوللو؟ مسكين! لا بد انه نام. على كل حال سيستيقظ!) ولكن العربة هبطت فجأة حتى صارت في سماء الأرض، وحتى صارت الأرض منها على مدى رمية سهم. . . فما هي إلا لحظات حتى شبت الحرائق في كل الأرجاء. . . هاهي ذي الغابات العظيمة تشتعل. . . وهاهي ذي ألسن النيران ترقص في كل فج. . . وهاهي ذي الوحوش تجري هنا وهناك ثم تسقط في كل البقاع. . . والمدن! المدن العامرة الآهلة. . . إنها تحترق بمن فيها من شيوخ ضعفاء ونساء وولدان. . . أما الشباب! فوا أسفاه على الشباب! إنهم يجرون كالجان إلى البحار والمحيطات والأنهار والينابيع! وهاهم أولاء يقذفون بنفوسهم فيها. . . ولكن! وا أسفاه! إن مياه البحار والمحيطات والأنهار والينابيع تغلي وتفور، ويعب عبابها بالحمم، فالشباب يستجيرون فيها من الرمضاء بالنار! لقد بادت أمم بتمامها، واختبأت أمم في الغيران والكهوف وشقوق الأرض والجبال. . أما الطيور فقد خربت أوكارها ووكناتها، ولم يسلم منها إلا ما لاذ بأفحوص أو أدحى. . . ومسكينات عرائس البحار! لقد شحبت ألوانهن، وذوي جمالهن وغُصْنَ في الأعماق مع السمك يلتمسن الماء البارد، ولجأت أسراب منهن إلى البحار الجنوبية، وآثرن أن يعاشرن البنجوين.! أما قمم الجبال العالية التي ظلت منذ الأزل مجللة بركام الثلج، فقد خلت حللها الناصعة، وحلت عمائمها المخملية، وصارت تلتهب. . . فهذه طوروس الشماء، وتلك القوقاز العاتية، وهاتيك الألب المزهوة. . . كلها تهب. . . كلها تقذف بالحمم. . . حتى أولمب مثوى الآلهة، لقد غدا كومة عالية جداً من النار.
ولقد كانت الصحراء اللولبية فراديس يانعة ولكن فيتون المجنون حولها إلى رمال وكثبان، ولولا أن أدخل النيل رأسه في كثيب مهيل منها لجف ماؤه، وتبخر في السماء كله، ليجري في كوكب آخر! وهكذا فعل الفرات وأخوه، وكذاك صنع الكنج والسند. . . فشكراً لكل الأنهار التي ضنت بنفسها من أجل سعادة البقية الباقية من النوع البشري!(223/77)
يا له يوم قيامة؟! لقد ضجت الآلهة في الأرض، وكلما حاول نبتيون الجبار إله البحار أن يخرج رأسه من اليم ليجأر بالشكوى إلى أخيه كبير الآلهة، خاف وذعر أن تحرقه الشمس الهوجاء التي يسوق عربتها فيتون. . ولولا أن جازفت أمنا الأرض فبرزت من المحيطات وهتفت بجوف العظيم، لأصاب من بقي العذاب الأليم. . . لقد قالت له: (يا جوف العلى؟ يا رب الأرباب! إصغ إلي، واستجب لدعائي! ما هذا الذي نامت عيناك عنه فذهب بزرعي وضرعي؟ أهذا جزاء خصوبتي وما تهب عبادك من حَبّ وأبٍ وعنبٍ وقضبٍ وحدائق غُلب؟! أهكذا تكون عاقبة إخلاصي في مكافأة عبادك الذين يقيمون لك الهياكل ويبنون باسمك الصوامع والمعابد؟ ماذا من القرابين يا رب الأرباب يذبح باسمك بعد أن يهلك كل ما عليَّ من قطعان وأسراب ورعال؟ ثم هذه العوالم التي ما أنشأتها إلا بعد عناء وجهد! كيف تدع هذه الشمس الرعناء تأتي عليها جميعاً، وتصير كل شيء في ملكك إلى هيولي؟ استيقظ يا جوف واستمع، وأدركنا بلطفك هذه الساعة التي نحن فيها أشد ما نكون في حاجة إليك. آمين!)
وهب جوف من سباته العميق على جؤار ربة الأرض؛ وأبصر فرأى ما حل بالعالم الجميل من تدمير ووبال. . . فألم وتصدع. . . ونظر إلى عربة الشمس ينتفض فوقها غلام يافع عرف فيما بعد أنه فيتون بن أبوللو فهاج وماج، واخذ صاعقة من أكبر صواعقه وأقتلها، ثم أحكم تسديدها إلى الراكب المجنون. . وأرسلها تقصف وتعزف. . . وتهز الأفلاك. . . فأصماه وأرداه!!
وسقط الغلام الأحيمق من عُلْوِ العالم يتقلب في نهر إريدانوس المتدفق في سهول إيطاليا. . . حيث مات. . . واستراحت الدنيا كلها منه! وعادت الشمس إلى ربها. . . أبوللو المسكين. . . فهو يجري بها إلى اليوم لمستقر لها!!
أما كليمين البائسة، فهي إلى اليوم تبكي ولدها. . . وقد بكته معها أخواتها، وكن في كل صباح يذهبن إلى النهر الذي سقط فيه فيسكبن دموعهن، حتى رثت لهن الآلهة، فسحرتهن إلى أيكات ثلاث من شجر الحور، فهن حانيات على النهر منذ ذلك اليوم حنو المرضعات على الفطيم
وكلما سكبن دموعهن حارت إلى كهرمان كريم(223/78)
وحزن سيكنوس، صديق فيتون، على خدن صباه، فجمع رفاته وبنى لها قبراً من الرخام تظله الشجرات
دريني خشبة(223/79)
العدد 224 - بتاريخ: 18 - 10 - 1937(/)
الحرب
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان الذي يقول - قبل بضع سنوات - إن الحرب واقعة وأن العالم مقذوف به في جحيمها لا محالة، يعد من المنجمين الذين يُقرأ كلامهم للتسلية ولا يحمل على محمل واحد من محامل الجد؛ أما الآن فإن الحرب على كل لسان وفي كل ذهن وإن كانت كل دولة تقول وتؤكد إنها لا تريدها ولا تسعى لها وأنها تحاول أن تتقيها جهدها. والحق أن المرء لا يكاد يصدق أن دولة ما - مهما بلغ من وفاء عدتها - تقدم على إضرام نار الحرب في الدنيا وتعرض المدينة للبوار، وكيان العالم للتقوض والانهيار. وهي شرارة واحدة تطير فإذا الدنيا كلها براكين تقذف بالحمم فقد مضى الزمن الذي كان يسع أمتين فيه أن تتقاتلا ما شاءتا، وبقية الأمم وادعة ساكنة وآمنة مطمئنة لا تكاد تعني بما يجري في ساحة الحرب، وصرنا إلى زمن كل ما يحدث فيه له رجعة وصداه في كل زاوية وركن من هذه المعمورة. ولا أمل في هجوم مختلس وزحف سريع فإذا النصر قد خرجت به أمة والهزيمة قد بائت بها أخرى. ولم تعد الحرب قتالاً بين جيش وجيش بمنعزل عن الأمم والشعوب بل أصبحت تدور بين الأمم نفسها بكل ما تمتلك من وسائل التدمير والتخريب ومعدات الدفع والتوقي، وليس الذي يصيب غير المحاربين من البلاء والنكبات والتقتيل دون الذي يصيب الذين هم في الصفوف. ولا فرق في الحقيقة - أو لم يبق ثم فرق - بين مجند يحمل سلاحه ويسير إلى حيث يؤمر، وآخر يقيم في بيته بين أهله وأبنائه ويذهب إلى عمله الذي يكسب منه رزقه؛ وقد يكون الجندي أحسن حالاً لأنه يجد على الأقل من يعني بتدبير وسائل الوقاية له وتوفير الطعام والشراب وتمكينه من الراحة على قدر المستطاع، أما أهل المدن والقرى من شيوخ ونساء وأطفال وغير هؤلاء وأولئك ممن لا يؤخذون للحرب فيفاجئون في أية ساعة من ساعات الليل أو النهار بالتخريب والتدمير والتقتيل من غير أن تكون لهم أمثال الوسائل المتوفرة للجندي الذي في الصف للدفاع والهجوم، ومقابلة كل طارئ بما يستدعيه.
نقول إن المرء يصعب عليه أن يصدق أن دولة تجازف بالإقدام على الحرب واحتمال تبعة إضرامها في العالم لأن أهوالها أفظع من أن تسمح بهذا التصديق، ولأن النصر فيها(224/1)
كالهزيمة من حيث الخراب الذي يحل بالفريقين المحتربين، ولأنها لا بد أن تطول حتى تستنزف القوى جميعاً بعد أن أصبحت جهاداً بين شعوب لا مجرد اعتراك بين جيوش؛ حتى النساء صرن يجندن أو يدربن على أعمال الجنود، أو يستخدمن على الأقل في المصانع والمستشفيات من ثابتة ومتنقلة وفي سوق السيارات وغير ذلك مما يسهل أن يقمن به وهن بعيدات عن الصفوف الأولى للمحاربين
ولكن الأمم على الرغم من هول الحرب تبدو ماضية إليها بسرعة، ولا تكاد تلوح بارقة من الأمل في اتقائها واجتناب كارثتها الشنيعة، فكل دولة تكدس السلاح والذخيرة وتحث المصانع على العمل المتواصل، وكل مجهود موجه إلى استيفاء الأهبة في كل باب ولكل احتمال. والشعور بالاستعداد - أي بالقوة - يغري بالتهور كما يمكن أن يصد عنه، فالذين يقولون إن أحسن وسيلة لمنع الحرب هي الاستعداد لها مصيبون ومخطئون في آن معا. فما من شك في أن علم الدولة التي تحدثها نفسها بالحرب أن غيرها مثلها استعداداً لمقابلة الشر بمثله، خليق أن يبعثها على التردد الطويل والحساب الدقيق للعواقب، ومتى بدأ الحساب فالأحجام مرجح لأن المفاجأة الحاسمة مستحيلة في هذا الزمان، وعند كل أمة من الرجال والعقول والمواهب مثل ما عند الأخرى - ونعني أمم الغرب على الأقل - وكل دولة تستطيع أن تستدرك ما يظهر لها من النقص بسرعة كافية. وقد جرب العالم هذا في الحرب الكبرى، ومعلوم أن ألمانيا فاجأت الحلفاء يومئذ بالغازات الخانقة فما لبث الحلفاء أن اتخذوا الكمائم ثم ما عتموا أن اهتدوا إلى صنع الغازات فصاروا يرسلونها على الألمان كما كان يرسلها الألمان عليهم. واحتاجت بريطانيا إلى بعض المواد التي لا غنى عنها لصنع الذخائر - وكانت قد أصبحت منقطعة أو عزيزة المنال - فاحتثت همم علمائها فهداهم البحث والتجريب إلى ما يحل محل هذه المواد ويغني غناءها وهكذا. ولا شك أن كل أمة تعول على سلاح لديها أكثر مما تعول على سواه ولكنها لا تستطيع أن ترجو طول الانفراد به وبمزيته بعد أن تلح به على أعدائها في الحرب
غير أن وفاء العدة يغري من ناحية أخرى بالغطرسة ومحاولة التحكم، ومتى صارت الأمم كلها شاكية مستعدة فأخلق بذلك أن يجعلها أضيق صدراً عن احتمال الغطرسة والشموخ. والأعصاب تتلف في مثل هذه الأحوال. وقد يكون تلف الأعصاب أجلب للحرب من أي(224/2)
سبب أو باعث آخر، ولهذا ترى أنصار السلم ينصحون بالسكينة واتزان الأعصاب وضبط النفس والحرص على ذلك مهما بلغ قوة الشعور بالاستفزاز
وأسوأ ما في الحالة أن الحرب تدور رحاها شيئاً فشيئاً وفي مكان بعد مكان حتى ليخشى أن تنتشر وتعم الدنيا؛ ونارها توقد بلا إعلان. ففي أسبانيا لا تدور الحرب بين فئتين من الأمة وإنما هي بين دول شتى في الحقيقة لكل منها مأربها وغايتها وسلاحها الذي تجربه وتختبر فعله وغناءه. وفي الصين قامت الحرب بلا إنذار أو إعلان وقد تضطر دولة أو دول أخرى غير الفريقين المتحاربين أن تخوضها معهما فتتسع الدائرة ويعظم الخطب ولا يؤمن اندلاع النار في قارات أخرى. فإذا ظل هذا يحدث في رقعة بعد رقعة من الأرض فماذا يكون المصير؟ وحيال هذه الحالة لا ندري كيف يسع إنساناً أن يطمئن إلى استقرار السلم وإمكان تفادي الحرب؟ إن كل ما يسعى له أنصار السلم والمشفقون على العالم وحضارته هو أن يحصروا هذه الحروب في مناطقها حتى لا تعدوها أو تمتد إلى سواها كما يفعل رجال المطافئ حين يرون النار قد شبت في بيت أو مصنع، وليس هذا من التشبيه أو التمثيل فإنها النار هنا وههنا بلا فرق أو تفاوت سوى أن نار الحريق أهون من تلك التي يؤججها التدبير المحكم.
ومن العسير أن يتكهن المرء بشيء فقد صار العالم يعيش يوماً فيوماً فإذا مضى يوم ولم تتفاقم فيه أزمة ولم يستفحل فيه خلاف حمد الله وشكره ورجا أن يجيء الغد بما يفرج من الكرب أو يرجئه أو يلطفه على الأقل.
إبراهيم عبد القادر المازني(224/3)
كلبي (بيجو)
للأستاذ عباس محمود العقاد
أنا أكتب هذا المقال عن (بيجو) وهو ينظر إلي، ثم يذهب ويعود ليطل مرة أخرى ولا يدري أنني أكتب عنه وأشيد بذكره؛ وكل ما يدري أنني جالس في هذا المكان الملعون الذي يحب كل مكان في البيت غيره، وهو كرسي المكتب.
ففي كل مكان في البيت يراني مستعداً لملاعبته واستجابة نظراته، والتفرج على فنونه وألاعيبه وقفزاته، أو يراني مستعداً للإشارة إليه واستدعائه فإذا هو واثب وثبة واحدة إلى حيث يستوي على مكانه بجانبي، ويغريني بملاطفته ومجاملته أن أبذل له الملاطفة والمجاملة وأحييه بعبارات التودد والمجاملة.
ينتظر مني ذلك في كل مكان إلا كرسي المكتب. . . فإذا جلست إليه لأكتب أو لأقرأ فهو حائر لا يدري ما يصنع: يدنو من الكرسي إلى مسافة قصيرة، ثم يرفع رأسه وينظر، ثم يعيد النظر كرة أخرى، ولعله يسأل نفسه: ما بال صاحبي لا يناديني ولا يجيبني؟ وما بال عينيه تتجهان أمامه وقلما تتجهان ناحيتي؟ فإذا طال عليه التساؤل والترقب رجع أدراجه وغاب هنيهة ثم عاد إلى المكتب يترقب كلمة النداء، أو نظرة الاستدعاء، أو لمسة التربيت والاحتفاء؛ ولا يزال كذلك حتى ييأس ويسأم فيولي وجهه شطر ألعوبة يتلهى بها، أو شغلة أخرى من الشواغل البديعة التي يفرضها على نفسه ولا يفرضها أحد عليه، وأولها حراسة الباب والعواء على من يصعدون السلم أو يهبوطنه!
وقد تبعني اليوم إلى المكتب ونظر إلي قليلا ثم غادر المكان الملعون يائساً عابساً دون أن يلح في الانتظار والمناورة، لأنه تعلم بالمرانة الطويلة أن الانتظار في هذا المكان لا يفيد، وأن الكلب العاقل الرشيد هو الذي يغادر مكان الكتب والأوراق بغير تدبر ولا تأمل ولا إطالة. والحق معه حتى في آراء الأناسي العقلاء الراشدين!
وقد أردت اليوم أن أدهشه وأخلف عادته فرفعت رأسي من الورق في بعض جيئاته وصحت به منادياً: بيجو! بيجو! تعال. . . إن كتابتي اليوم تعنيك. ألا تريد أن تقرأ ما كتبت؟ فوجم ولم يكد يصدق أذنيه. وتردد لحظة، ثم قفز إلى الكرسي فالمكتب حيث الورق الذي أخط عليه هذا المقال. . . كأنه يريد حقاً أن يقرأه ويستطلع ما فيه، وكأنه لا يفضل(224/4)
بالعقل والرشد أولئك الآدميين الذين يعنيهم ما يكتب عنهم الكاتبون كما ظننته لأول وهلة! ولكنه ما لبث أن أخافني من أسلوبه في القراءة والمطالعة، لأنه هو والتمزيق في عرفه شيء واحد. وهل هو بدع في أسلوبه وهذا شأن كثير من الآدميين الذين أكتب عنهم؟ فنحيته برفق وحملته إلى الباب وأرسلته في الدهليز، وعدت إلى المكتب فأقفلته ولا أزال أسمع نباحه يلاحقني بلهجات تتراوح بين الاستغراب والشكاية والسباب!
ويجب أن أعترف للقراء بأن كلبي (بيجو) ليس بكلبي على التحقيق، ولكنه كلبي في شريعة الدعوة والاغتصاب، أو هو كلب صديقي العزيز (فيفي) الذي لم يجاوز السنتين إلا منذ شهرين، ولا أخاله إلا مطالبي به قريباً بعد أن زال الموجب لإقصائه وهو انحراف صحته في موعد التسنين، وفيما أصابه على أثر ذلك في مصاب أنقذه الله من خطره الشديد.
والأصل في المصائب أن تجمع بين الأصدقاء لا أن تفرق بينهما كما افترق فيفي وصديقه بيجو. . . ولكن اللوم في هذا الافتراق على صداقة بيجو دون غيرها - أي على إفراطه في الصداقة لا على تقصيره فيها - فمعاذ الله أن يتهم كلب بخيانة الأصدقاء
كان بيجو يرى (فيفي) على سريره ساكناً من التعب والإعياء فلا يحسب أن شيئاً تغير بينه وبين مولاه، ويقفز إلى السرير ليعرض خدماته التي لا يكل عنها ولا يتوانى فيها، وهي المواثبة والملاعبة واصطناع العض والمصارعة، ومولاه في شاغل عن ذلك ولكنه هو لن يقبل العذر ولن يعرف شاغلاً أهم من تلك الخدمات المرفوضات.
وإذا أقبل الطبيب وصرخ (فيفي) من مقاربته وجسه وفحصه كما يصرخ جميع الأطفال من جميع الأطباء فما هي إلا لمحة كأسرع ما يكون لمح البصر وإذا بأنياب (بيجو) توشك أن تنغرس في ساق الطبيب الذي يعتدي على مولاه بما يبكيه!
أما إذا ربطوه اتقاء لهذه المفاجآت فلا راحة ولا قرار في البيت كله، لا لمولاه العزيز ولا للنائمين حوله أو الساهرين عليه
لهذا عوقب (بيجو) على إفراط صداقته بالنفي من جوار مولاه في أثناء توعكه وانجراف مزاجه، ورضيت أنا أن أتولى مؤاساته وحراسته أيام منفاه، حتى تنجلي الغاشية فيعود إلى مأواه(224/5)
وما انقضت فترة وجيزة حتى أصبح (بيجو) شخصية من شخصيات البيت المعدودة، وحتى فرض على نفسه واجبات وأعمالاً لم يفرضها أحد عليه، ولكنه يغضب ويتذمر إذ أنت قاطعته فيها أو عوقته عنها، كأنك تحسبه مخلوقاً عاطلاً لا يصلح لعمل ولا يؤتمن على واجب. . .
عرف الفرق بين جرس التليفون وجرس الباب، فلا يدق هذا أو ذاك إلا أسرع إلى الإجابة، وغضب من الخادم كلما سبقه إلى غرضه فتظاهر بعضه والوثوب عليه. ومن عجائب ذكائه أنه إذا سمع جرس الباب أسرع إلى الباب ولم يفعل كما تعود أن يفعل حين يسمع جرس التلفون. ومع أن جرس الباب يدق في المطبخ حيث يكون الخادم ولا يدق في المكان الذي يجري إليه. ولعله عرف أن فتح الباب هو المقصود بدق الجرس في المطبخ كلما جرى الخادم لفتحه على أثر سماع دقاته، ولكن تفريقه بين الجرسين براعة تشهد له بالقدرة على مزاولة الأعمال والواجبات ومن الأعمال والواجبات التي فرضها على نفسه ولم يفرضها عليه أحد أنه لا يدع إنساناً ولا حيواناً يصعد السلم إلا أدركه بنباح الاحتجاج من وراء الباب فيعدو أمامي ويعود إلي ولا يزال يرقص ويتوثب حتى أجزيه على استقباله بالتحية الواجبة والتربيت المحبب إليه.
ألأجل الطعام يهش لي (بيجو) هذه الهشاشة ويرعاني هذه الرعاية؟ أنا أود من الباحثين في طبائع الحيوان أن يراجعوا ملاحظاتهم وأحكامهم في أسباب التآلف والمودة بين الحيوان والإنسان، فإن إطعام الكلب ولا شك سبب من أسباب وفائه وتعلقه بأصحابه، ولكن لا شك أيضاً في أن الكلاب تفهم للمودة أسباباً غير الإطعام وتدرك معنى من معاني الصلة النفسية ليس مما يرتبط بالمنافع؛ وأوضح دليل على ذلك أن (بيجو) يعتبر نفسه تابعاً لمولاه (فيفي) ولا يعتبر نفسه تابعاً لأبيه أو خادم أبيه، وكلاهما يطعمه ويلاطفه ويسقيه. أما (فيفي) فهو لا يطعمه ولا يسقيه ولا يتورع عن خطف طعامه إذا ساغ في مذاقه، وقد يتبرم به فيضربه أو يقبض على لسانه أو يضع إصبعه في عينه، وبيجو في كل ذلك لا يقابل الأذى بمثله ولا يفتأ متعلقاً بالطفل أشد من تعلقه بآله وذويه.
فلما زارني (فيفي) مع أبيه بعد شفائه ونجاته من خطره كان المعقول المنظور أن يخفف (بيجو) إلى الأب الكبير الذي يعني بإطعامه وإيوائه، ويشمله بمودته وحبائه، ولكنه ألتفت(224/6)
أول ما التفت إلى (فيفي) العزيز دون غيره، وتهافت عليه يعانقه ويلحس وجهه بلسانه ويئن أنيناً من فرط حنينه وفرحه؛ وجهدنا جهداً شديداً في التنحية بينه وبين مولاه الصغير لفرط ما أرهقه بتحياته ومجاملاته، وكنا سبعة منا أستاذ في علم الزراعة والحيوان، وأخ له أديب جم الإطلاع، وصديق مهذب من أدباء الموظفين، وسيدة إنجليزية وابنها اليافع، ووالد فيفي وكاتب هذه السطور، فأتعبنا الكلب الأمين الودود جد التعب ونحن نبعده من هنا فيرجع من هناك على حال من اللهفة والاشتياق تجلب الدمع إلى الآماق. فماذا بين بيجو ومولاه فيفي من البر والمجازاة غير الصلة النفسية التي لا شأن لها بالطعام والشراب؟ ولماذا يحسب نفسه تابعاً للطفل ولا يحسب نفسه تابعاً لأبيه؟ أنه لا يفقه أنهم أهدوه إلى فيفي الصغير ليكون لعبته وحارسه وعشيره، ولكنه قد يفقه أنه نده وقرينه بواشجة الطفولة والملاعبة الصبيانية، وهي على كل حال واشجة غير وشائج المنافع والطعام والشراب
ويشبه هذا في الدلالة على إدراك الخلائق العجماء للصلات النفسية أن (بيجو) لا يطيق (الطاهي) احمد حمزة ولا يرتاح إلى رؤيته ولا يسمع النداء على أسمه حتى يحسبه تهديداً له بالعقوبة والإقصاء، وهو مع هذا يألف فراش المنزل (محمدا) ويهش له ويستريح إلى مصاحبته في المنزل وفي الطريق. . . فلم كانت هذه التفرقة عنده بين هذا وذاك؟؟ كلاهما يقدم له الطعام، ويزيد صديقه (محمد) بتجريعه الدواء الذي يتعاطاه لعلاج السعال أحياناً وهو يمقته وينفر منه أشد النفور. غير أن الطاهي (أحمد حمزة) يتحاشى (بيجو) خوفاً من النجاسة فيشعر (بيجو) بجفائه ويلقاه بمثله، ويحتمل التجريع والغصص من زميله لأنه يحتفي به ويأنس إليه.
من إدراكه (للمعاني) الفكرية أنك إذا لمسته بالعصا وهو غافل عن رؤيتها فهو لا يبالي ولا يحفل ولا يحسبك غاضباً أو قاصداً لعقابه، ولكنه إذا ألتفت إليك ورأى أن العصا هي عصا التأديب التي تخوفه بها ظهر عليه الرعب، أو ظهر عليه الأسف والتوسل، كأنه يقرن بالعقاب معنى غير معنى الضرب وألمه، وهو استياء سيده وأعداده له عدة العقاب.
والخلاصة أن (بيجو) مخلوق مفيد ومخلوق أنيس، وهو أفيد ما يكون في المكتبة التي يبغضها ويستثقل ظلها، لأنني استفدت على يديه فوائد جليلة وأنا أقرأ بعض الكتب الحديثة في علم النفس وعلم الاجتماع.(224/7)
يقول علم النفس أن التعاطف في التربية والتعليم أنفع وأنجع من تبادل الأفكار؛ وبيجو يؤكد لي ذلك، لأنني أرى منه أن الكلاب أسرع تعلماً من القردة، وهي أرفع في مرتبة التكوين والإدراك؛ وإنما فاقت الكلاب القردة بسرعة التعلم لأنها عاشرت الإنسان طويلا فاتصلت بينه وبينها العاطفة وإن لم يتقارب بينه وبينها تركيب الأعصاب والدماغ.
ويقول علماء الاجتماع من أنصار (الفاشية) إن الغرائز لا تتبدل، وإن الحرب والعدوان غريزة الإنسان، فلا فائدة لوعظ الواعظين بالسلام، ونصح الناصحين بالإخاء والعدل والمساواة. وبيجو يدحض ذلك أيما ادحاض، لأنه قد تحدر من سلالة الذئاب فما زالت به التربية والمصانعة حتى أصبح حارس الأطفال والحملان، وقد كان قبل ذلك آفة كل طفل من بني الإنسان، وكل صغير أو كبير من أبناء الضأن.
ويعد (بيجو) بحق من أحسن الشراح للعالم الروسي العظيم (بافلوف) صاحب التجارب المشهورة في أخوان بيجو من الكلاب الروسية. . . فأنه جرب أن الكلب يسيل لعابه إذا شاهد الطعام، فقرن بين تحضير الطعام له ودق الجرس على مقربة منه، فإذا بفمه يتحلب كذلك كلما دق الجرس ولو لم تصحبه رؤية الطعام، فبنى على ذلك مذهبه في مقارنات العواطف ومصاحبات الشعور وظواهره الجسدية، وجاء علماء النفس والتربية فاستفادوا من ذلك فوائد شتى في علاج الخوف والجشع والعادات الذميمة التي يصعب علاجها في بعض الأطفال، فجعلوا يقرنون الشيء المخيف بالشيء المحبوب ليعودوا الطفل أن يسكن إليه ولا يخشاه، ويقرنون الشيء المرذول الذي يحبه الطفل بالشيء المزعج الذي يصده عنه وينفره من إتيانه، ليقلع عن ذميم الخلال بداهة وعفواً بغير أمر ولا إلحاح.
بيجو خير مفسر لهذا المذهب النافع الذي كان الفضل الأول فيه لواحد من أبناء جنسه، فقد عهدته في منزله الأول وليس أبغض إليه من السلسة والطوق، لأنهم كانوا يقيدونه بهما في حديقة الدار كلما أضجرهم بعبثه وفضوله، فلما جاء عندي وليس للمنزل حديقة واسعة أطلقه فيها أصبحت السلسة والطوق من أحب الأشياء إليه وادعاهما إلى طربه وابتهاجه، لأنه تعود كلما ربط بالسلسة والطوق أن يخرج مع الخادم لغشيان الطريق وقضاء ساعته المنذورة للمرح والرياضة في الخلاء!
ولبيجو فنون أخرى يشارك في تفسيرها وتفهيمها، وفضائل شتى يتبرع بهداياها ومزاياها،(224/8)
وإن في بعض هذا لما هو حسبنا من تقدير للأستاذ بيجو والصديق بيجو والزائر الكريم بيجو. . . الذي نخشى أن نسطو عليه، لفرط ما نستفيد منه ونأنس إليه.
عباس محمود العقاد(224/9)
في أي عصر تعيش مصر؟
للدكتور محمد البهي قرقر
لكل عصر من عصور التاريخ التي حصل فيها انقلاب تطوري للشعوب والعقل الإنساني على العموم، طابع خاص يتميز به عن غيره. ومن أهم تلك العصور التي كان لها حدث تاريخي عظيم في ذلك الانقلاب وخصوصاً في نشأة الدول وتطور النظم الحكومية عصر القرون الوسطى والعصر الحديث.
فالاستبداد أي قيام طائفة بعينها بالحكم في الرعية وادعائها أنها وحدها هي التي تصلح للحكومة والمختارة للسيادة - ظاهرة من الظواهر التي تكون طابع عصر القرون الوسطى. فهذه الطائفة كانت ممثلة في رجال الكنيسة، وكان مصدر اختيارها على حسب زعمها هو الله، وحكومتها تعرف في التاريخ السياسي بالـ
وهنالك ظاهرة أخرى لا تقل عن سابقتها شأناً في تكوين هذا الطابع، وهي ظاهرة التمسك بالنصوص القانونية والجمود في تنفيذها ولو كان في ذلك التضحية بالمصالح الحيوية للرعية وعدم التمشي مع ما تتطلبه العدالة العامة التي هي الغرض المقصود من أي قانون وضعي أو مصبوغ بالصبغة الدينية، وهذه الظاهرة تعرف في تاريخ التطور العقلي بالـ
وكون تلك النصوص في هذا الوقت كانت لها صبغة دينية لا يغير من قيمة هذه الظاهرة ولا من كنهها وهي التمسك بالنصوص القانونية من حيث هي نصوص، كما أن كون الطائفة الحاكمة كانت من القساوسة وأرباب الكنيسة لا يبدل من حقيقة الظاهرة الأولى وهي أن الحكم كان استبداديا، إذ أتصاف الطائفة التي حكمت والنصوص القانونية التي سادت في هذا العصر بالوصف الديني لا يدل إلا على مصدر حكم السلطة التنفيذية، وإلا على مصدر التشريع، كما أن الوصف بالديمقراطية في العصر الحديث لا يعين أكثر من أن مصدر الأمرين جميعاً هو الأمة. أما كون القانون في ذاته أو الحكومة في نفسها عادلة أو غير عادلة فليس بضروري أن يكون مرتبطاً ارتباطاً تاماً بالمصدر، وإنما هو شيء آخر سبيل معرفته الناحية العملية في الحياة الإنسانية، وكونه طبق مصالح الأغلبية من الرعية أو ليس على وفقها. فقد يكون مصدر الحكم جمعياً، وهو الأمة مثلا في الحكم الديمقراطي والذي هو مظنة العدل، ومع ذلك لا يكون طبق مصلحة السواد الأعظم من(224/10)
الشعب؛ وقد يكون فردياً كما في الحكومة الاستبدادية والتي هي مظنة الجور، وبالرغم من هذا يكون وفق ما تتطلبه المصلحة العامة في الأمة، إذ الواقع إنه في الحكم الديمقراطي قد لا تمثل الحكومة في أسلوب الحكم رأي الأكثرية وإنما تمثل قوة الزعيم الشخصية التي تمكنه من الاستيلاء على نفوس الأغلبية، أو الضعف النفسي للأغلبية التي يجعل قيادها سهلا والتحكم فيها أمراً هيناً.
وسواء اعتمدت تلك الطائفة حقاً في حكومتها وفي تعلقها بالنصوص القانونية على المبادئ الصحيحة للدين المسيحي أم على تعاليم الكنيسة أي تعاليم تلك الهيئة التي تمكنت باسم الدين وهو هو دائماً الوسيلة القوية في تملك الشعور الإنساني، من سيادة أرستقراطية دامت مدة طويلة، سواء أكان هذا أو ذاك فذلك بحث أخر خارج عما أريده هنا.
وهناك أيضاً ظاهرة ثالثة كانت أيضاً من مكونات طابع عصر القرون الوسطى، وهي اتجاه التعليم نحو الناحية التي كانت تقصد إلى الإنسانية المحضة ? وربما نشأت هذه الظاهرة من تلون الحكم والنصوص القانونية بلون ديني في ذلك الوقت، لأن الدين لا يعرف جنساً من البشر بعينه ولا يقصد إلى تهذيب أمة لكونها أمة مخصوصة، وإنما لكونها جماعة إنسانية، ولعلها كانت نتيجة لرغبة تحقيق الفكرة الإمبراطورية للكنيسة. وتحقيق مثل هذه الفكرة يتأثر تأثراً سلبياً بالدعاية لمبدأ التعليم القومي.
فالأمة الإنكليزية مثلاً في العصر الحديث - وكذا كل أمة لها سياسة استعمارية عالمية - تعلم الناشئة فيها سياسة الحكم الإمبراطوري والعمل لأداء (رسالة) إنجلترا في الإمبراطورية الإنكليزية على يد رجال الشعب الإنكليزي وحدهم، وهي تربية قومية محضة، ولكنها في الوقت نفسه تعلن خارج بلادها وفي حدود إمبراطوريتها تأييد التعليم الدولي وأن الغاية منه بلوغ الكمال في الإنسانية، لأن ذلك من الوسائل السلمية لضمان بقاء الاستعمار وضغط الشعور القومي في البلاد الخاضعة لها من طريق ظاهرة المحبة والإخلاص.
أما القانون الخلقي لهذا العصر فكان العمل للسلام الإنساني والاعتراف لكل من القوي والضعيف والمفكر والأبله وغير هؤلاء من نوعي الإنسان بالتمتع بالحياة كاملة على حد سواء. وربما كان ذلك نظرياً فقط لأن حوادث التعذيب التي تنسب إلى الجهة العليا يومئذ(224/11)
أي إلى الكنيسة ضد العلماء يصح أن تكون دليلاً على أن السلام الذي كان يعترف به كمبدأ خلقي كان يقصد به عدم إثارة أي نزاع ضد الطائفة الحاكمة وهي الطائفة المنتخبة من الله والموكلة بأمره في الخلق.
وهكذا اليوم مثلاً دعوة السلام التي تقرر كمبدأ سياسي دولي والتي تذيعها جمعية عصبة الأمم في كل يوم وكل مناسبة ليست إلا أمراً نظرياً يقصد منه ترك القوي يتمتع بسيادته على الأمم الضعيفة في أكبر قسط من الراحة وهناءة البال دون أن تزعجه مطالبها القومية ورغبتها في الاستقلال بالسيادة.
والعصر الحاضر يتمتع بطابع مخصوص تنم عنه جملة ظواهر تكاد تكون على الضد من الظواهر السابقة.
فالديمقراطية، أي كون الشعب هو الذي يباشر حكم نفسه بالأسلوب الذي يختاره: بالأسلوب البرلماني أو الشيوعي أو الفاشي تكون جزءاً كبيراً من هذا الطابع.
كذلك سياسة الواقع ? ومراعاة المصالح القومية ظاهرة أخرى لهذا العصر. وقد تكون هي وحدها محور المشاكل الدولية اليوم، والسبب الرئيسي في شل عصبة الأمم وإظهارها بالمظهر الخيالي الذي يتضاءل أمام الحقيقة، فضلا عن أنها منذ خلقت لم تكن إلا حلماً لذيذاً للأمم الضعيفة، وستاراً ولكنه شفاف، يكشف دائماً عن مقاصد القوى وسياسته ذات الوجهين.
ولعل من سياسة الواقع واتباعها رفض نظرية التعليم الدولي وبناءه على الأسس القومية وتوجيه نحو الصالح الوطني، واستبدال الغرض (الوطني) بالآخر الإنساني. وهذه ظاهرة أخرى توضح طابع هذا العصر.
أما قاعدته الخلقية فهي تحقيق مبدأ تنازع البقاء والاعتراف بأن الصالح للحياة هو القوي والأصلح المنتج. ولعل الإيمان بهذه القضية الخلقية نتيجة للشعور الوطني الذي ساد الأمم والدويلات، وتمكن من نفوس الجماعات البشرية المختلفة في الجنس والعادات اللغة. فإحساس كل أمة بوجوب استقلالها وخضوعها لسيادتها الذاتية فحسب أذكى قوة النضال فيها وحفظها من التوزع داخل الأمة في مكافحة الأحزاب السياسية الوطنية بعضها بعضاً ثم صوبها نحو الخارج: أي أن كل أمة وجهت قوة الكفاح نحو الأمم الأخرى دفعاً لما عساه(224/12)
أن يحدث من خطر يذهب بسيادتها الذاتية. ومن النتائج الضرورية للكفاح بقاء القوي واستمرار تمتعه بالحياة. وهو حادث طبيعي؛ غير أنه أخذ في العصر الحديث صفة خلقية ونال استحساناً عقلياً وتأييداً عملياً، وهذا هو الذي جعل تلك القضية الخلقية من مميزات هذا العصر.
أما الدعوة إلى السلام العالمي الذي ينادي به نظام جنيف، والذي ربما يتنافى في الظاهر مع إقرار مبدأ تنازع البقاء إقراراً خلقيا، فهي دعوة مدخولة وأقرب إلى الخديعة منها إلى نداء إنساني عام يرجى من ورائه سعادة الجماعة البشرية، لأن القائم بها يفهم من السلام العالمي ترك النائم في أحلامه واستسلام الضعيف لضعفه واستمرار المستعمر في اذلاله، بينما هو يمثل لديهم جميعاً دور الحكم الذي اختير للفصل من خالق العالم.
تلك مظاهر العصرين ومنها يتكون طابعهما. فإذا نظرنا الآن إلى مصر، إلى مركز النص القانوني وقيمته فيها، وإلى نظامها الحكومي، وإلى المبدأ الخلقي للسياسة العملية فيها، وأخيراً إلى مبدأ التعليم واتجاهه، إذا نظرنا إلى كل هذا فهل يمكننا أن نظفر بحكم قطعي على طابع الحياة فيها؟ وهل يتهيأ لنا بصفة حاسمة أن نقول إن مصر تعيش في وقتنا الحاضر، أو في عصر القرون الوسطى، أو أنها لا تعيش في كليهما؟ وإذن في أي عصر تعيش هي؟
لنسترجع هذه الظواهر واحدة واحدة ونستعرضها في مصر حتى يكون الحكم نتيجة صحيحة لمقدماته.
أليست الـ والمبالغة في تقديس القانون من حيث هو (نص) قانوني فقط هي التي تحمل على أن يقوم برياسة الوظائف الفنية الكبرى التي تحتاج إلى تخصص وخبرة تامة في الفن كوظائف الصحة والتجارة والاقتصاد والمعارف. . . رجالُ كل مؤهلاتهم أنهم درسوا القانون الجنائي أو القانون المدني أو الدولي مثلاً؟ أليس شأن هؤلاء كشأن القساوسة في العصور الوسطى الذين ولوا الوظائف المدنية الفنية وليس لهم مؤهلات إلا أنهم من رجال الكنيسة ومدرسة القانون الديني؟
لماذا هذا الظلم وهذا الإجحاف الذي يصيب الفلاح سنوات وسنوات بسبب قانون تحريم تعديل ضريبة الأطيان قبل مضي ثلاثين سنة على وضعها أو تعديلها؟ أهذا شيء آخر غير(224/13)
التمسك بالنص القانوني وإن ذهبت مصالح الشعب الحيوية ضحية ونفذ الظلم في صورة (مشروعة) في صورة قانون؟
لماذا تترك (العقبة القانونية) تتحكم في إنجاز مشروع مجلس المعارف الأعلى وهو المجلس الفني في أمور التعليم وفي سياسية البلد الثقافية سنوات عدة ولو سادت مع ذلك الفوضى في تعديل برامج التعليم وذهب وقت الرئيس، الرجل (القانوني) الذي يجب أن يكون وقته خالصاً لمصالح الأمة في دراسة تكميلية فنية شخصية أي دراسة شئون التربية التي لا تغنيه عنها شيئاً دراسته القانونية؟ أهذا أمر آخر غير التمسك بالنصوص القانونية من حيث هي نصوص فقط؟
لماذا يضحي بالكفايات الشخصية في العمل الحكومي؟ ولماذا يسود هذا القانون البيروقراطي قانون الوظائف الأوتوماتيك الذي يجعل المكافأة بالعلاوات على مدة الخدمة لا على نوعها؟ وربما يقال إنه قانون عادل لأنه يحرم طريق الاستثناء! ولكن لم لا تكون قاعدة الاستثناء هي الكفاية بدل المحسوبية؟ ولم لا تجعل الجدارة الشخصية مع مراعاة الأقدمية بعض المراعاة مبدأ للترقية المادية؟ أمن عدل القانون أن يحرم على الناس استخدام مواهبهم الشخصية في المصالح العامة؟ أمن عدله أيضاً أن يكون من جماعات الإنسان آلات أوتوماتيكية، أو من عدله أن يشجع الكسل ويعترف له باستحسان شرعي؟ أم ذلك كله هو التمسك بنص القانون من حيث هو نص فحسب؟
لماذا يقدم رجل عادي إداري - وكذا كل رجل صاحب نبوغ خاص يحمله دائماً على استقلاله في تفكيره ويهيئ له نضوجاً خاصاً في قوة التمييز بين العمل للمصلحة والطاعة (للنص) القانوني - من كبار رجالات مصر المصلحين الذين هم ثروة الأمة وذخيرتها إلى المحاكمة أمام هيئة عليا بحجة أنه نفذ إصلاحاً قبل تسلمه الرد بالموافقة من الوزارة المسئولة؟ أيقدم مصلح للمحاكمة لأنه حول مستنقعاً كبيراً كاد يقضي على سكان عاصمة إقليم من أهم أقاليم الوجه البحري إلى متنزه عام وشيد عليه معهداً للثقافة العقلية: مكتبة البلدية بدمنهور، وداراً أخرى لتلك الغاية على طراز آخر: سينما البلدية، وملعباً رياضياً لتقوية أجسام الشبيبة ومساعدتها على التمتع بالصحة في الشباب والشيخوخة، كل ذلك في زمن وجيز وبإرادة نافذة؟ أيقدم للمحاكمة لأنه عطف على الفلاح واعترف بنصيبه في(224/14)
الحياة وباشتراكه في معنى الإنسانية وبمركزه في الإنتاج الاقتصادي لمصر فاستعمل معه أسلوب اللين في تحصيل الضرائب التي يدفعها للموظف الحاكم وفي الواقع لخادمه الذي يجب أن يكون تحت تصرفه ولمصلحته في كل لحظة وبكل عناية؟
ما ذنبه إذا كانت الجبهة العليا الحاكمة تجري في تنفيذها للمشروعات على أسلوب بيروقراطي وتتمسك (بنص) قانوني كم ذهبت مصالح حيوية ضحية له. وكم دام إنجاز بعض المشروعات الهامة سنوات طويلة وقد كان لا يستغرق أكثر من أشهر معدودة لو فهمت الروح القانونية. أليست فكرة معاقبة رجال الإصلاح على هذا النحو هي فكرة الكنيسة في القرون الوسطى ضد من كان يريد أن يحكم عقله مرة ما في فهم النصوص القانونية؟
هل يفهم الإنسان شيئاً آخر سوى تحكم النص القانوني وحده إذا عرف أن أحد الكنستبلات المالطيين في بوليس الإسكندرية أعيد للخدمة ثانية بعد عزله وفقاً لنص المعاهدة، لأنه تجنس بالجنسية المصرية؟ إنني أعرف رجلين من الأرمن هنا في هامبورج تجنسا بالجنسية المصرية. أنا لم أدهش من شعور أحدهما يوم قابلني في سنة 1935 في وقت اشتدت فيه حركة الطلبة بالقاهرة للحصول على غرض شريف: للحصول على دستور سنة 1923. إنه لم يستح أن يجرح عاطفتي الوطنية إذ يفاجئني بقوله: ماذا يقصد هؤلاء الطلاب أولاد العرب من حركتهم هذه؟ ألا يستحون من مطالبة بريطانيا بالتخلي عن حكم مصر؟ ألم يفهموا للآن أنها تمدنهم وتحد من همجيتهم؟ لم أدهش حقاً لهذا لأني أعلم أن تجنسه بالجنسية المصرية لا يمكن أن يكيف شعوره بكيفية مصرية مهما حاول ذلك، كما لم أدهش منه يوم قابلني هو بعينه في شهر يونيه الماضي وجعل يردد لي حبه وتعلقه بمصر وفخره أنه يحمل على صدره العلم المصري، لأني أعلم أيضاً أنه يستتر وراء هذا العلم من مطاردة بعض أفراد النازي هنا له، لأن سحنته يهودية ولأنه هو وأخاه من التجار الأجانب الذين هم تحت مراقبة البوليس لسوء سمعتهم الأخلاقية واتباع حيل اليهود الدنيئة في كسب الربح.
ولو سوغ التجنس بالجنسية المصرية لهذا المالطي حقوقاً أخرى سياسية لما كان ينبغي أن يجيز له مباشرة عمل متصل بنظام الأمة الداخلي، ولكنه (النص) القانوني الذي لا يفرق(224/15)
بين مصري ومتمصر له من الطبائع النفسية وطرق التفكير ما يبعده أشد البعد عن طبيعة المصري أو العربي المتمصر مثلا؛ والسلوك العملي للإنسان خاضع لطبائعه النفسية ونوع تفكيره
وغير هذا من الحوادث كثير. فإذا ذهب من يريد الإسلام عن اقتناع لا عن محاولة وإكراه إلى قنصلية مصرية في الخارج ليسجل إسلامه فيها كهيئة رسمية تمثل أمة إسلامية تحتل المكان الأول بين أمم العالم الإسلامي لم يصل إلى غايته، لأن نص القانون المصري يحرم ذلك تجنباً لإشكال دولي بينما يبيح أعمال التبشير الإكراهية في مصر المسلمة التي يقول عنها الأستاذ المراغي إنها سرقة أرواح واغتصاب نفوس عملاً بحرية الأديان. ولكنه النص القانوني.
بجانب هذه الظاهرة: ظاهرة التمسك بالنص القانوني التي هي إحدى ظواهر عصر القرون الوسطى، نجد ظاهرة أخرى من ظواهر العصر الحاضر وهي الظاهرة البرلمانية التي لا تبيح استبداد الفرد أو الطائفة الأرستقراطية بالحكم. ولكن بالرغم من وجود هذا النظام الشكلي فإن أهم مكونات طابع العصر الحاضر لا يجدها الباحث إذا فتش عنها في مصر الحديثة.
فالسياسة العملية السائدة اليوم في مصر ليست سياسة الواقع ومراعاة الصالح الوطني؛ وغاية التعليم ليست قومية وطنية بل دولية بكل معانيها، إذ أعز أماني مصر الحديثة خدمة (الإنسانية) والعمل على تلاشي الفوارق الطبيعية قبل تكوين أمة مصرية يشعر كل فرد من أفرادها بأن عليه واجباً نحو نفسه ونحو وطنه. كما أن النظرة الخلقية التي تلقى استحساناً عند الطبقة الحاكمة والتي تشبعت بها نفوسهم هي تأييد السلام العالمي الموهوم، والعمل لقضية السلام، والافتخار بالاشتراك في جمعية المحافظة على السلام الدولية التي قضى عليها بالموت منذ خلقت.
فأنا لا أدري إذا كانت مصر تعيش في القرون الوسطى لهذا المظهر السائد اليوم: مظهر التمسك بالنصوص القانونية ولو كان فيه التضحية بالمصالح الحيوية وعدم تحقيق معنى العدالة. ولكن المظهر البرلماني يحول دون الحكم بذلك، لأن مظهر السلطة في ذلك الوقت كان استبدادياً قاصراً على الطبقة المختارة من الله(224/16)
أم إنها تعيش في العصر الحاضر لوجود هذا المظهر الشعبي؟ ولكن سياستها ليست سياسة الواقع ومراعاة المصالح القومية كما أن أسلوبها في التعليم هو الأسلوب الدولي، وقاعدتها الخلقية ليست إقرار مبدأ تنازع البقاء.
أم أنها تعيش في كلا العصرين؟ ولكن محال على أمة فتية رشيدة تسير في طريق التطور الطبيعي أن تجمع حكومتها بين الأضداد. وإذن لا بد أن تكون ظواهر أحد الطابعين خادعة
وأغلب ظني أن مصر لم تدخل بعد في العصر الحاضر صاحب الطابع الوطني؛ ولكنها تقطع الآن الفترة السابقة له، وهي فترة مملوءة بالأخطار الجسيمة التي تمس حيوية الشعب، فترة الحرية الكاذبة التي تطغي على كل ناحية من النواحي العقلية والخلقية وتتجاوز الحدود الطبيعية، فترة الرغبة في التخلص مما يسمى (قديماً) - وخير الوطن في التمسك به - والنزوع إلى الجديد المبهم غير المحدود الذي تلوكه الألسن ولا تفهمه عامة الشعب بل وكثير من خواصها - وهو لهذا خطر - فترة التحرر
فإذا قوي في الأمة شعور التمسك بالوطن وبالقديم؛ وقوي الشعور بالمحافظة على ما كان للأمة والاعتزاز به في أي ناحية، كان ذلك ابتداء الحياة في العصر الحاضر
محمد البهي قرقر
دكتور في الفلسفة وعلم النفس وعضو بعثة الأستاذ محمد
عبده.(224/17)
في تاريخ الجمعيات السرية
1 - طائفة سرية عجيبة تعيش في عصر المدنية بأساليب
همجية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قامت الجمعيات والطوائف السرية في جميع العصور والمجتمعات وتنوعت مبادئها وغاياتها الدينية والسياسية والاجتماعية، ولعبت مختلف الأدوار في تكوين الآراء والعقائد، وذهبت في الغلو والإغراق كل مذهب، وتركت أثارها في جميع الأمم والمجتمعات التي قامت بها.
ولكن التاريخ لم يسجل صفحاته السرية الحافلة سيرة أغرب وأروع من سيرة جماعة سرية من البشر الهائمين اصطلحوا على التوسل لتحقيق مبادئهم الروحية المزعومة بتشويه الإنسان وتعطيل مهمته الاجتماعية بطريقة بربرية اعتبرت في جميع الأمم والعصور وحشية مثيرة تطاردها الأمم المتمدينة بمنتهى الشدة والصرامة، تلك هي (طائفة المجبوبين) (سكوبتسي) التي قامت في روسيا في أواسط القرن الثامن عشر، ولا تزال قائمة حتى اليوم، والتي تعتبر الجب وسيلة النقاء من الدنس وطريق الخلاص الأبدي من آثام هذه الدنيا.
ولقد عرف التاريخ منذ أقدم العصور أمثلة من هذا النوع اعتبرت فيها هذه الوسيلة الهمجية ضرباً من التضحية السامية التي ترتفع بصاحبها إلى مراتب التقديس، وظهرت بين بعض طوائف الرهبان في أوائل عصور النصرانية، وذاعت حيناًَ بين رهبان الكنيسة الشرقية، ولكنها كانت دائماً مثار الإنكار من الناحيتين الدينية والإنسانية.
وعرفت معظم العصور والأمم طوائف الخصيان والمجبوبين من العبيد والخدم، وعرفتها المجتمعات الحديثة حتى أواخر القرن الماضي، ولكن طوائف الخصيان كانت تحشد دائماً من الرقيق بسائر أنواع؛ وكان نظام المجتمع منذ فجر التاريخ قائماً على التفرقة بين طوائف المجتمع، وكان الرق مشروعاً في هاتيك العصور، وكان الرقيق متاعاً مباحاً تجري عليه سائر التصرفات، وكان الخصي أو الجب وسيلة بربرية لأعداد طوائف من الحشم(224/18)
تمتاز بصفات خاصة تؤهلها لخدمة القصور والبيئات الرفيعة؛ وقد استطاعت طوائف الخصيان أن تشق طريقها إلى السلطة والنفوذ في مواطن كثيرة؛ ولكنها كانت تعتبر دائماً من الناحية الاجتماعية من الطبقات الدنيا، وكان ينظر إليها دائماً في كثير من الرثاء والإشفاق لأنها تعاني حالة اجتماعية منافية للأوضاع الإنسانية الطبيعة.
ولكن المجتمعات المتمدنة تنكر اليوم الرق وتعتبره ضرباً من ضروب الهمجية الذاهبة. وتعتبر القوانين المحدثة الخصي أو الجب من أشنع الجرائم التي يمكن أن تقع على إنسان، وتعاقب مرتكب الجريمة الشائنة بأقسى العقوبات، بل تعاقبه بالإعدام كالقاتل العمد سواء بسواء.
ومع ذلك ففي قلب أوربا المتمدينة تقوم إلى اليوم تلك الطائفة السرية العجيبة طائفة (سكوبتسي) وشعارها تلك الجريمة المثيرة جريمة الخصي أو الجب كوسيلة إلى السعادة الروحية والخلاص الأبدي.
وترجع الرواية قيام هذه الطائفة السرية إلى أواخر القرن السابع عشر على يد فلاح يدعى دانيلو فليبوف؛ ولكنها عرفت يومئذ بجماعة (أهل الله)، وتزعم الرواية أن دانيلو هذا ألقى ذات يوم جميع الكتب المقدسة في نهر (الفولجا) وقال إنه لا يوجد كتاب يحقق سلام الروح الأبدي سوى الروح القدس ذاته؛ ثم صعد إلى الجبل مع نفر من أنصاره؛ فنزلت عليه سحابة من النور، ونفذ إليه الروح القدس؛ وزعم أنصاره أن الإله قد مثل في شخصه على مثل ما يزعم الدروز بالنسبة لشخص الحاكم بأمر الله.
وتتلخص تعاليم فليبوف فيما يأتي: أن الإله الذي قد بشرت به الأنبياء نزل إلى الأرض لينقذ أرواح البشر؛ وليس ثمة من إله غيره، ولا تعاليم غير تعاليمه؛ وعلى المؤمنين أن يطيعوه؛ وألا يشربوا الخمر، وألا يرتكبوا الزنا، وألا يتزوجوا؛ وعلى من تزوج ألا يقرب زوجته، وعليهم ألا يسرقوا، وأن يحتفظوا بسر تعاليمه، وأن يحب بعضهم بعضاً، وأن يؤمنوا بالروح القدس. وتبنى فليبوف بعد ذلك فلاحاً آخر يدعى سوسلوف وزعم أنه هو ابنه المسيح، واختار سوسلوف له أثنى عشر رسولاً، وتوفي سنة 1714، ودفن في أحد الأديار.
وبعد وفاة سولسوف تمثلت روح المسيح على حد زعمهم في شخص لوبكين وهو جندي(224/19)
من فرقة الاسترلتزي؛ وعلى يديه انتشر مذهب الطائفة في كثير من الأديار بين الرجال والنساء معاً. ولما استفحل أمره قبض عليه وأعدم سنة 1732 وأخرجت جثته فيما بعد وذر رفاته في الهواء؛ وقبض على كثيرين من أشياعه وحوكموا بتهمة المروق والكفر ونفي كثيرون منهم إلى سيبريا؛ ولكن هذه المطاردة لم تخمد من حماسة أولئك الكفرة المتعصبين فاستمروا يبثون مبادئهم في الخفاء، ويتعاقب في زعامتهم مسيح بعد آخر؛ وكانوا يقيمون شعائرهم سراً في جوف الليل في بعض الضياع أو الأنحاء المهجورة، وفي أواخر القرن الثامن عشر تطورت مبادئ الطائفة وتوسع بعض دعاتها في تفسير تعاليم فليبوف، وقال إن الزواج المحظور هو الزواج الكنسي فقط وأن (الأخ) يستطيع أن يتصل بأخته اتصالاً روحياً؛ ولم يلبث أن ذاع بينهم الاختلاط الجنسي الحر، وكان هذا الاختلاط يتخذ أحياناً صوراً مثيرة، فتعقد جماعتهم بالليل، وتنتهي شعائرهم المزعومة بمناظر مروعة من الفجور والفسق.
وكانت هذه نقطة التحول في مبادئ طائفة (أهل الله): ذلك أن فريقاً من المؤمنين رأى في هذه الحياة الجنسية الشائنة خروجاً على تعاليم فليبوف التي تحتم التزام الفضيلة والعفة، ورأوا في (الجب) خير وسيلة للتخلص من الشهوات والموبقات الآثمة؛ ومن هنا ظهرت طائفة (المجبوبين) (السرية سكوبتسي) واكتشفت السلطات الضحايا الأولى لهذه الدعوة البربرية في سنة 1772في مقاطعة أرومل؛ وظهر من التحقيق الذي أمرت الإمبراطورة كاترين بإجرائه أن الدعاة يزعمون أنهم يرسمون للبشر طريق الخلاص الأبدي، وأنه يجب على المؤمن ألا يذوق الخمر، وألا يعاشر النساء، ويجب على الفتيان والفتيات ألا يتزوجوا، كما يجب على المتزوجين أن يضربوا عن الاتصال الجنسي؛ وظهر أيضاً أن الدعاة استطاعوا أن يؤثروا على كثيرين من الفلاحين، وأن يحملوهم على قبول الخصي أو الجب المطبق تحقيقاً للعفة والسعادة الأبدية. ولم تستطع السلطات يومئذ أن تظفر بزعيم الطائفة الحقيقي؛ ولكن ظهر فيما بعد أنه فلاح يدعى سلفانوف، وهو فتى في الثلاثين من عمره، هادئ المزاج، كثير التأمل والهيام، عارف بالقراءة والكتابة وهو ما كان يندر في ذلك العصر؛ وكان يبشر بدعوته بعبارات صوفية غامضة، وكان من زعماء (أهل الله) ولكنه راعه من رآه من ذيوع الفسق بين المؤمنين، فبدأ دعوته ضد (السحر) النسوي أصل(224/20)
كل بلاء وإثم، وأخذ يدعو إلى (النقاء المطلق)؛ وهذا النقاء لا يتحقق في رأيه إلا بمجانبة كل بواعث الضعف ولا سيما الإغراء الجنسي، والكبرياء، والأنانية، ولا سبيل إلى تحقيق هذا المثل الأعلى إلا (بقتل الجبة) أو بعبارة أخرى إعدام الأعضاء الجنسية والتخلص من آثامها.
(هكذا نشأت طائفة المجبوبين) (سكوبتسي)، واستطاع سلفانوف أن يحشد حوله جماعة من التلاميذ والأشياع معظمهم من الفلاحين البسطاء؛ ولم تكشف السلطات أمره إلا في سنة 1775 إذ قبض عليه وجلد وعذب مراراً، ثم نفي إلى سيبريا؛ وقبض على كثيرين من أشياعه المجبوبين، وجلدوا، وحكم عليهم بمختلف العقوبات.
ولكن الدعوة البربرية لم تخمد مع ذلك، فحملها تلاميذ سلفانوف ورفعوه إلى مرتبة التقديس وأسموه (بالمنقذ) وجاوزت الدعوة طبقة الفلاحين إلى الطبقات الأخرى، فانتظم في سلك الطائفة جند وتجار وغيرهم خضعوا جميعاً لهذا التشويه الهمجي؛ وزعموا أخيراً أن سلفانوف هو الإنسان الوحيد الذي مثلت فيه روح المسيح، وأنه سيعود قريباً. أما سلفانوف فلبث يرسف في منفاه في أركوتسك زهاء عشرين عاماً، ثم استطاع الفرار أخيراً ولم تهتد السلطات إلى أثره.
وفي العام الثاني ظهر في قرية بيخوفو على مقربة من موسكو شخص يرتدي أسمالاً بالية، وقد حزم بطنه بسلاسل من الحديد وبدت عليه آثار السقم والورع، فالتف حوله بعض الفلاحين، وكان يصلي بينهم بلغة مجهولة؛ ولم يمض سوى قليل حتى ظهرت معجزاته إذ استطاع أن يشفي أمراه مريضة، وأن يحول الخمر إلى ماء؛ وفي ذات يوم أخذ يتكلم بالروسية وزعم أنه القيصر (بطرس فيدروفتش) ولم يكن هذا الدعي سوى سلفانوف نفسه، رأى في حوادث البلاط الروسي يومئذ منفذاً جديداً لدعوته؛ والقيصر بطرس فيدروفتش أو بطرس الثالث هو زوج الإمبراطورة كاترين، وقد توفي سنة 1762 في ظروف مؤسية غامضة، واتهمت زوجته بتدبير مصرعه لأنهما كانا على خلاف دائم؛ وكان القيصر مصاباً بالضعف الجنسي، وكانت زوجه تبغضه ويبغضها لفجورها؛ ولكنه كان محبوباً من بعض طوائف الشعب لنزعته الحرة وخلاله الرقيقة، وكان من مآثره التي زادت في حبه أن أفرج عن آلاف عديدة من المنفيين لأسباب دينية؛ فلما توفي على هذا النحو الغامض ذاعت حول(224/21)
وفاته أقاويل وروايات كثيرة، وزعم كثيرون أنه لا يزال على قيد الحياة، وقام أكثر من دعي يدعي بأنه القيصر بطرس، ومن أشهر هؤلاء بوجاتشيف زعيم القوزاق الذي أثار حيناً في مقاطعة الأورال، ثم هزم وأعدم. واتخذت هذه الأسطورة على يد سلفانوف وأشياعه صبغة جديدة، خلاصتها أن المسيح تمثل لآخر مرة في شخص القيصر بطرس الثالث، وان أمه العذراء اليزابيث ولدته بمعجزة ثم تخلت عن العرش لوصيفة لها تشبهها كل الشبه، وذهبت تعيش بين (أهل الله) في مقاطعة أوريل باسم الفلاحة آكولينا إيفانوفا. ولما كبر بطرس وزوج بالإمبراطورة كاترين اكتشفت زوجه أن به عنة فاعتزمت قتله والاستيلاء على العرش من بعده؛ ولكن بطرس علم بأمر هذه المؤامرة، فترك العرش وغادر بطرسبرج (لكي يقاسي مع أهل الله) وقتل مكانه مجبوب يشبه كل الشبه؛ واختفى القيصر حيناً ثم قبض عليه، وعذب كما عذب المسيح، ونفي مدى عشرين عاماً في مكان سحيق، ولكنه استطاع أن يفر، وأن يعود متشحاً بكل مجده وعلاه.
تلك هي الأسطورة التي مزجها سلفانوف بشخصه، وحاول أن يستغلها من الناحيتين السياسية والدينية؛ ولكنه لم يلبث أن وقع في يد السلطات مرة أخرى، فقبض عليه في موسكو سنة 1797، وزج إلى دار المجانين في بطرسبرج؛ وأراد القيصر بول الأول (وهو ابن القيصر بطرس الثالث وكاترين) أن يرى ذلك الدعي الذي يزعم أنه أبوه، فاستدعى سلفانوف إليه وجرت بينهما محادثة تنبأ فيها سلفانوف للقيصر بموت سريع عنيف. ولبث الدعي في سجنه طيلة حكم بول الأول، وقبض أيضاً على تلميذه ورسوله (شيلوف) وسجن حتى موته وغدا قبره مزاراً يحج إليه المجبوبون من سائر الأنحاء.
وفي عهد القيصر اسكندر الأول تنفست طائفة المجبوبين الصعداء، لأن القيصر الجديد كان ذهناً حراً في معنى من المعاني؛ وفي عهده صدرت عدة مراسيم تحريرية، ومنها مرسوم بالكف عن مطاردة المجبوبين (لأنهم بفعلهم الذميم قد عاقبوا أنفسهم بأنفسهم عقاباً كافياً) وعلى ذلك أطلق سراح المعتقلين منهم، وانتدبت لجنة خاصة لبحث جميع المسائل المتعلقة بالطائفة، وأفرج أخيراً عن سلفانوف بتدخل سيد بولوني من ذوي النفوذ يدعى ألكسي اليانسكي، وكان من المتصوفين الهائمين، فأعتنق مبادئ الطائفة وكان أول أعضائها من خاصة المثقفين، وقد لعب فيما بعد دوراً عظيماً في تطورها وتقدمها.(224/22)
وسنرى فيما يلي كيف عاشت هذه الطائفة السرية العجيبة خلال القرن التاسع عشر عصر العلم والنور، وكيف أنها لا تزال قائمة حتى يومنا في ظل النظام البلشفي، وفي قلب أوربا المتمدينة.
(للبحث بقية)
فينا في أوائل أكتوبر
محمد عبد الله عنان(224/23)
الدمام
لأستاذ جليل
اللعَس سواد مستحسن يعلو شفة المرأة أو سواد في حمرة
قال (التاج): لعس كفرح لعسا، والنعت ألعس وهي لعساء من فتية ونسوة لُعس: في شفاهم - وشفاهن - سواد
وفي اللعس جمع اللعساء يقول الزمخشري: (إذا رأيت أبكاراً لعساً، وعجائز قُعسا فقل: لعاً وتعسا!!) قل: لعاً للأبكار اللعس، وتعساً للعجائز القعس.
نعم ما يوصينا به إمام عظيم في اللغة والأدب ونحلة المعتزلة! الحق أن شيخنا الزمخشري لا يستحي. . .
فاللعس هو صبغ الله، صباغ الله، (صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة؟)
ومن هوى كل من ليست مُموِّهةً ... تركتُ لون مشيبي غير مخضوب
وإذا أحب محب أن يرشف ريق رشوف أو يرف شفتيها، أو يترضبها، فإنه يرجع بخير، إذ ما في صبغة الله إلا الطهر، وإن سمى حاسد أو عذول هذا الرضاب بغير أسمه فقال: هذا بصاق! فليس ثمة ضير.
تقول:
هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن ذممت تقل: قيء الزنابير
وقد رفضت المترقشات المتقينات المتنمصات المتشمات تلك الصبغة، صبغة الله، وركضن إلى صبغة العطار والصيدلاني فكان تبديل خلق الله وتصويره. وجاء من ذلك - من تلك الدواهي - هذا الوشم في الجسد واليد والوجه واللثة والشفة. وقد (لعن الله الواشمة والمستوشمة) كما (لعن الله النامصة والمتنمصة) لكن الخبيثات ما يبالين لعناً ولا ذماً، ولا يحسبن للأخرى حسابا
كان وشم الشفاه في القديم، وجاءت اليوم هذه (الحمرة) فيها، هذا (الموت الأحمر) وأمسى (التحمير) دين كل شابة وتابة. . .
وكأن أولئك الحور العين الحسان الكواعب وهن مقلات مدلات بجمالهن، ذوات أبهة،(224/24)
مزدهيات - فكأنهن والغات في دماء صرعاهن، صرعى عيونهن!
وكأن شفة الرجل بعد تلك الرشفات خطم ضار في الفلا مفترس.
إنه لما عمت وطمت هذه البلية التي (ليس لها من دون كاشفة) وكنا من خدام هذه اللغة رأينا أن يوضع لها لفظة فكانت كلمة (الدمام) المسماة بالفرنسية فتقول - يا زير النساء وطلبها إن شئت أن تقول - رأيت في قهوة أو ملهى أو معهر في (شارع عماد الدين).
شارع عماد الدين! هذا شارع هاري الدين، هائر الدين، موهي الدين. . .
فتقول: رأيت فتاة مثل الدمية أو رأيت دمية، أمامها قشوتها أو عتيدها، وهي تدم شفتها بالدمام، وهو دمي في الشفة!
ليس دمي في جيدها؛ إن دمي في الشفة!!
دمُك أنت - زيرَ الغواني - لا دمي فإنه
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي ... شيئاً تتيمه عين ولا جيد
(ن)(224/25)
بين العلم والأدب
للأستاذ عبد الكريم الناصري
قرأت في العدد (219) من (الرسالة) الغراء مقالة للأستاذ علي الطنطاوي يقارن فيها بين العلم والأدب، ويفاضل بينهما، ويقضي في أمرهما؛ فوجدته (لم يدع مذمة إلا ألحقها) بالعلم، (ولم يترك مزية إلا نحلها) الأدب، كأنما (الأمر قد انتهى والقضية قد فصلت) وحكم للأدب على العلم (فلم أدر متى كانت هذه المنافرة، وأين كانت هذه المفاخرة، ومن هو الذي جلس في منصة القضاء، ومن الذي زعم أنه وكيل العلم حتى أخزاه الله على يديه، وأذله به؟)
والذي لاحظته على الأستاذ وعجبت له أن يتوسع في مفهوم الأدب توسعاً كثيراً، بينما يبخل بذلك على العلم ويضيق معناه كل التضييق؛ فهو يقول: (إن الأدب ضرورة للبشر ضرورة الهواء) (لأن البشرية لم تعش ساعة واحدة من غير أدب) ولكنها (عاشت قروناً طويلة من غير علم، وما هو إلا طفل ولد أمس ولا يزال يحبو حبواً). . . وذلك لأن الأدب بمعناه الواسع يشمل (كل ما كان وصفاً للجمال وتعبيراً عنه) فكل (من يعني بالجمال ويتذوقه، بل كل من يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويحس باللذة والألم واليأس والأمل يكون أديباً، ويكون الأدب - بهذا المعنى - مرادفاً للإنسانية، فمن لم يكن أديباً لم يكن إنساناً). . . أما العلم فهو هذا العلم المنظم الطرائق المقرر الأصول، هذا العلم الذي ولد أمس، علم نيوتن ودارون وإينشتين!!
كلا يا سيدي، ما هكذا تقام الموازنات، ولا هكذا تعقد المفاضلات. فإذا كنت قد توسعت في معنى الأدب كل هذا التوسع، حتى جعلته مجرد الإحساس والشعور، فمن العدل والإنصاف أن تتوسع في معنى العلم أيضاً، فتجعله مجرد التفكير والمحاكمة العقلية، فبغير ذلك لا تكون لموازنتك ولا لمفاضلتك قيمة أو معنى، لأن الأصل في المقارنة بين شيئين أن يكون أساسهما مشتركا. . .
فالعلم بمعناه الواسع قديم قدم العقل، لا (طفل ولد أمس) والمحاكمة العقلية - أي العلم - هي الفارق بيننا وبين العجماوات، فيكون العلم - بهذا المعنى - مرادفاً للإنسانية، فمن لم يكن عالماً لم يكن إنساناً. . . أليس كذلك؟
(إن أول كلمة قالها الرجل الأول للمرأة الأولى) كما يقول الكاتب: (كلمة الحب، لمكان(224/26)
الغريزة من نفسه). . .
وهذا صحيح، فإن الأدب - في أعمق معانيه وأصدقها - تعبير عن الغرائز الحيوانية والبشرية؛ وقد بدأ الأدب منذ قال (الأديب الأول) ما قال (للأديبة الأولى) وكان من نتيجة اشتغالهما بالأدب واهتمامهما به، أن أخرجا مما كانا فيه، وهبطا إلى هذه الدنيا - مما يدل على أن شؤم الأدب على أصحابه بدأ منذ ذلك العهد - ثم أستمر بعدهما القتل والتخريب واتباع الغرائز وإطاعة الشهوات، وأستمر الأدب يصور ذلك كله، ويعبر عنه وينبه إليه، ويقويه في الأذهان، ويحييه في النفوس، ولولا العلم والعقل وسنه القوانين والأنظمة للجماعات، ووقفه الأفراد عند حدهم، وحده من شرتهم، لعم البلاء وعظم الخطب، ولفسدت الأرض ومن عليها!
يقول الأستاذ علي: (إن أكثر البشر استغنوا عن العلم ولم يفكروا تفكيراً علمياً) بينما (لم يستغن أحد عن الأدب ولم يعش إلا به)
وهو في هذا القول أيضاً يقصد بالأدب المعنى الواسع الذي وضعه له، ويقصد بالعلم المعنى الضيق الذي ارتضاه له. . . ولقد بينا خطأ هذا القول، وبينا أن (الفصيلة البشرية) تتميز بالمحاكمة العقلية عن بقية الحيوانات، وأن من غير الممكن أن تتصور إنساناً بغيرها، أي بغير علم.
فإذا أردنا أن نجد، أي نقصد بالعلم والأدب معنيهما العاديين، وجدنا أن كثيراً جداً من الناس يستغنون عن الأدب، وليس لديهم خيال الأدباء، ولا سمو مشاعرهم ومثلهم، بينما نجد سوادهم الأعظم لا يستغنون عن العلم، ونتائجه، ومن وسائل المواصلات، إلى وسائل التسلية والترويح عن النفس، إلى غير ذلك مما لا يعد ولا يحصر؛ كما أننا نجد هذا السواد الأعظم يفكرون تفكيراً علمياً. أجل، يفكرون كما يفكر ميليكان وجيمس جينس واينشتين. . . فان منطق العامة ومنطق العلماء واحد في (النوع) وإنما الاختلاف في (الدرجة). وهذه الحقيقة تخفي على الكثيرين، وإن كانت من بسائط علم المنطق الحديث، بل إن منطق العلماء موجود عند البشر جميعاً، لأن (الاستقراء) و (الاستنتاج) هما الميزتان اللتان تميزان العقل البشري عن سائر الحيوانات. والغسالة، كما يقول هكسلي، تستخدم في اكتشاف أن البقعة التي على الثوب هي بقعة حبر، عين المنطق الذي استخدم في اكتشاف(224/27)
السيار نبتيون.
أما سؤال الكاتب: (هل بلغ أحداً أن أديباً نظر في معادلة جبرية، أو قانون من قوانين الفيزياء، أو أحس الحاجة إلى النظر فيها؟) فانه غريب حقاً. وما كنت أنتظره مطلقاً من الأستاذ الطنطاوي. . . فهل بلغك يا أخي أن بول فاليري، أمير شعراء فرنسا، كان عالماً رياضياً قبل أن يكون شاعراً، وأن جوتيه، أعظم شعراء الدنيا بعد شكسبير، كان عالماً بيولوجياً قبل أن يكون شاعراً، وأن هـ. جـ. ولز، عميد أدباء الإنجليز، كان أستاذاً في الجيلوجيا، وأن أشتغاله بهذا العلم لا يزال إلى اليوم يطبع أدبه وتكهناته وتنبؤاته؟؟ ماذا تريد بعد هؤلاء الجبابرة من أمثلة؟؟
الأدب لا يستطيع بحال من الأحوال أن يستقل عن العلم، والقول باستقلاله خطأ شائع يجب تصحيحه. . .
يقول الشاعر العظيم وردزورث: (إن الأشياء التي يستطيع الشاعر أن يستمد منها ويستوحيها موجودة في كل مكان) وإن (عيني الإنسان وسائر حواسه وإن كانت لا ريب خير مرشد له وهاد، فإنه يسير في كل طريق ويتبع كل جو يستفز مشاعره ويستثير أخيلته، ويستطيع أن يحرك فيه أجنحته)
ويقول وليم هنري هدسن المحاضر السابق بجامعة لندن: (نستطيع أن نقول إن الشاعر العظيم حقاً هو مفكر عظيم في الوقت نفسه. وهو لذلك لا بد أن يهتم، ويتأثر باكتشافات العلم المتفرقة وبقضاياه ومساجلاته، أو على الأقل بالحركات الفكرية التي تثيرها هذه. إن معارف العصر الجديدة، وكل ما تحدثه من التغيرات في معتقدات الناس الموروثة وآرائهم التقليدية في النظام الكوني وعلاقاتهم به، وكل ما تقدمه لهم وتضعه أمامهم من المشاكل والمسائل، لا محالة تسحره جوانبها العاطفية والروحية سحراً لا يقاوم؛ ثم أن ما يتراءى وراءها من خير للبشرية ومطامحها وآمالها أو من شرور، لا بد أن يسترعي التفاته ويستدعي اهتمامه. وعلى فرض أنه لا يتخذ موضوعات تأمله المباشر، فإنها تدخل إلى شعره من مسالك خفية لا تعد ولا تحصى، فتلونه بلونها وتطبعه بطابعها، كما تدخل في تفكير عصره الجاري فتلونه بلونها وتطبعه بطابعها إذن فبعيد كل البعد عن الحق أن الشاعر لا صلة له بالعلم ومعارفه، بل هو على الضد من ذلك، لا يستطيع مطلقاً أن(224/28)
يتجاهل نتائجها الكبيرة تجاهلاً تاماً، وإذا كان من ذوي العقول الفلسفية فإنه يجد الاطلاع عليها ومحاربتها فيما يتصل منها بكل مسألة ومصلحة تعود إلى حياة الإنسان العليا واجباً عليه وفرضاً). . . (إن استنباط العواطف والأحاسيس من المعرفة العلمية - عملية بطيئة حتما؛ ولكن من مقاييس عظمة الشاعر كمفكر أن يقدر على أن يرى إمكان الاستنباط وعلى أن يساعد - بإدراكه المعاني الروحية للحقائق العلمية - على تتميمها وتكميلها)
ويدع الكاتب تفريقه (الفلسفي)، ويفاضل بين العلم والأدب من الناحية النفسية. فيقول: (إننا نعلم أن العلم يبحث عن الحقيقة فهو يستند إلى العقل، أما الأدب فيتكئ على الخيال، ثم ينظر في العقل والخيال: أيهما أعم في البشر وأظهر؟. . فيرى أنه الخيال (من غير شك) بل إن هذا الخيال ليمتد إلى صميم الحياة العلمية، فالعلم إذن (مدين للخيال أي للأدب)
ولكن من المبادئ الأولية في الأدب أن (التفكير) عنصر من عناصره الرئيسية الأربعة. فالأدب إذن يستند إلى العقل أيضاً. ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن مسرحية (أهل الكهف) كلها خيال؟!!
فإذا كان العلم مديناً للخيال أي الأدب، فالأدب مدين للعقل أي للعلم. والنتيجة أن ليس هنالك تفاضل، ولا دائن ومدين. . . أليس كذلك؟!
أما أن الخيال أعم في البشر من العقل وأظهر، فغير صحيح والأدلة والأمثلة التي جاء بها الأستاذ لا تثبت أن من الناس من يملكون خيالاً ولا يملكون عقلاً، ليقال إن الخيال أعم من العقل، ولا أثبتت أن الذين يملكون خيالاً واسعاً أكثر من الذين يملكون عقلاً قوياً، ليقال إن الخيال أبرز في البشرية وأظهر نعم (ليس في الناس من لا يقدر على استعمال الخيال). ولكن ليس في الناس من لا يقدر على استعمال العقل، وإذا كانت عقول بعض الناس (محدودة القوى) ومحاكاتهم العقلية ضعيفة، فإن خيال الكثيرين محدود القوى ضيق المجال أيضاً. وإذا لم يكن في الناس من يعجز عن (تخيل حرارة النار وامتداد ألسنة اللهب) فليس فيهم من لا يدرك أن اقتحام اللهب، والدخول في وسط النار، يحرق جسمه ويقضي عليه! وقولك إن كثيراً من الناس (لا يقدرون على استعمال العقل على وجهه) لا معنى له، لأن جميع الناس يستطيعون أن يستقروا ويستنتجوا، وإنما الاختلاف كما سبق القول في الدرجة والمقدار(224/29)
ولا أريد ههنا أن أبحث عن الصلة بين (العقل) والخيال؛ لأن المقام لا يتسع لذلك؛ ولأني أريد أن أساير الأستاذ في فروضه ونظرياته حتى يكون الرد. . . أوجز. ولكن لا مانع من أن أساله هذا السؤال: ما السر في قلة أدب القصص والخيال في الشرق عامة بالقياس إلى أدب المقالة والتفكير؟
ثم يقول الأستاذ علي: (أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في صف العلم والجمال مع الأدب) (والواقع غير ذاك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر وتغير دائم). (في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته) (ولا يعتريه تغيير ولا تبديل). فأين هي الحقيقة؟ وأي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟
كلا هذين الرأيين مخطئان، ولننظر أولا في الرأي الثاني: فالأدب متغير متبدل دائماً. لأن الأدب يصدر عن الشخصية ويخاطب الشخصية، وبما أن شخصيات الناس تختلف، فكل شخص يفهم من قصيدة بعينها ما لا يفهمه شخص آخر؛ ومعنى ذلك أن الحقائق العاطفية والمعاني الروحية التي أراد الشاعر أن يوصلها إلى نفس القارئ قد ضاعت وزالت، وبتعبير أدق، قد تحولت إلى ملايين من الحقائق والمعاني. وهذا هو السبب في اختلاف النقاد على الأثر الأدبي الواحد. بل إن الشاعر نفسه قد يعجز بعد مضي زمن قصير أو طويل على استعادة معانيه العاطفية التي أودعها قصيدته. وإلى جانب هذه المعاني المتبدلة المتحولة تجد ما يحتويه (الكتاب العلمي الذي ألف منذ خمسين سنة) هي نفس حقائق الطبيعة، والذي لا (نقبله) منه اليوم هو نظرياته (كما سترى بعد قليل).
فإن قلت: إن المهم ههنا أني أقرأ اليوم الديوان الذي نظم منذ ألف سنة ولا أقبل الكتاب العلمي الذي كتب منذ خمسين سنة لأن ما في الأول من صفات القوة والجمال وسمو الموضوع هو الذي يبقيه ويخلده. كما أن نسخ النظريات و (القوانين) الجديدة لتلك التي سبقتها هو الذي يدعوني لرفض الثاني. قلت: هذه النظرة إلى بقاء الأدب أقبلها على تعارضها مع الحقيقة التي ذكرتها على تغيره، لأن غايتي من هذا المقال أن أدفع التهم التي ألصقتها بالعلم لا أن أبحث في الأدب أو أفاضل بينه وبين العلم فلننظر الآن في تغير العلم الدائم، والكتاب الذي (لا يقبله طالب ثانوي). . .
يتلخص عمل العلم في أنه يجمع مقداراً من الحقائق، ثم يحاول أن يضع لها قاعدة عامة(224/30)
تربطها وتفسرها جميعاً، على أن تنطبق كل ما يكشف من الحقائق بعد وضعها. فإذا أكتشف حقيقة أو أكثر لا تتفق معها عدل عنها إلى قاعدة أخرى، أعم وأشمل، وهكذا (يتدرج) العلم من قاعدة إلى قاعدة أوسع، أي تنطوي على حقائق أكثر. إن العلم لا يرى في هذه القواعد والنظريات والقوانين أكثر من (فروض). ولكن بهذه الفروض وحدها يستطيع أن يكشف الحقائق، لأن كل فرض ينبه إلى حقائق جديدة، ولأن العلماء حين يضعون فرضاً لا يكتفون به ولا يسكنون إليه، بل يجدون في البحث والملاحظة والاستقراء وابتكار الآلات واستنباط الوسائل التي تعينهم على الوصول إلى بيانات أوفى، وحقائق أكثر. وهذه تقابل مع الفرض الموضوع، فان تعارضت معه وضع فرض أشمل. إذن فوضع فرض جديد معناه كشف حقائق طبيعية جديدة - لا تغير في الحقائق السابقة - ومعناه أيضاً (تقدم) - لا تغير - من فرض إلى أخر أشمل.
ومن ذلك نستطيع أن نستنتج بسهولة أن الطالب الثانوي لا يرفض الكتاب الذي ألف منذ خمسين سنة، بل يقبله، ويقرؤه، ولكن النسخة التي بين يديه هي طبعة جديدة من ذلك الكتاب منقحة وموسعة. . .
وزيادة في توضيح المسألة أدع السر جيمس جينس يرد على الأستاذ الطنطاوي:
(إن الغرض العام للعلم هو أن يسير إلى مثل هذه النظريات ويصل إليها، ولا نستطيع مطلقاً أن نعتبر نظريةً ما نهائية أو حقيقةً مطلقة، إذ من المحتمل أن تظهر حقيقة جديدة ترغمنا على ترك هذه النظرية؛ وقد يحدث ذلك للنظرية النسبية ولو أنه بعيد الاحتمال؛ وإذا ما حدث ذلك برغم استبعاده فإن الوقت الذي أنفق في تكوينها لم يضع سدى، بل سيكون تدرجاً إلى نظرية أوسع وأكمل، تتفق مع عدد أكبر من الظواهر الطبيعية. من ذلك يظهر العلم للرجل العادي متغيراً دائم التغير دائراً حول نفسه مخالفاً لنظرياته الأولى، ولكن العالم يراه دائم التقدم، يرقى من نظرية إلى أخرى، تحظى كل نظرية منها باتفاقها مع حقائق تزيد على التي أزاحتها، ورائده الوصول إلى هدفه الأسمى وهو النظرية التي تفسر ظواهر الطبيعة الكاملة)
ثم ينظر الإنسان في نتائج العلم ويسأل: ما هي فائدة هذا العلم؟ وماذا نفع البشرية؟
يريد أن يقول: ما هي فائدة هذا العقل؟ والجواب على ذلك سهل ميسور. فالعقل لم يوجد إلا(224/31)
ليستخدمه الإنسان في الدفاع عن نفسه، والتغلب على أعدائه من الحيوان، وفي حفظ بقائه، وفي الرقي بحياته وتوفير أسباب سعادته بعد ذلك، ولولا هذه الغاية لما وجد أصلاً. . . ولقد جرب العقل الفلسفة فوجدها عاجزة كل العجز عن إبلاغه هذه الغاية، لأن الفلسفة كما لا يخفى عليك كلام في كلام؛ والكلام لا يستطيع أن يقتل حشرة، أو يهلك مكروباً، أو يصنع طيارة. لذلك تركها وأساليبها و (قيمها) وخرافاتها، وسلك هذا المهيع السوي، والطريق الواضح، طريق العلم. . . فلم يلبث حتى رأى نتائجه المحسوسة الباهرة. . . فالعلم إذن آخر مظهر من مظاهر الرقي العقلي، وآخر اتجاه اتجه إليه العقل. وليس من البعيد جداً أن يتفق العلم والفلسفة والدين على أية صورة من الصور، ولكن دوره سيظل هو هو لا يتغير ولا يتبدل ودوره هذا لا يقتصر على تخليص البشرية من جميع أعدائها ولا على إسعادها مادياً، فحسب، بل هو يشتمل على إسعادها فكرياً، وتلك هي غايته العليا
تقول: (إن الاختراعات ليست خيراً كلها، وليست نفعاً للبشرية مطلقاً) وهذا صحيح، أو هو صحيح إلى حد ما؛ والمفهوم منه أن أكثر الاختراعات خير، وإن لم تكن كلها خيراً؛ ولكنك لا تلبث حتى تنقضه بهذا التقرير (الحسابي) الحاسم، وهو أن العلم (شره بخيره والنتيجة صفر). . . صفر!!
وتقول: إن العلم (سهل المواصلات وهونها، فقرب البعيد، وأراح المسافر، ووفر عليه صحته ووقته، ولكن هل أسعد ذلك البشرية؟)
بالطبع والأدلة موجودة في السؤال. ولكنك ترى غير هذا الرأي، وتجيب جواباً لا صلة له البتة بالسؤال. فوسائل المواصلات الحديثة لم تسعد البشرية، ولماذا؟ لأننا لم نعد نتحمل آلام المسافات الطويلة، أو نتعرض لمخاوفها، فخسرنا الصور والمشاعر (وصرنا نقطع طريقنا إلى القبر عدواً ونحن مغمضو عيوننا. . . لم نر من لجة الحياة إلا سطحها الساكن البراق!). . . وهذا بالطبع دليل ساطع قاطع على أي وسائل المواصلات الحديثة لم (تسعد) البشرية. . . صحيح!!
ثم تقول إن العلم تغلب على كثير من الأمراض، ولكنه هو الذي جاء بها، جاءت بها الحضارة، (وهذه فكرة خاطئة عن صلة العلم بالحضارة، وليس هذا موضع بحثها) فهو لا يزال مديناً. . تقول هذا ناسياً ناحية مهمة، وهو أن الحكم على العلم وموقفه من الأمراض(224/32)
لا ينبغي أن يبنى على وضعه الحاضر فقط؛ فإذا كان العلم قد تغلب هذه المدة القصيرة على كثير من الأمراض واكتشف جراثيمها، وصنع السموم المضادة لها، فإنه سيتغلب عليها جميعاً، ويفني الجراثيم على أخرها، وكذلك يقضي على عدو آخر فظيع للبشرية، وهو الحشرات؛ وعندئذ تستريح البشرية وتسير قدماً إلى الأمام - وفي النجاح الذي أحرزه إلى اليوم خير مؤيد لما أقول. . .
إن هؤلاء البدو الذين يرفع من حياتهم الأستاذ علي سيتحضرون حتما؛ لأن التحضر يجري بحكم قانون طبيعي قاهر. وهؤلاء البدو ليسوا سعداء، كما يظن، لأنه لا يمكن أن يكون سعيداً من يفترس أخاه لقبضة من العشب، أو جرعة من الماء. ونحن يجب أن ننظر إلى فتوحات العرب نظرة اقتصادية قبل كل شيء. . .
ثم أن هنالك فرقاً بين سعادة وسعادة. وسعادة اينشتين حين يقع على حقيقة جديدة، ليست هي سعادة زنوج أفريقيا، أو بدو نجد، لأن سعادة الإنسان الراقية أعلى من سعادة الإنسانية المنحطة، وهذا الفرق يشبه تماماً الفرق بين الرواية البوليسية السخيفة وبين (هاملت) وبين (اللذة) التي يحصل عليها القارئ العامي من قراءة الأولى، وبين (اللذة) التي يحصل عليها المثقف من قراءة الثانية. فلننظر إلى طبيعة اللذة والسعادة قبل كل شيء.
عبد الكريم الناصري(224/33)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 25 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي - (لاهو - تسيه)
فلسفة العملية
يغالي بعض الباحثين حين يصف (لاهو - تسيه) بأنه ميتافيزيكي فحسب ولا شأن له بالفلسفة العملية أو الأخلاق كما يصف (كونفيشيوس) بأنه عملي لا يأبه للميتافيزيكا، وإنما الحقيقة أن لكل منهما رأياً قيما في الأخلاق، وهذا طبيعي، لنهما اغترفا من منبع واحد، وهو فلسفة عصر ما قبل التاريخ، ولكن الخلاف قد دب بينهما حول الوسيلة التي توصل إلى الخير والكمال، فبينما كان (لاهو - تسيه) يرى أنها التنسك واحتقار المادة وإهمال الحياة العملية وعدم الإكثار من القوانين، ويرى أن عصر الأباطرة الذين شرعوا القوانين واللوائح كان عصر تدهور وانحلال تلا العصر الذهبي الذي كان الملوك فيه لا يعرفون القوانين، ولا يهتمون بالعقاب، كان (كونفيشيوس) على العكس من ذلك يرى أن العصر الذهبي هو عصر أولئك الملوك الذين قننوا القوانين ووضعوا القواعد التشريعية، ولهذا كان يتخذهم نماذج يسير على مناولهم. وإذن، فالاثنان أخلاقيان يريدان الكمال والسعادة للأمة، وإنما يختلفان في الوسيلة فحسب، وقد شرح (لاهو - تسيه) رأيه في الأخلاق العملية فقال ما نصه: (بقدر ما يكثر الملك من القوانين واللوائح، يهوى الشعب في البأساء؛ وبقدر ما يكون لدى الشعب من وسائل الغنى والرفهنية، تكون حالة الأسرة والوطن رديئة؛ وبقدر ما تتضاعف الأوامر الشديدة يكون عدد اللصوص والمجرمين في نمو وتضاعف) وعلى الجملة، كان المثل الأعلى من الملوك في رأيه هو الملك الذي تجهل رعيته الوجود جهلاً(224/34)
تاماً
وعنده أن المعرفة الظاهرية رديئة، لأنها لا توصل إلا إلى حقائق نسبية، ومن حيث إن الغاية المقصودة هي الحقيقة المطلقة في ذاتها، فينبغي ألا ننشغل إلا بما يوصل إلى هذه الحقيقة، ولا يوصل إليها إلا الاتحاد التام، والامتزاج الكامل بـ (تاو) ولا يتيسر هذا الامتزاج بالتربية ولا بالتثقيف الظاهري، كلا، فهاتان الوسيلتان معدومتان الفائدة، وإنما هو يتحقق بالعزلة التامة ولذلك فالقديسون الذين يريدون الاتصال بـ (تاو) واتباع الصراط السوي، يجب عليهم أن ينبذوا كل ثقافة وينسحبوا إلى مكان مقفر ويعيشوا كما كان أهل العصور الغابرة يعيشون ممتزجين بالقوة غير المرئية، وهو يصف هذه الحالة فيقول: يكون خائفاً كمن يختلق سيلا في الشتاء، متردداً كمن يخشى أن يراه جيرانه، جدياً كأجنبي في محضر ضائفه، بارداً كالثلج حين يتحلل، جافاً كالخشب الخام، فارغاً كالوادي، وفي العموم أن المثل الأعلى للخيرية في رأي الفيلسوف هو الطفل الذي يولد على الفطرة بريئاً نقياً، وأن الوسائل التي توصل إلى الكمال هي: الحياء والضعف والبساطة و (الؤووي) ومعناه العزلة والتخلي عن كل عمل، وسلوك الصراط السوي
غير أن هذا كله ليس معناه أن (لاهو - تسيه) قد أمر بإهمال المسئولية الاجتماعية، كلا، بل هو قد حض بالعكس على العناية بالجمعية البشرية، وأعلن أن الأنانية وإهمال خدمة العمران من الرذائل الكبرى وقد سبقت تعاليمه الآمرة بالغيرية والمحبة العامة تعاليم المسيحية بنحو ستة قرون، ولم يكن تبشير (لاهو - تسيه) بحب الغير ناشئاً عن عاطفة، وإنما كان منبثقاً من منبع الواجب والالتزام اللذين كانا يملكان عليه تفكيره وحواسه وعنده أن القديس هو الذي يحكم الشعب ويسوسه، ولكن لا بالقوة والقسوة، بل بالمثل الأعلى الذي يقدمه مثبتاً به أنه فوق الطبيعة، وأنه لا يحكم شعبه بالقوانين والعقوبات، ولا يخضع الشعوب الأخرى بالحروب، وإنما يعامل الجميع ببساطة الطفل وطهارته؛ هذا هو وحده الأمير الذي تنتظره الصين وتعول عليه في محنتها
أحسب أنك ترى بعد كل هذا معي ومع الأستاذ (زانكير) أن (لاهو - تسيه) كان فيلسوفاً لا تنزل به عبقريته إلى ما هو أدنى من صفوف أفلاطون والقديس (أوجوستان) و (كانت) وأنه إذا كان قد أخفق أو ضل السبيل في بعض أفكاره، فإن التبعة في ذلك واقعة على(224/35)
التدهور الذي كان ميزة عصره وخاصيته، وإذا لم يكن مذهبه قد أزهر فيما بعد كما أزهرت مذاهب الإغريق، فإن لذلك سببين: الأول أنه لم ينشئ في حياته مدرسة لنشر فلسفته، والسبب الثاني أن الطبيعة الصينية لم تكن تتلاءم مع تعاليمه المغالية في التنسك والسلبية، وهذا لم تكد فلسفته تعرف في أوربا حتى أزهرت في البيئات الاشراقية إزهاراً لم تعرف له نظيراً في منبتها الأصلي
(التاوايسم) أو (اللاهو - تسيه)
بعد أن توفي (لاهو - تسيه) نشأ من ميتافيزيكيته مذهبان: (التاوإيسم) الفلسفي و (التاوإيسم الديني)، وكلاهما نشأ من (تاو) وهو عنوان كتابه الذي أشرنا إليه. فأما (التاوايسم) الفلسفي فقد أنقسم فيه تلاميذ الحكيم إلى عدة أقسام، فبعضهم تخصص في دراسة المعرفة وما يمكن أن يحصله الإنسان منها، وهل هذا المتحصل مفيد أو غير مفيد. والبعض الأخر قصر بحثه على دراسة الظواهر الطبيعية وما تحتويه من أسرار، ولكن لما كان الجميع متأثرين برأي أستاذهم الذي أسلفناه، وهو القائل بأن (التاو) غير قابل للمدركية البشرية، فقد كان من الطبيعي أن يعلنوا أن العقل الإنساني قاصر على إدراك (المطلق) وبالتالي هو قاصر عن إدراك بعض الحقائق الموجودة
هناك فريق ثالث من تلاميذ هذا الحكيم لما يئسوا من إدراك العقل البشري لكنه (التاو) لم يجدوا أبداً من أن يعلنوا أن ما لم يدرك بالعقل، يدرك بوساطة السحر؛ وهنا نشأ مذهب (التاوإسيم) الديني وهو مزيج من قواعد سحرية، وتعاليم تصوفية، ولما كان هذا القسم الأخير لا يعنينا كثيراً في دراستنا الحاضرة فقد آثرنا أن نقصر إشارتنا هنا على (التاوايسم) الفلسفي ومن أشهر أولئك التلاميذ الذين أحيوا مذهب أستاذهم بعد موته وواصلوا سلسلة بحوثه هو (بين - سي) الذي سار على ضوء تعاليم أستاذه فكتب بحوثاً قيمة حول نظرية المعرفة ونقد العقل البشري وأبان قصوره عن إدراك (المطلق) ومن مشاهير هؤلاء التلاميذ أيضاً (لين - تسيه) الذي كان من أعلام عصره الإجلاء والذي كتب بحوثاً هامة حول كثير من المشاكل الفلسفية، ولكن مما يدعو إلى الأسف أن ما عثر عليه من مؤلفاته وجد مشوهاً متناقضاً مما يدل على أن بعض الأيدي قد عبثت به وقد عاش هذا الحكيم في القرن الخامس قبل المسيح.(224/36)
هناك حكيم آخر من أولئك التلاميذ، وهو: (تشوانج - تسيه) الذي عاش في النصف الثاني من القرن الرابع قبل المسيح وعاصر (مانسيوس) الذي سنتناوله بعد أستاذه (كونفيشيوس)
يروي لنا المؤرخون إن هذا الحكيم شغل في مطلع شبابه مركزاً سياسياً هاماً، ولكنه لم يكد ينضج حتى عاف السياسة واعتزل الخدمة وقصر حياته على البحث والتأليف، وفي أثناء ذلك بلغت كفايته مسمع الملك، فبعث إليه رسوله بهدية عظيمة وطلب إليه أن يقبل منصب وزير في الدولة، فلما عرض عليه الرسول ذلك أجابه بقوله: إن هذا المبلغ عظيم إذا قيس إلى حالتي وإن منصب الوزير منصب محسود، ولكن ألم تر في حياتك أن الثور الذي خصص للذبح في أحد المعابد ثم أخذوا يطعمونه حتى سمن ثم أحاطوا جسمه قبل ذهابه إلى المذبح بالحلي والمجوهرات ليكون منظره جميلا، ألم تر أن هذا الثور ساعة دخوله إلى المعبد يتمنى أن لو كان خنزيراً صغيراً حتى يعفى من الذبح، ولكن هذا التمني لا يجديه فتيلا؟ أذهب إذن من هنا ولا تهني بمحضرك فأنا أفضل أن أنام في قناة حمئة مليئة بالأوحال على أن أذعن لتقاليد البلاط والتزاماته.
ويحدثوننا كذلك أن هذا الإفراط في التمسك بالكرامة والمحافظة على حرية الرأي قد جر عليه حياة مليئة بالصعوبات والأشواك، ولكنها مليئة كذلك بالاحترام، والإجلال إلى حد أن روت لنا إحدى الأساطير أن أخرى زوجاته من كانت الأسرة المالكة
مؤلفاته ومذهبه
روى التاريخ أن هذا الحكيم قد كتب ثلاثة وثلاثين كتاباً وأن هذه الكتب كلها قد جمعت تحت عنوان واحد وهو: (المناهج الحقيقية لزهور بلاد الجنوب) ولكن المدققين من المؤرخين يرون أنه لم يثبت له شخصياً إلا نحو عشرة كتب كتبها بخطه؛ أما الباقي فهو مجموعة مكونة من آرائه وآثاره مع شروح وتعاليق تلاميذه.
أما مذهبه فيمكن أن يدرس من ثلاث نواح: الناحية الأولى النظرية؛ وفيها لم يكن يختلف عن أستاذه (لاهو - تسيه) في شيء، إذ هو يرى معه أن العقلية البشرية قاصرة عن إدراك (التاو) بواسطة المعرفة الثقافية التي لا تتناول إلا الحقائق النسبية أما (المطلق) فهو لا يعرف إلا عن طريق الانفعال النفساني، وإن كل محاولة لمعرفة هذا (المطلق) عن طريق التفكير المنطقي آيلة ضرورة إلى الفشل المحقق بعد أن تقود صاحبها إلى صحراء قاحلة(224/37)
من السفسطة والضلال، لأن المنطق لا يصل إلى نتائجه إلا بالتحليل؛ ولو أصبح تحليل (المطلق) ممكناً، لخرج عن كونه (مطلقا)
أما الناحية العملية من مذهبه: فهي وإن كانت مؤسسة على الأصول الجوهرية من آراء (لاهو - تسيه) إلا أنها تطورت عن المذهب القديم كثيراً. ولإيضاح هذه الناحية العملية أجرى فيلسوفنا الشاعر محاورة بين روح السحاب وبين الضباب؛ ثم بسط مذهب على لسان الضباب فقال: (صير قلبك حازماً وتجنب كل تدخل في أي شيء؛ أي ألزم الـ (وو - وي) أو (اللاعمل) ودع الأشياء تتطور حسب ناموسها الطبيعي، ولا تأبه لجسمك وأغلق عينيك وأذنيك، وانس كل ما يربطك بالعالم الخارجي، وامتزج بالمبدأ الأول. فك وثاق قلبك، ومد روحك؛ وعد إلى عالم (اللا إدراك) فإذا تحقق ذلك رجع كل كائن إلى الصدر المبدئي العام، وعاد كل شيء إلى منشئه دون علم منه بهذه العودة واجتمع كل موجود، وتوحد الجميع كما كانت الحال في البدء، ولم يصبح كل كائن مريداً ولا قادراً على البعد عن هذه الوحدة المطلقة الأبدية)
ويعلق أحد المستصينين على هذا بقوله: ينبغي ألا يتسرب إلى الأذهان أن تنسك (شوانج - تسيه) كان نوعاً من الحرمان والرهبنة على نحو ما هو موجود في الديانات الهندية والمسيحية، كلا، فالحكيم في رأيه لا يستحق هذا الاسم إلا إذا ترفع عن جميع الآلام وتخلص منها وأخضعها لإرادته. أما متنسكو تلك الديانات فهم تحت الآلام لا فوقها، وهذا فرق عظيم يجب أن يعني به الباحثون
بهذا الفيلسوف تنتهي أرقى الحركات العقلية حول (التاوايسم) الفلسفي بعد أن أزهرت إبان القرنين: الخامس والرابع قبل المسيح إزهاراً ساعد عليه تعطش الشعب إلى السعادة والهدوء في وسط معمعان هذا التدهور السياسي والعمراني الذي أشرنا إليه آنفاً
هذا، وسندرس ما عرض له (التاوإيسم) من تطورات في العصور التاريخية التي تلت هذا العصر، ولكن بعد أن ننتهي من دراسة أعلام المذهب الآخر وهم: (كونفيشيوس) وأشياعه
(يتبع)
محمد غلاب(224/38)
للأدب والتاريخ:
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 9 -
(قطعتني زحمة العمل أسبوعين عن مواصلة الكتابة وقامت بيني وبين الواجب؛ ثم ألح عليّ المرض أسبوعين يغدو ويروح بين الليل والنهار، فلا أهم أن اشرع القلم لأستأنف حديثي حتى يقطعني الإعياء ويقعد بي العجز. فما كان من صمتي في الأسابيع الأربعة الماضية فهو من ذاك، ولعله عذر يبلغ بي عند الأصدقاء الذين ظنوا بي ما ظنوا لهذا الصمت الطويل فأوسعوني في رسائلهم عتباً وملامة، فكان عتابهم آية من آيات الود الصافي وحسن الإخاء)
الرافعي في سنوات الحرب
كان الرافعي - رحمه الله - شاعر النفس، مرهف الحس، رقيق القلب، قوي العاطفة: يرى المنظر الأليم فتنفعل به نفسه ويتحرك خاطره ويتفطر قلبه؛ وتقص عليه نبأ الفاجعة فلا تلبث وأنت تحكي له أن تلمح في عينيه بريق الدمع يحبسه الحياء. ولقد كان الرافعي يقرأ فيما يرد إليه من بريد قرائه كثيراً من المآسي الفاجعة يسأله أصحابها الرأي أو المعونة، فما يقرؤها إذ يقرؤها كلاماً مكتوباً، ولكنها تحت عينيه حادثة يشهدها ويرى ضحاياها فما تبرح ذاكرته من بعد إلا مع الزمن الطويل.
ولقد وقعت الحرب واستعرت نارها في الميادين البعيدة لا يبلغ إلينا منها نار ولا دخان ولا يراق دم، ولكنها أرسلت إلى مصر الفقر والجوع والغلاء، فما كان ضحاياها في مصر بالجوع والمتربة أقل عديداً من ضحاياها هناك في الميدان. . . كيف كان يعيش العامل المسكين في تلك الأيام؟ رباه! إنني ما أزال أذكر يوم أرسلني والدي - وأنا غلام بعد - أستدعى النجار لعمل عندنا فوجدته جالساً في أهله يأكلون: كانوا ستة قد تحلقوا حول قصعة سوداء فيها كومة من فتات الخبز أدامه الماء، تتسابق أيديهم إليه في نهم كأنما يخشى(224/40)
كل واحد أن تعود يده إلى القصعة بعد الأوان فلا يجد اللقمة الثانية. . .!
هكذا كان يعيش نصف الشعب في تلك الأيام السود مما فعل القحط والغلاء، لأن أقوات الشعب قد حملت إلى الميدان لتخزن في دار المؤن وقتاً ما، لتقذفها من بعد قنابل المحاربين وتذروها رماداً في الهواء. . .!
ونظر الرافعي حواليه فارتد إليه البصر حسيراً مما يرى ويسمع، فاحتبس الدم في عينيه ولكن قلبه ظل يتحدث بمعانيه
ومضى عام وعام والحرب ما تزال مستعرة، والبؤس تتعدد ألوانه، وتتشكل صوره، وتحشد آثاره؛ والرافعي دائم الحديث إلى نفسه وهو يحمل من هم الشعب في قلبه كبير، حتى امتلأ الإناء يوماً ففاض. . .
في بعض اللحظات التي تفيض فيها النفس بالألم، يحس الإنسان كأنه شيء له نظام في الكون إرادة وتدبير، وأن من حقه أن يقول للمقدور: لماذا أنت في طريقي. . .؟ فتراه في بعض نجواه يتساءل: ربِ لم كتبت علي هذا. .؟ لماذا حكمت بذلك. .؟ لماذا قدرت وقضيت. .؟ ما حكمتك فيما كان. .؟ ألم يكن خيراً لو كان ما لم يكن. . . .؟ ثم يثوب إلى نفسه ويفيء إلى الحق، فيعود معتذراً يقول: لقد ظهر حكمك، ودقت حكمتك فمغفرةً وعفواً. . .!
وتظل حكمة الله مطوية في ظلمات الغيب، لا يتنورها إلا من غمره شعاع الإيمان وسطع في قلبه نور الحكمة، أما الذين تعبدتهم شهوات أنفسهم فهم أبداً في حيرة وضلال.
في لحظة من تلك اللحظات أغمض الرافعي عينيه وراح يفكر، وفي رأسه خواطر يموج بعضها في بعض؛ ثم فاءت نفسه، فرفع رأسه وهو يقول: (ربِ، ما أدق حكمتك وأعظم تدبيرك. .!) وأفاض الله عليه ورفع عن عينيه الغطاء. . .
وعاد ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضاً، ويسرق بعضهم أقوات بعض، ويتزاحمون على الحياة فيسارعون إلى الموت؛ فدمعت عيناه ولكنه كان يبتسم، وعاد يقول: (حكيم أنت يا رب! ليتهم وليتني. . . ليتهم يعلمون شيئاً من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس!. . . كل شيء في هذا الكون العظيم يجري على قدرٍ منك وتدبير حكيم!)
ثم شرع يؤلف كتابه المساكين(224/41)
كتاب المساكين
أخرج الرافعي كتابه هذا في سنة 1917، وهو الكتاب الرابع مما ألفه الرافعي في المنثور، وثاني ما ألف في الأدب الإنشائي، ويعرف به الرافعي في الصفحة الأولى منه فيقول: هو كتاب (أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس)
وقدم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني يقول فيها:
(هذا كتاب حاولت أن أكسو الفقر من صفحاته مرقعةً جديدة. . . فقد والله بليت أثواب هذا الفقر وإنها لتنسدل على أركانه مزقاً متهدلة يمشي بعضها في بعض، وأنه ليفلقها بخيوط من الدمع ويمسكها برقع من الأكباد ويشدها بالقطع المتنافرة من حسرة إلى أمل وأمل إلى خيبة وخيبة إلى هم؛ وأقبح من الفقر ألا يظهر الفقر كاسياً أو تكون له زينةً إلا من أوجاع الإنسانية أو المعاني التي يتمنى الحكماء لو أنها غابت في جماجم الموتى الأولين. . .)
والكتاب فصول شتى، ليس له وحدة تربط بين أجزائه، إلا أنه صور من الآم الإنسانية كثيرة الألوان متعددة الظلال، تتلقى عندها أنة المريض، وزفرة العاشق، ودمعة الجائع، وصرخة اللهفان المستغيث؛ فهنا صورة (الشيخ علي) الرجل الذي يعيش بطبيعته فوق الحياة وفوق الناس لأنه يعيش بنعمة الرضى، وإلى جانبه قصة الغني الشيخ الذي حسب أنه سيطر على الحياة لأنه ملك المال، وهذه صاحبته الحسناء الصغيرة التي انتشلها الشيخ بماله من الفقر الجائع فوهب لها المال ولكنها سلبها نعمة الشعور بالحياة، وهذه، وهذه. . . من صور المساكين الذين يعيشون يحتسون الدموع أو يتطهرون بالدموع.
وأول أمر الرافعي في تأليف كتاب المساكين، أنه كان في زيارة أصهاره في (منية جناج) فلقي هناك الشيخ علي، والشيخ علي هذا رجل يعيش وحده ليس له جيب يمسك درهما، ولا جسد يمسك ثوباً، ولا دار تؤيه، ولا حقل يغل عليه؛ يجوع فيهبط على أول دار تلقاه يتناول ما يمسك رمقه، ويدركه النوم فيتوسد ذراعه حيث أدركه النوم من الدار أو الطريق، رجل يعيش بطبيعته فوق كل آمال الناس، وآمال الحياة، ولقيه الرافعي وأستمع إلى خبره فعرف من فلسفته فلسفة الحياة، ووجد عنده الحل لكل ما في نفسه من المشكلات، فكان هذا الكتاب من وحي الشيخ علي الفيلسوف الصامت في الرافعي الأديب، واجتمعت له مادة الكتاب في مجلس واحد لم ينطق فيه أحد بكلمة.(224/42)
ويصف الرافعي الشيخ علي فيقول:
(. . . هو حليم لنفسه غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس، والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم؛ كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه؛ فالناس كما هم وهو كما هو يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من يصيب بأذى؛ ويتماشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء؛ ثم إن مسه الأذى الرقيع أو سقيط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم وكان ألمه مرض طبيعي، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا. . .! وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة غير أن أمرهما مختلف جداً فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو لأنها لم تظفر به. . .
(. . . وهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات الأربع كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض، ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف وكل ما ردت عليك الغبطة من بسطة في الجسم أو سعة في المال أو فضل في المنزلة؛ وكل ما أنت من إقباله على طمع ومن فوته على خوف. . .
(. . . فهو أجهل الناس في الدنيا وأجهل الناس بالدنيا. . . وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج حسبك مائقا لم ترقط نضارة البرسيم وألوان الربيع. . .)
هذا هو الشيخ علي الذي أوحى إلى الرافعي كتاب المساكين ونسب إليه القول فيه ورده إلى إلهامه، وهو عنده النموذج الكامل للرجل السعيد والفيلسوف الناضج.
ولقد فرغ الرافعي من كتاب المساكين في سنة 1917؛ وفرغ الشيخ علي من دنياه بعد ذلك بقليل، ولكن روحه ظلت تعمل في نفس الرافعي وتملي عليه وتلهمه الرأي إلى أخر أيامه بعد ذلك بعشرين سنة؛ والواقع أن الرافعي كان يؤمن بفلسفة التسليم والرضى فيما لا طاقة له به، إيماناً كان مادة حياته ونظام عمله، وإيمانه ذاك هو الذي كان يفيض عليه إمارات(224/43)
المرح والسرور حتى في أعصب أوقاته وأحرج ساعاته، فكنت لا تراه إلا مبتسماً أبداً أو ضاحكاً ضحكة السخرية والاستسلام.
كتاب المساكين الذي يقول عنه المرحوم أحمد زكي باشا: (لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وهيجو كما للفرنسيين هيجو، وجوته كما للألمان جوته)
هو كتاب أجتمع على إخراجه سببان: أهوال الحرب التي حطت على مصر بالجوع والقحط والغلاء؛ والشيخ علي الجناجي.
(شبرا)
محمد سعيد العريان(224/44)
أبحاث تاريخية جديدة
الإسلام في غرب أفريقية
مدى انتشاره في تلك الأقاليم ومبلغ أثره في الأهلين
للأديب جمال الدين محمد الشيال
تابع ما نشر في العدد الماضي
كيف عم الإسلام غرب أفريقيا
1 - في المدة بين سنتي 640و642 تم لعمرو بن العاص فتح مصر. ومنها استطاع عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن الزبير فيما بعد فتح طرابلس وتونس والجزائر.
2 - وفي سنة 661 كانت واقعة صفين المشهورة وانشق بعدها قوم على علي بن أبي طالب فسموا بالخوارج. وقد هاجرت فئة منهم إلى شمال أفريقية ونزلوا بشواطئ تونس، وقد استمرت بقاياهم حتى قبيل الحرب العظمى في جزيرة جربا وهناك انتشرت آراؤهم. ومن هذه الجزائر انتقلت هذه الآراء إلى شمال أفريقية حتى ساحل مراكش الأطلسي؛ وبعد سنة 720 أصبحت الخارجية مذهب الأهلين من البربر.
3 - وفي سنة 669 استقر حكم العرب في شمال أفريقية، وعين عقبة بن نافع حاكما على أفريقية (تونس الحالية)؛ وفي سنة 673 أنشئت القيروان لتكون حاضرة لحكم المسلمين. وفي سنة 681 تقدم عقبة نحو الغرب بجيشه حتى وصل إلى المحيط الأطلسي.
4 - وبعد سنة 795 تولى حكم أفريقية موسى بن نصير وتقدم في فتوحه حتى استولى على مراكش إلا مدينة سبتة وهناك لم يجد العرب صعوبة في نشر الإسلام دين الفطرة. وتمكن موسى من فتح الأندلس بعد ذلك على يد قائده البربري طارق بن زياد.
5 - وتولى حكم أفريقية بعد هذه الأدراسة ثم الأغالبة وتبعهم أسرات أخر حتى أتى الفاطميون فورثوا الحكم وأغاروا على مصر واستقلوا بها باسطين نفوذهم على أفريقية وصقلية.
6 - وفي المدة التي بين القرن السابع ومنتصف القرن الحادي عشر كان العنصر العربي في شمال أفريقية أقلية يمثلون في آلاف من الجنود والحكام ورجال الدين. ولكنهم(224/45)
استطاعوا بمرور الزمن أن يفرضوا دينهم ولغتهم وحكمهم على ملايين من البربر.
7 - وحوالي سنة 1045 نزل بالشاطئ الأيمن للنيل قبائل بني هلال وبني سليم آتين من أواسط بلاد العرب وابتدءوا يعملون على إثارة الشغب في مصر العليا؛ ولكي يتخلص منهم حكام مصر الضعفاء في ذلك الحين حرضوهم على أن يغزوا شمال غرب أفريقية، فعبر الصحراء منهم ما يقارب من المائتي أو الثلاثمائة محارب حتى وصلوا إلى حدود تونس وطرابلس واستقروا هناك.
8 - وبعد مدة يسيرة رحل إلى مصر قبائل أخرى من شبه جزيرة العرب؛ ووصلوا إلى النيل الأوسط. وعلى النيل الأزرق (في سنار) أنشئوا امبراطورية الفنج العظيمة التي استقرت من القرن الرابع حتى القرن التاسع عشر. ومن النيل الأعلى قاد هؤلاء الأقوام حملات كثيرة متتالية نحو وسط وغرب أفريقية. ومن نسل هؤلاء تكونت قبائل لا زالت تعيش حتى اليوم حول بحيرة شادو في دارفور وواداي وشمال السنغال ونهر النيجر.
9 - وفي القرن الحادي عشر أيضاً نشأت فرقة المرابطين. وعلى أيديهم اعتنق سكان سينيغمبيا ونيجريا الإسلام.
10 - وتلت دولة المرابطين دول كثيرة كدول الموحدين والحفصيين وغيرهم، وكانت كل دولة تبدأ حكمها بنشر مذهبها الديني، وبالتالي كانت تدفع كثيراً من البربر أثناء نشر دعوتها إلى اعتناق الإسلام.
11 - وفي عهد الملك السعدي السادس (المنصور الذهبي) وصلت مراكش إلى أقصى قوتها، وشملت مملكة نيجرية واسعة.
12 - وفي نهاية القرن الخامس عشر قامت في مصر العليا وغرب السودان أسرة مسلمة زنجية. وتولى أحد هؤلاء الزنوج الحكم، واتخذ تمبكتو حاضرة لملكه. ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه المدينة مركزاً علمياً وتجارياً لغرب ووسط أفريقية. ولقد أثرى حفيد هذا الملك (إسحاق بن سوكيا) وزادت قوته وبدأ النزاع بينه وبين الإمبراطور الموري أبي العباس المنصور. وتمكن الجيش الموري بقيادة جودر باشا من هزيمة إسحاق والاستيلاء على تمبكتو. وأتى بعد جودر قائد آخر أكثر شجاعة وإقداماً منه وهو (محمود باشا) فأتم الفتح الموري للسودان حتى وصل إلى بورنو وسنيغميبيا. ولم تتضاءل قوة الموريين إلا(224/46)
في القرن الثامن عشر بعد قيام الغولا وهجوم الطوارق.
ويقول جونستون: (ولربما كانت مراكش تستطيع أن تغزو شمال أفريقية وتحكمه في القرن السادس عشر - لولا أن وصلها الترك. . .) - ونحن لا نستطيع أن نقر جونستون على هذا القول. . . إلا إذا كانت الحكومة القائمة في مراكش حينذاك قوية تستطيع أن ترد اعتداء الغرب عنها. . . ولكن الحقيقة أن الحكومة في كل بلاد الغرب في ذلك الوقت كانت ضعيفة أمام نشاط ممالك غرب أوربا وخاصة أسبانيا - فإنها بعد أن قضت على دولة الإسلام فيها سعت وراءه تطارده في شمال أفريقية وغربها. . . وجونستون نفسه يقول: (ولما استنجد أهل الجزائر وتونس بقراصنة الترك ضد اعتداءات مسيحي أسبانيا في القرن السادس عشر - انتهز سلطان الترك وأنشأ مناطق تركية في الجزائر سنة 1517 وفي تونس سنة 1573 وفي طرابلس سنة 1551. . .)
في هذا القول نرى أن ثورة الغضب المسيحي في أسبانيا على المسلمين لم تكن قد هدأت؛ بل إننا لنحسها بين ثنايا كلمات جونستون قوية ملتهبة دفعت أهل المغرب للاستنجاد بالترك ورضوا نجدة القراصنة منهم. وحقيقة أن الترك الذين نزلوا بشمال أفريقية كانوا قراصنة لم يتعدوا الشاطئ إلى الداخل، ولم يمضوا إليهم أراضي وملكاً جديداً بل اكتفوا بمهنتهم القرصنة وسلب سفن المسيحيين. ولو أنهم حاولوا ملكاً في الجنوب لاستطاعوه، ولغدت أفريقية الشمالية كلها مسلمة إسلاماً حقاً متصلاً بالعالم الخارجي الآن؛ ولكنهم على كل حال حموا شمال أفريقية من الغرب الساحق الماحق هذه المدة الطويلة. وها نحن أولاء نسمع كل يوم اضطهاد الطليان والفرنسيين والأسبان للمسلمين في طرابلس وتونس والجزائر، ومع هذا فإن الإسلام في ذلك الحين لم تقف موجة انتشاره، بل كان مجرد الجوار أو الاتصال بين المسلمين والوثنيين في جميع قبائل السودان حتى حدود الكمرون - كان مجرد الاتصال كافياً لنشر الإسلام في تلك الجهات كما سنرى بعد.
لم تخضع مراكش كجاراتها للحكم التركي ولكنها تأثرت بنواح تركية مختلفة، فقد أخذت عن الترك نظام الملبس ونظام تعبئة الجيوش ولقب الباشا وغير ذلك من الأمور، ولكن مراكش بقيت مستقلة، بل لقد أعلن حاكمها المنصور نفسه خليفة سنة 1538بعد انتصاره على البرتغال وبعد أن رأى الخلافة العباسية تنقرض من مصر، وتنتقل إلى تركية.(224/47)
غير أننا سنرى أن نوع الحكم لم يكن له من التأثير قدر ما كان للثقافة الإسلامية العربية، فمهما أنتقل الحكم إلى أيدي الترك أو الإغريق او السلاف أو الزنوج المستعربين فإن الأثر الإسلامي والثقافة الإسلامية امتدت حتى شملت كل شمال أفريقية والسومال وسناو، ونوبيا وكردفان ودارفور وواداي وبورنو وأراضي الحوصا والصحراء ومعظم سينغمبيا وآفاقاً متسعة داخل حدود النيجر وعلى طول شواطئ الفلتا الأعلى كما أعتنق أهالي كل تلك الجهات الدين الجديد: دين الإسلام.
جهات نجهلها
ولقد كنت أحس عند قراءتي عن هذه المناطق لذة غريبة فلقد كنت أكشف لنفسي الأستار عن آفاق واسعة شاسعة من العالم الإسلامي يجهلها معظم المصريين وتجهلها برامج تعليم التاريخ في مدارسنا المصرية، ولكننا بعد هذا التمهيد نستطيع أن نصور الحالة التي كان عليها كل شمال أفريقية في هذه الكلمات:
كانت موجة التأثير الإسلامي تتسع طوال العصور الوسطى فتشمل كل يوم آفاقا جديدة من شمال أفريقية، وامتدت الموجة فشملت بعض الصور الحديثة؛ ولكن أوسع حلقة من حلقات هذه الموجة وآخرها تلاشت بانتهاء القرن التاسع عشر، وبتلاشيها تركت البربر المستعربين يحكمون شمال وشمال غرب أفريقية، والترك المسلمين يحكمون شمال شرق أفريقية، والزنوج المستعربين يحكمون النيجر والسودان الأوسط، وبعض العرب يحكمون النيل الأعلى وساحل نوبيا وعرب عمان واليمن وحضرموت يحكمون ساحل أفريقية الشرقي. وامتد نفوذهم إلى الداخل حتى وصل إلى إقليم البحيرات والكنغو الأعلى.
ولنتحدث الآن عن أثر الإسلام في بعض هذه الولايات كمثل للولايات الأخرى، وليكن حديثنا عن نيجريا والسودان الأوسط.
حضارة جديدة
كان لدخول الإسلام في أفريقية تأثير هام على سكانها وخاصة في السودان الغربي. ولم يقتصر تأثير الإسلام على التغيير الواضح الذي أحدثه في الأهلين من الناحية البشرية، بل لقد حمل معه إلى هؤلاء الأقوام حضارة جديدة منحت الأجناس الزنجية أخلاقاً وثقافة لا(224/48)
زالت تميزهم في حياتهم السياسية ونظمهم الاجتماعية. ولقد رأينا كيف أن كثيراً من الهجرات القبلية العديدة خلال ألف سنة الأخيرة حدثت تحت ضغط الإسلام ضغطاً مباشراً أو غير مباشر؛ بل إننا لنرى أن ثورة الفولاني السياسية في القرن التاسع عشر ودخول الكانمبو إلى بورنو كان تحت تأثير الإسلام. ولقد كان للإسلام كذلك تأثير عميق في لغات نيجريا الرئيسية، فمعظمها تحوي كثيراً من الألفاظ العربية التي لا تزال تستعمل حتى اليوم.
والإسلام الآن دين السواد الأعظم من سكان أرض وبورنو بل لقد نفذ الإسلام إلى كثير من القبائل الوثنية التي لم يصلها التبشير المسيحي بعد، وكما أن الإسلام دخل في هذه الجهات من الشمال فإن الشمال أشدها وأكملها إسلاماً - وإن كان الإسلام في نوبيلاند ويوروبالاند له نصيب كبير من القوة والانتشار ومع هذا فهناك مساحات شاسعة لم يدخلها الإسلام بعد.
ونحن لا نعرف إلا قليلاًٍ عن حالة المسلمين خلال القرون السابقة لجهاد الفولاني. ولو أننا وثقنا بأقوال ليو الأفريقي فإن أهالي كاتسينا وكانو كانوا برابرة نصف عراة في منتصف القرن السادس عشر. وعلى الجملة فالحوصا قد يكونون أيسر قيادة وأسرع تأثراً بالدعوات الدينية من غيرهم. وفي سنة 1804وضع الشيهو عثمان (قد تكون شاه أو شيخ ثم حرفت) لبلاط جوبير نظاماً هو خير قليلاً من النظام الوثني، وقد بقي الأهلون يصلون للموتى ويمجدون الأولياء الراحلين ويسمحون لنسائهم بالخروج سافرات. ولقد لاحظ (أولدفيلد في رابا أن ابنة عثمان زايكي حاكم نوبيلاند الفولاني تحمل في يدها زجاجات برتغالية مملوءة بالمشروبات الروحية، فشرب الخمر وعقيدة الخلود لازالا سائدين.
ولا زالت بعض الطقوس الوثنية تقام عند تولية الأمير العرش؛ ورؤساء (اكوين المسلمون في هارداوا عند انتخابهم يقدمون فروض الطاعة للشجرة المقدسة.
والقرآن لديهم هو الكتاب المقدس؛ بل إنهم ليستشفون بشرب الحبر الذي كتبت به آيات القرآن. وهم ما زالوا يعتقدون في السحر والتعاويذ، ولكنهم يتقون شر السحر بالآيات القرآنية والاحجبة يحيطون بها رقابهم وأذ رعتهم وأوساطهم والمسلمون في تلك الأقاليم عند بناء منازلهم يدخنون الطلاسم لتقيهم شر الأرواح الخبيثة.(224/49)
من هذا كله نرى أن الإسلام من الناحية الروحية لم يستطع تماماً استئصال شأفة الوثنية أو إزالة خرافاتها لانقطاع الصلة وبعد الشقة بينه في تلك الجهات وبين ديار الإسلام القوي الحق. ولكن الإسلام من الناحيتين السياسية والاقتصادية بادئ الأثر في هؤلاء الأقوام. لقد حمل الحضارة إلى هذه القبائل المتبربرة، ودعا جماعات الوثنين المبعثرة إلى وحدات مرتبطة، وسهل التجارة بين هذه المناطق وبين العالم الخارجي، وبذلك استيقظت الغرائز التجارية الكامنة في نفوس الحوصا والنوبي والياروبا والبري بري وحملهم على الظهور بمظهر لائق، ورفع مستوى معيشتهم بأن خلق لهم جواً اجتماعياً راقياً؛ وبث في نفوس المسلمين الشعور بالعزة واحترام النفس والغير. فتفوق المسلمين في تلك الجهات على غيرهم من الناحيتين الثقافية والسياسية يرجع إلى تعاليم دينهم؛ فنحن لا ننسى أن الإسلام حمل إليهم فن القراءة والكتابة. . .
والآن أصبح زنجي السودان بعد أن حرم عليه الإسلام شرب الخمر وأكل لحوم البشر وسفك الدماء رفيقاً لسكان العالم المتحضر.
(البقية في العدد القادم)
جمال الدين محمد الشيال.(224/50)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
259 - فافشر ما شئت
في (الغيث المسجم) للصفدي: حكي أن بعض الوعاظ كان على منبره يتكلم في المحبة وأمور العشق وأحواله، ومد أطناب الإطناب في ذلك فقام إليه بعض الجماعة وقال:
بعيشك هل ضممَت إليك ليلى ... قبيل الصبح أو قبّلتَ فاها
وهل رفّت إليك فروعُ ليلى ... رفيفَ الأقحوانة في نداها
فقال الواعظ: لا والله
فقال له: فافشر ما شئت. . .
260 - تغزل برجليها
قال ابن الجوزي في الشذور: قال ثابت بن سنان المؤرخ: رأيت في بغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين، ولها كفان بأصابع معلقات في رأس كتفيها لا تعمل بهما شيئاً، وكانت تعمل أعمال اليدين برجليها، ورأيتها تغزل برجليها، وتمد الطاقة وتسويها.
261 - وانه لمفوه
كن للمكارم بالعزاء مُقَنَّعاً ... فلعلّ يوماً لا ترى ما تكرهُ
فلربما أستتر الفتى فتنافست ... فيه العيون وإنه لمموَّهُ
ولربما خزن الكريم لسانه ... حذرَ الجواب وإنه لمفوَّهُ
ولربما ابتسم الكريم من الأسى ... وفؤاده من حرَّه يتأوَّهُ
262 - ألله، ألله
قيل لصوفي: لم تقول: ألله، ألله، ولا تقول: لا إله إلا الله؟
فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب - عيب
263 - بين إمامين
قال الحريري: قد غلظ الأصمعي في تصغير (مختار) غلطاً أودع بطون الأوراق، وتناقلته(224/51)
الرواة في الآفاق؛ وذاك إن أبا عمر الجرمي حين شخض إلى بغداد ثقل موضعه على الأصمعي إشفاقاً من أن يصرف وجوه أهلها عنه، وتصير السوق له، فأعمل الفكر فيما يغض منه فلم ير إلا أن يرهقه فيما يسأله عنه، فأتاه في حلقته، وقال له: كيف تنشد قول الشاعر:
قد كن يخبأن الوجوه تسترا ... فاليوم حين بدأن للنظار
أو حين (بدين)؟ فقال له: (بدأن) قال: أخطأت، فقال (بدين) قال: غلطت، إنما هو حين (بدون) أي ظهرن؛ فأسرها أبو عمر في نفسه وفطن لما قصده، وأستأني به إلى أن تصدر الأصمعي في حلقته، واحتف الجمع به، فوقف به وقال له: كيف تقول في تصغير (مختار) فقال: (مخيتير) قال: أنفت لك من هذا القول! أما تعلم أن اشتقاقه من الخير وأن التاء فيه زائدة؟ ولم يزل يندد بغلطه ويشنع به إلى أن أنفض الناس من حوله.
264 - إلا الماء
سئل جحظة البرمكي عن دعوة حضرها فقال: كان كل شيء بارداً فيها إلا الماء
265 - خذه عني
في (الأغاني): ولي قضاء مكة الأوقص المخزومي فما رأى الناس مثله في عفافه ونبله، فأنه لنائم ليلة في جناح له إذا مر به سكران يتغنى:
عوجي علينا رَبَّة الهودج
فأشرف عليه فقال: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنيت خطأ! خذه عني! فأصلحه وانصرف
266 - ردوها عليَّ
في (الغرر الواضحة) أريج على الحجاج في صلاته فلم يجسر أحد أن يهديه لما ضل عنه، فتلا قوله تعالى (رُدُّوها عليَّ) فردت عليه. فلله دره! ما أحسن ما أجال فكره حتى أدرك به الفهم العازب، ولم تبطل صلاته بكلامه. قيل للحسن (البصري): أتى رجل صاحباً له في منزل، وكان يصلي فقال: أدخل؟ فقال في صلاته (أدخلوها بسلام آمنين) فقال الحسن: لا بأس(224/52)
267 - زلق وقع في الطين
في (صيد الخاطر) لابن الجوزي: ما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من مثل هذا حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامة ويلقبونه بـ (كان وكان) فرأيت بخط ابن عقيل عن بعض مشايخه الكبار أنه سمع امرأة تنشد:
غسلت له طوال الليل ... فركت له طول النهار
خرج يعاين غيري ... زلق وقع في الطين
فأخذ من ذلك إشارة معناها: يا عبدي إني حسنت خلقك وأصلحت شانك، وقومت بنيتك، فأقبلت على غيري فانظر عواقب خلافك لي. وقال ابن عقيل: وسمعت امرأة تقول من هذا (الكان والكان) وكان كلمة بقيت في قلقها مدة:
كم كنت بالله أقل لك ... لذا التواني غائلة
وللقبيح خميرة ... تبين بعد قليل
قال ابن عقيل: فما أوقعه من تخجيل على إهمالنا لأمور غدا تبين خمائرها!
268 - المتنبي الأول
في (المختلف والمؤتلف) للآمدي: كان الأخطل الضبعي شاعراً، وادعى النبوة، وكان يقول: لمضر صدر النبوة ولنا عجزها. فأخذه عمر بن هبيرة فقال ألست القائل:
لنا شطر هذا الأمر قسمة عادل ... متى جعل الله الرسالة تُرْتَبا
قال: وأنا القائل:
ومن عجب الأيام إنك حاكم ... علي، وأني في يديك قصير
قال: أنشدني شعرك في الدجال. قال أغرب ويلك! فأمر به فضربت عنقه
269 - فرجت وكان يظنها لا تفرج
في (الغرر والدرر): أمالي أبي القاسم المرتضى: روي الصولي أن منشداً أنشد إبراهيم بن العباس وهو في مجلسه في ديوان الضياع:
ربما تكره النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال
قال: فنكت بقلمه ثم قال:(224/53)
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذَرْعاً، وعند الله منها مخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج
فعجب من جودة بديهته
270 - وما زالت الأشراف تهجي وتمدح
في (مؤنس الوحدة) لابن الأثير:
أهدى إلى سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد كتاب ففتحه لينظر فيه، فوقعت عينه منه على هجاء بني أسد فأطبقه ثم قال:
وما زالت الأشراف تهجي وتمدح
إصلاح
في النقلة (250) في البيت الثاني: (وكيف) والصواب: (كيف)(224/54)
غنىً. . .؟!
للأستاذ سيد قطب
غنيَّةٌ أنتِ بالتعبير قد ذَخَرَتْ ... أطواءُ نفسك منه زادَ أحقاب
وهبِتني منه أشتاتاً منوَّعةً ... وزدتنِي منه في جود وإسهاب
في كل جارحة عنوانُ ملحمة ... من الحديث، وسرٌّ جِدُّ جذَّاب
تقصُّ تاريخها في فنِّ رواية ... منسَّقِ النبر ذي لحن وإطراب
وإِن تاريخها أقصوصة جمعتْ ... تجاربَ الكون في أحلام أرباب
تجارب الكون في سحر وفي فتنٍ ... من نضرة الروض أو من وحشة الغاب
ومن سناء الداري في تألقها ... ورهبة الكون في جنح الدجى الخابي
ومن غموض الصحاري في مجاهلها ... والعيلم الرحب يطغي جد صخَّاب
ومن صِيالِ الضواري في تقحمها ... ومن أغاريد أطيارٍ وتَنْعاَبِ
وفرحة الظافر النشوان خافقة ... تختال معجبةً في خطو وثّاب
هذا حديثك بينا أنت صامتةٌ ... وعيتهُ كله في صمت محراب
فهل بلغتُ مدَى ما أنت زاخرةٌ ... من التجارب في خلق وإنجاب؟
لا. لا وحقكِ لم أبلغْ سوى طرفٍ ... من الحديث على وَفْر وإطناب
وخلف ذلك كنز كله طُرَفٌ ... يزيد مذخورُه في كف وهّاب
وإن عندك ما تعطينه أبداً ... للسائلين بإفصاح وإغراب
العين. ماذا تقص العين من خْبرٍ ... مسلسلٍ في حنايا النفس منساب؟
وما الذي أبدعت للفن إذ همست ... للأمنيات فلبَّتْ بضع أسراب؟
وأفصحت عن حنين كامنٍ وهوى ... يسري الهويني شَفُوفاً بين أهداب؟
والثغر وماذا يبث الثغر من قُبَلٍ ... في صمته العذب، بل في سحره السَّابي
وإن فيه لقبلاتٍ قد ارتسمت ... من بعد ما نضجت، لِلاَّثم الصابي
والجسم. ماذا يقول الجسم قد خفقت ... فيه الحياة، وتاهت تيهَ غلاَّب؟
يقول ما تعجزٌ الدنيا برمتَّها ... عن أن تقول بتصوير وإعراب
خلاصة أنت من فن الحياة حوت ... جميع ما تبدع الدنيا لإِعجاب(224/55)
غنية أنت بالتعبير قد ذخرت ... أطواء نفسك منه زاد أحقاب
(حلوان)
سيد قطب(224/56)
يأس
للسيد جورج سلستي
يا حبيبَ الفؤادِ أسرفتَ في الصَدِّ ... وإني من غير صدٍّ أَذوبُ!
وَتَجَنَّيْتَ يا حبيبي ومن غي ... ر تَجَنٍّ تكادُ روحيَ تزهقْ!
شفَّ جسمي النوى فبتُّ ولي جس ... مٌ بخيطٍ من الذِّماءِ مُعَلَّقْ!
فترفَّقْ فَدتْكَ روحي فمالي ... بين كل الورى سواك حبيبُ!
يا حبيبي أُحسُّ من ألم البٌعد ... وشَجْوِ النوى بقلبيَ يبكي
وبصدري المكبوت أَرمضَه الحبُّ ... فأَدمي منهُ الحنايا الحِرارا
وبرأسي كأنما سَوْرةُ اليأْ ... سِ أطاحتْ بلبّهِِ فاستطارا
يا لقلبي الباكي وصدري المدمَّي ... من حبيبٍ قضى بهجري وتركي!
إيه يا هاجري جراحي تنادي ... كَ وقلبي اللهيفُ يهفو إليكا!
كلُّ ما بي يدعوكَ فارجعْ بحقِّ ال ... وفا إليَّ قبل وفاتي
عُدْ ولو ساعةً أُمتّعُ عينيَّ ... بضاحي مرآكَ قبل مماتي
ذاك حسبي من الحياة ودعني ... بعد هذا أموتُ بين يديكا!
جورج سلستي(224/57)
من طرف أهل الحرف
ذكرتني مقالة الأديب البحاثة الأستاذ مصطفى جواد البغدادي (الأدباء المحترفون) وما رواه فيها من سيرة (الخبز أرزي) وشعره بإخوان له في الأدب والحرفة، فرأيت أن أملي بعض طرائقهم مضافاً إلى تلك المقالة البغدادية في (الرسالة الغراء):
قال علي بن ظافر: كان الوزير أبو بكر بن عمار كثير التطلب لما يصدر عن أرباب المهن من الأدب الحسن فبلغه خبر (ابن جامع الصباغ) فمر على حانوته وهو آخذ في صناعة صباغته، والنيل قد جر على يديه ذيلا، وأعاد نهارهما ليلا، فأراد أن يعلم سرعة خاطره، فأخرج زنده ويده بيضاء من غير سوء وأشار إلى يده وقال: كم بين زند وزند؟
فقال ابن جابر:
ما بين وصل وصد
فعجب من حسن ارتجاله. ودخل ابن عمار هذا سرقسطة فبلغه خبر يحيى القصاب السرقسطي، فمر عليه ولحم خرفانه بين يديه، فأشار ابن عمار إلى اللحم وقال:
لحم سباط الخرفان مهزول
فقال يحيى:
يقول للمفلسين: مه، زولوا
وكان يحيى السرقسطي ترك مهنته مدة ثم عاد إليها فكتب إليه الوزير أبو الفضل بن حسداي:
تَركت الشعر من عدم الأصابِهِ ... وملت إلى الجزارة والقصابه
فأجابه يحيى:
تعيب عليّ مألوف القصابه ... ومن لم يدر قدر الشيء عابه
ولو أحكمت منها بعض فن ... لما استبدلت منها ذي الحجابه
وإنك لو طلعت عليّ يوماً ... وحولي من بني كلب عصابه
لهالك ما رأيت وقلت هذا ... هزبر صيّر الأوضام غابه
فتكنا في بني العتري فتكا ... أقر الذعر فيهم والمهابه
ولم نقلع عن الثوريّ حتى ... مزجنا بالدم القاني لعابه
ومن يعتز منهم بامتناع ... فإن إلى صوارمنا إيابه(224/58)
ويبرز واحد منا لألف ... فيغلبهم وتلك من الغرابه
وحقك ما تركت الشعر حتى ... رأيت البخل قد أوصى صحابه
وحتى زرت مشتاقاً حميمي ... فأبدى لي التهجم والكآبه
وظن زيارتي لطلاب شيء ... فأقصاني وغلّظ لي حجابه
وكان مظفر الذهبي مصوراً؛ ومن قوله:
كلفت بتصوير الدُّمي في شبيبتي ... وأتقنتها إتقان حر مهذب
وحاولت عنها رجعة ومدحتكم ... فلم أخل من تزويق زور مكذب
وكان نجم الدين يعقوب بن صابر منجنيقياً؛ ومن شعره:
كلفت بعلم المنجنيق ورميه ... لهدم الصياصي وافتتاح المرابط
وعدت إلى نظم القريض لشقوتي ... فلم أخل في الحالين من قصد حائط
قال ابن خلكان: كان ابن صابر المنجنيقي جندياً في ابتداء أمره، مقدماً على المنجنيقيين ببغداد، ولم يزل مغرىً بآداب السيف وصناعة السلاح والرياضة، ولم يلحقه أحد من أهل زمانه في فهمه لذلك، وصنف كتاباً سماه (عمدة السالك في سياسة الممالك) يتضمن أحوال الحروب وتعبئتها وفتح الثغور وبناء المعاقل، وأحوال الفروسية والهندسة والمصابرة على الحصار، والقلاع والرياضة الميدانية، والحيل الحربية الخ؛ وكان شريف النفس متواضعاً؛ وهو شاعر مجيد ذو معان مبتكرة، وجمع من شعره كتاباً سماه (مغاني المعاني) وكانت له منزلةً لطيفة عند الإمام الناصر، توفي سنة 626، ولابن صابر:
قالوا بياض الشيب نور ساطع ... يكسو الوجوه مهابة وضياء
حتى سَرت وخَطاته في مفرقي ... فوددت ألاّ أفقدَ الظلماء
وعدلت وأستبقي الشباب تعللا ... بخضابها فصبغتها سوداء
لو أن لحية من يشيب صحيفة ... لمعاده ما اختارها بيضاء
ومن الأدباء المحترفين السراج الوراق وأبو الحسين الجزار ونصير الدين الحمامي. قال ابن حجة في (خزانته): (وتعاصر السراج هو وأبو الحسين الجزار والنصير الحمامي وتطارحوا كثيراً وساعدتهم صنائعهم وألقابهم في نظم التورية) ومن قول السراج الوراق:
يا خجلتي وصحائفي سود غدت ... وصحائف الأبرار في إشراق(224/59)
وموبّخ لي في القيامة قال لي: ... أكذا تكون صحائف الوراق؟!
وقال الجزار:
كيف لا أشكر الجزارة ما عشت ... حفاظاً وأرفض الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجيني ... وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وكتب إليه نصير الدين الحمامي:
ومذ لزمت الحمام صرت به ... خلا يداري من لا يداريه
أعرف حر الأشيا وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه
فأجابه أبو الحسين الجزار:
حسنُ التأتي مما يعين علي ... رزق الفتى والحظوظ تختلف
والعبد مذ صار في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف
وفي كتاب (المغرب في حلي المغرب): حضر الجزار بين يدي الصاحب الكبير كمال الدين عن أبي جرادة مودعاً وقد أزف رحيل الصاحب عن مصر سنة (645) فاتفق أن وجه سلطان مصر شيئاً من التمر الذي يصل من أعلى الصعيد في المركب المبشر بزيادة النيل على وجه البركة، فأمر الصاحب أن يقدم فأكل الجزار في جملتهم، وقال في ذلك ارتجالاً فأتي بأبدع تورية.
أطعمتنا التمر الذي ... للبركات قد حوى
لله ما أطيبه! ... لو لم تشبه بالنوى
(الإسكندرية)
(* * *)(224/60)
القصص
من أساطير الإغريق
مصرع بروكريس
للأستاذ دريني خشبه
رأته أروروا حينما كان الصبح يتنفس أنفاسه الندية العطرية يثبت فوق الجبال ويصيد الوحوش بين الأدغال، فهامت به، ووقفت تعبده، وتروي من جماله، وتسقي نفسها الصادية أبداً إلى كل ريان مفتان. . . وحاولت أن تكلمه فشاح بوجهه، وتصدت له فأعرض عنها، ثم أنطلق في أثر ظبي فلم يزل به حتى أرداه وانحنى يحمله. . . ولكنه وجد مكانه أورورا. . .! وجدها متجردة تمرغ جمالها تحت قدميه، فنفر نفرة جرح بها كبرياء ربة الفجر الوردية، وجعلها ترمقه بعيني أفعى، تود لو تنفث في صدره سمها فترديه.
(أنا اورورا، ربة الفجر والندى، حبيبة الزنبق والبنفسج والورد، لا أروق هذا الإنسي المخلوق من تراب!! وحق أبي لأسرنه ولأسجننه، ولأجعلنه يتلوى تحت قدمي، ويبكي من أجل قبلة أمن بها عليه!)
وأرسلت رقية من رقاها الساحرة فنشرت الظلام على عينيه والنسيان في قلبه، وبات لا يملك لنفسه حلاً ولا عقداً. . . ثم حملته إلى كناسها في شعاف الأولمب، وحبسته ثمة، وأذهبت عنه طائف السحر فأدرك ووعى، وهب مذعوراً ثم غرق في شيء كالحلم لما رأى العماد من ذهب، والطنافس من عجب، والكأس حفها الحبب، والندامى والطرب، وكل راقصة كالخيال يراقصها أمرد كالطيف، فتميل وتختال ويتأود كالسيف. . . وأورورا مع هذا وذاك تدل وتتبرج، وتفوح وتتأرج، كأنها ربيع بأكمله، زخرف الدنيا بالزهر، ووشاها بالروض، وابتعث فيها المرح والحياة
- أين أنت إذن؟ سيفال! أين أنت؟
- أين أنا؟
- ألا تعرف؟ هذه غرفات الأولمب!
- الأولمب؟!(224/61)
- أجل. . . أولمب أربابك
- محال! لن يكون الأولمب هكذا!
- ولمه؟
- لأن الأولمب مأوى الصالحين! أليس الآلهة أجدر منا بالتقوى؟ ما هذا؟ أحمر ورقص وطرب. . . وفسق في الأولمب؟
- لا. . . ليس هذا الأولمب. . . لن يكون الأولمب هكذا!!
- بل هو الأولمب يا سيفال! وليس ما ترى هنا إلا قليلا مما هناك! هل ترى فينوس؟ ألم تصل لها؟ أنظر من هذه الكوة فهي تطل على حديقتها!
- وأنا ما شأني؟ أريد أن أذهب!
- تذهب؟ تذهب إلى أين يا سيفال؟ لن تبرح عاكفاً على اللهو الذي ترى!
- لا، لن يقوى الأولمب كله على قهري!
- ها. ها. . . مضحك. . . أنت مضحك يا سيفال! كل الأولمب؟
- أؤكد لك!
- ولمه؟
- لأني أحب زوجتي وأقدسها. . . إنها جميلة جدا
- أجمل من أورورا؟! أليس كذلك؟
- أجمل من أورورا لدى كل من ينظر بعيني زوج أمين مخلص!
- أنت عنيد يا سيفال! إنك تزدريني!
- بل أنا أنتصر للفضيلة التي كان ينبغي أن تتنزل علينا من الأولمب! من جاء بي هنا؟
- أنا. . .
- ولماذا؟
- أنت تعرف!
- لا أعرف شيئاً. . . والذي أعرفه لا يليق بشرف ربة! أرجو أن تطلقي سراحي!
- إذن أنت تفضل علي زوجتك! أهي أجمل مني؟ ألا تزال تعتقد هذا يا سيفال؟
- أنا أفضل زوجتي لأنها لم تتلوث. . . ولا زلت أقول إنها أجمل منك لأنني أنظر إليها(224/62)
بعيني لا بعينيك!
- زوجتك أجمل من ربة الفجر الوردية؟
- أجمل من ربات الأولمب جميعاً، إلا من تجملن بمثل روحها، ولست منهن!
- أيها التعس!
- ولم أكن تعساً وأنا اسعد الناس بزوجتي بروكريس!
- بروكريس! ها! عرفتها! إحدى وصيفات ديانا! حقيرة مثلك! أغرب من وجهي أيها القذر! إذهب! إذهب إلى زوجتك بروكريس التي تفضلها على أورورا؛ ستتمنى يوماً أنك لم تعرفها، وأنها لم تكن زوجتك. . . إذهب. . . إذهب!)
وبلغ بيته وهو يلهث من التعب، ويرتجف مما ألم به، فلقيته زوجته الجميلة الحسان بابتسامةٍ شفت صدره، وقبلة ذات حميا أذهبت بعض ما وجد. . . إلا أنه كان ينتفض آنة بعد آنة، ويعود فيبتسم، ثم تغرورق عيناه بدموع نقية كاللؤلؤ كلما نظر إلى زوجته، حتى هجس وسواس في قلب بروكريس فقالت له:
- ماذا ياسيفال؟ أتخفي عني ذات صدرك؟
- كلا، ولكنها أورورا. . .
- ماذا؟ ماذا صنعت بك ربة الفجر؟
- كانت تحاول أن تسحرني عنك. . . أو. . . تشركني فيك على الأقل؟!
-. . .؟. . .
ولكنها فشلت. . . لقد أذللت كبرياءها
- وهل استطعت؟ إنها جميلة وصناع، ولها في الغزل الصارخ أساليب خارقة يا سيفال. . .
- لقد قهرتها وأساليبها. . . إن قطرة من معين إخلاص تطفئ لظى جحيم يا بروكريس!
- لا ريب يا حبيبتي. . . أنا أمزح فقط. . . سيفال، عندي لك مفاجأة طيبة
- مفاجأة! أية مفاجأة يا بروكريس؟
- تعال. . . افتح هذه الغرفة
- أوه! ما هذا. . . كلب عظيم، من أين يا بروكريس؟ إنه سينفعني كثيراً في صيدي(224/63)
- ومفاجأة أخرى أعظم! أنظر في ركن الغرفة!
- هه! حربة! لم أر قط مثل هذه الحربة! إنها ليست من صنع البشر! آه! إنها من صنع فلكان لا شك! البشر لا يجيدون أن يصنعوا مثل هذه!
- إحزر إذن ممن الهديتان؟
- من الملك!
- وأنى لي أن يهدي الملك إلي؟
- ممن إذن؟
- إحزر!
- لا أدري!
- إنهما من ديانا يا سيفال! أهدتهما إلي هذا الصباح!
- من ديانا؟ آه لقد ذكرت ذلك أورورا
ماذا ذكرت لك أورورا؟
- أنك كنت إحدى وصيفاتها!
- وأي ضير علي أو عليك في هذا؟ أليست هي إحدى تابعات أبوللو؟ لقد كانت وما تزال تتمنى أن لو كانت إحدى وصيفات ربة القمر!
- لا ضير، لا ضير يا بروكريس
- إني أهب لك ما أهدت ديانا إلي!
- أشكرك!
- الكلب لا تسبقه الريح، والحربة لا تخطئ الغرض
- وظل سيفال يعود أصيل كل يوم إلى زوجته مثقلاً بشتى أنواع الصيد؛ وأحب كلبه وحربته حباً لا يعدله إلا حبه بروكريس
- واشتهر أمر الكلب في الإقليم كله، وذاع صيته، حتى لقد أخطأ بعض أفراد الشعب في حق بعض الآلهة، فسلط عليهم ثعلباً سلقاً لم يستطيعوا مكافحته، ولم تقو كلابهم له على طراد، فاجتاح ماشيتهم، وأتى على دجاجهم، وعاث في حقولهم، ونفش في زروعهم، ولم يدروا كيف خلاصهم منه، حتى سمعوا بكلب سيفال فرجوه فيه، كيما يطلقه في أثر الثعلب(224/64)
فيريحهم من شره. . . وانطلق ليلاب - وهذا هو أسم الكلب - وراء الثعلب، كما يمرق السهم عن القوس، أو كما تمرق النظرة الخاطفة عن العين النجلاء؛ وما انفك يحاوره ويداوره، وينبح به فيزلزله، حتى هم أن يفتك به ويمزقه إرباً. . . ولكن حدث أن كانت الآلهة تطلع من فلال الأولمب، تتفرج بهذا الطراد، وشرح صدورها بمرآه، فالتفت بعضها إلى بعض، وعز عليها أن يقتل كلب إلهي ثعلباً إلهياً أمام الملأ من الناس، فقضوا لتوهم أن ينقلب الاثنان فيكونا تمثالين من المرمر الناصع، فهما كذلك إلى اليوم!!
وأسف سيفال على كلبه، وأنقلب على عقبيه غضبان صعقا. . . ولم يزل في كل يوم، وفي مثل تلك الساعة التي حاقت بكلبه العزيز هذه النازلة، يتوجه إليه، ويقف قليلاً عنده، حاناً لذكراه، آناً على ما حل به، ثم ينطلق بعد، وفي يديه رمح ديانا، فيصيد الظباء وليس معه ليلاب
وانطلق مرة في إثر ظبي فأنهك قواه، ونال منه الإعياء، وانسدح على العشب الأخضر في فيء دوحة باسقة، ثم راح يتخلج من شدة التعب؛ وكان الوقت ظهراً، وكان القيظ قد أجج الدنيا حوله فتفصد العرق من جسمه المنهوك، وتراخت عضلاته ووهنت روحه، وأنشأ يردد كلاماً كالأغنية يرسله هكذا:
أين أنت يا نسمة؟ يا ابنة الربيع اللعوب
يا منعشة الروح المتعبة، أين أنت؟
هلمي يا نسْمة، هلمي إلى سيفال،
فهو مشوق إليك، يرجو لو تنفسين عنه؛
هلمي يا نسمة ففرجي عن سيفال المضني،
وهبي على رأسه الملتهب، وصدره المكروب؛
لقد كنت يا نسمة، يا أحلى قُبل الحياة،
تداعبين جبيني، وتنعشين نفسي،
فماذا حال بينك وبيني، يا نسمة الربيع،
وساقية الحب، ورسول المحبين. . .
وكانت أورورا ما تفتأ تتعقب سيفال في كل فج، وترقبه في كل حنية؛ وكانت تقف في(224/65)
صورة بلبل فوق رأسه، مختبئة في أفنان الدوحة التي نام في ظلها؛ فلما سمعته يتغنى غناءه، ضحكت واستبشرت، وانتهزتها فرصة نادرة للإيقاع بينه وبين زوجته، وانطلقت من فورها إلى بروكريس، حين تكشفت لها في صورة إحدى صويحباتها:
- بروكريس!
- مرحباً بأعز الحبيبات، ماذا جاء بك في هذا القيظ؟
- نبأ أسود ما كنت أؤثر أن أحضر إليك به!
- نبأ اسود؟ يا للهول! ماذا؟
- أرجو أن لا أثير سخطك علي. . .
- كلا. . . كلا. . . عجلي أرجوك!
- سيفال!
- ماله؟
- أتذكرين يوم رويت لي ما كان من أمره مع أورورا؟
- لم أنس! ولكن مال سيفال؟
- يبدو لي أني لم أكن مصيبة في تبرئته! لقد نفيت شكوكك فيم ذهبت إليه من الميل إلى ربة الفجر، وقلاه لك لما عرف إنك كنت وصيفة ديانا!
- وماذا حدث بربك؟
- إنه يحب فتاة أخرى اسمها نسمة! إنه مولع بها أشد الولوع!
- لا أصدق!
- لا تصدقين؟ وهل أنا كاذبة؟
- وكيف عرفت؟ هل أوحي إليك؟
- بل سمعته يهتف بإسمها، ويشدو بحبها، ويتغنى أحر الغناء!
- لا أصدق، لا أصدق، سيفال لا يحب واحدةً سواي!
- هل لك في أن تسمعي غناءه بأذنيك يا صديقتي!
- وأين هو؟
- قريب من الدغل الذي عند النبع. . . سأحضر لك حصاناً صافناً(224/66)
وغابت أورورا، ولم تتلبث طويلاً، بل عادت بعد هنيهة ومعها حصانان مطهمان، ركبتاهما وأسرعتا إلى الدغل. . . وكان فؤاد بروكريس يخفق كالعاصفة، وكان وجهها قد شحب وامتقع حتى صار كالليمونة، وكانت ألف فكرة تزحم رأسها وتثور فيه كالبركان، وكانت ما تنفك تحدث نفسها بالهواجس فتقول: (نسمة؟ ترى ما نسمة هذه؟ عروس من عرائس البحر؟ أم غادة من غيد السوق؟ أم ربة كأورورا من ربات الأولمب؟ أهي جميلة؟ أهي أجمل مني؟ ألها عينان كعيني؟ ألها روح تستطيع أن تمتزج بروح سيفال بقدر ما امتزجت به روحي؟ أهكذا ياسيفال؟ لقد غلبت اليقين على الشك يوم أن ذكرت لي أمر أورورا معك، فلم تعد الشكوك لتفترسني؟ يا ترى؟ ألست تعود إلى أصيل هذا اليوم مثقلاً بصيدك كسابق دأبك؟ حنانيك يا آلهة السماء!) فكانت زفراتها لا تخفي على أورورا، فكانت هذه تسليها وتواسيها
واقتربا من الدوحة التي نام تحتها سيفال وراح يغني. . . وأشارت أورورا إلى الزوجة البائسة فاختبأت في الحشائش الطويلة القريبة من سيفال، بعد أن تركت جوادها بعيداً من المكان. . . وهناك أنصتت بكل سمعها وقلبها، فسمعت زوجها ما يزال يتغنى باسم نسمة ويقول:
يا نسمة إلامَ أهتف بك يا نسمة!
يا نسمة يا أحب شيء في هذه الحرور!
تعالي قبلي خدي ووجنتيّ وجبيني!
كم أنا مشتاق إلى نسمة يا سماء!
فابعثيها رَخيةً نديةً، عليلةً بليلة!
تنعش فؤادي وتثلجْ برفيفها صدري
وكان ما خافت بروكريس أن يكون! فها هو ذا سيفال يهتف باسم حبيبته نسمة ويتغنى، ويتمنى لو جاءته تقبل خديه ووجنتيه؛ وها هو ذا يضرع إلى السماء أن ترسلها رخيةً نديةً تشرح الصدر وتثلج الفؤاد. . . فماذا بعد هذا؟ وأي برهان وقد سمعت الأذنان؟ (إذن لقد كذب علي في الأولى، ولن يكذب علي في الثانية. . . إذن لقد صبا فؤاده إلى أورورا، وما يزال فؤاده يصبو إلى الغانيات من كل جنس وفي كل فج. . . آه للنساء الضعيفات من(224/67)
الرجال الأقوياء. . . ويلي عليك يا سيفال. . . ويلي عليك وألف ويل!
وعاثت الوساوس في صدرها، وانقلبت أضواء الظهر الساطعة ظلاماً داجياً في عينيها الحزينتين، فأرسلت آهةً عميقةً قطعت بها على سيفال غناءه، فهب الفتى مذهولاً مروعاً، وحسب أن وحشاً يتربص به في الحشيشة، فجمع قوته، وتناول حربته - حربة ديانا التي لا تخطئ - وأطلقها إلى المكان الذي صدرت منه الهمهمة، وذهبت الحربة لتستقر في صدر بروكريس!!
وا أسفاه!
لقد جرى سيفال ليرى هذا الصيد الجديد، فماذا رأى؟
- بروكريس؟؟ يا للهول؟ أهو أنت؟
-. . .؟. . .
- وماذا جاء بك الساعة يا حبيبتي؟
- لا. . . شيء. . . فقط. . . لا تتزوج. . . نسمة، من بعدي!
- نسمة؟ أوه! إنها لا شيء. . . لقد كان الجو متأججاً من الحر يا حبيبتي. . . وكنت أتمنى أن تهب علي نسمة من الريح تروح علي!. . .
- أحق. . . هذا؟. . .
- هذا هو الحق وحبك يا بروكريس
- إذن. . . سلام. . . عليك
- بروكريس! بروكريس! لا! لا تغمضي عينيك دوني؟ افتحيها لسيفال!
ولكنها ماتت. . . وماتت بيد زوجها وحبيبها الأمين الوفي!
وودعت الحياة وليس في قلبها إثارة واحدة من الشك في حبه وإخلاصه. . .
وأرسل الفتى أنينه في الأفاق، ورفع وجهه ليقلبه في السماء بالشكوى، ولكنه رأى. . . أورورا. . واقفة تبتسم وتضحك. . فجن جنونه. . . وانطلق هائماً على وجهه، لا يلوي على شيء، ولا ترقأ له دموع. . . حتى مات!
دريني خشبة(224/68)
البريد الأدبي
حادث عظيم في الصحافة البريطانية
وقع في يوم أول أكتوبر الجاري حادث عظيم في الصحافة الإنكليزية بل في الصحافة العالمية بأسرها، فقد اختفت جريدة (المورنن بوست) أقدم الصحف اليومية الإنكليزية، وفقدت كيانها المستقل لتندمج في منافستها القوية جريدة (الديلي تلغراف). ومنذ أول أكتوبر تصدر الديلي تلغراف باسمها الجديد وهو (الديلي تلغراف والمورنن بوست) ونستطيع أن نقدر أهمية هذا الحادث الصحفي متى علمنا أن (المورنن بوست) قطعت إلى اليوم مائة وخمسة وستين عاماً من حياتها المستقلة، وأنها لبثت مدى حياتها الطويلة دائماً من أعظم الصحف البريطانية وأقواها نفوذاً. وقد أنشئت المورنن بوست في سنة 1772، واستمرت تصدر بانتظام حتى اليوم وكانت نزعتها دائماً دستورية محافظة، ولكنها كانت تصطبغ دائماً بنزعة استعمارية وإمبراطورية عميقة، وكانت دائماً أشد الصحف البريطانية معارضة للسياسة التحررية، ومن ثم فقد كانت أشد خصومة لسياسة الحكم الذاتي سواء أكان في أرلنده أو الهند كما كانت من أشد خصومة للحركة الوطنية المصرية وللمعاهدات المصرية الإنكليزية. أما جريدة (الديلي تلغراف) منافستها القديمة ووراثتها اليوم فقد أنشئت في يونيه سنة 1855، على يد أسرة لادسون الشهيرة، واستمرت تحت إشرافها وإدارتها حتى سنة 1928إذ انتقلت ملكيتها من اللورد برنهام آخر أصحابها من أسرة لادسوف إلى اللورد كامروز صاحبها الحالي. وكانت الديلي تلغراف أول جريدة إنكليزية بيعت ببنس واحد (أربعة مليمات) وهو ما أعتبر يومئذ مغامرة صحفية جريئة لأن الصحف كانت تباع يومئذ بأربعة إلى خمسة بنسات، وكان صدورها في أربع صفحات فقط. أما اليوم فهي تصدر في اثنتين وثلاثين صفحة من القطع الكبير وتباع أيضاً ببنس واحد.
ونشأت (الديلي تلغراف) حرة في نزعتها السياسية، وكانت تناصر سياسة جلادستون في أواخر القرن الماضي، ولكنها تطورت في اتجاهها السياسي شيئاً فشيئاً حتى غدت محافظة اتحادية وأخذت تشاطر منافستها القديمة نزعتها الاستعمارية، ولكن بأسلوب أكثر اعتدالا وأقل تطرفاً، وجمعت الديلي تلغراف أقطاب الكتاب في أواخر العهد الفكتوري، وتألق فيها نجم طائفة كبيرة من أعظم الصحفيين؛ وتولت الأنفاق على بعثة استانلي الاكتشافية سنة(224/69)
1874 - 77. ومن أشهر مواقفها الصحفية حديث نشر للقيصر سنة 1908ولهلم الثاني، فكان له أعظم صدى، وكاد يزعزع عروش آل هو هنزلرن، وكان من نتائجه أن استقال البرنس فون بيلوف رئيس الحكومة الألمانية. والديلي تلغراف اليوم من أكبر الصحف الإنكليزية حجماً، وأعظمها نفوذاً، وأوسعها انتشاراً؛ وقد كانت تطبع حتى سنة 1928، أعني أيام أن كانت في حوزة اللورد برنهام 84 ألفاً، ولكنها مذ خفضت ثمنها ثانية إلى بنس واحد في سنة 1930، ارتفع عدد المطبوع منها إلى 532ألفاً وهو رقم انتشارها اليوم
وقد صدرت الديلي تلغراف عددها الأول في عهدها الجديد بعد أن ضمت إليها منافستها القديمة بكلمة مؤثرة قالت فيها إنها ترحب بقرائها الجدد قراء المورنن بوست القدماء، وأنه إذا كان اختفاء المورنن بوست تلك الجريدة الدستورية القوية يعتبر محنة قومية، فإن القراء يستطيعون بعطفهم ومؤازرتهم أن يخففوا وقعها، وأنها باحتفاظها باسم منافستها القديمة إلى جانب اسمها تدلل على ولائها للقضية المشتركة التي دافعتا ومازالتا تدافعان عنها. وأعلنت في مقال آخر، سردت فيها تاريخ الجريدتين، أنها سوف تحافظ أبداً على مبادئ الولاء والحرية والتسامح التي سارت عليها حتى اليوم، وستكون أبداً عند حسن ظن قرائها وأصدقائها.
الكتاب المصريون باللغة الفرنسية
اهتمت الصحافة الفرنسية بالمجموعة التي نشرها المسيو روبربلوم. من نفثات أقلام الكتاب المصريين الذين يكتبون باللغة الفرنسية، وبكتاب (عودة الروح) الذي وضعه الأستاذ توفيق الحكيم، ونقله إلى الفرنسية المسيو موريك برين. فقد نشرت جريدة (البتي باريزيان) في القسم الأدبي مقالاً للمسيو جان فينيو الرئيس السابق لجمعية الأدباء تحدث فيها عن كتاب مصر وآثارهم في الفرنسية ووجوب معرفة أسمائهم ومؤلفاتهم باللغة الفرنسية ليطلع عليها القراء في فرنسا، وليأخذ هؤلاء المؤلفون مكانتهم في أسرة الفكر الكبيرة، وقد خص المسيو جان فينيو كتاب (عودة الروح) للأستاذ توفيق الحكيم بقسم من بحثه إذ قال:
(إن هذا الكتاب الحي الطريف موضوع باللغة العربية كما أن كتب فينبير موضوع باللغة العبرية. وقد نقله إلى الفرنسية موريك برين، وهو من أفضل ممثلي الثقافة الفرنسية بالقاهرة. وقد غير عنوان الكتاب بالفرنسية واستبدله بعنوان (رواية نهضة مصر) وهنا(224/70)
وجه لمناقشته في هذا الاستبدال لأن القسم الاجتماعي بل القسم الأدبي والسياسي لا يتألف منهما الكتاب كله. فالمؤلف يستهل كتبه بنكات مسلية عن حياة الطبقة الوسطى في القاهرة - وهي حياة بسيطة ضيقة يعني أصحابها بأمور تافهة - وهم يقولون أن الشرقيين يقفون عند الأمور السطحية الخفيفة ولكن يوجد ثمة عدة حوادث وقعت للشاب محسن المتيم بحب جارته سنية الحسناء، وقد كان يجب أن يراعي جانب الإيجاز في الكلام عن هذا الموضوع. ثم أن الحادثين اللذين يطلق هذا التلميذ لسانه في الكلام عنهما منصرفاً عن تتمة تصريحاته الغرامية - يستطاع الاستغناء عنهما.
وبما أن الموضوع يدور على (عودة الريح) فقد كان يجب أن يبين المؤلف كيف فقدت تلك الروح. وهذه النقطة مصروف النظر عنها، ومهما يكن من الأمر فأن القسم الثاني من الكتاب وحوادثه تجري في إحدى ضواحي القاهرة في منزل والدي محسن يظهر لنا أنه أفضل قسم في الرواية، وفيه وصف لوالدي محسن اللذين كانا من أصحاب الأطيان الموسرين، بيد أنهما كانا أنانيين يعاملان الفلاح بقسوة.
ولدينا محاورة بين موظف بريطاني وعالم فرنسي تبين لنا الأماني الطامحة التي يمتاز بها هذا الجنس من البشر. فنحن نقرأ في الكتاب بعض عبارات تقتضي التأمل كالحديث الذي دار في القطار الذي سافر به محسن إلى أطيان والده، فإن أحد المسافرين وهو مصري الجنسية قال في عرض كلامه عن البلدان الأوربية (هذه بلدان خالية من الإخاء خلافاً لبلادنا حيث نرى الأقباط والمسلمين أخواناً)
وهذا الكلام موضوع نظر يبعث على التساؤل بعد مطالعة (مجموعة الكتاب المصريين باللغة الفرنسية) ورواية توفيق الحكيم عن الأفكار الأدبية الكبيرة، وعما إذا لم يكن الهدف الأسمى الديني، آخذاً في الانحطاط عن مستواه الأصلي في العالم، على أن الإنسان لا يسعه إلا إبداء الدهش من رؤية فضائل الدين الإسلامي القديمة مفقودة من هذه الكتب المختلفة وعدم اهتمام المؤلفين بها. ولم تنفرد أوربا بافتقارها إلى الحب الحقيقي وهو دون سواه قادر على تجديد شباب الأمم والنفوس)
وقد كتبت السيدة تريز هربان مقالاً عن رواية (عودة الروح) نشرته في جريدة (ليجور) وإليك بعض ما جاء فيه:(224/71)
(إن مصر تظل في نظرنا أرض الماضي وهي ترتبط بحكايات النيل وأسرار الأهرام ولا نزال نسترشد بفنها وديانتها مدة طويلة وربما ظللنا مدة طويلة أيضاً صارفين النظر عن الاهتمام بحاضرها
(ولا نجد مندوحة عن الاعتراف بالجميل للكاتب العربي توفيق الحكيم وموريك برين مترجم روايته لكشفهما أسرار مصر الأخرى، أي مصر الفلاحين، والطبقة المتوسطة المقيمة في ظلال الرموس المصممة على البقاء في الحياة)
الحياة في القطب الشمالي
يفيد التقرير الأخير الذي أرسله الرفيق (بابانين) رئيس البعثة القطبية العلمية السوفيتية أن هذه البعثة دهشت عند ما رأت بعض الحيوانات والطيور الحية في المحيط المنجمد الشمالي
وقد كتب الرفيق (بابانين) من محطة القطب الشمالي يقول أنه يستفاد (اعتماداً على رواية (نانسن) أن كثيراً من الخبراء يشيرون إلى أن المحيط المنجمد الشمالي خال من الأحياء، على أننا شهدنا ظاهرة في غاية الأهمية، ذلك إننا سمعنا في اليوم الذي وصلنا فيه إلى القطب زقزقة طائر، فخيل إلينا في الحال أنه قد جئ به على إحدى الطيارات. على أنه ظهرت هنا بعد ذلك طيور أخرى من أنواع مختلفة.
وكان الرفيق شيرشوف (العالم المائي الذي يرافق البعثة) يجد دائماً كميات كبيرة من متباين أنواع السمك في مختلف الأعماق)
سرقة لوحة زيتية قيمة من متحف ليبزج
سرقت في صباح يوم 10 أكتوبر الجاري من متحف ليبزج لوحة زيتية للرسام الألماني لوكاس موللر المعروف باسم لوكاس كراناخ.
وتمثل اللوحة المسروقة رسماً فضياً لموسى الكليم وفي يده الألواح التي كتبت عليها الشريعة اليهودية، وظهر في مؤخر الصورة الشعب اليهودي.
وقد رسمت هذه اللوحة منذ حوالي 400سنة، وكانت تعد من أثمن اللوحات الموجودة بمتحف ليبزج وتقدر قيمتها بخمسة وعشرين ألف مارك تقريباً.(224/72)
والذي تهمنا معرفته هو أن لوكاس كراناخ هذا فنان ألماني أصيل ولد سنة 1472 بكراناخ في أوبر فرانكين، وكان مصوراً خاصاً لقصر الأمير فريدريش العاقل بفيتيمبرج، واشتغل بكثير من الأعمال كالصيدلة وبيع الكتب إلى جانب اشتغاله بالفن، وكان له مصور كبير للتصوير.
وقد اختير عمدة لبلدة فيتمبرج المذكورة سنة 1537 وكان صديقاً حميماً لمارتن لوثر صاحب المذهب الديني المعروف، ومات سنة 1553في نفس البلدة.
وكان كراناخ أهم أستاذ في الفن الألماني في كل منطقة سكسونيا دون نزاع، وقد غلب على فنه في أول أمره طابع الدقة والقوة في إبراز المميزات الشخصية واستمر كذلك حتى سنة 1520 إلا أنه بعدئذ تهاون بعض الشيء في إخراج قطعه فجاءت ناعمة وأقل قوة مما سبقها.
والدارس للوحاته يلاحظ أنه كان ميالاً إلى الوجوه المربعة وكثيراً ما جعل سيقان النساء أطول من القدر المناسب.
ويعتبر كراناخ مصوراً ألمانياً شعبياً متبسطاً في اختيار مواقفه تخير ألوانه من تلك التي تميل إلى المرح والبهجة.
وله عدة لوحات كثيرة بالزيت وبالقلم الرصاص وبالحفر على الخشب محفوظ معظمها في ألمانيا وقليل منها في فيينا وفلورنسا وغيرهما
والعبرة هنا هي أن الزمان لم يمنح مصر بعد فناناً يستطيع تاريخ الفن أن يسجل اسمه من حيث الاتجاه الجديد أو الابتكار أو المقدرة الفذة؛ ذلك لأننا قوم نسجل لأنفسنا بأنفسنا النبوغ والعبقرية دون حاجة إلى تسجيل التاريخ.
ا. م
المستشرقون والإسلام
علمنا أن الأستاذ الشيخ عبد الرحمن حسن رئيس الوفد الذي قام بتمثيل الأزهر في مؤتمر تاريخ الأديان قد رفع إلى فضيلة الأستاذ الأكبر مذكرة تتضمن أسماء الكتب العلمية التي وضعها المستشرقون في مختلف المسائل الإسلامية، وجاء بعضها محرفاً وبعضها لا يفيد(224/73)
حكمة الشارع، ثم بولغ في تحريف مدلولاتها ومعانيها على نحو يتعذر معه فهم أحكام الإسلام على وجهها الصحيح
وقد أشار الأستاذ في مذكرته إلى أن هذه الكتب تدرس في بعض الجامعات العلمية على أنها صورة صحيحة لما جاء في الشريعة الإسلامية من أحكام وقواعد، وبما أن مؤتمر الشريعة الإسلامية - الذي رؤى أن يعقد في القاهرة - سيتناول بالبحث هذه المسائل، فمن الواجب أن ندرس هذه الكتب دراسة كاملة لتقول مشيخة الأزهر فيها كلماتها في هذا المؤتمر
وقد وافق فضيلة الأستاذ الأكبر على هذا وأصدر أمراً إلى إدارة المعاهد الدينية بأن تطلب إلى المكتبات الشهيرة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا لتبعث إلى المشيخة بهذه الكتب التي ذكرت في قائمة خاصة وستؤلف لجنتان إحداهما من كبار رجال القانون وبعض المتضلعين في اللغات الأجنبية لتطلع على هذه الكتب ولتنقل ما جاء فيها خاصاً بالمسائل الإسلامية إلى اللغة العربية. والثاني من كبار علماء الأزهر لتقوم بوضع الأحكام الصحيحة لهذه المسائل على أن تعد بياناً يشمل جميع الأخطاء التي جاءت في هذه الكتب ليلقي في المؤتمر باسم مشيخة الأزهر.
في المجمع اللغوي
وضعت مذكرة لعرضها على صاحب المعالي وزير المعارف بتحديد موعد افتتاح المجمع اللغوي في دورته الخامسة.
وقد تم طبع مجلة المجمع في دورته الثالثة وستوزع قريباً وبدئ بطبع مجلة الدورة الرابعة الماضية. وسيجري المجمع في دورته الجديدة على نظامه العادي، نظراً لتأخر صدور القانون الجديد الخاص بالمجمع؛ وكان مجلس النواب قد أقر هذا القانون في دورته الماضية ولكن مجلس الشيوخ أرجأ التصديق عليه إلى الدورة الجديدة.
كليات المقاصد والكلية الشرعية
كتب إلينا أستاذ فاضل من أساتذتها يقول:
زار سعادة العشماوي بك وكيل وزارة المعارف المصرية كليات المقاصد والكلية الشرعية(224/74)
التي أنشأها سماحة الأستاذ الكبير مفتي لبنان لتعد الطلاب للدراسة العالية في الأزهر الشريف، ولتنشئ الجيل الجديد الذي يجمع بين الثقافة الإسلامية والثقافة الحديثة، فسر منها سروراً عظيماً، وزار قاعاتها ومكتباتها، وحضر درساً في الأدب العربي للأستاذ علي الطنطاوي ودرساً للأستاذ الشيخ محمد الداعوق، فكان إعجابه شديداً وأعلن أنه على استعداد لقبول اثنين من طلاب الكلية في دار العلوم العليا في مصر بلا امتحان، فكان ذلك مكرمة عظيمة لسعادته تشكرها له الكلية خالص الشكر، وترجو أن يرى أثارها الطيبة في تقدم الكلية وازدهارها، وتوثيق الصلات بين مصر والأقطار الشقيقة في أقرب وقت، ونأمل من الرسالة (المجلة العربية الكبرى) أن تبلغه هذا الشكر على صفحاتها.
جمعية فرنسية إسلامية في باريس
ألفت أخيراً جمعية فرنسية إسلامية في باريس غايتها تعزيز الصداقة وتنمية العلاقات الفرنسية الإسلامية على قاعدة المساواة بين جميع أعضائها والتعلق المتين باحترام العقائد والآراء والابتعاد عن التبشير
وستتخذ هذه الجمعية مكتباً لها على مقربة من الجامع فتجعله مركز صداقة وتربية وتعاون. وسيؤلف هذا المكتب من: قاعات درس لعمال شمال أفريقيا الموجودين في منطقة باريس، ومكتبة تحتوي على مؤلفات فرنسية وعربية، وغرفة للمطالعة مجهزة بكتب عديدة عربية وفرنسية وقاعات للمحاضرات وعرض الأشرطة السينمائية
وهذا النادي سيعد لأن يصبح مركز ثقافة فرنسوية وعربية وستنشر فائدته في فرنسا وأفريقيا الشمالية والشرق القريب بفضل العلماء والأدباء والفنانين والفلاسفة العرب والفرنسيين الذين سيترددون عليه.
ذكرى مؤرخ كبير
أحتفل أخيراً في مدينة فالنسيين بفرنسا بذكرى المؤرخ الفرنسي الشهير (فراوسار) لمناسبة انقضاء ستمائة عام على مولده إذ أنه ولد على أرجح الروايات سنة 1337، وقد أتخذ الاحتفال أهمية خاصة، لأن فراوسار يعتبر في الواقع عميد المؤرخين الفرنسيين في التاريخ الفرنسي فهو أول من كتب التاريخ في فرنسا بروح جديد، وأول من فهم أن التاريخ(224/75)
شيء أكثر من القصة والرواية، وقد كان التاريخ حتى عصر فراوسار يكاد يمتزج بالقصة والأسطورة دائماً، وكان لا يزال خاضعاً لوحي الكنيسة، وكان المؤرخون هم الرهبان غالباً، فكان التاريخ مزيجاً من الروايات التي يصوغها رجال الذين حسبما تملي أهواء الكنيسة، وكانت الملوكية والشعب والحروب والحوادث جميعاً ينظر إليها من هذه الناحية، ويحكم عليها طبقاً لهذه الروح، ولكن فراوسار استطاع أن يتحرر من هذه الروح وأن يكتب التاريخ على أنه سجل الحوادث الجارية. وقد دون حوادث عصره في كتاب شهير يعتبر من هذه الناحية ذا قيمة تاريخية خاصة، وهو تاريخ فرنسا وإنكلترا وعلائقهما في عصره؛ ويعرف هذا المؤلف عادة (بتاريخ فراوسار) ويعتقد أنه أول مؤلف فرنسي وضع نهج التاريخ الحديث ومهد لتطوره كرواية حرة للحوادث والشئون
ونستطيع أن نقارن فراوسار من هذه الناحية بمؤرخنا العظيم ابن خلدون، فكلاهما عاش في نفس العصر، وكلاهما استطاع قبل غيره أن يفهم روح التاريخ الحقة، وأن ينظر إليه من ناحية جديدة، وأن يعامله باعتبار أنه أكثر منقصة ورواية تخضع لتأثير العوامل الدينية أو السياسية، ولكن ابن خلدون كان بلا ريب أوسع آفاقاً من فراوسار؛ ولم يرتفع فراوسار أو غيره من المعاصرين إلى تلك الأفاق الرفيعة التي سما إليها ابن خلدون، والتي جعلت منه أول فيلسوف اجتماعي، وأول مؤسس لفلسفة التاريخ وأصول الاجتماع.
في نادي القلم العراقي
اجتمع نادي القلم العراقي مساء اليوم الثاني من هذا الشهر في دار أحد أعضائه السيد توفيق وهبي وتلا السكرتير رسالة وردت من نادي القلم الإنكليزي يطلب فيها ترشيح أحد كبار أدباء العراق لتعيينه عضو شرف أسوة بالأمم الممثلة فيه.
فقرر المجتمعون ترشيح معالي الأستاذ الشيخ محمد رضا الشبيبي رئيس نادي القلم العراقي وزير المعارف لهذه العضوية الفخرية وقد ألقى في هذا الاجتماع الدكتور متي عقراوي فصولاً من رسالة حول التعليم الإجباري فكانت مدار مناقشات دقيقة.(224/76)
الكتب
يوميات نائب في الأرياف
للأستاذ توفيق الحكيم
محاورات أفلاطون
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محفوظ
للأستاذ محمود الخفيف
تفضل الأستاذ الحكيم فأهدى إلي كتابه (يوميات نائب في الأرياف) وكنت قد قرأت فصولا في مجلة الرواية؛ بيد أني عدت فتلوته وقد انتظمه مجلد واحد فألفيتني أكثر استمتاعاً به وأكبر محبة له ولصاحبه.
المؤلف الفاضل غني بشهرته عن التعريف، عرفه جمهور القراء وأحبوه في (أهل الكهف) ووثقوا من مواهبه الفنية في تلك القصة الرائعة وفي أختها (شهرزاد) وزادتهم مؤلفاته بعد ذلك معرفة به، وارتياحاً إلى فنه، وابتهاجاً بتوفيقه. والحق عندي أن توفيق الحكيم قد صار في (القصة المصرية) أحد أعلامها الأفذاذ، بل لقد خطا بها وهي بعد في طفولتها خطوات سريعة وثيقة حتى لقد غدا في هذه الناحية (كعبد الوهاب) في الموسيقى وكالمرحوم (مختار) في فن النحت، وحق لمصر أن تفخر به كما تفخر بهما. ولست أعني بالإشارة إلى (القصة المصرية) تبريزه فيها وحدها فلقد كتب له النجاح في ذلك الفن في أوسع حدوده ورأيناه موهوباً كما يقول أهل الفن كما رأيناه يجمع إلى موهبته ثقافة من الطراز الأول. والقصصي يخلق أولاً وفيه القصة: في نفسه أسلوبها وروحها، وفي رأسه الميل الشديد إلى صوغها وإعلانها. وقل مثل هذا عن كل ذي فن.
والكتاب الذي أحدثك عنه ضرب من القصة إذ تجاوزنا عن أصولها المصطلح عليها فهو كما ترى اسمه (يوميات). غير أن الأستاذ قد ألبسه ثوب القصة في مهارة عجيبة تعد في ذاتها ناحية من نواحي نبوغه في هذا الفن. فقد جعل من (ريم) ومن حادثة مقتل (قمر الدولة) سلكا ينتظم أجزاءها ويتسلط على القارئ من أول الكتاب إلى أخره؛ ويمكنك أن تعتبرها نوعاً من القصص الإصلاحي على نحو ما كان يجري عليه دكنز في فنه وما كان(224/77)
يتوخاه منه، وهنا نرى من الأستاذ الحكيم مسلكا جديداً في القصص لم ينزل به عن مستواه في مسلكه السالف في أهل الكهف وشهرزاد، تلك الناحية الفلسفية التي حلق بها في أفق عال فسيح. أجل رأينا في هذا الكتاب من مستلزمات الفن ومن آياته ما يعجب ويطرب! رأينا أولاً عنصر التشويق كما تجلى في خلق حادثة القتل ثم إخفاء القاتل والبحث عنه، وكما يتجلى في شكل أدق وأجمل من ذلك الوصف الشعري الجميل الفائق لتلك الفتاة الريفية (ريم) ذلك الوصف الذي عطف عليها القلوب، وجذب إليها النفوس، وأكسب القصة مسحة من الجمال السامي كانت تظهر فيه نظرات الأستاذ الفلسفية؛ ورأينا كذلك في القصة عنصر الفكاهة ناضجاً حلواً تسيغه الأفئدة وتعلق به، كما رأينا دقة الوصف وشموله في غير التواء أو تعقيد؛ ورأينا خبرة الأستاذ بالوسط الذي يكتب عنه تلك الخبرة المدهشة التي لم يدق عنها معرفة العبارات المحلية التي كان يجريها على ألسنة أشخاصه على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم وفصائلهم. هذا إلى وصف الأشخاص أنفسهم حتى لكأنك تراهم وتسمع إليهم. وهاأنذا أحد أبناء الريف أشهد ما وجدت في وصفه شذوذاً ولا لمحت فيه مسحة من خيال. ورأينا في القصة إلى جانب ذلك كله النقد الصحيح الذي يرضيك؛ نعم قد يحسب بعض القراء ممن لم يروا مثل هؤلاء الأشخاص الذين وصفهم الأستاذ، كالقاضي الأهلي والقاضي الشرعي مثلاً أن عنصر (الكاريكاتير) زائد في بعض أوصافه، ولكن الذين رأوا في الحياة مثل هؤلاء شهدوا له بالصدق، وأعجبوا بطريقته وطلبوا منها المزيد
فوق هذا كله أو قل بهذا كله تحققت للكتاب ناحية فريدة وهو أنه سجل لعصر من عصورنا، فيه كثير من ألوان حياتنا في بيئة من بيئاتنا، سوف تقرأه الأجيال المقبلة وترى فيه من نواحي اللذة ما يحببه إليها ويكسبه بذلك طول الحياة. ولن أفرغ من هذه العجلة دون أن أطلب ملحاً من الأستاذ الحكيم أن يجري قلمه على هذا النحو في نواحي حياتنا الأخرى فيرينا يومياته في بيئة الموظفين مثلاً في (الدواوين) أو في غيرها من الجهات فما أحوجنا إلى هذا النوع من القصص يجري به قلم فنان.
أنتقل بالقارئ بعد ذلك إلى الكتاب الثاني (محاورات أفلاطون) وقد أضطلع بنقله إلى العربية الأستاذ زكي نجيب محمود ونشرته لجنتنا المباركة الناهضة (لجنة التأليف والترجمة والنشر)(224/78)
عمل الأستاذ زكي كما ترى عمل المعرب، وقد يحسب البعض أن التعريب أمر هين لا يكلف صاحبه عناء، ولا يكشف عن مقدرة أدبية؛ ولكن الذين مارسوا هذا العمل والذين يقدرون الأمور حق قدرها، يعرفون أنه من أشق الأعمال ومن أقطعها حجة في معرض التدليل على المقدرة والكفاية الثقافية، وحسبك أن تذكر ما بين اللغات من تباين وتفاوت في الأساليب والتراكيب والاصطلاحات والمجازات وغيرها من ضروب التعبير، وأن تذكر ما تفتقر إليه اللغة العربية من الألفاظ التي تقابل ما استحدث من الألفاظ العلمية في اللغات التي ننقل عنها، لتعلم مقدار الجهد الذي يعانيه المعرب.
وفوق ذلك فهناك ما هو أهم من اللغة في ذاتها؛ هناك أصول الترجمة الصحيحة وما تتطلب من شروط، وأهمها في رأيي الإلمام التام لا باللغتين فحسب، فذلك قد يتوفر للكثيرين، ولكن الإلمام التام بالفن الذي يترجم. وعندي أن الذي يتعرض لترجمة فن من الفنون لا يفهمه حق الفهم، إنما يكون كسالك الصحراء أضلته دروبها أو ذهب بلبه فضاؤها الشاسع وقد جهل صواها، وتاه عن مبدئها ومنتهاها. أما الذي يترجم عن فهم وخبرة ووثوق من الموضوع فإنه كالربان الماهر عرف وجهته واتخذ إليها سبيله؛ نعم يكون الفاهم الموضوع من فهمه هذا ما يعينه على التعبير الصحيح، وما يجعل اللغة ذاتها طيعة في يده مواتية له فلا يتعثر ولا يقف ولا تظهر في عمله الركة ولا يشوبه الإبهام والتناقض والاضطراب.
والأستاذ زكي كما عرفته من قرب وكما عاشرته وصاحبته فيلسوف بطبعه، لا ترى الفلسفة فيه أثراً من آثار الثقافة فحسب، بل هي مظهر من مظاهر الطبع قبل هذا. تحدثه في أي أمر فيفلسفه، إن صح هذا التعبير؛ لذلك كان شغفه بالفلسفة ومسائلها نتيجة ميل ذاتي، وذلك لعمري سبيل العلم الصحيح. والذين لا يعرفونه إلا فيما كتب يشهدون له بطول الباع في هذه الناحية. وهل نسينا فصوله الممتعة في الرسالة؟ وهل نسينا كتابيه اللذين أشترك في وضعهما مع الأستاذ العلامة أحمد أمين وهما (قصة الفلسفة اليونانية) و (قصة الفلسفة الحديثة)؟
إذا عرفت هذا عن زكي، وعرفت معه أنه متين في لغته، ضليع في الإنجليزية، أدركت مقدار نجاحه في ترجمة هذا الكتاب الذي أحدثك عنه. الحق أني معجب بهذه الترجمة، محتكم فيما أقول إلى الذين قرءوا الكتاب فصولاً متتابعة في الرسالة قبل أن يجمع في(224/79)
سفر. ذلك أني أخشى أن يحمل البعض كلامي على المجاملة لما بيني وبين زكي من صداقة. وإذا كانت عين الرضى عن كل عيب كليلة، فتلك العين من ناحية أخرى ترى من المحاسن ما يخفى على غيرها وما يدق على أي عين سواها على أني لو وجدت في تلك الترجمة عيباً ما ترددت في ذكره بل وفي إبرازه
هذا عن الترجمة، أما عن الكتاب في ذاته فهو من تلك الكتب التي يعد نقلها إلى لغة معينة خدمة جليلة لتلك اللغة هذا لأنه من كتب الثقافة العالية التي أحدثت أثراً كبيراً في النهضات الفكرية للأمم التي ترجمته. وحسبك أن ترى سقراط كما يصوره تلميذه أفلاطون في ذلك الحوار، وأن ترى طرفاً من فلسفته في الأخلاق والحياة الإنسانية، وأن ترى أسلوبه في التفكير وتلمس أوجه الصواب فيما يطرق من مسائل، وأن ترى خلقه القويم وتحس عظمة روحه وقوة نفسه، ونقل ذلك الكتاب إلى لغتنا بالذات مكمل لناحية من نواحي النقص من ثقافتنا ولذلك فهو مظهر من مظاهر نهضتنا الفكرية الحديثة.
الخفيف(224/80)
العدد 225 - بتاريخ: 25 - 10 - 1937(/)
أي زمان هذا؟!
فرغ الشيخ منصور من قراءة (الأهرام) ثم ألقاها من يده الراعشة على الوسادة وقال بلهجة الساخط القانط: (أي زمان هذا؟) هل أتى أمر الله وقامت القيامة؟
وكنا خليناه لنفسه ساعة شغلها بالنظر في الجريدة، وشغلناها في شأن من شؤونه. فلما تحرك هذه الحركة العصبية، وقال هذه الجملة التعجبية، أقبلنا عليه نستفهمه الأمر ونناقله الحديث. والشيخ منصور هذا فقيه نابه من فقهاء الأزهر القديم، قضى عمريه في خدمة الدين وعلومه وهو على الحال القروية الأولى من بساطة الطعام والمنام والملبس، فلم يشْك داء ولم يشرب دواء قط!
أولاده مثقفون مترفون، يشغلون المناصب الرفيعة ويسكنون المنازل الأنيقة وينعمون بمتع الحضارة؛ ولكنه لا يزال هو وزوجه الشيخة يعيشان في دارهما العتيقة في حي الباطنية على النمط الأول: يأتدمان بالفول، ويتفكهان بالتمر، ويستصبحان بالزيت. ولا يخرجان - إن خرجا - إلا لصلة رحم أو لزيارة ضريح. والشيخ لا ينفك يحمد الله على أنه لم يركب سيارة، ولم يغش قهوة، ولم يشهد حفلة، ولم يتعلق بشيء من أسباب الدنيا إلا بما لا بد منه لسلامة البدن والدين؛ فلولا أنه يقرأ الصحيفة كل صباح، ويسمر مع نفر من تلاميذه كل مساء، لكان بينه وبين هذا العالم المتغير (كمال الانقطاع). وهو اليوم يدخل في حدود التسعين من سنيه قطيعَ القيام قعيدَ الغرفة، إلا أنه سليم الحواس شاهد اللب؛ ويرى أن الفضل فيما يتمتع به من طول العمر ونقاء الجسم وفراغ البال، إنما يرجع إلى الإيمان بحكمة الله والرضى بقسمة القدر. وبلغه أن قوماً من العلماء يسكنون في أحياء الأغنياء، ويستطيلون على الناس بالجاه والثراء، وأن أحدهم بلغ من ترفه وسرفه أن اشترى ثلاجة بعشر جنيهات، فاستهال الخبر، وتعاظم الأمر، ثم بكى وقال: يا حسرتا على الدين والعلم! إن العالم إذا امتلأت عينه من الدنيا، فرغ قلبه من الدين!
سأله أحدنا: ماذا قرأت يا مولانا في الجريدة فأنكرته على الزمان؟ فأجاب بلهجته تلك:
(حرب داخلية في الغرب، وحرب خارجية في الشرق، وحرب عالمية تترقب في البحر، وتتوثب في البر، وتتنزى على ألسنة الساسة المساعير من أبناء المدنية وربائب الحضارة؛ ثم سقوط الفرنك في سورية، وحبوط السياسة في فلسطين، وهبوط القطن في مصر، وقنوط الناس في كل مكان من صلاح الحال وانفراج الأزمة؛ ثم وباء الدنج الذي يؤازر(225/1)
الملاريا والأنفلونزا على خمود الحياة وشل الحركة. لقد كنا لا نرى الموت إلا حيث تكون الشيخوخة الفانية، ولا نسمع بالمرض إلا قُبيل الموت المرغوب، ولا نعرف من الأطباء إلا طبيب المركز يوم يزور القرية كل أربع سنوات، فيأمر بتسوية التلال، وكنس الأزقة، ورش الحيطان الخارجية بالجص؛ وكانت النفوس راضية مطمئنة تسبح في فيض من نعيم السلام والدعة، لا يُرمضها حقد على إنسان، ولا يقلقها حرص على شيء؛ وكان الناس لا يعلمون عن أوزار الحرب إلا ما يتسقطون من أنبائها الحين بعد الحين بين العثمانيين والمسكوف؛ وكانت السلامة أدوم، والأعمار أطول، والأرزاق أيسر، ورحمة الله أقرب، وأمة الرسول بخير
أما اليوم فكأنما أصاب الناس سُعار من الجحيم فلا يبرحون بين عمل دائب، وهم ناصب، وطمع شره، وتنافس دنيء، وعداوة راصدة. ثم فشا الطب ففشا المرض، وانتشر العلم فانتشرت الجريمة، وفاض الخير وغاضت البركة، واستبحرت المدنية المادية فخَفَت بين ضجيجها الآلي صوت الضمير، وهلك في عبابها المزبد سلام النفس. وكان الظن بالمدنية والعلم أن ينزعا من نفوس بني الإنسان غرائز الحيوان، ويهيئا لهم حياة الجنة التي حرمتهم إياها رذيلة الطمع. فهل رُفع الإيمان من الأرض حتى عم الناس هذا البلاء، وأصاب العلماء منه ما أصاب الجهلاء؟
فقلت له يا شيخنا! كان عدد الناس في صدر أيامك قليلاً، وخير الله بالنسبة إليهم كثيراً؛ فكانت الحياة وادعة، والنفوس قانعة، والجوارح عَفّة والجوانح سليمة. وبراءة الصدور من الحسد تصل قطيعة القلوب بالألفة، وترفه لغوب العيش بالمعونة؛ وخلو البال من الهم يدفع المرض عن الجسم، ويصد الرذيلة عن الروح. فلما جاءت المدنية الكاذبة وفرت وسائل الصحة، ومدت أسباب الأمن، فزاد النسل أضعافاً مضاعفة، وكثرت الحاجات كثرة فاحشة، فتزاحم الناس على موارد الرزق، وتكالبوا على مواد العيش؛ ثم أيأستهم هذه المدنية من عزاء الدين، وشككتهم في ثواب الله، وأرابتهم في غَناء الخُلق، فعادوا في حضارتهم الزاخرة بعجائب العلم كأوابد الوحش، لا يقودهم إلا غريزة الحي، ولا يحكمهم إلا قانون الحياة. والله وحده يعلم كيف المصير
فقال الشيخ منصور في تسليم المصدق واستسلام المؤمن:(225/2)
(الأمر لله يا بني! لا يقع في ملكه إلا ما يريد. نسأله تعالى أن يبقينا فيكم على سلامة، ويخرجنا من دنياكم على خير)
احمد حسن الزيات(225/3)
الحظ المعاكس
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
الذين يعتقدون أنهم مضطهدون في الحياة وأن كل من في الدنيا وما فيها من ناس وأشياء يناوئهم ويكيد لهم ويناصبهم معذورون، وإن كان الأطباء يقولون أن هذا مرض؛ فقد تتوالى المصادفة على وتيرة واحدة لا تختلف أو تتنوع حتى يكبر في وهم المرء أن هناك عمداً، فيروح يعذر بن الرومي الذي حكوا أنه كان إذا رأى النوى مبعثراً أمام باب البيت يرتد داخلاً ويقعد عن التصرف في يومه ذاك إيثاراً لطلب السلامة مما يتوهم أنه لا محالة ملاقيه من السوء والشر
حدث يوماً أني بكرت في القيام من النوم ليتيسر لي أن أكتب ما ينبغي لي أن أكتبه في ذلك اليوم، ثم أخرج لقضاء عدة حاجات لا سبيل إلى إرجاء واحدة منها. فأما الكتابة فاستحالت لأن الآلة الكاتبة تعطلت لعلة لم استطع أن أهتدي إليها، ولأني لم أجد في البيت كله لا حبراً ولا قلماً ولا شيئاً مما يستطيع المرء أن يكتب به، فابتسمت - فما بقيت لي حيلة - وقلت: (صدق المثل. . . باب النجار مخلع) وحدثت نفسي أن هذا يفسح الوقت لقضاء الحاجات الأخرى، فارتديت ثيابي وخرجت من الشقة متوكلاً على الله، فلم أكد أضع رجلي على الدرج حتى زلت قدمي، فنهضت متوجعاً على يدي ورجلي فقد هاضني الاصطدام بالدرجات وحدثت نفسي أن ساقي على الأقل لا ينقصها هذا الرض الجديد، ثم نفضت التراب عن ثيابي - بحكم العادة فإن السلم نظيف - ومضيت متحاملاً على نفسي إلى (الجراج) ولكن السيارة أبت كل الإباء أن يدور محركها. ولست حديث عهد بالسيارات ولا اعرفني عجزت عن علاج حرانها إذا كان لأسباب عارضة، ولكن الأمر استعصى عليً في ذلك الصباح حتى كدت أجن، فتركتها واستأجرت سيارة وفي ظني أنها أسرع من الترام وما إليه، فلم نكد نقطع كيلو واحداً من الطريق حتى عرض للسائق راكب دراجة خرج فجأة من زقاق، فأراد السائق أن يتقي أن يدوسه ويزهق روحه فاصطدم بحافة الرصيف وكاد يقتلني أنا أو يحطمني على الأقل. فنقدت الرجل ما استحق من الأجر وقلت: الترام أسلم وكنا عند محطته، فوقفت ثلث ساعة أنتظره وهو لا يجيء لسبب لا أدريه؛ وأنا أحتمل المشي مهما طال، ولكني لا أحتمل الوقوف خمس دقائق، فأحسست أن بدني قد(225/4)
تضعضع وأن ساقيّ أصبحتا لا تقويان على حملي، وإن كنت دقيقاً خفيفاً - وزناً ولا دماً - ورأيت مركبة خيل مقبلة فأسرعت إليها وركبتها، والقارئ أعرف بمركبات الخيل، وأكبر الظن أنه رأى كيف ينام الجواد وهو يوهمك أنه يجر المركبة. . . ما علينا. . . سرنا دقائق بسرعة كيلو وربع في الساعة وإذا بالترام الذي نفد صبري وتهدم جسدي وأنا أنتظره يدركنا ويمر بنا كالبرق الخاطف ويتركني أتحسر على العجلة التي صدق من قال إنها من الشيطان لعنه الله. وأوجز فأقول إن كل باب طرقته في ذلك اليوم الأسود ألفيته مسدوداً، وإن كل رجل أردت أن ألقاه وجدته مسافراً أو مريضاً، فاقصرت خوفاً على الباقين الذين كنت أريد أن أقابلهم أن يدركهم الموت. ولاشك أن بن الرومي كثرت تجربته لأمثال هذه المصادفات فصار يؤثر اختصار الأمر والنكوص من البداية اتقاء لمعانات الخيبة التي مل تكررها ولم يكن يجد فيها لذة وله العذر
وأذكر أنه كان معنا في المدرسة الابتدائية تلميذ مجد مجتهد وذكي بارع، وكان حرياً بالنجاح والسبق في أي امتحان، ولم يكن لأحد منا أمل في مزاحمته، ولكنه كان قبل كل امتحان يصاب بمرض يقعده عن أداء الامتحان. وكنا نحن على نقيضه لا نصاب بمرض حتى ولا بزكام خفيف، وكان يتفق أن ينذرنا المدرس أنه مختبرنا غداً مثلاً في الجغرافيا فتهبط قلوبنا إلى أحذيتنا، فقد كانت الجغرافيا أثقل ما نتلقاه من المعارف والعلوم في المدارس الابتدائية لأنها كانت عبارة عن أسماء خلجان وأنهار وجبال ورؤوس وبلدان ليس إلا؛ وكان حفظ هذه الأسماء التي لا آخر لها يسود نور الضحى في عيوننا، ولا أعلم ماذا كان يفعل سواي، ولكني أعرف أني كنت أنشد المرض بكل وسيلة أعرفها فأروح أقف ساعة وساعتين في تيارات الهواء، وأصب الماء البارد على رأسي في الشتاء وأتركه مبلولاً للهواء وفي مرجوي أن أزكم أو أحم فلا يحدث من ذلك شيء، وأضطر إلى الذهاب إلى المدرسة فما بي بأس يصلح أن يكون مسوغاً للتخلف وأعاني الاختبار الذي أنذرنا به، وألقي جزاء العجز عن الحفظ، وتمضي الأيام وأنا صحيح معافى، وإذا بأحد المدرسين يبشرنا بأنه سيذهب بنا إلى حديقة الحيوان في يوم كذا فنفرح ونعد طعامنا ونمني النفس بيوم جميل نلعب فيه وننط ونمتع العين بمنظر القرود والفيل ذي الخرطوم - أبو زلومة كما نسميه - والأسود. ويصبح الصباح الذي أحلم به فأهم بأن أرفع رأسي عن الوسادة فإذا(225/5)
به أثقل من حجر الطاحون، فأستغرب وأتحسسه فلا أجده مشدوداً إلى شيء، فأسأل أمي فتقبل عليّ وتجسني ثم تقول: (أنت سخن. . لا بد من شربة حالاً) فأصيح: (ولكن كيف أذهب إلى جنينة الحيوانات إذا شربت الشربة؟) فتقول: (جنينة الحيوانات؟ أنت مجنون؟ نم نم. . . لا جنينة الحيوانات ولا غيرها. . .) فأتحسر وأقول لنفسي: (بقى يا رب تشفيني يوم امتحان الجغرافيا وتمرضني يوم جنينة الحيوانات؟ الأمر لله) وأرقد وتجيء الشربة فأتجرعها بكرهي، وبعد ساعتين اثنتين تهبط درجة الحرارة إلى الحد الطبيعي
ومن غرائب الدنيا أن فيها متزوجين يسخطون على نسائهم ولا يريدونهن - ولا يدري أحد لماذا تزوجوهن إذاً - ورجالاً يطلبون الزواج ولا يجدون النساء الموافقات، وفقراء لا يكادون يجدون الكفاف ولهم من البنين تسعة أو عشرة أصحاء يأكلون الزلط كالنعامة؛ وأغنياء يسر الله لهم الرزق وأدر عليهم أخلاف الثروة يشتهي الواحد منهم أن تكون له طفلة واحدة ولو كانت عوراء أو كسيحة. وترى بنات دميمات ثقيلات الدم والروح يتزاحم الشبان عليهن ويطرحن أنفسهم تحت أقدامهن وهن لا يردنهم ولا يشجعنهم ويرفضن أن يكن زوجات لهم وإن كانوا صالحين وأحوالهم حسنة وسيرهم مرضية. وترى بنات جميلات رشيقات ممشوقات يفتن العابد بالحسن والظرف وحلاوة الطبع وطيب الحديث وبراعة الذكاء، ولكنهن مسكينات لا يرغب فيهن أحد ولا يباليهن مخلوق ولا يحلم بوجودهن لا شاب ولا كهل. قالت لي مرة واحدة من هؤلاء الجميلات المسكينات - اعني المنبوذات - إن أغلب ظنها أن العنس هو كل حظها من الدنيا. فتألمت وقلت لها: (يا شيخة حرام عليك. . . أهذا كلام تقوله شابة في العشرين من عمرها؟) قالت: (هذا اعتقادي. . . وأي شيء هناك يغري بالأمل؟. . إن الناس يطلبون المال) قلت: (مالك جاملك وعقلك وحسن تدبيرك وأخلاقك الطيبة) قالت: (أشكرك ولكنك لن تستطيع أن تحيي أملاً مات. . . إني أدرى منك. . .) فتذكرت فتاة هي مثال مجسد للدمامة وثقل الدم وقلة العقل فقلت: (إذا كانت فلانة قد وفقها الله إلى زوج صالح كريم. . .) فقاطعتني وقالت: (هذا هو الذي يحدث دائماً. . . أليس حظ فلانة هذه مدهشاً؟ من كان يتصور؟ اللهم لا اعتراض. . .) قلت: (إنك مازلت صغيرة فاصبري) قالت: (بالطبع. . . ثم إنه لا حيلة لي إلا الصبر ولكنه لا يسعني إلا أن أرى وأتعجب. . . هل تعرف إن كل من زارتنا خاطبة(225/6)
- وإن كانت لم تصرح ببواعث الزيارة - ذهبت ولم تعد؟. . وليس هذا فقط بل سمعنا من معارفنا أن هؤلاء الزائرات الخاطبات عبنني بكيت وكيت (وذكرت لي عيوباً ليس فيها شيء منها) وإن كل حديث جرى مع أبي في أمر الزواج انتهى بالانقطاع بلا سبب نعرفه) فلم يسعني إلا أن أرثي لها. فليس كل ما تعانيه إبطاء الحظ عليها بل شر من ذلك الإيلام الذي تحدثه صدمة الخيبة كلما نشأ الأمل. وقد كان من أثر ذلك أنها صارت تجنح إلى التمرد أحياناً على المجتمع وعلى حالاته وما يكون بين الناس فيه؛ فلولا أن لها من عقلها وحسن تربيتها وازعاً قوياً. . .
وقالت لي مرة وأنا ماض بها إلى بيت خالة لها: (شف. . . أنا لا أخرج قط إلا مع أبي أو أخي أو معك أحياناً. . ولكني واثقة أن الناس يعرفون وجهي ولا يعرفون صلتك بنا سيرونني اليوم واثقة أيضاً أنهم سيعتقدون أنك. . . أنك. . . غريب. . . وأني خارجة معك للنزهة أو. . . وأني باختصار بنت فاسدة الأخلاق. . . وواثقة فوق هذا أنهم سيعنون بأن يذيعوا هذا عني كأن لهم ثأراً عندي. . . فما رأيك؟)
فقلت لأخفف عنها: (المصيبة واحدة. . . أنا أيضاً رجل تقي ورع أخاف الله وأتقيه ولي زوجة وأولاد؛ وأنا واثق أن ناساً يعرفونني ولا يعرفونك سيروننا فيقول كل منهم في سره أو لصاحبه: شف. . . شف. . . أما إن معه لبنتاً!!! يا ابن الـ. . .)
فضحكت فقالت: (هذا أحسن. . . ليس في وسعنا أن نصلح الكون إذا صح أن به حاجة إلى الإصلاح، ولكن في وسعنا دائماً أن نتلقى ما تجيء به الحياة بابتسامة حلوة كابتسامتك وإن لم يرزق كل إنسان مثل هذا الفم الجميل)
وهكذا الدنيا دائماً. . .
إبراهيم عبد القادر المازني(225/7)
في تاريخ الجمعيات السرية
طائفة سرية عجيبة تعيش في عصر المدنية بأساليب همجية
تتمة البحث
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان عهد القيصر إسكندر الأول أصلح عهد لنمو الحركات الروحية السرية في روسيا. ففيه أنشئت في بطرسبرج عدة محافل سرية لمزاولة الشعائر والتجارب الروحية، وكان قوام هذه الحركة عدة من سيدات الطبقة العليا مثل البارونة بكشفدن ومدام تتاريبوفا. وكان الأكابر والخاصة يشهدون هذه الحفلات الروحية التي اشتقت رسومها وشعائرها من رسوم بعض الجمعيات السرية الوثنية قبل جمعية (أهل الله) وطائفة (سكوبتسي) ذاتها؛ ووقع القيصر نفسه تحت تأثير البارونة فون كرورنر الشهيرة، وهي سيدة اشتهرت يومئذ بنزعتها الصوفية والروحية وكان لها أكبر الأثر في توجيه سياسة القيصر، وفي سير الحوادث والشؤون؛ وكان القيصر يعتقد أن مؤازرة هذه الحركات الروحية هي خير وسيلة لمكافحة حركة البناء الحر (الماسونية) والجمعيات السرية الأخرى التي كانت منها طائفة (سكوبتسي)، ولكن طائفة (سكوبتسي) أو طائفة المجبوبين لقيت في عهد إسكندر الأول كما قدمنا فترة صالحة للنمو، واستطاعت بما خول لها من الحرية والتسامح أن تلم شعثها، وأن تنشط لإذاعة مبادئها، واستطاعت بالأخص أن تنفذ إلى الطبقات المستنيرة التي لم تصل إليها من قبل. وغدا سليفانوف في شيخوخته كأنه ملك غير متوج تحج إليه الوفود من كل صوب، وتنهال عليه العطايا والمنح؛ وكثرت أموال الطائفة، واشتد نفوذها، وقدم اليانسكي وهو زعيم الطائفة الفكري إلى كبير الوزراء رسالة وضعها عن مبادئ الطائفة ومثلها، وفي يبرر إجراء (الجب) بحرارة، ويقترح على القيصر مشروعاً للإصلاح السياسي تنقل بمقتضاه السلطة الفعلية إلى طائفة (المجبوبين)، ويبقى القيصر رئيس الدولة بالاسم تحت زعامة سليفانوف الروحية؛ فأثارت هذه الجرأة اهتمام القيصر وحكومته بأمر المجبوبين مرة أخرى، وقبض على اليانسكي، وسجن في أحد الأديار. أما سليفانوف فقد ترك حراً نظراً لشيخوخته وضعفه، بعد أن وعد بالكف عن الدعوة إلى الجب والاقتصار على الدعاية(225/8)
الروحية
على أنه لم يف بهذا الوعد، بل استمرت الدعوة الهمجية وذاعت بين طبقات كثيرة، واعتنقها عدد من الأغنياء وذوي النفوذ، وبلغ عدد المجبوبين في هذه الفترة آلافاً كثيرة. وانتظم في سلك الطائفة يومئذ وصيف سابق للإمبراطور بطرس الثالث (فيدوروفتس) يدعى كوبليف، وأخذ يؤكد أن سليفانوف إنما هو القيصر بطرس بلا مراء، وإن القيصر إسكندر يعرف جيداً أن جده يعيش بين المجبوبين منذ عهد بعيد؛ وأسبغ سليفانوف على هذا الداعية لقب (النبي)؛ وهكذا أصبح سليفانوف يزعم أنه المسيح وأنه القيصر معاً
واكتشف حاكم بطرسبرج الكونت ملورادفتش أن ابني أخيه قد وقعا في شرك (المجبوبين) وأن أحدهما قد كابد بالفعل عملية الجب فثار سخطاً؛ وضاقت حكومة القيصر ذرعاً بهذا الاجتراء المجرم الذي لم تنج منه حتى طبقة النبلاء، فانتدبت في سنة 1820 لجنة سرية للتحقيق. وبعد البحث قرر قرارها على اعتقال سليفانوف. وفي الحال اعتقل الداعية، ولكن في رعاية ورفق، وألقي في دير سوزدال؛ فارتاع أنصاره، وحاولوا السعي لإطلاق سراحه، ولكن الحكومة كانت هذه المرة جادة ثابتة العزم. ولما رأى الزعماء أن السلطات تتربص بهم وترقب حركاتهم عمدوا إلى أساليب السرية القديمة، وأخذوا يعملون في الخفاء، ويتظاهرون بأنهم من أخلص أنصار الكنيسة، ولكن السلطات قبضت على معظم زعماء الطائفة وزجتهم في مختلف الأديار والقلاع. وتوفي سليفانوف في معتقله سنة 1832؛ ولكن (المؤمنين) يعتقدون إلى اليوم أنه حي، وأنه سيعود ليتولى السلطات في روسيا ويقيم يوم الحساب على نحو ما يعتقد الدروز في عودة الحاكم بأمر الله
ولم يخمد نشاط هذه الطائفة السرية العجيبة خلال القرن التاسع عشر، بل لبثت دعوتها تتسرب إلى جميع الطبقات؛ ونفذت الدعوة إلى الجيش بكثرة، واكتشفت السلطات مئات من (المجبوبين) في كرونستات وفي القوقاز، وأمر القيصر أن تؤلف من هؤلاء الخصيان فرقة خاصة في الجيش. وفي سنة 1842 قدم جند هذه الفرقة إلى القيادة بلاغاً قالوا فيه أنهم لا يعترفون بالقيصر، وإن القيصر الحقيقي هو بطرس الثالث الذي اعتقل في سوزدال وأعلنت وفاته كذباً، فقبض على زعماء الفرقة ونفوا إلى سيبيريا
وتوالت محاكمات دعاة (السكوبتسي) خلال القرن التاسع عشر، وأدمجت في قانون(225/9)
العقوبات الروسي العقوبات الآتية: وهي أن يعاقب الشخص الذي يقوم بتشويه نفسه بالنفي إلى سيبيريا؛ ويعاقب الذي يقوم بتشويه (بخصي) شخص آخر بستة أعوام في الأشغال الشاقة؛ ويعاقب الدعاة بالنفي إلى سيبيريا؛ ويعاقب الشخص الذي يقوم بإيواء الدعاة في منزله عقاب مرتكبي جريمة التشويه
ومن أشهر قضايا (المجبوبين) في هذه الفترة، محاكمة وقعت في سنة 1869 أمام محكمة جنايات تمبوف، وفيها حكم بالنفي على مكسيم بلوتتزين، وهو تاجر غني كان يأوي في منزله تسع نساء مشوهات؛ ذلك أن هذه الطائفة البربرية كانت تجتذب إليها النساء أيضاً، وكان تشويه النساء يجري بقطع أجزاء من الثديين أو بانتزاعهما، وكذلك بتشويه أعضاء أخرى؛ وكان يخرج من هؤلاء النسوة المشوهات بين آونة وأخرى (مريم) تزعم أنها أم المسيح المزعوم. وكان بلوتتزين من أكابر الدعاة، وكان يعتبر من (أنبياء) الطائفة وله نفوذ عظيم في الولاية كلها. وفي سنة 1876، كانت محاكمة رنانة أخرى أمام محكمة جنايات مليتوبول، وفيها ظهر أمام القضاة مائة وستة وثلاثون مجبوباً حكم على معظمهم بالنفي. وكانت هذه المحاكمة الشهيرة خاتمة حركة سرية واسعة النطاق تعدت حدود روسيا إلى رومانيا، وذهب ضحيتها مئات من الفلاحين والعمال. وكان الدعاة قد أخذوا إزاء اشتداد المطاردة في روسيا يتسربون إلى رومانيا وهنالك أسسوا لهم (محافل) سرية في ياسي وجلاتز؛ وظهر في جلاتز بين الدعاة شخص يدعى ليسين وهو روسي من موسكو، وكان يمتاز بنوع من الهيام الصوفي، فالتف المؤمنون حوله ولقبوه (بالمنقذ) وزعموا أنه القيصر بطرس الثالث. وصرح ليسين لأنصاره أنه أعظم من المسيح، لأنه أتى لأجل المجد وليس كالمسيح لأجل المعاناة، وأسبغ صفة الأنبياء والحواريين على عدة من أنصاره؛ وذاعت الدعوة الجديدة في رومانيا بسرعة، وهرع الخصيان من كل صوب لتحية المسيح الجديد؛ وبعث ليسين رسله يبشرون بقيامه؛ ثم سار بنفسه في حفل من أنصاره إلى بطرسبرج ليقدم نفسه إلى (القيصر الظاهر)؛ ولكنه اعتقل مع زملائه في الطريق؛ وقامت السلطات بتحقيق واسع النطاق في أمر المجبوبين استغرق أربعة أعوام، وقدم إلى محكمة مليتوبول مائة وستة وثلاثون متهماً، وكان جلهم من الفلاحين ومعظمهم شبان ومنهم شيوخ قلائل وأحداث لم يجاوزوا الخامسة عشرة؛ وكانت في الواقع أشهر محاكمات هذه الطائفة السرية المدهشة(225/10)
واعترف بعض (الأنبياء) المتهمين أثناء المحاكمة بكثير من أسرار الطائفة وإجراءاتها ورسومها الوثنية؛ ولكن ليسين (المسيح والقيصر) صرح أمام قضاته بأنه غير مذنب، وأن المؤمنين قد اختاروه وفقاً للنبوءات المقدسة، وأن رسل الطائفة يبشرون بالمسيح الجديد وفقاً لتعاليم الإنجيل، وإنه لا يزال على عقيدته مخلصاً لمبادئه ورسالته، وأنه منذ شبابه يبحث عن السلام والحقيقة فلم يجدها إلا لدى طائفة (سكوبتسي)؛ وألقى آخرون من الدعاة تصريحات روحية وفلسفية، وأشادوا بنقاء المثل التي ينشدها المجبوبون؛ وقضت المحكمة في النهاية على ليسين بالأشغال الشاقة ستة أعوام، وقضت على آخرين من الأنبياء بالأشغال الشاقة لمدد مختلفة، وقضت على معظم المتهمين الآخرين بالنفي إلى سيبيريا
وفي أوائل هذه القرن بعد ثورة سنة 1905 سمح للمجبوبين أن يختاروا مكان إقامتهم، فهرع كثير منهم إلى روسيا؛ وقدر عدد المنتمين إلى الطائفة يومئذ في روسيا بخمسة عشر ألفاً، وجرت بعد ذلك عدة محاكمات أخرى اتهم فيها الدعاة بالتحريض على (الجب) وقضي على مئات منهم بالسجن والنفي
وفي ظل النظام البلشفي استطاعت الطائفة أن تجوز العاصفة بسلام بالرغم مما لحق زعماءها الأغنياء من فقد ثرواتهم وأملاكهم الواسعة؛ ورأى الدعاة أن يسايروا النظام الجديد اجتناباً للمطاردة وقام منهم داعية يدعى ارماكوف، فوجه إلى جميع (المؤمنين) خطاباً مفتوحاً يناشدهم فيه أن يجانبوا الغنى والكبرياء والشح، وأن يعودوا إلى الحياة الأخوية الساذجة التي دعا إليها سليفانوف، واقترح أن ينتظم أبناء الطائفة في جماعات روحية مشتركة، ووضع للطائفة نظاماً تعاونياً جديداً على أساس الشيوع؛ وحمل ارماكوف على الاختلاط الجنسي، ووصفه بأنه أعظم عقبة تحول دون تحقيق الصفوة الإنسانية لمبادئ الحياة الرفيعة؛ وتبعه داعية آخر يدعى منشنين، وأذاع في سنة 1928 رسالة قال فيها إن مصائب الإنسانية كلها، وجميع المنازعات والجرائم والحروب، هي نتيجة الغريزة الجنسية؛ ثم يقول ما يأتي: (ما الذي يدفع إنساناً إلى الاختلاس والجريمة؟ هي الغريزة الجنسية. وفي كل مكان نرى عيادات الأمراض السرية، وفي كل يوم تقع آلاف من حوادث الإجهاض وقتل المواليد؛ ولقد كان العالم وما يزال غاصاً بالبغاء والبغايا، وكل ذلك يرجع إلى فعل الأعضاء الجنسية) ويقترح منشنين كعلاج لهذه المحنة الإنسانية أن يعاني(225/11)
الرجال عملية (الجب) في سن النضج، ويقول إن ذلك لا يضير الإنسانية في شيء
وفي سنة 1929 اكتشفت السلطات السوفيتية محافل سرية للمجبوبين في موسكو ولننجراد، وظهر من التحقيق أن الدعاة يرتكبون جريمة التشويه، ويبشرون في اجتماعاتهم السرية باقتراب حكم القيصر بطرس الثالث؛ فقبض على كثيرين من الزعماء والدعاة، وحوكموا أمام المحكمة الثورية، وقضي على كثير منهم بالسجن (لأنهم يذيعون خرافة دينية تقترن بها فائدة مادية، ولأنهم ارتكبوا جرائم الضرب والجرح). ووقعت في سنة 1930 محاكمة رنانة أخرى في لننجراد حيث قبض على كثيرين من أعضاء الطائفة وبينهم عدة من أكابر الأغنياء السابقين، وعدة من العاملات؛ فقضت المحكمة على الزعماء بالسجن، ولكنها قضت ببراءة الضحايا من العمال والعاملات. وظهر من التحقيق أن الطائفة تعمل بنشاط في جميع أنحاء روسيا، وأنها تبذل كل الوسائل وكل صنوف الإغراء لاجتذاب الأنصار، وأنها لا تحجم عن ارتكاب صنوف الإفساد والوعيد والعنف لتحقيق غايتها؛ وأنها تستظل في دعايتها ببعض نصوص الإنجيل والتوراة، وتعمد إلى خصي الأطفال وبذل العطايا للفقراء الذين يرتضون التشويه، واستخدام اليتامى ثم تشويههم بعد ذلك. وتجري عملية التشويه دون رسوم معينة بل تجري حيثما أمكن؛ ويأخذ الداعي على الضحية دائماً عهداً وثيقاً بالكتمان. وظهر أيضاً أن الدعاة يجتمعون تحت جنح الظلام في مصلى خفي يقام فيه حاجز بين الرجال والنساء، ويرتدي (المؤمنون) ثياباً بيضاء ويحملون الشموع المنيرة، ويتلون صلوات من تأليف رسلهم ودعاتهم، ويتمايلون أثناء الصلاة في حركات عنيفة تبلغ أحياناً درجة الهيام
وهكذا نرى أن هذه الطائفة السرية التي قامت منذ القرن السابع عشر على مبادئ وثنية، وأساطير روحية سخيفة، والتي تتوسل إلى تحقيق مثلها بأشنع الأساليب البربرية، لا تزال تقوم إلى اليوم في قلب أوربا، وفي قلب روسيا السوفيتية التي يغمرها جو من الإلحاد والإنكار لم تعرفه من قبل أمة من الأمم. على إن قيام هذه الطائفة الهمجية في قلب روسيا بالذات أمر يمكن فهمه وتفسيره، ففي قفار روسيا النائية توجد مجتمعات من الفلاحين يسحقها الجهل والفقر، وتنحدر في سذاجتها إلى مستوى يدنو من الهمجية، وفي هذه المجتمعات الساذجة المتأخرة تفشو الخرافات والأساطير الدينية بصور مروعة تذكرنا(225/12)
بأساطير الوثنية الأولى؛ وفيها بالذات استطاع الدعاة أن يحشدوا ضحاياهم. بيد أننا قد رأينا أن دعوة المجبوبين قد وصلت في العصر الأخير إلى طبقة المثقفين والنبلاء. وأعجب من ذلك أن تقوم مثل هذه الطائفة إلى اليوم تبشر بمبادئها ورسومها الهمجية. ولكن روسيا بلد العجائب؛ ومن الصعب أن نتصورها قطعة من أوربا المتمدنة، وقد كانت وما تزال اليوم مسرحاً لأغرب الدعوات والمذاهب والأساطير
(فينا في أوائل أكتوبر)
محمد عبد الله عنان(225/13)
التشريع والقضاء في العهد الفرعوني
للأستاذ عطية مصطفى مشرفة
- 1 -
قبل أن نتكلم عن تاريخ القضاء في مصر، ينبغي أن نمهد بكلمة عامة تتناول حالة المصريين في عصورهم الأولى قبل أن تنشأ فكرة القانون بينهم وقبل أن يخضع نظامهم لقواعد معينة مرتكزة على قوة الدولة تحدد سلوكهم وتنظم ما بينهم وبين غيرهم من علاقات
تدل الآثار المصرية على أن النوع الإنساني قطن مصر منذ أزمان عهيدة، وأثبت أكثر الباحثين في تاريخ الأجناس البشرية أن هذا النوع الإنساني عندما استوطن وادي النيل أخذ في استثمار أرضه، فظهرت الأسرة تبعاً لثبات المعيشة واستقرارها وأصبحت النواة الاجتماعية الأولى للمجتمع المصري. وكانت الأم في الزمن الغابر هي قطب دائرة الأسرة إذ لم يعرف الطفل إلا والدته؛ ثم ظهر الأب وأصبح له السلطة العليا عليها فخضع له جميع أفراد أسرته من زوج وولد ونزيل ورقيق
قامت إذن الحياة الاجتماعية الأولى عند قدماء المصريين كما قامت عند غيرهم من الأمم القديمة على جماعة الأسرة؛ ذلك بأن الإنسان مدني بطبعه ليس في قدرته أن يظل منعزلاً عمن حوله، فهو محتاج دائماً إلى مساعدة غيره له في كل أطوار حياته
فالأسرة إذن هي أول خلية اجتماعية وجدت في الجنس البشري؛ وهذه الوحدة الاجتماعية الأولى اشتملت على جمع من الأفراد ربطتهم عاطفة القرابة وجمعتهم صلة الدم، وكانوا يخضعون خضوعاً تاماً في أموالهم وأرواحهم لرجل فيهم هو أب الأسرة أو جدها؛ فكان هذا الرئيس هو الذي يوفي بعهودها ويطالب بحقوقها ويقضي بين أفرادها، وكانت كلمته فيهم بمثابة فرض يطيعه أفراد أسرته ولو كان ظالماً؛ وكان أفراد الأسرة متضامنين يحافظون على أموال أسرتهم وحقوقها ويحمون أفرادها ويتحملون أعمال كل فرد فيها، فعلى كل منهم تقع مسؤولية أخيه ونتيجة جرمه، لأنهم متضامنون في الشر والخير معاً، فلكل منهم أن يطالب بحق أخيه، وعلى كل منهم أن يأخذ بثأر أخيه
ثم اتسعت دائرة الأسرة على مر الأيام تبعاً لازدياد النسل حتى أصبحت عشيرة تتكون من(225/14)
عدة أسر ترجع إلى أصل واحد وتدين بعقيدة دينية واحدة؛ ثم اتسعت دائرة العشيرة فتحولت إلى قبيلة تتكون من مجموعة من العشائر تضم جمعاً من الأفراد تربطهم رابطة القرابة أو المصاهرة أو المصادقة أو الضرورة للتعاون على اتقاء الأخطار؛ ثم توطنت القبيلة في الإقليم، وكانت مصر مكونة من عدة أقاليم كثيراً ما كانت تتحارب، فيتغلب إقليم على آخر ويضمه إليه. وقد أدت هذه الحروب إلى تكوين مملكتين عظيمتين إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب، إلى أن وحدهما (مينا) أو (ميناوس) أو (مصرايم) أول ملوك مصر بجعلهما مملكة واحدة تخضع لسلطانه سنة 3400 ق. م فكان بذلك أول مؤسس لأسر الفراعنة. لذا قال (أرسطو) في الكتاب الأول من السياسة: إن الأسرة هي مصدر الدولة وأساسها الذي تقوم عليه
وإذ اتضح لنا أن الأسرة هي أول جماعة فطرية وجب علينا أن نبين كيف كانت تلك الخلية الأولى من الوجهة القانونية وعلى أي قاعدة حددت صلاتها وعلاقاتها بين أفرادها من جهة، وبين الجماعات الأخرى من جهة ثانية
كانت سلطة رب الأسرة أو رئيس العشيرة أو شيخ القبيلة مطلقة، يقضي بين أفرادها بما يشاء لا ينازعه في قضائه منازع؛ وتمتد سلطته إلى أموالهم امتدادها إلى أرواحهم. وكان يدير شؤونها الداخلية ويتولى أمورها الخارجية أمام الجماعات الأخرى وفقاً للتقاليد والعادات، فكانت كلمته قانون الأسرة بين أفرادها كما كانت القوة هي القانون الذي يحكم صلاتها مع الجماعات الأخرى؛ فهي التي كانت تفض كل نزاع مهما كان نوعه، سواء أكان هذا النزاع مدنياً أم جنائياً، فمن كتب له النصر وتمت له الغلبة كان الحق والعدل في جانبه. فكانت القوة تحمي الحق بل كانت تخلقه وتوجده؛ فمن كان قوياً استطاع أن يحصل على كل حقه، ومن كان ضعيفاً فات عليه من حقه على نسبة ضعفه؛ وكان الانتقام الفردي هو طريق عقاب الجاني أو الجناة، وكان للمجني عليه أو لأي فرد في أسرته أن يقضي رغبة الانتقام التي تجول في صدره فيختار من طريق العقاب ما يزيل به حقده على كل مرتكب للجريمة. وقد يقوم أفراد أسرة المجني عليه بمهاجمة أفراد أسرة الجاني لتضامنهم في الأخذ بالثأر، ولاعتقادهم بأن جرم الدم لا يمحوه إلا الدم إذ لم يكن هناك من قوانين وقواعد تنظم استعمال ذلك الحق كما لم يكن هناك من سلطات عليا تحدد العقوبة وتشرف(225/15)
على تنفيذها
كان الأخذ بالثأر إذاً حقاً وواجباً معاً؛ وكثيراً ما كان عبئاً ثقيلاً يقع على أفراد أسرة الجاني فتختار أهون الشرين وذلك بتسليم الجاني إلى أصحاب الدم، وبذلك تتخلى عن المعتدي إما خوفاً من الهزيمة وإما اجتناباً للحرب ورغبة في حقن الدماء. وقد تكتفي أسرة المجني عليه إذا وجدت نفسها أمام خصم قوي بالصلح تلقاء تعويض أو فدية تؤخذ من الجاني حتى تغض النظر عن طلب الثأر، وبذلك نشأت فكرة شراء الجريمة بالمال، وسمي ذلك بالدية أو بدل الصلح على الجريمة؛ فكان القاتل ينجو من العقاب إذا أفلح في الصلح مع أهل القتيل. ولم يكن المال الواجب دفعه ثمناً للصلح متساوياً في جميع الجرائم المتعددة من حيث الجسامة، بل اختلف كثرة وقلة بحسب مركز الجاني والمجني عليه معاً رفعة وضعة وبحسب مركز أسرتيهما وبحسب الإهانة التي لحقت الأسرة المعتدى عليها. بسبب الجريمة قامت العدالة إذن وتأسست على المصلحة المادية المؤيدة بالقوة والمعززة بها؛ وشاع نظام المبارزة الذي هو التجاء صريح إلى حكم القوة لفض نزاع مدني أو جنائي، فكان المنتصر هو صاحب الحق؛ وأصبحت المبارزة وسيلة قضائية أخرى لفض النزاع بين المتخاصمين
ثم خطا المجتمع المصري القديم خطوة أخرى إلى الأمام تبعد بعض الشيء عن حالة الوحشية السابقة، فركن إلى مهارة الخصمين لفض النزاع، فشرع مثلاً مساجلات غنائية بين الخصمين يكون المنتصر فيها صاحب الحق، أو ترك ذلك إلى المصادفة كإلقاء الخصمين مكتوفي اليدين أو الرجلين أو هما معاً في الماء، ومن أشرف منهما على الغرق كان هو مقترف الذنب؛ أو يكوى به اللسان أو أي عضو آخر في الجسم بحديد محمى، ومن يمتنع منهما كان امتناعه دليلاً على أنه المذنب، إلى غير ذلك. وكانوا يلجئون إلى هذه الوسائل وأشباهها في تعرف الحق لاعتقادهم أن الله لا يخذل صاحب الحق أبداً
ثم تدرجوا في الرقي فاختاروا (وسيطاً) يفصل في النزاع بحكمته بينهم، وانتهى التدرج إلى قبولهم (حكماً) يفصل في منازعاتهم، فحل (الحكم) محل (الوسيط) وبذلك أقبل الناس إلى شيوخ العشائر وإلى رؤسائها وإلى رئيس القبيلة وإلى كل شخص عرف بأصالة الرأي وصحة الحكم ليفصلوا فيما شجر بينهم من نزاع، فكان قضاء مضطرباً غير ثابت لأنه لم يصدر عن قانون مسنون يمده بقواعده، ولا يستند إلى سلطة عليا تتولاه وتؤيد أحكامه ولو(225/16)
بالقوة عند الاقتضاء، لأنهم كانوا غير ملزمين بالالتجاء إلى هذا (الحكم) ولا مجبرين على اتباع قراراته، بل لم يكن هو نفسه مجبراً على الفصل بين من يحتكمون إليه؛ وكانت القوة هي الملاذ الأخير يلجأ إليه من لم يرض بنتيجة التحكيم لفض النزاع. ثم خطت الأمة المصرية بعد ذلك خطوات سريعة إلى الرقي إذ أحلت النظام القضائي محل الطرق السابقة وحتمت الالتجاء إلى المحاكم لتفصل في النزاع وفق قانون معين مسنون
نشوء فكرة القانون عند قدماء المصريين
لما كان الإنسان محتاجاً إلى زاجر يزجره أو رادع يردعه فقد أحس منذ القدم وجوب وضع القواعد والقوانين التي تحدد له مدى سلوكه ونشاطه وتحفظ له حقوقه وتقي الناس اعتداءه؛ لهذا وجب أن نتكلم عن المظاهر الأولى التي برزت فيها فكرة القانون في المجتمع المصري القديم وكيف استقل وتباعد عن المصلحة المادية المعززة بالقوة
لما نشأت المدينة كوحدة سياسية وتكونت من جماعات هذبتها العقائد الدينية وثنية كانت أم سماوية، وخضعت تلك الجماعات لسلطة رئيس الإقليم أميراً كان أو ملكاً، نشأت عندئذ فكرة القانون مستقلة عن القوة
كان قدماء المصريين يعتقدون أن المعبودة (ما) أو (معت) هي إله العدل والحق؛ لذا وضعوا على تاجها ريشة نعامة، وكانت تدل عندهم على العدل. وكانوا يقولون إن (توت) أو (طهت) أو (تحوت) المعروف عند اليونان باسم (هرمس) نزل إلى الأرض ووضع لسكان وادي النيل القدماء القواعد الأساسية للقوانين المدنية والجنائية فاعتبروه رب القوانين وإله كل المعارف؛ وكانوا يقولون عنه إنه أول مشروع مصري يحتذي وينسج على منواله. ويزعمون أنه ترك كتباً قيمة في التشريع وفي نظم القضاء، ولكنا لم نهتد إلى شيء من تلك الكتب. وكانوا يعتقدون أن للعدالة إلهاً يوحي بالحكم لمن يرفع إليه النزاع من الكهنة أو السحرة. وكان من نتيجة اعتقادهم أن قوانينهم منزلة عليهم من السماء وأنها صادرة بوحي الآلهة ومشورتهم أن صبغ القضاء عندهم بالصبغة الدينية التي أكسبته الإجلال والوقار. ثم تكونت بمضي الزمن وتكرر الحوادث والمنازعات المتماثلة أو المتشابهة وصدور أحكام مصدرها الإلهام - عادات مرجعها الإلهام ليس لها صفة إلزامية، وإنما تستمد قوتها من صفتها الدينية ومصدرها الإلهي المنسوبة إليه؛ ثم تولى القضاء حفظ(225/17)
هذه العادات والتقاليد القانونية ومفسريها من زعماء الكهنة أو الأشراف (إما لضعف السلطة الملكية وإما لاتساع المملكة وعجز الملك عن القيام بالقضاء بين أفرادها) واحتكروا معرفتها وساعدهم على الاستئثار بمعرفة هذه القوانين جهل العامية من المصريين، فأصبحوا يفسرونها بحسب ما تمليه عليهم شهواتهم ويطبقونها بحسب ما يكون فيه منافعهم ويؤولونها بما يؤيد استمرار سلطتهم واتساع نفوذهم؛ ويسمى هذا العصر بعصر التقاليد غير المدونة. ولما كثر ظلمهم لعامة الشعب المصري وظهر للشعب سوء نيتهم قلبوا لهم ظهر المجن وطالبوا بتدوين هذه العادات وتلك التقاليد في نصوص تنشر على الناس جميعاً حتى يعرف كل شخص في الأمة حقوقه وواجباته؛ وبذلك بدأت مرحلة تدوين القانون. وقد جمعت تلك القواعد العرفية في نصوص كتبت في ألواح من الفخار أو الخشب أو البرنز وباشرت الحكومة إصدارها ونشرها في الناس
ولقد كانت القوانين المصرية في دورها الأول ذات صبغة دينية، وكانت تميل إلى الإنصاف والعدل كما كانت مشربة بمكارم الأخلاق فأصبحت بذلك قريبة إلى المثل الأعلى للحق؛ ثم تشبعت بعد ذلك بالمسحة المدنية وبخاصة عندما ضعف نفوذ الكهنة بمصر
ويرجع ظهور التشريع بمصر إلى القرن الخمسين ق. م إذ في هذا القرن تعلم المصريون الكتابة عندما وضع لهم (تحوت) إله القانون ما وضع من قوانين ثم جمعها لهم سنة 4241 ق. م وعلى مر السنين بعثرت تلك القوانين فجاء الملك (بوخوريس) مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين (718 - 712 ق. م) وجمعها ثم عدلها ووضعها في مجموعة واحدة نظم بها المعاملات المدنية والأحوال الشخصية وبذلك سميت بمجموعة بوخوريس عند المصريين وبقانون العقود عند الإغريق فيما بعد ذلك
وقد عمل في مصر في مجموعة قوانين بوخوريس هذه بعد أن امتدت إليها يد التنقيح أكثر من مرة في العهد الفرعوني وطبقت على المصريين أيام حكم الإغريق والرومان لمصر حتى سنة 212م حيث أصدر الإمبراطور الروماني كراكلا (211 - 217م) قانوناً منح به الرعوية الرومانية لسكان الإمبراطورية الرومانية وكانت مصر جزءاً منها، وبذلك طبقت في مصر القوانين الرومانية
(يتبع)(225/18)
عطية مصطفى
مشرفة بكالوريوس في الآداب في التاريخ ودرجة ليسانس في
الحقوق(225/19)
الاجتهاد لا يزكو مع الفوضى
للأستاذ علي الزين
- 1 -
لقد اتفق لي منذ سنين خلت أن ضمني مجلس في إحدى القرى مع بعض العلماء المجتهدين - بعرف أنفسهم - وكان فيمن حضر هذا المجلس ضابط فلسطيني من إخواننا أهل السنة. وما أن استقر المقام بالجميع حتى تنحنح فضيلة العالم وانطلق يتحدى في كلامه مواضع الخلاف بين أهل السنة والشيعة بكل ما في نبراته من اعتداد بأحقية الشيعة، وبكل ما في قلبه من حرص على توجيه الأنظار نحوه، وبكل ما في لهجته من عنجهية ونبو عما تقتضيه اللياقة من الاحتفاء بالضيف الفلسطيني ومراعاة عواطفه كمسلم سني أو كرجل قانون لا رجل دين يحسن الجدل ويستسيغه في مثل هذه الموضوعات: وكان بيت القصيد في حديث مولانا الاجتهاد وخطره - من حيث الإباحة والحظر، وأثر ذلك إيجاباً وسلباً في الدين والعلم والعقل أيضاً، ثم كيف أن الشيعة - دون غيرهم من الفرق الإسلامية - استقلوا بهذا الفضل وفاقاً للأحاديث النبوية، وطبقاً للمأثور من أقوال العلماء والحكماء والمؤرخين، وما إلى ذلك من شواهد على فضل الاجتهاد وفوائده. كل ذلك جرى والضابط الفلسطيني واجم تحاشياً لهذا المجتمع الشيعي وتهيباً من هذا العالم الأرستقراطي الذي لم يترك مجالاً لغيره في الكلام، أو جهلاً بالموضوع، أو استخفافاً بالتحدث عنه لغير مناسبة لا أدري؛ غير أن هذا الحديث أثار حفيظتي من العالم لا لشيء سوى أن يتملق العامة بالانتصار لمذهبهم أمام رجل سني، كما استفز عواطفي هذا الوجوم من رجل غريب بروحه وميوله عن المجلس قد فوجئ بما لم يكن يترقبه ويألفه من حديث، فاندفعت للاعتراض بما أوحته إليّ هذه الحال من خواطر وأفكار يمكن أن يفترضها ويقدرها الشيعي وغير الشيعي من المسلمين إذا اضطره الأمر إلى أن يتجرد من عصبيته، وأهاب به المقام للتمسك بكل ما يمكن أن يقال في تحرير موضع النزاع. ولكن مكان مثل هذا العالم في مثل هذا المجلس من العامة لم يدع سبيلاً إلى إتمام كلامي وتوضيح مرادي، بل اضطرني كما اضطر غيري إلى السكوت والإصغاء لو كان في الإمكان أن يسكت الفكر العنيد، أو يرتاح الضمير الحر بدون أن يفضي بمكنونه ويفرغ سورته في قالب من اللفظ وسمط من البيان،(225/20)
فرحت أرفه عن النفس بعد الانصراف عن هذا المجلس بتسجيل تلك الخواطر وكتابة هذا المقال؛ بيد أنه لم يكن لي من الشجاعة الأدبية أو من الاعتداد بما كنت أكتبه آنئذٍ ما يجرئني على النشر، فطويت المقال فيما طويت من الأبحاث وجعلت مع الأيام أترقب المناسبات والفرص التي تهيئ لي نشره إلى أن أقامت الرسالة الغراء تعالج هذا الموضوع - موضوع الاجتهاد - وتشجيع الأقلام على تمحيصه بحثاً وتفكيراً، فحولت وجهي نحوها معتداً بإنصاف الأستاذ الكبير - صاحب الرسالة - وعطفه على مثل هذه الموضوعات التي تتوالى على صفحات مجلته، وإن كنت قد خالفت أولئك الباحثين في لهجتي ومنحاي، اعتقاداً مني بأن المجاملة والمداورة والتملق في مثل هذا المقام لا تسمن ولا تغني، بل هي إلا إغراء المتعنتين بتعنتهم وجمودهم أقرب منها إلى تأييد المخلصين والأخذ بيدهم إلى مكامن الداء ومواضع العلة، وهي كذلك إلى التلبيس والإبهام أقرب منها إلى الصراحة والجهر بالحق الذي يجب أن يقال في محاربة العرف الزائف ومعالجة الأهواء المريضة، وتقويم الأفكار المستعبدة، من حيث لا يغني التردد والخوف عن الثقة بالنفس والإقدام بالقول والعمل شيئاً
- 2 -
لا جرم أنه كان في إقفال باب الاجتهاد بعض التقييد للحرية والاستقلال في الرأي، وبعض الحجر على العقل والفكر والمنطق أن تجري مجراها الطبيعي الذي أعدته الشريعة السمحاء وهيأته طبيعة الحياة الحرة: ولا جرم أنه كان في فتحه على مصراعيه تعزيز للعلم وتحرير للفكر والمنطق، وتنزيه للإسلام - دين الفطرة - عن الجمود والضيق لو قد انتهى بنا الأمر إلى ما كان يجب من الانطلاق مع نتائج التحرير العلمي والفكري، وجعل الدين - بذلك - مآلاً للمحبة وغاية للاتحاد وتفسيراً للحياة من سائر الوجوه والنواحي تفسيراً يقره منطق الحياة الحكيم، وتكبره الفطرة الإنسانية الحرة
أما والنتيجة ليست - بجميع ذيولها - كما يظن ويفترض لا أحسب أنه كان في فتح باب الاجتهاد على هذا النحو من الاضطراب والفوضى التي نجدها عند علمائنا اليوم - خدمة للعقل والدين أكثر مما كان في سده وإقفاله عند غيرهم
. . . فها نحن أولاء معشر الشيعة الإمامية ممن استمروا على القول بالاجتهاد وخطوا على(225/21)
ضوئه خطوات واسعة في العلوم الدينية والإسلامية وتأنقوا ما شاء لهم التأنق في علوم الكلام، والحديث، والتفسير، والفقه، والأصول، وإنهم لتأنقهم وتوسعهم في هذا الأخير قد أحالوه إلى مزيج من الفلسفة والنظريات الغريبة وأوشكوا أن يخرجوا ببعض مباحثه عن حدود المعتقدات الشيعية كما هو الشأن في بحث (اتحاد الطلب والإرادة) على ما قرره صاحب الكفاية - ها نحن أولاء قد استحال عندنا الاجتهاد أو كاد أن يستحيل - بتشعب أفكار الباحثين وتعسفهم في التفكير والتخييل وتسامحهم في النتائج إلى نوع من الافتراضات والوساوس والشكوك، يستطيع معها ضعاف الوجدان والعقيدة من ذوي الأهواء والمآرب الشخصية أن يستنبطوا لكل مأرب حكما، وأن يخلقوا لكل عسف عذراً، وأن يمهدوا لكل شذوذ في القول والفعل قياساً وشكلا، يدرأ عنهم التهم، ويحتفظ لهم بثقة الجمهور، ويشحذ لهم من منطق الدين شركاً للصيد وسلاحاً للنقمة، من حيث لا يستطيع - مع هذه الوساوس والشكوك - من يحتاط لدينه ووجدانه أن يجزم بحكم من الأحكام الفرعية إلا فيما شذ وندر من الأحكام التي لا تتسع للتأويل والافتراض والجدل
ذلك إذا كان الذين يتخصصون بتلكم العلوم الدينية من ذوي الكفايات والمواهب السامية، فكيف بنا إذا كانوا من البله والحمقى الذين من شأنهم أن يكونوا عرضة للتلبيس ومظنة للأوهام وأرجوحة للأهواء السياسية والمنبهات العصبية، أو الذين لا يتعلمون هذه العلوم في الغالب إلا احتفاظاً بتقاليد آبائهم وإلا ذريعة للرزق والاكتساب؟
أفترى أن الأمة أو أن الدين - بمثل ذلك - يمكن أن ينتهي إلى غاية أو يستقر على رأي؟ أم هل يمكن مع هذه الحال أن تكون النتيجة إلى غير ما نحن عليه اليوم من فوضى الاجتهاد وإطلاق العنان لكل طامح ولكل معتوه يسول له غروره وجشعه أن يستغل هذا الاسم ويدنس روحانيته بما يوسوسه له الهوى وحب الذات من فتاوى وأحكام وبدع يرسلها إرسال المسلّمات، ويصرفها تصريف المطمئن إلى صوابه، وكفايته، وإخلاصه؟ أم هل يمكن أن تؤول بنا الحال إلى غير ما منينا به في جبل عامل من تنابذ العلماء وتجريح بعضهم بعضاً ومحاولة كل منهم أن يذهب إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر في تحريمه وتحليله وتقريبه وتبعيده؟
أم هل لنا مع كل هذا - ومع تيقننا من أن الدين الإسلامي إنما وجد لخير الإنسان وصالحه(225/22)
وتوجيهه نحو المثل العليا التي توحد بين أفراده وشعوبه وتجعلهم إخواناً في السراء والضراء - أن نقول إن فتح باب الاجتهاد عندنا كان أجدى على الدين من سده وإقفاله عند إخواننا السنية؟ هيهات هيهات! ولو أن الذين أوصدوا باب الاجتهاد لم يتأثروا بعوامل زمنية واعتبارات سياسية بأن انقطعوا فيما وقفوا عنده واختاروه من المذاهب، لما كان أكثر انطباقاً على جوهر الكتاب والسنة وأقرب ملائمة لمنطق الحياة الاجتماعية والعقلية، وأشد اتساقاً مع دواعي الاحتياط والحزم واختلاف الأيام والظروف، وتطور الحاجات. . . لكان إقفاله على ذلك النحو من الإحكام والاعتدال - في تلك الأيام العصيبة والظروف الحرجة - أجدى على الإسلام من فتحه على هذا الشكل من الفوضى والتسامح والاسترسال مع كل شذوذ وتعسف وادعاء شخصي، وأضمن لمنعته واتحاد كلمته، واتساق سلطانه
هذا وإن الأمر الذي ما انفك يقلق بال كل أريب ويريب خاطر كل مفكر - وللاجتهاد حكمته البالغة ومزيته العظمى في ترويض الأصول العلمية وتصريف الأحكام على ما توجبه ضرورات الحياة ويقتضيه تطور أحوالها واختلاف دواعيها وجعل الدين (بذلك) يتسع لأبعد مدى في تطورها وتقدمها - خمولنا نحن الشيعة حملة لواء الاجتهاد وتخلفنا في ميادين الحياة على اختلاف أنواعها وفروعها، دون بقية الفرق الإسلامية التي حُلئت عن نعمة الاجتهاد ولم ترزق مرونة منطقه ورحابة صدره تخلفاً لم ينفع معه استقلال إيران الشيعية في السلطان ونزولها على آراء المجتهدين وامتثالها لإرادتهم في كل شأن من شؤونها وفي كل طور من أطوارها، طول هذه الحقبة الغابرة من الدهر
ثم جمود أكثر أولئك المجتهدين منا وتحرجهم تحرجاً يغري الناس بالجمود والتقليد، ويميت فيهم حياة العزة والطموح، كأنما أوتوا منطق الاجتهاد ليحاربوا كل جديد في الحياة، ويطاردوا كل مصلح، ويفرضوا على الناس حياة الاتكال الراتبة، وعيش الاعتزال المبتور، أو ليختصروا هذه الشريعة الكونية ويضيقوا هذه السهلة السمحاء، ولا يوجهوا كبير عنايتهم وجهودهم لغير هذه الفوارق والتقاليد المذهبية التي أوشكت أن تكون - بحكم ذلك الخلاف والتعصب الإسلامي العام - بمنزلة الأصل للكتاب والسنة، يؤول ما التبس منهما واختلف على حسب المألوف والمعتبر من ذلك لدى كل فرقة من فرق الإسلام
- 3 -(225/23)
ثم ما الاجتهاد إن لم يكن في جملته ومآله عبارة عن استقلال الفقيه في تفسير الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام الشرعية من ذلك لكل واقعة من وقائع الحياة قديمها وحديثها على حسب المنطوق والمفهوم، وعلى مقتضى العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، وما إلى ذلك مما توضحه القرائن ويقره الذوق والمنطق؟
وهو بهذا المعنى محدود النطاق ليس لعقل المجتهد باصطلاحنا ولا لخياله أن يتجاوز به ما وراء الجمل والألفاظ في الكتاب والسنة، فإنه على فرض أن تنص القرائن الحالية والمقالية - وفرض المحال - ليس بمحال - على معنى من معاني الكتاب والسنة لا يساعد على استخراج الحكم الذي يقتنع به العقل ويستسيغه الذوق ويتفق مع ماجريات الحياة، لا يستطيع المجتهد أن يتجاوز النص في حكمه ويراعي مقتضى العقل المجرد، والذوق السليم، لنتحلل من إطلاق القول: (أنه كان في سد باب الاجتهاد حجراً عاماً على العقل)
ثم ما يدرينا من أن يكون هم من أوصدوا هذا الباب آن ذلك بعد أن اتضحت عندهم أكثر أحكام الفقه وقضاياه واطمئنوا إلى تحرير نصوصه وأدلته:
أولاً - الاحتياط من أن تتعدد المذاهب الإسلامية إلى غير نهاية وأن يكثر الخلاف ويستحكم حتى تتفرق الكلمة ويتمكن الدخلاء والدساسون من الكيد للإسلام، فتنحل قواه، وتلتبس حكمته، ويضطرب قصده، وتنعكس الآية (إنما المؤمنون إخوة)
ثانيا ً - تحرير الفكر وتوجيهه إلى باقي النواحي العلمية والفكرية التي استقبلها الإسلام في أوج نهضته وازدهار مدنيته وحضارته - باعتقاد أن مجاهل الحياة المتشعبة وحاجات الإنسان المتعددة المتنوعة أبعد مدىً وأوسع نطاقاً من أن تنحصر أو تتضح أو تحد بما ينطوي عليه الفقه والأصول من أحكام وقواعد ليقتصر البحث عليها كما كانت الحال إذ ذاك
هذا وإذا كان الاجتهاد في الفقه لا يعدو في جملته ومآله أن يكون من قبيل الاجتهاد في تفسير الجمل والمفردات اللغوية والتمييز بين الحقيقي وبين المجاز، والمنقول، والمشترك منها، بعد البحث عن تاريخ نشأتها، وعما كان يلابسها آن ذلك من قرائن حالية ومقالية وما كان يتصل بها ويكتنفها من عوامل الاجتماع والسياسة ومن خصائص الزمان والمكان، ثم عما رافق تطورها وتنقلها في الأيام، والجماعات، والأشخاص، من تحوير وتغيير. وكما(225/24)
أنهم هنا قد اختلفوا بين القول بإباحة التفسير بالرأي وبين القول بعدمه، وترددوا بين القول بجواز الاشتقاق والتصريف، والوضع للمستحدثات من المعاني وبين القول بعدمه. ثم انتهى بهم الخلاف والتردد إلى عدم الاطمئنان للفرد مهما كان شأنه، وإلى الاتفاق على تأليف مجمع من العلماء الاختصاصيين يوكل إلى مجموعه التصرف فيما يتفقون عليه من رأي
فلماذا لا يكون واقع الأمر هناك - في الفقه - كذلك؟ ولماذا لا ننتهي بعد هذا النزاع الطويل العريض الذي أحكمه ووسعه استئثار الفرد وتمادي الفوضى إلى ما قد انتهى إليه علماء اللغة من تأليف مجمع من علماء الدين على اختلاف مذاهبهم ونحلهم ثم إنشاء (مجلة) لتحرير البحث في مواضع النزاع بينهم وتعميم ما يقرره منطق العلم والدين، والحياة الحرة، ويفرضه التجرد لمحض الحق والخير؟
وعلى فرض أن تصطدم هذه الوسائل - في أول الأمر - بما قد فطر عليه الجمهور من جمود في الطبع، واحترام للشائع من أوضاع وتقاليد، والتمسك بالمألوف من عرف ورواية، أو أن تحدث هذه الأبحاث رد فعلٍ في الأوساط الإسلامية كما هو الشأن في كل فكرة جديدة - علميةً كانت أو دينية - لا تنسجم مع الشائع والمألوف من عادة وقول - إنه على فرض أن يكون ذلك كله في أول الأمر، فلابد لهذه الوسائل في النهاية من أن تقوى وتسلس لنتائجها الأفكار والعقول وتراض على مقرراتها الأذواق والنفوس من عامة المسلمين وخاصتهم ولاسيما إذا استمرت معها عواطف المصلحين وحججهم الدامغة وتضافرت على تأييدها وتقريرها في المجتمع الإسلامي الحياة في تطورها والثقافة في تقدمها، وإلا فالاتكال على المصادفات أو ما يشبه الاتكال عليها - في الإصلاح والتأليف - عجز وقنوط لا يقتنع به المصلح المعتد بصواب مبادئه، وسداد خططه، وسمو غايته، ولا يليق بالأمم المتفائلة الطامحة
أجل! ماذا يمنع حماة الدين وقادة الفكر في العالم الإسلامي أن يؤلفوا لجنة دائمة أو لجاناً من العلماء الاختصاصيين الذين عرفوا بمرونة الرأي وسمو الفطرة وسلامة الذوق، وهيأت لهم الظروف أن يضيفوا إلى ثقافتهم الدينية ثقافة اجتماعية عالية تشعرهم بواجبات الحياة وواجبات الدين، وتمكنهم من التوفيق بين ما التبس أو تفاوت من نواميسهما - يوكل إلى هذه اللجنة تسوية الخلاف القائم بين المذاهب الإسلامية وتحرير النصوص والأدلة على(225/25)
ضوء العلم وسداد المنطق النزيه، وتعديل الأحكام والنواميس وتقريرها على وجه تذوب فيه النعرات والفوارق، ويستقيم القصد والغاية، ويستمر العمل والسير على المنهج القويم اللاحب
وهل ذلك بعزيز على همم المخلصين من القادة إذ هم احترسوا في أخذ النصوص والأدلة والأحكام، مما جره عليها عادي الزمن وتصادم العصبيات وتزاحم المذاهب السياسية والدينية وتنازع الأهواء الشخصية والحزبية، من تلبيس، واختلاق، وتصحيف وإدغام
ثم راعوا في تفسيرها وتوجيهها، تجدد الحياة واتساع أفقها وتطور مقتضياتها، وتشعب ضرورياتها وكمالياتها عما كانت عليه في صدر الإسلام وعهد أئمته الأول
فإنه لم يبق في إمكان الفرد أن يقوم بمثل هذه المهام - مهام الاجتهاد - كما ينبغي ويجب حتى في الطائفة الواحدة من طوائف المسلمين، لأن الدين بالنظر لتوسع أبحاثه وتشعب فروعه، ولأن الحياة بالنظر لتعقدها وتطورها المستمر، قد أصبحا أكبر من أن يستقصي حقائقهما ويستكنه أسرارهما ويطابق بين داعيهما فرد مهما كان، ليوكل إليه بمثل هذه المهام الشاقة ولأن الفرد مهما كانت عبقريته ومهما كانت جهوده لا يمكنه أن يكون منزهاً عن الخطأ معصوماً من الزيغ حرياً بأن يستقل بجهود أمة وتراث أجيال، ويتصرف بمقدرات الأفكار والعواطف الدينية
- 4 -
ولكن مثل هذا العمل الإنساني الخطير لا أحسبه يتم على وجهه الأكمل ويكون له أثره الفعال في جميع الأوساط الإسلامية إذا لم تتحفز (النجف) ويهيب بها داعي النهضة إلى أن تجاري (الأزهر) وتتلافى هذه الفوضى السائدة في مدارسها وفي كتبها الدراسية وفي أساتذتها وتلامذتها، ثم في الاجتهاد والتقليد أيضاً بالعمل على تنظيم تلك المدارس ومراقبة الأساتذة والتلامذة والكتب الدراسية فيها، وإعداد اللجان الاختصاصية لتعديل برامج التعليم وتوسيع هذه البرامج، ثم تحوير الكتب الدراسية أو تغييرها وترتيبها على حسب عقلية التلامذة وعلى حسب مراتبهم العلمية، لتتضح بذلك السبل أمام الطالب وتقرب النتائج ويتوفر عليه من الوقت والنفقة ما يزيد في نشاطه وطموحه إلى أن يتثقف ثقافة عالية تيسر له بعد الاختصاص بما يختص به من علوم الدين أن يتذوق الدين وأن يتذوق الحياة بدون(225/26)
مشقة، وأن يتفهمهما ويؤدي فرائضهما على الوجه الصحيح الأكمل لكي يتهيأ للنجف نفسها من وراء ذلك كله أن تتفاهم مع الأزهر، وتجعل للاجتهاد - بالتعاون معه - المحل المرموق والأثر البالغ في نفوس المسلمين وعقائدهم وآدابهم
ثم لكي يتسنى للمعهدين الخالدين ويروق لهما على هدى الاجتهاد وبركة الائتلاف أن ينزلا عن بعض التقاليد، وينظرا للدين وللحياة نظراً مجرداً يرتفع بالدين عن كل هذه الحواشي العفنة البالية، ويسمو بالإنسانية عن كل هذه الفصول التي تثير الريب وتشعب الظنون، وتوسع الخرق بين الأخوين، نظراً حكيماً ملؤه الإخلاص والسمو، يخطو بالإسلام والإنسانية خطوة الأبدية الكبرى إلى الأمام، إلى الاتحاد، إلى السعادة الأبدية والحياة الخالدة
وإلا فإذا دامت النجف على ما نعهدها من الأوضاع المدرسية فمسافة الخلف بعيدة بين المعهدين بعد الفوضى عن النظام، والبداوة عن الحضارة، لا يمكن أن تغني فيها الأقوال والمجاملات عن العمل والإخلاص شيئاً
(النبطية - جبل عامل)
علي الزين(225/27)
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 10 -
الرافعي شاعر الأناشيد
ولع الرافعي منذ نشأته في الشعر بالأناشيد الوطنية والأغاني الشعبية، يفتنّ في نظمها، ويبدع في أوزانها وأساليبها؛ ففي سنة 1903 أخرج في الجزء الأول من ديوانه بضع قصائد وطنية، تفيض عاطفة وتشتعل حماسة؛ واشتهر من بينها قطعته (الوطن) التي يقول في مطلعها:
بلادي هواها في لساني وفي دمي ... يمجِّدها قلبي ويدعو لها فمي
وذاعت على ألسنة تلاميذ المدارس، يحملهم المعلمون على استظهارها في دروس المحفوظات إلى يومنا هذا، كما اشتهر كثير من قصائده الوطنية وأغانيه الشعبية. وجاء في هامش ديوانه بعد تمام هذه المقطوعات: (قد تمت القطع التي نظمت للنشء من تلامذة المدارس، وقال ناظمها: إنه إذا وجد الناس أقبلوا عليها أقبل هو على نظم غيرها مما هو أرقى، غير مبال بوعورة هذا المسلك الذي لم يسلكه قبله أحد. فها نحن أولاء ننتظر من الصحفيين وشبان العصر أن يأخذوا بيده في هذا المشروع، حتى لا يغيض ما بقي في ذلك الينبوع. . .)
ثم دأب على نظم أمثال هذه الأغاني، ينشر منها طرفة رائعة في كل جزء من ديوانه، فنشر نشيد الفلاحة المصرية، وأرجوحة سامي، وغيرهما، وأذاع في الصحف كثيراً مما نظم من (أغاني الشعب)
وإنك لترى الرافعي في هذه الأغاني والأناشيد، له طابع وروح غير ما تعرف له في سائر شعره، فتؤمن غير مضلل أن الرافعي هبة الزمان للعربية ليزيد فيها هذا الفن الشعري البديع الذي تقطعت أنفاس شعراء العربية دونه منذ أن أنشد شاعرهم في الزمان البعيد: (نحن بنو الموت إذا الموت نزلْ. . .) ثم لم يقل أحد من بعده شعراً يترنم به في الحرب،(225/28)
أو يدعو إلى الجهاد، أو يستنفر إلى المعركة، حتى أنشد الرافعي. . .
ويقيني أن اسم الرافعي إذا كتب له الخلود بين أسماء الشعراء في العربية، فلن يكون خلوده وذكره لأنه ناظم ديوان الرافعي، أو ديوان النظرات، أو المدائح الملكية في المغفور له الملك فؤاد، أو قصائد الحب والغرام بفلانة وفلانة من حبائبه الكثيرات، ولكنه سيخلد ويذكر لأنه شاعر الأناشيد. . .
ونهضت الأمة نهضتها الرائعة في سنة 1919، ودوّي صوت الشعب هاتفاً: إلى المجد إلى المجد، إلى الموت أو الحرية؛ وصاح صائح الجهاد يدعو كل نفس من داخلها، فإذا الأمة صوت واحد؛ على رأي واحد إلى هدف واحد؛ وإذا مظهر رائع من مظاهر الإيمان بحق الموجود في وجوده يتمثل في كل مصري، ويستعلن على كل لسان في مصر
واجتمع رأي طائفة من رجالات مصر على أن يكون لهذه النهضة نشيد يعبر عن أمانيها وغايتها، ويكون أغنية كل مصري، تجتمع عنده خواطر نفسه، وخلجات فكره، وهمسات قلبه؛ فيكون صوتها من صوته، ولحنها من أحلامه، وبيانها من معاني نفسه.
وتلفّت الناس يفتشون عن ذلك الشاعر الموهوب الذي يؤملون أن تتحدث الأمة بلسانه وتهتف بشعره. وأعلنت لجنة النشيد عن جائزة وضربت أجلاً. . .
وتبارى الشعراء في الافتنان والإجادة، وتقدم كل شاعر ببضاعته، وتقدم الرافعي فيمن تقدم؛ ولكن اثنين لهما مكانهما وخطرهما بين شعراء العصر لم يتقدما بشيء إلى لجنة النشيد: هما شوقي أمير الشعراء، وحافظ شاعر النيل. أما حافظ فلأنه من المحكمين في اختيار النشيد، وأما شوقي. . . من يدري؟
وكان على رأس لجنة النشيد الوزير العالم والأديب، الأستاذ جعفر ولي باشا، فكأنما عز عليه أن ينتهي الأجل المضروب فيتقدم الرافعي، ويتقدم الهراوي، ويتقدم عبد الرحمن صدقي، ويتقدم غير هؤلاء ممن يقول الشعر، وممن لا يحسن إلا أن يزن فاعلاتن ومفعولاتن على كلام، ولا يتقدم شوقي وحافظ
ونسأت اللجنة الأجل المضروب، وسعى الساعون إلى الشاعرين الكبيرين ليحملوهما على الاشتراك في المباراة؛ فأما حافظ فأصر وأبى، وأما شوقي. . . يرحمه الله، لقد كان حريصاً على أن يقول الناس في كل مناسبة: لقد قال شوقي. . . ولكن ماذا يقول ذلك اليوم؟(225/29)
وكان لشوقي نشيد، أنشأه منذ عهد لتفتتح به (فرقة عكاشة) موسمهما التمثيلي؛ فماذا عليه لو تقدم بهذا النشيد القديم إلى لجنة المباراة؟
وتقدم شوقي إلى اللجنة بنشيده المشهور:
بني مصرٍ مكانكمو تهيَّا ... فهيا مهِّدوا للمجد هيَّا
وتساءل الأدباء بينهم: لماذا مدّت اللجنة الأجل المضروب؟ فلم يلبثوا أن جاءهم الجواب الصريح؛ فعرفوا أن اللجنة لم تفعلها إلا حرصاً على أن يكون النشيد المختار من نظم شوقي. . .
عندئذ نجمت ثورة أدبية حامية، وتمرد الأدباء على اللجنة وحكم اللجنة، وهل كان لهم أن يطمئنوا إلى عدالتها وقد ذاع الحكم قبل موعد الفصل في القضية؟
وكان الرافعي على رأس الثائرين، فأنشأ بضع مقالات في (الأخبار)، وللأخبار يومئذ مذهبها السياسي وكاتبها الأول هو المرحوم أمين بك الرافعي؛ فسحب الرافعي نشيده من اللجنة قبل أن يسمع الحكم فيه، وراح يعلنها ثورة صاخبة على اللجنة وأعضاء اللجنة، وعلى شوقي وأنصار شوقي، وقال في نشيده ما يقال وما لا يقال، وتابعه جمهرة من الأدباء؛ فكتب المازني والعقاد في (الديوان)، وكتب غير المازني والعقاد؛ وشوقي رحمه الله رجل كان على فضله ومكانته وعلى منزلته في الشعر، ضيق الصدر بالنقد والناقدين؛ فمن هذا كان بينه وبين الرافعي شيء من يومئذ، إن لم يكن من قبل يوم نشر الرافعي مقاله في (الثريا) عن شعراء العصر في سنة 1905؛ فما التقيا من بعد حتى لقيا الله؛ على أن أحداً من أدباء العربية لم ينصف شوقي بعد موته ولم يكتب عنه مثل ما كتب الرافعي عن شوقي في مقتطف ديسمبر سنة 1932، وهو نموذج من الأدب الوصفي أحسبه نادر المثال فيما يكتب الكتاب عن الأدباء المعاصرين
ومضت لجنة المباراة في طريقها غير آبهة لما يقال، ومضى الرافعي في ثورته؛ ثم لم يلبث أن جمع لجنة غير اللجنة، من أصدقائه وصفوته، والآخذين عنه، لتنظر في نشيد الرافعي وحده
وأصدرت اللجنة الأصيلة حكمها، فكان الفائز الأول هو شوقي، وفاز من بعده الهراوي وعبد الرحمن صدقي، وأعلنت اللجنة الأخرى أن نشيد الرافعي هو النشيد القومي(225/30)
المصري. . . وسبّقت بين المغنين جائزة، ليصنعوا لحناً لنشيد الرافعي
إلى العلا، إلى العلا، بني الوطن ... إلى العلا، كلُّ فتاةِ وفتىً
وفاز الموسيقار الكبير الأستاذ منصور عوض بالسبق إلى اللحن والجائزة!
ليس من همي هنا أن أوازن بين نشيدي شوقي والرافعي؛ فقد مات نشيد الرافعي (إلى العلا. . .) بعدما سبقه نشيد شوقي إلى الموت بعشر سنوات، ولم تُجْدِ كل المحاولات في بعثه ونشره. . . وإن كان لي أن أقول شيئاً هنا في الفرق بين النشيدين فهو أن أصف كيف كان استقبال الناس لنشيد الرافعي واحتفائهم به في كل مكان، وكيف كان نشيد شوقي
لقد سمعت نشيد الرافعي أول ما سمعته في حفل رسمي أقيم لإذاعته بطنطا في سنة 1921 أو 1922 بمسرح البلدية؛ فما أحسب أني رأيت نشيداً احتفل له الناس ما احتفلوا لنشيد الرافعي يومئذ؛ فإذا كان قد مات بعد ذلك بسنين وجر عليه النسيان أذياله، فما أظن ذلك كان لضعف فيه أو نقص يعيبه، ولكننا نعيش في شعب أكبر فضائله أن ينسى. . . وعند الله الجزاء. . .!
اسلمي يا مصر
وتطورت الفكرة الوطنية فتمثلت بشراً في سعد زغلول؛ فهو المصري الذي لو أرادوا أن يمثلوا ذلك الشعب العريق إنساناً تراه العين لما وجدوا إلا صورته، ولو سألوا: من الرجل الذي يقول أنا الأمة صادقاً غير محتال لما وجدوا غيره. . .
وتطورت فكرة النشيد القومي عند الرافعي فرأى رؤياه في منامه، فلما أصبح ألف نشيده (اسلمي يا مصر) وما كان هم الرافعي عندما ألفه أن يجعله نشيداً قومياً؛ إنما قصد إلى أن يجعله بياناً رمزياً على لسان سعد، أو كما يقول الرافعي في خطابه إلى سعد في جبل طارق:
(وما أردت بإظهار نشيدك إلا أن تظهر في كل فرد من الأمة على قدر استعداده، ويبقى اسمك الجليل مع كل مصري على الدهر ليكون مصدراً من مصادر إمداده
(ويقولون إنه نشيد يقربك من الأجيال الآتية، وأنا أقول إنهم هم يتقربون به إليك، ويجدون منه الوسيلة لتقبيل اسمك المحبوب إذ لا يستطيعون مثلنا تقبيل يديك، ويعلمون في كل زمن من شرح هذا الاسم الكبير أنه الرجل الذي خط قلم الأزل كتاب نهضته الكريمة، واختاره(225/31)
الله للأمة كما اختار الأنبياء إلا أنه نبي الفكر والعزيمة. . .)
قلت: إن الرافعي لم يكن يعني بإنشاء نشيده (اسلمي يا مصر) أن يجعله نشيداً قومياً، فإنه لمطمئن إلى أن نشيده (إلى العلا. .) ماض في طريقه إلى هذا الهدف؛ إنما كان يعني أن يضع في هذا النشيد صوت سعد كما تصورت حقيقته في نفسه؛ لكن نشيده ما كاد ينشر ويذاع، حتى أبدت البلاد رأيها؛ فقام الطلبة والأدباء والفنانون يدعون دعوتهم إلى اتخاذه نشيداً قومياً لتجعل صوت سعد في هذا النشيد صوت البلاد، ولتتخذ ما فيه من معاني المجد شعاراً لكل مصري، أن كان صوت سعد يومئذ هو صوت كل مصري
وتألفت اللجان في مختلف البلاد لإعلانه وإذاعته، وتسابق الملحنون إلى ضبط نغمته ورسم لحنه؛ فكان أسبقهم إلى ذلك الموسيقار منصور عوض، والموسيقار صفر علي؛ واللحن الأول أدق اللحنين وأوفاهما بالغاية؛ ولكن اللحن الثاني أذْيع وأعم، وبه تنشده فرق الكشافة المصرية بعد إذ صار نشيدها الرسمي
النشيد القومي في سنة 1936
ونجحت الدعوة نجاحها المؤمل، فصار نشيد (اسلمي يا مصر) هو نشيد مصر القومي من سنة 1923 إلى سنة 1936 حين أعلنت الحكومة عن المباراة العامة لتأليف نشيد قومي يهتف به الشعب وتعترف به الحكومة
في هذه الفترة كان الرافعي على نية إنشاء نشيد وطني جديد، إجابة لرغبة تقدم بها إليه شبان الوفد؛ فما أذاعت الحكومة بيانها عن المباراة حتى تقدم بنشيده الجديد:
حماةَ الحمى، يا حماة الحمى ... هلمُّوا، هلموا لمجد الزمن
لقد صرخت في العروق الدما ... نموت، نموت، ويحيا الوطن
كما تقدم بنشيده الآخر: (اسلمي يا مصر)؛ ولأمر ما استبعدت لجنة المباراة النشيد الثاني، ومنحته الجائزة الثانية على النشيد الأول. وما أريد أن أعرض لرأي اللجنة وحكمها في هذا النشيد الجديد، فذلك باب من النقد الأدبي ليس من قصدي التعرض له في هذا المقال؛ فإن للتاريخ الأدبي حكمه في هذا الشأن، يوم تُنسى الأحقاد وتمحى العداوات
ليس ما ذكرت هو جهد الرافعي في الأناشيد، وليس بهذا وحده يستحق أن نخلع عليه هذا اللقب الذي لا أرى غيره من شعراء العربية جديراً به؛ فما أستطيع أن أحصي كل ما أنشأ(225/32)
الرافعي في هذا الباب، وحسبي أن أذكّر بنشيده الخالد الذي أنشأه في سنة 1927 ليكون شعار (الشبان المسلمين)، فهنا، في هذا النشيد، يُعرف الرافعي الشاعر المسلم المجاهد الذي وقف قلمه وبيانه على خدمة المسلمين والعرب
أما (نشيد الملك)، و (نشيد بنت النيل)، و (نشيد الطلبة) الذي أنشأه ليكون به هتاف تلاميذ المدرسة الثانوية بطنطا - فذلك من البيان له فصل بعنوانه في تاريخ الأدب العربي
البحر المنفجر
في أناشيد الرافعي عامة، تعرف له طابعاً وروحاً ونغمة هي سر نجاحه فيما ألّف من أناشيد، ويميل في أناشيده الوطنية خاصة إلى إبراز معنى القوة في سبك اللفظ ولحن القول؛ ولو أنك سمعته مرة وهو في خلوته الشعرية يحاول شيئاً من هذه الأناشيد لسمعت لحناً له رنين يشترك فيه صوت الرافعي، ونقر أصابعه على المكتب وخفق نعله على أرض المكان؛ وعلى أن الرافعي كان أصم لا يسمع قصف المدافع، فإنه كان لا يستوي له النظم إلا في مثل هذه الحال. واسألوا صديقنا الأستاذ مصطفى درويش المحقق بوزارة المعارف: ماذا رأى وماذا سمع يوم صحب الرافعي من طنطا إلى القاهرة وكان يؤلف في القطار نشيده (حماة الحمى. . .)؟
واسألوا الآنسة ماري قدسي معلمة الموسيقى بوزارة المعارف تحدثكم عن خبر الرافعي يوم جلس إليها وهي تعالج تلحين نشيده (بنت النيل) ويوم جلست إليه تعزف له على البيانة لحنها لنشيد (اسلمي يا مصر) وهو يسمعها بعينيه تتبعان أصابعها على المعزف وهو ينقر على الأرض بعصاه ورجليه، وينفخ شدقيه وفي أذنيه وقر ثقيل. . .!
هذه النغمة التي كانت تتمثل للرافعي في سمعه الباطن وهو يعالج نشيداً من الأناشيد، كان لها أثرها الفني في عمله، وهي هي التي كانت تشعره أحياناً بالعجز عن أن يجد في موازين الشعر العربي النغمة التي كان يريدها في أناشيده كطبل الحرب؛ فلما هم أن يضع نشيد الطلبة:
مَجْداً مَجْداً مَدْرَستي ... مدرستي مَجْداً مَجْداً
عن علمي عن تربيتي ... مدرستي حَمْداً حمداً
لم يجد له نغمة تلائمه فيما يعرف من بحور الشعر، فاخترع له هذا الميزان الذي يزنه به(225/33)
قارئه، وسماه: (طبل الحرب) ولكن صاحب المقطم أشار عليه أن يسميه (البحر المنفجر) وتفعيلاته (فَعْلٌ، فَعْلٌ، فُو) مكررة في كل شطر، مع بعض علل في الميزان يمكن إدراكها بالموازنة بين الشعر وتفعيلاته
هذا هو الرافعي شاعر الأناشيد، وهذا جهده وما بلغ؛ وقد كان على نية إصدار ديوان من شعره سماه: (أغاني الشعب) جمع فيه ما أنشأ من الأناشيد الوطنية، وأغاني الجماعات والطوائف لولا أن عاجلته المنية. فلو أن أدباء العربية ذكروا يوماً أن عليهم واجباً لإمام من أئمة الأدب العربي كان يعيش في هذا العصر فاجتمعوا على العناية بآثاره وإتمام رسالته الأدبية، لأخرجوا لقراء العربية ذخراً من الأدب العربي والبيان الرفيع لا يقدر على إنشاء مثله جيل كامل من مثل أدباء هذا الزمان. . .!
ورحم الله جماعة تألفت منذ بضعة أشهر لتأبين الرافعي في شهر أكتوبر، وأوشك شهر أكتوبر أن ينتهي وما استطاعت الجماعة أن تثبت أن فيها حياة. . .!
يرحمك الله يا مصطفى، وفي ذمة الله ما جاهدت لهذه الأمة التي لا تعرف الجميل!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(225/34)
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
تمهيد
في الأدب اجتهاداً لم يغلق بابه كما أغلق في الفقه وغيره من علومنا الشرعية، وقد كان لامتياز الأدب بهذا على غيره من العلوم أثر كبير في ازدهاره في هذا العصر، وفي وصوله إلى ما لم يصل إليه في عصر من العصور السابقة، وهو في هذه النهضة المباركة شغل الطالب في معهده، والتلميذ في مدرسته، بل شغل الناس جميعاً على اختلاف أنواعهم ومذاهبهم. ولو أن غير الأدب من العلوم كان له حظه من فتح باب الاجتهاد لم يصر إلى هذا الجمود الذي صرف الناس عنه، وجعلهم يكرهون النظر فيه، ويخشون ما يصيبهم من العنت إذا خرجوا عن مألوفه
وللنفس حاجات في هذا الاجتهاد المغلق تجعلها تحن إليه الفينة بعد الفينة، فإذا خشيت العنت أو أصابها فيه شيء من العنت عدلت عنه إلى غيره حباً في المسالمة، أو يأساً من حال الناس في هذه الناحية؛ ولا تجد مثل الأدب في رحابة صدره للاجتهاد، وعدم ضيق أهله بأثر الاجتهاد فيه، فتلج بابه، وتسلى عنها به ما يصيبها من أذى الناس وجحودهم لفضل المخلصين العاملين فيهم
وهأنذا الآن بصدد الكتابة عن الكميت بن زيد الأسدي، وبصدد التنويه بالفتح الجديد الذي فتحه في الأدب العربي بهاشمياته، لأرفعه بها إلى درجة الزعامة على شعراء عصره (عصر بني مروان) ولأبعد جريراً والفرزدق والأخطل عن هذه الدرجة التي اتفق الناس على منحها لهم، ولا عليّ من مخالفة الناس فيما ذهبوا إليه في زعامة الشعراء في هذا العصر، فليس في الأدب كفر ولا إلحاد ولا غيرهما مما يرمي به الباحثون جزافاً في هذه الأيام
ونحن إذا بحثنا في هذه الزعامة الشعرية التي عرفها الناس لجرير والفرزدق والأخطل نجد أن ملوك بني مروان هم الذين روجوا لهذه الزعامة، وهم الذين شغلوا الناس بهؤلاء(225/35)
الشعراء عن الكميت وغيره ممن يخالف سياستهم، ويناوئ بشعره ملكهم، ويناصر به غيرهم من منافسيهم، وقد مضى عهد بني مروان ومضت بعده عهود وعهود، وكان لحب التقليد الذي مني به الإسلام والمسلمون أثره في بقاء الناس على هذه الزعامة الشعرية
وإنما روج ملوك بني مروان لجرير والفرزدق والأخطل لأنهم وجدوا في شعرهم انحرافاً عن الجادة التي يجب أن يكون الشعر عليها، ووجدوا فيه ما يخدم مآربهم في حكم الأمة الإسلامية حكماً مطلقاً لا يقيدهم فيه قانون سماوي أو وضعي، وفي الاستئثار لأنفسهم وأنصارهم بأموال هذه الأمة وخيراتها، يصرفونها في اقتناء القيان، وشراء الجوار الحسان، وإشباع شهواتهم في هذه الحياة، والقضاء على روح المقاومة للظلم في الأمة حتى تخضع لهم، وتستكين لحكمهم؛ ولا نستثني منهم في ذلك إلا الملك الصالح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد سار في حكمه القصير على خلاف سيرتهم، وأشاح بوجهه عن أولئك الشعراء الذين كانوا يروجون لهم
ولم يكن مثل جرير والفرزدق والأخطل في ذلك إلا كمثل من يعيش منا الآن بعقول القرون الماضية، ولا يتأثر عقله بشيء من العصر الذي يعيش فيه، فهكذا كان أولئك الشعراء يعيشون بعد الإسلام بعقول الشعراء الذين لم يدركوا عهده، ولم تعمل في نفوسهم رسالته، ولم تؤثر في قلوبهم هدايته، ولم يهذبهم تقويمه وإصلاحه، فاستعملوا شعرهم في خدمة أغراضهم وقضاء مآربهم، وتملقوا به ملوك بني مروان طمعاً في أموالهم ودنياهم، ولم ينظروا فيه إلى الأمة وما تطلبه من الشعر الذي يوفظها من غفلتها، وينهض بها من كبوتها، ويحارب عوامل الفناء التي تعمل عملها فيها، بل ساعدوا خصومها عليها، وعملوا بشعرهم على تفريق كلمتها، والرجوع بها إلى حالة الجاهلية، فكان شعراً رجعياً جامداً بغيضاً، ولا تسري فيه روح الحياة، ولا يصح أن يمون صاحبه به زعيماً في الشعراء
فإذا نظرت في شعر الكميت بن زيد وجدته يمثل لك عصر بني مروان تمثيلاً صادقاً، لا أثر فيه للخداع والغش، ولا يشوهه الحرص الممقوت على الصلات والجوائز، وخيل إليك أنك تعيش في عصر بني مروان مع الذين عاشوا فيه، وأن ظلمهم وإفسادهم حاق بك كما حاق بهم، فأخذ قلبك يضطرب بالحقد عليهم، وأخذت نفسك تضطرم بالثورة على ملكهم، وتنشد في ملكاً آخر يسود فيه العدل، وينتصر الحق على الباطل، وتنهض به الأمة،(225/36)
وينتظم لها أمر دينها ودنياها
فهو شعر حي ناهض يدعو إلى الحياة والنهوض؛ أما شعر جرير والفرزدق والأخطل فهو شعر ميت جامد يدعو إلى الموت والجمود، ولم يكن الخضوع لزعامة هذا الشعر إلا أثراً من آثار الروح الشيطانية المستولية على النفوس منذ فقد في المسلمين الحكم الصالح، وأخذوا يعيشون عيشة آثمة جاهلية، يضيع فيها الحق، وينتصر عليها الباطل، وتنشر فيها أعلام الشر، وتطوى أعلام الخير، فأظلمت العقول، والتبست عليها الأمور، فصارت ترى الباطل حقاً، والشر خيراً، والإثم طاعة وبراً، وجمدت على هذا بطول الزمن حتى صارت حالها تدعو إلى اليأس في إصلاحها، وإزالة هذه الغشاوة عنها
على أني فيما أراه من زعامة الكميت على شعراء عصره أذهب في هذا مذهب بعض العلماء والشعراء كانوا يتعصبون له ويقدمونه في الشعر على غيره من الشعراء جميعاً. قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني محمد بن القاسم الأنباري، قال حدثني أبي، قال حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي، قال حدثنا احمد بن بكير الأسدي، قال حدثنا احمد بن أنس السلامي الأسدي، قال سئل معاذ الهراء: من أشعر الناس؟ قال: أمن الجاهليين أم من الإسلاميين؟ قالوا: بل من الجاهليين، قال: امرؤ القيس وزهير وعبيد بن الأبرص. قالوا: فمن الإسلاميين؟ قال: الفرزدق وجرير والأخطل والراعي. قال فقيل له: يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت؟ قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين
وقال أبو الفرج أيضاً: أخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال حدثني احمد بن بكير، قال حدثني محمد بن أنس الأسدي السلامي، قال حدثني محمد بن سهل راوية الكميت قال: جاء الكميت إلى الفرزدق لما قدم الكوفة فقال له: إني قد قلت شيئاً فاسمعه مني يا أبا فراس، قال: هاته، فانشده قوله:
طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ ... ولا لعِباً مني وذو الشوق يلعبُ
ولكن إلى أهل الفضائل والتُّقَى ... وخير بني حوَّاَء والخير يُطْلَبُ
فقال له: قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فما نطرب ولا طرب من كان قبلنا إلا ما تركت أنت الطرب إليه
وفي رواية أخرى عن محمد بن علي النوفلي، قال سمعت أبي يقول: لما قال الكميت بن(225/37)
زيد الشعر كان أول ما قال الهاشميات فسترها ثم أتى الفرزدق بن غالب فقال له: يا أبا فراس إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسدي، قال له: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟ قال: نفث على لساني فقلت شعراً فأحببت أن أعرضه عليك، فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً أمرتني بستره، وكنت أولى من ستره عليّ. فقال له الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني ما قلت، فأنشده:
طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
قال فقال لي: فبم تطرب يا ابن أخي؟ فقال:
ولا لعباً مني وذو الشوق يلعبُ
فقال: بلى يا ابن أخي فالعب فإنك في أوان اللعب، فقال:
ولم يُلهني دارٌ ولا رسم منزل ... ولم يتطرّبني بنانٌ مُخضَّبُ
فقال: ما يطربك يا ابن أخي؟ فقال:
ولا السانحات البارحات عشية ... أمر سليم القرن أم مر أغضب
فقال: أجل لا تتطير، فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ... وخير بني حوَّاَء والخير يطلبُ
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النَّفر البيض الذين بحبِّهمْ ... إلى الله فيما نابني أتقرَّبُ
قال: أرحني ويحك من هؤلاء؟ قال:
بني هاشم رهط النبِّي فإنني ... بهم ولهم أرضى مراراً وأغضبُ
خفضتُ لهم مني جناحي مودَّةً ... إلى كَنَفٍ عطفاه أهل ومرحبُ
وكنت لهم من هؤلاء وهؤلا ... مُحباً على أني أُذمُّ وأغضبُ
وأُرَمى وأرْمِى بالعداوة أهلَها ... وإني لأُوذَى فيهمُ وأؤنَّبُ
فقال له الفرزدق: يا ابن أخي أذع ثم أذع، فأنت والله أشعر من مضى، وأشعر من بقى
وهذه الهاشميات من الدرر اللوامع في سماء الشعر العربي، وبها يسمو شعر الكميت على غيره من الشعر، وقد أجاد فيها في مدح بني هاشم والدعاية لهم، وتصوير حكم بني مروان(225/38)
تصويراً شنيعاً ينفر الناس منه، ويدعوهم إلى الثورة عليه، حتى هيأ النفوس إلى تلك الثورة التي قام بها بعده أبو مسلم الخراساني، فقضى على حكم المروانيين، وأقام بعده حكم العباسيين الهاشميين
ولاشك أن الشعر الذي يبلغ به صاحبه هذه المنزلة العالية ويستطيع به أن يقيم دولة ويقعد دولة، هو الشعر الذي يستحق به صاحبه الزعامة على شعراء عصره، لا ذلك الشعر الذي لا يعد وأمره أن يكون ألفاظاً جوفاء لا طائل تحتها، ولا ثمرة في هذه الحياة لها
وقد شهد الفرزدق شهادة أخرى لهذه القصائد، فقيل له: أحسن الكميت في مدائحه في تلك الهاشميات، فقال: وجد آجراً وجصاً فبنى
عبد المتعال الصعيدي(225/39)
دراسات في الأدب الإنكليزي
جون ملتون
للأستاذ خليل جمعة الطوال
تمهيد
لقد كانت إنكلترا قبل الحكم الأليزبثي غارقة في بحر خضم من الحروب الدينية والمنازعات المذهبية، وكان أدباؤها منقسمين إلى عديد البطانات السياسية المتضادة التي كانت لا تفتأ تتناحر فيما بينها على اجتناب حبل الرأي في الأمة، ومقاليد الأمور في الحكومة، والمراكز الملحوظة في السيادة، وصرفتهم هذه الحروب الدينية السياسية عن طبيعتهم، واجتاحتهم إلى ميادينها الدامية، كما يجتاح السيل الأتيُّ قطعة من الخشب، أو قصبة من القش. فلا عجب إذا تضيفت شمس الشعر - في إنكلترا - للمغيب، ولا عجب أيضاً إذا تعطلت في الناس أخيلتهم المتوثبة، ومشاعرهم المشبوبة، وصدورهم المليئة بالأحاسيس الوثابة، والعواطف الجياشة، إذ ليس في البيئة السياسية ثمة ما يغذي هذه الأمور، أو يثير أسبابها ويوقد جذوتها
وما هو إلا أن اعتلت اليصابات سدة العرش، وتسنمت عاليها وتقلدت بيدها الحديدية زمام المملكة وأعنتها، حتى سارت في خطتها على المبادئ القويمة اللاحزبية، فأباحت الناس على مختلف طبقاتهم ومللهم الحرية المطلقة في معتقداتهم، فخمد بذلك روح التناحر المذهبي - ولو إلى حين - وانفرط عقد هذه البطانات السياسية المتضادة، إذ قطع التسامح الديني الذي أوجدته اليصابات أسباب تضادها، فاستيقظت مشاعر الشعراء وعواطفهم على هدوء ريح هذا التعصب المذهبي الممقوت، وأخذت أخيلتهم المتوثبة تتحرر من أصفادها وقيودها التي كبلتها بها البيئة السياسية مدة من الزمن ليست بالقصيرة. وقد ساعد على هذه النهضة المباركة ذوق الملكة الأدبي، إذ استدنت الأدباء إلى قصرها وقربت الشعراء من بلاطها، فكان عملها هذا وتشجيعها للأدباء بمثابة التعويض العادل للآداب عما خسرته تحت نقع تلك الحروب المذهبية - السالفة الذكر - التي خلقها تكالب الكاثوليك والبروتستنت على السيادة(225/40)
وما هي إلا فترة من الزمن حتى توفيت اليصابات، فأخذ الأدباء عامة، والشعراء خاصة، ينحتون سبلهم الوعرة في صخر السياسة الأصم بكل عناء وجهد، إذ كان موتها كالريح الهادئة أذكت سعير تلك النار المذهبية الخامدة، فعادت النفوس إلى شنشنتها القديمة من التخاذل والانقسام الديني. والتف الأدباء ثانية، كل حول بطانة خاصة، يناصرها في الجهر والخفاء، ويذود عنها بلسانه وقلمه، وإذ كان الدين علة هذا الانقسام وسبب تحزب هذه الأحزاب، فقد كان نتاج الأدباء إذ ذاك، متسماً بالميزات الدينية، والمظاهر الحزبية. وخير من نلتمس هاتين الظاهرتين بوضوح وجلاء في آثاره (جون ملتون) وهو الذي سنعرض لدراسته في هذه الكلمة العجلى
شخصيته وحياته
لملتون شخصية فذة محاطة بستر كثيف من الغموض والإبهام، ليس من الهين علينا خرقه؛ يدل على ذلك: تشعب الأحكام فيه، وتباين وجهات النظر إليه، وتناصر الآراء عليه. فبينا نرى المعجبين بسمو شخصيته، والمفتونين بسحر شاعريته، يوغلون في تقديسه وتبجيله، ويبوؤونه وشكسبير سناماً واحداً من الشهرة والعظمة ولا يرون (لفردوسه) في الشعر مثيلاً إلا بالرجوع إلى الإلياذة والأوذيسة - إذ بالكثيرين من خصومه يجردونه من جميع مواهب الشاعرية السامية، ويجهدون الفكر في تسقط سقطاته، وتقصي هفواته، والإحاطة بكل ما من شأنه أن ينتقص من شاعريته وينال من شخصيته. أما الفريق الأول فزعيمهم (وليم هزلت)، وأما الفريق الثاني فعلى رأسهم (جونسون)؛ ولا تظهر الحقيقة بين حالتي الإغراق في الإعجاب، والتحذلق في التغرض إلا مجسمة مكبرة، ومشوهة ملفقة، فلا عجب إذا قلنا إن ملتون كان ولم يزل غامض الشخصية، مكتوم الطوية. ونحن إذ نعرض له بمثل هذه الكلمة العجلى، فلسنا ندعي أن فيها فصل الخطاب الذي لا يرد، ولا التوفيق بين مختلف هذه الأقوال المتبلبلة والأحكام المتشعبة، وإنما نريد توجيه اهتمام الناقدين، وجهود الباحثين إليه، وعرض مختلف المقالات فيه، تاركين - ما أمكن - للقارئ الكريم الحرية في إمازة غثِّها من سمينها
ولد ملتون في (برودستريت) بلندن، وكان والده كاتباً؛ وإذ كان من أهل اليسر والرخاء فقد كان شديد الرغبة في تعليمه تعليماً جامعياً عالياً. ولقد كانت طفولته النادرة تنبئ بما سيكون(225/41)
له من المجد المخبوء في جوف المستقبل، وليس أدل على طموحه وعبقريته وتحفزه للوثوب إلى قمة المجد من تلك المقطوعات الشعرية الجميلة التي نظمها وهو لا يزال بعد في ربيع صباه، تائهاً بكبرياء فتونه
كان ملتون طويل القامة، ساهمَ الوجه، شتيت الثغر، أبلج الحاجبين، ذا عينين نجلاوين، أشم الأنف، سخامي الشعر رجلَه، مليح الفم، معتدل الأعضاء، وكان (كما يروى عنه) بارع الجمال، تعشق منظره العين، وترتاح لحديثه النفس، وهو - إلى جانب ذلك كله، مزهوّ بنفسه معجب بخلقه، ومعتد بذكائه، تشهد بذلك آثاره العديدة، وأساليبه الشعرية المستعصية؛ وما أسلوب الشاعر في قصيدته إلا صورة لطبعه، ومرآة لأخلاقه
مكث ملتون في بيت والده في (هارتون) حتى منتصف العقد الثاني من عمره، حيث عاش تحت كنفه عيشة مترفة رخية، لا ترنق صفوها الأكدار والأحزان، ولا تعبث بهنائها الهموم والأشجان، فشب محباً للحرية، وما من شيء يضع في جذوة نفسه المتوقدة، أو يقل من شباة عزيمته المتحفزة، وإذ ليس من شاغل يشغله بأمور عيشه، فقد كان منصرفاً إلى افتعال الشعر والعبث به، وإلى احتذاء أساليب أفذاذ الشعراء في القريض. وفي عام 1624 أدخله والده مدرسة في كمبردج، فأقبل على الدرس لا يلوي عنه إلا حين يجهده الفكر، فنال بذلك استحسان معلميه ومديح عارفيه، إذ بزّ جميع أقرانه، واشتهر بين سائر لداته بذكائه اللامع، وفطنته المتوقدة. وفي عام 1632 أنهى علومه الجامعية ونال درجة السامية فغادر كمبردج راجعاً إلى بيته في هارتون، حيث أكب على مطالعة الآداب الكلاسيكية مدة خمس سنوات تمكن في خلالها من الإحاطة بجميع ما فيها من رائع النثر وجيد الشعر. أما اللغة الإنكليزية، فقد بلغ اطلاعه عليها حدّ الإحاطة بجميع أوابدها المستعصية. وليس أدل على ذلك من مطالعة ملحمته الشهيرة المعروفة (بالفردوس المفقود) إذ تحتاج في كل صفحة إلى الاستعانة بالمعجم عشرات المرات
وبعد أن قضى في هارتون خمس سنوات في الجد والمطالعة، أخذ يطوف في أنحاء أوربا، ويتنقل بين مدنها العامرة وعواصمها الزاهرة، فتلقحت بذلك عبقريته بعناصر أدبية جديدة، وتجلت مواهبه عن جراثيم شعرية سامية، لطفت من عرام نفسه، وليّنت شيئاً من حرونة طبعه، وزادت في قيمة إنتاجه. ففي عام 1638 ذهب إلى إيطالية، وكانت إذ ذاك كعبة(225/42)
الأدب، ومثابة الفن، وقبلة الشعراء والمتأدبين، يحجون إليها في كل عام ليردوا شرعة آدابها الرائعة، وليروِّحوا عن أنفسهم من عنائها، وذلك بالتمتع بسمائها الصافية، وأشجارها الباسقة، ومناظرها المتناسقة. وقد زار من مدن إيطالية فلورنسة، واجتمع فيها غير مرة بأعظم علمائها وهو غاليلو، ومنها عرج على رومة وهي العاصمة، والمثابة العزيزة لسائر أنواع الفن؛ ثم سار منها إلى نابولي، وهناك قرع سمعه نبأ الحروب الداخلية التي شبت في إنكلترا عن اصطدام حق الملوك الإلهي برغبة الشعب الملحة في الحصول على حقوقهم كاملة غير منقوصة، ولهذا فإنه لم يتم رحلته بل رجع إلى وطنه وهو يقول: إنه لمن المزري بالرجل أن ينشد الراحة في السفر، بينما مواطنوه يجالدون في سبيل حريتهم
ملتون والسياسة
وبرجوع ملتون من رحلته تبتدئ حياته السياسية، وهي دور مليء بالجهود الجبارة والأحداث الخطيرة؛ ولئن كان إذ ذاك مأخوذاً بنزق الشباب وتهور العاطفة إلا أنه أظهر في ميدان السياسة من الحنكة والدهاء والمرونة الدبلوماسية ما لا طاقة على مثله إلا لذوي النبوغ والعبقرية. كان حبل السياسة إذ ذاك مضطرباً بين حق الملوك الإلهي وبين ديمقراطية الشعب؛ وأحياناً بين البروتستنتية المصلحة، والكاثوليكية المبالغة في المحافظة على تقاليدها - ولو بليت - وكان ملتون خصم الملكية اللدود، وعدو البابوية الأزرق، فلا عجب إذا انهال عليهما بكثير من الامتهان والزراية، أو تسقط لهما كل ما من شأنه أن يحط من جلالهما أو ينال من عظمتهما
لقد ناهض الملكية كثيراً، وقاومها مقاومة غماء الجبين، حتى أنه لم يدع سانحة تمر إلا اهتبلها مندداً بعيوبها ومثالبها، شاهراً ظلمها ومساوئها؛ كما ناصر الطهريين كثيراً في تقويض دعائم الكاثوليكية. والطهريون في ثورتهم على الكاثوليكية ومن ورائها الملكية، أشبه ما يكونون في التاريخ العربي بالخوارج في ثورتهم على العلويين أولاً والأمويين ثانياً؛ ووجه الشبه بينهما اختلاط الدين بالسياسة في مبادئهما. وما مبادئ الطهريين التي هبوا متشمرين للنضال السياسي في تحقيقها، إلا صورة من المبادئ الوهابية في جزيرة العرب. ولقد كانت الدعوة الطهرية في بادئ أمرها دينية محضة، أي كدعوة الخوارج إبان خروجهم على عليّ، ولكنها - كمثيلتها - لم تلبث أمام أرستقراطية الملوك أن تنكرت لهم،(225/43)
واصطبغت لمجالدتهم بالصبغة السياسية، فقد ناهض الطهريون الملوك مناهضة عنيفة، وأنكروا عليهم حقهم الإلهي في السيادة والسلطة، وانتزعوا لفظه من أفواههم بعد أن كانوا يتشدقون بمضغه تشدق من يمضغ لقمة دسمة. وما انتصار النظام الدستوري في إنكلترا وانهيار دعائم الملكية إلا رمزاً لانتصار المبادئ الديمقراطية على الأرستقراطية، بل صورة لانتصار الطهريين على جميع منافسيهم، ذلك الانتصار الذي أملى على ملتون ملحمته الشهيرة المعروفة بالفردوس المفقود، وهي صورة حية لما كان عليه الدين إذ ذاك من التبلبل والانقسام، تطلعنا على مدى ما وصل إليه الطهريون في جهادهم لتدعيم أسس حرية الشعب الدينية والسياسية تلك الحرية التي أنجبت أمثال دن، وبنيان، وملتون
ومن كتابات ملتون السياسية رسالته المعروفة: وقد كتبها عام 1649 دفاعاً عن إعدام الملك - ذلك الإعدام الشنيع الذي صوره فيما بعد بصورة ترتعد منها الفرائص وتقشعر لها الأبدان في كراسته المعروفة
وإذ كان ملتون ظهيراً لكرمويل ومساعداً له ضد الملكية الظالمة، فقد عينه هذا بعد تسنمه سدة الحكم بمدة وجيزة - أي عام 1649 - ترجماناً له في قسم السكرتارية اللاتينية، وكان عمله ترجمة جميع الدواوين والرسائل إلى اللغة اللاتينية، إذ كانت اللاتينية إذ ذاك هي اللغة السياسية الوحيدة المتفق عليها بين جميع دول أوربا
(يتبع)
خليل جمعة الطوال(225/44)
أبحاث تاريخية جديدة
الإسلام في غرب أفريقية
مدى انتشاره في تلك الأقاليم ومبلغ أثره في الأهلين
للأديب جمال الدين محمد الشيال
تتمة
ولقد حمل إليهم الإسلام أيضاً نظام الحكم الديموقراطي. ذلك أن نظام الإدارة في الإسلام نظام ديموقراطي - لا فارق بين رجال الدين وعامة الشعب - فرئيس المقاطعة هناك هو الليمان (ويبدو لي أنها محرفة عن لفظة الإمام بالعربية) ويختار من بين أفراد الشعب، وكل الصفات التي يراعيها الناس أثناء انتخابه هي أن يكون على خلق طيب وأن يكون ملماً بالقرآن إلماما ًَلا بأس به. ومن وظيفته أن يؤم الناس في الصلاة. وليس هناك نظام مركزي يوحد بين هؤلاء الليمانز فكل منهم مستقل في إدارته. ويزود الليمان هو والمالم (وأرجح أن أصلها معلم، فوظيفته تعليم الناس ولابد أن يكون على علم ولو قليلاً بالقرآن) بما يقدمه الناس لهم من عطايا عن طيبة خاطر. ومهمة هؤلاء المعلمين تعليم الصغار؛ غير أن أكثر اعتمادهم في الكسب على التمائم التي يقدمونها للناس. والمعلمون كذلك أطباء يستخرجون الأدوية من جذوع الشجر وأوراقه. ومعظمهم طفيليون على المجتمع، بل إن بعضهم يستخدم تلامذته لسؤال الناس. وكثير منهم ممن ذهبوا إلى مكة وحجوا البيت الحرام يشاع تقديسهم؛ وهم يستغلون هذه الإشاعات الخيالية طول المدة الباقية من حياتهم. ولكننا برغم هذا لا نعدم أن نجد بين هؤلاء المعلمين من يحيا حياة كلها تقوى وورع وسعي لنشر العلم. وفي معظم الولايات الإسلامية تقام الصلاة كل يوم كما يحتفل المسلون بعيدي الفطر والأضحى إذ يسمونهما & أي العيد الأصغر والعيد الأكبر
المذاهب الدينية
ويعتبر سلطان سكوتو الرئيس الروحي لجميع مسلمي السودان الأوسط حيث يسمونه ولقد امتد نفوذه في أوائل هذا القرن حتى شمل تمبكتو غرباً وأجادز شمالاً (ولكن هذا النفوذ لم يشمل بورنو حيث يتمتع الشيهو بمركز ديني يضاهي مركز سلطان سكوتو)(225/45)
وهناك مذاهب دينية مختلفة تعمل على تقدم الإسلام ونشره، أهمها مذاهب القادرية والتيجانية والسنوسية. وللمذهبين الأولين أتباع كثيرون في مختلف أنحاء نيجيريا، وخاصة مذهب التيجانية الذي أسسه أحد أساتذة بلاد المغرب واسمه (سيدي أحمد التيجاني) وكثير من ثورات السودان المحلية يرجع لتأثير هذا المذهب في السودانيين. أما مذهب السنوسية فلم يتعمق إلى الجنوب كثيراً؛ لقد بلغت دعوته شمال نيجيريا وله بعض الأتباع في سكوتو وبورنو. وليس هناك ما يميز أتباع هذه المذاهب عن بقية المسلمين سوى رغبتهم وسعيهم للتطهر، وسوى حلقات الذكر التي يقيمونها في الحين بعد الحين (وإن كانوا لا يفهمون معنى ما يقولون أثناء الذكر كما يقول
والمساجد منتشرة في كل مدن الإسلام، أما في القرى فالمسجد قطعة من الأرض مسورة بحاجز من الخشب
الإسلام ينتشر وإن كان المسلمون لا يبشرون به
لا يوجد بين المسلمين الآن إرساليات تبشيرية تعمل لنشر الإسلام، ولكن الإسلام ينتشر عفواً بين تلك الجماعات دون بذل مجهود. والجهاد عند المسلمين واجب لنشر دينهم بين الوثنيين ولكننا لو عرفنا أن الجانب الأعظم من دخل الفولاني يعتمد على تجارة الرقيق بدا لنا السبب في عدم اهتمام هؤلاء كثيراً بالتبشير لدينهم بين الوثنيين
ومع هذا فقد كانت هناك إرساليات تبشيرية هامة في أوائل حكم الفولاني. فإن لاندر يحدثنا أنه قابل في معلمين من الفولاني أرسلهم أمير نوبي لينشروا تعاليم الإسلام بين السكان الوثنيين
غير إن الإسلام لم ينتشر في تلك الجهات نتيجة سعي الإرساليات قدر ما انتشر نتيجة جذب ثقافة المسلم العالية لجيرانه الوثنيين. والآن بعد سهولة المواصلات أصبح المسلمون أكثر اتصالاً بالوثنيين، وكانت نتيجة هذا أن الوثني الذي يتعدى منطقة إقامته يرى أن من الصالح أن يعتنق الإسلام، وأن يتبع المسلمين في أسلوب حياتهم، لأنه سريعاً ما يدرك ضيق دينه إذا قارنه بعالمية الإسلام؛ وهو إلى هذا كله لا يجد صعوبة في انتقاله من الوثنية إلى الإسلام، فهو بالمعاشرة يستطيع بسرعة أن يستسيغ نظم الدين الجديد. والوثني كذلك يرى أن المسلم متسامح وأنه يعيش في منزل أنظف من منزله ويرتدي ملابس خيراً(225/46)
من ملابسه، وله بالعالم معرفة أوسع من معرفته. فلا غرو بعد هذا إن فضل الوثني الإسلام فاعتنقه. والوثني عندما يسلم يغسل جسمه كله ثم يعلن إسلامه في المسجد
نظم التعليم في تلك الجهات
وهناك مدرسة في كل بلدة من بلاد الإسلام يديرها معلم من الأهلين، ويرسل إليها الأطفال في سن مبكرة غالباً بين الثالثة والرابعة، يرسلهم آباؤهم إلى هذه المدرسة فراراً من الجهد الذي يبذلونه لرعايتهم. ومن هؤلاء المعلمين من يمارس التجارة إلى جانب مهنة التعليم. أما الأطفال فهم يستمعون إلى دروسهم في العادة ساعة في الصباح وساعة في المساء، وهؤلاء الأقوام لا يهملون تعليم بناتهم. ويتلقى التلاميذ دروسهم عادة قبل شروق الشمس وبعد غروبها حتى يستطيع الصبية منهم خدمة الحقول أثناء النهار
وأول ما يتعلم الأطفال الصلاة، ثم يعلمون كيف يقرأون القرآن، ثم يتلقون بعض الواجبات الدينية كشروط الوضوء وطرق الاغتسال وغيرها. والأطفال يقرأون العربية جميعاً وراء معلمهم بصوت مرتفع منغم. وإذا تقدم الأطفال في السن وكبروا علموا شيئاً من تفسير القرآن؛ غير أن نظم التعليم العامة عندهم تسير على نهج آلي. فمعظم الأولاد يحفظون القرآن كله أو بعضه، وهم لا يفقهون له معنى. بل أن أكثر المعلمين هناك ثقافة لا يعرف شيئاً عن التطور الفكري الذي يسود العالم الإسلامي اليوم. وإن كان هناك نفر من النيجيريين على درجة كبيرة من العلم والثقافة فمنهم شيهو دان فوديو وقد ألف كتاباً في اللاهوت وابنه بلو وهو نحوي ومؤرخ مشهور وغيرهم كثيرون. ولا يتقاضى المعلمون مرتبات غير الهدايا التي تقدم إليهم. وعندما يتم الولد دراسته يأخذ المعلم من أهله حملاً أو عنزة ومع هذا فإن 3 % من المسلمين فقط هم الذين يقرءون ويكتبون
فضل الإسلام في توحيد هذه القبائل المبعثرة
يبدو لنا بعد هذا بوضوح كيف أن نظم الإسلام الاجتماعية والسياسية توافق الزنوج كل الموافقة خصوصاً وإن الزنوج السودان يسود بينهم الدم الحامي أو دم البحر الأبيض المتوسط. فالإسلام إذ يفرض على هؤلاء الناس الختان ويبيح لهم تعدد الزوجات ويمنعهم عن أطعمة خاصة ويحرضهم على أن يكونوا أحراراً، لا يطلب منهم المستحيل، بل إن(225/47)
يقول (إن الإسلام إذ يفرض على الزنوج عبادة الله لا يفرض عليهم جديداً فإن في نيجيريا يعتبرون إله السماء هو المسيطر والمنظم للعالم)
وبعد هذا فإنا لا ننسى كيف حمل الإنسان إلى هؤلاء الأقوام الشعور بضرورة الوحدة، فلقد جمعهم بعد تفرقة. والفضل كل الفضل للإسلام إذ كون من تلك القبائل المبعثرة وحدات متحدة قوية؛ بل إن ميك يعترف بالفضل للإسلام إذ وحد هؤلاء الناس حتى استطاع الإنكليز أن يحكموهم هذا الحكم غير المباشر. وإن كان المسلمون في تلك الجهات هم الذين يتولون أمورها ولهم قيادة الرأي العام فيها
لقد رأينا كيف اتسعت موجة الإسلام واتسعت حتى تلاشت في القرن التاسع عشر وابتدأت حركة الاستعمار ووجد المستعمرون أن مصدر الصعاب التي قامت في طريقهم هو الإسلام والخلاف الديني بينهم وبين أهالي الجهات المستعمرة. ولذلك فهم يبذلون الآن جهدهم لنشر المسيحية حيثما حلوا. وهم يجذبون الناس إليهم بمختلف الوسائل التي تحمل طابع الإنسانية، فهم ينشئون المستشفيات والمدارس ودور اللهو والكنائس وغيرها. ثم هم يجتهدون أخيراً أن يحولوا بين مسلمي السودان وزنوجهم لينشروا بينهم المسيحية. ولكن واجب المسلمين الآن أن يلقوا بالدعوة من جديد حتى تبتدئ الموجة ثانية وتتسع. . وتتسع حتى تصل إلى هؤلاء الأقوام فتحسن من تعليمهم وتعمل على تقوية إيمانهم. ولا أحسب أن هناك قطراً يصلح لهذه المهمة غير مصر؛ ولا أحسب أن معهداً في مصر يصلح لهذه المهمة غير الأزهر، ورجال الأزهر. فهل يفكر القوم في هذا؟!
جمال الدين محمد الشيال
المراجع
1 -
2 - 1930.
3 - ; 1913
4 -
1 - ابن عذارى المراكشي: البيان المغرب في أخبار المغرب. طبعة لايدن سنة 1848(225/48)
2 - ابن خلدون: المغرب في تاريخ الدول الإسلامية بالمغرب طبعة لايدن 1847
3 - المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب طبعة لايدن سنة 1847
4 - ابن بطوطة: رحلته المسماة (تحفة النظار. . . الخ)(225/49)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
271 - فإن لم ينتهوا راجعت ديني
كان أبو المطراب من لصوص الحجاز فتاب فظُلم فقال:
ظلمتُ الناس فاعترفوا بظلمي ... فتبت، فأزمعوا أن يظلموني
فلست بصابر إلا قليلاً ... فإن لم ينتهوا راجعت ديني
272 - الشاهد عند الحاجة
قال أبو العيناء: ما رأيت قط أحسن شاهداً عند حاجة من ابن عائشة. قلت له يوماً: كان أبو عمرو المخزومي يصلك ثم جفاك، فقال:
فإن تنأ عنا لا تِضرْنا، وإن تعد ... تجدنا على العهد الذي كنت تعلم
273 - ما زلت تخفي الصدقات
مر الفرزدق بالحكم بن المنذر بن الجارود فاستسقاه ماء، فقال: هلا لبناً يا أبا فراس؟ قال: ذاك إليك. فملأ له عُساً من خمر، وأمر فحلبت عليه لقحة فصعدت الرغوة فوق الشراب وأتاه به فشربه حتى صك بالعس جبهته، وانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، فمسح سِباله وقال: جزاك الله خيراً! فإنك ما زلت تخفي الصدقات، ونعمّا هي
274 - وهذا ينتسب عرضا
سئل رجل عن نسبه فقال: أنا ابن أخت فلان. فقال أعرابي: الناس ينتسبون طولاً، وهذا ينتسب عرضاً
275 - بل يزوج
كان ذئب ينتاب بعض القرى ويعيث فيها، فترصده أهلها حتى صادوه وتشاوروا في تعذيبه. فقال بعضهم: تُقطع يداه ورجلاه، وتدق أسنانه، ويخلع لسانه. وقال بعضهم: بل يصلب ويرشق بالنبال. وقال بعضهم: بل توقد نار عظيمة ويلقى فيها. وقال بعض الممتحنين بنسائه: لا، بل يزوج. وكفى بالتزويج تعذيباً! وفي هذه القصة يقول الشاعر:(225/50)
رب ذئب أخذوه ... وتمارَوا في عقابهْ
ثم قالوا:
زوِّجوه ... وذروه في عذابهْ
276 - فأما البخاري وكافر فما سمعناه
قال ابن العمار الحنبلي: كان عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الكيلاني - ويلقب بالدكن - أديباً كيساً مطبوعاً عارفاً بالمنطق والفلسفة والتنجيم وغير ذلك من العلوم الردية! وبسبب ذلك نسب إلى عقيدة الأوائل
رأى عليه والده يوماً ثوباً بخارياً - كان عبد الوهاب كثير المجون والمداعبة - فقال: والله هذا عجب! مازلنا نسمع (البخاري ومسلم) فأما (البخاري وكافر) فما سمعناه!
277 - كفيتنا مؤونة مراجعته. . .
كتب القاضي أبو يوسف كتاباً وعن يمينه إنسان يلاحظ ما يكتبه، ففطن له أبو يوسف، فلما فرغ من الكتابة التفت إليه وقال: هل وقفت على شيء من خطأ؟
فقال: لا والله ولا حرف واحد
فقال له أبو يوسف: جزيت خيراً حيث كفيتنا مؤونة مراجعته. ثم أنشد:
كأنه من سوء تأديبه ... أُسلِم في كُتاب سوء الأدب
278 - فانظر إلى حجر صلد يكلمنا
قال أبو عامر البرياني في الصنم الذي بشاطبة:
بقيةٌ من بقايا الروم معجبة ... أبدى الثبات بها من علمهم علما
لم أدر ما أضمروا فيه، سوى أمم ... تتابعت بعد سموه لنا صنما
كالمبرد الفرد، ما أخطا مشبهه ... حقاً لقد برد الأيام والأمما!
كأنه واعظ طال الوقوف به ... مما يحدث عن عاد وعن إرما
فانظر إلى حجر صلد يكلمنا ... أسمى وأوعظ من قُسّ لمن فهما
279 - وأنتم كدود الخل
في (إرشاد الأريب) لياقوت: حدث الرئيس أبو الحسن هلال قال: قلت لجدي أبي اسحق(225/51)
(الصابي) - تجاوز الله عنه - وهو يشكو زمانه: يا سيدي، ما نحن بحمد الله تعالى إلا في خير وعافية ونعمة كافية. فما هذه الشكوى التي تواصلها، ويضيق صدرك بها، ويتنغص عيشك معها؟ فضحك وقال: يا بني، نحن كدود العسل قد نقلنا منه إلى الخل فلهذا نحس بحموضته، ونأسى ونحزن على ما كنا فيه من العسل ولذته. وأنتم كدود الخل ما ذقتم حلاوة غيره، ولا رأيتم طلاوة ضده
280 - با اين تيمار بايد اندكي شادي
في (عيون الأخبار): قال علي بن هشام: كان عندنا بمرو قاص يقص فيبكينا، ثم يخرج بعد ذلك طنبوراً صغيراً من كمه فيضرب به ويغني ويقول:
با إين تيمار بايَدْ أندكي شاكي
معناه: ينبغي مع هذا الغم قليل فرح
281 - ولكن بدموعي!!!
نَوْرَزَ الناس ونورزتُ ولكن بدموعي! وذكت نارهمُ والنار ما بين ضلوعي!
282 - قبل أن يبادرني بالعقوق
تزوج أعرابي على كبر سنه، فقيل له في ذلك، فقال: أبادره باليتم قبل أن يبادرني بالعقوق. . .(225/52)
قطعتان من روائع أدب الغرب
1 - حنين إلى الوطن
للشاعر الناثر: شاتوبريان
ما أكثر ما تكن جوانحي من ذكريات عِذاب
عن البلد الجميل الذي فوق أرضه ولدت، وتحت سمائه ترعرعت!
أختاه، ما أجمل تلك الأيام التي أنفقناها في فرنسا!
دمت يا بلادي محطاً لغرامي ومنية لفؤادي!
هل تذكرين يا حبيبتاه أمنا الرءوم
حين كانت تضمنا إلى صدرها الحنون
باسمة الثغر، متهللة الوجه بقرب موقد كوخنا
وحين كنا نلثم معاً شعرها الأبيض الجميل
هل تذكرين؟
هل تذكرين يا أختاه ذلك القصر الباذخ
وقد خوّص في النهر بقدميه
وذلك البرج القديم، المسرف في لقدم
حيث يقرع الناقوس مؤذناً بانبلاج الصبح وعودة النهار
هل تذكرين؟
هل تذكرين تلك البحيرة السجواء
وقد داعبها السنونو بأجنحته الخفيفة السوداء
والقصب المياس وقد طأطأت هامه الرياح النكباء
ومليكة النهار الفتانة، وقد احتُضرت فوق ثبج الماء
هل تذكرين؟
هل تذكرين صديقتي (هيلانه)، رفيقة الحياة الحنون
هل تذكرينها في الغابة حين كانت - وهي تقتطف الزهرة البديعة
تسند صدرها الجياش إلى صدري(225/53)
وتضم قلبها الخفاق إلى قلبي
هل تذكرين؟
أواه! من ذا الذي يعيد إليّ (هيلانه)
وطودي وتلك السنديانه؟
ذكرياتهم هي التي ترمض أحشائي بالألم
آناء الليل وأطراف النهار
دمت يا بلادي محطاً لغرامي ومنية لفؤادي(225/54)
2 - الفراشة
للامارتين
تولد حين يذر قرن الربيع، وتقضي لما يرفرف الموت فوق أكمام الورد:
تسبح وقد امتطت جناح النسيم، في سماء صافية الأديم
وتتأرجح على أكمام أزاهير لا تكاد تتفتح
فيسكرها عَرْف نفاح، ونور لماح، وزرقة بهيجة
تنفض الغبار عن جناحيها والميلاد حديث
وتطير صاعدة إلى السموات العلى خفيفة كالنسيم
تلك حياة الفراشة المشرقة
إنها لتحكي الرغبة: تمس كل شيء ولا تقع أبداً على شيء
ثم تعود أخيراً إلى السماء تنشد اللذة الفقيدة
حماة
(سوريا)
عارف قياسه(225/55)
إحياء النحو
أهدى الأستاذ إبراهيم مصطفى أستاذ اللغة العربية بالجامعة المصرية كتابه النفيس (إحياء النحو) إلى صديقه الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين، فأجابه الأستاذ على هديته الثمينة بهذه الأبيات:
// لَوْ كانَ عَصْرُكَ لِلمَواهِبِ مُنْصِفا ... لَدَعَاك حَقَّا (سِيبوَيهِ مصطفى)
أَحْيَيْتَ للفُصْحَى لِساناً مُرْهَفاً ... سَلَّت عليه الأَعْجَمِيَّةُ مُرْهَفَا
لَوْ عَاصَرَ الدُّؤَلِيَّ فَضْلُكَ لَمْ يكُنْ ... لِلنَّحْوِ غيرُكَ وَاضِعاً ومُصَرِّفَا
شَرُفَتْ بِكَ العَرَبُ الكِرَامُ وَإنَّها ... لَجَدِيرَةٌ بك أن تتِيهَ وتَشْرُفَا
أَلْقَتْ وَدِيعَتَها إليك فَصُنْتَها ... لا وَانِياً عنها ولا مُتَكلِّفَا
للهِ سِفْرٌ أنت ناسِجُ وَشْيِهِ ... أَزْرَى بما نَسَجَ الرَّبِيعُ مُفَوِّفَا
كَمْ مَذْهَبٍ في النَّحْوِ عادى مذهباً ... فَجَرَى بَيَانُكَ في الْعُدَاةِ مُؤَلِّفَا
وَتَنكَّرَتْ سبل الهدَى فِيهِ إلى ... أَنْ لاَحَ نُورُ حِجَاكَ فيهِ مُعَرِّفَا
أحمد الزين(225/56)
القصص
من أساطير الإغريق
بومونا
للأستاذ دريني خشبة
عروس من عرائس الغاب يترقرق الجمال في إهابها الوردي وتلتمع في فمها الرقيق الخمري ثنايا من اللؤلؤ الرطب، وتبسم. . . فتثور من عينيها وشفتيها أسراب من النحل في قلوب العاشقين، تلسعهم، وتسقيهم رحيقاً!!
هي بدع من عرائس الغاب؛ فهي لا تغشى الأنهار تتلاعب في طيات أمواجها؛ وهي لا تحب البحر لا هادئاً ولا متمرداً؛ وهي تكره الغابة لأنها تعج بالأفاعي والوحوش، ومنظر هذه حين يساور أحدها الآخر يبعث في نفسها اشمئزازاً، ويثير فيها غضباً على الطبيعة الظالمة التي جعلت الضعيف فريسة للقوي يذله ويقتله. . . ثم يأكله
لذلك أولعت بومونا بالحقول الساكنة الهادئة، إلا من نشاط الحياة يسري فيها فتهتز وتربو، ثم تكتسي بالسندس، وتنضر بالزهر، وتطن بموسيقى اليعاسيب. . . وأولعت كذلك بالحدائق. . وقد غرست حديقتها على عُدْوَة النهر، وسوّجت عليها بسياج من شوك، ثم جعلت لها بوابة جميلة عرشت فوقها عساليج الشّبر والياسمين. . . وكانت تقضي في جُنينتها أكثر وقتها، ولو استطاعت لم تبرحها قط، لأن الزنبق الغض، والنسرين الجميل، وأكمام الورد، وهالات البنفسج، ونضرة الشقائق، وأرج التفاح، وعبق الرياحين، وشذى أزهار الخوخ العقيقية، وابتسامات الأقاح، ولآلئ الندى المبعثرة فوق العشب. . . كل هذا كان أحب إلى قلبها الخلي، ونفسها العزوف، من هؤلاء الناس، والآلهة، وأنصاف الآلهة، الذين كانوا ينتظرون أوبتها في المساء إلى دارها، فيقفون في طريقها، ليفوز من يفوز منهم بنظرة أو خطفة أو لمحة، يعود بعدها إلى منزله مصدع القلب، حائر الروح، خفق الأحشاء موهون القوى!
وكأيّن من قائل لآخر:
- أرأيت بومونا هذا المساء يا صاح؟(225/57)
- الحُسّان المفتان! أجل والله. . . رأيتها، وأورثتني ألف حسرة يا صديقي!
- أوَ مشغوف أنت بها حباً؟
- ومنذ الذي لم تشغفه بومونا حباً، وقد تبلت قلوب الآلهة؟
- إني أغار من كلماتك أيها الصديق. . . فاقصر!
- وأنا أغار من غيرتك، فاذهب لطيتك!!
ويكاد أحدهما يحرق صاحبه بالشرر الذي ينقدح من أغوار قلبه. . . عن طريق عينيه. . . ثم يمضي كل في سبيله. وهكذا تعادى الناس في بومونا، وهكذا تنافس الجميع في حبها حتى الآلهة فلقد رآها أبوللو وجن بها جنوناً، ولقيها مارس وفتن بها فتوناً. . . ولكن العروس كانت لاهية عن الجميع، لا يتفتح قلبها لحب ولا يرق قلبها لشكاة القلب المغرم الصب؛ وكل ما كان يصبيها، ويشغل بالها، هو هذا الفردوس الحبيب، الذي لا يضايقها بكلمات الغزل، ولا يضجرها بالأنظار الجائعة؛ بل يحييها دائماً بالابتسامات البريئة وبالرّوْح والشذى
غير أن واحداً من عشاق بومونا كان يعدل لا حبه لها حب، ولا يسمو إلى افتتانه بها افتتان. . . فتى لمحها مرة تطوي الطريق قبيل الشروق إلى حديقتها، فوجده منجذباً إليها، مجنوناً بها، فتبعها، وجعل يقلب عينيه في مفاتن شعرها المتهدل فوق ظهرها وكتفيها، حتى ليكاد يقبل العقبين الرائعتين، اللتين أخذتا تعلوان وتهبطان على ثرى الطريق، كأنهما ختم الطبيعة في صك البكور أو زهرتان من اللوتس، ترشفان سلافة الندى. . . وكان جسمها الرخص يتأود كالخيزران، وساقاها الناصعتان المرمريتان تضيئان في غبشة الصبح، فتضرمان في قلب فرتمنوس نيران الحب، وتزلزلانه زلزالاً عظيماً
وعرف الفتى ميعادها، فكان يصحو مع الفجر، ويهرع إلى الطريق، ويلبث يعد الدقائق والثواني كأنها ساعات بل أيام بل دهور وآباد. . . حتى إذا أقبلت، شعر بقلبه يخفق، وأعصابه تذوب، وأحس كأنه خفّ على الأرض، وغدا طيفاً يوشك أن يسري مع نسيم الصباح الذي تنشقه بومونا. . . له الله! لكم منّى نفسه بقبلةٍ يطبعها على هذا الفم الشتيت تُذهِب حرّ قلبه وتشفي صدى روحه الظامئة المتعطشة، ولكنه كان يعود أدراجه كل صباح بعد أن يتأثر سالبة لبه، ولا لب له، ولا قلب معه، ولا مداوي لجراحات فؤاده إلا دموعه(225/58)
يسكبها عبرة في إثر عبرة، وإلا آهاته يرسلها من أعماقه فتزيد فؤاده جراحاً!
وذوى فرتمنوس وذبل شبابه، وشَفّه الهم وأضوى جسمه الفكر، واستسلم لبكاء طويل يتعلل به، وغناء يشبه العويل، يرسله في نبرات تشبه الأنين، يضمنه بثه، وينظمه شكواه، ويلف فيها بقايا فؤاده المعذب، ويودعه النُّطَف الأخيرة من روحه الحيرانة، ويذهب به في الليلة المقمرة فتجتمع حوله الوحوش، وتسكر بموجع أنغامه الهوام، ويرقص من فوقه الشجر. . . ثم يبكي كل هؤلاء له. . . ويعود من حيث أتى!
ولقيته مرة فينوس فرقت له، ورثت لحاله، وراعها أن يلقى محب كل هذا العذاب، في هوى عروس غاب، فجلست إليه تسامره وترفه عنه
- أهكذا يقتل الناس الحب يا فرتمنوس؟
- إي وحقك يا ربة! لقد نال مني هواها، ولم أعد أفكر في أحد سواها!
- مسكين! وهل كلمتها قط؟
- مرة واحدة اجترأت أن أهتف باسمها، ولكنها أشاحت وأعرضت عني
- وفيم تطمع إذن؟
- أطمع في رضائها، وأطمع بعد ذلك في العيش في ظل حبها
- وإذا لم ترض؟
- سأعيش لحبها وآلامي! ولكن؟
- ولكن ماذا يا فرتمنوس؟
- ألا تساعدينني يا ربة الجمال؟ ألا تتفضلين فترققي قلبها عليّ؟
- عندي فكرة!
- أضرع إليك يا ربة!
- سأمنحك قدرة التشكل، وتستطيع أن تبدو في أي صورة شئت
وانحنت ربة الحب والجمال فتناولت من ماء الغدير قطرات، ثم نفثت فيهن وتمتمت بكلمات سحرية، ونظرت إلى الفتى في ظرف ودل، ونثرت الماء في وجهه
- والآن، فكر في أي صورة تنقلب إليها
وأخذ فرتمنوس يتقلب في صور شتى. . . وكلما حاول أن يرتد إلى صورته الأولى لم(225/59)
يستطع، فتضاحكت فينوس وقالت له:
- فكر أيضاً في صورتك الأصلية قليلاً. . .
وسرعان أن عاد إليها. . . ثم ودعته ربة الجمال والحب وهي تقول له:
- تستطيع الآن أن تلقى بومونا، وسأرى ما يسوقك إليه ذكاؤك! ورفت فينوس فكانت في سماء الأولمب!
واستطاع فرتمنوس أن يدخل حديقة حبيبته في أي لحظة شاء. وكان يدخلها في صورة بلبل غرد، ما يزال يغني ويهتف حتى يلفت إليه أنظار بومونا وأسماعها؛ وكان يتبعها أينما ذهبت فيقف على أقرب شجرة، ثم يرسل أغاني الحب وأغاريد الغرام، فتنسكب في أذني عروس الغاب، فتقف لتسمع لحظة، ثم تأخذ في عملها كأنها لم تسمع شيئاً. . . فيتضايق الفتى، ويطير أسوان أسفاً. . .
واستمر على هذه الحال أشهراً، وكل يوم يمر يزداد بالعروس هياماً، ويفنى فيها حباً، حتى خيف عليه من المرض؛ وأحس هو أن ريب المنون يسري في عظامه، وبرد اليأس يوشك أن يوقف نبضات قلبه؛ ثم بدا له آخر الأمر أن يزور حبيبته في صورة أخرى تختلف عن تلك الصور البلبلية التي اعتاد أن تراه فيها، ثم عول هذه المرة - إذا لم يفز بحبيبته بومونا - على أن ينتحر تحت قدميها في صورة البلبل الحزين!
رأى أن يزورها في صورة عجوز شمطاء! ولم لا؟ أليس عجائز النساء أقدر على إيلاف قلوب العذارى من كل أحد غيرهن؟ أليس لهن حديث طلي يتصل من حيث ينقطع، ويتشقق عن كل خرافة حلوة وكلمة طيبة، وبأسلوب ظريف يشبه (تنميل) الخمر في أطراف السكارى؟!
وقف فرتمنوس في ظل أيكة باسقة نامية في منعرج قريب من حديقة بومونا، ثم طفق يفكر في صورة عجوز طيبة القلب، سمحة الملامح، وراح يتخيل شعرها الأشمط وذوائبها الخلس وغدائرها الزُّعر، ويديها عريَتي الأشاجع، وعينيها الغائرتين، وجبينها المجعد، ووجهها المعروق. . . فكان له كل ذلك، ثم كانت له هيبة ووقار وأسْر، في سكينة ودعةٍ وحسن سمت. . . وأضفى عليه حِبَرة سوداء فضفاضة، وجعل في قدميه خفين هرمتين، وفي يده عكازاً مقوساً ما أشبهه بصولجان الموت!(225/60)
ثم جعل يدب في هيئته تلك، حتى كان لدى باب الحديقة فطرقه؛ وكانت بومونا تقطف الزهر وتضع منه باقات تقدمها لصويحباتها عرائس الغاب في مثل ذلك اليوم من كل أسبوع. . . فلما لمحت العجوز تتهالك على نفسها بباب حديقتها، أسرعت إليها وحيتها أحسن تحية وألطفها، ثم فتحت لها وأدخلتها، وكانت الخبيثة - أو كان الخبيث - تبالغ في إظهار الضعف وتعمُّل الإعياء، فكانت بومونا تسندها من هنا، وتشد أزرها من هناك. . . حتى وصلتا آخر الأمر إلى ضُلّة وارفة ذات أفياء، يعرش فوقها كرم نضير تدلى جناه الحلو الناضج، يغازل العيون والأحشاء؛ وأشارت العروس إلى العجوز كي تجلس على إحدى الأرائك التي صُفت عليها الوسائد والحُسْبانات ففعلت، ولكن. . .؟ بعد أن أخذت بفَوْدَي بومونا. . . وطبعت على ثغرها القبلة الأولى الحارة. . . قبلة الأماني والأحلام!!
لقد شُدهت بومونا من أسر هذه القبلة، لأنها من تلك القُبَل الفاترة الباردة التي تخرج من شفاه العجائز كزمهرير الشتاء، بل كانت قبلةً ناعمةً فيها خمر ولها حُمَيّا، وفيها شعر وموسيقى، وفيها روح وامقة صادية كانت تتردد على شفتي العجوز كأنما حاولت أن تلقي في صدر الفتاة بكل أسرارها!!
ولولا أنها كانت عجوزاً حَيْزَبوناً لعشقتها بومونا. . .
ووثبت الفتاة فقطفت عِزقاً من العنب وقدمته للضيفة العجوز. . . ولكنها بدلاً من أن تجدها تهش للثمر الجني الشهي وجدتها غائبة عن رشدها. . . أو. . . كالمغشي عليها! ترى! ماذا أصاب أخانا فرتمنوس المختبئ في جلد هذه العجوز؟! آه! مسكين! إنه لم يكد يفيق من سحر القبلة، حتى رفع بصره إلى بومونا، فشهد العجب العاجب، والجمال النادر، والحسن الباهر، والرونق والبهاء والرواء!! لقد شهد الساقين الجميلتين والقدمين الصغيرتين وشهد الركبتين الرائعتين الملتفتين. . . وقليلاً من الفخذين اللجينيتين. . . فاستطير لبه، وصبا قلبه، وشردت أفكاره، وغشي عليه؟!
ولما أفاق - أو أفاقت العجوز - سألتها ماذا أصابها، فشكت وطأة السنين وضعف البدن، وتهافت أعضائها من الكبر؛ ثم شكرت لها عِزق العنب، وأخذت في أكل حباته، وهي تخالس العروس النظرات. . . ثم نظرت إلى الكرم العارش فوقهما، وأرسلت من أعماقها آهة طويلة حامية، ثم قالت تحدث الفتاة:(225/61)
- أرأيت يا حبيبتي (!) لو نما هذا الكرم على الأرض من غير أن يحمله هذا العريش، هل كان يُؤتي أُكله، ويحلو عنبه كما هو حلو هكذا؟
- كلا يا أماه! هذا شيء بدهي!
- تعنين أن الكرم لا يستغني عن هذا العريش!؟
- طبعاً!
- ولا غناء للعريش من غير كرم!
- لا يكون منظره جميلاً رائعاً كما يكون ومن فوقه الكرم!
- عجباً لكن والله يا عذارى!! تعرفن ذلك، ولا تفكرن في عطلكن!!
- أوَ عاطل أنا يا أماه؟ ماذا تقولين!
- عفواً يا ابنتي. . . فإن لك ألف حلية من جمالك الذي لا جمال مثله. . . إنما قصدت أنكن تزهدن دائماً في أن يكون لكُن أزواج كما لهذا الكرم عريش. . . لاسيما أنت يا صغيرتي بومونا إني أعرف أن كل شباب المدينة مولعون بك، وكل أمراء النواحي متيمون في هواك؛ وأعرف أيضاً أن منهم من يتعذب بالليل، ويذل بالنهار، لأنك ترفضين أن تمنحيه نظرة حين يلقاك في الطريق، وقد وقف لهذا اللقاء ساعات وساعات. . . بل أعلم يا أجمل عرائس الغاب أنك قد برزت هيلين الهيفاء، وبنلوب اللعوب في كثرة العشاق الذين يعبدون جمالك، وتخبت قلوبهم لحسنك، وتتصدع صدورهم من هول ما تهجرين وتصدين. ماذا؟ لم يا بُنيَّتي لا تختارين لنفسك من بينهم كفءً يقاسمك هذه الحياة وتقاسمينه، ويشركك في هذه الحديقة الفيحاء وتشركينه، ويبسم لك وتبسمين، ويواسيك وتواسين؟ ما غايتك من هذه الوحدة، وأنت بها في منفى، ولو أينعت حولك ألف ألف بنفسجة، ومثلها من الورود والرياحين؟ وهذا الفتى المسكين الذي اسمه. . . اسمه. . . اسمه ماذا؟ آه! فرتمنوس! ذكرت أني سمعت أنه يحبك حباً أورثه السهد، وأولاه الضنى، حتى لم يبق منه هواك إلا حشاشة تترقرق دموعاً في عينيه، وتتأجج نيراناً في صدره. . . لم لا ترحمينه يا بومونا؟ لم لا ترثين له يا أجمل عرائس الغاب؟ إنه ليس إلهاً ولا نصف إله، ولكنه خليق بحبك جدير بأن تكوني له من دون العالمين، لأنه مغرم بك أكثر من كل عشاقك؛ وهو ليس كجميع العشاق، لأنه لم يحببك إلا عن بصر بك، وتقدير لحسنك، ولأن عشاق هذا الزمان(225/62)
مفاليك لا ألباب لهم، فهم ينظرون النظرة فتهيج شياطين الهوى في صدورهم، ثم ينظرون النظرة إلى حسناء أخرى فتنجذب شياطينهم إليها، فإذا لقيتهم ثالثة لم تأب تلك الشياطين أن تتصرع تحت قدميها. . . أما فرتمنوس، فقد أحبك ولم يشرك حسناء في هواك، لأنه لا يرى لك في قلبه شريكة تسمو إلى إخمصيك. . . ارحميه يا بومونا، اعطفي عليه، وانظريه كأنه يتوسل إليك بلساني، ويشكو لك بثه بعيني (!). . . ألا تخافين أن تقتص له فينوس منك؟ ألا تعلمين أنها تتأثر للعشاق من كل حبيبة قاسية القلب؟ ألم تعرفي ما صنعت بالقاسية أنَاْجزَرْتيه؟
- ومن أناجزرتيه يا أماه؟ وما قصتها؟
- ألا تعرفينها؟ ولا تعرفين مأساة الفتى إيفيس؟
- وما مأساة إيفيس؟ قصيها عليّ بالله عليك!
(لقد كان إيفيس فتى جميل المحيا وضاء الجبين، ولكنه كان من صميم الشعب؛ وكانت أناجزرتيه من بنات الأعيان الموسرين. . . وكانت بينهما من أجل ذلك هوة سحيقة لم تمنع إيفيس من حب الفتاة لدرجة الجنون. وكان كلما لقيها غشيه من الغرام ما لو حمله جبل لناء به، ولكن الفتاة كانت تعرض عنه ونزْوَرّ، وتطوي الطريق عجلاته إلى قصرها الباذخ المنيف ذي الشرفات. . . وكان الفتى يتبعها بقلب وامق متصدع ولكنها كانت تدخل من باب الحديقة الحديدي ثم توصده من دونه، فيقف ثمة يتزود منها نظرات الموجع اللهفان من خلل القضبان، ثم يذرف دموعه، وينثني إلى داره، وليس في قلبه إلا حبها مع ذاك، ولا في عينيه الباكيتين إلا صورتها! وطالما كان يهب من نومه في جنح الليل فيطوي الطريق مُفَزَّعاً، حتى إذا كان لدى البوابة الحديدية وقف عندها، وعانق قضبانها، وبكى ما شاءت الآلهة، وتغنى آلامه وغرامه، ثم ارتد وقد تضاعف وجده، وازدادت صبوته. . . وكم ذا رأته أناجزرتيه فكانت تحقره وتسخر منه، بل كانت لا تعفيه من كلمة قارصة، أو غمزة تهكم واستهزاء، ولم يشفع لديها ما قاله مرة لمرضعها العجوز وما بث من شكاة، بل زادها ذلك قسوة وعناداً. . . ولما جد به الجد، ولم يكن بد مما ليس منه بد، ذهب إليها في ضحوة ضاحكة من ضحوات الربيع، ثم تعلق بالبوابة، وكانت حبيبته ترتع وتلعب في حديقة القصر، فهتف بها وقال: (أيتها القاسية أناجزرتيه اسمعي! لقد قهرت قلبي وغزوت نفسي(225/63)
وتم لك النصر! فهنيئاً لك! تَغَنّي أناشيد الفرح واللذة الصارمة لأنك قتلت إيفيس! اعقدي فوق هامتك إكليل الغار لأنك أذللت قلبه العزيز، ومرغت في التراب روحه العالية. . . ولكن أصغي إليّ يا متحجرة القلب. . . لقد عولت على أن أشرب كأس المنون، ولكني آثرت أن أشربها أمامك إن لم يكن بين يديك، لتتلذذ عيناك بهذا المنظر الموجع الأخير، وليبتهج قلبك بآخر صورة من صور انتصاراتك عليّ. . . بيد أني أهتف بك يا آلهة السموات أن تثأري لي، وأن تجعلي لي ذكراً في قصص المحبين يتناقله الخلف عن السلف، ويتذاكره الناس في طويل العصور والآباد. . .) وكانت السماء كلها تصغي لما يقول إفيس فلبّت واستجابت. . . وكان قد ربط حبل مشنقته في قضبان البوابة، وجعل أنشوطتها في عنقه، فلما انتهى من مقالته ألقى بنفسه. . . وقبضت روحه! ولم تتحرك أناجزرتيه مع ذاك، بل أرسلت خدمها الذين نقلوا الجثة إلى أم الفتى وهم يبكون ويضجون. . . وصرخت الأم المفجوعة وولولت على وحيدها، ثم حمل الجثمان في إران إلى المقابر، ومر الموكب الحزين من الشارع الذي فيه قصر الفتاة القاسية، فصعدت لتنظر إليه، ولكنها ما كادت ترى إلى الجثة مسجاة في النعش حتى تثلجت عيناها، ثم استحالتا إلى رخام بارد. . . وروعت لما أصابها، وأرادت أن ترجع قليلاً، ولكنها لم تستطع لأن الرخام سرى في قدميها أيضاً. . . ثم في ساقيها. . . ثم في ذراعيها. . . ثم في جميع جسمها. . . أما قلبها، فقد كان رخاماً منذ زمن بعيد. . . وكذلك تحولت أناجزرتيه إلى تمثال ما يزال محفوظاً في متحف فينوس بسلاميس. . . عظة وذكرى. . .)
وكأنما عملت القصة عملها في نفس بومونا. . . فانذرفت من عينيها الحزينتين عبرتان حارّتان. . . ونظرت لترى إلى العجوز. . . ولكن. . . لقد كان فرتمنوس العاشق الحزين الجميل القوي يجلس مكانها، ويأخذ برأس الفتاة على صدره. . . فقالت له:
- من أنت أيها الفتى؟
- أنا. . .
وانفجر في بكاء شديد وقال:
- حبيبك فرتمنوس يا بومونا. . .
فقالت: أهو أنت؟(225/64)
وتبادلا قبلات أشهى من الشهد، وأشد أسراً من الخمر. . .
دريني خشبة(225/65)
البريد الأدبي
معرض عظيم للحضارة الرومانية
احتفل أخيراً في رومة بافتتاح معرض عظيم إحياء لذكرى الإمبراطور أوغسطوس (أوكتافيوس) منشئ الإمبراطورية الرومانية، وذلك لمناسبة انقضاء ألفي عام على وفاته، وسيبقى المعرض مفتوحاً مدى عام كامل؛ وقد جمعت جميع الآثار والتحف الفنية المتعلقة بالإمبراطور أوغسطوس وعصره وأصلحت، وأقيمت في مواقع مناسبة، وساهمت في ذلك العمل العلمي الجليل جميع المتاحف الإيطالية، ومعظم المتاحف الخارجية التي تحتفظ بآثار من عصر أوغسطوس، وفي مقدمتها المتحف البريطاني؛ وأصلح أثر أوغسطوس العظيم في رومة وهو (الأوغسطيو) أو قبر أوغسطوس الذي يضم رفاته ورفات زوجه وأخته وبعض خلفائه، وغدا أعظم مناظر هذا المعرض. وقد استغرق العمل لإعداد هذا المعرض العظيم خمسة أعوام، وأشرف على تنظيمه من الناحية العلمية العلامة الأثري الأستاذ جليو جليولي، وبذل جهوداً عظيمة ليحقق أمنية (الدوتشي) في أن يكون المعرض صورة عظيمة خالدة من الحضارة الرومانية؛ وقسم المعرض إلى خمسين قسماً، وجمع فيه نحو ثلاثة آلاف تمثال وصورة ونقش من آثار العصر، ومائتي نموذج تمثل الأثاث الروماني، ومجموعات كثيرة من الأنواط والنقود الرومانية؛ والمقصود أن تقدم هذه الأقسام المختلفة صورة بارزة من الحياة الرومانية في مختلف نواحيها، من الأسرة والحياة الخاصة إلى الدولة والحياة العامة، والجيش والبحرية والتجارة والصناعة والزراعة والعلوم والفنون. وقد أقيم نموذج كامل لمنزل روماني في هذا العصر، مؤثث بنماذج من أثاث العصر وحفل القسم الحربي بنماذج من السلاح والعدد المعاصرة؛ وأفرد قسم خاص للدين جمعت فيه تماثيل الآلهة الرومانية، وآلهة الأمم التي كانت خاضعة للدولة الرومانية؛ وللنصرانية قسم خاص بها جمعت به نماذج وتماثيل تمثل حياة المسيح والرسل والشهداء حتى عصر قسطنطين، هذا وستلقى خلال العام الذي يقوم فيه المعرض سلسلة قيمة من المحاضرات العلمية والأثرية عن الإمبراطورية الرومانية وعصر أوغسطوس والحضارة الرومانية، ويشترك في إلقائها أعظم الأساتذة الإيطاليين
ولما كانت إيطاليا الفاشية تضطرم اليوم بروح إمبراطورية فهي تريد أن تحيي مناظر(225/66)
رومة الإمبراطورية؛ وقد عمل السنيور موسوليني كثيراً في هذا السبيل، وبذل عناية خاصة لتجميل رومة، وإقامة الأبنية الجديدة الضخمة، وشق الشوارع العظيمة وإصلاح الآثار والهياكل والقناطر الرومانية القديمة، وإعادة كثير من الأسماء اللاتينية؛ وشجع السنيور موسوليني أيضاً كل الأبحاث الأثرية والعلمية المتعلقة برومة القديمة وحضارتها، وصهرت في هذا الباب في الأعوام الأخيرة كتب ومباحث قيمة وقد كان عصر الإمبراطور أوغسطوس أعظم عصور رومة، وكانت رومة في عصره حاضرة العالم السياسية والفكرية، وكانت ملاذ العلوم والآداب، فلا غرو أن تتخذ إيطاليا الفاشية عصره رمزاً للعظمة الرومانية وأن تعمل لإحياء ذكراه بكل ما وسعت من حماسة وتكريم
ضوء جديد على تطور الأجناس
اشتهر العلامة الإنكليزي السير جيمس فرازر منذ ربع قرن بمباحثه ونظرياته عن تطور الأجناس البشرية، وله مؤلف جليل كبير في هذا الفن عنوانه ولكن نظريات الأجناس البشرية تطورت في العصر الأخير تطوراً عظيماً، واستطاع السير فرازر أن يخرج من دراساته ومباحثه المختلفة في هذا الميدان بنظريات جديدة يضمنها اليوم مؤلفاً جديداً تحت عنوان وهذا المؤلف الجديد يعتبر في بابه مجهوداً بديعاً سواء من حيث الوضوح في عرض الآراء والنظريات، ومن حيث الدقة العلمية والفنية. وللسير فرازر ثلاث نظريات شهيرة في تطور الأنواع البشرية ومؤثراتها تتلخص فيما يأتي: الأولى نظرية الروح الخارجية، والثانية نظرية الرسوم السحرية التي تجري لزيادة محصول الغذاء، والثالثة نظرية التجاذب غير الزوجي لإنتاج النوع البشري. والسير فرازر يلقي ضوءاً جديداً على هذه النظريات، وعلى تفاعلها في تطور الأجناس، وهو لا زال على رأيه القديم من أن الإنسان الأول كان يعمل عامداً لاجتناب مساوئ الازدواج وأن الإنسان المتوحش له آراء معينة في ضرورة الزواج، ويلجأ السير فرازر في التدليل على نظرياته إلى العوامل الجغرافية، ويقول لنا إن الشعوب المتجاورة تمكن المقارنة بينها، ويمكن تقدير الظروف التي أثرت فيها نظم كل في الآخر. وهو لا يسلم بالرأي الحديث القائل بأن التفاعل الثقافي بين الأمم أشد تأثيراً في تطورها من الاختراع المستقل. ومن رأيه أنه مع التسليم بأهمية الصفات الفردية أو صفات الجماعات، ومع التسليم بأن الإنسان يستطيع الاضطلاع بمقدار(225/67)
من الاختراع المستقل، فإن الأمم مدينة في تطورها على الأغلب إلى عامل التقليد؛ ولنا في اللغات القومية المختلفة أكبر شاهد على ذلك
ويرى العلامة فرازر في أوستراليا أصلح معهد لدراسة التطورات البشرية، ففي هذه القارة الساذجة لا تزال تمثل عادات الإنسان الأول والعصر الحجري، وهي العادات التي عرفتها أوربا وعرفها العالم قبل فجر التاريخ؛ كذلك في جزر المحيط والهند وأفريقية وأمريكا لا تزال تمثل آثار بارزة من ذلك العهد الذي هو أول عهد لتطور النوع الإنساني
تمثال لبلزاك
لم يحظ الكاتب الأشهر أنوريه دي بلزاك كمعظم الكتاب الأعلام من معاصرين ولاحقين بتمثال يخلد ذكره في باريس، تلك العاصمة العظيمة التي أحبها وخلد حياتها الاجتماعية في أوائل القرن الماضي في كتبه ورواياته. وكان المثال رودان قد تقدم منذ سنة 1898 بنموذج برونزي لتمثال لبلزاك ولكنه رفض يومئذ. وأثار رفضه جدلاً عظيماً في الصحف والدوائر الأدبية، ومنذ العام الماضي تألفت في باريس جمعية كبيرة تضم نحو خمسمائة من أقطاب الأدباء والعلوم والفنون لتقوم ببذل المساعي اللازمة لإقامة تمثال لبلزاك من أصل نموذج رودان، وبالفعل استطاعت أن تحصل على موافقة مجلس بلدية مدينة باريس على أن تعين بذاتها ميداناً يصلح لإقامة تمثال الكاتب الكبير، ثم اقترحت أن يكون هذا الميدان هو شارعي ملتقى بومبارناس وراسباي وهما في أعظم شوارع باريس. وسيعرض نموذج رودان أولاً في بهو الفنون الجميلة، ثم يصنع تمثال لبلزاك على نمطه، ويقام بعدئذ في الميدان المذكور، وبذلك يحظى بلزاك بتمثاله بعد مضي أكثر من ثمانين عاماً على وفاته، وتزدان العاصمة الكبيرة بتمثال كاتبها العظيم
أفريقية مستودع الماس
كان المعروف حتى الآن أن إقليم الترنسفال وناتال في جنوب أفريقية يضم أعظم مناجم للماس في العالم، ولكن المباحث الأخيرة دلت على أن مستعمرة (سيراليوني) البريطانية في غرب أفريقية قد تصبح في المستقبل القريب مورداً من أعظم موارد الماس في العالم. ففي سنة 1930 عثر المستر بوليت أحد مندوبي القسم الجيولوجي على قطعة كبيرة من الماس(225/68)
في إحدى بقاع المستعمرة؛ فاهتم المعهد الإمبراطوري بالأمر، وأجريت في هذه البقعة مباحث فنية أسفرت عن نجاح مدهش إذ بلغ المستخرج من الماس من هذا المنجم الجديد في سنة 1936 أكثر من نصف مليون جنيه. والمنجم الآن في يد إحدى شركات الماس الكبيرة تستغله طبقاً للامتياز الممنوح لها في مساحة تقدر بنحو أربعة آلاف ميل في شرق سيراليوني.
ويقول مستر بوليت مكتشف المنجم إن أصناف الماس التي استخرجت تضم جميع الأنواع المعروفة من الأنواع الرديئة إلى أثمن وأبدع الأنواع، وقد استخرج المنقبون ذات مرة ياردة مربعة فقط نحو مائتين وخمسين قيراطاً من الماس، وهي نسبة مدهشة. وتزن القطع المستخرجة عادة من 12 إلى 144 قيراطاً، وقد وقع المنقبون ذات مرة على قطعة زنتها 78 قيراطاً من أفخر أنواع الجواهر وبلغت قيمتها نحو خمسة آلاف جنيه. والمنظور أن يكون لهذه المناجم الجديدة في المستقبل القريب شأن عظيم في إنتاج الماس، وربما غدت مثل مناجم الترنسفال مورداً من أعظم موارد الماس في العالم.
ذريعة وباريكاد
الذريعة لغةً الوسيلة. يقال فلان ذريعتي بمعنى وسيلتي. والذريعة أيضاً عند العرب الناقة التي كانوا يختفون وراء جنبها لصيد الحيوانات المفترسة. كان الصياد يعين الموضع الذي ربما تأتي منه الفريسة، فينيخ ناقته في مكان قصيّ ويختفي وراء جنبها حتى تأتي وتهجم على الناقة. فإذا دنت منها صوّب الصياد نبلته إليها فيصيبها
فاختفاء الصياد وراء جنب الناقة للوقاية من هجوم الوحش وانتظاره إياه في شيء من الأمن ومحاربته عن بعد، ثم هجوم الحيوان الوحشي على الناقة وتعرضه للخطر الكامن وراءها وهي رابضة، ينبهنا إلى حيلة من حيل الإفرنج في حروبهم الداخلية إذ يسدون الطرق بأكداس من أثاث بيوتهم كموائد ومقاعد تحول بين ناصبي الحيلة وبنادق أعدائهم فيطلقون على تلك الأكداس الواقية لفظة (برِّكاد) وإقامة الأكداس لها عبارة مشهورة وهي
فهل من الجائز ترجمة اللفظة الفرنسية (بركاد) بلفظة (ذريعة) وعبارة بعبارة (نصبوا الذرائع؟)(225/69)
فإلى أرباب اللغة وحماتها أوجه هذا السؤال راجياً الجواب عنه على صفحات الرسالة الغراء ولهم جزيل الشكر
احمد العربي
طالب بكلية الآداب بباريس
الصلات الثقافية بين مصر وجاراتها الشرقية
دأبت وزارة المعارف المصرية في السنوات الأخيرة على تقديم المساعدة إلى جاراتنا الشرقية، رغبة في توسيع الثقافة المصرية
وقد عاونت وزارة المعارف المدارس الحجازية في العام الدراسي الماضي، إذ مدت بعض مدارسها بمدرسين مصريين أكفاء على نفقتها الخاصة
وقد تلقت الوزارة نبأ من جدة جاء فيه إن إحدى المدارس الأهلية تلقى ضيقاً مالياً، وأن بها مدرسين مصريين يقومان منذ أمد غير قريب بالتدريس فيها وأن المدرسة تطلب إلى وزارة المعارف المساهمة في دفع نصيب من مرتبيهما
وقد أصدر معالي وزير المعارف قراراً بإعانة هذين المدرسين رغبة من الوزارة في السير على خطتها المرسومة
تصويب
جاء في قطعة (الدمام) في العدد (224) في الصفحة (1694) في السطر (19): (زير الغواني) بفتحة على الياء، وهذا تطبيع، وفي مثل هذه الكلمة (الغواني) تقدر الحركة في حالتي الرفع والجر، وتظهر في حالة النصب، وهي هنا مجرورة بالإضافة
(ن)(225/70)
الكتب
أخبار أبي تمام للصولي
لأستاذ جليل
حبيب الطائي، أو أبو تمّام، أو أبو التَّمَام، أو ملك القريض الأول - والملك الثاني هو المتنبي، والبحتري نائب ملك ثم أمراء (كبار وصغار) ووزراء، والمعري شيخ إسلام، وبن الرومي إمام (خليفة) خوارج، وقواد وعمال ولايات (ولاة) ورعايا وجنود وقَدِيديون، ولا ملك ثالث في المملكة - حبيب هذا شاعر عبقري أيّ شاعر، ومنزلته هي منزلته، وشعره هو شعره، فما تقريظ أو تقحيم بنافعه، ولا تعييب بضاره؛ إنه الشاعر ذو العبقرية والإبداع، وإنه في سماء القريض الشمس ذات الضياء الباهر والإشعاع؛ وقد كان الشعر قبل أبي تمام تجربةً وتمريناً، ومقدمةً وتمهيداً؛ وكان كلاماً، ثم جاء بن أوس وبن الحسين فقالا - وغيرهما مثلهما لا يقول -: (لأبي تمام استخراجات لطيفة، ومعان طريفة لا يقول مثلها البحتري) (نحسن أن نقول ولكن مثل هذا - مثل قول المتنبي - لا نقول)
وإن الباعث اليوم على هذا القول هو كتاب في أخبار (الحبيب) ظهر، وهو كتاب: (أخبار أبي تمام) تأليف أبي بكر محمد بن يحيى الصولي
وكتاب يصنفه إمام الأدباء وسيد الظرفاء أبو بكر الصولي طرفة تحفة دونها كل طرفة. وقد أبى الله أن يضام هذا الكتاب (كما ضيم من قبلُ ديوان هذا الشاعر بتلك الطبعات المخزيات المحرفات. . .) فسخر له أدباء مهذبين مثقفين ثلاثة، وهم (خليل محمود عساكر، ومحمد عبده عزام، ونظير الإسلام الهندي) - أبٌ وابنٌ وروحُ قُدُس كما تقول النصارى - فحققوه أبلغ تحقيق راجعين في كل مشكلة إلى الأساتذة الأجلاء: (الأستاذ احمد أمين، والدكتور طه حسين، والأستاذ أمين الخولي، والدكتور كراوس، والأستاذ إبراهيم مصطفى) وطبعته (لجنة التأليف والترجمة والنشر) في مصر أكمل طبع، واختارت له الكاغد الجيد
طالعت هذا الكتاب فألفيت الصولي قد سطر فيه من أخبار أبي تمام ما لم نره في تصنيف من كتب الأدب قبله، وروى أقوالاً لأئمة كبار في هذا الشاعر لم يطرفنا إياها غيره، وهي تعالن معالنة بعبقرية (الطائي الأكبر) وعلو منزلته. (قال عمارة بن عقيل: لقد عصفت رائية طائيكم هذا بكل شعر في لحنها. لله دره! لقد وجد ما أضلته الشعراء حتى كأنه كان(225/71)
مخبوءاً له). و (قال الحسن بن وهب: وأما الشعر فلا أعرف مع كثرة مدحي له وشغفي به في قديمه ولا في حديثه - أحسن من قول أبي تمام في المعتصم بالله، ولا أبدع معانيَ، ولا أكمل مدحاً، ولا أعذب لفظاً؛ ثم أنشد (البائية العبقرية) ثم قال: هل وقع في لفظة من هذا الشعر خلل؟ كان يمر للقدماء بيتان يستحسنان في قصيدة فيجلون بذلك، وهذا كله بديع جيد) وللقصيدة واحد وسبعون بيتاً. وأما رسالة الصولي إلى مزاحم بن فاتك في أول الكتاب فهي كتاب وحدها، على حدة. وقد أملتها البلاغة الصولية الطلّة العذبة العربية، وفيها العلم والنّصَفة
وفي (أخبار أبي تمام) أشياء هينة الخطب أذكرها ليهتم بها في الطبعة الثانية بعد مدة قريبة إن شاء الله:
ففي الصفحة (56) في السطر (5): (خفت إعراضك) وفي الحاشية: (في الأصل: خفت غرضك، ولعل الصواب ما أثبتناه) قلت: الأصل (غرضك) هو الصحيح، والغرض الملل والضجر، وجملة (كرهت إملالك) بعدها - تحقّ ذلك. والصولي لم يخف إعراض صاحبه لكنه خاف - إذ طوّل كما حسب - ضجره، والغرض الضجر
وفي الصفحة (89) السطر (8) (وأرعف كلَّ ذي قلم خيانته) فهل أرعف هي أزعف (بالزاي) أو أزعفت أي أهلكت قتلت قتلاً سريعاً؟
وفي الصفحات (218) (223) (244): (كالمعائب، من معائب، المخائل) بالهمز، وهي بالياء في المعايب والمخايل، والقاعدة الصرفية معروفة
وفي الصفحة (123) في السطر (12)
وفوّارة ثأرها في السما ... ء فليست تقصر عن ثارها
جاءت الهمزة في أول عجز البيت وهي من ملك الصدر في عروضه (في السماء) والبحر من المتقارب والقبض في عروضه كثيرة بل هو عند بعضهم أحسن من التمام
وفي الصفحة (150):
سقى عهدَ الحمىَ سَبَلُ العهادِ ... ورَوَّض حاضر منه وبادي
كتبت (روَّض) بالبناء لما سمي فاعله وهي بالبناء لما لم يسمَّ فاعله. ولو أراد أبو تمام الأول لقال: (أروض) وروّض الغيث الأرض: جعلها روضة، وأروضت الأرض ألبسها(225/72)
النبات، أو كثرت رياضها
وفي الصفحة (217)
نجمان شاء الله ألاّ يطلعا ... إلا ارتداد الطرف حتى يَأْفلا
جاءت (يأفلا) بالهمز وهي في البيت مخففة لأن الألف ألف التأسيس
وفي الصفحة (230)
فلعل عينك أن تعين بمائها ... والدمع منه خاذل ومواسي
رويت (مواسي) بالواو، وواساه لغة ضعيفة أو رديئة كما في (الصحاح والتاج) لآساه
وفي الصفحة (235)
(عربي عربياجإيّ ماترام) اجإي بهذه الصورة:
أجئي - أقعد وإن لم تكن للهمزة قاعدة نحوية مضبوطة مجمع عليها حتى اليوم
وفي الصفحة (238) السطر (9):
(هيّجتَ مني شاعراً أَرَبّا) وفي الحاشية: (أرب: أقام بالمكان أو زاد) قلت: ليس للأرب قبلة (جهة صحة) يتوجه إليها معنى، فهي (الأزبّ) بالزاي أي المنكر الداهي، والأزب من أسماء الشياطين كما في (التاج) وأصل الأزب الكثير الشعر وكذلك أصل الزباء وهي من الدواهي الشديدة، ومثلها الشعراء وفي (مجمع الأمثال): جاء بالشعراء والزباء أي بالداهية الدهياء
هذه هي الأشياء القليلة في الكتاب وهو (340) صفحة. وإذا عرفت أن هناك مصنفاً ضبطه أديب مشهور، له صيت، وطبعته مطبعة، فصادف فيه ناقده قرابة ألف غلطة - أعوذ بالله من ذلك!! - تجلت لك فضيلة هذا الكتاب: أخبار أبي تمام أو أبي التّمام والسلام
(قارئ)(225/73)
رسالة النقد
النحو والنحاة
بين الأزهر والجامعة
للأستاذ محمد عرفة
كتاب ألفه الأستاذ محمد عرفة المدرس بكلية اللغة العربية في مناقشة كتاب (إحياء النحو) للأستاذ إبراهيم مصطفى المدرس بكلية الآداب. وقد بحث الكتاب فيما أشكل من مسائل النحو وأبهم من علله وأسبابه
وقد أراد مؤلفه أن ينشر منه فصل معاني الإعراب بمناسبة ما دار في الرسالة من جدل حول معاني الإعراب
معاني الإعراب
يرى مؤلف (إحياء النحو) أن بينه وبين من تقدمه من النحاة خلافاً في حركات الإعراب؛ فهم يرون أن هذه الحركات اجتلبها العامل وليست تدل على شيء من المعاني؛ فالإعراب حكم لفظي خالص يتبع لفظ العامل وأثره، وليس في علاماته إشارة إلى معنى ولا أثر لها في تصوير المفهوم
أما هو فيرى أن حركات الإعراب دالة على معان، وأنه قد استكشف أصلاً عظيماً وهو أن من أصول العربية الدلالة بالحركات على المعاني وأنه رأى أن الضمة علم الإسناد وأن الكسرة علم الإضافة، وأما الفتحة فهي الحركة الخفيفة عند العرب يلجئون إليها إذا لم تكن بهم حاجة إلى أن يبينوا أن الكلمة مسند إليها أو مضافة. انظر كتاب إحياء النحو ص22 و41 و48 و194 تر المؤلف قد وضح طريقه وهو أن المتقدمين جعلوا الإعراب حكماً لفظياً، وأن علاماته لا تدل على معنى، وأنه قد هدى إلى معان لعلامات الإعراب خفيت على النحويين. وهذا عمل جليل وابتكار وإبداع لو تم له
ومشايعة المؤلف على هذا الرأي ظلم عظيم للنحاة المتقدمين منهم والمتأخرين؛ وإن من غمط النحاة حقهم، ومن ظلم تاريخ النحو أن ننسب إلى النحاة أنهم كانوا يرون أن علامات الإعراب لا تدل على معنى ولا تؤثر في تصوير المفهوم. وإننا إذا شايعنا المؤلف على هذه(225/74)
الفكرة رأى سكان الأقطار العربية ومن يأتون بعدنا أننا لم نفهم النحو، وأن مصر تدرس النحو وتقرأه في كتب المتقدمين والمتأخرين ولا تفهم أقوالهم الواضحة فتعزو إليهم ما لم يقولوه
وأنا أبادر إلى بيان رأي النحاة في علامات الإعراب وأقرر أنهم جميعاً - لا مستثنياً أحداً - يرون أن الحركات علامات على معان تركيبية؛ وأنهم قرروا أن الضمة علم الفاعلية، وأن الفتحة علم المفعولية، وأن الجر علم الإضافة، وأنه لا فرق بين ما ذهب إليه الأستاذ من أن الحركات أعلام على معان، وما ذهب إليه النحاة. وأنا أؤكد للأستاذ المؤلف أنه ما من نحوي واحد ذهب إلى أن الإعراب حكم لفظي خالص وليس في علاماته إشارة إلى معنى ولا أثر في تصوير المفهوم، وأنى أتحدى - وأنا أقصد ما أقول - من يخالفني أن يقيم الدليل على ما يقول
إن علماء النحو جميعاً يرون أن الحركات دوال على معان وقد صرحوا به تصريحاً جلياً
أليسوا قد ذكروا في سبب وضع النحو أن أبا الأسود الدؤلي سمع قارئاً يقرأ (إن الله برئ من المشركين ورسوله) بالجر فقال: معاذ الله أن يكون بريئاً من رسوله. اقرأ (إن الله برئ من المشركين ورسوله) بالرفع؛ فالكلام واحد ولم يتغير فيه إلا حركة اللام، فإذا حركت بالجر أدى إلى كفر، وإذا حركت بالرفع أدى إلى معنى مستقيم لا كفر فيه. فهل كانوا يرون ذلك وهم يرون أن حركات الإعراب لا تدل على معنى ولا أثر فيها لتصوير المفهوم؟
أليسوا يذكرون أن أبا الأسود سألته ابنته: ما أحسن السماء يا أبت (برفع أحسن وجر السماء) فقال: نجومها. فقالت: لا أريد هذا أنا أتعجب من حسنها. فقال: ما هكذا تقولين، قولي ما أحسن السماء (بفتح أحسن ونصب السماء) هل كانوا يحكون هذا ويتداولونه في كتبهم وهم يرون أن الحركات لا تدل على معنى في لغة العرب؟
أليسوا قد عرفوا العامل بأنه ما به يتقوم المعنى المقتضى للإعراب؟ أليس ما حكوه من قول بن مالك:
ورفع مفعول به لا يتلبس ... ونصب فضلة أجز ولا تقس
كان كافياً لأن ينبه المؤلف إلى أنهم يعتقدون أن علامات الإعراب دوال على المعاني؟ فالبيت معناه أن الرفع علامة الفاعلية والنصب علامة المفعولية؛ فإن كان هناك موضع(225/75)
تميز فيه الفاعل عن المفعول بغير العلامة فأعط كل واحد منهما علامة الآخر مادام لا يلتبس ككسر الزجاجُ الحجرَ فإنه معلوم هنا الكاسر من المكسور. أليسوا قد ذكروا أن الأصل في الأسماء الإعراب وعللوا ذلك بأنها هي التي تتعاور عليها المعاني المقتضية للإعراب كالفاعلية والمفعولية الخ؟ أليسوا عند تفسير القرآن أو الشعر يعربونه أولاً ثم ينزلون المعنى على حسب هذا الإعراب ويعربونه إعراباً آخر فينتظم نظاماً آخر ثم ينزلون المعنى على حسب هذا النظم؟
وذلك كقوله (إنما يخشى الله من عباده العلماء) بالنصب، والمعنى عليه أن الذين يخشون الله هم العلماء، وعلى القراءة التي ترفع لفظ الجلالة وتنصب العلماء يكون المعنى لا يخشى الله أحداً إلا العلماء
إن النحو كله مبني على أن حركات الإعراب دوال على معان تركيبية مقصودة من الكلام، ومن لم يفهم هذا الأصل لم يقدر أن يفهم علم النحو ولا آراء المفسرين ولا آراء علماء العربية في تفسير الشواهد والقصائد من الشعر
فإذا لم يقنعك هذا دليلاً على أن علماء النحو يعتقدون أن علامات الإعراب دوال على معان، فسنأخذ في بيان أصرح، وسننقل لك من كلامهم ما هو أوضح
قال الخضري في حاشيته على بن عقيل في ص30 في بحث المعرب والمبني: (وإنما أعرب المضارع لشبهه الاسم في أن كلاً منهما يتوارد عليه معان تركيبية لولا الإعراب لالتبست. فالمتواردة على الاسم كالفاعلية والمفعولية والإضافة في ما أحسن زيداً، وعلى الفعل كالنهي عن كلا الفعلين أو عن أولهما فقط أو عن مصاحبتهما في نحو لا تعن بالجفا وتمدح عمراً. ولما كان الاسم لا يغني عنه في إفادة معانيه غيره كان الإعراب أصلاً فيه بخلاف المضارع يغني عنه وضع اسم مكانه كأن يقال في النهي عن كليهما ومدح عمرو وعن الأول فقط، ولك مدح عمرو، وعن المصاحبة مادحاً عمرا. فكان إعرابه فرعاً بطريق الحمل على الاسم. هذا ما اختاره في التسهيل)
وقال بن يعيش في شرح المفصل للزمخشري في ص72 من الجزء الأول:
(والإعراب الإبانة عن المعاني باختلاف أواخر الكلم لتعاقب العوامل في أولها. ألا ترى أنك لو قلت ضرب زيدْ عمرْ وبالسكون من غير إعراب لم يعلم الفاعل من المفعول؟ ولو(225/76)
اقتصر في البيان على حفظ المرتبة فيعلم الفاعل بتقدمه والمفعول بتأخره لضاق المذهب ولم يوجد من الاتساع بالتقديم والتأخير ما يوجد بوجود الإعراب. ألا ترى أنك تقول ضرب زيد عمرا، وأكرم أخاك أبوك، فيعلم الفاعل برفعه والمفعول بنصبه سواء تقدم أو تأخر
فإن قيل فأنت تقول ضرب هذا هذا، وأكرم عيسى موسى وتقتصر في البيان على المرتبة، قلت هذا شيء قادت إليه الضرورة هنا لتعذر ظهور الإعراب فيهما. ولو ظهر الإعراب فيهما أو في أحدهما، أو وجدت قرينة معنوية أو لفظية جاز الاتساع بالتقديم والتأخير)
وقال الزمخشري في المفصل ص71
(القول في وجوه إعراب الأسماء)
(هي الرفع والنصب والجر وكل واحد منها علم على معنى؛ فالرفع علم الفاعلية، والفاعل واحد ليس إلا: وأما المبتدأ وخبره وخبر إن وأخواتها، ولا التي لنفي الجنس، واسم ما ولا المشبهتين بليس فملحقات بالفاعل على سبيل التشبيه والتقريب، وكذلك النصب علم المفعولية، والمفعول خمسة أضرب: المفعول المطلق والمفعول به والمفعول فيه والمفعول معه والمفعول له. والحال والتمييز والمستثنى المنصوب والخبر في باب كان، والاسم في باب إن والمنصوب بلا التي لنفي الجنس وخبر ما، ولا المشبهتين بليس ملحقات بالمفعول
والجر علم الإضافة، وأما التوابع فهي في رفعها ونصبها وجرها داخلة تحت أحكام المتبوعات، ينصب عمل العامل على القبيلين انصبابة واحدة)
وقال بن يعيش في شرحه ص72:
(وجوه الإعراب. يريد بها أنواع إعراب الأسماء التي هي الرفع والنصب والجر، لأنه لما كانت معاني المسمى مختلفة: تارة تكون فاعلة وتارة تكون مفعولة وتارة تكون مضافاً إليها كان الإعراب المضاف إليه مختلفاً ليكون الدليل على حسب المدلول عليه. . وقوله (وكل واحد منها علم على معنى) يريد الرفع والنصب والجر كل واحد منها علمٌ على معنى من معاني الاسم التي هي الفاعلية والمفعولية والإضافة. ولولا إرادة جعل كل واحد منها علماً على معنى من هذه المعاني لم تكن حاجة إلى كثرتها وتعددها؛ ثم قال فالرفع علم الفاعلية فقدم الكلام على الفاعل من بين المرفوعات ولاسيما المبتدأ لمشاركته في الإخبار عنه،(225/77)
وذلك لأن الفاعل يظهر برفعه فائدة دخول الإعراب الكلام من حيث كان تكلف زيادة الإعراب إنما احتمل للفرق بين المعاني التي لولاها وقع لبس؛ فالرفع إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول الذي يجوز أن يكون كل واحد منهما فاعلاً أو مفعولاً)
كلام الأستاذ إبراهيم مصطفى صريح في أن النحاة جعلوا الإعراب حكماً لفظياً خالصاً، ولم يروا في علاماته إشارة إلى معنى ولا أثراً في تصوير المفهوم. وكلام النحاة صريح لا لبس فيه أيضاً في أن الإعراب حكم معنوي وأنهم يرون أن الحركات دوال على معان وبينوا كل معنى، وكل حركة تدل عليه، والنحو كله مبني على ذلك لا يمكن أن نفهم قواعدهم، ولا أن نفهم اللغة العربية إلا على ذلك، وهو من الوضوح بحيث لا يخفى على مبتدئ في تعلم النحو بله الدارسين له والمتخصصين فيه
ليت شعري، ماذا نفهم في هذا الموقف المحير، موقف الأستاذ من نصوص المتقدمين في هذه المسألة؟ أنفهم أنه فاته وجه الصواب فيها، وهو من وقف حياته على دراسة النحو، ووقف سبع سنين من عمره في بحث هذه المسائل؟
أم أفهم أن المؤلف لم يخف عليه وجه الصواب في هذه المسألة عند النحويين ولكنه نَفِسَهُ عليهم وأغرم بالتجديد، فحرمهم علمهم وتجاهل هذه النصوص التي تتكرر في كل كتاب
إنني حاولت نفسي على فهم ذلك، ولكن منعني أن الأستاذ إبراهيم حجة ثبت وهو كما يقول الدكتور طه حسين في المقدمة (له أمانة في الرأي والنقل جميعاً)
على أن هذا البحث الشخصي لا يعنينا فسواء علينا أكان هذا أم ذاك، إنما الذي يعنينا هم أن ننصف شيوخ العربية وقد كاد يظلمهم بعض من تربوا في حجورهم وتثقفوا على أيديهم، وأن ننير تاريخ علم العربية. فإن كنت قد بلغت بعض ذلك فجدود ساعفت؛ وبحسبي أن أؤدي في هذا الكتاب ديناً في عنقي لقوم راحوا وخلفوا هذه الثروة العلمية في النحو والصرف واللغة والبلاغة
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة، وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير
محمد عرفة(225/78)
العدد 226 - بتاريخ: 01 - 11 - 1937(/)
الخريف في الريف
دعنا الآن من القاهرة! فبشرُها الباسم قد استسرَّ في قطوب الطبيعة، وشجرها الوارف قد اقشعر من رياح الخريف، وهدوءها الشاعر قد غاب في صخب الفتنة؛ وكأنما خفقت في جوها المستنير الصفو أبابيلُ سودٌ من طيور الليل!
دعنا الآن من القاهرة! فقد أصيب عِلمها بداء السياسة، ونُكب رأيها بتدليس الهوى، وامتُحن خُلقها بشهوة المنفعة؛ وكأنما فرغ القادة من جهاد الأجنبي ليشوي بعضهم بعضاً في حريق الوطن!
دعنا الآن من القاهرة! وتعال نرفه عن حواسنا وأعصابنا في سكون الريف الآمن، وفي كنف الفلاح المؤمن، حيث الهوى جميع، والخريف ربيع، والطبيعة الكهلة رُواء وغناء وسحر!
يقول (هوجو): (إن الخريف هو الربيع انبعث من القبر ناسياً حُلاه وحُلله) ولكن الخريف المصري في الريف هو الربيع الحق في نضرته وزينته وعطره؛ فبينا ترى الحقول المتصلة في بياض الدمقس أو صفرة النضار، يجردها سبتمبر من القطن الحريري الأشوك والرز العسجدي الهائج، إذا بها في خضرة السندس أو زرقة اللازورد يكسوها أكتوبر أعواد الذرة اللّفاء وقصب السكر الوريق ونبات البرسيم المؤزر؛ فأينما أدرت بصرك لا تجد إلا رياضاً شجراء من شراب وحب، ومروجاً فيحاء من زهور وكلأ. ثم ترى النيل في أعقاب فيضانه كذوب التبْر ينساب هادراً في الترع والقنوات، فيجعل من ضفاف الجداول، وحفافى الطرق، وحواشي الغيطان، سلاسل زبرجدية من الريحان والعشب. وتنزل على الفلاح المكدود سكينة الرضى والأمل، فينقلب شاعراً يتهادى في ظلال الذرة الخفاقة على مدرجة الطريق المخضوضر، وفكره مستغرق في الله الذي يضع البركة في غيطه، أو في المرأة التي تجلب السعادة إلى بيته
هاهو ذا بعد صيفه الجديب المجهد، يستنشي نسيم الراحة بين أولاده على مصطبة الدار، أو بين بهائمه على رأس الحقل، ويتربص بقطنه المخزون الثمن الربيح، ليقضي دينه فيستريح، ويزوج ابنه فيفرح، ثم يكسو عواري الأبدان (بالدبلان) و (الشيت)، ويمحو مرارة الأفواه بالرمان والبلح؛ وترى القرية بذكورها وإناثها تعيش من فسحة هذا الأمل، ودعة هذه الحياة، وبهجة هذه الحقول، في فيض من الرخاء والغبطة لا يسممه كيد، ولا(226/1)
تكدره منافسة
خريف الريف وربيعه يتفقان في الخصوبة والبهجة، ويختلفان في الحيوية والطبيعة. فبينا تجد ربيع أبريل ومايو موّاراً بالحياة، فواراً بالعاطفة، هداراً بالهتاف، يجعل من كل حي حركة لا تني ورغبة لا تخمد، إذ تجد ربيع أكتوبر ونوفمبر ساجي النهار، سجسج الظل، ساكن الطائر، ينفض على كل امرئ دعة الطمأنينة، وسكون التأمل، وروعة العبادة. فالمشية وئيدة الخطوات، والوقفة بعيدة النظرات، والجلسة طويلة الصمت، والشبان والشواب يتبادلون التحايا بغمز العيون وافترار الشفاه، كأنما هم وهنّ نشاوي من رحيق عجيب يعقد الألسن، ولكنه ينعش الروح، ويوقظ القلب، ويبسط المشاعر!
أي جمال أملك للنواظر والخواطر من جمال السماء الريفية وقد زينتها رياح الخريف بقزعات من الغيم الرقيق كأنها القطعان البيض ترتعي في المروج الخضر؟ هذه السماء بألوانها السحرية المختلفة التي تتعاقب عليها بتعاقب الساعات، تنطبق على أرض كرقعة الفردوس لا ترى فيها خلاء ولا عراء ولا وحشة، ولا تسمع فيها لغواً ولا تأثيماً إلا هتاف الطير الحائمة على أعذاق النخل اليانعة وسنابل الذرة النضيدة، وإلا شَدَوات الرعاة قد كوموا الحشيش أمام الماشية وتحلقوا حول النار المشبوبة يشوون عليها الأمطار والسمك، ثم يأكلون ويغنون في لذة وبهجة
عهدُنا بالريف في أيام الخريف أن يكون بنجوة من الهم وسلامة من الكآبة. فالأهراء طافحة بالحب، والمخازن مفعمة بالقطن، والغيطان كاسية بالزرع، والجيوب غنية بالمال، والنفوس رخية بالرجاء؛ ولكن ما بال فتيان القرية وفتياتها على غير ما نعهد: يمشون ساهمين، ويقفون واجمين، كأنما غاب عن كل عين حبيب، ومات في كل نفس أمل؟
ألا تراهم يا حسن يدافعون الأسى عن وجوههم ببسمات مكذوبة لا تخدع النظر عن الكمد الباطن؟
- ماذا يصنعون يا صديقي والدائن يقتضي (القسط)، والصراف يطلب (المال)، والمالك يريد (الإيجار)، والأسرة تبتغي (الكسوة)، والقطن وهو سداد هذا العوز كله يصبح عقدة المشكلة وغَلَق الأزمة؟ فثمنه البخس لا يفي بأكلاف زرعه، بَلْهَ ما يُحمل عليه من الأسباب، ويناط به من المنى(226/2)
هاهم أولاء بنوهم وبناتهم كانت أحاديث أحلامهم أن يتزوجوا في هذا العام الذي يتزوج فيه مليكهم المحبوب، تفاؤلاً بطالعه وتيمناً بجده، فرد هذا الكساد الموئس أحلامهم أضغاثاً وأطماعهم وساوس. فكيف تطمع مع ذلك أن ترى البسمة التي تعهد، وتسمع الأغنية التي تحب؟
فقلت له والأسف يغلب على صوتي وكلامي: مهما يكن من الأمر فإن خريفكم أجمل من ربيع الشعراء، وعبوسكم أنبل من بشر الكبراء، وغيمكم أفضل من صفو القاهرة
احمد حسن الزيات(226/3)
فلسفة الأسماء
للأستاذ عباس محمود العقاد
أقام السير رونالد ستورز طويلاً في القاهرة، واشترك في كثير من حوادث مصر والشرق الأدنى قبل الحرب العظمى وبعدها، وأعطى نفسه نصيباً وافياً من المتعة بالأدب والفنون ولاسيما الموسيقى والتصوير إلى جانب اشتغاله بالسياسة خافيها وظاهرها. وقد لقيته مرة أيام البحث في تحويل (الأوقاف) من ديوان إلى نظارة، وكان يومئذ (سكرتيراً شرقياً) لدار الوكالة البريطانية، فبدأنا الكلام بروايات برناردشو والنقد الإنجليزي الحديث، ثم استطردنا إلى أعمال الاحتلال والإدارة الوطنية فقال: أظن أن ديوان الأوقاف مختل لأنه المصلحة الوحيدة التي ليس عليها رقابة أجنبية! ولا أدري أكانت هفوة لسان منه أم كان سبراً لغوري واختباراً لمقدار ما يستبيحه من الأقوال والآراء على مسمع مني في صدد الأوقاف وتحويلها إلى رقابة الحكومة. فقلت له: إن المجلس البلدي الإسكندري أعظم اختلالاً من ديوان الأوقاف وهو مملوء بالرقابة الأجنبية. فاستدرك كلامه الأول وأخذنا في حديث آخر، وانصرفت وهو يقول بعد انصرافي للأستاذ حسين روحي الذي كان واسطة التعارف بينه وبيني: (صاحبك لا يزال في بداية الشباب)
ولم أره بعد ذلك، ولكني سمعت بمشروعاته الكثيرة ومنها ما حدثني به في تلك الزيارة، كإحياء صحيفة (المؤيد) وإنشاء بعض الصلات الأدبية والفكرية بين الغرب والشرق على أيدي المثقفين من الأوربيين والمصريين. ثم وصل إلينا في هذا الشهر كتابه الذي أسماه (تشريقات) أو مشرقيات، وضمنه تاريخ حياته في مصر وفلسطين وقبرس وبلاد العرب وغيرها من الأقطار الشرقية القريبة، فإذا هو كتاب حافل بالملاحظات واللمحات كما ينتظر من تعليقات رجل سياسي فنان حسن المراقبة للناس والمتابعة للحوادث والأحوال. ولقد أخطأ في بعض هذه الملاحظات واللمحات خطأ ربما ساقه إليه حب الزخرفة والتنميق. ولعلنا نعود إلى بيان بعضه في مقال آخر، ولكني أردت في هذا المقال أن أقف عند ملاحظة لاحظها على أسماء الخدم والخصيان في قصر الأميرة نازلي وغيره من القصور، وهي أنها محصورة في محاكاة الجواهر والرياحين قلما تخرج عنها، لأنني عنيت بهذه الأسماء في بعض الأوقات ودار البحث فيها بيني وبين أناس من المشتغلين بعلم النفس في(226/4)
المدارس المصرية العليا، فعللوها تعليلاً يخالف ما اعتقدت ولا يوافق المتواتر عن تاريخ الزنوج والعبيد
كنا في إحدى المكتبات العامة فدخل إليها خادم زنجي له اسم من أسماء الجواهر، فقال أستاذ واقف معنا: ألا ترون (مركب النقص يفعل فعله في أسماء هؤلاء الخدم؟ إنهم يشعرون بما لهم من بخس القيمة فيعوضونها بنفاسة الأسماء!)
وكان هذا التعليل يستقيم على ذلك الوجه لو أن الخدم الزنوج يختارون الأسماء لأنفسهم ولا يختارها لهم النخاسون والسادة الذين يشترونهم، ولكن الواقع أنهم يسمون بغير علم منهم، وعلى غير معرفة باللغة العربية ولا بأسماء الجواهر والرياحين فيها أو في غيرها
وإنما الحقيقة على ما يبدو لي أن رغبة السادة هي الملحوظة في التسمية لا رغبة العبيد والخدم المبيعين، ولهذا يقصرون تسمية العبيد على نوع من أربعة أنواع بين الأسماء: المقتنيات النفيسة وما شابهها من الرياحين الجميلة، أو ألفاظ التفاؤل، أو الشهور والأيام التي تم فيها الشراء أو تمت فيها الولادة، وإلا فكلمة عبد مضافاً إليها اسم من أسماء الله الحسنى كعبد الله وعبد الكريم وعبد الباسط وما يشعر بالتفاؤل والدعاء خاصة
فالخصيان والعبيد يسمون بجوهر وفيروز ومرجان وياقوت ولؤلؤ وألماس كأنهم قنية نفيسة يباهي بها صاحبها؛ ويلحق بهذا تسميتهم بريحان وكافور ونرجس كأنهم من أدوات التجمل والزينة في البيوت
فإن لم يكن هذا فهم يسمون بما يدل على التفاؤل والاستبشار بالخير بعد شرائهم، فيدعونهم بسعيد وبخيت وسرور وفرحات وقدم خير وخوش قدم وما إلى ذلك من ألفاظ التمني والرجاء؛ والملحوظ في ذلك هم المالكون كما أسلفنا لا العبيد والجواري
فإن لم يكن هذا ولا ذاك فأسماء العبيد تكثر فيها أسماء الأيام والشهور والمواسم مثل خميس وجمعة وشعبان ورمضان ومحرم وعيد وربيع، لأن مالكيهم حين يشترونهم لا يعرفون لهم سمة يسمونهم بها غير اسم اليوم أو الشهر الذي كان فيه الشراء
عنيت باستقصاء هذه الأسماء ودلالاتها في بلدي أسوان حيث تعيش جمهرة من الزنوج السود، وحيث يندر بيت لا يكون فيه عبد أو جارية من بقايا أيام الدراويش
ثم التفت إلى الأسوانيين أنفسهم فتبين لي من أسمائهم وحدها أن البلدة (عصبة أمم) عجيبة(226/5)
يلتقي فيها أناس ترجع أصولهم إلى جميع القارات ما عدا القارة الأمريكية، فمنهم من هو في أصله تركي أو كردي أو من فارس وأعلى العراق، ومنهم من هو عربي أو مغربي أو حبشي، ومنهم من هو مجري أو بشناقي أم من أهل البلقان، وبعضهم لا يذكرون هذه الأصول وإن دلت عليها حروف وإضافات في الألقاب
على أنني لم أكن أحفل بالدلالات الجغرافية والتاريخية كما كنت أحفل بالدلالات النفسية والاجتماعية، ففي هذه دليل أمتع من كل دليل على قرابة الإنسان وتشابه العقائد والخوالج بين البشر وإن باعدت بينهم البحار والصحاري وآماد الدهور
كنت أعجب لأناس يدعون بأسماء الكلاب والحشرات، وأحسب أنها ألقاب تحقير أطلقها عليهم الأعداء أو المتهكمون الماجنون ثم غلبت عليهم فعرفوا بها بدلاً من أسمائهم، ولكني علمت أن أسماء الكلاب والحشرات هي أسماؤهم التي دعاهم بها آباؤهم وأمهاتهم، وأن الآباء والأمهات قصدوا إلى ذلك قصداً ليعيش لهم أولئك الأبناء، كأنما يحقرونهم ويشبهونهم بالحيوان الأعجم والحشرة المهينة ليزهد فيهم الموت ويأنف من أخذهم إليه!
والعجيب أن هذه العقيدة كانت سارية في يونان القديمة ومصر القديمة والشرق القديم، ولا تزال سارية حتى اليوم في بعض القبائل الأفريقية التي تؤمن بالأرواح الشريرة وتخاف منها على أطفالها وصغارها، وتحصنهم منها بمحصنات شتى إحداها حقارة الأسماء أو بشاعتها. ولا شك أن اسم (معاوية) مثلاً وهي الكلبة التي تعاوي الكلاب يمت بصلة إلى هذه العقيدة، كما يمت إليها اسم هريرة وما إليه
ولحقارة الأسماء وبشاعتها سبب آخر غير تزهيد الأرواح الشريرة فيها، وذاك هو التخويف بها أو احترام (الطواطم) المعبودة حيث كان الأقدمون يتبركون بها ويعتقدون أن أسلافهم من سلالتها
ففي القبائل المقاتلة التي تعيش على الغارة ولا تزال في خوف من الإغارة عليها يسمى الرجل بما يكره الأعداء، وترى بينهم من يدعونه ذئباً أو أسداً أو حنظلة أو جمرة أو حرباً وما إلى ذلك من المخوفات والمنفرات
وفي القبائل التي تؤمن أو كانت تؤمن (بالطواطم) يسمى الرجل كلباً أو ثعلباً أو صقراً أو نسراً كما يتفق من أصول الطواطم القديمة الباقية بعناوينها وإن نسيها أبناء القبيلة(226/6)
ويقول السائحون بين القبائل التي على الفطرة إنهم يكرهون البوح بأسمائهم ويستريبون بمن يسألهم عنها، لاعتقادهم أن الاسم جزء من الإنسان من عرفه استطاع أن يسلط على صاحبه أرواح الشر والمرض واتخذه هدفاً يقذف عليه المتاعب والملمات. ونحن المتحضرين المحدثين نحسب أننا بعيدون مترفعون عن هذه الطبقة المسفة من طبقات العقول الآدمية، حتى نسمع (سحاراً) يسأل عن اسم المقصود بالسحر واسم أمه فنعلم أن المسافة بيننا وبين الفطريين أقرب مما نتوهم، ولاسيما في سراديب الظلام التي يهبط إليها من يهبطون ساعة الفزع أو ساعة الضغينة
ولا ريب أن حياة الأمة بين ماضيها وحاضرها تتمثل كثيراً في أسماء أبنائها؛ فنعلم أن الأقوام التي تنحصر أسماؤها في الظواهر الطبيعية سماوية كانت أو أرضية إنما هي أقوام فطرية لم تدرك من العلامات غير هذه الظواهر لتمييز الرجال والنساء، وأن الأقوام التي تظهر فيها أسماء الصناعات كالنجار والحداد والقصاب والزيات والعطار والعقاد قد تقدمت أشواطاً في الحضارة، وأن الأقوام التي تظهر فيها العناوين الاجتماعية قد عرفت بذخ الملك وألقاب التشريف ومراتب الطبقات، وأن الأقوام التي يذكر فيها الحرب والبطش والعداء قد درجت على الغزو ورعاية الماشية، والتي يذكر فيها الهدى والرشد والصلاح وأوصاف الفضائل قد أخذت بقسط من الدين وفلسفة الإخاء، وقس على ذلك ما تنم عليها معاني الأسماء وتراكيبها
بل ربما استطلعنا تاريخ الأمة السياسي من بعض الأسماء. فاسم (تفيدة) في مصر يدل على أن المصريين كانوا زمناً من الأزمان يتشبهون بالترك تشبه المحكومين بالحاكمين، إذ الاسم في أصله عربي صحفه الترك من (توحيدة) لأنهم ينطقون الواو فاء ولا ينطقون الحاء، فأصبح تفيدة ونقلناه نحن عنهم نقل المحاكاة
بل ربما عرفت الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الرجل من دلالة اسمه واسم أبيه، فالأغنياء مثلاً قلما يسمون أبناءهم بعبد الغني أو عبد الرزاق، والمثقفون قلما يسمون أبناءهم بالأسماء المنسوبة إلى أماكن وبلاد إلا لمناسبة مفهومة، فالرجل المثقف لا يسمي ابنه (حجازي) أو (حبشي) وهو لم يولد في الحجاز أو الحبشة أو في موسم حج وعلاقة حبشية، ولا يسمي ابنه (مرسي) وهو لم يولد في مرسية ولا في مكان إلى جوار المرسي(226/7)
أبي العباس وما شابه ذلك من المناسبات
وربما ألممت بقبس من تاريخ الأسرة وتكوين ذريتها إذا سمعت اسم رجل أو امرأة منها. . . فإذا سمعت في الصعيد باسم (قنعنا) فاعلم أنها اسم بنت لها أخوات ثلاث أو أربع، ويغلب أن تسمى إحداهن (رضينا) والأخرى (حمدنا) وهكذا مما يشف عن الغيظ وعن الخوف مع ذلك من التمرد والشكاية
ونحن نعرف أسماء كثيرة تكذب مسمياتها: حسن وهو دميم، وبدر وهو مظلم، وعزيز وهو ذليل، وصادق وهو كاذب، وسليم وهو شديد الإيذاء، ولكني لا أعرف اسماً يكذب مسماه أدل على المجون والظرف من اسم (قبيحة) جارية الخليفة (المتوكل) وقد كانت أشهر جواريه بالصباحة وروعة الجمال؛ ولخير ألف مرة أن يفاجأ الإنسان هذه المفاجأة من أن يترقب الحسن فيخيب رجاؤه بمرأى قبيح ومخبر لئيم. ومن سمع اسم (قبيحة) قنع بجمال يسير ليرضى ويبتهج، أما من سمع اسم (جميلة) فهو يحسب أنه مغبون مخدوع إن لم ير هذه الجميلة في الذروة العليا من الجمال
إن فلسفة الأسماء بحث ليست له نهاية، وفيما تقدم نموذج لمن يشوقه أن يسترسل فيه
عباس محمود العقاد(226/8)
المحفوظات التاريخية المصرية
متى تنظم بطريقة علمية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
عرضت لي منذ بضعة أعوام فرصة لزيارة دار المحفوظات المصرية بالقلعة، ولست أذكر الآن من زيارتي سوى ممرات حجرية ضيقة تفضي إلى غرفة عتيقة شاسعة قد طرحت فيها الأوراق الصفراء أكداساً على الأرض، وغصت جنباتها وزواياها برزم متناثرة من الوثائق القديمة؛ ولم يكن يومئذ بالدار سجلات أو فهارس منظمة، ولم تكن تعرف محتوياتها بالضبط ولم تلفت محتوياتها حتى اليوم أنظار الباحثين
وفي أواخر هذا الصيف زرت دار المحفوظات النمسوية بمدينة فينا، وترددت عليها مراراً لمراجعة بعض الملفات والوثائق التي تتعلق ببعض مباحثي فدهشت لما رأيت من دقة التنظيم وحسن التنسيق وسهولة البحث والمراجعة، وشهدت كيف يستطيع الباحث أن يعمل في جو من النظام والترتيب، وكيف يتاح له أن يظفر في الحال بما يطمح إلى مراجعته من الوثائق والملفات، منسقة مصنفة طبق الموضوعات والتواريخ، مدونة في سجلات دقيقة تدل في الحال على ما فيها، وترشد الباحث إلى غايته بأيسر أمر
وقصدت أيضاً إلى دار مجموعة الصور التاريخية النمسوية - وهي من أعظم المجموعات العالمية في نوعها - لأشاهد صوراً لبعض الشخصيات التاريخية، ولأستأذن في نقلها، فقدمت إليّ الصور المطلوبة في دقائق معدودة، واخترت في الحال للنقل منها ما شئت؛ ذلك لأن هذه المجموعة الحافلة قد نظمت بمنتهى الدقة ورصدت محتوياتها مرتبة وفق العصور والتواريخ والأسماء، ويكفي أن يلقي الموظف المختص على السجل المعين نظرة ليعرف في الحال إن كانت الصور المرغوبة ضمن المجموعة، وليستخرجها في الحال من مكانها
أعجبت بهذا النظام الدقيق الذي يوفر على الباحث كثيراً من الوقت والعناء، وذكرت في كثير من الأسف ما انطبع في ذاكرتي من مناظر دار المحفوظات المصرية، وكيف أن هذه الدار التي تغص جنباتها العتيقة بكثير من وثائق التاريخ المصري في مختلف عصوره - ولاسيما العصر التركي وعصر محمد علي - لا زالت بحالتها الساذجة، وأكداسها المختلة المجهولة مغلقة على البحث والتحقيق(226/9)
إن لدور المحفوظات مهمة من أجل المهام التاريخية والعلمية فهي مستودع الماضي وسجلاته ومستودع وثائقه السياسية والدينية والاجتماعية؛ وهذه السجلات والوثائق هي أهم مصادر المؤرخ والمحقق، وهي أصدق الدلائل على أحوال عصرها لأنها تصطبغ غالباً بالصبغة الرسمية، ومنها الوثائق الملوكية والإدارية والعسكرية ومنها الوثائق والمعاهدات الدولية المختلفة؛ ثم هناك الوثائق السرية التي لم تعرف في عصرها، وهي أنفس ما في دور المحفوظات، تتلقاها من مكامنها في عصر متأخر أو تحتفظ بسريتها فترة من الزمن حتى يختتم العصر الذي صدرت فيه ويختتم آثاره؛ وتقدر هذه الفترة عادة بخمسين عاماً، تعرض بعدها هذه الوثائق لأنظار البحث والتحقيق؛ وفي دور المحفوظات الأوربية كنوز من الوثائق المختلفة الملوكية والإدارية والدولية التي ترجع أحياناً إلى عصور متأخرة، والتي تلقي أعظم ضوء على تواريخ الأمم الأوربية وعلائقها في مختلف العصور
ولنا في دار المحفوظات النمسوية التي حظينا بالتردد عليها ووقفنا على بعض محتوياتها ونظمها خير مثل لما يمكن أن تؤديه المحفوظات المنظمة من خدمات جليلة للبحث والتحقيق؛ فهذه الدار التي يرجع تأسيسها إلى نحو قرنين، والتي تشكل الآن جناحاً كبيراً من دار وزارة الخارجية، تعتبر من أهم مصادر البحث والتحقيق في شئون التاريخ الأوربي منذ القرن الرابع عشر؛ ويطلق على الدار اسم (محفوظات الأسرة والبلاط والدولة) , - دلالة على صفتها الشاملة، فهي مستودع محفوظات الأسرة أعني أسرة آل هبسبرج، ومحفوظات البلاط، ومحفوظات الحكومة والدولة، وبها مجموعات هامة من الوثائق الملوكية والسياسية والإدارية والدولية، وبها على الأخص طائفة كبيرة من الوثائق السرية التي تتعلق بأعمال المجلس السري أو مجلس البلاط الخاص، وقد نظمت محتوياتها في مراحل متعاقبة تشمل جميع عصور التاريخ النمسوي والتاريخ الأوربي العام حتى سقوط الإمبراطورية النمسوية في سنة 1918، ويرجع أقدم أقسامها إلى عصر القيصر فرديناند الأول في أوائل القرن السادس عشر، وتشمل الوثائق السياسية والدينية والإدارية والعسكرية عصور التاريخ الإمبراطوري حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية المقدسة في سنة 1806؛ وأهم أقسامها بلا ريب هو مجموعة وثائق مجلس الدولة السري ومجلس البلاط الخاص، والمجلس الاستشاري، وهي الهيئات الثلاث التي كانت تشرف منذ أواخر(226/10)
القرن السادس عشر على شئون الإمبراطورية، وتحدث بأعمالها وسياستها أعظم الأثر في مجرى السياسة الأوربية، وفي هذا القسم طائفة كبيرة من وثائق التاريخ الأوربي العام، وبه على الأخص مجموعة نفيسة من وثائق عصر الوزيرين الشهيرين كاونتز وزير الإمبراطورة ماريا تيريزيا، وقرينه ماترنيخ أعظم شخصية سياسية في التاريخ الأوربي في أوائل القرن التاسع عشر؛ ثم هنالك قسم المحفوظات السياسية، وهو يحتوي على مجموعة عظيمة من الوثائق التي تتعلق بالسياسة الداخلية والسياسة الخارجية، والمراسيم والبروتوكولات المختلفة، والمعاهدات والاتفاقات والمكاتبات الدولية، ولاسيما خلال القرن التاسع عشر، ووثائق الحكومة القيصرية منذ عصر ماريا تيريزيا حتى سقوط الإمبراطورية في سنة 1918، ثم قسم الوثائق الدستورية، وهو يضم مجموعات مختلفة من أوراق المجالس الإمبراطورية والمحلية حتى العصر الأخير. ولوثائق الأسرة، أعني أسرة آل هبسبورج قسم خاص يضم كثيراً من الوثائق والأوامر والتقارير الخاصة بالقياصرة وأعضاء الأسرة بوجه عام؛ وكذلك للبلاط قسم خاص يضم الوثائق المتعلقة به وبهيئاته المختلفة؛ وأخيراً يوجد ثمة قسم خاص للوثائق والمجموعات العلمية والتاريخية التي يهبها كبار العلماء والهواة إلى دار المحفوظات
وقد أفردت دار المحفوظات النمسوية معرضاً خاصاً لطائفة من التحف والوثائق التاريخية النادرة، يضم عدة مخطوطات لاتينية وقوطية قديمة، وقرارات إمبراطورية ترجع إلى عصور متأخرة وعدة معاهدات ومكاتبات تاريخية شهيرة رأينا من بينها مكاتبة طويلة من السلطان سليمان خان إلى القيصر، يلقب فيها (بسلطان سلاطين الشرق والغرب، صاحب ممالك روم وعجم وعرب. . الخ) وصورة معاهدة تركية نمسوية عقدت سنة 1189هـ بشأن تنظيم الحدود بين الدولتين، ومعاهدة أخرى صادرة من السلطان عبد المجيد خان، وقرارات مؤتمر فينا الشهيرة الذي نظمت فيه حدود الدول الأوربية وأحوالها عقب سقوط نابوليون وعليها توقيعات أعضاء المؤتمر، وغير ذلك من التحف والوثائق التاريخية النادرة.
ولنعد بعد ذلك إلى دار المحفوظات المصرية فنقول إنه من أشد بواعث الأسف أن تبقى هذه الدار على حالها من الخلل والفوضى، وأن تبقى بذلك مغلقة دون البحث والتحقيق،(226/11)
وإذا كانت محتويات هذه الدار لم تعرف بعد بطريق الحصر الدقيق؛ فإنه لا ريب أن هذه الأكداس المبعثرة من الأوراق والوثائق التي تغص بها أركانها وجنباتها، تضم كثيراً من الوثائق التاريخية والسياسية والإدارية الهامة ولاسيما في أواخر العصر التركي وعصر محمد علي؛ وإنا لنذكر بهذه المناسبة أن المغفور له الملك فؤاد الأول كان قد اهتم بأمر هذه المجموعة منذ أعوام، وندب لها بعض الموظفين الذين يعرفون التركية لنقل ما فيها من الوثائق التركية إلى العربية، ولسنا نعرف ماذا تم في أمرها بعد، وهل حققت أمنية الملك الراحل على نحو مرضي، وهل بدأ القائمون بأمر هذه الدار بتنظيمها وحصر ما فيها في سجلات منظمة تدل على ما فيها؛ ذلك أن الوقت قد حان لأن يكون لنا دار محفوظات منظمة على أمثال دور المحفوظات الحديثة، تصنف محتوياتها بأسلوب علمي طبق العصور والموضوعات، وتحمل إليها أشتات الوثائق والأوراق القديمة المبعثرة في مختلف المصالح والجهات، وتعرض محتوياتها لأنظار الباحثين والمحققين، تمدهم بمواد وحقائق جديدة تؤيدها الأدلة والوثائق التي لا ريب في صحتها
ونحن نعرف أن دار الكتب المصرية تضم طائفة كبيرة من أوراق البردي ومن الوثائق التاريخية، ومنها أعلام شرعية وحجج أوقاف ومراسيم إدارية قديمة وغيرها، وقد عهدت دار الكتب أخيراً إلى أحد العلماء الأجانب بتنظيم مجموعتها من أوراق البردي وتنظيمها وتصنيفها في كتاب خاص؛ وأما الوثائق الأخرى فهي مبعثرة في فهارسها لا تجمعها رابطة ما؛ كذلك يوجد في محفوظات وزارة الأوقاف، والمحكمة الشرعية العليا، وبعض المصالح الحكومية الأخرى أوراق ووثائق تاريخية قديمة في غاية الأهمية، وهذه كلها مهملة تبلى في ظلمات الأروقة الرطبة، ولا يكاد ينتفع أحد بمراجعتها إلا في ظروف شخصية نادرة. فمن الواجب أن تجمع هذه الأشتات كلها في دار محفوظات عامة تكون مرجع البحث العام؛ ومن المحقق أننا سنظفر من ذلك بتراث جليل، لا يقل في أهميته ونفاسته من الناحية القومية عما تحتفظ به دور المحفوظات العامة في الأمم الأخرى
لقد نشأت دار الكتب المصرية في ظروف متواضعة، وبدأت بثروة أدبية قليلة حملت إليها من بعض المساجد والمجموعات الخاصة؛ وهاهي ذي اليوم ولما يمض على إنشائها نحو نصف قرن تغص بتراثها الزاخر من مخطوط ومطبوع، وتتبوأ مكانة بين دور الكتب(226/12)
العالمية؛ فلنبدأ بإنشاء دار محفوظات مصرية منظمة تقوم إلى جانب دار الكتب، وتعاون البحث والتحقيق من جانبها، وتمد المؤرخ المصري بمادة جديدة نفيسة، ونحن على يقين من أنه لن تمضي فترة يسيرة حتى تغدو دار المحفوظات المصرية، كما غدت دار الكتب، مقصد العلماء والباحثين من جميع الأنحاء
(الباخرة كوثر في 24 أكتوبر)
محمد عبد الله عنان(226/13)
الوحدة
للدكتور إبراهيم مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
شبح يهولنا اسمه، ويزعجنا رسمه؛ مع أنا لو عرفناه لألفناه، ولو خبرناه لتعشقناه؛ ووحشة نفر منها فرارنا من الخطر الداهم، أو العدو المهاجم، ولو ثبتنا لها في صبر وجلد لكسبنا المعركة وأصبحنا بوحدتنا سعداء؛ وعزلة قد يضيق لها الصدر، وتنقبض النفس، ولكنها عادة لا يمكن أن تكتسب إلا بشيء من الدربة والمران؛ ورياضة لا تخلو من مجهود أو عناء. وكيف لا تكون مجهدة وهي تقف حجر عثرة في سبيل بعض الغرائز الكامنة، وتحرم الفرد من لذائذ المجتمع ومغرياته الخادعة، فتحول دون غريزة حب الاجتماع وسد حاجتها، وتعارض صلات القرابة والمودة في امتدادها وانبساطها؛ بيد أنها في كل هذه أشبه ما يكون بالدواء الممض يتعاطاه المريض لما يرجوه بعده من برء وشفاء
حقاً إن الوحدة طب للنفوس وعلاج للأرواح، نستطب بها من ويلات المجتمع وآلامه، فتقينا ولو زمناً لهيب الحقد والحسد وسموم القيل والقال، وتبعدنا ولو إلى حين عن مظاهر الشره والجشع وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فلا تقع العين على وجوه شاكية، ولا تسمع الأذن أصواتاً باكية، ولا يقر اللسان مكيدة، ولا تقاسم اليد في جريمة، ولا تسعى القدم إلى خطيئة. وقديماً قالوا تشفي الوحدة من المجتمع بقدر ما يشفي المجتمع من الوحدة. وبالوحدة نداوي كذلك أمراض القلب والروح ونعالج أنفسنا بأنفسنا، فنخرج من زمرة الأهل والأخوان وتيار الحياة الهائج المائج إلى حيث السكون والتأمل، ونبدد تلك السحب الكثيفة التي نسجتها الجمعية حولنا، والأضواء البراقة التي تعشى لها أبصارنا لنرى بعين الحقيقة والاعتبار. ولم تكن الوحدة عبادة إلا لأنها توبة وندم وتهذيب وتطهير
وقد عرفت لها الأديان هذه المنزلة فدعت إلى الخلوة والاعتكاف الذي لا يراد به مجرد أوراد تتلى أو أناشيد يترنم بها، بل يُقصد أن تُعرض صفحة الحياة على بساط البحث وتعقد محكمة الضمير في جو هادئ ساكن وتقضي بقضائها العادل إن بالبراءة أو الاتهام. وما أحوجنا إلى هذه الرقابة وهذا الحساب الدقيق دون انقطاع! ولكن جد الحياة ولهوها وحلاوة العيش ومرارته تصدفنا عن ذلك وتلقي بنا في بحر لجي لا سكون فيه ولا اطمئنان. ونحن(226/14)
فوق هذا مولعون بستر هفواتنا وتغطية زلاتنا، نسترها على الناس وعلى أنفسنا، ونتجاهلها وكل الأدلة قائمة عليها: مغالطة مدهشة وصلف كاذب وغرور غريب. وإنك لترى الفرد يأتي أمراً يأباه العرف وينكره الدين، فيسارع إلى أن يعد نفسه في صف المحافظين على التقاليد والمتدينين طمعاً في أن ننسى فعلته وتخفى خطيئته. وقد نفهم هذا التصنع إن أراد أن يرضي به من حوله؛ فأما أن يخدع به نفسه فتلك حماقة حمقاء وغفلة عمياء؛ وما منا من أحد إلا لاحظ أنه إذا حاسب نفسه على ذنب ارتكبته، أو إثم اقترفته، عز عليها هذا الحساب، وقد تأبى وتستكبر وتشرد وتجمح. وكثيراً ما تفر إلى المجتمع لتنزوي في ركن من أركانه وتضل في منعرجاته وعطفاته. والجناة والمجرمون أنفر الناس من العزلة والوحدة وأرغبهم في الجلبة والضوضاء التي تخدر أعصابهم فلا يحسون ولا يشعرون. فلم يكن بد من أن تستثيرنا التعاليم السماوية إلى الخروج من هذا التجاهل المزري والتنكر المرذول
والتصوف وهو فلسفة الوحدة يرى أن علاج الروح لا يتم إلا إن شخص الإنسان أدواءه بنفسه، ووقف على عيوبه مباشرة وبدون واسطة، ثم تعهدها بالتقويم والإصلاح. ويعتقد أن المرء أقدر على هذا التقويم إذا خلا إلى نفسه وخلص من شو اغله؛ فإنه يلتقي بحسناته وسيئاته وجهاً لوجه، ولا يجرؤ على المبالغة في الأولى ولا على إنكار الأخرى. وإذا صح أن الطبيب هو الذي يقود المريض نحو طريق البرء والعافية، فلاشك أن المريض هو الذي يقطع هذا الطريق بقدميه. على أنه لا يكاد يوجد طبيب يستطيع أن يتكهن بعلة قبل أن يعرف ظروفها ومكوناتها، ولا أن يصف دواء قبل أن يقف على حقيقة الشكوى وموضع الألم. فإذا أضحى العليل آسياً كان أعرف الناس بعلته وأقدرهم على علاجها. لهذا تعشق الصوفية الوحدة، وحببت إليهم الخلوة التي يستطبون فيها من آلامهم ويداوون أمراض نفوسهم. حقاً إنهم ينشدون وراء الفراق تلاقياً، ويأملون بعد الهجر وصلاً، ويرجون في الوحشة أنساً، ولكنهم لن يصلوا إلا عن هذا الطريق الوعر والمسلك الصعب. فالوحدة وسيلة لتهذيب النفوس والأرواح وسلم الوصول إلى الغبطة والسعادة
وليس أثرها مقصوراً على الروح فحسب، بل يتعداها إلى العقل. ففيها تنضج الأفكار وتختمر الآراء وتتمحص الحقائق؛ وفوق سطحها الهادئ تنفجر ينابيع الحكمة، ومن سمائها(226/15)
الصافية تتنزل آيات النور والمعرفة. فلولاها ما نعمنا بكثير من الأدب الرائع والخيال العذب والشعر الرقيق؛ وفي غير جوها لا يستطيع أن يتوفر عالم على فرض يحققه، أو فيلسوف على نظرية يناقشها ويحللها؛ وبدونها لا يجد السبيل مصلح إلى وضع نظمه السديدة ومبادئه القويمة. وإذا تتبعنا تاريخ الأنبياء والعظماء والقادة والمصلحين والفلاسفة والمفكرين وجدنا أن أشدهم تعلقاً بالمجتمع وشئونه أرغبهم في ساعات خلوة يدبر فيها ما اضطلع به من مهام جسام. ولئن كانت الجمعية تمدهم بقدر كبير من الغذاء العقلي فهم في مسيس الحاجة إلى ساعات فراغ يمثلون فيها هذا الغذاء، ويتعهدون هذه البذور لتخرج للناس أينع الثمرات. ففي ردهات الأكاديمية ومتنزهات الليسيه أخرج أفلاطون وأرسطو أكمل وأتم فلسفة عرفت في التاريخ القديم. وفي غار حراء أعد (محمد) صلى الله عليه وسلم نفسه لقبول الوحي الإلهي والتعاليم السماوية. ولولا خلوات العلماء اليوم المستمرة وعزلتهم في تجاربهم الدائمة ما خطا العلم خطوة واحدة إلى الأمام. وهاهو ذا بعض الساسة المعاصرين يحتذي حذوهم، ويسير على سننهم؛ فإذا ما حز به أمر لجأ إلى نفسه فاستفتاها في غير جلبة ولا ضوضاء. ففي الخلوة صفاء عزّ أن يتوفر في المجتمع؛ وفيها ضياء إن مرت به سحب حياتنا الصاخبة خسفته. وفي العزلة تفكير وروية ونظر وتأمل لعل جيلنا الحاضر الذي انغمس في بحار المادية أحوج ما يكون إليها
هذه هي الوحدة في أثرها الروحي والفكري والأخلاقي والعقلي. وهنا نتساءل: هل نحن نقدرها قدرها ونتعلق بأهدابها؟ وهل يعنى الكثيرون منا بلحظات فراغ يطمئنون فيها إلى أنفسهم ويركنون إلى أشخاصهم؟ وهل عوائدنا وتقاليدنا تحترم ساعات الوحدة والانفراد؟ لا أظن؛ فإن المقاهي والأندية تأكل نصف أعمارنا أو يزيد، وبيوتنا مبغضة إلينا كل البغض فلا نقصدها إلا للنوم أو الطعام أو الشراب. وقد يصل الأمر بالطالب أن يذاكر دروسه على قارعة الطريق، وبالأستاذ أن يحضر أعماله في مجتمع الإخوان، وبالقاضي أن يدرس قضاياه في ناد عام. وكأننا نأبى إلا أن نفكر جهرة كما أن نتكلم جهرة، وأن نشترك في كل شئ لأنا لا نحسن الاستقلال بشيء، وإذا ما شاء أفراد أن ينظموا أوقاتهم ويخلصوا إلى أنفسهم ساعة أو ساعتين كل يوم عدا عليهم الزوار فقصدوهم على غير موعد، وأطالوا مكثهم لديهم. وبذا أصبحنا لا يشعر واحد منا أن وقته ملكه بحال(226/16)
إبراهيم مدكور
كلية الآداب(226/17)
التشريع والقضاء في العهد الفرعوني
للأستاذ عطية مصطفى مشرفة
- 2 -
أثر القانون الحمورابي في قانونهم القديم
يعتبر القانون الحمورابي منبعاً استقى منه القانون المصري القديم بعض مواده، فالشريعة البابلية من أقدم شرائع العالم وهي أقدم من شريعة موسى بل تتقدمها بعدة قرون. وقد عرفت تلك الشريعة باسم شريعة حمورابي نسبة إلى الملك (حمورابي) سادس ملوك بابل الذي عاش حوالي سنة ألفين ق. م
ويقول المؤرخون بأن الملك (حمورابي) بعد أن دون عادات بلاده وضعها في مواد شملت المسائل التجارية والمدنية والجنائية، وأنها كانت في مستوى أرقى مما كانت عليه قوانين البلاد الأخرى، فكان مما نصت عليه (الوراثة) فجعلت مال المتوفى ينتقل بأكمله إلى ورثته، وبذلك وضعت للشرائع الأخرى الحجر الأساسي لكيفية انتقال الحقوق إلى الغير، وجعلت للموهوب له ملكية ما وهبه إليه الواهب. ويكفي الشريعة الحمورابية فخراً أن الشرائع السماوية جاءت ببعض المبادئ التشريعية الموجودة إذ ذاك فيها، فقد جعل حمورابي بعض مواد شريعته وفق قوله تعالى: (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) فالله تعالى قد كتب على المسلمين القصاص في القتل والجروح كما كتبه على بني إسرائيل من قبل، فقال تعالى: (النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) فقد كانت شريعته تنص على أنه (إذا سمل أحدهم عين حر تسمل عينه، وإذا كسر أحدهم عضو حر يكسر له عضو، وإذا خلع أحدهم سن رجل من طبقته تخلع سنه)
ومما هو جدير بالذكر أن حمورابي فصل السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية وعهد بالقضاء إلى من يتخرج في مدرسة التشريع في بابل
ولما ساءت الحالة السياسية في بابل بعد موت ملكهم (حمورابي) واشتدت المظالم وعمت الفوضى البلاد، هجرها كثير من العلماء نفوراً من الضيم واستوطنوا بعض الممالك(226/18)
الأخرى ثم نشروا ثقافتهم وتشريعهم وعلمهم بتلك الممالك؛ وكان حظ مصر من تلك الشريعة الحمورابية وفيراً، إذ استوطن بعضهم البلاد المصرية ونشروا فيها حضارتهم البابلية، ثم ضرب المصريون بسهم وافر في التشريع وأدخلوا في تشريعهم تعديلات جمة وافقت روح عصرهم، وبذلك بذوا أساتذتهم الحمورابيين وعلوا بالتشريع المصري علواً كبيراً، وخصوصاً عندما أنشئوا مدارس التشريع في طيبة وغيرها لتغذي القضاء بنوابغ المشترعين
أثر القانون المصري القديم في القانونين الإغريقي والروماني
تدل الاستكشافات الأثرية والمباحث العلمية الحديثة على أن اليونان والرومان يدينون لمصر بكثير من المبادئ القانونية؛ فمنذ أوائل العصر التاريخي هبط مصر، بفضل الصلات البحرية والتجارية، بعض علماء اليونان مثل فيثاغورس وهيرودتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ودرسوا نظمها وقوانينها. كذلك حضر إلى مصر عام 559 ق. م المشرع الإغريقي صولون، فلما عاد إلى بلاده أدخل في تشريعها ما اقتبسه من مجموعة قوانين بوخوريس وأدمجه في قانون صولون الذي وضع في أثينا في مبدأ القرن السادس ق. م ومما أخذه المشرع صولون من قانون بوخوريس مبدأ أن المدين لا يجوز حبسه، لأن التنفيذ يجب ألا يتعدى مال المدين ويتجاوزه إلى شخصه. وقد أخذ صولون من قانون أمازيس أحد ملوك الأسرة السادسة بعد العشرين فكرة معاقبة كل متعطل ومن مالت نفسه إلى الراحة وعدم العمل فيما يدر عليه من المال الحلال ما يسد به رمقه وحاجات أسرته
كذلك اقتبس الرومان الكثير من القوانين المصرية وأدمجوها في قانون الألواح الأثني عشر الذي وضع في روما في منتصف القرن الخامس ق. م فقد أثبت العالم الفرنسي الأستاذ ريفيو وهو ممن وقفوا حياتهم على دراسة القوانين عند الأمم القديمة أن القوانين الرومانية ترجع إلى القوانين التي وضعها قدماء المصريين، إذ أن قانون الألواح الأثني عشر الذي هو أساس القوانين الرومانية مستقى من القوانين المصرية وأنه لا يتيسر معرفة كنه القوانين الرومانية ولاسيما المدنية منها إلا إذا فهم الإنسان أصولها التي وضعها قدماء المصريين فقد قال الأستاذ ريفيو ما تعريبه (إن المبادئ القانونية البحتة التي نص عليها(226/19)
قانون الألواح الأثني عشر مأخوذة من القوانين التي وضعها قدماء المصريين) وعندما هبط رسل روما بلاد اليونان لتحضير قانون الأثني عشر لوحاً أخذوا كثيراً من قانون صولون اليوناني الذي وضع في أثينا في أوائل القرن السادس ق. م وقد نقل الرومان عن القوانين المصرية طريقة التعاقد الشفاهية التي كانت تتم عند المصريين في جميع عقودهم بقسم أي صنك يصدر من المتعهد للمتعهد له بأنه سيؤدي إليه ما اتفقا على أدائه، وقد أطلق الرومان على هذا الشكل من التعاقد فيوجه المتعهد له للمتعهد القسم بقوله أتقسم - فيجيب المتعهد أقسم وكانت تشبه طريقة التعاقد هذه ما يسمى عند الرومان بالـ
كذلك أخذ الرومان عن المصريين طريقة تحرير العبيد بواسطة محاكم دينية أعدت خصيصاً لذلك، كما شرع (أمازيس) طريقة الإشهاد بالميزان في كافة العقود الناقلة للملكية ولاسيما في البيع والتبني، وهي الطريقة التي نقلها الرومان في تشريع الألواح الاثنى عشر. لذا يمكننا أن نقول بحق أن القانون الروماني قد أخذ أيضاً مبادئ كثيرة عن القوانين المصرية في مختلف العصور بعد صبغها بصبغة رومانية. ولا غرو فقد بلغت القوانين المصرية إذ ذاك من الرقي ما جعل ديودورس الصقلي - وهو مؤرخ يوناني عاش في القرن الأول قبل الميلاد - يقول عنها: (إنها كانت جديرة بالإعجاب وأعجب بها العالم فعلاً)
القضاء عند قدماء المصريين
تبعاً لسنة التقدم الاجتماعي وتنوع الصلات الاجتماعية والاقتصادية وتهذيب الأفكار والنفوس شعر قدماء المصريين منذ القدم بحاجتهم لقاض يفصل في خصوماتهم ويحمل في يده ميزان العدل فيقر الحقوق في نصابها ويرفع الظلم ويدفع الأذى ويستخلص حق الضعيف من القوي؛ غير أن النظام القضائي في العهد الفرعوني يشوبه بعض الغموض لسببين: أولهما قدم عهده، وثانيهما قلة المصادر التي كتبت عنه؛ غير أنه مما لا جدال فيه أنه كان للملك كل السلطة العمومية إدارية وقضائية، بل كانوا يؤلهونه ويقدسونه ويحترمونه احترام العبد للسيد، ويعبدونه في حياته ومن بعد مماته، ويسمونه بأسماء الآلهة، فهو المحيي الدائم، وهو الإله الرحيم، أو الإله الأعظم، إلى غير ذلك
كان هذا الفرعون إذن خليفة الإله وظل الله في أرضه؛ فهو رئيس الديانة وحامي الدين(226/20)
والمدافع عن الوطن وأراضيه، وهو السيد الآمر الناهي في جميع مرافق البلاد، فهو رئيس الدولة ومصدر جميع سلطاتها وكان يستمدها من الآلهة رأساً
كان الملك يباشر القضاء إما بنفسه وإما بواسطة موظفيه الدينيين أو المدنيين. ولم يكن هؤلاء القضاة منقطعين لأعمالهم القضائية، بل كان بعضهم من الكهنة وبعضهم من كبار العلماء يختارهم الملك للقضاء مضافاً ذلك إلى وظائفهم. وكان للملك الرأي الأعلى في القضاء بالرغم من أنه كان يسمح لغيره بالفصل فيه. وكان لأي فرد من رعايا الملك أن يطلب الإنصاف منه إذا ظلم، فيعيد الملك النظر في القضية ويفصل فيها بنفسه. وكان للملك الحق المطلق في النظر والفصل في القضايا؛ وله أن يستعمله بنفسه أو ينيب غيره فيه بناء على التماس يرفع إليه من المتظلمين عن حكم اعتبروه جائراً وقد فصل فيه غيره. وكانت هذه الحالة الأخيرة هي الشائعة، فكان الملك لا يجلس للقضاء في الأكثر إلا إذا اشتكى أحد رعاياه من الحكم الصادر عليه وطلب منه التدخل
كانت مصر مقسمة إلى عدة أقاليم يدير شؤون كل منها رئيس هو حاكم الإقليم ونائب الملك فيه؛ وكانت له كل السلطة العمومية من إدارية وقضائية على جميع أنحاء إقليمه. وكان إذا جلس للقضاء وجب عليه أن يشرك معه مجلساً مكوناً من قضاة يعينهم الملك؛ وكان لهذا المجلس بعض المدونين. وانقسم كل إقليم إلى مراكز عدة، وانقسم كل مركز إلى عدد من المدن والقرى تكوّن جملة نواح؛ وكان في كل ناحية محكمة يختار قضاتها من أهلها وتنظر في القضايا البسيطة، وكانت أحكامها قابلة للنظر فيها من المحكمة العليا التي كان مقرها عاصمة القطر، فلم تكن السلطة التنفيذية إذن مستقلة عن السلطة القضائية، فالوزير الأكبر كان رئيس الحكومة، وهو في ذات الوقت رئيس المحكمة العليا وله سلطة القضاء في المملكة. كذلك كان حكام الأقاليم رؤساء لمحاكمها. وكان الحكم يصدر متوجاً باسم الملك؛ وكان يطلق على القضاة لقب (ساب) وكانت وظيفة القاضي يرمز لها بالهيروغليفية بصورة ابن آوى. وكان القضاة يؤدون قسماً يلزمهم الطاعة لجميع أوامره متى كانت عادلة. وكانت القوانين تسجل في دار العدل ويعتبر تسجيلها في هذه الدار بمثابة نشر لها، إذ بمجرد تسجيلها تسري على أهل البلاد. أما المراسيم فكانوا لا يسجلونها في دار العدل، بل كانت تنفذ بمجرد ختمها بخاتم الدولة(226/21)
كان القضاة في زمن الفراعنة من القسس المتخرجين في مدارس التشريع في معابد منفيس وطيبة وآن (أو عين شمس) وكانت المحكمة الكبرى بمدينة طيبة تؤلف من ثلاثين قاضياً يختارون من فطاحل الكهنة المتضلعين في المسائل القانونية، بنسبة عشرة عن كل مدينة من تلك المدن الثلاث، وأعطيت الرياسة لأكبرهم سناً، كما منح الرئيس مرتباً أكبر من بقية إخوانه القضاة. وكان على معبد المدينة الذي ينتخب الرئيس منه أن يرسل إلى المحكمة بقاض آخر حتى يصير عدد القضاة في المحكمة بما فيهم الرئيس واحداً وثلاثين قاضياً. وكان رئيس المحكمة الكبرى إذا جلس للحكم بين الناس يضع في عنقه سلسلة ذهبية معلقاً بطرفها حجر كريم على شكل تمثال إله العدل (ما) أو (معت)؛ وكان يدير هذا التمثال على الأعضاء عندما يدلي كل برأيه، فإذا تم ذلك نطق الرئيس بالحكم. وكانت توضع على منصة القضاء أثناء انعقاد الجلسات ثمانية مجلدات ضخام تحوي كل القوانين المصرية القديمة
وكانوا ينتخبون قضاتهم ممن وسعت تجاربهم وعظمت معلوماتهم الدينية والدنيوية وكثرت ثقافتهم العلمية، وكانت أحكامهم محترمة ونافذة. أما مرتبات القضاة فكانت تصرف لهم من خزينة الملك وقد كثرت أنواع المحاكم عندهم بحسب اختصاصها فوجدت المحاكم الأسرية أو المنزلية التي كانت لا تتناول إلا المسائل البسيطة، وكان قاضيها رئيس الأسرة الذي خول السلطة التأديبية على جميع أفرادها. وكما وجدت المحاكم المدنية عند قدماء المصريين ذات الدرجات الثلاث: جزئية بالقرى والمدن، وابتدائية بعواصم الأقاليم، واستئنافية بعاصمة الدولة، كذلك وجدت المحاكم العسكرية والقضاء الإداري الذي كان يصل بين الأفراد والجهة الإدارية كالمنازعات التي تقع بين دافعي الضرائب وبين الموظفين المكلفين بجبايتها. كذلك وجد القضاء الجنائي بنوعيه العادي الذي يفصل في قضايا الأفراد، وغير العادي الذي ينظر في الجرائم التي تمس الملك أو الدولة بصفة عامة؛ وكانت تتولاه المحكمة الخاصة، وكان يدخل ضمن تشكيلها نفر من رجال الجيش. وكان القضاء الجنائي العادي على درجتين: الدرجة الأولى محكمة المدينة أو محكمة الإقليم وتستأنف أحكامها أمام الملك أو مجلس الملك الخاص كما وجدت محاكم دينية لتحرير العبيد منذ الأسرة الحادية والعشرين، فكان إذا ظلم السيد عبداً له لجأ العبد لمعبد من المعابد(226/22)
واحتمى بتمثال أحد الآلهة، فإذا اقتنع كهنة المعبد بظلامته قضوا بجعله من حيث الشكل عبداً للإله الذي احتمى به، وبذلك تزول سلطة السيد عنه ويصبح حراً. وسمح لكل مصري حر ظلمه أحد الحكام أو جهة إدارية أن يلجأ إلى إله يحميه من هذا الظلم
(يتبع)
عطية مصطفى مشرفة(226/23)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
للدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 26 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي - كونفيشيوس
حياته
ليست كلمة (كونفيشيوس) هي الاسم الصيني الصحيح لهذا الحكيم، وإنما هو تركيب (لَتَّنَهُ) الأوربيون كما اقتضت طبيعة لغاتهم إذ أصلها (كونج فوتسيه). فأما (كونج) فهو اسم الأسرة، وأما (فووتسيه) فمعناها الأستاذ المبجل
ولد هذا الحكيم في مدينة (تسيئو) سنة 551 قبل المسيح من إحدى الأسر الملكية الماجدة التي أثبت تاريخ دوحات الأسر العريقة أنها تصعد إلى عهد أسرة (تشو) في القرن الحادي عشر قبل المسيح، وأن رئيس هذه الأسرة في ذلك العهد الغابر الذي سبق مولد (كونفيشيوس) بأكثر من خمسة قرون كان يدعى دوق (دي سونج)
تزوج (شوليانج - هي) والد حكيمنا للمرة الأولى وعاش مع زوجته زمناً طويلاً دون أن يرزق بولد، وكان إذ ذاك حاكماً على مدينة (تسيئو) فلما بلغ من العمر سبعين سنة تزوج مرة ثانية فرزق هذا الحكيم الذي منت به السماء على الصين، ليحفظ تراثها الغابر، ويبعث مجدها الدائر، ويسطع في سماء مستقبلها سطوعاً يسجل اسمها بين أسماء الأمم الخالدة؛ ولكنه لم يكد يبلغ العام الثالث حتى توفي والده وترك الأسرة في حالة من الضنك يرثى لها، بيد أن مجد الأسرة وسمعتها الأدبية ساعداها على تربية هذا الطفل وتثقيفه كما يتثقف أبناء طبقتها من الأثرياء، وقد كونت هذه التربية العالية (كونفيشيوس) تكويناً قيماً كان أساس تلك الفلسفة الباهرة(226/24)
لا يعرف التاريخ عن حياته الخاصة أكثر من أنه متزوج في التاسعة عشرة من عمره، وأنه لم يكن موفقاً في زواجه، ففارق زوجته بعد بضعة أعوام من تاريخ الزواج، ولكنه أعقب منها غلاماً وفتاة زوجها فيما بعد لأحد تلاميذه الأوفياء، وأنه بعد زواجه بزمن يسير عين مراقباً في إحدى إدارات الزراعة فكان هذا التعيين ثقيلاً على نفسه، لأنه كان يراه من ناحية غير متناسب مع سمو مكانته، وكان من ناحية ثانية متنافياً مع مواهبه وثقافته، ولكن ضرورة البأساء قد ألجأته إلى قبوله فقبله على مضض؛ ثم ظل يتحرق إلى مهنة التعليم التي كان يعتقد أنه خلق لأجلها، فلما حيل بينه وبينها أخذ يقوم بها في أسرته، وأخيراً عين أستاذاً في مدينة (لُو) حيث كرس مجهوداته كلها للعلم والتعليم والبحث وراء الحقيقة، ونشر الفضائل الأخلاقية. وكان منزله أرقى ناد في المدينة يجتمع فيه أجل الشبان المهذبين الراغبين في العلم والأخلاق والتقدم الاجتماعي؛ وكان جميع المهذبين من شيوخ وشبان مفتونين بما حواه رأس هذا الحكيم الشاب من معارف سامية. وفي الحق أن رأيه كان موسوعة لعلوم عصره وفنون زمنه. وإليك ما يصف به نفسه في كتاب (لون - يو): (في الخامسة عشرة كنت أفرغ كل عنايتي في الدراسة، وفي الثلاثين كنت أسير بخطى أكيدة وحازمة فوق صراط الفضيلة، وفي الأربعين لم يكن لدي أي ريب، وفي الخمسين كنت أحيط علماً بناموس السماء، وفي الستين كنت أفهم كل ما تسمعه أذني، وفي السبعين كانت كل رغبات قلبي متجهة إلى عدم مخالفة أية قاعدة أخلاقية)
في سنة 525 قبل المسيح ارتحل إلى (لو) مدينة (لاهو - تسيه) ليكمل معارفه بالاطلاع على محفوظات الدار الملكية كما أشرنا إلى ذلك آنفاً؛ وبعد أن أقام بهذه المدينة سنة عاد إلى بلده. وفي سنة 516 شبت حرب أهلية بين كبار الملاك في مقاطعته، فغادرها إلى مقاطعة أخرى، فاستقبله رئيسها أعظم استقبال، وأخذ يستنصحه في كثير من نواحي الحياة، ولكنه لم يتبع نصائحه في حياته العملية، فلما قدم إليه المال رفضه الحكيم قائلاً: (إن الرجل الفاضل لا يتسلم من المال إلا بقدر ما يقوم به من الأعمال، وإني قدمت إلى الأمير نصائح فلم يعمل بها، فإذا حسب بعد ذلك أنني سأقبل ماله فهو بعيد عن فهمي)
وبعد إقامته خمسة عشر عاماً في هذه المقاطعة عاد إلى بلاده، وكانت المياه فيها قد رجعت إلى مجاريها، وهناك عين مديراً أعلى لمدينة (تشونج - تو) فمكنه هذا التعيين الجديد من(226/25)
أن يخرج مبادئه إلى حيز العمل وأن يحقق أفكاره العمرانية الراقية. إذا صدقنا ما يقوله أحد معاصريه المؤرخين، جزمنا بأن عصره كان عصر إعجاز في النجاح الإداري. فالرقي الذي ظهر في تلك المدينة والسلوك الأخلاقي الذي استحدث فيها جعلا أمراء المدن الأخرى يتخذونها نموذجاً لمدنهم، بل إن دوق مدينة (لو) سأل (كونفيشيوس) عما إذا كان من الممكن تطبيق قواعد إدارته على جميع مدن الدولة، فلما أجاب بالإيجاب عينه الدوق نائباً للسكرتير العام للدولة ثم وزيراً للحقانية فلم يكد يتولاها حتى انقطعت جميع الجرائم وتعطل تطبيق قانون العقوبات تعطيلاً تاماً، لأنه لم يعد في الدولة جانون يطبق عليهم
لا ريب أن في هذا شيئاً من المبالغة، ولكن الذي لاشك فيه هو أن البلاد قد قطعت في عهد إدارة (كونفيشيوس) شوطاً بعيداً في التقدم الأخلاقي والعمراني والسياسي، وأن هذا الحكيم قد أعاد إليها صورة العصر الذهبي وأشعرها من جديد بالرخاء والسعادة. وبمعاونة صديقيه (تسيه لو) و (تسيه يو) اللذين كانا يشغلان وظيفتين عاليتين من وظائف الدولة قد تمكن من تقوية سلطة الأمراء وإضعاف قوة الأسر المتمردة فاستتب الأمن وسادت السكينة في البلاد
غير أن هذه النعمة لم تدم طويلاً، إذ لم يكد حكيمنا يصل إلى أوج الشهرة الحقة حتى حسده جماعة من معاصريه وهيأوا للدوق أسباب اللذة؛ فلما أفرط فيها أصم أذنيه عن سماع نصائح (كونفيشيوس) فهدده هذا بالاستعفاء إن لم يستقم ويُعْنَ بمرافق الدولة. فلما أصر الدوق على عناده لم يسع الحكيم إلا اعتزال الخدمة، وقد فعل، فاستقال في سنة 496
ومنذ هذا التاريخ أخذ (كونفيشيوس) يرتحل من بلد إلى بلد حتى آخر حياته دون أن يقيم في بلد أكثر من ثلاثة أعوام، وكان يستقبل في كل مكان بالإجلال والإعظام، ولكن لم يتبع نصيحته أي ملك، بل كثيراً ما تعرضت حياته للخطر، وكان قلبه من أجل ذلك مفعماً بالمرارة والحزن في جميع أسفاره التي كان لا يرافقه فيها إلا تلاميذه المخلصون والتي أذاقته من التشاؤم واليأس ما دفعه يوماً إلى أن يسائل نفسه قائلاً: (هل أنا إذن، يقطينة مرة لا يستطيع أحد من بني الإنسان أن يذوقها)
بعد أن أنهكته هذه الأسفار المختلفة ألقى عصا التسيار في مدينة (لو) وكانت سنه إذ ذاك تسعة وستين عاماً فاستقبله دوقها الجديد بكل ترحاب وإجلال، ولكنه نهج نهج أسلافه فلم يتبع نصائح الحكيم في أي شأن من شؤون الدولة، فلم يكن ذلك جديداً على نفس(226/26)
(كونفيشيوس) ولكن الذي حطم قلبه في هذه الشيخوخة هو أنه رأى بعينيه الفانيتين موت ابنه الوحيد وتلميذيه المختارين (هُوِي) و (تسيه - لو). فلما حلت به هذه الكارثة أحالت الدنيا في نظره ظلاماً، ولكنها لم تقعده عن واجبه في الحياة، فكرس الشهور الأخيرة من حياته لجمع ونسخ الكتب القديمة المقدسة التي أشرنا إليها في حديثنا عن مصادر الفلسفة الصينية
وأخيراً هوى هذا الكوكب في اليوم الحادي عشر من الشهر الرابع من سنة 478 قبل المسيح بعد مرض لم يدم إلا أحد عشر يوماً
كونفيشيوس وجد حقاً
كتب أحد المؤلفين الإنجليز وهو: (هـ. ج. ألين) كتاباً سخيفاً بعنوان (كونفيشيوس أسطورة) عانى فيه عَرَقَ القِرْبة كما يقول العرب لإنكار (كونفيشيوس) ومحاولة تصويره في صورة الأساطير الخيالية. ولست أحب أن أرد على هذا المتعالم الإنجليزي بأحسن من تعليق الأستاذ (زانكير) الذي اقتطف منه ما يلي: (في ذلك العصر المحزن أي الربع الأخير من القرن التاسع عشر الذي كان الناس يظنون فيه أن العلم ينحصر في الإنكار والشك في الحوادث والشخصيات التاريخية الثابتة، فأنكروا (لاهو - تسيه) و (بوذا) والمسيح. في ذلك العصر الأسيف هب إنجليزي خامل، بنية إنشاء الضجيج حول اسمه الذي لولا هذا الإنكار لما ذكره أحد، فزعم أن (كونفيشيوس) أسطورة من الأساطير، ولكن إذا كان ينبغي لنا أن نشك في وجود حكيم (تو) فلست أدري لماذا نحن نؤمن بوجود (سقراط) و (يوليوس قيصر) و (شارلمان) بل، ولكي لا ننسى الإنجليز في ردنا نقول لهذا الزاعم أيضاً: وكذلك يجب أن نؤمن بوجود (غليوم الفاتح)، وأظن أنه ليس لدينا من الأسباب ما يحملنا على إنكار واحد من هؤلاء
ولكن لحسن الحظ قد بدأ العقلاء يعدلون عن النظر إلى هذا النوع من العلم نظرة جدية
أما الذي لا يقبل الريبة بحال: فهو أن (كونفيشيوس) - بالرغم من قلة مصادرنا العلمية عنه - قد وجد وجوداً حقيقياً لأن تلاميذه ومعاصريه قد أعطونا عنه صوراً مادية وأخلاقية أمينة
أخلاقه الشخصية(226/27)
إن أهم ما اشتهر به هذا الحكيم من أخلاق سامية هو الهدوء الذي لا حد له؛ إذ حدثنا تلاميذه أنه لا الظلم المروع، ولا الألم المبرح، ولا الخطر المميت، كانت تهزه أو تحدث في نفسه أقل اضطراب. ومن هذه الأخلاق أيضاً ما يروونه لنا عن وداعته الفائقة، وتواضعه المنقطع النظير الذي يصفه لنا هو شخصياً فيقول: (كيف أستطيع أن أشبه نفعي بالحكيم أو بالرجل الذي يعمل للفضيلة؟! إن كل ما أستطيع أن أقوله عن نفسي: هو أنني أقهرها على محاولة مساواتهما بدون ملل، وعلى تعليم الآخرين دون انفكاك)
ومع ذلك فقد كان عنده ثقة عظيمة في نفسه وفي رسالته الأخلاقية، غير أنه كما أن تواضعه لم يهنه أمام من هم أقوى منه، كذلك ثقته بنفسه لم تدفعه إلى الكبرياء على من هم دونه
ومن محامده الجليلة أنه لم يسمح يوماً لعاطفته أن تتعدى حدودها المرسومة لها في أي ناحية من نواحي حياته العلمية أو العقلية حتى قيل عنه: إن التفكير العاطفي لم يجد له مكاناً قط بين تعقلاته. وقد كان هذا القول حقاً إذ أنه حين سأله تلاميذه عن رأيه في حكمة (لاهو - تسيه) القائلة: (أحبوا أعداءكم كما تحبون أصدقاءكم) أجاب بقوله: (إذا أحببتم أعداءكم وكافأتم بغضهم إياكم بحب من جانبكم، فبماذا إذاً تكافئون حب أصدقائكم؟ كلا، بل أجيبوا على البغض بالعدل وعلى الحب بالحب)
ولكن ليس معنى هذا أنه كان جافاً محروماً كل عاطفة نبيلة، كلا، لأنه كان يحمل بين جنبيه قلباً يفيض بالعطف على أصدقائه وتلاميذه، وبالحب الحار لوطنه، وبالإشفاق القوي على الضعفاء
(يتبع)
محمد غلاب(226/28)
رؤيا (مرزا)
للكاتب الإنجليزي أديسون
بقلم الأستاذ محمود الخفيف
قال أديسون:
قد اتفق لي حينما كنت في تلك المدينة العظيمة، مدينة القاهرة، أن اشتريت بثمن بخس بعض المخطوطات الشرقية القديمة التي مازلت محتفظاً بها
وبين تلك المخطوطات التي صادفتها مجموعة تسمى (رؤى مرزا) قرأتها في سرور عظيم ثم عولت على تقديمها إلى القراء إذ لا أجد لدى غيرها أسرى به عن نفوسهم؛ وسأبدأ بأولى تلك الرؤى وهأنذا أترجمها كلمة كلمة فيما يأتي:
في اليوم الخامس لظهور القمر ذلك اليوم الذي كنت أقدسه جرياً على عادة جدودي ارتقيت تلال بغداد العالية بعد أن أديت فرائض الصباح، لأقضي هنالك بقية اليوم في التأمل والصلاة
وبينما كنت أنعم هناك بالهواء الطلق على قمم الجبال، إذ وجدت نفسي غارقاً في تأمل عميق حول حياة الإنسان وما يكتنفها من غرور، وإذ كنت أتنقل من فكرة إلى فكرة فقد ناجيت نفسي قائلاً: (حقاً إن الإنسان خيال، وإن حياته حلم). وبينا أنا كذلك أعمل الفكر، إذ أخذت عيناي رجلاً في زي الرعاة على رأس صخرة تقع غير بعيد مني، وكانت في يده آلة موسيقية، فلما رآني أنظر إليه رفعها إلى شفتيه وجعل ينفخ فيها ألحانه؛ وكان صوت تلك الآلة فائق الجمال كما كانت تنبعث منها طائفة من النغمات الرخيمة لم يسبق أن صادفت مثلها رونقاً وطرباً. ولعمري لقد صورت لي تلك الألحان هاتيك الأنغام السماوية العذبة التي تقابل بها أرواح الصالحين حينما تصعد إلى الجنة، هنالك حيث تذهب عنها آثار آلامها الأخيرة وحيث تتأهب لما أعد لها من النعيم في ذلك المكان السعيد، وسرعان ما اهتز قلبي في انتشاء عجيب
وكثيراً ما أخبرت من قبل أن الصخرة القريبة مني مسكن جني، وأن كثيراً ممن مروا بها قد سمعوا تلك الألحان الموسيقية، ولكني لم أسمع قبل اليوم أن ذلك الموسيقار يظهر للأعين
وقد أنعش ذهني بأنغامه العذبة وهيأ فكري لسماع محاورته وأنا أنظر إليه نظرة الحائر،(226/29)
فلما استوثق مني أشار إليّ أن أسير إلى حيث يجلس. ولقد اقتربت منه باحترام يليق بطبيعته العلوية، ولما كان قد تملك قلبي بأناشيده الحلوة فقد ألقيت بنفسي على قدميه وعيناي تذرفان الدمع
فنظر إليّ الجني نظرة عطف وحنان سرعان ما جعلته أليفاً إلى نفسي، وسرعان ما بددت تلك المخاوف التي ساورتني وأنا أدنو منه، ومد يده فرفعني عن الأرض وتناول يدي قائلاً: (مرزا! لقد سمعتك وأنت تناجي نفسك فاتبعني)
واقتادني إلى أعلى صخرة بين تلك الصخور ثم وضعنني فوق أعلى قممها وقال:
- (ول وجهك نحو الشرق وأخبرني ماذا ترى هنالك؟)
قلت: (إني أرى وادياً مترامي الأطراف يخترقه مجرى هائل من الماء)
قال: (إن الوادي الذي تراه هو (وادي الشقاء)، وإن المجرى الذي يخترقه هو جزء من ذلك المجرى العظيم (مجرى الأبدية)
فقلت وما السبب في أن هذا الجزء من المجرى يخرج في أوله من خلال ضباب كثيف ثم ينتهي عند آخره إلى ضباب كثيف؟
قال (إن ذلك الجزء الذي ترى هو قسم من الأبدية تعبرون عنه بالوقت وتقيسونه بالشمس، وهو يمثل الحياة من أولها إلى منتهاها)
ثم قال: (أنظر إلى هذا البحر الذي تكتنف الظلمة طرفيه وحدثني عما ترى فيه)
قلت: (إني أرى قنطرة كبيرة في هذا الخضم)
قال: (إن هذه القنطرة ليست إلا الحياة الدنيا، فانظر إليها بإمعان)
نظرت فرأيتها مكونة من ثلاث حلقات تكون في مجموعها عشر أقواس؛ ثم شاهدت إلى جانبها عدداً من الأقواس المحطمة يصل بها الفرد إلى ما يقرب من المائة، وبينما كنت أعد هذه الأقواس أخبرني الجني أنها كانت في أول أمرها تبلغ الألف عدداً، ولكن فيضاناً هائلاً قد اكتسح معظمها وترك القنطرة على تلك الحالة المتهدمة التي كنت أراها
قال الجني: (أخبرني ماذا ترى فوق تلك القنطرة؟)
قلت: (إني أرى جموعاً من الناس تسير فوقها وأرى الضباب يكتنف نهايتها)، ولكني لما أمعنت النظر قليلاً شاهدت بعض الناس يسقطون من أعلى القنطرة إلى العباب المتلاطم(226/30)
تحتها
وازداد إمعاني فرأيت عدداً من (الأبواب المسحورة) أو الفخاخ كان لا يلبث المار إذا مسها بقدمه أن يهوى من خلالها إلى اليم ويذهب إلى غير رجعة. وكانت تكثر هذه الفخاخ عند أول قنطرة؛ وكان كثير من الناس لا يكادون يظهرون من تحت الضباب حتى رأيتهم يسقطون من خلالها إلى البحر؛ غير أنها كانت تقل تدريجياً نحو الوسط، ولكن لتعود إلى كثرتها عند نهاية الأقواس السليمة
ولقد شاهدت بعض الناس يسيرون سير المقيد الموثق فوق الأقواس المتهدمة، ولكنهم كانوا قليلين، وما لبثوا أن رأيتهم يسقطون الواحد تلو الآخر بعد أن أخذ منهم التعب، وبلغ من نفوسهم الجهد من جراء هذا السفر الطويل
وقضيت وقتاً غير قصير أتأمل في هذا البناء العجيب وما يحوي من مختلف الأشياء. وتالله لقد بلغ من نفسي أن أرى بعض الناس يسقطون وهم في لحظات سرورهم وفترات انتشائهم، وكانوا يتعلقون بكل ما قرب منهم علهم ينجون من هذا السقوط؛ وكنت أرى غيرهم يهوون في هذا القرار السحيق بينما كانوا يرفعون أبصارهم نحو السماء في تأمل وتفكير
ورأيت غير هؤلاء جماعة كانوا يلهون سعياً وراء الحصول على بعض الفقاقيع الزاهية التي كانت تخلب ألبابهم، وبينما هم يحسبون أنهم على قاب قوسين منها، كانوا يهوون في هذا الخضم الزاخر
وتبينت من خلال هذا العماء قوماً يحملون في أيديهم نوعاً من السيوف البواتر، بينما كان يحمل غيرهم بعض القاذورات وهم يدفعون بها المارة فيمرون على تلك الفخاخ التي لم تكن في طريقهم فإذا هم فيها يغرقون. ولما رآني الجني أتأمل في هذه المناظر المحزنة قال (دع عنك هذا فقد أطلت النظر إليه)
ثم قال: (حول نظرك عن القنطرة وانظر هل ترى شيئاً غيره لا تستطيع أن تفهمه؟)
قلت: (إني أرى جماعة من الطير تحوم باستمرار حول القنطرة ثم تعود فتسقط فوقها من حين إلى حين. أرى عدداً من النسور والعقبان والغربان وأرى أشكالاً عجيبة وطيوراً مزعجة أجسامها آدمية نسوية ولها أجنحة مخيفة، وأرى طائفة من الغلمان ذوي أجنحة(226/31)
يتجمعون في تزاحم حول الأقواس الوسطى)
قال الجني: (إن ما تراه إنما يمثل الحسد والطمع والوساوس والأوهام واليأس والحب وغيرها من الهموم والعواطف التي تحيط بحياة الإنسان)
وهنا تنهدت تنهداً عميقاً وقلت: (وا أسفاه! إنما خلق الإنسان عبثاً، فهو فريسة للشقاء والفناء يذوق العذاب في حياته ثم لا يلبث أن يبتلعه الموت)
وتالله لقد أشفق عليّ الجني إذ سمعني أنطق بهذا وأمرني أن أحول بصري عن هذا المنظر الذي يثير الشجن وخاطبني قائلاً: (كفى نظراً إلى الإنسان في حياته الأولى إذ يأخذ أهبته إلى حياة الخلود وانظر إلى هذا الضباب الذي يحمل إليه الموج هؤلاء الذين يسقطون في اليم)
فحولت نظري كما أمرت، ولست أدري هل زاد ذلك الجني قوة إبصاري أم هل أزال بسحره جزءاً من ذلك الضباب الذي كان أكثف من أن تخترقه العين، فقد رأيت الوادي وقد فتح من نهايته وتكشف عن محيط واسع تتوسطه صخرة فتقسمه قسمين متساويين؛ ولقد تجمعت السحب فوق أحد هذين القسمين فلم أر فيه شيئاً، ولكني رأيت في الآخر محيطاً واسعاً تتناثر فيه طائفة من الجزر لا عداد لها؛ وكان سطح تلك الجزر مغطى بأشجار الفواكه والزهور تتخللها غدران صغيرة عديدة، واستطعت أن أرى أناساً يلبسون فخم الثياب وتكلل هاماتهم الزهور وهم يمشون بين الأشجار أو يجلسون حول النافورات أو يضطجعون على سرر من الزهر، واستطعت أيضاً أن أسمع ترنم الطيور الشادية وخرير المياه المتدفقة مختلطة بأصوات الناس وأنغام الموسيقى
ولشد ما أبهج نفسي أن رأيت ذلك المنظر الرائع وتمنيت لو أتيح لي جناحا نسر فأطير إلى هذا المكان السعيد، ولكن الجني أفهمني أن لا سبيل إليه إلا سبيل الموت؛ ثم خاطبني قائلاً (إن الجزر الخضراء التي تراها أمامك والتي تغطي سطح البحر على مد البصر أكثر عدداً من الرمال التي تغطي شاطئ ذلك البحر، ويوجد وراء هذه الجزر التي تراها أعداد أخرى لا يصل إليها نظرك ولا يمكن أن يتسع لها خيالك، وتلك هي مساكن الصالحين بعد الموت، وهم يحلون بها كل حسب درجة صلاحه، وفيها من ألوان النعيم ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. أو ليست تلك الجنان يا مرزا جديرة بأن يسعى الإنسان إليها؟ وهل تكون الحياة(226/32)
شقية إذا كانت وسيلة إلى تلك الغاية السعيدة؟ وهل تخشى الموت الذي يذهب بك إلى مثل هذا النعيم المقيم؟ كلا لا تحسبن الإنسان قد خلق عبثاً. وكيف يخلق عبثاً من أعدت له هذه السعادة في تلك الخبأة البهيجة؟)
وهنا خاطبت الجني قائلاً: (هل لك أن تطلعني على ما تحت هاتيك السحب التي تحجب القسم الآخر من الأسرار؟ ولما لم أتلق جواباً عن سؤالي درت رأسي لأخاطب الجني مرة أخرى، ولكني لم أجد أحداً بجواري، فتلفت ثانية نحو المنظر الذي كنت أراه أمامي ولكني لم أجد في مكان الموج الزاخر والقنطرة ذات الأقواس والجنان الخضراء سوى وادي بغداد المستطيل وقد وقفت الثيران والأغنام والإبل ترعى العشب على جانبيه.
محمود الخفيف(226/33)
أبو الفرج الببغاء
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
أبو الفرج الببغاء أديب سامق البناء أدبه، فله الشعر العذب الرقيق، والنثر الحلو الرشيق. إذا أنشدت شعره كنت كمن يسرح طرفه في حديقة فينانة أريضة، غانية بمختلف الأزهار، ساحرة بموسيقا الأطيار، قد انتظمت أسماطاً وقلائد، وضمت أوساطا وخرائد؛ تجيل فيها بصرك فلا تدري أي شعابها تسلك؛ فوصفه يهدي إليك صورة أروع من المصوّر، يعرض عليك الحقيقة مرصعة بالخيال، والخيال موشي بجمال الحقيقة؛ ومدحه فرائد يطول بها جيد الممدوح، ولآلئ ليس لها مثال، بل هي مضرب الأمثال. فمن ذلك الذي يوصف بمثل قوله:
يا عارضاً لم أشم مذ كنت بارقه ... إلا رويت بغيث منه هطَّال
رويدَ جودك قد ضاقت به هممي ... وردَّ عني برغم الدهر إقلالي
لم يبق لي أمل أرجو نداك به ... دهري لأنك قد أفنيت آمالي
من هذا الذي يبلغ نداه أن يرغم الدهر ويفني الأمل؟ ولا يطاول الجوزاء فيطولها، ويسامي السماء فيسمو عليها، وخمرياته وتشبيباته وتشبيهاته فعلها في الرءوس دونه معتق المدام، وأثرها في النفوس أنكأ من أثر الحسام، فكل شعره يبهر من يراه ويسحر من ينظر فيه، فهو أزاهير من الجمال، وطاقات من الحسن والروعة تحير الألباب وتخلب الأبصار. وإنه لمما يشق على النفس الشاعرة أن ينفرط عقد لا يجيد تنظيمه غير راسمه، أو ينتكث نظم لا يحسن تنضيده سوى ناظمه، فلا محيص حينئذ من أحد أمرين كلاهما محبب إلى النفس مرهف الحس؛ إما أن تستوعب ذاكرتك ما قرأت فتلتهمه روحك بعد أن أنتهبه بصرك، وإما أن ترسمه في مخيلتك ليرقى برسمه خيالك وترق بصوره آثارك
نسبه: ينتسب أبو الفرج إلى قبيلة عريقة في عربيتها لا تفرعها قبيلة شرفاً وخيماً هي قبيلة بني مخزوم؛ وولد بنصيبين في أوائل القرن الهجري الرابع، ولم أعثر على مصدر يحقق لي سنة مولده. ترجم له الخطيب البغدادي في الجزء الحادي عشر من تاريخ بغداد فقال عنه: (عبد الواحد بن نصر بن محمد أبو الفرج المخزومي الحنطُبي الشاعر المعروف بالببغاء. كان شاعراً مجوداً وكاتباً مترسلا، مليح الألفاظ جيد المعاني حسن القول في المديح والغزل والتشبيه والأوصاف)(226/34)
وترجم له أبو منصور عبد الملك الثعالبي في الجزء الأول من كتابه يتيمة الدهر فقال: (هو أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي من أهل نصيبين نجم الآفاق، وشمامة الشام والعراق، وظرف الظرف، وينبوع اللطف، وأحد أفراد الدهر في النظم والنثر، له كلام بل مدام بل نظام من الياقوت بل حب الغمام. . .) إلى آخر ما نعته به من أوصاف
أما سبب تلقيبه بالببغاء فلثغة كانت مدار أحاديث طريفة ومحاورات ظريفة بينه وبين صديقه أبي اسحق الصابي نورد بعضها لأن في قصصها متعة ولذة. رُوي أن كلاً من أبي الفرج الببغاء وأبي اسحق الصابي كان يشتاق رؤية صاحبه ويتلهف على اللقاء به ويتمنى أن يجتمع به بأي ثمن؛ وكانا يتكاتبان دون تلاق فتعارفت رسائلهما قبل تعارف شخصيهما. واتفق أن قدم أبو الفرج بغداد، فكان أول ما يهمه أن يبحث عن صديقه فإذا هو معتقل، فزاره في محبسه ولم يُثنِّ زيارته، فعتب عليه الصابي بقصيدة منها:
أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظٍّا إذا نقص
مضى زمن تستام وصلي غالياً ... فأرخصته والبيع غال ومرتخص
وآنستني في محبسي بزيارة ... شفت كمداً من صاحب لك قد خلص
ولكنها كانت كحسوة طائر ... فواقاً كما يستفرص السارق الفرص
وأحسبك استوحشت من ضيق محبس ... وأوجستِ خوفاً من تذكرك القفص
فأجابه الببغاء دون ريث مع رسوله:
أيا ماجداً مذ يمّم المجد ما نكص ... وبدر تمام مذ تكامل ما نقص
تقنصت بالألطاف شكري ولم أكن ... علمت بأن الحرَّ بالبرد يقتنص
وصادفت أدنى فرصة فانتهزتها ... بلقياك إذ بالحزم تنتهز الفرص
فإن كنت بالبَبْغاء قدما ملقبا ... فكم لقب بالجور لا العدل مخترص
وبعد فما أخشى تقنص جارح ... وقلبك لي وكر ورأيك لي قفص
فأنهي الحديث إلى عضد الدولة غريم الصابي فأعجب به وكان سبباً من أسباب العفو عن الصابي وإطلاقه، فرأى أن يكون أول ما ينشده وصف الببغاء وذكر محاسنه والتلميح بفضل أبي الفرج وذكائه فأرسل أرجوزة منها:
ألفتها صبيحة مليحه ... ناطقة باللغة الفصيحهْ(226/35)
عدت من الأطيار واللسانُ ... يوهمني بأنها إنسان
ومنها وهو آخرها:
تلك التي قلبي بها مشغوف ... كنيت عنها واسمها معروف
نشرك فيها شاعر الزمان ... والكاتب المعروف بالبيان
وذاك عبد الواحد بن نصر ... تقيه نفسي عاديات الدهر
فأجاب أبو الفرج بأرجوزة منها:
من منصفي من حكم الكتاب؟ ... شمس العلوم قمر الآداب
أضحي لأوصاف الكلام محرزاً ... وسام أن يلحق لما برزا
وهل يجاري السابق المقصر؟ ... أم هل يساوي المدرك المعذِّر؟
ومنها بعد أن أطال في وصف الببغاء:
لو لم تكن لي لقباً لم أختصر ... لكن خشيت أن يقال منتصر
وإنما تنعت باستحقاق ... لوصفها حذق أبي إسحاق
شرفها وزاد في تشريفها ... بحكم أبدع في تفويفها
فكيف أجزي بالثناء المنتخب ... من صرَّف المدح إلى اسمي واللقب
ومن أبدع ما مدح به اللثغ ما كتبه الصابي إلى أبي الفرج:
أبا الفرج استحققت نعتاً لأجله ... تسميت من بين الخلائق بَبَّغا
بياناً منيراً كاللجين مضمنا ... نضاراً من المعنى أذيبا وأفرغا
فلو لامرئ القيس انتدبت مجاريا ... كبا أو لقس في فصاحته صغا
ومنها:
وما هجنت منك المحاسن لثغة ... وليس سوى الإنسان تلقاه ألثغا
أتعرفها فيما تقدم خاليا ... بعير إذا ما صاح أو جمل رغا
فيالك حرفاً زدت فضلاً بنقصه ... فأصبحت منه بالكمال مسوغا
وبعد فلنترك حديث اسم أبي الفرج ولقبه، ولنتحدث عن حياته الأدبية لنصل منها إلى دراسة شعره ونثره
اتصل أبو الببغاء فتى بأمير حلب سيف الدولة علي بن حمدان وهو حينذاك حلبة آمال(226/36)
الأدباء وكعبة رجاء الشعراء، يملأ أفواههم بالنضار، فيملئون أرجاء ملكه بروائع الأشعار، ويرفع أقدارهم بمنحه، فيرفعون عقائرهم بمدحه، وليس ذلك من مثله بمستغرب، فإن صلته بهم وشيجة فهو أديب مجيد وشاعر رقيق تهزه الأريحية وتتملكه موسيقى الشعر، فيسح عليهم وسميه وتهمي ديمه، ولأنه رأى أن يتشبه بعظماء الخلفاء ممن قربوا الشعراء وأدنوا مجالس الأدباء والعلماء كعبد الملك والرشيد والمأمون فغمرهم بلجينه ليروي منبت عزهم ومعين شعرهم ومهبط وحيهم وسماء فيضهم، ولأن دولة الأدب سناد قوي لدولة السياسة وعماد حصين لرجالها يذيعون حسناتها ويذودون عن رجالاتها، فجمع حوله من فحول الشعراء من لم يجتمع مثله لأمير أو خليفة قبله؛ فالمتنبي وأبو فراس الحمداني، والصابي والموصلي والببغاء والوأواء وغير أولئك وهؤلاء جعلهم في حياطته ينشدون محامده ويدبجون مدائحه، ولا يعرف تاريخ الأدب ممدحاً مدح بعشرة آلاف بيت من عيون الشعر سوى سيف الدولة. قال الثعالبي في يتيمته في ترجمة سيف الدولة:
(كان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد القاضي الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت)
ولأن سيف الدولة كان أرفع أمراء الدولة قدراً وأوسعهم مُلكاً وأقواهم سلطاناً هرع إليه الشعراء وكان زعيمهم من يصل سببه بأسبابه
لذلك ولغيره سار أبو الفرج في ركابه فعاش طوال عمره وفياً له ولابنه من بعده، فمدائحه فيض قلبه ونبعة حبه لا رغبة في ولاية، ولا خوفاً من وشاية، ومتى كان الشعر باعثه الشعور ومصدره الوجدان، بلغ أقصى الجودة والإحسان؛ ولاشك أن اللهى تفتح اللهاة. قيل إن سيف الدولة ضرب دنانير للصلاة عليها اسمه ورسمه وأمر عقب ضربها بعشرة منها لأبي الفرج فانطلق منشداً:
نحن بجود الأمير في حرم ... نرتع بين الشعور والنعم
أبدع من هذه الدنانير لم ... يجر قديماً في خاطر الكرم
فقد غدت باسمه وصورته ... في دهرنا عوذة من العدم
فزاده عشرة أخرى، فهو لهذا قمين بالوفاء له لم يتغير عن وده في قربه أو بعده، ولكن هذا لم يمنعه أن يمدح غيره من لداته لا من عداته، ولعل هذا يرسل إلينا قبساً من أخلاقه(226/37)
وسيكشف لنا ما سنقدمه من شعره ونثره عن خلال كريمة وموعدنا بدراسة نثره وشعره عدد تال
(المعادي)
عبد العظيم علي قناوي(226/38)
من وحي الشجرة الضالة
على طريق الشعر المنثور
للأستاذ خليل هنداوي
- 1 -
ما تقول الشجرة. . .
من هو هذا الضال الذي ملأ سكينتي نداؤه؟
وما عسى يفعل الضال في ظلالي؟
أيبتغي مني هداه؟
وكيف يجد هداه من لا ينطوي قلبه على هدى؟
أنا لست ضالة وإن رأيتني في وحدتي ووحشتي:
أنا لست صامتة وإن لم تسمع لساني!
أنا لم أعتزل رفيقاتي ولو شئت الاعتزال لما استطعت!
وكل ما بي من جذور يتصل بجذورهن تحت الأرض الصامتة،
وكل ما يجري في عروقهن من دم الأرض يجري في عروقي!
- 2 -
لا تحدثني عن الاعتزال!
إن التفكير في الاعتزال هو مرض الحياة!
نحن هنا في دائرة الوجود الشاملة يتصل بعضنا ببعض!
أيستطيع عالم من هذه العوالم المختلفة أن يحيا منعزلاً!
نحن على ضلال ما ظللنا نطلب الاعتزال!
- 3 -
ألا أين هذه النار التي ستضرمنا؟
ألا حبذا النار!
لأنها عصر موحد. . . لا يترك وراءه إلا الرماد!(226/39)
ينبغي لنا أن نحول رماداً حتى نشعر بالاتصال!
- 4 -
لست ضالاً إلا حين تعتقد أنك جئتني منفصلاً!
وأنت ترى أن كل جذورك متعلقة بجذور الأرض
وأن خيالك متمنطق بجميع آفاق السماء!
أأنت قادر على بتر جذورك وقطع خيالك
ومن أمامك ومن ورائك سلسلة حلقاتها لا تتناهى!
- 5 -
إن في جسدي جزءاً منك
وفي جسدك جزءاً مني. . .
ونحن لا ندرك هذه الأجزاء الغريبة فينا حتى نقدر على اقتلاعها، لأنها أجزاء تآخت مع
أجزائنا
- 6 -
لم تخلق الحياة جزءاً يستطيع أن يحيا منفصلاً!
حتى الأموات الذين أكملوا دوراتهم يبقى اتصالهم بأرواحنا!
وهل يستطيع الأحياء أن يعيشوا بغير أموات؟
إنهم في يقظاتهم يمشون وراء خواطرهم وأفكارهم!
وهم في أحلامهم يعيشون في جزائرهم النائية. . .
أن إبادة الحياة لبعضها الموجود ثم تكريرها لبعضها المفقود هما سواء في معنى
الاتصال!. . .
قل معي كما أقول. . .
لتدخل كل الأكوان في روحي فإنها واسعة جداً!
ولتتزاحم كل الآفاق في عيني فإنها لا تضيق. . .
وليتمثل لي الفناء كاشراً عن أنيابه فلن يروعني(226/40)
لأنني جزء هائم من أجزاء الحياة الثابتة التي لا تقدر الحياة نفسها على هضمي. . .
هي تحملني تائهة من مكان إلى مكان!! إلى التربة التي أنجم فيها جديداً لأناجي فيها كل
الأكوان
- 8 -
قل للحياة. . .
اصنعي بي ما تريدين! فأنا حياة مثلك!
واجعليني إذا شئت رماداً لغذاء الزهور المتفتحة. . . إنني سأغذيها بقلبي!
لأن هذه الزهور المتفتحة تدري مثلي أنها تأكل رماد زهور كانت تحيا مثلها. . .
ليس سر الحياة في الذرة أن تشعر بأنها حبة!
إن سر الحياة في كل ذرة أن تؤدي الغاية من حياتها ثم تمضي لتأتي الذرة الثانية التي
نشأت في حضنها. . .
أنت من حياتك تمثل كل يوم هاتين الذرتين، فمثلهما على وجههما الأسمى الذي تنشده
الحياة
خليل هنداوي(226/41)
الحرف العربي والإفرنجي
لأستاذ جليل
قرأت في (الرسالة الغراء) قطعة (الدمام) التي فيها شرح اللعس. . . ووصية الزمخشري. . . - ولن نعمل بها - بلن الاعتزالية - إن شاء الله - فلما وصلت إلى (شارع عماد الدين، هذا شارع موهي الدين) كركرت وقهقهت، وقلت في نفسي: لو ماشت جماعة من العرب أصحابنا الكماليين في اتخاذ تلك الحروف المسماة باللاطينية لأمسى محي الدين موهي الدين وتذكرت حديثاً طريفاً أحببت أن أقصه على قراء الرسالة:
في الإسكندرية رجل تركي يكتب بالعربي، والدجاج يخطب أيضاً ويكتب. . . وهو مولع بحرية القول، والحرية - يا أخا العرب - من غرائز هذا الجيل (التركي) منذ القديم. . . وقد عرفت مصر حرية القوم المعرفة البليغة المتقنة. . .
ولاقاني هذا الرجل ذات يوم وعلق يطنب في تقريظ الكماليين، وفي تجديدهم، وفي هذه الحروف التي استبدلوها بالقديمة، فقلت له: يا شيخ، اسمع: أما ذلك العظيم فإن إجلالي إياه ينسف هرفك به. ووالله ما ذكرته في وقت إلا تذكرت أبيات حفص بن الأحنف الكناني في ربيعة بن مُكَدّم:
لا يبعدَنّ ربيعةُ بنُ مكدّم ... وسقى الغوادي قبرَه بذَنوب
نفرتْ قَلوصي من حجارة حَرَّةٍ ... بُنيت على طَلْق اليدين وهوب
لا تنفري (يا ناق) منه فإنه ... شِرّيب خمر مِسعرٌ لحروب
لولا السفار وبُعْدُ خَرْق مَهْمهٍ ... لتركتها تحبو على العرقوب
فالرجل فوق ما في نفسك، وهو بطل من أبطال هذا الزمان؛ وأما ذلك التجديد فليس لليوم أن يقضي فيه قضاءه، وللغد الحكيم فتنظر أأحسن القوم أم أساءوا. وأما تلك الحروف الإفرنجية فما عمل الكماليون شيئاً، كانوا يكتبون من اليمين، فصاروا يكتبون من الشمال
قال: لم أفهم
قلت: الحرف العربي هو الحرف الإفرنجي نفسه، والحرف الإفرنجي هو الحرف العربي عينه (وأنفه)
قال: زدني إيضاحاً(226/42)
قلت: هات نُتفة ورقة، رَ، أنظر، تكتب اللام من اليمين بالعربي هكذا (ل) وتكتبها بالإفرنجي من الشمال هكذا وتكتب النون العربية بهذه الصورة (ن) والإفرنجية بهذه الصورة بسبب رقمك إياها من جهة الشمال، والجيم العربية هي هذه (ج)، والجيم الإفرنجية هي هذه وهذه سيننا (س) وهذه سين الفرنج وقس على ما ذكر ما لم يذكر. وللجهة (جهة اليمين أو الشمال) أثر فيما تخاله اختلافاً، فالحروف واحدة غير أن الحضارة العربية - التي مدّنت أوربة كما يقول الإفرنج - قد نقحت الحرف العربي وحسنته؛ فالاختلاف الظاهر هو من حرف تقدم وارتقى وهُذّب، ومن حرف وقف. ولو استبدل مثلُ الصيني بحرفه الحرف العربي أو اللاطيني لكان له عذر مقبول، ولكن قومك قل لهم: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!)
ولما ندب الكماليون ذلك العالم الأوربي منذ بضع سنين ليفتش المدارس العالية في اصطنبول، وشاهد من تقهقرها بتغيير الحروف ما هاله، نصح للترك أن يعودوا سريعاً إلى الحروف العربية
فلما أوريت صاحبنا التركي الذي يكتب بالعربي حراً ما أوريته، وأنبأته بحديث العالم الغربي وجم وجوماً (فبُهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين)
(الإسكندرية)
(* * *)(226/43)
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 11 -
1 - (إن المرأة للشاعر كحواء لآدم، هي وحدها تعطيه بحبها جديداً لم يكن فيه؛ وكل شرها أنها تتخطى به السموات نازلاً. . .)
2 - (إن النابغة في الأدب لا يتم تمامه إلا إذا أحب وعشق. . .)
3 - (. . . إن ملكة الفلسفة في الشاعر من ملكة الحب؛ وإنما أولها وأصلها دخول المرأة في عالم الكلام بإبهامها وثرثرتها. . .)
(الرافعي)
الرافعي يعشق. . .!
أتراني أستطيع الحديث عن الرافعي العاشق فأوفّي القول وأبلغ الغاية. . .؟
وهل يكون لي أن أدعي أنني أكتب في هذه الصفحات تاريخ الرافعي إذا أنا لم أعرض لحديث الرافعي العاشق. . .؟
وهل خَلتْ فترة في حياة الرافعي من الحب؟
ذلك الرجل الذي لا يتخيله أكثر من لم يره إلا شيخاً معتجر العمامة مطلق العذبة مسترسل اللحية مما قرءوا له من بحوث في الدين وآراء في التصوف وحرص على تراث السلف وفطنة في فهم القرآن مما لا يدركه إلا الشيوخ بل مما لا يدركه الشيوخ. . .
هذا الذي يكتب إعجاز القرآن وأسرار الإعجاز، والبلاغة النبوية؛ ويصف عصر النبوة ومجالس الأئمة وكأنه يعيش في زمانهم وينقل من حديثهم. . .
هذا الذي كانت تتصل روحه فيما يكتب - من وراء القرون - بروح الغزالي، والحسن البصري، وسعيد ابن المسيّب؛ فما تشك أن كلامه من كلامهم وحديثه من إلهام أنفسهم. . .
هذا الذي تقرأ له فتحسبه رجلاً من التاريخ قد فر من ماضيه البعيد وطوى الزمان القهقري ليعيش في هذا العصر ويصل حياة جديدة بحياة كان يحياها منذ ألف سنة أو يزيد في(226/44)
عصر بعيد. . .
. . . هذا الرجل كان عاشقاً غلبه الحب على نفسه وما غلبه على دينه وخلقه. . .!
إن الحديث عن حب الرافعي لحديث طويل؛ فما هي حادثة أرويها وأفرغ منها، وحبيبةٌ واحدة أصفها وأتحدث عنها؛ ولكنها حوادث وحبيبات، وعمر طويل بين العشرين والسابعة والخمسين، لم يشرق فيه صباح ولم يجنّ مساء إلا وللرافعي جديدٌ في الحب؛ بين غضب ورضى، ووصل وهجر، وسلام وخصام، وعتب ودلال، وحبيب إلى وداع وحبيب إلى لقاء. . . وشابَ الرافعي وما شاب قلبه، وظل وهو يدب إلى الستين كأنه شاب في العشرين. . . ومات وعلى مكتبه رسالة ودادٍ من صديقة بينها وبينه جواز سفر وباخرة وقطار، وكان في الرسالة موعد إلى لقاء. . .!
وقلت للأستاذ الزيات مرة وبين الرافعي وبين أجله عام: هل لك في موضوع طريف عن الرافعي أنشره لقراء الرسالة؟ إن للرافعي في الحب لحديثاً يلذ ويفيد. . .
قال: ومن لي بهذا؟
قلت: أنا لك
قال: ولكنه حديث يُغضب الرافعي!
قلت: وعليّ أنا أن يرضى. . .
وذهبت إلى الرافعي فأفضيت إليه بعزمي. قال: أو تفعلها؟ أفكان لهذا مجلسك مني كل مساء تسترق السر لتدخره إلى يوم تنشره فيه على الناس بثمن. . .؟
قلت: لو أنه كان سراً لم يعلمه غيري ما عقدت العزم على شئ ولكنك يا سيدي. . .
وما كان للرافعي سر يستطيع أن يطويه بين جوانحه يوماً وبعض يوم، فكأنما أذكرتُه ما كان ناسياً؛ فعاد يقول: وماذا تريد أن تقول في حديثك عن حبي؟
قلت: حديثاً لو همّ غيري أن يجعل منه مقالاً لقرائه لما كان الرافعي هو الرافعي عند من يقرؤه، ولكن أحسبني أنا وحدي الذي أستطيع أن أقول إن الرافعي كان يحب فما أغيّر شيئاً من صورة الرافعي كما هو في نفسه وكما هو عند من يعرفه. . . إنني أنا وحدي الذي أعرف الحادثة وجوّها وملابساتها وما كان في نفسك منها؛ ولعلي يوم عرفت كنت أسمع نبضات قلبك وخلجات وجدانك ومرمى أملك وما كانت غايتك في الحب ومداك. أما غيري(226/45)
فهل تراه يعرف إلا الحادثة؟ وحسبه أن يقول: إن الرافعي يحب. . . ثم تكون الفضيحة التي تخشاها وأنت منها طاهر الإزار. . .
واستمع الرافعي إلى حديثي ثم أطرق هنيَّة وعاد يسألني: وهل أقرأ ما تعدّه قبل أن تنشره، أو يكون يومك كأمسك؟
قلت: لك ما تريد
قال: أنت وشأنك!
وأجمعت أمري، وأعددت فكري، وتهيأت للكتابة، ثم شغلتني العناية بطبع (وحي القلم) وتصحيح تجاربه عن الوفاء بما وعدت. . . ومات الرافعي!
فإن يكن في الحديث عن (الرافعي العاشق) حرج فلا عليّ فقد استأذنته فأذن، وما أكتب الآن إلا مستمداً من روحه، راوياً من بيانه، ولديّ شهودي من كتبه ورسائله، وما يعرفه أصدقاؤه وصفوته. وإذا كان الرافعي قد خفت صوته إلى الأبد فلا سبيل إلى أن أسمع رأيه فيما أكتب عن تاريخ قلبه، فإني لمؤمن شديد الإيمان بأنني ما أزال في رضاه ومنزلتي عنده وإن كان بيننا هذا البرزخ الذي لا أعرف متى أجتاز إليه فأسمع من حديثه ويسمع من حديثي!
الحب عند الرافعي
وهل في الحب عار أو مذمة؟
هذا سؤال يجب أن يكون جوابه إلى جانبه قبل أن أمضي في هذا الحديث. . .
أما الحب الذي أعنيه - وكان يعنيه الرافعي - فشيء غير الحب الذي يدل عليه مدلول هذه الكلمة عند أبناء هذا الجيل. . .
إن الحب عند الناس هو حيلة الحياة لإيجاد النوع؛ ولكنه عند الرافعي هو حيلة النفس إلى السمو والإشراق والوصول إلى الشاطئ المجهول؛ هو نافذة تطل منها البشرية إلى غاياتها العليا وأهدافها البعيدة، وآمالها في الإنسانية السامية؛ هو مفتاح الروح إلى عالم غير منظور تتنوّر فيه الأفق المنير في جانب من النفس الإنسانية؛ هو نبوّة على قدر أنبيائها: فيها الوحي والإلهام، وفيها الإسراء إلى الملأ الأعلى على جناحي ملك جميل. . . هو مادة الشعر وجلاء الخاطر وصقال النفس وينبوع الرحمة وأداة البيان(226/46)
كذلك كان الحب عند الرافعي، ولذلك كان يحب. . . وسعى إلى الحب أول ما سعى على رجليه، منطلقاً بإرادته ليبحث في الحب عن ينبوع الشعر، فلما بلغ أغلق الباب من دونه فظل يرسف في أغلاله سنين لا يستطيع الفكاك من أسر الحب؛ وكانت (عصفورة) أول من فتح لها قلبه فسيطرت عليه وغلبته على نفسه؛ وكانت سنه يومئذ إحدى وعشرين. . .
وبلغ الرافعي بعصفورة إلى غايته، واشتهر (شاعر الحسن) وترنم العشاق بشعره وما بلغت عصفورة إلى غايتها. ثم مضى كل منهما إلى طريق. وأتمّ الرافعي طبع ديوانه. وكما ينتهي الحب الذي هو حيلة الحياة لإيجاد النوع إلى الزواج أو إلى الغاية الأخرى ثم يبدأ في تاريخ جديد - كذلك انتهى حب الرافعي وعصفورة وأنجب ثمرته الشعرية، ثم كان تاريخ جديد. . .
وعلى مثال هذا الحب كم كانت له حبيبات وكم أنجبت ثمرات؛ وإنه ليخيّل إليّ أن الرافعي كان كلما أحس حاجةً إلى الحب راح يفتش عن (واحدة) يقول لها: تعالي نتحابّ لأن في نفسي شعراً أريد أن أنظمه أو رسالة في الحب أريد أن أكتبها. . .! ولقد سمعته مرة يقوله لإحداهن. . . وسمعت إحداهن مرة تقول له: متى أراني في مجلسك مرة لتكتب عني رسالة في (ورقة ورد)؟
على أن الرافعي كان له إحساس عجيب في مجالس النساء، وكان لهن عليه سلطان وله سحر وفتنة. وهو في هذه المجالس فكِه مداعب رائق النكتة لا تملك السيدة الرّزَان في مجلسه إلا أن تخرج عن وقارها؛ وكانت هذه أداته في استمالتهن حين يلتمس الوحي أو يجد الحاجة إلى أن يقرأ شعراً في عينٍ ساحرة. فإذا استوى له ما أراد عاد إلى مكتبه لينشئ وينظم وتنتهي قصة الحب
وكان يسمي كل جميلة (شاعرة) لأنها هي تمنحه الشعر، و (الشواعر) عنده طبقات، على مقدار ما يبعثن فيه من الشاعرية ويرهفن من إحساسه؛ ففلانة شاعرة كالمتنبي، وهذه كالبحتري، وتلك بنت الرومي، ورابعة بشار بن برد، وخامسة عبد الله عفيفي أو شاعر الرعاع. . .!
وحين يجلس في شرفة قهوة (لمنوس) بطنطا وتمر به الجميلات في رياضتهن أو في حاجتهن، تسمع ثبتاً حافلاً بأسماء الشعراء يبدأ من مهلهل بن ربيعة وينتهي بفلان الذي(226/47)
يؤمل أن يكون أمير الشعراء بعد أن يموت كل الشعراء. . .!
هذه لمحات أذكرها على غير صلتها بالموضوع لأنها تشير إلى بعض عناصره؛ على أنني وقد بلغت هذا القدر من الحديث لم أبدأ القول بعدُ عن حب الرافعي الذي حاولت هذا المقال لأتحدث عنه
إنها حادثة وقعت في تاريخ الرافعي وسنه ثلاث وأربعون سنة فأنشأته خلقاً جديداً، كانت دعابة من مثل ما قدّمتُ فأوشكت أن تكون علة، فلما اختار الله له أنقذه بكبريائه من دائه، ولكنه خلّف في قلبه جرحاً يَدمَى، ولكنها كانت بركة في الأدب وثروة في العربية
من تكون هذه الشاعرة التي غلبته على إرادته فغلبها بكبريائه؟ ما شأنها وما خبرها؟ هذا موضوع حديثي في العدد القادم
محمد سعيد العريان(226/48)
دراسات في الأدب الإنجليزي
جون ملتون
للأستاذ خليل جمعة الطوال
تابع ما نشر في العدد الماضي
على أن كرمويل ما لبث أن توفي، فكان موته زلزالاً عنيفاً قوض دعائم ذلك الدستور الذي شاد بيده الحديدة بنيانه؛ وزاد في الطين بلة ضعف خلفائه السياسي، فعادت الملكية إلى مكانتها السابقة، وكان طبَعيّاً أن تنتقم من البرلمانيين، وتثأر منهم لعرشها المغصوب وعزها المسلوب. أما ملتون فقد أدرك ما للملكيين عنده من الثأر الجسيم، وذلك لما نالهم منه من الطعن والامتهان والزراية، فأوجس خيفة من شرهم وانتقامهم، فتوارى عن عيونهم مدة من الزمن تجنباً لكيدهم؛ إلا أن هؤلاء بثوا وراءه العيون والأرصاد، فتمكنوا من القبض عليه، وزجوه في غياهب السجن وغرموه غرامات مالية فادحة؛ ثم سيق للمحاكمة، وقد كاد يحكم عليه بالإعدام لو لم يدافع عنه أمام المحكمة أشهر رجال المحاماة في ذلك العصر
وفي عام 1662م اعتزل ملتون السياسة، إذ فقد بصره وأصبح غير قادر على الاتصال الفعلي بالهيئة البشرية الاجتماعية، والإشراف على أحداثها السياسية والدينية والاجتماعية، فقصر وقته لذلك على الدرس والاجتهاد، وأكب على التأليف حتى نبه صيته في جميع الأوساط الأدبية كشاعر فذّ وكاتب بليغ، ومع اعتزال ملتون الفعلي للأمور السياسية فقد ظل يهز الرأي العام بكتاباته وشخصيته الفنية بعد الأخرى، وهو وفيذ وحدته، ووحيد عزلته. وما هي إلا ثلاث سنوات قضاها في عقر بيته منعزلاً عن المجتمع حتى أخرج للعالم ملحمته الشهيرة المعروفة بالفردوس المفقود وهي أعظم سفر أدبي في سجل الأدب الإنكليزي؛ وقد لا نجد لها حتى اليوم مثيلاً إلا بالرجوع إلى الملاحم العالمية السبع
الفردوس المفقود
لقد أجمعت الآراء على أن ملحمة الفردوس المفقود في الأدب الإنكليزي كالإلياذة في الأدب اليوناني والكوميديا الإلهية في الأدب الإيطالي، وأنها في شهرتها الواسعة هي الثالثة لهاتين الملحمتين العالميتين. ولئن وجد فيها بعض المتحذلقين من نقدة الأدب مجساً لمشارطهم(226/49)
ومغمزاً لمباضعهم، إلا أن ذلك لا يمنع الأديب المنصف من أن يرى فيها للأدب الإنكليزي تعويضاً عادلاً لركوده وتغلب الموجة السياسية عليه في عهد الإحياء
لم ينظم ملتون هذه الملحمة المشهورة دفعة واحدة، ومن المؤكد أن ابتدأ نظمها بعد أن اعتزل السياسة، وبعد أن فقد بصره. ولقد أملى أبياتها على أكثر من كاتب واحد، يدل على ذلك نسخها الخطية الأصلية التي لا تزال محفوظة في مكتبة (كلية ترنتي) في (كمبردج). وقد طبعت لأول مرة عام 1667 في عشرة أجزاء، ثم نقحت وزيد عليها جزءان آخران، وطبعت في المرة الثانية في اثني عشر جزءاً وذلك عام 1674. أما موضوعها فقد استمده من الكتاب المقدس، وأوحى إليه بمادتها الجزلة ذلك النزاع الخطير الذي قام في إنكلترا من اصطدام المبادئ الديمقراطية التي ترمي إلى رفع لواء حرية الشعب الدينية والسياسية بالمبادئ الملكية الأرستقراطية التي غايتها جعل شئون الأمة وحريتها في أيدي الملوك كالآلة الصماء يديرونها في لهوهم وعبثهم أنى شاءت لهم أنانيتهم وكيفما رغبت أهواؤهم. وإذ كان لا بد للأدب الحي من أن يصور المجتمع في سلمه وحربه، ويجاري الزمن في تقلبه وتطوره، فقد صور ملتون ذلك النزاع الخطير الذي خاض غماره في ملحمته هذه تصويراً دقيقاً لا مزيد عليه
لقد كان الدين إذ ذاك مشتجر الآراء، ومصطرع البطانات، ومحور الخلاف بينها؛ وكان لا بد لمن أراد أن يكون مبرزاً في هذا الميدان الديني من أن يكون ملماً بجميع النصوص الدينية، ولذلك أقبل الأدباء على الكتاب المقدس يتدارسونه وعلى الإنجيل يتدبرونه، طمعاً في الشهرة والفوز؛ وقد كان ملتون أبعدهم في ذلك غوراً وأكثرهم في الدرس مطالعة واجتهاداً يحفزه عليه سُعاره للشهرة، وحبه للجاه، وطموحه للسمو والمجد؛ ناهيك بتوقد فطنته، وطاعة ذهنه، وتوثب شاعريته، ولذا فلا عجب إذا رشحت دراساته للدين، وتغلغله في ثناياها بمثل ملحمة (الفردوس المفقود) التي اختلف الأدباء على تقديرها، وانقسموا إزاء تمجيدها شأن انقسامهم إزاء كل أمر خطير، إذ كانوا في ذلك بين منتقص ذي هوى لم يسلم من الغلو والإسراف، ومطنب في المديح لم يسلم من التحذلق والإغراق؛ وليس أدل على هذا من هذه الفقرات الموجزة التي نثبتها فيما يلي بإسنادها إلى أصحابها تاركين للقارئ حريته في تمييز غَثِّها من سمينها(226/50)
رأي جونسون
لقد مهد جونسون لرأيه في ملتون بما قرره (بوصو) عن الشاعر المجيد إذ يقول: (الشاعر الفذ المجيد هو الذي ينظم قصيدته وينشرها لغاية سامية ينشدها ومثل عليا يتطلبها، وتكون الحقيقة فيها هي بيت القصيد بل أسها الذي تقوم عليه؛ وما الخيال بجانبها إلا أداة طيعة يمهد بتلفيقه سبل الوصول إلى غايته المنشودة ومُثُله العليا المقصودة)، ثم جعل من هذه الفقرة الموجزة دستوراً للنقد ومحكاً للشعر يعرف بها غثُّ القصائد من سمينها - ولو إلى حد - وأخيراً قال: لقد ألف ملتون ملحمة الفردوس المفقود ليمهد للدين سبله الوعرة التي ضلت فيها عديد البطانات وليدحرج من هذه السبل تلك الصخرة الناشزة التي تحطمت عليها مختلف العقائد، وتنكرت أمامها أكثر الحقائق؛ ولعله لم يكن له من غاية أخرى سوى نظم الحقائق الدينية، ونقلها إلى الغير عن طريق القلب لا العقل، وبصورة لا أثر فيها البتة لالتواء اللاهوت وإبهامه، ولتعسف المنطق واحتمال تأويلاته، ولكنه لم يوفق إلى ذلك، إذ جمح به الخيال حتى أخرجه عن دائرة الحقيقة، وشردت به الشاعرية المتوثبة حتى أبعدته عن منطقة المعقولات؛ فجميع أغراضه متنكرة كأنها لغز غامض، وتعابيره ملتوية كأنه يقول شيئاً ويريد غيره، وصوره شائهة حتى لكأنها من تلفيق الخيال المحض الذي لا حقيقة له في الوجود. وبالجملة فإنه ليس فيها من أثر لما يريد خلا ما كان من بعض القوافي الممقوتة المصطنعة، والألفاظ المزركشة الآبدة، والتعابير المستعصية الغامضة، التي يند عنها الطبع وينشز منها الذوق
رأي ماكولي
الفرق بين أشعار ملتون ودانتي كالفرق بين الكتابة الهيروغليفية المصرية والكتبة التصويرية المكسيكية؛ فبينا يصور الثاني احساساته صورة لفظية كاملة، وينفض عليك عواطفه كما جاشت في صدره واعتلجت في قلبه، إذ بالأول لا يزيد في وصفه على الإشارة الغامضة، ولا في تصويره عن الصورة المبهمة للشيء - أي المسودة - ذلك يصف الأشياء بجزئياتها، وهذا يحيطها بستر كثيف من التورية البعيدة، والاستعارة الدقيقة، التي لا تظهر معها إلا بعد إعمال الفكر وكد الخاطر. وأكاد أجزم جزم اليقين أن ليس بين(226/51)
الأدباء من قرأ ملحمة الفردوس المفقود فعلقت شحنتها بشغاف قلبه، أو هزت نبراته وتراً من أوتار حسه. وعندي أنها ليست في الشعر إلا كالأحاجي في اللغة، ولولا ثوب الشهرة الفضفاض الذي يضفيه الأدباء على ملتون في غير استحقاق لكانت ملحمته هذه صفراً على هامش الأدب؟؟!
رأي هزلت
لقد كان شكسبير يعنى بنقد المجتمع وسوءاته أكثر من اعتنائه بنقد الديانات وطوائفها، وكان أيضاً ينظم الشعر بدافع الفطرة الشعرية الكامنة في نفسه لا بحافز الشهرة الذاتية، ولهذا كان مغايراً لملتون كل المغايرة؛ وذلك لأن ملتون كان مصاباً بسعار الشهرة، وشديد التمسك والتعصب لمبادئه الطهرية الدينية. لقد كان كلاهما شاعراً فذاً، إلا أنه بينما يسير الأول - شكسبير - وراء خياله وعاطفته، إذ بالثاني - ملتون - يُسيّر خياله وعاطفته وفق إرادته؛ فعاطفة الأول هي التي تدفعه إلى قرض الشعر، بينا إرادة الثاني هي التي تستكره خياله على النظم؛ ذاك تتسم أشعاره بعفو الخاطر وبداهة الفطرة وتوقد العاطفة، وهذا تتسم قصائده بجهد الفكر، وغزارة المعرفة، ومسحة العقل، وتصنع الخيال، وبرود العاطفة؛ ذاك تتسم أشعاره بحرارة القلب الملتهبة، وهذا بغزارة العقل الرائعة
لقد كان ملتون محباً للوحدة، على حين كان شكسبير مغرماً بالمجتمعات الزحمة، ولذا فبينا يصور الأول - على العموم - نفسه بأشعاره، إذ بأشعار الثاني صورة جلية لمحيطه، ومرآة مجلوة تنعكس عنها مرئيات بيئته. كان ملتون مشغوفاً بالدرس والمطالعة، بينا كان شكسبير لا يجد اللذة والراحة إلا في مطاوي الطبيعة ومناجاة أسرارها ومحاكاة مرئياتها. ذاك - أي ملتون - يمثل بأشعاره قوة العقل وسلطان الإرادة، وهذا يمثل حرارة العاطفة وسلطان القلب
على أنه ليس في هذا ما يمنعنا من أن ننظر إلى ملحمة الفردوس المفقود نظرنا إلى الإلياذة والأوديسة - أو القدس المحررة - لتاجور؛ ذلك لأنها وإن كانت تتسم بقوة العقل وجبروته إلا أن فيها من حرارة العاطفة ما ينماث له القلب، ويعتلج له الصدر. ولئن دقتْ تعابيره، والتوت أغراضه، وسما أسلوبه في بعض المواضع، فما ذاك إلا لسمو الفكرة التي يصورها ودقة التعبير عنها ولأنه يخاطب بأشعاره الخاصة لا العامة(226/52)
لم يتقيد ملتون في ملحمته (الفردوس المفقود) بالتزام قافية واحدة، وليس ذلك لعجزه وضعفه، فقد كانت القوافي أطوع لخاطره من بنانه، كيف لا وهو أعلم بأوابد اللغة وشواردها؟ ولكن لأنه رأى في القافية قيداً للعاطفة يجب التحرر منه
(البقية في العدد القادم)
خليل جمعة الطوال(226/53)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
283 - الله والنبي والعيد العربي
في رسالة لأبي الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني (بديع الزمان):
إن عيد الوَقود لَعيدُ إفك، وإن شعار النار لشعار شرْك. وما أنزل الله بالسذق سلطاناً، ولا شرّف نيروزاً ولا مِهرجاناً. وإنما جعل الله (تعالى) النار تذكرة ومتاعاً، ولم يضرب لها عيداً، ولم يجعلنا لها عبيداً. الله والنبيّ، والعيد العربيّ، والتكبير الجهير، وتلك الجماهير، والملائكة بعد ذلك ظهير، والرحمة صوباً وصبّا، والبركات فيضاً وفضاً، والموسم الطاهر من لغو الحديث. هذا هو العيد، وذلك هو الضلال البعيد. . .
284 - . . . والوجوه قباح
الإمام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن:
لا يوحشنَّك أنهم ما ارتاحوا ... مما جلاه عليهم المُداحُ
فهمُ كقوم عُلّقت بإزائهم ... بيضُ المرائي والوجوه قباحُ
285 - إذن تستوي
سمع بعض الحكماء رجلاً يقول:
قلب الله الدنيا!
فقال: إذن تستوي لأنها مقلوبة
286 - رسالة. . .
قال صاحب البدائع: خرج المعتصم بن صُمادح صاحب المَريّة يوماً إلي بعض متنزهاته فحلّ بروضة قد سفرت عن وجهها البهيج، وتنفست عن مسكها الأريج، وماست معاطف أغصانها، وتكللت بلؤلؤ الطلّ أجياد قضبانها. فتشوّف إلى الوزير أبي طالب بن غانم أحد كبراء دولته فكتب إليه بديهاً بورقة كُرُنب بعود من شجرة:
أقبلْ أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا
287 - لئيم العطاس(226/54)
في (كامل) المبرد: يروى أن عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس - أتته وفود من الروم، وقام السِّماطان فأتى برجل منهم، وعطس أحد من السماطين، فأخفى عطسته فقال له عبد الملك لما انقضى أمر الوفد: هلاّ - إذ كنت لئيم العطاس - أتبعت عطستك صيحة حتى تخلع بها قلب العِلج
288 - سرقت حمرة الخدود الملاح
ابن الزقاق الأندلسي:
ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح
زرتها والغمام يلطم منها ... زَهرات تفوق لون الراح
قلت: ما ذنبها؟ فقال مجيباً: ... سرقت حمرة خدود الملاح!
289 - ليس الهوى بالاختيار
في (نهاية الأرب): قال رجل من أهل المدينة كان أديباً ظريفاً طلاباً للأدب والملح: كنت يوماً في مجلس رجل من قريش، ومعنا قينة ظريفة حسنة الصورة، ومعنى فتى من أقبح ما رأته العين، والقينة مقبلة عليه بحديثها وغنائها. فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا فتى من أحسن الناس وجهاً فأقبل عليّ صاحب البيت فقال: إن في أمر هذين لعجباً، قلت: وما ذاك؟ قال: هذه الجارية تحب هذا (يعني القبيح الوجه) وليس لها في قلبه محبة، وهذا الحسن الوجه يجدها وليس له في قلبها محبة. قال المدني: فقلت لها: تختارين هذا وهو أقبح من ذنوب المصرين، على هذا الذي هو أحسن من توبة التائبين! فقالت لي: ليس الهوى بالاختيار، ثم أنشأت تغني وتقول:
فلم تُلمِ المحبَّ على هواه ... فكلُّ متيمٍ كلفٍ عميدِ
يظنّ حبيبَه حسناً جميلاً ... وإن كان الحبيب من القرود!
290 - رحمة الله عليه
(في سيرة عمر بن عبد العزيز) لابن الجوزي: قال إبراهيم ابن هشام بن يحيى بن يحيي العناني: حدثني أبي عن جدي قال: كنت عند هشام بن عبد الملك جالساً، فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن عبد الملك أقطع جدي قطيعة فأقرّها الوليد وسليمان حتى استُخلف(226/55)
عمر (رحمه الله) نزعها. فقال له هشام: أعدْ مقالتك، فقال: يا أمير المؤمنين إن عبد الملك أقطع جدي قطيعة فأقرها الوليد وسليمان، حتى إذا استخلف عمر (رحمه الله) نزعها. فقال: (والله) إن فيك لعجبا! إنك تذكر من أقطع جدك القطيعة ومن أقرها فلا تترحم عليه، وأنا قد أمضينا ما صنع عمر رحمة الله عليه. . .
291 - الورد والياسمين
قال هبة الله محمد النصيبي: كنت في زمن الربيع والورود في داري بنصيبين، وقد أحضر من بستاني من الورد والياسمين شيء كثير، وعملت - على سبيل الولع - دائرة من الورد تقابلها دائرة من الياسمين فاتفق أن أدخل على المهذب والحسن ابن البرقعيدي الشاعران فقلت لهما: اعملا في هاتين الدائرتين. ففكرا ساعة ثم قال المهذب:
يا حسنها دائرةً ... من ياسمين مشرق
والورد قد قابلها ... في حلة من شفق
كعاشق وحبّه ... تغامزا بالحدق
فاحمرّ ذا من خجل ... واصفر ذا من فرق
فقلت للحسن: هات، فقال: سبقني المهذب إلى ما لمحته في هذا المعنى وهو قولي:
يا حسنها دائرة ... من ياسمين كالحلي
والورد قد قابلها ... في حلة من خجل
كعاشق وحبه ... تغامزا بالمقل
فاحمر ذا من خجل=واصفر ذا من وجل
فعجبت من اتفاقهما في سرعة الاتحاد، والمبادرة إلى حكاية الحال!
292 - أخاف ألا أموت في أوله
قيل لخالد بن صفوان: مالك لا تنفق؟ فإن مالك عريض
قال: الدهر أعرض منه
قيل: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله
قال: لا، ولكن أخاف ألاّ أموت في أوله(226/56)
الغني والفقير
للكاتب الفرنسي لابرويير
بقلم الأديب يوسف جوهر
جيتون لامع البشرة، طلق المحيا، ممتلئ الخدين، عينه حادة مقتحمة، ومنكباه عريضان، وصدره منصوب ومشيته مزهوة مختالة، يتكلم باعتداد، ويستعيد من يحدثه، ثم لا يكاد يسيغ ما يفضي به إليه. يخرج منديلاً فخماً ويفرغ أنفه في جلبة شديدة، يبصق بعيداً، ويعطس عالياً جداً؛ ينام في الليل وينام في النهار، ويغط في المجتمعات؛ يشغل من المائدة وفي المجالس مكاناً أكثر من غيره؛ يكون وسط زملائه عندما يتنزهون، يقف فيقفون، يستأنف السير فيسيرون؛ يقاطع ويخطّئ من يتكلمون ولا أحد يقاطعه، ويصاخ السمع لحديثه مهما أطال الكلام؛ كل الناس من وجهة نظره، والجميع يصادقون على ما يرويه؛ إذا جلس تراه قد استلقى في كرسيه ووضع ساقيه الواحدة على الأخرى، وقد عقد جبينه وخفض قبعته على عينه حتى لا يرى أحداً، أو يجذبها عن جبهته ليُرى كيف تكتسي بالعتو والصلف. وهو مهذار ضحوك سريع الضجر، معتدّ بنفسه غضوب، جرئ على المعتقدات، سياسي. وهو كتوم لمشاكل الساعة؛ وهو يعتقد في نفسه العبقرية وقوة العقل. ذلك لأنه غني. . .
لفيدون عينان غائرتان، ولون محترق، وأعضاء يابسة، ووجه نحيل؛ ينام قليلاً، ونومه خفيف جداً. وهو مهموم مشدوه كأنه صاحب ذهن بليد، فهو ينسى أن يقول ما يعرف أو يتحدث عن الحوادث التي يعلم، فإذا ما جازف أحياناً روى بركاكة. يعتقد أنه يثقل على من يتحدث إليه، ويتكلم باقتضاب وتهيب. يذهل عن الإصغاء فلا يناقش؛ يصفق ويبتسم لما يحدث به الآخرون؛ يجري ليؤدي لهم خدمات صغيرة، وهو مجار متملق مطيع، هو كتوم لشئونهم حييّ، يمشي برفق وقلق كأنه يخشى أن يطأ الأرض؛ يسير وقد خفض عينيه لا يجسر على رفعهما في وجوه المارة، ليس له بطانة لتستمع؛ يجلس خلف من يتحدث؛ يزن في نفسه ما يقال ويتراجع إذا ما رمقه أحدهم؛ هو لا يشغل مكاناً ولا يملأ مقعداً؛ يسير وقد زوى كتفيه وأمال قبعته على عينه كي لا يراه أحد؛ يختبئ ويتوارى خلف معطفه، تختفي عن عينه الطرقات والأروقة إذا ما ازدحمت بالناس لأنه لا يجد وسيلة للمرور من غير أن(226/58)
يُعترض، والانسلال من غير أن يُرى، إذا ما دعاه أحد للجلوس جلس على حافة المقعد؛ يتكلم خفيضاً في المناقشة ويتلعثم، غير أنه صريح فيما يختص بالشئون العامة، ناقم على الظروف؛ له فكرة غير متطرفة عن الوزراء والوزارة. هو لا يفتح فمه إلا ليجيب؛ يسعل ويفرغ أنفه مستتراً بقبعته؛ يبصق فيكاد يلوث نفسه، ينتظر حتى يصير منفرداً ليعطس، فإذا ما اضطر عطس في غفلة من الجماعة، وهو لا يساوي في نظر الناس لا تحية ولا ترحيباً. ذلك لأنه فقير. . .
يوسف جوهر(226/59)
عبادة جديدة؟!
للأستاذ سيد قطب
لك يا جمال عبادتي ... لك أنت وحدك يا جمال
تُعصى تعاليمُ الطغا ... ة، أو الهداة على ضلال
ويخالَف التشريع جه ... راً، أو خفاءً في احتيال
وتجانَبُ الأديانُ أو ... تُنسى وتهجرُ عن ملال
وأراك وحدك يا جمال ... تَلقى الخضوعَ والاحتفال
والحبَّ والإيمانَ من ... كل الأنام بكل حال!
المال معبود الحيا ... ة المستذل قوى الرجال
هو بعض قربان النفو ... س إلى مقامك في ابتهال
وأرى الألوهة فيك تو ... حي بالعبادة في جلال
ما أنت إلا مظهر ... منها تُوشِّيهِ الظلال
فإذا عبدتك لم أكن ... يا حسن من أهل الضلال
بل كنت محمود العقي ... دة في الحقيقة والخيال
أعنو لمن تعنو له ... كل النفوس بلا مثال
متفرقاً في الكون في ... شتى المرائي والخلال
فإذا تركز هاهنا ... بَطَلَ التمحل والجدال!(226/60)
رسالة الشعر
القطة
للأستاذ فخري أبو السعود
بادلتُها الوداد من زمانِ ... كأكرم الأصحاب والخلان
تهش لي حين تراني بشراً ... وتعقص الذيل وتحني الظهرا
تمسح بي فراَءها الصقيلا ... ترتقب التربيت والتدليلا
لها فراء ناعم كثيفُ ... مهدَّل مرجَّل نظيف
تخطر فيه خطرة الثرىِّ ... في خير ثوبٍ مونق عصريِّ
مجدَّدُ اللمعة والرواءِ ... تلبسه في الصيف والشتاء
تغسله بِطَرَفِ اللسانِ ... أجملْ بذيِّاك اللسان القاني
وقد بدا من فمها الأنيقِ ... بين ثنايا الدر والعقيق
ثيابُنا والفرشُ والوسادُ ... أو حِجْرُ مَن شاَءتْ لها مِهادُ
تنام في الظهر وكلّ آنِ ... وتسهد الليل بلا أشجان
تجوس في الدار وفي الحديقَهْ ... تطلب فأراً تبتغي تمزيقَهْ
تَحْمَرُّ عيناها وتخضرَّانِ ... كما بدا في الليل كوكبان
أنيقة السكون والحراكِ ... رشيقة الوثاب والعراك
ما اٌهْتَزَّ شيءٌ دون ناظرَيْها ... إلاَّ أصابتْه بمخلبَيْها
مِن كُرَةٍ أمامها تَمُرُّ ... أو ذيل ثوبٍ حولها يُجَرُّ
أو أَنْمُلِي في الطرس أو أهدابي ... أو شَفَتي تَهَتزُّ في الخطاب
ياَ حُسْنَها حيثُ مَضَتْ مِن تُحفَهْ ... إن جَثَمَتْ في البهو أوْ في الشُّرْفَه
تدلف من دوح إلى خميلَهْ ... كَنِمرٍ يمشي إِليك غِيلَهْ
وآنَةً تزحف كالأَفاعي ... وآنة تهجم كالسباع
مُكْرَمةٌ حيث مضت أميرهْ ... عزيزة ما بيننا أَثيره
سعيدة بعيشها راضيَهْ ... مُدِلَّةٌ بنفسها آبيه
لها وداد بيننا أكيدُ ... يحمله الكبير والوليد(226/61)
أحببتُ فيها صورة من نفسي ... وكلِّ مخلوق وكلِّ جنسِ
يُنبئُ عن ودي وعن وفائي ... نَظْمِيَ فيها الشِّعْرَ وَاُحتفائي
فخري أبو السعود(226/62)
ذكريات الهوى
للسيد جورج سلستي
يا نفسُ خلِّي ذكريات الهوى ... وانسي فكم أشقَتْكِ ذكرى الغَرامْ!
ذادتْ عن الأجفانِ طيبَ الكرى ... وحرمتْها من لذيذِ المنامْ
وسربلتْ جسمي بثوبِ الضنى ... وألبستْني حلَّةً من سقام
وأنزلتْ بي ذكرياتُ الهوى ... شتى الرزايا والخطوبَ الجِسام
كأنني أصبحت مُسْتودعاً ... للهمِّ والأحزان دون الأنام
لا تذكري يا نفسُ ما قد مضى ... واُسلي فقد يقضي عليكِ الحنينْ
وصلتِ أطرافَ الضحى بالدجى ... من وَلَهٍ حتى متى تسهرين؟
صدّعتِ بالآهاتِ هدَْء الدجى ... وشقَّ صمتَ الليل منكِ الأنين
ورحتِ لما اشتدَّ فيكِ الظما ... ترتشفين الدمعَ لا ترتوين
أصبحتِ بين الناسِ أُمثولةً ... وبتِّ فيهم عِبرةَ العاشقينْ
أَغرقتِ في التذكارِ يا مهجتي ... وشقوةُ الإنسانِ تذكارهُ
فَعَصَفَتْ بي عاصفاتُ الشقا ... وصوَّح اللذاتِ إعصارُهُ
وكلُّ منْ داوى الأسى بالأسى ... أربتْ وزادتْ فيه أكدارُهُ
وذكرياتُ الحبّ بحرٌ طما ... يجتاحُ نفسَ الصبِّ تيَّارُه
والحبّ نارٌ أُججتْ في الحشا ... وكم فتى أودتْ به نارُهُ
ربَّاهُ حظّي كالدجى فاحمٌ ... محلولكٌ ما فيه غيرُ السوادْ!
أنّى مشتْ منِّي الخطى لا أَرى ... على سبيلي غيرَ شوكِ القَتاَدْ
قد عِيلَ صبري يا إِلهَ السما ... وبلغَ السيلُ الزُبى والنجادْ
أَغلق كوى التذكار في خاطري ... وانزعْ شعوري واجعلنِّي جماد
إحساسيَ الجاني على عيشتي ... والشاعرُ الحسّاسُ أشقى العباد
جورج سلستي
-(226/63)
ليتني
للأديب محمود السيد شعبان
أظْلَمَ الكونُ فَمَنْ فيهِ نِياَمْ ... غيرَ قلبٍ في دُجَى الَّليلِ يَسِيحْ!
هتَفَ النجمُ بهِ: ياَ ابْنَ الظلامْ ... ما الذِي تَهَوى مِنَ الليلِ القبيح؟!
قالَ: أهوَى وَحْشَتَهْ!
قال: أهوى ظُلْمَتَهْ!
قال: أهوى فيه أطيافَ الهمومْ ... وأنينَ العاشقِ الباكي الحزينْ
وأناجي البدرَ فيهِ والنجومْ ... مُنْشِداً وحدِي نشيدَ العاشِقِينْ
ساهداً أحرُسُ حبِّي!
ساهراً أعبُدُ رَبِّي!
إيهِ يا ليلَ الأمانيِ والحنينْ ... دَعْ فؤادِي فِيكَ يحياَ بالمُنَى!
إِنَّنِي يا لْيلُ مِنْ ماءٍ وطِينْ ... ليتني كنتُ شُعاَعاً مِن سَنَا!
ساطعاً يهدِي الأناماَ!
لامعاً يمحُو الظلاماَ!
ليتني كنتُ على خَدٍّ أسِيلْ ... دَمْعَةً يشرَبُ مِنها وَرْدُهُ!
دمعة تجري على خَدٍّ جميلْ ... قدْ حَلاَ لِي وصَفاَ لِي وِرْدُهُ
حيثُ لا أخْشَى رقيباَ
أوْ بعيداً أو قريباَ!
ليتني ضَمَّةُ معْمُودٍ صَرِيعْ ... قد تلاقَى بعد هجرٍ بحِبِيبِهْ!
يَخْفُقُ القلبُ لها بيْنَ الضلوعْ ... كذبالٍ يَتَلَوَّى فِي لهِيبِهْ!!
ليتني كنتُ عِناقاَ!
أو صُدوراً تَتَلاَقَى!
ليتني قُبْلَةُ ظمآنٍ علىَ ... شفَتَيْ حَسنْاَء يهواهاَ فُؤَادُهْ!
قبلة طابَتْ ولذَّتْ مَنهلاَ ... هي خمر العاشقِ المُضْنَي وَزَادُهْ!
هيَ كأسٌ مِن عقيقِ!(226/64)
مَلأُوها بالرَّحيقِ!!
ليتني آهَةُ محزُونٍ كئيبْ! ... ليتني أَنَّةُ مظلومٍ ينوحْ!
إِننَّي أهوَى البكا أهوَى النحيبْ ... إنَّ قلبي بِدُموعي يسترِيحْ!
فدعُوني يا رفاقِي. . .
فالبكا حُلْوُ المذاقِ!!
ليتني قَطْرَةُ ماءٍ فوقَ زَهْرَهْ ... في رياضٍ باسماتٍ لِلنَّدَى!
إنَّ طَلَّ الفجرِ ما أعَجبَ أمْرَهْ ... يَمْلأُ النفْسَ جلالاً وهُدَى!
جَلَّ باريهِ تَعالىَ
ملأَ الدُّنيا جَمالاَ
ليتني كنتُ فَرَاشاً هائماَ ... جَالَ في الروضِ فحيَّاهُ العَبِيرْ!
أقْطَعُ العيْشَ وحيداً حائماَ ... بيْنَ روضٍ وسماءٍ وغدِيرْ!!
ذاكراً حُلْوَ الأمانِي
ناسِياً مُرَّ الزَّماَنِ!
ليتني سَجْدَةُ شَيْخٍ في صَلاَتِهْ ... يعبُدُ اللهَ الذِي يَرْهَبُ بأْسَهْ
ليتني زَفْرَةُ مَيْتٍ في مَماتِهْ ... حَطَّمَ الدَّهرُ ويا لَلْهَوْلِ كأْسَهْ!
إنَّنا أهل التراب
قد خُلقنا لِلْعذابِ!
ذاكَ ما أهوَاهُ من دُنيا الشُّرورْ ... ذاكَ ما أَرْضاَهُ مِنْ دار الفَناَءْ
عالَمٌ كادَ على الناسِ يَثُورْ ... مُذْ طَغَوْا فِيهِ وَلَجُّوَا في العَدَاءْ
هَلْ لِنفْسِي مِنْ مُؤَسىِّ
قَبْلَ أَنْ تأفُلْ شَمْسي؟!
(الإسكندرية)
محمود السيد شعبان(226/65)
القصص
من أساطير الإغريق
1 - خرافة جاسون
للأستاذ دريني خشبة
غلب بلياس الظالم أخاه إيسون على مُلك تساليا، فهام الملك على وجهه في أقصى الأرض، وهامت معه زوجته الملكة الصالحة آلسِميديه، وطفلهما الوحيد اليانع جاسون. . . وعرجا في تطوافهم بأستاذ أخيل العظيم شيرون، فدفعا إليه بالطفل يهذبه ويؤدبه، وينشّئه على الفروسية ومكارم الأخلاق؛ ورجواه أن يكتم سرهما عنه حتى يشب ويترعرع، ويبلغ أشده، فيثير في صدره الحمية، ويرسله ليثأر لأبويه، وليستخلص العرش من غاصبه. وأخلص شيرون في تربية جاسون الإخلاص كله، وكان يردفه خلفه ليعلمه الرماية، وهو شرف عظيم لم ينله من تلاميذه غير أخيل الخالد، وغير جاسون. . . ثم مرت الأيام، وشبّ الفتى على غرار أستاذه، فلم يكن في الدنيا بأسرها أحملُ منه لسيف، ولا أرمى لسهم، ولا أرجح في تفكير، ولا أوفر في حظ من جمال وكمال. ووقفه شيرون على سر أبويه، وما كان من اغتصاب عمه بلياس عرش والده؛ فثار ثائر الغلام، وازّلزل قلبه، وضرب برجله يود لو يخرق الأرض فيكون عند الظالم، فيذرو عظامه في الريح!
ووعظه شيرون، وأوصاه بالصبر وطول الأناة وإعمال الروية وحذره أن يعيث فساداً في الأرض، ونصحه أن يكون رحيماً بالضعفاء، وألا يألو جهداً في مساعدة من يطلب منه المساعدة، وألا يكون عداؤه لعمه سبباً في عدائه لجميع الناس. . . وأعطاه الفتى موثقه، ثم اخترط سيفه، وربط على قدميه وساقيه نعليه الذهبيتين، وودع أستاذه وحياه أحسن تحية، وانطلق يذرع الرحب إلى يولكوس، حاضرة تساليا
ولقي في طريقه سيلاً زاخر العباب، فوقف حياله ينظر ويفكر، ويدبر لنفسه خطة يعبره بها. وكان السيل جياشاً ينحدر من شعاف الجبل القريب، فيجرف في سبيله الجلاميد والنّؤى، وتظل تتدحرج ويضرب بعضها بعضاً فتنسحق وتتفتت، فراعه أن ينزلق وسطها، ويكون مصيره مصير جلمود منها. . . وفيما هو يعمل فكره، وفيما هو يتلفت يمنة ويسرة،(226/66)
إذا به يرى عجوزاً تابّةً تدب على عكاز غليظ، مقبلة نحوه، مادة ذراعها المعروقة مستغيثة لهفى: (بُني! بُني! انتظر أرجوك! انتظر يا ولدي!!) من هذه؟ لا يدري جاسون. بيد أنه انتظر حتى أقبلت العجوز وسألها عن شأنها، فتوسلت إليه أن يحملها على ظهره ليعبر بها مجرى السيل! ووجم جاسون قليلاً، ولكنه ذكر وصاة شيرون أستاذه، فتبسم، وانحنى للمرأة فاحتملها على كاهله القوي العتيد، ثم رجاها أن تدفع إليه بعكازها يتوكأ عليه ففعلت، وتقدم بخطى وئيدة، ولكنها أكيدة، إلى مجرى السيل لا يفكر في نؤيه وجلاميده، ولا جيشانه واصطخابه، بل يفكر في أنه يجب أن يؤدي يداً لهذه العجوز التي استغاثت به. . . وعبر مجرى السيل، وبلغ عُدْوته الأخرى بعد عناء وجهد، ووضع على الرمال اللينة المتطامنة حمله. . . ولكن. . . يا عجبا!! أين هي المرأة العجوز الحيزبون؟ أين الكومة من الجلد المتهافت، والعظام النخرة، التي كانت ترهق كاهله؟ لقد ذهبت، ووقف مكانها شباب رائع، وجمال فتان، وغادة حُسّان مفتان!!
- يا للآلهة! من أنت بحق السماء يا ربة؟
- أنا؟. . . ألا ترى إلى هذا الطاووس المزهو بذيله وألوانه أيها العبد الصالح؟
- أوه؟! أو أنت جونو؟
وسجد جاسون بين يدي الربة، سيدة الأولمب، ثم أذنت له أن ينهض، وأخذت برأسه فباركته، وسألها أن تهبه رعايتها في حله وترحاله فوعدت، ثم رفت في أثير السماء التي تفتحت لها أبواباً، وغابت عن بصر جاسون!
ووقف الفتى لحظة مسبوهاً مشدوهاً ثم انطلق في طريقه. . . وراعه بعد مرحلة طويلة أن يرى إلى قدميه فلا يجد إلا نعلاً واحداً في إحداهما. . . أما الأخرى، فقد ذكر أن السيل انتزعها من قدمه واحتملها، وهو لا يستطيع استعادتها، لأن حمله كان يرهقه!
ثم بلغ يولكوس
ورأى جمعاً حاشداً حول ملكها بلياس، الذي وقف ينحر الذبائح، ويقرب القرابين للآلهة، ويفرق حواياها في الفقراء! فدافع الناس، وشق طريقه إلى الهيكل حيث وقف الملك، ثم سار إلى عمه قُدُماً، حتى كان قبالة المذبح. . . وما كادت عين صاحب العرش - أو غاصبه - تقع على الفتى الذي يلبس نعلاً واحدة حتى شحب لونه، وغاضت الدماء الوردية(226/67)
من خديه، وأخذ قلبه يخفق ويضطرب اضطراباً شديداً. . . ذلك لأنه ذكر تلك النبوءة التي تنبأ له بها أحد سحرائه، والتي حذرته من الشاب الذي يقبل من بلاد بعيدة لابساً نعلاً ذهبيةً واحدةً في إحدى قدميه في حين يكون هو مشغولاً بتقريب القرابين للآلهة!! إن هذا الشاب يقتله!!
وأمر حراسه بالقبض على الفتى وإحضاره إلى غرفة العرش فجيء به إليها، ولم ينتظر جاسون حتى يبدأه عمه بالكلام، بل وقف أمامه جباراً يغلي الدم في عروقه، وطلب إليه أن يعتزل الملك، ويخلع التاج، ويعطي الصولجان صاحبه، وأن يعيد الحق إلى نصابه. . . (لأنك انتهزت ضعف أبي الذي أوهن منه عظامه، واشتعل رأسه شيباً. فعَتَوْتَ عليه، وألبت عليه الأوشاب من مرتزقة الجند، ورعاع الشحاذين والأفاقيين، فلبست تاجاً ليس لك، واستويت على عرش تزعزعه الجريمة من تحتك، ثم حاولت أن ترشو الآلهة وتخدع السناء بالأضحيات والقرابين، ولكنك لا تخدع إلا نفسك فالتمس لها السلامة من موت يبغتك، ومغبة وبال يحيط بك. . .)
وكان بلياس يسمع هذه الكلمات الثائرة كأنها سهام تملأ أذنيه، ومنايا تطير حول قلبه. . . بيد أنه استعد لها بالمكر، وتهيأ لصيدها بالخدعة، فتبسم لابن أخيه وقال: (ماذا تقول يا جاسون؟ أتحسبني يا بني قد سلبت أباك عرشه، وغلبته على صولجانه؟؟ كلا والله يا بني كلا. . . ولكن. . . ليسكن طائرك قبل كل شئ. . . فلقد دعوت نفراً من (رعاياك!) لوليمة إلهية، وقد أقبلوا من كل فج، وهم ينتظروننا الآن، وليس من حسن الرعاية ولا من مروءة الملوك أن يستأنوا عن مواعيدهم، فهلم تلقهم يا جاسون، وترحب بهم، فإذا فرغنا وفرغوا من طعامهم، عدنا سوية لنبحث هذا الأمر الذي أهمك وأقلقك، وملأ فؤادك بالوساوس والأراجيف؛ وسترى أن الذي أنبأك هذا النبأ زخرفه عليك، وشوه حقيقته في نفسك، بدليل هذه النيران التي تنقذف كلمات من فمك!! تعال. . . مرحباً بابن أخي جاسون! لشد ما أنا مشتاق إليك يا حبيبي!)
ثم قبله في جبينه قبلة صفراء قاتلة، أفتك من قبل التماسيح؛ وانطلقا إلى البهو الكبير، حيث صُفّت الأخاوين الحافلة بأشهى الآكال وأطيب الأشربات، وحيث جلس المدعوون إليها صفوفاً وصفوفاً وألوفاً وألوفاً. . .(226/68)
وجلس جاسون فأكل وشرب، ثم أخذت الموسيقى تعزف فتشرح الصدور الحرجة، وتشفى النفوس من كل حرد؛ واعتلى المنصة التي أقيمت في صدر الحفل جماعة من المنشدين ورواة القصص، شرعوا يسردون قصصهم، ويتناشدون أشعارهم، ويروون من أنباء الأبطال ما يأسر القلوب ويسحر الألباب، حتى أن جاسون نفسه كان يصغي إليهم وكأنه يتلقى وحياً من السماء يتنزل على قلبه، ويدعوه إلى فعال الفتية الأبطال
قال أحد المنشدين (واسمعوا أيها الناس حكاية الملك الذي صبا قلبه إلى امرأة غلبت فؤاده وسحرته بجمالها عن زوجته وأم طفليه، فبنى عليها، ولم يبال أن ينقض ركن الأسرة وينهار عمادها. . . ذلك هو أتماس أحد ملوك تساليا في الزمان القديم. ولقد فزعت الملكة البائسة وخشيت أن يصيب طفليها مكر ضرتها فاعتزمت أن ترسلهما إلى ملك كولخيس ليكونا بنجوة من إينو الخبيثة. . . وفيما هي واجمة تفكر في ذلك إذا هرمز الأمين يتنزل من السماء فيسألها وتجيبه:
- نيفيل أيتها العزيزة؟ فيم تفكرين حزينة هكذا؟
- هرمز؟ تباركت يا رسول السماء! أفكر في ولدي هذين وما عسى أن يصيبهما من مكر إينو. . .
- لا عليك يا حبيبة الآلهة، إنني مساعدك، كفكفي دموعك!
- شكراً يا إله الرحمة، سأسبح لك ما حييت!
- وأين تحسبينهما يكونا في سلام وأمن يا نيفيل؟
- لا يكون ذلك إلا عند ملك كولخيس، ولا أدري كيف أرسلهما إليه؟!
- لا أهون من هذا، فانتظري طرفة عين!
ومضى الإله فغاب برهة، ثم رجع ومعه كبش عظيم ذو فروة ذهبية وقرنين وحوافر من خالص الإبريز، فقدمه إلى الملكة المحزونة ليركبه طفلاها، ولينقلهما إلى ملك كولخيس؛ وسجدت الملكة شكراً لهرمز، ثم ودعت طفلها فركسوس، وابنتها هِلّه، وطبعت فوق جبينهما وخدودهما ألف ألف قبلة، ودعت لهما؛ ثم انطلق الكبش في الأثير يطويه بين بكائها الطويل وآهاتها التي لا تنتهي. . . وطفق الكبش يعرج في السماء، ويخطف فوق الممالك، حتى كان فوق بحر صاخب مضطرب، تقلبت أمواجه، وتناوحت زوابعه، فنظرت(226/69)
الفتاة المسكينة هِلّه تحتها لترى ما هنالك، ولكنها فزعت فزعاً شديداً حينما رأت سراطين البحر وحلازينه تقتل وتحترب ويأكل بعضها بعضاً، فارتجفت رجفة هائلة، وانفلت صوف الفروة من قبضتها فسقطت من عَل وجعلت تهوي حتى تردّت في البحر وابتلعتها أمواجه. . . ومنذ ذلك الوقت، وهذا المكان يعرف من أجل ذلك باسم (الهلسينت) نسبة إلى الفتاة البائسة هِلّه! ومضى الكبش يستبق الريح، ويطوي العوالم، حتى وصل إلى مملكة كولخيس، فهبط قليلاً قليلاً، حتى إذا كان على الأرض نزل الفتى فركسوس فصلى للآلهة، وذرف الدمع على أخته، وسلم على الملك الذي هش له وبش، وأحسن لُقياه وأكرم مثواه، ثم شحذ سكينه وتلّ الكبش لجبينه، وكبر وسبح باسم جوف، وبأسماء آلهة السماء وجزر الحيوان قرباناً لهم جميعاً. . . وسلخ الجلدة الذهبية وقدمها هدية للملك الذي فرح بها فرحاً شديد، ولأنها كانت تعدل كل ما في كنوز الملوك من ذهب. . . وقد ربطها الملك في سنديانة باسقة، ووكل بها تنيناً هائلاً ليحرسها وليسهر عليها من كل سارق رجيم. . . ومنذ ذلك اليوم والفروة التي تعدل ألف كنز معلقة لا تمتد إليها يد، ولا يجسر أحد أن يقترب منها وإلا جازف بنفسه وأصبح لقمة سائغة للتنين. . .)
ولحظ بلياس كيف زاغت عينا جاسون عندما سكت المنشد، فانتهز الفرصة، وانطلق يغريه بالاستيلاء على الفروة الذهبية، ليكون بها أعز الملوك وأضخمهم غنى، وأوفرهم ثراء؛ ثم ليخلد اسمه بين أسماء الأبطال الذين دوخوا الممالك، وأتوا من الفعال ما جعلهم أنشودة المجد في فم الزمان. . . (ولم لا يا ابن أخي؟ لقد علمت أن أستاذك الذي نشأك، وهذبك وأدبك، هو شيرون السنتور الأكبر، أستاذ أخيل العظيم؛ وقد خلد أخيل اسمه على أسوار طروادة، وأعلى ذكره في جميع الأنام، فلم لا تذهب إلى كولخيس لتحصل على الفروة الذهبية إما سَلْماً وإما حرباً، وأنت من أنت في أبطال الوغى، وصناديد الحروب؟ ألست أرمى الناس لسهم، وأضربهم بسيف، وأحذقهم طعاناً برماح؟ إنها فرصة المجد لمن يبتغي المجد يا جاسون، فلا تضعها! لا تقل (بل حسبي أن أحكم الناس) فالناس يعشقون أشجع الناس. . .) وهكذا طفق بلياس المخادع يزخرف للفتى، حتى هاج في صدره الشاب نائم المنى وأبعد الآمال. . . فرضي جاسون بالاضطلاع بهذه المجازفة، وظن أنها من اليسر بحيث لا تستعصي على شجاعته. بيد أنه عندما خلا إلى نفسه، وراح يفكر في الوسيلة(226/70)
التي يبلغ بها مناه، بدت له حقائق أسقطت في يده، وجعلته يتخاذل، ويندم على الوعد الذي وعد عمه؛ غير أنه ذكر ما قال له أستاذه شيرون من ضرورة احترام الوعد، وربطه بالشرف، فصمم على السفر إلى كولخيس وجلس يفكر فوق عدوة النهر، وكانت سمادير اليأس تملأ بظلماتها عينيه، فلم يهتد إلى الوسيلة!!. . . وانطلق إلى غرفته فقضى فيها ليلة ليلاء مثقلة بالهم والفكر. . . ثم انبلج الصبح، فانطلق إلى هيكل جونو عند دودونا. . .
- جونو. . . جونو. . . لقد كدت أنسى جونو. . . يجب أن أصلي لجونو، فقد وعدتني أن تدركني بغوثها كلما حزبني أمر. . . لقد حملتها على كتفي هذين في صورة عجوز شمطاء! وهي ستحمل عني هذه المرة!)
ووقف بجانب المذبح يرجو ويتوسل ويصلي؛ وكانت سنديانة هائلة - هي الناطقة بنبوءات جونو - نامية وراء المذبح، فسمعها جاسون تهتف باسمه وتقول:
- لبيك أيها الفتى لبيك! لبيك وسَعْدَيك يا جاسون! يا حبيب جونو لبيك! كفكف غوارب دمعك فسترعاك الربة وتحفظك. . . تعال! اصعد فوقي! اقطع أحد أغصاني واصنع منه عصاً، واجعل لها رأساً على هيئة السفينة التي تحملك إلى كولخيس وسيبنيها آرْجس لك، وذلك بإشراف مينرفا. . . ولتكن العصا معك دائماً، ولكن لا تنقلها من السفينة فهي حارستها، وكلما ألم بك خطب أو حز بك أمر، فارجع إليها فهي تكلمك وتشير عليك. . .) وسكتت السنديانة، وصنع جاسون العصا، وذهب عند سيف البحر ليرى عمال آرجس، بإشراف مينرفا، قد فرغوا من السفينة الهائلة وأنزلوها الماء. ففرح واستبشر، وسماها (آرجو) نسبة إلى صانعها ثم أعلن عن حاجته إلى نفر من شجعان هيلاس، يقاسمونه مجازفته، فاجتمع إليه عدد غير قليل، منهم هرقل الجبار وكاستور وأدمتوس وتيزيوس وأرفيوس وبولكس ويليوس. . . وأعدوا ميرتهم، واستكثروا من ذخيرتهم، ثم همت الفلك، واحتواها الماء
(البقية في العدد الآتي)
دريني خشبة(226/71)
البريد الأدبي
قضية صحفية خطيرة
قرأنا في البريد الإنكليزي الأخير تفاصيل قضية أدبية خطيرة ظهرت فيها شدة القانون الإنكليزي على اللغة القاذفة وأساليب الجدل المستهجنة؛ فقد نشرت جريدة (أكشن) وهي جريدة حديثة تناصر المبادئ الفاشية مقالاً حملت فيه بشدة على جريدة (الديلي تلغراف) الشهيرة، فنسبت إليها أنها واقعة تحت نفوذ جماعة من الماليين والدوليين، وأنها تعمل لخراب البلاد والإمبراطورية البريطانية وتمكين نفوذ العصبة الدولية من ناصية السياسة البريطانية؛ وتناولت في مطاعنها اللورد كمروز صاحب الديلي تلغراف، فذكرت أنه ينتمي إلى أصل يهودي، وأنه بهذه الصفة يخصص جريدته لمناصرة اليهودية الدولية والمالية العليا. فرفعت الديلي تلغراف وصاحبها الأمر إلى القضاء وطلبا تعويضاً ضخماً عن هذا القذف المزدوج. وللصحافة الإنكليزية تقاليد سامية في الأساليب الكتابية وفي المناقشات الحزبية تجعل مثل هذه المطاعن خارجة عن كل ما تبرره الخصومة السياسية من صنوف الجدل. والقانون الإنكليزي صارم جداً في مثل هذه المواطن التي تساق فيها الأقلام إلى القذف المثير؛ ومن ثم فقد حكم القضاء للورد كمروز ولجريدة الديلي تلغراف بتعويض قدره عشرون ألفاً من الجنيهات على الجريدة الفاشية وأصحابها وناشريها، من ذلك مبلغ 500ر12 جنيه للورد كمروز نفسه، والباقي لشركة جريدة الديلي تلغراف. وقد كان لهذه القضية الأدبية وتطوراتها صدى عميق في جميع دوائر الصحافة والأدب
والذين يقرءون الصحف الإنكليزية يعجبون حقاً بأساليبها الرفيعة في المناقشات الحزبية وجميع ضروب الجدل الأخرى، ويقدرون ما تمتاز به من الأدب الجم والتعفف عن المطاعن الشخصية المحضة؛ فالصحافة الإنكليزية مثل أعلى في هذه الناحية، ومن ثم كانت صرامة القضاء الإنكليزي في الحكم على كل ما يعتبر خروجاً على هذا المبدأ السامي
أرقام عن معرض باريس
نشرت الصحف الفرنسية أخيراً بعض إحصاءات عن معرض باريس تبين سير الأحوال السياحية التي ترتبت على قيام المعرض؛ فمن ذلك أن عدد الذين استفادوا من التذاكر المخفضة لزيارة المعرض بلغ حتى شهر سبتمبر سبعة ملايين، وزار المعرض في يوم(226/72)
واحد من أيام سبتمبر نحو أربعمائة ألف زائر، فكان هذا رقماً قياسياً لم يسبق تسجيله في أي معرض دولي سابق؛ وزار قصر اللوفر حتى سبتمبر 759 ألفاً، وزار قصر فرساي مليون و744 ألفاً في حين أن زوار فرساي في مثل هذا الفصل لا يزيدون عادة على ربع مليون؛ وصعد إلى سطح قوس النصر في هذا الفصل مليون و750 ألفاً في حين أن هذا العدد لم يبلغ في مثل هذه المدة في العام الماضي أكثر من 369 ألفاً؛ وزادت نسب السفر في خطوط الملاحة المفضية إلى الثغور الفرنسية من 19 إلى 227 في المائة حسب الخطوط، وزادت النسبة في خطوط البحر الأبيض وحدها 66 في المائة؛ واستهلكت باريس في شهري يوليه وأغسطس نحو مليون ونصف كيلو من اللحم؛ وزادت إيرادات المسارح الباريزية منذ افتتاح المعرض أربعين مليون فرنك، وهي زيادة لم تعرفها من قبل قط
على أن معظم الخبراء يرون هذه الأرقام بعيدة عن تحقيق ما كان معقوداً على قيام المعرض من الآمال؛ فقد كانوا يقدرون مثلاً أن يزور المعرض منذ افتتاحه حتى شهر أكتوبر عشرون مليوناً، والآن لا يمكن أن يبلغ عدد الزائرين أكثر من نصف هذا العدد؛ وكان المظنون أن تكاليف المعرض يمكن تحقيقها في المدة التي قررت لافتتاحه أي حتى آخر نوفمبر، ولكن إدارة المعرض منيت في ذلك الأمل بصدمة عنيفة؛ ولذلك يرجح أن تقرر الحكومة الفرنسية امتداد المعرض خلال العام القادم. ويقال إنها قد بدأت فعلاً بمفاوضة الدول الكبرى للموافقة على إبقاء معروضاتها، والمنتظر أن يتم التفاهم على ذلك في المستقبل القريب، ثم تذيع الحكومة الفرنسية قرار الامتداد قبل نهاية شهر نوفمبر الآتي
كتاب جديد عن كرمويل
يعتبر الإنكليز أن الطاغية الوحيد الذي تولى الحكم في تاريخ إنكلترا هو أوليفر كرمويل زعيم الثورة الإنكليزية الدستورية التي انتهت بإعدام الملك شارل الأول؛ وقد صدر أخيراً كتاب عن حياة كرمويل وأعماله بقلم المؤرخ الإنكليزي موريس آشلي عنوانه (أوليفر كرمويل، الطاغية المحافظ) وقد كان حرياً بمؤلف مثل هذا الكتاب أن يتأثر في تصويره للطاغية الإنكليزي بروح الطغيان المعاصر، وأن يحاول المقارنة بينه وبين الطغاة المعاصرين من حيث الغايات والأساليب. ولكن الأستاذ آشلي لم يحاول هذه المقارنة، ذلك(226/73)
لأنه يعتبر كرمويل بعيداً عن هذا الجو، ويعتبره طاغية محافظاً بالغريزة، يؤيد سلطانه بهيبته وماضيه. ويعرض لنا الأستاذ آشلي تاريخ كرمويل بإسهاب، ولاسيما في الفترة القصيرة التي تلت إعدام الملك شارل الأول، ويحلل أساليبه في الحكم وسياسته الخارجية والمالية والدينية والاجتماعية بدقة وبروح من الإنصاف المدهش؛ ويقول لنا إن كرمويل كان إدارياً بعيد النظر لم تذهب روعة الطغيان بحسن تقديره ولم تؤثر في وسائله؛ وإذا كان كرمويل لم يبد كل ما كان يريد من التسامح الديني فذلك لأنه غلب على أمره في هذه الناحية فقط، ولم يستطع أن يحتفظ بكامل حريته. ولقد كان كرمويل في الوقت نفسه دستورياً يدعو البرلمان ويحافظ على سلطانه، ولكن الجيش كان هنالك يملي إرادته. ويؤيد الأستاذ آشلي نظريته في أن كرمويل كان محافظاً بكثير من أقوال كرمويل في خطبه ورسائله، ويقول لنا إن كرمويل كان يواجه جميع المسائل بنفس الروح التي يواجه به المسائل العسكرية؛ فإذا كان النظام الذي شاده كرمويل لم يعمل طويلاً بل انهار عند موته، فذلك لأنه لم يكن متفقاً مع روح التقاليد الإنكليزية، ولكنه مع ذلك كان نظاماً جديراً بالتقدير والاحترام
وقد لقي كتاب الأستاذ آشلي كثيراً من التقدير في دوائر النقد والتاريخ، واعتبر من أحسن الكتب التي صدرت في هذا الموضوع
مترسة
اطلعت على سؤال الأديب المهذب السيد (أحمد العربي) - لله هذا الاسم! - وهذا ما أقوله:
التفسير الحق للذريعة هو ما جاء في (لسان العرب):
(الذريعة مثل الدريئة جمل يُختل بها الصيد، يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به، ويرمي الصيد إذا أمكنه، وذلك الجمل يسير أولاً مع الوحش حتى يألفه؛ والذريعة السبب إلى الشيء وأصله من ذلك الجمل) وفي (الأساس): (ومن المجاز: فلان ذريعتي إلى فلان، وقد تذرعت به إليه)
فـ (الذريعة) هي ذريعة ختل لرمي الصيد، لا طريقة وقاية من شر أو كيد. فلن تلاقي - وذلك معناها - الكلمة الفرنسية
وهناك كلمة قيلت لها منذ مدة طويلة هي (المترسة) ولم يجد الناقلون ما يضارعها، دع(226/74)
عنك ما يفضلها، وأنا لا أنفر منها، ففي (المخصص والمصباح والقاموس): (كل ما تترست به فهو مترسة لك) وفي شرح القاموس (ضبطه بكسر الميم)
فهذه العربية لتلك الفرنجية، و (تترسوا بالمتارس) للجملة الفرنسية ولكل حرب عدة وعدد، ولكل قتال مترسة ومتارس
الإسكندرية
(* * *)
جهود الفنانين في مصر الحديثة
يسر لجنة تخليد عظماء مصر بجمعية هواة الفنون الجميلة بالإسكندرية أن تعلن أنها تستعد بعونه تعالى لإخراج مطبوع ضخم يضم بين دفتيه أشهر آثار الفنانين المعاصرين في مصر الحديثة مع فذلكات خاصة عن تواريخهم ومجهوداتهم الفنية وكلمات تفسر أعمالهم وتنقدها ومقدمة مع بيان موجز عن أثر الفنان المصري القديم بقلم عظيم قدير
واللجنة ترجو من حضراة الهواة والفنانين أن يعاونوها في تحقيق مهمتها الفنية الجليلة
ولزيادة العلم عن المشروع يُرجع إلى مدير الجمعية الأستاذ حسن كامل شارع الوراق رقم 13 بميدان المحطة
جائزة نوبل للسلام
تبحث الآن اللجنة المختصة بجامعة ستوكهلم في ترشيح من يصلح للحصول على جائزة نوبل للسلام هذا العام. وجائزة السلام قدرها نحو عشرة آلاف جنيه تمنح كل عام لإحدى الشخصيات التي خدمت السلام في أي ناحية من النواحي. وقد ظفر بها من قبل عدة من أقطاب السياسة العالمية مثل أرستيد بريان رئيس الوزارة الفرنسية الأسبق، والدكتور شتريزن وزير الخارجية الألمانية السابق؛ وظفر بها عدة من الكتاب السلميين مثل السير نورمان انجيل الكاتب الإنكليزي، والهرفون أوسيتسكي الكاتب الألماني، وقد ظفر بها في العام الماضي، وكانت لذلك ضجة في ألمانيا انتهت بتحريم الحكومة الألمانية ترشيح أحد من رعاياها لنيل جوائز نوبل. وفي هذا العام يرشحون عدة في مقدمتهم الزعيم الهندي الكبير مهاتما غاندي، واللورد بادن باول مؤسس حركة الكشافة الدولية، والكاتب النمسوي(226/75)
ريخارد كودن هوفي، وغيرهم ممن برزوا في خدمة السلام بجهودهم وأقلامهم ودعاياتهم؛ وربما كان غاندي هو الذي تختاره اللجنة من بين المرشحين
برناردشو والمسرح القومي
من الغريب حقاً أن تبقى إنكلترا حتى اليوم بلا مسرح قومي. وقد وجه برناردشو الكاتب المسرحي الطائر الصيت بهذه المناسبة إلى الأمة الإنكليزية كلمة لاذعة نعى فيها هذا النقص البارز في حياتها الفنية والثقافية. ومما قاله: إن الأمة الإنكليزية لا تشترك في الاعتماد الخاص بإنشاء المسرح القومي لأنها ترغب عن مثل هذه المؤسسة، ولابد من أن يفرض إنشاؤها فرضاً على شعب لم يتحرر تماماً من الهمجية، ولا يزال يعتقد أن الفنون الجميلة إنما هي مظاهر للخلاعة، وأن باب المسرح هو أحد أبواب جهنم، وليس في ذلك شيء جديد أو غريب؛ فمن الحقائق التاريخية المعروفة أن المعاهد الثقافية يجب أن تفرض على الشعب بواسطة الحكومات أو الأفراد المستنيرين الذين يعلمون أن مثل هذه المعاهد ليست ترفاً ولا لهواً، بل هي على العكس من ضرورات الحياة المتمدنة. ولو أن المعاهد الأوربية العلمية ترك إنشاؤها لرغبة الجمهور وأهوائه في العطاء والمن لماتت جميعاً في مهدها، ولكانت أوربا اليوم أكثر همجية مما هي عليه. ثم إن المسرح القومي إذا وجد لا يستطيع أن يعيش وحده، ولابد له من مديرين وممثلين أكفاء وكتاب مسرحيات بارعين، ويتوقف وجود هؤلاء على مقدرته على الدفع والتعويض
هكذا يخاطب الكاتب المسرحي الكبير أمته بأسلوبه الفكه اللاذع ويوجه إليها قوارص الكلم لأنها لم تبد حماسة في مشروع إنشاء المسرح القومي. وإذا كنا في مصر نشعر بأشد الحاجة إلى مثل هذا المشروع الثقافي العظيم، فإنه من المحقق أنه لا يمكن أن يقام بالاكتتاب العام؛ ولابد أن تنهض به حكومة مستنيرة تقدر أثر الفن والثقافة المسرحية في ترقية أذواق الشعب ومداركه
تاريخ غانية شهيرة
قد تستحق غانية شهيرة أن تترجم وتؤرخ كما يؤرخ ملك أو قائد أو مفكر عظيم؛ فقد لعب الغواني دورهن في التاريخ، وكان بينهن طائفة شهيرة استطاعت أن تؤثر في مصاير(226/76)
العروش والأمم؛ ويكفي أن نذكر في هذا الموطن أسماء مثل بومبادور، ودوباري. وكان عصر لويس الرابع عشر بالأخص عصر الغانيات الشهيرات، ومن هؤلاء امرأة اشتهرت بجمالها وذكائها ونفوذها الاجتماعي، هي نينون دي لانكلو؛ وقد ترجم هذه الغانية الشهيرة من قبل غير كاتب، وظهر أخيراً تاريخ جديد لها بقلم مسيو جان جودال بعنوان (نينون دي لانكلو، غانية عظيمة في عصر لويس الرابع عشر) , وتاريخ نينون هو في الواقع رواية غرامية اجتماعية ساحرة، تمتاز بكثير من الأناقة والظرف، ولكنها تتكشف أيضاً عن مواطن مريبة كثيرة؛ فقد اتهمت نينون من أهل عصرها بأنها كانت ساحرة تزاول السحر الأسود، وتتعاقد مع الشيطان للاحتفاظ طويلاً بجمالها. واتهمت أيضاً بأنها تسببت في موت ولدها الشفالييه دي فلييه، وأنها جلبت الشؤم والنحس على كثيرين من أصدقائها؛ ولكن نينون كانت مع ذلك نجماً ساطعاً في مجتمعها، وكانت صديقة لأعلم عصرها مثل موليير ولافونتين، وكان لها بهو رائع يختلف إليه عظماء العصر وأمراؤه. وكانت نينون ابنة جندي وموسيقي مغامر وأم ورعة، فاستقت خلالها من الناحيتين، وتلقت تربيتها الأولى في الدير، ولكنها فرت منه فيما بعد؛ وكان مولدها سنة 1620، وتوفيت سنة 1705، وعرفت فولتير فتى حدثاً، ونفحته بعطية يشتري بها كتباً؛ وكانت في عصرها ملتقى الوصل بين التيارات المتضاربة؛ من الخلاعة إلى السياسة والفلسفة، وكانت من أعلام الفكر الحر، وكانت أديبة رفيعة الثقافة كما كانت غانية ماجنة ساحرة، وكان لها أثر عظيم في صوغ الخلال النسوية في عصرها
تلك هي الشخصية التي يتناولها جان جودال في كتابه؛ وهو يقص علينا حياة نينون بأسلوب شائق يستمد سحره وقوته من حياة نينون نفسها، ومن الألوان المختلفة التي اتشحت بها خلال حياتها الطويلة الحافلة(226/77)
الكتب
ابن المقفع
تأليف الأديب عبد اللطيف حمزة
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
الوجه في إفراد شاعر أو كاتب من الماضين بالتأليف هو - كما يقول الرافعي رحمه الله - أن تصنع كأنك تعيده إلى الدنيا في كتاب وكان إنساناً، وترجعه درساً وكان عمراً، وترده حكاية وكان عملاً، وتنقله بزمنه إلى زمنك، وتعرضه بقومه على قومك حتى كأنه بعد أن خلقه الله خلقة إيجاد، يخلقه العقل خلقة تفكير.
وهذا كتاب (ابن المقفع) وقد وضعه الأديب عبد اللطيف حمزة، وحاول فيه هذه المحاولة، واجتهد في إدراك تلك الغاية، فأخذ كاتب العربية بالقول من جميع جهاته، وتناوله من كل ناحية يمكن أو تصح أن تلابسه، وكان أن جرى في ذلك على مذهب الناقد الفرنسي المشهور (تين) الذي يرى أن الكاتب صنيعة لعوامل ثلاثة: (الجنس، والبيئة، والزمان) ولذلك فقد تناوله من جهة شخصيته فتكلم عن حياته ولونه السياسي ومصرعه وأخلاقه ومكانته ونظرته إلى المثل الأعلى وزندقته وما قيل فيها، ثم انتقل إلى الكلام عنه في فنه وعبقريته، وعرض له مصلحاً اجتماعياً وكاتباً له أسلوبه وطريقته، واهتم بتحقيق آثاره وخص بعضها بالتحليل والدرس، وأطال القول خاصة في كليلة ودمنة، ثم ختم كتابه بالقول في الأثر الأدبي لابن المقفع، أثره في الشعراء وأثره في الكتاب، وأثره في القصة، وأثره في العقل الشرقي بوجه عام
فالأديب الفاضل قد توسع بالموضوع حق التوسع، ودخل عليه من كل ناحية يمكن أن تتصل بابن المقفع، وهو في كل ناحية للقول يعن كثيراً بأن يستعرض آراء السابقين في الرجل فيناقشها مناقشة حادة عنيفة، ينتهي من ورائها إلى نقض ما يراه جديراً بالنقض، وإلى تأييد ما يراه حقيقاً بالتأييد، ثم يتقدم برأيه الشخصي محاولاً أن يحتج له ما وسعته الحجة، وأن يتلمس له ما يمكن أن يكون هناك من دليل، ولست أزعم لك أني معه في كل ما انتهى إليه من الرأي، ولكني - كما يقول الأستاذ أحمد أمين - قد أخالفه في بعض ما(226/78)
ذهب إليه من النتائج، وقد أخالفه في طريقة عرض بعض الفصول والأبواب، وقد أخالفه في تعميم الحكم أحياناً حين يحسن التخصيص - بل إني لأراه قد يفرض الرأي في بعض الأحيان فرضاً ولو لم يقم عليه شبه دليل. ومثال ذلك ما نقله عن أستاذه طه حسين (ص31) من (أن صلة ما لا بد موجودة بين أشعار صالح بن عبد القدوس وأبي العتاهية، وبين شاعر يوناني قديم هو آبيدوس عرف بفن من فنون الشعر اليوناني هو فن الشعر التعليمي؛ ثم قال: (وعندي أن ليس هناك ما يمنع العباسيين من أن يتصلوا (كذا) بهذا الفن من فنون الشعر الذي لا يتعارض والدين، ولكني لا أعلم كيف تسنى لهم هذا الاتصال وليس في المصادر العربية ما يدلنا على ترجمة لهذا الفن الشعري ولا لغيره من الفنون الشعرية عند اليونانيين). والواقع أن الدكتور طه قد ألقى رأيه فرضاً من غير دليل، وهو رجل يدرس الأدب بالفرض والتخمين؛ ولاشك أن الأديب حمزة قد تورط إذ أخذ برأي أستاذه هذا وتابعه على مذهب (ليس ما يمنع) وإني لأعجب كيف يقول: إن صلة ما لا بد موجودة بين شاعري العربية والشاعر اليوناني، مع أنه (لا يعلم كيف تسنى لهم هذا الاتصال وليس في المصادر العربية ما يدلنا عليه)
هذا ولقد تورط حضرته مرة أخرى في مطاوعة أستاذه، إذ رأى (ص80) أن السبب الوحيد أو من الأسباب في قتل ابن المقفع (رسالة كتبها توشك أن تكون برنامج ثورة موجهة إلى المنصور وهي رسالة الصحابة) قال: (وفي هذه الرسالة نجد تشريعاً جديداً من عمل الكاتب يقترحه على الخليفة ليعمل به في أمور شتى كان أهمها أمر القضاء) والذي نراه أن رسالة الصحابة على ما ينطق به موضوعها ليست برنامج ثورة، ولكنها في الواقع برنامج إصلاح رفعه الكاتب إلى الخليفة، لأن فيه توطيداً لملكه، وتقوية لنفوذه؛ وكأني بالكاتب قد كتب هذه الرسالة يريد بها المثوبة عند الخليفة. والواقع أن الأديب حمزة قد أبعد كثيراً في تلمس الأسباب التي أودت بحياة ابن المقفع وانتهت به إلى تلك النهاية الأليمة؛ مع أن السبب ظاهر واضح. . . وهل قتل الرجل غير (السياسة) قاتلها الله؟! تلك التي طالما طاحت برقاب وهوت برؤوس، كمثل ما صنعت بعبد الحميد الكاتب وبشار بن برد وغيرهم من الكتاب والشعراء
وثمة أحكام تخالف المؤلف في الأخذ بها، فأنا مثلاً لست معه في تصحيح تلك الرواية التي(226/79)
نقلها عن إسلام ابن المقفع (ص56) ولا في تلك التي أثبتها عن معارضته للقرآن، كما أني لست معه في أن بن المقفع (أوذي في سبيل حرية الفكر) وأنه كان (عدواً للعرب يسخر منهم) وأنه كان (زنديقاً ملحداً) إلى غير ذلك من الأحكام التي يتلمسها المستشرقون للرجل بالحق والباطل. ولقد كان في تقديري أن أناقش الأديب حمزة الرأي لولا أني رأيت المجال محدوداً، وأني لست بصدد الكلام على بن المقفع، ولكني بصدد القول في (كتاب). . .
بقي القول في أسلوب الكتاب وهي ناحية مهمة في تقدير الأثر الأدبي وتعيين قيمته؛ ولست متجنياً على الأديب الفاضل إذا تنقصت أسلوبه في بعض نواحيه، فهو ينهج نهج أستاذه الدكتور طه في تكرير اللفظ، ومرادفة الجمل، والإكثار من الحشو والاعتراض، ولكنه لا يُحكم ذلك ولا يجوّده، وربما تهافت إلى حد لا يطيقه الذوق، كأن يقول: (وهذا وهذا وهذا عدا الكتب الأخرى) وكأن يقول: (ويذهب به ما ذهب بنفوذ الأعراب وتقاليد الأعراب وعقول الأعراب) وأكثر من هذا فقد يهضم حق اللغة كأن يقول: (وقد كان القدماء يخشون من وضع الكتب. . . ولعلنا نخشى كذلك من وضع الكتب) وكأن يقول: (ثمناً غالياً وغالياً بأكثر مما يتصور الناس) وكأن يقول: (ولعل كتاب الأدب الكبير يكون أصدق مثل لما نقول) و (كان) لا تنقاس زيادتها إلا بين ما وفعل التعجب ولا تكون إلا بلفظ الماضي. وما أريد أن أتقصى وإنما أريد أن أنبه الأديب الفاضل لعله يتلافى هذه الهنوات وأمثالها في الطبعة القادمة إن شاء الله، خصوصاً وهو ربيب قسم اللغة العربية في كلية الآداب؛ ثم هو يزعم أنه يتصوف تصوفاً علمياً وأدبياً فيعكف على العلم والأدب آصائل النهار ونواشئ الأسحار، وما يليق (بمتصوف) الأدب أن يكون أسلوبه في شيء من التهافت وضعف التأليف؛ وما يليق به أن يفنى في غيره، وإنما الواجب أن يكون له طريقته ونهجه، فإن الفناء في شخصية أخرى (فناء)
على أن الأديب حمزة والحمد لله ليس من المكابرين في قيمة الأسلوب فهو يرى أن (من حق الأسلوب أن يجود وليس كاتب ولا عالم ولا مؤرخ إلا ويجب (؟) أن يصرف في العناية أقصى ما يستطاع) ولكنه يعتذر عن نفسه بأن (الوقت لم يتسع للتجويد في الأسلوب) وأنا لا أدري ما الذي ضيق عليه الوقت، وما الذي حمله إلى إخراج كتابه قبل أن يستكمله تجويداً وتحريراً كأنه لم يعلم أن المرء ما يزال في فسحة من عقله حتى يؤلف(226/80)
كتاباً. . . وكأنه لم يعلم أن الناقد لا يقدر الأثر الأدبي إلا من حيث هو هو في مادته، وليس مما يعنيه مراعاة المسافة والزمن، ولقد سألت صديقنا الأستاذ الزين الشاعر فقلت له: أراك تتنطس في حوك شعرك حتى لتقضي في ذلك الوقت الطويل. فقال: نعم! لأني لا أريد أن أفوت ثلمة يتقحم منها الناقد. وإن القارئ ليقرأ وهو مطمئن، فليكتب الكاتب وهو أكثر اطمئناناً
أما بعد، فأنا مقدر للأديب حمزة ما صرف من جهد في البحث والاطلاع وإخراج هذا الأثر النافع، ولعل كتابه - على ما أعرف - هو أوفى بحث خرج عن ابن المقفع للآن، وإني لأرجو له أبحاثاً أوفى وأتم، وأشمل وأعم، فتكون كالإعجاز بعد الإرهاص؟
محمد فهمي عبد اللطيف(226/81)
العدد 227 - بتاريخ: 08 - 11 - 1937(/)
سورية!
للدكتور عبد الوهاب عزام
سورية الجميلة ذات الخمائل الوارفة، والجنات الناضرة، والمياه الثارّة!
سورية مراح الفؤاد، ونزهة الطرْف!
سورية الكادحة التي يجهد أهلها في السهل والجبل يُخرجون بالماء القليل شتى الثمرات، وينبتون به يانع الجنات، سوريةُ بَرَدى والعاصي!
سورية الصابرة التي وفرت الأيام نصيبها من النكبات والأزمات، المجاهدة التي تجادل عن نفسها، وتجاهد عن شرفها، دفاع البطل الأصْيَد الأعزل، يمضي بجنانه ويده يشق الأهوال إلى غايته، ويحطم الخطوب إلى طلبته، مجاهداً مثابراً، مرزّأً صابراً
سورية التي لم تجف فيها دماء الشهداء، ولم تنقطع سلسلة النوائب!
سورية التي تفيض بالذكَرة المجيدة، والسير الخالدة، وتمتّ بالرحم الواشجة، والقربى الواصلة، والجوار والذمام!
سورية الجميلة الحبيبة، الكادحة المجاهدة الصابرة، فجئها السيل كقطع الليل، ودهمها القضاء من السماء، فاستحالت جبالها أنهاراً، وسهولها بحاراً! طغى السيل بالناس والدواب، وجرف القرى والضياع، وذهب بالزروع والثمار
فهذه جثث الغرقى منثورة في السهول، وأنقاض الدور تغص بها الأودية، وتحت الماء والطين عتاد البائسين، وذخيرة المساكين، وما أبقت الأزمات، من ثياب وأقوات. فانظر إلى الشمل المبدّد، والأمل المخيّب، والهلع والفزع، والفاقة والجزع! انظر إلى الدموع الجارية، والنظرات الهالعة، والخدود الضارعة، والعقول الذاهلة، والقلوب الحائرة، واستمع زفرات الأحياء على الأموات! وبكاء الأولاد أو نحيب الآباء والأمهات! استمع فكم أنّة كليم، وآهة يتيم!
إن الشاعر المحزون الواله ليخيل إليه أن مجرى السيل خليق أن يكون مجرى الدمع؛ ويذكر قول أبي العلاء:
ليت دموعي بمنى سيّلت ... ليشرب الحُجاج من زمزمين
لك الله يا سورية! تركتك منذ قليل تعانين ما تعانين، وارتقبت أن تتطاير الأخبار بما نؤمل(227/1)
من انتعاشك، وما نرجو من نهوضك، فما راعنا إلا نبأ السيول الجارفة المدمرة. ولكن في صبرك وجهادك عزاء، وكل غمرة إلى انجلاء؛ وإن وراء هذا الظلام فجرا، وإن مع العسر يسرا
هذه سورية في نكبتها؛ فمن ندعو لنجدتها؟ إن ندعو العرب فأهل النجدة، وأولو الحمية، وحفَظة الجوار، ورُعاة العهد؛ في قلوبهم الراحمة لهؤلاء المنكوبين رجاء، وفي قرابتهم العاطفة عزاء، وفي أيديهم السخيّة ما يخفف البلاء. وهم للبائس خير وزر، وللاجئ أمنع عَصَر
وإن ندع المسلمين والنصارى فالدين يأمرهم بالتراحم ويحفزهم إلى المواساة؛ وإن لإخوانه فيهم لنُصراء رحماء يجيبون دعوة المضطر، ويمسحون دمعة المحزون، ويفرجون كربة المكروب، أن عليهم أن يمسحوا هذه القلوب الدامية، ويرفقوا بهذه الأكباد الواهية
بل أدعو البشر أجمعين والإنسانية كلها دعوة عامة شاملة، وأستنجد القلوب الرحيمة لا أستثني أحداً، أن تمد الأيدي الآسية إلى هذه الألوف التي يعوزها القوت واللباس والمأوى
يا معشر الكتاب والشعراء! كيف تقسو في هذه المحنة القلوب، وتجمد في هذه الكارثة الدموع، ويصمت في هذه الفاجعة البيان، ويخذُل القلم واللسان؟
إن ما بين دمشق إلى المعرة للسيل غارات، وللدمار آيات، وللشعر مقالاً، وللبيان مجالاً
دمشق العظيمة تستغيث، والمعرة الخالدة تستنجد؛ فيا أدباء العربية والإسلام! أحيوا الهمم واشحذوا العزائم. ويا أحباء أبي العلاء! هذا شيخ المعرة في بيانه، يستنجدكم لجيرانه:
يقول:
كيف لا يشرك المضيقين في النع ... مة قوم عليهم النعماء؟
ويقول:
من حاول الحزم في إسداء عارفة ... فليُلقها عند أهل الحاج والشُكر
ومن بغي الأجر محضاً فلينادِ لها ... برّا فقيراً وإن لاقاه بالنكر
فألقوا بمعروفكم هؤلاء الأبرار الشكرُ تجمعوا الحزم والخير في مكرمة. ولا تحقروا ما تسعفون به وإن قل. واستمعوا إليه يقول:
إذا طرق المسكين دارك فأحبُه ... قليلاً ولو مقدار حبة خردل(227/2)
ولا تحتقر شيئاً تساعفه به ... فربّ حصاة أيّدت ظهر مجدّل
عبد الوهاب عزام(227/3)
المزاح البارد
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان لنا في المدرسة الابتدائية مدرس لا نراه إلا معبّساً - لا يفتر له ثغر ولا تنبسط له أسارير وجه، ولا تلمع عيناه بنور البشر، لفرط ما يزوي ما بينهما، ولكنه على هذا كان لا يكف عن ركوب زملائه المدرسين ورئيسه الناظر أيضاً بالدعابة التي تجيء أحياناً خفيفة محمولة، وسائغة مستظرفة، وأحياناً أخرى تكون سمجة ثقيلة لا تطاق. فمن لطيف مزحه أن العادة جرت في المدارس بأن يصوّر التلاميذ مع أساتذتهم في آخر العام المدرسي لتبقى الصور ذكرى لعهد التعلم فصففنا أمام المصور - القصار من أمثالي في الصدر، والطوال وراءهم، وجلس المعلمون على كراسي أعدت لهم أمامنا وجيء بكرسي كبير ذي مسندين للناظر، وكان رجلاً جهولاً ولكنه طيب القلب، وجعل صاحبنا يروح ويجيء هنا وههنا ليسوي الصفوف كما يزعم، ويقدم واحداً ويؤخر آخر، ويقبل ويدبر، والناظر قلق يصيح به: (اخلص بقى يا فلان أفندي) فيقول: (حالاً. حالاً إن الله مع الصابرين) ويمضي فيما هو فيه من التسوية والتعديل. وكانت العادة أيضاً أن توضع خلف الصفوف خريطة أم مصور جغرافي كبير فادعى أنه نسي ذلك وذهب يعدو إلى حجرة المدرسين ثم عاد يحمل مصوراً ملفوفاً وعلقه وأبقاه مطوياً ثم صاح بنا: (الآن انظروا كلكم إلى عدسة المصور) ففعلنا ونشر هو المصور الجغرافي وأخذت الصورة فطوى الخريطة وحملها وذهب بها فأعادها إلى حيث كانت، وجاءت الصور وأدى كل من يرغب الاحتفاظ بنسخة منها الثمن المفروض ومضى بها إلى بيته فرحاً مسروراً. ثم تأملناها على مهل في البيوت فإذا مكتوب وراءنا بالخط الثلث: (حيوانات الدنيا)، ولا أحتاج أن أقول أن معلمنا نشر خلفنا مصوراً لحيوانات الأرض من أبقار وجاموس وحمير وخيل وأسود وفيلة الخ لا للكرة الأرضية وقاراتها. . .
ومما أذكره في باب المزاح العملي أن واحداً من أصدقائي كاد مرة يخرب بيتي، فقد زارني فلم يجدني وكنت يومئذ في بيت عتيق له فناء رحيب، فوقف يصفق وينادي، فلما قالوا له إني خرجت قال: (سبحان الله العظيم وهل هذا كلام؟ يُشْبُك بنات الناس ويهرب؟)
وعدت إلى البيت وأنا خالي الذهن مما حدث، فلما دخلت على أهلي قلت: (السلام عليكم)(227/4)
كما هي عادتي فرأيت أمي تنظر إليّ مقطبة ثم ترخي عينها إلى الأرض، فالتفت إلى زوجتي فإذا هي تنظر إلى الحائط ولا تحول عينها عنه، كأنما عليه رسم ساحر؛ فاستغربت وأنكرت هذا الاستقبال الحافل بالنذر ولكني آثرت التباله، وأقبلت على أمي أريد أن أقبل يدها فتناولتها فنزعتها بعنف وحولت وجهها عني والدمع متحير في مآقيها فزاد عجبي وقلت: (مالكم. . . جرى إيه؟) فصاحت أمي بي: (رح. . . رح إلى حيث كنت
ووجدت زوجتي لسانها فقالت: (أيوه رح إلى حيث كنت)
فتأملتها ملياً وأنا أحك رأسي وأحاول أن أهتدي إلى سر هذا اللقاء الغريب فلم يفتح الله عليّ بشيء، فقعدت أمامهما وجذبت وجهيهما إليّ وقلت: (خبراني ما هي الحكاية فما أعرف شيئاً أستحق من أجله أن ألقى منكما هذه الجفوة)
فأفصحت أمي قليلاً وقالت: (شف بنات الناس. . .)
فقاطعتها: (بنات الناس؟ أي بنات وأي ناس؟
قالت: (هل خطبت؟)
فوثبت إلى قدمي وصحت: (خطبت؟. . خـ. . خـ. .)
فقالت زوجتي: (ألا ترين كيف يتلعثم؟ إن هذا إقرار)
فصرخت وأنا أكاد أجن: (أي إقرار يا ستي؟ أين عقلكم يا خلق الله؟ ألا تكفي غلطة واحدة؟)
ولا أحتاج أن أقول أيضاً أني خرجت بحماقتي من ورطة فوقعت في ورطة. فقد اقتنعت أمي وزوجتي بأن الزواج من أخرى لم يخطر لي على بال، وإن هذا كان مزحاً ثقيلاً من صاحبي ولكن زوجتي ظلت إلى آخر عمرها تذكر قولي: (ألا تكفي غلطة واحدة؟)
ومن الفصول الباردة ما حدث مرة في بيت قريب لنا وكان قد دعانا إلى سهرة في مصر الجديدة حيث كان يسكن، وكان بين الضيوف اثنان من المصريين الذين تعلموا في ألمانيا، فاقترح أحدهما أن يدعو صديقاً له من الألمان ليسمعنا قطعة موسيقية ألمانية فكاهية، وقال إنها: (تميت من الضحك) وأيد زميله قوله، فقبلنا وذهب رب الدار معهما لدعوة هذا الألماني الذي بُشرْنا بأنه سيميتنا من الضحك وكانت شقته في العمارة نفسها فما لبثوا أن عادوا ومعهم رجل وقور، ذو لحية كثة، ووجه رزين، ونظرة صارمة، فجعلت أتعجب فيما(227/5)
بيني وبين نفسي كيف يسع هذا الرجل أن يضحك أحداً كائناً ما كان ما يغنيه أو يعزفه. وكان الشابان يكلمان الرجل بالألمانية التي لا نعرف منها حرفاً. وجلس الرجل إلى البيانو وشرع يدق فلم يبد لنا - أو على الأقل لي - أن في الأمر ما يضحك؛ وكان جاداً وكان وجهه ساهماً كأنه يحلم، وغنى وهو يدق بصوت عميق قوي فالتفت إلى أحد الشابين فألفيته يبتسم فقلت: أبتسم مثله وأستر جهلي باتخاذه قدوة، وصرت بعد ذلك أخالس الشابين أو أحدهما النظر وأفعل كما يفعلان فإذا ابتسما ابتسمت، وإذا ضحكا ضحكت، وإذا قهقها أطلقتها مجلجلة؛ ولم أكن وحدي في هذا الاحتذاء فقد كان المدعوون مثلي جهلاء - أعني باللغة الألمانية - وقد خطر لهم كما خطر لي أن يحاكوا الشابين. وكنت ربما عجبت لمطربنا فقد كان إذا ضحكنا أو قهقهنا يرمينا بنظرات حامية فالتفت إلى الشابين مستغرباً ما يبدو عليه من الغضب والغيظ والنقمة فهمس في أذني أحدهما أن هذا هو المضحك. . . هذا الجد الصارم على الرغم مما في القطعة التي يغنيها وما في تلحينها من الفكاهة الواضحة فهززت رأسي كأني فهمت وازددت اقتناعاً بأن الأمر مضحك ولاشك ورحت أقهقه. ثم استغنيت عن النظر إلى الشابين والاقتداء بهما ورحت أضحك على مسئوليتي كما يقولون وخلعت ثوب الجهل والتقليد، ولبست ثوب الدعوى العريض الفضفاض
وأخيراً نهض الرجل عن كرسيه وأدار فينا عيناً تقذف بالشرر وخرج مغضباً محنقاً يبرطم ويبرجم ونحن نتبادل نظرات الإنكار لهذا السلوك العجيب فهل كان ضحكنا يا ترى أقل مما يجب؟ هل خيبنا أمله ببلادتنا؟ لا بل بجهلنا فقد كان ما يغنيه قطعة مبكية من مأساة مشهورة، وكان الرجل المسكين يعتز بأدائها على الوجه الصحيح، فكاد يجن إذ كنا نتلقى ذلك بالهزء والسخرية. وقد اعتذرنا إليه بعد بضعة أيام - لما فهمنا الحقيقة وعرفنا أنها كانت مزحة قبيحة - ولكن المسكين كان قد تعذب ليالي لا ليلة واحدة.
إبراهيم عبد القادر المازني(227/6)
إلام يسير العالم؟
طريق الحرب وطريق السلام
بقلم باحث دبلوماسي كبير
إلام يسير العالم؟ هل يوفق إلى التغلب على أزماته واضطراباته الحاضرة أم يسير حتماً إلى حرب جديدة تغمره بالويل؟ هذا سؤال يتردد اليوم على ألسنة جميع الأمم والأفراد؛ ولكن أشد المتفائلين لا يسعه إلا أن يسلم بأن العالم يجوز حالة من القلق والفوضى لا تبعث إلى الطمأنينة والرضى، بل نستطيع أن نقول إن العالم يسير اليوم إلى مستقبل محفوف بالنذر والمخاطر؛ فأينما سرحنا البصر ألقينا الأمم تجيش بالخصومات والمشاكل الداخلية والخارجية وتعاني متاعب العطلة والفاقة والأزمات الطاحنة، وتسودها حالة ظاهرة من القلق والتشاؤم؛ وفي أمم عدة تقوم نظم عنيفة طاغية تضطرم بروح الثورة على كل النظم والمبادئ القائمة، وعلى كل العهود الدولية، وتسحق في الداخل كل الحقوق والحريات العامة وتسلب الفرد كل المزايا والخواص الإنسانية، وتعد الشعوب لمعارك دموية تخوضها في سبيل أحلام ومطامع غامضة من السلطان والسيادة. وفي أكثر من ميدان تضطرم اليوم حروب عنيفة قاسية، تجني شر الجنايات على شعوب آمنة مسالمة، وتحصد أرواح البشر بأروع الأساليب والصور، ولا يجد المضرمون لنارها وازعاً يردهم عن جرائمهم لأنهم لا يؤمنون إلا بالقوة الهمجية وخصومهم ليسوا مثلهم على استعداد للالتجاء إليها
هذه هي صورة العالم اليوم، وهي صورة تحمل على التشاؤم أكثر مما تحمل على التفاؤل، فلم يبلغ العالم منذ الحرب الكبرى ما يبلغه اليوم من الاضطرام والاضطراب والفوضى؛ وكل ما هنالك يدل على أنه يجتاز مقدمات العاصفة كما كان يجوزها في سنتي 1913 - 1914، ولأسباب تشبه في معظمها تلك التي أدت إلى الانفجار في سنة 1914؛ ذلك أن الحرب الكبرى قامت لعاملين أساسيين هما الخصومات العنصرية والمطامع والمنافسات الاستعمارية، وتلك الخصومات والمطامع والمنافسات هي التي تثير اليوم معظم الأزمات الدولية، وإليها يرجع بالأخص ما يعانيه العالم اليوم من أسباب القلق والاضطراب والفوضى؛ فالحرب في الشرق الأقصى بين الصين واليابان، والحرب الأهلية الأسبانية وما يترتب عليهما من أزمات خطيرة تهدد سلام العالم؛ والمنافسة الشائكة بين إيطاليا وإنكلترا(227/7)
على سيادة البحر الأبيض المتوسط؛ وما تدعيه إيطاليا وألمانيا كل لنفسها من حقوق استعمارية، وما يحفزهما إلى المبالغة في التسلح والاستعداد للحرب: كل ذلك يرجع إلى شهوة التوسع والاستعمار، وإلى المنافسة الاقتصادية والاستعمارية بين أمم كإيطاليا وألمانيا واليابان ترى أنها حرمت دون حق من نصيبها المشروع في أسلاب الأمم الضعيفة وميادين الاستعمار الشاسعة وبين أمم مثل إنكلترا وفرنسا تتمتع كلتاهما بأملاك استعمارية ضخمة وموارد اقتصادية عظيمة، وتحرص كل الحرص على ما بيدها من هذا التراث الذي ترمقه الأمم الأخرى بعين الحفيظة والجشع، وإلى هذا العامل الاستعماري يرجع أيضاً ما تعانيه الأمم المغلوبة من الآلام والمتاعب المادية والمعنوية؛ فالاضطرابات الدموية التي تجيش بها فلسطين منذ أشهر، والحركات القومية التي تجيش بها تونس والجزائر ومراكش، وما تنزله الأمم الغالبة بهذه الأمم المغلوبة من ضروب القمع المنظم احتفاظاً بسلطانها وسيادتها، إنما هي أيضاً وليدة هذه الشهوة الاستعمارية التي لا تخبو، والتي لا تعرف حقاً ولا عدالة ولا أي اعتبار إنساني
ولقد كان غزو إيطاليا للحبشة إحدى هذه الفورات الاستعمارية البربرية، كما كان غزو اليابان من قبل لولاية منشوريا الصينية، وكما هو اليوم شأنها في الحرب التي تشهرها على الصين دون رأفة ولا هوادة؛ ولم يكن موقف الأمم الأخرى بالأمس إزاء الاعتداء على الحبشة، أو موقفها اليوم إزاء الاعتداء على الصين إلا وجهاً آخر من وجوه المأساة، فهذه الأمم لا تحاول أن تعترض سبيل الأمم المعتدية لأنها تؤمن دونها بالحق وترغب في الذود عنه، ولكن لأنها تخشى أن تظفر الأمم المعتدية دونها بمغانم وأسلاب استعمارية جديدة تزيد في ثروتها وقوتها وخطرها
هذا عن العامل الاستعماري؛ وأما العامل العنصري فيرجع إليه أيضاً قسط كبير في إثارة الخصومات والقلاقل الدولية. ولقد كانت الخصومة السلافية الجرمانية من أهم العوامل التي عاونت إضرام نار الحرب الكبرى؛ أما اليوم فهنالك الدعوة الآرية أو دعوة الأجناس الرفيعة والأجناس المنحطة التي تشهرها ألمانيا الهتلرية في وجه العالم؛ وهنالك الخصومة الآرية اليهودية التي تذكي ضرامها بكل ما وسعت؛ ثم هنالك مشكلة الأقليات القومية التي تتخذ في أوربا الوسطى صوراً حادة تبث الحقد والحقيقة بين الأمم والعناصر المتجاورة،(227/8)
وتنذر بتكدير السلم من آن لآخر
بيد أنه يوجد في المعترك الدولي الحاضر عامل جوهري آخر لم يعرفه العالم قبل الحرب الكبرى؛ وذلك هو الخصومة المضطرمة بين جبهتين مختلفتين من النظم والمبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فالنضال بين الفاشيستية والديموقراطية يشغل اليوم فراغاً كبيراً في المعترك الدولي، ويثير أزمات دولية خطيرة تنذر بتقويض صرح السلم بين آونة وأخرى. والفاشيستية تذكي الأحقاد القومية والجنسية بصورة عنيفة تثير أعصاب الأمم المختلفة وتحول دون تفاهمها، وتعمل بكل ما وسعت لتمزيق العهود الدولية، وتدعيم نظرية القوة الغاشمة، وجعل الحرب هي المثل الأعلى للأمم؛ وهي بذلك تحمل أكبر تبعة في خلق الأزمة الدولية الحاضرة، وإثارة القلق الذي يساور جميع الأمم، وتكدير جو السلام، والتمهيد بحركاتها وتهديداتها العسكرية لجر حرب جديدة تبدو نذرها في الأفق حيناً بعد حين
هذه الصورة المضطربة المروعة لأحوال العالم رسمها الرئيس روزفلت في خطابه الذي ألقاه أخيراً في شيكاغو وحمل فيه على (نظم الإرهاب والانتهاك) التي فرضتها بعض الحكومات على العالم منذ بضعة أعوام، وعلى تدخل هذه الحكومات تدخلاً غير مشروع في الشئون الداخلية لبعض الأمم الأخرى؛ وعلى غزو الأراضي الأجنبية انتهاكاً للمعاهدات والعهود الدولية؛ وتساءل الرئيس روزفلت: كيف يقال إننا في أوقات سلم والغواصات تتربص بالسفن الآمنة فتغرقها دون سبب ودون إنذار، والقنابل تلقى على المسالمين الآمنين ومنهم نساء وأطفال أبرياء دون حرب ودون مبرر من أي نوع. هنالك أمم تزعم أنها تطلب الحرية وتقدسها ولكنها تنكرها على الأمم الأخرى؛ وهنالك شعوب بريئة تضحي لتحقيق شهوة سلطان وسيادة لا تبررها أي عدالة أو أي اعتبار إنساني؛ ومع ذلك فإن هؤلاء الذين يلعبون بالنار ويعملون على تكدير السلم لا يبلغون في رأي الرئيس روزفلت أكثر من عشرة في المائة من مجموع شعوب العالم. وأما التسعون في المائة الباقية فهي شعوب ترغب في السلام، وتستطيع بل يجب عليها أن تجد الوسيلة لكي تحقق رغبتها في صون السلام، وأنه يستحيل عندئذ على أية أمة مسالمة أن تلوذ بالعزلة والحياد من حالة الفوضى والاضطراب الدولي التي يخلقها انتهاك الحقوق
وصوت الرئيس روزفلت هو صوت الأمم الديموقراطية؛ والدول التي يعنيها، وهي(227/9)
المنتهكة للحقوق والمعاهدات، المقدمة على تكدير السلم وعلى الفتك بالآمنين والمسالمين، هي الدول الفاشستية والاستعمارية، أو بعبارة أخرى هي ألمانيا وإيطاليا واليابان؛ ولكن الديموقراطية أبدت في الأعوام الأخيرة كثيراً من ضروب الضعف والتردد، وبالغت في التمسك بالألفاظ والوعود، ولم تحاول أن تؤيد كلمتها بوسائل فعالة إزاء العابثين بالحقوق والمنتهكين لحريات الأمم؛ واستطاع هؤلاء بما رأوا من أحجام الدول الديموقراطية وتخاذلها أن يقدموا على تنفيذ مشاريعهم بجرأة لا مثيل لها؛ فقد ذهبت الحبشة ضحية لتهاون الديموقراطية ووعودها الخلابة، واستولت عليها إيطاليا في غمر النار والدم بينما كانت عصبة الأمم والدول الديموقراطية من حولها تردد أنشودة الحق والمعاهدات والعقوبات الاقتصادية؛ وذهبت أسبانيا الجمهورية فريسة الدسائس الفاشستية وما زالت تعاني أكثر من عام أهوال حرب أهلية لم تقصدها، ولم يثر ضرامها ويمدها بالوقود سوى أولئك الذين يرون أن يشقوا إلى أطماعهم طريق النار والدم؛ وهاهي ذي اليابان تتوغل في الصين وتثخن في جنباتها وتفني جيوشها وشعوبها دون إعلان حرب ودون مبرر سوى ما ترمي إليه من تحقيق شهوتها الاستعمارية؛ كل ذلك والدول الديموقراطية تقنع بالاحتجاجات اللفظية وعقد لجان عدم التدخل والمؤتمرات التي لا طائل تحتها
والخلاصة أن الفاشستية المضطرمة تجيش بمشاريعها وتعمل لتحقيق شهوتها في الاستعمار والسيادة غير مكترثة لما تهدد به سلام العالم من الأزمات والأخطار؛ ذلك أنها لا ترى أمامها سوى طريق العنف والدم؛ والديموقراطية من جانبها تلوذ بالأحجام والمطاولة وتؤثر التراجع على الاصطدام الخطر؛ ذلك أنها ترغب عن الحرب وتفتدي سلامها بكل ما وسعت؛ ولكن النضال يصل اليوم إلى ذروته، ولابد أن تضطر الديموقراطية عاجلاً إلى العمل إذا لم ترد أن تفلت القيادة من يدها وتغدو تحت رحمة الفاشستية المتوثبة. فماذا يكون مصير السلام يومئذ؟ وهل يؤدي الاصطدام إلى الانفجار الخطر، أم تستطيع الديموقراطية بما تملك من وسائل الضغط المادي والمعنوي أن تقف هذا التيار المتوثب في الوقت المناسب فتنقذ بذلك سلامها وسلام العالم؟ يقول لنا العلامة فيريرو، وهو من ثقات التاريخ والسياسة: إن ما تعانيه أوربا الآن من الاضطراب والفوضى يشبه ما عانته منهما على أثر عقد معاهدة فينا عقب سقوط نابوليون؛ ومعاهدة فرساي تشبه معاهدة فينا في فساد الأسس(227/10)
والمبادئ التي قامت عليها؛ وإن الأزمات والأخطار العسكرية التي تواجهها أوربا ترجع إلى ما يسميه فيريرو (باستعمار الخوف)؛ فإن إيطاليا واليابان تنحدر كل منهما من مغامرة إلى أخرى للاحتفاظ بما كسبته من الأراضي من طريق غير مشروع على نحو ما كان يفعل نابوليون عقب كل انتصار من الاندفاع في مغامرة جديدة للاحتفاظ بثمرة انتصاره. ويرى فيريرو أن ألمانيا التي استطاعت حتى الآن أن تجتنب هذه المغامرات يمكن أن تعد عاملاً جوهرياً في تأييد السلم إذا رأت أن تجانب هذا التيار المتوثب وأن تضع يدها في يد الديموقراطية الغربية؛ أما إذا اندفعت ألمانيا في هذا التيار فويل للسلام عندئذ. هذا ما يراه العلامة فيريرو، ونحن معه في أن الخطر على السلام إنما يرجع بالأخص إلى نزعات الفاشستية ومطامعها الاستعمارية، وأن مستقبل السلام منوط بموقف الديموقراطية، فإذا هي يئست من الحلول والوسائل السلمية، واستطاعت عندئذ أن تعتزم أمرها، وأن تقابل الوعيد بالوعيد والضغط بمثله تؤيده استعداداتها ومواردها الضخمة، فإن تيار الفاشستية لا يلبث أن ينكشف ويخبو. وفي رأينا أن الساعة قد حلت لأن تسلك الديموقراطية هذا المسلك؛ وفي يقيننا أنها فاعلة بلا ريب.
(* * *)(227/11)
التشريع والقضاء في العهد الفرعوني
للأستاذ عطية مصطفى مشرفة
- 3 -
كان يفصل في القضاءين المدني والجنائي حتى القرن الثالث عشر ق. م بمصر هيئة واحدة؛ وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة وهي من الرمامسة فصل القضاء المدني من القضاء الجنائي وأصبح لكل منهما محكمة خاصة به في الإقليم. وكان يرأس المحكمة المدنية في طيبة رئيس كهنة (آمن) ويجلس معه عشرة من الكهنة، أما المحاكم الجنائية فكان يرأسها (دجا) أي ممثل السلطة التنفيذية في الإقليم ورئيسه، وكان يساعده موظفان كبيران هما بمثابة محلفين، ونائب الملك (نم) الذي كان يمثل النيابة. أما الدعوى المختلطة أي التي تجمع بين طرفين أحدهما مدني والآخر جنائي فكانت المحكمة الجنائية تنظرها مضافاً إليها ثلاثة قضاة مدنيين يكونون في الأكثر من رجال الدين. وعندما تدخل الكهنة في القضاء في القرن الحادي عشر ق. م في عهد الأسرة العشرين زاد نفوذ الإله آمن فاستفتي في المسائل الجنائية ثم عظم نفوذه بمضي الزمن حتى أصبحت فتاوى آمن في خلال حكم الأسرة الحادية والعشرين أحكاماً نافذة في جميع الأقضية التي تعرض عليه جنائية أو مدنية أو تجارية أو إدارية؛ فكان يعرض عليه المتهمون ليفصل في قضاياهم بالوحي المنزل من عنده، وكان يدير الإجراءات بحضرته رئيس الكهنة فيقدم كتابين أحدهما يثبت البراءة والثاني يقرر الإدانة، فإذا وضع الإله إصبعه على الأول بريء المتهم، وإذا وضع الإله إصبعه على الثاني أدين. وأحياناً يحضر المتهم أمام تمثال آمن ثم يذكر رئيس الكهنة الوقائع أمام التمثال عندما ينتهي من ذكر تلك الوقائع يسأل رئيس الكهنة الوثن إن كان المتهم مجرماً أو بريئاً، فإذا هز الإله رأسه بالنفي برئ المتهم، وإن هز الإله رأسه بالإيجاب اعتبر المتهم مجرماً
قال الأستاذ ارون بيفن في كتابه (البطالسة) عن آمن: (وكان الوثن ككل أوثان التنبؤ مجبولاً بحيث يحدث عدداً محدوداً من الإشارات، فيحرك رأسه أو يلوح بذراعيه أو يشير بيديه؛ وكان يعهد إلى كاهن أن يشد الحبل الذي يحرك الوثن ثم ينطق بالنبوءة؛ وكان الجميع يعرفونه معرفة تامة، ولكن لم يدر بخلد أحد أن يتهمه بالغش أو يرميه بالخداع فإنه(227/12)
كان عندهم الأداة التي يستخدمها الإله وبالأحرى آلة سيره، وكان الروح يلبسه في برهة خاصة، والروح هو الذي يحرك الصنم ويحرك شفتي الكاهن بما يريد؛ فالكاهن يعير يديه وصوته، ولكن الإله هو الذي يقدر أعماله ويوحي إليه بما يخرج من كلمات) وإذا كان المتهم غير معروف على وجه التحديد عرض المتهمون جميعاً على تمثال آمن الذي يشير بيده إلى المتهم منهم، أو يقول عنه مثلاً (هذا هو السارق). فإذا أنكر المتهم ما اتهمه به آمن أعاد آمن اتهامه، فإذا صمم على الإنكار بعد ذلك سيق إلى السجن وهناك يلقى من العذاب ما يجعله يقر بجرمه، إذ لا يمكن نسبة الكذب إلى الإله آمن. وعند اعترافه بأنه مذنب يساق مرة أخرى إلى آمن الذي يسمع اعترافه ويصادق عليه، وعندئذ يقدم المتهم للمحكمة الجنائية التي تحكم عليه بالعقوبة نتيجة لهذا الاعتراف. غير أن نفوذ الإله آمن قد ضعف في عهد الأسرتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين وهما من اللوبيين وأصبح الرجوع لفتاواه شكلياً بحتاً، ثم استرد بعض نفوذه بين سنتي 721 و 718 ق. م
ولما تبوأ الملك بوخوريس مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين عرش مصر أزال التدخل الديني وأعطى للقضاء صبغته المدنية السابقة؛ غير أن استيلاء الأثيوبيين على مصر وانتمائهم لآمن أعاد له سلطته القضائية السابقة ولكنها ضعفت في عهد الملك أمازيس (أحمس الثاني) أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وبذلك قضى على سلطة آمن قضاء مطلقاً، وأعاد للقضاء صبغته المدنية التي كان عليها زمن الملك بوخوريس فأعاد أمازيس المحاكم الجنائية والمدنية وفق نظام رمسيس الثاني (رمسيس الأكبر) أي إلى ما كانت عليه المحاكم في القرن الثالث عشر ق. م وبذلك أعيد الاختصاص في المواد الجنائية إلى محكمة دجا وفي المواد المدنية إلى محكمة القضاة الكهنة كما كان متبعاً من قبل. ولم يحرم أمازيس الكهنة من الفصل في القضايا المدنية لسببين: أولهما أن القضايا المدنية تتطلب علماً ومعرفة بالقانون، والثاني أن هذا العلم وتلك المعرفة لم يتوفرا إلا لرجال الدين إذ ذاك، ولكن أمازيس ألغى طريقة الفصل في القضايا بواسطة الوحي الديني، أما القضاء الجنائي فنظراً لبساطته وسهولته بقي الفصل في أموره للملك إما بنفسه وإما بقضاة يعينهم
ولقد فصل قدماء المصريين بين وظيفة القضاء ووظيفة الاتهام إذ ظهر منذ الأسرة الثانية عشرة وظيفة لسان الملك وكان شاغلها بمثابة النائب العام في زماننا؛ وكانت مهمته أن(227/13)
يباشر التحقيق وأن يقيم الدعوة العامة وأن يأمر بالقبض إن وجد لذلك مسوغاً. وكانت له بجانب وظيفته القضائية هذه اختصاصات أخرى مالية وإدارية. وقد أمكننا أن نعرف وظائفه على وجه التحديد في عهد الرمامسة أي في عهد الأسرة التاسعة عشرة. وكانوا يسمونه تارة (لسان الملك) وأخرى (فم الملك) وثالثة (نِمْ) وكما أن للنائب العام في زماننا وكلاء يباشرون الدعوى نيابة عنه في الجهات الأخرى المختلفة كذلك كان (للسان الملك) وكلاء يسمون دِنُو في الأقاليم وكانوا يباشرون الدعوى العامة أمام محاكم الأقاليم الجنائية، وكان عضو النيابة يدخل في صميم تشكيل المحكمة الجنائية عادية كانت أم غير عادية. وكان يثابر على حضور الجلسات، وكان يذكر اسمه عقب القضاة وقبل الكتبة في محاضرهم؛ وكان قدماء المصريين يعترفون للمؤسسات الدينية بالشخصية المعنوية وبذلك سمحوا لها بالتقاضي أمام المحاكم. وكان للمحكوم له أن يحجز على أموال المحكوم عليه. وكان للأفراد حق رفع الجنحة المباشرة إلى المحكمة إذا لم تقم النيابة العمومية أي (لسان الملك) ووكلاؤه برفع دعاويهم
ووجد بكل محكمة قلم لتلقي العرائض وآخر للمحفوظات تحفظ به سجلات الأحكام، وكانت محاضر جلسات المحاكم الجنائية العادية مكتوبة ومطولة تشمل كل التحقيقات من أسئلة وأجوبة واستجوابات وشهادة شهود إلى غير ذلك، وكان يقوم بتدوينها كتبة يدخلون في تشكيل المحكمة
وقد فطن قدماء المصريين إلى ما في المرافعات الشفهية من ضرر قد يصيب العدل في صميمه نتيجة لتأثر القضاة بفصاحة اللسان فمنعوها وجعلوا معظم الإجراءات مكتوبة؛ وكان للمحكمة أن تنتدب الخبراء لمعاينة مكان الحادث أو لإجراء الكشف الطبي على المجني عليهم وفحص المتهمين
وقد أشفق قدماء المصريين على قضاتهم من فصاحة المحامي وحسن دفاعه وسحر بيانه وما قد يؤدي إليه ذلك أحياناً من الإغضاء عن الحق والقانون فلم يقروا نظام المحامين عن الخصوم أمام المحاكم واعتقدوا أنه قد يكون في بلاغتهم وفصاحة لسانهم وحسن منطقهم ما يغشي على الحقيقة فيتأثر القضاة بهم لما في البيان من السحر. وكانت الطلبات تعرض في مذكرات، ولكل من طرفي الخصوم الحق في الرد عليها كتابة، فيشرح المدعي دعواه(227/14)
بالتفصيل في عريضة دعواه ويرفق بها كل مستنداته ثم تعرض تلك العريضة على المدعى عليه ليطلع عليها ويرد عليها بمذكرة مكتوبة معترفاً أو منكراً بعض أو كل ما جاء فيها، ثم تترك الفرصة مرة أخرى للمدعي للرد على ما جاء بمذكرة المدعى عليه ويترك لهذا الأخير فرصة الرد الأخير على المدعي بمذكرة ثانية فكان المدعى عليه هو آخر من يقرأ له القاضي وكان يحصل هذا التبادل في المذكرات قبل الجلسة. ولا تصدر المحكمة حكمها إلا بعد الإطلاع على المستندات المقدمة من طرفي الخصوم ونظر جميع الأوراق المختصة بالدعوى وتمام المداولة واستشارة قوانين الدولة. وكان التأني في إصدار الحكم من أهم صفات القضاة حتى لا تجرهم العجلة إلى السقوط في مهاوي الخطأ. وكانت جلسات المحاكم تعقد علانية ويؤدي الشهود يميناً قبل أداء شهادتهم أمام المحكمة في الدعاوى الجنائية والمدنية. أما صيغة اليمين فهي (أقسم بآمُن وبالملك أن أقرر الحقيقة ولا أقول كذباً؛ فلئن كذبت فلتجدعن أنفي ولتصلمن أذني ولأنفين إلى إتيوبيا أو إلى خارج الحدود) ووجدت السجلات العقارية التي كانت تسترشد بها المحاكم إذا فصلت في نزاع عقاري فإذا شعرت المحكمة بأن المستندات المقدمة من الخصوم والمثبتة للملكية غير كافية لإثبات الحق أمرت بإجراء تحقيق تكميلي تسد به هذا النقص ثم تصدر حكمها مشتملا على خلاصة أقوال الطرفين في النزاع والأسباب ونص الحكم. أما المحكمة الخاصة التي كانت تنظر في القضاء الجنائي غير العادي فكانت تصدر حكمها بغير إعلان الأسباب. وكانت التحقيقات فيها سرية ومحاضرها موجزة. وكانت فكرة العقاب عند قدماء المصريين لا تنطوي على الانتقام الشخصي وكانوا يعتقدون أن حق معاقبة المجرم وتنفيذ العقوبة فيه مفوض إليهم من القوة الإلهية. وقد عرف قدماء المصريين الحبس الاحتياطي وصرحت به قوانينهم
بعض نماذج من التشريعات المصرية المدنية والجنائية في
قوانينهم
قلنا إن ديودورس الصقلي امتدح القوانين المصرية، وقال إنها جديرة بالإعجاب وإن العالم أعجب بها فعلاً. ويؤسفنا أن نقول أن هذه القوانين التي بهرت العالم برقيها والتي غذته(227/15)
بمبادئها ما زالت دراستها مهملة في بلادنا. وإنه ليعز علينا أن نعترف بأنه على الرغم من أهميتها التاريخية والفنية لم نعثر في بحثنا إلا على بعض المصادر الأوروبية والعربية التي بحثت فيها. جمع (تحوت) إله القانون القوانين المختلفة بعد أن وضعها لقدماء المصريين، وكان ذلك في سنة 4241ق. م؛ إلا أن هذه القوانين قد بعثرت وشتت أغلبها بعد ذلك، ولم يتمكن من جمعها إلا الملك بوخوريس الذي عدلها وأفرغها في مجموعة واحدة نظم بها الأحوال الشخصية والمعاملات المدنية. كانت التعهدات على اختلاف أنواعها قبل الملك بوخوريس تحصل مشافهة إذ لم تكن كافة العقود تحصل بالكتابة وإنما كانت تتم بيمين أو (صنك) يصدر من المتعهد للمتعهد له بأنه سيؤدي إليه ما اتفقا عليه، ثم أطلق لفظ (صنك) بعد ذلك على العقد نفسه. ونحن نرجح بأن لفظ (سند) هي بعينها (صنك) المصرية القديمة. وكان يشترط حضور عدد من الشهود ذكوراً كانوا أم إناثا حتى يمكن إثبات العقد. ولم يكن من الجائز تعدد أحد طرفي العقد عندهم فإذا تعدد اعتبروا شخصاً واحداً، ويقولون (تكلم فلان وفلان بفم واحد أو بلسان واحد) وكان لا يترتب على العقد الالتزام من طرف واحد؛ وكان إذا تخلف المتعهد عن الوفاء بما التزم به أكره على الأداء بالعقاب البدني مع الحكم عليه بغرامة تعادل نصف قيمة الحق المدعى به؛ ولم يكن التقادم معروفاً في القانون المصري القديم قبل عهد الملك بوخوريس
قلنا إن الأصل في العقود ولاسيما البيع وهو من أهمها أن لا يكون البائع والمشتري أكثر من واحد، لأن تعدد طرفي العقد لم يعترف به قانونهم فكان إذا تعدد البائعون اعتبروا متضامنين فيما بينهم، وإذا تعدد المشترون وكانوا من عائلة واحدة صار أرشدهم وكيلاً عنهم. وكان يترتب على البيع المنعقد باليمين أمام الشهود أن يلتزم البائع بتعهدين أولهما تسليم سندات الملكية وثانيهما منع كل تعرض للمشتري. واشترطوا ذكر هذين التعهدين صراحة في العقد بادئ ذي بدء ثم عدلوا عن ذكرهما صراحة في العقد عندما كثر استعمالهما وأصبحا يفهمان ضمناً في العقد. وقسم القانون المصري القديم الأموال إلى منقولة وثابتة، وقسم الأموال المنقولة إلى جامدة وحية. وكانت تلك الأموال بجميع أقسامها السالفة الذكر ملكاً لملك مصر يمنحها لمن يشاء؛ وقد احتفظ الملك في الأموال الثابتة بحق الرقبة وأعطى حق الاستغلال لمن يشاء من رعيته(227/16)
(يتبع)
عطية مصطفى مشرفة(227/17)
الطريقة العلمية
في الحضارة والحياة
للأستاذ محمد أديب العامري
كيف ذهب العمر؟
يرى بعض علماء الحياة أنه قد مر الآن ما يقارب مليون سنة على وجود الإنسان على وجه الأرض. ويرى بعضهم أن هذا كثير فينزل العدد إلى نصف من ملايين السنين. ومهما يكن من أمر الخلاف بين العلماء في ذلك فالمؤكد عندهم على كل حال أن عمر الإنسان على الأرض لا يقل عن ربع مليون
ومن المعلوم أنه قد مضى الجزء الأكبر من هذه الحقب الطويلة دون أن يكون للإنسان في المدنية طَوْل يذكر، ولكن عشرة آلاف السنة الأخيرة شاهدت من تفجر عقل الإنسان ما تقر به الآثار إلى اليوم، كما أن النصف الأخير فقط من هذه الآلاف العشرة هو الذي يعرفه إنسان التاريخ في حضارة الدنيا
فحضارات العصور الحجرية والفلزية وحضارات الآشوريين والمصريين واليونان والرومان والهنود والصينيين والفرس والعرب والحضارة الحاضرة، هي النتاج البشري المهم الذي نذكره حين ندرس التاريخ
ومن الواضح أن المدنية الحاضرة أزهى هذه المدنيات وأعلاها وأكثرها ديموقراطية وتمهيداً لرفاهية الإنسان وسعادته وأن هذه المدنية الزاهية العظيمة قد ظهرت ونمت، ولا تزال تنبئ بنمو أعظم، فيما لا يزيد على الـ250 سنة الأخيرة. ومع ذلك كله فما يزال مفكر مثل ويلز يقول: (إننا لم نشهد بعد الفجر الأول الباكر للتاريخ الإنساني)
وليس من غرضنا أن نبحث هذا الآن، ولكن ويلز محق، فليس تاريخ البشر في طابعه الأكبر إلى اليوم إلا سلسلة من المجازر الوحشية والمجاعات والتدمير والغارات والسطو. فإن يكن هذا جديراً بعقل الإنسان وفكره فإن فجر الحضارة قد طلع منذ أيام رجل جاوي القردي. ولعل النوع الإنساني إذ ذاك كان أشد حضارة فقد كان أشد ضراوة وأشد فتكاً؛ وإلا فإن تاريخ النوع البشري لم يخط منه إلى الآن شيء يستحق ألا يمحى(227/18)
ومع أن الواقع يؤيد ما يقول ويلز فإننا نحب أن نحسب للمائتين والخمسين سنة الأخيرة حساباً خاصاً؛ فقد خطت فيها الحضارة البشرية خطوات إن تكن راجفة فإنها واعية؛ وإن تكن في بعض صفحاتها مخزية، فإنها في بعضها لامعة مشرقة. فقد رافق هذه المدنية متاعب وآثام نحن نعاني اليوم أشد أدوارها مرارة، ولكن المؤكد لدى التدقيق هو أن هذه المتاعب ستزول إذ تمحوها الأفكار البشرية العالية يوم تصفو المدنية نفسها للنوع الإنساني خالصة من كدرها وويلها. والنظر في هذه المتاعب لا يهمنا في بحثنا الحاضر كذلك، وإنما يهمنا هنا إزالة الريب الذي يحدثه بعض الكتاب إذ يقولون إن المدنية الحاضرة لم تكن أشمل المدنيات وأرقاها وأبعدها تمثيلاً لاتجاه التطور الإنساني في معارج التقدم
فحساب الـ250 سنة التي نمت فيها هذه المدنية بالنسبة إلى ربع المليون كحساب سنة في الألف. فما الذي ضيع على تاريخ البشر هذه السنين كلها فجعلها هباء أو كالهباء؟
إن السر في ذلك هو (الطريقة العلمية) فهي طابع المدنية الحاضرة والعامل الأساسي في سرعة خطاها وسعتها
فما هي هذه (الطريقة العلمية)، وكيف أدت إلى إسراع خطوات النهضة الحاضرة، وكيف يمكن أن نفيد منها في حياتنا الاجتماعية والسياسية اليومية؟
كيف كان الناس يفكرون؟
كان الناس من قبل يؤمنون بالأرواح يصورونها لأنفسهم، ويثقون بالأذكياء منهم (العلماء) ثقة عمياء. فقد كفى أن يقول أرسطو أن الهواء عديم الوزن حتى مضى قوله هذا صحيحاً دون ريب قروناً عديدة. وقد كان يكفي هوميروس أن يقول إن الأرض مستوى مستدير حتى يؤمن الناس بقوله دون تحقيق أو يعارضوه دون تحقيق. لم تكن نظرة الناس قائمة على التجربة والاختبار؛ ومع أن النهضة العربية كانت أحدث النهضات ومن أبعدها قياماً على البحث والتحقيق، فقد تخللها جدل غيبي عابث كثير وإيمان أعمى كثير. فإذا قال القزويني إن الهواء ينقلب ماء إذا برد كان على الناس أن يصدقوه، لأنه يؤكد أنه ما افترى شيئاً مما أورد في (عجائب المخلوقات)
فإذا كان الذي يقرر الحقائق العلمية لا يسأل عن براهين وأدلة، راده الغرور أكثر الأمر، وجال ذهنه في المغيبات والمعميات يخترع للناس ويضع. وإذا كان من حق كل متكلم أن(227/19)
يتكلم في رأيه عن أمر لم يخبره بالتجربة كان كل روائي الذهن عالماً مدهشاً، وساد في الناس سفسطائيوهم وكذابوهم والمتجرئون منهم على الحق والعلم
وهكذا بطأت خطوات العلم في التاريخ منذ عرف الإنسان إلى ما قبل القرون الثلاثة الأخيرة، حتى وصل الناس إلى مفتاح هذه السرعة الهائلة في الوصول إلى النتائج العملية والآراء النظرية في مدنيتنا الحاضرة. هذا المفتاح هو الطريقة العلمية، فكيف بدأت (الطريقة العلمية) بدءها الواضح في تاريخ الناس؟
كيف يفكر العلماء؟
يروى لأرسطو قوله: (لو استطعت أن أجد نقطة في الكون تصلح محور ارتكاز لرفعت الأرض كلها على رافعة). وقال ديكارت شيئاً مثل ذلك، ولكنه كان أبعد أثراً في تاريخ الفكر البشري. قال: (لو كنت أستطيع أن أجد حقيقة لا ريب فيها لبنيت عليها كل العلوم) - حقيقة واحدة فقط! هذا يدلك على مبلغ شك الرجل (العلمي) وحذره في كل ما يرى ويسمع. فليس شيء عنده حقاً حتى يتضح بالوسائل التي تدفع كل شك؛ وليس شيء ينفى إلا بعد براهين النفي كاملة. فموقف الرجل العلمي تجاه المسائل هو موقف الحياد التام
وإذا لم يعتبر ديكارت (1596 - 1650) نفسه أول واضع لأساس الطريقة العلمية في التفكير البشري الفلسفي، فلا ريب أنه من أول الواضعين، كما يعتبر جاليلو (1564 - 1642) مؤسس الطريقة العلمية التجريبية في العلوم
ويمثل كل من الرجلين في ميدانين من ميادين التفكير البشري (الرجل العلمي) الذي امتلأت جوانحه بملازمة الصفات التي يتصف بها أمثالهما من العلماء
فالرجل العلمي يعشق الحقيقة ويصبر على الوصول إليها. هو ذو عين يقظة حذرة ترى الدقائق في الأشياء المعرضة للبحث والدراسة. وما أشد هذه الخاصة ندرة! فإن عدداً من الناس يشهد حفلا فإذا سئلوا بعد انفضاضه عن عدده تشعبت أقوالهم عجباً، وتداخلت عواطفهم إلى حد يفسد الوصف ويشوه الواقع. فالرجل العلمي قوي الملاحظة صحيحها، دقيق الوصف لها. قال السير ميخائيل فوستر في خطاب له في رياسة المجمع البريطاني: (يكتفي الرجل - الرجل غير العلمي - بقوله (تقريباً) و (حوالي)، أما الطبيعة فليس عندها من ذلك شيء. ليس من طريقها التوحيد بين شيئين مختلفين مهما دقت شقة الخلاف بينهما،(227/20)
حتى ولو كان الخلاف يقاس بأقل من جزء من الألف من الميليغرام أو الميليمتر) فكلما أغفل المرء دقائق هذه الفروق بين الأشياء في العلم ضل؛ ومهما يكن من أمر صراعه واجتهاده في الوصول إلى الحقيقة على أساس هذا الإغفال فإنه مخفق في النهاية. لا محالة أن العلم لا يعرف إلا الدقة المطلقة؛ والذي لا يصبر على هذه الدقة لا يستطيع أن يكون عالماً. ولم يخلق كل الناس ليكونوا علماء. على إن التمرس بالدقة في الوصول إلى الحقائق أمر لازم في التربية
والرجل العلمي متأن متحفظ، فهو لا يسرع في إبرام حكمه على شيء حتى تتوفر لديه الأدلة كافية عليه. وإن من أكثر ما يصم الباحث هو الوصول إلى استنباطات فجة قائمة على عدد قليل من الحقائق. لا يتعجل الوصول إلى فرض جديد أو نظرية حديثة ليتعجل شيئاً لنفسه، فإن الفرض أو النظرية إذ تنهار فيما بعد تنهار على صاحبها. وهو لا يتحيز إلى نفسه ولا إلى أي فرض أو نظرية. إنه ينظر إلى الحقائق مجردة
والرجل العلمي إنسان واضح صافي الذهن صافي الفكرة. وهو يعي أنه يدرك الأمور على حقائقها. فأنت تعرف أن بعض الناس يؤكدون أنهم يعرفون أشياء على وجه ما، فإذا الحقيقة أنها على وجه آخر. إنهم لا يعرفون متى يعرفون شيئاً ومتى لا يعرفونه. وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا علماء أو تتم لهم ثقافة. وكما أن الرجل العلمي واضح الفكرة فهو صافي العبارة كذلك. إنه حين يعبر عن شيء يعبر عنه بأبسط الكلمات وأوجز العبارات؛ ومن هنا كانت لغة العلم الصحيحة سهلة. وأثر الأسلوب العلمي في أدب العصر فانتحى السهولة الممتنعة. فالرجل العلمي لا يستعمل لفظة تحتمل معنيين أو جملة تشير إلى مفهومين، بل تكون عبارته قاصدة واضحة
وبالجملة يكون الرجل العلمي رجل ثقافة وعقلية علمية. فهو بطبعه يحب الصدق والوضوح والإيجاز والتدقيق في قبول ما يعرض على عقله من حقائق وأقوال
ونجمل فنقول: إن الطريقة العلمية في بحث مسألة من المسائل تقتضي:
1 - أن يجمع العالم من الحقائق والمشاهدات على المسألة التي يبحث فيها جهد ما يستطيع. ويجب أن يتأكد من صحة الحقائق والمشاهدات بالقياس الدقيق
2 - أن ينسق ما يصل إليه من الحقائق(227/21)
3 - أن يكوّن بناء على الحقائق فرضاً يؤول هذه الحقائق جملة
4 - أن يجرب صحة الفرض بحقائق أخرى. فإذا قوي الفرض أدرك مرتبة النظرية
5 - ويمكن أن تحيط النظرية بجميع الحقائق التي تبحث عنها بعد تجربة واختبار طويلين فتصبح قانوناً، وهو أقوى تعبير يجمل الحقائق العلمية
ولنضرب مثلاً يوضح الطريقة العلمية:
فالناس يعرفون الآن أن المادة ليست متلاحمة الأجزاء. فبين أجزاء قطعة من الحديد وإن ظهرت مصمتة فراغ كبير. واضح مثلاً أن بين أجزاء الفلين فراغ يملؤه الهواء أو فراغ مطلق لا شيء يملؤه. فالذي يشاهد أن الفلين يمتص الماء يفكر في الفراغ الذي ملأه الماء، فيخطر بباله أن لا بد وأن يكون بين أجزاء الفلين فراغ. فإذا ما لاحظ أن قطعة السكر تمتص الماء كذلك اشتد خاطره بأن هنالك مادة غير الفلين يتخلل الفراغ أجزاءها. فإذا ما لاحظ أن قطعة السكر تذوب في الشاي ترجح لديه أن بين أجزاء الماء نفسه فراغ تملؤه دقائق السكر الذائب. ذلك نمط من الحقائق يجمعها العالم، ويرافق جمعها في ذهنه فكرة توحد بين المشاهدات التي يقصدها منها. فهذه الفكرة هي الفرض
فإذا ما انطلق العالم يفتش عن مواد أخرى ويلاحظ ما إذا كان يفصل بين دقائق أجزائها فراغ، ويرى أن هنالك كثيراً جداً من المواد يصدق عليه ما خطر له في الفرض أكد فرضه فجعله نظرية
والنظرية التي يمكن أن تستنبط من مثالنا هذا هي أن بين جزئيات المادة فراغ. فإذا صادف العالم المحقق أثناء بحثه مادة كالبلاتين شديدة التماسك لا يبدو للمرء أول وهلة أن بين أجزائها فراغا حاول بكل وسائله الممكنة أن يعرف ما إذا كان هذا المثل يرد النظرية أو يؤيدها. فإذا ردها عاد العالم إلى حقائق أخرى، فإذا كانت المشاهدات الجديدة غير ممكنة التأويل على أساس النظرية المقترحة سقطت وبحث عن غيرها، وإلا فإنها تتأيد وتصبح بمنزلة القانون العام.
فأسلوب البحث العلمي واضح المعالم بيّن الطريق. وهو يقتضي كما مر عقلية خاصة وإرادة خاصة وشمولاً خاصاً في النظر لا يتاح لكثيرين. واتباع هذا الأسلوب الواضح هو الذي خطا بالعلم هذه الخطوات الواسعة، وفسح للعقل البشري هذه الآفاق العجيبة(227/22)
الطريقة العلمية والحياة
إن أسلوب التفكير العلمي نافع جداً في العلاقات بين الناس. والتفصيل في ضرب الأمثلة على ذلك يحمل على الإطالة أكثر مما أطلنا
فنحن نشاهد ضعف قوة الملاحظة في التلاميذ والناس. والشرق لا يختلف عن الغرب، ولكن الغربيين أخذوا بأساليب البحث العلمي زمناً فقويت عندهم ملكة المشاهدة واتزنت عقول كثيرين منهم وترفعت عن الأوهام والأخذ بالظواهر؛ وكان لهذا أثر كبير في حياتهم السياسية والاجتماعية. ولا ريب أن أخذنا بأسباب المدنية الحاضرة سيؤدي بنا ما أسرعنا باتخاذنا هذه الأسباب إلى الغاية نفسها؛ وفي هذا الخير كل الخير
فكثيرون منا ما يزالون يأخذون بظاهر الأقوال سواء أجرت هذه مجرى حقائق العلم أو حقائق الحياة. ويعزى كثير من الركود والسوء في مجتمعنا إلى هذا الأخذ البسيط. يقال لنا مثلاً إن مرافق الحياة والإنتاج في بلادنا ضعيفة، فنأخذ بظاهر هذا القول ونتقاعس عن وسائل الإنتاج العلمي فيشتد بنا الخوف والتزاحم
ومن مظاهر حياتنا اتهامنا الشديد للذين يصيبون منا شيئاً من النباهة. وهذا خلق عام في الناس، ولكن شدته عندنا ظاهرة. فما أن ينبغ نابغ حتى تدور الألسنة فيه بالكذب والافتراء. ومما يدل على ضعف الروح العلمية في الناس تصديقهم بمفتريات وادعاءات لا تنطبق على الواقع ولا يصدقها العقل. وهم يأخذون بهذه المفتريات بضعف النظرة العلمية فيهم. فالذي يحملك على رأي في إنسان لم تعرفه أنت بنفسك كالذي يحملك على القول بأن الهواء غير ذي وزن دون أن تزنه - كلا الأمرين يدل على فقدان النظرة العلمية
(السلط)
محمد أديب العامري(227/23)
أبو الفرج الببغاء
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 2 -
قدمت طرفاً عن نشأة أبي الفرج وعن حياته الأدبية، فلأقدم طرفاً من شعره ونثره محاولاً أن أكشف في أثناء عرضي لها عن مكنون معانيها، وروائع أخيلتها، بما يقر عين الكاتب، وينقع غلة الشاعر، فأحيي شعراً كاد أن يندثر، وأذيع أدباً قد غمر، بينا صاحبهما كان في عصره غمر البديهة وفير النباهة. ولا أكاد أفهم لماذا ضن الزمان على أبي الفرج بما وهبه لمن هم أدنى منه مكانة وأقل قدراً، ممن ذاع في عصرنا أدبهم، وصارت ملء الأسماع والأبصار أسماؤهم؛ إلا إذا اعتقدت أن للأدب جَدّاً قد يكون لامعاً فينشر تاريخ صاحبه، وقد يكون خابياً فيأفل بأفوله صيت كاتبه؛ وهذا هو نصيب أبي الفرج من أدبه، ولكني أرجو أن أقضي حقوقاً نام قاضيها، وأوفي ذكر أيادٍ على اللغة لم تجد من يوفيها، فيتنبه علية الكتاب ورافعو ألوية الأدب في مصر إلى أمثال الببغاء ممن لفهم الدهر في طياته، وطواهم بين إمعاته ونكراته، وكانوا في إبان نهضة اللغة من النابهين، وفي عصور ازدهار الأدب من الفحول النوابغ، فيحيون تراثهم وينشرون للأدباء سيرهم، ويقرئوننا شعرهم ونثرهم
طرق أبو الفرج جميع أغراض الشعر المتداولة في عصره إلا ما يبعد صاحبه عن النبل والمروءة ويسمه بسمة الفحش والسفاهة أو ينظمه في سمط السلطاء، فلم يكن هجاء مقذعا بل كان يربأ بنفسه عن أن تكون في منزلة دنيا فيتناول الأحساب يعرضها أو الأعراض ينهشها، كما كان يفعل ذلك أكثر شعراء عصره. وإنه ليبدو لنا من دراسة شعره أنه كان رقيق الحاشية سجيح الخلق نبيل المروءة محبباً إلى علية القوم وعامتهم، يرى أن له مكانة ترفعه عن اللغو، وتسمو به عن الهجو. وإليك ما يشعرنا به من شعره قال:
أكُلُّ وميض بارقة كذوب؟ ... أما في الدهر شيء لا يريب؟
تشابهت الطباع فلا دنئ ... يحن إلى الثناء ولا حسيب
وشاع البخل في الأشياء حتى ... يكاد يشح بالريح الهبوب
وفيها يقول:
أبى لي أن أقول الهجر قدر ... بعيد أن تجاوره العيوب(227/24)
وإذن فاعتداده بنفسه، وعرفانه قدرها، هو الذي حدا به إلى الترفع عن الهجاء. ولقد كان أبياً عزيز النفس لا يتحمل منة ولا يستكين عن ذلة ويدعو إلى القناعة شأن شعراء الزهد في عصره:
ما الذل إلا تحمل المنن ... فكن عزيزاً إن شئت أو فهن
إذا اقتصرنا على اليسير فما ال ... عِلة في عتبنا على الزمن
ومع أن هذا الشعر قد يكون صادراً للحكمة وإرسال الأمثال فإنه يدلنا على صفاته ويشي إلينا ببعض خلاله. كذلك لم يكن من الرقعاء الماجنين أو الخلعاء المستهترين، وإن هو قد ألم في صدر شبابه بما تدعو إليه نزوات الشباب، وأتى في باكورة صباه ما يصبو إليه من لا يزال غض الإهاب، لكنه مع هذا كان عنيف اللسان شريف البيان، تقرأ حوادثه الكاعب الغانية والشمطاء الفانية فلا تجد الأولى ما يريق حياءها أو يبعث الخجل إلى وجهها، وإن وجدت الأخرى ما يهيج أشجانها ويتصباها، ويبعث فيها ذكريات أيام شبابها وصباها؛ وهذه قصة تريك حقيقة ما نقول:
تخلّف عن الغزو مع سيف الدولة بدمشق، وكانت سنه قرابة العشرين؛ ويظهر أنه أحس وخز الضمير وتأنيب الشهامة، فأخذ يتسلى عن تخلفه بارتياد الحدائق والرياض، ويتعزى عن اتهامه بالقعود بالقصف والمجون، فقصد إلى دير مران، واختار له من رهبانه سميراً هو أقلهم في الرهبنة حظاً، وأديرت بينهما الراح، وإذا راهب آخر يوحي إليه بطرفه يستقدمه إليه، فانتحيا ناحية، فسلمه رقعة فضها فإذا هي دعوة إلى زيارة أرسلها صاحبها في عبارة رقيقة وأبيات رشيقة ختمها بهذين البيتين:
فإن تقبلت ما أتاك به ... لم تشِن الظنَّ فيه بالكذب
وإن أتى الزهد دون رغبتنا ... فكن كمن لم يقل ولم يجب
فصحا من سكره، وتخيل الداعي في نثره وشعره ملكاً كريماً، أو عاشقاً نبيلا، فكان جوابه على دعوته ما ذكره في وصفه لتلك الحادثة إذ يقول:
وكان جوابي طاعة لا مقالة ... ومن ذا الذي لا يستجيب إلى اليسر
فلاقيت ملء العين نبلا وهمة ... مُحَلَّى السجايا بالطلاقة والبشر
فاستقبله غلام (كأن البدر ركب على إزاره) واقتعدا وغلاميهما غارب اللذة وتناهيا نوادر(227/25)
الأخبار وتناهبا روائع الأشعار على كؤوس المدام، فما شملتهم بالفرح الشمول حتى أمر المضيف غلامه بالغناء فغنى:
يا مالكي وهو ملكي ... وسالبي ثوب نسكي
نزه يقين الهوى في ... ك عن تعرض شك
لولاك ما كنت أبكي ... إلى الصباح وأبكي
فانتشيا من راحين، وطربا بمدامين، واستسلما للمرح، وأسلما زماميهما إلى النشوة والفرح، فاقترح المضيف على الضيف (أن يشي ليلتهما بشيء يكون لها طرازاً ولذكرها معلماً) ففعل وأنشد ارتجالاً:
وليلة أوسعتني ... حسناً، ولهوا، ً وأنساً
ما زلت ألثم بدراً ... بها، وأشرب شمساً
إذ أطلع الدير سعداً ... لم يبق مذبان نحساً
فصار للروح مني ... روحاً وللنفس نفساً
فطربوا وقصفوا ما طاب لهم الطرب والقصف، وقد وشى ليلتهما بقصيدة طويلة جميلة النسج سنية الخيال نورد منها قوله:
جَنينا جنيَّ الورد في غير وقته ... وزهر الرُّبا من روض خديه والثَّغر
وقابلنا من وجهه وشرابه ... بشمسين في جنحي دجى الليل والشَّعر
وغنى فصار السمع كالطرف آخذاً ... بأوفر حظ من محاسنه الزُّهر
وأمتعنا من وجنتيه بمثل ما ... تمزج كفاه من الماء والخمر
سرور شكرنا منة الصحو إذ دعا ... إليه، ولم نشكر به منة السكر
مضى وكأني كنت فيه مهوماً ... يحدث عن طيف الخيال الذي يسري
أليست أبياته كلها وهي في موقف ينسي الحياء سخية به كريمة بالاحتشام؛ ليس فيها هناة تأخذها عليه فتاة، ولا خيال تعافه الحييات أو تتنكر له الناسكات؟
ويذكرني وصف ليلته أبياتاً لشاعرنا العظيم محمود سامي باشا البارودي حذا فيها حذو أبي الفرج، فوصف ليلة قال:
وليلة من ليالي الأنس صافية ... بلغت بالراح فيها كل مقترحي(227/26)
قتلتها بعد أن نام الخلي بها ... بغادة لو رأتها الشمس لم تلح
فكيف لا تدرك الأفلاك منزلتي ... والبدر في مجلسي والشمس في قدحي
ولكن شتان بين الليلتين، فليلة البارودي إحدى ليالي أنسه الكثيرة، وهي لم تزد على أنها ليلة صافية، بلغ فيها مقترحه لا أمنيته؛ وما أسهل ما يبلغ الإنسان ما يقترح! أما ليلة الببغاء فليلة فريدة في حسنها حافلة بلهوها مفعمة بأنسها؛ وكيف لا تكون كذلك وهو يلثم بدراً ويرشف شمساً؛ أما صاحبه فإنه يجالس البدر أو يخالسه، وينظر إلى الشمس كما ينظر إليها عابر سبيل، وفرق بين من يلثم ويشرب، ومن يجالس وينظر، وأين هو من قول الببغاء؟
فصار للروح مني ... روحاً وللنفس نفساً
وكان على المحتذي أن يفوق المحتذى به، ويجلي في الميدان الذي اختاره لمنازلته فيه لا أن يجيء مصلياً بينا الأول مرتجل والثاني متئد، ولكن ذلك ما لم يستطع له شاعرنا بلوغاً. ولننتقل إلى الحديث عن شعره
تأثر أبو الفرج في شعره خطوات شاعرين ملأ ذكرهما الآفاق، وذاع صيتهما في الشام والعراق، هما أبو تمام والبحتري، فقد كان اسماهما في عصره لا يزالان أرفع أسماء الشعراء فتأثر بهما، فأولع بالبديع ولعاً شديداً، وأوغل فيه أعظم إيغال، فإنك لا تكاد تجد بيتاً ليس فيه نوع من أنواع البديع، وهذا هو ما أخذه عن أبي تمام، ولكنه لم يغرب في ألفاظه إغرابه ولا تعمد الكلمات الجزلة والعبارات الضخمة ذات الموسيقى الصاخبة والرنين القوي التي أوخذ عليها أبو تمام، حتى وجد في عصره من النقدة من ينكر عليه عبقريته بل شاعريته، فإن كلفه بالإغراب وشغفه بضخامة الألفاظ كان سبباً في غموض بعض معانيه. وأخذ عن البحتري الألفاظ العذبة والأخيلة الشائقة التي لا تصك الآذان، ولا تثقل على الأسماع، ولا تدفع بالقارئ إلى قطيعة الشعر جرياً وراء المعجمات تارة، وإمعاناً في تفهم المعميات من المعاني أخرى، فأخذ من طريقتيهما بالحسنيين، وكاد يجلي في الحلبتين. ولا أدعي أنه بذهما أو ساواهما ولكني أعتقد أنه عدا خلفهما فلم يتخلف، ونهج بعض نهجهما دون أن يتكلف، فشعره سهل معبد لا تكتنفه جنادل، ولا تحوطه مفاوز، بل هو مما يلذ الأديب العريق، ويفهمه المتأدب الرقيق. وسأورد من شعره غير ما أوردته في(227/27)
مناسباته ما يروق غير مدقق في الاختيار ولا متحر الجودة؛ لأني أرى شعره طبقة واحدة، ووحدة غير متنوعة، لأنه نبعة صادقة. فاسمعه يصف ولهه بحبه، وهيامه بمالك لبه، فهو يرى أن قربه وبعده يستويان عنده لأن الوصل لا يطفئ غلة ولا يبرئ علة، والبعد لا يزيد تأجج شوقه، ولا يؤرث نار وجده، فقد بلغ كلاهما النهاية وأوفيا على الغاية، وهي مبالغة طريفة ساقها في لفظ ساحر قال:
حصلت من الهوى بك في محل ... يساوي بين قربك والفراق
فلو واصلت ما نقص اشتياقي ... كما لو بنت ما زاد اشتياقي
وقد طُرق هذا المعنى من قبله، فلعله ألم به فسطا عليه، أو جاء من توافق الخواطر، وكلاهما جائز. وهذان بيتان في هذا المعنى لعليه بنت المهدي قالت:
إذا كان لا يسليك عمن تحبه ... تناء ولا يشفيك طول تلاقي
فما أنت إلا مستعير حشاشة ... لمهجة نفس آذنت بفراق
ولكنه تخلف عن علية فقد بلغت غرضها في بيت، أما هو فاحتاج بيته الأول إلى بيت ثان يوضح غرضه ويبين قصده. وهذا معنى آخر من المعاني المطروقة قبله لم يأخذه كما سبق إليه بل جود فيه وحسن حتى ليخاله القارئ معناه المبتكر، قال:
من ضر من بعد السرور ببعده ... لو كان يجمل في صيانة عبده
يبدو فأطرق هيبة ومخافة ... من أن يؤثر ناظري في خده
قد صرت أعجب أن علة طرفه ... ليست تؤثر علة في وده
أخذ هذا المعنى من قول أبي تمام:
ومضمخ بالمسك في وجناته ... حسن الشمائل ساحر الألفاظ
أبدا ترى الآثار في وجناته ... مما يجرحها من الألحاظ
وتراه سائر دهره متبسماً ... فإذا رآني مرّ كالمغتاظ
في القلب مني والجوانح والحشا ... من حبه حر كحر شواظ
وقد زاد الببغاء على معنى أبي تمام أن إغضاءه لسببين: أولهما هيبته وجلالته، وثانيهما خشيته أن يؤثر طرفه في وجنته. ولعله مما يشين المحبوب أن يرى دائماً مجرح الوجنات مخدد الخدود من تلك الألحاظ اللواحظ والعيون النواظر، وأحسب أنه أخذ معنى أبي تمام(227/28)
في قوله:
ومهفهف لما اكتست وجناته ... حلل الملاحة طرزت بعذاره
لما انتصرت على عظيم جفائه ... بالقلب كان القلب من أنصاره
كملت محاسن وجهه فكأنما اق ... تبس الهلال النور من أنواره
وإذا ألح القلب في هجرانه ... قال الهوى لا بد منه فداره
وإلى عدد تال وموعد قريب.
(المعادي)
عبد العظيم علي قناوي(227/29)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 12 -
- لقد وضعك حسنك في طريقي موضع البدر؛ يرى ويحب ولا تناله يد ولا تعلق بنوره ظلمة نفس، لكن كبرياءك نصبتك نصبة جبل شامخ: كأنه ما خلق ذلك الخلق المنتثر الوعر إلا لتدق به قلوب المصدعين فيه. . . كوني من شئت أو ما شئت، خلقاً مما يكبر في صدرك أم مما يكبر في صدري؛ كوني ثلاثا من النساء كما قلت أو ثلاثة من الملائكة، ولكن لا تكوني ثلاثة آلام. انفحي نفح العطر الذي يلمس بالروح، واظهري مظهر الضوء الذي يلمس بالعين، ولكن دعيني في جوك وفي نورك. اصعدي إلى سمائك العالية، ولكن ألبسيني قبل ذلك جناحين. كوني ما أرادت نفسك، ولكن أشعري نفسك هذه أني إنسان. . .!)
(هو)
- (إن أمي ولدت نفسي ونفسي هي ولدتني، فلا ترج أن تصيب في طباع أنثى وإلا ضل ضلالك أيها الحبيب. . .)
- (هي)
هو وهي؟
(رجل وامرأة كأنما كانا ذرتين متجاورتين في طينة الخلق الأزلية وخرجتا من يد الله معاً؛ هي بروعتها ودلالها وسحرها، وهو بأحزانه وقوته وفلسفته. . .
(كانا في الحب جزءين من تاريخ واحد، نشر منه ما نشر وطوى ما طواه؛ على أنها كانت له فيما أرى كملك الوحي للأنبياء، ورأى في وجهها من النور والصفاء ما جعلها بين عينيه وبين فلك المعاني السامية كمرآة المرصد السماوي؛ فكل ما في رسائله من البيان والإشراق هو نفسها، وكل ما فيها من ظلمات الحزن هو نفسه!)(227/30)
لم تكن (هي) أولى حبائبه ولكنها آخر من أحب؛ عرفها وقد تخطى الشباب وخلّف وراءه أربعين سنة ونيفا حافلة بأيام الهناءة مشرقة بذكريات الهوى والصبابة والأحلام، وكان بينهما في السن عُمرُ غلام يخطو إلى الشباب. . .
سعى إلى مجلسها يوم (الثلاثاء) سعي الخلي إلى اللهو والغزل، يلتمس في مجلسها مادة الشعر، وجلاء الخاطر، وصقالة النفس؛ ومجلسها في كل (ثلاثاء) هو ندوة الأدب ومجمع الشعراء؛ وجلس إليها ساعة، وتحدث إليها وتحدثت إليه، وكان كل شيء منها ومما حولها يتحدث في نفسه. ولمسه الحب لمسة ساحر جعلت في لسانه حديثاً ولعينيه حديثاً. وطال انفرادها به عن ضيوفها؛ فما تركته إلا لتعتذر إليهم فتعود إليه. . . وقامت تودعه إلى الباب وهي تقول: (متى تكون سعادتي بالزيارة الثانية؟) فنهى النفس عن الهوى ونسأ الأجل إلى غد. . .!
ووقع من نفسها كما وقعت من نفسه، فما افترقا من بعدها إلا على ميعاد؛ ومحت صورتها من ماضيه كل ما كان من أيامه وكل من عرف، لتملأ هي نفسه بروعتها ودلالها وسحرها؛ وانتزعها هو من أيامها فما بقي لها من أصحابها وصواحبها غير مُصْيَفٍ مشغلةً في الليل والنهار
وكان الرافعي أول من يغشى مجلسها يوم الثلاثاء وآخر من ينصرف، فإن منعه شيء عن شهود مجلسها في القاهرة كتب إليها من طنطا وكتبت إليه على أن يكون له عوض مما فاته يومٌ وحده. . .
كان يحبها حباً عنيفاً جارفاً لا يقف في سبيله شيء، ولكنه حب ليس من حب الناس، حب فوق الشهوات وفوق الغايات الدنيا لأنه ليس له مدى ولا غاية. لقد كان يلتمس مثل هذا الحب من زمان ليجد فيه ينبوع الشعر وصفاء الروح، وقد وجدهما، ولكن في نفسه لا في لسانه وقلمه، وأحسّ وشعر وتنورت نفسه الآفاق البعيدة، ولكن ليثور بكل ذلك دمه وتصطرع خواطره ولا يجد البيان الذي يصف نفسه ويبين عن خواطره. . .
بلى، قد كتب ونظم وكان من إلهام الحب شعره وبيانه، ولكنه منذ ذاق الحب أيقن أنه عاجز عن أن يقول في الحب شعراً وكتابة، ومات وهو يدندن بقصيدة لم ينظمها ولم يسمع منها أحد بيتاً، لأن لغة البشر أضيق من أن تتسع لمعانيها أو تعبر عنها، لأنها من خفقات القلب(227/31)
وهمسات الوجدان
و (هي) أديبة فيلسوفة شاعرة؛ فمن ذلك كان حبها وكان حبه (من خصائصها أنها لا تعجب بشيء إعجابها بدقة التعبير الشعري. . . إنها تريد أن تجمع إلى صفاء وجهها وإشراق خديها وخلابتها وسحرها، صفاء اللفظ وإشراق المعنى وحسن المعرض وجمال العبارة، وهذا هو الحب عندها. . .)
(ولا يستخرج عجبها شيء كما يعجبها الكلام المفنن المشرق المضيء بروح الشعر؛ فهو حلاها وجواهرها؛ وما لسوق حبها من دنانير غير المعاني الذهبية؛ فإنها لا تبايعك صفقة يد بيد، ولكن خفقة قلب على قلب)
وكذلك تحابا، وتراءيا قلباً لقلب، وتكاشفا نفساً لنفس، ومضى الحب على سنته. ونظر الرافعي إليها وإلى نفسه وراح يحلم، وخيل إليه أنه يمكن أن يكون أسعد مما هو لو أنها. . . ولو أنها كانت زوجته. . . ثم عاد إلى نفسه يؤامرها فأطرق من حياء. . . وكانت خطرة عابرة من خطرات الهوى أطافت به لحظة وما عادت. وقالت له نفسه وقال لنفسه، فكأنما انكشفت له أشياء لم يكن يراها من قبل بعيني العاشق، وأوشكت القصة أن تبلغ نهايتها وتنحل العقدة، فجاءت كبرياؤه لتخط الخاتمة. . .
وراح الرافعي يوماً إلى ميعاده، وكان في مجلسها شاعر جلست إليه تحدثه ويحدثها؛ ودخل الرافعي فوقفت له حتى جلس، ثم عادت إلى شاعرها لتتم حديثاً بدأته، وجلس الرافعي مستريباً ينظر؛ وأبطأت به الوحدة، وثقل عليه أن تكون لغيره أحوج ما يكون إليها، ونظر إلى نفسه وإلى صاحبه، وقالت له نفسه: (ما أنت هنا وهي لا توليك من عنايتها بعض ما تولي الضيف. . .؟)
فاحمر وجهه وغلا دمه، ورمى إليها نظرة أو نظرتين، ثم وقف واتخذ طريقه إلى الباب. . . واستمهلته فما تلبث، وكتب إليها كتاب القطيعة. . .!
وعاد إليه البريد برسالتها تعتذر وتعتب وتجدد الحب والإخلاص في أسطر ثلاثة، ولكن الرافعي حين وجد كبرياءه نسي حبه، وكان هو الفراق الأخير. . .!
كان ذلك في يناير سنة 1924
وثابت إليه نفسه رويداً رويداً، وخلا إلى خواطره وأشجانه ليكتب رسائل الأحزان!(227/32)
ومضت ثلاث عشرة سنة لم يلتقيا وجهاً لوجه، إلا مرة في حفل أدبي في طنطا؛ فما كانت إلا نظرة وجوابها، ثم فر أحدهما من الميدان وخلف الآخر ينتظر. . .
على أن الرافعي لم ينس صاحبته قط، وعاش ما عاش بعد ذلك اليوم وما تبرح خاطره لحظة، وما يأنس إلى صديق حتى يتحدث إليه فيما كان بينه وبين (فلانة)، ثم يطرق هنيهة ليرفع رأسه بعدها وهو يقول: (هل يعود ذلك الماضي؟ إنها حماقتي وكبريائي، ليتني لم أفعل، ليت. . .!) ثم ينصرف عن محدثه إلى ذكرياته، ويطول الصمت. . .
وكان لا ينفك يسأل عنها من يعرف خبرها، حتى عرف أنها سافرت إلى الشام تستشفي منذ عام فأقامت هناك، فهفت إليها نفسه وتحركت عاطفته إليها في لون من الحب وغير قليل من الندم؛ فكتب إلى صديقة في (دمشق) لتزورها في مستشفاها وتكتب إليه بخبرها؛ فكتبت إليه:
(. . . . . . بالصدق يا صديقي إنني كلما استعدت بذاكرتي وصية (فلانة) المؤلمة ونتيجتها المحزنة، تعتريني حالة انقباض شديد وحزن لا حد له. . . إن الموت في مثل هذه الحالات يعد كنزاً ثميناً لا يحصل عليه إلا السعيد. وإني أتهمك قانوناً. . . بأنك كنت السبب فيما نابها، فماذا عليك لو لبيت الدعوة؟ آه، لقد كنت قاسياً وفي منتهى القسوة، فهل كان يحلو لك تعذيبها بهذا الشكل، وإلا فماذا تقصد من هذه القطيعة؟ إن المرأة على حق حين تظن، لا بل حين تعتقد أن الرجل. . . . . . لا، السكوت أولى الآن. . .)
أما هذه (الوصية) التي أوصت بها (فلانة) زائرتَها لتبلغها إلى الرافعي، فلست أعرف ما هي؛ فقد قص الرافعي هذا الجزء من الخطاب قبل أن يصل إليّ، ولست أعرف أين خبأه من مكتبه، ولعل ولده الدكتور الرافعي يدري، فإن كان عليه حقاً للأدب أن يحتفظ بما عنده من الرسائل إلى أوانها، فسيأتي يوم تكون فيه هذه الرسائل شيئاً له قيمته في البحث الأدبي
قلت: إن الرافعي قطع ما بينه وبين صاحبته منذ ثلاث عشرة سنة لم يلتقيا إلا مرة، ولكنه كان يكتب لها وتكتب له رسائل لا يحملها ساعي البريد، لأنه كان ينشرها وتنشرها في ثنايا ما تنشر لهما الصحف من رسائل أدبية، يقرؤها قراؤها فلا يجدونها إلا كلاماً من الكلام في موضعها من الحديث أو المقالة أو القصة، ويقرؤها المرسل إليه خاصة فيفهم ما تعنيه وما تشير إليه، ثم يكون الرد كذلك: حشواً من فضول القول في حديث أو مقالة أو قصة؛ هي(227/33)
رسائل خاصة ولكنها على أعين القراء جميعاً وما ذاع السر ولا انكشف الضمير، وفي أكثر من مرة والرافعي يملي عليّ مقالاته - كان يستمهلني قليلاً ليُعَيِّث في درج مكتبه قليلاً فيخرج ورقة أو قصاصة يملي عليّ منها كلاماً، ثم يعود إلى إملائه من فكره، وأعرف ما يعنيه فأبتسم ويبتسم ثم نعود إلى ما كنا فيه؛ وتنشر المقالة، فلا نلبث أن نجد الرد في رسالة تكتبها (فلانة) فيتلقاها الرافعي في صحيفتها كما يفض العاشق رسالة جاءته في غلافها مع ساعي البريد من حبيب ناء. . .
هي طريقة لم يتفاهما عليها ولكنهما رضياها، وأحسب ذلك نوعاً من الكبرياء التي ربطتهما قلباً إلى قلب، والتي فرقت بينهما على وقدة الحب وحرقة الوجد والحنين. . .!
وكنت مع الرافعي مرة بالقاهرة في شتاء سنة 1935، فقال لي: (مِلْ بنا إلى هذا الشارع!) ولم تكن لنا في ذلك الشارع حاجة ولكني أطعته، وانتهينا إلى مكان، فوقف الرافعي معتمداً على عصاه، ورفع رأسه إلى فوق وهو يقول: (إنها هنا، هذه دارها، من يدري، لعلها الآن خلف هذه النافذة. . .!)
قلت: (مَن؟) قال: (فلانة!)
قالت: (ولكن النوافذ مغلقة جميعاً ولا بصيص من نور؛ فأين تكون؟)
قال: (لعلها الآن في السيما. إذا كان الصباح فاغْدُ عليّ مبكراً لنزورها معاً، إن بي حنيناً إلى الماضي. . . ليتني. . . ولكن أترى من اللائق أن أزورها بعد كل ما كان؟)
قلت: (وما يمنع؟ أحسبها ستسرّ كثيراً بلقياك. . .!)
قال: (إذن في الصباح، ستكون معي، ولكن احذر، احذر أن تغلبك على قلبك. . . أو تسمح لخيالك أن يسبح وراء عينيك. . . إنها فاتنة!)
قلت: (لا، إنها عجوز، فما حاجتي بها. .؟) وضحكت مازحا
فزوى ما بين عينيه وهو يقول: (وَيْ! عجوز، إنها أوفر شباباً منك!)
قلت: (قد يكون لو وقفت بها السن منذ اثنتي عشرة سنة. . .!)
قال: (صدقت. . .! اثنتى عشرة سنة. . .!)
وسكتَ وسكتّ حتى أوصلته إلى الدار، فلما كان الصباح غدوت عليه فأذكرته موعده، فابتسم ابتسامة هادئة وهو يقول: يا بنيّ، إنها ليست هناك، إن (تلك) قد ذهبت منذ اثنتي(227/34)
عشرة سنة، أما (هذه) فأظنني لا أعرفها. . . إنني أحرص على الماضي الجميل أن تتغير صورته في نفسي. . بحسبي أنها في نفسي. .!)
ثم يلبث بعد ذلك أن جاءه أنها سافرت إلى الشام لعلة في أعصابها. . .!)
(لها بقية)
محمد سعيد العريان(227/35)
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 2 -
سيرته
ولد الكميت بالكوفة سنة ستين للهجرة، وهي السنة التي قتل فيها الحسين رضي الله عنه، وكان أهل الكوفة قد دعوه ليبايعوه في بدء عهد يزيد بن معاوية، فسار إليهم من مكة إلى أن وصل إلى كربلاء، فقتله فيها جيش عبيد الله ابن زياد
وكانت الكوفة عاصمة العراق وما إليه من بلاد فارس وما حواليها، وكانت أيضاً مهداً للتشيع العلوي من يوم أن اتخذها علي رضي الله عنه عاصمة لخلافته، كما كانت دمشق بالشام مهداً للتشيع الأموي بتأثير معاوية رضي الله عنه، ولعلهما بهذا أرادا أن يستغلا العصبية القديمة بين العراق والشام، فقد كانت هناك منافسة شديدة في الجاهلية بين عرب العراق وعلى رأسهم دولة المناذرة، وبين عرب الشام وعلى رأسهم دولة الغساسنة. ولم يترك علي (ض) المدينة التي كانت عاصمة الخلفاء قبله إلى الكوفة إلا ليكون له أهل العراق على معاوية وأهل الشام، ويساعدوه على أن تكون الخلافة بعاصمتهم، فتحيا بها بلادهم، ويكون خيرها لهم، ولا يستأثر به أهل الشام دونهم؛ وهذا إلى ما في العراق من الرجال والخصب، فيضاهي بهذا خصب الشام بالمال والرجال، ويجد من الحاقدين على معاوية وبني أمية ما لا يجده في مكة والمدينة
وقد كان الكميت من بني أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن معد بن عدنان، وهو الجد الأعلى للنبي عليه الصلاة والسلام، فنشأ بين من نزح من قبيلته من البادية إلى الكوفة، وأخذ عن علمائها من أهل الحضر علوم الدين والأدب، وكانت له جدتان أدركتا الجاهلية فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه عنه، فتأثر من هذا وذاك بثقافة البدو والحضر، واجتمع له علم غزير بلغات العرب وغريبها وأشعارها وأيامها ومفاخرها ومثالبها، وروى(227/36)
الحديث وغيره من العلوم الدينية، وقد ذكر صاحب الأغاني بعض رواياته في الحديث فليرجع إليها من يريدها
ولم يقصر الكميت نفسه على العلم والأدب، بل كان يأخذ نفسه بقول الشعر والاستماع إليه، ولكن ميله إلى هذا لم يكن يبلغ ميله إلى العلم والأدب. ويحكى أنه وقف وهو صبي على الفرزدق وهو ينشد أشعاره، فراع الفرزدق حسن استماع الكميت وأخذه الزهو والخيلاء، فلما فرغ من إنشاده أقبل على الصبي وقال له: هل أعجبك شعري يا بني؟ فأجاب الكميت: لقد طربت لشعرك طرباً لم أشعر بمثله من قبل، فانتشى الفرزدق، وأخذ العجب منه كل مأخذ، وقال للصبي في نشوة المفتون: أيسرك أني أبوك؟ فقال الكميت: أما أبي فلا أريد به بدلاً، ولكن يسرني أن تكون أمي. فحصر الفرزدق، وقال: ما مر بي مثلها
فلما أتم الكميت دراسته اشتغل بما كان يغلب ميله إليه من العلم والتعليم، فكان يعلم الصبيان بمسجد الكوفة، ولكن عشيرته من بني أسد كانت تريد منه أن يكون شاعرها الذي يعلي من شأنها، وينشر من مفاخرها، وينافح عنها أعداءها، وقد صار الشعر في الدولة المروانية كما كان في الجاهلية مفخرة القبائل العربية فتعلقت به تلك القبائل كما كانت تتعلق به في جاهليتها، فأخذ بنو أسد يرغبون الكميت في قول الشعر، ويحملونه على الانصراف إليه والتفرغ له، ويحكون في ذلك أن عمه وكان رئيس قومه أخذ الكميت يوماً وقال له: يا كميت لم لا تقول الشعر؟ ثم أخذه فأدخله الماء وقال: لا أخرجك منه أو تقول الشعر، فمرت به قنبرة فأنشد متمثلاً:
يالكِ من قُنْبُرَةٍ بِمَعْمَرِ ... خلا لكِ الجَوُّ فبيضي واصفري
ونَقِّري ما شئت أن تُنَقِّري
فقال له عمه ورحمه: لقد قلت شعراً فاخرج، فقال الكميت لا أخرج أو أقول لنفسي، فما رام حتى عمل قصيدته المشهورة، وهي أول شعره، ثم غدا على عمه فقال: اجمع لي العشيرة ليسمعوا فجمعهم له فأنشد:
طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ ... ولا لعباً منِّي وذو الشوق يلعبُ
وقد طعن الأستاذ زكي مبارك في صحة هذه القصة، وذكر أنه ليس بمعقول أن تكون هذه القصيدة أول شعره، لأن فيها من القوة ما يقطع بأنها ليست بداية شعرية، وإنما هي صرخة(227/37)
شاعر فحل طال منه الصيال
ولا وجه عندي لهذا الطعن في صحة هذه القصة، لأن هذه القصيدة: (طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطرَبُ) من قصائد الهاشميات، وقد ثبت من غير هذا الطريق أن هاشمياته على العموم وهذه القصيدة على الخصوص كانت أول ما قاله من الشعر، وواضح أنه لا يراد من هذا إلا أنها أول ما قاله من الشعر الجيد الذي يعتد به، فلا يمنع أن يكون له شعر قبل هذا الشعر ترقى فيه إلى أن وصل إلى درجة هذا الشعر الجيد
فلما أرادته عشيرته أن يكون شاعراً ينافح عنها ويصاول أعداءها، صرف نفسه إلى قول الشعر وتفرغ له حتى أجاد إنشاءه، وكان قد ورث التشيع لأهل البيت عن بيئته بالكوفة التي نشأ فيها، ولم يكن للشيعة في عهده شاعر يتعصب لها وينشر دعوتها كما كان لبني مروان من الشعراء الأخطل وغيره، وكما كان للخوارج الطرماح بن حكيم وعمران بن حطان، فرأى أن يكون هو شاعر الشيعة وناصر دعوتها، والمشيد بذكر أهل البيت والناشر لفضلهم
وقد كانت الشيعة في ذلك الوقت تعادي بني مروان والخوارج معاً؛ ولكن العداوة بين الشيعة والخوارج لم تكن تبلغ درجة العداوة بينها وبين بني مروان، لأن الخوارج كانوا قد اشتغلوا بعداوة بني مروان بعد أن صار لهم الأمر، وتناسوا عداوتهم للشيعة بعد انصراف الأمر عنهم، فاشترك كل من الشيعة والخوارج في مناهضة الدولة المروانية، ومناوأتها بسيوفهم وألسنتهم، وكان اشتراكهم في معارضة هذه الدولة سبباً في تخفيف ما بينهم من العداوة
ولهذا كان تعصب الكميت في شعره للشيعة موجهاً إلى بني مروان وحدهم، ولا يدخل في أولئك الخوارج الذين لقي الشيعة منهم ما لقوا في عهد علي رضي الله عنه، بل لم يمنع ذلك التعصب الكميت من إخلاص المودة للطرماح بن حكيم من شعراء الخوارج، فقد كان بينهما من الخلطة والمودة والصفاء ما لم يكن بين اثنين، حتى إن راوية الكميت قال: أنشدت الكميت قول الطرماح:
إذا قبضتْ نفسُ الطِّرمَّاح أخلقتْ ... عُرَى المجد واسترخى عنانُ القصائِد
فقال الكميت: إي والله، وعنان الخطابة والرواية(227/38)
وهذه الأحوال كانت بينهما على تفاوت المذاهب والعصبية والديانة، فقد كان الكميت شيعياً عصبياً عدنانياً من شعراء مضر متعصباً لأهل الكوفة، وكان الطرماح خارجياً صفرياً قحطانياً عصبياً لقحطان من شعراء اليمن متعصباً لأهل الشام، فقيل للكميت: فيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء؟ فقال: اتفقنا على بغض العامة
والعامة التي اتفقا على بغضها كانت في ذلك الوقت جمهور الأمة من خاصة الناس وعامتهم، فقد استكانوا لحكم بني مروان حين طال عليهم أمده، وخضعوا لظلمهم ولم يعنهم إلا أمورهم الخاصة، كشأن العامة في كل وقت وفي كل أمة، ولا يزال بغض الحكومات القائمة يقرب الآن بين معارضيها، وينسيهم ما بينهم من عداوات، واختلاف في المشارب والأهواء
فنصب الكميت نفسه لمناهضة بني مروان بشعره، وهم أصحاب الملك في الناس، وأخذ ينصر عليهم أهل البيت والأمر مدبر عنهم، وليس هناك مطمع فيهم، وإنما هو سبيل اتخذه لنفسه يرضي به عقيدته، وينأى بعلمه وشعره أن يتخذهما أداة كسب كما فعل ذلك غيره من الشعراء، فكان يقول الشعر للشعر ويتخذه وسيلة لإرضاء نفسه وعقيدته، ويجاهد به في إصلاح حال أمته، ويؤدي به ما يجب على الشاعر في عصره، ولا يهمه بعد هذا ما يفوته من دنيا الملوك، ولا ما يصيبه من عنتهم وإرهاقهم
وقد أراد ثراة أهل البيت أن يثيبوه على ما يقوم به من نصر دعوتهم، وإنشائه القصائد الطوال في مدحهم والإشادة بذكرهم، فكان يعرض عما يعرضونه عليه من الصلات والجوائز، ويذكر أنه يريد من ذلك وجه الله تعالى، ونصرة الحق الذي يدين به، وقد حدث صاعد مولى الكميت قال: دخلنا على أبي جعفر محمد ابن علي فأنشده الكميت قصيدته التي أولها:
مَنْ لقلبٍ متيَّم مستهامِ
فأمر له بمال وثياب، فقال الكميت: والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكنني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها، وأما المال فلا أقبله، فرده وقبل الثياب
وحدث أيضاً فقال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهما، فقالت: هذا شاعرنا(227/39)
أهل البيت، وجاءت بقدح فيه سويق فحركته بيدها وأسقته للكميت فشربه، ثم أمرت له بثلاثين ديناراً ومركب، فهملت عيناه وقال: لا والله لا أقبلها، إني لا أحبكم للدنيا
وحدث محمد بن سهل صاحب الكميت قال: دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد في أيام التشريق فقال له: جعلت فداك ألا أنشدك؟ فقال إنها أيام عظام، قال إنها فيكم، قال هات، وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب، فأنشده فكثر البكاء حتى أتى على هذا البيت:
يصيبُ به الرَّامونَ عن قوس غيرهمْ ... فيا آخراً أسْدَى له الغيَّ أوّلُ
فرفع أبو عبد الله يديه وقال: اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، واعطه حتى يرضى
عبد المتعال الصعيدي(227/40)
الحكم في مباراة الأقصوصة
اجتمعت لجنة التحكيم في مباراة الأقصوصة التي اقترحتها مجلة الرواية وجعلت للفائز فيها جائزة قدرها خمسة عشر جنيها، يوم الأحد الماضي مؤلفة من حضرات الأساتذة: محمد فريد أبو حديد، توفيق الحكيم، إبراهيم عبد القادر المازني، محمود تيمور، ثم صاحب هذه المجلة، ونظرت فيما تجمع من الأقاصيص المتسابقة، ثم قررت النظام الذي تتبعه في قراءتها وفحصها. وستجتمع مرات أخرى متوالية حتى يصدر حكمها فننشره في الرواية والرسالة وبعض الصحف.
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
للدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 27 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي - كونفيشيوس
مؤلفاته
تنقسم مؤلفات هذا الحكيم إلى قسمين. فأما القسم الأول فهو مجموعة شروحه وتعليقاته على الكتب المقدسة التي نسخها بخطه ثم أحاطها بطائفة ضخمة من معارفه العامة وآرائه الشخصية في الدين والفلسفتين النظرية والعملية، كما أن تلاميذه قد أحاطوا الأقسام الفلسفية من هذه الكتب بشروحهم وتعليقاتهم كذلك إلى حد أن اختلطت على الباحثين آراؤهم بآراء أساتذتهم
وأما القسم الثاني فهو كتبه الخاصة التي وضعها وضمنها مذهبه وعارض في بعضها مذاهب من سبقوه وعاصروه من الفلاسفة الذين أسلفنا الحديث عنهم في الفصول السابقة.(227/41)
وهذا القسم أيضاً ممتزج بآراء التلاميذ على نحو ما امتزجت آراء سقراط بمذهب أفلاطون وإن كانت آراء حكيمي الإغريق قد وضحت وتبين منها ما للأستاذ وما للتلميذ بفضل علماء العصر الحديث الذين نخص منهم بالذكر العالمين الفرنسيين (ريفو) و (بريهييه)
القسم الأول
يحوي هذا القسم كل الكتب المقدسة الهامة التي سبقت عصر (كونفيشيوس) ولكن الذي يعنينا هنا هو الكتب الرئيسية وهي: (وي - كينج) أي الكتب الخمسة. فأما (شو - كينج) و (شي - كينج) فقد كان حكيمنا معنياً بهما عناية فائقة إلى حد أنه اتخذ مما فيهما من صور مُثله العليا التي يجب أن يحتذيها العلماء والملوك؛ ولم يعرض المستصينون لتحقيق ما احتواه هذان الكتابان وتبين ما للأستاذ فيهما وما للتلاميذ من شروح وتعليقات. وأما (إي - كينج) فقد وجد عليه الباحثون شروحاً مطولة، وتعليقات مسهبة، وتقريرات مطنبة، فدرس العلماء كل هذه دراسة دقيقة خرجوا بعدها مقتنعين بأن هذه المطولات مزيج من آراء: (كونفيشيوس) وتلاميذه، ولكنهم لم يستطيعوا إلى الآن أن يحلوا هذه المشكلة تماماً فيبينوا ما للأستاذ وما للتلاميذ. وأما (لي - كي) فقد ضاع أكثره، لأنه حين أحرقت الكتب لم يكن متداولاً كغيره ففقد منه ما فقد، والجزء القليل الباقي منه وجد - فيما يظهر - بدون شرح ولا تعليق، لأنه كتاب طقوس دينية أكثر منه أي شيء آخر، فلم يكن هناك داع للشرح أو للتعليق. وأما كتاب (تشون - تسيو) ومعناه: (يوميات الربيع والخريف) فهو الكتاب الوحيد الذي لم يَرتبْ أحد من الباحثين المدققين في نسبة ما عليه من شروح وتعليقات إلى (كونفيشيوس) وحده. ويؤكد أولئك الباحثون أن هذه التعليقات هي أسمى بكثير من النصوص الأصلية للكتاب، لأن هذه التعليقات تدل على علم واسع ودراية شاملة بالتاريخ الصيني القديم والمعاصر لهذا الحكيم بدرجة أدهشت علماء العصر الحديث
القسم الثاني
يتكون هذا القسم من أربعة مؤلفات تدعى بالصينية (سي - شو). وتعبيرنا في جانب هذه الكتب بألف أو وضع فيه شيء من التجوز، لأن المستصينين يكادون يجمعون على أن الحكيم أملى بعض هذه الكتب على تلاميذه إملاء كما حاورهم أو حاضرهم بالبعض الآخر(227/42)
فرووه عنه وأثبتوه مقترنا باسمه دون تغيير ولا تبديل. وليس هذا فحسب، بل إن كتاب (لون - يو) أحد الكتب الأربعة وأكثرها انتشاراً قد وجد مكتوباً بأسلوب أحد الذين تتلمذوا على تلاميذ (كونفيشيوس) بعد أن روى له أستاذه عن الحكيم الأكبر ما رواه شفهياً من الآراء والأفكار بنصوصها وعباراتها. ويحتوي هذا الكتاب على مجموعة من آراء مقتضبة وجوامع كلم، ومحادثات مع التلاميذ وملاحظات هؤلاء على آراء أساتذتهم وهلم جرا. وليس لهذا الكتاب - على سعة ذيوعه وتداوله - أهمية فلسفية عظمى
أما الكتاب الثاني وهو (تا - هيو) أو الدراسة الكبرى فهو دراسات وجيزة لبعض الآراء والمشاكل الفكرية في صورة أمثلة وحكم، وقد كتبه (تسيه سي) حفيد كونفيشيوس) ولكن (تشو - إي) أحد شراح (كونفيشيوس) الصينيين في القرن الثاني عشر يؤكد أن النصوص الأصلية لهذا الكتاب قد وجدت مثبتة بخط الحكيم نفسه وأن حفيده لم يزد على شرحها والتعليق عليها. ولا يرى العلماء في هذا الرأي بأساً إذ يحتمل أن يكون هذا الحفيد قد استولى على نصوص جده وأضاف إليها مذكرات من معارفه الخاصة المتواترة في الأسرة عن هذا الجد. ويرى بعض آخر من الباحثين أن هذا الحفيد لم يجد في الغالب نصوصاً مكتوبة من هذا السفر، وإنما وجد روايات شفوية مأثورة عن جده فأثبتها بأسلوبه. وأما الذي شرحها وعلق عليها، فهو (تسانج - تسيه) أحد تلاميذ (كونفيشيوس)
أما الكتاب الثالث، فهو (تشونج - يونج) وهو أهم كتب هذا الحكيم الفلسفية، لأنه هو الكتاب الوحيد الذي يحوي مذهبه، والمؤلف الجوهري الذي يعتمد عليه الباحثون في فهم المدرسة (الكونفيشيوسية)، ويتكون هذا الكتاب من مقدمة واثنين وعشرين فصلا فأما المقدمة فقد كتبها حفيده السابق الذكر، وهي مجموعة وافية من الآراء الأساسية في أخلاق (كونفيشيوس) سمعها هذا الحفيد من جده مباشرة فأثبتها في المقدمة وشرحها شرحاً مفصلا في بقية الكتاب
ويرى (ألين) الإنجليزي و (فون إركس) الألماني أن هذا الكتاب ليس إلا مجموعة مشوهة من (تاويسم)؛ فأما الأول فيرى الأستاذ زانكير أن من العبث الرد عليه، لأنه هو الذي زعم أن (كونفيشيوس) أسطورة، وأما الثاني فالسبب الذي خدعه وأوقعه في هذا الخطأ هو أنه وجد أن هذا الكتاب يحتوي على شيء غير يسير من التنسك الذي يشبه ميول (لاهو -(227/43)
تسيه) فاستبعد صدور هذه الآراء عن (كونفيشيوس)، ولكن هذا خطأ بحت، لأن (كونفيشيوس) ليس مادياً جافاً ولا نفعياً أثراً، وإنما هو حكيم جليل قمين بأسمى الأخلاق
وأما الكتاب الرابع فهو مجموعة كتب (مانسيوس) السبعة التي سنعرض لها عند حديثنا عن هذا الفيلسوف
منهجه وتأثيره
يشبه منهج (كونفيشيوس) منهج (سقراط) كثيراً، إذ هو يحاول أن يرشد تلاميذه إلى الحقيقة، ولكن لا عن طريق التقليد والتحفيظ، بل عن طريق البحث الشخصي الذي يتدرج من المحسات إلى المعقولات، ويصعد من الماديات إلى المعنويات؛ فتارة يلمح إلى البرهان الحق تلميحاً خفياً، وأخرى يشير إلى تناقض الباطل إشارة غامضة ثم يقود التلاميذ في طريق المحاورة قيادة منطقية محكمة إلى أن يعثروا على الحق بأنفسهم أو يهدموا الباطل بمجهوداتهم الشخصية المراقبة بإرشاد الأستاذ. وفي هذا يقول: (أنا لا أعلِّم من لا يشتهي أن يفهم، ولا أساعد على الكلام من لا يحاول أن يوضّح أفكاره)
ومن منهجه أيضاً أنه كان يضع أمام تلاميذه مُثُلاً حية من أخلاق الحكماء والملوك السابقين أو من المأثورات الدينية العالية أو القصائد الشعرية المفعمة بالفضيلة أو الحوادث التاريخية التي تصلح لأن تتخذ نماذج للسمو والنبل، وكان يسلك هذا المنهج في تعليم تلاميذه الفلسفة والأدب والفن والأخلاق
ويروي المؤرخون أن تلاميذ هذا الحكيم الذين استفادوا من منهجه بلغ عددهم في حياته ثلاثة آلاف تلميذ، وأن عدداً كبيراً من بين هؤلاء التلاميذ شغلوا في الدولة مناصب هامة وأنهم كانوا العنصر الأساسي للعلماء والأدباء الذين حكموا الصين أكثر من ألفي سنة، لأن (كونفيشيوس) قد أحسن تأديبهم فلم يخلق فيهم الميل إلى الانزواء واليأس، وإنما بث في نفوسهم روح الإصلاح والانتصار والسيادة، ولهذا لم تكن حلقات دروسه مقصورة على التلاميذ، بل كانت تضم بينها عدداً ضخما من كبار النبلاء والأرستوقراطيين الذين وجدوا فيه أكبر محقق لعظمة الصين المنشودة فدفعتهم وطنيتهم إلى الاغتراف من نمير علمه الصافي وإلى محاكاة أخلاقه السامية النبيلة
وفي الحق أن كونفيشيوس يجب أن يعد في طليعة أفذاذ الرجال الذين خلقوا المدنية(227/44)
الصينية، بل المدنية العالمية؛ إذ هو الذي أنشأ السياسة الصينية القيمة، وهو الذي وضع قواعد أخلاق الأسرة على الأسس الفلسفية المحترمة، وهو الذي قسم الفلسفة العملية إلى فروعها الثلاثة: الأخلاق الشخصية، وتدبير المنزل، وسياسة الدولة أو المدينة الفاضلة؛ فسبق بذلك أرسطو وأفلاطون كما سنشير إليه حين نعرض لأخلاقه النظرية. وليس هذا فحسب، بل هو الذي رفع علم التاريخ في الصين إلى مصاف العلوم الأخرى عند الأمم الراقية، وهو أول من أناروا سبيل علم المنطق للذين أتوا بعده فزادوا عليه ما جعله قميناً بالاحترام والإجلال
غير أنه على الرغم من ذلك كله لم يصادف في حياته نجاحاً باهراً كما أسلفنا. والسبب في ذلك الإخفاق هو أخلاقه المتينة التي لم تسمح له أن يتملق أعظم الملوك والأمراء مرة واحدة في حياته، ولا أن يحني رأسه إلا للحق وحده، فضايقت هذه الأخلاق القويمة المبطلين من الطغاة والمتجبرين. وكانت نتيجة ذلك أن ربح فيلسوفنا الفضيلة وخسر الحياة المادية
على أن الشعب لم يلبث أن تنبه إلى حكمة (كونفيشيوس) الخالدة القائلة: (إن الجوهر الأساسي العملي للشعب يجب أن يكون هو الأخلاق، وإن سياسية الدولة لا تنجح نجاحاً حقيقياً إلا إذا أسست على الأخلاق)
لما تنبه الشعب إلى هذه الحكمة وآمن بها وأخذ يطبقها تطبيقاً عملياً دقيقاً أخذت أحواله العامة تتحسن شيئاً فشيئاً حتى بلغت الأوج. والفضل في ذلك كله راجع إلى التماسك الأخلاقي الذي وضع هذا الحكيم بذوره في تعاليمه القيمة الجليلة
(يتبع)
محمد غلاب(227/45)
دراسات في الأدب الإنكليزي
جون ملتون
للأستاذ خليل جمعة الطوال
تتمة
خلاصة الفردوس المفقود
تقع هذه الملحمة بعد تنقيحها في اثني عشر جزءاً، وقد نقلها العلامة دريدن والشاعر الفذ (لوريت إلى أوبرا تمثيلية بطولية، وذلك بإذن مؤلفها عام 1674؛ وجعلا عنوانها وإليك خلاصة موضوعها:
(1) يحتوي الجزء الأول من هذه الملحمة على خلاصة موجزة لها. وبعدها يصف ملتون كيف أن الشيطان يتمرد على الله تعالى مع طغمة من الملائكة الأشرار، فيسقطهم الله في جهنم المتقدة حيث يفقدون الوعي مدة وجيزة، وبعدها يثوبون إلى رشدهم، ويقف إبليس فيهم خطيباً، ويذكرهم بالنبوة التي جاء فيها أن الله سيخلق خليقة جديدة وعالماً جديداً، ويقترح عليهم أن ينتقموا من هذه الخليقة الجديدة التي سيخلقها الله - لمجدهم الضائع
(2) فيعقد الملائكة الأشرار وعلى رأسهم إبليس اجتماعاً هاماً في مجلس إبليس الخاص ويدرسون فيه هذا الاقتراح وطرقة تنفيذه، فيقر أمرهم على إيفاد أحدهم إلى ذلك العالم لينشر فيه روح الشر، ولينصب فيه فخ المكيدة، فيتعهد إبليس أمر هذه الرحلة الخطرة، ويشرع بها وهو غير عابئ بما فيها من الصعوبات الجمة، فيصل أبواب الجحيم وقد سهر على حراستها وحشان غريبان مخيفان، فيتخطاهما بكل صعوبة وجهد. وبعد سفر طويل يواجه ذلك العالم الأرضي الجديد
(3) ثم يُبصرُ الله تعالى، وهو جالس على عرشه الشيطان وهو مسرع نحو ذلك العالم الجديد، فيشفق على خليقته الجديدة من شره، ولكنه يعدُ بإرسال ابنه فدية. أما الشيطان فيواصل السير حتى يصل إلى الشمس ويتقابل هناك مع (أوريال) - ملاك الشمس - فيرشده هذا إلى طريق العالم الجديد الذي جعله قبلته، فيسلكها حتى يصل إليه، وهناك يستريح على قمة أحد الجبال(227/46)
(4) ثم يبحث عن طريق الجنة، فيتسلل إليها بعد أن يتقمص جسم (غراب الماء وهناك يجثم على غصن من أغصان شجرة الحياة، ويأخذ في التطلع حوله، فيدهشه جمال الجنة الرائع، ثم ينظر آدم وزوجه حواء أثناء رجوعهما من صلاة العشاء للاستراحة
(5) وفي الليل ترى حواء حلماً مزعجاً، وتقصه في الصباح على آدم فيفسره هذا بما يسكن من روعها، ثم يذهبان للصلاة وبعدها يشرعان في الشغل في الجنة
(6)، (7)، (8) ثم يرسل الله الملاك رفائيل إلى آدم فيحذره من مكيدة إبليس، ويدور بينهما حديث طويل جداً
(9) ويعلم حارس الجنة بوجود إبليس فيطرده منها، ولكنه يرجع إليها ثانية في الليل بشكل الضباب، ثم يتقمص جلد حية. وفي الصباح التالي تقترح حواء على آدم أن يشتغل كلٌ منهما منفرداً عن رفيقه فيلبي اقتراحها، فيجد الشيطان الفرصة سانحة لتنفيذ مكيدته، فيسير إلى حواء ويغريها أن تأكل من الثمرة المحرمة، فتأكل وتناول بعلها فيأكل هو أيضاً
(10) فيحكم عليهما الله تعالى بالعذاب والموت ويطردهما من الفردوس. أما الشيطان فيرجع إلى بطانته مسروراً جذلاً
(11) ثم يندم آدم وحواء على إثمهما، ويطلبان منه تعالى الصفح، فيصفح عنهما ولكنه لا يرجعهما إلى الجنة ثانية
(12) بل يعدهما بإرسال ابنه ليكفر بموته عن خطيئتهما
أشعاره وشاعريته
قال العلامة (جون دريدن) وهو من معاصري ملتون: لقد جمع ملتون في شعره بين الجيد والرديء، وبين الجليل والمبتذل، وذلك لأنه كثيراً ما كان يعتسف النظم على غير حضور بديهته أو شبوب عاطفته؛ ولكن هذا لا يضع من مكانته كشاعر فذ ومفكر نابغ؛ إذ ليس من الضروري أن يكون الشاعر حاضر الخيال متوقد العاطفة في كل مناسبة يشعر فيها. وهل من الضروري أن تكون الشمس دائمة الإشراق والنور لنستدل على وجودها في الكون؟؟؟ ولست أرى مثيلاً لهذا القول إلا رأي سلم الخاسر في شعر أبي العتاهية إذ يقول: شعر أبي العتاهية كساحة الملوك، فيها الدرُّ والساقط. . .
ولئن لم يكن ملتون متوثب الشعور في جميع أشعاره، لقد جمع في شعره بين إحساس(227/47)
العاطفة ورزانة العقل، أو قل بعبارة أوضح بين الشعر كفن والفلسفة كميزان لجميع الفنون والعلوم. تدل على ذلك قصائده العديدة التي تحمل خلال جميع أبياتها جرثومةً من مسحة العقل وأثراً من عمق التفكير. وما أشعاره في الحقيقة إلا قبس من النور يومض في عتمة تلك الحروب المذهبية السياسية الحالكة التي اندلعت في إنكلترا بسبب تحطيم الأرستقراطية على صخرة الديمقراطية الناشزة. وهل أوحى إلى ملتون بملحمة الفردوس المفقود غير ذلك النزاع الذي خاض غماره؟ أم هل كانت أشعار ملتون جميعها إلا صورة جلية تتبين منها حقيقة ذلك النزاع؟
ابتدأ ملتون يعبث بالشعر ولما يبلغ بعد الثالثة عشرة من العمر. ولئن كانت أشعاره إذ ذاك خالية من ابتكار المعنى إلا أنها كانت - بالنسبة لصغر سنه - تحمل بين أسطرها جراثيم النبوغ والتفوق. فهذه قصيدته الشهيرة المعروفة والتي نظمها عام 1629 تكاد تكون لروعتها وجمالها خير قصيدة غنائية في الشعر الإنكليزي، بل هي من فتىً حدث كملتون لم يبلغ بعد حدّ نضوج العقل والعاطفة، أروع قصيدة على الإطلاق. . .
وفي عام 1633 نظم ملتون قصيدتين رائعتين وهما:
(1) ' و (2) وقد أجمعت آراء الأدباء على أنهما خير نموذج للجيد من شعره، وذلك لما فيهما من الدقة البالغة في التصوير والحرارة الملتهبة في الشعور. وفي عام 1634 نظم قصيدة القومس وهي قصة شعرية دراماتيكية، يكثر فيها ظهور الأحراج والأشباح الغيبية، ولكنها ليست من دقة الفن بقياس قصص شكسبير الدراماتيكية التي من نوعها - كدرامة كما تحب مثلا - وذلك لأن شكسبير كان شاعراً بالفطرة، وبارعاً في تمثيل سوءات المجتمع وعاداته؛ وهو إذ ينظم القصيدة فكأنما يصور بالألفاظ عواطفه الحساسة، وينحت في صخر اللغة مشاعره الوثابة، بينما كان ملتون - مع اعترافنا به كشاعر فذ - مبالغاً في التصنع، ومسرفاً في إجهاد القريحة، واستفزاز المخيلة، فمعانيه - في معظمها - تكاد تقرب من الابتذال في شيوعها، وأخيلته إلا القليل منها مستكرهة على الشعر، ثقيلة على الطبع لشذوذها. وليس أدل على هذا من مناجاة كومس لليدي!! ولعل خير قطعة في هذه القصيدة هي تلك التي تمثل الشجار بين ليدي وكومس، وذلك لأنها قطعة فنية من نفس ملتون الثائرة المتمردة التي تهزها الثورة أكثر مما تحركها الدعة والطمأنينة، ولأنه في هذه(227/48)
القطعة إنما ينفض علينا مكنون طويته ويصور لنا دخيلة نفسيته. وإليك تحرير المعنى في هذه القصيدة:
يذهب أخوان وأختهما إلى حرج عظيم كثيف، فتضل الأخت طريقها في هذا الغاب، فيتركها أخواها هائمة على رأسها تائهة في طريقها، ولا يهتمان ألبتة بما تقاسيه في ذلك الحرج المخيف من مرارة الجوع، وحرارة العطش، وألم الوحدة، ووحشة الغابة التي ترتعد منها الفرائص. ويذهبان بعيداً عنها في جمع ثمر العليقي؛ حتى إذا تضيفت الشمس للمغيب عادا إلى بيتهما تاركين في الغابة القفر أختهما الوحيدة ضحية للألم والجوع، وفريسة للوحوش والسباع
فأنت ترى أن مثل هذا التخيل الفسل المكروه ليس من الحقيقة في شيء، إذ ليس من الممكن للطبع البشريّ مهما أوغل في التحجر والقساوة أن يتصور وقوع مثل هذه المأساة الخيالية الملفقة!!
أما الصونيتس فقد كتبها في فترات متقطعة ومناسبات كثيرة. ويذهب جونسون في نقده لملتون إلى أن - الصونيتس - ليست من الفن الشعري بدرجة تستحق أن توضع في غربال النقد. ولكنها مع ذلك عذبة اللفظ طلية الأسلوب. وفي عام 1644 ألف الـ وهي رسالة نقدية دافع فيها عن حرية الطبع والنشر دفاعاً قيماً في وقت بلغ فيه التزمت حداً عظيماً. أما الفردوس المسترجع فقد ألف عام 1671 وهو يمتاز عن بقية مؤلفاته الشعرية بميزات سامية كثيرة سنوردها في مقالاتنا الآتية التي سنكتبها عنه، وفي ذلك العام أيضاً ألف قصيدة الـ وسنعرض لها أيضاً فيما بعد
أسلوبه
لم يكن أسلوب ملتون على نمط واحد في جميع أشعاره، فقد كان مشرق الديباجة سلس العبارة حيث تكون الفكرة مختمرة في رأسه، والعاطفة متوثبة في صدره، ولكنه حين كان يعتسف النظم كانت تجيء أشعاره ملتوية العبارة، غامضة المعنى، ووعرة الأسلوب
وتدل أشعاره العديدة التي كتبها بخط يده والتي لا تزال محفوظة في مكتبة كلية ترنتي في كمبردج على أنه كان مولعاً بصيد أوابد الكلمات، واستقصاء غريب الألفاظ. ومما تجب الإشارة اكتظاظ أسلوبه بالكلمات اللاتينية المهجورة(227/49)
قال العلامة ماكولي في مقالته عن ملتون: ألم تسمع قط بتأثير الشعر السحري وبتياره الكهربائي العنيف؟ ألم تسمع قط بالأسلوب الرائع الذي يقيد عليك مشاعرك ويهز منك جميع أوتار حسك؟ أما سمعت قط بالشعر الذي يأسر القلب، ويذيب العاطفة؟ إن هذه الصفات جميعها إن هي إلا من مدلولات شعر ملتون وأسلوبه. . . لم يكن ملتون بارعاً في ابتكار المعاني، إلا أنه كان كثيراً ما كان يتناول المعاني المبتذلة الشائعة فيسبكها في قالب لفظي متين يزيد في روعتها وجمالها ويجعل منها أفكاراً سامية تسحر العقل وتذهب اللبّ. على أنك لو بدلت كيفية صياغتها اللفظية، أو حوَّرت ولو قليلا أسلوبها الذي صيغت به لما كان لها أي أثر في نفسك أو تقدير في قياسك
خاتمة حياته وموته
لقد عاش ملتون وهو في عنفوان الشباب عيشة مترفة رخية، شأن أبناء ذوي اليسر والجاه، ولكن الدهر أبى ألا أن يقلب له ظهر المجن، ويجرعه كأس الشقاء المرة حتى الثمالة. ففي عام 1652 غشيت إحدى عينيه، ثم ابتدأت المصائب تنثال عليه بغير حساب، فقد شُرد وطُرد وغرم في أمواله وأملاكه ثم أصيب بداء النقرس. ونفي خارج وطنه وأهله أكثر من مرة. وأخيراً عزل من منصبه السياسي الذي كان يتبلغ براتبه. وفي عام 1662 فقد عينه الأخرى فتم عماه؛ إلا أن هذه المصائب كلها لم تضع من عنجهيته، ولا فلت من شباة نفسه، بل صادفها وتقبلها بقلب وادع مطمئن وصدر عامر بالإيمان والثقة بالنفس. ولئن كان لها من أثر يذكر في نفسه فذلك أنها شحذت قريحته وأرهفت إحساسه، ووثبت شعوره، وزادته جلداً على الدرس، ومثابرة على الاجتهاد
تزوج ملتون ثلاث زوجات. والراجح أنه لم يكن موفقاً في غرامه ولا سعيداً في زواجه. وقد توفي في شهر نوفمبر عام 1674 في مزرعة بنهل تاركاً وراءه زوجه الثالثة، وثلاث بنات. وقد قبر في مقبرة. وبعد وفاته بسنين عديدة أقيم له نصب تذكاري في وست منستر أبي. وهكذا بات ملتون مزملاً بنبوغه وشهرته، تئن رفاته في جدثها من ظلم المنتقصين المغرضين، وغلو المناصرين المفرطين.
خليل جمعة الطوال(227/50)
أسانيد البحث
1 -
2 - 1779.
3 -
4 -
5 -
6 - 1825
7 -
8 -(227/51)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
293 - لا أدخل مكاناً فرقت فيه بين متحابين
في (تزيين الأسواق) من لطف الفقيه أبي بكر محمد بن داود (الظاهري) ورقته أنه كان يدخل الجامع من باب الوراقين فهجره أياماً. فسئل في ذلك فقال: دخلت يوماً فرأيت متحابين يتحادثان، فتفرقا منذ رأياني، فآليت ألا أدخل مكاناً فرقت فيه بين متحابين
294 - نموذج من نثر أبي تمام
في (رهبة الأيام): كتب أبو تمام مع أخيه سهم بن أوس إلى علي بن اسحق (والي دمشق وأعمالها) كتاباً يذكر فيه حرمته به، ومنازلته إياه في الفندق في (سرّ من رأى) وضرب له في كتابه مثلاً فقال: (ومثلي مع الأمير - أعزه الله - مثل عجوز كانت بالكوفة من جَرم قضاعة، وكان الوالي على الكوفة رجل من عُكل. فأجرم ابن العجوز جرماً، فحبس، فتعرضت العجوز للوالي على ظهر الطريق، وقالت: أصلح الله الأمير، لي حاجة، ولي بالأمير وسيلة. فقال ما حاجتك؟ وما وسيلتك؟ قالت: حاجتي أن تطلق ابني من محبسه، ووسيلتي إليك أن الشاعر جمعني وإياك في بيت السوء حيث يقول:
جاءت به عُجُزٌ مقابَلةٌ ... ما هُنّ من جَرم ولا عُكل
وأنا امرأة من جرم، وأنت رجل من عكل. فأمر بإطلاق ابنها. وأنا أقول: وسيلتي إليك (أيها الأمير) منازلتي إياك في الفندق بسر من رأى مع فتور الماء، وكثرة الذباب) وكتب إليه في أسفل الكتاب قصيدة نونية
295 - أن كان وضاح إلا مفتيا لنفسه
في (أغاني) أبي الفرج قال يوسف بن الماجشون: أنشدت محمد بن المنكدر قول وضاح اليمن:
إذا قلت يوماً: نوّليني، تبسمت ... وقالت: معاذ الله من فعل ما حرم!
فما نوّلت حتى تضرّعت عندها ... وأعلمتها ما رخص الله في اللمم
فضحك وقال: إنْ كان وضاح إلا مفتياً لنفسه!(227/52)
296 - أفتراك مني تفلتين
كان العباس بن علي (عم المنصور) يأخذ الكأس بيده ثم يقول لها: أما المال فتبلعين، وأما المروءة فتخلعين، وأما الدين فتفسدين! ويسكت ساعة ثم يقول: أما النفس فتسمّحين، وأما الهم فتطردين، أفتراك مني تفلتين؟ ثم يشربها. . .
297 - أربعة أحاديث
قال أبو بكر بن داسة: سمعت أبا داود (سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني) يقول: كتبت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خمس مائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب (يعني كتاب السنن) جمعت فيه (4800) حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه. ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها قوله - عليه السلام -: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)؛ والثاني قوله: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)؛ والثالث قوله: (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه)؛ والرابع قوله: (الحلال بيّن والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مُشَبّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملِك حمى، ألا وإن حمى الله في الأرض محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب)
298 - فالطباع جوامح
أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد بن باري:
دع الناس طرّا واصرفِ الود عنهمُ ... إذا كنت في أخلاقهم لا تسامح
ولا تبغ من دهر تظاهر رَنقه ... صفاء بنيه؛ فالطباع جوامح
299 - إنه الله!!!
في (تاريخ بغداد): قال أبو القاسم عبيد الله بن سليمان: كنت أكتب لموسى بغا، وكنا بالري، وقاضيها إذ ذاك احمد بن بديل، فاحتاج موسى أن يجمع ضيعة هناك كان فيها سهام ويعمرها، وكان فيها سهم ليتيم، فصرت إلى احمد بن بديل وخاطبته في أن يبيع علينا(227/53)
حصة اليتيم ويأخذ الثمن، فامتنع وقال: ما باليتيم حاجة إلى البيع، ولا آمن أن أبيع ماله وهو مستغن عنه فيحدث على المال حادثة فأكون قد ضيعته عليه. فقلت فإنا نعطيك في ثمن حصته ضعف قيمتها، فقال: ما هذا لي بعذر في البيع. والصورة في المال إذا كثر مثلها إذا قل. فأدرته بكل لون وهو يمتنع؛ فأضجرني فقلت له: أيها القاضي، إلا تفعل فإنه موسى بن بغا!
فقال لي: أعزك الله، إنه الله تبارك وتعالى!!
فاستحييت من الله أن أعاوده بعد ذلك وفارقته، فدخلت على موسى فقال: ما عملت في الضيعة؟ فقصصت عليه الحديث، فلما سمع: (إنه الله) بكى وما زال يكررها ثم قال: لا تعرض لهذه الضيعة وانظر في أمر هذا الشيخ الصالح، فإن كانت له حاجة فاقضها، فأحضرته وقلت له: إن الأمير قد أعفاك من أمر الضيعة وهو يعرض عليك قضاء حوائجك فدعا له وقال: هذا الفعل أحفظ لنعمته، وما لي حاجة إلا إدرار رزقي، فقد تأخر منذ شهور أضرني ذلك. فأطلقت له جاريه
300 - كان ينسج الشمال باليمين
قال عليّ (رضي الله تعالى عنه) للأشعث بن قيس الكندي: إني لأجد بنَّة الغزل منك. فسئل (رضي الله تعالى عنه) فقال: كان أبوه ينسج الشمال باليمين. . .(227/54)
في أعقاب الخريف
للأستاذ محمود الخفيف
ألْقَى على الدوح فتورَ الكرى ... فلاحَ كالناعِسِ
لا تستبينُ العين فيما ترى ... من أفقه العابس
غيرَ الأسى في جوه منذرا ... بليليَ المكتئب الدامس
يَبكْرُ بني في الأُفْق هذا القطوبْ ... وهذه الكُدْرَةُ في لونه
وتُجْفِلُ النَّفْسُ لهذا الغروبْ ... وحُمْرَة المحزون في جفنه
يا ويْلَتاَ تلك الرؤَى أفْرَخَتْ ... في قَلْبَي المسْتَسْلِم اليائس!
أسْلَمَني للوجْدِ هذا الخريف ... في لَفْتَةِ الراجِل
وأنكرتْ أذْناي هذا الحفيف ... من عُودِهِ الناحِلِ
يَلْمَحُ لي منه خياَلٌ مُطِيفْ ... لكل شيءٍ هاَلِكٍ زائِلِ
أوْرَاقُه نَهْبُ رياح المساءْ ... تُلْقَى بها مُصْفَرَّةً ذابِلَهْ
تسوقُهاَ مُعْجَلَةً للفناء ... قافَلةً في إثرِها قافِلَهْ
تَطَايرت كما تَطيرُ المنى ... من لمحةِ الوَهْم إلى الباطِلِ
حَطَّتْ على الدَّوْح بنات الهديل ... ساهمةً عانيهْ
للشَّفَقِ الباكي بهذا الأصيل ... ما فتئت رانيه
طالعَها منه شتاء طويلْ ... عِشاَشُها في كفه واهيه
قد أشبهتني الوُرْقُ في غُمَّتي ... لكنها تذهل عن أمسها
وكل شيءٍ مُوقِظٌ مُهجَتي ... حتى رياح الليل في همسها
أسْمَعُ في هسيِسها أنَّةً ... بالأمسِ كانت نَغْمَةً شادِيَهْ
شَبَّابةُ الراعي بأنغامِه ... في مِسْمَعي صاَخِبَهْ
يا لاعباً طيوف أحلامِه ... خافقة لاعبه
نَبَّهَت القلبَ لآلامه ... إذ بَعَثَتْ أحَلامَهُ الذاهبه!
يا ليتني أذهل عما مضى ... أوْ أَرْعَوِى بَعْدَ فواتِ الأمَلْ
يا ليت مثلك هذا الرضى ... يا ناعماً ما ذاق إلا الجذَلْ(227/55)
تَغَنَّ ما شِئْتَ ودع لي الجوى ... هَوَاكَ لمْ تَعْلَقْ بهِ شائِبَهْ!
يَسْتَيْقظ القلبُ إلى وجده ... في أُخْرَيات الخريف
يَعُودُ ما لم يَنْسَ من عهده ... فَهْوَ وَجيعٌ لهيف
تَغَرَّبَ (الطائِرُ) عن عُوده ... وخَلَّفَ القلب لهذا الوجيف
ما روعةُ الكون وما سِحْرُهُ ... وكلُّ حُسْنٍ باعث للشجَنْ؟!
هذا الخريفُ هاجني ذكره ... هل أرْتجي في ظِلهِ من سكن؟؟
تَغَرَّبَ الطائِرُ لم ألْقَهُ ... في مَرْبَعٍ بَعْدُ ولا في مصيف!
يا سائلاً يُنْكِرُ أشْجاَنِيهْ ... ما كُنْتُ بالمدَّعي
يا صاحِ لو كُنْتَ تَرى ما بِيَهْ ... بكيتَ حظِّي معي
تبَسُّمِي يَحْجُبُ أتراحَيه ... كالرَّمْسِ تحت الزَّهَرِ المُمْرِعِ!
ما أنا بالشاكي ولكنها ... أُغْنيةٌ ضاقت ضلوعي بها
أُغْنيةٌ صاغ الجوى لحنها ... وأُجْبِرَ القَلْبُ على سَكْبِها
يا أيُّهاَ المُنْكُر أَشْجاَنيهْ ... وُقِيتَ ما أُضمرُ في أضلُعي
قد أغرق الدَّوْحَ فتُورُ الكرى ... فلاحَ كالناعِس
لا تستبين العين فيما ترى ... من أفقِهِ العابس
غيرَ الأسى في جَوِّه منذرا ... بَلْيلَيَ المكتئبِ الدامِسِ
الخفيف(227/56)
رسالة الفن
فرانز شوبير
1797 - 1828
للأديب عبد الرحمن فهمي
كانت حياة شوبير القصيرة حياة كفاح قضاها تاركاً للأجيال التي بعده حظاً من المتعة أوفر مما كان لنفسه. وهو أشهر الموسيقيين النمساويين ولد بفينا عام 1797 ولا تزال عاصمة النمسا إلى اليوم تحيي ذكرى ميلاده
وأبوه ابن فلاح من منطقة مورافيا كان يدير مدرسة صغيرة في قريته ويستعين بإيرادها على عول أسرة كبيرة كان فرانز من بينها
وسيرة فرانز إحدى سير العظماء الذين أنجبهم العالم. بدأ أبوه يعلمه العزف على آلة موسيقية مماثلة (للربابة) وكانت أسرة شوبير تمتاز بحذق العزف على الآلات الموسيقية فنبغ في هذا الفن نبوغاً جعله يفوق أخوته وهم أكبر منه سناً. فلما بلغ السنة الحادية عشرة بعثت به أسرته إلى مدرسة تابعة لكنيسة صغيرة ليتعلم بها الترتيل، وتقدم معه إليها أولاد عديدون كانوا يتسلون انتظاراً لدورهم في امتحان القبول بالتهكم على فرانز لصغر سنه ورثاثة ملبسه، ولكنه بعد أن قبل بالمدرسة استبدل بلباسه لباس المدرسة الرسمي الأنيق في حين لم يقبل بها الطلاب الآخرون لفشلهم في الامتحان
وكانت هذه المدرسة مكاناً طريفاً للدرس، يكون تلاميذها فيما بينهم مجموعة موسيقية (أركسترا) يمرنون كل يوم في الدرس. وكان فرانز في أول الأمر غير ظاهر بين زملائه الذين كانوا جميعاً يكبرونه سناً، ولكن حذقه في الفن لفت إليه نظر رئيس الفرقة وهو صبي يدعى سبون ويقول عنه: (وبحثت عن هذا العازف الحاذق فوجدته صبياً صغيراً على عينيه منظار يدعى فرانز شوبير) ومن ثم أضحى سبون وفرانز صديقين حميمين
واستطاع فرانز يوماً أن يؤلف قطعة موسيقية، إلا أنه عجز عن الحصول على الورق الخاص بكتابة الموسيقى (النوتة) لفقره، فأعانه صديق له بالمال. وهكذا بدأ تاريخ الموسيقي الصغير. وكانت غرفة التمرين بالمدرسة قاسية البرد شتاء، والطعام لا يملأ(227/57)
بطون التلاميذ لعدم كفايته، فهو يقدم في وجبتين ضئيلتين إحداهما عند الظهر والأخرى في الثامنة مساء. وعلى رغم ذلك استطاع فرانز في فترة الدراسة أن يخرج عدة (نوتات) موسيقية لاشك في أنها كانت تظهر أحسن من ذلك لو أن أساتذته أخذوه بالنظريات الموسيقية التي أهملتها المدرسة في تعليمها وتركت لهذا العبقري الصغير الحرية في الجموح دون أن تصقله بتغذية روحه الفني بالنمو المنتظم المطرد؛ غير أن أخذه الدرس على سالييري فيما بعد - وهو موسيقي مشهور - جعل أسلوبه في هذا الفن ينضج وينمو وينتظم
ولا ننس أنه أتى على شوبير حين من الزمن بعد إتمام الدراسة بهذه المدرسة كان فيه بائساً لأنه عاد إلى قريته واضطر أن يعلم التلاميذ في مدرسة أبيه القروية القراءة والكتابة. ومَن أشد بؤساً من معلم لم يُخلق لمهنة التدريس؟ إلا أنه كان صاحب ذمة فأخلص للعمل الذي ينال عليه أجراً لكنه لا تكاد تنقضي ساعات التدريس حتى كان يهرع إلى داره ويخلو بنفسه في غرفته وقتاً طويلا منكباً على عمله الخاص ملقياً عن نفسه كل حمل خارجي؛ وشوبير الشاب النابغ كان يحمل بين جنبيه عبقرية فذة في فن الموسيقى وتفانياً وإخلاصاً في ميدان الصداقة. هيأ لنفسه أصدقاء عديدين في فترة التعليم وأحاط به أصدقاؤه كما تحيط الهالة بالقمر وكثيراً ما خففوا عنه بؤسه ومتاعبه
ولم يكن قد بلغ الثامنة عشرة عندما ألقي أول (أصواته) الموسيقية بالكنيسة وأعقب ذلك بتلحين قطعة أخرى؛ ثم أنشأ فرقة موسيقية تتكون منه رئيساً ومن أخيه عازفاً على الأرغن ومن موسيقي كان مدير مدرسة الترتيل التي تخرج هو فيها، ومن صديق يغني الأدوار الرئيسية. ونستطيع أن نتصور السرور والإعجاب اللذين لاقى بهما أبوه هذا العبقري الصغير حتى لقد ابتاع له نوعاً من البيانو مشهوراً في ذلك الوقت واستعان على ثمنه بما اقتصده مما حصل عليه بعرق جبينه طوال حياته
وأول فشل صادف شوبير كان وهو في التاسعة عشرة من عمره عندما أنشأت الحكومة مدرسة للموسيقى فيما جاور بلدته والتمس أن يقبل بها مديراً بأجر إن كان واحداً وعشرين جنيهاً فقط في العام الواحد إلا أنه كان يفضل كل ما عدا مهنة التدريس عليها. فلما لم يعين لهذا المركز يئس يأساً شديداً، ولكن الحياة عوضته عن ذلك خيراً، فإن صداقته الجديدة(227/58)
لشاب يدعى شوبار أدخلت في نفسه انشراحاً وحبوراً وتحولت حياته إلى حياة جديدة
وترجع هذه الصداقة إلى سماع شوبار بشهرة فرانز الفنية من بيت سبون فقرر أن يزوره في داره فلقيه بعد أن عاد من المدرسة القروية جالساً إلى مكتبه تتكدس حوله أكوام المخطوطات الموسيقية
رغب أبوه في هذا الوقت في أن يقوم ابنه بتعليم تلامذة مدرسته الأحرف الموسيقية، ونفذ الابن هذه الرغبة إلى حين حتى نجح شوبار بإلحاحه عليه بالعودة معه إلى فينا فهجر التدريس ورجع معه حيث تقاسما العيش فرحاً معترفاً بجميل صديقه إذ بتمام الصداقة بينهما تقدم سير مصنفاته تقدماً سريعاً في جو هذه الحرية الجديدة. ولكنه برغم ذلك لم تتقدم حالته المادية بسبب إسرافه وتبذيره وعدم انتظامه في معاملة الناشرين. بل إن الحالة أدت به إلى أن يبيع أغانيه مرة بما يساوي أربعة قروش للأغنية الواحدة؛ إلا أنه خفف من هذه الحالة كثيراً اشتراكه هو وأصدقاؤه في العيش حتى أن القبعات والمعاطف كانت على الشيوع فيما بينهم جميعاً. وهذا النوع من الحياة وما كان يتخلله من فترات يقضيها فرانز مع أصدقائه في الجبال الهنغارية بقي على هذا الأسلوب حتى آخر أيامه القصيرة. ولذلك لا نعجب إذا كنا نراه يرفض بلباقة ما كان يُعرض عليه بين حين وآخر من وظائف العزف على الأرغن علماً منه أنه غير جدير بعمل يحتاج إلى الاستقرار والنظام
ولم يُسمع عنه أنه وهن يوماً أو تباطأ في عمله الخاص، بل كان يجلس إليه في الساعة التي يستيقظ فيها؛ بل إن حمى العمل إذا أصابته دفعته إلى الكتابة والقراءة في الوقت الذي كان عليه أن يهجع فيه للنوم
وبرغم أن الحياة صدمته صدمات عنيفة لم تستطع أن تغير من خلائقه، فقد كان شوبير الطائش الغافل ذو الفكر المضطرب المثل الأعلى للصداقة، المحبوب من كل معارفه، المتواضع الذي لا يعنيه من أمر الظهور شيء. أما قده فلم يكن جميلاً، وأما طلعته فلم تكن بهية، فهو في كل أدوار حياته (فرانز شوبير الصغير ذو المنظار على عينيه)
ويحسن أن نعرف أنه ألف فرقة موسيقية قبل وفاته بعام واحد وافتتح بها صالة كانت تزدحم بالمتفرجين، وأصابه منها ربح يعادل اثنين وثلاثين جنيهاً، ولكنه أتى عليها سريعاً. ويدل على إسرافه أن باجانيني الموسيقي المشهور جاء إلى فينا ليطرب جمهورها لأول(227/59)
مرة فحجز شوبير لنفسه أغلى مقعد ليحظى بسماعه، ثم عاد فحجز مقعدين له ولصديقه ودفع هو أجرهما. وعلى هذا النمط من التبذير أضاع نصيبه فيما كان قد ربحه. لم يتزوج شوبير قط؛ وكان إذا سئل في ذلك أجاب بأنه متزوج لموسيقاه
ومنذ بلوغه الثامنة عشرة بدأ يُخرج للعالم تصانيف كثيرة أدهشت كثرتها الموسيقي العادي فكتب في عام واحد ثماني روايات غنائية (أوبرات). وكان ذا ميل إلى الشعر يقرأ منه ما تقع عليه عيناه فيختار منه ما بَعُد غرضه وجَمُل معناه، ثم يلحنه فإذا به كنغمة عذبة من نغمات طير مغرد. ويحكى أنه عاد أصيل يوم أحد إلى داره من نزهة خلوية فقابل أحد أصدقائه في حديقة فندق القرية وأخذا يتسامران، وكان بيد صديقه مجلد لشكسبير يطالعه فانتزعه شوبير منه وتصفحه فوقع نظره على سطر معناه (أنصت واستمع إلى صوت القبرة) وتساءل (لِمَ لا يكون معي الآن ورق لكتابة الأحرف الموسيقية؟) وسرعان ما رسم له صاحبه خطوطاً مهيئاً له طلبته على قائمة حسابه بالفندق وعليها بين ضجة المكان وصخبه خط فرانز الأغنية المشهورة: (أنصت واستمع إلى صوت القبرة) ملحناً إياها. وفي المساء لحن أغنية أخرى من رواية أنطونيو وكليوباترا؛ وكذلك لحن الأغنية المحبوبة (من هي سلفيا؟) وكان في هذا الباب تياراً جارفاً لا يقف عند حد، فلا يقع تحت ناظريه شعر إلا لحنه. وقد قال شومان في ذلك: (إن كل ما لمسه شوبير كان يتحول إلى موسيقى) وقال لِيسْت (يُعد شوبير أعرق شعراء العالم الموسيقيين) ووصفه كتاب سيرته (بأنه ملك كتاب الأغاني) وكلهم محقون في ذلك فإنه أخرج في حياته القصيرة ما يقرب من الستمائة أغنية
وحل وقت هجر فيه شوبير عمله وتركه نسياً منسياً فقد أرسل يوماً مقداراً من مخطوطات أغانيه الجديدة إلى صديق له؛ وحدث أن زاره بعد أسبوعين من ذلك الوقت وكان يعزف على البيانو مغنياً أغنية أعجب بها فرانز فسأله (لمن هذه الأغنية الجميلة؟) فأجابه: (إنها لك!)
وكان شديد الإعجاب بما كتبه فيمور كوبر يدلك على ذلك كتابه لصديقه شوبار: (صديقي شوبار إنني منذ أحد عشر يوماً لم أتذوق طعاماً ولا شراباً لأني طريح الفراش مريض. . . فأشفق عليّ وأنا في هذه الحالة البائسة بزيارتك لي لتقرأ عليّ ما أنا غير مستطيعه. وقد(227/60)
كنت قرأت لكوبر (الجاسوس والدليل وطلائع الجيش) فإن كان لديك غير ذلك له فلتتفضل عليّ بإحضاره معك) (صديقك)
وكانت غرفته مزدحمة جداً بالمخطوطات المبعثرة هنا وهنالك، وذلك لأنه لا يكاد ينجز عملاً حتى يبدأ في غيره أغنية كان أو ترتيلة أو أوبرا أو غير ذلك مما لم يخلق شوبير إلا لها. ولن نستطيع أن نتصور الكثرة المطلقة التي كان يخلفها لنا لو أنه عاش أكثر من ذلك؛ إلا أن المنية وافته ولما يبلغ الواحد والثلاثين عاماً.
عبد الرحمن فهمي
بكالوريوس في الآداب(227/61)
القصص
من أساطير الإغريق
2 - خرافة جاسون
للأستاذ دريني خشبة
مساكين هؤلاء الآرجونوت!
لقد كانت رحلة شاقة مضطرمة بالمتاعب، مليئة بالأشجان، في بحر لجي وأمواج كالظُلل، ظلمات بعضها فوق بعض، وأهوال جسام يأخذ بعضها برقاب بعض، وطريق كله سعالي وأغوال
لقد لقي الأبطال الصناديد من أمرهم رهقاً أي رهق. . . فلقد أرسوا مرة بأرض شجراء باسقة الدوح، نما أيكها واستطال، وغلظت جذوعها واستوت، فبدا لهرقل أن يصطحب غلامه هيلاس وينطلق في الغابة يقطع أغصاناً تصلح لأن يصنع منها مجاذيف للآرجو، فأوغلا. . . وكانت الطريق ملتوية مُضلة. . . فلما أن قطعا من الأغصان شيئاً كثيراً، أصاب هرقل ضمأ شديد لم يصبر عليه، فأمر هيلاس أن ينطلق فيملأ جرة الماء التي كانت معهما من نبع قريب كانا يسمعان خريره يتلاشى كالصدى في سكون الغابة. . . وذهب هيلاس، وجلس هرقل ينتظره. . . ولكن وقتاً كافياً مضى قبل أن يعود الفتى. . . ثم مضى من الوقت ساعة أو نحوها. . . ثم ساعتان. . . ثم أكثر من ذلك. . . ثم أكثر. . . ماذا؟ ترى ما الذي عوق هيلاس؟ أواه! لقد كان هيلاس أجمل شباب الدنيا في ذلك الزمن، ولقد كان له جسم سمهري ممشوق، وصدر رحب أخيلي، ووجه تمتزج فيه بداوات الرجولة والفتوة بقسمات الفتنة والجمال، وعينان يترقرق في بريقهما لون من السحر لا يعرفه إلا العذارى، ولا تحسه إلا قلوب الحسان. . . وشفتان إن كانتا لرجل، فقد سرقتهما له الطبيعة الفنانة من فم غادة. . . وجبين متلألئ وضاح، لمّاح كإشراقة الشمس في مولد الصباح. . . تبارك الله ما كان أسبى وما كان أصبى، وما كان أجمل هيلاس!!
ذهب يملأ الجرة. . . وما كاد ينثني ليضرب بها الماء، حتى رأته عرائسه الغيد، الخرّد الأماليد، فشغفهن وامتلك قلوبهن، وبرزن من القاع ليسكرن بجماله، وينهلن من حسنه،(227/62)
وليقسمن بسيد الأولمب ما هذا بشراً إن هذا إلا ملاك كريم!! واقتربن من مكانه، ثم لم يقوين على البعد فاقتربن أكثر، ثم تأجج الهوى في فؤاد إحداهن، وهي أجملهن، إن كان فيهن من هي أجمل من أختها، فهتفت به، فلم يجب، فجذبته من ذراعه جذبة نزل بها إلى الماء
- ماذا بالله عليك يا عروس؟
- تعيش معنا!
- أعيش معكن في الماء وأنا بشر؟
- لن تكون بشراً بعد اليوم، بل تكون إلهاً كريماً
- وأنى لي هذا وأنا غلام هرقل ومولاه، وهو ضمئ إلى جرعة من مائكن تشفي جُوادَه؟
- ومن أذن لهرقل أن يرسو بأرضنا؟ إذن هذا عقابه! تعال! سيمنحك الخلود سيد الأولمب!
وجذبنه إلى القاع. . . ولكنه لم يغرق. . . وهو يعيش إلى اليوم مع هذا السرب من الحور العين لا يخدم أحداً، ولا يجوع ولا يظمأ!
ونهض هرقل يقص أثر فتاه، حتى إذا انتهى إلى النبع، ووجد الآثار هابطة إلى الماء، إلى غير عود، صرخ صرخة تجاوبت أصداؤها في أركان الغابة، ثم جلس ساعة على حفافي المقبرة التي ابتلعت هيلاس ينشج ويبكي. . . وأقسم لا يذوقن من مائها قطرة، وأقسم كذلك لا يصحبن الآرجو في هذا السفر. . وعاد أدراجه، بعد رحلة طويلة قطعها على قدميه إلى أرض الوطن، وعاش حياته الطويلة المقاحمة لا يفتأ يذكر هيلاس، ولا يفتأ يبكي على هيلاس!
وأرست الآرجو في شاطيء تراقيا، ونزل جاسون في نفر من رجاله يمتارون، فعلموا أن ملكا أعمى يقال له فِنْيُوس، شديد البؤس، طويل الشقاء، يحكم هذه المملكة. . . ولم يكن عماه وذهاب بصره علة شقائه فحسب، بل كان ذلك بسبب طيور غريبة الخَلق، لها جسم الطير وريشه ومخالبه، ورأس الإنسان ولُؤمه وخَبَثُ طباعه. . . كانت هذه الطيور تنزل بساحة القصر الملكي، ثم تهجم على غرفة الملك كلما حان موعد الطعام، فتلتهم غذاءه، فلا تبقي ولا تذر. وكان الملك في أكثر الأحيان لا يجد لقمة واحدة يتبلغ بها. لأن هذه الطيور لم يكن من دأبها أن تبقي على شيء. . . حتى على الفتات. . . ولم يكن يردها عن قصر(227/63)
الملك وعن غرفة غذائه خاصة شيء مطلقاً. . . فلقد كانت تخمش وجوه الجند وتمزق جلودهم كلما حاولوا صدها عن بيت مولاهم؛ وكانت تفلت من سيوفهم وتمرق من سهامهم بخفة تخير الألباب، ولم يحدث مرة أن أصاب أحد الجنود منها غرضاً، حتى جن جنون الملك وتضاعفت بلواه، وجأر بالشكوى إلى آلهة السماء
ودهش جاسون، وذهب بالقصة إلى رفاقه الآرجونت، فتقدم إليه البطلان الضرغامتان، ولدا بوريس، يقترحان أن يذهبا معه إلى الملك المسكين فيعرضا عليه حرباً عواناً يشبان نيرانها على هذه الطيور، فأما أن يتم لهما النصر عليها، وأما أن تكون لها الكرة عليهما. . . وصادف الاقتراح هوى في نفس جاسون فانطلق معهما إلى الملك الذي هش لهما وبش، وفرح بما عرضاه فرحاً شديداً. . . فلما حان موعد الغداء، جلس الملك وضيفاه - وكان جاسون قد عاد إلى السفينة - إلى المائدة. ثم لم تمض لحظات حتى أقبلت الطيور ترنق فوقهم وتُدَوّم، فوقف البطلان وامتشقا سيفيهما، فلما هبطت ناوشاها مناوشة عنيفة، ولم يمكناها من خدش واحد تحدثه ببدنيهما، بل هجما عليها هجوماً ذريعاً وأخذا يسقطان منها عدداً كبيراً كان يهوي فوق الأرض فيلطخها بدماء حارة فائرة. . . وكلما هبطت واحدة طفقت تشكو وتبث بلسان يوناني مبين. . . ثم فرت بقية الطير. . . لكن ملكتها حطت بمكان قريب من الملك وهتفت به كي يأمر بوقف الملحمة حتى تدعو بعض جندها لنقل جثث القتلى. . . بيد أن الملك رفض طلبتها حتى تقاسمه أغلظ الأقسام وأوكدها أنها لا تعود إلى الاعتداء عليه أبداً، ولا تعود إلى زيارة تراقيا كلها أبد الحياة. . . فقاسمته ملكة الطير، فأشار إلى ولدي بوريس فأغمدا حساميهما، وذهبت الملكة وعادت بعد قليل في شرذمة من جندها، وبعد أن ذرفت من دموعها على قتلاها حملتها وذهبت إلى غير عود. . . وبرت قسمها، فلم تزر تراقيا بعد هذا أبداً. وشكر الملك لولدي بوريس، وعرض أن يستوزرهما، فرفضا شاكرين، ليصحبا جاسون
وكأنما ذاع نبأ الهزيمة في عالم الطير فهبت جبابرته تأخذ بثأر الهاربِز؛ فإنه ما كادت الآرجو تبعد عن شطئان تراقيا، حتى رأى راكبوها سرباً كبيراً من البزاة والنسور البواشق يقبل من علو كأنما تفتحت عنه أبواب السماء، ثم لا يفتأ يضرب الهواء بخواف من نحاس تلمع في أشعة الشمس كالذهب؛ حتى إذا كان فوق الآرجو طفق يضرب راكبيها بحجارة(227/64)
مسومة من سجيل ألحقت بهم أذى كبيراً. . . ولم تنفع معها سيوفهم ولا قِسّيهم شيئاً، فاختبأت كل كوكبة منهم في قمرتها، وخلا جاسون إلى عصاه السحرية يستشيرها ماذا يصنع لينجو بقبيله من هذا الطير، فتكلم الرأس العجيب فأشار بأن يضرب الجنود بأغماد سيوفهم على دروعهم ضرباً شديداً فيحدث صوتاً تنزعج الطير منه، وتفر مروّعة إلى غير عود. . . ودعا جاسون جنوده ففعلوا كما أشارت العصا، وفرت الطير ذاهلةً ممزقةً في رجب السماء
وحاق بهم كوارث أخرى لا حصر لها. . . ثم اقتربوا من برزخ سِمْبِلْجِيدز الذي ليس لمسافر إلى مملكة كولخيس سبيل غيره. . . وهو مضيق رهيب يصل ماء بحرين وعلى كل من عُدوتيه صخرة هائلة، فما تزال الصخرتان تنطبقان وتنفرجان، بحيث تسحقان كل شيء يحصل بينهما فيصيرانه هباءً عفاءً كأن لم يغْن من قبل. . . وكأيّن من سفينة جازف ملاحوها بالمرور بينهما، فحطمتهم وعفت على آثارهم. . . ولم يدر جاسون ماذا يصنع، وجلس رفاقه يقلّبون الأكف على ما أنفقوا في مخاطرتهم هذه، وظلوا ينظرون إلى الصخرتين ساعاتٍ وساعات وهما ترتطمان وتبتعدان، وكلما سمعوا قصيفهما يجلجل في الآفاق جعلوا أصابعهم في آذانهم حذر الغشية وتَقِيّةً من الصمم. . . وخلا جاسون إلى عصا جونو يستوحيها ماذا يفعل، فما كانت غير لحظات حتى تكلم الرأس العجيب، فأشار بأن يطلق جاسون حمامةً بين الصخرتين حين تنفرجان، ويرى هل تمرق قبل أن تنطبقا عليها، ثم يرى، هل يستطيع أن يمرق ملاحوه بسفينتهم بمثل سرعة هذه الحمامة. . .؟ ودعا جاسون رجاله يستشيرهم، ثم أطلقوا الحمامة البيضاء كما أشارت العصا، وكم كان عجبهم شديداً حين رأياها تفلت من بين الصخرتين إلا ريشةً واحدة انتُزعت من ذنبها فصارت هباءً نثره الهواء! واستعدوا للمقاحمة، وطفقوا يقيسون مسافة ما بين البحرين في البحر الذي هم فيه، ثم يطلقون حمامة كالتي أطلقوا، بحيث يعملون مجاذيفهم حين تنطلق في الجو. . . وأعادوا التجربة مثنى وثلاث ورباع، حتى وثقوا من قدرتهم على قطع المسافة في مثل البرهة التي قطعتها فيها حمامتهم الأولى. . . ودفعوا سفينتهم إلى أول المضيق، وانتظروا حتى أوشكت الصخرتان أن تنفرجا، ثم أعملوا مجاذيفهم بأذرع مستبسلة، وأرواح ترتعد فَرَقاً من الموت في أبدانها، فمرقت السفينة كما يمرق السهم عن سِيَة القوس. . .(227/65)
واحربا!! لقد استطاعوا أن يفلتوا بفلكهم، وإن حطمت الصخرتان سكانها، كما حطمتا ريشة ذيل الحمامة من قبل؟!
وما كادوا ينجون من هذه الموتة المحققة، حتى انسدحوا في الفلك يلهثون ويتنفسون، ويهنئ بعضهم بعضاً. . .
وبلغوا كولخيس بعد عناء وبعد جهد، ومثلوا بين يدي إيتيس ملكها الجبار، فسلّم جاسون بسلام الملوك، ثم سئل عن طلبته فقال:
- عَزّ نصر مولاي، لقد تجشّمنا مشاق هذه السفرة في سبيل الفروة الذهبية التي يقتنيها ملك الملوك، لأنه نُمي إليّ أنها كانت من تراث آبائي. . . ولا أدري كيف حصل عليها السيد بعد إذ أفلتت من كنوزنا
وقهقه الملك ملء شدقيه كالساخر المستهزئ، ثم ربت على كتف جاسون وقال:
- أيْ بني! أَبق على شبابك الغض، وجمالك الفينان، وعلى شباب هذه النخبة أولي القوة والفتوة الذين معك. . .! أي فروة ذهبية يا بني تبتغي؟ وتراث آبائك من؟! لقد ذبح فركسوس الكبش بيديه أمام عيني، وسلخه بين يدي، وضحى باللحم والحوايا للآلهة، ثم أهدى إليّ الفروة الذهبية التي تعدل كنوز الدنيا بأسرها! ففيم إذن تجشمك تلك المشاق، وفيم مجازفتك بالسفر بين صخرتي سمبلجيدر؟! وفيم كل تلك المهاوي والمهالك؟ عد يا بني إلى بلادك فهو خير لك، وأبق على حياتك، وانعم بحضن أمك الدافئ فهو أرحب لك من ميدان كله ذؤبان وغيلان، ومنايا تثير الأشجان والأحزان!
وتبسم جاسون وتشبث بما سأل الملك، فأخذ إيتيس يعظه وينصحه، فلما رأى تصميمه واستمساكه، قال له:
- (لك إذن ما طلبت يا بني، ولكن اسمع، وأصغ إليّ؛ إن أمامك مخاطر كنت أوثر ألا تلقي بنفسك في تهلكتها، ولكن مادمت قد غرتك الأماني، وازدهتك هذه النخبة من أبطال بني جلدتك، فاذهب إذن، وحاول ما استطعت أن تلجم عِجْليْ فلكان الهائلين اللذين ينقذف اللهب من منخريهما، ويفتكان بكل من اقترب منهما؛ ثم حاول بعد ذلك أن تحرث بهما الأرض الجَبوب التي تقدست باسم مارس، فإذا فعلت فازرع ما حرثت بأنياب تنين كما فعل قدموس باني طيبة، فإنك لا تلبث أن ترى الأرض تُنبت جيلاً من المَرَدَة مقنعين في الحديد(227/66)
يلاعبونك بأسنة الرماح، فإذا قدرت عليهم فإن عليك أن تقتل التنين الهائل الذي يحرس الفروة الذهبية، فإذا فعلت، ولا أحسبك تفعل، فإن الفروة لك، كنزاً ليس كمثله كنز، وذخيرة من الذهب الإبريز ليست تعدلها ذخيرة؛ هذا إلى فخر يرفعك إلى عِليين، وينقش اسمك في لوحة الخلود إلى آخر الزمان!)
وسمع جاسون. . . وخفق قلبه، ووجبت روحه وجيباً محزناً ثم أخذ على نفسه عهداً أن يفعل!!
ونصحه رفاقه أن ينكث، وأشفقوا عليه أن يضحي بهم وبنفسه في مثل هذه المهالك؛ بيد أنه صمم على أن يلجم عجلي فلكان، وأن يحرث بهما الأرض الجبوب، وأن يزرع فيها أنياب التنين، وأن يحارب المردة فإما هزمهم وإما غلبوه، وأن يقتل التنين الذي يحرس الفروة الذهبية ليفوز بها، وليعود إلى الوطن بالفخر والمجد وخالد الذكر، فيحكم ويكون خير الحاكمين!
وكان يتكلم أمام رفاقه في شجاعة مُدَّعاة، وفتوة مُفتراة، فإذا خلا إلى نفسه حزن أشد الحزن، وأسلم نفسه للتفكير العميق. . . ثم استوحى عصاه السحرية فقالت له إنه ينبغي عليه أن يلقي ابنة الملك، الأميرة ميديا، فإنها مشغوفة به حباً منذ رأته يحدث أباها. . . وأنها تكاد تجن به جنوناً
- وكيف ألقى ميديا هذه يا معجزة جونو الحبيبة؟
- اتصل بإحدى عجائز كولخيس تقض حاجتك!
- ومتى ألقاها وأين؟
- يالك من فتى؟! ألم تسمع من يقول: وكم لظلام الليل عندي من يد؟ القها في جنح الليل، ولتكن له يد عندك، والقها في حديقة قصر أبيها الملك!
(التتمة في العدد المقبل)
دريني خشبة(227/67)
البريد الأدبي
أزمة الكتاب والثقافة العالمية
عقد أخيراً في مدينة نيس في جنوب فرنسا مؤتمر نظمته أكاديمية البحر الأبيض المتوسط برياسة رئيسها الكاتب الكبير جورج دوهامل للنظر في مسألة ثقافية خطيرة هي أزمة (الكتاب). وقد أجمع المؤتمرون وهم رهط من كبار المفكرين والكتاب من مختلف أمم البحر الأبيض على أن مسألة الكتاب هي مسألة الثقافة العالمية كلها، وأنه لا يمكن أن تقوم بدون الكتاب أية ثقافة أو حضارة أو إنسانية أو سلام أو مثل عليا؛ ولذلك رأوا أن يعرضوا إلى المسألة من ناحيتها الدولية والعالمية
وجرى البحث في النقط والتفاصيل الآتية: هل يمكن أن تحل المجلات الدورية محل الكتاب؟ وهل يمكن أن تحل الإذاعة اللاسلكية (الراديو) مكان الكتاب والمجلة معاً؟ وهل يمكن أن يحل السينما مكان الكتاب والجريدة؟ وهل يمكن أن تشترك وسائل الإذاعة مع الكتاب أم لا يمكن إلا أن تضربه؟ وهل يمكن أن تستعمل هذه الوسائل بطريقة تتفق مع مصلحة التفكير والذهن الإنساني؟ وأخيراً هل يمكن أن يفيد تنظيم المكاتب العامة وإعارة الكتب بلا مقابل في تهذيب القراء، ويعاون في حل أزمة الكتاب؟
هذه النقط وجميع ما يتعلق بها كانت وما تزال موضع بحث المؤتمر أو محكمة الكتاب كما يسميه المسيو دوهامل
ولا ريب أن أزمة الكتاب والثقافة مسألة عالمية وهي مسألة الحضارة كلها؛ وقد بدأت هذه الأزمة من نهاية الحرب الكبرى إذ انصرفت الأذهان شيئاً فشيئاً عن الكتب القيمة وأغرقت الشعوب المختلفة بسيل من الآداب والكتب السطحية. ثم جاءت السينما الناطقة والراديو فزادت الأزمة حدة، وطغت الصحافة من جانبها على الكتاب وأخذت بتنويع محتوياتها الأدبية والثقافية تصرف الأنظار عن الكتاب
وقد شعرنا في مصر، كما شعرت جميع الأمم المتمدنة بهذه الأزمة الثقافية الخطيرة؛ ومن ثم فإنه يجدر بنا أن نبحثها كما يبحثها غيرنا، وأن نحاول معالجتها بنفس الوسائل والأساليب.
دانونزيو في رياسة الأكاديمية الإيطالية(227/68)
من أنباء رومة الأخيرة أن الكاتب والشاعر الإيطالي الأشهر جبرائيلي دانونزيو قد عين رئيساً للأكاديمية الإيطالية الملوكية. وقد علقت الصحف الإيطالية والخارجية على هذا التعيين بالاستحسان، وقال إن الدوتشي (موسوليني) بإسناده هذا المنصب لأعظم كاتب إيطالي في العصر الحديث قد أسدى خدمة جليلة للثقافة الإيطالية. على أنه يلاحظ أن هذا الاختيار لا يرجع فقط إلى خلال الشاعر الأدبية، ولكنه يرجع أيضاً إلى ماضيه الوطني؛ فلم يكن دانونزيو شاعراً وكاتباً عظيماً فقط، بل كان وطنياً وجندياً عظيماً أيضاً؛ وهو اليوم شيخ في الرابعة والسبعين من عمره. وقد بزغ مجده منذ خمسين عاماً كشاعر موهوب إذ نشر مجموعة أولى من قصائده؛ ثم توالت بعد ذلك كتبه بين منثور ومنظوم وقصص ونقد. ومنذ أوائل هذا القرن يتبوأ دانونزيو ذروة الشعر والكتابة في إيطاليا الجديدة. وفي إبان الحرب الكبرى كان دانونزيو في فرنسا، وكان يدعو في كتبه وقصائده إلى انضمام إيطاليا إلى الحلفاء. ولما دخلت إيطاليا الحرب انتظم دانونزيو في الجيش ضابطاً في المدفعية، وفقد إحدى عينيه في خدمة الطيران. وفي نهاية الحرب حدث خلاف بين إيطاليا ويوجوسلافيا على ملكية ثغر فيومي، وانتهى النزاع بأن وافقت إيطاليا على تركه ليوجوسلافيا، ولكن دانونزيو لم يرتض هذا الحل وزحف على فيومي على رأس ألف من المتطوعين واحتل الثغر عنوة وأعلن ضمه إلى إيطاليا. وهناك زاره موسوليني الصحفي يومئذ وأعجب به وبخلاله الوطنية والعسكرية العالية. ولما قام الحكم الفاشستي وتبوأ موسوليني ذروة النفوذ والسلطان حدث جفاء بين الرجلين في البداية، ولكنه لم يلبث أن زال وأحيط الشاعر الكبير بكل مظاهر التكريم، وأنعم عليه بلقب الإمارة في سنة 1925، وهو يتبوأ اليوم رياسة الأكاديمية الإيطالية ومن ورائه ذلك الماضي الحافل في الشعر والأدب والوطنية والحرب
الشرائط المصورة في خدمة المكتبات
في حين أن أنصار الكتاب يرون أن الأفلام الناطقة من العناصر الضارة التي تؤثر في رواج الكتب، يرى بالعكس خبراء المكتبات أن الأفلام الناطقة يمكن استخدامها بنجاح في خدمة المكتبات العامة وفي تذليل مهامها. هذا ما رآه المندبون في مؤتمر عقد أخيراً في(227/69)
كامبردج للنظر في شئون المكتبات وتنظيمها. وقد صرح الأستاذ، واطسون دافيس أحد المندوبين الأمريكيين أنه بمرور الزمن يمكن أن تستخدم هذه الأفلام في حفظ نفائس أعظم المجموعات العالمية، وبذلك تسهل مهمة تبادلها بين مختلف العواصم والمكتبات: بل يمكن بهذه الوسيلة أن ننقل نفائس مكتبة بأسرها من قارة إلى أخرى مدونة في بعض هذه الأقلام الناطقة
وذكر الأستاذ هتون من خبراء المتحف البريطاني أن إدارة المتحف ستقوم بإخراج أفلام ناطقة من جميع الكتب الإنكليزية التي ظهرت قبل سنة 1550م، ثم ترسل نسخا منها إلى الولايات المتحدة (أمريكا). وقد صار من الميسور الآن أن تصور الصفحة الكبيرة في حجم لا يزيد على طابع البوستة، وبذلك يمكن تصوير آلاف من الكتب في أحجام صغيرة، ثم يمكن بعد ذلك لكل راغب أن يحصل بواسطة الجهازات المكبرة على صور منها في حجمها الطبيعي، أو يمكن عرضها على ستار السينما
الأدب الأردي
اللغة الأردية هي لغة مسلمي الهند، وهي من الفصيلة الفارسية، وتكتب بالحروف العربية؛ ولها أدب خاص يتأثر أشد التأثر بالآداب الفارسية والعربية. وقد ظهر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن الأدب الأردي بقلم الدكتور موهان سنغ الأستاذ بجامعة لاهور تحت عنوان وهو بحث جامع في تاريخ اللغة الأردية وآدابها، من النثر والشعر والقصص، والعوامل التي اشتركت في تطويرها، ومدى تأثرها بالأدب الإنكليزي والأدب الهندي القديم، وما كان للقرآن الكريم والآداب العربية من أثر في تطور الثقافة الأردية وقد تناول الدكتور سنغ بحثه بأسلوب جديد يسبغ على مؤلفه قيمة خاصة، بحيث تقرأ فيه تاريخ الأدب الأردي كما تقرأ تاريخ الأدب الإنكليزي أو الفرنسي
بول فاليري أستاذ في الكوليج دي فرانس
أصدرت الحكومة الفرنسية أخيراً مرسوماً بتعيين الكاتب والشاعر الفرنسي الكبير وعضو الأكاديمية الفرنسية بول فاليري أستاذاً للشعر في معهد (الكوليج دي فرانس) وبذلك يتبوأ الشاعر الكبير فوق مكانته في عالم الشعر والأدب مركزاً رسمياً خطيراً يستطيع أن يبث(227/70)
منه إلى الشباب نظرياته الطريفة في الشعر الفرنسي
هذه بضاعتنا ردت إلينا
لما قرأت في (الرسالة الغراء) مقالة (أخبار أبي تمام للصولي) تذكرت بيتاً لهذا الشاعر العظيم (وكم بيت بديوان) سلبه إياه أبو عبيد البكري، ووهبه للمتنبي. . .
ومقسم يعطي العشيرةَ حقّها ... ومُغَذ ِمِر لحقوقها هضّامها
ورأيت أن يُردّ اليوم الحق إلى أهله. وهذه قصة الذهب والهبة:
جاء في كتاب (اللآلي في شرح أمالي القالي) أو سمط اللآلي (الجزء الأول. الصفحة 217):
(وقال المتنبي في النسيب:
إنسيّة الإنسان إن هيَ حُصّلت ... جنيّةُ الأبوين ما لم تُنسبِ)
وقال محقق الكتاب ومنقحه الأستاذ عبد العزيز الميمني في الحاشية: (لا يوجد البيت في شيء من نسخ شعره (أي شعر المتنبي) وقد جمع العاجز - يعني الأستاذ نفسه - زيادات ديوانه؛ ولعله وهم (أي البكري) في حمله البيت عليه)
قلت: قوله (العاجز) هو من تواضع العلماء، وقد أظهر في (اللآلي وسمطه) كل قوة، وأخبر فضله أن ليس بعد هذا التحقيق تحقيق (ليس وراء عبادان قرية). ومن خصائص الأستاذ الميمني أنه يعرف جميع المواطن التي ورد فيها بيت من أبيات (اللآلي) ويذكرها كلها قلت أو كثرت
وهذا البيت الذي عزاه البكري إلى المتنبي، وأنكر الأستاذ عزوته، ولم يدلنا على صاحبه - على اتساع ذاك الإطلاع - هو لأبي تمام في قصيدة مطلعها:
أحسِنْ بأيام العقيق وأطيب ... والعيش في أطرافهن المعجب
ورواية صدر البيت (المسلوب) في الديوان هو (أنسية إن حصلت أنسابها) وقبله:
وإذا رنت خلت الظباء ولدنها ... ربعية واسترضعت في الربرب
فاقرأ اليوم يا حبيب: (هذه بضاعتنا رُدّت إلينا) في (اللآلي)
(الإسكندرية)(227/71)
(* * *)
وفاة المؤرخ التركي أحمد رفيق
روعت الأمة التركية في غضون هذا الشهر بوفاة عالمها المؤرخ الجليل احمد رفيق، ولقد كانت وفاته فاجعة كبرى أصابت الأمة التركية في شعرها وأدبها وتاريخها
بدأ رفيق حياته العامة بالانضمام إلى الجيش، ثم أكب على الدراسات العلمية الدقيقة وراح يبذل قصاراه في المطالعة والبحث والاستقصاء في العلوم التاريخية إلى أن وهنت قواه فخرج من السلك العسكري وكان خروجه هذا سبباً في انغماره في مضمار الدراسة العنيفة، والمطالعة المضنية، فأكب على دراسة التاريخ وهي الناحية التي كان يميل إليها بالفطرة فدرسها درساً وافياً وشرع في تأليف مؤلفاته القيمة التي تزيد على الاثني عشر مجلداً، وجميعها من أروع الكتب التاريخية التي نالت تقدير كبار أساتذة التاريخ في العالم
مارس احمد رفيق الشعر والأدب فألّف ديواناً في الشعر، وأنشأ مقالات عديدة في الأدب، فكان توفيقه في هذين الفنيين ضئيلاً بالنسبة إلى ما أصابه في التاريخ من نجاح باهر ومكانة سامية
وأسلوب الرفيق التاريخي يمتاز من غيره بالسهولة وتبسيط المعقد من التاريخ بطريقة لا تجعل الملل يتسرب إلى القارئ
ويحزننا أن نقول أن ذلك المؤلف الكبير على رغم الخدمات العظيمة التي أسداها إلى أمته كان في أواخر أيامه فريسة للحرمان والفاقة(227/72)
الكتب
كان ما كان
تأليف الأستاذ مخائيل نعيمة
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
كان ما كان. . . ألا إنها كلمة سحرية تفيض بالذكريات والأحلام، وتفتح على النفس آفاقاً من الماضي، وما أحب الماضي إلى النفس وإن كان كله الشقاء! ولعل هذا المعنى هو الذي لحظه الأديب اللبناني الأستاذ مخائيل نعيمة في وضع هذه الكلمة عنواناً لمجموعة من قصصه، وهي مجموعة تشتمل على ست قصص وفصل من رواية مسرحية اسمها (جمعية الموتى) كان الأستاذ قد كتبها عن المجاعة اللبنانية إبان الحرب. ونعيمة لاشك أديب قصاص، عنده طبيعة فنية، وله في فنه ميزات ومواهب، وهو في قصصه يحيا حياة روحية نبيلة كلها صفاء وتصوف، فعنده (أن الفطرة حقيقة صافية، والمدنية رياء موشى) وهو (يحب الروح النظيفة في جسم قذر، عن الروح القذرة في جسم نظيف) ومن رأيه (أن الأرض روح طاهرة في جسم طاهر لا تساد ولا تستعبد، فهي ميزان العدل الإلي، ولذلك لا تخجل من أن تنبت الوردة والشوكة والقمحة)، وإنه لينظر إلى سبل الحياة في الشرق والغرب، فيرى (الشرق يسير إلى المحجة ومركبته قلبه، وجياده عواطفه وأفكاره، وأعنته إيمانه وتقاليده المتصلة بالآزال، بينما الغرب يسير في مركبة روحها البخار أو الكهرباء، وعضلاتها لوالب ودواليب من حديد وفولاذ، وأعنتها ادعاؤه واعتداده بنفسه). ومع أن الغرب يلتفت إلى الشرق هازئاً، والشرق يبهره ما يرى فيقر للغرب بالمجد، فإن نعيمة يرفع الشرق في روحانيته الصافية، على الغرب في ماديته الملوثة؛ وهو يأسف على الشرق إذ (يطرح مركبته، ويبيع روحه، ليحصل على مركبة كمركبة جاره)، لأن الحياة المادية في الواقع (حياة مقنعة) كلها زحمة باطلة، وجلبة فارغة، وما الإنسان في وسط هذه الجلبة إلا (كالهر يلحس المبرد فيتلذذ بطعم الدم السائل من لسانه جاهلاً أنه دمه. . .)
ونعيمة أيضاً رجل باحث، يعاني النقد والدراسة التحليلية، وله (سياحات في ظواهر الحياة وبواطنها). ولاشك أن القصاص في حاجة إلى مواهب الباحث، من دقة الملاحظة،(227/73)
وصواب الفكر، وحسن التقدير؛ ولكن ليس من الصواب أن يفنى شخص القصاص في شخص الباحث، حتى لا يضعف النهج القصصي في القصة كما يلاحظ في بعض قصص نعيمة؛ فهو يهتم بأن يقول لك كل شيء في نفسه، ويعنيه كثيراً أن يشرح كل شيء يعترضه؛ ومن ثم فهو يستطرد كثيراً ويخرج بك إلى كل ناحية تتصل بالحديث، ومن ثم كانت القصة عنده فكرة قويمة، وحكمة غالية، وبحثاً اجتماعيا كاملاً، ولكنها ليست على ما يجب من الاستواء الفني والاتساق القصصي، فأنت تقرأها وكأنك تقرأ مقالاً ممتعاً، أو بحثاً ضافياً؛ ولقد تعمد إلى بعض أجزائها بالحذف فما يضير ذلك، ولا هو يقطع صلة الحوادث في القصة؛ ولقد تجده يطيل كثيراً في التحليل النفسي للأشخاص إطالة قد تتحملها القصة الطويلة، ولكنها لا تليق بالقصة القصيرة. وإليك مثلاً: تلك القصة التي أسماها (ساعة الكوكو) والتي صدر بها الكتاب، فإن نعيمة قد حشاها بكثير من الحكم والمواعظ، ونقل فيها كلاماً طويلاً من كلام (بو معروف) وعرض فيها لشخصية (خطار) فحللها تحليلاً نفسانياً دقيقاً صور فيه كل شيء حتى الخواطر والأحاسيس، وساق كلاماً عن الشرق والغرب، والمادية والروحية، ولكنه ساق كل ذلك مساقاً إن اغتبط به فكر الباحث فلن يرتضيه تقدير القصاص، لأن القصة ليست خطاباً يلقى أو حكاية تروى، ولكنها حدود مرسومة، وأبعاد مقدرة، وحبكة قوية في البدء والنهاية، وخطة هي طبيعة الحياة ومظهر الواقع؛ وبالجملة فهي قطعة فنية مستوية لا استطراد فيها ولا زوغان. ولو أن نعيمة راعى ذلك في قصصه لكان من غير شك سباق الحلبة وحامل لواء القوم في القصة
أما أسلوب المؤلف فأسلوب سهل مرسل، يريده نعيمة على أن يكون أداة لإفهام القارئ فحسب. ولقد يهمل حق البيان واللغة في بعض الأحيان، فيقدم حيث يجب التأخير، ويحذف في مقام الذكر، ويرجع بالضمير إلى غير ما هو له، كأن يقول: (ولا يزال نحو المائة منهم ينتظرون الدخول وراء السور) يريد ولا يزال نحو المائة منهم وراء السور ينتظرون الدخول. وكأن يقول: (لكنهم يبكون كلاماً، وينوحون من قلوب ضاحكة وأجواف مفعمة) يريد أن بكاءهم لا حزن فيه وأنهم ينوحون وأجوافهم ممتلئة (بالسرور)، ولكن العبارة لا تفي بما يريد، لما في صدرها من الخطأ اللغوي، ولما في عجزها من القصور. وكأن يقول في بعض تشبيهاته: (فكأن دماغي قد تحول إلى مسحوق دقيق ذرته يد خفية في هاوية(227/74)
تلبدت بدخان) وهذا تشبيه لا يسوغه الذوق البياني
على أننا لو تجاوزنا عن مثل هذا فما يصح أن نتجاوز عن حق اللغة والنحو في مثل قوله: (ويلتقي الأخ أخاه) وقوله: (لنشاركه بالفرح) وقوله: (ولا يلعب بالقمار) وقوله: (كانت تحوي على صفات) وقوله: (فلنباشر يفحصهم) وقوله: (وذقنك المستطيلة وأحناكك النافرة) إلى آخر ما هنالك من التعابير التي لا أحسب أن نعيمة الناقد يرضاها من غيره. وهل من اللائق أن تكون الفكرة من الذهب وأن يكون لبوسها من الخشب؟!
ثم هناك هنوات طفيفة كأن يقول (ص57) واختلت مع جميل في مخدعها، وسياق الكلام يقضي أنها اختلت مع عزيز وما أحسب ذلك إلا سبق قلم
وفي قصة الكوكو (ص8) يقول: في حقيبتي رسالة تسلمتها في أيار سنة 1922 والذي في ذيل القصة أنها كتبت بتاريخ سنة 1915 ولعل هذا من تحريف الطابع
أما بعد، فقد كانت فترات طيبة تلك التي قضيتها في قراءة (كان ما كان)، وما أبالغ إذا قلت إن نعيمة قد غمرني بفيض من الفكرة (الروحية البحتة) التي يخدمها ويخلص لها في قصصه. وإنها لفكرة سامية ما أحوج الناس إليها وقد جرفتهم أوضار المادة الفاسدة، ولكن من لها بأمثال نعيمة في روحانيته وإخلاصه؟
محمد فهمي عبد اللطيف(227/75)
العدد 228 - بتاريخ: 15 - 11 - 1937(/)
الصيام بين عهدين
والتجدد أو التطور يصيب كل شيء فيجعله أعلى عالٍ أو يردُّه أسفلَ سافل!
كان عهدنا بالصوم قبل اليوم أن يكون عصياناً للنفس في طاعة الله، وحرماناً للجسم في مَبرَّة الروح، ونكراناً للذات في معرفة الناس؛ فالجوارح مغلولة عن الأذى، والمشاعر مكفوفة عن الشهوة، والخواطر مستغرقة في الدعاء، بين نهار كله إحسان وتأمل وتصدُّق، وليلٍ كله قرآن وتواصل وتهجُّد؛ فلا الغنيُّ يهيج به البطر، ولا القوي تفرط عليه القدرة، ولا الفقير يتجهم له الحرمان، وكأنما زالت الفروق بين الناس فأصبحوا سواسية في نعمة الدين وسعادة الدنيا!
كان الرجل الدنيوي الشهوان إذا أقبل عليه رمضان تاب وتطهر، فلا يفتح فمه لِهُجر، ولا عينَه لفحش، ولا أذنَه للغو، ولا قلبَه لخطيئة. يقضي يومه مضطرباً في المعاش على أفضل ما يكون الخلق؛ فإذا كان تاجراً لا يدلِّس، أو صانعاً لا يزوّر، أو عاملاً لا يُفرِّط، أو معاملاً لا يخون. ويحيي ليله في استماع القرآن ومواصلة الإخوان ومُوادَّة ذوي القربى؛ فإذا ما انقضى بعض الشهر بدا عليه شحوب الصوم وذبول الصلاة وكلال السهر وخشوع الورع. فلو كنت حاضر ذلك العهد لرأيت رمضان عيداً قومياً ودينياً يؤكد أسباب القرب بين الله وعباده، ويوثق عرى الحب بين الشعب وأفراده
ذلك عهدنا برمضان الأمس؛ أما رمضان اليوم فبحسبك أن أصف لك حياة من حيوات القاهرة فيه؛ وتستطيع أنت أن تصور لنفسك الطور العجيب الذي آل إليه شهر القرآن والعبادة
هي أسرة لا أقول إنها مثال لكل الأسر؛ ولكنها استجابت لنوازع التجديد الأبله استجابة الإِمَّعَة فأصبحت تمثل ما عسى أن يكون بين التقاليد والتقليد من التناقض المضحك
ميم باشا يتبوأ منصباً من مناصب الدولة الرفيعة. بلغه بعد حياة طويلة كادحة، تبتدئ من القرية الحقيرة والأسرة الفقيرة والوظيفة الخاملة، وتنتهي إلى هذا الجاه العريض والثراء الضخم والمنزل المرموق؛ فهو وزوجه من عهد، وابناه وبناته الثلاث من عهد؛ والتفاعل بين هذين العهدين هو الذي أحدث هذه الظاهرة التي تجدها اليوم في أكثر بيوت القاهرة. لابد لهذه الأسرة أن تصوم؛ ذلك حكم النشأة وسلطان العادة. ولابد كذلك لهذا الصوم المتزمت الجافي أن يتسع باله وترق حواشيه إذا ما استضاف هذه الأسرة. فهو يسبل(228/1)
جناحيه الرءومين على أَسِرَّتها الوردية الوثيرة من طلوع الفجر إلى متوع النهار؛ ثم يمس بريشهما الناعم خدود الأوانس النواعس فينتبهن؛ ويهبُّ الوالدان على زقزقتهن في غرف الزينة وطنُف القصر؛ ثم يجتمع بعد قليل مجلس الأسرة لينظر في مقترحات البطون على إدارة المطبخ. فهذه تقترح، وتلك تعترض، وهذا يطلب لوناً، وذاك يطلب آخر، والباشا يدير هذا الجدل الشهي إدارة موفقة، فيعدِّل أو يكمل أو يؤجل، حتى ينتهي النقاش بثبَت حافل بالمشهيات والمقليات والمشويات والمحشوات والفطائر لا تجد بعضه في مطعم كبير
يتغير هذا الثبَت كل يوم فيطول أو يقصر، ولكن لونين فيه لا ينالهما تغير ولا يمسهما نقص: لوناً من الأرانب مطبوخة في النبيذ يحبه الباشا، ولوناً من الشرائح الوردية مطعمة بفصوص من شحم الخنزير تحبه الآنسة الكبرى سين!
هاهو ذا الباشا البطين يتذبذب وئيداً بين المطبخ والمائدة كأنه رقاص الساعة؛ في يده مسبحته الكهرمان الصغيرة يهش بها على الطهاة والخدم، وشفتاه تختلجان من غير كلام، وعيناه تتحركان من غير نظر، حتى إذا دنت المغرب خفت حركته واحتد نشاطه فأقبل على المائدة ينسق الآنية، وينضد الأكواب، ويسكب أمام كل آكل الشراب الذي تعوده؛ فهنا قمر الدين، وهنا منقوع التين، وهنا الكينا، وهناك الفرمود، وهنالك إفيان، وأمامه هو شراب صحي فاخر من صيدلية (يني)؛ ثم يدبج الخوان المخملي بنوافل المائدة من السلطات والكوامخ، ويرتب الألوان مع النادل على أصول مقررة في الفن؛ ثم يسرح بعد ذلك بصره في السماط المكتظ فيرتد إليه ملآن بالرضا والعُجب؛ فيخرج إلى الردهة، ومن الردهة إلى الشرفة، فيلقي النظرة الأخيرة على الشمس الغاربة، ثم يعود فيرى الأسرة بجنسيها لم تفرغ بعد من إعداد الأهَب للسهرة الراقصة؛ فالحلل تنتقى، والحلي تُختار، والشعور ترجل وتموج، والأظفار تدرَّم وتصبغ، والحواجب تدقق وتخطط، والخطوات واللفتات والبسمات تتكرر أمام المَرايا لتراض وتُتقن. حتى إذا انطلق مدفع الإفطار من الراديو أهرعوا إلى المائدة إهراع جنود الإطفاء إلى السيارة؛ ثم يجلس الباشا بين بنيه ويضع المسبحة المعلومة مكان القدح المجهول، ثم يرفعه إلى فيه وهو يقول: (اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت، وعليك توكلت.) ثم يقبلون على هذه الآكال وهذه الأشربة إقبال الشره الفاره! فلو رأيتهم حسبتهم صاموا العام كله ليفطروا في رمضان!(228/2)
أذنت العشاء فصلاها الباشا الصالح، ولم يكد ينلفت منها حتى أخذ يُعد مقصف الليلة من النقول المختلفة، والأشربة الهاضمة، والأزهار الجنية. وأخذت الأسرة زينتها النمامة الكاشفة واجتمعت في البهو الفسيح الفخم تستقبل أسراب السيدات والأوانس ومعهن أبناؤهن وأخوتهن من الأيفاع والشباب؛ فيعزف البيان، ويخفق العود، وتشدو الكواعب، ويهزج الحاكي، ويدور الرقص على نمطيه الشرقي والغربي، فتلتف الأيدي على الخصور، وتلتصق الصدور بالصدور، وتمتزج أنفاس الكحول بأنفاس العطور، ويقف رمضان المسكين من هذه المناظر المريبة وقفة شيخ من شيوخ الدين دفعت به الأقدار إلى ماخور!
هذه والله صورة ناطقة لأسرة أعرفها ويعرف أمثالها الناس. فمن عرفها فسيقول قصَّر، ومن جهلها فسيقول بالَغ؛ والحق أنها الواقع لا تنقصه إلا تسمية الأسماء وتعيين المنزل.
أحمد حسن الزيات(228/3)
الحد الحاسم
للأستاذ عباس محمود العقاد
من العقول عقل كالرسول الذي تثق بقدميه ولا تثق برأسه: ترسله وتفصل له ما يعمل في كل حالة، فإذا طرأ طارئ لم تُسلف له فيه وصية فلا عمل ولا تصريف حتى يرجع إليك. فالشيء عنده إما معمول بأمر أو متروك بأمر، وإما حسن كما تراه أو قبيح كما تراه، ولا توسط ولا تدرج بين الأمور
ومن العقول عقل كالرسول المفوض: تنبئه بمرادك ثم تكل إليه تحصيله كما يريد، فلا تبيح ولا تمنع، ولا تقسم الأمور كما تراها، بل تدع له أن يقسم ما يشاء حين يشاء
العقل الأول لا غنى له عن الحدود الحاسمة في الكلام؛ فالشيء عنده إما أبيض أو أسود، وإما حلو أو مر، وإما مأخوذ أو متروك؛ ولا يجوز أن يكون مأخوذاً في حال ومتروكا في حال، ولا أن يكون حلواً ومراً في وقت واحد، ولا أن يكون بين البياض والسواد تارة يبيض وتارة يسود على حسب الضياء والظلام، وعلى حسب الموقع الذي تنظر منه إليه
والعقل الثاني لا يتقيد بالحدود الحاسمة ولا يحتاج إليها، لأنه يرى الدرجات بين المسافات، ويرى الظلال بين الألوان، ويرى التشكيلات بين الأشكال
فالشيء عنده لا يكون بعيداً وحسب، ولا قريباً وحسب، وإنما يكون بعيداً بمقدار كذا وقريباً على درجة من القرب مقسومة بين الدرجات؛ وقس على ذلك سائر ما يدركه ويحده ويعيه
ولغات الأمم تبين لنا مقدار نصيبها من العقل المسخر ومن العقل المفوض
فاللغة التي تقل فيها (الظروف) هي اللغة التي قلما يستغني أصحابها عن الحدود الحاسمة والأوامر المفروضة، لأنهم يجهلون الفروق ولا يدركون وجوه الاختلاف، إلا إذا بلغت من الظهور والاتضاح مبلغ النقيض من النقيض، أو مبلغ الشيء المميز بعلامة لا تشتبه بغيرها من العلامات
واللغة التي تكثر فيها الظروف هي لغة العقول المفوضة أو العقول المتصرفة، لأنها تمح الفرق الصغير فلا تقف عند الحد الحاسم الكبير، وتري العمل الواحد على أشكال متعددات، فلا تحصره في شكل واحد محدود محتوم
و (الظرف) في اللغة هو الكفيل بإظهار هذه الفروق الصغيرة، وتقسيم الدرجات بين(228/4)
المسافات الواسعة. فإذا رأينا (الظروف) في لغة من اللغات فنحن إذن أمام ناس متصرفين غير محدودين، أو أمام عقول تستنبط الفهم من بواطنها ولا تنتظر حتى يقال لها: أفهمي هذا هكذا، وافهمي ذاك على ذاك المثال
وأحسب أن (الظروف) تقل، وأن العقول تعجز عن التصرف لسبب من سببين:
أحدهما طول عهد الاستبداد، فيتعود العقل إملاء الأوامر عليه وإسناد الفرائض إليه، فيصدع بما يؤمر ويطيع ثم لا يتصرف، وينتظر الإرشاد والتسديد في كل خطوة وعند كل طارئ جديد
والثاني نشأة الأمة في بيئة محدودة لم تتشعب فيها مسالك العمران ومذاهب التفكير، فكل ما فيها فروق كبيرة بارزة، ومسافات بعيدة شاسعة، فلا محل فيها للفرق الدقيق ولا للدرجة الصغيرة ولا للمسحة المترددة بين الألوان
وأنت تستطيع أن تفتح (معجم) اللغة من اللغات فتعرف نصيبها من الحرية أو من سعة العمران بتلك العلامة التي لا تخطئ، وهي علامة (الظروف) المصوغة أو التي تسهل صياغتها من الأسماء والأفعال
يضحك الإنسان ضحكة السرور، وضحكة الألم، وضحكة التشفي، وضحكة التهكم، وضحكة الرصانة، وضحكة الطيش، وضحكة المعرفة والحكمة، وضحكة الجهل والبلاهة، وضحكة القوة والعزة، وضحكة المجون والاسترخاء؛ وكله ضحك إذا نظرت إلى اسمه في اللغة. . . فماذا يفيد هذا الاسم إن لم يميزه مميز من الظروف؟
وتقول مثلاً في عنوان مقال أو قصيدة: (شجاعة الجبن) فيفهم العقل المتصرف أو عقل (الظروف) معنى ما تقول
أما العقل المغلق أو عقل الحدود الحاسمة فيعجب حتى يغرب في الضحك ويسخر ممن يلقي إليه بذلك العنوان، لأن المسألة عنده إما شجاعة وإما جبن ولا يلتقيان. وليس في علمه أن الجبن قد يؤدي إلى الإقدام بعض الأحيان، وأن الجبان والشجاع في بعض المواقف سيان
ومن هنا كان استغراب الجامدين لما كانوا ينعتونه (بالتفرنج) من تلك العناوين، وما هو بالتفرنج ولا بالوصف الموقوف على الفرنجة، ولكنه وصف شائع بين جميع العقول التي(228/5)
بلغت رشدها وخرجت على وصاية (الحدود الحاسمة) أو على وصاية الأسماء والأفعال التي لا تميز بينها الظروف والإضافات
وليس أصعب من إفهام عقل حاسم يتحذلق ويقيم الاعتراضات على ما سمع. فأنت إذا قلت مثلاً: إن النهار مضيء والليل مظلم، فذلك تفريق من أصدق التفريقات بين الأضداد: يسمعه العقل المتصرف فيعلم ما تعنيه لأول وهلة، ويسمعه العقل الحاسم المحدود المتحذلق فيقول لك: كيف؟ إن النور الكهربائي يضيء بعض الحجرات بالليل، وإن الستائر لتلقى الظلام على بعض الحجرات بالنهار! وقس على ذلك أمثال هذه الاعتراضات وما تنم عليه من الضيق والعجز وقلة التصرف والتواء التفكير
وإلا فانك إذا أردت أن تمنع ذلك الاعتراض وأشباهه فقد وجب عليك أن تقول: إن النهار مضيء والليل مظلم، ثم تتبع هذا التفريق بإحصاء جميع الحجرات التي تحجبها الستائر والنوافذ وجميع الحجرات التي تضيئها المصابيح الكهربائية وغير الكهربائية، وتعود فتقول: إن النهار مضيء والليل مظلم ماعدا حجرة في بيت زيد في طريق كذا في مدينة كيت وكيت بمصر بالقارة الإفريقية، وهكذا حتى تستوفي بيان جميع الحجرات في جميع الطرقات في جميع المدائن في جميع الأقطار. فإن لم تذهب إلى هذا التفصيل فأقل ما في الأمر أن تعمد إلى استثناء لا حاجة إليه ولا مزيد فيه
فما الذي يدعو العقل المحدود إلى أشباه ذلك الاعتراض؟ أَدقة في فهم؟ كلا! بل عجز عن إدراك الحدود بغير إملاء حاسم وعجز عن طلب المعرفة يشغله بالقشور عن اللباب وبالتوافه عن مهام الأمور
وهنا ينبعث لنا من التمثيل مثل آخر للتفريق بين العقل المتصرف المفوض والعقل الحاسم المسخر
فهل من الضروري أن يلجأ العقل المتصرف إلى التفريقات والظروف في تعبيراته؟
وهل إذا قال القائل: (إن النهار مضيء والليل مظلم) نحسبه من أصحاب اللغات الغنية التي يتكلمها المتصرفون أو من أصحاب اللغات الفقيرة التي يتكلمها المحدودون المغلقون؟
الجواب هنا ينفع فيه التصرف المطلق، ولا ينفع فيه الحسم المغلق!
الجواب هنا أن ذلك القائل يكون من المتصرفين إذا قدر أن سامعيه لا يعترضون على ذلك(228/6)
الاعتراض السخيف ولا يطالبونه ببيان الحجرات في جميع البيوت والطرقات والأمصار والقارات، أو باستثناء هو وذلك على حد سواء. فإذا هو سكت بعد تفريقه الموجز فسكوته خير من الإفاضة والتشعيب
وأنه يكون من المحدودين إذا قال: (إن النهار مضيء والليل مظلم) ثم سكت عن المزيد لأنه يجهل مواقع الاستثناء كما يجهلها سامعوه
فالتصرف لازم في جميع التفريقات حتى التفريق بين المتصرفين والمحدودين
ومن ثم نستطيع أن نقول: إن (الظروف) والتفريقات تكثر في اللغات الغنية، ثم نرى أن أصحاب تلك اللغات قد يستغنون عن الظروف والتفريقات ويعرفون كيف يستغنون عنها ومتى يحسن الاستغناء؛ فلا نعجل بالاعتراض ولا نحسب أننا متناقضون، لأن التصرف خليق أن ينفي هذا التناقض الظاهر عن أذهاننا وأن يغنينا عن الإسهاب حيث لا حاجة إلى إسهاب
ساقني إلى موضوع الحد الحاسم رأيٌ في علاقة الأدب والديمقراطية قرأته في كتاب (لونارد وولف) المسمى بعد الطوفان، وسأعود إليه ببعض الشرح والتعليق في غير هذا المقال
وخلاصة رأيه أن الشعراء والقاصين كانوا يرسمون للناس قبل القرن السابع عشر نماذج من طوائف وجماعات. أما بعد القرن السابع عشر وانتشار الديمقراطية فأبطال القصص (أفراد) مستقلة قلما تتكرر في غمار السواد، وليست نماذج من طبقة أو طائفة أو قبيل
وعلاقة الديمقراطية بهذا في رأي (لونارد وولف) ومن يجارونه أن المساواة قد خولت الفرد حربة الظهور فبرزت الخصائص واستحقت من الشعراء والكتاب عناية لم تكن تستحقها حين كان الجمهور أرقاماً متكررة على نموذج واحد، أو حين كان النبلاء طرازاً مرسوم المراسم لا يختلف فيه إنسان عن إنسان
رأي جميل لا شك في صدقه واحتوائه للكثير من الأصول والملاحظات ودلالته على سعة المعرفة وحسن التحليل والتعليل
ولكن ما نصيب ذلك الرأي لو وقع للمحدودين من أصحاب الحدود الحاسمة ومن جماعة المطالبين بتعداد الحجرات إذا قيل إن النهار ضياء والليل ظلام؟(228/7)
فقبل القرن السابع عشر رسم شكسبير بطله (هملت) وهو ولا ريب (فرد) بين أمراء جميع الأزمان وليس بالنموذج المتكرر في طبقة الأمراء
وقبل القرن الأول رسم هومير أبطاله الفرسان وهم مختلفون اختلاف أفراد لا اختلاف نماذج
فأين يذهب رأي وولف الجميل لو صدمناه باعتراضات شتى على هذه الوتيرة؟
يذهب إلى حيث نخسره ويخسره النقد وميزان الآداب، لأن وصف الشخوص بعد القرن السابع عشر قد اختلف وكانت لاختلافه علاقة بالديمقراطية ما في ذلك مراء. وعلينا نحن أن (نتصرف) في التفريق بين أجزاء ذلك الرأي فنضيف إلى ميزان الأدب صنجة تعين على الضبط والتمييز. أما إذا أبطلنا الرأي وعطلناه حتى يعود لنا وولف ببيان الحجرات المضيئة في الليل والحجرات المظلمة في النهار فنحن الخاسرون لأننا نجهل مواقع التدقيق لا لأننا نعرف التدقيق في نقد الآراء
الحد الحاسم أو العقل المحدود هو آفة الجامدين الكبرى، وهو علة الركود في آدابنا وفنوننا، ولكننا نتغلب عليه ونروض عقباته، ولا نستدل على ذلك بشيء أدل من زهدنا في الجدل (البيزنطي) عاماً بعد عام
عباس محمود العقاد(228/8)
كلمة موجزة
المتنبي
أبو تمام، الوزن، القافية، التجديد
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
في (العمدة) لابن رشيق: ثم جاء أبو الطيّب فملأ الدنيا، وشغل الناس
في (المثل السائر) لابن الأثير: وقفتُ على أشعار الشعراء قديمها وحديثها فلم أجد أجمع من ديوان أبي تمام وأبي الطيب للمعاني الدقيقة، ولا أكثر استخراجاً منهما للطيف الأغراض والمقاصد
في (خزانة الأدب) للبغدادي: المتنبي سريع الهجوم على المعاني
في (شذرات الذهب) لابن العماد: ليس في العالم أشعر من المتنبي أبداً، وأما مثله فقليل
قلت ذات مرة للعربيّ الألمعيّ الأستاذ (رياض الصلح) - وقد ذكرنا المتنبي وأبا تمام -: إن الأول كان يحلق في سماء الشعر بمعانيه، وإن الثاني كان يغوص في بحره على لآليه، فقال: قِفْ. إذن، المتنبي (طيارة). . . وأبو تمام (غواصة). . .
ولقد جاء الذي شغل الناس، والذي هو دهره من رواة قلائده بما جاء به وهو من تلك القافية وذاك الوزن في سجن. ولولا هذان لأسمعك (أحمد) من القريض - الذي هو أعجب، وأراك ما هو آنق ممّا رأيتَ وأغرب. ولولا هذان لجوّدَت الأيام أيّما تجويد تسطيرَ ما أملي فلم يقل:
ولم تُحسنِ الأيام تكتبُ ما أملي
رُبَّ ما لا يُعبّر (الشعر) عنه ... والذي يُضمرُ الفؤادُ، اعتقادُهْ
وما قيّد الشعرَ العربيّ إلا قوافيه، وما قصَّرَ خطواته في ميادين الشؤون إلاّ تلكم الأوزانُ (البدويّة) وإلاّ هي؛ والقافية في أكثر الأحايين هي القائلة لا القائل، والوزن هو الوازن لا شعور الشاعر؛ فأكثر الشعر ليس لأهله لكنه للوزن أو للقافية. . . إنه مما أتى، مما وُجد. . . ليس هو مما قُصِد. . . وكائنْ في الضمائرِ من معانٍ باهراتٍ مدهشات قد غيبتها القوافي!
وإذا كان ذلك القديم الكريم الموروث قد كفى في شيء فثمّةَ أشياءُ لم يستقلَّ بها، والرغائب(228/9)
والمطالب في (الحضارة) في كل وقت جمّة
ولولا أنّ عبقرّيةً منتخيةً قويّة عند المتنبي قد أنكرت الجرْيَ على أساليب القوم أو بعض أساليبهم،
إذا كان مَدْحٌ فالنسيبُ المقدَّمُ ... أكلُّ فصيح قال شعراً متّيم؟
وأرادت أن تحرر ربّها لأقام (الكندي) دهرَه من تُبّاع (الطائي) يأخذ بأخذه فلا يجاريه، ويكدّ روحه في أن يصوغَ كما يصوغُ فلا يساويه؛ وحبيبٌ في صَوْغِهِ وغَوْصِهِ لا يلحق. (أراد المتنبي أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه) وقّلما ضارع كبيرٌ مقلِّدٌ عظيماً مقلَّدا
ولم يستطع المتنبي - على تبريزه وارتقائه - أن يزحزح حبيباً عن مكانته، وما قدر إلا أن يقعد في عرش الشعر معه. وليس بقليل أن يقتطع من ملك حبيب ما اقتطع، ويختلج من رعاياه من اختلج. فالناس بعدهما في كل زمان حزبان: متنبيّ، وتماميّ، لكن جماعة (أحمد) أكثر عدداً، و (للحبيب) شيعة به مغرمون
وقد قالوا: أبو تمام عند الخاصة أشعر، والمتنبي أشعر عند العامة. وما أنصف المتنبي هؤلاء القائلون. إن في (السيفيات والكافوريات والعضديات) وغيرهن لآيات بينات، وإن فيهن لسحرا. وإذا كان لأبي تمام عشر قصائد علا بهن علوّاً كبيراً، فان للمتنبي قدّامهن خمسين قصيدة أو أكثر من ذلك. وقد يقول قائل - وفي قوله حق - إن طول الأجل وقصره قد أعطيا ومنعا، فلم يعمَّر (حبيب) ما عمِّر (أحمد)
وكان شيوخ ابن خلدون يرون - كما قال - أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء - الله أكبر! - لأنهما لم يجريا على أساليب العرب
وكلام هؤلاء الشيوخ (شفاهم الله، وشفى ناقل قولهم معهم) ليس بشيء إلا شيئاً لا يُعبأ به؛ فأساليب العرب متنوعة مختلفة، وليس هناك أسلوب أوحد؛ ولكل قبيل طريقة، وللبدوي بلاغة، وللحضري بلاغة، وللإقليم أو المكان، وللخليقة والمزاج أثرٌ وسلطان؛ ولكل عصر أو قَرن زيّ ولحن. و (أحسنُ الكلام ما شاكل الزمان) والدنيا في تبدّل مستمر، (وأحوال العالم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر) ولكل نابغة نهجٌ معلوم
فتنكّبُ المتنبي عما تنكّب عنه، وسلوكه السبيل الذي سلكه ما ضاراه بل ظاهراه في إبداعه(228/10)
ونبوغه، وكان ذلك على هذه اللغة من نِعمِ الله. فتحرَّرَ (ابن الحسين) من تقليده، ومشى مشيَ المُدِلّ المستقل في تجديده؛ والمقلد عبْد، ولا يرضى بالعبودية حرّ؛ والتقليدُ عدم، والاستقلال كون، وشَعَرَ المتنبي ذاك الشعر، وأظهر (أحمد) معجزه
ولي فيك ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا
ورأت العربية أكبر شاعر، وظهر في العرب شاعرهم
ودع كل صوت غير صوتي فإنني ... أنا الصائح المحكّي والآخر الصدى
وما الدهر إلا من رواة قلائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا ... وغنى به من لا يغني مغرّدا
محمد إسعاف النشاشيبي(228/11)
قصة واقعة
للأستاذ على الطنطاوي
(أغارت سيول هائلة ليلتي 24 - 25 أكتوبر على حارستا والمعظمية والضمير من أكبر قرى دمشق الشمالية، فخربتها ولم تدع في الضمير حجراً على حجر، وقتلت الناس بالمئات وتركت من تركت بلا مأوى ولا مال. . .)
كانت (منطرة) (سعد الخطار) أعلى منطرة في (دوما)، وكانت تطل على كروم دوما الواسعة والسهول التي تليها ممتدة إلى ثنيّة العقاب التي انحدر منها خالد مَقْدَمه من العراق في طريقه إلى اليرموك ساحة الشرف الخالد، وتشرف من هناك على جنان الغوطة تلوح من ورائها دمشق جنة الأرض أقدم مدن العالم، يرى خيالها حيال الأفق بمآذنها التي لا يحصيها عدّ، ومسجدها العظيم تتوّج هامته قبة النسر الباذخة المشمخرة، والمنائر السامقة العالية، ويرى منها قاسيون الحبيب، وهاتيك الجبال. . . وكان سعد الخطار سيد شباب الضمير، وأشدهم أسراً، وأجرأهم جناناً، وأقواهم ساعداً. اشتغل منذ عشر سنين ناطوراً في كروم دوما، فعرف فيها بالشدة والبأس، فتجنب الناس كرْمه وابتعد عنه اللصوص والطرّاء. وكان يجول المساء في أنحاء الكرم أو ينزل إلى البلد، وخيزرانه في يده، فيجتمع النساء في طريقه ينظرن بإعجاب إلى قامته المديدة، وصدره الواسع، وأكتافه العريضة، وشاربيه الأسودين المعقوفين؛ ولكن سعداً كان مع هذه الشدة وهذا البطش رقيق العاطفة، مرهف الحس، يحمل بين جوانحه قلب شاعر شاعر. . .
كان عصر اليوم الخامس والعشرين من أكتوبر سنة 1937 وكانت السماء متلبدة بالغيوم، والأمطار ترش رشاً خفيفاً، والدنيا مظلمة ترى كأنها في ساعة الغروب، وكان سعد في منطرته ينظر إلى الكرم الواسع الذي حرسه الصيف كله، وكان موقَرا بالثمر تبدو عناقيده الحمر والبيض من خلال الورق الأخضر كأنها عقود اللؤلؤ والياقوت، يمتد إلى حيث لا يدرك البصر حافلا بالحياة، فرآه قد اصفرت أوراقه وعطل من الثمر وعاجله الخريف فذوت أوراقه واسّاقطت تطير مع الريح؛ ورأى أشجار المشمش التي كان يبصرها دائماً عن يمين الكرم خضراء زاهية، قد تجردت ولم يبق عليها إلا أوراق صفراء جافة؛ ثم هبت رياح باردة من رياح الخريف فلفحت وجه سعد، وحملت هذه الأوراق الذاوية فألقتها(228/12)
في منطرته فكان يسمع لوقعها تحت المطر صوتاً حزيناً مؤلماً، فشعر سعد بالأسى يملأ قلبه. . . سيضطر غداً إلى فراق هذه المنطرة الحبيبة، وهذا الكرم الذي ثابر على حراسته عشر سنين وتعلقت حياته به، وانتثر قلبه في أرجائه، فأصبح جزءاً من حياته وقطعة من نفسه، لا غنى له عنه، ولا حياة له بدونه. . . لقد ملأوا أمس آخر صندوق (سحارة) من العنب جمعوه من بقايا العناقيد ولم يبق في الكرم ما يحرسه، فشعر كأنه يفارق ولداً عزيزاً عليه، قد رباه وتعهده بالعناية ثم فقده. . . أو لم يرافق الكرم وهو لا يزال حصرما؟ أو لم يتعهده حتى نضج وأينع؟ أو لم يشاهد التجار كل مساء وهم يأتون ومعهم العمال بالعشرات يملأون صناديق (سحاحير) العنب، وهم يغنون ويصيحون ويترعون الفضاء أنساً؟ كم بين هذا المشهد وبين مشهدهم أمس وهم يملأون آخر (سحارة) صامتين تلوح على وجوههم إمارات الحزن والكآبة؟ لم يستطع سعد أن يراهم على هذه الحال فانسل إلى منطرته ووضع رأسه بين يديه يفكر حزيناً ملتاعاً. . .
جلس سعد يتأمل هذا المشهد ذاهلاً غائباً عن نفسه والمطر يشتد ويقوى، والماء ينفذ من سقف المنطرة، وكان سقفها من ورق الكرم الجاف، ويبلل رأسه وثيابه لا يحس به ولا يحفله لأنه ابن البر وصديق الطبيعة، ولأنه كان ذاهلاً عن نفسه لم يصح حتى أسدل الليل ثوبه الأسود على الدنيا فغيب تحته هذه المشاهد كلها. . . صحا سعد فنفض الماء عن شعره وثيابه، ونشر خيمته فوق رأسه لتمنع عنه المطر، وأوقد مصباحه الألماني الذي يظهر للسائرين في هذا المرقب العالي كأنه نجم من نجوم السماء. . . وجلس يفكر. . .
ذهب به الفكر إلى بعيد. فذكر حين جاء هذه المنطرة مع عمه وابنة عمه ليلى، وكان ذلك قبل أحد عشر عاماً. لقد كان في السادسة عشرة، وكانت هي في التاسعة من عمرها، وكان عمه ناطور الكرم يحرسه منذ ثلاثين سنة، وهو الذي بنى هذه المنطرة وأعاد بناءها أكثر من عشرين مرّة إذ كانت تهدمها الرياح والأمطار والسيول. لقد تصوّر عمه بقامته العالية وجسمه المتين وظهره الذي انحنى قليلا تحت أعباء الزمان، ولحيته البيضاء. . . لقد كان عمه قوياً شجاعاً وكان سعد يعجب به كثيراً كما كان يحب ابنته ليلى. . . أحبها منذ كانت طفلة ولكنه لم يكن يعرف أنه يحبها، ولم تكن كلمة الحب دائرة على ألسنة القرويين، بل كان من العار على الشاب أن يذكرها لفتاة. . . لم يكن يعرف أنه يحبها ولكنه لم يكن(228/13)
يستطيع أن يبتعد عنها أو أن يمرّ عليه يوم لا يراها فيه؛ وإذا هو لقيها وذهب معها يلعب أو يرعى العنزات أو يسوق البقرة إلى المزرعة أو يملأ الجزّة من العين، إذا كان معها ينسى الدنيا كلّها ولا يفكر في شيء. . .
ذكر حين جاء هذه المنطرة أول مرة مع عمه وابنة عمه ليلى وحين تركه عمه مع ليلى لينزل إلى دمشق، وأوصاه بأن يعتني بها، ويحرس الكرم. . .
- لقد صرت شاباً يا سعد. كن عاقلا وشجاعاً. لا تدع ليلى تنزل في الليل من المنطرة. إذا رأيت وحشاً أو سارقاً فأطلق عليه النار. لا تخف من شيء. . . هذه هي البندقية. . .
وذهب عمه، وهو يتبعه بصره. فلما غاب عن عينيه أحس سعد بأنه غدا منذ تلك اللحظة رجلا، وأنه هو حامي ليلى، وحارس الكرم، وأنه يستطيع أن يطلق النار من البندقية كما كان يفعل عمه تماماً، وتمنى من كل قلبه أن يرى وحشاً أو لصاً ليري ليلى شجاعته ورجولته، ولكنه لم ير شيئاً.
ذكر كيف قضى الليل مع ليلى، وكانت ليلة قمراء رخيّة النسيم لطيفة. فتحدثا وتبادلا النكات، وأحس بلذة لا تشبهها لذة، ولكنه لم يمسها بيده، ولم يذكر لها كلمة الحب لأن الشرف والأمانة كانت شعار الشباب في تلك الأيام، وليلى ابنة عمه وعرضه ائتمنه عمه عليها، والله شاهد عليه. . .
وقفز به الفكر إلى بلده الضمير، وقد كبرت ليلى وحجبت عنه فلم يعد يراها إلا على العين أو في الحقل؛ ولم يكن يمنعه الحجاب من رؤيتها لأنه حجاب شرعي يظهر الوجه والكفين ويستر كل شيء، لا كحجاب المدن الذي يستر الوجه بغشاء رقيق يزيده فتنة وجمالا ثم يكشف العنق والصدر والساق وما فوق الساق، ويظهر الكف والساعد. . . فكان يحدثها ويصحبها في الطريق؛ ولم يكن بينهما سوء، لأنها خطيبته المسماة عليه منذ كانا صغيرين. . . فهي له، ولم يجرؤ شاب في القرية على خطبتها احتراماً لسعد، وخوفاً من بطشه. . .
ومرت في ذهنه صورة العرس وحفلاته، ووفود القرى المجاورة والولائم العامة في الساحات والطرق، و (الدبكات) والأهازيج. . . مرت في ذهنه مراً سريعاً، فأبصرها حية قريبة كأنما كانت أمس، وقد كانت منذ سبع سنين لم ير فيها من زوجته ليلى إلا ما يعجبه يرضيه. ولم تغضبه مرة واحدة. كانت تحيا من أجله، تهيئ له الطعام وترتب الدار،(228/14)
وتنتظره حتى يجيء من عمله. فإذا جاء رآها قائمة وراء الباب منتظرة فقبلت يده، ثم أعانته في نزع ثيابه، وصبت على يديه الماء حتى يتوضأ ويغسل رأسه ووجهه بالصابون، ثم قدمت إليه الطعام، ولم تدخر وسعاً في تسليته وإيناسه. وإذا كان كئيباً أو مهموماً رفهت عنه وواسته. وأضاق مرة ولحقه الدائنون حتى هددوه بالسجن من أجل عشرين ليرة، فلم يشعر إلا وزوجته تقدمها إليه زاعمة أنها قد وفرتها من نفقات المنزل، فصدقها ووفى دينه؛ ثم علم بعد أنها باعت حليّها التي لا تملك غيرها. . .
كانت مثال الزوجة الشرقية المسلمة التي تعيش لبيتها وزوجها وتتخذه سيداً لها؛ وكان هو مثال الزوج الوفي الصالح الذي يشتغل ويحيا لزوجته وبيته، ليس له سهرة ولا خليلة ولا عادة من العادات السيئة التي تذهب الأموال وتشقي العيال. . .
ثم ذهب الفكر بسعد إلى ولده، ولده الوحيد يسار، فهاجه الشوق إليه، وبرّح به الحنين إلى بيته، وغلب على حبِّه لهذه الأرض وتعلقه بها. وكان الليل قد انتصف ولم يذق سعد مناماً فنهض ورفع طرف الخيمة فنظر فإذا السماء صافية قد انقشعت عنها الغيوم، وطلع القمر من وراء الأفق هلالاً ضعيفاً يلقي على الدنيا نوراً كابياً، فرأى الكرم أسود مظلماً فعاوده الحنين إليه والحزن على فراقه؛ وكانت منزلة الكرم من نفسه كمنزلة زوجته وولده، بل كانت هذه المنطرة أحب إليه من بيته. وجعل يتأمل الكرم فامتلأ قلبه أسى؛ وذكر ليلى ويساراً فأزمع الرحيل ولكنه اضطر إلى انتظار الفجر، ولبث صامتاً فغلب عليه النعاس فأغفى إغفاءة قصيرة ثم نهض مذعوراً يرتجف. لقد رأى حلماً مرعباً فتعوذ بالله وسأله أن يحرس زوجه وولده، ولم يطق البقاء فقام يجمع أمتعته - وما أمتعته إلا فراش ولحاف وبساط وخيمة وصندوق صغير فيه قدر وأطباق وإبريق للشاي - ويلقى على المنطرة النظرة الأخيرة كأنه يريد أن يثبت صورتها في نفسه، وأن يودع ما فيها من ذكريات لذة هي أعز ما يملك في حياته، ثم نزل إلى دابته والفجر يهم بالانبثاق. . .
راقه سكون الليل وجمال الفجر وهذه الكروم الواسعة التي استيقظت وتسربت إليها خيوط النور من ناحية الشرق فأضاءت صفحتها، فاشتد به الحنين إلى زوجته وولده، وشعر أن حبه لهما قد نما في هذه الساعة وازداد وطغى على نفسه، فجعل يتصور حركاتهما وسكناتهما، وكيف يخرجان لاستقباله، وكيف يتعلق به يسار فيرفعه إلى وجهه ويقبله؛(228/15)
ورنت في أذنيه كلمة (بابا) حلوة مستحبة، وشعر بعالم من الحب والعطف والوئام يغمره، حتى أحس بنفسه يطير على متن الهواء في حلم فاتن لذيذ، فانطلق يغني شتى الأغاني القديمة وصوته العذب القوي يشق السكون ويوقظ الطبيعة، فتجاوبه الديكة من الكروم المجاورة بزقائها، والعصافير بسقسقتها الحلوة
أشرف على البلد ضحى، فتأمل الفضاء فلم يبصر شيئا، أين البلد؟ هل أخطأ الطريق؟ أم هو لا يزال بعيداً عن البلد؟ لقد نظر حوله وأنعم النظر فلم يشك أنه حيال البلد. لقد سلك هذا الطريق مئات المرات، ويستطيع أن يسلكه مغمض العينين، فكيف يخطئ أو يضل؟ لا شك أنه على صواب، وأنه قد وصل، ولكن أين البلد؟ وأحسّ سعد كأنه قد بدأ يجنّ. أتختفي بلد برمتها أيها الناس؟
ودنا حتى وصل البلد، فلم يجد إلا أكواماً من التراب مبتلة عليها آثار الماء، تتخللها برك مالها من آخر، وحجارة منثورة في البادية نثرا، فجن جنونه، وانطلق يصيح: ليلى! ليلى! يسار! يسار! ليلى. . . ويهم شارداً على وجهه، يدور بلا وعي، وإذا بشيخ مسنّ من حكماء القرية يهتف به ثم يأخذه من يده، فيتبعه سعد صاغراً، حتى يجلسا على كومة من هذه الأكوام. . .
- هذه حال الدنيا يا بني. . . إن لله حكمة لا يعلمها أحد، فلنصبر ولنرض بالواقع، الحمد لله على كل حال. . .
- ولكن ماذا جرى يا عم؟ أين ليلى، أين ابني يسار؟
- هذا قضاء الله يا بني. لقد كنت نائماً ليلة أمس فسمعت ضجة في الطريق ولغطاً، فخرجت فإذا الناس مجتمعون، وعلى وجوههم إمارات الذعر الشديد، وهم يصغون في خوف شديد ورعب بيّن، إلى صوت عجيب آت من بعيد، فأصغيت فإذا صوت عميق مستمر لا ينقطع، فجزعنا ولم ندر ما هو؟ فقائل إنها ريح، ولكنه ليس بصوت ريح، وقائل هو من أصوات الجن، وقائل إنه رعد، وما هو كذلك، فوقفنا وتهيأنا للنضال، وحملنا السلاح، وكان الصوت مستمراً ولكنه جعل يقوى. . . ويقترب حتى تبينا فيه هدير الماء. . . إنه السيل! السيل! وطارت هذه الكلمة على الأفواه، فأسرع قوم إلى بيوت القرية العالية، يحسبونه سيلاً كالذي عرفوا من السيل، لا يبلغ هذه البيوت؛ وخاف قوم فأسرعوا إلى(228/16)
الجبل، وقد أعجلهم الخوف فلم يأخذوا معهم غطاء ولا وطاء، وكنت ممنّ أم الجبل
- وليلى؟ وليلى ويسار؟
- لقد بقوا في البلد. . . اسمع يا بني، إنها لم تكن إلا ربع ساعة حتى بدا الهول، نعوذ بالله. . . لقد أقبل سيل علوّه أكثر من أربعين مترا، يتكسر ويقذف بالصخور والحجارة والأشجار فغمر أعلى بيت في المدينة، واختلط هديره العاتي بصراخ النساء وصياح الأطفال وأصوات الشباب. . .
- وليلى ويسار؟
وانحنى سعد على قدمي الشيخ يقبلهما بجنون ويصرخ:
- وليلى ويسار؟ أرجوك يا عم خبرني عن ليلى ويسار؟
قال الشيخ:
- لا حول ولا قوة إلا بالله. . . لقد أصبح الصباح وليس في المدينة حجر على حجر، ولم يبق ممن كان فيها أحد. لقد وجدت الجثث طافية على وجه البرك وغارقة في الوحل ومطمورة بالأنقاض، وجثث حملها معه السيل إلى بحيرة العتيبة، ولم ينج إلا من كان على الجبل، بقى بلا مأوى ولا مال. . .
- وليلى ويسار؟ وليلى ويسار؟
ووثب سعد هائماً على وجهه يصرخ وينادي:
لقد جنّ (سعد الخطار) حزناً على ليلى ويسار!
(بيروت)
علي الطنطاوي(228/17)
التشريع والقضاء
في العهد الفرعوني
للأستاذ عطية مصطفى مشرفة
- 4 -
أما الزواج عندهم فكن نوعين: زواج مدني تكتسب فيه الزوجة بالشراء، وكان شبيهه في روما الزواج المعروف باسم الذي كان خاصاً بالعامة؛ وزواج ديني يعقد على يد أحد الكهنة، وكان يقابله عند الرومان الذي كان قاصراً على الأشراف. وكان المتبع أن يحصل الزواج المدني قبل الزواج الديني الذي يقوم بعقده أحد رجال الدين؛ فكان الزواج بذلك يتم أولا على حسب الأصول القانونية المدنية بطريق الشراء ثم يحصل الزواج الديني بعد ذلك
وكان ينص في عقد الزواج على العلاقة المالية بين الزوجين؛ وكان هذا الاتفاق المكتوب في صلب عقد الزواج لا يخرج عن طريق من ثلاث: أولها أن يفصل مال الزوجة عن مال الزوج، وفي هذه الحالة يكون للزوجة أن تتصرف في مالها دون إجازة زوجها. ثانيهما أن يخصص بعض أو كل أموال الزوجة لمساعدة الزوج للقيام بالإنفاق على الأسرة، وفي هذه الحالة يجب على الزوج ردها بعينها إذا كانت عقاراً أو ردها بقيمها المبينة في صلب عقد الزواج إذا كانت منقولا. وثالثها أن يشترك الزوجان في بعض الأموال أو كلها. وسمح القانون للزوجة بأن تشترط في عقد الزواج أيضاً أن يدفع لها الزوج مبلغاً معينا كغرامة ونفقة لها إذا طلقها الزوج فأعطى لها حق الرهن العام على جميع أموال زوجها ضماناً لما يكون لها من الحقوق عليه. فلما جاء بوخوريس في القرن الثامن قبل الميلاد وضع القوانين التي تعتبر بحق أًصل التشريع الحديث وأعطاه صبغة مدنية بعد أن كانت ذات صبغة دينية. ولقد تأثر بوخوريس عند وضعه شرائعه بقوانين حلفائه الآشوريين والكلدانيين فأخذ عن الكلدانيين مبدأ التعاقد بالكتابة، فبعد أن كان العقد يتم عند قدماء المصريين قبل بوخوريس بقسم وبحضور شهود أصبح لا يجوز إثبات حق مدعي به إذا أنكره المدين إلا إذا ثبت بدليل كتابي، وبذلك أصبح زوال الدين مرهوناً بإعطاء سنده. ثم أوجب تسجيل العقود عند كاتب التسجيل في سجلات مخصوصة نظير رسم معين فأصبح من السهل على(228/18)
أي شخص إثبات صحة سنده
أخذ بوخوريس أيضاً عن الكلدانيين المشتغلين بالتجارة نظام الفوائد فحددها وحرم أن تزيد الفائدة السنوية على ثلث رأس المال، كما حرم أيضاً زيادة الفائدة على ضعف أصل الدين مهما طالت المدة. وحرم بوخوريس الربح المركب، وحرم إكراه المدين الجثماني، وأبطل استرقاق المدين عند عدم الوفاء، وجعل التنفيذ قاصراً على أموال المدين دون شخصه
أما في الأموال فقد اعترف بوخوريس بالملكية العقارية للأفراد بعد أن كان لهم فقط حق الاستغلال دون حق الرقبة؛ وبذلك أباح بتشريعه هذا حق التصرف في الأراضي بعقود عرفية، وبذلك أصبحت تلك الأراضي ضامنة لتعهدات الأشخاص عند عدم وفاء الدين بعد أن كان ضمان الدائن قبل ذلك جثة والد المدين؛ وكان إذا لم يقم المدين بوفاء دينه قبل موته يحرم من ميزة الدفن وحفلاته
أما في الإيجار فقد رتب بوخوريس على عقده أن تصبح جميع أموال المستأجر مرهونة رهناً عاماً لوفاء الأجر المتفق عليه. وألغى بوخوريس الزواج الديني الذي كان يتم على يد الكاهن وأصبح الزواج مدنياً، واكتفى بالرضا فيه ليتم كباقي العقود. وكان للذكر مثل حظ الأنثى في الميراث. وكان لا يجوز للرجل أن يتزوج بأكثر من زوجة. وجعل بوخوريس حق الرهن العام الذي للزوجة على أموال زوجها يتم بقوة القانون دون حاجة للنص عليه في صلب عقد الزواج كما كان متبعاً قبل ذلك
من ذلك نعلم أن اصطلاحات بوخوريس التشريعية شملت الأموال والأحوال الشخصية والالتزامات، وبذلك أوجد للمصريين قانوناً عادلاً للتجارة والمعاملة. ويؤسفنا أن نقول: إن هذه الاصطلاحات التشريعية التي قام بها هذا الملك لم تبق طويلاً لأنه فقد عرشه بعد نحو سبع سنوات فاستولى الأثيوبيون على مصر وأسسوا بها الأسرة الخامسة بعد العشرين. وكان أول عمل لهم أن أبطلوا العمل بشرائع بوخوريس وألغوا الملكية الفردية العقارية ومنحوها للإله آمن؛ وبذا اقتصرت ملكية الأفراد على حق الاستغلال دون الرقبة، وسمح لهم بأن يتصرفوا داخل دائرة أسرتهم فقط وبعد موافقة كهنة آمن لهذا التصرف في مقايضة أرض بأرض. ولما ظهر الملك أمازيس أو أحمس الثاني - وهو من ملوك الأسرة السادسة بعد العشرين - حتم على كل مصري أن يثبت في آخر كل سنة اسمه ولقبه وصناعته(228/19)
وسبل تعيشه في سجل وضع خصيصاً لهذا الأمر في محكمة الجهة القاطن بها؛ وهذا النظام المبني على تقسيم العمل وارتباط المصري بمكان نشأته كان سبباً في تماسك أفراد الأمة ورقيها اجتماعياً واقتصادياً وصناعياً. وكان عاملاً قوياً في توزيع الفلاحين على الأراضي الزراعية
تأثرت شريعة أمازيس بالشريعة الإسرائيلية بعض الشيء فأخذت جزءاً كبيراً من مبادئها عن اليهود الماليين الذين كانوا مقيمين بمصر إذ ذاك
أرجع أمازيس العمل بقانون بوخوريس فأباح لأصحاب الأراضي حق التصرف التام في أراضيهم بأن أعطاهم حق ملكيتها التامة ثم أرجع مبدأ ثبوت العقود بالكتابة واحتفظ بحد الفوائد القانونية التي قررها تشريع بوخوريس، وجعل الالتزام بعقد ملزم لطرف واحد، وأدخل طريقة الإشهاد في الميزان في سائر العقود الناقلة للملكية وفيها البيع، فكانت تطبق على المنقولات الجامدة، المراد نقل ملكيتها، وعلى المنقولات الحية كالحيوانات والعبيد كما طبقت على العقارات لصبغة شكلية كما كانت تطبق أيضاً في التبني، وكان يجب لإتمام العقد من وجود ميزان وقطعة من النحاس والعين المراد نقل ملكيتها، فيحضر طرفا العقد والشهود، وهنا يمسك المشتري بالعين المراد نقل ملكيتها مقرراً أنه اشتراها بالثمن المقدر بالميزان، ثم يضرب الميزان بقطعة النحاس مشيراً بذلك إلى وزن الثمن. لذلك كان الميزان يستخدم لغرضين: أولهما وزن العين، وثانيهما وزن الثمن؛ وكان يحرر بهذه الإجراءات عقد كتابي
وكان يطبق في الزواج إجراءات الإشهاد بالميزان؛ وكان الزواج يتم بطريق الشراء، إلا أن الزواج الديني لم يلغ بتولي أمازيس، إذ ركن إليه نفر من المصريين المتعبدين. وبذلك بقى الزواج الديني أيضاً بجانب الزواج المدني في حكم أمازيس ردحاً من الزمن
ولقد فقدت الزوجة المركز الممتاز الذي كان لها في القانون القديم وقانون بوخوريس إذ أصبحت في قانون أمازيس هي وأموالها ملكا للزوج تحت تأثير الشريعة اليهودية. من هذا نرى أن أمازيس قد هذب القوانين المصرية وأفرغها بعد أن نقح قوانين بوخوريس في مجموعة سميت بمجموعة قوانين أمازيس سنة 554 ق. م
وفي عهد الأسرة الثامنة بعد العشرين تولى الملك أمرنوت أو أمرنوس أو نفيريت واستمر(228/20)
فيه حتى سنة 399 ق. م فأمر بتشكيل لجنة لتعديل مجموعة شرائع بوخوريس وتنقيحها فأدخلت اللجنة عليها التعديلات الآتية: وهي أن جعلت سريان الفوائد تبتدئ من يوم حلول ميعاد الدفع، واعترفت بعقد الرهن (الغاروقة) الذي فيه يعطي المدين عقاره للدائن يستغله وينتفع به لنفسه لحين تمام وفاء الدين. وقد استمر العمل بهذه المجموعة المعدلة بمصر أثناء المدة الباقية من العهد الفرعوني. أما قوانين قدماء المصريين الجنائية فقد صاغوها في مواد كفلت لهم استتاب الأمن واطمئنان الشعب وقطع دابر البطالة ومنع الغش والتدليس إلى غير ذلك؛ وذلك بالضرب على أيدي المفسدين ومعاقبة المجرمين بالعقاب الرادع الزاجر، فكانوا يحكمون بالإعدام بقطع الرأس أو بالشنق على كل من يحلف يميناً كاذبة أمام المحاكم، وعلى كل من يقتل نفساً عمداً بغير حق مع سبق الإصرار سواء أكان المجني عليه حراً أم عبداً، وعلى كل من رأى إنساناً يشرف على الهلاك وكان في مقدوره أن ينجيه ولم يفعل، وعلى كل من قدر على تخليص المقتول من القاتل أو القتلة بدون حق ولم يخلصه، وعلى كل من ظهر أنه يعيش بطريق غير شرعي
وكان يحكم بالعذاب ثم بالحرق حياً على كل من يقتل أحد أبويه عمداً، فتقطع أصابعه أولا ثم يحرق. وكان الحكم لا ينفذ على الحبلى حتى تضع حملها لئلا يعاقب الطفل البريء، وبذلك سنوا لنا حكمة أن العقاب قاصر على المجرم لا يتعداه إلى غيره
وكانوا يبيحون إقامة الحدود على الأموات كما تقام على الأحياء فيمنعون من أتى جرماً ومات قبل تنفيذ الحكم عليه من الدفن مع الاحترام
وكانوا يحكمون بالجلد على كل من سب غيره أو وشى به. وكان جزاء الآباء والأمهات الذين يقتلون أولادهم ذكوراً كانوا أم إناثاً معانقة الجثة والبقاء بجانبها ثلاثة أيام بلياليها تحت رقابة الحراس العموميين
وكانوا يحكمون بسل لسان من يهدي عدواً مهاجماً إلى السبل أو يطلعه على أسرار وطنه ومواضع الضعف فيه. وكانوا يقطعون يد من يطفف الميزان والكيل، أو من يزيف النقود، أو يقلد خاتم الأهالي والسلطان، أو يزور في العقود العرفية أو الأوراق الرسمية. وكانوا يقصرون العقوبة على العضو الذي قام بعمل الجريمة
وكان يشَهَّر على رؤوس الأشهاد بكل ولد لم يقم بالإنفاق على أبويه العاجزين عن الكسب،(228/21)
وليس للولد على الوالدين مثل ذلك. ويحكم بالتشهير أيضاً على كل جندي فر يوم الزحف أمام العدو، وعلى كل من لا ينفذ أوامر رؤسائه. وكان لمن حكم بتجريده من شرفه وفضيحته أن يسترد شرفه واعتباره، وبذلك تنمحي العقوبة نهائياً إذا قام بأعمال مجيدة بعد ذلك لوطنه في ميدان القتال
وكان عقوبة كل من به عاهة تمنعه من إنقاذ شخص قتله آخرون أمامه ولم يبلغ الجهات المختصة عن الجريمة ومرتكبيها منع الطعام عنه ثلاثة أيام وجلده. وكان يحكم بهاتين العقوبتين معاً أيضاً على كل من كلف بالإرشاد عن قطاع الطرق وتسليمهم للمحكمة ولم يفعل ذلك. وكان يحكم على المدعي بالباطل على غيره بنفس الحكم الذي يحكم به على المتهم لو صحت الجريمة. وكان يحكم على كل من حلف من المتهمين أو الشهود بالإله آمن وبالملك بأن يقول الصدق ولم يقله بجدع الأنف وصلْم الأذنين وبالنفي في أثيوبيا أو إلى ما وراء حدود المملكة
وكان لآمُنْ أن يحكم بفقدان الشرف وما يترتب عليه الحرمان من الوظائف العامة
(تم البحث)
عطية مصطفى مشرفة(228/22)
أبو الفرج الببغاء
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 3 -
لأبي الفرج الببغاء في أحاديث الطيف ومناجاة الخيال شعر أفعم حسنا وجودة وعذوبة وحلاوة، ومعان ملئت جمالاً وروعة وصفاء ورقة؛ حتى لكأني به قصد إلى أن يميل ذوي الصبوة والهوى إلى وصال طيف الحبيب ورسمه لا شخصه وجسمه، فهو يعلمهم كيف يتسلون بمناجاة القلوب عن مداعبة المحبوب، ويدعوهم مفتنا إلى هذا اللون من الوصال الذي لم يدعهم إليه قبله أحد في مثل رشيق تعليله وبديع تصريفه وعجيب لعبه بالخيال وجميل استلهامه المعاني، فمن ذلك قوله:
علمت طيفك إسعافي فما هجعت ... عيناي إلا وطيف منك يطرقني
فكيف أشكر من إن نمت واصلني ... بالطيف منه وإن لم أغف قاطعني؟
فمن من العشاق المولهين لا يرقب أن يسعده ذلك الطيف الطارق، ولا يشتري الكرى بكل ما يملك إذا علم أنه لا سبيل سواه إلى الوصال، وهو داعية المتعة بالحسن والجمال، وإن الغفوة نهزة رسول الحبيب، ينتهزها ليشفي بها حر الوجيب؟ وأين من هذا قول ابن المعتز في مثل هذا المعنى وهو ملك الشعر ولاسيما في هذا الضرب:
شفاني الخيال بلا حمدة ... وأبدلني الوصل من صده
وكم نومة ليَ قوَّادة ... تقرب حِبي على بعده
وإنها لجفوة جافية - لا نعرفها في ابن المعتز - ألا يحمد من يشفيه، وألا يستحق شكره مبعوث حبيبه المصطفيه، وينسب ذلك إلى نومة قوادة لا تستأهل حمداً، ولا يستجيز لها أحد شكراً، لأنها أتت شيئاً نكراً لا أظن ابن المعتز يستميحه لنفسه في اليقظة، فكيف يستملحه في الغفوة؟ ولو أنه قال:
وكم نومة لي مزدانة ... بوصل حبيبي على بعده
لكان - فيما أرى - أكثر توفيقاً وأنبل خيالاً وأعف لفظاً وأكرم حباً. ومما قاله أبو الفرج في الطيف أيضاً:
يا طيف من أنا عبده من أين لي ... شكر يقوم ببعض ما توليه(228/23)
ينأى فتدنيه إليَّ على النوى ... فأراه كالتحقيق في التشبيه
ما كان أحسن حالتي لو أن ما ... أوتيت من كرم وعطف فيه
ولا يساورني شك في أن هذه الأبيات أروع خيالاً وأسطع في معناها جمالاً من أبيات تحاكيها للبحتري قال:
طيف الحبيب ألمَّ من عُدَوائه ... وبعيد موقع أرضه وسمائه
يهدي السلام، وفي اهتداء خياله ... من بعده عَجَب وفي إهدائه
لو زار في غير الكرى لشفاك من ... خبل الغرام ومن جوى برحائه
الحق أن ديباجة أبيات البحتري ناصعة مجلوة، ونسجها مجمل مفوف، ولكني مع هذا أرى العجب العاجب من عَجَب البحتري لاهتداء خيال محبوبه إليه من بعيد عدوائه ونائي صحرائه وإهدائه السلام إليه. فكيف يكون حبيباً من يضل محبة طيفه مهما نأى عنه جسمه؟ ومن هو أولى من المحب المستهام بإهداء السلام؟ ولعل خبل الغرام هو موحي ذلك الخيال، وإلا فمن يجحد حتى غير العشاق - أن الأرواح تتناجى وتتواصل، والقلوب تتآلف فتتراسل؛ سواء في ذلك تباعدت الأجسام أو تقاربت، وتناءت الأبدان أو تدانت؛ فتلك حقيقة لا سبيل إلى نكرانها. وهلا قال كما قال أستاذه أبو تمام:
استزارته فكرتي في المنام ... فأتاني في خيفة واكتتام
فالليالي أحفى بقلبي إذا ما ... جرعته النوى من الأيام
يا لها ليلة تنزهت الأر ... واح فيها سراً من الأجسام
مجلس لم يكن لنا فيه عيب ... غير أنا في دعوة الأحلام
واستمع إلى هذا العتب الحلو العبارة، الرقيق الإشارة، والاستعطاف البارع اللطيف يكشف به لحبيبه عن غرام ويستوحيه فيه وصله، إذ يريه أن خياله أعظم به رأفة وطيفه أكثر عليه عطفاً، إذ يواصله في غفوة العيون؛ ولو أنه وجد سبيلا إلى المواصلة في اليقظة وعلى مسمع الرقباء لفعل؛ لحظره عليه السِّنة ومنعه عنه النوم، قال:
خيالك منك أعرف بالغرام ... وأرْأف بالمحب المستهام
فلو يستطيع حين حظرت نومي ... عليّ لزار في غير المنام
ومن غزله العذب ووصفه الدقيق الممتع قوله:(228/24)
يا من تشابه منه الخَلق والخُلق ... فما تسافر إلا نحوه الحدق
توريد دمعي من خديك مختلس ... وسقم جسمي من جفنيك مسترق
لم يبق لي رمق أشكو هواك به ... وإنما يتشكى من به رمق
ومثله قول أبي فراس الحمداني، وكأني بهما ينهلان من معين واحد، أو أن أبا الفرج جرى في ميدانه لما أعجبه حسن بيانه؛ وما من عابٍ عليه أن يسير على نهج أبي فراس، فهو في الشعراء ملك وفي العلياء فلك، قال:
وشادن قال لي لما رأى سقمي ... وضعف جسمي والدمع الذي انسجما
أخذت دمعك من خدي وجسمك من ... خصري وسقمك من طرفي الذي سقما
وترى أن بيتي أبي فراس أنضر معنى وأوفر حسناً، وأجزل رقة وأجمل دقة من أبيات أبي الفرج، وإن كلمة تسافر لنابية في مكانها، قلقة في موضعها، لأن الحدق لا يسافر، وإنما هو ينتقل أو يتحول، كما أن السقم لا يسترق إلا إذا كان مسترقه يسعى إلى حتفه بظلفه كما يقولون
ولو أنا أردنا لغزله العنيف استقصاء، ولنسيبه الطريف إحصاء، لطال بنا الشوط وما بلغنا الغاية؛ فلنختم غزله بأبيات بعث بها إلى حبيب رمدت عيناه فأبدع أيما إبداع في الأسى لأساه ووصف حمرة عيني حبيبه، وهي تلك التي تقذى لرؤيتها العيون، وتتأذى من النظر إليها الأبصار وصفاً جعلها مما يسعد لرؤيتها الطرف، وصورها تصويراً تطمئن له النفس، قال:
بنفسي ما يشكوه مَن راح طرفه ... ونرجسُه مما دهى حسنه ورد
أراقت دمي ظلماً محاسن وجهه ... فأضحى وفي عينيه آثاره تبدو
غدت عينه كالخد حتى كأنما ... سقى عينه من ماء توريده الخد
لئن أصبحت رمداء مقلة مالكي ... لقد طالما استشفت بها أعين رمد
والوصف في شعر أبي الفرج له المقام الأول، فجل فنون شعره يحليها الوصف، وتنتظم التشبيهات الدقيقة الخلابة، والأوصاف البارعة الجذابة؛ وإن وصفه ليبلغ ذروة الإجادة والإحسان، ويصل إلى منتهى الجمال والجلال عندما يصف الحرب، أو ما يتصل بها من حشد الكتائب وتسيير الجحافل؛ وقد عرفنا أن طبيعة كل امرئ أن يحسن فيما يحبه، وأن(228/25)