الخطابة في عهد علي بن أبي طالب
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
ارتقت الخطابة في عهد علي بن أبي طالب ارتقاء واضحاً وصارت سلاحاً قوياً يلجأ إليه الخليفة وخصمه؛ يثيران بها الأنصار، ويحفزان النفوس إلى الغارة والحروب؛ ولقد خلف لنا هذا العصر قدراً كبيراً من الخطب، لم يؤثر مثله طول عهد الخلفاء الراشدين؛ وليس ذلك بعجيب؛ فإن المسلمين لم يقفوا موقفاً يحتاج إلى كثرة الخطابة، كهذا الموقف الذي وقفوه أيام علي ومعاوية.
لم يقف المسلمون قبل اليوم يحارب بعضهم بعضاً، وإنما كانوا يجتمعون لحرب المشركين، ونشر لواء الدين، تملأ قلوبهم الروح المعنوية، والأيمان القوي المتين، وتحدوهم العقيدة أن لهم إحدى الحسنيين؛ فكان لهم من أنفسهم وازع أي وازع؛ قلبهم يدفعهم، وعقيدتهم تقودهم؛ فلم يكونوا يوم خرجوا لمحاربة الفرس والروم في حاجة إلى إطالة القول والإطناب في الخطابة لأن الدين الجديد وعقيدتهم في وجوب نشره كان يحفزهم إلى الجهاد، ويملأ قلوبهم ثقة بالنصر معتقدين أن الله يمدهم بروح من عنده، وأن المجاهد منهم تنتظره جنات وعيون، أو نعيم الدنيا وما يغنمه من العدو، وما يناله من الفيء.
أما اليوم فهم مدعوون لحرب قوم لا يشركون بالله، ولا ينكرون محمداً، بل هم على دينهم وعقيدتهم، ومن جنسهم وملتهم ولذلك كان الموقف الجديد في حاجة إلى خطيب يبرر حرب المسلم أخاه المسلم وقتل العربي بني قومه العرب، واحتاج قادة الفريقين وزعمائهم إلى الخطابة يقوون بها الروح المعنوية، ويخلقون في نفوسهم الأيمان بأنهم يحاربون من اجل الحق والدين الذي آمنوا به، وبأن جهادهم ليس إلا لتمكين الاسلام، وتنفيذ أحكامه، وكان المتحاربون في حاجة إلى هذه الروح حتى تشتد سواعدهم على قتل إخوانهم وذوي قرباهم، وكان الزعماء يلجئون إلى الخطابة كثيراً، حتى لا تفتر هذه الروح وتضعف؛ وكثرة تكرار القول تدخل في النفوس توهم صدقه وصحته، وذلك هو السر في فكرة ما ورثناه من خطب هذا العصر كثرة لم نعهدها في خطب الخلفاء حينما كانوا يحضون المسلمين على حرب المشركين.(211/44)
- 2 -
ولكن الذي بين يدينا من خطب علي وصحبه، أكثر من ما ورد لمعاوية وأركان حربه، ويمكن أن نرجع ذلك إلى أن كثيراً من آثار معاوية وأنصاره، قد امتدت إليه يد النسيان والضياع، بعد سقوط دولتهم، وتشتت شمل معاونيها، فإن الدولة الأموية بعد سقوطها لم يحاول أنصارها يوماً رفع رؤوسهم ولا محاولة رجوعها، ففقد بفقدانها الكثير من آثار خلفاءها؛ أما العلويوين فمع أنهم كانوا يحاربون ويقتلون، ويلاقون من الحياة الشدة والعناء، كان لهم في كل مكان الأنصار والمروجون لدعوتهم والساعون إلى إقامة خلافتهم، وقد نجحوا في كثير من الأحيان فكان من الضروري لهم أن يحفظوا كلام إمامهم، وأن يتناقلوا أحاديثه وخطبه.
ويمكن أن نرجعه إلى أن كثيراً من الخطب التي نسبت إلى علي وضعت بعد عصره وضعاً، وأضيفت إليه من غير أن يكون قد قالها، ولا نريد الآن أن نمحص هذه الخطب، وأن نبين ما وضع منها وما لم يوضع، ولكن نقرر أن كثيراً من هذه الخطب الصق به إلصاقاً؛ فكان سبب ما نراه من كثرة كلام علي كثرة يقل أمامها ما قاله معاوية؛ هذا إلى أنه مما لاشك فيه أن علياً كان أبين من معاوية قولا وافصح منه لساناً.
ويمكن أن يكون السبب قلة حاجة معاوية إلى الخطابة بالنسبة إلى علي، فلقد كانت الروح المعنوية في نفوس أهل الشام أقوى وأشد منها في نفوس أهل العراق، لأن معاوية قد ألقى في روعهم أنهم إنما يقتصون لخليفة قتل مظلوماً، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً؛ ومن أولى بالدفاع عن حق عثمان من معاوية؟ وكان مكر معاوية ودهاؤه حين يقول: إننا لا نريد منهم سوى قتلة عثمان، فليدفعوهم إلينا ونحن نبايع صاحبهم - يحرك الشاميين إلى الأخذ بثأر عثمان، فلا حاجة إلى كثرة الخطابة وتكرير القول، هذا إلى أن أهل الشام كانوا أطوع لمعاوية من أهل العراق لعلي. فمعاوية وأبوه وأخوه من قوادهم يوم حارب المسلمون في الشام، وإلى أن الشاميين كانوا في موقف المدافعين عن بلادهم، الذائدين عن حياضهم وعن آبائهم ونسائهم، وهذا مما يقوي في نفوسهم روح الجهاد ويدفعهم إلى الحرب والقتال.
وهناك سبب آخر هام دعا إلى كثرة خطابة علي وصحبه، فلقد كان الخلاف يمشي إلى قلوب أنصاره، وكان المخالفون يبينون رأيهم بالخطابة فكان من الضروري أن يقف بينهم(211/45)
خطباء يدعونهم إلى الألفة واجتماع الشمل؛ هذا إلى أن أصحاب علي قد خذلوا خليفتهم، وتقاعسوا عن نصرته، فاضطر إلى أن يرقى ذرا المنابر. وأن يرسل فيهم الصيحة تلو الصيحة يحرضهم على مناجزة أعدائه. وللإمام وأنصاره خطب كثيرة في هذا الغرض.
على أن معاوية كان يلجأ إلى الخطابة الصامتة: فما كان عليه إلا أن يعلق على المنبر أصابع زوج عثمان التي قطعت في الدفاع عنه، وقميص عثمان، فيغنيه هذا عن تدبيج القول وإطالة الحديث؛ إذ يجد من حوله ينادون: هيا إلى الأخذ بالثأر، هيا إلى الحرب والقتال؛ وقد يكون السبب مزيجاً من ذلك كله.
- 3 -
لم يكن لعلي بد من أن يخلق في أنصاره الروح المعنوية، وأن يبرر لهم موقفهم من حرب قومهم وإخوانهم، وأن يملأ قلوبهم بالحماسة والبسالة، ويوغر صدورهم ضد عدوه معاوية ومن معه، فأحياناً يلجأ إلى العاطفة الدينية يثيرها فيظهر عداءه في مظهر المارقين عن الدين، والهادمين لأسسه ومبادئه، هذا الدين الذي كان أجل ما يعتزون به ويحاربون في سبيله، فيقول علي في خطبة: (وأيم الله ما وتر قوم قط لشيء أشد عليهم من أن يوتروا دينهم، وأن هؤلاء القوم لا يقاتلونكم إلا عن دينكم؛ ليميتوا السنة، ويحيوا البدعة، ويعيدوكم في ضلالة قد أخرجكم الله عز وجلّ منها بحسن البصيرة؛ فطيبوا عباد الله أنفساً بدمائكم دون دينكم، فإن ثوابكم على الله، والله عنده جنات النعيم؛ وأن الفرار من الزحف فيه السلب للعز، ومغلبة على الفيء، وذل المحيا والممات، وعاب الدنيا والآخرة، وسخط الله وأليم عقابه)
وهذه الفكرة قد تكررت في اكثر خطب علي لتتأكد في نفس أصحابه؛ ولتصبح عقيدة إلى جانب عقيدتهم، تدفعهم إلى حرب قومهم وبني ملتهم.
وأحيانا يثير فيهم الأنانية، فيبين لهم سوء المغبة إذا أنتصر معاوية عليهم، ويحدثهم عما سوف ينالهم على يده من الذل والهوان، فيقول: (أما والله لئن ظهروا عليكم بعدي، لتجدنهم أرباب سوء، كأنهم والله عن قريب قد شاركوكم في بلادكم. . . وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش الضباب، لا تأخذون لله حقاً، ولا تمنعون له حرمة، وكأني أنظر إليهم، يحرمونكم ويحجبونكم، ويدنون الناس دونكم). واحسب أن المرء حين يغرس في نفسه أنه إنما يدافع(211/46)
عن كيانه، ليحفظ على نفسه حياتها وسعادتها وأمنها - يدافع عن حياضه ببسالة وقوة وهو ما يرمي إليه علي بخطابته.
وتارة يلجأ إلى ماضي أعداءه؛ فيذكرهم به، ويتحدث عما كان لهم ولآبائهم من قبلهم من خصومة للإسلام، وسعي إلى تحطيم أساسه، ثم يأخذ في بيان ما له من مآثر ومزايا، تجعل الموازنة بينه وبين معاوية ضربا من العبث؛ قال علي: (. . . لم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني، وخلاف معاوية، الذي لم يجعل الله له عز وجلّ سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق بن طليق، حزب من الأحزاب، لم يزل لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين - عدواً، هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين؛ فلا غرو إلا خلافكم معه، وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم صلى الله عليه وسلم، الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحداً) وبيان مآثر علي ومزاياه، ونقائص معاوية والطعن في أغراضه ومقاصده، أهم ما يدور عليه خطب العلويين حين يدعون قومهم إلى الحرب والقتال.
أما معاوية بن أبي سفيان فقد لجأ أيضاً إلى الناحية الدينية يثيرها في نفوس قومه ويحفزهم بها إلى الجهاد والقتال؛ ينثر أمامهم حجته الوحيدة التي دفعته إلى الخلاف وشق عصا الطاعة وهي قتل عثمان، وادعاءه أن علياً آوى قتلته ولم يأخذ بثأره، ولذلك كان هو ومن معه قوماً نكثوا البيعة، وسفكوا الدم الحرام في البلد الحرام.
وهناك شيء آخر يستطيع أن يستغله معاوية في إثارة حفيظة قومه: ذلك أن علياً وصحبه قوم اقبلوا من بلادهم، واعتدوا على حرمة الشاميين وحرمة ديارهم، فليس أمامهم أن أرادوا الحياة خالية من العار إلا أن يقاتلوا ويذبوا عن نسائهم وأبنائهم، قال معاوية يحرض قومه على القتال: (. . . انظروا يا أهل الشام، إنكم غدا تلقون أهل العراق؛ فكونوا على إحدى ثلاث خصال: إما أن تكونوا طلبتم ما عند الله في قتال قوم بغوا عليكم؛ فأقبلوا من بلادهم حتى نزلوا بيضتكم، وإما أن تكونوا قوماً تطلبون بدم خليفتكم وصهر نبيكم؛ وإما أن تكونوا قوماً تذبون عن نسائكم وأبناءكم، فعليكم بتقوى الله والصبر الجميل واسألوا الله لنا ولكم النصر. . .)
وأيضاً كان يلجأ معاوية وصحبه في تقوية الروح المعنوية إلى الحديث عن ضعف جيش(211/47)
العراق وتفرق كلمته وأدبار امره، ولا ريب أن مثل ذلك الحديث يشجع قومه ويغريهم بالثبات، حتى يتم الانتصار؛ قام عمرو بن العاص يحرض أهل الشام، على القتال فقال: (إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم أن أهل البصرة مخالفون لعلي، قد وترهم وقتلهم وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة منهم من قد قتل خليفتكم؛ فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تطلّوه)
أما العلويوين فإنهم لم يستغلوا هذه الناحية أيما استغلال، مما يدل على أن جيش معاوية لم يدع لهم هذه الفرصة، بل كان جيشاً متحداً متماسكا، ولكنهم استغلوا ناحية أخرى؛ هي أن معاوية ليس معه من له قدم سابقة في الإسلام، أما هم فمعهم جلة الصحابة والأنصار والبدريين؛ قال الاشتر النخعي يحث العلويين على الحرب: (. . . إنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري، سوى من حولكم من أصحاب محمد، اكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن يشك في قتال هؤلاء إلا ميت القلب!. . .) وهذا هو الحق فلقد كان اكثر الصحابة منضمين تحت راية علي، ولكن ذلك لم يستطع الوقوف أمام دهاء معاوية وعمرو بن العاص؛ فقد استطاعا بفضل ما أوتياه من الحصافة والمكر أن يظهرا بقلتهما على كثرة علي ومن تبعه من صحابة وأنصار
- 4 -
لم يكن التحريض على القتال هو كل أغراض الخطباء في ذلك العهد؛ بل كان من أغراضهم أيضاً الصلح بين المتقاتلين؛ فلقد سعت الرسل بين الفريقين تريد حقن الدماء، وكانت الخطابة عماد أحاديثهم، وإن لم يوفق الخطباء إلى أداء مهمتهم؛ فلقد كانوا مهددين أكثر منهم سياسيين دهاة، يستلون السخائم من الصدور واستمع إلى حبيب بن مسلمة رسول معاوية إلى علي يقول: (. . . أما بعد فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان خليفة مهديا يعمل بكتاب الله عز وجل، وينيب إلى أمر الله؛ فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه، وقتلتموه رضي الله عنه، فادفع إلينا قتلة عثمان؛ إن زعمت أنك لم تقتله، نقتلهم به ثم اعتزل أمر الناس فيكون شورى بينهم، يولي الناس أمرهم من اجمع عليهم رأيهم) ولذا قال له علي: (وما أنت (لا أم لك) والعذل؟!). ويقول عدي ابن حاتم رسول علي إلى معاوية:(211/48)
(أما بعد فأنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عز وجل به كلمتنا وأمتنا ويحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين إن ابن عمك سيد المسلمين، أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرا، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عز وجل بالذي رأوا؛ فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية؛ لا يصيبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل). فلما انتهى قال معاوية: كأنك جئت متهدداً، لم تأت مصلحاً.
والحق أن الخطابة التي كان يقوم بها سفراء الزعيمين لم تكن لتدل إلا على أنهما يرغبان في أن يستخلصا حقهما بالسيف؛ أما السفارة فلكيلا يكون ثمة مدعاة للوم أحدهما إذا اضطر إلى امتشاق الحسام
وكان من أغراضهما أيضاً نصح الصحب، وإرشاد المقاتلين إلى ما يجب أن يفعلوه في الحرب كما يفعل القائد قبل الهجوم، يوصي جنده ويمنحهم نصائحه: قال علي يرشد مقاتلته: (معاشر المسلمين، استشعروا الخشية وتجلببوا السكينة، وعضوا على النواجد فإنه أنبى للسيوف عن الهام، واكملوا اللأمة، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلّها، والحظوا الخزر، واطعنوا الشرر ونافحوا بالظّبأ، وصلوا السيوف بالخطا، واعلموا أنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله. . .)
ومن أغراض الخطباء لذلك العهد الدفاع عن الرأي، ومقارعة الحجة بالحجة، وتفنيد براهين الخصم، واظهر مثال لذلك الخطب التي قالها علي والخوارج؛ فهي خطب مليئة كلها بالحجج والبراهين من جانب الخوارج ومن جانب الإمام
- 5 -
كانت أساليب الخطابة لذلك العهد رصينة في جملتها، سهلة الألفاظ إلا في القليل، لها مميزات الخطابة القوية، تعتمد على الألفاظ الضخمة، وعلى الجمل القصيرة يقل فيها السجع إلا إذا جاء عرضاً غير مقصود، فالخطبة ترسل إرسالا، لا تكلف فيه ولا تنميق، ومع ذلك تكون قوية الأسر، متينة السبك، ولا غرو فلقد كان القائلون مقاويل العرب وأبلغهم وكان المقام يتطلب لساناً بليغا يحرضهم ويدعوهم
ولقد كثر الاقتباس من القرآن، وكان علي وصحبه أكثر غراما بالاقتباس يدخلون الآية والآيات في معرض خطبهم(211/49)
هناك ملاحظة تبدو في خطب علي وتظهر ظهوراً واضحاً إذا أنت وازنت بين خطبه التي قالها في أول النزاع وآخره،؛ فانك تجد خطبه التي قالها بعد التحكيم، والتي يستفز فيها القوم إلى حرب معاوية، ضخمة في ألفاظها، قوية في أسلوبها، متينة فخمة، أمتن وأقوى من تلك الخطب التي قالها في أول النزاع، وكانت خطبه تشتد وتقوى، كلما ضعف أمله في نصرة قومه، وزاد تواكلهم وتخاذلهم، وحسبك أن ترجع إلى خطبته التي قالها لرؤساء أنصاره ووجوههم بعد أن رجع من حرب الخوارج؛ أو إلى خطبته بعد أن أغار النعمان بن بشير على عين التمر، أو عندما أغار الضحاك بن قيس على الحيرة، أو حينما أغار سفيان بن الغامدي على الأنبار، واستمع إلى السيل المتدفق من فم علي حين يقول:. . . ألا وأني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسراً وعلاناً، وقلت لكم أغزوهم من قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلّوا، فتخاذلتم وتواكلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريا، حتى شنت عليكم الغارات، وملكت عليكم الأوطان؛ هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقتل حسان بن حسان البكري ورجالاً منهم كثيراً ونساء، وأزال خيلكم عن مسالحها، والذي نفسي بيده، لقد بلغني أن كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها، وما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي فيه ملوما، بل كان به عندي جديرا
يا عجباً كل العجب! عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الاحزان، من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضا، تُرمَون ولا تَرمُون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله عز وجل فيكم وترضون، إذا قلت لكم إغزوهم في الشتاء، قلتم هذا أوان قر وصر، وإن قلت لكم: إغزوهم في الصيف، قلتم: هذه حمارة القيظ، أنظرنا ينصرم الحر عنا؛ فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون، فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال! ويا طغام الأحلام!! ويا عقول ربات الحجال! لوددت أني لم أركم، ولم أعرفكم، معرفة والله جرت ندما، وأعقبت سدما! قاتلكم الله لقد ملاءتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نُغَب التهمام أنفاسا، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان. . . .(211/50)
وتعليل هذه الظاهرة سهل يسير، هو ذا التخاذل الذي بدا من القوم بعد التحكيم، فلقد سئموا القتال وملوه، وركنت نفوسهم إلى الهدوء والدعة، واستسلموا إلى الراحة، ووجدت الفرقة سبيلها إلى قلوبهم، فكان الإمام في أشد الحاجة إلى ما يبعث الحياة فيهم، ويعيد الحماسة إليهم، فلا غرو، كان يلجأ إلى الخطابة فيجعلها قوية الأسر، مليئة بالألفاظ الضخمة التي تثير النفس، وتبعث النخوة، مفعمة بالتحذير والانذار، علها تحيي الميت أو تبعث الروح في الجماد
نستطيع أن نقول: إن الخطب في عهد علي تؤرخ لنا الحالة السياسية، وتسجل أهم ما كان في فترة خلافة علي، وفضلا عن ذلك نستطيع إذا أنت تتبعت الخطب، أن تلمس الحوادث التي قيلت فيها لمسا، وهي تكشف لك صراحة نفسية الإمام علي، وتبين الأدوار التي مرت فيها آماله: من النهوض والتفاؤل في أول الأمر؛ إلى اليأس والقنوط في آخره، كما أنها تكشف أيضا نفسية قومه، وتضعها أمامك في صورة واضحة، وإن المؤرخ ليجد في هذه الخطب معينا لا ينضب، يساعده على فهم نفسيات المتقاتلين ليدرك النتائج التي وصلت إليها الحرب، وكيف كانت طبيعية لا بد من حدوثها
أحمد أحمد بدوي(211/51)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
138 - صلاة. . .!
في (معجم الأدباء): قال حسان بن علوان البيستي: كنت أنا وجماعة من بني عمي في مسجد بيست ننتظر الصلاة فدخل أعرابي وتوجه إلى القبلة، وكبر ثم قال: (قل هو الله احد، قاعد على الرصد مثل الأسد، لا يفوته أحد، الله اكبر!) وركع وسجد، ثم قام فقال مثل مقالته الأولى وسلم. فقلت يا أخا العرب! الذي قرأته ليس بقرآن، وهذه صلاة لا يقبلها الله. فقال: حتى يكون سفلة مثلك، أني آتي إلى بيته واقصده وأتضرع إليه ويردني خائباً، ولا يقبل لي صلاة! (لا) إن شاء الله (لا) إن شاء الله، ثم قام وخرج
139 - مسيلمة وأشعب
قال الثعالبي: قد تظرف من قال في كذب مسيلمة وطمع أشعب:
وتقول لي قولاً أظنك صادقاً ... فأجيء من طمع إليك واذهب
فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلس ... قالوا: مسيلمة، وهذا أشعب!!
140 - إنما هو بركة من السماء
في (تاريخ ابن عساكر) عن أنس قال: كان أبو طلحة يأكل البَرَد وهو صائم، ويقول: ليس بطعام ولا شراب. قيل له: أتأكل وأنت صائم؟!
فقال: إن ذا ليس بطعام ولا شراب، وإنما هو بركة من السماء نطهر بها بطوننا
141 - رد الله عليك غربتك
كان الصاحب بن عباد يقول: لم أسمع جواباً أظرفَ وأوقعَ وأبلغَ من جواب عبادة فإنه قاله لرجل: من أين أقبلت؟
قال: من لعنة الله
فقال: رد الله عليك غربتك
142 - وعد الله ووعيده(211/52)
عند أبي عمرو بن العلاء. . .
في (عيون الأخبار): اجتمع أبو عمرو بن العلاء وعمرو ابن عبيد فقال عمرو: أنّ الله وعد وعداً، وأوعد إيعاداً، وإنه منجز وعدَه ووعيدَه، فقال أبو عمرو: أنت أعجم. لا أقول: أنك أعجم اللسان، ولكنك أعجم القلب. أما تعلم، ويحك! أن العرب تعد إنجاز الوعد مكرمة، وترْكَ إيقاع الوعيد مكرمة ثم أنشده:
وإني - وإن أوعدتُه أو وعدتُه ... لمخلفُ إيعادي ومنجز موعدي
143 - عاد الدر إلى وطنه
سئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظم ابن سهل فقال اجتمع فيه ذلان: ذل العشق، وذل اليهودية.
ولما غرق قال فيه بعض الأكابر: عاد الدر إلى وطنه
144 - أدب الخواص
قال الوزير أبو القاسم المغربي في كتاب الخواص:
كنت أحادث الوزير أبا الفضل جعفرا وأجاريه شعر المتنبي فيظهر من تفصيله زيادة تُنبه على ما في نفسه خوفاً أن يُرى بصورة من ثَناه الغضبُ الخاص عن قول الصدق في الحكم العام وذلك لأجل الهجاء الذي عرض له به
145 - أطعموا آذاننا
كان مروان بن أبي حفصة إذا تغدى عند إسحق الموصلي يقول له: أطعموا آذاننا، رحمكم الله!
146 - روائح الجنة في الشباب
في (أغاني) أبى الفرج: قال:
محمد بن هاشم الخزاعي: تذاكروا يوماً شعر أبى العتاهية بحضرة الجاحظ إلى أن ذكر أرجوزته التي سماها (ذات الأمثال) فأخذ بعض من حضر ينشدها حتى أتى على قوله:
يا للشباب المرح التصابي ... روائح الجنة في الشباب!(211/53)
فقال الجاحظ للمنشد: قِفْ، ثم قال: انظروا إلى قوله:
روائح الجنة في الشباب
فإن له معنى كمعنى الطرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة.
147 - إن العرب لا تستخذي
احب الأصمعي أن يستثبت في كلمة (استخذيت) أهي مهموزة أم غير مهموزة قال: فقلت لأعرابي: أتقول: استخذأت أم استخذيت؟ فقال: لا أقولهما
قلت: ولِمَ؟
قال: لان العرب لا تستخذي
148 - أسهل الموت وأصعبه
الصابي:
إذا لم يكن للمرء رد من الردى ... فأسهلهُ ما جاَء والعيشُ أنكدُ
وأصعبه ما جاءه وهو رائع ... تُطيف به اللذات والحظُّ مسعدُ
149 - فزع الأغنياء، شهوة الفقراء
سئل (سيافيدس) عن الموت فكتب: نومٌ لا انتباهَ معه، راحة المرضى، انفصالُ الاتصال، نقصُ البنية، رجوعٌ إلى العنصر، فزعُ الأغنياء، شهوةُ الفقراء، سفرُ النفس، فقدان الوجود
150 - الفراق
قيل لبعض الصوفية: لِمَ تصفرّ الشمس عند الغروب؟
قال: خوفاً من الفراق وبه ألم!(211/54)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
العلماء
وكنت نائماً فإذا نعجة تتقدم فتقضم اللباب المعقود إكليلا على رأسي، فكانت تعمل أنيابها فيه وتقول: لم يعد زارا من العلماء
وذهبت بعد ذلك مزدرية متفاخرة. ذلك ما أخبرنيه أحد الأولاد
أحب أن استلقي على الأرض حيث يلعب الأطفال تحت الجدار المتهدم وقد نبت في شقوقه العوسج والشقائق الحمراء. فإنني لم أزل عالماً في عيون الصغار وفي عيون العوسج والشقائق الحمراء. لأنها طاهرة حتى في أذيتها
أنا لم أعد عالماً في نظر النعاج. تبارك حظي فهذا ما قضى به عليّ. والحقيقة هي أنني هجرت مسكن العلماء فخرجت منه جاذبا بابه بعنف ورائي.
لقد جلست روحي الجائعة طويلا إلى الخوان، وما أنا كالعلماء متطبع على المعرفة كمن اتخذ كسر القشور مهنة له، فأنا عاشق الحرية والسير في الهواء الطلق على الأرض الباردة كما أفضل أن أتوسد جلود الثيران على افتراش أمجاد العلماء وألقابهم.
إن بي من الحماس ومن لهب الفكر ما يقطع عليَّ أنفاسي فلا يسعني إلا الاندفاع إلى رحب الفضاء هاربا من الغرف المكسوة بالغبار.
ولكن هؤلاء العلماء يتفيأون الظلال فلا يقتحمون السير على المسالك التي تلهبها حرارة الشمس، بل يكتفون بالاستكشاف كالمتفرجين يفتحون أشداقهم وينظرون إلى المارة في الشارع. هكذا يفتح العلماء أشداقهم وينتظرون اتقاد شرارة الفكر في أدمغة المفكرين. وإذا ما لمستهم بيدك تطاير الغبار ما حولهم كأنهم أكياس من الحنطة، ولكن أحداً لا يظن أن هذا الغبار المتطاير منهم هو دقيق السنابل الصفراء التي ينشج بها الصيف في زهوه.
إذا ما تظاهر العلماء بالحكمة، فإن حقائقهم وأحكامهم تهزني برعشة البرداء إذ تنتشر منها روائح المستنقعات، ولكم أسمعتني حكمتهم نقيق الضفادع.(211/55)
إن لهؤلاء العلماء مهارتهم ولأناملهم لباقتها، فليس من نسبة بين صراحتي وتعقيدهم، فأناملهم لا تني تغزل وتحيك ناسجة للعقل ما يستره. فهم كالساعات إذا ما أحكم ربط رقاصها دلت بضبط على سير الزمان وأسمعتك طقطقة خافتة. إنهم يعملون كحجر الرحى فيطحنون كل ما تلقى إليهم من حبوب، وكل منهم يراقب حركة أنامل الآخرين، وجميعهم يتلهون بالنكايات ويترصدون من يتعارج بعلومه، فهم أشبه بالعناكب في تلصصهم. ولكم رأيتهم يستقطرون سمومهم بكل حذر ساترين أيديهم بقفازات من زجاج ولهم مهارة خاصة بلعب النرد المزور. ولكم انحنوا فوقه والعرق يتصبب من وجوههم
لا صلة بيني وبين هؤلاء الناس فإن فضائلهم تبعد عن فضائلي بأكثر مما تبعد عنها أكاذيبهم ونردهم المزور
وما وجدت مرة بينهم إلا وكنت فوقهم، ولذلك ابغضني هؤلاء العلماء. لأنهم لا يطيقون أن يسمعوا بمرور أي كان فوق رؤوسهم، ولذلك وضعوا الأخشاب فوق رؤوسهم وأهالوا فوقها التراب والأقذار ليخنقوا وقع أقدامي، ولم يزل حتى اليوم أكثرهم علماً اقلهم إدراكا لأقوالي
لقد نصبوا بيني وبينهم حائلا كل ما في الإنسان من ضعف وضلال، وهم يدعون هذا الحصن لمسكنهم السقف المستعار.
ولكنني بالرغم من كل هذا لا أزال أمشي فوق رؤوسهم وأنا أنشر أفكاري. ولو أنني مشيت على عيوبي فلن أزال ماشيا فوق جباههم، ذلك لأنه لا مساواة بين البشر، وهذا ما يهتف به العدل، فما أريده أنا لا حق لهم بأن يتناولوه بإرادتهم.
هكذا تكلم زارا. . .(211/56)
رسالة الشعر
دمشق
للدكتور عبد الوهاب عزام
يا أخي صاحب الرسالة: هذه أبيات نظمتها في إحدى زياراتي لمشق العظيمة وطويتها. ثم رأيت أن موضوعها يشفع لما فيها من قصور فأرسلتها إليك لترى رأيك في طيها أو نشرها
هذى دمشق فخل القلب يمتار ... طالت على القلب أشواق وأسفار
كم ماطلتك بها الأيام أُمنيَة ... لها على الدهر إعلان وإسرار
حطّ الرحال فهذا جهرةً بَردى ... وذي دمشق هناك الأهل والدار
لا تٌعجلني فما الأيام مُسعدة ... لا تخدعني فصرف الدهر غدار
دعني أؤلف آمالا مشتّتة ... وأَسمع القلب. ملء القلب أسرار
دعني أزود قلبي ملء مُنيته ... ففي فؤاديَ أسفار وأخطار
وردت جلّق ملتاعاً ومغتبطاً ... تطفي بنفسي آمال وأفكار
دمشق مجتمع الأعصار قد زخرت ... فيها كما أندفقت في البحر أنهار
خطّت أمامي سراعاً فوق رقعتها ... من الوقائع أسطار فأسطار
فكل رجل على التاريخ سائرة ... وكل طرف إلى التاريخ نظّار
وللأذان دوي فوق أربعها ... وللأذان ببطن الأرض إسرار
يذيع قبر بلال في مآذنها ... صوتاً له من وراء الغيب تسيار
كالنبع شق الصفا والترب فازدهرت ... منه الخمائل، وهو الدهر ثرار
ذهبت للمسجد المعمور أسأله ... وقد تدل على الأعيان آثار
رأيت فيه خلال القوم ماثلة ... وللبناء من البانين أقدار
علوت في قمة التاريخ مأذنة ... لها من الحق وتاريخ أحجار
تطوف حولي خطوب الدهر في صخب ... وتزحم العين دولات وأقطار
أرى الوليد على ملك لسطوته ... ذل الزمان، وفيه المجد خطّار
دانت لهيبته الأهوال واجتمعت ... في همّة العُرب أقطار وأعصار
كأن ما بين سيحون وقرطبة ... على الخريطة أفنار وأشبار(211/57)
أحييت دمشق رميم الشعر في خلدي ... لا غرو قد تبعث الأشعار أشعار
وقفت فيها أُسيم الطرف في فتن ... من الجمال لديها الطرف يحتار
كلا فؤادي وطرفي فوق بهجتها ... بين الحضيض وبين السفح طيار
تندى القلوب وتجوى من نضارتها ... ورب أخضر منه تقدح النار
واها لقلبي إن يبد الجمال له ... سطراً تبدت من الآلام أسفار
خاض المطامع، طماح المنى عرم ... عليّ الشدائد والسراء ثوار.
وقاسيون على الجنات مطَّلع ... بين الرياض وبين الشهب نظَّار
عاري المناكب بالشجراء متزر ... ثبت الجنان على الأحداث، جبار
نسرٌ يرى اللوح منه هامة عطلا ... لكنه ذنبَ الطاووس جرَّار
والصالحية حيا الله ساكنها ... وحَيَّ في سعدها دار وديار
شجا فؤادي دروس في تدارسها ... والدهر بالناس دولات وأدوار
يا دار هذا زمان السعد فابتسمي ... لافاتَكِ السعد بعد اليوم يا دار:
وقفت بالغوطة الخضراء أنشُدها ... قلباً أضلّته أفياء وأشجار
هفا كما أنطلق العصفور من قفص ... دعته في الروض أطيار وأزهار
قالت: رأيت دمشقاً في مفاتنها ... فكيف ينجو فؤاد فيك شعّار؟
فسل دمشق هناك الروض مزدهر ... والجو مبتسم والحسن سحّار
قالت دمشق: وما عندي به خبر ... سائِل بدُمَّر لا يخدعك إنكار
يا دمَّر الخير قلبي فيك مرتهن ... لا تجحديه فما يجديك إصرار؛
ردي فؤادي ففي دهري له عِدة ... وفي فؤادي لأرض العرب أوطار
فقد وردتك يوماً في حمى نفر ... من الغطاريف فيهم يأمن الجار
كأنما كل حرٍ في عزيمته ... نجم يضيء علي الأهوال سيار
وكان مجلسُنا أيْكاً على بردى ... تردد الحسن فيه فهو محتار
نزجي الأحاديث من شكوى ومن ألم ... ومن أمانٍ ذوت فيهن أعمار
نبني على أسُس التاريخ آتِيَنا ... وللمعالي من التاريخ أسوار
وننشد المجد تدعوه عزائمُنا ... والمجد مُصغِ إذا ناداه أحرار(211/58)
إما أرى المجد قد أضفى أشعته ... وأشرقت فيه دولات وأمصار
أبصرت في الظلمات الشمسَ طالعة ... لمّا تراءى لنجم الصبح إسفار(211/59)
مختارات من أدب الرافعي
بَايْ يَا بَابَا!
(في سنة 1904 تزوج المرحوم مصطفى صادق الرافعي، وفي سنة 1905 ولدت له (وهيبة)، فلما صارت بنت سنتين جلس إليها يوماً يناغيها ويداعبها، وحب الرافعي لأولاده شيء أكثر من محبة الآباء، فمال عليها يقبلها، فآلمها، فقالت له الطفلة، وقال لها، فكانت هذه القصة في هذه القصيدة)
محمد سعيد العريان
طفلتي في العمرِ مَرَّتْ ... من سِنيها اثْنَتَيْنِ
ليستا فيما غَدَتْ تَعْ ... قِلُ إلا ضحكتينِ
جئتُها يوماً فالْقَيْ ... تُ عليها قُبْلَتَيْنِ
وأمالتْ عُنُقاً آ ... لَمْتُهُ من غَمْزَتينِ
فَمَضَتْ غَضْبَى وقالت: ... (بَايْ يَا بَابَا بَايْ يَا بَابَا)
إعتاباً يا ابنْتَي أَمْ ... ذاكِ من غيظِ الحبيبهْ؟
بدأتْ دنياكِ مُنْذُ الْ ... يومِ والدنيا عجيبهْ. . .!
وغريب منك أن تدْ ... ري معانيها الغريبه. . .
نجمةٌ أبْعَدُ ما تُلْ ... قَى إذا لاحتْ قريبه
مِثلُها حُبُّك للبا ... با ومعنى (بَايْ يا بابا)
نَغْمَةٌ كالبلبل أسْتَعْ ... لَى علَى الورد فَغَنَّى
أتمنَّى أن تُعيدي ... مِثلَها إذْ أتمنى
قد غدا يُذْهبُ في الدُّنْ ... يَا الْعَنَا لفظُك عنَّا
وأرى الشعرَ فنوناً ... صرتِ لي منهنّ فنَّا
حكمةٌ ما مِثلُها الْحِكْ ... مةُ عندي (باي يا بابا)
لو أتتْني كلُّ بُشْرَى ... مِلَْء أنحاءِ البلادِ
أو أتاني السعدُ يوماً ... هاتفاً بأسمِى يُنادي
أو سَعَى المديحِ والتَّمْ ... جِيدِ لي كلُّ العبادِ(211/60)
أو شَدَا في كلِّ ارضٍ ... بقريضي كلُّ شادَ
لم يكن أحْلَى بسمعي ... كُلُّ ذا من (باي يا بابا)
سنة 1907
مصطفى صادق الرافعي(211/61)
بين الجد والمجون
فجيعة في ساعة
وساعةٍ كالسِّوارِ حوْلَ يدِي ... ضاعت فأوْهى ضَياعُها جَلَدِي
مازال يطْوي الزمانَ عقرَبُها ... حتى طواها الزمانُ للأبدِ
ضيَّعها نجليَ الصغيرُ وكم ... حمَّلني من خَسارةٍ ولدِي
قالوا: فداءٌ لَهُ فقلتُ لهم: ... كلاهما فلذتان من كَبِدي
قالوا: التمس غيرَها. فقلتُ لهم: ... وهَلْ معي ما يُقيمُ أَوَدِي؟
مَنْ مُسعِدي إنْ أكُن على سفرٍ؟ ... ومَنْ يفي لِيَ بالوعد إِنْ أَعِدِ؟
إِلْتَبَسَت أَيَّامي عَلَيَّ فَلاَ ... أَفْرقُ ما بين السبتِ والأحدِ
واختلَّ وقتيَ فإِنْ وعَدْتُكَ أَنْ ... أَزُورَك اليومَ جئتُ بعدَ غَدِ
كم رُمْتَ عَدَّ الساعاتِ مُهتدياً ... بالشمس لكنْ غَلِطْتُ في العددِ
روَّضْتُ نفسيَ على السُّؤَالِ وما ... حَمَلت ذلَّ السؤالَ من أَحَدِ
جَهْلُ الفتى بالزمانِ أهونُ مِنْ ... سُؤَالِ غَيْرِ المَهْيِمِنِ الصَّمَدِ
أمست يدي بعدها مُعَطَّلَةً ... منظرُها في العيونِ كالرَّمَدِ
فَمَنْ لِعَيْنِي بحُسْنِ طَلْعَتَها؟ ... ومَنْ لأُذُني بصوتِها الغَرِدِ؟
كم آنَسَتْ وحشتي بِدَقَّتها ... فالآنَ أصبَحْتُ شِبْهَ مُنْفرِدِ
لاغَرْوَ إِنْ أَقْضِ حَقَّ عِشْرَتِها ... عِشْرَتُها ليَ طويلَةُ الأمَدِ
قد لازَمَتْ مِعْصَمِيَ سنين إلى ... أَنْ أَصبحت قِطْعَةً من الجسدِ
ناطقةً بالصواب أن سُئِلَتْ ... إِنْ قُلْتَ كَمْ لَمْ تَنْقُصْ وَلم تزِدِ
على الصراطِ السّوِيِّ سائرةٌ ... إنْ حادت الشمسُ عنْهُ لم تَحِدِ
أَرْنو إليها إذا مَشَيْتُ وإنْ ... جَلَسْتً في مجلسٍ كَشَفْتُ يَدِي
ألم تُشَاهِدْ ذا نعمةٍ حَدَثَتْ ... إذا مَشَى في ثيابهِ الْجُدُدِ؟
صَبَرْت صَبْرَ الكرامِ آمُلُ أَنْ ... تَعُود لي ثانياً فَلَمْ تَعُدِ
فلُذْتُ بالأولياءِ عَلَّ لهم ... سِرّاً وإن كنتُ غير مُعْتقِدِ
مَنْ ليَ بالعرَّافينَ أسألُهم ... عنها وبالنفَّاثات في العًقدِ(211/62)
أسأتُ بالأصدقاءِ كًلِّهِمِ ... ظَنِّي ففتَّشْتُهُمْ فلم أجِدِ
شَتَّان بينَي وبينَ لاقِطِها ... بات قرِيراً وبتُّ في كَمَدِ
ليت الذي طُوِّقت بها يَدُهُ ... في جيدِهِ حَبْلٌ شُدَّ مِنْ مَسَدِ
محمود غنيم(211/63)
القصص
قصة الحب والحياة
جرازييلاَّ
كان لامرتين في الثامنة عشرة من عمره عندما لمسه الحب بأنامله الناعمة، وطاف به الشعر في آفاق الوحي والإلهام. وكانت (جرازييلا) الفتاة الأولى التي أسمعته نغمات الغرام، وأسكرت روحه بتلك الخمرة العلوية التي تسكبها الآلهة في أرواح الشعراء والمفكرين
فجرازييلا هي التي غرست في فؤاد (لامرتين) زهرة الشوق والحنين. وهي التي جعلته ينطق بأرق ما في الحياة من صبابة وتذكار، وألم ودموع!
لقد أحب دانتي بياتريس فكتب عنها الصحائف والأوراق وعشق جميل بثينة فصعد لأجلها التأوهات والزفرات. . . ولكن لامرتين في حبه لجرازييلا أرانا شيئاً خفيا لم تقع على مثله العيون
فالذي يقرأ ما كتبه لامرتين عن جرازييلا يعانق تمثال الحب ويتفهم معاني الحياة. . . لأن هناك أقوالاً إذا لم تبلل العيون بالدموع فهي تفعم النفوس بغمائم الحزن والكابة، ومرارة الشوق والتذكار
إن لامرتين عرف أن يسعع تلك الفتاة الساذجة البريئة تغاريد الحياة المعنوية وحفيف أجنحة الهوى. . . وأن يجعلها ترى من وراء ضباب أحلامها شجرة الحب المتعالية في الفضاء، ونهر الغرام الجاري بين الأرض والسماء
والذي يصغي إلى غمغمة تلك التعابير الشعرية الحنونة التي سالت على براعة لامرتين، ترفعه العاطفة إلى جنة سحرية فيرى مواكب الأرواح هائمة في رحاب النعيم، وغواني الشعر راقصة على أنات الرباب في ضوء القمر!!
شغف (لامرتين) بالطبيعة منذ صباه وغذى شعوره وإحساسه برقة الحب والغرام، وعناصر الحسن والجمال. . . فجاءت كتاباته صورة حية للمثل الأعلى الذي ينشده أصحاب التأمل وأبناء الخيال
ثم أحب التجول والاغتراب ليتغلغل في صدر الطبيعة وليجني في حناياها تلك الزهرة(211/64)
القدسية الخالبة التي تملأ القلب عبيراً والنفس نشوة وكمالاً. . . فارتحل إلى إيطاليا بلاد الشمس المشرقة والماء المترقرق، والذكريات الزاخرة بالحياة والحرارة
وجاب أنحاءها فتعرف إلى آثار التاريخ الروماني القديم الذي لم يمح الدهر سطراً واحداً من ذكرياته
وفي (روما) المدينة الخالدة استطاع الشاعر أن يدرس عصر النهضة درساً وافياً دقيقاً فكان يذهب في الصباح إلى نهر (التيبر) المنساب فوق رفات الدهور والأجيال، فيجلس على ضفافه ويتطلع من ثنايا مائه إلى آماله وأمانيه التي يخبئها المستقبل. وعندما يخيم الظلام يعود إلى مخدعه فينام راضياً مطمئناً
وهنا تشوق لامرتين إلى سماء (نابولي) الزرقاء ليشاهد فيها قبر (فرجيل) الذي كان يجد لذة في ترديد أشعاره فذهب إليها. وفي هذه الأثناء التقى الشاعر بأحد أصدقائه القدماء فعاش معه عيشة ألفة ودعة
نابولي عند الإيطاليين جنة سحرية فاتنة سكنتها أرواح الشعراء والأنبياء. . . هي غابة ابتدعتها عبقرية الله لتبقى مكمناً للفن والفكر والموسيقى، ومأوى لكل من يريد أن يرسم أفكاره التواقة إلى المثل الأعلى، وأحلامه الشاردة وراء أشباح الموت والحياة!!
تأثر (لامرتين) لهذه المناظر وشعر بجاذب عاطفي فلهب يدفعه إلى تفهم أسرارها. فإن مشاهد الصيادين يتفيأون في ظلال مراكبهم الصغيرة. . . والعاشقين يتشاكون الهوى تحت ألوية الدجى. . . والشمس المودعة تلقي نظرتها الحزينة على قمم الجبال. إن جميع هذه المناظر كانت تحرك إحساسه فينظمه شعراً لطيفاً عذباً كما تنظم القيثارة أنغامها وتنهداتها!
وبعد أن مرت بالصديقين أيام قليلة أحب لامرتين تلك الحياة الشعرية التي يحياها الصيادون في مراكبهم تحت السماء الصافية، وفوق متون الأمواج، فتمنى كثيراً لو أتيح له أن يحيا تلك الحياة.
وشاءت الأقدار أن تحقق أمنية الشاعر، وأن يلتقي بفتاة طاهرة تلمع في صدرها محاسن الحب والعاطفة، فقاده حسن الطالع إلى التعرف بصياد شيخ في السبعين من عمره كان ينتصب دائماً قرب زورقه انتصاب الطيف بين الموت والحياة!!
هنا اكتمل الحلم وتحقق الأمل!!(211/65)
كان ذلك في ليلة من ليالي الصيف القمراء. . . بدا البحر فيها صافيا كمرآة العذراء في ساعة عرسها. . . أما السماء فقد تكللت بتاج من الأنوار لتضيء العيون وتهدي القلوب. . وفي وسط هذه التأثرات مرت بالشاعر العبقري أحلام موردة تركت في نفسه أثراً لا يمحوه الدهر
ثم تلت هذه الليلة ليال جميلة في زورق ذلك الصياد الشيخ!!
مات الصيف فأسرعت ربة الحقل بالرحيل لتستريح في وادي الذكرى. ثم جاء الخريف فتناثرت أوراق الأشجار واعتصب جبين الأفق بغيمة من تلك الغيوم السوداء المنذرة بخمود جمرة الأفراح. . . وفي ليلةٍ باردة أتفق الصديقان مع الصياد على سياحة في عرض البحر فركب الثلاثة الزورق وساروا يداعبون الموج بمجاديفهم الخشبية كأنهم في حلمٍ من الأحلام المزهزة. ولم تكد تمضي على ذلك ساعة حتى ثارت الأمواج منبئة بالكارثة الرهيبة. ثم أطفأت النجوم مصابيحها فاشتد حلك الظلام اشتداداً مخيفاً هو المصيبة العظمى. إلا أن الشيخ المسكين لم يستسلم إلى الهلكة فصاح بهم أن يغالبوا المنية حتى تلوي من أمامهم خاسرة مضعضعة.
وظلوا عالقين بين أشداق الموت ساعتين كاملتين حتى قذفتهم الأمواج الصاخبة إلى جزيرة تدعى (إبسكيا) كان بيت الصياد مبنياً فيها. . . وفي ذلك البيت الحقير كان يعيش الشيخ مع زوجه العجوز وحفيدته الحسناء غرازيلاّ.
لم تكن (غرازيلا) كسائر الفتيات. ولم تصنع مثلهن من طين وماء. . . لأن الله حباها بجمال رائع فتان. . . فعيناها سرقتا سوادهما من ظلام الليل، وجيدها التالع استعاد سحره من عرف الزهور البيضاء، أما قوامه الخالب فقد سكبته الطبيعة من ضياء الفجر لتبهر به عقل كل من يراها ويتأمل في معاني حسنها وجمالها
نشأت بين الصديقين والعائلة القروية ألفة لم تلبث أن تحولت إلى محبة سماوية، فاصبح الفريقان لا يحتملان ألم الفراق، وقد كونت هذا التقارب عاطفة غريبة بين الفتاة والشاعر، فإنها أحبته عندما ألقت عليه أول نظرة. وبعد أن درس (لامرتين) أخلاق العائلة وتبين مشاربها وأفكارها شعر بجاذب روحي مجهول يحبب إليه كل فرد من أفرادها.
وأحب أن يقرأ لهم في إحدى الليالي رواية (بول وفرجيني) ففعل. وفيما هو يقص عليهم(211/66)
تلك الفاجعة المؤلمة التي صورها كاتب فرنسا الكبير (برنادين دي سان بيير) أحس بدمعة حرى تتسايل على يده، فنظر فإذا غرازيلا تبكي جاثية عند قدميه، وإذا الشيخ وزوجه مطرقان كأن داهية دهياء حلت في تلك الساعة!
فكانت هذه الكآبة دليلا على رقة عواطفهم.
في إحدى الليالي تسلم رفيق الشاعر كتاباً من أمه تسأله أن يأتي إلى فرنسا لحضور زفاف شقيقته فرافقه لامرتين إلى نابولي، ثم ودعه وعاد إلى الفندق ليصرف فيه ليلته. غير أن لامرتين لم يكن يحس بالرابطة التي توثقه بصديقه إلا بعد أن فارقه. وعندما أقبل الصباح كان يقاسي آلام الشوق على سريره
وعلمت (غرازيلا) بمرض لامرتين فأسرعت إلى (نابولي) مع أخيها الصغير. ولم تكد تدخل عليه وتشاهد نحوله واصفراره حتى تفجرت بالدموع وجداً ولوعة. وبعد أن جلست قرب فراشه نزعت من جيدها أيقونة مقدسة وعلقتها فوق رأسه لتقيه من الموت، ثم خرجت متأثرة باكية تضرع إلى الله إلا يفجعها فيه!!
مضى على هذا الحادث أسبوع كامل شفي في أثنائه لامرتين من آلامه فعاد إلى منزل الشيخ. ولم يكد يطأ عتبة ذلك المنزل حتى أقبل أصحابه يعربون له عن تعلقهم ومحبتهم وإعزازهم. وكان في زيارتهم فتى في العشرين من عمره مشوه البنية، ولكنه طيب الأخلاق شأن أمثاله القرويين الذين لم تفسد المدنية عواطفهم. . . وسأل الشاعر عن أمره فقيل إنه ابن خال لغرازيلا، وإنه سوف يكون زوجها عندما تسمح الظروف. هنا شعر بمرارة خرساء تمزق فؤاده!
مالت الشمس نحو المغيب تاركة قبلة جرى على وهاد تلك الجزيرة الهادئة، وبمغيبها غمرت روح الشاعر سكينة عميقة ممزوجة بالأسى الساحق. . . وما أن صمم على ترك هذه الأسرة لتنعم بأحلامها وتأملاتها حتى وقفت غرازيلا والعجوز في سبيله قائلتين إنهما لا تسمحان له بمغادرة المنزل مادامت العائلة تعتبره فرداً منها. وظلتا تتوسلان إليه حتى رضى أخيراً.
وتسلل الحزن إلى روح الشاعر فأوى إلى حجرته ليذرف فيها دموعه. وكان عندما تهدأ ثورة عاطفته يلجأ إلى مذكراته فيبثها حنينه وشكواه!!(211/67)
مرت على هذه الحادثة ثلاثة أشهر فعاد إلى الشاعر انبساطه الماضي لأنه استعاض عن صديقه المخلص بغرازيلا الحبيبة التي كان يقضي معها أيامه ولياليه على شواطئ تلك الجزيرة الشعرية الساحرة. وهنا شاءت الحياة أن تضرم لوعة الشاعر. . . ففي ذات ليلة عاد إلى المنزل فلحظ انقباضاً مرتسما على وجهي العجوزين أما غرازيلا فكانت عيناها مملوءتين بالدموع
تساءل الشاعر عن سبب انقباضهم وحيرتهم فقال الصياد: إن خال غرازيلا جاء طالباً يدها إلى ابنه، ولما كان في هذا العقد سعادة للفتاة فقد أجابه الشيخ بالارتياح، أما غرازيلا فلم تنطق بغير دموعها السحاحة
عند ذاك أحس لامرتين بتعلقه بغرازيلا، فأهمه كثيراً أن تخرج من ذلك المنزل، وأن لا يراها فيما بعد صادحة بين جنباته وزواياه، ثم دخل مخدعه يائساً وانطرح كالمحموم لشدة تأثره. . . وعبثاً حاول الرقاد.
وكانت تلك الليلة باردة جداً، والبرق شديد اللمعان في الفضاء، والريح تئن كثكلى ترثي وحيدها، والسيول تتساقط بروعة فتلقي الرعب في القلوب. . كان باب الحجرة يضطرب كلما هبت العاصفة. وقد خيل إلى الشاعر أنه يسمع أنيناً جارحاً؛ وأن فماً يردد أسمه بلوعة وأسى!
وكما تبرز الدمعة من العين الباكية ثم تتلألأ على الوجه، برز الفجر من أحشاء تلك الليلة المخيفة، فأنار سفوح الجزيرة وأغوارها بضوئه الضعيف. في تلك الساعة استيقظ لامرتين من رقاده. ولم يكد يسمع صراخ العجوزين والأخوين الصغيرين حتى سُمِّرَ في مكانه. . . ذلك لأن غرازيلا فرت إلى مكان مجهول. وهاج الحزن في صدر الشيخ جميع الآمه فدنا من لامرتين وبيده ورقة مبللة كانت ملقاة على فراش غرازيلا ورجا إلى الشاعر أن يقرأها له فإذا هي تحتوي على هذه الكلمات المتقطعة:
(لقد احتملت كثيراً حتى أصبحت لا أقوى على الاحتمال أقبلكم قبلة الوداع. . . سامحوني. . . أفضل أن أكون راهبة متجردة من أحلامها وأمانيها على أن أعيش عيشة الذل مع الرجل الذي لم تهبني السماء إياه. . . ردوا الخاتم إلى ابن خالي. . . سأصلي لألفونس ولأخوي الحبيبين. . .)(211/68)
ولم يصل لامرتين إلى النهاية حتى ارتعشت يده وهوت الورقة إلى الأرض. وعندما انحنى ليلتقطها رأى عند عتبة الباب زهرة حمراء كانت تحملها غرازيلا دائماً، ووجد بجانبها تلك الأيقونة التي تركتها فوق رأسه يوم كان مريضاً. هنا علم أن الصوت الذي كان يناجيه في عتمة الليل هو صوت غرازيلا. . . فمضى شاكياً!
قضى الأمر وفرت غرازيلا لتدخل إلى الدير، ولكن فرارها راش سهماً ماضياً في قلب لامرتين. فخرج منتحباً بين الأودية والوهاد.
وعندما مالت الشمس نحو المغيب اهتدى إليها في أحد الأكواخ. وما أن رآها حتى جثا بجانبها ووضع يديها بين يديه ثم أدناها من فمه ليدفئهما بحرارة أنفاسه. وبصوت متقطع خاطبها قائلا: لماذا اختبأت هنا؟
فاعترفت غرازيلا له أنهم أرادوا أن يجمعوها بغير الرجل الذي اختارته روحها. . ثم قالت أنها لم تهب قلبها لغيره في العالم
وأحنى لامرتين رأسه ليشكو لها ما يكابده من يأس وحرقة فقاطعته قائلة:
(لقد صرفت ليلة أمس باكية عند باب مخدعك وعندما خرجت قلت في نفسي إني لن أراك أبداً لأني سأصير راهبة تنقطع إلى عبادة الله على ضوء الشموع، وفي ظلال انفرادها الطويل الملول. . ولكني قرعت باب الدير فوجدته موصداً وهكذا رجعت إلى هذا المأوى لأقضي فيه ليلتي. ثم أشعلت المصباح أمام صورة العذراء وخاطبتها قائلة: أيتها القديسة إني أهب حياتي بما فيها من صبوة وإغراء لخالقي. وإذا جاء غداً ذلك الحبيب فقولي له غني أحببته بكل ميولي وعواطفي، وإني هجرت العالم لأجله. . قولي إني ضحيت بأعز شيء لدي، هاهو ذا شعري الذي كان يحبه فإني أقصه. خذيه أيتها العذراء وأبقيه معك ليظل آمناً بين يديك.
وهنا نزعت منديلها من رأسها فبدت كغصن عرى من أوراقه!!
اختبأ الليل بين خرائب الأبدية ثم بزغ الفجر معلناً قدوم الشمس، فقدم الصياد مع عائلته ليتفقدوا غرازيلا. وعندما شاهدوا تلك الكآبة التي ارتسمت على محياها الناضر ركعوا قربها ملتاعين ونار الحزن تأكل أفئدتهم
عاد الجميع صامتين إلى الجزيرة. وبعد أن صعدوا صلواتهم لتختمر في الفضاء الوسيع(211/69)
ارتموا على مضاجعهم تحفزهم هيبة الأسى. وتظللهم أجنحة اليأس والانفعال
وسارت الأيام في طريقها. . . ففي ذات ليلة من ليالي الربيع الجميلة كان الشاعر نائماً في حجرته فسمع قرعاً قوياً على الباب ففتحه فإذا صديقه القديم يدخل عليه قائلاً:
(أتيت لأصطحبك حالاً إلى فرنسا لأن والدتك تريد أن تراك قبل موتها. فإذا لم تذهب تركت في قلبها غصة أليمة ترافقها إلى الأبدية)
أثرت هذه الكلمات في قلب (لامرتين) فعاوده دفعة واحدة تذكار الماضي الذي قضاه في حضن أمه. ولما لم يحتمل جسده المكدود قوة الصدمة وقع مغمى عليه. وعندما ثاب إليه روعه وعد صديقه بالرحيل.
ثم دخل حجرته ورتب ثيابه، وبعد أن أخذ ورقة وأفرغ عليها جميع ما تضمره روحه العظيمة، أقسم لغرازيلا أنه سيعود إليها عندما تبرأ والدته العزيزة من مرضها، وأراد أن يودع غرازيالا قبل رحيله فمنعه صديقه. غير أن الفتاة استيقظت حينذاك فهبت مذعورة. وعندما علمت حقيقة الأمر وقعت فاقدة الرشد
تسرب داء الغرام إلى قلب (غرازيالا) فاصفرت زهرة حياتها اصفرار الوردة عندما يمسها الخريف بيده القاسية، أما لامرتين فكان يهتف باسمها في الحلم واليقظة!
ولم تشأ غرازيالا أن تفارق الحياة دون أن تبثه أسرار فؤادها ولاعج غرامها فأرسلت إليه هذه الرسالة:
حبيبي الفونس
يقول لي الطبيب إني سأترك الحياة بعد حين، فلذلك أريد أن أودعك الوداع الأخير! آه يا الفونس، حبذا لو كنت قريبا مني الآن، إذا لبقيت حية. . ولكن هي إرادة الله أيها الحبيب
إن جسدي سيضمه التراب ويبلى سريعا أما روحي فستظل مرفرفة فوق رأسك إلى الأبد. إني أترك لك - كتذكار - لما بيننا من عهود - شعري الذي كنت تحبه وتداعبه بأناملك الجميلة فاحفظه لأن رؤيته تعيد إليك ذكرى تلك الليالي التي صرفناها معاً في هذه الجزيرة الحبيبة التي تحن مثلي إليك
(غرازيالاّ)
منذ ذلك اليوم انطبعت على محيا (لامرتين) كآبة خرساء وقطنت عينيه اللطيفتين أشباح(211/70)
اليأس والحنين. وكان كلما شاهد جنازة فتاة يخونه الصبر والتجلد فيرتمي على الأرض باكياً منتحباً! أما روحه فقد اتشحت بوشاح الحزن والكآبة حتى تفصدت بهذه القصة الرائعة المؤثرة التي فتحت لمؤلفها الشاعر العبقري مغالق الخلود
(البرازيل)
يوسف البعيني(211/71)
البريد الأدبي
الشيخ منصور المنوفي لم يكن شيخا للأزهر
ذكرت في العدد (209) من مجلة الرسالة الغراء ارتيابي فيما نقله الأستاذ محمد عبد الله عنان عن رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي من أن الشيخ منصوراً المنوفي الضرير كان شيخاً للجامع الأزهر وقت قدومه في رحلته إلى مصر. وبنيت هذه الارتياب على أمرين: أولهما اضطراب ما ذكره الشيخ عبد الغني النابلسي في ذلك، وثانيهما مخالفته لما جاء في الكتب التي عنيت بذكر شيوخ الأزهر وترتيب ولايتهم له. من تاريخ الجبرتي والخطط التوفيقية وكنز الجوهر في تاريخ الأزهر، وقد خرجت من ذلك بترجيح هذه المصادر على هذا المصدر المضطرب.
ولكن هذا الترجيح الذي ذهبت إليه وهو المتعين عندي في هذه المسالة لم يرض به الأستاذ محمد عبد الله عنان لوجهين: أولهما أن القول بأن الشيخ منصوراً المنوف كان شيخاً للأزهر في ذلك الوقت قول معاصر وشاهد عيان عرف الشيخ وحادثه بنفسه، ولا يصح أن يسبغ عليه هذه الصفة عفواً، وثانيهما أن الشيخ النابلسي يقدم إلينا بياناً صحيحاً عن أكابر الحكام والمشايخ في مصر وقت مقدمه، ومن الصعب أن نعتقد أنه يخطئ في تعرف شيخ الأزهر، وهو من الشخصيات البارزة التي يهمه أن يتصل بها، وقد رأى في التوفيق بين هذا المصدر وتلك المصادر السابقة أنه من الممكن أن الشيخ المنوفي لم يمكث في ذلك سوى أشهر أو أسابيع قليلة، وأن يكون هذا هو السبب في إغفال تلك المصادر له في ثبت مشايخ الأزهر
ولا شك أن من يرجع إلى ما نقلته في ذلك من رحلة الشيخ النابلسي يرى أنه ذكر أنه قابل في صباح يوم الأحد 28 من شهر ربيع الثاني الشيخ منصوراً المنوفي شيخ الجامع الأزهر، ثم ذكر أنه قابل في اليوم الثاني (يوم الاثنين 29 من شهر ربيع الثاني) الشيخ أحمد المرحومي شيخ الأزهر، فإما أن يكون للأزهر في ذلك الوقت شيخان وهو غير مقبول، وإما أن الشيخ منصور المنوفي قد عزل في اليوم الأول وولى الشيخ أحمد المرحومي مكانه في اليوم الثاني وهو غير مقبول أيضاً. لأنه لو حدث مثل هذا في ذينك اليومين لأشار إليه الشيخ النابلسي في رحلته.(211/72)
على أن الشيخ النابلسي يعود بعد هذا فيذكر أنه قابل الشيخ الأول في يوم 10 من جمادي الثاني. وقابل الشيخ الثاني في يوم 25 من جمادي الثاني. وهو في ذلك أيضاً يصف كلا منهما بما وصفه به في الأول من أنه شيخ الجامع الازهر، والظاهر من هذا أنه يجري فيه على وصف ثابت لهما في هذه المدة التي كانت بين المقابلتين، فلو أخذنا كلامه في ذلك على حقيقته لاجتمع للأزهر في ذلك الوقت شيخان معاً، وهو ما لم تجر العادة به في الجامع الأزهر، ولا في التقاليد الإسلامية.
ولاشك أنه لا يمكن الأخذ بقول الشيخ النابلسي في ذلك مع هذا الاضطراب الذي نجده فيه، ولعل كلا من ذينك الشيخين كان شيخ رواق من أروقة الازهر، فالتبس من أجل هذا على الشيخ النابلسي ذلك الأمر، وما هو إلا بشر يصيب ويخطئ والعصمة لله وحده.
عبد المتعال الصعيدي
تعديل جديد في عقوبات جرائم النشر
يصعب على الذهن الحر أن يسيغ أي حجر على حرية الرأي أو أي اتجاه إلى التشديد في المؤاخذة على زلات القلم؛ وقد كانت النصوص الخاصة بجرائم النشر في مصر موضع تعديلات كثيرة في الأعوام الأخيرة بسبب التطورات السياسية والدستورية المختلفة التي وقعت في هذه الفترة؛ وأخيراً رأت السلطات المختصة أن تجري تعديلا جديداً في هذه النصوص، وأن تشدد العقوبة في بعض المواطن قمعاً لنوع سيئ من القذف هو التهجم على الأعراض والكرامات الشخصية؛ وقد كان القانون يعاقب بالحبس أو الغرامة على أمثال هذه الكتابات القاذفة، وكان اتجاه القضاء في الغالب إلى التخفيف والاكتفاء بعقوبة الغرامة، فنشاً عن ذلك أن ذاع هذا الأسلوب المستهجن من الكتابة في الآونة الأخيرة ذيوعاً مثيراً، فرأى الشارع في التعديل الجديد وجوب الحكم بالحبس على من يدينه القضاء في أمثال هذه الكتابات
والذي يهم الكاتب أن يسجل من الناحية الأدبية هو أن حرية القلم والرأي لا يمكن أن تتأثر بتشديد النصوص الجنائية في مثل هذه المواطن، فالقلم يجب أن يتحلى إلى جانب الحرية الرأي بخلة الأدب والتعفف عن مس الكرامات والأعراض الشخصي؛ وما يبعث على(211/73)
الأسف هو أن يضطر الشارع إلى الالتجاء إلى النصوص في تحقيق هذا المثل الذي يجب أن يحققه القلم لنفسه دون إرغام؛ وقد كان خيراً لو استطاع الكتاب أنفسهم أن يضعوا لأنفسهم دستورهم الخاص. وأن تحدد حدود الجدل والنقد بسائر صنوفه بحدود متينة من النزاهة والعفة والترفع عن لغو القول؛ والقانون الإنكليزي يعاقب السب والقذف الشخصيين بعقوبات شديدة رادعة، ولكن يندر أن تتورط صحيفة إنكليزية في مثل هذا الجرم؛ والصحافة الإنكليزية تضرب أرفع الأمثال لأدب الحوار والجدل وعفة النقد والمناقشة؛ فماذا يضيرنا أن نهتدي نحن في كتاباتنا بهذه المبادئ السامية؟
وثيقة دبلوماسية فرعونية
أضحت مواثيق الاعتداء من أهم عناصر السياسة الدولية الحاضرة؛ ولكن هنالك ما يدل على أن هذه المواثيق التي استحدثتها السياسة الدولية بعد الحرب، ليست من ابتكار الدبلوماسية الحديثة وحدها، ففي تراث المصريين القدماء ما يدل على أنهم عرفوا مواثيق الاعتداء قبل آلاف الأعوام؛ وهنالك وثيقة مدهشة من هذا النوع عثر عليها الأستاذ دنكان العلامة الأثري الأمريكي ترجع إلى نحو ثلاثة آلاف عام، وتعتبر بحق أقدم وثيقة دبلوماسية وصلت إلينا
وهذه الوثيقة عبارة عن نقش على صفحة فضية يحتوي على نصوص ميثاق بعدم الاعتداء عقد بين الملك رمسيس الثاني وبين ملك الحيثيين خيثاسار، وذلك في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ومن الغريب أن هذه النصوص لا تبعد كثيراً عما تستعمله الدبلوماسية في عصرنا عدا بضع فروق وصيغ يسيرة؛ فعنوان الوثيقة مثلاً هو: (ميثاق سلام وأخوة دائمة)، ويلي ذلك نصوص الميثاق وهي مدمجة في ثماني عشرة مادة هذه أهمها: (يتعهد الحيثيون والمصريون كل قبل الآخران أن يلجئوا في تسوية جميع الخلافات التي تنشأ بين الدولتين إلى الوسائل السلمية وألا يلجئوا في تسويتها إلى القوة والعنف). فأي فرق بين هذا النص وبين النصوص المماثلة في مواثيق عدم الاعتداء المعاصرة؟ أما ضمان التنفيذ في هذا الميثاق القديم. فقد رجع فيه إلى ما يتفق وروح العصر الذي وضع فيه؛ ومن ثم فقد نص فيه على ما يأتي: (إذا ارتكب أحد الفريقين المتعاقدين ما يخالف هذا الميثاق الأبدي، فقد حلت عليه لعنة جميع الآلهة المصرية والآلهة الحيثية).(211/74)
ولم يقل لنا التاريخ القديم كم دام مفعول هذا الميثاق بين الفريقين المتعاقدين؛ ولكن الأستاذ دنكان يؤكد لنا أنه قد دام بلا ريب اكثر مما دام مفعول ميثاق تحريم الحرب الأمريكي بين الدول، أو ميثاق لوكارنو بين ألمانيا والحلفاء السابقين
وإن هذا الاكتشاف لأقدم وثيقة دبلوماسية يضيف آية جديدة إلى تراث الفراعنة. وما يزال هذا التراث كل يوم يتكشف عن عجائب وحقائق جديدة تدلل على ما وصلت إليه الحضارة الفرعونية في النضج وروعة الابتكار
قرآن. . .!
يتلو القراء في النقلة (138) في هذا لجزء من (الرسالة) قرآن ذاك الأعرابي الجلف أو القرآن الأعرابي أو تلك الأفكوهة ضاحكين. وإني أضيف في هذا الموطن أن هناك قرآناً إلحادياً مجوسياً دسه الداس بل الدساس في سورة (النجم): (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى - تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتضى - ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذن قسمة ضيزى) وهناك قرآن فارسي شعوبي بثه راويه الخبيث المتحذلق الغبي في القرن الثاني أو الثالث مرفوعاً معنعنا وحشره في سورة (العصر): (والعصر إن الإنسان لفي خسر - وإنه فيه آخر الدهر - إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) وهناك غير ذلك، وعند الطيالسي والترمذي ما عندهما. وأنى يكون ما كذبوا؟ كيف وهناك ثلاثة وأربعون كاتباً من كتاب الوحي، وقد جمع القرآن قبل أن أظلمت بفقد رسول الله هذه الدنيا، وقد كتبت النسخ غير المعدودة، الكثير في زمن النبي (صلوات الله عليه) وصاحبيه وقد ملأت المصاحف في وقت الفاروق بلاد الإسلام كلها جمعاء (وإن لم يكن عند المسلمين إذ مات عمر مائة ألف مصحف من مصر إلى العراق إلى الشام إلى اليمن وما بين ذلك - فلم يكن أقل) كما قال ابن حزم وما مصحف عثمان إلا المصحف النبوي البكري العمري، مازاد وما نقص. وقد عرف ذو النورين ألحان العرب - ولسان الكتاب المضري - والعربية لغات، والعرب أمم، وقد انتشروا في الأرض، ورأى الاحتفاظ بإملاء القرآن، فكتبت تلك المصاحف المسماة بالعثمانية. وأعجب العجب وأكذب الكذب هذه الرواية: (لما فُرغ من المصحف أتى به عثمان فنظر فيه فقال: قد أحسنتم وأجملتم أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها) وقد حار أبو بكر السجستاني صاحب (كتاب(211/75)
المصاحف) في هذا الكلام - وقد رواه - فقال: (هذا عندي يعني بلغتها وإلا لو كان فيه لحن لا يجوز في كلام العرب جميعاً لما استجاز أن يبعث إلى قوم يقرءونه) ثم سطر السجستاني بعد قليل: (. . عن الزبير أبي خالد قال: قلت لأبان ابن عثمان: كيف صارت (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) ما بين يديها وما خلفها رفع وهي نصب؛ قال من قبل الكتاب الخ) فهل كان الزبير أبو خالد يعرف هذا الاصطلاح المولد في فن النحو أعني الرفع والنصب؛ وهل كان نحو أو شيء منه في أيام أحد من الصحابة أو بعدهم بمدة طويلة؟ وهل هذا لحن أو خطأ وقد بينه سيبويه في كتابه وأوضحه علم العربية؟ وكيف لم يستفد السجستاني وأمثاله من (الكتاب) وقد جاءوا من بعد صاحبه وقرءوا علم الخليل وأماليه فيه؟ وهل بنى العلماء (علم العربية) إلا على قرآن العربية؟ وكيف اجترأ السجستاني أن يروي عن سعيد بن جبير أن مثل (فأصدق وأكن من الصالحين) لحن وهو في القرآن وهو في كلام العرب وشعرهم؟
دعني فاذهب جانباً ... يوماً وأكفف جانباً
وقد كشف الخليل (قاعدته) أيما كشف، وبيانه في (الكتاب).
إني لأقول هازئاً: الحق أن في الكتاب لحناً - كما افترى المفترون على عثمان وكما قولوه - لكن العرب ما أقامته بألسنتها ولن تقيمه أبداً، وما أقتدر في هذا الدهر على إقامته وإصلاحه إلا أمثال رجال التضليل (أي مبشري البروتستانت) وهاشم العربي (بل الأعجمي) في (تذييله) على (مقالة في الإسلام) معلمين الخليل وسيبويه والكسائي والفراء ما جهلوه، وهاذين العرب الصرحاء الأقحاح إلى الذي لم يعرفوه. وهو الحياء فإذا فارق المرء فارتقب كل عجيبة.
وبعد فإن كان كتاب كل أمة أو ملة في تبديل وتحريف وفيه زيادة ونقصان؛ وفيه الخطأ والخطل، وكان كاتبه غير صاحبه ف (ذلك الكتاب لا ريب فيه) (إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون)
النشاشيبي(211/76)
الكتب
تاريخ بئر السبع وقبائلها
تأليف عارف العارف قائمقام بئر السبع
تعد منطقة بئر السبع أكبر مديرية في أرض فلسطين لأنها تشتمل على نصف مساحة أراضيها، وهي بلاد شاسعة الجوانب بعيدة الأطراف، وليس لها حدود طبيعية تفصلها عن شبه جزيرة طور سينا وبلاد شرق الأردن
وتقع هذه الناحية على طريق القوافل العربية، مثل قبائل سبأ ومعين وحضرموت وثمود التي كانت تأتي إلى أسواق كنعان وإسرائيل وأرام بعرض البضائع المختلفة، كما كانت طريق الجيوش البابلية والآشورية والفارسية واليونانية والرومانية الزاحفة لفتح الديار المصرية، وكما كانت طريق الجيوش المصرية المتوغلة منذ زمن بعيد في الديار الشامية والعراقية الشمالية.
يفتتح المؤلف كتابه (تاريخ بئر السبع وقبائلها) بذكر الروايات التي وردت في الكتب القديمة عن بئر السبع وعن الشأن الخطير الذي كان لتلك الأرجاء في عهد بني إسرائيل الأول أي من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس ق. م. أي من عهد وفاة موسى إلى زمن بختنصر ملك بابل.
وقد أعتمد المؤلف في هذا البحث على ما ورد في أسفار الكتاب المقدس وحده مع أننا نعتقد أنه لو راجع أيضاً الروايات القليلة المبعثرة في كتب المشنا والتلمود وذلك أمر سهل عليه لأنه يتقن العبرية - لوقف فيهما على أخبار مهمة عن بني إسرائيل والعرب في تلك المنطقة من جنوب فلسطين.
ونلاحظ أيضاً أنه كان حريا بالمؤلف أن يذكر أسم هذه المنطقة في الآداب العبرية القديمة، فقد سميت في التوراة باسم نجب أي الجنوب، وعرفت في الطور الثاني من حياة بني إسرائيل بفلسطين أي بعد رجوعهم من بابل باسم الداروم، أي الجنوب أيضاً وعرفها العرب المسلمون بهذا الاسم أيضاً في عصر البعثة الإسلامية وزمن الخلفاء الراشدين، فقد ورد في سيرة ابن هشام أن أسامة بن زيد بن حارثة أرسل على رأس جيش صغير إلى الشام وأمر بأن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين(211/77)
ولب موضوع الكتاب قد تضمنه البابان الثالث والرابع، لأن المؤلف يبحث فيهما عن الأحاديث والأخبار المتعلقة برجال القبائل في بئر السبع، ويتكلم عن الحروب التي وقعت بينهم وبين القبائل القريبة منهم والنائية عنهم وقد أبان المؤلف في هذين البابين عن مقدرة فائقة على تنظيم المعلومات الغزيرة التي جمعها في مثابرة ودأب من أفراد القبائل الضاربة هناك، ففتح لنا بذلك عالماً عظيم الشأن كنا نجهله مع قربنا منه واتصالنا به، وإذا كان المستشرقون قد جاءوا إلينا بأخبار عن حياة القبائل في بئر السبع فإن كل ما ذكره منها لا يكاد يذكر بالنسبة إلى ذلك الفيض الدافق من المعلومات التي قدمها عارف بك العارف، وذلك يرجع إلى أنه من أهل البلاد وحاكم على البدو
ويجد القارئ في هذين البابين كثيراً عما ورد في المصادر العربية عن أيام العرب في الجأهلية، كما يجد فيهما صورة مصغرة لحياة بني إسرائيل الفطرية في عصر القضاة قبل أن يأخذوا نصيبهم من الحضارة في أرض كنعان.
ونود أن نلاحظ أن كثيراً مما ذكره رجال البدو لمؤلفنا بعيد عن الحقيقة التاريخية وليس إلا محض خيال لأنهم لم يدونوا شيئاً ولم يكتبوا حوادثهم ولا قيدوا أنسابهم وإنما هي روايات ينسجها خيالهم وفقاً لمصلحتهم وتبعاً لأطماعهم
فما يقولونه من أن أغلبهم أو أن جميعهم وعلى بكرة أبيهم إنما نزحوا إلى هذه الديار من الجزيرة العربية ليس إلا نظرية ساذجة لا يقبلها عقل الباحث السليم، فإن مما لا شك فيه أن عدداً (عظيما) من هذه البطون ليس إلا سلالة تلك القبائل التي عمرت تلك الديار منذ أزمان بعيدة طويلة فبينهم بلا شك بقية تلك القبائل التي كانت في هذه المنطقة قبل الفتح الإسرائيلي مثل العمالقة والمدنينين والادوميين، ثم منهم بقية البطون الإسرائيلية مثل بني شمعون ودان ويهوذا، وكذلك لا ننسى وجود أرهاط من الأنباط في هذه النواحي القريبة من شبه جزيرة طور سينا، ولا ننسى كذلك أن هناك أفخاذاً من قبائل يمنية قديمة وصلت من أقصى بلدان الجزيرة إلى هذه الأماكن منذ زمن قديم
ولا شك أن العرب أخذوا يتسربون إلى هذه المناطق قبل الإسلام بعدة قرون واستوطنوا بعض أماكنها كما استوطنوا النواحي الأخرى من صحراء سوريا وتخوم بلاد العراق والشام.(211/78)
وقد ذكر المؤلف، وحق له أن يذكر، أن هناك بعض قبائل تَمُتُّ بصلة إلى الإفرنج الصليبيين.
ونحن نعتقد أن البحث الدقيق في اللهجات المختلفة يساعد الباحث على كشف الغطاء عن هذه المشكلة الجنسية العويصة التي تبلبلت فيها الأجناس البشرية، وقد نرى في بعض الألفاظ المستعملة هناك بقية باقية من الاستعمال العبري القديم مثل كلمة نقابة عند البدو في هذه الأنحاء فهي تدل على المعابر والمسالك المنيعة في الجبال لأنها وردت في مخطوط عبري يرجع إلى القرن السابع. ق. م
وقد أحسن المؤلف بذكره نماذج من شعر أعراب القبائل ولكن فاته أن يأتي بمثل ذلك من رطانتهم العربية، ولو أنه فعل لقدم خدمة جليلة للبحث العلمي اللغوي حيث كان يمكن أن نقف على لهجاتهم وأن ندرسها دراسة علمية ونقارن بينها وبين اللهجات العربية الأخرى ونتبين ما فيها من الألفاظ الغريبة التي جاءتها بلا شك من اللغات السامية الأخرى.
ولا نستطيع أن نكف أنفسنا عن التساؤل: لماذا صقل المؤلف الأحاديث التي سمعها من الأعراب صقلا عربياً صحيحاً وفصيحاً؟ ولماذا لم يتركها في لغتها البدوية الطبيعية والفطرية؟. . .
لذلك نلح على المؤلف ونشتد في الإلحاح أن لا ينسى حين يقبل على طبع كتابه الطبعة الثانية أن يضيف إليه جملة أحاديث وأقاصيص لكثير من رجالات الأعراب من نواح مختلفة بلهجاتهم الطبيعية ورطانتهم الفطرية دون أن يتعرض لها بشيء من الزيادة أو الحذف.
ثم يأتي بعد ذلك الباب الخامس الذي يشتمل على تاريخ بئر السبع على ممر الأحقاب من أقدم الأزمنة التاريخية إلى يومنا الحالي
وثمة أمر آخر له خطره، وهو أن المؤلف الذي يتقن العربية والعبرية لم يقع في ذلك الخطأ الفاحش الذي وقع فيه غيره من المؤلفين الشرقيين الذين يجهلون اللغات السامية، وهو أنهم لا يضبطون كتابة أسماء الأماكن وأسماء الأعلام كتابة صحيحة كما ينطق بها أهل الشرق بل يكتبونها كما هي مدونة عند الغربيين الذين لا يستطيعون نطق الأسماء الشرقية نطقاً صحيحاً دقيقاً(211/79)
أما مؤلفنا فكان في أغلب هذه الأحوال محسناً لكتابة هذه الألفاظ بضبطها الصحيح.
ولنا في هذا النوع بعض ملاحظات على مؤلفنا منها أنه لم يكن يجوز لعالم مثله أن يستعمل أسم البتراء دون أن يشير إلى اسمها الحقيقي القديم الذي منه اشتقت كلمة بتراء المحرفة، فالمؤلف يعرف أن البتراء التي تعرف اليوم بوادي موسى كانت عاصمة لبني أدوم قديماً ثم للأنباط في العصور المتأخرة، وقد عرفت باسم سلع ومعناه: الصخرة، ثم جاء اليونان وترجموا هذه الكلمة إلى اليونانية وأطلقوا على هذا المكان اسم بترا أي الصخرة أو الحجر
وكان عالمنا المرحوم احمد زكي باشا كلما قرأ لبعض الكتاب كلمة بتراء بدلاً من سلع هاج وماج لأنه يعرف أن العرب أنفسهم كانوا يستعملون في القديم كلمة سلع لا كلمة البتراء، وقد أشار إلى ذلك في جملة مقالات نشرت بجريدة الأهرام قبل وفاته بزمن قليل
وفي الباب السادس يبحث في حالة بئر السبع في وقتنا الحاضر، ومع أنه موجز فإنه شامل كامل لأن المؤلف من الأفراد المعدودين الذين خبروا البلاد خبرة وافية.
ولا ننسى أن نشير إلى تلك الخريطة المفصلة لفضاء بئر السبع فهي بلا شك أول خريطة علمية دقيقة مبينة لمواطن القبائل العربية ومعينة لأسماء الأمكنة في تلك البيداء الشاسعة الأطراف.
إسرائيل ولفنسون
(أبو ذؤيب)
أستاذ اللغات السامية بدار العلوم(211/80)
العدد 212 - بتاريخ: 26 - 07 - 1937(/)
جلالة الملك فاروق الأول
اجتمع لجلالة الفاروق أعز الله نصره ما لم يجتمع لملك قبله من المزايا والخصائص فأحببناه أكثر من أخ، وأجللناه أكثر من ملك: شباب كمنضور الربيع كله حياة وجمال وخصب، وخلق كعَبْهريِّ النسيم فيه الرَّوْح والريحان واللطف؛ ونشأة كنشأة الأخيار المصطفَيْنَ أقامها الله على أدب الدين وخلال الفتوة؛ وجاذبية كشعاع الروح الإلهي تجذب القلوب الصاغية بالهيام والحب؛ وشخصية على طراءة السن تبهر العيون بالجلالة وتملأ الصدور بالهيبة؛ وديمقراطية على عزة الملك كرحمة الله تُقر في الأذهان معنى السمو وسر العظمة؛ وعهد كإشراق الشمس قبله السرى المجهد والغسق الداجي، وبعده الصباح المسفر والضحى الماتع؛ وتاج كدارة النور أو هالة القدس حلاه (مينا) بالشمس وزينه (المعز) بالقمر، فهو يتألق على جباه العصور بالقمرين لا بماس الأرض ولا بلؤلؤ البحرين؛ وببعض هذه الخصائص والمزايا قدس الشعوب الملوك في الأمس البعيد، وفضل الناس الملكية في اليوم الحاضر
مَن مثل فاروق جمع أطراف المجد فورث ملك الفراعنة وخلافة الإسلام وسلطان العرب، فكان رمزاً لأول حضارة مدنت الإنسان، وأقوم رسالة هذبت الحياة، وأعدل أمة حكمت الأرض؟ أليس هذا التاج المعنوي الذي يضعه الشعب على مفرقه يوم الخميس المقبل خليقاً بأن يسامي أضخم التيجان ملكا وأرفعها مكانة؟ وهل يغض من خطر التاج أن انحسرت ظلال ملكه بعد أن ورفت على أكثر بقاع الكون؟ إن قيمة التاج في خلوص جوهره وأثالة مجده وسطوع تاريخه؛ وهذا التاج الذي له ملك مصر وهذه الملايين العرب والمسلمون ينظرون إليه نظرهم إلى الشعاع الهادي والأمل الباسم، هو من هذه الصفات الثلاث أعظم تاج على جبين ملك
لا جرم أن فاروقاً الأول هو أول ملك في تاريخ مصر القديم والحديث
نَشَّأته الأمة على طبعها وحسها، وأعدته لعرشها بنفسها، وتوجته
بطوعها ورضاها هذا التتويج الدستوري الشعبي الحر، ففتحت به عهداً
لم يسبق، وسنت به سنة لم تكن، وفصلت بالفاروق بين ماض كليل
بغى فيه الاحتلال على سيادتها واستقلالها، واعتدت فيه (الامتيازات)(212/1)
على أنفسها وأموالها، وبين حاضر زاهر يزخر فيه النيل بالحياة،
ويجيش بالقوة، ويفيض بالأمل، ويقيم مُلكه على الديمقراطية، وعرشه
على الدستور، وحكمه على العدل، وصلته بالدول على المساواة. فهل
تعجب إذا انقلبت البلاد من ضفاف الشلال إلى أرياف الدال، بشراً
يتهلل في الوجوه، ومرحاً يتنزى في الأفئدة، وزينة تتخايل في الأرض،
وأعلاماً تخفق في الجو، ودعاء يصَّعَّد في السماء، استعداداً للاحتفال
بتتويج الفاروق سيد أعزاء مصر، وزين شباب الإسلام، وملك ملوك
العرب؟
إن لابتهاج الشعب بتولي الفاروق حقوقه الملكية بواعث شتى: بعضها يرجع إلى شخصه، فشخصه عذب الروح قوي الجاذبية؛ وبعضها يرجع إلى عهده، فعهده أول عهد مصر بالسيادة والحرية؛ وبعضها يرجع إلى حكمه، فحكمه حكم الدستور والديمقراطية؛ ولكل أولئك ملابسات ومناسبات توزعت عواطف هذه الأمة الوديعة المطيعة المخلصة، فغرقت كما ترى في نشوة من نشوات الروح، فيها بهجة القلوب بالحب، وغبطة النفوس بالعزة، ولذة الحواس بالطمأنينة.
مولاي الفاروق!
إن من دلائل الفوز التيسير. ومالك الملك الذي اصطفاك لخلافة هذا المجد العريق قد يسر لشعبك في مستهل عهدك ما تعسر عليه الحقب الطوال من سيادته على أرضه. فتول القيادة العليا للسفين على هدى من الدستور ووحي من شمائلك الحرة؛ وأفِض من شبابك الفردوسي على ما خمد من عزائم هذا الشعب لطول ما كابد من عنت الأحداث وطغيان الدخيل؛ واطبع النَّشء من شعبك الهين اللين على غرارك في ثقافة العقل وثقافة الطبع وثقافة الجسم، فإنك المثل الأعلى لكل ذلك. ومثلك الفريد يا مولاي هو ما تحتاجه مصر في تجديد ما رث منها، وتكميل ما نقص فيها، وتوفير مواهب الإنشاء بها، وتنظيم قوى الدفاع عنها، وتوثيق أسبابها العمرانية والاجتماعية والسياسية لتربط بين أملاك العروبة وملكك، وتصل(212/2)
طرفي المجد بين عرش (مينا) وعرشك. ثبت الله ملكك بالسلام، ونضر عهدك بالوئام، وجمل حكمك بالرخاء والصفاء والسكينة
أحمد حسن الزيات(212/3)
تاج مصر
من (مينا) إلى فاروق
للأستاذ عباس محمود العقاد
اسم الملك في مصر القديمة دليل على عراقة النظام الملكي فيها، لأنه دليل الرسوخ والتوطد والعمران المستفيض على حين يعرف الملك في البلدان الأخرى بأسماء قريبة من البداوة أو من حالة البداية الفطرية.
فالملك في اللغات اللاتينية مأخوذ من كلمة الراجا الهندية وهي في الأصل بمعنى الربان.
والملك في اللغات السكسونية مأخوذ من كلمة جناكا الهندية وهي بمعنى الوالد، ولعلها كما يرى بعض الباحثين في اللغات القديمة قريبة من كلمة الخان وما إليها.
والملك في العربية وأخواتها بمعنى الاستيلاء، والأمارة بمعنى الأمر، وكلاهما يتحقق لأصغر الحاكمين ولو كانوا من رؤساء العشائر، لأن المرجع فيهما إلى الرآسة حيثما كان رئيس ومرؤوسون.
أما (بارو) أو فرعون كما نعرفها الآن فمعناها (الباب الكبير) أو (الباب العالي) وهو الاسم الذي كان المصريون الأقدمون يعرفون به ملك البلاد، وتسمية الملك به دليل على (تطور) الحكم عندهم من حالة الأبوة أو الزعامة البدائية أو الرآسة المستمدة من أواصر القرابة إلى حالة السياسة وتدبير العمران وقيام الدواوين ومراسم السلطان.
كذلك كان المصريون يعرفون التيجان ومعانيها السياسية إذ كان لا يتجاوزون عهد العصابة أو عهد الإكليل من النسيج والزهر، ثم من المعادن والجواهر، فكان لملك الوجه البحري تاجه وشعاره، وكان لملك الوجه القبلي تاجه وشعاره، ثم اتحد الوجهان فاتحد الشعاران؛ وظل الملوك حينا يلبسون هذا أو يلبسون ذاك للدلالة على الحقوق السياسية التي تناط بكل تاج وكل شعار.
وعراقة النظام الملكي معقولة طبيعة في بلاد كالبلاد المصرية تحتاج إلى نظام واحد في الرأي ونظام واحد في الحكومة، ويد واحدة تشرف على سقيها وتدبير معيشتها؛ ويساعد على استقرار (النظام) فيها أن أمورها كلها مستقرة تجري على مثال واحد قليل التغيير والتبديل.(212/4)
قال الأستاذ ألفرد فيدمان الألماني في كتابه (ديانة قدماء المصريين): (إن الهيمنة على جداول الأرض كانت بطبيعتها أقرب إلى التركيز والتوحيد من سائر المرافق الأخرى. إذ لا يتأتى تنظيم الري في مصر على نحو مضمون مكفول بغير هيمنة واحدة تمنع الأفراد أن يجوروا على المصلحة القومية في سبيل المنافع الفردية)
وتناول الأستاذ اليوت سميث هذا الرأي فشرحه وفصله في كتابه (التاريخ الإنساني) وأيد فيه ما سبقه إليه العالم الألماني من تعليل عبادة الملوك في مصر القديمة، إذ كان المالك عندهم لزمام النيل ومقادير الماء مالكا في ظنهم لمصادر الحياة، خليقاً أن يحاط بمظاهر من التعظيم ومناسك من التقديس لا يحاط بها الإنسان، ولا تكون لغير الأرباب.
ويزكي هذا الرأي أن (مينا) رأس الملوك الذين وحدوا البلاد وجمعوا بين حكم الوجهين إنما كان في معظم أعماله مهندساً يسوس الماء ويدري من ثم كيف يسوس البلاد، وإليه ينسب المؤرخون الأولون تحويل مجرى النيل وإقامة في أقاليم منف والفيوم.
ثم جاء عهد الحضارة العربية وهي الحضارة الثانية التي بقي لها بعد الحضارة الفرعونية أخلد الآثار في تكوين الشعائر وتقرير نظام الحكومة بين المصريين.
والفرق بين مظاهر الملك فيها ومظاهر الملك في الحضارة الفرعونية هو الفرق بين حاكم يقول: إنه (عبد الله) وحاكم يقول ويقال له: إنه هو الإله وسيد الخلق والأمر وباعث الخير من الأرض والسماء.
فليس للملك العربي (تاج) ولا يحب الملوك العرب أن يتشبهوا بالأعاجم في هذه المراسم. مدح عبد الله بن قيس الخليفة عبد الملك بن مروان بقصيدة من جيد شعره فيها.
إن الأغر الذي أبوه أبو العا ... صي عليه الوقار والحجب
خليفة الله فوق منبره ... جفت بذاك الأقلام والكتب
يعتدل التاج فوق مفرقه ... على جبين كأنه الذهب
فقال له عبد الملك: يا ابن قيس! تمدحني بالتاج كأني من العجم وتقول في مصعب (ابن الزبير):
إنما مصعب شهاب من الل ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيه ... جبروت وليس فيه رياء(212/5)
أما الأمان فقد سبق لك، ولكن والله لا تأخذ مع المسلمين عطاء أبداً. . . هذا وعبد الملك بن مروان كان من ملوك العرب الذين أكثروا من اقتباس الأزياء والشارات الفارسية، إلا مراسم التيجان التي بغضتها إليه النعرة العربية كما بغضتها إليه موجدته علي ابن الزبير ومن مدحوه وجنحوا إليه!
وأيا كان سر الإنكار في نفس عبد الملك فقد ظل الملوك المسلمون يؤثرون العمامة على التاج ويتخذون آثار النبي عليه السلام - ومنها البردة والخاتم - شعاراً للخلافة أعز عندهم وعند الرعية من كل شعار.
ثم جاء خلفاء الترك فاختاروا العمامة على التزين والترصيع، حتى لبسوا الطربوش وميزوه على سائر الطرابيش بحلية من حلي التجميل، كراهة منهم أن يتخذوا التاج ويتشبهوا بالملوك الأوربيين
أما ملوك مصر فقد لبثوا يتخذون الآثار النبوية شعاراً للخلافة حتى زالت عنهم هذه الآثار فعوضوها بما يشبهها، ثم جروا على سنة الولاة العثمانيين حين دخلت مصر في حوزة الدولة العثمانية.
ثم قامت الأسرة العلوية على أساس الانتخاب والتولية في وقت واحد: فقد أساء الوالي العثماني الحكم فاجتمع العلماء والنقباء بدار المحكمة واستقر رأيهم على اختيار محمد علي الكبير والياً عليهم وإبلاغه ذلك والكتابة إلى الآستانة في هذا المعنى. وانتقلوا إلى دار محمد علي باشا هاتفين: إننا لا نريد هذا الباشا - يعنون خورشيد باشا - والياً علينا. وقال السيد عمر مكرم: (إننا خلعناه من الولاية). . . فقال محمد علي باشا: ومن تريدونه والياً عليكم؟ فقالوا بصوت واحد: إننا لا نرضي إلا بك لما نتوسم فيك من العدالة. قال بعد تردد: إنني لا أستحق هذا المنصب وقد يكون في التعيين مساس بحق السلطان. فعاد العلماء والنقباء يقولون: إن العبرة برضى أهل البلاد وقد أجمعنا على اختيارك.
فقبل محمد علي وألبسه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي الكرك والقفطان وهما خلعة الولاية. ولم يمض على ذلك شهران حتى جاء الفرمان من قبل السلطان بإقراره في منصبه وتعزيز ما اختاره الشعب لنفسه، فكانت هذه هي بيعة الشعب المصري لمحمد علي الكبير ولأسرته من بعده(212/6)
وكانت النهضة المصرية وشاء الله لمصر أن تكون ولاية مليكها المحبوب (فاروق الأول) فتحاً جديداً في تاريخها لا مثيل له في جميع هاتيك العصور، وقدوة للاحقين جمعت كل حسن سائغ من الماضي وتنزهت عن كل ما يأباه المليك ويأباه رعاياه:
استقلال الفراعنة بغير شوائب الوثنية، وملك العرب بغير رعاية أجنبية، واختيار الشعب بغير الولاية العثمانية. وقد كانت الدولة البريطانية تزعم لنفسها المزاعم في إبان الحرب العظمى، فبطلت هذه المزاعم وقام الملك الفاروق بالأمر بيننا أول ملك خلص لمصر عرشه وخلص له حبها واختيارها. فلا نظير لهذا الملك في عهد الفراعنة ولا في عهد العرب ولا في دولة العثمانيين ولا في دولة الإنجليز. وهنيئاً لمصر هذه البداية، وهنيئاً للفاروق هذه المزية، وهنيئاً للمستقبل ما يرجى له من طوالع هذا الفأل الحسن وهذا البشير السعيد
وإن من الخير لمصر أن يكون تاجها هو التاج الذي اختاره الله للمليك الفاروق الفارق بين جيلين وعصرين:
تاج محسوس بالقلوب مثاله هو شخص المليك المحبوب، ورمز تراه الأفكار قبل أن تراه الأبصار، وطلعة كما قال عبد الله ابن قيس:
. . . شهاب من الل ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيه ... جبروت وليس فيه رياء
عباس محمود العقاد(212/7)
حديث الملك فاروق
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
عرفت فضل النظام الملكي ومزيته في ليلة صيفية كان هذا الموضوع آخر ما أتوقع فيها أن يجري لي في خاطر. وكنا نحو عشرين - ما بين كبار وصغار، ورجال ونساء، وشيب وأطفال - خرجنا في أربع سيارات إلى الصحراء - صحراء مصر الجديدة - ومعنا الطعام والشراب والسجاجيد والوسائد والأواني والأوعية وسائر ما يحتاج إليه مثلنا في مثل هذه الرحلة، إلا الأكواب فقد نسيناها على فرط حرصنا على تذكرها، فاضطر أحدنا أن يعود بالسيارة إلى حيث مساكن الأحياء ليشتري لنا كفايتنا من هذا الذي نسيناه. وفرشنا السجاجيد وأخرجنا الوسائد والحشايا وصففنا الأطباق ووزعنا الفوط والأشواك والملاعق والسكاكين - فقد أبى أكثرنا إلا أن يكونوا من أبناء المدنية وإن كان أصل الفكرة أن نجعلها ليلة (بوهيمية) وأن نطلق النفس على السجية وننفي التكلف - وشرعنا نأكل ونسمر ونضحك ونلعب ونتخاطف الطعام والشراب ويجري بعضنا وراء بعض. وكنت جالساً على حافة السجادة وساقاي ممدوتان أمامي - كأنما يمكن أن أمدهما ورائي! - وظهري إلى مؤخرة إحدى السيارات فأن إحدى ساقي مهيضة فليس في وسعي أن أجلس كما يجلس خلق الله. فأقبلت عليّ إحدى الفتيات وأراحت كفها على كتفي وقالت: (ولكن كيف نسينا الأكواب؟)
فهززت كتفي التي عليها راحتها - فقد كان الجو حاراً - وقلت: (وهل أنا أعرف؟)
فأبت إلا الإلحاح وقالت: (ولكنك كتبت كل شيء في ورقة وراجعت كل شيء على ما فيها؟)
فقلت بإيجاز: (صحيح)
فقالت: (إذن كيف حدث هذا؟. . لابد أنك تعمدت. .)
ولم تتمها فقد صاحت إحدى الفتيات في هذه اللحظة: (الملك فاروق!)
وإذا بالقاعدين والمضطجعين جميعاً يثبون إلى أقدامهم كأنما شكهم جميعاً حديد محمي، ولولا ساقي وصعوبة هذه الحركة المباغتة عليها، لكنت وثبت كما وثبوا، فإن للجماعة عدواها، وصارت كل يد على أقرب كتف، وجعلت العيون تدور في كل ناحية، والألسنة(212/8)
تجري بالسؤال الطبيعي: (فين؟). وكانت الفتاة التي أطلقت هذه الصيحة تشير إلى سيارة تخطف بعيداً عنا، ولا يكاد يبدو منها شيء لكثرة الغبار الثائر وراءها. وسكنت الضجة أخيراً فقالت إحدى الفتيات: (هل سمعتم أغنية الملك فاروق؟) فقلنا جميعاً - أعني الرجال -: (لا) - بلسان واحد. فقالت: (أغنية جميلة) قلنا: (هات أسمعينا) فهزت كتفها، وأولتنا ظهرها، وأخفت وجهها في حجر زميلة لها. فسأل أحدنا: (هل فيها شيء يدعو إلى الحياء؟) فقالت بنته: (لا. إنما خجلها من أن تغني) قلنا: (إذن أسمعونا يا ناس)
فأبين أن يسمعننا شيئاً، وتركننا متلهفين على السماع الذي حرمناه. ولم أطق أنا صبراً فعدمت إلى الحيلة، وغيرت الموضوع تم ملت على جارتي وسألتها - فيما بيننا -: (هل تعرفين هذه الأغنية؟) فهزت رأسها أن نعم، فسألتها: (ماذا فيها؟) قالت: (لا شيء في الحقيقة وهي شائعة جداً)
قلت: (اهمسي بها في أذني) ففعلت وإذا بالأغنية كما يأتي:
(مصر فرحانَه بفاروقها ... مصر فرحانة بحبيبها
كل بنت تستمنى ... لو جلالته يكون خطيبها)
ففهمت لماذا خجلت الفتيات أن يغنينها وإن كان لفظها لا يراد به المعنى الحرفي ولا يدل على أكثر من الحب العام الذي فاز به هذا الملك الشاب السعيد الحظ. وخطر لي وأنا جالس أفكر في هذه الأغنية الشائعة أن ملكا مثله يسعه أن يثق بحب الشعب له وأن يطمئن إلى دوام هذا الحب، فإن المرأة تصنع بنا معاشر الرجال المغرورين ما تشاء
وقلت لنفسي وأنا أرمي بعيني هذه الصحراء المهولة التي يضيئها القمر: إنه ليس في وسع رئيس جمهورية أن يفوز بمثل هذا الحب، ولا يعقل أن يكون رئيس جمهورية شاباً في مثل سن الملك فاروق، وعلى أنه ماذا صنع الجمهوريون حين ألغوا الملكية واعتاضوا منها الجمهورية؟ لم يصنعوا شيئاً سوى أنهم قلدوا الملكية، واحتفظوا بكل مظاهرها، وحرموا الشعوب إمكان الحب لرؤساء دولهم، واتخاذ هؤلاء الرؤساء رموزاً لأوطانهم وأعلاماً عليها، وعناوين لها، وأفقدوها معنى قومياً تتعلق الشعوب به. والجمهوريون يشعرون بذلك ويفطنون إلى الزيف الذي تكلفوه، ولذلك يحفون رئيس الجمهورية بكل ما كان يحف بالملوك من المظاهر والمراسم. فله قصره، وحرسه، وحاشيته، وإنعاماته - كائنة ما كانت(212/9)
- وله مقام كمقام الملك، واحترام كاحترامه، وتقاليد ملكية مقررة لا تختلف ولا يمكن التساهل في أمرها. وكل ما ذهب هو نظام الوراثة. هذا والملكية نشوءها طبيعي في الأمم، فقد كان الملك في العصور الأولى هو الأقوى أو الأقدر على العموم وبقدرته أو قوته الممتازة استحق التسويد. أما الجمهورية فنظام قائم على التكلف والمغالطة. والزعم فيه هو أن الأمر والرأي للأمة، ولا أمر ولا رأي للأمة في الحقيقة، وإنما الأمر والرأي لنفر ممن في أيديهم مقاليد الأمور، وأعنة الشئون. ومادامت الشورى هي نظام الدولة، والدستور هو الذي يجري على قاعدته الحكم، والملك لا يحكم إلا بواسطة وزرائه، فلماذا تتكلف الأمم عناء التبديل والتغيير والمغالطة لنفسها وتجيء برئيس جمهورية لا يختلف عن الملك في شيء، ثم تزعم أنها جاءت بجديد؟ كل ما تصنعه الأمم التي اعتاضت الجمهورية من الملكية هو أنها أفسحت المجال لأطماع وراء الأطماع العادية في مناصب الحكم أي في المناصب الوزارية. وقد يكون من عجائب الإنسان أنه لا يقنع بمنصب الوزارة - وهو منصب حكم فعلي لا وهمي - وأن يروح يطمع في منصب لا يكون لصاحبه وهو فيه من الأمر قليل أو كثير. وكل ما يفيده هو الأبهة التي ليس وراءها حقيقة. ومن مغالطات الإنسان لنفسه أن يدعي كره الملكية وأن يتخذ مع ذلك كل مظاهرها ما خلا الاسم، ويروح على الرغم من هذا يقنع نفسه أنه غير شيئاً حين أبدل الملك برئيس جمهورية. وقد تكون الجمهورية أو ما إليها معقولة في بلد حديث العهد بالوجود مثل الولايات المتحدة؛ أما في الأمم القديمة التي نشأت فيها الملكية وتقررت زمناً فإن التغيير لا يكون إلا مغالطة ولا يكون الباعث عليه إلا الأطماع الشخصية أو جنون الحركات الثورية التي يفقد فيها العقل اتزانه واستقامة نظره، وهدوءه
ولم أسترسل في هذه الخواطر التي لا أدري لماذا دارت في نفسي، فعدت إلى رفاقي أسألهم عن الملك فاروق وأحاول أن أعرف سر هذا الحب كله. فقالت فتاة صغيرة بسذاجة محببة: إنه شاب حلو. فقلت لنفسي: إن هذا معقول فإن الأمم تحتاج إلى الشباب لتجديد نفسها. ومجرد وجود ملك شاب على رأس أمته يشعرها بفيض جديد من الحياة والشباب على الخصوص، وينعش في نفوسها الأمل. ولعل فتاتنا الساذجة لا تدرك ذلك كله، ولكنها صدقت من حيث لا تدري. وقال رجل: إنه شديد التمسك بعادات قومه ودينهم. فقلت(212/10)
لنفسي: وهذا أيضاً صحيح وهو من مزايا الملكية، والشعوب تحب أن ترى في ملكها رمزاً لكل ما تحرص عليه وتضن به، من دينها وعاداتها وتقاليدها وآمالها، ولا يتأتى هذا كما يتأتى في الملكية. وقال ثالث: إنه متواضع رقيق الحاشية والقلب. فحدثت نفسي أن هذا أيضاً، ومعقول أن يكون باعث حب، فما من أمة تحب العجرفة والشموخ والغطرسة والجبروت في حكامها، حتى ولو خضعت لهم مكرهة، وهي تؤثر الحدب والرعاية والعطف والعدل، وهذا كله حقها. وقال آخر: إن الأمل فيه عظيم، وإن البشرى به حسنة، وإن فاتحة عهده آذنتنا بالخير. ولا يكون مثل هذا الأمل الكبير في رجل عرفت حياته ونزعاته واتجاهاته، وأصبح ما يمكن أن يكون منه مما يسهل أن يعرف بالقياس على ما كان فعلا في ماضيه المعروف. وعظم هذا الأمل دليل على عظم الرغبة في الانتقال إلى ما هو خير. ودلالات هذا الأمل كثيرة وليس هنا مقام القول فيها. وقد كثرت في جلستنا الأسباب التي يعزى إليها حب الشعب لملكه الشاب، وكلها صحيح ولكني لا أذكر الآن أن واحداً منا أشار إلى جاذبيته الخاصة، وقد يكون مرجعها إلى الشباب، ولكني أحسبها هبة من الله، فما أكثر الشبان وما أثقل الكثيرين منهم!
وعدنا وما كان لنا حديث إلا الملك فاروق وحبه لأمته وحب الأمة له. وما أظن أن حديثاً آخر كان خليقاً أن يكون أشهى وأمتع. ومتى كان الحديث عن الملك في المجالس أشهى الأحاديث وألذها فإن للملك أن يبشر وللأمة أن تستبشر
إبراهيم عبد القادر المازني(212/11)
لمناسبة تتويج الفاروق
خواطر تاريخية ودستورية
عن رسوم التتويج والتولية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تستقبل مصر بعد يومين حادثاً من أعظم الحوادث في تاريخها الحديث هو الاحتفال (بتتويج) جلالة مليكها فاروق الأول، أو بالحري ببلوغ المليك رشده الدستوري وتوليه مقاليد الشئون. وافتتاح عهده السعيد في ظل الاستقلال والحريات الدستورية؛ ويلاحظ أن هذا الحادث الذي هو الأول من نوعه في تاريخنا الحديث. سوف ينشئ سابقة دستورية ينسج على منوالها، وسف يكون هو الحجر الأول في صرح تقاليد الملوكية المصرية الدستورية
ولقد كان للملوكية المصرية في عصور الاستقلال والمجد رسوم وتقاليد مؤثلة؛ وكانت رسوم البيعة والتولية من أعظمها وأعرقها، وكانت تتشح بألوان ساحرة من الفخامة والبهاء، وتعتبر من الحوادث القومية الجليلة؛ ولو لم تنكب مصر بمحنة الفتح العثماني في سنة 1517، وينهار بذلك صرح استقلالها وملوكيتها التالدة، لكان عرش مصر اليوم أقدم عروش العالم وأعرقها
فالحادث العظيم الذي تستقبله مصر في الغد يعتبر من الوجهة التاريخية ذا أهمية خاصة في تاريخها: أولاً لأنه يصل ماضي الملوكية المصرية المستقلة بحاضرها بعد أن انقطع سيرها زهاء أربعة قرون؛ وثانياً لأنه يفتتح عهد الملوكية الدستورية في عصر الاستقلال؛ وهذا المعنى التاريخي المزدوج هو الذي يسبغ على تتويج مليك مصر الشاب خطورة قومية ودستورية ذات شأن
وسوف تتخذ إجراءات التتويج هنا صفة رمزية معنوية، فليس هناك تتويج بالمعنى الحقيقي، وليس لمصر الحديثة تاج موروث أو آلات وأزياء ملوكية خاصة يتقلدها المليك عند توليته؛ وإنما هنالك إجراء دستوري خطير هو في الواقع أسمى مظهر يبدو به الملك الدستوري لأمته، وأقدس عهد يقطعه لها حين تقلده لأمورها؛ وهذا الإجراء هو أداء الملك(212/12)
لليمين التي نص عليها الدستور في مادته الخمسين، وذلك أمام البرلمان مجتمعاً بمجلسيه في هيئة مؤتمر ونصها: (أحلف بالله العظيم أني أحترم الدستور وقوانين الأمة المصرية وأحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه)؛ وسيتلو هذا الإجراء الخطير عدة حفلات واستقبالات عظيمة يتاح فيه للأمة أن تبدي عميق حبها وولائها لمليكها، ويستعرض فيها الجيش المصري الذي تؤمل مصر أن يستعيد في المستقبل القريب مجده العسكري التالد، ويغدو حصنها المكين، وحامي حمى استقلالها وذمارها
وإذا كان (تتويج) الفاروق سيقتصر على ثلاثة إجراءات ومظاهر رئيسية، هي أداء اليمين الدستورية يوم الخميس القادم، فأداء صلاة الجمعة في اليوم التالي في مسجد الرفاعي، ثم استعراض الجيش في اليوم الثالث؛ فإن هذا البرنامج على بساطته المؤثرة يحتوي جميع العناصر القومية والشعبية التي تأخذ بها جميع القصور والأمم العريقة، بل والتي عرفتها الملوكية المصرية في ظل الدولة الإسلامية؛ ذلك أن تبادل العهد بين العرش والأمة عن طريق اليمين الدستورية التي يؤديها جلالة الملك أمام ممثلي الأمة، والتي هي معقد رسوم التولية، ليست في الواقع إلا مظهراً جديداً من مظاهر نظام البيعة القديم تطور مع الزمن طبقاً لتطور الفكرة الدستورية؛ ففي العصور الوسطى كانت الخلافة أو العرش مصدر السلطات الروحية والزمنية، وكانت البيعة تعقد للخليفة أو صاحب العرش بهذه الصفة؛ أما اليوم فإن الأمة تغدو في ظل النظم الدستورية هي مصدر السلطات، ويغدو العرش رمزها الأسْمَى، وهي التي يدين لها الجميع بالولاء
أما التتويج بصورته الشكلية المعروفة عند ملوك النصرانية من وضع التاج على رأس الملك الجديد في حفل ديني على الأغلب فلم يتبع دائماً في الدولة المصرية الإسلامية، ولم يتبع إلا في دولة الخلفاء الفاطميين، فقد كان لخلفاء هذه الدولة ضمن آلات الملك تاج من الجوهر الثمين يعرف بالتاج الشريف وبه جوهرة عظيمة تعرف باليتيمة ومن حولها جواهر دونها، وله موظف خاص يوكل بوضعه على رأس الخليفة في المواكب والأيام العظام يعرف (بمتولي شد التاج). أما الدول التي تلتها كالدولة الأيوبية، ودولة المماليك البحرية، ثم دول السلاطين الشراكسة، فلم يكن التاج بين الآلات الملوكية التي اختصت بها، بل كان أهمها العرش (أو سرير الملك) وكان سلاطين هذه الدول يضعون على(212/13)
رؤوسهم أيام التولية طرحة سوداء مرقومة بالبياض، أو عمامة سوداء مرقومة بالبياض، تنويهاً بشعار الخلافة العباسية القديمة وهو السواد، وقد كانت هذه الدول تنضوي من الوجهة الروحية تحت لواء الخلافة العباسية الذاهبة، على أنه لم يكن سوى انضواء شكلي فقط
ثم إن الحفلات القومية التقليدية كانت في هذه المناسبات العظيمة تحتوي دائماً على العنصر العسكري، وعلى بعض المظاهر الدينية؛ فكانت مواكب الخلفاء في الدولة الفاطمية تمتاز بروعة عسكرية، وكان يحف بالخليفة الجديد وينتظم في ركبه صفوة القادة والضباط والجند في أثواب وأزياء باهرة، ويشق هذا الركب الخلافي العسكري الفخم مدينة القاهرة فيعرض على أنظار الشعب المعجب طرفاً من قوة الدولة والجيش؛ وكانت مواكب السلاطين فيما بعد تمتاز أيام التولية أيضاً بهذا الطابع العسكري الفخم؛ ومازال الطابع العسكري في عصرنا أعظم مظهر للمواكب المشهودة في أرقى الدول وأعظمها
أما المظاهر الدينية فقد كانت تتخذ مكانتها دائماً في المواكب الخلافية والسلطانية، وكانت في ظل الدولة الفاطمية أشد ظهوراً وتمكناً منها في أية دولة مصرية أخرى؛ ذلك لأن الدولة الفاطمية كانت خلافة مذهبية وكانت الإمامة الدينية شعارها، وكان الخليفة يجمع بين يديه جميع السلطات الدينية والزمنية؛ وكانت مواكب السلاطين تحتوي أيضاً مثل هذا الطابع الديني؛ بيد أنه يجب أن نفرق بين هذه المظاهر التي كانت تتفق من الوجهة الشكلية مع روح العصر، وبين مسألة أخرى هي مدى مثول العنصر الديني في تولية الخلفاء والسلاطين المصريين. وقد أثيرت هذه المسألة أخيراً لمناسبة تتويج جلالة الملك فاروق، ورأى بعضهم أن تجري إلى جانب الحفلة الدستورية حفلة دينية في أحد مساجد القاهرة يتلو فيها شيخ الأزهر على جلالته صيغاً معينة يجيب عنها جلالته بما يناسبها، فيكون هذا بمثابة تتويج ديني لجلالته إلى جانب التتويج المدني؛ وكانت حجة هؤلاء أن مصر دولة إسلامية دينها الرسمي الإسلام؛ وقد اعترض على هذا الإجراء بحق بأنه ينافي الأوضاع الدستورية ويخلق في الدولة سلطة روحية لا وجود لها؛ على أننا نريد هنا أن هذا الإجراء لم تعرفه القصور المصرية فيما عرفت من رسومها وتقاليدها، ولم يحدث قط في تاريخ مصر الإسلامية، أن تلقى خليفة أو سلطان عهداً أو تفويضاً من زعيم ديني سواء أكان(212/14)
قاضي القضاة أم شيخ الأزهر، ولم يتلق السلاطين مثل هذا التفويض إلا من الخليفة العباسي، الذي أقاموه هم بمصر بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد ليتخذوا من لوائها أداة من أدوات السياسة. بيد أنه كان إجراء شكلياً فقط؛ كذلك لم يحدث قط في تاريخ مصر الإسلامية أن توج خليفة وسلطان في مسجد من المساجد، بل كان التتويج يجري دائماً في مقر الملك، في القصر الفاطمي أيام الدولة الفاطمية، وفي دار الوزارة الكبرى ثم في قصر القلعة أيام الدولة الأيوبية والدول التي تلتها؛ أما العناصر والمظاهر الدينية في حفلات تولية الخلفاء والسلاطين فكانت تلخص فيما يلي: مثول قاضي القضاة وأكابر العلماء إلى جانب أقطاب الهيئات العسكرية والمدنية الأخرى، في حفل التولية، وفي الموكب الملكي؛ وأداء الخليفة لصلاة العيد أو الجمعة في الجامع الأزهر أو جامع عمرو أو جامع الحاكم أو غيرها من المساجد الجامعة؛ ولم يظهر نفوذ رجال الدين في مسائل العرش والتولية إلا في أواخر دولة الملوك الشراكسة حيث كان للعلماء والقضاة الأربعة نفوذ يذكر في تولية بعض السلاطين وعزلهم وتقرير رشدهم؛ بيد أن هذا النفوذ كان عارضاً يرجع إلى أحوال الدولة المصرية والمجتمع المصري يومئذ؛ ولم يكن من العوامل الأساسية في مسائل العرش والتولية.
والواقع أن إجراء رسوم التتويج بالمسجد هو أقرب إلى الشعائر الوثنية والنصرانية، والكنسية تؤدي مثل هذا الدور الذي يراد أن يؤديه المسجد - في الأمم النصرانية؛ وقد شهدنا هذا المنظر في تتويج جلالة ملك إنكلترا حيث جرى تتويجه في الكنيسة وتلا عليه مطران كنتربري صيغاً معينة أجاب عليها؛ ومع أن الدول الأوربية قد تحررت منذ بعيد من سلطان الكنيسة فإن هذه الإجراءات ما تزال تمثل في الاحتفالات القومية الكبرى كالتتويج وغيره، فنرى الإمبراطور نابليون بونابرت مثلا يجوز رسوم التتويج في كنيسة الأنفاليد في فاتحة القرن التاسع عشر، كما توج سلفه الإمبراطور شارلمان قبل ذلك بألف عام في إحدى كنائس رومة وتولى البابا ليون الثالث وضع التاج على رأسه؛ على أن هذه المظاهر النصرانية والمناظر الوثنية التي ترجع إلى روح العصور الوسطى أيام كان سلطان الكنيسة الروحي يغشى كل سلطة زمنية وتستظل بلوائه الملوكية لتدعم سلطانها الزمني، لم تعرفها الملوكية الإسلامية ولم تأخذ بها ولم يلعب المسجد في هذا الميدان مثل(212/15)
هذا الدور الذي تلعبه الكنيسة في تتويج ملوك النصرانية، كذلك لم تعرف الدولة الإسلامية لرجال الدين سلطة خاصة كتلك التي يزاولها الأحبار النصارى في مثل هذه المناسبات السياسية والقومية.
وعلى ذلك فإن البرنامج الذي وضع لتتويج جلالة ملك مصر والذي يقوم على العناصر التقليدية الثلاثة: العنصر الدستوري وقوامه أداء جلالته لليمين الدستورية أمام ممثلي الأمة، والعنصر الديني ومظهره أن يؤدي جلالته صلاة الجمعة في اليوم التالي في أحد المساجد الكبيرة، والعنصر العسكري ومظهره أن يقوم جلالته باستعراض الجيش المصري الباسل في حفل فخم، هو في الواقع برنامج موفق، يتفق على بساطته مع الروح الدستورية الصحيحة، ويجانب تلك البدع والرسوم الوثنية التي زعم البعض أنها تسبغ على حفلات التتويج لوناً روحياً خاشعاً، وتنوه بصفة مصر الإسلامية في حين أنها تنافي الأوضاع الدستورية والتقاليد الملوكية الإسلامية؛ بل إن هذا العهد الدستوري المؤثر الذي يتقدم به المليك لأمته يوم توليه مقاليد أمورها، ليذكرنا كيف تمت ولاية جده العظيم محمد علي لمصر على يد زعماء الأمة المصرية في منظر من أعظم المناظر الديمقراطية التي يسجلها التاريخ المصري
محمد عبد الله عنان(212/16)
عرش الشمس
يقدمه واحد وأربعون قرنا!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
حينما أرسلت خيالي يرود لي ما يقع عليه (عرش الشمس) الذي يتبوأه اليوم الفاروق، من البحر فوق، إلى البحيرات تحت، عرفت في نفسي كلاماً يُوحِي إلي أن خذ قلمك وسر في موكب التتويج جندياً يحمي أو شاعراً يغني! فأنه موكب يسير فيه واحد وأربعون قرناً هي كل تاريخ الإنسانية الذي وعته ذاكرتها. . وتحتشد فيه الدنيا لرجوع شباب (أمِّها) في مَلِك نظيف المادة مكتمل، واسع الروح قِدّيس الحياة، قد صنعه الله على عينه، وآتاه البسطة في العلم والجسم، واختار له ذلك الاسم الذي يومئ الزمن به إلى تاريخ وقف وتاريخ أقبل، وخالطه بحكماء أذكياء على علم تام بكمالات النفوس وواجبات الملوك، وعبد له طريق الحكم وأزال منه الأشواك ورفعه على عرش لا تخفق فوقه راية أجنبية، وأعده ليكون ملكا بطلا ومربياً شعبياً وقائد جيل!
وهأنذا في الموكب أهتف: -
أشهد أن لا إله إلا الله يا مليكي! فلا أعبدك. . . ولا أنسى بك ملكك وبارئك وإلهك. . . كمن فتنوا بعبادة الملوك في الماضي، ومن لا تزال في قلوبهم بقية من هذه الجاهلية في الحاضر
ولكني أجد في قلبي سطوة الحب لمعناك الذي أخرجه الله على قلوب الناس إخراجاً مفاجئاً في ظرف غريب، كما يُخرِجُ الفجر فتطْرفُ له كل عين، ويتفتح له كل قلب، وتغسل الأرض به من الظلام!
ولمعناك يا مولاي في ذهني صورة تمتد امتداد النهار. . . فتقع على الزنجي في جنوب الوادي، وعلى الإسكندري ومن بينهما فحبك حب هؤلاء جميعاً، لأنك المعنى الندي الذي ينضح الله به قلوبهم الجافة، ويبثه فيها رحمة مهداة.
هي صورة مؤتلفة الأصباغ من ألوان برك الذي واليته على أمتك تقول به لها: أنا لك!
ومن كمالك الذي تستعلن به مصر في كل مكان وطئته قدماك وتقول للناس: أنا هو!
ومن دينك الذي نقول له: يا سلاماً من رحمة الروح لنا. . وظلا ظليلا من سلطان الله في(212/17)
أرضه علينا. . . وهدىً ضاحياً على أعلى منارة!
ومن شبابك الذي يقول به الزمان لمصر: تجددي تجددي يا أم أبي الهول! تجددي في آمال قلبك أيتها العجوز. .!
كلا! ليس مصادفة ومحض اتفاق أن يضع أبوك العظيم اسمك الكريم على ذاتك المفداة. . . وإنما هو الإلهام والإرهاص الذي ترسله المقادير حين تريد أن تحدث انقلاباً تضطرب به أحشاء الزمن، وأن تحجز بين تاريخين بحاجز من قدرها. .!
كلا! ليس مصادفة واتفاقاً أن تخرجك المقادير على مسرحها هذا الإخراج الفني العجيب الذي استجمعت فيه كل براعتها وحسها وبلاغتها في التكميل والتجميل: فأفرغت ذاتك في نصاب الرجولة ووشتها بألوان الروض. . . وقدست روحك بدين السماح وأضاءت عقلك بنور العلم. . . وزينت قلبك بمختار الأخلاق ومصطفاها. . . وإنما يراد بك أن تكون صورة من صور الكمال الإنساني يراها شبان هذا الزمان فيسيرون إلى الكمال الأعلى وفيك لهم أسوة. .!
كلا! ليس صدفة أن يتكون قلبك في عهد ثورة الأمة وزلزلتها حين ذهبت تدق بيدها المضرجة باب الحرية الحمراء، تقرعه على مسمع (أسد) ظافر بما سلب، تياه بما غلب، بطاشٍ بمن يجأر أو يهمس بالكلمة المقدسة: الحرية! حتى ظفرت منه بما زلزلت الأرض له. . . وإنما كان ذلك من الأقدار صبّا لقلبك الملكي في القالب الذي صبت فيه قلوب شباب أمتك ليكون الإحساس الوطني تحت ضغط الثورة، على سواء في الأعلى والأدنى. . . وذلك هو المقياس الصحيح لوحدة الأمة وعرشها. .
فليكن هذا كله في موضع التأمل من عقول الشباب والأمل من صدورهم والعمل من أجسادهم؛ فأنها برسالة تطلب جنوداً ذوي أرواح من شعل، وقلوب من جبل، وأجسام من عمل!
ولتهنأ الأمة بملك يدرك الحرية ويعرفها معرفة الرأي الذي كان يدور في عقله حينما يرى تلاحم الحجج بين حُماتها وغُزاتها. . ويعرفها في قلبه معرفة الدم الذي كان يفور فيه حينما يسمع أن دما من دماء جنوده الشبان سفك على مذبحها. . .
وليهنأ الملك بالعرش الذي يقدمه إليه واحد وأربعون قرناً. . . ويحمله أربعة من أبطال(212/18)
الدنيا: رمسيس وعمرو وصلاح الدين ومحمد علي. . . وتحوم حوله قلوب عشر مليوناً تصلي في ملكوت السموات إلى مالك الملك أن يجعل عينه الراعية على الملك الشاب الإلهي. . وأن يحدث به انقلاباً تحتاجه أوضاع الأرض!
(القاهرة)
عبد المنعم محمد خلاف(212/19)
تولية محمد علي باشا الكبير
صفحة مصرية نبيلة
وضع الأستاذ المؤرخ القصصي الكبير محمد فريد أبو حديد قصة سينمائية عن قيام حكم محمد علي باشا الكبير سماها (ابنة الملوك) وعهد إلى الأديب يوسف تادرس الناقد المسرحي بكتابة (السيناريو) وفي هذه المناسبة السعيدة ننشر من مناظرها هذا المنظر الذي يصور كيف نصب الشعب المصري محمد علي باشا والياً عليه بحكم إرادته ومحض اختياره
المنظر: قاعة في قصر محمد علي باشا بالأزبكية. محمد علي باشا في ملابس الولاية واقف وأمامه أدهم أحد ضباط الأرنؤود.
أدهم:. . . وبعد قليل وصل السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي فلقيا عناء كبيراً في اختراق الكتل البشرية المجتمعة في ساحة بيت القاضي والطرق المؤدية إليها فقد كان عددها يعدو الأربعين ألفاً.
محمد علي: (في دهشة) أربعون ألفاً؟!
أدهم: أجل يا مولاي وقد بلغ بهم الحماس حداً لا مثيل له. . . كانوا يضربون على الدفوف ويهتفون من أعماق قلوبهم: (عايزين الحاكم اللي نرضاه) (عايزين الباشا بتاعنا)
محمد علي: (يبتسم) وبعد!
أدهم: صعد السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي والعلماء والأعيان إلى القاضي. . . حاولت الدخول فلم أستطع ولكني علمت أن كلمة الجميع اتفقت على خلع خورشيد باشا لأنه ظالم مستبد.
محمد علي: وهل انفض الاجتماع على هذه النتيجة؟!
أدهم: الاجتماع لم ينفض بعد. . . لقد غادرتهم مجتمعين وجئت مسرعاً لأتلقى تعليمات مولاي.
محمد علي: لا بأس سيقفنا الشيخ عبد المنعم على ما دار في الاجتماع. . . قل لي يا أدهم ماذا يقول الناس عني؟
أدهم: إنهم في حيرة يا سيدي. . . يقول البعض إنك ستسافر في الأسبوع القادم إلى جدة(212/20)
لتقوم بأعباء الولاية، ويقول آخرون إنك تخشى السفر ولن تبرح القاهرة
محمد علي: (يبتسم ويهز رأسه)
أدهم: مولاي! أتسمح لي أن أسألك سؤالا؟
محمد علي: سل يا أدهم.
أدهم: كيف قبلت منصباً كهذا؟
محمد علي: لا يرفض المرء ترقية مهما كانت. . . لقد كان هذا المنصب وسيلة إلى الرتبة التي ساوتني بخورشيد. . . إنه اعتراف من الباب العالي بجدارتي لمنصب الولاية
أدهم: أتترك مصر إلى جدة؟! تغادر هذه الجنة الزاهرة إلى تلك الصحراء القاحلة!؟
محمد علي: ومن قال لك إني راحل أيها الغبي؟
أدهم: مولاي. . . لقد أحس رجالك بحيلة خورشيد لإقصائك عن القاهرة فتوسلوا إليك أن ترفض السفر فأبيت. فهل لي أن أتساءل. . .؟!
محمد علي: (مقاطعاً بإشارة من يده) لا نتساءل. . . لنترك كل شيء إلى الظروف. وما قدر فسوف يكون
(يدخل سرور ويؤدي التحية)
سرور: سليمان أغا وضابطان يطلبون الأذن على مولاي
محمد علي: (يبتسم) أدخلهم. وإذا جاء الشيخ عبد المنعم فأخبرني توا. (يخرج سرور) إذهب الآن يا أدهم وتسقط الأخبار في القلعة فلعلك تحمل إلينا شيئاً جديداً.
(يخرج أدهم - يدخل سليمان أغا وضابطان من الأرنؤود ويؤدون التحية)
محمد علي: خيراً.
سليمان أغا: جئنا يا مولاي لنعرف ماذا استقر عليه رأيك.
محمد علي: لقد أعلنتكم برأيي وإني مصر عليه.
سليمان: مولاي! ولكن مصلحة جنودك ورجالك لا يمكن إغفالها.
محمد علي: تطلبون إلي أن أخالف أوامر الباب العالي؟! إنكم تطلبون المستحيل. . . لقد قبلت المنصب والرتبة فلابد أن أرحل إلى جدة.
سليمان: وكيف تتركنا؟! ومن يهتم بنا إذا تخليت عنا؟. .(212/21)
محمد علي: إن خورشيد باشا صاحب الأمر في البلاد وتستطيعون أن. . .
ضابط (1): نحن لا نقبل أن يتحكم خورشيد فينا.
ضابط (2): ألا من سبيل لتحقيق أمنية رجالك يا مولاي؟!
محمد علي: لا أظن، فأنها تتعارض وأوامر الباب العالي.
سليمان: يؤلمني يا سيدي أن أصرح بأن رجالك قد قر رأيهم على أن يحولوا بينك وبين السفر.
محمد علي: أجاد أنت فيما تقول؟!
سليمان: أجل يا سيدي سنمنعك بكل الوسائل.
محمد علي: كيف؟
ضابط 2: سنلجأ إلى القوة إذا أدى الأمر إليها.
محمد علي: وإذا صممت أنا على السفر؟
ضابط 1: تعرض نفسك للخطر.
محمد علي: إن ذلك تهديد!
سليمان: سيدي. . . إن خورشيد هو الذي سعى لإبعادك ليتحكم فينا ويستبد بنا.
ضابط 2: إنه لا يريد بنا الشر فحسب، بل بك أيضاً. . . إنك تدرك خديعته وتعرف أن سفرك الخطر كل الخطر ومع ذلك تصر على رأيك. . .
محمد علي: إذا نزلت على رغبتكم كنت في نظر السلطان ثائراً وحق لخورشيد باشا أن يلقي القبض علي ويرسلني إلى الأستانة.
سليمان: لن يستطيع هذا. . . إننا قوة كبيرة في البلاد. . . ثق يا سيدي أنه لن يصل إليك إلا على أجسادنا
محمد علي: (يبتسم ويقول ساخراً) وإذا بدأت الحرب وقفتم في وجهي بين يوم وآخر وجعلتم تطالبونني بالرواتب أليس كذلك؟! لا. لا. . . لن أقبل.
سليمان: مولاي. . . إننا لا نفكر الآن في الرواتب؛ نحن ننظر إلى كياننا، إلى الخطر الذي يهددنا. . سنكون طوع أمرك فهل تعطينا كلمة؟. .
محمد علي: لا أستطيع أن أفكر في الأمر إلا إذا وثقت من شيئين: ألا يطالبني الجنود(212/22)
برواتب الآن، وألا يوقفوني مواقف حرجة فيما بعد.
سليمان: لك ذلك يا سيدي. لن تكون الرواتب مصدر قلق لك
محمد علي: (ساخراً) أحق هذا؟!
ضابط 1: أجل يا سيدي ولنقسم بين يديك
(يدخل سرور ويؤدي التحية)
سرور: مولاي. . . الشيخ عبد المنعم.
محمد علي: (لسرور) ادخله حالا (لسليمان أغا) لا أستطيع أن أعطي كلمة الآن. . . وسأرسل إليكم كلمتي في المساء؛ وعليكم أن تكونوا على استعداد.
سليمان: حسن يا سيدي
(يؤدي الثلاثة التحية ويخرجون)
(يدخل الشيخ عبد المنعم مسرعاً)
عبد المنعم: مولاي. . . إنهم في أثري إلى هنا.
محمد علي: من؟
عبد المنعم: السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي والأعيان وأولاد البلد.
محمد علي: وماذا حدث؟. . .
عبد المنعم: أوه يا سيدي. لقد كان يوماً عظيما. . . احتشدت الألوف. . .
محمد علي: (مقاطعاً) عفواً يا سي الشيخ أعرف كل هذا، أريد أن تقص علي ما دار في الاجتماع. أريد النتيجة فحسب.
عبد المنعم: وقف السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي ومن ورائهما العلماء والأعيان أمام منصة القاضي، وعرض السيد عمر مظالم الشعب فكان الجميع لساناً واحداً على خلعه
محمد علي: وما السبب الذي بني عليه قرار الخلع؟!
عبد المنعم: السبب أنه حاد عن سنن العدل وسار بالظلم فأصبح خارجاً على الشريعة.
محمد علي: وبعد؟
عبد المنعم: تحدث العلماء وأصحاب الرأي في اختيار وال جديد واقترح السيد عمر مكرم اسم مولاي فقال الشيخ الشرقاوي: (إننا لا نستطيع أن نجد خيراً منه) وقال آخر: (إنه(212/23)
رجل ذكي محب للخير) وتبارى العلماء والتجار في ذكر مناقب مولاي.
محمد علي: ألم يعترض أحد؟
عبد المنعم: لم يعترض أحد على شخصك يا مولاي ولكن البعض رأى في التعيين دون الرجوع إلى الباب العالي افتئاتاً على حقوقه
محمد علي: وماذا قال السيد عمر؟
عبد المنعم: ثار وصاح قائلا: (أي حقوق؟ يجب أن يكون للشعب رأي في اختيار حاكمه. . . كفانا ما لقينا من حكامهم
محمد علي: (يبتسم) يا له من رجل جريء! - فما الذي كان؟
عبد المنعم: نزل الجميع عند رأيه في النهاية وقرروا أن يجيئوا إلى هنا ليعرضوا عليك الولاية
(تسمع ضجة وجلبة صادرة من بعد تقترب شيئاً فشيئا)
عبد المنعم: أتسمع يا مولاي؟. . إنهم قادمون
(يسير محمد علي إلى نافذة ويطل من خلف الستر وينصت قليلا ثم يلتفت إلى الشيخ عبد المنعم)
محمد علي: اذهب الآن. . . لا أحب أن يراك أحد هنا وتستطيع أن تدخل معهم
عبد المنعم: حسناً يا سيدي. . (يخرج)
(يعود محمد علي ليطل من خلف الستر. ترتفع أصوات الشعب ويسمع هتافات مختلفة وضرب بالدفوف)
(يدخل سرور ويؤدي التحية)
سرور: السيد عمر مكرم والعلماء يا سيدي
محمد علي: أدخلهم يا سرور
(يخرج سرور وبعد لحظة يفتح الباب على مصراعيه ويدخل السيد عمر مكرم ثم الشيخ الشرقاوي وكثير من العلماء والأعيان)
السيد عمر: السلام عليكم يا سيدي
محمد علي: عليكم السلام ورحمة الله. . .(212/24)
(يتقدم محمد علي ويصافح الجميع)
محمد علي: تفضلوا. . . (يشير إليهم بيده فيجلسون) خيراً يا سيد عمر؟ لعل ما جئتم من أجله خير؟
الشيخ الشرقاوي: إنه خير بإذن الله يا سيدي
السيد عمر: سيدي. . . لقد خلعنا خورشيد باشا من الولاية على البلاد واخترناك والياً علينا وجئنا نعرض الأمر عليك
محمد علي: أيسمح لي صديقي أن أوجه إليه سؤالاً؟!
السيد عمر: تفضل يا سيدي
محمد علي: هل من سلطتكم أن تعزلوا الولاة وتقيموا غيرهم؟
السيد عمر: أجل يا سيدي. . . (إن للشعوب طبقاً لما جرى به العرف قديماً ولما تقضي به أحكام الشريعة الإسلامية الحق في أن يقيموا الولاة ولهم أن يعزلوهم إذا ما انحرفوا عن سنن العدل وساروا بالظلم لأن الحكام الظالمين خارجون على الشريعة. .)
الشرقاوي: ولقد انحرف خورشيد عن العدل وسار بالظلم، لذلك أجمعنا على عزله واختيارك مكانه فإننا نتوسم فيك العدالة وحب الخير وبعد النظر
محمد علي: ولكن خورشيد باشا لن يقبل القرار
السيد عمر: سواء علينا قبوله أو رفضه. . . فإن إرادة الشعب فوق إرادته
محمد علي: وإذا رفض النزول من القلعة؟
السيد عمر: نرغمه بالقوة
محمد علي: وإذا لم يرض الباب العالي أن يسلم لكم بحق اختيار الحاكم
السيد عمر: لا يهمنا سلم أم لم يسلم. . . يجب أن يخضع لرأي الشعب ويختار الحاكم الذي نرضاه
محمد علي: ولكن الأمر خطير. . . فهل قدرتم مبلغ خطورته
السيد عمر: أجل يا سيدي. . . الشعب يتمسك بحقه كاملاً ولن يقبل التفريط فيه وإن كلفه ذلك حياته
الشرقاوي: أجل. . . لن نقبل التفريط في حقوقنا وفيما تفرضه الشريعة علينا(212/25)
السيد عمر: البلاد مصرة على تنفيذ إرادتها ولو أدى الأمر إلى استعمال القوة
محمد علي: أما من سبيل إلى الرجوع؟. .
السيد عمر: (مقاطعاً) عفواً يا سيدي. . . لقد جرب الشعب المصري في السنين الماضية أكثر ما يجربه شعب من المظالم والمتاعب وقد صحت عزيمته على ألا يرضى بحاكم (يشير بيده إلى محمد علي باشا) إلا الذي اختاره
العلماء: أجل. أجل. لا نرضى إلا به
السيد عمر: هل تقبل يا سيدي ثقة هذا الشعب الذي أحبك واختارك دون غيرك والياً عليه؟
محمد علي: إنني عالم بما في قبولي من خطورة، عالم به تماماً ولكنني أمام إجماع الشعب ونزولاً على رغبة ممثلي الأمة الكريمة لا يسعني إلا القبول
الشرقاوي: شكراً يا سيدي. . .
محمد علي: وإنني أشعر بثقل الحمل الذي تريدون وضعه على عاتقي
السيد عمر: نحن على يقين من أن الله سيعينك وأنت بلا شك عالم بما تمتلئ به قلوبنا من الآمال
محمد علي: أسأل الله أن يوفقني إلى تحقيقها بمؤازرتكم ومعونتكم
السيد عمر: سيطلع علينا عهد جديد بإذن الله تبطل فيه المظالم وتقام فيه الشرائع والأحكام
محمد علي: لن يبرم أمر إلا بمشورتكم ومعونتكم إن شاء الله
(يتناول السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي صرة من أحد العلماء ويخرجان منها ملابس تشريفه وهي عبارة عن جبة عليها كرك ويقفان ثم يتقدمان إلى محمد علي باشا الذي يقف فيلبسانه الجبة بين سرور العلماء)
السيد عمر: مولاي. . . لقد اختارك الشعب لأنه رأى الخير في اختارك ولن يرضى بديلا منك. نسأل الله تعالى أن يسدد خطاك ويديم الملك فيك وفي بيتك
العلماء: (يقفون ويرفعون أكفهم بالضراعة) آمين. . .
محمد علي: أشكرك يا صديقي وأشكر السادة العلماء وأصحاب الرأي في البلاد. . . إنني سعيد بثقة هذه البلاد العزيزة وأسأل الله أن يعينني على خدمتها ورفع لوائها حتى تعيد مجدها الغابر وتصبح سيدة الأمم.(212/26)
العلماء: (رافعين أكفهم بالضراعة) آمين.
(تسمع ضجة من الخارج عند باب القاعة ويرى حجاج الخضري يحاول الدخول ولكن الجنود يمنعونه ويمسكون به وسرور ينهره)
سرور: لا. لن تدخل.
حجاج: دعني. . . أريد أن أكلم الباشا.
محمد علي: دعوه. . . دعه يا سرور
(يترك الجنود حجاجاً فيتقدم خطوة نحو الباشا)
حجاج: مولاي. . . الشعب يريد أن يرى الوالي الذي اختاره
السيد عمر: أجل يا سيدي. . . يحسن أن تطل عليهم من الشرفة
(يسير محمد علي إلى الشرفة ويفتحها ويخرج ليطل منها وإلى جانبه السيد عمر وخلفه الشرقاوي وعندما يظهرون للجماهير ترتفع أصواتهم بالهتاف كالرعد)
أصوات: ينصر الله الوالي. ينصر الله مولانا عمر. ينصر الله الباشا.
(ستار سريع)(212/27)
عاش الملك
بقلم السيد زيادة
أية قوة تنبعث في نفسي الآن لأكتب؟. . . ألا ما أشاهدها قوة نازية بالفرح أستغربها على نفسي أنا المخلوق لأحزن!! ولكني إذ أنتشي وإذ يستطيع الفرح أن يستأثر بنفسي إنما أراني فرداً ضئيلا من أمة فيه بعض ما فيها جماعات وأفراداً من صخب الفرح، ولاء للعرش القائم على دعائم المجد، وحفاوة بالملك القادم بين دعوات القلوب.
لقد دنت من الأفق شمس اليوم الضاحك الذي ينصرم فيه تاريخ مصر الممتحن ليبدأ به تاريخها السعيد. . .
اليوم الذي نظر إليه الشعب من بعيد كأول أيامه الخالدة، وميلاد حياته الزاهرة، وفاتحة عهده الجديد. . .
اليوم الذي تنتظره الأمة انتظار المحب الولهان ليوم اللقاء الموعود.
اليوم الذي تتقدمه الحياة منذ شهور ببشائر الخير، وتحفه بدلائل النعيم، وتزفه بآيات الفرح. . .
اليوم الذي يجلس فيه مليكنا الدستوري على عرشه المؤيد ليملك زمام شعبه المخلص له. . .
دنا اليوم الذي يتحقق به حلم الشباب في قلب مصر
وافتر ثغر الحياة عن بسمة الزمن
وتهاتفت القلوب من أعماقها بالولاء للملك
ورقص غصن النيل المديد المياس بحواشيه وأعطافه
ونادى المنادي بأن فاروق الحبيب مقبل بعد غيابه ليتلقى بكاهل الشباب أعباء الملك فهب الجميع يهتفون: عاش الملك. عاش الملك
مرحباً يا مرمق أبصار الأمة، ومبسم ثغر النيل، وحبة قلب الكنانة، وعنوان فخر الشباب. . .
مرحباً يا باعث المجد من مرقده، وناشر العز بعد انطوائه، ومطلق الشعب في هنائه. . .
مرحباً يا حجة الزهو حين تزهو، وقوة الأرواح حين تصبو ونور النفوس حين تسمو،(212/28)
وحياة العزائم حين تتحد. . .
مرحباً يا قائد الأمة الحية، ومعجب ملوك العالم، وحامل لواء السلام. . .
أيها القادم من حيث فتن الغرب بجلاله، ليفتن الشرق بأعماله؛ هذه أرواحنا تناديك ظامئة إليك، تستقبل من صفو وجهك الريَّ والحياة
أيها المتهلهل بطلعة القمر من أبهة الملك فوق عرش الأفئدة. . هذه قلوبنا تحييك مصفقة لك خافقة بك تقتبس من حبك المرسل في نواحيها النور والأمل. . .
أيها المشرف على واديه السعيد به إشراف العاطف الكريم الحنون. . . هذه عيوننا تتطلع إليك مرقرقة فيها دموع الفرح متسامية إليك منها نظرات الحنين، تطالع في ركابك العالي بهجة العيد الدستوري المخلد. . .
يا أيها المِلكُ المَلكُ. . . إن لك في كل موضع من كل قلب صورةً تقدَّس واسما يُرَدَّد.
يا أيها العاهل العظيم، أقبل على وادي النيل الشاعر بأنك رمز آماله. . . إن لك فيه تاجاً سنياً عقدت نسجه العتيد مئات السنين بيد الخلود، وعرشاً جليلاً هيأتْ مجلسه الوطيد قلوب الشعب بأعظم الولاء. . . فما خلقت هامتك الشريفة إلا لتحمل أعرق تيجان الملوك، وما خلق مقامك السنيُّ إلا ليتبوأ أسنى عروش الدول.
يا فاروق! لقد أشرق في بدء عهدك تاريخ الفاروق، ومضيت على سنن أبيك لتتم نهجه، واتبعت في علاك مناهج الرسل؛ فما أسعد المُلْكَ الأشم بك، وما أكبر المثل الأعلى للملوك فيك!!.
ليست عابثةً هذه الأمة التي تعد نفسها لتحييك بتحية فاقت كل تحايا الأمم للملوك بروحها الدفاقة الزاخرة التي هي روح الحب في إيمان القلوب تحت إلهام الله. . . هذه الحماسة المتقدة في قلوب شعبك ما هي إلا تعلقه بك، وهذا البشر الشامل كل بقعة من وادي النيل ما هو إلا ولاؤه لك. . .
إن لنا من عبقرية شبابك آمالا شابة ناضرة ستحققها الأيام بيدك.
فامض بالأمة فيما شئت من سبل المجد، وضع مصر من حيث أردت لها من صفوف الدول الماجدة، وابسط علينا من ظلالك حياة العز والرَّغد. . . وعش لنا يا فاروق. . .
السيد زيادة(212/29)
إلى سدَّة المليك الشاب
شعب يبايع
للأستاذ محمد غنيم
النِّيل تَحْمِلُ سِبْطَ إِسْماعِيلاَ ... أرأيتَ نِيلاً جاَء يَحْمِلُ نِيلاَ
لو كانتِ الأملاكُ تَحْدُو مَرْكَباً ... لرأيتَ بَيْنَ حُدَاتِهاَ جِبريلاَ
سارتْ فغضَّ البحرُ من غَلَوَائه ... ومَشَى كما تَمشي الجيادُ ذَلُولا
هبَّتْ عواصفُه فَكُنَّ حِياَلَها ... رَهْواً كما هَبَّ النَّسيمُ عَليلا
ما لاطَمَتْ أمواجُه جَنَباَتِها ... بَلْ أوسَعَتْ جنباتِها تقبيلا
لو أَنَّ زَاحِفَةً تَفُوهُ لكبَّرتْ ... نِيناَنُهُ ولَهَلَّلتْ تهليلا
يا بحرُ فوقَكَ دُرَّةٌ هيْهات أَنْ ... تَلْقَى لها فيما حَوَيْتَ مَثيلا
أَوَلَسْتَ تَعرِفُ فيه مَنْ أَجْدَادُهُ ... قَطَعُوكَ عَرْضاً بالسَّفِينِ وَطُولا؟
فَلَطاَلَماَ مَلأُوا المياهَ مَراكباً ... ولطالما ملأوا السهولَ خيولا
عَرَفَتْهُمُ الأيامُ إِنْ هُمْ حَارَبُوا ... أُسْداً وَإِنْ حَكموا الأنام عُدُولا
أشْرِقْ بنُورِك في البلاد فإنَّما ... صَبْرُ البلاد على فراقِكَ عِيلاَ
الشَّعبُ يا فاروقُ صَادٍ. نِيلُهُ ... مِنْ يوم بُعْدِكَ لا يَبُلُّ غليلا
ما كان يُسْعِدُهُ التجلُّدُ سَاعَةً ... لو لم يكُنْ بِكَ قلبُهُ مأهولا
ما غبتَ عن بَصَرِ البلاد وسَمْعِها ... يوماً وَلا بَعُدَتْ رِكابُكَ مِيلا
كانت تُطَالِعُ ما تقول فَتَنْتَشي ... طرَباً. وَإِنَّ مِنَ المقالِ شَمُولا
وتَرى على القرطاسِ رَسْمَكَ زاهياً ... غَضَّا فيُصْبحُ طَرْفُها مَكْحُولا
قد كنتَ أَنت حديثَها وسكُوتَها ... حتَّى غدا بكَ وقتُها مَشْغُولا
زُرْتُ الممالكَ داعياً فكَشَفْتَ عَن ... مِصْرَ الفتاةِ حِجابَهاَ المسْدُولا
أَنْعِم بِشَعْبٍ أَنْتَ عُنْوانُ لَهُ ... وَكَفَى بُعنْوان الكتابِ دَليلا
تمشي الممالكُ في ركابك أينما ... تمشي وتَحْني هاَمَها تبجيلا
سَمِعُوا بمجد الأقدمين وأبْصَرُوا ... بعيُوُنِهم للأقدمين سَليلا
كيْ يَعْلموا أَنَّ الكنانَة أُمَّةٌ ... طابت فروعاً في الورى وأُصُولا(212/31)
إِنَّا لفي زَمَنٍ يفيض دِعايَةً ... كادتَ تَدُقُّ به الشُّعٌوبُ طُبُولا
هم يُعْلِنون عن الشُّعُوب كأنها ... سِلَعٌ وَنَرْضَى بالسُّكوتِ خُمُولا
مَنْ راح ينشُرُ للبلاد دِعايةً ... فكأنه يَبنْي لها أُسْطُولا
وَليَ الأُمُورَ بمصرَ أَصْيَدُ ياَفِعٌ ... بَزَّ الأوائلَ فِتْيَةً وكُهُولا
جَاشَتْ بِصَدْري يَوْمَ قُلِّدَ عَرْشَهُ ... ذكرى فراعِنَةِ القُرُونِ الأولى
ما أبهجَ الإِكْليلَ فوق جبينهِ ... هذا الجبينُ يُزَيِّنُ الإِكليلا
هذا هو الفاروقُ أشْرَق وجْهُهُ ... فَسَل الغزَالةَ هل تُرِيدُ أُفُولا؟
أفديه منْ مَلِكٍ أغرَّ وراَءهُ ... شَعبٌ يُرَتِّلُ حمدَه ترتيلا
يَعْنوا لطَلْعَتِهِ ويهتف باسمِهِ ... ويكادُ يتلو قوْلًهُ إنجيلا
مَلِكٌ تواضُعُه يزيدُ جَلاَلَهُ ... ليس الغشومُ المستبدُّ جليلا
يُنسيك من فَرْط التواضُع تَاجَهُ ... فتكادُ تحْسَبُهُ أخاً وزميلا
يَرْنو إليه الطَّرْفُ غيرَ مُنَكَّسٍ ... والبدرُ يظهَرُ من سَناَهُ خَجَولا
يَقضي لُباَنَتَهَُ الغنيُّ ببابه ... ويرى الفقيرُ دُعاَءهُ مَقبولا
لَبِقُ الحديث كأنما هو مُلْهَمٌ ... وقد أدْرَكَ المعقولَ والمنقولا
لا تُحْصِ أعْمَارَ الملوكِ فإِنني ... أجدُ الملُوكَ مَدَاركاً وعُقولا
ما قلتُ: قد بلغ الرشادَ بسِنِّه ... فَعَلَيْهِ كان بطبعْه مَجْبولا
إِنَّا عَهِدْنا الرُّشْدَ فيه سجَّيةً ... ما كان في يومٍ عليه دَخِيلا
ما ضَرَّ غَرْساً طاب قَبْلَ أوانِهِ ... أنْ كان حُرّاً في النَّبات أصيلا
قد كان ذو القرنين مثلَكَ يافعاً ... وأركما تَتَشاَبَهاَن مُيوُلا
هيهاتَ أنتَ أجلُّ منهُ حضارةً ... وأعَزُّ أوطاناً وأكرَمُ جيلا
فاروقُ تلك عناية الله التي ... قد حَقَّقَتْ في عهدِك المأمولا
إن الكنانَةَ ظنَّتِ اسْتِقْلاَلَهاَ ... حُلْماً فكنتَ لحُلْمها تأويلا
وهي المشاكلُ كلُّها وَجَدَتْ لها ... في عهْدِك الزاهي السَّعِيد حُلُولا
عَهْدٌ قصيرٌ غيرَ أَنَّ غُضوُنهَ ... في جَبْهَةِ التاريخِ صرْن حُجُولا
لو حاكت التِّيجاَنٌ تاَجَك لم يَجِدْ ... يوماً إليها الثائرون سَبيلا(212/32)
ليتَ الذينَ وَلُوا العُروشَ جميعهمَ ... كانوا على حُكم الشُعوب نزولا
أسِّسْ على الدُّستور مُلكَ وَابْنِه ... تَبلُغَ به الشُّمَّ الرَّواسيَ طولا
كم ثَلَّ الاستبدادُ عرشاً بعدما ... أجرى حواليْه الدماَء سُيُولا
مَنْ لم يعزِّزْ تاجهَ وسريره ... باللهِ والدستورِ كان ذليلا
إِنَّ الكنانَةَ بايَعَتْكَ فكُنْ لها ... ظِلاَّ كما كان الجدودُ ظليلا
وَهَبَتْ لعرشِك مالها ودماَءها ... إِنْ شئت تَلْقَ كِلَيْهما مَبذولا
فَامْلأَ بلادَك حكمةً وَمعارفاً ... واجْعَلْ بلادَك في المناعَة غِيلا
لن يسْتقمَ لِشَعْبٍ اسْتِقلاله ... يوماً إِذا حَمَلَ السِّلاحَ كليلا
أين المدافعُ كالرُّعود دَوِيُّها ... والخيلُ تَصْهَلُ بالجنود صهيلا
يا رُبَّ طائرةٍ سمعتُ أَزِيزَها ... فحسبته في مَسْمَعَيَّ هَديلا
فانهض بمصْرَ وجيشها حتى يرى ... شَبَحُ المنيَّةِ طيْفهَا فيميلا
واكبحْ جِماحَ الطامعين وقُلْ لهم ... لا تطمَعَوا في أُخت عِزْرائيلا
وهُنا تُعادي مَنْ تشاءُ عِدَاَءهُ ... مصرٌ وتأْخُذُ من تشاءُ خليلا
فاروقُ يَفْدِيك الحمى بهلاله ... وصليبه. وأرى الفداَء جليلا
أصبحتَ في مرح الشَّبابِ ولَهْوِهِ ... عن خير شَعْبٍ في الورى مسؤولا
حَمَلَ الشبابُ يَرَاعَهُ وكتابهَ ... وحملتَ عِبْئاً كالجبالِ ثقيلا
أوْلَتْكَ مِصْرُ قيادَها فأَعِدْ لها ... مجداً بناهُ الأقدمون أثيلا
وسُس الأُمورَ إذا جَمَحْنَ بمُصْطفى ... تَلْقَ الْحُزونَ إذا مشيتَ سُهولا
هو صارمٌ ماَضِي الغِرارِ أليِلُهُ ... فاحِملْهُ عَضْباً في يديك صَقيلا
قد أفْرَغَتْ مصرٌ كنانَتهاَ فما ... رضيت به بين السِّهام بَديلا
وإذا تحوَّلَتِ الجبالُ فمُصطفى ... عن حقِّه لا يَقْبَلُ التَّحويلا
يا مصطفى لَهِجَتْ بذكرك أمَّةٌ ... أَبناؤُها لا يَجْحَدُون جميلا
ولقد تولَّيتَ الأمورَ فلم تكنُ ... سيفاً على رأس الحمى مَسْلولا
لا تَثْنِيَنَّكَ عن طريقك عُصْبةٌ ... ملأت حَناجِرُها البلادَ عَويلا
إِنَّا بلوناهم فكانَ فَعَالُهُمْ ... مُرَّا وكان كلامُهُمْ مَعْسُولا(212/33)
فَلَيَنْصِبوُا في غير مصرَ شِباكهُمْ ... حَسْبُ البلادِ وَحَسْبهُم تدْجِيلا
سِرْ في طريقك. لا تُعِرْهمْ مَسْمَعاً ... واعْلَم بأَنَّ من الكلام فُضُولا
أنَّى اتَّجَهْتَ وَجَدْتَ خَلْفَكَ أُمَّةً ... ورأيتَ رَبَّكَ بالنجاح كَفِيلا
(كوم حماده)
محمود غنيم(212/34)
تتويج رعمسيس الثاني
فرعون مصر الشاب
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
كانت وفاة الملك سيتي الأول والد رعمسيس فجيعة للبلاد جزعت لها ولبست من أدناها لأقصاها ثياب الحداد. وقد قضى نحبه في عنفوان العمر واكتمال الرجولة بعد حكم مجيد زاهر. فامتد سلطانه واتسعت رقعة ملكه شمالا حتى دانت له الشام كلها، وبلغ حدود الحثيين في آسيا الصغرى وممالك بابل وأشور إلى أعالي الفرات، واستتب له الأمر جنوباً في النوبة، وضرب على أيدي قبائل البدو في الصحراء الغربية فكف عن الوادي الخصيب غاراتهم المتكررة. ثم جعل همه إلى صلاح البلاد وعمرانها؛ وأمامنا حتى اليوم على علو همته شهود ناهضة ناطقة، منها ضريحه الرائع ومعبد العرابة وبهو الكرنك الشاهق مرفوع السمك على عُمُده الفخمة وقد ازدانت جوانبها بتهاويل منقوشة تمثل انتصاراته وتروي وقائعه تخليداً لعظمته ومجده.
ولكن كان العزاء عن فقده ما يبدو من المخايل على ولده وإن كان بعد في سن الحلم.
فانظر إلى المليك الشاب من ذا الذي لا يعنو لفتنة طلعته! فأنه ليروعك أول ما يروعك - بالقامة الفارعة وجمال الوجه واستواء الخلق، وهو ممشوق لطيف الأوصال لدن الأعطاف حلو الشمائل، ومع ما يلحظه المتأمل في ملامحه من القوة والتفاوت كضيق الجبين وقنى الأنف ومتانة الفك وشدة الذقن فإن هذه جميعاً تكسوها سماحة ودماثة. كما أنه ليس من ذوي الطبائع الحزينة المسترسلة في سبحات التفكير الهائمة في أودية الأحلام، وإن كانت له سيماؤها لفرط ما صقلته التربية وهذبت حواشيه، وإنما طبعه الغالب هو الإقدام والعزيمة يعمران هذا الجسد الذي ارتاض على المشقة والجهد من سباق العجلات إلى الرماية والصيد فضلا عن المعارك الحربية، فتوفرت له منها مزايا سرعة الحركة ورباطة الجأش والاستخفاف بالخطر. وشد ما كانت تستجيشه أوصاف الشعراء لوقائع أسلافه. ثم هو يحس منذ نعومة أظفاره بأنه مولود للرياسة الملك. وكان يطيب له أن يستذكر المراسم التي هيأته لوراثة السلطان، فيذكر شعائر التطهير وكيف ضمه والده إلى صدره على مشهد من كبراء الدولة ورجال القصر لتسري إليه نفحات الحياة، ثم نادى به ملكا من بعده في وسط الهتاف(212/35)
المتصاعد والمديح المرتل.
ولقد كانت التقاليد الدينية والسياسية حافزاً للفراعنة على رعاية مملكتهم بهمة وصدق، فهم على العرش خلفاء الآلهة، وهم مسئولون عما يفعلون بين يدي أوزيريس في يوم الحساب. فلا جرم يكونون في مقدمة خدام الدولة الساهرين على تدبير شئون مصر وممتلكاتها وتفقد أحوالها. وإن رمسيس لم يكد يشب عن طوقه، ويتجاوز طور الطفولة حتى تولاه أبوه يدربه ويخرجه على يديه. فصحب الابن أباه في حرب الشام، وكان يعاونه في الحفلات الدينية ويطلع على كافة شئون الملك وتدبير إدارته. فهو لما توكله إليه الآلهة اليوم من واجبات وتبعات غير هياب.
ولقد انقطع بين عشية وضحاها عهده بالصبا الغرير حين اجتز حلاق القصر طرته المتهدلة على صدغه الأيمن شارة عليه. وعما قريب تضاف إلى قدرته الإنسانية على عظمتها قوى الهيبة تنتقل إليه مع شعائر الملك. وهذي رعاياه كبيرة الأمل كشأنها في مستهل كل عهد بأنه وإن كان الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل.
ولقد جرت العادة منذ ألفي سنة بأن تجري مراسم التتويج في منف عاصمة الوجه البحري بمقتضى احتفال مقرر منذ أقدم عصور المملكة المصرية المتحدة. ولكن فراعنة الدولة الحديثة قد آثروا أن يكون تتويجهم في طيبة عاصمة الصعيد وهو منشؤهم ومنبت أعراقهم تحت رعاية الإله آمون. فلما جاء رعمسيس عاود السنة القديمة لأن أسرته من الدلتا ولأنه فوق ذلك موقن بأن الوجه البحري يرتفع كل يوم شأنه ويعظم خطره من الناحيتين الحربية والاقتصادية.
وهكذا استهلت أعياد تتويج رعمسيس في منف بعد الفيضان. ومنف مدينة عريقة في القدم واقعة فيما يلي ملتقى فرعي الدلتا وهي عامرة بالأهلين تطوقها خمائل النخيل الباسقة، وتقوم في أفقها الغربي مثلثات الأهرام، وتسطع شمسها المتجددة على الحقول فتشيع في فلاحيها النشاط والطرب كما تهب من ناحية بحر الروم نفحة باردة تنعش الأبدان.
ولما كان المصريون الأقدمون يؤمنون بأن الاسم - سيان المنطوق والمكتوب - يقوم مقام المسمى وله قوة رهيبة تخلق الأحياء والأشياء، فقد عكف الكهان على اختيار الأسماء الملكية الأربعة ليكمل بها اسم الملك. وتم بسرها لرعمسيس سلطة الملوك وجبروت(212/36)
الأرباب.
ثم تعاقبت المراسم تنقل للملك الجديد القوى السحرية المقترنة بتاجي مصر. فترى الملك بعد التطهر يتلقى على هذه المنصة التاج الأبيض شعار الوجه القبلي، وعلى منصة أخرى التاج الأحمر شعار الوجه البحري، ويسمون هاتين الحفلتين إشراق ملك الجنوب وإشراق ملك الشمال. ويقوم بالتتويج كاهنان مقنعان يمثل أحدهما الإله حوريس في صورة صقر، والآخر الإله ست في صورة سلوقي. ثم يتوج الملك بالتاج التؤام للوجهين القبلي والبحري معا، ويجلس على العرش وعلى جانبيه إله الجنوب وإله الشمال وقد وضع الكاهنان إلى دعامة العرش أزهار اللوتس وهو نبات جنوبي، والبردي وهو نبات شمالي، وربطا النباتين بعضهما إلى البعض بأربطة متقاطعة. وهما مع هذا لا ينفكان يشدان فضول الأربطة بيديهما ويسندان برجليهما عراها حرصاً على توثيقها؛ وأخيراً ينهض الملك والتاج على رأسه وهو متشح بالطيلسان وفي يديه المحجن المعقوف وسوط أوزيريس ويؤدي فريضة (الطواف بالحائط) حول المحراب إشارة إلى أنه يتسلم ملك حوريس وست ويتكفل بصيانته ودفع العدوان عنه.
ولم يبق بعد ذلك إلا اتخاذ الضمانات الرسمية. فإن الآلهة تتخذ سجلات مستوفاة تحصي فيها كل شيء تجنباً للملاحاة والخلاف. وهذان كاهنان يمثل أحدهما إله العلم تحوت، ويمثل الآخر إله الكتابة سخت، يحرران الصكوك بالصيغة الملكية ويودعانها ديوان السماء. وأخيراً يدونان اسم رعمسيس على ورقة من نبات السبط المقدس تخليداً لحكمه.
ولقد كان لتراتيل الكهنة في وسط السكون الرهيب فعل الرقى والتعازيم السحرية في نفس رعمسيس، فضلا عما كانت مصحوبة به من الحركات الموزونة والوقفات النبيلة والإشارات الملتوية في ترسل ويسر. فامتلأ يقيناً بالرسالة الموكولة إليه وبقدرته على تأديتها وبأن التوفيق ملازمه طيلة حياته. ونهض بعد انتهاء المراسم وقد سرت في أعطافه النفحة الإلهية.
وحكم رعمسيس فرعوناً على مصر.
وقد ذهب بعدها إلى طيبة حيث جرى شبه تتويج ثان له، وكان ثمة عيد الإله (مين) في آخر مارس عقب موسم الحصاد. وعبادة (مين) لها شأنها الأكبر في بلاد مصر الزراعية،(212/37)
فهو إله الخصب وحامي الحقول والبساتين، وهو يقرن أحياناً بآمون إله طيبة الأعظم ورب الأرباب والبشر وأب الفراعنة. وفي هذا العيد قدم الملك إلى (آمون - مين) قربانا من الحصاد في ذلك الأوان
وقد غادر رعمسيس قصره في طيبة كما تطلع الشمس باهرة اللألاء من مشرقها، وشخص إلى هيكل (مين) في محفته الفاخرة يحملها ويحمل المراوح إلى جانبيها عظماء الدولة، ويتقدم المحفة الملكية كاهنان يمسكان مجامر البخور، وكاهن آخر يرتل الأناشيد وهو ممسك بيده قرطاساً من البردي. وفي طليعة الموكب تعزف الطبول والأبواق عزفها الهاتف الآمر، ويسير وراءه في نظام جليل رائع أكابر رجال القصر تتبعهم فيالق من جنود الحرس البواسل. ولكن الإله (مين) يخرج من محرابه محمولاً على أكتاف ثلاثين كاهناً يصحبه عجل أبيض باعتباره الصورة الحية التي يتجسد فيها، ويتقدمه صف طويل من الكهنة يحملون الشارات الدينية وتماثيل السلف الصالح من الفراعنة الراحلين، ويتقدمون إلى المذبح حيث الملك واقف. وهنا يتعرف الإله مين على ابنه فيدخله في عداد الأرباب كسائر أسلافه. وإنه لحدث عظيم. وإذ ذاك يطلقون طير الإوز في جهات الأفق الأربع لاذعة البشرى في أركان المعمورة كما فعل الإله حوريس نفسه عند تتوجيه. ويجري الاحتفال ويتم في وقار ودقة على حسب الأصول المرعية. وفي النهاية يقدم الملك القرابين لتماثيل أسلافه ويقتطع بمنجل قصير جرزة مصطنعة فيقدمها للآلهة باعتبارها باكورة الحصاد في عهده
ويعود فرعون إلى القصر، فيقبل عليه رجال البلاط ووزيره باسار وجميع الموظفين يحيون مليكهم وينشدون في مديحه: -
أقبل عليّ بوجهك أيها الشمس المشرقة
يا من تضيء القطرين بسنا جمالك
أنت شمس الورى
تنفي عن مصر الظلمات
ولك طلعة أبيك رع
الصاعد في معارج السماء(212/38)
وإليك يوحي بكل ما يجري في بلدان الأرض
وأنت راقد في قصرك
وإنك لتسمع ما يدور في الخافقين من أحاديث
لأن لك الألوف من الأسماع
وعينك أنفذ من نجوم السماء
وتبصر ما لا تبصره الشمس
وكل ما يقال ولو كان همساً ونجوى
يقع لا محالة في سمعك.
وكل ما يفعله امرؤ في الخفاء
فإن عينك تراه.
يا رعمسيس يا رب الجمال ورب الحياة!
وكذا كانت أعياد التتويج عند قدماء المصريين تمتزج فيها عبادة فرعون بعبادة الآلهة لاعتبارهم أن الملك العظيم هو حمى الدولة وحمى الدين.
عبد الرحمن صدقي(212/39)
إبراهيم باشا
موقعة نصيبين
في أواخر هذا الشهر يخرج الأستاذ محمد بدران ناظر مدرسة بنبا قادن الابتدائية ترجمة عربية لكتاب (إبراهيم) تأليف القاضي بيير كربتيس بتصريح خاص من شركة روتلدج الإنجليزية، والكتاب مثال من الدقة والأمانة في الترجمة. وإليك فصلا من فصوله ننشره بمناسبة تتويج الفاروق أعز الله ملكه.
لما علم محمد علي بأن الجيش التركي يستعد للزحف على بلاد الشام
ويحرض أهلها على الثورة أمر وزير حربيته أن يلحق بإبراهيم رغم
معارضة قناصل الدول
وأسرع وزير الحربية إلى مقر القيادة العليا لجيش إبراهيم. وكان الطريق أمامه طويلاً، ولا يستطيع هو السير فيه مسرعاً كما يسير الرسول. ولذلك سبقه مبعوث خاص يحمل إلى إبراهيم أوامر أبيه. ولم نستطع الاطلاع على نص هذه الأوامر، ولكن في مقدورنا أن نتكهن بمعناها لأن إبراهيم قد خول منذ يونيه سنة 1839 الحق المطلق في أن يفعل كل ما يراه صالحاً. فيبدأ الحرب أو يحافظ على السلم حسبما تمليه عليه الظروف
ولما ترك محمد علي لإبراهيم أن يتصرف في الأمر بحكمته وحسن تدبيره، كان يعرف أنه لن يهاجم العدو إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارا، على الرغم من أن تركيا ومصر كانتا في حالة حرب فعلية في البر والبحر منذ شهر مارس من عام 1839، كما أنبأ القنصل الإغريقي العام بالقاهرة حكومته في 26 من ذلك الشهر. ولطالما استفز الأتراك إبراهيم بموقفهم العدائي؛ ولولا قدرته على كبح جماح نفسه لتكشف ستار السلم عن حقيقة الحرب العلنية. وقد كتب في ذلك القنصل اليوناني العام في الإسكندرية إلى وزارة خارجيته بتاريخ 18 يونية يقول:
(تدل الأنباء الواردة من المنطقة التي يعسكر فيها الجيشان في الوقت الحاضر على أن جيوش السلطان تواصل الزحف، وتشجع أهل البلاد على الثورة بتقديم الأسلحة وبذل الوعود لهم. وقد تقدم (سليمان باشا والي مرعش) في جيش مكون من نحو ثمانمائة فارس،(212/40)
حتى بلغ عينتاب واستولى على المدينة، وإن كانت قلعتها لا تزال في أيدي المصريين. ويقال إن حافظاً باشا القائد العام للجيوش التركية كان مع هذه القوة، ولكنه تخلف عنها قبل أن تصل إلى عينتاب. ورأى جنود السلطان سكوت الجيش المصري وامتناعه عن القتال إطلاعه للأوامر الصادرة من الوالي إلى إبراهيم باشا، بعد أن هددته الدول الأوربية وأنذرته ألا يكون البادئ بفتح باب العدوان، فاغتنموا هذه السانحة وتوغلوا في البلاد من غير أن يلاقوا مقاومة، اللهم إلا مناوشة بين الفرسان السالفي الذكر وكتيبة صغيرة من البدو).
وقد أفصح هذا القنصل العام نفسه في رسالة سابقة بعث بها إلى حكومته عن حقيقة تهديد الدول الأوربية. وقبل أن ننقل إلى القارئ شيئاً من هذه الرسالة نقول إن ميخائيل توسزا الذي بعث بهذه المعلومات إلى أثينا، لم يكن من رجال الدبلوماسية الرسميين، ولا من رجال البحرية، بل كان تاجر استوطن الإسكندرية قبل أن تستقل بلاد اليونان، وكسب صداقة محمد علي، واحتفظ بهذه الصداقة. فلما أنشأت بلاد اليونان أول قنصلياتها في القطر المصري في عام 1833، عهدت بأمور القنصلية إليه. ولم يكن يرسل في أول الأمر تقارير منتظمة إلى وزارة خارجيته، كما أنه لم يبدأ الاشتغال بالمسائل السياسية إلا في سنة 1838. ولم يكتسب قط في حياته ذلك الأسلوب الخاص الذي تكتب به المراسيم والوثائق السياسية، بل كانت معانيه على الدوام واضحة كل الوضوح. ويمتاز ما كتبه توسزا بميزة أخرى غاية في الأهمية، وهي ناشئة من الصداقة الوثيقة التي كانت بينه وبين محمد علي. وقد كتب هذا القنصل إلى وزارة خارجيته في 23 يوليه سنة 1838 يقول:
(لقد أبلغ المستر كامبل وكيل إنجلترا السياسي الوالي بصفة رسمية أن بريطانيا العظمى تعارض أشد المعارضة فيما يطلبه من الاستقلال، وتصر على أن يبقى كما هو؛ وإلا فإن الدول الأربع: إنجلترا وفرنسا والروسيا والنمسا ستعمل مجتمعة لمنعه من نيل استقلاله، ولو أدى ذلك إلى استخدام القوة. وهذه الدول متفقة على ذلك، وقد قررت أن تزيد قوة الأسطولين البريطاني والفرنسي في البحر الأبيض المتوسط، وأن ترسل الجنود النمساوية إلى بلاد الشام إذا استلزم الموقف ذلك. ويلوح أن سمو الوالي سيجيب بأنه إذا عجز عن نيل رغباته بالرضا والمسالمة. فستلجئه الضرورة إلى أن يعمل لنيلها بوسائل أخرى؛(212/41)
ومهما كانت العاقبة فسيكون من أكبر دواعي الشرف له أن تهزمه الدول الأربع الكبرى)
وكتب توسزا رسالة أخرى في 6 سبتمبر سنة 1838 يضم فيها بروسيا إلى جماعة الدول المتفقة. ولهذا الأمر أهميته، لأننا عرفنا من قبل أن هلمث فون ملتكه كان وقتئذ مع الجيش العثماني الذي كان يعمل بكل ما في وسعه ليستثير غيظ إبراهيم. وليس يخفى علينا أن ملتكه كان في ذلك الوقت رجلا لا خطر له، ولا يكاد يعرفه أحد؛ ولكن انضمام النمسا والروسيا وبروسيا كان مقدمة لحلف القياصرة الثلاثة الذي تم فيما بعد، ومضاعفاً للخطر الذي كان يتعرض له جيش إبراهيم. وقد أبلغ قناصل هذه الدول الثلاث محمداً علياً أن دولهم لا تسمح بأن يطرأ على العلاقة القائمة بينه وبين الباب العالي تغيير ما، وأنه إذا أقدم على عمل أيا كان نوعه فستنضم هذه الدول إلى تركيا لقتاله والتغلب عليه؛ فأجابهم الباشا عن ذلك بقوله:
(إنني لا أرغب في الحرب، ولن أقدم على عمل عدائي، ولكنني راغب في الاستقلال، ولن أتخلى عن هذه الغاية)
على أن هذا التحذير كان له أثره في نفس محمد علي؛ ورأى أن خير وسيلة لتجنب هذه الأحاديث البغيضة المنذرة بأسوأ العواقب، أن يرحل إلى الجنوب. وكانت الإشاعات متواترة بأن مناجم من الذهب صالحة للاستغلال قد كشفت في السودان. ورأى الباشا من مصلحته أن يتحقق من هذه الأنباء الهامة بنفسه، حتى إذا ما اضطر إبراهيم إلى الزحف على الأتراك، حلت بهذا الكشف مشكلة من أهم المشاكل. وزيادة على ذلك فإن غيابه يهيئ الظروف للمسألة التركية كلها أن تستقر على قرار ثابت مكين. لكن هذا الغياب المؤقت لم يكن ليفت في عضد الزمرة الدبلوماسية المتحدة التي ظلت تعارض محمداً علياً بعد رجوعه في 15 مارس سنة 1839
ولاشك في أن إبراهيم كان يعرف كل هذه الحقائق ويعرف أيضاً كيف يتعظ بعبرها؛ لأن أباه كان دائم الاتصال به لا يقطع عنه أخباره؛ وكانت معرفته بها وتقديره خطر الموقف الذي كان يواجهه سبباً في أنه لم يحرك ساكناً حينما استثار الأتراك غيظه؛ وذلك لأنه أيقن أن الأتراك يلقون معونة أوربا السياسية؛ وعرف الباب العالي ذلك فوقف من المصريين هذا الموقف المغضب. وكان فون ملكته وفون ملباخ وغيرهما من الضباط البروسيين لا(212/42)
يفتأون يحرضون قواد الترك العسكريين، ويستعينون بما طبع عليه الألمان من اعتداد بالنفس ومغالاة في الاطمئنان إلى مقدرتهم، فيغرون حافظاً باشا بالاستمرار على مناوأة إبراهيم.
وصادف تحريض الضباط البروسيين هوى في نفس القائد التركي العام، فلم يشك قط في الظفر بأعدائه، لأن له جيشاً جراراً، وإدارة للمخابرات دقيقة النظام، وهيئة طيبة من الضباط نواتها مساعدوه الألمان.
وشجعه على الاعتداد بنفسه أن إبراهيم لم يقابل هجومه في 23 إبريل بهجوم مثله. ولما سقطت عينتاب في يده زاد اطمئنانه، ولم يساوره قلق ما حتى جيء إليه بأحد الأسرى الذين وقعوا في يد الأتراك عند استيلائهم على قرية تل باشر. وهذا الأسير هو فرجاني شيخ عرب الهنادي. وكان رجلا سواه الله وعدله ووهبه من الكبرياء بقدر ما وهبه من قوة الجسم. وأخذ القائد العام يسأل أسيره، لعله يعرف منه ما يفيده في موقفه، لكن الرجل كان عنيداً لا يلين فأجابه بقوله: (عن أي شيء تسألني؟ دونك رأسي فليس ينجيه منك لساني، بل ربما أوقعني في الهلاك وكان منطقي سبباً في إراقة دمي). فأجابه حافظ بقوله: (لن أمس شعرة من لحيتك إذا صدقتني القول). فقال له الأسير: (أقسم بالقرآن أني سأبرح هذا المكان حياً سليما من الأذى، أخبرك بما تريد)
فلما أقسم ضحك فرجاني ملء شدقيه وقال!
(أتريد أن أخبرك بالحق وأطلعك على رأيي في معسكرك ومعسكر إبراهيم؟ أتريد أن تعرف ما سيقع في المستقبل؟ ألا هل يستطيع أحد أن يتنبأ بما في عالم الغيب؟ لكنك إذ أصررت على معرفة الحقيقة فأني مبلغك إياها: إن معسكر إبراهيم معسكر جنود، أما معسكركم فمعسكر حجاج).
فقال له القائد التركي غاضباً: (وماذا تقصد بهذا القول؟) فرد عليه بقوله: (رأيت في معسكر إبراهيم أكداساً من الأسلحة وإلى جوارها كتائب من الجند المشاة مدججين بالسلاح؛ ورأيت المدافع وإلى جانبها رجال المدفعية؛ ورأيت الاصطبلات وبقربها الفرسان؛ ورأيت كل إنسان في موضعه متأهباً لأداء واجبه؛ ولم أر شيئاً من ذلك في معسكركم، بل رأيت فيه يهوداً وتجاراً وأئمة؛ رأيت فيه رجالا يقرضون المال، ورجالا يبيعون، وآخرين يصلون،(212/43)
ولذلك قلت: إن معسكركم أشبه شيء بمعسكر الحجاج. وتسألني لمن سيكون النصر؟ فأقول إن هذا ما لا أعرفه، لأن علمه عند الله، وستعلمن نبأه بعد حين)
إن للأتراك أغلاطاً ولكنهم قوم كرام. ومع أن حافظاً قد تألم وكاد يصعق مما قاله العربي الصريح، فقد فك أسره وخلى سبيله، وقبل أن يعود إليه صوابه جاءه رسول ومعه خطاب من إبراهيم؛ ولم يكن هذا الرسول يحمل راية الهدنة لأن الحرب لم تكن أعلنت رسمياً بين الدولتين. وكان تاريخ الخطاب 8 يونيه سنة 1839 وقد جاء فيه:
(إن التعليمات التي أرسلتها الدول العظمى إلى قناصلها المقيمين في الإسكندرية قد أقنعتني بأنهن غير راضيات عن الحرب؛ وإني لأعرف أيضاً أن سمو مولاي المعظم غير راض عنها، ولكن على الرغم من هذا.
(1) فإن سليمان باشا المرعشلي أرسل فصيلة من جنوده هاجمت جيوشنا في بولانق.
(2) وأرسلتم فرقة إلى باياس لتحريض أهلها على الانتقاض علينا
(3) وبعثتم بالحاج عمر أوغلو إلى كرد داغ للغرض نفس.
(4) وغزوتم أرضنا وهاجمتم عرب الهنادي التابعين لنا.
(5) ووزعتم الأسلحة على أهل ولاية عيتناب، ودخل سليمان باشا المرعشلي هذه المدينة ولا يزال باقياً فيها إلى الآن. وبالأمس هاجمت قوة من الفرسان تحت قيادة سعادتكم صفوفنا وأمرتم مدفعيتكم أن تصوب نيرانها على فرساننا الهنادي في مخافرنا الأمامية).
وبعد أن ذكر إبراهيم هذه الأسباب قال:
(ولقد صبرت إلى الآن على هذا كله ولم أقابله بمثله، لأنني كنت أحاول أن أقنع نفسي بأن هذه الأعمال العدائية تغضب السلطان مولانا المعظم. فإذا كنتم سعادتكم تعزون سكوتي عنها إلى الخوف فأنكم مخطئون في ظنكم، إذ ليس لسكوتي إلا سبب واحد هو حرصي على احترام رغبات سمو والدي وسيدي المعظم. وإذا كنتم سعادتكم قد تلقيتم الأمر باستئناف القتال، فما بالكم تنهجون هذا النهج وتدسون الدسائس. هلموا إلى ميدان القتال ولكن هلموا إليه بصراحة، وخوضوا غمرات الحرب كما يجب أن تخاض. وإلا أخالكم قد نسيتم ما حدث منذ بضع سنين، وستلقون رجالاً لا يعرف الخوف طريقة إلى قلوبهم؛ أما الدسائس فأننا لا نطيق احتمالها إلى الأبد. فهل أحظى منكم بجواب صريح؟ فإن فعلتم فسينقل ردكم(212/44)
إلي إذا رغبتم حامل هذا الخطاب الأمير ألاي محمود بك).
(يتبع)
محمد بدران(212/45)
مشروع تقسيم فلسطين وأخطاره
لباحث عربي كبير
جلس سكان فلسطين مساء يوم الأربعاء الواقع في 7 يوليو، أمام الراديو منتظرين سماع تقرير اللجنة الملكية. وكان السكون مخيما في معظم البيوت وفي المقاهي والأندية. وما كاد المذيع يفرغ من قراءة خلاصة التقرير واستنتاجات الحكومة المنتدبة حتى انتاب أهل البلاد ذهول دام بضعة أيام من شدة الصدمة. . وأراد فخامة المندوب السامي أن يتلطف بهم وبحالهم ويهون عليهم المصاب بدعوته أهل البلاد إلى إنعام النظر والتروي في إبداء الرأي، وأن يحكموا العقل على العاطفة في تقرير الحكم على مشروع اللجنة الملكية
اتبعنا هذه النصيحة وقرأنا بإمعان خلاصة التقرير، ثم أخذنا في قراءة التقرير نفسه. فما كان أشد دهشتنا عندما رأينا اللجنة الملكية تخالف في تقريرها جميع تقارير اللجان البريطانية، والخبراء الإنكليز، وكتب حكومة لندن البيضاء، ورأي عصبة الأمم، فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، حتى أنها تخالف أيضاً صك الانتداب نفسه
تقول جميع هذه المستندات بأن التزامات الحكومة المنتدبة نحو العرب واليهود متساوية، فقالت لجنة اللورد بيل خلاف ذلك، وأوصت حكومة جلالة الملك بتنفيذ التزاماتها نحو اليهود أولا ثم النظر في التزاماتها نحو العرب. أي أنها توصي بإنشاء الوطن القومي اليهودي، ثم بالنظر في المحافظة على حقوق العرب!.
وصرحت حكومة جلالته وعصبة الأمم مراراً بأن ليس الغاية من تصريح بلفور إيجاد دولة يهودية في فلسطين، فقال اللورد بيل في تقرير لجنته بأن المراد من تصريح بلفور وصك الانتداب إيجاد دولة يهودية في الأراضي المقدسة عندما يصبحون أكثرية فيها
وينص صك الانتداب صراحة بأن واجب الحكومة ترقية الحكم الذاتي في فلسطين، فقالت اللجنة الملكية بأن إنشاء مجلس تشريعي مخالف لصك الانتداب!. .
ولم تكتف اللجنة الملكية بهذا، بل تهكمت في تقريرها بالعرب وزعمائهم، ولم تر فيهم إلا مثالب، ولم تر في اليهود وأعمالهم إلا محامد؛ وجمعت في تقريرها جميع الآراء والأقوال اليهودية التي تزعم أن ليس للعرب حق في فلسطين، وأن الأراضي المقدسة حق لبني إسرائيل! فكان تقريرها هذا مجموعة أضاليل يهودية. حتى أنه لو قيل للدكتور وايزمن،(212/46)
زعيم الصهيونية، أن يكتب تقريراً عن القضية الفلسطينية ومطالب اليهود، لما جرؤ على كتابة مثل تقرير اللجنة الملكية!. .
إن تقرير اللجنة الملكية خطة سياسية مرسومة، يراد منها أولا إزالة مفعول التقارير البريطانية السابقة التي جاءت كلها منذ الاحتلال حتى الأيام الأخيرة لصالح العرب مثنية عليهم، ومظهرة سوء السياسة الصهيونية وخطرها على أهل البلاد ووخيم عواقبها، وثانياً تحقيق إنشاء (المملكة اليهودية)
إننا لا نبالي بحكم اللورد بيل على العرب لأن حكمه فريد، وطبيعي أن هذا الحكم الشاذ لا يؤثر في رأي المنصف العادل على حكم التاريخ، ولا على الأحكام البريطانية العديدة السابقة، ولا يقلل من أهميتها ومفعولها
والذي يهمنا في هذا المقال هو إظهار أخطار مشروع تقسيم فلسطين، و (المملكة اليهودية) التي تريد الحكومة البريطانية إيجادها في قسم فلسطين الطيب
تمويه التقسيم
قسم اللورد بيل فلسطين إلى ثلاثة أقسام، أعطى الأول إلى اليهود، واحتفظ بالثاني لدولته، وأبقى الثالث لأهل البلاد. أما قسم اليهود فيشمل جميع الفضاء الشمالي وسهل الحولة ومرج ابن عامر، والسهل الساحلي حتى 10 كليومترات جنوبي رخبوت، وتبلغ مساحته حوالي ثمانية ملايين من الدونمات (الدونم ألف متر مربع)، وفيه من المدن العربية صفد وعكا وحيفا وطبرية والناصرة، ومن القرى عدد عظيم، حكم عليها أن تصبح يهودية، وقضي على سكانها العرب البالغ عددهم أربعمائة ألف عربي بأن يرحلوا من وطنهم العزيز. أما القسم الذي سيوضع تحت انتداب بريطاني جديد فيشمل القدس وبيت لحم وضواحيها وجميع الأراضي التي تسير فيها طريق يافا - القدس، وسكة حديد يافا - القدس. ويدخل في هذه المنطقة الرملة واللد وقرى عديدة كلها عربية. وعلاوة على هذه المنطقة فالحكومة المنتدبة تحتفظ لها بمنطقة لم تعين حدودها على ساحل خليج العقبة، وستكون هذه المنطقة جميع ما يدخل فلسطين من صحراء سيناء وقسم كبير من فضاء بئر السبع إن لم يكن كله لأسباب سياسية
واعتاد الإنكليز واليهود القول بأن ما بقي من فلسطين خاص بالعرب ليوهموا العرب بأن(212/47)
ما يبقى لهم قسم مهم عظيم. والواقع أن ما يبقى لهم من وطنهم حسب مشروع التقسيم، جبال نابلس وجبال الخليل والقسم الجنوبي من القسم الساحلي، وهذا القسم من السهل قاحل على أكثر السنين لعدم انتظام سقوط الأمطار فيه. وبعبارة أخرى إن ما يريد اليهود والإنكليز إبقاءه عربياً (مؤقتاً) جبال جرداء وصحراء محرقة. وهم يريدون إلحاق هذا القسم بشرق الأردن الفقير وتأسيس مملكة عربية منهما
أطلق على مشروع لجنة اللورد بيل مشروع تقسيم فلسطين، وكلمة تقسيم تخدع كثيرين من الذين لا ينظرون بعيداً أو الذين لا يعرفون طبيعة الأراضي في فلسطين. أما الحقيقة فهي أن مشروع اللجنة الملكية يعطي فلسطين كلها لليهود، لأن اعتبار البلاد هو بما فيها من أراض صالحة للزراعة، لا بجبالها الجرداء ولا بصحاريها الجدباء. وإذا علمنا أن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في فلسطين لا تزيد على 6 , 544 , 000 دونم، حسب تقدير الخبير الكبير السير جون هون سمبسون، وإن هذه الأراضي الصالحة للزراعة مؤلفة من سهول فلسطين وهي: سهل عكا، وسهل الحولة، ومرج ابن عامر، والسهل الساحلي؛ وإذا علمنا أن جميع هذه السهول داخل ضمن القسم اليهودي، عدا جنوبي السهل الساحلي القاحل في أكثر الأوقات، رأينا بجلاء أن جميع فلسطين الصالحة للزراعة وهي فلسطين الحقيقية والتي من خيراتها يعتاش جميع سكان البلاد، داخلة ضمن القسم اليهودي، وما بقي من فلسطين قاحل لا يعول من فيه من السكان
إجلاء لا تبادل أراض وسكان
يريد اليهود ترحيل الشعب من فلسطين ليكونوا فيها وحدهم - فحقق لهم اللورد بيل قسما كبيراً من أمنيتهم، وذلك بقبوله هذا المبدأ، وإصراره على إرغام العرب الذين يعيشون في (مشروع القسم اليهودي) من فلسطين، على الرحيل إلى القسم الآخر منها، أو إلى حيث يشاءون، فيما لو قبل مشروع تقسيم فلسطين. ووضع اللورد بيل إصراره في عبارات كثيرة ما استعملها الدبلوماسي إلا لإخفاء الحقيقة والظهور بمظهر الشفيق العادل، فقال بأن (مصلحة الفريقين تقضي بأن يبذل أقصى ما يمكن من الجهد للوصول إلى اتفاق بشأن تبادل الأراضي والسكان).
ربما يخيل للقارئ من هذا القول أن هناك أقلية من العرب تملك أقلية من الأراضي في(212/48)
(مشروع التقسيم اليهودي)، لا، إن هذا خطأ مبين، إذ أن كل ما تملكه اليهود من أراض في فلسطين منذ ابتداء - حركتهم الصهيونية، مليون وربع من الدونمات، بينما مساحة القسم الذي تريد اللجنة الملكية إنشاء مملكة يهودية فيه تبلغ حوالي ثمانية ملايين دونم. فمن هذين الرقمين يظهر أن (المملكة اليهودية) ستنشأ على أراض لا يزال العرب يملكون فيها ستة أضعاف ما يملك اليهود، كما أن عدد سكان العرب في هذه المنطقة لا يقل عن أربعمائة ألف، بينما عدد اليهود فيها لا يزيد على ثلاثمائة ألف.
وفي الواقع أن لجنة اللورد بيل تريد إخراج ما لا يقل عن أربعمائة ألف عربي من (مشروع القسم اليهودي) واستبدالهم باليهود القاطنين بما يسمونه (القسم العربي) البالغ عددهم 1 , 250 فقط، والذين لا يملكون فيه إلا بضع مئات من الدونمات. فاستعمال تعبير تبادل السكان في هذه الحال غاية في الهزء والسخرية بالعرب. ليس الأمر أمر تبادل سكان، وإنما هو إجلاء العرب عن القسم الخصيب من بلادهم الذي منه يعتاشون والذي من دونه لا حياة لهم.
ويصحب جلاء العرب عن وطنهم استيلاء (الحكومة اليهودية) على أراضيهم، وهذا ما يريده اليهود. وما أوصت به اللجنة الملكية
أراد اللورد بيل مساعدة اليهود إلى أكبر حد، فقرر منع بيع الأراضي بيعاً حراً لتنزل أسعارها، وأعطي (الحكومة اليهودية) الحق في تعيين ثمن أراضي العرب ليوفر عليها مبالغ طائلة؛ وعليه سيستولي اليهود على أراضي العرب مقابل أثمان زهيدة. فالأفراد من العرب الذين لهم أراضي في (المنطقة اليهودية) ويمنون النفس بالثراء سوف لا ينالون الأسعار التي يمكن أن ينالوها فيها لو لم ينفذ مشروع تقسيم فلسطين.
الموت الاقتصادي
ربما يفكر البعض، متأثرين بما سمته اللجنة الملكية (فوائد التقسيم) وبالدعاية التي يقوم بها بعض موظفي الحكومة، في أن لا فائدة من رفض التقسيم مادام اليهود واصلين إلى أكثر من النتيجة التي يوصلهم إليها تقرير اللورد بيل، ويقولون متسائلين: ألم يحدد تقسيم فلسطين الأطماع اليهودية؟ فإذا لماذا نرفضه؟
غريب هذا المنطق! لنفرض (وهذا ليس بصحيح) أن ليس في إمكان العرب صد تيار(212/49)
اليهود عن فلسطين، وليس في مقدورهم المحافظة عليها عربية، وأن سيأتي يوم يصبح فيه القسم المعطي لهم الآن يهودياً إن لم يكن فلسطين كلها، ولكن ذلك لا يتحقق غدا، ولا بد له على الأقل من خمسين سنة. وسيظل اليهود خلال هذه السنين في نضال عنيف، وسيبذلون خلالها جهوداً عظيمة وأموالا طائلة، حتى يصلوا إلى النتيجة التي يوصلهم إليها الآن مشروع التقسيم. فهل من الصواب إذن أن تنيلهم اليوم ما لعلهم ينالونه بعد مشقة وبعد جهاد يدوم نصف قرن؟ أو ليس من الحكمة السياسية، إن لم يكن من الواجب الوطني، أن نصبر ونناضل بالطرق المشروعة، ونتخذ الوقت عوناً لعله يأتي لنا بما يفرج؟ وما يدرينا أن تتغير الظروف الدولية فتكون لنا عوناً على المحافظة على عروبة فلسطين وعلى نيلنا حقوقنا فيها؟ أما إن تأسست اليوم مملكة يهودية في قسم من فلسطين فيكون الأمر قد انتهى، ولا نعود بقادرين، مهما أتت الظروف على إرجاع ما ذهب منا، وما تقسيم فلسطين، وتأسيس مملكة يهودية في قسمها الطيب إلا وسيلة يراد بها تسهيل استيلاء اليهود على جميع فلسطين وشرق الأردن دفعة واحدة.
إذا نظرنا نظرة اقتصادية إلى ما يريد اللورد بيل إبقاءه (مؤقتاً) للعرب من وطنهم وجدنا أن هذا القسم قاحل لا يعيش من فيه، وخير دليل على ذلك نزوح ألوف من سكانه إلى السهل الساحلي حيث الخصب وحيث بساتين البرتقال منتشرة، ثم إن ألوفاً عديدة من سكان هذه المنطقة مزارعون يعتاشون من أعمالهم في الأراضي التي يملكونها في السهول الداخلية في المنطقة اليهودية. ومثال ذلك جميع القرى الواقعة حتى على مسافات بعيدة من السهل الساحلي ومدن طولكرم والرملة واللد ويافا، فإن هذه القرى العديدة وهذه المدن الكبيرة تعتاش بما يعمل أهلها في أراضيهم ومزارعهم الواقعة في السهل الذي يريد مشروع التقسيم أن يستولي عليه اليهود؛ فمتى حرمت هذه القرى والمدن من أملاكها، أصبح لا عمل لأهلها إلا مكافحة الجوع والشقاء (فكيف تصبح حالة سكان هذا القسم من فلسطين متى رحل إليه الأربعمائة ألف عربي سكان القرى والمدن التي سيستولي عليها اليهود إن قبل العرب التقسيم أو مكنوا الإنكليز من تحقيقه؟
حرمت مدينة يافا، بموجب مشروع التقسيم من بساتين البرتقال التابعة لها والتي منها يعتاش سكانها، فمعنى ذلك أن أهل هذه المدينة سوف لا يجدون لهم مرتزقاً يمكنهم من(212/50)
الاستقرار في مدينتهم. وسيأخذ اليهود الذين يحيطون بهم من كل ناحية في مضايقتهم، وستكون النتيجة حتما رحيل سكان يافا وتهويد المدينة، ومصير اللد والرملة وهما في منطقة الانتداب كمصير يافا، لأن هاتين المدينتين حرمتا أكبر قسم من أراضيها، وبغير هذا القسم من الأراضي لا حياة لسكانهما.
ستحل من غير شك (في المنطقة العربية) بل في (المملكة العربية) المنوي إقامتها في بلاد فقيرة، أزمة اقتصادية هائلة بل مجاعة شنيعة. وهذه الحالة ترغم الملاك فيها إلى بيع ما يملكون، أو رهنه، أو إيجاره على سنين عديدة، وليس في هذه البلاد من شار ولا مرتهن، ولا من مستأجر، غير اليهود. . . وهكذا يأخذ اليهود في وضع أيديهم على (القسم العربي) ويلحقوه بمملكتهم، فتصبح فلسطين برمتها في مدة وجيزة مملكة يهودية خالية من أصحابها العرب. ربما يعترض على هذا الحكم من لا يعرف السياسة وتلاعبها بأن ليس لليهود الحق في شراء الأراضي في القسم العربي من فلسطين. هذا صحيح، ولكن في إمكان من يضع هذا القانون أن يضع غيره، لاسيما وأنه غير قابل للتنفيذ، والقانون وحده لا يستطيع الحيلولة دون وضع اليهود أيديهم على البلاد بمختلف الطرق مادامت موارد البلاد الاقتصادية لا تفي بحاجة السكان.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن (المملكة العربية) الهزيلة سوف لا تعرف الاستقلال لأنها لا تقدر على حمل أعبائه الاقتصادية. والبلاد التي ليست مستقلة استقلالا اقتصادياً والتي تجاورها دولة غنية طامعة فيها، لا يمكنها المحافظة على استقلالها السياسي. . وستكون النتيجة التحاق الدولة العربية بالدولة اليهودية، سواء طلب العرب ذلك بدافع العوامل الاقتصادية، أم اضطروا إليه أمام حيل الدولة اليهودية، فتنتشر الملايين من اليهود في جميع أنحاء البلاد، ويصبح العرب فيها أقلية فقيرة لا شأن لهم يذكر، إن لم يرغموا على الرحيل إلى صحراء الجزيرة.
فمشروع التقسيم لا يحدد في الواقع المطامع الصهيونية، وإنما هو وسيلة لتحقيقها بمدة وجيزة، وهو حيلة يراد بها الوصول إلى تأسيس مملكة يهودية واسعة في فلسطين كلها، وفي شرق الأردن ذلك البلد العربي الذي لا يطبق عليه صك الانتداب، ولا يسري عليه تصريح بلفور، وفي ذلك ما فيه من الأخطار الفادحة لجميع البلاد العربية(212/51)
دولة تولد مستعبدة
أقرت اللجنة الملكية أن الدولة العربية التي تريد إيجادها لا تستطيع الحياة حياة اقتصادية وحاولت تخفيف شدة الضربة على العرب بالمال، فرددت عبارة (إعانة مالية) مراراً، كأن المال هو كل شيء في الحياة، وكأنه أعز من الأوطان والمقدسات. وقالت: (بما أن ذلك القسم من فلسطين الواقع في منطقة الدولة العربية لن يستفيد فيما بعد من قدرة المنطقة اليهودية على دفع الضرائب، وبما أن مساحة الدولة اليهودية ستكون أوسع من مساحة المنطقة الحالية التي تضم أراضي اليهود ومستعمراتهم (بما لا يقل عن ست مرات) فينبغي أن تدفع الدولة اليهودية إعانة مالية للدولة العربية)
مما لا ريب فيه أن شعب الدولة العربية المنوي إنشاؤها سوف لا يقدر على دفع ضرائب تسد الأكلاف الضرورية لمسير أعمال الدولة كما هي حال شرق الأردن الآن، فإن حكومة هذا الشرق تتقاضى إعانة سنوية من الحكومة البريطانية تمكنها من استمرار وجودها. ولتمكين حكومة (الدولة العربية) من الحياة يريد اللورد بيل أن تدفع الدولة اليهودية للدولة العربية إعانة مالية. أي أن حياة المملكة العربية تتوقف على ما تجود به عليها الدولة اليهودية. . .
إن في إمكان الدولة اليهودية أن ترفض دفع هذه الإعانة المادية بعد أن تكون قد نالت ما تبتغي. فمن يضمن دفع هذه الإعانة؟ أهي الحكومة البريطانية؟ لقد رأينا قيمة ضمانات هذه الحكومة ولاسيما تجاه العرب. لا ينبغي إن تبهر هذه الإعانة من يوطنون النفس على الاستفادة منها. إن اليهود لن يدفعوها إذا وجدوا مصلحتهم تقضي بذلك. وسيجدون ألف عذر ليتملصوا من دفعها. لقد تعهدت ألمانيا بدفع تعويضات لفرنسا ولغيرها من الدول ولم يمض على تعهدها عامان حتى أخذت في تأجيل الدفع ثم النصل منه نهائيا، ولم تستطيع فرنسا القوية على إرغامها، فهل في مقدور الحكومة العربية الضعيفة إرغام اليهود على دفع هذه الإعانة؟
ولنفرض أن اليهود سيدفعون هذه الإعانة عن طيب خاطر فإن هذه الإعانة ضرب من استعمار اليهود للدولة العربية الفقيرة، ووسيلة إلى تدخل اليهود في سياستها وفي جميع أمورها. هناك قاعدة اقتصادية سياسية بسيطة تقول بأن الذي في يده ميزانية الدولة في يده(212/52)
مصيرها. فلما كانت خزينة الدولة في العهد السابق في يد الملوك، كانت السلطة المطلقة في يدهم أيضاً، ولما انتقل حق فرض الضرائب من الملوك إلى البرلمانات، انتقلت السيادة معها. فأصبحت البرلمانات مصدر السلطات. ونرى في هذه الأيام، في البلاد الديموقراطية، أن نفوذ وزير المالية آخذ في الازدياد حتى أنه أصبح يتدخل في دوائر زملائه ويشرف عليها نوعا ما، لماذا؟ لأن في يده توزيع ميزانية الحكومة على دوائر الوزراء. فالإعانة المالية اليهودية ستمكن الدولة اليهودية من الحصول على امتيازات خاصة في الدولة العربية، ومن مراقبة ماليتها وسياستها. . . أي أن الدول العربية ستكون طوعا أو كرها المستعمرة الأولى للدولة اليهودية، وسوف لا يمر على ذلك مدة طويلة حتى تدمج الدولتان، ويتألف منهما دولة يهودية كبرى تهدد ما جاورها من البلاد العربية. . .
ورأت الحكومة البريطانية تحقيقاً للتقسيم صرفا لشرق الأردن عن المطالبة بحقوق العرب بأن تعده بثلاثة أمور: إلحاق القسم الباقي من فلسطين به، وتأسيس مملكة عربية (مستقلة) منهما، وإعطاء مليونين من الجنيهات لحكومة شرق الأردن بدل المنحة التي تدفعها سنويا لسد عجز ميزانيته. . .
(البقية في العدد القادم)
اقتصادي(212/53)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 14 -
البوذية
نشأة الديانة والفلسفة البوذيتين
ذاعت في بلاد الهند قبل البوذية بزمن طويل أسطورة دينية مؤداها أن إنقاذ الإنسانية من آلامها سيكون على يدي شاب نبيل حسن الخلق والخلق، يولد بين أحضان النعمة ويشب بين أعطاف الترف والسعادة، ثم يتخلى عن المادة ويزهد في الشهوات فيصل إلى المعرفة الكاملة التي بها ينقذ الإنسانية من بين براثن الشر والألم. فلما ظهر بوذا وكان قد نشأ على النحو الملائم لبطل الأسطورة المتقدمة آمن الناس بأنه هو المنقذ المنتظر، وكان هو شخصياً يعرف هذه الأسطورة فآمن بأنه بطلها المنشود، فأعلن أنه لا شيء أنجع للوصول إلى النجاة من وسيلتين: أولاهما التخلي عن المادة، وثانيتهما المعرفة. ثم بدأ جهاده بتحقيق هاتين الوسيلتين في نفسه، فتخلى عن اللذائذ تخلياً عملياً، ثم لم يلبث أن أعلن أنه وصل إلى نهاية المعرفة كما أسلفنا
نشأت عن المبدأ الأول من هذين المبدأين الديانة البوذية التي هي وليدة الزهد والتقشف قبل كل شيء، وعن المبدأ الثاني وهو المعرفة نشأت الفلسفة البوذية. وسنحاول هنا أن نلم في شيء من الإيجاز بالديانة البوذية وأركانها وتطوراتها ثم بالفلسفة البوذية وعناصرها الأولية
الديانة البوذية
لم يشأ بوذا في أول أمره أن يقحم في مذهبه أي شيء له علاقة بما بعد الطبيعة، بل لم يتحدث عن الإله على أصح الأقوال، وإن كان بعض مؤرخي الفلسفة قد رووا عنه أنه تعرض للألوهية بالإنكار وصرح بأن ليس هناك إله على النحو الذي يصورونه به، وإنما(212/54)
هناك روح عام متغلغل في كل شيء. ويروي البعض الآخر أن بين أقدم النصوص البوذية نصاً ينكر الألوهية أصرح الإنكار، إذ هو يتساءل قائلا: (ما هو الإله؟ هل هو نفس العناصر؟ إذا كان ذلك فلا يكون في الأمر جديد سوى وضع اسم مكان آخر
وإذا كان غيرها، ولها هي هذه الخواص التي نشاهدها، فقد ثبت خلوه هو من بعض الخواص الثابتة للعناصر، وهو نقص فيه. وإذا كان له كل خواصها فلم يكن في حاجة إليها، لاتخاذها وسيلة لإيجاد العالم. وإذاً فنحن أمام خلاء من الألوهية يؤيده المنطق)
وأنا شخصياً أستبعد هذا الإلحاد على ذلك المتنسك النوراني والمصلح الأخلاقي العظيم، ولعل هذا النص قد دُسَّ عليه في العصر الذي تلا عصره
وكان أهم ما يرمي إليه هو تخليص الإنسانية من آلامها المتوالية التي يجددها التناسخ بقدر ما يعدده من وحدات العودة إلى الحياة التي هي في كل مرة مليئة بالألم والشقاء. وقد اعتبر بوذا - كما أسلفنا - الجهل والشهوة الأساسين الجوهريين لهذا الألم، وأكد أنه لا خلاص للإنسانية إلا بالمعرفة والتخلي عن المادة، وهما وسيلتان متلازمتان أبداً، إذ لا توجد المعرفة الصحيحة حيث يحل التهالك على المادة، ولا تستقر الزهادة حيث يوجد الجهل
ولا ريب أن هذا الحط من شأن الحياة وما فيها من متع ولذائذ قد قسم البوذيين إلى قسمين: القسم الأول الدينيون، والقسم الثاني المدنيون أو الأحرار، ولكن ليس معنى هذا أن طائفة الدينيين من البوذيين كانت مكلفة بتأدية طقوس دينية خاصة. كلا، فبوذا لم يكلف أتباعه بأي نوع من أنواع العبادة، وإنما كل ما كان يمتاز به الديني على المدني من البوذيين هو أن الأول أكثر تنسكا وأقل تعلقاً بالمادة من الثاني، وهو لهذا كان نموذجا له في حياته العملية، لأنه أسرع منه خطى في السير نحو الخلاص من شوائب المادة المدنسة
غير أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا أن جميع أفراد الطائفة الدينية البوذية كانوا بعيدين عن جميع مظاهر الحياة، لأن الواقع يخالف ذلك، إذ كان أكثرهم مع تنسكهم يتصلون بالناس في المعاملة وأحوال المعيشة، لكن في شيء من الاعتدال، بل من الحذر والاحتياط. أما أقلهم فكانوا رهابنة يعيشون في عزلة من الناس لا ينشغلون إلا بالتأمل في أسرار الكون والنظر في عظمة الوجود
كان الملك محرماً على البوذيين الدينيين كافة حتى الذين يتعاملون منهم مع الناس، وكان(212/55)
الواجب على كل فرد منهم أن يتسول طعامه يوماً فيوما وألاّ يدخر شيئاً مهما قل إلى غده
أحس المدنيون من البوذيين في داخل أنفسهم بشيء من القلق المضني، فأيقنوا بأنهم لم يصلوا بعد إلى الهدوء النفساني المنشود الذي به وحده تتحقق السعادة، وبحثوا عن سبب ذلك فعلموا أنه التعلق بالمادة والتخلف عن الطريق القويم الذي سار فيه إخوانهم الدينيون، ولكنهم لم يستطيعوا أن يطبقوا على أنفسهم تلك المناهج الضيقة ولا أن يذعنوا لهاتيك القواعد التي كانت قد بدأت تقسو وتتشدد في جميع أساليب الحياة، فحظرت على البوذي أكل اللحوم والأسماك، وقيدته بأنواع محددة من الأطعمة والأشربة والثياب، ورسمت له الخطة التي يجب عليه أن يسلكها، فاكتفى أولئك الأحرار من البوذيين بالإيمان النظري ببوذا وباتباع الأخلاق البوذية السامية من: صدق وأمانة وحلم وحياء ووداعة وإيثار وتضحية وغير ذلك من جلائل الصفات، وجعلوا بيوتهم مأوي لإخوانهم الدينيين؛ أما مشكلة عدم وصولهم إلى السعادة النفسية، فقد وجدوا لها حلا طريفاً، وهو أن من آمن ببوذا وتخلق بأخلاقه وآوى رجال دينه وأكرم مثواهم وعاش عيشة مدنية، فإن روحه بعد موته تتقمص بوذ يادينيا، لتصل عن طريقه إلى الخلاص من المادة الذي يضمن لها السعادة والنجاة
مستحدثات البوذية:
أتت الديانة البوذية بمحدثات لم يكن للبراهمة بها عهد من قبل مثل نبع الوحي من داخل النفس بدل أن كان البراهمة يسندونه إلى الآلهة. ويعلق العلماء الأوربيون على هذا المبدأ بما يفيد عظمة بوذا وسموه على جميع سكان الهند وثقته بنفسه إلى الحد الذي لم يؤلف عند الشرقيين الذين وصلت ضآلتهم أمام أنفسهم إلى حد إسناد كل شيء إلى السماء، تلك الضآلة التي كادت تمحو منتجاتهم العقلية الخاصة من صحائف مجهودات الفكر البشري. وسنرد على هذه الحملة الجائرة حين نعرض للوحي والإلهام عند الكلام على الإشراقية إن شاء الله.
ومن الميزات التي اختصت بها البوذية إعلانها أن مهمتها نجاة العالم وإنقاذه من الألم والشقاء، وفي هذا الغيرية ما لم يخطر للبراهمة الأنانيين على بال، وبهذه النقطة يقترب بوذا من المسيح في نظر العلماء الذين يصدقون حادثة الصلب ويتخذون منها برهاناً على غيرية المسيح وتضحية نفسه في سبيل إنقاذ البشر من الخطايا والآثام.(212/56)
ومن هذه المستحدثات البوذية إلغاء نظام الطبقات الذي مر بك مفصلا في البراهمية (الأرثوذكسية) ثم أقره عهد التطور حتى جاء بوذا فحرمه على جميع معتنقي ديانته، وإن كان الأستاذ (دينيس سورا) يرى أن بوذا لم يلغ نظام الطبقات، وإنما كانت المقاطعة التي نشر فيها ديانته خالية قبل وجوده من نظام الطبقات لأن من المسلم به أن البراهمة لم ينشروا ديانتهم في جميع بقاع الهند، ولكن هذا الرأي غير صحيح، لأن بعض النصوص البوذية روت لنا أن بوذا كان كثيراً ما يتلاقى مع بعض البراهمة يتيهون في البراري والقفار فلا يكترث بهم ولا يتلفت إليهم.
ومهما يكن في الأمر، فقد محا بوذا كل تلك الفروق التي كانت البراهمية قد وضعتها بين طبقات الشعب بزعمها أن الكهنة خلقوا من رأس براهما، والجند من ذراعيه ومنكبيه، وأرباب الحرف من ساقيه، والأرقاء من قدميه، فلما جاء هذا المصلح العظيم أعلن أن جميع بني البشر سواسية لا فضل لأحد على أحد إلا بالزهادة والمعرفة.
الأخلاق البوذية
بدأ بوذا منذ فجر اليوم الأول لتبشيره بديانته يعلم تلاميذه الفضائل التي رأى أنها وسائل الخلاص والنجاة، ولكنه شاء أن يعلمهم هذه الفضائل عن طريق إنبائهم بأضدادها، فأعلن أن الرذائل الواجبة التجنب عشر، وهي: الشهوة والمقت، والعمى والجهل، والإدعاء والرأي، والشك والإهمال، والخلاعة والوقاحة.
كانت هذه الرذائل في أول الأمر تذكر في تعاليم بوذا على النحو المتقدم، دون ترتيب ولا تخصيص، أما بعد ذلك فقد قسمت إلى فصائل اختصت كل ناحية من الإنسان بفصيلة معينة منها بعد تطورها وتحديدها في مجموعتها. وهاك هذا التقسيم: إن الرذائل التي تهوي بالإنسان عشر، وإن نواحيه التي تأتي هذه الرذائل ثلاث اختصت كل ناحية منها بعدد من تلك الرذائل، فرذائل الجسم ثلاث، وهي: التعذيب والسرقة والزنى؛ ورذائل النطق أربع، وهي الكذب والنميمة والسباب والطيش؛ ورذائل التفكير ثلاث، وهي: الطمع والخبث والتزييف.
لم تكن البوذية تسوي بين هذه الرذائل، بل جعلتها متفاوتة في مراتب الإثم كما هي متفاوتة في سرعة الانمحاء عن مرتكبها، ولكنها صرحت بأن الندم هو من أهم وسائل الخلاص(212/57)
منها
على أن الفضائل المضادة لهذه الرذائل المتقدمة ليست مجموعها من النوع العالي في رأي البوذية، وإنما هي فضائل سلبية لأن من تعفف عن السرقة مثلا لم يزد على أنه هجر رذيلة من شأنه أن يهجرها، وهو لهذا لا يسمو إلى درجة من يستعمل فضيلة الزهادة أو التضحية، أو ما شاكل ذلك.
وعندهم أن أهم تلك الفضائل الإيجابية ما يأتي:
(أ) حب الحقيقة.
(ب) الرأفة.
(ج) الطهر.
(د) الإحسان.
(هـ) مداومة التقوى.
(و) احتمال كل المؤلمات والمقززات. وغير ذلك مما يصادفه القارئ من أمثلة عالية في كل صفحة من صفحات السيرة البوذية الفاتنة.
(يتبع)
محمد غلاب(212/58)
رسالة الفن
رفائيل
الفنان أبداً
للدكتور أحمد موسى
عرفنا من المقالات السابقة أن عصر الرفعة قد امتاز بعدد عظيم ممن توافرت فيهم الكفايات التي إذا قورنت بغيرها آمنا بإطلاق بعض المؤرخين على هذه المرحلة الزمنية (عصر النهضة)
وعرفنا بعض الشيء عن ليوناردو دافينشي، وتناولنا بالبحث ميكيلانجلو الذي اعتبرناه عبقرية ملهمة في عالم الفن، كما فحصنا اتجاهه ونواحي إنتاجه، ووصلنا إلى أنه كان أعظم فنان ظهر رغم ما بذله حاسدوه من مجهود لتدبير المكائد له حتى يقضوا على صيته وسمعته
واليوم نعالج شخصية أخرى على النقيض، غمرتها محبة الناس واستأثرت بإكبارهم وتدليلهم إلى حد بعيد. ومن تكون هذه الشخصية غير (رفايللو سانتي) الذي كان على أكبر جانب من جمال الطلعة وسمو النفس ودقة الشعور ورقة الشمائل؟
ولد رفايللو يوم 28 مارس (؟) سنة 1483 في أوربينو، وتلقى أول دروسه على والده المصور جيوفاني سانتي الذي مات عندما بلغ الابن الثانية عشرة من عمره، ثم على معلم آخر ربما كان تيموتيوفيتي الذي عاش في أوربينو في ذلك الحين أيضاً، والذي كان صديقاً حميما له فيما بعد
ولم يترك رفايللو مدينة أبيه إلا سنة 1499 عندما أراد الالتحاق بالعمل عند المصور المشهور بيروجينو في مدينة بيروجيا
وإذا رجعنا إلى مصوراته كلها نرى أن بينها واحدة أرّخها سنة 1504 وأسماها سبوساليزيو غير أن هذا لا يتخذ دليلا على أنه لم يقم بتصوير لوحات أخرى قبل هذا التاريخ، إذ المعروف أنه اشتغل بالتصوير في كنيسة بيروجيا وفي سيتا دي كاستيلا(212/59)
وفي هذه السنة أيضاً (1504) سافر إلى فلورنسا وأقام فيها بضع سنوات لم يتركها أثناءها إلا عندما كان يذهب في بعض الآونة إلى بلدته أوربينو أو إلى بيروجيا حيث يقيم معلمه
وتأثر في فلورنسا بتراث ليوناردو (راجع الرسالة) وبفن فرا بارتولوميو فدقته في التصوير وعنايته المنهجية ترجع إلى ليوناردو، على حين ترى السيمتري وجمال التناظر وإبداع التقسيم ورشاقة الحركة إلى بار تولوميو
وصور في فلورنسا لوحة لأجل سان فاتشسكو في بيروجيا تمثل دفن المسيح، وهي القطعة التي لا تزال محفوظة بجاليري بورجيره في روما
واستدعاه البابا يوليوس الثاني سنة 1508 للتوجه إلى روما حيث زخرف وصور بعض غرف بالفاتيكان، وهنا بدأ اسمه ينشر، وما كاد يعمل لدى البابوين يوليوس الثاني وليو العاشر إلا وكانت الألسنة تلهج بذكره، وعم صيته إيطاليا وغيرها من البلدان المجاورة
وكلفه فرانس الأول ملك فرنسا بأعمال فنية كما تهافت عليه كثيرون من الأكابر، والتف حوله تلاميذ عديدون من المعجبين به والراغبين في فنه
ولم يكن مظهر رفايللو ليدل على أنه فنان، بل كان أقرب إلى مظهر الأمراء منه إلى رجال الفن. فتكوينه الجسماني الرقيق وملابسه الرائعة الاختيار، وشبابه الغض، إلى جانب أدبه الجم وحديثه الخلاب، كل هذا جعل الناظر إليه أو المتحدث معه يظن أنه في حضرة أمير أرستوقراطي
وكأن المشيئة أرادت ألا يكون بين ميكيلانجلو وبين رفايللو أي تشابه أو انسجام، حتى الاتجاه الفني عند كليهما كان مختلفاً، فالموضوع الإنشائي وطريقة الإخراج والتعبير تباينت عند كل منهما
وكان في الخمس السنوات الأخيرة من حياته الرئيس الأعلى لبناء كنيسة بطرس، وتعمق في دراسة علم الآثار ومعرفة أسرار الفن القديم، وفكر في رفع الأنقاض والأتربة عن آثار روما القديمة عندما كان محافظاً للآثار فيها
وبلغ الذروة في سن مبكرة وفجأة أصيب بحمى انتهت بموته، ولم يكن قد أكمل السابعة والثلاثين من عمره حين وافته المنية في 6 إبريل سنة 1520 ودفن في البانثيون بروما
يقول بعض المؤرخين بأن حزنه على خطيبته ماريابيبينا التي ماتت قبله بقليل كان من أهم(212/60)
العوامل التي قربت منيته؛ فلقد كان على رقة إحساسه ودقة تكوينه الجسماني عاشقاً مخلصاً ومحباً متفانياً. فضؤلت مقاومته للمرض
وسجل جمال خطيبته في كثير من مصوراته وعلى الخصوص في لوحاته التي مثلت المادونا السكستينية ودونّا فيلاتا ولا يزال بعض هذه الصور محفوظاً في أوفيست بفلورنسا.
وأقيم له تمثال تذكاري من البرنز في أوربينو بارتفاع أربعة أمتار تقريباً، صنعه المثال الإيطالي المعروف لوريجي بللي سنة 1897، كما نحت المثال الألماني هانل تمثالاً له لا يزال من النماذج الفذة لطراز النحت الألماني.
هذه قد تكون أبسط قصة تقال عن فنان لا نظير له، عاش قليلا ولكنه أنتج كثيراً، وهو إلى جانب ميكيلانجلو لا يُعدان فقط ثروة الفن الإيطالي الحديث بل ثروة العالم أجمع.
ولم يشتغل رفايللو بالتصوير الجصي (الفرسكو) إلا بعد أن سافر إلى روما حيث قام بتصوير ثلاث غرف وردهة كبيرة في الفاتيكان، وفيها جمع بين التصوير الرمزي والديني.
وبعد أن كان البابا يوليوس الثاني عازماً على زخرفة الغرف بواسطة بعض المصورين المعاصرين أمثال بيروجينو وسودوما وغيرهما، تراه قد تحول اتجاهه إلى روفايللو بعد أن شاهد تصويره وتفوقه على معلمه، فكلفه القيام بإكمال العمل إلى نهايته.
أما عمله في الغرفة الأولى (1508 - 1511) فهو متجه في جوهره إلى الروح الفنية التي كانت لها الغلبة في ذلك الحين وهي روح من النهضة، ويتلخص موضوعها في التعبير عن قوة القوى المسيطرة على العقل الإنساني، المهيمنة على مصير الإنسان؛ فيرى المشاهد أمام عينيه صوراً رائعة للتعبير عن اللاهوت (الدين) والفن (الشعر) والفكر (الفلسفة) والقانون (الفقه)، صورها كلها على مساحات دائرية الشكل، وإلى جانب كل منها التفاسير المرتبطة بموضوع الصورة كالخطيئة والعقوبة والدنيا وحكم سالوم.
أما الصور الكبيرة في هذا المكان فقد جعلها تنطق بالحقائق التي ترمز إليها في عالمنا الدنيوي.
وفي الماكن المسمى ديسبوتا صور المسيحيين الصالحين مجتمعين حول الهيكل وقد فتحت فوق رؤوسهم أبواب السماء (النعيم). وفي بارناس صور الشعراء الأقدمين والمحدثين(212/61)
ملتفين حول أبولو وآلهات الشعر من حوله.
أما الفلسفة فقد صور ما يعبر عنها بمدرسة أتينا الجامعة (الكارتون محفوظ بميلانو) وهي شاملة للمشتغلين بالعلوم العقلية أمثال أفلاطون وأرسطو طاليس وحولهم تلاميذهم، واتخذ الفنان الركن الأيمن من الصورة لتصوير نفسه مع معلمه بيروجينو.
أما الدين فهو ممثل في صورته بالبابا والقيصر وهما يصرّفان الأمور والشئون بموجب الكتب السماوية.
(له بقية)
أحمد موسى(212/62)
القصص
شقاء
للأستاذ إسماعيل مظهر
هذه صورة من صور الريف، حملتها ذاكرتي مذ كانت شاباً في مقتبل العمر، وقد انتهيت من مجهود عام دراسي شاق في زمان كنا ندرس أكثر المواد باللغة الإنجليزية؛ وما كدت أنتهي من تاريخ رومية واليونان والحساب والهندسة والجبر وأدب شكسبير، حتى سارعت بالسفر إلى الريف أستجم بسكونه وسذاجته، وأطلب في حقوله وهوائه وشمسه راحة القلب وسلوى النفس ورخاء البال، وأسعد بالعمل في الحقول جهد استطاعتي لأشارك في عمل له نتاجه وثمره القريب. غير أني شعرت بعد قليل من الاستقرار في الريف أن الحياة قلما تهبنا الراحة التي نطلبها أو تحقق بعض ما نتمنى من الوحدة والاتساق يشيعان في نواحي العقل والنفس، ويعوضان على المرء بعض ما ينفق في حياة المدن من إرهاق يأنسه في تنافر الصور في المرئيات والمعقولات. ذلك بأن قريتنا الصغيرة كانت قد احتلت بكائن غريب الأطوار من نسل آدم وحواء، أجدر به أن يكون على نشوء الإنسان من صورة دنيا، المثل الأعلى والبرهان الصادق الملموس الظاهر للعيان
بمقربة من غدير يمر بجوار القرية. شجرة من الصفصاف تتدلى فروعها الطويلة فتمس صفحة الماء الجاري، حتى ليخيل إليك أن بين الماء وفروع تلك الشجرة صراعاً؛ كأن الماء يحاول أن يقتلعها ويجرفها بتياره، وكأن الشجرة تحاول أن تقاوم إرادته فتتشبث بالأرض. أما الغدير فيجري هادئاً مطمئناً بريئاً من فكرة العنف والفساد. وأما الشجرة فتطل بفروعها على صفحة الماء الهادئ، كأنها نرجس في خرافات الأقدمين.
فلا جلاد إذن ولا عراك، ولا تناحر ولا خصام، في ذلك العالم الجميل الذي يضم الشجرة والغدير، وما العاصفة والعراك إلا في خيالك وفي نظرك إذ يخدعك عن هذه الحقيقة، كما يخدعك عن كثير من حقائق الحياة.
وبين أصل الشجرة وحافة الماء منسطح صغير من الأرض كسته الأعشاب البرية، ونبتت فيه حشائش النجيل الجميلة وقليل من السعد، تناثرت من فوقه بضع شجيرات من عشب البرنوف الأخضر الزاهي. وقد هجر فتيان القرية وعذاراها الحسان هذه البقعة الجميلة،(212/63)
شأنهم في هجر كل جميل، سعياً وراء العيش والضرب في مناكب الأرض، لعنة الله على مناكبها.
تلك بقعة من الأرض أصح ما توصف به أنها ملك الطبيعة على قلة ما تملك الطبيعة من وادينا العظيم، فلا محراث يبجُّ بطنها، ولا فأس تقلب طبقاتها، ولا منجل يحصد ما نبت فيها، بل ولا إنسان يحييها تحية الحب والجمال. فهي أحق بأن تدعى (الشقة الحرام) كما يسمون البقعة التي تكون بين جيشين متحاربين. '
وكنت أمر على هذه البقعة المهجورة عجلان مسرع الخطو فأحييها تحية صامتة، وأتمنى لو أن مشاغل الزرع والإنتاج، والحرث والحصاد، والري والصرف، تمكنني أن أسعد بيوم واحد أقضيه في ظل هذه الصفصافة، وفوق بساطها السندسي الجميل. وكانت هذه الأمنية تعاودني صبيحة كل يوم وأنا رائح إلى الحقل، وفي كل أمسية وأنا غاد إلى داري. ولكن الأمل باق مادامت هذه البقعة بكراً لم يغشها إنسان ولم يفكر مخلوق في أن يسعد بجمالها قبلي. ودرجت على ذلك الأيام. فالصفصافة واقفة مشرفة بهامة الجبار على مجرى الغدير، وغدائرها الطويلة يمايلها النسيم على الماء، وخيال العراك الدائم بين الشجرة والغدير قائم في وجداني، وأمل المتعة بيوم أقضيه في ظل الشجرة المحبوبة متجدد كل يوم.
ولكن لا فلابد من يوم تغشى فيه الآمال الحلوة الخلابة سحائب من الكدر. فإن مخلوقاً غريباً احتل البقعة الحرام، واستظل بالصفصافة المقدسة. وقد خلع رداءه وجلس على حافة الغدير ينظر في مائه المنساب الدافق كأنه يستوحيه الأسرار، مثبتاً ناظريه في نقطة واحدة كأنما جاذبية الأرض قد تجمعت فيها، والماء ينساب متحدراً إلى غاياته، والصفصافة قائمة بظلها الوارف ما يعنيها في هذه الحياة من شيء، استظل بها فيلسوف من طبقة أفلاطون، أو أبله (ممسوخ) شوهت الطبيعة من خلقه كذلك الشبح الذي رأيته على ما وصفت صبيحة ذات يوم.
هو مخلوق هبط هذه البقعة من عالم سحري عجيب، ضئيل الجسم نحاسي اللون صغير العينين أفطس الأنف دقيق الشفتين على غير قياس، بارز الذقن إلى غاية غير مألوفة، مكتل الرأس طويل الوجه بارز الصدر مخشوف الظهر، طويل الذراعين قصير الرجلين. وقد اندكت رقبته بين كتفيه، فقصرت قامته على قصرها، وغشيت نحاسية وجهه بقعة من(212/64)
السواد الفاحم أتلفت مساحة منه غير صغيرة، ونبت فيها شعرات قصار ملس كأنها الحشائش الفطرية في حرجة كثيفة حجبت الأشجار الباسقة عن أرضها ضوء الشمس. وهو فوق ذلك أجرد، فلا شارب ولا لحية له، غليظ اليدين والقدمين واسع الشدقين بارز الأسنان إذا مشى فهو الهرة إذ تتلبث؛ وإذا نظر فكأنه يريد أن ينفذ ببصره إلى ما في سريرتك. وما تنم حدة نظراته وجمودها، إلا عن شدة ما قاسى من الزمن ومن الطبيعة ومن الناس.
مررت بهذا المخلوق محسوراً على أملي الذي سوف لا يتجدد بعد اليوم، وعلى البقعة الحرام يستبيحها هذا القزم الأسود العجيب. فكنت أراه كل صباح ثم أخلفه من ورائي في رواحي إلى الحقل وفي غدوتي إلى الدار وما رأيته يوماً بعيداً عن ظل الصفصافة أو غير ناظر إلى صفحة الغدير. وقد ألف المكان وألفه نظري، فكان يخيل إلي أن الصفصافة والغدير قد أصبحا له، على حد قول هوجو، بمثابة البيضة والعش والسكن والوطن والكون
ولقد هممت مرات عديدة بأن أسأل ما شأنه، وما حاله، وما الذي جعله يختار قريتنا دون القرى الأخرى. وكنت أقمع هذه الرغبة وأسلط إرادتي على حب الاستطلاع في نفسي. ولكني هزمت ذات يوم فوقفت إزاءه وأطلت النظر فيه، فأخذ يخالسني النظر وحول عينيه نحوي وما تزالان تنظران في الأرض وتتحركان حركة عصبية شديدة، حتى ليخيل إليك أن هذا الإنسان ما يظن فيك إلا أنك وحش مقدس يريد الانقضاض على الفريسة المسكينة الوادعة. ولم يكن في هذا غير مصيب. فقد هممت أولاً أن أقرئه السلام، ثم ترددت وقام في نفسي أن أجره من أذنه الغليظ لأريه الطريق المسلم إلى القرية الأخرى. ولكن لم كل هذا التعب؟ فهو جالس على حافة الغدير مستجمع كأنه النسر الأجرب العجوز وقدمي حاضرة. فركلة واحدة تسلم به إلى الغدير يتولاه برحمته الأبدية. ولأي شيء خلقت الرجل وفيها القدم، ولأي شيء زودت بهذه العضلات القوية، إن لم يكن لمثل هذا الظرف ولمثل هذا المخلوق الأشوه. فإن الطبيعة ما أبدعت من شيء إلا وأبدعت معه طريقة التخلص منه. وقد قام في نفسي أن الطبيعة لم تدربنا على العدو والقفز، والركل واللكز، والطفر والوكز، في طفولتنا إلا لتكون عدتنا لمثل هذه الساعة، وفي مثل هذا الظرف، ولمثل هذا القرد الأزعر العجيب
ولقد قويت في نفسي هذه الشهوة وخيل إليّ أن الأمر سهل هين والطريق مقفر والحقول(212/65)
خاوية. وقد انحدرت الشمس فغابت في عينها الحمئة السحيقة. وما أجَّل لهذا المخلوق في الحياة بعد هذا كله إلا استيقاظه نفسية، سرعان ما تبخرت معها فكرة الثورة على النظام وعلى الطبيعة، وتحركت شفتاي على غير إرادة مني وقرأته السلام
يا لله! هاهو ذا قد نظر إليّ بكامل وجهه، وعيناه تبعثان بصيصاً فيه الرعب والوجل والألم والقسوة والجمود. وأخذ يجاهد جهاد المستميت ليرد تحيتي بأحسن منها، وأخذت الكلمات تخرج من شفتيه غير متماسكة الحروف، فكان فيها مد وغن، وقصر واستطالة، وعوج واستقامة، وإمالة وشمام، ومضت دقائق ما أعرف عددها قبل أن يتم رد السلام:
- وعليكم السلام. . . ورحمة الله وبركاته. . . إزاي حضرتك سلمات. . . أهلا وسهلا. . . يا مرحب
- اسم أخينا إيه؟
- اسمي. . .
- أيوه
- اسمي. . . والله اسمي. . . اسمي. . . محمد
- بتعمل إيه
- أ. . . نا
- أيوه أنت
- أنا. . . بشتغل. . . في غيط. . . عم حمدان. . . اللي. . . قصادك ده!
- وبلدك إيه؟
- أ. . نا
- أيوه إنت
- بلدي. . . بلدي. . . بعيد من هنا! بينا وبينها. . . تلاته تعريفه تمام. واسمها. . . اسمها. . . الخرابة
ولقد صدق المسكين. فأية بقعة من بقاع هذا العالم الواسع تقذف الإنسانية المسواة في أحسن تقويم بمثل هذا الشبح الممسوخ إلا بقعة خراب!
إذن فقط هبط علينا من الخرابة. وكيف يستوي أن يعيش في العمران والمدنية، من تلفظه(212/66)
الخرائب الموحشة الجرداء. وبلدة الخرابة قرية لا يدور اسمها على ألسنة موظفي الحكومة إلا قليلا فهي في شمالي الدقهلية وفي أرض بور تبلغ مساحتها بضعة آلاف من الأفدنة كلها مرتفعات وأخاديد، وقد تجمعت المياه في بعض المنحدرات ونبتت فيها النِّسيلة والبَشْنين. أما المرتفعات فقد تجمع من فوقها السبخ الأحمر وتوجتها أدغال من الطرفاء، وما أن تبعث على هذا الخراب الشامل بنظرة حتى يخيل إليك أن الله قد أنزل على هذه الأرض حسباناً من السماء فأصبحت صعيداً زلقاً
وعلى تبة من تباب هذه الأرض السبخة المالحة تقوم أكواخ قرية الخرابة، وقد نبت عليها شوك العاقول الأخضر، وتسلقتها حشائش العليق، وامتدت الرطوبة إلى نصف ارتفاعها. وعقدت أسطح الحجرات باللبن النبيء، وفتحت في أعلاها النواريز بارزة من أواسطها، فيخيل إليك إذا نظرت فيها أنهن عجائز القرية المهجورات مسخن بكارثة، وهن يتطلعن جميعاً إلى الشمال. فإذا جن الليل وأرسل القمر أشعته الفضية على هذا الكون الميت العجيب، شبه لك أن القرية قطيع من الفيلة السود، تتساوق متزاحمة، ولكن في صمت كأنه صمت القبور
ومن حول هذه القرية تقوم بضعة شجيرات من السنط بهت لونها وامتقعت أوراقها، وما يغشاها من طرفي النهار إلا غربان تنعق، وما يألفها في الليل إلا البوم تنوح من حول القرية طيلة ساعات السواد، نادبة حظ الأحياء والأموات، مرسلة بأناتها الطويلة الشجية الحزينة، ترثي الطبيعة المجرودة الغبراء
وعلى مسيرة بضع دقائق تقع جبانة القرية، وقد انتثرت فيها القبور كأنها كثبان الرمل سفتها الرياح، فتجاورت مزدحة في بقعة من الأرض، والأرض من حولها فسيحة براح، كأن طبيعة الإنسان الاجتماعية قد أقسمت لتزحمنَّه في القبور كما تزحمه في الحياة. وقد ترى اللحد ومن فوقه ذلك الكثيب علاه السبخ الكئيب، ومن حوله نبت الشوك وحوَّط القبر من جميع جهاته، كأن الطبيعة قد أرادت أن تحدد تخوم كل قبر لتكفي الموتى مؤونة العراك على امتلاك القبور، وهنالك تقع على جحر ذئب، وهنا على نبيشة ثعلب، وقد تنتبه على حركة طائر في وحشة ذلك الصمت الأبدي، فترى قطاة أزعجها مسيرك في مدينة الأموات، فتركت عشها من فوق قبر لتثقل به على صدر ميت كان بالأمس جباراً لا يرحم،(212/67)
عنيداً لا يلين، مشبوب الشهوات واسع الأمل مستثار الجنان
وإنك لتعجب كيف أن قزم الخرابة يترك تلك الجبانة التي نشأ بمقربة منها، بل وفي حضنها الرهيب، ليهبط قريتنا، فلا نراه إلا ونذكر الخراب والغربان والبوم، ولا نحييه إلا وفي مخيلتنا مجمل هذه الصور التي صورتها، يحييها منظره ويدعوها إلى الوعي مجرد الذكرى، بأن في بلدتنا شخصاً من الخرابة. وتداعي الأفكار صفة نفسية، ولكن لابد من باعث يحركها ويدعوها. فكان هذا سبباً في أن يبعد الناس عن طريق هذا الإنسان لئلا تقوم في مخيلتهم ذكريات الخرابة وذلك القفر المجذب الحزين والأكواخ تسلقتها الحشائش والأشواك والأشجار الميتة القائمة من حولها، والغربان والبوم، والجبانة والقبور، فتغشي الطبيعة المرحة الباسمة سلسلة من تلك الذكريات الباكية. فلا ريب إذن في أن الأقدار قد تناصرت على هذا المسخ المشؤوم. ولكن لم يقس عليه من الأقدار شيء بقدر ما قست عليه الطبيعة التي شوهت من خلقه، و (الخرابة) التي نبذته وقذفت به إلى الوجود.
وقد يولد بعض الناس مثقلين بأوزار، أو محكوماً عليهم بأن يعيشوا في جفوة عما يحيط بهم من الأشياء؛ فمنهم من تجني عليه الطبيعة، ومنهم من تجني عليه الأسرة، ومنهم من يجني عليه الناس، ومنهم من تجني عليه البيئة، وكثير منهم يجني على نفسه، ومنهم من يخرج إلى الدنيا حاملاً وزر أبيه، أو وزر أمه، أو وزريهما معاً. وهو بعد تلك الأداة الضعيفة، وذلك المخلوق البائس. الذي لا اختيار له فيما اختارت له الأقدار، ولا حيلة في ما مضت به الكلمة المبرمة في ألواح الأبد والأزل.
في الإنسان طبيعة مشتركة، من تفاسير الوجود ما ينم عنها، ومن الذكريات وتداعي الأفكار ما يرسم على وجوه أبناء آدم تعابير واحدة. فكنت إذا ذكرت (محمداً) مساعد حمدان العربي وبلدته (الخرابة)، أرتسم على الوجوه ما يدل على ما قام في النفوس من الاستيحاش والتشاؤم والاستفزاز.
وفي صبيحة ذات يوم، أشبه بذلك اليوم الذي احتل فيه ذلك القزم سيف الغدير المحبوب، اجتمع نفر من أهل القرية وقد ذر قرن ذكاء بأبهته السماوية، ينظرون في الماء ليتبينوا شيئاً يعلو ويهبط أمام قنطرة تحجز مياه الري
تلك جثة (محمد الخرابة)، فقد تولاه الغدير برحمته الأبدية، أما أهل القرية فقد ظهرت على(212/68)
وجوههم تعابير الرحمة ممزوجة بالكثير من راحة البال والضمير. فلا الشوه يمازج ذكرياتهم، ولا الخرابة بغربانها وبومها وأشجارها الميتة وقبورها الموحشة وسكونها الرهيب الأليم، وليلها المربد الهادئ هدوء الموت، يمر على مخيلاتهم أو يلابس وعيهم من بعد ذلك
ولكن. . . هنالك بمقربة من الجثة المسجاة، جلست (فاطمة) ابنة حمدان، بوجهها الصبوح وعينيها الواسعتين، وبشرتها القمحية الجميلة وقوامها اللين المتعاطف، جلست وحدها بغير شريك من فتيان القرية وفتياتها، وهي أفتنهن جميعاً، تخالس الجثة النظرات صامتة مبهوتة، وترمق الجسد البارد بعينين حائرتين جامدتي النظرات، وقد تقاطرت منهما دموع انحدرن كالحمصات الكبار
إسماعيل مظهر(212/69)
البريد الأدبي
الاحتفال بتولية جلالة الملك
أذاع مجلس الوزراء البرنامج الرسمي التالي للاحتفال بتولية صاحب الجلالة الملك وهو
الوصول إلى الإسكندرية
1 - تصل الباخرة بمشيئة الله الساعة الثامنة من صباح يوم الأحد 17 جمادى الأولى سنة 1356 الموافق 25 يوليه سنة 1937 فيصعد إليها عضوا مجلس الوصاية والأمراء والنبلاء الموجودون بالإسكندرية، ورئيس مجلس الوزراء والوزراء وكبار رجال القصر، ومحافظ الإسكندرية وقائد حاميتها المصرية ومدير الموانئ، ومدير البلدية، ومدير خفر السواحل
2 - ينزل المستقبلون ماعدا رئيس مجلس الوزراء لانتظار جلالة الملك على رصيف محطة الإسكندرية
3 - يقل جلالة الملك لنش المحروسة لتشريف سراي رأس التين وبمعية جلالته رئيس مجلس الوزراء وكبار رجال القصر
4 - يعود لنش المحروسة إلى الباخرة فيقل جلالة الملكة وحضرات صاحبات السمو الملكي الأميرات وبمعية جلالتها ناظر خاصة جلالة الملك
5 - يقوم ركاب جلالتها وسموهن الملكي إلى محطة الإسكندرية قبل قيام ركاب جلالة الملك وبمعية جلالتها ناظر خاصة جلالة الملك
6 - يتحرك ركاب جلالة الملك إلى محطة الإسكندرية في الوقت المناسب لكي يقوم القطار الملكي الساعة 30، 9 صباحاً
7 - يكون في مثول الاستقبال بالمحطة حضرات المستقبلين على ظهر الباخرة والمعتاد وجودهم عند تشريف جلالة الملك ثغر الإسكندرية سنوياً.
8 - يقوم القطار الملكي إلى محطة سراي القبة رأساً ويقف في المحطات المعتاد وقفه ويكون الاستقبال طبقاً لما يتبع عند انتقال جلالته من الثغر إلى سراي القبة العامرة.
9 - تعد دفاتر لقيد أسماء المهنئين في قصري رأس التين وعابدين.
حفلات مباشرة السلطة الدستورية(212/70)
يوم الخميس 21 جمادى الأولى سنة 1356 - 29 يوليه سنة 1937.
1 - يقوم الركاب الملكي من سراي عابدين العامرة الساعة 8 , 30 صباحا إلى دار البرلمان عن طريق ميدان عابدين فشارع الخديو إسماعيل فميدان الفلكي فشارع الخديو إسماعيل فشارع قصر العيني فشارع مجلس النواب.
2 - تكون العودة إلى سراي عابدين العامرة من طريق شارع قصر العيني فشارع سليمان باشا فشارع فؤاد الأول فميدان إبراهيم باشا فشارع إبراهيم باشا إلى السراي العامرة.
3 - عقب عودة جلالة الملك إلى السراي الملكية العامرة تجري التشريفات العامة حسب الترتيب الذي سيعلن عنه وفي الوقت نفسه تقام استقبال في المحافظات وعواصم المديريات للموظفين والأعيان الباقين بها.
4 - بعد انتهاء التشريفات يقدم وزير الحربية باسم الجيش المصري وبحضور كبار الضباط إلى حضرة صاحب الجلالة الملك عصا المشيرية هدية منهم لجلالته رمزاً لإخلاصهم وولائهم.
5 - تجري تشريفات حضرة صاحبة الجلالة الملكة قبيل الظهر وبعده طبقاً لترتيب المقابلات الذي سينشر فيما بعد:
6 - قبيل المساء يذيع جلالة الملك كلمة على شعبه في الراديو
7 - تقام مأدبة عشاء بالسراي وتعقبها حفلة ساهرة
يوم الجمعة 22 جمادى الأولى سنة 1356 - 30 يوليو سنة 1937
1 - يؤدي جلالة الملك فريضة الجمعة في مسجد الرفاعي، ثم يزور قبر المغفور له والده
2 - قام مأدبة غذاء للعلماء في قصر عابدين يحضرها رئيس مجلس الوزراء ووزير الأوقاف
3 - في الساعة الخامسة بعد الظهر تقام حفلة شاي بسراي عابدين العامرة
4 - في الساعة 8 , 30 مساء يشرف حضرة صاحب الجلالة الملك مأدبة العشاء التي يقيمها مجلس الوزراء بسراي الزعفران والحفلة الساهرة التي تليها
يوم السبت 23 جمادى الأولى سنة 1937
1 - في الساعة 8 , 30 صباحاً يستعرض حضرة صاحب الجلالة الملك الجيش(212/71)
2 - في الساعة الخامسة مساء تقام حفلة شاي بسراي عابدين العامرة يحضرها ضباط الجيش على اختلاف رتبهم وأسلحتهم، وكذلك الضباط المتقاعدون من رتبة أميرالاي فما فوقها
رسائل عن مصر في أواخر القرن الماضي
أصدر متحف برولكين الأمريكي أخيراً كتاباً عنوانه (رحلات في مصر) وذلك من ديسمبر سنة 1880 إلى مايو سنة 1891، وهي عبارة عن رسائل بقلم تشارلس أدوين ولبور، نشرها وعلق عليها العلامة الأثري الأستاذ جان كابار. ولمؤلف هذه الرسائل المصرية قصة مؤثرة فقد كان من علماء الآثار الأمريكيين. ووفد على مصر في أواخر القرن الماضي، وقضى بين أطلالها ومعابدها القديمة نحو عشرة أعوام في التنقيب والدرس، ثم توفي في سنة 1896، دون أن يتمكن من نشر شيء من مباحثه العديدة، وترك مجموعة أثرية فخمة ومكتبة نفيسة عن الأثريات المصرية وهبهما أبناؤه إلى متحف بروكلين تخليداً لذكراه. وفي سنة 1932 عثر الأستاذ كابار في هذه المجموعة على رزم من رسائل مهملة، وما كاد يتصفحها حتى أيقن بنفاستها وأهميتها من الوجهتين التاريخية والأثرية
ذلك أن تشارلس ولبور كاتب هذه الرسائل عاش في مصر في فترة وصلت فيها المباحث الأثرية القديمة إلى ذروة الازدهار؛ وكان بمصر يومئذ العلامة الفرنسي ماسبيرو يقوم بأعظم حفرياته ومباحثه، وكذلك العلامة الألماني هينريخ بروكش، والمستشرق الإنكليزي سايس، وكان ماسبيرو يومئذ قد وفق إلى أعظم اكتشافاته وهو اكتشاف الموميات الملوكية في الدير البحري؛ وكان مستر ولبور وثيق الصلات بأولئك العلماء الأعلام وبأعمالهم ومباحثهم، وكان أيضاً وثيق الصلات بالأهالي في المناطق الجنوبية التي يجري فيها الحفر، وقد وفق في حفرياته إلى اكتشاف بعض القطع الأثرية وأوراق البردي، وهي تحفظ الآن في المتحف البريطاني. فهذه الجهود والتطورات العلمية الهامة التي شهدتها مصر في أواخر القرن الماضي يصفها مستر ولبور في رسائله بإسهاب، ثم هو يصف خلالها حالة الريف المصري والمجتمع المصري يومئذ؛ وهذه الرسائل التي وجهها إلى أسرته وإلى بعض أصدقائه هي التي يضمها المجلد الضخم الذي أصدره متحف بروكلين وقام على(212/72)
نشره الأستاذ كابار، وهي رسائل لها قيمتها في تاريخ مصر الأثري والاجتماعي في أواخر القرن الماضي.
جوجليلمو مركوني
في يوم الثلاثاء الماضي نعت أنباء رومة العلامة المخترع الأشهر جوجليلمو مركوني، الذي كان لاختراعاته في المواصلات اللاسلكية أعظم أثر في تطور الحياة البشرية في عصرنا، وكان مولد هذا العلامة الكبير في مدينة بولونيا (بإيطاليا) في 25 أبريل سنة 1874 في أسرة كريمة من أب إيطالي وأم ارلندية، وتلقى مركوني تربية حسنة في جامعة لجهورن ثم في جامعة بولونيا؛ وكان من أساتذته العلامة الرياضي الشهير روزا. وأبدى مركوني منذ حداثته عناية خاصة بكل ما يتعلق بالكهرباء، وشغلته فكرة نقل التموجات الكهربائية عن طريق الهواء فأجرى فيها تجارب لم تشجعه عليها الحكومة الإيطالية يومئذ؛ فذهب إلى إنكلترا واتصل بالسير وليم بريس كبير مهندسي التلغرافات يومئذ، وأجرى تجاربه بإشرافه، ونجحت التجربة لأول مرة فوق خليج برستول. وفي سنة 1899 تقدمت التجربة خطوة جديدة، واستطاع مركوني أن ينظم المواصلات اللاسلكية بين فرنسا وإنكلترا فوق القنال الإنكليزي. وفي سنة 1901 استطاع أن ينظم المواصلة اللاسلكية فوق المحيط الاطلانطيقي بين كورنوال في إنكلترا وجزيرة نيوفوندلند في أمريكا على مسافة 2100 ميل؛ وعلى أثر ذلك افتتحت المواصلة اللاسلكية بصفة رسمية بين أوربا وأمريكا، وكلل اختراع مركوني بالنجاح الكامل؛ وذاع الاختراع بسرعة، واستعملته السفن التجارية منذ أوائل هذا القرن، وكذلك نظم في جميع الأساطيل الحربية، وأضحى أداة سهلة سريعة للمواصلات البرقية؛ وخصص مركوني حياته لتحسين اختراعه المدهش؛ وأنشأ منذ سنة 1900 شركة للمواصلات اللاسلكية سميت باسمه ولها اليوم فروع في جميع أنحاء العالم. ولما دخلت إيطاليا في الحرب الكبرى تولى مركوني الإشراف على المواصلات اللاسلكية الإيطالية؛ وفي نهاية الحرب انتدب عضواً في الوفد الإيطالي لدى مؤتمر الصلح، وتولى عن إيطاليا توقيع معاهدات الصلح التي عقدت مع النمسا وبلغاريا؛ ومنح مركوني من ألقاب الشرف العلمية والأوسمة الرفيعة ما يضيق المقام عن ذكره؛ ومنح جائزة نوبل للعلوم في سنة 1909؛ وانتخب منذ سنة 1930 رئيساً للمجمع العلمي الإيطالي؛ وأنعم عليه بلقب(212/73)
المركيز، وانتخب عضواً بمجلس الشيوخ
واليوم يغدو اختراع مركوني في المواصلات اللاسلكية وتبادل التموجات الأثيرية أعظم ما عرف العصر؛ ولم يحدث أي اختراع آخر مثل ما أحدث اختراع مركوني من ثورة في نظم الحياة البشرية، ولم يقرب مثل ما قرب بين أبعد أطراف العالم. وإذا كنا نستطيع اليوم في لمح البصر أن نتصل بأوربا أمريكا واستراليا ونحن جلوس في منازلنا، وأن نصغي إلى آخر الأنباء العالمية، وأن نسمع الموسيقى والغناء على بعد آلاف الأميال؛ وإذا كانت السفن في عرض المحيط، والطيارات في جوف الفضاء، تستطيع الاتصال والاستغاثة عند اللزوم، فالفضل في ذلك كله يرجع إلى عبقرية جوجليلمو مركوني
ولم ينبغ في عصرنا من المخترعين نبوغ مركوني في ميدانه سوى رجل واحد هو أديسون المخترع الأمريكي؛ على أن مركوني يتفوق على أديسون من الناحية العلمية، ويمتاز بسعة آفاقه التي لم يحد منها بحر ولا جبل ولا هواء. وقد عاش مركوني طول حياته في جو من الهدوء والثقة، يحمله النجاح إلى التماس النجاح؛ وكان مثل العلامة المتواضع يرتفع بالفكرة الإنسانية إلى ذروتها.
حرب الميكروبات
إذا كان عصرنا عصر المعجزات العلمية، فهو أيضاً عصر المهلكات. ولم يسبق في التاريخ أن سخر العلم لاختراع المهلكات البشرية كما سخر في عصرنا؛ فالأمم العظيمة كلها تسخر قوى العلم لاختراع الأسلحة الجديدة وصقل الآلات المهلكة، وتحسين الأسلحة الجوية والبحرية، وتحويل الحرب إلى عملية ميكانيكية مخربة؛ وأفظع ما في هذا النشاط المخرب هو الحرب الكيماوية التي يوجه اليوم لها نشاط العلم والاختراع؛ فالعلماء الذين يعتبر واجبهم المقدس أن يعملوا لخير الإنسانية ورفاهتها وصون الحياة البشرية من الأدواء والأمراض، يعملون اليوم لإفناء المجتمع الإنساني، وسحق المدنية، وقتل الإنسان بواسطة الغاز الخانق، والسوائل الملتهبة والجراثيم (الميكروبات) الفتاكة؛ وتشتغل المعامل الكيماوية في معظم الأمم الكبرى اليوم باختراع هذه المهلكات والعمل على مضاعفة قواها المهلكة؛ وقد كانت ألمانيا أول دولة لجأت إلى هذه الوسيلة المروعة، واستعملتها في الحرب الكبرى، فاستعملت الغاز الخانق وأنواعاً أخرى من الغازات الخطرة؛ وكانت هذه مفاجأة مروعة(212/74)
لجيوش الحلفاء. بيد أنها لم تبلغ يومئذ مدى كبيراً. فلما انتهت الحرب فطن الحلفاء إلى هذا السلاح الجديد الخطر، وأدركوا ما للحرب الكيماوية من أثر عظيم في المستقبل، وانكب علماؤهم ومعاملهم على بحث السوائل والغازات والميكروبات المهلكة؛ وكانت ألمانيا التي وجدت في المباحث الكيماوية السرية ملاذها وسلامتها بعد هزيمتها الساحقة في الحرب - في مقدمة الدول التي خصت الحرب الكيماوية باهتمامها؛ ويقال إنها انتهت فيها إلى نتائج خطيرة. والمعروف أن ألمانيا حاولت في الحرب الكبرى أن تستعين على إهلاك أعدائها بالميكروبات وأنها حاولت تطبيق هذه التجربة في رومانيا. ومنذ سنة 1933، أعني منذ قيام النازي في الحكم تعمل المعامل الألمانية ليل نهار لابتكار وسائل الدمار البشري وتعنى عناية خاصة بمسألة الميكروبات. وقد وجه معهد كوخ إلى المعامل الألمانية منشوراً فيه بيان مفصل عن الميكروبات التي يمكن استعمالها في الحروب المقبلة، وعن أفضل الوسائل لاستعمالها. ويقول الدكتور ليفين الألماني الأخصائي الكبير في هذا الموضوع: إن الميكروب هو أفضل مهلك للجيوش، لأنه متى ارتفعت صيحة الذعر في الجيش فقد قضى عليه.
وتعنى الدول الكبرى الآن بهذه المشكلة الخطرة، وتجتهد في ابتكار وسائل الوقاية، إلى جانب ما تعنى به من اختراع المهلكات، وهي جميعاً تفطن إلى الكوارث المروعة التي تتعرض لها الشعوب والإنسانية من جراء هذا الخطر الشامل.
وفاة طبيب عالمي
نعت أنباء باريس الأخيرة الأستاذ الدكتور لابرسون العلامة الرمدي الشهير: توفي في الخامسة والثمانين من عمره بعد حياة علمية وطبية حافلة؛ وقد بدأ حياته أستاذاً للرمد في كلية الطب بجامعة ليل، ثم انتقل إلى باريس حيث عين أستاذاً للرمد في جامعتها، وعين مديراً لقسم الرمد في (أوتيل ديو) وانتظم عضواً في أكاديمية الطب، ثم انتخب رئيساً لها، وطارت شهرته كحجة عالمية في أمراض العين، ووضع كتباً ورسائل كانت مرجع الأطباء الرمديين في جميع أنحاء العالم، وكان لتعاليمه ومؤلفاته أثر كبير في تطور طب العيون بفرنسا، وقد تخرج على يده عدد كبير من أطباء العيون في فرنسا وفي خارجها.
تصويب(212/75)
قرأت في عدد الرسالة الأخير في مقالة الأستاذ المؤرخ الجليل محمد عبد الله عنان في صفحة 1171 في الجانب الأيسر من الرسالة في السطر الرابع أن الملكة هورتنس ابنة الإمبراطورة جوزفين من زوجها الأول كانت زوجة القائد مورات. والذي قرأناه في الكتب هو أنها كانت زوجة لويس أخي نابليون الذي نصبه ملكا على هولندة، وولدت من نابليون الذي صار فيما بعد نابليون الثالث. أما زوجة القائد مورات الذي نصبه نابليون ملكا على نابل في إيطاليا فهي كارولين أخت نابليون. ويلاحظ أن الضمير في الفعل في الجملة مفرد مما يدل على أنه لا يتكلم على اثنتين فالمرجو إيضاح وجه الصواب للفائدة
(ش)(212/76)
الكتب
المستشرقون
تأليف السيد نجيب العقيقي
للأستاذ الحوماني
يكاد يكون الاستشراق علماً بنفسه له أصوله وفروعه، وله مقدماته ونتائجه؛ ويكاد يكون رجاله، على رغم شتاتهم، شعباً خاصاً له أفقه الخاص به، وحياته القاصرة عليه، وقد مر بهذا الشعب وبرجاله في العالم قرون لم يكتشفه، كما هو، عالم ولا أديب ولكن هنالك بضعة من الكتاب نقلوا لنا وللغربيين نتفاً من أخبار هذا الشعب. . . في معرض النقد أو التقريظ، والناقل إما شرقي يشكر للمستشرق إنصافه أو ينعى عليه تعصبه، وإما غربي يشكر له عصبيته أو ينعى عليه إنصافه.
نقرأ في بعض الكتب وفي كثير من الصحف أشياء عن هذا الشعب شعب المستشرقين، ونقرأ أشياء لكثير من أفراد هذه الجماعة جماعة الاستشراق عما يكتشفون في عالمهم من آثارنا نحن الشرقيين.
أما أن نسمع بكاتب جميع شتات هذا الشعب في مختلف الأزمنة والأمكنة، ولم شعثه، ثم عن كشف آثاره بين جلدتين تشتملان على كتاب وبلسان شرقي عربي يصور لنا حياتهم قديمة وحديثة، ويبعث فينا آثارهم مكتسبة ومورثة، ويكشف لنا آراءهم خاطئة وصائبة، ويمحص لنا أقوالهم جائرة ومنصفة، ويمعن في البحث عن أغراضهم وأهوائهم، ويعلل أفعالهم وأقوالهم، ويحلل آراءهم وأفكارهم، بعيداً عنهم وهو في الصميم من جماعتهم، منصفاً في الحكم عليهم والقضاء لهم، أما هذا الكاتب فلم نسمع أو لم أسمع أنا به على الأصح فيمن غبر أو حضر من كتابنا ماخلا هذا الشاب المثقف (النجيب) صاحب كتاب (المستشرقون) المؤلف الحديث الذي أخرجته لنا في الأيام الأخيرة مطبعة الاتحاد البيروتية في مائتين وخمسين وجهاً من القطع الوسط يحمل اسم مؤلفه (نجيب العقيقي)
لا أحب أن أعرض لعروبة الكتاب والناحية البيانية فيه فإن مؤلفه واحد من هؤلاء الشباب الذين عمروا قلوبهم بالثقافة الأجنبية في معاهد إنما شيدت لقتل العروبة في بلادنا لغة وخلقاً(212/77)
ومعتقداً، وإذا قرأت في الكتاب جملا فصيحة فإنما هي نتاج الغريزة العربية في المؤلف، وثمرة حبه للأدب العربي وغرامه بالديباجة العربية الذي حمله على إلا يدع مؤلفاً عربياً، قديماً أو حديثاً، سمع به واستطاع الوقوف عليه، إلا اتصل به وأخذ منه، فهو كاتب عربي في مؤلفه هذا بما قرأ لا بما درس. من أجل ذلك كانت ديباجته فيه عادية لا روعة فيها ولا سحر، وربما وقفت عند كثير من جملة تتبين ما تشتمل عليه من معان أبهمها الاعجام.
فالكتاب في لغته بسيط، وهذا لا يحط من قيمته العلمية، فإنما يؤخذ مؤلفه بما أودعه من فكرة لا بما نمق فيه من ديباجة.
ما أحببت أن أعرض في نقدي هذا لشيء من ذلك ولكني أحب أن أعرض لمواطن الجمال في الكتاب معللا ببضع خلال خبرتها في نفس الكاتب.
عرفت نجيباً منذ أنشأت عروبتي ولم أزل أعرفه حتى اليوم؛ ولأول نظرة ألقيتها عليه شربت روحه ولم أزل أشربها حتى الآن
قرأت في شمائله الحرية في غير أنانية ولا أثرة، والصراحة في غير مراء ولا صلف، ولمست فيه الروح الوثابة والعمل الجبار؛ قرأت في شمائله كل ذلك ولم أزل أقرأه فيها حتى ساعتي هذه
توسمت فيه إذ ذاك النجابة ولم يكن قد أنتج بعد، فكتابه هذا هو باكورة عمله، وإذا كان وليد أدبه الغض وشبابه الناضر فماذا نرقبه من أدبه الكهل؟ ثم ماذا سيطلع علينا به وقد أشرف على الأربعين سن الحكمة والنضج؟
الحرية في نجيب حملته على ألا يتقيد في كتابه بدين درج عليه في البيت وتلقنه في المدرسة حتى كان جزءاً من دمه الفائر ونفسه الجبارة، ولم يحل دون تحرير فكره في مؤلفه هذا هيبة المستشرقين في نفوس الضعفاء من كتابنا حتى تحامى أكثر هؤلاء إبرام ما نقض أولئك من حق أو نقض ما أبرموه من باطل.
عرفت العقيقي حراً في زيارته لي وتحدثه إلي؛ عرفته حراً في شمائله، حراً في جدله، حراً في رأيه. وهأنذا أقرأه اليوم في مؤلفه الجديد حراً في درسه وتفكيره، حراً في بحثه وتحليله، حراً في نقضه وإبرامه.
والصراحة في نجيب حملته على أن يكتب في الأدب للأدب، ويبحث في العلم للعلم،(212/78)
ويجهر بالحق للحق.
فإذا نقم على المستشرق لتعصبه الذي يدفعه إلى الطعن على الإسلام (مثلا) فإنما ينقم عليه للحق الذي يراه دون رياء أو تزلف يتملق بهما المسلم حباً للمال أو سعياً وراء الشهرة التي يحسبها النفر الخامل من متأدبينا في الضجة الفارغة واللقب الكاذب.
العقيقي صريح في كتابه إلى أبعد حد في الصراحة لم يراع معه نعي الرجعيين من قومه عليه فيما يحمل على عصبية المستشرقين لدينهم أو عنصرهم، ولا حذر انتقام الجهلاء من غير قومه فيما يصوب من حملات الغرب على الشرق.
والروح الوثابة في نجيب حملته على ألا يترك أديباً إلا جلس إليه ولا كتاباً إلا وقف عليه، حدت به هذه الروح إلى أن يبحث ما اتصل به من علم، وأن يدرس ما استطاع درسه من فن، حتى بدا له أن يبدع فيما ينتج فولدت هذه الروح فيه فكرة الكشف عن هذا الشعب شعب الاستشراق المبعثر هنا وهناك.
ويهجر العقيقي أصدقاءه بضعة أشهر فلا يزورهم خلالها إلا لماماً، ويمعن في البحث والتنقيب، والكتابة والترجمة، ثم يطلع عليهم بعد عام وقد سهم وجهه وتغضن جبينه، فإذا به يتأبط كراريس تشتمل على قلب نابض بالحياة، وإذا بضربات هذا القلب تقرع الأسماع، وإذا بهذا القرع يملأ الأفق دوياً.
يتناول نجيب في كتابه رأي المستشرق في لغة العربي أو أدبه أو خلقه أو معتقده فيمر به في طريقه إلى الحكم على وطن المستشرق وعلى مدرسته وعلى كنيسته ثم على حكومته، فإذا توفر لديه البحث عن وطنه كيف غادره، وعن مدرسته كيف تخرج منها، وعن كنيسته كيف اعتنق دينه فيها، وعن حكومته وكيف كانت منزلته منها، استطاع إذ ذاك أن يمحض هذا الرأي فيرجعه إلى المستشرق نفسه مجرداً عن الأهواء أو إلى أحد هذه العوامل متأثراً به إذ قلما استشرق غربي دون أن يتأثر بواحد منها
وهو يثبت في كتابه أن الاستشراق غالباً مدفوع بسياسة الغرب ودينه لغزو الشرق واستعماره وقتل القومية فيه حتى تتوفر الغلبة للغرب عليه.
هذا ما أحببت أن أشير إليه من موضوعات الكتاب ويكاد يكون أروع موضوعاته، فالشرق جد محتاج إلى مثل هذا المؤلف وما أحوجنا إلى كتاب آخر من هذا النوع يخلقه قلم العقيقي(212/79)
ويطلق عليه اسم (الغزاة) يعني فيه بالإرساليات التبشيرية عنايته بالاستشراق
وبعد فليس لي في ختام كلمتي هذه إلا أن أعلن إعجابي بهذا الأثر، وأدعو كل عربي أديب إلى الوقوف عليه والإمعان في درسه. فهل يرينا المستقبل من أبنائنا من يضرب على هذا الوتر فيحرر نفسه من العبودية بين يدي كل غربي مستشرق؟؟؟
(بيروت)
الحوماني
صاحب العروبة
في قصيدة الدكتور عزام
كان في قصيدة (دمشق) للدكتور عبد الوهاب عزام التي نشرت في العدد الماضي - كلمات يتعذر فهمها بغير الشكل، وقد أهمل شكل بعضها - فنعيد هنا نشر الأبيات التي وقع فيها ذلك:
حطّ الرحال فهذا جهرةً بَردى ... وذي دمشق. هَناك الأهل والدار
نسرٌ يرى اللُّوح منه هامة عطلا ... لكنه ذنبَ الطاووس جرار
وقد وقع تحريف في الأبيات الآتية وصحتها كما يلي:
خافي المطامع طماح المنى عزم ... على الشدائد والسراء ثوار
شجا فؤادي عفاء في مدارسها ... والدهر بالناس دولات وأدوار
إني أرى المجد قد أضفى أشعته ... وأشرقت فيه دولات وأمصار(212/80)
العدد 213 - بتاريخ: 02 - 08 - 1937(/)
أسبوع التاج
كانت مصر كلها طوال الأسبوع الماضي، من صباح أحده إلى مساء سبته، في سكرة من الطرب النشوان، وفورة من الحماسة المضطرمة. والطرب والحماسة كلمتان مسكينتان لا تقعان من حقيقة الأمر في كثير ولا قليل. وكيف تدرك من هاتين الكلمتين وأشباههما تلك الحالة العجيبة التي قامت بسكان هذا البلد الوفي أبنائه ونزلائه لمقدم الفاروق، وتتويج الفاروق، ومواهب الفاروق، فجعلت كلامهم وأنغامهم وأحلامهم هتافاً لمجده لا يفتر، ودعاء لعهده لا ينقطع؟!
انفعلت قلوب الناس بما أجنته للمليك الشاب من الإعجاب والحب والأمل، فعبرت عن ضوء رجائها، وحرارة ولائها، بهذه الملايين من المصابيح الكهربائية، رصعت بها وجوه العمائر والمتاجر، وجعلت منها عقوداً منظمة على أطوارة الطرق، وأبراجاً متوجة في بُهَر الميادين، وأقواس نصر في مداخل الشوارع؛ وافتن فيها الصناع فرسموا بها أشكالا تعبر عن شتى العواطف، وخطوطاً تسفر عن خالص الأدعية؛ ثم راحوا يرقصون ويهزجون في إشراق باهر تشعه القلوب المتهللة، وتعكسه المدينة المتألقة. ولكن ماذا يصنع الكاتب وقد انبثق في حسه هذا النور، وانفتح في ذهنه هذا العالم، إذا أراد أن يمثله للخاطر البعيد، ويسجله في صحيفة الأبد؟ هل يملك إلا ريشة من المعدن لا تلين، وألفاظاً من اللغة لا تدل؟ وهل اللغة مهما اتسعت موادها إلا أبعاض من صوت النفوس، وأصداء لهتاف القلوب؟ ماذا يقول الكاتب أو الشاعر في ثلاثة ملايين من الناس تجردوا من هموم الحياة وأنانية الذات، واحتشدوا في مسالك القاهرة يسبحون في أمواج هذا النور المعبر، وقد انطوى كل منهم على عالم زاخر بالأماني والأخيلة والأحاسيس، ولا حديث لهم ولا نجوى إلا ملكهم الأعز، وطالعه الأسعد، وعهده الأغر، وخلقه الأكمل؛ هذا يذكر في فخر حادثاً من حوادث ديمقراطيته، وذاك يروي في إعجاب نادرة من نوادر عبقريته، وذلك يقص في زهو عملا من أعمال نبله؛ والألسنة كلها في كل مكان أشبه بلواقط الراديو ذوات المصدر الواحد تردد الحديث نفسه بصوته وطريقته؟
قد يحتشد الناس في أيام الزينة ومواكب النصر بدافع الإيحاء أو الإغراء أو الفضول فيقفون عند الظواهر والأشكال لا يحسون الروح ولا يلمسون الجوهر ولا يحفلون الغرض، ولكن مواكب التاج كانت أنساً خالصاً لكل فرد، وعرساً خاصاً بكل أسرة؛ ساهم فيه كل(213/1)
بماله (نقوطاً)، وبقلبه إخلاصاً، وبسروره غبطة. وهذه هي العقدة النفسية التي تنحل أمامها قوى الكاتب قبل أن يجد لها وصفاً أو يحدد لها علة.
رأيت جلالة الفاروق في حفلات التتويج عن كثب، وفي ذهني صورة طبيعية للغلام الشابل الذي يهدف للثامنة عشرة من سنيه، فإذا رجل وقور الطلعة، رزين الحركة، ظاهر الأبهة، باهر الجلالة؛ نظرته نظرة روحه لا نظرة عينه، وعقله عقل جسمه لا عقل سنه: فأدركت حينئذ معنى قول الشاعر الفرنسي: (إن النفوس التي تولد على درج العرش لا تنتظر عبقريتها كرور السنين) وتعليل ذلك أن الطفل الملكي متى كان سليم الفطرة تستجيب غرائزه إلى وحي العمل الذي يُهيأ له؛ وعلمه يأنه يهيأ لوراثة الملك يحمله على اتخاذ سَمْته وسِمَتِه؛ ثم ينشأ في جو يساعده ما فيه من النظام والاحترام ومظاهر القدرة وتقاليد الأسرة على سمو المدارك ونضوج الرجولة؛ ولا ينفك يسمع في مجاري دمه النبيل أصوات أجداده الأمجاد تأمر وتنهي، وتشير وتوحي، وترسم وتدل؛ فإذا رفع إلى العرش واستوى عليه لم يجد في نفسه شيئاً جديداً ينكره، ولا في جوه مظهراً غريباً يستريبه؛ فيسير أمره على ما رسمته النشأة، وهيأته الطبيعة، لا تكلف ولا تعسف ولا تظاهر ولا تذبذب.
لذلك انتقل الفاروق من حال التلميذ إلى حال الملك في سهولة أدهشت الناس في مصر وفي غير مصر.
وليس لهذا الدهش موضع، فإن الرجل الذي يختل توازنه ويضطرب أمره، هو الذي يتحول بغتة من العجز إلى القدرة، ومن الخضوع إلى السلطة، ومن الصعلكة إلى المُلك، فيستر صغره بالكبر، وضعفه بالاستبداد، وفشله بالخديعة؛ ثم لا يطمئن إلى حاله، ولا يستقر في محله، فيتعلق بالظنون، ويستمسك بالدسائس، ويعتصم بالترفع؛ ولكن الفاروق العظيم ربيب المُلك وسليل محمد علي وإبراهيم وإسماعيل وفؤاد يرى نفسه طبيعياً في موضعه؛ وموضعه فوق الحكم وفوق الأحزاب وفوق المطامع، فلا يمكن أن يكون إلا كما تراه. ومخايل الفاروق ودلائل الحال تؤكد أنه سيكون في عهده السعيد المجيد موئل الدستور، وملاذ الحرية، وحارس الدين، وراعي الشعب، ومرشد الحكومة في الحيرة، ومرجع الأحزاب في الخلاف؛ أما ثقافة العقل والجسم والخلق فتلك رسالته التي وكل الله إليه أداءها بالتشجيع والتشريع والقدوة.(213/2)
أحمد حسن الزيات(213/3)
السرقات الأدبية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
سأقص على القراء حادثة أعذر من لا يصدقها ولا ألوم من يرتاب في صحتها، ولكنها مع ذلك حقيقة، وبعض الحقائق أغرب من تلفيقات الخيال. وذلك أني على أثر الثورة المصرية في سنة 1919 ذهبت إلى الإسكندرية لأقضي فيها أياماً أو لأتخذ فيها مقامي - حسب الأحوال - وكنت لا أزال سقيم الأعصاب جداً. وكنا في رمضان فأفطرنا واسترحنا ثم خرجنا لنحيي الليل بالسهر كما هي العادة وكنت منشرح الصدر، ولكني لم أكد أتجاوز عتبة البيت حتى وقفت وقلت لقريبي إني محموم، فأنا راجع، فجسني فلم يجد بي شيئاً فأصررت على أنها الحمى، فرقدت وكنت لا أكاد أطيق الصهد الذي أحسه. وزال عني ذلك بعد ساعة أو اثنتين غير أني لزمت الفراش وعادني طبيب الأسرة في اليوم التالي فقال: إن هذه حمى عصبية. فاستغربت ولكني عانيت من الأعصاب ما جعلني أصدق كل شيء، وبقيت أياماً في البيت زارني في خلالها صديقي الأستاذ العقاد وترك لي رواية روسية أتسلى بها، فأكببت عليها وقرأتها في ساعات أحسست بعدها أني صرت أقوى وأصح بدناً وأقدر على المكافحة والنضال في الحياة، وأنه صار في وسعي أن أستخف بما يحدث لي سقم الأعصاب من الوهم. وعدت إلى القاهرة، ومضى عام فطلب مني بعضهم أن أترجم له رواية؛ فقلت لنفسي إني مدين لهذه الرواية الروسية بشفائي بالروح الجديدة التي استولت علي، فيحسن أن أنقلها إلى العربية عسى أن تنفع غيري كما نفعتني. وقد كان. نقلت الرواية بسرعة، وكنت أذهب إلى المطبعة لتصحيح المسودات فيقول لي العامل أحياناً: إن الأصول نفدت، فأقعد في أي مكان وأفتح الرواية أروح أترجم وأرمي للعمال بالورقة بعد الورقة، وكأني أدون كلاماً حفظته من قبل. ولست أذكر هذا الأباهي به ولا أقول لكم إني رجل بارع، بل لسبب آخر سيأتي ذكره في موضعه. وفرغنا من الترجمة والطبع؛ ولم يعن الناشر بأن يبعث إلي بنسخة من الرواية ولم أعن أنا بأن أطلب أو أدخر نسخة؛ وقد نسيت أن أقول إني سميتها (ابن الطبيعة) وكان اسمها في الأصل (سَنين) وهو اسم بطلها. وليس هذا إعلاناً فقد نفدت من زمان طويل. كان هذا في سنة 1920. وفي سنة 1926 شرعت أكتب قصة (إبراهيم الكاتب) وانتهيت منها ولم أرض عنها فألقيتها في(213/4)
درج حتى كانت سنة 1930 فخطر لي أن أنشرها، فدفعت بها إلى المطبعة، فاتفق بعد أن طبعنا نحو نصفها أن ضاعت بعض الأصول وكنت لطول العهد قد نسيت موضوعها وأسماء أشخاصها فحرت ماذا أصنع؛ ثم لم أر بداً من المضي في الطبع فسددت النقص ووجهت الرواية فيما بقي منها توجيهاً جديداً. ونشرت الرواية. وبعد شهور تلقيت نسخة من مجلة (الحديث) التي تصدر في حلب وإذا فيها فصل يقول فيه كاتبه إني سرقت فصلا من رواية ابن الطبيعة. فدهشت ولي العذر. واذكروا أني أنا مترجم ابن الطبيعة وناقلها إلى العربية، وأن أربعة آلاف نسخة نشرت منها في العالم العربي، وإني أكون أحمق الحمقى إذا سرقت من هذه الرواية على الخصوص. فبحثت عن ابن الطبيعة وراجعتها وإذا بالتهمة صحيحة لا شك في ذلك، بل هي أصح مما قال الناقد الفاضل. فقد اتضح لي أن أربع أو خمس صفحات منقولة بالحرف الواحد من ابن الطبيعة في روايتي (إبراهيم الكاتب). أربع أو خمس صفحات سال بها القلم وأنا أحسب أن هذا كلامي. حرف العطف هنا هو حرفه هناك؛ أول السطر في إحدى الروايتين هو أوله في الرواية الأخرى. . . لا اختلاف على الإطلاق في واو أو فاء أو اسم إشارة أو ضمير مذكر أو مؤنث. . . الصفحات هنا هي بعينها هناك بلا أدنى فرق. ومن الذي يصدقني إذا قلت إن رواية ابن الطبيعة لم تكن أمامي ولا في بيتي وأن أكتب روايتي؟ من الذي يمكن أن يصدقني حين أؤكد له أني لم أر رواية ابن الطبيعة مذ فرغت من ترجمتها، وأني لو كنت أريد اقتباس شيء من معانيها أو مواقفها لما عجزت عن صب ذلك في عبارات أخرى؟ لهذا سكت ولم أقل شيئا وتركت الناقد وغيره يظنون ما يشاءون فما لي حيلة. ولكن الواقع مع ذلك هو أن صفحات أربعاً أو خمساً من رواية ابن الطبيعة علقت بذاكرتي - وأنا لا أدري - لعمق الأثر الذي تركته هذه الرواية في نفسي فجرى بها القلم وأنا أحسبها لي. حدث ذلك على الرغم من السرعة التي قرأت بها الرواية والسرعة العظيمة التي ترجمتها بها أيضاً. ومن شاء أن يصدق فليصدق، ومن شاء أن يحسبني مجنونا فإن له ذاك. ولست أروي هذه الحادثة لأدفع عن نفسي فما يعنني هذا، وإنما أرويها على أنها مثال لما يمكن أن تؤدي إليه معابثة الذاكرة للإنسان. وليست الذاكرة خزانة مرتبة مبوبة، وإنما هي بحر مائج يرسب ما فيه ويطفو بلا ضابط نعرفه ومن غير أن يكون لنا على هذا سلطان. فالمرء يذكر وينسى. ويغيب عنه الشيء(213/5)
ويحضر بغير إرادته وبلا جهد منه، ويعلق بذاكرته ما يعلق وهو غير دار أو مدرك لما يحدث، وتتزاوج الخوالج وتتوالد كما يتزواج الناس ويتوالدون وهو غير شاعر بشيء مما يجري في نفسه من التفاعل وأثره
ولست أحب أن أجعل من نفسي قاضيا يحكم على هذا بالسرقة وعلى ذاك بالانتحال إلى آخر هذا، وإنما أحب أن أعلل وأفسر الحالات أو الحركات النفسية التي تؤدي إلى ما يمكن أن يسمى سرقة أو اقتباساً أو التي تغري إنساناً بما فكر فيه غيره. ولا جديد في تعليلي أو تفسيري فأنه قائم على علم النفس، وإنما الجديد هو التوجيه أو التطبيق، ولا فضل في هذا ولا مزية له. ومن أجل ذلك أقصر هذا في الفصل على الأمثلة فإن المقام لا يتسع لها ولما يبدو لي من وجوه التعليل، وأرجو أن تتاح لي فرصة قريبة أشرح فيها مذهبي ورأيي في هذه الحالات
وقد عني العرب بتعقب شعرائهم، فكل شاعر ظهر له من ينخل كلامه ويغربله ويرد المعاني إلى أصحابها أي إلى الذين سبقوا إليها. والسبق في الزمن هو الذي يكسب السابق الحق في المعنى؛ وأنا أقول المعنى لأنه لم يكن ثم موضوع للقصائد غير الأغراض المألوفة مثل المدح والهجاء والفخر والغزل وما إلى ذلك. ولما كان البيت في الشعر العربي القديم هو الوحدة فقد صارت الأبيات المفردة هي مدار هذا الضرب من النقد؛ فهذا أخذ معنى البيت الفلاني من فلان، وذاك نظر إلى قول علان، إلى آخر هذا إن كان له آخر. ولهم في هذا الباب حكايات بعضها لاشك مختلق والبعض قد يكون صحيحا، وأعني بهذه الحكايات ما يراه المرء في كتب الأدب من أن بعض الشعراء المستهترين المستخفين بالدنيا وما فيها من مثل أبي نواس سمع شاعرا مغمورا ينشد قصيدة فأعجبه معنى بيت فيها فأخذه جهرة وقال: أيروى لك هذا المعنى وأنا حي؟. . ومثل ما يروون من أن المتنبي كان ينكر في حياته أنه قرأ شعر ابن الرومي، فلما قتل وجدوا بين أوراقه نسخة خطية بالطبع من ديوان ابن الرومي وعليها تعليقات بخط المتنبي. ولا فائدة من محاولة التمثيل لهذا النوع من السرقات فإن الكلام خليق أن يطول بلا جدوى ومن غير أن نجيء فيه بجديد وأكثر القراء يستطيعون أن يرجعوا إليه إذا شاءوا في كتب الأدب المتداولة. لهذا أوثر أن أسوق أمثلة مما في الآداب الغربية مما يدخل في باب السرقات فإن الأمر في هذه أمر(213/6)
موضوع يقتبس، أو قصيدة برمتها تؤخذ من أولها إلى آخرها على طولها بالحرف الواحد. والقليلون يعنون بتعقب هذا فذكر أمثلة منه خليق أن يكون أمتع.
أشهر شعراء الإغريق هومر كما لا أحتاج أن أقول؛ وقد قرأت ترجمتين إنجليزيتين له وحطمت رأسي بهما وأعترف أنه لم يرقني منه إلا القليل، ولكن كنت أخشى أن أجاهر بهذا الرأي لئلا يقول عني إخواني إن ذوقي فاسد أو إن بي نقصاً في الاستعداد الأدبي؛ أما الآن فإني أستطيع أن أجهر بذلك وأن لا أخشى تهماً كهذه. على أني لا أذكر هومر الآن لأقول رأيي فيه بل لأروي قصتين صارتا الآن معروفتين: الأولى أن الأدب الإغريقي كان في العصور الوسطى مجهولاً أو مدفوناً وكان لا يعرفه إلا الرهبان الذين احتفظوا بنسخ منه ضنوا بها على النشر والإذاعة لأنه أدب وثني، وفيما عدا هؤلاء الرهبان لم يكن أحد يعرف شيئاً لا قليلا ولا كثيراً عن الأدب الإغريقي، فكان من سخرية الأقدار أن الرجل الذي رد إلى العالم هومر في القرن الرابع عشر كان سكيراً نصاباً وشريراً كبيراً، وأن الرجل الذي حمله على ترجمة هومر كان من أبرع كتاب النهضة، وأن الرجل الذي آلى على نفسه أن يعمل على نشر جمال الأدب الإغريقي في العالم كان لا يعرف حرفاً واحداً من اللغة الإغريقية. هؤلاء الثلاثة الذين جمعهم الحظ هم بيلاتس وبوكاكشيو وبترارك فأما أولهم فكان مغامراً يؤثر أن يستخفي لأسباب لعل البوليس أعرف بها؛ وكان قذراً كثير الشعر دميم الخلقة، ولكنه كان يعرف اللغة الإغريقية فجاء به بوكاكشيو وأنزله عنده ضيفاً فبقي ثلاث سنوات. أما بوكاكشيو فمعروف مشهور وهو عندي أنبغ نوابغ الإيطاليين ولكنه كان ساذجاً وكان لا يعرف قدر نفسه وكان عظيم التوقير لبترارك حتى لقد صار في آخر حياته يخجل لأنه كتب ما كتب باللغة الإيطالية العامية لا باللاتينية. وأما بترارك فقد اقتنع لسبب لا نعرفه بأن المخرج الوحيد من السوء الذي يراه في زمانه هو إحياء درس الأدب الإغريقي، ويظهر أنه كان هناك اعتقاد بأن هذا الأدب المقبور هو القادر وحده على حل المشاكل التي كانت تواجه العالم في ذلك الزمان، وهكذا عرف الناس هومر بعد أن قبره الزمن عدة قرون.
ومن المحقق أن هومر كان يعرف الأساطير المصرية وأنه استعان بها في قصيدته - الإلياذة والأوديسية - وأحسب أن كثيرون قرءوا البحوث التي نشرها الأستاذ عبد القادر(213/7)
حمزة وأثبت فيها - استناداً إلى ما وقف عليه وكشف عنه العلماء بالآثار المصرية والتاريخ المصري القديم - أن هومر أخذ كل العقائد وكل القصص من المصريين. والمصريون كما لا يحتاج أن أقول - أسبق بآلاف السنين لا بمئاتها فقط، وهم الذين نشروا في العالم القديم العقائد التي لا تزال باقية إلى اليوم. وهم أول من فكر في الروح والآخرة والحساب والعقاب. وقد ذهبت مدنيتهم ولكن آثارها بقيت وهي على قلتها كافية للدلالة على حضارتهم. وقد نشر الأستاذ عبد القادر حمزة النصوص وأثبت منها أن هومر أخذ قصصه من مصر وأن كل ما فعله هو تغيير الأسماء وقلبها إغريقية. وأنا أزيد على ذلك أن هيرودوت يقول عن هومر كلمة لها مغزاها، ذلك أنه يصف عمله بأنه (تنظيم)، ويقول عنه في موضع آخر إنه وضع (إطاراً) للقصص، وفي موضع آخر أيضاً إنه (جمع). ومعنى هذا أنه كان معروفاً أن هومر لم يبتكر قصصه وإنما جمعها ورتبها ونظمها. ويظهر أنه كانت هناك روايات متعددة مختلفة وأن هومر شعر بالحيرة بينها ولم يدر أيها يؤثر: الرواية المصرية أم الروايات المشوهة التي شاعت في إسبارطة وأثينا وفي غيرهما؟ ولهذا اضطرب ولم يستقر على رأي في أيهما هو البطل - هكتور أو أخيل - ويرجح بعضهم أنه لحيرته بين الروايات المختلفة أعد نصين، واحداً ينشده على الجانب الأسيوي والآخر ينشده على الجانب الأوربي. على أن المهم أن هومر أخذ موضوعه كله بكل ما انطوى عليه من مصر، فلولا مصر لما كان هومر. وأحسب أن الدنيا ما كانت حينئذ تخسر شيئاً فقد أصبح هومر اسماً لا أكثر
وأدع التوافه مثل قول أكثر من ناقد واحد: إن الرومان مدينون بفكاهتهم للإغريق، وإنه ما نكتة في الأدب الروماني إلا وهي مأخوذة من نكت الإغريق أو لها ما يقابلها عندهم، ومثل قولهم إن (الأبولوجيا) أو الاعتذار الذي كتبه سنيكا لما أمره نيرون بالانتحار ليس سوى تقليد ضعيف للأبولوجيا التي كتبها أفلاطون عن سقراط بعد الحكم على سقراط بالموت، ومثل قولهم إن وصف درع (إينياس) في قصيدة فرجيل مأخوذ من وصف هومر لدرع أخيل، وقولهم أيضاً إن خير ما في إينيادة فرجيل منقول بالحرف من وأن القصيدة كلها في الحقيقة ليست أكثر من مقاطيع منقولة من شعراء سابقين مثل هومر وأبوللونيوس ورودياس ولوسيلياس ولوكريشلاس وأن مكروبيوس ضبط كل هذه السرقات، ومثل(213/8)
قولهم إن الشاعر الإنجليزي (مارلو) - معاصر شكسبير - انتحل أبياتاً كثيرة ترجمها عن اليونانية في روايته (الدكتور فاوست). أدع كل هذا لأنه كما قلت من التوافه وأثب إلى ملتون الشاعر الإنجليزي المشهور، وأعترف أني لا أحبه وأني ما استطعت في حياتي أن أقرأ له قصيدة مرتين. وأشهر ما لملتون قصيدة (الفردوس المفقود) وأختها (الفردوس المستعاد) والأولى لا الثانية هي التي تقوم عليها شهرته. وهذه يقول النقاد إن من المعروف أنها عبارة عن جملة سرقات من ايسكلاس ودافيد وماسينياس وفوندل وغيرهم. ولكنه لم يكن معروفاً أن الفردوس المفقود كله - موضوعه ومواقفه وعباراته أيضاً - مترجمة ترجمة حرفية عن شاعر إيطالي مغمور غير معروف كان معاصراً لملتون. لم يكن هذا معروفاً حتى اهتدى إليه (نورمان دوجلاس) فقد اتفق له أن عثر على نسخة وحيدة من رواية (ادامو كانوتو) لمؤلفها (سرافينو ديللا سالاندرا) وهذه الرواية وضعت في سنة 1647.
وأنا أنقل هنا ما يقوله (نورمان دوجلاس) قال:
سأسوق الآن بلا تمهيد ما يكفي لإثبات أن الفردوس المفقود ليس إلا نقلا وترجمة لهذه الرواية
محور قصيدة سالاندرا هو ما أصاب العالم من جراء العصيان الذي أغري به الإنسان الأول. وهذا هو محور موضوع ملتون
والأشخاص في رواية سالاندرا هم الله، وملائكته، والإنسان الأول والمرأة الأولى والحية وإبليس وزملاؤه. وكذلك في قصة ملتون
وفي فاتحة القصيدة أو التمهيد لها يذكر سلاندرا الموضوع ويتكلم عن الله وأعماله. وكذلك يفعل ملتون
ثم يصف سلاندرا مجلس الملائكة المتمردين وسقوطهم من السماء في منطقة جرداء نارية ويسوق أحاديثهم وكيف أنهم يحقدون على الإنسان ويتفقون على الاحتيال على إسقاطه ويقررون أن يجتمعوا في الهاوية حيث يتخذون التدابير الخليقة أن تجعل من الإنسان عدواً لله وفريسة لجندهم. وكذلك في ملتون
وسالاندرا يجسد الخطيئة والموت ويجعل الموت ثمرة الخطيئة. وكذلك يفعل ملتون(213/9)
ويصف سالاندرا سبق العلم الإلهي بنتيجة الإغواء وسقوط الإنسان وتهيئته تعالى لأسباب الخلاص. وكذلك ملتون
ويصف سالاندرا موقع الجنة والحياة السعيدة فيها. ويفعل ملتون مثله
ويشرح سالاندرا الإعجاز في خلق العالم والإنسان وفضائل الثمرة المحرمة. وكذلك ملتون
ويروي سالاندرا الحوار الذي دار بين حواء والحية ويصف الأكل من الشجرة المحرمة واليأس الذي استولى على أبوينا - آدم وحواء - وكذلك ملتون
ويصف سالاندرا فرحة الموت بما ارتكبته حواء والسرور الذي عم الجحيم والحزن الذي انتاب آدم وخروج آدم وحواء من الجنة وحزنهما وندمهما. وكذلك يفعل ملتون
ويتوقع سالاندرا مجيء المخلص وهزيمة الخطيئة والموت ويتكلم عن عجائب الخلق ويصف قتل قابيل لأخيه هابيل ويذكر الخطيئات في الدنيا والحرب وأهوالها. وكذلك ملتون
ويصف سالاندرا الحب الذي ينطوي عليه عيسى عليه السلام والعزاء الذي يشعر به آدم وحواء حين يبشرهما الملك بمجيء المسيح ثم خروجهما من جنتهما الأرضية. وكذلك يفعل ملتون
فالموضوع مأخوذ برمته كما أثبت ذلك نورمان دوجلاس. ويقول برتون راسكو: (إن هذا ليس كل شيء ويحيل القارئ على كتاب اسمه (أولد كالابريا) - كالابريا القديمة - ويؤكد أنه يؤخذ منه أن ملتون ترجم قصة سالاندرا حرفا بحرف وأن ما ليس مترجما عن سالاندرا مترجم عن غيره من الشعراء القدماء
والذي يجعل الأمر أغرب أن ملتون كان قد أعلن قبل ذلك عزمه على نظم قصة خالدة لا يسمح الناس بأن يدعوها تموت وتقبر، ويعني بها الفردوس المفقود، وبعد أن أعلن عزمه هذا بسط لسانه في كل الشعراء الإنجليز الذين تقدموه مثل شوسر وسبنسر وشكسبير ومارلو وجونسون ووصفهم بأنهم صناع آليون، وانتقد هومر وفرجيل وتاسو وعاب شعرهم. ويعلل نورمان دوجلاس اهتداء ملتون إلى قصة سالاندرا بأن ملتون لقيه في رحلته إلى إيطاليا، وأن سالاندرا يرجح أن يكون أعطاه نسخة من قصته عسى أن يعينه على ترجمتها إلى الإنجليزية. ويقول إن ملتون كان له أصدقاء يراسلونه من إيطاليا وإنه قابل جروتياس في باريس وجاليليو في فلورنسا، وإنه يحتمل أن يكون هذان قد أعطياه(213/10)
نسخة من القصة لما نشرت بالإيطالية. والمحقق على كل حال أن قصيدة الفردوس المفقود نسخة طبق الأصل من قصيدة سالاندرا الإيطالي.
وأنتقل الآن إلى ما هو أحدث في أثناء الحرب العظمى. لم يكن لنا عمل بعد السعي وراء الرزق إلا القراءة والإطلاع واتقاء التعرض لمكاره الاعتقال والسجن وما عسى أن يكون وراءهما. وقد وقتني الكتب ذلك مرة وجاء القوم يفتشون بيتي وكان معهم ضابط إنجليزي، فلما دخل المكتبة وأجال عينه في الرفوف وما عليها من كتب الأدب حسن رأيه فيّ ومال إلى الرفق، فانتهى الأمر بخير. ولكن هذا استطرد فلنرجع إلى ما كنا فيه. والذي أريد أن أقوله هو أن صديقي الأستاذ العقاد أعارني يوماً قصة (تاييس) لأناتول فرانس فقرأتها بلهفة فقد استطاع المترجم الإنجليزي أن يحتفظ بقوة الأسلوب وتحدره وبراعة العبارة وسحرها. ومضت بضعة شهور ثم دفع إلي الأستاذ العقاد رواية (هايبيثيا) للكاتب الإنجليزي (تشارلز كنجزلزي) فقرأتها أيضاً، ثم سألني: ما رأيك؟ قلت: غريب. قال: إن الروايتين شيء واحد. قلت: صحيح
والواقع أن الروايتين شيء واحد وأن تاييس مأخوذة من هايبيثيا بلا أدنى شك. وفي وسع من شاء أن يقول إن أناتول فرانس ما كان يستطيع أن يكتب - أو ما كان يخطر له أن يكتب روايته لو لم يسبقه تشارلز كنجزلزي إلى الموضوع. ذلك أن تاييس في رواية أناتول فرانس هي هايبيثيا في رواية كنجزلزي، والعصر هو العصر والبلاد هي البلاد، وكل ما هنالك من الاختلاف هو أن أناتول فرانس أستاذ فنان، وأن تشارلز كنجزلزي أستاذ مؤرخ. وأنا مع ذلك أفضل رواية هايبيثيا وأراها أكبر وأعمق وأملأ للنفس وأمتع للعقل، فما لأناتول فرانس في تاييس غير براعة الأسلوب وحلاوة الفن، ولكن الصور في رواية هايبيثيا أتم وأصدق، والشخصيات أكثر ورسمها أقوى وأوفى والموضوع أحفل. وفي وسعي أن أقول بلا مبالغة إنها تعرض عليك عالماً تاماً لا ينقصه جانب واحد من الجوانب؛ وأما تاييس فليست سوى لمحة خاطفة من هذا العالم
وتشارلز كنجزلزي يرسم لك الحياة في تلك الفترة من تاريخ مصر بكل ما انطوت عليه ويريك الناس والأشياء والعادات والأخلاق والآراء والفلسفات الشائعة والفردية بدقة وأمانة، أما أناتول فرانس فيرسم لك بقلمه البارع خطوطاً سريعة تريك ما وقع في نفسه من ذلك(213/11)
العصر، فهو أشبه بالمصورين الذين يجرون على طريقة الامبرشزنم أي الذين يصورون وقع المناظر في النفس لا المناظر كما هي في الحقيقة والواقع.
هذا بعض ما يسعني ألان أن أذكره وأمثال هذا كثير في الآداب الغربية، وليس له في الأدب العربي نظير، وأسباب ذلك كثيرة يطول فيها الكلام فلنرجئها إلى فرصة أخرى تتسع لوجوه التعليل المختلفة.
إبراهيم عبد القادر المازني(213/12)
في التاريخ السياسي:
المأساة الفلسطينية ومشروع التقسيم البريطاني
بقلم باحث دبلوماسي كبير
لما تسربت الأنباء الأولى عن مشروع اللجنة الملكية البريطانية في تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية، وقبل أن يذاع تقرير اللجنة أبدينا في (الرسالة) أن هذا الحل الجديد الذي ابتكرته السياسة البريطانية لتسوية المسألة الفلسطينية لم يكن حلاً موفقاً، وأنه لا يمكن أن يرضي أحداً من الفريقين المتنازعين
والآن وقد مضت أسابيع على ظهور تقرير اللجنة عن مشروع التقسيم، وعرفنا إلى أي حد ذهبت اللجنة الملكية في استنتاجاتها وفي توصياتها، وكيف استقبل العرب مقترحاتها بعاصفة من السخط والإنكار المطلق لا في فلسطين وحدها ولكن في جميع أنحاء الجزيرة العربية، وكيف اعتزمت فلسطين أن تستأنف النضال في سبيل حياتها وكيانها، وكيف تغدو اليوم وشيكة انفجار جديد لا تؤمن عواقبه، فأنه يصعب علينا أن نعتقد أن الحكومة البريطانية التي أقرت مقترحات اللجنة على عجل لم تعتده في مثل هذه المناسبات الخطيرة، ستغضي عن هذه العوامل الجيدة التي ظهرت في الميدان منذ ظهور التقرير، والتي لا يمكن أن تعاون على استتباب السلام المنشود في فلسطين
إن مشروع التقسيم الذي تقترحه اللجنة يمزق فلسطين شر ممزق بل هو يقضي القضاء الأخير على كيانها القومي ويخرجها من عداد الأمم والمجتمعات ذوات المميزات الخاصة ويحرمها من كل أمل في التقدم والنهوض؛ وإن نظرة واحدة إلى الحدود المقترحة لهذا التقسيم تكفي للحكم بأن فلسطين تمحى بمقتضاه من خريطة الوجود ولا يبقى منها برسم الدولة العربية الجديدة سوى صخور وبسائط صحرواية لم يتح للعمران طيلة القرون أن يذللها وأن يستثمرها؛ وماذا عسى أن يبقى من فلسطين العربية إذا اقتطعت منها كل سواحلها وثغورها وقواعدها المقدسة وكل بقاعها الخصبة؟ إن الدولة اليهودية التي يشير التقرير بإنشائها تشمل في الواقع كل قواعد فلسطين وثغورها التاريخية عدا ثغر يافا الذي يبقى وحده مخرجاً بحرياً للقسم الصحراوي الذي خصص للعرب؛ أما بقاع فلسطين المقدسة التي لبثت علماً عليها طوال القرون فقد تقرر أن تؤلف منها منطقة خاصة توضع تحت(213/13)
أشراف عصبة الأمم أو بالحري تحت إشراف الانتداب البريطاني، وبذلك تجرد كل فلسطين من قواعدها التاريخية وكل ثرواتها ومواردها الاقتصادية في مصلحة الدولة اليهودية الجديدة؛ ومع ذلك فاللجنة الملكية تنوه في تقريرها بأهمية هذا التقسيم بالنسبة للعرب، وتقول لنا إنه (سيمكنهم من الحصول على استقلالهم الوطني والتعاون على قدم المساواة مع العرب في البلاد المجاورة، وذلك في كل ما يؤول إلى وحدة العرب ونجاحهم وسيخلصون نهائياً من خوف تسلط اليهود عليهم ووقوع الأماكن المقدسة بيد اليهود)
على أن هذه الألفاظ المعسولة لا تغير شيئاً من الحقيقة الهائلة وهي أن مشروع التقسيم يمحو فلسطين العربية من خريطة الوجود لينشئ على أنقاضها وتراثها التاريخي مملكة إسرائيل وليحقق بذلك حلم اليهودية القديم؛ نعم إن المساحة التي تضمها الدولة اليهودية الجديدة هي أقل مما تطمح إليه اليهودية، ولكنها تحتوي كما قدمنا على أطيب ما في فلسطين من قواعد وثغور، واليهودية تغدو في هذا الحيز الضيق أقوى وأشد إيماناً بالمستقبل؛ ثم هي مع ذلك بدء فقط؛ واليهودية تأسف بلا ريب أن تخرج بيت المقدس من قبضتها وهي مثوى تراثها الروحي وذكرياتها المقدسة، ولكنها تتعزى عن ذلك بخروجها من قبضة العرب أيضاً، وكونها وهي في يد إنكلترا أقرب إلى نفوذهم؛ ومن يدري فقد تسنح الفرصة فيما بعد لاستردادها بطريقة من الطرق، وبذلك يصبح ظفر اليهودية بإحياء مملكة إسرائيل القديمة كاملا شاملا
والخلاصة أن مشروع التقسيم هو قرعة الفناء للأمة الفلسطينية وهي حقيقة لم يتردد العرب لحظة في إدراكها، ومن ثم كان رفضهم للمشروع بهذا الإجماع السريع المؤثر الذي هو عنوان الخطر القومي، والذي تلوذ به الأمم المجاهدة في مواقف الحياة والموت؛ ولقد جاهدت فلسطين مذ نكبت بالانتداب والوطن القومي اليهودي في سبيل حريتها وعروبتها، ولم تقبل أن تكون ميداناً لهذه التجربة اليهودية الخطرة التي لم تكن تتوجها مع ذلك أية صبغة شرعية أكثر من وعد الحكومة البريطانية بمؤازراتها، فكيف ينتظر منها أن تقبل اليوم أن تقوم في قلبها وفي أطيب بقاعها مملكة يهودية تتمتع بصفة شرعية دولية، تنازعها البقاء وتنذرها بالفناء العاجل بما هيئ لها من أسباب التفوق السياسي والاقتصادي والاجتماعي(213/14)
ومن حسن الطالع أن الأمة الفلسطينية لا تقف وحدها في هذا النضال الذي هو بالنسبة إليها معركة الحياة والموت، فإن شقيقاتها العربيات قد فزعت لفزعها وهبت من حولها تنصرها وتشد أزرها بالقول والعمل معا، فألقى رئيس الوزارة العراقية تصريحاته الرسمية المعروفة في إنكار مشروع التقسيم والحملة عليه بشدة، وفي التنويه بما تتعزمه العراق من مقاومته باعتباره خطراً لا على فلسطين وحدها ولكن على الأمة العربية بأسرها؛ ولم يقف رئيس الوزارة العراقية عند هذه التصريحات القوية الحازمة بل قدم احتجاجه بصفة رسمية إلى الحكومة البريطانية؛ وأيد الشعب العراقي موقف حكومته بتنظيم مظاهرات الاحتجاج في بغداد وغيرها؛ وحذت الحكومة السورية حذو الحكومة العراقية في إلقاء التصريحات الرسمية بمعارضة مشروع التقسيم، وفي توجيه الاحتجاج الرسمي إلى الجنة الانتداب بعصبة الأمم، وقام الشعب السوري بمظاهرات مماثلة لتأييد فلسطين في موقفها؛ وقامت مظاهرات مماثلة في الحجاز، وما تزال عواصم الجزيرة العربية كلها تضطرم بأمواج الاحتجاج والسخط على مشروع التقسيم والعطف على فلسطين وتأييدها في جهادها. كذلك لم تكن مصر بمعزل عن هذه الحركة وإن تكن الحكومة المصرية قد آثرت أن تعمل في صمت وهدوء؛ فقد أعرب رئيس الحكومة المصرية في بيانه الرسمي بمجلس الشيوخ عن اهتمام الحكومة المصرية بالقضية الفلسطينية وأشار إلى ما جرى من اتصاله بالحكومة البريطانية في شأنها أكثر من مرة، وإلى أنه عقب ظهور تقرير اللجنة الملكية قد بادر باستئناف هذا الاتصال والسعي بالمسائل الدبلوماسية إلى العمل على صيانة حقوق العرب ومصالحهم، مؤثراً ألا تكون هذه المساعي موضع المناقشة العلنية حرصاً على مصلحة فلسطين ذاتها؛ هذا إلى ما أبدته الهيئات السياسية والوطنية المصرية من احتجاج على مشروع التقسيم وتأييد قلبي لفلسطين.
والواقع أن قيام اليهودية في فلسطين في مثل هذا الحشد القوي المنظم، خطر داهم لا على فلسطين وحدها، ولكن على العالم العربي والإسلامي كله؛ ويزيد هذا الخطر ويذكيه أن تنتظم اليهودية على هذا النحو إلى دولة ذات شخصية مستقلة تجثم في قلب العالم العربي؛ وهذا الخطر متعدد النواحي، فمن الوجهتين السياسية والاقتصادية يخشى أن تكون هذه الدولة الجديدة التي لا يتأتى لها البناء إلا على ما تستطيع تقويضه من صروح الأمة(213/15)
العربية، مصدر اضطراب دائم في هذا الجزء من الجزيرة العربية؛ وخطرها السياسي على كيان الأمة العربية ظاهر لا يحتاج إلى بيان؛ أما خطرها الاقتصادي فنحن نعرف كيف تعمل اليهودية بوسائلها القوية المعروفة أينما حلت على الاستئثار بجميع الثروات والمرافق؛ على أن هناك خطراً أشد وأفدح من قيام اليهودية في صميم المجتمع العربي والإسلامي على هذا النحو، هو الخطر المعنوي إذا صح التعبير؛ ذلك أن اليهودية كما يشهد تاريخها الفكري والفلسفي تضطرم دائماً بروح الثورة والانتفاض والهدم، وقد كان هذا الروح الثوري الهدام مبعث كثير من الحركات الثورية الهدامة الخفية والظاهرة التي قلبت أوضاع المجتمع، وبثت إليه كثيراً من عناصر الانحلال والفوضى؛ ويكفي أن نمثل لذلك بالشيوعية التي تعتبر اليوم أخطر عناصر الهدم، فهي من نفثات العقلية اليهودية؛ ومذ حلت الصهيونية في فلسطين ظهرت معها العناصر الشيوعية وأخذت تتسرب إلى مصر وسوريا والعراق؛ وهذه العناصر الثورية الهدامة التي تحملها اليهودية معها إلى فلسطين، تغدو إذا ما اشتد ساعد الدولة اليهودية الجديدة خطراً داهما على الأمم العربية التي تجثم في صميمها.
والأمم العربية تقدر كلها هذا الخطر، وكلها من وراء فلسطين في درئه ومقاومته؛ وقد أبدت فلسطين عزمها جلياً قاطعاً على استئناف النضال إذا لم تسمع شكايتها العادلة، وإذا أريد أن تفرض عليها سياسة التقطيع والتمزيق بالقوة القاهرة. على أننا من جهة أخرى نعتقد أن السياسة البريطانية الفطنة لم يفتها أن تقدر ما كان لمشروع التقسيم من سوء الواقع، ولم يفتها بالأخص أن تلاحظ موقف البلاد العربية والإسلامية الأخرى وما ينطوي عليه من دلائل لا تستطيع السياسة البريطانية أن تغفلها؛ ومع أن الحكومة البريطانية قد وافقت على تقرير اللجنة الملكية عن مشروع التقسيم فإن ذلك لا يعني أنها قد اتخذت خطتها النهائية إزاء المسألة الفلسطينية؛ كذلك لم يتخذ البرلمان البريطاني أي قرار في شأن المشروع بالرغم من المناقشات العديدة التي جرت حوله والتي لم تخل من بعض ميول معارضة للتقسيم؛ بل آثر أن يرجئ قراره حتى تنتهي لجنة الانتداب الدائمة لعصبة الأمم من بحث المشروع، وهو الآن أمامها قيد النظر.
والخلاصة أن السياسة البريطانية لا تزال بالنسبة للمسألة الفلسطينية في مفترق الطرق،(213/16)
وهي إذا استطاعت أن تغفل اعتراضات العرب على مشروع التقسيم وإقامة الدولة اليهودية، فأنها لا تستطيع أن تغضي عن موقف الأمم العربية والإسلامية، وهي جميعاً تؤيد فلسطين في ظلامتها ومحنتها؛ وإنكلترا التي تربطها بالأمم العربية والإسلامية روابط صداقة متينة هي اليوم أشد حاجة منها في أي وقت آخر إلى تأييد هذه الأمم ومحالفتها؛ وموقع فلسطين والجزيرة العربية في طريق المواصلات الإمبراطورية أمر جوهري بالنسبة لمستقبل الدفاع عن الهند والإمبراطورية البريطانية؛ فهذه العوامل كلها مما يحملنا على الظن بأن المسألة الفلسطينية قد تجوز تطورات هامة أخرى قبل أن يستبين المصير النهائي الذي قدر لها؛ وللسياسة أعاجيب لا تفنى وكم سمعنا أيام اشتداد النضال بين مصر وإنكلترا، وعيد السياسة البريطانية بضم مصر إلى الإمبراطورية إذا لم تخلد إلى السكينة وتقبل المصير الذي يفرض عليها، ولكن مصر لم تن للوعيد حتى اضطرت سياسة القوة الغاشمة أن تختفي، وأن تترك المجال حراً لسياسة التفاهم والوفاق؛ وكل ما نرجوه في هذه الكلمة هو أن توفق الأمة الفلسطينية المجاهدة في دفاعها المؤثر عن كيانها، وأن يكلل جهادها بما يحقق أمانيها وطمأنينتها.(213/17)
بمناسبة إشراق دولة الفاروق الجديدة
لمحات من شمس الأمس الغاربة
السلطان الغوري ومفاوضاته الدولية
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
تستقبل مصر اليوم عهدها الجديد المشرق بتولية مليكها المحبوب الذي يتربع فوق عرش القلوب ويحكم شعبه عن ولاء ثابت له في حنايا الصدور. وعهد الفاروق وإن كان جديداً ناضراً يستأنف عهود المجد السابقة ويسترجع آيات العلا الغاربة فقد كانت مصر أبدا واسطة عقد الدول وجوهرة تاج المدنية.
وإن لعهدنا الحاضر معنى خاصا في تاريخ البلاد، ونحن إذ نحتفل في هذين اليومين بتتويج مليكنا المحبوب فإنا نشهد يوما من أكبر أيام مصر وأعظمها دلالة وأحفلها ببواعث الفخر والاعتبار والسرور، وذلك لأن عهد الفاروق الجديد أول عهد يخفق فيه على مصر علم الاستقلال بعد فترة سلب الدهر منها علمها ونزع عنها تاجها. ونود هنا أن نتخطى القرون الماضية التي شهدت تلك المأساة فنطفر إلى آخر عهد كان فيها ذلك العلم عالياً مكرماً عزيزاً، لنذكر في نشوة السرور الحاضرة بعض ما كان لبلادنا من العز الغابر لنحس بالنشوتين معا نشوة الأمل الطالع ونشوة ذكرى المجد التالد.
كان قانصوه الغوري آخر السلاطين العظماء الذين حكموا مصر منذ انقرضت دولة الأيوبيين في مصر فتعاقبوا على حكمها نحو ثلاثة قرون كانت مصر فيها أقوى أمم الشرق والغرب وتبسط سلطانها على الشام والنوبة ويمتد نفوذها في البحر حتى قبرص وتدين لها بلاد الشرق قاطبة بالزعامة وتتقرب إليها دول الغرب قاطبة لابتغاء ما عندها من كنوز التجارة ولتخطب مودتها في السلم ولتتقي عدواتها في الحرب، وكانت مع كل ذلك قلب المدنية التي تكدست فيها آثار العلم والفن والصناعة التي بلغتها الإنسانية إلى ذلك الوقت
تولى قانصوه في مارس سنة 1501 وهو جركسي الأصل. نشأ في بيت الملك الأشرف قايتباي العظيم ومازال حتى صار أميراً من أمراء الجيش ووكلت إليه قيادة فرق الحدود المصرية في طرسوس وكليكية وملطية. فلما مات قايتباي اختاره الملك الناصر ابنه لرياسة(213/18)
أمراء حلب وصار من كبار الأمراء الذين كان يقود كل منهم ألف فارس في الحرب، وكانوا لذلك يسمون (مقدمي الألوف)؛ وبلغ بعد ذلك إلى أكبر مراتب الدولة فأصبح دوادارا ثم وزيراً. وحدثت عقب ذلك أحداث جعلت الناس يتطلعون إليه ليجعلوه سلطاناً. ولم يرض بذلك في أول الأمر إذ كان يؤثر أن يكون أحد كبار الأمراء حتى لا يتعرض للمسئولية الجسيمة التي يتطلبها تبوء العرش. ولكن كبار الأمراء اضطروه إلى قبول التاج اضطراراً حتى قيل إنه بكى عندما عجز عن مقاومتهم ونزل مرتين عن الجواد الذي أركبوه إياه ليسروا به إلى القلعة ليحتفلوا بتوليته السلطنة بها
ولي الغوري عرش مصر ولقب بالملك الأشرف أبي النصر. وسار في القاهرة عقب ذلك في موكب حافل يحف به الأمراء وجنود الجيش المظفر، وكان يلبس الخلعة الرسمية التي كانت عادة السلاطين أن يلبسوها وهي الخلعة التي أهداها الخليفة العباسي إلى السلطان العظيم بيبارس من قبل منذ نيف وقرنين عندما انتقلت الخلافة العباسية إلى القاهرة عقب تحطيم التتار بغداد وقضائهم على الحكم العباسي بها.
سار السلطان قانصوه في ذلك الموكب يلبس تلك الخلعة وهي عبارة عن جبة سوداء وعمامة سوداء وطوق من الذهب حول العنق وسيف بدوي متدل من حمائله، وحملت على رأسه المظلة الرسمية التي يعلوها رسم طير من الفضة المذهبة. وكان عمره عند ذلك نحو الستين وله لحية ضرب فيها البياض، وهو بدين أسمر اللون واسع العينين.
وكانت مصر في أيامه مركز حركة سياسية متصلة لا تنقطع لأن أحوال العالم في وقته كانت تؤذن بشر انقلاب عرفه التاريخ الحديث
كانت أسبانيا قد تمكنت من طرد العرب من غرناطة، ولم تكد مصر تفيق من تلك الهزة حتى سمعت بأن دولة أخرى مجاورة وهي البرتغال قد عرفت طريقاً إلى الشرق تسير فيه السفن من بلادها إلى الهند مباشرة عن طريق البحر حول رأس الرجاء، وكانت بلاد العالم كله تتطلع إلى مصر لتنظر ما هي فاعلة في هذين الحادثين وتترقب سير هؤلاء البحارة الذين هاجموا بحار الشرق ليروا أيستطيعون أن ينفذوا الحلم الذي تصوروه في محاولة القضاء على تجارة مصر. وكانت مدن أوربا المطلة على البحر الأبيض المتوسط كالبندقية تقف عند ذلك مشدوهة تنظر تارة إلى مصر وتارة إلى شبه جزيرة الأندلس، وهي تحاول(213/19)
أن تحتفظ بمودة الأولى لتحتفظ بتجارتها معها وأن تحتفظ بمودة الثانية خشية على سمعتها بصفتها إحدى البلاد المسيحية الخاضعة للبابا والتي ما كان ينبغي لها أن تعادي المسيحيين في سبيل نصرة المسلمين.
وكانت حدود مصر الشمالية تضطرب كذلك بين قوتين ناشئتين إحداهما قوة الشاه إسماعيل الصفوي في بلاد العراق وإيران، والأخرى قوة النزلاء العثمانيين في بلاد الأناضول وأوربا، فقد كان محمد الفاتح أتم فتح القسطنطينية وجعل عاصمة دولته فيها محل الدولة البيزنطية العظمى. وكان الشاه إسماعيل الصفوي قد جمع أكثر العراق وإيران في دولة عظيمة تهدد الشرق كله بأن تكتسح بلاده وتبسط عليها مذهبها الديني الشيعي.
وكانت دولة الصفوي أشد دول الشرق خطرا على حدود مصر لأنها كانت تتبع طريق الدعاية والخفاء في الإغارة على البلاد التي تليها. وكانت لا تتورع عن أن تحالف المسيحيين لتساعدهم على القضاء على عظمة الدولة الإسلامية السنية الكبرى وهي مصر
فكانت القاهرة بطبيعة هذه الظروف مركزا لتيارات مختلفة بعضها مقبل من الشرق وبعضها من الغرب، لكل منها وجهة ولكل منها لون. وسننقل هنا بعض مناظر المفاوضات السياسية التي شهدتها أبهاء الحكم عند ذلك
كانت أسبانيا تدين لملك كبير وملكة عظيمة جمعا تاجي قشتالة وأرغونة في سبيل توحيد كلمة مسيحي الأندلس، وتمكنا بذلك من القضاء على آخر أثر من آثار الحكم الإسلامي الذي كان لا يزال يتحصن في غرناطة. وبلغت شكوى مسلمي الأندلس مسامع العالم الإسلامي ولاسيما دولة مصر ذات المجد التالد. وخشي عاهلا الأندلس أن يفتح ذلك عليهما باب الجهاد الصليبي القديم؛ وشاعت إشاعات سوداء عن عزم سلطان مصر أن ينتقم من رعاياه المسيحيين للثأر لمن وقعت عليهم مظالم أسبانيا من مسلمي المغرب.
فعوّل ملكا أسبانيا على أن يرسلا من قبلهما إلى مصر رسولا عظيم المقام في الدولة وهو (بطرس مارتير دانجير) وسار من غرناطة مارّا بفرنسا وإيطاليا وأبحر من البندقية في سبتمبر سنة 1501 وبلغ الإسكندرية في ديسمبر من ذلك العام
تردد السلطان الغوري في مقابلة ذلك السفير ولكنه سمح له بعد لأي بأن يمثل بين يديه، وكان ترجمان السلطان (تنجري بردى) من أصل أسباني فساعد على تخفيف ما كان عند(213/20)
السلطان العظيم من الموجدة على سفير الملكين اللذين اشتهرا باضطهاد المسلمين وإذلالهم وإيقاع أشد صنوف الأذى بهم.
وقابل الرسول السلطان مرارا مقابلة علنية ثم سمح له بلقاء سري تم فيه إقناع السلطان بأن ما بلغه عن مظالم الحكم الأسباني إنما هو من أكاذيب يهود الأندلس، فإن السفير أقنع السلطان العظيم أن وقعة ملكي الأندلسي إنما كانت مسددة إلى اليهود، وأن هؤلاء قد هاجروا من تلك البلاد وجعلوا يشنون الغارة عليها ويرمون مليكها بالظلم والعسف كذبا لإيغار صدور المسلمين وملوكهم على دولة أسبانيا الناشئة. فلم يعد ذلك السفير من مصر إلا بعد أن كتبت له معاهدة صداقة وسلام حملها معه وغادر القاهرة فائزا في فبراير سنة 1502
وكانت دولة البرتقال في هذه السنوات قد أفلحت في تثبيت أقدامها على شواطئ آسيا وجعلت تناصب مصر العداء في بحار الهند فأثر هذا في تجارتها حتى خلت أسواق بيروت والإسكندرية من الأفاويه التي كانت دول أوربا تتهافت على شرائها من تجار البندقية الذين يشترونها من أسواق مصر والشام. فثارت مصر لما أصابها من خسارة في تجارتها وفي سفن أسطولها، وأخذت تستعد لمقابلة عدوان البرتقال بمثله وجهز السلطان في الوقت نفسه بعثات سياسية أرسلها للمفاوضة مع البابا والبندقية ومع أسبانيا والبرتقال، وكانت رسالاته تنطوي على رجاء المليك المتحضر للدول الأخرى أن ترعى حقوقه وأن تقلع عن معاداته حفظا للسلام كما كانت تنطوي على تهديد المسيحية بالإيقاع بما للمسيحيين في الشرق كله من مصالح ورعايا ومعاهد. وكان أول رسول له في هذه المفاوضات هو رئيس دير جبل صهيون واسمه (فرا ماورو دي سان برناردينو) ثم أرسل بعد ذلك ترجمان الخاص (تنجري بردى). ولكن هذه الرسائل لم تفض إلى نتيجة حاسمة، واضطر السلطان إلى أن يعلن أنه سيعمد إلى القوة والبطش للانتقام. وما كاد يعلن هذا العزم حتى بادرت دول أوربا فأرسلت إليه سفراءها للاعتذار له وإظهار صداقتها ومودتها وأنها غير راضية عن الدول التي تسعى للإضرار بمصر أو تعمل على الكيد للمسلمين، وكانت البندقية أولى الدول التي سارعت إلى إظهار المودة والصداقة لشدة الترابط بينها وبين مصر. غير أن الظروف أساءت إلى هذه الصداقة الوراثية بين البندقية ومصر وكادت تصل بها القطيعة إلى(213/21)
القطيعة والعداوة، إذ اتفق أن ضبط في الشام في شهر مايو سنة 1511. رجلان أحدهما من جزيرة قبرص واسمه (نيقولان سوربيه) وكانا آتيين من الشرق من بلاد الشاه إسماعيل الصفوي يحملان خطابين موجهين من الشاه إلى حكومة البندقية معنونين إلى (توماسو كونتاريني) قنصل البندقية في دمشق و (بطرس زين) قنصلها بالإسكندرية. وكان السلطان العظيم قانصوه يرى في الشاه الصفوي عدوا خطيرا. فلما رأى هذه المراسلة بينه وبين البندقية زاد حنقه على تلك الصديقة ورأى أنها تخادعه وتتظاهر بمودته في حين أنها تراسل عدوه الأكبر، وأوشك الأمر أن يفضي إلى عداوة صريحة بينهما
فأمر السلطان بالقبض على القنصلين، وقادهما إلى القاهرة وسجنهما بها وعزم على أن يعامل رعايا البندقية معاملة رعايا الدول المعادية فيقبض عليهم ويصادر أملاكهم وأموالهم ويقطع علاقته بدولتهم إيذاناً بالعداوة الصريحة.
وكانت فرنسا والبندقية تتنافسان على النفوذ في الشرق، فلما رأت فرنسا هذا التوتر في علاقة مصر بالبندقية سارعت إلى إرسال سفير إلى السلطان ليوثق معه روابط المودة وكان هذا السفير اسمه (اندريه لرو)
ولما رأت البندقية أن فرنسا تسعى هذا السعي في تلك الأزمة لم ترض أن تترك الميدان لمنافستها خشية ما يعود عليها من الضرر لو تغيرت سياسة مصر نحوها، فبادرت بإرسال سفير كبير لمقاومة مسعى فرنسا وكان سفيرها هو (دومنيكو تريفيسان)
وهكذا شهدت القاهرة في سنة 1511 معركة سياسية دولية لم يكن فيها سفراء فرنسا والبندقية هم المتنافسين على صداقة سلطان مصر فحسب، بل كان إلى جانبهم سفراء آخرون بعضهم مسيحيون كسفراء (جورجيا) البعيدة، وبعضهم مسلمون كسفراء النزلاء العثمانيين وسفراء شاه إيران.
ولعله من المناسب هنا أن نصف استقبال سلطان مصر لسفير البندقية مستمدين تفاصيل ذلك من كاتب صحب ذلك السفير.
قال شاهد العيان يصف رحلة السفير ومن معه إلى مقرهما بالقاهرة ويصف لقاء السلطان لهم:
نزلنا ببولاق ثم سرنا إلى المنزل المعد لنا في بقعة من أحسن بقاع القاهرة. وكان المنزل(213/22)
آية في الفخامة والرواء لا يستطاع أن يوجد مثله في بلد من البلدان. قيل إن نفقات بنائه بلغت مائة ألف دوقية. وكانت جدرانه مغطاة بالنقوش موشاة بالذهب وكانت أرضه مغطاة بالفسيفساء وأبوابه مطعمة بالأبنوس والعاج.
(وفي الغد أتت إلى السفير هدية من السلطان (وهنا وصف ما تحتوي عليه الصور) وفي يوم الاثنين ذهبنا إلى المقابلة الأولى لصاحب العرش وكان نظام المقابلة على النحو الآتي:
(جاء المهمندرا والترجمان إلى السفير في بيته ليصاحباه، وركب جواده ومن حوله معيته بعضهم يركب خيلا وبعضهم يركب بغالا. وسرنا في المدينة حتى بلغنا القلعة فنزل السفير ومن معه وصعدوا سلماً ثم دخلوا من باب يحرسه جماعة كبيرة من الجنود
ثم دخلوا من أربعة أبواب واحداً بعد الآخر. وكان عند آخر باب منها فرقة موسيقى تصدح بالأنغام. ثم مررنا بعد ذلك بثلاثة أبواب أخرى حتى دخلنا إلى فناء صغير تحيط به حوائط قد علقت عليها أنواع السلاح والدروع وإلى جوانبها نحو خمسين رجلا يعملون في صناعة السلاح المختلفة، وقد علمنا أن هؤلاء العمال إنما أعدوا قصداً لا طوعاً لصناعة السلاح والاستعداد للحرب فإنا ما كدنا نمر حتى ذهبوا جميعاً وتفرقوا.
(وأخيراً رأينا السلطان في فناء القلعة الفسيح جالساً على مسطبة علوها نحو خطوتين فوق الأرض تغطيها قطيفة خضراء وعلى رأسه قلنسوة كبيرة يعلوها قرنان عاليان يبلغ كل منهما نصف ذراع. وكان يلبس قفطاناً من القطن الأبيض فوقه جبة من قماش لونه أخضر قاتم. وكان يجلس مربعاً ساقيه كما يجلس الخياطون عندنا وعن يمينه سيفه ودرعه وكانا لا يفارقانه أبداً. وكان عن يمينه على مسافة قليلة نحو عشرين من الأمراء الملكيين الذين يقود كل منهم ألفاً في الحرب وقوفا، وكلهم يلبسون الأبيض وعلى رؤوسهم قلانس مثل قلنسوته، وكان سوى هؤلاء عدد كبير من المساعدين كلهم وقوف يملأون فضاء الفناء.
(وتقدم السفير حتى إذا ما وقعت عينه على السلطان رفع قبعته وانحنى إلى الأرض فلمسها بيديه ثم رفعهما إلى شفتيه وجبهته دلالة على مقدار احترامه للسلطان العظيم، ثم سار مع من معه نحو خمسة عشرة خطوة وحيا مرة أخرى، وكان عند ذلك قد صار على نحو عشرين خطوة من السلطان. وكانت هذه المسافة تغطيها الأبسطة ولم يكن من المباح السير فوقها، فحيا السفير تحيته الأخيرة وأخرج من صدره خطاب (الدوج) مكتوباً على ورق(213/23)
بنفسجي وقد ختم بخاتم من الذهب ولف برباط تدلى منه دلايات من الذهب، وقبل السفير الخطاب ثم وضعه على رأسه وسلمه للمهنمندار فناوله للسلطان ففتحه ثم أرجعه فقرئ له، فلما انتهى من سماع ما فيه سأل السفير عن حال الدوج وصحته، ولما انتهى السفير من الجواب حياه وتراجع إلى الوراء خارجاً هو ومن معه.
وقد تعددت المقابلات بعد هذه المقابلة الأولى، كانت إحداها في بهو فسيح يقول فيه شاهد العيان: (وهذا البهو لا يمكن أن يقاس به بهو التشريفات الكبير في قصر الرياسة العظيمة في البندقية وذلك لعظمته وجماله ونفاسة نقوشه وأثاثه)
وكانت المقابلة الثالثة في ساحة الرميلة المجاورة للقلعة في حديقة خاصة بالسلطان في ذلك الميدان الفسيح.
وكانت المقابلة الرابعة في هذا الميدان نفسه ولكن في غير الحديقة وكانت السلطان هذه المرة جالساً على منصة إلى جانب سور القلعة وكان يلبس ملابس كالتي كانت عليه في المقابلة الأولى، وكذلك كانت هيئة الاستقبال كالهيئة السابقة. وتقدم السفير حتى صار على أربع خطوات من السلطان ثم وقف هو ومن معه وجعل يتكلم مع السلطان بصوت عال بواسطة ترجمانه، وجاء في أثناء الاجتماع السيد (بطرس زين) قنصل البندقية في دمشق وهو المتهم بخيانة السلطان وكان يلبس ثوباً من قطيفة قرمزية.
واستمرت المقابلة ثلاث ساعات كان السفير في أثنائها واقفاً يحمل قبعته في يديه وكان موضوع الحديث علاقة البندقية بدولة الصفوي، وكان السلطان يتكلم غاضباً في لهجة قاسية ولهذا كان السفير يبذل الجهد لكي يهدئ من غضبه، وكان كل همه أن يظهر براءة حكومة البندقية من كل سعي ضد مصر فنظر السلطان إلى السفير وصاح به قائلا: -
(أنا أعلم أن حكومة البندقية بريئة من السعي ضدي ولكن هذا الكلب (مشير إلى قنصل البندقية بدمشق) يعمل على خيانتي وقطع علاقتي بدولتك) وكان السلطان وهو يقول ذلك يضطرب أشد الاضطراب من الغضب فاستمر السفير في خطابه يحاول الدفاع عن دولته، فصاح به السلطان قائلا: (أيها السفير - هل تعلم كيف سارت الأمور؟ إذا كنت قد أتيت سفيرا للصدق فمرحبا بك، وأما إذا كنت قد حضرت لتدافع عن الخونة وعن أعدائي فلا مرحبا بك، فاترك بلادي وخذ معك مواطنيك من تجار بلادك) فعاد السفير يلاطف في(213/24)
حديثه وقال: (إنني أجهل يا سيدي السلطان ما كان من هذا القنصل. ولكني أؤكد براءة دولتي وصفاء مودتها لكم. فإذا كان عندكم ما يدل على كذب قولي فأنا مستعد أن أرهن حياتي على صدق ما أقول. وأما إذا كان القنصل قد أضر بمولاي بجهله وغباوته، ولا أستطيع أن أسلم بأنه يقصد إلى ذلك قصدا، فإن حكومة بلادي كفيلة بعقابه على جرمه الشنيع؛ فأسلمه لي لأعود به إلى بلادي ليلقى بها جزاءه بعد تحقيق دقيق. وسيلقى من الجزاء ما يعلن للعالم كله صدق مودتنا لكم وتعلقنا بكم) ثم قام السفير ووضع بيده غلا حول عنق القنصل المتهم. ولما انتهت المقابلة عاد السفير راكباً واقتيد القنصل سائرا على قدميه حتى وصل إلى البيت الذي كان السفير نازلا فيه.
وفي هذه المقابلة تناول الحديث موضوع الجزية المفروضة على قبرص وكانت البندقية تدفع تلك الجزية كل سنة لمصر.
وتعددت المقابلات بعد ذلك وكانت مقابلات خاصة بلغ عددها سبعا، وفي المرة الأخيرة أستأذن السفير السلطان في السفر فأذن له وخلع عليه خلعة من القطيفة المحلاة بالفراء حول رقبتها.
وكان نجاح ذلك السفير في هذه المفاوضات عظيما فأنه استطاع أن يحصل لدولته على معاهدة صداقة صريحة جدد بها عهود المودة الأولى.
وهكذا بقيت مصر مركزا عظيما للتوازن السياسي والاقتصادي بين الدول يقصدها الجميع ويتقرب إليها الجميع إلى أن أراد الله أن تفجعها دولة شرقية في استقلالها وعظمتها - تلك الدولة التي كانت مدينة لمصر أكبر دين في نشأتها وتقدمها - وهي الدولة العثمانية التي لولا حماية مصر لها في نشأتها ووقفاتها الكريمة في الدفاع عن المدنية الإسلامية أمام هجمات تيمور لما كان لها في العالم وجود.
ولكن إذا كان القضاء قد قدر لها أن تفقد استقلالها عند ذلك فقد شاء كذلك أن يعود لها ذلك الاستقلال عزيزا مجيدا لنعيد إن شاء الله سيرة عظمتها ولتستأنف قصتها في القيام برسالة المدنية والسلام في العالم الجديد.
محمد فريد أبو حديد(213/25)
تأملات في الأدب والحياة
للأستاذ إسماعيل مظهر
في اللغة العربية:
من المشكلات العويصة التي تواجهها اللغة العربية في هذا العصر، مشكل قلما انتبه له المشتغلون باللغة، لأنه يتعلق بموضوع لا يمكن يوماً ما أن يكون ذا علاقة بشئون الحياة العامة تلك الشئون التي يوجه لها الناس عادة معظم اهتمامهم، ويصرفون فيها أكثر مجهودهم، ويوجهون نحوها أخص عنايتهم.
ذلك بأن الموضوع الذي سنتكلم فيه له علاقة بنواح علمية صرفة، قلما يحتاج إلى النظر فيها غير العلماء المختصين، وندر أن يحتاج إليها كاتب أديب، أو شاعر مستجدد أو مستقدم. هذا بالرغم من أن أفق الأدب قد اتسع مداه، وتصور الشعر قد تعالى إلى أسمات لم يفكر فيها الأقدمون.
أما المشكل فينحصر في وضع أسماء عربية لأفراد الحيوان والنبات تعين الأشخاص والطبقات المختلفة بما فيها من الفصائل والعشائر والمراتب والأجناس والأنواع. ولقد كثر الجدل حول هذا الموضوع ولم يستقر الرأي فيه على شيء يصح الأخذ به؛ فإن لكل رأي من الآراء رأياً يناقضه، ولكل أسلوب من الأساليب التي قيل بها أسلوباً ينابذه، والأمر فوضى لا ضوابط له ولا حدود، ينتحيها المترجم أو واضع الاصطلاح، حتى يأمن أن يخرج له ناقد برأي جديد يسفه ما ذهب إليه. وكل ما لا حدود له، لا علم فيه. فالعلم أول شيء حدود وضوابط، هي أشبه بالمنطق عند القدماء. ومنطق العلم من شأنه البيان والتعيين فإن ما هو مدخول بشك ليس من العلم الثابت في شيء. فما بالك بمسألة علمية، كالتي نحن بصددها، لم يتفق باحثان على قاعدة واحدة يمكن أن تتخذ أساساً للنظر فيه؟
ظلت العربية واقفة وعجلة الزمان من حولها تدور، وتسارع دورانها في خلال القرنين الفارطين، حتى بعدت الشقة بين الحياة الجديدة ومطلوبات العلوم والفنون، وبين اللغة العربية، حتى أن الفرق ليروع كل واقف على حقيقة الهوة التي تفصل بين العلوم والآداب، وبين قدرة اللغة العربية على تأدية مدلولات مصطلحاتها في كلمات أصيلة مضرية الأصل أو صحيحة الاشتقاق.(213/26)
ولقد انحصر الخلاف بين الناظرين في هذا الموضوع في نقط ثلاث: الأولى القول بالتعريب؛ والثانية القول بالنحت؛ والثالثة القول بالاشتقاق. ولابد من الكلام في كل نقطة من هذه النقط لنظهر ما وراءها من مناحي القوة والضعف؛ حتى نخلص في النهاية برأي، آمل أن أكون قد وفقت فيه.
أما القول بالتعريب فرأي الذين يريدون اختصار الطريق وأخذ الأمر بنواصيه الظاهرة، دون خوافيه. ولاشك في أن العرب قد نزعوا هذه النزعة، وجنحوا هذا الجنوح. ويريد القائلون بالتعريب أن يتخذوا مما عمل العرب ركيزة يرتكزون عليها تعزيزاً لرأيهم فيه. غير أن هؤلاء لم يفطنوا إلى أشياء من أوجب الواجبات أن تكون دستور القول في مثل هذا الأمر. فالعربي أول شيء قد عرب وفي نفسه سليقة العرب وفي لسانه فصاحتهم وفي لغته بلاغتهم، وهذا أمر يتطلب منا الحكم في من منا يمكن أن يكون ذا سليقة عربية أو ذوق عربي يقارب ذوق الأقدمين أصحاب اللغة؟ هذا شيء. وهنالك شيء آخر فإن العربي لم ينزع إلى التعريب إلا مكرهاُ، بدليل القلة النادرة في ما ورد من الألفاظ المعربة مقيسة على الألفاظ العربية الأوزان الصحيحة الاشتقاق. وهذا يدل على أن قاعدة العرب كانت الاشتقاق على الصيغ التي كان يرى العربي أنها أصلح لأداء المراد. وهذا أمر له من الشأن ما لم يفطن له الأكثرون. ذلك بأني أعتقد أن العربي لم يزن ما اشتق من الأسماء خبط عشواء، وإنما راعى في اشتقاقها سليقة خاصة به. وبعد هذا وذاك ينبغي لنا أن نعرف أن التعريب ليس من السهولة بحيث يتصور الداعون إليه، بل إن من أسماء الحيوان والنبات أكثرية مطلقة يفضل المعرب أن يصوغ لها اسماً عربياً كائناً ما كان على أن يعربها فتكون غليظة غلظ الجبال، لندرة ما يوافق تركيب حروفها جرس تركيب الحروف العربية من حيث المخارج وتلاؤم ذلك في الألفاظ العربية.
على أن جملة هذا القول لا تغني عن التصريح بأننا في حاجة إلى التعريب، ولكن بقصد وقدر معلوم، على أن نتقيد في التعريب بقواعد، أخصها أن يكون المُعَرَّبُ على وزن عربي من الأوزان قياسية أو سماعية حتى يلائم جرسه جرس الكلمات العربية، وحتى لا يحس منه المتكلم بالعربية نفوراً أو يجد فيه تنافراً مع ما تلقى من صيغة نعته الكريمة.
ومع القول بأننا في حاجة إلى التعريب، ينبغي أن نلحظ أن لجوءنا إليه إنما تدعونا إليه(213/27)
ضرورة قصوى يقف عندها جهدنا في البحث والاستقصاء وتقليب كافة الأساليب بكامل وجوهها.
ننتقل من هذا إلى الكلام في رأي يقول به المؤيدون لنظرية التعريب إطلاقا، وبلا قيد. هم يقولون إن أسماء الحيوان والنبات لغة علمية عالمية، لا ينبغي لنا أن نزايلها بوضع ألفاظ أو مصطلحات عربية تقصينا عن جو العلم. وفي هذا القول وجوه من الضعف ووجوه من القوة. ذلك بأن القائلين بهذا الرأي قد فطنوا إلى حقيقة وغابت عنهم حقائق كثيرة، لم يجعلوا لها وزنا في كفتي الميزان الذي اتخذوه وسيلة للحكم في موضوع من أدق الموضوعات التي تتصل بحياة اللغة العربية.
أما الحقيقة التي لم تغب عنهم، فقولهم بأن أسماء الحيوان والنبات لغة عالمية. وهذا ما ليس إلى نكرانه من سبيل. أما الذي غاب عنهم فحقيقة ذات علاقة شديدة بالحقيقة التي لم تغب عنهم. ذلك بأن أسماء الحيوان والنبات لغة عالمية في اللغات الأعجمية أي في اللغات (الاندوجرمانية)، وليس في اللغات السامية. ولا أظن أن هذا الفارق ضئيل بحيث لا يعتد به، بل على العكس من ذلك أعتقد أن ذلك الفارق من أكبر الفوارق التي تحفزنا إلى القول بأن أسماء الحيوان والنبات إن كانت عالمية في اللغات (الاندوجرمانية)، فلن تكون بالنسبة للغات السامية إلا أسماء غريبة لا تمت إليها بأي سبب من الأسباب.
أضف إلى ذلك أن جهادنا في سبيل اللغة العربية ينبغي أن يتجه متجهاً واحداً، هو أن تصبح هذه اللغة قادرة على الاستقلال بمصطلحاتها العلمية والفنية والأدبية؛ بمعنى أنها تصبح لغة العلم ولغة الأدب ولغة الفن في مدارسنا ومعاهدنا بحيث نستطيع أن نؤدي بها أغراض المعرفة من غير استعانة بلغة أخرى. ولنفرض مثلاً أننا أردنا أن ندخل طرفاً من علم الحيوان في كليات الأزهر فهل يمكن لنا أن ندخله من غير أن تكون اللغة العربية تامة القدرة على أداء المعاني والأسماء الضرورية لدرس هذا العلم الكبير في وسط لا علاقة له بغير اللغة العربية؟ وكيف تصبح اللغة العربية وافية بمطالب العلوم والفنون، ما لم تكن تامة الوسائل لأداء أغراض العلم لطلاب لا يعرفون غير العربية؟ وهل من الممكن بعد هذا أن ندرس هذا العلم ونحشو العبارات العربية الصريحة بألفاظ يونانية ولاتينية، لا ينطقها أهلها الأصليون في بعض الأحيان إلا بصعوبة؟ وليجرب معي بعض حضرات طلاب(213/28)
الأزهر قراءة الجمل الآتية:
إن (الأورنثيرونكهوس بارادوكرس) حيوان ثديي بيوض يعيش في أوستراليا! والأنثربثكوس طروغلوديطس حيوان من البريمات يعيش في أفريقية! والأرخوبتريكس طائر منقرض!
على هذه الصفة تكون عبارات علم الحيوان في العربية، إذا أردنا أن نلزم التعريب الحرفي الذي يوافق اللغة العالمية في اللغات (الاندوجرمانية) (الهندية الجرمانية). ولعمري كيف يستطيع عربي لا صلة له باللاتينية واليونانية أن ينطق هذه الكلمات الأعجمية المنحوتة من مقاطع متباينة وأهجية متنافرة نطقاً صحيحاً كما تنطق في لغتها العالمية التي يتغنى بها فئة من ذوي الرأي لم يفطنوا إلى الصعاب التي تكتنف نظريتهم، بل إنهم لم يحاولوا أن يفطنوا لها
ننتقل الآن إلى رأي القائلين بالنحت، وهم لاشك أقل من القائلين بالتعريب. أما النحت فباب يلحقه اللغويون بفقه اللغة، ولكل من مشهوري اللغوين رأي فيه. فمن رأي السيوطي أن معرفته من اللوازم. وعرفه ابن فارس في كتابه (فقه اللغة) فقال: إن العرب تنحت من كلمتين كلمة واحدة، وهو جنس من الاختصار واستشهد بقول الخليل:
أقول لها ودمع العين جار ... ألم يحزنك (حيعلة) المنادي
والحيعلة من قول (حَيِّ على). قال ابن فارس:
(وهذا مذهبنا في أن الأشياء الزائدة على ثلاث أحرف فأكثرها منحوت، مثل قول العرب للرجل الشديد (ضَبْطر) من (ضبط وضبر)؛ وفي قولهم (صَهصَلق)، إنه من (صهل وصلق)؛ وفي (الصَّلدَم) إنه من (الصلدِ والصَّدْم) وقد ذكر ابن فارس مذهبه هذا مفصلاً في كتابه مقاييس اللغة.
ومن كلام ياقوت في معجم الأدباء:
(سأل الشيخ أبو الفتح عثمان بن عيسى الملطي النحوي، الظَّهيرَ الفارسي عما وقع من ألفاظ العرب على مثال (شقحْطب) فقال: هذا يسمى من كلام العرب المنحوت، ومعناه أن الكلمة منحوتة من كلمتين، كما ينحت النجار خشبتين يجعلهما واحدة. فشقَحْطب منحوت من (شقَّد وحطب). فسأله الملطي أن يثبت له ما وقع من هذا المثال إليه، ليعوِّل في معرفتها(213/29)
عليه، فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه، وسماها كتاب (تنبيه البارعين على المنحوت من كلام العرب) اهـ. وهذه الوريقات مفقودة على الأسف.
وحكى الفرَّاء عن بعض العرب (معي عشرة فأحْدهنَّ لي) أي صيرهن أحد عشر اهـ.
وقد ذهب اللغويون إزاء النحت مذاهب. فمنهم فئة لا تقول برأي ابن فارس. إذ لو صح رأيه إذن لأصبح النحت كثيراً في اللغة، وبذلك يمكن القياس عليه ويطَّرد في كثير من الأحوال ومنهم فئة تقول برأيه. ولاشك في أن قليلاً من التأمل يرجح قول ابن فارس في أن كل الأشياء الزائدة على ثلاثة أحرف أكثرها منحوت. وأقرب مثل على هذا كلمة (قُرْدُوح) أي القرد الكبير فهي بلا شك منحوتة من (قَرَّ) و (دَوْح) والقرود تقر في الدَّوْح، فسمى العرب واحدها قُرْدُوح، وما كان أكثر تسامحهم، مادام جرس الكلمة جارياً على الذوق العربي السليم.
وسواء أكان النحت أصلاً من أصول الوضع الصحيحة في اللغة أم كان غير ذلك، فإن الرأي غير متفق على اتخاذ النحت أساساً من الأسس التي يلجأ إليها في وضع الألفاظ الاصطلاحية الجديدة. ذلك بأن القول بأن اللغة العربية لغة اشتقاق، وليست لغة نحت، تجعل الذين يريدون التوسل بالنحت إلى وضع المصطلحات الحديثة يتريثون طويلاً. ولكنا بالرغم من هذا نعرض للأسئلة الآتية:
أولاً - أيعتبر النحت قياسياً أو سماعياً؟ وما حد القياس والسماع فيه باعتبار أقوال فقهاء اللغة؟
ثانياً - أيجوز أن نجري على النحت في وضع المصطلحات التي نعجز عن ترجمتها أو تعريبها تعريباً يفي بحاجات اللغة؟
ثالثاً - أيفسد النحت اللغة العربية إذا روعي فيه (1) أن يكون المنحوت على وزن عربي نطق به العرب (2) ألا يكون نابياً في الجرس عن سليقة اللغة (3) أن يؤدي حاجات اللغة من إفراد وتثنية ونسب وإعراب
رابعاً - أيجوز أن تنحت ألفاظ على غير وزن عربي عند الضرورة، أم تقتصر على أن يكون المنحوت على وزن عربي إطلاقاً
خامساً - هل كون اللغة العربية لغة اشتقاق في بنيتها، ينافي النحت مع مراعاة شروط(213/30)
خاصة كالتي سبق أن ذكرناها؟
سادساً - إذا أضفنا إجازة النحت إلى الاشتقاق، أيكون هذا توسيعاً في اللغة وتيسيراً، أم تضييقاً وتعسيراً؟
وقبل أن نمضي في شرح ما نراه حلاً لهذا المشكل الكبير ينبغي لنا أن نلقي نظرة في التعريب والنحت، لنقول إنهما في أكثر الأحوال عسيرين كل العسر، شاقين كل مشقة جامدين كل جمود، وبخاصة إذا كثرت مقاطع الكلمات الأعجمية المراد تعريبها أو تعددت حروفها إلى ما فوق الخمسة، أو تكونت من أكثر من لفظ في أسماء الأنواع من النبات والحيوان. وكذلك في النحت فقد تجد أن حروف الكلمتين المراد نحت كلمة منهما قد تنافرت حتى ليتعذر نحت كلمة منهما توافق الجرس العربي.
على أننا بالرغم من كل هذا، وبالنظر إلى كثرة الأسماء التي نريد إيجاد مقابلات لها في العربية، وهي تعد بالملايين ينبغي توسيعاً لأقيسة اللغة وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون والآداب أن نعتبر التعريب والنحت أصلين من أصول الوضع في اللغة، على أن نحذر من التمادي فيهما كل الحذر، وألا نلجأ إليهما إلا عند الضرورة القصوى مادامت أوزان اللغة وصيغها تواتينا بحاجتنا من الأسماء التي نطلبها.
بقي علينا بعد ذلك أن نعرف هل تواتينا اللغة العربية بما نحتاج إليه من الأسماء؟ إن لي في هذا رأياً جديداً لعلي أوفق إلى تبيانه في الأسطر التالية.
جمدت اللغة العربية بتعنت اللغويين، كما جمدت الشريعة الإسلامية بتعنت أصحاب المذاهب. فإن القول بقياسية الصيغ وسماعيتها، بنسبة الكثرة والقلة، بالرغم من أنها صيغ سمعت من أعراب أُصَلاَء، قد أصاب اللغة بجمود لم يبلغ الشعور بقسوته بقدر ما بلغ في زماننا، ولم يأنس جيل من أبناء العربية بمقدار أثره في تقييد أساليبهم العلمية بقدر ما أنس جيلنا هذا. فإن أكثر الصيغ التي وردت منها أسماء النبات والحيوان صيغ سماعية، ومعنى أنها سماعية أنه ممنوع عليك أن تقيس عليها وأن تصوغ على غرارها أسماء جديدة تدل على حيوان أو نبات لم يذكره العرب، على قلة ما تستطيع أن تعين من أشخاص الحيوان والنبات التي ذكرها العرب لضعف التعاريف أو فقدانها كلية. فلم يبق أمام الواضعين للأسماء الجديدة إلا الصيغ القياسية، وهي قليلة مقيسة بالعدد الوافر الذي ورد في كلام(213/31)
العرب من الصيغ التي اعتبرها اللغويون سماعية. وهذه القيود الثقيلة التي لا مبرر لها إلا مسألة إحصائية قيدت اللغة وقيدت الواضعين بقيود وصفدتهم بأغلال، هي السر الوحيد فيما يقال عن عجز اللغة العربية عن مجاراة اللغات الأخرى في الأسماء الدالة على الأشياء الحديثة، ذلك في حين أن إجازة الصوغ على تلك الصيغ التي قيل إنها سماعية يفتح على اللغة أبواباً واسعة تجعلها تفوق كل لغات الأرض في القدرة على الوضع اللغوي الأصيل الذي لا يخرج عما اتبعه العرب من الأصول التي جروا عليها في بناء لغتهم المجيدة.
ولا أريد أن أذهب هنا مذهب القائلين بأن كل ما قيس على كلام العرب، ويقصد بهم العرب الأصلاء إلى نهاية القرن الثالث الهجري، فهو من كلام العرب، وعلى رأسهم الإمام ابن جني، على ما أرى في رأيه من رجحان، بل أريد أن أتواضع قليلا فأقول إن الظرف العلمي يحفزنا إلى التسليم، على الأقل، بالقول بأن كل الأوزان التي صاغ منها العرب أسماء الحيوان والنبات قياسية، بصرف النظر عما ورد منها قلة وكثرة في كلام العرب. فأننا بذلك نوسع حقيقة من أقيسة اللغة، وتقل حاجتنا إلى التعريب والنحت، حتى لأكاد أومن بأن حاجتنا إليهما تنعدم تقريباً، وإني لأفضل اسماً مصوغاً على صيغة نطق بها العرب، مع مراعاة الشروط التي اتبعوها في الوضع والتي سأشرحها بعد، على اسم معرب أو منحوت مهما حسن جرسه في السمع. فإننا بذلك نحافظ على سلامة اللغة ونكون قد أمنا التطوح باللغة في مهاوي الفساد الذي سوف يؤدي إليه التمادي في التعريب بالجملة، إذا اتبعنا رأي بعض المتطرفين الذين لم يتذوقوا بعد للغة العرب طعما
على أن العربي لم يجر في وضع الأسماء على غير قاعدة، بل إنه اتبع قاعدة أوحى إليه بها طبيعة الظرف الذي أحاط به في مختلف البيئات التي عاش فيها، وساعدته سليقته على تطبيقها. فأنك إذا تأملت الأمر بعض الشيء، ألفيت أن العربي كان ينظر في الشيء فيلحظ فيه كثيراً من الصفات، فإذا غلبت في الشيء صفة صاغ له اسماً مستمداً من اللفظ الذي يدل على هذه الصفة والأمثال على ذلك كثيرة لا تحصى، ولا بأس من أن أورد هنا بعضاً منها.
الإسْليح: نبات؛ قال أبو حنيفة الدينوري: واحدته إسلحة طوال القصب، في لونه صفرة تأكله الإبل. وقيل هو عشبة تشبه الجرجير، وينبت في حقوف الرمل، والأولى أكثر (ابن(213/32)
سيده). وقيل هو نبات سُهْلي ينبت ظاهراً، وله ورقة رقيقة لطيفة وسَنِفه محشوة حباً كحب الخشخاش. وهو نبات مطر الصيف يُسلِح الماشية (ابن خالويه واللسان) اهـ. فأخص صفة لحظها العربي في النبات أنه يسلح الماشية أي يسهل بطونها. فسماه الإسيلح
الرَّتَم والرَّتيمة: قال أبو حنيفة: الرتم والرتيمة نبات من دق الشجر كأنه من دقته شبه بالرتم، وهو الخيوط (اللسان) وقيل إنه شجر له زهر كالخيري وحب كالعدس (ابن سيده) والرتمة خيط يعقد في الإصبع للتذكير (ج) رتم كالرتيمة (ج) رتائم ورتام وأَرْتمة، والرَّتَم محركة نبات كأنه من دقته شبه بالرتم زهره كالخيري وبزره كالعدس (القاموس 4: 116)
السُّلْتُ: قال الليث شعير لا قشر له أجرد. زاد الجوهري: كأنه الحنطة. وعن أبي حنيفة: هو صنف من الشعير يتجرد من قشره كله. وعن اللسان: وينسلت حتى يكون كالبرِّ سواء
السُّمْنة: عن أبي حنيفة: دواء تُسمَّنُ به النساء
الشَّعارير: صغار القثاء، الواحدة شعرورة، سميت بذلك لما عليها من الزَّغب
الظُّفرَة: نبات حريف يشبه الظفر في طلوعه (التاج)
الظِلامُ؛ والظالم، قال الأصمعي: هو شجر له عساليج طوال وتنبسط حتى تجوز أصل الشجرة، فمنها سميت ظِلاماً
العَصب: شجرة تلتوي على الشجرة وتكون بينها، ولها ورق ضعيف؛ وفي اللسان شجرة العصبة نبات يلتوي على الشجر، وهو اللبلاب اهـ. والاسم تشبيه بعصابة الرأس لأنه يلتوي على غرارها
العَطفُ: نبات يلتوي على الشجر، لا ورق له ولا أقتان قال ابن بَرِّي: العطَفة: اللبلاب، سمي بذلك لتلويه على الشجر
العقِدُ: شجر ورقه يلحم الجراح (التاج)
فمن هذا يظهر لك أن العربي لم يجر في وضع الأسماء على غير قاعدته، وإنما كانت قاعدته أن يلحظ في الشيء صفة، فيرجع إلى لغته حتى يقع على الكلمة التي تؤدي معنى تلك الصفة ثم يصوغ منها الاسم على وزن يلذ في أذنه جرسه
على أن لنا في لغتنا العربية من الأصول ما يقابل كل الأصول التي نحت منها الفرنجة أسماء الحيوان والنبات يونانية كانت أم لاتينية. فإذا استعنا بالصيغ السماعية على ما بين(213/33)
أيدينا من الصيغ القياسية، انفتح أمامنا الباب المغلق، وخرجنا إلى الرحاب الواسعة وحافظنا على سلامة اللغة أن يطيح بها التقريب السقيم، أو يتلاعب بها من ليس في مقدورهم تفهم أصولها وأساليبها
والسبيل المعقول هو أن نكب على جمع أسماء النبات والحيوان ثم نعرف من أية الصيغ وردت ونحصر هذه الصيغ حصراً كاملا بقدر الإمكان، ثم نجيز قياستها والصوغ عليها في أسماء الحيوان والنبات. فإننا بذلك لا نخرج عن القاعدة التي جرى عليها العرب مادمنا سنراعي شرط لحظ الصفة في المسمى على ما عمل أسلافنا طيب الله ثراهم، فإن تسمحهم في هذا الشأن، يضطرنا إلى القول مع الأئمة الذين قالوا من قبل (إن كلاماً قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب)
وإن لغتنا لواسعة وإن لنا في أقيستها وصيغها التي وردت على لسان العرب، ما يكفل لنا وضع الأسماء الجديدة التي يظن البعض أن وضعها من المستحيلات. وإني جرياً على القاعدة التي شرحتها هنا. لقمين بأن أضع أسماً لأي نبات أو حيوان لا اسم له في العربية، مصوغاً على ما ورد في كلام العرب
وقد جمعت حتى الآن من أسماء النبات أكثر من ألفي اسم، وسأضع في هذا الموضوع رسالة آمل أن تكون مبدأ عهد جديد في صوغ أسماء عربية للحيوان والنبات
إسماعيل مظهر(213/34)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 2 -
نسبه ومولده:
الرافعي سوري الأصل، مصري المولد، إسلامي الوطن: فأسرته من (طرابلس الشام)، ضم ثراها عظام أجداده، ويعيش على أرضها إلى اليوم أهله وبنو عمه؛ ولكن مولده بمصر، وعلى ضفاف النيل عاش أبوه وجده والأكثرون من بني عمه وخئولته منذ أكثر من قرن؛ وهو في وطنيته (مسلم): لا يعرف له أرضاً من أرض الإسلام ينتسب إليها حين يقول: (وطني. . .) فالكل عنده وطنه ووطن كل مسلم؛ فأنت لم تكن تسمعه يقول: (الوطنية المصرية. . .) أو (الوطنية السورية. . .) أو (الوطنية العراقية. . .) إلا كما تسمع أحداً يقول: هذه داري من هذا البلد، أو هذه مدينتي من هذا الوطن الكبير الذي يضم أشتاتاً من البلاد والمدائن. وإنما الوطن فيما كان يراه لنفسه ولكل مسلم، هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام والعربية؛ وما مصر والعراق والشام والمغرب وغيرها إلا أجزاء صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر ينتظمها جميعاً كما تنتظم الدولة شتى الأقاليم وعديداً من البلاد
وكثيراً ما كانت تثور الخصومات بين الرافعي وبعض الأدباء في مصر، فما يجدون مغمزاً ينالون به منه عند القراء إلا أن يتهموه في وطنيته، أعني مصريته؛ وكان الرافعي يستمع إلى ما يقولون عنه في ذلك مغيظاً حيناً وساخراً حيناً آخر، ثم يقول: أفتراهم يتهموني في مصريتي لأنني في زعمهم غير مصري وفي مصر مولدي وفي أرضها رفات أبي وأمي وجدي، أم كل عيبي عندهم في الوطنية أنني صريح النسب؟. . . وإلا فمن أبو فلان وفلان؟ ومن أين مقدمه؟ ومت استوطن هذا الوطن. . .؟
ورأس أسرة الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير المتوفى سنة 1230 هـ بطرابلس الشام، ويتصل نسبه بعمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين(213/35)
رضي الله عنه، في نسب طويل من أهل الفضل والكرامة والفقه في الدين، ما منهم إلا له تاريخ مشهود وجهاد مشكور ومسجد ومزار.
وأول وافد إلى مصر من هذه الأسرة هو المرحوم الشيخ محمد الطاهر الرافعي، قدمها في سنة 1243هـ (قريب من سنة 1827م) ليتولى قضاء الحنفية في مصر بأمر من السلطان؛ وأحسب أن مقدمه كان أول التاريخ لمذهب الإمام أبي حنيفة في القضاء الشرعي بمصر. ولم يعقب الشيخ محمد الطاهر غير فتاة وغلام، انتهى بموتهما نسبه فليس في مصر أحد من ولده؛ ولكنه كان كرائد الطريق لهذه الأسرة، فتوافد أخوته وأبناء عمومته إلى مصر يتولون القضاء ويعلمون مذهب أبي حنيفة حتى آل الأمر من بعد أن اجتمع منهم في وقت ما أربعون قاضياً في مختلف المحاكم المصرية، وأوشكت وظائف القضاء والفتوى أن تكون مقصورة على آل الرافعي؛ وقد تنبه اللورد كرومر إلى هذه الملاحظة فأثبتها في بعض تقاريره إلى وزارة الخارجية الإنجليزية.
وقد تخرج في درس الشيخ محمد الطاهر وأخيه الشيخ عبد القادر الرافعي أكثر علماء الحنفية الذين نشروا المذهب في مصر. ومن تلاميذهما الأدنين المرحومان الشيخ محمد البحراوي الكبير والشيخ محمد بخيت مفتي الدولة السابق
ولما توفي المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده، كان شيخ الحنفية في مصر يومئذ هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي، فدعاه الخديو عباس إلى تولي وظيفة الإفتاء، وكان رجلاً زاهداً ورعاً فيه تحرج وخشية، فلم يجد في نفسه هوى إلى قبول هذا المنصب، تحرجاً من فتنة الحكم وغلبة الهوى في شأن يتصل بحقوق العباد وفيه الفصل في الخصومات بين الناس. . . فلما بلغته دعوة الخديو ذهب إلى لقائه وفي نفسه همّ، وهو يدعو الله ألا يئول إليه هذا الأمر ضناً بدينه ومروءته. . . وتمت مراسيم التولية، وتلقى الأمر من صاحب العرش بقبول وظيفة (مفتي الدولة) ثم نزل إلى عربته فركبها عائداً إلى داره وهو يتمتم ويدعو؛ فلما بلغ نزل الحوذي ليفتح له العربة ويساعده على النزول، فإذا هو قد فارق الحياة قبل أن يجلس مجلس الحكم مرة واحدة ليقضي في شئون العباد. . . واستجاب الله دعاءه. . .!
وأبو الأستاذ الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد الرزاق الرافعي، كان رئيساً للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم، وهو واحد من أحد عشر أخاً اشتغلوا كلهم بالقضاء من والد المرحوم(213/36)
الشيخ سعيد الرافعي. وكان آخر أمر الشيخ عبد الرزاق رئيساً لمحكمة طنطا الشرعية؛ وفي طنطا كانت إقامته إلى آخر أيامه، وفيها مات ودُفن، وفيها أقام مصطفى صادق وأخوته من بعد أبيهم في بيته، فاتخذوا طنطا وطناً ومقاماً، لا يعرفون لهم وطناً غيرها ولا يبغون عنها حولا. ولقد حاولت وزارة الحقانية أكثر من مرة أن تنقل مصطفى إلى غير طنطا فكان يسعى سعيه لإلغاء هذا النقل، حتى لا يفارق البلد الذي فيه وفاة أبيه وأمه، وفيه مسجد السيد البدوي. . .
وكان الشيخ عبد الرزاق رجلاً ورعاً له صلابة في الدين وشدة في الحق، ما برح يذكرهما له مع الإعجاب معاصروه من شيوخ طنطا.
حدثني نسيب قال: (كنت غلاماً حدثا، وكان الشيخ عبد الرزاق الرافعي من جيراننا وأحبابنا الإجلاء، وكان يتخذ مجلس العصر أحياناً في متجر جاره وصديقه المرحوم الحاج حسن بدوي الفطاطري، في شارع درب الأثر، ودرب الأثر يومئذ هو شارع المدينة وفيه أكبر أسواقها التجارية؛ ففي عصر يوم من رمضان، كان الشيخ عبد الرزاق يجلس مجلسه من متجر صديقه، فمر به رجل ينفث الدخان من فمه وبين إصبعيه دخينة، فما هو إلا أن رآه الشيخ عبد الرزاق، حتى اندفع إليه، فانقض عليه، فأمسك بثيابه، فدعا الشرطي أن يسوقه إلى القسم لينال الحد على إفطاره في رمضان في شارع عام. وما أجدى رجاء الرجل ولا شفاعة الشفعاء؛ فسيق الرجل إلى القسم في (زفة) من الصبيان، ليتولى الشيخ حده بنفسه على إفطاره. وما كان القانون يأمر بذلك ولا يجيزه، ولكن الشرطة ما كانوا ليخالفوا أمر قاضي المدينة، وما كانوا يعرفون له عندهم إلا الطاعة والاحترام)
وحوادث الشيخ عبد الرزاق من مثل ذلك كثيرة يعرفها كثير!
واسم (الرافعي) معروف في تاريخ الفقه الإسلامي منذ قرون وأحسب أن هناك صلة ما بين أسرة الرافعي في طرابلس الشام وبين الإمام الرافعي المشهور صاحب الشافعي؛ وقد سألت المرحوم الأستاذ الرافعي مرة عن هذه الصلة، فقال: لا أدري، ولكني سمعت من بعض أهلي أن أول من عُرف منا بهذا الاسم شيخ من آبائي كان من أهل الفقه وله حظ من الاجتهاد والنظر في مسائله، فلقبه أهل عصره بالرافعي تشبيهاً له بالإمام الكبير الشيخ محمود الرافعي صاحب الرأي المشهور عند الشافعية، والله أعلم.(213/37)
والأستاذ الرافعي حنفي المذهب كسائر أسرته، ولكنه درس مذهب الشافعي وكان يعتد به ويأخذ برأيه في كثير من مسائل العلم.
وأم الرافعي كأبيه سورية الأصل، وكان أبوها الشيخ الطوخي تاجراً تسير قوافله بالتجارة بين مصر والشام، وأصله من حلب، وأحسب أن أسرة الطوخي ما تزال معروفة هناك، على أنه كان اتخذ مصر وطناً له قبل أن يصل نسبه بأسرة الرافعي. وكانت إقامته في (بهتيم) من قرى مديرية القليوبية، وكان له فيها ضيعة، وفيها ولد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في يناير من سنة 1880م، إذ آثرت أمه أن تكون ولادتها في بيت أبيه.
وكانت أم الرافعي تحبه وتؤثره، وكان يطيعها ويبرها، وقد ظل إلى أيامه الأخيرة إذا ذكرها تغرغرت عيناه كأنه فقدها بالأمس، وكان دائماً يحب أن يسند إليها الفضل فيما آل إليه أمره؛ وقد توفيت في أسيوط ودفنت بها، ثم نقلت إلى مدافن الأسرة بطنطا، وقد شيعها الرافعي على عنقه إلى مقرها!
علمه وثقافته:
لأسرة الرافعي ثقافة أُسميها كما يسميها الأستاذ إسماعيل مظهر (ثقافة تقليدية)، فلا ينشأ الناشئ منهم حتى يتناولوه بألوان من التهذيب تطبعه من لدن نشأته على الطاعة واحترام الكبير وتقديس الدين، وتجعل منه خلفاً لسلف يسير على نهجه ويتأثر خطاه. والقرآن والدين هما المادة الأولى في هذه المدرسة العريقة التي تسير هذه الأسرة على منهاجها منذ انحدر أولهم من صلب الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
وعلى هذه النشأة نشأ المرحوم مصطفى صادق، فاستمع إلى أبيه أول ما استمع تعاليم الدين وحفظ شيئاً من القرآن، ووعى كثيراً من أخبار السلف، فلم يدخل المدارس المدنية إلا بعد ما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين. فقضى سنة في مدرسة دمنهور الابتدائية، ثم نقل أبوه قاضياً إلى محكمة المنصورة فانتقل معه إلى مدرسة المنصورة الأميرية، فنال منها الشهادة الابتدائية وسنه يومئذ سبع عشرة سنة أو دون ذلك بقليل؛ ومن زملائه في المدرسة الابتدائية الأستاذ الجليل منصور فهمي بك، ونيازي باشا وأحسبه قال لي: إن منهم كذلك الشارع القانوني الكبير عبد الحميد بدوي باشا
ومن أساتذته في المدرسة الابتدائية شيخنا العلامة الأستاذ مهدي خليل المفتش بوزارة(213/38)
المعارف، وكان يدرس له العربية؛ وكان الرافعي رديء الخط لا يكاد يقرأ خطه إلا بعد علاج ومعاناة فكان الأستاذ مهدي يسخر منه قائلاً: (يا مصطفى، لا أحسب أحداً غيري وغير الله يقرأ خطك!) وقد ظل خط الأستاذ الرافعي رديئاً إلى آخر أيامه، ولكن قراء خطه قد زادوا اثنين: هما سعيد العريان والعمال في مطبعة الرسالة. . .
وهنا أذكر حكاية طريفة تدل على مبلغ وفاء المرحوم الرافعي وتكشف عن شيء من خلقه: فقد صحبني مرة منذ عامين إلى نادي دار العلوم، وما أكثر ما كان يصحبني إليه إذا هبط القاهرة. وجلس وجلست معه في جمع كبير من المفتشين والمدرسين ورجال التعليم، وكان المرحوم الأستاذ أبو الفتح الفقي نقيب المعلمين السابق جالساً إلى جانب الأستاذ الرافعي يتحدثان، وأنا بينهما أترجم للأستاذ الرافعي حديث محدثه مكتوباً في ورقة، وبينما نحن كذلك والحديث يتشعب شعبه وينسرب في مساربه، والجمع حولنا مرهف الآذان يستمع إلى حديث الرجلين، إذ نهض الرافعي واقفاً، فانتبهت، فإذا القادم الأستاذ مهدي خليل يبدو من طوله وجسامته واكتمال عضله كأنما يطل علينا من نافذة. . . وإذا الرافعي يطأطأ له وينحني يهم أن يقبل يده؛ ثم عاد إلى مجلسه فمال عليّ يقول في همس: (هذا أستاذي مهدي خليل. . .) وفي صوته رنة هي أقرب إلى صوت طفل لأبيه حين يمر بهما معلم الغلام فيميل إلى أبيه يُسرّ إليه. . . ومضى الأستاذ مهدي غير عابئ ولا ملتفت بما فيه من طبيعة المح وعادة الإغضاء، وأحسبه لم يعن بالسؤال عن هذا الزائر الذي نهض له أو بالنظر إلى وجهه، على حين ظل ذكره على لسان الرافعي طول اليوم
وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية - وهي كل ما نال من الشهادات الدراسية - أصابه مرض مشف أثبته في فراشه أشهراً - وأحسبه كان التيفويد - فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثراً كان حبسة في صوته ووقراً في أذنيه من بعد.
وأحس الرافعي آثار هذا الداء يوقر أذنيه، فأهمه ذلك هما كبيراً، ومضى يلتمس العلاج لنفسه في كل مستشفى وعند كل طبيب، ولكن العلة كانت في أعصابه فما أجدى العلاج عليه شيئاً، وأخذت الأصوات تتضاءل في مسمعيه عاما بعد عام كأنها صادرة من مكان بعيد، أو كأن متحدثاً يتحدث وهو منطلق يعدو. . . حتى فقدت إحدى أذنيه السمع، ثم تبعتها الأخرى، فما أتم الثلاثين حتى صار أصم لا يسمع شيئا مما حواليه، وانقطع عن دنيا(213/39)
الناس.
وامتد الداء إلى صدره فعقدة عقدة في حبال الصوت كادت تذهب بقدرته على الكلام، ولكن القدر أشفق عليه أن يفقد السمع والكلام في وقت معاً، فوقف الداء عند ذلك، ولكن ظلت في حلقه حبسة تجعل في صوته رنينا أشبه بصراخ الطفل، فيه عذوبة الضحكة المحبوسة استحيت أن تكون قهقهة. . .
وكانت بوادر هذه العلة التي أصابت أذنيه هي السبب الذي قطعه عن التعليم في المدارس بعد الشهادة الابتدائية، لينقطع لمدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه، وكان هو فيها المعلم والتلميذ
وحظ الرافعي من الشهادات العلمية حظ أبيه، فإن الشيخ عبد الرزاق الرافعي على علمه وفضله ومكانته، وعلى أنه كان رئيساً للمحكمة الشرعية في كثير من الأقاليم - لم تكن معه شهادة (العالمية) حتى جاء إلى طنطا. ولأمر ما نشب خلاف علمي بينه وبين بعض علماء طنطا حفزه وهو شيخ كبير إلى طلب الشهادة، فتقدم إلى امتحانها ونالها، لغير غرض يسعى إليه إلا أن يستكمل براهينه في جدال بعض العلماء. . .
وكان لأبي الرافعي مكتبة حافلة تجمع أشتاتاً من نوادر كتب الفقه والدين والعربية؛ فأكب عليها مصطفى إكباب النهم على الطعام الذي يشتهيه؛ فما مضى إلا قليل حتى استوعبها وأحاط بكل ما فيها وراح يطلب المزيد. وكان له من علته سبب يباعد بينه وبين الناس فما يجد لذة ولا راحة في مجالسة أحد، وكان ضجيج الحياة بعيداً عن أذنيه، وكان يحس في نفسه نقصا في ناحية يجهد جهده ليداريه بمحاولة الكمال في ناحية، وكان يعجزه أن يسمع فراح يلتمس أسباب القدرة على أن يتحدث، وكان مشتاقاً إلى السمع ليعرف ماذا في دنيا الناس فمضى يلتمس المعرفة في قراءة أخبار الناس، وفاتته لذة السامع حين يسمع فذهب ينشد أسباب العلم والمعرفة ليجد لذة المتحدث حين يتحدث، وقال لنفسه: إذا كان الناس يعجزهم أن يسمعوني فليسمعوا مني. . . وبذلك اجتمعت للرافعي كل أسباب المعرفة والاطلاع، وكانت علته خيراً عليه وبركة. وعرف العلم سبيله من نافذة واحدة من نوافذ العقل إلى رأس هذا الفتى النحيل الضاوي الجسد الذي هيأته القدرة بأسبابها والعجز بوسائله ليكون أديب العربية في غد. . .!(213/40)
كانت مكتبة الرافعي في هذه الحقبة من تاريخه، هي دنياه التي يعيش فيها، ناسُها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحابته وخلانه، وعلماؤها رواته، وأدباؤها سُمَّاره؛ فأخذ عنها العلم كما كان يأخذ المتقدمون من علماء هذه الأمة عن العلماء والرواة فماً لفم، فنشأ ذلك نشأة السلف. يرى رأيهم، ويفكر معهم، ويتحدث بلغتهم، وتستخفه أفراحهم، وتتراءى له أحلامهم ومناهم
وإذا كان قد فقد السمع قبل أن يتم تمامه ويكون أهلا لغشيان المجالس يتحدث إلى الناس ويستمع إلى حديثهم - فإن حظه من العامية المصرية كان قليلا، وكان عليه أن يسألني أحياناً أو يسأل غيري من خاصته، عن كلمة أو عبارة أو مثل مما يسمع من أمثال العامة حين تلجئه الحاجة الأدبية إلى شيء من ذلك، وكان يمزح معي أحياناً ويقول: (فلتكن أنت لي قاموس العامية. . .)
وإذا كان أبوه وأمه قريبي عهد بمنبتهما في سورية، وكان لم يسمع أكثر ما سمع في طفولته إلا منهما - فإن لهجته في الحديث ظلت قريبة من السورية إلى آخر أيامه، على حين تسمع إلى كل أسرته وأخوته وبنيه يتحدثون باللهجة المصرية فما ينم صوت أو كلمة على أن أصلهم سوري، ولكن مصطفى كان بلغته ولهجة حديثه هو وحده النميمة على هذا الأصل، وكأنه لم يقدم من سورية إلا قريب.
ولم تُجْدِ على الرافعي معرفته الفرنسية إلا قليلا أو أقل من القليل، فمنذ انتهى من المدرسة لم يجد في نفسه إليها نزوعاً قوياً، فلزمها سنوات يقرأ فيها بعض ما يتفق له من الكتب القليلة المقدار في العلم والأدب، ثم هجرها إلى غير لقاء، ولو أنك كنت تسمعه أحياناً يأسف على هجرها ويمني نفسه بالعودة إليها في وقت فراغ؛ وهيهات أن يجد الرافعي فراغا من وقته.
هذه ثقافة الرافعي وتلك وسائله إلى المعرفة، وقد ظل هذا على الدأب في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم من عمره، يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة لا يمل ولا ينشد الراحة لجسده وأعصابه كأنه من التعليم في أوله لا يرى أنه وصل منه إلى غاية.
وكان إذا زاره زائر في مكتبه جلس قليلا يحييه ويستمع لما يقوله ثم لا يلبث أن يتناول كتاباً مما بين يديه ويقول لمحدثه: (تعال نقرأ. . .) وتعال نقرأ هذه معناها أن يقرأ الرافعي(213/41)
ويستمع الضيف، فلا يكف عن القراءة حتى يرى في عيني محدثه معنى ليس منه أن يستمر في القراءة. . .
وفي القهوة، وفي القطار، وفي الديوان، لا تجد الرافعي وحده إلا وفي يده كتاب. وكان في أول عهده بالوظيفة كاتبا بمحكمة طلخا، فكان يسافر إلى طنطا كل يوم ويعود، فيأخذ معه في الذهاب وفي الإياب (ملازم) من كتاب أي كتاب ليقرأها في الطريق. وفي القطار بين طنطا وطلخا (وبالعكس) استظهر كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام علي، وكان لم يبلغ العشرين بعد. . . .
(لها بقية)
(طنطا)
محمد سعيد العريان(213/42)
إبراهيم باشا
موقعة نصيبين
- 2 -
واستقبل حافظ باشا الأمير ألاي والبكباشي الذي كان يصحبه أحسن استقبال، وأتحفهم بالهدايا وأخبرهم أنه سيرسل رده في اليوم التالي. وكانت الروح السارية في هذا الرد من أوله إلى آخره هي أن الخضوع لا يكون بالأقوال بل بالأفعال. ثم انتقل حافظ باشا من هذا المبدأ إلى قوله إنه لا يعترف بأن التهم التي يوجهها إليه إبراهيم قائمة على أساس صحيح؛ وحاول أن يثبت أن الجنود المصرية لا الجنود الشاهانية هي المعتدية، وجاء في ختام هذا الخطاب ما يأتي:
(لقد أعطيت لنفسي الحرية في كتابة هذه الرسالة الودية، لتكون دليلا على حسن نيتي؛ وقد أرسلتها مع الأمير الاي حاذق بك وبصحبته الأمير الاي أحمد بك من ضباط الجيش الشاهاني المظفر. وعندما تصلكم هذه الرسالة إن شاء الله سيتوقف العمل بما فيها على حكمتكم السامية).
وبينما كانا القائدان يتبادلان الرسائل على هذا النحو، كان رسول يستحث الخطى إلى إبراهيم، يحمل إليه رسالة من أبيه مؤرخة 9 يونية سنة 1839 يقول فيها:
(تسلمت رسالتك التي تقول فيها إن العدو يواصل زحفه وإنه احتل الآن ستين قرية وراء عينتاب، وانه وزع السلاح على الأهالي وحرض العصاة على مهاجمة عَكّار وسلب أموال حاكمها وقتله. وقد قلت بعد ذلك إنه ليس من الحكمة أن يسمح للأتراك بالسير على هذه الخطة، وطلبت إليّ أن أخبرك بما تفعل.
(إن اعتداء العدو علينا قد تجاوز كل حد معقول، وإذا ما صبرنا عليه بعد ذلك عز علينا أن نقفه، لأنه يبذر بذور الفتن ذات اليمين وذات الشمال؛ وكلما صبرنا عليه رغبة منا في عدم معارضة رغبات الدول الكبرى، زاد عدونا إيغالا في بلادنا وزادت الأمور حرجا. وتلك حال ترغمنا على العمل؛ فعلينا أن نرد هجومه بهجوم مثله. ولما كان العدو هو المعتدي فإن الدول لن تلقي التبعة علينا.
(فنصيحتي إليك أن تبادر عند وصول رسالتي إلى يديك بالهجوم على جنود العدو الذين(213/43)
دخلوا في أرضنا، وأن لا تكتفي بإخراجهم منها، بل عليك أن تزحف على جيش العدو الأكبر وتقاتله)
ووصلت هذه الأوامر إلى إبراهيم في غسق الليل؛ فأراد أن يهاجم العدو عند مطلع فجر اليوم التالي. ورأى سليمان باشا (الكولونيل سيف ساعد إبراهيم الأيمن، الذي طالما أشرنا إليه في هذا الكتاب) غير هذا الرأي، وأصر على أن وجود الضباط البروسيين في جيش حافظ باشا يحمله على الظن بأن مواقع العدو قوية محصنة؛ وطلب الضابط الفرنسي أن يستكشفا بنفسهما تلك المواقع قبل الهجوم عليه. ولما كان من شيمة إبراهيم أن ينصاع دائماً إلى حكم العقل، فقد قبل هذا الرأي عن رضى وطيب خاطر.
وفي صباح اليوم التالي اضطلع القائدان نفسهما بتلك المهمة الخطيرة، مهمة استطلاع مواقع الجيش التركي. ومازالا يقتربان من خط النار حتى أصاب الرصاص حصان أحد جنودهما فقتله وكانت نتيجة هذا الاستطلاع أن عرفا أن نصيبين التي اعتصم بها حافظ باشا أمنع من عقاب الجو، وأن ليس في مقدورهما أن يستوليا عليها عنوة، لأن فون ملتكه وفون ملباخ نصبا معسكر الأتراك عند سفح التل الذي يجري عنده نهر كرزين
وجعلا هذا النهر حائلا بين المصريين والجيش التركي. ولذلك اضطر المصريون أن ينسحبوا من مواقعهم ويهاجموا العدو من جهة أخرى. وأيقن إبراهيم وسليمان باشا أن الفضل في اختيار هذا الموقع المنيع الذي اتخذه الجيش التركي لنفسه يرجع إلى مهارة الضباط البروسيين وخبرتهم الفنية، ولكنهما قدرا أن الألمان لن يستطيعوا أن يتنبئوا بالحركة الجريئة التي سوف يقدمان عليها
والحق أنهما لم يخطئا التقدير، لكنهما حين أقدما على ما أقدما عليه عرضا أنفسهما لأشد الأخطار رغم أنهما بنيا خطتهما على نفسية البروسيين وعقلية الأتراك. وقد وصف تلك الخطة إيميه فنترنييه صاحب سيرة سليمان باشا بقوله:
(وكانت فكرة سليمان وميضاً من العبقرية إذا أفلحت وأوهاما من عقل مخبول إذا أخفقت. ولكنه كان مؤمناً بصوابها، واستطاع أن يبث هذا الإيمان في الجيش كله لا فرق بين قائده الأعلى وأصغر جندي فيه).
وكانت الخطة التي نفذت بإشراف إبراهيم وعلى مسئوليته هي أن يترك الجيش المصري(213/44)
المعسكر الذي كان يحتله وقتئذ، ويسير مخترقا قرية مزار، وأن يتم ذلك بين طلوع الفجر وغسق الليل؛ ثم يلتف حول جبل بيازار ويعود بعدئذ فيتجه نحو العدو مولياً شطر الجنوب في اتجاه قرية كرد قلعة، وكانت الفكرة التي بنيت عليها هذه الحركة كلها هي: أولا أن فون ملتكه عندما يرى أن الجيش المصري قد رفع معسكره لا يشك مطلقاً في أن قواد هذا الجيش لن يفعلوا ما كانوا ينوون أن يفعلوه، وهو تعريض جناحهم للخطر، وأنه سيمكنهم بذلك من أن ينفذوا الشطر الأول من خطتهم قبل أن يدرك حقيقتها. وثانياً أن فون ملتكه إذا ما أدرك حقيقة الموقف وأراد الانسحاب إلى مواقع خير من مواقعه الأولى ليهاجم منها المصريين قبل أن يصلوا إلى أماكن آمنة، لن يتمكن من التغلب على كبرياء القائد التركي، بل إن هذا القائد سيتغلب على المنطق الألماني الضعيف.
ويقال إنه لما فرض حافظ باشا رأيه على الضباط الألمان غضبوا أشد الغضب ورفعوا إليه استقالتهم، فلما فعلوا ذلك قال لهم السر عسكر: (إن الجندي لا يستقيل قبيل الموقعة). وكان هذا الالتجاء إلى المبادئ الخلقية العسكرية كافياً لحل المشكلة، فلم ينسحب فون ملتكه بل أفرغ وسعه في معالجة هذه الحال الطارئة، فعدل خططه ونقل مدافعه التي أصبحت عديمة الفائدة لأن المصريين أبوا أن يقدموا أجسامهم طعاماً لنيرانها، ووضعها حيث يمكنه الاستفادة منها. وأيقن أن الموقعة الحاسمة ستبدأ عند مطلع فجر اليوم التالي، وكان يخشى أن تكون نتيجتها وبالاً على الجيش العثماني، لأن إبراهيم خرج على القوانين الحربية، فأبى أن يتبع البديهيات الأولى في فن الحروب، وخرق مبادئها الأولية. ولشد ما تألم ذلك العالم الخبير بفنون الحرب حين رأى أن عدوه قد أبى أن يعمل ما يجب عليه أن يعمله. ولاشك في أنه كان يعتقد أن أمثال ماكماهون وبازين ممن يتمسكون بالقواعد والأصول، خير من رجال كإبراهيم أو سليمان باشا يضعون قواعدهم لأنفسهم.
وما أسفر صبح اليوم الرابع والعشرين من شهر يونيه حتى بدأت المعركة بهجوم المصريين. وكان جل اعتماد الأتراك على فرسانهم لأنهم ظنوا أن طبيعة الأرض تحتم عليهم اتباع هذه الخطة الحربية. وقد يكونون مصيبين في ظنهم لأننا لا ندعي لأنفسنا تلك الخبرة بالفنون العسكرية التي تمكننا من أن نبدي رأيا في هذا الموضوع. وكل الذي يعنينا هنا هو أن مشاة المصريين صدوا هجوم الفرسان العثمانيين، فولى هؤلاء الفرسان الأدبار(213/45)
لا يلوي أخرهم على أولهم. وعندئذ وقع الاضطراب في صفوف الجيش العثماني كله فتضعضعت أركانه ولم تأت الساعة التاسعة حتى كان إبراهيم سيد الميدان غير المنازع.
وأقبل إبراهيم على خيمة حافظ باشا. وقد وصفها فنترنييه وصفاً لا نعتقد أنه كان جاداً فيه؛ لأنه قال: (إنها كانت واسعة الأرجاء كأنها قصر مشيد، مزخرفة كأنها حجرة استقبال لأحد الأباطرة العظام، يبهر الرائي جلالها وعظمتها) يبدو على هذا القول كثير من المبالغة، ولكن الذي لاشك فيه أنه كان في هذه الخيمة المزخرفة أريكة من الأرائك التركية المطعمة بالصدف، البعيدة عن الذوق والجمال الفني بعدها عن النفع، ثمنها عظيم ولكن الجالس عليها في عناء. وقد ترك بعضهم على هذه الأريكة أوسمة حافظ باشا ورسائله.
فلما دخل إبراهيم هذا المسكن المؤقت المترف، الذي لا نشك في أن فون ملتكه كان يعده مخالفاً للسطرين الثالث والرابع من الفقرة التاسعة من القسم الرابع عشر من المادة الثانية عشرة بعد المائتين من القواعد الخاصة بنظام الجيوش في الميدان، كان يكسوه العثير ويتصبب من جبينه العرق. ولما رأى هذه الأبهة الكاذبة تبسم ابتسامة ملؤها السخرية والازدراء، ومشى من فوره إلى الأريكة غير حافل بالأوسمة التي لم تكن لها قيمة في نظره، لأنه أكبر من أن يهتم بهذه الصغائر. ولكن الوثائق المتروكة وما قد يكون فيها من أمور ذات بال استرعت نظره، فوقف يفحصها وإذا به يجد فيها فرمانا يعين حافظ باشا والياً على مصر بدل والده فأمر أن يعنى بفحص الأوراق الباقية عساه أن يجد فيها من المعلومات ما له قيمة حربية. وبعد أن وكل هذه الأمور إلى من يعنى بها، أرسل الفرسان المصريين لمطاردة الأتراك الفارين، وأعد العدة لمواصلة الزحف على مرعش وملطية وديار بكر
ويقول لنا القنصل اليوناني العام في تقريره المرسل إلى أثينا إن إبراهيم كتب إلى محمد علي من خيمة حافظ باشا نفسه ينبئه بهزيمة الأتراك، وأن الموقعة لم تدم أكثر من ساعتين، وأن البشير وصل بهذا النبأ السار إلى القاهرة في اليوم الثالث من شهر يوليه؛ ومنها أرسل بالبرق إلى الإسكندرية حيث كان الباشا مقيما في ذلك الوقت وجاء في تقرير قنصلي آخر أن مدافع الجيش لم تطلق أكثر من ساعة ونصف ساعة، وأن الأتراك زلزلت أقدامهم فجأة، فطارت قلوبهم وولوا مدبرين، وأنهم خسروا خمسة آلاف قتيل ونحو سبعة آلاف أو ثمانية(213/46)
آلاف أسير، أما عدد الجرحى فلم يرد له ذكر في هذا التقرير
ولم يعش السلطان محمود حتى يعرف نتيجة مغامرته العظيمة ضد أعظم أتباعه وأشدهم بطشاً، بل وافته المنية بعد يومين من واقعة نصيبين، وقبل أن يصل نبأ هذه الطامة التي حلت بالجيش التركي إلى الآستانة. ويقول الفيكونت بنسنبي في موته: (لاشك في أن العلة كانت قد نشرت جناحيها عليه منذ شهور، وأنه لم يحس بوطأتها فظل يعمل كل ما من شأنه أن يعجل يوم حمامه)
وماذا كانت علة السلطان يا ترى؟ لقد اختلف الأطباء في تشخيص مرضه، فأما الطبيب الإنجليزي الدكتور ملجن الذي عرض عليه فقال إن محموداً قضى نحبه بسبب اضطراب في المخ ناتج من إدمان المسكرات، وقال الدكتور نونر الذي كان يعالجه إنه مات بذات الصدر، ووافق الحكيم باشي التركي كبير أطباء القصر على رأي الطبيب البريطاني
(يتبع)
محمد بدران(213/47)
مشروع تقسيم فلسطين وأخطاره
لباحث عربي كبير
تتمة ما نشر في العدد الماضي
الأماكن المقدسة
لم تكتف اللجنة الملكية بحرمان العرب من قسم فلسطين الطيب، مورد حياتهم، بل سلخت القدس وبيت لحم ومنطقة واسعة توصلهما بالبحر عن البلاد العربية، ووضعته مع غيره تحت انتداب بريطاني دائم، بحجة أن المحافظة على هاتين المدينتين (أمانة مقدسة في عنق المدنية)، كأن العرب لا يعرفون المدنية وكأنهم لا يدركون مقدار ما لهذين المكانين من قداسة
إن العرب هم أكثر الشعوب تقديساً للقدس وبيت لحم، والإنكليز يعرفون ذلك، غير أنهم اتخذوا مبدأ (المحافظة على قداسة القدس وبيت لحم) وسيلة لسلخهما عن البلاد العربية، وتسهيلا لتحقيق المآرب اليهودية في هذا الجزء من البلاد المقدسة
مهدت اللجنة الملكية في تقريرها السيطرة اليهودية على هذا القسم من فلسطين، فهي توحي بأن تكون لغته الرسمية الإنكليزية لتزول مع الزمن منه الثقافة العربية والروح القومية. ومهدت السبيل لأن تكون أكثرية موظفي الحكومة في هذه المنطقة من اليهود. إذ هي تقول (صفحة 138) بأنه لو لم يكن هناك الانتداب الحالي على فلسطين، لاعتبرت الحكومة اليهود والعرب جماعة واحدة، ولانتخبت من بينهم الموظفين حسب كفايتهم لا حسب جنسيتهم، كما هي الحال الآن، ولكان أكثرية هؤلاء الموظفين من اليهود لأنهم أكثرية كفاية وأكثر مقدرة. وتقول اللجنة بعد ذلك بأن الانتداب الجديد (صفحة 382) لن يجعل ثمة مجال للبحث في حفظ التوازن بين ادعاءات العرب إزاء اليهود أو بالعكس، لأن الحكومة ستنظر إلى جميع السكان نظرة واحدة. ومعنى هذا أنها سوف لا تراعي النسبة بين الموظفين، بل ستأخذ الأقدر والأفيد لها. والموظفون اليهود أقدر بكثير من الموظفين العرب في نظر لجنة اللورد بيل
ومتى أصبحت اللغة الرسمية الإنكليزية، ومتى أصبح الموظفون من الإنكليز واليهود،(213/48)
صعب جداً على العرب العيش في هذه المنطقة من بلادهم واضطروا إلى النزوح عنها، فتصبح الأكثرية الساحقة فيها من اليهود. وحتى لو فرضنا أن عرب هذه المنطقة سيظلون فيها، فإن اليهود سينسلون إليها وسيصبحون فيها أكثرية. وعندها يطلبون إجراء استفتاء سائلين سكان هذه المنطقة فيما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى (المملكة اليهودية) أو إلى (المملكة العربية). وتكون النتيجة الانضمام إلى (المملكة اليهودية)، ووضع اليهود أيديهم على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، وإقامة هيكل سليمان مكان الصخرة الشريفة. . . وستجد الحكومة البريطانية عذرا لذلك تبرر به عملها قائلة بأنها تحب العدل ولا ترغب في حكم جماعة رغم مشيئتهم!. . .
ثم إن القدس مدينة كبير، يعيش أهلها على الوظائف والموظفين العديدين الذين فيها، وعلى التجارة مع القرى. فمشروع التقسيم يحرم أهل القدس من الوظائف ويقلل عدد موظفي المدينة، ويقطع القرى التي تتعامل مع القدس عنها. وسحل حينئذ أزمة اقتصادية شديدة يقاسي سكان المدينة العرب آلامها. . .
تقول اللجنة الملكية إنه (يجب أن يلقى على عاتق الدولة المنتدبة أيضا عبء المحافظة على الأوقاف الدينية وعلى الأبنية والمقامات والأماكن الواقعة في أراضي كل من الدولتين العربية واليهودية والمقدسة لدى العرب واليهود). وهي في هذا القول تريد إيهام الرأي العام بأن في المملكة العربية مقدسات يهودية! والحقيقة أن ليس لهم في القسم المنوي إبقاؤه عربياً شيء من هذا القبيل. أما العرب فلهم في مشروع (المملكة اليهودية) جوامع وكنائس وأوقاف وأبنية ومقامات وأماكن مقدسة عديدة، تتعهد الحكومة البريطانية بالمحافظة عليها! لقد رأينا قيمة تعهدات الحكومة البريطانية ومدى ما يمكن الاعتماد عليها. . .
ثم ما الفائدة للعرب من بقاء جوامع وكنائس ومقامات مقدسة في قسم من بلادهم يرغمون على الرحيل عنه؟ إن العرب يقدسون الجوامع والكنائس مادام فيها مصلون، أما إن قدر للشعب العربي أن يرحل عن وطنه (وهذا لن يكون) فخير له أن تنسف الجوامع والكنائس، وأن تمحى آثاره المقدسة، من أن تبقى أثراً يذكر الأجيال بأنه كان في هذه البلاد شعب عربي لم يعرف كيف يحتفظ بها. . .
دولة يهودية(213/49)
إن لمشروع تقسيم فلسطين فائدة واحدة، ذكرها اللورد بيل في تقريره، وهي تحقيق أحلام اليهود من تأسيس مملكة لهم في الأرض المقدسة.
لقد منح تصريح بلفور اليهود وطناً قومياً في فلسطين، يعطيهم الحق في القدوم إلى الأراضي المقدسة وسكناها دون أن يغير ذلك كيان العرب وحقوقهم. غير أن هذا التصريح لم يحقق آمال اليهود؛ على أنهم قبلوه ليكون وسيلة لتحقيق تلك الآمال. وجاء اللورد بيل وأوصى بإلغاء الانتداب القائم على تصريح بلفور، وإعطاء اليهود مملكة في أطيب قسم من فلسطين، مستقلة تمام الاستقلال، ولها ما لأكبر الدول من سيادة ومكانة. ومثل هذه الدولة لا تحقق آمال اليهود كلها، بل هي إلى إحياء الصهيونية، بعد أن كادت تفشل، ووسيلة لإيصال اليهود إلى غايتهم الرئيسية، وهي: إنشاء دولة يهودية ممتدة من النيل حتى الفرات، واستعمار الشرق الأدنى، لاسيما الشرق العربي، استعماراً اقتصادياً.
إن تأسيس مملكة يهودية في فلسطين أو في قسم منها، مهما كانت رقعته، خطر عظيم على الشرق العربي أجمع. لأن منح اليهود مملكة معناه تقوية نفوذهم في جميع أنحاء العالم، وسيطرتهم على الدوائر السياسية الدولية، سيطرة تجعل لدولتهم، مهما كانت صغيرة، أهمية دولية لا تقل عن أهمية عن كبار دول العالم. ويتلو ذلك تزلف الدول لهذه الدولة القوية، فتأخذ في عقد محالفات معها، تضمن للدولة اليهودية حرية العمل في الشرق الأدنى لاسيما في بلاد العرب منه.
وفي أثناء ذلك تكون (الحكومة اليهودية) آخذة في حشد اليهود في (القسم اليهودي) من فلسطين. وقد صرح رجالاتهم من الآن، بأنه سيبلغ عدد اليهود في هذا القسم عما قريب خمسة ملايين، جلهم من الشبان والشابات الصالحين للعمل. لهذا ستكون قوة التجنيد عندهم معادلة، إن لم تكن أقوى، لقوة تجنيد بلاد عادية يبلغ سكانها خمسة عشر مليوناً. وستدرب الحكومة اليهودية هذا العدد الكبير من الرجال والشبان والنساء على الأعمال الحربية. وسيكون لديها جيش قوي مجهز بأحدث عدد الحرب. وزيادة على الجيش المحلي فإن للدولة اليهودية جيوشاً احتياطية منتشرة في جميع أنحاء العالم. لأن كل يهودي خارج فلسطين سيعتبر نفسه جنديا في جيش (الدولة اليهودية) وسيلبي النداء مهما كان بعده عن الأراضي المقدسة. وليس في العالم قوة تحول بين ملايين اليهود وبين الانضمام إلى جيشهم(213/50)
في فلسطين. . . وإن حوادث أسبانيا الحالية خير برهان على ذلك.
وقسم المملكة اليهودية من فلسطين لا يتسع طبيعية لأكثر من مليون. فمتى وجد ثلاثة ملايين إن لم تقل خمسة أو أكثر، اضطروا بحكم الطبيعة إلى التوسع، ولا توسع لهم إلا في البلاد العربية. أما استيلاؤهم على بقية فلسطين وشرق الأردن فسهل متى كان لهم مملكة، لعوامل اقتصادية عرضناها فيما تقدم. ومتى استولوا على (المملكة العربية) المنوي خلقها زاد عددهم في فلسطين، حينئذ يوجهون وجههم شطر سوريا ولبنان. وعند ذلك، مهما كانت شجاعة العرب، ومهما كان صبرهم على القتال، لا يكون في مقدور جيش القطر السوري الشقيق، حتى وإن عاضده بقية البلاد العربية، الوقوف أمام جيش (المملكة اليهودية) العديد والمجهز أحسن تجهيز حربي حديث. . . ومتى زال استقلال سوريا، هدد العراق، ومصيره أن يجزأ بين الطامعين فيه، ويدخل قسم منه في المملكة اليهودية. أما مصر فستجابه خصما عنيداً يكون عونا لأعدائها عليها. . .
ولنفرض أن لا خوف على استقلال سوريا والعراق ومصر السياسي من (الدولة اليهودية)، فإن هذه البلاد سوف لا تنجو ولن تنجو من استعمار اليهود الاقتصادي لها. فوجود دولة يهودية في فلسطين أو في قسم منها معناه زوال كل ما لمصر من أمل في زعامة البلاد العربية ثقافياً واقتصادياً، إذ ستكون الدولة اليهودية حائلا بينها وبين هذه البلاد، وسوف لا تنجو هي من استعمار اليهود الاقتصادي. ومعناه أيضاً زوال كل ما للعراق من أمل في تقوية الرابطة بين البلاد العربية، وتوحيدها، ومن وصوله إلى البحر الأبيض المتوسط. أما سوريا، بما فيها لبنان، فإن لم يزل استقلالها زوالا نهائياً، فستكون تحت نفوذ الدولة اليهودية سياسياً واقتصادياً. . .
إن وجود (مملكة يهودية) في فلسطين أو في قسم منها، ضربة قاضية لآمال العرب (بما فيهم مصر)، وسبب لفقدان السلام والهدوء من الشرق العربي. لهذا يجب على كل عربي أن لا يرضى أبدا بتقسيم فلسطين، ولا يمكن الحكومة منه. ويجب على جميع البلاد العربية أن تتساند وتحول دون تأسيس مملكة يهودية في قسم من فلسطين، فتحول بذلك دون وقوع الأخطار العديدة التي ذكرنا بعضها.
اقتصادي(213/51)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 15 -
كتاب البوذية
جمع تلاميذ بوذا الأولون حكمه وعظاته وتعاليمه ومناهج حياته العملية وضموا إليها قصصاً عجيبة وأساطير شيقة عن التجسد والتناسخ، وأخرى حوت كثيراً من معجزات بوذا وخوارقه للعادة وغير ذلك، فبلغت هذه المجموعة نحو عشرين مجلداً أطلق عليها كتاب (السلال الثلاث) ولكنها لم تكن مصونة صيانة (الفيدا) ولا صيانة (البيرانات) أو أي كتاب آخر من كتب البراهمة التي أقامت حولها القداسة سياجا من المناعة حفظها من التبديل. ولهذا مازج كتاب البوذية كثير من الخلط والعبث والانتحال حتى دس على بوذا ما لم يدر له بخلد أو يخطر له على بال.
تطور البوذية
لم تظل البوذية طويلا على هذه البساطة التي رأيناها، إذ لم تلبث أن تحولت إلى ديانة معقدة، فيها كثير من الظلمة والخفاء و (الماوراء) الطبيعيات، فبوذا قد تحول إلى إله خفي ذي أسرار عجيبة، منها أن الإله تجسد في بوذا، لينقذ البشرية بأن يحمل عنها عبء خطاياها القديمة، ويحول بينها وبين ارتكاب أخرى جديدة، لا بواسطة نشر نور المعرفة بين الناس كما كانت الحال في العهد الأول، بل بطريقة فيها من الأسرار العويصة ما يجعل الفرق بين العهدين بعيداً والخلف شاسعاً. وليس هذا فحسب، بل إن بوذا قد أصبح بعد هذا التطور رمزاً للإله المنقذ الذي جعل يجيء إلى هذا العالم الأرضي من حين إلى آخر، متقمصاً جسد أحد بني الإنسان، لينقذ البشرية في شخصه الذي يسمى في كل مرة: (بوذا) ويجري عليه ما لا يجري على أفراد بني الإنسان جميعاً من أكل وشرب وزواج وإنسال(213/53)
وغير ذلك من خصائص الأناسي. وقد كان بوذا الذي نحن بصدد مذهبه الآن هو الرابع من هؤلاء الأشخاص الذين تقمص الإله أجسادهم.
الفلسفة البوذية
لما تطورت البوذية على النحو الذي رأيناه آنفاً وخاضت فيما وراء الطبيعة، كان من المحتم أن يكون لها فلسفة، لاسيما وأن عناصر هذه الفلسفة موجودة في التعاليم الأساسية لهذه الديانة حيث قرر بوذا كما أسلفنا أن النجاة لا تتحقق إلا بعاملين متلازمين الزهادة والمعرفة، وأن من شأن الأولى أن توجد ديانة متصوفة، ومن شأن الثانية أن توجد فلسفة معقدة، وهذا هو الذي كان بالفعل، إذا أعلنت البوذية أن الإنسان لا يكون حكيما إلا إذا تمت له المعرفة، وهي لا تتم إلا إذا مر أمامه سلسلة مشاكل الكون المتماسكة الحلقات وأخذ في حل حلقاتها واحدة بعد واحدة. وعندها أن سلسلة المشاكل الكونية يجب أن يبدأ في حلها على النحو الآتي:
حيث إن الحياة مزيج من الألم والشيخوخة والموت، فأول الأسئلة التي ترد على الذهن هي: س: لم كان الموت؟. ج: لأننا ولدنا، ومن ولد يجب أن يموت. س: ولم ولدنا؟. ج: لأننا موجودون، والولادة والموت نوعان من الوجود، فالموت يقودنا إلى الحياة، والحياة تقودنا إلى الموت. س: ولم كان هذا الوجود؟ ج: لأننا خاضعون لارتباطات وثيقة بكل ما يغذي وجودنا، ولاسيما بالقوى الثلاث: المادية والنفسية والأخلاقية. س: ولم كان هذا الارتباط بالأشياء الخارجية أو الميل إليها أو الاتصال بها؟ ج: لأننا بالرغم من آلامنا الكثيرة نحس بظمأ إلى الحياة وشغف بها. س: ولم كان هذا الظمأ؟. ج: لأننا - وقد منحنا الإحساس - ننعطف بغريزتنا إلى البحث عن الإحساس اللذيذ، وهو يوجد في استمرار الحياة. س: ولم كان هذا الإحساس؟ ج: لأنه يوجد تماس بين أعضائنا وبين الأشياء الخارجية. س: ولم كان هذا التماس؟ ج: لأن لنا حواس ستاً تتجاوب مع ستة أنواع من الأشياء أو مع ست حقائق موضوعية وبالأحرى مع ستة اختصاصات. س: ولم كان الاختصاص؟ ج: لأن كل مشخص يتألف من كائنين: المادة والمدرك. ومعنى هذا أنه اسم وصورة في آن واحد. س: ومم جاءت الاسمية والصورية؟. ج: جاءت من أنه توجد معرفة، ووجود المعرفة يستلزم وجود كائن معنوي جدير بأن يعرف كما يستلزم وجود(213/54)
عملية المعرفة. س: ومم جاءت المعرفة؟ ج: جاءت من أن طبيعتنا مكونة من استعدادات شتى، وأن سلوكنا الحاضر وليد نتائج معارف سابقة. س: ومم جاءت هذه الاستعدادات؟. ج: جاءت من الجهل الطبيعي فينا، لأننا لو كنا نملك المعرفة الحقة لما سقطنا في السطحية التي تطبقها استعداداتنا تطبيقاً عملياً في كل لحظة.
السكون عند البوذية
كل شيء حركة دائمة، وليس هناك في الحقيقة كائنات موجودة، وإنما كل ما في الكون لا يزيد على أنه حالات لهذه الحركة الأبدية يمتاز بعضها عن بعض بفروق ناشئة من سنن طبيعية لا يؤلف بينها عنصر جوهري شامل، وإنما هي موجودة من نفسها وبفعلها تتكون حوادث الوجود. فإذا اتخذنا الإنسان مثلا كنموذج لبعض الظواهر الناشئة من السنن الكونية وجدناه مؤلفاً من خمسة عناصر: المادة والإحساس والإدراك والنمو والوجدان.
وترى الفلسفة البوذية أنه لا ثبات لأي واحد من العناصر على حالة واحدة، وتتخذ من هذا برهانها على أنه لا يوجد في الكون جوهر يؤلف بين الحوادث الكونية المشاهدة، إذ لو كان هذا الجوهر موجوداً لما كان كل ذلك التعقد الذي يرافق هذه الظواهر دائماً، ولشاهدنا فوق ذلك أثره الخاص، مع أن الواقع أنه لا يشاهد لغير الظواهر الطبيعية أي أثر، فمثلا الشهوة والجهل المجتمعان أبداً ينتجان أحداثاً، والأحداث تنتج انفعالات ينشأ عنها إدراك الكائن لأنَّيِته. وهذه الانفعالات وذلك الإدراك للأنية ينتجان الوجود الشخصي، وهذا الوجود الشخصي ينتج الحواس، والحواس تنتج التماس مع الأشياء، والتماس ينتج الإحساس، والإحساس ينتج الرغبات، والرغبات تنتج تشرب المشتهيات. وهذا التشرب ينتج الصيرورة، والصيرورة تنتج التوالد، والتوالد ينتج الألم والشيخوخة والموت، والموت ينتج الحياة بوساطة التناسخ، وهكذا تتكون دائرة الحركة المتداخل أولها في آخرها تداخلا محكما.
النفس عند البوذية
تنكر البوذية النفس كما تنكر كل ما وراء الطبيعة، ولكن آخر حلقة من هذه السلسلة المنطقية التي أسلفناها وهي حلقة التناسخ لا تلبث أن تخلق مشكلة عويصة وهي: إذا كان(213/55)
عنصر حياة مذهبكم هو التناسخ، فما هو ذلك الكائن الذي يتناسخ؟ فإن قلتم: إنه الجسم فلا يمكن أن يتناسخ جسم في جسم، لأنه يلزم عليه أن يتضخم هذا الكائن إلى ما لانهاية، أو أن يهذب منه شيء ويحل محله شيء آخر، فيترتب على ذلك تشويش في النظام لا حد له، إذ يعاقب البريء على جريمة الآثم، ويثاب المجرم على براءة البريء، وهذا لا يقبله عقل؛ وإن قلتم: إن ما يتناسخ هو شيء غير الجسد، قلنا لكم: ما المانع من أن يكون هو النفس؟ غير أن البوذية تنفلت من هذا الجواب كما شأنها كلما أحرجت بأسئلة ما وراء الطبيعة وتقول: إن هذا السؤال غير مفيد، لأن جوابه غير محدود مادامت عناصر الشخص بعد موته ليست عينه تماماً وليست غيره تماماً، وإنما هي مزيج من العينية والغيرية معاً
مصير البوذية
حينما نشأت البوذية كانت البراهمية قد خَلِقَتْ بعض الشيء، فاستطاعت تلك الديانة الناشئة أن تهزمها وتحصرها في أمكنة معينة من بلاد الهند، ولكن البراهمية لم تلبث أن استردت قوتها وحملت على البوذية حملة عنيفة أجلتها بها عن أكثر البلاد الهندية، حتى إذا فتح الإسلام الهند أجهز على البقية الباقية منها، ولكن هذه الديانة حينما أجلتها البراهمية في القرون الأولى للميلاد المسيحي لم تكن قد انعدمت من الوجود، وإنما كانت قد تفرقت شمالاً وجنوباً إلى الصين واليابان وجاوة وسومطرة، وظلت هاك حيث التقت بالإسلام فصدمها خصوصاً في جاوة وسومطرة صدمة قاسية لم تقو بعدها على المناهضة والغلاب فتخلت له عن الميدان معترفة بأن البقاء للأصلح، سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
ولكن ليس معنى هذا أن البوذية قد انمحت من سجل الكون، كلا فهي لا تزال تحتل قلوب الملايين من بني البشر وإن كانت قد تبدلت تماماً وخضعت لأهواء الشعوب التي اعتنقتها وانهزمت أمام عاداتها وتقاليدها انهزاماً جعلها أثراً بعد عين. فبعض الشعوب مثلا أدخل فيها عبادة النساء، والبعض الآخر أدخل عبادة الفيلة محتجاً بأن بوذا قد تقمص أجسادها مرات متعددة، والبعض الثالث جعل من شعائرها أن يباح للكهنة والقديسين كل موبقة مهما بلغت فداحة ما فيها من عهر ومجون مادام هذا الكاهن يدعي أنه لا يحس أثناء هذا الفجور بسرور إلى غير ذلك مما لم يخطر لبوذا ولا لتلاميذه ولا لأنصاره الأولين ببال(213/56)
(يتبع)
محمد غلاب(213/57)
أدب المنفلوطي
بقلم السيد جورج سلستي
كتبت على أثر الحملة الطائشة التي قام بها بعض الأدباء على
المنفلوطي وأدبه بمناسبة ذكراه الثالثة عشرة
أحق ما يقولون من أن صاحب (النظرات) (ليس بالكاتب ولا الأديب)، وأنه صنم من أصنام الأدب (يجب علينا تحطيمه وطرحه)، وأنه خلو حتى (من ناحيةٍ واحدة خليقة بالتحليل ووجهٍ واحدٍ جدير بالدرس)؟!
أتكون نفثاته الشائقة نفاية (لا قيمة لها ولا وزن)، وكتاباته الممتعة (مزيفة جوفاء)، وأدبه الرائع (سقيماً هزيلاً)؟!
أيبلغ العقوق في هذا الجيل حدَّه الأقصى فيتهجم الأبناء على آبائهم والتلاميذ على أساتذتهم ولا يعترفون لهم حتى بالتثقيف ولا يقرون لهم بفضل ولا شبه فضل؟!
أكلما طلع كاتب جديد كان القدح أو كلماته، والنقد الجارح أول نفثاته، وكان الهدم نصيب نابغة من نوابغ الأدب العالي وقطب من أقطاب الفن الرفيع؟!
أحتم على الأديب الناشئ أن يتخذ النقد المرّ وسيلةً لبلوغ ما يصبو إليه من مكانة، والتهكم اللاذع سبيلا إلى ما يطمح إليه من مقام، كأن لا نهج إلا هذا النهج، وكأن الإنتاج ليس من مزايا التفوق والنبوغ؟!
إننا نكبر الجرأة - والجرأة من مزايا الأديب - ولكن عندما تكون محدودة، مكبوتة النزوات، مكبوحة الأهواء؛ لأن الجرأة المطلقة تهوّر وجنون.
وإننا نجلّ النقد - والنقد عماد الأدب الصحيح - ولكن عندما يكون نزيها لا تحامل فيه ولا طعن.
نود أن يكون الناقد فذّا في أدبه فذاً في رجولته لأننا نربأ به أن يكون طفيلياً يعيش على فتات سواه، لا، بل نربأ بكل من يمت إلى الأدب بصلة أو سبب أن يبني مجده على تقويض زعامة غيره وهدم بنيان سواه.
ليس المنفلوطي بالأديب الكامل، فالأديب الكامل لم يخلقه الله بعد؛ ولا هو سيد الكتاب ولا(213/58)
إمام المنشئين ولا أمير الشعراء ولكنه من سادة الكتاب ومن أئمة المنشئين ومن الشعراء المجيدين، فعلام الإنكار؟!
وليس المنفلوطي من الروائيين الأفذاذ الأعجمية ولا القصاصين النوابغ ولكنه من خيرة من نقلوا الرواية الأعجمية إلى لغة الضاد وممن كتبوا في القصة فبلغوا فيها شأواً؛ فعلام التضليل؟!
إن في أدب المنفلوطي مآخذ، ما في ذلك ريب، ولكن ما ضعف أقله لا ينبذ جله. وعلى الناقد الحصيف ألا يجسم الأخطاء ويتعامى عن مواضع السموّ والجمال.
يقولون إن المنفلوطي لم يكن يهمه من الإنشاء غير الأسلوب وفي هذا القول غلوٌّ كثير.
فهو على افتتانه بالمظهر كان يولي (الجوهر) اهتمامه وعنايته؛ إلا أن روعة أسلوبه طغت على سواها فظهر أدبه أقرب إلى السطحية منه إلى العمق.
والتقعر لم يكن من شأنه فقد كان يلقي بآرائه في سلاسة ووضوح في ألفاظ جزلة ناعمة، فأتت ديباجته وضاءة مشرقة تغمرها العذوبة ويفيض عليها السحر. أيكون ساحر البيان سقيم الأدب هزيله، وتكون السلاسة جُرْماً والعذوبة إثماً؟!
ويقولون إن الجيد في لغة جيدٌ في كل لغة، وإن المنفلوطي إذا نُقِلَ إلى لغة أعجمية تعرِّى من بهرجه وظهر ما في أدبه من ضعف.
وهذا قول فيه نظر. فليس لقطعة من الأدب الإنكليزي جلالها ذاته لدى نقلها إلى الفرنسية مثلا، ذلك لأن لكل لغة سحرها الخاص في الأداء والتعبير لاسيما في الشعر والأدب.
وإنك عبثاً تستطيع بالغاً ما بلغت من قدرة أن تنقل شكسبير بسحره وفتنته إلى لغة أخرى؛ وما ذلك إلا لأنه كان - وهو المتضلع من لغته البصير بدقائقها وأسرارها - على عنايته بالفكرة شديد العناية بالأسلوب. ذلك الذي يفقد جل روعته بالنقل.
لندع شكسبير ولنتخذ أحد الكتاب المعاصرين مثالا. وليكن بول فاليري هذا المثل.
فهذه (مقبرته البحرية) تكاد تكون أحجية، وهي بالفرنسية معجزة في السبك، وما أحسب أن أحداً يأنس في نفسه القدرة على نقلها إلى لغة أخرى ويظل محتفظاً بقوتها وروعتها الأصيلتين، وليجرب نفسه من يشك في القول أو من يرتاب في صحته.
فتلاؤم الألفاظ في كل لغة له جرسه الخاص ووقعه الخاص، ولن يكون له مثل وقعه مثل(213/59)
جرسه في النقل والترجمة.
ويقولون إن المنفلوطي لم يصوّر إلا ناحية واحدة من نواحي الحياة هي البؤس، وإنه لم يوفق حتى في هذه الناحية.
وهذا قول مردود، فقد اشتهر المنفلوطي بمقالاته أكثر منه برواياته، وهذه (نظراته) في أجزائها الثلاثة طافحة بكل طريف؛ وقد عالج فيها جميعاً من فنون الأدب وشؤون الحياة الشيء الكثير
وهب أنه لم يكتب في الاجتماعيات ولا في الشعر ولا في النقد الأدبي، وأنه وقف قلمه السيال على المأساة دون الملهاة، وعلى تصوير البؤس دون السعادة، فهل يلام الحزين إن لم يفتر ثغره بالبسمات؟ وهل تلحي الكئيب إذا لم تعرف مقلتاه إلا الدموع وإذا لم تفض نفسه إلا بما تشعر به، ويجيش به صدره المجهود؟!
ثم من ذا الذي كتب في البؤس فبلغ مدى المنفلوطي فيه؛ ومن هو الكاتب العربي الذي حرك بنفثات قلمه مكامن الأشواق وهز مختلف الأحاسيس وتلاعب بالعواطف وأجرى الشؤون من العيون كما حركها وأثارها وأجراها مصطفى لطفي المنفلوطي؟!
ويقولون إن التكلف احتل كتاباته كلها وإن قلمه كان يجري بما لم تكن تشعر به نفسه. وفي هذا القول ما فيه من هراء
فلقد قال فيه عارفوه والذين لازموه في حياته إنه لم يكتب إلا عن فيض شعوره وحسه، وإن كتاباته صور حقيقية لنفسه، وإن أدبه وكرم خلقه وما تحلى به شخصه من مزايا وصفات إنما هي رسائله وكتبه لا تنقص ولا تزيد؛ أما أسلوبه فخال من التكلف وتكاد كلماته الطيعة تسيل رقة وعذوبة
والمنفلوطي إلى هذا كله شاعر مجيد وله قصائد رائعة لا تعيبها إلا قلتها. وهو في شعره شأنه في نثره متخير اللفظ متين السبك، لطيف المعاني بارع الوصف، وله في الوجديات غرر وفي الحكم آيات
. . . . وبعد فحسب المنفلوطي فضلا على الأدب العربي أنه انتقل به في مستهل النهضة من الجفاف إلى الإيراق والإيناع، وإنه حبب جمهور المتأدبين في الإنشاء الرفيع وأساغ له الاستمتاع بالسلاسة وتذوق العذوبة فيه. وحسبه فخراً أنه نسيج وحده في عصره لم يجاره(213/60)
في فححر بيانه منشئ في جيله
ومن كان لذ في الأدب خدمات مصطفى وفضل مصطفى، فلن يضير مجده تهجم المتهجمين ولن ينال من مكانته تشدق المتشدقين
على أنه يؤلمنا والله ألا توزن الأقوال وألا تقدر الرجال
(بيروت)
جورج سلستي(213/61)
رسالة الشعر
مختارات من أدب الرافعي
(انقطع الرافعي عن التعلم في المدارس بعد حصوله على الشهادة الابتدائية لعلة أصابته في أذنيه، فكان لذلك أثر شديد في نفسه، وكان بذلك يرى نفسه وهو في العشرين كأنما ودع الشباب؛ فهو كثير الالتفات إلى الماضي والحنين إليه؛ وما كان له ماض بعد إلا المدرسة التي هجرها برغمه من جراء العلة التي نالته. فاستمع إليه في القطعتين التاليتين يتحدث عن المدرسة وعهد الدراسة كما يتحدث الشيخ الهم عن ماضيه البعيد. والقطعتان من أول ما قال الرافعي من الشعر وهو ابن عشرين سنة). أما القطعة الثالثة فقد ألقاها في الحفلة السنوية لجمعية الاتحاد والإحسان السورية المصرية بطنطا في 22 أبريل سنة 1921
محمد سعيد العريان
(1) زمن الدراسة
زمن كالربيع حلّ وزالا ... ليت أيامه خُلقن طوالا!
يحسب الطفلُ أنه زمن الهمِّ ... وما الهمُّ يعرف الأطفالا
يا بَني الدرسِ، مَن تمنَّى الليالي ... كلياليكمُ تمنَّى المحالا
ليلةٌ بعد ليلةٍ بعد أخرى ... وليالي الهنا تمرُّ عِجالا
قد خَبَرْناَ الأنامَ في كل حالٍ ... فإذا الطفلُ أحسنُ الناسِ حالا
وهو إن جدَّ لم يزل في صعودٍ ... وكذا البدرُ كان قبلُ هلالا
غير أن الكسولَ في كل يوم ... يجد اليومَ كلَّه أهوالاً
ويرى الكُتْبَ والدفاتر والأقْ ... لامَ وأوراق درسِه أحمالا
وإذا ما مشى إلى قاعة الدرْ ... سِ ذراعاً يظنُّه أميالا!
من يقم في الأمور بالِجْدِّ يَهنْأْ ... والشقا للذين قاموا كسالى
وزمانُ الدروس أضيق من أَن ... يجدَ الخاملون فيه مجالا
أيها الطفلُ لا تضيِّع زماناً ... لستَ تَلْقَي كمثله أمثالا
ربما نلتَ ما يفوتُ، وهَيها ... تَ إذا فاتَكَ الصِّبَى أن تنالا!(213/62)
(2) بعد المدرسة
ما لأيام ذا الصِّبَى تتفانَى؟ ... وقديماً عهدتُها تتوانَى
ذهبتْ بالصِّبى، سلام عليها ... من فؤادٍ بحبِّها ملآنا
كل ذي حالة سُيمْنَى بأخرى ... ويلاقي بعد الزمان زمانا
والفتى مَن إذا تغيَّر حالٌ ... لم يقف في وجوهه حيرانا
هذه ساعة الحصاد، فمن كا ... نَ تَعَنَّى أراحَه ما عانَى
والذي يزرع التهاونَ في الأشْ ... ياءِ لا يجتنيه إلا هوانا
ليس يُجدي الإِنسانَ أن يأمل النَّا ... سُ فلاناً من قومه وفلانا
فاسْعَ في الأرض، إن عِقبان هذا الْ ... جوِّ لا يرتضين فيه مكانا
واحذر الناسَ، إِنما يأمن النا ... سَ صَبيٌّ يظنُّهم صبيانا
واركب الْجِدّ في الأمور ولا تَجْ ... بُنْ إذا فات بعضُها أحيانا
إن هذا الوجود كالحربِ: لا يُكْ ... رَمُ في الحرب من يكون جبانا
(سنة 1901)
مصطفى صادق الرافعي(213/64)
(3) مصر والشام
يا نسمة النيل مُرِّي بالسلام إلى ... نسيم وادي الهوى في أرض لبنان
إلى النسيم الذي رَفَّت نضارتهُ ... كدمعة الفجر رفَّتْ فوق ريحانِ
إلى النسيم الذي يَنْدَى على كَبِدي ... نَدَى السرورِ على آفاق أحزانِ
إلى النسيم الذي من طول أُلْفَنِهِ ... للزهر أحْياء بروح الزهر أغصاني
بالله يا نسمات النيل طِرْنَ إلى ... ذاكَ النسيم بأشواقي وتحناني
قلبي يرفُّ رفيفَ الطير بينكما ... كأنَّما أنتما فيهِ جَناحانِ
لَمِصر في حَقِّها الأدنى عليَّ هوىً ... وللشام هوىً في حقِّها الداني
لستُ الكريمَ بدارِي إنْ رعيتُ لها ... عهداً ولم أَرْعَ فيهِ عهدَ جيراني
يا مصرُ أرضُكِ مهدُ العقل كان بها ... والشام منبت أرواحٍ وأديانِ
نُبّوة العقلِ في مصرٍ، وجارتُها ... نُبُوَّة الروحِ فيها مُنْذُ أَزمانِ
كلتاهما تركتْ فيِ الدهرِ معجزةً ... إيمانُ عقلي فيها عقل إيماني
معنَى من الحسن أعياني تفهُّمُهُ ... لكنهُ هو معنى الخالدِ الفاني
الشام من مصرَ، لكن قد تجاورتا ... لِتُصبحا للمعالي شِبْهَ ميزانِ
أَلم ترَ الدهرَ وزَّاناً بمجدهما ... مُلكاً بملكٍ وتيجاناً بتيجانِ
الشام من مصرَ لكن قد تباينتا ... لأَنَّ حسنَهما فيِ الأرض حُسْنَانِ
لونانِ فيِ واحدٍ كالغصن تنظرهُ ... لوناً وبالوردِ غصنُ الوردِ لونانِ
والشرق وَجهٌ من الدنيا تُطلُّ بهِ ... ومصر والشامُ في ذا الوجهِ عينانِ
يا مصرَ يا سوريا المجدُ (دائرةٌ) ... وأنتما في محيط المجد (قُطران)
كلا كما مُشْبِهٌ في الحسن صاحبَهُ ... أأَنتما واحدٌ أَمْ أنتما اثنانِ
أرى الممالكَ أخواناً مُعَلَّلَةً ... لكنَّما مصرُ والشامُ الشقيقانِ
لو تُسأَلُ الأرضُ: أين ابناك؟ لاَلتفتتْ ... إليهما ثم قالتْ: هاهما ذانِ(213/65)
رحلة ما تنقضي
للأستاذ فخري أبو السعود
ما طول لبثي في ديار قرار ... والنفس تائقة إلى الأخطار؟
إني سئمت لطول لبثيَ موطني ... ورغبت عن خدني وعفتُ جواري
ومللت نفسي إِذ غدت وكأنها ... دثر من الأطلال والآثار
قد آدَها طولُ القعود ولم تزل ... وثابة العزمات والأوطار
لأجددنَّ برحلة عزماتِها ... وأُصَدِّعَنْ عنها قيودَ إسار
أَأُقيم في أرض وفكريَ ما وَنى ... في الكون عن دأب وعن تسيار؟
تالله أهدأُ أو تُسابِقَ خطوتي ... خطواتِهِ في شاسع الأقطار
في رحلة في الأرض تعقب رحلة ... لم أدر غايتها وأين قراري
أَحتثُّ خطوي في مَسارحَ لم تُجَبْ ... بالكهرباء ولم تُجَزْ ببخار
متمليّاً أنى تَرَامَتْ بي النوى ... من فتنة الأَرياف والأَمصار
أَلْقَي شروقَ الشمس يوماً من ذرى ... طود ويوماً من عباب بحار
وتظل دائبةً وأمعنُ دائباً ... حتى أودع قرصها المتواري
وأسيرُ من رمل لِوَادٍ معشب ... غَشَّتْ حصاه سواقطُ الأزهار
نَفْسي هنالك صاحبي أكرِمْ به ... من صاحب من صفوة الأخيار
أَنْسَى على سَنَنِ الطريق بلابلي ... ويخف ما بالنفس من أوقار
وأرى الحياة مع المسير جميلةً ... والمكثُ حلفُ الهم والأكدار
ويقولُ مَن هذا الغريبُ معاشرٌ ... أنا فيهمُ سرُّ من الأسرار
أَغشَى ديارهمُ وأطوي أفقْهم ... وأَمر فيهم كالخيال الساري
وهُمُ حيالي دائبون بمسرح ... للعيش ذي وِرْدٍ وذي إصدار
فكأنهم دوني شخوصُ رواية ... عُرضتْ مَشاهِدها على النُّظَّار
يا ليت عمري رحلة ما تنقضي ... موصولة الأسفار بالأسفار
لا أصطفي وطناً ولا آوي إلى ... دار فهذا الكون طراً داري
لا دَارَ إلاَّ حيث أغْفى في حمى ... جبلٍ مُنيف أو معَين جار(213/66)
أروي فؤادي من مباهج عالم ... هو مسرح الألباب والأبصار
وأبيع في الأسفار عمراً واحداً ... أَشْرِي به ألفاً من الأعمار
فخري أبو السعود(213/67)
رسالة الفن
رفائيل
الفنان أبداً
للدكتور أحمد موسى
- 2 -
أما في الغرفة الثانية (1512 - 1514) فقد صور مناظر دينية ومناظر قصصية، تناول في الأولى العلاقة بين الكنيسة والخالق، وتحرير الكنيسة الفاتيكانية من أعدائها بواسطة البابا يوليوس الثاني. وفي الثانية مثل طرد هيليودورس من معبد أورشليم بفارس هبط من السماء. ولعل من أجمل تصاويره (الفرسكو) تلك التي مثلت صد اتيلاس عن روما سنة 452 بقوة ليو الأول، وإدماج ذلك في محاربة الفرنسيين وطردهم من إيطاليا بعد مذبحة نوفارا سنة 1513. أما القطعة التي مثلت تحرير بتري من السجن بواسطة الملاك فهي أيضاً لا تقل روعة عن سابقاتها.
وتبين صور السقف أربعة مناظر للعهد القديم (بحالة سيئة الآن)، الأول يهوا وموسى، والثاني فداء إسحاق. والثالث ظهور يهوا لنوح، والرابع حلم يعقوب.
وفي الغرفة الثالثة (1514 - 1517) سجل عصر البابوين ليو الثالث والرابع.
أما القطعة التي مثلت مأساة احتراق بورجو بالحي الفايتكاني ومحاولة البابا ليو التاسع إخمادها، وسيره في التصوير على الخط الإغريقي الرائع الذي مثل حرق ترويا فإنها من أعظم ما أنتجه رفائيل.
وفي الغرفة الرابعة ترى من أبرز فيها المذبحة الهائلة بين قسطنطين الأكبر وماكنتيوس، والتي لم يتم تلوينها إلا بعد وفاة رفائيل بواسطة تلميذه رومانو
وله من الأعمال العظيمة غير ما ذكرنا زخرفة وتحلية بعض الأماكن والمسالك المقببة بالفاتيكان، وقد قام بهذه المهمة الفنية تلبية لطلب البابا ليو العاشر؛ فعمل بالدور الأرضي(213/68)
وبالدور الأعلى كثيراً من المناظر الدينية وبخاصة تلك التي تنتمي إلى العهد القديم، صور منها على السقف اثنتين وخمسين قطعة مساحة كل واحدة 13 4 أمتار كلها بالفرسكو، كما رسم كثيراً من النقوش والزخارف العربية وغيرها ووصل في ذلك إلى غاية الإتقان مع وضوح اتساع خياله وروعته. ولم يقم بالعمل جميعه بمفرده، كما كان الحال عند ميكيلانجلو، بل استعان بتلامذته في التنفيذ بعد وضعه التصميم بنفسه. ومن بين هؤلاء التلاميذ من هو جدير بالذكر حقاً أمثال رومانو، وبين، وبيرينودل باجا، وكالدارا
وله كرتونات مصورة بالماء (1515 - 1516)، جعلها لتغطية الأجزاء السفلى لحوائط الفاتيكان في أيام الأعياد الرسمية، هي أشبه بتلك التي تراها في القصور إلى منتصف القرن التاسع عشر وكلها تشمل مناظر دينية من أهمها عودة بولس، وتحرير بولس من سجنه، وبطرس يستلم مفاتيح السماء من يسوع، وشفاء الأعرج، وموت أنانياس، ومعاقبة كليماس بالعمى، وبولس وبرنابا في ليسترا، وبولس يعظ في أثنيا؛ والسبع الأخيرة من هذه القطع الكرتونية موجودة بمتحف ساوث كنسنجتين بلندن
وله قطع جمعها للنسيج وعرضت في الفاتيكان لأول مرة في 26 ديسمبر سنة 1519 بالكابيلا سكستينا لمناسبة (يوم استفان) وهذه كلها جمعت منذ حوالي مائة وعشرين سنة (1814) في مكان خاص بالفاتيكان. ولهذه القطع أمثلة موجودة بمتحف برلين ودرست منذ سنة 1723
وإذا كنا لم نذكر للآن سوى الأعمال التي كلفه البابوات القيام بها، فإنه قام بغيرها للأفراد أمثال أوجستينو شيجي وهو أحد رجال المال الذي طلب إليه تحلية كنيستين في روما ففي الأولى المسماة (القديسة ماريا ديللا باسا) صور رفائيل سنة 1514 الكاهنات الأربع في أروع ما يمكن إخراجه من جمال الخلقة وحسن التكوين والروعة الإنسانية. أما الثانية المسماة (القديسة ديلل بوبولو) فإنه علاوة على وضعه تصميم الصحن، وضع الرسوم التخطيطية التي رسمت بعدئذ على باطن القبة. وهذه الرسوم تمثل خلق السبعة الكواكب التي أخرجها الفنان الويسيو ديللا باسا بالفسيفساء سنة 1516.
وفي هذه السنة نفسها صور على حائط الردهة الصغرى بفيلا فارنيزينا صورة (انتصار جاليتيا) ووضع تصميم الرسوم التي أخرجها تلميذاه رامونو وبيني والتي مثلت مناظر(213/69)
عشق (آمور وبسيشه) لسقف الردهة الكبرى.
ومهما يكن من شيء فإن خيال هذا الفنان العظيم وقدرته على الخلق الرائع الذي يذهب بالمتأمل إلى ملكوت السمو ويحرك لسانه بالتسبيح بقدرة الله، كل هذا لم يتمثل على أشده إلا في تصوير العذراء التي أفنى روحه وتفاني بكليته في إخراج صورها على أقصى ما يمكن لعقل إنساني أن يتصوره من الجمال.
هذا بيان أساسه المنطق والمقياس الصادق. ولا أثر للمبالغة فيه ولا إلحاح رغبة في تجليته على صورة تستأثر بإعجاب القارئ، فقد يحوم مثل هذا الكلام حول فنان آخر، أما رفائيل فيكاد نطاق القول يضيق عن تناول حقيقته ووصفه.
وفي هذا المجال العظيم صور رفائيل. وأظهر نهاية مقدرته ونبوغه. وقد لجأ بعض المصورين إلى تصوير المادونا ودسّ ما صوره بين مخلفاته، ولكنا - خصوصاً في الوقت الحاضر - بعد تقدم علم التصوير الفوتوغرافي، لإثبات الصور الحقيقية من المقلدة لاسيما بعد إمكان الكشف عن طبقات اللون على سطح اللوحات واتجاه الفرشاة، لا نقع فيما وقع فيه بعض مؤرخي القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
وقد اجمع مؤرخو الفن على أنه لم يوجد ولن يوجد فنان بعد رفائيل يستطيع أن يخرج ماريا والطفل بهذه العظمة والقوة والجمال الذي أخرجهما به، أما حنان الأم ومحبتها لطفلها وكمال الانسجام الإنشائي في وضعهما فهذه صفات تلتصق بما صوره رفائيل.
أما الطهارة التي تجلت والعفة التي تمثلت في وجه العذراء. فهذه عسيرة على غيره من رجال الفن مهما كبر اسمهم.
أحمد موسى(213/70)
البريد الأدبي
تراثنا الفني في ظل الإشراف الأجنبي
من الحوادث المدهشة المؤلمة معا ما كشفته التحريات الأخيرة من ضياع عشرات آلاف من التحف الفنية النفيسة من المتحف المصري، ما بين تماثيل وصور وحلي فرعونية وغيرها، وقد اكتشفت هذه الفضيحة المؤسية على أثر حادث التمثال الفرعوني الذي اختفى من المتحف وظهر أخيراً في متحف بافالو بأمريكا، ثم رده المتحف الأمريكي بعد أن وقف على الحقيقة، وكان تصرفه مثلا للأمانة العلمية المؤثرة، وقد كنا نعتقد أن خسارة مصر الفنية تقف عند مجموعات التحف الفرعونية النفيسة التي تحتفظ بها متاحف العواصم الأوربية والأمريكية والتي تسربت من مصر خلال الخمسين عاماً الأخيرة ومعظمها بطرق غير مشروعة، على يد البعثات الأجنبية التي تستتر بصفاتها العلمية والأثرية؛ ولكن ظهر مع شديد الأسف أن البقية الباقية التي استطعنا أن نحتفظ بها من عبث أولئك العابثين، وأن نودعها في متحفنا القومي، لم تسلم أيضاً من الاختلاس والاعتداء، بل ظهر أن هذا الاختلاس يصل اليوم إلى آلاف مؤلفة من التحف التي أدمجت وقيدت في سجلات المتحف ولا وجود لها اليوم؛ ونحن لا نعتقد أن هذا الاختلاس المؤلم قد وقع في يوم أو في شهر أو أشهر بل وقع بالتوالي خلال أعوام طويلة ولم تفطن إليه السلطات ذات الشأن. ذلك أن تراثنا الفني كان مع الأسف خلال العصر الأخير تحت الإشراف الأجنبي، ومنذ أكثر من خمسين عاماً يتولى بعض العلماء الأجانب، وهم جميعاً فرنسيون إدارة المتحف المصري؛ وما حدث من تسرب تحفنا ونفائسنا الفنية وقع في عهد هذه الإدارة الأجنبية؛ وكان صوت المصري وصوت السلطات المصرية خافتاً في الماضي، فلم يرتفع كما يرتفع اليوم بالاحتجاج على هذه الفضائح المزرية؛ وكان إذا أتيح له الاحتجاج يقنع بالترضية اللفظية. أما اليوم فإن مصر لا تستطيع صبراً على هذا الاعتداء الشائن على تراثها الفني، ولابد من أن تقوم السلطات المصرية بكل ما تستطيع لتعقب الآثار الضائعة، ولابد لها قبل كل شيء أن تعتبر بهذا الدرس، وأن تعمل على رفع الإشراف الأجنبي نهائياً عن المتحف المصري، كما وقفت من قبل إلى رفعه عن دار الكتب المصرية بعد عهد طويل من الإشراف الأجنبي تسربت في ظله معظم التحف الخطية من القطر المصري إلى ألمانيا التي كان يستأثر(213/71)
علماؤها بإدارة دار الكتب المصرية
لسنا ننكر ما أفادته مصر في العصر الأخير من معاونة العلماء
الأجانب، ولكن التعاون العلمي الصحيح يجب أن ينزه عن أن يتخذ
أداة للاستيلاء على تراثنا الفني والعلمي بوسائل ظهر في أحيان كثيرة
أنها لا تتفق مع مبادئ الأخلاق الرفيعة، ولا تتفق بالأخص مع الثقة
الكريمة التي كانت مصر تمنحها فيما مضى للعلماء الأجانب
مستقبل المهن العقلية
تساءل كاتب في إحدى الصحف الفرنسية الكبرى عن مستقبل المهن العقلية وأبدى تخوفه من أن يصير التفكير والمهن العقلية إلى مصير سيئ؛ وإذ كان التفكير قوام الحضارات الرفيعة فإنه يخشى أن تصاب الحضارة البشرية في ركن من أعظم أركانها إذا لم تفطن الأمم المختلفة إلى ما أصاب التفكير والمهن العقلية من ضروب الركود والغبن؛ ويقول هذا الباحث إن الفنون والمهن العقلية قد تضاءلت آفاقها وميادينها في العصر الأخير وانحط معيارها المادي إلى أدنى الحدود، هذا في حين أن الحرف اليدوية والمادية قد ازدهرت وارتفع معيارها المادي؛ وقد كان الفرق منذ ثلاثين سنة شاسعاً بين المهن العقلية؛ والحرف اليدوية من حيث التقدير المادي؛ أما اليوم فقد تضاءل هذا الفرق بل ربما تفوقت الحرف اليدوية في بعض الأحيان على المهن العقلية؛ ولنضرب لذلك مثلا، ففي إدارة شركة من الشركات أو تحرير صحيفة من الصحف ترى الموظفين الذين يتولون أعمالاً ومهناً عقلية كالتحرير والإدارة، يتقاضون أجوراً لا تكاد تزيد على الأجور التي يتناولها بعض رؤساء العمل مثلا، وأحياناً يتفوق هؤلاء في أجورهم على المحررين ويتناول العامل الفني مثلا في مصنع من المصانع أجراً يفوق ما يتناوله الطبيب أو المحامي العادي من مهنته؛ هذا مع أن الحالة قبل الحرب الكبرى كانت تختلف عن هذه الحالة كل الاختلاف ويرجع ذلك إلى تنظيم الحركة الصناعية والعملية منذ الحرب الكبرى، وتنظيم النقابات والاعتصابات لرفع الأجور والمنح، وتحسين أحوال العمال بوجه عام. أما أصحاب المهن العقلية فلم يفكروا ولم تسمح لهم ظروفهم بخوض مثل هذا الكفاح. بيد أن من الخطر على الحضارة(213/72)
أن يترك أصحاب المهن العقلية دون عون، وأن يدفعوا بفعل الظروف الاقتصادية إلى مصاير سيئة تحملهم على التفكير في تحقيق العيش من طرق أخرى. ومن مصالح الأمم والحضارة أن تدعم الحركة الفكرية والمهن العقلية، وأن تيسر لأربابها سبيل العيش المريح، هذا وإلا فإنه يخشى أن يخمد النبوغ وينطفئ وتتحول الحضارة إلى ركام من الماديات المبتذلة.
مؤتمر فني للتربية:
يعقد بمدينة كوبنهاجن عاصمة الدانماركة بين أول أغسطس والعاشر منه مؤتمر للتربية على مبادئ مونتيسوري المشهورة برياسة الدكتورة ماريا منتيسوري صاحبة هذه الطريقة؛ وهذا هو المؤتمر السادس من نوعه، وسيشهده مندبون عن دول كثيرة وعن طائفة عديدة من معاهد التربية العالمية؛ وستلقي الدكتورة منتيسوري محاضرات في الموضوعات الآتية (1) لماذا يمكن أن تؤثر التربية في سلام العالم (2) ماذا يجب أن تزود به التربية لكي تعاون على تحقيق السلام (3) ماذا يجب أن تسلح التربية به لمقاومة أخطار العصر (4) ضرورة التفاهم العالمي لإعداد الإنسانية إعدادا خلقيا (5) التربية كوسيلة لرفع مستوى الإنسان والمجتمع. وسيلقي أعلام آخرون من رجال التربية مباحث أخرى، وتبحث أساليب منتيسوري للتربية بحثاً علمياً وفنياً، ويقام في نفس الوقت معرض دولي لمطبوعات هذه الطريقة وأشغال مدارسها.
وقد اشتهرت أساليب منتيسوري للتربية في العصر الأخير، وهي تنسب إلى الدكتورة منتيسوري التي كانت أول امرأة حصلت على درجة الطب من جامعة رومة؛ وتولت إدارة معهد الأطفال الشواذ في سنة 1898، وحصلت بطريقتها الخاصة على نتائج طيبة في رفع المستوى العقلي لهؤلاء الأطفال. وفي سنة 1907 طبقت الدكتورة منتيسوري طريقتها على الأطفال العاديين وأسفرت عن آثار حسنة وذاعت في عدة معاهد في رومه وميلانو وبعض عواصم القارة. وتقوم هذه الطريقة بالأخص على ما يأتي: (1) تدريب الحواس والمنطق (2) السيطرة على أطراف الجسم وحركاته (3) تعليم القراءة والكتابة والحساب
وتتبع الآن كثير من رياض الأطفال في أوربا وأمريكا طريقة منتيسوري
تأييد تصويب(213/73)
استدرك قارئ فاضل هو (ش) في عدد الرسالة الماضي على عبارة وردت في مقالي المنشور في الرسالة (عدد 210) تحت عنوان (من ذكريات الحملة الفرنسية) عن الملكة هورتنس بوهارنيه ابنة الإمبراطورة جوزفين من زوجها الأول الكونت دي بوهارنيه، إذ ورد به أنها كانت زوجاً للجنرال مورات؛ والواقع أن ذلك سهو يؤسف له؛ وقد كانت الملكة هورتنس في الحقيقة زوجاً لأخي نابليون، لويس بونابرت ملك هولنده كما ذكر (ش) في ملاحظته؛ أما زوج الجنرال مورات فقد كانت الأميرة ماري كارولين أخت نابيلون؛ وكانت حياة الملكة هورتنس من بعد سقوط الإمبراطور في سنة 1815 حتى وفاتها في سنة 1837 مؤسية مؤثرة؛ وتولى أصغر أولادها لويس نابليون عرش فرنسا فيما بعد باسم نابليون الثالث
هذا وإني لأشكر لحضرة القارئ غيرته واستدراكه
(م. ع. ع)
الملكة هورتنس:
في التصويب الذي نشر في عدد الرسالة الأخير وردت الجملة (فولدت من نابليون الخ) والصواب (فولدت منه) بالهاء والهاء تعود على لويس بونابرت أخي نابليون ووالد لويس نابليون الذي صار يعرف باسم نابليون الثالث
(ش)(213/74)
الكتب
قلب غانية وقصص أخرى
تأليف الأستاذ محمود تميور
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
للقصة اليوم في الأدب العالمي خطر كبير، ومكانة معتبرة، فهي في الأمة مظهر رقيها الأدبي، وتقدمها الفكري، وهي وسيلة للكاتب يضمنها ما يريد من إبداء فكرة ناضجة، أو شرح ظاهرة اجتماعية، أو تحليل شخصية غريبة، أو توضيح عاطفة نبيلة، حتى قضايا التاريخ، ومسائل العلم، ومشاكل السياسة، كلها قد أصبحت تؤدي بالقصص، وتروي بالحكاية. ولعل من المعلوم أن القصة بمعناها الفني الدقيق لون جديد في الأدب العربي كان في طليعة المضطلعين بأعبائه المرحوم محمد تيمور الكاتب المسرحي مؤلف (الهاوية) و (العصفور في القفص) و (عبد الستار أفندي) وغيرها من القصص التي نسج بردها بأسلوب نازل، وأخرجها في لغة عامية مهلهلة، بحجة أنها أقرب إلى عقل الشعب، وأنفذ إلى قلبه، فكان في صنيعه هذا إرضاء للفن بالموضوع والفكرة وخذلان في الأداء واللغة. فلما استأثرت به المنية - عليه رضوان الله - قام من بعده سيد آخر هو الأستاذ محمود تيمور، فحاول أن يكون نبوغه جماع ما كان لأخيه من الروح الفنية، وما كان في نفس والده من النعرة العربية، فصار يكتب القصة بأسلوب مبين ابتعد فيه عن الجفوة والخشونة، وارتفع به عن السقط والابتذال، وكأني به قد ألفى نفسه وحيداً في الميدان، واستشعر عظم الأمانة الملقاة على عاتقه، فأخذ يسد الفراغ بكلتا يديه، وراح يعمل في نشاط وتوثب، مرهفاً العقل والحس، حتى أخرج للناس وللفن جملة طيبة من القصص الممتع، نشر جلها في الصحف وطبع منها نحو ثماني مجموعات آخرها هذه المجموعة التي بين أيدينا (قلب غانية وقصص أخرى) وهي موضع النظر، ومدار الحديث. . .
ثماني قصص أو قل ثمان قطع فنية هي التي تشتمل عليها هذه المجموعة مقدمة بكلمة المؤلف عن حافظ القصصي في يوم ذكراه. وقصص الكتاب تختلف طولا وقصراً، فأطولها (قلب غانية) التي وقعت في صدر الكتاب، وأقصرها قصة (أم) التي جاءت في ختامه، ثم(213/75)
هي أيضاً تختلف في جوها وبيئتها، وتتباين بأبطالها وشخصياتها، ففي قصة (حنين) يدلف بك تيمور إلى صميم الريف العظيم، فيستطيع أن ينقلك إلى (شمسه المحرقة وظلاله الوارفة، وهوائه الساخن، ونسميه اللطيف، وغدرانه الوديعة، وسواقيه الناعسة) حتى ليسمعك (خوار بهائمه، وأغاني فلاحيه) ويريك (البهائم متراصة أمام معالفها ورؤوسها محنية على العلف تأكل في شره فلا تسمع منها غير جرش وقضم وأنفاس ترددها بين الحين والحين)، وفي (قلب غانية) يقودك إلى (حي غير مشهور) إذ وراء جدرانه حب قائم، وغرام يضطرم، فيطلعك على طراز من الناس تجري بهم الحياة وهم بطئان، وتتغير الدنيا في تقاليدها وألوانها وهم لا يريمون مكانهم، إذ الحياة (لا تستحق عندهم أكثر من حشو البطون، والنوم ملء العيون وما لهم من الفراغ بعد ذلك فهم يقضونه (في اطمئنان وتبلد) بين النارجيلة والثرثرة حول سلوك الناس؛ وفي قصة (سراب) و (حورية البحر) و (السجينة) يأخذ تيمور بيدك إلى منابت الأرستقراطية، فإذا أنت في أسر من أفرادها الباشا والبك ومن أهون متاعها السيارة والمسرة، ولها الأمر والنهي، وفيها الخدم والحشم، والظئر والمربية، (حياة كلها رخاء وبهجة تسير وفق الهوى) وكل شيء فيها ميسور (المال والمرأة والأخوان) أما في قصة (قبلة) فتيمور يهبط بك إلى طبقة نازلة فإذا أنت في (حارة قديمة ضيقة عابثة خالية من المصابيح لا تكاد الشمس تغرب عنها حتى تستولي عليها وحشة كئيبة) وهناك ترى (الدخاخني والمكوجي وبائع الفول) وتتعرف على السايس والعربجي والزبال إلى آخر ما هناك من الأشخاص والمعالم.
فتيمور من غير شك قصص شعبي لا يختص منه بطبقة من الطبقات، ولا يقصر أدبه على طائفة دون طائفة، ولكنه يضرب في كل ناحية ويجري في كل حلبة، وإن من المدهش حقا أن نرى ذلك الأديب النابه موفقاً في كل قصصه، صادقا في كل ما يصف، فكأنه نشأ في كل هذه الطبقات وخالطها ولمس أحاسيس أهلها واستشف ما يجول في خواطرهم وما يدور بنفوسهم فهو من الجميع وللجميع، يستوعب شؤونهم ويتحفز لها بقوة واحدة هي قوة الملكة المصورة، والنظرة الشاملة، فكأنه - وهو يصف - مصور لا كاتب، وكأن ما يصفه مبسوط أمامه فهو ينقله على وضعه الطبيعي، ومن ثم كان أدب تيمور هو الصورة الصادقة للحياة المصرية في أدق نواحيها، فهو للسائح في بلادنا دليل مرشد، وهو للمؤرخ القادم(213/76)
مصدر ناطق، وهو للاجتماعي الباحث مادة نافعة
وهناك ظاهرة في أدب تيمور يعيبها عليه بعض النقاد، وهي خروجه على حدود الحشمة والوقار والأخذ بما يسمونه الأدب المكشوف، وإنك لتجد شيئاً من هذا في قصة السجينة، وقلب غانية، وسراب؛ وتيمور يدافع عن نفسه بأن (الأدب ليس له عنده غير اسم واحد هو الأدب بمعناه الواسع، وليس له إلا هدف واحد هو الفن). وأنا لا أريد أن أفيض القول في الأدب المكشوف والأدب المستور فإن القول في ذلك يطول، ولكني أريد أن أقول: إن من الخطل أن نتخذ الدين والأخلاق ميزاناً من موازين النقد فنطمس شعر النواسي مثلا لما فيه من العهر والفحش، وإنما الواجب أن تصور الحياة بالأدب، وأن نقدر الفن للفن، وأن نفرق بين الأديب والواعظ، والظاهر أن القدماء كانوا أسمح منا نفوساً في ذلك، فقد عاب بعض النقاد شعر ابن حجاج بما تضمنه من فحش المعاني، فقال ابن سنان الخفاجي يرد عليه: (وليس الأمر عندي على ذلك لأن صناعة التأليف في المعنى الفاحش مثل الصناعة في المعنى الجميل، ويطلب في كل واحد منها صحة الغرض وسلامة الألفاظ على حد واحد. . .) فإن كان في قصص تيمور بعض النواحي المكشوفة فإن في الناس من يقبلها كما أن في الناس من ينكرها، وهي على كل حال ليست بعيب في يحصى على الرجل. . .
وأما بعد فهل استطاع تيمور أن ينجو من سنان هذا القلم؟ لقد حاولت أن أتلمس ما عليه فلم أقع إلا على هفوات طفيفة كأن يقول: (وكان كساب أفندي يرتدي زعبوطا!!) وأنا ما رأيت أفندياً يرتدي زعبوطا إلا في قصة تيمور
ثم هناك هفوات في اللغة والنحو قد يكون من السهل أن يتداركها الأستاذ في طبعة ثانية، وأنا لست ممن يتساهلون في الخطأ اللغوي والنحوي، لأن الكاتب الذي لا يراعي أشراط الكتابة هو فنان ناقص!! وإني لأشهد أن تيموراً قد ارتقى أسلوبه عن ذي قبل، وهو كل يوم في تقدم مطرد، وإني لأرجو له تقدماً أوفى وأتم.
محمد فهمي عبد اللطيف(213/77)
العدد 214 - بتاريخ: 09 - 08 - 1937(/)
مصطفى لطفي المنفلوطي
بمناسبة ذكراه الثالثة عشرة
- 2 -
كان مولد المنفلوطي كمولد الرافعي في بيت كريم بالدين جليل بالفقه توارث أهله قضاء الشريعة ونقابة الصوفية قرابة مائتي سنة؛ ولكنه كان خِلْفةً لنبعتين مختلفتين: فأبوه عربي صريح النسب إلى عترة الحسين، وأمه تركية شابكة القرابة إلى أسرة الجوربه جي؛ ونهج المنفلوطي سبيل آبائه في الثقافة، فحفظ القرآن في المكتب، وتلقى العلم في الأزهر؛ لا أن للأدباء من أبناء الفقهاء نَبوةً في بعض الحالات على إرادة الوراثة والنشأة؛ فهم يصدفون في منتصف الطريق عن دروس الفقه والأصول والعقائد، إما لأن أذواقهم الأدبية الموهوبة لا تسيغ أساليب كتبها المعقدة، وإما لأن طباعهم المدنية الحرة لا تطيق الحياة الدينية المقيدة. فكان السيد مصطفى على الكره من ورع قلبه ورعاية أبيه لا يُلقي باله كثيراً لغير علوم اللسان وفنون الأدب؛ فهو يحفظ الأشعار، ويتصيد الشوارد، ويصوغ القريض، وينشئ الرسائل، وتسير له شهرة في الأزهريين بذكاء القريحة وروعة الأسلوب فيقربه الأستاذ الإمام ويرسم له الطريقة المثلى إلى الغاية من الأدب والحياة. ثم يستفيد المنفلوطي من قربه إلى الإمام صلته بسعد باشا، ومن زلفاه لدى هذين العظيمين نُفوقه لدى (المؤيد)؛ والإمام المجتهد محمد عبده، والسياسي الخطيب سعد باشا، والصحفي الكاتب علي يوسف، كانوا أقوى العناصر في تكوين المنفلوطي الأديب بعد استعداد فطرته وارشاد والده؛ وأولئك الثلاثة كانوا على ما بينهم من التفاوت في نواحي النبوغ أفهمَ رجال العصر الحديث لحقيقة الأدب وأشدهم حدبا على بؤس أهله.
كان المنفلوطي لا يعمل جادّاً لشهادة الأزهر، وإنما كان يعتمد في نيلها على جاه الإمام، كما كان يعتمد من هم على شاكلته من أبناء العلماء على وساطة والديهم؛ والإمام المفتي مفسر وحي الله، وشارح فن عبد القاهر، ومعيد الأدب إلى الأزهر، كان يقيس كفاية الطالب بمقياس سيبويه لا بمقياس أبي حنيفة. فلما قبضه الله إلى رحمته جزع المنفلوطي فيه على سنده وأمله، وارتد مقطوع الرجاء إلى بلده. ثم نعش الله عاثر أمله بعد فترة من الزمن فهب يبتغي في (المؤيد) الوسيلة إلى النباهة والنجح، وأوى من الوزير سعد باشا حامي النبوغ(214/1)
إلى ركن منيع، فخلق له منصب التحرير في وزارة المعارف فضمن له به رغد العيش ووفرة الإنتاج حتى اختار الله له ما عنده
كان المنفلوطي أديباً موهوباً حظ الطبع في أدبه أكثر من حظ الصنعة؛ لأن الصنعة لا تخلق أدباً مبتكراً ولا أديباً ممتازاً ولا طريقة مستقلة؛ والنثر الفني كان على عهده لوناً حائلاً من أدب القاضي الفاضل، أو أثراً ماثلاً لفن ابن خلدون؛ يتمثل الأول قوياً في طبقة المويلحي وحفني ناصف، ويظهر الثاني ضعيفاً في طبقة قاسم أمين ولطفي السيد؛ ولا يستطيع ناقد أن يقول إن أسلوبه كان مضروباً على أحد القالبين؛ إنما كان أسلوب المنفلوطي في عصره كأسلوب ابن خلدون في عصره بديعاً أنشأه الطبع القوي على غير مثال؛ والفرق أن بلاغة (النظرات) مرجعها إلى القريحة، وبلاغة (المقدمة) مرجعها إلى العبقرية.
أَعلم أن المنفلوطي تأثر في القديم بابن المقفع وابن العميد، وفي الحديث بجبران ونعيمة، ولكن هذا التأثر دخل في فنه دخول الإلهام والإيحاء، لا دخول التقليد والاحتذاء؛ فله من الأولين إشراق الديباجة وقوة النسج، وله من الآخرين جدة الموضوع وطرافة الفكرة، ولكنك لا تتذكر وأنت تقرأه أحداً من أولئك جميعاً.
عالج المنفلوطي الأقصوصة أول الناس وبلغ في إجادتها شأواً لا ينتظر من نشأة كنشأته في جيل كجيله. وأذكر أننا كنا نقرأ (غرفة الأحزان) و (اليتيم) وأمثالهما فنطرب للقصة على سذاجتها أكثر مما نطرب للأسلوب على روعته. وسر الذيوع في أدب المنفلوطي ظهوره على فترة من الأدب اللباب، ومفاجأته الناس بهذا القصص الرائع الذي يصف الألم ويمثل العيوب، في أسلوب طلى وسياق مطرد ولفظ مختار. أما صفة الخلود فيه فمأتيةٌ من جهتين: ضعف الأداة وضيق الثقافة. فأما ضعف الأداة فلأن المنفلوطي لم يكن عالماً بلغته ولا بصيراً بأدبها، لذلك تجد في تعبيره الخطأ والفضول ووضع اللفظ في غير موضعه. وأما ضيق الثقافة فلأنه لم يتوفر على تحصيل علوم الشرق، ولم يتصل اتصالاً مباشراً بعلوم الغرب؛ لذلك تلمح في تفكيره السطحية والسذاجة والإحالة. فإذا قدر الله لأدب المنفلوطي أن يفقد سحره وخطره في أطوار المستقبل، فإن تاريخ الأدب الحديث سيقصر عليه فصلاً من فصوله يجعله في النثر بمنزلة البارودي في الشعر. وكفى بذلك عرفان(214/2)
فضل وخلود ذكر. أما مسألة الأدب الباكي والأدب الضاحك، أو الأدب الضعيف والأدب القوي فمغالطة مريضة من النقد سنعرض لها في فرصة أخرى.
احمد حَسن الزياتْ(214/3)
أدب التمرد
للأستاذ عباس محمود العقاد
في ختام مقالنا عن أدب الموافقة قلنا (إن أناساً يتمردون ولا يجيئون بخير مما هو منظور من الأدباء الموافقين المستسلمين، لأن التمرد المصطنع إن هو إلا موافقة مستورة ومجاراة معكوسة: فيه كل ما يؤخذ على التقليد من نقص، وكل ما ينعى عليه من وخامة، وذلك ما نعود إلى تفصيله في مقال تال)
فليس كل التمرد إذن خيراً من كل الموافقة؛ وليس كل التمرد ابتكاراً وخلقاً واستقلالاً بالرأي والفطرة. فكيف على هذا نميز بين التمرد النافع المحمود والتمرد الذي هو ضرب من الموافقة المعكوسة؟
والمحك الذي لا يخيب ولا يخطئ في التمييز بين كل أدب صحيح وكل أدب سقيم هو هذا: هو أن الأدب الصحيح لن يكون آلياً يجري على نمط الأشياء التي تصنعها الآلات والتي تعرف سلفاً كما يعرف كل مصنوع في قالب مصبوب.
والأدب الذي يوافق ولا يخالف (آلي) محض، لأن صاحبه ينزل عن مرتبة الإنسان إلى مرتبة الآلة التي تحذو حذو ما سبقها ولا تضيف إليه أو تمسه بتحسين وتنقيح.
وكذلك الأدب الذي يتمرد على كل شيء ولا يميز بين ما هو أهل للموافقة وما هو أهل للنسخ والمناقضة إنما يصنع كما تصنع الآلة ويغنيك عن صاحبه كل الغنى، لأنك تعرف رأيه قبل أن تسمعه، وتدرك أسلوبه قبل أن تراه.
وغاية ما بين هذا وذاك من فارق أن الموافق يؤتى له بشيء فيراه كما يراه السابقون ولا يحب أن يراه على خلاف ما نحلوه من لون ورسموه من شكل ونهجوه من طريق: يقال له هذا أبيض، فيقول نعم هذا أبيض؛ ويقال له هذا جميل، فيقول نعم هذا جميل.
أما المتمرد الكاذب أو المتمرد المصطنع فأنت تعلم ما يقول عن الأبيض قبل أن يلمحه بعينه، وما يقول عن الجميل قبل أن يتأمله بفكره ويروزه بحسه وبصره: فالأبيض عنده أسود، والجميل عنده قبيح، والنافع عنده ضار، والضار عنده نافع على غير قياس وفي غير تمييز وتمحيص. فإذا به ينزل عن مرتبة الإنسان وينقلب آلة معروفة الوزن والحساب على العكس والمناقضة؛ ومثل هذا لا يخلق جديداً ولا يحمل في عالم الأدب والفن أمانة،(214/4)
ولا يبالي بشأنه إلا كما يبالي بشأن المريض لاستطلاع حالة من أحوال سقم النفوس والأذواق.
إن (الآلية) هي الوصف الوحيد الذي ما جاز قط ولن يجوز أبداً في نتاج أدب صحيح أو فن صحيح.
وإنما يجوز الخلاف فيما عدا ذلك من الأوصاف. أما وصف الآلية فالاتفاق على إنكاره بداهة من البداهات، إذ كان معدن الفن كله حرية السليقة والقدرة على الإبداع والإتيان بالجديد حتى في عرض المعنى القديم.
ونحن حين نقول الحرية لا نقصر الغرض منها على حرية الفنان في مواجهة العسف والإملاء والإيحاء من غيره، ولا نقصد منها أن الفنان يأبى ما يرسم له ويساق إليه على حكم القسر والاضطرار؛ ولكننا نقصد بها مقصداً قد يلوح في بادئ الرأي غريباً نابياً وهو هو المألوف المشهود فيما يمارسه وفيما قد مارسه كل صاحب فن وكل صاحب رسالة أدبية: نقصد بها (حرية الفن) حتى بين الفنان ونفسه، فليس له أن يعتسف ولا أن يدعو ملكته إلى غير ما ترضاه وتنساق أليه بمحض (الحرية) وعفو السليقة، وليس له هو أن يخط للحرية الفنية حدودها أو يشق لها طريقها، لأنها (حرية مطلقة) لا فرق عندها بين طغيان صاحبها وطغيان عدوها، ولا محاباة عندها في استجابة أمر تراد عليه.
ومن الأدباء الواقعيون والخياليون، ومنهم أنصار الماضي وأنصار المستقبل، ومنهم الماديون والروحيون، ومنهم المتفائلون والمتشائمون، إلا أنهم جميعاً في هذه الخصلة سواء؛ وهي الخصلة التي يتمردون بها على الآلية ويرتفعون بالإنسانية إلى ذروتها العليا؛ وما كانت للإنسانية علامة ترفعت بها عن درك الحيوان إلا التكليف؛ وما كان التكليف إلا الدرجة الأولى من سلم الحرية التي تأخذ بشيء وتدع ما عداه، والتي تختار بين الحميد والذميم والمطلوب والممنوع. أما الدرجات فوق ذلك فهي (الحرية الفنية) التي تنبعث من باطن الإنسان بغير آمر ولا زاجر، ولا تتوقف على التكليف والتخيير.
نعم ليس الواقعيون أو الماديون عنواناً آخر للموافقين أو المقلدين. فمن يصف الواقع ليس باللازم اللازب أن يخضع له ويرضاه، ومن ينكر المثل العليا ليس باللازم اللازب أن ينكر الحركة ويخلد إلى الجمود.(214/5)
لقد كان المتنبي (واقعياً) إلى جانب العمل، وكان المعري واقعيا إلى جانب الزهد والقعود، وكلاهما مع هذا مثل بارز في التمرد والثورة على (الآلية) والتقليد؛ فأسلوب المتنبي جديد، وخبرته للناس جديدة، وثورته على الواقع معناها أنه من المتمردين وليس من الموافقين.
أما المعري فهو على تشاؤمه وزهده قد دفع الحاضر المحيط به دفعة الجبار الذي يهدم بيديه وهو قائم في مكانه. وقل فيه ما شئت إلا أنه آلة وليس بإنسان في الصميم من الحرية الإنسانية؛ وقل في تمرده ما شئت إلا أنه تمرد آلي وليس بتمرد (حر) يمتاز به المعري بين سائر المتمردين؛ وإلا فمن هو المتمرد الذي يشبه المعري في تناول الأمور ونقد العيوب وصياغة النقد في منظومه ومنثوره؟؟ تلك علامة الأدب الصحيح أو الفن الصادق: علامته أن عشرين شاعراً ينكرون أموراً بعينها ثم يختلفون في نمط الإنكار اختلافا يحمل عنوان كل شاعر منهم ولا يخالط غيره من العناوين
من الواجب أن نثور على أدب الموافقة
وأوجب منه أن نثور على أدب (الثورة) الكاذبة، أدب التمرد البخاري أو الكهربائي الذي يحطم ذات اليمين وذات الشمال كما تحطم القاطرة بغير سائق.
وفي أوربا اليوم غاشية من هذا التمرد الزري يوشك أن تسري إلى أمم الشرق، لأنها أشبه الأمور معاً بكسل الكسالى وجموح الجامحين. فأما الكسلان فالتمرد الآلي مغنية عن التحصيل، ومغنية عن إجهاد الذهن ورياضة الذوق على التفريق والتمييز؛ وأما الجامح الأهوج فالتمرد الآلي في يديه كالسيف الذي يشهره المجنون وهو مغمض العينين أو مفتوحهما على حد سواء
وأظهر ما كان ظهور التمرد الآلي في عالم التصوير، لأنه الفن الذي يفاجئ العيون ولا يخفي الشذوذ فيه حتى يتسرب إلى الأفكار والأذواق. فالمصورون المجددون اليوم في أوربا اللاتينية يصورون لك ما شاءوا إلا ما تراه وتحسه وتتخيله وتفقه مغزاه. ومن المحقق أنك تبحث عن وجه الرجل المرسوم فلا تراه، وعن مشاهد الطبيعة المرسومة فلا تراها، وعن الرمز المتوقع أو الشبه المنتظر فلا تلمح أثراً لهذا ولا لذاك. . . وكل شكل جائز أن تلقاه في الصورة إلا الشكل الذي يجب أن تلقاه!! ولا تدري بعدها ما الذي على الإنسان أن يتعلمه ليسلك في عداد المصورين؟ هل يتعلم الرسم؟ هل يتعلم مزج الألوان؟(214/6)
هل يتعلم التشريح؟ هل يتعلم التعبير؟ هل يتعلم مشابهة الملامح؟؟ كلا! لا ضرورة لذلك في صناعة التصوير إلى مذهب هؤلاء المجددين. فما من صورة حديثة فيها سمة من تلك السمات. ولعل تعلم الحلاقة أو تعلم الطبخ أو تعلم النسيج أقرب إلى إخراج صورة الإنسان على هذا المثال من تعلم الرسم والتشريح والألوان.
وإنما تبدو لنا حقيقة هذا التمرد إذا نظرنا نظرة واحدة إلى وجوه دعاته والمتظاهرين بفهمه واستحسانه. فجميعهم أمساخ مشوهون، أو ضعفاء مهملون، لا يقعون في موقع من الأنظار ولا الخواطر. ودأب هذه الزمرة من الناس أن تنكأ الأذواق والضمائر لتبلغ ممن يعافونها ويعرضون عنها مبلغاً من الانتباه والمبالاة، وتلك سريرة خفية في جماعة الخلعاء حيث كانوا وحيث تهيأ لهم الظهور بالتفحش في الأخلاق، أو التفحش في الأذواق، ومن كان منهم سويَّ الخلق معتدل التركيب في ظاهر الأمر فآفته لا محالة نقمة مطوية تلحقه بزمرة الأمساخ والمشوهين، ولولا ذلك لما جنح إلى إيذاء الشعور واللجاجة في إيذائه حتى يقال من حوله إنه ليس بحقير وإنه لا يترك بغير انتباه.
ذلك نموذج من وباء (التمرد الآلي) في الفنون الأوربية الحديثة، وهو تمرد أدنى إلى الغثاثة والعقم من كل جمود وكل موافقة.
عباس محمود العقاد(214/7)
حلم بالمدرسة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
رأيت في المنام أني رددت تلميذاً. وقلما أذكر ما أراه في أحلامي لأني أنام كالقتيل من فرط الإعياء والنصب ثم لأن ذاكرتي خوانة. وأحسب أن من فضل الله علي أنه أعفاني من الشغلان بالأحلام وتأويلها. فما ينقصني من دواعي الاضطراب إلا هذا. وقد كنت في حياة أمي رحمها الله أصبح فأدخل عليها وأجلس إلى جانبها على حشيّة مطروحة فوق السجادة وأمامها الموقد وعليه وتحته أدوات القهوة كلها فتصب لي شيئاً في الفنجانة وتناولنيها فأسألها: (نمت نوماً مريحاً؟) فتقول: (لله الحمد) فأسألها مرة أخرى (أحلام لطيفة إن شاء الله؟) فتقص علي ما رأت وأنا مصغ وبي كالذهول من شدة استغرابي لدقة الوصف وإحاطته بالألوان والأصوات والاحساسات وما يدور في النفس من معان، وأراني أسأل نفسي وأنا أنصت: (أتراها تتخيل؟) ولكني أعرفها صادقة تتقي الله وتخشاه فلا يسعني إلا أن أتعجب لهذه القدرة التي حرمت مثلها.
وأذكر أنه لم يسؤني أني رجعت تلميذاً أجلس في الصف وأصغي إلى المعلم وأجعل بالي إليه. وقلت لنفسي وأنا ماض إلى المدرسة: إن الحياة مدرسة لا تنتهي. والمرء لا يكف عن التعلم لحظة واحدة إلا حين تنقطع أنفاسه ويخرج من الدنيا. وصحيح أن أكثر ما يتعلمه الإنسان في مدرسة الحياة يدفن معه فلا ينتفع به أحد - لا هو ولا سواه - ولو كان الذي أفاده في حياته يبقى بعده ويتخلف في الدنيا دونه لما كان المرء خليقاً أن يشعر بعبث التجارب وما استطاع أن يحصل في فسحة العمر طالت أم قصرت؛ إذ ما خير أن أتعلم وأن أحصل وأن أستخلص الحكمة والعبرة مما أجرب وأعاني إذا كان كل ذلك يطوي معي بل لا يعود له وجود؟ ولكن ما يبدو من قلة الجدوى في النهاية لا يمنع أننا نظل نتعلم ما دمنا أحياء. وإذا كان هذا هكذا فالأولى أن يكون المرء تلميذاً جهرة وصراحة فلا يذهب يدعي أنه فرغ من التعلم وحصل كل ما ينبغي له تحصيله. وهذا الذي أصنعه الآن من استئنافي عهد التلمذة هو الذي يقضي به الصدق - صدق النفس على الأقل.
ولا أذكر ما الذي ردني إلى المدرسة وكل ما أعرفه أني رأيتني أقصد إليها وأني كنت فرحاً بذلك، وكان معي شيء أحمله ولم ألتفت إليه إلا بعد أن صرت بين التلاميذ الآخرين(214/8)
فقد وجدت (الفصل) غاصاً بهم، ولكني لا أذكر منهم إلا وجه الأستاذ محمود عزمي فقد كان يجلس إلى أقصى اليمين، وكان مكاني الذي قصدت إليه في أقصى الجنوب، وكانت وراءه نافذة مغلقة فوضعت ما أحمل على حافتها، وعرفت في هذه اللحظة فقط أن الذي أحمله هو قطع شتى من الحلوى والفطائر والسندوتش. وتذكرت وأنا أضع ذلك على حافة النافذة المحكمة العسكرية التي شهدت جلساتها أيام كنت أعمل في جريدة الأخبار. وكانت المحاكمة طويلة وكنت أوافي الجريدة بأنبائها مفصلة، وكانت الجلسات تعقد في الصباح وفي المساء أيضاً كل يوم. وكنت أتعب وأجوع وأظمأ، فكان المرحوم أمين بك الرافعي يبعث إليّ مع الخادم الذي يجيء ليأخذ مني الأوراق التي كتبتها بالسندوتش وما إليه و (بترموص) فيه عصير الليمون فكنت آكل وأشرب وأفرق
وكان الأستاذ الذي وجدته في (الفصل) شاباً وكنت أحس أني أعرفه. ولم أستغرب أن يكون شاباً، وحدثت نفسي إن هذا خير من أساتذتي القدماء الذين كانوا جميعاً من الشيوخ، ولا أعني الشيوخ ذوي العمائم بل من الشيوخ في السن، ولا استثني منهم إلا واحداً هو الأستاذ الشيخ احمد الإسكندري، أراني لا أزال أضن به أن أسلكه مع سواه ممن علموني في صغري. وقلت لنفسي وأنا واقف في مكاني - فما أذكر أني قعدت - عسى أن يسير بنا هذا الأستاذ الشاب في نهج مستقيم واتجاه سديد فقد أضلنا تعليمنا القديم وحيرنا وتركنا كالتائهين في الصحراء، وما كان لنا من أساتذتنا السابقين مرشد أو معين؛ وأحسبهم ما كانوا يعرفون إلا ما يعلموننا، فلهم العذر إذا كانوا قد عجزوا عن هدايتنا وإرشادنا والأخذ بأيدينا.
وكان الأستاذ يحمل خيزرانة - فما استطعت حتى في الحلم أن أتخلص من صور المدرسة القديمة، وكان أبرز ما فيها العصا - وابتسمت وأنا أنظر إلى الخيزرانة في يد المعلم ونظرت إلى الأستاذ عزمي فأدرك ما أريد وهز رأسه وابتسم ابتسامته المحببة وقال: (أيوه يا سيدي. . . لا يزال القديم على قدمه مع الأسف).
وقال الأستاذ شيئاً فهمت منه أنه يريد أن يلقي أحدنا كلمة استهلال - أي أن يفتتح الدرس، فأعربت عن استعدادي لإلقاء الكلمة المطلوبة، فقال الأستاذ عزمي: (من أول يوم يا مازني؟) فابتسمت له راضياً وتنحنحت استعداداً للكلام، وأذن لي الأستاذ فقلت كلاما لا أذكر منه مع الأسف ولا حرفاً واحداً، ولكني أذكر أني كنت وأنا أتكلم أحدث نفسي بأن(214/9)
الأثرة كانت تفسد على التلاميذ حياة المدرسة المشتركة فكان أحدنا إذا اشترى شيئاً من الحلوى أو (المخلل) - فقد كنا نشتريه قبيل الغداء ونحمله معنا إلى موائد الطعام - أقول إن أحدنا كان إذا اشترى شيئاً يضن به على إخوانه ولا يسمح لهم بأن يشاركوه فيه، وكان ربما ذهب إلى ركن خفي وأخرج من جيبه بعض ما فيه وراح (يبلع) قبل أن يفاجئه أحد ويطلب منه قطعة. ولكنا كبرنا الآن وعرفنا أن الأثرة عيب وأن لذة المشاركة أحلى وأطيب. وإن جديراً بي في مستهل حياتي المدرسية الجديدة أن أستن سنة الإيثار أو على الأقل المشاركة، وأن أقلب جو المدرسة جو تعاون ومودة.
كان هذا يدور في نفسي وأنا ألقي كلمتي، فامتدت يدي إلى النافذة واستراحت أناملي عليها إلى أن أستطيع أن أهتدي وأنا أتكلم إلى مناسبة تسمح بأن أوزع الحلوى والسندوتش على الزملاء، ولكن المناسبة لم تعرض مع الأسف لسبب خارج عن إرادتي فقد استيقظت فانتسخ الحلم قبل أن يتم. وكان الذي أيقظني صوت دق عنيف على باب العمارة وصياح عال: (افتح يا محمود. . . أنت ميت؟. . .)
فأخرجت الساعة من تحت الوسادة ونظرت إليها فإذا هي الثالثة صباحاً، فقلت: والله إن محموداً لمعذور! وهل كان عليه أن يظل واقفاً بالباب ينتظر مقدم صاحبنا إلى الفجر؟ وفتح الباب ودخل الرجل - فقد كان رجلا كما لا أحتاج أن أقول - يزمجر ويبرطم وبدأ الفصل الثاني من رواية إزعاج خلق الله في سكون الليل فقد شرع يدق باب شقته ويصيح وينادي، وبقي على هذا الحال ربع ساعة لا تنقص دقيقة، وكان الذي يثير ثائرته ويهيجه إلى ما به أن من في بيته - لا أدري من - لا يريدون أن يفتحوا له الباب، وكانوا يقولون له: (اذهب فنم حيث كنت) فيرج الباب ويهزه ويهدد بكسره ويدعو البواب المسكين أن يساعده على تحطيمه كأنما يمكن أن يعينه البواب على فعل كهذا. . . وأخيراً فتح الباب ووسعني أن أضحك قليلا وأن أستأنف النوم - لا الأحلام مع الأسف. . . وتذكرت حكاية الرجل الذي رأي في منامه أن واحداً يعرض عليه تسعة وتسعين جنيهاً وهو يأبى إلا أن تكون مائة؛ واشتد الحوار واللجاج بينهما فاستيقظ الرجل فنظر في يديه فألفاهما خاليتين فارغتين كفؤاد أم موسى، فندم وأغمض عينيه ومد كفه وقال (طيب رضينا. . . هات بقى)
كذلك أنا والله. . . كنت أود أن أعود إلى حلمي لأرى ما يكون مني ومن إخواني. وكان(214/10)
الذي يعنيني على الخصوص أن أعرف كيف يكون سلوكنا في المدرسة وهل نعود إلى (الشقاوة) القديمة التي اشتهرنا بها؟. وهل (نحوي) على المدرسة كما كنا نفعل في صبانا؟. وهل يمكن مثلا أن ننثر الحبر الأزرق على ثيابه البيضاء حين يمر بنا؟. ونضع سن الريشة بين (الدرج) وغطائه ونذهب نخرج منها أصواتاً قد لا تكون موسيقية ولكنها كافية لإزعاج المعلم وبلبلة خواطره وتحييره الخ الخ
والأحلام - على ما يقال - تؤول بضدها، فإذا كان هذا صحيحاً فهل معنى هذا أني سأرتد معلماً؟. . أعوذ بالله. . ولا قدر الله. . لقد نجوت من هذا فلن يردني إليه شيء كائناً ما كان. وذكرت لهذه المناسبة حادثاً مضحكا - أو لا أدري ماذا يفعل - ذلك أني كنت محرراً في جريدة الأخبار. وكانت الأحكام العسكرية مرفوعة في ذلك الوقت ولكن الرقابة التحفظية على الصحف كانت قد ألغيت، وكان صديق لي يبعث إليّ بمقالات عن وزارة المعارف ويضع في ذيلها اسماً مستعاراً مثل (مطلع) أو نحو ذلك فقد نسيت. وكانت هذه المقالات تقض مضجع الوزير يومئذٍ. وكنت أخشى أن نفاجأ بهجوم على الجريدة فتؤخذ الأصول ويعرف الكاتب فكنت أنقلها بخطي وأحرق الأصل؛ ويظهر أن أحدهم اتصل بعمال المطبعة الذين لا يعرفون أن في الأمر سراً لأنهم يرون المقالات بخطي. فاقتنعت الوزارة أني أنا الكاتب ولم تستغرب ذلك لأني كنت من موظفيها ومن رجال التعليم بها. وفي إحدى الليالي كنت عائداً إلى البيت - وكان يومئذ في صحراء الإمام - فصار كل من يلقاني هناك يقول لي: إن الشيخ (يريدون شيخ الإمام وهو قربي) يطلبك فسألت عنه، فلم أجده، فذهبت إلى بيتي ونمت، وفي الصباح بعث إلي الشيخ خادمه فلحقت به فقال: (اركب) فركبت. وكانت له مركبة يجرها جواد أصيل وسألته: (إلى أين إن شاء الله؟) قال (إلى وزارة المعارف) فدهشت وسألته: (وماذا أصنع في وزارة المعارف؟) قال: (تتسلم عملك) فصحت من فرط الدهشة: (عملي؟. . . ماذا تعني؟) قال: (جاءني وزير المعارف أمس وأنت تعرف أنه صديقي وقال لي إنه علم أن المازني قربي وأنه يعتمد علي في إقناعك بقبول العودة إلى وظيفة كوظيفة أقرانك في الوزارة) فأدركت أن الوزير غلط وظن أني أنا كاتب المقالات التي أقامت القيامة وقلت: (إن المسألة فيها غلط. . لست كاتب المقالات) قال: (زي بعضة) قلت: (هذه رشوة لا أستحقها مع الأسف) قال: (يا أخي لا تكن مجنونا)(214/11)
قلت: (مجنون. . عاقل. . كيف أستطيع أن أدخل وزارة المعارف وأنا أكتب كل يوم بإمضائي ضد الوزارة كلها؟. بأي وجه ألقى الناس؟. كل ذمة لها ثمن. . لا تحسب أن أحداً أرفع من أن يرشى. . ولكن من سوء الحظ أن هذه الرشوة تعرض في الوقت الذي لا يسعني فيه أن أقنع ضميري بقبولها. . وقد قلت لك إني لست الكاتب كما توهمت الوزارة فأرحها وأعفها من تكلف هذه الرشوة.)
وانتهى الأمر على هذا الوجه. إني ليخيل لي أحيانا أني كنت مغفلا ولكن من يدري؟. . وسواء أكنت أم لم أكن فما اعرفني ندمت قط على شيء مضى وفات. . ولماذا أعني النفس بالماضي ولا خير في ذلك؟ والحاضر حسبي مشغلة. والحمد لله على ما وفق وأعان.
إبراهيم عبد القادر المازني(214/12)
كان لمصر أسطول
فهل يعيد التاريخ نفسه؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت مصر بين الدول التي دعتها الحكومة البريطانية إلى الاشتراك في حفلة العرض البحري الكبرى التي أقيمت لمناسبة تتويج جلالة الملك جورج السادس، ولكن مصر اعتذرت عن إجابة هذه الدعوة لأنها لا تملك من الوحدات البحرية اللائقة ما يصلح لاشتراكها في مثل هذا الحفل الدولي العظيم
وبالأمس احتفلت مصر بتتويج جلالة مليكها الفاروق احتفالا رائعاً يذكرنا جلاله وروعته بمجد عصورنا الذاهبة وعظمتها، وروعة أيامها ومناسباتها المشهودة؛ واشترك الجيش المصري الباسل بوحداته البرية والجوية في هذه المناسبة السعيدة اشتراكا يذكرنا بماضيه العسكري الباهر، ويبعث إلى الأمل في أن يغدو سراعا كما كان في الماضي درع البلاد وحصنها الحصين
ولكنا لم نسمع للأسف صوت الأسطول المصري، ولم نشهد أثره في تلك المناسبات العظيمة لأن مصر لا أسطول لها
هذه الحقيقة المؤلمة يجب أن تلفت أنظار مصر المستقلة إلى مركزها الدقيق بين دول البحر الأبيض المتوسط، وإلى ما يمكن أن تواجهه في المستقبل من الأخطار من هذه الناحية خصوصاً في هذا العصر الفياض بالتطورات والاحتمالات السريعة، وفي هذه المياه التي تنذر من آن لآخر أن تضطرم بكدر الخصومات والمنافسات التي تتفاقم عواملها يوماً بعد يوم
فمصر بلد بحري بلا ريب تمتد شواطئه إلى مسافات بعيدة على طول البحرين التاريخيين العظيمين: بحر الروم أو البحر الأبيض المتوسط، وبحر القلزم أو البحر الأحمر؛ وقد لعب هذان البحران العظيمان منذ فجر التاريخ في تاريخ مصر وفي مصايرها أدواراً خطيرة؛ وسوف يلعب كلاهما بلا ريب دوره الخطير في مستقبلها
وقد شعرت مصر دائماً بمركزها البحري الخطير في هذين البحرين، فكان لها منذ أقدم العصور أساطيل حربية تجوس خلال هذه المياه وتذود عن شواطئها، وأساطيل تجارية(214/13)
تحمل تجارتها إلى أقصى ثغور العالم القديم
وكما أن لمصر تاريخ مجيد في الغزوات والفتوحات البرية التي بلغت أحياناً قاصية الأناضول شمالاً، وأقاصي السودان والحبشة جنوباً، فكذلك لمصر تاريخ مجيد في الغزوات والفتوحات البحرية، بل إن تاريخ مصر البحري يبدو أحياناً في ألوان من العظمة تضارع سيرة أعظم أساطيل هذه المياه في العصور الوسطى؛ فقد كان الأسطول المصري طوال هذه العصور يملك ناصية شرق البحر الأبيض، ويناهض أسطول الدولة البيزنطية، وأسطول البنادقة أعظم أساطيل العصر، وكانت له في تلك المياه جولات وفتوحات عظيمة حتى أواخر القرن الخامس عشر
ومنذ القرن الرابع الهجري (القرن العاشر الميلادي) نرى مصر تعنى بأسطولها عناية فائقة، وتنشئ دور الصناعة أو المصانع البحرية العظيمة لتغذي أسطولها باستمرار بمختلف الوحدات البحرية؛ وكانت دور الصناعة بمصر والإسكندرية ودمياط أيام الفاطميين تخرج أعظم الوحدات البحرية المعروفة في ذلك العصر. وبلغ الأسطول المصري في أوائل عهد الدولة الفاطمية نحو ستمائة قطعة ترابط في الإسكندرية ودمياط وعسقلان وفي البحر الأحمر. وكان للأسطول وشئونه ديوان خاص يعرف بديوان الجهاد أو ديوان العمائر؛ واشتبكت مصر أيام الفاطميين مع الدولة البيزنطية في عدة معارك بحرية شهيرة. وفي أيام الدولة الأيوبية لعب الأسطول في المعارك الصليبية دوراً خطيراً؛ وكانت الحراقات أو قاذفات النار المصرية عاملا حاسما في هزيمة لويس التاسع ورده عن مصر. ومع أن الأسطول لم يحظ أيام دول السلاطين بمثل العناية التي حظي بها أيام الفاطميين، فإنه لبث منذ القرن الثالث عشر إلى أواخر القرن الخامس عشر عاملاً هاماً في التوازن الدولي في شرق البحر الأبيض المتوسط. وفي أوائل القرن الخامس عشر افتتح الأسطول المصري جزيرة قبرص في عهد الملك الأشراف بارسباي (سنة 1425 م)، وغزا رودس أكثر من مرة؛ وكان يشتمل يومئذ على نحو ستين قطعة، وكان معظم بحارته من المتطوعين الذين يهرعون إليه كلما دعا داعي الجهاد. وما زالت مصر أيام السلاطين تحتفظ بأسطولها حتى الفتح العثماني، بل نرى السلطان الغوري آخر أولئك السلاطين يجدد الأسطول المصري ويعده لمحاربة البرتغاليين للمحافظة على طريق الهند القديم الذي كانت(214/14)
مصر حارسته وكانت تعلق عليه أهمية تجارية خاصة. وفي سنة 1508 م أعني قبيل الفتح العثماني بأعوام قلائل نرى الأسطول المصري بقيادة أمير البحر حسين يهزم الأسطول البرتغالي في البحر الأحمر بقيادة الأميرال لورنسو الميدا، ثم يشتبك بعد ذلك في معارك بحرية شديدة مع أسطولي برتغالي آخر بقيادة أمير البحر الشهير البوكركي على مقربة من باب المندب
والظاهر أن مصر لبثت بعد الفتح العثماني مدى حين تحتفظ بأسطولها، أو على الأقل بسمعتها البحرية، فنرى التواريخ النصرانية تنوه بشجاعة البحارة الإسكندريين في موقعة لبانتو البحرية الشهيرة التي نشبت بين الأسطول العثماني بقيادة علي باشا، والأساطيل النصرانية المتحدة بقيادة الدون خوان سنة 1571 م، واشتركت فيها إلى جانب الترك وحدة بحرية مصرية، تنوه التواريخ النصرانية بشجاعتها وبراعتها
بل ما لنا نرجع بعيداً، وقد كان لمصر في أوائل القرن الماضي أسطول ضخم، وكانت من الدول البحرية التي يحسب حسابها في شرقي البحر الأبيض المتوسط؛ ففي عهد محمد علي استعادت مصر صفتها القديمة كدولة بحرية، وأستأنف الأسطول حياته في هذه المياه بعد أن قطعت زهاء ثلاثة قرون. ومع أن الأسطول المصري لم يبلغ عندئذ قوته القديمة، فإنه لم يلبث أن غدا عاملا يحسب حسابه. واهتم محمد علي بإنشاء الأسطول منذ بداية حكمه، فأنشأ أسطولاً صغيراً في البحر الأحمر ثم قرنه بإنشاء أسطول كبير في البحر الأبيض المتوسط، وأنشأ بالإسكندرية دار صناعة عظيمة لصنع الوحدات البحرية. ومع أن الأسطول المصري قد نكب في موقعة نافارين الشهيرة في المياه اليونانية سنة 1827، فإن عبقرية محمد علي أبت ألا أن تنشئ لمصر أسطولاً آخر أعظم وأضخم، فلم تمض أعوام قلائل حتى كان لمصر أسطول ضخم قوامه ست وثلاثون قطعة من مختلف الوحدات، بها ألف وثمانمائة مدفع؛ وبلغ رجاله نحو ثمانية عشر ألف مقاتل، وذلك في سنة 1843 أعني لأقل من قرن مضى. وكانت معظم هذه الوحدات البحرية من صنع دار الصناعة المصرية الشهيرة، وقليل منها اشترى من الخارج وأنك لتدهش حقاً إذا علمت أن الميزانية المصرية لم تزد إيراداتها في ذلك الحين على ثلاثة ملايين جنيه، وكانت هذه الملايين الثلاثة كافية للأنفاق على الجيش والأسطول، ومختلف المرافق والمشاريع الإصلاحية العديدة التي(214/15)
اضطلع بها مصلح مصر العظيم
هذا ولسنا نتحدث هنا عن أسطول مصر التجاري، وكيف كان طوال العصور الوسطى يأخذ بأعظم قسط في المواصلات البحرية بين مصر وثغور البحر الأبيض المتوسط، شرقه وغربه وشماله، وكيف كان إلى جانب أساطيل البنادقة والجنوبيين يأخذ بقسط وافر في تجارة الهند في تلك العصور
عرضنا هذه الخلاصة التاريخية ليرى القارئ كيف كانت مصر في عصور استقلالها دولة بحرية عظيمة، وكيف كان الأسطول المصري في تلك العصور عاملا من عوامل التوازن والاستقرار في شرقي البحر الأبيض المتوسط
والآن وقد استأنفت مصر حياتها الحرة المستقلة بعد فترة من المحن قلت فيها إرادتها وحرياتها؛ الآن وقد عادت تحمل على كاهلها أعباء الاستقلال وتكاليفه، وتعد أسباب الدفاع عن هذا الاستقلال، وتعيد تنظيم جيشها الباسل ليتبوأ مكانته التاريخية القديمة بين الجيوش الحديثة، فانه يلوح لنا أن حديث الأسطول المصري مما يناسب المقام والظروف.
وإذا كان من حسن الطالع أن تكون مصر صديقة وحليفة لبريطانيا العظمى أعظم الدول البحرية؛ وإذا كانت مصر تستطيع إلى حين أن تعتمد على معاونة حليفتها العظيمة في رد اعتداء المعتدين عليها وخصوصاً من البحر؛ وإذا كانت بريطانيا العظمى ترى من مصلحتها الحيوية أن تعاون بأقصى ما تستطيع في سلامة مصر من كل اعتداء خارجي، فإن ذلك كله لا يمنع مصر من أن تفكر في المستقبل وأن تتطلع إلى اليوم الذي تستطيع فيه أن تنظم لنفسها نوعاً من الدفاع البحري إلى جانب الدفاع البري والدفاع الجوي.
ونقول نوعاً من الدفاع البحري لأننا لا نطمع أن تغدو مصر دولة بحرية في المستقبل القريب؛ وإنما نطمع في أن يكون لمصر في الفرصة الملائمة قوة بحرية دفاعية تؤيد سيادتها في المياه المصرية وتقوم بقسطها من الدفاع عن الطوارئ والمفاجآت، وتكون نواة لأسطول مصر المستقبل. ذلك أن مصر باعتبارها دولة بحرية من دول البحر الأبيض لا نستطيع أن نقصى عن هذه الحقيقة إلى الأبد، ولا مندوحة لها من أن تساير تطور الحوادث والظروف
ولمصر أسوة بدول أخرى من دول البحر الأبيض ليست أكبر منها ولا أعظم موارد، مثل(214/16)
اليونان وتركيا؛ فكتاهما تملك قوة بحرية متواضعة، ولكنها في نفس الوقت تكفي لأغراض الدفاع المحلية، وكلتاهما تعتبر من الدول البحرية في هذه المياه
إن عصرنا الحاضر عصر التسليحات والأهبات الدفاعية؛ والبحر الأبيض التوسط ليس مكفول السكينة، بل يخشى أن يكون في المستقبل القريب مسرحاً لمنافسات وخصومات ربما أصاب مصر رشاشها؛ ومن بواعث الأسف أن تكون حقوق الأمم اليوم عرضة للإنكار والانتقاص من جانب بعض الأمم التي تعتد بقوتها؛ ففي مثل هذه الفترات المضطربة من الحياة الدولية التي يسود فيها قانون القوة، ترتجف الأمم الضعيفة إشفاقاً على مصايرها، وتستمد من بعض المحالفات القوية ما تعتمد عليه لدرء الخطر، ولكن ذلك لا يعفيها من واجب الأهبة والاستعداد قدر استطاعتها؛ وإذا كانت مصر لظروف خاصة قد تخلفت في هذا المضمار عن غيرها من الأمم، فان عليها أن تستكمل اليوم ما فاتها بالأمس، لكي تستطيع مسايرة الحوادث والظروف، ولكي تثبت قبل كل شيء أنها تحرص على استقلالها الذي نالته بعد طول كفاح
وهذه هي تكاليف الاستقلال الفادحة؛ فان استقلال الأمم لا تكفله الحقوق الدولية إذا لم تدعمه أهبة الدفاع؛ ومصر اليوم تبدأ في هذا الميدان حياة جديدة، وتعنى بتنظيم دفاعها يحفزها إلى هذا الواجب المقدس تاريخ جيشها المجيد؛ ولكن مصر أيضا دولة بحرية، وقد كان لها أسطول مجيد كما كان لها جيش مجيد. فلتذكر إذن تاريخ هذا الأسطول الذي بسطنا خلاصته في هذا الفصل؛ وإذا كانت ظروفها الحاضرة لا تفسح لها مجالا للعمل السريع في هذا الميدان، فان المستقبل القريب قد يمهد لها سبيل التفكير، وقد يمدها أيضا بالوسائل والموارد التي تعاونها على تحقيق هذا المشروع الحيوي الجليل.
محمد عبد الله عنان(214/17)
عالم!
للأستاذ علي الطنطاوي
(مهداة إلى روح المرحوم أستاذنا الرافعي)
حدثني بعض مشايخي عمَّن رأى بعينيه وسمع بأذنه. قال:
وقعت الصيحة في (حيَّ الميدان) أجل أحياء دمشق وأكبرها، صبيحة يوم من أيام سنة 1831، بأن إبراهيم باشا، قادم لزيارة عالم الشام الشيخ سعيد الحلبي في مسجده. وإبراهيم باشا من قد علمت في بطشه وجبروته، ومن يده إلى السيف أسرع من لسانه إلى القول وعينه إلى النظر. . . ومن كان جبار سورية وفاتحها وسيدها؛ فطار الفزع بألباب الميدانيين، وهم فرسان دمشق وحماتها، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، ماذا يصنعون؟ إنهم يعلمون أن الشيخ لا يقيم وزناً لأحد من أبناء الدنيا، فلا يبجل سلطاناً لسلطانه، ولا يوقر غنياً لغناه، ولا يقيس الناس بما على جسومهم من ثياب، ولا بما في صناديقهم من مال، ولا بما يبتزون من أموال الدولة، ولكن يقيسهم بما في نفوسهم من فضائل، وما في قلوبهم من إيمان، وما في رؤوسهم من علم؛ وإذا نظر الناس من خارج فرأوا الطبْل سميناً عظيما، نظر من داخل فرآه خالياً حقيراً. . .
وكانوا يخشون أن يسوء ذلك من شأنه الباشا، ويودّون لو رجوا الباشا، ولكن كيف يصلون إليه وهو في قصره، حوله الحجاب والأعوان، والجند بالسلاح، ومن حوله الموت ألواناً وأشكالاً، يحمي حماه، ويحرس أبوابه. . . ويتمنون لو رَجَوا الشيخ، ولكنّ الشيخ أعزّ من مائة ملك جبار، تحميه هيبته، ويحرسه تقواه وتحف به الملائكة واضعة له أجنحتها. . .
ولم يكونوا يخافون أن ينال الشيخ بسوء؛ فهذا شيء تُحيله عقولهم لما استقر فيها من إجلال الشيخ وإكباره. ولا تراه أبصارهم، ولكنهم كانوا يخشون الشيخ على الباشا، ويخشون الباشا على نفوسهم.
ومضوا يقيمون معالم الزينة، ويبنون أقواس النصر ويرفعون الرايات على طريق البطل الفاتح. ويقطفون أزهى أزهار الغوطة لينثروها عليه. . . فما كان الأصيل حتى تم كل شيء. وأقبل الباشا في الموكب الفخم، والجند والسلاح والدَّبدَبَة. . . حتى انتهى إلى باب المسجد وكان باباً صغيراً. فاعترض الباشا كأنه يقول له: ارجع أو أرجع دنياك، إنك تدخل(214/18)
بيت الله بشراً خاضعاً، أما أن تكون تزوير إله. . . بألف عبد، وألف ثوب فلا! إنه لا يجتمع ميراث النبوة التي جاءت بالتوحيد والمساواة، ببقايا الجاهلية التي قامت على الشرك والتمييز بين الناس إلا محي أحدهما. . . فانظر هل محا باطل حقاً؟
قال الراوي: وتردد الباشا هنيهة يفكر. ثم أبعد أعوانه وترجل ودخل المسجد منفرداً، وكان الشيخ جالساً على حصير وقد وضعت فوقه حشية، وكان مادّاً رجله فسمعته يقول:
. . . والمرء إذا خاف الله، وصدق في مخافته. خافه كل شيء، لأنه لا يرى كبيراً إلا صغره عنده أن الله أكبر. . . الله أكبر. إن لهذه سراً إلهياً، ولكن المسلمين استعجموا فهم لا يرددون منها إلا حروفها فارغة من المعنى، وما فرض الله على المسلم أن يقولها كل يوم (85) مرة أقل ما يقولهاويسمعها من المنارة ثلاثين مرة. . . إلا ليعلم أنه لا كبير في الدنيا وأن من كان مع الله لم يبال شيئاً: لا الملك ولا المرض ولا الوحش، فلو أن المسلم عرف معنى هذه الكلمة وهو يقولها ما عرف الذل ولا الجبن ولا الكسل.
قال رجل من طرف الحلقة:
فإن قتله الملك يا سيدي الشيخ، أو أماته المرض؟
فقال الشيخ: سبحان الله! وهل يهاب المسلم القتل؟ أو يبغض الموت؟ إن الموت شديد لأنه انقطاع اللذات، وخسران الدنيا، ولكنه لا يكون بهذا المعنى إلا عند الكافر الذي يعيش في الدنيا، ويستمتع بملاذها؛ أما من كان يتهيأ فيها للعيشة الخالدة ويقيم فيها كالمستعد للسفر، ويرقب ساعته كما يرقب المسافر ساعة القطار، ويراه حين يمضي ليلقى ربه، كالآيب إلى وطنه حين يذهب ليلقى أهله وصحبه. . . من كان هذا شأنه لا يرى في الموت موتاً، وإنما يرى فيه ولادة جديدة، وابتداء حياة، وقد جاء في الحديث: إن أفضل الشهداء رجل يقول كلمة حق عند إمام جائر فيقتله بها. . .
وكان الباشا قد وقف على الحلقة متنفّجاً، مصعراً خدّه، شامخاً بأنفه، فنظر إليه الشيخ رحمه الله فلم يتغيّر ولم يبد عليه أنه رأى فيه أكثر من رجل، وأشار إليه أن اجلس كما كان يفعل بغيره، فلم يتمالك الباشا أن جلس. . . ونظر في الحاضرين يقلب فيهم بصره، يفتش فيه عن شيء أضاعه فيهم، عن الخضوع والإكبار اللذين تعوّد أن يراهما حوله دائماً، ينتظر أن يقوموا له، وأن يقفوا بين يديه صفاً، ولم يدر أن القوم كانوا في غير هذا، لم يدر أن(214/19)
الشيخ قد علا بهم، حتى جعلهم يطلون على الدنيا من شرفة طيارة، أو من قطع السحاب، فيرون الأرض كلها كمفحص قطاة، ولا يرون في الباشا العظيم إلا نملة. . . فمنذ الذي يحفل بنملة. . .
وأجال الباشا نظرة فيهم حتى علق برجل الشيخ، وكانت ممدودة نحوه. فأثار مرآها كبرياءه وسلطانه، ورأى فيها علامة تعجب أضيفت إلى عظمته وجلاله، إضافة سخرية وتهكم؛ ورآها كبيرة في عينه، فأحس كأنما هي في عيبنه، ونظر في الحاضرين ألم يجرد واحد منهم سيفه يتقرب إلى الباشا بقطّها. .؟ وكان الباشا ينظر بعين بصره المادية، لم تفتح بعدُ عين بصيرته المعنوية فيفاضل بين قصره وسريره، ومكان الشيخ وحصيره، وبين جنده وأعوانه، وتلاميذ الشيخ وإخوانه، فيوقن أن دنيا الشيخ كلها لا تثبت لحظة لسيفه الذي لم تثبت له دنيا الخليفة العثماني (إمبراطور الشرق). . . وكان كالأسد الذي زعموا أنه مر على قنبلة من القنابل المدمرة. . . ملقاة في أجمته، فعجب منها وحقرها وقال: ويحك أي حيوان أنت؟ يا للضعف والمهانة! أين الأنياب؟ أين المخالب؟ أين. . أين. . يا للهوان! ماذا يصنع بأهله. قالوا: ثم ركلها برجله، فانفجرت القنبلة! وانفجرت القنبلة من فم الشيخ فرجع يتكلم
قال:
ومن عجيب صنع الله في الإنسان أن خلقه حيواناً كالحيوان، ولكنه وضع فيه مَلَكا ووضع فيه شيطاناً، فمن كان همَّه من دنياه لذتا بطنه وفرجه، وابتغاهما من حل ولم يعرف غيرهما لم يكن فيه إلا الحيوان، فهو يرتع كما يرتع الحمار، ويتبع غريزته كما يتبع؛ ومن كان همه اللذة من حل وحرمة، ومن كان لا يبالي ما اجترح من السيئات، لم يكن فيه إلا الشيطان، وكان العقرب والخنفساء خيراً منه، لأن مصيرهما إلى التراب ومصيره إلى النار. ومن كان همه أن يعيش في هذه الحياة كما يعيش في مدرسة يتلقى فيها أساليب الكمال، فهو الإنسان حقاً. .
ومن عجيب صنع الله في الإنسان، أنه وضع في نفسه الملك، فلا يحتاج مهما كان ضالاً فاسقاً ظالماً إلا إلى تنبيه الملك في نفسه، ليطرد الشيطان، ويقود الحيوان، فلست أنت الذي يعظه، ولكنه يعظ حينئذ نفسه، وهذا معنى قولهم:(214/20)
لا تنتهي الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
وذلك ثوابه الجنة، والجنة لا تكون بالتشهي والأمل، ولكن بالجد والعمل. ولو أن تلميذاً أمضى عامه في لعبه ولهوه، ثم تمنى النجاح، أكان ينجح؟ ولو أن صياداً ألقى بندقيته فلم يضرب بها ورمى شبكة فلم ينصبها، ثم حلم بالقنيصة أكانت أحلامه تعدو في أثر الغزال حتى تأتي به مكتوفاً؟ أم كانت السمكة تأتيه وحدها وعلى ظهرها الملح والفلفل تقول له: كلني؟. .
قال رجل: ولكن القلوب قست يا سيدي الشيخ، فما علاجها؟
قال: إن الشيطان لا يأتي إلا من إشعاره الكمال، فأشعر نفسك النقص، وذكرهَا في الصحة المرض، وفي الحياة الموت. ولقد أدركنا من مشايخنا من إذا قسا قلبه أم المستشفى أو قصد المقبرة، فخوف نفسه المرض وذكرها الموت. والمؤمن لا يزال بخير ما زال بين الخوف والرجاء، فإن لم يخف أو لم يرج فقد هوى. . . ولقد سمعنا إن منهم من كان يدني يده من المصباح ويقول: يا نفس عن لم تصبري على هذا فكيف ويحك تصبرين على نار جهنم؟ وإن المؤمن ما ثارت في نفسه شهوة، إلى أطفأها بأنهار الجنة، أو أحرقها بنار جهنم، فاستراح منها. . .
وما الإنسان لولا العقل؟ وكيف يكون العقل إن لم يكن معه الإيمان؟ إنه لا يكون إذن إلا كما قالوا: أوّله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة. . . وللسلطان سكرة، فمن أسكره سلطانه وعزته على الناس، فليذكر هوانه على الله، وأن الله أهلك أشد الملوك: النمرود بأضعف الخلق: البعوض
فيا من أصله من التراب، لا تنس أن نهايتك إلى التراب!
وكان الباشا يشعر، والشيخ يتكلم، كأنه كان محبوساً في صندوق، ثم فتح عينيه فنشق الهواء الطلق، أو كأنه كان في ظلمة فاحمة، فطلع الشيخ عليه شمساً نيرة، فتضاءل حتى جلس على ركبتيه، ورأى نفسه دون هؤلاء كلهم، لأنهم ألصق منه بالشيخ وأدنى إليه، ولم يعد يزعجه مرأى الشيخ وهو ماد رجله. . . بل كان يراه الغريق ويراها خشبة النجاة، وكان يبصرها عالية كجناح النسر المحلق، ثم لم يعد يرى فيها شيئاً، لقد استحال الشيخ في نظره إلى فكرة. . . لم يعد يرى فيه إلا الحقيقة تمثلت إنساناً.(214/21)
قال الراوي: فلما ذهب الباشا، بعث إلى الشيخ بكيس فيه ألف دينار من الذهب العين، فلما جاءه به الرسول وألقاه بين يديه تبسم الشيخ رحمه الله ورده إليه، وقال له: سلم على سيدك وقل له: إن من يمد رجله لا يمد يده. . . . .
البصرة
علي الطنطاوي(214/22)
من أدب القوة
مثال. .!
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
ثارت نفسه ثورة ضارمة جاحمة لِتَحَيُّف الغاصبين وطنه وتمزيقه شر ممزق؛ فصرخ الدم في عروقه، ولصرخة الدم دوي يسمعه الأحرار فتصيبهم جِنَّةٌ تخرجهم من ديارهم إلى القبور. . . وتَحرَّك الإيمان في قلبه، ولحركة الإيمان زَلزلةٌ تتحطم بها كل الشهوات ويستيقظ لها المؤمنون يقظة تخرجهم من قبور الغفلة إلى حومة الجهاد. . . وأقبل الملك والشيطان يصطرعان على فكره وهو بينهما كما تكون كُدْسَةُ الحَبّ بين شِقيّ الرحى. . . يدعوه الأول إلى خطة الأقل والأكثر فيها الفِداء في الدار التي عريت من الخلود وازينت بالشر، ويقول له: إنك ما كنت لتحيا هنا، وإنما الحياة هناك. . . فاذبح مالك لحريتك، واذبح شهوة الدعة في الزلة لكرامة العزة، واخرج من كل شيء لله الذي أعطاك كل شيء. . .
إيتِهِِ جسداً عارياً من الحلي والزينة، فإنها سلاسل تربطك بالأرض. . . وائتِه نفّسا عارية من كلَبِ شهوةِ البقاء. . . وائته عقلا عاريا من صور البنين والمملوك والذهب والفضة والمنصب، فإن كل أولئك أقذاء وحجب تغشى العين فلا تبصر ذلك اللفظ الصارم الذي لا يرحم، العابس الذي لا يبتسم: الواجب!
إيتِه عبداً مملوكا طائعا ولك الكرامة قبل أن تؤْخذ آبقا كارها وعليك كلمة السوء. . .
ويدعوه الثاني إلى خطة الأقل فيها السلامة. . . والأكثر فيها العيش الموفور المعَطَّرُ المُدَثرُ المفضض. . . ويقول له: مالك مجنوناً بالفناء وقد خلقت للبقاء؟! الناس قطعان حيوان ليس فيهم حرمة ولا لهم واجب فلماذا تموت ليحيوا. .؟ أتموت أنت الشابَّ الغُرَانِقَ المُقْبِل ليحيا العجائز والشيوخ المدبرون. .؟ لماذا تحمل وطنك بكل ما فيه على قلبك؟ ألقِه عنك يتحطم وعش على أنقاضه. . . دع أوهام الأديان وأحلام الفلاسفة والشعراء. . . أنت (لا تأتي إلى دنيك هذي مرتين؛ فلا تقف في وجه لذاتك مكتوف اليدين.!) ولماذا تقدم نفسك للمذبح ويتأخر فلان وفلان؟ انتظر حتى يتقدموا. . . أتموت ليبقى الزعماء فلان وفلان وفلان يتمتعون بالمجد والنعمة والحمل على الأعناق.؟ أتخشى حساب الله على تخلفك عن الجهاد؟(214/23)
ومن أنت حتى يحاسبك الله العظيم؟! على أن في الحياة كفارة. . .
فيقف في غمرة من الحيرة بين وحي الملك ونزغ الشيطان، ولكن صراخ الدم وزلزلة الإيمان مضافاً إليهما حديث الملك مضافاً إليها حكم العقل بأن الحياة الدنيا ما دامت تنتهي فالأولى أن تنتهي بشرف. . . وما دامت اللذات والمناعم، بنت ساعتها، لا تحيا في النفس إلا ريثما تحيا في الحس. وليس لها نصيب من حياة الذكرى الخالدة فالأولى أن تُفْطمَ النفس عنها وبخاصة إذا دعا داعي الواجب وقالت قوانين الحياة الشريفة: يا إنسان النجدة!
كان (موظفاً) في الحكومة، والوظيفة رخصة تبيح لصاحبها عند نفسه وعند بعض الناس أن يغضي على كل لعنة تصيب دينه ووطنه. .! وأن يكفر بالله ويعبد الرغيف. . . وليس الرغيف الضروري فحسب بل الرغيف المرصع بكل لذات الفم له ولأبنائه وذرياتهم إلى يوم القيامة. .! حتى لا يستهدف بزعمه للعناتهم. . . وأن يقيم حول ذلك الرغيف سورا وقلاعا من العمارات والضياع تحفظه ممن يتعقبونه. . .
يا ما أعجب أنانية الإنسان! إنه لا يدرك من حقه إلا ما امتلكه من التافه والحقير. . . أما حقه الكبير الذي به سر حياته فلا يدركه ولا يغار عليه ولا يألم لوخز قلبه في عقيدته كما يألم لشوكة تخز خلية من خلايا جسده الترابي. .! ولا يثور لحق وطنه المسلوب كما يثور لمتاع سرق أو حمار نَفَقَ. .!
ولكن صاحبنا كان من الذين يضعون دائماً قلوبهم على أكُفّهم يعلنونها مستبرئة ظاهرة ليخيفوا بمرآها من ليست لهم قلوب. . . أو من كانت قلوبهم هواء، أو ليجعلوها دائماً تحت التأثير المباشر للحوادث، تقرعها الحادثة فتجد صداها مردداً في صدق وبعدٍ عن الرياء والتدليس، أو ليستفتوها إذا نزل أمر عاجل يتعجل الفتوى من إلهام الطبيعة وميزان الفطرة. لذلك ما كانت قيود الوظيفة ضمامة على سمعه تمنعه من سماع نداء الواجب، ولا كمامة على فيه تمنعه من كلمة الحق. . . فلم يكن يدلس على نفسه بتأويل الحوادث ودفعها إلى غير وجهها وتحميلها غير ما يتقاضاه منطقها، وخاصة إذا كان مدار الحوادث دينه أو وطنه، فحينذاك يضع قلبه في كفة ميزان والوظيفة بما وراءها من جاه ومال ودعة في كفة، ويختار الذي هو راجح وخير، وهو الأول دائماً!
فلما أن طار الحريق في جو وطنه من أنفاس الأحرار حسرة على ما أصاب بلادهم(214/24)
وحريتها كتب يقول:
(أيها الحاكمون!)
أنا عامل في حكومتكم، ولكني ما بعتكم حريتي لأني لا أملكها؛ فإنها ألطف وأدق من أن تملك؛ إذ هي في الحصن المغلق على سر الإنسان: في القلب. . .
لذلك أعلنكم أن هذا الجانب الخفي الرفيع مني قد أعلن الثورة عليكم، وترك لكم هذا الجسد مِلْكَ يمينكم، فإن شئتم أخذتموه فقطعتم منه الوتين. . وتلك غاية مكنتكم. . وإن شئتم تركتموه سلاحاً تقاتلكم به حريتي التي تحكمني من داخلي. . وتلك غايتها وغايتي!
أما أن أهادنكم على الدَّنيَّة في ديني والخائنة في وطني فذلك ما ليس إليه طاقة حر. .
المال الذي آخذه منكم إنما هو لتحقيق كرامتي بين الناس؛ فإذا لم أجد لأمتي كرامة فما كرامتي أنا؟! إذاً فهو الآن عندي كعلف الدابة التي تركب. . ولن أكُونها!
والجاه الذي أتمتع به في حكومتكم الدخيلة الغاضبة، إنما هو جاه العبد. . لن يرتفع به إلى أن يكون سيداً مهما كان قربه من سيده؛ لأن السيادة ليست له في نفسه، ولا في اعتبار الناس، ولا في اعتباركم أنتم، فهو جاه مثلث التزييف، وأنا آباه!
ودولاب الأعمال في حكومتكم يدور بحرية وإخلاص منكم ليفني الحرية والإخلاص منا؛ فاشتراكي معكم جريمة لا يغتفرها قلب الوطن ولا حساب الله. . فلن أصبر بعد اليوم على ما أرى من قبيح فعلكم بأمتي ونقضكم المواثيق التي واثقتم بها أنفسكم وتمزيق وطني ذلك التمزيق الذي سيفنيه لو بلغتم مرادكم فيه، وما أنتم ببالغيه)
وبهذا انطلق من وظيفته كما ينطلق الطير من قفص فيه حَبٌّ وماء، ونشيده: الجَوَّ الجَوَّ! ولم يَأْس على الحب والماء لأنهما ليسا الشيء الهامَّ في سعادة قلبه. . .
ثم سار يجاهد ويضرب في الأرض، لا يملك غير وجهه جاهاً، وغيرَ يديه ثروةً، وغير قلبه خزانة.
عبد المنعم محمد خلاف(214/25)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 3 -
الرافعي في الوظيفة
في أبريل سنة 1899 عُيّنَ الرافعي كاتباً بمحكمة طلخا الشرعية، بمرتب شهري أربعة جنيهات، وأعانه على الظفر بهذه الوظيفة ما كان لأبيه وأسرته من جاه في المحاكم الشرعية؛ وما كان الرافعي ليجهل جاه أبيه وأسرته في هذه المحاكم، وما كان منكوراً لديه أن لهم يداً على كل قاض في القضاء الشرعي؛ فنشأ بذلك نشأة الدلال في وظيفته، لا يراها إلا ضريبة على الحكومة تؤديها إليه عَمِل أو لم يعمل، لمكانة أسرته من النفوذ والرأي، ولمكانته هو أيضاً. . . ألم يكن يرشح نفسه ليكون أديب هذه الأمة؟ هكذا كان يرى نفسه من أول يوم، وظل كذلك يرى نفسه لآخر يوم. . .
وكانت إقامته بطنطا في هذه الحقبة؛ فمنها مغداه وإليها مراحه في كل يوم، يتأبط حقيبة فيها غداؤه وفيها كتابه، وما كان أحد ليستطيع أن يلفته إلى ضرورة التبكير إن جاء في الضحى، أو يسأله الانتظار إذا دنا ميعاد القطار ولم يفرغ من عمله.
لم يكن يرى الوظيفة إلا شيئاً يعينه على العيش، ليفرغ إلى نفسه ويُعِدّها لما تهيأت له، فما انقطع عن المطالعة والدرس يوماً واحداً، وما كان أكثر ما كان ينقطع عن وظيفته.
وقضى الرافعي في طلخا زمناً ما، ثم نقل إلى محكمة إيتاي البارود الشرعية، ثم إلى طنطا؛ وفي طنطا انتقل من المحكمة الشرعية إلى المحكمة الأهلية بعد سنين، لأنه رأى المجال في المحاكم الأهلية أوسع وأرحب، والعملَ فيها أيسر جهداً وأكثر مالاً وأملاً؛ وظل في محكمة طنطا الأهلية إلى يومه الأخير.
وحياة الرافعي في طلخا وإيتاي البارود وطنطا لا تخلو من طرائف، وتاريخه في الوظيفة حافل بالصور والمشاهد التي كان لها أثرها من بعد في حياته الأدبية؛ ففي طلخا عرف(214/26)
الكاظمي شاعر العراق الكبير واتصل به وانعقدت بينهما أواصر الود على ما سيأتي تفصيله؛ وفي إيتاي البارود تفتحت زهرة شبابه للحب وتعطشت نفسه إلى لذاته، وعلى (جسر كفر الزيات) فيما بين إيتاي البارود وطنطا مسته شعلة الحب المقدسة فكشفت عن عينيه الغطاء ليرى ويحس ويشعر ويكون (شاعر الحس) من بعد؛ وفي طنطا كان نضجه وتمامه وإيناع ثمره.
وما أستطيع أن أصف بتفصيل واضح كيف كان يعيش الرافعي في تلك الأيام البعيدة، ولا كيف كانت صلته بالناس، ولا كيف تفاعلت حوادث أيامه باحساسات الشباب التي كانت تجيش بها نفسه الثائرة؛ ولكني أعرف شيئاً واحداً هو كل ما يهمني إثباته في هذا البحث، هو أن روحا رفافة كانت تطيف به في تلك الأيام فتنتزعه من وجوده الذي يعيش فيه لتحلق به في أجواء بعيدة وتكشف له عن آفاق مجهولة لم يسمع بها ولم يعرفها فتوحي إليه الشعور بالقلق وألم الحرمان والإحساس بالوحدة، فلا يجد متنفساً ينفس به عن نفسه غير الشعر، وكان ذلك أول أمره في الأدب وإليه كان آخر ما يمتد أمله، فما كانت له أمنية إلا أن يكون شاعراً، شاعراً وحسب.
لم يتعلم الرافعي الحب مما يسمع في مجالس الشبان، كما يتعلم أبناء هذا الجيل من أكاذيب المنى التي يتداولونها في مجالسهم فيتعلمون الحبَّ منها فنّاً له قواعد مرسومة وغاية محتومة. . . لكنه استمع إلى وحي الحب أول ما استمع في همسات روحه، وخلجات وجدانه، وخفقات قلبه، وانفعال أعصابه؛ إلى ما كان للحب في نفسه من صورة مشرقة شائقة مما قرأ من أخبار العذريين من شباب العرب؛ فأحس كأن شيئا ينقصه، فراح يفتقده وشعر كأن إنسانة من وراء الغيب تناديه وتهتف باسمه في خلوة نفسه وجلوة خاطره تقول: ها أنا ذي. . . فهام بالحسن ينشده شعره وينشد فيه مثاله الذي يدور عليه، وطار على وجهه كالفراشة الحائمة تقول لكل زهرة: أأنت التي. . . فلا يستمع إلى جواب وإن الصوت البعيد لدائب يهتف في أذنيه: إنني هنا، إنني هنا يا حبيبي فاقصد إلي. . .
لم يكن يحب إنسانة بعينها يناديها باسمها ويعرفها بصفتها، بل كانت محبوبته شيئاً في نفسه وصورةً من صنع أحلامه، يرى في كل وجه فاتنٍ لمحةً من جمالها، وفي كل طلعةٍ مشرقة بريقا من فتنتها، وفي كل نظرة أو ابتسامة معنى من معاني الحبيبة النائمة في قلبه وفي(214/27)
أمانيه. . . فمضى يتنقّل من زهرة إلى زهرة، عفيف النظر والشفة واللسان، حتى انتهى أمره إلى أمر. . .
لم ينس الرافعي إلى آخر يوم من حياته ما كان من شأنه وشأن قلبه في صدر حياته، فكان دائم الحديث عن هذا العهد كلما رفَّت به سانحةٌ من سوانح الماضي تذكره ما كان من أمره وما آل إليه أمره.
ليس قصدي الآن أن أتحدث عن الحب في تاريخ الرافعي، فإن للحب في تاريخه فصلاً ضافي الذيول كثير الألوان متعددّ الصور له مكانة المفرد من هذا البحث في غير هذا الباب. ولكني أتحدث عن الرافعي في بكرة الشباب فما لي من مندوحة عن الإلمام بما كان يصطرع في نفس الرافعي في بكرة الشباب.
عاش الرافعي لفنه ولنفسه من أول يوم، فما عاقته الوظيفة عن أن يكون كما أراد أن يكون؛ على أنه كان إلى اهتمامه بفنه وعنايته بما يكمله، وعلى أنه كان لا يرضى أن تتعبده قوانين الوظيفة وتقيده أغلالُ النظام الحكومي - كان إلى ذلك دقيقاً في عمله الرسمي دقة تبلغ الغاية. وكان إليه تقدير رسوم القضايا والعقود ونحوها مما يتصل بعمل المحكمة؛ فكان كاتباً حاسباً لا يفوته شيء مما يسند إليه، حتى آل أمره من بعد إلى أن يكون المرجع في هذا العمل لكتاب المحكمة جميعاً، يستفتونه فيما أشكل عليهم من الأمر في تقدير الرسوم؛ ثم لكثير من كتاب المحاكم في مختلف البلاد، ثم لوزارة الحقانية نفسها وهي المرجع الأخير، تكتب إليه في زاوية مكتبة من محكمة طنطا تسأله الرأي في حسبة أو إشكال أو شيء مما يتصل بذاك، فيكتب إليها بالرأي لتبلغه في منشور عام إلى كل المحاكم الأهلية.
وكان عليه العبء من هذه الناحية في محكمة طنطا، وقد طلب أكثر من مرة أن يحال إلى المعاش ليتفرغ لفنه، فما كان يمنعه من المضي في طلبه إلا ذعر سائر موظفي المحكمة وإلحاحهم عليه أن يبقى لئلا يخلو موضعه.
وكان في صلته بموظفي المحكمة الذين يشركونه في عمله نبيلاً كريم الخلق إلى حد بعيد، فكان يتطوع ليحمل عنهم تبعة كل خطأ يقع فيه واحد منهم مهما كان مدى الخطأ ونتيجته؛ وقد رأيته مرة في صيف سنة 1934 وقد لزمه مفتش من مفتشي الحقانية ثلاثة أشهر أو أكثر، يستجوبه عن خطأ في تقدير الرسوم لأكثر من مائة وعشرين قضية، بلغ النقص في(214/28)
الرسوم المتحصلة عنها بضعة وتسعين جنيهاً؛ والرافعي يرد المفتش ويدافعه ويرى له الرأي ويصف له العلاج، والمفتش دائب الحضور كل يوم يبحث ويفتش ويستقصي وما ضاقت به أخلاق الرافعي؛ على حين لم يكن على الرافعي في هذه القضايا المائة والعشرين خطأ واحد، وما كانت إلا من أخطاء زملائه في المكتب حمل عنهم تبعتها حتى لا يتعرضوا لشرَّ هو أقدر منهم على الخلاص منهم.
وكان من اعتداده بنفسه وحفاظه على كرامته بحيث لا يسمح لرئيس مهما علا منصبه وارتفع مكانه أن يجحد منزلته أو ينال منه أيَّ نيل؛ وكان يفرط في ذلك إفراطاً يدعو إلى الشك أحياناً في تواضع الرافعي وكرم خلقه وحسن تصرفه.
ومن ذلك أنه لما كان هذا المفتش يؤدي عمله في المحكمة - وكان عمله التحقيق مع الرافعي - كان الرافعي يُلزم المفتش أحياناً أن يحضر هو إلى مكتب الرافعي في حجرته الغاصة بالموظفين ليسأله وهو جالس إلى مكتبه والمفتش على كرسيه إلى الطرف الثاني من المكتب. وكنت إحدى هذه المرات جالساً إلى جانب الرافعي - وكان يستدنيني ويشركني في عمله حين أذهب لزيارته في الديوان - فلما جاء المفتش هممت بالانصراف، فشد الرافعي ذراعي بعنف وهو يقول: (اجلس يا أخي. . .) ووجه إليه المفتش سؤالاً، فالتفت الرافعي إليَّ قائلاً: (فَهَّمه من فضلك يا شيخ سعيد أحْسن مُش قادر أفَهَّمه. . .) ثم ألتفت إلى المفتش قائلاً وهو يشير إليّ: (حضرته مدرس، يقدر يخلَّيك تفهم. .!)
لم يكن اعتداد الرافعي بنفسه يبلغ به إلى مثل هذا الشذوذ في كل أحواله، وإنما كان كذلك مع هذا المفتش بخاصته، لأنه كان يعتقد أنه يرمي إلى إحراجه والتضييق عليه لقضايا مدنية كانت بين الرافعي وبين أصهار هذا المفتش ولم يقبل فيها الرافعي شفاعته.
وكان من تقاليد المحكمة كلما نقل إليها قاض أو نائب جديد، أن يهرع إلى مكتبه موظفو المحكمة يهنئونه ويتمنون له؛ فما أكثر ما كان يتخلف الرافعي عن وفد الموظفين، ويظل وحده في مكتبه؛ فإذا فرغ القاضي أو النائب من استقبالهم، مضى إلى مكتب الرافعي في حجرته، فينهض الرافعي لاستقباله، فيقفان لحظة يتبادلان الشكر والتهنئة على هذا الاتفاق الذي هيأ لهما هذا التعارف. . . ثم يذهب إليه الرافعي بعد ذلك في مكتبه ليشكر له ويكرر التهنئة.(214/29)
حتى مدير المديرية - ومحكمة طنطا هي جزء من ديوان المديرية - لم تكن صلته بالرافعي صلة المدير الحاكم بموظف صغير فكانت بينه وبين أكثرهم صلات من الود والصداقة فوق ما يعرف من الصلات بين الموظفين؛ ولكن منهم رجلاً واحداً كان أقرب قرابة إلى الرافعي من أهله ومن خاصته ومن. . ومن تلامذته هو صاحب السعادة محمد محب باشا أقدر مدير عرفته مديرية الغربية منذ كانت مديرية؛ وكان للصلة بين الرافعي ومحب باشا أثر كبير في أدبه سنتحدث عنه فيما بعد
لم يكن للرافعي ميعاد محدود يذهب فيه إلى مكتبه أو يغادره، فأحياناً كان يذهب في التاسعة أو في العاشرة، أو فيما بين ذلك، فلا يجلس إلى مكتبه إلا ريثما يتم ما أمامه من عمل على الوجه الذي يرضيه، ثم يخرج فيدور على حاجته، فيجلس في هذا المتجر وقتاً ما، وعند هذا الصديق وقتاً آخر، ثم يعود إلى مكتبه قبيل ميعاد الانصراف لينظر فيما أجتمع عليه من العمل في غيبته، وقد لا يعود. . .
وكان هذا منه يغضب زملاءه في العمل، فكانوا ينفسون عليه ويأكلون لحمه، ويبلغه عنهم ما يتحدثون به فيهز كتفيه ويسكت، ثم لا يمنعه ذلك من بعد أن يأخذ بيدهم عند الأزمة؛ وكان كتبة المحامين وأصحاب المصالح في المحكمة يسمونه بذلك عمدة المحكمة. . .!
وحدث مرة أن جاء إلى محكمة طنطا رئيس شديد الحول، فلما صعد إليه موظفو المحكمة للتهنئة، لم يجد بينهم الرافعي، فلما سأل عنه تحدث الموظفون في شأنه ما تحدثو؛ فاستاء الرئيس وأرسل يدعوه إليه، فلم يجده الرسول في مكتبه، فغضب الرئيس وثارت ثائرته، وأمر باستجوابه عن الاستهانة بنظام المحكمة ومواعيد العمل الرسمي؛ وجاء الرافعي فبلغه ما كان، فهز منكبه وجلس إلى مكتبه يمزح ويتحدث على عادته كأن لم يحدث شيء؛ ورفع الرئيس كتابه إلى وزارة الحقانية، يبلغها أن في محكمة طنطا كاتباً أطرش، لا يحسن التفاهم مع أصحاب المصالح على شدة اتصال عمله بمصالح الجمهور، وهو مع ذلك كثير التهاون بنظام المحكمة ومواعيد العمل ولا يخضع للرأي. . . وطلب الرئيس في آخر كتابه إقالة الرافعي من الخدمة. . .
وأرسلت وزارة الحقانية مفتشها لتحقيق هذه الشكوى، وليرى رأيه فيما طلبته محكمة طنطا؛ وكان المفتش المندوب لذلك هو الشاعر اللبق الظريف المرحوم حفني ناصف بك. ولم تكن(214/30)
بين الرافعي وحفني ناصف صلة ما إلى هذا الوقت، إلا ذلك النسب البعيد الذي يجمع بينهما في أسرة أبو لّون. . . وإلا. . . وإلا تلك الكلمة القاسية التي كتبها الرافعي بأسلوبه اللاذع عن (شعراء العصر) سنة 1905 ونشرها في مجلة الثريا وجعل فيها حفني ناصف ذيّل الشعراء. . .
وجاء حفني ناصف إلى الرافعي فحيا وجلس، وبسط أوراقه ليحقق. . . وقال الرافعي: قل لهم في الوزارة: إن كانت وظيفتي هنا للعمل، فليؤاخذوني بالتقصير والخطأ فيما يُسند إليّ من عمل؛ وإن كانت الوظيفة: تعال في الساعة الثامنة، واجلس على الكرسي كأنك مشدود إليه بحبل - فلا عليّ إن تمردت على هذا التعبد. . قل لهم في الوزارة: إنكم لا تملكون من الرافعي إلا هذين الإصبعين ساعات من النهار. . .!
واستمع الأديب الشاعر إلى حجة الأديب الشاعر، ثم طوى أوراقه، وحيا صاحبه ومضى، فلما كان في خلوته، كتب تقريره إلى وزارة الحقانية يقول:
إن الرافعي ليس من طبقة الموظفين الذين تعنيهم الوزارة بهذه القيود. . . إن للرافعي حقاً على الأمة أن يعيش في أمن ودعة وحرية. . . إن فيه قناعة ورضى، وما كان هذا مكانه ولا موضعه لو لم يسكن إليه. دعوه يعيش كما يشتهي أن يعيش، واتركوه يعمل ويفتنّ ويبدع لهذه الأمة في آدابها ما يشاء أن يبدع، وإلا فاكفلوا له العيش الرخيّ في غير هذا المكان. .!
وبلغ التقرير وزارة الحقانية، وانطوت القضية، وصار تقليداً من تقاليد المحكمة من بعد أن يغدو الرافعي ويروح لا سلطان لأحد عليه، وله الخيرة في أمره؛ ولكنه مع ذلك لم يهمل في واجبه قط، ولم ينس يوماً واحداً أنه في موضعه ذاك بحيث يرتبط به كثير من مصالح الجمهور.
قلت: إن الرافعي لم تكن بينه وبين حفني ناصف صلة ما. ولكن حفني تولى القضاء بعد ذلك مرة أو مرتين في محكمة طنطا فتقاربا وتوثقت بينهما أواصر الود؛ وكانت طنطا في ذلك الوقت حلبة من حلبت الشعر والأدب؛ فلا يمضي أسبوع حتى يقدم إليها أديب أو شاعر لزيارة الشاعرين: حفني والرافعي، فيقوم للشعر سوق ومهرجان. وكان بين الرافعي وحفني من التقارب في الصفات ما يؤكد هذه الصلة ويوثق هذا الود؛ فكلاهما شاعر،(214/31)
وكلاهما من دعاة القديم، وكلاهما أديب مرح يجيد الدعابة ويستجيد النكتة البكر، وإن كانت فكاهة حفني أظهر وأبعث على الضحك وتكشف عن فراغ القلب، وفكاهة الرافعي أعمق وأدل على قصد العبث والسخرية وامتلاء النفس. ولعل روح الفكاهة في الرافعي كان لها شأنها فيما كان بينها وبين المرحوم حافظ إبراهيم بك من صلة الود والإخاء.
حدثني الأستاذ الأديب جورج إبراهيم - صديق الرافعي وصفيُّه منذ حداثته - قال: لقد كانت الصلة بين الرافعي وحفني أكثر مما يكون بين الأصدقاء، وكانا يتزاوران كثيراً، أو يجتمعان في قهوة (اللوفر) بميدان الساعة، وكنت أغشى مجلسهما أحياناً. . . فكنت أرى حفني يتواضع للرافعي ويتصاغر في مجلسه، على مقدار ما يتشامخ الرافعي ويتكبر ويدعي الأستاذية، حتى ليرى له الرأي في القضايا التي لم يدرسها حفني بعد، فلا يحكم فيها إلا بما حكم الرافعي!
ظل الرافعي في وظيفته تلك، موزع الجهد بين أعماله الرسمية وأعماله الأدبية وما تقتضيه شئون الأب وشئون رب الدار، على المورد المحدود والبساط الممدود. . . وما زاد مرتب الرافعي الشاعر الكاتب الأديب الذائع الصيت في الشرق والغرب، الموظف الصغير في محكمة طنطا الكلية الأهلية، على بضعة وعشرين جنيهاً في الدرجة السادسة، بعد خدمة ثمان وثلاثين سنة في وظائف الحكومة. . .
على أن الرافعي كان له مرتب آخر من عمله في المحكمة، وهو ثمن ما كان يبيع من كُتبه للموظفين والمحامين وأصحاب القضايا الذين يقصدون إليه في مكتبه لعمل رسمي؛ فما كان أحد منهم يستطيع أن يظفر برضا الرافعي فيقضي له حاجته، حتى يبيعه كتاباً من كتبه. وكانت ضريبة فرضها الرافعي من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس!
ليت شعري أكان على الرافعي ملام أو معتبة أن يفعل ذاك. .؟ لنا الله أيها الأدباء في هذه الأمة التي لا تحفظ الجميل!
(لها بقية)
(طنطا)
محمد سعيد العريان(214/32)
أدب الميوعة والدلال
للسيد ماجد الأتاسي
منذ أسابيع خلت نعى أستاذنا (الزيات) في مقاله البليغ (أدب السندوتش)، على أدباء هذا الجيل النابتين (جهلهم للغتهم، وتقصيرهم في تحصيل آدابها).
ثم على الأستاذ (المازني) على هذا المقال، وحدثنا عن شغفه بالكتب في أيام تحصيله الأولى، وعن جلده على القراءة والدرس، وقص علينا قصته مع كتبه يوم زواجه، وكيف آثر الخلوة إلى هذه (الضرة) صباح يوم الجلوة على الجلوس والتحدث إلى زوجه العروس التي لاقت من ضرتها كل ما يسوء ويضجر والتي نسأل الله لها الرحمة والرضوان وإلهامها أن تقابل ما تجد من اغتياب أستاذنا لها في شتى المناسبات، بالصفح والغفران، وهي آمنة مطمئنة في فسيح الجنان.
ثم تناول الأستاذ (احمد أمين) هذا الموضوع بالبحث والدرس، والتحليل والتعليل. ووعدنا أن يعود إليه - كرة أخرى - ليصف لنا طرق العلاج، وفنون الدواء من (صيدليته) ولعله يفعل.
وأخيراً عالج الأستاذ (العقاد) أدب (السندوتش) من - الوجهة العالمية - وأتى على عوامل شيوعه وتفشيه في آداب الأمم الأخرى المعاصرة.
وهكذا تداول أساتذتنا الأئمة هذا الموضوع من أكثر من ناحية - بالبحث والدرس، والتحليل والتعليل.
وما كان لي - وأنا أحبو على عتبات الأدب حبو الأطفال وأحمل في ميدانه أجسام الأقزام - أن يدفعني ما يلابس - عادةً - نفوس الشباب، من الغرور والصلف والتهور والنزق، إلى أن أزج بنفسي بين أرجل هؤلاء العمالقة الأئمة الأخيار.
ولكنني أحببت - ولست أدري لم - أن أصرف أستاذي (المازني) ساعة عن هذه (الضرة) الباقية التي يهيم بها، والتي لا يطيق لها هجراً ولا بعداً، وأن أثقل فأهذر - أمامه - حيناً، فعهدي به أنه محظوظ من جماعة الثقلاء، فلكم طرقوا بابه موهناً وهو يغط في نومه، وسحبوه من فراشه لسؤال أو مزاح. ثم إني - بعد هذا - أطمئن وأقول له إنني لست من هؤلاء الشباب (الناعمين) أبناء الجيل الجديد، الذين جاءوه زائرين، فأذاقهم (علقته) وردهم(214/34)
إلى الباب مدحورين، ثم فضحهم وشهَّر بهم (في الرسالة) أمام الناطقين بالضاد أجمعين.
لئن نعى الأستاذ (الزيات) والأساتذة (المازني والعقاد وأمين) من بعده، على أدباء هذا الجيل الناجمين، جهلهم بلغتهم، وتقصيرهم في تحصيل آدابها، فما احقني إذن، أن أشغب على زملائي الناشئين - وعلى الكهول في سوريا أيضاً - فأنعى عليهم جميعاً: ضعف النفس، وضمور الشخصية، وقلة الاستعداد لحمل رسالة الفكر الحر، والعقيدة الثائرة؛ وأن أسمي هذا النوع من حملة الأقلام (أدباء الدلال) بعد أن أسمى أستاذي (الزيات) أدبهم (أدب السندوتش) هذا الذي تقوم ثقافته على (نتفات من الكتب، ولقفات من الصحف، وخطفات من الأحاديث) والذي نجد نتاجه (مختضراً معتسراً كجنين الحامل أسقطته قبل التمام).
إن شأن اللغة في الأدب الفحل ثانوي بالقياس إلى نفس الأديب وشخصيته، وإن الجهل بها والتقصير في تحصيل آدابها، من السهل واليسر - إلى حد بعيد - أن نعالجهما ونبرأ منهما، إذا ما تعهدناهما بالإرادة القوية، والعزيمة الحازمة، والكدح الصابر، والمعاناة الجلدة.
ولكن اللغة بلا نفس تنفخ فيها الحياة، ولا شخصية تطبع هذه الحياة بطابع خاص، ودون فكرة تذاع، لا تكون إلا حطاماً تدوسه الأقدام، وقرقرة تعافها الآذان
كثيرون وكثيرون من الأدباء أوفوا في معرفة لغتهم على الغاية، وأشرفوا في تحصيل آدابها على الذروة، ولكن طبيعتهم التي لابستهم، وبيئتهم التي أخرجتهم، وعوامل أخرى، كل هذا لم يهيئ لهم النفس التي تهدم لتبني، والشخصية التي تستقل لتهيمن، فتهوروا وتدهوروا وانحدروا إلى الوادي بين جموع الناظمين والمنشئين واللاعبين، من حيث طفر إلى القمة أهل النفوس والشخصيات، فتبوءا قمم (أولمب) واستقروا في جنات (عبقر) ذلك لأن قوام الخلود في عالم الأدب، نصيب هذا الأدب من فيض الحياة وزخرها، وقسطه من معرفتها وخبرها. وهذه الحياة التي أعدت للرجال أهل العود الصلب واللسان العضب، محرمة على من ضعفت نفوسهم، وضمرت شخصيتهم، ولانت قناتهم، وموصدة أبوابها دون أولئك الذين يتهيبون مجاهلها، ويخافون جدها، ويجفلون من عثارها، ويعولون جياعاً على عتباتها، والذين لا تحملهم أقدامهم الرخوة للجري فوق شوكها، والوثب على صخورها
هؤلاء (الناعمون المدللون) أهل الدلال والدعة، هم طفيليات في هذه الحياة، وهم - بالتالي - متطفلون على موائد الأدب، وليس للمتطفلين في عالم الأدب بقاء(214/35)
بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا، فأقول بأن أصحاب النفس الشديدة، والروح القوية، والشخصية الجبارة، يتهيأ لهم من حسن البيان، وجودة المقال والارتفاع بفنون الكلام، ما تتقطع دونه أقلام من تمكنوا من ناحية اللغة، وتفقهوا في أساليبها، وبصروا بنتاجها، من أهل البرودة والنعومة والدلال
ذلك لأن الفكرة في النفس القوية قوة، قوة عاصفة جامحة حرون، (تتكهرب) لها الأعصاب المرهفة، ويثور لحملها الوجدان، فما تجد النفس ترفيها وتنفيساً إلا في أن تقذف بها في أسلوب نير كومضة البرق، قوي كالحمم تنطلق من فوهة البركان، بليغ يرتفع في آفاق البلاغة والبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأحلام والأفهام
هذا هو الأستاذ البشري يقول: (إن السيد جمال الدين الأفغاني كان غريباً عن العربية، وإن قاسم أمين كان شبه غريب عنها، وإن حسين رشدي باشا كان قل أن تطرد على لسانه ثلاث كلمات عربية متواليات، ومع هذا كانوا يرتفعون بالعبارة أحياناً إلى ما يتخاذل من دونه جهد أعيان البين)
ولا عجب من هذا، ألا ترى إلى مقالنا، كيف يبين ويرتفع في سماء الوجدان ساعة ثورتنا وغضبتنا، إلى ما لا قدرة لنا عليه في ساعة الرضى والاطمئنان؟
كذلك هي النفس القوية، أبداً في ثورة عاصفة، وغضبة جامحة، وكذلك هي أبداً في تحفز للوثبة، وتأهب للطفرة والهجمة فان لم تجد أمامها ما تحطم، رجعت إلى قرارتها تثير حرباً عواناً بين خيرها وشرها، وحقها وباطلها، وتقاها وفجورها، لأن الهدوء والركون صور من صور الموت، والنفس القوية لا تعرف فترات الموت والبرودة والجمود، ما دامت تبصر النور، وتتنفس الهواء.
الحياة سفر الأديب الموهوب: وهي صراع دائم بين الغي والرشد، والحق والباطل، والجمال والقبح، والهدى والضلال، والحب والبغض؛ فالأديب الحق هو الذي ينزل إلى ميدان هذه المعركة المحتدمة، يقاتل ويناضل ويصاول في سبيل الرشد والحق والهدى والحب والجمال، إلى أن يحطم أصنام الشر والبطل، ويهدم حصون الضلال والقبح، أو يتحطم هو على أقدام الحق الذي ناضل في سبيله، وتحت ظل الراية. التي نافح عنها، وهكذا يلفظ النفس، راضي النفس، مطمئن الضمير، هادئ الخاطر، يبتسم لأحلام القبر كما(214/36)
نسعى إلى الفراش إذا مسنا اللغب وأثقل جفوننا النعاس، فنسحب اللحاف، ونسبله علينا. هادئين باسمين لنستسلم إلى الأحلام.
هذه هي الحياة؛ وهذه هي رسالة الأدب: قطع الصخر. وتجرع الصاب، وتحطيم الأصنام. والطفرة على حطامها إلى قمم المجد، وسماء الخلود.
فهل أعد أدباؤنا الناشئون - والكهول أيضاً - نفوسهم ومهجهم وأدمغتهم لهذه المعركة التي وقودها النفوس الطامحة، والقلوب الراغبة، والضمائر الحرة، والعقول النيرة؟
اللهم لا! اللهم لا!
من يمتري في هذا فلا ينعى على أدبائنا الناجمين - وعلى الكهول عندنا - رخاوة العصب. والدلال والدعة والأنوثة واللين؟
من يمتري في هذا، فلا ينعى عليهم ضيق الأفق، وقحط الخيال، وقصر المدى، وضعف الجنان، وتهيب القديم لأنه قديم، وحب الجديد لأنه جديد، والحرص على السلامة والمسالمة، والراحة والركون، والنفرة من المصاولة والمعاركة وقلة الجلد على حياة الجهد والتعب والضوضاء، والتهيب من التجربة والإقدام، وضعف التعلق بالحق والمثل الأعلى والجمال؟
أن حياة الأدباء أصبحت مضرب المثل، ووحدة القياس، في خمول النفس، وكسل العقل، وضعف الاستعداد للحياة؛ فإذا قيل لك: هذا أديب فاعلم أنه من هؤلاء الذين يخرجون إلى الشارع، والفراش على أكتافهم (والمخدة) فوق ظهورهم.
أجل! إننا لا نرى من ينقطع إلى الأدب من شبابنا إلا الذين خانتهم أقدامهم في الوثوب إلى مراقي المجد، والطفرة إلى قمم الظفر والذين نزلوا إلى ميادين الحياة، فلما بلوها وبلتهم، وعجموها وعجمتهم ولوحت لهم بسياطها من بعيد هرولوا وارتدوا على أعقابهم ناكصين حائلة ألوانهم، مرتعدة فرائصهم، ثم انتحوا جانبا قصياً من الطريق، بعيداً عن مواطن أهل الرجولة الإقدام، على غرار العاجزين المتسولين الذين يقبعون في زوايا الشوارع القذرة، أمام أهل الأعمال.
ها هم أولاء شبابنا الذين يخفقون في الشهادات (والبكالوريات) تسألهم: ما تصنعون؟ فيقولون: ندرس الأدب. وهكذا أصبحت دراسة الأدب صناعة العجز، ودليل الخور،(214/37)
وبرهان الفقر في المواهب، أو الضعف في النفس. وقد ينتهي هؤلاء إلى شيء ما في دراستهم هذه، فتراهم يصيحون نائحين في مآتم الموتى، أم مهرجين في حفلات الأحياء، أو خارقين للبخور أمام أهل الجاه
ولا عجب من هذا، فهم لا يصلحون للحياة، ومن لا يصلح للحياة لا يصلح لحمل القلم، والوقوف في صفوف الأدباء
ثم هذه هي المقاهي، ودور البطالة واللهو والعبث، أصبحت ملاجئهم يلجئون إليها كما يلجأ العجزة إلى دورهم وملاجئهم، ويفرون إليها من زحمة الحياة، وهم يقرقرون ويموءون وينقنقون
أعرف أديباً كهلاً - أو على الأصح متأدباً -: أفتدري يا صاحبي ما هي رسالة أدبه؟ رسالته - بالضبط - رسالة (عميان الجنائز) والنائحات اللاتي يستأجرن في المآتم للندب واللطم والشق والعويل، أو رسالة (البرابرة) الذين يستأجرون في مصر لتأديب المآدب، وتنظيم الحفلات
يسمع أن صديقه فلاناً قد مرض ولزم الفراش؛ وقد يكون ما به لفحة حر، أو زكام طفيف، فهو - منذ أيام المرض الأولى - يعد لصديقه العزيز مرثيته العصماء ليبكي فيه - إذا ما مات وأظنه يريده أن يموت ليرثه - ليبكي فيه النجم الذي أفل، والبحر الذي نضب، والرحمة التي رفعت، والرجولة التي فقدت. ويسمع أن (فلانا) وهو من أهل الجاه الطويل العريض - سيؤم المدينة بعد أيام؛ فإذا قدم كان صاحبنا الأديب الخالد أول المستقبلين والمرحبين، وكان أول الخاطبين بين يديه والمادحين؛ وقد يكون هذا العين ممن لا يعرفهم صاحبنا إلا (بالسلام) وقد يكون من هذه الطبول المنفوخة الجوفاء التي نقع عليها في طريقنا صباح مساء؛ وقد يكون ممن كان يشهر بهم أديبنا آناء الليل وأطراف النهار؛ وقد يكون من هؤلاء المجرمين الذين يروحون ويجيئون أمامنا بأثواب القديسين والأقطاب، فنسجد لهم ونحملهم على الأعناق؛ قد يكون هذا العين من كل هؤلاء، ولكن أديبنا لا يتحرج إذ يخلع عليه الألقاب، وإذ يغرقه بالتحيات، ويجعله في البلاغة سحبان وإن كان أعيا من بإقل، وفي الكرم حاتماً وإن كان أبخل من أشعب، وفي الشجاعة عنترة وإن كان أجبن من أبي دلامة(214/38)
وليت هذا الرثاء وهذا المديح كانا من وحي الخاطر، ومن بنات القريحة؛ وإنما هما سرقات من الكتب رصفت رصف الحصى، ونتفات من الدواوين ركبت تركيب (اللعبة)
أعرف أديباً آخر - أو على الأصح متأدباً - أفتدري يا صاحبي ما رسالته؟ رسالته هي مهمة (سماسرة) القطن في مصر أو (سماسرة) البصل والثوم عندنا في سوريا. إذا كان الصباح يدعو إلى الانتداب، ويتغنى بمآثره و (يسمسر) له؛ وإذا كان الضحى، وكان الحكم الوطني ملأ الجو بالتصفيق، وحطم الآذان بقصائده ينشر فيها مجد بني عبد شمس، ويذيع فيها صنيع أبناء عدنان؛ وهو (يسمسر) للحكم الوطني لأن بيد الحاكمين مناصب الدولة، ورياسة ديوان وزارة المعارف؛ وهو عند الأصيل معارض للحكومة الوطنية، متحمس في معارضته، مسرف فيها، لأنهم طردوه ولم يقبلوه، وهو أخيراً في المساء رجل مسالم يقف بعيداً (على الحياد) لا يدعو إلى شيء ولا يؤمن بشيء لأنهم لوحوا له من بعيد بالسوط، مهرول إلى عقر داره، مضطرب النفس، مهتز القلب؛ وآثر السكوت والرضى بالواقع على الشغب المغرض، والنعيب المضجر
أعرف متأدباً قيل له ذات يوم (لم لا تنتسب إلى هذا الحزب ومبادئه كيت وكيت؟) فقال: (إنني أؤمن بمبدئه، وأرضى عن منهجه، وأطمئن إلى برامجه، ولكن خصومه أصدقائي وصحبي، فلا قدرة لي على خصامهم!. . وعلى أن أكون حرباً على هذا الحزب بين صفوفهم!. .)
هذه خطوط هي إلى اللمحات الخاطفات أقرب منها إلى الصور الجامعات، أوردناها - على عجل - لتلمس أيها القارئ نواحي من هذه الحياة التي يضطرب فيها جماعة الأدباء، والتي هي ضرب من ضروب الجمود بل الموت.
يزعم أدباؤنا أن سماءنا غائمة ليس لها روعة الإيحاء والإلهام، وأن آفاقنا ضيقة ليس لها القدرة على تفتيق الأذهان والأحلام، وأن حياتنا جامدة ليس فيها من فيض الحياة ما يحرك المشاعر والأوتار.
لا! لا! لم تغم السماء لكن عيونكم حسرى ما ترتفع، ولم تضق الآفاق ولكن أذهانكم لم تفتق، ولم تتجمد حياتكم ولكن أوتار قلوبكم ما تتحرك.
ها هنا زعماء يرقصون على قبور الأمة، ويرتفعون على أشلاء الشهداء، ويتناصرون(214/39)
لاقتسام الغنائم تناصر الذئاب الجائعة أمام الجيف في أقصى الصحراء، والناس - على رغم هذا - يحملونهم على الأعناق، ويحرقون أمامهم البخور، ويهتفون باسمهم أطراف الليل وأناء النهار
في كل مكان مرجفون يرجفون، ومضللون يكذبون، وغادرون يغدرون، وماكرون يمكرون، وجاهلون يتعالمون، وأغبياء يرتفعون، ومجرمون في ثياب الأقطاب والأولياء، وبين الهتاف والتصفيق يروحون ويجيئون.
والحقيقة في كل هذا تشرد فلا مأوى ولا مصير، والفضيلة تستغيث وتستجير فلا مجير ولا نصير.
أليس في هذا، ما يلهب الحقد والضغينة في صدر الأديب ويحوله إلى طاغية غشوم، يبطش بلا رحمة ولا هوادة، في أهل المجد المزيف المجرم، والجاه الملوث الكاذب؟
في كل مكان أمة تصنع لقمتها من دمها ودمعها وقطع كبدها ثم ترفعها بيدها المرتعشة المشلولة إلى فمها لتسد رمقها، فإذا اليد القوية تمتد إليها وتتخطفها، وهي على شفتيها، والسوط يهتز في يسراها.
في كل مكان نعاج رواقص على سكينة الجزار، وسياط هاويات على ظهور المستضعفين من العباد، وعذارى يشردن ويبعدن عن أوطان الآباء والأخوة والأمهات، وشذاذ الآفاق يشترون الضمير البشري بالأصفر الرنان، وذئاب (جنيف) تعصف بها غرائز الوحشية والجشع، فتنتشر في بقاع الأرض الآمنة المطمئنة، تثير الفتنة، وتبعث الروع، وتستنزف الدماء، ومن ورائها الخبث الأوربي يحارب في سبيل السلام، ويبغض في سبيل الحب، ويرهب في سبيل التأديب، ويسرق في سبيل الإطعام، ويوقظ الفتنة في سبيل الأمان!
أليس في كل هذا ما يشعل النخوة في رءوسكم، ويحرك المروءة في نفوسكم، ويثير الغيرة في قلوبكم، ويدفعكم إلى إغماد أقلامكم في أفئدة هذه الذئاب، وصوغها أسرّة لهذه العذارى المشردات، وإرسالها سهاماً في صدور الظالمين الطغاة، ورفعها أعلاماً خفاقة للحق والخير والجمال؟
أين أنتم يا أصحاب المشاعر الرهيفة، والقلوب الرقيقة؟ يقولون (الأدب نزيف القلب: طاهرة ورجسة، ونشيد الشعور: نبيلة وخسيسة؛ ومعيار القوة فيه أن ينزف القلب فيتفجر،(214/40)
وأن ننشد فنبدع.) إذن، لم لا تسمعوننا دقائق من زئيركم، إلى جانب الشهور الطوال من نحيبكم نحيب الأطفال، ونواحكم نواح العجائز؟
ستقولون: (هذا ما يجري على اللسان، وما يفيض عن القلب) وسنقول لكم: (إنكم مرضى في أعصابكم، يا أنصاف الرجال، وأشباه النساء.)
بلى! يا طلاب الأدب الباكي النائح، يا عجائز الفن
هؤلاء هم آباؤكم وأمهاتكم وأبناء عشيرتكم، يزجون في السجون، ويرسفون في القيود، وتتلظى رقابهم على شفرات منجل الجلاد؛ ترتعش جفونهم المثقلة لتلمح ومضات النور، وتلهث صدورهم من خناق الكهوف، ويغلي في صدورهم الشوق إلى مروج الحياة الحرة، حيث ترقص عرائس الأحلام والآمال في أحضان الربيع. . .
أليس من جمود الحس، وبلادة الشعور، وغلظ القلب، أن تشربوا كأسكم على قبور الآباء، وأن ترقصوا في مآتم الأمهات، وألا تحرك أوتار قلوبهم هذه الأماني المشتركة الطوال العراض، وألا يهيمن على نفوسكم هذا الموقف الذي تتمازج فيه الأنوار بالظلمات، والآلام بالآمال، والضجر بالرغبات؟ فما نراكم إلا مالئين بنحيبكم جو الرجال، وقارعين آذانهم بنواح (الدلع) والدلال؟
المجد، والشهرة، والنبوغ، والخلود: كل هذا من عرائس القلب، وحسان الخيال.
لم لا يوقظ الحب في قلوبكم، وتلهب الشهوة في جسومكم عرائس هذه العواطف العليا اللاتي يرقصن على أكف النجوم عاريات، وينمن على ظهور القرون غافياتٍ، ويضربن على أوتار التاريخ منشداتٍ، ويقطفن أكاليل الغار من رياض الجنان، ليعصبن بها رءوس المجانين من أهل العشق والغرام؟
لم لا تترامون على أقدام هذه العرائس التي يشع منها نور الرجولة، وتتفتح تحتها أزهار الحياة، بدل أقدام غانياتكم التي يفوح منها روائح الرجس والخزي والعار، والتي مصيرها إلى فجوة قذرة في جوف التراب؟ أليس في اختطاف الرجال ورغباتهم من يد الأقدار، وركوبهم مراكب الهول في سبيل الآمال، وتبوئهم عروش النصر مضمخة بالدماء، أليس في كل هذا ما يبعث فيكم عواطف الرجولة والشدة والبأس، بدل الأنوثة والبرودة والقنوع والدلال؟(214/41)
أيها السبعة، يا شباب الشيوخ، ويا شيوخ الشباب
ابعثوا الثورة والتمرد في نفوس الناشئين من الأدباء؛ قولوا لهم: (إن حياة الأديب لا تكون إلا في ميادين الطعن والضرب والعراك؛ ولا تهنأ إلا تحت ظلال الحق والحب والخير والجمال!)
قولوا لهم: (إن القلم الذي تحملونه أعد لتغمدوه في قلوب الباطشين الظالمين، والمجرمين الحاكمين، والأتقياء المزيفين، فان لم تفعلوا فاغمدوه في قلوبكم فما خلقت الحياة لنذل جبان رعديد، وفي القبور مراد للاغبين)
إذا فعلتم هذا، أيها السبعة الأئمة، في العالم العربي جميعه، تصبح معضلة الضعف في اللغة من الهنات الهينات؛ وتقر عيونكم بأدباء على غراركم: هم أهل لحمل القلم ومجده، وهم أهل لأن يقولوا عن أنفسهم ما قال (فولتير) عن نفسه (ما يمنعني عن أن أكون ملكا، وإن لم يزن مفرقي تاج؟!)
أجل! آنئذ يصبحون ملوكاً على عروش الأدب والبيان؛ ملوكا تتحطم تحت أقدامهم عروش ملوك البطش والجاه، وتحمل عروشهم الخالدة أعناق القرون والدهور والآباء.
(حمص سورية)
ماجد الأتاسي(214/42)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الشعراء
وقال زارا لأحد أتباعه: منذ بدأت أعرف حقيقة الجسد لم تعد الروح روحاً في نظري إلا على أضيق مقياس، وهكذا صرت أرى (كل ما لا يفنى) رمزاً من الرموز.
فأجاب التابع قائلاً: لقد قلت هذا من قبل يا زارا ولكنك أضفت إليه قولك (وكثيراً ما يكذب الشعراء) فلماذا قلت هذا؟
فقال زارا: أنت تسأل لماذا، وما أنا، ممن يحق عليهم أن يُسألوا. ما أنا ابن الأمس وقد مر زمان طويل على إدراكي أسباب ما أرتأيه، وهل أنا خزانة تذكارات لأحفظ الأسباب التي بُنيت عليها آرائي؟ إنما يكفيني عناء أن أحفظ هذه الآراء نفسها، أفليس في العالم عصافير تشرد من أماكنها؟ ولكم وجدت في قفصي من طير غريب يرتجف إذا ما مرت عليه يدي ومع ذلك فماذا قال لك زارا يوماً؟ لقد قال إن الشعراء كثيراً ما يكذبون، وهل زارا نفسه إلا واحداً من هؤلاء الشعراء؟ أفتحسب أنه بهذه الصفة قد أعلن الحق؟ وما الذي يكرهك على تصديقه؟
فقال التابع: إنني مؤمن بزارا.
أما زارا فهز رأسه وابتسم قائلا: ليس الإيمان مما يرضيني حتى ولو كان هذا الإيمان معقودا علي، ولكن إذا قال إنسان بكل جد: إن الشعراء يكذبون، فانه ليقول حقاً لأننا نحن الشعراء نكذب كثيراً، ولا بد لنا من الكذب ما دام ما نجده من العلم قليلا. ومَنْ من الشعراء بيننا لم يغش شرابه وفي سراديبنا تستقطر السوائل المسمومة؟ ولكم فيها من أمور يقصر عن وصفها البيان. إن افتقارنا في المعرفة يهيب بنا إلى محبة مساكين العقول وبخاصة إلى محبة مسكينات العقول الفتيات. . . فنحن نعود بشهواتنا إلى الأمور التي تتحدث عنها العجائز في السمر ونقول إن ما نبحث فيه إنما هو قضية المرأة الأبدية.
يخيل لنا أن أمامنا طريقاً سوياً يؤدي إلى المعرفة وأن هذا الطريق لا ينكشف لمن يدركون(214/43)
الأمور بالعلم، فنحن لا نؤمن إلا بالشعب وبحكمته. فالشعراء جميعهم يعتقدون أن الجالس على منحدر جبل مقفر يتنصت إلى السكون يتوصل إلى معرفة ما يحدث بين الأرض والسماء. وإذا هم هزهم الشعور المرهف خيل لهم أن الطبيعة نفسها أصبحت مغرمة بهم فيرونها تنحني على آذانهم لتلهمهم البيان الساحر والأسرار، فيقفون مباهين بإلهامهم أمام كل كائن يزول.
واأسفاه! إن بين الأرض والسماء أموراً كثيرة لا يحلم بها إلا الشعراء وهناك أمورٌ أخرى كثيرة فوق السماء، فما جميع الآلهة ألاّ رموز أبدعها الشعراء.
والحق أننا منجذبون أبداً إلى العلياء، إلى مسارح الغيوم فنرسل إليها أكراً منفوخة ملونة ندعوها آلهة وبشراً متفوقين. والحق أنهم من الخفة على ما يجعلهم أهلا لاقتعاد مثل هذه العروش
ويلاه! لكم تعبت من كل قاصر يطمح إلى جعل نفسه شيئاً معدوداً؟ ولكم أتعبني الشعراء؟
وما نطق زارا بهذا الكلام حتى ثارت نفس تابعه، ولكنه كظم غيظه فسكت وسكت زارا أيضا وغيض نظره كأنه يسبر أقاصي نفسه، ثم تنفس الصعداء وقال: أنا من الأمس ومن الزمن القديم ولكنَّ في شيئاً من غدٍ وبعده ومن الآتي البعيد. فقد أتعبني الشعراء الأقدمون منهم والمجددون فما هم في نظري إلا رغوة لا صريح تحتها، بل هم أسِرَّة بحار جفت مياهها. إن أفكارهم لم تنفذ إلى الأغوار، وقد وقف شعورهم عند أول جرفها. وخير ما ترى في تأملاتهم قليل من الشهوة وقليل من الضجر فليست بحورهم إلا مجالات تنزلق على تفاعيلها الأشباح فهم لم يدركوا شيئاً بعد من القوى الكامنة في النبرات. لم يبلغ الشعراء درجة النقاء فهم يعكرون جداولهم ليخدعوا الناس ويوهموهم أنها بعيدة الغور؛ إنهم يريدون أن يقيموا أنفسهم موفقين بين مختلف المعتقدات غير أنهم لا يزالون رجال العمل الناقص السائرين على السبل المتوسطة الحائرة فهم يعكرون المياه بأقذارهم.
وآسفاه لقد ألقيت شباكي في بحارهم آملا اصطياد خير الأسماك ولكني ما سحبت هذه الشباك مرة إلا وقد علق فيها رأس إله قديم. وهكذا كان يجود البحر بحجر على الجائع. ولعل الشعراء أنفسهم خرجوا هم أيضاً من البحر وفيهم ولا ريب بعض اللآلئ، فهم أشبه بنوع من المحار الممنع بأصدافه، ولكم وجدت في داخلهم بدل الروح شيئاً من الرغوة(214/44)
المالحة. إن الشعراء يقتبسون من البحر غروره، وهل البحر إلا أشد الطواويس غروراً؟ فهو حتى أمام أقبح الجواميس يدحرج أمواجه ويبسط أطالس مراوحه وأطراف وشاحه المفضض فيحدجه الجاموس بنظرات الغيظ لأن روحه المقتربة من الشاطئ لا تزال ملتصقة بمعلفه ومرعاه فما يبالي بالجمال وبالبحر وببهاء الطواويس. هذا هو المثل الذي أضربه للشعراء. والحق أن فكرهم لطاووسٌ مغرور بل هو بحر من الغرور. ففكر الشاعر يطلب مَنْ يشاهده حتى ولو كان المشاهد جاموساً.
لقد أتعبني هذا الفكر وسوف يأتي زمان - وهو قريب - يتعب فيه هذا الفكر من ذاته.
رأيت بعض الشعراء يتحولون عن الشعر ويوجهون النقمة إلى ما كانوا عليه، ورأيت من يقدَّمون كفّارة للفكر، وما نشأ هؤلاء المكفَّرون عن الضلال إلا بين الشعراء.
هكذا تكلم زارا. . . .(214/45)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 16 -
سامكهيا:
عاش الحكيم (كابيلا) مؤسس هذا المذهب في القرن السادس قبل المسيح كما يظن أكثر الباحثين المدققين. وقد نشأ هذا الظن عندهم من أن أقدم النصوص التي تحدثت عنه وعن مذهبه ترجع إلى القرن الخامس قبل المسيح، وأنه قد عثر في هذا المذهب وفي المذهب البوذي على تأثرات قوية متبادلة بين المذهبين بالتساوي مما يدل على أنهما متعاصران تقريباً لا سيما إذا كان بعض تلك النقط المتشابهة واضح الأصلية في أحدهما والحداثة في الثاني، والبعض الآخر على العكس من ذلك تماماً.
سمي هذا المذهب (سامكهيا) لقوله بالتعدد الذي لا يتناهى في النفوس، وهو على الأصح مذهب إلحادي لا يقول بإله مسيطر متصرف في الكون، وهذه إحدى النقط التي يلتقي فيها مع البوذية التي صورتها لنا نصوص العصر الذي تلا عصر (بوذا) وبعبارة أدق: لعلها إحدى النقط التي تأثرت فيها البوذية بعد موت زعيمها بمذهب (سامكهيا) الإلحادي الذي لا يشك باحث في أن الإلحاد متأصل فيه.
يرى صاحب هذا المذهب أنه لا يوجد للكون إله قدير منفرد بالتصرف فيه، وإنما يرى أن هناك روحا عاماً أو عالماً من الأرواح غير محدود ولا متناه، متشابه الوحدات، وأن هذه الوحدات بتكاتفها مع المادة هي التي تحدث في الكون هذه الآثار وتلك التغيرات على النحو الذي يفصله فيما بعد، وهو يرى كذلك وجود عالمين هما في الحقيقة والأزلية والأبدية سواء. وهما: النفس، وتسمى بالهندية: (بوروشا) والمادة، وتسمى: (براكربيتي). وهذان العالمان لا يتفقان في أي شيء آخر عدا الحقيقة والأزلية والأبدية. ومع ذلك، فان بينهما صلة قوية، لأن مجاورة النفس للمادة هي التي تكسبها الحركة التي هي منشأ كل النتائج(214/46)
الصادرة عنها، ولكن النفس وحدها لا تستطيع أن تفعل شيئاً وإن كانت حية مشتملة بالقوة على جميع عناصر القدرة التأثيرية، وهي مبصرة ولكنها عاجزة على عكس المادة العمياء المشتملة على قدرة كامنة يستحيل بروزها من غير اتصالها بالنفس، وهم لهذا يشبهون اتحادها باتصال مقعد وأعمى التقيا في الصحراء، فاتفقا على تعاون عملي بينهما يضمن لهما النجاة، وهو أن يحمل الأعمى المقعد على كتفيه، ليمكنه من السير مقابل أن يدله المقعد بوساطة بصره على الطريق الذي لم يكن في مكنته أن يعرفه لولا معاونة رفيقه، وقد وصلا معاً إلى شاطئ النجاة بفضل هذا التعاون العظيم. وهكذا شأن النفس مع المادة هيأ لهما اتحادهما إبراز خواصهما التي لم تكن لتوجد بدون هذا الاتحاد.
وللمادة ثلاث صفات ملازمة لها، وهي الخيرية والهوى والظلمة، وإن هذه الصفات تظل تتفاعل فيما بينها في عصور مختلفة حتى تصل إلى حالة الاعتدال التي تسوي بينها، فإذا وصلت إلى هذه الحالة تطورت تطوراً آخر جديداً نشأت عنه الطبيعة، وبارتباط النفس والمادة المتطورة والطبيعة الناشئة عن هذا التطور يوجد هذا العالم المشاهد. غير أن هذه النظرية لم تلبث أن تلاشت وحلت محلها نظرية أخرى على العكس منها تماماً، إذا أصبحت فكرة الارتباط الحقيقي بين النفس والمادة لا وجود لها، وإنما أصبح الرأي السائد هو أن النفس تجتمع مع المادة اجتماعاً مؤقتاً، أساسه الضرورة التي تتطلبها الحياة الدنيوية، ثم لا تلبث هذه الضرورة أن تزول فتتخلص النفس من هذه الصلة المقيدة لها ثم تنطلق إلى عالم الأبدية الأعلى حيث تنام بلا نهاية نوماً عميقاً هادئاً لا تزعجه الرؤى ولا تنغصه الأحلام.
ويرى كذلك أن الشر في هذا العالم موجود وجوداً ذاتياً وأنه لا يقدر على محوه إلا بوساطة العمل الصالح والتخلي عن جميع اللذائذ والتأمل في أسرار الكون، وعلى الخصوص بالمعرفة التي هي الغاية المثلى من جميع هذه المحاولات المتقدمة.
وهم للحصول على هذا الخلاص المنشود يغالون في التصرف مغالاة شديدة حتى ليجلس الواحد منهم على شاطئ أحد الغدران عدة أعوام طويلة دون أن يغادر مكانه، ويقتات بالأعشاب ويديم التفكر في أسرار الكون، ولا يزال يغالب نفسه حتى ينتزعها نهائياً من دنس المادة، وقد تصل به الحالة أثناء هذا التنسك إلى أن يصير جسمه نصف متحجر(214/47)
وتنبت فيه الحشائش وتلتف عليه الأغصان.
ومع ذلك فسوف لا يعم هذا الخلاص جميع النفوس البشرية وإنما سيبقى منها عدد غير متناه ساقطاً في أحابيل الشر مسجوناً في غيابات الأجسام المادية، لأنه مهما اقتطع من اللامتناهي عدد ذهب إلى الخلاص، فان ذلك الاقتطاع لا يؤثر فيه ولا يخرجه عن صفة اللانهائية لا سيما إذا عرف أن الأصل هو الشر أو الانحباس في سجن المادة، وأن التخليص عارض، ولكن أنجح الوسائل إلى هذا التخليص هو معرفة القوى الكونية الخمس والعشرين ودوام التفكير فيها. ولذلك يقول (بياس ابن براشن): اعرف الخمسة والعشرين بالتفصيل والتحديد والتقسيم معرفة برهان وإيقان، لا دراسة باللسان، ثم ألزم أي دين شئت فان عقباك النجاة. . .
وهذه القوى الخمس والعشرين هي: النفس الكلية والهيولي المجردة، والمادة المتصورة، والطبيعة الغالبة، والعناصر الرئيسية وهي: السماء والريح والنار والماء والأرض، وتسمي (مهابوت) والأمهات التي هي بسائط العناصر، فبسيط السماء (شبد) وهو المسموع وبسيط الريح (سبرس) وهو الملموس. وبسيط النار (روب) وهو المبصر. وبسيط الماء (رس) وهو المذوق، وبسيط الأرض (كند) وهو المشموم. ولكل واحد من هذه البسائط ما نسب إليه وجميع ما نسب إلى ما فوقه. فللأرض الكيفيات الخمس، والماء ينقص عنها بالشم، والنار تنقص عنها به وبالذوق، والريح بهما وباللون، والسماء بها وباللمس. ولعلهم في نسبتهم الصوت إلى السماء يقصدون به أن لدوران الكواكب في أفلاكهاتلك اللحون الموسيقية التي زعم (فيثاغورس) أن سماعها يتاح لكل من صفت نفسه ولطف حسه. والحواس المدركة، وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس والإرادة المصرفة والضروريات الآلية. واسم الجملة: (تتو) والمعارف مقصورة عليها
أما الإنسان فهو عند هذا المذهب معقد تعقيداً يلفت النظر، إذ هو مكون من ثلاث شخصيات مختلفة: الأولى الجسم المادي الذي ينحل ويتفكك بالموت ثم تتلاشى أجزاؤه في أصولها الناشئة عنها من عناصر المادة. الثانية جسم دقيق شفاف، وهو الذي يعتبر في الحقيقة الجوهر الصحيح للإنسان، وهو الذي يتناسخ ويتقمص الأجسام الأخرى. الثالثة النفس التي هي الواحد الحق المماثل كل المماثلة لجميع الآحاد الحقة التي هي من عالمه(214/48)
النفساني الغير المتناهي.
ويرى هذا المذهب أيضاً أن الحواس الإنسانية لم توجد اتفاقاً ولا عبثاً، وإنما وجدت وفاقاً لعناصر الكون، فكل حاسة من حواس الإنسان يقابلها عنصر من عناصر الطبيعة يصلح لأن تقع عليه هذه الحاسة بالذات كما أشرنا إلى ذلك عند الكلام على الديانة البراهمانية.
وليس هذا التعقيد في شخصيات الإنسان مقصوراً على مذهب (سامكهيا) وحده، وإنما هو أسلوب هندي عام اشتركت فيه أكثر مذاهب تلك البلاد. بل إن غير (سامكهيا) قد يصل بهذه الشخصيات إلى أربع أو سبع أو عشر حسب الظروف والأحوال.
يتبع
محمد غلاب(214/49)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
151 - تكون رأساً لخيار محمودين
في (رسالة أرسطو للاسكندر):
إنك قد أصبحت ملكا على ذوي جنسك وأوتيت فضيلة الرياسة عليهم فمما يشرف رياستك ويزيدها نبلا أن تستصلح العامة، وتكون رأساً لخيار محمودين لا لشرار مذمومين. فان رياسة الاغتصاب - وإن كانت تذم لخصال شتى - أولى ما فيها بالمذمة أنها تحط قدر الرياسة وتزري بها، وذلك أن الغاضب إنما يتسلط على الناس كالعبيد لا كالأحرار فرياسة الأحرار أشرف من رياسة العبيد. وقد كان ملك فارس يسمى كل أحد عبداً ويبدأ بولده، وهذا مما يصغر قدر الرياسة، لأن الرياسة على الأحرار والأفاضل خير من التسلط على العبيد وإن كثروا.
لا تلتفت إلى مشورة من يشير عليك بغير الذي أنت أهله، ولا تعبأ بكلام أقوام خسيسة آراؤهم ناقصة هممهم يموهون عندك الأمور ويحملونك على العامة.
152 - نحن لا نملك علينا من لا يشاور
يروى أن روميا وفارسيا تفاخرا، فقال الفارسي: نحن لا نملّك علينا من يشاور
فقال الرومي: نحن لا نملّك علينا من لا يشاور
153 - الملك الدستوري
في (الكامل) لأبن الأثير: كان عضد الدولة لا يعول الأمور إلا على الكفاة، ولا يجعل للشفاعات طريقاً. شفع مقدم جيشه (أسفار) في بعض أبناء العدول ليتقدم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله. فقال: ليس هذا من أشغالك إنما الذي يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد، ونقل مرتبة جندي وما يتعلق بهم، وأما الشهادة وقبولها فهي إلى القاضي، وليس لك ولا لنا الكلام فيه، ومتى عرف القضاة من إنسان ما يجوز معه قبول شهادته فعلوا ذلك بغير شفاعة
154 - أنا عبد الشرع وشحنته(214/50)
في (رحلة ابن جبير): حضر صلاح الدين أحد رجاله المتميزين مستعدياً على رجل. فقال السلطان: ما عسى أن أصنع لك وللناس قاض يحكم بينهم، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة، وأوامره ونواهيه ممتثلة، وإنما أنا عبد الشرع وشِحْنَتُه، فالحق يقضي لك أو عليك
155 - تعظم النعمة في تملك سلطان عالم عادل
كتب ابن العميد (أبو الفضل محمد بن الحسين) إلى عضد الدولة:
يعد أهل التحصيل في أسباب انقراض العلوم وانقباض مددها وانتقاض مِرَرها والأحوال الداعية إلى ارتفاع جل الموجود منها وعدم الزيادة فيها - الطوفان بالنار والماء، والموتان العارض من عموم الأوباء، وتسلط المخالفين في المذاهب والآراء، فان كل ذلك يحترم العلوم احتراماً، وينتهكها انتهاكاً، ويجتث أصولها اجتثاثاً. وليس عندي الخطب في جميع ذلك يقارب ما يولده تسلط ملك جاهل تطول مدته، وتتسع قدرته، فأن البلاء به لا يعدله بلاء، وبحسب عظم المحنة بمن هذه صفته، والبلوى بمن هذه صورته تعظم النعمة في تملك سلطان عالم عادل كالأمير الجليل الذي أحله الله من الفضائل بملتقى طرقها، ومجتمع فرقها. وهي نور نوافر ممن لاقت حتى تصير إليه، وشُرّد نوازع حيث حلت حتى تقع عليه. تتلفت إليه تلفت الوامق، وتتشوق نحوه تشوق الصب العاشق، ولقد ملكتها وحشة المضاع وحيرة المرتاع،
156 - للرعية المنام وعلينا القيام
كان الرشيد في بعض حروبه فألح عليه الثلج ليلة، فقال له بعض أصحابه: أما ترى ما نحن فيه من الجهد والنصب ووعثاء السفر والرعية قارة وادعة نائمة؟!
فقال: أسكت، فللرعية المنام، وعلينا القيام، ولا بد للراعي من حراسة الرعية وتحمل الأذى. وإلى ذلك أشار بعضهم:
غضبت لغضبتك الصوارم والقنا ... لما نهضت لنصرة الإسلام
ناموا إلى كنف بعدلك واسع ... وسهرت تحرس غفلة النوام
157 - محلم العربي كسرى
في (تاريخ الطبري وشرح النهج لابن أبي الحديد): لما قُدم على عمر بسيف كسرى(214/51)
ومنطقته وزبرجه وزيه في المباهاة وزيه في غير ذلك، وكانت له عدة أزياء لكل حالة زي - قال: عليّ بمحلِّم - وكان أجسم عربي يومئذ في المدينة، فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب، وصُبّ عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأجلس للناس، فنظر إليه الناس فرأوا أمراً عظيماً من أمر الدنيا وفتنتها، ثم قام عن ذلك فألبس زيه الذي يليه، فنظروا إلى مثل ذلك في غير نوع حتى أتى عليها كلها، ثم ألبسه سلاحه وقلده سيفه فنظروا إليه في ذلك ثم وضعه ثم قال: والله إن أقواماً أدوا هذا لأمناء؟ فقال علي: إنك عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا.
158 - حتى يمسكن أزواجهن عن الحركة
ابن سعيد المغربي في بعض مصنفاته: وكان الملك العادل ابن أيوب من أعظم السلاطين دهاء وحزماً، وكان يضرب به المثل في إفساد القلوب على أعدائه وإصلاحها له، وكان صلاح الدين - وهو السلطان - يأخذ برأيه. وقدم له أحد المصنفين كتاباً مصوراً في مكايد الحروب ومنازلة المدن - وهو حينئذ على عكا محاصراً للفرنج - فقال: ما نحتاج إلى هذا الكتاب ومعنا أخونا أبو بكر. . . وكان (العادل) كثير المداراة والحزم. كثير المصانعات حتى إنه يصوغ الحلي الذي يصلح لنساء الفرنج، ويوجهه في الخفية إليهن حتى يمسكن أزواجهن عن الحركة
159 - وأين أنت من محادثة الرجال؟
قال المأمون للحسن بن سهل: نظرت في اللذات فوجدتها مملولة خلا سبعاً.
قال: وما السبع يا أمير المؤمنين؟
قال: خبز الحنطة، ولحم الغنم، والماء البارد، والثوب الناعم، والرائحة الطيبة، والفراش الموطأ، والمنظر الحسن من كل شيء.
قال: وأين أنت - يا أمير المؤمنين - من محادثة الرجال؟
قال: صدقت، هي أولى منهن(214/52)
خواطر وأفكار
للأستاذ أديب عباسي
الخاطر المخامر كالداء المخامر: هذا يضعف الجسم ويعرضه لأدواء أخرى، وذاك يضعف الفكر ويعرضه للكلال والانقباض في نطاق ضيق
يجب ألاَّ يخدعنا سكوت الناس عن رأي من الآراء أو فكر من الأفكار فنظن أن هذا السكوت دليل الرضى وآية القبول؛ فقد يكون الرأي من السخف ووضوح الخطأ فيه بحيث لا يتكلف أحدٌ مشقة العناية به والإنبراء لتفنيده
الخطأ الكبير من صفات العقول الكبيرة، أما صغار العقول فلا يمكن أن تكون لهم أخطاء كبيرة
قصر النظر كبعد النظر لازم في بعض ظروف الحياة، لا سيما في الأزمات
الناجح والقاتل في الحياة يلتقيان عند قلَّة الأصدقاء والمريدين لهم إرادة بريئة من الملق والزلفى أو حب الاستعلاء والظهور
يقولون لو عرف الإنسان كفايته متى تكون لفتر سعيه وقلَّت أطماعه، وليس أنأى عن الصواب من هذا الرأي. فالواقع أن الناس يسعون ويعملون ويؤملون كأنهم باقون إلى آخر الدهر ومن هنا ترى الشاب والكهل والشيخ يستوون في المطامح والأطماع
كثرة التحليل والتعليل والتدبر كثيراً ما تكون سبيلاً للفشل بدل أن تكون عوناً على النجاح
يضطر المرء أحياناً أن يمثل دور المخدوع، لعله أن يقلل من أذى الحاقدين وشرهم، لا سيما إذا كانوا ذوي حول وسلطان
حتى الأعراض تهون عند البعض في سبيل الانتقام
خير للمرء أن يخطئ مع التجربة من أن يتجنب التجربة كيلا يخطئ
تعوُّدك الأمر من الأمور أسهل جدّاً من انقطاعك عنه
في الناس الميل لذكر السيآت ونسيان الحسنات، لأنهم في قرارة نفوسهم لا يحبون أن يكونوا المحسن إليهم، ويودون دائماً أن ينالوا ما يشتهون بجدهم وسعيهم
في طبيعة الناس جميعاً الملل من المؤثر يجيء على وتيرة واحدة ومن هنا ترى الناس على الإطلاق يتمنون لو يبدَّلون أحوالاً بأحوال وأوضاعاً بأوضاع مع العلم واليقين أن(214/53)
الأحوال والأوضاع الجديدة قد لا تكون خيراً من الحال والوضع القديم
السياسي كالدجال يعتمد على خداع الفكر كما يعتمد الدجال عل خداع البصر.
إذا اشتد الجدل حول الرأي من الآراء أو الخطة من الخطط وانتصر الرأي أو الخطة، فمن الخير والحكمة أن ننزل بالرأي أو الخطة درجة أدنى من التقدير، وذلك أن حرارة النضال وشهوة الفوز لا بد أن تكون أخرجت الرأي أو الخطة عن نطاق الصحة وصدق التقدير.
معارك الفكر الكبرى تترك كثيراً من قتلى الأفكار الأبرياء كما أن المعارك الحربية تترك كثيراً من القتلى في غير ميادين القتال.
السعادة كالأفق دائماً أمامك.
ليست الفضيلة أن تمتنع عما لا تستطيع، إنما الفضيلة امتناعك عما تطوله يداك وتخصه بهواك.
إذا أكثر المرء الحديث في فضيلة من الفضائل فشك في نصيبه منها
إذا جاء الإعجاب بالشيء بعد كره له، فذاك هو أصدق الإعجاب
الإعجاب المفاجئ كثيراً ما ينتهي بالكره والاحتقار
الابتكار بالطبع غير الإغراب، ولكن كثيراً ما يلتبس الواحد بالآخر. ومن هنا يجب ألا يخدعنا الإغراب عن مكان الابتكار فيه، إن يكن تحته ابتكار
من الكتاب من لا يريد أن يريك الفكرة في وضاحة من الألفاظ واستقامة من الأسلوب، وذلك لأنه ليس على يقين من فجة هذه الفكرة أو صدقها، فيرى أن يلفَّفها ويغمَّضها بالملتوي من الأسلوب ومبهم البيان
حديث النعمة لا يعرف الاعتدال، فإما السرف الشديد أو الكزازة
الدنيا مع الواقف
الفشل أشدُّ أثراً في حياة الأفراد من النجاح
ليست النتيجة بقياس صحيح لجودة الرأي وصواب النهج والخطة، فقد ينتهي الرأي الخاطئ على غير انتظار بنتيجة طيبة وقد ينتهي الرأي الصائب بنتيجة سيئة
قدَّر السوء والشرَّ نتيجة لما تسعى. فان جاءك الخير أحسست به قوياً، وإن جاءَك الشر يكن لك من توطينك النفس عليه واقياً يقيك أذى اليأس وأخطار الخيبة(214/54)
الشخصية القوية الواضحة كالفكرة القوية لا تزيدها المقاومة إلا رسوخاً وظهور معالم
منتهى الشك بدء اليقين.
الطفولة أسعد أوقات الحياة لأنها الدور الأوحد الذي يستطاع العيش فيه للحاضر دون الآتي أو الغابر من الزمن.
تظلم الثعلب إذ تشبه بمكره رياء الناس. فهو يمكر ويختل تحت أقسى الظروف، وأشد الضرورة، أما أكثر الناس فيختلون ويمالئون ويراءون تترفاً وفي غير حاجة سوى حاجتهم إلى إظهار الصغار وهوان النفس.
حتى الصغائر تظهر صغيرة في صغار النفوس.
عند الاضطراب تتقارب صفات الخلق.
يبلغ من لؤم الطبع في بعض الناس أن يؤذوا الأصدقاء إذا وُجد بينهم أعداء يريدون لهم الأذى ولا يستطيعون أن يفردوهم لأذاهم من بين هؤلاء الأصدقاء.
لو أتيح أن يتساوى جميع الناس في الفضائل، لأضحت رزائلنا ضرباً من الامتياز يُرغب فيه ويُسعى إليه.
التوقح أشرف من الرياء، فهو على الأقل يدلُّ على الجرأة
عاد مشتركاً - إن أمكن - وصادق منفرداً.
الإقدام لا يكون شجاعة إلا مع تقدير الخطر.
كل شيء يخف أثره وقيمته إذا تكرر إلا التضحية.
من ضحى مرة وأعادها ثم أعادها، بعد إنكار لها، فمنزلته فوق منزلة البشر.
أعط بعض ذاتك تعط كل ذاتك.
أديب عباسي(214/55)
رسَالَة الشَّعر
مختارات من أدب الرافعي
(على جسر كفر الزيات كان للرافعي في صدر شبابه مغدى
ومراح ومن عيون الملاح على هذا الجسر تفتحت زهرة شبابه
للحب؛ و (العصفورة) التي ينسب بها الرافعي في القصيدة
التالية فتاة من بنات كفر الزيات لقيها على الجسر فهفا إليها
قلبه وتحرك لها خاطره، وهي كانت أول هواه، وعمره يومئذ
اثنتان وعشرون سنة)
محمد سعيد العريان
عصافير يحسبْن القلوبَ من الحَبَّ ... فَمَن لي بها (عصفورةً) لقطت قلبي
وطارت فلما خافت العينُ فَوْتَهَاَ ... أذالت لها حبّاً من اللؤلؤ الرطبِ
فياليتني طير أُجاوز عُشَّها ... فيُوحشَها بُعدي ويؤنسَها قربي!
وياليتها قد عشَّشتْ في جوانبي ... تُغرَّد في جنب وتمرح في جنب
ألا يا عصافير الرُّبى قد عشقتُها ... فهُبَّي أعلمْك الهوى والبكا هُبَّي
أعلمُك النَّوح الذي لو سمعْتِه ... رثيتِ لأهل الحب من شغف الحب
خذي في جناحيك الهوى من جوانحي ... ورُوحي برُوحي لَّلتي أخذت لُبَّي
نظرتُ إليها نظرةً فتوجَّعت ... وثَنَّيْتُ بالأخرى برُوحي فدارت رَحَى الحرب!
فمِن لحظة يَرمي بها حدّ لحظةً ... كما التحم السيفان عضباً على عضب
ومن نظرة ترتدّ من وجه نظرة ... كما انقلب الرُّمحان كعباً إلى كعب
فساقت لعيني عينُها أيَّ أسهم ... قذفن بقلبي كلَّ هول من الرعب
وساق لسمعي صدرها كلَّ زفرة ... أقرَّت بصدري كل شيء من الكرب
ودارت بيَ الألحاظ من كل جانب ... فمنهن في سلْبي ومنهن في نهبي(214/56)
فقلت: خُدِعْنا، إِنها الحرب خدعة ... وهوَّنَ خطبي أن أسْرَ الهوى خطبي
فقالت: إذا لم تنجُ نفسٌ من الردى ... فحسبك أن تهوى فقلت لها: حسبي
ولي العذر إمّا لامني فيكِ لائم ... فأكبر ذنبي أن حبَّك من ذنبي
ويا من سمعتم بالهوى، إنما الهوى ... دمٌ ودمٌ: ها ذاك يصبو وذا يُصْبى
متى أئتلفا ذَلاَّ وَدَلاَّ تَعَاشُقاً ... وإلا فما في رونق الحسن ما يَسبي
سَلوني أنبئْكم، فلم يدرِ ما الهوى ... سواي، ولا في الناس مثليَ من صَبّ
إذا شعراء الصّيد عُدُّوا فإنني ... لَشَاعرُ هذا الحسنِ في العُجْمٍ والعُرب
وإن أنا ناجيتُ القلوب تمايلتْ ... بها نسماتُ الشعر قلباً على قلب
وبي مَن إذا شاءتْ وصفتُ جمالهَا ... فوالله لا يبقَى فؤادٌ بلا حُب!!
من الغيد، أما دَلُّها فملاحةٌ ... وأما عذابي فهو من ريقها العذبِ
ولم يُبقِ منها عُجْبُها غيرَ خطرةٍ ... ولا هي أبقتْ للحسان مَن العُجب
عرضْتُ لها بين التذلُّل والرضا ... وقد وقفتْ بين التدلُّل والعَتْب
وأبصرتُ أمثال الدُّمَى يكتنفها ... فقلت: أهذي الشُّهب أم شبه الشهب؟
فما زال يَهدي ناظري نورُ وجهِها ... كما نظر المَلاَّحُ في نجمة القطب
وقد رُحْنَ أسراباً وخِفْتُ وشاتَها ... فعيني في سرب وقلبيَ في سرب
وقالت: تجلَّدْ. قلت: يا ميَّ سائلي ... عن الحزن يعقوبا ويوسفَ في الجب
وما إن أرى الأحباب إلا ودائعاً ... تُرَدُّ، فإما بالرضاء أو الغصب.!
سنة 1902
مصطفى صادق الرافعي(214/57)
في هدأة الليل
قيثارتي. . .
(كأنما قلبي في خفقة ... فراشة أنت لها المشعل)
الكَونُ سّاجٍ، وَالدُّجَى مُسْبَلُ ... وَالبَدْرُ فِي هَالتِهِ يَرْفُلُ
والليْلُ كاليَمِّ بَعِيدُ المَدَى ... لا آخِرٌ يُرجَى وَلا أُوُّلُ
ونَسْمَةُ الأَمَوَاجِ خَفَّاقَةٌ. . ... حَيْرى فَلاَ قَصْدٌ وَلا مَوْئِلُ
رَخِيَّةُ الأَنْمُلِ في مَسِّها ... كأَنَّهَا فِي لِينهَا المَخْمَلُ
وَالنَجْمُ وَهْنَانُ السَنَا رَاجِفٌ ... وَالطَّيْرُ مَعقُودُ اللَّهَا مُجْفِلُ
فَسَلْسِلِي الأَنْغَامَ في هَيْنِةٍ ... كما سَرَى في الْجَدْوَلِ السلسَلُ
وَرَقْرِقِي الأَلْحَانَ نَثْمَلْ بِهَا ... فَمِنْ رَقِيقِ اللحْنِ مَا يُثْملُ
أَغْفَتْ لِحَاظُ الكَونِ مِنْ حَوْلنا ... وَغَابَ في أَغْصَانِهِ البُلْبُلُ
وَأَسْبَلَ الجَفْنَ بَنَانُ الكَرَى ... وَأََسْدَلَ السُّجْفَ الدُجَى المُسْدِلُ
وَعُدْتُ فِي الليْلِ وقيثَارَتي ... تُرَجِّعُ اللحْنَ وتَسْتَرْسْلُ
لَحنٌ كما الحُلْمُ رَفيف الرُؤَى ... يَحْفِلُ بالآمَالِ ما يَحْفلُ
قَدْ فاضَ في قَلْبيِ فأَحْيَا بِهِ ... مَا كادَ مِنْ نَضْرِ المِنى يَرْحَلُ
كأَنَما أَوْتَارُهَا جَدْوَلٌ ... يَنْهَلُ مِنْهُ الرّوْضُ مَا يَنْهَلُ
رُوحِي عَلَى ضَفاّتهِ نَبتةُ ... حَيَاتها فِي رَوضْهَا اَلْجدْوَلُ
كَمْ تُسْكِرُ النَّفْسَ أَراَنِينُهَا ... وَيَسْتَخِفُّ القَلْبَ مَا يُذْهلُ
كأَنَّمَا أَلْحَانُهَا نَسْمَةٌ. . ... تَرُحُ بَينَ الزهْرِ أَوْ تُقْبِلُ
وَالقَلْبُ في هَبَّاتِهَا زَهْرَةٌ ... تُرْسِلُهَا الأَنْسَامُ مَا تُرْسِلُ
يا أَيُّهَا القَلْبُ إلاَمَ الأَسَى ... والكَوْنُ صَافٍ حَوْلَنَا يَجْذَلُ
أَذْبَلتنِي مِنْ طُولِ ذَاكَ الضَّنَى ... وَالزهْرُ أنْ طَالَ المدَى يَذْبُلُ
فَدَعْ أَسَى الدُّنْيَا وَآلامَهَا ... واطْرَحْ مِنَ الأَشْجَانِ مَا يُثقْلُ
حُثَّ الْخُطَي وانْعَمْ بِصَفْوِ الصَّبَا ... فالْعُمْرُ يَحْبُو، والضَّبَا يأْفِلُ
مَا خَلْفَ العُمرِ إلاَّ الرَّدَى ... نِهَايَةُ السُّنْبُلةِ المِنْجَلُ(214/58)
قيثَارَتِي هُزَّي الدُّنَا نَشْوَةً ... كما تَهُزُّ السُّنْبُلَ الشَّمأَلُ
كأَنَما قَلْبَي في خَفْقِهِ ... فَرَاشَةٌ أَنْتِ لَهَا المِشعَلُ
إن أَبْقَتْ الدُّنْيَا لَهُ مَأْمَلاً ... فأَنْتِ سُؤْلُ وَالمأْمَلُ
فَسَلْسِلِي الأَنْغَامَ في هَيْنَةٍ ... كما سَرَى في الْجَدوَل السلْسَلُ
وَرَقْرِقي الأَلْحَاْنَ نَثْملْ بِهاَ ... فمِنْ رَقيقِ اللحنِ مَا يُثْملُ
إسكندرية
احمد فتحي مرسي(214/59)
حمامة الموكب
// لا والذي علم الغيوب وصانها ... لا أدعي علماً بأي مغيب
لكن فطنت إلى دقائق حاضري ... فنظرت للآتي بعين مجرب
إن الحمامة فوق ركب مليكنا ... روح النبي محمد في الموكب
هذي مبايعة بسرٍ ما انجلى ... وسينجلي في لمحة أو أقرب
ركن الخلافة لن يظل معطلاً ... تاج الخليفة بين أجنحة النبي
واهاً لكم يا آل مصر رأيتمو ... روح الرسول على الفناء الأرحب
هبطت على القصر المنيف بسحره ... ميمونة يوم الخميس الأطيب
ورأت خليفتها لدى استيقاظه ... في الفجر نعم المجتَبى والمجتِبي
ولى المتوج وجهه مستقبلاً ... بيت الإله بعزة وتهيب
ذرعت له أفق السموات العلا ... لتراه يوم حلوله في المنصب
لترى معزاً دينها ومجدداً ... سلطانها ومعيد عزة يعرب
وافرحة الورقاء لما شاهدت ... تقوى الإله وعزة المتربب
أمنت على القسم العظيم وليه ... وحبته سر طريقها والمذهب
وافرحة الفاروق بالروح التي ... نزلت على أهل لديه ومرحب
فاروق يا مولاي إن إشارة ... أغنت لديك عن المقال المسهب
المشرق الأقصى رنا إسلامه ... شوقاً إلى مصر وأقصى المغرب
يرجو إمامتها وأنت إمامها ... أيذاد عندك ظامئ عن مشرب
عبد اللطيف النشار(214/60)
القَصَصٌ
مهر الوظيفة
للأديب نجيب محفوظ
كانوا أربعة فتيان، جمعتهم في البدء نشأة الصبا على ما بين القصور الشماء والبيوت البسيطة من تفاوت ونفرة، وآخت بينهم زمالة الدراسة الطويلة ما بين ابتدائية وثانوية وجامعية، وأغراهم بالطموح إلى المجد اجتهاد عظيم وعزم متوثب ونجاح مؤازر لم يخنهم عاماً من الأعوام حتى غدوا تملأهم الثقة ويلهب قلوبهم الحماس.
وذكروا في حياتهم الدراسية العالية مثالاً لهم شرذمة من رجال مصر نشأوا على الإخاء نشأتهم، وتزاملوا في الدراسة زمالتهم. ثم كان منهم الوزير الخطير والمالي الكبير والفيلسوف الحكيم والمشرع العبقري، جعلوهم نبراساً منيراً بهداه يهتدون، ومن قوته يستمدون، وبعظمته يرجون ويأملون، ولم تقصر أخيلّتهم عن التوفيق والابداع، فربط كل منهم نفسه بواحد من هؤلاء العظام أما لصفة ظاهرة أو سجية غالبة أو خلق معروف.
فلما أن حصلوا على ليسانس الحقوق ووضعوا أول قدم في طريق الحياة العملية الجديدة انتظر كل منهم نصيبه داعياً أن يجد فيه ما يحقق أحلامه ويؤدي إلى هذه الحياة التي سعى إليها طويلاً وبذل النفس كي يحقق مثلها الأعلى، وما كانت الوزارة لدى الزميل منهم إلا بعض أحلامه. . .
وفي الفترة التي أعقبت ظهور النتيجة ارتحل اثنان من الأربعة - وهما الثريان - إلى المصايف كعادتهما كل عام، وسافر واحد من الاثنين الباقيين إلى كفر الشيخ مسقط رأسه، وبقي في القاهرة (الأستاذ) جودة وهو شاب بسيط الحال من أسرة فقيرة في الصيت والرجال، عميدها موظف صغير بالبريد جاوز الخمسين ولم يجاوز مرتبه خمسة عشر جنيهاً، ولم ين الشاب عن السعي فحرر عدة طلبات استخدام وأرسلها إلى وزارة الحقانية وأقلام القضايا في الوزارات المختلفة، وكان طيب القلب قليل الخبرة فانتظر على شيء من الأمل والاستبشار، وفات يوم ويومان وأسبوع وأسبوعان، وشهر وشهران ولم يلق رداً أو يرى في الأفق بشيراً من الأمل، فراجع نفسه في تفاؤله وتلفت يمنة ويسرة فلم يجد من يهتم لشأنه سوى أبيه العجوز الضعيف الذي لا يملك له ضراً ولا نفعاً.(214/61)
وعلى غير انتظار زاره صديقه رشدي ففرح به أيما فرح وكان في أشد الحاجة إلى من يبادله الرأي ويبثه الشكوى ويتقبل منه العزاء، فبادره سائلاً: (أراجع أنت من كفر الشيخ. . .؟)
فرد عليه الشاب وهو يتنهد:
(أي كفر الشيخ يا رجل. . . لقد كنت تلك الشهور التي غبتها عنك كالرحالة أجوب البلدان وأزور الرجال وأتسقط الرزق. . . والآن ما أخبارك أنت. . .؟)
(لا شيء مطلقاً سوى أني سعيت للتوظف وعدت من مسعاي بالخيبة. . . هل من أخبار عن صديقنا حامد وإبراهيم؟)
(أخبار سعيدة والحمد لله. . . هما الآن موظفان بالحكومة المصرية. .)
(مبارك حظهما. . . ولكن كيف حدث هذا. . .؟)
(كيف حدث هذا؟ أتحسب أن حامداً يشقى في طلب وظيفة وأبوه مستشار في محكمة النقض والإبرام؟ لقد كان تعيينه بالنيابة العمومية أمراً مفروغاً منه من يوم أن التحق بالكلية)
(حسن. . وإبراهيم؟ نعم إن إبراهيم غني ولكن أهله فلاحون وليسوا من ذوي المناصب الحكومية. . .)
(المال أبو الخوارق، وإبراهيم شاب جسور، أفتعلم ماذا صنع. . . ذهب إلى وكيل وزارة الخارجية وهو من بني بلدته، وطلب يد ابنته ومهرها ألف جنيه. . . ولما كانت هذه الفتاة من ذوات الأمزجة الرقيقة اللاتي لا يجوز أن يمضين شهر العسل في مصر فعما قريب سنذهب جميعاً لتوديع صديقنا العزيز وهو في طريقه إلى السفارة المصرية بروما. . .)
فبدت الدهشة على وجه الشاب وتساءل:
وما الذي زكاه - وهو شاب ناشئ - فطاب في عيني هذا الرجل الخطير. . . ومثل ابنته يتنافس فيها خيرة الموظفين الممتازين. .؟
(ما فائدة التساؤل؟ هب أنها عاطل من الجمال. . . أو أن رشاشاً يبلل سمعتها. . أو. . أو. . فما يهمني سوى رواية ما عندي من الأخبار. . .)
وصمتا لحظة جامدين خلا فيها كل منهما إلى أفكاره ثم نظر الشاب إلى رشدي وقال:(214/62)
(ها إن الصديقين يرسمان الخطوة الأولى في الطريق المؤدي إلى المجد ولا يبعد أن يحققا مرة أخرى المثل الأعلى الذي سبق أن حققه الباشوان اللذان كان الصديقان يترسمان شخصيتيهما)
فأحنى الأستاذ رشدي رأسه مؤمناً فعاد الآخر إلى سؤاله بعد تردد:
(وأنت. . .؟)
(أما أنا فقد سعيت كما سعيت وأغلقت الأبواب في وجهي كما أغلقت في وجهك ولكني لم أسلم للخيبة كما سلمت لها، ففي ميدان المحاماة متسع لجميع ذوي العزائم والهمم، والمحاماة ميدان تبرز فيه ملكات الرجال ومزاياهم، فلا ينبغ فيها إلا كل عبقري جبار؛ وما أجدرها أن تبلغ بي ما تتمنى نفسي من المثل الأعلى. .)
هذا جميل، ولكنه لا يستطيع أن يحتذي حذو رشدي ولا أن يأمِل آماله، فآل رشدي على شيء من الثراء يمكنهم من أن يؤيدوا الشاب حتى يقف على قدميه، أما هو فلا يمكن أن يطالب أباه بشيء من هذا، لأنه يعلم علم اليقين أنه شيخ فقير. وأنه يربي خمسة من البنات والبنين، فما عسى أن يصنع. . .؟
لقد أظلمت الدنيا في عينيه وذوت أزاهر آماله اليانعة وبات يذكر أحلامه عن المجد والوزارة بالاستهزاء المرير والسخرية الأليمة، وداخله شعور قوي بتفاهته وتفاهة الدنيا وأحلامها ومسراتها، فعاش زمناً في ظلمة أشد حلكة من ظلام القبور.
وبعد حين زاره فجأة الأستاذ رشدي، وكان في هذه المرة منشرح الصدر جذلاً مسروراً فبادره بقوله: -
(قل معي يا بشري. . . لقد اهتديت إلى كنز ثمين. . . فأصبت منه حظاً وأرجو أن تنال منه مثل حظي. .) فنظر إليه نظرة المريض المشرف على الهلاك إلى طبيبه. فاستطرد رشدي قائلا:
(لن تغرب شمس الغد علي حتى أكون من الموظفين. . من أعضاء النيابة العمومية. .)
(مبارك. .)
(أرجو أن أهنئك بدوري عما قريب. . والآن أصغ إلي فإني أعلم أنك تتلهف إلى معرفة حقيقة المسألة. هو مكتب للمعاملات المالية في الطابق الخامس من عمارة رقم 85 شارع(214/63)
سليمان باشا مديره رجل في الأربعين حنكته الأيام والتجارب ففاق الفلاسفة فهماً للنفوس والرجال، يعرفه جميع الماليين وكبار الموظفين لأنه يقرض النقود بأرباح هادئة. وقد غدا بحكم اتصاله بكبار رجال الدولة من زبائنه ذا نفوذ عظيم له ظاهر يعلمه الناس جميعاً وباطن يعلمه هو وهم وأمثالنا من ذوي الحاجات. . هلم أدلك على قريب لي من أصدقائه المقربين، خاطبه في أمرك فان رأى أن شروطك ملائمة كان واسطتك إليه، وثق يا صديقي أنه إذا كتب لسعيك لديه النجاح فانك لا شك غداً من موظفي الحكومة الممتازين)
وفي عصر ذلك اليوم كان عند قريب الأستاذ رشدي. . . وقد قدمه إليه صديقه فلقي منه ترحيبا شد عزيمته وأنعش أمله، قال له الرجل بعدما بسط له مسألته:
(أذكر لي الوظائف التي ترغب في الالتحاق بإحداها)
فأجابه جودة:
(النيابة العمومية. . . قلم القضايا. . . السفارات أو القنصليات. . .)
(أوه. . . إنك تنظر إلى علُ. . . فما هي مؤهلاتك. . .؟)
(ليسانس الحقوق)
(شهادة في ذاتها مبجلة. . . ولكن ليس العبرة بالشهادات. . . هل لك أقارب من ذوي المناصب. . .؟)
فضحك الشاب وقال:
(لو كان لي ما سعيت إليك. . .)
(حسن. . . من يطلب ثميناً فليدفع ثميناً. . . إلا أني أرجو أن تذكر أنه ما أنا إلا واسطة نزيهة، وإني إن مددت لك يدا فلأنك صديق رشدي ولأنه حدثني عنك بما جعلني أقدرك وأعطف عليك. . . والآن أسمح لي أن أعرض عليك الوسائل التي قد تبلغ بك إلى غايتك المقصودة، وما علّي جناح إن لم يصادف بعضها هواك لم يستحق احترامك فعلي العرض وعليك الاختيار. . .)
فأحنى الشاب رأسه أن نعم؛ فاستطرد الرجل همسا:
(النساء من أنجع الوسائل تحقيقاً للغرض. . . أم جميلة. . . أخت شابة. . . زوج ظريفة. . . أرى وجهك تحتقن فيه الدماء. . وتلتهمه سورة الغضب، حسن فلندع هذه الوسيلة. . .)(214/64)
(نعم. . . نعم. . .)
(وسيلة أخرى شريفة جداً. . . الزواج. . . ولكنه ليس زواجا بهذه الفتاة أو تلك. . . وإنما هو طلب الانضواء تحت لواء اسم كبير. . . أو أسرة عتيدة. . .)
فانبسطت أسارير وجه الشاب وخفق قلبه من نشوة الأمل وصاح:
(هذا علي هين. . .)
(لا تتسرع فليس الأمر كما تظن. . . فشهادتك لا تكفي. . . هذه الأسر تهمها المحافظة على المظاهر. . . وصون اسمها عن انتقادات الصالونات ما أمكن. . . فمهر كبير يخرس الألسن ويدعم أي ادعاء وإن بعد عن الحقيقة. . .)
فعاوده اليأس واستشعر الخيبة مرة أخرى وقال: -
(فلألحق بوظيفة. . . وليدعوا لي فرصة حتى اقتصد من مرتبي وأفي بوعدي. .)
(وما الداعي لرهان غير مضمون. . . والزبائن النافعون غيرك غير قليلين. .؟)
(إذاً هات وسيلة أخرى. . .)
(وا سفاه إنها لا تكاد تختلف عن هذه إلا في الاسم. .: هي المال)
(وكم ينبغي أن أدفع؟)
(مهر الوظائف التي تطلب من الألف فصاعدا. . .)
الألف. . . إن والده لم يربح من الحكومة طوال عمره بها ضعف هذا المبلغ فكيف يأتي به في ساعة من الزمن؟ أواه. . . إن اليأس ينشب فيه أظافره فيستقر في قلبه. . . ولكن التمعت في ذهنه فكرة فصاح:
(لم لا يقرضني صاحبك المرابي المبلغ الذي يريد ويكتب علي صكا أسدده فيما بعد من مرتبي؟)
(فكرة حسنة، ولكنه رجل مرت به جميع التجارب وهو يرفض عادة أن يقرض مبالغ ضخمة لغير ذوي المراكز المالية المضمونة، ولكنه قد لا يرى بأساً من كتابة صكوك وهمية كهذه بمبالغ صغيرة. . . مائة جنيه أو مائتين لمن يرغب في وظيفة كتابية مثلا. . .)
وظيفة كتابية؟ أين هذه من المجد والوزارة ومَثَله الباشا العظيم؟(214/65)
ولكن ما باليد حيلة وقد سدت في وجهه الطرق وأظلمت الدنيا في عينيه فينبغي أن يغض عن الآمال العالية ولو إلى حين ريثما يبحث عن كسرة الخبز أولا، ومن يعلم فقد تتمخض البداية الصغيرة عن نهابة عظيمة؛ فكم من الوزراء بدءوا كتبة في المحاكم المقبورة في أقاصي الصعيد.
وهكذا اضطر إلى أن يحول قلبه عن محركات الدولة الكبرى إلى آلاتها الصغرى الميكانيكية التي تتحرك ولا تدري لم تتحرك أو كيف تتحرك.
وأصبح ذات يوم فوجد نفسه في حجرة واسعة تتزاحم فيها المكاتب الهرمة يقعد وراءها قوم خيل إليه - لجمودهم وتفاهتهم - أنهم قطعة من بنيانها المتهدم.
المركز صغير. . والمرتب ضئيل. . ترى هل ينتظر طويلا كي يضخم هذا المرتب أو يعلو هذا المركز؟ واقترب برأسه من زميل له وسأله همساً:
(ما موعد علاوتي المقبلة؟)
فنظر إليه الرجل دهشاً ورد عليه بصوت مسموع رنان:
(يحل موعد علاوتك - ومقدارها جنيه واحد - بعد أربع سنوات بصفة اسمية تصير فعلية بعد سنة فالمدة كلها خمس سنوات. . .)
ولفتت إجابة الرجل انتباه الحاضرين فعرفوا بداهة السؤال الذي اقتضى هذه الإجابة فلم يملكوا أنفسهم من الضحك. . . ومن حقهم أن يضحكوا من هذا الشاب الذي يسأل عن موعد علاوته ولما يمض عليه في العمل أسبوع، وقال له واحد منهم:
(ستعلمك هذه الوظيفة أن تستهين بمتع فترة من عمرك وهي الشباب. . . فتستحث كل يوم - من أجل جنيه واحد - خمس سنوات من العمر اليانع أن تفوت وتنطوي. . .!)
نجيب محفوظ(214/66)
البَريدُ الأدَبيّ
دولة الأدب والعهد الجديد
يحق لدولة الأدب أن تتطلع إلى العهد الجديد، عهد الملك الفتي فاروق الأول، وأن تؤمل أن تجتني من الرعاية والشباب والجدة ما يسبغ عليها قوة جديدة ويحملها إلى آفاق جديدة أوسع وأعظم من آفاقها الحاضرة، وقد كنا وما زلنا نؤمل أن تفتتح الهيئات الرسمية والعلمية العهد الجديد بطائفة من المشاريع العلمية والأدبية الجليلة؛ ومن بواعث الأسف أن الجهات الرسمية لم تفطن إلى أهمية هذه المناسبة السعيدة وكونها من أصلح الظروف لوضع المشاريع الأدبية وترتيب الجوائز العلمية والأدبية، وقد رأينا الأمم الأوربية تتخذ هذه المناسبات لتنظيم الرعاية الأدبية وتنظيم المشاريع والجوائز العلمية الجليلة، ورصد الاعتمادات والهبات لتشجيع الحركة الفكرية وتشجيع الكتاب والمفكرين، وافتتاح العهد الجديد بنوع من الحملة الأدبية والعلمية تسبغ على الحركة الفكرية حياة جديدة. أما في مصر فقد مرت هذه المناسبة الجليلة، مناسبة تتويج الملك الشاب وافتتاح عهده الغض الجديد دون أن تحظى الحركة الأدبية من جهاتنا الرسمية والعلمية بما كان خليقاً أن تحظى به من المشاريع والجوائز؛ ولم يفطن إلى هذه المناسبة سوى دار الكتب المصرية إذ رتبت عدة جوائز أدبية من الكتب للمتفوقين من الطلاب؛ وهذا الإجراء على ما ينطوي عليه من معنى مشكور إنما هو إجراء متواضع كنا نود أن يصدر مثله مضاعفاً من هيئاتنا الرسمية العلمية؛ وقد كان خليقاً بوزارة المعارف العمومية والجامعة المصرية والأزهر ومجمع اللغة أن تنظم جميعاً مشاريع وجوائز علمية تعلن في مفتتح العهد الجديد وتكون عنوان عصر جديد من الأحياء العلمي والأدبي ولكنها جميعاً غفلت عن هذه الفكرة الجليلة. على أن الوقت ما زال متسعاً للتفكير والعمل؛ وما زلنا نؤمل أن تنتهز هيئاتنا العلمية هذه الفرصة لتعمل على شد أزر الحركة الأدبية بصورة عملية؛ وإذا كانت الحركة الأدبية قد حققت لنفسها في العصر الأخير تقدماً يبعث إلى الفخر والرضى، فقد كانت في ذلك مستقلة تعمل من تلقاء نفسها، ولو حظيت بقسط من الرعاية الرسمية لكان تقدمها مضاعفاً، فهل نظفر في العهد الجديد بمثل هذه الرعاية الكريمة؟ هذا ما نرجو، وهذا ما ندعو إليه.
آثار للشاعرة سافو بمصر(214/67)
عثر أحد علماء الآثار الإيطاليين وهو السنيور بريشا والسيدة ليديا نورسا أثناء مباحثهما في مصر عن الآثار الخزفية القديمة على قطعة من الخزف ترجع إلى القرن الثاني من الميلاد، وقد نقشت عليها ثمانية عشر سطراً من نظم الشاعرة اليونانية الشهيرة (سافو)، وهي أول مقطوعات من نوعها وجدت لهذه الشاعرة وقد قام بترجمة هذه النقوش العلامة الإيطالي جو فريد كوبول، وظهر من تلاوتها أن الشاعرة قد كتبتها أثناء إقامتها بجزيرة أقريطش، وهي في ملخصها ترنم بمحاسن الطبيعة والأحراج الخضراء في تلك الجزيرة.
وسافو كما هو معروف أعظم شاعرة عرفت في التاريخ، وهي يونانية عاشت في أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس قبل الميلاد، وهي صاحبة أعظم وأجمل مقطوعات غنائية عرفتها دولة الشعر.
ومن الغريب أن تخرج هذه التحفة الأثرية من مصر؛ ومن الأسف ألا تجد السلطات المصرية وسيلة لمنع هذا السيل المتسرب من تحفنا وآثارنا.
مؤتمر للصيد تمثل فيه مصر
من أنباء برلين أنه سيعقد بها مؤتمر دولي عظيم للصيد في شهر نوفمبر القادم؛ وسيقام إلى جانبه معرض للصيد يكون أعظم ما عرف العالم من نوعه إذ سيغطي مساحة قدرها نحو عشرة أفدنة، وسيضم نماذج من آلات الصيد ومناظره المختلفة منذ فجر التاريخ إلى يومنا، وستشترك مصر في هذا المؤتمر، وترسل نماذج وصوراً من آثارها المتعلقة بالصيد عند الفراعنة لتعرض في هذا المعرض العظيم.
العيد المئوي لدار نشر عظيمة
احتفلت دار النشر الألمانية الشهيرة (تاوخنتز) بعيدها المئوي؛ ولعله لا يوجد بين مئات الملايين اللذين يقرءون الإنكليزية في مختلف أنحاء الأرض من لا يعرف مطبوعات هذه الدار الشهيرة التي اشتهرت بجمالها وأناقتها واعتدال أثمانها؛ وقد كان تأسيس هذه الدار في سنة 1837 على يد كرستيان برنهارد تاوخنتز، أسسها لتقوم بنشر مؤلفات الكتاب البريطانيين والأمريكيين وبالفعل لم تترك علماً من هؤلاء الكتاب اللذين يكتبون بالإنكليزية إلا نشرت جميع مؤلفاته في قطع جميل موحد، وتضمنت مطبوعاتها مؤلفات جميع كتاب(214/68)
العصر الفكتوري مثل ليتون وتاكري وكارلايل ودكنز وكولنس وهاردي وكونان دويل وكابتن ماريات، وجميع الكتاب الأمريكيين مثل كوبر ومارك توين وبريت هارت وادجار بو وهاو تورن وغيرهم؛ وقد جرت الدار على أن تنشر مؤلفات الكاتب كلها في نفس القطع والشكل؛ وقد أخرجت حتى يومنا أربعين ألف مجلد و5260 كتاباً للمؤلفين الإنكليز والأمريكيين في القرن الماضي والقرن الحاضر.
ومن الغريب أن دار تاوخنتز كانت تنشر كتب المؤلفين دون استئذان ولكنها كانت ترسل إليهم بعض تعويضات عن حقوقهم وكان ذلك صنيعاً يحمد من جانبها لأنه لم يكن هناك في ذلك العصر تشريع دولي لحماية المؤلفين وحقوق التأليف، ولكن مطبوعات تاوخنتز لم يكن يسمح بدخولها في إنكلترا ولا الأملاك البريطانية لاعتدائها على هذه الحقوق فيما يظهر، بيد أن السائح الإنكليزي يشتري منها خارج بلاده بكثرة، ويشتريها جميع اللذين يتكلمون الإنكليزية في مختلف البلاد. ويقدر أن قراءها من الإنكليز لا يزيدون على عشرين في المائة بينما يقدر قراؤها من أبناء الأمم الأخرى بنحو ثمانين في المائة.
وفي سنة 1934 بيعت حقوق أسرة تاوخنتز في النشر إلى دار نشر ألمانية أخرى في ليبزج هي دار أوسكار براندشتتر، وهي تقوم أيضاً بنشر المؤلفات الإنكليزية تحت عنوان معروف هو (مكتبة البتروس)
التاريخ السياسي المعاصر
صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن التاريخ السياسي المعاصر عنوانه (العلاقات الدولية منذ معاهدة الصلح) لمؤلفه المؤرخ الأستاذ هنري كار وقد كان الأستاذ كار مدى أعوام طويلة، من كبار موظفي وزارة الخارجية البريطانية، وأتيحت له فرصة حسنة لدراسة العلاقات الدولية عن كثب ومراجعة المحفوظات والوثائق الهامة؛ وهو يقدم لنا في كتابه عرضاً موجزاً للحوادث والعلاقات الدولية منذ عقد معاهدات الصلح في سنة 1919 حتى سنة 1937، ومن رأيه أن معاهدة فرساي كانت وثيقة سيئة لم يحسن وضعها، لأنها قصدت في مجموعها إلى إذلال ألمانيا وانتهاز فرصة هزيمتها وضعفها إلى حدود أبعدت الشعب الألماني نهائياً عن أوربا الغربية وجعلت من المستحيل على الحلفاء السابقين أن يطمعوا في ولائه أو مصادقته، ثم يستعرض الأستاذ كار سياسة إيطاليا الفاشستية وألمانيا(214/69)
النازية في النمسا وأوربا الوسطى، وأن ما يجمع بين السياستين هو عاطفة السخط على الدول التي استغلت ظفر الحرب واستولت على جميع الثمار والأسلاب، ولكن هذه الجامعة السلبية ينقصها كثير من عناصر الوئام والتناسق. وكتاب الأستاذ كار على العموم سجل بديع لتاريخ الدبلوماسية الأوربية منذ خاتمة الحرب الكبرى إلى يومنا.
الحب والشعراء
قرأت المقال الطريف (في الحب أيضاً) للأستاذ الأديب إبراهيم عبد القادر المازني في الرسالة عدد 208 حتى وصلت إلى قوله: (وخليق بالمرء وهو ينظر إلى هذه الفتنة المجتمعة، أن تدركه الحيرة، وأن يزوغ بصره، فلا يعود يدري أي هؤلاء الجميلات أولى بحبه، فإن لكل جسم فتنة، ولكل محيا سحره، ولو أني وقفت على البحر لكان الأرجح أن أحب هؤلاء جميعاً، جملة، وأن أشتهي أن أضمهن كلهن في عناق واحد فإن الظلم قبيح. ونفسي لا تطاوعني على غمط الجمال في أية صورة من صوره. ومن يدري لعل القدرة على إدراك معاني الجمال في مظاهره المختلفة هي التي وقتني الحب، ومنعت أن أعشق واحدة على الخصوص وأجن بها) الخ
وهنا رأيت أن روح التصوف قد حلت في الأستاذ من غير أن يعرفها، أو يعرفها ولا يريد أن يتظاهر بها. فإنه بين الصوفية من يقول: (همه أوست) أي كل شيء هو؛ ويرى أن الله روح سائر في الكون. فكل شيء فيه مظهر من مظاهر جماله تعالى. لذلك لا وجود للقبح عندهم بل كل شيء حسن في ذاته. وهؤلاء غير من يقول (همه أزوست) أي كل شيء منه. فهم لا يقولون كقولهم إن الله روح سائر في الكون، بل إنه تعالى مصدر لوجود الكون، وإن كل شيء في الكون وميض جمال قدرته وشعاع كمال صنعه؛ وعلى هذا فلا وجود للقبح بالنسبة إلى قدرته تعالى وصنعه
ولكن هؤلاء الصوفية مع تلك العقيدة لم يضنوا بقلوبهم على فرد خاص من أفراد الجمال الكثيرة في هذا العالم كما يضن الأستاذ بقلبه. فإننا كلما تتبعنا حوادث حياتهم ودرسنا سيرتهم وجدنا أن قلب كل منهم تقريباً علق بفرد خاص من أولئك الأفراد وأصبح فيما بعد دليلاً لسموهم النفسي، وسبباً لتقدمهم الروحاني
بقى ما هو الحب؟ فينظر الأستاذ إليه نظرة المتشائم ويقول إنه مرض، وينسب ما أتصف(214/70)
به الحب من المزايا والمحاسن في الشعر والأدب إلى الشعراء ومبالغتهم فيه. فكأن الشعراء هم اللذين وصفوا هذا المرض المستحق للذم بالأوصاف والمزايا تفاؤلاً فيه، وإلا فهو نفسه لم يكن خليقاً بها. لذلك ختم الأستاذ مقاله بالدعاء على الشعر والشعراء. ولكننا نقول للأستاذ ألا يبادر في الدعاء عليهم فإن للتشاؤم وجوداً في كل مكان مهما كان مصدره، سواء أكان خيبة أمل، أم كبر السن، أم فساد الطبع. فبين الشعراء أيضاً من يرى رأي الأستاذ. قال الشاعر الفارسي:
جنين قحط سال شداندر دمشق
كه ياران فراموش كردند عشق
اشتدت المجاعة في دمشق إلى درجة أن نسى الناس العشق.
وقال الآخر: أين نه عشق أست آنكه در مردم بود
أين بلا أزخوردن كند بود
إن العشق الذي يوجد في الإنسان لا أصل له فأن هذا البلاء يوجد من أكل القمح.
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي
القسام والقسامة، السمحة
قال الأستاذ فكري أباظة: (لماذا لا يستعمل الناس هذا اللفظ الجميل البليغ - يعني الكسم - ولا أعلم ما رأى مجمع اللغة العربية في فصاحته ودقته وروعته)
قلت: هذا (الكسم) العامي هو القسام والقسامة محرفين ناقصين ففي (التاج والأساس): (قسم قسامة والمقسم والقسيم: الجميل معطي كل شيء منه قسمة من الحسن فهو متناسب كما قيل متناصف. ورجل قسيم وسيم بين القسامة والقسام)
ومن استثقل (القاف الثقيلة) لفظها سعدية زغلولية أو محمودية رازقية (نسبة إلى محمود باشا عبد الرزاق رحمة الله عليه) أو علوية وقراءة جماعة منهم في القرآن بها - كما قال ابن خلدون - وهي متوارثة فيهم، ويرون أنها الصحيحة المضرية. وقاف الجماعة هي بين القاف والكاف
وما دمت في ألفاظ. . . فأقول: إني وجدت في هذا الشهر العربي في جريدة ومجلة وكتاب(214/71)
هذه الكلمة غير الصحيحة: (السمحاء) وهي لفظة لا توجد في الأرض ولا في السماء، وإنما هي (السمحة) أي السهلة كما في (النهاية) والحنيفية السمحة هي الملة التي ما فيها ضيق ولا شدة كما في (اللسان والتاج) فهناك السمح والسمحة لا الأسمح ولا السمحاء. والحديث المشهور الذي رواه الخطيب عن جابر هو: (بعثت بالحنيفية السمحة، ومن خالف سنتي فليس مني) وهو من الأحاديث الضعيفة كما في (الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير)
للحافظ الأسيوطي
قارئ(214/72)
رسالة النقد
نقد كتاب إحياء النحو
تأليف الأستاذ إبراهيم مصطفى
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
لا ريب في أن نحو اللغة العربية ثقيل عسير، يحتاج إلى كثير من التهذيب والتبويب؛ ليصبح سهل المأخذ، قريباً إلى النفوس، محبباً إليها درسه وفهم قواعده وأصوله
ولقد أخذت كتاب إحياء النحو، راجياً أن أجد فيه - كما يدل عنوانه - روحا جديدة تبعث في النحو الحياة، أو فكرة حديثة تذلل صعبه، وتجمع ما تشتت من أبوابه ومسائله، وهاأنذا، بعد القراءة، أبين رأيي في الكتاب، بالصراحة التي يتطلبها العلم، وبالأدلة التي لا تدع مجالاً للشك، آملا أن أكون قد وفيت بحق النقد البريء
وسوف أنهج في بحثي النهج الذي اتبعه المؤلف، فأذكر النتائج التي وصلت إليها بعد القراءة، ثم أتحدث بالتفصيل عن الأسباب التي أدت إليها، ويؤلمني أن تكون النتائج هي:
أولاً: أن الكتاب ليس فيه شيء جديد
ثانياً: أن الكتاب لم يحدث في دراسة النحو، أو كتبه، أو قواعده أي تغيير أو تبديل
ثالثاً: أن ما في الكتاب ليس إلا تعليلات كهذه التعليلات التي يستنبطها النحاة لشرح ما بين أيديهم، مما وقع في كلام العرب، وإنك لواجد مثل هذه التعليلات التي جاء بها المؤلف، وأكثر منها في الحواشي والتقارير
رابعاً: أن المؤلف ادعى على النحاة قضايا غير ممحصة
خامساً: أنه في الأبواب القليلة التي أراد ضم بعضها إلى بعض يزيد النحو عسراً، لا سهولة وفهماً، فضلاً عن أنه لم ينجح في هذا الضم
وسآخذ الآن في مناقشة آرائه، وتفصيل القول فيها:
تعريف النحو
يأخذ المؤلف على النحاة، أنهم يعرفون النحو بأنه علم يعرف به أحوال أواخر الكلم إعراباً(214/73)
وبناء؛ وهم لذلك قد ضيقوا دائرته تضييقاً شديداً، ويجب (في رأيه) أن تتسع هذه الدائرة، حتى يصبح النحو قانون تأليف الكلام، وبيان كل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة، والجملة مع الجمل، حتى تتسق العبارة، ويمكن أن تؤدي معناها
وليسمح لي الأستاذ المؤلف أن أخبره بأن هذا التعريف غامض الغموض كله، فبيان كل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة قول عام مبهم، يشمل بيان أن تكون هذه الكلمة مستعملة في معناها الحقيقي، أو غير مستعملة، قصد بها السجع مع كلمة أخرى أو لم يقصد، رمي بها إلى طباق أو تورية أو جناس، أو لم يُرَمَ بها، إلى غير ذلك، وعلى هذا يشمل تعريف النحو علوم اللغة العربية كلها. لأنها جميعاً ما وضعت إلا لبيان كلّ ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة؛ ثم قسمت وأصبح لكل علم اختصاص خاص؛ ولا احسبني في حاجة إلى أن أحدث الأستاذ عن اختصاص علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع، التي ترمي جميعها مع علم النحو، كما قلت، إلى بيان ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة؛ ولا أخال المؤلف يريد أن يجعل علم النحو عاماًُ شاملاً يضمّ تحت جناحيه علوم العربية كلها.
ولكن يظهر أن المؤلف (وتعريفه لعلم النحو غير محددّ ولا واضح كما قلت) يرمي بكل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة إلى وصف حالها من تقديم أو تأخير أو نفي أو إثبات أو تأكيد أو استفهام، وهنا أريد أن أقف وقفة قصير نستبين فيها غرض علم النحو وغايته.
لا احسبني أبعد عن الصواب إذا قلت: إن غرض علم النحو (كما هو واضح فيما بين أيدينا من كتبه) ليس إلا تكوين الجمل تكويناً سليماً، وإقدارنا على النطق الصحيح الخالي من الخطأ في التركيب. فليس صحيحاً إذاً أن ندعي على النحاة أنهم قصروابحثهم على أواخر الكلمات، بل هم قد تعرضوا كثيراً، وكثيراً جداً، أكثر مما توهم المؤلف الفاضل إلى بيان وضع الكلمة من الكلمة والجملة من الجملة، وإلى حذف بعض أجزاء الكلام لدليل أو لغير دليل، وإلى كثير مما يعرض للكلمة من النفي والإثبات. وأكبر الظن أني أجلب السآمة للقارئ إذا أنا أخذت أحدثه عما في كتب النحو من ذلك كله، ولست أكلفه إلا أن يرجع إلى كتاب من هذه الكتب ليرى بعينيه أن المؤلف كان مغالياً كل المغالاة حين ادعى على النحاة أنهم لم يعنوا إلا بأواخر الكلمات. ولأجلب الطمأنينة إلى النفوس سوف أنقل هنا مثالاً(214/74)
صغيراً يبين دعواي: قال ابن هشام في كتابه أوضح المسالك: وللفاعل أحكام: أحدها الرفع. . . الثاني وقوعه بعد المسند. . . الثالث أنه لا بد منه. . . الرابع أنه يصح حذف فعله. . . الخامس أن فعله يوحد مع تثنيته وجمعه. . . السادس أنه إن كان مؤنثاً أنث فعله بتاء ساكنة. . . السابع أن الأصل فيه أن يتصل بفعله، ثم يجيء المفعول، وقد يعكس، وقد يتقدمهما المفعول، وكل من ذلك جائز وواجب. . الخ فأنت ترى من هذا أن حكم آخر الكلمة لم ينل إلا واحداً من سبعة - بل أقل من ذلك كثيراً - من عناية ابن هشام؛ أما بقية أحكام الفاعل فهي علاقته بالكلمة التي قبله وبعده، وما يعرض لهذه العلاقة من تذكير أو تأنيث أو تقديم أو تأخير أو غير ذلك. وإذا شئت أن أعد الكثير من أبواب النحو التي تنقض ادعاء المؤلف طال بي القول وانتهى بي إلى الإملال
أما إذا قصد المؤلف إلى أن من غرض النحو أن يفضل أسلوباً على أسلوب، أو أن يوجب نحواً خاصاً من التعبير إذا كان الحال يستدعيه، أو أن يبين سر جمال نوع من القول - فذلك أمر قد تكفل به علم المعاني والبيان والبديع، فالنحو مثلاً يقف أمام الجمل الآتية موقف المصحح لها جميعاً وهي: مصر مستقلة، وإن مصر مستقلة، وإن مصر لمستقلة، واستقلت مصر، ومصر استقلت؛ يصحح النحو هذه الجمل كلها ويقبلها، وإذا تكلمت بواحدة منها في أي حال قبلها النحو، ولم يخطئها؛ أما علم المعاني فينظر إلى الحال التي يقال فيها الكلام، فعندما يكون المخاطب منكراً استقلال مصر مثلاً وقلت مصر مستقلة كنت مخطئاً، لأن الحال يستدعي أن تؤكد له القول، وأن تقول له: إن مصر مستقلة. فإذا أراد المؤلف أن يجعل ما يبحث فيه علم المعاني والبيان من اختصاص علم النحو، ومما يجب أن تتناوله بحوثه، فأنه لم يزد على أن ضم علمين أحدهما إلى الآخر من غير ضرورة ملحة بل ضماً يجلب معه الاضطراب والخلط.
هذا إلى أن المؤلف لم يشر إلى علاقة الكلمة بالكلمة. ولا ارتباط الجملة بالجملة من أول كتابه إلى آخره، بل قصره على حكم آخر الكلمات، ولم يعن بغيرها.
فلسفة العامل
أطنب المؤلف في ذكر فلسفة العامل وبيان أهميته لدى النحاة، ذم أخذ ينقذ مذهبهم من غير أن يذكر رأيه الصريح في العامل، فالنحاة قد اضطروا - لمذهبهم في وجوب ذكر العامل -(214/75)
إلى التقدير الذي سماه تقديراً صناعياً، ولم يبين لنا كيف نحلل هذه الجمل التي أضطر النحاة فيها إلى التقدير. وهل نكتفي حين نبين مكان كلمة الضيف في قولنا: الضيفَ أكرمته، بأن نقول إن الضيف لم يرد به أن يكون مسنداً إليه، ولا مضافاً إليه، ولذلك كان منصوباً، أم ماذا؟
أما أن النحاة بالتزامهم أصول فلسفة العامل قد أضاعوا معاني الكلام في باب المفعول معه، فلا إخالني في حاجة إلى بيان تحامل المؤلف مما نقله هو حين تحدث عن المفعول معه من أن النحاة قد تنبهوا للمعنى، وأوجبوا أن يتبعه اللفظ؛ فقد قال الرضي في شرح الكافية ما نصه: الأولى أن يقال: إن قصد النصّ على المصاحبة وجب النصب وإلا فلا. ففكرة النظر إلى المعنى في المفعول معه قديمة معروفة، وهي التي يقتلها العقل ويستريح إليها.
وأما ما أنتقده المؤلف من كثرة خلاف النحاة في كل عامل يتصدون لبيانه، فالمغالاة فيه ظاهرة، فهذه الخلافات لا تجدها في لباب كتب النحو، ولكنك تجدها في الحواشي والتقارير، ولا يعطى لها من العناية إلا مقدار ضئيل لا يخشى منه على دراسة لباب النحو وأصوله؛ على أن الأستاذ المؤلف قد زاد رأياً جديداً في عامل النصب وأنه وجود الكلمة في حالة لا يراد بها أن تكون مسنداً إليها ولا مضافة وسوف نناقشه في ذلك.
معاني الأعراب
جعل المؤلف الضمة والكسرة علامتي إعراب فحسب، أما الفتحة فليست علامة إعراب ولا دالة على شيء، بل هي الحركة الخفيفة المستحبة عند العرب التي يراد بها أن تنتهي بها الكلمة كلما أمكن ذلك، فهي بمثابة السكون في لغة العامة.
ذلك قول يتهدم أمام النقد:
أولاً: لأنه ليس من المعقول ولا من الواقع في شيء أن تكون المعاني التي قصد إليها العربي تدور حول اثنين: هما الإسناد والاضافة، حتى يهتم بهما العربي حدهما ولا يعنى بغيرهما فلا يضع له علامة تدل عليه، فعندنا الحال والتمييز وعندنا أنواع المفعول والاستثناء، ولا أخال واحداً مما ذكرت أقل من معنى الإضافة حظاً لدى اهتمام العربي بل إن بعض هذه الأنواع لا يتم الكلام إلا به، ولا يفهم المعنى إلا بذكره، فالكلام يكون أبتر ناقصاً إذا حذفت الحال أو المستثنى أو نوعاً من أنواع المفعول أو التمييز؛ وإذا شئت أن(214/76)
تلمس ذلك فهاك أمثلة توضح لك ما قلنا:
تقول: عدت المريض، واجتهدت رغبة في النجاح، وسوف أزورك الساعة الخامسة، ونجح التلاميذ إلا سعيداً، واشتريت أقتين جبناً، وما جئتك إلا زائراً؛ فانظر كيف كمل المعنى في المقال الأول بذكر المفعول به، ولو أنك حذفته لصار المعنى ناقصاً مبتوراً؛ وفي المثال الثاني إذا أنت حذفت المفعول لأجله، جعلت الكلام غير معلل ولا مسبب، فتقل فائدته ومعناه؛ أما إذا حذفت المفعول فيه في الجملة الثالثة فإنك سوف تلقي بمن تزوره في خضم من الظن والتخمين، لأنه لا يدري متى تزوره حتى يتهيأ للقائك؛ ولا أخال المستثنى في المثال الرابع يقل أهمية عن المستثنى منه، فكلاهما مقصود يهتم به القائل، ولو أنك حذفت المستثنى لفسد المعنى وأصبح خاطئاً. وقل مثل ذلك في الحال والتمييز؛ فقد بدا لك أن العربي يقصد هذه الأنواع قصداً، ويعنى بها عناية تامة، فلِمَ لَمْ يميز كلا منها بحركة، كما ميز المضاف إليه بحركة، وإذا علمت أن المضاف إليه لم يذكر في الكلام قصداً، ولم يؤت به لأنه مراد لذاته، (كما يقولون) وإنما جيء به لتعريف المضاف أو تخصيصه وتقليل شيوعه فحسب - إذا علمت ذلك أدركك العجب حين ترى أن ما يقصد في الكلام ويعنى به: من حال أو تمييز أو غيرهما، لا يهتم العربي بأن يجعل له علامة خاصة تدل عليه، أما ما يذكر عرضاً فإن العربي يحتفل به أيما احتفال، ويضع له حركة تميزه. ذلك قول لا يستطيع العقل أن يقبله.
ثانياً: لأنه ليس من الصحيح أن الفتحة هي الحركة الخفيفة المستحبة التي يراد أن تنتهي بها الكلمة، فلو كان ذلك صحيحاً ما وقف العرب بالسكون على الكلمات التي تنتهي بالفتحة، ولا انتهزوا فرصة اختتامها بالفتحة، فوقفوا بها استمتاعاً بما يحبونه من نطقها. ولست أدري كيف وصل المؤلف إلى هذه النتيجة وكيف استنبطها، مع أنه ليس في الكلام العربي كله كلمات يقف عليها المرء بالفتح إلا إذا كان آخر الاسم منوناً مفتوحاً، فلو كان العرب يحبون الوقوف بالفتحة لجعلوا وقفهم بها لا بالسكون، ولاختتموا بالفتحة كل كلمة تقع في آخر الجملة، ولما أتوا بكلمات مفتوحة في أول الكلام ووسطه؛ وذلك غير ما هو واقع بين أيدينا.
ثالثاً: لأن المؤلف أراد أن يجعل الضمة علامة الإسناد، فتكلف في سبيل ذلك عناء ومشقة،(214/77)
وانتحل أسباباً لا تثبت أمام الانتقاد:
فمن ذلك أنه أضطر في سلامة قاعدته إلى أن يخرج أسم (لا) من أن يكون مسنداً إليه، لأنه ليس بمتحدث عنه، ولذلك كان حقه الفتحة.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي(214/78)
العدد 215 - بتاريخ: 16 - 08 - 1937(/)
فلسطين المنكوبة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أعجب أعاجيب الاستعمار في هذا الزمان مشروع التقسيم الذي اقترحته لجنة (اللورد بيل) للتوفيق بين العرب واليهود في فلسطين - أو على الأصح للتوفيق بين العهود المتناقضة التي قطعتها بريطانيا للعرب أولاً ثم لليهود من بعد ذلك. وتزعم بريطانيا الآن أن فلسطين لم تكن داخلة في ما عنته بالبلاد العربية التي وعدت بمساعدتها على الاستقلال. وقد فند الأمير عبد الله هذا الزعم بمذكرة بعث بها إلى المندوب السامي في فلسطين وأورد نصوص الرسائل والتصريحات البريطانية التي لا يبقى معها ظل من الشك في أن فلسطين كانت داخلة في جملة البلاد العربية الموعودة بالاستقلال والحرية. على أن الأمر ليس أمر رسائل أو ما يجري مجراها وإنما هو أمر بلاد لا شك في أنها عربية من قديم الزمان وأن حق العرب فيها وهم أهلها لا ينكره إلا مكابر ذو غرض، أو كما قال الأمير عبد الله في مذكرته: (إن حق العرب في بلادهم فلسطين صريح لا يحتاج إلى وثيقة أو وعد، فهم أهلها منذ أجيال، وفي إقامة متصلة بها، وهم على الرغم مما اجتاحهم من حروب وتكابدهم من خطوب لم يفرطوا فيها ولم يتحولوا عن شبر منها). ومن غرائب ما تجئ به الأيام أن اليهود عاشوا في كنف العرب أحراراً آمنين على أموالهم وأرواحهم لا يتقون شراً ولا يخشون أذى ولا يتعرضون لاضطهاد ولا يسامون تضييقاً ولا حجراً، على حين كانوا في أوربا يعدون (أنجاساً) منبوذين، لا يواكلهم أحد ولا يشاربهم ولا يجلسهم إلا دونه. فإذا احتاج إلى مال يقترضه منهم دعاهم إليه وعنف بهم وبسط فيهم لسانه أقبح البسط وأبذأه وأخذ المال وركلهم. ومن شاء فليقرأ رواية السير (وولتر سكوت) عن عصر ريتشارد قلب الأسد وليتأمل كيف كان القوم يعاملون اليهود وبأي عين كانوا ينظرون إليهم. فإن قيل هذا كان عصر جهالة وعماية قلنا فما الرأي في هذا العصر وما يلقى فيه يهود أوربا من العنت والعسف والجور والتحقير والمهانة؟ - كتبهم تحرق، وأموالهم تصادر، وعماؤهم ينفون من الأرض، وجنسهم يعير بأنه دون الجنس الآري، ومعاملتهم ومخالطتهم ومصاهرتهم محرمة، حتى اتخاذ الخدم منهم جريمة تستوجب العقاب. وأوربا التي تنكبهم هذه النكبة وتسومهم هذا الخسف ولا يرتفع فيها صوت بالدفاع عنهم واستهجان ما يحل بهم من(215/1)
العذاب الغليظ والمقت الشديد هي التي تريد أن تتخلص منهم فلا تجد إلا فلسطين المسكينة تقذف بهم عليها وتقول: اتخذوا لكم وطناً قومياً هنا. . .
ومن سوء حظ اليهود أن لا وطن لهم، ولكن العرب لا ذنب لهم في ذلك ولا كانوا هم الذين حرموهم أن يكون لهم هذا الوطن. وما تعلق اليهود بالوطن القومي و (صهيون) إلا من طول ما قاسوا من العذاب في أوربا وهول ما صبه أهل هذه القارة عليهم من البلاء. وإنك لتجد اليهود القدماء في فلسطين لا يحلمون بهذا الوطن القومي إلا مجاراة وتقليداً لليهود الأوربيين وخوفاً من أن يتهموا بالخروج على ملتهم، لأنهم كانوا حتى على أيام الحكم التركي يعيشون في بلهنية ورخاء، بل كانت حياتهم أهنأ وأرخى من حياة أبناء البلاد العربية
فلولا وعد بلفور ما حلت الجفوة ولا وقعت النبوة بين العرب واليهود، ولكن إنجلترا التي تعهدت للعرب أن تؤازرهم على الفوز باستقلالهم وحريتهم فثاروا لهذا على دولتهم رمتهم بالوطن القومي والهجرة اليهودية فلم يسعهم إلا أن يتدبروا ما هددوا به؛ وهل هو إلا الجلاء عن وطنهم؟ وإلا أن يكرهوا ذلك ويثوروا عليه، ومن الذي لا يثور على من يبغي إخراجه من دياره وطرده من وطنه. .؟
والآن تجئ بريطانيا فتقول دعوني أقسم بينكما البلاد فلليهود شطر وللعرب شطر، ولتكونوا بعد ذلك إخواناً وجيراناً متوادين. تأخذ مني أرضي وتعطيها لأجنبي وتقول لي كن أخاً له وأصغ إليه بالود! وبأي حق تخول نفسها أن تفعل ذلك؟ لا حق إلا أنها وعدت اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين. ولكن من خولها أن تبذل لهم هذا الوعد؟ لا أحد. . . هي خولت نفسها ذلك وانتحلت الحق فيه وعدت نفسها ملزمة بالوفاء، والعرب ملزمين بالإذعان لقضائها فيهم. ولو أنها كانت تُقطع اليهود من بلادها هي لما كان لأحد وجه اعتراض على ما تصنع، فإن الأرض أرضها وهي حرة في أن تجود بها على من تشاء من خلق الله. ولكن البلاد ليست بلادها ولا تزعم قط أنها مستعمرة لها وإنما هي فيها بما سموه (الانتداب) والانتداب معناه أن البلاد أمانة في عنق الدولة التي ندبتها العصبة لإصلاحها وترقيتها وإعدادها لحكم نفسها بنفسها ولنفسها، ولم نكن نعرف قبل اليوم أن من معاني أداء الأمانة تضييعها والتسخي بها على غير أصحابها. . .(215/2)
وانظر كيف تقسم البلاد بين العرب واليهود!. . تأخذ الساحل كله - ما خلا يافا فقد أنقذتها جارتها تل أبيب وأن ميناءها شر ميناء في البحر الأبيض - تقول تأخذ الساحل والأرض الخصبة وتهديها إلى اليهود، وتعمد إلى الجبال الجرداء، والفيافي التي لا شجر فيها ولا ماء، وتقول للعرب هذا نصيبكم ولن يضيركم محلها وخرابها فان لكم الجنة في الآخرة فطيبوا نفساً وقروا عيناً واحمدوا الله واشكروني. ولا تنسى بريطانيا نفسها فإن لها حظاً من الغنيمة. . .
وفي الرقعة التي جعلتها من نصيب اليهود كثرة عربية فهؤلاء سيجلون عنها ويخرجون من ديارهم لأن بريطانيا شاءت هذا. وفيها ثروة العرب جلها إن لم تكن كلها وليس لليهود من المزارع إلا حوالي العشر، فهذه الثروة أيضاً تنتقل إلى اليهود ويفقدها العرب ويرحلون إلى الصحراوات والجبال العارية. ولا منفذ للعرب إلى البحر إلا من يافا، والطريق إلى يافا مما تحتفظ به بريطانيا لنفسها؛ ومؤدى هذا أن تخرب تجارة العرب بعد أن تخرب زراعتهم ويضيع مالهم كما ضاع وطنهم.
وتقول بريطانيا إن هذه هي الوسيلة الوحيدة للسلام والوئام بين العرب واليهود في فلسطين، فلو أنها تعمدت أن تثير بين الشعبين العداوة والبغضاء وأن تبذر بذور الحرب في فلسطين لما فعلت غير ذلك. فلن يكف اليهود عن التطلع إلى ما بقي في أيدي العرب من البلاد، لأن دولتهم ستضيق بهم لا محالة، ولأن مالهم وعلمهم وما يحسون من العطف البريطاني عليهم - كل ذلك خليق أن يغريهم بالطمع في بقية فلسطين. وأما العرب فغير معقول أن يصبروا على هذا الظلم، أو أن يكفوا عن الحنين الطبيعي إلى ما فقدوا، أو أن يرغبوا في استرداده، فهي الحرب بين الأمتين لا مفر منها ولا هوادة فيها ولا حيلة لأحد في اجتنابها. فإذا كانت الحرب ما تبغي بريطانيا فالمشروع يبلغها مأربها على التحقيق.
ووراء فلسطين - أو ما يبقى منها في أيدي العرب - شرق الأردن يغرون أميره بالإمارة على البلاد كلها؛ ومن وراء شرقي الأردن العراق وفلسطين طريقها إلى البحر الأبيض، وبين العراق وفلسطين أواصر عروبة لا انفصام لها، وبعيد أن تنام العراق على هذا؛ ومصر جارة فلسطين وشقيقتها، وقد تكون اليوم ذاهلة عما يجره عليها هذا التقسيم العجيب من المتاعب وما يهددها به من الأخطار، ولكن الغفلة تزول وسيجيء يوم قريب تدرك فيه(215/3)
مصر أنها لا تستطيع أن تغض عما يجري على حدودها، أو تستخف بالأثر الذي يكون لإنشاء دولة يهودية على الساحل الشرقي القريب من ساحلها، وسترغمها الحوادث على أن تدرك القربى بينها وبين فلسطين أجدى عليها وأربح لها من هذه العزلة التي يحملها على الإخلاد لها الجهل وقلة الفطنة وضيق أفق النظر. وكل آت قريب، ولكن الشيء في أوانه خير منه بعد الدرس القاسي والامتحان الأليم والتجربة المرة.
وإن عصبة الأمم لتنظر الآن في أمر فلسطين ولكنه لا إيمان لنا بالعصبة التي لا خير فيها فما أجدت شيئاً على الحبشة المسكينة ولا هي تجدي فتيلاً على الصين. فليوطن العرب أنفسهم على الاستغناء عن كل عون من غير أنفسهم وليعلموا أن الذي يسعهم وحدهم بلا معونة من أوربا كثير لا يستهان به؛ وإذا كان سبعون مليوناً من العرب لا يدخل في طوقهم شيء فماذا يرجون؟.
إبراهيم عبد القادر المازني(215/4)
مصر مجاز الشرق
عامل يعيد الأثر في تأريخها
للأستاذ محمد عبد الله عنان
من الحقائق الجغرافية والتاريخية ما يلازم حياة الأمم حتى ليغدو من صميم هذه الحياة، بل يغدو أحياناً عاملاً حاسماً في تكوينها وتطورها؛ فعلاقة النيل بحياة مصر مثلا علاقة أزلية خالدة لم يفصمها تعاقب الدهور والعصور؛ وإذا كانت هيرودوت قد ذكر منذ ألفين وثلاثمائة عام أن مصر هبة النيل، فان هذه الحقيقة لا تزال ماثلة إلى اليوم بكل قوتها وروعتها، وقد كانت ماثلة راسخة قبل هيرودوت بآلاف السنين. وقد كان النيل منذ أقدم العصور حياة الأمة المصرية المحتشدة حول ضفافه الخضراء، وسيبقى أبد الدهر مصدراً لهذه الحياة؛ وكان منذ فجر التاريخ عاملاً أساسياً في تكوين هذه الحياة وفي تطور مظاهرها وأساليبها مدى العصور والدهور. كذلك كان موقع مصر الجغرافي وما يزال عاملاً جوهرياً في تطوراتها التاريخية وفي مصايرها السياسية والاجتماعية، فقد كان هذا الركن الذي تشغله مصر صلة الوصل بين قارات العالم القديم، وكان لهذه الحقيقة الجغرافية في تطور تاريخها القديم والحديث أعظم تأثير.
بل إن هذه الحقيقة الراسخة لتغدوا في تاريخ مصر الحديث والمعاصر أشد وضوحاً وتأثيراً؛ ذلك أن القدر شاء أن تحفر مصر قناة السويس وأن تغدوا مرة أخرى طريق الهند والشرق الأقصى. وهل ينسى مؤرخ ما كان لقناة السويس من أثر عظيم في مصاير مصر في العصر الأخير وفي وضعها السياسي الحاضر؟ وهل ينكر إنسان أن القناة ستبقى عصراً هي العامل الفصل في مصير مصر ومستقبلها الدولي؟ ونقول إن مصر قد غدت كرة أخرى طريق الهند والشرق الأقصى، لأن مصر كانت منذ أقدم العصور حلقة من أهم حلقات الوصل بين الشرق والغرب، وكانت خلال العصور الوسطى حتى أواخر القرن الخامس عشر طريق الهند المختار، وكانت ثغورها دائماً سواء في البحر الأبيض المتوسط أو في البحر الأحمر قواعد رئيسية لتجارة الغرب مع الهند والشرق الأقصى؛ ونحن نعرف إن مصر والشام كانتا منذ القرن التاسع وحدة جغرافية وسياسية متحدة، وكانت حدود مصر منذ الدولة الطولونية تصل حتى أقاصي الشام؛ وكانت هذه المياه كلها على طول ساحل(215/5)
الشام وسواحل مصر حتى برقة تقع تحت السيادة المصرية؛ كذلك كانت مياه البحر الأحمر حتى ثغور الحجاز. وكان للهند والشرق الأقصى في تلك العصور طريقان رئيسان: الأول طريق قسطنطينية، والثاني طريق المياه والأراضي المصرية؛ ولكن الطريق الأول لم يكن دائماً خير الطريقين، لأنه بعد اجتياز أراضي الدولة البيزنطية، ينحدر إلى مسالك وعرة في أرمينية وفارس وما وراء النهرين، وكان أيضاً أطول الفريقين شقة؛ ولهذا كان طريق الثغور المصرية هو طريق الهند والصين المختار؛ وكانت جمهورية البندقية لتفوقها البحري في البحر الأبيض المتوسط تستأثر في تلك العصور بأعظم قسط من تجارة الشرق الأقصى؛ وكانت مصر، سيدة الطريق إلى الهند، تستأثر بأعظم قسط من أرباح هذه التجارة ومكوسها، وكانت المكوس التي تفرض في ثغور مصر والشام على التجارة الصادرة إلى الشرق الأقصى من أعظم موارد الخزينة، هذا إلى ما تجنيه التجارة المصرية من أرباح الوساطة وأعمال النقل وغيرها.
كانت مصر إذاً في تلك العصور كما هي اليوم طريق الهند والشرق الأقصى؛ بيد أنها كانت عندئذ سيدة هذا الدرب والمتحكمة في مصايره، تدعم إرادتها وصولتها بقوات برية وبحرية يخشى بأسها. ولما غزى الصليبيون سواحل الشام في نهاية القرن الحادي عشر واستقروا حيناً في فلسطين وبعض ثغور الشام اضطربت مواصلات الهند من هذه الناحية حيناً، ولكنها تحولت إلى الإسكندرية ودمياط وإلى القلزم وعيذاب ثغري البحر الأحمر؛ وكانت القوافل التجارية تخترق مصر من الإسكندرية ودمياط براً إلى ثغر القلزم (وموقعه القديم مكان ثغر السويس)، أو في النيل حتى قوص، ثم إلى عيذاب؛ وتسير بعد ذلك بحراً إلى الهند والصين؛ وكانت ثمة طريق برية أخرى تخترق الشام والجزيرة ثم فارس وخراسان والسند، أو تنحرف شمالا إلى بخارى ثم الصين؛ وهذه الطريق الأخيرة هي التي سلكها ماركو بولو الرحالة البندقي الشهير في القرن الثالث عشر والتي وصفها لنا في رحلته أبدع وصف؛ ثم سلكها من بعده في أوائل القرن الرابع عشر إلى الهند الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة الطنجي. والواقع أن فكرة قطع طريق الهند وحرمان مصر من مغانمها لم تكن بعيدة عن أفكار الصليبيين؛ فلما انهارت حملاتهم ومشاريعهم واستطاعت مصر أن تردهم نهائياً عن الشام وثغوره، استردت مصر كل سيادتها(215/6)
وسيطرتها على طريق الهند؛ ومن جهة أخرى فإن جمهورية البندقية لم تكن كباقي الدولة النصرانية متحدة الرأي مع الصليبيين دائماً، وكانت في معظم الأحيان تؤثر مصالحها التجارية وتؤثر البقاء على صداقة مصر.
ولبثت مصر تسيطر على طريق الهند والبندقية تستأثر بمعظم مغانم التجارة الهندية حتى أواخر القرن الخامس عشر؛ وكانت علائق مصر والبندقية دائمة التوثق تنظمها دائماً معاهدات متوالية تسعى جمهورية البندقية دائماً إلى عقدها مع حكومة السلاطين. ولكن حدث في أواخر القرن الخامس عشر أن حاول البحارة البرتغاليون اكتشاف طريق جديد للهند؛ واستطاع فاسكودي جاما في سنة 1497 أن يكتشف طريق رأس الرجاء الصالح، وأن يصل عن هذا الطريق إلى ثغر قاليقوط في غرب الهند؛ ولم تمض أعوام قلائل حتى أنشأ البرتغاليون في هذا الثغر مستعمرة برتغالية، وأخذت بعوثهم البحرية تتردد إلى الهند عن هذا الطريق الجديد. وفي الحال شعرت مصر بالخطر الذي يهدد طريقها الهندية ومواردها التجارية، وشعرت البندقية حليفتها وشريكتها بما يهدد تجارتها مع الشرق الأقصى من الخراب والإمحال؛ وظهر هذا الخطر بصورة واضحة حينما أخذت التجارة الهندية التي كانت تسير إلى مصر عن طريق عدن وجدة وسواكن تتحول إلى الطريق البحرية الجديدة، وأخذت السفن البرتغالية تطارد السفن المصرية التي تشق هذه المياه؛ عندئذ هبت مصر تدافع عن مواصلاتها الهندية وامتيازاتها التجارية التي استأثرت بها مدى القرون؛ وكان ذلك في عهد السلطان الغوري الذي شاء القدر أن يكون آخر ملوك مصر المستقلة؛ فبادر السلطان بإنشاء أسطول مصري جديد في مياه البحر الأحمر ليقاتل أولئك الخصوم الجدد. وفي بعض الروايات أن البنادقة أمدوا السلطان بالأخشاب والذخائر لتجهيز هذا الأسطول؛ وعلى أي حال فقد التقى الأسطول المصري بسفن البرتغاليين في البحر الأحمر أكثر من مرة وأحرز قائده أمير البحر حسين على الأسطول البرتغالي بقيادة الأميرال لورنزوالميدا في سنة 1508 انتصاراً حاسماً؛ ولكن البرتغاليين عادوا فهاجموا الأسطول المصري وهزموه في العام التالي؛ ولم يك ثمة شك في مصير هذا النضال، فإن البرتغال كانت يومئذ في مقدمة الدول البحرية التي يخشى بأسها، وكانت مصر من جهة أخرى ترقب خطراً آخر أعظم وأجل، هو خطر الترك العثمانيين. أما البندقية فقد حاولت(215/7)
من جانبها أن تتأهب للنضال محافظة على تجارتها، ولكن الدول الأوربية الكبرى، فرنسا وأسبانيا والبابوية، اتحدت في مجمع كامبري لمقاومة البندقية والقضاء على محاولاتها.
وهكذا فقدت مصر طريق الهند في نفس الوقت الذي فقدت فيه استقلالها، وفقدت كل ما كانت تجنيه من وراء هذا الامتياز القديم من المغانم الطائلة. ومنذ أوائل القرن الخامس عشر يغدو طريق رأس الرجاء الصالح، هو الطريق المختار للهند والشرق الأقصى؛ ومن ذلك الطريق سارت البعوث البحرية المتوالية لاكتشاف مجاهل المحيط الهندي والمحيط الهادئ.
على أن القدر شاء القدر أن تسترد مصر طريق الهند في ظروف لم تكن تحلم بها، وكانت بالنسبة إليها مفتتح عصر من الكوارث والمحن؛ أجل كان افتتاح قناة السويس في سنة 1869 نذيراً بفاتحة الدور الخطير المحزن الذي قضى على مصر أن تؤديه في ربط الشرق بالغرب وتوثيق المواصلات بين بريطانيا العظمى والهند وأستراليا؛ بل لقد ظهر هذا النذير واضحاً منذ أيام الحملة الفرنسية حيث شعرت إنكلترا بالخطر الذي يهدد مواصلاتها المستقبلة من استقرار الفرنسيين في مصر، فبذلت كل ما في وسعها لتحطيم الحملة الفرنسية وإجلاء الفرنسيين عن مصر؛ وكأنما استطاعت إنكلترا يومئذ أن تنفذ إلى حجب الغيب، وأن تتصور قيام هذه القناة تشق الصحراء بين البحرين الأبيض والأحمر؛ وكانت القناة منذ افتتاحها شراً مستطيراً على مصر، لأنها لفتت أنظار الدول الأوربية إلى هذا الشريان الحيوي الجديد في طريق الشرق الأقصى، وأذكت أطماع السياسة الاستعمارية. ولم تلبث مصر أن سقطت فريسة هذه السياسة المتجنية؛ وكانت محنة فقدت مصر فيها استقلالها؛ ومهما كانت البواعث التي تذرعت بها السياسة البريطانية لاحتلال مصر في سنة 1882 فإن حراسة القناة، وهي شريان حيوي لطريق الهند، كانت بلا ريب أهمها وأخطرها؛ وقد غدت هذه الحقيقة فيما بعد شعار السياسة البريطانية ومحورها الأساسي في التمسك باحتلال مصر.
ولما وقعت الحرب الكبرى ظهرت أهمية القناة كطريق حيوي للمواصلات الإمبراطورية البريطانية، ولعبت دوراً خطيراً في حمل القوات والمؤن من أنحاء الأملاك والمستعمرات إلى ميادين القتال الأوربية؛ وازدادت السياسة البريطانية اقتناعاً بأهمية هذا الشريان(215/8)
الحيوي في مواصلاتها الإمبراطورية، وازدادت تمسكاً بحراسته والسيطرة عليه، حتى إنها رأت يومئذٍ أن تعلن حمايتها على مصر تمهيداً إلى ضمها إلى أملاك التاج. فلما لم تقبل مصر هذا المصير، واضطرت أن تشهر النضال في سبيل حريتها واستقلالها، وأعلنت إنكلترا في سنة 1922 إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مصر، كانت مسألة المواصلات الإمبراطورية أو بعبارة أخرى مسألة قناة السويس من المسائل المحتفظ بها؛ ولما آن للمسألة المصرية أن تحل أخيراً بعقد معاهدة الصداقة المصرية الإنكليزية في أغسطس الماضي، كانت مسألة المواصلات الإمبراطورية وحماية قناة السويس عقدة العقد، وكانت بالنسبة للسياسة البريطانية غاية الغايات؛ وقد جاءت نصوص المعاهدة منوهة بأهميتها وخطورتها بالنسبة لمصاير العلاقات بين مصر وإنكلترا.
على أن المستقبل فياض بالاحتمالات؛ وقد حمل تطور فنون الحرب الحديثة وتقدم التسليحات الجوية بعض الخبراء على الشك في مستقبل قناة السويس كشريان للمواصلات الإمبراطورية؛ وقد أيدت ظروف الحرب الحبشية وتطوراتها هذه النظرية؛ ومع أن السياسة البريطانية مازالت على تمسكها بأهمية القناة وخطورتها بالنسبة للدفاع الإمبراطوري، فإنها تتوجّس اليوم من حركات إيطاليا الفاشستية ومطامعها الاستعمارية، وتتوجس بالأخص من تفوق تسليحاتها الجوية، وتنظر دائماً إلى احتمال العود إلى طريق رأس الرجاء الصالح، إذا وقع ما يهدد سلامة القناة؛ وهكذا نرى أن التاريخ قد يعيد نفسه، وأن أحداث الحرب والسياسة قد تؤثر في أهمية القناة كطريق للهند والمواصلات الإمبراطورية؛ على أنّه إذا شاء القدر أن تفقد مصر طريق الهند مرة أخرى، وأن تغدو القناة في عرف السياسة والحرب بل وفي عرف التجارة كما مهملا، فإن مصر تكون آخر من يأسف لضياع هذا الامتياز المحزن، وإنها لترى فيه يومئذ بشير الخلاص والرضى.
محمد عبد الله عنان(215/9)
هل أسلوب الحكم وحده كافي في تطور الشعب
ورقيه؟
للدكتور محمد البهي قرقر
بتطور العلم الطبيعي ومراعاة الحقائق الراهنة والدنو من الواقع تغير مقياس الحكم على النظريات العلمية الفلسفية. فبعد أن كان أساس الحكم عليها تعمق صاحب النظرية في الفكر وتشعب تفكيره في فروض متعددة وخيالات مظنونة، أصبح إمكان استخدامها أو عدم إمكانه في حياة الإنسان العملية ميزان الصحة أو الخطأ في الحكم على نظرية من النظريات الفلسفية. ففلسفة العصر الحديث توجه عنايتها إلى الواقع وإلى الناحية العملية والسلوك النفسي للفرد والجماعة أكثر من النظر فيما وراء الطبيعة والبحث عن معنى النفس وهل هي جوهر أو عرض، أو غير ذلك من الأسئلة التي تحوم حول ماهية النفس وكيفية تركيب الوجود على العموم.
وأسلوب الحكم ونوع النظام الذي تسير عليه أمة من الأمم خاضع لهذه القاعدة، لأنه لا يخرج عن أن يكون عملاً عقلياً له صدى نفسي عملي أيضاً في تلك الأمة. فهو من أهم موضوعات الفلسفة الواقعية الحديثة؛ يلقى استحساناً في كل مكان إذا برهن على يد قائد سياسي إمكان استخدامه والانتفاع به في الحياة العملية للشعب، ولكن ربما يكون طالع نحسه في سوء استخدامه لا في ذاته نفسه.
فالحياة العملية هي في الواقع محك أية نظرية فلسفية؛ فان لم تتفق النظرية معها أو لم تجد نفعاً لها فهي إما خيال مفروض أو لم يئن الأوان لها بعد ولم يدن وقت استخدامها، لا لأنها لم تنضج - فقد تكون في ذاتها ناضجة - ولكن لأن الحياة العملية للشعب ربما لم تتطور نسبياً بما يدانيها.
صلاحية نظام أي حكم أو عدم صلاحيته مرتبط بحال الأمة التي ينفذ فيها. وكونه عاملاً من عوامل رقي الشعب يتوقف إلى حد كبير على موقف الشعب العملي نفسه منه ومن مبادئه، وعلى تأثره به.
وكل أنظمة الحكم في العصر الحديث تدعي أنها تقصد إلى تحقيق فضيلة خلقية، يكون من ورائها رفاهية الشعب ورقيه، وشعور كل فرد بمعنى السعادة.(215/10)
فالنظام الشيوعي يزعم أنه يريد تحقيق العدالة ومعنى المساواة في كل ناحية من نواحي الحياة وبالأخص في الناحية الاقتصادية التي لم يمسها بالتعديل نظام حكم قبله. وحينما كان نظرياً لقي أتباعاً كثيرين ولاسيما بين الطبقات الفقيرة والعاملة. فلما نزل به زعماؤه في الحياة العملية وحاولوا تطبيقه أثبت أنه خيال مفروض ووهم لا يمكن أن يساير الحقيقة. ولم ينل الشعب الذي رغب في الأخذ به من ورائه إلا الفوضى والشقاء. ومع ذلك لم يحكم الشعب نفسه، وإنما تحكمت فيه فئة قليلة منه ضمنت لها السيطرة بالقوة والعنف، فهو حكم استبدادي لا شعبي.
والنظام الديمقراطي (الهادئ الرزين)، الذي لا يتشدد في معنى الوطنية - أو على الأصح الذي لا يعرف وطناً -، والذي هو مفعم بحب (الإنسانية)، يبغي أيضاً الوصول إلى العدل، يبغي إعطاء الشعب حقه بتسليمه مقاليد أمره. ولخلابته - لأنه يحض على محبة الإنسانية والعمل على (السلام)، وفي الوقت نفسه يتملق الشعب ويدعي أنه في خدمته، مع المحافظة على نشاط الفرد المالي - لقي أنصاراً عديدين وأضحى أمنية لكثير من الأمم الضعيفة التي لم تزل في سن الطفولة بعد خلقها ونشأتها، لأنها تحب العمل للإنسانية المزعومة وتميل للسلام العالمي - بمقتضى ضعفها - وتود أن تخرج عن حكم الفرد أو الهيئة الأرستقراطية.
والحياة العملية لمثل هذه الشعوب أصح مقياس للوقوف على حقيقة هذا النظام وعلى مبلغ حصته في رقيها، لأنها تفهم (الديمقراطية) فهماً ساذجاً فطرياً، فهماً لغوياً لا سياسياً، فالمعنى السياسي وملكة التلاعب بالسياسة لم تتكون عندها بعد، ولأنه ليس من إنتاجها العقلي بل اقتبسته وآمنت به، فأثره حينئذ، إيجابا أو سلباً، أظهر، والحكم له أو عليه أصح وأقرب للواقع.
ومصر دولة من الدول العربية التي تغرم بالديمقراطية، ونظام حكمها ينص على أنها (دولة ذات سيادة، وهي حرة مستقلة وحكومتها ملكية وراثية، وشكلها نيابي - المادة الأولى من دستور سنة 1923)، وهو مظهر لا اعتراض عليه من ناحيته الشكلية والقانونية، ولا من ناحية ما إذا كانت هناك رقابة أجنبية فعلية، أو سياسة مجاملة، تقيد في الواقع بعض الشيء من هذه السيادة، فالدول الصغيرة تتمتع دائماً من الوجهة الدولية باسم السيادة التامة وإن(215/11)
كانت تسير في سياستها العملية طبقاً لخطة دولة أخرى ذات نفوذ أكبر تحت ستار (الصداقة) أو (المحالفة) لغرض مزدوج: لوقاية الدولة الصغيرة من اعتداء أجنبي - وما هو في الواقع إلا اعتداء على نفوذ الدولة الكبرى في سياسة الدولة الصغرى - ولمنفعة الدولة الحليفة الكبرى اقتصادياً وأدبياً في السياسة العالمية. ولكن الشيء الذي يرغب الآن في بحثه هو: هل من الممكن بواسطة هذا النظام نقل مصر من حالتها الراهنة إلى حالة أرقى، وما مبلغ أثره في تطور الشعب؟
وبحث هذا يتطلب الوقوف على السلوك العملي للشعب إزاء هذا النظام، ثم على مقدار استفادته منه. ولبيان السلوك العملي له وموقفه تجاه هذا النوع من الحكم أود أن أقتبس من دستوره بعض المواد التي لها صور عكسية بارزة في حياة الأمة العملية والتي يقابلها بعض الظواهر النفسية التي لها صفة الأغلبية في الشعب، وبعبارة أخرى المواد التي لها مساس كبير بهذا السلوك النفسي.
(1) في الفصل الثالث من الدستور يقضي أسلوب الحكم بتأليف هيئة شعبية نيابية، لها صفة الرقابة على القوة التنفيذية بطريق الاقتراع العام. وصاحب الأغلبية في هذه الهيئة يتولى رياسة تلك القوة.
ومن خصائص الشعب المصري وألزم صفاته للآن السير وراء العاطفة والرغبة في التصديق، والتمسك بالعقيدة، فهو سريع التأثر بالوعود الخلابة، وخصوصاً بالتي على وفق رغباته المتخيلة، لا يضعف تأثره بذلك إرهاب أو اصطدام بالواقع، وهكذا شأن العاطفة إذا هي احتلت من النفس مكاناً واسعاً، يكاد يكون لها كل سلطان على السلوك النفسي.
لهذا لم تتحلل نتيجة الانتخاب بعد من أثر الدعاية المنظمة - التي تسير طبق رغبات الشعب - ومن قوة العاطفة الحساسة الخارجة عن الاعتدال التي هي أميل بكثير إما إلى الانفعال والقابلية (في حالة التصديق) وإما إلى الرفض والمعارضة (في حالة الجحد والإنكار).
وزيادة على ما للشعب من هذه العاطفة فهو لم تتكون عنده بعد الملكة السياسية، أو بعبارة أخرى لم تتميز عنده قوة الحكم المبنية على الروية والتفكير من قوة العاطفة الثائرة التي لم تهذب بعد. ولعل ذلك يرجع إلى جهلة وتركه مدة طويلة إلى الطبيعة التي كانت تكتنفها(215/12)
عوامل متناقضة.
الأكثرية النيابية إنما تعبر عن قوة العاطفة المصدِّقة التي تغلب على الشعب وتكون الجزء الأعظم من نفسيته. ولهذا يصح أن يقال إن الحكم الديمقراطي الصادر عن ملكة سياسية والمرتكز على قوة شعبية لا تغلب عليها العاطفة لم يتحقق للآن، وإن وجد أسلوبه ورسمت مبادئه النظرية.
(2) ينص الدستور أيضاً على الحرية الشخصية، على حرية الاعتقاد، وعلى حرية إبداء الرأي والنقد.
(المواد 4، 12، 14). حرية الفكر والاعتقاد، حرية إبداء الرأي والنقد يتمتع بها إذن، قانونياً، كل فرد يعيش في مصر. والمصري طبعاً يفكر ويبدي رأيه وينتقد ككل إنسان لأن هذه معان عامة، ولكن طريقته في التفكير وفي إبداء الرأي وفي النقد ربما تنم عن فهم آخر لمعنى الحرية فيها: تنم إما عن سوء في الفهم أو قصر في إدراك ما هي الحرية في شيء من الأشياء، وربما لم يفهم بعد أن الحرية معنى محدود غير مطلق، حرية في شيء مقيدة بجواز استعمال شيء آخر ربما يكون مضاداً للأول ونقيضاً له.
حرية التفكير ما زالت تستخدم في مهاجمة الدين وجرح العاطفة الدينية للشعب، بل أظهر صورها التهكم بمعتقدات الأمة والسخرية بعاداتها، حرية إبداء الرأي تستعمل في الخروج عن المألوف للأمة والاستخفاف بما هو مقدس عندها، حرية النقد سبيله العملي جرح الكرامة الشخصية أو الجدال للجدل في غير طائل.
حرية التفكير، حرية إبداء الرأي وحرية النقد حق سام من حقوق الشعوب المتمدينة، ولكنه لا يصح أن يتخذ أداة للهدم، فوظيفته يجب أن تكون إيجابية لا سلبية. جعلته بعض الدول الراقية حقاً شرعياً لأفرادها بعد ما شعر الشعب من نفسه بقدرته على كظم شهوته العقلية وحاجته إلى تقرير ذلك ضد حاكم مستبد أو ابتغاء المساواة بالفئة الأرستقراطية التي كفلت لنفسها هذا الحق منذ زمن بعيد.
فتقرير حرية الفكر وإبداء الرأي والنقد لكل فرد من أفراد الشعب حق إنساني فطري جميل، وأجمل منه استعداد الشعب وإعداده لاستخدام ذلك في طريقه الطبيعي وتشريعه له من نفسه، لا إعطاؤه له منحة أو فرضه عليه فرضاً، فالطفل إذا ما أفسح له الطريق ربما(215/13)
يلقى حتفه في هاوية.
(3) كذلك المساواة أمام القانون. المساواة في وظائف الدولة مبدأ شريف نصت عليه المادة الثالثة من الدستور المصري، (المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية. . . .)
المساواة في الحقوق العامة مزية من مزايا الحكم وظاهرة من ظواهر عدله، ولكن أساس التفضيل وقاعدة الاختيار لوظائف الدولة في الأمم الراقية الجدارة الشخصية وإمكان القيام بالواجب نحو الأمة؛ ومقياس تلك الجدارة الإنتاج العملي لا الهوى الحزبي؛ وما شرعت المساواة وجعلت حقاً من حقوق الشعب إلا لإفساح المكان للجدارة والكفاية لا للنسب والعائلة. وكلما كان الشعب إلى الفطرة أقرب كانت لعلاقة النسب والقرابة في التمييز بين فرد وآخر وتخصيصه بمنصب من مناصب الدولة الكبرى الأثر الأول، لأن قوة الحكم في الشعب حينئذ ما زالت تعتمد على العصبية، فإذا ما تطور الشعب بعوامل التهذيب جُعلت القاعدة في الاختيار والتفضيل الكفاية الشخصية وتُنوسيت عصبية القرابة الضيقة، لأن مجموع الشعب أصبح حينئذ يعتبر كمجموع أفراد لعائلة واحدة.
ومن هنا تغلب الظاهرة النفسية التي تسمى (المحسوبية) - والتي تعد مرضاً اجتماعياً خلقياً في الشعب - في الشعوب الفطرية أو فيما هي أقرب إليها وإن اتخذت أحدث الأساليب في نظام الحكم، فإذا كانت هذه الظاهرة متفشية الآن في مصر - وستبقى متفشية فيها مهما شرع ضدها من قوانين، لأن علاج ذلك ليس بسن قانون وتشريع وإنما بتهذيب الشعب نفسه - فذلك لأن الشعب المصري مازال يعتبر قاعدة الجدارة في الاختيار في المنزلة الثانية.
فالمبادئ الأساسية التي هي مظهر الحكم الديمقراطي، من تمثيل نيابي وإعلان حرية الفكر وإبداء الرأي والمساواة أمام القانون والتمتع بالحقوق السياسية والمدنية لكل فرد مصري أو متمصر، موجودة في أسلوب الحكم المصري الحديث، ولكن مظاهر الحياة الواقعية للشعب تدل على أن سلوكه العملي منحرف عنها وموقفه تجاهها سلبي. وبالرغم من ذلك فهل يترقب لهذا النظام أثر إيجابي حتى يكون كفيلاً بتغيير هذا الموقف وبترقية الشعب؟.
لا يجحد أن تمشى الحكم مع هذه الأسس من العوامل التي تُشعر الفرد باستقلاله وحريته(215/14)
وتؤمّنه على حياته الفردية وتفسح المجال لجده وذكائه. واستقلال الفرد وإفساح المجال لجده ومواهبه من أسباب رقي الأمة كمجموعة متكونة من أفراد تربطهم روابط عدة، طبيعية وثقافية، ولكن هذه النتيجة الإيجابية مقيدة بتنفيذ هذه الأسس وبفهم الشعب لها فهماً صحيحاً، والتنفيذ والفهم كلاهما ليس حاصلاً لأي أسلوب من أساليب الحكم، وإنما هما مقدمة من مقدمات نجاح الحكم نفسه وعادة تتكون بالمران في نفسية الشعب.
فأسلوب الحكم نفسه لا ينتج عادة وإنما يرعى العادات. في ظله تتكون عادات ذات أثر إيجابي أو سلبي في رقي الشعب أو انحطاطه. وتكوُّن العادات الحسنة سبيله الوحيد التربية والتهذيب. فإذا استقر في نفس الشعب حب الحرية وفهمها فهماً صحيحاً، إذا عرف معنى المساواة، كان عمله طبق ذلك الفهم وهذه المعرفة، وكانت خطواته دائماً إلى الأمام؛ وما أسلوب الحكم الديمقراطي حينئذ إلا مظهر خارجي فقط لمعنى نفسي مستقر، طبيعي أو مكتسب.
فالشك إذن محوط بنظام الحكم وبنتائجه الإيجابية في رقي الشعب كعامل أول في تطور الأمم، ولكن الأمر الذي لا مرية فيه هو عامل التربية التي تنفذ إلى نفس الفرد والجماعة وتكيفها حسبما تختط الأمة لنفسها.
فإذا لم يرب الشعب الضعيف المستعبد على حب الحرية والمطالبة بالاستقلال، لم يشعر بمعنى الحرية وبمزايا الاستقلال إذا ما تركته القوة المستعمرة وخلته ونفسه، بل بالعكس لا ينال من هذا الاستقلال إلا الفوضى وعدم استقرار النظام حتى يتحكم فيه نفر من الشعب نفسه ويسوسه بالقوة والعنف ويومئذ يشعر بحكومة وبنظام.
فإذا قدر للنظام الديمقراطي في أمه لم تتكون عندها بعد الملكات الاستعدادية له أن يكون ذا نتيجة إيجابية في تطور الشعب فلن تلمس إلا بعد زمن طويل وجهد شاق يقوم به زعيم مترسم لبرنامج معين مقصود. ومع ذلك يصح أن ينسب هذا التطور إلى الزعيم كمرب اجتماعي لا إلى الحكم الديمقراطي من حيث هو.
فالنظام الديمقراطي في إنكلترا مثلا ليس نظاما موضوعا ولا مواد دستورية مفرغة في الصيغ القانونية، وإنما هو نظام يحس به الشعب وقد خلقه من نفسه خلقاً، وتكون كنتيجة لازمة لأسلوب مخصوص في التربية، ولعادات مخصوصة لها بطول الزمن قوة الملكات(215/15)
الفطرية.
والشعوب الأخرى التي تحاول تقليد الدستور الإنكليزي ولم يكن لها بعد ما للشعب الإنكليزي من الاستعدادات والملكات السياسية لا تستفيد من هذا التقليد غلا التخبط وعدم الاستقرار. وما أشد عنايتها حينئذ بالصيغ الدستورية، وما اكبر ولعها بالترنم بأغاني الدستور والتشدق بمواده، أما الشعب نفسه، أما مصالحه، فأمر ثانوي يأتي بعد تنفيذ نصوص الدستور، كأنما الشعب خلق للدستور لا أن الدستور وجد لخدمة الشعب ورفاهية الأمة. ما ذلك إلا لأن التقليد فيما يسمى (دستوراً) لا فيما يقصد من الدستور، في مظهر من مظاهر المدنية لا في: كيف تتكون المدنية. بينما الشعب الإنكليزي نفسه أو أي شعب آخر كون له دستوراً من نفسه لا يلقى الأهمية إلا على: ماذا يقصد من الدستور. وهكذا الضعف يخلق صفة الأمانة والإخلاص في المظاهر فقط، فما أشد الأمم الضعيفة تمسكاً بنصوص ما يسمى قوانين دولية، وما أخلص الفقهاء للنصوص الفقهية - لا للروح الفقهية - في وقت الضعف وانحطاط مستوى الإنتاج العقلي.
فحرية الفكر وحرية إبداء الرأي والمساواة أمام القانون - أو بعبارة أخرى الدستور نفسه - معان تغرس في النفوس ويروض عليها الشعب الفطري أو ما هو قريب منه حتى يقيد حريته الهوجاء التي لا تعرف حرمة للغير ولا للجماعة، وحتى يحد كل فرد من جشعه وأنانيته، ويومئذ توجد الحرية الصحيحة وتستعمل في موضعها وتتحقق المساواة أمام القانون فعلاً.
فالدستور قبل كل شيء معنى خلقي أو هو يرتكز على الأخلاق التي تأخذ صبغتها الوطنية، وما أحوجه لذلك في ثباته واستقراره إلى الدين والتدين. فكلما اشتد ميل الشعب الديني ازداد تمسكه بالدستور، وكلما تحللت حكومة من الحكومات من دينها كان حكمها إلى الديكتاتورية أقرب. وهل هناك في التاريخ الحديث من هو أشد تدينا وأعرق في الدستور من الشعب الإنكليزي والحكومة الإنكليزية؟
وإذن أولى بمصر أن تعنى بدينها وخلقها وبتنشئة شبابها على التربية الوطنية من أن تجري وتتعلق بمظاهر نفعها - أن كان فيها نفع - محدود، أولى بها أن تنظر فيما يخلق الشعوب ويبنيها لا فيما يظهر عليها من أثواب ويكون لها من ألوان!(215/16)
محمد البهي قرقر
دكتور في الفلسفة وعلم النفس وعضو بعثة الإمام الشيخ محمد
عبده(215/17)
من تاريخ الأدب المصري
أحمد بن يوسف
المعروف بابن الداية
للأستاذ محمد كرد علي
كان والده من جلة كتاب الدولة الطولونية انتقل من بغداد إلى مصر، وكان من أهل المروءات والفضل، ونشأ ابنه أحمد في مصر كاتباً فصيحاً وشاعراً مجيداً، وحاسباً منجماً. وأصل آبائه من أقباط مصر على الغالب، وكان جدهم الأول سميه أحمد بن يوسف الكاتب وزير المأمون. ولأحمد هذا المعروف بابن الداية ثلاثة وعشرون مصنفاً فقدت ولم يبق منها فيما نحسب سوى قطعة من (كتاب المكافأة وحسن العقبى) تدل على علو كعبه في البلاغة وقد أثبت في كتاب المكافأة أخباراً في المكافأة عن الحسن والقبيح مما شاهده في عصره، وذكر قصصاً شهدها أو نقلت إليه عمن أحسن إلى إنسان فكوفئ على إحسانه، وساق في المكافأة على الحسن إحدى وثلاثين قصة، وفي المكافأة على القبيح إحدى وعشرين قصة، قال في آخرها: وإذ قد وفينا ما وعدناك به من أخبار المكافأة على الحسن والقبيح ما رجونا أن يكون ذلك عوناً للاستكثار من مواصلة الخير، وتطلب المعارفة في الحسن، وزجر النفس عن متابعة الشر، وإبعادها عن سورة الانتقام في القبيح وقد قالوا: الخير بالخير والبادئ أخير، والشر بالشر والبادئ أظلم - رأيت أن أصل ذلك حفظك الله بطرف من أخبار من ابتلي فصبر، فكان ثمرة صبره حسن العقبى، وأخبار حسن العقبى تسعة عشر خبراً سقط بعضها فيما يظهر.
قال من أخباره: (حدثنا أحمد بن أبى يعقوب قال: أنكر المهدي على هرثمة بن أعين (من أكبر قواد بني العباس) تحككه بمعن بن زائدة وأمر بنفيه إلى المغرب الأقصى، فكلمه الرشيد فيه واستل سخيمته عليه. ومات معن، وزادت حال هرثمة، وشكر للرشيد ما كان منه. وأفضت الخلافة إلى موسى الهادي فتمكن منه هرثمة. وحدثت الهادي نفسه بخلع الرشيد، وجمع الناس على تقليد ابنه العهد بعده، وعلم بهذا هرثمة، وتذكر عارفة الرشيد فتمارض. وجمع الهادي الناس ودعاهم إلى خلع الرشيد ونصب ابنه مكانه فأجابوه وحلفوا(215/18)
له، وأحضر هرثمة فقالوا له: تبايع يا هرثمة؟ فقال: يا أمير المؤمنين يميني مشغولة ببيعتك، ويساري مشغولة ببيعة أخيك فبأي يد أبايع؟ والله يا أمير المؤمنين لا أَكدت في الرقاب من بيعة ابنك أكثر مما أكده أبوك لأخيك في بيعته. ومن حنث في الأولى حنث في الأخرى. ولولا تأول هذه الجماعة بأنها مكرهة وإسرارها فيك خلاف ما أظهرت لأمسكت عن هذا. فقال لجماعة من حضر: شاهت وجوهكم، والله لقد صدقني وكذبتموني، ونصحني وغششتموني. وسلَّم إلى الرشيد ما قدره الهادي فيه)
قصة ثانية: (حدثني هرون بن بلال قال حدثني ياسين بن زُرارة قال: كان ببعض أرياف مصر نصراني من أهلها كثير المال فاشي النعمة سمح النفس، وكانت له دار ضيافة، وجرايات واسعة على ذوي الشعر بالفسطاط. فهرب من المتوكل رجل كنى عن اسمه لخطر منزلته، لميل كان من المنتصر إليه، فلما دخلها رأى فيها كثيراً من أهل بغداد، فخاف أن يعرف فنزع إلى أريافها، فانتهى به المسير إلى ضياع النصراني فرأى منه رجلاً جميل الأسر، وسأله النصراني عن حاله، فذكر أن الاختلال انتهى به إلى ما ظهر عليه. فغير هيئته، وفوض إليه شيئاً من أمره، فأحكم فيما أسند إليه واضطلع به. ولم يزل حاله يتزايد عنده حتى غلب على جميع أمره، وقام به أحسن قيام، فكان محل الرجل الهارب من النصراني يفضل كلما ذهب له.
(وورد على النصراني مستحث بحمل مال وجب عليه. (وسأله) النصراني عن خبر الفسطاط فقال: ورد خبر قتل المتوكل وتقلد المنتصر. ووافى رسول من المنتصر في طلب رجل هرب في أيام المتوكل يعرف بفلان بن فلان ويوعز إلى عمال مصر والشام بأن يتلقوه بالتكرمة والتوسعة فيلحق أمير المؤمنين في حال تشبه محله عنده. فعدل النصراني بالمستحث إلى بعض من أنزله عليه، وخلا الهارب بالنصراني فقال: أحسن الله جزاءك، فقد أوليت غاية الجميل وأحتاج إلى أن تأذن لي في دخول الفسطاط فقال: يا هذا إن كنت استقصرتني فاحتكم في مالي، فأني لا أرد أمرك ولا أزول عن حكمك؛ ولا تنأ عني، فقال له: أنا الرجل المطلوب بالفسطاط وقد خلفت شملاً جمّاً، ونعمة واسعة. إنما عدل بي الخوف على نفسي. فقال له: يا سيدي فالمال في يدك وما عندك من الدواب فأنت اعرف به مني فاحتكم فيه، فأخذ بغالاً وما صلح لمثله، وخرج النصراني معه. وقدم كتاباً إلى عامل(215/19)
المعونة من مستقره، فتلقاه عامل المعونة في بعض طريقه، ووصاه وجميع العمال بالنصراني، وصار إلى الحضرة فأصدر إليهم الكتب في الوصاة به إلى أن قدم بعض العمال المتجرة فتتبع النصراني ورام الزيادة عليه فخرج إلى بغداد.
(قال لي هرون إن ياسين قال له: إن النصراني حدثه أنه دخل إلى بغداد فلم ير بها أدنى محلا، وأكثر قاصداً منه، ثم استأذنت عليه وعنده جمع كثير فخرج أكثر غلمانه حتى استقبلوني فلما رآني قام على رجليه ثم قال: مرحباً يا أستاذي وكافلي والقائم بي حين قعد الناس عني. وأجلسني معه وانكب على ولده وشمله، وأنا أتأمل مواقع الإحسان من الأحرار، وسألني عن حالي في ضياعي فأخبرته خبر العامل، وكان أخوه في مجلسه فنظر إليه من كنا عنده، وقال له: كنت السبب في تقليد أخيك فصار أكبر سبب في مساءتي، فكتب من مجلسه كتاباً إليه بجلية الخبر وأنفذه. وأقمت عنده حولا في أرغد عيشة وأعظم ترفة. وورد على كتب أصحابي فخبروني بانصراف العامل عن جميع ما كان اعترض عليه في أمري. وأخرج أمر السلطان في إسقاط أكثر خراج ضياعي والاقتصار بي على يسير من مالها. قال ياسين فكتب النصراني ببغداد حجة أشهد فيها على نفسي أن أسلمه في جميع الضياع التي في يده (وسماها وحددها) لهذا الرجل الذي كان هرب، وصار بها إليه، فقال له: قد سوغك الله هذه الضياع، فأني أراك أحق بها من سائر الناس، فامتنع الرجل من ذلك وقال له: عليك فيها عادات تحسن ذكرك، وترد الأضغان عنك، ولست أقطعها بقبض هذه الضياع عنك. ورجع النصراني إلى الفسطاط فجدد الشهادة له فيها. فلما توفى النصراني أقرها في يد أقاربه، ولم يزاولوا معه بأفضل حال).
محمد كرد علي(215/20)
ظاهرة هامة
للأستاذ عبد المغني علي حسين
يروي كثير من الناس عن بعض الذين ماتوا من أقربائهم أو أصدقائهم، أن هؤلاء، عندما حضرهم الموت كانوا يهتفون بأسماء بعض الذين سبقوهم إلى الدار الآخرة. ويروي الراوون أن المحتضر كان يتحدث إلى (الموتى) كما لو كانوا منه على مرأى وعلى مقربة. أما قول الناس في تعليل ذلك فهو أنه هذيان نتيجة اختلال الشعور. وبعض الناس يسلم بالعجز عن تعليل هذا الأمر. والجميع يعرفون بالتجربة أن المريض إذا (نادى على الأموات) على حد قولهم، فقد تحقق دنو أجله، ولم يعد ثم أمل في تماثله.
هذه الظاهرة معروفة مشهورة في بيئتنا المصرية، ولا أحسب القارئ الكريم ألا قد سمع بها، إن لم يكن شهدها بنفسه. ولكن أرجو ألا يحسبها قاصرة على البيئة المصرية، أو على أية بيئة معينة، فالواقع أنها شائعة في العالم اجمع، ومعروفة بين بني البشر على اختلاف جنسياتهم وألوانهم ومدنياتهم ودياناتهم. وهي، بالنظر لشيوعها هذا، خليقة أن تسترعي اهتمام الباحث المفكر، سيما وأنها تتصل بذلك السر الأعظم: الموت. هذه الظاهرة قد استرعت فعلا اهتمام من اشتغلوا بالبحوث الروحية، وهي عندهم عظيمة الدلالة والخطر.
أمامي الآن كتاب أخرج في عام 1925، لأحد كبار الباحثين الروحيين الإنكليز، هو سر وليم باريت، عضو الجمعية الملكية البريطانية وفي هذا الكتاب دراسة مستفيضة لتلك الظاهرة الشائعة، ومن يتصفحه ير كيف يمكن أن يصل الباحث إلى نتائج خطيرة من ظواهر مشتتة لا تحمل في ظاهرها دلالة ولا قيمة علمية. عمد الباحث المذكور إلى دراسة هذه الظاهرة دراسة استقرائية على طريقة العلم الحديث التي بلغت به إلى ما بلغ. تلك الطريقة القائمة أولاً على شهود أكبر عدد ممكن من الظواهر، ثم وصف تلك الظواهر بدقة وتفصيل وصدق، ثم المقارنة بينها وملاحظة ما فيها من عناصر مشتركة، ثم استنتاج ما يمكن استنتاجه. ويأتي بعد ذلك استنباط التجارب للوقوف على مبلغ صحة هذا الاستنتاج.
لجأ سر وليم باريت إلى أصدقائه من أطباء ومديري المستشفيات الكبيرة في مدينة لندن، طالباً تمكينه من زيارة من يحضره الوفاة من المرضى كلما سمحت الظروف وسمح ذوو المريض، فحضر بنفسه عدداً كبيراً من الحالات، ودون ما شاهده وسمعه، وكانت تعاونه(215/21)
في هذا العمل زوجته (ليدي باريت). وكتب أيضاً إلى أصدقائه من أطباء المستشفيات في عدد كبير من مدن العالم راجياً موافاته بوصف ما قد يعرض لهم في هذا الأمر. وبذا تم له جمع عدد كبير من تلك الحالات، رتبها وبوبها، وقدمها لجمعية البحوث الروحية بلندن ثم أذاعها على ملأ القارئين في هذا الكتاب.
في الكتاب وصف دقيق لكل حالة، وبه الأسماء والأمكنة مذكورة، وكذا الزمن باليوم والساعة والدقيقة. أما المحتضر فقد يكون رجلا أو أمرأة، شيخاً أو شاباً أو طفلاً، وقد يكون إنجليزياً أو أوربياً أو أمريكياً أو هندياً أو زنجياً، وهو في أكثر الحالات يعاني آلاماً جساماً، ووجهه متجهم، فإذا به ينسى ألمه برهة، ويتهلل وجهه ويقول: (ماذا أرى؟ هذا أنت يا فلان. لقد جئت لتستصحبني. . .) أو نحو ذلك من الكلام.
ولكن لو اقتصر الأمر على مثل هذا لما كان له كبير وزن من الوجهة العلمية، إذ من الممكن القول بأن المريض وقد برحت به العلة، وتسممت أعصابه، واضطربت دورة الدم في مخه، قد اختلط عقله ولم يعد يفرق بين الحقيقة والخيال، وصار سواء عنده الشعور الذي يصل إلى مخه بالطريق المعتاد من الخارج والشعور الذي ينبعث من عقله الباطن، فالذكريات القديمة تتمثل له في شكل حقائق راهنة مصطبغة بالمشاعر المستولية عليه، فهو من هذه الوجهة كالنائم إذ يحلم بالفكرة كأنها شيء محسوس. ولكن الكتاب لا يحوي هذا الضرب من الحالات فقط، بل به مجموعة أخرى هي بيت القصيد، وهي النقطة الدقيقة حقاً التي عندها يرغم الإنسان على التفكير الجدي في أن كلام المحتضر لا يمكن أن يكون محض هذيان.
في الكتاب حالات هتف فيها المحتضر باسم شخص مات ولم يكن المحتضر يعرف إن ذلك الشخص قد مات، فكان يبدو عليه التعجب لوجود ذلك الشخص بين (الأموات) مع أنه - في زعمه - بين الأحياء. يكون المحتضر مثلاً قد دخل مستشفى منذ شهر أو أكثر، وفي تلك الأثناء توفي فجأة واحد من أقربائه، فكتم الأهل والأطباء عنه الخبر حتى لا تسوء حاله الصحية بتأثير الصدمة والحزن، فتأتي ساعة احتضاره فإذا به يحدث بعض الذين ماتوا من قبل، وبينا هو يحدثهم إذا به يقول مندهشاً (ما هذا؟ أهذا أنت يا فلان؟! وما الذي جاء بك مع هؤلاء، وكان يجب أن تكون في جهة كذا الآن؟. . .) ثم ينظر إلى الحاضرين(215/22)
ويقول (لماذا لم تخبروني بأن فلاناً قد سبقني، فها هو ذا قد جاء ليستصحبني. . .) أو نحو ذلك من الكلام.
وإني أورد هنا حالة من تلك الحالات اخترتها لا لأنها مؤثرة بل لأن فيها جميع العناصر التي يطلبها الباحث: طفلة في الثامنة من عمرها تدعى جيني، لها صديقة في نحو سنها تدعى أديث. مرضت جيني ونقلت إلى مستشفى، وفي أثناء مرضها توفيت أديث فجأة، وكتم الخبر عن جيني، فلما جاء الموت يطلب جيني رجت الحاضرين أن يبعثوا بصورة من صورها إلى أديث كتذكار، مما يثبت أن الخبر كتم عنها حقيقة. وبعد دقائق من رجائها هذا قالت: (انظروا! هذه هي أديث. إنها تقول إنها ستكون معي. لماذا لم تخبروني بذلك. . .)
تدل ظواهر هذا النوع من الحالات على أن المحتضر يدرك تماماً أن في الحجرة معه طائفتين من الناس، الطائفة المعتادة من أهل هذه الدنيا، وطائفة أخرى من أهل العالم الذي هو قادم عليه، والطائفة الثانية لا تقل عنده عن الأولى وضوحاً، وليست ابعد عن حسه من الطائفة الأولى.
يقول المؤلف: (إن مثل هذه الحالات تضطر الإنسان إلى التسليم بالغرض الروحي، حتى أن البروفيسور شارل ريشيه لم يجد بداً من التسليم بأن نظريته عن الحاسة السادسة لا تكفي لتعليل هذا النوع من الظواهر. . .)
وفي الكتاب أبواب فيها وصف موسيقى سمعت ساعة احتضار بعض الناس دون أن يكون لها مصدر عادي معروف. وبهذه المناسبة أقول إن بعض من أصدقهم روى لي انه حضر موت شاب في ريعانه شبابه فسمع مع الحاضرين (زغردة) انبعثت من أحد أركان الحجرة، ولم تكن صادرة بطبيعة الظروف عن أية واحدة من الحاضرات.
وبعد فلعل القارئ الكريم يسلم معي بما لهذه الظاهرة وأشباهها من دلالة، وبأنها تفتقر فقط إلى الدراسة المنظمة. أما من وجهة الدين فهناك الأقوال بأن المحتضر يرى أرواح الموتى ويحادثهم: روي أن بلالاً كان يبتسم عند الموت، فقيل له في ذلك فقال (سنلقى الأحبة محمداً وحزبه) وروى ابن مالك عن أبي أيوب الأنصاري قال: (إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يتلقون البشير من الدنيا، فيقبلون عليه ويسألونه، فيقول(215/23)
بعضهم لبعض: انظروا أخاكم ليستريح فإنه كان في كرب شديد. قال: فيقبلون عليه ويسألونه ما فعل فلان، ما فعلت فلانة. . .) الحديث.
عبد المغني علي حسين(215/24)
اتجاهات الأدب العالمي في العصر الحاضر
وكيف يتجه أدبنا
للأستاذ خليل هنداوي
أيها السادة في هذه الجلسة أحدثكم حديثاً أراد البعض أن يكون جديداً، أو أنا نفسي كنت ولا أزال اطلب الجديد وأُلح في طلبه وأردد بيت الشاعر الزهاوي:
سئمت كل قديم ... حتى سئمت حياتي
إن كان عندك شيء ... من الجديد فهاتِ
ولكن أنى لي أن أعرف حدود هذا الجديد الذي تريدونه وأريده؟ وأنى لي أن أعرف الرجل الذي يستطيع أن يدلني على الجديد الذي يبغيه؟ إنني ما فكرت يوماً في هذا الجديد إلا ذكرت قول حكيم الجامعة: (لا جديد تحت الشمس) ومع هذا أراني كلما استقبلت هذه الشمس وما تحتها رأيت شيئاً جديداً، وما أضيق الحياة لو بقيت حدودها ماثلة لا تتزحزح كما تراها العين!
إني محدثكم حديثاً أرجو ألا تقيسوه بمقياس الجديد، لأننا لا نملك مقاييس صحيحة تفرق بين الجديد والقديم، فقد تعثرون في هذا الحديث على قديم وجديد. وليس هذا كل ما يهمني، وإنما همي أن أوجه عقولكم إلى (نصيب الأدب في حياة الأمم الحاضرة وحياتنا) ومتى ذكر الأدب هرعت وراءه صفوف من الذكريات لا تعد، أو احتشدت حوله جحافل من حياة الناس لا تحصى، لأن حديث الأدب هو حديث الحياة، ومتى كان حديث الحياة تافهاً؟ ومتى كان حديث الحياة يرويه رجل أو يحكم فيه رجل؟
قد يقول البعض: ولم اخترت هذا الحديث الذي إن خص بعضنا فلن يرضي عنه الجل؟ وما هو نصيب الأدب في الحياة الحاضرة حتى تحدثنا عن اتجاهاته وعهدنا الحاضر عهد علم ومادة، لا عهد بضائع كلامية؟ إنني لا أرى رأي من يقول باندحار سلطان الأدب، لأن الأدب، أو قولوا الفن، ليس بشيء غريب عن كياننا، ولا بعنقاء مغرب نحلق وراءها ونريد صيدها، ولا بثوب نرتديه ونطرحه متى نشاء. وأنى لنا أن نهمل الأدب إذا كان الأدب جوهراً كامناً في صميم أنفسنا، أو إذا كانت الحاجة إليه حاجة نفسية تأتي من داخل النفس لا من خارجها؟(215/25)
ويقول البعض: ونحن لا نجحد قيمة الأدب ولكنا لا نجد فيه الهوة تنفي سأمنا وتملأ فراغنا حين ننتهي من جدنا، نتخذه مسلياً لا قائداً يتصرف بأمورنا، ولكن هذا الأدب قد يكون ضرباً من اللهو يتفكر به قوم قل جدهم ولكن ليس الأدب كله. وكيف يكون الأدب الذي يمثل حياة الناس ويصور هناءهم وشقاءهم، وحيرتهم وطمأنينتهم، ثم يأتي المجتمع يحاول أن يهدم هنا، ويبني هناك، كيف يكون هذا الأدب لهواً تلهون به في فراغكم وهو الأدب الذي ينفذ إلى النفس فيجردها من خرقها الرثة وينشئ لها حياة جديدة وجواً جديداً؟ وإذا كانت رسالة العلم، أن تقرب وسائل الحياة، وتنوع أسباب الرفاه والراحة فان رسالة الأدب من حياة الأمة رسالة تثقيف الروح وتهذيب النفس وصقل العقل. رسالة تنزل منها منزلة الإيمان، رسالة لا يستطيع العلم أن يقوم بها وحده. وما وحّد علم بين أبناء وطن واحد، ولكن الأدب وحد ويوحِّد!
أما حاسة الارتياح إلى الأدب والفن أو حاسة تذوقهما فهي حاسة جذورها بعيدة القرار في النفوس. هذه الحاسة تدفعنا بالرغم منا، وبدون وعي منا إلى أن نطلب الموسيقى مثلاً لأن نفوسنا تحن إليها، وإلى أن نغتبط بمطالعة قصة أو إنشاد قصيدة تمثل نفوسنا برغم المادة التي ترين على قلوبنا. هذه الحاجة هي ميزان أذواقنا وميولنا، لاشيء يقدر على إخمادها، والذهاب بها. ناهيك بأن كثيراً من هذه الأنواع الفنية والأدبية ما تتصل أسبابه مباشرة بأسباب حياتنا الاجتماعية، وان الأديب الذي لا يشعر بهذه الحاجة التي تسوقه إلى الكتابة لا يستطيع أن يبدع شيئاً، أو الفنان الذي لا يحس هذا الدافع في نفسه لا يقدر أن ينشئ شيئاً!
كانت المقاييس التي توجه الأدب والفن أيها السادة مقاييس فنية تستلزم صدقها ودقتها من الأدب والفن نفسها. عودوا مثلاً إلى الأدب الفرنسي وانظروا كيف يدرسه الطلاب على مقاييس فنية صرفة، أما اليوم فقد تبدلت المقاييس وأخذت مقاييس المبادئ الاجتماعية والسياسية تطغى عليه. وبحسب هذه المقاييس تغيرت اتجاهات الأدب والفن، وتطورت غاياتهما في الجيل الحاضر. وتعليل ذلك أن الأدب كان يحيا منكمشاً بنفسه يصف الجمال للجمال، ويرسم الفن للفن، ويقنع بأن يطل على الحياة إطلالاً، ويعمل على إكبار شأن الفرد ويجعل الأديب نفسه قلب الوجود تتلاقى فيه الأشياء أكثر مما يتوزع في الأشياء. وأما(215/26)
اليوم فقد خرج إلى الحياة، وإلى المجتمع وإلى السياسة. فأصبحنا ندرس الأدب على هذه الطريقة.
من الأدب الأدب الذي لا غاية له إلا نفسه. يتغنى الشاعر مثلا لأنه يريد أن يغني لنفسه ويسمع ألحان نفسه؛ ومن الأدب الذي نزل إلى المجتمع وخبر خلائق الناس وعالج الحياة؛ ومن الأدب الذي تفيأ ظل الدولة والسياسة والأحزاب. أما الأدب الأول ففي إمكاننا أن ندعوه (الأدب الأرستقراطي) لأن الأديب فيه لا يعمل إلا لنفسه، أو لفئة نزره العدد تعجب به، فهو من نفسه في عالم واسع المدد منفصل عن هذا الوجود، والأدب الثاني ندعوه (الأدب الديموقراطي) يعنى بالطبقة الوسطى ويعالج مسائلها ويصور آلامها ويقلب وجوه حياتها؛ والأدب الثالث ندعوه (أدب الأزمة) تخلقه أزمة اجتماعية كأدب الثورة الفرنسية، وأدب الثورة البلشفية الحمراء، أو تبدعه أزمة سياسية كأدب الحرب العظمى الذي صور فضائع الحرب وجوها المكفهر، وأدب الفاشية الإيطالية، والهتلرية النازية. أو تخلقه أزمة عصبية أو دينية أو اقتصادية. وقد يقوم أدب على غير هذا الغرار يتجرد من كل هذه العوامل الضيقة، عوامل الزمان والمكان، أدب شامل إنساني يعانق الإنسانية من أقصاها إلى أقصاها على اختلاف شعوبها ونزعاتها. ولكن حدث هذا الأدب يقوى في أيام البلاء ويخفف من أيام الهناء، لأن الشقاء يقرب الضعيف من الضعيف! حتى إذا استراح الاثنان عادا إلى نزاعهما الذي لا ينتهي.
ومن ذا لا يتأمل في أدب اليوم ولا يجده ميدان صراع في كل بقعة من بقاع الحضارة؟ فأدب الأمم الديمقراطية يذود عن الديمقراطية ويدافع عن حرية الفرد بما في وسعه أن يدافع، لأنه يعلم أن تقييد الأدب هو نوع من القضاء على حريته التي لا يحيا إلا بها. هذه الحرية يتباهى بها لأنه يراها مستمدة من حرية الحياة التي لا تضيق، وأدب الأمم الدكتاتورية يصول صولة أربابها ويفرض على الناس نفسه، فبينما نرى في الأدب الديمقراطي كل فرد يفكر وحده تفكيره الخاص، له استقلاله وذاته وعالمه واعتقاده، نرى في الأدب الدكتاتوري أن الفرد الواحد يفكر تفكير الأمة كلها، وأن الأمة كلها تفكر تفكير هذا الفرد. وخير ممثل للأدب الحر المدرسة الأدبية الفرنسية التي لا تزال تحترم مبدأ ثورتها الذي أعلن حرية الفرد وزاد عنها. ولعل الوضع السياسي الذي خرجت به من(215/27)
الحرب العظمى أيد هذا الأدب، ولم يزج بها في أحضان الآداب الأخرى التي ولدتها الأزمات المختلفة. وفي هذه المدرسة تجد ألوان الأدب والتفكير متآلفة على اختلافها، فيها الأدب الفردي والأدب الاجتماعي والأدب الإنساني والأدب الشعبي والأدب الشيوعي، ولكن هذا لا يجعلنا نقول: إن مقاييس أدبها وفنها لم تختلف، فلقد تبدلت المقاييس الفنية، وكاد يحل محلها مقاييس تتبع النظريات السياسية والاجتماعية، ولكن محمدة هذه المدرسة أنها وسعت كل هذه الألوان المتقاربة، وهذه المبادئ المتنافرة، وتقبلتها كلها باسم الديمقراطية. . .
إن أدب الأمم الدكتاتورية يسعى كما توجهه الدكتاتورية، ضيق الفسحة، قريب الغاية، سليب الحرية، لأن أصحابها جعلوا منه وسيلة للدعاية المحلية، ويسيطروا على كل ما يتفرع من الأدب والفن كالمسرح والسينما. وأول من بشر بأدب (الدعاية) الأديب الروسي (بليكانوف) الذي كان يقول في مطلع هذا القرن (إن كل أثر فني مرتبط بحياة الشعب السياسية) وقد شاعت هذه النظرية في مؤتمر (فولنا) الذي انعقد في (روما) سنة 1934 للبحث في أدب المسرح وفنه، فقال فيه أحد مخرجي السوفييت: (إن أدب التمثيل بحاجة إلى الاقتراب من الشعب، وملامسة روحه) وقال فيه أحد فناني الألمان: (إن السياسة الممثلة يجب أن تتمثل في أدب التمثيل لأن السياسة اليوم هي روح حياة الشعوب).
وفي روسيا بعد هدوء ثورتها الاجتماعية أدرك أقطابها قيمة الفن، فسخروا كل أنواع الأدب والفن لنشر دعاياتهم ومبادئهم. وعن السينما يقول (لينين) إنها الفن الأول للثورة. . . لأنها تصور الآلام الاجتماعية التي كانت ظهور الناس تلتوي تحتها، وتهيئ النفوس لحياة أعدل ومثل أعلى. وفي المؤتمر الأخير الذي عقده أدباء الروس قال أديبهم الكبير (مكسيم غوركي): (إن الدولة اليوم يجب أن يقودها ألوف من أرباب الثقافة الكاملين. وهذه وسيلة ضرورية لترد على الشعب العامل وسيلة إنماء عقله وبراعته ومواهبه التي هي حق من حقوقه المسلوبة في جميع أنحاء العالم. هذه الغاية التي تتحقق بالعمل - تحتم علينا - نحن الأدباء - أن نكون مسئولين عن عملنا وسلوكنا الاجتماعي وهو عمل لا يحيل منا أدباء واقعيين، وقضاة على الناس ونقاداً للحياة فحسب. وإنما هو عمل يعطينا الحق بإنشاء حياة جديدة وتطور جديد. ومثل هذا الحق يوجب على كل أديب أن يشعر بمسئوليته الخطرة في(215/28)
هذه المرحلة).
هذا ما يقوله (مكسيم غوركي) اشهر أدباء الروس والأديب الأكثر إنسانية في أكبر مقاطعة غذت الآداب بالأدب الإنساني، لأن تيار (الدعاية) قذف به إلى حيث يريد! وهكذا ارتدى الأدب رداءاً محلياً حتى غدا الأدب في روسيا أدباً روسياً والفن فناً روسياً! وكذلك الأمر في (الفاشية) فأنها عملت بهذا المذهب القائل (إن الموضوع الأدبي يجب أن يستمد من قلب الأمة لا من المحيط الخارج عنها) وأصبحت تريد من الفن أن يخدم الدولة. . .
أما الهتلرية الجرمانية فقد أرادت أن تتفوق في هذا الباب، فسخرت العلم الذي لا يسخر للدلالة على أصالة الجنس الجرماني وطهارته من أخلاط العناصر وقد طغت أيّما طغيان على حقول الأدب والفن. يقول ممثلها في أحد مواقفه: (إن كل ما نعجب به اليوم من علم وفن واختراع إن هو إلا وليد فئة قليلة من الشعوب. وربما كانت هذه الفئة تنسلها سلالة واحدة ومن هذه السلالة تنحدر الثقافة الإنسانية. . . لتتوار هذه الفئة، فكل جمال الحياة يتوارى معها. . . أريد أثراً جرمانياً يبقي اثر الجرمانية فيه بعد ملايين السنين) وقد أيد هذه النظرية أحد رجالها بقوله (أنا نريد فناً حقيقياً، فناً جرمانياً يستمد روعته من قلب الإبداع الفني، فناً يدخل إلى أعماق نفوسنا ويهزها هزاً!) ويقول وزير دعايتها (في اللحظة التي تسطر فيها السياسة رواية شعب ما، حيث يتلاشى عالم وينشأ عالم، حيث تزول قيم عتيقة وتقوم قيم جديدة، لا يجدر برجل الأدب والفن ولا يحق له أن يقول: هذا شيء لا يهمني ولا يعنيني. . . ونحن، رجال السياسة - إزاء هذه الحركة، رجال فن لأننا نهيئ شعباً. ولست أدعو إلى أن يكون الأدب عسكرياً، وإنما يجب على الأدب أن يخلق ويصور العلاقات المرتبطة بهذه الحركة الانقلابية. . . يجب على الأديب أن يجر نفسه إلى الزوبعة التي تعصف في وطنه. يمشي تحت عجاجتها ولا يقف شاهداً على الربوة! إننا نحكم على الفن والأدب بالنسبة إلى تأثيرها في الشعب. وكل ما خالف هذا لا نرضاه. . .)
(البقية في العدد القادم)
خليل هنداوي(215/29)
بحث في الإيمان
للأستاذ علي الطنطاوي
إلى الأخ البغدادي الذي كتب إلي أمس
كتبت إلي تسألني عن الإيمان، وتريد دليلاً عقلياً على صفات الله السمعية، وصورة حسية لما خبر به من المغيبات كالجنة والنار، والجن والملائكة، حتى لكأنك تراها بعينك، وتعرض للقضاء والقدر وتسرد شبهاً عرضت لك تطلب مني ردها، إلى آخر ما ذكرت في كتابك من مسائل تنوء بها أكبر الأدمغة البشرية. وتعجز عن حلها العقول العظيمة، بَلْهَ عقل مثلي ودماغه. من أجل ذلك أزمعت السكوت عن الجواب، ثم بدا لي فرأيت الكلام في هذه المسألة واجباً. لأن معرفة الله أول مطالب الحياة، وأسمى غاية لوجود البشر، ولأن الشباب في حاجة إلى مثل هذا البحث؛ ثم إن البحث في ذاته لذيذ ممتع. فأقدمت على فتح بابه، وذكرت ما ألهمته فيه.
المعارف البشرية
أورد النسفي رحمه الله في أول عقائده هذه الكلمة الجامعة قال: (حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق وأسباب العلم كثيرة: الحواس السليمة، والعقل، وخبر الصادق المعصوم) أي أن المعارف البشرية إما أن تكون مشاهدة محسة نراها ونسمعها، وإما أن تكون معقولة ندركها بالفكر والقياس الصحيح، وإما أن تكون مغيبة علمنا بها من طريق الوحي. أما المحسنات فيتساوى فيها الناس والحيوان. وليس في إدراكها ميزة للناس، وإن كان أفقها عند الناس أوسع. وإدراكهم لها أرقى. وأما المعقولات فيستوي فيها الناس كلهم من كل ذي عقل سليم. وأما الإيمان بالمغيبات فهي الميزة التي تمتاز بها عقول المؤمنين الذين يشاركون الناس في الحس والتفكير، ويختصون دونهم بالإيمان.
وسنحاول أن ندرس فيما يلي قيمة كل مصدر من مصادر المعرفة الثلاثة.
الحواس
تستطيع أن تشك في كل شيء، ولكنك لا تستطيع أن تشك في شيء تراه أو تلمسه، لأن الحس أصح طرق المعرفة وأدناها، ولأنك إذا قلت: هذا الشيء (محسوس)، تكون قد(215/30)
عبرت بأبلغ تعبير عن الثقة بوجوده، والاطمئنان إليه، والحواس هي طريق المعرفة الأولى، والنوافذ التي تطل منها النفس على العالم الخارجي، فلو أغلقت هذه النوافذ آض العالم عدماً. ولو أن رجلاً ولد أعمى أصم لكان عالم الألوان والأصوات (بالنسبة إليه) غير موجود، ولما استطاع مطلقاً تصور الخضرة والحمرة. . .
كل هذا مسلم به، ولكن هل يحق لنا أن ننكر وجود شيء من الأشياء لأننا لا ندركه بحواسنا؟ هل يجوز لنا أن نقول إنه ليس في الوجود ملائكة مثلاً، لأننا لم نر الملائكة ولم نسمع أصواتهم ولم نلمسهم؟ هل نستطيع أن ننكر الشياطين؟
وبالعبارة الثانية: هل هذه الحواس كاملة تطلعنا على كل شيء في الوجود؟ وهل هي صادقة لا تخدعنا ولا ترينا الشيء على غير حقيقته؟
إني أسألك أولاً: كم هي الحواس؟ فتقول إنها خمس، فأسألك: ألا تعرف لها سادسة؟ فتضحك وتحسبني أمزح، لأن الحواس كاملة لا يمكن الزيادة عليها. وأنها مشهورة معروفة من قديم الزمان، لم يفكر أحد أن بالإمكان كشف حاسة سادسة لها.
بينما يعرف صغار طلبة البكالوريا الذين يقرءون علم النفس، أن هناك حواس أخرى، وتعرف ذلك أنت إذا دققت في نفسك وحللت مشاعرك؛ ألا تشعر بالتعب موجوداً في عضلاتك عقب المشي الطويل أو الحركة العنيفة؟ ألا تحس بالجوع والعطش والتهاب الجوف، وغثيان النفس؟ فبأي حاسة من الحواس الخمس عرفت ذلك؟ أأبصرته أم سمعته، أم شممت ريحه أم لمسته؟ إنك لم تدركه بشيء من ذلك، بل بحاسة سادسة دعنا نسمها (الحاسة المشتركة) مثلاً. . .
ثم. . . ألا تحس وأنت مغمض عينيك بأن يدك ممدودة أو مرفوعة، وأن كفك مقبوضة أو مبسوطة؟ إنك لم ترها، ولم تدركها بحاسة من الحواس الخمس، وإنما أدركتها بحاسة سابعة دعنا نسمها (الحاسة العضلية) مثلاً. . .
وكذلك حسك بالحرارة والبرودة، فإنها حاسة ثامنة، وحسك بتوازن جسمك عند المشي أو الوقوف؛ بل لقد استطاع العلماء أن يكشفوا مركز هذا الحس، وان يعلموا أنه في الأذن الداخلية، في مادة كلسية مبلورة، لو أتلفت في حيوان فقد حسَّ التوازن وسار مترنحاً كما يترنح السكران. . .(215/31)
فالحواس ليست كاملة لأن الكامل لا يقبل الزيادة، وما دامت ناقصة فسيظل في الوجود أشياء لا ندركها أو ندركها ولا ندري أننا ندركها.
ولنأخذ الكائنات التي ندركها، هل ندركها كاملة؟ أنا أرى الألوان ولكن هل أراها كلها؟ هل أرى ما وراء الجدار؟ هل أبصر عصفوراً على شجرة من مسيرة يوم؟ هل أمّيز رجلاً في الصحراء على بعد عشرة أميال؟ وأنا أسمع الأصوات، ولكن هل أسمع صوت نملة تسير على التراب؟
أفيحق لي أن أنكر أن للنملة صوتاً لأني لا أسمع هذا الصوت؟ أو أن أجحد ما وراء الجدار لأني لا أبصر ما وراءه؟ فأنا إذن أدرك من الكائنات أنواعاً معدودة، وأدرك من هذه الأنواع مقادير محدودة.
وهذه المقادير التي أدركها، هل أدركها على حقيقتها؟ ألا تخطئ حواسي أو تضل؟ إني أضع إصبعي الوسطى على السبابة ثم اجري القلم على باطن الإصبعين فأحس بقلمين. . . وأضع العود المستقيم في الماء فأراه منكسراً. . . وأنظر في الصحراء فأرى الرمال مياهاً غزيرة. على حين انه ليس هناك إلا قلم واحد، وإن العود المستقيم يبقى في الماء مستقيماً، وإن رمال الصحراء لا مال فيها، ولكن حواسي أخطأت وضلت. وأنظر أي كتاب من كتب علم النفس (السيكولوجي) تر من ذلك شيئاً كثيراً، فإذا كانت هذه هي قيمة الحواس، فهل يحق لنا أن نجعلها وحدها طريق المعرفة، وأن ننكر كل أمر لا تقع عليه حواسنا؟ ألا ننكر نفوسنا قبل كل شيء لأن نفوسنا وأرواحنا لا تدركها حواسنا ولا تعرف ماهيتها؟
الخيال
وإذا ثبت أن الحواس ناقصة محدودة، ثبت أن الخيال محدود، لأن الإنسان لا يستطيع أن يتخيل شيئاً جديداً لم يدخل في دائرة الحس، ولأنه لا عمل للخيال إلا تأليف صور جديدة من الأجزاء القديمة. فالذي نحت تمثال فينوس لم يأت به من العدم، وإنما جمع في ذهنه أجمل أنف رآه، وأجمل فم، وأجمل عين، ثم ألّف منها صورة جديدة لم يدركها الحس بمجموعها ولكنه أدرك مفرداتها على كل حال. والذي صور الحصان المجنح، أخذ جسم الحصان وجناح الطائر. من أجل ذلك سمى كثير من علماء النفس هذا الخيال جامعاً، وكرهوا أن يطلق عليه لفظ (الخيال المبدع). فكيف إذن تستطيع أن تتصور الجنة أو(215/32)
الملائكة أو الحياة الأخرى وأنت لم تدرك بحواسك أي جزء من أجزائها؟ إنه ليس في النفس شيء لم يدخل لها من العالم الخارجي، وأنت لم تعش في الجنة، فإذا قلت لك مثلاً. . . إن في الجنة أنغاماً موسيقية عطرة، أو أن فيها عطوراً لها رائحة خضراء، فهل تستطيع أن تتخيل هذه الأنغام العطرة، أو هذه الرائحة الخضراء؟ هل تقدر أن تتخيل بعداً رابعاً غير الأبعاد الثلاثة المعروفة (الطول والعرض والارتفاع)؟ هل تتصور مثلثاً ليس له زوايا، ودائرة ليس لها محيط؟ كذلك لا تقدر أن تتصور أن لله يداً ليس لها طول ولا عرض ولا جسم ولا صلابة ولا صفة من الصفات البشرية ولا تشبه الأيدي ولا تشاركها إلا في الاسم. ألا تجد نفسك مضطراً إلى التسليم بالعجز والإقرار بأن المستحيل على الخيال البشري الوصول إلى معرفة ذات الله وصفاته الإلهية؟
العقل
تقدم معنا أن الحواس خدعت، فأحست القلم قلمين، ورأت العود المستقيم منكسراً، والسراب ماء، ولكن العقل لم يخدع، وكان يعلم انه قلم واحد، وأن العود مستقيم، والسراب ليس بماء، فالعقل إذن أوسع قدرة، وأصح حكماً من الحواس. ولكن أليس لقدرته حدود؟ هل يقدر العقل على أن يحكم على كل شيء؟
الجواب: لا. لأن العقل لا يستطيع أن يحكم على شيء، أو يدركه إلا إذا حصره بين شيئين هما الزمان والمكان. لذلك يسأل العقل دائماً: متى؟ وأين؟ فلو قلت لك: إن حرباً وقعت ولكنها لم تقع اليوم ولا أمس ولا قبل سنة ولا أقل ولا أكثر لم تصدق ذلك ولم تدركه. ولو قلت لك: إني رأيت مدينة ليست في شمال ولا جنوب ولا سهل ولا جبل ولا هواء ولا هي في مكان، رددت ذلك وكذبته، لأن الزمان والمكان ركنا العقل لا يقوم إلا عليهما. وبديهي أن ما اتصل بذات الله لا يخضع للزمان والمكان، ولا يطلق عليه متى وأين. . . ولذلك يعجز العقل عن إدراك أي شيء يتصل بالله عز وجل وصفاته، ولا يستطيع أن يعرف عنهما شيئاً بلا معونة من الخارج.
ثم إن العقل محدود، فلو قلت لك: إن خطاً أبيض يمتد في الظلام ليس له آخر، وأردت أن تفكر في هذا الخط، وتجمع في إدراكه عقلك، لعجزت عن إدراكه وشعرت بأن عقلك ينازعك منازعة شديدة إلى وضع آخر له، ويميل إلى قطعه وإدراك نهايته. ولو قلت لك:(215/33)
أن المؤمن خالد في الجنّة دائماً دائماً دائماً. . . وفكرت في ذلك لأحسست من عقلك ميلاً قوياً إلى وضع حد لهذا الدوام. ويتجلى هذا الميل في الرياضيات العالية التي فرضت اللانهاية نقطة وجعلت منها (+ (? لانهاية موجبة، و (- (? لا نهاية سالبة. . .
فإذا كان العقل محدوداً، فكيف يحيط بالله وهو عز وجل غير محدود؟ هل يمكن أن تضع بغداد في غرفتك؟ لا. والله المثل الأعلى!
الوحي
بَيّن لك من هذا ضرورة الوحي، والوحي ضرورة عقلية وضرورة عملية.
أما ضرورته العقلية فما رأينا من عجز العقل عن إدراك ما وراء المادة، وعن معرفة الله، فلم يكن بد من إتمام نقص العقل بعلم من الخارج، وهذا هو الوحي.
فالوحي علم خارجي يصل إليه العقل بالسماع والتعلم، كما أن المعارف المعقولة علم داخلي يصل إليه العقل بالإدراك والتفكير، وكلاهما من الله. لذلك لا يمكن أن يكون بينهما تناقض مطلقاً، لأن الله عز وجل مبدع حكيم؛ ومن شروط حكمة المبدع ألا يكون فيما يبدعه تناقض، فالدين الصحيح (أعني الوحي) والعقل السليم متفقان في المبدأ، متعاونان على بلوغ الغاية، لا يقوم أحدهما إلا بالآخر. فلابد للوحي من عقل يدركه ويؤمن به، ولابد للعقل من وحي يكمل نقصه، ويمكنه من إدراك مالا يستقل بإدراكه منفرداً. وليس معنى هذا أن العقل يستطيع إدراك كل ما جاء به الوحي، لأنه لو كان هذا لما كان للوحي من حاجة، ولكن معناه أن الوحي لا يناقض العقل، ولا يوجب ما يحيله، أو يحيل ما يوجبه.
وأما ضرورته العملية فهي أن الفضيلة والعدالة لا تقومان في الأرض إلا بقيام الدين. وبيان ذلك أن الإنسان مسوق أبداً في حياته بالمنفعة الخاصة، لا يعمل عملاً إلا إذا كان له فيه فائدة أو لذة؛ وعبثاً تحاول حين تحاول أن تجد عملاً واحداً يعمله امرؤ لمنفعة غيره فقط. . . ولست بحاجة إلى سرد أمثلة من لاروشفوكلد فقد نشرت عنه الرسالة فصلا ممتعاً في عدد من أعدادها الماضية لا أذكر رقمه تستطيع أن تفتش عنه وترجع إليه، ولكن أسأل القارئ وآمل أن يجيب بإنصاف: هل يتصور رجلاً ملحداً (لا يؤمن بالله واليوم الآخر) فقيراً جائعاً ليس معه إلا قرش واحد لعشائه يضع هذا القرش في صندوق الطيران الوطني أو صندوق جمعية خيرية من غير أن يراه أحد، ثم لا يخبر بذلك أحداً ولا يرجو (بالطبع)(215/34)
ثواب الله، وإنما وضعه حباً للآخرين؟ أو يتصور طالباً رأى ورقة جاره في الامتحان تستحق الرسوب، فضحى بنفسه من أجله فوضع اسمه على ورقته، ورضى بأن يرسب هو لينجح ذاك، واحتمل لوم أهله وتأنيب أصحابه، ولم يخبرهم ولم يخبر ذلك الطالب بما فعل، ولم يرج عليه ثواباً من الله، وإنما فعله حباً للآخرين؟
قد يفعل ذلك إذا كان عاشقاً؛ غير أن العشق أبعد شيء عن حب الآخرين، بل هو الأنانية بأفظع أشكالها. فأنت لا تحب مطلقاً شخص المحبوب، وإنما تحب لذتك فيه: تحب نفسك. ولو ضاعت هذه اللذة، بأن فقد المحبوب جماله بمرض مشوه أو بذل نفسه لغيرك لأقلعت عن حبه، بل لكرهته اشد الكراهية؛ والحب العذري خرافة ليس هذا موضع الكلام في بطلانها.
فمن هو إذن الذي يضع قرشه في الصندوق وينام جائعاً، ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة؟ هو المؤمن بالله واليوم الآخر لا لأنه أسمى من البشر فهو خارج عن النواميس النفسية، والمبادئ العامّة؛ بل لأنه يشتري لذة كبرى بلذة صغرى، فهي أيضاً أنانية. . . يبذل قرشه هذا ليأخذه في الآخرة أضعافاً مضاعفة، ويضحي بحياته هذه القصيرة الشقية لينال حياة طويلة سعيدة في الجنة. . . فالتضحية إذن لا تكون إلا ثمرة للدين، أي للوحي.
ولنعرض المسالة بشكل أوضح: لو محي الدين من الأرض هل تكفي القوانين والأخلاق الوضعية لضمان الفضيلة والعدالة؟ أما الأخلاق فليس لها مؤيد عملي، وأما القوانين فتؤيدها القوة، فالقانون معناه الشرطي، فإذا سرق اللص ولم يره أحد، ولم يقدر عليه الشرطي، فسرقته جائزة عملاً وإن لم تجز نظرياً. وإذا قتل القاتل ولم يشهد جريمته أحد فجريمته جائزة وهو غير مسئول أمام القانون. ونتيجة ذلك أن الجرائم تنتشر ويستعمل الناس ذكاءهم ومواهبهم في ابتكار الحيل للفرار من القانون كما نرى اليوم في بعض بلدان الغرب التي تستغل فيها العلوم والفنون للسرقة والغش والاحتيال، في حين أن الدين يؤيده اتباعه، وضامنه فيه. فالمتدين لا يستطيع أن يسرق أو يقتل ولو لم يره أحد، لعلمه أن الله يراه، ويطلع عليه، وهذه أقوى وسيلة لنشر الفضيلة:
لا تنهى الأنفس عن غيّها ... ما لم يكن منها لها زاجر
فكرة الإله(215/35)
وهناك فائدة أخرى للتدين: هي الاطمئنان الذي يحس به المؤمن حيال النكبات والمصائب؛ فبينما نرى غير المؤمن مقبلاً على الانتحار، يائساً قانطاً، نجد المؤمن راضياً بقضاء الله مستسلماً إليه. وقد يفهم من هذه الفائدة أن الدين فطرة في الإنسان على حد قول دوركليم: الإنسان حيوان ذو دين وأكبر الأدلة على ذلك فكرة الإله. فالاعتقاد بوجود إله أزلي خالد قوي خير عادل موجود مع الإنسان منذ وجد الإنسان. وليس من حاجة لإقامة الأدلة العقلية على وجود الله، كما انه لا حاجة للتدليل على أن الجزء أصغر من الكل، لأنهما من البديهيات.
وبيان ذلك أن الإنسان لما بدأ يفكر نظر في نفسه فوجد فيها مبادئ لا يد له فيها، ولا يدري من أين جاءته ولا يعرف عليها دليلاً واحداً، وجد أن الذي هو هو.
الماء هو الماء، ليس الماء ورقة ولا شجرة ولا قطعة ولكنه ماء. . . والأرض هي الأرض. هذه بديهية ثابتة لا يستطيع العقل أن ينكرها مهما اختلفت الإعصار والأمصار، فما هو الدليل عليها؟
ما هو الدليل على أن الجزء أصغر من الكل، وأن وجود الشيء ذاته في الوقت عينه وانعدام هذا
الشيء مستحيل. إن التدليل على أمر معناه رد هذا الأمر إلى بديهية ثابتة. فكيف ندلل على البديهية وإلام نردها؟
وكيف يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
ومثل هذه البديهيات تماماً الاعتقاد بوجود إله، بدليل أن البشرية لم تعش يوماً واحداً بغير هذا الاعتقاد وإن اختلفت المدارك فعرف بعض الناس الإله الحقيقي الذي لا تدركه الأبصار، وألصق بعضهم صفة الإله ببعض المخلوقات ثم عبدها لا لذاتها بل لأن فكرته عن الإله تمثلت له فيها - وقد يعترض على معترض بأن الشبان اليوم من ينكر الإله ولا يقر بوجوده فأجيب بأن هذا الشاب لو ضاع في صحراء ويئس من المعونة أو أصابه مرض عضال عجز عنه الأطباء لعاد مؤمناً بالله، ولآب إلى الله مقراً مستغفراً. فالإيمان لم يذهب من نفسه وإنما غطته عوارض زائلة. وذلك قريب من قول السيدة رابعة العدوية وقد خبروها أن (فلاناً) من العلماء أقام ألف دليل على وجود الله. فقالت لو لم يكن عنده ألف(215/36)
شك لما أقام ألف دليل! قيل لها: فما هو إذن؟ قالت من ضاع في الصحراء وانقطع ماذا يقول؟ قالوا يقول: يا الله! قالت: ذاك هو الله. وقول اناتول فرانس: إن كذا غراماً من السكر في بول أشد الناس إلحاداً ترده مؤمناً. يريد أنه لو أصيب بمرض ويئس من الحياة.
فإذا عرفت يا سيدي قيمة الحواس، وحدود الخيال، وطاقة العقل، وفائدة الأيمان، كنت أنت الذي يجاوب على ما بعثت لي به من أسئلة. والسلام عليك ورحمة الله.
(دمشق)
علي الطنطاوي
مدرس الأدب العربي في الكلية الشرعية ببيروت(215/37)
الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 17 -
المدرسة اليوجية
نشأت هذه المدرسة حوالي القرن الثاني قبل المسيح على أصح الأقوال وسارت في تعاليمها على منهج مدرسة (سامكهيا) ولهذا لم يكن لها في الإبداع الفلسفي شيء يستحق الذكر، وإنما يقدر مجهودها في السلوك العملي الذي بعثته من مرقده بعد أن طغت عليه عوامل أخرى شديدة التأثير. ويتلخص هذا السلوك في الزهادة التامة ومحاولة إنقاذ الروح من سلطان البدن ومحاسبة الإنسان نفسه على مقدار ما حصل عليه كل عضو على حدة من هذا التحرر من سيطرة المادة.
وعندها أن الإنسان مكون من قنوات كثيرة، وأن العلة الوحيدة في أنه لا يصل إلى مبتغاه من المثل الأعلى في الخلوص من الطبيعة هي أنه حين يتزهد لا ينجح في مراقبة جميع أعضائه، وإنما هو يسيطر على بعضها فقط. فالبعض المتروك هو سبب الرسوب في هوى الطبيعة السحيقة والرزوح تحت أنيارها الثقيلة والرسوب في أغلالها الضيقة.
أما من استطاع أن يخلص كليته بتمامها من سلطان المادة، فإنه يصير إلى نهاية المعرفة فينكشف له ما وراء الحجب ويحيط بأسرار الأقدار ويدرك كل ما تجري به أقلام الغيب وتحصل عنده القدرة الكاملة على قهر الزمان والمكان فينطويان أمامه متى شاء وكيف شاء. ويستطيع أن يختفي عن الأعين وأن يتشكل بأية صورة يشاء وأن يشكل جميع العناصر كما يريد، وأن يحيط بمكنونات أفكار غيره، وأن يظهر في عدة أمكنة في نفس اللحظة، فإذا وصل إلى هذه المرتبة فقد حصل على درجة الغيبوبة وتفانى في الكل الأول، وهذه هي عليا درجات الكون أو غاية اليوجية، ولعل ألطف رد على تلاميذ هذه المدرسة هو ما قاله أحد قواد إحدى الفرق الحربية الإنجليزية في الهند حين سمع هذه الميزات التي يعزوها (اليوجيون) إلى مدرستهم، فقال: ساخراً (إني أظن إن زهاد الهنود إن استطاعوا - كما يزعمون - التغلب على الزمان والمكان والاختفاء عن الأعين واختراق حجب الأقدار(215/38)
ومعرفة خفايا الأسرار إلى آخر ما يدعون، فإني على يقين من أنهم لا يستطيعون التغلب على رصاص بنادقنا وقذائف مدافعنا).
غير أن نساك اليوجيين قد وجدوا لهذا الاعتراض رداً وهو أن حصول الشخص على الميزة شيء واستعمالها الفعلي الذي ينشأ عنه انقلاب نظام الكون شيء آخر.
ومهما يكن من الأمر، فإن هذه المدرسة تعتبر مثلاً أعلى في التنسك والزهادة وإن كانت تابعة لغيرها في الأفكار والنظريات. ولما كانت تعاليمها المتنسكة تتفق مع طبيعة الهنود وما فطروا عليه من روحانية وميل شديد إلى العزلة، وانعطاف قوي نحو التأمل في أسرار الكون وخفايا الوجود، فقد راجت مبادئها رواجاً عظيماً، واعتنقها خلق كثير، ولا تزال إلى اليوم حية آهلة بالمعتنقين والمريدين.
الفيدانتا
كان هذا المذهب في أول نشأته محصوراً في شرح (الفيدا) وتأويلها وتخريج آياتها المتشابهة، ولكنه بفضل تلك البحوث المستفيضة التي كان زعماؤه يخرجونها حول تلك النصوص العتيدة المغرقة في التعقد أخذ يرتقي شيئاً فشيئاً ويخطو إلى النظر العقلي خطوات واسعة حتى تحول إلى فلسفة نظرية عويصة في عهد (سانكرا) ذلك الفيلسوف العظيم الذي يؤكد الباحثون العصريون أنه لا يقل عمقاً في التفكير ودقة في النظر وغوصاً في بحر الفلسفة المنطقية عن (كانْتْ) و (هيجل) وهما أرقى فيلسوفين في العصر الحديث.
يرى هذا الفيلسوف أن العالم صدر عن الله بطريق الانبثاق، وهو يعود إليه بطريق الجذب، وهذه فكرة قديمة سبق بها الأولون هذا الفيلسوف بزمن بعيد، ولكنها أخذت تتطور بين مباحث هذه المدرسة حتى وصلت إلى حلولية من النوع الراقي، فقررت أن هذا العالم الظاهر ليس هو حقيقة الإله، وإنما هو كائن أدنى محدث، ولكن كل جزئية منه تشتمل على طرف من تلك الحقيقة الإلهية، ولهذا يجب أن يفهم الإنسان أن شخصه الخارجي الذي يشبه غيره في شيء ويختلف عنه في شيء، والذي يولد ويموت ويأكل ويشرب ليس في الحقيقة شيئاً مذكوراً وإنما الذي يجب أن ينظر إليه في شخصه هو الحقيقة الإلهية، لهذا يصح أن يقال له: أنت الإنسان والإله، أنت الخالق والمخلوق، والعابد والمعبود، أنت المشخص و (اللا مشخص). وإذا صرفنا النظر عن الناحية الدنيا فيه، قلنا له: أنت الواحد الأوحد والكل(215/39)
الأعلى والأول والآخر.
ولما كانت هذه المدرسة تؤسس تعاليمها على أن عالم الظاهر لا يساوي شيئاً كما أسلفنا، فقد احتقرت المعرفة الظاهرية واستخفت بالتجربة والمشاهدات إلى أبعد حدود الاستخفاف وأعلنت أن المعرفة الوحيدة الجديرة بالإجلال هي معرفة الحق الأعلى أو هي ما كان موضوعها الحقيقة الإلهية، وإنها لا تجيء غلا عن طريق الإلهام البصيري الذي يتوصل غليه بالتنسك والرياضة والخلوص من المادة. وأخيراً أعلن (سانكرا) أنه لا يصل إلى (براهمان) إلا من تحققت لديه المعرفة الكاملة وتخلص من جميع علائق المادة، إذ هو في هذه الحالة وحدها يصل إلى درجة الغيبوبة الكاملة أو التفاني في الله أو السعادة الأبدية.
غير أنه لم يكد يعلن هذه الآراء حتى هب المتعصبون من البراهمة يرمونه بأنه بوذي يتقمص جسم براهمي، أو زنديق يرتدي ثوب متدين، لأن النتيجة الأخيرة التي انتهى إليها مذهبه هي نفس زبدة تعاليم البوذية، ثم جعلوا يحاربون مذهبه بكل ما أوتوا من قوة وسلطان حتى قضوا عليه، وكان ذلك موافقاً بالمصادفة لأوان الفتح الإسلامي، فاجتمع هذان العاملان وتكاتفا على قطع هذه السلسلة الفكرية من تاريخ الهند، وعلى بدء تاريخ جديد يبرز للباحثين اثر الإسلام في تلك الأصقاع على صورته الحقيقية.
خاتمة
الطبيعة - الرياضة - المنطق
لا نريد أن نغادر الحديث عن تلك البلاد إلا بعد أن نقرر في صراحة أن الفلسفة بجميع أقسامها: الإلهية والرياضية والطبيعية قد أزهرت فيها إزهاراً فائقاً، وأن المقدمة الضرورية للفلسفة وهي المنطق قد بلغت في مدارسها الحد الكافي للتفلسف الراقي.
فأما الإلهيات فأحسب أن ما مر بك فيها كاف للتدليل على ما نقول. وأما الرياضة بجميع أقسامها فلم تصل في أي بلد آخر - إذا استثنينا مصر - إلى مثل ما وصلت غليه الهند من رفعة وارتقاء. ويكفي أن نصرح بأن الهنود هم أساتذة (فيثاغورس) اكبر رياضي اليونان على الإطلاق، وهم أساتذة العرب في الحساب والهندسة والفلك، بل إن أرقام الحساب المستعملة الآن في العربية هي هندية الأصل.(215/40)
أما الطبيعة فحسبنا لنبرهن على سابقيتهم فيها أن نعلن أنهم قد وصلوا إلى نظرية (الذر) أو الجوهر الفرد قبل (ديموقريطس) و (لوسيب) أول قائلين بهذا في بلاد اليونان بزمن بعيد، وأنهم قاموا في الكيمياء بتجارب جبارة كلفت الكثيرين منهم الحياة نفسها كما روى التاريخ في عدة نواح من حديثه عن تلك البلاد.
وأما المنطق فهو قديم جداً في المدارس الهندية حتى ليرجعه بعض المؤرخين إلى القرن الثاني عشر. ولا شك أن أصحاب هذا الرأي يجزمون بأن المنطق الهندي هو أساس منطق أرسطو، ولكن البعض الآخر لا يصعد بالمنطق الهندي على سلم الماضي أكثر من عصر المدرسة اليوجية أي بعد عصر ارسطو، ولكن هذا الرأي الأخير غير صحيح، إذ أن المنطق قد وجد بلا شك في مدرسة (سامكهيا) وهي قبل أرسطو بزمن بعيد.
وعلى هذا نستطيع أن نجزم بأن الفلسفة بأكمل معانيها قد وجدت في بلاد الهند. وأن اليونان مدينة لتلك البلاد بكثير من نظرياتها التي يعتقد السطحيون أنها مبتدعة، وبالتالي نصرح أن الهند كانت ولا تزال لبنة هامة، بل حجراً أساسياً في بناء الفكر البشري الراقي ما في ذلك شك ولا ارتياب.
(يتبع)
محمد غلاب(215/41)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 4 -
شاعر الحسن
كلف الرافعي بالشعر من أول نشأته، فما كان له هوى إلا أن يكون شاعراً كبعض من يعرف من شعراء العربية، أو خيراً ممن يعرف من شعراء العربية. . . كان الرافعي واسع الأمل، كبير الثقة، عظيم الطموح، كثير الاعتداد بالنفس؛ فمن ثم نشا جباراً عريض الدعوى طويل اللسان من أول يوم. . . وبهذه الكبرياء الأدبية الطاغية، وبما فيه من الاستعداد الأدبي الكبير، وبما في أعصابه من دقة الحس وسرعة الاستجابة لما تنفعل به بكل أولئك تهيأ الرافعي لأن يكون كما أراد أن يكون، وأن يبلغ بنفسه هذا المكان بين أدباء العربية.
وإذا كان الرافعي قد بدأ شاعراً كما أراد، فما كانت له خيرة في المذهب الذي آل إليه من بعد، ولكنها نوازع الوراثة، وعوامل البيئة، ودوافع الحياة التي كانت تضطرب به وتذهب به مذاهبها.
لم يكن الرافعي يقدر في أيام نشأته الأولى انه سينتهي من الأدب إلى هذه الغاية، وأن الحياة سترده من الهدف الذي يسعى إليه في مملكة الشعر إلى هذا الهدف الذي انتهى إليه في ديوان الأدب والإنشاء. وما كان أحد من خاصته وأصدقائه ليعرف أن الرافعي الشاعر الشاب الذي توزعته الصبابة، وفتنته الحياة، وتقاسمته لذات الصبا، وتعناه الهوى، وتصباه الحب والشعر والشباب - سيكون مكانه في غده هذا المكان في الدفاع عن الدين والذود عن العربية والصيال في سبيل الله. وما كان هو يأمل في مستقبله إلا أن يكون شاعراً تسير إليه في إمارة الشعر منزلة تحمل ذكر فلان وفلان من شعراء عصره.
ومضى الرافعي يسعى إلى غايته في الشعر، وقد تزود زاده من الأدب القديم، ووعى ما(215/42)
وعى من تراث شعراء العربية. وكان أمامه مثلان من شعراء عصره يمتد إليهما طرفه ويتعلق بهما أمله: هما البارودي وحافظ؛ أما أولهما فكانت له زعامة الشعر، على مفرقه تاجُه وفي يده صولجانه، قد قوي واستحصد واستوى على عرشه بعد جهاد السنين ومكابدة الأيام؛ وأما الثاني فكان في الشباب والحداثة، وكان جديداً في السوق، قد فتنته الشهرة وفتنت به من حوله؛ فأخذ الرافعي ينظر إليه وإلى نفسه، ويوازن بين حال وحال، ويقايس بين شعر وشعر؛ فقر في نفسه أنه هو وهو، وأنهما في منزلة سواء، وأنه مستطيع أن يبلغ مبلغه ويصير إلى مكانه إذا أراد؛ فسار على سنّته وجرى في ميدانه، لا يكاد حافظ يقول: أنا. . . حتى يقول الرافعي: أنا وأنت. . . وما فاته أن حافظاً يغالبه بالشهرة السابقة، ويطاوله بالجاه والأنصار، ويفاخره بمكانه من الأستاذ الإمام، وبمنزلته عند البارودي زعيم الشعراء، وبحظوته عند الشعب؛ فراح الرافعي يستكمل أسباب الكفاح ويستتم النقص؛ فأكد صلته بالبارودي، وعقد آصرة بينه وبين الأستاذ الإمام، ومضى يتحدث في المجالس، وينشر في الصحف، ويذيع اسمه بين الناس. وانتهز نهزة فذهب يستطيل بأنه (شاعر الحسن) وبأن حافظاً لا يقول في الغزل والنسيب. . .!
كانت المنافسة بينه وبين حافظ منافسة مؤدبة كريمة، لم تعكر ما بينهما من صفو المودات، ولم تجن على صداقتهما القوية، فظل الرافعي وحافظ صديقين حميمين، منذ تعارفا في سنة 1900 إلى أن قضى حافظ رحمه الله في سنة 1932.
ليس من همي أن أتحدث عن شعر الشاعرين، أو أقايس بين فن وفن وشاعرية وشاعرية، فقد يبدو لي هنا بعد ما بين المنزلتين في الموازنة بين الرافعي وحافظ في الشعر؛ وما يهمني في هذا الحديث إلا إثبات الصلة بين الرجلين؛ فمن أراد شيئاً وراء هذا فسيجد فيما أثبته هنا مقدمات البحث وهيكل البناء.
في أبان هذه المعركة الصامتة بين الرافعي وحافظ، قدم إلى مصر شاعر كبير لم يكن الرافعي يعرفه أو يسمع به أو قرأ شيئاً من شعره، ذلك هو شاعر العراق الكبير المرحوم عبد المحسن الكاظمي، ونشرت له الصحف غداة مقدمه قصيدة عينية من بحر الطويل، قرأها الرافعي فاستجادها ورأى فيها فناً ليس من فن الشعراء المعاصرين الذين قرأ لهم، فملكت نفسه وبلغت منه مبلغاً، فقرر لساعته أن يسعى إلى التعرف به، ليصل به حبله(215/43)
ويقتبس من أدبه، وكان الرافعي يومئذ كاتباً بمحكمة طلخا، ففارق عمله بغير إجازة، وسعى إلى لقاء الكاظمي في القاهرة، وهو يمني نفسه بأن يكون بينهما من الود ما يرفع من شأن الرافعي ويجدي على أدبه. وكان في الكاظمي - رحمه الله - أنفة وكبرياء، فأبى على الرافعي أن يلقاه ورده رداً غير جميل، إذ كان الرافعي يومئذ نكرة في الأدباء، وكان الكاظمي ما كان في علمه وأدبه وشهرته وكبريائه، مع خلته وفقره. واصطدمت كبرياء بكبرياء، وثار دم الرافعي وغلى غليانه، فذهب من فوره فأنشأ مقالة (أو قصيدة، لا أذكر) نال فيها من الكاظمي ما استطاع أن ينال بذمه والزراية عليه والغض من مكانته؛ وما كان الرافعي مؤمناً بما كتب، ولكنه قصد أن يلفت الشاعر إليه بالإنذار والتخويف، بعد ما عجز أن يبلغ إليه بالزلفى والكرامة.
وفعلت هذه الكلمة فعلها في التقريب بين الأديبين، فأتصل الرافعي بالكاظمي وصفا ما بينهما وأخلصا في الوداد والحب حتى لم يكن بينهما حجاب، وحتى صار الرافعي أصفى أصفياء الكاظمي، وصار الكاظمي أشعر الشعراء المعاصرين عند الرافعي، ثم ارتفعت الصلة بينهما عما يكون بين التلميذ والأستاذ، وتصادقا صداقة النظراء؛ حتى أنه لما هم الكاظمي أن يسافر إلى الأندلس في سنة 1905 كتب كتاباً إلى الرافعي يقول فيه: (. . . ثق أني أسافر مطمئناً وأنت بقيتي في مصر. . .).
هؤلاء الثلاثة: البارودي، وحافظ، والكاظمي، هم كل من أعرف ممن تأثر بهم الرافعي من شعراء عصره. أما شوقي، وصبري، ومطران، وغيرهم ممن نشأوا مع الرافعي في جيل واحد فلا أعرف بينه وبين أحد منهم صلة تمتد إلى أيامه الأولى، وما سمعت منه - رحمه الله - حديثاً يشعر أن صلة خاصة كانت تربطه بواحد منهم في حداثته؛ فلعل عند غيري من أهل الأدب علماً من العلم يكمل هذا النقص ويسد هذه الخلة، فليتفضل من يعرف بنشر علمه مشكوراً على وفائه للأدب والتاريخ.
بدأ الرافعي يقول الشعر ولما بلغ العشرين من عمره، ينشره في الصحف وفي المجلات السورية التي تصدر في مصر، وكانت المجلات الأدبية كلها إلى ذلك الوقت في أيدي السوريين؛ فمجلة الضياء، والبيان، والثريا، والزهراء، والمقتطف، وسركيس، والهلال، وغيرها - كان يقوم عليها جماعة من أدباء سورية: كالبستاني، واليازجي، وصروف،(215/44)
وجورج زيدان، وسليم سركيس وغيرهم؛ وكانت إليهم الزعامة الأدبية في اللغة والأدب الوصفي والتاريخ، أما أدب الإنشاء فكان قسمة بينهم وبين أدباء مصر.
والآن أدع لصديقي الأديب الأستاذ جورج إبراهيم حنا، أن يتحدث عن الرافعي في أول عهده بالشعر؛ قال:
(بدأت صلتي بالمرحوم الرافعي قريباً من سنة 1900؛ كنت يومئذ أقول الشعر، وكان اسمي معروفاً لقراء مجلة الثريا، ولم أكن اعرف الرافعي أو اسمع به، وكان لأخيه الوجيه سعيد أفندي الرافعي متجر في شارع الخان بطنطا، يستورد إليه النقل والفواكه الجافة من الشام، وكنت زبونه، فذهبت إليه يوماً أشتري شيئاً من فاكهة الشام، إذ كان له بها شهرة وكان بي إليها شوق؛ فلما صرت إليه، لقيت هناك فتى نحيلاً في العشرين من عمره، يلبس جلباباً، جالساً إلى مكتب في المتجر قريب من الباب، فما رآني الفتى حتى ناداني ودعاني إلى الجلوس، ثم قال لي: أتعرف أني شاعر؟ قلت: لا؛ لست أعرف. قال: أنا مصطفى صادق الرافعي، وهذه الكراسات كلها من شعري. وعرض علي بضعة دفاتر كانت على المكتب، ثم استأنف قائلاً: ولكنه شعر الحداثة فهو لا يعجبني؛ سأختار أجوده وأمزق الباقي، وسأطبع ديواني بعد قليل فتعرفني. . .!) قال: (وعرفت الرافعي من يومئذ، وقويت بيننا الصلة حتى صرت أدنى أصدقائه إليه: يقرأ على شعره، ويستمع إلى رأيي فيه، ويستشيرني في أمره. وقد كان أوله كآخره، فما لبثت حتى أعجبت به وأحللته من نفسي أرفع محل من الحب والتقدير).
ظل الرافعي يقول الشعر لنفسه، أو ينشر منه في المجلات الأدبية، أو يقرؤه على أصدقائه. وأصدقاؤه يومئذ صفوة من شباب السوريين في طنطا: منهم الأديب جورج ابراهيم، والصيدلي غلياس عجان، والطبيب تُودرى، وكانوا يتخذون مجلسهم عادة في وقت الفراغ، في صيدلية (كوكب الشرق) بطنطا.
فلما كانت سنة 1903، وعمر الرافعي يومئذ ثلاث وعشرون سنة، نشر حافظ بك إبراهيم ديوانه، وقدم له بمقدمة بليغة كانت حديث الأدباء في حينها وطال الجدل حتى نسبها بعضهم إلى المويلحي. واستقبل الأدباء ديوان حافظ ومقدمة ديوانه استقبالاً رائعاً. وعقدوا له أكاليل الثناء. والرافعي غيور شموس، فما هو إلا أن رأى ما رأى، فعقد العزم على إصدار الجزء(215/45)
الأول من ديوانه، وما دام حافظ قد صدر ديوانه بهذه المقدمة البليغة التي أحدثت كل هذا الدوي بين أدباء الجيل فإن على الرافعي أن يحاول جهده ليبلغ بديوانه ما بلغ حافظ، وإن عليه أن يحمل الأدباء على أن ينسوا بمقدمته ديوان حافظ.
وصدر الجزء الأول من ديوان الرافعي في الموعد الذي أراد بُعَيدَ ديوان حافظ بقليل، وقدم له بمقدمة بارعة فصل فيها معنى الشعر وفنونه ومذاهبه وأوليته، وهي وإن كانت أول ما نعرف مما كتب الرافعي، تدل بمعناها على أن ذلك الشاب النحيل الضاوي الجسد، كان يعرف أين موضعه بين أدباء العربية في غد. وإذا كانت مقدمة حافظ قد ثار حولها من الجدل ما حمل بعض الأدباء على نسبتها إلى المويلحي، فقد حملت هذه المقدمة الأديب الناقد الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي على الشك في أن يكون كاتبها من ذلك العصر، مما يخادع نفسه في قدرة الرافعي على كتابتها. قال الأستاذ جورج إبراهيم:
(لما هم الرافعي أن يكتب مقدمة ديوانه، جاء ألي في جلبابه والحر شديد، فحدثني من حديثه، ثم سألني أن أهيئ له مكاناً رطباً يجلس فيه ليكتب المقدمة. فجلس في غرفة من الدار، ثم تخفف من لباسه. . واقتعد البلاط بلا فرش، وبسط أوراقه على الأرض وتهيا للكتابة؛ فحذرته أن تنال منه رطوبة البلاط في مجلسه الطويل، فقال: لا عليك يا جورج؛ غني لأحب أن أحس الرطوبة من تحتي. . . فينشط رأسي. . . ثم استمر في مجلسه يكتب وليس معه ولا حواليه من وسائل العلم إلا قلمه وأوراقه، حتى فرغ من المقدمة في ساعات. . .
قال: (فلما تم طبع الديوان أهدى نسخة منه فيما أهدى إلى العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي، والشيخ اليازجي يومئذ أديب العصر وأبلغ منشئ في العالم العربي. وكان الرافعي حريصاً على أن يسمع رأي الأستاذ اليازجي في شعره وأدبه، ومضى زمان ولم يكتب اليازجي، على حين تناولت كل الصحف والمجلات ديوان الرافعي ومقدمته بالنقد أو التقريظ، واحتفل به المؤيد احتفالاً كبيراً فنشر مقدمته في صدره، والمؤيد يومئذ جريدة العالم العربي كله.
قال: (واستعجبت أن يهمل أستاذنا اليازجي هذا الديوان فلا يكتب عنه، واغتم الرافعي لذلك غماً شديداً، إذ كان كل ما يكتب الأدباء في النقد لا يغني عن كلمة يقولها اليازجي. فذهبت أسأله، فقال لي: أنت على ثقة أن هذه المقدمة من إنشاء الرافعي؟ قلت: هو كتبها بعيني فما(215/46)
أشك في ذلك. قال اليازجي: وأنا ما أبطأت في الكتابة عن الديوان إلا من الشك في قدرة هذا الشيخ على إنشاء مثل هذه المقدمة؛ فأنا منذ أسبوعين أبحث عنها في مظانها من كتب العربية. . . قلت: يا سيدي، إنه ليس بشيخ، إنه فتى لم يبلغ الثالثة والعشرين. . .).
وكتب اليازجي بعد ذلك في عدد يونيو سنة 1903 من مجلة الضياء في تقريظ الجزء الأول من ديوان الرافعي ما يأتي:
(. . . وقد صدره الناظم بمقدمة طويلة في تعريف الشعر، ذهب فيها مذهباً عزيزاً في البلاغة، وتبسط ما شاء في وصف الشعر وتقسيمه وبيان مزيته، كلام تضمن من فنون المجاز وضروب الخيال ما إذا تدبرته وجدته هو الشعر بعينه. . .).
ثم انتقد الأستاذ اليازجي بعض ألفاظ في الديوان، وعقب عليها بقوله:
(. . . على أن هذا لا ينزل من قدر الديوان وإن كان يستحب أن يخلو منه، لأن المرآة النقية لا تستر أدنى غبار، ومن كملت محاسنه ظهر في جنبها اقل العيوب؛ وما انتقدنا هذه المواضع إلا ظناً بمثل هذا النظم أن تتعلق به هذه الشوائب، ورجاء أن يتنبه إلى مثلها في المنتظر، فإن الناظم كما بلغنا لم يتجاوز الثالثة والعشرين من سنيه، ولا ريب أن من أدرك هذه المنزلة في مثل هذه السن، سيكون من الأفراد المجلين في هذا العصر، وممن سيحلون جيد البلاغة بقلائد النظم والنثر).
بلغ الرافعي بالجزء الأول من ديوانه مبلغه الذي أراد، واستطاع بغير عناء كبير أن يلفت إليه أنظار أدباء عصره. ثم استمر على دأبه، فاصدر في سنة 1904 الجزء الثاني من الديوان، وفي سنة 1906 أخرج الجزء الثالث، وفي سنة 1908 الجزء الأول من ديوان النظرات؛ ومضى على سنته، معنياً بالشعر، متصرفاً في فنونه، ذاهباً فيه مذاهبه، لا يرى له هدفاً إلا أنه يبلغ منزلة من الشعر تخلد اسمه بين شعراء العربية.
وتألق نجم الرافعي الشاعر، وبرز اسمه بين عشرات الأسماء من شعراء عصره براقاً تلتمع أضواؤه وترمي أشعتها إلى بعيد؛ ولقى من حفاوة الأدباء ما لم يلقه إلا الأقلون من أدباء هذه الأمة، فكتب إليه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده يقول:
(. . . أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق به الباطل، وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان الأوائل).(215/47)
وكتب المرحوم الزعيم مصطفى كامل باشا يقول:
(. . . وسيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في اجمل قالب من البيان).
وكتب حافظ، وقال البارودي، ونظم الكاظمي، وتحدثت الأدباء والشعراء ما تحدثوا عن الرافعي الشاعر. وظل هو على مذهبه ذاك حتى سنة 1911، ثم تطورت به الحياة، وانفعلت أعصابه بأحداث الأيام، فانحرف عن الهدف الذي كان يرمي إليه من الشعر، وتوجه وجهة جديدة في الأدب سنتحدث عنها بعد.
ليس كل شعر الرافعي في دواوينه، وليس كل ما في دواوينه يدل على فنه وشاعريته؛ فالجيد الذي لم ينشر من شعر الرافعي أكثر مما نشر؛ وقد كان في نية الرافعي لو أمهلته المنية أن يتبرع لشعراء اليوم بأكثر ما في دواوينه، ثم يخرج منها ومما لم ينشر ديواناً واحداً مهذباً مصقولاً، ليقدمه هدية منتقاة إلى الأدباء والمتأدبين، ولكن. . . ولكن الموت غاله فبطل أمله وبقي عمله تراثاً باقياً لمن يشاء أن يسدي يداً إلى العربية يتم بها صنيع الرافعي.
لم ينقطع الرافعي عن الشعر بعد تلك الفترة ولكنه لم يقتصر عليه، وسنتحدث عن ديوان الرافعي الذي لم ينشر حين تحين الفرصة للحديث عن أعماله الناقصة التي لم تتم، فحسبي الآن وإلى اللقاء في الأعداد المقبلة.
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان(215/48)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسقاف النشاشيبي
160 - هذه الصلة وأنا العائد
قال القاضي ابن خلكان: كان الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل عالي الهمة، حازماً، شجاعاً، مهيباً فاضلاً، جامعاً شمل أرباب الفضائل، محباً لهم، وكان يحب الأدب كثيراً، وله رغبة في فنه، وكان قد شرط لكل من يحفظ (المفصل) للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة، ولم اسمع بمثل هذه المنقبة لغيره، وكان من النجباء الأذكياء: مرض أبو المحاسن محمد بن نصر (الوزير والشاعر الشهير) فكتب إليه:
انظر ألي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي
أنا كالذي احتاج ما يحتاجه ... فاغنم ثوابي والثناء الوافي
فجاء (الملك) بنفسه إليه يعوده ومعه صرة فيها ثلاث مائة فقال: هذه الصلة وأنا العائد. وهذه لو وقعت لأحد من أكابر النحاة ومن هو في ممارسته طول عمره لاستعظم منه.
161 - القيام عند ضرب النوبة
في (نزهة الجليس): قال العلامة السيد محمد كبريت المدني: سبب قيام آل عثمان عند ضرب النوبة أن السلطان علاء الدين السلجوقي لما شاهد عزم السلطان عثمان وعلم قابليته في فتح أطراف البلاد تلك البلاد أكرمه وأمده. وبعث إليه الراية السلطانية والطبل والزمر ووسمه باسم السلطنة تقوية ليده وشداً لعضده. فلما وصل إليه ذلك، وضربت النوبة بين يديه قام عند أول سماعه لها على قدميه تعظيماً لذلك. فهم يقومون عند ضرب النوبة إحياء لتلك السنة.
162 - المال ناموس الملك
في (المنهج المسلوك في سياسة الملوك): قد كان يقال: المال ناموس الُملك تظهر به هيبته، وتقوى أبهته. حكى أن سابور ملك الفرس اتخذ أعمدة وقواعد من الذهب، وجعلها على باب خزانة المال يجلس عليها الخزنة وغيرهم، فعظم بذلك عند نظرائه وأهل مملكته، فلما أفضت المملكة إلى ولده جعل يفرق الأموال ويسرف في العطايا، فلما نفدت الأموال أخذ(215/49)
تلك الأعمدة وسبكها فوجدها مجوفة قد ملئت رملاً فذهب حينئذ ناموسه، وقلت هيبته عند أهل مملكته حين علموا سر هذه الأعمدة. فلهذه المعاني يجب حفظ المال والاحتياط عليه.
163 - فقر أدى إلى مصالح الرعية
في (كتاب غرر ملوك الفرس وسيرهم): كان كيقباذ يقول: ليس غرضنا فيما نحتفل من أصناف الزين بالقصور المشيدة والفرش الممهدة والملابس الفاخرة والأطعمة الملونة إلا تزيين أمر المملكة، وتفخيم أسبابها في أعين الناظرين إليها والواردين من النواحي عليها، دون الانهماك في الشهوات، والاستكثار من اللذات. وجدوي شأن المملكة وإقامة مروءاتها عائدة عليها بالمصلحة، وما أدى إلى مصلحتها فقد أدى إلى مصالح الرعية.
164 - إمارات القيام، يا غلام هات الطعام
في (التاج ومحاضرات الراغب): كان لكل ملك أمارة يستدل بها أصحابه إذا أراد أن يقوموا عنه، فكان اردشير إذا تمطى قام سماره. وكان الأردوان الأحمر، وله وقت من الليل وساعات تحصى فإذا مضت جاء الغلام بنعله فقام من حضره. وكان كيشاسف يدلك عينيه، ويزدجرد يقول: (شَبْ بِشُدْ) وبهرام يقول: (خُرّمْ خُسْفاذ)، وسايور يقول: حسبك يا إنسان. وقباذ يرفع رأسه إلى السماء، وأبرويز يمد رجليه. وأنوشروان يقول: قرت أعينكما! وكان عمر يقول: قامت الصلاة. وعثمان يقول: العزة لله. ومعاوية يقول: ذهب الليل. وعبد الملك يقول: إذا شئتم. والوليد إذا قال: أستودعكم الله. والهادي إذا قال: سلام عليكم. والرشيد يقول: سبحانك اللهم وبحمدك. والمأمون إذا استلقى على فراشه. والمعتصم إذا نظر إلى صاحب النعل. والواثق إذا مس عارضيه وتثائب.
وحكي عن بعض البخلاء أنه سئل: ما إمارتك لقيامنا؟ قال: قولي: يا غلام، هات الطعام. . .
165 - الصبر
الصابي: مآرب الناس منزلة بحسب قربها من هزل أو جد، ومرتبة على قدر استحقاقها من ذم أو حمد، وإذا وقع التأمل عليها والتدبر لها وجد أولاها بأن تعده الخاصة نزهة وملعباً، والعامة حرفة ومكتسباً - الصيد الذي فاتحته طلاب لذة ونظر، وخاتمته حصول مغنم(215/50)
وظفر، وقد اشتركت الملوك والسوقة في أستجماله، واتفقت الشرائع المختلفة على استحلاله، ونطقت الكتب المنزلة بالرخصة فيه، وبعثت المروءات على مزاولته وتعاطيه، وهو رائض الأبدان، وجامع شمل الإخوان، وداع إلى اتصال العشرة منهم والصحبة. وموجب لاستحكام الألفة بينهم والمحبة.
166 - العامل (الوالي) النصراني في الدولة الإسلامية
في (كتاب التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق) للبطريك سعيد بن بطريق: ولى المأمون (وهو في مصر) بكام النصراني عمل بورة وما حولها. وكان بكام إذا كان يوم الجمعة لبس السواد وتقلد بالسيف والمنطقة، وركب وبين يديه أصحابه، فإذا بلغ المسجد وقف ودخل خليفته وكان مسلماً يصلي بالناس ويخطب باسم الخليفة ويخرج إليه.
167 - من نبأ الورقاء أن محلكم حرم
قال أبو المحاسن شرف الدين محمد بن نصر الدين: أنه حضر درس الإمام فخر الدين الرازي يوماً وهو يلقى الدروس في مدرسته بخوارزم ودرسه حافل بالأفاضل واليوم شات وقد سقط ثلج كثير، فسقطت بالقرب منه حمامة وقد طردها بعض الجوارح، فلما وقعت رجع عنها الجارح خوفاً من الناس الحاضرين فلم تقدر الحمامة على الطيران من خوفها وشدة البرد فلما قام الإمام فخر الدين وقف عليها ورق لها وأخذها بيده، قال شرف الدين:
فأنشدته في الحال:
يا ابن الكرام المطعمين (تبرعا) ... في كل مسغبة وثلج خاشف
العاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيح الراعف
من نبأ الورقاء أن محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف
وفدت عليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستانف
لو أنها تحبي بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف
168 - ارقص للقرد في زمانه
في (وفيات الأعيان): لما ولى جلال الدين الزينبي الوزارة دخل عليه هبة الله بن الفضل بن القطان - الشاعر المشهور - والمجلس محتفل بأعيان الرؤساء، وقد اجتمعوا للتهنئة(215/51)
فوقف بين يديه ودعا له، وأظهر السرور والفرح، ورقص.
فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره: قبح الله هذا الشيخ فإنه يشير برقصه إلى ما تقول العامة في أمثالها. أرقص للقرد في زمانه.(215/52)
رسالة الشعر في ظلال الأرز
للأستاذ امجد الطرابلسي
قلبيَ يا ابن الفناء! ماذا ... يُصِيبكَ في هيكلِ الخلودِ؟
أيُّ جمالٍ تَراه يبدو ... يا قلبُ في مَقْبَرِ العهود؟
وأيُّ لحنٍ هناك يشدو ... به وُجومُ المدي البعيد
أراكَ يا أيُّها المُعَمَّى ... في الأرض كالهارب الطّريد
تَفِرُّ من نَقمةِ البرايا ... وتَتَّقي زحمةَ الوجود
تمشي على هامش الفَيافي ... مُجتنباً رنّةَ القُيود
مُلْتمساً ملجأً بعيداً ... عن الوشاياتِ والحُقود
كالوحش ليستْ تَقَرُّ عيناً ... إلا ببيداَء خلفَ بيدِ
بالأمسِ في بَعْلَبَكَّ، ذكرى ال - زّمانِ من عِزِّهِ التَّليد
قمتَ على رسمها تُغَنَّى ... غناَء مُستوحشٍ عَميد
غنيّتَها رائع المعاني ... يميسُ في أجملِ البُرود
واليومَ في الأرْز يا فؤادي ... وغابِهِ الأعطرِ البَرود
في حِضْن لُبنانِهِ المُوشّى ... وعرسِه الضاحكِ السعيد
تُجَنّ في بَحْرِكَ القوافي ... كالموجِ في الزّاخرِ المديد
ويحكَ يا قلبيَ المُدَوي! ... يا نبعةَ الحبّ والقصيد
درُّك صُنْهُ ولا تبدِّدْ ... يتيمَهُ البكرَ في الصّعيد
كَرِّمْهُ يا قلبُ فهو أغلى ... من الدّمِ الطاهرِ الشهيد
تَعَوَّدِ الصمتَ فهو أولى ... بالحرّ في دولة العَبيد
خيرُ صلاةِ الحزين دمعٌ ... يَفيضُ من ناظرٍ شَرود
يا أَرْزَ لبنانَ! يا مُصَلى ... ما فاتَ من غابرِ العهودِ
أليسَ في دوحِكَ المُعَلىّ ... أَرائِكُ الأَعْصُرِ الهُجودِ؟
تَفَيَّأَتْ ظلَّه وأغضتْ ... من بعدِ إعيائِها الشَّديدِ
يا مريضَ الثلج يا مَحَطَّ ال - نُّجوم يا مأمنَ الشَّريدِ!(215/53)
بِنْتَ وَحَوَّمْتَ في الأعالي ... نَسراً تَحرّى ذُرى الفُنودِ
تُرى تَعاليتَ عن مُناخ ال - نفّاقِ والذلِّ والسّجود؟
أمْ قَدْ تَرَفَّعتَ عن فَناءِ ال - وَرى فأمعنتَ في الصّعودِ؟
يا أرزُ لا تظلمِ البرايا في دهرِها المُنجِبِ المُبيدِ!
ما أجدرَ الناسَ بالتَّحَني ... لا بالزِّرايات والصُّدود!
وا رحمتا للورى جميعاً ... من حَمَلٍ أعزلٍ وسِيد!
وا رحمتا للورى جميعاً ... الموقِدِ الشَّرَّ والوَقود!
والآسرِ الخلق والأسارى ... والحاسدِ النّاسَ والحسيدِ!
إيهِ أُولُمْبَ العصورِ! ماذا ... لدَيْكَ عن أعصرِ الجُدود؟
لعلّ أدواحَكَ الرواني ... مثلُ أبي الهَولِ في الجمود
نسألها، والسكوتُ دوماً ... خيرُ جوابٍ لها سَديدِ
هاتِ الأحاديثَ عن (عَبيدٍ) ... وعن (كُلَيْبٍ) وعن (لَبيد)
ونسرُ (لُقمانَ) ما دهاه ... من بعدِ عُمرٍ له مديد؟
أيُّ الأساطيرِ نَسَّقَتْها ... قريحة الشاعرِ المُجيدِ
وأيُّها قد شهدتَ حَقاً ... في الزَّمَنِ الغابر التليدِ
وأيُّها نَسْجُ أُمّهاتٍ ... في الّليلِ حولَ الصَّلى قُعودِ
يَقْصُصْنَها للبنينَ شغلاً ... لهم عن اللِّعب والهُجودِ
يا ليتَ شعري! وأين شعري ... من ظُلُماتِ المدى البعيد؟
لعلَّ أمس الحياةِ شطرٌ ... من قَصَصِ الجَدِّ للحفيدِ!!
مددتُ كفّي أُصوِّرُ اسمي ... في صفحةِ الأرزةِ الهَجودِ
فارتعشتْ باليراع كفي ... واحترقتْ في دمي جُهودي
ويلي! أَأَنْعى إلى وُجودي ... بأحرفٍ من يدي وجودي؟
أينَ (لَمَرْتين) أين (جُوليا) ... هل عنهما اليوم من مُفيد
سلْ عنهما الدودَ في ثراه ... إن ضَنَّ غولُ الرّدى بدُودِ
أمسِ على قربِهِ إلينا ... أشدُّ قُرباً إلى ثمودِ(215/54)
إيه لمرتينُ يا صديقي! ... يا شاعر المأمل الفقيد!
يا صرخةَ الناي في الليالي! ونفحةَ الزهرِ والورود!
وهتفةَ البلبلِ المُعَنَّى! ... وبسمةَ البرعمِ الوليد!
يا شاعري! متَّ غيرَ نَقْشٍ ... عَزَّ على الموتِ واللُّحودِ
خلَّفتَهُ لِلْحجيجِ دُنيا ... من التَّصاويرِ والوُعودِ
يَرِفُّ كالزَّنبقِ المندَّى ... في جَبْهَةِ الأرزِة الوَدودِ
يضحكُ للزّائرين اُنساً ... بِهِمْ وَيَفْتَرُّ للوُفودِ
نَقَشْتَهُ لاهياً شَغيلاً ... عَنِ الفُجاءاتِ والنُّكودِ
و (جولِيا) غِرَّةٌ لَعوبٌ ... خَفَّاقَةُ الحُلْمِ والنُّهودِ
بسّامَةُ الطرفِ والأماني ... ضحَّاكة الثّغرِ والخُدودِ
تضحكُ في نَومِها وتَعدوا ... خلفَ الفَراشاتِ في النجودِ
تناغِم الطيرَ ليس تدري ... ماذا وراَء الغَدِ الصيَّيودِ
ماذا لدى الغيبِ من هَدايا ... أَو نُوَبٍ كالظّلامِ سودِ
كم عَبْرةٍ تَعقبُ ابتساماً ... ومأتمٍ نامَ خلفَ عِيد
خَطَّتْ حروفَ اسمِها غروراً ... تحتَ اسمكَ الخالدِ المَجيدِ
أملةً أن تعودَ يوماً ... فتقرأَ الخطَّ منْ جَديد
ما أخيبَ العمرَ للأماني! ... وألعبَ الدهرَ بالجُدود!
وأوسعَ القلبَ في صباه! ... وأقربَ القبرَ للمهود!
خطَّتْ وخطَّ القضاءُ سَطراً ... في لوحِهِ المُفْعَمُ الرَّصودِ
أمسكها الموتُ لم يدعْها ... تعودُ للموكنِ المَشيدِ
غاضَرَها والصِّبا غَريضُ ... بلا ضَجيجٍ ولا وَعيد
بعيدةَ الحصَّبِ والمغاني ... غَريبةَ الدار والشُّهودِ
إيه (لمرتين)! أيّ كنزٍ ... من الحشاشاتِ والكُبودِ
أودعتَهُ أرضَنا بَليلاً ... بدمعِكَ المُسْبَلِ البَديدِ
هديةُ الشاعرِ المعنّى ... لموطنِ الشعرِ والخُلودِ(215/55)
فريدةٌ بِعتها بجرحٍ ... في القلبِ مُسْتَعبِرِِ فَريد
وعدتَ من بعدها وحيداً ... يا لوعة الشاعرِ الوحيد!
تضربُ: بين الربى البواكي ... كالزورقِ التائِهِ الشَّريد
قيثارةً: تُرسِلُ الأغاني ... من مِزَقِ القلبِ والوَريد
تَنوحُ في هدأةِ الليالي ... وفي الأعاصيرِ والرُّعود
لِلّهِ يا شاعري دموعٌ ... ذرفتَ كاللُّؤلُؤِ النَّضيدِ
ما فَتِئَتْ في الْخُطوب تَحنو ... على جراحاتِ ذا الوُجودِ
هلاّ حبستَ النُّواحَ قهراً ... للزَّمَنِ الشّامِت الحقود
ما زالَ هذا الزمانُ خَصماً ... للعبقريِّينَ والبُنود
دَع لاهبَ الجُرحِ في الحنايا ... يأتكلُ الصَّدرَ كالوقودِ
فأسبلْ على وَقْدِهِ سُتوراً ... من البَشاشاتِ والسُّعودِ
غَلِّفْ جِراحاتِكَ الدّوامي ... بِبَسْمَةِ الساخِرِ الجَليد
وكنْ على صولةِ الرَّزايا ... أَعندَ من دهركَ العَنيد
هذا هو المجدُ لا دموعٌ ... تُسَحُّ فوقَ الثرى المَجودِ
تضحكُ من سَكبها البرايا ... في عرسِلها الناعم الرَّغيد
أَوَّاه! مالي أُريقُ شِعري ... دماً على مذبحِ الجُحود؟
أنتَ عزائي وأنتَ روحي ... فعدْ إلى القلبِ يا نشيدي؟
(دمشق)
امجد الطرابلسي(215/56)
تَردُّد. . .
أنت يا ليلى مُنًى جنَّحها ... حلم الحب الجميل الناضر
أنت في فجر حياتي نجمةً ... قد أضاءت غيهباً في خاطري
قد تأملتك دهراً، خاشعاً ... أتم النور بطرف حائر
ويراني من يراني هائماً ... غير أني في صباح سافر
أنت كالجدول يجري هانئاً ... هازجاً ينشد لحن الطائر
وأنا الطائر في أحنائه ... نغم الحب الحنون الساحر
رددي يا ليل لحني واذكري ... أنه ذوْبُ فؤاد صابر
من ترى يعرف أحلام الندى ... غير من فازوا بحب ظافر
من ترى يعرف أسرار الربى ... وزهور الحقل غير الشاعر
قد ملأتِ للكأس من خمر الهوى ... فاسكبيه في فؤاد ثائر
(السلط)
حسني فريز(215/57)
رسالة الفن
رفائيل
الفنان أبداً
للدكتور أحمد موسى
وله صورة أخرى للمادونا مؤرخة سنة 1506 وهي مسماة (مادونا ديجلي أنسيدى) محفوظة بجاليري لندن، وغير ذلك صورة للعائلة المقدسة محفوظة ببينا كوتيك ميونيخ وهي صورة منظمة تنظيماً سيمتريكياً جميلاً، غير أن روعة تصويره لعلاقة الأم بالابن لم تكن على درجة من الجودة، كتلك التي عهدناها في صوره الأخرى، وغير ذلك من صور المادونا ما هو محفوظ ببرلين وميونيخ، وبانجلترا لدى اللورد كومبر وبمنزل بردج واتر بلندن، كما أن له صورة مشهورة بإنشائها المجيد وهي المادونا (الديلويم) وقد توسطت الصورة، وعن يمينها يسوع الطفل قد أخذه النوم بينما هي ترفع عن وجهه القناع بيمناها لتمكن يوحنا الطفل من مشاهدة يسوع، وقد ركع يوحنا أمامه وكمال الخشوع بادٍ على وجهه وجمال النقاوة يغمر محياه وهي تسنده بيسارها.
والمادونا إلبا بمتحف بطرسبرج ومادونا الدوبرانديني بلندن تسجلان تطور رفائيل واتجاهه اتجاهاً لا يعد جديداً من الناحية الفنية؛ ولكنه يعد عظيماً من الوجهة الدراسية.
هذا ولا تنس أن تذكر أن من بين صور المادونا ما أثار إعجاب مؤرخي الفن بالإجماع، من ذلك مادونا دي فوليجنو (1511) بجاليري الفاتيكان، ومادونا ديلبيسكا (بمتحف برادو في مدريد) ومادونا ديلتندا بميونيخ ومادونا كولديفينو أمورا بنابولي ومادونا ديلليمباناتا بقصر بيتي بفلورنس.
ولقد وضع تصميم صور للعائلة المقدسة وترك إكمالها لتلامذته وأشهر هذه الصور بمتحف برادو بمدريد (؟) وهي المسماة لا بيرله وفيها ظهر بدع تعبير للأمومة في أسمى معانيها والحب في أبلغ مظاهره.
أما للفن الخالص فله أروع صورة للمادونا وهي المسماة(215/58)
(مادونا دي سان سيستو) أو المادونا السكستينية. وعلى
هذه اللوحة الرائعة التي بلغ طولها 652 متر وعرضها 961
متر والتي يغلب الضن أنه صورها سنة 1515 يتجلى أعظم
ما وصل إليه رفائيل من الإنتاج الفني الخالد الذي سجله
التاريخ بمداد من نور؛ فترى العذراء (ش1) قد اعتلت الغيوم
كملكة للسماء حاملة يسوع الطفل بين ذراعيها وقد تأبطته
يمناها، وبكل حنان أسندت ساقيه بيسراها. أما الوجه فهو أنبل
ما استطاع فنان إخراجه. وفي الجهة اليسرى للصورة القديس
سكستس الثاني وهو ينظر إلى يسوع نظرة التقديس المملوءة
بكل ما أوتي رفائيل من قوة العبادة التي ملأت قلبه، وفي
الجهة اليمنى منها القديسة بربارة. وعند قدمي العذراء ترى
ملاكين يفيضان ببراءة الطفولة ووداعتها اللتين تمتلكان جميع
الحواس لكثرة ما فيهما من الصفاء والنقاء.
وقد عملت هذه الصورة خصيصاً لكنيسة دير بيارسوا، واشتراها القصر السكسوني سنة 1753 بحوالي عشرة آلاف جنيه إنجليزي في وقت كانت قيمة الجنيه فيه تعادل عشرة جنيهات في الوقت الحاضر.
وتنفرد جاليري درسدن وحدها بامتلاك أعظم قطعة لرفائيل ولذلك تسميها (درة الجاليري) بعد حصولها عليها من القصر السكسوني.
وبهذا تكون معظم صوره لمادونا قد انتهت، وله غير ذلك صورة تمثل زواج ماريا بيوسف(215/59)
(ش2) سنة 1504 وأسماها سبوساليتزيو محفوظة بميلانو وصورة القديس جورج يقتل التنين (باللوفر) وهي مصورة سنة 1506.
والقطعة التي يتجلى فيها حبه وهيامه بالموسيقى، وقد أظهرت أستاذيته في الفن وعظمته في الإنشاء التكويني فضلاً عن التوفيق الكامل في اختيار الألوان ومزجها وإيجاد الانسجام المثلي بينها. هذه هي صورة القديسة سيسيليا (ش3) وحولها ثلاثة تلاميذ (بولس ومجدلين ويوحنا) والقديس جيمينيانوس صورها سنة 1513 تلبية لطلب الكردينال لورنسوبوتشي لأجل سان جيوفاتي في مونتابولونا (محفوظة ببيتا كوتيك بولونا) وقد اهتم بتصوير تفاصيلها اهتماماً خاصاً حتى أنك لترى أنه على صغر مساحتها نسبياً إلى ما شملته في دقة رائعة وبراعة فائقة. فالملائكة في السماء وآلات الموسيقى على الأرض وتفاصيل الملابس والوجوه وما ارتسم على كل منها يبين لنا إلى حد بعيد مدى المقدرة العظيمة التي أظهرها في هذه القطعة.
وله صورة هامة صورها لكنيسة ماريا ديللوسباسيمو في سنة 1517 والتي حازها فيليب الرابع ملك أسبانيا من نفس السنة تبين (حملة الصليب) وهي محفوظة بمتحف برادو بمدريد (؟) وتشمل ستة عشر وجهاً كبيراً بين نساء ورجال عدا رؤوس الخيول وبعض الناس في مؤخر الصورة وهي رائعة الإنشاء التكويني والموضوعي، ترى فيها الوجوه التي طغى عليها اليأس والقنوط إلى وجوه قد انعكس عليها ما في قلوب أصحابها من حقد كمين على المسيح. وهناك في برادو صورة أخرى لماريا (البحث عن المأوى) وغير ذلك صورة العائلة المقدسة تحت شجرة البلوط. وله في سنة 1518 صورة رسمها للملك فرانس يوسف الأول ملك فرنسا وأسماها (القديس ميخائيل يحارب الشيطان بالسفود) باللوفر. وهناك بعض صور أخرى عملها في بدئ حياته الفنية، كما أن هناك عدد غير يسير من اللوحات صورها بعد الذي ذكر، وكلها يضيق المقام عن ذكره، وبذلك ينتهي إنتاج هذا الفنان الخالد من الناحية الدينية وصور غير هذا كله صوراً شخصية لنفسه ولغيره، ومن أهم ما يجب ذكره هنا ما صوره أثناء إقامته بفلورنسا، وهو صورته لصديقه انجيولو دوني وزوجته مادلينة ستروزي دوني (1505بفلورنسا) وصورته لنفسه بفلورنسا أيضاً. أما صوره أثناء أقامته في روما فاهمها صورة البابا يوليوس الثاني جالساً على كرسي ذي(215/60)
مسند مرتفع محفوظة بفلورنسا ومنها نسخة جيدة منقولة عنها ومحفوظة بلندن، وصورة الكردينال توماس انجرامي (محفوظة بفلورنسا) والصورة النصفية لشاب هو بيدو التوفيتي وقد كان يظن أنها صورته الشخصية إلى وقت ليس ببعيد (محفوظة بميونيخ) وصورتاه دونَّا بيلاتا ودونَّا جرافيدا (بفلورنس). وصورته المزدوجة لشخصين هما بيازّانو ونافاجيرو (بروما).
وبعدئذ وأخيراً صورته المجموعية للبابا ليو العاشر مع الكردينال جيليودي موتيشي ودي روسي (قصر بيتي بفلورنسا).
ولقد حاول العمل أيضاً كمعماري ووصل إلى حد لا بأس به وأنتج إنتاجاً جديراً بالذكر هنا، حيث وضع تصميماً لكنيسة بطرس روما، وقد كلف بعض المختصين بعمل أنموذج مصغر منه أثار إعجاب معاصريه.
هذا مجمل قصة رفائيل سيانتي الذي مات في سن السابعة والثلاثين، ونحن إن ذكرنا هنا إنتاجه القيم دون تعمق في نقد مصوراته ولوحاته فإن هذا راجع لسببين أولهما ضيق المجال وثانيهما إننا لا نرغب في أن تكون دراساتنا جامعية، بل نكتفي بأن نذهب بذوق القارئ إلى السمو ونضع نصب عينيه أن الفن في مصر ضعيف وأن الذين يقومون بالهيمنة عليه ليسوا ممن تخصصوا في الفن علمياً وأن واجب الحكومة وواجب الشعب هو الالتفات إلى ما في هذا الاتجاه الخاطئ من خطورة على تهذيب النشء والسمو بذوقهم ونحن نعتبرهم رجالاً للمستقبل.
وإنه لمما يثير عندنا الدهشة والاستغراب أن وزارة المعارف في الوقت الذي لا تبيح فيه اشتغال تمورجي بالطب ولا تسمح لكاتب محام بالاشتغال بمهنة المحاماة تسمح بملء إرادتها أن يهيمن على الفن وعلى دراسته العلمية والثقافية غير من تخصص في دراسته التاريخية والفلسفية.
أحمد موسى(215/61)
القصص
رجل البيت
للأديب عبد الحميد جوده السحار
دق جرس الباب فأسرعت نعمات هانم لتفتح لزوجها كما هي عادتها في أول كل شهر فما كادت ترى وجهه حتى بادرته
- استلمت المرتب طبعاً. . . سلمه بدورك
فقال لها وهو يدخل:
- انتظري حتى أدخل وأستريح. . . انتظري قليلاً
- لا. . . هاتها. . . أمدد يدك في جيبك. . . أوه. . . أسرع
وضع حسن أفندي يده في جيب سترته الداخلي وهو يتململ وأخرج رزمة من الأوراق المالية ووضعها في يد زوجته التي كانت ممتدة إليه تنتظر أوراق البنكنوت. استلمت نعمات هانم مرتب زوجها فنادت ابنها حسونة ثم ابنتها فيفي وهي سائرة إلى جوار زوجها وكان متجهاً نحو غرفته ليغير ملابسه. لبى حسونة وفيفي النداء وسارا وراء والديهما ودخل الجميع غرفة الوالد فقالت نعمات هانم:
- خذ يا حسونة نقودك. . . وأنت يا فيفي. . . خذي هذا وأخذت تعد - واحد. . . اثنان. . . ثلاثة. . . أربعة. هذا للبقال. . . واحد ونصف هذا للخباز. . . واحد. . . اثنان. هذا للجزار. . . أوه. . . آسفة يا حسن بك. . . نسيت أن أعطيك مصروفك. خذ ولا تحزن. . . واحد. . . اثنان. . . ثلاثة. . . ونصف. . . هذا أجر المنزل وبقيت في يدها بضع أوراق مالية فطوتها وقالت: هذا للخياطة طبعاً
فرفع زوجها رأسه وقال:
- كل هذا للخياطة. . . لا لا. . . هذا إسراف. . . لا أقـ. .
- هذا للخياطة والتنزه والملحقات. . . سنشتري أنا وفيفي أقمشة للصيف ونرسلها إلى الخياطة. . . مسكينة فيفي إنها لا تملك إلا تسعة فساتين فقط
فقال حسونة: ولكن يا ماما. . . أنا محتاج إلى بذلة جديدة
- أوه حسونة. . . الشهر الآتي يا حبيبي(215/62)
ونظر حسن أفندي إلى حذائه البالي وسترته التي تغير لونها وهم بالكلام ولكنه فضل السكوت لأنه كان يعلم جيداً أن لا فائدة من الكلام.
انتقلت العائلة إلى غرفة المائدة لتناول الغداء، فأخذ حسن أفندي ككل أول شهر ينتقد العمل في الحكومة ويصف الحكومة بمقبرة الكفايات ويعلم الله أن حسن أفندي هذا لا يصلح لأي عمل حكومي أو غير حكومي فهو متردد ضعيف العزيمة ولا يحسن غير الخط. التحق بالحكومة من عشرين سنة أيام أن كان كل من يستطيع القراءة والكتابة يلتحق بها. يعتقد أنها نابغة وأنه لو كانت الإجازات موجودة في أيامه لحصل على أعلى الدرجات. ثم قال: التحق اليوم بوزارتنا موظف جديد متخرج من كلية التجارة وجاءت قرعته في مكتبي فناولته حساباً بسيطاً ليتمه، وقدم إلى الحساب فلم أفهم منه حرفاً. مسكين هذا الشاب إنه اتبع طرقاً عقيمة طبعاً وكان خطه رديئاً، فقلت له: (اسمع يا بني. سأنصحك لوجه الله أترك كل ما تعلمته في المدرسة واتبع الطريقة التي سأعلمها لك) فبهت الشاب ونظر إلي مذهولاً فقلت: (الطريقة التي سأعلمها لك اكتسبتها بالمران الطويل وسترى أنها بسيطة) ثم شرحتها له وأراد أن يعترض فقلت له: (اسمع، أعمل بطريقتي ولا تعمل بغيرها إننا نتبعها من عشرين سنة. أتريد أن نغير من نظامنا إكراماً لخاطرك. لا يا بني لا أسمح لك بغير طريقتي)
فقال حسونة: (ولكن يا أبي لماذا لم تتركه يتبع طريقته التي تعلمها) فرد أبوه محتداً: (أية طريقة؟ لا يوجد للحساب سوى طريقة واحدة، أتظن أنكم تتعلمون الآن؟ أنكم تضيعون وقتكم سدى. رحم الله أيام أن كنا نحصل كل العلوم في أربع سنوات. اترك فلسفتك يا سيد حسونة)
أراد حسونة أن يرد ويقنع أباه ولكن نعمات هانم تدخلت وقالت:
- لنترك هذا الحديث. عليك يا حسن بك أن تكون هنا في الساعة الثامنة والنصف لنذهب إلى السينما
- لا أستطيع الليلة. . عندي شغل كثير.
- بل يجب أن تحضر.
- فثار حسن أفندي وقال:(215/63)
- قلت لا أستطيع. يجب أن تكون الكلمة كلمتي، نعم يجب أن أطاع هنا. . أنا رجل البيت. . أنا رجل البيت.
وقام ثائراً واتجه نحو غرفته ثم لبس ملابسه. وفي أثناء خروجه قالت زوجته:
- تذكر الساعة الثامنة والنصف.
في الساعة الثامنة أخذت نعمات هانم تعد نفسها للخروج فدخلت غرفة الزينة وأمرت حسونة أن يجهز نفسه واختارت لفيفي الفستان الذي ينبغي لها ارتداؤه فقال حسونة:
- قد نلبس ونتعب أنفسنا ولكن أبي قد لا يحضر.
فردت نعمات هانم: (اطمئن)
فما كادت نعمات هانم تتم قولها حتى سمع رنين الجرس فنظر حسونة إلى أمه فرآها تبتسم فابتسم أيضاً.
- أسرعي يا فيفي وافتحي. . إنه جاء
فتحت فيفي الباب فدخل حسن أفندي مسرعاً وما كاد يرى زوجته حتى قال:
- حظكم حسن. . لقد تمكنا من إنجاز كل شيء قبل الثامنة فحضرت لأمتعكم بالسينما. . هيا أسرعوا.
فنظر حسونة إلى فيفي ثم إلى أمه وضحكوا.
وهكذا اثبت حسن أفندي أنه حقاً رجل البيت.
ظهرت نتيجة البكالوريا وكان حسونة من الناجحين فأراد أن يلتحق بكلية من كليات الجامعة فاجتمعت العائلة ودار النقاش والمفاضلة واشتد الجدل بين الوالد المحترم والوالدة المهذبة، وترك حسونة المسكين ولم يأخذ رأيه حتى كرأي استشاري. الأب يرغب في إلحاق ابنه بكلية الهندسة والأم ترغب في أن ترى أبنها طبيباً.
- هندسة.
- طب.
- قلت هندسة. . هندسة
- قلت طب. . طب
- قلت هندسة وكفى. . أنا ولي أمره. . .(215/64)
والتحق حسونة بكلية الطب.
وخطب فيفي خطيبان أحدهما محام والثاني ضابط بوليس فاجتمعت العائلة المحترمة ودار النقاش. . فالأب يفضل المحامي ويدافع عنه ويقول يكفي أنه يعمل حراً وانه شاب سيكون له مستقبل باهر، والأم تفضل الضابط لأن منظره بالشريط الأحمر كما تقول (يسر) وأن ماهيته ثابتة، أما المحامي فمن يدري قد يتخاصم الناس وقد لا يفعلون. اشتد الجدل.
- المحامي
- الضابط
- قلت المحامي
- قلت الضابط
- لا. . . لا أقبل هذا أبداً. . . الكلمة هنا كلمتي والرأي رأيي. . . أنا رجل البيت. . . أنا رجل البيت لن تتزوج إلا المحامي. . .
وتزوجت فيفي من الضابط
وهكذا عاش حسن أفندي. . . رجل البيت
عبد الحميد جوده السحار(215/65)
البريد الأدبي
تعطف ملكي كريم
حضرة المحترم الأستاذ أحمد حسن الزيات مدير مجلة الرسالة رفعت إلى الأنظار العلية الملكية النسخة التي قدمتموها إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم من العدد الذي أصدرتموه
من مجلتكم فنالت حسن القبول والتقدير وإني أتشرف بإبلاغ ذلك إلى حضرتكم مع شكر جلالته السامي.
وتقبلوا وافر الاحترام
تحريراً في 6أغسطسسنة 1937
كبير الأمناء
سعيد ذو الفقار
اللغة العربية والألفاظ الدخيلة
لاشك أن اللغة العربية تجوز في عصرنا طوراً من الإحياء والتجديد، ولا شك أن مصر هي التي تحمل لواء هذه النهضة المباركة؛ بيد أن هذه النهضة تتكشف أحياناً عن مظاهر ضعف تدعو إلى الأسف؛ فبينما نجد لغة الصحافة والأدب تبلغ مستوى رفيعاً، إذا لغة المصالح الحكومية والمحررات الرسمية بوجه عام لا تزال على جانب عظيم من الركاكة والضعف، هذا إلى كثير من الألفاظ الأجنبية الدخيلة تستعمل في الدوائر الحكومية والعسكرية؛ وهذه الألفاظ الدخيلة، وهي تركية في معظمها، هي من آثار عصر مضى، ويجب أن تمحى اليوم لاعتبارات قومية وأدبية ظاهرة المغزى؛ واللغة العربية ليست قاصرة عن أن تؤدى بديلا لهذه الألفاظ الأجنبية التي أضحت في الدوائر الرسمية كالطفيليات الضارة. ولقد رأت تركيا الكمالية من قبل أعوام أن تطهر اللغة التركية من جميع الألفاظ الأجنبية التي تسربت إليها، ومن المعروف أن العربية كانت تمثل في التركية بنسبة عالية ولكن زعماء تركيا الكمالية الذين يضطر مون بغضاً لكل ما يمت إلى الإسلام(215/66)
واللغة العربية بصلة، لم يجدوا بديلاً في التركية لتلك الثروة العربية التي أطلقت ألسنتهم قروناً، بل عمدوا إلى اللغات الأوربية يشتقون منها ويستعيرون. ومن حق العربية على نفسها وعلى أبنائها أن ترد إلى التركية بضاعتها المزجاة من الألفاظ العتيقة؛ واللغة العربية ليست في حاجة إليها، وليست عاجزة عن أن تقدم مكانها البديل؛ أليس مما يبعث إلى الخجل والأسى أن نسمع حتى اليوم كلمات (حقانية، وباشكاتب، وحكيمباشي) وأمثالها تدون في محرراتنا الرسمية، وأن تكون اصطلاحات الجيش المصري إلى اليوم كلها تركية؟ ولقد سبقت العراق مصر في التحرر من هذه الآثار البالية، واستحدثت لنفسها في الدواوين وفي الجيش ألفاظاً واصطلاحات عربية. وضربت بذلك مثلاً رفيعاً يحتذى، فعلى مصر التي تتصدر لزعامة الآداب العربية أن تحرر نفسها من هذه البقية العتيقة من العصر البائد، وأن تطهر لغتها ومحرراتها من هذه الألفاظ الدخيلة، وأن تكون في ذلك قدوة حسنة لجميع أبناء العربية في مختلف الأقطار.
مؤلف جديد في تاريخ العرب
صدر أخيراً مؤلف جديد بالإنكليزية عن تاريخ العرب والإسلام عنوانه (تاريخ العرب) بقلم الدكتور فيليب حتي أستاذ الآداب السامية بجامعة برنستون الأمريكية، والأستاذ حتي شرقي تفقه في الجامعات الأمريكية وعرف بتضلعه في لغات الشرق وآدابه، وكتابه عن العرب مؤلف جامع يقع في نحو ثمانمائة صفحة، ويشتمل على تاريخ الأمة العربية منذ فجر التاريخ إلى سقوط دولة السلاطين في مصر وسقوط مصر في يد الترك العثمانيين في سنة 1517م، وانتقال زعامة الإسلام من الأمة العربية إلى الأمة العثمانية. ويمتاز كتاب الدكتور حتي بطابعه العلمي، ومع ذلك فإن هذا الطابع لم يحل دون حسن العرض وطلاوة الأسلوب. وتمتاز الفصول الأولى من الكتاب، وهي التي تتعلق بأصل الأمة العربية وحضارتها الأولى من الحميرية والنبطية والسبأية، بكثير من الدقة والوضوح، وربما كانت في الواقع أقيم فصول الكتاب وأكثرها طرافة لأن البحث في أصول العرب والحضارة العربية قبل الإسلام ما يزال من الموضوعات الغامضة على البحث الحديث. ومع أنه يصعب على المؤرخ عادة أن يبسط هذه النواحي المشعبة لتأريخ العرب والإسلام في مجلد واحد، فإن المؤلف استطاع أن يلم بهذه النواحي إلماماً حسناً، وأن يقص تاريخ الخلافة في(215/67)
عصورها وعواصمها المختلفة، وتاريخ الأسر والدول الإسلامية المختلفة شاملة على إيجازها.
وقد كان المرجع الموجز في تأريخ الإسلام والعرب بالإنكليزية حتى اليوم كتاب المرحوم السيد أمير علي (مختصر تاريخ العرب) ولا يزال إلى يومنا من أقيم المراجع الجامعية في بابه. وكتاب الدكتور حتي من هذا الطراز. فهو أيضاً يمكن أن يعتبر من المراجع الجامعية الموجزة في هذا الباب. بيد أن كتاب السيد أمير علي يمتاز بميزة لم تتوفر في أي مؤلف آخر صدر بالإنكليزية في عصرنا عن تاريخ العرب؛ ذلك انه كتب بقلم مسلم يفهم روح الإسلام الصحيح، ويستطيع أن يدرك كثيراً من أسراره التشريعية والأخلاقية والاجتماعية، وإدراك روح الإسلام الصحيح شرط أساسي لكتابة تاريخ الإسلام بروح الفهم والإنصاف. وهذه الخلة قلما تتوفر للكتاب غير المسلمين.
مسارح العراء
كانت مسارح العراء في العصر القديم من أهم ظواهر الثقافة الفنية والرياضية، وكان لها شأن كبير في الحياة الاجتماعية في أثينه ورومه؛ والآن تعمل بعض الأمم العظيمة الحديثة على إحياء مسرح العراء القديم ليتسع لعشرات الألوف من النظارة بين الخضرة والهواء الطلق بدلا من المسارح الضيقة المغلقة التي لا تتسع إلا لفريق من الخاصة والتي يتاح كثيراً لأفراد الشعب زيارتها والتمتع بما يعرض فيها من المظاهر الفنية الساحرة. وقد سبقت ألمانيا البلاد الأخرى في هذا المضمار، فأنشأت مسارح عظيمة في العراء في أجمل المواقع والبقاع، ويبلغ عددها اليوم نحو مائتين وخمسين مسرحاً يؤمها نحو مليوني متفرج؛ وهذه المسارح على خمسة أصناف: مسارح الميادين العامة، مسارح القصور، مسارح الطبيعة، مسارح الحدائق، والمناظر الهندسية الضخمة؛ وقد انتخبت عدة من القصور التاريخية والغابات الشهيرة بجمالها لإنشاء هذه المسارح، ومنها ما يتسع لأكثر من عشرة آلاف متفرج دفعة واحدة.
وقد أقامت ألمانيا هذا الصيف معرضاً دولياً لمسارح العراء في مدينة فرانكفورت، وهو أعظم مظاهرة فنية من نوعه؛ وبه مناظر لتطورات المسرح والتمثيل منذ فجر التاريخ إلى يومنا؛ ومن الأمم المشتركة فيه فرنسا وهولنده وسويسرا وإيطاليا واليابان والصين، وكل(215/68)
منها تعرض مناظر مسرحها القومي، ولاسيما المناظر التي اشتهرت في التاريخ؛ من ذلك مناظر قدمتها فرنسا ترجع إلى القرن السادس عشر، وأخرى قدمتها سويسرا وإيطاليا وهي جميعاً تدل على روعة المسرح وازدهاره في عصر الإحياء؛ وفي هذه المجموعة الغريبة من المناظر الفنية يشعر الإنسان
بالدور العظيم الذي يؤديه المسرح في نشر الثقافة الفنية والأخلاقية في مختلف المجتمعات التي تتذوقه وتغذي مشاعرها منه. وسيبقى هذا المعرض الفني العظيم قائماً حتى شهر سبتمبر.
الروح الأوربي
ظهر أخيراً بالفرنسية كتاب عنوانه (الروح الأوربي) ' بقلم مسيو ديمون فلدن وفيه يعالج الكاتب مشكلة أوربية جديدة هي فقد ما يسميه هو (بالروح الأوربي). وقد كان جان جاك روسو يقول في القرن الثامن عشر إنه لم يبق في أوربا فرنسيون وألمان وأسبان وإنكليز. وإنما هنالك أوربيون فقط، ويرجع ذلك في رأيه إلى أن أحداً من هؤلاء لم يتلق تربية قومية خاصة. ورأي المؤرخ الفرنسي البير سوريل أن ذلك يرجع إلى نفوذ اليسوعيين لأنهم هم الذين يتولون شئون التربية في معظم أنحاء أوربا، ولكن أوربا اليوم قد تغيرت تغيراً عظيماً وأصبح (الروح الأوربي) القديم أثراً بعد عين. ذلك لأن النزعة القومية العميقة قد طغت بعد الحرب على أوربا طغياناً شديداً واتخذت لوناً محلياً يقرب إلى التعصب وقد كانت الفاشستية أول من وضع بذرة هذا التعصب القومي العميق، ثم جاءت الوطنية الاشتراكية (الهتلرية) في ألمانيا فأذكت هذه الحركة ودعمتها بفكرة الجنس أو الدم؛ وطغت هذه الموجة القومية العمياء على معظم المجتمعات الأوربية؛ وحتى فرنسا التي عرفت بنظرياتها الحرة الواسعة رأت نفسها مضطرة إزاء هذا التيار أن تنهج نفس المنهج، وأن تأخذ بهذه النزعة القومية الجديدة. والآن ينهار الروح الأوربي القديم انهياراً تاماً، ويندر أن يتفاهم رجال السياسة الأوربية على خطة أو جهة موحدة، لأن النزعات والمصالح القومية تمزق الدول والمجتمعات. هذه هي المسألة التي يعالجها الكاتب في كتابه بمنطق حسن وأسلوب جذاب.(215/69)
الكتب
سيرة السيد عمر مكرم
تأليف الأستاذ محمد فريد أبو حديد
للأستاذ أحمد أمين
ما كان لي - ولست متخصصاً في تاريخ مصر - أن أقدم للقراء كتاباً في تاريخ مصر الحديث.
واغرب من هذا أن أقدم كتاباً في تاريخ مصر الحديث للأستاذ محمد فريد أبو حديد، وهو الذي وقف حياته على دراسة التاريخ، وبخاصة تاريخ مصر، فترجم (فتح العرب لمصر) تأليف الأستاذ بتلر، وهو الكتاب الفخم الضخم، لقي في ترجمته العناء المضني، وأخرجه للقراء كأنه مؤلف عربي؛ فذكر الأصول بنصها الأصلي، وترجم الإنجليزية، فلولا ما وضع على الغلاف من أنه ترجمة ما شك القارئ أنه عربي الأصل، عربي الأسلوب، عربي التفكير.
وأخرج (ابنة المملوك)، وهي رواية تمثل عصر المماليك في مصر تصويراً دقيقاً، سلسل حوادثها تسلسلاً بديعاً، وصاغها في أسلوب شيق، ورونق أنيق.
ثم له الفصول الضافية، والمقالات الكثيرة في تاريخ مصر، وأحداث مصر، وبطولة مصر.
ما كان لي بعد هذا كله أن أقدم كتاب (السيد عمر مكرم) للقراء، وكان يكفي أن يقال إنه كتاب
في تاريخ مصر للأستاذ محمد فريد أبو حديد، ليثق القارئ به، ويقومه أحسن تقويم.
ولكن أتاح لي القدر أن أقرأ الكتاب قبل نشره وطبعه، فراقني فيه - بجانب ناحيته التاريخية - ناحيته الأدبية؛ فقد استطاع مؤلفه أن يصوغه صياغة لذيذة شائقة؟ يقرؤه القارئ فكأنه يقرا رواية ممتعة لا كتاباً علميا دقيقاً، مع أنه كتاب علمي دقيق أيضاً:
على أن في عالم التأليف روايات شائقة، بنيت على أحداث تاريخية ثابتة، ولكن عيبها أنها قيمة من ناحية الأدب، وليست بقيمة من ناحية التاريخ، فلا يعرف القارئ أي الحوادث ثابت تاريخياً وأيها من نسج الخيال، أما هذا الكتاب فقيم من ناحيتيه الأدبية والتاريخية معاً،(215/70)
فليس فيه من الوقائع ما هو نسج الخيال؛ ومع ذلك استطاع المؤلف بمهارته أن يسبغ عليه متعة الرواية وإن لم يكن رواية.
اشهد لقد بدأت قراءته وفي عزمي أن أفرغ منه بعد أسبوع على أقل تقدير، وأن أخصص له كل يوم بعض الوقت ولأعمالي الأخرى بعضه؛ ولكني ما بدأت به حتى أنساني عملي، وأنساني وقتي؛ واستمررت في قراءته بلذة وشغف حتى أنهيته شاكراً غاضباً؛ فأما الشكر فلأنه هيأ لي ساعات سعيدة لذيذة صرفتها في قراءته، وأما الغضب فلأنه اختلس مني زمني، من غير جرم يستوجب الحد.
ومزية أخرى واضحة في الكتاب تظهر لكل قارئ، وهو أن المؤلف عنى أكثر ما عنى - لا بالملوك والأمراء كما فعل أكثر مؤرخينا - بل بالشعب وحركاته ونفسيته وحياته الاجتماعية وآماله الوطنية. واتخاذُه السيد عمر مكرم محوراً لكتابه أكبر دليل على هذا؛ فهو ليس ملكاً ولا أميراً، ولكنه أحد أفراد الشعب، وعظيم من عظمائهم، يشعر بشعورهم، ويأمل آمالهم، ويقصده الشعب في حوائجهم، ويرجعون إليه في خطوبهم. فاتخذه المؤلف نواة نسج حولها تاريخ مصر في هذا العصر وخاصة تاريخ الشعب وتطوراته ونظراته وآماله وآلامه.
وكان حب (فريد) لمصر، وعصبيته لكل ما هو مصري، وحسن تقديره للشعب المصري سبباً في بعض الأحيان أن يلوّن بعض الأحداث لوناً زاهياً جميلاً براقاً يعجب الأديب والشاعر والسياسي، ولست أدري إلى أي حد يعجب المؤرخ الجاف المتزمت. ولكن نحن - على كل حال - أحوج ما نكون إلى الإكثار من الكتابة في تاريخ مصر في عصورها المختلفة، ومن جوانب الرأي المختلفة؛ فكل هذا يخدم مصر ويخدم الحق ويخدم التاريخ ويخدم السياسة.
وأخيراً أهنئ أخي (فريداً) بنجاحه في هذا الكتاب، وتوفيق الله له، وأجدني مغتبطاً سعيداً بتقديمه للقراء، وأرجو أن يجدوا فيه من الفائدة واللذة ما وجدت.
أحمد أمين(215/71)
نقد كتاب إحياء النحو
تأليف الأستاذ إبراهيم مصطفى
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 2 -
لا أحسب المؤلف يؤمن بذلك، ولكنه (كما قلت) قد اضطر إليه اضطراراً؛ لتسلم له فكرته، فإنني إذا قلت: لا تلميذ في فصلي راسب، أريد أن أتحدث عن كل تلميذ في فصلي، وأن اثبت له انه غير راسب؛ فتلميذ مسند إليه، ومتحدث عنه، لا ريب في ذلك، وإنما سوغنا حذف خبر لا النافية للجنس في كثير استعمالها؛ لأن الخبر وجود عام، والعرب (إذا كان الخبر وجوداً عاماً) حذفوه، لأنه مفهوم من الكلام. ألا تراهم يفعلون ذلك بعد لولا؛ فيقولون: لولا محمد لهلك علي، فيحذفون خبر (محمد) والأصل لولا محمد موجود لهلك علي؟ ولا أخال المؤلف يشك في أن محمداً مسند إليه، محذوف الخبر، كما حذف خبر لا من غير أن يؤثر في اسمها، بل هو باقي على حاله، مسنداً إليه، ولا أخالني في حاجة إلى تذكير المؤلف بأن العرب يلتزمون حذف متعلق (الجار والمجرور) إذا كان وجوداً عاماً.
ومن ذلك تمحلات الأستاذ لنصب مفعولي (ظن)، وإذا كنت أقتنع بأن اسم لا لم يعد مسنداً إليه، فإنني كذلك لا أستطيع أن اقتنع بأن المفعول الأول لظن لم يعد مسنداً إليه، فانك إذا قلت: ظننت أخاك حاضراً، لم ترد - بلا شك - أن تخبر السامع بأنك ظننت ظناً ما، ولكنك تريد أن تخبره بأنك قد القي في روعك ظن حضور الأخ، فأنت إذاً تقصد إلى أن تتحدث عن الأخ بأنك قد ظننت حضوره؛ وأما ما أحتاجه بأنه يجوز حذفهما إذ لم يعودا مسنداً غليه ومسنداً، فمردود بأن المبتدأ الذي هو مسند إليه بالإجماع يجوز حذفه إذا دل عليه دليل، وكذلك مفعولا ظن يجوز حذفهما إذا دل عليهما الدليل، وليس ثمة استعمال عربي ترى فيه مفعولي ظن محذوفين لغير دليل، بل لا يمكن فهم هذه الألفاظ إلا وهي متعلقة بمفعوليها، ويطول بي القول إذا أتيت بهذه التراكيب التي توهم المؤلف فيها حذف المفعولين لغير دليل، وبينت له أن دليل المفعولين قائم في الجملة يلمسه السامع بأقل انتباه.
ومن ذلك أننا نجد الاسم الذي نريد التحدث عنه منصوباً في باب الاستثناء، ألا ترى أنك(215/72)
حين تقول: نجح التلاميذ إلا سعيداً تريد أن تخبر عن سعيد بأنه لم ينجح، وتقصد ذلك قصداً، ومع ذلك نجد سعيداً (وهو متحدث عنه) منصوباً أبداً، لا نستطيع رفعه.
رابعاً: لأنه لم يجعل الفتحة علامة إعراب، جعل نصب جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم محمولا على الجر وتابعاً له؛ لأن العرب يعنون بالدلالة على الجر ويغفلون النصب، وتلك علّة تنهدم من أساسها، فلو أن العرب كانوا يغفلون النصب حقاً لما جعلوا له علامة تميزه في المفرد، ولحملوا النصب على الجر في المفردات أيضاً، وذلك ظاهر البطلان؛ على أن المؤلف وقف أمام المثنى ولم يستطع شيئاً، فقال: ولكن باب التثنية في العربية غريب، وأرجو أن يدلني الأستاذ المؤلف على موطن غرابته ومواضعها، فإنني لا أعرف فيه وجه غرابة إلا أنه استعصى على أن يسير مع فكرة المؤلف، وما كان أغناه عن هذه الفروض التي ليس لها اطراد.
اختصار أبواب النحو
أبواب النحو حول سبعين باباً، أراد المؤلف أن يختصرها، فلم يستطع أكثر من أن يضم ثلاثة أبواب هي المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل تحت عنوان واحد هو المسند إليه. وان يستغني عن بعض التوابع وان يدمج الباقي بعضه في بعض، وسوف نناقش رأيه في هدوء لنرى أنه حتى في هذه الأبواب القليلة لا يستطيع ضمها ولا اختصارها.
أولاً: لأن المبتدأ له معنى ليس للفاعل في كثير من التراكيب، فنحو: هذا محمد، وعلي أخوك، لا نجد المبتدأ في الجملة يتصل أي اتصال بمعنى الفاعل أو نائبه.
ثانياً: لأن المبتدأ له أحكام يختص بها دون الفاعل، من حيث وجوب أن يكون معرفة إلا إذا سوغ الابتداء بالنكرة مسوغ، وليس كذلك الفاعل؛ ومن حيث علاقته بالخبر، الذي يجب أن يتأخر عنه احياناً، وأن يتقدم عليه أحياناً، والذي يقع حينا مفرداً، وحيناً جملة، أو شبهها، وليس للفاعل حظ من ذلك، ولا أريد أن أدخل في تفصيل هذا المجمل، فيتعب القارئ، أو يمل.
ثالثاً: لأن نائب الفاعل له أحكام ليست للفاعل، ألا تراه يقع جارا ومجروراً، والفاعل لا يكون كذلك؟ وإذا كان ظرفاً أو مصدراً وجب أن يكون مختصاً، ولا يشترط ذلك في الفاعل، إلى غير ما ذكرت من الأحكام؛ هذا إلى أن باب نائب الفاعل، يقصد فيه إلى(215/73)
غرض آخر، هو بيان صورة الفعل عندما يسند إليه
فأنت من هذا لا ترى أن ضمّ هذه الأبواب تحت عنوان المسند إليه يؤدي في النهاية إلى بيان أنواعه: من مبتدأ، وفاعل، ونائب فاعل، وإلى ذكر أحكام كل نوع على حدة؛ لا مفر من ذلك ولا مهرب. أما في علم المعاني حيث تتفق كلها في الأحكام التي يتناولها هذا العلم من تقديم وتأخير وذكر وحذف وإثبات ونفي. . . الخ فقد وضعت كلها تحت عنوان واحد هو (باب المسند إليه).
هذا شأن المؤلف في باب المسند إليه، وقد رأيت أن فكرته لا تسير إلى غايتها، بل تنتهي إلى ما أراد الهرب منه. أما شأنه في باب التوابع فأعجب وأغرب؛ ويجب أولا أن أسجل هنا ظاهرتين على المؤلف: أولاهما انه لم يتعرض إلا لتحليل الجمل البسيطة الأولية، أما الأساليب القوية الصعبة، التي من أغراض علم النحو فهمها وإدراك مغازيها، فلم يتعرض لها المؤلف، وأحسب أن كتب النحو لم توضع لتوضيح مثل قام محمد وعلي. وثانيتهما أن المؤلف يغالي كثيراً في قيمة العامل حتى ليتوهم قارئ مؤلفه أن كتب النحو لم تشرح في التوابع إلا العامل فيها وذلك وهم. فمن يقرأ هذه الكتب ير أن ذكر العامل لم يأت إلا عرضاً، أما القصد والغرض فبيان علاقة التابع بالمتبوع وذكر مميزات كل صيغة، وما تتضمنه من معنى وشرح قيمة كل أسلوب.
وسآخذ الآن في مناقشة بعض ما جاء به من الآراء:
أولاً: قال الأستاذ: (إن باب العطف ليس له إعراب خاص، وليس جديراً أن يعد من التوابع، ولا أن يفرد باب لدرسه) فهل قال أحد إن للعطف إعراباً خاصاً، غير إعراب متبوعه؟ ولكن هل اتحادهما في الإعراب يمنع من أن يفرد للعطف باب لدرسه؟ يكفي أن ترجع إلى كتب النحو لترى أن ما ذكر في باب العطف جدير بأن يكون له باب يخصّه؛ فهناك حروف العطف المختلفة. ولكل منها معنى خاص بها، تكفل ببيانه علم النحو، وباختلاف معاني هذه الكلمات تختلف علاقتها بما قبلها وبما بعدها، وكذلك لكل حرف منها شرط لوجوده في الجملة حتى يكون استعماله صحيحاً (وهذا كله عكس ما توهم المؤلف من أن كتب النحو لم تدرس هذه الأدوات إلا من ناحية بيان أثرها في الأعراب) ثم هناك غير ذلك عطف على ظاهر، وعطف على ضمير مرفوع أو منصوب، أو مجرور، ولكل ذلك(215/74)
حدود وشروط، لا تكون الجملة صحيحة إلا بمراعاتها فأين تذكر هذه الحدود وتلك الشروط إلا في باب خاص بها؟ ومن الغريب أن المؤلف يدعو في أول كتابه إلى دراسة علاقة الكلمة بالكلمة، والجملة بالجملة، وأحسب أن باب العطف الذي يريد حذفه - تتجلى به هذه العلاقة تمام الجلاء، وفضلا عن هذا كيف يفهم طلاب اللغة العربية: الصغار والكبار، هذه الحروف وكيف يعربونها ويعربون ما بعدها؟ أنقول لهم: إن هذه الحروف حروف تشريك، وأن ما بعدها شريك ما قبلها، كما يفهم من حديث المؤلف، هذه الحروف منها ما يفيد التشريك في اللفظ والمعنى ومنها ما يفيد التشريك في اللفظ دون المعنى، كما هو مفصل في كتب النحو، على أنه (إذا كان هذا كل ما يريده) ليس هناك كبير غناء في وضع لفظ مكان لفظ. ولا سيما إن كان اللفظان مترادفين، فظهر لك من هذا وجوب أن يكون للعطف باب خاص بأحكامه.
ثانياً: جعل المؤلف البدل والتوكيد باباً واحداً، وذلك إن دل فإنما يدل على أن صاحب الكتاب يريد أن يتناسى الفوارق المعنوية بين البابين، والتي يوضحها ويبينها الاستعمال؛ فبينما نرى في باب البدل أن المقصود بالحكم هو البدل، نرى في باب التوكيد عكس ذلك إذ أن المؤكد هو المعنى بالحديث المقصود منه وإنما جيء بالتوكيد ليثبته وليقوى معناه، ولأضرب مثلاً يبين ما أردت:
تقول قرأت الكتاب بعضه، فالمقصود من الجملة هو البدل (بعضه) لأنك لم تقرأ الكتاب كله؛ وتقول: قابلت الوزير نفسه، والمقصود من الجملة هو الوزير ولم تأت كلمة (نفسه) إلا لتؤكد أنك قابلته، ولم تقابل (سكرتيره) مثلاً، وأحسب هذا فرقاً معنوياً واضحاً يكفي لأن يجعل لكل منهما باباً خاصاً به، هذا إلى أن للتوكيد ألفاظاً لا يتعداها، ولا يكون بغيرها، أما البدل فمتحلل من هذه القيود وغير خاضع لها.
أحمد أحمد بدوي(215/75)
العدد 216 - بتاريخ: 23 - 08 - 1937(/)
حوادث العراق
ذيول الانقلاب العسكري
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان العراق ما خفنا أن يكون، وجاءت الأنباء بأن بكر صدقي باشا رئيس أركان الحرب في الجيش بوغت في مطار البصرة وهو يتهيأ للسفر إلى تركيا برصاصات أطلقها عليه جندي، وهم قائد القوة الجوية بأن يدفع عن صديقه فلحق به، ولقي حتفه مثله فحملت الجثتان في طيارة إلى بغداد حيث دفنتا، وأبى الجندي الذي اغتالهما أن يفضي بشيء عن بواعثه على هذه الجريمة؛ وأرجح الآراء أن الاغتيال سياسي، وأنه إحدى نتائج الانقلاب العسكري الذي قام به المرحوم بكر صدقي باشا في العام الماضي، والذي عصف بالوزارة الهاشمية وشرد رجالها، والذي كان من ضحاياه المرحوم جعفر باشا العسكري وزير الدفاع يومئذ. وفي الأنباء الواردة عن الحادث الجديد أن الجندي الذي أردى بكر صدقي كان يصيح وهو يفرغ رصاصته في صدره: (يا لثارات جعفر) وسواء أصح هذا أم لم يصح، وكان الرجل قد أطلق هذه الصيحة أو لم يطلقها، فإن المحقق أن الأمر أمر انتقام، وأنه بعض رد الفعل لذلك الانقلاب العسكري المفاجئ الذي أحدثه بكر صدقي، فقد كان للوزارة الهاشمية أنصارها ولرجالها شيعتهم، وللعهد الجديد خصومه؛ وبعيد أن يكون الجيش كله - بأجمعه - قد رضي عما وقع، وارتاح إلى التدخل لقلب وزارة وإقامة أخرى، وسره أن يغتال جعفر العسكري ويدفن حيث لا يدري أحد، وأن يكون قتلته معروفين ولا يسألون عما اجترحوا؛ وغير معقول أن يكون الشعب العراقي قاطبة حامداً شاكراً، قانعاً، راضياً مطمئناً، فإن هذا مطلب عسير، وغاية لا تنال؛ ومتى بدأت تجيز لنفسك أن تقتل، وأن تستخدم القوة بعد إحكام التدبير في الخفاء، في تحقيق مآربك - كائنة ما كانت - فقد أجزت هذا لسواك، وأغريتهم بأن يحتذوا مثالك ويقتاسوا بك؛ ومتى أمكن أن يأتمر جانب من الجيش بوزارة، فإن من الممكن أن يأتمر جانب آخر منه بوزارة غيرها، لأن الأصل - والواجب - أن يبقى الجيش بمعزل عن السياسة والأحزاب والوزارات، وألا يعرف إلا وطناً يدافع عنه ويذود عن حقيقته حين يدعى إلى ذلك، فإذا زججت به مرة واحدة في السياسة، فقد أغرقته في لجها المضطرب إلى ما شاء الله؛ وعزيز بعد ذلك أن تصرفه عنها(216/1)
وأن ترده إلى الواجب الذي لا ينبغي أن يعرف سواه. وهذا هو الذي خفناه وأشفقنا على العراق منه يوم حدث الانقلاب العسكري في العام الماضي. وإنا لنعرف للوزراء الحاليين كزملائهم السابقين وطنية وغيرة وإخلاصاً، ولم يكن جزعنا لأن وزارة معينة ذهبت وأخرى جاءت. فما نفرق - ولا ينبغي لنا أن نفرق - بين أحد منهم، وإنما خفنا على العراق عاقبة اتخاذ الجيش أداة لإسقاط حكومة وإقامة أخرى، فإن الحكم ليس من شأن الجيش بل من شأن الساسة والنواب والأمة، وكل دولة تحرص على إقصاء الجيش عن كل ما له صلة بالسياسة ودسائسها ومكايدها ومناوراتها وخصوماتها، اتقاء لما يفضي إليه اشتغاله بذلك من الشقاق وتفرق الكلمة وتوزع الولاء والمؤامرات والفتن والهزاهز. وقد صح ما توقعناه مع الأسف وخسرت العراق اثنين من رجال الحرب مشهورين بالاقتدار والحزم. وقد وكان المرحوم ياسين باشا الهاشمي يكبر المرحوم بكر صدقي باشا ويوقره ويعرف له قدره، ولكن بكر صدقي أخطأ مع الأسف فجر الجيش إلى ميدان كله شر وفساد، وكان هو الضحية الأولى لخطئه
ولا نعرف ماذا انتوت حكومة العراق أن تصنع، ولكنا نرجو ألا تجمح مع أول المخاطر؛ ولا شك أن التحقيق واجب، وأن عقاب الجاني فرض؛ غير أن الأمر يحتاج إلى الاعتدال والحكمة وبعد النظر، أكثر مما يحتاج إلى البطش والتنكيل. ولا خير في مثل ما جاء في بعض الأنباء من أن الوزارة العراقية تريد أن تشتت شمل أنصار العهد السابق جميعاً، فإن أنصار الحكم السابق لا ينقصهم التشتيت، وكل ما يؤدي إليه ذلك هو تعميق الهوة وإيغار الصدور، وإغراء النفوس بالانتقام وأخذ الثأر، والعراق اليوم أحوج ما يكون إلى الصفاء والسكينة ليتيسر له أن يستأنف النهضة التي صدها الانقلاب العسكري، أو جعلها على الأقل أبطأ وأقصر خطوات مما كان يرجى أن تكون، وليتسنى له أن يؤدي واجبه للقضية العربية التي عنيت بها وزارة السيد حكمت سليمان عناية مشكورة، ولا سبيل إلى شيء من ذاك إلا بعد أن يستقر الأمر على حدود مرضية، في الظاهر والباطن أيضاً لتخلو النفوس من دواعي النقمة وتتصافق الأيدي على العمل المشترك لخدمة الأمة، ولا يكون هذا إلا بالتفاهم والتراضي والتعاون، لا بالبطش والتنكيل. وقد جربت الوزارة السليمانية القوة والتشتيت، ولسنا نراهما أجديا عليه فتيلاً. نعم كانت البلاد ساكنة، ولكنه سكون ظهر الآن(216/2)
أنه يستر شراً عظيماً، ومتى آثرت الضغط والحجر، فقد ألجأت الناس بكرههم إلى العمل في الخفاء والتدبير في السر، والنفاق في الجهر، ولسنا نعرف أن اجتناب الاعتدال أثمر غير هذا. ومن سوء الحظ أن بلادنا فقيرة في الرجال، فكل من تفقد، خسارة لا تعوض. وفق الله العراق ورجاله، وسدد خطاهم وألهمهم الحكمة والرشاد
إبراهيم عبد القادر المازني(216/3)
الخروج من النفس
للأستاذ عباس محمود العقاد
كل ناقد لابد له من قدرة على الخروج من نفسه بعض الأحايين، أو من قدرة على تصور الأشياء كما يتصورها مائة إنسان لا كما يتصورها فرد واحد في جميع الحالات
وما كان (الخيال) ملكة من أنفس الملكات وألزمها للناقد والأديب والشاعر والعالم إلا لأنه يتيح للإنسان أن ينظر إلى نفسه أحياناً كما ينظر إلى غريب، وأنه ينظر إلى الغرباء أحياناً كأنهم نسخ أخرى منه يحس معها وتحس معه، ويحس باللحظة عينها بالفوارق بين تلك الأحاسيس جميعها، فينقد ويؤلف ويقسم ويوزع ويعلم أن الصواب لا ينحصر في سمت واحد ولا حالة واحدة، وأن الأمر لا يكون خطأ لأنه يخالف ما استصوب، ولا يكون دميماً لأنه يخالف ما استحسن، ولا يكون بدعاً غريباً لأنه يخالف ما تعود، ولكنما الحقيقة فصيلة من فصائل الجان، تتشكل كما يتشكلون بمختلف الأشكال والنماذج والألوان
وبعض الأمم يبتلون بضعف الملكة الناقدة لأسباب كثيرة بعضها أصيل وبعضها عارض يزول
فمنها ما يؤتى من جانب الغرور عقب النصر الباهر، وفي أيام الرخاء والوافر؛ ومنها ما يؤتى من جانب الجمود والركود وطول العهد بالحضارة، بين جيران من ذوي الخشونة والجلافة؛ ومنها ما يؤتى من جانب العزلة وقلة المخالطة والهجرة؛ ومنها ما يؤتى من بلادة الحس وضيق العطن وشيوع الجهل والقدامة؛ ومنها ما يؤتى من التعصب الشديد الذي يؤصله في النفس طول الظلم والاضطهاد مع قوة في الشكيمة وقدرة على التحول والتصرف تحول دون الأمة والفناء
وأحسب أن المصريين من أكثر الأمم سخرية بما استغربوه ولم يتعودوه، فلا يكون الخطيب خطيباً ولا الواعظ واعظاً ولا الممثل ممثلاً إلا إذا خاطبهم باللهجة المصرية التي لا تشوبها مسحة من اللهجات العربية الأخرى ولو كانت ريفية من صميم البلاد المصرية
وأذكر أن ممثلاً سورياً كبيراً حضر إلى مصر بعد اغتراب سنوات في أوربا تتلمذ خلالها على أساطين المسرح الحديث وعاد إلى مسرحنا بنمط جديد في بعض الأدوار يبذ به أنداده وسابقيه، فذهبت ومعي اثنان من الأدباء - وأقول من الأدباء لا من عامة السواد -(216/4)
وأصغينا إلى الرجل وهو يترقى في دوره حتى شارف القمة وألهب النفوس بالتشوف واحتداد اللهفة، ونظرت إلى جانبي فما راعني إلا أحد الصاحبين، وقد غلب ضحكاً، وإلا الصاحب الثاني يكاتم الضحك مكاتمة شديدة، وكل ذلك لأن الممثل قد مط الحروف وهو يصرخ ويهيج على نحو يقارب الفرنسية من جهة، والسورية من جهة أخرى، فنسي الأديبان أن الإنسان قد يتألم سورياً وفرنسياً وليس من الضروري أن يتألم مصرياً وقاهرياً وإلا انقلبت الخوالج الآدمية فأصبح الألم مما يضحك والهياج مما يدعو إلى الفكاهة، وحسبا أنني لم أفطن لاختلاف اللهجة كما فطنا. . . فخرجا يتندران بهذه القصة ويزهيان بالفطنة التي رزقاها وحرمتها، والذوق (الدقيق) الذي عداني وما عداهما!
وكان عيد الحرية الثمانية فذهبنا جمعاُ من الإخوان نشهد الحفل الحافل في بعض المسارح المشهورة يومذاك، وكان بين الخطباء ترك وعرب وسوريون. فما أحسب أن رواية هزلية في ذلك المسرح أثارت قط مجانة وضحكاً وسخرية كالتي أثارتها (حماسة) الخطباء والشعراء وذكريات الفجائع والمظالم في أيام الاستبداد. وكان أحد الخطباء مبيناً مفوهاً متدفقاً كأحسن ما يكون الخطيب في لغة من اللغات، إلا أنه ارتضح لهجة غريبة فبطلت محاسنه واحتجبت مزاياه. ولم يكن قصارى الأمر عند أصحابنا أنه يجهل العبارات المصرية والمخارج القاهرية، وإنما كان عندهم جاهلاً بكل شيء يجعل الخطيب خطيباً ويجعل السامعين يستمعون إليه.! فلما قلت لهم: إني أعد الرجل من أقدر من سمعت وأوفاهم بياناً، قام أحدهم يحكيه ويردد عباراته ويمثل إشاراته وحركاته فسقطت الحجة كلها وقطعت جهيزة قول كل خطيب!!. . . وإلا فماذا يبقى من قول القائل الذي يخالف اللهجة القاهرية هذه المخالفة، والذي يستطيع القاهري أن يحكيه ويتماجن عليه؟؟ لا يبقى بالبداهة شيء
ويؤمن العامة إيماناً عجيباً بملازمة الأشياء لصورها وأسمائها وعاداتها التي ألفوها حتى لا يجوز أن تقع التفرقة بينها بنحو من الأنحاء
سألت أحدهم مرة: ما اسمك؟ فأخفى اسمه الصحيح وقال لي إن اسمه (علي) وهو في الحقيقة يسمى إدريس، وكأنه امتحن ذكائي بهذه الأكذوبة وظن أنني لا أفرق بين الكذب والصدق إذ كان الرجل الذي يسمى (إدريس) تلزمه هذه التسمية لزوماً لا فكاك منه ولا(216/5)
يمكن أن يسمى علياً بحال من الأحوال.! فلما دعوته مرة أو مرتين باسم (علي) وصدقت ما قال تدرج إلى غشي ومخادعتي في غير ذلك موقناً أنني سأجهل الحق كما جهلته في استبانة اسمه الصحيح. وأين. . . نعم أين بالله علي من إدريس؟!
هذا مثل هابط جد الهبوط في ملازمة الأشياء لمظاهرها وأسمائها بحيث لا تقبل الاختلاف ولا التصور على مثال آخر، ولكن الذين يهبطون هذا الهبوط كثيرون وإن لم يظهروا هذا الظهور. وما من ناقد ينكر كلاماً لأنه يخالف أسلوباً من الأساليب إلا وهو قريب إلى طبقة ذلك الفدم الذي يستجهل كل من يتخيل أن أسماء تطلق على الناس غير اسم إدريس!
كنا نناقش أستاذاً مدرساً في مسألة اجتماعية فاحتج علينا برأي فيها لبعض الأئمة السابقين، قلنا: وهل هذا الإمام حجة فيما نحن فيه؟
قال: سبحان الله! إننا نقضي العمر نتعلم اللغة العربية ولا نحذقها كما حذقها ذلك الإمام وهو طفل لم يتعلمها على معلم. أفيكون هذا حظه من الفهم ثم يجهل كلاماً نحن ندريه؟
قلت: أو لم يخطر لك أن ذلك الإمام يقضي العمر يتكلم اللغة العامية التي نحذقها نحن ولا يبلغ من حذقها ما بلغناه؟ أو لم يخطر لك أن الطفل المولود بين الفرنسيين أو الإنجليز أو الألمان يسبق ذلك الإمام إلى معرفة الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية؟؟ أتظن أن العربي وحده يحسن اللغة التي يتكلمها؟ وإذا أحسنها أتظن أنه يحسن كل شيء على هذا المنوال بغير كتب وبغير معلمين؟
فلاح عليه وأنا أساجله السؤال أنه لم يكلف بداهته قط أن تتصور للأمور أوضاعاً غير الوضع المعروض عليه. وقد تنساق أمة كاملة إلى خطأ شبيه بخطئه كما انساق العرب إلى تسمية الناس جميعاً (بالأعاجم) لأنهم لا يفهمون ما يقولون
ولست أرى ميزاناً للنقد والذوق أصوب وأحكم من سؤال المرء عن عشرة شعراء أو فلاسفة يقرأ لهم ويعجب بهم ويشهد لهم بالشعر والفلسفة. فكلما اختلف هؤلاء وتباعدت بينهم أوجه الشبه وأسباب الاختيار والترجيح كان ذلك دليلاً على سعة القريحة وقدرتها على الاستحسان لجملة أسباب متفرقات لا لسبب واحد متكرر محدود. وكلما تماثل هؤلاء وتقاربوا كان ذلك دليلاً على ضعف النقد وعجز الملكة الموكلة بالاستحسان والانتقاء
ومن هنا نعتقد أن البارودي خطا بالنقد العربي خطوات كما خطا بالشعر في معناه وأسلوبه.(216/6)
فانتقل بنا من المدرسة التي كانت تقصر الشعر على الجاهليين والمخضرمين إلى مدرسة تعرف الفضل للعباسيين والمحدثين، وانتقل بنا مع ذلك من جماعة الزي الواحد والنمط الواحد إلى جماعة المكاثرين بالأزياء والأنماط. فقد كان الناقد قبله يستحسن البحتري ثم لا شيء بعده ولا شيء غيره، فجاء البارودي على آثار من سبقوه يجمع بين المعري والبحتري وبين ابن الرومي وابن المعتز في ديوان واحد
ولا تزال في مصر بقية من المحدودين المطويين على أنفسهم يلج بهم الغرور ويشتد بهم الوهم على مقدار ما يضيق بهم المجال وينحسر بهم الذوق والشعور. فهم على يقين ما بعده يقين أن (الذوق) لم يخرج من مصر، وأن الذوق هو ما اصطنعوه من الفكاهة الغثة أو الرقة المحفوظة المدبرة المتشابهة العبارات والتحيات والمصطلحات، أو الجناسات الكلامية والفكرية التي لا تطلع على الذهن بلمعة من نور، ولا تترك فيه فضلة من فهم، ولا تبعث فيه حركة من حياة. وتسألهم: كم عدد الشعراء الفحول في عشرة آلاف سنة بين القوم الذين رزقوا الذوق كله والإحساس كله ولم يتركوا على زعمهم بقية منهما إلا كما يترك السؤر في الإناء المهجور؟؟ وكم واحداً من (أبناء البلد) الذين لا ذوق إلا ذوقهم، ولا إحساس إلا إحساسهم، ولا فكاهة إلا فكاهتهم، ولا فطنة إلا فطنتهم، قد صعد في مراتب الفن والشعر إلى مواطئ أقدام المحرومين المساكين، الذين لا يشعرون ولا يتذوقون، ولا يستمرئون اللطافة ولا يستملحون المعاني والنكات؟؟ وإذا كان ما استقروا عليه هو غاية الحس والذوق، وحمادي الإبداع والإحسان، وقصارى الأناقة والجمال، فما بالهم لم ينجبوا رجلاً واحداً خلاقاً في عالم الشعر أو الكتابة أو التصوير أو الموسيقى، وقد أنجبت الأمم المئات والألوف؟
سيمضي زمن نرجو ألا يطول قبل أن يفقه أدعياء الذوق بيننا أنهم صفر من الذوق، وأن الله لم يخلق على الأرض طائفة أغلظ منهم حساً، وأثقل منهم روحاً، وأفرغ منهم لباً، وأعضل منهم داء على العلاج
سيمضي زمن نرجو ألا يطول قبل أن يفقه أدعياء النقد عندنا أن الذوق الذي يستحسن حسناً جميل، وأجمل منه الذوق الذي يستحسن الحسنين، وأجمل منهما الذوق الذي يستحسن الشيئين بينهما تناقض في الحسن كأنهما ضدان(216/7)
وسيمضي زمن نرجو ألا يطول قبل أن يشيع بيننا أن الآكل قد يشتهي طعاماً لذيذاً ولا يمنع ذلك أن تشتمل الأطعمة على ألف لون لذيذ غيره، وأنه إذا جاز هذا في الآكال التي تعد وتحصر فأخلق أن يجوز فيما ليس له آخر، وهو أطعمة الألباب وأصناف المعاني وألوان الشعور
ونرجو ألا يطول الزمن قبل أن يتعلم الهازلون الماجنون كيف يخرجون من نفوسهم ليعرفوها ويعرفوا سواها، كما يخرج السائح من وطنه ليعرف وطنه، ويخرج القارئ من زمنه ليعرف زمنه، ويبتعد المصور من صورته ليراها حق الرؤية ويبلغ بها جهده من التسوية والتجويد
وتلك نقلة صعبة على من يحتاج إليها. ففي عالم المادة أكثر الناس انطلاقاً إلى الخروج المحبوسون في المكان المغلق المحدود. أما في عالم الفكر والروح فالمحبوسون في المكان المغلق المحدود هم أقل الناس انطلاقاً إلى الخروج وأكثرهم قناعة بما هم فيه.
عباس محمود العقاد(216/8)
المحاكمات التاريخية الكبرى
1 - الحركة النهليستية ومصرع القيصر اسكندر الثاني
صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت الثورة البلشفية نتيجة محزنة للمعركة التحريرية الرائعة التي اضطرمت مدى ستين عاماً بين القياصرة وبين الحركة الثورية الروسية. ولم يثل عرش القياصرة ويسحق طغيان القيصرية وتمحى نظم الإقطاع وامتيازات النبلاء إلا ليقوم مكانها طغيان جديد أشد إمعاناً في الإرهاب والسفك وثل الحقوق والحريات العامة. ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن الشعب الروسي يتمتع اليوم في ظل النظم البلشفية بلمحة من الحرية التي كان ينشدها في أيام القياصرة والتي اعتقد أنه ظفر بها كاملة في ثورة مارس سنة 1917 الاشتراكية ثم في ثورة أكتوبر البلشفية. كانت روسيا منذ منتصف القرن التاسع عشر مشرح نضال عنيف بين طغيان القيصرية وبين العقلية الروسية الجديدة الطموح إلى الإصلاح والتحرير؛ وكانت روسيا الجديدة تنشد الإصلاح السلمي بادئ بدء وتحاول عن طريق الإصلاحات الدستورية والاجتماعية تحطيم الأصفاد المرهقة التي تطوق القيصرية بها عنق الشعب الروسي؛ وكان رسل روسيا الجديدة يومئذ جمهرة من الشباب المستنير الذي حفزته مؤثرات الثقافة الحرة إلى التطلع إلى آفاق جديدة، كان هؤلاء هم طلائع (النهلزم) أو الحركة النهلستية كما سماها ترجنيف، وكانت هذه الدعوة الإصلاحية المتوثبة دعوة مثل ومبادئ يذكيها طائفة من الكتاب الأحرار بأقلامهم الملتهبة؛ وكان أخص ما يميز الدعوة الحديثة على قول ستبنياك مؤرخ الثورة الروسية (هو إنكار كل ما يفرض على الفرد إنكاراً مطلقاً تعززه الحرية الفردية. وقد كانت النهلستية ثورة قوية مضطرمة لا على الطغيان السياسي ولكن على الطغيان المعنوي الذي يرهق حياة الفرد الخاصة). على أن هذه الحركة الإصلاحية السلمية لم تلبث إزاء عنت القيصرية وإغضائها عن الاستماع لدعوتها، أن تطورت بسرعة إلى حركة ثورية تعتزم أن تحقق مثلها بالنضال والعنف. واحتشد الشباب المتوثب من جميع الطبقات تحت لواء الحركة الجديدة. بيد أنهم على قول(216/9)
ستبنياك (كانوا عزلاً إلا من النظريات والمثل، وكانوا يحاربون قوة هائلة مدججة بالسلاح والعدد، ولم يك ثمة سبيل لأن يحركوا كتلة الشعب التي ترزح في أغلال الرق والذلة). وكانت القيصرية تضاعف إجراءات القمع وتمعن في مطاردة أولئك الرجال والنساء الذي يتجاهلون حقيقة الحياة والنظم القومية الروسية.
وهنا يضطرم النضال وتنشب بين القوتين الخصيمتين: القيصرية والنهلستية - تلك المعركة الهائلة التي تقطر في كل مراحلها دماً، وتتناثر حولها الأشلاء من كل صوب، ويتساقط في حلبتها قياصرة وأمراء وقواد وحكام وشباب من كل الطبقات. كانت القيصرية وعميدها، وكل المؤيدين لطغيانها، هدفاً لطائفة من المؤامرات والجرائم التحريرية المحكمة تعصف بهم وتثل أرواحهم بين آونة وأخرى؛ وكانت هذه الجمهرة المستبسلة من الشباب الغض بين فتية وفتيات تلقي بنفسها إلى تلك الغمار المروعة وهي تودع الحياة في كل مرة أفراداً وجماعات؛ وكان العنف يذكي العنف فكلما وقع اعتداء جديد على زعيم من زعماء الطغيان حشد الطغاة في الحال حول المشانق رهطاً من الشباب المجاهد وأعدموهم بعد محاكمات مرتبة تختتم دائماً بمجازر بشرية. ذلك هو تاريخ النهلستية أو الحركة التحريرية الروسية التي سطرها التاريخ بمداد من الدم الغزير.
بدأ هذا النضال العنيف في سنة 1875 بعد أن نضجت الحركة الثورية، واحتشد حول المثل الحرة الجديدة جيش حقيقي من الفدائيين؛ وكانت القيصرية كلما اشتد ساعد الحركة الثورية واشتدت مطالب الأحرار في سبيل الإصلاح الدستوري اشتدت من جانبها في القمع والمطاردة، وازدادت حرصاً على سلطانها المطلق. وكانت سلطات الطغيان تبسط على أنحاء روسيا الشاسعة حكماً من الإرهاب المطبق، تدعمه جاسوسية بارعة خطرة؛ وكانت القيصرية هي الباغية المتجنية لأنها لم تستمع إلى دعوة الإصلاح، بل آثرت سلاح القمع الهمجي، فمالت على الحركة الثورية تحاول تمزيقها، ومالت على الأحرار تحاول إفناءهم، وأسرفت في القبض والاعتقال والنفي إلى سيبريا، وتدبير المحاكمات الصورية واتخاذها وسيلة لإعدام الزعماء والقادة والشباب المجاهد؛ وأجاب الأحرار من جانبهم بتنظيم حركة من الإرهاب الثوري ذهب ضحيتها ثبت حافل من الوزراء والقضاة ورجال الشرطة وغيرهم من أعوان الطغيان. وكانت هذه المعركة الشهيرة في صحف الكفاح الثوري ذروة(216/10)
الحركة النهلستية، وكان قوامها من جانب سلسلة من الجرائم السياسية المروعة، ومن الجانب الآخر سلسلة من المحاكمات الرنانة. ففي سنة 1877 قبضت الحكومة على خمسين من الأحرار النهلستيين وحوكموا في موسكو بتهمة التآمر على سلامة الدولة وهي التهمة الخالدة التي يشهرها الطغيان دائماً في وجه خصومه. وكان منهم صوفيا باردين وهي فتاة ثورية نابهة عرفت مثل النهلستية أمام قضاتها بما يأتي: (إن الجماعة التي أنتمي إليها هي جماعة الدعاة السلميين. إن غايتنا هي أن نبعث إلى نفس الشعب مثل نظم أفضل وأقرب إلى العدالة، أو بالحري أن نوقظ المثل الغامض الذي يجثم في نفسه، وأن نبين له عيوب النظام الحاضر حتى لا يعود في المستقبل إلى نفس الأخطاء التي يعانيها. أما متى تدق ساعة هذا المستقبل المنشود فهذا ما نجهله وليس علينا نحن أن نبينه).
وأسفرت المحاكمة عن القضاء على كثيرين بالإعدام والسجن والنفي. وفي العام التالي قبض على نحو مائتين منهم وقدموا إلى المحاكمة في بطرسبرج وليننجراد فهلك في بدء المحاكمة منهم ثلاثة وتسعون بالتعذيب والانتحار، وقتل النهلستيون من جانبهم عدة من الجواسيس، وأطلقت فتاة تدعى فيرا زاسولتش النار على تربيوف مدير الشرطة فجرحته جرحاً خطيراً (فبراير 1878) وقدمت إلى المحاكمة فبرئت وحملت على الأعناق في مظاهرة صاخبة، ثم فرت خيفة المطاردة والانتقام. وفي أغسطس أعدم الزعيم الاشتراكي كرفالسكي في أودسا فلم تمض بضعة أيام حتى انتقم له الثوار بقتل رئيس الشرطة مزنتزيف. وفي فبراير 1879 قتلوا في خاركوف حاكم المقاطعة البرنس ألكسي كروبتكين، وانتقمت القيصرية على الأثر بإعدام الزعيم أوسنسكي وبعض رفاقه. وهكذا لبثت المعركة على اضطرامها أعواماً طويلة تحصد أرواح الفريقين.
وكان مصرع القيصر إسكندر الثاني أعظم حوادث هذا النضال الدموي المروع وكان ذروة الحركة النهلستية؛ وكانت المحاكمة التي تلت أعظم المحاكمات السياسية التي عرفتها هذه الحركة الفياضة بالحوادث والمحاكمات الرنانة. وكان إسكندر الثاني الذي تولى العرش سنة 1855 يجنح في بداية عهده إلى نوع من الإصلاح ومسالمة الحركة التحريرية وتحقيق بعض غاياتها. وكان تحريره لرقيق الضياع في سنة 1861 فاتحة طيبة لهذه السياسة الإصلاحية؛ وكان يميل في نفس الوقت إلى إجراء بعض الإصلاحات الدستورية التي لا(216/11)
تؤثر في مجموعها على حقوق السلطة العليا، ولكن تتخذ في الوقت نفسه صورة المنح والمزايا الدستورية؛ وكان يعتقد أنهلا يستطيع تحقيق هذه الغاية بإنشاء المجالس المحلية (زمستفوس)، ولكن الحركة التحريرية لم تحفل بهذه المشاريع الجزئية بل اشتدت في مطالبها وضاعفت جهودها في سبيل الكفاح والنضال، وشهرت على القيصرية حربها العوان، وردت القيصرية بمضاعفة إجراءات القمح الذريع، واضطرمت بين إسكندر الثاني وبين النهلستية تلك المعركة الدموية المروعة التي أتينا على وصفها
ورأت اللجنة التنفيذية الثورية أو اللجنة التنفيذية لإرادة الشعب كما كانت تسمى، أن تقضي على الشر من أصوله فقررت إعدام القيصر (26 أغسطس 1879) ونظمت شعبها الفدائية، ودبرت تباعاً عدة مشاريع لاغتيال القيصر. فبدأت في شهر نوفمبر بوضع لغم في طريق القطار الذي يسافر فيه القيصر ولكنه لم ينفجر، وفي ديسمبر وضع الفدائيون لغماً آخر في طريق القطار الملكي إلى موسكو انفجر عند مرور القطار، ولكن القيصر وصل إلى موسكو في قطار سابق؛ وفي مساء 17 فبراير سنة 1880 نسف الفدائيون قاعة الطعام في قصر الشتاء على ظن أن القيصر كان عندئذ يتناول طعامه فيها، ولكن القيصر كان في مكان آخر من القصر، ولم يكن قد جلس إلى المائدة بعد، فقتل في الحادث وجرح سبعة وستون من الجند والحشم. ونشطت القيصرية من جانبها إلى مطاردة الجناة، فأعدم عدة من الفدائيين، ومنح لوريس مليكوف وزير الداخلية سلطة مطلقة على العاصمة لكي يستطيع السهر على حياة القيصر وأسرته، وخول له الإشراف المطلق على القضايا السياسية وعلى جميع السلطات الإدارية والمدنية. ورأى مليكوف من جهة أخرى أن يتخذ بعض إجراءات لاستمالة الشعب فأفرج عن كثير من المعتقلين وكانت تغص بهم السجون، ورد آلاف الطلبة إلى الجامعات التي أخرجوا منها. وأصدرت اللجنة التنفيذية بياناً قالت فيه (إنها لن تترك الكفاح حتى يتنازل إسكندر الثاني عن سلطانه للشعب ويترك مكانه لجمعية وطنية تأسيسية تضع مبادئ الإصلاح الاجتماعي). ولكن حدث في مساء 27 فبراير أن استطاعت الشرطة السرية أن تقبض على أندري جليابوف زعيم اللجنة الثورية في دار صديقه وزميله في اللجنة المحامي تريجوني وقبض على تريجوني في نفس الوقت، وحمل النبأ إلى القيصر وزير الداخلية مليكوف فابتهج به أيما ابتهاج، لأنه كان يعتقد أن جليابوف(216/12)
رأس اللجنة المدبر ولن يهدأ له بال مادام حراً طليقاً. ورفع الوزير إلى القيصر في نفس الوقت مشروع المجالس المحلية الذي اعتزمت الحكومة تنفيذه بعد أن وضع في صيغته النهائية فوعد القيصر بالنظر فيه في الغد.
وكان ذلك في مساء يوم الجمعة 27 فبراير سنة 1881 وكان القيصر يعتزم أن يشهد يوم الأحد أول مارس تمارين فرسان الحرس في ميدان ميخايلوفسكي كعادته كل أحد. فرجاه وزير الداخلية ألا يفعل لأن جليابوف صرح أمامه أن القبض عليه لا يمنع وقوع اعتداء جديد على حياة القيصر، ولكن القيصر لم يعبأ بهذا النصح وصمم على الذهاب.
وكان القبض على جليابوف ضربة شديدة للجنة التنفيذية، وكان يقيم منذ حين في بطرسبرج باسم سلاتفلسكي مع صاحبته وزميلته صوفيا بيروفسكايا بزعم أنها أخته، وكانت صوفيا ساعده الأيمن في تدبير المشاريع وإدارة الشئون؛ فلما قبض عليه ولم يعد ليلة 27 فبراير جمعت صوفيا أعضاء اللجنة التنفيذية المقيمين في بطرسبرج في الحال وكان منهم ضابط البحرية سوخانوف، والصحفي تيخوميروف، وأساييف وفرولتكو، وجراتشفكي، وحنه كوربا، واجتمعت اللجنة في دار فيرا فنجر، وبحثت الموقف الخطير الذي انتهت إليه، وكيف أخفقت مشاريعها المتوالية في الأشهر الأخيرة، واستطاعت شرطة القيصر أن تشل كل حركاتها، وأن تقبض أخيراً على زعيمها؛ وبعد مناقشات عاصفة قررت اللجنة بالإجماع أن تنفذ مشروع جليابوف لاغتيال القيصر وعهدت إلى صوفيا بيروفسكايا بالإشراف على التنفيذ، وكانت اللجنة ترمي بهذه المشاريع الجنائية المتوالية فضلاً عن الانتقام للضحايا العديدين، إلى غاية سياسية عملية هي أن تستغل ما يترتب على الاغتيالات السياسية من الاضطراب والروع وتحقيق بعض مطالبها الدستورية. ولكن هذه الخطة لم تحدث أثرها المنشود بل زادت بالعكس في سخط القيصرية وحرصها على سلطانها، وزادتها إقداماً وقسوة في تتبع خصومها.
(للبحث بقية - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(216/13)
عصبة الأمم في التاريخ
للدكتور حسن صادق
1 - فكرة عصبة الأمم وتطورها
يكثر الناس في هذه الأيام من الكلام عن عصبة الأمم بمناسبة انضمام مصر إليها في هذا العهد الجديد، ومنهم من يحبذ هذا الانضمام ويرجو من ورائه خيراً، ومنهم المتشائم الذي يتمثل في ذهنه الماضي القريب وما جرى فيه من حروب وعدوان بين دول هي أعضاء في العصبة، ويرى أن غنم هذه العصبة للقوى وغرمها على الصغير الضعيف. وليس من غرضنا في هذا المقام أن نخوض غمار السياسة في مجلتنا الأدبية، ولكننا سنبين في هذه الكلمة كيف ولدت فكرة العصبة وتطورت خلال الزمن حتى برزت في شكلها الحالي، ونرجو أن يجد القارئ في هذا الموضوع بعض الفائدة العلمية التاريخية.
من يتصفح التاريخ يجد أن الشعوب دائماً في حروب تفصلها فترات تطول حيناً وتقصر أحياناً. وكلما وضعت حرب أوزارها يبحث الإنسان عن وسائل لتنظيم السلام ويهتم لهذا الأمر جد الاهتمام. ولم يشعر الإنسان في أي وقت بشدة حاجته إلى توطيد أركان السلام أكثر مما شعر عقب الحرب العظمى في سنة 1914 لهول ما لاقى الناس منها. وقد كانت فكرة عصبة الأمم كائنة قبل الحرب، وظهرت جلية في كتاب للمسيو ليون بورجوا الفرنسي عنوانه (عصبة الأمم). ثم بدت هذه الفكرة بعد ذلك رسمياً في مذكرة الرئيس ويلسون في ديسمبر سنة 1916. وانتشرت هذه الفكرة بين رجال الحكم والسياسة فقويت، ثم ازدادت قوة حين تغلغلت في الرأي العام وسرت بين الشعوب التي عانت في الخنادق أفظع الآلام وذاقت في تلك الحرب الضروس طعم الأهوال البشعة التي يذيب ذكرها لفائف القلوب.
وفكرة عصبة الأمم تضرب بأصولها إلى أزمان بعيدة، لأنها تتصل بشعور طبيعي ضروري، وبرغبة شديدة في الهدوء والسلام. والباحث المدقق يجد أن عصبة الأمم وجدت منذ أن تكونت شعوب منظمة قامت بينها الصلات الكثيرة المختلفة. وقد أنشأ الرومان ما يمكن أن نسميه (جمعية شعوب) وكانوا هم بطبيعة الحال رؤساء هذه الجمعية.
وبعد وقت طويل جاءت المسيحية تحمل للعالم أفكار المساواة والإخاء على الأخص. وهذا(216/14)
المثل الأعلى العظيم تحقق تقريباً في القرون الوسطى أي من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر. فالمسيحية في ذلك العهد كانت عبارة عن أسرة مكونة من جميع الأمم المسيحية، تحت نفوذ رئيسين وهما البابا والإمبراطور. ولم يكن هذا النظام في الوقع إلا نوعاً خاصاً من (عصبة الأمم) تقوم على أساس من الدين. وكان رئيس المسيحية يحظى بسلطان كبير، فكان في استطاعته أن يصدر قرار الحرمان ضد أية دولة أو ضد جماعة من الأفراد، ومن حقه أن (يشلح) أي فرد ولو كان رئيس دولة؛ وهذا القرار الذي يجعل الدولة التي صدر ضدها خارجة على القانون له نتائج خطيرة، لأنها تصبح عرضة لعدوان الدول الأخرى عدواناً مشروعاً. وهذه الحال من غير شك تنتج اضطراباً خارجياً. وفوق لك فإن رعايا الأمير الخارج على القانون يصبحون في حل من يمين الطاعة والإخلاص له، وينتج عن هذا اضطراب داخلي دون ريب. وقد لجأ البابوات كثيراً إلى هذه الوسيلة لحفظ السلام وليصبحوا رؤساء إمبراطورية شاسعة كما يقول بعض المؤرخين.
وكانت الحروب في تلك الأزمنة مشروعة ضد الملحدين، وجائزة في أحضان المسيحية نفسها. ولكن البابوات والأساقفة كانوا يبحثون عن وسائل لتقصير مدتها وتخفيف نتائجها؛ من ذلك أن مجالس الدين في تولوز وكليرمون بفرنسا أذاعت في الناس ما يسمى (هدنة الله) و (سلام الله) ووجدت هذه الإذاعة من الدول المسيحية ما تستحقه من الاحترام.
والغريب في ذلك العهد أن الحرب نفسها كانت متلفعة بروح من العدل. ولم تكن الموقعة تقوم على خطط حربية، ولكن كان المعتقد أن الذي يخرج من الحرب ظافراً، سيخرج من محكمة الله في الأخرى وعلى رأسه تاج النصر والظفر؛ وعلى ذلك كانت تجري المواقع بطريقة تبعث اليوم في النفس دهشة شديدة. فالخصوم كانوا يتواعدون في ساعة ومكان معينين، ويصطفون للموقعة بطريقة نمطية لا تتغير، ثم يهجم بعضهم على بعض وجهاً لوجه. وكانت خدع الحرب إلى القرن الخامس عشر تعتبر خيانة وعاراً ينفر منه المقاتل أشد النفور. وأول موقعة طبقت فيها خطة حربية بمعنى الكلمة هي موقعة رو كروي بين فرنسا وإسبانيا، إذ قام الأمير دي كونديه بحركة التفاف طوق بها الأسبان وانتصر عليهم، ولكن هذا العمل من جانب الأمير بعث التذمر في صدور كثير من فرسانه النبلاء، لأنه لا يمت في نظرهم ونظر عصرهم بأية صلة إلى النبل والشرف في القتال. وإذن نستطيع أن(216/15)
نعتبر موقعة رو كروي خاتمة الطريقة الحربية في القرون الوسطى وبداية الحروب الحديثة التي تبرر جميع الوسائل وتجعل القتال أشد هولاً مما كان.
وهذه القواعد التي ذكرناها لم تكن مقبولة في كل موطن، فهي لم تكن تطبق إلا في أوربا المسيحية التي كان يحيط بها الأرتوذكسية اليونانية والإسلام، ثم الآسيويين الذين كانت أوربا تطلق عليهم اسم البرابرة.
نستنتج مما سبق أن أوربا في تلك العصور كانت تشتمل على وحدة حقيقية على رأسها البابا والإمبراطور، ولكن في أواخر القرن الرابع عشر وخلال القرن الخامس عشر قويت الأمم في كل النواحي وأخذت كل أمة طابعها الخاص، وشرعت تتناضل وتتقاتل. ثم ظهر الإصلاح الديني على يد لوثر وكلفن، فأصاب المسيحية بضربة شديدة وفرقها شيعاً.
وعقب هذه الحوادث، رغب الناس في إقامة نظام جديد للعلاقات الدولية. وحاول أحد رجال الدين من الجزويت (سوارز 1548 - 1617) أن يقيم نظاماً أقوى على الثبات من نظام القرون الوسطى، بأن يدخل على العلاقات الدولية مبادئ المسيحية الثابتة. أدرك هذا الرجل أن لكل دولة الحق في سيادة زمنية متينة، على أن تكون فيما بينها جميعاً جمعية حقيقية. ثم ذهب علماء البروتستانت إلى أبعد من هذا، وجعل جنتليس أولاً ثم جرتيوس من بعده مكاناً أكبر في تعاليمهما لسيادة الشعوب، وأعلن في شجاعة أن العلاقات الدولية ينبغي أن تحرر من كل صبغة دينية. ولجنتليس في هذا المقام كلمة مأثورة لاقت رواجاً هائلاً في ذلك الوقت وهي (فليعتصم علماء اللاهوت بالصمت في هذا الميدان، لأنه غريب عنهم وهم غرباء عنه) والمفكرون الذين أتوا من بعدهما، عملوا على توكيد آرائهما حتى انتشرت انتشاراً كبيراً.
ولما تولى هنري الرابع عرش فرنسا جدد بناءها وأراد أن يعيد بناء أوربا كلها، وكان هذا الحلم موضوع حديثه في أغلب الأحيان مع وزيره سوللي. وقد أعد هذا الوزير ما سمي (غرض هنري الأكبر) وخلاصته أن تكون أوربا اتحاداً حقيقياً مسيحياً مكوناً من ست دول ملكية وراثية، وخمس دول ملكية انتخابية، ثم خمس جمهوريات. وكان سوللي يرى أن هذا المشروع لا يمكن تحقيقه إلا إذا انهارت قوة الأسرة الملكية النمسوية، ومن هنا نشأ النضال ومقاومة الحركة الجرمانية. وكان الغرض أن يوضع على رأس الاتحاد المسيحي المرغوب(216/16)
فيه مجلس مكون من ستين عضواً تنتخبهم الدول الداخلة في الاتحاد، ويقيم هذا المجلس في هذه الجدول على التوالي، وأن تكون أحكامه إجبارية، وتوضع تحت تصرفه لهذا الغرض قوة مادية عامة، وأن تكون حرية التجارة كاملة بين جميع البلدان التي يشملها الاتحاد. ثم رؤي أن يكون أول عمل يقوم به هذا الاتحاد هو إبعاد الأتراك عن أوربا. ومات هنري الرابع من قبل أن يرى هذا المشروع الكبير نور الإنفاذ، ولكن فكرته استقرت في النفوس والأذهان، وظهرت آثارها في المؤتمرات السياسية. ففي مفاوضات وستفاليا التي اختتمت بها حرب الثلاثين سنة في عام 1648، دار البحث عن وسائل تقضي على الاضطراب الألماني من ناحية، وتجعل ألمانيا غير ذات خطر على أوربا من ناحية أخرى. وكان في ألمانيا حينذاك قوتان: الإمبراطورية وكانت في حالة تدهور وانحلال، ونحو أربعمائة دولة صغيرة تخضع إلى حد ما لسلطان الإمبراطورية، ففصلت هاتان القوتان حتى لا يتكدر صفو السلام، وأعلن أن هذه الدول الصغيرة أصبحت مستقلة عن الإمبراطورية، وهذا الإعلان سمي بالحريات الجرمانية، وقد ضمنت هذه الحريات الدولتان الظافرتان فرنسا والسويد. وهذا يعني أنه في ذلك الوقت ظهرت فكرة إنشاء توازن أوربي ضامن للسلام الدولي
وفي نهاية القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، كثرت حروب لويس الرابع عشر حتى اشرأبت أعناق الناس للصلح والسلام، وجرى البحث عن كيفية تنظيمهما وإقامة أسسهما. وبعد معاهدة أترخت سنة 1713 نشر القسيس دي سان بيير - وقد حضر المفاوضات بصفته سكرتيراً - مشروعاً يجعل السلام دائماً في اعتقاده، وأمل في وضع قانون عام لأوربا كما كان الحق الخاص للأفراد مقرراً بالأوامر الملكية. وأعلن القسيس أنه للمحافظة على سلام العالم، ينبغي إنشاء محكمة عامة تكون أحكامها إجبارية. والدول التي تأبى إنفاذها يجب أن توضع خارج القانون. والذي يلفت النظر هو أن مشروع القسيس دي سان بيير أوسع مدى من مشروعات سابقيه، فلم يكن خاصاً بأوربا وحدها، بل بالعالم كله. وقويت هذه الفكرة على مر الأيام وظهرت آثارها في عدة مناسبات وعدة معاهدات مثل معاهدتي 1762، 1783، كما نتج عنها فكرة العمل على خير الإنسانية التي ظهرت في كتب جان جاك روسو(216/17)
وقد تأثرت الثورة الفرنسية بهذا التيار من الأفكار. وفي 18 مايو سنة 1790 أعلن (فولتي) للجمعية التأسيسية قوله: (ستدعون إلى الانعقاد جمعية الأمم) ووجهة النظر هذه اقتبسها بعض عظماء المفكرين، وعلى الأخص الفيلسوف الألماني (كانت) فقد أعلن أن الحرب هي حالة الإنسانية الطبيعية، وإذن ينبغي إيجاد حالة للسلام بتكوين حلف من شعوب حرة. والشعوب الحرة في اعتقاده لا تكون إلا في الجمهورية. وكثير من أفكار كانت، وعلى الأخص الفكرة الأخيرة، اعتنقها الرئيس ويلسون ونادى بها كما هو معروف
وأول من ابتكر اسم (عصبة الأمم) هو الكاتب الفرنسي المشهور (جوزيف دي مستر)، فقد وردت للمرة الأولى في حديثه السابع من كتابه الذائع الصيت (أمسيات سان بطرسبرج)
وفي أثناء حروب نابليون الأول وعقب سقوطه، دار البحث عن إنشاء هيئة لمنع عودة مثل تلك الحروب. ومن أجل ذلك فكر القيصر إسكندر الأول الروسي في إقامة الحلف المقدس، أو الحلف الديني بين الملوك. وكان الغرض منه الدفاع عن مصالح الملوك أكثر مما يكون الدفاع عن قواعد السلام
وخلال القرن التاسع عشر وفي أوائل القرن العشرين، انتشرت أفكار الجنسية والقومية وشقت طريقها بين الشعوب الأوربية، بفضل المفكرين الذين يعتبرون أن أوربا هي الأسرة الوحيدة للشعوب الحرة.
وعقب الحرب الألمانية الفرنسية في سنة 1870، خيم على أوربا ضيق سياسي شديد، فحاول رجال الدولة تبديده بخلق توازن أوربي تكون مهمته تجنب ألوان الخلاف والشقاق. وظلت الأفكار التي ترمي إلى التفاهم الدولي تنمو وتقوى حتى حرب سنة 1914. والذي يدل على نمو هذه الأفكار، كثرة عدد المؤتمرات التي أقيمت من سنة 1870 إلى سنة 1914 وإنشاء هيئة قضائية دولية في لاهاي واتفاقيات السلام الموقعة السلام في سنة 1899، وسنة 1907 وهذه المحاولات كلها أدت إلى تكوين عصبة الأمم في سنة 1920.
وحين إنشائها، قامت عقبة فلسفية عملية مأتاها: كيف العمل لحمل الدول التي تزداد ميلاً يوماً بعد يوم إلى الأخذ بمذهب الفردية، على الخضوع لعصبة الأمم؟ وهل ينبغي جعل عصبة الأمم دولة عليا حتى تقوم بدور هام، أو جعلها تقتصر على أداء أعمال ثانوية فقط؟ وفي الحق أننا إذا أنعمنا النظر نجد أن من الصعب على أمة من الأمم أن تقبل سلطة أعلى(216/18)
من سلطتها، أو أن تقبل أن يكون للعصبة الحق في فرض سلطانها على الدول، لاسيما وهذه العصبة تعتمد على مبدأ ديني كما كان الحال في القرون الوسطى.
ولكي تكون عصبة الأمم ذات مبدأ مقبول، ينبغي أن تقدر كل القوى الدولية. وهذه القوى ليست الدول فقط، ولكنها كامنة أيضاً في بعض هيئات دولية وبعض تيارات فكرية. وربما نرى في المستقبل هذه العصبة تدعو إلى تمثيل الدول فيها، ممثلي القوى الدينية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا أمر صعب التحقيق، ولكنه إذا تحقق يجعل للعصبة نفوذاً أقوى مما لها الآن.
2 - تكوين عصبة الأمم
ولدت عصبة الأمم رسمياً في 16 يناير سنة 1920 في وزارة الخارجية الفرنسية بباريس، حيث اجتمع مجلس الإدارة لمرة الأولى برآسة المسيو ليون بورجوا الفرنسي، المكونة من ممثلي الدول الكبرى المتحالفة، وقام بأعمال السكرتير السير جيمس آرك درموند: ولم يصدف عن هذا المجلس من الحلفاء إلا الولايات المتحدة الأمريكية، حتى قيل إن عصبة الأمم ولدت مشوهة هزيلة وكانت أولى خطواتها عرجاء
كيف تكونت عصبة الأمم هذه؟
أخذت فكرتها مكاناً كبيراً أثناء الحرب العظمى وسيطرت على مفاوضات الصلح، حتى أن الحلفاء وضعوا ميثاق العصبة في مقدمة معاهدات الصلح جميعاً. وهذا الميثاق لكبير أهميته ثم لروح الخلاف الذي بدأ يدب بين الحلفاء أنفسهم، كان شديد الصعوبة في إعداده. وقد اجتمع المندوبون فوق العادة الذين كلفوا القيام بهذا الأمر في باريس، وحاولوا ونجحوا آخر الأمر في التوفيق بين المشروعين الإنجليزي والأمريكي. والنص الأخير الذي اتفق عليه هو في الواقع ما عرضه الرئيس ويلسون مع بعض تحفظات هامة أرادتها بريطانيا لتجنب نفسها التدخل في منازعات الشعوب الأخرى
انتظم في سلك العصبة معظم الدول. ففي مبدأ الأمر، اشتملت على كل الدول التي قامت في وجه ألمانيا ووقعت على معاهدات الصلح. وهذه الدول هي: بلجيكا، بوليفيا، البرازيل، بريطانيا، كندا، استراليا، زيلندة الجديدة، الهند، ثم ارلندة بعد قليل، كوبا، جمهورية خط(216/19)
الاستواء، فرنسا، اليونان، جوايتمالا، تاهيتي، الحجاز، إيطاليا، اليابان، ليبريا، نيكاراجوا، هندوراس، بنما، بيرو، البرتغال، رومانيا، يوغوسلافيا، سيام، تشيكوسلوفاكيا، اورجواي. وهذه الدول يطلق عليها اسم أعضاء مؤسسين لعصبة الأمم.
ثم انضم إليها 13 دولة كانت على الحياد أثناء الحرب وهي: أرجنتين، شيلي، كولومبيا، الدانمرك، أسبانيا، نرويج، باراجواي، هولندة، إيران، سلفادور، السويد، فنزولا. وهذه الدول والتي ذكرت من قبلها تعرف باسم أعضاء أصليين في العصبة. ومن سنة 1920 إلى الآن طلبت عدة دول الانضمام إلى العصبة وقبلت 14 دولة منها وأصبحت أعضاء فيها
وللقبول في العصبة أربعة شروط ذكر نصها في الميثاق، وهي:
(1) تقبل الدولة عضواً في العصبة إذا كان لها حكومة حرة؛ والحكومة الحرة في رأي ويلسون هي التي تكون على رأس أمة تحظى بالانتخاب العام وحرية الصحافة، وتكون من نفسها حكومة برلمانية، ولكن مع هذا قبلت الحبشة ولم تكن إلا حكومة مطلقة.
(2) أن تكون الدولة منظمة حتى تستطيع أن تعضد حربيا أي حكم يصدر عن مجلس العصبة.
(3) أن تمثل الدولة أمة حقيقية تربط أفرادها صلة الجنسية والقومية
(4) أن تكون الدولة قد قدمت ضمانات فعالة تثبت احترامها للتعهدات الدولية. وقد أثار هذا الشرط مناقشة حادة حين عرض فرض دخول ألمانيا العصبة. وقد طرحت هذه المسألة منذ سنة 1922 من جانب الإنجليز، ولكن مندوب فرنسا تمسك بهذا الشرط وأقفلت المناقشة على ذلك. وقد رفض قبول بعض الدول في العصبة لأسباب مختلفة، ومنها الدول القوقازية مثل أرمينيا وجورجيا واذربيجان لأن حدودها كانت لا تزال مثاراً للاحتجاج فلما سويت هذه الحدود في جلاء، دخلت هذه الدول العصبة في الوقت نفسه الذي دخلت فيه إيران، وقد رفض قبول إمارة ليخنشتين في العصبة لأن مساحة أرضها ضئيلة لم تبلغ الحد الأقصى الذي عينه ميثاق العصبة.
وبعد اجتماع العصبة الأول، دخلها أربع دول هي إسبانيا وكورستارنكا وفنلنده ولكسمبرج. ولما بدأت النمسا وبلغاريا في إنفاذ تعهدات الصلح، استطاعتا دخول العصبة، ثم قطعت(216/20)
المجر على نفسها وعوداً رسمية صريحة بإنفاذ ما فرض علها فقبلت في العصبة في سنة 1922. ولم يبق في ذلك الوقت خارج العصبة من الدول الكبرى غير الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا السوفيتية. أما ألمانيا فقد رؤي أنها قامت بتعهداتها في مسألة السلاح والتعويضات، ثم جاءت اتفاقات لوكارنو واستقر الرأي على أنها لا تكون ذات قيمة إلا إذا كانت الدول الموقعة عليها أعضاء في العصبة، ومن أجل ذلك قبلت ألمانيا في العصبة في شهر سبتمبر سنة 1926 ومثلها في مجلس العصبة وزير خارجيتها الهر فون شتريزمان. ولكن ألمانيا إنفاذاً لسياستها ورغبة منها في استرداد كامل حريتها، تركت العصبة بعد سنوات قليلة كما استقالت أسبانيا والأرجنتين.
وفي العصبة عنصر دائم هو السكرتارية العامة. وقد نص في الميثاق على أن يكون السكرتير العام إنجليزي. وقد تولى هذا المنصب سير جيمس أرك درموند يعاونه ثلاثة آخرون فرنسي وياباني وإيطالي. والسكرتارية منقسمة إلى جملة أقسام، وهي تعد أعمال مجلس العصبة وتقوم بدور الوساطة بين مجلس العصبة وجمعيتها العامة.
ويمكن أن نقول إن الجمعية العامة هي عنصر الديمقراطية في العصبة، وإن مجلسها هو العنصر المختص بالحكم. وكان من المتفق عليه في بادئ الأمر أن يتكون المجلس من خمسة أعضاء دائمين يمثلون الدول الخمس الكبرى وهي إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيطاليا واليابان. ولكن لما امتنعت الولايات المتحدة عن دخول العصبة، كون المجلس من أربعة أعضاء، حتى قبلت ألمانيا فأكملت هذا النقص. وكان من المتفق عليه أيضاً أن يكون إلى جانب هؤلاء ربعة أعضاء مؤقتين، وكانوا بادئ الرأي يمثلون البلجيك والبرازيل وأسبانيا واليونان. ثم زيد عدد الأعضاء المؤقتين إلى خمسة
وليس المجلس بازاء الجمعية في المركز الذي يكون لمحكمة الاستئناف بالنسبة لمحكمة الدرجة الأولى، فليس هناك أي استئناف أو أي فرق في الدرجة، فالمجلس هيئة تنفيذية تسيطر عليها الدول الكبرى ولا يخضع لأية رقابة. والجمعية العامة تسيطر عليها الدول الصغيرة لكثرة عددها، وتستطيع في بعض الحالات أن تعمل بمفردها. وينتج عن ذلك أن الخلاف جائز الوقوع بين هذين العنصرين في العصبة.
واختصاصات مجلس العصبة كثيرة، فهو الذي يوافق على تعيين السكرتير العام ويقرر(216/21)
محل إقامة العصبة، وهو إلى الآن في جنيف، وهو الذي كان يعد الخطة التي ترمي إلى إعادة النظر في التسلح ويفرض الرقابة على تجارة الأسلحة حتى لا تكون خطراً على سلام العالم. وفي حالة وقوع اعتداء دولي أو ظهور شبح الاعتداء أو خطر الحرب، يتخذ المجلس ما يراه ضرورياً للوصول إلى حل سلمي للخلاف، أي أنه يقوم بدور الوساطة بين الدول الأعضاء. ومن الناحية النظرية. يستطيع المجلس أن يطلب من الدول التي ليست أعضاء في العصبة، أن تتخذ بعض تدابير يراها ضرورية لحفظ السلام. وهو المختص بتسلم وفحص تقارير الدول المنتدبة. ثم أعطت معاهدات الصلح مجلس العصبة اختصاصات مؤقتة مثل إدارة وادي السار (المادة 50 من معاهد فرساي) لمدة 15 سنة. وقد أجري استفتاء في شهر يناير سنة 1935 في ذلك الوادي وكانت النتيجة أن أعيد إلى وطنه الأصلي ألمانيا. وقد عين المجلس لهذا الغرض لجنة مكونة من خمسة أعضاء، فرنسي وساري وثلاثة أجانب. وأسندت رقابة مدينة والزج إلى رقابة مجلس العصبة (المادة 102 من معاهدة فرساي) كما أسند إليه رقابة تسلح ألمانيا والقيام بتحقيق في أرضها إذا تطلب الأمر. وقد تخلصت ألمانيا من كل رقابة واستردت حريتها في التسلح وحطمت أغلال معاهدة فرساي الجائرة، ولم تستطع العصبة منعها من إنفاذ مشيئة شعبها الحي.
ما هي الصلات التي بين المجلس والجمعية؟
الجمعية تعين أعضاء المجلس المؤقتين ولها الرأي في مسألة قبول أعضاء جدد في العصبة. ولكن اختصاصات الجمعية والمجلس في أغلب الأحيان تختلط وتمتزج. وهما يقفان على جميع المسائل التي تدخل في حيز نشاط العصبة أو تمس السلام الدولي. ومن ناحية المبدأ، لا يجتمع المجلس إلا مرة واحة في العام، واجتماعات خاصة، أما اجتماعات الجمعية فعامة علنية
والجمعية تعقد مرة في السنة، ولكنها تجتمع في أي وقت تراه إذا دعت الظروف إلى ذلك، أو إذا جدت مسألة تتطلب النظر في الحال. وفي العصبة لجان كثيرة مثل لجنة العمل الدولي ولجنة المواصلات والنقل ولجنة الاقتصاد والمال ولجنة الصحة ولجنة التعاون الفكري. وقد أنشأت العصبة محكمة العدل الدائمة الدولية بجنيف في سنة 1920 وهي مختصة بالفصل في ضروب النزاع القانوني. أما محكمة لاهاي فمختصة بالفصل في(216/22)
النزاع السياسي. فكل نزاع الآن يقع بين دولتين أو أكثر، يمكن أن يقدم للفصل فيه إلى ثلاث جهات: محكمة التحكيم في لاهاي، ومحكمة العدل الدولية، ومجلس عصبة الأمم
وقد ظهر نظام جديد عقب الحرب هو نظام الانتداب. ورقابة الدول المنتدبة من اختصاص العصبة. والانتداب هو إدارة دول ناشئة، موكولة إلى دول كبيرة تعتبر في عرف السياسة أنها أرقى من الدول الواقعة تحت الانتداب، وهي أجزاء من الإمبراطورية العثمانية ومستعمرات ألمانيا القديمة. والانتداب ثلاثة أنواع: (أ) وهو ضرب من الحماية، (ب) وهو قريب جداً من النظام الاستعماري، (ج) وهو عبارة عن ضم مقنع. وليست العصبة هي التي قامت بتوزيع الانتداب، ولكنها فقط أقرت أمراً واقعاً. وفي كل عام تقدم الدولة المنتدبة تقريراً إلى العصبة عن إدارتها، ولمجلس العصبة أن يبدي النقد الذي يرى من ورائه نفعاً.
ونستخلص من كل ما سبق أن عصبة الأمم ضعيفة ليس لها قوة مادية تكسبها الاحترام المرجو، وأحكامها قليلاً ما تطاع، وهي لهذا ترجو وتطلب أكثر مما تأمر وترغم. وما يزال في الأذهان ذكرى اعتداء اليابان على الصين وإيطاليا على الحبشة.
ومن يدري لعل العصبة في المستقبل تستطيع أن تقوم بدور هام يحتاج إليه العالم. وقد كسرت الحرب النظم القديمة وهدمتها، وينبغي إعادة البناء لا من خرائب الماضي وعلى مثالها، بل بطريقة منظمة على ضوء حوادث الماضي واحداثه، حتى تتجنب الإنسانية أهوالاً أفظع وأبشع من التي سبقت
حسن صادق(216/23)
علاقة مصر ببلاد النوبة في الجنس والدين
للأستاذ فهمي عبد الجواد حبيب
تمهيد
بلاد النوبة من البلاد القديمة تقع جنوب مصر وعلى بعد خمسة أميال من مدينة أسوان. ويحدها من الشرق البحر الأحمر ومن الغرب صحراء ليبيا، وتمتد جنوباً حتى ملتقى النيل الأبيض بالنيل الأزرق، غير أن هذا التحديد جغرافياً أكثر منه سياسياً إذ لم يكن لها حدود سياسية ثابتة. وقد كان ملوك الدولة المصرية القديمة يسمونها (خنت) أي الأراضي الجنوبية كما كانت تسمى - أي أرض القوس (أي المشهورون برمي النبال) ولهذا سماهم العرب رماة الحدق.
وقد أخطأ بعض الكتاب في إطلاق كلمة كوش على جميع بلاد النوبة، والصواب أن إقليم (كوش) يمتد من الجندل الثاني تقريباً حتى ملتقى النيل الأبيض بالأزرق، وأما الإقليم الواقع بين الجندلين الأول والثاني فكان يعرف (بالواوات)
هذا ويطلق أيضاً بعض الكتاب خطأ كلمة (أثيوبيا) على بلاد النوبة معتمدين في ذلك على خريطة سريدوت ومن نحا نحوه من المؤرخين. فينسبون للنوبين ما ليس لهم إذ أن هؤلاء المؤرخين كانوا يعنون بكلمة (أثيوبيا) جميع البلاد الواقعة جنوب مصر كالسودان والحبشة وغيرها. ومما زاد الطين بلة في تعزيز هذا التعريف الخاطئ ما وقع فيه رهبان سوريا من الخطأ عند ترجمتهم الإنجيل من اليونانية حيث ترجموا كلمة (كوش) بأثيوبيا ويعنون بها بلاد الحبشة.
وكانت النوبة على عهد العرب تنقسم قسمين: النوبة السفلى وتمتد من الجندل الأول إلى الرابع وعاصمتها دنقلة، والنوبة العليا وتمتد من الجندل الرابع حتى بلاد الحبشة وعاصمتها سوبة على النيل الأزرق.
وقد كانت لهذه البلاد في وقت ما عزة ومناعة ثم اعتورها ما يعتور كل موجود حتى صارت حالها إلى ما هي عليه الآن.
العلاقة بينها وبين مصر في الجنس(216/24)
أجمع المؤرخون على أن المصريين والنوبيين من أصل واحد مدللين على صحة قولهم هذا بأن كلا الشعبين ينتسب إلى الجنس الحامي فضلاً عن تشابه لون بشرتهم. والواقع أن سكان مصر العليا والنوبة حتى الآن متشابهان، وأما الوجه البحري فنظراً لأن حدود مصر من جهة القنطرة سهلة الغزو فكان عرضة للغارات الخارجية ولذا سار منها الغازون أمثال الرعاة والاسكندر وقمبيز وغيرهم؛ ومن ثم تأثر الوجه البحري بدم هؤلاء الغزاة فتغير كثيراً عن مصر العليا. وهناك عامل آخر أثر في جنسية سكان شمالي مصر وبشرتهم نوعاً ما، ذلك أنه رحل إلى شمالي أفريقيا قبل بناء الأهرام بعض الأوربيين، وهؤلاء المهاجرون انتشروا في شمالي أفريقيا حتى جزائر كناريا. وقد وجدت ابنة لخوفو شرق الهرم الأكبر من الجنس الأبيض ذي الشعر الأشقر وتعليل ذلك أن خوفو تزوج واحدة من هؤلاء البيض، كما أنه وجد في العوينات رسوم لفريقين من المتحاربين السمر والبيض
وقد حدث في عهد الأسرة العشرين حادث ذو بال: ذلك أنه في عهد هذه الأسرة قل دخل الحكومة لفقد مصر كثيراً من البلاد الآسيوية فنقص ما كان يتقاضاه كهنة آمون في عهد الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة فضلاً عن ضعف الملوك، فدعا ذلك إلى ازدياد سلطة هؤلاء الكهنة حتى تمكن أحد رؤسائهم المسمى (حرحور) من اغتصاب العرش وأسس الأسرة الحادية والعشرين، ولكن المصريين اعتبروا كهنة آمون مغتصبين للملك فصار عهدهم فوضى ولم يستطيعوا حفظ سلطانهم ولا القيام بما تتطلبه عظمة آمون من النفقات؛ ورأوا أن معبودهم يعبد في (نبتة) عاصمة النوبة في ذلك الوقت وأن له المقام الأول بين آلهة النوبيين فلهذا اختاروا (نبتة) لتكون قبلتهم في هجرتهم فهاجروا إليها من طيبة بعد أن حكموا بها 121 سنة من 1100 - 979 قبل الميلاد.
وقد رحب بمقدمهم النوبيون نظراً لأن المدنية التي نشرها المصريون في النوبة كانت لا تزال قوية الدعائم، وكان هؤلاء الكهنة على جانب كبير من العلم فساعدهم هذا على أن يكونوا رؤساء كهنة آمون في نبتة وتدخلوا في السلطة الزمنية كما سبق أن تدخلوا في مصلا وتزاوجوا مع النوبيين.
وفي عهد الأسرة 23 تزوج أمير نوبي يسمى (كاشتا) أميرة مصرية، ثم خلفه على ملك النوبة ابنه (بعنخي) وهنا يجب علينا أن نشير إلى ما لهذا التزاوج من أهمية إذ لو كان(216/25)
النوبيون ممتزجين بدم زنجي لما قبل الكهنة على ما هم عليه من المقام الرفيع أن يتزاوجوا بهم، ولما تزوج نوبي بأميرة مصرية.
الديانة
كان النوبيون كالمصريين يعبدون آلهة عدة مثل تيتون وملول، ولما استولى المصريون على بلادهم احترموا آلهتهم ثم أدخلوا عبادة آمون بها وأقاموا له المعابد، وأخذ النوبيون يعبدون آمون حتى أصبح أكبر آلهتهم وصارت آلهتهم الأصلية في مقام ثانوي
وكان النوبيون يعبدون من الآلهة المصرية غير آمون إزيس وأوزيريس.
دخول المسيحية إليها
لا يعلم بالضبط كيف ومتى دخلت المسيحية بلاد النوبة؛ ويقول البعض إنها دخلت من جهة الجنوب، ولكن ليس هناك دليل يثبت صحة ذلك. والمرجح أنها دخلت في هذه البلاد من جهة الشمال عن طريق مصر في أول القرن السادس حيث كانت الوثنية هي دين أهل البلاد (فأليمبيدوس) الذي زار النوبة فيما بين 407 - 425م يقول إن البجة وقبائل أخرى من سكان الصحراء الشرقية كانوا وثنيين، كما أن كتاب شيود وسيوس يثبت أن عبادة إزيس وأوزيريس كانت منتشرة في بلاد النوبة في هذا الوقت؛ وحتى بعد ذلك بثلاثين سنة كانت إيزيس تعبد في جزيرة فيلة. ويؤيد دخول المسيحية إليها من الشمال عن طريق مصر أن المسيحية لما انتشرت في الإمبراطورية الرومانية أخذ الأباطرة يضطهدون معتنقيها ففر بعضهم من مصر التي كانت تحت سيطرتهم في ذاك الوقت إلى الجنوب كما فر البعض إلى الواحات الغربية ليكونوا في مأمن من أذى الرومان وبطشهم. وهذا هو بعينه ما حصل مع الفارق لكهنة طيبة، فإنهم لما أرادوا الهجرة ذهبوا إلى النوبة كما ذهب إليها المماليك في عهد محمد علي باشا فراراً منه.
ولما زاد اضطهاد الإمبراطور دقلديانوس للمسيحيين وأوقع بهم وقعته المشهورة كثر التجاء الرهبان وغيرهم إلى الجبال والصحراء فنزح إليها الكثيرون وأقاموا بها يبشرون بدينهم ما استطاعوا، حتى إذا ما أتى زمن قسطنطين وترك للمسيحيين حريتهم واستأمن الرهبان وغيرهم أخذوا في الظهور وفي إعلان الديانة المسيحية يعملون لها ما استطاعوا إلى ذلك(216/26)
سبيلاً.
وكان لسلكو زعيم سكان الصحراء الغربية والنوبة أكبر نصيب في انتشار المسيحية في هذه البلاد فقد وجد في معبد كلابشة كتابة ترجمتها (أنا سلكو زعيم سكان الصحراء الغربية والنوبيين كافة قد أتيت إلى كلابشة مرتين وحاربت سكان الصحراء الشرقية (البجة) ونصرني الله عليهم واقسموا لي بآلهتهم إزيس وأوزيريس فصدقتهم) والإله الذي نصر سلكو هو بلا شك إله المسيحيين. ومن هذه الكتابة أيضاً تعلم أن سكان الصحراء الشرقية كانوا إلى آخر القرن السادس الميلادي يعبدون الآلهة المصرية. وقد كان من نتيجة المودة بين سلكوا وجستيتيان (527 - 565م) أن أرسل الأخير أسقفاً وهدايا إلى سلكو فعمد هذا الأسقف الملك سلكو الذي أخذ ينشر المسيحية في بلاده. وفي عهد خلفه أربانوم تحولت معابد كلابشة والسيوع وعمدة وأبو سمبل وفيلة إلى كنائس، وقد تم ذلك قبل نهاية القرن السادس واتخذ المسيحيون دنقلة عاصمة للمملكة المسيحية.
دخول الإسلام إليها
أرسل عمرو بن العاص بعد أن استتب له الأمر في مصر عبد الله بن سعد لغزو بلاد النوبة عام 21هـ فحاربهم وهزمهم وقرر عليهم الجزية ولكنه لم يتعرض لدينهم
وفي عام 31هـ غزاهم عبد الله بن سعد في خلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه لثاني مرة وهزمهم ثم كتب لهم عهداً جاء فيه: (وعليكم حفظ المسجد الذي بناه المسلمون بفناء مدينتكم (دنقلة) ولا تمنعوا منه مصلياً ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من المسيح وذمة الحواريين وذمة من تعظمونه من أهل دينكم وملتكم).
ومن هذا العهد يتضح لنا أمران:
الأول - أن النوبيين حتى عام 31هـ كانوا يدينون بالمسيحية
والثاني - أنه كان يوجد بدنقلة عاصمتهم بعض المسلمين مما أدى إلى بناء مسجد لهم، ولكن من هم هؤلاء المسلمون؟ إني أرجح أنهم من المصريين أو العرب الذين نزحوا إلى العاصمة - دنقلة - بعد الغزوة الأولى بقصد التجارة.
وفي خلافة المأمون ثار البجة، فسار إليهم عبد الله بن الجهم وهزمهم وعقد صلحاً مع ملكهم كانون الذي تعهد بالمحافظة على أرواح المسلمين وأملاكهم.(216/27)
ومن هذا يتضح أن المسلمين كانوا عدداً قليلاً وكان لهم ممتلكات في بلاد النوبة.
وفي عام 969م أرسل جوهر الصقلي رسلاً إلى جورج ملك النوبة ليستلموا الجزية وليدعوه إلى الإسلام فسلم الجزية ولكنه امتنع عن اعتناق الإسلام.
وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي انتشر الإسلام في الجهات القريبة من دنقلة وما أتت نهاية القرن الرابع عشر حتى كان الإسلام قد عم هذه البلاد.
فهمي عبد الجواد حبيب
المدرس بالمدارس الأميرية(216/28)
حول الثقافة العربية
للأستاذ قدري حافظ طوقان
إن من يطالع المؤلفات الحديثة عن الحضارة العربية يرى آراء متضاربة في الأساس الذي قامت عليه، وفي المناهل التي استقت منها؛ ويرى كذلك تحاملاً عليها وانتقاصاً لقيمتها. فبعض المؤرخين لا ينسب إلى العرب أي فضل في خدمة المدنية، وينفي عنهم الابتكار، ويقول إنهم لم يكونوا غير نقلة للعلوم، وإن نتاجهم العقلي هو من الدرجة الثانية من حيث قيمته وأثره على تقدم العلم، وإنهم كانوا متأثرين بالثقافة اليونانية وقد اتبعوها وفضلوها على غيرها. وهناك فريق آخر من الأوروبيين يرى غير ذلك، ويقول بأن العرب فضلوا الثقافة الهندية وتأثروا بها أكثر من غيرها، وإنهم كانوا عالة عليها اقتبسوا منها أكثر ما جاءوا به من آراء ونظريات في العلوم والفنون، ويرى هذا الفريق في هذا نقصاً معيباً وناحية الضعف في الحضارة العربية
وقد حاولت أن أعرف الأساس الذي يبني عليه هؤلاء العلماء أقوالهم وأحكامهم في الحضارة العربية، فتوصلت بعد بحث إلى أن الأساس الذي يعتمدون عليه في هذا الشأن هو هذا الاقتباس، إذ يرون فيه النقطة الضعيفة في تاريخ العلوم والفنون عند العرب
إن اقتباس العرب عن اليونان أو الهنود أو غيرهم ممن سبقهم من الأمم لم يكن إلا بموجب غريزة في الإنسان تميزه عن الحيوان، فالإنسان على رأي الفيلسوف كورزبسكي يأخذ دائماً ما عمله غيره ويزيد عليه، وإن قوة الإنتاج في (الإنسان) لا تقوم وتقوى إلا على نتاج السابقين. وعلى هذا فليس في الجري على هذه الغريزة عيب أو مجال للتنقص
لا ننكر أن العرب اقتبسوا عن غيرهم، وهذا الاقتباس مما ساعد على تقوية قوى الإنتاج فيهم، ومما أدرى إلى إصلاح الأخطاء التي وجدوها في تراث الأمم التي سبقتهم والى إضافة بحوث ونظريات هامة جعلت العلماء المنصفين يعتبرون بعض العلوم من موضوعات العرب. وتصفح بسيط لتاريخ العلوم في الرياضيات والطبيعيات والطب والفلسفة والفلك يثبت صحة رأينا ويريك خصب القريحة العربية بأجلى بيان
قال البارون دي فو: (إن الميراث العلمي الذي تركه اليونان لم يحسن الرومان القيام به، أما العرب فقد حفظوه وأتقنوه. . . فهو لم يكونوا حفظة وخزنة للعلوم فحسب، ولكنهم توفروا(216/29)
على ترقيتها وتطبيقها باذلين الجهد في تحسينها وإنمائها حتى سلموها للعصور الحديثة. . .) وقال الدكتور سارطون في إحدى محاضراته في جامعة بيروت الأميركية: (إن بعض الأوروبيين يحاولون أن ينتقصوا من قدر العرب العلمي في القرون الوسطى، وذلك بقولهم إن العرب لم يكونوا غير نقلة للعلوم ولم يزيدوا عليه شيئاً. . . هذا خطأ. . . وإذا افترضنا أن العرب لم يكونوا غير نقلة أليس في عملهم هذا خدمة كبيرة للعالم؟ فلولا نقلهم لما تقدمت العلوم تقدمها الحاضر ولكنا حتى الآن في قرون وسطى. . .)
ويعتقد الدكتور سارطون بأن نقل العرب لم يكن ميكانيكياً بل على الضد فليه روح وحياة
هذا من جهة الذين يعيبون على العرب نقلهم عن الغير، أما الذين يقولون بان العرب فضلوا ثقافة على أخرى فمخطئون، وسنحاول تبيان رأينا بإيجاز
اختلفت أقوال علماء الغرب في أي الثقافات فضل العرب فقال كاجوري إن الكرخي وأبا الجود والخيامي فضلوا الطريقة اليونانية على الهندية في استعمال الأرقام، وقال كانتور بوجود مذهبين مختلفين (في زمن البوزجاني) أحدهما يتبع الثقافة الهندية والآخر اليونانية، وقال أحد علماء الغرب بأن العرب تأثروا بالثقافة اليونانية وفضلوها على غيرها، وقال آخرون مثل ذلك في الهندية
والحقيقة أنه لم يكن موجوداً أي تفضيل، فقد كان علماء العرب في العصر العباسي يترجمون ما يقع تحت أيديهم من المخطوطات هندية كانت أو يونانية، فالبيروني ذهب إلى الهند وساح فيها بقصد البحث والاستقصاء والتنقيب، وكذلك محمد بن موسى بن شاكر ذهب إلى اليونان ابتغاء الحصول على مخطوطات ورسائل، وهناك من العلماء العرب من أوجدتهم ظروفهم إلى أن سيتقوا من ثقافتين أو أكثر وقد مزجوا ما استقوا وكونوا من ذلك ثقافة خاصة. وعلى هذا فلم يكن هناك فكرة تفضيل إحدى الثقافات على غيرها بل جمع العرب الثقافات المختلفة التي نهلوا منها وخرجوا من هذا الجمع بثقافة تميزهم على غيرهم من الأمم. وقد لاحظ الدكتور سارطون كل هذا فقال: (والعرب لم يقتصروا على علوم اليونان فحسب، بل أخذوا عن الهنود، وفي كثير من الحالات جمعوا بين الثقافتين الهندية واليونانية. . .) وسبق الجاحظ الدكتور سارطون فيما قال، فنجد في كتاب الحيوان ما يلي: (وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونان، وحولت آداب الفرس فبعضها ازداد حسناً(216/30)
وبعضها ما انتقص شيئاً. . .)
يتبين مما مر أن العرب لم يفضلوا ثقافة على أخرى، ولم يأخذوا بإحدى الثقافات ويتركوا البواقي، إنما هم طلاب علم راحوا يبحثون عنه في الكتب والمخطوطات والرسائل القديمة من يونانية وهندية وفارسية وحبشية وسريانية وعبرية وغيرها، فنقلوا ما عثروا عليه إلى لسانهم وهو معظم ما كان معروفاً من العلم والفلسفة عند سائر الأمم المتمدنة، وكان أكثر نقلهم عن اليونانية والفارسية والهندية؛ وقد يكون النقل عن اليونانية أكثر من غيره ولكن هذا لا يعني أن العرب فضلوا ثقافة على غيرها. وعلى فرض أنهم تأثروا بالثقافة الإغريقية، فهل هذا يعني أن نية علمائنا الأقدمين تفضيلها على غيرها. وعلى كل حال فالقول بأن العرب فضلوا ثقافة على أخرى أو القول بوجود مذهبين مختلفين أحدهما يتبع الطريقة اليونانية والآخر الهندية قول خطأ لا يجب أن يؤبه له وهو من خيالات المستشرقين، إذ لا يوجد من الأدلة ما يحققه بل على العكس لدينا شواهد عديدة تجعلنا نميل إلى أن العرب لم يخطر ببالهم تفضيل ثقافة على أخرى كما تجعلنا نميل أيضاً إلى القول بعدم وجود مذهبين مختلفين أو مذاهب مختلفة، وبأن المآثر العربية في العلم والفن تأثرت بعناصر الثقافات المتعددة التي ساعدت على إيجاد ثقافة عربية لها مميزاتها وخصائصها الممتازة.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(216/31)
اتجاهات الأدب العالمي في العصر الحاضر وكيف
يتجه أدبنا
للأستاذ خليل هنداوي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
والآن أراني أجملت إبراز الاتجاهات الاجتماعية والعوامل التي تؤثر في الآداب الحاضرة فأين نجد في أدبنا في غابره وحاضره وكيف يتجه؟
كنت أود أن يتسع لي المجال أو أن يرجأ البحث عن اتجاهات أدبنا في الغابر إلى فرصة ثانية، لأن التكلم عن اتجاهات أدب مهما كانت قيمته ليس بالشيء الذي يغني فيه الإلمام، ولكني ناظر إلى ناحية من نواحيه الاجتماعية القومية، وغير خائض في خصائصه الأدبية.
إن أدبنا أيها السادة كان كثير الخصب والإنتاج؛ وتبارك الله ما كان أخصبه! ولكن خصبه في الموضوعات التي نثب إليها اليوم كان خفيفاً جداً. خذوا الشعر مثلاً، والشعر أبرز ما راج في أدبنا، فهو شعر لا أجده قد صفا كثيراً لنفسه ولا لمجتمعه. نما بعضه في جو أرستقراطي لا يتصل بسواد الشعب، نما في ظلال الطبقة المترفة؛ وإذا غادر هذا الجو غادره إلى جو كان يرائي الأديب فيه ويداجي. أما المجتمع فلم يقم له أدب خاص يعبر عنه. وإذا أفاد بلاط الملوك والأمراء في نمو بعض الأدب الذي كانت تستحثه الدعايات والعصبيات فقد قتل ذلك الأدب الذي كان يجب أن ينطلق عن الحياة. وهذا المتنبي على جلاله وهو الذي يعد أحد الشعراء مزاجاً وأكثرهم اندفاعاً لم يخلص من أدب الرياء. وهذا المعري الذي يطفح شعره ببعض نظرات متألمة لا نجد أن تألمه كان نتيجة اختلاطه بالمجتمع، ولكنه كان وليد تشاؤم صرف اختص به مزاجه. ويمكنني القول إن كثيراً من أدبنا خلقته أزمات سياسية وعصبية ليكون ضرباً من ضروب الدعاية. ولكنه كان مجرد دعاية تؤرث نار العداوة، وتعبر عن نوازي العصبية في الأحزاب والقبائل وتحيي الضغائن في الأمة الواحدة. على أن أزمة الشعوبية التي احتدمت نارها بين الأعارب والأعاجم كان بها أن تخلق نوعاً قوياً من أدب الدعاية القومية ولكن الأدب لبث يمالئ الأوساط المترفة، ينظم لها الشعر مسبحاً بحمدها، أو مسلياً لها من مللها وسأمها.(216/32)
أما أدبنا الحاضر فلا يمكننا الركون إليه، لأنه أدب مضطرب يمثل اضطراب هذه الثقافة المكتسبة التي لم نتم هضمها ولم تتمركز فينا! أدبنا الحاضر لم يتحرر من قيود القديم سالكاً طريقته الخاصة دون تردد. وأديبنا لم يؤمن بأن في الحياة التي تتكرر فصولها كل يوم أمام عينيه أدباً غنياً يغذي فكره؛ وأديبنا لا يزال يعتقد بأن النزول إلى الحياة يضعف من قيمة أدبه. وبهذا يكتب الأدب فيه كل الألوان إلا لون الأدب، وفيه أثر كل بيئة إلا بيئته التي هو فيها. على أن الأديب الحقيقي حين يبث نفحة أرضه يحملها لتعانق نفحات الأرض كلها، وحين ينشر نسمة لشعبه ينشرها ليضمها إلى نسمات الشعوب!
لا أود أن أحدثكم من أدبنا الحاضر عن آفاقه الإنسانية التي يسمو إليها، ولا عوالمه الرحبة التي تتعانق فيها الإنسانية، ولا ذلك الجمال الذي يكسو الآثار الكونية به، وإنما أحدثكم عن اتجاهات أدبنا من الناحية التي هي أصدق انطباقاً على حياتنا الحاضرة، وهذه الحياة الحاضرة مؤثرة في أدبنا مهما فر منها، وفي أديبنا مهما تجافى عنها! لأن الأديب ليس كالعالم الذي يقدر أن يحيا في بيئة وكأنه ليس منها!
لو أراد واحد في الأجيال الآتية أن يستقرئ نفوسنا وحالنا لرأيته لا يستطيع، لأننا لا نمثل في أدبنا عواطفنا ولا نصبغه بألواننا. إنا نكتب أدباً لا يمثل آلام حياتنا الاجتماعية والنفسية التي نعانيها. ألم تمر بنا أزمات مختلفة وظروف مروعة؟ فأين الأدب الذي ولدته هذه الأزمات؟ وأين قصة كقصة البؤساء تمثل البؤس الذي برح بنا في عهد الحرب؟ وأين القصة التي تمثل حيرتنا وألمنا؟ وأين مسرحية كمسرحية (غليوم تل) تصور أبطالنا وشهداءنا؟ وهذا شوقي الذي خلف لنا تراثاً من سر حياته الشعرية لم يجد في هذه الأزمات ما أوحى إليه مسرحية يصور بها مشهداً من هذه المشاهد التي قد يكون فيها ما هو أشد وأقوى على خلق التأثير من الموضوعات المطوية التي عالجها في مسرحياته. وأخيراً أين ذلك الأديب الذي يترجم عن عصره؟
على أن البعض يقول: وما عسى يغني الأدب الذي يأتي بالتلقين لا بالالهام؟ وكيف يملك حريته في التعبير، وإنما الأدب بحريته؟
أجيب هذا البعض بأني لا أدعو أدبنا إلى أن يتقيد، وما كنت يوماً لأدعو إلى أن أخلق للأدب أجواء محدودة يخوض فيها. وكيف أدعو إلى تحديد اتجاهات الأدب والتحديد معناه(216/33)
وقف روحه وحريته التي لا يحيا إلا بها؟ كيف أدعو إلى حبسه ضمن تقاليد جديدة؟ ولكأني بذلك أهدم تقاليد وأرفع تقاليد وفي هذه وتلك عبودية، وفي العمل نفسه عبودية أدهى!
أجل! لا أريد أن يكون الأدب كله اجتماعياً، أو ذاتياً، أو إنسانياً أو قومياً! وإنما أنشد أدباً حراً يستوحي إبداعه من قلب الحياة، لا يكونه من الحياة على هامشها، وإنما على متنها. ولا يمر هو بجانب ويترك الحياة بجانب آخر. وإنما همه أن يرافق الحياة في مراحلها، ويعمل على تفوقها وتساميها. همه أن يوجه الحياة كما يريد. وإذا تحدثت عن اتجاهات يتجه إليها فإنما هي اتجاهات يكون للأديب فيها مادة غزيرة، وعالم نبيل الغرض.
إننا أمة لا نزال في دور الكفاح، الكفاح في كل نواحيها. ودور الكفاح دور اضطراب وحركة، وهذا الدور لا يجمل بالأديب أن يمر به هادئاً ساكناً دون أن يرفع صوته، وإنك لن تجد أمة خلا مثل هذا الدور فيها من أدب يمثلها ويعبر عنها ويستحثها ويجعل قلبها بركاناً هادراً مهما كانت هذه الأمة حرة النزعة، إنسانية المبدأ. لأنها ترى قوميتها مثل إنسانيتها، ولن يصدق للإنسانية قلب لا يصدق لوطنه، وليكن أدبنا مجرداً ما أراد، متوجهاً حيثما توجه، ولكنا نريد معه أدباً قوياً يساهم في بناء الجبهة القومية، ويستمد روحه من الثقافة القومية، ونريد معه أدباً اجتماعياً يخلق ثورة التجديد والإبداع وينفض هذه المزق الرثة من التقاليد، إذ لا يؤتى الانقلاب السياسي ثمره إذا لم يكن مقروناً بالانقلاب الاجتماعي.
أحس هنا بل أكاد أسمع أصواتاً تنادي من حولي: أتريد أن تجعل من الأدب الواسع الإنساني خادماً للقومية، ومهذباً للمجتمع؟ كأنك لم تعرف التعاريف الأولية التي تفصل الأدب عن القوميات والفن عن الأخلاق التي ضيقت حدوده وأفسدت جماله الذي لا يحيا إلا في المطلق!
بلى! إني أفهم كما يفهمون، وأدرك أن للأدب غاية أسمى وأعلى، ولكني ممن يعتقدون أن الأدب لا يتجرد من شخصية أمته كالأديب لا يستطيع أن يتجرد من شخصيته ولا يمكنه أن يكون إنسانياً قبل أن يكون قومياً؛ وإذا تكلمت عن اتجاهات أدبنا الحاضر فإن عوامل كثيرة تحملني على تحديد هذه الاتجاهات؛ وقد تكون هذه الاتجاهات مفيدة لظروف حاضرة تموت بموتها، وقد يبطل غداً بعضها ويبقى بعضها، وقد يبطل كلها ولكن ما همي مادمت أعتقد(216/34)
أن هذه الاتجاهات محيطة بحياتنا الحاضرة، ولا نستطيع أن نحل عقدة من عقدها إلا بمقتضاها!
يظنون أن الأدب القومي أن يكون الأديب بوقاً ينفخ في كل حادثة، وفي مقدم كل وزير أو زعيم، ومثل هذا الأدب لا يحتاج إلى أن نبدي إعراضنا عنه، وإنما الأدب القومي روح يعلقنا بحب هذا الجو وهذه الارض، ويجلو لنا عن روائع الجمال فيها، ولست أذكر أنني تلوت شيئاً من هذا!
أذكر أنني في هذه السنة كن أنا ورفاق نقوم برحلة في أطراف الفرات الاوسط، فجزنا قرية تدعى (الميادين) وكانت أناشيد الرفاق تتعالى. فهب من في السوق يصفقون لهم، فما راعني ذلك، ولكني أبصرت رجلاً ضريراً مخدود الوجه، ممزق الثياب، هب يلمس بوجهه مواقع الصوت والصدى ويداه تصفقان، فطفرت من عيني دمعة وتمثلت الشعور الوطني يتيقظ في نفسه. فقلت: ألا يجد أدباؤنا في هذا المظهر مادة وموضوعاً؟ ألا يجد شاعرنا عاطفة تهزه كالعاطفة التي ولدتها فيه قبلة محبوبة؟ وأخيراً ألا نجد في هذا الضرير رمزاً للأمة التي فقئوا عينيها فهبت تتلمس النور بغير الحاسة التي خلقت لالتقاط النور، وقد استحالت كل حاسة في جسدها عيناً تبصر، وقلباً يشعر!
أعرف في هذا البلد فئة - قد تكون مخلصة - تدين بالأدب الإنساني، ولا تعنى بالأدب القومي، تمشي فوق رءوس الحقب، وتعلو على حالات عصرها لأنها في اعتقادها حالات زائلة كالغيوم؛ ولا أستطيع أن أناقش هذه الفئة، ولا أن أصرفها عن غايتها النبيلة، وكلني أعلم أن الأدباء الإنسانيين أنفسهم الذين بشروا بالدعوة الإنسانية والأدب الإنساني هم قوميون قبل أن يكونوا انسانيين، لأن الذي لا يتسنى له أن يحس آلام شعبه الذي هو من لحمه ودمه، لجدير بألا يتسنى له أن يحس آلام الإنسانية. .
اتركوا الأدب والفن وعودوا إلى العلم المجرد والأخلاق تجدوا أن كل شعب يثبت فيهما شخصيته التي تختلف عن شخصية غيره. تأملوا الطرق الرياضية الجبرية التي يسلكها العقل الجرماني تجدوا أنها طرق مطلسمة مبهمة تلائم هذا العقل. على حين أن العقل الفرنسي الرقيق يخضع المنطق له ويسلك فيه الطرق الواضحة. وكذلك قولوا في الأخلاق: فكل أمة رتبت أنظمتها بحسب عاداتها. ولو أن طريقة العلم واحدة لما وجدنا طريقة كل(216/35)
عالم تختلف عن طريقة الآخر. . . وإذا كان هذا شأن العلم والأخلاق فكم يكون اختلاف الأدب والفن اللذين يترجمان عن حياة الأمة؟
يقولون: لا وطن للفن! باعتبار أنه إذا صدر عن إنسانية معينة فإنه يخص كل الناس. لأن الإنسانية الكلية هي مجموعة هذه الانسانيات، والفن الكلي هو مجموع هذه الفنون، والفن صلة القربى بين الناس.
يقولون: لا وطن للفن! وأنى لنا أن نسلخ الفن عن الشعب الذي خلقه على صورته، أبالإمكان أن نسلخه عن الطبيعة التي أحاطت به، والتراب الذي حمله؟ والسماء التي حنت عليه، والهواء الذي تنشقه، والوطن الذي احتضنه، وصدى أصوات الأجداد الذين نقلوا إلى الأحفاد ما ورثوه؟ إن الشعب باستطاعته أن يقتبس عن شعب آخر ثم يبقى ما يقتبسه كما هو؛ ولكن من جراء ذلك أن يتنازل عن شخصيته، ويخضع لهذا الغريب خضوعاً أعمى لا يفسر إلا بالجحود بعبقرية الوطن. لقد أخذت روما عن اليونان أنظمتها وفنونها التي أحبتها ولكنها لم تفهمها، فأعطت زخرفة جميلة ولكنها لم تعط أثراً فيه حياتها. وهكذا لا نستطيع أن نقول: هذا أدب إنساني قبل أن نقول: هذا أدب عربي أو إيطالي أو جرماني! إن أطوار الأدب والفن هي ترجمان صادق عن العصر المتحول، يظهر لنا مراحل الطريق، ومراحل السعي، ويحدد لنا أعمار الأمة، ومن خلال كل هذه الخطوط والصور والألوان نجد صورة الوطن، ونستشف ملامحه الحقيقة؛ وقد رأينا أن الأدب أكثر أنواع الثقافة تعلقاً بحياة الأمة، لأنه لا يصور إلا حياتها ولا يسرح إلا في جوها، والذرية العبقرية تكتسب من بيئتها صفات متى حان الوقت أظهرتها، وحولتها إلى الإبداع؛ وعصير الأرض الوطنية يسقي الشجرة الإنسانية؛ وبهذه الإنسانية الشخصية، وبهذا المثل الأعلى الخاص يعلن كل شعب مزاياه وعبقريته. والعظماء أنفسهم لم يستغنوا عن هذه القاعدة، لأنهم كانوا قبل كل شيء وليدي بيئتهم وجيلهم.
إن إنكار القومية ليس جحوداً بقيمة التاريخ وتنائجه فحسب، بل هو إغضاء عن الجغرافية وجهل بعمل الأرض والسماء والبيئة، لأن الأوطان ليست بفكرات خيالية ولا شعرية ولا وهمية، وإنما هي حقائق ظاهرة ثابتة؛ والثقافات المختلفة تثبت ذلك، وكل وطن يحدد حياة أهله ويلهمهم فنه! ولكل شعب أدبه وفنه، وهو بهذا يمثل دوره في القصيدة الكبرى، وإنا(216/36)
نود أن نعود إلى حمل مشعل جديد ورسالة جديدة إلى الإنسانية، ولكنا نريد ألا تصرفنا هذه الإنسانية عن قوميتنا، بل نريد أن نكف عن هذه الإنسانية إذا ساومتنا على قوميتنا!
أذكر في هذا الموقف حادثة طريفة أدبية تمثل تأثير القومية في الأفراد الذين كانوا يؤمنون بالدعوة الإنسانية. لقد كان العالم النقادة الفرنسي (تين) ذا ثقافة ألمانية صرفة. كان يعجب بألمانيا ويحبها حباً جماً ويراها له وطناً ثانياً بعد فرنسا. وكان يرى مع الفيلسوف (رينان) أن ألمانيا هي أم العقل والذكاء. وأن الألمان هم أساتذة العالم في العلوم والآداب والفلسفة، وهم أساتذة العقل الراهن. هبت حرب السبعين، وغمرت ويلاتها الفرنسيين. فضربت اعتقاد (تين) في الصميم، وكانت له يقظة قاسية مؤلمة، إذ وجد القول بأن العلم الإنساني هو كل شيء للإنسان قولاً كاذباً، وألفى أن الفن لا يحيا إذا كان الوطن يتمرغ في الشقاء، فأخذه الإشفاق على وطنه، وحمل بعدها حملات عنيفة على غطرسة العقل الألماني الإنساني، وقال: (إن زمان العلم الخالص الإنساني قد انتهى. . . والآن يجب قبل كل شيء أن نساعد فرنسا على أن تحيا حياة تنطبق على حياتها الماضية. . .)
ونحن في مرحلة شبيهة بهذه المرحلة، لا يجدر بنا في الوقت الذي تفتش فيه الأمم عن قوميتها، أن نضيع قوميتنا بحجة الإنسانية. وقد قدمنا للإنسانية تراثاً خالداً من الدين والفلسفة في سبيل الإنسانية. . . وكيف نطمع ونحن ضعفاء القومية أن نفيد الإنسانية؟ والأمة الضعيفة القومية لا تعطي نتاجاً!
أعطوني أمة ضعيفة القومية ذات نتاج خالد! أليس لنا في اليونان أمة العبقرية والفن مثل واضح على ذلك؟ لقد تحجرت مواهبها وعبقريتها منذ تلاشت قوميتها. وهل أعطى العرب نتاجهم الأدبي إلا يوم كانوا أقوياء؟ وأي نتاج لهم في عصر الضعف والتلاشي؟ وهل يدرس الطلاب من الأدب الغربي إلا أدب الأمم التي ثبتت قوميتها، وخفقت حريتها؟. . . وإذا كانت الثقافة أحلت لهذه الأمم أن تسخر ما لا يسخر للدعاية أفهل يلومنا أحد على أن نسخر هذا الشيء نفسه لغاية أسمى وأعلى، لغاية إحياء قومية نبيلة: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). . . إني أخاف إذا غالينا في تجريد أدبنا من قوميتنا أن يقولوا: هذا أدب إنساني ولكن بلا وطن! وضعف القومية يقتل كل خاصة مبدعة في الشعوب. لقد عملنا عملنا الإنساني كأفراد فلنجرب أن نعمله كأمة!(216/37)
نحن في مرحلة نستطيع أن نقول فيها للأديب ما قاله وزير الدعاية النازية: (لا يحق لك أن تقول (لا يهمني شيء من هذه المرحلة). وما قاله مكسيم غوركي (يجب على كل أديب أن يشعر بمسئوليته الخطرة في هذه المرحلة لأن عليك أيها الأديب يتوقف كل شيء لأنك لست حاكياً تردد، ولا آلة فوتوغرافية عمياء تصور ما يعرض لعدستها، ولا اسطوانة حاك تستنطقها أية إبرة نفس الكلمات، وإنما أنت الصوت وغيرك الصدى. أنت الريشة التي تصور، والأمة الأخيلة التي تلتقطها. أنت الإبرة التي تنقش على الاسطوانة ما تريد والشعب الاسطوانة، فعليك أن تتخير الكلمات التي تريد أن تنقشها. . . وإذا كان هم الرجل السياسي أن ينظم علاقات أمة وشؤونها في الداخل والخارج. فإن هم الأديب أن يوجه حياته ومجتمعها. ويعطينا أدباً يستمد حياته من قلب حياتها لا من بطون الكتب والحجارة. . .)
الساعة قد دنت: وعلى هذه الأرض التي سطعت عبقريتها يريد جديد من المجد والجمال أن يتيقظ!
إنا تذوقنا من ألوان الاضطهاد في الأجيال السابقة ما يجعلنا نسخر حتى السماء في تشييد حريتنا وقوميتنا. . . فكيف لا نسخرك أيها الأدب لهذه الحرية، وكيف لا نسخركم أيها الأدباء لأدب أرى فيه وجه أمتي.؟
خليل هنداوي(216/38)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 5 -
الرافعي في أهله
(إذا رأيت رجلاً موفقاً فيما يحاوله مسدد الخطى إلى الهدف الذي يرمي إليه، فاعلم أن وراءه امرأة يحبها وتحبه!)
وأنا لا أعرف - فيمن أعرف - أحداً تنطبق عليه هذه الحكمة الغالية انطباقها على حياة الرافعي؛ فالواقع الذي يعرفه كل من خالط الرافعي واتصل به وعرف طرفاً من حياته الخاصة، أنه ما كان ليبلغ مبلغه الذي بلغ لولا الحياة الهادئة التي كان يحياها في بيته؛ فإلى زوجه يعود فضل كبير في نجاحه وتوفيقه وهدوء نفسه، هذا الهدوء الذي هيأه إلى دراسة نفسه ودراسة من حوله والتفرغ لأدبه وفنه، لا يشغله عنهما شاغل مما يشغل الناس من شئون الأهل والولد.
وقد تزوج الرافعي في الرابعة والعشرين من عمره؛ ولزواجه قصة فيها طرافة وفيها مجال للفكر والنظر؛ ومادمت قد أخذت على نفسي أن أكتب عن الرافعي في كل أطواره، فلا علي أن أقول ما أعرف من قصة زواج الرافعي؛ ولا احسبني بذلك أتجاوز ما لي من الحق أو أتعرض لعتب أو ملامة، فقد خرج الرافعي من ملك نفسه وأهله إلى حكم التاريخ، وللتاريخ حق واجب الوفاء
وزوج الرافعي مصرية صريحة النسب، من أسرة البرقوقي المعروفة في (منيه جناج) - دسوق - وأخوها الأديب الكبير الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب (البيان)؛ وقد كانت صلة الأدب بين الرافعي وعبد الرحمن البرقوقي هي أول السبب في هذا الزواج.
حدثني المرحوم الرافعي قال:. . . كنت في الرابعة والعشرين وكنت أعرف عبد الرحمن البرقوقي نوعاً من المعرفة التي تربط بين شابين توافقا في الطبع، واتفقا في الغاية؛ وكان(216/39)
عبد الرحمن طالباً أزهرياً ولوعاً بالأدب، له حظوة ومكان عند الأستاذ الإمام إذ كان من تلاميذه الأدنين؛ وكنا نلتقي أحياناً؛ فسرني منه ما سره مني؛ وكان يعيش عيشة مترفة ليست منها حياة الأزهريين إذ كان له من غنى أبيه ومن جاه أسرته عز وكرامة. . . فما تعارفنا حتى تصافينا، ثم اتصل بيننا الود، فكنت له وكان لي أصفى ما يكون الصديق للصديق. . .
لم أكن أعرف له أخاً أو أختاً، ولم يجر في بالي قط أن الصلة بيننا ستتجاوز ما بيننا، حتى كان يوم جلست فيه أتحدث إلى نفسي، فكأنني سمعت صوتاً من الغيب يهتف بي أن صديقي عبد الرحمن هو صهري وأخو زوجي. . . وانتبهت إلى نفسي وأنا أسائلها: أله أخت؟ يا ليت. . .! لو كان إنني إذاً من السعداء. .
وكانت نفسي في الزواج، فما هي إلا أن تحرك في نفسي هذا الخاطر حتى سعيت إلى صديقي عبد الرحمن، وقلت له وقال لي، وجرنا الكلام إلى حديث الزواج، فقلت لصاحبي: من لي يا أخي بالزوجة التي أريد؟ ووصفت له الفتاة التي تعيش في أحلامي؛ فلما فرغت من حديثي قال صاحبي: أنا لك بما تريد. قلت: أتعرف؟ قال: هي هدية أقدمها إليك. قلت: من؟ قال: أختي!
قال الرافعي: وغشيتني غشية من الفرح، فما تلبثت حتى مددت إليه يدي فقرأنا (الفاتحة)، وما وقع في نفسي وقتئذ أنني أمد يدي لأخطب عروسي لنفسي، ولكني أمدها لأتعرف إلى العروس التي خطبتها علي الملائكة وأثبتت نبأ الخطبة في لوح الغيب
وبنى بأهله، وعاشا أهنأ ما يكون زوج وزوج، ثلاثاً وثلاثين سنة - ثلث قرن - لم يدخل الشيطان بينهما مرة واحدة، ولم يتخاصما لأمر، إلا مرة. . .
قال الأستاذ جورج إبراهيم: لقد حضرت عرس الرافعي، وصحبته طوال يومه حتى صعد إلى جلوة العروس، وشهدت اضطرابه وخجلته، واستمعت إليه من بعد يتحدث عن سعادته ويغبط نفسه على حظه وتوفيقه، وما شكا إلي مرة واحدة هماً ناله، ومضى عام. . . وجاءني ذات يوم، فجلسنا نتحدث، وتسرحنا في الحديث، ولكن وجه الرافعي كان ينم على شيء. . على سر يطويه، ثم لم يلبث أن أفصح، قال: يا جورج، لقد عزمت على أمر. . . سأطلق زوجي! وراعني هذا النبأ ونال مني؛ قلت: تطلقها! لماذا؟ قال: إن إخوتها يجحدون(216/40)
حقها في تركة أبيها، لا يريدون أن تستمتع منه بشيء. . . قلت: فهذا هو السبب؟ قال: نعم، قلت: فما ذنبها هي؟ قال: أيهون عندك أن تكون زوجي ليس لها عند إخوتها حق ولا كرامة؟ قلت: ويهون عندك أن تأخذها بما اقترف أخوها؟. . . مصطفى، إنك جبار، أو لا فاذكر أن الطلاق جريمة لم يقترفها قبلك أحد من أسرة الرافعي؛ أو لا هذا ولا ذاك، فاذكر أن أهل (طرابلس الشام) لا يذكرون الطلاق إلا كما يذكرون نادرة معيبة وقعت مرة ولن تتكرر من بعد. . . فكن بعض أهلك يا صاحبي. . .!
قال: وأطرق الرافعي هنيهة ثم قال: أحسبتني أفعلها. . .!؟ ولم يدخل الشيطان من بعد بينه وبين أهله، إذ كان كل منهما يعرف لصاحبه حقه وواجبه. . . ومضت اثنتان وثلاثون سنة بعد هذه الحادثة، كما يمضي شهر العسل، أو شهر الغزل، ليس فيه إلا العطف والمحبة والاحترام.
كان الرافعي يعيش في بيته عيشة مثالية عالية؛ فهو زوج كما يجب أن يكون الزوج، وأب كما ينبغي أن يكون الأب؛ وما كان منكوراً لأحد من أهله أن الرافعي ليس موظفاً كسائر الموظفين عمله في الخارج وحسب؛ بل كانوا جميعاً يعلمون ما عليهم لهذا الرجل الكبير، ويشعرون بما عليه من تبعات تفرضها عليه مكانته الأدبية، فيهيئون له أسباب الهدوء والراحة والاطمئنان. كان في بيته كالملك من الحكومة الدستورية: يملك ولا يحكم، ويعيش في جو من الاحترام والرعاية والطاعة، فرق الأحزاب وفوق المنازعات؛ فمن ذلك لم تكن (سياسة) البيت تشغله أي شغل أو تشغب في هدوئه وتعكر صفوه؛ فكان خالصاً لنفسه، منقطعاً لفنه وعمله الأدبي، فدار كتبه له هو وحده، وطعامه مهيأ في موعده وعلى نظامه، وفراشه ممهد في موضعه لساعته، ونظامه الذي يحقق له الهدوء والراحة ونشاط الفكر مرعي مضبوط
على أنه كان إلى ذلك يعرف واجبه لزوجه وأولاده، فما هو إلا أن يفرغ من عمله حتى تراه بين أهله مثلاً عالياً من الحب والوفاء؛ وأنا ما عرفت أبا لأولاده كما عرفت الرافعي؛ إذ يتصاغر لهم ويناغيهم ويدللهم ويبادلهم حباً بحب، ثم لا يمنعه هذا الحب الغالي أن يكون لهم أباً فيما يكون على الآباء من واجب التهذيب والرعاية والإرشاد، ناصحاً برفق حين يتحسن الرفق، مؤدباً بعنف حين لا يجدي إلا الشدة والعنفوان.(216/41)
ومادمت بصدد الحديث عن الرافعي في أهله، فإن واجباً علي أن أتحدث هنا عن شيء من (حب الرافعي) أراه يتصل بهذا الموضوع:
في فترة ما من حياة الرافعي - سأتحدث عنها بتفصيل أوفى فيما بعد - كان للرافعي هوى وغرام، ووقع له في هواه ما يقع للمحبين من ضرورات الحب، ودافع نفسه ما دافع فلم يجد له طاقة على المقاومة، واحتال على الخلاص فما أجدته الحيلة إلا هماً على هم، وكان حبه أقوى منه، ولكن دينه وأخلاقه كانت أقوى من حبه. وقال لنفسه: ما أنا وهذا الحدث الذي يعترض طريقي ويغلبني على إرادتي؟ إن في بيتي امرأة أحبها وتحبني - والحب عند الرافعي لا يأبى الشركة! - وإن لها عليّ حقاً ليس منه أن يكون مني لغيرها نظرة أو ابتسامة إلا أن تأذن لي! ماذا يكون من أمري وأمرها غداً أمام الله حين يطلب كل ذي حق حقه؟ أأقول لها: نعم قد ضيعت حقك وأعطيت من قلبي الذي لا أملك لمن لا تملك؟ ويلي! إنها الخيانة والإثم والعار!
وذهب إلى زوجه فحدثها وحدثته، ثم أفضى إليها بخبره وكشف لها عن نفسه، ثم قال: وأنت يازوجتي هل يخفى عليك مكانك مني؟ ولكن. . .
واستمعت إليه زوجته هادئة مطمئنة. . . ثم أذنت له. . . وكتب الرافعي رسالته الأولى إلى صاحبته التي غلبته على قلبه، وقرأت زوجته الرسالة وطوتها وأرسلت بها إلى صندوق البريد. . .
وجاء جواب صاحبته فقرأته زوجته كما قرأت رسالته، وصار هذا دأبهما من بعد. . . لا ترى زوجته لها حقاً عليه إلا أن تعرف، ولا يرى على نفسه في ذلك ملامة مادامت زوجته تعرف. . .!
وأنشأ هذا الحب طُرفتين في الأدب العربي ثم بهما نقص العربية في فلسفة الحب والجمال، هما كتابا (رسائل الأحزان) و (السحاب الأحمر) ولكن. . . ولكن أحداً لم يقرأ القصة الأخرى. . . قصة الحب والوفاء والتضحية، لأن الرافعي لم ينشرها فيما ألف من الكتب في فلسفة الجمال والحب. . .!
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان(216/42)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 18 -
الديانة الفارسية
لا ريب أن من يلقي على الديانة الفارسية نظرة فاحصة يأخذ بلبه ما يجده بارزاً بين جوانبها من المبتدعات (الزرادشتية) التي يجزم بعض مؤرخي الحركة العقلية بأنها لم يسبق لها نظير في تاريخ الديانات القديمة، إذ لا يعرف التاريخ قبل (زرادشت) مجدداً قلب الدين القديم رأساً على عقب وأحدث فيه أحداثاً جديدة إلا (أخناتون) الفرعون المصري الذي نادى بالتوحيد في وسط معمعان الوثنية والتعدد الطاحنين؛ ولكن (أخناتون) في نظر هؤلاء المؤرخين لم يبلغ مرتبة (زرادشت) لأن دعوته كانت تجديداً سياسياً أكثر منها دينياً، ولهذا قد فشل تجديده على أثر صعود خلفه على العرش، وإذاً فزرادشت هو الفذ الأسبق في هذا التجديد.
ولكن ليس معنى هذا أن (زرادشت) قد قطع كل العلائق بالديانة القديمة وأنشأ ديانته إنشاء كاملاً، كلا، وإنما هو قد أقر منها الشيء الكثير، وهذا هو الذي يحدونا إلى أن نلقي على الديانة القديمة نظرة عجلى قبل أن نعرض للديانة (الزرادشتية).
الديانة قبل زرادشت
ليس عندنا من المصادر عن الديانة الفارسية السابقة على (زرادشت) القدر الكافي لإعطائنا صورة واضحة تمكننا من تحليلها على الطريقة العلمية القيمة، وإنما كل ما نعرفه في هذا الصدد هو أن نقوشاً أثرية يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل المسيح وجدت في الشمال الغربي من بلاد فارس، ووجدت فيها أسماء آلهة هندية ثلاثة وهي: (ميتهرا) و (أندرا) و (فارونا) ولما كان من غير الممكن أن تصل هذه الآلهة الهندية إلى ذلك المكان(216/44)
دون أن تخترق البلاد الفارسية، فقد استنتج بعض الباحثين ونخص منهم بالذكر الأستاذ (دينيس سوريه) أن للديانة الهندية أثراً عظيماً على الفارسية الأولى. وقد ذهب غيرهم إلى ما هو أبعد من هذا، فزعم أن (أهورامازدا) إله (زرادشت) هو محرف عن (أور روناشول) الإله الهندي العتيق، ولكن هذه مغالاة شديدة من أصحاب هذا الرأي، إذ النظريات العلمية لا يصح أن تبنى على مثل هذه التكهنات المستنتجة من التحككات اللفظية.
ومهما يكن من الأمر، فإن تأثر الفارسية بالهندية أمر مقطوع به، إذ أننا نجد مثلاً في الكتاب الفارسي المقدس (زند أفيستا) أسطورة تحدثنا عن (ييما) أول إنسان أنه أطعم أبنائه لحماً محرماً (ولعله لحم ثور) ليصيرهم خالدين، وأنه قد فعل هذا نزولاً عند نصيحة أحد الآلهة، وقد ظلت هذه العقيدة فيما يظهر سائدة حتى جاء (زرادشت) فأعلن احتجاجه ضد هذه الخرافة وصرح بأن الخلود لا يمكن أن يتوقف على أكل لحم الثور وإنما هو شيء معنوي يمنحه (أهورامازدا) لمن يستحقه بالفضيلة.
ومن هذه الأساطير أيضاً ما يحدثنا به (هيرودوت) من أن الملكة (أميستريس) حين صارت عجوزاً أمرت بدفن أربعة عشر طفلاً من أبناء النبلاء أحياء، ليكون ذلك قرباناً عنها، ليقربها من الآلهة.
تمتاز هذه الديانة القديمة بأنها كانت تأمر بعبادة العناصر الأربعة: النار ممثلة في كوكبيها العظيمين: الشمس والقمر، والهواء والماء، والتراب، وبتقديس كل مظاهر الطبيعة، وبأنها تأمر بتضحية بعض الحيوانات كالثيران والكباش، ولكن يجب أن يكون ذلك على يد جمعية مؤلفة من رجال الدين تنعقد خصيصاً للإشراف على الضحايا. وكانت بعض الحيوانات تمتاز بقداستها على البعض الآخر، فكلب الماء مثلاً كان مقدساً إلى حد أن من يقتله يجب أن يعاقب بضربه عشرين ألف عصا، وكان المسكين يموت غالباً قبل أن يستوفي هذا العدد، غير أنه إذا نجا بمعجزة، وجب عليه أن يشكر الآلهة على هذه النجاة، وذلك بتقديمه عشرة آلاف قربان من السوائل، وأن يقتل عشرة آلاف ضفدعة، ولم تكن هذه الحماية مقصورة على كلب البحر، بل كانت القنافذ والكلاب البرية كذلك، كما كانت الثعابين والنمل والضفادع على العكس من ذلك تماماً.
وعندهم أن الميت يجب أن يدلك بالشمع ثم تعرضه جمعية رجال الدين للطيور والكلاب،(216/45)
لتمزق جسمه وتأكل منه ما تشاء، ثم يوارى الباقي في التراب. وقد تطورت هذه العقيدة فيما بعد فتحولت إلى عقيدة عرض الأموات في برج السكوت. ومن المحتمل أيضاً أن يكون الهنود الذين لا يزالون يعرضون جثث موتاهم لتمزيق الوحوش قد تأثروا بهذه الشعيرة.
وعندهم أيضاً أن الشعر والأظافر بعد فصلها من الأجسام الحية تصبح مدنسة، وكذلك النَّفَسُ البشري مدنس؛ ومن عقائدهم كذلك أن الجثة البشرية قد تطهر إذا قطعت ومزقت أجزاؤها ثم مر أحد الناس بهيئة خاصة من بين هذه الأجزاء.
وعندهم أن زواج الأمهات والأخوات والبنات ليس مباحاً فحسب، بل إنه مستحب وموصى به، أما الزنى فهو عندهم جريمة كبرى.
لم تمنع عبادة العناصر الفرس من اتخاذ آلهة أخرى لكل واحد منها اختصاص محدد مثل (أناهيتا) إلهة الماء والخصوبة التي صوروها بعدة أشكال وبدلوا اختصاصاتها كثيراً والتي يظن بعض الباحثين أنها أثر من (إيستار) إلهة (بابل) القديمة لا سيما وإن شمال بلاد الفرس كان خاضعاً لاستعمار البابليين في ذلك العهد.
كان بعض الشعب يعتقد أن (هاومو) - وهو اسم لشراب كحولي - هو اسم لشخصية بين الآلهة والبشر والبعض الآخر يعتقد أنه يجب أن يعبد، وقد عبدوا هذا الشراب بالفعل، ووضعوا عدة أناشيد، للتغني باسمه. وقد صرح الأستاذ (دينيس سواريه) بأنه لا مانع عنده من أن يكون لهذه الأناشيد التي تغنى بها الفرس القدماء في عبادة الخمر أثر على رباعيات عمر الخيام التي جاءت بعد ذلك ببضعة عشر قرناً.
هذا كله خاص بعقيدة العامة وجماهير الشعب؛ أما الخاصة فقد كانت لهم عقيدة أرقى من هذه العقيدة على نحو ما كانت الحال عند المصريين القدماء، إذ تحدثنا آثار ملكية وجدت في مدينتي (سوز) و (بيرسيبوليس) أن كثيراً من الملوك كانوا يؤمنون بالإلهين: (ميترا) و (أناهيتا) وغيرهما من آلهة الشعب، ولكنهم كانوا يضعون على رأس هذه الآلهة جميعاً الإله (أهورا مازدا) الذي سنتحدث عنه في ديانة (زرادشت)، ومما يلفت النظر في عقيدة الخاصة هو أن هذا الإله الرئيس كان عندهم غير مرئي وأن النار لم تكن إلا رمزاً له فحسب، وأنه لم يكن له معبد خاص، وإنما كانت جميع بقاع الأرض معبداً له.(216/46)
لقد ظل هؤلاء الملوك يعبدون (أهورا مازدا) عبادة حرة غير مقيدة بتعاليم نبوة (زرادشت) حتى أخر القرن الخامس قبل المسيح حيث اعتنقوا الديانة (الزرادشتية) وطبقوا كل طقوسها.
(الديانة الزرادشتية)
حياة زرادشت
يجمع أكثر الباحثين على أن (زرادشت) قد وجد حقاً وإن كانوا جميعاً لا يجرؤون على القول بأن لديهم أي برهان علمي يدل على وجوده؛ وهم يجمعون كذلك على أنه وجد حوالي نهاية القرن الثامن قبل المسيح، وإن كان قد شذت عن هذا الإجماع الأخير شخصية من أجل الشخصيات العلمية، وهي شخصية الأستاذ (كليمان) الفرنسي الذي يرى أنه وجد في أوائل القرن العاشر قبل الميلاد.
يحدثنا أولئك الباحثون أن تاريخ هذا الزعيم الديني مفعم بالأساطير الشعبية الغريبة التي لا يخلو منها شعب من الشعوب والتي رأينا صورة منها في تاريخ (بوذا)؛ فمن هذه الأساطير أنه ولد ضاحكاً، رافعاً وجهه ويديه نحو السماء، وأنه حدثت ليلة مولده معجزات شتى رآها الخاصة والعامة؛ ومنها أنه تحدى بعض مشاهير السحرة في عصره فحاولوا أن يهلكوه بكل ما أوتوا من علم وقوة، ولكنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً. ومن ذلك أنه كان ينسحب من البقاع الآهلة بالسكان ويأوي إلى الصحراء، ليعتكف فيها مناجياً ربه بقلبه ولسانه، وأنه كان يوحى إليه بوساطة رؤساء الملائكة، وأنه عرج به إلى حيث الإله نفسه فصار أمامه، وأنه سحر الملوك ببراهينه، وأنه كان دائماً على رأس الدعاية التي أسسها لدينه، وأنه مات في إحدى الحروب الدينية التي كان يقوم بها تبعاً لأوامر شريعته، إلى غير ذلك من الأساطير الفاتنة التي تنظمها الشعوب عادة، لتحوط بها زعماءها أو تتخذها رمزاً لمستقبلها.
أما التاريخ فيحدثنا أن (زرادشت) نشأ في بيئة ريفية متواضعة لا تستطيع أن تحمي نفسها مما ينزل بها من غارات جيرانها، ولهذا كان أكبر ما يشغل (زرادشت) في شبابه هو أن ينجو هو وأسرته من غزو القبائل الرحالة التي كانت تتهدد تلك الجهات في ذلك العهد. ويحدثنا أيضاً أن أخلاقه الشخصية كانت على أسمى ما يمكن أن يكون في تلك العصور،(216/47)
فقد رأينا آنفاً أنه عارض الدين القديم لحماية الأخلاق، إذ أعلن أن الخلود لا يكون إلا جزاء للفضيلة؛ وقد أعلن كذلك أن قتل أي كائن حي في الغزو والغارات المؤلفة لأجل السرقة والسلب هو من أفظع أنواع الجرائم حتى ولو كان هذا المقتول حيواناً، ولكن التبعة في ذلك واقعة كلها على المعتدين لا على المدافعين عن أنفسهم. وعنده أيضاً أن أجل الغايات هي الخلود النفساني وإن كان السمو لم يمنعه من أن يعنى بالحياة الدنيا عناية فائقة إلى حد أن يفسح في أدعيته مكاناً عظيماً لطلب متع الحياة من: مال وخيل وجمال فيقول (أنا أسألك أن تنبئني بالحقيقة يا (أهورا) هل أنت العدل حقاً؟ وهل حقاً سأنال هذه المكافأة التي وعدت بها، وهي عشرة أفراس وحصان وجمل، وأيضاً الهبة المستقبلة التي وعدتني بها وهي النعيم والخلود).
أهم مميزات الديانة الزرادشتية
قبل أن ندخل في تفاصيل هذه الديانة يخمل بنا أن نشير إلى أهم مميزاتها العامة التي تأسست عليها، وهي:
(أ) إن هذه الديانة أسست على فكرة خطيرة أحدثت في تاريخ الديانات هزة عنيفة لا عهد لها بها من قبل، وهي أن جميع الآلهة المذكورة في تاريخ الديانات كانت آلهة محلية أي كان لكل شعب آلهته، بل لكل مقاطعة آلهتها، أو لكل قرية إلهها، وأن كل التطورات التي أحدثها الزعماء الدينيون قبل (زرادشت) كانت تتناول تغييرات داخلية كما أشرنا إلى ذلك حين مثلنا لك بأخناتون، أما (زرادشت) فقد استطاع أن يعلن في جرأة أن (أهورا مازدا) ليس إلهاً فارسياً، وإنما هو إله الكون كله، وأنه هو نبي تلقى الوحي من هذا الإله العالمي الذي ليس له شريك وإنما له خصم هو دونه في الرفعة وهو (أهرمان) إله الشر الذي سينهزم على ممر الزمن وسينعدم جنده وأنصاره بانعدام الرذيلة من فوق الأرض.
(ب) إن هذه الديانة تمتاز عن غيرها من الديانات القديمة بأنها بنيت على أساس مبدأ تعميم الخير وإبادة الشر، وهي ترى أن من أهم الوسائل الضرورية لتحقيق هذه الغاية هو تقوية النوع البشري ونشر الخصوبة والعمران على سطح الأرض. ويلاحظ بعض الباحثين أنه وإن وجد الخير والعدل في غير الديانة الفارسية من الديانات القديمة، إلا أن تلك الديانات لم تتخذهما غاية لها كما فعل (زرادشت)؛ فخصومة (أوزيريس) وشقيقه (سيت) لم تكن(216/48)
حرباً بين الخير والشر، وإنما كانت خصومة سياسية اضطرمت نارها من أجل الاستيلاء على العرش، وإن كان أصحاب هذا الرأي لا يستطيعون أن يجحدوا أن الحق والعدل قد فازا في هذه الأقصوصة بأكبر نصيب، ولكن هناك فرقاً بين كون العدالة ممثلة في الأسطورة كما كانت الحالة في مصر وكونها غاية لها كما هي الحال في الديانة (الزرادشتية).
أما في بابل فالحالة أدهى وأمر، إذ نلفي الآلهة هناك بعيدين كل البعد عن فكرة العدالة كما تدل على ذلك أسطورة الطوفان البابلي الذي تكبت به آلهة بابل بني الإنسان دون ذنب جنوه ولا جريمة اقترفوها، وإنما كان بسبب نزاع قام بين أولئك الآلهة.
(ج) وحد (زرادشت) بين الإله (مازدا) وبين الخير توحيداً جعلهما اسمين لمسمى واحد، فسبق أفلاطون إلى هذا المزج الفلسفي والأخلاقي العظيم. وبهذا أصبح الخير قلب الديانة (الزرادشتية) الذي ينبض بحياتها، وقد أعلن أن الخير سيعم الكون كله عندما تسود الفضيلة وينهزم إله الشر (أهرمان) الذي هو العدو الأوحد لأهورا والذي هو دائم الحرب معه مستعيناً بجنوده من أنصار الرذيلة والفساد، والذي يجب على كل مؤمن أن يقوم بنصيبه من قتاله بإبادة جانب من جوانب الرذيلة.
يرى بعض العلماء أن تأسيس الديانة الزرادشتية على الفكرة من حيث هي ليس مميزاً لها، وإنما المميز هو تأسيسها على فكرة الخير، إذ كل الديانات الراقية: قديمها وحديثها قامت على مبادئ مختلفة، فالبوذية مثلاً أسست على مبدأ: الألم، والمسيحية على مبدأ: الحب، والإسلامية على مبدأ: التوحيد.
ويعلق ذلك الفريق من العلماء على هذا الرأي بقوله: (ولكن الشعوب التي ظهرت فيها هذه الديانات لم تفهم تلك المبادئ العالية التي قصد إليها زعماؤها، وإنما أحاطوها بسياج سميك من أساطير الوثنية الأولى التي بعثوها من مراقدها وأنزلوها من الاحترام العملي منزلة طغت على الغاية الأساسية للديانة؛ فأنت إذا فتشت في هذه الديانات الراقية بعد وفاة زعمائها وجدت ذلك ملموساً لا يحتاج إلى جدل، ف (بوذا) لم يتخيل قط أنه سيؤله ويعبد بعد موته، ولو تخيل هذا في حياته لانكسر قلبه حزناً وألماً؛ و (زرادشت) لم يتصور البتة أن الشعب سيرفعه بعد عشرين سنة إلى منزلة (أهورامازدا)؛ والمسيح لم يدر له بخلد أن(216/49)
الشعوب التي اعتنقت ديانته ستتغالى إلى هذا الحد في شخصيته البشرية؛ ومحمد لم يكن يسمح من غير شك أن تدعو أمته قوماً من البشر للشفاء أو لقضاء الحاجات كشركاء لله الذي قضى نبيهم حياته في النداء بتوحيده وإفراده بكل شئ.
أما ما تحاوله العقلية العصرية من تفسير هذه الديانات بما يلائم روح هذا العصر فهو فاشل أو قليل النجاح، لأن عامة الشعوب لا تستطيع أن تتعقل تلك المبادئ السامية التي أتت بها هاتيك الديانات.
(يتبع)
محمد غلاب(216/50)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعَاف النشاشيبي
169 - وتضحى ممالك قوم طعم
أبو العلاء احمد بن سليمان:
تلوا باطلا، وجلو صارماً ... وقالوا: صدقنا فقلتم: نعم
يدول الزمان لغير الكرام ... وتضحى ممالك قوم طُعَم
170 - جهنم اليهود وجنتهم في الدنيا
في (شرح النهج) لابن أبي الحديد: كل ما في التوراة من الوعد والوعيد فهو لمنافع الدنيا ومضارها. أما منافعها فمثل أن يقول: إن أطعتم باركت فيكم، وكثرت من أولادكم، وأطلت أعماركم، وأوسعت أرزاقكم، واستبقيت اتصال نسلكم، ونصرتكم على أعدائكم. وإن عصيتم وخالفتم اخترمتكم، ونقصت من آجالكم، وشتت شملكم، ورميتكم بالجوع والمحل، وأذللت أولادكم، وشمت بكم أعداءكم، ونصرت عليكم خصومكم وشردتكم في البلاد، وابتليتكم بالمرض والذل، ونحو ذلك.
ولم يأت في التوراة وعد ووعيد بأمر يتعلق بما بعد الموت
171 - يا دولة السوء لا لقيت صالحة
يا دولة السوء لا لقيت صالحة ... هل لانقراضك من وقت فينتظر
وكيف نرجو خلاصا أو نري فرجا ... وفيك طول وفي أعمارنا قصر!!
172 - أؤدب أحدهما وأقبل رأس الآخر
في (الموشح وخزانة البغدادي): قال أبو جعفر محمد بن موسى المنجم: كنت أحب أن أرى شاعرين فأؤدب أحدهما وهو عدى بن الرقاع لقوله:
وعلمت حتى ما أسائل عالما ... عن علم واحدة لكي أزدادها
ثم أسائله عن جميع العلوم فإذا لم يجب أدبته، وأقبل رأس الآخر وهو زيادة بن زيد لقوله:
إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ... أطال فأملي أو تناهي فاقصرا
173 - الدنيا سوفسطائية(216/51)
في (الذريعة إلى مكارم الشريعة) للراغب الأصفهاني: قال بعض الحكماء المكر والخديعة محتاج إليهما في هذا العالم، وذلك أن السفيه يميل إلى الباطل، ولا يقبل الحق، ولا يميل إليه لمنافاته لطبعه فيحتاج أن يخدع عن باطله بزخارف مموهة خدعة الصبي عن الثدي عند الفطام، ولهذا قيل: مخرق فأن الدنيا مخاريق، وسفسط فان الدنيا سوفسطائية. وليس هذا حثا على تعاطي الخبث بل هو حث على جذب الناس إلى الخير بالاحتيال.
174 - أين الوعد
في (وفيات الأعيان): قال أبو محمد بن الحسن بن عسكر الصوفي الواسطي: كنت ببغداد في سنة (521) جالسا على دكة باب ابرز للفرجة، فجاء ثلاث نسوة، فجلسن إلى جانبي، فأنشدت متمثلا:
هواء ولكنه جامد ... وماء ولكنه غير جار
وسكت، فقالت إحداهن: هل تحفظ لهذا البيت تماماً؟ فقلت: ما احفظ سواه. فقالت: إن أنشدك أحد تمامه وما قبله فماذا تعطيه؟ فقلت: ليس لي شيء أعطيه ولكني أقبل فاه، فأنشدتني:
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
هواء ولكنه جامد ... وماء ولكنه غير جار
إذا ما تأملتها وهى فيه ... تأملت نوراً محيطاً بنار
كأن المدير لها باليمين ... إذا مال للسقي أو باليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرْدُ كُمٍّ من الجلّنار
فحفظت الأبيات منها. فقالت لي: أين الوعد؟. . - تعني التقبيل - أرادت مداعبتي بذلك.
175 - كيف الحياة مع الحيات في سفط
ابن عسال الطليطلي (عبد الله بن فرج): حين أخذ الأفرج طليطلة سنة (478):
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثورا من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط!(216/52)
176 - عائشة بنت طلحة زعيمة السفور
في (الأغاني): كانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد، فعاتبها مصعب في ذلك، فقالت: إن الله (تبارك وتعالى) وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس، ويعرفوا فضله عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما فيَّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد.
177 - يكتب هذا في مكارم الأخلاق
في (تاريخ بغداد) لابن الخطيب: قال محمد بن احمد بن موسى القاضي: حضرت مجلس موسى بن اسحق القاضي بالري سنة (286) وتقدمت امرأة فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهراً، فأنكر، فقال القاضي: شهودك، قال: قد أحضرتهم، فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد وقال للمرأة: قومي، فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة لتصح عندهم معرفتها، فقال الزوج: وإني أشهد القاضي أن لها على هذا المهر الذي تدعيه ولا تسفر عن وجهها، فردت المرأة وأخبرت بما كان من زوجها، فقالت المرأة: فإني أشهد القاضي أن قد وهبت له هذا المهر وأبرأته منه في الدنيا والآخرة
فقال القاضي: يكتب هذا في مكارم الأخلاق(216/53)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الحادثات الجسام
على مقربة من جزر زارا السعيدة، تقوم في البحر جزيرة فوقها بركان يقذف حممه عليها بلا انقطاع، ويقول الشعب وبخاصة العجائز فيه: إن هذه الجزيرة منتصبة صخرا يسد باب الجحيم، غير أن هنالك منفذاً ضيقاً يخترق البركان وينتهي إلى هذا الباب
في ذلك الزمان، حين كان زارا يسكن جزره السعيدة ألقى مركب مرساته أمام الجزيرة التي يعلوها الجبل المشتعل. ونزل بحارته إلى البر ليقتنصوا بعض الأرانب، وما حان وقت الظهيرة واجتمع القبطان برجاله بعد أن لموا شعثهم حتى رأى هؤلاء الناس رجلاً يخترق الفضاء بغتة إليهم ثم اقترب منهم وصاح بهم بصوت جلي قائلاً: لقد حان الزمن، لقد اقترب كثيراً. . .
ومر بهم الشبح مسرعاً وهو يتجه إلى البركان، فتميزوا به شخص زارا لأنهم كانوا رأوه من قبل جميعهم ما عدا القبطان وأحبوه كما يحب الشعب من يخشى
فقال شيخ البحارة - هذا زارا يسير إلى الجحيم
وفي الزمن الذي نزل فيه البحارة إلى جزيرة اللهب، كان شاع اختفاء زارا بين الناس وقال صحبه لمن سألوا عنه: إنه أبحر على مركب تحت جنح الظلام ولم يعرف أحد الوجهة التي يقصدها
هكذا ساد القلق من اختفاء زارا؛ وبعد ثلاثة أيام زاد هذا القلق بعد أن أخبر البحارة بما رأوا، وشاع بين الشعب أن إبليس قد اختطف زارا، ولكن صحب زارا لم يأبهوا لهذه الإشاعة بل ضحكوا منها وقالوا: إن ما نعتقده هو أن زارا قد اختطف الشيطان
غير أن اختفاء زارا كان يشغل بال صحبه، وما مضت خمسة أيام حتى عاد إليهم، فكان سرورهم عظيما
وهذا ما نقله زارا لهم عن حديثه مع كلب النار. قال: إن للأرض جلداً ولهذا الجلد(216/54)
أمراضه، وأحد هذه الأمراض الإنسان وهنالك مرض آخر يدعى كلب النار، وقد كان هذا الكلب السبب في تناقل الناس الأكاذيب وتصديقهم لها. وما اجتزت البحار إلا لأكشف هذا السر فرأيت الحقيقة عارية من أخمص قدسيها حتى عنقها، فما تخفي عني الآن حقيقة كلب النار، وحقيقة جميع أبالسة التمرد والأقذار التي لا تتفرد العجائز بالذعر منها
لقد هتفت قائلاً: اخرج من أغوارك أيها الكلب الناري وقل لي كم هي عميقة أغوارك ومن أين تأتي بما تنفثه علينا. إنك تكرع من البحر بشراهة، وذلك ما تنم عليه مرارة الملح في ثرثرتك، والحق أنك وأنت كلب الأغوار لا تستمد غذاءك إلا من الأماكن السطحية، فما أنت إلا كالمتكلم من بطنه لأنني في كل مرة سمعت فيها أقوال أبالسة التمرد والأقذار تبينتهم أشبه بك في دناءتك وأكاذيبك. لقد اتفقت أنت معهم على النباح واتفقتم جميعكم على ذر الرماد ونشر الظلام فأنتم أعظم المتفاخرين وتعرفون كيف تدفعون بالأوحال إلى الفوران وحيث تكونون لا بد أن تحيط بكم الوحول وكل ما هو إسفنجي مضغوط ضيق المسام وما يطلب الانطلاق إلا من اتصف بهذه الصفات. والحرية هي الصرخة التي تفضلونها غير أنني فقدت إيماني بالحادثات الجسام منذ رأيت الصراخ والدخان يتعاليان حولها.
صدقني يا إبليس الثورات الصاخبة الجهنمية، ليست أعظم الحادثات في أكثر ساعاتنا ضجيجاً بل هي في أعمقها صمتاً. وما يدور العالم حول موجدي الشغب الجديد بل هو يدور على محور موجدي النظم الجديدة.
لا بد لك أيها الشيطان من الإقرار بسخافة ما كانت تنقشع عنه قرقعتك وضباب دخانك وهل من جسام الأمور أن تتحول مدينة إلى مومياء وأن يتداعى عامود إلى الأوحال؟ وهذه كلمة أخرى أوجهها إلى هدامي الأعمدة: إن أقصى الجنون هو في إلقاء الملح إلى البحر وفي إسقاط الأعمدة إلى الوحول، لأن هذه الأعمدة كانت مطروحة على أوحال احتقاركم وهاهي ذي تنهض بسيماء الآلهة وقد انطبع عليها الألم الساحر. فهي والحق تدين لكم بالشكر لأنكم أسقطتموها أيها الهادمون
وهأنذا الآن أسدي النصح للملوك والكنائس ولكل من أضعفته الفضيلة أو أهرمه الزمان فأقول: دع القوة تسقطك لتعود إلى الحياة لترجع الفضيلة إليك.(216/55)
هكذا تكلمت أمام كلب النار، فقاطعني بهريره قائلا: (الكنيسة، وما هي هذه الكنيسة؟) فقلت: إن الكنيسة شئ أشبه بالدولة، بل هي من أكذب أنواع الدول، ولكن صه أيها الكلب، فانك أخبر بنوعك من أي كان. إنما الدولة حيوان خبيث على شاكلتك فهي تحب أن تتكلم فترسل بيانها دخاناً وهريراً لتخدع الناس وتجعلهم يعتقدون بأن أقوالها مستمدة من غور الأمور. فهي تريد أن تكون أعظم حيوان على وجه الأرض والعالم يراها على ما تريد.
وظهرت على وجه الكلب أفظع معاني الحسد فصاح: ماذا تقول وهل يعتقد أحد أن الدولة هي أعظم حيوان على الأرض؟
فقال هذا وخرجت من بين شدقيه إعصار من الدخان وازداد هريره حتى حسبته مقتولاً بغيظه. ولكنه ما لبث حتى استعاد السكون فقلت له: - لقد تملكك الغيظ، يا كلب النار، وذلك دليل على أنني أقول الحق عنك. وهأنذا أستمر في إعلان الحقائق فأحدثك عن كلب آخر من أتباع النار وهذا الكلب يتكلم حقيقة من قلب الأرض، فلهاثه من ذهب، وما يحسب حساباً للرماد والدخان والزبد الحار فإن فيما حوله ترتفع قهقهة تنتشر كأنها سحاب يزهو بعديد ألوانه. وهو عدو هريرك وزبد شدقيك وما في أحشائك من الاختلال. إن هذا الكلب يأخذ الذهب والضحك من قلب الأرض لأن قلب الأرض من ذهب، فاعلم هذا أنت.
وغلب الكلب على أمره عند سماعه هذه الكلمات فأرخى ذيله خجلاً وبدأ يعوي وهو يزحف زحفاً إلى مغارته.
هذا ما سرده زارا لأتباعه ولكن أتباعه ما كانوا يبالون بما يقول وقد اشتد شوقهم إلى إخباره عما حدث للبحارة والرجل الطائر في الهواء.
ولما سمع زارا ما قصوه عليه قال: ماذا عساني أظن بما قلتم؟ أفأكون شبحاً من الأشباح؟ ولعل ما رأوه لم يكن سوى خيالي ولعلكم سمعتم حكاية المسافر وخياله، غير أنه من الواجد علي أن أشدد النكير على خيالي فلا يذهب كما يشاء نائلاً من شهرتي.
وهز زارا رأسه بتعجب متسائلاً عما يقوله في هذا الحادث وهو لا يدري لماذا هتف الخيال قائلاً: لقد اقترب الزمان.
هكذا تكلم زارا. . .
العرّاف(216/56)
(. . . ورأيت الناس يستولي عليهم حزن عميق، وقد وهنت قوى خيارهم فيما يعملون. وانتشر تعليم يؤدي إلى الإيمان في أن كل شيء باطل ومتشابه وقيد الزوال. فتجاوبت الأصداء في الهضبات مرددة: كل شيء باطل ومتشابه وقيد الزوال.
لقد حصدنا ولكن غلالنا أكمد لونها وتهرأت، فأي شيء تساقط تحت جنح الظلام من وراء كوكبه اللئيم؟
لقد ذهبت جهودنا سدي وفسد خمرنا فاستحال سماً زعافاً فكأن عيناً حاسدة أصابت حقولنا وقلوبنا فأذوتها.
جففنا جميعنا فإذا نزلت بنا حارقة فلا يتطاير منا غير الرماد. لقد تعب منا كل شيء حتى لسان اللهيب.
غاضت الينابيع أمامنا وتراجع البحر عنا وقد زلزلت الأرض تحت أقدامنا ولكنها لم تفغر فاها لتوارينا. فمن لنا ببحر نغرق فيه، إننا نصرخ طالبين البحر فيذهب صوتنا بدداً على سطوح المستنقعات.
والحق أننا بذلنا أقصى جهودنا طلباً للموت ولما نزل جثثاً تحيا وعيونها جاحظة طي اللحود.)
هذا ما قاله أحد العرّافين فذهب قوله نافذاً قلب زارا فبدّله تبديلاً، وأصبح زارا حزيناً متعباً يضرب في الأرض شبيهاً بمن ذكرهم العراف في نبوءته.
وقال زارا لأتباعه: لن يمضي زمن طويل حتى ينسدل هذا الغسق القاتم على وجه الأرض، وأنا أحاذر ألا أجد وسيلة للعبور بنوري إلى ما وراءه فأنقذه من الانطفاء. هل من حافظ له بين هذه الأحزان وأنا قد أعددته ليضيء في العوالم البعيدة ويشع في طيات الظلام السحيق.
وسار زارا شارداً يحمل همه في قلبه، فأمضى ثلاثة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً ولا يعرف الراحة حتى وقف لسانه عن الكلام فاستغرق في نوم عميق. وجلس صحبه حوله يسودهم القلق طوال الليالي متوقعين أن يفيق ليردوه عن أحزانه.
وأفاق أخيراً فخاطبهم بصوت كأنه ترديد صدى بعيد قائلاً: (أصغوا إليّ، أيها الصحاب، لأقص عليكم ما رأيت في حلمي وساعدوني على تعبيره، فإن حلمي قد أغمض عيني ولم(216/57)
يزل معناه كامناً فيه.
(يتبع)
فليكس فارس(216/58)
هذي المعاهد
قَضَّيتُ آمالَ الحشاشة أجمعا ... ورأيت ما اغترق العيونَ وأمتعا
وعرضتُ من فِتَن الطبيعة موكباً ... سيظل في خلدي نضيراً مونعاً
ومضيت عن نَظَرٍ بديع معجب ... حَسَنٍ إلى نَظَرٍ أَحَبَّ وَأبْدَعا
وجَلَتْ حلاها لي الطبيعة أُفْقَها ... وأَديمها وأَراكَها المتضوعا
وقرارةً هبطتْ ونجداً صاعداً ... وخميلة نضرت وعشباً أَمرعا
ونميرَ ماءٍ سارياً متوانيا ... حيناً وحيناً دافقاً متدفعا
ينساب آنا ساكناً مترقرقا ... بسطت حواليه الغصونُ الأذرعا
ورَمَتْ عليه ظلالَها مخضَرَّةً ... فكأنَّ روضاً رفَّ فيه وأَفرعا
ويغيب آنا في حنايا غابِهِ ... إلا خريراً منه شق المسمعا
يتلو على سمع الصخور قصيدَهُ ... عذبَ البيان مجنّساً ومسجَّعا
ويفيض من جسر إلى جسر إلى ... جسر يزمزم تحته متخشّعا
ويضل عن بصري ويذهب ضاوياً ... ويعود يلقاني مليئاً مترعا
صرَّفتُ في تلك المجالي نظرتي ... ورويت طرفي مرسَلاً ومرجَّعا
واشتقتُ لي في كل بيت مسكناً ... منها وجَانِبَ كلِّ دوح مضجعا
يا حُسْنَ أَبياتٍ هناك تتابعت ... زُمَراً تفرَّق بعضها وتجمعا
جثمت على قمم الربى وسفوحها ... وبدا بها نَورُ الزهور مرصَّعا
وزكتْ بساحتها الثمارُ شهيةً ... وعَدَتْ حواليها السوائم رُتَّعا
ويجودها هامي السحاب فتنجلي ... أَبهى من الثلج النقي وأَنصعا
ما ضرَّ مالِكَها ونازلَ حُسنها ... ما نال من آماله أو ضيَّعا
فِتَنٌ نعمتُ بها نهاراً خلتُني ... قد جُبْتُ حُسْنَ الكون فيه أَجمعا
مُذ طالعتْها الشمسُ في رأد الضحى ... حتى زها فيها الأصيل مشعشعا
هذي المعاهد كم سعدتُ بظلها ... وخطرت في جنباتها مستمتعا
وصحبتُ فيها الليل آخِرَ قافلِ ... ولقيتُ فيها الصبح أولَ مَن سعى
ومضتْ بها ذِكَرٌ إِليَّ حبيبة ... وخَلاَ بها ودٌّ نما وترعرعا
وقبستُ منها الشعر أمسِ ولم تزل ... توحي إليَّ الشعرَ والعليا معا(216/59)
اكستر (إنجلترا)
فخري أبو السعود(216/60)
قلبي. . . قلبي
للمرحوم مصطفى صادق الرافعي
قلبي أأنت نصيري في محبتها ... أم أنت يا قلب فيها بعض أعدائي
كل الذي فيك من برئي وعافيتي ... هو الذي فيك من سقمي ومن دائي
يا رحمتا لك من قلب كصومعة ... في رأس شاهقة في جوف صحراء
شيدت من الصخر لكن في طهارتها ... هي الغمامة قد شيدت من الماء
فالموت فيها بلا معنى يميت كما ... فيها الحياة بلا معنى لأحياء
يا حسرتا لك من قلب تقلب من ... جوع لجوع وإظماء لإظماء
عند الأحباء لا يألو منازعة ... وإن تكن روحه عند الأحباء
ناء قد ازْوَرَّ عن ناء وما ابتعدا ... لكن معاند من يهوى هو النائي
يظل ذاكر حب غير محتفل ... ذكرى وناسِيَ حب غير نَسَّاءِ
أوفى بك الحب يا قلبي على زمن ... كالأرض بعد حصاد الزرع للرائي
سوداء شعثاء مغبراً جوانبها ... من بعد لفاء ريا النبت خضراء
قلبي إن بت مطوياً على حرق ... من الصبابة تطفيها بإِطفاء
ويك اتئد إن نيراناً تحرقني ... في حبها هي نيراني وأضوائي
يا بؤس للقلب من هجر عرفت به ... ثقل الزمان على قلبي وأحشائي
يمر يوم فيوم في تسلسله ... والحب جالسني في يوم أخطائي
مثل الضباب على الأنوار يتركها ... مرضى من النور قد حمت بظلماء
وشقة الهجر تمضي لا انتهاء لها ... إذا الدلال مشى فيها بإبطاء(216/61)
حمامة الموكب الملكي
صَحِبَتْ رَكْبَهُ المُعَزَّزَ وَرْقَا ... ءُ وَحَفَّ الرِكابَ سرْبُ الحَمَامِ
وَقُلُوبُ الطُّيُورِ قَد شَفَّهَا الشَّوْ ... قُ إِليْهِ فَكَيْفَ قَلْبُ الأَنَامِ
هِيَ رَمْزُ السَّلاَمِ قَدْ هَزَّهَا البِشْ ... رُ فَمَالَتْ عَلَى رَسُولِ السَّلاَمِ
يَهْبِطُ الطَيْرُ أَيْنَما هَبَطَ السِّلْ ... مُ وَساَدَ الوَرَى لوِاءُ الوِئَامِ
إسكندرية
احمد فتحي مرسي(216/62)
رسالة العلم
الفيتامينات
للأديب عبد المنعم عبد الحميد بدر
. . . الجسم كالمعمل الكيماوي تجري داخله عدة تفاعلات كيماوية معقدة للقيام بوظائفه الحيوية المختلفة، والروح كالعالم الكيماوي داخل هذا المعمل أمامه المواد الكيماوية والمواد الأخرى التي يريد أجراء التجارب عليها لتحليلها والاستفادة منها. فإذا نقصت إحدى هذه المواد وخصوصاً إذا كانت ذات أهمية كبرى وقفت التجارب أو قل وقف معظمها لنقص هذه المادة التي كانت تدخل في إجراء كل منها وبذلك يضعف الجسم وتنتابه الأسقام والآلام.
ومن هذه المواد المهمة والتي يحتاج إليها معمل الجسم بكثرة الفيتامينات، إذ أقل ما يقال في وصفها أنها من المواد التي تنظم الحياة، فعليها يتوقف سير عمليات الهضم والتمثيل وقوة الجسم أو ضعفه وقابليته للأمراض أو مقاومته لها. وتوجد هذه الفيتامينات في المواد النباتية كالخضر والفاكهة ومحاصيل الحقل كالقمح والشعير والفول، والمواد الحيوانية كاللحوم والألبان متى كان كل منها طازجاً أو مضى عليه زمن طويل غير أنه محفوظ بطريقة خاصة تمنع تطرق الفساد إليه.
تعريف الفيتامينات
هي عبارة عن مواد كيميائية معقدة غير معروفة التركيب إلى الآن وهي ذات أهمية أساسية لنمو الجسم وبقائه في حالة صحية وغيابها يجعل النمو غير طبيعي فضلاً عن تعرض الجسم للأمراض المختلفة التي يسببها نقصها في الجسم. فمرض نحافة العظام والكساح يتسببان عن نقص فيتامين (د) في الأم أثناء الحياة الجنينية فينشأ الطفل وفيه هذا المرض، كذلك إذا غذي بالأغذية الصناعية كالألبان المجففة بطريقة تؤدي إلى موت الفيتامينات فيها إذا اضطرت الظروف إلى تغذية الطفل بغير لبن أمه الكامل والمحتوي على جميع الفيتامينات لأي سبب من الأسباب. وكثيراً ما يؤدي نقص الفيتامين في الجسم إلى إحداث(216/63)
مضاعفات شديدة وأمراض خبيثة تأتي تدريجياً وببطء قد تودي في نهاية الأمر بالحياة.
وتوجد سبعة فيتامينات وهي: فيتامين (أ) وفيتامين (ب) وفيتامين (ج) وفيتامين (د) وفيتامين (هـ) وفيتامين (و) وفيتامين (ز) والستة الأولى أكثر أهمية من الفيتامين السابع، وعلى العموم فلكل منها وظيفة خاصة لا يمكن أن يؤديها فيتامين آخر في حالة عدم وجوده.
طبيعة الفيتامينات
لم يعرف للآن التركيب الكيميائي للفيتامينات ما عدا الفيتامين (د) الذي توصل إلى معرفة طبيعته فقط في الوقت الحاضر بالنسبة لعلاقته الشديدة بالأرجوسترول وهي مادة عضوية معقدة التركيب يمكن تحضيرها في المعمل، وبعض لعلماء يعتبر الفيتامينات مواد حية والبعض الآخر يعتبرها مواد كيميائية معقدة غير حية يمكن الوصول إلى معرفة تركيبها بالبحث والتجارب؛ غير أنه لم يمكن تحضير أي فيتامين على حالة انفراد فيقال إن هذه المادة هي فيتامين (أ) أو (ب). . . الخ، وكل ما أمكن عمله هو الحصول على مركزات أو مستخلصات أو مجففات تكون فيها هذه الفيتامينات بكثرة كزيت كبد الحوت ومجفف عصير العنب والموالح أو مستخلص الفواكه واللحوم ويستدل على وجود الفيتامينات كيميائياً بما يأتي: -
(1) فصل الفيتامينات من المواد الغذائية باستخدام طرق كيميائية وتركيزها في مركزات صناعية سهلة التداول (2) عن طريق دراسة بعض الصفات الكيميائية المهمة (3) عن طريق دراسة طبيعة المواد التي تقتلها وتؤدي إلى تحللها.
وتدرس الفيتامينات من وجهة وجودها أو عدمه بطرق حيوية خاصة وذلك عن طريق نوع من الأرانب الغينية لمعرفة ما إذا كان أي نوع من الغذاء يحتوي على نوع مخصوص من الفيتامين أم لا. ولتوضيح ذلك نفرض أن المطلوب معرفة هل يحتوي التفاح على فيتامين (أ) أم لا لذلك يؤخذ نوع الأرانب المذكور ويغذى أو يحقن بمادة غذائية تحتوي على جميع الفيتامينات ماعدا فيتامين (أ) ثم تغذى أو تحقن بمستخلص التفاح فإن نما جسمها نمواً عادياً ولم تضطرب أي عملية من عملياته المختلفة في مدة تتراوح ما بين 21، 25 يوماً دل ذلك على وجود فيتامين (أ) في التفاح. أما إذا مرضت الأرانب وظهرت عليها أعراض كالأعراض التي تنشأ عن نقص الفيتامين (أ) كان ذلك دليلاً على عدم وجود(216/64)
الفيتامين (أ) في التفاح.
وتعتبر الفيتامينات على وجه العموم مواد نباتية إلا أنه توجد عدة اعتراضات مهمة تقف حائلاً دون قبول هذا الرأي وأهمها صلاحية أي أو أي مماثل له سواء وجد في الأنسجة الحيوانية أو النباتية - لأن يتحول إلى فيتامين (د) صناعياً بفعل الأشعة فوق البنفسجية وكذلك توجد شبهة قوية في أن بعض الحيوانات لها قدرة اكتناز فيتامين (ج) في كبدها وتمثيله.
تقسيم الفيتامينات
تقسم الفيتامينات من وجهة ذوبانها في الماء أو في الدهون ومذيباتها إلى قسمين رئيسيين وهما: -
(أ) فيتامينات توجد في الدهون فهي بالطبع تذوب في الدهون ومذيباتها وهي فيتامين (أ) وفيتامين (د) وفيتامين (هـ) وفيتامين (ز).
(ب) فيتامينات قابلة للذوبان في الماء وهي (ب) و (ج) و (و)
خواص الفيتامينات
لقد أجرى العلماء عدة تجارب دقيقة أمكن بها معرفة المواد الغذائية التي يوجد فيها كل فيتامين بكثرة أو بحالة مناسبة للجسم حتى يتمكن الإنسان من إدخالها ضمن غذائه للمحافظة على سلامة جسمه ووقاية ومقاومته للأمراض. وسنبدأ بذكر خواص كل فيتامين على حدة ثم نذكر بعد ذلك وظيفة كل فيتامين والنتائج التي تحدث في حالة عدم وجوده في الجسم أو نقصان مقداره عن الحد المناسب لحالة الجسم ونذكر المواد الغذائية والمركزات الصناعية التي يوجد فيها كل فيتامين على الترتيب.
فيتامين (أ) ويسمى:
(1) فيتامين ضد التهاب العين -
(2) فيتامين ضد عدوى الأمراض -
يتأثر هذا الفيتامين بالحرارة إلا أن درجة التأثر تتوقف على ظروف البيئة التي يوجد بها وهذا الفيتامين سريع الأكسدة في الجو العادي فإذا سخن في درجة حرارة عالية تحت جو(216/65)
مفرغ من الهواء أمكن المحافظة عليه خصوصاً إذا أزيل غاز الأكسجين واستبدل مكانه بغاز متعادل كالأزوت غير الفعال. وهذا الفيتامين لا يتأثر - بدرجة كبيرة - بدرجات الحرارة العالية عند تعقيم المواد الغذائية المحفوظة إلا أنه يفقد بسرعة الأكسدة عند تجفيف الفاكهة والخضروات ماعدا الفاكهة التي تعامل بغاز أكسيد الكبريت قبل التجفيف.
وظائف هذا الفيتامين الحيوية
(1) يمنع عدوى الأمراض (خصوصاً التهاب العين وأعضاء التنفس) (2) يساعد على نمو الجسم (3) يحافظ على سلامة البنية (4) يساعد على عمليات الهضم (5) عامل مهم للتناسل (6) يحتاج إليه الطفل مدة الرضاعة ولذلك يجب توفره في لبن الأم (7) يمنع تعرض الجسم لمرض الأنفلونزا.
بعض النتائج التي يسببها عدم وجود فيتامين (أ) أو وجوده
بقلة:
(1) ضعف مقاومة الجسم لعدوى الأمراض (2) وقوف الجسم عن النمو (3) تعرض العين لما يأتي: -
(أ) مرض العين والتهابها وفقدان قوة الإبصار أثناء الليل (ب) فقدان غدد العين لخاصية البكاء (ج) تعرض جميع أعضاء التنفس للأمراض (د) التهابات بقناة الهضم (هـ) التهابات بغدد اللعاب تحت اللسان (4) إسهال (5) ضعف طبيعي (6) فقدان شهية الأكل (7) تعرض الجسم للأنفلونزا ويوجد هذا الفيتامين في مركزات صناعية: -
(1) في الجزء الذي لا يتصبن من زيت كبد الحوت وهو محضر بالصيدليات (2) كاروتين محضر من الجزر أو الخضروات الخضراء فيتحول الكاروتين إلى فيتامين (أ) في الجسم والمادة الوحيدة التي يوجد فيها هذا الفيتامين بغزارة هي زيت كبد الحوت.
المواد النباتية التي يوجد بها هذا الفيتامين هي: -
(1) بكثرة مثل: برسيم حجازي - جزر - خس - سبانخ - طماطم (2) بكميات حسنة وهي: -
(أ) فواكه: - مشمش - موز - برتقال - خوخ - أناناس - قراصية (ب) خضراوات: -(216/66)
خرشوف - كشك - ألماز - كرنب كرفس - ذرة (صفراء) - بسلة (الخضراء) - فلفل (أخضر) - قرع - فاصوليا - بطاطا (صفراء).
والمواد الحيوانية التي يوجد بها هذا الفيتامين: -
(1) بكثرة: - زبدة - جبن - قشدة - بيض (المح) - لبن (غير مفروز) (2) بكميات حسنة: - الكبد - الكلى - حيوانات بحرية -
فيتامين (ب) ويسمى:
(1) فيتامين ضد مرض البري بري -
(2) فيتامين ضد مرض الأعصاب -
يتوقف تأثير الحرارة على هذا الفيتامين تبعاً للوسط إذا كان حمضياً أو قلوياً أو متعادلاً وهو يتأثر بالحرارة سواء وجدت في محلول أو في المواد الغذائية الطبيعية، والوسط له تأثير على درجة الحرارة التي يقتل عندها أو تقل كميته، فمثلاً المواد الغذائية الطبيعية كالحبوب تفقد هذا الفيتامين عند تسخينها إلى درجة 120 مئوية لمدة نصف ساعة ولكن يسهل قتله عند درجة 100ْم إذا كان الوسط متعادلاً أو قلوياً نوعاً ما ويقتل هذا الفيتامين تماماً عند درجة 250ْ مئوية لمدة 4 ساعات في معظم المواد الغذائية.
وظائف فيتامين (ب) الحيوية
(1) يساعد عمليات الهضم (2) يساعد على تكوين العظام (3) يمنع أمراض الأعصاب (4) تحتاج إليه الأم مدة الرضاع (5) يقوي أعضاء الهضم.
بعض النتائج الحيوية التي يسبها عدم وجود الفيتامين (ب) أو
قلته:
(1) ضعف أو فقدان شهية الأكل (2) ضعف عمليات الهضم والأعضاء المختصة بها (3) ضعف نمو الأطفال مدة الرضاع (4) ضعف البنية (5) التعب (6) انخفاض في درجة حرارة الجسم العادي (7) ظهور علامات مرض البري - بري كما يأتي:
(أ) فقدان تعاون الأعضاء (ب) شلل تدريجي بالأطراف (ج) اختلال وظيفة أعضاء الهضم (د) النحافة.(216/67)
ويوجد هذا الفيتامين في المركزات الصناعية الآتية
(1) محضر من الخميرة (2) محضر من فضلات الأرز بعد تبييضه (3) محضر من نخالة القمح.
والمركب الوحيد الذي نحتوي هذا الفيتامين بغزارة هو الخميرة
والمواد النباتية التي يوجد بها هذا الفيتامين:
(1) بكثرة وهي حبوب: - قمح - ذرة - أرز - شوفان (بشرط عدم فصل الدقيق عن النخالة) - بسلة (2) بكميات حسنة: كشك الماز - تفاح - فول - موز - جزر - كانتالوب - قرنبيط - بلح - كرفس - عنب - خس - ليمون هندي - بطاطس - بندق وجوز - سبانخ - برتقال - طماطم - خوخ - لفت - قراصية - أناناس.
والمواد الحيوانية التي يوجد بها هذا الفيتامين:
(1) بكثرة: - بيض (المح) (2) بكميات حسنة: - المخ - الكبد - الكلى - الجبن - اللبن - (حيوان بحري).
فيتامين (ج) - ويسمى فيتامين ضد الإسخربوط -
يتحمل هذا الفيتامين الحموضة عن الفيتامينات الأخرى ويحتفظ بطبيعته في المحاليل الحمضية أكثر من القلوية والمتعادلة ولذلك يتطلب أثناء عمليات حفظ عصير بعض أنواع الفاكهة المحافظة الدقيقة على هذا الفيتامين لمنع أكسدته، ولا يتأثر هذا الفيتامين بالأشعة فوق البنفسجية، ويجب المحافظة عليها من الأكسدة أثناء تعريضه لهذه الأشعة، ومن المعتاد أنه يتلف أثناء التخمرات الحمضية بواسطة البكتيريا ولا يفقد طبيعته أثناء التخمر بواسطة الخميرة أو في حالة وجود الأحياء الدقيقة التي تساعد على تخمر سكر وبعض أنواع البكتيريا الأخرى، ويلاحظ أن عمليات الطبخ المنزلي تساعد دائماً على قتل هذا الفيتامين بخلاف المواد المحفوظة في العلب التي يمكن المحافظة على مقدار الفيتامين الذي تحتويه بالمحافظة عليها من التعرض لفعل الأكسدة مع ارتفاع درجة الحرارة المستخدمة. ولقد تيسر في الوقت الحاضر الاحتفاظ بهذا الفيتامين في المواد الغذائية المجففة وخصوصاً إذا أجريت عمليات التفريغ الهوائي أثناء عملية التجفيف.
وإذا عرضت المواد الغذائية التي تحتوي على هذا(216/68)
الفيتامين والتي يراد تجفيفها إلى أبخرة غاز ثاني
أكسيد الكبريت ساعد ذلك على الاحتفاظ بكمية أوفر
منه في الطريقة السابقة خصوصاً إذا عوملت المواد
الغذائية المراد تجفيفها بواسطة محلول قلوي يعرف
باسم وهو مكون من الماء والصودا الكاوية في
العادة بنسبة تركيز 12 % إلى 3 % وذلك قبل
تعريض المواد التي يراد تجفيفها إلى أبخرة غاز
ثاني أكسيد الكبريت، فإذا تم التفريغ الهوائي أثناء
عملية التجفيف (في حالة العصير) فإن الفيتامين
تزداد كميته أيضاً في المادة الناتجة. ويمكن الاحتفاظ
بهذا الفيتامين في بعض المواد الغذائية كالمشمش
والقراصية إذا حفظت بطريقة التجمد، وذلك لو
فرغت الأوعية التي بها المواد من الهواء الذي
يفضل تعويضه في هذه الحالة بغاز غير فعال
كالأزوت.(216/69)
خواص هذا الفيتامين الحيوية
(1) يمنع مرض الأسخربوط (2) يساعد على تكوين العظام (3) يساعد على تكوين الأسنان وحفظها في حالة سليمة.
بعض النتائج الحيوية التي يسببها عدم وجوده أو قلته: -
(1) الأسخربوط: - (أ) إدماء الجلد والمفاصل والأطراف (ب) إدماء العضلات والأنسجة (ج) آلام وورم في المفاصل والأطراف (د) إحداث عظام المفاصل صوتاً عند تحركيها
(2) تحلل كالسيوم العظام (3) تحلل الأسنان وفقدانها (4) نقص في وزن الجسم (5) تعب (6) فقدان الشهية للأكل (7) تغير لون الوجه واصفراره.
ويوجد هذا الفيتامين في المركزات الصناعية الآتية: -
(1) محضر من عصير البرتقال (2) محضر من عصير الليمون
ويوجد في المواد النباتية:
(1) بغزارة: - كرنب - خس - بصل - سبانخ - طماطم - عصير طماطم - فواكه - عصير الليمون - برتقال - عصير برتقال.
(2) بكثرة: - خضروات - كرفس - راوند - لفت - عصير ليمون بلدي - خوخ - أناناس - شليك - تانمارسن.
(3) بكميات حسنة: - فول (مطبوخ) - تفاح - بنجر - كرنب (مطبوخ) - موز - عنب - جزر - قرنبيط - خيار - عصير عنب - بسلة مطبوخة - فلفل أخضر - ليمون هندي - بطاطس - قرع عسلي - سبانخ (مطبوخ) - كمثري ذرة سكرية - لفت أخضر - بطيخ - بصل.
ولا توجد مواد حيوانية بها هذا الفيتامين سوى اللبن.
فيتامين (د): - ويسمى فيتامين ضد مرض نحافة العظام -
ووظائفه الحيوية هي: -
(1) يساعد على تكوين العظام (العناصر المهمة هي الكلسيوم والفوسفور)(216/70)
(2) ينظم عملية ترسيب العناصر المعدنية في العظام والأسنان
(3) تحتاج إليه الأم الحامل لمنع نحافة عظام الطفل
بعض النتائج الحيوية التي يسببها عدم وجود الفيتامين (د) أو وجوده بقلة: -
(1) نحافة العظام (أ) عظام غير صلبة (ب) تضخم الكوعين والعقبين (ج) بروز الجبهة (د) تغير شكل الصدر (هـ) إعوجاج الساقين
(2) ضعف عمومي في الأعصاب (3) تحلل الأسنان وفقدان المادة الكلسية.
(4) قلة وجود عنصري الكالسيوم والفوسفور في الدم والعظام عن الكمية الضرورية.
المركزات الصناعية: -
(1) استعمال الأشعة فوق البنفسجية من أقواس كهربائية خاصة
(2) محضر من الجزء الذي لا يتصبن من كبد الحوت.
(3) محضر من ايرجوسترول بعد تعريضه للأشعة فوق البنفسجية.
(4) تعريض المواد الغذائية للأشعة فوق البنفسجية.
(5) مركب طبي معروف اسمه
ويوجد هذا الفيتامين بكثرة طبيعياً وكذلك صناعياً في:
(1) زيت كبد الحوت (2) أشعة الشمس المباشرة (3) الأشعة فوق البنفسجية.
ويوجد في مواد نباتية بكثرة: بيض (مح) - سمك السالمون.
وبكميات مناسبة في: - الزبدة - اللبن الكامل - سمك -
فيتامين (هـ): - يسمى فيتامين ضد العقم -
وهذا الفيتامين عامل أساسي لوظيفة التناسل في الذكر والأنثى وعدم وجوده أو قلته يسبب عدم القدرة على التناسل في الذكر والأنثى ويوجد بكميات مناسبة في الخس والبريسم الحجازي - شعير - فول - قمح (دقيق وردة) عسل أسود - شوفان (دقيق ونخالة) - أرز - ذرة (كله) ويوجد في اللحوم.
فيتامين (و): - ويسمى فيتامين ضد البلاغرا ويمنع هذا
الفيتامين مرض البلاغرا الذي أعراضه: -(216/71)
(1) اضطرابات داخلية (2) تبقع وسماكة الجلد (3) مرارة والتهابات بالفم واللسان (4) إسهال (5) إضطرابات عصبية وعقلية.
ويوجد بغزارة في محضر الخميرة وبكثرة في اللحوم والكبد والخميرة والبنجر وفي: بطاطس - سبانخ - لفت (أخضر) بيض - لبن - سمك (السالمون). ويوجد بكمية حسنة في: موز - جزر - لفت - بنجر - خس - كرنب - طماطم.
فيتامين (ز)
أقل الفيتامينات أهمية وقد اهتدي إليه أخيراً في زيت بزر الكتان أما صفاته وخواصه فلم تدرس بعد.
عبد المنعم عبد الحميد بدر
كلية الزراعة
مترجمة بتصرف عن , , , , , , , , , ,(216/72)
البريد الأدبي
القرآن وعلامات الترقيم - فتوى لمشيخة الأزهر
تلقت لجنة الفتوى بالجامع الأزهر اقتراحاً، من الأستاذ محمود عفيفي المحامي، خاصاً بطبع المصحف الكريم على الكيفية الآتية:
أولاً: أن يكون بالرسم العادي المتبع الآن بالأزهر الشريف وفروعه وجميع المعاهد العلمية بمصر والبلاد العربية إسلامية وغير إسلامية.
ثانياً: أن يراعى وضع علامات الترقيم وسط الجمل لا فوقها كما هو متبع الآن.
ثالثاً: أن يوضع تفسير عصري مختصر بهامش هذه الطبعة بمعرفة هيئة من كبار العلماء.
وقد جاء في تقرير مرافق لهذا الاقتراح ما خلاصته: إن الغرض هو تيسير تناول كتاب الله الكريم وسهولة تلاوته كما أنزل مع فهم ما غمض من معانيه، لأن كثيراً من المتعلمين في المدارس مع نبوغهم في اللغة العربية لا يستطيعون تلاوة القرآن في المصحف بطبعته الحالية، لاختلاف هجائه عن الهجاء الذي ألفوه ودرسوه في معاهدهم، فحرصاً على أن تكون تلاوة هؤلاء وأمثالهم ممن لا يحفظون القرآن ولم يتلقوه عن القراء صحيحة يجب طبعه بالهجاء العادي المعروف لهم، وحرصاً على فهم معاني القرآن لمن يقرأه في المصحف يجب وضع تفسير مختصر مفيد على هامش هذه الطبعة.
رأي اللجنة في هذا الاقتراح
وقد أبدت اللجنة رأيها في ذلك فقالت: إنها توافق على وضع تفسير مختصر مفيد على هامش المصحف، وتوجو أن يوفق الله جماعة من العلماء لوضع هذا التفسير، حتى يعم الانتفاع بالقرآن الكريم.
أما وضع علامات الترقيم وسط الجمل لا فوقها، فاللجنة ترى أن المصحف الكريم قد وضعت فيه قديماً وحديثاً علامات على بعض الحروف وبعض الكلمات وفي وسط الجمل للدلالة على كيفيات لهذه الحروف كالإدغام والإخفاء وللدلالة على معان تتعلق بالتلاوة كحسن الوقف ولزومه وامتناعه وغير ذلك، وهذه العلامات لا ترى اللجنة حاجة لإحداث تعديل في وضعها لأنها وضعت في أماكنها للدلالة على أغراض خاصة وقد أدت بوضعها في أماكنها هذه الأغراض بوضوح لا لبس فيه، وبين كل ذلك في التعريف الشامل(216/73)
بالمصحف الذي وضع في ذيل الطبعة التي أمر بها حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول سنة 1347هـ
وأما إنشاء علامات ترقيم أخرى للدلالة على أن الجملة استفهامية مثلاً، ومقولة لقول سابق أو محذوف، فلا ترى اللجنة مانعاً منها بشرط أن يوضع بشكل لا يوجد لبساً على القارئ فقد كان المصحف الكريم مجرداً عن (التعشير) و (الإعجام) و (النقط) و (رموز الوقف) ثم أحدث كل ذلك واستحسنه كثير من العلماء حفظاً للآي وضبطاً للإعراب خصوصاً للأعاجم وغيرهم ممن لا يحسنون العربية، قال الزيلعي من علماء الحنفية: هو وإن كان محدثاً فمستحسن، وكم من شيء يختلف باختلاف الزمان والمكان. اهـ
وأما طبع المصحف الكريم على قواعد الرسم الكتابي العادي المتبع الآن، فاللجنة ترى لزوم الوقوف عند المأثور من كتابة المصحف وهجائه وذلك لأن القرآن الكريم كتب وقت نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، ومضى عهده صلى الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيها تغيير ولا تبديل، وقد كتبت بها مصاحف عثمان، ووزعت على الأمصار لتكون إماماً للمسلمين، وأقر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمل عثمان رضي الله عنه، ولم يخالفه أحد فيما فعل؛ واستمر المصحف مكتوباً بهذا الرسم في عهد بقية الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين في عصورهم المختلفة ولم ينقل عن أحد من هؤلاء جميعاً أنه رأى تغيير هجاء المصحف عما رسم به أولاً إلى تلك القواعد التي حدثت في عهد ازدهار التأليف والتدوين في البصرة والكوفة، بل ظل مصطلح القرآن قائماً مستقلاً بنفسه بعيداً عن التأثر بتلك القواعد.
ولا ريب أنه وجد في تلك العصور المختلفة أناس يقرؤون القرآن ولا يحفظونه وهم في الوقت نفسه لا يعرفون من الرسم إلا ما وضعت قواعده في عصر التأليف والتدوين وشاع استعمالها بين الناس في كتابة غير القرآن، ولم يكن وجود هؤلاء مما يبعث الأئمة على تغيير رسم المصحف بما تقضي به تلك القواعد.
قال العلامة نظام الدين النيسابوي في كتابه (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) ما نصه:
(وقال جماعة من الأئمة: إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف، فإنه رسم زيد من ثابت، وكان أمين رسول الله صلى الله عليه(216/74)
وسلم، وكاتب وحيه). اهـ.
وجاء في الإتقان للإمام السيوطي ما نصه:
(وقال أشهب: سئل مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى. رواه الداني في المقنع، ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة. وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن، مثل الواو والألف: أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: لا. قال أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ، نحو (أولوا)
وقال الإمام أحمد: يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو وياء أو ألف أو غير ذلك.
وقال البيهقي في شعب الإيمان: من يكتب مصحفاً ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغير مما كتبوه شيئاً فانهم كانوا أكثر علماً، وأصدق قلباً ولساناً. وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم). اهـ.
وقد جاء في فقه الحنابلة ما يؤيد نقل السيوطي في الإتقان عن الإمام أحمد بن حنبل.
وجاء في حواشي المنهج في فقه الشافعية: أن كلمة (الربا) تكتب بالواو والألف، كما جاء في الرسم العثماني، ولا تكتب في القرآن بالياء أو الألف، لأن رسمه سنة متبعة.
وجاء في المحيط والبرهان في فقه الحنفية: أنه ينبغي ألا يكتب المصحف بغير الرسم العثماني.
على أن قواعد الإملاء التي حدثت في عهد التأليف والتدوين لم يتفق عليها واضعوها بل اختلفوا في رسم كثير من الكلمات كما هو مدون في مواضعه، وهي بعد ذلك عرضة للتغيير والتبديل، وقد صارت اليوم موضع شكوى وتفكير نظراً لما فيها من كتابة أحرف لا وجود لها في المنطق، وترك أحرف منطوق بها، فلا ينبغي والحالة هذه أن يخضع القرآن في رسمه لهذه القواعد المختلف فيها، والتي هي عرضة للتغيير والتبديل.
وأما ما يراه أبو بكر الباقلاني من أن الرسم العثماني لا يلزم أن يتبع في كتابة المصحف، فهو رأي ضعيف، لأن الأئمة في جميع العصور المختلفة درجوا على التزامه في كتابة المصاحف، ولأن سد ذرائع الفساد مهما كانت بعيدة أصل من أصول الشريعة الإسلامية التي تبنى الأحكام عليها، وما كان موقف الأئمة من الرسم العثماني إلا بدافع هذا الأصل(216/75)
مبالغة في حفظ القرآن وصونه.
وأما ما ذكره صاحب الاقتراح من أن كثيراً من المتعلمين لا يحفظون القرآن، ولا يحسنون قراءته في المصحف، لعدم معرفتهم الرسم الثماني، فللجنة ترى - تسهيلا للقراءة على هؤلاء - أن ينبه في ذيل كل صفحة على ما يكون فيها من الكلمات المخالفة للرسم المعرف.
على أن الأمر أهون مما يتصوره المقترحون للتغيير، لأن رسم المصحف العثماني لا يخالف قواعد الإملاء المعروفة إلا في كلمات قليلة معدودة. ومع ذلك، فليست هذه المخالفة مما تحدث شيئاً من اللبس على القارئ المتأمل، لأنها إما بحذف حرف، كحذف الألف في (بسم الله الرحمن الرحيم)، أو زيادة حرف، كزيادة الألف في (أولوا) أو إبدال حرف من حرف، كرسم (الصلوات) بالواو بدلا من الألف، أو وصل ما حقه الفصل مثل وصل (ان) بما الموصولة، كما في قوله تعالى: (إنما لتوعدون لآت) أو فصل ما حقه الوصل، كفصل (في) الجارة من (ما) الموصولة، مثل (في ما فعلن في أنفسهن)
وواضح أن مثل هذا لا يشتبه على أحد أن ينطق به صحيحاً
وإن من يطلع على التعريف بالمصحف الذي أشير إليه فيما سبق، يستطيع أن يتعرف تلك الكلمات بسهولة، والله أعلم
(الرسالة) بقي أن لجنة الفتوى لم تذكر الحكمة في الاستمرار على الرسم المضلل في كتابة قوله تعالى (ولا تقولن لشاى (لشيء) إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله) وقوله تعالى (والسماء بنيناها بأييد (بأيد))، و (بأييكم (بأيكم) المفتون)
مشكلة برامج التعليم
إصلاح برامج التعليم المصرية مشكلة طال عليها العهد، وتقلبت بين مختلف التجارب والعهود ولم تستقر على وضع ثابت حتى اليوم؛ وقد كان اضطراب برامج التعليم وتغييرها بين آونة وأخرى من أهم الأسباب التي أدت إلى انحطاط مستوى الثقافة المدرسية، وبث الفوضى إلى معاهد التعليم وإلى نظم الدراسة والامتحانات؛ وكان آخر العهد بتغيير البرامج منذ نحو عام فقط ولكن النظام الجديد ما كاد يستقر حتى سمعنا وزير المعارف الجديد يصرح منذ أيام بأنه يعتزم تأليف لجنة من ذوي الخبرة في شئون التربية من رجال(216/76)
المعارف وغيرهم لتبحث برامج التعليم وتضع لها من الأسس الجديدة ما يتفق مع حاجات العهد الجديد، وهذه في الواقع فكرة لا بأس بها؛ ولكن الذي يصح التساؤل عنه بهذه المناسبة هو: أليس لهذه التجارب التعليمية من نهاية؟ ومتى توفق وزارة المعارف إلى وضع الأسس النهائية لبرنامج التعليم القومي؟ ذلك أن مسائل التربية يجب أن تكون بمعزل عن التقلبات السياسية، ويجب أن تكون بالأخص بمعزل عن الآراء والرغبات الشخصية؛ ومن المستحيل أن نظفر بسياسة إصلاحية ثابتة للتعليم إذا لم نوفق إلى وضع المبادئ والأسس صفة الاستقرار إلى حين معقول؛ ولا بأس من أن تكون التفاصيل ذاتها عرضة للتغيير والتبديل كلما دعت الحاجة أو دعت التجارب، ولكن الاستمرار في الإنشاء والمحو على هذه الصورة كل عام أو عامين أو بعبارة أخرى كلما تغير وزير المعارف، خطة عقيمة ضارة نلمس الآن نتائجها السيئة. وإذن فلنؤمل أن تكون هذه التجربة الجديدة التي يزمع وزير المعارف القيام بها لوضع النظم الأساسية للتعليم والتربية، هي ختام هذه الفوضى؛ بيد أنه يشترط لنجاح مثل هذه التجربة أن تجري بعيداً عن الجو الحكومي، وأن تقوم بها صفوة من ذوي الخبرة والثقافة الرفيعة، وأن يسترشد في إجرائها بكل ما يقتضيه العهد الجديد من تنمية الروح القومية وتوسيع الأفق وتعزيز العناصر الأخلاقية والعملية في ثقافتنا.
هل اكتشف سر التحنيط عند الفراعنة؟
المعروف أن العلم الحديث بالرغم من تقدمه بخطى الجبابرة في سائر النواحي، لم يوفق إلى اكتشاف سر التحنيط عند قدماء المصريين؛ وقد كانت للفراعنة في هذا الفن براعة ليس أدل على عظمتها وروعتها من تلك الموميات العجيبة من جثث الملوك والأمراء الفراعنة التي أخرجت من قبورها والتي ما زالت بعد آلاف الأعوام تحتفظ بشكلها البشري احتفاظا مدهشاً حتى أنك لترى الأظافر وشعر الجلد والرأس باقية كما كانت أثناء الحياة. وقد حاول العلم الحديث أن يجري تحنيط بعض العظماء لتخلد هياكلهم البشرية فلم تطل التجربة أكثر من أعوام تطرق بعدها البلي والعدم إلى الجثمان المحفوظ؛ وهذا ما حدث لجثمان (لنين) زعيم روسيا البلشفية فإنه لم يمكث بعد تحنيطه أكثر من بضعة أعوام ثم اضطرت السلطات إلى مواراته بعد أن ظهرت عليه أعراض التحلل. بيد أنه ظهر أخيراً(216/77)
في أمريكا علامة شاب هو الدكتور جون فيدمان من جامعة الينوا يقول إنه قد وقف على سر التحنيط عند القدماء وإنه يستطيع أن يحقق حفظ الجسم المحنط أجيالاً وأحقاباً، وأنه اهتدى أخيراً إلى سر المركب الذي كان يستعمله القساوسة المصريون، وأن أهم المواد التي كانت تستعمل لمزج هذا المركب هو محلول (النترسلولوز). وقد يكون هذا العلامة قد وفق حقاً إلى اكتشاف مركب جديد لتحنيط الجثث؛ ولكن الحكم على صحة الاكتشاف وعلى مدى أهميته لا يمكن تحقيقه قبل مضي مدة طويلة، لأن التجربة لا يمكن الحكم عليها إلا بمرور الزمن الطويل
ونحن نذكر أن المؤرخ الأول هيرودوت قد عرض إلى مسألة التحنيط في مباحثه التي أجراها عن المصريين القدماء وعن مدنيتهم وأحوالهم التي شاهدها واطلع عليها بنفسه؛ وقد ذكر لنا هيرودوت في كتابه أن التحنيط كان عند المصريين درجات وأن الجثة كانت تنقع بعد استخراج الأمعاء والحواشي نحو سبعين يوماً في محلول لم يوضحه لنا تماماً لأنه هو لم يستطع الوقوف على سره نظراً لتحوط الكهنة في الاحتفاظ بهذا السر، وأن التحنيط كان على ثلاث درجات: الأولى للملوك والأمراء وهي أتقن الدرجات، والثانية للنبلاء والأغنياء، والثالثة لأفراد الشعب، وهذه أبسطها وأقلها اتقاناً. وقد حاول كثير من العلماء أن يهتدي إلى سر هذا المحلول العجيب الذي يشير إليه هيرودوت، ولكن العلم أخفق حتى يومنا في اكتشاف هذا السر
كتاب جديد عن فلسطين
ظهر أخيراً في إنكلترا كتاب جديد عن فلسطين وضعته صحفية إنكليزية شابة تدعى مس بربارا بورد وعنوانه (فتاة صحفية في فلسطين) وقد زارت مس بورد فلسطين في الشتاء الماضي وأنفقت بضعة أشهر في درس الحياة الاجتماعية الفلسطينية وعنيت بالأخص بتعرف أحوال المجتمع النسوي على اختلاف أجناسه وبيئاته؛ وهي تقول لنا إنها قد زارت المرأة الفلسطينية في القصر وفي الكوخ وفي الصحراء، وتعرفت إلى أفقر الفتيات من النصارى واليهود كما تعرفت إلى حريم الأمير عبد الله؛ ودرست عادات هذا المجتمع النسوي المتباين وأخلاقه وخواص حياته. وكتاب المؤلفة هو كتاب سائحة، ولكن يطبعه شئ من العناية بالبحث والتحقيق أكثر مما يبذل السائح العادي؛ وقد قصدت أن(216/78)
تظهر كتابها في هذه الآونة التي تطرح فيها المسألة الفلسطينية على بساط البحث ليعاون في تفهم أحوال المجتمع الفلسطيني.
وقد وفدت المؤلفة أخيراً على مصر وأقامت فيها بضعة أسابيع وشهدت حفلات التتويج، وتعرفت إلى البيئات النسوية المصرية وهي تنوي فيما يظهر أن تضع كتاباً آخر عن مصر والمجتمع المصري على طراز كتابها عن فلسطين، بيد أنه لا ريب في أن هذه الكتب التي تكتب على جناح السرعة خلال سياحة سطحية لا يمكن أن تكون مراجع قيمة عن الموضوعات التي تتناولها. وسنرى في القريب العاجل ماذا تكتب هذه المؤلفة الشابة عن مصر والمجتمع المصري.
حول أرزة لامرتين
كتب الأستاذ أمجد الطرابلسي في حاشية قصيدته المنشورة في صفحة 1349 من عدد مجلتكم الأخير أن الشاعر الفرنسي دي لامرتين وابنته جوليا زارا أرز لبنان عام 1832 ونقشا اسميهما للذكرى على شجرة هناك تشتهر الآن بأرزة لامرتين
والوقع غير ذلك فان الشعر الفرنسي لم يزر مع ابنته غابة الأرز قط ولم يكتب هو اسمه ولم ترسم وحيدته اسمها على شجرة الأرز المذكورة. وكل ما في الأمر أنه حاول أن يقوم برحلة إلى الأرز خريف عام 1832 والمعروف عن هذه الرحلة أنها أخفقت لشدة الزمهرير إذ ذاك وكثرة الثلج والجليد ونحن نعلم أن لامرتين لم يسع بعد ذلك لإدراك رحلته مرة أخرى وأنه استعاض عن مشاهدة الأرز عن كثب برؤية الغابة من بعيد
هذا وقد وضع الكاتب هنري بردو كتاباً عنوانه (رحل المشرق) عالج فيه مسألة زيارة الفرنسي العظيم للبنان وأرزه وقد استطاع أن يثبت أن التوقيعين المنقوشين على الشجرة المشهورة إنما خطهما صديق قديم للامارتين وأسرته وذلك قبل قيام شاعرنا برحلته رغبة منه في مفاجأة صاحبه المجيد مفاجأة ظريفة رقيقة
خليل عطا الله
(كلية الحقوق)(216/79)
الكتب
سيرة السيد عمر مكرم
تأليف الأستاذ محمد فريد أبو حديد
فرغت من قراءة هذا الكتاب التحليلي المحكم، كما يفرغ الإنسان من شهود فلم تاريخي متقن، وبدل أن أرفع يدي لأصفق، أخذت قلمي لأكتب. شبهت هذا الكتاب بالفلم لأنه أوسع من الرواية، وأوضح من القصة، وأروع من السيرة؛ ففيه البيئة والمكان، وفيه الصور والألوان، وفيه الوقائع التي تتكلم، والخوالج التي تتجسم، والدقائق التي تسفر، والفروق التي تتضح. وتجلية الحياة المصرية السياسية والاجتماعية في القرن الثامن عشر على هذه الصورة الرائعة البارعة الملهمة لا تتهيأ إلا لأمثال الأستاذ فريد ممن توفروا على اكتناه الحق في هذا العهد المجهول المظلوم، وأوتوا مع ذلك البصيرة التاريخية التي لا تطيش، والضمير العلمي الذي لا يخدع، والقلم الفني الذي لا يزلُّ. والأستاذ فريد من كتابنا القلائل الذين لا يخرجون ما ينتجون إلا عن اختصاص محيط ودرس شامل وروية صادقة وضرورة حافزة وغرض نبيل. وقد عهده الناس في تأليفه محققاً، وفي ترجمته أميناً، وفي قصصه مجوداً، وفي شعره مجدداً، وفي أبحاثه حجة. وهو بعد زيدان زعيم المذهب التاريخي في القصة على نحو ما كان (ولتر سكوت)؛ وحبه الخالص لمصر صرف هواء وجهده إلى تاريخها القديم والحديث فخدمه خدمة جلى وغرسه في قلوب النشء غرساً مثمراً بالتعليم في أسمى درجاته، وبالتأليف في شتى فنونه؛ واعتزازه الصادق باستقلال وطنه وجّه نشاطه إلى ذلك العصر الذي خلص فيه سلطان مصر إلى أبنائها الخلّص الذين وُلدوا فيها، ونُشّئوا لها، وذادوا عن حياضها المطهرة طمع الواغل الدخيل ذياد الأحرار البررة؛ واتصافه بالخلق النبيل والطبع الحر جعله يغرم فيه بالشخصيات الكريمة الحرة التي جلاها لقراء (الرسالة) في مناسبات شتى، ومنها هذه الشخصية العزيزة السيدة: شخصية السيد عمر مكرم التي أفرد لها هذا الكتاب الذي نتحدث اليوم عنه.
(سيرة السيد عمر مكرم) صورة فنية مشرقة لمصر في القرن الثامن عشر، تقرأها فكأنك تشاهده، وتستبطنها فكأنك تعيش فيه؛ برز فيها وجه هذا الرجل الأبي صادق النظر أشم الأنف ناطق الملامح، فجعله فريد مثالاً للخلق المصري المحض في ذلك العهد، ومثلاً(216/80)
للجيل المصري الناشئ في هذا العهد (وقد رأينا الأمم الحديثة - وهي تسعى لتحفيز أبنائها إلى المكارم، وحضهم على المعالي - تلجأ إلى التاريخ فتستخرج منه صور المجد والبطولة فتعرضها على الجيل الحاضر ليجد فيه مثلاً يحتذيه، وأملاً يتطلع إلى تحقيق مثله، وهي تقصد بذلك إلى إعلاء نفوس أبنائها، والتسامي بأرواحهم وعواطفهم، وإثارة الخامد من طموحهم، بالتلويح لهم بأعلام المجد، والإشارة إلى ذرى الأماني الإنسانية. ومصر بحمد الله عريقة في كل مكرمة، غنية في كل فن، عبقرية في كل وجهة؛ فليس الواقع بمعجزها، ولا الحق بخاذلها، إذا هي أرادت المُثَل العالية، أو رسم صور البطولة والمجد).
الكتاب مشوق جذاب بموضوعه وطريقته وأسلوبه. أما موضوعه فجهاد مصر في سبيل حقوقها وبلوغها من ذلك بفضل الأحرار من زعمائها أمثال السيد عمر مكرم ما تبغيه من حفظ كرامتها وإنفاذ إرادتها حتى بلغ من فوزها أن تحللت من إرادة الخليفة فعزلت بقوتها من الولاة من يفسد، وولت برأيها منهم من يصلح؛ وهو موضوع من أحب الموضوعات إلى النفس، لأنه قصة الحياة ومطمح الإنسانية إلى السمو. وأما طريقته فطريقة التحليل النفسي بصدقه ودقته، والعرض الروائي بطلاوته وحبكته. وأما أسلوبه فقد ارتفع فيه فريد إلى الدرجة العليا من الفن: جزالة في رقة، وبلاغة في سلامة، وإيجاز في وضوح، ومنطق في شعر. وحسبي من ذلك أن أضع أمامك صورة صغيرة من الفصل الجميل الممتع الذي عقده لثورة المصريين على الفرنسيين في مارس من سنة 1800، وقد عز القاهرين النصير، وخذلهم الأمير، وأهملهم الخليفة، وسلط عليهم المحاصرون النار، وأرسلت عليهم السماء المطر، حتى قال فريد: (وأمسى أهل تلك الأحياء المنكوبة ليلة العاصفة وهم في أشد حالات البؤس والكرب؛ يحاولون الخروج من منازلهم برغم الرعد والبرق والمطر المنهمر، فتعوقهم المياه المتدفقة، وتنزلق أقدامهم في الأوحال الخوانة، فإذا بهم يسمعون قصف المدافع من بين أيديهم، ويرى بعضهم أخاه صريعاً إلى جانبه قد أصابته رصاصة لا يرى قاذفها البعيد، فيقف لحظة ينظر في إسعاف الصريع، فإذا به يسمع هيعة من خلفه، فينظر فإذا باللهب يندلع في منزله الذي تركه منذ حين قصير، فيذكر الصبية الذين خلفهم فيه، فيثب قلبه في صدره، ويهم منتفضاً كالملسوع. ويعدو نحو بيته وهو لا يعي من الفزع؛ وفيما هو يعدو تطرق أذنيه صرخات داوية يملؤها الهلع والذعر، من نساء كدن(216/81)
يخرجن عن الوعي من الهول؛ ويرى ماء المطر يهبط على النيران فلا يزيدها إلا توهجاً واندلاعاً، ويسمع من دون فحيح اللهب وقعقعة النار صوتاً كأنما هو من صبية يستغيثون، فيقتحم اللهب يطمع أن ينقذ فلذات كبده من بين أنياب السعير، فما يكاد يخطو في المنزل خطوات حتى تحيط به النيران، ويطيش سائراً ويتخبط حائراً حتى يوقن أنه لن يستطيع إنجاء ولده، فتثور الطبيعة في رأسه، ويخشى على نفسه، فيحاول العودة من حيث أتى، ولكن النار تحيط به وتأسره، فيضطرب ويختنق، ويحاول الصراخ فلا يخرج صوته، ثم يثبت في مكانه ويقع لا يعي، وينطبق اللهب مرة أخرى كأن ليس في جوفه شيء).
فأنت ترى أن (سيرة السيد عمر مكرم) بمنهاجها الذي سارت عليه، وغرضها الذي هدفت إليه، وأسلوبها الذي كتبت به، حرية بأن بكون في يد كل شاب قدوة، وفي يد كل كاتب نموذجاً، وفي يد كل قارئ ثقافة ولذة.
جزى الله مؤلفها الفاضل خير ما يجزي به العامل المخلص على جهده وقصده وتوفيقه.
الزيات(216/82)
العدد 217 - بتاريخ: 30 - 08 - 1937(/)
الملك الموفق
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
منذ بضعة أسابيع أدى صاحب الجلالة الملك صلاة الجمعة في مسجد من مساجد الإسكندرية على عادته المحمودة، فلما انتهت الصلاة نهض جلالته، فهتف باسمه الناس، فأشار إليهم جلالته بيده أن كفوا، ومال على أحد العلماء، وهمس في أذنه أن بيوت الله للعبادة لا لهذا، ولذكر الخالق لا للذكر المخلوق.
وفي جمعة أخرى أمر واحداً من رجال حاشيته، فأعطى الإمام عشرين جنيهاً لخدم المسجد، فتناولها الإمام شاكراً، داعياً؛ وكان للمسجد خادمان فنقد كلا منهما عشرة، واتصل الخبر بجلالة الملك، وعلم أن الإمام حرم نفسه، فدعاه إليه وكلمه في هذا، فقال الرجل: إني خطيب وإمام لا خادم، وقد أعطيت المال لأفرقه على الخدم ففعلت وأمضيت مشيئة مولاي. فسرت جلالته عفةُ الرجل وأمانته تقواه وأجزل له الثواب.
ولجلالته عناية بأن يعرف على أي وجه تنفذ أوامره. حدث في منتصف أغسطس أن حضر جلالته حفلة تمصير شركة البواخر الخديوية، فطاف بالباخرة (محمد علي الكبير) ولاحظ أن المدخنة لونها أحمر، فالتفت إلى عبود باشا وقال إنه يؤثر أن يكون لونها أخضر، فقال عبود باشا: (حباً وكرامة، سيكون ما شاء مولاي) فقال جلالته وهو يبتسم: (سأسأل عن المدخنة ولونها).
ويذكر القراء أن وزير الأوقاف السابق وقف مرة في البرلمان يرد على سؤال عن الأزهر ورثاثة فرشه، فكان مما قاله - وظهر أنه كذب - أن طلبة الأزهر يقطعون السجاجيد ويأخذون ما يقتطعون منها لفرش مساكنهم. وقد هاج الأزهر وماج لهذا، وكتب الشيخ الأكبر الأستاذ المراغي إلى وزير الأوقاف يومئذ يبين له أن الموظفين الذين أمدوه بهذه المزاعم كذبوا عليه وغشوه، ويطلب منه أن يحقق مع المسئولين عن هذه الأكاذيب والتشنيعات، ولكن الوزير طوي الأمر لسبب ما، ولم يعن بالتحقيق الذي كان واجباً.
وكأنما عز على جلالة الملك أن يكون الأزهر بهذه الرثاثة، وأن تضن عليه وزارة الأوقاف بالفرش اللائق، وأن يقول وزيرها السابق ما قال في طلبة هذا المعهد الإسلامي العالمي الذي لم يبق على عيده الألفي إلا القليل، ولكن الحكمة والأناة شعار الملوك، فقد سكت(217/1)
جلالته حتى خرج هذا الوزير من الوزارة، وتولاها غيره، ثم أمر بأن يفرش الأزهر بالسجاد على نفقة جلالته الخاصة، وبأن يكون السجاد مصرياً من صنع مصريين. ولو أن جلالته أمر بذلك والوزير السابق قائم بالأمر في الأوقاف، لكان هذا بمثابة دعوة صريحة إلى الاستقالة، ولكن جلالته تريث حتى لا تختلط الحسنة بالسيئة، فليس همّ جلالته أن يؤنب وزيراً، وإنما همه أن يصنع جميلاً وأن يسدي مكرمة. والأزهر معهد مهول، وسيحتاج من السجاد إلى شيء كثير، فأخلق بصناعة السجاد المصرية أن تنشط من جراء ذلك نشاطاً عظيماً، وجدير بالسجاد المصري أن ينفرد بالسوق بعد هذا فلا يتخذ مصري سواه.
ولا يزال جلالة الملك في صدر الشباب، ومع ذلك آثر الزواج على العزوبة؛ وله في ذلك حكم لا حكمة، فإنه ملك، والملك قدوة لشعبه. والمثل يقول إن الناس يكونون على دين ملوكهم، والزواج عفة وتقوى وحصانة. وقد وقع اختيار جلالته على مصرية من بيت كريم، وفي هذا الاختيار معنى إنساني بارز، ومظهر ديمقراطي لا يخفى، فقد عرف جلالته الآنسة ذو الفقار، وكانت تصحب الأسرة الملكية في رحلتها في أوربا، فهو اختيار فيه كل المعاني الإنسانية وليس فيه أي معنى سياسي. وحسناً صنع جلالته، فما بقي للزواج السياسي أية فائدة أو قيمة في هذا الزمان. وإن الأمة المصرية تشعر الآن أنها صارت أقرب إلى ملكها بهذا الاختيار الموفق الذي احتذى فيه جلالته حذو المغفور له والده العظيم. وقد كان مما تحرص عليه الأسر المالكة في العصور الماضية أن تبقى بمعزل عن أممها، فلا تخالطها، ولا تصاهرها، وقلما كانت تبادلها حتى الشعور، فالآن تغير كل هذا، وأدركت الأسر المالكة أنها لشعوبها وأن شعوبها لها، وكان من خير ما صنع المغفور له الملك فؤاد وأوقعه في نفوس الأمة أن آثر أن تكون جلالة الملكة من رعاياه. واليوم يقتاس به جلالة الملك فاروق فيختار الملكة من رعاياه كذلك، فلا يبقي موضع في قلوب الأمة غير مشغول به
وهكذا يمحو جلالة الفاروق الفوارق التي تباعد ما بين الملك وأمته اكتفاء بالولاء الصادق، والإخلاص الصحيح، والحب الثابت، والإجلال العميق، واستغناء بذلك عن كل ما عداه مما لا خير فيه، ولا محل له في هذا العصر، فإن الملوك من طينة الخلق جميعاً، فلا معنى(217/2)
للحرص القديم على أن يظلوا طبقة مستقلة عن شعوبهم لا تمسها ولا تقربها ولا تتصل بها من ناحية من النواحي. وأخلق بالشعوب أن تكون أعمق ولاء وأصدق وفاء لملوكها إذا شعرت أنهم منها، وأنهم يمثلون خير ما للأمة من المزايا والخصائص والصفات والطباع؛ وأنهم رمزها الأعلى حقاً، وعنوانها الأرفع صدقاً، وأن الأمر في ذلك أمر حقائق واقعة، لا أمر ألفاظ جوفاء وكلمات فارغة.
لقد ثبت العرش البريطاني على الرغم من زلازل الحرب العظمى وما تلاها، لأن الشعب البريطاني يعرف أن العرش منه وله، وأنه عنوان مجده، وأنه الصلة الوثيقة بين إبعاض إمبراطوريته؛ ولَلْعرش في مصر أحق بالثبات والدوام على الزمن، فقد قامت هذه الأسرة المجيدة باختيار الأمة لها، وكان المصريون هم الذين ولوا محمد علي باشا أمرهم، وألقوا إليه بمقاليدهم، وملكوه زمانهم. ولم يخيب محمد علي على ظن مصر به ويقينها فيه، فقد رفع مقامها، وأعلى شأنها، وجعل منها دولة محسودة مرهوبة الجانب، مخوفة السطوة؛ وحسبه فخراً أن احتاجت الدول العظمى إلى التألب عليه والائتمار به لحرمانه ما كان حقيقاً أن يفوز به من الثمرات. ولا شك أن مصر مدينة برقيها الحديث للخديوي إسماعيل على الرغم من كل ما جر إليه حكمه، وإن كان مؤرخو الغرب يبالغون في ذلك ويهولون به ليستروا مؤامرات أوربا ومكائدها، وما أوقعت فيه مصر بسوء نيتها وفساد طويتها. والمغفور له الملك فؤاد هو الذي أزخر تيار النهضة الحديثة وعرف كيف يذلل كل عقبة اعترضته في الاحتلال وفي عدم الاستقرار. والآن يجيء جلالة الملك فاروق بفيض من الحيوية، وبمثل حكمة الشيوخ المحنكين في شبابه الغض، وبقلب كبير ملؤه الحب لأمته، وعزم صادق على الوثوب بها. ولَحسْبنا هذه الفواتح بشيراً بمستقبل سعيد في ظل حكمه المديد المبارك إن شاء الله.
إبراهيم عبد القادر المازني(217/3)
الليل
للأستاذ أحمد أمين
في ليلة حالكة السواد بعدت عن ضوضاء المدينة إلى مكان قصيّ على شاطئ البحر أهرب بنفسي من جراثيم المدنية ووباء الحضارة، وأغسلها من أدران التقاليد والمواضعات، وأطهرها بالانغماس في عالم اللانهاية: في السماء والماء والجو الفسيح الذي لا يحده حد ولا ينتهي إلى غاية
غاب فيها القمر فلعبت النجوم؛ ولو طلع لكسفها وهي أكبر منه حجماً، وأعظم قدراً، وألمع ضوءاً، ولكن دنيانا هذه يسود فيها التهويش حتى في القمر والنجوم
كان سواد هذه الليلة أحب إلى نفسي من ضوء الشمس ونور القمر، فللنفس حالات تبسط فيها فيعجبها البحر الهائج، والوسط المائج، واللون الأبيض والأحمر، والنكتة اللاذعة؛ وتنقبض فتأنس إلى الليل الساكن، والوحدة المريحة، والسكون العميق، واللون القاتم
لك الله أيها الليل! فما زلت بالفن حتى ملكته، واحتويته، فجعل يشيد بذكرك ويرفع من شأنك، حتى لم تجعل لأخيك النهار نصيباً يقاس بنصيبك، فاقتسمتما الزمان عادلة، واقتسمتما الفن قسمة جائرة!
فالمغني يقصر مناداته عليك، ولا يلتفت في هتافه إلا إليك؛ فإذا غنى بالليل نادى الليل، وإذا غنى بالنهار لم يخجل فنادى الليل أيضاً؛ والآلات كلها تتبعه فتردد على أوتارها ما ردده المغني بكلماته. ثم كان اسمك على قلته وضؤولته أداة طيعة في صوت المغني يوقع عليه ما شاء من نغمات: مرحة وحزينة، ومديدة وقصيرة، وعالية وهادئة، وباعثة للقوة واليأس والأمل، وداعية إلى الضعف والخمول والكسل
وحتى المصور! لماذا شغف برسم غروب الشمس أكثر مما شغف بطلوعها إلا لأن غروبها إيذان بقدومك وارتقاب لزورتك؟
أما الأدب فله فيه الباع الطويل والقول الذي لا ينتهي. تداولت عليه الأدباء، فنقموا عليه حيناً، وتذللوا له حيناً، من عهد الأستاذ امرئ القيس إذ يقول:
فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مُغَار الفتل شدت بيذْبُل
إلى عهد الأستاذ محمد عبد الوهاب إذ يقول:(217/4)
(بالله يا ليل تجينا، وتسبل ستايرك علينا)
شكوا طوله وتفننوا في ذلك ما شاءوا، فتخيلوا أن نجومه شدت بالحبال، وربطت في الجبال، أو أن النهار ضل طريقه فظل الليل لا يبرح ولا يتزحزح كالذي يقول بشار:
أضلَّ النهارُ المستنيرُ طريقهُ ... أم الدهرُ ليلٌ كله ليس يبرح؟
أو أن النجوم حارت لا تدري أتتيامن أم تتياسر فوقفت فوقف الليل بجانبها كقول جرير:
أبُدِّلَ الليلُ لا تسري كواكبهُ ... أم طال حتى حسبت النجم حيرانا؟
وشكوا قصره فأبدعوا في ذلك أيما إبداع، فشبهوه بعارض البرق كالذي يقول:
يا رب ليل سرور خلته قِصَرا ... كعارض البرقِ في أُفق الدُّجى بَرَقا
قد كادَ يعثرُ أولاهُ بآخرهِ ... وكاد يَسْبقُ منه فجرُه الشفقَا
وأنكروا من قصره وجوده فقالوا:
وليلة من الليالي الغر ... لم تك غير شفق وفجر
كان هؤلاء الذين يشكون طوله ويشكون قصره يتحدثون بعواطفهم، ويترجمون عن مشاعرهم، فجاء قوم على أثرهم يتحدثون بعقولهم، فقال الفرزدق:
يقولون طال الليلُ والليلُ لم يَطُلْ ... ولكنَّ من يِبكي من الشَّوْقِ يَسْهَرُ
وقال ابن بسام:
لا أظلمُ الليلَ ولا أَدّعِي ... أن نجومَ اللَّيلِ لَيْست تغور
ليلى كما شاَءت فإن لم تَجُد ... طال، وإن جادت فليلى قصير
أيها الليل! كم لففت ثوبك على متناقضات: حزن على ميت، وسرور لميلاد، ومحب مهجور يشكو طولك، ومحب واصل يشكو قصرك، وعابد متهجد يناجي ربه، وداعر فاجر يبغي حظه، ودمعة حري تسلبها أم ولْهَى بجانب سرير مريض، وضحكة صارخة تخرج من فم سكير عربيد، ومجلس أنس تتجاوب فيه الأقداح والأوتار، ويلبس فيه الليل ثوب النهار، بين بدور؛ وكاسات تدور، كأنه مسرح صغير تمثل فيه الجنة بصنوف نعيمها، أو معرض تعرض فيه الملاهي بشتى ألوانها، ومجلس بؤس تتجاوب فيه الزفرات والحسرات، وتتساقط فيه النفوس، قد شرقوا فيه بدموعهم، وتلظى الهم في ضلوعهم، فهم بين كاسف بال، وساهم طرف، ومنقبض صدر، ولهيف قلب(217/5)
يترقبك السارق ليحتمي بسوادك في سرقته، والعاشق ليفر في سكونك بعشيقته، والناسك ليبتهل إلى الله في صلواته، ويتحد معه في مناجاته، والشاعر لينظم شجونه في قصيدته، والملحن ليوقع لحنه على قيثارته، والسياسي ليدبر مؤامراته، والعالم ليفكر في نظرياته
ولكن لماذا استأثرت بكل هذا والنهار قسيمك في الخدمات وعديلك في الحياة؟ بل هو أشد منك حياة وأكثر قوة، فسلطانه الشمس وسلطانك القمر، وسلاحه الضوء وسلاحك الظلام، وشعاره البياض وشعارك السواد؛ وهو مبصر وأنت أعمى، وطبيعته الحركة وطبيعتك السكون؛ وهو يدعو إلى النشاط والعمل وأنت تدعو إلى الخمول والكسل، ولكن شاء الله أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، فجعل من قوة النهار ضعفاً ومن ضعفك قوة
انتهرت فرصة السكون الذي منحك الله فجعلت منه حركة دونها حركة النهار، فحركته حركة جسم وآلات، وحركتك حركة عواطف وانفعالات، وشتان ما بينهما! لقد أطاق الناس مصائبه ولم يطيقوا مصائبك، فقال الشاعر:
وحُمِّلْتُ زَفْرات الضحى فأطقتها ... ومالي بزفرات العشي يدان
واستعنت بسلطان الحب فجعلته من أعوانك، وأسرت العواطف فاتخذتها من خدامك، فلما اجتمع لك الحب والعواطف نازلت بها الزمان، وغلبت بها كل سلطان؛ فالوصل لا يلذ إلا في ظلك، والهجر لا يلدغ إلا في كنفك، والسرور لا يشع إلا في حضرتك، والألم لا يضني إلا في هدءتك
من تعب في النهار وجد فيك راحته، ومن أتعبته الحركة نعم فيك بسكونه، ولكن من تعب فيك لم يجد في النهار عوضاً عنك، ولم يرض به بديلا منك
جالت هذه المعاني في فكري، وامتلأت بعظم الليل نفسي، فمنّ عليّ بنومه لذيذة، هادئة عميقة، فقابل جميل ثنائي بجميل صنعه، وأدى فريضة شكري بجزيل فضله
(سيدي بشير)
أحمد أمين(217/6)
المحاكمات التاريخية الكبرى
2 - الحركة النهلستية
ومصرع القيصر اسكندر الثاني
صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان
للأستاذ محمد عبد الله عنان
اعتزم القيصر شهود حفلة الاستعراض العسكرية في ميدان ميخابلوفسكي كما قدمنا، وقام البوليس باتخاذ الإجراءات المعتادة للمحافظة على سلامة القيصر فزار الشوارع التي يمر بها الركب الملكي؛ وكان ثمة في شارع (مالايا سادوفيا) حانوت لبان افتتح هنالك منذ ثلاثة أشهر يديره شخص يدعى كوبوزيف وزوجه؛ وكان البوليس يشتبه في أمر هذا الحانوت وأمر صاحبه، فزاره في عصر يوم السبت بحجة التفتيش الصحي فلم يجد فيه ما يريب؛ ولم يكن كوبوزيف في الواقع سوى عضو من أعضاء اللجنة التنفيذية وضعته اللجنة هنالك ليكون عوناً لها على التنفيذ.
واعتزمت اللجنة الثورية من جانبها أن تنتهز هذه الفرصة لتنفيذ قرارها باغتيال القيصر فغادرت بيروفسكايا مسكنها وذهب أساييف إلى حانوت كوبوزيف ليضع لغما قوياً تحت شارع (ماليا سادوفيا) وأنفق كبالتشتش وهو عضو اللجنة المتخصص في صنع القنابل طول الليل في منزل فيرا فنجر مع جراتشفكي وبيروفسكايا، ولم يأت الصباح حتى تم صنع قنابل أربعاً حملها كبالتشتش وبيروفسكايا. وفي صباح يوم الأحد أول مارس وزعت صوفيا القنابل الأربع على أربعة منالشبان الفدائيين هم جرنفتسكي وامليانوف وميخالوف وريساكوف وعمره تسعة عشر عاماً فقط؛ وتفرق الأربعة في نقط أربع عينت في خريطة التنفيذ حول منعطف نفسكي والطرق المفضية إليه. . وفي الساعة الثانية بعد الظهر كان كل في مكانه المعين ينتظر إشارة صوفيا ووقفت صوفيا مدى حين ترقب ميدان الاستعراض عن بعد. ولكنها ما لبثت أن علمت أن الركب الملكي لن يمر بالشارع الذي وضع فيه اللغم، فسارت عندئذ صوب منعطف نفسكي في اتجاه جرنفتسكي وأخرجت منديلها، ففطن الفتيان إلى إشارتها وساروا تباعاً صوب قناة سانت كاترين لمقابلة الركب(217/7)
الملكي، واستولى الفزع على أحدهم وهو ميخايلوف فانسل واختفى في آخر لحظة، وبقي الثلاثة الآخرون يرقبون الإنذار الأخير
وذهب القيصر إلى ميدان الاستعراض نحو الظهر. ولما انتهى الاستعراض ذهب إلى قصر ميخايلوفسكي القريب حيث تناول طعام الغداء مع الجراندوقة كاترين ميخايلوفنا؛ وفي الساعة الثانية وبضع دقائق انتظم الركب الملكي للعودة، وأمر القيصر سائق مركبته أن يعود إلى قصر الشتاء من نفس الطريق. وكان يحرس العربة الملكية ستة من الفرسان القوازق وتتبعها عربة أخرى يقف فيها مدير البوليس، ثم ثالثة بها ضابط الحاشية. وسار الركب مسرعاً في شارع انجنرنايا، مجتنباً بذلك شارع مالياسادوفيا (الذي وضع به اللغم) ثم اتجه يميناً إلى جسر قناة القديسة كاترين؛ وكان المكان قفراً ليس فيه غير رجال الشرطة والمخبرين الذين ينتشرون على طول الطريق وسوى قليل من المارة.
بيد أن الركب ما كاد يقترب من جسر القناة حتى دوي انفجار هائل وانعقدت فوق الموكب سحابة من الدخان الكثيف، وكانت هذه قنبلة ريساكوف انفجرت وراء العربة فأتلفت مؤخرتها؛ وفي الحال أوقف السائق العربة ونزل القيصر منها سالماً وكان قد سقط على مقربة منها قوزاقي وثلاثة من الشرطة وغلام من المارة مصابين بجراح بالغة. وقاد رجال الشرطة صوب القيصر فتى عريض المحيا غائر العينين هو ريساكوف، فسأل القيصر: أهو الفاعل؟ وفي تلك اللحظة سأل أحد كبار الضباط: (هل جرح صاحب الجلالة؟) فأجاب القيصر: (شكراً لله فإني سليم معافى) وهنا قال ريساكوف: (لا تعجل بشكر الله) وسار القيصر ومن حوله الحاشية إلى مكان الانفجار ليرى الجرحى ولكنه ما كاد يسير بضع خطوات حتى دوى انفجار آخر وانكشف الغبار والدخان عن منظر مروع:
سقط القيصر صريعاً وقد كسر ساقاه، وبقر بطنه، واحترق وجهه، ومن حوله عدة من الجرحى. وفي الحال حمل القيصر مضرجاً بدمائه إلى قصر الشتاء، ولكنه زهق بعد ذلك بقليل دون أن يعود إلى رشاده أو يفوه ببنت شفة.
وعثر رجال البوليس بين الجرحى على الفتى الذي ألقى القنبلة الثانية، وكان في دور النزع وتوفي بعد ساعات قلائل دون أن يبوح باسمه للمحقق. ولكن البوليس وقف على اسمه بعد ذلك وقد كان أجناتوس جرنفتسكي الثوري البولوني واحد الفدائيين الأربعة. أما(217/8)
الرابع وهو أمليانوف فقد اختلط بالناس واستطاع الفرار
واعترف ريساكوف بإلقاء القنبلة الأولى، وشرح للمحقق سيرته فذكر أنه طالب بمدرسة المناجم وعضو في حزب (إرادة الشعب)، وأنه يشتغل ببث الدعوة الثورية بين العمال وقدم بعض تفاصيل عن المؤامرة وتدبيرها ولكنه لم يُعرِّف عن أحد من زملائه. وفي ساعة متأخرة من الليل واجهه المحقق بجليابوف، فحياة جليابوف بحرارة؛ ولما علم بمقتل القيصر أبدى ابتهاجه، وقال إنه وإن لم يشترك بنفسه في تنفيذ الحادث بسبب اعتقاله فانه يشترك فيه بكل قلبه، وإنه اشترك في عدة محاولات سابقة لاغتيال القيصر، ولم يمنعه من الاشتراك في قتله سوى مصادفة سخيفة، ولذلك فهو يطلب أن يحاكم مع ريساكوف وسوف يدلي للمحقق بكل ما يثبت مسئوليته.
ولم يمض يوم آخر حتى استطاع البوليس أن يظفر بآثار المرهبين. وفي مساء نفس اليوم هاجم مركزهم في شارع تالينايا فانتحر صاحب الدار وهو ثوري يدعى سابلين قبل دخول البوليس وقبض البوليس على صاحبته المدعوة جسيا هلفمان وضبط لديها بعض القنابل. وقبض في صباح اليوم التالي على ميخايلوف، ولاحظ البوليس في الوقت نفسه أن حانوت اللبان في شارع مالاياسادفيا قد أغلق واختفى صاحباه ففتش الحانوت مرة أخرى فاكتشف فيه سرداباً خفياً يصل حتى منتصف الشارع وقد وضع فيه لغم ثبت بسلك رفيع إلى آلة كهربائية؛ وفي يوم 10 مارس استطاع البوليس أن يقبض على صوفيا بيروفسكايا وكانت لا تزال مختفية في العاصمة ترقب الحوادث، فاعترفت في الحال باشتراكها في مقتل القيصر واشتراكها في حادث القطار الملكي.
وهكذا استطاعت الشرطة أن تضع يدها على جميع الجناة ولم يفلت من يدها سوى امليانوف الذي اختفى عقب الحادث ولم يعترف أحد عليه.
- 3 -
وفي نفس اليوم الذي قبض فيه على صوفيا بيروفسكايا أعني في يوم 10 مارس 1881 وجهت اللجنة التنفيذية لحزب إرادة الشعب إلى القيصر الجديد - اسكندر الثالث - كتاباً ضافياً تستهله بالاعتذار عن مخاطبته في تلك الآونة الدقيقة (إذ يوجد ما هو أسمى من أية عاطفة بشرية وهو الواجب نحو الوطن ثم تقول فيه:(217/9)
(إن المأساة الدموية التي وقعت على جسر ترعة سانت كاترين لم تكن حادثاً غامضاً غير متوقع، بل كانت بعد كل ما حدث في الأعوام العشرة الأخيرة قضاء محتوماً، وهذا ما يجب أن يفهمه الرجل الذي ألقي إليه القدر مقاليد الحكم. ولقد نمت الحركة الثورية واشتد ساعدها بالرغم مما اتخذ من إجراءات القمع الذريع، وبالرغم من أن حكومة القيصر الراحل قد ضحت حريات كل الطبقات ومصالحها ولم تدخر وسعاً في إزهاق المجرم والبريء وفي تعمير السجون النائية بالمعتقلين. ولقد شنق عشرات ممن يسمونهم بالمحرضين فماتوا في هدوء الشهداء. ولم تقف الحركة الثورية بل استمرت قوتها في ازدياد. أجل يا مولاي إن الحركة الثورية لا تتوقف على إرادة الفرد، بل هي عملية تقوم بها الأداة القومية ولن تنجح المشانق التي تقام لصفوة قادة هذه الحركة في إنقاذ النظام السياسي المحكوم عليه، كما أن صلب المسيح لم ينجح في إنقاذ العالم القديم الفاسد من ظفر النصرانية المصلحة
(ونحن أول من يعرف كم يحزن ويؤسي أن تبدد هذه المواهب والعزائم كلها في أعمال التخريب، فهذه القوى يمكن في ظروف أخرى أن تستخدم في عمل الإنتاج: في تربية الشعب وفي تثقيفه، وفي زيادة رفاهته وتحسين نظمه؛ فلماذا إذن نلجأ إلى خوض هذا النضال الدموي؟
(لأنه لا توجد لدينا يا مولاي حكومة بمعنى الكلمة، وواجب الحكومة هو أن تعبر عن أماني الشعب وأن تمثل إرادته، ولكن الحكومة عندنا قد انحطت إلى عصابة قصر، وغدت أحق من اللجنة التنفيذية بأن توصف بعصابة من الغاصبين)
وتستعرض اللجنة بعد ذلك مثالب الحكم القيصري وإمعانه في استعباد الشعب وتسخيره، وما جلبته هذه السياسة على روسيا من الخراب والبؤس وما ترتب عليها من فقدان الحكومة لكل نفوذ معنوي. وهذا هو السبب في اضطرام الحركة الثورية، بل هذا هو السبب في ابتهاج الشعب لإزهاق القيصر ثم تقول:
(ولا مخرج لهذه الحالة سوى أمرين: فأما الثورة المحتومة التي لا يمكن أن يمنعها أي قمع، وإما التوجه إلى سلطة الأمة العليا. وإن اللجنة التنفيذية لتنصح إلي جلالتك باتباع الطريق الثاني، ففي ذلك خير أمتنا وبه تجتنب المصائب المروعة التي تحملها الثورات. وثق بأنه متى عدلت السلطة العليا عن اتباع الهوى وقررت أن تستلهم في عملها برغبات الأمة ففي(217/10)
وسعك أن تطرد الجواسيس الذين يلوثون الحكومة، وأن ترد حرسك إلى ثكناته، وأن تهد المشانق؛ وسوف توقف اللجنة التنفيذية نضالها وتنفض القوى التي حولها لكي تعني بالعمل الثقافي لخير الشعب. . . ونحن نؤمل ألا تطغى لديك عاطفة السخط الشخصي على الشعور بالواجب، والرغبة في تعرف الحقيقة، فنحن يحق لنا أن نشعر بالسخط أيضاً؛ وإذا كنت قد فقدت أباك فقد فقدنا نحن أخوة ونساء وبنين وأصدقاء أعزاء؛ ولكننا على أهبة لأن نخمد مشاعرنا الشخصية إذا اقتضى ذلك خير روسيا، وننتظر منك أن تفعل مثلنا)
(إن الشروط التي يجب تحقيقها لكي تترك الحركة الثورية المجال للعمل السلمي قد عينها التاريخ لا نحن. وإنا لنذكرك بها فقط فهي:
أولاً - العفو العام عن الجرائم السياسية فهذه لم تكن جرائم، بل هي أعمال يمليها الواجب الوطني
ثانياً - استدعاء ممثلي الأمة الروسية لتعديل مناهج الحياة الاجتماعية والسياسية الحاضرة وصوغها وفقا لرغبات الشعب
ثم تشير اللجنة إلى الشروط التي يجب توافرها في الانتخاب الحر ووجوب إطلاق حرية الصحافة والرأي والاجتماع وتختتم خطابها إلى القيصر بما يأتي:
(هذه هي الوسيلة الوحيدة لتوجيه روسيا إلى طريق التطور السلمي والنظامي، وإنا لنعلن خاشعين أمام الوطن وأمام العالم أجمع أن حزبنا سيخضع من جانبه لقرار الجمعية الوطنية التي تنتخب طبقاً للشروط المذكورة، ولن يقوم بأي عمل عنيف لمعارضة الحكومة التي تستند إلى ثقة الجمعية الوطنية)
(والآن فقرر لنفسك يا مولاي. أمامك طريقان ولك الخيار. وإنا لا يسعنا إلا أن نرجو القدر أن يملي عليك عقلك وضميرك الحل الوحيد الذي يقتضيه خير روسيا وتقتضيه كرامتك الشخصية وواجباتك أمام الوطن - 10 مارس 1811)
(للبحث بقية - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(217/11)
بمناسبة الذكرى
في حضرة سعد
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
لما قصدت القاهرة سنة (1343) لأقول (كلمتي في اللغة العربية) تقدم سعد (رضي الله عنه) إلى الأستاذ الكبير حافظ بك عوض بأن يلاقيني ويقول لي: (إن سعداً يحب أن يراني فهل أحب أن أراه؟!) فلما قيل لي ذلك قلت: يا شيخ، قل: يأمره، إنما هو الآمر المطاع. وهل أنا في هذا البلد إلا في حمى عمرو بن العاص وحماه؟ ثم يممنا في اليوم الثاني ذاك العرين: بيت الأمة، وعرجنا إلى عليّة فيه، وكان الزعيم يومئذ موعوكا
فإن تك قد نالتك أطراف وعكة ... فلا عجب أن يوعك الأسد الورد
وطلع علينا سعد ومشى إلينا فسارعنا إليه
فلم أر قبلي من مشي البحر نحوه ... ولا رجلا قامت تعانقه الأسد
ومكثت والأستاذ حافظ عوض في تلك الحضرة ذات الجلال وذات الهيبة حيناً، وكانت أحاديث جمة أروى منها حديثين: ذكر الزعيم سعد جمال الدين الأفغاني (رضي الله عنهما) وأياديه البيض في هذه اليقظة العربية الأدبية، وأفاض في هذا المعنى، فقلت: يا مولاي، إنه لم ينتبه من أمم الشرق في ذاك الوقت إلا أمتان لا ثالثة معهما: الأمة اليابانية وجمال الدين. فابتهج البطل الخالد بهذا القول في بطل مثله، وقال: حقاً إن جمال الدين أمة وحده. ثم قلت له قبل توديعه: يا مولاي، من دأب الطبيعة عند ارتقاء أمة أن تلخصها في رجل، ومصر لم تبرح تتقدم وتعلو حين طويل، وقد لخصها الله في سعد. فأجاب جواب الأبطال العظماء المتواضعين، وهل يكون العظيم إلا متواضعاً؟ وهل يستعير رداء الكبر يلبسه إلا الصغير؟ ثم قبلنا تلك اليد الطاهرة المباركة مودعين. ولما عدت إلى مصر سنة (1346)، وكان أمر الله وقضاؤه ذهبت إلى (القبر) وسلمت على صاحبه
طاف الكأس بساقي أمة ... من رحيق الوطنيات سقاها
عطلت آذانها من وتر ... ساحررنّ مليّا فشجاها
وقرأت فاتحة (الكتاب) لقائدين من قواد محمد: عمرو أبن العاص، وسعد زغلول
النشاشيبي(217/12)
رابطة النقد بالأثر الأدبي
وأهداف النقد
للأستاذ خليل هنداوي
نص المحاضرة التي ألقيت في حمص بروضة البلدية في 17 يوليه على جمع غفير من هواة الأدب. وكانت حفلة زاهية دلت على إقبال شديد على حوض الأدب. وقد تخللها قصائد ومقطوعات لشعراء حمص الشباب جددت عهد ديك الجن الحمصي، وقد أطرب الزائرين عزف نادي (دوحة الميماس) ولا عجب في تعانق الأدب والفن في مثل هذه الحفلة، فإنهما عنصران يتمم أحدهما الآخر. وهكذا سادت الجو روح وثابة مفعمة بالخواطر الرفيعة والشعر الجميل. وفي هذا الجو العالي ألقيت هذه الكلمة. . .
(خ. هـ)
كنت أود أن أزوركم خفيفاً لا مثقلاً، أمتع العين ببهجة مدينتكم ولا أجهد عقلي وعقولكم. كنت أود أن آتيكم زائراً لا محاضراً حتى أرى ألوانكم الطبيعية وتروا لوني الطبيعي. ولكن الأخ الأستاذ محمد روحي فيصل ألح علي في أن تكون الزيارة للمحاضرة، ولكنه روعني كثيراً وكاد يدخل الجزع في نفسي لأنه وصفكم لي وصفاً يبعث على الخوف. قال لي: إنك ستنزل في قوم يدرسون آثار الأديب ويحصون عليه خطراته، ويمنعون فيها تحليلاً وتعليلاً. بل سترى فئة عرفت آثارك وتعرف أفكارك ما تجانس منها وما تنافر. لأنهم قوم يقرءون ويدرسون ويحللون ويناقشون. فقلت له: ما دام الأمر هكذا فدعهم على الأقل يتناولوني وأنا بعيد عنهم، ويسلقوني بألسنتهم الحداد من حيث لا تشوى نارهم جسدي، ولا تبلغ مديتهم ودجىَّ. أتريد أن تسلمني إليهم يداً بيد؟ ولكن ما دواعي هذا الجزع؟ ولم أخشى الفئة المناقشة؟ ألسنا ندعو إلى أدب عميق يستمد من ثقافة عميقة؟ ألسنا نحرره من الدجالين ونغزوه عزواً مستمراً بالفكر حتى يغدو أدب الحياة وأدب الحقيقة؟ وكيف أخشى قوماً هذا عملهم؟ وإنما الأجدر بي أن أكون واحداً منهم فيما يعلمون. والأجدر بي أن أشكر هؤلاء القوم لأنهم مراقبون - لا بمعنى لجان المراقبات والحياد السياسي - ولكن بمعنى المراقبة الحقيقية التي تجعلنا نتحقق إذا كتبنا، ونتأنى إذا فكرنا، وإذا كان هدفنا(217/14)
من الأدب هذا الهدف فلمن ننشد هذا الأدب؟ الشباب لا يقرءون أم لشباب يقرءون، ولا يفكرون؟
يظن الصديق الكريم أنه روعني وفي الحقيقة شجعني. إذ الخير لي أن أعطي فكرة تُناقش وترد لي محطمة من أن أعطي فكرة تضيء بين عميان يقدسونها ولا يحسونها!
هذه ظاهرة حسنة من ظواهر أدبنا تدل على الاتجاه الثقافي الذي اتجه إليه أدبنا في العهد الجديد. وقد كنا في عهد إذا وجد الأديب لم يوجد القارئ، وإذا وجد القارئ لم يوجد الأديب، وقد بدأنا بعهد يستطيع الاثنان فيه أن يوجدا!
ها قد جئت ولا أدري ما يكون نصيبي بعد ما سكن روعي. ولكني أرجو أن يكون حظي في هذه المدينة حظ ذلك المكان المسحور الذي شاع عنه أنه لا يبيت فيه بائت ليلة إلا لقي حتفه حتى جاءه رجل يريد الموت، وما أشد عجب الناس حين وجدوه حياً، لأنه بإرادته الموت عاش. وهكذا أرجو أن أفك هذه الطلاسم لأني أريد أن أراكم غير مطلسمين. وأريد أن تروني غير مطلسم!
وعلى ذكر النقد وشيوع النظرة النقدية عندكم آثرت أن تكون كلمتي - بينكم - حول النقد ورابطة النقد بالأثر الأدبي.
تدركون جيداً المرحلة التي فصلت بين انحطاط أدبنا الأخير وبين تباشير النهضة الأدبية الحديثة، وتدركون أن آفاقاً كثيرة تفتحت، وأن اضطرابات فكرية هزت عالمنا الجامد؛ وتدركون أن النقاد يرجعون هذه البوادر إلى مدرسة الأدب الغربي التي هي أعمق وأكثر ألواناً وصوراً وأكثر درساً للحياة واكتمالاً من الناحية الفنية. على أن للأدب الغربي - في أدبنا - جوانب أبرز من جوانب، والجانب الأكثر بروزاً في نظري هو جانب النقد الذي يسرني أنكم غلبتموه - فيكم - على كل شيء. فنظريات النقد التي شاعت في أدبنا يعود لها الفضل في هذا التقدم. والنقد كما يفهم الأدباء ظاهرة يخلفها الأثر الأدبي، إذ لا نقد إلا بعد الأدب. ولكني أريد أن أفهم اليوم هذه النظرية معكوسة عندنا لأنا بدأنا بالنقد قبل أن نبدأ بالأدب. ولأن الأدب الغربي الذي خلق لنا أجواء نقد، وأعطانا مقاييس نقد صحيحة، لم يفتح عندنا أجواء إنتاج بعد!
تقلبت مدارس النقد في الأدب الغربي كثيراً تقلب الأدب نفسه، والنقد فيه كان مصاحباً(217/15)
للأدب. وليس للنقد حدود واضحة؛ ففيه نزوع إلى الجمال ونشدان الحقيقة وتسجيل التاريخ الأدبي. وقد قسم الكاتب الفرنسي (فان تيجام) ثقافة الأدب في كتابه (الأدب بالمقارنة) إلى ثلاث مراحل: الأولى المطالعة بلذة؛ والثانية المطالعة بنقد؛ والثالثة تاريخ الأدب. ولكن هذه النتيجة الملائمة للمنطق تأتي مشوشة، فهو لم يوضح عمل النقد، ولكن يبدو له أن عمل النقد شيء ذاتي ولا يمكنه أن يكون تاريخاً. أما تاريخ الأدب فهو يريد به دراسة قوية حقيقية للآثار الأدبية وما تحتويه وما تتجه إليه وما تكنّ من فن وثروة. على أن هذا هو ما ينشده النقد وينزع إليه ما استطاع
سأل الأستاذ (روزو) في مجلته (الآداب الحديثة) الأدباء: (إلى أين يذهب النقد؟) فأجاب الأستاذ (لانسون) محدداً علاقات النقد وتاريخ الأدب: (قد تمكن كتابة تاريخ الأدب بدون نقد، ولا تمكن كتابة النقد بدون تاريخ الأدب. فإذا أردت مثلاً أن تدرس المدرسة الشعرية الرمزية، فأنت مضطر إلى أن تصعد إلى أعلى وأن تسبق هذه الحركة وتطلع على ما هيأها)
ويقول (أدمون جالو): (إن النقد لا يستطيع أن يتفوق على تاريخ الأدب؛ ومن العسير أن نحكم على رجل حياته. وأظن أن القلق في أحكامنا التي نصدرها على معاصرينا إنما يأتي من هذه الناحية) على أن الناقد وإن لم يكتب التاريخ فهو يهيئ عناصره وموارده، وكثيرون من الناقدين يهيئون الأماكن المقبلة للآثار الحاضرة
وقد تطورت مهنة النقد في العصور كثيراً. فلقد كان في عصرنا قاضياً يميز الكتاب الجيد من الكتاب الرديء، والأثر الرائع من الأثر السخيف. ولكن في هذا الحكم ما فيه من الجور لأنه يضع الحكم على الآثار في أيد ليست منها على شيء! ثم أصبح الناقد معلماً يوضح الطريق اتباعها، ولكن هذه المهنة زالت أيضاً واصبح هم الناقد غير هم المعلم. وفي هذا المعنى يقول النقادة (سانت بوف): إن مهمتي كأستاذ أن أوقظ قبل كل شيء مسالك الذوق بواسطة التحليل والتحديث. أما الناقد فله واجبات أخرى الناقد يعطي أحكامه بسكون وبملازمة نفسه!)
وقد أعلن (لاسير) أن للنقد رسالة سامية لا تقف عند تحليل المؤلفين، وإنما همه أن يؤثر في الجماعات، ومثله الأعلى أن يعد شعباً حر النزعة، مفتوح آفاق العقل، صافي العاطفة،(217/16)
لكي يأتي الشعراء والمبدعون من بعده ويجدوا من يفهمونهم ويمشون معهم ويسمعون إلى ألحانهم. ولعل هذه النظرية تلائم نظرية الشاعر (ستيفان مالارمي) في أن الشاعر يجب ألا يتلوه إلا شاعر، أو قارئ يستطيع أن يسمو معه في لحظة ما ويتحد معه اتحاداً شعرياً. وهذا أهم ما في رسالة النقد لأن عبقريات كثيرة - بغير النقد - تنطفئ لأنها لا ترى طريق اتصالها بالجماعات
ويرى (ماسبي) أن النقد يعمل كمعلم. . . (إننا نفتقر إلى معلمين ولا نطلب إلى النقد أن يعجبنا. . . لا شيء أصعب اليوم ولا أعسر من وضع نظام وترتيب في الآثار الأدبية والفنية. وإزاء هذه الميول والأهواء المتباينة يجب أن يكون الواجب الأول للأدب أن يرينا أين نحن؟ ومن نحن؟ وأن يفصل بين العبقريات. وبعبارة أجلى أن يكون حارساً أميناً)
ونحن مهما تجردنا من هذا النقد المعلم فمن المحال أن نتجرد منه تجرداً تاماً، لأن من طبيعة الحال أن يقبل الناس على الناقد ويروا فيه (المطلع الحاكم) الذي يصحح بجرأته بعض الأخطاء الكبيرة. ويمكن القول بأن تقدير الآثار على رغم بعض الخطأ في هذا التقدير قد يكون ضرورياً في مجتمعنا الحاضر. . . .
وبعض النقاد يعملون على أن يتجردوا ويتركوا الحكم للقارئ نفسه. وذلك بأن يفتحوا له طريقاً يسلكها ويكتشفها لنفسه. . . ولكن هؤلاء مهما تجردوا - يحملون شيئاً من أنفسهم دخل في بضاعتهم من حيث لا يشعرون.
أما مدارس النقد التي قامت وتقوضت ثم قام غيرها ويقوم غيرها فهي أكثر من أن تحصى، ولكل فوائدها واكتشافاتها. فقد نشأ النقد نشأة ضيقة منذ نشأ. كان يرى أن الشيء الجميل له قواعد معينة معروفة ولا يكون بدونها جميلاً. وهذا نقد مجرد ينصر الفكرة المجردة، ولكنه يهدم بنقد آخر لا يؤمن بالتجرد، بل يرى أن الجميل لا يكون مجرداً، وإنما هو كغيره له علاقات تربطه بغيره. وقد شاعت هذه النظرية كثيراً حتى نشأ عنها (النقد بالمقارنة والموازنة بين الأشكال الجميلة والآثار الأدبية في الشعوب المختلفة ثقافتها) وهذا النقد قد وسع آفاق النقد إلى ما لا حد له. ويعجبني في هذا المعرض سلسلة المقالات التي تنشرها مجلة الرسالة الغراء (بين الأدبين العربي والإنجليزي) للأستاذ فخري أبو السعود. ولعلها تكون فاتحة سلاسل للمقارنة بين الأدب العربي والآداب الشرقية الأخرى التي أتصل بها(217/17)
أدبنا وتأثرت به وتأثر بها كالأدب الفارسي مثلاً الذي لا تزال علاقاته مع أدبنا تكاد تكون مجهولة.
أجل! قد ولى عهد كان يرى أن الإنسان مملكة إلى قلب مملكة، وجاء عهد يرى أصحابه أن الإنسان شيء من أشياء هذه المملكة، يؤثر فيها ويتأثر بها بمقدار. . . وقد أوحت هذه النظرية للنقادة الفرنسي (تين) نظرية تحليل الأثر الأدبي بعوامل الجنس والبيئة والزمن. . . . ونظرية التطور أوحت (لبرونتيير) أن يعتبر الأنواع الأدبية ككائنات حية تتطور ويولد بعضها من بعض. وقد شاعت نظرية جديدة تقول إن الأثر الأدبي لا تكمل صفاته إلا بدرس صاحبه. لأن المؤلف إنما يصف نفسه ويمنح أشخاصه كثيراً من شخصيته. على أن الأثر الأدبي يخضع من وجوه كثيرة بالمؤلف إذا كان المؤلف نفسه ليس بسيد أثره الذي أعطاه، ولا بسيد عمله الذي يريد أن يظهره؟ بل نذهب إلى أبعد من هذا الحد ونقول: إن المؤلف هو الذي يطابق أثره ويمشي عليه، وليس الأثر هو الذي يطابقه. ومهما كان هذا النقد موضوعياً علمياً فمن الواجب أن يتبعه نقد ذاتي يبث الناقد فيه آراءه الذاتية الشخصية. ومن هذه الناحية تولد النقد (المنفعل أو المتأثر) الذي يرى أن الناقد الحقيقي عليها. ومهما أشرق على طبائع مختلفة ونماذج متباينة فهو يرعى شخصية وحدود اتصال الحادث بنفسه. ولكن هذه الذاتية إذا تطرفت كثيراً أخرجت النقد عن كونه علماً! ويطلب في الناقد الحقيقي أن يكون ذا موهبة تحليلية نفسية، وأن يكون قادراً على الخروج من حدود الذات ليمكنه تذوق الفكرة الغريبة مع صيانته لشخصيته. ونقد آخر يعمل على ترتيب درجات الآثار الأدبية، وآلة ذلك - كما يقول سانت بوف - الذوق، لأن الذوق يعبر عن كل دقيق وعن كل خفي يتمشى في أنفسنا!
ونشأ في إبان النهضة العلمية النقد الفلسفي، ويقول أصحابه: إن إلحاق النقد الأدبي بالعلم لا معنى له، إذ لا يوجد علم يختص بشخص دون شخص، والنقد الأدبي لا يعرف إلا الأفراد في الرجال والآثار. ويقول هؤلاء: إننا لا نضم العلم إلى النقد، ولكن نضم الفلسفة إليه. والنقد الحديث قد دخله شيء من مدرسة أفلاطون وشوبنهاور وبرغسون. نعم إن الغاية من الأدب والنقد إنشاء اللذة النفسية، ولكنا نريد أن نعرف تحليل هذه اللذة التي يغمرنا بها الشعراء والكتاب. وبذلك نزيدها أضعافاً مضاعفة. وهل كانت المجادلة على الشعر الصافي(217/18)
إلا قبساً من فلسفة ما وراء الطبيعة. ونقد (تييودي) الذي أوجد الاتصال بين الرمزية وفلسفة برغسون هو نقد مشبع بالروح الفلسفية المرتكزة على فلسفة الفنون والآداب. وهنالك النقد الاجتماعي والأخلاقي الذي يقيد الأدب والفن ويرى صلاحهما بمقدار معالجتهما للمسائل الاجتماعية والأخلاقية، ولا ينصرها إلا بمقدار ما ينصران الأخلاق. وهكذا نجد في النهاية ألواناً كثيرة للنقد نشأت لتحليل ألوان الأدب وكل غايتها أن تفتح للأدب آفاق التجديد والإبداع.
لقد دخلت هذه المدارس النقدية أدبنا وعملت فيه - على غير نظام - وأثرت فيه تأثيراً مباشراً. وليس طه حسين والعقاد وأحمد أمين إلا وليدي هذه المدارس على اختلاف الاقتباس وتباين الطرائق! على أنكم إذا شئتم أن تقارنوا من أنتجهم أدبنا الحديث - بين الناقدين والمبدعين - فسدت المقارنة وشالت كفة المبدعين، لأننا لا نجدهم كما نجد الناقدين. وهذا الأمر يجعلني أعتقد بالنظرية التي أعلنتها (إنا بدأنا بالنقد قبل أن نبدأ بالأدب) فنقادنا الذين تثقفوا بالأدب الغربي قد فتحوا فتحاً جليلاً في أدبنا القديم. ولكنه فتح لم يعد بكل الفائدة على توجيه أدبنا الحديث. فأدبنا الحديث لا يزال جامداً مقلداً لا تتلمس في أقلام أدبائه المبادئ الفنية التي يجب أن تكون فيهم؛ وبهذا أفاد الأدب العربي الناقدين ولم يفد الأدباء المجددين.
قد يقول حاملو لواء التجدد: إننا نريد التجديد والتطور، ولكن القدماء يمنعون علينا هذا التطور ويجدوننا في أدبهم هدامين. ولأصحاب المذهب القديم أن يقولوا ذلك لأنهم يرون في أساليب المجددين التواء وتنكباً عن الأساليب العربية؛ ثم لا يجدون في أساليبهم ذلك العسل المصفى الذي يبشرون به. وما ذلك إلا لأن جل المجددين أنفسهم يمشون ولا يدركون أين يمشون! ويأخذون من كل ثقافة برقعة فيأتي ثوبهم مؤلفاً من رقع! فهل درسوا نظرية كل مدرسة في الفن والحياة؟ فليس الأدب الغربي كله من هذه البضاعة التي ألف أن يحملها إلينا من حين إلى حين أناس لم يستقيموا لأدبهم ولم يستقم الأدب العربي لهم. وإنا إذا دعونا إلى التجديد وإلى تدبر الأدب الحديث فلا ندعو إلى تعطيل الأسلوب العربي والبيان العربي، لأننا نعلم أن لكل لغة من بيانها صبغة إذا زالت زال منها كل لون من ألوان عبقريتها. ولكنا لا نجد حرجاً في خلق المدراس الجديدة ليغذي أنصار كل مدرسة(217/19)
مدرستهم بخير ما يغذى. وفي الأقطار العربية فئات لا ينقصها من الثقافة شيء. ولا يضير العربية تعدد هذه المدارس لأنها باعث من بواعث النشاط والتحفز.
نحن في عهد قد اتسعت فيه مناحي ثقافتنا وأصبح لا يشبعنا ما كان يشبع من قبلنا، وأصبحنا نطلب من الأدب أن يكون شيئاً غير التنميق والزخرفة والشعوذة. والأدباء والشعراء الذين كنا نطرب لهم بالأمس لم يعودوا يملئون نفوسنا، وإنا إذا طربنا اليوم ببعض آثارهم فلأن هذه الآثار تخاطب فينا جزءاً عتيقاً من أنفسنا لا يزال يمد رأسه من حين إلى حين، كالمقطوعة الشعرية مثلاً نسمعها في مناسبة ما من فم قائلها فتطربنا، ولكن إذا عدنا إلى (جوها) لم نجد شيئاً، وإذا تلوناها تلوناً فيها شيئاً كثيراً إلا الشعر. وشعراؤنا على اختلافهم ينظمون كثيراً ولا نعرف لشاعر منهم لوناً خاصاً يتميز به إذا ميزت الألوان؛ لأن جلهم لا يزال يرعى عهد القدماء (القائل) أحفظ أشعار الأوائل وانهج على منوالهم تصر شاعراً. . . ولم يعلم هؤلاء أن العصر قد تبدل وتبدلت بتبدله مطالبه، وأن الشعر أصبح ذا رسالة تفتقر إلى ثقافة عميقة وذوق مهذب فني. فهل هب من شعرائنا من يدرس النظريات الفنية؟ وهل في تحليل النظريات والاستفادة منها ما يضر مواهبهم؟ وهل يعارض أصحاب القديم في إدخالها وهي لا تهدد البيان ولا تحرف اللسان؟
كان الشاعر - مثلاً - يكفيه أن يجمع بين أية فكرة وأية لفظة لا يبالي الملائمة ولا يبالي أصل هذه الفكرة! أما الآن فهو مضطر إلى أن يفرق بين الخطرة الفكرية والخطرة الشعرية، وأن يعي علاقات الألفاظ بالمعاني وينسق ألحانها دون أن يخونه شيء. وهذا يدعوهم إلى أن يمارسوا النظريات الجديدة في الفن وعلم النفس. وهذه النظريات هي وقف على العقل الإنساني الشامل لا تختص بأدب ولا تنتسب إلى قبيل، وإن من واجب المدارس الأدبية إزاء هذه التطورات ألا تقف عند نظريات معينة في النقد لتجعل من طلابها نقاداً ومؤرخين، وإنما هنالك النظريات الفنية التي تزيد في إطلاع الطالب على أعماق النفس البشرية وتجعله أكثر ارتباطا بالحياة وتفهماً لها. وبهذا تعمل على تطور الأدب - لا تاريخ الأدب - تطوراً مخصباً يعود على كل حقول الأدب بالإنتاج والابتكار. قلت: إن النقد تقدم في أدبنا، وليس معنى ذلك أنه بلغ الذروة التي يريد بلوغها. فللنقد عند الناقدين مذاهب كما للأدباء؛ وكل مذهب يفهم النقد كما يريد، بينما يقف نقدنا عند مرحلتين: (1) نقد الآثار(217/20)
القديمة وتنظيمها وإنشاء دراسات مخصبة عليها. وقد خطا النقد العربي في هذه المرحلة خطوة واسعة موفقة (2) نقد الآثار الحديثة وأكثره عمل تهديمي صرف، أو إضرام بخور المجاملة للأصنام الأدبية، دون أن يجرب أن يكون نقداً عميقاً يلتفت إلى البناء. وإذا كانت فائدة النقد الأول إحياء مآثر الماضين ففائدة النقد الثاني أجل وأعلى لأنه يحيى الأحياء ويفتح لهم طريق الإبداع. ومن هذا ترى سر تهافت طلابنا على الدراسات القديمة وتجمد روح الإنتاج والإبداع فيهم.
تلوت قراراً جديداً أصدرته الجمهورية الألمانية هذا العام تمنع فيه الأدباء الأحداث أن يجروا أقلامهم في ميدان النقد، لأن النقد عمل ثقافي يحتاج إلى مراس وإطلاع واختبار. وهي تزعم أنها تريد من وراء هذا أن تحمى آثار العباقرة من التهجم، ولكني أريد أن يبقي النقد وأن يتناوله الشباب. وإذا أريد حماية الأدب فلا نستطيع أن نحميه بمثل هذا القرار لأن النقد غريزة في النفس، بل ربما كان النقد وحده عبقرية. وقديماً قالوا إن النقد يرافق الأثر الأدبي ولا يخلقه. ولكني أرى أن النقد في كثير من المواطن لم يكن مرافقاً وإنما كان خلقاً. أجل! إن العبقرية تكاد تكون - كما يجمع علماء النفس - شذوذاً في الناس كالمعجزة، ولكن هذه المعجزة مرتبطة - من نواح كثيرة - بما حولها، ولولا ما حولها لفسدت. وهكذا ساعد النقد عبقريات كثيرة على الظهور لأنه عبر عنها وفسر ما يكنفها من إبهام. ولذلك لا حاجة إلى خنق النقد حماية الأثر الأدبي، لأن الأثر الأدبي والنقد لا يحتاجان إلى وسيط بينهما للتفاهم، ولا إلى قانون يحمي أحدهما من الآخر. فليوجد الأثر الأدبي من شاء، ولينقده من شاء. . . .
تقولون لي: وكأنا بك لم تكفك مقاييسنا الجديدة في النقد فما هي مقاييسك؟
إنني لا أميل إلى مقاييس تقريبية محددة مقيدة. ومن ذا يستطيع أن ينشئ للحياة وأذواقها المتباينة مقاييس. .؟ وأية عين ترى مثل ما ترى الأخرى؟ ولقد نتغذى بثقافة واحدة في بيئة واحدة، وتتجه وجوهنا شطر آفاق واحدة، ولكنا لا نتفق في النهاية على تفهم ما نراه. ولكنا رأينا الحياة جميعاً، وفهمنا منها كل بحسب مزاجه، ولكن هذا لا يمنع أن يكون للنقد مناح نوجهه إليها.
فالواجب الأول - عندي - للنقد أن يكون في القارئ شخصية مستقلة في النقد، تترك(217/21)
صاحبها لا يقبل الشيء نقلاً، وإنما يقبله إذا قبله عقلياً. . . . استقلال الشخصية أول ما يجب أن يلهم النقد. فبقدر ما يؤلمني فقدان الاستقلال الشخصي في الأمم، كذلك يؤلمني فقدانه في الأفراد. وكما يقبل عليك الأديب بشخصيته، أقبل أنت عليه بشخصيتك
والواجب الثاني للنقد - وهو واجب ما أحوج نقدنا إليه! هو توجيه العقول إلى التوليد. وذلك بإنماء الذوق الفني في النفس حتى تتلمس مواقع الجمال، وخلق الأجواء الخاصة له. فالشعر إذا لم يكن محدوداً فذلك لأن المحدود نفسه يتحدد فيه ويفقد روحه المنطقية، ومن كان يتنبأ بأن الشعر يخضع لظروف جديدة؟ أليس علم النفس أثر فيه كما أثر في نواح مختلفة من الأدب؟ ألم يبدل فيه وجهات كثيرة وخلق منه اتجاهات كثيرة؟ وبينما كان الشعر لغة لا تصف من النفس إلا حالات العاطفة الهائجة، ومن البحر إلا أمواجه المصطفقة أصبح يهوي إلى الأعماق التي تثير هذه العواطف المتماوجة في سكون النفس! إذ ليس من الضرورة أن تصف أوعى ما في نفسك وأقربه للاهتزاز والارتجاج. ويكفي من القصيدة أنها تضرب على وتر في أعماقك تسمع رنينه ولا تسمعه! على أني لست متشائماً من تأخر الإنتاج، لأننا نؤثر أن نتكلم بالنقد على أن نتكلم بأدب غير ناضج، ولا نريد أن يذهب تأثير الأدب الغربي إلى أبعد من جو النقد. نريده موقظاً فقط لا موحياً إلينا، وفاتحاً عن أفق لا أن يكون هو الأفق!
والواجب الثالث أن يساعد النقد - كما يقول (لاسير) على أن يعد شعباً مفتوح آفاق التفكير صافي الذوق لكي يأتي المبدعون ويجدون من يفهمهم ويمشون معهم. . . .
خذوا النقد وسيلة لا غاية. وسيلة لفتح آفاق الإنتاج القوي. ولا تجعلوا غاية سيركم بل اجعلوه طريقاً إلى غايتكم. وليكن لون إنتاجكم لون نفوسكم ولون هذه الطبيعة. ولا ترتدوا ثياب غيركم لأنكم لن تحسنوا تقليد غيركم، ثم لن تجدوا بعدها لونكم الخاص. ولا تمشوا وراء خطوات غيركم مقلدين. . . إنني رحبت بالروح النقدية عندكم على أن تكون مقدمة للإبداع المنشود!
فليكن لناقدكم ضمير يوحي إليه أن يعترف بالجمال حيثما رآه!
وليكن نقدكم نقطة يتعانق فيها العدل والحق والجمال.
وليفتح لكم النقد طريقاً إلى التوليد.(217/22)
وليفتح الناقدون الطريق للروح المولدة.
وإذا لم نكن عباقرة فلنمهد - على الأقل - الطريق للعباقرة.
ولعل الذي وصفكم لي بأنكم ذوو عقول ناقدة مناقشة هو الذي يصفكم لي في المستقبل بأنكم ذوو عقول مبدعة مولدة
(حمص)
خليل هنداوي(217/23)
للأدب والتاريخ
مصطفى صداق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 6 -
(لا يؤاخذني القارئ بما أخذت به نفسي من الترتيب في هذه المقالات؛ فقد يبدو لكثير من القراء أنني أسير على غير منهاج واضح حين أجمع بين الحديث عن الرافعي الشاعر، والرافعي الأديب، والرافعي في أهله، أو حين أثب من موضوع إلى موضوع لا يمت إلى سابقه ولا يصله به سبب.
(وعذري الذي أقدمه إلى القراء من هذا الخلط هو أنني أسير في تاريخ الرافعي على الترتيب الزمني لا ألقي بالا إلى غيره؛ فأيما حادثة اعترضت حديثاً وجرت في زمانه تناولتها، حتى لا يفوتني شيء مما أريد إثباته، فأسير مع الحادثة من حيث تبدأ في زمانها وانتهى بها حيث تنتهي من تاريخه، ثم أعود إلى ما كنت فيه على حساب السنين؛ فهذا من هذا؛ وللباحث من بعد أن يجمع عناصر موضوعه على ما يشتهي ويتناولها من حيث يريد
شعراء العصر في سنة 1905
قدّمت الحديث في الجزء الرابع من هذه المقالات عن شيوخ الرافعي في الشعر الذين أخذ أو أقتفي آثارهم، أو جرى معهم على سنن. وأثبتُّ ما كان بينه وبين حافظ من المنافسة، وما كان يتمتع به حافظ يومئذ من الشهرة والجاه والحظوة عند الشعب، تلك الشهرة التي ألهبت غيرة الرافعي وحفزته إلى الكفاح وحمّسته إلى استكمال أسباب الغلبة بعقد الأواصر وإنشاء المودّات والدعاية لنفسه. ثم بينتُ ما كان بين الرافعي والكاظمي من صلة الحب والتقدير؛ وتساءلت في آخرة القول: هل من صلة بين الرافعي وبين غير هؤلاء الثلاثة من شعراء الجيل؟ هل كان لغير البارودي وحافظ والكاظمي من شعراء العصر أثر في شعر الرفعي؟ وما مبلغ هذا الأثر؟ وما نتيجته؟
على أن الباحث المحقق لا يقنعه هذا التساؤل، وليس يكفيه من وسائل البحث أن يعلم من(217/24)
شعراء العصر هؤلاء الثلاثة فحسب؛ ولقد نشأ الرافعي الشاعر في أول هذا القرن، وأوّلُه حافل بثُلّة من الشعراء لم يجمتع مثلهم في زمان في بلد؛ فما مبلغ تأثر الرافعي بكل أولئك الشعراء المعاصرين؟
هنا أدع للرافعي نفسه أن يتحدث، وما حديثه هذا إلا طرف من الدعاية التي كان يقوم بها لنفسه في أول عهده بالشعر ليبلغ المنزل الذي يطمح إليه. وإنه ليكشف عن شيء من خلق الرافعي وكبريائه واعتداده بنفسه، ويدل على قوة الرافعي وعنفوانه وشدته في النقد، إذ كان هذا الحديث أول ما كتب الرافعي في النقد.
إن أدباء العربية عامة لا يعرفون من الخصومات الأدبية أشهر شهرةً من الخصومة بين الرافعي وأدباء عصره؛ فالخصومة بين الرافعي وطه، وبين الرافعي والعقاد، وبين الرافعي وعبد الله عفيفي، وبينه وبين غير هؤلاء - هي خصومة مشهورة مذكورة في موضعها من تاريخ الأدب العربي في هذا الجيل، مشهورة مذكورة في موضعها من تاريخ النقد في العربية.
وإن قراء العربية عامة ليعرفون الرافعي الناقد معرفة بصيرة، ويعرفون شدته وعنفوانه في النقد، شدةً حبّبتْه إلى الكثير، وألّبتْ عليه الكثير. على أن من يريد أن يعرف أول شأن الرافعي في النقد فليقرأ مقال الرافعي عن شعراء العصر في سنة 1905
نشر الرافعي مقاله ذاك في عدد يناير سنة 1905 من مجلة الثريا بتوقيع (*) وأحسبه أخفى أسمه وراء هذا الرمز حذر التهمة، وليبلغ به مبلغه في الدعاية لنفسه، فقد جعل نفسه في الشعراء رابع الطبقة الأولى من طبقات ثلاث تنتظم كل من يعرف الرافعي من شعراء عصره. جعل الطبقة الأولى منهم على الترتيب:
الكاظمي، والبارودي، وحافظ، والرافعي. . . .
وفي الطبقة الثانية على الترتيب:
صبري، وشوقي، ومطران، وداود عمون، والبكري، ونقولا رزق الله، وأمين الحداد، ومحمود واصف، وشكيب أرسلان، ومحمد هلال إبراهيم، ثم. . . . حفني ناصف!
وفي الطبقة الثالثة:
الكاشف، والمنفلوطي، ومحرم، وإمام العبد، والعزبي، ونسيم. ثم ألحق بهؤلاء أثنين(217/25)
يعرفهما من شعراء العراق، هما: السيد إبراهيم، ومحمد النجفي
وقد أفتتح الرافعي مقاله بما يأتي:
(قرأت في بعض أعداد (الثريا) كلمة عن (الأدب قديماً وحديثاً) فقلت: كلمة مألوفة. ولم ألبث أن رأيت جملة أخرى لأديب غيور على الشعراء، كان رأس الشعر بين أولها وآخرها كأنما خدش بين حجرين؛ فقلت: إني أنظم الشعر فأسرّ، وأقرأ عنه فأسرّ، فمالي لا أنفثها والقوم قد أصبحوا يتنافسون في أسماء الشعراء كما يتنافسون في ألقاب الأمراء؛ وقد استويا في الزور، فلا أكثر أولئك شاعر، ولا أكثر هؤلاء أمير
(ثم رأيت بعد أن عزم الله لي كتابة هذا المقال أن أتركه بغير توقيع، وإن كنت أعلم أن أكثر من يقرءونه كذلك سيخرجون من خاتمته كما لو كانوا أميين لم يقرءوا فاتحته، فإن الحكمة كلها والمعرفة بجميع طبقاتها أصبحت في أحرف الأسماء. فإن قيل: كتاب لفلان. . . قلنا: أين يباع، وإن كان من سقط المتاع. على أن اسمي قد لا يكون في غير بطاقتي وكتبي إلى أصحابي القليلين، وفي سجلّ بعض الجرائد والمجلات، فليظنني القارئ ما ضرب على رأسه الظن
(وسأذكر في هذه الأسطر كل ما عرفته أو أتصل بي أسمه من الشعراء، وأقطع عليه رأيي، فإما وسعه فكمل به، وإما أظهره كما هو في نفسه، لا كما هو عند نسفه؛ ولذلك فقد ضممتهم إلى ثلاث طبقات، وجاريت في تسمية بعضهم بالشعراء عادتنا المألوفة)
ثم كتب رأيه بعد ذلك في كل شاعر ممن ذكرت مقتبساً من شعره مستشهداً به على ترتيبه في موضعه من طبقته
وكان ما قاله عن صديقه ومزاحمه حافظ:
(. . . وأكثر شعره في هذه الأيام (سنة 1905) أضعف من قبل. . . . والذين لم تستقم ألسنتهم ولم تزل أفكارهم على سقم يقولون: إن شعر حافظ اليوم خير منه في ديوانه الأول؛ وذلك لأنهم لا يدركون موقع الخيال الشريف، ولا يهتزون للمعنى البكر إلا في اللفظ الثيب، وهؤلاء يفضلون (شوقي) عليه، وهيهات بعد أن استنوق الجمل. . . .!)
وكتب عن نفسه:
(لو كان هذا الشاعر (يعني نفسه) كما أسمع عنه، فإني أكون قد ظلمته إذ لم أقدمه عن هذا(217/26)
الموضع (الرابع من الطبقة الأولى)؛ فقد أخبرت أنه لم يتم الرابعة والعشرين من عمره، ولذلك فإني لا أكتب عنه إلا ما أعرف من شعره، سواء كان فتى أوكهلاً؛ وهو قد طبع من ديوانه الجزء الأول من سنة مضت، وذكر في مقدمة شرحه أنه نظمه في عامين، وأنه لم يقل الشعر إلا منذ ثلاث سنوات من طبع ذلك الجزء؛ ولم ألبث أن رأيت منذ أشهر في بعض أعداد مجلة (الجامعة) تقريظاً مسهباً جداً للجزء الثاني من ديوان هذا الشاعر؛ فأكبرت ذلك، ولا شك أنه ينظم اليوم في الجزء الثالث قياساً على ما تقدم. . .
(ومما أمتاز به هذا الشاعر ولعه الشديد بالغزل، وبلوغه فيه أسمى ما يبلغه النظم؛ وله مزية أخرى، وهي غوصه على المعاني في الأغراض التي لم تطرق، وكثيرون يعدونه بذلك شاعر مصر، وديوانه معروف، وشعره مشهور. . . . الخ)
وقال عن شوقي:
(سيأخذ بعض القراء العجبُ إذا رأى شوقي بك ثاني الطبقة الثانية وهو هو (شوقي بك شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية)، ولكنا نعجب أكثر منه إذ رأينا الشوقيات قد انقلبت إلى شوكيات؛ فأي ذووق سليم يطمئن لهذه المعاني المكررة وتلك الألفاظ النافرة من مثل: (قضي أرْيحيُّ القوم) وغيرها. ولا أدري لهذا الانقلاب سبباً إلا إذا صح ما يقال من أن (صبري وسلمان) كانا يهذبان شعر الرجل من قبل، وهو قول لا أجزم به ولا أرفضه. . .
(. . . . . وإنما أشتهر قديما يوم كان الكاظمي في العراق، والبارودي في سيلان، وصبري من مهذبي شعره على ما يقال، وحافظ في السودان، والرافعي لم يقل الشعر بعد - على ما قيل لي! - وأثبت له الشهرة إضافته إلى الحضرة الخديوية على نحو ما يذكر النحاة في باب (الجر) بالمجاورة. . . .)
وختم المقال بقوله:
(. . . وسنرى ما يكون من امتعاض الشعراء بعد هذا المقال، ولكني أطلب إليهم أن يخفضوا عن أنفسهم؛ فلا أنا من معية الأمير، ولا من حاشية السفير، وليس ما كتبت إلا رأيي، فليبق كلٌّ في رأيه وعند نفسه أشعر الشعراء)
وذيّلتْه مجلة (الثريا) بما يأتي:
(ألقى إلينا مكتب بريد الزيتون يوماً ملفاً ضخماً وارداً من مصر، وداخله كتاب موجز ومعه(217/27)
المقالة المتقدمة للنشر. أما الكتاب فهذه صورته بعد الديباجة:
(. . . دونك مقالةً بكرا لم يُنسج على منوالها بعدُ في العربية، حَرِيّة بأن تصدّر بها مجلتك الغراء؛ ولا يروعنّك شدة لهجتها فكلها حقائق ثابتة، وإن آلمت البعض فان الحق أكبر من الجميع؛ وإني لبالمرصاد لكل من ينبري للرد عليها، وأنا كفء للجميع؛ وما أخال أحداً يستطيع أن ينقض حرفاً مما كتبته، وإن هم لزموا الصمت فحسبك من سكوتهم إذ ذاك إقراراً بأني أنزلت كل شاعر في المنزلة التي يستحقها.
(ولا يعنيك معرفة أسمى، فأنا أبن جَلا وطَلاّع الثنايا؛ فانظر إلى ما قيل وليس لمن قال، وبعد هذا فإن أعجبتك مقالتي فانشرها وإلا فاضرب بها عرض الحائط.
(وإني أقترح عليك أن تنشر جميع ما يردك من الردود في المعني، سواء جاهر أصحابها بأسمائهم أو تستروا، فإن الموضوع طليّ شهيّ، وفي إطلاقك الحرية للكتّاب ما ينشط بهم لحرية الجولان في هذا المضمار)
قالت الثريا: (وقد تصفحنا المقالة فراعنا شدة لهجة الكاتب وبتنا نقدم رجلاً ونؤخر أخرى في نشرها، إلى أن تغلب علينا الميل لنشرها، إن لم يكن لشيء فلكثرة ما حوته من رائق الأشعار لفحول الشعراء، وهم نخبة شعراء مصر في هذا العصر؛ فأقدمنا على نشرها كما وردتنا بالحرف الواحد، غير متحملين تبعتها؛ وللكتاب الأدباء الحرية في الرد عليها، وأبواب الثريا ترحب بكل ما يردها من هذا القبيل، سواء من المشتركين أو غيرهم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يُهدّم، ومن لا يَظلم الناسَ يُظلَم
أحسب أن لهذا المقال أهمية كبيرة لمن يريد أن يدرس الرافعي دراسة أوسعَ قائمةً على قواعد من العلم والتحليل النفسي؛ وإنما يستأهل هذا الاهتمام من ثلاث نواح:
أولاً: إنه أول ما أنشأ الرافعي في النقد؛ فهو كالمقدمة لهذه المعارك الطاحنة التي قامت بين الرفعي ولفيف من أدباء عصره بعد ذلك بعشرين سنة؛ فلا بد لمن يريد أن يتحدث عن الرافعي في النقد أن يبدأ من هنا
ثانياً: إنه ثَبْتٌ جامع لأسماء الشعراء الذين نشأوا مع الرافعي في جيل واحد، وقرأ لهم ونظر في شعرهم نظر الناقد أو نظر المعجب المحتذى؛ فلا بد لمن يريد أن يتحدث عن الرافعي في الشعر، وعن الشعراء الذين تأثر بهم أو تأثروا به، أن يعرف هؤلاء الشعراء.(217/28)
ثالثاً: إن في هذا المقال لوناً من ألوان الدعاية التي كان يقوم بها الرافعي لنفسه ليبلغ إلى الهدف الذي كان يرمي إليه بين أدباء العصر، فلا بد لمن يريد أن يدرس وسائل الرافعي إلى الشهرة وذيوع الصيت أن يقرأ هذا المقال.
وبعد فإن فيه شيئاً من أخلاق الرافعي المزهوّ بنفسه، المعتدّ بعلمه، القوّي بإيمانه، المتقحِّم على مواطن الهلاك؛ الرافعي القزم الضعيف الذي وقف على السفح تعتمد خاصرته على راحته وهو ينظر إلى فوق ليقول للشعراء العمالقة على القمة: انزلوا إليّ أو أصعد إليكم فأرميكم إلى بطن الوادي أشلاء ممزقة ليس فيها عضو إلى عضو ولا يسمع لكم صريخ. . . .!
الرافعي. . .؟ لقد كان الرافعي طويل اللسان من أول يوم. . .!؟
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان(217/29)
من تاريخ الأدب المصري
شعر القاضي الفاضل
للأديب محمد سعيد السحراوي
وقفت على نسخة مخطوطة من ديوان القاضي الفاضل في دار
الكتب المصرية فأحببت أن أعرض طرفا منه خدمة للأدب
(م. س)
سيرة القاضي الفاضل
ولد بمدينة عسقلان عام 529 للهجرة؛ فهو ليس مصري الأصل وإن كان مصري الدار. تولى أبوه القضاء في نيسان وهو طفل، وثقفه تثقيفاً دينياً بحتاً حتى كبر، فقدم إلى القاهرة في عهد الحافظ لدين الله، وخدم فيها الموفق بن يوسف ابن جلال مدير ديوان الإنشاء إذ ذاك فتعلم فنون صناعته، وحذا حذوه في كتابته، ثم انتقل إلى الإسكندرية يخدم بعض حكامها حتى عرف بينهم بالذكاء، وبنبوغه في صناعة الإنشاء، فلما سمع به العاضد استدعاه إلى القاهرة وعينه كاتباً، وفي عام 566 للهجرة توفي الموفق بن يوسف بن جلال فجعل العاضد القاضي الفاضل مكانه - وظل يكرمه كل وال ويرقيه، حتى ولي الملك صلاح الدين فجعله كاتبه وقاضيه، ووزيره ومشيره؛ وظلت هذه حاله إلى أن توفي في 17 ربيع الآخر عام 596 للهجرة أي في الليلة التي هزم فيها الأفضل ودخل العادل القاهرة
نسبه وصفاته
وهو الوزير مجير الدين أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الإشراف بهاء المجد علي بن القاضي السعيد أبي محمد ويعرف بالبيساني. وقد ذكر عنه المؤرخون أنه كان ديناً كثير الصدقة والعبادة، وله وقوف كثيرة على الصدقة وفك الأسارى؛ وكان يكثر الحج والمجاورة مع اشتغاله بخدمة السلطان. وكان ضعيف البنية، رقيق الصورة، له حدبة يغطيها الطيلسان. وقالوا عنه أيضاً إنه كان فيه سوء خلق يكمد به نفسه ولا يضر أحداً؛ وكان يجل أصحاب الأدب ويكرمهم ويعاونهم، ويؤثر أرباب البيوت والغرباء ولا ينتقم من أعدائه،(217/30)
فإما أن يحسن إليهم أو يقتصر على الأعراض عنهم
والقاضي الفاضل كاتب معروف وأديب له طابع خاص، وأسلوبه لا يكاد يجهله مطلع على الآداب العربية، فهو كما يقال عنه - رب العلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والفضل الذي ما سمع به الأوائل لمن عاش في زمانه، وما تعلق أحد بغباره أو جرى في مضماره وهو كذلك شاعر جيد الشعر كما سيجيء
شعره
شعر القاضي الفاضل صورة من نفسه، يدل على رقة حسه؛ أكثره في الغزل، لأنه أسلس ضروب الشعر قيادة للمحسنات اللفظية التي أغرم بها القاضي الفاضل غراماً شديداً، وكلف بها كلفاً ظاهراً، في غير تصنع واضح، أو تطرف يخرج بها عن المعنى الذي يقصده. وقد اكتسب القاضي الفاضل من البهاء زهير وابن سناء الملك وابن قلاقس وغيرهم من الشعراء الذين عاشوا معه في مصر، رقتهم وموسيقاهم الشعرية العذبة، كما اكتسب مما كان يأتيه من أشعار الأندلسيين الذين كانوا في إبان نهضتهم الأدبية، الأخيلة الرائعة والطرائق المستحدثة، وإن كان قد حافظ على نظام سابقيه، فظل ينظم فيما تعود سماعه وما كثر النظم فيه فلم ينظر إلى الطبيعة الساحرة نظرة الأندلسيين إليها، ولم يجب الآفاق البعيدة التي جابوا فيها؛ وربما كان ذلك نتيجة لنشأته الدينية واحتراماً لجلال المركز الذي وصل إليه
الفخر
القصيدة الأولى في ديوانه يعرفها بعض الأدباء، وهي في الفخر، وفيها يصف بلاغته متلاعباً فيها بالمعاني وهي خير مثال على شعره ومنها:
قضى نحبه الصوم بعد المطال ... وأُطلق من قيد فتر الهلال
وروَّض كاتب جنبي اليمين ... وأتعب كاتب جنبي الشمال
فدع ضيقة مثل شد الإسار ... إلى فرجة مثل حل العقال
وقم هاتها مثل ذوب النضار ... وموج البحار وطعم الزلال
جزى الله عني عروس الدوالي ... ولا أخطأتها كؤوس الغزالي
بما أطعمت من لذيذ الثمار ... وما ألبست من نسيج الطلالِ(217/31)
وما سلست من مذاب السرور ... وما خفضت من جماع التغالي
فكم زخرفت جنة للعذاب ... وكم رفعت قبساً للضلال
أغالط بالكأس حكم الزمان ... فيوم عليّ ويوم بمالي
فجاءت بما في عيون النساء ... ومرت بما في رءوس الرجال
وأسلو الغزال بها إذ أرى ... بكاساتها دم ذاك الغزال
إذا مزج الماء منها الكئوس ... مزجاً أسنتها بالنصال
وسكران كدر من سكره ... زمان على كل عقل ممال
فسكر الشباب وسكر الشراب ... وسكر الصدود وسكر الوصال
فلا تذكرن عهود الوصال ... فعهدي بها والليالي ليالي
ولم أيك عهداً رجاء الرجوع ... ولكن أجدده بالصقال
بعثن الليالي بيأس جديد ... عليّ قديماً فجاست خلالي
فما جاء عن منطقي ذم جان ... ولا جاء عن جوهري ذم حالي
ولم استغث تحت ظل الخطو ... ب جرجرة البُزل تحت الرحال
خشنت لحال كشوك القتاد ... ولنت لأخرى كشوك السيال
ولست لساناً لذل السؤال ... وما زلت صدراً لعز السؤال
حديث يناجي فروع السحاب ... وأصل يناجي أصول الجبال
ولي قلم منه عين الكلا ... م تجري فتنظر عين الكمال
يراع تظل رياض الطرو ... س منها موشحة بالصلال
كمثل الوقيعة فيها الظلال ... يشيع الوقيعة لي في الزلال
وكتْب يفيض بأرجائها ... يمين الجدا أو لسان الجدال
تقدمها الشكل من فوقها ... كمثل السهام أمام النصال
وهي طويلة جمعت عدة أنواع من الشعر فأوعت.
الغزل
وشعر القاضي الفاضل الغزلي رقيق جزل، فهو يقول معاتباً.
وإني لمطوى الضلوع على جوى ... بأيسر منه ينشر الوابل السجم(217/32)
وأملت نفع الكتم فيه مغالطاً ... غليلي ولكن قل ما نفع الكتم
وقد كان لي عزم على الصبر صابراً ... فقد خانه بعد النوى ما نوى العزمُ
وأسعفها باللؤلؤ النثر جفنه ... ويسعفها من بعدها اللؤلؤ النظمُ
لنفسي أريد الوصل لا بعد موتها ... فلا خبر من بعد الممات ولا علمُ
لحي الله هذا العيش إن كان ما أرى ... فآنفه ظل وسالفه حلمُ
ويزعم صبري أنه لي عدة ... وأكبر ظني أن سيكذبني الزعمُ
فلا بعد إطلال الحمي القطر وحده ... ولا دارها دمعي ولا غلتي الظلمُ
تحرج عن وصلي مخافة إثمها ... فلا تحرجى إن الصدود هو الإثم
وأكثر أيامي تعقبها الأسى ... عليها ولكن قد تقلبها الذم
رضيت بما يقضي على قسط جوره ... فَلِمْ يغضب القاضي وقد رضي الخصمُ
واستمع إليه يقول متغزلاً، وفي هذه الأبيات يظهر مدى أثر الشعر الأندلسي فيه:
سنّ النسيم تعانق الأغصان ... أفلا يسن تعانق الخلانِ؟!
قد كان بينهم حديث ساكت ... ناجى خواطرهم بغير لسان
فهمت قلوبهم فلما لم يجب ... عنها اللسان أجابت العينانِ
والقلب يدرك وهو ليس بسامع ... لفظ الدموع بألسن الأجفانِ
يا راجلاً من عينه قد أصبحت ... في الناس مقفرة بلا إنسانِ
فإذا جرت منها الدموع فإنما ... تجرى لسقيا ذكرك العطشان
ومنها:
بلد بما يسقى غليلك ماؤه ... ما دمت تنزل منه في نيران
وعجبت من متوسل مستوصل ... بجهنم منه إلى بستان
وهو كذلك يقول:
يا هلالاً إذا أنار ضللنا ... وغُصَينا إذا تثنَّى ثنانا
بينما جلنار وجهك يبدو ... إذ رأينا في صدرك الرمانا
ومن غزله أيضاً:
تلذ بجنتها أعين ... وفيها الذي تجتنى الأنفسُ(217/33)
لها نكهة إذ تحيى بها ... يغض لها عينه النرجسُ
وجاءت بعود لها خاطب ... أرم لهَيْبتهِ المجلسُ
لها معجز إن تأملته ... فما سر إعجازه ملبسُ
أري العود من قبلها أخرساً ... وفي يدها ينطق الأخرسُ
كأن المدامة من لحظها ... ونار الغرام بها تقبسُ
وله:
ومالي في صيد العقارب حيلة ... سوى عقرب دبت على ورق الورد
وإني شجاع لا علي كل حية ... سوى حية صيغت من الشَّعر في الخد!
وفي الأبيات الآتية تبدو حيرته ويتجسم قلقه، فله من قصيدة:
يمزقني ذا الحب كل ممزق ... ويصبح خلقي فيه وهو جديدُ
مقيم وقلبي في ركابك سائر ... قريب - ولكن ما أريد، بعيدُ
وله من قصيدة أخرى:
ليال تقضت ليس يوم براجع ... إليها ولكن الليالي سترجعُ
فيا ليت أسباب الليالي تقطعت ... كأسبابنا فيها إذا تتقطعُ
وإن فرطت منا وأعني اتباعها ... فيا ليت أن النفس لا تتتبعُ
وإن كان قلبي بين جنبي حاضراً ... فليت هموم القلب لا تتبوعُ
وبيني وبين النائبات وقائع ... يهونها الموت الذي أتوقعُ
فكل زمان ليس لي فيه صاحب ... وكل حبيب ماله فيَّ موضعُ!
وقال في حبيب مريض، وفيها تصوير لنفسه بديع:
وما عدته بل عدت سقمي بقربه ... ومما به ما بي عليه قريب
أغيب برغمي ثم أحضر غائباً ... وأنظر آثار الضنا فأغيب!
وقال مداعباً:
بين الضلوع جهنم من حبهم ... فوددتهم لا يسمعون حسيسها
فمع الظلام الدمع كان طليقها ... ومع الصباح الهم كان حبيسها
وقال:(217/34)
وما قضى الدهر لي من قربه وطراً ... إلا اقتضى الوطر المقضي أوطارا
يا من شقيت به دنيا وآخرة ... ترى عرفت سوى الدارين لي دارا؟
أشقى البرية منظوراً ومنتظراً ... هذا الضعيف الذي يهواك جبارا!
ومن شعره الموسيقى العذب قوله:
وقف الطيف بجفني كالطفَل ... سائلاً أين الكرى أين رحل
إنما كان الكرى يسكنها ... فالكرى من وصلهم ثم انتقل
إنه يا طيف طوفان طغى ... وابن نوح ليس ينجيه الجبل
إن قلبي من قلوب لم تبن ... سرها لو لم تبينه المقل
حالت الأشياء عن حالاتها ... فتولى الماء إيقاد الغلل
هذه أمثلة من شعره الغزلي، وما هي إلا قطرة من بحره الفياض؛ ومنها نستطيع أن نحكم على نفسيته؛ وهي لا تتعدى ما قال المؤرخون فيه.
(يتبع)
محمد سعيد السحراوي(217/35)
فردريك نيتشه
للأستاذ إبراهيم إبراهيم يوسف
عصره - مولده - تعليمه - شغفه بالأدب والموسيقى - أثر شوبنهاور وفاجنر في تفكيره - أول مؤلفاته - (إنساني وإنساني إلى أبعد حد) (زرادشت) - بقية أعماله - فن نيتشه وفلسفته - وفاته - مدرسته
بدأ التفكير الاجتماعي يظهر جلياً في آداب الأمة الألمانية في خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويرجع سبب ذلك إلى تغلب النزعة الواقعية على غيرها من النزعات. وكان لهذه النزعة الجديدة أثرها الجليل، فقد بدأت تسير في سبيلها هادئة حتى تغلغلت في نفوس المتأدبين. وكان على رأس القائمين بهذه الحركة الجديدة فريدريك نيتشه الذي أخذ يميل شيئاً فشيئاً إلى الاعتقاد بأن جماعات الناس تهوى إلى أسفل. وقد أرجع أسباب ذلك إلى أن الأدباء لا يعنون إلا بالفرد في منتجاتهم الفنية، في حين أن حاجة الفرد ومتاعبه ومشاكله ليست بالذات حاجة العصر ومتاعبه ومشاكله، وإن حالة الأديب قد تناقض حالة الجماعات البشرية. وعندئذ مال معه بعض صحبه إلى تفكيره هذا، وبدأت الناس تحس بأن ما كتبه الأدباء عن ماجريات الأحوال وشئون الحياة، أو ما كتبوه عن المسائل الاجتماعية والشئون السياسية التي سار ويسير إليها العالم، ليست إلا بعض آراء من شتاتها. ومن ثم أدرك عامة الناس بأن لهم وجوداً، وأنه يجدر بهم أن يعبروا عن آرائهم بصراحة. فأنجبت هذه الحركة أدباء فنانين من طراز جديد، منهم المصلح الاجتماعي، ومنهم الثوري الأشتراكي، ومنهم طبقات الفوضويين. ولنحاول هنا أن نلم بتاريخ حياة فردريك نيتشه لنتعرف مكانه من بين هؤلاء.
ولد فريدريك نيتشه في اليوم الخامس عشر من شهر أكتوبر سنة 1844م، في قرية (ريكن) الواقعة بالقرب من (لتزن) وقد يبدو لمن يحدق في صورة نيتشه أو يسمع باسمه أنه يمت إلى أصل بولوني، ولكن الباحثين قد فرغوا من إثبات أصله الألماني. ويرجع التشكك في أسمه إلى أن الألمان الذين كانوا يستوطنون المناطق التي يتغلب فيها السلافيون لا يرون غضاضة في صبغ نهاية أسمائهم بالصبغة السلافية. وكذلك فعلت عائلة نيتشه. أما(217/36)
تكوين رأسه واصفرار لون شعره وزرقة عينيه، فدليل كاف على أنه ينتمي إلى (الشماليين) أي سكان شمال أوربا.
وكان لفريدريك أب قس ورث عنه نزعته للموسيقى وذكاءه المتقد وإحساسه المرهف وأعصابه الملتهبة. أما القوة فقد ورثها عن أمه التي أخذ عنها قوة الإرادة، والقدرة على العمل، والقوة الحيوية، وقوة مناعة جسمه ضد هجمات أعصابه الثائرة. أما الوعظ والدعاية لما يؤمن به فقد ورثه عن أبويه كليهما، ولذا كان حب الوعظ والإرشاد قوياً عنده إلى حد أنه كان يهيم بوقع الكلمة التي ينطق بها. وكان من اجتماع نزعته الإصلاحية إلى قوة إرادته وصدق حيويته لهيب من النار يسرى في كلماته فتهتدي به الناس وتطمئن إلى حرارته في جو إنعدمت فيه حرارة الإيمان.
وليس غريباً أن يكون هذا شأن نيتشه، فقد كان في صغره شعلة ذكاء تتقد منذ سني دراسته الأولى. فقد كتب مذكراته عام 1858، ولما يبلغ الرابعة عشرة من عمره، بأسلوب واضح متزن يشف عن ذكاء مبكر، إذ قال: (أصبحت في الطور الشعري الثالث.) وكتب أيضاً: (يجب أن أتمرن على القريض أكثر من ذي قبل، وإن أمكن فسأنظم في كل ليلة قصيدة.) ومع كل ذلك لم تخلُ قصائده الأولى هذه من أبيات موسيقية أخاذة تحوي معاني مبتكرة. وفي سن الخامسة عشرة نظم قصيدته المعروفة باسم (بغير وطن) ذات النزعة الرومانتيكية. فالتف حوله الأدباء الناشئون وألف منهم جمعية أدبية أسماها (جرمانيا). وكان يأمل أن يتتلمذ في المستقبل على جين باول بعد أن مال إلى فنه كل الميل. ولكن غير واحد من أصدقائه نصحوه بقراءة (هيلدرين) (ونوفاليس) فقرأهما كما قرأ (شكسبير) و (ترسترام شاندي) وهو في سن الخامسة عشرة. وكتب إذ ذاك في مذكراته: (إنني أقيد كل فكرة طريفة؛ وقد اتضح لي أنني إلى ما قبل الآن كنت غير ملم بشيء من العلوم.)
ولم يكن شغف نيتشه بالأدب أكثر من شغفه بالموسيقى، وكان أحب الموسيقيين إليه (روبرت شومان) الرومانتيكي النزعة، ولكنه مال بعد ذلك إلى شوبان إذ قال عن موسيقاه إنها تمثل جمال ونبل الفكر كما تمثل المرح وعظمة الروح الإنسانية والشعور الفياض سواء بسواء) وفضلا عن ذلك فقد وضع نيتشه أيام صباه قطعاً موسيقية قال عنها بعد أن تقدم في السن: إن (نغماتها) تكاد تكون مطابقة لموضوعات مختلفة من بارسيفال(217/37)
التي ألفها فاجنر بعد عهد الصبا لنيتشه.
وعندما التحق نيتشه بجامعة (بون) عام 1864 كان يرغب في دراسة اللاهوت، ولكنه نزع عام 1865 إلى دراسة الآداب الكلاسيكية إلى جانب درسته الأصيلة. غير أنه هجر فيما بعد دراسة علوم الدين وتعلق بالبحث في العلوم، ثم رحل إلى (ليبزج) طلباً لحرية الفكر وحرية الرأي، ولكنه سرعان ما أدرك (أنه لا يوجد مكان تتوافر فيه حرية الفكر) وكان شوبنهاور قد ساعده على تحرره من عقيدته الدينية، بعد أن أتصل به في (ليبزج) التي قال فيها نيتشه: (هنا وجدت مرآة رأيت فيها العالم والحياة كما رأيت نفسي منعكسة بها في أجلي وضوح؛ وهنا حدقت في عين شمس الفن الذي لا نهاية له؛ وهنا رأيت المرض والبرء، رأيت المنفي والملجأ، رأيت النار والجنة) وفي هذا ما يدل بمفرده على مقدار تأثر نيتشه بشوبنهاور، كما تأثر به بعد ذلك في أبحاثه الأدبية التي كتبها أثناء دراسته في الجامعة، والتي أدهشت أساتذته، إذ عجبوا لأسلوبه العلمي الرصين. ولكن كل أبحاثه الأدبية لم تكن لتغريه إذ كانت تنقصها الفكرة الإنسانية. ودفعه هذا الاتجاه الجديد في تفكيره إلى تغيير منهج دراسته الذي كان قد صمم عليه. فقد كتب إلى صديق له عام 1869 يقول: (إننا دون شك أتباع القدر. فمنذ أسبوع أردت أن أكتب إليك بأني اعتزمت دراسة الكيمياء وترك دراسة الآداب لمن هم أليق بها مني، وهؤلاء هم الشيوخ. والآن يغريني شيطان القدر بالأستاذية في الآداب).
ولم يكن تعرّف (نيتشه) إلى (شوبنهاور) أهم ما وقع للأول في حياته إذ أن تعرفه إلى فاجنر قبل نزوحه إلى (باذل) كان له أثر عميق في نفسه. ولم يكن حب (نيتشه) لموسيقى (فاجنر) وليد يومه، بل لقد أعتبر (نيتشه) صديقه (فاجنر) الممثل لكل الفنون الحديثة التي أرتشفها وهضمها. وبلغت تلك الصداقة أبعد مدى لها سنة 1888 عندما قضى كلاهما الصيف في قرية بالقرب من (لوزرن) وحرص نيتشه على ألا تنتزع الأيام منه هذه الصداقة، وود لو أن تبقى صلته بصديقه فاجنر إلى الأبد، وقال عنها: (لقد كانت أيام تبادلنا فيها الثقة، أيام مرح وسرور. والحق أنها لحظات لها أعمق أثر في نفسي). قال ذلك نيتشه عن صديقه الذي أخلص له فقال فيه: (إنني لا أعرف ماذا كان حظ الآخرين من مصادقتهم لفاجنر، إلا أني أعرف أن سماءنا لم تغشها سحابة قط) وما ذلك إلا لاعتقاد نيتشه بأن(217/38)
صديقه عبقري كريم الخلق، تنطبق عبقريته على وصف شوبنهار للعبقريات
وفي ذلك العهد ألف نيتشه أول كتبه القيمة الذي أسماه (انحدار التراجيدية من روح الموسيقى وأتمه عام 1871 وقد ضمنه أهم ما وقع له في حياته الخاصة وصداقته مع فاجنر، كما ضمنه مراميه الأولى والأخيرة في الحياة، ومساس الحاجة إلى الموسيقى. ولقد كتب كتابه هذا بأسلوب رائع تجلى فيه هيامه بالفنون، وأثبت قدرته على البحث كعلامة. ولم يحجم نيتشه عن أن يقول رأيه في الفنون الإغريقية وفي الإغريق. ويعد كتابه هذا من أروع الكتب الكلاسيكية التي تناولت الفن من عديد نواحيه التاريخية والفلسفية والعقلية. فلقد حاول نيتشه (أن يرى العلوم والمعارف بعين الفنان، وأن يرى الفن عن طريق الحياة) وهاجم في كتاب آخر له أسماه (نظريات لا تتفق وروح العصر) ووضعه فيما بين سنة 1873 و 1875 - عديد الاتجاهات في الثقافة الألمانية. فقد قال بأن ألمانيا تعيش في حالة همجية من الثقافة. وأفصح في هذا الكتاب عن طبيعة الحقائق الواقعية وما يقع تحت الحس في كل آن. وطالب بأن يكون الفن ممثلاً للعصر والحياة. وفي هذا الكتاب ينزع إلى المثل العليا، كما يميل في كتابته إلى التهكم المشبع بروح الفكاهة، وفي كتابه الذي أسماه (بعض فوائد ومضار التاريخ في الحياة) قال بأن كثرة المعلومات ليست وسيلة الثقافة، ولا هي دليل عليها إذ المسألة متعلقة بالسمو في الحياة. أما التخمة الناجمة عن التهام التاريخ وحشره في الرأس حشراً فإنها تجعل الحياة مريرة كما تجعلها خطرة. فالتاريخ يضعف الشخصية، ولا يمكن لشخصية أن تتحمله إلا إذا كانت غاية في القوة. أما ضعاف الشخصية فالتاريخ يؤيدهم، إذ يصبحون دائرة معارف متنقلة، ولا يكون لهم رأي، وإن جرأوا على ذلك فهو رأي محايد، ليس لشخصيتهم فيه أثر. ومن رأيه (أن وظيفة الإنسانية أن تعمل دون انقطاع لتخرج إلى العالم شخصيات عظيمة). والذي جر نيتشه إلى هذا التفكير هو شدة تأثره (بشوبنهاور) و (فاجنر)، غير أن أثرهما فيه لم يدم إلا بعض الزمن. فقد أدرك عندما شاهد حفلات (بايرويت) - الحفلات الموسيقية والتمثيلية السنوية الهامة - أدرك أنه خدع في رأيه، فقال بأن فاجنر يتخذ وسائل خشنة جامحة لإظهار تلك الفخامة العاصفة. وذلك الاضطراب العظيم المخيف وإن كان مزركشاً ومحلى بزخارف بهيجة أبغض الأشياء إلى نيتشه.(217/39)
وفي سنة 1876 أخذ نيتشه في دراسة الفيسيولوجيا والطب والعلوم الطبيعية. ومن ثم أخذ يدرس من جديد جميع المسائل التي عالجها من قبل. وكتب في فترة العطلة التي قضاها في جنوب ألمانيا كتاباً أسماه (الخلاص) وهو أول جزء من كتاب جمع فيه مختارات أقواله وأختار له اسماً آخر هو: (إنساني وإنساني إلى أبعد حد) , - وكان ذلك عام 1878. ولما أن أهدي كتابه هذا إلى صديقه فاجنر ليطلعه على آرائه الجديدة بعث إليه فاجنر بقطعته الموسيقية (بارسيفال) ونجم عن ذلك فتور بين الصديقين، إذ تمسك كل منهما برأيه. ولعل كتاب (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد) هو كما أسماه صاحبه (كتاب لأحرار الفكر) وفي هذا الكتاب من التضارب في القول ما جعل الناس تتحدث عنه. فبينما تراه في هذا الكتاب ملماً بكل شيء سليم المنطق، تراه غاضباً في بعض مواضع الكتاب مهتاج الأعصاب مريضاً. والواقع أنه كان يقاسي الآلام، ولكنه كان يحاول الكلام كمن لم يمس بسوء. وكان يريد الاحتفاظ بهدوئه ليهزأ بالعالم، كما قال بعد ذلك بعشر سنين. والحق أن نيتشه كان ثائراً على نفسه
(يتبع)
إبراهيم إبراهيم يوسف(217/40)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 19 -
الديانة الفارسية
الزرادشتية ومصدرنا عنها
ليس لدى الباحث عن الديانة (الزرادشتية) إلا مصدر واحد، وهو كتابها المقدس: (زند أفيستا) الذي وإن كان لم يتم جمعه إلا حوالي القرن السادس بعد المسيح إلا أنه قد أحتوى على جزء عظيم يدعى (جاتها ياسنا) وهو الذي يرجح جميع العلماء أنه كلام (زرادشت) نفسه ويرجعون تاريخه إلى القرن السابع أو العاشر قبل المسيح على ما اختلفوا في وجود النبي الفارسي كما أسلفنا. وما ليس من كلام (زرادشت) من هذا القسم هو - في رأي الكثرة المطلقة من الباحثين - يمثل (الزرادشتية) الأولى حق تمثيل، ويصح أن يعتمد عليه في تاريخ العصر الأول من عصور هذه الديانة. وهذا القسم قد وجد مكتوباً بلغة قديمة ترجع إلى ذلك التاريخ الذي عينه العلماء.
الميتافيزيكا
يجد الباحث في قسم (الجاتها) أن (زرادشت) أرجع جميع آلهة العهد القديم إلى إلهين أثنين: إله الخير (أهورا مازدا) أو (هور مازاد) أو (هرموز)؛ وإله الشر أو الكاذب أو الرديء، وهو الذي سيسمى فيما بعد بـ (أهرمان) في رأي المحققين. ولكن هذه التثنية ليست على علاتها، ولم تكن تثنية بمعناها الصحيح، لأن الإله الذي خلق الكون هو (أهورا) أما (أهرمان) فلم يكن له عمل إلا إيجاد شبه ظل من الشر لكل خير يخلقه (أهورا) وهو وإن كان أزلياً كمازدا، لأنه توءم رديء له إلا أنه ليس أبدياً مثله، إذ هو سيفني عندما يتغلب الخير على الشر فيمحوه من الوجود. أما رفعته عليه فهي ثابتة بنص الكتاب المقدس الذي(217/41)
أسلفنا الإشارة إليه. وإليك شيئاً من هذا النص:
(استمعوا بآذانكم الأشياء الجيدة وانظروا فيها بوضوح حتى تصمموا على أحد الإيمانيين، لأن كل إنسان يجب عليه أن يصمم هو بنفسه قبل الفناء النهائي لكي يتكون حظ كل واحد منكم حسب اختياره.
إذاً، فالروحان الأولان اللذان ظهرا في الوجود كتوءمين هما: الخير والشر، وهما دائماً في التفكير والقول والعمل والحكماء قد اختاروا بينهما، وحسناً اختاروا، ولكن المفاليك هم الذين أساءوا الاختيار. وعندما تقابل هذان الروحان في مبدأ الوجود أسسا الحياة و (اللاحياة). وفي نهاية الأشياء سيكون أردأ أنواع الوجود من نصيب الذين يتبعون الكذب كما يكون أحسن الفكر من نصيب الذين يتبعون الخير. . .) إلى أن يقول:
(أيها الفانون، إذا أنتم أطعتم أوامر (مازدا) الذي نظم السعادة والألم ووضع قاعدة العقاب الطويل للكذابين وبارك الأخيار فإنكم ستفوزون بالسعادة الأبدية)
قد رأيت من هذا النص سمو (مازدا) على (أهرمان) من جميع النواحي، وعلى الخصوص من ناحيتي الأخلاق والأبدية، ولكن هذا الإله مع سموه وجلاله لم يسلب القوة والإرادة من البشر حتى ولا الأشرار منهم، بل ترك لهم من الإرادة ما يكاد يساوي إرادته نفسها، ليكونوا كاملي الحرية في الاختيار. ولولا هذه الحرية لما رأينا الكذب والشر يسودان كثيراً على هذه الأرض وينتصران أحياناً على الخير؛ وهذه السيادة وذلك الانتصار كانا أحياناً يدفعان (زرادشت) إلى التشاؤم واسوداد المزاج كما يظهر ذلك في الأنشودة الآتية: (نحو أي بلد أفر أو أنجو بنفسي؟ لقد فصلت من النبلاء ومن أمثالي، والشعب ليس مسروراً مني ولا الكذابون الذين يحكمون البلاد أيضاً. ماذا أعمل لأرضيك أنت يا (مزدا أهورا)؟
أنا أعرف جيداً لماذا لم أحز أي نجاح: ذلك لأني ليس لدي مال ولا رجال. أنا أدعوك يا (أهورا) أن تمنحني مساعدتك كما يساعد الصديق صديقه.
يا (مازدا) متى تشرق شمس انتصار الخير في العالم بوساطة الحكمة السامية الممثلة في المحررين الذين سيجيئون؟.
لم تقبل هذه التثنية (الزرادشتية) إلا أثناء حياة مؤسسها، أما بعد موته فقد دار حولها الجدل ولم يفهم الناس هذه الموازنة المعقدة التي وضعها زرادشت بين الخير والشر. وما زال هذا(217/42)
الجدل يعمل عمله حتى انتهى حوالي القرن الرابع بعد المسيح بأحداث تغيير جوهري في هذه الديانة، فذهب فريق من رجال الدين إلى إنكار التثنية بتاتاً وإعلان التوحيد حيث صرحوا بأن (مازدا) هو الإله الأوحد، وأن (أهرمان) ليس خصماً له وإنما هو خصم روح القدس في (مازدا) إذ هذا الأخير يحتوي على روحين: أحدهما خيّر والثاني شرير.
الملائكة والأرواح الخفية
يتحدث كتاب (زند أفيستا) عن عدد من كبار الملائكة كانوا وزراء لأهورا مازدا، وقد حددهم القسم المتأخر من هذا الكتاب بستة وزراء، كل واحد منهم له اختصاص معين وعمل محدود؛ ووزاراتهم هي كما يأتي: (1) الفكرة الخيرة. (2) الفضيلة الجُلَّى. (3) الإمبراطورية المشتهاة (4) التنازل الكريم. (5) الصحة. (6) الخلود.
هؤلاء هم رؤساء الملائكة الذين يكونون الهيئة العليا التي تلي (أهورا) مباشرة. وهناك عدد عظيم من صغار الملائكة ومن الأرواح والجن، لكل واحد منهم أيضاً مهمة يقوم بها ومنزلة يشغلها. وهذه المهمات تختلف في جواهرها كما تختلف في قيمتها، فبعضها أخلاقي كصغار الأعمال الخيرية، وبعضها مادي كالعناصر والنباتات المختلفة. ولقد أخذ هذا العدد الأخير يتضاعف وتزداد سلطته حتى طغى أو كاد على الديانة الزرادشتية ولو في البيئات العامية على الأقل حيث عاد بالجماهير إلى عبادة العناصر كما كانت الحال في الديانة القديمة. وقد بعث (ميتهرا) من جديد وأصبحت النار والشمس والقمر والنجوم ملائكة ثم آلهة، واستردت أهميتها الأولى في تلك الأوساط وعاد إلى الوجود من جديد (أهوما) إله الخمر الذي رأيناه في الديانة الأولى كما حدثت خرافات أخرى لم يكن للفرس عهد بها من قبل كذلك العملاق ذي الأرجل الثلاث والذي له أهمية في إدارة العالم. ولكن ينبغي أن نلاحظ أن مازدا هو الذي كان لا يزال الإله الرئيس على جميع هؤلاء، ولم يكن الآخرون إلا آلهة ثانويين أو ملائكة أو أرواحاً.
هؤلاء جميعاً هم أعوان (مازدا) أو هم الحزب الأعلى؛ أما الحزب الأدنى أو أنصار إله الشر فهو يتألف طبعاً من (أهرمان) رئيساً، وقد كان الشعب في أول الأمر يتمثله في ثعبان أو في ذكر الضفدع أو في حيوان رديء مزعج أو في حصان جمح وتوحش ثم استطاع أحد الملوك أن يقبض عليه ويخضعه، ولكن لما تقدم الشعب وارتقت عقليته لم يعد يتمثل(217/43)
إله الشر على هذه الصورة المادية الساذجة، وإنما خطا به نحو التصوير المعنوي فرفعه إلى عالم المدركات العقلية وجعل له وزراء ستة كأهورا يختص كل واحد منهم بعمل من أعمال الشر والسوء، وعلى رأس هؤلاء وضعوا (أندرا) الإله الشعبي القديم، ولكن تحت أسم وزير سابع خاضع لأهرمان. ودون هؤلاء الوزراء وضع رجال الدين أيضاً ملائكة شر وأرواح سوء وشياطين وسوسة وضلال، وذلك مثل ملك الرعد وملك العواصف المدمرة، وكالأرواح الحالة في الحيوانات المؤذية والحشرات الضارة؛ وهناك أيضاً من هذا الحزب شياطين موكل كل واحد منها برذيلة من الرذائل، عليه أن ينميها وينشرها ويعلي شأنها
لم يكتف رجال الدين بهذا التقسيم، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك فعينوا شمال بلاد فارس كمستقر لأرواح الشر وشياطينه، وعلموا الشعب بعض تعاويذ سحرية إذا قرأها المؤمن فرت من أمامه أرواح الشر وتضعضعت قوتها وهوت إلى مكان سحيق. وكان أهم هذه التعاويذ ما أخذ من الكتاب المقدس ثم قريء بطريقة خاصة ولهجة معينة ورنة مُوَقَّعَة.
الإنسان أو الشخصية البشرية
لم يوجد في القسم القديم من (زند أفيستا) ما ينبئنا برأي زرادشت في الشخصية البشرية من: جسم وروح من حيث المبدأ أو المصير، وإنما كل ما لدينا في هذا الشأن قد وجد في الأجزاء الأخيرة التي كتبت بعد عصر زرادشت بزمن غير يسير، أي بعد ما ارتقت المعارف الإنسانية نوعاً ما وبدأ الخاصة يفكرون في ثنائية الإنسان ويحللونه إلى جسم وروح.
يجد الباحث في هذه الآيات المتأخرة أن الإنسان يتألف من جسم وروح وأن الجسم يتكون من أربعة أشياء: اللحم والعظم والقوة الحيوية والصورة أو القالب، وهذا الأخير هو وحده الذي يعود إلي الحياة في حالة البعث دون الثلاثة الأول التي لا تبقى
وأما الروح، فهي عندهم خمسة أنواع، بين كل واحد منها وبين الأربعة الأخرى شيء من الترادف أو التقارب يجعل التحديد الدقيق صعباً أو كما يقول أحد الباحثين الأوربيين (إن مفردات لغاتنا لا تستطيع التعبير الصحيح عن هذه المعاني). وهاك هذه الأقسام الخمسة للروح:(217/44)
(1) النفس والإلهام والعقل (2) الدين والضمير الخلقي والوحي (3) الوجدان النفسي والشعور والإحساس (4) الروح بأدق معاني الكلمة (5) الفرافاشي. وهو عبارة عن شبح سماوي هو في نفس الوقت ملك حارس وروح جوهرية، وعلى الجملة هو الإنسان الحقيقي الذي ليس الكائن البشري إلا مظهراً له، وهو وحده الذي يستطيع أن يتصل بأهورامازدا ويحيا في حضرته، ولهذا عند الموت يفني الإنسان كله في هذا (الفرافاشي)
مصير الروح
عندما يموت الميت تظل الروح ثلاثة أيام وثلاث ليال معلقة إلى جانب الجسم، منعمة بنعيمه أو معذبة بعذابه، وفي فجر اليوم الرابع تهب عليها ريح إما معطرة إذا كان الميت خيراً، وإما نتنة إذا كان شريراً فتحملها إلى موضع تلتقي فيه إما بفتاة جميلة، وإما بعجوز مفزعة، وليست الأولى فتاة حقيقية ولا الثانية عجوزاً حقيقية، وإنما هي صورة أعمال الميت، وهي ضميره نفسه الذي سيقوده إلي حيث معبر الحساب والحكم الأخير. وعلى باب هذا المعبر يوجد ثلاثة قضاة بينهم (ميتهرا) وهناك ينصب ميزان توضع في إحدى كفتيه حسنات الميت وفي الأخرى سيئاته. وبناء على صعود إحدى الكفتين يصدر الحكم على مصير هذا الميت.
ويلاحظ أن الثواب والعقاب لم يكونا ينْصبَّان على كل حسنة أو كل سيئة على حدة، بل على مجموعة النوعين، فإذا رجحت الحسنات كفرت السيئات مهما كانت كل واحدة منها في ذاتها جسيمة؛ كما يلاحظ أن الندم والتوبة لم يكونا معتبرين، وأن الغفران في الحساب لا وجود له البتة لأنه مؤسس على العدل لا على الرحمة.
وعلى أثر انتهاء الوزن وصدور الحكم يؤمر المحاسب بالمرور فوق هذا المعبر أو الصراط الممتد فوق الجحيم، الذي يتسع أمام الأخيار ويضيق حتى يكون أدق من الشعرة وأحد من الشفرة أمام الأشرار.
فهؤلاء الأخيرون يهوون في جحيم مظلم ظلاماً كثيفاً إلى حمو يستطاع معه لمسه باليد، فإذا هوَ وافي الجحيم كانوا متزاحمين كأنهم كمية من الشعر في مَعْرَفة حصان، ومع ذلك فكل واحد منهم يشعر في وسط هذا الزحام بوحدة قاسية وعزلة ممضة.
أما الأخيار، فيذهبون إلى النور حيث يستقبلهم (أهورمازدا) بعد أن يمروا في وسط العمل(217/45)
الصالح والقول الخير والفكر الطيبة، وهناك يستمتعون في كنف (مازدا) بالسعادة الأبدية.
هذا كله بالنسبة لمن ثقلت موازينهم أو خفت؛ أما من استوت حسناتهم وسيئاتهم، فهم يوضعون في مكان فسيح بين السماء والأرض، يقاسون فيه آلام الحر والبرد، ويحسون بجميع التغيرات الجوية، ويظلون ينتظرون في أمل ورهبة الحكم الأخير على مصيرهم الذي يظل مظلماً ما داموا في هذا المكان. وأشهر أهل هذا الموضع هو: (كيريزاشيا) الذي قتل وحشاً مرعباً فحسب له ذلك حسنة، ثم دنس النار المقدسة فحسبت عليه سيئة مساوية للحسنة الأولى فظل بين النعيم والجحيم
(يتبع)
محمد غلاب(217/46)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
178 - والأبيات على ظهر يده
في (مطمح الأنفس وشرح الشريشي): خرج القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى من بني يحيى إلى حضور جنازة بمقابر قريش، وكان رجل من بني جابر يؤاخيه ينزل بقرب المقبرة، فعزم عليه في الميل إليه، فنزل وأحضر له طعاماً، وأمر جارية له بالغناء، فغنت تقول:
طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزها بحمرة وجهك التفاح
وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... نمت بعَرف نسيمك الأرواح
وإذا الحنادس ألبست ظلماؤها ... فضياء وجهك في الدجى مصباح
فكتبها القاضي طرباً بها في ظهر يده، ثم خرج من عنده. قال يونس بن عبد الله: فلقد رأيته يكبر للصلاة على الجنازة والأبيات مكتوبة على ظهر يده.
179 - أوسعتهم سبأ وأودوا بالإبل
في (مجمع الأمثال): حديثه أن رجلاً من العرب أغير على إبله فأخذت، فلما توارَوا صعِد أكمة وجعل يشتمهم، فلما رجع إلى قومه سألوه عن ماله فقال: أوسعتهم سباً وأودَوا بالإبل. يضرب لمن لم يكن عنده إلا الكلام.
180 - اللثغة
قال علي بن هرون المنجم: كنت وأنا صبي لا أقيم الراء في كلامي وأجعلها غيناً، فدخل المفضل بن سلمة على أبي وأنا بحضرته، فتكلمت بشيء فيه راء، فلثِغْتُ فيها فقال له الرجل: يا سيدي، لمَ تدع أبنك يتكلم هكذا؟ فقال له: وما أصنع وهو ألثغ؟ فقال له: إن اللُّثْغة لا تصح مع سلامة الجارحة، وإنما هي عادة سوء تسبق إلى الصبي أول ما يتكلم بتحقيق الألفاظ أو سماعه شيئاً يحتذيه، فأن تُرك على ما يستصحبه من ذلك مرن عليه، فصار له طبعاً، وإن أخذ بتركه أول نشوئه استقام لسانه، وأنا أزيل هذا عن عليّ ثم قال لي: أَخرجْ لسانك فأخرجته فتأمله فقال: الجارحة صحيحة، قل يا بني: (راء) واجعل لسانك(217/47)
في سقف حلقك، ففعلت، فلم يستوِ لي، فما زال ينقل لساني إلي موضع موضع من فمي، ويأمرني أن أقول الراء فيه، فإذا لم يستو نقل لساني إلي موضع آخر حتى قلت راء صحيحة في بعض تلك المواضع، فطالبني بإعادتها، وألزمني ذلك حتى ذهبت اللثغة، فأمر أن أطالب بهذا أبداً، ويُتقدم به إلي معلمي، وأوخذ بالكلام به، ففعل ذلك، ومرنت عليه، وما لِثغت إلي الآن.
181 - كلهم أعداء
قال ابن الجوزي: مر رجل بإمام يصلي بقوم فقرأ: (ألم، غُلِبت الترك) فلما فرغ قال له محمد بن خلف: يا هذا، إنما هو (غُلبت الروم)
فقال: كلهم أعداء، لا نبالي من ذكر منهم.
182 - ليس التكحل في العينين كالكحل
في كتاب (الأنساب) للبلاذُري المدائني قال: كان عبد الله ابن الزبير يشمّر إزاره، ويحمل الدِّرَّة، يتشبه بعمر بن الخطاب فقال أبو حرة:
لم نرَ من سيرة الفاروق عندكم ... غير الإزار وغير الدِّرَّةِ الخَلقِ
183 - كأنها رءوس رجال حلقت في المواسم
قال الأغر النهشلي لأبنه لما بعثه لحضور ما وقع بين قومه: يا بُنيّ، كن يداً لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسفيه فإنه ظِلُّ الموت، واتق الرمحَ فإنه رِشاء المنية، ولا تقرب السهام فإنها رسل تعصى وتطيع
قال: فبم أقاتل؟
قال: بما قال الشاعر:
جلاميدُ أملاءُ الأكفّ كأنها ... رءوسُ رجالٍ خُلِّقتْ في المواسم
فعليك بها، وألصقها بالأعقاب والسوق
184 - فالدب في الصحراء ما افقهه
ناظر أبو زيد عبدُ الله بن عمر الدبوسي بعض الفقهاء فكان كلما ألزمه أبو زيد إلزاماً تبسم أو ضحك فأنشد أبو زيد:(217/48)
مالي إذا ألزمتهُ حجةً ... قابلني بالضحك والقهقههْ
إن كان ضحك المرء من فِقههِ ... فالدب في الصحراء ما أفقهه!
185 - يا مسكين أين أنت؟
ذكر الحافظ السلفي في (معجم السفر): أن شخصاً قال في مجلس الإمام ابن القابسي (وهو بالقيروان): ما أقصر المتنبي في معنى قوله:
يُراد من القلب نسيانُكم ... وتأبى الطباع على الناقلِ
فقال له: يا مسكين، أين أنت من قوله تعالى: (لا تَبْديلَ لِخلْقِ اللهِ، ذَلِكَ الدِّينُ القيِّمُ؛ ولَكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُون)
186 - أبو تمام، البحتري، المتنبي
في (المثل السائر): سُئل الرضي عن أبي تمام، وعن البحتري، وعن أبي الطيب فقال: أبو تمام خطيبُ منبر، والبحتري واصف جُؤْذُر، والمتنبي قائد عسكر
187 - التخصص بمعرفة التلصص
قال الثعالبي: سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: أنشدني الصاحب نتفة له، منها هذا البيت:
لئن هو لم يكفف عقارب صدغه ... فقولوا له: يسمح بترياق ريقه
فاستحسنتُه جداً حتى حممت من حسدي عليه، وودت لو أنه لي بألف بيت من شعري!. قال الثعالبي: فأنشدت الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي هذا البيت، وحكيت هذه الحكاية في المذاكرة، فقال لي: أتعرف من أين سرق الصاحب معنى هذا البيت؟ فقلت: لا والله. قال إنما سرقه من قول القائل (ونقل ذكر العين إلى ذكر الصدغ):
لدغت عينك قلبي ... إنما عينك عقربْ
لكنما المصة من ... ريقك ترياق مجربْ
فقلت: لله مولانا الأمير فقد أوتي حظاً كثيراً من التخصص بمعرفة التلصص. . .(217/49)
من الأدب الرمزي
في الطبيعة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
احتفلت الطبيعة لعيني العاشقة، فحشَدَتْ أطفالها جميعاً، ووقفت تعاجبني بهم، وأبرزت نهودها من جبالها، وأرسلت شعرها من حُورها، ورقرقت خدها بماء النبع، وموَّهته بدم الشفق، وكللت جبينها بالزهر المضفور، ومَشقت قدَّها في رقص السرو، وخرجت عليَّ بمليء الضحى السابغٍ ضياءً وملء الليل الساجي نجوما، ومشت تتهادى على الحصى الملوّن، وتخطو على الجُدَد البيض والحمر، وأخذت تغازلني بالنسيم الذي استروحتُ فيه بردَ قلبها لحر قلبي. . . فسجدت أمامها بجسدي كله على الشوك والحصى في حِضن صخرة مشرفة على هوة. . . .! وقلت لها: هل أنا إلا منك يا ذات الشباب المتجدد أبداً؟ يا أيتها الأم الوَلود الأكول الضاحكة المعولة. . . يا ذات البطن البَرَاح الذي مما فيه البحرُ والدَّيمومُ بعجائبهما وولائدهما. . . يا ذات الأثداء التي تَدِرُّ وتمتص.!
سأرتد إليك وأجرد نفسي من شعور الانفصال عنك، وأقف في صفوف أطفالك صورةً من صور الجمال أو القبح كما تشائين. . وسأطلق أنفاسي مَوْجةً في هَبَوات الريح، وأصواتي نغمةً في النشيد الكبير الذي يملأ أسماع السموات والأرض. . . وخَطَفاتِ ذهني مع ومَضاتِ البروق. وسأضع جسدي لَبنةً في البناء العام كالجبل والحصى الموضوع تحت السقف المرفوع. . .
إني أخ كبير لأبنائك الذين تلدينهم مع ساعات الصباح والمساء، أتلقفهم بعيني هاتين اللتين فيهما الإعجاب والرحمة للجمال والقبح! عينيَّ اللتين وراءهما قلب خلقه الله أوسع منك وأعجب وأكثر ولادة. . . إنه بلد كل أبنائك ولادةً ثانية بمخاضها ورضاعها وفِصالها! ثم لا يرسلهم وينساهم فانين ضائعين كما تفعلين. . بل يبقيهم كلماتٍ تامةً دائمة مسجلة في اللوح المحفوظ. . .
فاسأليهم. . اسألي الورد والشوك، والحمل والذئب، والورقاء والرقطاء، والغراب والعصفور، والنحلة والجُعَل، وسائرَ ما تلدين من الأعلى والأدنى: ألست أوالي عليهم نظراتي وفكرتي؟ واسألي الشمس والنجوم: ألا أسافر معها سفراً غير زَمنيٍّ فلا أيام فيه ولا(217/50)
ليالي.!
واسألي النهار: ألا أغتسل بأول قطرة من ضياء فجره إلى آخر قطرة من شفق غروبه، وأسير معه في موكب الحياة العام أدبُّ بقدميَّ على قارعة الطريق الممدود من أول الدنيا إلى آخرها. .؟
واسألي الليل: ألا أجلس فيه متيقظاً أسترقُ السمعَ وألتقط الكلمات الخفية التي ينثرها في غفلة على الأجساد الهاجعة في موتتها الصغرى؟
واسألي البحر: ألا أُسْلم إلى عرائس موجه جسدي يعبثن به، وأملأ بصري بأفقه ولجه وزبده، وسمعي بضجيجه وصخبه، ويدي بقواقعه وأصدافه؛ وأتوسع كثيراً كثيراً حتى أغطيه بروحي وأشربه بكأسي التي وراء حسي؟
واسألي الصحراء: ألا أقف في محرابها الأصفر، وأمسح عضلات جبالها التي أعياها الوقوف، وأُرقِدْ قلبي على مهادها بجانب ذراتها الجامدة وأشواكها الحادة؟
فيا أيتها الأم إني غير عاق في البنوَّة بيني وبينك، والأخوة لأبنائك جميعاً مما علا أو سفل فأسبغي على من شبابك الدائم، واكشفي لي عن محاسنك المكنونة، وعبقريتك المضنون بها على غير أهلها، وزاوِجي بيني وبين بناتك العرائس الأبكار اللائي لم يَطمثهن إنس قبلي ولا جان. . . واسكبي في قلبي من ذاك الإكسير المخلد الذي يجعلك دائماً أصبى من أولادك؛ ولا تأكليني فيما تأكلين من بنيك أيتها الهرة. . . .!
وحينما تغضبين أيتها الأم، فتزأرين بحناجر الريح، وتحطين أبناءك بالقارعات العاتية. . . وتثور أخلاطك فتقذفين الحممَ والشُّواظ واليَحْمومَ من تحت، والصواعق وحرائق البروق وجبال الثلوج من فوق، وتنفضين ما على الأرض بالزلزلة والمَيَدَان، فلا يسلم من يدك بعوضة ولا جمل. . . وتفتحين فكًّيْك لابتلاع الحقول بعشبها وشجرها، والمدن بمدرها ووبرها فتسدين الفجوات التي خلت في أحشائك، وتشبعين جوعك إلى العناصر بأكل أبنائك الذين يضجون وهم في الهول بين يديك بالثغاء والرغاء، والزئير والطنين، والهديل والنعيب، وغيرها من أصوات الحيوان الأبكم. وبالدعاء والبكاء من الحيوان الناطق: أبنك البكر الذي دلَّلْته وعزَّزْته وأعطيته مصباحاً ومفتاحاً زعم بهما أنه إلهك! وجعل قضيتك كلها (معادلة جبرية) في نصف سطر من قلمه العجيب الذي يجعل الدنيا كلمات وأرقاماً. .(217/51)
! حينذاك أحاول أيضاً أن أقترب منك في غضبك لأرى عبقرية الإماتة والتخريب فيك كما رأيت إبداع الإيجاد والتكوين، ولأرى الدنيا صوراً من القبح والبشاعة والقسوة والفوضى كما رأيتها صوراً من الجمال والانسجام والنظام. . .
ولكنك تحتجين عنا حين تبدلين الثياب لتخفي عوراتك وسوآتك وشناعاتك، فتقتلين كل ذي عين حتى لا يراك فيقسم ألا يقترب ولا يعشق ولا يفنى في مظاهر خداعك وطلاء حقيقتك، وترسلين نارك التي تحرق دائماً، وماءك الذي يغرق دائماً، وقوارعك التي تحطم دائماً. . . فلا مطمع لأحبابك في رشوتك بالحب والشعر، ولا محسوبية ولا شفاعة أمام قوانينك الصارمة.!
وهأنذا أبحث عن حِرْز حَريز فيما وراء يدك المخربة، أخط فيه قبري وأختبئ فيه وأرصد منه دائماً حركة التجدد ورجوع الشباب والجمال إلى ديباجتك، وحتفالك لغير عيني من عيون الشباب الشعراء المقبلين. . . وهم يسكبون في سمعك ما أسكبه الآن من كلمات الهوى والغزل. . . ويقولون لك: (يا ذات الشباب المتجدد. . . اسبغي علينا من شبابك وأرضعينا يا أمنا من إكسير الخلد. . .) فأناديهم من مكاني البعيد الذي لا سلطان لكِ عليه قائلاً: أيها الطامعون في الخلود مع هذه العجوز المتجددة. . . لا تطمعوا أن تعطيكم ما بخلت به من قبلكم من بينها. . . إنها لم تسمح لأحد بالبقاء الكثير حتى لا يحتويها ويكفر بجمالها، فابحثوا عن مثل هذا المكان الحرير الذي أناديكم منه. . . واقنعوا أن يكون حظ أحدكم منها قبراً معلوماً في القبور، يقف أمامه أبناؤها اللاحقون ويشيرون إليه قائلين: هنا يرقد قلب شاعر عرف أمنا فكان يشتري فيها الحبر بالذهب. . . فاسكبوا على قبره كأساً منه. . . .!
عبد المنعم خلاف(217/52)
أطفال الطبيعة
للأستاذ محمد عبد اللطيف السحرتي
لم تكن إلا زقزقة العصافير تطوف بأثير نفسي، وأنا عائد إلى البلدة في طريقي الحبيب الذي تحتضنه أشجار الكافور الخضراء الفارعة - لم يكن أعذب لنفسي من زقزقة تلكم العاصفير التي مازجت أصواتها أحلامي، وأنعشت ألحانها إلهامي - في هذه الساعة السعيدة طابت أحلامي، ونَبُل حديثي مع نفسي، ولم يكن يهزني إلا مرأى الفلاحين المساكين، وهم يكدحون حول الوادي في صبر وقناعة وأحلام مضطربة. . . ثم تعاودني أصوات العصافير فتحمي مادوم بنفسي من هزات الأسى، وتنقل إلى شعورها الفرح، وتبعث في سعادتها البريئة.
يا إلهي، لكأنك خلقت العصافير للطبيعة أطفالاً كما خلقت للناس أطفالهم! وشتان بين أطفالها وأطفالنا! فأطفالها في طفولة خالدة، وأطفالنا بعد عمر قصير يكبرون، فتنداح براءتهم وتنمحي شفافة نفوسهم!
هؤلاء الأطفال الخالدون يُنَبِّلونَ انفعالاتنا، ويطهرون نفوسنا من هموم الأعمال اليومية، ويخلقون لنا جواً روحياً ساجياً ينعم في بحبوحته الأدباء والشعراء، ويلقون علينا دروساً روحية ثمينة. ولقد ألقت عليَّ عصفورة درساً خلقياً بليغاً، وأنا في حديقة (مونسو) البديعة بباريس، عندما كنت ألقي لها فتات الخبز، فكانت وهي تتناوله تنادي أخواتها لتشاطرها الغذاء، وهذا درس في الإيثار يلقيه علينا هؤلاء الأطفال الكرام
ولكم أحب الأدباء هؤلاء الأطفال الأعزة. ومن بين هؤلاء الأديب الفرنسي كوبيه في قطعته (موت العصافير) التي يُظهرُ فيها إشفاقه عليها ويبدي تخوفه من مفاجأة الموت لها في الشتاء، ويسائل في انفعال وهزة: (هل العصافير تختفي لتموت؟).
والذي نعلم أن العصافير تختفي في مكان أمين وأنها في الجو الطليق تجد أماناً من الموت ولا تخشاه، وإنما هي تخشى الإنسان، وهي إذ تمرح في أمن وإيمان، وتحمل الغذاء في كل مكان، وتستقبل الشمس في الصباح وتودعها في الغروب، إنما تحمل للإنسان رسالة الفرح والبراءة والجمال، والحياة الطويلة، إن لم أقل الخالدة!(217/53)
هكذا قال زرداشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
رأيتني هجرت الحياة واخترت مهنة حارس للقبور على الجبل المقفر حيث يرتفع قصر الموت، فكنت أحرس النعوش وهي أسلاب النصر تغص بها الدهاليز المظلمة، فكنت أرى الساقطين في معترك الحياة المسجين في التوابيت المغطاة بالزجاج يحدجونني بنظراتهم المروعة. وهنالك نشقت عرف الأبدية غباراً يتطاير على روحي فيرهقها ولا أستطيع أن أنفض عنها هذا الغبار الثقيل
وكانت أصداء الليل تدور بي ومعها شبح العزلة والانفراد، فكان رفيقي سكون الموت تتعالى فيه من حين إلى حين حشرجة المدنفين
وكنت أحمل المفاتيح وقد علاها الصدأ أعالج بها أصلب الأبواب فتصرف مصاريعها بصراخ أبحّ لئيم يذهب مدوياً في الدهاليز كأن الدرفات أجنحة تقبضها أطيار تنعق متململة ممن يريد تنبيهها من رقادها
وعندما كان يخيم السكوت بعد هذا الدوي كان يبلغ رعبي أشده فأبقى وحدي محاطاً بهذا الصمت الرهيب
ومر الزمان متمهلاً، لو صح أن في مثل هذه الرؤى زمان، إلى أن وقع ما أفقت له مذعوراً.
قرع الباب ثلاث مرات بدوي كأنه الرعد القاصف، فهتفت الدهاليز ثلاث مرات بصدى كأنه الزئير، وتقدمت إلى القفل أعالجه فلم يتزحزح قيد أنملة، وهبت العاصفة بشدة فدفعت بالمصراعين ورمت إليّ بنعش أسود وقد تصدع الهواء بالصفير والولولة وسقط النعش فانحطم وخرجت منه آلاف من القهقهات، فرأيت آلافاً من الأطفال والملائكة وطيور البوم والمجانين والفراشات الضخمة يطفرون حولي ساخرين
واستولى الخوف عليّ فإذا أنا مطروح على الأرض أصرخ صراخاً مريعاً فانتبهت لصوتي مذعوراً.
وسكت زارا لحظة وهو حائر فإذا بأحب أتباعه إليه ينهض ويقبض على يده قائلاً: (إن(217/54)
تعبير رؤياك إنما هو في حياتك نفسها يا زارا. أفلست أنت النعش وقد حشدت الحياة فيه سيئاتها وعبوس ملائكتها؟ أفليس زارا يحتاج اللحود مقهقهاً كالأطفال ساخراً بالساهرين على القبور الخافرين لها، مستهزئاً بكل من تقرقع المفاتيح في أيديهم.
لسوف يذعر هؤلاء الناس منك فيطرحهم ضحكك أرضاً فيغمى عليهم ثم ينتبهون وبذلك يثبت عليهم سلطانك.
لقد أطلعت لنا كواكب جديدة في الآفاق ونشرت من الليل ما كنا نجهله من البهاء. والحق أنك مددت ضحك فوق رؤوسنا فأظلنا بعديد ألوانه. فمنذ الآن ستتعالى قهقهة الأطفال من النعوش وستعصف من الجهود القاتلة الريح التي نتوقعها.
لقد مثّلت نفسُك أعداءك فأزعجتك رؤياك، ولكنك انتبهت منسلخاً عنهم وعدت إلى روعك، وهم أيضاً سينتهون فيرجعون إليك.
هكذا تكلم التابع، فدار سائر الأتباع بزارا يشدون على يديه محاولين إقناعه بالنهوض من فراشه والانسلاخ عن أحزانه ليعود إليهم، غير أن زارا بقي جالساً على فراشه وعيناه جاحظتان كأنه عائد من سفر بعيد لا يعرف ممن حوله أحداً، ولكن أتباعه رفعوه وأوقفوه فانتبه فجأة وتغيرت سحنته فمد يده يداعب شعر لحيته ورفع عقيرته قائلاً:
- كل هذا سيكون عندما يحين زمانه. فأعدوا لنا غذاء طيباً الآن لأكفر عن الرؤيا التي رأيت؛ غير أن العراف سيجلس إلي جنبي ليأكل ويشرب معي وسأريه بحراً يغرق فيه نفسه
هكذا تكلم زارا. . .
ولكنه حدق في وجه تابعه الذي عبر له حلمه، حدق به طويلاً وهو يهز رأسه. . .
الفداء
وسار زارا يوماً على الجسر فأحاط به رهط من أهل العاهات والمتسولين وتقدم إليه أحدب يقول له:
- التفت إلى الشعب يا زارا فهو أيضاً يستفيد من تعاليمك وقد بدأ يؤمن بسنتك. ولكن الشعب بحاجة إلى أمر واحد ليتوطد إيمانه بك: عليك يا زارا أن تتوصل إلى إقناعنا نحن أهل العاهات. وأمامك الآن نخبة منهم وما لك بعد مثل هذه الفرصة تنتهزها لتقوم باختبارك(217/55)
على مثل هذا العدد من الرؤوس. بوسعك الآن أن تشفي العميان والمقعدين فتخفف الأثقال، وتريح المتعبين. تلك هي الطريقة المثلى لهداية هؤلاء القوم إلى الإيمان بزارا
فأجاب زارا:
- من يرفع عن ظهر الأحدب حدبته فقد نزع منه ذكاءه. هذه هي تعاليم الشعب. وإذا أعيد النور إلى عيني الأعمى فأنه ليرى على الأرض كثيراً من قبيح الأشياء فيلعن من سبب شفاءه. ومن يطلق رجل الأعرج من قيدها فانه يورثه أذية كبرى إذ لا يكاد يسير ركضاً حتى تتحكم فيه رذائله فتدفعه إلى غاياتها. هذه هي التعاليم التي ينشرها الشعب. وهل على زارا إلا أن يأخذ عن الشعب ما أخذه الشعب عنه؟
غير أنني منذ نزلت بين الناس سهل على أن أرى منهم من تنقصه عين، ومن تنقصه أذن، وآخر فقد رجليه؛ وهنالك من فقدوا لسانهم أو أنفهم أو رأسهم.
وهكذا رأيت أقبح الأمور. وهنالك أشياء أشد قبحاً مما ذكرت لا يسعني ذكرها فما يصعب عليّ سكوت عن أكثرها.
رأيت رجالاً فقدوا كل شيء، غير أنهم يملكون شيئاً يسوده الإفراط، فهم رجال كأنهم عين عظيمة أو فم واسع أو بطن كبير أو عضو آخر كبير لا غير. وما هؤلاء الناس إلا أهل العاهات المعكوسة
وعندما عدت من عزلتي لأجتاز هذا الجسر للمرة الأولى وقفت مندهشاً لا أصدق ما أرى فقلت: هذه أذن، أذن وسيعة كأنها قامة رجل؛ وتقدمت إليها فلاح لي وراءها شيء صغير لم يزل يتحرك وهو ناحل ضعيف يستدعي الإشفاق، فان الأذن الكبرى كانت قائمة على ساق دقيق. وما كانت هذه الساق إلا إنساناً. ولو أنك تفرست في هذا الشيء بنظارة لرأيت فوقه وجهاً يتقطب بالحسد وينم عن روح صغيرة تريد الانتفاخ وترتجف على قاعدتها.
وقال لي الشعب: إن هذه الأذن ليست رجلاً فحسب، بل هيأيضاً رجل عظيم بل عبقري من عباقرة الزمان. غير أنني ما صدقت الشعب يوماً إذا هو تكلم عن عظماء الرجال، فاحتفظت بعقيدتي وهي أن هذا الرجل ذو عاهة معكوسة إذ ليس له إلا القليل من كل شيء والكثير من شيء واحد.
وبعد أن وجه زارا هذا الخطاب إلى الأحدب ومن تكلم بالوكالة عنهم أتجه نحو أتباعه وقد(217/56)
تحكم الكدر فيه فقال:
والحق أنني أسير بين الناس كأنني أمشى بين أنقاض وأعضاء منثورة عن أجسادها. وذلك أفظع ما تقع عليه عيناي فأنني أرى أشلاء مقطعة كأنها بقايا مجزرة هائلة. وإذا ما لجأت عيني إلى الماضي هاربة من الحاضر فأنها لتصدم بالمشهد نفسه. فهنالك أيضاً أنقاض وأعضاء أشلاء وحادثات مروعة. ولكنني لا أرى رجالا. . .
إن أشد ما يقع عليّ أيها الصحاب إنما هو الحاضر والماضي وما كنت لأطيق الحياة لو لم أكن مستكشفاً ما لابد من وقوعه في آتى الزمان، وما زارا إلا باصرة تخترق الغيب فهو رجل العزم وهو المبدع، هو المستقبل والمعبر المؤدي إلى المستقبل، هو وا أسفاه ذو عاهة ينتصب على هذا المعبر.
وأنتم أيضاً تتساءلون مراراً: من هو زارا؟ وبماذا نسميه؟ فلا تتلقون غير السؤال جواباً كما أتلقاه أنا.
أهو من يَعِدُ أم من ينفذ الوعد؟ أهو فاتح أم وريث أهو الطبيب أم هو الناقه؟
أشاعر هو أم حقيقة؟ أمحرر أم متسلط؟ أصالح أم شرير؟
ما أنا إلا سائر بين الناس قطعاً من المستقبل الذي يتراءى لبصيرتي، وجميع أفكاري تتجه إلى جمع وتوحيد كل متفرق على أسرار ومبدد على الصدف العمياء.
وما كنت لأحتمل أن أكون إنساناً لو أن الإنسان لم يكن شاعراً محللاً للأسرار ومفتدياً لإخوانه من ظلم ما تسمعونه صدفة ودهراً. وما الفداء إلا في إنقاذ من ذهبوا، وتحويل كل ما كان إلى ما أريد أن يكون.
ما المخلص والمبشر بالغبطة إلا الإرادة نفسها وهذا ما أعلمكم إياه يا أصحابي، ولكن اعلموا أيضاً أن هذه الإرادة لم تزل سجينة مقيدة.
إن الإرادة تنقذ، ولكن ما هي القوة التي تفيد المنقذ نفسه؟
إن داء الإرادة الوحيد إنما هو كلمة (قد كان) تقف الإرادة أمامها تحرق الأرّم عاجزة عن النيل كل ما كان، فالإرادة تنظر بعين الشر إلى كل ما فات وليس لها أن تدفع بقوتها إلى الوراء، فهي أضعف من أن تحطم الزمان وما يريده الزمان، وهذا داء الإرادة الدفين
إن الإرادة تنقذ، ولكن ما هو تصور الإرادة في عملها للتخلص من دائها وهدم جدران(217/57)
سجنها؟
وا أسفاه! إن كل سجين يصبح مجنوناً، وما تنقذ الإرادة السجينة نفسها إلا بالجنون.
إن الزمان لا يعود أدراجه. ذلك ما يثير غضب الإرادة وكيدها فهنالك صخر لا طاقة للإرادة برفعه، وهذا الصخر إنما هو الأمر الواقع.
هكذا تكلم زارا. . . . . .
فليكس فارس(217/58)
رسالة الشعر
في استانلي
للأستاذ محمود غنيم
كلُّ شيء في الصيف يشكو الخمودا ... وأرى البحرَ وحدَهُ في نشاطِ
قذف البحرُ درَّهُ المنضودّا ... أرأيت الجُمانَ فوق الشاطِي؟
يا خليليَّ أين أين الرداءُ؟ ... أنا مالي بكلِّ ذاكَ يَدَانِ
ذاكَ ماءُ أمْ هذه كهرباءُ ... أمْ لهذا الخليجِ تيَّارانِ؟
أنا أخشى عوارىَ الأجسادِ ... لست أخشى العُباَبَ والإعصارَا
يصرَعُ الموجَ ساعدي وفؤادِي ... خائرٌ واهنٌ أمامَ العذارَى
رفعوا في الزوابع الأعلاماَ ... يُنْذِرون الأنامَ بالأخطارِ
نكَّسوها ثم ارفعوها إذا ماَ ... لاح سربٌ من الأوانسِ عارِ
أَعَوارٍ تلك الدُّمَى أم كواسى ... بلباس يفصَّل الأجسامَا؟
لا وقاه اللهُ البلى من لباسِ ... إنه كان واشياَ نمامَا
صاح ماذا رأيتُ حولَ الماءِ ... أهوَ سِرْبٌ من الحمائِمِ ظَامِ؟
طيَّبَ اللهُ خاطرَ الصحراءِ ... أصبح البحرُ مرتع الآزامِ
ها هنا لؤلؤٌ بغير محارِ ... سابحٌ باحثٌ عن الغوَّاصِ
وظباءٌ لم تَدْرِ معنى النفِّارِ ... تَضَعُ السهمَ في يد القنَّاصِ
أُنظر الشمسَ والهوى والهواَء ... كيف راحت تنسابُ في الأجسام
إن للشمس والهواءِ شفاَء ... لا يساوي ما للهوى من سقامِ
رُبَّ ثغرٍ يداعبُ الأمواجاَ ... ينثُر الماَء كاللُّجين المُذابِ
تشتهيه النفوسُ ملحاً أُجاَجاَ ... خارجاً من بين الثنايا العِذابِ
رُبَّ قين غاصتا في الماءِ ... كلُجينٍ ينسابُ وسْط لجينِ
بدتا آيتينِ في الإغراءِ ... وهما فيه نصفُ عاريتين
إن فوق الرمال غيداً نياماً ... كالأفاعي: لينٌ بغير عظامِ
ليس سُمًّا لهابُها بل مُداماَ ... هو بُرْءُ السقيمِ، ريُّ الظَّامِ(217/59)
قال جاري: ألا تكونُ رزِيناَ؟ ... قلت: لا تلحني: فقدتك جارَا
وتلفتُّ يَسْرَةً ويمينا ... قال: ماذا أضعت؟ قلت: الوقارَا
أيها المشتكي من الإقلالِ ... مَتعِّ النفس بالجمال مَتَاعَا
لم يُبيحوا لنا شُيُوعَ المالِ ... وأباحوا لنا الجمال مُشاَعاَ
صاح قل لي: ما بال تلك الصدورِ ... كَشفْهُا لا يحِلُّ للأحداقِ؟
ليتهم حرَّموا ذواتِ الشُّعورِ ... فهْي عندي مثل القذى في المآقيِ
لا تَضيقوا بالمعصم المكشوفِ ... وتقولوا: خيرُ الجمال المصونُ
ما غَنَاءُ الشَّذَى بغير أنوفِ؟ ... قيمةُ الحسنِ أن تراه العيونُ
لا تقولوا: قد غاض ماءُ الحياءِ ... واقرءوا الآيَ في وجوه الحسانِ
رُبَّ عضوٍ من هذه الأعضاءِ ... نَمَّ عن سرِّ قدرة الرحمن
أيها الآسفُ الحزينُ الباكِي ... إِبكِ ما شئتَ ضيعةَ الأخلاقِ
قِفْ إِن أسْطَعْتَ دورةَ الأفلاكِ ... أو فَكلْ أمرَ الخلق للخلاَّق
ها هنا أعشَقُ الملاحَةَ صِرْفَا ... ما عليها من الثياب غِشاءُ
ها هنا ليس يعرف الكحلُ طرفَا ... لا ولا يَغْمُرُ الخدودَ طِلاءُ
ها هنا روعةُ الطبيعة تبدُو ... فتراها عذراء بين العذارَى
أُنظر البحرَ وهْو جزر ومدُّ ... وأنظر الشمس فيه إذ تتواري
أيها البحرُ قد نزلتُك ضيفَا ... فكأني أغرقتُ فيك همومي
ليت عمْري جميعَهُ كان صيفَا ... ينقضي فوق شطِّ بحر الرُّوِم
(الإسكندرية)
محمد غنيم(217/60)
وحي جديد.!
إلى ذات الوجه الأسمر
هذه السُّمُرَةُ العجيبةُ، ماذا ... راح يُغْرِي بوصفها تبياني؟.
أين شعري منها، وأين خيالي ... هي فوق الخيال والأوزانِ
رُبَّ معنى توحي به لم يحوِّمْ ... حوله شاعرٌ مدى الأزمانِ
أنا منها في مهبط لوحي، لكن ... عَقَدَ الحبُّ في ذَراها لسانِي
غير أني مُسْتَلْهِمٌ سِحْرَ عينيك ... م المعاني، ويالها من مَعانِ
لا تَغُضِّي عن جفونَكِ حتى ... أتلقَّى عنهنَّ آي افتنانِي
أسعديني بنظرةٍ منكِ تَشْفِي ... غُلَّةَ الصدرِ مِنْ شَجِىٍّعانِ
وهَي لي سويعةً من وصالٍ ... بعد عمرٍ قضيتُ في حرمان
وأتيحي لناظريَّ متاعاً. . . ... عبقرياً من حسنك الفتّانِ
أضجعي رأسكِ الصغيرَ على صد ... ري وأصْغي لهذه الألحانِ
ودَعيني أسكِبْ بأذنيك أنغا ... م جريح شدا على الأغصان
لا تشيحي عني بوجهٍ أفدّيه ... بدنيا من باسمات الأَماني.!
(القاهرة)
أحمد فتحي(217/61)
من صور الطريق
الأعمى. . .
هّدَّهُ السَّيْرُ، وأضْوَاهُ المَطَافُ ... فَتَولَّتْ هَدْيَهُ الخْمسُ الِّلطَافُ
وَاهِنُ الخطْوَةِ لَمْ تَنْهَضْ بَهِ ... مِنْ عَيَاءِ الْجِسْم أَطْرَافٌ ضِعَافُ
رَاعَني مِنهُ جَبينٌ شَاحبٌ ... كجبين الزَّهْرِ أَذْوَاهُ القِطَافُ
وَيدٌ مِنْ حَوْلِهِ حَائِرَةٌ ... دَأبُها في السَّيْر حَفْقٌ وَارْتِجافُ
رَهْنُ كَيفَّيْهِ السَّنَا لَكنَّما ... دُونَ عَينيهِ حِجابٌ وسِجاَفُ
مَنْ رَأَى الظَمْآنَ يَرْجُو رَشْفَةً ... وعَلَىَ مَرْمَى ذِرَاعَيْنِ الضِّفَافُ؟
. . . يَا مُطِيفاً لا تَنَي عَزْمَتُهُ. . . ... أيْنَ يَرْسُو بِكَ في الأَرْضِ الطَوَافُ
رَنَّحَتْ عِطْفَيْكَ أوْصَابُ الضَّنَى ... مِثْلَمَا رَنَّحَتْ الْعِطْفَ السُّلاَفُ
وَشَغَافُ القَلْبِ أذْواهُ الأسَى ... فَذَوَى مِنْ طُولِ ما يَلْقَى الشَّغَافُ
حَوْلَكَ النَّاسُ جُمُوعٌ حُشِدَتْ ... وَلَهُمْ عَنْكَ بِعَادٌ وَانصِرَافُ
لَمْ يُصَافْوا مَنْ خَلَتْ رَاحَتُهُ ... وَاحْتَفوا باِلرَّاحَةِ المَلأَى وصَافُوا
فامْضِ في شَأنِكَ لا تَحفْلْ بِهمْ ... أَتَجَافَوا عَنْكَ أمْ لَمْ يَتَجَافُوا
لا تُرَجِّ النَّصْفَ، أوْ تَشْكُ الأَسى ... لَيْسَ بَيْنَ النَّاسِ عَدْلٌ وانْتِصَافُ
أَرَأَيْتَ النَّضْوَ يَشْكُو دَاَءهُ ... لِطَبِيبٍ طِبُّهُ سُمُّ زُعَافُ
لَوْ أَتَاهُ النَّاسُ طُرًّا خُضَّعاً ... وَافَت الدُّنْيَا بنُعْمَاهَا وَوافُوا
أَوْ سَعَى المَجْدُ إِلَيْهِ، وَلَهُ ... بِجَنَابَيْهِ اعْتِصَامٌ وَالتْفِاَفُ
لَمْ يَجِدْ فيهِ غنيً عَنْ عَيْنِهِ ... فَرغابُ الْمَجْدِ والدُّنْيَا زِيَافُ
قَسَماً لَوْ زُفَّتْ الدُّنْيَا لَهُ ... فِي مَجَالِيها لَمَا أَجْدَى الزَّفَافُ
لَيْسَ يُغْنِي الزَّهْرَ في مَنْبَتِهِ ... رَائِعُ الطَّلْعَةِ وَالْجَوُّ جَفَافُ
(الإسكندرية)
أحمد فتحي مرسي(217/62)
القصص
على سور (جينان)
للكاتب الصيني الشهير (يانغ جينغ شينغ)
ترجمة محمد مكين الصيني
لما رجع (هونغ سين) إلى المنزل قال لأخيه: (هل سمعت أن اليابانيين يريدون أن يحتلوا مدينة (جينان)؟)
فأخذ أخوه يشك في وفاء جنود الصين وقال: (ألم يقاومهم جنودنا؟)
قال وهو يريد أن ينوه بكرامة جنود الصين إخلاصهم: (بلى!)
فجعل أخوه يرتاب في كفايتهم قائلاً: (هل في المدينة قوة كافية؟)
قال: (لا بد أن تسقط المدينة في أيدي اليابانيين عاجلاً أو آجلا! ولكن الواجب علينا أن ندافع عنها باذلين أقصى جهدنا، فإن خضعت لهم في آخر الأمر قوتنا فلن تخضع لهم روحنا.) ثم رفع رأسه وأصلح بيده شعره.
فطفق أخوه يرتاب في توازن القوتين المتحاربتين قائلا: (بلغني أنه قد وصل إلى (جينان) خمسة آلاف من جنود اليابان.)
قال، وهو يتمشى في الغرفة: (اسمع! قد شرع اليابانيون يطلقون المدافع! لا يتوقف الانتصار على كثرة الجنود، فإذا اشتدت حمية قومنا وتطوع نصفهم للدفاع فلا تخش سوء العاقبة ولو. . .)
ثم توقف عن الكلام لأن قلم الرصاص الذي في يد أخيه انكسر ونشأ عن ذلك فرقعة صغيرة، ووقف ينظر إلى أخيه بعين الريبة وسكت هنيهة ثم قال: (هل كتبت في هذه الأيام إلى السيدة الوالدة؟)
قال أخوه: (لا. قد انقطعت المواصلات بين (جينان) و (تسينغ تاو) منذ أيام كما علمت فلا يمكن أن يصل إليها الخطاب لو بعثت به.)
- (إذا لم يصلها خطاب منا فلا محالة يشتد اضطرابها. ولا أمل في الدراسة هذا العام مع هذه الحالة، فان استطعت أن تعود إلى البلد مبكراً فعلت. إن السيدة الوالدة بعد وفاة السيد(217/63)
الوالد في حاجة إلى من يعولها، ويكفي أن يتطوع أحدنا للدفاع)
ولما سكت تأمل فيه أخوه شاكا في أمره.
وقد أكثر من الكلام، وبعد أن دار في الغرفة دورتين جلس إلى مكتبه فأخذ كتاباً ينظر فيه كأنه يطالعه.
قد تتابعت في ضواحي المدينة أصوات المدافع وارتفعت الصيحات داخل المدينة.
تذكر فجأة أمراً ما فوضع الكتاب على المكتب ورمق أخاه حزيناً كئيباً يقول: (شانغ سين!)
(مالك يا هونغ سين؟)
قال لأخيه بكل لطف: (اذهب إلى الآنسة (لوس) لعلها هي وأمها في حال سيئة من الذعر)
فأومأ أخوه برأسه أن سمعاً وطاعة.
وبعد خمس دقائق جلجلت أصوات المدافع تتخللها فترات قصار، فقام أخوه يقصد الباب فصافحه قائلاً: (يا أخي!)
وقد خالف في ندائه هذا عادته فإنه كان دائماً يدعو أخاه باسمه فتلاقى بصره ببصر أخيه ثم قال: (إلى اللقاء!)
فنظر إليه أخوه نظرة المحزون المهموم وقال: (ألا تخرج الليلة فتكتب خطاباً إلى السيدة الوالدة؟)
فأشار برأسه أنه سيفعل، وخرج أخوه، وكان ذلك بعد الظهر.
وبعد المغرب أخذت أصوات المدافع تتكاثر وتتعالى في ضواحي المدينة، وارتفعت الصيحات بالويلات؛ ولما كاد الليل ينتصف خفتت أصوات المدافع شيئاً فشيئاً وأخذت تقل، وكان (هونغ سين) يتمشى في غرفته ويظن أن أخاه في منزل الآنسة (لوس) فدعا له بالأمن والسلامة، ثم فتح خزانة الثياب وأخرج منها ثوباً من ثياب الألعاب الرياضية فلبسه، وشد رباط حذائه ثم أقفل باب المنزل وخرج.
وكان القمر وهو في أيام التربيع الثاني ممتقعاً لونه معلقاً في جو الشرق تحيط به غيوم فاحمة كأنها تحاول أن تبتلعه.
وكانت الرصاصات وقنابل المدافع تتطاير هنا وهناك، وأصوات البكاء والعويل تملأ أذنيه.
جعل يمشي في أقرب طريق إلى البوابة الغربية لسور المدينة: ولم يخطُ إلا خطوات قلائل(217/64)
حتى طارت قنبلة من فوق رأسه فوقعت على جدار بعض البيوت فَمُلئت أذناه جلبة وضوضاء من تهدم الجدران يعقبه أصوات الفزع والصراخ والبكاء؛ ثم عاد الجو بعد هنيهة إلى ما كان عليه من سكون وهدوء.
ولما اجتاز عدة شوارع رأى بيتاً تشتعل فيه النيران اشتعالاً هائلاً، ورأى جماعة من الرجال والنساء، منهم من يحمل على ظهره أمه الفانية، ومنهم من يقود أباه الهرم، ومنهم من تحمل على ذراعها رضيعها، وهم يهيمون على وجوهم في الشوارع باكين صارخين لا يدرون إلى أين يلتجئون. وبيناهم كذلك إذا بقنبلة تسقط بينهم فانفجرت فمليء الجو صراخاً وأنيناً: أنين الذين يشرفون على الموت الزؤام، فأغمض عينه ومضى في سبيله قدماً بخطوات واسعة. ثم ارتبكت رجلاه فجأة ارتباكاً كاد يعثر منه، فنظر إلى الأرض فإذا بجثة سيدة ملقاة على الثرى تبين في نور القمر أن قنبلة قد ذهبت بإحدى رجليها وتركتها غارقة في دمائها البريئة، وطفل لم يمض على ولادته حول كامل مكب على صدرها يرضعها
ولما بلغ جانب السور رأى نور القمر يسطع من بين الغيوم السوداء، وشاهد كثيراً من جثث الجند مبعثرة على مسند السور هنا وهنالك يئن فيها من لم تزهق نفسه بعد، فالتقط من الأرض بندقية وسلب إحدى الجثث كنانة الرصاص ثم أخذ يصعد على السور، وما كد ينتهي إلى شرفاته حتى تدحرجت جثة من فوق السور عثر فيها ثم نهض من عثرته على الفور، ولما انتهى إلى الشرفات التفت يمنة ويسرة فوجد مسافة نيف وخمسين متراُ خالية من حراسة الجند، ثم أخرج رأسه من بين شرفتين ليعرف حالة العدو، فطار نحوه الرصاص ومر بجانب أذنه، فأنسحب سريعاً وانتقل إلى ما بين الشرفتين الخامسة والسادسة من يساره، وأخرج رأسه مرة أخرى فرأى بأشعة القمر بضعة عشر جندياً يحاولون تسلق السور من هذا المكان الخالي من الحراسة، بعضهم على أكتاف بعض، فصوب بندقيته إلى أحدهم في الطبقة السفلى وأطلق عليه رصاصة فأصابته بالمصادفة فانهارت الطبقة السفلى وتدحرج الذين فوقها إلى الخندق كلهم أجمعون.
ولكن بعد هنيهة اجتمعوا عند السور مرة أخرى فأطلق عليهم رصاصتين فأصاب أحدهما وأخطأ الآخر، وبينا هو في اضطراب وغضب إذا برجل يناديه من وراء ظهره: (من أنت يا رجل؟!)(217/65)
أجابه (هونغ سين) بدون تروّ ولا تردد: (من عساكر الخفية.)
ولما التفت إلى خلفه وجد بضعة عشر جندياً قد أتوا إلى النقطة التي يدافع عنها وحده فدلهم على اليابانيين تحت السور، فأطلقوا عليهم وابلا من الرصاص فأصابوا شرذمة منهم وتوارى الباقون في حقول القمح بجانب السور، ولم لم يحسوا بحركتهم ظنوا أنهم قد فروا من وجوههم، فأخرجوا مطمئنين رءوسهم من خلال الشرفات، وإنهم لكذلك إذا بنار تلألأت أمامهم عن بعد، وإذا بقنبلة طارت نحوهم فذهبت بإحدى الشرفات وتطايرت شظايا القنبلة في كل صوب، ومات عقب انفجارها أكثر المدافعين عن السور؛ فأنسحب الباقون إلى نقطة أخرى بعيدة عن مسقط القنبلة ثم جاءت قنبلة أخرى لم تصب شيئاً.
وبعد بضع دقائق اقترب بضعة عشر جندياً يابانياً من السور فأطلق عليهم وابل من الرصاص فاختفوا في حقول القمح
واستمروا على الكر والفر، وبعد مدة مات المدافعون عن السور من قنابل المدافع ولم يبق منهم إلا جندي واحد مع (هونغ سين) الذي أصيب في ذراعه اليسرى فعصبها بمنديله.
انفجر الليل واجتمع الأعداء في شرقي السور الشمالي وخف الضغط على نقطتهما فأخرج (هونغ سين) من جيبه علبة لفائف التبغ وقدمها إلى زميله الجندي قائلاً: (دخن لفافة)
ثم جلسا خلف شرفات السور ورأيا مئات من آثار قنابل المدافع على السور وقد أشتمل ضباب الصباح على وحشة واكتئاب
قال (هونغ سين): (لولا عرقلة اليابانيين لوصلت جيوشنا إلى مدينة (ديجو):)
وقال الجندي: (يسوءني جداً أنهم أهلكوا الليلة خلقاً كثيراً من إخواننا.) ثم أمتص الدخان بقوة.
وعبر (هونغ سين) عن آماله قائلاً: (لعل عدد الباقين منا يكفي للدفاع عن المدينة يوماً آخر.)
فهز الجندي رأسه ثم أخرج من جيبه رغيفاً من الخبز وقال لزميله: (أتحب أن تتناول شيئاً من هذا؟) فهز (هونغ سين) رأسه وأخرج لفافة من لفائف التبغ ليسد بها جوعه
دار الجندي بعينيه حول وجه (هونغ سين) وأطرافه وهو يأكل من خبزه ثم قال: (يا أخي! إنك لا تشبه الجندي في الصورة.)(217/66)
فسأله (هونغ سين) مبتسماً: (لا يهمني هل أشبه الجندي في الصورة أو لا أشبهه. قل لي هل أشبه الجندي في الدفاع؟)
قال الجندي معجباً به: (نعم ما رأيت قط جندياً باسلاً داهية مثلك!)
ثم شبع الجندي فكثر حديثه فقال. (ألا إن المتطوعين في هذه المرة كثيرون، وكنا بعد ظهر أمس ندافع في جهة الجنوب فجاء طالب من طلبة المدارس ليساعدنا على الدفاع، وما كان أشجعه في القتال! ولكنه واأسفاه لم يكن يدري كيف يختفي وراء شرفات السور فأصيب بعد قليل بجرح.)
قال (هونغ سين): (أكان ذلك بعد ظهر أمس!)
(نعم.)
(كيف شكله؟)
(أقصر منك بقليل ويشبهك في السحنة غاية الشبه.)
قال ذلك وهو يديم النظر إلى عيني (هونغ سين)
فسقط على الأرض ما بقي في يد (هونغ سين) من لفافة التبغ
فسأل الجندي فزعاً: (هل يلبس الزي الأزرق الخاص بالطلبة؟)
(نعم.)
(أجرحه في خطر؟) قال هذا وهو فاغر فاه ينتظر جواب صاحبه الذي قال:
(جرح في ترقوته اليسرى، فإذا أتيح له من يسعفه أمكن أن يشفى؛ ولكن أنى يكون لنا فراغ لنعتني بجرحه؟ فتساقط المسكين على الأرض وجعل ينادي: (يا أماه!) فسأله على سبيل المزاح
(يا رجل! أفتريد أن ترضع أمك؟)
فنهض (هونغ سين) من فوره.
فقال له الجندي: (أتريد أن تعود إلى المنزل؟)
(لا. بل إلى جهة الجنوب.)
(لإسعاف الجرحى؟)
(لإسعاف شقيقي؟) ثم مشى نحو الجنوب.(217/67)
فقال الجندي: (وا أسفاه!)
في هذه اللحظة نفسها اشتد هجوم الأعداء في شرق السور الشمالي وتوالت أصوات المدافع وتعالت معمعة المدافعين على السور وأصوات البكاء والعويل والصراخ داخل المدينة كأن الأعداء قد اقتربوا من جانب السور هناك.
فأدبر (هونغ سين) ودنا إلى شرقي السور الشمالي ساكتاً صامتاً يسمع الجندي يقول: (يا للخطر! إن عدد المدافعين هناك غير كاف، وإني لذاهب إلى مساعدتهم.)
رأى الجندي ينهض من مكانه فيضع على كتفه بندقيته ويمشي نحو الشرق الشمالي.
فناداه (هونغ سين): (أنتظر!)
فأقبل الجندي ووجده واقفاً واجماً رانياً إلى شرقي السور الشمالي ولا يذهب إلى الجنوب.
فسأله الجندي: (مالك يا أخي؟)
فلم يجبه ببنت شفة وهو لا يزال واقفاً في مكانه شاخصاً ببصره.
قال الجندي: (أنا ذاهب)
(نذهب معاً)
فهز (هونغ سين) رأسه هزة ومسح بكمه مدامعه وأخذ يعدو مع الجندي نحو شرقي السور الشمالي الذي اشتدت عليه قنابل المدافع اليابانية.
محمد مكين الصيني
أحد أعضاء البعثة الصينية في الأزهر(217/68)
البريد الأدبي
حول العيد الألفي للأزهر
أذاعت الصحف أن مشيخة الجامع الأزهر تنوي أن تضع برنامجاً جديداً للاحتفاء بالعيد الألفي للأزهر، وأنها ستبدأ قريباً باتخاذ الخطوات العملية لإحياء هذه الذكرى الخالدة، وهذه أول مرة نسمع فيها مذ تقلد الشيخ الأكبر منصبه باهتمام المشيخة بعيد الأزهر؛ وقد كانت للمشيخة عناية خاصة بهذا العيد منذ أعوام، وكان لها برنامج حافل وضعنه للاحتفاء بالذكرى الألفية. وقد اتخذت بالفعل عدة خطوات عملية في هذا السبيل فانتدبت مختلف اللجان لوضع تاريخ الأزهر ولتنظيم الاحتفال، ودعوة مندوبي العالم الإسلامي، وغير ذلك مما يقتضيه إحياء هذه الذكرى الجليلة؛ ولكن هذه الاستعدادات وقفت فجأة منذ نحو عام ونصف، وقيل يومئذ إن الوقت ما يزال متسعاً فلا داعي للعجلة في هذا الاستعداد؛ وكان هذا القول غريباً في ذاته لأنه لم يبق بيننا وبين انقضاء الألف عام على قيام الأزهر سوى ثلاثة أعوام إذا اعتبرنا تاريخ البدء في إنشائه وهو جمادي الآخرة سنة 359هـ؛ وقد اعتادت الحكومات والهيئات العلمية أن تحسب حساب هذه الأعياد قبل وقوعها بأعوام طويلة، وأن تتخذ أهباتها في تؤدة وروية، وأن تعد كل شيء بنظام حسن؛ ونحن لا نلوم مشيخة الأزهر لأنها عدلت عن برنامج الاحتفال السابق ووضعت برنامجاً جديداً، لأن البرنامج القديم كانت تحدوه في الواقع بواعث واعتبارات خاصة، وكان واضعوه يتصرفون بروح ضيق، وكانت الفكرة كلها ينقصها الروح القومي والروح العلمي الصحيح؛ ولكنا نأخذ مشيخة الأزهر أنها تأخرت حتى اليوم في الاهتمام بموضوع لا يدانيه شأن آخر من شؤون الأزهر في أهميته وجلاله.
وثمة مسألة أخرى نريد أن نلفت إليها النظر، وهي أن الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر يجب أن يكون احتفالاً قومياً بالمعنى الحقيقي، ويجب أن تشرف الحكومة المصرية على وضع برنامجه وعلى تنظيمه؛ ومن حق الأزهر أن يقوم في تنظيم هذا الاحتفال بأكبر قسط ولكنا لا نرى أن يستأثر بوضع البرامج ودعوة اللجان وغيرها؛ وإذاً فيجب أن تتولى تنظيم الاحتفال لجنة حكومية عليا يمثل فيها الأزهر والهيئات العلمية المختارة، وبعض الشخصيات البارزة، ويجب أن يشتمل برنامج الاحتفال على كل ما اصطلح العرف عليه(217/69)
في مثل هذه المناسبات. وفي وسع اللجنة الخاصة أن تستأنس بما تقوم به الهيئات العلمية الأجنبية في أعيادها الكبرى من المظاهرات العلمية والاجتماعية لإحياء هذه الذكريات.
(م)
كتاب جديد عن مصر
ظهر أخيراً كتاب جديد عن مصر باللغة الألمانية عنوانه (طريق مصر إلى الحرية) بقلم الكاتب الصحفي باول شمتس. والهر شمتس هو مكاتب جريدة (لايبزجر نويسته ناخرختن) في القاهرة، وقد عرف بعنايته بشئون مصر والشرق الأدنى، وتبدو هذه العناية في فصول ومباحث كثيرة ينشرها في الصحف الألمانية عن هذه الشئون. وكتابه عن مصر صغير لا يتجاوز المائة والعشرين صفحة، ولكنه يقدم للقارئ العادي كثيراً من الحقائق والمعلومات النافعة، وهو يصور لنا مصر منذ العهد المسيحي حتى قيام الحرب الكبرى تعيش على هامش التاريخ؛ وفي العصر الأخير تدب في مصر روح الوطنية الملتهبة، وتنهض مصر الفتاة لاسترداد حرياتها واستقلالها أولاً من يد الترك ثم من يد الإنكليز. ومصر اليوم من المراكز الحيوية في سير الشئون الدولية، وفي تطورها، ومصر همزة الوصل بين الشرق والغرب. على أن الهر شمتس لا يقدم إلينا جديداً في تصويره للشئون المصرية، وكل ما هنالك هو أن هذا الكتيب الذي صدر بالألمانية في وقت اتجهت فيه الأبصار إلى مصر يعاون على فهم الشئون المصرية في ألمانيا وأوربا الوسطى.
تاريخ المقاهي
قرأنا في إحدى المجلات الأوربية الكبرى بحثاً طريفاً في تاريخ المقاهي؛ خلاصته أن المقهى منشأة شرقية عرفت أولاً في الشرق. وفي أواسط القرن السادس عشر سافر إلى المشرق طبيب ألماني يدعي ليونارد راوفولف وزار الشام، ورأى في مدينة حلب أول مقهى وشرب فيه أول قدح من القهوة شربه في حياته، وعاد إلى ألمانيا يصف المقهى والشراب الأسود الذي يشبه الحبر؛ وكان المقهى في تلك العصور لا يخرج عن مكان مفتوح يؤمه الناس ويشربون فيه القهوة جلوساً على الأرض؛ وكانت القهوة قد عرفت في البلاد العربية قبل ذلك بنحو مائة عام، ولم يكن المقهى ذائعاً إلا في العواصم الكبرى؛(217/70)
وعرف الترك المقهى من العرب، وظهر في قسطنطينية أول مقهى في سنة 1554؛ أما في مصر فقد عرفت المقاهي قبل ذلك بنحو نصف قرن.
ومضى قرن آخر قبل أن ذاعت المقاهي في أوربا؛ وفي سنة 1645 ظهرت في البندقية أول دار من هذا النوع؛ ثم ظهرت في لندن وأكسفورد بعد ذلك بقليل؛ وكانت القهوة فيها على الطريقة الشرقية. ولم تلبث المقاهي أن ذاعت في إنكلترا بسرعة. ولبثت المقاهي ممنوعة في روما حتى أوائل القرن الثامن عشر. وظهرت المقاهي في فرنسا في أوائل القرن السابع عشر، وافتتحت في باريس سنة 1689 دار أنيقة سميت قهوة بروكوب؛ وكان الفيلسوف فولتير من روادها. فذاع من بعده ارتياد الأدباء للمقهى؛ ولم يظهر المقهى في برلين إلا في أوائل القرن الثامن عشر.
وكان المقهى في تلك العصور مركزاً للمقابلات والسمر، ولم يعرف الموسيقى إلا في أواسط القرن الثامن عشر؛ إذ افتتح في برلين أول مقهى موسيقي؛ وان هذا النوع من المقهى قد عرف قبل ذلك في باريس؛ وكانت الفرقة الموسيقية التي تختار للعزف فيه تؤلف عادة من بعض الموسيقين العميان؛ وكانت المقاهي تسمى في فينا بالمنتديات الفضية لأن الموائد والكراسي والمشاجب كانت من معدن يطلى بالفضة. وفي سنة 1790 ظهر في لندن مقهى من نوع خاص لا يدخله سوى السيدات؛ ويتولى الخدمة فيه سيدات. كذلك ظهر في لندن أول مقهى وضعت فيه مائدة البليارد، وكانت عند ظهورها عجيبة من العجائب.
وتطورت المقاهي بعد ذلك. وتفنن أصحابها في تجميلها وتأثيثها وتزويدها بمختلف الملاهي من الموسيقى والغناء وورق اللعب والرقص وغيرها، وبلغت ما بلغت في عصرنا من الأناقة وحسن التنظيم؛ وكثرة التنوع والافتنان في كل ما يجلب المسرة والمتاع إلى نفوس الزائرين، وأضحت منتديات للسمر والسياسة والأدب.
حرية الفكر في مؤتمر القلم الدولي
قرأنا في البريد الفرنسي الأخير أخبار مؤتمر القلم الدولي الذي عقد في باريس في أواخر شهر يونيه. وسبق أن أشارت إليه (الرسالة) وذكرت أن مصر ستمثل فيه على يد وفد من أعضاء نادي القلم المصري برياسة الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب؛ وقد شهد المؤتمر مندوبو خمسين دولة وتولى افتتاحه وزير المعارف؛ وكانت أعظم ظاهرة في جلساته(217/71)
ومناقشاته مسألة حرية الفكر التي أصبحت مهددة في كثير من الدول والتي سحقت بالفعل في بعض الدول التي تسودها النظم الطاغية. وألقى الكاتب الفرنسي الكبير جول رومان رئيس نادي القلم الدولي بهذه المناسبة خطاباً رناناً نوه فيه بقدسية الحرية الفكرية؛ ومما قاله: (إن للفكر قوانينه وأخلاقه وعاداته التي لا تستطيع أية حدود بل ولا يستطيع التاريخ أن يوقفها أو يميلها؛ فالفكر وحده هو الذي يضطلع بوضعها ومراعاتها؛ وإذا تنزل الفكر إلى الدعوة إلى فضائل لا توجد، أو لا تستطيع الوجود إلا بممالأته فهو يرتكب بذلك حماقة لا تغتفر؛ وإذا كانت جمعية القلم لا دخل لها في السياسة فأنا مع ذلك لا نستطيع أن نسترشد إلا بقيمة الفكر وحياته وحقوقه في جميع أنحاء العالم؛ ولن نستطيع أن نقبل أي حجة لتعطيل حرية الفكر وحقوقه، ذلك أنا نعلم أن قبول غل واحد يصفدنا فيما بعد بأغلال لا نهاية لها). هذا وسوف نتحدث في فرصة أخرى عن قرارات هذا المؤتمر الأدبي الخطير.
الأزهر في مؤتمر القوانين
عاد منذ أيام اثنان من أعضاء وفد الأزهر في مؤتمر القانون الدولي بعد الاشتراك في دورة المؤتمر.
وقد بدأت هذه الدورة في اليوم الرابع من هذا الشهر، وكان اليوم الأول خاصاً بحفلة الافتتاح التي أقيمت تحت رعاية وزير العدل في الحكومة الهولاندية واشترك فيها بعض أعضاء محكمة العدل الدولية في لاهاي؛ ثم دامت جلسات المؤتمر بعد ذلك من اليوم الثاني إلى أن كانت جلسة الختام في اليوم الحادي عشر من الشهر.
وكانت مصر ممثلة في المؤتمر من جهتين: الأزهر، وممثلوه هم الأستاذ الشيخ عبد الرحمن حسن والشيخ محمود شلتوت ومحمد عبد المنعم رياض بك والأستاذ حسن البغدادي؛ والجامعة المصرية وكان يمثلها الدكتور عبد الرزاق السنهوري بك.
وقد كان الربح الأدبي والعلمي الذي وصل إليه الوفدان ربحاً عظيماً إذ ألقى الدكتور السنهوري بك بحثه عن الجنسية في اليوم الثالث للمؤتمر. وأعقبه بعد ذلك في الأيام التالية الأستاذان الشيخ عبد الرحمن حسن والشيخ شلتوت فألقيا بحثهما باللغة العربية للمرة الأولى في دورات المؤتمر كلها. وكان البحث الأول خاصاً بالشريعة الإسلامية وعلاقتها بالقانون الروماني، والبحث الثاني خاصاً بالمسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية.(217/72)
وقد تناقش كثير من أعضاء المؤتمر عند تلاوة هذه البحوث وكان الأستاذ البغدادي يتولى الترجمة العربية والفرنسية والأسئلة وأجوبتها كما تولى ترجمة البحوث نفسها عند إلقائها.
ومن المظاهر المشرفة التي نالتها مصر في هذه الدورة أن جلسة الختام التي تليت فيها قرارات المؤتمر النهائية. كانت خاصة برؤساء اللجان والمقررين، فكانت الغالبية العظمى من الدول يمثلها في هذه الجلسة ممثل واحد سوى مصر، فقد حضر من وفديها في هذه الجلسة اثنان هما فضيلة الشيخ عبد الرحمن حسن والأستاذ عبد المنعم رياض بك.
وكذلك كان من الربح العظيم الذي وصلت أليه مصر بواسطة الوفد الأزهري أن قرر المؤتمر جعل اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية له. وقد قلنا إن بعض البحوث التي ألقيت في هذه الدورة ألقيت فعلاً باللغة العربية. وكذلك قرر المؤتمر حسبان الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع الحديث.
وقرر المؤتمر في ختام جلساته أن تعقد دورته القادمة في سنة 1942 في مدينة لاهاي أيضاً.
بعثة أزهرية جديدة باسم جلالة الملك فاروق
علمنا أن الرأي قد استقر على اختيار بعض العلماء الممتازين أيضاً لتأليف بعثة جديدة يتلقى أعضاؤها في جامعات أوربا من العلوم، ما يرتبط ارتباطا وثيقاً بالعلوم الشرعية وذلك على النهج الذي اتبع في تأليف بعثة (فؤاد الأول) الأزهرية
وسيطلق على هذه البعثة الجديدة أسم (بعثة فاروق الأول) وتفكر إدارة المعاهد الدينية في هذه الأيام في تأليف بعثة أزهرية جديدة تؤلف من بعض العلماء الأزهريين الممتازين الأكفاء لتوفدها إلى بعض المقاطعات الإسلامية في الهند، للدعوة إلى الدين الإسلامي ونشر مبادئه بين طوائف المسلمين في هذه المقاطعات
اضطراب آخر في شيوخ الأزهر
أطلعت في أثناء تحقيق للاضطراب الذي وقع في رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي عن اضطراب آخر في كتاب (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) للشيخ أمين المحبي بن فضل الله بن محب الله المولود بدمشق سنة 1061هـ والمتوفى بها سنة 1111هـ فقد(217/73)
ذكر في الكلام على الشيخ محمد بن حسن بن محمد بن أحمد جمال الدين بن بدر الدين المعروف بالمنير ما ذكره الجبرتي عنه، وخلاصته أنه ولد بسمنود سنة 1099هـ. وقدم الجامع الأزهر وعمره عشرون سنة فدرس على كثير من شيوخه وبرع في كثير من علومه خصوصاً علم الحديث، وكان عالي السند فيه، وكان يعرف أيضاً جملة من الفنون الغريبة كالزايرجة والأوفاق وغيرهما
وقد ذاع صيته في أواخر أمره وذهبت شهرته في الآفاق، وأتته الهدايا من الروم والشام والعراق، وكانت وفاته سنة 1199هـ
وقد زاد المحبي على ما ذكره الجبرتي من ذلك أنه بلغ أمره أن صار شيخاً للأزهر، وأن أول من انتزع مشيخة الأزهر من المالكية، وكان رحمه الله شافعياً
فهذا اضطراب آخر في شيوخ الأزهر، فالشيخ المنير غير معدود في هؤلاء، وقد كان شيوخ الأزهر في عهده الشيخ عبد الباقي المالكي القليني، فالشيخ محمد شنن المالكي، فالشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي، فالشيخ محمد الحفني الشافعي، فالشيخ عبد الرؤوف السجيني، فالشيخ أحمد الدمنهوري، فالشيخ أحمد العروسي، وقد صار أولهم شيخاً للأزهر سنة 1120هـ وصار آخرهم شيخاً له من سنة 1192 هـ إلى سنة 1208هـ
والشيخ عبد الله الشبراوي هو الذي ذكر صاحب تاريخ الأزهر أنه أول من تولى مشيخة الأزهر من الشافعية، وقد صار شيخاً للأزهر من سنة 1137هـ إلى سنة 1171هـ، فكيف يكون الشيخ المنير شيخاً للأزهر بين توالي أولئك الشيوخ؟ وكيف يكون أول من انتزع مشيخة الأزهر من المالكية إلى الشافعية؟
فالحق أن الشيخ المحبي أخطأ في هذا كما أخطأ قبله الشيخ عبد الغني النابلسي في الشيخ منصور المنوفي الشافعي، وقد كانا شاميين بعيدين عن الأزهر ورجاله، ولا شك أن هذا يضعف من قيمة ما شذا فيه من ذلك.
ولو صح أن الشيخ منصور المنوفي كان شيخاً للأزهر كما ذكر الشيخ عبد الغني النابلسي لكان هو الذي انتزع مشيخة الأزهر من يد المالكية إلى الشافعية لا الشبراوي ولا المنير لأنه أقدم عهداً منهما كما سبق.
عبد المتعال الصعيدي(217/74)
الكتب
سيرة السيد عمر مكرم
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
بقلم الأديب توفيق الطويل
بارح الجيش الفرنسي أرض مصر بعد أن عرف الشعب مكانة ظالميه عند دفع العاديات، فرأي جيش السلطان لا يملك العودة إلى القاهرة إلا في ظلال أعوانه الإنجليز، ورأى المماليك يفرون إلى الشرق ويهربون إلى الغرب ويلتمسون صداقة الفرنسيين أو مرضاة العثمانيين أملا في العودة إلى حكم البلاد، فعرف الشعب من ذلك أن مصيره موكول إليه وأن اعتماده على غير نفسه غفلة وخداع لا ينبغي أن يطولا. وكان على يقين بأنه يستطيع أن يصمد للحرب الطاحنة وحده شهوراً وأياماً كما فعل في ثورته الثانية العنيفة على الجيش الفرنسي المنظم. وكان زعماء هذا الشعب الكريم تعوزهم التضحية وينقصهم الإخلاص، ينتفعون بتقلبهم مع الحومات على حساب الوطن المسكين سوى رجل واحد جمع الزعامة والجهاد والتضحية. كان ينزوي حين لا تنفع المقاومة، ويثور ثورة الأسد حين تمس الحاجة إلى الثورة والتمرد. . ذلك هو السيد عمر مكرم. . . فلما سمع صوت الشعب يدوي مطالباً بحكومة جديدة خرج من عزلته وتولى قيادته. واحتشدت جموع الشعب التي بلغت أربعين ألفا بجوار الأزهر على كثب من بيت القاضي الذي كان يجتمع فيه الزعماء لاختيار الوالي الجديد. وأنعقد إجماعهم على قبول (محمد علي باشا) والياً بعد أن رشحه الزعيم الأكبر (عمر مكرم) لما عرفوه عنه من الذكاء والعدل والشهامة والعطف على المصريين إزاء الطغاة من حاكمهم. . . وقبل الوالي الجديد ترشيحهم بعد تردد. . . فقام إليه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي وألبساه الكرك والقفطان في بيته وخلعا عليه حكم البلاد باسم الشعب المصري الكريم. وكان ذلك في 13 مايو سنة 1805، فتميز الوالي القديم (خورشيد باشا) غضباً وقال: (ولأني السلطان فلن يعزلني الفلاحون) فلم يكن بد من أن ينزله هؤلاء الفلاحون بالقوة من قصره بالقلعة. وبدأ الكفاح المجيد بين شعب يفدي حاكمه الذي اختاره لنفسه بل يفدي حريته واستقلاله بالمهج والأرواح، وبين جيش يريد أن(217/76)
يحكمه على غير إرادته. . وكانت الثورة قائمة على مبدأ أعلنه الزعيم الأعلى لرسول السلطان الذي أحتج بقوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فأجابه الزعيم بأن أولي الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وأن السطلان أو الخليفة نفسه إذا سار في الناس بالجور والظلم كان لهم عزله وخلعه. . .
وأصاب الشعب النصر الحاسم داخل المدينة وخارجها. . . وبارح البلد خورشيد باشا بعد أن عرف بالتجربة أن إرادة الشعوب من إرادة الله. . .
ولبث الشعب المجيد يعين حكومته الجديدة من رد أعدائها من مماليك وأتراك وإنجليز حتى نحاه عن ذلك (واليه) وصارح زعيمه بأن واجب الدفاع والاشتراك في سياسة البلاد قد سقط عن الشعب بعد أن صارت قوة الدولة كفيلة به. . ونهض الوالي بالبلاد نهضة زاهرة شملت تجارتها وزراعتها وصناعتها وثقافتها ولكنها كانت بعيدة عن روح الشعب الذي أكره على الاعتزال ولم تكن ثمرة جهاده ولا نتيجة سعيه ولا وليدة ذهنه فذبلت وماتت بموت موجدها. .
واعتزل الزعيم، حتى إذا اشتط الوالي في ضرائبه التي أكرهته عليها كثرة إصلاحاته وحروبه خرج من مكمنه وأعلن مبدأه الذي لا يقبل فيه شكا ولا جدلا: أن ليس للباشا أن يغير نظام الحكم ولا أن يفرض ما شاء من الضرائب ولا أن يحكم الشعب بغير قانونه وعاداته. . ولكن الباشا عرف كيف يفرّق بين الزعماء وينتفع بحقدهم على زعيمهم فيأمر بخلعه من نقابة الأشراف ونفيه بعيداً عن موطن الثورات. . .
هذا موجز مشوه لسيرة البطل الذي تناوله الأستاذ الجليل محمد فريد أبو حديد في كتابه القيم الممتع الذي أصدره في هذين اليومين وأبان فيه نهاية الكفاح المجيد الذي كان الشعب المصري قد بدأه منذ قرن ونيف من الزمان. . والكتاب آية أدبية جمعت ثلاثة عناصر قل أن تجتمع في كتاب: دقة العلم، وجمال الفن، وحرارة الوطنية.
على أن في الكتاب رأياً ترددت كثيراً في التسليم به، ذلك هو تحديده للوقت الذي تحرك فيه الشعب المصري للمحافظة على حقوقه وحرياته بعام 1114هـ إذ أن الحادثة التي أيدت هذا تتلخص في شكوى رفعها العلماء إلى الديوان فاستجيبت لعدالة الحاكم (الفعلي) يومذاك لا لحرص الشعب وزعمائه على حقوقهم ولا الخوف الحاكم من عنادهم. فأما عدالة(217/77)
الحاكم فيشهد بها قول الشيخ حسن الحجازي شاعر العصر يرثيه:
ألا قلْ لمن في موت حاكم مصرنا ... غَدَا فرِحاً لا عشْت حلَّ بك الغمُّ
إلى أن قال:
فأرجح ميزاناً وأوفى مكايلاً ... وأخمد نيراناً وقام به سلم
وليس له من مبغض غير معرض ... عن الحق أو من في عقيدته سقم
إلى آخر ما جاء في الرثاء الذي أورده الجبرتي (107 و108ج1)
وأما الدليل على أن الشعب وزعماءه يومئذ لم يكونوا قد آمنوا بعد بالحرص على حرياتهم وحقوقهم فيشهد به مجيء فرمان من الدولة عام 1137هـ يأمر بمنع العلماء من اجتماعهم بالباشا. وكان ذلك في وقت قد اشتد فيه الظلم، وعانى الشعب أو ألواناً من التعدي على الحريات وانتهاك الحرمات ونهب الأموال، فلم يقاوم الفرمان شعب ولا زعماء. ولما تكرر الظلم بعد هذا طالب الشعب العلماء بالذهاب إلى الباشا فاعتذر هؤلاء الزعماء بأنهم ممنوعون من طلوع القلعة. . .! (131، 135ج1 من الجبرتي) فالشكوى وحدها ليست دليلاً على التحرك لدفع الظلم، وإنما الدليل أن يقاوم المظلوم حتى ينصف أو يستشهد.
والرأي عندي - إن صح أن يكون لي رأي إلى جانب رأي أستاذي المؤرخ - هو أن الشعب قد تحرك للمحافظة على حقوقه وحرياته في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي (أواخر الثاني عشر الهجري) إذ سمعنا في هذه الفترة سلسلة من الحوادث تقوم على دفع الظلم ومقاومة أهله والاعتزاز بالحرية. ورأينا فيه كيف يهتم الحكام - أقوياء وضعفاء وعدول وظلمة - بالرأي العام وزعامته. وسمعنا بالحفني وابن النقيب والصعيدي، وعرفنا موقف العلماء في فتنة الوقف، بل أروع من هذا كله موقفهم في فتنة الأزهر (56ج2 من الجبرتي) يوم رفضوا شيخ الأزهر الحنفي حين عينه شيخ البلد ولم يعبئوا بمنطقة يوم أصر قائلاً لهم: أليس الحنفية مسلمين كالشافعية؟ أليس مذهب النعمان أقدم المذاهب؟ أليس القاضي حنفياً والوزير حنفياً والسلطان حنفياً. . .؟ انتهى إصرارهم بالانتصار الحاسم على أكبر رأس في البلد.
ورأينا في هذه الفترة العالم الذي يغضب على الحاكم فيقول له في وجهه: لعنك الله ولعن اليسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومن جعلك أميراً (19ج2) ورأينا العالم(217/78)
الذي يقول للعامة وهي تستنصره لدفع الظلم الذي يوقعه الحكام بهم: (في غد تجمع أهالي الحارات والأطراف وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما نهبوا بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم) فما جاء مساء ذلك اليوم حتى ذل له الحكام واستكانوا لعناده (110ج2 من الجبرتي)
تكرر هذه الحوادث وظهور المقاومة فيها جميعاً هو الشاهد العدل على تحرك الشعب لحقوقه في هذه الفترة. . . أما مجرد الشكوى من الظلم في فترات منقطعة، والصبر عليه، والعجز عن التمرد والسكوت عن كفاح المستبد حين يصر على استبداده فهو الدليل على أن الشعب لا يحرص على حقوقه ولا يتحرك للمحافظة على حرياته. . .
هذا هو الرأي الذي خطر لي عند قراءة هذا الكتاب القيم الذي كسبته القومية المصرية وربحه الناطقون بالضاد. . .
توفيق الطويل(217/79)
العدد 218 - بتاريخ: 06 - 09 - 1937(/)
فن الحكم
للأستاذ أحمد أمين
يعاني الشرق الآن محنة من أشد أنواع المحن، سببها أنه بدأ يحمل عبء نفسه، وقد كان يحمله عنه المحتل
كان المحتل يصرّف أمور الأمة كما يرى، فيحرّم ما يشاء ويحلّ ما يشاء؛ ويعز من يشاء، ويذل من يشاء؛ فإذا استعان ببعض أفراد الأمة فبأيديهم لا بعقولهم؛ وقد يستعين بعقولهم أيضاً ولكن على شرط أن تكون في خدمة عقله، وفي الاتجاه الذي يرسمه قلمه، فمن حدثته نفسه أن يفكر تفكيراً حراً طليقاً فالويل له. أمسك بيده المال وهو عصب الأمة، ينفق منه كما يشاء في الوجوه التي تخدم سلطانه، ويبخل كما يشاء فيما يعارض منهاجه؛ فهو شحيح كل الشح على التعليم العالي، وعلى الجيش وما إليه؛ وهو سخي فيما يصلح الأرض ويدر الثروة. وعلى كل حال لم يقف من الأمة موقف المعلم النزيه يؤهل تلميذه ليكون رجلاً يوماً ما، ويمرنه على أن يستقل بنفسه شيئاً فشيئاً، إنما وقف منه موقف السيد من عبده يسخره وله الغلة، ويطعمه ما يسد رمقه ليقوى على العمل له
ثم كان أن جاهد الشرق جهاداً شاقاً طويلاً جعل حكم الأجنبي له شاقاً عسيراً، وسَاعدت الأحداث الخارجية وما فيها من قلق واضطراب على أن يغير المحتل سياسته، ويحمّل الأمة أكبر عبئها، ويطلق لها اليد في التصرف في أكثر شؤونها. فأصبحت الأيدي التي كانت تعمل بعقول غيرها غير كافية، واشتدت الحاجة إلى العقول المفكرة، وأساليب الحكم العادلة الحازمة، فإذا بالشرق أمام مدرس يلقي لأول مرة أول درسه، أو قاض يجلس على منصة القضاء أول عهده، حتى الذين تولوا الحكم في عهد الاحتلال والحكم بعد الاحتلال يشعرون بالفرق بين الحكمين، واختلاف الصعوبة في العهدين، فقد كانوا في عهد الاحتلال أيديا مسخرة، وهم في عهد الاستقلال عقول مدبرة
أول درس يجب أن يتعلمه الشرق تضحية الحاكم؛ واعني بذلك أن يضحي بشهواته في سبيل تحقيق العدل الدقيق، فلا تستهويه شهوة المال، ولا شهوة الجاه، ولا شهوة المنصب فتصرفه عن إحقاق الحق وإبطال الباطل. وطبيعي أن الشعب لا يرضيه من الحاكم في عهد الاستقلال ما كان يرضيه منه في عهد الاحتلال؛ فقد كان في عهد الاحتلال يصبر(218/1)
على الظلم كارهاً بحكم القوة، فلما رأى أن حكومته منه، وأنها تستمد قوتها من قوته، لم يرض عن ظلم، بل هو يشتط في طلبه فلا يرضى عن عدل مشوب بظلم، إنما يريد عدلاً خالصاً، ويتطلب منها المثل الأعلى في العدالة وإلا لا يمنحها رضاه
ثم هو لا يرضى بتحقيق العدل السلبي وحده، مثل عدم الترقية لصلة أو قرابة، وعدم الظلم في توزيع مياه الري ونحو ذلك، إنما يطالب بتحقيق العدل الإيجابي أيضاً، مثل إصلاح نظم التعليم ونظم المال ونظم الصحة ونظم الشئون الاجتماعية؛ فإذا قصر الحاكم في ذلك ملّ المحكوم وسئم وشكا من أن العهد الجديد لم يفترق عن العهد القديم إذا لم تتحقق آماله ولم يظفر بما كان يرجو من سعادة.
على أن من الإنصاف أن نقول إن تبعة صلاحية الحكم وعدمه لا تعود إلى الحاكم وحده، بل إن جزءاً كبيراً يحمله الشعب المحكوم نفسه، فالحكم فعل وانفعال مستمران بين الحاكم والمحكوم، والنتيجة التي نراها من تقدم الأمة أو تأخرها هي نتيجتهما معاً لا نتيجة الحاكم وحده.
والأثر الذي يقول (كما تكونون يولى عليكم) ليس قانوناً للقَدَر بل هو قانون طبيعي، فحالة المحكوم تشكل الحاكم - لا محالة - بالشكل الذي يتفق وحالته، وقد علّمنا التاريخ أن عسف الحاكم لا يتم ولا ينجح إلا إذا سبقه استنامة المحكوم وضعف إحساسه؛ وصلاحية الحاكم مسبوقة دائماً بتنبه المحكوم وحسن تقديره للعدالة والظلم.
بل إن أساليب الحكم ونظريات الحكومات لم تتقدم على مر الزمان تقدم الشعوب في تقدير العدل والظلم، فنظم الحكم التي وضعها اليونان والرومان وعلى رأسهم أفلاطون في جمهوريته وأرسطو في كتابه السياسة لم تتقدم كثيراً في عهدنا الحاضر، ولكن شعوب اليوم في فهم الحكم ومدى سلطة الحاكم وإبائهم أن يتجاوز حده أرقى بكثير في ذلك من شعوب الأمس الدابر. لقد كان الحاكم يستطيع أن يحكم في سهولة ويسر وإلى عهد طويل شعبه على رغم أنفه بسلطانه وجبروته، ثم هو يتحمل أعباء الحكم على كتفه وحده؛ أما اليوم فلا يستطيع حاكم مهما أوتي من العقل والقوة أن يحكم إلا برضا شعبه وبمعونته وبمشاركته إياه في حمل العبء؛ وإن وجدت حالات تخالف ذلك فحالات شاذة لا يسمح النظام الاجتماعي ببقائها طويلاً.(218/2)
بل تبين فساد رأي أفلاطون وأرسطو وأمثالهما في أن هناك طبقة خاصة يجب أن تَحْكُم، وأنها وحدها الصالحة للحكم، وأن من عداها غير صالح إلا لأن يُحْكُم؛ وتبين أن الحاكم الحق للشعب هو الشعب نفسه، وإنما يركز آراءه في الحكم في أشخاص لأن الناس اعتادوا تجسيد المعاني والرمز إليها بمحسوسات تقريباً لعقولهم وتبسيطاً لأفكارهم، ولا ينجح حاكم ولا مصلح إلا إذا مثل رأي الناس أو على الأقل رأي طائفة صالحة منهم، فلو أتى مصلح بما لا يتهيأ له فريق من الناس لعد مجنوناً، بل إن الشعب أو الطائفة منه هي التي تخلق حاكمها وتخلق مصلحها إذ هو ليس إلا مبلوراً لأفكارهم ومركِّزاً لآرائهم. وليس الحاكم أو المصلح جذر الشجرة ولكن زهرتها، إنما الجذر والساق والأوراق هي الشعب نفسه.
يميل الشرق إلى أن يُحكم حكماً ديمقراطياً، وله الحق في ذلك، لأنه جرب أنواعاً من الحكم الاستبدادي على أنواعه المختلفة فكانت ميتة لمشاعره، عائقة لتقدمه، وكان الحكام المستبدون ينعمون بكل صنوف الترف والنعيم على حساب بؤس الشعب وفقره.
ويميل إلى الديمقراطية لأنها على ما بها من عيوب لا تزال أرقى أنواع الحكم وأبقاه، وحكم الاستبداد إن رضيته بعض الأمم حيناً، أو فرض عليها فرضاً حيناً، أو أرتكن على بعض الظروف حيناً، فليس هو الحكم الصالح للبقاء أبداً
لقد أنهار الاستبداد في مظاهره المختلفة وحلت محله الديمقراطية بأشكالها المختلفة. أنهار استبداد رجال الدين بعد أن سيطروا على الشعوب أزماناً طويلة لقي فيها الناس من عنتهم ما كره إليهم الحياة
وأنهار استبداد الأب بأسرته فلم يعد ذلك الأب الذي لا إرادة في البيت بجانب إرادته، ولا الأب الذي كلمته حكم، وطاعته غنم، وحل محله أب هين لين يأمر حيناً فيطاع، ويؤمر حينا فيطيع
وتغيرت الغايات للسلطات فأصبحت الغاية من الحكومة لا أن تظهر بمظهر الآمر الناهي، ولكن أن تحقق العدالة والحرية للناس حتى للضعفاء؛ وأصبحت الغاية من الأب لا أن ينعم بسلطانه، وإنما الغرض منه ومن الأسرة كلها إيجاد جو صالح لنمو الطفل وتربيته ورقيه. وليس الغرض من المعلم أن ينفذ إرادته بالعصا، وإنما الغرض منه ومن الناظر والمدرسة كلها أن يمسكوا بدل العصا مصباحاً يضيء للتلاميذ حقائق الحياة وسبل الحياة(218/3)
ولكن هذا الحكم الديمقراطي ليس يصلح إلا بتنظيم دقيق، بل هو إلى النظام أحوج من الحكم الاستبدادي، لأن الحكم الاستبدادي يحمل عبئه فرد واحد وأعوانه أياديه، وهو الرأس المدبر، فطبيعي أن يكون ظلمه وعدله منظماً، أما الحكم الديمقراطي فيحمل عبئه عدد كبير، فإذا لم يؤد كل واجبه أختل البناء، ومثله مثل الآلة ذات الأجزاء المختلفة أو كالساعة ذات القطع المتعددة المتباينة، ولا ينتظم سير الآلة ولا سير الساعة حتى يقوم كل جزء بعمله
وسبب آخر لحاجة الحكم الديمقراطي للنظام دون الحكم الاستبدادي، وهو أن الحكم الاستبدادي يرمي إلى تحقيق مصلحة فرد واحد أو طائفة محصورة، وذلك سهل يسير
أما الحكم الديمقراطي فيرمي إلى مصلحة الشعب جميعه وخاصة الضعفاء، كالفقراء والمرضى والفلاحين والعمال وهؤلاء عددهم في كل أمة كبير، ولا يمكن تحقيق الخير لهم إلا بجهد كبير ونظام دقيق
فإذا لم يتحقق هذا النظام فشل الحكم الديمقراطي، وظن قصار النظر أن العيب يرجع إلى طبيعة الحكم، وهو في الواقع لم يرجع إلا إلى سوء تطبيقه واستعماله. ثم إذا أختل كان نذيراً بعودة الاستبداد، وأرتكن المستبدون وذوو السلطان إلى ما يبدو تحت أعين الأمة من سوء الحكم الديمقراطي وفساده، واتخذوا ذلك ذريعة إلى استرجاع سلطانهم واستعادة استبدادهم، وأعادوا الأمة إلى سيرتها الأولى يسخرونها لمنفعتهم ويستغلونها لصالحهم
فأكسير الحياة للشرق الآن تحري العدالة في الحاكم، وتضحية شهواته، وتنظيم حكمه وحمل كل عبئه، وتنفيذ واجبه في دقة، وإلا كان تحت خطر الفوضى التي تقدم للأسد الرابض حجته وصياحه من جديد بأن الشرق أعطي حريته فلم يحسن استعمالها
أحمد أمين(218/4)
مصير الحضارة
للأستاذ عباس محمود العقاد
يجتمع اليوم في مصانع العالم ومخازنه من أسلحة الحرب وأدوات الهلاك ووسائل التدمير ما لم يجتمع مثله قط في تاريخ الإنسان.
فهل يعقل العقل أن تلبث هذه الآلات مشلولة معطلة ينتهي أمرها بانتهاء صنعها ويقف الخطر منها عند حد التخويف والإنذار؟
وإذا هي استخدمت فيما صنعت له وانطلقت من عقالها وفعلت كل ما يخشى من فعلها الموبق الوخيم، فماذا يبقي من الحضارة؟ وماذا يبقي من تاريخ الآدمية بعد أن عبر هذا الشوط الطويل في آفاق الزمان؟ ألا تكون النهاية؟ ألا نرجع كرة أخرى إلى حالة بين الهمجية والحيوانية ينقطع السلم بعدها فلا نهتدي منه إلى طريق صاعد، ولا نعود - إذا ملكنا رأينا - إلى تجربة قد رأينا في خواتمها ما يصد النفوس عن البدء فيها؟
أكبر ما يرجوه الآملون في مستقبل الإنسان أن تنقبض هذه الشرور الجهنمية في محابسها كما تنقبض الشياطين في القماقم، فتخيف الناس خوفاً يعصمهم من آفاتها ويذودهم عن اللعب بنيرانها
فإن لم يصدق هذا الرجاء فأكبر الرجاء بعده أن تصمد البنية الآدمية للخطر المحيط بها وأن تفلت منه ببقية صالحة تحفظ عناصر الحضارة والأخلاق كما تصان الذخيرة المنتقاة من أنقاض الحريق
وأصحاب الرجاء في هذه العاقبة السليمة يعلقون رجاءهم على اختلاف الحال بين العصور التي سبقت زوال الحضارة فيما سلف وبين العصور التي نحن فيها والعواقب التي نحن منساقون إليها
ففي الأزمة الغابرة كانت غارات الهمج على الأمم المترفة هي المعول الأكبر الذي يضرب في أركان الحضارة ويقتلع العمران من أساسه، وكانت غارات الهمج مصحوبة بحال من العقم في القرائح والأفكار تصيب الفنون والعلوم بالفاقة والكساد والنضوب، فكانت تنقضي السنون وراء السنين ولا جديد في عالم التأليف ولا في عالم الاختراع ولا في عالم الفنون والآداب، وتلك في الوقع هي علامة الدثور والاضمحلال التي لا تزيدها الغارات الهمجية(218/5)
إلا التسجيل والإعلان. ولا شك في أن الحضارات الأولى قد أخذت تموت وتتهاوى قبل أن يجهز عليها المغيرون من أبناء القبائل العارمة، ولا أدل على موتها من ضمور ملكة الخلق والابتكار فيها.
أما اليوم فالأمر بيننا مختلف والاختراع بيننا أروج وأكثر مما كان في أيام ازدهار الحضارات البائدة، وما تطلع الشمس صباحاً واحداً في أنحاء العالم المتمدن على غير كتاب جديد أو ثمرة فنية جديدة أو اختراع طريف أو تنويع وتحسين في اختراع قديم. فالبنية الآدمية بما اشتملت عليه من قدرة على التفكير أو قدرة على الشعور أو قدرة على الابتكار بنية سليمة مهيأة لطول الحياة ومغالبة الأحداث وتعويض المفقود.
هذا مع اختلاف آخر لا يقل في أثره ولا دلالته عن ذلك الاختلاف، وهو أن الغالبين والمغلوبين في أيامنا سوف يكونون من أبناء الحضارة الحديثة المشاركين في علومها وصناعاتها وأدواتها وآلاتها، فمن كتب له النصر من المحاربين في المعمعة القادمة سوف يضطلع بأمانة الحضارة وحده إذا قدرنا أن المهزومين يعجزون كل العجز عن متابعة الطريق واستئناف العمل النافع؛ وسوف يستبقي من علومنا وأفكارنا ما يصلح أن يكون خميرة يأكل من زادها أبناء الأجيال المقبلة، ثم يفتنون فيها ويزيدون عليها.
هذا وذاك مع اختلاف ثالث لا يقل عن ذينك الاختلافين في تغليب دواعي الأمل على دواعي القنوط، وذاك أن معارف الحضارة الحديثة لا تشبه معارف الحضارات الأولى في جواز الفناء عليها. فقد كانت معارف المصريين واليونان والرومان الأقدمين أشبه شيء في جملتها بحرفة الصانع القديم الذي يصون سره ويحمله معه إلى قبره، أو كانت بمثابة الخبرة الشخصية التي لا تقبل التعميم ولا اتصال النسق بين حاضرها وماضيها، لأنها مسائل اجتهادية يكاد يبدأها كل عامل من البداية ولا يدعمها إلى أساس يبني عليه من يخلفه من أبناء الصناعة.
أما حضارة العصر الحديث فهي حضارة قائمة على أساس العلم الشائع المقرر الذي جعل لكل اختراع قاعدة ولكل صناعة أصلاً ولكل مرحلة من مراحل التعليم مسافة وحدًّا؛ فلو فنيت ثلاثة أرباع المصنوعات الحديثة من الدنيا لكان الربع الباقي مشتملاً على جميع قواعدها وأصولها ومراحل التعليم والابتكار فيها؛ ومن البعيد عن التصور أن تعمد الحرب(218/6)
إلى عناصر العلم المتفرقة فتجمعها كلها إلى بقعة واحدة وترسل عليها صيباً من القذائف الناسفة فتمحوها محواً ولا تذر منها بقية للتجديد والترميم.
ذلك بعيد عن التصور، ولا خوف من اتجاه النية إليه أو اشتمال الطاقة على تنفيذه لو جاز أن يداخل النيات على أبعد الفروض.
نعم إن هناك خطراً أخطر على الحضارة من تدمير عناصر العلم بالقذائف الناسفة والآلات الجهنمية التي هي نفسها مادة من مواد العلم وجزء من أجزاء الصناعة.
هناك خطر على الحضارة أخطر من القذائف والآلات الجهنمية وهو إفساد الطبائع ومسخ العقول وتلويث الأخلاق وتعويد الناس أن يسخروا بكل نبيل جليل وأن يقنعوا من الدنيا بمعيشة البهم ولذائذ الحيوان.
فلو شاعت هذه الآفة - بل هذا الوباء - بعد الحرب المقبلة لكان بقاء العلوم والصناعات وزوالها على حد سواء، ولكانت الحضارة شيئاً لا يستحق الحرص عليه ولا الأسى لفقده ولا التفكير في استبقائه، ولبلغت الحرب بالناس أقصى ما نخاف من وبالها المحذور.
ومن خاف هذه العاقبة فله عذره الواضح مما نراه من تهالك على المتاع الزائل وتهافت على الشهوات الخسيسة وتهافت على المثل العليا والأخلاق الفاضلة والمطالب التي تتجاوز ساعتها أو يومها أو عمر طالبها على أبعد احتمال.
الاشتراكيون لا يؤمنون بغير الخبز، والفاشيون لا يؤمنون بخير الخنجر، والذين يأنفون من مذاهب أولئك ومن مذهب هؤلاء حيارى لا يهتدون إلى قرار؛ ومتى أصبحت الغاية المنشودة ما كان فيه آباؤنا وأجدادنا منذ ألوف السنين فنحن راجعون إلى وراء مقبلون على هبوط يشبه الفناء.
إلا أن الأفق لا يخلو في هذه الظلمة أيضاً من بارقة بعيدة يوشك أن يستفيض منها ضياء شامل.
فكلما شاعت اللذت كذلك شاعت السآمة من اللذات، وشاعت النزعة إلى التبديل، وتسرب القلق إلى الضمائر، فليست هي في حالة أستقرار، ولكنها في حالة تحفز وانتظار.
ويخيل إلينا أن الدنيا تتجه إلى تفكير جديد في القرن العشرين يشبه التفكير الجديد عند الانتقال من طور العقائد التقليدية إلى طور العقائد بالبحث والاجتهاد، أو يشبه التفكير(218/7)
الجديد عند الانتقال من هذا إلى الإيمان بالعقل وحده، ثم الغلو في التعويل عليه كما غلا العقليون المعروفون (بالراشنلاست) في أوائل القرن الغابر، أو يشبه التفكير الجديد عند الانتقال من (الراشنلازم) إلى المذهب الروحي أو مذهب البصيرة والإلهام الذي شاع منذ خمسين سنة في الأمم الغربية كافة
أما هذا التفكير الجديد الذي ننتقل إليه الآن فهو التقاء العالم المشهود وعالم الأسرار عند (الفلسفة الرياضية) التي انتهى إليها البحث في النور والإشعاع
فقديماً كان العالم الطبيعي في ناحية والعلم الرياضي في ناحية أخرى
كان العلم الطبيعي في تجارب المحسوسات، وكان العلم الرياضي في الحقائق الذهنية التي لا تحتاج إلى العالم المحسوس
فاليوم وصل العلم الطبيعي بكل شيء إلى الإضاءة والإشعاع، ووصل بالإشعاع إلى النسب العددية والتقديرات الرياضية، وجاز في عرف العقل المثقف السليم أن تقاس الحقيقة من (باطن) العقل وداخل السريرة، على مثال يقارب هداية الملهمين ومكاشفة القديسين في الزمن القديم.
تلك البارقة من التقاء عالم المادة وعالم الأسرار بشيرة بالخير وشيكة أن تعصم النفوس من تيه الظلمات، وأن تسلم زمام الحضارة الإنسانية إلى غاية أبعد من الغاية التي يدين بها عباد الخبز وعباد الخنجر، حيثما اهتدى بها العلم والفلسفة والعقيدة في أعقاب الضياء.(218/8)
المحاكمات التاريخية الكبرى
3 - الحركة النهلستية
ومصرع القيصر اسكندر الثاني
صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تلك هي الوثيقة التاريخية المؤثرة التي وجهتها اللجنة التنفيذية إلى القيصر الجديد؛ ولكنها لم تحدث أثراً. ولم تكن الدوائر القيصرية تفكر في النزول عند نذير المرهبين ولما يجف دم الجريمة الرنانة التي كانت في الواقع ذروة الإرهاب السياسي؛ ومن ثم فقد ردت القيصرية بمضاعفة إجراءات القمع والإمعان في مطاردة المرهبين والثوريين، وقبض خلال شهر مارس في بطرسبرج على عشرات منهم، ولكن لم يقدم في النهاية إلى المحاكمة القضائية سوى ستة هم أندري جليابوف وصوفيا بيروفسكايا ونيكولا كالبالتشش وجسيا هلفمان وتيموتي ميخايلوف ونيكولا ريساكوف وبدات المحاكمة في 26 مارس سنة 1881 أمام محكمة عليا ألفت من ستة من الشيوخ وعضوين يمثلان النبلاء هما الكونت بوبرنسكي والبارون كورف، وممثل للتجار، وممثل للفلاحين، وعمدة موسكو، وممثل لبطرسبرج؛ وتولى الرياسة الشيخ فوكس، وتولى إجراءات الاتهام النائب مورافييف الذي غدا فيما بعد وزيراً للعدل.
وكان أهم المتهمين في تلك القضية الشهيرة هما بلا ريب جليابوف وصوفيا بيروفسكايا عضوا اللجنة التنفيذية لحزب إرادة الشعب وهما في الواقع مدبرا الجريمة ورأسا الحركة الإرهابية يومئذ؛ وكان جليابوف من أقطاب حزب إرادة الشعب وأعظمهم نفوذاً وكان يومئذ فتى في الثلاثين من عمره؛ وكان مولده في أسرة من الأرقاء، ولكن الرقيق حرر وهو طفل فتفتحت أمامه آفاق جديدة، وتلقى تربية حسنة، وتخرج في مدرسة الحقوق في أودسا وشغف منذ حداثته بالأدب الثوري والنظريات الاشتراكية والتحريرية، ولم يلبث أن لفت أنظار السلطات، وأعتبر في سلك المحرضين الخطرين ونفي في أودسا. فذهب إلى كييف وهنالك أتصل بأسرة غنية كان يعطي لولدها درساً وتزوج من أبنتها (أولجا) وعاش حيناً(218/9)
في هدوء وعزلة، ولكنه لبث مع ذلك متصلاً بالأوساط الثورية، ولما اضطرمت الحركة الثورية في سنة 1874 ونزل إلى ميدانها ألوف من الفتية والفتيات الذين ألهبت عقولهم وأراحهم النظريات التحريرية الحديثة، نظمت القيصرية من جانبها حملة القمع الذريع وقبض على ألوف من الدعاة والمحرضين وعقدت المحاكمات الرنانة تباعاً؛ وكان منها المحاكمة الشهيرة التي عقدت في بطرسبرج سنة 1877 وقدم فيها إلى المحكمة 193 متهماً بينهم جليابوف وبيروفسكايا، ولكن جليابوف بريء؛ وما كان يغادر سجنه حتى أجتمع مع أقطاب زملائه وأسسو حزب (إرادة الشعب) وقرر الحزب أن يلجأ إلى سلاح الإرهاب السياسي. وفي أغسطس سنة 1879 قررت اللجنة التنفيذية إعدام القيصر أسكندر الثاني حسبما قدمنا؛ ودبرت لذلك عدة محاولات متوالية ولكنها أخفقت. وكان جليابوف رأس اللجنة المدبر وكان يوجه الحزب بنفوذه القوي إلى ميدان النضال العنيف وكان شجاعاً لسناً قوي العزم والإرادة لا يحجم عن شيء. وكان وقت المحاكمة كما قدمنا فتى في الثلاثين من عمره، مديد القامة، قوي البنية. وسيم الطلعة، حلو الحديث، يميل إلى الدعابة ويتدفق حين الجدل فصاحة وبياناً.
وكانت صوفيا بيروفسكايا تنتمي إلى أسرة عريقة شغل كثير من أعضائها مراكز كبيرة في الدولة؛ وكان والدها حاكماً لمقاطعة سنت بيترسبرج، ولكنها آثرت منذ حداثتها حياة الحرية والمغامرة، فغادرت منزل الأسرة إلى العاصمة وتلقت تربيتها في إحدى مدارس المعلمات، ثم عينت بعد ذلك معلمة في إحدى مدارس الأقاليم؛ ولكنها لم تنجح إلى السكينة والعزلة بل اتصلت بالحركة الثورية، وقبض عليها لأول مرة بتهمة التحريض وهي دون العشرين. ولما أفرج عنها اشتغلت مدى حين ممرضة في أحد المستشفيات ثم قبض عليها مرة أخرى في قضية بطرسبرج الكبرى مع جليابوف وزملائه فبرئت، ولكنها نفيت إلى إحدى المقاطعات الشمالية. بيد أنها تمكنت من الفرار وعادت إلى العاصمة حيث التحقت عضواً بحزب (إرادة الشعب). وكانت حينما قبض عليها في مارس سنة 1881 في السابعة والعشرين من عمرها ولكنها كانت تبدو بنظراتها الساحرة وعينيها الخضراوين ومحياها الوسيم أصغر بكثير من عمرها. وكانت صوفيا تحب جليابوف حباً جماً وتترسم خطاه ومغامراته بعزم مدهش؛ وان هذا حبها الأول والأخير. وكان جليابوف يبادلها هذا الحب(218/10)
المضطرم وكانا يعيشان معاً في أفق ساحر من الجوى والمثل الثورية.
أما عن باقي المتهمين فكان كالبلتشش مهندساً في نحو الثلاثين من عمره؛ وكان ميخايلوف عاملاً فتى من عمال المعادن؛ وكانت جسيا هلفمان فتاة من أسرة متوسطة تخرجت في مدرسة القابلات ولم تكن حسناء ولكنها كانت مخلصة مطبوعة، وكانت تعمل في مطبعة اللجنة السرية وتدير المنزل الذي يجتمع فيه الأعضاء.
بقي ريساكوف، وقد كان فتى حدثاً في التاسعة عشرة ينتمي إلى أصل متواضع؛ وكان وقت القبض عليه طالباً بمدرسة المناجم يعني ببث المبادئ الثورية بين العمال؛ وكان أهم متهم في القضية بعد جليابوف وصوفيا بل كان مفتاح القضية في الواقع ذاته أنه قبض عليه متلبساً بجريمته على أثر إلقائه القنبلة الأولى على موكب القيصر، وقد رأى فيه النائب المحقق دبرجنسكي منذ الساعة الأولى فريسة سهلة، فمال عليه بالإغراء والألفاظ المعسولة واستطاع أن يحمله على الاعتراف بكثير من الوقائع والمعلومات الهامة المتعلقة بالجريمة وحزب إرادة الشعب، وكان ريساكوف فتى هائم الذهن، مضطرب الأعصاب، فكان تارة يدون اعترافاته للمحقق وتارة يحاول تأييد مسلكه؛ وقد نشرت أقواله فيما بعد في كتيب صغير ضمن ما نشر من وثائق هذا العهد، وهي أقوال روح فتى هائم يتخبط بين الرغبة في التمسك بمبادئه ومثله، وبين الروع الذي يثيره فيه شبح الموت، ويقص ريساكوف في مذكراته كيف كانت مشاعره الحساسة التي شحذتها طفولة بائسة تتأثر أيما تأثر بما يراه بين الفلاحين والعمال من مناظر البؤس المطبق، وكيف ترك لقاءه الأول لجليابوف في نفسه أعظم أثر، وكيف أذكي لجليابوف في نفسه عاطفة الكفاح، فأنضم إلى جماعة المرهبين، وأرتكب جريمته على أنها عمل مجيد.
- 4 -
ودام التحقيق زهاء ثلاثة أسابيع، وفي يوم 26 مارس سنة 1881 بدأت المحاكمة الشهيرة أمام المحكمة العليا التي ألفت كما قدمنا من ستة من الشيوخ وعضوين من النبلاء وعضو عن التجار وعضو عن الفلاحين اختارتهم المحكمة وعمدة موسكو؛ وتولى رآستها الشيخ (السناتور) فوكس وتولى مهمة الاتهام النائب مورافييف؛ وأعترف جميع المتهمين بانتمائهم إلى حزب إرادة الشعب واشتراكهم في تدبير المؤامرة وتنفيذها، ما عدا جسيا فأنها أنكرت(218/11)
قيامها بأي عمل إيجابي، وميخايلوف فأنه أعترف بانتمائه إلى فرقة المرهبين ولكنه أنكر اشتراكه في تنفيذ الجريمة.
وكان اعتراف جليابوف بالأخص رناناً مؤثراً؛ فذكر أنه عضو في اللجنة التنفيذية وأنه أنضم إلى الحزب نزولاً على إيمانه وعقيدته، وأنه وهب حياته منذ أعوام لخدمة قضية الحرية. ثم قص في بلاغه وقوة على المحكمة تاريخ أعمال اللجنة التنفيذية وما دبرته من مختلف المشاريع لإزهاق القيصر، وأعترف بأنه هو الذي دبر مؤامرة أول مارس، وأنه هو الذي أختار المنفذين لها من بين المتطوعين الفدائيين، ولكنه حاول جهده أن يبرئ ميخايلوف من تهمة الاشتراك.
وسمعت المحكمة عدة شهود من الشرطة وحجاب المنازل التي كان يتردد عليها المتهمون وعدداً كبيراً من الضباط والمخبرين الذين شهدوا مصرع القيصر، وبعض زملاء ريساكوف وأساتذته، فنوهوا جميعاً بذكائه ورقة خلاله، وسمعت تقارير الخبراء عن خواص القنابل والمفرقعات التي استعملت في الجريمة ووقفت المحكمة بذلك على كثير من تفاصيل الحادث وسير الحركة الثورية.
وألقى النائب مورافييف ممثل الاتهام مرافعة قوية عنيفة، فقدم المتهمين في صورة مجرمين من أروع طراز، وأبالسة من البشر ظمئين إلى الدم، وحمل على الحركة الثورية وعلى مثلها ودعاتها بشدة، وقال إن هؤلاء القتلة لا محل لهم بين مخلوقات الله وإنهم من عناصر الهدم والفوضى يُعَبدون طريقهم بالقتل، وإن الوطن الروسي الذي خضبوه بدم القيصر الثمين قد عانى كثيراً من أعمالهم، فعلى روسيا أن تصدر حكمها عليهم في شخص هذه المحكمة وليكن مصرع أعظم الملوك خاتمة حياتهم الإجرامية.
ثم جاء دور الدفاع؛ وكان الدفاع مهمة شاقة أمام هذا القضاء المسير وهذه المحكمة التي عقدت لأداء مهمة معينة. وكان شاقاً بالأخص أمام اعتراف المتهمين الشامل؛ ولم يكن للبواعث المعنوية والمثل العليا اعتبار في هذا الجو الخانق. ومع ذلك فقد قام الدفاع بمهمته التقليدية، فتولى الأستاذ أونوفسكي الدفاع عن ريساكوف وصور للمحكمة عقلية المتهم الفتية الساذجة ورجا المحكمة أن تراعي في تقديرها لجرمه حداثة سنه واضطراب أعصابه. ودافع الأستاذ خارتولاري عن ميخايلوف ففند أدلة اتهامه، وبين أنها فيما عدا أقوال(218/12)
ريساكوف لا تنهض دليلاً على اشتراكه. وأن ريساكوف لم يكن متزناً ولا متفقاً في أقواله. ودافع الأستاذ جركي عن جسيا هلفمان وبين أنها لم تقم قط بأي دور إيجابي في هذه المحاولات الإجرامية، وأن كل ما قامت به هو أنها كانت تؤجر المكان الذي أعتاد المهتمون أن يعقدوا فيه اجتماعاتهم. ودافع الأستاذ حيراردي عن كبالتشش وشرح للمحكمة العوامل والظروف القاسية التي دفعته إلى سبيل الإجرام.
وتولى الأستاذ كدرين الدفاع عن صوفيا بيروفسكايا؛ وكانت مهمة فادحة لا تبعث إلى شيء من الأمل، فقد لبثت صوفيا حتى آخر لحظة متمسكة بأعترافاتها، وأضطر الأستاذ كدرين أن يلجأ في دفاعه إلى ضروب من البلاغة المؤثرة؛ فصور صوفيا فتاة وديعة هادئة تجيش بأعظم حب لوطنها، وتعتقد بإيمان راسخ أن المثل الثورية هي سبيله الوحيد إلى الخلاص والمجد؛ وأستعرض نشأتها النبيلة، وحياتها المضطربة، ومثلها العليا؛ وبين أنها لم تنزلق إلى الجريمة إلا مدفوعة بحبها للوطن.
أما جليابوف فقد آثر أن يتولى بنفسه الدفاع عن نفسه. وكان دفاعاً رناناً تردد صداه خارج روسيا، ووصفه مكاتب (التيمس) في بطرسبرج بأنه أعظم ظاهرة في القضية. وكان جليابوف يتدفق منطقاً وبياناً؛ وكانت أقواله محاضرة فلسفية وسياسية مؤثرة، وأستهل جليابوف دفاعه بقوله: إن المبادئ بالنسبة لأولى المبادئ أثمن لديهم من الحياة، وفند مطاعن النائب العام في مبادئ حزب إرادة الشعب، وبسط مثل الحركة الثورية وغاياتها. ثم عطف على المسائل العنيفة التي تلجأ إليها الحركة الثورية، فذكر أنها ليست إلا مهمة من المهام العديدة التي يتطلبها تطور روسيا، وأنه يحب لكي تفهم غايات الحزب ووسائله أن يدرس ماضي هذا الحزب، وهو ماض قصير ولكنه حافل بالتجارب. وسترى المحكمة متى استعرضت كتاب حياته المفتوح أن أصدقاء الشعب الروسي لن يعمدوا دائماً إلى إلقاء القنابل، وإننا قد عرفنا خلال نشاطنا أحلام الشباب الوردية. وإنه ليس خطأنا أن يكون هذا العهد قد انقضى.
(وإن حياتنا القصيرة التي قضيناها بين الشعب قد كشفت لنا عن حقيقة آرائه وآماله، وعرفنا من جهة أخرى أن هنالك ضمير الشعب كثيراً من العناصر التي يجب تأييدها. وقد عولنا على أن نعمل باسم المصالح التي أخذ الشعب يشعر بها؛ وليس باسم النظريات(218/13)
الخالصة. وقد رأينا سبيلنا العملية إلى ذلك أن ندبر مؤامرة لأحداث انقلاب حكومي؛ ونظمنا لذلك القوى الثورية أتم تنظيم. وقد كانت مهمتي الشخصية ومقصد حياتي أن أخدم الصالح العام. وعملت لذلك طويلاً بالوسائل السلمية ولكني أيقنت في النهاية أن الالتجاء إلى العنف أمر محتوم).
(للبحث بقية - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(218/14)
خذ الحق واترك الباطل
اليابان والإسلام
المساعي لتحقيق إنشاء الدولة الآسيوية العظمى
مترجمة عن جريدة الوقت الهولندية
لقد عرفت اليابان بشدة تمسكها بلغتها ونزعتها القوية للبقاء على ما قد وجدوا عليه آباءهم خصوصاً فيما يتعلق بدينهم ومعتقداتهم؛ ولكن الذي يبعث على الدهشة والاستغراب هو موقفهم الآن تجاه الدين الإسلامي وانتشاره الرائع في بلادهم. ففي مدة قصيرة جداً صار لهذا الدين اتباع ومعتنقون كثيرون؛ والأغرب من ذلك أن هؤلاء كان جلهم من أهل الوجاهة والسلطة. إن عددهم الآن في الحقيقة لا يستحق أن يقارن بعدد معتنقي الأديان الأخرى، إذ أن البوذويين يبلغون ما يقرب من الأربعين مليوناً، والشنتويين يناهز عددهم الستة عشر مليوناً، ولكن إذا راعينا حداثة دخول هذا الدين بينهم وجدنا أن عددهم لا يستهان به. ولكي نعرف تماماً أهمية هذا الدين عندهم فلنتصفح أوجه الحوادث الأخيرة التي طرأت على تلك الحركة، وبعد ذلك يكون سهلاً علينا أن نستنتج هل كان دخولهم ورغبتهم فيه بدافع الميل الديني الخالص أم كانت هناك أسباب أخرى ألجأتهم إلى ذلك.
إلى منتصف سنة 1934 لم يكن في اليابان أية دعاية إسلامية تستحق الذكر، ولم يكن هنالك أقل رجاء بأن سيكون لذلك الدين ما لنهضته الموجودة الآن. نعم قد سمع من بعض الأجانب تصريحات بوجوب إيجاد تلك الدعاية. فمثلاً من قبل 18 أو 20 سنة مضت تكونت بسعي بعض الترك والتتار والهنود والسوريين وكذلك بعض اليابانيين جمعية جعلت مهمتها نشر الدين الإسلامي في جميع أنحاء آسيا الشرقية، ثم إنه يوجد في الأماكن المجاورة للموانئ مسلمون أجانب جاءوا إليها بقصد التجارة لسبب انتشار تجارة اليابان. وهؤلاء قد بدءوا بالدعوة سرّاً بين أفراد اليابانيين، فأنسلخ كثيرون منهم عن ديانتهم القديمة. وهكذا بقيت هذه الدعاية في طي الخفاء إلى انتهاء سنة 1934. وفي 11 أكتوبر سنة 1934 أفتتح أول مسجد في كوبا، وكان عدد الحاضرين يوم الافتتاح لا يتجاوز ثلاثين رجلاً منهم روسيون وهنود. ولم تتحقق إقامة هذا المسجد إلا بعد أن تقدمت طلبات حارة(218/15)
من جانب المسلمين إلى الحكومة، لأنها في بادئ أمرها رفضت رفضاً باتاً أن يبنى مسجد إسلامي على أرض يابانية بوذوية. وكان ذلك يوماً مشهوداً ألقى فيه رئيس جمعية نشر الديانة الإسلامية السيد ميان عبد العزيز خطبة حماسية. ومن هنا بدأت الدعوة جهراً وظهرت تلك الحركة في أبهى مظاهرها. أما السبب في بناء المسجد في كوبا دون العاصمة فذلك راجع إلى أن المسلمين هنالك كانوا أكثر عدداً ونشاطاً. ومعظم هؤلاء من التتار التركمان الذين فارقوا الأراضي الروسية في إبان مطاردة الروسيين
بني هذا المسجد الفخم بأموال الأغنياء المتاجرين وشيدت بجانبه مدرسة إسلامية. ثم ظهر من جانب الحكومة أسفها على طول تمنعها من الأذن لهم بذلك. فأرادت أن تبرر موقفها بالعمل مع المسلمين على تعميم هذا الدين في أقرب وقت ممكن. ففي يوم افتتاح ذلك المسجد نشرت إحدى الجرائد اليومية الكبرى (أوسكامينخي) مقالة مسهبة عن انتشار الإسلام في جميع أنحاء المعمورة، وأهابت بالأمة اليابانية أن تضم نفسها إلى هذه الرابطة المتينة. ثم بين الكاتب أن هناك شبهاً في العادات بين المسلمين واليابانيين، من ذلك خلعهم لنعالهم عند دخول الأماكن المقدسة، وغسل القديمن، ثم غسل اليدين قبل كل أكلة. وقد تحاشى الكاتب مقارنة المسائل الجوهرية في هذين الدينين كالتوحيد وتعدد الزوجات وما أشبه ذلك
ثم تأسست في أول سنة 1935 جمعية إسلامية أخرى في عاصمة اليابان. وقد أسست بفضل الترتاري السيد عبد الحي. نالت هذه الجمعية الناشئة مساعدات جمة من عظماء البلاد وأصحاب السلطة فيها، ولم يمض عليها حين من الزمن حتى انضوى الألوف من اليابانيين إلى لوائها، معظمهم من أرباب الوظائف العالية وكبار الرأسماليين وأصحاب الأمر في الجيش. وقد جعلت غايتها درس المدنية الإسلامية ومدنية البلاد الإسلامية العصرية، ثم توثيق عرى المودة بين بلادهم وبين تلك البلاد.
وفي إحدى الحفلات التي أقاموها وحضر فيها أعيان البلاد ووزراؤها ألقى أحد أمراء التتار كلمة بليغة في فضل الإسلام وخاض في موضوع تفسير (ترجمة) القرآن إلى اللغة اليابانية وذكر لهم عظم انتشار الإسلام في الشرق أجمعه (وقد تم الآن هذا التفسير وطبع منه آلاف النسخ التي وزعت على ألوف اليابانيين) ثم ألقى فيلسوفهم أوهارا كلمة بليغة عن هذا الدين(218/16)
الجديد (عندهم) وأشار بصفة خاصة إلى أن الإسلام مع ما فيه من اليسر والبساطة محتو على كثير من الحكم الحقة، وأختتم كلامه بأن قال: (إنه يرى الدين الإسلامي أوفق الديانات وأليقها بالأمة اليابانية)
الحكومة اليابانية الآن تعتبر الدين الإسلامي ديناً معترفاً به اعترافا رسمياً. فقد وعدت تلاميذ المدارس الإسلامية بإمكان التحاقهم بالمعاهد والكليات العلمية التابعة للحكومة، وأذنت للمسلمين بشراء الأراضي لإقامة المعاهد الإسلامية. ولم يقف إحسانها إلى المسلمين عند هذا الحد، بل فرضت لهم مساعدة مالية، وجلبت لهم أساتذة وعلماء من الأزهر الشريف بمصر لتلقين من يحبون من اليابانيين دراسة القرآن؛ ودعت إلى بلادها الدعاة المسلمين للتعاون على إكثار عدد المسلمين الذين قد بلغوا عشرين ألفاً. كل هذا وقع عند انتهاء سنة 1935. وفي شهر إبريل من هذه السنة نفسها شيد بمعاونة الحكومة مسجد آخر في توكيو. وهنا ألقى السيد ميان عبد العزيز خطبة بليغة سياسية جاء فيها قوله: (إن اليابان قد وفقت الآن لسلوك الطريق المؤدي إلى إنشاء الدولة الأسيوية العظمى، وسيكون الإسلام في طليعة هذه الحركة).
لم تكتف الحكومة بكل هذا التنشيط لهذه الحركة الجدية، بل قررت في سنة 1936 عقد مؤتمر إسلامي في توكيو، فكم بهذا قد أسدت إلى الإسلام من خدمات! وقد رفع الشاعر الكبير السيد عبد الرحيم بك قليلات تقريراً ضافياً عما رآه وشاهده أثناء مكثه في تلك البلاد من ازدياد نمو تلك الحركة. من كل هذا نرى دون مبالغة أن البلاد اليابانية حقاً هي الأرض الموعودة للدعاة المسلمين، ونرى أنهم أتوا في الوقت المناسب للقيام بمهامهم. والظاهر أن الحكومة اليابانية تحبذ كل شيء ينتسب إلى الإسلام. وحسبك ما ذكرناه دليلاً
ثم لنر الآن ما هي البواعث على إنماء الحركة الإسلامية في بلاد مثل اليابان؟. أما من ناحية المسلمين فالأمر بين، وذلك سعيهم لتعميم الإسلام في جميع البلاد الآسيوية. وقد ظهرت بوادر هذه الحركة من بعد الحرب العظمى؛ وظاهر هذه الحركة عند العامة مسألة دينية مخضة، ولكن الزعماء يقصدون من ذلك مقصداً آخر سياسياً. فأن الرئيس بقوله: (إن اليابان الآن في طريقها نحو تحقيق إنشاء دولة آسيوية عظمى الخ) قد نحا منحى سياسياً محضاً.(218/17)
أما الأمة اليابانية فأنها تعلل الباعث لها على ذلك بأنه هو حبها للتسامح مع الأديان، كما صرح ساستها به مراراً ونطقت بذلك قوانينها. فالحكومة تتصنع التظاهر بذلك والساسة البارزون ورجال الحربية وغيرهم يظهرون ميلهم إليه لبساطة تقاليد هذا الدين ويسره متأثرين بقول فيلسوفهم أوهارا عندما أكد لهم ذلك في خطابه:
ولماذا لم تجب الحكومة مطالب المسلمين في بادئ الأمر؟ قد تساءلت عن ذلك الجرائد اليابانية نفسها فأنكرت أولاً أن تحول الأمة نحو الإسلام بسبب إحساس عام طرأ على أفرادها، وكان الذي حملها على ذلك القول هو توجه تلك الأمة بأجمعها نحو ذلك الدين عند افتتاح مسجد كوبا ودرس القيصر نفسه للقرآن. ثم عللته بعد ذلك بأنه إنما هو نتيجة تأثير الدعاية التي قام بها المسلمون القاطنون فيها، ولكن للتأثير عليهم بذلك يلزم مضي وقت طويل، إذ أن اعتناق دين جديد عند اليابانيين أصعب منه عند الأوربيين، فدخولهم فيه لم يكن بسبب شعور قومي عام ولم يكن كذلك بدافع الاعتقاد الديني الخالص.
إذا فكر المرء قليلاً ونظر إلى مطامع اليابان في بلاد الصين وما حواليها من البلدان الآسيوية التي يقطنها 260 مليوناً مسلماً - ويوجد في غرب بلاد الصين 30 مليوناً مسلماً - ثم إلى سياسة المسلمين الذين يدمجون كلمة تعميم الإسلام في كلمة توحيد الآسيويين، وقابل بين هذا وبين محاباة اليابان وتحبيذها لتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم ومحاباة زعمائها، وعلاوة على ذلك أن أغلبية المحبذين لها هم من السياسيين البارزين ورجال الحربية والرأسماليين الكبار - لاستنتج معنا أن تلك المحاباة لم يقصد منها إلا تحقيق مطامعهم السياسية وأمانيهم في الإمبراطورية الآسيوية العظمى. ولم يكن اختيارهم للدين الإسلامي لمزية فيه لا توجد في غيره من الأديان، بل إن كل دين عندهم من هذه الوجهة في درجة واحدة، إلا أن الإسلام تميز عن غيره بكثرة المعتنقين؛ واليابان تؤمل بهذا وجود جبهة قوية لها أمام الأشتراكية، ورابطة متينة لبناء الوحدة المزمع إنشاؤها.
أما كون الحكومة في السنتين الأوليين لم توفق إلى تلك النظرية - أو أنها لم ترد الاعتراف بها - فذاك بحث آخر؛ ويحتمل أن يكون لزعماء المسلمين يد في حملها على الاعتراف بنظرية نشر الدين الإسلامي لترويج تجارتها في تركيا وفي أواسط آسيا. وقد وفقت إلى ذلك وقدرت على مزاحمة الصادرات الأوربية ونالت إقبالاً كبيراً من البلاد الإسلامية كبلاد(218/18)
العرب والأفغان وإيران. وما دامت اليابان ترى حاجتها في الإسلام للوصول إلى تلك الأغراض فضررها سيكون بليغاً على الديانة النصرانية.
إن الإسلام يعقد في مساعدات اليابان له أماني ذهبية، واليابان بدورها تنتهز هذه الفرصة لإشباع مطامعها السياسية والتجارية. وقريباً يظهر هل تلك الأمة حقيقة راغبة في اعتناق ذلك الدين، أو يظهر ما أخفته وراء تلك المجاملات.
(المرشد - سورابايا)(218/19)
من تاريخ الأدب المصري
أحمد بن يوسف
المعروف بأبن الداية
للأستاذ محمد كرد علي
(لاحقة)
ليس ما نشرته (الرسالة) لي في عدد 215 هو كل ما عُرف من أخبار أحمد بن يوسف الكاتب. فقد ذكر من ترجموا له أن أباه يوسف بن إبراهيم كان من ذوي المروءات التامة والعصبيات المشهورة، وأنه كان كاتباً مجيداً يعد من كتاب الطبقة الأولى، وأنه ولد داية أبن المهدي، وكاتب إبراهيم بن المهدي ورضيعه وصاحبه، وأنه صنف كتاباً في أخباره وفي أخبار المتطببين وغير ذلك، وأنه قدم دمشق سنة 225، ولعلها كانت سنة هجرته من بغداد إلى مصر. وذكروا أسماء من روي عنهم ورووا عنه؛ وممن روي عنهم من غير المسلمين جبرائيل بن بختيشوع الطبيب وعيسى بن حكم الطبيب
وكان يوسف بن إبراهيم من أصحاب الثروة يجري على كثرين في الفسطاط. ولما حبسه أبن طولون في (بعض داره، وكان اعتقال الرجل في داره يؤيس من خلاصه، فكاد ستره أن ينتهك لخوف شمله عليه) جاء جماعة من أبناء الستر إلى أحمد بن طولون وطلبوا إليه أن يقتلهم إذا كان معتزماً على قتله، وقالوا إن لهم ثلاثين سنة ما فكروا في ابتياع شيء مما احتاجوا إليه ولا وقفوا بباب غيره. وفي الساعة التي توفي فيها يوسف بن إبراهيم بعث أحمد بن طولون أيضاً بخدم فهجموا الدار وطالبوا بكتبه (مقدرين أن يجدوا كتاباً من أحد ممن ببغداد، فحملوا صندوقين وقبضوا على أحمد وعلى أخيه، وصاروا بهما إلى داره، فأدخلوهما إليه وهو جالس وبين يديه رجل من أشراف الطالبيين، فأمر بفتح أحد الصندوقين، وأدخل خادم يده، فوقع على دفتر جراياته على الأشراف وغيرهم، فأخذ الدفتر بيده وتصفحه، وكان جيد الاستخراج، فوجد أسم الطالبي في الجراية، فقال له وأحمد يسمع: كانت عليك جراية ليوسف بن إبراهيم. فقال: نعم أيها الأمير، دخلت هذه المدينة وأنا مملق، فأجرى عليّ في كل سنة مائتي دينار، أسوة بابن الأرقط والعقيقي وغيرهما. ثم(218/20)
امتلأت يداي بطول الأمير فاستعفيت منها)
هذا الوالد هو الذي أنجب أحمد بن يوسف. وأنت ترى أن أحمد بن طولون كان يتخوف منه، لمكانته واتصاله الوثيق بالبيت العباسي وربما وقع في خاطره أنه عينٌ عليه، في زمن كان فيه أبن طولون يرمي إلى نزع يده من الخلفاء وتأسيس ملك في مصر يكون له ولعقبه على عنق الدهر.
ولذا كان أبن طولون حذراً يقظاً وقد أتخذ أساليب مهمة لأخذ الأخبار، واتقاء عادية كل من طرأ على مصر، وعنده أن كل غريب يجعل تحت الترقيب، ولا سيما إن كان عراقياً أو يمت إلى السياسة بأدنى سبب.
تثقف أحمد بن يوسف ثقافة أبناء الأعيان في عصره، فجاء كاتباً شاعراً رياضياً منجماً أو هو كما وصفوه (مجسطي إقليدسي) حسن المجالسة والعشرة تام المروءة كأبيه، وصار له اتصال دائم بأرباب الدولة ومنهم عظماء في الأدب والكتابة والفقه والطب والهندسة والفلك لم تتعرض كتب التراجم لهم، مثل على المتطبب المعروف بالديدان وقال فيه إنه كان (حسن المعرفة لكتب أفلاطون ورموزه ومبرزاً في الطب) وكان على صلة بالمهندسين واستفدنا من كلامه أنه كان لهم في بغداد موضع يجتمع فيه وجوه العلماء بالهيئة والهندسة في دار العباس بن سعيد الجوهري ترب المأمون
ولم نعرف حقيقة الديوان الذي كان يعد من كتابه أو من رؤسائه، فأن أبن النديم وصفه في الفهرست بالمهندس المصري، وقال إنه فسر كتاب الثمرة، وكتاب الثمرة من تأليف بطليموس أما سائر كتبه فقد ذكر منها ياقوت في معجم الأدباء طائفة صالحة، ومنها سيرة أحمد بن طولون وسيرة أبنه خُمارَوَيْه وسيرة هارون أبن أبي الجيش، وأخبار غلمان بني طولون، وكتاب أخبار الأطباء، وكتاب مختصر المنطق ألفه للوزير العالم الكاتب العف علي بن عيسى، وكتاب ترجمته، وكتاب أخبار المنجمين، وكتاب أخبار إبراهيم بن المهدي، وكتاب الطبيخ. وكل هذه الأسفار فقدت، ولولا أن عثر له في الأعوام الأخيرة على كتاب (المكافأة) بل على جزء منه لغطى الزمن على فضل أحمد ونبوغه في الكتابة أيضاً. وكم من رجل سدل على صيته القناع بعد قليل من رحيله لفقد ما كتبه وقلة أنصاره، وربّ رجل تضاعفت شهرته في مماته أكثر من حياته لإغفال حساده أمره بعد موته ولكثرة(218/21)
من أشادوا بعلمه وأدبه وإبداعه.
وإذا كتب لأحمد بن يوسف أن تدرس حياته وأدبه دراسة أدبية، وتهيأ لبعض المتفرغين من الباحثين أن يجمعوا طائفة من كلامه، وهو قليل في المطبوعات التي بين الأيدي، ولا يبعد أن يعثر له على أشياء في بعض المخطوطات - يسهل على نقاد الأدب أن يسلكوه مع سمّيه أحمد بن يوسف الكاتب وزير المأمون في سلك واحد، وربما يثبت لهم أن أحمد بن يوسف المصري أوسع علماً من سميه البغدادي بما أصابه من الحظ العظيم من الثقافة التي تنم عليها أسماء مصنفاته فقط. وكيف لا تتأفق شهرة الكاتب البغدادي واتصاله كان بأعظم خليفة، وكيف لا تضؤل شهرة الكاتب المصري وصلته كانت ببيت يعد في عرف السياسة يومئذ خارجاً على الخلافة؟ وبغداد في ذلك العصر يحمل إليها كل جميل ويعد ما يحمل منها جد جميل
إن كتاب (المكافأة) بأسلوبه ورشاقة بلاغته من أبلغ ما كتب كتاب العرب في القصص، يشبه أسلوب أبن المقفع فهو من غراره في السلاسة وعدم الكلفة. وقد نقل فيه شيئاً من القصص عن والده وعن رجال البلاط الطولوني وغيرهم وعن أبن المقفع وقال إنه (مما نقله أبن المقفع عن الفرس وتعالمه العرب)
روي لي أحد أصدقائي أن حافظ إبراهيم (رحمه الله) أستظهر هذا الكتاب في سنة نشره وقال لي الأستاذ عبد العزيز البشري إنه قرأه ثلاثين مرة وما أرتوي من ديباجته. لا جرم إن بلاغة أحمد بن يوسف من النوع الذي لو راهنت على أنه ليس في وسع جهابذة النقد أن يسقطوا لفظة من جملته لربحت الرهن، وصدقك الأدباء في قولك بتفرده في أسلوبه، وأنه بلا جدال المفرد العَلَم بين من أنبتتهم مصر من الكتاب في الدهر الغابر
وبعد فمن عجيب ما فهمناه من حياة أحمد بن يوسف أنه كان يحاذر محمد بن سليمان لما دخل مصر في سنة 292 للقضاء على الدولة الطولونية، وكان يستدعي (الواحد بعد الواحد من أسباب الطولونية ويستصفي ماله بالسوط وعظيم الإخافة). وكان الطولونيون يعرفون أن هواه مع بني العباس بالطبيعة ويراقبون حركاته، وما ندري وهو الذي جمع سيرة دولتهم ورجالها إن كانوا راضين عما كتب أم غير راضين؟ لأن حرية القول ظاهرة في كلامه من كتاب المكافأة، ولا شك أن سائر ما دونه من تاريخ القوم من هذا النمط. مات(218/22)
أحمد بن يوسف سنة نيف و 330 وقال ياقوت وأظنها 340
وسواء صحت الرواية الأولى أو الثانية فإن الظاهر أن أحمد أبن يوسف عُمّر طويلاً لأنه يروي عن رجال عرفهم في أيام أحمد بن طولون، وهذا هلك في سنة 272 والظاهر أنه كان صاحب مزارع انتقلت إليه من أبيه ومنها ما كان على مقربة من المحلة الكبرى
محمد كرد علي(218/23)
الظاهرة الهامة وتأويلها
للأستاذ محمد أديب العامري
من الناس من يموت فجأة، فهذا يقف قلبه عن النبض لتوقف الأعصاب التي تحركه، فلا يصل الدم إلى أجزاء ألجسم، فتهبط الحرارة ويقف الغذاء ويسكن الجسم، ثم ينحل من بعد. وهؤلاء لا يعانون دور النزع الذي يسبق انقطاع المرء عن الحياة؛ ومن ثم لا يصاحبهم بالطبع هذيان النزع الأخير،
ومن الناس من يموت متدرجاً ببطء شديد؛ فإذا تقدم في السن إلى حد بعيد تصلبت أوعيته الدموية، وتيبست عضلاته، وتعب جهازه العصبي، وأضاع كثيراً من رشده. ومن المعتاد في مثل هؤلاء أن يفقدوا شيئاً من قواهم الشعورية التفكيرية قبل موتهم بأشهر، بل بسنين؛ فيصرحون بأشياء لا يصرح بها الإنسان السوي عادة، ويتحدثون أحاديث تحمل الناس على اعتبارهم مجانين، أو أشباه مجانين.
ولكن أكثر الناس يموتون في فترة، لا هي قصيرة كالفجائية، ولا هي زائدة الطول كما هو الحال في (الموت التدريجي). فهؤلاء يقعون في المرض فيؤثر المرض على بعض أجزاء أجسامهم؛ وهم أثناء ذلك يحتفظون بقواهم العقلية من شعور ووعي وتفكير؛ فإذا أستفحل المرض أثر على الجهاز العصبي فعطل قوته الواعية (الشعور) وتحكم في المريض جزء آخر من قواه العقلية، وهذا الجزء هو المسئول فيما أعتقد عما يظهر على المريض من هذيان.
وقبل أن نتوسع في شرح ما يقع للمريض في هذه الحالة وحالة (الموت التدريجي) أحب أن أتعرض قليلاً لعمليات العقل الإنساني، ففي هذه العمليات التأويل المرجح لظاهرة الهذيان التي تسبق الموت.
عقل الإنسان هو عبارة عن قواه المدركة التي يسميها علماء النفس (الشعور) مضافاً إليها قواه الفكرية الأخرى التي يسمى بعضها (شبه الشعور) ويسمى بعضها (اللاشعور) أو (العقل الباطن). فعندما تكتب مقالة فأنت تفكر تفكيراً عنيفاً مقصوداً وموجها، وهذا العمل نوع من الأعمال الشعورية وعندما تحل مسألة رياضية أو عقلية فأن عملك هذا يعتبر من نوع الشعور كذلك. والأعمال الشعورية التي يعملها الإنسان قليلة وإن ظهر أول الأمر أنها(218/24)
كثيرة. أما المشي فمن أعمال المرء شبه الشعورية. فإنك عندما تقصد من بيتك إلى السوق تطلق رجليك دون تفكير شعوري واع في الشوارع والمنعطفات. وآية ذلك أنك تستطيع أن تقوم بعمل عقلي شعوري أثناء المشي، وعمل اللاشعور من أعمال العقل التي نظن عادة أنه أقلها أهمية ولكنه في الواقع أكثرها إشغالاً لقوانا العقلية وأكثرها دلالة على حقيقة شخصياتنا. فأنت تكون تعمل عملاً شعورياً متعباً فلا يلبث تفكيرك أن ينصرف إلى أفكار خيالية بعيدة الوقوع. فأنت ترى نفسك وقد غنيت أو امتلكت أملاكاً عريضة، أو تزوجت من فتاة جميلة، أو حصلت على شهادة عالية وأنت لابث مكانك لم تنفض يدك من عملك. وتنصرف حالاً إلى الانتقام من خصومك أو التحبب إلى أصدقائك على نحو لا يتأتى لك حين تفكر في أساليب هذا الانتقام أو التحبب ويقع ذلك أثناء اليقظة وتسمى هذه الأفكار (أحلام النهار) فإذا ما نمت تعطل معظم التفكيرين الشعوري وشبهه وأنطلق اللاشعور يعمل عمله. فأنت في النوم طائر مرة، محارب أخرى، مسافر ثالثة. وبالجملة يقع لك ما كنت ترغب في تحقيقه فأمتنع عليك فأنشغل به اللاشعور بعد أن أعرض الشعور عن حمل المرء على تحقيقه. وأهم ما يجب أن يعرف من هذا هو أن (أحلام النهار) والأحلام العادية وعمل النفس اللاشعوري إنما يكون أهمها في رغبات الإنسان المكبوتة، وما كان يعمله لو أتيحت له الوسائل. ومن هنا ترى أن أكثر أعمال المرء في يقظته ونوعه إنما هي أعمال لا شعورية
والذي يلاحظ المريض المقبل على الموت يرى أنه ينتقل من وعيه الكامل إلى هذيانه شيئاً فشيئاً، فهو يهذي بادئ الأمر شيئاً قليلاً بينا يتخلل هذيانه تفكير واع، ثم يتمادى في الهذيان حتى يطغى الهذيان عليه، فلا يكون كلامه إلا خليطاً لا يتصل بالشعور أو شبهه بسبب. والإصغاء إلى المتوفى في هذه الحالة دراسة مهمة لشخصيته وتفكيره ومتاعبه. لأنه يفكر آنئذ بلا شعوره ويعطيك نفسه غير مغلقة ولا مصطنعة. والأرجح أن جميع ما يصدر عن المريض له تعليل على هذا الأساس، أي أن هذيانه تفكير لاشعوري.
وأحسن ما تشبه هذه الحالة بالنوم، فالنوم في الواقع شبه موت مختصر، تثور فيه رغبات المرء المكبوتة ومخزونات اللاشعور العديدة على صورة أحلام. والذين تجري أحلامهم على ألسنتهم أثناء النوم يتحدثون حديثاً يشبه الهذيان. على أن هذا الهذيان نفسه أصح دلالة(218/25)
كما قلت على نفسيه النائم مما يصرح به أثناء وعيه الكامل عن شعور محكم مضبوط. ولهذا يعمد المحققون إلى مثل هذه الحالات ليعرفوا منها أسراراً يقصدون إليها. وهم لذلك يلجئون إلى طرق طبية خاصة توصلهم أحياناً إلى أغراضهم.
وأصغ إلى هذيان المريض تجد أنه يحدثك عن أهم المشاكل التي كانت تعترضه في حياته. ويساعدك على تحقيق هذا معرفة بالمريض تكون قد أطلعتك على أحواله الخاصة. ومع أن هنالك ما يؤيد أن المريض إذا أقبل على الموت عرف ذلك، فأن هذا لا يدل على أن المريض يرى شيئاً من الحياة الثانية ويتحدث عنه، إلا إذا كان هو من شديدي الإيمان بهذه الحياة والعناية بها والتحدث عنها بحيث أنها تشكل في عقله قسماً من أفكاره اللاشعورية التي يتحدث عنها وهو يهذي. ونحن هنا يجب أن نلتمس التأويل الممكن لحديث بعض المحتضرين عن أناس توفوا قبل.
فما قيل من أن مختضراً (كان يتحدث إلى الموتى كما لو كانوا منه على مرأى وعلى مقربة) سهّل التأويل على أساس نظرية اللاشعور. وأما أن هنالك (حالات هتف فيها المحتضر باسم شخص مات ولم يكن المحتضر يعرف أن ذلك الشخص قد مات) فقول يحتاج بعد إلى تحقيق شديد. فالمرء قد يختزن في لا شعوره معلومات لا تكون في متناول شعوره دائماً، فهو ينكر معرفتها في حال وعيه وشعوره في حين أنها ترد على خاطره حين يتيه فكره لا شعورياً، فلا يكفي قول رجل لك عن أمر إنه لا يعرفه دلالة على عدم معرفته، إذ المرء نفسه قد يجهل أنه يعرف شيئاً مختزناً في اللاشعور.
وإذا أريد الوصول إلى قرار علمي صحيح في هذه الظاهرة فلا يجب أن تحمل أقوال المحتضر على شيء خاص حين يمكن حملها على معانٍ طبيعية عادية. فقول مريضة محتضرة عن شقيقة لها سبقتها إلى الموت دون أن تعلم (انظروا هذه هي شقيقتي إنها تقول أنها ستكون معي. لماذا لم تخبروني بذلك؟) قول لا يدل دلالة قاطعة على أن الشقيقة المحتضرة عرفت قبيل موتها عن موت أختها، كما يتضح من التآويل التي يمكن أن يؤولها هذا الكلام بصورة طبيعية، أن العمْد إلى تآويل روحية غير مستندة إلى ما يعتمد عليه العلم من وسائل الإثبات لا يزيد إيضاح هذه الظاهرة شيئاً، بل يزيدها تعقيداً
هذا - ولا ريب أن المريض يعرف قبل الموت بزمن، قصر أو طال، بأنه سيموت.(218/26)
والرجل المسن الذي يرى قواه العقلية تنحط وقواه الجسدية تذهب، هو رجل يموت في الواقع، وهو يعرف أن انحطاطه هذا آيل به إلى الموت. فعندما يقع خلل في أحد أجهزة الجسم المهمة يتحقق الموت ولا سيما إذا كان عالماً بشيء من طبيعة الحياة. والإنسان المريض الذي يقبل على الموت يعلم قبيل موته في الغالب أنه سيموت، لأن الانحطاط الشديد الناتج من اختلال العمل في بعض الأجهزة كما مر لابد وأن يشعر المرء إشعاراً داخلياً بيناً بأن الخيط الذي يصله بالحياة وشيك الأنبتات، فلعل هذا هو الذي ينقله إلى التفكير اللاشعوري في الحياة الثانية وفي معارفه الذين سبقوه إليها.
(عمان)
محمد أديب العامري
مدير مدرسة عمان الثانوية(218/27)
فردريك نيتشه
للأستاذ إبراهيم إبراهيم يوسف
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وفي سنة 1874 كتب نيتشه في مذكراته (إن ديني - إن كان لي بشيء يصح تسميته بذلك - لا يتعدى العمل لمنتجات العبقرية. أما الفن فهو التربية التي تحقق ما نأمله في الحياة وبذلك تهون علينا الحياة بما فيها من ألم.) وذكر نيتشه في نهاية الجزء الرابع من كتابه (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد) في فصل (عن روح الفنان والأديب) كلاماً بلهجة اليائس، إذ أعتبر الفن في تدهور وانحلال - ولعله كان يتحدث في ذلك عن نفسه بالذات. فقد حمل نيتشه على الفنانين الذين يحجمون عن النظر إلى المثل العليا، ويكتفون بالنظر إلى أعمالهم فقط. ولهذا أنقلب على الفنانين وراح يمجد العلماء الذين يعملون للفكر، فكل عالم أصبح في نظره (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد). وهكذا بدأ يشيد بسقراط الذي كان قد نعته من قبل (بقاتل التراجيديا) وأتخذه مثلاً أعلى له.
وعد نيتشه بعد كتابه الأخير من الحكماء البلغاء القابضين على ناصية المنطق والخيال والقول الحكيم. وكان في جده صارماً وفي لذعه قارصاً وفي مزحه ظريفاً. وهو إذا ما غضب بلغ حد الغضب، وإذا ما عمد إلى اللعب نسي نفسه، وإذا ما رقص تفانى في الرقص، وكان الرقص أحب الأشياء إلى نفسه. وكان نيتشه يرى في نفسه رأس حكماء الألمان ويعتقد بأن أسلوبه هو الأسلوب الخالد، إذ في وسعه أن يكتب في عشرة جمل ما لا يكتبه غيره في كتاب كامل. وكان قد قرأ من الألمان ليشتنبرج (هينه) ومن الفرنسيين مونتاني وفونتنل وشامفور وغيرهم. وكان يجد للفرنسيين آراء صادقة لم تجتمع في كافة كتب الفلاسفة الألمان.
وتخطى نيتشه في سنة 1881 تلك الأزمة التي عاجلته بعد كتاب (إنساني وإنساني إلى أبعد حد) وكتاب (آراء وحكم مختلفة) وكتاب (الهائم وظله) وأحس بأنه قد أسترد قواه الجسمانية والروحية بعد أن جال في التيرول وفي جبال الألب وفي شمال إيطاليا.(218/28)
ورأي نيتشه أن الحياة تفتحت له من جديد، إذ أخذ يدرك الأشياء على حقيقتها بعد أن زال عنه الغشاء. وقد أدى به تجواله إلى هيامه بتلك البلاد الجنوبية هياماً ضارع حبه لوطنه. ومن ثم أصبح شخصاً آخر لا يؤمن بوطن خاص، وصار (أوربياً) لا يفرق بين شعب أو وطن، حتى لقد قال (لكي تكون ألمانيا صادقاً، يجب أن تنتزع النعرة الألمانية من صميمك). كذلك قال: (إن الألمان هم رجال الأمس البعيد وسيصبحون رجال الغد البعيد، أما أنهم رجال اليوم فلا!) وما ذلك إلا لتعهدهم بتربية العاطفة بدلاً من تعهدهم تربية الفكر. وألمانيا في اعتبار نيتشه أحط مستوى من بقية دول أوروبا في الناحية الثقافية. ولم يشعر نيتشه بأنه ألماني إلا بالقدر الذي تسمح به طبيعته (الأوربية الصادقة) فهو ألماني كما هو بولوني أو أيطالي أو غيرهما. ولعل حياته الأولى ومحيطه الذي عاش فيه ساعداه على أن يكون ذلك الرجل
وإذا كانت أعمال (أفلاطون) و (أسبينوزا) و (بسكال) و (روسو) و (جيته) قد أحدثت تطورات في الفكر البشري كما يقول نيتشه فأن كتاب (شفق الصباح) الذي أخرجه نيتشه عام 1882 وجعل له عنواناً آخر هو (أفكار عن الأحكام الخلقية) أحدث هو الآخر تطوراً في الفكر البشري. وفيه عالج المسائل الأخلاقية، فمثلاً كتب عن العادات المستحبة. وتساءل: ما هي العادة التقليدية؟ فقال بأن العادة التقليدية هي الخضوع إلى ما يضاد العادات الغريزية. وقال بأن على الناس أن يتعلموا من جديد، وعليهم أن يرفضوا ما أتفق عليه العالم من عادات تقليدية، إذ لا يوجد (عدل أبدي)، ولهذا فهو ثائر على كل اعتبار، حتى الاعتبارات الدينية المسيحية. وأعقب كتابه هذا بآخر عنوانه العلم المرح وقد حاول فيه أن يحرر الإنسان من قيوده المكبل بها، ويبعده عما لحق به، كيما ينتعش فكره. ولم تمض أربع سنوات أخرى حتى أخرج كتاباً آخر عنوانه (لغة الريح الساخن) (الذي من شأنه أن يذيب الثليج) - والكتب الثلاثة الأخيرة تمم بعضها بعضاً. وفيها من غريب الآراء في الأخلاقيات ما لا يصح تلخيصه في مثل هذه العجالة.
وعثر نيتشه في قراءاته على (زرادشت) فيلسوف الفرس الأقدم ومعلمها الأول والحكيم الخالد الذي عالج كل مسألة. فأتخذ من أسمه شخصية تملى على الناس آراءه الخاصة. فأصدر في فبراير سنة 1883 الجزء الأول من كتاب (زرادشت). ولم يكن نيتشه في(218/29)
حاجة إلى أكثر من عشرة أيام لوضعه، فجاء في أسلوب من الشعر المنثور الذي لا يجارى. وكتب كتابه هذا أثناء تجواله في طريق (زاوجلي) الذي يطل على خليج (رابللو) بالقرب من (جنوه) هنالك نزل على نيتشه وحي ذلك الكتاب الذي أختار له أسم (كتاب للجميع ولغير أحد) وجعل له عنوناً آخر (هكذا قال زرادشت) , كذلك أتم الجزء الثاني والثالث منه في عشرة أيام أخر. فكتب الجزء الثاني في بلده (سلز ماريا) بين أواخر يونية وأوائل يولية من عام 1883 وأتم الجزء الثالث في يناير سنة 1884 في مدينة (نيس). أما الجزء الرابع الذي كتبه لأصدقائه فقط فقد أقتطع من وقته زمناً أطول. وكان نيتشه أثناء وضع هذا الكتاب على أتم ما يكون من عافية وصحة. وكان لا يسأم السير في الجبال التي كانت توحي إليه بكل ما يكتب كما أن البحر الممتد أمامه كان له أثر في ذلك الوحي. ولقد كتب (زرادشت) كما لو كان يرقص أو يلعب. فقد قال بلسانه (كان من السهل أن يراني الناس راقصاً. وكنت لا أعرف للتعب معنى. فقد سرت في الجبال عدة أيام، وفي كل يوم أسير سبع أو ثماني ساعات متوالية، وكنت أنام ملء جفني، وأضحك من كل قلبي. لقد كنت مستكمل كل معدات الحياة والفكر صبوراً. وكان هذا العهد يختلف عن تلك الأيام التي كتب فيها (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد) اختلافاً كلياً
وكم كان نيتشه شكوراً في كتابه الرجل الطيب الذي أتى فيه بشيء من مذكراته لعام 1888.
ويعتبر كتاب (زرادشت) الذي وضعه نيتشه في رأي بعض النقاد ومنهم بيتر جاست (من الكتب الواجب تقديسها). وقال نيتشه نفسه فيه (إنه نوع أنيق من الدعاية للأخلاقيات.) بل هو (شعور نبي). (وهذا الكتاب رقص وموسيقى، هو ألحان جميلة وحكم غالية، هو العاصفة والهدوء، هو المرح الكامل والظرف والغضب، وهو إلى جانب ذلك مرعب ومخيف، إذ فيه أسرار دفينة.) وإنه (كالغابة والليل والأشجار أي مجمع الظلام، فمن لا يخاف ظلمته سيجد فيه زهوراً ورياحين) هذه هي كلمات نيتشه في كتابه الذي كان يعجب به ويسميه (قرار المحيط). وكتاب زرادشت هذا يعد بأجزائه الأربعة صباح وظهر وعصر ومساء اليوم الذي سيولد فيه الإنسان الكامل أو السوبرمان كما أسماه. وهذا الإنسان الكامل قد تخيله نيتشه في كتابه (العلم المرح). ولهذا الإنسان وحده حق الحياة ومن أجله(218/30)
تحمل نيتشه مضض الحياة. أما الإنسان الراقي الذي تكلم عنه في كتابه (زرادشت) يختلف عن الإنسان الكامل الذي جاء بوصف له في الجزء الرابع. ولا داعي للاسترسال فإن (الرسالة) تترجمه في التحدث عما يتضمنه كتاب (زرادشت)، ونكتفي بما أشرنا إليه لنتحدث عن أسلوب نيتشه في هذا الكتاب. فقد نهج فيه نهجاً فريداً. وكان نيتشه قد كتب إلى (روده) إمام اللغة في ذاك العصر يسأله إن كان هناك في اللغة الألمانية أسلوباً يضارع أسلوبه في زرادشت من حيث القوة، وإن كان يعتقد بأن اللغة الألمانية بلغت أقصى شأوها على يدي جيته ولوتر ويقول نيتشه
(إن أسلوبي هو الرقص، هو لعب متجانس في كل أشكاله، كذلك هو القفز والاحتقار لكل تكرار) ويعد كتاب (زرادشت) أكثر كتبه انتشاراً وأبعدهم أثراً وغوراً، وفيه تتجلى شخصيته وشاعريته. وهو يقول عنه: (إن هذا الكتاب أنشودة الليل - وفي الليل تجيش كل فوراة بصوت أعلى. كذلك روحي هي الأخرى فوارة.) وقال نيتشه على لسان زرادشت متحدثاً إلى شخصه: (إنني جوال أتسلق الجبال) كذلك قال: (إنني لا أحب المنبسط من الأرض، وقد تبينت أنني لا أستطيع الهجوع إلا يسيرا. ولا أنتظر من القدر إلا أن أبقى هكذا جوالا أتسلق الجبال) وهذا الشعر الرمزي هو طابع كتاب (زرادشت) العظيم.
ولنتيشه في هذا الكتاب شاعرية فذة، فهو في بعض الأحايين يخجل من أن يكون شاعراً، لأنه قد يكذب مع علمه بكذبه، ومع رغبته في الكذب. ولهذا فهو يأبى أن يكون من طبقة الشعراء الذين لا ينظرون إلى أعماق الأشياء وأعماق الحياة. أما أنه كان ميالاً إلى التلاعب بالكلام والصور في شعره فذلك لا ينكره أحد. وكان نيتشه رومانتيكي النزعة الأدبية، ولكنه كان يأبى أن يعرف عنه ذلك، هذا إلى أنه كان عدواً لدوداً للأدب الرومانتيكي، ومع ذلك فقد كان كلاسيكياً في تذوقه للأدب. وكان من أنصار الإيضاح والتبسيط، يكره التفاصيل كما يكره التعقيد والتشكك. وكان يتذوق أدب (يونج ستلنج) وجيته وشتفتر وجيتفريد كلر وهم من غير نزعته. وكذا ظهرت هويته فيما لا يملكه.
وكان نيتشه يعمل في نفس الوقت الذي أخرج فيه كتاب (زرادشت) في تأليف كتاب آخر أظهره سنة 1886 تحت عنوان (ما وراء الخير والشر) وهو مقدمة شبه مسرحية لفلسفة المستقبل، وقال عنها نيتشه بأنها طريق ممهد لأرض زرادشت الموحشة الخطرة. وهو(218/31)
يختلف مع كانت في تفكيره إذ يتساءل: لم الاعتقاد في مثل هذه الأحكام عن الأخلاقيات؟ وفي رأيه أنه لا يوجد مظاهر أخلاقية، ولكن توجد تعابير أخلاقية للمظاهر. وكما يوجد لطبقة السادة تعاليمهم الأخلاقية، كذلك يوجد لطبقة العبيد تعاليمهم الأخلاقية الخاصة بهم. ولهذا فالخير والشر أشياء تتغير معانيها بتغير الزمان وتغير البيئة. ويرى نيتشه (أن التعاليم الأخلاقية لطبقة السادة كانت قد اختفت من أوربا ألفي سنة إلا أنها رجعت في عصره، وكانت قد بلغت أوجها حينما وصل نابليون أسمى مجده. وفي رأي نيتشه أن الخير لا يوجد إلا عند الفقراء الذين لا قوت لهم، وعند الضعفاء الذين لا حول لهم، وعند المرضى والقبحاء وهؤلاء جميعاً هم المتدينون)
وكان نبتشه قبل إصداره كتابه الأخير على وشك إتمام نصف كتابه الأعظم (قوة الإرادة لبلوغ الحكم ومحاولة قلب القيم جميعها) , وما يقصد نيتشه من (قوة الإرادة لبلوغ الحكم)؟ هو يقول: (إن الكائنات الحية تعمل قبل كل شيء أتظهر قوتها إذ الحياة هي قوة الإرادة لبلوغ الحكم) وهو يرى في الجزء الأول من هذا الكتاب الذي لم يتم وضعه أن اللاإرادة هي المسيطرة على مشاعر الناس. وبذا تسيطرت اللاإرادة على الإرادة للحياة. وفي الجزء الثاني من الكتاب نقد لكل القيم العليا: ففيه نقد للدين ونقد للأخلاقيات ومثلها العليا ونقد للفلسفة. أما الجزء الثالث فقد جعله كتاباً خاصاً بمبدأ تقرير القيم الجديدة. وقد أعتمد في وضع قيمه الجديدة هذه على اللاإرادة التي أعتبرها أساس القوة وأساس السيطرة. ونظرته في الحياة هذه أصبحت عقيدة. فقال إن الإرادة أساس الحكم في الطبيعة، وهي أساس الحكم عند الفرد والجماعة، وهي أساس الحكم في الفن. أما كتابه الرابع فقد أراد أن يكون تمهيداً لتطور وازدهار هذه الفكرة. وينتهي الكتاب بالقسم الأخير منه الذي أختار له (العودة الأبدية) عنوناً. ولكن لسوء الحظ لم يتم نيتشه كتابه هذا، وكان الجميع يتوقعون أن يزدان به الأدب الألماني. ولم يكن هذا كل ما كان يريده نيتشه، بل لقد وضع تصميم كتاب آخر عن (الوحدة والانعكاف) في جزء خاص من كتاب (زرادشت) ولكن الأجل لم يمهله؛ ولم يعش ليرى أعماله تنتشر وتروج. وكانت سنة 1888 هي أكثر السنين التي أنتج فيها نيتشه مؤلفاته
وقد لاحظ النقاد في بعض كتبه الأخيرة انطفاء جذوة فكره، وبدت عليه أعراض الخبل،(218/32)
وكان قد تملكه بعض الوقت. وقد جر عليه تطرفه - وليس في ذلك ما يعيبه - قسوة القدرة وإعراض الناس عنه، ففي أواخر سنة 1888 أصيب نيتشه بهزة عصبية شديدة، وبدأ جسمه بعد ذلك في الاضمحلال. ولكنه بقي حتى أواخر أيام حياته طيب القلب، شديد الصبر، كثير الأدب، مراعياً احساسات الناس كافة. وكان في سنة 1888 قد خيل إليه أن لابد له من أن يبذل أقصى مجهود فكريي فجمع أشعاره التي أسماها (أغاني زرادشت)، ومنها قصيدة (غروب الشمس) الخالدة. ومن من الناس لا يمجد (زرادشت) أو (الإنسان الكامل) حين يذكر أسم نيتشه؟
وبقى نيتشه حتى اليوم الخامس والعشرين من شهر أغسطس عام 1900 يقاسي آلام مرضه حتى وافته المنية في مدينة فيمار ولم يكن في نظر الناس حين أرتحل إلى العالم الآخر إلا أديباً غريب الأطوار والأفكار. أما اليوم فله شهرة عالمية كأديب وفيلسوف. وقد كان نيتشه شاعراً مجيداً ذا عقل وثاب وإحساس فياض عميق، في حين أن بقية الشعراء لم يكن لهم إلا مجرد (نزوات مضطربة) وما كان نيتشه ليهمه اصطلاح الناس على تمجيده أو الاعتراف بفنه، فقد قال: (إن الطيبة لن تعود طيبة إذا لاكها الجار في فمه) فكيف حال الطيبة إذا لاكتها الناس عامة؟.
وكذا مات نيتشه، ولكن ما انقضت بعض الأعوام على وفاته حتى أخذ الأدباء والنقاد يشعرون بجبروت فكره ونبل غرضه. وكم من زعماء الأمم يتطلعون اليوم إليه كرائد لهم، ويستمدون الوحي من تفكيره! وكفاه بذلك فخراً.
إبراهيم إبراهيم يوسف(218/33)
من تاريخ الأدب المصري
شعر القاضي الفاضل
للأديب محمد سعيد السحراوي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
المديح
هناك نوعان من الشعر قيل كلاهما في مناسبته، أحدهما يموت بموت المناسبة، التي قيل فيها، والآخر يخلد ويخلد معه هذه المناسبة، ومن النوع الأول شعر المديح، فشعر المديح عند القاضي الفاضل أقل شعره كمية وقيمة، ومنه قوله يمدح صلاح الدين:
جهادك حكم الله ليس بمهدود ... وعزمك أمر الله ليس بمردود
سفينة نوح ما ركبت وعسكر ... كطوفانه والشام بالفتح قد نودي
كأنّا ببحر الكفر قد غيض ماؤه ... إذا ما استوت سفن لها القدس كالجودي
إذا سد باب الآذى فالجود نافذ ... ويا رب مفتوح كآخر مسدود
وقوله يمدحه أيضاً:
صحا الدهر لكن بعد ما طال سكره ... وما كان إلا من دم البغي خمره
أقمت عليه الحد بالحد ضارباً ... بسيف إذا ما أهتز قد بان سكره
فمن كان ذا هم فقد زال همُّهُ ... ومن كان نذر فقد حل نذره
فيا ملكا لا يملك الخطب صبره ... كما أنه لا يجهل الدهر شكره
يجور على الهامات عادل سيفه ... ويجري على أهل الأوامر أمره
لقد قمت في نصر النبي وآله ... مقاماً على الرحمن قد حق أجره
سرى ملك الإفرنج ينصر جمعهم ... فما ضرهم في نصرة الحق كفره
وما هي إلا آية نبوية ... أقامت لهم بالنفع من خيف ضره
وعادتهم من قبل آية جدهم ... فينصرهم من لا يؤمل نصره
وقال من موشح في مدح الفضل بن يحيى بن خالد:
دع اللوم يا عاذلي ... فما أنت بالعادل(218/34)
ولا تكثرن الكلام ... وأقصر فهذا الملام
على الصب مثل الكلام ... ولو قمت في كل عام
تلوم إلى القابل ... فما أنت بالقابل
وليست هذه النماذج في مستوى شعره الآخر على ما أعتقد، وفيها تكلف ظاهر - وأكبر ما يلفت النظر في شعر المديح عند القاضي الفاضل أنه لا يبدأه - إلا في القليل النادر - غزلاً كما كانت عادة أسلافه، كما أنه لا ينزل به إلى المستوى الذي نزل إليه كثير من الشعر الأقدمين. وأقصى ما وصل إليه مديحه قوله:
لقد سالمتنا صروف الزمان ... وما برحت قبلها عائدة
وأمطرت نوء الندى دائماً ... فهزت به أرضنا الهامدة
وأسهرت عينك للمكرمات ... فأقررت أعيننا الهاجدة
وأطفت حرارة آمالنا ... مغانمُ إحسانك الباردة
وقوله:
وتلقى خطوب الدهر إن جد جدّها ... بعزم مجد في عزيمة هازل
بفخر يرد النجم ليس بصاعد ... وجود يرد القطر ليس بنازل
سماك فخار لا يسمى بأعزل ... ولا لله ليس تُراع بعازل
أقول إذا ما جاء هل من مفاخر ... كقولي إذا ما جدّ هل من منازل
وكم لك من يوم أغر محجل ... ترد به قسرا نوازي النوازل
وكذلك قوله في مدح شجاع وزير الخلافة من قصيدة طويلة:
أما ومنك على أعدائك الطلب ... فأن أعدى عدو عندنا الهرب
أنت الحياة التي ما بعدها رغب ... أو الحمام الذي ما قبله رهب
فليس يعصمهم في الفلك ما ركبوا ... وليس ينجيهم في الأرض ما ضربوا
وقوله في مدحه أيضاً:
لك المجد تردى عن عداه علاه ... فأي رجاء قد عداه نداهُ
إذا شئت يوماً أن تراه فإنما ... ترى ما ترى في النجم دون مداهُ
وجودك سحب والسحائب أرضها ... فهذي البرايا لو علمت تراهُ(218/35)
وأختم مختاراته في المديح بقصيدته الجميلة التي قالها في العزيز مستعطفاً ومادحاً ومصوراً ومعاتباً:
هذا الذي كنت به أُوعدُ ... أنجز وعد الأمس هو اللغدُ
فالغد قد أعجلني حثه ... عن أن أقول اليوم لا تبعدوا
مالك إلا اليوم في شدتي ... أنت صديق وأنت أنت العدو
فليت لا كان لساني لمن ... ليس له في كشف خطب يدُ
بدا به البخل فألحاظه ... عطشى وفي ريقه الموردُ
تستشهد الأغصان في أنها ... كعطفه اللدن وما أشهدُ
والناس حساد على وصله ... وما ألوم الناس أن يحسدوا
إن شبهوه صنما فأنههم ... فأنهم في الحب قد ألحدوا
وذلك الجمر على خده ... يقبسك النور ولا يوقدُ
كأنما قام بمحرابه ... من صدغه ذو خشية يسجدُ
يدعو لأيام العزيز التي ... بالعدل في أحكامها تخلدُ
فكل أرض بالندى جنة ... وكل دار للدعا مسجدُ
يا نعمة الله التي فضلها ... يجحد إيمان الذي يجحدُ
تستنفذُ الآمال معروفه ... وهو على المعهود لا ينفذُ
لله باب منك في أرضه ... ما دونه ملجا ولا مقصدُ
ويستوي مورد معروفه ... مسود هذا الخلق والسيدُ
عبدهم حر بإعتاقه ... وحرهم بالجود مستعبدُ
كلهم أسرى ندى سرهم إنهم في كفه أعبدُ
الزهد
وشعره في الزهد وبكاء الزمان، والحنين إلى الأوطان كثير وأكثره في بكاء الشباب وذم المشيب وهو يقول من قصيدة:
فالعمر كالكأس والأيام تمزجه ... والشيب فيه قذى في موضع الحبب
ويخاطب الشباب بقوله منها:(218/36)
نار وإن لم يكن كالنار محرقة ... فإن في الشعر منها آية اللهبِ
ولي صباه وأبقى شهب ليلته ... والصبح ليس بمأمون على الشهب
يا ليلة ما أظن الصبح يذكرها ... شيبت رأسي ورأس الفجر لم يشبِ
وخيمة العمر إن شد الصباح لها ... عموده كان حبل الشمس كالطنب
ونحن نأمل أسباب الحياة بما ... مثلته وأراه أضعف السببِ
وحجة العمر أكدار فأن غلطت ... بالصفو دنياك فاعدده من النغبِ
يحبك الناس إن أمسكت عن طلب ... والله يمقت إن أمسكت عن طلبِ
إن كان رزق بماء الوجه محتلباً ... فرزق ربك يأتي غير محتلبِ
ويقول في الشيب أيضاً:
ما مع الشيب حديث في غزل ... قد شغلنا منه بالضيف نزلْ
لست ممن ينزل الضيفُ به ... فيراه الضيف عنه في شغلْ
وكذلك يقول:
بلغت أول عمري أرْزل العمر ... فلم يزدني أشتعال الشيب في الشعر
والشيب والشعر كانا ساكني خلدي ... وإنما انتقلا منه إلى نظري
أما خديعة أحلام أغر بها ... في يقظتي فكر جاءت على فكر
كان الحمام أمام الصفو أرفق بي ... من الحياة التي أفضت إلى الكدر
علا البياض قتور كان أوله ... هذا البياض الذي يعلو على الشعر
فلليل ليل شباب المر إن سلكت ... فيه المنيةُ لم يسلك بمعتكر
عمر الفتى ليلة والموت صبحتها ... والشيب بين الدجى والصبح كالسحر
متفرقات له
وللقاضي الفاضل شعر غير قليل في الرثاء والهجاء والوصف والحكم وغير ذلك فهو يرثى العزيز فيقول مخاطباً قصره:
لئن صرت فوق الأرض أرضاً فربما ... عهدناك من جوف السماء لنا سما
حكيت لنا بالأمس عنهم حقيقة ... فأصبحت أنت اليوم ظناً مرجماً
عزيز علينا أن نراك على البلى ... تراباً نهي المشغوف أن يتتيما(218/37)
تصدى له من لا يراقب حرمة ... ومن ليس يرعى للمكارم محرماً
وما ساءني أن ترحل الدار بعدهم ... إذا ذهب الحامي فلا بقي الحمى
وقال هاجياً مازحاً:
ولقد رأيت وما سمعت بمثله ... للبين بينهم غراباً أعصما
وجه عليه من القباحة مسحة ... ظلم اليسار وقد رآه فأظلما
وعليه وجه قد أجيبت دعوة ... فيه من الداعي عليه فأرغما
لو أنه ذنب لكان كبيرة ... أو أنه طود لكان مقطما
لو شئت أن أرقى لنيل قرونه ... لجعلت ذاك الكتف تحتي سلماً
وقال في كتم السر:
السر مالُ أو دم ... في سحره لا في يديه
إن كان يكتم سره ... كان الخيار به إليه
أو كان يفشي شره ... كان الخيار به عليه
وقال من قصيدة:
وإن امرأ أنفاسه نحو قبره ... خطاه لمحثوث المسير ولا يدري
وقال أيضاً:
يا خائباً بالمعاصي ... كفيت عقبى الخلو
لئن أمنت الأعادي ... فالنفس أدنى عدو
وقال في كتاب:
كتاب صحبت الأنس حين قرأته ... كصحبة ما فيه من اللفظ للمعنى
هو الجوهر الأعلى وما قد رأيته ... من الجوهر الأعلى هو العرض الأدنى
وقال:
لا يعجز الله هارب هرباً ... سحابة مدرك إذا طلبا
أين يفر المغرور من أجل ... ومن بلاء كلاهما كتبا
إذا رأى الشمس حوله اشتبكت ... قال أداة تفيدني الغلبا
وهي بمنصوبها له شرك ... وهو على نفسه به نصبا(218/38)
يا موقد البغي إن موقده ... لناره يصطلي بها حطبا
عمائم للسنان تلبسها الرم ... ح وترخى لها الدما عذبا
وتسبح العدا بها قضبا ... تخر يوم الوغى له القضبا
وله أيضاً:
سرت فكأن الليل قبل خدها ... فأبقي به قطفاً وأسند عقربا
فما استغربت في موطن الحب غربتي ... فهذا الدجى في صبحها قد تغربا
وقال يخاطب الليل:
فيا ليل ما افترق العاشقان ... إذا كنت بينهما حاضراً
فقد جاءني هاجري أصلا ... فلا يرجعن وأصلي هاجرا
وسرّبه غلتي واردا ... ولا تفجعني به صادرا
ودعني أطارحه شكوى الفراق ... واحفظ عهود الهوى ظاهرا
لعلك تعرف سر الغرام ... فتصبح للمبتلى عاذرا
وتعشق بدرك عشقي البدور ... وترجع مثلي بهم حائرا
فلا تبعث العجز قبل اللقاء ... ولا تتبع الأول الآخرا
فكم في حواشيك من طائر ... يقص به قلبي الطائرا
ويكسر صبحك لي عينه ... فيا ليل دمت له كاسرا
هذه نماذج عرضتها من شعر القاضي الفاضل وهي ليست أحسن ما في ديوانه، ولكنها هي التي تعطي الأديب صورة صحيحة عنه، وأردت بعرضها التنويه به كشاعر لا يزال ديوانه مخطوطاً، موجهاً نظر الأدباء والباحثين إلى الكنز الثمين الدفين في دار الكتب المصرية وغيرها - الذي إن كنا لا نستطيع نشره الآن، فإننا لا شك نستطيع الإشادة به على صفحات (الرسالة) التي تغار على نشر التراث العربي القيم، تاركا البحث والتحليل في شعره وأدب غيره من الأدباء والمغمورين إلى الباحثين والأدباء.
أما ديوان القاضي الفاضل فمخطوط بمكتبة معهد دمياط، وأخذت له صورة فوتوغرافية محفوظة في دار الكتب المصرية تحت رقم 4859 أدب.
محمد سعيد السحراوي(218/39)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
ملكة الإنشاء
بلغ الرافعي الشاعر مبلغه بعد سنة 1905، ونزل منزله بين شعراء العصر، وجرت ريحه رُخاءً إلى الهدف المؤمل، فامتد نظره إلى جديد. . . .
وأخذ الرافعي يروض قلمه على الإنشاء، لعله يبلغ فيه مبلغه في الشعر، فأنشأ بضع مقالات مصنوعة فتنتْه وملكتْ إعجابه فتهيأ لأن يصدر كتاباً مدرسياً في الإنشاء، سماه (ملكة الإنشاء) يكون نموذجاً للمتأدبين وطلاب المدارس يحتذون فنَّه وينسجون على منواله، ووعد قراءه أن ينتظروه في غلاف الجزء الثاني من ديوانه؛ وأحسبه كان جاداً فيما وعد، لولا أمور نشأت من بعد وصرفته عن وجهه، فظل الوعد قائماُ بينه وبين قرائه حتى نسيه ونسوه.
ولا أحسب أن شيئاً ذا بال قد فات قراء الرافعي بعدم نشر هذا الكتاب؛ وحسْب الأدباء والباحثين في التاريخ الأدبي أن يقرءوا من هذا الكتاب الذي لم ينشر مقالات ثلاثاً نشرها الرافعي في الجزءين الثاني والثالث من ديوانه، وفي الجزء الأول من ديوان النظرات؛ إعلاناً ونموذجاً لكتابه؛ فإن في هذه المقالات الثلاث كل الغَناء للباحث، تدله على أول مذهب الرافعي في الأدب الإنشائي، وطريقته ونهجه
الجامعة المصرية
قلت: إن الرافعي كان جاداً فيما وعد بإصدار كتابه (ملكة الإنشاء) لولا أمور نشأت من بعد وصرفتْه عن وجهه؛ فهذا كان يوم إنشاء الجامعة المصرية في سنة 1907، وكان أمرها هو ما يشغله.
كان قد مضى على الرافعي يومئذ عشر سنين في مدرسته التي أنشأها لنفسه، وكان فيها المعلمَ والتلميذ، يدرس ويطالع ويتعلّم، لا يرى أنه انتهى من العلم إلى غاية؛ وما كان(218/41)
يدرس ليكون عالماً في الأدب، أو راوياً في التاريخ، أو أستاذاً في فرع من فروع المعروفة؛ إنما كان يدرس ليتزوّد للشعر زادَه، وليبلغ من العلم مبلغاً يعينه على أن يقول وينشئ. فلما أنشئت الجامعة المصرية، تطلع إلى ما يقال هناك في دروس الأدب، لعله يجد فيه الجديد الذي يتشوّف إليه ويطلبه؛ فماذا وجد هناك؟
لقد مضى على إنشاء الجامعة سنتان وما استحدثت شيئاً في الأدب يفتقر إليه الرافعي، وما تحدث أساتذتها حديثاً في الأدب لا يعرفه الرافعي. ماذا؟ أهذا كل ما هناك؟ وأيقن الرافعي من يومئذ أنه شيء، فلبث يتربص. . .
وطال انتظار الرافعي وما استطاعت الجامعة أن تثبت له أن فيها دروساً للأدب، وما استطاع الرافعي أن يقنع نفسه بأن في الجامعة أساتذة يدرسون الأدب، فكتب مقالاً في (الجريدة) يحمل على الجامعة، وعلى أساتذة الجامعة، وعلى منج الأدب في الجامعة. ورنّ المقال رنينه وأحدث أثره، فاجتمعت اللجنة الفنية للجامعة، ونشرت دعوة على الأدباء إلى تأليف كتاب في (أدبيات اللغة العربية) جعلت جائزة الفائز فيه مائة جنيه، وضربت أجلاً لتقديمه إليها سبعة أشهر.
وقرأ الرافعي دعوة الجامعة، فما رضى ولا هدأت نفسه؛ لقد كان أمله يومئذ أكبر من ذاك؛ إن مائة جنيه شيء مغْرٍ لمثل الرافعي الأديب الناشيء، الموظف الصغير، الزوج العائل، أبي وهيبة وسامي ومحمد؛ ولكن. . . ولكنه يطمع في أكثر من مائة جنيه، يطمع في أن يكون هو أستاذ الأدب بالجامعة. (إنهم على الأغلب سيعهدون بتدريس الكتاب لغير مؤلفه، فيكون الحاضر لديهم كالغائب عنهم، ولا فضل لدارهم إلا أنها مصدر التلقين؛ فإذا طبع الكتاب صارت كل مكتبة في حكم الجامعة، لأن العلم هو الكتاب لا الذي يلقيه، وإلا فما بالهم لا يعهدون بالتأليف لمن سيعهدون إليه بالتدريس؟ وهل يقتصرون على أن يكون من كفاية الأستاذ القدرة على إلقاء درسه دون القدرة على استنباط الدرس واستجماع مادته حتى لا يزيد على أن يكون هو بين تلامذته التلميذ الأكبر. . .؟
لِمَ تنفض إدارة الجامعة يدها من قوم هم رؤساء الصناعة، وظهور مناصبها العالية، وألسنة الحكم فيها؛ ثم تلتمس من ضعف الأفراد ما لم تؤمله في قوة الجماعة وهي تعلم أن الحمل الذي تتوزعه الأكف يهون على الرقاب؟)(218/42)
وما سبعة أشهر لمن يريد أن يؤلف في تاريخ آداب العرب؟ إنه لفن لم يتناوله أحد من قبل، وإن مراجع البحث لكثيرة وإن من وراء ذلك جهداً لا يطيقه إنسان.
وكتب الرافعي مقاله الثاني في (الجريدة) ينعت الجامعة ولجنة الجامعة، ويتأبى على الدعوة التي دعت، ويقرر أن الذين دعوا الدعوة إلى وضع الكتاب وجعلوا لذلك العمل إلى فِصاله سبعة أشهر، إنما مست بهم الحاجة إلى كتاب وأعوزهم مؤلفه فالتمسوه بتلك الدعوة يفتشون عنه في ضوء الجائزة. . . . ومضى الرافعي يتجنى ويتدلل، وعادت الجامعة تفكر في الأمر.
وأعادت نشر المسابقة لتأليف الكتاب، وزادت المدة إلى سنتين، والجائزة إلى مائتين، وتعهدت بطبع الكتاب المختار.
ووجد الرافعي ما يشغله، فعاد إلى نفسه، وأغلق دار كتبه عليه. . .
تاريخ آداب العرب
إن كثيراً من الأدباء لا يرضيهم أن يعترفوا للرافعي بيد على العربية أو يروا له صنيعاً في الأدب يستحق الخلود، إلا حين يذكرون كتابه (تاريخ آداب العرب)، وإنه لكتاب حقيق بأن يذكر فيذيع فضل الرافعي على الأدب والأدباء.
أنقطع الرافعي لتأليف كتابه من منتصف سنة 1909، إلى آخر سنة 1910، وفي سنة 1911 أتم طبع الكتاب على نفقته قبل أن يحل الأجل الذي عينته الجامعة.
لم يكن الرافعي طامعاً في جائزة الجامعة. ولذلك لم يتقدم إليها به قبل طبعه، ترفعا عن قبول الحكم فيه لجماعة ليس منهم من هو أبصرُ منه بالمحكوم فيه.
كان أسبق المؤلفات ظهوراً إلى دعوة الجامعة، الجزء الأول من كتاب العلامة جورج زيدان، ثم الجزء الأول من تاريخ آداب العرب. (سبقه ذاك بشهر أو شهرين سبقاً مطبعياً)
وكانت مقالات الرافعي في (الجريدة)، وكتابه (تاريخ آداب العرب) من بعد، هما السبب في تدريس الآداب العربية وتاريخها في الجامعة المصرية، وهما السبب كذلك في وضع ما وضع من الكتب في هذا العلم.
وأعان الرافعي على جمع ما جمع من وسائل البحث لكتابه مكتبات ثلاث كلها حافل بالنادر من كتب العربية، مطبوعها ومخطوطها، هي: مكتبة الرافعي، ومكتبة الجامع الأحمدي،(218/43)
ومكتبة القصبي بطنطا.
وكان من وسائل تشجيعه على إتمامه وطبعه، ما أعانه به مدير الغربية الأديب المرحوم محمد محب باشا من معونات أدبية ومادية. . .
ليس من همي هنا أن أتحدث عن القيمة الأدبية لكتاب الرافعي تاريخ آداب العرب؛ فقد فرغ الأدباء من الحكم عليه، وما منهم إلا له فيه رأي محمود وثناء مستطاب؛ وما ناله أحد بنقد إلا الأديب طه حسين الطالب بالجامعة المصرية، إذ يقول في مقال نشرته له (الجريدة) سنة 1912: (. . . هذا الكتاب الذي نشهد الله على أننا لم نفهمه. . .) لكنه عاد فصحح رأيه فيه سنة 1926، فأعترف بأنه لم يعجبه أحد ممن ألفوا في الأدب إلا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي (فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلى القدماء، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه تاريخ آداب العرب. . . .)
نال الرافعي بكتابه هذا مكاناً سامياً بين أدباء عصره، وشغل به العلماء وقتاً غير قليل، وحسبك به من كتاب أن يقضي الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد بك (باشا) أسبوعاً يخطب عنه في مجالس العاصمة ويكتب عنه مقالاً ضافياً في الجريدة جاء فيه: (قرأنا هذا الجزء؛ فأما نحوه فعليه طابع الباكورة في بابه، يدل على أن المؤلف قد ملك موضوعه ملكاً تاماً وأخذ بعد ذلك يتصرف فيه تصرفاً حسناً؛ وليس من السهل أن تجتمع له الأغراض التي بسطها في هذا الجزء إلا بعد درس طويل وتعب ممل. . . وأما أسلوب الرافعي في كتابته فأنه سليم من الشوائب الأعجمية التي تقع لنا في كتاباتنا نحن العرب المتأخرين، فكأني وأنا أقرؤه أقرأ من قلم المبرد في استعماله المساواة وإلباس المعاني ألفاظاً سابغة مفصلة عليها، لا طويلة تتعثر فيها ولا قصيرة عن مداها تودي بعض أجزائها. . .)
وكتب عنه الأمير شكيب أرسلان - وهو أشهر كتاب العربية في ذلك الوقت - مقالة في صدر المؤيد جاء فيها: (لو كان هذا الكتاب في بيت حرام إخراجه للناس منه، لكان جديراً بأن يُحَجَّ إليه؛ ولو عكِف على غير كتاب الله في نواشيء الأسحار، لكان جديراً بأن يعكف عليه. . .)
وقال عنه المقتطف: (إنه كتاب السنة. .) وما كتب المقتطف مثل هذه الكلمة من قبل ومن(218/44)
بعد لغير هذا الكتاب.
وأسلوب الرافعي في هذا الكتاب أسلوب العالم الأديب، يجد فيه كل طالب طلبته من العلم والأدب والبيان الرفيع. وكان الرافعي يومئذ قد أتم الثلاثين. . .!
في السنة التالية، أصدر الرافعي الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب، وموضوعه أعجازُ القرآن، والبلاغةُ النبوية؛ وهو الذي أصدره من بعد في طبعته الثانية باسم (أعجاز القرآن)، وباسمه الثاني يعرفه قراء العربية، وقد طبعه على نفقته المرحوم الملك فؤاد رحمه الله. وفي مكتبة الرافعي الآن أصولُ الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب، ومعها تعليقات كان المرحوم الرافعي ينوي إضافتها إلى الجزء الأول في طبعته الثانية فعاجلته المنية؛ فهل للعربية في هذا البلد أوفياء مخلصون يعرفون للرافعي منزلته ولكُتًبه مكانها فيطبعوا هذه الأجزاء الثلاثة وينشروها على الناس؟ وهل يسمعني معالي وزير المعارف وهو القائم على شئون العلم في هذا البلد، وهو هو الذي كان يعرف الرافعي صديقاً وجاراً مواطناً فوق معرفته إياه أديباً وعالماً وشاعراً كان في الأدباء والعلماء والشعراء خير داعية لمصر الزعيمة بين الناطقين بالضاد. . .؟
لقد قلُتها مرة، فهل أظلّ حياتي كلها أهتف بهذه الأمة التي لا تعرف الجميل فلا تجيب. . .!
أيها الناس! لقد أوشكت أن أومن بأن الرافعي مات. . .!
حاشية: قلت: إن من المكتبات التي استعان بها الرافعي في تأليف كتابه، مكتبة القصبي بطنطا، وهي المكتبة التي أنشأها وجمعها المرحومان الحسيبان الشيخ إمام القصبي وولده الشيخ محمد القصبي شيخا الجامع الأحمدي قبل المرحوم الشيخ الظواهري الكبير
وقد حدثني عنها أبي، كما حدثني عنها المرحوم الرافعي، أنها مكتبة حافلة، مشحونة بفرائد العلوم والفنون، زاخرة بنوادر المخطوطات والمطبوعات من كتب الدين والعربية؛ وهي الآن محبوسة في حجرة رطبة لا ينفذ إليها الهواء من حجرات زاوية القصبي بطنطا، لم يفتح بابها منذ ربع قرن أو يزيد لعدم عناية القائمين عليها وجهلهم بقدرها، فإذا لم يكن السوس قد أتى عليها فإن هناك فرصة لا تزال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها، وحسْب العربية ما لقيت من أهلها في عصور الجهل والانحطاط يا أولي الألباب. . .!؟(218/45)
(شبرا)
محمد سعيد العريان(218/46)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 20 -
الديانة الفارسية
مصير العالم
يحدثنا قسم (الجاتها) أن نهاية العالم موقوتة بموت (زرادشت) وأن (أهوارا) أراد أن يختم به هذه الحياة الدنيا، وهو لهذا يدفعه في حماسة إلى تأدية رسالته بأسرع ما يستطاع ويأمره أن يصدع بأوامر ربه وأن يعلن أنه سيتقدم بعد موته إلى القضاة الثلاثة الواقفين على الميزان أمام باب الصراط، ليؤدي الحساب عن نفسه والشهادة عن جميع أتباعه الذين سيتحقق فناؤهم على أثر موته.
غير أن الكون ظل بعد (زرادشت) سائراً في طريقه كما كان في حياته وقبل وجوده، ولم يمت الأنصار ولا الخصوم، ولم ينته العالم. فلما رأى رجال الدين الألسنة الحداد بدأت تتجه إليهم من جانب خصومهم، أرادوا أن يتحللوا من هذه الورطة التي أوقعهم فيها نبيهم الساذج، فأضافوا إلى الكتاب المقدس آيات جديدة تحوي تأويلات للآيات القديمة وتصرح بأن جميع الزمن المحدد للكون هو أثنا عشر ألف سنة مضت منها ثلاثة آلاف سنة في خلق العالم الروحاني، وثلاثة آلاف في إنشاء العالم المادي، وثلاثة آلاف فصلت بين وجود بني الإنسان ووجود (زرادشت)؛ وثلاثة آلاف بين عصر (زرادشت) ونهاية الحياة الدنيا. أما التصريح الجازم في الجزء القديم بأن نهاية العالم ستكون عند نهاية حياة (زرادشت) فقد عرفوا كيف يتخلصون منه بلباقة لا بأس بها حيث أعلنوا أن (زرادشت) لم يمت كما رأى الناس في الظاهر، وإنما نزلت بذرته الخصبة في البحيرة المقدسة، وستظل فيها تغدو وتروح حتى قبيل نهاية العالم، فإذا حان هذا الوقت المضروب نزلت إلى هذه البحيرة فتاة(218/47)
عذراء طاهرة، لتغتسل فيها، وإذ ذاك تتغلغل هذه البذرة إلى بطن العذراء فتحمل لساعتها بمنجى العالم ومن على يديه سيكون انتهاؤه فإذا ولد هذا المنجى وشب، أخذ يدعو إلى دينه وأصطفى له من التلاميذ خمسة عشر رجلاً وخمس عشرة امرأة، ليعاونوه على تأدية رسالته إلى أن ينتهي أجله المحدد بسبع وخمسين سنة فينتهي بانتهائه الكون. وعلى أثر ذلك يبدأ البعث فتمتلئ بقاع الأرض بمياه شديدة الحرارة تسيل كلها من معادن صهرتها النيران القوية فأما الأخيار فيحسون كأنها حمامات من لبن فاتر يجد الجسم فيه لذة وسروراً؛ وأما الأشرار فسيجدونها قاسية مؤلمة، ولعل العذاب بمياه هذه المعادن هو آخر ما يقاسيه أهل الأعراف الذين هم بين الجنة والنار، ثم يدخلون بعد ذلك في زمرة المعفو عنهم
عند ذلك ينهزم إله الشر الهزيمة الأخيرة ويُلقى بالثعبان الذي كان يمثله في وسط هذه المعادن فينصهر فيها ويستقر كل من السعداء والأشقياء في مكانه استقراراً أبدياً بلا تغيير ولا تبديل. ولكن عقيدة التأبيد في الجحيم لم تستمر على حالها، بل لم تلبث أن صارت موضع نقاش بين رجال الدين انتهى بأن قر الرأي على أن للعذاب في الجحٍيم حداً ينتهي عنده فيلحق المعذبون بالأخيار المنعمين، وإذ ذاك يتم السلام النهائي.
الفلسفة العملية أو الأخلاق
ليست الأخلاق من وضع الأهواء البشرية ولا من اختراع المنافع الفردية حتى تتأثر بالأزمنة والأمكنة والظروف المختلفة، وإنما هي قوانين عامة خالدة، ولذلك نرى الفضائل الجوهرية هي هي عند قدماء المصريين، وعند الهنود والفرس والصينيين واليونان والرومان كما هي عند شعوب القرن العشرين في جميع بقاع الأرض إلا من تغيرت طباعهم، وتبدلت فِطَرُهم بسبب من الأسباب التي أجمع علماء الأخلاق والنفس والاجتماع على تأثيرها في السلوك البشري.
لهذا كانت الفضائل عند الفرس كما هي عند غيرهم من الأمم تتألف من صفوف ودرجات، لكل صف منها منزلته الخاصة، فمثلاً الشرف والإحسان والأمانة الزوجية من الجانبين كانت في الصف الأول. ولقد كانت العدالة والعفة والإخلاص والصدق من أجل الفضائل كما كان العمل على تنمية النوع البشري وتقويته من أهم الواجبات الدينية، ولهذا أباحت الشريعة (الزرادشتية) تعدد الزوجات، ليكثر النسل، وحرمت الصوم لتتوفر القوة في جميع(218/48)
أفراد الشعب، وكذلك محاولة زيادة خصوبة الأرض والاستمتاع بما في هذه الحياة من خيرات ولذات مشروعة كانت من أسمى فروض الشريعة حتى أن إهمال بقعة من الأرض بدون نبات أو عدم الاكتراث بالتزين كارتداء رث الملابس أو عدم المبالاة بتنظيم قص الشعر والأظافر، كل ذلك كان من الجرائم الممقوتة، أما الرذائل المستفظعة فهي أضداد هذه الفضائل طبعاً.
هناك فضائل ثانوية أو مستحبات أخلاقية مثل أكل اللحوم وجميع الأطعمة المغذية ومحاولة الإحساس بالسرور، ومثل مهاجمة الأعداء من الأفراد بنظير ما قدموه. أما الدفاع عن النفس أو عن الوطن، فقد كان من الواجبات المقدسة.
هذه هي أهم الفضائل الجوهرية والثانوية ولم يبق عدا ذلك إلا أعمال هي إلى الأساطير الوثنية أقرب منها إلى الفلسفة العملية وذلك مثل حظر قتل القنافذ وكلاب البحر كما أسلفنا.
الديانة المانوية
حياة ماني
لم يعرف التاريخ عن حياة (ماني) أو (مانيس) مؤسس الديانة المانوية أكثر من أنه ولد في (بابل) سنة 215 وقتله أحد ملوك الفرس في سنة 275 بعد المسيح وأنه كان متنسكاً متصوفاً متشائماً لا يؤمن بانتصار الخير على الشر البتة ولا أمل عنده في صلاح هذا الوجود، وأنه تأثر في بعض نواحي مذهبه بالزرادشتية وفي البعض الآخر بالميتهرية القديمة التي عبثت بها العقلية الرومانية فبدلت منها الشيء الكثير، وفي البعض الثالث بالديانة البراهمية الأولى، وفي الرابع بالمسيحية قبل وضع قواعد الكنيسة كما يتبين ذلك كله في آرائه.
مذهبه
يرى (ماني) أن العالم نشأ من عملاق قسم جسمه إلى أجزاء ثم كون الموجودات من بعض هذه الأجزاء. ولا ريب أنك تذكر أسطورة بدء الخلق عند الهنود، وهي التي حدثتنا عن اشتياق الإله (براجاباتي) إلى التكثر وعن تجزيئه نفسه ونشره أجزاءه في الكون ليوحد منها جميع الكائنات.(218/49)
أما رأيه في المبادئ الأولى فهو يتلخص في أن للكون مبدأين الخير والشر، وهما أزليان أبديان متساويان في كل شيء. ولا شك أنه في هذه النقطة قد تأثر بزرادشت من ناحية وبديانة (الثانوية) المغالية التي نشأت من مذهب زرادشت من ناحية ثانية. وإليك ما يقوله الشهرستاني عن هذا المذهب: (حكي محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق، وكان في الأصل مجوسياً عارفاً بمذهب القوم، أن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين، أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأنكروا وجود شيء لا من أصل قديم وزعم أنهما لم يزالا قوتين، حساسين، سميعين، بصيرين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان، وفي الخير متحاذيان تحاذي الشخص والظل). إلى أن يقول: (ثم اختلفت المانوية في المزاج وسببه والخلاص وسببه فقال بعضهم: إن النور والظلام امتزجا بالخبط والاتفاق لا بالمقصد والاختيار؛ وقال أكثرهم: إن سبب المزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل فنظرت إلى الروح فرأت النور فبغت الأبدان على ممازجة النور فأجابتها لإسراعها إلى الشر، فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليها ملكاً من ملائكته في خمسة أجزاء من أجناسها الخمسة فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية فخالط الدخان نسيم، وإنما الحياة والروح في هذا العالم من النسيم، والهلاك والآفات من الدخان، وخالط الحريق النار، والنور الظلمة، والسموم الريح، والضباب الماء، فما في العالم من منفعة وخير وبركة فمن أجناس النور، وما فيه من مضرة وفساد وشر فمن أجناس الظلمة فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملكاً من ملائكته فخلق هذا العالم على هذه الهيئة، لتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة).
الميتافيزيكا المانوية
يرى هذا المذهب أن الإنسان الأول مخلوق للنور أو للشمس الذي هو (أهورا مازدا) وكان هذا الإنسان في أول الأمر نوراً محضاً وأن حكمة خلقه إياه إنما هي الجهاد ضد الظلام، ولكن هذا الخصم العنيف لم يلبث أن أنتصر على الإنسان وكبله بالأصفاد وقاده إلى سجنه الحالك ولكن قوة إله الخير عملت على تخليصه من هذا السجن فنجحت بعض الشيء، لأن إله الشر كان قد تمكن من حبس جسمه النوراني في هذا الغمد الكثيف المكون من المادة المظلمة. وإذاً، فالمادة أو الجسم الإنساني أو (الماكروسكوم) و (الميكروسكوم) كما كانوا(218/50)
يسمونهما هما أصل الشر والسوء في هذه الحياة، لأنهما سجن الروح النورانية ومن هذا نشأت عند (ماني) فكرة وجوب تخليص النفس من الجسم أو إنهاء هذا العالم المادي بإضعاف النوع البشري وإبادة النسل بوساطة حظر الزواج وغير ذلك من وسائل التخريب والتدمير التي عمل على نشرها والتي لم تكن ملائمة لطبيعة الفرس الذين حبب إليهم زرادشت متع الحياة ولذاتها وعرفهم وسائل القوة والإخصاب.
مصير العالم المادي
ليس للمانوية في هذا الشأن شيء جديد لأنها تبعث خطوات الزرادشتية شبراً بشير وذراعاً بذراع إلا فيما يختص بفناء الشر وامتزاج مملكته بمملكة الخير وتحقق السلام العام، فقد أنكرت المانوية ذلك تمام الإنكار، وجزمت بأن المملكتين ستظلان متباعدتين متعاديتين أبدا.
نهاية ماني
لم تكد مبادئ المانوية تنتشر في بلاد فارس حتى تذمر الشعب مما أحتوى عليه من ضعف ويأس وتشاؤم وانزواء وحرمان من لذات الحياة المباحة، ثم أخذت هذه الضجة تعلو وتنتشر حتى بلغت أسماع الملك فأحضره أمامه، وناقشه في مذهبه، فلم يخف عليه شيئاً مما فيه، وصرح أمامه بأن التخلص من الشر أمر مستحيل، وأن استمرار العالم في الحياة معناه استمرار الشر، وأن الوسيلة الوحيدة للقضاء على هذا الشر هي تدمير هذا العالم، فلم يكن من الملك إلى أن قال له: إن الحكيم المخلص لمذهبه يجب أن يبدأ هو قبل غيره بتطبيق هذا المذهب على نفسه، فإن لم يفعل بدأ أنصاره ومريدوه بتطبيقه على أستاذهم، ولما كنا من أنصارك فقد وجب علينا أن نبدأ بتطبيق هذه المبادئ عليك، ثم أشار إلى الجلاد أن أبدأ بتدميره ليؤمن قبل موته بالشروع في تحقيق مذهبه وقد حدث هذا بالفعل كما أشرنا إليه في حياة ماني.
الديانة المزدكية
عاش (مزدك) حوالي نهاية القرن الخامس بعد المسيح، وكان قد تأثر بمذهب ماني من بعض نواحيه، وسار على منواله في كثير من مبادئه الفلسفية والدينية، وإن كان قد خالفه في آرائه الاجتماعية مخالفة شديدة حيث أعلن وجوب اعتناق الشيوعية المغالية، وصرح(218/51)
بأنها هي وحدها الوسيلة إلى إبادة الشر، إذ الحقد الذي يأكل قلوب بني الإنسان، والحرب التي تمزق أشلاء أحد الأخوين بيد الآخر لا مصدر لهما إلا الأموال والنساء، فإذا ألغيت الملكية وأبيد الزواج وأصبح المال والمرأة مباحين لجميع الأفراد بلا قيد ولا شرط طهرت القلوب من الحقد إلى الأبد ووضعت الحرب أوزارها إلى نهاية الوجود، وهو كما يبغي أن تباح الأموال والنساء، يريد كذلك ألا يختص أحد بطقوس دينية دون الآخرين حتى تزول جميع الفروق والاختصاصات التي هي منشأ كل بلاد في هذا الكون.
سقوط الديانات الفارسية
لما فتح (الإسكندر المقدوني) بلاد فارس وأنتشر الإغريق في أنحاء البلاد وأحرقوا الكتب المقدسة والصحف الدينية، تبلبلت العقول والأفكار والعقائد في تلك الأصقاع، وصادفت هذا الاضطراب ظروف أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وهي اجتماع ذلك الخليط العجيب من الفرس والمصريين واليونان واليهود في مدينة الإسكندرية كما سنشير إلى ذلك عند الحديث عن الأفلاطونية الحديثة.
أجتمع هذان العاملان القويان فحدث من اجتماعهما مزيج ديني غريب غمر الشرق الأدنى من أقصاه إلى أقصاه. ويعلق الأستاذ (سورا) على هذا بقوله: (إن هذا التخمر الديني المتباين العناصر هو الذي قذف بالمسيحية إلى حيز الوجود كما تقذف الأنبذة بالزَّبدِ إلى خارج أوانيها).
هذا في فلسطين ومصر، أما في بلاد بارس كانت سائدة فيها الديانة الفارسية (الزرادشتية) بعد أن عبثت بها أيدي الأهواء والأغراض، وبدلت فيها وزادت عليها مطامع رجال الدين وشهواتهم، وقد ظلت هذه السيادة طول حكم الدولة الساسانية ولم تحْنِ الرأس إلا في القرن السابع بعد المسيح حين هاجمها الإسلام وهو في عنفوان شبابه، فذابت أمام سطوته ذوبان السكر في المياه (على حد تعبير أحد المؤلفين الفرنسيين) وإن كان البعض الآخر من الباحثين يجزم بأن الديانة (الزرادشتية) لم تتلاش تماماً أمام الإسلام، وإنما تركت آثاراً تذكر في بعض نواحيه، إذ ليس بعض الفرق الإسلامية إلا لوناً من ألوان الديانة الفارسية، بل ليس تغني عمر الخيام بالخمر وتقديس بشار بن برد للنار وزندقة أبن المقفع ومروق الجاحظ في بعض آرائه إلا من بقايا الديانات الفارسية.(218/52)
غير أن الذي لاشك فيه هو أن الإسلام قد أكتسح الديانة (الزرادشتية) اكتساحاً ملموساً ولم يدع لها من معتنقيها إلا نحو عشرة آلاف نسمة في بلاد الفرس ونحو مائة ألف في بلاد الهند وهم الذين أشرنا إليهم في مبدأ حديثنا عن الفرس، وقلنا إنهم لا يزالون يُعرِّضون جثث موتاهم للوحوش.
أما المانوية فقد انتقلت إلى أوربا مع الرومانيين الذين كانوا في بلاد فارس، ثم جعلت تنتشر في جميع أجزاء الإمبراطورية الغربية الرومانية، ولكن في خنوع وإذعان للمسيحية جعلاها إلى الأهازئ أقرب منها إلى المذاهب الجدية كأن تصرح مثلاً بأن خالق الكون هو إله الشر، وأن المسيح إله الخير خصمه العنيف الذي ضرب المثل الأعلى على خيريته بتضحية نفسه للصلب في خير الإنسان.
ما زالت هذه الديانة المانوية تتلاشى في المسيحية على هذا النحو حتى ابتلعتها نهائياً ولم يبق لها في الوقت الحاضر من أثر في أوربا إلا على الآراء الاجتماعية مثل الاشتراكية والشيوعية وما شاكلهما من الآراء المتطرفة التي اعتنقتها المانوية بعد عصرها الأول ثم حملتها معها إلى أوربا فكانت جرثومة كثير من المذاهب الاجتماعية الأوربية في العصور الحديثة.
(يتبع)
محمد غلاب(218/53)
التخيل
للدكتور جميل صليبا
للتخيل بحسب اصطلاح الفلاسفة معان كثيرة فبعضهم (ديكارت) جعله قوة مصورة تعيد ما في الخيال من الصور وتمثله تمثلاً محسوساً. وبعضهم جعله قوة مبدعة تركت الصور وتؤلف المعاني الجديدة وتخترع. وبعضهم جعله قوة وهمية كاذبة تنشأ عنها الأوهام والأحلام، حتى لقد وصف تلاميذ ديكارت هذه القوة بقولهم: إنها (مجنونة المنزل) و (باعثة على الخطأ والرذيلة) أما فلاسفة العصر الحاضر فيجدون التخيل ضروباً للإنسان لأنه يخفف آلامه ويحبب إليه الحياة ويكشف له عن أسرار الكون. إن اختلاف معاني التخيل جعل أحد الفلاسفة المعاصرين يقول: إن هذه الكلمة الضرورية للغة العامة يجب أن تزول من قاموس علم النفس لكثرة معانيها وأنه يمكن استبدالها بكلمات أوضح منها كالمصورة والإبداع والأحلام. على أنه لا غنى لنا عن هذا الاصطلاح أن في كل من المصورة (التخيل التمثيلي) والإبداع والأحلام شيئاً من التخيل. ولنبحث الآن في التخيل المبدع
التخيل المبدع
التخيل التمثيلي المبدع: الحقيقة والخيال
التخيل التمثيلي هو ذاكرة بدون عرفان، أو هو كما قيل رجوع الصور النفسية إلى ساحة الشعور. ونحن نعلم أن الصورة هي بقاء الإحساس في الشعور بعد غياب المؤثر. أو هي ذكرى الإحساس. فإذا أسترجع الإنسان صورة جبل أو نهر ولم يعرف أي جبل يرى ولا أي نهر يتصور كان تخيله تمثيلياً لأن الخيال يعيد ما حفظته النفس وبقي فيها بعد غياب المحسوسات. فهو إذن شبيه بالذاكرة إلا أنه كما قلنا ذاكرة بدون عرفان. إن هذا الخيال التمثيلي يقتصر كما ترى على استرجاع الصور المحفوظة في النفس. أما التخيل المبدع فيركب هذه الصور ويستخرج منها نماذج جديدة. أنظر إلى المصور، أنه يرسم بريشته صورة خيالية يراها في أعماق نفسه فهو لم يسترجع صورة بسيطة محفوظة في نفسه فقط بل ركب بعض ما في هذه الصور البسيطة إلى بعض فألف منها صورة جديدة.
إلا أن هذا الفارق بين التخيل التمثيلي والتخيل المبدع ليس مطلقاً، لأن الخيال التمثيلي لا يسترجع الصور النفسية كما هي بل يبدلها فيمحو بعض عناصرها ويضم إليها بعض(218/54)
العناصر الجديدة. وقد بينا ذلك عند البحث في الشعور وخطور الذكريات. فالذكريات ليست صوراً مطابقة للماضي بل هي في الغالب مركبة من الماضي والحاضر معاً، لأن النفس تنشئها إنشاء، والإدراك ليس بسيطاً بحيث يحدث في النفس خيالاً مطابقاً للشيء المدرك فقط. بل هوة إنشاء صورة مركبة من عناصر نفسية متحولة. فالصورة ليست إذن خيالاً ثابتاً بل هي حقيقة متبدلة، حتى لقد قال المسيو (لوروا): (الإدراك والتذكر كل منهما اختراع).
وعكس ذلك صحيح أيضاً. أي إن التخيل المبدع لا يبدع الصور من العدم بل يستمد عناصرها من الواقع. فالخيال إذن منسوخ من الحقيقة. وقد فرقوا في الإبداع بين الصورة والمادة فقالوا: إن التخيل لا يبدع مادة جديدة بل يقتصر على جمع بعض الصور إلى بعض فيحلل ويركب ويصغر ويكبر. فهو يبدع صورة جديدة، إلا أن مواد عمله مقتبسة كلها من الواقع. فالصورة وحدها إذن جديدة، والتخيل مبدع بمعنى أنه يجمع العناصر بعضها إلى بعض فيؤلف منها مركبات جديدة. فكل إبداع هو في الحقيقة تركيب.
وإذا قيل: إن العقل لا يقتصر في الإبداع على جمع الصور وإنه إنما يجمع هذه الصور إلى المعاني المجردة والأحوال الانفعالية والنزعات والأهواء، قلنا مهما كان نوع التركيب، ومهما كانت حالة العناصر فأن الإبداع ينتهي دائماً إلى الصور. قال أحد العلماء المعاصرين ما خلاصته: (المخترع شاعر حدسي. قد يقال إن هناك عقولاً منطقية، جدلية لا تتقدم إلا بالقياس والخطاب - سيراً على طريقة (فوبان) الذي كان لا يهجم على حصن قوي إلا بعد أن يعد للأمر عدته - غير أن الأمر على خلاف ذلك، لأن هذه العقول حدسية أيضاً. فهي تجمع ثنايا الطرائق وأصول المنطق وأحكام العقل وصور القياس بعضها إلى بعض بدلاً من أن تجمع الألوان والأصوات والأوزان والاستعارات الحسية، والأوضاع المشخصة). ومهما كان الاختراع في أوله بعيداً عن الصورة فهو دائماً يقلب المثال المجرد إلى صورة محسوسة تدل عليه وتجيبه وتخرجه من أعماق اللاشعور إلى الحياة الظاهرة الملموسة.
هل تستطيع النفس أن تبدع الصور؟
إن أكثر علماء النفس يقولون مع (لوك) إن النفس عاجزة نفسها عن إبداع أية فكرة(218/55)
بسيطة. فكل صورة هي إذن نسخة، ولا تصور إلا بالإحساس. إن الأكمة لا يستطيع تصور الألوان، والأصم لا يستطيع أن يبدع الألحان. فالتخيل ليس مبدعاً من حيث هو موجد، بل هو مبدع من حيث هو مركب
إلا أن الفكر يجمع كما قلنا في هذا التركيب عناصر مختلفة فهو يجمع الصور المشخصة إلى الفكر المجردة، والنزعات والأهواء. ولعله لا يعجز عن إبداع بعض الفكر، أما الصور فلا يتناولها إلا عن طريق الإحساس، وإذا تمثلها أمكنة أن يمزج بعضها ببعض ويحصل بهذه الممازجة عن صور جديدة. نعم إن الأكمة لا يستطيع تخيل الألوان، ولكن البصير يستطيع أن يتخيل ألواناً متوسطة مركبة من الألوان البسيطة فيتصور لوناً بنفسجياً أكثر احمراراً من البنفسجي الطبيعي. قد يقال: إن الطبيعة أغنى من الفن، وإن اختراعات المصورين ليست إلا تقليداً لما في الطبيعة من الصور المختلفة وإن في غروب الشمس من الألوان ما لا يستطيع أعظم المصورين أن يأتي بمثله. هذا صحيح، لأن الألوان الطبيعية أكثر تنوعاً من الألوان الفنية. إلا أن أصوات الطبيعة أفقر من أصوات الفن، وهي في الغالب على نمط واحد، كحفيف الأغصان وتغريد الطير، وخرير الماء، ونقيق الضفادع. إن آلات الفن ليست من هبات الطبيعة بل هي من اختراع الإنسان. نعم إن الإنسان لم يتصور بوضوح لحن العود قبل اختراعه له ولكن العود لم يتكامل إلا بعد أن أنتقل الإنسان به من صوت إلى آخر وتخيل في كل دور من أدوار انتقاله صوتاً أحسن وقعاً وأعمق تأثيراً من الأصوات المألوفة، ففي كل درجة من درجات هذا التكامل قد تقدم الخيال وأبدع صورة جديدة لا عهد للفن بها من قبل.
(دمشق)
جميل صليبا(218/56)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
بقية كلامه عن (الفداء)
لذلك تهب الإرادة وقد تملكها الغيظ مقتلعة الأحجار منتقمة من كل من لا يجاريها في كيدها وثورتها. وهكذا تصبح الإرادة المنفذة قوة شريرة تصبّ جام غضبها على كل قانع بعجزها عن الرجوع إلى ما فات. وهل انتقام الإرادة إلا عبارة عن كرهها للزمان لأنه أوقع ما لا قبل لها برده؟
والحق أن إرادتنا مصابة بالجنون، وقد نزلت لعنة على البشرية منذ تعلم الجنون أن يتفكر. فإن خير ما طرأ على الإنسان حتى اليوم إنما هو فكرة الانتقام؛ وهكذا سيبقى العقاب ملازماً للألم في كل زمان وفي كل مكان. وهل فكرة الانتقام إلا العقاب بذاته، فما كلمة الانتقام إلا كلمة مكذوبة يقصد بها التعبير عن الضمير.
إن كلَّ مُريدٍ يتألم لأنه لا قِبلَ له بالرجوع إلى الماضي لردّ مافات، ولهذا لزم أن تكون الإرادة بل كل حياة على الإطلاق كفّارة وعقاباً.
بمثل هذه الاعتقادات تلفّع العقل بالغيوم فأنبثق منه الجنون هاتفاً: كل شيء يزول، فكل شيء يستحق الزوال.
إن العدل نفسه يقضي بأن يفترس الزمان أبناءه، هذا ما أعلنه الجنون.
لقد وضع الناموس الأدبي وفقاً للحقوق وللعقاب، فأين المفر من نهر الحياة الجارف وما الحياة إلا عبارة عن عقاب؟ وهذا أيضاً ما أعلنه الجنون.
ليس من حادث واحد يمكننا أن نزيله من الوجود، فكيف للعقاب أن يمحو الحادثات؟ وهل من خلود لغير الأعمال في وجود لا ينفك يحول العمل عقاباً والعقاب عملاً؟ ولا مناص من هذه الحلقة المفرغة ما لم تتوصل الإرادة إلى الفرار من ذاتها فتصبح حينذاك إرادة منفية.
إنكم تعرفون، أيها الأخوة، هذه الأغاني التي يتشدق بها الجنون. وقد أقصيتكم عن سماعها عندما علمتكم أن الإرادة مبدعة. كل ما فات يبقى مبدداً منثوراً كأنه أسرار ومصادفات(218/57)
رائعة إلى أن تقول الإرادة: إنني أردت هذا. ثم تقول: وهذا ما أريده الآن وسأريده غداً.
هل نطقت الإرادة بمثل هذا حتى اليوم؟ وإلى متى ستنطق به؟ هل هي تملصت من قيود جنونها فأصبحت تفتدي الحادثات بعزمها وتبشر بالحبور؟ هل هي اطرحت فكرة الانتقام وتوقفت عن حرق الأرم من كيدها؟ من ترى تمكن من تعليمها مسالمة الزمان بل ما يفوق هذه المسالمة؟
يجب على الإرادة ولا أعني سوى إرادة الاقتدار أن توجه مشيئتها إلى ما هو أعظم من المسالمة. ولكن أنى لها ذلك ومن سيعلمها أن توجه هذه المشيئة إلى ما فات؟
وتوقف زارا عن الكلام فجأة كأن رعباً شديداً حل به فاتسعت حدقاته وشخص بأتباعه سايراً أفكارهم وما وراء أفكارهم غير أنه ما لبث أن عاد إلى الضحك فقال بكل هدوء:
- ما تهون الحياة بين الناس لأن الصمت صعب على المرء وخاصة إذا كان ثرثاراً.
هكذا تكلم زارا. . . .
ولكن الأحدب الذي كان يصغي إلى هذا الحديث وهو يستر وجهه بيديه سمع قهقهة زارا ففتح عينيه مستغرباً وقال: - لماذا يخاطبنا زارا بغير ما يخاطب به أتباعه.
فقال زارا: - وهل من عجب في هذا؟ أفما يصح أن يخاطب الأحدب بأقوال لها حدبتان.
فقال الأحدب: - ولا عجب أيضاً في أن يخاطب زارا تلاميذه كمعلم أولاد، ولكن لماذا يخاطب أتباعه بغير ما يخاطب به نفسه. . .
هكذا تكلم زارا. . . .(218/58)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
188 - العرب واليهود في الأندلس
كتب أيوب بن سليمان المرواني إلى بسام بن شمعون اليهودي الوَشْقي في يوم مَطير:
لما كنت - وصل الله إخاءك وحفظك - مطمح نفسي، ومنتزع اختياري من أبناء جنسي، على جوانبك أميل، وأرتع في رياض خلقك الجميل - هزتني خواطر الطرب والارتياح في هذا اليوم المطير، الداعي بكاؤه إلى ابتسام الأقداح واستنطاق البمّ والزير، فلم أر معيناً على ذلك، ومبلغاً ما هنالك، إلا حسن نظرك، وتجشمك من المكارم ما جرت به عادتك: وهذا يوم حرم الظرف فيه الحركة، وجعل في تركها الخير والبركة. فهل توصل مكرمتك أخاك إلى التخلي معك في زاوية، متكئاً على دَنّ مستنداً إلى خابية. ونحن خلال ذلك نتجاذب أهداب الحديث التي لم يبق من اللذات إلا هي، ونجيل الألحاظ فيما تعودت عندك من المحاسن والأسماع في أصناف الملاهي، وأنت على ذلك قدير، وكرمك بتكلفه جدير. ولا يعين المرء يوماً على راحته إلا كريم الطباع، وها أنا والسمع مني إلى الباب وذو الشوق حليف استماع:
فأن أتى داع بنيل المنى ... ودعت أشجاني ونعم الوداع
189 - شاعرة يهودية أندلسية
في (النفح): - كانت بالأندلس شاعرة من اليهود يقال لها قسمونة بنت إسماعيل اليهودي، وكان أبوها شاعراً وأعتني بتأديبها وربما صنع من الموشحة قسماً فأتمته هي بقسم آخر. قال لها يوماً: أجيزي هذا البيت، فأجازته، فقام كالمختبل وضعها إليه؛ وجعل يقبل رأسها، ويقول: أنت (وعشر الكلمات) أشعر مني. ونظرت في المرآة يوماً فرأت جمالها وقد بلغت أوان التزوج ولم تتزوج فقالت:
أرى روضة قد حان منها قطافها ... وليس يرى جان يمد لها يدا
فوا أسفي! يمضي الشباب مضيعا ... ويبقى الذي ما إن أسميه مفردا
وقالت في ظبية عندها:(218/59)
يا ظبية ترعى بروض مزهر ... إني حكيتك في التوحش والحور
أمسى كلانا مفردا عن صاحب ... فلنصطبر قسراً على حكم القدر
فسمعها أبوها فنظر في تزوجها.
190 - بلاد أمان
المتنبي:
حمي أطراف فارس شَمَّرِيُّ ... يحض على التباقي بالتفاني
فلو طرحت قلوبُ العشق فيها ... لما خلفت من الحدَقِ الحسان
191 - شهلان ذو الهضبات ما يتحلحل
قال أبن قتيبة: كان الأحنف إذا أتاه إنسان أوسع له، فأن لم يجد موضعاً تحرك لِيُريَه أنه يوسع له. وكان آخر لا يوسع لأحد ويقول: ثهلانُ ذو الهضات ما يتحلحلُ
192 - لا تسألوا عن أشياء
سُئل بعضُ الوعاظ: لِمَ لَمْ تنصرف (أشياء)؟ فلم يفهم ما قيل له، شكت ساعة فقال: أنت تسأل سؤال الملحدين لأن الله يقول: (لاَ تَسْلوا عَنْ أشياء)
193 - ليتنا نخلاج منه كفافاً
سئل الشعبي هل يجوز أن يؤكل الجِنِّى لو ظُفر به؟
فقال: ليتنا تخرج منه كفافاً لا لنا ولا علينا. .
194 - رأي السلامة في الوقف
في (البيان والتبيين): كان مهدي بن مهلهل يقول: حدثنا هشامْ (مجزومة) ثم يقول: أبنْ (ويجزمه) ثم يقول: حسانْ (ويجزمه) لأنه حين لم يكن نحْويا رأي السلامة في الوقف
195 - نعوذ بالله من قوم لا يشعرون
في (الغيث المسجم): قال بعضهم يعتذر عن اشتغاله بالشعر: ولعمري ما أنصفي من أساء بي الظن، وقال: كيف رضي مع درجة العلم والفتوى بهذا الفن، والصحابة كانوا ينظمون(218/60)
وينثرون، ونعوذ بالله من قوم لا يشعرون!
196 - هذا سبب الإعجاب
قال أسحق الموصلي: قلت لزهراء الكلابية: حًدثيني عن قول الشاعر:
أحبُّك أن أُخبرتُ أنك فارِكٌ ... لزوجك؛ إني مولَعٌ بالفواركِ
ما أعجبه من بغضها لزوجها؟
فقالت: عرفته أن في نفسها فضلةً من جمال وشمخاً بأنفها وأبهةً، فأعجبته
197 - اسقه الماء
دخل الشعبي على مسلم بن قتيبة فقال له: ما تشتهي يا شعبي؟
فقال: أعز مفقود، وأهون موجود
فقال: يا غلام، أسقه الماء(218/61)
الصحراء
للأستاذ أنور العطار
سَرَبَْ في رِحَابِهَا قِصَصُ الحُبِّ ... وَغَنَّتْ في شَاطِئَيْهَا الرِّمَالُ
مَا ثَنَتْهَا الأَحْقَابُ عَنْ مُتَعِ الشِّدْ ... وِ وَلاَ طَافَ بالنِّشِيِد مَلاَلُ
تَتَغَنَّى والكَوْنُ نَشْوَانُ باللَّحنِ ... فَتَهْتَزُّ في الأَقَاصِي الجبَالُ
وَتَضِجُّ الوِدْيَانُ بالنَّغَمِ البِكْرِ ... وَتُزْهَي أَغْوَارُها والدِّحالُ
نَغَماتٌ أََصْغَتْ إِليها اللَّيالي ... وَوَعَتْتَها العُصُورُ وَالأَجْيَالُ
فإِذا العَالَمُ أبْتِسامٌ وَصَفْوٌ ... وَرَبيعٌ مُنَضَّرٌ مْخِلاَلُ
وإِذا الكائِنَاتُ يَغْمُرُها النُّو ... رُ وَيَطْفُو عَلَى مَدَاهَا الجَلاَلُ
حَفَلَتْ سَاحُها بِخَيْرِ الرِّسَالاَ ... تِ وَسَحَّ النَّدَى وَفَاضَ النَّوَالُ
المُرُوَءاتُ لَمْحَةُ مِنْ سَنَاهَا ... والبُطُولاَتُ والجِحَا والكمَالُ
مِلْءُ أَفْيَائِهَا السَّخَاء المُنَقَّى ... مِلْءُ أَعْطافِهَا السُّرَي والنَّضَالُ
كَرُمَتْ عُنْصُراً وَطَاَبَتْ نِجَاراً ... وَصَفَتْ كالَّنمِيِر فيها الخِلاَلُ
فَهْيَ مَهْدُ النَّجْوَى وََمُنْبثَقُ النُّو ... رِ وَدُنْيا تَرُودُها الأَبْطَالُ
مَا عَلَيْها إِنْ شَحَّتِ الأََرْضُ بالخَيْرِ ... إِذا لَمْ تَشِحَّ فيها الخِصَالُ
لَيْسَ يَحْيَا فيها الضَّرَاعَةُ والذُّلُّ ... وَلاَ يَصْحَبُ العُلا إِذْلاَلُ
لاَ تَطِيبُ الحَيَاةُ تَطْفَحُ بالبُؤْ ... سِ إِذا لَمْ يَهُزَّهَا اسْتبْسَالُ
حُرَّةٌ تُنْجِبُ الغَطَارِفَةَ الصِّيدَ ... فَلاَ عَاجِزٌ وَلا سألُ
كُلُّهُمْ كادِحٌ نَمَتْه الدِّرَايَا ... تُ وَزَانَتْ أَقْوَالَهُ الأفْعَالُ
يَغْنَمُ العَيْشَ خَالِصاً لم يُهَجِّنْهُ ابْتذَالٌ وَلَمْ يَعِبْهُ اتِّكَالُ
والهَنَاَءاتُ شِرْعَةٌ لَمْ يَرِدْهَا ... خَائِرُ العَزْمِ، والهْنَاَء اهْتِبَالُ
هَا هُنَا الشِّعْرُ والرَّحيقُ المُصَفَّى ... هَاهُنَا السِّحْرُ واللَّيَالِي الخِصَالُ
هَا هُنَا السِّامِرُ المُضَمَّخُ بالعِطُرِ ... وَلِلْحُبِّ في حِمَاهُ اخْتِيَالُ
هَا هُنَا قَيْسُ يَسكُبُ الرُّوحَ أَنْغَا ... ماً وَعَيْشُ المُتَيَّمينَ ابْتهَالُ
شَجَنٌ صَارِخٌ وَيأَسٌ مُذِيبٌ ... وَحُظُوظٌ سُودٌ وَدَمْعٌ مُذَالُ(218/62)
ضَائِعٌ في مَجَاهِلِ الأَرْضِ تَبْكي ... لِبُكاهُ الآثار وَالأطْلاَلُ
يَسْأَلُ النَّجْمَ أَيْنَ لَيْلايَ يا نَجْمُ ... ولا يُهْدِيُّ المُحِبَّ السُّؤَالُ
تَتَنَاجَى الرِّمَالُ إِنْ هُوَ غَنَّي ... وَتَرَامَي كأَنَّهَا الأَطْفَالُ
يُرْسِلُ الشِّعْرَ حَافِلاً بالخَيَالاَ ... تِ كَمَا تُرْسِلُ الرُّؤَي الآصَالُ
تَتَنَزَّى أَضْلاَعُهُ مِنْ جَوَي الحُبِّ وَدَاءُ الهُيَامِ دَاءٌ عُضَالُ
يَا لَهُ شَارِداً تَقَاذَفُهُ ... البِيدُ وِيَطْوِيِه ضَعْفُهَ وَالكلالُ
لَمَعَتْ في القِفَارِ هَلْهَلَةُ الفَجْرِ، ... وَلِلفْجَر مِطْرَفٌ هَلْهَالُ
فَعَلَى الرَّملِ مِنْ رُؤَاهُ تَهاوِيلُ ... وفي الأُفْقِ جَدْوَلٌ سَلْسَالُ
والنَّعَامَاتُ مَاتَني مَجْفَلاتٍ ... وَلَقَدْ زَانَ حُسْنَها الإِجْفَالُ
هِيَ في بَسْمَةِ الصَّباحِ أَبَادِيدُ وفي مَوْجَةِ الضُّحى أَرْسَالُ
تَتَحَرَّى مَوَاقِع المَاءِ عَجْلَى ... لاَهِفَاتٍ وَوِرْدُهَا الأَوْشَالُ
صَغُرَتْ رُقْعَةُ الفَلاَةِ بعَيْنَيْهَا ... وَقَلَّ المَدَى وَضَاقَ المجَالُ
تَنَهْبُ العُمْرَ في مُسَابَقَةِ الظِّلِّ ... فَيُضْوِي أَرْوَاحَهَا الإِرْقَالُ
قُلْتَ مَجْنُونَةٌ أَطَافَ بها الذُّعْرُ ... فما تَستْقَرُّ فيها الحَالُ
عَيْشُهَا كُلُّهُ عَنَاءٌ وَكَدٌ ... وانْتِوَاءٌ لا يَنْقَضي وارْتِحَالُ
زَحَمَتْ في وَجِيفهَا مَنْكبَ الرِّيح ... وَضَاعَتْ كَمَا تَضِيعُ الظِّلالُ
فَهْيَ خَطٌّ في مُصْحَفِ الأُفْقِ نَاءٍ ... غَّيَبْتهُ الأَبْعَادُ وَالأَطوَالُ
عَنْ يَمينِي وَعَنْ شَمِالي رِمَالٌ ... قَلقَاتٌ مُرَوَّعَاتٌ نِهَالُ
يُوشِكُ الهُلْكُ أَن يُصَافِح عَيْنَيَّ وَبِي مِنْهُ رِعْدَةٌ وانْذِهَال
هَا هُنَا المَوْتُ كالِحُ الوَجْهِ بادٍ ... وَلَهَ جُرْأَةٌ وَفيهِ صِيَالُ
لَطَمَتْ خّدَّهَا الجَنُوبُ مِنَ الذُّعْرِ ... وَجُنَّتْ مِنَ الصُّرَاخ الشَّمالُ
وَالمَنَاجَاتُ فِي الرِّياحِ تَوَالَي ... لَمْ يَفُتْهَا الإِرْنَانَ وَالإِعْوَالُ
دَارَةٌ لِلْعَوَاصِفِ الهُوج تَلْهُو ... فِي حِمَاهَا الخُطُوبُ وَالأَهْوَالُ
تَتَلَظَّى الرَّمْضَاءُ فِي سَاحَتَيْهَا ... وَلَها فِي دَمِ الشُّمُوسِ اغْتِسَالُ
تَتَدَجَّى الدُّنْيَا وَتَصْطَخِب الأَرْ ... ضُ وَتُرْغِى فيها الشُّجُونُ الثِّقَالُ(218/63)
وَهْيَ غَلْفَاءُ ما يَعَاوِدُها الرُّعْبُ وَلَيْسَتْ تَرُوعُها الأَوْجَالُ
لا تَنَالُ النَّكْبَاءُ مِنْ عَزْمِهَا الثَّبْتِ ... وما إِنْ يَهيجُهَا زِلَزْالُ
جَثَمَتْ فِي فَضَاءِ رَبِّي شَمَّا ... َء وَتَاهَتْ كأَنَّها الرِّئْبَالُ
أَغْفَتْ الكُثْبُ ما تُبِينُ من البُهْرِ ... وَنَشَّتْ مِنْ الظَّمَاءِ التِّلالُ
حُمَّتِ الكائِنَاتُ واحْتَدَامَ الحَرُّ ... وَذَابَ الحَصَا وَسَالَ الضَّالُ
لَفَظَتْ رُوحَهَا الهَجِيرُ مَلاَلاً ... وَتَرَاخَتْ مِنَ اللُّهَاثِ الرِّئالُ
يأُكُلُ الحَرُّ لْحَمَهَا وَهْيَ صَرْعَى ... مَثْلَمَا تأْكُلُ الشُّمُوعَ الذُّبالُ
فَهْيَ هَلْكَي عَلَى فِرَاشٍ مِنَ الَجَمْرِ ... بَرَاهَا شحُوُبُها والهُزَالُ
أَيُهذَا السَّرَابُ يا صُورَةَ الدُّنْيا ... نَهَاوَتْ في لُجكَ الآمَالُ
لَحْتَ لَيِ تَزَدَهِيكَ بيضُ الأمَانِي ... فَارْتَوَى خَاطِرِي وَرَفَّ الخَيَالُ
عَلِقَتْ مُهْجَِي بَلأُلائِك الغَمْرِ ... وَأَغْفى بَنَاظِري الزِّيالُ
فَنيَتْ في رَؤَاكَ قَافَلةُ العُمْرِ وَأَوْدَى بها الأَذَى والمطَالُ
لَمْ تَزَلْ تَرْتِمي عَلَى الماءِ هَيْمَي ... وَهْوَ نَاءٍ لا يَدَّنيهِ مَنَالُ
شَخَصَتْ مُقْلَتِي وَضَلَّ ضَلاَلِي ... وَمِنَ الحُب فِتْنَةٌ وَضَلاَلُ
تَتَسلَّى بِنَا الأَعَاليلُ جَذْلي ... وَاْلأَعَاليلُ مْحِنةٌ وَخَبَالُ
لاَ يَرُدُّ الإِعْيَاَء عَنَّا التَّشَكِّي ... لاَ وَلاَ يَصْرِفُ العَذَابَ مَقَالُ
فَاضْحَكِي يا رِمَالُ مِنْ خُدَعِ الآ ... لِ فَقَدْ يُضْحِكُ الفَطيِنَ الآلُ
وَارْقُصي في مَجَاهِلِ البِيِدِ حَتَّى ... تَتَعَايا الجِنَّانُ وَالأغْوَالُ
وَامْرَحِي في سَوَانِحي وَخَيَالِي ... لَيْسَ يَثنَيكِ عَنْ مَرَام مُحَالُ
وَاحْطِمي هَذِهِ القُيُودَ لأَحْيَا ... رُبَّمَا أَفَنَتِ المُنَى الأََغْلاَلُ
وَدَعِيني أَعِشْ كَمَا أنْتَفَضَ الطَّلُّ ... وَرَفَّ السَّنَا وَمَاجَ الزُّلاَلُ
أوْ كمَا غَرَّدَتْ عِشَاشُ القَمِارِي ... وَتَغَنَّى فِي الوهْدَِة الشَّلاَّلُ
خفقَ القلب فاذكرت بلادي ... وبلادي الحقولُ والأَدغالُ
وَبِلاَدِي الأَنْهَارُ تَهْتِفُ سَكْرَي ... والنَّدَى السَّمْح والسُّلاَفُ الحَلاَلُ
والرِّياضُ اللِّطَافُ تَعْبَقُ بالعِطْرِ ... حَلَتْهَا الأََفْيَاءُ والأََظْلاَلُ(218/64)
واليَنَابِيعُ حُقَّلٌ بالأنَاشِيدِ تَرِاخَي فيها السَّنَا والبِلاَلُ
لا يُرَوِّعْكَ مَدْمَعِي وَهُيِاَمِي ... أَنا سِرُّ الهَوَى وَأَنْتَ الجَمَالُ
تَتَرَاَءى لِنَاظِري مِنْكِ أَرْوَا ... حٌ رِقَاقٌ يَلَذُّ مِنْهَا الوِصَالُ
فَأُنَاجِي وَمَا أَمَلُّ التَّنَاجِي ... وَأَغَنِّي وَلِلْهَوَى اسْتِرْسَالُ
وَبِنَفْسي لْحَنٌ جَبيِبٌ يُسَلينِي ... وَحُلْمٌ يَهْفُو إِلَيْهِ البَالُ
وَتَصَاوَيرُ مِنْ رِباعِيَ شَتَّى ... مَالَها الدَّهْرَ فِي الوُجُوِدِ مثَالُ
هِيَ سَلْوَاىَ إَنْ أَظَلَّنِيَ الهَمُّ ... ومَادَتْ بِيَ الخُطُوبُ الطِّوالُ
نَهِلَ الحُبّث مِنْ مَنَاعِمَها الزُّهْرِ ... وَضَاَءتْ بَسحْرِهَا الأَشْكالُ
فَهْيَ في العَيْنِ صُورَةٌ لَيْسَ تُمْحَي ... نَاَم عنها البِلَى وَأَغْفَى الزَّوَالُ
وَهْيَ فِي القَلْبِ فَرْحَةٌ تَمْلأُ القَلْبَ ... فَتُطْوَى بِحُلْمِهِ الآجالُ
يا رِباعَ الخَلَودِ عاَشَ لكِ العَّدْ ... ولا زَالَ خِدْنَكِ الإِقْبَالُ
أَنْتِ مِنِّي الحُلْمُ الذي أَشْتَهِيِه ... وَمِجنِّي وَمَفْرَعِي وَالمَالُ
أَيُّهَذَا القَفْرُ الذَّي أدَّرَع الهَوْ ... لَ وَغَابَتْ فِي صَمْتِهِ الآزَالُ
أَنَا فِي كَوْنِكَ الرَّحيبِ ندَاءٌ ... أَخْفَتَتْهُ الأَوْجَاعُ وَالأعْلالُ
تَتَرَامى بِيَ الهُمُومُ العَوَاتِي ... والشَّجَا المرُّ والأَذَى والنَّكالُ
أتعَبَتْنِي المُنَى وَمَا زِلْت أَشْقَى ... وَأُعَنُّي وَلِلْمُنَى بَلْبَالُ
وَبِقَلْبِي دَاءٌ عَيَاءٌ قَدِ اسْتَعْصَى ... وَجُرْحٌ لا يَعْتَريِه انْدِمَالُ
وَجَنَاحُ الَحَياةِ مِنِّي مَهِنيِضٌ ... لا تُقَوِّيهِ رِحْلَةٌ وِانْتِقَالُ
فَلَعَلِّي أُبلُّ في جَوْبِيَ البِيدَ ... وَمَا يُرْتَجَى لِيَ الإِبْلالُ
خَاطِري مِنْ أَذِيَّة الدَّهْرِ مَكْدْو ... دٌوَ جْسِمِي مِنَ الضَّنى أَسْمَالُ
أَقْطَعُ العُمْرَ فِي غَمِارِ الرَّزَايا ... وَحَيَاتِي زَهَادَةٌ وَاعَتْزَالُ
يا رمَالَ الآبِاد مَا أدكِ الَّسيْرُ وَلاَ هَدَّ عَزْمَكِ التَّرْحالُ
أَبَداً تَوغِليِنَ فِي المْجَهلِ النَّا ... ئِي وَمَا إِنْ يَرُوعُكِ الإِيغالُ
غَابَ فِي يَمِّكِ الرَّهيب أَخُو القّفْر ... وَطَاحَ المُسَافِرُ الجَوَّالُ
هَدَأَ الدَّهْرُ مِنْ نِظَالِكِ تَعْبَا ... نَ وَمَا نَالَ مِنْ قُوَاكِ النِّضَالُ(218/65)
أَنْتِ لَحْنٌ مِنَ الخُلْوِد نَقِيٌّ ... وَنَشَيِدٌ مِنَ البَقَاءِ حَلاَلُ
أنور العطار(218/66)
البريد الأدبي
اختيار الأسماء وتبديلها
(وعلم آدم الأسماء كلها) القرآن
استبدال سمي صاحبي النبي - زاد الله مصر في أيامه ارتقاء ومجداً - بذلك الاسم الأعجمي، هذا الاسم (الفريدَ) العربي مستنا بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) و (لكمْ في رسولِ الله أسوة حسنة) ففي (صحيح الترمذي): (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يغير الاسم القبيح) وفي (مسلم والترمذي وأبي داود): (عن أبن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غير أسم الله عاصية وسماها جميلة) وفي (صحيح البخري): (قال: ما أسمك؟ قال: حَزْن، قال: بل أنت سهل) وفي (سنن أبي داود): (سمي حرباً سلماً وسمي المضطجع المنبعث، وأرضاً تسمى عفرة سماها خضرة، وشعبَ الضلالة سماه شعب الهدى)
فأستبدل ملك مصر - أيده الله - (فريدة) ب (سافيناز) هو (والله) من الجودة والارصان والإتقان بمكان. وما أجدر الناس - والناس على دين ملوكهم كما يقال - في مصر وغير مصر من بلاد العرب والإسلام أن يغيروا أسماءهم القبيحة، والأعجمية والإفرنجية، وأن يختاروا لبنيهم وبناتهم الأسماء العذبة الحسنة العربية. وقد قال محمود جاد الله (صاحب الكشاف):
(قد قدّم الخلفاء وغيرهم رجالاً بحسن أسمائهم، وأقصوا قوماً لشناعة أسمائهم) وقال: إن الأسامي السُّنْع - يعني الجميلة والشريفة الفاضلة - جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز) وليستهد الجاهل بذلك الفقيه العالم صاحب الذوق. إياك من وفاقده وإياك من فاقده فرب عالم أو عويلم قد سلبه الله الذوق سلباً. فمن استرآه (طلب رأيه) في كلمة أو سم أتحفه بآبده. . . .
وإن الكلمات والأسماء العربية الفائقة البارعة الباهرة لتملأ الدنيا
(قارئ)
الهبات الملكية للبعوث الإسلامية في الأزهر(218/67)
أفردت مشيخة الجامع الأزهر في مشروع الميزانية العامة باباً خاصاً للهبات الملكية - جاء فيه أن حضرة صاحب الجلالة الملك قد تفضل فأمر بوقف مبلغ قدره ألف جنيه لينفق على الطلاب الوافدين إلى الجامع الأزهر من اليابان وجهات البلقان، ووقف مبلغ قدره 720 جنيهاً سنوياً للطلاب الذين يفدون إلى جامع الأزهر من بلاد الصين. ثم ذكرت بعد ذلك ما يفيد أن جلالة المغفور له الملك فؤاد الأول قد وقف في حياته مبلغاً قدره مائة جنيه تصرف في كل عام مكافأة للأول والثاني من الناجحين في امتحان الشهادة من طلاب الكليات الأزهرية الثلاث
وبهذا يصبح مجموع الهبات الملكية لطلاب البعوث الإسلامية في الأزهر ولبعض طلاب الأزهر المتفوقين 1820 جنيهاً سنوياً
حديث طل
روي في مجلة العرب (الرسالة) الأستاذ محمد سعيد العريان المتحلي بالفضل والآداب، والسابق في الميدان، من كلام فقيد الأدب العربي ونابغته المرحوم (مصطفى صادق الرافعي) هذه الجملة: (فأن الموضوع طلي شهي) والطلي في العربية:
الجَدْيُ، الصغير من أولاد الغنم، وجمعه الطليان، وإنما سمي طلياً لأنه يًطلي أي تشد رجله بخيط أياماً. و (قول طلي) أي عذب أو ذو طلاوة قد نُقِد، والنقد حق لا يدفعه تعقب، ولا يجدي الجدل. وقد وجدت في اللغة لفظة صحيحة تسد مسد المنقودة، وتشكاكلها في أكثر حوفها، وهي (الطل) وهذا ما جاء في (أساس البلاغة) للزمخشري: (يوم طل: رطب طي، وحديث طل. ومن أعرابية: ما أطل شعر جميل وأحلاه؛ وامرأة طلة: حسنة نظيفة) وفي شرح القاموس: (الطلة الخمرة اللذيذة وقيل: السلسة) وفي لسان العرب: (وحديث طل أي حسن)
فقل (الطل) وكُلْ (الطلي). . .
المسرح المصري والنفوذ الأجنبي
كانت وزارة المعارف قد انتدبت في الشتاء الماضي خبيراً أجنبياً لدراسة شؤون المسرح المصري هو مسيو إميل فابر المدير السابق لمسرح الكوميدي فرانسيز. وقد نوهنا يومئذ(218/68)
بما هنالك من شذوذ في هذا الانتداب؛ وكانت نتيجة هذه الدراسة أن وضع مسيو فابر كالمعتاد تقريراً لا يخرج في معناه عما قيل وعرف منذ سنين؛ ولكن كانت ثمة نتيجة أخرى هي أن وزارة المعارف حملت على انتداب فرقتين فرنسيتين للتمثيل في دار الأوبرا في الموسم المقبل؛ وقد كان المعتاد من قبل أن تستقدم فرقة فرنسية واحدة إلى جانب بعض الفرق الأجنبية الأخرى؛ ولكن سنشهد هذا العام أول فرقة الكوميدي فرانسيز، ثم نشهد من بعدها فرقة الأوبرا كوميك؛ وهذه لعمري وسيلة بديعة للإصلاح المسرح المصري وتحريره من النفوذ الأجنبي. ولقد كنا نظن حينما تألفت الفرقة القومية أنها بداية عهد جديد في تاريخ المسرح المصري، وأننا سنظفر عما قريب بتمصير هذا المسرح وإصلاحه ليفي بالغايات القومية؛ ولكنا رأينا نفوذ الجهة الأجنبية التي استعبدت الفن المصري منذ قرن يشيد عن ذي قبل؛ وظهر أثر هذا النفوذ واضحاً في تنسق القيم المصري بمعرض باريس، ثم ظهر في هذه النتيجة المعكوسة التي انتهى إليها انتداب الخبير الفرنسي لإصلاح المسرح المصري، ولسنا نعرف متى يتحرر الفن المصري من هذه السيطرة الأجنبية التي تحاول تمكين أغلالها دائماً؟ ولكن الذي نعرفه هو أن الفن المصري لا يمكن أن ينهض من عثاره ما دام خاضعاً للتوجه الأجنبي، وأن مصر لن تظفر بقيام المسرح المصري المنشود ما لم تعمل أولاً على تحريره من هذه الأغلال.
فهارس للفن الأندلسي
من المعروف أن أسبانيا تملك كثيراً من التحف الفنية الأندلسية؛ ولكن توجد إلى جانب ذلك مجموعات أخرى من تراث الأندلس الفني لم تذع محتوياتها؛ ومن ذلك مجموعة الجمعية الأسبانية الأمريكية، فهي تملك مجموعة كبيرة من المصنوعات الخزفية الأندلسية، ومن قطع الوشي والنسيج الأندلسية. وقد صدر أخيراً فهرسان كبيران مصوران لمحتويات هذه المجموعة الشهيرة أحدهما للتحف الخزفية وهو بقلم السيدة أليس فورذنهام، والثاني للوشي والنسيج، وهو بقلم السيدة فلورنس ماي؛ وقد صدر الفهرس الأول بمقدمة بديعة عن تاريخ الخزف الأندلسي، ونماذجه وألوانه ولا سيما فنون غرناطة، وما كان لها من أثر عميق في تقدم فن النقش والتلوين. وقد اشتهرت مالقة وغرناطة منذ القرن الثالث عشر بصناعة الخزف المذهب؛ واشتهرت تونس في هذا العصر بصناعة الآنية المزخرفة المسماة (ملكي)(218/69)
وكان لبلنسية شهرة فائقة في هذا الفن، وكان لها أثرها فيما بعد في أرجوان وقشتالة؛ ثم ذاع هذا الفن الأندلسي بعد ذلك في فرنسا وإنكلترا. وكان الملوك والأمراء في العصور الوسطى يزينون قصورهم وابهاءهم بنماذج من الخزف الأندلسي والتوينات الأندلسية، ولا سيما الألوان الذهبية الوهاجة التي برع فيها أهل الأندلس. كذلك يصف الفهرس الخاص بالنسيج براعة أهل الأندلس في هذا الفن، وما كان لهم من فضل في تقدم النقوش والنماذج المتماثلة، واستحداث صور الأزهار والزخارف المستديرة. وقد كان للفن الأندلسي أعظم الأثر في تطور هذا الفن الدقيق أيام عصر الإحياء، وكانت غرناطة أيام ازدهارها تخرج من الحرير والكتان أفخم وأبدع النماذج التي كانت تستوردها أعظم القصور والشخصيات
آراء جديدة في العقاب
تطورت فكرة العقاب في القرن الماضي تطورً عظيماً، ثم هي لا زالت تتطور اليوم. وقد أصبحت الغاية الأولى من العقاب هي الإصلاح الاجتماعي بعد أن كانت هي الزجر والردع. وللعلامة الألماني الدكتور هانس فون هنتج كتاب في هذا الموضوع ظهرت أخيراً ترجمته الإنكليزية وعنوانه (العقاب؛ أصله، وغايته ونفسيته). ويقول الدكتور فون هنتج في تصديره إنه يقصد بمؤلفه أن ينفذ إلى ذهن الرجل العادي قبل الأستاذ الباحث؛ لأن الرجل العادي هو المسئول في الواقع عن وضع التشريعات الحسنة والسيئة؛ ويتناول فكرة العقوبة والعقاب من ناحية جديدة، ويضع للعقاب تعريفاً جديداً، ويصفه بأنه نوع من التطعيم لخطر صناعي لا يقل شبهاً عن الأخطار التي تفرضها الطبيعة ذاتها لصون قوانينها، ويعرفه في مقدمته بما يأتي: (العقوبة تعني إنشاء خطر صناعي، والعقاب إضرار منظم، وصدع للحياة منظم في شكل قوانين يستعملها المجتمع ليعود الإنسانية على تجنب بعض طرق العمل التي تخاصمها أو تؤذيها)
ويرى الدكتور فون هنتج أن فرض العقوبة لا يبرره سوى السعي إلى تخفيف الضرر الإنساني، وعنصره القانوني يتوقف تماماً على مقدرته في التأثير في غرائز الفرد ومشاعره، فالرجل الذي لا يشعر مثلً شعوراً قوياً بغريزة الاحتفاظ بالنفس لا تؤثر فيه العقوبة كثيراً؛ وكذلك لا يكون للعقوبة قيمة اجتماعية إذا كان اكتشاف الجريمة التي توقع من أجلها العقوبة أمراً عارضاً. ويقدم لنا المؤلف أمثلة عملية عديدة يرى أن العقاب فيها لا(218/70)
أثر له ولا وازع، ويقول لنا إن مضاعفة العقوبة في مثل هذه الأحوال إنما هي قسوة همجية لا تحقق شيئاً من الردع المقصود؛ بيد أن القانون قد أعتاد هنا أن يضاعف العقوبة، دون أن يحاول صقل الجهد في الإثبات والاكتشاف؛ في حين أنك ترى مثلاً فتى مغامراً يعتمد دائماً على حقه في الإفلات من العقوبة، وبذل لا يخشى العقوبة إلا بقدر ما يخشى جهنم
والعقوبة المادية ليست كل شيء في تحقيق فكرة العقاب؛ فمشاق السجن مثلاً يستطيع الكثيرون تحملها، ولكن الضرر الحقيقي هو في الحياة التي تلي حياة السجن. والواقع أن معظم العقوبات القانونية قاصرة عن تحقيق الأغراض التي وضعت لها؛ ومن الواجب أن تكون القوانين في الدولة المثلى، سواءاً كانت مدنية أو جنائية، سائرة وراء معيار الإنسانية في تقدير الخطأ والصواب
ويعالج الدكتور فون هنتج موضوعه الدقيق بوضوح يقربه إلى فهم القارئ العادي، ويجعله في نفس الوقت مرجعاً قيماً للباحثين
تعميم تدريس الدين في التعليم الثانوي والابتدائي للبنين والبنات
قررت وزارة المعارف تعميم تدريس مادة الدين في جميع فرق الدرسان بالمدارس الثانوية والابتدائية للبنين والبنات بعد ما كانت مقصورة على السنتين الأولى والثانية
وقد أعتمد معالي وزير المعارف المنهج الذي وضعه مكتب تفتيش اللغة العربية لهذا الغرض وستبدأ المدارس بتطبيقه في السنة الدراسية المقبلة
وأهم ما في هذا المنهج درس أخلاق ومناقب عمر بن الخطاب والسيدة عائشة والسيدة خديجة درساً صحيحاً يتجلى فيه ما لهم من أخلاق حميدة ومواقف مشهورة تبعث الطلبة على الإقتداء بهم، ودرس الآيات الكريمة والأحاديث النبوية. وأن تقترن هذه الدراسة بما يناسبها من الموضوعات، وأساس الدين الإسلامي، والآداب الإسلامية، وأدب الإنسان مع خالقه ومع المجتمع، ودرس سيرة أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، والإسلام والشورى، والإسلام والحكومة الصالحة، ودرس سيرة عمر بن عبد العزيز، والإمام أبي حنيفة، وسعد بن أبي وقاص، وأسماء بنت أبي بكر، والسيدة حفصة، ودرس الرسل والحكمة في إرسالهم، والإسلام وقواعده الخمس، والفضائل التي عز بها الإسلام، وتأثير(218/71)
الإسلام في تهذيب النفوس، وشرح الفضائل والرذائل، وعناية الإسلام بشأن المرأة، والبدع والعادات المخالفة للدين
حول أرزة لامرتين
أخي السيد خليل عطا الله:
لست أدري طيف يجب أن أقول: ويل للتاريخ من الشعر أو ويل للشعر من التاريخ. وإنما أحب أن تعلم أنني يوم زرت الأرز، منذ شهر ونيف، ونظمت فيه قصيدتي، لم أكن عالماً ولا مؤرخاً، ولعلي لن أكون أحدهما أبداً، وإنما أنا شاعر تجولت وإخواناً لي في ظلال الأرز ساعة من زمان صحبة دليل، واستمعت مأخوذاً إلى ما يقصه علينا هذا الدليل من كريات شعرية عذبة، وأنعمت النظر فيمت تركته هذه الذكريات من آثار محسوسة باقية، فوجدتني أطرب لهذا الفيض الشعري الساحر، فأصوغ طربي شعراً كفاني صدقه شرفاً ومجداً. ولا أعرف في الناس يا أخي من هم أحق بالرثاء من هؤلاء العلماء والمؤرخين الذين يستحقون كل إجلال وإعظام، والذين يفنون زهرة صباهم، وعنفوان شبابهم، وجلد كهولتهم، وراحة شيخوختهم، بين أكوام الأوراق ورفوف الكتب، ليظهروا حقاً أو ليزهقوا باطلاً؛ أما أنا فليس أحب إلى نفسي من أن تكون الحياة كلها أسطورة! ولعلها كذلك!. . .
أقول هذا لتوقن أنه لا ذنب لي في هذا الخطأ التاريخي الذي ارتكبه، وإنما هو ذنب ذلك الدليل (الصادق) الذب طاف بي أرجاء الغابة يدلني ويعلمني ويهديني السبيل؛ وذنب تلك اللوحة الرخامية المنصوبة على أرزة لامرتين، تلك اللوحة التي تؤكد زيارة الشاعر الكبير للأرز خريف عام 1832، والتي رأيتها ولا شك في الصورة التي نشرتها (الرسالة) العزيزة. وإني إن شكرتك على ملاحظتك التاريخية القيمة فكم أحب أن أوجها بدوري إلى أولئك الإخوان في بلدة (بشرى) الذي نصبوا تلك اللوحة منذ سنوات على الشجرة المذكورة وفي أعلى النقش تخليداً لذكرى هذه الزيارة بمناسبة مرور مائة عام عليها، دون أن يشيروا بكلمة إلى حقيقة هذه الزيارة أو حقيقة هذا النقش؛ وكم أود أيضاً - رغم كل هذا - أن يتمسك أولئك الأخوان بمعتقدهم، وأن يؤمنوا بزيارة الشاعر الكبير وأبنته لأرزهم، ونقشهما أسميهما على إحدى شجراته، ولو كتب هنري بوردو ألف كتاب، لا كتاباً واحداً في دحض(218/72)
هذه الزيارة وتفنيدها. لا أريد بهذه الحقيقة والتاريخ، وإنما أريد الاحتفاظ بهذا الكنز الشعري الروحي الثمين. ومن يدري فلعل كاتباً آخر يقوم غداً فينقض كل ما كتب صاحبنا (بوردو) ويثبت كل ما أنكر!
وختاماً أشكر يا أخي ملاحظتك الرقيقة من كل قلبي، وإن كنت آسف، وأحسبك ستأسف مثلي، على أنك أفقدتني أو كدت تفقدني عطفي على قصيدة هي على من أعز شعري
والسلام عليك. . .
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(218/73)
السينما والعلوم
لم يقف نشاط الفن السينمائي عند إخراج الروايات والقطع التاريخية
والأجتماعية، ولكنه أتجه في العصر الخير أيضاً إلى الناحية العملية
فأخرجت عدة شرائط مصورة عن حياة الحيوان والنبات وعن كثير
من الصناعات الدقيقة، والآن تخطو السينما خطوة أخرى في هذه
الناحية، فقد بدأت منذ حين تخرج لنا سير أقطاب العلم في شرائط
مصورة تمثل حياتهم واكتشافاتهم العلمية، وكان أول شريط من هذا
النوع شريطاً يمثل حياة الطبيب العلامة الفرنسي لوي باستور الذي
أكتشف عدداً كبيراً من الجراثيم، وساعدت تجاربه واكتشافاته العملية
على تقدم الطب تقدماً عظيماً، وكان نجاح هذا الشريط عظيماً، إذ يقدم
عن حياة باستور صورة مطابقة مؤثرة. وتلا ذلك إخراج شريط آخر
عن حياة فلورانس نيتنجيل المصلحة الإنسانية، ومنظمة المستشفيات
الشهيرة. والآن تفكر إحدى الشركات الأمريكية السينمائية في إخراج
شريط علمي جديد يمثل حياة العلامة والمخترع السويدي الشهير ألفريد
نوبل؛ ونوبل كما هو معروف مخترع الدينامت الحديث، ولكنه أشتهر
بمأثرة إنسانية أخرى هي وقفه أمواله الطائلة على منح جوائز نوبل
الشهيرة للآداب والعلوم والأعمال السلمية، وهي تعتبر أعظم الجوائز
الدولية في هذا الميدان، ولم يعرف حتى اليوم من هو الممثل الذي
سيقوم بدور المخترع الشهير، ولكن الشركة التي تعنى بإخراج هذا
الشريط وهي شركة كولومبيا ستبذل كل جهودها لتحقق لهذا الشريط
العلمي الجديد نجاحاً باهراً. وهكذا تعاون السينما في تاريخ العلم(218/74)
بصورة عملية شائقة.
عيد مدينة برلين
أحتفل في برلين في أواخر أغسطس بالعيد المئوي السابع لقيام مدينة برلين العاصمة الألمانية؛ وأقترن الاحتفال الرسمي بعدة حفلات موسيقية فخمة في بهو قصر برلين، وأقيم قداس موسيقي في كنيسة كلوستر بإشراف الموسيقي الأشهر أدوين فيشر؛ وكان من أهم المظاهر التي لفتت الأنظار إلى هذا العيد نماذج بديعة عرضتها شركة (أوربا الوسطى) في ميدان بوتسدام تمثل تاريخ خطط برلين من نشأتها إلى يومنا
رسالة النقد
كتاب إحياء النحو
للأديب السيد عبد الهادي
نشر الأستاذ أحمد أحمد بدوي، في مجلة الرسالة، نقداً لكتاب إحياء النحو للأستاذ الجليل إبراهيم مصطفى، ولقد قرأته بإمعان وتدبر كما أقرأ غيره من البحوث التي تتعلق بعلم النحو وخاصة في الأشهر القليلة الأخيرة التي قامت فيها ضجة حول الضعف في اللغة العربية وأسبابه وعلاجه، وقد كان النحو محوراً في هذه البحوث كلها، فقد جعل كل من الباحثين النحو في صورة خاصة سبباً من أسباب الضعف في العربية وجعله في صورة أخرى، أوجز في بيانها، سبباً من أسباب التقوية في العربية أي أن الباحثين المحدثين أجمعوا على تعبير نحوي قديم، هو النحو في الكلام كالملح في الطعام يفسده ويصلحه، فكان طبيعياً أن أقرأ أنا وأمثالي نقد الأستاذ بدوي لإحياء النحو لأنه نقد للمنهج الجديد الذي نريد أن نأخذ به نفوسنا والنشء كذلك في معرفة قواعد اللغة العربية وهذه هي ناحية الأهمية في هذا النقد بغض النظر عن علم المؤلف وجلال قدره فهذا أمر يعرفه الكل
وقد أستهل الأستاذ نقده بأن نحو اللغة العربية ثقيل عسير يحتاج إلى كثير من التهذيب والتبويب ليصبح سهل المأخذ قريباً إلى النفوس محبباً إليها درسه وفهم قواعده وأصوله، ولي على ذلك اعتراض ثانوي ذلك أن الأستاذ يريد أن يهذب النحو ويبوبه ليفهم بذلك(218/75)
قواعد النحو، فأوجد بذلك شيئاً أسمه النحو وشيئاً أسمه قواعد النحو، وهذه نتيجة خاطئة سببها على ما أظن الأسلوب الإنشائي الذي لا يعني بتجديد المقصود من كل عبارة ومن كل لفظ، وإنما يعني برصف بعض جمل منمقة تؤدي معنى عاماَ لا تحده خطوط أربعة، وهذا إن جاز في بعض أنواع الكتابة فهو غير جائز في النقد. وتفصيل القول في هذا أن هناك مسائل ككون الفاعل مرفوعاً وأسم إن منصوباً والتالي لمن مجروراً؛ هذه المسائل وأمثالها هي قواعد اللغة العربية ولا سبيل لتغييرها أو تبديلها، ولم يقصد أحد من الباحثين المعاصرين بإصلاح النحو إصلاح هذه القواعد - هذه القواعد تحتاج إلى ما يحصرها وينظمها ويقيم الدليل على صحتها، وذلك هو علم النحو أو هو النحو بحذف كلمة علم لأنها مفهمومة ولا بد من تقديرها عندما نقول النحو - والنحو هو محل بحث الباحثين، وتجديد المجددين، وليست قواعد اللغة محلاً لذلك، وإذن ليس هناك شيء أسمه قواعد النحو كما خيل للأستاذ - وإلا فليقل لنا الأستاذ ما هي قواعد النحو التي يقصدها
ثم عقب الأستاذ على ذلك بذكر النتائج التي توصل إليها متألماً بعد القراءة، وأولى هذه النتائج أن الكتاب ليس فيه شيء جديد ومعنى ذلك أنه نقل من القديم لا أكثر ولا أقل ففيم النقد إذن، وفيم ذكر النتائج الأربع الباقية إذا لم يكن هناك جديد؟ المتفق عليه أن الشيء إذا كان صورة مما سبقه فليس محلاً للنقد أبداً
والنتيجة الثانية أن الكتاب لم يحدث في دراسة النحو أو كتبه أو قواعده أي تغيير أو تبديل. ويلاحظ هنا أن الأستاذ لا يزال يصر على استعمال (قواعد النحو) وأس فرق بين النتيجة الأولى والثانية؟ أليست الثانية تفسيراً للأولى؟ فهلا أضاف الأستاذ إحدى النتيجتين إلى الأخرى لأنهما في معنى واحد، والأستاذ لا يجهل أن نتيجة واحدة قد تكون خيراً من عشر نتائج وهو لا يجهل كذلك أن العدد في الليمون
والنتيجة الثالثة أن ما في الكتاب ليس إلا تعليلات كتعليلات النحاة، وأظن هذا أيضا داخلاُ تحت عدم الجدة التي لحظها الأستاذ في النتيجة الأولى
والنتيجة الرابعة أن المؤلف أدعى على النحاة قضايا غير ممحصة ولننتظر ما يقول الأستاذ في ذلك ونعقب عليه في حينه
وأما النتيجة الخامسة فهي أن المؤلف في الأبواب القليلة التي أراد ضم بعضها إلى بعض(218/76)
يزيد النحو عسراً لا سهولة وفهماً على أنه لم ينجح في هذا الضم. هذه هي النتيجة الخامسة والأستاذ يعترف فيها صراحة أن المؤلف قد أحدث حدثاً جديداً، زاد النحو عسراً، وهو أمر يستحق النقد الذي ينشر في الرسالة على دفعتين ومع ذلك يقول الأستاذ في النتيجة الأولى إن الكتاب ليس فيه شيء جديد، هذا تناقض لا يصح أن يكون نتيجة الغفلة الفكرية وإنما هو نتيجة غفلة الذاكرة فحسب، ألست معي أيها القارئ الكريم في إقرار هذا التناقض الغريب؟
ثم أخذ الأستاذ في مناقشة ما ورد في الكتاب فأبتدأ بتعريف النحو ولم يرض عن التعريف الذي ارتضاه المؤلف ليوسع دائرة النحو فقد قصره النحاة على معرفة أواخر الكلمات إعراباً وبناء، وأراد المؤلف أن يكون النحو قانون تأليف الكلام وبيان ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة والجملة مع الجمل حتى تنسق العبارة ويمكن أن تؤدي معناها. لم يرض الناقد عن هذا التعريف لعلم النحو، ولكن القارئ يدهش إذا علم أن الناقد عاد ودافع عن هذا التعريف وأثبت أنه الصواب من حيث لا يريد حيث قال: (فليس صحيحاً إذن أن ندعي على النحاة أنهم قصروا بحثهم على أواخر الكلمات بل هم قد تعرضوا كثيراً وكثيراً جداً أكثر مما توهم المؤلف الفاضل إلى بيان وضع الكلمة من الكلمة والجملة من الجملة. . .) وضرب الناقد مثلاً لذلك باب الفاعل في كتاب أوضح المسالك لأبن هشام
وإذا كان المؤلف قد آمن بأن هذه المباحث من مباحث النحو التي توسع فيها النحاة والتي خصوها بعناية تعدل أضعاف عنايتهم بحركات أواخر الكلمات فكيف استقام عنده تعريفهم للنحو بأنه علم يعرف به أحوال أواخر الكلمات أعراباً وبناء؟ وإذن يكون تعريف النحو كما عرفه النحاة قاصراً عن غايته بشهادة الناقد نفسه لأنهم قد تعرضوا لمباحث كثيرة غير حلكت الأواخر كما يقول الناقد ولكنهم جعلوا التعريف قاصراً على معرفة أواخر الكلمات أعراباً وبناء - وإذا كنا قد اكتفينا بنقد الأستاذ بدوي من مقاله نفسه مسلين بصحة ما قاله بالحرف الواحد فهل لنا أن نستوضحه بعض الشيء ونسأله: هل صحيح أن النحاة وفوا المباحث النحوية التي هي غير حركات الأعراب حقها إحصاء وتبويباً؟ فأين إذن الباب الذي بحث النفي؟ وأين الباب الذب بحث التوكيد؟ وأين الباب الذي بحث التذكير والتأنيث، وأين أمثال هذه الأبواب التي هي العمدة في تركيب الجمل وفهم خواصها؟ نعم ذكرت(218/77)
بعض هذه المباحث مفرقة في الأبواب المختلفة، وقد أعترف المؤلف بذلك، ولكنه دعا إلى جمعها وتكميلها وتنظيمها حتى تفيد فائدتها المرجوة، ترى أليس تعريف المؤلف هو التعريف الصواب الشامل؟
وأخيراً رمي الناقد بقضية لم يقم عليها برهاناً إلا الثقة الغالية التي يأمل أن يجدها من القراء، فقد أدعى أن المؤلف لم يشر إلى علاقة الكلمة بالكلمة بل قصر الكتاب على حكم آخر الكلمات ولم يعن بغيرها. كيف لم يشر المؤلف إلى علاقة الكلمة بالكلمة مع أن الكتاب كله في علاقة الكلمة بأختها؟ ألا ترى أن المؤلف قد أرجع لحركات المختلفة إلى معان مختلفة، وأن الكلمة تأخذ حركة خاصة إذا كان لها مركز خاص في الجملة وعلاقة خاصة بغيرها من الكلمات وبتغير هذا المركز وهذه العلاقة تتغير الحركة؟ أليس ذلك هو المبدأ الذي ينادي به المؤلف والذي أستغرق الكتاب من أوله إلى آخره؟ أو ليس بحثاً في علاقة الكلمة لا لكلمة والكلمة بالجملة. هذه مغالطة ظاهرة وحاشا لله أن تكون سوء فهم أو قصد
ثم أنتقل الأستاذ إلى نقد الكتاب في فلسفة العامل فذكر أن المؤلف لم يذكر رأيه صراحة في العامل، والمسألة يكفي فيها التلميح عن التصريح لأنها واضحة جلية، فالمؤلف يرى أنه ليس هناك شيء أمسه العامل يرفع وينصب ويجر وإنما يفعل ذلك المتكلم تبعاً لمركز الكلمة في الجملة وعلاقتها بأخواتها، وأظن أن الدفاع عن نظرية العامل لا يجدي شيئاً وقد تهدمت تماماَ وملها الناس وأصبح المشتغلون بالنحو لا يملكون أنفسهم من الضحك حيث يقدرون العامل في مثل زيداً رأيته حيث يقولون رأيت زيداً رأيته على أنه في كثير من الأحوال تكون الجملة واضحة فإذا حاول تقدير عامي لكلمة فيها تعقدت كما في قولنا (أحقاً ما تقول؟)
وأنتقل الأستاذ بعد ذلك لمعاني الأعراب، وهو ينقد رأي المؤلف في أن الفتحة ليست علامة إعراب، وإنما هي الحركة المستحبة عند العرب وشأنها شأن السكون في اللغة العامية.
ينقد الأستاذ هذا الرأي لأنه في نظره يجعل كل الأسماء المفتوحة الآخر لا يعني بها العربي ولا يهتم بها، مع أنها تعبر عن معان هامة في الجملة قد لا تفهم إلا بها؛ وقد أقام الأستاذ الدليل على ذلك. ونحن لا نخالفه في أن من الكلمات المفتوحة ما يدل على معان هامة في الجملة لا تفهم إلا بها، ولكننا نسأل الأستاذ: من أين له هذا الفهم. من أين أتى له أن(218/78)
المؤلف قصد أن المعاني التي تدل عليها الأسماء المفتوحة الآخر معان لا يعتني بها العربي وليست ذات خطر في الكلام؟. لا يزال كتاب (إحياء النحو) بين أيدينا فيستطيع الأستاذ أن يقرأه مرة ثانية ليقتنع بأن المؤلف لم يقصد بتاتاً إلى ما فهمه؛ ولقد قرأت الكتاب وأجهدت نفسي في الفهم لأجد ما يشير إلى ذلك تصريحاً أو تلميحاً فلم أجد. فليدلنا الأستاذ على الموضع الذي فهم منه هذا الفهم فأنا نكون له شاكرين
ولقد وضح المؤلف هذه المسألة وبينها تماماً حين عقد مشابهة بين الفتحة في اللغة العربية وبين السكون في اللغة العامية حتى لا يدع مجالاً لفهم خاطئ وحتى يقرب المسالة من الأذهان، فهل يستطيع الأستاذ أن يفهم أن المؤلف قصد أن الكلمات الساكنة الآخر في اللغة العامية، وكل كلمات اللغة العامية ساكنة الآخر، تؤدي معاني ثانوية يمكن الاستغناء عنها. وبم إذن تؤدي المعاني الهامة، ما دام الأستاذ قد حكم على المشبه، وهو الفتحة في اللغة العربية، بأنه في رأي المؤلف، لا يأتي إلا مع كلمات معانيها لا يعتني ولا يهتم بها فإنه سيفعل ذلك مع المشبه به، وهو السكون في اللغة العامية، أي أن اللغة العامية تصبح في رأي المؤلف خالية من المعاني الهامة قاصرة على المعاني الثانوية التي لا يضير تركها ولا ينفع ذكرها. تل هي النتيجة التي يريد أن يخرج بها الناقد وهي أبعد ما تكون عن العقل السقيم بله العقل السليم.
أن تكون الفتحة في العربية كالسكون في العامية ليس معناه أن الكلمات المفتوحة ليست مهمة ولا تعني بها اللغة، بل إن العلاقة بين هذين المعنيين منعدمة تماماً، غنما ذلك لأنها الأصل في الحركات ولا يعدل عنها إلا لغرض هو الإسناد أو الإضافة؛ ولم يقل أحد إن معنى الإسناد أهم من المعاني التي تؤديها الكلمات المفتوحة الآخر. ترى عند النحويين دائماً شيئاً أسمه الأصل وما عاده الفرع ولكنهم لا يجعلون أحدهما أهم من الآخر، فهم يقولون الأصل في المضارع الرفع والأصل في الأسماء الأعراب الخ، وليست فروع هذه الأصول بأهم منها بل لم يلتفت أحد مطلقاً إلى وجود أهمية أو عدمها في هذا التقسيم. إن بناء أهمية وعدمها على أصل وفرع في النحو فكرة خاطئة ومنطق فاسد.
والأستاذ لا يؤمن بأن الفتحة أخف الحركات، فأيها إذن أخف؟ وما رأي الأستاذ في هذه الأدلة الكثيرة التي أوردها المؤلف؟ وهلا تعرض لواحد منها فنقضه؟ لم يفعل الأستاذ ذلك.(218/79)
النقد الصحيح أن يتعرض الناقد للأدلة وينقضها الواحد بعد الآخر حتى تكون حجته دامغة ودليله قاطعاً؛ وإذا لم يفعل الأستاذ ذلك فقد كفانا مؤونة الرد عليه.
(يتبع)
السيد عبد العادي
بالدراسة العليا بكلية الآداب(218/80)
العدد 219 - بتاريخ: 13 - 09 - 1937(/)
معاملة الناس
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لو أني صدقت ما حدثني به شيوخ الجيل الماضي الذين هم في منزلة آبائنا وأعمامنا، وما رووه لي في وصف حياتهم المنقرضة ومعاملاتهم وعلاقاتهم، لكنت حرياً أن أعتقد أن ذاك الجيل الذي انقضى كان أفضل وكان حظه من الرجولة أعظم، ونصيبه من البساطة التي يستقيم بها النظر أوفر وأجزل؛ فقد كان الفقر لا يعيب أحداً في ذلك الزمان. ولا يغري الصديق بالفرار من صديقه أو اجتنابه؛ وكان حسن الأدب والتواضع ولين الجانب لا يعرض المرء للاستخفاف أو قلة المبالاة به؛ وكان للعلم شأنه وكرامته، وكانت المعاملات تقوم على الصدق والثقة ولا تحتاج إلى الصكوك وما إليها؛ وكان الصغير يوقر الكبير، ولا يغمط الكبير فضل الصغير أو يبخسه حقه، إلى آخر ذلك مما لا حاجة إلى التقصي فيه. وقد أدركت بعض ذلك ففي وسعي أن أطمئن إلى الصدق في سائره، فمن ذلك أنه بعد وفاة أبي بشهور ثقيلة، دق علينا الباب رجل من العلماء كان زميلاً لأبي، وقال إن (الأفندي) - يعني والدي فقد اتخذ زي الأفندية في آخر زمانه - ترك معه قبيل وفاته مبلغاً من المال، وإنه لا علم لأحد بذلك، وإنه يخشى أن يزوره الأجل، ودفع إلينا المال ومضى مرتاح الضمير. ولا أدري ما شأن غيري، ولكن الذي أدريه أنه لو ائتمنني أحد على مال له لكان حقيقاً أن ييأس من رده!
وقد وجدت بالتجربة أنه لا كرامة لمن لا مال له، وأن صاحب المال، وإن كان قد جمعه بشر الوسائل وأرذلها وأسفلها، قد يغتابه الناس ويبسطون فيه ألسنتهم ولكنهم لا يلقونه بغير الحفاوة ولا يبدون له غير التعظيم والتوقير، وأن من شاء أن يضمن إكبار الناس له فليشعرهم بالاستغناء عنهم، وأن الناس ينزلونك حيث أنزلت نفسك، ولا يخطر لهم أن يرفعوك عنه، فإذا كنت معهم عف اللسان مكفوف السلاطة مأمون الغضب، لم يهابوك ولم يبالوك، ولم يتقوا أن يسيئوا إليك وإن كانوا يرون منك أنك تكره أن تسيء إلى نملة؛ وقد يظهرون لك الاحترام ولكنهم يعدون ذلك فضلاً منهم وإيثاراً للصنع الجميل، لا حقاً لك عليهم. أما إذا كانوا يعرفون أن أدبَك لا يمنعك أن تهيج بهم وأن لينك قد ينقلب صلابة وعنفاً، ورقة ملمسك خليقة أن تحور شوكاً حاداً كشوك القنفد، إذا خطر لهم أن يجاوزوا(219/1)
معك الحدود التي ترسمها لهم في علاقتك بهم، وتفرضها عليهم، فأيقن أنهم لا يكونون معك في حال من الأحوال إلا على ما تحب وترضى، وقد يسخطون عليك في سريرتهم ويكتمونك ما ينطوون عليه لك من المقت والحقد، ولكن هذا لا قيمة له، فأن الخوف من عصفك بهم يظل يقيك أذاهم. وماذا يضيرك أن يجدوا ويضطغنوا إذا كانوا لا يجرءون أن يكشفوا لك عن هذه الصفحة المستورة؟؟ وإنك لتعلم أنهم ينافقون ويبدون غير ما يبطنون، ولكن الحيلة في ذلك قليلة، والشأن شأنهم لا شأنك، وعلى أنه ما داعي الغيظ والنقمة؟ وما موجب الكراهية والمقت؟ وما الحاجة إلى النفاق؟ إن كل ما تبغيه منهم أن يجنبوا الإساءة إليك كما تجنبها إليهم، فإذا بدءوك بذلك فانهم الظالمون، والشاعر القديم يقول:
لا تطمعوا أن تهينونا، ونكرمَكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم، وتؤذونا!
فإذا كانوا يأبون إلا أن ينتحلوا الحق في الإساءة بلا مسوغ، فذنبهم على جنبهم. وتالله ما أسرع ما يرتد الناس إلى الواجب وحسن الأدب إذا رأوا منك تمرداً على سوء الخلق وقلة الحياء!! كان كبير من الكبراء يدخل حيث أكون، فيمر بي وكأني قطعة أثاث، وكنت ألقاه كثيراً، فحملت هذا في أول الأمر على الذهول أو نحوه، ولكنه تكرر وباخ وتبينت فيه سخافة الكبرياء والنفخة الكذابة، فقلت: أكيل له بصاعه، وصرت أتعمد أن أدخل عليه وهو مع الناس فأحييهم وأهمله، وأتخطاه بيدي وعيني كأنه ليس هناك، ولم يكن له غير هذه النفخة، فلما خرقت القربة المنفوخة، لم يبق شيء، فلم يطق صبراً، وأقبل يوماً فهممت أن أشيح بوجهي عنه، فإذا هو يطوقني بذراعيه!!
وليست هذه المبادئ التي يُلقنها التلاميذ في المدارس، ولكنها هي المبادئ التي ألقنها ابني، وأحرص على أن يفهمها ويعمل بها، وقليل من رياضة النفس عليها تكفيه، لا مثلي، فقد نشأت على غير ذلك واعتدت خلافه، فخيب الناس والدنيا أملي في كل ناحية، وأحدثوا لي رجات نفسية أتلفت أعصابي. وكنت أعتقد مثلاً أن في وسعي أن أسير في الحياة من غير أن أسيء إلى أحد أو أخشى أن يسيء إلي أحدٌ، وأن عليَّ أن أعطي الناس حقوقهم في صراحة وبأخلاص، وأن لي أن أثق أن سيعطيني الناس حقي ولا يقصرون في أدائه إلي كاملاً؛ فإذا الأمر على خلاف ذلك ونقيضه. أنا أكف أذاي عن الناس، ولكنهم هم لا يعنون بمثل ذلك، حتى لصرت مضطراً أن أحتال لاتقاء أذى الناس، وأنا أؤدي للغير حقه غير(219/2)
منقوص، ولا أبخل عليه بالإسراف في الأداء، ولكنه هو لا يخطر له أن لي حقاً يؤدى، أو كرامة تحفظ، لا لسبب إلا أني لا أتقحم على الناس ولا أركبهم بالغطرسة، ولا ألح عليهم ببيان ما يجب لي، ومن هنا تغير رأيي في كل ما نشأت عليه، وأدركت أنه لا يوافق هذا الزمان؛ وتغير سلوكي مع الناس، واختلفت سيرتي وتربيتي لأبنائي، وما زلت أجنب أن أبدأ بعدوان، فما لهذا معنى، ولكني لا أتردد في دفع الأذى، ولهذا مزيته، وتلك أن ترغم الناس على أن يكونوا خيّرين!
إبراهيم عبد القادر المازني(219/3)
المحاكمات التاريخية الكبرى
4 - الحركة النهلستية ومصرع القيصر اسكندر الثاني
صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان
للأستاذ محمد عبد الله عنان
خاتمة البحث
وكانت مرافعة جليابوف عن نفسه خاتمة المناظر العاصفة في تلك القضية الشهيرة. وكان هذا الزعيم الثوري المضطرم حسبما يصفه مكاتب التيمس، يحدج قضاته بنظرات ملتهبة كأنها نظرات وحش يُطَارد، وكانت ألفاظه وعباراته الرنانة تحدث أثرها في المحكمة والنظارة؛ وكلما ضجت الجلسة ألقى على الجمهور نظرته الملتهبة حتى يعود إلى سكينته. ولما انتهى من مرافعته، أذنت المحكمة للمتهمين تباعاً بأن يقول كل منهم كلماته الأخيرة. فكرر كبالتشش أقواله عن نيات حزبه السلمية، وأنهم لم يسفكوا الدم رغبة في السفك، ونوه بأنه قد اخترع جهازاً للطيران يرجو أن ينسب له بعد موته إذا أخرج إلى حيز التطبيق. ونفت صوفيا عن نفسها ما اتهمها به النائب من القسوة وفساد الخلق واحتقار الرأي العام. وحاول ريساكوف أن يكرر نظرياته السياسية؛ وأصر ميخايلوف على نفي اشتراكه في الجريمة
وبذا اختتمت المرافعات في هذه القضية الشهيرة ولم تستغرق في الواقع سوى ثلاثة أيام. وفي صباح يوم 29 مارس أصدرت المحكمة حكمها وهو يقضي بإعدام المتهمين الستة شنقاً. فاستقبل المتهمون مصيرهم في سكينة وثبات. وهل كانوا يتوقعون مصيراً آخر؟ إن الحكم بالإعدام كان قاعدة مقررة في جميع الجرائم السياسية التي جرت في الفترة الأخيرة، ولم يلفت من هذا المصير المروع سوى قلائل من الثوريين الذين اشتروا حياتهم بالاندماج في سلك البوليس السياسي؛ ولم يطعن أحد من الستة المحكوم عليهم في الحكم بطريق النقض، ولكن ريساكوف وميخايلوف رفعا طلباً بالعفو لم تر المحكمة أن تراجع القيصر في شأنه؛ وحاول ريساكوف ليلة التنفيذ أن يلجأ إلى الخطوة الأخيرة فعرض أن يندمج في البوليس السياسي وأن يفتدي حياته بالعمل على مقاومة الإرهاب والمرهبين، وأفضى(219/4)
بأسماء وبيانات جديدة عن الثوريين ونظم الحركة الثورية، فلم يقبل طلبه وخاب مسعاه
وقدمت جسيا هلفمان إلى المحكمة بلاغاً قالت فيه أنها حامل لأربعة أشهر، وطلبت إرجاء التنفيذ حتى تضع حملها؛ فانتدبت لفحصها لجنة طبية أيدت دعواها، فقررت المحكمة أن ترجئ التنفيذ حتى تضع حملها ويمضي على وضعها أربعون يوماً
وكان التنفيذ في اليوم الثالث من أبريل سنة 1881 ففي نحو الساعة الثامنة من صباح ذلك اليوم حمل المتهمون الخمسة على عربتين عاليتين إلى ميدان سيمونفسكي حيث نصبت المشنقة وكانت والدة صوفيا قد سعت إلى رؤيتها فلم توفق إلى ذلك إلا عند خروج الموكب من السجن. وكان المتهمون قد ألبسوا أردية سوداء، وأوثق كل منهم في مكانه في العربة، وظهره إلى الخيل وقد وضعت على صدره لوحة كتب عليها بحروف بيضاء ظاهرة: (قاتل الملك) وكان يتبع المحكوم عليهم عربة بها خمسة قسس؛ وكان الموكب رهيباً يحف به حرس قوي من الفرسان والمشاة، وقد اصطف الجند على طول الطريق من السجن حتى ميدان التنفيذ. وكان الميدان غاصاً بعشرات الألوف من النظارة إذ كان تنفيذ الإعدام يجري في ذلك العصر بطريقة علنية؛ وكان الشعب يهرع دائماً إلى رؤية هذه المناظر المؤسية. وفي نحو الساعة التاسعة وصل موكب المحكوم عليهم إلى ساحة التنفيذ فأنزلوا من العربات وتلا عليهم سكرتير مجلس الشيوخ الحكم؛ ثم قرعت الطبول إذاناً بالإجراءات الأخيرة، فكشف النظارة رؤوسهم وتقدم القسس من المحكوم عليهم وفي يدهم الصلبان فقبلوها. وأبدى المحكوم عليهم في تلك اللحظات الرهيبة ثباتاً يثير الإعجاب والخشوع إلا ريساكوف فإنه كان مضطرباً ممتقع اللون؛ وبعد إجراء المراسيم الدينية قبل كل صاحبه وودعه الوداع الأخير
وقبل الساعة العاشرة بقليل تقدم الجلاد فرولوف بثوبه الأحمر إلى فرائسه يحيط به معاونوه وألبس المحكوم عليهم الأكفان والقلنسوات. وبدئ التنفيذ بإعدام كبالتشش ثم تلاه ميخايلوف فصوفيا فجليابوف فريساكوف؛ وحدث حين إعدام ميخايلوف أن قطع حبله وسقط على النطع ثلاث مرات قبل أن يزهق، فثار الجمهور لهذا المنظر المروع، وعلت غمغمة السخط والروع. ولكن الجلاد أتم مهمته بهدوء ولم يحدث حادث. وكان هذا آخر إعدام علني في روسيا القيصرية. وكان له في الرأي العام أيما أثر. ووجه كاتب روسيا الأكبر(219/5)
يومئذ الكونت ليون تولستوي إلى القيصر اسكندر الثالث خطاب احتجاج على هذه الفظائع المثيرة
وأما جسيا هلفمان فكان لها قصة أليمة أخرى، ذلك أن حزب إرادة الشعب لجأ إلى الرأي العام الخارجي ليحاول إنقاذ هذه الفتاة المنكودة من براثن الموت، وأذاع شاعر فرنسا وكاتبها الأكبر يومئذ فكتور هوجو في الصحف الفرنسية خطاباً مفتوحاً إلى القيصر يناشده فيه الرأفة بآلام الفتاة؛ ورددت صحافات القارة هذا النداء. وفي الثالث من يوليه سنة 1881 عدلت عقوبة الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. وفي شهر سبتمبر نقلت جسيا إلى مستشفى السجن ووضعت طفلة لم يعرف مصيرها. وتوفيت الأم بعد ذلك بأشهر قلائل في فبراير سنة 1882 من جراح أصابتها وقت الوضع وقيل إنها أحدثت فيها عمداً
هذه صفحة مؤسية مروعة معاً من صحف الثورة على الطغيان، وقد كانت النهلستية بلا ريب من أعظم الحركات التحريرية العنيفة التي عرفها التاريخ، وكانت من أحفلها بمواطن النضال الدموية وكانت القيصرية من جانبها من أشد النظم الطاغية إمعاناً في القسوة والعنف وإخماد النزعات الحرة. وكان هذا النضال الذي يخضب أرض روسيا بدماء الفريقين، ويدفع بآلاف من الشباب المستنير إلى ظلمات السجن والنفي مسألة حياة أو موت للقيصرية ولروسيا الجديدة معاً؛ وقد سار هذا النضال حيناً بعد مصرع اسكندر الثاني ومصرع قاتليه. ولكن القيصرية ضاعفت أهباتها ووسائلها لقمع الإرهاب. ومع أن المرهبين استطاعوا أن ينزلوا بالقيصرية وأعوانها عدة ضربات دموية أخرى وأن يدبروا اعتداءين جديدين على حياة القيصر، فأن القيصرية استطاعت بوسائلها الذريعة أن تمزق شمل الحركة الثورية؛ وركدت ريح النهلستية في أواخر القرن الماضي بعد أن هلكت زهرة دعاتها وأنصارها؛ ثم استعادت شيئاً من نشاطها في أوائل هذا القرن، ولكن القيصرية استطاعت من جانبها أن تجنب العاصفة بتحقيق بعض الإصلاحات الدستورية المنشودة، وإصدار الدستور الروسي الجديد سنة 1906. على أن المثل الثورية التي بعثتها النهلستية في روسيا الجديدة لم تخمد جذوتها بل لبثت على اضطرامها حتى مهدت الحرب الكبرى أخيراً لانفجارها الرائع في سنة 1917. وعندئذ لم تقف العاصفة عند سحق القيصرية وكل نظمها القديمة، بل دكت نظم المجتمع الروسي القديم كله وقامت البلشفية على أنقاضه(219/6)
تطمح إلى إضرام نار الثورة العالمية وتحقيق مثل ماركس ولنين
كانت النهلستية حركة فريدة بين الحركات التحريرية. وكانت وسائلها العنيفة من طراز لم يعهد التاريخ كثيراً من أمثاله؛ ذلك أنها جعلت من الثورية ديناً تدين به الشبيبة المستنيرة، ينبث إلى أعمق عقولها وأرواحها، وجعلت من الحرية هيكلاً مقدساً تتفانى هذه الشبيبة في الحج إليه، وتسقط في سبيله صرعى لا تلوى على شيء إلا أن تموت في سبيل العقيدة الجديدة؛ وقد كانت ضحايا النهلستية عظيمة فادحة. ومن الصعب أن نقدم عن هذه الضحايا بياناً شافياً لأن الأساليب الهمجية والرسائل السرية التي كانت تتبعها القيصرية في مقاومة الحركة كانت تحصد المئات والألوف في خفاء وصمت؛ يهلكون ألوفا في أعماق السجون أو في معسكرات الاعتقال النائية في أعماق سيبريا، هذا عدا من حصدتهم المشانق وهم وحدهم ألوف؛ وليس من المبالغة أن نقول إن المناظر الدموية التي يقدمها إلينا كفاح النهلستية، تفوق في روعتها مناظر عصر الإرهاب أبان الثورة الفرنسية؛ ذلك أن الثورة الفرنسية كانت بالرغم من اضطرامها وعنفها قصيرة الأجل محدودة المدى، وكانت آثارها المعنوية تفوق أحداثها المادية بكثير. أما الثورة النهلستية فقد استطاعت نحو أربعين عاماً؛ تضطرم آنا وتخبو آنا، ولكنها لبثت دائماً تلتهم فرائسها من الجانبين. هذا إلى أن نزعة الكفاح في الحركة الثورية الروسية كانت أعرق أصولاً وأبعد مدى. وبينما نرى الثورة الفرنسية تستسلم بعد أعوام قلائل إلى الحركة العسكرية الرجعية وتغدو أداة ذلولاً في يد جندي طموح هو نابليون، إذا بالحركة الثورية الروسية تمضي في طريقها برغم كل مقاومة حتى تفوز بتحقيق كل مثلها وغاياتها. بيد أنه كان ظفرا سلبياً فقط، وكان ظفراً قصير المدى؛ فقد مهدت الحركة النهلستية كما قدمنا إلى الانقلاب العظيم الذي درج زعماؤه وقادته في غمارها وتغذت عقولهم وأرواحهم بتعاليمها ومثلها، وكان ظفر الثورة البلشفية كاملاً شاملاً، ولكن شتان بين تلك المثل الحرة الإصلاحية التي تنشدها النهلستية، وبين ذلك الهدم الشامل الذي انحدرت إليه الثورة البلشفية. أجل سقطت القيصرية صرعى المثل الجديدة وأعلنت سيادة الشعب أو الكتلة العامة في عبارات ضخمة، ونودي بالحريات والحقوق العامة، واستطاعت الثورة الجديدة أن تحتفظ بانتصارها الظافر مدى حين كان شعارها فيه مكافحة الخطر الخارجي؛ ولكنها ما كادت تثبت أقدامها حتى استحالت بسرعة(219/7)
إلى نوع جديد من الطغيان لا يقل في أساليبه ووسائله فظاعة عن أساليب القيصرية ووسائلها؛ ولم تلبث أن غدت سيادة الشعب اسماً بلا مسمى؛ واستطاعت الزعامة الجديدة أن تفرض سلطانها المطلق على ذلك العالم الروسي القديم الذي كان يطمح إلى عالم جديد من النور والحريات المثلى؛ وانتهت الثورة التحريرية بعد كفاح طويل إلى تلك النتيجة المحزنة التي أشرنا إليها في فاتحة هذا البحث. ذلك أن النظم التي تسود روسيا الآن بأسم البلشفية ليست في الواقع إلا صورة من أشنع صور الطغيان الدموي التي عرفها التاريخ
(تم البحث - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(219/8)
في تاريخ الأدب المصري
أبن الصيرفي
أبو القاسم علي بن منجب بن سليمان الصرفي
مات بعد سنة 542
للأستاذ محمد كرد علي
كان أبن الصيرفي من كتاب الدولة الفاطمية، ومن عظماء المنشئين والمؤلفين من المصريين في عهده؛ جزل حظه من البلاغة والشعر والخط الجميل، وأخذ صناعة الترسل عن صاعد بن مفرج صاحب ديوان الجيش، ثم انتقل منه إلى ديوان الإنشاء وبه الحسين الزبدي ثم تفرد بالديوان. ولابن الصيرفي تصانيف تجعله فوق أقدار رؤساء الدواوين وكتاب الملوك والسلاطين، ومنها في الأدب والتاريخ الترسل كتاب (عمدة المحادثة) و (عقائل الفضائل) و (استنزال الرحمة) و (منائح القرائح) و (رد المظالم) و (لمح الملح) ومنها (الإشارة إلى من نال الوزارة) و (قانون ديوان الرسائل) وهذان الكتابان مطبوعان. وله غير ذلك من التصانيف منها اختيارات كثيرة لدواوين الشعراء كديوان ابن السراج وأبي العلاء المعري وغيرهما. وله شعر جيد لكنه أشتهر بالكتابة. وقد ضمن كتابه الإشارة إلى من نال الوزارة ذكر من تقدم من سفراء الدولة ووزرائها وسلاطينها، ولم ير أن يتوسع إشباع الموضوع قائلاً: (إذا كان الاستقصاء لا يليق بكل تصنيف لاسيما إذا خدم به سلطان ينفق أوقاته في تدبير دولة وإقامة سنة واستضافة مملكة، وإذا بقيت من زمانه فضلة استعجل بها جزءاً من الراحة، يستعين به على ما يستأنفه من مهماته) بدأه بترجمة الوزير ابن كلس الآمري وإليه أهدى كتابه. وفي هذا الكتاب مثال واضح من سوء إدارة الفاطميين أخرياتِ أيامهم، وما توسعوا فيه من الألقاب، وما أوغلوا فيه من المصادرات، وما كان لهم وعليهم. وكان من لوازم الدعاء الذي يستعمله أبن الصيرفي في كل سجل ورسالة وتقليد وكتاب، بل يستعمله الإسماعيلية الفاطميون عامة أن يقال بعد الصلاة على النبي (وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)
وذكر في مقدمة قانون الرسائل ما ننقله بحرفه: (ولما رأيت أولى الفطر الصحيحة،(219/9)
والعقول الرجيحة، قد سبقوا إلى النظر في سائر العلوم، ووضعوا فيها المصنفات، ونظموا ذكرها في الكتب المؤلفات، ثم انتقلوا عن ذلك إلى قوانين الأشياء فقرروا في كل منها ما كان أصلاً يعتمد عليه، ونهوا عما كان فساداً لنظامها أو أدى إليه، وخالفوا بين أحكام تلك التصنيفات لاختلاف الأزمنة وتباين البلاد والأوقات، فوجدتهم قد صنفوا في كتابة الخراج كتباً كثيرة، وعُنوا بكتابة الجيش عناية كبيرة، فألف كل من العراقيين والمصريين في ذلك ما وصلت إليه طاقته واقتضاه ما أوجبه وقته والبلد الذي يحتله. فأما صناعة الشعر وذكر بديعه وسائر أنواعه وتقاسيمه، فقد أكثر كل منهم فيه المقال، وتوسع في تصنيفه وأطال، ورأيتهم أهملوا الكلام في الكتابة الجليلة قدراً، النبيهة ذكراً، الرفيعة شأناً، العلية مكاناً، التي هي كتابة حضرة الملك المشتملة على الإنشاء إلى ملوك الدول، والمكاتبة عنه إلى من قلّ من الأمم وجلّ، وكيف يجب أن يكون متوليها وما يخصه من الأخلاق والأدوات، وما يجب أن يكون فيه من الفضائل، وأن يجتنبه من القبائح والرذائل، وكيف ينبغي أن تكون أمور أتباعه ومعينيه، وأي الحالات ينبغي أن يكون عليها ديوانه الذي يتولاه وينظر فيه)
وكتاب قانون ديوان الرسائل درة نفيسة قدمه إلى الأفضل ابن أمير الجيوش وقال: (يجب أن يكون هذا الكتاب مخلداً في ديوان الرسائل يقتدي به كل من يخدم فيه، ويستضيء بهدايته ويحتذي أمثلته وأن يؤخذ المستخدمون في الديوان بفهمه وبحفظه) ثم قال: (ثم ينتفع بهذا الكتاب إذا جعل بحيث استقر مخزوناً بديوان الرسائل للقراءة فيه وتدبره كل من تصفحه أو يعمل بمقتضاه على مرور السنين وكرور الأحقاب والأعوام، فيكون كالمعلم لهم، والمهذب لأخلاقهم، والهادي لهم إلى سنن الصواب الذي قد درست معالمه وتنوسيت أحكامه)
ومما رأى أن يكون رئيس الديوان من المسلمين (ومع ذلك فيجب أن يكون متمذهباً بالمذهب الذي عليه الملك ليكون أنقى جيباً وأنصح غيباً، فان المسلمين وإن جمعتهم كلمة الإسلام، فقد أختص كل واحد منهم بمذهب يباين به بعضهم بعضاً، حتى حدث بذلك بينهم من التباعد والتنافر قريب مما بين المسلمين والمشركين) وعاد فأكد هذا المعنى في موضع آخر من أن الكاتب ينبغي أن يكون على دين الملك ومذهبه لكونه يكاتب الملوك المخالفة ملتهم ملة ملكه، وربما احتاج في مكاتباته إلى تفخيم ملة ملكه والاحتجاج لها وإقامة الدلائل(219/10)
على صحتها، ولن يحتج لملة من اعتقد خلافها، بل المخالف للملة إنما يبدو له مواضع الطعن ومواضع الحجاج، فان اعترض معترض بالصابي وأنه كان يكتب عن ملوك مسلمين وهو على غير ملتهم، فالجواب أنه كان من أهل ملة قليل أهلها، ليس لهم ذكر ولا مملكة، ولا لهم دولة قائمة، ولا منهم محارب لأهل الإسلام، ولا من يكاتِب ويكاتَب، ولا من يخشى من الكاتب الميل إليه، والانحراف معه. ثم إن المشهور من أحوال ذلك الكاتب أنه كان قد حفظ من ملة الإسلام وسنتها مما يحتاج إليه في كتابته ما لا يوجد عند كثير من المسلمين في زمانه، وكان في صناعته الغاية في وقته فقادت ملوك عصره الضرورة إليه، إذ لم يجدوا من المسلمين من يغني غناءه ولا ليسد مسده)
قال: (ومما يحتاج أن يفهمه هذا الكاتب أن يعرف الفرق بين مخاطبة الملوك الإسلامية وبين مخاطبة الملوك المخالفين للملة واللسان، لأن مخاطبة من يتكلم باللسان العربي مشهورة المقاصد معروفة الطرائق يستعمل فيها الأسجاع وتنميق الألفاظ وتحسينها وزخرفتها وترتيبها مع ضبط المعنى وحسن التأليف. وأما مكاتبة المخالفين للسان فإنه لا ينبغي أن يهتم فيها بالألفاظ المسجوعة، ولا ضرب الأمثال والتشبيهات والاستعارات، فإن ذلك إنما يستحسن ما دام مفهوماً في تلك اللغة وغير منقول إلى غيرها، وأكثر هذه الضروب إذا نقلت من لغة إلى لغة فسدت معانيها، وعاد حسنها قبيحاً؛ ومنها ما لا يفهم بعد نقله ببتة؛ ومنها ما إن فهم له معنى كان غير ما قصد، لا سيما إن كان الناقل لها مقصراً في اللغتين المنقول منها والمنقول إليها. وأرى أن الأفضل في هذا الباب أن يتولى هذا الكاتب نقل ما يكاتب به إن كان عارفاً بها فينقل ما يكتب به ويكتبه بخط أهل تلك اللغة ولسانهم، إما في ذيل الكتاب أو في كتاب طيه، لأنه قد لا يجد الملك الذي يصل إليه الكتاب ناقلاً ماهراً عالماً باللغتين، فربما أفسد الناقل المعنى فعاد الكتاب المصلح مفسداً فيبطل الغرض الذي قصد به. وهذا باب يجب صرف العناية إليه جداً، وليس يحتاج في مكاتبة أهل اللغات المخالفة بغير المعاني السديدة البريئة من الاستعارات، والكتابات الصائبة لمواضع الحجج التي تبقى جزاتها ونضارة معانيها وبهجتها مع النقل والترجمة.)
وذكر فصلاً في عمل من يستخدم خازناً لديوان الرسائل فقال: (ينبغي أن يؤخذ بجعل كل شيء من الرسائل مع شبهه، وجعل كل سنة على حدتها، ويجعل لكل شهر إضبارة، ولكل(219/11)
صفقة من الأعمال إضبارة وعليها بطاقة في مضمونها) قال: (وينبغي لهذا الخازن أن يحتفظ بجميع ما في هذا الديوان من الكتب الواردة. وينسخ الكتب الصادرة والتذاكير وخرائط المهمات، وضرائب الرسوم وغير ذلك مما فيه - احتفاظاً شديداً، ويكون بالغاً في الأمانة والثقة إلى الحد الذي لا مزيد عليه، فإن زمام كل شيء بيده؛ ومتى كان قليل الأمانة أمالته الرشوة إلى إخراج شيء من المكاتبات من الديوان، وتسليمه إلى من يكون عليه فيه ضرر أو لمن يأخذه نفع. وهذا أمر متى أعتمده الخازن أضر بالدولة ضرراً كثيراً من حيث لا يعلم الملك ولا أحد. ومن أحسن ما سمعته في أمانة خازن ما رواه علي بن الحسن الكاتب المعروف بابن الماشطة في كتابه المعروف بجواب المعنت في الخراج من أنه كانت تجمع الأعمال والحسابات بالعراق بعد كل ثلاث سنين إلى خزانة تعرف بالخزانة العظمى، وكان يتولى في وقته ذلك رجل يعرف بمحمد بن سليمان الكانجار. وكان شديد الأمانة بالغاً فيها إلى المبلغ الأقصى، وكان رزقه كل شهر خمسمائة درهم تكون بخمسين ديناراً من صرفهم ذلك؛ وكان لهذا الخازن خازن يعينه يقال له إبراهيم، فحدث إبراهيم أن رجلاً لقيه في بعض طرقه من أسباب أبي الوليد أحمد بن أبي دؤاد فقال له: هل لك في الغنى بقية عمرك وأعمار عقبك من بعدك من حيث لا يضرك؟ فقال: هذا لا يكون. فقال: بلى، في خزائنك دفتر في قراطيس أعرف موضعه من بعض الخزائن من رفوفها، وأسألك أن تنقله من ذلك الرف إلى رف غيره ولا تخرجه ولا تغيره وأحمل إليك مائة ألف درهم وأعطيك كتاب ضيعة تغل لك كل سنة ألف دينار وتخرج عن الديوان. قال: فارتعد من هول ما سمعه وقال: ليس يمكنني في هذا شيء إلا بأمر صاحبي، فقال له: فاعرض ذلك على صاحبك وأجعل هذا الشيء له ونجعل لك شيئاً آخر. فعرف محمد بن سليمان الخازن صاحبه بالخبر، وكان في منزله آخر نهار، فقال له: ماذا قلت للرجل؟ قال: قلت له إني أستأمرك، فأمر ابناً له وابن أخ بالتوكيل به، فلم يفارقاه طول ليلته، فلما أصبح صار معه إلى الديوان فوقفه على الدفتر، فأخذه محمد بن سليمان الخازن وحمله في قبائه ولم يزل يترقب علي بن حسين صاحب الديوان حتى حضر، فلما حضر صار إليه، وكان أبو الوليد في حبسه فقص عليه القصة، ودفع إليه الدفتر فنظر فيه فوجده نسخة كتاب من بعض النظار بما وقف عليه من فضل ما بين القوانين التي كانت تلزم ضياع أحمد بن أبي دؤاد(219/12)
وبين ما يلزمها على معاملة العامة لجميع السنين، أن جملته أكثر من ثلاثين ألف ألف درهم (ثلاثة ملايين دينار) فأحضر علي بن عيسى أبا الوليد وأسمعه كل غليظ على جلالة رتبته، وأمر بأخذ قلنسوته وأن يضرب بها رأسه ويطالب بالمال. فلولا أمانة هذا الخازن، ونزاهة نفسه وصدفها عن المال الذي بذل مع كثرته لرغب فيه، ولرأى أن لا شيء عليه في نقل دفتر من مكان إلى مكان، وهو في الخزانة لم يبرح منها، فيتوجه عليه بذلك ضرر، ولا خرج من يده فيظهر في يد غيره، ولا يعرف موضوعه فيطلب منه، ورأى وجوه السلامة واضحة، ونيل الغنى قريباً فكان يضيع على هذا السلطان ذلك المبلغ الكثير من المال)
محمد كرد علي(219/13)
بين العلم والأدب
للأستاذ علي الطنطاوي
قرأت منذ أيام في صحيفة يومية، مقالة يسأل فيها كاتبها عن العلم والأدب والقول فيهما، والمفاضلة بينهما، فوجدته قد حمل الكلام على غير محمله، وساقه في غير مساقه، فأفتى وهو المستفتى، وحكم وهو المدعي، فلم يدع مذمة إلا ألحقها بالأدب، ولم يترك مزية إلا نحلها العلم، وزعم بأن الأمر قد انتهى، والقضية قد فصلت، وحكم للعلم على الأدب. . . فلم أدر متى كانت هذه المنافرة وأين كانت هذه المفاخرة، ومن هو الذي جلس في منصة القضاء، ومن الذي زعم أنه وكيل الأدب حتى أخزاه الله على يديه، وأذله به؟. . .
ومتى كان بين العلم والأدب مقاربة، حتى تكون بينهما (مقارنة)، ومتى كان بينهما مناضلة، حتى تكون بينهما مفاضلة؟ وهل يفاضل بين الهواء الذي لا يحيا حي إلا به، وبين الذهب الذي هو متاع وزينة وحلية، ولو كان الذهب أغلى قيمة، وأعلى ثمناً، وأندر وجوداً؟
إن الأدب ضروري للبشر ضرورة الهواء. ودليل أن البشرية قد عاشت قروناً طويلة من غير علم، وما العلم إلا طفل ولد أمس ولا يزال يحبو حبواً. . . ولكن البشرية لم تعش ساعة واحدة من غير أدب، وأظن أن أول كلمة قالها الرجل الأول للمرأة الأولى، كلمة الحبّ، لمكان الغريزة من نفسه، ولأنها (أعني غريزة حفظ النوع) كانت أقوى فيه، والحاجة إليه أشد وبقاء النوع معلق بها، فكانت كلمة الحب الأولى أول سطر في سفر الآداب، كتبت يوم لم يكن علم، ولا عرفت كلمة العلم. . . ودرج البشر على ذلك فلم يستغن أحد عن الأدب، ولم يعش إلا به، ولكن أكثر البشر استغنوا عن العلم ولم يفكروا تفكيراً علمياً، وهؤلاء هم الأكابر من العلماء كانوا يضطرون في ساعات من ليل أو نهار، إلى مطالعة ديوان شعر، أو النظر في قصة أدبية، أو صورة فنية ليبلوا صوت العاطفة، ويستمعوا نداء الشعور، وأكثرهم قد أحب، وملأ نفسه الحب، فهل بلغ أحداً أن أديباً نظر في معادلة جبرية، أو قانون من قوانين الفيزياء أو أحس الحاجة إلى النظر فيها؟ وهذا أكبر عالم في مختبره، يسمع نغمة موسيقية بارعة، أو يرى صورة رائعة، أو تدخل عليه فتاة جميلة عارية مغرية، فيترك عمله ويقبل على النغمة يسمعها، أو الصورة يمعن فيها، أو الفتاة يداعبها، فهل رأيت شاعراً متأملاً يدع تأمله، أو مصوراً يترك لوحته ليستمع منك(219/14)
قوانين الرقاص ونظرية لابلاس؟
هذه مسألة ظاهرة مشاهدة؛ وتعليلها بين واضح هو أن المثل العليا كلها تجمعها أقطاب ثلاثة: الخير والحقيقة والجمال. فالخير تصوره الأخلاق، والحقيقة يبحث عنها العلم والجمال يظهره الأدب. فإذا رأيت الناس يميلون إلى الأدب أكثر من ميلهم إلى العلم فأعلم أن سبب ذلك كون الشعور بالجمال أظهر في الإنسان من تقدير الحقيقة. . . وانظر إلى الألف من الناس كم منهم يهتم بالحقيقة ويبحث عنها؟ وكم يعني بالجمال ويسعى للاستمتاع به؟ إن كل من يعني بالجمال ويتذوقه بل إن كل من يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويحس اللذة والألم واليأس والأمل يكون أديباً، ويكون الأدب - بهذا المعنى - مرادفاً للإنسانية. فمن لم يكن أديباً لم يكن إنساناً.
ولندع هذا التفريق الفلسفي ولنفاضل بين العلم والأدب من الناحية النفسية (السيكولوجية) إننا نعلم أن العلم يبحث عن الحقيقة فهو يستند إلى العقل. أما الأدب فيتكئ على الخيال. فلننظر إذن في العقل والخيال: أيهما أعم في البشر وأظهر؟ لا شك أنه الخيال. . فكثير من الناس تضعف فيهم المحاكمات العقلية، ولا يقدرون على استعمال العقل على وجهه؛ أو تكون عقولهم محدودة القوى، ولكن ليس في الناس من لا يقدر على استعمال الخيال، وليس فيهم من يعجز عن تصور حزن الأم التي يسمع حديث ثكلها، أو لا يتخيل حرارة النار، وامتداد ألسنة اللهب، عندما يسمع قصة الحريق؛ بل أن الخيال يمتد نفوذه وسلطانه إلى صميم الحياة العلمية فلا يخرج القانون العلمي حتى يمر على المنطقة الخيالية (الأدبية). ولا يبني القانون العلمي إلا على هذا الركن الأدبي. وبيان ذلك أن للقانون العلمي أربع مراحل: المشاهدة والفرضية والتجربة والقانون. فالعالم يشاهد حادثة طبيعية، فيخيل القانون تخيلاً مبهماً ويضع الفرضية ثم يجربها فأما أن تكذبها التجربة فيفتش عن غيرها، وإما أن تثبتها فتصير قانوناً، فالمرحلة التي بين المشاهدة والفرضية مرحلة أدبية لأنها خيالية. وقد شبه هنري بوانكاره الرياضي الفرنسي (أو غيره فلست أذكر) شبه عمل الذهن في هذه المرحلة بعمل الذي يبني جسراً على نهر، فهو يقفز أولاً إلى الجهة المقابلة قفزة واحدة ثم يعود فيضع الأركان ويقيم الدعائم. وكذلك الفكر يقفز إلى القانون على جناح الخيال، ثم يعود فيبنيه على أركان التجربة؛ فالقانون العلمي نفسه مدين إذن للخيال أي للأدب.(219/15)
ثم أن الخيال يخدم العلم من ناحية أخرى هي أن أكثر الكشوف العلمية والاختراعات قد وصل إليها الأدباء بخيالهم، ووصفوها في قصصهم قبل أن يخرجها العلماء؛ فبساط الريح هو الطيارة، والمرآة المسحورة هي التلفزيون، والحياة بعد قرن هي هي خيال وِلْز في روايته مستقبل العالم. . .
أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في صف العلم والجمال مع الأدب؛ ولكني أقول ذلك متابعة للناس، وسيراً على المألوف، والواقع غير ذاك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر، وتغير دائم؛ فما كان يظن في وقت ما قانوناً علمياً ظهر في وقت آخر أنه نظرية مخطئة؛ والكتاب العلمي الذي ألف قبل خمسين سنة، لم يعد الآن شيئاً ولا يقبله طالب ثانوي، في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته مهما اختلف الأعصار، وتناءت الأمصار. فإلياذة هوميروس، أو روايات شكسبير، أو حكم المتنبي؛ كل ذلك يقرأ اليوم كما كان يقرأ في حينه، ويتلى في الشرق كما يتلى في الغرب، ولا يعتريه تبديل ولا تغيير
فأين هي الحقيقة؟ وأي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟
وعد عن هذا. . . وخبرني يا سيدي الكاتب: ما هي فائدة هذا العلم الذي تطنطن به وتدافع عنه؟ وماذا نفع البشرية؟
تقول: إنه خدم الحضارة بهذه الاختراعات وهذه الآلات؛ إن ذلك احتجاج باطل، فالاختراعات ليست خيراً كلها، وليست نفعاً للبشرية مطلقاً، والعلم الذي اخترع السيارة والمصباح الكهربائي، هو الذي اخترع الديناميت والغاز الخانق، وهذه البلايا الزرق، فشره بخيره والنتيجة صفر
ودع هذا. . . ولنأخذ الاختراعات النافعة: لنأخذ المواصلات مثلاً. . . لا شك أن العلم سهلها وهوَّنها، فقرب البعيد، وأراح المسافر، ووفر عليه صحته ووقته، ولكن هل أسعد ذلك البشرية؟
أحيلك في الجواب على (شبنكلر) لترى أن البشرية قد خسرت من جرائها أكثر من الذي ربحته: كان المسافر من بغداد إلى القاهرة، أو الحاج إلى بيت الله، ينفق شهرين من عمره أو ثلاثة في الطريق، ويحمل آلاماً، وتعرض له مخاوف، ولكنه يحس بمئات من العواطف، وتنطبع في نفسه ألوف من الصور، ويتغلغل في أعماق الحياة، ثم يعود إلى بلده، فيلبث(219/16)
طول حياته يروي حديثها، فتكون له مادة لا تفنى، ويأخذ منها دروساً لا تنسى، أما الآن فليس يحتاج المسافر (إن كان غنياً) إلا إلى الصعود على درجة الطيارة، والنزول منها حيث شاء بعد ساعات قد قطعها جالساً يدخن دخينة، أو ينظر في صحيفة، فهو قد ربح الوقت، ولكنه خسر الشعور، فما نفعتنا المواصلات إلا في شيء واحد، هو أننا صرنا نقطع طريقنا إلى القبر عدواً، ونحن مغمضو عيوننا. . . لم نر من لجة الحياة إلا سطحها الساكن البراق!
ولنأخذ الطب. . . وليس من شك أن الطب قد ارتقى وتقدم، وتغلب على كثير من الأمراض، ولكن ذلك لا يعد مزية للعلم لأنه هو الذي جاء بهذه الأمراض، جاءت بها الحضارة؛ فإذا سرق اللص مائة إنسان، ثم رد على تسعين منهم بعض أموالهم أيعد محسناً كريماً، أم لا يزال مطالباً بالمال المسروق من العشرة؟
أنظر في أي مجتمع بشري لم تتغلغل فيه الحضارة، ولم يمتد إلى أعماقه العلم، وانظر في صحة أهله وصحة المجتمعات الراقية؟ هل الأمراض أكثر انتشاراً في فيافي نجد، أم في قصور باريز؟ أوليس في باريز أمراض لا أثر لها في البادية؟ فليس إذن من فضل للعلم في أنه داوى بعض الأمراض بل هو مسئول عن نشرها كلها؟
وتعال يا سيدي ننظر نظرة شاملة، هل البشر اليوم (في عصر العلم) أسعد أم في العصور الماضية؟ أنا لا أشك في أن سعادتهم في العصور الماضية، عصور الجهالة (كما يقولون) كانت أكبر وأعمق، ذلك لأن السعادة ليست في المال ولا القصور ولا الترف ولا الثقافة، ولكن السعادة نتيجة التفاضل بين ما يطلبه الإنسان، ويصل إليه، فإذا كنت أطلب عشرة دنانير وليس عندي إلا تسعة فأنا أحتاج إلى واحد، فسعادتي ينقصها واحد، أما روكفلر فسعادته ينقصها مليون، لأن عنده تسعة وتسعين مليوناً وهو يطلب مائة؛ فأنا بدنانيري التسعة أسعد من روكفلر. . وكذلك الإنسان في الماضي لم تكن مطاليبه كثيرة فكان سعيداً لأنه يستطيع أن يصل إليها، أو إلى أكثرها؛ أما مطاليبه اليوم فهي كثيرة جداً لا يستطيع أن يصل إلا إلى بعضها فهو غير سعيد!
هذا وأنا لا أعني الأدب الضيق، أي الكلام المؤلف نثراً أو نظماً، بل أعني الأدب بالمعنى الآخر؛ أريد كل ما كان وصفاً للجمال وتعبيراً عنه، لا فرق عندي بين أن تعبر عن جمال(219/17)
الفتاة بصورة أو تمثال أو مقطوعة من الشعر؛ ولا فرق عندي بين أن تصور غروب الشمس بالريشة والألوان، أو بالألفاظ والأوزان، فالموسيقي أديب، والمصور أديب، والنحات أديب، والشاعر أديب؛ والأدب بهذا المعنى أهم من العلم، وأنفع للبشرية. . . ولو كره العالمون!
علي الطنطاوي(219/18)
تحقيق تاريخي
مولاي إسماعيل والأميرة دوكنتي
للأستاذ ابن زيدان
ذكر بعض مؤرخي أوربا أنه لما رجع سفير مولاي إسماعيل، عبد الله بن عائشة الرئيس البحري الشهير من بعض سفاراته في فرنسا، وتلاقى بمولاي إسماعيل، كان من جملة ما وصف له عند الإفضاء إليه بنتائج سفارته جمال الفتاة دوكنتي بنت لويز الرابع عشر، فكان ذلك أعظم باعث لمولاي إسماعيل على خطبتها من والدها بواسطة سفيره المذكور. غير أن والدها لم يحقق رغبته، ولم يعر أدنى التفات خطبته، لأسباب: منها عدم ملاءمة طبعها لطبعه، ومباينة نبعها لنبعه، وتعدد أزواجه وسراريه، وكثرة حشمه وذراريه، إلى علل أخرى هي أولى بعدم الذكر، وأحرى لبعدها عن الحقيقة، ولتلون مغامزها ومغازيها الدقيقة
طالما بحثت ونقبت بتعطش لحجة يستند إليها في إثبات هذه الأحدوثة الغريبة في بابها. بالطرق الرسمية، فلم أعثر على شيء يستحق الذكر فيها، أو تطمئن إليه النفس، سوى ما جاء به بعض مؤرخي أوربا، مما لا سند لهم فيه، فيما علمت وقرأت غير كتاب ابن عائشة المذكور، ذلك الكتاب الذي سأفيض القول فيه وفي قيمته فيما يلي بحول الله. ثم جال بفكري أنه لا بد أن تكون هذه القضية، إن كان لها أصل، ثابتة مسجلة بوزارة الخارجية، فرحلت إلى فرنسا. ولما حللت بعاصمتها باريس ذهبت تواً إلى وزارة خارجيتها، فقوبلت من رؤسائها بمزيد الاحتفاء والاعتناء، وحملت على كاهل المبرة والاحترام، وسوعدت على تصفح كل ما يهمني في بحوثي التاريخية، من الوثائق والأوراق الرسمية. فجست خلالها أياماً أبحث وأنقب، وآخذ ما راقني بالتصوير والتقييد، فلم أجد من بين أخاير تلك الذخائر ضالتي المنشودة، فرجعت أدراجي، وأعملت الفكر في هذه القضية، وقابلت بين هذا الكتاب الملصق بابن عائشة، وبين غيره من المكاتيب الرسمية الرائجة إذ ذاك، حتى المكاتيب الصادرة من ابن عائشة، الممضاة بخط يده، فلم أجد بينها وبينه مناسبة ما، لا من حيث الأسلوب الدبلوماسي الجاري به العمل في ذلك العصر، ولا من حيث التقصير الواقع في هذا الكتاب، بالنسبة لأهمية هذا الأمر الجَلل(219/19)
أما من حيث الأسلوب الدبلوماسي، فإن كل من يرجع إلى تاريخ العلائق السياسية الخارجية إذ ذاك وما صدر فيها من المكاتيب والوثائق الرسمية الإسماعيلية، يُدرك بالبداهة أن نسبة هذا الكتاب لابن عائشة المشتمل على هذا الأمر المهم، إنما هي خيالية فحسب، لجريانه وصدوره على غير المألوف والمعهود من الأساليب الكتابية والدبلوماسية المتبعة إذ ذاك
وأما من الحيثية الأخرى، فإنه يبعد كل البعد أن يخطب ملك عظيم إلى ملك عظيم بنته وهو أجنبي عنه بهذه الوسيلة المخلة بعظمتها معاً، إذ التقاليد تقضي في مثلها ألا يصدر فيها مثل هذا الكتاب الذي هو أشبه برسالة تكتب لمطلق إنسان، بأسلوب يزري بعظمة السلطان، ويقضي ببله هذا السفير العظيم الشأن، إذن فما يقتضيه الحال حينئذ؟ يقتضي أن يحرر في ذلك كتاب رسمي، باسم جلالة الخاطب لجلالة المخطوب إليه، ويرسل صحبة سفير عظيم ماهر كابن عائشة، مع هدايا نفيسة، وتحف مغربية تستلفت الأنظار، وتحف المخطوبة من الاعتبار بإطار، وتقضي بنيل الأوطار، طبق المقرر المعتاد في السفارات المتبادلة بين الملكين فيما هو أو هي وأوهن من هذا الأمر
لابد أن أعرض على القراء نص هذا الكتاب، وكيف وجد وبأي لغة كتب، ولأي لغة نقل، وبشهادة من يراد إثباته، مما لم تجر به عادة، ولا ارتكب مثله لا في البدء ولا في الإعادة، لتعلموا قيمته:
هذا الكتاب نقل عن مجلة فرنسية، سميت مجلة فرنسا، وكتب لأول مرة باللغة الأسبانية، ولم يحرر أصله الموهوم باللغة العربية، التي هي لغة من ألصقت نسبته به، والتي هي لغة الدولة المغربية الرسمية، والتي كانت تخاطب بها الدول الأجنبية، ونقل من اللغة الأسبانية إلى اللغة الفرنسية، والذي شهد على أبن عائشة به كاتب أجنبي لتاجر أجنبي كان مقيماً بسلا في ذلك العهد، وإذا تحققت هذا وأحطت به علماً. فإليك نص هذا الكتاب منقولاً عن المجلة المذكورة عدد 62 مترجماً بقلم رئيس الترجمة العلمية بالرباط سابقاً الكمندار إسماعيل حامد الأشهر:
(وبعد فقد أمرني مولانا السلطان على أنه إن كان جواب ملك فرنسا موافقاً لما تضمنه كتابنا هذا فأتجهز للسفر على أي مركب من المراكب الحربية الفرنسوية ترد عل مرسى سلا أو غيره لأتوجه إلى حضرة سمو ذلك الملك الفخيم وأعرض على جنابه العلي المعاهدة التي(219/20)
يرغب سيدنا عقدها معه بمزيد الاشتياق والفرح، وأن أحقق لديه بكل التأكيد بأنه يفتخر سيدنا بمصاهرة أعز الملوك وأجلهم، وأن يبيح له الدخول في جميع مراسي الإيالة الشريفة وسائر مدنها وأقطارها، وكذلك لكافة رعيته، وعليه أشهد أن القبطان عبد الله بن عائشة هو الذي أملى عليّ هذا الكتاب باللغة الأسبانية، ثم ألزمني بترجمته إلى اللغة الفرنسوية ولأجله وضع فيه خاتمه والسلام. الإمضاء: جان ماني دولا كلوازري النازل بمدينة سلا في مقابلة تجارة المسيو جوردا، وكتبه في 14 نوفمبر سنة 1699 موافق 21 جمادي الأولى سنة 1111)
هذا أصل الكتاب. وهذه ترجمته حرفياً فلنبحث الآن فيما يُعَضِّده أو يَعْضِده، لنكون على بينة من أمره، ولنميز بين خله وخمره، فنقول: هل يمكن لأبن عائشة، وهو ذلك السفير الخطير أن يملي على كاتب أجنبي نص هذا الكتاب الخاص بمولاه، المتعلق بأمر يهمه، من الواجب أن يكون سرياً لا يتجاوز الخاطب، والسفير يمليه عليه باللغة الأسبانية، ويلزمه بترجمته إلى اللغة الفرنسية؟ هذا ما لا يوافق عليه عظمة الخاطب ومهنة السفير، ولا يقبله العقل السليم، ولا يصدقه الواقع، حتى فيما هو أقل من هذا الأمر الخطير، وإلا فأين كتاب الدولة ومترجموها، المعتنون بتنميق مكاتبتها، وتطريزها بالذهب، وتلوينها بأصباغ مبهجة خلابة رائقة، بطرق فنية، امتاز بها كتاب المملكة المغربية؟ ما بقي لنا إلا أن نتساءل قائلين:
هل يمكن أن يكون ابن عائشة وضع هذا الكتاب افتياتاً منه على ولي نعمته وهو لا يعلم، ووجهه للملك لويز ليجس نبضه في الأحدوثة التي لم تعزز بثانية في بابها، حتى يعرف من أين تؤكل الكتف، فان نجح مسعاه قدمه قرباناً لمولاه، بين يدي نجواه، رجاء ازدياد تمكن وتقرب منه، وإن أخفق وخاب كتم الأمر عنه وقنع بالحالة التي كان عليها معه، ولذلك كله تجشم مشقة الالتجاء إلى ذلك الكاتب الأجنبي، وإملاء الكتاب عليه بنص أسباني أجنبي، وإلزامه بنقله إلى نص فرنسي أجنبي. واكتفى بوضع الخاتم عن الإمضاء بخطه، ولكن هناك عقبة كأداء تعترضه في هذا السبيل، وهي أن هذا الأمر من الأهمية بمكان، وليس بالأمر الهين الذي يمكن تمشيه والوصول إليه في طي الخفاء؛ ولا يؤدي به إذا أخفق فيه إلى عقاب سلطانه وجفاه(219/21)
إننا نعلم جيداً كغيرنا أن المغرب كان إذ ذاك طافحاً بكتاب بارزين هم أولى بإسناد هذه المهمة إليهم، وأحق بإلقائها عليهم، لو كانت تخطر ببال، فكيف عدل أبن عائشة عنهم إلى هذا الكاتب دون سواه، وهو كاتب أجنبي لتاجر أجنبي، لا علاقة له بمطلق شؤون الدولة، ولا بالبلاط السلطاني وكيف اطمأن إليه في هذه القضية المهمة، التي يتوقف علاجها على كاتب ماهر من كتاب أسرار الدولة الممارسين لها العارفين بأساليبها ممن يتلاعب بأطراف الكلام، ويداوي ببلسم بلاغته الكلام، ويوصب بسحر بيانه إلى هدف القصد والمرام؟ فهل بلغ البله بابن عائشة إلى هذا الحد، فخاطب أعظم ملوك أوربا إذ ذاك بمثل هذا الخطاب الصبياني في خطبة فلذة كبده، وريحانة قصره وقرة عين ملكه لملك عظيم، عرف بعلو الهمة والشهامة والغيرة، والمحافظة على أبهة الملك وسطوة السلطان؟ هذا يسأل عنه من درس حياة الخاطب، وسيرة سفيره ابن عائشة معه، وما لسفيره هذا من المكانة المكينة في العقل والدهاء ونفوذ البصيرة، وعدم الدخول في ميادين الفضول، والبصر بما يصلح من الشئون الدولية، وما لا يصلح، وعدم تجاوزه لحدود وظيفته، وما تقتضيه رسوم مرتبته، فلم يكن ابن عائشة مغفلاً ولا أبله ولا إمعة ولا فضولياً ولا ثرثاراً حتى يأتي بسر من أسرار سيده، لو كان، ويضعه بين يدي كاتب أجنبي لتاجر أجنبي، ويتبرع بإطلاعه عليه والإفضاء به إليه ليفضي به لدولته، فيذيع وينتشر قبل وصوله لصاحبه المخاطب به، ويشهده مع ذلك على نفسه، وهو يعلم قيمة شهادته عنده وعند غيره إذ ذاك
نحن لا نشك في أن المصاهرة هي من آكد العلائق وأوثقها بين ملوك الدول، ولا زال الملوك يرغبون فيها، توطيداً لدعائم عروشهم، وتثبيتاً لمراكزهم، وتسييراً لنفوذهم، وسعياً وراء تأمين ممالكهم، فليس هناك من عارٍ يلحق الجد أبا النصر إسماعيل لو ثبتت خطبته لبنت أعظم ملوك أوربا في عصره، سعياً وراء ربط علائقه معه برباط من المصاهرة وثيق، واستطلاعه على أسرار دولته، الذي لا يتأتى إلا بالمصاهرة، وليس في الدين الإسلامي مانع منه؛ ومن الضروري لدى كل المسلمين أن الشرع الإسلامي، يبيح التزوج بالكتابية، وفرنسا من أهل الكتاب، فحينئذ لا داعي لتستر الجد مولاي إسماعيل، وتكتمه في هذا الأمر الذي يبيحه شرعه القويم لو شاء، ولا موجب لالتجائه إلى هذه الخطبة بهذا الأسلوب المريب الغريب المخل بعظمته وعظمة المخطوب إليه، كما أنه لا داعي لارتكاب(219/22)
ابن عائشة هذه الهفوة، وهو ذلك السفير الحازم (الضابط) المجرب العارف بمقتضيات أحوال الملوك وما تتطلبه مناصبهم ومراسيمهم، وما تتنافس فيه نفوسهم الطماحة من التنافس فيما يظهرهم بمظاهر العظمة والجلال والفخار المطلق، على أن ابن عائشة إنما كان سفيراً في الشئون الراجعة إلى وظيفته، ولا شك أن هذا الأمر ليس منها في قبيل ولا دبير، فلم يكن ابن عائشة في الدولة الإسماعيلية وزير خارجية، وإنما كان رئيس البحرية، يترأس الأساطيل المغربية التي كانت تمخر عباب البحر إلى شواطئ الدانمارك، وفرنسا، وغيرهما، فكيف يمكن أن يكلفه مخدومه بهذا الأمر، وهو بعيد عنه تمام البعد؟ بل كيف يمكن تدخله فيه، وهو بهذه المثابة، مع وجود من تسيغ التقاليد الدولية تكليفه بذلك من وزراء ورؤساء الدولة الإسماعيلية المدنيين السياسيين؟ بل كيف لا يفطن مولاي إسماعيل لذلك، وهو ذلك الملك الألمعي (الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا) يندب لكل مهمة أهل بلواها، حسبما شهد له بذلك غير واحد، حتى من ساسة أوربا؟ قال الأب بيستوفي مؤلفه المعنون بحكاية حوادث بالمغرب، صفحة 35 منه في حقه: يدرك ما يدور في ضمير مخاطبه قبل أن ينطق بمراده. إلى أن قال: بصير بعواقب الأمور، آخذ بالأحوط في متوقع الحوادث، وبصفحة 60 منه لا يسند تدبير أموره بغيره من قواد وكتاب، ولكن يستشيرهم فيما عزم عليه فيحبذون.
لو كان هذا الكتاب صحيحاً، لجاء على صورة المكاتبة الدولية، وبأسلوبها، ولكانت له أهمية كبرى، وطنين ورنين في الدوائر الإدارية الفرنسية ذات الشأن، ولاحتفظ بأصله، كما احتفظ بغيره، مما هو أتفه منه في السجلات الدولية والفرنسية المعدة لذلك، ولتناقله كتاب ذلك العصر من مؤرخي الشرقيين، والغربيين، فقد تتبعت بغاية اليقظة والتثبت جل المصادر المتعلقة بتاريخ دولتنا الإسماعيلية، مغربية وفرنسية، وغيرها مما كتب بلغات مختلفة، وأساليب متعددة في ذلك العصر، كرحلة مويط، وتاريخه للدولتين، الرشيدية والإسماعيلية، سواه كثير، فلم نعثر على شيء، ولم نقف لهذه الأحدوثة على أثر ولا خبر يسمع وتطمئن النفس إليه، ولطالما تباحثت في ذلك مع جماعة من علية المستشرقين وغيرهم، فلم يفيدوا بما يحسن السكوت عليه، ومنهم من وعد بالبحث في مواطنه، وبعد مدة أجاب سلبياً، وغاية ما هنالك، رواج القضية حتى استفاضت بدون استناد لأصل أصيل(219/23)
يثبتها، ولقد أجهد نفسه البحاثة الكبير الكنت هنري دوكستري، وهو من هو في البحث، والتنقيب، عسى أن يصل إلى أصل يعتمد عليه في الإثبات، بصفة رسمية، فلم يظفر بشيء كسابقيه، ومن أتى بعده، وكل من ذكرته في هذا الموضوع من المؤرخين المستشرقين وغيرهم، وبينت له وجهة نظري في إبطال القضية، ودحضها بالحجج الواضحة، حبذ النظرية واقتنع بها
والباحث المولع مثلي بالبحث والتنقيب عن الآثار والوثائق التاريخية، ولا سيما ما كان متعلقاً منها بسلفنا الطاهر، لا بد أن يكون جد مسرور لو عثر على ما يطمئن نفسه، ويقر في قرارتها ثبوت هذا الأمر الخطير بالطرق الرسمية المعروفة المتبعة. هذا ولا عار يلحق الخاطب العظيم، لو كان هذا الكتاب صحيحاً، وحبذا ذلك، وأبى لويز الرابع عشر أن يحقق له هذه الأمنية لأسباب ارتآها، وعلل خارجية يعقلها من يعلم بوقوع هذه الشئون بين من لا يعد من الخاطبين ومخطوباتهم في سائر الطبقات، ولكننا ويا للأسى والأسف لم نقف ولا وقف غيرنا ممن أجهد نفسه في البحث قبلنا على ما يثبت ذلك، فليس هنالك نص محفوظ في الدوائر الرسمية يتضمن ذلك، وليس هنالك جواب يدل على وجود هذا الكتاب من والد المخطوبة، والجواب ضروري ولا شك حسب القواعد الجارية، ولا سيما في مثل هذه المهمة التي أصبحت الشغل الشاغل لكثير من الباحثين، والتي يريد إثباتها كثير من المستشرقين، بل والشرقيون كذلك من غير التفات إلى مصدر وثيق، ولا نص رسمي صريح يحمل على اليقين. على أنه لو كان هنالك كتاب لكان عنه جواب بالطبع؛ ولو كان هنالك جواب لحفظ أصله من غير ارتياب؛ ولو كانت هنالك رغبة حقيقية من جلالة الخاطب في هذا الأمر لوقع منه ما يؤيده من مراجعة الملك المخطوب إليه بواسطة نائبه الذي كان بمثابة وزير الخارجية إذ ذاك، وكان يقيم، في الغالب، بثغر طنجة، وكانت الأمور الخارجية، كيفما كانت، منوطة به من جانب السلطان في ذلك العهد، وما ذاك إلا لكون هذا الكتاب يقتضي بنصه الصريح شدة رغبة مولاي إسماعيل في ذلك، فكيف يمكن أن يكون راغباً فيه متعلقاً كل التعلق به ولا يراجع المخطوب إليه، ولا يخاطبه في شأنه بمكاتيب رسمية تفصح عن مراده تمام الإفصاح؟ ذلك مما ينقض هذه القضية بوضوح، ويصيرها في حيز العدم. جعل مؤرخو أوربا لهذه القضية سبباً غريباً نعده نحن، بحسب(219/24)
تقاليدنا الدينية وتقاليد ملوكنا الغيورين العظماء، من قبيل الروايات والتشبث بالخيال الكاذب. أتدري ما هو هذا السبب؟ هو وصف ابن عائشة تلك الفتاة الجميلة لمولاي الجد إسماعيل وصفاً كاشفاً جعله ينزو هذه النزوة التي تقضي على ما عرف به من الثبات الذي يحطم النزوات والوثبات والمشهود له به من كتاب عصره سواء في ذلك الأوربيون وغيرهم، بل صيره ينزع هذه النزعة التي تجعله في صف الذين تقودهم غرائزهم إلى الهيام بما يرضيها ويشبع نهمها بأي وسيلة كانت، مع أنه كان بقصره الفاخر العامر من الأزواج الطاهرات والسراري وأمهات الأولاد الأعجميات الجميلات ما يغنيه ولاشك عن التعلق بفتاة وإن كانت أميرة بعيدة عنه تمكن أحد سفرائه من وصفها بكل دقة؛ فقد نص (بيدجان مكان) في تعليقه على ما كتبه (سان أولون) على أن مولاي إسماعيل، وإن كان ولوعاً بالنساء، فإنه لم يكن من الذين يستهويه حبهن، ويستولي على فكره، بل كان مقتصراً على ما تدعو إليه الحاجة إليهن، ولم تشغله كثرة نسائه عن تدبير شئون مملكته، والنظر في مصالحها، إلى آخر ما قال من هذا القبيل فلينظر في كتابنا (المنزع اللطيف، في التلميح لمفاخر مولاي إسماعيل بن الشريف) وليس سفيره ابن عائشة بذلك المتهور السخيف، الذي يتجرأ على مولاه وسيده، بوصف هذه الفتاة له وجهاً لوجه، وهو الذي كان يقف بين يديه وقوف المملوك بين يدي مالكه، بأدب واحتشام، وتهيب لمقامه واحترام
والذي يرفع نقاب الغموض عن هذه القضية، هو ما كان بين الخاطب والمخطوب إليه من غاية الرعاية وتمام المودة، وحسن العلائق، والمخاطبات التي كانت أكبر عنوان على تعظيم أحدهما للآخر والتنويه به، واعتناء كل منهما بإجابة صاحبه عن كل أمر له علاقة بتوثيق العلائق السياسية بينهما، وأي علاقة تضاهي علاقة المصاهرة في هذا الباب أو تحل محلها؟ فكيف إذن تصح خطبة سيدنا الجد إسماعيل الأكبر منه بهذه الصفة؟ وكيف لا يجيبه جواباً يعبر فيه عما تكنه نفسه للجد من إجلال وتقدير عهدا منه في غير هذا الأمر؟
هذا ما ظهر لي في هذه الأحدوثة أبديته، راجياً من الباحثين والمؤرخين أن يرشدونا إلى أصل ثابت غير الكتاب الذي أبديت فيه رأيي، ولهم مزيد الشكر مني سلفاً
(الرباط)
ابن زيدان(219/25)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 21 -
الفلسفة الصينية
يلاحظ الباحثون أن لديهم مصادر لا بأس بها عن جميع الفلسفات الشرقية القديمة ما عدا الفلسفة الصينية فإنها ظلت إلى ما قبل هذه السنين الأخيرة مدروسة دراسة ناقصة، إذ لم يوفق قبل هذا العصر أحد لأن يكتب عنها كتاباً وافياً يعالج نواحي فلسفتها العميقة المتشعبة، ولكن ليس معنى ذلك أن هذه الفلسفة ظلت مجهولة تماماً إلى أن ظهرت تلك البحوث الأخيرة، كلا، فهذه الفلسفة قد عرفت في العالم الأوربي المتمدين قبل الفلسفة الهندية مثلاً، إذ ترجم (كونفيشيوس) سنة 1687 و (مانسيوس) سنة 1711، ولكن الذي ظل ينقص الباحثين إلى هذا العهد الأخير هو الكتب الشاملة لجميع نواحي هذه الحياة العقلية القيمة؛ غير أن هذه الثغرة قد أخذت تضيق على أثر شعور العلماء المحدثين بوجوب استيفاء هذه الدراسة الهامة، ذلك الشعور الذي تجلى بوضوح في كتاب العالم الكبير والمُستَصْين الخطير (ا. ف. زانكير). ولا ريب أن هذا المؤلف وأمثاله قد كشفوا للعقل الحديث عن ناحية هامة من نواحي الفكر البشري كانت مجهولة لدى العامة، ومعروفة معرفة مشوهة لدى الخاصة. ولهذا الجهل أو التشويه ثلاث أسباب: الأول صعوبة اللغة الصينية إلى حد يصعب معه إتقانها واكتشاف أسرارها. الثاني فقدان الثقة نهائياً من جميع الترجمات التي نقلت النصوص الصينية إلى اللغات الأوربية لما وجد بينها من تباين واختلاف جديرين بإسقاطها كلها من صف الحقائق العلمية. السبب الثالث هو ذلك الغرور الأوربي المتعجرف الذي ظل إلى ما قبل هذه السنوات الأخيرة يجزم في طفولة بأن أول فلاسفة الدنيا هو (تاليس) وأن العقلية الشرقية - ولا سيما الجنس الأصفر - غير قادر البتة على أن تنتج آراء فلسفية ذات قيمة عالية، إلى غير ذلك من الدعاوى السطحية التي(219/27)
أنزلتها البحوث الأخيرة عن الفلسفة الصينية منزلة الخجل والسخرية، إذ كشفت الدراسات الحديثة عن أن للصين فلسفة عميقة مبتدعة جديرة بالاحترام يرجع تاريخها إلى عشرين قرناً قبل المسيح، وأنها استطاعت أن تلون الحياة العملية العامة للأمة جمعاء بلونها الراقي، وأنها استطاعت كذلك أن تحفظ الكيان الخلقي الكامل لهذه البلاد مدى أربعة آلاف سنة، بل إن بعض العلماء يعتقد أن الفضل في هذا التماسك الاجتماعي والمقاومة السياسية واحتفاظ الصين باستقلالها إلى الآن يرجع إلى تمسكها بالأخلاق العالية المسجلة في فلسفتها
على أن هذا لا يمنعنا من أن نعترف مع الأستاذ زانكير بأن الفلسفة الصينية لم تعرف علم النفس التجريبي على النحو الذي يدرس عليه الآن، وأن العقلية الصينية لم تعرف المناهج العلمية، بل وأنها لم تنجح تماماً في تأليف كتاب منظم متقن في علم المنطق وإن كان هذا كله يجب أن ينظر إليه بعين التحفظ والأحتياط، لأننا سنشير فيما بعد إلى المنطق الصيني، وسنبين بعض ما فيه من عمق وسمو كما أننا سنشير كذلك إلى ما لهم من مجهود لا بأس به في العلوم المختلفة الأخرى
غير أن أولئك العلماء الذين استهانوا بالفلسفة الصينية ورموها بالخلو من النظريات لهم في ذلك بعض العذر، وهو أنهم لاحظوا في جميع الأطوار التاريخية لهذه الأمة أن الفلسفة العملية هي التي تفوز بأهم الأدوار فخدعهم ذلك عن الفلسفة النظرية التي هي أساس كل هذه الأخلاق العملية. وفي الواقع أن من طلائع مميزات الأمة الصينية تحوُّل النظريات بسرعة إلى أخلاق عامة في الشعب كله، ولهذا قال (سوزوكي) الياباني ما نصه: (إذا كان الدين ممثلاً في اليهود، والتنسك في الهنود، والتفلسف في الإغريق، فإن الأخلاق هي الثقافة الروحية التي التقت في إمبراطورية الوسط بممثليها الحقيقيين وبنموها المنظم المحدود)
بلغت الأخلاق الصينية من السمو إلى حد أن يروي لنا الأستاذ (زانكير) أن المبشرين المسيحيين حين اتصلوا بالصينيين في القرن التاسع عشر ورأوا ما عندهم من أخلاق بهتوا خجلاً من عقيدتهم القديمة عن هذه الأمة ولم يجدوا لهم من هذه الورطة مخلصاً إلا أن يعلنوا أن الإله قد أوحى إلى الصينيين كما أوحى إلى الإسرائيليين، وأن (شانج - تي) ليس إلا الرب السماوي المذكور في الكتاب العبري المقدس، بل إن أحد (اليسوعيين) في القرن(219/28)
التاسع عشر اشتغل بجمع بعض النصوص الصينية، ليثبت منها هذا الوحي الإلهي، وإن عدداً كبيراً من القسس والعلماء قد حاولوا أن يربطوا بين التوارة وبين الكتب الصينية تارة في الأخلاق وتارة في أصول العقيدة، وثالثة في اللغة على نحو ما رأينا من التحككات اللفظية التي قام بها العلماء بين الفلسفتين: الهندية والفارسية. ويستطرد هذا العالم فيقول ما ملخصه: وقد ظلت الفلسفة الصينية مجهولة القيمة في وربا إلى القرن التاسع عشر، وهذا طبيعي، لأن الفلسفة التي تسمو فيها الأخلاق إلى هذا الحد لا يمكن أن تفهم حق الفهم في العصور التي - مع الأسف الشديد - لا تعني بالأخلاق كثيراً؛ ولكن العجيب في رأيه هو هذا التناقض البارز الذي وجد كثيراً في كتب (المُستصْيِنين) والذي أنزل أولئك الباحثين في نظر (زانكير) منزلة العوام والأميين كما يصرح بذلك بعد أن يسرد طائفة كبيرة من آرائهم المتضاربة المتناقضة ثم يسأل أولئك المتعاليين متهكماً فيقول: تقولون إن العقلية الصينية غير جديرة بالأحترام، لأنها لم تترك تراثاً علمياً، فهل تستطيعون أن تنبئوني متى عرفت أوروبا العلم؟ وهل كان لديها أقل فكرة قبل القرن السادس عشر عن العلم أو عن مناهجه الحديثة؟ وهل كل شعوب أوروبا لم تكن مستوية مع الصين في هذه النقطة تمام الاستواء إلى عهد النهضة؟
على أن هذه التهمة التي رموا بها العقلية الصينية هي باطلة من أساسها؛ فالصينيون قد عرفوا منذ أكثر من ثلاثين قرناً الرياضة والفلك إلى حد أم كان لهم فيهما بحوث قيمة تدور حول بعض معقدات فروع هذين العلمين مثل معرفة الفروق الدقيقة بين السنتين: الشمسية والقمرية، ومعرفة أوقات دورات هذه الأفلاك الثلاثة: الأرض والشمس والقمر بالنسبة إلى بعضها. وفوق ذلك فقد كانت لهم دراية عظيمة بالأدب ونقد النصوص والتاريخ والجغرافيا وتاريخ الفنون وعلم اللغات. كل هذه المواد كانت معروفة ومدروسة في الصين بدرجة من العناية لم تكن تبلغها أوروبا قبل القرن السادس عشر
أما العلوم الطبيعية فيكفي لإثبات نبوغهم فيها أن نلعن في فخر أنهم هم الذين اخترعوا البوصلة وأحجار المناظير ورواسم (كليشهات) الطباعة المصنوعة من الخشب، وأنهم عرفوا الورق والحرير و (البورسيلين) والطلاءات الثابتة وبرزوا في كل هذا على أوروبا قبل عصر النهضة(219/29)
نعم إن أوربا قد سبقت الصين في هذه العصور الحديثة، ولكن ذلك ليس معناه نقص العقلية الصينية أو عدم استعدادها للنبوغ في هذه العلوم، كلا، وإنما هو ناشئ من أن الصينيين لم يحتكوا بأوروبا احتكاكاً مباشراً متواصلاً، فلم ينلهم نصيب كبير من هذا النمو العلمي الحديث، ويدل على ذلك أن الشبان الصينيين الذين أخذوا بحظ من العلوم العصرية لم يكونوا أقل نبوغاً من شباب أي شعب آخر
ثم يعلق الأستاذ زانكير على هذا بقوله: والآن نعود إلى النقاش في مشكلة الفلسفة المنهجية فنسأل أولئك المتجنين على الصينيين: ماذا يقصدون بهذه العبارة؟ إن كانوا يريدون بها تطبيق مناهج العلوم التجريبية على الفلسفة، فنحن نوافقهم على أن الصينيين لم يعرفوا هذا الفن، ولكننا نعود فنهمس في آذانهم بأن أوروبا لم تنجح في هذه الطريقة إلى الحد الذي يبرز هذه الطنطنة، ويستدعي تلك الكبرياء. بل بالعكس إن أحدث الآراء الفلسفية المحترمة قد عدلت نهائياً عن هذه الفكرة، وآمنت بأن العلم قد عجز أن يكون أستاذ الفلسفة وملهمها، وأعلن استعداده إلى العودة من جديد إلى بنوتها والتتلمذ عليها، واعترف أن مناهجه الميكانيكية ليست إلا جزءاً من مناهج الفلسفة ابتدعته هي حينما ألجأتها الحاجة إلى دراسة المظاهر الخارجية التي لا تعرف إلا عن طريق هذه المناهج التجريبية. وأخيراً فهل سقراط وأفلاطون والقديس أوجستان والقديس توماس - ولم يعرف واحد منهم المنهج التجريبي - لم يكونوا فلاسفة في نظر أولئك المتجنين؟
نحسب أننا بعد هذا كله قد رسمنا لك صورة واضحة للفلسفة الصينية في شكلها العام، ولِمَا أصدر عليها الباحثون من أحكام متسرعة لم تلبث أن انهارت أمام النقد العصري النزيه
مصادرنا عن الفلسفة الصينية
يرى العلماء أن أهم مصادر فلسفة شعب من الشعوب هو الكتب التي سجلت فيها آراؤه الفكرية وأخلاقه العملية، وأن أصدق ما يحقق هذه الغاية عند الشعوب القديمة هي الكتب الدينية، لأن الدين والفلسفة توءمان في النفس البشرية لا يستطيع أحدهما أن يستغني عن الآخر، إذ لا تكاد العقيدة الدينية تستقر في النفس حتى توقظ التفكير الذي هو مبدأ الفلسفة، ولا تكاد الفلسفة تبدأ في مهمتها دون أن تفتتحها بالبحث عن الإله، وهو الجوهر الأساسي في العقائد. وإذن فنستطيع أن نجزم بأن الدين والفلسفة شقيقان مستقلان بدآ من مصدر(219/30)
واحد متجهين إلى غاية واحدة وإن اختلفت أثناء الطريق وسائلهما، بل قد يعظم هذا الاختلاف حتى يصل إلى درجة الخصومة كما حدث بين (أنا جزاجور) ورجال الدين في أتينا، أو بين الفلاسفة ورجال الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى، ولكن الصينيين لحسن حظهم لم يعرفوا هذه المعارك الدامية التي شهدتها أوروبا المتمدينة بين الفلسفة والدين مراراً عدة، بل ظل العقل والدين عندهم في وئام وسلام يتعاونان تعاون الشقيقين على حل خفايا الكون ومشكلات الوجود.
لهذا كله كان من الطبيعي في الصين - أكثر منه في أي بلد آخر - أن نبحث عن مصادر الفلسفة بين صفحات الكتب الدينية وفي تقاليد الشعب وعاداته الشفهية، وهذا هو الذي كان بالفعل، إذ اعتمد الباحثون العصريون في الفلسفة الصينية على ما يأتي:
(ا) العادات والتقاليد الدينية التي ظلت - بفضل العزلة - كما كانت منذ آلاف السنين، ولم تنل منها هذه العصور الطويلة كما نالت من تقاليد الشعوب الأخرى، والتي لا تزال قادرة على إعطائنا صورة أمينة لما كان عليه العقل الصيني منذ تلك العهود.
(ب) الكتب الدينية الخمسة المسماة: (وو - كينج) والتي يمكن أن تعد بين أقدم الكتب الإنسانية، ومع ذلك فلا يستطيع العالم الدقيق أن يطمئن إلى هذه الكتب كمصادر موثوق بها عن العصر الأول، إذ قد ثبت أن أكثرها كتبه (كونفيشيوس) ملخصاً بأسلوبه الخاص، ولهذا ينبغي للباحث الاحتياط من هذه الكتب كما يقول أحد العلماء الألمان، ولكن ليس معنى هذا أننا نتهم (كونفيشيوس) بتشويه هذه الكتب، كلا، ولكنه لما صرح بأنه لم يأت في مذهبه بجديد، وإنما أقر أنقى وأطهر ما كان في العقيدة القديمة، فقد خشي الباحثون المحدثون أن يكون قد ألغى من هذه الكتب كل ما ليس نقياً في نظره، وهذه خسارة علمية كبرى، لأن العالم يهمه أن يجد الآثار التاريخية بقضها وقضيضها، ليستطيع أن يستخلص منها الحقائق في حياد تام. وفوق ذلك فإن تلاميذ (كونفيشيوس) قد شرحوا هذه النصوص وعلقوا عليها، وربما يكونون قد حذفوا منها أو أضافوا إليها.
يوجد بين هذه الكتب الخمسة ثلاثة جديرة بالعناية، وهي: (شو - كينج)، و (شي - كينج) و (إي - كينج)؛ فأما (إي كينج) فهو أهم هذه الكتب من حيث تصوير الناحية العقلية للأمة، وقد حوى كثيراً من التطورات الفكرية المختلفة وهو لهذا يدعى: (كتاب التغير)(219/31)
وعليه أكثر من غيره يعتمد (المستصينون) في فهم الحياة الفلسفية لهذه الأمة، لأن التطور الذي وقع له ليس تطور حذف ولا تشويه، وإنما هو تطور إضافة وتأويل للنصوص القديمة بما يتفق مع سير العصور المختلفة. أما نصوصه فقد أثبت العلماء أن بعضها يرجع إلى القرن الثاني عشر قبل المسيح، وأن هذا البعض قد وجد عليه الطابع النحوي واللغوي لتلك العصور التي كتب فيها. والفضل في هذا التحقيق العلمي يرجع إلى العالم الدقيق (أليز) الذي استطاع بمعونة علوم اللغة أن يحدد - ولو على وجه التقريب - العصور التي كتبت فيها هذه النصوص. وإذاً، فنحن نرى أنه اجتمعت في هذا الكتاب المحافظة الدقيقة مع التطور المستمر.
وأما (شو - كينج) فأهميته كلها تنحصر في احتوائه على جميع النواحي الأخلاقية إذ أنه ضم بين دفتيه أسمى أنواع الفضائل والخيرات التي أتصف بها حكماء ملوك الصين فيما قبل التاريخ تلك الفضائل التي اتخذها (كونفيشيوس) فيما بعد نموذجا احتذاه وسار على منواله.
كان هذا الكتاب أكثر الكتب الصينية تعرضاً إلى التشويه والتبديل، إذ تحدثنا القصص الشعبية أنه كان في عهد (كونفيشيوس) مائة فصل كاملة نسخها هذا الحكيم بخطه، وأنه لما أمر الإمبراطور (اتسين - شي - هوانج - تي) بإحراق الكتب افتقد الناس كتابي: (شو - كينج) و (شي - كينج) فلم يجدوهما، فاضطروا إلى أن يستنسخوهم من جديد. وقد اعتمدوا في هذا على ذاكرة شيخ قدير وعالم جهبذ كان قد اشتهر في عصره بالدقة وقوة الذاكرة، وهو (فو - سانج). ولهذا السبب قد أصبح كتاب (شو - كينج) ثمانية وخمسين فصلاً بعد أن كان مائة.
ومهما يكن من الأمر، فإن هذا الكتاب له أهمية عظمى من الناحية الأخلاقية، لاحتوائه على كثير من الحكم والمواعظ والأمثال والقصص التي تعلي من شأن الفضيلة والخير.
هذه هي المصادر القديمة التي يعتمد عليها. وهناك كتب أخرى قد كتبت في العصور المتأخرة وسنشير إليها عندما نعرض لعصورها في شيء من التفصيل.
(يتبع)
محمد غلاب(219/32)
فقيد الأدب السوداني
التيجاني يوسف بشير
للأديب المبارك إبراهيم
في أواخر شهر يوليو المنصرم، منيت النهضة الأدبية الحديثة في السودان بخسارة جد فادحة قل أن يأتي الزمان لها بعوض، وذلك بوفاة شاعر هو من أفحل شعراء النهضة، هذا إن لم أقل إنه أرهفهم إحساساً أجمعين!
يعد الفقيد من أصغر شعرائنا المجيدين سناً، إذ كان مولده في مدينة أم درمان عام 1912
وقد تلقى علومه بمعهد أم درمان العلمي؛ وبعد تخرجه ساهم في تحرير جريدة (ملتقى النهرين)، قبل اندماجها في جريدة (حضارة السودان). ثم حرر في مجلة (أم درمان)، ومجلة (الفجر)
وكان الشاعر الشاب يؤمل أن تواتيه الظروف، فينزح إلى القطر المصري الشقيق، للانتظام في أحد معاهده العالية، غير أن جده العاثر لم يمكنه من إدراك هذه البغية
ومن رقيق شعره في الحنين إلى أرض الكنانة: -
عادني من حديثك اليوم يا مصر ... رَئِيٌّ وطوفت بي ذكرى
وهفا باسمك الفؤاد ولجت ... بسمات على المباسم سكرى
إنما مصر والشقيق الأخ السو ... دان كانا لخافق النيل صدرا!
نضر الله وجهها فهي ما تز ... داد إلا بعداً عليّ وعسرا!
والتيجاني لم يكن كأولئك النظامين الذين إذا ما شاءوا أن يؤلفوا القوافي أتوا بالتعابير الجاهزة الجافة، فقوموا قصيدهم منها كما يقوم البناءون البيت أو البناء بقوالب من الطوب. . . كلا لم يكن شاعرنا كأولئك، وإنما كان رحمه الله أشبه ما يكون بالمثال الماهر الذي يعمد إلى المواد الأولية البكر فينحت منها في غير محاكاة، تماثيل هي آية من آيات الفن الخالد على الزمن
وإليك أغرودة من أغاريد الشاعر المرقصة، وقد أسماها (النائم) قال:
أيها النائم في مه ... د أغانيّ ولحني!
هكذا يدفق يا نا ... عس في حسنك حسني(219/34)
أنت يا واهب ألحا ... ني ويا ملهم فني
إنما أصنع من كرْم ... ك صهبائي ودني!
يا أمانيّ التي أعب ... دها في كل لون
وأغانيّ التي ألهمه ... املهم جن!
والتي ذوبها المط ... رب في الصوت الأغن
كلما طار بها اللح ... ن وفراها المغني!
خفقت ذات جناحي ... ن: مدوٍ ومرن!
عبرت كل فؤاد ... وتغشت كل أذن!
وكل أثار الفقيد من هذا الضرب الذي يمتاز بالرصانة في الأسلوب، والسمو في الخيال، والتجديد في المعاني
وفن التيجاني في مجموعه، مزاج من الأحاسيس العاطفية المتناهية في الدقة، والتأملات الروحية الفلسفية الصوفية: التي تُرى أن كل الكائنات، كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها، تحدث عن جلال الخالق عز وجل
وليس أدل على صدق هذا القول من قصيدة شاعرنا التي نشرتها له (الرسالة) في العدد 38 من سنتها الثانية، تحت عنوان (الصوفي المعذب)، وهذه القصيدة تمثله صوفياً من الطراز الأول، ومنها: -
الوجود الحق ما أو ... سع في النفس مداه
والسكون المحض ما أو ... ثق بالروح عراه
كل ما في الكون يمـ ... شي في حناياه الإله
هذه النملة في رقتها ... رجع صداه!
هو يحيا في حواشيـ ... ها وتحيا في ثراه!
وهي إن أسلمت الرو ... ح تلقتها يداه!
لم تمت فيها حياة الله ... إن كنت تراه!
وله من نفس القصيدة، وكأني به كان يصور شعوره عند دنو الساعة الأخيرة:
أذني. . . لا ينفذ اليو ... م بها غير العويل(219/35)
نظري. . . يقصر عن كل ... دقيق وجليل
غاب يا نفسي إشرا ... قك والفجر الجميل
واستحال الماء فاستحـ - جر في كل مسيل
يرجع اللحن إلى أو ... تاره بعد قليل!
وكان حب الشاعر المفرط للبحث والتنقيب في أمهات الكتب الأدبية والفلسفية يحمله على أن يقطع ليالي برمتها ساهراً: يقلب صفحات كتبه تارة، وصفحات أفكاره تارة أخرى، أو يغازل عرائس أشعاره وقوافيه، البارعات الجمال، ذلك دون أن يقيم لصحته وزناً، أو يعطي جسمه الضاوي راحته من الهجود وفي ذلك يقول: -
ويح نفسي تنام من دونها الأنـ ... فس شوطاً وما تهم بشوط!
أنا والنجم ساهران نعد الصبح ... خيطاً من الشعاع لخيط!
كم صباح نسجته أنا والنجـ ... م وأرسلت شمسه من محطي!
وكان من جراء هذه الجهود المتواصلة التي كان يبذلها الشاعر في الانكباب على الدرس والتحصيل أن أصيب بداء (السل) الذي أودى بحياته في أقل من نصف عام. فرجع هذا اللحن الجميل إلى أوتاره، على حد تعبير الشاعر. والشاعر لما يزل في ريعان الشباب، ولما يتجاوز الخامسة والعشرين
هذا وقد خلف الشاعر ديوان شعره، الذي كان يعده للطبع بعنوان (إشراقة). وقد قدم له بقصيدة شيقة جاء فيها:
قطرات من الندى رقراقه ... يشرق البشر دونها والطلاقة
قطرات من الصبا والشباب الغض (م) ... منسابة به منساقه
ورذاذ من روحي الهائم الولهان (م) ... أمكنت في الزمان وثاقه!
قطرات من التأمل حيرى ... مطرقات على الدجى براقه
يترسلن في جوانب آفاقي (م) ... شعاعاً أسميته (إشراقه)
في سنة 1027، نشرت له مجلة (البلاغ الأسبوعي) أولى قصائده، وهو يومذاك طالب حديث السن في الخامسة عشرة من عمره، ومطلعها: -
تبدي الصدود وإنني أهواها ... حسناء ما عرف الهوى لولاها!(219/36)
وأما آخر ما نظمه الشاعر وهو على فراش الموت، فقصيدة بليغة مؤثرة، يخاطب فيها صديقه الشاعر السوداني المشهور: محمود أنيس. وفيما يلي جانب منها: -
أرأيت الصديق يأكله الدا ... ء ويشوي عظامه المحراق؟
جف من عوده الندى فتعرى ... وتنفت من حوله الأوراق!
وأنا اليوم لا حراك كأن قد ... شد في مكمن القوى أوثاق
بت استنشق الهواء اقتساراً ... نفس ضيق وصدر مطاق
وحنايا معروقة، وعيون، ... غائرات، ورجفة، ومحاق!
مالنا دون ذا احتيال فإن الله (م) ... في علمه الشئون الدقاق!
كيف أجزيك يا (أنيس) ومالي ... من يد بالجزاء مثلي تساق
فالقريض الذي تقدر لا أعلم (م) ... إن كان في الجزاء يستشاق
فاحتفظها ذكرى فإن مت فأقرأ ... بينها الحب ما عليه مذاق
أو حيينا فسوف نقرأ فيها ... فترة لا أعادها الخلاق!
ألا رحم الله فقيد الأدب السوداني، فلو عاش لغدت له شهرة مدوية بين قراء العربية في شرقنا العزيز.
(أم درمان سودان)
المبارك إبراهيم(219/37)
همس وعزلة
للأديب يوسف البعيني
إلى أخي وصديقي الأستاذ فليكس فارس
مرَّ عليكِ الخريف بحزنهِ وكآبته. . .
ثم كفنكِ الشتاء بضبابهِ وثلوجه. . .
ومع أنك تسمعين هَمهمة الرياح، وتشاهدين تناثر الأوراق في الأودية والمنحدرات، أراكِ لا تحركين شفتيك ولا تهمسين بكلمة. فهل أخرَسَ الموتُ لسانكِ؟ لسانكِ الذي كنتُ أسمعهُ شادياً مغرداً يُفعم القلبَ حباً، والروح فرحاً وانتعاشاً!
واأسفاهُ. . . إن ليالي الانزواء والانفراد قد حوَّلتْ رائعَ إنشادكِ إلى وحشة خرساء صامتة. . . فما عدتِ تغازلين القمر، والجدول، والزهر، والشمس المطلة من وراء جدائل الشفق فسلامٌ على أيَّامك الغُرِّ الحسان. . .
أيام زهوكِ وسرورك!!
عجباً. .!
أهكذا يذوي الانفراد زهرة الأرواح؟
ويحوِّلُ إيناعها الناضر إلى ذبولٍ مؤلم وإطراقٍ مخيف؟
عجباً. .!
أهكذا تجرد العزلة زهرة الأرواح من زهوها الأنيق لتتعرى كالحُلم الحزين في برودة الموت؟
وافجيعتاه عليك. . . لم تعد حرارةُ أنفاسك تدفئك! إني أخشى عليك من تجمُّدِ العناصر، وظلمة ليالي الخريف الحالكة!
دمعةٌ فابتسامة،
ليلٌ فصباح،
هذا هو قانونُ الحياة
فلا حزنٌ يبقى، ولا يأس يدوم
فاستعدي لكي تنفضي عن مناكبك غبار العزلة والأنفراد، وأن تفتحي للفجر قلبك الطافح(219/38)
بخمرة الحب والجمال
فعمَّا قريب يأتي الربيعُ بنسماتهِ العليلة،
وزهورهِ البيضاء،
وأندائهِ النابعة من أجفان النجوم!
كفاك صمتاً. . .
فالصمتُ للعظام والجماجم،
وليس لكِ يا ابنة الآلهة!
فهل تستيقظين وتنزعين عن وجهك نقاب الموت أيتها الموحيةُ الحبيبة
المتسربلة بالضباب،
والمتَّشحة بالشعور والعواطف،
والمصغية إلى أغاني الكواكب؟
نعم. . سوف تستيقظين،
وسوف ترافقين ذاتي الخفيِّة. .
فنفرحُ معاً عندَ أقدام الوادي، ونحتسي كؤوس الحياة منفردين
إنَّ الربيعَ حياةٌ. .
ومن لا يشارك الربيع في سروره وأفراحه، فليس من أبناء الحياة!!
(البرازيل)
يوسف البعيني(219/39)
تشريع ولز للزواج وأثره الاجتماعي
للأستاذ خليل جمعه الطوال
إن الإنسان مدني بفطرته ميال بطبيعته إلى تفهم نواميس الكون التي تحيط به، والوصول إلى عللها ونتائجها؛ وهو إلى جانب ذلك قلما يطمئن إلى نظم معينة، أو يستقر على حالة ثابتة. ولعل مسألة الهيئة الاجتماعية كانت أولى المسائل التي أكب على دراستها دراسة جدية لما لها من الأثر البليغ المباشر في مشاكل حياته اليومية التي يصطدم بها صباح مساء حتى لينوء بحملها. وإذا كان لا بد من نتيجة مرضية لدراسته هذه التي أعارها جزءاً من اهتمامه غير يسير، فقد انتهى إلى أن المجتمع يرتكز على نظم واهية لا تماشي البيئة في سرعة تضخمها، ولا الأحوال في استمرار تطورها، فجاءت هذه النتيجة حدثاً جديداً بل صدمة عنيفة ألقت الرعب في قلوب الكثيرين من علماء الاجتماع الذين انقسموا إزاءها إلى ثلاث فرق رئيسية لكل منها في الأمر وجه نظر خاصة لا تقرها الفرقتان الأخريان وهي: (1) فرقة المتشائمين (2) فرقة المحايدين (3) فرقة المتفائلين
فالفرقة الأولى: هم الذين تسرب إليهم اليأس من الإصلاح فالقوا حبل الأمور على غاربها وانكفئوا على أنفسهم يتوقعون انطلاق رصاصة الدمار الأخيرة التي لا يستطيعون لدرئها سبيلا فمنهم من مال إلى الزهد من عقيدة دينية واكتفى من العيش باليسير؛ ومنهم من لزم عقر بيته يصابح الفجر بنكده ويشحن الزمن بزفرات بؤسه
والفرقة الثانية: وهم سواد المجتمع الأعظم، فقد شغلتهم أعمالهم الشخصية وسعادتهم الوقتية التي راحوا يهتبلون لها السوانح كلما طرأت - عن التفرغ لدراسة أحوال المجتمع، ووقفوا من تقلب أوضاعه واضطراعها موقف المتفرج في حومة القتال لا يبدون رأياً، ولا يدفعون عادية، ولا يقرون أمراً
أما الفرقة الثالثة فهم الذين هالهم ما رأوه في جوف هذه النظم والأوضاع من البؤس المسرع إليهم، فأحدث هذا المنظر في نفوسهم آثاراً شتى ليست على مستوى واحد من العمق والتأثير، ولذلك هبوا من غفوتهم واستيقظوا من رقدتهم مشمرين للأمر ليدفعوا عن البشرية عدوانه وليسدوا ثلمة الشقاء قبل أن تتسع، فمنهم من استل سيفه وقام بحركة إصلاح عنيفة، كما حدث في روسيا الشيوعية وإيطاليا الفاشية. ومنهم من لزم حد الاعتدال(219/40)
فقام يدعو تارة بلسانه وطوراً بيراعه كأفلاطون ومور وسبنسر وموريس وبرناردشو وإبسن وكثير غيرهم من أساطين علم الاجتماع
ومن كبار دعاة هذا الرهط في إنكلترا اليوم الكاتب العالمي الفذ هربرت جورج ولز الذي جاءت آراؤه ونظرياته خلاصة وافية ضافية ونتيجة صادقة صائبة لدراسات سابقيه ومتقدميه
دعوة ولز
صنف ولز قرابة الخمسين كتاباً بأسلوب يستهوي القارئ ويغريه، بعيداً عن التقعر والإسفاف، خالياً من اللبس والإبهام ومن مستهجن اللفظ وزركشة العبارة التي قد تزيد الفكرة تعقيداً. وتجعل المعنى ملتاثاً سقيما، وذلك لأنه يكتب مؤلفاته للخاصة والعامة على السواء، ويدعو لآرائه رعاع القوم ودهماءهم كما يدعو سراة الناس وأمراءهم. وقد تناول في كتبه معظم البحوث الاجتماعية التي اصطبغ بها أسلوب الأدب الإنكليزي الحاضر من سياسية وعلمية وتشريحية، ولا سيما البحوث الدينية إذ تناول كثيراً من مسائل الدين المسيحي وعقائده بمشرط النقد والتجريح، فجردها بطريقة علمية من معظم السفاسف والترهات التي حاكها حولها إنكشارية الدين من القساوسة والرهبان ليجعلوا منها ذريعة إلى أطماعهم الشخصية وأغراضهم الذاتية. وله في التاريخ مؤلف لم يسبق لغيره أن نسج على منواله، لا ترى فيه أثراً للدعوة القومية والعصبية الوطنية، إذ هو عدوهما الأزرق وخصمهما الألد، في الجهر والخفاء. ومما يستوقف النظر ويدل على سعة علمه ومعرفته بنتائج الظروف والتطورات قبل وقوعها هو صدقُ تكهنهِ عن كثير من الحوادث، فقد تنبأ عن مصير الاشتراكية الحاضر وعن الحرب الكبرى فجاء حدوثهما دليلاً على صدق نبوءته ونفوذ بصيرته. وعلاوة على ما ضمنه هذه الكتب من الآراء السديدة التي قضى في دراستها طول العمر وريق الشباب فقد كتب على صفحات الجرائد والمجلات كثيراً من المقالات التي كان ينتزعها من صفحة الحياة اليومية، وتمليها عليه مستلزمات البيئة الاجتماعية
وخلاصة القول أن ولز يدعو في جميع كتاباته (البيولوجية) و (السيكولوجية) إلى مقت الحروب وتحطيم آلاتها المدمرة وإلى إزالة الاستعمار والروح الوطنية، وينادى بالحرية(219/41)
والعلم والعالمية؛ وهو في دعوته هذه إنما يُهيئ السبيل السوي للحوادث التي لا بد من وقوعها في المستقبل القريب
أما خير كتب ولز في هذا الموضوع وأحدثها فهو كتابه الطوبى العصرية الذي يرمي به إلى أيجاد مدينة كبرى فاضلة لتكون وطناً للهيئة الاجتماعية بأسرها ووافية بحاجات السعادة البشرية، وقد رشحت مادة هذا الكتاب من دراساته للفلسفة الأفلاطونية التي تغلغل في ثناياها واتسم بطابعها. ولولز في هذا الكتاب آراء طريفة في المرأة والزواج أعرضها على صفحات الرسالة الغراء لا لأنها تلائم روح عصرنا وتتمشى مع حضارتنا، ولا لأنها وقعت من نفسي موقع القبول والاستحسان، بل لأطلع جمهور القراء على ناحية جديدة من مناحي التفكير الغربي
يرى ولز أن ناموس الطبيعة في كائناتها قائم على أن تتوالد وتتكاثر، وعلى أن يفترس القوي الضعيف بأنياب محددة ومخالب قوية طبقاً لنظام تنازع البقاء وبقاء الأفضل، وما الحياة في نظره إلا حلبة تتصارع فيها الكائنات الحية على اختلاف أنواعها وأجناسها فيخرج منها القوي ظافراً منصوراً، ويولي الضعيف منهزماً مكسوراً. وليس ما نشاهده من فتك الإنسان بأخيه في مجاهل أفريقيا وغابات الهند وفي جزر زيلندا أو يماثله بين شعوب الإسكيمو التي تقتات باللحوم البشرية حيث يقيمون في كل يوم مجزرة هائلة من بني الإنسان تتفطر لهولها القلوب الجلامد، وتسح لها العيون الجوامد، أو ما نشاهده من تطاحن الأمم والشعوب على استعمار الأمم الضعيفة، واقتسام ثروتها؛ ومن فتك الحيوانات بعضها ببعض - إلا مظهراً من مظاهر تنازع البقاء ونوع من حكم الطبيعة على الضعيف بالموت والفناء. وعليه فلا سبيل لتقدم البشرية، وقد أصبحت مشاكلها تشغل الحيز الأكبر من عقول مفكريها، كشوبنهور، ونيتشه، وبرناردشو، وهكسلي إلا إذا أسندت أمرها وألقت مقالديها ووكلت بشوؤنها حكومة عالمية واحدة تسيطر على هذه الحركة وتبيدها، لئلا تصبح الهيئة الاجتماعية أشبه بأجمة للافتراس. ويتم ذلك بمنعها الضعيف عن التناسل والتكاثر وجعلها عدد الوفيات منه يزيد في كل عام على المواليد زيادة مطردة؛ وهكذا فلا تمضي حقبة من الزمن حتى تصبح الهيئة البشرية بكاملها كتلة واحدة من القوة متجانسة الأجزاء متماسكة الذرات، ولا يكون بعد ثمة تنازع على البقاء، الذي يشبهه ولز بشوكة في جانب حق(219/42)
الضعيف والمدنية، أو حسكة في لهاة العدل والإنسانية.
فولز في هذا الموضوع يناقض زميله ومعاصره برناردشو الذي يذهب إلى أن خيرَ وسيلة للخلاص من هذا الضعيف هي أن ندعه فريسة في يدي القوي ونتركه يتمرغ في حمأة الموبقات والشرور المهلكة التي ينقاد إليها بضعفه، وهكذا يكون كمن بحث عن حتفه بظلفه
أما كيف يتسنى للحكومة إخراج ما يقترحه عليها من الآراء إلى حيز العمل فيراه في أن تهيمن على الزواج وتجعله شريعة مدنية لا دينية، وخاضعاً لقوانين معلومة تضمن بها صيانة المجتمع من الضعف والانحلال
ويقول بعضهم تعليقاً على آراء ولز: إن بعض الناس - وقد رأوا أنه يسلبهم بشريعته هذه حق الزواج وهو جل ما بقي لديهم من ذلك التراث النفيس الذي ورثوه عن تلك الإمبراطورية الرومانية المقدسة، يوم كانوا فيها قابضين على زمام السلطتين الدينية والمدنية ومن ورائهم محاكم التفتيش بسراديبها المخيفة، وأقبائها الموحشة - أخذوا ينسبونه إلى الكفر والإلحاد والجنون، لا لأنه هتك ستر الدين وخرج على عقيدة من عقائدهم الجوهرية، بل لأنه أذاقهم مرارة الحق إذ غمز مطامعهم الشخصية، وحاول أن ينتزع من أفواهم لقمة دسمة يرون فيها وهم يتشدقون بمضغها هيبة الدين وجلاله، وسلاح الإيمان وسطوته، ولأنه ليس لأكثرهم أيضاً من حرية الفكر وانطلاق الذهن ما يدركون به كارثة الهيئة الاجتماعية التي تنتج من الزواج في غالب الأحيان. ويقول أيضاً بأن الزواج في عرفهم ليس إلا رباطاً مقدساً لا تبلى جدته ولا تنحل عقدتُه لسبب من الأسباب إلا بالموت ما دام الكاهن قد أعطى الزوجين بركته القدسية وربطهما بحباله الأزلية
فولز إذاً من أشد خصوم البابوية خاصة والكنسية الرومانية عامة - وهي التي يسميها بالكنيسة الأفلاطونية لما بينها وبين طبقة أفلاطون الحاكمة من العلاقة المشتركة من حيث الزواج - لإصرارها على أن الزواج لا يتم إلا بالإكليل الذي يضعه هو من الأهمية على الهامش فقط.
أما خلاصة ما يضعه من التشريع: فأن يكون طالب الزواج بالغاً سِناً تؤهله لذلك (الرجل 27 سنة، والمرأة 20 سنة) مؤدياً ما عليه من الديون والضرائب القانونية، ذا دخل ثابت معلوم - تحدد الحكومة نهايته الصغرى - يمكنه من أن يعيش مع زوجه وأولاده عيشة(219/43)
رخية، وذا شخصية فعالة قادراً على العمل، وألا يكون مجرماً عند زواجه، ومكفراً عن الأجرام التي سبق أن ارتكبها، وبالغاً من التهذيب درجة عالية. على أن أهم هذه الشروط أن يكون كلا الزوجين خالياً من الأمراض المعدية والوراثية كالسل والجنون والسرطان.
هذه هي الشروط الأساسية التي يريد ولز وضعها، ويشترط على كل من طالبي الزواج أن يقدم بها شهادة للجنة المسؤولة عنه، وهذه بعد أن تطالعها وتبحثها تعين لهما يوماً معلوماً يحضران فيه لإجراء بعض المراسم القانونية لكل منهما بانفراد عن رفيقه، وبحضور الشهود والمميزين. . . وكل اثنين يتعاقدان على غير هذه الكيفية يكون عقدهما فاسداً بحكم القانون، وترتب عليهما الحكومة عند أول مولود لهما مبلغاً مقرراً من المال يدفعانه للخزينة حتى يبلغ المولد سن الرشد، وذلك لقاء عنايتها به، وضماناً لمستقبله، وجزاء لتحديهما القانون، وذلك بعد أن تمنعهما من أن يتناسلا مرة ثانية
الطلاق
لا يحق للزوجة في حالة زواجها من الرجل زواجاً مدنياً بالشريعة الولزية أن تطلب طلاقها منه إلا إذا أقامت عليه البينة أنه شيء الخلق فظ الطباع يعاملها معاملة قاسية، أو أنه قالٍ لفراشها ومنصرف عن الاهتمام بأمرها إلى السكر والدعارة والفسق، إلى ما هنالك من الصفات المستنكرة؛ فمتى توافرت هذه الأسباب أو بعضها يتقيد كل من الزوجين برفيقه مدة معلومة وذلك حتى يصبح أصغر أولادهما غنياً عن عناية أمه به، وبعدها يتم الطلاق. ويحق لكل منهما أن يتزوج ثانية بمن يريده. على أن ولز لا يميل حقيقة إلى الطلاق؛ وذلك لما ينتج عنه للأسرة - وهي التي تمثل الهيئة الاجتماعية بأصغر أشكالها - من وخيم العواقب التي تفت في عضدها وتجعلها مشوشة النظام، مفكفكة الأوصال، واهية الروابط التي ترتبط بها أفرادها ربطاً محكما؛ ولكنه يستحسنه في مثل هذه المناسبات الاضطرارية، والأحوال الشاذة لعلمه أن ما ينتج عن عَدمَه من تنغيص حياة الزوجين أضر بهناء الأسرة من وخيم عواقب الطلاق
الزواج المؤقت (المتعة)
يبيح ولز (المتعة) في كتابه: (الطوبى العصرية) وهي أن يتزواج اثنان لمدة أربع(219/44)
سنوات أو خمس مثلاً وبعدها يكون لهما الحق في الانفصال أو في تجديده ثانية على ألا يكون لهما الحق في التناسل في مثل هذا النوع من الزواج المؤقت
مساواة المرأة بالرجل
يقول ولز إن مساواة المرأة بالرجل وعدمها من الأمور الرئيسية التي كانت ولا تزال مثار البحث والاختلاف بين كبار العلماء والفلاسفة. فقد ذهب أفلاطون قديماً إلى أن المرأة خلقت وهي غاية بنفسها وموازية للرجل في الحقوق والواجبات، وإلى أنها حرة في جميع أمورها وتصرفاتها لا فرق بينها وبين الرجل إلا في الجنس فحسب، فباب العمل والتنافس على الجاه والثروة يجب أن يكون مفتوحاً على مصراعيه للجنسين على السواء كما أنه أباح للمرأة التي في الطبقة الحاكمة حق ممارسة الألعاب الرياضية والتدرب على حمل السلاح في سلك الجندية. ولكن أرسطو طاليس ذهب إلى عكس هذا المذهب وقال: لم تخلق المرأة إلا لتحفظ النوع من الفناء، وإن هي للرجل إلا أمة صاغرة تسير بإرادته دون أن يكون لها حق الاعتراض عليه؛ فهو ينكر على أفلاطون مساواته للجنسين بلهجة شديدة ملؤها الهزء والاستخفاف. أما هو وإن كان له مذهب ثالث وسط بين هذين المذهبين إلا أنه يفضل النظرية الأفلاطونية على تلك الأرسطوطاليسية التي يعيب على العرب خاصة وعلى الشعوب الشرقية عامة شدة تعصبها لها والعمل بها لما هم فيه من التأخر والانحطاط، على حين أن الشعوب الغربية وهي التي تعمل بالنظرية الأفلاطونية قد قطعت شوطاً بعيداً في مضمار المدنية
يحمل ولز على العرب مثل هذه الحملة الشعواء كشأن غيره من الشعوبيين الذين يحاولون إفساد التاريخ العربي والنيل من المدنية الإسلامية التي ظلت تسود العالم مدة من الزمن ليست قليلة، وهو لو درى أن أوربا بأسرها قد أخذت تضيق قليلا قليلا من نطاق مساواة المرأة بالرجل بعد أن أطلقت لها العنان إلى جانب الرجل مدة قرن ونيف، وذلك لما انغمست فيه من فساد الأخلاق وخشية من أن يتسرب هذا الداء منها إلى بنيها. أجل لو عرف هذا وأشباهه ودرس البيئة العربية لأنصفهم ولما عاب عليهم شدة محافظتهم على المرأة
المرأة والعمل(219/45)
يرى ولز أن المرأة خلقت ضعيفة الجسم والتركيب لا تقدر على تحمل الأعمال الشاقة ومزاولتها كالرجل، وأن الطبيعة إنما أعدتها بهذه الكيفية لتقصر مهمتها على إدارة البيت وتربية الأطفال؛ فعليها أن تنصرف بكليتها نحو هذه الغاية السامية التي خلقت لها، وأن تجعل سعيها موجهاً نحو إغراء الرجل وحمله على الزواج منها، وبذلك تصبح شريكة له في سرائه وضرائه ومساهمة معه في حلو الحياة ومرها. أما إذا وكلت أمر بيتها وإعالة أطفالها إلى من يقوم بهما تحت إشرافها وكانت فيها مواهب القدرة على العمل والتفوق على الرجل فلا بأس من أن تمارس ما هي كفؤ له من الأعمال على أن يكون ذلك لها من الأحوال الشاذة لا قاعدة مطردة. فولز في هذا الموضوع يقف موقف الحيرة والتردد وهو أيضاً كما يشاهد القارئ يخالف آراءه السابقة بعض المخالفة في شدة تحفظه
المرأة والحكومة
ينظر ولز إلى الأمومة نظره إلى وظائف الحكومة، ولذا يريد أن تدفع الحكومة لها عند كل ولادة مبلغاً مقرراً من المال يزيد بزيادة ما تلده من الأولاد، وتبقى مستحقة لهذا المبلغ حتى يبلغ أصغرُ أولادها سِنَّ الرشد، وذلك لكي تصرفها عن التطلع إلى الوظائف المدنية. وهي بهذه الطريقة أيضاً تشجع على الزواج أولئك الذين يحجمون عنه بسبب الفقر وتنقذ من وهدة الشقاء والبؤس الأراملَ اللواتي ينفصلن عن الحياة الزوجية بموت أزواجهن ولا يكون لهن من المال ما يقوم بأودهن وأود أولادهن حيث يصبحن فريسة تنتاشها مخالب البؤس وبراثنُ الفقر، أو يُطوحنَ بعفافهن وشرفهن في سوق الدعارة والموبقات
ولولز عدا ما تقدم آراء متطرفة في شيوعية النساء وفي النظرية اليوجينية أو التأصيل لا نرى ضرورة للتبسط فيها لأنها تنبو عن الذوق العربي الذي لم تفسده الحضارة الغربية بعد
خليل جمعة الطوال(219/46)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 8 -
الطور الثاني من حياة الرافعي
هل كان للرافعي خِيَرَة في المذهب الجديد الذي ذهب إليه عندما شرع يكتب (تاريخ آداب العرب)؟
وهل كان يعني ما يفعل حين انحرف عن الهدف الذي كان يسعى إليه في إمارة الشعر إلى المنحى الجديد في ديوان الأدب والإنشاء!
هل كان عن قصد ونية أن يتخلى الرافعي عن أماني الشباب وأوهام الصبا وأخيلة الفتيان وأحلام الشعراء، ليقف نفيه على العربية وتراث العربية يستبطن أسرارها ويغوص على فرائدها، وعلى الإسلام وأبطال الإسلام يكشف عن مآثرهم وينشر آثارهم؟. . .
الحق أن الرافعي لم يكن له خِيرة في شيء من ذلك ولا كان يعنيه ولا توجهت إليه نيته؛ ولكنه ألف تاريخ آداب العرب لأنه وجد في نفسه رغبة إلى أن يؤلف في تاريخ آداب العرب، وكتب في إعجاز القرآن لأن إعجاز القرآن باب في تاريخ الأدب؛ فلما أخرج كتابيه إلى الناس لم يلبث أن ارتد إليه الصدى مما يقول الناس؛ فإذا هو عندهم أديب ليس مثله في أدباء العربية، وإذا هو عندهم كاتب من الطراز الأول بين كتاب العربية، وإذا هو صاحب القلم الذي يكتب عن إعجاز القرآن فيُعجز، ويتحدث عن الإسلام حديث المؤمن إلى المؤمن، حديثَ قلب إلى قلب ليس بينهما حجاب فكل ما ينطق يُبين. . . ووجد الرافعي كأنما أكتشف نفسه. . .
وهنا بدأ الرافعي الكاتب الذي يعرفه اليوم قراء العربية، على حين أخذ الرافعي الشاعر يتصاغر ويختفي رويداً رويداً حتى نسيه الناس أو كادوا، لا يتحدثون عنه إلا كما يتحدثون عن شاعر استمعوا حيناً إلى أغاريده العِذاب ثم ترك دنياهم إلى العالم الثاني ليتحدث إليهم(219/47)
من صفحات التاريخ. . .
لقد عرف الرافعي من يومئذ أن عليه رسالة يؤديها إلى أدباء الجيل، وأن له غاية أخرى هو عليها أقدر وبها أجدر؛ فجعل الهدف الذي يسعى إليه أن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه، يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال، وأن ينفخ في هذه اللغة روحاً من روحه يردُّها إلى مكانها ويردّ عنها، فلا يجترئ عليها مجترئ ولا ينال منها نائل ولا يتندر بها ساخر إلا انبرى له يبدد أوهامه ويكشف عن دخيلته.
ونظر فيما يكتب الكُتاب في الجرائد، وما يتحدث به الناس في المجالس، فرأى عربية ليست من العربية، هي عامية متفاصحة، أو عجمة مستعربة، تحاول أن تفرض نفسها لغة على أقلام المتأدبين وألسنتهم، فقر في نفسه أن هذه اللغة لن تعود إلى ماضيها المجيد حتى تعود (الجملة القرآنية) إلى مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء، وما يستطيع كاتب أن يشحذ قلمه لذاك إلا أن يتزود له زاده من الأدب القديم.
وعاد الرافعي يقرأ من جديد، ينظر فيما كتب الكتاب وأنشأ المنشئون في مختلف عصور العربية؛ يبحث عن التعبير الجميل والعبارة المنتقاة واللفظ الجزل والكلمة النادرة، ليضيفها إلى قاموسه المحيط ومعجمه الوافي، فتكون له عوناً على ما ينشئ من الأدب الجديد الذي يريد أن يحتذيه أدباء العربية.
هذا سبب مما عدل بالرافعي عن مذهبه في الشعر إلى مذهبه الجديد في الأدب والإنشاء. وثمة سبب آخر كان الرافعي يصرح به كثيراً لمن يعرفه: ذلك أنه كان يرى في الشعر العربي قيوداً لا تتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن نفسه الشاعرة. هكذا كان يقول هو، وأقول أنا: إنه كان يعجز أن يصب في قصيدة من الشعر ما كان يستطيع أن يكتبه في سهولة ويسر مقالاً من مقالاته الشعرية الرائعة التي يعرفها قراء العربية فيما قرءوا للرافعي. والحق أن الرافعي بطبعه شاعر في الصف الأول من الشعراء، لا أعني الشعر المنظوم، فذلك ميدان سبقه فيه كثير من شعراء العصر، بل أعني الشعر الذي هو التعبير الجميل عن خلجات النفس وخطرات القلب ووحي الوجدان ووثبات الروح. ولقد كان - رحمه الله - بما فيه من اعتداد بالنفس، يكتب المقال الفني المصنوع فيقيس لفظه بمعناه ويربط أوله بآخره ويجمع بين أطرافه كل ما ينبض به قلبه من معاني السرور(219/48)
والألم، والرجاء واليأس، والرغبة والحرمان؛ فإذا فرغ من إنشائه جلس يترنم به ويعيده على سمعه الباطن، ثم لا يلبث أن يلتفت إلى جليسه قائلاً: (أسمعت هذا الشعر؟ أرأيت شاعراً في العربية يملك من قوة البيان ما يجمع به كل هذه المعاني في قصيدة منظومة. . .؟)
هذه العبارة التي كان يسمعها جلساء الرافعي كثيراً، تفسر لنا قول الرافعي إن في الشعر العربي قيوداً لا تُتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن نفسه الشاعرة، أو تؤيد ما أدعيه أنا، من أنه كان يشعر بالعجز عن الإبانة عن كل خواطره الشعرية في قصيدة من المنظوم ولا يعجزه البيان في المنثور. نعم، كان شعر الرافعي أقوى من أداته، وكانت قوالبه الشعرية تضيق عن شعوره. . .
افترى في العربية شاعراً يستطيع أن ينظم ورقة واحدة من (أوراق الورد) في قصيدة منظومة دون أن يتحيف المعنى ويختل الميزان؟
لا أحسب أن الرافعي كان يعني ما يقول حين يزعم أن القيود في الشعر العربي من أسباب الضعف في الشعر؛ فهو نفسه لم يكن يستطيع أن يجهر بهذا الرأي، بل أحسبه في بعض نقداته الأدبية أنكر مثل هذا القول على بعض الأدباء وراح يتهمه بمحاولة الغض من قدر الشعر في العربية؛ فما أراه كان يقول ذلك إلا تعبيراً عن معنىً تأبى كبرياؤه الأدبية أن يصرح به.
ذلك هو السبب الثاني الذي عدل بالرافعي عن الاستمرار في قرض الشعر معنياً به مقصوراً عليه.
لم يهجر الرافعي الشعر هجراً باتاً بعد أن اتخذ لنفسه هذا المذهب الجديد، ولكنه لم يجعل إليه كل همهه، واتجه بقلبه ولسانه إلى الهدف الجديد، فلا يقول الشعر إلا بين الفينة والفينة إذا دعته داعية من دواعي النفس أو من دواعي الاجتماع. وسنرى فيما سيأتي بعد، أنه قد صبا إلى الشعر ثانية عندما مس الحب قلبه واتقدت جذوته في أعصابه سنة 1923، فدعته نفسه؛ وعندما اتصل ببلاط الملك فؤاد - رحمه الله - سنة 1926، فدعته داعية الجماعة.
حديث القمر
قلت إن الرافعي بطبعه كان شاعراً، ولكن شعره كان أقوى من أداته، وكانت قوالبه الشعرية(219/49)
تضيق عن شعوره فنزع إلى النثر الفني. وقلت إنه كان يرمي إلى أن يعيد (الجملة القرآنية) إلى مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء لتعود اللغة على أولها فصيحة جزلة مبينة، وإنه أخذ على نفسه أن يكون نموذجاً في هذا الأدب الجيد يحتذيه أدباء العربية. وقدمت في المقال السابق أن الرافعي كان على نية إصدار كتاب مدرسي سماه (ملكة الإنشاء) يكون عوناً للمتأدبين وطلاب المدارس على الاقتباس لإجادة الإنشاء. فكل أولئك ما دفعه إلى إصدار كتابه (حديث القمر) من بعد
كتاب (حديث القمر) هو أول ما نشر الرافعي من أدب الإنشاء؛ أصدره بعد كتابيه: تاريخ آداب العرب، وإعجاز القرآن. وما بي أن أصف حديث القمر لقراء العربية، فهو مشهور متداول، وهو ضرب من النثر الشعري، أو الشعر النثري؛ يصف من عواطف الشباب وخواطر العاشق وما إليهما في أسلوب فني مصنوع أحسبه لا يطرب الناشئين من قراء العربية في هذه الأيام، إلا أن يقرءوه على أنه زاد من اللغة، وذخر من التعبير الجميل، ومادة لتوليد المعاني وتشقيق الكلام في لفظ جزل وأسلوب بليغ
ومن هذا الكتاب كانت أول التهمة للرافعي بالغموض والإبهام واستغلاق المعنى عند فريق من المتأدبين؛ ومنه كان أول زادي وزاد فريق كبير من القراء الذين نشأوا على غرار في الأدب لا يعرفه ناشئة المتأدبين اليوم
شيوخه في الأدب
أما إذ وصلت إلى هذا المكان من تاريخ الرافعي فإني أسأل نفسي: عمن أخذ الرافعي هذا المذهب في الكتابة، وبمن تأثر من كتاب العربية القُدامى والمحدثين؟
هذا سؤال لا أجد جوابه فيما حدثني به الرافعي أو أحد من أهله وصحابته؛ وما أستطيع أن أثبت شيئاً في هذا المقام يعتمد عليه الباحث. واكبر ظني أن الرافعي نفسه كان لا يعرف أستاذ في الأدب والإنشاء؛ فما كان همه أول همه أن يكون كاتباً أو منشئاً، ولكن تطورات الزمن هي ردته من هدف إلى هدف وألزمته أن يكون ما كان. وقد قرأ الرافعي كثيراً وأخذ عن كثير، فمذهبه في الكتابة من صنع نفسه، وهو ثمرة درس طويل وجهاد شاق اختلطت فيه مذاهب بمذاهب وتداول عليه أدباء وأدبا من كتاب العربية الأولين. ولكني أجد من الفائدة هنا أن أشير إلى اثنين من أدباء العربية كان يقرأ لهما الرافعي أكثر ما يقرأ إلى آخر(219/50)
أيامه: هما الجاحظ وصاحب الأغاني، وكان يعجب بأدبهما ويعجب لأحاطتهما عجباً لا ينقضي وإعجاباً لا ينتهي، وكان لا بد له حين يهم بالكتابة بعد أن يجمع عناصر موضوعه في فكره أو في مذكراته - أن يفتح جزءاً من الأغاني، أو كتاباً من كتب الجاحظ يقرأ فيه شيئاً مما يتفق، ليعيش فترة ما قبل الكتابة في جو عربي فصيح.
ومما لا يفوتني إثباته في هذا المجال أن مجلة (الهلال) قد استفتت أدباء العربية يوماً منذ سنوات، في أي الكتب العربية تعين الناشئ الأديب على مادته؟ وكان للرافعي في هذا الاستفتاء جواب لا أذكره، أحسبه يفيد الباحث عن المصدر لأدب الرافعي
وسمعت الرافعي مرة يقول: (إن كلمة قرأتها لفكتور هوجو كان لها أثر في الأسلوب الأدبي الذي اصطنعته لنفسي؛ قال لي الأستاذ فرح أنطون مرة: إن لهوجو تعبيراً جميلاً يعجب به الفرنسيون كل الإعجاب، قوله يصف السماء ذات صباح: (وأصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل)
قال الرافعي: (وأعجبني بساطة التعبير وسهولة المعنى، فكان ذلك حذوي من بعد في الإنشاء)
أفندعي بهذا أننا عرفنا واحداً من شيوخ الرافعي في الأدب والإنشاء. . .!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(219/51)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
نشيد القبور
هنالك جزيرة القبور، جزيرة الصمت والسكون، وهنالك أيضاً أجداث شبابي، فلأحملن إليها إكليلاً من الأزاهر الخالدات
بهذا ناجيت نفسي، فقررت أن أقتحم الغمر
يا لصور الشباب وأشباح أحلامه، يا للحظات الغرام! يا لأويقات الحياة الإلهية! لقد تراميت سريعاً إلى الزوال، فأصبحت أستعرض ذكرياتك كما أستعرض خيال الأحبة الراقدين في القبور.
إن نفحات الطيب تهب منك يا أعز المضيعات فتروح عن قلبي وتستقطر مدامعي، إنها لنفحات تستنبض قلب العائم وحيداً على العباب.
أنا المنفرد أراني أغنى الناس وأجدرهم بالغبطة لأنك كنت لي يوماً أيتها الذكريات ولما أزل أنا لك، فقولي لي: على مَ تساقطت ثمراتك الذهبية عن أغصانها؟
إنني لم أزل منبتا لغرامك الذي أورثتنيه يا أيام الشباب وبذكرك تنور فضائلي بعد وحشتها بعديد ألوانها الزاهية
وآ سفاه، ما كان أولاك بألاَّ تفارقينني، أيتها الأيام الساحرات فقد اقتربت إليَّ وإلى شهواتي لا كأطيار يسودها الذعر بل كأطيار تستأنس بالواثق بنفسه
أجل لقد كنتِ معدة مثلي للبقاء على العهد إلى الأبد، يا أويقات الشباب، وليس لي أن أدعوك خائنة وقد وصفتك بالأويقات الإلهية. لقد مررت سِراعاً أيتها الأويقات الهاربات وما هربت مني ولا أنا هربتُ منك، فما أنا مسؤول ولا أنت أيضاً عن خيانتك وعن خيانتي
لقد أماتوك طلباً لقتلي، يا أطيار آمالي وصوبت الشرور سهامها نحوك لتصل مخضبة بالدماء إلى قلبي فأصابت هذه السهام مقتلاً مني لأنك كنت أعز شيء لدي بل كنت كل ما أملك، لذلك قضي عليك بالذبول في صباك والزوال قبل أوانك(219/52)
لقد صُوبت السهامُ إليك وأنت أنعم من الحرير وأضعف من ابتسامة تمحوها نظرة قاسية
فليسمع أعدائي ما أقول:
- إن القتل أخف جرماً من جنايتكم علي، فقد سلبتموني ما لا قبل لي بالاستعاضة عنه بشيء، ذلك ما أقوله لكم، أيها الأعداء. أفما قتلتم أحلام شبابي وحلتم دون إتياني بمعجزاني؟ لقد سلبتم مني تفكيري، وهأنذا أحمل هذا الإكليل لتذكاره حاملاً معه لعنتي لكم، أيها الأعداء، لأنكم قصرتم مدى أبديتي فانقطعت كأنها صوت ينقطع في الزمهرير تحت جنح الظلام فما تسنى لي أن أنظر إلى هذه الأبدية إلا لمحا لأنها توارت عني بطرفة عين
وأتت ساعة ناجتني فيها طهارتي قائلة:
- يجب أن تكون جميع الكائنات إلهية، وأنتِ أرسلتِ إلي الأشباح المدنسة، يا أيام الشباب؛ فانقضت تلك السانحة وعادت حكمة الشباب تقول لي: (يجب أن تكون جميع الأيام مقدسة في نظري) وما هذه الكلمة إلا كلمة الحكمة المرحة. وعندئذ أتيتم أيها الأعداء فحولتم ليالي راحتي إلى أرق وهموم، فأين توارت هذه الحكمة المرحة؟
لقد كنت فيما مضى أتوقع السعادة فأرسلتم على طريقي بومة مروعة مشئومة فتبددت أماني العِذاب
نذرت يوماً أن أرتجع عن كل كراهة، فحولتم كل ما حولي إلى قروح، فأين مضت مخلصات نذوري الطاهرات؟
لقد مررت على سبيل السعادة كفيف البصر فرميتم على طريق الأعمى كوماً من الأقذار فأصبحت كارهاً للطريق القديم الذي تلمسته. وعندما توصلت إلى القيام بأصعب أعمالي، عندما تمكنت من الاحتفال بالانتصارات التي تغلبت فيها على ذاتي أهبتم بمن يحبونني إلى الهتاف قائلين بأنني أوقعت بهم اشد الآلام
والحق أنكم لم تنقطعوا عن تشريد خير العاملات في قفيري وتحويل جناها إلى علقم مرير؛ ولكم أرسلتم إلى إحساني أشد المتسولين إلحاحاً ودفعتم أهل القحة ليطوفوا بإشفاقي وهكذا نلتم من فضليتي وهي ممنعة بإيمانها
وكنت كلما قدمت أقدس ما عندي محرقة للتضحية تسارعون في تقواكم إلى إحراق أدسم ذبائحكم لتتصاعد أبخرة شحمها مدنسة خير ما قدست(219/53)
وطمحت يوماً إلى الرقص متعالياً بفني إلى ما وراء السبع الطباق فأفسدتم على أعز المنشدين لدي، فرفع عقيرته بأفظع الأناشيد وقرع أسماعي بنغمات الأبواق الحزينة الباكية
لقد كنت قائلا أيها المنشد البريء، إذ غدوت آلة في يد الغدر فقضت نغماتك على خشوعي بينما كنت أتهيأ للقيام بأروع رقصي
وما أنا بالمعبر عن أسمى المعاني بالرموز إلا عندما أدور راقصا، لذلك عجزت أعضائي عن رسم أروع الرموز بحركاتها. فأرتج عليَّ وامتنع عليَّ أن أبوح بسر آمالي. لقد ماتت أحلام شبابي وفقدت معانيها المعزيات
إنني لأعجب لتحملي هذه الصدمات وأعجب لصبري على ما فتحت فيَّ من جراح، فكيف أمكن لروحي أن تبعث من مثل هذه القبور؟
أجل إن فيَّ شيئاً لا تنال منه السهام مقتلا، ولا قبل لأحد بدفنه لأنه يزحزح الصخور عنه فتتحطم، وما هذا الشيء إلا إرادتي؛ والأرادة تجتاز مراحل السنين صامتة لا يعتريها تحول وتغير. إن إرادتي قديمة لا تني تدفع قدمي إلى السير فهي القوة المتصلبة المتعالية عن الفناء
ليس فيَّ من عضو لا يصاب إلا قدمي السائرة إلى الأمام تدفعها هذه الإرادة الثابتة الصامدة المتجلدة التي تخترق المدافن دون أن تنطرح تحت لحودها
إن فيكِ وحدكِ يا إرادتي يصمد ما لا تبدده أيام الشباب، فأنت لا تزالين حية وفتية تملأك الآمال، تجلسين على ركام المدافن وقد طبع الزمان عليها قبلاته الصفراء. إنك لن تزالي أيتها الإرادة هدامة لجميع القبور، فسلام عليك يا إرادتي، لأنه لا بعث إلا حيث تكون القبور
هكذا تكلم زارا. . . . . .
فليكس فارس(219/54)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
198 - صرت في راحة ابن أيوب أقرا
(أعظم مروحة في الدنيا)
في (ثمرات الأوراق): قال أبو الفوارس بن إسرائيل الدمشقي: كنت يوماً عند السلطان صلاح الدين بن أيوب، فحضر رسول صاحب المدينة ومعه قَوْد وهدايا، فلما جلس أخرج من كمه مروحة بيضاء عليها سطران بالسَّعَف الأحمر وقال: الشريف يخدم مولانا السلطان ويقول: هذه المروحة ما رأى السلطان ولا أحد من بني أيوب مثلها، فاستشاط السلطان صلاح الدين غضباً، فقال الرسول: يا مولانا السلطان، لا تعجلْ قبل تأملها، وكان السلطان صلاح الدين ملكا حليما فتأملها فإذا عليها مكتوب:
أنا من نخلةٍ تجاوزُ قَبْرا ... ساد من فيه سائرَ الخلْق طُرا
شملتني عناية (القبر) حتى ... صرت في راحة ابن أيوبَ أُقرا
فإذا هي من خوص النخل الذي في مسجد الرسول فقبلها السلطان صلاح الدين، ووضعها على رأسه، وقال لرسول صاحب المدينة النبوية: صدقتَ فيما قلتَ من تعظيم هذه المروحة!!!
199 - لم يحلني إلا على الأزهار
قال أبو جعفر الذهبي لفاضل أديب جمع بينه وبين فاضل أديب:
أيها الفاضلُ الذي قد هداني ... نحوَ من قد حمِدُتهُ باختيار
شكر اللهُ ما أتيتَ وجازاك ... ولا زلتَ نجمَ هَدْى لسارِ
أيُّ برقٍ أفاد أيّ غمامٍ ... وصباح أدّى لضوءِ نهارِ
وإذا ما غدا النسيمُ دليلي ... لم يُحِلني إلا على الأزهار
200 - الشغل للقلب ليس الشغل للبدن
العباس بن الأحنف:
تعتل بالشغل عنا ما تكلمنا ... الشغل للقلب ليس الشغلُ للبدنِ(219/55)
قال أبو الفرج الأصفهاني: لا أعلم شيئاً من أمور الدنيا خيرها وشرها إلا وهو يصلح أن يُتمثل به بهذا النصف الأخير
201 - يستر المحاسن كما يستر القبائح
نقل ابن الجوزي عن بعضهم قال:
قلت لجاريتي: ألا تلبسين الحلي؟
قالت: لا، لأنه يستر المحاسن كما يستر القبائح
ابن الرومي:
وما الحْليُ إلا زينة لنقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصَّرا
وأمَا إذا كان الجمال موفَّراً ... كحسنك لم يحتج إلى أن يٌزوّرا
202 - كلنا في الهوى سوا
ابن زريق المقدسي:
كلّ من جئتُ أشتكي ... أبتغي عنده دَوا
يتشكّى شكيّتي ... كلّنا في الهوى سوا!!!
203 - فترجمت العيون عن القلوب
في (ديوان المعاني): عن أبي عكرمة قال: أنشدت أعرابياً قول جرير:
أبدّل الليل لا تسري كواكُبه ... أم طال حتى حسبت الليل حيرانا؟!
فقال: هذا حسن، وأعوذ بالله منه! ولكن أنشدك في ضده من قولي، وأنشدني:
وليلٍ لم يقصره رقادٌ ... وقصّره لنا وصْلُ الحبيبِ
نعيمُ الحبّ أورق فيه حتى ... تناولنا جناه من قريبِ
بمجلس لَذَّة لم نقوَ فيهِ ... على الشكوى ولا عدّ الذنوبِ
يخلنا أن نقطعَه بلفظٍ ... فترجمتِ العيونُ عن القلوبِ
فقلت له: زدني فما رأيت أظرفَ منك شعراً. فقال: حسبك.
204 - فأين عنها نعزف؟
قال الحسين بن الحسين بن مطير:(219/56)
إنّ الغوانيَ جنّةٌ ريحانُها ... نَضِرُ الحياة فأين عنها نعزف؟
لولا ملاحتُهن ما كانت لنا ... دنيا نلذّ بها ولا نتصرّف
205 - دواء اللبس الحبس
كان بعض الولاة إذا اشتبه عليه حكم حبس الخصمين حتى يصطلحا، ويقول: دواءُ اللبْس الحبْس. . .
206 - ما يصنع الشيطان بين الحيطان؟
رأى أبو نؤاس غلاماً جميلاً يمشي في بعض السكك فقال له:
ما تصنع الحور بين الدور؟
فقال الصبي: ما يصنع الشيطان بين الحيطان؟!
207 - كأني في عيونهم السماح
بكر بن النطاح:
تراهم ينظرون إلى المعالي ... كما نظرت إلى الشيب الملاحُ
يُحِدّون العيونَ إليّ شَزْراً ... كأني في عيونهم السماحُ
وهذا بديع في حسنه، بليغ في تشبيهه
208 - لم يجد أحمق يقبله سواك
أنشد رجل الفرزدق شعراً، وقال: كيف تراه؟
فقال: لقد طاف إبليس بهذا الشعر في الناس فلم يجد أحمق يقبله سواك
209 - إنما سرق محجني
قال الجاحظ في (كتاب الحيوان): حدثنا حماد بن سلمة
قال: كان رجل في الجاهلية معه محجن يتناول به متاع الحاج سرقة
فإذا قيل له: سرقت قال: لم أسرق إنما سرق محجني. فقال حماد: لو كان هذا اليوم حياً لكان من أصحاب أبي حنيفة.
210 - دف ومزمار ونغمة شادن(219/57)
ابن سيد الناس:
يا عصبة ما ضرّ دين محمدٍ ... وسعى إلى إفساده إلا هي
دفٌ ومزمازٌ ونغمة شادن ... أرأيت قطّ عبادةً بملاهِ؟!
211 - إذا انقطع وصلته
قيل لأعرابي كان يُسهب في حديثه: أما لحديثك هذا آخر
قال: إذا انقطع وصلته. . .
212 - قد جاءك بالشمال فأته باليمين
في (نزهة الألباء في طبقات الأدباء) للأنباري: حكي أبو زكرياء (التبريزي) أن المتنبي كان بواسط جالساً وعنده أبنه مُحسَّد قائماً وجماعة يقرءون عليه فورد إليه بعض الناس
فقال: أريد أن تجيز لنا هذا البيت وهو:
زارنا في الظلام يطلب سراً ... فافتضحنا بنوره في الظلام
فرفع رأسه وقال: يا مُحسَّد، قد جاءك بالشمال فأته باليمين فقال:
فالتجأنا إلى حنادِس شَعْرٍ ... سترتنا عن أعين اللوّام
قال أبو الجوائز (الحسن بن علي الواسطي): معنى قول المتنبي لولده قد جاءك بالشمال فأته باليمين أن اليسرى لا يتم بها عمل وباليمنى تتم الأعمال، فأراد أن المعنى يحتمل زيادة فأوردْها. وقد ألطف المتنبي في الإشارة، وأحسن ولده في الأخذ
213 - أنتم الأطباء ونحن الصيادلة
سأل الأعمش أبا حنيفة عن مسائل فأجاب، فقال الأعمش: من أين لك هذا؟
قال: مما حدّثتَنا
فقال: يا معشر الفقهاء، أنتم الأطباء ونحن الصيادلة(219/58)
مختارات من أدب الرافعي
أغاني الشعب
(لم يوفق شاعر من شعراء العربية توفيق الرافعي في تأليف الأناشيد، ولم يكتب لنشيد وطني أو طائفي من الذيوع والشهرة والانسجام مع الألحان ما كتب لأناشيد الرافعي؛ فكان بذلك خليقاً أن نسميه (شاعر الأناشيد)
وهذا نشيد الكشافة المصرية (اسلمي يا مصر)، ونشيد شباب الوفد (حماة الحمى)، ونشيد الشبان المسلمين، ونشيد بنت النيل، ونشيد تلاميذ المدارس الثانوية (مجداً مجداً مدرستي) كلها من تأليف الرافعي، وهي دائرة على كل لسان في كل حفل أو ناد
(وعرف الرافعي لنفسه هذه الميزة التي فاق بها شعراء العربية عامة في باب هو من الشعر في هذا العصر صلبه وقوامه، فاجمع أمره على إخراج ديوان (أغاني الشعب) يضع فيه لكل جماعة أو طائفة من طوائف الشعب نشيداً أو أغنية عربية تنطق بخواطرها وتعبر عن أمانيها؛ وقد جرى الرافعي في هذا الميدان شوطاً بعيداً، وأنجز طائفة كبيرة من أغاني الشعب نشر بعضها وما يزال سائرها في طي الكتمان بين أوراقه الخاصة ومؤلفاته التي لم تنشر بعد، ولا أدري متى يقدر لها أن تنشر. . .!
(والذي أنشره اليوم نشيد من هذه الأناشيد، وضعه الرافعي على لسان الفلاحة المصرية، وسيجد القراء في أسلوبه ومعانيه شيئاً مأنوساً يحببه إلى الشعب ويخفف وقعه على فؤاده ولسانه)
محمد سعيد العريان
نشيد الفلاحة المصرية
الفجر قد غبّر ثم لاحا
والديك قد أذّن ثم صاحا
وأطلقتْ حمامتي الجناحا
والكلبُ بالباب غدا نبَّاحا
واشتاقت البهائم السَّراحا ... هيا إلى غيطك، سُقْها: حَا، حَا(219/59)
أروح والجارةَ نَمْلاَ الجَرَّهْ
نمرّ بالغيط القريب مَرّه
نرى الهنا والفرْحَ والمسَرَّه
يا رب لا تنزل بنا مَضَرَّه
واكتب لداري عزَّ والأفراحا ... هيا إلى غيطك، سقها: حَا، حَا
البنتُ يا مَولى الدعا المجابِ
إحفظ عليها صحةَ الشبابِ
وافتح على أولاديَ الأحبابِ
مَن راح للغيط والكُتَّابِ
ذا يقرأ الغيطَ وذا الألواحا ... هيا إلى غيطك، سُقها: حَا، حَا
يا نخلة الغيط احذري الغرابا
بانعجة الغيط احذري الذئابا
يا صاحب الغيط احذر العذابا
من الربا، والفقرَ والخرابا
إن الربا ليس لنا مُباحا ... هيا إلى غيطك، سًقها: حَا، حَا
إياكَ أن تذكر لي (الخواجا)
فقد رأيتُ جارنا المحتاجا
راحَ إليه مالُهُ وماجآ
وباع حتى البطَّ والدَّجَاجا
لا خير فيمن جانب الصلاحا ... هيا إلى غيطك، سُقها: حَا، حَا
إياك والرهن على الغيطانِ
فتُنْزِل الدود على الأقطانِ
وتفتح الأبواب للشيطان
وتجعل الهدمَ على حيطاني
الشمس جاءت والصباح راحا ... هيا إلى غيطك، سُقها: حَا، حَا(219/60)
أنا ابنةُ الفلاح أمُّ النصرِ
فلاحة يا بنت هذا العصرِ
لكن كوخي من أساس مصرِ
يُسْنِدُ فيها ركن كل قصر
هَلُمَّ غَنَّي معنا الفلاحا ... هيا إلى غيطك، سُقها: حَا، حَا
1907
مصطفى صادق الرافعي(219/61)
الغدير
على صفحتَيْك تلوح النجومْ ... وفوق لجينك يلهو القمرْ!
مياهك راكدة كالهمومْ! ... أأضنى مياهك طول السهرْ؟
ترف عليها طيوف النخيلْ ... وترقص فيها ظلال الغصونْ
وتنسابُ منهوكة كالعليل ... طواه الأسى واحتواه السكونْ!
وتمضي الهوينى رويداً كما ... يمر الزمان على اليائسِ!
وتسبح في صمتها مثلما ... يجوب الكرة مقلة الناعسِ!!
فيا سارياً ما ينام الدجى ... وما يستطيب الكرى والوسَنْ
في سائل عيني عنك الحجا: ... أهذا الغدير رقيب الزمَنْ؟!
تلف الحقول وتطوي القرى ... وما لك من صاحب أو رفيقْ
أما يا غدير سئمتَ السُّرَى ... وبُعد المطاف وطول الطريق؟!
فأيان تلقى غبار المسيرْ؟ ... وأنى تلبي نداء العدَمْ؟!
وحتام تحيا حياة الأسيرْ ... وفيها الملال ومنها السأمْ؟
طويت القرون ولما تزلْ ... فتياً كما كنتَ منذ القدَمْ!
كأنك في الأرض نور الأمَلْ ... ينير الدياجي ويمحو الظُّلَمْ!!
تقبِّلك الوردةُ الهائمهْ ... وترشف من فيكَ معني الأملْ
وتغضى فتحسبُها نائمهْ ... ولكنها أسكرتْها القبلْ!!
وتحضنك النسْمة المترفَهْ ... وتشكو إليك لهيبَ الجوى
وتهمسُ في أذنْك المرَهفه ... حديث العتاب ونجوى الهوى
وترقى وئيداً إلى الرابيهْ ... وتعدو حثيثاً إلى المنحدَرْ
ونفسك دائبة ساعيهْ ... وغيرك يشكو الونَى والخوَرْ!
وتشرق في الظلمة الدامسهْ ... كأنك في الأرض معنى الهدَى
وتضحك في الليلة العابسهْ ... فعش هانئاً قد أمِنت الردَى
وأمواهك العذبة الشادَيهْ ... ترتل لحن المنى باسمَهْ
هنا الشعر والسحر والعافيهْ ... هنا الحب والفتنة الهائمهْ!!
هنا قد عَرَفْتُ الهوى والجمالْ ... وأدركْتُ كيف يكون الخلودْ(219/62)
هنا قد درَى القلب معني الكمالْ ... ومعنى الحياة وسِرَّ الوجودْ!!
بربك صِف ما وراء الغيوبْ ... وحدِّثْ عن المقبل المنتظرْ
أناخت على كاهليَّ الخطوبْ ... فجئتك أشكو إليك القدرْ!!
فيا معهد الحب أينَ الحبيبْ؟ ... ويا موطن الحسن أين الهوى؟!
تنكرْتَ لي فكأني غريبْ ... وما غيرتْني صروف النوى!
سأغمض عينيَّ حتى أرى ... خيالك يملأ لي خاطري
وأحيا بذكرك بين الورى ... فهل أنت إن لم أعُدْ ذَاكِري؟!
(إسكندرية)
محمود السيد شعبان(219/63)
تليد من جمال
رائعٌ والله هذا الو ... جه حالي القسمات
مُعجِبُ الحسنِ وسيم ... رغم حيف السنوات
رغم شيْب قد تَمَشَّى ... في المعاني والسِّمَات
وتراَءى مستطيراً ... طائفاً بالشعرات
لم يزل حُسنُك رغم الشـ ... يْب يسبى المُهُجَات
يأسر اللب ويُنْسى ... كلَّ عذراَء مَهاة
غضةِ الجسم توافت ... كنضير الزهرات
غرةِ القلب لعوبٍ ... خطرت كالنسمات
رائعٌ حسنًك من بيـ ... ن وجوه الغانيات
ووضىءٌ يجذب الأعـ ... ين دون الأخْرَيَات
رائعٌ كالشفق الغا ... رب يُذكي اللهفات
ينبئ الناظرَ عن ما ... ضي الحُلَي والحَسنات
وتليدٍ من جمالٍ ... كان ممنوعَ اللدات
كان شغلَ العابديه ... وعناَء العاذلات
لم يزل ينبئ عنه ... عذبُ تلك البسمات
وأرى أطيافه في ... حُسن تلك اللحظات
إن يكن قد ودع الطيـ ... شَ وسحرَ اللفتات
وغريرَ الضحكاتِ ... وطروبَ الثرثرات
فقد اعتاضَ بحلم ... ووقار وأناة
رائعٌ ينبئ عن قلـ ... بٍ مليءٍ بالعظات
وبأشتات التجار ... يب وجمّ الذكريات
قد جنَى حلواً من العيـ ... ش ومُرَّ الحادثات
فهو يَسبي اليوم بالحًسْـ ... نِ ويسبى بالصفات
وأحاديثَ عِذابٍ ... كشهي الثمرات
زانت الغيدَ رزانٌ ... ذات حُسنٍ وحَصاة(219/64)
فخري أبو السعود(219/65)
رسالة العلم
مملكة النحل
عيشة النحل وتربيته الحديثة
بقلم جمال الكرداني
أفراد الخلية
كلنا لا نجهل هذه الحشرة الصغيرة التي تعطينا العسل، وقد يعدها من ليس على علم بمعيشتها من الحشرات الحقيرة مع أنها في الواقع تنشئ من جموعها مملكة هي مثال الاستقلال والرقي والنشاط. يعيش النحل معيشة اشتراكية في جماعات تقدر زنة الجماعة منها بما يقرب من خمسة إلى ستة أرطال، والجماعة تملأ ثلاثة أو أربعة أقداح، وتتميز في أفراد الجماعة الواحدة ثلاثة أنواع هي اليعسوب والذكر والشغالة
وقد يكون أوفق أن نعطي اليعسوب لقب ملكة الجماعة لجلالها وحسن سيطرتها على مثل هذا العدد الكبير - وهي وحيدة في الحالة العادية للخلية - ولكن تتعارض معيشتها بين الأفراد الأخرى للجماعة مع هذا اللقب إذ أنها تختلف عن عيشة ملوكنا بيننا، فالأجدر إذن تسميتها أم الخلية، ويعزز هذه التسمية أنها والدة كل نحلة في الخلية تقريباً
والملكة لا تترك مدينتها إلا مرة أو مرتين للإخصاب فقط بل تمضي معظم حياتها في ظلام الخلية، وإن كان هذا حكم واجبها وهو وضع البيض. وقد يشغلها هذا الواجب الدقيق عن التفات إلى شيء سواه فلها خدم بمرتبة الوصيفات لملكاتنا تحرسها وتقدم إليها الطعام وتؤدي لها غير ذلك من الخدمات. وإذا ساعدتنا الظروف على رؤية ملكة الخلية يتضح لنا جلالها إذ نجدها على القرص وحولها ما يقرب من عشرين نحلة تواجهها دائماً وتأبى أن توليها ظهرها تأدباً، وهذا الحرس ككل أفراد الجماعة يقدم حياته فداء اليعسوب إذا لزم ذلك
ويمكننا تمييز اليعسوب بطول مؤخرها لوضع البيض وقصر جناحيها، لأنها كما قلنا لا تطير خارج الخلية كثيراً. وللملكة حمة بلغ من عفافها أنها تأبى أن تلدغ بها من هو أقل منها وأضعف سلطاناً، فهي لذلك لا تستعملها إلا لمحاربة مثيلاتها الملكات إذا اقتضت الضرورة(219/66)
والذكر ليس كبيراً كاليعسوب وإن كان منظره أضخم وليس له حمة. ولكون وظيفته تقتصر على إخصاب الملكات الصغيرة لا يوجد منه في الخلية غير بضع مئات. يعيش الذكر في الخلية عيشة رخاء وراحة، لا يشترك بقسط من العمل، فلا يجمع هباء النبات ولا رحيق الأزهار بل تطعمه العملة؛ وإذا أراد الزيادة انقض على ما هو مخزون بالخلية. ويتخذ الذكر له ركناً بعيداً عن جلبة الخلية فينام حتى منتصف النهار، ويخرج بعد تناول الطعام شاقاً صفوف العملة محدثاً حركة بين باقي النحل ولا يبالي حتى بالحراس فيطير إلى الأزهار البعيدة ليعرض جسمه لأشعة الشمس وهناك يشاكس الرعاة من النحل فيقلبها أثناء جمع قوتها. وفي الأصيل يرجع إلى الخلية بطنين عال فيتناول غذاءه وينام إلى اليوم الثاني. وهذه الحياة حياة كسل ولابد أن تنتهي ككل شيء لذيذ في وقت قريب، ففي الشتاء عند قلة الغذاء تنقض عليه العملة فتقتله وينتهي الرخاء بالفناء
أما العاملة أو الشغالة فهي أصغر أفراد النحل جسماً، وقد يكون ذلك استعداداً طبيعياً يساعدها على تأدية أعمالها الشاقة في خفة ونشاط. والشغالة أكثر أفراد النحل عدداً فقد يصل عددها 30000 في الخلية الواحدة. وكل واحدة لها واجبات خاصة وعندها استعداد طبيعي لأدائها. فمنها يتكون حرس الخلية ورعاة الحقول والمربيات إلى غير ذلك. ويخيل إلينا أن كل عاملة تنافس غيرها بالسعي والجد فهي تقضي حياتها لا تميل إلى الكسل ولا تعرف الرفاهية
وأهم عمل لشغالة تموين الخلية بالغذاء فتطير الرعاة من زهرة إلى أخرى ومن حقل إلى حقل يساعدها على ذلك زوجان قويات من الأجنحة، الأماميان منهما أكبر من الخلفيين، وإذا ما زارت زهرة تدخل لسانها الطويل المغطى بالشعر في قاعدتها وتمتص الرحيق. وأحب الأزهار إلى النحل هي ذات اللون الأزرق والأرجواني والأصفر؛ وتحب كذلك الأزهار الحمراء المشوبة بألوان أخرى زاهية مثل حنك السبع. وللنحلة غير العينين المركبتين ثلاث أخرى بسيطة على شكل مثلث (() ويختلف شكلها في الذكر هكذا (?)، وهذه العيون تساعدها على اختيار ما تريده من الأزهار. وطبيعي أن تعاود النحلة زهرة أو حقلاً عدة مرات لأن قدرتها على الحمل لا تمكنها من أخذ كل ما يروق لها من زهرة ما مرة واحدة. ويساعدها على زيارة الزهرة نفسها مرات عدة تفرزه عليها من رائحة خاصة(219/67)
تميز منطقة هذه الزهرة عن بقية مناطق الحقل. ومن هنا نقدر قوة حاسة الشم عند النحل. وأثناء انتقال الرعاة في الحقل وزحفها على أزهاره المختلفة يجتمع هباء النبات في شبه كيس في الرجلين الخلفيتين للنحلة، فإذا دخلت أخرى تركت بعض هذا الهباء بدون قصد، وبذلك يحدث الإخصاب بين الأزهار. وكثيراً ما يربى النحل في المزارع لهذا الغرض. وعلاوة عل جمع رحيق الأزهار تقوم الشغالة بصنع أقراص العسل الشمعية وملئها بالشهد نفسه. ومن واجبات المربيات حراسة البيض وتقديم الطعام للصغار. وعلى عاتق العملة تقع حراسة الخلية وأقراصها ومليكتها من كل معتد أو فضولي كالذباب والعثة. وألد أعداء النحل هو الزنبور الأحمر (زنبور البلح)
وينقسم النحل بحسب الجهة التي يعيش فيها إلى عدة أقسام ويتميز كل نوع من الآخر بحجمه ولونه، فالنحل البلدي أو المصري صغير مائل إلى البياض، أما القبرصي فلونه أحمر وأضخم من المصري. وهناك نوع يعيش في إيطاليا وهو أطول قليلاً من القبرصي. أما النحل الكرنيولي ويعيش في يوغسلافيا فلونه أسود وهو أطول من الإيطالي وأضخم من القبرصي
الاستعمار والخراب
نواة مستعمرة النحل ملكة ملقحة لوضع البيض، فبعد ستة أيام من خروجها من العذراء تطير إلى علو بعيد ويطير وراءها الذكور؛ وأثناء هذه المسافة الطويلة تخور قوى بعض الذكور فيسقط إلى الأرض؛ وفي النهاية تختار الملكة أحدها وهو الذكر المثابر على الطيران ويكون عادة من خلية غير التي أنتجت هذه الملكة. ويموت الذكر بعد عملية التلقيح، وتقتل العملة ما بقي من الذكور في الخلية وعند عودة الملكة ملقحة تظهر أعضاء التذكير البيضاء اللون متصلة بفتحتها التناسلية إذ تنفصل عن جسم الذكر عقب السفاد.
وإذ ما وصلت الملكة إلى الخلية استقبلتها (الشغالة) بالالتفاف حولها؛ وبعد يومين تبتدئ في تأدية وظيفتها فتضع ما يقرب من 400 بيضة كل 24 ساعة، وتستمر على نشاطها سنتين أو ثلاثا
وللملكة قدرة على وضع بيض ملقح وبيض غير ملقح؛ فالأول ينتج الملكات والخناث (العملة) تبعاً لنوع الغذاء الذي يقدم لليرقات بعد فقسها وتبعاً لشكل الثقوب التي تربى فيها،(219/68)
والثاني ينتج الذكور
ومدة إفراخ البيض ثلاثة أيام في جميع الأفراد. وعند خروج اليرقات الصغيرة تتغذى جميعاً بالغذاء الملكي مدة ثلاثة أيام وهو سائل يشبه اللبن تفرزه الشغالة الصغيرة من غدد خاصة في رأسها؛ وبعد هذه المدة تتغذى الشغالة بمزيج مركب من العسل وحبوب الطلع يسمى بخبز النحل. أما يرقات الذكور فتتغذى بخبز النحل مع جزء من الغذاء الملكي وتستمر الملكات على غذائها. وتمكث يرقات الملكات خمسة أيام إلى أن تشرنق، وكذاك يرقات الخناث. أما يرقات الذكور فتمكث ستة أيام، وفي هذه الأثناء تنسج حولها شرنقة تتحول داخلها إلى عذراء. وبعد مضي سبعة أيام على عذراء الملكات وثلاثة عشر يوماً على عذارى الخناث وخمسة عشر يوماً على عذارى الذكور تخرج منها الحشرات الكاملة
وتعمر الملكة زمناً طويلاً قد يصل إلى أربع سنوات، وتضع في السنوات الأولى من حياتها ما متوسطه 400 بيضة في اليوم، ثم يقل شيئاً فشيئاً في السنوات التالية؛ ولذا يستحسن تغيير الملكة بأخرى جديدة كل سنتين أو ثلاث حتى لا تضعف الخلية
وتعيش الخنثي زمناً يختلف من عشرة أيام إلى ستة أسابيع تبعاً لمقدار الشغل ودرجة صعوبته: وغالباً تقضى الخناث التي تولد في الخريف فصل الشتاء في راحة قليلة، ثم تعاود عملها في فصل الربيع الذي تنتهي فيه حياتها. والذكور لا تعمر كثيراً وليس لها منفعة معظم السنة بل أنها فضلا عن ذلك تتطفل على ما تجمعه الشغالة
وهكذا تكون المستعمرة. وتستمر الملكة في وضع البيض والشغالة تخدم الخلية، فإذا مات جيل من الشغالة حل محله جيل يعقبه وهكذا. وفي حالة عدم تلقيح الملكة، وذلك ينشأ عن عدم رؤية الذكور لها أو عدم اللحاق بها عند طيرانها، تهدأ الملكة بعد ثلاثة أسابيع وتضع نوعاً من البيض غير ملقح يسمى بالبيض الكاذب وهنا تتعرض المستعمرة للخراب
أما إذا ماتت الملكة أو ضاعت فيبتدئ الضعف يتطرق إلى الخلية، وينتهز الأعداء فرصة هذا الضعف فتظهر دودة تفتك بالشمع، وتغير الزنانير والنمل على النحل فتأكله. وإذا استمر الحال كذلك شهرين فمصير الخلية الخراب إن لم تمد بملكة جديدة. وفي أغلب هذه الأحوال تبحث الشغالة عن بيضة ملقحة من بيض الملكة المفقودة وتنقلها إلى عين ملكية، وعند فقسها تعامل معاملة الملكات في المعيشة والتربية والغذاء فتنتج ملكه حقيقية. أما عند(219/69)
عدم وجود بيض ملقح فتتطوع شغالة أو أكثر لوضع البيض ويكون غير ملقح طبعاً فتنتج ذكوراً فقط فتسير الخلية إلى الخراب. وتسمى مثل هذه الشغالة بالأم الكاذبة. ولا تستطيع الأم الكاذبة وضع البيض في صفوف متتالية وعيون متعاقبة كما هو شأن الملكة. كذلك تضع الأم الكاذبة أكثر من بيضة واحدة في كل عين؛ وقد يكون البيض على جدر هذه العيون وذلك لعدم وجود غريزة وضع البيض عند الأم الكاذبة لقصر بطنها. ونجد في مثل هذه الحالة طنيناً مستمراً بالخلية وهذا لأن الطمأنينة لا تدب في نفوس أفرادها. ويجب إسعاف مثل هذه الخلية ببرواز به بيت ملكي من خلية أخرى أو شراء ملكة جديدة ووضعها في الخلية، إلا أن ذلك يحتاج إلى مهارة ودراية
(البقية في العدد القادم)
جمال الكرداني(219/70)
البريد الأدبي
حديث لأميل لودفيج مع الأديب المصري جورج قطاوي
تعد ضواحي سان موريتز قبلة الكتاب والفنانين منذ (نيتشه) فان منظر بحيرات سيلس ماريا في سفح جبال الألب مما يخلب النفوس؛ ولهذا أقام بها الكاتب المشهور أميل لودفيج منذ سنوات. ولقد تعرفت منذ ثلاث سنين بمؤرخ حياة الرجال العظماء حينما كان يعد كتابه الكبير عن ماء النيل. ويسرني أن أسمع منه أثر رحلاته العديدة في مصر والسودان. ولهذا انتهزت فرصة وجودي في ضيافته يوماً لأسأله عن الأسباب التي حملته على وضع كتابه هذا الأخير. وقد وجدت على مكتبه ست تراجم لكتاب النيل (بالإيطالية والمجرية والبرتغالية والفرنسية الخ) وغيرها الآن تحت التحضير، ولكن الذي يهمه أكثر من هذا كله هو الترجمة العربية
قال إميل لودفيج: (إن الشرق يجذبني إليه منذ كنت صبياً. فقد كنت أسمع أبي يتحدث عن مصر فتبتهج هذه الحكايات مخيلتي؛ ذلك أن أبي - وكان يدعى هرمان لودفيج كوهين - كان طبيباً للعيون، ودعاه السلطان عبد الحميد لاستشارته فاستمر في رحلته إلى مصر حيث أكتشف علاجاً للرمد، وتغلغل في بيوت القاهرة العريقة، وتعرف بأميرات عديدات من البيت المالك، وزار السودان، ودرس قبائل البشارية الذين كانوا يدعونه (حكيمباشي)
(وهأنذا قد عبرت وادي النيل من الحبشة إلى الدلتا بعد مضي نصف قرن على رحلة أبي. ولما أصبت بالملاريا في أثناء مقامي بالحبشة عند منبع النيل الأزرق كانت زوجتي هي التي قامت بوصف البحيرات الكبرى، ومن وصفها وضعت الخمسين صفحة المخصصة للنيل الأبيض. وقد حكم نقاد أمريكان عديدون بأن هذه الصفحات هي خير ما في الكتاب)
(المعروف أن مدام لودفيج هي نفسها إفريقية، فقد ولدت في دربان من أب ألماني وأم اسكتلندية وهي ساعد زوجها الأيمن)
وأضاف لودفيج قائلاً: (ولقد وضع جلالة الملك فؤاد تحت تصرفي خلال ثلاثة أسابيع باخرة تدعي (الكاشف) صعدت بها النيل، وهذه الأسابيع الثلاثة مع رحلتي إلى اليونان هي أسعد أيام حياتي
و (النيل) من بين جميع مؤلفاتي هو الذي اقتضى أكثر الجهد والعناء والبحث والعمل(219/71)