فأدباء العربية بعد قيام الدولة الإسلامية ودخول الأدب طوره الفني الراقي، كانوا يأخذون أنفسهم بضروب من القول يطلبون بها البراعة الفنية أو الشهرة أو الحظوة والنجاح، كالتمدح بجليل الصفات والتفاخر بتالد المجد ومدح الأمراء، وجروا في ذلك على سنن مألوفة وأغترفوا من مناهل مطروفة، حتى تشابه أولهم وأخيرهم وبعيدهم وقريبهم. فإذا قرأت مئات القصائد التي نظمها مروان بن أبي حفصة وبشار وأبو تمام والبحتري وغيرهم في مدح الخلفاء، كي ترى أثر البيئة الخاصة للشاعر في كل ذلك فلن تظفر بطائل، لأنهم إنما نظموها لأغراض مادية وعلى أنماط مأثورة، لا دخل للنفس ولا لتراثها الفكري فيها. وإذا قرأت قول أبي نواس:
ومستبعد إخوانه بتراثه ... لبست له كبراً على الكبر
لقد زادني تيهاً على الناس أنني ... أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر
فوالله لا يبدي لساني حاجة ... إلى أحد حتى أغيب في القبر
فلا يطمعن في ذاك مني سوقة ... ولا ملك الدنيا المحجب في القصر
كدت تحسب قائل هذا الشعر شريفاً حسيباً عفيفاً، يزهد في غرور الدنيا ويقنع بالقليل استمساكاً بالأنفة والكبرياء، ولم تعز هذا الفخر المغرق إلى ذلك المداح السال الذي أنفق العمر في اجتداء عطايا الحكام ليبذرها في انتهاب اللذات الجسدية، وما ذاك إلا أن أبا نواس اقتفى في نظم هذا الشعر الطنان أثر أشراف الجاهلية الذين كانوا يتمدحون بالأنفة، وأراد أن يظهر أنه لا يقصر عن شأوهم في ذلك الباب من أبواب القول. والأدب العربي حافل بهذا الضرب من الإنشاء التقليدي الذي لا أثر فيه يذكر للشخصية المستقلة والبيئة الخاصة
هذا، ونشأة كثير من أدباء العربية مجهولة، وبيئتهم الأولى غامضة، وأكثرهم لا يظهرون في ضوء تاريخ الأدب إلا حين يصلون إلى ذرا الأمير، وقد كان ذلك الوصول غاية أكثرهم؛ ومن ثم نرى في تاريخ الأدب العربي بيئتين كبيرتين تتلو إحداهما الأخرى وتشملان أكثر أعلام الأدب العربي: الأولى بيئة القتال التي كانت بيئة الجاهلية، وكان الجلاد فيها هم الأشراف، والتمدح بالبلاء في الوغى هم الشعراء، وكان الأشراف في كثير من الأحوال هم الشعراء وهم الخطباء الفحول، يشفعون بلاءهم في الهيجاء ببلاغتهم في(203/17)
القصيد والارتجال؛ والبيئة الثانية بيئة البلاط التي اضطرب في محيطها أكثر الشعراء والكتاب بعد الإسلام وقيام الدولة، وتأثروا بها ونظموا فيها ونثروا.
فبيئات أدباء العربية المادية والذهنية كانت كثيرة التشابه من وجوه، والبيئات الأولى التي شب فيها كثير منهم مبهمة غامضة، وقد كان نقاد العربية قليلي العناية بأمر البيئة وأثرها في تكوين الأديب، إنما كانوا يعرضون لبعض التواريخ الجافة المتعلقة بمولد الأديب ووفاته ورحلته إلى بعض العواصم واتصاله ببعض الحكام، ويستحسنون بعض ما أنشأ أو يستهجنونه، ويفضلونه أو يفضلون عليه ما قال أديب غيره في نفس الباب؛ ولهم في ذلك بعض العذر، إذ كانت للقول كما تقدم أوضاع وأنماط معروفة، يأخذ الأديب بها نفسه ما استطاع، ويحاكي الأقدمين فيها ما أمكنته براعته. أما بيئة الخاصة وتراثه الذهني والنفسي، فيذره جانباً وقلما يدخله في أدبه.
ولا يرد ذكر البيئة وأثرها في كتب النقد العربي إلا عرضاً، كالذي ورد أن أبن الرومي سئل لم لا يشبه كتشبيهات أبن المعتز، فقال لسائله: أنشدني شيئاً من قوله الذي استعجزتني عن مثله، فأنشده بعض أشعار أبن المعتز التي يشبه فيها النجوم والزهور بالفضة والعنبر ومداهن الغالية وهلم جرا، فصاح أبن الرومي: واغوثاه! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها! ذاك إنما يصف ماعون بيته، وأنا أي شيء أصف؟ ووضع الجاحظ رسالته سالفة الذكر على لسان أرباب المهن، فأجرى القول فيها مجرى الدعابة والمغالاة، وكان أولى لو عرض للأمر من ناحيته الجدية. وأستعرض بديع الزمان في بعض مقاماته عدداً من فحول الشعراء المتقدمين، فقال إن أحدهم أشعر الناس إذا غضب، والآخر أشعرهم إذا رهب، والثالث إذا شرب وهلم جرا، فلم ير إلا أن هذه جبلتهم التي فطروا عليها، ولم يتخيل لبيئة كل منهم في ذلك أثراً
أما في الأدب الإنجليزي، ولا سيما في العصر الحديث، فدرس أثر البيئة وعواملها من وراثة وتربية وثقافة وعقيدة، أساس كل دراسة أدبية وكل نقد وترجمة، والوسيلة الأولى لفهم الأديب وقدر آثاره حق قدرها، وما ذاك إلا نتيجة ارتقاء العلوم والاجتماعيات في العصور الحديثة، واستفادة الأدب الإنجليزي بمجهودات أدباء الأمم الأخرى، كأدباء الإيطالية الذين ارتقوا بعلم تاريخ الأدب، وأدباء الفرنسية الذين هذبوا أصول النقد، وقد(203/18)
درس الأدب الإنجليزي وترجم أدباؤه على ضوء هذه القواعد والأصول، فبلغ من الوضوح والترتيب ما لم يبلغه تاريخ الأدب العربي بعد.
فخري أبو السعود(203/19)
بمناسبة ذكرى المولد
للأستاذ علي الطنطاوي
احتفل العالم الإسلامي كله أول أمس بذكرى مولد سيد العالم وخاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاحتفال يعد فرصة سانحة من فرص الدعوة إلى الإسلام، والسعي في سبيل الإصلاح، تفيدنا فائدة كبيرة إذا نحن عرفنا طريق الاستفادة منها ولم نجعلها قاصرة على إقامة السرادقات الفخمة، وإيقاد آلاف من المصابيح الكهربائية، وإطلاق البارود في الجو، والاجتماع على ترتيل قصة المولد والتطريب فيها، وتلاوة الأغاني والأناشيد، وأكل الحلويات والأنقال، والتسلي واللهو والطرب، وإضاعة الأموال بلا حساب.
وطريق الاستفادة منها، أن يبحث الخاصة من رجال وأولياء الأمر، في مجالسهم واحتفالاتهم أدواء المسلمين اليوم، ويصوروها ويفتشوا عن أدويتها، وأن يضعوا خططاً جديدة للدعوة، ومناهج للعمل المثمر، وأن تشرح السيرة النبوية للعامة في مجامعهم واحتفالاتهم، وينبهوا إلى مواطن العبرة فيها، لأن ذلك هو المراد من الاحتفال بالمولد، لا سرد الأخبار الموضوعة، والعجائب والخرافات، واللهو والطرب، وأن تبين لهم مزايا الإسلام وفوائده، وأصوله ومبادئه، لأن الكثيرين من المسلمين لا يعرفون من الإسلام إلا أسمه، ولا يفرقون بين طبيعة الإسلام وطبائع الأديان الأخرى، ولا يعلمون أن الأديان كلها أديان فقط، بمعنى أنها جاءت بعقائد وعبادات وأخلاق، أما الإسلام فهو دين، وهو تشريع، وهو سياسة، وهو أدب. وانظر في أي مسألة من مسائل الفكر الكبرى، أو أي أمر من أمور الحياة، تر للإسلام رأياً فيه وحكماً، فالتشريع الإسلامي أغزر أو من أغزر وأصفى المنابع التشريعية في العالم. والإسلام قد أقر الحرية الفكرية، ووضع أصول البحث العلمي، بما أمر به من دراسة الكون، والنظر في ملكوت السموات والأرض، والإسلام قد وضع أسس السياسة العامة، والشرع الدولي، والإسلام وحده هو الذي يحل المشكلة الاجتماعية والاقتصادية الكبرى، وينقذ الإنسانية من استبداد المتمولين، وجحود الفرديين، ومن خيالات الاشتراكيين، وبلاء الشيوعيين، بما جاء به من قواعد حكيمة عادلة للزكاة والمساواة ونظام الحكم. وللإسلام بعد ذلك كله حكمه في كل عمل من أعمال الإنسان، فلا يخلو عمل على(203/20)
الإطلاق من أن يكون له حكم في الدين وللدين دخل فيه، فيكون مباحاً أو مندوباً أو واجباً أو مكروهاً أو حراماً، ولا يستطيع المسلم أن ينسى الإسلام لحظة أو يمشي بدونه خطوة.
ثم إن هذه الأحكام كلها مساوقة للعقل - موافقة له - سائرة مع العلم. والإسلام يقدر العقل حق قدره، ويجعله الموجب الأول، ويربط المسؤولية والتكليف به، ويخاطبه دائماً ويعتمد عليه ولا يخالفه أبداً. ولم يستطع أحد إلى اليوم ولن يستطيع في الغد أن يجد قضية شرعية قطعية، تناقض قضية عقلية قطعية، فلا يثبت الشرع محالاً في العقل ولا يحل ثابتاً، ولا يخالف أصلاً من الأصول الثابتة في العلم. وأعني بالأصول الثابتة الحقائق والقوانين العلمية، لا الفروض والنظريات وأيسر نظرة يلقيها العاقل البصير على كتب الدين، وأقل إلمامة بعلومه، تثبت هذا الذي ذكرنا.
فإذا كان هذا هو الإسلام، وهذه منزلته من العلم والمدنية فلماذا ينصرف عنه أكثر الشباب؟ إنهم منصرفون عنه لأنهم لا يعرفونه. ومن أين يعرفون وهم لا يدرسون منه في المدارس إلا شيئاً تافهاً لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، ثم إنهم لا يجعلونه ولا يحلونه إلا دون الدروس كلها. وسبب ذلك أن الطلاب إنما يقرءون ويجدون ابتغاء النجاح في الامتحان والدين لا يدخل في امتحان رسمي أبداً لا في الشام ولا مصر ولا العراق. وهذه مناهج الكفاءة وما دونها، والبكالوريا وما فوقها، فيها كل علم إلا علوم الدين. وليس الغرض من حذفها والمانع من إثباتها وجود طلاب غير مسلمين في هذه الامتحانات، فإن ذلك يمكن تلافيه، بأن يمتحن كل طالب في دينه، وتدعى كل أمة إلى كتابها، ولكن ذلك شيء تعمده الأجانب يوم كانت سياسة البلاد وإدارتها ومناهجها في أيديهم وكان أمضى سلاح حاربونا به في ديننا وأبنائنا، فكيف نبقى عليه وقد انتقلت سياسة البلاد ومناهجها إلى أيد وطنية يريد أصحابها الخير لبلادهم والصلاح؟
ثم إن هؤلاء الطلاب إذا خرجوا من المدرسة، وبقي فريق منهم على شيء من التدين وأحبوا أن يطالعوا علوم الإسلام، لم يجدوا كتاباً سهلاً جامعاً بين دفتيه خلاصة ما يجب على الشاب المسلم أن يعرف من أصول الدين وفروعه، وإنما يجدون كتباً في علم الكلام مشحونة بالمجادلات الجوفاء. والرد على ملل قد بادت ونحل قد نسيت منذ مئات السنين، وعرض شبهها وضلالاتها؛ وكتباً في الأصول معقدة غامضة، لا يفهم الشاب شيئاً منها،(203/21)
وكتباً في الفقه مملوءة بالمناقشات اللفظية والفروض البعيدة والاحتمالات الغريبة، لا تكاد تخلو من اختصار مخل أو تطويل ممل، وكتباً في التفسير مطولة ومختصرة فيها كل شيء من نحو وصرف ولغة وبلاغة وتاريخ وفلسفة وإسرائيليات ولكن ليس فيها تفسير واحد يرضي الشاب وينفعه ويجد فيه المراد من الآية ويعينه على التدبر الذي أمر الله به، وكتباً في الحديث مرتبة على غير حاجة العصر مبوبة بحسب أبواب الفقه أو أسماء الرواة، ينصدع رأس الشاب ويفنى صبره قبل أن يصل إلى حديث واحد يفتش عنه ويطلبه، ورسائل في علم المصطلح غامضة فيها تعقيد، وقل مثل ذلك في سائر العلوم. . . وهذه الكتب مؤلفة على طريقة لا تخلو من غرابة وشذوذ، فالكتاب الواحد متن وشرح للمتن، ومختصر للشرح، وشرح للمختصر، وحاشية على شرح المتن، وتقرير على حاشية الشرح. . . . . . ولست أفهم لماذا ارتقت أساليب الكتابة في كافة العلوم وأخذت شكلاً جديداً، ولماذا يؤلف اليوم الكتاب في الأدب على غير ما كان يؤلف عليه قبل خمسين سنة ولا تزال هذه الكتب على ما كانت عليه منذ مئات السنين لم تصل إليها موجة الحياة؟ ولماذا نجد في علماء كل فرع مؤلفين مجددين ولا نكاد نجد في علماء الدين إلا مقلدين مرددين؟ فماذا يصنع الشاب الذي لم يدرس الإسلام في مدرسة ولم يفهم كتبه؟ أيسأل المشايخ؟ إنه إن فعل لم يجد أكثرهم إلا مجلدات تمشي، ليس في ثيابهم وتحت عمائمهم إلا أوراق الكتاب، فهم يسردون عليك ما حفظوا كأنهم يتناولونه من مستودعات أدمغتهم باليد؛ ومن كان منهم ذا فكر جوال، وعقل باحث كان في كثير من الأحيان ضعيفاً في مادته العلمية، فهو يخالف الأولين والآخرين، ويتنكب سبيل الدين. وقليل منهم من جمع إلى العلم، سرعة الفهم، وفهم روح العصر، وحسن مخاطبة الناس. ثم أكثر هؤلاء المشايخ بعيدون عن الأدب ليس لهم في صناعة البيان يد، قل أن ترى فيهم من يعد كاتباً مجيداً، أو لسناً مفوهاً. على أننا بعد هذا كله نخشى أن ينقرض هؤلاء المشايخ ولا نجد لهم خلفاً؛ وعلى أنني لا أحملهم الذنب وحدهم، فالذنب على المسلمين كلهم وليس في الإسلام (رجال دين) مسئولون عنه، وقائمون به، ووكلاء عليه، ولكن رجال الدين عندنا هم كافة أهله وأتباعه، لا فرق في ذلك بين شيخ الإسلام، وأخر مسلم في أفريقيا الوسطى، أو القطب الشمالي. ولو أن أكبر شيخ في حلقته، أو خطيب على منبره، أخطأ في حكم، أو حرف آية،(203/22)
لرد عليه من يحفظ الآية، ويعرف الحكم ولو كان طفلاً صغيراً، أو امرأة. . . وما هذه المرأة بأقل من تلك العجوز، ولا هذا الخطيب بأجل من عمر؟
ثم إن الشبان المسلمين كلهم يذكرون الإعجاز ويعتقدون به، ولكن من منهم يعرف أوجه الإعجاز على حقيقتها. وإذا أراد أن يفهمها ففي أي كتاب يجدها؟ بل من منهم يفهم القرآن فهماً صحيحاً يتجاوز التفسير العادي؟ بل كم من الناس يعرفون تفسيره العادي، وكم منهم يسمعه ليعتبر ويتدبر؟ ألا يسمع أكثر المسلمين القرآن ليطربوا بنغماته وأصوات تلاوته؟
وكلنا يعتقد بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن أي دولة بل أي جمعية إسلامية حاولت أن تستخلص من كتب الفقه ونظريات الفقهاء قانوناً مدنياً ينطبق على عصرنا الحاضر؛ ويكون تتمة العمل الكبير الذي بدأ بوضع (مجلة الأحكام الشرعية) وفي الفقه متسع لهذا العمل، وفي إنجازه إنقاذ البلاد الإسلامية من الحكم بغير ما أنزل الله، والتعرض لما ورد في ذلك من الوعيد الشديد، فضلاً عما فيه من المس بالكرامة الوطنية، والسيادة القومية؟
ومن حاول أن يؤلف في بيان رأي الإسلام في الاشتراكية وموقفه منها، وحكمه في الديمقراطية وأساليب الحكم المعروفة؟
أليس اغتنام فرصة ذكرى المولد الشريف للبحث في هذا وشبهه جزءاً من هذه الحفلات التي لا معنى لها، والمظاهر التي لا طائل تحتها؟
وإني لأرجو نمن الله - لما أرى من انصراف مصر علمائها وأدبائها وشبابها المثقف إلى الإسلام وإقبالها عليه - أن يكون يوم ذكرى المولد من هذا العام، فاتحة عهد جديد في تاريخ الإسلام، كما كان يوم المولد الشريف، فاتحة عهد جديد في تاريخ العالم.
(بغداد)
علي الطنطاوي(203/23)
خاتمة المأساة الأندلسية:
الصراع الأخير
بين الموريسكيين وأسبانيا
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
حدث أثناء المفاوضات التي جرت في مونترو بين مصر والدول لإلغاء الامتيازات الأجنبية أن تقدم الوفد الإسباني بطلب يختص باليهود (السفرديم) المقيمين بمصر، هو أن يعاملوا كالرعايا الإسبانيين وأن يمنحوا مزية التقاضي أمام المحاكم المختلطة أثناء فترة الانتقال، وشرح أحد أعضاء الوفد بواعث هذا الطلب لممثلي الصحف، فقال: إن هؤلاء اليهود (السفرديم) هم من ذرية اليهود الإسبانيين الذين طاردتهم مجالس التحقيق (محاكم التفتيش) في القرن السادس عشر وشردتهم عن وطنهم في مختلف البلاد، وأن إسبانيا الجمهورية التي تحررت من نزعات التحامل والتعصب تريد أن تقدم ترضية لسلالة هذه الطائفة التي نكبت في عصور الظلم والتعصب والطغيان.
وهذه الملاحظة تثير الشجن، ذلك أن إسبانيا النصرانية تعترف بعد أربعة قرون بزلتها التاريخية الكبرى، وتلعن مع التاريخ ذكرى ديوان التحقيق. بيد أن هذا الاعتراف ليس إلا لمحة بسيطة من الحقيقة المروعة؛ ذلك أن إسبانيا النصرانية ما كادت تظفر بتحقيق سياستها الوطنية القديمة في سحق إسبانيا المسلمة والاستيلاء على تراثها كله والظفر بغرناطة آخر معاقلها، حتى وضعت برنامجها الشائن لمحو تراث الأندلس، وسحق الإسلام وكل ذكرياته وآثاره، وإبادة هذه البقية الباقية من سلالة المسلمين والعرب الذين لبثوا سادة في الجزيرة زهاء ثمانية قرون؛ وكان اليهود الذين عاشوا وازدهروا في ظل الدولة الإسلامية، كالمسلمين ضحايا هذه السياسة البربرية؛ وكانت محاكم التحقيق تنشط لمطاردة الضحايا، وكانت محارقها تسطع في مختلف القواعد الأندلسية القديمة حتى قبل سقوط غرناطة؛ وكان سقوط غرناطة في فاتحة سنة 1492م نذير المأساة المروعة التي لم تستطع إسبانيا النصرانية في حمى الظفر وغلوائه أن تقدر عواقبها المخربة؛ وكان المسلمون(203/24)
المغلوبون قد أخذوا على الظافرين قبل التسليم كل ما يستطيع أن يأخذه الضعيف على القوي من العهود النظرية، لتأمين النفس والمال والعرض، والدين والتراث القومي؛ ولكن هذه العهود التي لا سند لها إلا إرادة الظافر، لم تكن شيئاً مذكوراً في نظر إسبانيا النصرانية؛ فلم تمض سوى أعوام قلائل، حتى كشفت إسبانيا النصرانية عن سياستها ونياتها الحقيقية فسحقت العهود المقطوعة وأرغمت المسلمين على التنصر، ولم تدخر وسيلة من الوسائل البربرية، من سجن وحرق وتشريد وتعذيب إلا استعملتها لتحقيق هذه الغاية، وسطعت محارق ديوان التحقيق في غرناطة كما سطعت من قبل في غيرها من قواعد الأندلس لتلتهم المخالفين والمارقبين، وغدا أبناء قريش ومضر نصارى يشهدون القداس في الكنائس ويتحدثون القشتالية، واختفت آثار الإسلام والعربية بسرعة، واستحال الشعب الأندلسي إلى مجتمع جديد هو مجتمع الموريسكيين أو العرب المنتصرين.
ولقد كان استشهاد الموريسكيين من أروع مآسي التاريخ، وكان هذا الشعب المهيض الذي أدخل قسراً في حظيرة النصرانية، والذي أنكرته مع ذلك إسبانيا سيدته الجديدة وأنكرته الكنيسة التي عملت على تنصيره، يحاول أن يروض نفسه على حياته الجديدة، وأن يتقبل مصيره المنكود بإباء وجلد؛ ولكن إسبانيا النصرانية كانت ترى في هذه البقية الباقية من الشعب الأندلسي المجيد عدوها القديم الخالد، وتتصور أن هذا المجتمع المهيض الأعزل، الذي أحكمت أغلالها في عنقه مصدر خطر دائم على سلامها وطمأنينتها، وتشتد في مطاردته وإرهاقه بمختلف الفروض والقوانين والمغارم، وتمعن في انتهاك عواطفه وحرماته وفي تعذيبه وتشريده، وتنكر عليه أبسط الحقوق الإنسانية؛ وكانت محاكم التحقيق تحمل هذه الرسالة الدموية المخربة، وتعمل على تنفيذها بوحشية لم يسمع بها؛ واستطالت هذه الوندالية منذ سقوط غرناطة أكثر من قرن. بيد أن الموريسكيين يحملهم اليأس العميق، وغريزة الدفاع عن النفس ولمحة باقية من عزم النضال القديم، لم يخلدوا إلى هذا الاستشهاد المؤسي، دون تذمر، ودون انتقاض، فقد ثاروا غير مرة على الطغاة والجلادين، وحاولوا مقاومة هذه السياسة الوندالية والخروج على فروضها؛ ولكن يد الطغيان القوية مزقتهم وسحقتهم بلا رأفة، وتركتهم أشلاء دامية.
وكانت أعظم ثورة قام بها الموريسكيون في وجه إسبانيا النصرانية سنة 1569م. أعني(203/25)
بعد سقوط غرناطة بثمانية وسبعين عاماً؛ وكان التنصر قد عم الموريسكيين يومئذ وغاضت منهم كل مظاهر الإسلام، ولكن قبساً دفيناً من دين الآباء والأجداد كان لا يزال يجثم في قراره هذه النفوس الأبية الكليمة؛ ولم تنجح إسبانيا النصرانية بسياستها البربرية في اكتساب شيء من ولائها المغصوب، وكان الموريسكيون يحتشدون في جماعات كبيرة وصغيرة في بسائط غرناطة وفي منطقة البشرات الجبلية تتوسطها الحاميات والكنائس، لتسهر الأولى على حركاتهم، وتسهر الثانية على إيمانهم وضمائرهم، وكانوا يشتغلون بالأخص بالزراعة والتجارة، ولهم صلات تجارية وثيقة بثغور المغرب.
وكانت بقية من التقاليد والمظاهر القومية لازالت تربط هذا الشعب الذي زادته المحنة والخطوب اتحاداً وتعلقاً بتراثه القومي والروحي؛ وكانت الكنيسة تحيط هذا الشعب العاق الذي لم تنجح تعاليمها في النفاذ إلى أعماق نفسه بكثير من البغضاء والحقد؛ فلما تولى فيليب الثاني الملك ألفت فرصتها في أذكاء عوامل الاضطهاد والتعصب. وكان هذا الملك المتعصب حبراً في أعماق نفسه، يخضع لوحي الأحبار والكنيسة، ففي سنة 1563 ظهرت بوادر السياسة الجديدة إذ صدر قانون جديد يحرم حمل السلاح على الموريسكيين إلا بترخيص الحاكم العالم؛ فأثار صدوره سخط الموريسكيين؛ بيد أنه كان مقدمة لقانون بربري جديد أعلن في غرناطة في يناير سنة 1567 وهو الشهر الذي سقطت فيه غرناطة واتخذته إسبانيا عيداً قومياً تحتفل به كل عام وكان القانون الجديد يرمي إلى القضاء على آخر المظاهر والتقاليد التي تربط الموريسكيين بماضيهم وتراثهم القومي، فحرم عليهم أن يتكلموا العربية أو يتعاملوا بها، وأن لا يستعملوا سوى القشتالية في التخاطب والتعامل وذلك في ظرف ثلاثة أشهر من صدور القانون، وألا يتخذوا أسماء عربية، أو يرتدوا الثياب العربية، وحظر التحجب على النساء وألزمن بارتداء الثياب الأوربية المكشوفة وذلك في ظرف عام، وأن تبقى بيوتهم مفتوحة أثناء حفلات الزواج وغيرها ليستطيع القسس ورجال السلطة أن يروا ما يقع بداخلها من المظاهر والمراسيم المحرمة، وألا ينشدوا الأغاني العربية أو يزاولوا الرقص العربي، وفرضت للمخالفين عقوبات فادحة تختلف من السجن إلى النفي والإعدام.
أعلن هذا القانون في غرناطة في ميدان باب البنود أعظم ميادينها القديمة في يناير سنة(203/26)
1567؛ ونستطيع أن نتصور وقعه لدى الموريسكيين فقد فاضت قلوبهم سخطاً وأسى ويأساً، وحاولوا أن يسعوا بالضراعة والحسنى لإلغائه أو على الأقل لتخفيف وطأته، فاجتمع أعيانهم وقرروا التظلم للعرش، وحمل رسالتهم إلى فيليب الثاني والى وزيره الطاغية اسبنوسا، سيد إسباني نبيل من أعيان غرناطة يدعى الدون خوان هنريكس، وقد كان يعطف على هذا الشعب المنكود ويرى خطر السياسة التي اتبعت لإبادته؛ ولكن وساطة ذهبت عبثاً وحملت سياسة العنف والتعصب وكل شيء في طريقها، ونفذت الأحكام الجديدة في المواعيد التي حددت لها، وأحيط تنفيذها بمنتهى الصرامة والشدة.
عندئذ بلغ اليأس بالموريسكيين ذروته، فتهامسوا على المقاومة والثورة والذود عن أنفسهم إزاء هذا العسف المضني أو الموت قبل أن تنطفئ في قلوبهم وضمائرهم آخر جذوة من الكرامة والعزة وقبل أن تقطع آخر صلاتهم بالماضي المجيد والتراث العزيز.
- 2 -
وهنا يبدأ الصراع الأخير بين الموريسكيين وإسبانيا النصرانية؛ ومن الأسف أننا لم نتلق عن هذا المرحلة المؤسية من تاريخ إسبانيا المسلمة شيئاً من الروايات العربية، وكل ما انتهى إلينا منها عن المأساة أثر صغير يسمى (أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر) كتبه فيما يظهر مسلم أو موريسكي من أشراف غرناطة وذلك سنة 947هـ (1542م) أعني بعد سقوط غرناطة بخمسين سنة. وفيه يصف حوادث سقوطها وما تلا ذلك من إرغام المسلمين على التنصر، ومن مطاردتهم وإرهاقهم وتعذيبهم، ويجمل لنا مأساة التنصر في هذه الكلمات المؤثرة.
ثم بعد ذلك دعاهم (أي ملك قشتالة) إلى التنصر وأكرههم عليه وذلك في سنة أربع وتسعمائة، فدخلوا في دينهم كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق فيها من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، إلا من يقولها في قلبه وفي خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الآذان، وفي مساجدها الصور والصلبان بعد ذكر الله وتلاوة القرآن. فكم فيها من عين باكية وقلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين قلوبهم تشتعل ناراً، ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً، وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ويسجدون للأوثان ويأكلون الخنزير والميتات(203/27)
ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ولا على زجرهم، ومن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب وعذب بأشد العذاب، فيا لها من فجيعة ما أمرها ومصيبة ما أعظمها وطامة ما أكبرها.
بيد أن هذه الرواية العربية الوحيدة تقف في تتبع حوادث المأساة عند هذا الحد؛ وإذن فليس لدينا لتتبع حوادث هذا الصراع الأخير بين الموريسكيين وبين إسبانيا النصرانية سوى المصادر القشتالية؛ وإذا كانت هذه المصادر النصرانية، تتأثر في كثير من المواطن بالعوامل الدينية والقومية، فإنها مع ذلك تعرض هذه الحوادث المؤسية في أسلوب مؤثر، ولا تضن في بعض المواطن والمواقف بعطفها وأحياناً بإعجابها على ذلك الشعب الباسل الذي لبث يناضل حتى الرمق الأخير عن كرامته وعن تراثه الروحي والقومي.
(للبحث بقية)
(النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(203/28)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 5 -
الديانة المصرية - قداسة الحيوان عند الخاصة
بقي علينا قبل أن نغادر فصل الألوهية عند قدماء المصريين أن نبين حقيقة علمية ظلت مستورة وقتاً طويلاً يكتنفها الغموض ويحوطها الإبهام من كل جانب، وظل العلماء والباحثون يتخبطون في حل مشكلتها مدى بعيداً. تلك المشكلة هي عبادة المصريين للحيوانات التي طالما كانت موضع الحيرة من المستمصرين الذين يدينون بمدنية مصر الفائقة ورقي عقليتها الممتاز الذي لا يتفق مع عبادة الحيوانات تحت لواء منطق مستقيم
وها نحن أولاء نبين رأي الخاصة المتفلسفين في عبادة الحيوان بعد أن أبنا في الكلمات السابقة منشأ عقائد العامة الذين كانوا يعبدون تلك الحيوانات دون أن ينشغلوا بأسباب هذه العبادة. وقد ذكرنا لك فروض العلماء التي تمحلوها في هذا الشأن؛ أما الخواص من المصريين فمبررات عبادتهم للحيوان تتلخص فيما يلي:
كان المصريون يعتقدون أن الروح تعود بعد الموت فتقطن في المومياء المحنطة وفي التمثال الحجري على ما سنبين ذلك في بابه، ثم تدرجوا إلى أن للإنسان عدة شخصيات بعضها مادي وبعضها روحي، وأن كل شخصية من هذه الشخصيات يمكن أن تستقل بنفسها في مأوى خاص وإذا كان هذا شأن الإنسان فأحر بالإله - وهو الأعظم روحانية - أن يكون له عدة شخصيات تحل كل واحدة منها في مأوى، ثم فكروا فهداهم تفكيرهم إلى أن مأوى شخصيات الإله لا يصح أن تكون ميتة كالمومياء ولا حجراً بارداً كالتمثال، وإنما يجب أن تكون مستحوزة على الحياة الواقعية وأن تكون غير إنسان، فأخذوا يحلون الإله تارة في ثور وأخرى في تمساح وثالثة في قط، ورابعة في طائر، ثم يتبعون هذا الحلول بتقديس ذلك القط أو ذاك الثور أو هذا الطائر، ويقدمون إلى هذه الحيوانات أنواع العبادة(203/29)
والإجلال، لا على أنها معبودات لهم، ولكن على إنها ظروف قد حلت فيها شخصيات الإله الأعظم التي لا تتناهى.
وكانت هذه العبادة في أول الأمر مقصورة على فرد واحد من أفراد كل نوع من الحيوانات ينحصر فيه الاختيار من بين جميع أفراد نوعه لميزة لا توجد في غيره، ثم تطورت هذه العقيدة فأخذت تشمل أفراد كل نوع عبد منه فرد واحد في الماضي.
وقد شاهد (هيرودوت) في مصر هذه الحالة فنبأنا بأن حريقاً شب في مصر فوجه السكان جميعهم عنايتهم إلى نجاة القطط قبل أن يفكروا في إطفاء النار، وهو ينبئنا كذلك بأن موت بعض الحيوانات كالقطط والكلاب كان يعقبه في مصر حداد شامل وألم عميق. وليست رواية هيرودوت وبأغرب مما يحدثنا به الأدب عن الحيوانات، إذ ينبئنا أن المصريين كانوا يعتقدون أنها مشتملة على كثير من أسرار الكون الخفية، فهي مثلاً تعلم الغيب وتحيط بما في المستقبل الغامض على الإنسان، ولكنها تحتفظ بهذه الأسرار ولا تبوح بشيء منها إلا للمقربين الذين اصطفاهم الإله أو سيصطفيهم عما قريب. وهاهي ذي الأساطير المصرية تحدثنا في قصة (الأخوين) أن (بيتيو) أحد الشقيقين اللذين وشت بينهما زوجة أكبرهما كان عند مواشيه، وهو لا يدري تربص شقيقه به، فهتفت به إحدى البقرات قائلة: هاهو ذا أخوك يريد قتلك بسكينة فانج بنفسك من أمامه. ولم يكن الحيوان وحده هو موضع هذا الحلول الإلهي ومقر تلك الأسرار الكونية، وإنما كان النبات كذلك. ولهذا فكثيراً ما يصادفك في التاريخ المصري: حقائقه وأساطيره، آثار أو قصص تتحدث عن الأشجار المقدسة الحائزة لغوامض الأسرار. فمن ذلك ما ينبئنا به كتاب (الأدب المصري القديم) من أنه بينما كان فرعون جالساً ذات مرة مع زوجته التي كان يحبها حباً جماً تحت إحدى الشجرات المقدسة في سرور وسعادة، وإذا بالشجرة تنحني على الملك وتسر في إذنه أن زوجته خائنة؛ إلى غير ذلك مما لو تعقبناه لطال بنا البحث.
ارتقت بعد ذلك هذه العقيدة وسارت إلى الفلسفة بخطوات واسعة فقررت أن الإله حال في كل كائن حي، بل في كل جزئية من جزيئات الطبيعة، وأنه ذو مظاهر مختلفة، فهو مرة روح في جسم حي، ومرة روح مجردة، وثالثة قوة من قوى الطبيعة في الجو أو على الأرض أو في أعماق البحار؛ وهذا الحلول الديني أولاً، والفلسفي ثانياً، هو سر عبادتهم(203/30)
للحيوان والنبات.
النفس عند قدماء المصريين
يرى بعض العلماء أن المصريين في أول عصورهم الفكرية لم يكونوا يعنون بالروح أو بعبارة أدق لم يكن عندهم عن الروح فكرة واضحة. ويعللون هذا بأن المصريين كانوا يعتقدون في تلك العهود السحيقة أن الجسم نفس حي يستمتع في القبر بكل مميزات الحياة. ولكن هذا الرأي عندي غير صحيح، إذ أن المعروف عند قدماء المصريين أنهم كانوا منذ أقدم عصورهم يدينون بوجود كائن أجنبي عن الجسم، وأنه أثناء وجود الجسم في القبر يختلف إليه من حين إلى أخر، وأنهم لهذا كانوا يتركون في بناء القبر ثغرة بسيطة تمر منها الروح جيئة وذهاباً، وأنه لكي تظل الروح حية يجب أن يبقى مأواها وهو الجسم سليما من الخدوش والجروح، ولا يضمن سلامة الجسم إلا التحنيط، فابتدعوه مدفوعين إلى ذلك باحتياجهم إليه، (والحيلة بنت الحاجة كما يقولون)؛ ثم أخذ المحنطون الفنيّون يتنافسون في هذه الصناعة، ويبرهن كل واحد منهم على أنه أقدر من صاحبه على حفظ الجسم سليما زمناً طويلاً. غير أنهم اقتنعوا بعد ذلك بأن الجسم مهما كان تحنيطه متقناً سيلحقه البلى على كل حال. وهنا تتعرض الروح للخطر، فلا مناص إذاً من أن يصنعوا لها مأوى آخر تقيم فيه إذا ما بلى الجسم فاخترعوا فن النحت. ولما كانت الأسطورة الدينية تشترط أن يكون هذا التمثال المحنط شبيهاً بالجسم الأصلي في كل تقاطيعه وملامحه دفعتهم هذه الوسوسة إلى الإجادة والإتقان في النحت بهيئة تعجز أكابر فناني العصور الحديثة.
عدد المصريين بعد ذلك التماثيل للشخص الواحد حتى جاوزت في بعض الأحيان مائة تمثال للدفين الواحد. وكان لهذا التعديد سببان: الأول الوسوسة الدينية التي كانت تقض مضاجعهم وتنذرهم بالأخطار المرعبة التي تتعرض لها الروح إذا أخطأ المثال في شئ ولو يسيراً من تقاطيع الجسم أو ملامح الوجه، فكان الإكثار من التماثيل يقيهم شر هذا الخوف المتسيطر. أما السبب الثاني فهو أن تكون الروح في عالم الآخرة غنية سعيدة بالتنقل من تمثال إلى تمثال ولكن منشأ هذا التعديد قد نسي بمرور الزمن ثم تطرقت إليه التأويلات المختلفة التي تلحق عادة كل عقيدة نسي اصلها. وكان أحد هذه التأويلات الكثيرة أن هذه التماثيل لم تصنع عبثاً، وإنما صنع كل تمثال منها لروح خاصة، لأن كل شخص يشتمل(203/31)
على عدة أرواح تسمى إحداها: , أي الروح، والثانية: , أي النفس أو العقل. والثالثة (دوبل) وهي صورة صيغت من مادة أدق من مادة الجسم، ولكنها على هيئة الجسم تماما والرابعة: (الكا) وهي الجوهر الخالد الموجود في الإنسان وفي كل إله، وهو سر الحياة وسر السمو.
وتمتاز (الكا) عند المصريين عن بقية شخصيات النفس بأنها تظل في عالم السماء ما دام الإنسان في الحياة، فإذا مات اتصلت به اتصالاً وثيقاً يجعله غير قابل للزوال. أما الروح فإنها تظل مترددة على الجسم في قبره كما أسلفنا. حتى إذا ما فاز الميت برضى (توت) انكشفت أمامه كل أسرار الحياة وأصبح لا فرق بينه وبين الأحياء إلا انهم يسيرون على الأرض وهو نائم في قبره. ومن أسباب هذا الرضى أن يتعبد الشخص في حالة حياته بتلاوة كتاب توت وأن يوصي بوضعه معه في قبره إذا أمكن ذلك، وفي هذا المعنى تقول الأسطورة المصرية (أن كتاب توت الذي كتبه الإله بيده، والذي لا يحتوي إلا على عزيمتين اثنتين والذي اشتمل على جميع كلمات الخلق والتكوين المقيدة للآلهة أنفسهم، إذا حصلت عليه ثم تلوت القسم الأول منه سحرت السماء والأرض وعالم الليل والجبال والبحار وفهمت لغة الطير واستطعت أن ترى الأسماك في أغوار الأنهار، لأن قوة خفية تصعد بها على وجه الماء؛ وإذا تلوت القسم الثاني من هذا الكتاب فانك بعد أن تصير في القبر تعود إلى شكلك الذي كنت عليه في حال الحياة وترى الشمس حينما تشرق والقمر حينما يظهر).
وكان المصريون يعتقدون أن الروح وهي في عالم الآخرة تظل مفتقرة إلى ما يقدمه إليها الأحياء من طعام وشراب في الضحايا والقرابين، وأنها إذا تركت بدون هذه الضحايا يؤلمها هذا الإهمال كما يؤلم الأحياء. ولا ريب أن هذه العقيدة تدل للوهلة الأولى على مادية المصريين. وقد استند بعض الباحثين إلى هذه الأسطورة ومثيلاتها من ترك المصريين ثغرة للروح تمر منها، ومن قولهم بافتقار الروح إلى مأوى مادي تقيم فيه كالمومياء والتمثال، فجزموا من كل هذا بأنه إذا كان للمصريين فلسفة فأنها مادية ساذجة؛ وهو قول بعيد عن الصحة بعد العدم عن الوجود، لأن للنفس عند المصريين عدة شخصيات، فإذا كانت إحدى هذه الشخصيات مادية تأكل وتشرب بعد الموت من الضحايا والقرابين وتحتاج(203/32)
إلى مأوى تقيم فيه وثغرة تنفذ منها، فلا ينزل ذلك بفلسفتهم إلى المادية، لأن قولهم بوجود الشخصية الأخرى التي هي جوهر الأسرار الإلهية يصعد بهذه الفلسفة إلى أسمى أوج الروحانية. على أني لا أدري كيف يجرؤ هذا البعض من العلماء على أن يرموا فلسفة المصريين بالمادية الساذجة من أجل قولهم بافتقار الروح إلى الأكل والشرب والمأوى ثم هم يسوغون لأنفسهم أن يشيدوا بفلسفة (تاليس) و (أنا كسيماندر) و (أنا كسيمين) و (ديوجين) وهم لم تخطر لهم الروح ببال؛ أو بفلسفة (ديموقريت) و (إيبيقور) اللذين - وإن قالا بالثنائية - لا يميزان الروح عن المادة إلا بنفس الميزة التي ميز بها المصريون من قبل (الدوبل) عن الجسم، وهي كما نص (ديموقريت) و (إيبيقور): (إن النفس من ذرات أدق وأكثر شفافية من ذرات الجسم، وهذا هو كل ما بينهما من فرق) أضف إلى هذا أن (أفلاطون) نفسه - وهو ثاني أجلاء فلاسفة اليونان الروحانيين - يرى أن النفس مكونة من ثلاث قوى: إحداهما جوهرية خالدة، والاثنتان الأخريان ماديتان قابلتان للفناء، فهل عيب التفكير المصري هو أنه سبق غيره إلى النظريات الراقية بأكثر من عشرين قرنا؟!
مما هو جدير بالذكر عند قدماء المصريين أن الروح كانت عندهم تتصل بعالم الأحياء فتذكره بعظات الماضي وتنبئه بأسرار المستقبل وتنصحه بعمل شيء وتحذره من عمل آخر إلى غير ذلك مما تفيض به الأساطير.
(يتبع)
محمد غلاب(203/33)
ذكرى المولد النبي
من مشاهد عكاظ المؤثرة
للأستاذ سعيد الأفغاني
استيقظت مكة ذات صباح، بعد عام الفيل بأربعين، على جرس حلو ساحر، يرسله محمد الأمين داعياً قومه إلى الله وحده، وأن ينبذوا ما هم فيه من عبادة أصنام ووأد بنات وقتل أولاد، وأن يقبلوا على ما يشبع فيهم المحبة والسعادة ويوطد لهم المجد والعزة في العالمين.
استمع مشركو مكة إلى هذا الرجل الذي كان حبيباً إلى قلوبهم، عظيم المنزلة في صدورهم، مضرب المثل بينهم في علو الخلق وطهارة السيرة وصفاء السريرة، فنظر بعض إلى بعض مكبرين ما أتي به ابن عبد المطلب سيد فتيان هاشم ورجل مكة المنتظر.
ونزت في تلك الرءوس حمية جاهلية استعصى قيادها على البيان الساحر والعقل الوافر والحرص المخلص، فعظم عليها أن تترك ما ألفت، وتألبت قوى أهل مكة جيوشاً متضافرة تكيد لهذا الداعي إلى الخير ولأولئك القانتين المخبتين من الضعفاء والنساء والصبيان، الذين ملكت عليهم الدعوة الجديدة شعورهم وتغلغل صوت الإله في أعماق نفوسهم فصفاها وأخلصها، ليكون منها الهدف الأول الذي يصمد في سبيل العقيدة الحق للأذى والتشريد والتجويع والتعذيب بصبر عجيب وإيمان صليب واغتباط متزايد، كأنما يجدون في هذه الآلام نعيماً ولذائذ. فكانت مصابرتهم وثباتهم خير ما ضمن نجاح الدعوة وتقاطر الناس عليها فيما بعد.
إلا أن الأذية عظمت، وأنى المشركون إلا إصراراً واستكباراً وصداً عن سبيل الله من آمن به، وكادت تتسرب شوائب من يأس إلى بعض تلك النفوس العظيمة، لولا بارقة أمل لاحت لهم في قصد قبائل العرب بالمواسم في عكاظ ومجنة وذي المجاز.
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه بثلاث سنين في عكاظ، يدعو الناس إلى الخير والهدى والسعادة. وقد لزمه منذ قيامه بالدعوة حزن عميق على قومه الذين كفروا بنعمة الله، وآلمه ألا يراهم مسارعين إلى ما به صلاحهم، فعزم ليقصدن المواسم وليأتين فيها القبائل، كل قبيلة بمنزلها، وكل جماعة في حيهم، يعرض عليهم هذا الدين الجديد. ولقد حرص الحرص كله على أن يهتدوا، وكان أسفه يشتد كلما ألح قومه بالصد.(203/34)
قام في عكاظ يقول:
(يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا)
ويتبعه رجل له غديرتان كأن وجهه الذهب وهو يقول:
(يا أيها الناس، إن هذا ابن أخي وهو كذاب فاحذروه.)
فعرف الناس أن هذا (الصاد عن سبيل الله) هو عمه أبو لهب ابن عبد المطلب، يكذبه كلما قال كلمة الحق.
عاود والرسول الدعوة مراراً فلم يجب ولم ييأس، ورجا أن يجد فيهم الحامي والمجير على الأقل إذ لم يجد المجيب، فكان يقول للحي في موسم عكاظ:
(لا أكره منكم أحداً على شيء: من رضي الذي أدعوه إليه قبله، ومن كرهه لم أكرهه؛ إنما أريد أن تحوزوني مما يراد بي من القتل، فتحوزوني حتى أبلغ رسالات ربي ويقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء.)
كان الناس يعجبون من أمره وأمر عمه، وهم بين راض وغاضب، ومتعجب يرى بعينه ثم يمضي كأن الأمر لا يهمه. منهم من لا ينكر ما يسمع، ومنهم من يرد أقبح الرد، ومنهم من يقول: قومه أعلم به.
كان هذا دأبه أبداً، يوافي به القبائل سنة بعد سنة، حتى إن منهم من قال له: (أيها الرجل، أما آن لك أن تيأس؟!) من طول ما يعرض نفسه عليهم.
انتهى رسول الله في تطوافه على القبائل في عكاظ، إلى بني محارب ابن خصفة، فوجد فيهم شيخاً ابن عشرين ومائة سنة، فكلمه ودعاه إلى الإسلام وأن يمنعه حتى يبلغ رسالة ربه؛ فقال الشيخ: (أيها الرجل قومك أعلم بنبئك. والله لا يؤوب بك رجل إلى أهله إلا آب بشر ما يؤوب به أهل الموسم. فأغبن عنا نفسك.) وإن أبا لهب لقائم يسمع كلام المحاربي.
ثم وقف أبو لهب على المحاربي فقال.
ولو كان أهل الموسم كلهم مثلك لترك هذا الدين الذي هو عليه، إنه صابئ كذاب.)
قال المحاربي: (أنت والله أعرف به، هو ابن أخيك ولحمتك.)
ثم قال: (لعل به يا أبا عتبة لمماً، فإن معنا رجلاً من الحي يهتدي لعلاجه.) فلم يرجع أبو لهب بشيء.(203/35)
روى عبد الرحمن العامري عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عكاظ فقال:
- ممن القوم؟
قلنا: - من بني عامر بن صعصعة.
- من أي بني عامر؟
- بنو كعب بن ربيعة.
- كيف المنعة فيكم؟
- لا يرام ما قبلنا ولا يصطلى بنارنا.
فقال: إني رسول الله، فإن أتيتكم تمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولم أكره أحداً منكم على شيء؟
قالوا: - ومن أي قريش أنت؟
- من بني عبد المطلب.
- فأين أنت من بني عبد مناف؟
هم أول من كذبني وطردني.
قالوا: - ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك، ونمنعك حتى تبلغ رسالة ربك)
فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بجرة بن قيس القشيري فقال:
- من هذا الذي أراه عندكم أنكره؟
قالوا: - هذا محمد بن عبد الله القرشي.
- ما لكم وله؟
- زعم لنا أنه رسول الله، يطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه.
- فماذا رددتم عليه؟
- قلنا في الرحب والسعة، نخرجك إلى بلادنا ونمتعك مما نمنع به أنفسنا.
قال بجرة: - ما أعلم أحداً من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشر من شيء ترجعون به. بدأتم لتنابذكم الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة. قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيراً لكانوا أسعد الناس به. تعمدون إلى رهيق قوم قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه؟(203/36)
فبئس الرأي رأيتم.
ثم أقبل على رسول الله فقال: (قم الحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك).
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيث بجرة شاكلتها فقمصت برسول الله فألقته. وعند بني عامر يومئذ ضياعة بنت عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله بمكة، جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت: (يا آل عامر ولا عامر لي! أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم؟)
فقام ثلاثة نفر من بني عمها إلى بحرة، وثلاثة أعانوه، فأخذ كل رجل منهم رجلاً فجلد به الأرض ثم جلس على صدره، ثم علقوا وجوههم لطما، فقال رسول الله:
(اللهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء.)
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه سألهم عمن كان في الموسم فقالوا:
(جاءنا فتى من قريش ثم حدث أنه أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به معنا إلى بلادنا.)
فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: (يا بني عامر: هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من تطلب؟
فوالذي نفس فلان بيده، ما تقولها إسماعيلي قط؟ ألا إنها الحق؛ فأين كان رأيكم؟.
هذه الأسواق الثلاث: عكاظ ومجنة وذو المجاز، التي كانت تقوم في أيام الحج ويؤمها العرب قاطبة من كل حدب وصوب، شهدت إلى جانب مناظر البيع والشراء والمفاخرة والإنشاد، مشهداً من أفظع مشاهد الجفاء والتنكر والأذى لصاحب الشريعة الإسلامية صلى الله عليه وسلم. وابتلعت تلك الأصوات بضجيجها وما كانت تعج به من حوادث، صوت الدعوة الإسلامية فيما ابتلعت من دعوات، وغاب صوت صاحبها في ذلك الصخب والزحام؛ فلقد مكث الرسول بمكة مستخفياً ثلاث سنين، ثم أعلن في الرابعة ودعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي فيهن المواسم كل عام، (يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحداً ينصره أو(203/37)
يجيبه، حتى إنه ليسال عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردون عليه اقبح الرد، ويؤذونه ويقولون له: قومك أعلم بك)
كان قاصد هذه الأسواق أيام الحج موزع السمع بين داع إلى ثأر وناشد ضالة، ومنشد قصيدة، وخطيب، وعارض بضاعة، وحامل مال لفك أسير، وقاصد شريف لإجارة أو حمالة، وداع إلى عصبية، وآمر بمنكر. . .، فيجد شيئاً معروفا قد ألفه منذ عقل وأبصر الدنيا. لكنه بعد عام الفيل بثلاث وأربعين سنة يجد أمراً لم يألفه قط، ولا سمع بمثله: رجلاً كهلاً وضيئاً عليه سمات الوقار والرحمة والخير، يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة: هذه بنو عامر بن صعصعة، وهذه محارب، وتلك فزارة، والرابعة غسان، وهناك مرة وحنيفة، وسليم، وعبس، وهنا بنو نصر وكندة، وكعب، وعذرة، وهؤلاء بنو الحارث بن كعب وأولئك الحضارمة. . . الخ.
يؤم منازل كل قبيلة، ويقصد إلى شريفها يدعوه بالرفق إلى الله وفعل الخير فيتجهم له هذا ويعبس ذاك، ويجبهه ذلك، ويحقره آخر. . فيلقى من الصد ألواناً يضيق ببعضها صدر الحليم، فلا يؤيسه ما لقي، ولا يكفه ما أوذي، فيمضي متئداً حزيناً إلى قبيلة أخرى وشريف آخر: يعرض عليهم نفسه ويقول:
(هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي. فلا يجد مجيباً، حتى تدارك الله نبيه بوفد الأنصار.
هذا ما حفظته لنا كتب السيرة من مشاهد مؤثرة، فرأينا أن تلك الأسواق لم تخل من دعوة إلى خير، فقد تردد في أجوائها الصوت الضعيف الخافت، يطلب حماية وإجابة. ولئن صدف عنه الناس وأزوروا في أسواق الجاهلية، إنه ملأ فيما بعد ما بين المشرق والمغرب، وطبق الخافقين بآثاره التي بثها في العالمين رحمة وعدلاً وعلماً، وإنسانية وسعادة ومثلاً عليا.
وما زال يستجيب لهذا الصوت كل يوم أفواج من أمم الحضارة والعرفان، في أسيا وأوروبا وأمريكا. صد عنه قديماً أجلاف البادين، وهرع إليه اليوم زمر المتحضرين، من كل عالم ومخترع ومصلح وأديب وسياسي ومفكر. . من يستضيء بعلمهم وفكرهم الملايين من الخلق.(203/38)
فلنأخذ من هذه الأسواق العبرة، ولنحفظ هذا الدرس؛ فأن الحق مهما بدا ضعيفاً وبدا خصيمه الباطل قوياً صائلاً، لا بد أنه ظافر في النهاية عليه. فليس في الدنيا شيء يصمد للحق، لا الجيوش ولا الأساطيل، ولا النار ولا الحديد، لا شيء له العقبى إلا الحق. وأهون بعد ذلك بالمعاهدات والمراسيم وصكوك الانتدابات وسائر القصاصات من أوراق الزور. كل أولئك يضمحل ويذوب متى سلط عليه الإخلاص والثبات وصلابة العقيدة والإيمان. وما نرى في أيامنا هذه من استضعاف الباطل المعتز بالصولة، لأناس وقفوا يدعون النضال في سبيل الحق، واستخذاء هؤلاء له، وطواعيتهم في يديه، ناشئ من فقدان الإخلاص والعقيدة فيما يضمرون. ولعل كثيراً منهم يظهر دفاعاً عن حق، ويبطن سعياً إلى منصب أو استدراراً لمال. وما أسرع ما ينزع الزمان الأثواب المزورة عن هذا الفريق فيظهر للناس ما يخفون.
ولنعلم بعد أن اليأس لا ينبغي أن يجد سبيلاً إلى قلب المؤمن، وأنه: (لا ييأس من روح الله إلى القوم الكافرين)
(دمشق)
سعيد الافغاني(203/39)
عبرة وفاء
الرافعي
للأستاذ كامل محمود حبيب
أليس الحق أن العيش فان ... وأن الحي غايته الممات
(شوقي)
فقدتك - يا رافعي - ففقدت صديقاً، والأصدقاء قليل؛ وأخاً كبيراً طيب القلب، والقلوب هواء؛ وأباً شفيقاً فيه الرحمة والحنان؛ وأستاذاً غمرني نور علمه ونور أدبه
كنت وكنا. . . ففتحت على عينيك مغاليق نفسي، فأحسست كأني ألمس روحك تتدفق في روحي، فهفوت نحوك أجد في حديثك اللذة والمتعة. وأجد في نصيحتك الهداية والنور. . . فلما فقدتك فقدت قلبي، وأذهلتني الصدمة فخرجت عن صبري إلى حزني؛ وكدت أشق عليك الجيب، وألطم الخد. ولكن الإيمان يا رافعي. . . ولكن الإيمان. . .
وانطويت على نفسي ألتمس في عبرات حرى أسكبها، أشيعك بها إلى الدار الأخرى. . . ألتمس فيها بعض ما يخفف عني برح الشوق، وألم الفجيعة؛ فما وجدت فيها سلوة ولا وجدت عزاءً، فاستحوز علي الأسى والشجن، ونسيت ما كنت تقوله حين تزعزعني الأيام: (الإيمان، يا بني، الإيمان. . .)
وخرجت إلى الناس فرأوا في أثر الحزن والضنى في سواد لبسته، وفي تجهم وعبوس اكتسى بهما وجهي، وفي عبرة تترقرق في محجري أجهد أن أكفكفها لأخفى ضعفي، وفي جفوني قرح من أثر البكاء والسهر؛ فما استطاع واحد أن يقول شيئاً، غير أن نظراتهم كان فيها الرثاء والشفقة. . . ثم انطووا عني جميعاً، وخلفوني وحيداً، أحس ألم الوخزة في قلبي. . . قلبي وحده.
ومر رجل يبسم وعلى وجهه سمات الفرح فهاجت في نفسي الذكرى فبكيت ونظر هو إلى حزني ثم استغرق في الضحك، لا يرعوي ولا يرحم؛ فقلت لنفسي (ويل للشجي من الخلي!)
وجاء صديق يريد أن يرفه عني، ويطمع في أن ينزعني من آلامي، بعبارات فاترة ثقيلة لا(203/40)
معنى فيها ولا روح؛ ولكنها أثارت شجوني، فانتفض قلبي، وارفض جبيني عرقاً، وانهمرت عبراتي؛ فانطلق وهو يرثى لحال صاحبه. . . صاحبه المسكين الذي لا يسمع ولا يعي. . . وماذا يعزيني عنك يا رافعي وأنت. . . في دمي وفي روحي؟
وجلست إلى كتاب من كتبك أنشق عبير روحك الطاهرة، وأتنسم من ألفاظك روح قلبك الخالص؛ فارتدت الذكرى تبعثك في خيالي، فتوقظ في نفسي الألم والحسرة لأنني استشعرت فقدك في قلبي.
إن في النفس عواطف لا يرقى إليها القول، وفي الفؤاد نوازع لا يستطيع أن يكشف عنها المنطق، أحس بها جياشة ثائرة فأنطوي على أحزان تأكل قلبي وتضطرم في جوانحي. . . ثم لا أجد عاصماً سوى الدمع. . .
وجاء النعي يقول: إنك بت تحت الثرى، وإن تاريخك على الأرض قد تم، فوجمت، وجاء الظلام يترع أيامي في وقت رف علي فيه الأمل الحلو حين خيل إلي أني أنتظر لقياك، ولكن. . . فجعت مرتين: فيك وفي أملي. . .
وطال بعدك ليلي حين لج بي الأسى، ونأت عني مسراتي حين لازمتني أشجاني، وغدوت إنساناً غيري فيه اللوعة والأسف.
لقد عرفتك فبعثت في روحي الحياة والنور، ونفثت في قلبي الإيمان والسمو؛ والآن. . . الآن رانت على حياتي ظلمات وظلمات فما أستطيع أن أهتدي، والبحر يزخر حوالي فلا أرى الشاطئ الأمين، فأين يدك تجذبني إليه، وأين قلبك ينير لي الطريق. . .؟
تركتني وأتراحى، وفي القلب شوق، وفيه شكاية، فمتى تغسل دموعي هذه الأشجان لأبدو للناس رجلاً فيه الصبر والسلوان.
لفتك يد المنون في كفن لتنشر في الأفئدة اللوعة والأسى وأودعتك رمساً لتوقظ في النفوس الهموم والشجن.
وأطفأت السراج المنير لينقلب ناراً تتسعر بين الضلوع.
ونزعتك من بيننا لتشعرنا الوحدة والفراغ.
فلنا الله. . . لنا الله بعدك يا رافعي.
آدنى هذا الأمر فانشق له قلبي.(203/41)
وتفطر فؤادي حين لفحني أواره.
وفقدت الآسي وقد فزع عني الصديق والخليل
فظللت وحدي أذرف الدمع السخين.
فوا حر كبدي. . . واحر كبدي مما أقاسي بعدك يا رافعي!
كامل محمود حبيب(203/42)
بعد الموت ماذا أريد أن يقال عني
بقلم المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
سأله محرر الدنيا منذ شهرين هذا السؤال فكتب إليه هذا المقال:
ما هي الكلمات التي تقال عن الحي بعد موته إلا ترجمة أعماله في كلمات؟ فمن عرف حقيقة الحياة عرف أنه فيها لهيئ لنفسه ما يحسن أن يأخذه، ويعد للناس ما يحسن أن يتركه، فأن الأعمال أشياء حقيقية لها صورها الموجودة وإن كانت لا ترى.
وبعد الموت يقول الناس أقوال ضمائرهم لا أقول ألسنتهم، إذ تنقطع مادة العداوة بذهاب من كان عدواً، وتخلص معاني الصداقة بفقد الصديق، ويرتفع الحسد بموت المحسود، وتبطل المجاملة باختفاء من يجاملونه، وتبقى الأعمال تنبه إلى قيمة عاملها، ويفرغ المكان فيدل على قدر من كان فيه، وينتزع من الزمن ليل الميت ونهاره فيذهب اسمه عن شخصه ويبقى على أعماله.
ومن هنا كان الموت أصدق وأتم ما يعرف الناس بالناس، وكانت الكلمة بعده عن الميت خالصة مصفاة لا يشوبها كذب الدنيا على إنسانها، ولا كذب الإنسان على دنياه وهي الكلمة التي لا تقال إلا في النهاية، ومن أجل ذلك تجئ وفيها نهاية ما تضمر النفس للنفس.
وماذا يقولون اليوم عن هذا الضعيف؟ وماذا تكتب الصحف؟
هذه كلمات من أقوالهم: حجة العرب، مؤيد الدين، حارس لغة القرآن، صدر البيان العربي، الأديب الأمام، معجزة الأدب، إلى آخر ما يطرد في هذا النسق، وينطوي في هذه الجملة. فسيقال هذا كله ولكن باللهفة لا بالإعجاب، وللتاريخ لا للتقريظ، ولمنفعة الأدب لا لمنفعة الأديب. ثم لا يكون كلاماً كالذي يقال على الأرض يتغير ويتبدل، بل كلاماً ختم عليه بالخاتم الأبدي، وكأنما مات قائلوه كما مات الذي قيل فيه.
أما أنا فماذا ترى روحي وهي في الغمام وقد أصبح الشيء عندها لا يسمى شيئاً؟ إنها سترى هذه الأقوال كلها فارغة من المعنى اللغوي الذي تدل عليه لا تفهم منها شيئاً إلا معنى واحداً هو حركة نفس القائل، وخفقة ضميره. فشعور القلب التأثر هو وحده اللغة المفهومة بين الحي والميت.
سترى روحي أن هؤلاء الناس جميعاً كالأشجار المنبعثة من التراب عالية فوقه وثابتة فيه،(203/43)
وستبحث منهم لا عن الجذوع والأغصان والأوراق والظاهر والباطن، بل عن شيء واحد هو هذه الثمرة السماوية المسماة القلب. وكل كلمة دعاء وكلمة ترحم وكلمة خير. ذلك هو ما تذوقه الروح من حلاوة هذه الثمرة.
مصطفى صادق الرافعي(203/44)
من كلام الرافعي
قيل له رحمه الله: هل تكره الموت؟ فقال لا بل أكره ذنوبي، أما الموت فهو اكتشاف العالم الأكبر، نسأل الله حسن الخاتمة. وقيل له ما هي وصيتك إذا حضرتك الوفاة؟
فقال: هي تكرار المبدأ الذي وضعته لأولادي:
النجاح لا ينفعنا بل ينفعنا الامتياز في النجاح
مات الرافعي
بقلم السيد محمد زيادة
إذن فقد مات مصطفى، وانطفأ السراج الوهاج. . .
وهدأت الروح النبيلة الرفافة التي ما خلقت لتهدأ. . .
وفرغ الوجدان الفضفاض من هموم الإنسانية وآلام الناس. . . وسكن القلب الصخاب المتكلم، المحلق في أجواء السمو، الخافق خفقات الهوى العفيف. . .
وغربت النفس الأبية الملهمة الجائشة فيها خواطر الغيب وأسرار الكيان. . .
ونام العقل الجبار الحر النافذ شعاعه إلى كل سماء يستطلع الحقائق، المرسل سناه على كل أرض يطلع الناس. . .
وانطفأ السراج. . . انطفأ السراج الوهاج. . .
إذن فقد مات مصطفى وخلا من الحياة مكانه ليظل خالياً لا يجد الكفء الذي يملؤه. . .
وجنحت الشخصية الحبيبة المرموقة إلى العزلة. . . عزلة الأبد
وعدمت الموهبة المخلوقة للكفاح والإصلاح. . .
وانهدت القوة الفعالة المبدَعة المبدِعة. . .
وانحصر الميدان الآهل بعرائس الخيال الفاتنة بين جدران قبر ضيق. . .
وتهيأ الأدب العريق الفتي ليزول أو زال. . .
وانطفأ السراج. . . انطفأ السراج الوهاج. . .
إذن فقد مات مصطفى، ورحلت البارقة الهفافة من أفق الدنيا إلى آفاق الآخرة. . .
وشال الطائر الغريد عن الحمى يرف بجناحيه رفيف الوداع، وخفقت القلوب، وتباكت العيون، وذابت قطع من النفوس، وسرى في جو الأدب برق ورعد هز كيانه. . . ثم أعقبه(203/45)
غبار ودخان لاح فيه سواد المصيبة. . .
ووجمت الحياة من روعة ما جد فيها. . .
وشاع في العالم العربي أن الرافعي قد مات. . .
وانطفأ السراج. . . نطفأ السراج الوهاج. . .
مصطفى. . . أأناديك يا أبي أم يا أخي أم يا صديقي؟!.
إنك والله كنت الثلاثة. . . كنت الوالد في حنوك عليّ، واهتمامك بي. . . وكنت الأخ في استبشارك بلقياي وانتصارك لي. . . وكنت الصديق في إخلاصك النادر، ووفائك المعجب، وحبك النقي وعطفك الكريم
فأين بعدك الصديق؟. . وأين مثلك الصديق؟!.
وكيف بعدك الحياة وأنت كنت العون في الملمة، والفرج في الضيق، والسراء في الضراء؟!
لقد فقدت بفقدك ركن حياتي الثابت المدعم؛ وشيعت في تشييعك مسرة النفس، وراحة الفؤاد، وأمان العيش؛ وقبرت معك أملاً من آمالي كان أنظرها. . .
مصطفى. . . لقد ذهبت فلم توص ولم تودع. . . فهل من كلمة أو همسة تسر بها إلي هابطة من روحك في السماء إلى روحي على الأرض؟. . .
هل من إشراقة عطف يطل بها وجهك الصبوح من عليائك على صديقك الشاعر في فقدك بفقد نفسه، الحامل لك في أعماقه شوق الولهان وحسرة السجين، الواجد من بعدك كل هم وعناء؟
هل من بسمة ود تسطع على شفتيك فتنير وحشة النفس في ظلام الوحدة بعد أن حرمتك وحرمت كل حبيب؟. . .
السيد محمد زيادة(203/46)
تاريخ وفاة الرافعي بالتركية
أم دنيا بي وفا دنيا قدر فضل أهلنه،
ئولدي داهىء أدب، صور: نه يدى رسمى موقعى؟
آلدم ابواب جناندن مصرع تاريخنى:
قدريكي بيلسين ملكر آسمانده رافعى!
344 162 320 161 361
1348 المجموع
8 مضافة إلى المجموع مقتبسة من عدد أبواب الجنة الثمانية المشار إليها في المصراع الثالث
ـــ
1356
ترجمة البيتين:
إن أم الدنيا كالدنيا في عدم وفائها لذوي الفضل والأدب فقد مات أكبر الكتاب وهو من صغار الموظفين في الحكومة! فاستعرت مصراعاً لتاريخ وفاته من أبواب الجنة الثمانية وقلت: ليقدر الملائكة قدرك في السموات أيها الأستاذ الرافعي.
إبراهيم صبري
نجل شيخ الإسلام السابق للدولة العثمانية(203/47)
أقوال العظماء في الرافعي
. . . إن الناظم لم يتجاوز الثالثة والعشرين من سنه، ولا ريب أن من أدرك هذه المنزلة في مثل هذه السن سيكون من الأفراد المجلين في هذا العصر، ومن سيحلون جيد البلاغة بقلائد النظم والنثر.
إبراهيم اليازجي
اسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق به الباطل وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل.
محمد عبده
سيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان.
مصطفى كامل
في جريدة اللواء
بيان كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من النور الحكيم
سعد زغلول
ثق أني أسافر مطمئناً وأنت بقيتي في مصر
عبد المحسن الكاظمي
وهو مسافر إلى الأندلس
أراك وأنت نبت اليوم تمشي ... بشعرك فوق هام الأولينا
وأوتيت النبوة في المعاني ... وما جاوزت حد الأربعينا
حافظ ابراهيم
(لو كان هذا الكتاب في بيت حرام إخراجه للناس منه لكان جديراً بأن يحج اليه، ولو عكف على غير كتاب الله في نواشئ الأسحار لكان جديراً بأن يعكف عليه)(203/48)
شكيب أرسلان
في كتاب تاريخ آداب العرب
لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وجوته كما للألمان جوته، وهوجو كما للفرنسيين هوجو
أحمد زكي باشا
في كتاب المساكين(203/49)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
العناكب:
هذا هو العنكب، فإذا كنت ترغب في مشاهدته فالمس نسيجه ليتحرك ويسرع بالظهور، أهلا بك أيها العنكب، إنني أرى على ظهرك شعاراً أسود مثلث الزوايا، وما يخفى عني أيضاً ما تضمر من النقمة في سريرتك.
أن للسعاتك بقعاً فاحمة على الجلود ولها سمها المضلل في النفوس، أيها العنكب، فأنا أخاطبكم بالرموز، أيها العناكب المضللون المبشرون بالمساواة. فما أنتم في نظري إلا مستودع لعواطف الانتقام
سأكشف عن مكانكم وأنا أواجهكم بقهقهة تسقط عليكم من الذرى التي أتسنمها. وهأنذا أمزق نسيجكم حتى إذا تملككم الغضب خرجتم من مغاور أكاذيبكم وتدفقت نقمتكم بكلمة العدل التي تتفوهون بها.
لقد وجب علي أن أنقذ الإنسان من عاطفة الانتقام، وهذا الواجب هو المعبر المؤدي إلى اشرف الآمال ينتصب فوقه قوس قزح بعد هبوب العواصف الكاسحات. ولكن إرادة العناكب لا تتجه إلى هذه الغاية، فهم يتناجون فيما بينهم قائلين: لا عدل إلا في عواصف انتقامنا تهب على العالم لتلقي العار على كل من ليس منا.
وهم يقولون أيضاً: ما من فضيلة إلا في طلب المساواة، فلنرفع عقيرتنا ضد كل سلطان.
آي كهان المساواة! لقد تسلط عليكم جنون عجزكم، فهتفتم بهذه المساواة وقد كمنت شهوة عتوكم واستبدادكم وراء ما تعلنون من الفضائل.
إنني أرى فيكم الغرور المتمرمر والحسد المقيم، ولعل الحسد الذي رعى قلوب أسلافكم يتعالى منكم الآن لهباً يندلع بجنون الانتقام، وما الأبناء إلا مظهر ما أضمر الآباء. ولكم أفشى الابن سر أبيه!
إن لهؤلاء الناس مظهر المتحمسين، وما تلهب حماسهم المحبة بل الانتقام. وإذا، وإذاً ما(203/50)
بدت لك منهم رصانة ومرونة، فما مصدرهما فيهم العقل بل الحسد. وهو الدافع لهم إلى التفكير. ودليل حسدهم هو أنهم يندفعون دائماً إلى أبعد من مراميهم فيطرحهم العياء على وساد الثلوج.
وما تسمع لهؤلاء الناس أنيناً يخلو من نبرات الانتقام، فكل ما يصدر عنهم من مديح ينطوي على أذية، فهم يرون منتهى السعادة في إقامة أنفسهم قضاة على العالمين. فأصغوا إلى نصيحتي، أيها الأصدقاء: احذروا من تغلبت عليهم غريزة إنزال العقاب. لأنهم متحدرون من أفسد الأنواع وعلى وجوههم سيماء الجلادين.
إحذروا من لا ينقطعون عن ذكر عدالتهم فان نفوسهم خالية من كل صفة حميدة، وإذا ما هم ادّعوا الصلاح والأنصاف فلا تنسوا أنهم لم يتخذوا بين الفرنسيين مقامهم إلا لما يشعرون به من عجز
إنني أربأ بنفسي، أيها الصحاب، أن تنزلوها بين هؤلاء الناس فلا تميزون بيني وبينهم. فهنالك من يذيعون تعاليمي عن الحياة وهم في الوقت نفسه ينادون بالمساواة وينتمون إلى العناكب المسمومة، هم يدافعون عن الحياة ولكنهم يعرضون عنها قابعين في مغاورهم ليتمكنوا من اجتراح الشرور والإيقاع بمن يقبضون على زمام السلطة في هذا الزمان، وقد تعودوا إنذارهم بالسقوط، ولو أن السلطة كانت في يد العناكب، لكانت تعاليمهم تتخذ شكلاً آخر، لأنهم عرفوا فيما مضى، أكثر مما عرف غيرهم، كيف يوقدون المحارق ويرهقون مخاليفهم اضطهاداً وتعذيباً.
لا أريد أن أحسب من هؤلاء المنادين بالمساواة لأن العدالة علمتني: (أن لا مساواة بين الناس) وإنه من الواجب ألا يتساووا؛ وليس لي أن أقول بغير هذا المبدأ وإلا فان محبتي للإنسان تصبح ادعاء ومينا. .
على الناس أن يسيروا على آلاف الطرق وآلاف المعابر مسارعين نحو آتي الزمان فتنشأ بينهم الحروب وتتسع شقة التفاوت بينهم على ممر السنين، ذلك ما ألهمني إياه حبي العميم.
يجب أن يقيم الناس في أعماق سرائرهم مثلاً علياً وأشباحاً يجاهدون في سبيلها فيسير الصالح والطالح والغني والفقير والرفيع والوضيع إلى التصادم بجميع ما في الأرض من نظم فتضطرم الحروب سلاحاً لسلاح ورمزاً لرمز لأن على الحياة أن تتفوق أبداً على(203/51)
ذاتها.
إن الحياة تتجه إلى الارتقاء بدعائمها ودرجاتها، فهي تتطلع إلى الآفاق البعيدة ما وراء الجمال المقتعد عرش غبطته، لتبلغ مستقرها في أعالي الذرى
وبما أن الحياة بحاجة إلى ارتقاء المرتفعات، فهي لا غنى لها عن الدرجات والدركات ليعارض المنخفضون المرتفعون، إنها لفي حاجة إلى التفوق على ذاتها وهي متجهة إلى الارتقاء
انظروا، أيها الصحاب، هاهي مغارة العناكب وقد لاحت فيها خرائب هيكل قديم فأرسلوا عليه نظرات المستلهمين.
والحق أن من جميع أفكاره قديماً ليرفعها صرحاً من الصخر ينطح السحاب كان كأحكم الحكماء عارفا بأسرار الحياة
إن الجمال نفسه ليقوم على التفاوت والمجالدة في القوة والتفوق، وهذا ما يعلمنا إياه هذا الحكيم بأشد الرموز إشرافاً
هنا تتدافع القباب والنوافذ في عراك جلل فتهاجم الظلمة النور ويهاجم النور الظلمة كأنهما إلهان ينازل أحدهما الآخر اقتدوا بهذا الرمز، أنتم أيضا في مجال الجمال والثقة بالنفس. لنكن نحن أيضاً أعداء فيما بيننا أيها الصحاب
وليحشد كل منا قواه ليحارب الآخرين
ويلاه، لقد أصبت أنا أيضاً بلسعة العنكبة عدوتي القديمة فقد توصلت بثقتها بنفسها وبجمالها الإلهي إلى نوال بناني بلسعتها، وهاهي تقول الآن: لا بد من إنزال العقاب، لا بد من أن يأخذ العدل مجراه، فأنك تعنيت بعظمة السرائر، فلن يذهب إنشادك جزافاً.
أجل لقد انتفعت، ويلاه إنها ستوجه نفسي إلى عاطفة الانتقام.
تقدموا أيها الصحاب وقيدوني بهذا العمود كيلا أتحول عن مبدئي، فخير لي أن أصبح تمثالاً جامداً من أن أهب كعاصفة منتقمة.
لن يكون زارا عاصفة وإعصاراً، فما هو إلا رقاص ولكنه ليس رقاص عناكب. . .(203/52)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
61 - عجيبة. . .
في (طبقات الشافعية الكبرى) للسبكي: عجيبة هي مغنية كانت بمصر على السلطان الملك الكامل بن أيوب، ويذكر أن الكامل كان مع تصميمه بالنسبة إلى أبناء جنسه تحضر إليه ليلاً، وتغنيه بالجنك على الدف في مجلس بحضرة ابن شيخ الشيوخ وغيره، وأولع الكامل بها جداً، ثم اتفقت قضية شهد فيها الكامل عند عين الدولة، وهو في دست مملكته. فقال ابن عين الدولة: السلطان يأمر ولا يشهد. فأعاد عليه السلطان الشهادة، فأعاد القاضي القول. فلما زاد الأمر وفهم السلطان انه لا يقبل شهادته، قال: أنا أشهد، تقبلني أم لا؟
فقال القاضي: لا، ما أقبلك. وكيف أقبلك وعجيبة تطلع إليك بجنكها كل ليلة، وتنزل ثاني يوم بكرة، وهي تتمايل سكراً على أيدي الجواري، وينزل ابن الشيخ من عندك أبخس مما نزلت!
فقال له السلطان: يا كنواخ! (وهي كلمة شتم بالفارسية)
فقال القاضي: ما في الشرع يا كنواخ. أشهدوا على أني قد عزلت نفسي ونهض.
فجاء ابن الشيخ وقال: المصلحة للملك إعادته لئلا يقال لأي شيء عزل القاضي نفسه؟ وتطير الأخبار إلى بغداد، ويشيع أمر عجيبة. فقال له قم إليه، فنهض إلى القاضي وترضاه، وعاد إلى القضاء.
62 - السكير، النفط
كتب عبد الصمد بن المعذل إلى صديق له ولي النفاطات فأظهر تيهاً:
لعمري لقد أظهرت تيهاً كأنما ... توليت للفضل بن مروان عكبرا
دع الكبر واستبق التواضع إنه ... قبيح بوالي النفط أن يتغيرا
من أجل عيون النفط أحدثت نخوة ... فكيف به لو كان مسكاً وعنبرا
63 - كيف ترى هذا الفقه
في (تلبيس إبليس) لابن الجوزي:(203/53)
قال عبد الرحيم بن جعفر السيرافي الفقيه: حضرت بشيراز عند قاضيها أبي سعيد بشر بن حسن الداودي وقد ارتفع إليه صوفي وصوفية (وأمر الصوفية هناك مفرط جداً حتى يقال إن عددهم ألوف) فاستعدت الصوفية على زوجها إلى القاضي. فلما حضر قالت له: أيها القاضي إن هذا زوجي ويريد أن يطلقني وليس له ذلك، فإن رأيت أن تمنعه. فأخذ القاضي يتعجب، وحنق على مذاهب الصوفية ثم قال لها: وكيف ليس له ذلك؟ قالت: لأنه تزوج بي ومعناه قائم بي، والآن هو يذكر أن معناه قد انقضى مني، وأنا معناي قائم فيه ما انقضى فيجب عليه أن يصبر حتى ينقضي معناي منه كما انقضى معناه مني.
فقال لي القاضي: كيف ترى هذا الفقه؟! ثم أصلح بينهما وخرجا من غير طلاق.
64 - أما بشرع محمد من أين لك؟
قال هبة الله بن الفضل في يحيى بن المظفر بابن المرخم:
يا ابن المرخم، صرت فينا قاضياً ... خزف الزمان تراه أم جن الفلك؟
إن كنت تحكم بالنجوم فربما ... أما بشرع محمد من أين لك؟!
65 - أفلا يزول هذا التوهم؟
في (إرشاد الأديب) لياقوت الحموي:
سأل بعض الأكابر من بني طاهر أبا العباس ثعلباً أن يكتب له مصحفاً على مذهب أهل التحقيق فكتب: (والضحي) بالياء. ومذهب الكوفيين أنه إذا كانت كلمة من هذا النحو، أو لها ضمة أو كسرة كتبت بالياء - وإن كانت من ذوات الواو. والبصريون يكتبون بالألف. فنظر المبرد في ذلك المصحف فقال: ينبغي أن يكتب (والضحى) بالألف لأنه من ذوات الواو. فجمع أبن طاهر بينهما. فقال المبرد لثعلب: لم كتبت والضحى بالياء؟
قال: لضمة أوله.
قال: ولم إذا ضم أوله - وهو من ذوات الواو - تكتبه بالياء؟
قال: لأن الضمة تشبه الواو، وما أوله واو يكون آخره ياء، فتوهموا أنه أوله واو.
فقال المبرد: أفلا يزول هذا التوهم إلى يوم القيامة؟!
66 - سرة الدنيا، العروة الوثقى(203/54)
في (البدر الطالع) للشوكاني:
خرج بيبرس العثماني الجاشنكير الملك المظفر للحج بعد سنة (701) وصحبة كثير من الأمراء، فحج بالناس فصنع من المعروف شيئاً كثيراً. ومن محاسنه أنه قلع المسمار الذي كان في وسط الكعبة وكان العوام يسمونه (سرة الدنيا) وينبطح الواحد منهم على وجهه، ويضع سرته مكشوفة عليه. ويعتقد أن من فعل ذلك عتق من النار وكان بدعة سيئة، وكذلك أزال الحلقة التي يسمونها (العروة الوثقى).
67 - وكيف لا تطرب عوديه
القيراطي:
تنفس الصبح فجاءت لنا ... من نحوه الأنفاس مسكيه
وأطربت في العود قمرية ... وكيف لا تطرب عوديه؟
68 - الطبع والتمرين
في (الخصائص) لابن جني:
قرأ السجستاني: قرأ عليّ أعرابي بالحرم: (طيبي لهم وحسن مآب) فقلت له: طوبى، فقال: طيبي، فقلت: طوبى فقال: طيبي. فلما طال على قلت: طو طو، فقال طي طي
أفلا ترى إلى هذا الأعرابي وأنت تعتقده جافياً ركزاً، لا دمثاً ولا طيعاً كيف نبا طبعه عن ثقل الواو إلى الياء، فلم يؤثر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه عن التماس الخفة هز ولا تمرين
69 - والقوم أغصان
حضر الشاعر أبن القيسراني مرة في سماع، وكان المغني حسن الغناء، فلما طربت الجماعة وتواجدوا قال:
والله لو أنصف العشاق أنفسهم ... فدوك منها بما عزوا وما هانوا
ما أنت حين تغني في مجالسهم ... إلا نسيم الصبا والقوم أغصان
70 - الخبز والبقل
في (فتوح البلدان) للبلاذري:(203/55)
قال كثير بن شهاب يوماً: يا غلام، أطعمنا.
فقال: ما عندي إلا خبز وبقل.
فقال: وهل اقتتلت فارس والروم إلا على الخبز والبقل؟؟(203/56)
ميلاد الرسول
للأستاذ محمد الأسمر
فجرٌ أطلّ على الوجود فأطلعا ... شمسين: شمسَ سناً، وشمس هدىً معا
ظلَّتْ مطالع كل شمس لا ترَى ... من بعدِه شيئاً كمكةَ مطلعا
قبس من الرحمنِ لاح فلم يَدعْ ... لألاؤه فوقَ البسيطة موضعا
ما كان ميلادُ الرسول المصطفى ... إلا الربيعَ نضارة وتَضوعا
يوم أغر كفاكَ منه أنه ... يوم كأن الدهر فيه تجمعّا
ويكادُ غابرُ كل يومٍ قبله ... يثني إليه جيدهُ متطلعا
فلو استطاع لكرَّ من أحقابه ... وثْباً على هام السنين ليرجعا
يكادُ مُقبلُ كل يوم بعده ... ينسل من خلف الزمان ليسرعا
فلو استطاع لجاء قبل أوانه ... وأنساب يخترق السنين وأتلعا
تتنافس الأيام في الشرف الذي ... ملأ الوجود فلم يغادرْ أصبعا
خير أفاض الله منه على الورى ... أنّى جرى ترك الجناب الممرعا
وسناً جلاه لتعمُرَ الدنيا به ... من بعد ما كانت خراباً بلقعا
وافى وليلُ الجاهلَّية مُطبق ... فانجاب عن جنباتها وتقشعا
وكذا الهداية إن قذفتَ بها على ... ركن الغواية والضلال تصدعا
نادى إلى الحسنى فلما أعرضوا ... واستكبروا شَرع الرماح فأسمعا
والحقُّ أعزلَ لا يروعُ فأن بدا ... مستلئماً لاقى الطُعاة فروَّعا
والحقُّ أخفى ما يكون مجرداً ... وتراه أوضحَ ما يكونُ مُدرَّعا
والحقُّ ليس بمعتدٍ لكنّه ... إن دافعته يَدُ الضلال تدفعا
مثل الرياحِ جَرت رُخاء ثم لم ... تلبثْ فهبَّتْ بعد ذلك زعزعا
بعض الأنام إذا رأى نور الهدى ... عَرَف الطريقَ ولم يضلَّ المهيعا
ومن البريَّة معشرٌ لا ينتهي ... عن غيِّه حتى يخاف ويفزعا
إن الرسولَ محمداً صبحٌ بدا ... من راح يعثُر في سناهُ فلالعا
وافى بها بيضاَء عدل كلها ... لا تلفينَّ بها الضعيفَ مُضيَّعا(203/57)
الناسُ كلهمُ سواسية بها ... لا (قيصراً) تلقى بها أو (تُبعّا)
دخلت على الجبروت وهو ُمقَطِّب ... صَلَفاً فأبصر وجهها فتفزعا
وأبى له حبَّ البقاء وطَبعهُ ... إلا الِصِيالَ فصاولت فتضعضعا
(الفرسُ) و (الرومانُ) لم يعصمهما ... مُلْكُ الممالك كلها أن يُصرَعا
من لم تزعزعه العواصف قبلها ... بعثت له بنسيمها فتزعزعا
ثلت عروش الظالمين ومُلكهم ... وبنت لعرش العدل مُلكاً أوسعا
وجرى العباد على السجيَّةِ سُجدا ... لله، لا لمُسخِّريهم، رُكعا
وتراهمُ حول النبيِّ فلا ترى ... مُتملقاً أو خائفاً متخشِّعاً
دينُ المساواةِ الصحيحة دِينه ... يرعاهمُ في الله أشفق من رعى
جاءت له الدنيا فأعرض زاهداً ... يبغي من الأخرى المكان الأرفعا
ما جرَّ أثواب الحرير ولا مشى ... بالتاجِ من فوق الجبين مُرصعَّا
من ألبس الدنيا السعادة حُلّة ... فَضفْاضة، لبِس القميص مُرقعا
وهو الذي لو شاء نالت كفه ... كلَّ الذي فوق البسيطة أجمعا
لم يبغها مُلكاً عضوضاً بل دعى ... لله لا لسواه أفضل من دعى
يا مصطفى أدعوكَ دعوة شاعر ... وأفي إليك بشعره متشفعا
هب لي من النفحات ما أشفي به ... نفساً معذبة وقلباً موجعاً
فلعلَّ صدراً أن تزول همومه ... وعليلَ قوم أن يصح وينفعا
ولعل ذابلة الرجاء ينالها ... بلل من الغيث العميم فتينعا
صلى عليك الله جل جلاله ... دينا وأخرى شافعاً ومشفّعا
محمد الأسمر(203/58)
هدية الشاعر للشاعر
أهدى الأستاذ عبد الله حبيب إلى صديقه الأستاذ أحمد رامي
زهرة ومعها هذان البيتان:
قطفتها في صبحيَ الباكر ... هدية الشاعر للشاعر
فأنعم بها إذ أنت أولى بها ... من كل من مر على خاطري
فتقبلها شاعر الشباب وأجابه بهذين البيتين:
يا مهدياً من زهرك العاطر ... آنست روحي بالجنّي الباكر
ذكرتني والصبح في مهده ... وأنت مرسوم على خاطري(203/59)
رسالة الشباب
شبابنا والسياسة
تدعو الرسالة الشباب دعوة حرة جريئة إلى العمل السياسي، وقد يعجم على بعض الناس غرض الرسالة من دعواتها، وينبهم عليهم وجه الحق والمصلحة فيها.
وإنما تريد الرسالة ونريد معها شباباً مطبوعاً على الوطنية قد سرت في دمه مسرى الدم الحار في عروقه، وتشبعت بها روحه واستبطنتها نفسه، فصارت جزءاً منها لا وطنية مصطنعة زائفة تلبس وتخلع كالرداء.
نريد شباباً غزلاً كلفاً صباً لا بالحور الحسان والخرد الغيد، ولكن بحب مصر. نريد منهم وطنية تفيضها الغريزة لا تكلف فيها ولا تعمل، تنتقل بقانون الوراثة من الأجداد إلى الأحفاد كما تنتقل مميزات الشعوب الراقية من السلف إلى الخلف: أي نريدها خلقاً لا حرفة.
نريدها وطنية طاهرة نقية كنفوس الشباب لم تلوثها جراثيم المنفعة ولا أرجاس الأهواء والشهوات، تسمو سمو المثل العليا لا تسف بالتطبيق المحرف الخاطئ.
نريدها وطنية عامة شاملة تسع الدولة والمواطنين وتسوي بينهم، لا وطنية ضيقة العطن محدودة المدلول محصورة بالأحزاب والأشخاص. يجب أن ينبلج الصبح على أعين نفر من النفعيين يحرمون على الشباب الاشتغال بالسياسة كأن السياسة حرفة لا تحترف إلا بترخيص. يجب أن تحشد جميع قوى الأمة لمصلحة الأمة فيعمل الكل في حقل الوطن لينتج للوطن.
إن الحياة صراع وغلاب ولا سيما في عصر الكهرباء والكيمياء واللاسلكي، فليس من سداد الرأي ولا من بعد النظر أن تحيا الأمة عالة على زعمائها؛ وليس معنى هذا ألا يكون للشعب زعماء، ولكننا ندعو كل فرد أن يكون بنفسه دائرة كهربائية تامة، فإذا ما وصل بينها واجتمع شتيتها ووجهتها زعامتها الرشيدة كانت قوة لا تغلب.
إن نظرة فاحصة إلى ألمانيا وإيطاليا وتركيا تؤيد ما نقول، فانك لا تسمع اسم إحداها إلا وتصورتها كتلة واحدة من القوة مندفعة نحو غايتها كأنها قنبلة انطلقت من فوهة مدفع، وإن دخانها وجلجلة صوتها وصخب قصفها لكاف في شق طريقها وتعبيد مسراها بله كتلتها(203/60)
وجرمها.
نريد شباباً يفهم ما يريد، ويعمل ما يفهم، ويحمي ما يعمل، ويحب ما يحمي، ويضحي بدمه وروحه في سبيل ما يحب.
نريد هذا الشباب الذي يحول التاريخ إلى الوجهة التي يجب أن تكون وجهه العز والكرامة، الشباب الذي يعمل تاريخ جيله بقصد وتعمد، لا الشباب الذي يقف من تاريخ جيله على الحياد ويدع الظروف والمؤثرات تكتب هذا التاريخ.
نريد جيلاً صلباً متعصباً سليماً من المرونة والرخاوة يقف كالشلال، لا جيلاً خفيفاً كالخشبة الطافية على سطح الماء يقذف بها أنى يشاء وكيف شاء. نريد أن نكتب كما كتبنا أسطع السطور في سجل تاريخ الإنسانية الخالد!
عبد العزيز بيومي غفاري
بالقايات(203/61)
واجب الكتاب والمفكرين
. . . . . . رئيس تحرير الرسالة
أشكر للرسالة الغراء اهتمامها بتوجيه الشباب إلى الغاية المثلى في عهدنا الحديث، وأؤيد بقلبي ويدي أخي الشاب الذي اقترح (زحف الشباب الاجتماعي) ولكني أشعر بأن الشباب حين يبدأ العمل سيعمل من غير خطط ولا رسوم ولا تقارير ولا أدلة. فقد كان من الواجب على الكتاب والمفكرين وهم الأطباء الاجتماعيون أن يشرحوا أدواء الأمة شرحاً دقيقاً في كل ناحية من نواحي الحياة، ثم يصفوا العلاج ويجعلوا التمريض والتنفيذ على عواتق الشباب. فأننا إذا استثنينا الفصول التي تكتبها الآنسة الأدبية (ابنة الشاطئ) في أحوال القرية وبؤس القرويين لا نكاد نجد كاتباً واحداً درس حالة من أحوال الأمة. ليقم الطبيب والمهندس والزراعي والأديب بدرس هذه الأحوال كل في دائرة اختصاصه حتى يعمل العامل عن خبرة، ويتقدم الدليل عن هداية، وبذلك تقوم الجهود على أساس قوى ومنهاج واضح ونظام صحيح. . .
مصطفى كامل
المحامي
(المحرر) ملاحظة الأستاذ الكاتب سديدة، فأن نهضتنا الأدبية قد بدأت بإحياء آثار السلف فعرفنا عن القديم أكثر مما نعرف عن الحديث؛ ثم انصرفت إلى النقل عن الغرب فعلمنا عن أوربا أكثر مما نعلم عن مصر؛ وظلت قوانا مجهولة لم تكشف وعللنا مدفونة لم تعرف. وأقتصر كتابنا على معالجة بعض المسائل السهلة من طريق القصة أو الصورة، ووقف زعماؤنا عند المقالات الصحفية التي تنطوي مع اليوم والخطب السياسية التي تذهب مع الساعة. أنا نريد كما قال الكاتب الفاضل كتباً تعالج المسائل العامة عن اختصاص ودرس، وترسم المناهج الإصلاحية عن دراية وتبرز ما دق عن الشعور من آفات المجتمع في جلاء وصدق. فهل تتجه أفكار الكتاب، إلى ما اتجهت إليه رغائب الشباب؟(203/62)
اهتمام الشباب بالشؤون العامة
. . . محرر صحيفة الشباب
كان لما كتبتموه في هذه الصحيفة عن ضرورة اهتمام الشباب بالشؤون العامة أثره البليغ في نفسي. فقد حملني ذلك على أن أفكر في غفلة الشعب عن الأمور العامة وحصره كل أفكاره وأعماله في دائرة عمله اليومي، فوجدت أن واحداُ في الألف هو الذي يتتبع مجاري الأمور، ويعني بشؤون مواطنيه وسياسة وطنه، وربما تجد قرى بأسرها لا تقرأ جريدة ولا تتصل بالعالم. وكل ما يهم الفلاح هو زراعة أرضه وأسعار محاصيله. ومن الصعب أن يتكون في الأمة رأي عام محترم إذا بقي حال الأفراد على هذه الحال فدخول الشباب المثقف في الميادين الاجتماعية والاقتصادية بالدعوة والإرشاد يفتح عيون العامة على الحياة الصحيحة فتتسع أفكارهم، وتبعد آمالهم، وينشأ فيهم الطموح إلى الأحسن. والنزوع إلى الأكمل، والشعور بأن الوطن وطنهم والحكومة حكومتهم، فإذا قدموا أبنائهم إلى العسكرية قدموهم مغتبطين لأنهم يدافعون عن أنفسهم؛ وإذا أدوا الضرائب أدوها راضين لأنهم ينفقون على مصلحتهم. وقد لمست أثر دعوتكم في نفسي فأصبحت أقرأ صحيفتي اليومية بروح جديدة واهتمام قوي.
كنت آخذ الصحيفة فأمر على عناوينها مراً لأتخير ما يستفز اهتمامي من أمور قد لا تتعدى مسألة اليوم وأخبار الملاهي والسينما، وهأنذا اليوم أحرص على تتبع الشؤون الداخلية كرجل ذي علاقة وثيقة بها، فأصبحت أقرأ أخبار المصالح المختلفة وكأنها تهمني مباشرة، وأمسيت أتتبع مناقشات البرلمان. ولا أكتمك أني حين قدمت الميزانية إلى المجلس كنت وأنا أقرأ مقدمة وزير المالية أتخيل نفسي زعيم المعارضة فأقرأها وأناقشها، فلما قرأت رد المعارضين تصورت نفسي وزير المالية فرحت أحاول الرد عليها وتبرير موقفي. وهكذا حالي مع كل ما يجد في البلد من أحوال وأخبار
هذه آثار دعوتكم في نفسي ولعل أثرها يكون في أخواني الشباب أبلغ مدى وأعمق أثراً. . . . . .
(الجيزة)
مختار يونس(203/63)
رسالة العلم
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي بك
مدير مصلحة الكيمياء
وكان يضحك كلما جاء النبأ بأن بعض أعوانه يقول عنه إنه مخبول، كان في كل حجرة من هذا البيت وفي كل مكان، ولكنك دائماً مستطيع معرفة مكانه وحصره في الناحية التي هو فيها وذلك من صوته الذي لا يفتأ يتردد ينادي في الردهات: (يا قدريت. . . يا قدريت! أين سجائري. . . هات مائي المعدني. . .!)
- 5 -
وخاب أمر الأصباغ خيبة كبرى، وجرى الحديث تمتمه بين الكيميائيين أن إرليش رجل غبي لا يفهم، ولكن يجب أن تذكر دائماً أن إرليش كان يقرأ الكتب، فذات يوم كان جالساً في مكتبه على كرسي خلا مصادفة من الكتب التي تراكمت عليه وعلى غيره. وكان يقرأ في المجلات الكيمياوية كبعض قدماء الحكماء يبحثون عن حجر الفلاسفة، فإذا به يقع على عقار من أخبث العقاقير. وكان اسمه أتكسيل ومعناه غير السام، وكان هذا العقار شفى الفئران من مرض النوم، أو كاد؛ وكان قتل فيراناً ليس بها مرض النوم؛ وكان قد جرب في بعض أهل السواد في أفريقا عسى أن يشفيهم من مرض النوم فلم يشفهم، بل أصاب عدداً وفيراً منهم بالعمى فتم عماهم قبل أن يدركهم الموت من دائهم. فهذا عقار مروع لو أن مركبه كان حياً لأختزى منها وأستبرأ. وكان تركيبه من حلقة بنزين، وهي مكونة من ست ذرات من الكربون قامت في حلقة كالخاتم كأنما يطارد بعضها بعضاً في دائرة كالكلب يدور حول نفسه يريد أن يعض ذيله؛ ويتركب عدا ذلك من أربع ذرات من الأدروجين، وشيء من النشادر، وبعض أكسيد الزرنيخ، وهذا الأخير يعلم الناس أنه سم زعاف.
قال إرليش: (علينا أن نغير من تركيب هذا العقار قليلاً) قال هذا وهو يعلم أن الكيميائيين(203/65)
الذين ابتدعوه قالوا إنه تركب بحيث أن أي تغيير يلحقه يفسده؛ ولكن إرليش لم يستمع لما قالوا، وظل يقضي بعد ظهر كل يوم في معمله وحده يبذل في العمل كل نشاطه. وكان معملاً ليس كمثله معمل في الدنيا فلم يكن به معوجات ولا كؤوس ولا قنينات ولا ترمومترات ولا أفران. حتى ولا ميزان واحد. كان في فقره كمنضدة صيدلاني بقرية يمزج عليها ما يطلب إليه من بسائط الأدوية عند فراغه من مكتب البريد الذي يتولى إدارته أيضاً. فان كان بينهما فرق فهو في أن معمل إرليش كانت في وسطه منضدة كبيرة جداً ترصصت عليها صفوف وصفوف من قنينات، قنينات عليها أسماء أوراق باسمها، وقنينات ليس عليها أسم لها، ثم قنينات عليها أسماء لا تقرأ من سوء ما كتبت أو مما سال على ظواهرها من بواطن القنينات من أصباغ قرمزية طمست أسماءها. ولكن إرليش وعى كل تلك الأسماء برغم هذا. ومن وسط أحراج الزجاجات هذه خرج رأس مصباح بنسن واحد يبعث فوق أرؤسها بلهبه الأزرق. فأي كيميائي لا يضحك من هذا المعمل؟
وفي هذا المعمل لعب إرليش بعقاره اتكسيل. وكم صاح وهو يبعث به: (هذا جميل)! (هذا بديع)، (هذا فوق التصديق)، وهو أثناء ذلك يملي على الآنسة مركرت ويا طول ما صبرت، أو يصرخ إلى السيد قدريت في طلب هذا أو ذاك. وشاءت الأقدار أن تمنحه ذكاء كيماوياً شاذاً تمنحه البحاث أحياناً ممن ليس في مقدورهم بالطبع أو بالتطبع أن يكونوا كيماويين، فإذا به يجد أن هذا العقار قابل للتغيير، لا قليلاً بل كثيراً، وأنه يمكن تشكيله أشكالاً عدة لم يسمع بها من قبل، دون أدنى مساس بما بين الزرنيخ وحلقة البنزين.
(أنا أستطيع أن أغير الأتكسيل). وخرج يهلع بلا قبعة ولا معطف إلى معمل برتهايم معمل كيميائيه الأول أو رئيس أرقائه، وصاح فيه: إن الأتكسيل يمكن تغييره؛ ولعلنا نستطيع تغييره إلى مائة مركب، أو إلى ألف مركب من مركبات الزرنيخ. وهاك كيف يكون هذا (يا عزيزي برتهايم). وأخذ يشرح ألف طريقة لإحداث هذا التغيير. فماذا صنع برتهايم؟ بالطبع انصاع، وكيف يستطيع أن يقف جامداً أمام (يا عزيزي برتهايم)؟
وجاءت سنتان أشتغل فيهما كل من في المعمل من ألمانيين ويابانيين، ومن بعض اليهود، وكل من فيه وما فيه من رجال وفئران، غير ناسين الآنسة مركرت ولا الآنسة ليوبلد وغير ناسين السيد قدريت بجلال قدره. اشتغلوا جميعاً وكدحوا كدحاً، وأجهدوا أنفسهم(203/66)
إجهاداً، في مثابرة ومصابرة، حتى صار المعمل كبعض مصاهر الجن يعمل فيها كل عفريت مريد. وفيه جربوا هذه المادة، ثم هذه، حتى بلغ ما امتحنوه من مركبات الزرنيخ 606 مركب وقعوا جميعاً تحت تأثير عفريتهم الأكبر، فلم يفرغ أحدهم ليفكر في بطلان ما يصنعون، وفي استحالة ما يطلبون، وهو قلب الزرنيخ من سم معروف محبب لدى كل مجرم قاتل، إلى دواء وشفاء لم يجزم أحد بجواز وجوده، لداء لم يحلم إرليش أبداً بجواز شفائه. نعم وقع هؤلاء الأرقاء جميعاً تحت تأثير إرليش فكدحوا على نمط لا يجري عليه الرجال في كدحهم إلا إذا حفزهم إليه رجل متعصب عصي مثله، رجل خدد العزم جبهته ورقق حب الخير من عينيه.
وغيروا الأتكسيل! واشتقوا من تركيبه مركبات زرنيخ عجيبة شفت الفئران فعلاً. ويكادون يصيحون صيحة الفرح والنصر، ولكن الحظ يدير لهم ظهره فيجدون أن المكروب الفظيع، مكروب داء الورك، يذهب حقاً من الفئران، ولكن الزرنيخ يحيل دماءها الثخينة إلى سائل رقيق، أو هو يصيبها بالصفراء فتقتلها. . . . . . ومن أدوية الزرنيخ هذه ما جعل الفئران ترقص رقصاً، فهل تصدق هذا يا صاحبي! نعم جعلتها ترقص رقصاً، ولم ترقص دقيقة ثم تسكن، بل تدور ثم تدور، وتنط ثم تنط طول حياتها. عذاب مرير لها بعد شفائها من دائها ما كان يخطر على بال الشيطان لو أراده. ضاع الأمل في الدواء الكامل، وأي أمل لا يضيع بعد الذي كان. إلا أمل إرليش. كتب يقول: أنه ليسرنا أن نجد أن الضرر الوحيد الذي أصاب الفئران من الدواء أنه قلبها فصارت فئراناً راقصة. والذين يزورون معملي سيدهشون لكثرة ما يجدون فيه من الفئران الراقصة. . .) فأي رجل ملئ بالأمل والحياة!
واصطنعوا مركبات لا حصر لها؛ وكان جهادهم في كل هذا جهاد المستيئس المستبسل حين لا أمل ولا رجاء. وطلع لهم فيما طلع أحجية غريبة: وجد إرليش أن جرعة الزرنيخ الكبيرة يعطاها الحيوان دفعة واحدة تكون خطرة على حياته فجزأها إلى أجزاء صغيرة وأعطاها إياه ورجا الخير من بعد ذلك، ولكن النحس تبعه بالخيبة، فالتريبنسومات اعتادت بالتدرج على الزرنيخ فتمنعت عليه ورفضت أن تقتل به. والنتيجة أن الفئران مشت إلى فنائها أفواجاً أفواجا.
فهذا ما كان مآل المركبات الكيمياوية الزرنيخية الخمسمائة والخمسة والتسعين الأولى،(203/67)
تتابعت جميعاً يحدوها الرجاء وانتهت جميعاً إلى نهاية واحدة متكررة فاشلة تسقط لها القلوب في الصدور، ولكن بول إرليش ثبت على أبتسامته، وظل ينعش نفسه بأقاصيص يخترعها عن دواء جديد مؤمل منشود. وعلم الله وأكدت الطبيعة ما كانت إلا أقاصيص أكاذيب لا تحتمل نقداً ولا تجيزها طبائع الأمور. وأخذ يرسم الرسوم لبرتهايم ورجاله، رسوماً خيالية لمركبات زرنيخية علموا في قرارة أنفسهم وهم الخبراء أنها لن تكون. وظل يرسم لهم ثم يرسم، وهم يعلمون من الكيمياء فوق ما علم حتى ملأ بمخطوطاته أوراقاً لا عد لها. ورسم لهم في المطاعم على جداول المأكولات، وفي الخمارات على جداول المشروبات. وهال رجاله فقدانه الحس بما بين الممكن والمستحيل، ولكنهم عدتهم حماسته التي لا تحد، وجموحه الذي لا يرد، وعناد البغال الذي لا تنفع معه مجادلة أو مسايسة. قالوا: (ما أجمل تحمسه وتحرقه!)، وتحرقوا مثله. وانتهى إرليش بأن استنفد كل ما عنده من جهد، وأحرق شمعته من طرفيها، حتى بلغ أمله المنشود، وطلع عليه يومه الأسطع المأمول، وذلك في عام 1909.
- 6 -
أشعل شمعته من طرفيها، وفعل ما فعله طارق حين حرق سفائنه، لأنه كان قد فات الخمسين ربيعاً ولم يبق من عمره غير القليل القصير. وبذلك عثر على المركب الشهير برقم 606. وأعلم أنه ما كان بمستطيع إيجاده لولا معونة خبيره العالم برتهايم. وهو مركب استخدم في تركيبه كل حذق الكيمياء، وركب في جو مخطر لكثرة ما يملؤه من أبخرة الأثير، وهي أبخرة تنذر في كل وقت بالتفرقع والحريق. وهو عدا هذا مركب حساس سريع التلف يحيله القليل الذي يمسه من الهواء من دواء معتدل التأثير إلى سم بالغ المفعول قتال.
هذا هو المركب الشهير رقم 606، وهو يستمتع باسم طويل: فاني أكسي ثاني أمينو أرسينو بنزول ثاني هيدروكلوريد. وكان غلوه في الفتك بالتريبنسومات كغلوه في الطول، فحقنة واحدة منه تكسح دم الفأر كسحاً من كل ما به من تريبنسومات داء الورك فلا تترك واحدة منها تحكي للخلف أخبار السلف.
وهو عدا ذلك كان مأموناً جداً برغم انه مثقل بالزرنيخ، ذلك السم المختار المحبب إلى كل(203/68)
قاتل أثيم. وهو لم يعم الفئران، ولم يحل دمهم فيرق، ولم يرقصهم رقصة العذاب المذكورة، واختصاراً كان عقاراً مأمون الضرر محقق النفع
قال قدريت بذكر هذه الأيام بعد فواتها بزمن طويل: (تلك كانت الأيام) وما كان بالشاب عندها، فقد كان سبق الكبر إليه فصلب من دعوه، وذهب بالمرونة من عضلاته، ولكنه ظل يدب وراء (الأستاذ) يعنى به ويسد من طلباته. قال قدريت (تلك كانت أيامنا أيام كشفنا عن رقم 606) وأي والله تلك كانت الأيام! وأي أيام أصابتها ما أصابت هذه من الحمى، وأي أيام حظيت من الجنون والعمل الخابط الراقع الجموح بمثل ما حظيت به هذه؛ اللهم إلا أيام بستور وصار رقم 606 يشفى من مرض الورك فتطيب منه الفئران وأعجاز الخيول، ولكن ماذا بعد هذا؟ وهنا يدخل الحظ في تسيير الأمور، فيذكر إرليش نظرية قديمة خاطئة كان قرأها لرجل ألماني عالم في الحيوان أسمه شودين قرأ إرليش في عام 1906 أن شودين اكتشف مكروباً لولبياً رفيعاً باهتاً أشبه ببريمة الفلين، ولكن دون يدها؛ وكان اكتشافاً باهراً هذا الذي اكتشفه شودين. ووددت لو أتسع المقام لأحدثكم عن هذا الرجل وعن تعصبه وعن شربه الخمر وإسرافه حتى تتراءى لعينه غرائب الأطياف والخيالات. وسمى هذا المكروب إسبيروشيتا باليدا وأثبت أنه سبب الداء الرذيل المعروف بالزهري.
لم يفت إرليش، وهو القارىء كل شيء، أن يقرأ هذا الاكتشاف، ولكن رسخ في ذاكرته أكثر من كل شيء أن شودين قال: (أن هذا المكروب الباهت يدخل في نطاق المملكة الحيوانية، فهو ليس من مملكة النبات كالبكتريا. والحق أنه قريب الصلة بالتريبنسومات، وقد ينقلب إليها أحياناً
بالطبع هذا لم يكن غير حدس وتخمين رمى به خيال شودين رمياً، ولكنه فعل بعقل إرليش الأفاعيل. قال إرليش: (إذا كانت الاسبيروشيتات بنات عمات التريبنسومات إذن فمركب رقم 606 لا بد قاتل الأخيرة كما قتل الأولى).
ولم يعن إرليش أقل عناية، أو يعكر صفو مزاجه أقل تعكير، تلك الحقيقة الواقعة وهي أن أحداً من الناس لم يثبت قط أن هذه المكروبات بنات عمات، وما مثله من يعنى بمثل ذلك. . . ومن هذا مشى قدماً إلى يوم مجده الأكبر.
(يتبع)(203/69)
احمد زكي(203/70)
رسالة الفن
ليوناردو دافينشي
الرجل الكامل
للدكتور احمد موسى
- 2 -
أما المرحلة الثانية من حياته فقد بدأت عندما استدعاه الدوق لودوفيتشو سفورزا للتوجه سنة 1483 إلى ميلانو. وهناك استمتع بأجمل أيام حياته، لأن الدوق نظر إليه نظرة الرجل المؤثر الذي يقدر الفن ويجله، نظرة الرجل الذي يعلم بأنه لا معنى للحياة بدون الفن، فإذا كان الدوق غنياً ومقدراً للفن، فهذا معناه أن ليوناردو قد وفق إلى وجود الشخصية التي تعمل على تشجيعه ومعرفة قدره، فعمل بكل قواه على إظهار مواهبه، فكان معمارياً ومهندساً وعالماً ومشجعاً للأكاديمية كما كان نحاتاً ومصوراً.
وله في هذه المرحلة لوحات رائعة منها صورة الدوق وصورة لعائلته، ولوحات لبعض رؤوس غاية في القوة والجمال.
وأهم أعماله في هذه المرحلة، بل وفي حياته كلها صورته المعروفة (العشاء الأخير) والمحفوظة بدير القديسة ماريا في ميلانو. صورها في سنتين، وهي للأسف في حالة غير مرضية الآن، ولكن لحسن الحظ أن منها جملة لوحات مقلدة متقنة ومعاصرة لها. وهذه اللوحة تمثل المسيح، وقد توسط تلامذته الإثنى عشر مجتمعين حول مائدة بعضهم جالس والبعض الأخر واقف، وأمامهم الخبز والأطباق وأكواب الشراب. قال المسيح لتلامذته: (إن أحدكم سيسلمني) فما كان من تلاميذه إلا أن أتجه بعضهم إليه وبعضهم إلى بعض متسائلين مستفسرين، متألمين خائفين، تمثل الوجد على وجه كل منهم، فبعضهم أشار بأصبعه، والبعض أشار بيديه.
أنظر إلى ش - 2 - وتأمل القوة الإنشائية والإخراج العظيم ترى الوجوه الثلاثة عشرة مختلفة الوضع والتفاصيل والتكوين الكلي، والحركة البادية والمعنى الذي يعبر عنه كل منهم في منتهى الرقة والحسن.(203/71)
أما التوازن البادي على مجموعهما الشكلي والوضعي فهو عظيم وأما اختلاف التكوين الجسماني لكل منهم، واختلاف الطريقة التي يجلس أو يشير بها، فهي رائعة، لأن هذا الاختلاف لم يذهب بك إلى منتهى حسن الانسجام وكمال الاندماج.
أنظر إلى الأيدي، وتأمل الأكف التي استطاع بها ليوناردو إخراج ست وعشرين يداً، لا ترى منها واحدة تشبه الأخرى، أليس هذا منتهى ما يطمح إليه فنان؟ لم يترك ليوناردو الحوائط دون تحلية، ولم يفته أن يصور لك منظراً ظهرت بعض أجزائه من خلال الباب والشباكين في مؤخر للصورة. فكأن هذه القطعة لم تخلد مجد ليوناردو فحسب؛ بل هي لوحة من اللوحات الخالدة الفذة في تاريخ الفن كله.
وبدأت المرحلة الثالثة من مراحل حياته عندما غادر ميلانو سنة 1499 متنقلا حتى وصل البندقية (1503 - 1506) ثم فلورنسوا (1506 - 1516) ثم غادرها إلى فرنسا لخدمة الملك فرانس الأول سنة 1516 وعاش في قصر كلو حتى وفاته في 2 مايو سنة 1519 بعد بلوغه السابعة والستين.
وقد أنتج في هذه المرحلة لوحات كثيرة أيضاً، منها لوحة القديسة أنا، والقديسة مريا، وعيسى ويوحنا بأكاديمية لندن، وكلها برؤوس هائلة رائعة، امتزج فيها الظل بالنور امتزاجاً لا يستطيعه إلا ليوناردو. وبعض هذه الصور كان على الكرتون الذي خصصه لتصميم رسم لعمل الفسيفساء في بيت البلدية بفلورنسا منها قطعة أسماها مذبحة انجيارى. وقد فقدت هذه الكارتونات ماعدا القطعة الوسطى منها التي مثلت المقاتلة على العلم، وهذه القطعة ش - 3 - قد نقلها الفنان روبنز (راجع الرسالة بتاريخ 3 يناير سنة 1937) عن الأصل وهي محفوظة باللوفر.
والناظر إليها يرى العنف والشدة يتمثلان في كل جزء من أجزائها، ولعلنا نستطيع أن نعرف أثر الفن الإغريقي في ليوناردو وعندما نتذكر تلك الصور التي شملها مقالنا عن منحوتات معبد بارتنون (أكروبوليس أثينا).
وله لوحة هي أجمل ما صوره دون منازع، ألا وهي (موناليزا) محفوظة باللوفر، ولا يمكن مهما حاولنا الوصف أن نقدر جمال هذه القطعة ش - 4 - دون مشاهدتها في الأصل بألوانها الطبيعية الخلابة التي تمثل الجمال الإيطالي في أسمى مظهر له انظر إلى ابتسامتها(203/72)
الساحرة الخالدة التي تجذب إليها المشاهد الراغب في الجمال النبيل.
وله غير ذلك لوحات فذة إلى جانب لوحاته الخطية بالقلم الرصاص وهي أيضاً من أروع ما يمكن تصويره إطلاقاً، منها جزء محفوظ باللوفر وفينيسيا وميلانو.
احمد موسى(203/73)
البريد الأدبي
معهد للدراسات الإسلامية بالجامعة المصرية
قرر مجلس إدارة الجامعة المصرية أن ينشئ معهداً جديداً للدراسات الإسلامية يلحق بكلية الآداب: وقد نص في مشروع تنظيم هذا المعهد الجديد أن الغرض من إنشائه (تمكين الأساتذة والطلاب من العناية المنظمة بالعلوم الإسلامية من طريق الدرس والبحث ونشر النصوص القديمة. ومن طريق التأليف والترجمة أيضاً. وتبيين مدى ما كان من صلة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية): وأما العلوم التي ستدرس في هذا المعهد فهي القرآن الكريم وما يتصل به من العلوم، والحديث وما يتصل به، والفقه وأصوله، والتاريخ الإسلامي وعلومه، واللغة العربية وعلومها وصلتها بالدين الإسلامي، واللغات الشرقية الإسلامية وآدابها من حيث صلتها بالدين الإسلامي وسيعتبر المعهد من المعاهد العالية ولا يلتحق به إلا من يحمل ليسانس الآداب، أو ما يعادلها. ومدة الدراسة فيه سنتان. وسيجري على قاعدة التخصص، فيتخصص الطالب في إحدى المواد المذكورة ويتقدم إلى نيل الدبلوم برسالة في مادته.
وهذه خطوة موفقة في الواقع. فقد كانت الدراسات الإسلامية في الجامعة إلى اليوم مشتتة مبعثرة، ولم تكن برامج كلية الآداب المقتضبة لتسمح بالتوسع في هذه الدراسات إلى الغاية المقصودة؛ وكان مما يبعث على الأسف أن نجد في كثير من الجامعات الأوربية الكبرى معاهد خاصة بالدراسات الإسلامية ولا نجد لها في جامعتنا المصرية نظيراً. نعم إن العلوم التي ستدرس في المعهد الجديد يدرس معظمها في الجامع الأزهر، ولكن الدراسة الأزهرية لهذه العلوم لا تجري على القواعد العلمية الحديثة ولم تحقق حتى اليوم آمال أنصار الثقافة الإسلامية في ميدان التخصص المستنير والتحقيق العلمي الصحيح.
الأستاذ ليفي بروفنسال
وفد على القاهرة منذ أيام العلامة المستشرق الأستاذ ليفي بروفنسال عميد معهد الدراسات الإسلامية برباط المغرب ليقوم ببعض بحوث في مخطوطات بدار الكتب المصرية. والأستاذ بروفنسال من أكبر الأخصائيين في عصرنا في تاريخ الأندلس والمغرب أو كما يسميه تاريخ الغرب الإسلامي. وهو منذ ثلاثين عاماً يحقق وينقب في هذا الميدان؛ وله فيه(203/74)
عدة مؤلفات نفيسة منها بالفرنسية (تاريخ أسبانيا المسلمة في القرن العاشر) و (النقوش العربية في أسبانيا). وقد أصدر طبعة جديدة بالفرنسية لتاريخ العلامة دوزي (تاريخ دولة المسلمين في أسبانيا لغاية الفتح الرابطي) مقروناً بهوامش ومذكرات نفيسة. وأصدر فهرساً جديداً بالفرنسية للمخطوطات العربية في الإسكوريال. ونشر عدة مؤلفات عربية قيمة في تاريخ الأندلس والمغرب منها الجزءان الثالث والرابع من كتاب البيان المغرب لابن العذري المراكشي، وقطعة من تاريخ ابن حيان، وكتاب لأبن البيدق عن أبن تومرت. هذا عدا بحوث عديدة في هذا الباب في المجلة الأسيوية، وفي دائرة المعارف الإسلامية. وقد وفق الأستاذ بروفنسال أيضاً إلى العثور في مكتبات المغرب على عدة مخطوطات نفيسة عن تاريخ المغرب والأندلس منها كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) لابن بسام، ولديه الآن منه نسخة كاملة؛ ومنها الجزء الرابع الذي يحتفظ منه بنسخة وحيدة. ويعني الأستاذ الآن بالعمل لإخراج هذا الأثر النفيس، وقد أعد بالفعل أصول الجزء الأول منه، وربما قرر طبعه بمدينة القاهرة ويعاونه في هذه المهمة الجليلة عدة من الزملاء الأعلام.
لجنة تأبين الرافعي
لبى دعوة الأستاذ محمود بك بسيوني رئيس مجلس الشيوخ بصفته رئيساً للرابطة العربية، لفيف كبير من أئمة الأدب والبيان وأعلام الفكر والقلم للنظر في تأليف اللجنة التي تؤدي واجب الرثاء والذكرى لفقيد العروبة والأدب السيد مصطفى صادق الرافعي. ولما أكتمل عقد الاجتماع طلب سعادة الرئيس وقف الجلسة دقيقتين حداداً على الفقيد الكريم وبعد ذلك شرع في تكوين اللجنة فتم تأليفها على النحو الآتي:
سعادة الأستاذ الكبير محمود بسيوني رئيساً، والأستاذ كامل زيتون سكرتيراً، وحضرات أصحاب العزة والسيادة الدكتور محمد حسين هيكل بك والدكتور منصور فهمي بك وخليل ثابت بك وأنطون الجميل بك وميرزا مهدي رفيع مشكى بك والأستاذ احمد الإسكندري وعبد الحميد سعيد بك والأستاذ محمد توفيق دياب ومصطفى عبد الرازق بك وعلي الجارم بك ومحمد احمد جاد المولى بك وخليل مطران بك والأستاذ محمد مسعود والدكتور محجوب ثابت والأستاذ احمد فريد رفاعي بك والأستاذ احمد أمين والأستاذ أحمد حسن الزيات والسيد محمد الخضر حسين والدكتور زكي مبارك والدكتور احمد نشأت وصالح(203/75)
جودت بك والأستاذ محمد عبد اللطيف دراز والأستاذ سامي السراج والأستاذ خير الدين الزركلي والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني والأستاذ عبد الله عفيفي والسيد عبد المقصود خضر والأستاذ محمد الهراوي والأستاذ محمد الأسمر والأستاذ احمد الزين والأستاذ حسين شفيق المصري والأستاذ حافظ محمود والأستاذ رمزي نظيم أعضاء.
ثم قررت اللجنة ما يلي:
1 - أن يكون موعد الحفلة في أكتوبر المقبل مراعاة لفصل الإجازات الصيفية حتى يتمكن عارفو فضل الفقيد ومحبو آثاره من الاشتراك في هذا الواجب المقدس.
2 - مخاطبة حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية في شأن التصريح بإقامة الحفلة بدار الأوبرا الملكية.
3 - توجيه الدعوة إلى حضرات الأدباء والشعراء بمصر والأقطار العربية الكريمة للاشتراك في تأبين الفقيد وإرسال ما تجود به قرائحهم باسم سكرتير اللجنة الأستاذ كامل زيتون بعنوان الرابطة العربية بحدائق القبة شارع الملك رقم 112.
4 - تكوين لجان من بين حضرات الأعضاء للشعر والنثر والتنظيم والنشر وتفويض كل لجنة في أن تضم إليها من ترى في اشتراكهم تحقيقاً لأغراضهم.
5 - تمثيل الأقطار العربية في لجنة التأبين بقدر المستطاع حتى يقوم الناطقين بالضاد بما يجب عليهم نحو الفقيد الكريم.
6 - تحديد الموضوعات النثرية التي سيتناولها الأدباء لبحثها والكتابة فيها وهي:
(1) تاريخ حياة الفقيد ومؤلفاته.
(2) مكانة الفقيد في الشعر.
(3) المعركة بين القديم والحديث.
(4) أدب الرافعي الديني.
(5) الجوانب الوجدانية في أدب الرافعي.
(6) القصص التاريخي في أدب الرافعي.
(7) أسلوب الرافعي في الكتابة والنقد.
ثم أنفض الاجتماع على أن تكون الجلسة المقبلة في الأسبوع الأول من شهر يونيو المقبل.(203/76)
سكرتير اللجنة: كامل زيتون
تأبين الرافعي في حمص:
لقد عزم فريق من أدباء الشباب الحمصي على أن يقيم حفلة تأبينية كبرى لفقيد البيان العربي المرحوم مصطفى صادق الرافعي، وستكون الدعوة للاشتراك في هذه الحفلة عاماً تضم نخبة ممتازة من أدباء سوريا وشعرائها نخص بالذكر منهم الأساتذة: معروف الأرناءوط، عمر أبو ريشة، سامي الكيالي، رفيق فاخوري، أنور العطار، محمد روحي فيصل، عبد القادر جنيدي، محي الدين الدرويش، رضا صافي، برهان الأتاسي، نذير الحسامي، فؤاد الخوري، بدر الدين الحامد، أحمد نورس، عبد الرحمن أبو قوس.
سكرتير اللجنة: عبد القادر جنيدي
الطب المصري القديم
في سنة 1873 نشر العلامة الأثري الألماني جورج أبرس وثيقة مصرية من البردي وفق إلى العثور عليها، فكان لها وقع عميق في جميع الدوائر العلمية إذ ظهر أنها تحتوي على خلاصة كبيرة من طب المصريين القدماء؛ وهذه الوثيقة التي هي أكبر وثيقة من نوعها ترجع إلى سنة 1550 ق. م. ومن ذلك الحين عثر المنقبون على عدد آخر من الوثائق الفرعونية الطبية، منها وثيقة كاهون التي ترجع إلى سنة 1800 ق. م ووثيقة أدوين سميث التي ترجع إلى سنة 1600 وهي خاصة بالجراحة الفرعونية، ومجموعة برلين الطبية وغيرها. وقد ظهر أخيراً كتاب عن وثائق الطب الفرعونية ولا سيما وثيقة أبرس عنوانه (بردى أبرس بقلم ثلاثة علماء دنماركيين هم: أيبل ولفين ومونكسجارد.
وفي هذا الكتاب شرح واف لوثيقة أبرس وبسط لمحتوياتها الطبية وهي فيما يبدو أثمن مجموعة من نوعها. والظاهر أنها بمثابة شرح عام لقواعد الطب الفرعونية؛ ومعالجة الأمراض المختلفة، وبها عدة أقسام، فمنها مثلاً قسم يتعلق بعلاج الأمراض الباطنية، وآخر بفن الجراحة، وقسم للعقاقير الشافية؛ والظاهر أيضاً أن ما فيها من المعلومات يرجع إلى عصر متأخر عن الذي كتبت فيه. ويقول الدكتور أيبل إن كثيراً من المعلومات تدلل على مبلغ ما وصل إليه الفراعنة في فن الطب والعلاج من البراعة والمقدرة؛ ثم إن كثيراً من(203/77)
العقاقير والعلاجات التي وصفت الأمراض خاصة تدلل على تقدم فن الكيمياء والصيدلة لديهم وعلى وقوفهم على أسرار كثير من الجواهر والعناصر العلاجية المفيدة.
تنظيم أوراق البردي المصرية.
قرأنا في البريد الألماني الأخير نبأ لم يرد في الصحف المصرية، وهو أن الحكومة قد استدعت العلامة الأثري الألماني الدكتور هوجو أبشر مدير قسم المحفوظات الكتابية بمتحف برلين إلى مصر ليقوم بتنظيم أوراق البردي المصرية بالمتحف المصري وقراءة رموزها واتخاذ التحوطات الكيماوية لحفظها. والدكتور أبشر أعظم حجة في قراءة أوراق البردي الفرعونية، وله فوق ذلك مقدرة فنية خاصة في فصلها واستخراجها من رزمها الملصقة، ومن بين لفائف الموميات. ذلك أن أوراق البردي توجد أحياناً ملتصقاً بعضها ببعض بحيث يتعذر فصلها، ولما كانت تكتب غالباً من الجانبين، فإنه يجب بذل جهود فنية دقيقة لفصلها دون أن تمزق. وهذا هو فن الدكتور أبشر فهو يتولى فصلها وجمع قطعها ثم قراءتها.
وقد أشتهر الدكتور أبشر بالأخص بتنظيم مجموعة البردي الخاصة بالفيلسوف ماني، والتي وجدت بالفيوم منذ أعوام وتسربت إلى خارج مصر. واستطاع تصنيفها واستخراج صحائفها سليمة، ومنها كتب بأسرها من كتب ماني. والمنظور أن يقضي الدكتور أبشر بمصر ثلاثة أشهر ليقوم بمهمته العلمية والأثرية الدقيقة؛ لأن مصر تحتفظ بثروة طائلة من هذه الأوراق الأثرية النفيسة.
ذكرى الموسيقي فاجنر.
تحتفل مدينة لايبزج في العام القادم بذكرى الموسيقي الشهير ريخارد فاجنر لمناسبة مرور مائة وخمسة وعشرين عاماً على مولده ومرور خمسة وخمسين عاماً على وفاته؛ وبهذه المناسبة ستمثل في مسرح لايبزج جميع أوبراته الشهيرة، وستقوم بتنفيذها فرقة تحرص على تقاليد الموسيقي الكبير وسيحتفل في نفس الوقت بإزاحة الستار عن أثر عظيم لفاجنر.(203/78)
رسالة النقد
إسماعيل المفترى عليه
تأليف القاضي بيير كربتيس
وترجمة الأستاذ فؤاد صروف
للأستاذ الغنيمي
- 6 -
عرضنا على القارئ في المقالات الخمس السابقة أمثلة من الأغلاط التي يجدها القارئ في ترجمة الأستاذ صروف، ولقد وصلنا في نقدنا إلى الفصل السادس من الكتاب ونظن أن الأمثلة التي ذكرناها تكفي لأن تعطي القارئ فكرة صحيحة عن هذه الترجمة؛ وقد كانت معظم الأغلاط التي ذكرناها إما عبارات محذوفة رغم أهميتها، وإما عبارات أضافها المؤلف من عنده غيرت المعنى، وإما جملاً ترجمت ترجمة خاطئة أفسدته. وقد ذكرنا مثلاً أو مثلين من العبارات الغامضة التي لا يستطيع القارئ أن يفهم لها معنى. وسنلقي نظرة عاجلة على الفصول الباقية من الكتاب ونمر بها مراً سريعاً وسنضرب صفحاً عن العبارات المحذوفة أو المضافة ونكتفي بذكر أمثلة قليلة من العبارات التي ترجمت على غير حقيقتها فغيرت المعنى تغييراً كبيراً، وذلك لكي نصل إلى الفصول الأخيرة من الكتاب فننقل للقراء نوعاً جديداً من الأغلاط هو تحريف الأسماء وتغييرها. وليس أضر على الكتب التاريخية والجغرافية من تحريف الأسماء لأن ذلك يفقدها قيمتها.
فمن العبارات التي ترجمت على غير حقيقتها.
'
وقد ترجمها المؤلف بقوله (رئيس أركان حرب الجنرال غردون) وليس معنى - أركان حرب ولا رئيس أركان حرب بل معناها (ياور) وقد ظننا أول الأمر أن القاموس لم يذكر هذا اللفظ - وإن كان هذا لا يجيز للأستاذ صروف أن يخطئ فيه - ولكننا وجدناه مشروحاً شرحاً وافياً لا لبس فيه ولا غموض فقد فسر هذا اللفظ هكذا.(203/79)
(1) الضابط الذي ينقل أوامر القائد في ميدان القتال ويأتيه بالأخبار. فهل هذا عمل رئيس أركان حرب الجيش. إن الأستاذ صروف نفسه قد ترجم في ص113 من الكتاب برئيس أركان حرب ولا ندري لماذا لم يتنبه بعد ذلك إلى إصلاح خطئه السابق.
(2) ثم أنظر إلى هذه العبارة الغامضة التي لا يستطيع الإنسان أن يفهم لها معنى (أما الشأن المعزو إلى عمل الكولونيل ماسون فراجع إلى كونه اكتشف نهيراً يخرج من بحيرة ألبرت). وإن وضوح المعنى هو أول ما يجب أن يحرص عليه المترجم.
(3) وهاك مثلاً آخر من الغموض الذي يجير القارىء، ذلك هو قول الأستاذ صروف في وصف إبراهام بك (رقيب) إسماعيل باشا في الآستانة (ولكنه مع سيطرته على سياسة الباب العالي وعدم إخفائه نوره تحت مكيال تمكن من أن يجتنب الشهرة الصحفية) فهل لأحد القراء أن يدلنا على معنى) وعدم إخفائه نوره تحت مكيال)؟ أو على معنى (تمكن من أن يجتنب الشهرة الصحفية؟)
إن الذي يعجب له كثيراً أن الأستاذ صروف في بعض الأحيان يترجم عبارات المؤلف كلمة كلمة وإن لم يؤد ذلك إلى معنى، وفي البعض الآخر يغفل عبارات المؤلف ويأتي هو بعبارات من عنده مع أنه لو لم يتصرف فيها وترجمها ترجمة حرفية لجاء بالمعنى المراد.
(4) ولا يختلف عن هذا قول الأستاذ صروف (وعرض على المقترح التالي حبراً على ورق) والمعنى الوحيد الذي أفهمه أنا ويفهمه القارئ من لفظ حبر على ورق هو (أنه شيء لا قيمة له أو لا يراد له بقاء) ولكن المؤلف يريد إن يقول إن صاحب الاقتراح عرضه (كتابة)
(5) ثم أنظر معي أيها القارئ كيف ترجم الأستاذ صروف العبارة الآتية: -
فقال (ولما كان النظر في هذا التبادل متوقعاً في المستقبل) وهو كلام ليس له معنى: والمؤلف يريد أن يقول (ولما أوشك المال أن ينتقل من يد إلى يد)
(6) وأنظر أيضاً إلى العبارة التالية من قول المؤلف(203/80)
, , '
وإلى ترجمة الأستاذ صروف وهي:
وعندي أنه كان يعلق امتيازاً - في رأيه على الأقل - على التمييز بين تلقيبه بلقب خديو بدلاً من وال.
ومعنى هذه العبارة هو (ولهذا أعتقد أنه هو على الأقل كان يرى أن ثمة فائدة حقيقية في تغيير لقبه الرسمي من وال إلى خديو)
(7) وهاك مثلاً آخر لا يقل عن الأمثلة السابقة في تغيير المعنى قال المؤلف نقلاً عن رسالة إلى سمو الخديو
7 500 1 , 100
فقال الأستاذ صروف (أن سموكم تتيحون لجلالته فرصة للاغتباط إذا تبرعتم بمبلغ 7500 جنيه مضافاً إليه 1100 للحجرات الملكية في السفينة) فجعل الأستاذ عبارتي - شيئاً واحداً ثم ترجمها ترجمة خاطئة بقوله الحجرات الملكية في السفينة، والمعنى الحقيقي هو (الحاشية السلطانية ورجال السفينة أو بحارة السفينة، ويريد بهما الحاشية التي صحبت السلطان إلى مصر وبحارة السفينة التي أقلته إليها في هذه الزيارة.
(8) وقال المؤلف أنه كان يفهم أن فقال الأستاذ صروف في الترجمة (ما ينفق على بعض الباشوات والبكاوات كان أقل مما ينفق على الطيور والكلاب)
لا ندري لماذا استبدل الباشوات بالصحفيين مع أن أولئك الصحفيين الذين يشير إليهم المؤلف كانوا كلهم من الأجانب وليس منهم باشا واحد.
(9) وهذه عبارة أخرى أخطأ المترجم في فهمها فقلب معناها: أرسل إبراهام إلى الخديو يبلغه أنه قابل الصدر الأعظم وحادثه في شأن المبلغ الذي طلبه هذا وهو 150000 جنيه وشرح له وجهة نظر سمو الخديو ثم يقول:
, ,
والمعنى الذي يفهمه كل إنسان من هذه العبارة هو أن الصدر الأعظم يوافق على اقتراح سمو الخديو ويشكر له اقتراحه ويقبله ولكن الأستاذ صروف يقول في ترجمة هذه العبارة: (وهو يوافق عليها كل الموافقة، ويعرب لكم عن شكره لسموكم لأنكم اقترحتموها(203/81)
وقبلتموها) وبذلك جعل سمو الخديو هو صاحب الاقتراح وهو الذي يقبله وهو كلام غير معقول ويخالف النص الإنجليزي كل المخالفة، فالخديو هو الذي أقترح والصدر الأعظم هو الذي قبل الاقتراح.
(10) ومن العبارات التي لا يستطيع إنسان أن يفهم معناها قول الأستاذ صروف عن ديون إسماعيل (إن هذه الأرقام تدل على أن أصحاب البنوك ابتزوا من إسماعيل مبلغ 23 , 247 , 800 جنيه على قروض مجموعها 41 , 957 , 000 وأما هذا المبلغ بخصم كبير ولا سيما لأن جميع هذه القروض ما عدا قرض سنة 1865 كانت بفائدة 7 في المائة.
ولا ندري ماذا يريد الأستاذ بقوله وأما هذا المبلغ بخصم كبير الخ وبهذه المناسبة نقول إن الأستاذ صروف أستبدل برقم 65 , 204 , 000 جنيه الذي ذكره المؤلف رقماً جاء به هو، وذلك الرقم هو 41 , 957 , 000 لسبب لا نعرفه.
(11) هل يصدق أحد أن نفقات حملات إفريقية الوسطى كانت أكثر نسبياً من نفقات الحرب العظمى الماضية؟
ذلك ما يقوله لنا الأستاذ صروف في ص 115 من ترجمته مع أن كل ما يقوله المؤلف هو
إن عدم الدقة في الترجمة يفسد كل شيء على المترجم.
(يتبع)
الغنيمي(203/82)
العدد 204 - بتاريخ: 31 - 05 - 1937(/)
من أيامنا المشهودة
مصر في جمعية الأمم
دخلت مصر يوم الأربعاء الماضي عضواً في جماعة الأمم فكانت تحية دخولها نشيداً من أناشيد النصر هتفت به خمسون دولة من دول التمدن، تمجيداً لأول أرض رأت الحضارة، وأقدم أمة عرفت المدنية، وأعرق دولة قدست المعرفة؛ وكان يوم دخولها عيداً من أعياد الحرية خفقت له القلوب الرزينة ابتهاجاً بظفر الحق بالعدالة، وضمان الاستقلال بالقانون، وتوكيد السيادة بتحقيق المساواة؛ وكان حادث دخولها الفصل الختامي من ملحمة الجهاد المقدس في سبيل الحرية المقدسة، فصفقت له أكف الساسة في العالم، وارتفعت له ألوية السلام في جنيف، وخطب ثمانية وعشرون خطيباً في مجلس العصبة فقالوا في مصر بعض ما قال التاريخ المتحجر الماثل على جبهة الدهر، فما احتك في الصدور شبهة من صرف الحديث ولا زور المجاملة. قال السنيور كيفيدو الأمريكي: (إن الدولة التي تطرق بابنا اليوم تمثل العالم بقدمه وجدته. ولكن هذه المظاهر على تنافرها تتسق فيها فتؤلف شيئاً واحداً كاملاً له قيمة تكاد تكون رمزية بالنسبة إلينا جميعاً. فمصر تدخل بيننا مكللة الجبين بمجد لا نظير له، لأنها البلاد التي نبت فيها كثير من المدنيات، وحفظت على أرضها كثيراً من الشواهد الرائعة على عبقرية بلغ من اتساع مداها أن رفدت كل فن وأمدت كل حضارة. إن مصر صاحبة هذا الميراث العريق في القدم الحافل بالروائع، تتقدم إلينا اليوم في مظهر دولة في ريق الشباب ونضرة العمر وطدت مكانتها على التدريج في المجتمع الدولي، وحصلت على استقلالها بفضل جدارتها الخاصة ونضجها الكامل، ثم قال السيد رشدي آراس وزير خارجية تركيا: (إن هذه البلاد ذات الخطر العظيم بين أمم البحر الأبيض المتوسط. . . قد استطاعت في زمن يسير أن تقطع المراحل المتتابعة في تطورها السلمي المجيد. وإني لأذكر حادثاً تاريخياً يتعلق بروابط مصر القديمة بأحد شعوب آسيا الصغرى، فقد ثبت من الأدلة الأركيولوجية أن أقدم صك دولي، أو أقدم معاهدة سياسية، هي التي عقدت بين المصريين والحيثيين) وقال المستر إيدن وزير إنجلترا: (إننا هنا خمسون دولة ليس بينها من لم يكن مديناً إلى حد ما لحضارة مصر السامية. فقد أن تخرج بعض الأمم التي نمثلها من مجاهلها الأولى بزمن طويل، كانت مصر قد منحت الجنس(204/1)
البشري هبات من العلوم والآداب فوق كنوز الفنون التي لا تبارى ولا تزال إلى اليوم مصدراً للإعجاب والعجب؟) وقال المسيو بوليتيس وزير اليونان: (إذا كانت أثينا أم المدنية الحديثة في أوربا، فإن مصر جدتها على التحقيق، فقد أثبتت الكشوف الأثرية أن مصر أفاضت على العالم من علمها وفنونها وآدابها وفلسفتها، وأنها كانت مدرسة للإغريق أنفسهم، حتى أن الأدب الإغريقي الخالد قد اقتبس من الأدب المصري كما دلت على ذلك المقارنة).
وكلام البقية من الخطباء الوزراء مضروب على هذا الإيقاع، مطرود على هذا النسق فلم تشهد القاعة الدولية حفلاً كهذا الحفل، ولا قولاً كهذا القول.
كان مجد مصر ونبل مصر وعبقرية مصر أمثالاً مضروبة على لسان التاريخ، وتماثيل منصوبة على وجه الأرض، تُعقد عليها الكتب، وتطوى إليها المراحل، ولكنها في أيام جهادنا الدامي العنيف كانت شهادة لا تدل وأثراً لا يذكر، فكنا نحن المتمردين على ضراعة الذل واستكانة الرق نُدعى: (آراب) و (أنديجين) ثم لا يرفعنا نسب عمرو، ولا تغنينا قرابة (مينا). فلما انتهى أمر الدولة المحتلة بالمعاهدة، وأمر الدولة الممتازة بالاتفاق، لم تبق إلا كلمة الحق؛ ولا يضر كلمة الحق أن تقال في الآخر، فإن من الحق أيضاً أن عظمة الأجداد وآثار الأمجاد تظل سطوراً في الصحف، أو صخوراً على الثرى، حتى تتاح لها من الأبناء ألسنة فتذكرها وأيد فتنشرها وأعمال فتحييها
لا ريب أن ماضي مصر المجيد كان له أثر ظاهر في هذه المظاهرة الدولية، ولكن براعة المفاوضين وكفاية الممثلين كانتا شاهد هذا التاريخ وباعث هذا المجد. فإذا فخرت مصر بآبائها الذين أشاد بفضلهم أقوى أمم الدهر، كانت حرية أن تفخر كذلك بأبنائها الذين جروا في عنان مع أسبق أمم الأرض
قال وزير خارجية فرنسا في خطبته: (إن مصر ستفد إلى جنيف بتجارب الشرق، ولكنها حين تحمل الغرب على الاستفادة من حكمة الشرق. ستحمل هي نفسها على تجديد حضارتها بحضارة الغرب)
وهذا كلام لا يحتاج حقه إلى شاهد؛ ولو طبق على معناه ومغزاه لكان خليقاً أن يفتح للعصبة باب عهد جديد. فقد دأب الغرب لقوته على أن يعطي، ودأب الشرق لضعفه على(204/2)
أن يأخذ. وليس ما عند القوي خيراً كله، ولا ما عند الضعيف شراً كله؛ وأولى المؤسسات الغربية بالأخذ عن الشرق هي عصبة الأمم، فإن مبدأها السلام وغايتها السلام؛ وليس لدين الشرق وحكمة الشرق إلا هذه الرسالة.
فلعل مندوبي مصر والعراق وإيران وأفغانستان والهند وتركيا أيضاً، يحملون عن مطلع الشمس إلى مغربها هذه الأمانة، فيسطعون في جو الجمعية سطوع النور، ويرفون في جوانبها رفيف الروح، فيكون من أصواتهم الندية للعالم الشارد المجهود سلام ووئام ورحمة(204/3)
امتيازات من نوع آخر
للأستاذ احمد أمين
هل لاحظت أنك إذا استعرضت مقاهي مصر وفنادقها رأيت أن أعظمها بناء، وأحسنها نظاماً، وأغناها رواداً، وأجملها موقعاً، وأشدها إتقاناً للخدمة، وأكثرها تفنناً في إدخال الراحة والسرور على زوارها، وأمهرها في استدرار مال الجمهور عن رضى واختيار، إنما هي لسادتنا الأجانب؟
وأن أحقرها مكاناً - وأفقرها سكاناً، وشرها موقعاً، وأسوأها خدمة، وأرخصها سعراً، وأكثرها تفنناً في إقلاق راحة زوارها، لا يغشاها إلا من هزل جيبه، أو فسد ذوقه، أو اضطرته حاجة ملحة، أو ضحى براحته ولذته وسعادته لفكرته الوطنية ونزعته القومية، إنما هي لإخواننا المصريين؟
ثم هل لاحظت أن المقاهي والفنادق الأرستقراطية وما يشبهها وما يقرب منها، صاحبها أجنبي، ومديرها أجنبي، والمشرف على ماليتها أجنبي، والذي يقدم إليك الخدمات الرفيعة أجنبي، ومن يقبض ثمن ما قدم ويأخذ منك (البقشيش) أجنبي؛ ثم من يمسح الأرض مصري، ومن يتولى أحقر الأعمال مصري، ومن يمسح لك حذاءك في المقهى أو الفندق مصري، ومن يجمع أعقاب السجاير مصري؛ وأن الأجنبي له الخيار في الأعمال، فما استنظفه عمله بنفسه، وما استقذره كلف به مصرياً؛ ثم أنت لا تجد العكس أبداً في المقاهي المصرية والفنادق المصرية. فلا تجد رئيساً مصرياً ومرءوساً أجنبياً، ولا تجد الأعمال الرفيعة لمصري، والأعمال الوطنية لأجنبي؛ وإذا كان لكل قاعدة استثناء كما يقولون فقد ظفرنا في هذه الحال بقاعدة لا استثناء فيها
وهل تتبعت الصناعات في مصر فرأيت أن كل صناعة رأسها أجنبي وقدماها مصريتان؟ فخير ميكانيكي في مصر أجنبي والحثالة مصريون. وقل مثل ذلك في أعمال الكهرباء والنجارة والحدادة والخياطة، وما شئت من صناعة، حتى لقد زاحمونا في مصنوعاتنا الوطنية، ونشأت فرقة من الأجانب تجيد عمل (الطعمية) و (الفول المدمس) وبزت فيهما المصريين، وأصبحت الطبقة المصرية الأرستقراطية تشتهيهما من يد الأجنبي أيضاً وتفضل ما يصنعه على منتجات (أبي ظريفة) (والحلوجي) ومن إليهما؟(204/4)
فالصناعات في مصر - على العموم - تتخذ شكل هرم، قاعدته التي تلامس الأرض للمصريين، وقمته التي تناطح السحاب للأجانب.
وهل بلغك أن في بور سعيد - المدينة المصرية - حيين يسمى أحدهما (حي الفرنج) ويسمى الآخر (حي العرب)؟ فأما البناء الجميل، والنظافة والأناقة والعناية بالوسائل الصحية ومظهر الغنى والنعمة، ومظهر المدنية والحضارة، فلحي الفرنج؛ وأما مظهر الفوضى والإهمال والبؤس والفقر وسوء الحالة الصحية ومأوى الفقراء ومسكن التواضع والرضا بما قسم الله فلحي العرب؟
أو هل سمعت أيضاً أن (مصر الجديدة) - وهي ضاحية من ضواحي القاهرة - يسكنها كثير من الأجانب فينعمون بشوارعها الفسيحة، وبيوتها الضخمة الأنيقة؛ ثم في ركن متواضع من أركانها ناحية تسميها الشركة (عزبة المسلمين) فيها كل ما لا يخطر على البال من تكدس السكان في حجرة واحدة ومن إهمال ومن أمراض ومن فقر وبؤس، يفر منها من يسكنون بجوارها هرباً بأنفسهم وبصحتهم، وهرباً بعيونهم عن مناظر القبح، وبآذانهم عن ألفاظ الهجر، وبأنوفهم عن كريه الريح؟
أوليس ما يثير عجبك، ويبعث دهشك، أن كلمة (الأحياء الوطنية) في مصر تحمل من المعاني كل أنواع السوء والفوضى والإهمال وكان يجب أن تحمل كل معاني العناية والنظافة والنظام؟
ثم هل رأيت الأجنبي في وسط الفلاحين في العزبة، هو وحده النظيف في ملبسه ومسكنه ومأكله. وهو الذي له عقل يدبر ماله ويعرف كيف يستغله، وهم المغفلون الذين لا يعرفون كيف يحسبون دخلهم وخرجهم، ولا يعرفون حساب أموالهم ولا يعرفون كيف يديرون شؤون حياتهم، فخضع هذا وهؤلاء لقانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح؟
ثم هل علمت أن امتيازات أخرى بجانب هذه الامتيازات المادية، هي امتيازات عقلية أو نفسية؟
فإن غلبة الأجنبي في الصراع بينه وبين المصري في مرافق الحياة المادية أوجدت حالة نفسية شراً من الحالة المادية، مظهرها قلة وثوق المصري بنفسه وقوة وثوقه بالأجنبي. فإذا تعسرت حالة مرضية اتجه أهل المريض إلى الطبيب الأجنبي، وإذا أراد رب مال أن(204/5)
ينجح في إدارته قصد إلى مدير أجنبي، وإذا تعقدت مسألة حكومية أو أهلية اختير لها خبير أجنبي، وإذا اختلف الباحثون في مسألة علمية كان الحكم الفصل قول المؤلف الأجنبي، وهكذا في كل شأن من شؤون حياتنا؟
واستتبع هذا تقويمنا للأجنبي قيمة غالية، ودخل في التقويم أجنبيته أكثر مما دخل في التقويم فنه أو علمه
ألم يبلغك الحادث الطريف الذي حدث بالأمس من مدرس ثانوي للغة الفرنسية يتقاضى أمثاله في وزارة المعارف فوق الثلاثين جنيهاً، فكان من سوء حظ هذا المدرس أن تجنس بالجنسية المصرية قبل أن يبت في مرتبه، فلما طبقت عليه القوانين المصرية والحوائج المصرية، كان نتيجة ذلك أنه لم يمنح إلا اثني عشر جنيهاً؟ أو لم يبلغك المصري الذي اخترع بالأمس نوعاً من طوب البناء فعرضه على الجهات المصرية فخاب أمله، ثم عرضه في إنجلترا فأقرت قيمة اختراعه، ثم تأسست شركة إنجليزية برأس مال إنجليزي لاستغلال هذا المخترع المصري؟
والأمثلة على ذلك كثيرة تحدث كل يوم، فيكاد يكون مغروساً في أعماق نفوسنا أن القبعة لا توضع على رأس سخيف، وأن الطربوش لا يمكن أن يلف رأس نابغ
إن كان في مصر دائن ومدين، فالدائن الأجنبي والمدين المصري.
وإن كان في مصر غنى وفقر، فالغنى للأجنبي والفقر للمصري.
وإن كان في مصر ذكاء وغباوة، فالذكاء للأجنبي والغباء للمصري.
وإن كان في مصر نعيم وبؤس، فالنعيم للأجنبي والبؤس للمصري.
هذه الامتيازات في المادة والعقل والنفس شر مما اصطلحنا على تسميته بالامتيازات الأجنبية
ومن الأسف أنها لا تحل بمؤتمر كمؤتمر مونترو، ولا باشتراك الدول ومفاوضتها، ولا بمعاهدة، ولا بقانون
إن حلها أصعب من ذلك كله
إنها تحتاج إلى عقول جبارة، وإرادات من نار، وحمية لا حد لها، ووطنية قوية وثابة
إنها تحتاج إلى مؤتمرات لا من جنس مؤتمر مونترو، إلى مؤتمر يتكون من فطاحل في(204/6)
التربية يعرفون كيف فشا فينا مرض العبودية حتى حبب إلينا العمل الدنيء وبغض إلينا العمل الرفيع، فرضينا من المقهى والفندق بمسح البلاط ولم أعقاب السجاير. ورضينا دائماً بفتات الموائد، ولم نستطع أن نكون العمل الرفيع ونجلس في صدر المائدة؟ ويعرفون كيف يقضون على أخلاق العبيد من ذل ومكر وخنوع واحتيال ودسائس، ويحلون محلها أخلاق السادة من عظمة، وصراحة، وحب للعمل، وطلب للمجد، وعشق للصدارة؛ ويعرفون طبيعة المصري، وتاريخه، وبيئته، وأنواع الأسلحة العلمية والعقلية والخلقية التي يحتاج إليها ليستطيع الكفاح في الحياة والسير مع الأجنبي على قدم المساواة
فهذا خير ألف مرة من لجان تؤلف وتؤلف لزيادة حصة في الحساب ونقص حصة في الجغرافيا
ونحتاج لمؤتمر من القادة تكون مهمته العظمى إبادة روح المذلة الفاشية، وبذر روح الغيرة النادرة، وتعهدها بالتقاليد الجديدة التي ترعاها وتضمن نموها
نحتاج إلى مؤتمرات عديدة من هذا القبيل تغير وجه الحياة المصرية، وتخلق قلب المصري خلقاً جديداً، فلا يخاف مرءوس رئيساً، ولا يخاف مصري أجنبياً، ولا يخاف محكوم حاكماً
نحتاج إلى مؤتمرات تبيد الخوف إلا الخوف من الذل والعار، وتبيد السيطرة إلا احتراماً لخلق أو قانون
ما أصعب هذه المؤتمرات وما أشقها وما أحوجنا إليها! أنها تتكون من رجال من أمة واحدة، ولكنها أصعب من مؤتمر مثلت فيه كل الدول، لأنها مؤتمرات لا تلغي قانوناً موضوعاً، ولكنها تلغي أخلاقاً موروثة، وتقاليد سمرها الزمان، وتحطم أوتاداً سهر عليها الحاكم الظالم المستبد حتى صلبت الأرض عليها
لست أومن بنظرية العمال العاطلين حتى يصعب على الأجنبي والمصري الحصول على العيش الرغد على السواء. فأما إن سهل تحصيل العيش على الأجنبي وصعب على المصري فليست النظرية - إذن - نظرية عمال عاطلين، ولكنها نظرية فقر في الأخلاق، وجهل بفن الحياة
فهل لنا وقد نجحنا في مؤتمر الامتيازات الأجنبية أن نوجه هممنا لمعالجة أختها الامتيازات(204/7)
التي هي من نوع آخر علنا ننجح أيضاً؟
احمد أمين(204/8)
الخادمة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
وقفت نعيمة أمام المرآة تنظر فيها، وتتأمل نفسها بادية في صقالها، وفي يدها منفضة من الريش الناعم، ثم صوبت عينها إلى أدوات الزينة المرصوصة. . لقد صارت الآن خادمة وصار عملها أن ترتب هذه الغرف الوثيرة الأثاث. . فلشد ما انتقلت بها الأحوال!! منذ سنتين اثنتين، لا أكثر، كانت تنام على مثل هذا السرير. . وكان لها خدم، وحولها حشم. . وكانت قلما تقوم قبل الضحى. . كانت تفتح عينيها، وتتمطى، وتتثاءب، وتنظر إلى الساعة الدقيقة على معصمها فتعلم أن الشمس قد ارتفعت؛ وأنه آن لها أن تنهض. وتمد يدها إلى الزر، وتضغط فتجيء الخادمة - بهية - وتسألها (نعم يا ستي؟) فتقول لها أعدي الحمام، فتفعل وتجيئها قبل ذلك بالشاي وتنحي الستاير. . . وتهم بهية بالخروج فتناديها وهي تتقلب على السرير من الكسل، (والنبي يا بهية دوسي لي على كتفي. . .) كان هذا منذ سنتين. . كأنه حلم!. . زالت النعمة كلها وأفلس أبوها (إفلاساً بتدليس). . وانتحر. . . وتركها تملك قوت يومها. . استطاعت أن تحيا، على نحو ما، بضعة شهور، ثم لم يبق بد من ابتغاء الوسيلة إلى القوت. . وهذا أول بيت غريب دخلته لتعمل فيه
وانتقلت نعيمة إلى السرير، وتناولت الوسائد الصغيرة المبعثرة عليه، لتصلحها وترتبها، فأوحى إليها منظر السرير الواطئ اللين الشعور بالحاجة إلى التمطي. . أن تستلقي عليه وتمد رجليها وتفتح ذراعيها وتتثاءب وتقول (آ. . الخ). . . ولم لا؟. . إن هذا الجناح من البيت ليس فيه أحد. . وقد خرج سيدها منذ ساعة، وهي الموكلة بهذه الناحية. . وليس هناك من تخشى أن يفاجئها سوى (حسن). . ما أثقله!! هو رئيس الخدم. يدخل في رحمته من يشاء ويخرج منها من يشاء. لم يكن في بيتها هي أيام النعمة رئيس للخدم. كانوا جميعاً خداماً، وكانت هي الرئيسة دون سواها. . أمها ميتة. وأبوها يدع لها هذه الأمور. . ولكن جميل بك يؤثر نظاماً غير هذا. . ولاسيما بعد أن فسد ما بينه وبين زوجته فخرجت من البيت
وجلست على السرير، وهي تحدث نفسها بأنها لاشك تستطيع تسمع وقع قدمي حسن، إذا خطر له أن يجيء إلى هذه الناحية. فإنه ضخم غليظ ثقيل. . ومشيه دبدبة. ومالت على(204/9)
السرير، وأراحت جسمها البض على فراشه اللين، وحدثت نفسها، وهي تحس أن جسمها يسترخي، أنها خليقة أن تحمد الله على التوفيق إلى العمل، في بيت كهذا، بعد الذي نزل بها، وإنها إذا كانت لا تنام على السرير فإن من بواعث سرورها أن يكون أمره موكولاً إليها، وأن يكون في وسعها أن تروح وتجيء في هذا البيت الحسن، وأن تكون في خدمة هذا السيد الكريم الوديع المهذب. . الحمد لله على كل حال،.
ولو أن سيدها رآها، وهي راقدة على سريره، وأخذت عينه هذا المنظر الفاتن، لكان الأرجح أن يقف مفتوح الفم من دهشة الإعجاب ولسحره؛ وسمره في مكانه، هذا الخط المتموج الذي بدأ من فخذها الأملس، ويرتقي ويستدير مع ردفها، ثم ينحدر في لين مع خصرها، ثم يعود فيرتفع حتى يبلغ الحلمة الحوة الناشزة من ثديها الراسخ. . وكان شعرها الذهبي مرسلاً، كأنه أمواج من النار على الوسادة. وأسندت نعيمة خدها الأسيل على الحرير الناعم، وتنهدت، وخطر لها أن حظها على كل حال خير مما كان يمكن أن يكون. . كل شئ هنا حسن (إلا حسن). . . فإنه دميم غليظ، وثقيل الدم بارده. وفظ شرس. . . ونظرته أعوذ بالله منها!. . . إنها لتتعلق بصدرها، فتحس أنها نفذت إلى ما تحت ثيابها، فكأنها واقفة أمامه عارية لا كاسية!. . . وما أكثر ما يلمس كتفها، وهو يحدثها، أو يدعوها إلى الوقوف،. . فتسري الرعدة في بدنها. . وأصابعه؟. . يا حفيظ!. . قصيرة، غليظة، مبططة!
وأغفت نعيمة، وهي تفكر في هذا وما إليه من مظاهر حياتها الجديدة، ثم انتفضت قائمة وفي يقينها أن بعضهم ينظر إليها. ولكنها لم تر في الغرفة أحداً، فلاشك أنها كانت تحلم أو لعل هذا ضميرها يزجرها عن الاجتراء والتسحب بهذه الطريقة
ووقفت نعيمة وأجالت عينها فيما حولها، فلمحت زجاجة عطر صغيرة، فقد كانت فيما مضى تتخذ مثلها، بل كان هذا هو العطر المفضل عندها. واضطربت يدها، وهي تتناول الزجاجة. وترفع عنها الغطاء. . وأدنتها من أنفها الجميل، لتشم، وتنعم بالأرج المفتر. . وإذا كان لا تسعها الآن أن تتعطر، فلا أقل من متعة الأنف. . وما البأس. . وأحست وهي تنشق العطر الخفيف بالحنين إلى الأيام السالفة. . وتفلتت الزجاجة من بين أصابعها فارتفعت كفها الرخصة، بسرعة، إلى فمها، لتكتم صرخة جزع حين رأت الزجاجة تهوي(204/10)
على السجادة، وقد حمتها السجادة أن تتكسر ولكن ما فيها أريق كله، وملأ الغرفة بأرجه، فصار المكان كأنه بستان زهر. وصوبت عينها إلى السجادة فرأت العطر قد رسم دائرة كبيرة داكنة على النقوش الفارسية الجميلة، فانحنت والتقطت الزجاجة الفارغة، وردتها إلى مكانها. وسمعت في هذه اللحظة صوتاً فريعت ودارت على عقبها، فإذا حسن أمامها يتئرها النظر كأنما يريد أن يأكلها بعينيه، وكان قد دخل كالقطة، وساعده لين السجادة السميكة على إخفاء صوت قدميه الغليظتين
وكان حسن ينهج كأنما يجري، وكانت أنفاسه تروح وتجيء بسرعة، وعيناه كالجمرتين، ونعيمة ترى هيئته، وترعد كأنها في ثلاجة، وقد أيقنت أنها فقدت عملها. . وهل يبقيها حسن وقد رأى ما صنعت؟؟. . ربما. . فما صنعت شيئاً في الحقيقة سوى أن زجاجة عطر سقطت من بين أصابعها؛ ولكن الرجل فيه جفوة وغطرسة، وهو قاس، وقد أطغاه أن سيده ترك له أمر الخدم. . فهل يطردها. . أم تراه سيترفق بها ويعفو عنها؟. .
ولم تمض في تفكيرها، فقد مد حسن يديه إليها، بغتة، وتناول كتفيها - أو على الأصح ثوبها على كتفيها - وهزها وقال لها (سيكون هذا آخر لعبك هنا)
فتوسلت إليه، وأقبلت عليه تستعطفه، وتقول له إنها محتاجة إلى البقاء، وأين تذهب إذا طردها؟. .
فقال بجفوة (تريقين زجاجة ثمنها ثمانون قرشاً وتظنين أن في وسعك أن تبقي؟)
فأيقنت نعيمة أن هذا آخر عهدها بالبيت الجميل، والسيد الوديع الظريف، وصار صدرها يعلو ويهبط.
ولم تفت حسن حركة صدرها المغرية، فدنا منها وقال: (ثم إني رأيتك راقدة فوق هذا السرير أيضاً)
فكادت نعيمة تسقط على الأرض، وأحست أن رجليها تخذلانها. . ستفقد الآن عملها على التحقيق!! ومن ذا الذي يستخدم مثلها وهي حديثة عهد بالخدمة؟. وكانت يدا حسن لا تزالان على كتفيها فشد بهما على جسمها، حتى لقد أحست نعيمة أن أصابعه انغرزت في لحمها، وشعرت بأنفاسه الحارة على وجهها وسمعته يقول (إذا أردت البقاء فليس هناك إلا طريقة واحدة)(204/11)
وكانت نعيمة تعرف أن له أن يخرج الخدم، فقالت وهي ذاهلة (كيف؟ ماذا تعني؟)
وكانت تعلم ماذا يعني، وتقرأه في عينيه، ولكنها كانت تؤثر الطرد والجوع على هذا. . كلا. . أبداً
فقال (إنك تعرفين ما أعني. . لقد رقدت على هذا السرير مرة. . ارقدي عليه مرة أخرى)
ففزعت وإن كانت تعلم مراده، وصاحت به (أبداً. . مستحيل)
ولكن حسن حملها كالدجاجة بين ذراعيه، وألقاها على السرير، وركع أمامها، وأهوى بشفتيه الغليظتين على غلالتي شفتيها الرقيقتين، وكانت يداه قاسيتين، وكانتا تجرحان جسمها الغض، وهي تحاول أن تتفلت منه، وهو يشد عليها؛ وهمت بأن تصرخ فوضع كفه على فمها، وأخرسها، ثم تناول ثوبها عند صدرها وجذبه فتمزق وتعرى صدرها فأكب عليها كالمجنون، فلم تعد تطيق الصبر، وفضلت أن تخسر عملها، وأن تتضور وتتسول في الطريق، وأطلقتها صيحة مجلجلة خليقة أن تجمع عليهما كل من في البيت فانتفض حسن قائماً وصاح بها بدوره (إنك مطرودة. اخرجي)
وشرع يخرج من الغرفة بسرعة قبل أن يجيء أحد على صوتها، وإذا بسيده في الباب.
وقال جميل بك (ما هذا)؟
فقال حسن: (سيدي. . لقد رأيت نعيمة ترقد على هذا السرير؛ ولم يكفها هذا، بل أراقت زجاجة العطر. .)
ولكن جميل بك لم يكن يسمع شيئاً مما يقول حسن، وإنما كان ينظر إلى نعيمة، وهي واقفة في هذا الثوب الذي صار هلاهيل، وكانت تجمعه بيديها على صدرها لتستره. ولكنها لم تستطع أن تستر منه إلا قليلاً. . والتفت جميل بك من نعيمة المطرقة المتقدة الوجه من الحياء إلى هذا الخادم النذل وصاح به: (اخرج فإنك أنت المطرود. .)
فخرج وظهره مقوس
ثم التفت جميل بك إلى نعيمة وقال (إني آسف لما حصل. لم أكن أتصور أن هذا الرجل الذي ائتمنته وحش. . . فلننسه. .)
فأدارت نعيمة وجهها إلى حيث أريقت الزجاجة وقالت (لقد سقطت مني. . أريقت كلها ولم يبق فيها ولا قطرة)(204/12)
فقال جميل بك ببساطة: (لا بأس. . لا بأس. . إذا كنت تستحقين عقاباً، فقد لقيت فوق ما تستحق أية مجرمة صغيرة مثلك)
فابتسمت نعيمة، وكانت لا تزال تحاول عبثاً أن تضم طرفي الثوب الممزق الذي أصارته يدا حسن كالعباءة لولا ضيقه. ومشى جميل بك إليها وقال لها وهو يلمس الثوب (لم يعد هذا يصلح) وأشار إلى خزانة الثياب وقال (اخلعيه وخذي شيئاً من هنا بدلاً منه) ولم يتركها تفعل ما أمرها به، بل نزعه عنها فصارت أمامه في ثيابها التحتية، وهي كافية للستر، ولكنها تظهر من الصدر والكتفين أكثر مما يكشف في العادة. على إن جميل بك لم يكن ينظر إلى ما بدا له من جسمها، بل إلى نفاسة الحرير الذي تلبسه تحت هذا الثوب الممزق، فقد هز رأسه كالمتعجب، ومضى إلى الخزانة فجاء منها بثوب من أثواب زوجته ألقاه إليها ومشى إلى النافذة. ولم يخف على نعيمة معنى النظرة فقد كانت صريحة فارتدت الثوب وقالت (هذه الثياب التحتية بقية من زمن النعمة وقد اشتريتها بنفسي)
فدار وقال (إيه؟)
فقالت ببساطة وابتسام (لقد كنت أستطيع أن اشتري ما أريد. . قبل الكارثة)
فذهب إلى السرير وقعد عليه وقال وهو مقطب: (ما اسمك؟ اسمك كله)
فذكرته له فقال (اسمعي. . . هل كان أبوك تاجراً في الحمزاوي. . .؟)
قالت (نعم)
قال (وماذا صنع الله به حتى احتجت إلى هذا؟)
قالت (مات. . . انتحر. . .)
فقال (اممممم!. . . إني آسف. . .، لم أكن أعرف هذا. . . لو كنت أعرفه لما تكلمت بهذه اللهجة عنه)
فابتسمت ولم تستطع أن تقول شيئاً. فقال وجذبها إليه وأجلسها بجانبه على السرير: (اسمعي. . . أن مثلك لا يجوز أن تعمل كخادمة)
فقالت بإخلاص (إني مسرورة. . . وجودي هنا خير مما كنت أنتظر. . . والآن اسمح لي أن أذهب وأغير الثوب وأرد هذا)
وأشارت إلى الثوب الذي كساها فقال (خله لك. . . وغيره أيضاً. . . كل ما في الخزانة(204/13)
خذيه)
فقالت (سيدي. . . لم أعتد أن آخذ شيئاً من أحد)
قال وهو ينهض (أوه. . . هذه مسألة يسهل أن نسويها فيما بعد. . .)
وكانت هي قد نهضت أيضاً فوقفا متقابلين. وقد يكون الأرج المتضوع في الغرفة أو غيره هو الذي أدار رأسيهما فقد مال عليها فلم تبعد، ولثم فمها. وكانت القبلة في أول الأمر خفيفة - لمساً لا اكثر - ولكن الأيدي ارتفعت إلى الأكتاف فكان عناق طويل
وقال جميل بك (نعيمة. . . إنك ساحرة. . . كان دائماً يخطر لي أنك لست من الخدم. . . ويخيل إليّ أنك ستبقين هنا. . . سيدة. . .)
وكان قلب نعيمة يخفق بشدة فنأت عنه قليلاً وهي تفكر في معنى ما سمعت ثم قالت (ولكن الست؟)
قال (لا تقولي الست كأنك مازلت خادمة)
قالت وهي تضحك (زوجتك إذن؟)
قال (آه. . . نسيت أن أخبرك أننا اتفقنا - أبوها وأنا - على فض الإشكال بالحسنى. . . لا محاكم ولا شئ. . . طلقتها اليوم وانتهى الأمر)
قالت: (ألست آسفاً؟)
قال (كلا. . . كان هذا أحسن حل. . . حياتنا مستحيلة. . . لا وفاق)
ولأول مرة منذ سنتين شعرت نعيمة أن لها بيتاً، ونظرت إلى السرير - سريرها الآن، أو هو سيصبح سريرها بعد العقد. . . ثم ردت عينها إلى جميل بك فالتقت الشفاه مرة أخرى في قبلة معسولة
إبراهيم عبد القادر المازني(204/14)
خاتمة المأساة الأندلسية
الصراع الأخير بين الموريسكيين وأسبانيا
للأستاذ محمد عبد الله عنان
(2)
سرى إلى الموريسكيين يأس بالغ يذكيه السخط العميق فعولوا على الثورة مؤثرين الموت على ذلك الاستشهاد المعنوي الهائل. ونبتت فكرة الثورة أولاً في غرناطة حيث يقيم أعيان الموريسكيين، وحيث كانت جمهرة كبيرة تحشد في ضاحية (البيازين)؛ وكان زعيم الفكرة ومثير ضرامها موريسكي يدعى فرج بن فرج؛ وكان ابن فرج صباغاً بمهنته،؛ ولكنه حسبما تصفه الرواية القشتالية كان رجلاً جريئاً وافر العزم والحماسة، يضطرب بغضاً للنصارى، ويتوق إلى الانتقام الذريع منهم؛ ولا غرو فقد كان ينتسب إلى بني سراج وهم من أشراف غرناطة وفرسانها الأنجاد أيام الدولة الإسلامية. وكان ابن فرج كثير التردد على أنحاء البشرات، وثيق الصلة بمواطنيه؛ فاتفق الزعماء على أن يتولى حشد قوة كبيرة منهم تزحف سراً إلى غرناطة وتجوز إليها من ضاحية البيازين، ثم تفاجئ حامية الحمراء وتسحقها وتستولي على المدينة، وحددوا للتنفيذ (يوم الخميس المقدس) من شهر أبريل سنة 1568 إذ يشغل النصارى عندئذ باحتفالاتهم وصلواتهم؛ ولكن أنباء هذا المشروع الخطير تسربت إلى السلطات منذ البداية فاتخذت التحوطات لدرئه، وعززت حامية غرناطة، وحاميات الثغور، واضطر الموريسكيون إزاء هذه الأهبة أن يرجئوا مشروعهم إلى فرصة أخرى
واستمر الموريسكيون على عزمهم وأهبتهم، ووجهوا بعض الكتب خفية إلى أمراء الثغور في المغرب يطلبون إليهم الغوث والعون؛ فوقع كتاب منها في يد حاكم غرناطة؛ وتقول الرواية القشتالية أنه كان موجهاً من أحد زعماء البيازين إلى مسلمي الثغور المغربية يستحلفهم فيه الغوث بحق روابط الدين الدم ويقول: (لقد غمرتنا الهموم، وأعداؤنا يحيطون بنا إحاطة النار المهلكة. إن مصائبنا لأعظم من أن تحتمل، ولقد كتبنا إليكم في ليال تفيض بالعذاب والدمع، وفي قلوبنا قبس من الأمل، إذا كانت ثمة بقية من الأمل في أعماق الروح(204/15)
المعذب). ولكن الحكومات المغربية كانت مشغولة بمشاكلها الداخلية، فلم يلب داعي الغوث سوى جماعة من المتطوعين الذين نفذوا سراً إلى إخوانهم في البشرات، ومنهم كثيرون من البحارة المجاهدين الذين كانوا حرباً عواناً على الثغور والسفن الأسبانية في ذلك العصر
وفي شهر ديسمبر سنة 1568، وقع حادث كان نذير الانفجار؛ إذ اعتدى الموريسكيون على بعض المأمورين والقضاة الأسبانيين في طريقهم إلى غرناطة ووثبت جماعة منهم في نفس الوقت بشرذمة من الجند كانت تحمل كمية كبيرة من البنادق وفتكت بهم جميعاً. وفي الحال سار ابن فرج على رأس مائتين من أتباعه ونفذ إلى المدينة ليلاً، وحاول تحريض مواطنيه في البيازين على نصرته ولكنهم أبوا أن يشتركوا في مثل هذه المغامرة الجنونية وقد كان موقفهم حرجاً في الواقع لأنهم يعيشون إلى جانب النصارى على مقربة من الحامية وهم أعيان الطائفة ولهم في غرناطة مصالح عظيمة يخشون عليها من انتقام الأسبان؛ بيد أنهم كانوا من وراء الثورة يؤيدونها برعايتهم ونصحهم ومالهم فارتد ابن فرج على أعقابه واجتاز شعب جبل شلير (سييرا نفادا)، إلى الهضاب الجنوبية فيما بين بلش (فيليز) والمرية، فلم تمضي بضعة أيام حتى عم ضرام الثورة جميع الدساكر والقرى الموريسكية في أنحاء البشرات، وهرعت الجموع المسلحة إلى ابن فرج ووثب الموريسكيون بالنصارى القاطنين فيما بينهم ففتكوا بهم ومزقوهم شر ممزق
- 3 -
اندلع لهيب الثورة في أنحاء الأندلس ودوت بصيحة الحرب القديمة وأعلن الموريسكيون استقلالهم واستعدوا الخوض معركة الحياة والموت، وبدأ الزعماء باختيار أمير يلتفون حوله، ويكون رمز ملكهم القديم فوقع اختيارهم على فتى من أهل البيازين يدعى الدون فرناندو دي فالور؛ وكان هذا الاسم النصراني القشتالي يحجب نسبة عربية إسلامية رفيعة ذلك أن فرناندو دي فالور كان ينتمي في الواقع إلى بني أمية وكان سليل الملوك والخلفاء الذي سطعت في ظلهم الدولة الإسلامية في الأندلس زهاء ثلاثة قرون، وكان فتى في العشرين تنوه الدواية القشتالية المعاصرة بوسامة محياه، ونبل طلعته؛ وكان الأمير الجديد يعرف خطر المهمة التي انتدب لها، ولكنه كان يضطرم حماسة وجرأة وإقداماً، ففي الحال غادر غرناطة سراً إلى الجبال ولجأ إلى شيعته آل فالور في قرية بزنار، فهرعت إليه(204/16)
الوفود والجموع من كل ناحية، واحتفل الموريسكيون بتتويجه في احتفال بسيط مؤثر، فرشت فيه على الأرض أعلام إسلامية ذات أهلة فصلى عليها الأمير متجهاً صوب مكة، وقبل أحد أتباعه الأرض رمزاً بالخضوع والطاعة، وأقسم الأمير أن يموت في سبيل دينه وأمته، وتسمى باسم ملوكي عربي هو محمد بن أمية صاحب الأندلس وغرناطة. واخنار محمد عمه الملقب (بالزغوير) قائداً عاماً لجيشه، وقد كان صاحب الفضل الأكبر في اختياره للرياسة، وبعث ابن فرج على رأس بعض قواته إلى هضاب البشرات ليجمع ما استطاع من أموال الكنائس، واتخذ مقامه في أعماق الجبال في مواقع منيعة، وبعث رسله في جميع الأنحاء يدعون الموريسكيين إلى خلع طاعة النصارى والعودة إلى دينهم القديم
ووقعت نقمة الموريسيكيين بادئ ذي بدء على النصارى المقيمين بين ظهرانيهم في أنحاء البشرات ولاسيما القسس وعمال الحكومة؛ وكان هؤلاء يقيمون في محلات متفرقة سادة قساة يعاملون الموريسيكيين بمنتهى الصرامة والزراية، وكان القسس بالأخص أس بلائهم ومصائبهم؛ ومن ثم فقد كانوا ضحايا الفورة الأولى. وانقض ابن فرج ورجاله على النصارى في تلك الأنحاء فمزقوهم تمزيقاً. وقتلوا القسس وعمال الحكومة، ومثلوا بهم أشنع تمثيل، وكانت حسبما تقول الروايات القشتالية مذبحة عامة لم ينج منها حتى النساء والأطفال والشيوخ؛ وذاعت أنباء المذبحة الهائلة في غرناطة فوجم لها الموريسيكيون والنصارى معاً، وكل يخشى عواقبها الوخيمة، وكان الموريسكيون يخشون أن يبطش النصارى بهم انتقاماً لمواطنيهم، وكان النصارى يخشون أن يزحف جيش الموريسكيين على غرناطة فتسقط المدينة في يدهم وعندئذ يحل بهم النكال الرائع. بيد أن الرواية القشتالية تنصف هنا محمد بن أمية فتقول أنه لم يحرض على هذه المذابح ولم يوافق عليها، بل لقد ثار لها وعزل نائبه ابن فرج عن القيادة، فنزل عنها راضياً واندمج في صفوف المجاهدين، وهنا يختفي ذكره ولا يبدو على مسرح الحوادث بعد
- 4 -
وكانت غرناطة في أثناء ذلك ترتجف سخطاً وروعاً؛ وكان حاكمها المركيز منديخار يتخذ الأهبة لقمع الثورة منذ الساعة الأولى، بيد أنه لم يكن يقدر مدى الانفجار الحقيقي، فغصت غرناطة بالجند، ووضع الموريسكيون أهل البيازين تحت الرقابة رغم احتجاجهم وتوكيدهم(204/17)
بأنهم لا علاقة لهم بالثائرين من مواطنيهم؛ وخرج منديخار من غرناطة بقواته في 2 يناير سنة 1569 تاركاً حكم المدينة لابنه الكونت تنديلاً، وعبر جبل شلير (سييرا نفادا) وسار تواً إلى أعماق البشرات حيث يحتشد جيش الثوار؛ وكان محمد ابن أمية متحصناً بقواته في آكام بوكيرا الوعرة، وكان الموريسكيون رغم نقص مواردهم وسلاحهم قد حذقوا حرب الجبال ومفاجآتها. فما كاد الأسبان يقتربون منهم حتى انقضوا عليهم، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، ارتد الموريسكيون على أثرها إلى سهول باترنا، وتخلف كثيرون منهم ولاسيما النساء، ففتك الأسبان بهم فتكاً ذريعاً، وحاول منديخار أن يتفاهم مع الثائرين على العفو وأن يخلدوا إلى السكينة، وبعث إليهم بعض المسالمين من مواطنيهم، وكان محمد بن أمية يميل إلى الصلح والتفاهم، ولكن المتطرفين من أنصاره ولاسيما المتطوعين المغاربة رفضوا الصلح، فاستؤنفت المعارك، ورجحت كفة الأسبان وهزم الموريسكيون مرة أخرى، وفر محمد بن أمية وأسرت أمه وزوجه وأخواته؛ وأصيب الأسبان بهزيمة شديدة في آكام (جواخاريس) ولكن الموريسكيين آثروا الارتداد؛ وقتل الأسبان من تخلف منهم أشنع قتل. وكان ممن تخلف زعيم باسل يدعى (الزمار) أسره الأسبان مع ابنته الصغيرة وأرسلوه إلى غرناطة حيث عذب عذاباً وحشياً إذ نزع لحمه من عظامه حياً، ثم مزقت أشلاؤه؛ وهكذا كانت أساليب الأسبان ومحاكم التحقيق أزاء العرب المنتصرين
واختفى محمد بن أمية مدى حين في منزل قريبه (ابن عبو) وكان من أنجاد الزعماء أيضاً. وطارده الأسبان دون أن يظفروا به. على إن هذه الهزائم الأولى لم تفل عزم الموريسكيين فقد احتشدوا في شرق البشرات في جموع عظيمة وأخذوا يهددون المريه، فسار إليهم المركيز (لوس فيليس) على رأس جيش آخر، ووقعت بين الفريقين عدة معارك شديدة قتل فيها كثير من الفريقين، ومزق الموريسكيون، وفتك الأسبان كعادتهم بالأسرى وقتلوا النساء والأطفال قتلاً ذريعاً
وقعت في نفس الوقت في غرناطة مذبحة مروعة أخرى فقد كان في سجنها العام نحو مائة وخمسين من أعيان المريسكيين اعتقلوا رهينة وكفالة بالطاعة فأذاع الأسبان أن الموريسكيين سيهاجمون غرناطة لإنقاذ السجناء بمؤازرة مواطنيهم في البيازين؛ وعلى ذلك صدر الأمر بإعدام السجناء فانقض عليهم الجند وذبحوهم في مناظر مروعة من السفك(204/18)
الأثيم
وكان لهذا الحادث الأخير أثره في إذكاء نار الثورة، وكان نذيراً للموريسكيين بأن الموت في ساحة الحرب خير مصير يلقون. فسرى إليهم لهب الثورة بأشد من قبل وطافت بهم صيحة الانتقام فانقضوا على الحاميات الأسبانية المبعثرة في أنحاء البشرات ومزقوها تمزيقاً وهزموا قوة أسبانية تصدرت لقتالهم واحتشدت جموعهم مرة أخرى تملأ الهضاب والسهل؛ وعاد محمود بن أمية ثانية إلى تبوأ عرشه الخطر، والتف حوله الموريسكيون أضعاف ما كانوا، وبعث أخاه عبد الله إلى القسطنطينية يطلب العون من سلطانها، ولكن سلاطين قسطنطينية لم يلبوا ضراعة الموريسكيين برغم تكرارها منذ سقوط غرناطة ولم يلبها غير إخوانهم المجاهدين في أفريقية، فقد استطاعت جموع جريئة مخاطرة منهم أن تجوز الشواطئ الأسبانية ومنهم فرقة من الترك المرتزقة وأن تهرع إلى نصرة المنكوبين
وهكذا عاد النضال إلى أشده، وخشي الأسبان من احتشاد الموريسكيين في البيازين ضاحية غرناطة، فصدر قرار بتشريدهم في بعض الأنحاء الشمالية، وكانت مأساة جديدة مزقت فيها هذه الأسر التعسة وفرق فيها بين الآباء والأبناء، والأزواج والزوجات في مناظر مؤثرة تذيب القلب، وسار المركيز لوس فيليس في نفس الوقت إلى مقاتلة الموريسكيين في سهول المنصورة على مقربة من أراضي مرسية، ونشبت بينه وبينهم عدة وقائع غير حاسمة، ولم يستطع متابعة القتال لنقص في الأهبة والمؤن وكان بينه وبين زميله منديخار خصومة ومنافسة كانتا سبباً في اضطراب الخطط المشتركة، واتهم منديخار بالعطف على الموريسكيين فاستدعي إلى مدريد، وأقيل من القيادة، واتخذت مدريد خطوتها الجديدة الحاسمة في هذا الصراع الذي لا رحمة فيه ولا هوادة
(للبحث بقية)
(والنقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(204/19)
في الأدب المقارن
المعنى والأسلوب في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
المعنى الصادق الرفيع والأسلوب المحكم الجميل هما قوام كل أدب خليق بهذا الاسم، لا يغني أحدهما إذا غاب الثاني؛ فلابد من شعور عميق، أو تفكير ثاقب جدير بعناء الإنشاء والقراءة، ولابد بجانب ذلك من عبارة منسجمة جميلة تعرض المعنى على أحسن وجه وأحبه إلى النفوس؛ وكبار الأدباء في شتى الأمم يجمعون دائماً بين الفكر الواسع المتصرف في شؤون الحياة، وبين المقدرة اللغوية التي تذلل لهم أعنة البيان، ويتصرفون بها في الألفاظ والتراكيب، ويكون لكثير منهم فضل ترحيب جوانب اللغة وإكساب تعبيراتها جدة ومرونة، وإعطاء بعض ألفاظها منزلة سامية لورودها مورداً حسناً في بعض آثارهم، وشأن الأديب الكبير في ذلك شأن غيره من رجال الفنون، فالمصور مثلاً لا يبلغ الذروة في فنه حتى يجمع إلى خصب مشاعره بصراً بتأليف الألوان والأصباغ، وكل فنان لابد له من الجمع بين رقة الشعور وبين البصر بالآلات التي يكون بها أداء ذلك الشعور
والفكر واللغة، أو المعنى واللفظ، شديدا التوثق والتوشج، فلا ندحة للأديب عن التأثر بروح اللغة التي يكتب فيها وتراثها على مدى الأجيال، ولا سبيل له إلى الإنشاء والنظم فيها حتى يختلط بروحها، وتمتزج أفكاره بالمفردات والأساليب التي تهيئها له اللغة؛ والأديب الصناع يختار من المفردات تلك التي تنهض بأفكاره ومشاعره في أوجز لفظ وأحكمه وأوضحه بياناً، بما تمتاز به تلك المفردات من أجواء من المعاني رحيبة تجمعت حولها على مرور الأجيال وتوالي الاستعمال، حتى غدت يثيرها مجرد ذكر تلك المفردات على نحو خاص، وذلك ما يجعل آثار بعض الأدباء المفتنين والشعراء المجودين متعذرة الترجمة إلى غير لغتها، لتعذر نقل هذه الأجواء المعنوية برمتها من لسان إلى لسان، بل يتعذر أحياناً التفريق بين المعاني والأساليب التي هي مفرغة فيها، لتمازجها تمازج الروح والجسد
ويبلغ الأدب كماله حيث يسود القصد والاعتدال بين اللفظ والمعنى، فإذا استبد المعنى بالأهمية كلها وتحيف اللفظ خرج الأثر المنشأ من حظيرة الأدب إلى حيز العلم؛ وإذا تحيف اللفظ المعنى وصار غاية في ذاته هبطت قيمة الأثر الأدبي، وأصبح أشبه بالزخرف(204/20)
والصناعة منه بالفن السامي. ويغلب الاحتفاء بالزخرف اللفظي في عهد طفولة الأدب، إذ يكون الشعر مجرد أهازيج وقواف موسيقية تافهة المعانى، وفي عهود انحطاط الأدب حين ينصرف الأدباء عن لباب الحياة إلى القشور؛ وبالزخرف اللفظي والبراعة اللغوية والأسجاع والإيقاع الموسيقي يكلف الأديب الناشئ أول عهده بالأدب، وكلما نضجت نفسه وحصف ذهنه بتجربة الحياة واستيعاب المعارف تحول اهتمامه إلى المعاني والحقائق والتزم اللفظ في آثاره منزلته الصحيحة، وهي كونه وسيلة للمعنى لا غاية في ذاته
وقد عرف أقطاب الأدب الإنجليزي بواسع بصرهم بأسرار لغتهم، وإليهم يرجع فضل توطئة جوانبها وتعبيد مسالكها، ولكل منهم في هذا الباب أثر: فشكسبير قد استخدم في رواياته أكبر عدد من مفردات اللغة استخدمه أديب، وصرف تلك المفردات على شتى الوجوه؛ وسبنسر أعنى اللغة بما أدخل فيها من ألفاظ جديدة لم تعرفها قبله؛ وملتون أصبح اسمه علماً على ضرب من النظم عذب الموسيقى فخم الرنين؛ وبوب بلغ الغاية من إحكام الصناعة وجزالة الأسلوب؛ ووردزورث كان دائم التجارب في الأساليب يحاول أن يشق للشعر أسلوباً جديداً؛ وتنيسون تفنن في استخدام الألفاظ وتحوير التراكيب يؤلف بها روائع الصور الشعرية، ولا تزال مخطوطات بعض أولئك الأدباء موضع دراسة النقاد والأدباء، يتفقهون بها في أسرار اللغة ويزدادون بصراً بخصائص الألفاظ والتراكيب، ويرون كيف يحل لفظ محل لفظ فتشرق به ديباجة البيت من الشعر ويسفر به وجه المعنى جميلاً بعد خفاء والتياث
على أن أولئك الأدباء برغم احتفائهم بالأسلوب ذلك الاحتفاء لم يغلبوه على المعنى ولم يجعلوه غاية في ذاته، ولم يصبح الأدب في أيديهم براعة في اللفظ وتأنقاً في النسج، بل ظل اللفظ لديهم دائماً خادماً للمعنى، وظل غرضهم الأول من الإنشاء الإفصاح عن الفكر والشعور. ولم يسرف الأدباء في الاحتفاء باللفظ إلا في عهد انحطاط الشعر في بعض القرن الثامن عشر، في حقبة لم تنجب شاعراً كبيراً، ولم يحض بالشهرة في حياته والذكر بعد موته من أدباء الإنجليزية إلا من أهلته لذلك نظرة في الحياة صادقة عميقة، ولم تكن كل بضاعته أسلوباً مزخرفاً، منمقاً، بل عرف من كبار الشعراء من لم يكن يولي أسلوبه كبير احتفاء، ومع ذلك رفعه فكره الجوال في آفاق الحياة، ونفسيته الجياشة بأشتات(204/21)
الأحاسيس إلى قمة المجد، فبيرون كان كما قال عن نفسه لا يعاود النظر في بيت شعر خطه، ووردزورث نظم كثيراً من بدائع شعره في أبسط لفظ يستعمل في النثر والتحدث، وهاردي لم يكن شعره إلا نثراً جيد النظم عارياً مجرداً من تلك الألفاظ الشعرية ذات الأجواء المعنوية، ومن ثم لا يسمو به النقاد إلى طبقة الفحول كشكسبير وملتون، بل ينزلونه الطبقة الثانية بين الشعراء، وهذا الأسلوب العاري المجرد يزداد شيوعاً في العصر الحديث
أما في العربية فكان الأمر على نقيض ذلك: فلم يكد يكون بين كبار أدبائها بعد دخول الأدب طوره الفني من أهمل الأسلوب واحتفى بالمعنى وحده، وإن كان أكثرهم ليقدم الأسلوب على المعنى ويحتفي للفظ ورنينه أي احتفاء وإن تضاءل المعنى وتفه، فإذا كان النثر العربي يبلغ ذروته من الكمال على أيدي ابن المقفع والجاحظ، والشعر العربي يجري إلى غايته في آثار المتنبي وابن الرومي والمعري، حيث يجتمع صدق النظرة وجمال الأسلوب فإن غيرهم من مشهوري أدباء العربية إنما نبه ذكرهم لبلاغتهم اللفظية، لا لفلسفة في الحياة معدودة، ولا لرسالة في الأدب عتيدة. ومن أولئك البحتري ومن نحا نحوه من الشعراء والمداحين، والصاحب ابن عباد ومن سلك دربه من المنشئين المسجعين؛ فالناظر في الأبيات الآتية من نظم أشهر شعراء العربية، يرى أن حظها من المعنى ضئيل ونصيبها من جزالة الأسلوب ورنين اللفظ وعذوبة الموسيقى كبير، قال أبو نواس في مدح بعض الوزراء:
عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
وقال البحتري في النسيب:
لما مشين بذي الأراك تشابهت ... أعطاف قضبان به وقدود
ومتى يساعدنا الوصال ودهرنا ... يومان يوم نوى ويوم صدود
وقال أبو تمام في رثاء طفلين:
مازالت الأيام تخبر جاهلاً ... أن سوف تفجع مسهلاً أو عاقلا
بدران شاء الله أن لا يطلعا ... إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا
إن الفجيعة بالرياض نواضرا ... لأجل منها بالرياض ذوابلا(204/22)
نصيب هذه الأبيات جميعها من الفكرة البعيدة أو النظرة المستقلة أو الشعور الصميم ضئيل. وماذا في قول أبي نواس إن العباس عباس والفضل فضل والربيع ربيع، إلا إنه ظرف وأحسن نظم تلك الأسماء مزدوجة في سلك البيت؟ وأي الناس لا يعبس إذا احتدم الوغى؟ ولو قال: عباس بسام لكان وصفه بالشجاعة التي لا تحفل بالموت المحدق. ثم ماذا من جديد في جمع البحتري بين الغصون والقدود وشكواه النوى والصدود، أو في تشبيه أبي تمام للطفلين بالبدرين الآفلين مرة وبالروضين المصوحين أخرى؟ إنما فضيلة هذا الشعر كله حسن اختيار اللفظ النقي وجمال الموسيقى ولطافة التقسيم والمقابلة، أما المعنى فلا عمق فيه ولا ابتكار
فالاحتفاء باللفظ ولو على حساب المعنى قد تزايد في العربية تدريجاً مع دخول الأدب طوره الفني، طور التدوين والتجويد، وتزايد الولع بالتسجيع والمطابقة وغيرهما من المحسنات اللفظية. وكاد الولع بالسجع عند الصاحب بن عباد فيما روي يبلغ حد الجنون، حتى قيل إنه عزل قاضياً بناحية يقال لها (قم) لأنه أراد أن يتم سجعة فقال: أيها القاضي بقم، قد عزلناك فقم. وتكلف في بعض أسفاره كما حدث عنه ابن العميد أن يذهب إلى قرية غامرة ذات ماء ملح يقال لها النوبهار لا لشيء إلا ليكتب إليه: كتابي هذا من النوبهار، يوم السبت نصف النهار، ومازال اللفظ يستبد باحتفال الأدباء ويطغى على المعنى، حتى ارتد الأدب في عصور التدهور زخرفاً لفظياً صرفاً، ولم يبق من المعنى إلا هذيان كهذيان المخالطين
فلا نبالغ إذا قلنا إن المعنى كان في أزهر عصور الأدب العربي يحتل المكان الثاني بعد اللفظ، وهذا واضح في أقوال النقاد. قال الآمدي في موازنته بين الطائيين: (وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأني وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها. . . . فإن اتفق مع هذا معنى لطيف أو حكمة غريبة أو أدب حسن فذلك زائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه). وقال الخليلي في سياق حديث له أورده ياقوت في ترجمة الصاحب بن عباد: (الشاعر يطلب لفظاً حراً ومعنى بديعاً ونظماً حلواً وكلمة رشيقة ومثلاً سهلاً ووزناً مقبولاً)، فكل الاهتمام هنا موجه إلى لطافة النسج والتجويد لا إلى عمق الفكرة والشعور(204/23)
كان الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام يرسلون القول على سجيته في نسج محكم يرمون به إلى بيان أفكارهم وشعورهم على أقصد سبيل وأقربه، فلما كان عهد التحضر والتثقف أحاطت بالأدب عوامل أدت إلى تقديم اللفظ على المعنى، منها فساد اللغة بمخالطة الأعاجم فاشتد الحرص على طلب اللغة الصحيحة وإتقان أساليب العرب الأقحاح وتقليد فحول المتقدمين. وزاد هذا الحرص شدة اشتغال الأعاجم أنفسهم بالأدب وجدهم في تحصيل لغة العرب ولسان الكتاب المنزل، وسبقهم في العلوم والتأليف، وتفاصحهم بمحاكاة أدب الجاهلية وصدر الإسلام، وتظاهرهم بالقدرة على التصرف في الألفاظ والتراكيب، فكان همهم صحة التعبير وبلاغته قبل صدق المعنى وعمقه
ومما زاد الأدباء انصرافاً إلى اللفظ وتجويده واختيار الأسلوب والافتتان في صياغته وتحويره، انتشار المدح والتكسب بالأدب، فإنه لما كانت الفضائل الإنسانية، ولاسيما تلك التي كانت مشهورة مطلوبة في المجتمع الإسلامي، محدودة معروفة، كان مجال القول فيها محدوداً ومجال الابتكار ضيقاً، فطلب الشعراء المداحون السعة في جانب اللفظ، يتأنقون في تزويقه وترصيعه، ويعتاضون عن الابتكار في المعاني بالأوزان الرشيقة والقوافي الرخيمة والتشبيهات اللبيقة، والتقسيم والمقابلة والسجع والتجنيس. وبهذه المحسنات البديعية - ما راق منها وما سمج - تحفل مدائح أبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي وابن الرومي، إذا جردت من زيناتها اللفظية لم يبق من نسيبها الاستهلالي ومدحها المغرق شئ ذو بال؛ من ذلك قول أبي تمام في مدح بعض القواد، ولا داعي لذكر اسم ذلك القائد أو صفته، فما كان لكل ذلك أي دخل في نظم مثل ذلك القصيد:
وجرد من آرائه حين أضرمت ... به الحرب حداً مثل حد المناصل
وسارت به بين القنابل والقنا ... عزائم كانت كالقنا والقنابل
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل
فكل هذه المعاني الدائرة حول شجاعة القائد وأمرائه التي تفوق الجيوش، وعزائمه التي تفل السيوف، والعقبان التي تتبع أعلامه لتنهل من دماء أعدائه، كل هذه المعاني مطروقة من قبل أبي تمام، مذكورة بعده في ميمية المتنبي المشهورة وغيره من مدائحه لسيف الدولة، ولا غرو فقد غدت أكثر معاني الأدب في أبواب المدح والهجاء والفخر والوصف والحكمة(204/24)
وغيرها، تراثاً متداولاً بين الشعراء من جيل إلى جيل، إذا تفنن الشاعر صاغ بعضه صياغة جديدة أو ولد منه بعض التوليد، فإذا اتفق له أن صاغ معنى قديماً صياغة جديدة يفوق صياغة صاحبه الأول صفق له النقاد وقالوا سرقة مغفورة ولص ظريف هو أولى بالمعنى من صاحبه لأنه أجود لفظاً، كما قيل في بيت البحتري في مدح المتوكل:
فلو أن مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لمشى إليك المنبر
أخذه وتصرف فيه من قول أبي تمام:
تكاد مغانيه تهش عراصها ... فتركب من شوق إلى كل راكب
كان الشعراء إذا صرفوا القول إلى المديح أتوا بالمعاني الجوفاء الهزيلة، واحتفوا باللفظ يدارون بزخارفه ركاكة المعنى، وكان أكبر شعراء العربية في طور الأدب الفني مداحين، فامتلأ الأدب العربي بذلك الضرب السقيم المعاني الطنان الألفاظ؛ وإنما كان الشعراء يبتكرون المعاني الجيدة يلبسونها من اللفظ أجمل لبوس حين ينظمون في غير المديح من الوجوه التي يدفع إلى النظم فيها شعور صحيح وفكر ثاقب، فكانت من ذلك حكم المتنبي وأوصاف ابن الرومي ونظرات المعري، كما ظهرت في الأدب العربي تلك الظاهرة الفريدة، وهي أن أشعار كثير من المقلين وممن يعدون في الطبقة الثانية من الشعراء كالصولي والإمام الشافعي، تروع النفس بصدقها وحصافتها، أكثر مما تروعها أشعار المكثرين المشهورين، لأن أولئك المقلين كانوا لا ينظمون الشعر إلا تلبية لحافز نفسي، وهؤلاء المكثرين كانوا ينظمون ابتغاء التوال
ومن عوامل احتفاء أدباء العربية باللفظ أيضاً، أن الأدب العربي في ظل الدولة الإسلامية كان أكبره أدباً بلاطياً وأرستقراطياً، مكفوفاً عن شؤون المجتمع، منزوياً عن أكثر مواضيع القول ومجالات الفن ومسارح الأدب، من وصف الطبيعة والتأليف التاريخي الفني ووصف آثار الأقدمين في عالم الحضارة والفنون، وسبحات الخيال في عوالم الحقيقة والخرافة، وتصوير آثار الرحلات والمغامرات، فلما حرم الأدب طرق هذه المواضيع الجمة الخصبة الحافلة بمنادح التفكير والشعور والقول، لم يبق لديه كبير مجال للابتكار في المعاني، فتوفر على الافتنان في الألفاظ يدور بها في مجالاته المحدودة الموروثة عن المتقدمين.
وزاد مجال القول ضيقاً حرمان الأدب العربي من الاطلاع على الأدب اليوناني؛ فلو كان(204/25)
على اتصال مستمر بذلك الأدب، لتمهدت أمامه منادح للقول من جهة، ولانصرف اهتمامه من جهة أخرى إلى المعاني دون الألفاظ، لأن المعاني دون الألفاظ هي التي تتشارك فيها آداب الأمم المختلفة، أما أدباء العربية الذين لم يطلعوا على أدب أجنبي راق، فكان اعتدادهم بتفوق اللغة العربية على اللغات شديداً، وكانت ألفاظها وتعبيراتها تقوم في مخيلتهم مقام الحقائق المتحجرة، وكان التجويد في استخدام تلك الألفاظ والتعبيرات في الأبواب المطروقة من قديم غاية الأديب، فظل بيت زهير بن أبي سلمى الذي قاله في عهد البداوة، يصدق على شعراء العربية في أوج عهد الحضارة والثقافة:
ما أرانا نقول إلا معاراً ... أو معاداً من قولنا مكروراً
ثم لاشك في أن حياة الترف وزخارف العيش التي انغمس فيها العرب بعد الفتوح، وأبهة البلاط التي كان الأدباء يحومون حولها ويتزاحمون في مواكبها، كانت من أسباب شيوع الزخرف في الأدب الذي هو مرآة للحياة المحيطة به، فإذا كان الأدب الفارسي قد كان في ذلك العهد من الضآلة بحيث لم يؤثر كثيراً في أدب العرب، فقد أثر الفرس في الأدب العربي بمظاهر الترف والبذخ المادية التي نقلها عنهم العباسيون وتركت آثارها في الأدب، وهذا الترف الأدبي كالترف المادي دليل الرخاوة والضعف، والسير إلى الانحلال.
وقد ساعدت طبيعة اللغة العربية ذلك الميل الذي غلب على أدبائها، الميل إلى التأنق في اللفظ، وتثقيله بالمحسنات التي ينوء المعنى تحتها ويتضاءل، وذلك لما للغة العربية من بلاغة أصيلة وموسيقى فخمة، وما لألفاظها وتراكيبها في النفوس من روعة وبهاء، وما لأوزان الشعر العربي وقوافيه من رصانة وجلال، وما للغة من ثروة طائلة وغنى بطرق الاشتقاق وامتلاء بالمترادفات، واتساع لصنوف التشبيهات والمجازات، بحيث يستطيع المتمكن من كل هذا أن يجمع حوله المستجيدين ويستولي على الألباب، دون أن يبتدع في المعنى أو يتعمق في الشعور. كما تصرفك عذوبة اللحن الموسيقي عن تفاهة المعنى المتغنى به؛ وقد استغل كتاب العربية كابن العميد والصاحب والبديع والحريري ثروة اللغة هذه أبعد استغلال، وجاءت رسائلهم ومقاماتهم معارض مائجة بتلك الكنوز العظيمة
ففي الأدبين العربي والإنجليزي آثار بالغة حد الفن من الصدق والعمق والجمال، تجمع بين حرارة الشعور وجودة الأسلوب؛ غير أن الأدب العربي لإحاطة تلك الظروف والعوامل به،(204/26)
أحفل من الأدب الإنجليزي بالآثار التي يغلب فيها اللفظ على المعنى، وتظهر الصنعة على الطبع، وتبدو في دلائل الاحتفاء بالأسلوب واضحة، حتى في مخلفات أكبر أدبائه وأعظمهم حظاً من النبوغ والشاعرية. ويعد بين أقطابه أفراد لم تؤثر عنهم فلسفة في الحياة خاصة أو شخصية مستقلة، ولم يرفع ذكرهم إلا اقتدارهم على تصريف الكلام، ويمتلئ الأدب بآثار أولئك الأدباء التي تعجب بحلاوة أسلوبها وإن لم تعجب بعمق فكرتها، فلسنا نسرف إذا قلنا في الجملة إن الأدب العربي كان أدب أسلوب، والأدب الإنجليزي أدب معنى
فخري أبو السعود(204/27)
الحياة على الكواكب
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لقد خطا علم الفلك خطوات فسيحة أنارت للإنسان وأثارت دهشته وأذهلته وأصبح بفضل ما اخترعه من الآلات الدقيقة ومن جمعه بين مبادئ العلوم الطبيعية والكيماوية واستعانته بالرياضيات ومعادلاتها من معقدة وغير معقدة، أقول بفضل هذا كله استطاع العلماء أن يجلوا بعض المشكلات وأن يتفهموا بعض أسرار الكون.
من كان يتصور أن الإنسان يستطيع أن يعرف شيئاً عن تريب الشمس والأجرام السماوية، حتى الفيلسوف (كنت) وهو العالم ذو النظر الواسع والبصيرة النافذة لم يخطر على باله أن الإنسان سيصل إلى ما وصل إليه في علم الأفلاك فقال: (سيبقى الإنسان جاهلاً حقيقة تركيب الشموس ومعرفة عناصرها.) أما الآن فبفضل المختبرات والمراصد وما تحويه من آلات ومعدات عرف الإنسان بعض الشيء عن النجوم والكواكب والعناصر التي تتألف منها ووقف على خصائصها وقاس حرارتها.
لقد ثبت للعلماء من دراساتهم للأجرام السماوية أنه ما من عنصر موجود في تركيب هذه الأجرام إلا وفي الأرض ما يقابله، وأن الذرة بكهاربها وبروتوناتها وحركات هذه حول بعضها وحول الكهارب تشبه النظام الشمسي والنظم الشمسية الأخرى، أي إن الكون الأعظم يتألف من أكوان أخرى متشابهة في التركيب والبناء، وأن هناك تناسقاً ووحدة مادية كونية، فالنجوم والجزر الكونية، والشهب والنيازك والمذنبات وغيرها - كل هذه تتركب من العناصر الكيمياوية التي نعرفها وأن هناك قوانين تسودها ونواميس تسيطر عليها وعلى حركاتها، وأنه ما من شئ إلا يسير في دائرة من الأنظمة لا يتعداها ولا يشذ عنها؛ ولكن على الرغم من هذا كله ومن وقوف الإنسان على بعض الحقائق عن الكون لا يزال هناك أبواب مغلقة يحتاج فتحها إلى تعمق وجهود متواصلة. ومن الغريب أن الإنسان كلما تقدم في البحث انفتحت أمامه أبواب جديدة من المعرفة وزاد اعتقاداً بضآلته وإيماناً بأنه لا يزال على عتبة اليقظة العقلية.
وهناك أسئلة لم يستطع أحد الإجابة عليها؛ ويظهر أن أمام هذه الأسئلة صعوبات وعقبات لا يزال العلماء يجاهدون للتغلب عليها واقتحامها بما يكتشفونه من قوانين ونواميس، ومما(204/28)
يخترعونه من آلات وأدوات. وقد يكون السؤال الآتي من أكثر الأسئلة التي شغلت الناس وعلماء الفلك على السواء. هل يوجد في الأجرام السماوية أو في بعضها حياة كحياتنا؟ أم هل في الكون عوالم مسكونة غير الأرض؟ وعلى الرغم من معرفة الإنسان كثيراً عن خصائص الكواكب والنجوم فإنه لم يستطع أن يصل في مسألة (سكنى الكواكب) إلى نتيجة قاطعة. ويعود السبب في ذلك إلى عوامل عديدة أهمها: عدم تمكن الإنسان من اختراع آلات يستطيع أن يعرف بوساطتها وجود حياة على الأجرام السماوية. فقد يكون في بعض الأجرام حياة، وقد لا يكون؛ وقد تكون الحياة عليها من نوع لا نعرف كنهه أو ندرك حقيقته. وبحثنا الآن يدور حول الحياة على الكواكب التابعة للنظام الشمسي؛ ونعني بالحياة الحياة التي تماثل الحياة على سطح الأرض ولا شأن لنا بغيرها إن كان في الوجود أحياء أو حياة من طراز آخر. فالأرض كما لا يخفى هي بنت الشمس وهي أحد أفراد الأسرة الشمسية تدور حول أمها (الشمس) كما يدور أيضاً بقية شقيقاتها (السيارات).
وهذه السيارات، بما فيها الأرض، انفصلت عن الشمس ثم كونت كل واحدة منها فلكاً تدور عليه. وقد مرت ملايين السنين قبل أن أصبحت الأرض في حالة صالحة لظهور الحياة عليها. ولابد أن التطورات التي مرت عليها الأرض مرت (وتمر) على سيارات أخرى، وقد أدت (وتؤدي) إلى نفس النتيجة على غيرها من الأجرام، ولكن باستطاعة العلم من دراسة بعض السيارات أن يجزم بأن التطورات عليها لم تصل إلى درجة يصلح معها ظهور حياة أو أحياء.
فإذا أخذنا عطارد وهو أقرب السيارات إلى الشمس نجد أنه لا يحيط به جو وكذلك للسيار بلوتو (وهو أبعد السيارات المعروفة عن الشمس) لا يحيط به جو. وهذان السياران صغيرا الجرم إلى درجة أن جاذبيتهما لا تستطيع أن تحتفظ بالذرات الهوائية التي تفلت وتخرج إلى حيث الجاذبية أقوى. وينتج عن هذا عدم وجود أجواء على الأجرام الصغيرة.
أما المشتري وزحل فحول كل منهما غلاف جوي يمتد إلى آلاف الأميال؛ ويحدث هذا الغلاف ضغطاً عظيماً إلى درجة أن الغازات لا تستطيع تحت تأثيره أن تبقى في حالة غازية بل لابد لها من أن تتميع.
ويرجع السبب في وجود هذا الغلاف الجوي حول هذين الكوكبين وحول أورانوس ونبتون(204/29)
أيضاً إلى كبر أجرامهما. فكلما كان جرم الكوكب كبيراً استطاع (بفضل قوة جاذبيته) أن يحتفظ بالغازات حوله ومنعها من الانفلات.
وعلى ذكر أورانوس ونبتون نقول إن البرودة عليهما أشد من البرودة على زحل والمشتري، ويحتوي غلافهما الخارجي على غاز المستنقعات أكثر مما يحتوي على غاز النشادر. ويعلل العلماء ذلك بأن النشادر لا يبقى في حالة غازية في برودة كالبرودة الموجودة على أورانوس ونبتون.
يتبين مما مر أنه لا يمكن أن تكون بيئة هذه الكواكب الستة صالحة لظهور الحياة عليها، إذ كيف يمكن أن تكون صالحة وبعضها خال من الهواء والبعض الآخر محاط بالأجواء التي تمتد إلى آلاف الأميال محدثة من الضغط ما يستحيل معه وجود أحياء أو حياة. بقي علينا أن نبحث عن الزهرة والمريخ وهما الكوكبان اللذان نجد فيهما بيئة أصلح من غيرهما لظهور الحياة أو لسكنى الأحياء على سطحهما. فالزهرة يحيط بها جو ملئ بالغيوم حتى يصعب رؤية سطحها من ورائه؛ ولم يستطع العلماء أن يتأكدوا من وجود أوكسجين أو بخار ماء؛ ولكن ثبت لديهم وجود ثاني أوكسيد الكربون بكميات كبيرة تفوق الكميات الموجودة في جو الأرض. وثبت للفلكيين من دراسة هذا الكوكب أنه أصلح من غيره من حيث إمكان ظهور حياة عليه، فليس هناك من العوامل الطبيعية والجوية ما يجعل عليه الحياة مستحيلة.
وأما المريخ فقد شغل الناس وشغل علماء الفلك أكثر من أي جرم سماوي آخر؛ واختلفت الأقوال فيه وفي خصائصه ومميزاته، وكثر التحدث عن هذه الأقوال، وراحت الصحف والمجلات تكتب عنه كأنه مسكون، وراحت تصف سكانه وأحوال معيشتهم فقال بعضهم إن سكانه احتفروا ترعاً لري مزروعاتهم، ترعاً هي في الإتقان غاية في البناء آية يعجز أهل الأرض عن محاكاتها وعن الإتيان بمثلها ولو اجتمعوا لذلك
والمريخ أكبر من القمر وأصغر من الأرض، تشرق عليه الشمس كما تشرق على الأرض وتعطيه نوراً وحرارة. ويقول السر روبرت بول: (إن صغر كوكب المريخ يزيد صلاحيته لإقامة الأحياء التي لها حركات مستقلة؛ فثقل الأجسام على سطح المريخ أقل من ثقلها على الأرض، حتى إذا أردت الطيران مثلاً لم تجد فيه من الصعوبة ما تجده فوق سطح(204/30)
الأرض) وهو الذي يقول أيضاً (والمريخ من حيث جرمه ليس فيه ما يمنع كونه داراً للأحياء. . .) وعلل البعض الظاهر التي تحدث في فصل الشتاء بأن بقعاً بيضاء تتكون على كل من قطبيه ثم تضيق هذه البقع بالتدريج حينما يقرب فصل الصيف. وقال آخرون إن في المريخ ماء، وإن هذا الماء يتجمد ويصير ثلجاً عند القطبين. وهناك من العلماء من ينفي هذه الأقوال ويقول إنها من وحي الخيال.
وليس في المريخ بحور واسعة كبحور الأرض، فسطحه بر لا بحر فيه، يتعاقب عليه الليل والنهار كما يتعاقبان على الأرض؛ ويومه أطول بقليل من يوم الأرض، وله غلاف من الهواء يحيط به، ولكنه لطيف جداً بالنسبة إلى هواء الأرض، وهو يتركب من الأوكسجين وبخار الماء، ولاشك أن كمية الأوكسجين الموجودة في جو المريخ أقل بكثير من الكمية الموجودة في جو الأرض. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أنه مادام الأمر كذلك (أي قلة الأوكسجين) فلا مجال لظهور الحياة عليه، ولكننا نقابل ما تبادر إلى الذهن بالقول أن الأحياء الأرضية وجدت الأكسجين فاستخلصته بالانتخاب الطبيعي لأنه أصلح من غيره لتوليد القوة باتحاده مع الكربون، أي أن الأحياء تهيئ نفسها للأحوال التي توجد فيها، وعلى هذا فلسنا في وضع نستطيع معه الجزم بأن كمية معينة من الأوكسجين، أو أن الأوكسجين ضروري للحياة لا غنى لها عنه، فقد تكيف هذه الأحياء نفسها إلى الوضع الذي توجد فيه، وتستخدمه لما فيه نفعها واستمرار حياتها
ويقول الأستاذ (لول) وهو الذي درس المريخ أكثر من غيره وإليه ترجع أكثر معلوماتنا عنه - يقول إن سكان المريخ أرقى من سكان الأرض، ويستدل على ذلك بهندسة الأقنية العجيبة (الموجودة على المريخ)، ويجد في صنعها المثير للإعجاب ما يؤيد رأيه وأقواله
وعلى فرض وجود أحياء على سطح المريخ فصغر جرمه وما ينتج عن ذلك من ضعف للجاذبية - كل هذا يقضي بأن تكون تلك الأحياء كبيرة الحجم بالنسبة إلى الأحياء الموجودة على سطح الأرض، كما إن كبر جرم الكوكب يقضي بوجود أحياء (إن كان ثمة حياة) صغيرة الجرم. . .
وعلى العموم فالزهرة والمريخ أصلح الكواكب لسكنى الأحياء عليهما، وليس هناك من العوامل ما يمنع وجود حياة كحياتنا على سطحهما؛ وحالة الزهرة الآن هي الحالة التي(204/31)
كانت عليها الأرض قبل ملايين السنين، كما إن حالة الأرض بعد ملايين السنين ستكون مشابهة لحالة المريخ الآن؛ إذ يقل الأوكسجين وتقل الحرارة التي تأتيها من الشمس. وقد يكون هذا هو السبب في تعليل تفوق سكان المريخ (إن كان في المريخ حياة) على سكان الأرض؛ وقد يكون أيضاً هو السبب الذي دفع البعض إلى تعليل تقدم سكان المريخ في الحضارة ووسائل الرفاهية والمهارة في البناء والإنشاء.
والآن. . . وقد أنهينا الكلام عن الكواكب التابعة للنظام الشمسي نقول إن في الكون نجوماً وشموساً لا عدّ لها، ولهذه كواكبها وما يتبعها من مذنبات وشهب ونيازك. ولقد دلت المراصد على وجود 75 مليوناً من العوالم التي تشبه عالمنا، وآلاف الملايين من النجوم. وكلما تقدم الإنسان دقة في آلات الرصد تجلى له اتساع الكون بصورة أوضح وأجلى، وثبت له أن ما كشفه من الكون إن هو إلا جزء ضئيل جداً مما لم يستطع اكتشافه بعد. فكون هذه حالته وهذا اتساعه لمن الطبيعي أن يكون في من الكواكب ما اجتاز (ويجتاز) الأدوار التي مرت (وتمر) على الأرض. ومن المحتمل جداً أن تكون بيئة بعض هذه الكواكب صالحة لسكنى أحياء أو ظهور حياة عليها
وأخيراً إذا سئلت عن رأيي في مسألة الحياة على الكواكب لاكتفيت بالجواب الآتي:
ليس الغريب أن تكون بعض الأجرام السماوية مسكونة وعامرة بالأحياء، بل الغريب ألا تكون كذلك
قدري حافظ طوقان(204/32)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 7 -
الديانة المصرية - الحياة الآخرة
اعتقد المصريون منذ أقدم عصورهم بخلود الروح وبأن هناك حياة آخرة يجازى فيها المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته. والمنطق الذي استندوا إليه في هذه العقيدة، هو أن هذه الحياة الدنيا مزيج من الخيرات والشرور، وأن المشاهد أن هذه الفترة القصيرة التي يعيشها الإنسان على الأرض، ليست جديرة بتحقيق مكافآت الأخيار، ولا عقوبات الأشرار. وإذن فالمنطق يقفنا أمام أمرين لا ثالث لهما، وهما: إما أن تكون هناك حياة أخرى يوفى فيها الأخيار والأشرار جزاء أعمالهم في دقة وعدالة، وإما أن ينتهي كل شئ بمجرد انتهاء هذه الحياة. وفي هذه الحالة الأخيرة لا يتحقق تقدير الفضيلة والرذيلة، ولا يمتاز الخير عن الشر بأية ميزة. وبذلك تنتفي عن الإله صفة العدالة، وما انتفت عنه هذه الصفة لحقه النقص، ومتى لحقه النقص فقد انهارت ألوهيته من أساسها، وإذن فالحياة الأخرى من لوازم الألوهية نفسها
أما طريق معرفة الخيّر من الشرير فهي أن يؤتى بأعمال كل منهما الدنيوية المقيدة في سجل أمين لم يدع منها كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ثم يجلس المسئول أمام محكمة (أوزيريس) الذي نكتفي أن نسوق إليك في وصفها ما كتبه الأستاذ (بريستيد): (وتتكون محكمة أوزيريس في عقيدة القوم من اثنين وأربعين قاضياً يجلسون أمام المعبود كالزبانية يمثل كل منهم قسماً من أقسام مصر، فإذا دخل المتوفى أمام المحكمة وأنكر أمام كل قاض إثماً من آثامه، يوزن قلبه في ميزان مقابل ريشة العدالة، للتأكد من صدق قوله، أما الآثام التي يتبرأ منها الميت أمام محكمة أوزيريس فهي بعينها الآثام المستهجنة في عهدنا هذا. وهاك بيناً موجزاً لتلك الآثام: السرقة، والقتل، والاختلاس (وبالأخص السلب)، والكذب، والخداع، وشهادة الزور، والرياء والتنابذ بالألقاب والتجسس، وعدم الاعتدال في الأمور(204/33)
الجنسية، وامتهان كرامة المعبودات أو الأموات كالكفر بهم، وسرقة أمتعة الموتى. ومن هذه القائمة يستدل على عظم الرادع النفسي عند المصريين وقتئذ استنكاراً للمنكرات. وعليه فالمصريون هم أول قوم اعتقدوا برتب الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية. ويرجع هذا الاعتقاد في الحقيقة إلى المملكة القديمة. والغريب أن هذه العقيدة انحصرت في المصريين أكثر من ألف سنة في حين أن البابليين والإسرائيليين اعتقدوا أن انتقال الموتى عموماً إلى سقر المعرفة باسم (شول) واعتقد المصريون أن الأموات الذين تحكم عليهم محكمة أوزيريس بالإجرام يعرضون للجوع والعطش ويحجزون في أماكن مظلمة لا يبصرون فيها ضوء الشمس. وفي المحكمة طريق أخرى للقصاص، منها حيوان بشع له رأس تمساح ومقدم أسد ومؤخر دب البحر يفترس المجرمين الآثمين. وأخذت آراء القوم في عهد المملكة الوسطى تحوم حول تطهير النفس من المعاصي والمظاهر التماساً للبراءة بعد الوفاة وتجنباً للعقاب الأليم، فأصبحت ترى الكثير من نقوش شواهد القبور شديدة الشبه بما ألمعنا إليه في عهد المملكة القديمة، وهي تتلخص في أن الميت يطعم الجوعان ويروي الضمآن ويكسو العريان وينقل في سفينته من ليس له سفينة. وجاء على بعض الشواهد أن المتوفى كان أبا اليتيم وزوج الأرملة وملجأ الذي لا ملجأ له مما أشرنا إليه حين تكلمنا على كرم وسخاء حكام الأقسام والشخص الذي تبرئه الحكمة أوزيريس تلقبه بالرجل الطاهر العادل أو صادق القول أو المنتصر)
فإذا فرغ (توت) - وهو الذي تصوره لنا الآثار حاملاً الميزان في يده - من مهمته أمر بهذا المسئول فيساق إلى ذلك الصراط المخوف الذي مد فوق الجحيم والذي إذا اجتازه الشخص نجا وارتقى إلى جوار الآلهة والفراعنة الأبرار، وإذا هوى من فوقه سقط في واد سحيق ممتلئ بالأفاعي والحيات التي تتولى تعذيبه بقسوة حتى ينال قسطه من الجزاء
ومن الغريب أن المصريين مع إيمانهم بهذه العدالة الصارمة في الحساب ووزن الأعمال كانوا يعتقدون أن تلاوة الرقى والتعاويذ وكتابتها على تابوت الميت أو على حوائط قبره تستطيع أن تنفعه أمام محكمة أوزيريس فتزيد في نعيمه وتخفف من عذابه، وهذا هو معنى قول المحدثين: (الرحمة فوق العدل). وقد كتبت هذه التعاويذ في كتاب (الموتى) وكتاب توت الذي ألمعنا إليه آنفاً.(204/34)
عقائد وطقوس دينية
اعتقد المصريون - كما أسلفنا - بالبعث والحشر والحساب على الأعمال والميزان والصراط والنعيم والجحيم، وآمنوا كذلك بأن هذا النعيم درجات، أدناها المتع المادية، وأعلاها الذهاب إلى جوار الآلهة أو الصعود بواسطة السلم الإلهي من مملكة الموتى إلى مملكة (رع) حيث يقيم الصالحون والمقربون مقاماً أبدياً لا مرض فيه ولا تعب ولا موت ولا فناء. واعتقدوا أن في الجحيم كذلك درجات بعضها خفيف وبعضها قاس، وأن بها ثعابين وحيات وتنينات تتولى تعذيب الآثمين بقدر ما يرسم لها إله الجحيم.
هذا كله في الآخرة، أما في الدنيا فمن طقوسهم الدينية أنه إذا مات الميت يجب أن يغسل بالماء النقي وأن يكفن ويدفن بعد أن يلقنه الكاهن ما كانوا يسمونه بالرقى المنجية التي تحميه في القبر من الأرواح الشريرة وتكفل له في الآخرة رحمة الآلهة، وأن تكتب تعاويذ (توت) على تابوته وجدران قبره إن كان من ذوي الحيثيات كأن يكون ملكاً أو أميراً أو كاهناً أو وزيراً أو موظفاً كبيراً أو أديباً أو طبيباً مثلاً، أما إن كان من أبناء الطبقات الدنيا، فإن هذه التعاويذ تكتب على كفنه أو في ورقة بردية تدفن معه.
ومن هذه الطقوس أيضاً تضحية الحيوانات على قبر المائت ووضع بعض لحومها مع الخبز والماء والفاكهة والنبيذ في داخل القبر، وأن يتولى تقديم هذه الضحايا أحد الكهنة، ليتقبلها أوزيريس فيضمن أهل الميت بهذا القبول لمتوفاهم الرحمة والغفران
رأى بعض الباحثين الغربيين أن هذه العقائد الفرعونية من: بعث وحشر ووزن وثواب وعقاب ونعيم، بعضه مادي وبعضه معنوي، وعذاب يتفاوت بتفاوت درجات الآثام والشرور، وأن تلك الطقوس الوثنية من: غسل الميت وتكفينه وتلقينه ودفنه ونحر الضحايا بمناسبة موته، كل هذا يوجد بحذافيره في بعض الديانات التي تدعي لنفسها السماوية فرموا هذه الديانات الأخيرة باستقائها عقائدها وطقوسها من تلك الديانة الوثنية لا من عند الله كما تدعي
ولست أدري كيف يستسيغ أولئك الباحثون هذا المنطق العجيب مع اعترافهم بالجهل التام للأصول الأولية في الديانة المصرية؛ وما المانع من أن يكون مصدر هذه الأصول المجهولة لديهم هو: السماء، وأن يكون التوثن والتعدد عارضين لها بعد التأليه والتوحيد؟(204/35)
وفي هذه الحالة يكون من الطبيعي أن تتفق مع الديانات السماوية في جميع العقائد والطقوس التي لم ينلها التحريف؛ ثم ما المانع كذلك من أن تكون تلك الطقوس مستحدثة في الديانة المصرية لا يصعد مبدؤها على سلم التاريخ إلا إلى العهود التي اختلط فيها المصريون بالساميين واقتبسوا منهم بعض طقوسهم الدينية؟ هذه كلها احتمالات جائزة الوقوع، ولكن الذي لاشك فيه هو أن اتفاق ديانة وثنية مع أخرى سماوية لا يقوم برهاناً على أخذ الثانية من الأولى، ولا يصح الاستناد إليه في الحيلولة بينها وبين سماويتها
الأخلاق
آمن المصريون - كما قدمنا - منذ عهود تقصر عن إدراكها مجهودات التاريخ بأن لهذه الأكوان منشئاً أو منشئين خلقوها ونظموها وهم يتولون تصريف شؤونها بحكمة واقتدار وعدالة وإنصاف. ولأمر ما، اقتنع المصريون منذ أقدم عصورهم بأن هؤلاء الآلهة المتصرفين في الأكوان اختاروا في مبدأ الدنيا عرش مصر واتخذوه مقراً لهم يصدرون من فوقه أحكامهم وأوامرهم النافذة التي لا يجرؤ أي فرد من أفراد الوجود على التمرد عليها أو عدم الانصياع لها؛ ثم عن لهؤلاء الآلهة أن يغادروا عرش مصر إلى عرش السماء ففعلوا، ولكن بعد أن استخلفوا على هذا العرش العزيز أبناءهم وأحفادهم الفراعنة العظماء وزودوهم بكل ما يحتاجون إليه في حكمهم للبلاد وسياستهم للدولة وقيادتهم لجميع أنحاء النظم الاجتماعية والأخلاقية التي لا تسير بالبلاد إلا إلى التقدم والعمران، وأن أولئك الآلهة سيلحظون الحاكمين والمحكومين بعنايتهم ويكلئونهم بعين رعايتهم ماداموا يقومون بواجباتهم نحو أولئك الآلهة المحسنين. وكان هذا القيام بالواجب يتلخص في الشعائر الدينية وفي الاتصاف بالفضائل الأخلاقية، وأولها الولاء للعرش والعدالة والصدق والأمانة والرحمة والإحسان وأشباهها
ولا ريب أن هذه الأسطورة - على بطلانها - كانت أقوى العوامل وأهم الأسباب في رقي مصر العمراني، وتماسكها الاجتماعي وجلالها السياسي، وسموها الأخلاقي، واطراد تقدمها في العلم والأدب والفنون الجميلة والصناعات النافعة.
ومن الطبيعي أن الأمة التي تعتقد أن نجاحها في الدنيا وفوزها في الآخرة مترتبان على الفضائل لا تألو جهداً في أن تكون أمة فاضلة خيّرة، وهذا هو الذي حدث بالفعل، فقد(204/36)
انتشرت الفضائل في وادي النيل انتشاراً قوياً وعظم الخاصة والعامة معتنقيها وكافأهم الملوك على حسن سلوكهم بجلائل النعم وأعاظم المنح كما ضرب على الرذائل والشرور بأيد من حديد، وأصبح أفراد هذه الأمة جميعهم يفخرون بالفضائل ويتبرءون من الرذائل لا فرق في ذلك بين فرعون على جلاله وبين الفلاح أو العامل الحقير. وإليك شيئاً من نصوص تصوير هذا العصر الغابر، ومقدار تمسكه بالفضائل وأثر ذلك التمسك في حياته: (واعتقد القوم إن الوصول إلى حقول الخيرات الأخروية يكون بالاهتمام بالشعائر الدينية والاعتناء بها، وبتوالي الأيام اعتقد الناس أن النعيم الأخروي يكافأ به من يحافظ على طهارة الذمة والشرف والأعمال الصالحة في الدنيا. من ذلك ما ورد في مقبرة أحد أمراء الأسرة الخامسة مترجماً: (لقد شيدت مقبرتي بغاية العدل والحق فلا شئ فيها يستحقه غيري، وأنا لم أوذ أي شخص). وما ورد أيضاً من النقوش على جدر مقبرة لأحد أبناء تلك العصور مترجماً: (أنا لم أعاقب قط في حياتي أمام رجال الحكومة ولم أسرق شيئاً من غيري؛ بل فعلت كل ما يرضي غيري). ولم تقتصر نقوش مقابر تلك العصور على إنكار السيئات، بل شملت أيضاً فعل الخيرات كما ورد على جدار مقبرة وجيه في الأسرة الخامسة مترجماً: (كنت أقدم الخبز لفقراء إقليمي، وأكسو عراته، ولم أوذ أحداً طمعاً في أملاكه حتى اشتكاني إلى معبود بلده، ولم أسمح لضعيف أن يخشى بأس قوي فيتظلم من ذلك للإله).
ومما ورد في موضع آخر تعزيزاً لما قدمناه ما يلي: (ومنه يتضح أن القوم وقتئذ أخذوا يعتقدون بوجود محاكمة في الآخرة أمام (أوزيريس) وأن هذه العقيدة أحدثت تأثيراً أدبياً عظيماً في نفوس المصريين، فإنهم وإن كانوا حقيقة منذ قديم الزمن ذوي ضمائر ونفوس رادعة إلا أنهم كانوا في احتياج إلى زجر قوي كالوارد في عقيدة أوزيريس. لذلك نشاهد بين نقوش دهاليز أهرام أمراء الأسرتين: الخامسة والسادسة تحذير كل من يستولي على مقابرهم بأنه سيحاكم على أفعاله أمام المعبود الكبير، كما ورد في مقبرة أخرى ما يشيره إلى تجنب الكذب كلية رغبة في رضاء المعبود وقت الحساب. كل هذه الحقائق وجدت مدونة بين أقدم نصوص الموتى المعروفة الآن بمصر
ومما لاشك فيه أن اتصاف المصريين بالفضائل والخيرات يرجع إلى أوائل عهدهم بالتعقل(204/37)
والتفكير. ونحن بهذه المناسبة لا نوافق الأستاذ (بريستيد) على قوله: إن الواجب الديني كان في أول أمره مقصوراً على الشعائر ثم تحول بعد ذلك إلى تناول الفضائل. فهذا القول غير صحيح البتة، لأن المصريين لم يعرفوا الحياة يوماً واحداً بدون اعتناق الفضائل والأخلاق وإيمانهم بأنها أوامر الآلهة كانوا ينشرونها بين الناس إبان اتخاذهم عرش مصر مقراً، أي قبل صعودهم إلى السماء في الأزمان السحيقة. ولو كان قول بريستيد صحيحاً للزم أن يكون الآلهة قد شغلوا زمناً عن الأمر بالفضائل ولم يهتموا إلا بشعائرهم الدينية، وهذا منقص لشئونهم، حاط بعظمتهم مما لم يشعر به المصريون يوماً واحداً
(يتبع)
محمد غلاب(204/38)
دالت دولة الشعر
للأديب هلال احمد شتا
تصاحب هذه الحقيقة المرة رأسي منذ زمن بعيد، ويقوم بيني وبين نفسي من أجلها جدال عنيف؛ فلا أنا قادر على أن أفلتها لتجد لها مكاناً عند غيري، ولا على أن أدعها تقض مضجعي وتلهب رأسي. . وليس شك في أني تركتها تؤرقني طوال هذا الزمن، فلم أفض بها إلى مثل هذه السطور، خوفاً على نفسي وإشفاقاً وفرقاً. . فكلما تمثل في خيالي وصح في ذهني أن مئات من الناس يبقون على هذه الصناعة - صناعة الشعر - ويخلصون لها، ويؤمنون بها، ترددت في الكتابة، ثم أحجمت. .
على أنني - وقد آمنت بهذه الحقيقة منذ كان شوقي قائماً بيننا يملأ الدنيا صدحاً وتغريداً، ومنذ كان غيره من فحول الشعر لا يزالون في الميدان صوالين جوالين - أحسبني اليوم قادراً على أن أبوح بما آمنت به، بعد أن خلت عرائن الأسود إلا من الأشبال، وبعد أن تقدم بنا العصر بضع خطوات كفيلة بأن تقصي على دولة الشعر أي قضاء. .
ذلك أن الشعر لم يصبح مما يسيغه ذوق عصرنا هذا، ولا أصبح قادراً على أن ينهض على قدميه أو يواصل سيره في سبيل البقاء. وسأحاول على هذه الصفحات على أن أبسط ذلك بعض البسط، مترفقاً في محاولتي عازفاً عن المبالغة. وفي يقيني أنني سأخرج من هذه الكلمة الهادئة، وإلى جانبي غير قليل من القراء الكرام. . فأما الشعراء والمؤمنون بهم، فلست أخشى اليوم نقمتهم أو أشفق مما عساهم يفعلون.
ولقد يدرك القارئ أني لا أحاول أن أنتقص من قدر الشعر القديم أو أكفر برسالته، فأنا عن مثل ذلك عزوف عفيف. . ولكن الذي أقول: هو أن رسالة الجمال والفن في ذلك الشعر القديم ليست خالدة ولا باقية على الأيام؛ وبحسب الشعراء الأقدمين أنهم قاموا على تأدية هذه الرسالة في عصورهم وأزمانهم، وأنهم صوروا بشعرهم صوراً بهرت نفوس ذويهم وأقوامهم ومعاصريهم؛ بل إن تقدير الزمن قد امتد بآثارهم عصوراً أخرى غير تلك العصور. . ولكن نتاجهم هذا لم يعد راوياً لظمأنا نحن إلى الجمال، مصوراً في صور تهز نفوس أبناء هذا العصر الحديث الناظرين إلى الحياة بغير منظار السادة الأولين. . وكل ما بقي لنا من آثار ذلك السلف الكريم لا يعدو أن يكون ثروة لفظية ولغوية تقوم منا اللسان(204/39)
وتبسط أمامنا سبل الحديث المستقيم، ولا يعدو أن يكون موضوعاً لدراسات أدبية، أو اجتماعية، أو نفسية، يفيد منها التاريخ، ويفيد منها رواد الأدب والباحثون في حياة الجماعات الأولى. . كيف كانت، وكيف سارت بها السنون نحو الرقي والكمال، أو نحو التدهور والقعود
وهذه اللغة العربية التي جمعت على هيكلها شعوباً وقبائل في شبه الجزيرة، كانت في حاجة إلى الشعر وهي ما زالت طفلة تحبو، شأنها في ذلك شأن كل اللغات اليافعة القريبة المولد؛ فالشعر يكاد يكون هو المظهر الأوحد للأدب أو الفن في البيئات الأمية التي تتقطع فيها أسباب الكتابة والتدوين. وكل جماعة من الجماعات الأمية محتاجة أشد الحاجة إلى وسيلة تسجل بها خواطرها المشتركة، وتعبر عن مشاعرها، وتتحدث بمفاخرها؛ ولابد من أن تكون هذه الوسيلة قادرة على إذاعة رسالتها بين الأفراد، وحثهم على أن يتلقنوها؛ ولا يستطيع كل ذلك إلا الشعر، فإن اتزانه، وتقفيته، وموسيقاه، تسوقه إلى ذاكرة سامعيه من أيسر طريق وأقصد سبيل
ولاشك في أن علم الناس بالقراءة والكتابة - بعد ذلك - يحمل عن كاهل الشعر بعض هذه الأعباء، ويحد كذلك من سلطانه شيئاً، ويسلبه بعض نفوذه العريض، ولكنه يوجهه توجيهاً سامياً نحو الفن الرفيع، وتلمس ألوان الجمال، التي تختفي في ثنايا الوجود، وتتوارى وراء أغشية الجمود
على أن الشعر لا يمكن أن يكون متفرداً بهذا التوجيه الجديد الذي دفعته إليه معرفة الناس القراءة والكتابة، لأن هذه المعرفة خلقت النثر الواسع الأجواء، الذي يلعب بسائر فنون القول، والذي أصبح بعد قليل أقدر عليها من الشعر وأقوى ساعداً. ولست بحاجة إلى أن أثبت قدرة النثر على التعبير، وتفوقه على الشعر في هذا السبيل، فذلك أمر بديهي؛ ولن يجد الكاتب الذي يسجل خواطره، أو يترجم أحاسيسه، أو يعبر عما يختلج في ذهنه من المعاني - أفسح من النثر مجالاً، ولا أوسع ميداناً لقلمه الجوال. ولن يتقيد فيما يكتب بوزن يتحتم عليه أن يرعاه، ولا بقافية تأخذ بخناق قلمه أخذاً
وأخشى أن يتحدث المفتونون بالشعر - في هذا المجال - عن روحانية الشعر، وسمو أجوائه، وروعة أخيلته، وفتنة موسيقاه، وما إلى ذلك مما يجيدون في الحديث؛ وألا يدركوا(204/40)
أن روحانية المعنى، وسمو الجو، وروعة الخيال، ليست قاصرة على الشعر ولا هي وقف عليه؛ فما أجمل ما يكتب الناثرون أصحاب النفوس الشاعرة، وما أروع ما ينتجون. . وفي جنبات سطورهم المنثورة تسفر الفتنة الخالدة التي تلعب بالمشاعر لعباً. . ولن يسيء إلى هذه الفتنة الرائعة أنها محاطة بجلال الصمت، وأنها عارية عن موسيقى الشعر التي لم تعد إليها بحاجة، فلقد كانت هذه الموسيقى تهز النفوس يوم كانت النفوس لا تزال على فطرتها طفلة رخوة؛ ولكنها اليوم لم تهز نفوساً تنصت كل يوم لموسيقى الأوتار.
لقد دار الزمن دورة قصيرة المدى، فإذا الشعر يصبح قاصراً عن أداء رسالة الفن والجمال، التي وجهه إليها علم الناس بالقراءة والكتابة؛ وليس عمر الشعر العربي الصحيح الذي أدى رسالته هذه فأحسن الأداء سوى لمحة خاطفة من عمر الزمان، فلقد وقف بعد ذلك حيناً فأطال الوقوف، ولم يخط إلى الأمام خطوة واحدة، بل إنه سار إلى الوراء خطوات وخطوات، ليصبح ترديداً معوجاً لما قال الأقدمون
ولقد ذهب الباحثون يتلمسون أسباب وقفته، ويخلقون المعاذير، وراحوا يوغلون في مسالك من القول متشعبة لا تنتهي إلى مصير؛ يضرب الأكثرون منهم على وتر واحد هو وتر الخطوب السياسية التي هدت كاهل العرب والعربية والتي طوحت بآثارهم إلى مهاوي الفناء. . ومهما يكن في ذلك من الصدق أو سلامة المنطق، فإنه لا ينهض سبباً لوقفة الشعر العربي في أيامنا هذه التي شملتنا فيها موجة من الرقي في مناحي التفكير جميعاً، إلا ناحية الشعر. . والتي بلغ نثرنا فيها مكاناً فوق مكان الأولين
وفي يقيني أن وقفة الشعر هذه، وتخاذله، وسيره نحو الفناء، لا سبب له سوى أنه قد أدركته الكهولة، فلم يبق ثمة أمل في شفائه من أهوال السنين التي تستشري اليوم في عظامه وخلاياه، والتي سوف تحيله أثراً وذكرى. فليست عقولنا كهلة ولا مريضة، وإنما الشعر هو المريض المهيض؛ وما أجدبت منا القرائح ولا زايلتنا خصوبة الخيال، وإنما الشعر هو الذي يضيق عما خلفت قرائحنا المصقولة بمعول التفكير الحديث من آفاق واسعة ممدودة الأطراف. وهاهم الأوربيون - وهم من تتحدث معجزات العصر بعبقريتهم ونبوغهم في شتى جوانب التفكير، وسائر ضروب الفن الجميل - قد أدركوا منذ زمن بعيد قصور الشعر وضيق ذات نفسه، وتوجه شعراؤهم إلى ألوان من القصة والمسرحية(204/41)
وغيرهما. وهاهو شعرهم آخذ سمته نحو الهزيمة القاتلة والفناء الذريع.
ويلوح أن شعراءنا المحدثين قد آمنوا بهزيمة الشعر فيما بينهم وبين أنفسهم - ولو من حيث لا يشعرون - ويلوح كذلك أن جهود شوقي الأخيرة في سبيل المسرحية الشعرية كانت مظهراً من مظاهر هذا الإيمان. وإننا لنلمس أن النثر في نتاج العقاد عشرة أضعاف الشعر أو يزيد، وأن القصة وحدها والمقالة القصيرة هما قبلة جهود المازني جميعاً - وقد كان شاعراً -
وأحمد الله على أن شعراءنا الشبان، أمثال: ناجي، والخفيف، وفتحي موسى، والطرابلسي، وغيرهم، قد وجهوا عنايتهم إلى القصة وما إليها من فنون الكتابة والبحث، قبل أن يبعثر الشعر أيامهم الغر، وهي أعز علينا من أن تلقى في الهراء. .
ولا حاجة بعد هذا القول بأن دولة الشعر قد دالت، فذلك ما انتهيت إليه، وما أظن القراء إلا منتهين إليه أيضاً. . وإذا كان الشعر قد استطاع أن يحافظ على بقائه طوال هذه السنين، وأن يعارك الزمن فتياً وكهلاً، فلن يستطيع البقاء في عصر الطباعة والصحافة، ولن يستطيع البقاء في عصر القصة - وقد سلبته ما تبقى له من بعض الفتنة والجمال. ولكنني لن أنسى أن أقول أن نوعاً واحداً من الشعر لا يزال قادراً على البقاء، هو شعر الغناء، ليكمل جانباً من فن الموسيقى، كما يكمل أدب المسرحية فن التمثيل.
ويستطيع الشعراء بعد ذلك أن ينظموا لأنفسهم ما يشاءون، وأن يقرءوا لأنفسهم كذلك ما يشاءون. . فأما المجد الأدبي، وأما رسالة الجمال والفن، فليبحثوا عنها من طريق غير هذا الطريق. .
هلال احمد شتا بمجلس الشيوخ(204/42)
مات كاتب البعث!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
ما أدركت روحي موته لأول منعاه لأنه يملؤها ويدفعها على محور من قلمه، ولا يزال شفق شمسه على آفاقها يسحب ذيوله في بطء، ولذلك استطعت أن أتلقى منعاه تلقي الخبير بالموت العالم بأنه شئ عادي يجب ألا تضج منه الأحياء بالشكوى والتفجع.
ثم أفقت دفعة واحدة منزعجاً على ضجة روحي وهي تتنزى من الألم وتتلوى تحت هول الفجيعة. . . فجيعة قلبي في صاحب حديثه، الكاتب الأصم الذي كان يسمع من هناك. . . مما وراء الأبعاد والحدود.، ثم يحدث
وفجيعة نفسي التي كانت تغتسل كل أسبوع بمداده الأسود المنير. . . وفجيعة قلمي العاجز في صاحب القلم المعجز الذي كان في يده كعصا سحرية يلعب بها تارة فيخايل (بالسحاب الأحمر) و (حديث القمر) ويكتب بها على (أوراق الورد)، ويضرب بها على قسوة القلوب فتنبجس للمساكين، ويسوق بها (تحت راية القرآن) نحو هدف الشرق الإسلامي أجيالاً جديدة هي مدينة له لا ريب بجزء كبير من الروح الذي يملؤها بفتنة المجد وسحر العزة ومرارة الجد، وبعث تاريخ الأبوة، والإيمان بالشرق والعروبة والإسلام إيماناً يحمل عليه الفن الساحر والروح الغامر الذي يستولي على القارئ ويتركه في غمرة لا يفيق منها إلا وقد انتقل إليه سر الكاتب، وسحر المكتوب.
وابتدأت جراح روحي تتسع وتستدمي وتنغل حتى توجعت واضطربت وراب أصدقائي من أمري شئ غريب، وصاح الألم ينادي القلم ليسعفه بالبلسم فيشيع الراحل العظيم ويسعى في جنازته الروحية على صفحات (الرسالة).
ولكن العاطفة إذا ثارت وفارت وهاج هيجها شلت جميع قوى العقل. وهاأنذا أجلس ساعتين لأكتب الكلمة التي أخفف بها عن نفسي، فلا أستطيع! مع إني ممتلئ بميراث الرجل وشخصيته وأدبه وحبه وأخباره.
وأشهد أن جميع ما في نفسي من الحزن يختفي حين أريد أن أدفعه عني في أجساد وصور من كلمات، وأن ما أريد أن أقوله يروغ مني وتزيغ حواسي دون مكمنه فلا أراه ولا أدركه. . . والأمر بعد للصمت وإن أتلف، وللدمع وإن أسعف.(204/43)
وقدرت أن مناحة ستقام بمصر على كاتب البعث فانتظرت حتى بكوا وكتبوا، فقرأت بعض الكلمات، وشربت بعض العبرات. . ورأيت مكان قلمه خالياً في (الرسالة) فراعني وحدثني أن أعلام الأدب الإسلامي التي كانت تخفق على نصاب من قلمه قد طويت إلى يوم النشور. . . وأن البيان الهدار الرجاف الجارف قد غاض. . . وأن القلب الذي كنا نسمع لغته بين السطور قد تقطعت أوتاره. . . وأن الحركة الدائبة المجاهدة الناصبة لغاية الشرق الإسلامي والاعتزاز به والدفاع عن محاسنه وجلوة آثاره والصمود بها أمام الزلزلة التي أصابت الشرقيين غداة صحوا على قصف القوة الغربية وفتنة مباهجها صموداً ترك كثيراً من الشبان متماسكين مؤمنين بأنفسهم وبلادهم وميراثهم على رغم ما أتى به الغرب من تخانيث المدنية وزيغ الحواس بها. . هذه الحركة قد ركدت إلى الأبد في وادي السكون. . .
ثم قرأت قصة موته بقلم صديقه وأستاذنا صاحب الرسالة فعجبت لذلك القلب الكبير الذي يأبى أن يموت إلا على نية عمل عظيم للحياة.! يريد أن يطهر. . . إنها وصيته إلى تلاميذ مدرسته فلينفذوها فإنها رغبة التاريخ حدث بها على لسان حي ميت
وهكذا تنتهي حياة المجاهد لا يموت في فراشه إلا على نية الجهاد، لأن أشواق روحه وأوطارها دائماً في حياة الميدان. .
وهكذا تسلم حياة الطهارة إلى تلك الخاتمة السعيدة بالنية العظيمة كما تسلم حياة الإثم وخيانة الميراث الإنساني والأمجاد القومية إلى أن يموت أحدهم وهو في ضجة من شهوات النفس. ولكن هل يستويان مثلاً؟ لا والذي جعل الحياة واجباً حملناه غير مخيرين ولابسناه على كره منا! وجعل الأرض ميداناً للكفاح، لا وليمة للتشهي! وجعل من التاريخ كيراً لابنى ينفى الخبث!
قصة حياة الرافعي العظيم هي قصة الكفاح بين أولئك الذين أرادوا أن يجمعوا للشرق بين الحسنيين من الطريف النافع والتالد الخالد الثابت الذي لا يمكن أن يتغير بتغير العصور، فإغفاله ضلال في الحاضر وعقوق للماضي وتضييع للمستقبل وإفناء للشخصية؛ وبين أولئك الذين أرادوا على حد تعبيره أن يترجموا أمم الشرق إلى أمم غربية برغم الدم والاستعداد وطبيعة المكان ووحي التاريخ. وقد بدأ رحمه الله أن يأخذ مكانه في صفوف(204/44)
الفريق الأول منذ عهد الإمام محمد عبده، ولذلك دعا له بهذه الدعوة التي تعتبر نبوءة صادقة من الإمام قال له: (أقامك الله في الأواخر مقام حسان في الأوائل)
ومازال الرافعي حجة من حجج الشرق والإسلام في عصر فقير من الأقلام المجاهدة الذائدة؛ وقد أتى عليه زمن أوشك فيه أن يكون وحده آخذاً جهة في الميدان وجميع الكتاب في جهة مضادة، وكان هذا في الزمن الذي أعقب الثورة المصرية سنة 1919 والذي طغت فيه على مصر موجة هدامة تطرقت حتى إلى أقدس مقدساتنا وهو القرآن الكريم، ولم تنحسر هذه الموجة إلا بعد سنة 1930 حيث تعرف الناس بفضل الجمعيات الدينية إلى أمجاد دينهم وتاريخهم. وقد أمد الرافعي هذه الجمعيات ببيانه المترجم عن النزعات العربية الإسلامية في زمن كانوا أحوج ما يكونون فيه إلى مثله. ولم ينته عصر المقاومة بين الفرقين إلا وقد ظهرت في الميدان أقلام تبني وتترجم وتكشف عن المدخرات في ميراثنا وكان لها من قلم الرافعي لواء وروح وموسيقى. . . . ثم أعقب ذلك هذه الموجة الدينية العربية التي تغمر روح الشباب المصري وتدفعه إلى الثورة في سبيل تعميم التعليم الديني حتى في كليتي الطب والهندسة!
أليس هذا نصراً عزيزاً للرافعي وأمثاله ممن سلخوا ثلاثين عاماً وهم في شبه وحدة في الميدان؟ أليست مقالته القريبة (قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر) نشيد النصر وأهازيج الظفر بخصوم عتاة؟
فليت شعري ماذا كان يريد بعد ذلك من حركة التطهير؟
إن الرافعي ليتسامى إلى حيث لا يبلغه أحد حين يضع نشيداً دينياً أو وطنياً. ويخيل إلي أنه حين كان ينظم أناشيده يستجمع حاسته السادسة التي تعوض بها من حاسة السمع، ويجلس على جناحي الزمن: التاريخ والغيب، ثم يضرب على أوتار القلوب بألحانه التي كان يسمعها من ذكريات الأصوات والأنغام، ومعانيه التي كانت لا تتنزل إلا له وحده
واقرأ إن شئت برهاناً على ما نقول النشيد الذي وضعه لجمعيات الشبان المسلمين، أو نشيد سعد زغلول، أو نشيد الوطن، أو النشيد الوطني الذي وضعه أخيراً، لترى هل يستطيع غيره أن يصل إلى ما وصل إليه هو من بيان واجبات الشاب ونجواه لمجده ودينه ووطنه
إن الرافعي لم يكن كاتباً يكتب للفن وحده، ولكنه كان صاحب رسالة وأهداف سار إليها منذ(204/45)
أن شب عن الطوق في دولة القلم
وإن شعوره برسالته تلك استولى عليه في كل ما كتب حتى فيما كتبه يعاجز به أدعياء التجديد الذين كانوا يخوضون منه في ساحل ضحضاح ويضرب هو في عبابه وأعماقه ويخرج بالدرر اليتيمات، فهو لم ينس غايته فيما كتبه من أحاديث الحب والمراقص والسوامر
ولم تخدعه عن غايته فتنة الشهرة وتملق الجماهير بادعاء الإلحاد وزعم التجديد فيدلي بالكلمة الكافرة والرأي الآثم، بل فرض نفسه وفكره فرضاً. وكان ينعى على الأدب الصحفي الذي يسير فيه (صعاليك الصحافة) وراء الجماهير حتى أسلمهم الحال إلى أن يكونوا مقودين لا قادة كما يجب أن يكون وكما تملي عليهم مهمتهم
لقد حظي الرافعي بشرف المبالغة من مؤيديه ومعارضيه، شأن كل عظيم رأته الأرض؛ غير أن حظه من شهادات المقدرين لأدبه في حياته من أوفر حظوظ الأدباء. فقد ظفر بنبوءة الأستاذ الإمام وتقدير الزعيم الأكبر سعد زغلول لبيانه الذي (كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم) وتلقيب أمير البيان الأمير شكيب أرسلان له بحجة العرب ونابغة الأدب. وقول المغفور له احمد زكي باشا (لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير وهوجو كما للفرنسيين هوجو، وجوته كما للألمان جوته) وإجماع الناس على أنه أوحدي في فنه اللفظي وتوليد معانيه مما وراء حدود الكتاب والمنشئين، مما سما بنثره إلى درجة تعلو الشعر في موسيقاه وترجيعه. وأذكر أنه محرر مجلة الهلال كتب عنه كلمة: بمناسبة ظهور الطبعة الثانية من كتابه (المساكين) قال فيها ما معناه (إن من يقرأ للرافعي يؤمن بأن البلاغة حاسة سادسة)
وقد سمعت منذ ثلاثة أشهر من أحد كبار من أثق بعقلهم ونقدهم وممن كانوا يسخطون على طريقة بيان الرافعي قبل أن تجلوه (الرسالة) يقول: (إن الرافعي يصل في بعض الأحيان إلى مرتبة الإعجاز. . .)
وأذكر أيضاً أني قرأت في مجلة الزهراء التي كان يصدرها الأستاذ الكبير محب الدين الخطيب منذ عشر سنوات أو تزيد أن أحد المعجبين به من أدباء المهجر كتب إليه يقول إن لولا (الجملة القرآنية) لكان أبلغ من كتب بالعربية في جميع عصورها. .(204/46)
والذين لا يقدرون أدب الرافعي هم الذين يقرءون للتسلية وتزجية الفراغ لا للدرس ولا (لتمثيل) المعاني؛ لذلك كان يؤودهم ويجهدهم أن يتابعوا سمو عقله وأن يكثروا مما على موائده الدسمة.
أما الذين كانوا يقرءونه للمتاع بمعانيه الخارقة فكانوا لا يكتفون بقراءته مرة أو اثنتين أو أكثر إذا أحوج الأمر، وهم الكاسبون لأنهم قرءوا (قراءة عريضة) لا (قراءة مستطيلة) ليس وراءها غناء
وأذكر أني قرأت خطرة من (خطرات نفس) للدكتور منصور فهمي بك التي كان ينشرها في الأهرام منذ 13 سنة يقرظ (رسائل الأحزان) للرافعي قال فيها ما معناه: (إنك كالموسيقي الألماني فجنر الذي كانت ألحانه لا يفهمها البشر، حتى قال الناس إنه يطرّب للملائكة. ورجاه أن ينزل من مستواه قليلاً حتى يفهمه الجمهور. وهو نقد لبق يعترف للرافعي بالسمو وإن كان يأخذ عليه غلوه فيه في بعض الأحيان. . ولكن للرافعي عذره من قوة جناحيه وقد كان يحملانه إلى جوه الذي فيه سر عبقرياته. .
ويخيل إلي أنه كان يكتب كما يتنفس. . كما عبر واصف بلاغة جعفر بن يحيى البرمكي (وأنه لم يكن يقصد إلى الإغراب وإنما هو عفو الخاطر. على أن تلاحق السعي من قلمه في (الرسالة) قد خدمه أجل خدمة، وبه استطاع أن يخترع ذلك اللون الجديد من أدب البعث فيما يشبه القصة
حاولت أن أرثيه بكلمات شفافة طائرة تليق بروحه وبيانه فإنه لا يليق به أن يرثى بهذا الكلام الجسماني. . . وحاولت أن أصنع ريشاً يرفعني إلى السماء التي كان يأخذ من كواكبها نور قلمه، فأعددت جو الذكرى وأحرقت البخور واستجمت أطرافي للوثبة، ولكن كثافة النفس وخفوت الطبع قعدا بي فاجتزأت بوصف عجزي. . .
سأقرأه في لباس التاريخ وروح الذكرى بعد أن مات وصار كلمة
وسأضع أذني على قبره دائماً لأسمع نداء قلبه بهذه (العقدة الروحية) التي دعا إليها في مقالته (في وحي الروح). . .
وسأجعل من شعلة روحه شمعتي. . .
ومن وحي قلمه غاسولاً لحوبتي:(204/47)
ومن أناشيده موسيقى همتي. .
جعل الله ميراثه للخلود، وجهاده للنصر، وروحه إلى الجنة.
(نزيل بغداد)
عبد المنعم خلاف(204/48)
دمعة خالصة من النجف على الرافعي
فقيد البيان الرفيع
للأستاذ حسين مروة
إننا - علم الله - لنشعر بالتياع حزاز في قرارة النفس إن لم تؤآتنا الفرصة للجهر برأينا في أدب المغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي إلا في هذه الساعة الرهيبة إذ تفجؤنا أنباء وادي النيل بنعي الرجل راحلاً إلى دار الله الباقية، ملقياً عن نفسه هذا العبء الذي كانت تضطلع به في سبيل الله، وفي سبيل الفصحى الكريمة لغة القرآن الكريم، وفي سبيل البيان الرفيع اللهجة، العلي النغمة، النبيل المعنى والقصد والأداء. وإننا لنشعر بالألم يشيع في أحناء الصدر أن رزئت دولة الأدب والبيان العربي هذه الرزيئة بفقد علم خفاق من أعلامها لم يطل به عهد الجهاد في سبيلها، ونكسته يد القدر قبل أن يؤدي رسالته العالية، وإن هي إلا الرسالة التي تنتظرها الروح العربية الناشطة من عقال الخنوع والاستعباد، والنهضة الإسلامية الطالعة اليوم من كل فج وواد؛ بل هي الرسالة التي تتحرق الإنسانية كلها شوقاً إلى سلسلها العذب وخمرتها العلوية الخالدة؛ فلقد كان الرافعي الراحل كياناً أدبياً شامخ السمك رفعته يد العناية في هذا الجيل ليبث فيه عبق الفصاحة العربية التي أسنت في آنية الزمن حتى كادت تستحيل على أسلات الأقلام الناشئة المتأدبة في هذا العصر ريحاً غريبة ما تكاد تتبين فيها نفحة العروبة أو عذوبة الضاد، أو شمائل الأجداد. ولقد كان الرافعي الراحل كلمة إسلامية جامعة تتلخص بالدعوة الصارمة الصارخة الصادقة إلى فضائل الإسلام في زمن كادت تتقلص فيه عن هذه الأرض الواسعة ظلال الفضيلة وخلائق الخير ومثل الإنسانية العليا. ولقد كان - إلى هذا - فكراً تتدفق في مطارحه أشعة الحقائق الإسلامية، وقلباً يطفح بفيوض الإيمان بعبقرية هذا الدين الحنيف، فكان من أجل هذا وذاك أنطق ناطق في التعبير عن (الإشراق الإلهي) الذي يطفو على وجه هذه الشريعة السمحة الغراء في كل قضية من قضاياها التشريعية أو الروحية العبادية الخالصة؛ وكان من أجل هذين أيضاً أبرع بارع في تفسير (النبوة) على ما يريد الله منها في بعث الرسل إلى الخلق وبث النبوات في الكون؛ وكان أقوم لسان في حكاية (فلسفة الإسلام) على وجهها الذي ينبغي أن ندين الله به.(204/49)
هذا هو الرافعي في أدبه من الوجهة الروحية كما فهمته في جملة ما قرأت له من كتب ومقالات؛ ولاسيما هذه المقالات التي كان يكتبها (للرسالة) في المناسبات الإسلامية التي جرت (الرسالة) على الاعتداد بها، وعقد الفصول حولها، وتخصيص بعض الأعداد لها؛ ولكن المصيبة في أمر الرجل أن الجيل الناشئ يتجافى عن أدبه، وينقبض عنه انقباضه الهازل اللاهي السادر في هزله ولهوه، إذا ما جئته بالأمر الجد ولوحت له بشأن من الحق. ولعل كثيراً من المؤمنين بعظمة الرافعي من هذه الناحية ما كانوا يستطيعون الجهر بإيمانهم هذا خشية أن يرميهم جمهرة من الناس لها شأنها في هذا الجيل بهذه الرمية التي اتخذت سبيلاً إلى غل الأفكار عن البوح بما تفكر فيه، هذه هي ما يسمونها (الرجعية) كما اتخذ غير هذه الكلمة سبيلاً إلى ذلك عند جمهرة أخرى من الناس لها شأنها كذلك، تلك هي ما يسميها الجامدون (هرطقة) أو (كفراً)، أو (عصرية). . .؛ والويل لنا من هاتين الفئتين. . .
أما رأيي في أدب الرافعي الذي فصل الموت بين عالمنا هذا وبينه في عالم الآخرة - أما رأيي في أدب الرجل من الوجهة الفنية، فهو رأي كونته لنفسي منذ بدأت (الرسالة) تنشر له أدبه، وقد كان قبل ذلك يشرف على الناس من كوة ضيقة؛ وكان يتلهى في الأدب تلهياً، وكان يعبث فيه عبثاً؛ وكانت الفصاحة اللفظية كل همه فيما ينشئ من مقالات أو كتب أدبية، وكانت الصناعة الظاهرة والزينة والبهرج كل ما يطمح إليه. وقد كنت أرغب عنه يومئذ كما يرغب عنه اليوم كثير من ناشئة المتأدبين وقراء الأدب؛ وقد انقطعت عن قراءته من أجل ذلك زمناً؛ ثم قامت في مصر مجلة (الرسالة) وأقبلنا عليها في كل دار من ديار العروبة، وكانت لي رغبة حينئذ في أن أجدد عهدي بالرافعي، وقد جاءت هذه المجلة الجديدة به إلى حظيرتها فأقبلت عليه بعد موقف قصير ترددت فيه بين عقل مستطلع ونفس تطلب اللذة السهلة الميسورة؛ وما طال عهدي معه في هذا الدور حتى أصلحت رأيي فيه، وكونت لي هذا الرأي في أدبه من الوجهة الفنية. . . هذا الرأي الذي قلت في مستهل الحديث أنني أشعر بالتياع حزاز في قرارة النفس أن لم أجهر به إلا في هذه الفرصة الأليمة إذ رحل الرجل إلى دار الخلود الحق
ورأيي هذا في أدب الرافعي هو أن الفصاحة العربية الخالصة وإن كانت أولى مطامحه(204/50)
حين يجلس إلى كتابة المقالة، ولكنه يأبى الإباء كله أن يضع جملته الفصيحة المشرقة قبل أن ينحت لها المعنى الدقيق العالي. وأشهد أنه ينحت هذا المعنى من قلب الحياة أحياناً، وقد يستأسره بلباقة من أرحب أجواء الخيال الشعري الصافي؛ فإذا امتلك عنانه وصار قيد قريحته الخصبة كساه هذه الأجنحة الطاووسية الأخاذة، ونفحه بريح طيبة من نفس العروبة الشذى الأفيح. وإذا كان في بعض ما يقرأ له الناس ما يسمونه تعقيداً فليس هو - في رأيي - بتعقيد؛ ولكن هذا الجهاد الفكري الذي يلقى نفسه في غمراته كي يقتلع المعنى من قلب الحياة، أو يستأسر الصور الجميلة من جو الخيال الشعري، ثم هذا الترفع الذي يطلبه في (الكسوة) اللفظية، وهذه النفحة العذبة التي يقصدها في مهابها من الأدب العربي القديم؛ كل هذه مجتمعة تعمل في إنتاجه هذا العمل الذي يخيل للقارئ البعيد عن روحه أنه تعقيد. ولو كان الصبر والجلد مما يسره الله لنا في طبيعتنا واستعملنا هذا الصبر والجلد في مرافقة الرافعي قليلاً لأنست به أذواقنا الفنية وأرواحنا، ولأفدنا من فصاحته العالية الشيء الثمين الغالي؛ ولكن مصيبة الرجل في هذا الجيل كما قلت لك هي مصيبة الجاد بالهازل، مصيبة من يطلب الحق بمن لا يطلب إلا موارد اللهو الميسور الرخيص. ومن الحق أن نقول - آخر الأمر - إن ضآلة ما يحمل الرجل من ثقافة أبناء الجيل الحاضر هي الأخرى من جملة العوامل على ضيعته فيهم، وذهابه عن دنياهم قبل أن يفيدوا من رسالته ما هم في أشد الحاجة إليه. ولعل هذا الجهد العظيم الذي يجهده حين يكتب فيخيل لقرائه أنه يقصد إلى التعقيد - لعل هذا يرجع إلى قلة بضاعته من الثقافة الحديثة. ولعل من آثار هذا الأمر ما نرى من عنايته في إخراج الجمل قوية دون أن يعنى، أو دون أن يستطيع العناية، بوحدة المقالة وجعل الموضوع وحدة كاملة متماسكة.
وبعد فإن الرافعي الراحل هو - في عقيدتي - بنيان أدبي شامخ ينهار قبل أن يصل إلى أهدافه السامية. رحمه الله رحمة واسعة، وعوض الأدب العربي خير العوض عن هذه الخسارة الجسيمة.
(النجف)
حسين مروة(204/51)
رسالة الشباب
رسالة الشباب في الحاضر
مهداة إلى الشباب المصري المتوثب
للأستاذ خليل هنداوي
يسرنا جداً أن تعلن (الرسالة) في جملة رسالاتها رسالة الشباب، وتقوم بها في جيل عرف قيمة الشباب وعظمة مقامه في حياة أصبحت دعائمها ترتكز عليه، وهو الجيل الذي قضى على ثرثرة الشيوخ وترددهم، وأثبت لهم أن الأمة في استطاعة شبابها أن يمشوا بها إلى المورد العذب، والغاية المثلى؛ وفي تنظيم فئات الشباب في كل أمة واعتماد الدولة على هذه الفئات المنظمة آية بل آيات لمن كفر بمعجزة الشباب. وقد كانت رسالة الشباب - قبل إنجاز المعاهدات سواء في مصر وسورية والعراق - رسالة تيقظ وتدمير، وخلق للفوضى؛ لأن الفوضى وحدها - في عصر الجمود - تحرك الذرات الواقفة، وتخلق الوعي والشعور في الأنفس الهامدة.
ويظهر أن رسالة الشباب بدأت - في هذه الأصقاع واحدة، ويظهر أنها سائرة إلى هدفها على طريق واحد. . . بدأت برسالة التهديم، والتهديم وسيلة لا غاية، وذريعة إلى بناء جديد، ولا يقوم هذا البناء إلا على كواهل من خربوا وهدموا القديم وحاربوا الذل والقيد! وإن مما يستوقف المفكر أن يفكر في رسالة البناء؛ والبناء صفة أدق من التهديم، لأنها تحتاج إلى دقة ونظام واستقامة في العمل. والهندسة قبل البناء، توفر كثيراً من العناء! فما هي رسالة البناء؟ وما هي حدود هذه الرسالة التي يجب أن يقوم بها الشباب؟
أصبحت لا أخاف على شبابنا بعد أن عرفوا التطرف؛ وكيف يبلغ القمة من لم يتطرف! وأصبحت لا أخشى خوراً ينفذ إلى نفوسهم، أو سكوناً يطغى على حركتهم، بل إنني أصبحت أخشى أن تصرفهم لذة التهديم عن لذة البناء، لأن لذة الشباب وهواه في الطفرة والتطرف. . . ولكن لا أريد أن يقوم هذا البناء إلا على سواعد الشباب مهما شابته الأهواء ومهما داخله فساد. . . لأنني أريد أن يلم الشباب بالبناء وأن يلموا بأمر عظيم ما تلقى عليهم تبعاته، وبهذا نعيد لشبابنا حاسة العمل التي عطلتها التقاليد وأثرة الشيوخ. ويقيني أن(204/53)
الشباب لا يهدأ نضاله ولا يصرفه عن عمله كلل أو فشل! وكيف نريد أن نحرم الشباب لذة العمل في هذا الانقلاب وهم كانوا يده المتصرفة وقلبه الذي ينزف دماً!
لعل الشباب يزعمون أنهم قد انتهى عملهم بعد أن انتهى الفوز لهم؛ ولعل الشباب يقولون: لنسترح الآن فقد تم جهادنا؛ ولعل الشباب يظنون أن العهد الذي جاهدوا فيه في سبيل الحرية قد انقضى. على أن عملهم الحقيقي قد (بدأ الآن) لأنهم هم الذين خلقوا العهد الجديد وهم الذين ينبغي أن يكونوا دعائمه.
بلى! يا شبابنا، ومصابيحنا في طريقنا! لم ينته عملكم وإنما عملكم ابتدأ الآن، لأن العبودية السياسية التي تحررتم منها لا يزال خلفها عبوديات مختلفة ليست بأقل خطراً منها. ومن ذا يعمل على التحرر من هذه العبوديات إلا الذين لا يعرفون الوهن في العزم ولا التردد في الإقدام، وهم الشباب!
أنقذتم أنفسنا من العبودية السياسية فأنقذونا من العبودية الروحية التي أورثت أرواحنا الذل وأورثتنا مع الذل الضعف والجبن حتى أصبحنا إذا طلبنا حقنا طلبناه سائلين.
أنقذوا نفوسنا من العبودية العقلية التي غادرت تفكيرنا رياء، وتظاهرنا بالتقاليد رياء. وهل كان الرياء إلا ثوباً من أثواب العجز؟ وهل كانت العبودية العقلية إلا شر من العبودية السياسية؟
أنقذوا نفوسنا من عبودية الألقاب الفارغة، والتقاليد البالية، التي نشهد بها على حقارة أنفسنا بأنفسنا. وكونوا مثال العزة والكرامة التي لا تكرم إلا الكرامة.
هنالك عبوديات كثيرة تقف في طريقكم، وعقبات كثيرة تريد وقف سيركم المبارك، ومن لها إلا الشباب؟ إلا الذين يسعون إلى الحرية لتقتلهم الحرية، وبقتلها إياهم يعتزون وينتصرون، ومن لها إلا الشباب الذين يرى فيهم الجامدون خطراً على المجتمع لأنهم متطرفون متهورون يجمح بهم طموحهم كثيراً. فأي شئ يخاف هؤلاء الجامدون من خطر يريد أن يقلب مجتمعاً تراكم الفساد فيه على الفساد؟ أي شئ يخاف هؤلاء البالون من تهور على طريق الحرية وحدها! وأي شئ يخاف هؤلاء الجبناء من طموح يريد أن يصعد ويصعد!
ها قد جاء عهدكم أيها الشباب! العهد الذي يعطيكم الحرية ويفتح لكم آفاق الأمل فيما(204/54)
تحلمون! وهذا العهد ليس بالخفيف عهده، ومتى كان عهد التحرر خفيفاً؟
هذا عهد تريد فيه أمة أن تخلق
هذا عهد تريد فيه أمجاد قديمة أن تزحف
هذا عهد تريد فيه كبرياء شعب أن تتيقظ!
هذا عهد تريد فيه حضارة ساهمت في الحضارة الإنسانية أن تسطع منارتها وأن تتم رسالتها!
ومن لهذا العهد إلا الشباب الذين لا يقولون (القناعة كنز لا يفنى) لأنهم لا يعرفون القناعة. . . إلا الشباب الذين لا يقولون ما يقول ذوو النفوس الحقيرة: (كلب جوال خير من أسد رابض) لأنهم يعلمون أن روح الأسد لا تنوب عنها أرواح الكلاب مجتمعة. والربوة التي يحميها أسد رابض لا يقدر على حمايتها ألف كلب جوال. . وهو بعد ذلك أسد لا يربض، لأن الأسد لا يعرف الربوض
إلا الشباب الذين يقولون ما قال أبو حمزة الخارجي عندما عيره أهل مكة بأصحابه: (تعيرونني بأصحابي! تزعمون أنهم شباب، وهل كان أصحاب رسول الله إلا شباباً!)
هذا العهد ينادي إليه الأرواح الجبارة لترافقه ولا ينادي جثثاً خالية من الإحساس يحملها على ظهره. لأنه يريد رفاقاً يحسون ويلتهبون، قد أدرعوا الإرادة وساروا يقتحمون كل شئ كالسيل الجارف، يثبون فوق القمم وثباً ولا يزحفون زحفاً، في نفوسهم عقيدة تفيض حماسة وقوة، يفرضونها فرضاً على الزمان ولا يجد الزمان إلى إخفاقها سبيلاً.
هؤلاء الرفاق يستطيعون أن يمشوا معه لا تثنيهم عقبة ولا يحول بينهم وبين بغيتهم حائل. ومن هم هؤلاء الرفاق الأشداء إلا الشباب؟ روح الأمة ولون وردها الأحمر المشتعل، وعزيمتها التي لا تكل.
تحررتم أيها الشباب من العبودية السياسية، فلتتحرروا من كل عبودية. وليكن هدفكم التحرر في كل شئ. وكره العبودية في كل شئ.
شباب قنع لا خير فيهم ... وبورك في الشباب الطامحينا
(در الزور)
خليل هنداوي(204/55)
سيدي الأستاذ رئيس تحرير مجلة الرسالة الغراء
أقرأ باهتمام فصلكم الذي عقدتموه للشباب تدونه في إلى الاهتمام بالأمور العامة. ويسرني أن أوجه إليكم هذه الكلمة لغرضين: الغرض الأول أن أبين أن شبابنا يستطيع أن يؤدي للبلاد خدمة جليلة بأن ينتشر في أثناء العطلة الصيفية وهي على وشك الحلول فيذهب كل شاب إلى قريته أو منزله في المدينة ويضع نصب عينيه أن يترك الدائرة التي هو فيها في آخر الصيف خيراً مما وجدها في أوله. ويمكنه أن يعمل في أحد المقاصد الآتية:
(1) تعليم أهل الجهة القراءة والكتابة والأخلاق ومبادئ التربية الوطنية في قسم ليلي يفكر هو وجماعة من إخوانه على إنشائه ويختارون له محلاً يتبرع به أحدهم ممن يستطيع ذلك
(2) توجيه أهل جهته إلى العناية بالرياضة البدنية والاشتراك معهم في ذلك السبيل اشتراكاً فعلياً
(3) التعاون مع إخوانه على عمل محلة كمحلة الرواد تكون مركزاً لثقافة الصبيان الفقراء وهدايتهم وإدخال الفرح عليهم
(4) إرشاد أهل جهته إرشاداً صحياً في محاضرات يقوم بإلقائها من يستطيع المحاضرة من الشبان.
الغرض الثاني أن أقترح عقد اجتماع تشرف مجلة الرسالة على الدعوة إليه قبل بدء فصل الإجازات الصيفية لتنظيم حركة الزحف الاجتماعي. وتفضلوا بقبول عظيم شكري وتقديري لمجهودكم النبيل
(مصري)
(الرسالة) جاءتنا رسائل الشباب في هذا الباب تترى، وكلها
آراء سديدة ومقترحات قيمة سننشرها أو نلخصها تباعاً في
الأعداد القادمة.(204/56)
رسالة العلم
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي بك مدير مصلحة الكيمياء
وزادت أوامر إرليش وكبر مقدارها، وتزايدت السجائر الحامية التي عكف على تدخينها يوماً فيوماً. وما لبث أن دخلت طوائف كبيرة من الأرانب الذكور بيت جورج اسباير كأنها ألوية الجيش تتابعاً وكثرة، ودخل في زمرتها إلى هذا البيت رجل صغير قصير ياباني صياد مكروب لا يألو في بحثه جهداً. وكان اسمه هاتا. وكان قديراً وكان دقيقاً. وكان له جَلد واسع وصبر على التجريب طويل، فهو يحتمل التجربة الواحدة يعيدها عشر مرات ولا يكلّ. وكان خفيف الحركة جمّ النشاط متزنه، فهو يقوم بعشر تجارب في آن واحد. فوافق هوى إرليش، وهو كما تعلم دقيق يحب كل دقيق
فبدأ هاتا يجرب مركب رقم 606، لا على مكروب الزهري نفسه. بل على مكروب من نوعه ولكن أقل منه امتقاعاً في اللون وشرة في الأثر، ذلك اسبيروشيتة الدجاج وكانت تقتل الدجاج قتلاً. فماذا كانت نتيجة هذه التجارب العديدة الطويلة؟ صاح إرليش: (باهرة!. . . خارقة!. . . لا تكاد تصدق!) فهذه الدجاجات الكبيرة والأفراخ الصغيرة امتلأت دماؤها بهذا المكروب امتلاء، فما هي إلا أن حقنت برقم 606 وأصبح عليها الصباح حتى كانت تسير مرفوعة الرأس تقوّق وتتخطر ناعمة بالصحة والحياة. فهذه نتيجة لاشك مجيدة. ولكن ما الذي كان من أمر نسيبه المكروب الآخر مكروب الداء الإنساني الذميم؟
في اليوم الحادي والثلاثين من أغسطس عام 1909 وقف إرليش وهاتا أمام قفص به أرنب ذكر جميل سليم من أية وجهة نظرته، إلا صفنه، فقد كان شوهه قرحتان فظيعتان كلتاهما أكبر من ربع الريال سببهما دبيب هذا المكروب اللعين الذي يأتي الإنسان جزاء الخطيئة الكبرى.
وكان هاتا وضع هذا المكروب تحت جلد هذا الأرنب من شهر مضى. ووضع هاتا قطرة صغيرة من ماء هاتين القرحتين الكريهتين تحت مكرسكوب صنع خصيصاً لرؤية أمثال هذه المكروبات الخبيثة الرفيعة الشاحبة. وضعها ونظر فرأى في ظلام المجال لهذا المكرسكوب الخاص، رأى تلك المكروبات ألوفاً تتلألأ في شعاع نور قوي سلط من الجانب(204/57)
عمداً عليها. وتراءت له كأنها ألوف من خرامات الحدادين ومثاقيب النجارين تطير في المجال رائحة غادية. منظر جميل يستوقفك الساعات، ولكنه مروع، فأي المكروبات يجر على البشر من البلاء والويلات ما تجر هذه؟!
ومال هاتا عن المكرسكوب يمنة لينال إرليش من هذا المنظر نظرة. فلما رآه نظر إلى هاتا، ثم نظر إلى الأرنب ثم قال: (دونك فاحقنه) وجرت الحقنة في وريد أذن الأرنب، ودخل المركب 606 في محلوله الأصفر إلى دم الأرنب يلقى مكروب الزهري ويقاتله لأول مرة في تاريخ هذه الدنيا.
وفي الغد لم يبق في صفن الأرنب من لوالب هذا المكروب لولبة واحدة. والقرحتان؟ سبق إليهما الجفاف وأخذت جلبة تتكون عليهما. ولم يكد يمضي على هذا شهران حتى لم يبق من الجُلبة غير جليبة صغيرة. شفاء هو السحر أو كشفاء المسيح بن مريم. واستطاع إرليش أن يكتب بعد ذلك بقليل:
(ويتضح من هذه التجارب أن هذا المكروب يفنى عن آخره تواً إذا حقن الحيوان حقنة كبيرة كافية)
وإذن جاء يومه الكبير المنظور؛ فهذه رصاصته المسحورة، فما أسرع قتلها للمكروب! وهي مع هذا سليمة مأمونة على الحيوان. وإن شككت في سلامتها فانظر إلى هذا العدد العديد من الأرانب البارئة، فهل نالها مثقال ذرة من سوء لما ضرب هاتا محقنه في آذانها بجرعة هذا الداء، برغم أنها جرعة كبيرة كانت ثلاثة أضعاف الجرعة اللازمة الكافية لمحو الداء محواً محققاً سريعاً؟ لقد نال إرليش بهذا الكشف فوق بغيته، وأطلق من هذا المحقن على الداء رصاصة أروع من رصاصته. وضحك بُحاث ألمانيا بالأمس من أحلامه، فجاء دوره اليوم في الضحك فضحك وُسع فيه. صاح إرليش: (إنها رصاصة مأمونة. إنها سم للداء، وللحي فيها البرء والشفاء) وتستطيع أن تتصور أي الأطياف كانت تطوف بخيال هذا الرجل المستوثق بنفسه استيثاقاً لا يقصر منه حد. وصاح في وجه كل أحد: (إنها مأمونة! إنها سليمة!) ولكن في ليلته ولياليه جلس في مكتبه وقد تعبأ جوه بدخان السجائر حتى ضاقت به الأنفاس؛ جلس بين أكوام الكتب وركام المجلات وقد ارتمت ظلالها حوله متراكبة غريبة؛ جلس وحده وبين يديه تلك الكراسات الزرقاء الخضراء(204/58)
البرتقالية الصفراء التي كان ينقش عليها كل ليلة في انبهام كل ما يخطر بباله مما سيصدره إلى رجاله وعبّاده من الأوامر في الصباح الطالع. ففي هذه الحجرة خلا إرليش لنفسه فسألها في خفوت: (أحقاً أنها سليمة مأونة؟)
إن الزرنيخ سم محبب إلى السمامين. . .؟! قال إرليش محتجاً،: (ولكنا تناولنا طبيعته بالعجب العجاب فغيرناها)
وهذا الذي شفا الفئران والأرانب قد يقتل الرجال. .؟! قال إرليش مجيباً: (إن النقلة من الأرانب والفئران نُقلة خطيرة، ولكنها خطوة لابد منها)
وطوى الليل رداءه الأسود، وانبلج الصباح وبعث شعاعه الأبيض إلى المعمل ينشر فيه مع النور الأمل والثقة والإقدام. ودخله إرليش فنظر فوجد الأرانب التي برئت، ولقي عونه برتهايم، هذا الرجل الساحر الذي لوى الزرنيخ الفاتك ثم لواه ستاً وستمائة مرة حتى عاد حربه سلاماً. وتشمم إرليش فسطعت في أنفسه رائحات مائة مخلطات طيبات لمائة من حيوانات تجريبية، ورائحات ألف مختلطات طيبات لألف من مواد كيماوية، وتلفت إرليش يمنة ويسرة فوجد كل هذا الجمع من أعوانه رجالاً ونساء يؤمن به ويثق فيه. إذن فما التشكك وما التردد؟ وهيا أيها الأعوان إلى هذه الخطوة الأخيرة نخطوها ولو خطيرة فقد والله خاب من أحجم
كان إرليش في قراءة نفسه مقامراً، ومَن من كبار صادة المكروب لم يكن مقامراً؟!
وقبل أن يزول تقرّح صَفَن الأرنب بتمامه، وقبل أن تسقط عنه أخيرة جلباته، كتب إرليش إلى صديقه الدكتور كنراد ألْت يقول: (فهل لك أن تتكرم فتجرب هذا المركب الجديد رقم 606 في مرضى الزهري من بني الإنسان؟)
فأجابه الدكتور ألت: (بالطبع نعم). وأي ألماني لا يجيب بهذا وهم قوم غلبِ صعاب؟
وجاءت سنة 1910 فكانت سنة إرليش الكبرى. ففي يوم من أيام هذه السنة انعقد المؤتمر العلمي في مدينة كونجزبرج
فلما دخله إرليش دوى المكان بالتصفيق الشديد وزاد وحمي حتى خيل أن الناس أصابتهم الحمى، وطال حتى خيل أن إرليش لن يقوم فيُلقي في القوم مقالته. وقام أخيراً فحكى لهم كيف تمهدت السبيل بعد لأي إلى وجدان الرصاصة المسحورة، ووصف لهم داء الزهري(204/59)
اللعين، وقص لهم قصة الرجال الذين انتهى بهم المآل إلى تشوه قطيع ثم موت قبيح، أو انتهى بهم الحال إلى ما هو شر من هذا - إلى مستشفى المجاذيب. لم ينفعهم الزئبق، الزئبق الذي أطعِموه والزئبق الذي دلكوا به والزئبق الذي حُقنوه حتى كادت أسنانهم أن تسقط من لثاهم. حكى لهم حكاية هؤلاء المناحيس وقد انقطع الرجاء منهم، ثم ما هي إلا أن دخلت فيهم إبرة المِحقن واندفع فيهم محلول رقم 606 وانتشر في دمهم حتى نهض المريض وانتصب الراقد. وزادوا في الوزن ثلاثين رطلاً وتطهروا من نجسهم فلم يتحاشاهم الأصدقاء. . . . . .
وقص عليهم قصة رجل جاءه الشفاء كالمعجزة جاء بها بعض الأنبياء: قصة رجل منكود قرض المكروب بلعومه قرضاً وأكل منه أكلاً حتى لم يعد مدخلاً صالحاً للطعام فأطعموه بأنبوبة أطعمة سائلة كي تجري فيها. ومرت به أشهر على هذه الحال. ثم ما هي إلا حقنة واحدة من مركب رقم 606 حقنها في الساعة الثانية بعد الظهر حتى استطاع في العشاء أن يأكل ويزدرد سندتشاية من (السجؤ). ولم تكن الحال قاصرة على الرجال، فمن النساء المساكين زوجات بريئات أصابهن الداء من أزواج ولغوا في الخطيئة. فمن هؤلاء امرأة ألحت عليها الآلام، وبلغت منها العظام، ولازمتها سنين لم تنم لياليها بعض النوم إلا بالمرفين. فهذه عولجت بحقنة واحدة من هذا الدواء فنامت في ليلة ذلك اليوم نوماً هانئاً عميقاً من غير مرفين. معجزة والله وأي معجزة! أي عقار وأي عشب وأي وصفة وصفها العجائز والكنائس وأطباء الدهور منذ الأزل بلغت من الشفاء ما بلغه هذا الدواء! وأي مصل وأي لقاح مما ابتدعه المحدثون من صادة المكروب يبلغ ما بلغه هذا المركب في قتل الجراثيم، أو يقارب في الفتك بها بعض ما فعلته هذه الرصاصة المسحورة الساحرة من القضاء عليها قضاء كأنه تنزل من السماء؟
وهتف الناس لإرليش هتافاً لم يهتفوه لأحد. وهتفوا له هتافاً لم يستحقه استحقاقه أحد. دع عنك ما أثاره في الناس من قبل من آمال كواذب، وتناس ما تلا ذلك من متاعب ومصاعب، واذكر الساعة أنه بكشفه هذا مشى بجماعة البحاث في طريق جديد لفتح مجيد.
تقول علوم الجوامد: لكل فعل رد فعل يساويه ويذهب في ضد اتجاهه. وما يصدق في عالم الجوامد يصدق في عالم الأحياء، وهو يصدق في حياة الرجال من أمثال إرليش. فما كاد(204/60)
يشيع في الناس ما جرى، حتى تجاوبت أرجاء المعمورة تصرخ في طلب هذا الدواء: في طلب المركب رقم 606. فهكذا أسماه إرليش اسماً ضخماً يملأ السمع ويبهر الحساب فلنغفر له طلب الضخامة وحب الفخامة. فقام برتهايم ومساعدوه العشرة في بيت إسباير يصنعون مئات الألوف من جرعات هذه المادة البديعة، ولم يقعدهم أنهم كانوا متعبين منهوكين من طول ما كدوا وجهدوا. وقاموا في هذا البيت الصغير بصناعة مقادير لا ينهض بها إلا المصنع الكبير. وصنعوها في جو مخطر ملئ بالأثير. وصنعوها في خشية من زلة قليلة تحدث في التركيب فتقضي على العدد الكثير الوفير من الرجال والنساء. فالسلفرسان سيف له حدان: حد لقتل الجراثيم، وحد لقتل الإنسان. وإرليش، فما الذي كان من أمره؟ أصبح جلدة على عظمة، وزاده داء السكر سوء. ولم ينقطع عن شرب سجائره الكبيرة وليته لم يفعل. فهذا ما كان من أمره: بالأمس أحرق شمعته من طرفيها، واليوم هو حارقها من وسطها أيضاً
(يتبع)
احمد زكي(204/61)
رسالة الفن
ميكيلانجلو العبقرية الملهمة
للدكتور احمد موسى
عرفنا من المقال السابق كيف بدأ القرن السادس عشر بشخصية الرجل الكامل ليناردو دافينشي، وكيف كانت الرغبة أكيدة في إحياء علوم الإغريق وفنونهم، وعلمنا مدى أثرهما على ليوناردو
واليوم نعالج عبقرية ملهمة، وشخصية فذة. اعتبرت ولا تزال معتبرة من أبرز شخصيات الفن إطلاقاً، ألا وهي شخصية ميكيلانجلو، النحات القدير، بل قائد النحت الحديث، والمعماري العظيم، والمصور الهائل
وكم كنت أود أن أدرس مختلف نواحيه الفنية. لولا أن هذا قد يذهب بنا إلى تفاصيل قد لا تؤدي إلى ما نرمي إليه من تزويد القارئ بمعرفة شئ مبسط عن الفن وعن تاريخه، بقصد السمو بذوقه، وفتح ناحية من الاستمتاع النظري أمامه، لا تقل روعة عن نواحي الاستمتاع النفساني الأخرى؛ بل قد تزيد أهمية، نظراً لقلة ثقافتنا الفنية بوجه عام
هذا يرغمني على أن أحاول الجمع بين غايتين مختلفتين: الأولى الاقتضاب حتى لا يمل القارئ، والثانية الإيضاح الصادق حتى يعلم أهم ما تجب معرفته عن شخصية من أبرز شخصيات الفن إطلاقاً
ولعل أهم ما تجب معرفته مبدئياً هي مميزاته الفنية، والطابع الذي طبع به إنتاجه. أما مميزاته فقد يمكن فهمها عند ما يشاهد ما تركه من تراث مجيد، فعندئذ نرى أنه كان سامي الخيال باحثاً وراء المثل العليا في خلقه؛ وأما طابعه فهو يتلخص في أنه استطاع أن يخلق لنفسه عالماً فنياً خاصاً، جال فيه ثم ارتفع حتى أصبح مضرب الأمثال في الجمع بين سمو الخيال وجمال الاقتباس، وبين القوة والعنف، هذا إلى جانب روعة الإنشاء التي كانت له دون غيره
وموضع الدهشة والحيرة في خلق هذا الفنان العبقري أنك عندما تشاهد إنتاجه لا تستطيع(204/62)
أن تتصور أنه مستمد من الواقع الملموس أو مشابه له؛ بل ترى دون شك أن هذا الإنتاج يعبر عن المثل الأعلى في الجمال، ولكنه مع هذا ملئ بكل مظاهر الحياة لا ينقصه شئ منها إلا النبض
كانت الغاية عن ميكيلانجلو أن يظهر الجسم البشري إظهاراً جميلاً سامياً، مليئاً بالقوة نابضاً بالحياة، وهو في هذا المجال أول وأعظم فنان أنجبه الدهر في المدرسة الحديثة دون منازع
وقد وصل في المعرفة بأصول علم التشريح إلى درجة لا مثيل لها مطلقاً، وهذه المعرفة تتضح عندما نشاهد ما غلب على إنتاجه من مظاهر الحركة بمختلف أوضاعها
وإذا قارنا خلقه بتراث الإغريق الخالد؛ وجدنا الفارق يتلخص في عنف ميكيلانجلو في الإخراج، لأنه تخير المواقف التي تكاد تكون مستحيلة، كما فضل مواقف الضغط والاضطرار راغباً من وراء ذلك في إظهار جمال التكوين الجسماني الإنساني طامحاً وراء البناء الهرقلي (نسبة إلى هرقلس)، فكان بما ملك من القوة، فذاً في الإخراج، عظيماً في الوضع، إماماً لكل فنان طامح، ملك الجمال بمعناه الفلسفي، وبعد كل البعد عن الجمان المثير، فكان نقياً في اختيار موضوعاته لا يهتم فيها إلا بالعظائم.
كان بشخصه يقوم بنحت تماثيله الرخامية من أبسط شئ فيها إلى أكبر وأهم جانب منها، سائراً في ذلك تبعاً لرسومه الخطية التي كان يرسمها لتكون بمثابة المنهج الدراسي قبل البدء في النحت.
ولد ميكيلانجلو يوم 6 مارس سنة 1475 في كابريزه، وتلقى أول دروسه في التصوير منذ سنة 1488 عند المصور المعروف دومينيكو جيرلانداجو الذي كان بارزاً في فلورنسا في ذلك الحين.
ولكنه بجانب درسه للتصوير، عرج كثيراً على دراسة النحت الإغريقي، ووجد في الغاية. وكانت التماثيل الموجودة بحديقة مديتشي في سان ماركو خير مدرسة له. ولم تنقض مدة طويلة حتى لاحظ لورنسودي مديتشي استعداد ميكيلانجلو للنحت؛ فأخذه ليتتلمذ في بيته على النحات برتالدو، الذي كان تلميذاً لدوناتيللو المعتبر من أحسن نحاتي عصره
وأول منحوتاته قطعة (نصف بارزة) أسماها (المادونا جالسة إلى جوار السلم) ش - 1 - ،(204/63)
وبالنظر إليها نرى الكيفية التي تمكن بها، وهو حديث عهد بالنحت، من صبغ ما نحته بشيء كثير من الحياة، يتضح من تأملنا نبل وجه العذراء، وكثرة الثنايا التي تخللت ملابسها، إلى جانب القوة التي بدت في نحت الأيدي. كذلك من الطريقة التي جلست بها العذراء على ذلك المقعد الرخامي الواطئ، والمنهج الذي سار عليه في إخراج الملابس، ثم جلسة الطفل في حجر أمه، والأطفال الصغار الذين يلهون على السلم
وقطعته الثانية نصف بارزة أسماها (مذبحة كنتاور) وهي تمثيل لقصة إغريقية خرافية، أبطالها مخلوقات نصفها الأعلى كإنسان والأسفل كحصان ش - 2 - ، وهي من أهم الأدلة على اتجاه الفنان إلى الإغريق وتأثره بهم.
انظر إلى القطعة نظرة شاملة، وتأمل كيف استطاع إظهار كل من الأجسام في حالة حركة مملوءة بالحياة، تناسبت كل التناسب مع موضوع القطعة من الناحية الإنشائية، فترى العضلات بارزة، مع اختلاف التكوين الكلي وملامح الوجه لكل منهم، فضلاً عما تعبر عنه بعض هذه الأجسام والوجوه من المقاومة والعنف، على حين يعبر البعض الآخر عن الاستسلام أو الخوف. أما التفاصيل التشريحية فهي في غاية الكمال، فالثنايا والعضلات والانحناءات كلها على غاية الدقة
تأمل الرجل العجوز الواقف إلى أقصى اليسار وهو يحمل حجراً بيديه، يريد الإلقاء به على أحد المغضوب عليهم، ثم قارن بين مظهره الكلي وشكله التكويني، وبين وجوه الواقفين إلى أقصى اليمين، فإنك تلاحظ اختلاف التعبير في ملامح الوجوه، لأن حالة الدفاع وما ترسمه على ملامح الوجه تخالف حالة الاعتداء
تأمل الأذرع والأيدي وكيفية انثنائها وامتدادها وانقباضها، وسر بنظرك خلال أجزاء هذه القطعة الفذة التي شملت أكثر من عشرين رأساً، لا ترى منها واحدة شابهت الأخرى، وفكر قليلاً واذكر أن ميكيلانجلو بدأ المرحلة الأولى من حياته الفنية بهذه القطعة
فر هارباً إلى بولونا عندما علم أن الحزب المعارض لبيت المديتشي قد انتصر عليه. وفي بولونا نحت تمثالاً من الرخام لملاك، بقصد التحلية لمقبرة دومونيكوس، وكذلك تمثال يوحنا الصبي حاملاً لقرص شمع العسل ش - 3 - بمتحف برلين، وإذا نظرنا إلى هذا التمثال فإننا نرى عليه مسحة البراءة، إلى جانب جمال التكوين العام وسماحة الوجه. انظر إلى(204/64)
العنق والذراعين والساقين والقدمين، ثم قارن بين التكوين الكلي لهذا التمثال وبين ما سبق أن شاهدته بالقطعة الفائتة واجتهد أن تتعرف بعض الفوارق.
(له بقية)
احمد موسى(204/65)
البريد الأدبي
الاضطراب في نظم التعليم
لا تزال برامجنا التعليمية بعيدة عن الاستقرار، فهي منذ أكثر من
عشرة أعوام في اضطراب دائم؛ وفي كل عام توضع مناهج وخطط
جديدة، ثم لا يكاد يبدأ في تنفيذها حتى تطرأ عليها تغييرات جديدة؛
وهذا الاضطراب لا يشمل المناهج التفصيلية فقط، ولكنه يشمل أيضاً
مدد الدراسة وأنواع التعليم وغاياته واتجاهاته، وقد أصاب هذا التردد
سير التعليم في الأعوام الأخيرة بأضرار ظاهرة، ولوحظ أن مستوى
التعليم في هذه الفترة قد ضعف، وأن مستوى الثقافة بين الشباب في
انحلال، هذا فضلاً عن قصورهم الظاهر في مجاراة الحياة العملية.
والآن تعيد وزارة المعارف نفس العملية التي تكررها في كل عام،
وتضع للتعليم مناهج ونظماً جديدة متينة، فإلى متى يستمر هذا التردد
الخطير؟ لقد عالجت وزارة المعارف والجامعة المصرية في الأعوام
الأخيرة هذا المشكل غير مرة، واستقدمت الحكومة المصرية خبيرين
شهيرين في مسائل التربية هما الأستاذان مان وكلاباريد، ووضعا
تقريرهما المعروف، فلم يعاون على حل المسألة. وفي كل عام تعرض
آراء واقتراحات جديدة. ومن الأسف أن وزارة المعارف لم تضع لها
حتى اليوم سياسة عامة مستقرة للتعليم والتربية، وفي كل تغيير وزاري
جديد نراها تتجه وجهة جديدة، وفي هذا على مستقبل التعليم ما فيه من
الخطر؛ ذلك أن التعليم يجب أن يتخذ وجهة قوية ثابتة، وأن توضع
الأسس المستقرة لسياسته العامة، وأن تترك التفاصيل وحدها عرضة(204/66)
للتغيير والتبديل. ومصر اليوم في مفترق الطرق بالنسبة لمستقبل
التعليم والثقافة فعلى وزارة المعارف أن تعجل بوضع الخطط المستقرة
الثابتة لتعليم الشباب وإعداده في العصر الجديد
من آثار التشكيك
ظهر أخيراً كتاب ديني عنوانه (المصاحف) قام على نشره المستشرق المعروف الدكتور إرثر جفري الأستاذ بالمعهد الشرقي بالجامعة الأمريكية. وكتاب المصاحف هذا هو الكتاب الذي ألفه عبد الله بن داود السجستاني، وهو من آثار التشكيك التي أنكرها العالم الإسلامي منذ صدورها؛ وهو يقوم في الواقع على فكرة التشكيك في القرآن الكريم على ما جمعه الخليفة عثمان، وفي أنه وقع بالكتاب الكريم كثير من الحذف والزيادة في مواطن كثيرة ينوه بها مؤلفه ويورد عليها أمثلة عديدة. بيد أن علماء القرآن والمتكلمين المسلمين لم يحفلوا بهذه المزاعم، فبقي كتاب المصاحف مطموراً في أقبية بعض المكاتب العامة والخاصة حتى فكر المعهد الشرقي بجامعة (منشن) (ميونخ) أن يقوم بنشره؛ ونشره الأستاذ جفري عن نسخة في المكتبة الظاهرية بدمشق، ومهد له بمقدمة طويلة بها كثير من المغامز التي تؤيد غايته من نشر الكتاب. والمعروف أن المعهد الشرقي في جامعة منشن يهتم منذ أعوام بدراسة القرآن ولهجات القراءات المختلفة، وأنه أوفد إلى مصر بعض أعضائه ليدرس هذا الموضوع في مواطنه المختلفة، ولكن يلوح لنا أن هذه العناية تنحرف عن غايتها العلمية بنشر مثل هذا الأثر الذي أنكره العالم الإسلامي
معرض باريس
افتتح معرض باريس للصناعات والفنون في الموعد الذي حدد لافتتاحه وهو 24 مايو الجاري. بيد أن معظم الأقسام مازالت في طور الإنشاء ولم يكتمل بناؤها وإعدادها. وقد اشتركت في المعرض اثنتان وأربعون دولة منها مصر، وأنفقت مصر في سبيل هذا الاشتراك عشرين ألف جنيه. ومعرض باريس هو بلا ريب أعظم وأحدث المعارض الصناعية والفنية؛ وهو بذاته مدينة عظيمة أقيمت على ضفاف السين في ساحة(204/67)
التروكاديرو، وخطت فيها شوارع كبيرة، وأقيمت طائفة كبيرة من البنايات الضخمة والمسارح والملاهي المتعددة من شرقية وغربية. ويقدر الخبراء أن زوار المعرض في مدة الافتتاح وهي تمتد إلى نوفمبر القادم قد يبلغون عشرين مليوناً؛ ولكن الظاهر أن هذا التفاؤل مبالغ فيه فالحكومة الفرنسية لم تقدم لزوار المعرض أية تسهيلات خاصة، ولم تقرر أي تخفيض في أجور السفر لا في البر ولا في البحر سوى ما تمنحه مصلحة السياحة كل عام من تخفيض 50 % على خطوط السكك الحديدية، وهي مسألة لا جديد فيها. وقد ارتفعت تكاليف المعيشة في باريس إلى حدود مروعة، وزادت الأثمان زيادة تفوق كل ما يستطيع الزائر أن يفيده من تخفيض سعر الفرنك. وسياسة فرنسا إزاء المعرض تخالف السياسة الدولية المتبعة في مثل هذه الظروف لأن الحكومات المختلفة اعتادت أن تمنح أثناء إقامة هذه المعارض تسهيلات عظيمة للزوار خصوصاً في أجور السفر في البر والبحر
هذا وسيفتتح القسم المصري بمعرض باريس في 16 يونيه. وسيتولى افتتاحه جلالة الملك فاروق الذي سيكون في باريس في هذه الفترة
بعثة علمية كبيرة إلى القطب
طارت في الأسبوع الماضي من موسكو بعثة علمية روسية إلى القطب الشمالي تتألف من 42 عالماً برياسة العلامة الأستاذ أوتو شميت؛ وقد وصلت إلى القطب بالفعل وطارت فوقه ونزلت سالمة على جبل من الثلج يقع على بعد عشرين كيلو متراً من القطب؛ وسيقضي أربعة أعضاء من البعثة برياسة العلامة شميت عاماً في هذا الجبل الثلجي يقومون بالمباحث العلمية اللازمة حتى يبدأ ذوبان الثلج. وقد نظمت المواصلات اللاسلكية بين طيارة البعثة ومركز اللاسلكي في جزيرة رودلف التي اتخذت مركزاً لقيام البعثة وتموينها، وهي تبعد بالطيارة عن القطب نحو سبع ساعات. وستقيم البعثة لها منزلاً من المطاط وتقوم الطيارات بإمدادها بالمؤن والملابس، وذلك بواسطة إلقائها من الجو بالمظلات. وستعنى البعثة خلال إقامتها ببحث عوامل المغنطة في القطب وحركة الثلوج وأعماق المياه في تلك الأنحاء، والبحث عن تيارات الهواء الدافئ على مقربة من القطب. والأستاذ شميت رئيس البعثة علامة مشهور في المسائل القطبية، وقد كان في الأعوام الأخيرة خير معوان(204/68)
على ارتيادها وكشف مجاهلها. والمظنون أن المعلومات التي تجمعها البعثة قد تفيد فائدة عظيمة في تسهيل إنشاء المواصلات الجوية بين روسيا وأمريكا عن طريق القطب الشمالي؛ بيد أن غاية موسكو الجوهرية من تجهيز هذه البعثات هو على ما يظهر تمهيد الوسائل اللازمة لاستعمار الأنحاء القطبية بصورة عملية، والعمل على استثمار ثروتها الدفينة بتذليل العقبات الجوية والإقليمية؛ وقد بذل العلماء الروس في العهد الأخير في هذا السبيل جهوداً تدعو إلى الإعجاب
المبرد أخيراً
أحب أن أقول (لأحد القراء) الكرام: أن المسألة ليست مسألة روايات، ولكن الأمر في التمييز بينها، والوقوف على مرماها في إفادة المطلوب، وهذا الضبط الذي ذكره ابن خلكان إنما جاء على ما هو شائع في ألسنة الناس، وهذه الرواية المذكورة عن برد الخيار مقصود بها إلى النكتة والفكاهة؛ وما ذكره ابن عبد ربه قائم على الحدس والحسبان لأنه يقول: فما أحسبه. . . الخ، ورواية ابن الخطيب في تاريخ بغداد إنما جاءت في مقام الزراية على الرجل.
ولقد قلت للأديب الفاضل من قبل إن المبرد بالفتح خطأ شائع في ألسنة الناس حتى في الألسنة المثقفة وأصل اللقب في وضعه كان بالكسر ثم فتحه الكوفيون؛ قد يكون استهزاء بالرجل أو قد يكون لأنه كتب كتاب الروضة بارداً كما روى ابن عبد ربه وابن الخطيب؛ وعلى كل حال فليس من المروءة أن نمسك على الرجل هذا النبز، وليس من الصواب أن ننصرف عن الخير إلى الشر. ولقد كان يكفيني ويكفي الأديب الفاضل قول الرجل نفسه: برد الله من بردني، فإن لرجل أدرى بحقيقة لقبه من أي كاتب آخر.
هذا ولا يحتج علينا الأستاذ بقرب عصر ابن عبد ربه وابن الخطيب لأن ما رواه ياقوت هو عن المازني، والمازني معاصر للمبرد وألصق به، كما أن ياقوت هو سيد الكتاب وعمدتهم في تحقيق الأعلام، وليس ثمة من يجاريه في هذه الحلبة، والله نسأل أن يوفقنا للصواب، وأرجو أن يكون في هذه ما يقنع الأستاذ
محمد فهمي عبد اللطيف(204/69)
ديوان حافظ إبراهيم
أخرجت وزارة المعارف العمومية الجزء الأول من ديوان حافظ في 318 صفحة من القطع المتوسط مشتملاً على المدائح والتهاني والأهاجي والإخوانيات والوصف والخمريات والغزل والاجتماعيات. وقد ضبطه وصححه وشرحه ورتبه الأساتذة احمد أمين، واحمد الزين، وإبراهيم الأبياري. وصدره الأستاذ احمد أمين بمقدمة جليلة ممتعة في 43 صفحة تناول فيها حياة حافظ وشعره بالتحليل البصير والنقد الكاشف والحكم الموفق. وإخراج الديوان على هذا الوضع المحكم، والطبع الجميل، والتصحيح البالغ، يد لا ينساها الأدب الحديث للأساتذة الأجلاء ولوزارة المعارف. والديوان مطبوع في دار الكتب المصرية وهو يباع فيها
وفاة شاعر مجري كبير
في الأنباء الأخيرة أن شاعر المجر الكبير يوليوس يوهاش قد توفي في نحو الرابعة والخمسين من عمره؛ وكان مولده في مدينة شيجيد سنة 1883، وتلقى تربيته في جامعة بودابست، وظهر منذ الحادثة بحسن نظمه، بيد أنه مال في أول أمره إلى النظم القوي العنيف ثم تدرج بعد ذلك إلى النظم الرقيق الهادئ، وظهرت أول مجموعاته الشعرية في سنة 1907 ثم تلاها مجموعة أخرى اسمها (قصائد جديدة) في سنة 1914، وظهرت له بعد ذلك دواوين أخرى منها: (هذا دمي) و (لا تنسني) و (وصيتي) وغيرها
وقد فقدت المجر منذ أشهر قلائل شاعراً كبيراً آخر هو ديزو كشتولدني الذي توفي في نوفمبر الماضي وبذلك فقدت المجر أعظم شاعرين من شعرائها المعاصرين الذين جمعوا بين العهدين القديم، وهو عهد الإمبراطورية، والحديث وهو عهد ما بعد الحرب(204/70)
رسالة النقد
إسماعيل المفترى عليه
تأليف القاضي بيير كربتيس
وترجمة الأستاذ فؤاد صروف للأستاذ الغنيمي
تتمة
(12) وقال المؤلف يصف القلق الذي كان سائداً في مصر في آخر أيام إسماعيل باشا
,
فقال الأستاذ صروف في ترجمتها (في هذه الديار نوع من الاختمار الفكري. ولو كان هذا الاختمار طبيعياً لأوجد في النفس قلقاً) ونحن أولاً لا نستحسن ترجمته كلمة في هذا الموضع باختمار لأن فيها غموضاً كثيراً وكان الأفضل أن تترجم بكلمة (قلق) وثانياً وهو الأهم أن الجزء الأخير من الجملة هو عكس المعنى الذي أراده المؤلف وهو ولو كان هذا القلق طبيعياً (غير مفتعل) لعددناه من دلائل الخير. فأين هذا من قول المؤلف (لأوجد في النفس قلقاً).
(13) ومن أمثلة عدم الدقة في اختيار الألفاظ المناسبة قول المترجم عن رفض ضباط الجيش في عهد الوزارة الأوربية (هذا التدبير كان فظاً) فهل يوصف التدبير بالفظاظة؟
وقوله أيضاً عن الضباط المفصولين (جمع ألفاً وخمسمائة ضابط في حالة الغليان) وتلك أيضاً عبارة ثقيلة على السمع
وقوله عن الناظرين الأوربيين في وزارة نوبار باشا (وأهانا الشعب برفضهما التزني بالوشاح الوطني) يريد أنهما أساءا إلى الشعب أو جرحا عواطفه بعدم لبس الشعار القومي (الطربوش)
وقوله عن إسماعيل باشا (يمكن الاعتراف بأن إسماعيل كان كبش التضحية على هيكل الأنظمة الاقتصادية) وهي عبارة لا يقبلها ذوق. مثلها في ذلك مثل قوله الآخر
(15) (وقفز إسماعيل من المقلاة إلى النار) وقوله (فإسماعيل كان واقفاً وظهره إلى الجدار) يريد أن إسماعيل سدت في وجوهه السبل أو أظلم يومه أو نحو ذلك(204/71)
(14) ومن أمثلة العبارات التي يحار القارئ في فهم معناها لغموضها أو ضعف أسلوبها قوله عن وزارة نوبار باشا (ونظاره يحكمون تحت سيطرة الإلغاء من ولسن وبلنيير)
وقوله عن مقتل إسماعيل صديق باشا (فالذين يجهلون مصر كذبوا الخبر بحملته والذين يعرفونها صدقوه ورأوا فيه خاتمة غير فجائية ولا فاجعة لما بد مهزلة وانتهى إلى مأساة) وإذا فرضنا أن بد الواردة في آخر الجملة غلطة مطبعية صوابها بدأ فإن الجملة بعد هذا التصحيح تظل غامضة
(15) ومن الجمل التي تغير معناها لخطأ في ترجمة إحدى كلماتها قول الأستاذ صروف عن تقرير لجنة التصفية (وقد وضع نصفه الأول لورد كرومر) مع أن المؤلف يقول (وقد وضع صورته الأولى أو مسودته لورد كرومر)
وقوله (ولقد حان الوقت حقاً لحل مجلس النواب القديم) يريد مجلس النظار
(15) ومن أمثلة الأسلوب الضعيف قول الأستاذ صروف في وصف سفر الخديو إسماعيل باشا على ظهر المحروسة (فكل) مفكر راقب المحروسة تبحر من مرفأ الإسكندرية بعد ظهر ذلك اليوم في الصيف تنهد بطبيعة الحال أمام مشهد بارز في أفق العالم للفرص الذهبية تسنح وتلمع ثم تضيع)
فهل هذا وصف يمثل لخيال القارئ صورة ذلك المشهد الرهيب؟
(16) ومن الأشياء التي لا نستطيع أن نفهم لها سبباً حرص الأستاذ صروف حرصاً شديداً على أن يترجم كلمة دائماً أو في معظم الأحيان بكلمة مجلس نظر حتى ولو أدى ذلك إلى غموض المعنى وضعف الأسلوب فيقول مثلاً:
فقد مجلس النظار ثقة البلاد بدل أن يقول فقدت الوزارة ثقة البلاد ويقول، فقرر مجلس نوبار (يريد قررت وزارة نوبار) دفع جانب من المتأخرات ويقول فتألف مجلس نظار مصري (يريد وزارة مصرية) ويقول وعندما ألف نوبار مجلس نظاره ويقول انتدب نوبار لتأليف مجلس النظار، وكتب الخديو إلى نوبار يفوض إليه تأليف مجلس نظار وهكذا
وربما كان السبب أن الأستاذ صروف يظن أن كلمة وزارة لم تكن تستعمل في ذلك الوقت والحقيقة أنها كانت مستعملة وقد استعملها الأستاذ صروف في بعض المواضع(204/72)
يخيل إلينا أن الذي ترجم الجزء الأخير من الكتاب ليس هو الذي ترجم الجزء الأول منه
(17) قال المؤلف في معرض تبرير الرشا التي كان سمو الخديو يدفعها إلى رجال السراي
وهي عبارة معناها (إذا كان العالم لا يرضى عن تشجيع الرشوة) ولكن الأستاذ صروف ترجمها بهذه العبارة الغامضة التي لا يفهم لها معنى وهي (إذا كان العالم لا يرضى عن تشجيع ما يثير)
(18) ولينظر القارئ أيضاً إلى العبارة الآتية التي يذكر فيها المؤلف ما أنفقه سمو الخديو على التعليم
ومعنى الواردة في هذه العبارة هو إطعام التلاميذ الفقراء وهو معنى عادي لهذه الكلمة ذكر في القاموس صراحة بلفظ ومعنى العبارة إذن هو (نعم إن كثيراً من هذا المال ينفق على طعام التلاميذ الفقراء ولباسهم) ولكن الأستاذ صروف غفل عن ذلك فترجمها (المجلس) وأفسد معنى العبارة إذ قال (نعم إن جانباً كبيراً من هذه المبالغ استنفده المجلس) ولا ندري أي مجلس يريد. ولماذا لا يرجع الأستاذ للقاموس ليعرف معنى العبارات التي يشك فيها؟
ننتقل بعد هذا إلى أسماء الأعلام الواردة في الكتاب فنقول إن الأستاذ حرفها بل بدلها تبديلاً لم نر له نظيراً في كتاب من كتب التاريخ
إن أكثر ما يؤلم المصححين والمراجعين في دار الكتب المصرية عندما ينشرون كتاباً من الكتب العربية القديمة المخطوطة هو ما يجدونه في أسماء الأعلام من تحريف؛ وإذا علمت أن معظم هذا التحريف الذي يلاقونه إنما ينشأ من اختلاف في وضع نقطة على حرف بدل حرف أو حذفها أو نحو ذلك وأنه مع هذا يسبب لموظفي هذه الدار عناء ليس بعده عناء لأنهم يريدون أن يخرجوا للجمهور كتباً صحيحة مضبوطة، إذا علمت ذلك أيقنت أنه من حق القراء على الكتاب والمترجمين أن يتحروا الحقيقة فيما يكتبون وأن يتأكدوا من صحة الأسماء التي يكتبونها لهم. إن الأشخاص في التاريخ هم المحور الذي تدور حوله الحوادث وهم بمنزلة أحجار البناء فيه، فإذا كانت أسماؤهم خاطئة وبعيدة كل البعد عن الصواب فسد البناء كله. والأستاذ صروف لسبب ما لم يتجر صحة الأسماء فأخطأ في كثير منها خطأ لا(204/73)
يصح أن يقع فيه
(1) فعالي باشا الصدر الأعظم في عهد الخديو إسماعيل وقبل إسماعيل الذي ظل يتناوب هو وفؤاد باشا منصبي الصدارة ووزارة الخارجية قد سماه الأستاذ (علي باشا) لأنه ترجم الحروف الإنجليزية دون بحث عن الحقيقة
(2) وسرور باشا الذي تولى وزارة الخارجية في وزارة محمود نديم باشا الأولى بعد وفاة عالي باشا ثم تولاها مرة أخرى بعد ست سنين من ذلك التاريخ قد سماه الأستاذ (سيور). وليس خطأ المؤلف في هذا مما يبرر خطأ المترجم لأن واجب المترجم أن يحقق ويراجع لا أن ينقل ألفاظاً وحروفاً
(3) وهاك غلطة ثالثة من هذا النوع: من الأشخاص الذين كانوا يأخذون المال من إسماعيل باشا شخص يدعى (رشدي باشا الصغير الأقياني) وهو من إقليم يدعى أقيان أو أكيان قريب من أرضروم كتبه المؤلف فكتبه الأستاذ رشدي باشا المكنى بأقيان وليست أقيان كنية لرشدي باشا ولا لقباً له بل هي اسم الإقليم الذي ينتسب إليه. فإذا قلنا فليس معنى هذا الغنيمي المكنى بأسيوط بل الغنيمي الأسيوطي وهكذا
(4) ولا يقل عن هذا استبدال الأستاذ صروف (موافي) أفندي باسم سعاوي أفندي الذي ذكره المترجم وكتبه هكذا وهو أحد الفارين من وجه الاضطهاد التركي واسمه الكامل علي سعاوي أفندي وقد كرر الأستاذ هذا الاسم المحرف مراراً دون أن يفكر في البحث عن حقيقته
(5) ومثله أيضاً الشخص الذي يسميه الاستاذ صروف كربجي باشا مرة أو مرتين وكبريجي باشا مرة أخرى وليس هو كربيجي ولا كبريجي باشا بل هو القبرصي باشا أو القبرصلي باشا إذا شئت أن تذكره بصيغة النسب التركية. وقد أخطأ المؤلف في الاسم فاستبدل بحرف حرف ولكنه عاد بعد ذلك في صفحة 185 من الأصل الإنجليزي فصحح الخطأ
ولا يختلف عن هذا أيضاً الشخص الذي يسميه الأستاذ صروف (تاجي كاتب أمين بك) وهو اسم لا وجود له ولا الشخص الآخر الذي يسميه سعيد بك ولا خليج ممياز ولا سمعان بك الخ(204/74)
وبعد فأظننا بهذا قد أعطينا القراء فكرة عن ترجمة الأستاذ صروف لكتاب إسماعيل المفترى عليه، ولم يبق إلا أن نقول إن أسلوب الكتاب كله وبخاصة أسلوب فصوله الأخيرة معقد مفكك ملتوي العبارات تحس وأنت تقرأه إنك تقرأ عبارات مترجمة لا رابطة تجمعها. ويستطيع القارئ أن يلمس ذلك بيده في هذه الفصول
ولا ندري لماذا أغفل الأستاذ صروف دليل الكتاب أو فهرس الأعلام الذي عني به المؤلف فذكر الاسم والصفحات التي ورد فيها. أغفله الأستاذ ووضع بدله دليلاً ناقصاً من عنده لم يذكر فيه الصفحات، مع أن الدليل جزء لا غنى عنه في كل الكتب الحديثة لأنه يسهل على القارئ البحث والمراجعة
ونحب قبل أن نختم هذا النقد أن نعتذر إلى القراء وإلى الأستاذ صروف عن عبارة ذكرناها في المقال السادس على أنها غامضة المعنى تلك هي جملة (يخفي ضوءه تحت مكيال) وهي في الحقيقة غامضة إلا لمن درس الكتاب المقدس دراسة وافية وكان على الأستاذ أن يشير إلى مصدرها
ثم نورد هذه الفقرة من خاتمة الكتاب التي كتبها الأستاذ صروف من عنده وهي:
(ولقد توخينا في الترجمة أن تجمع بين سلامة الأسلوب العربي والدقة في متابعة الأصل الإنجليزي. ولما كانت القواعد التي وضعها مجمع اللغة العربية الملكي لتعريب أسماء الأعلام الأجنبية لم تظهر بعد فقد عربتها كما تعرب عادة في مصر. وإذا وجد القارئ اسم غوردون بالغين على الأكثر وبالجيم على الأقل، أو لفظ الخديو بغير الياء على الأكثر وبالياء على الأقل، ولفظ الأمريكي بتقديم الياء على الكاف على الأكثر وبتقديم الياء على الراء على الأقل، فما ذلك إلا من هنات الطبع. . . الخ
هذا كل ما يعتذر عنه الأستاذ. أما تحريف الأسماء وحذف الجمل وقلب المعنى وغموض العبارة وعدم سلامة الأسلوب فلا اعتذار عنه، بل ليقبله القراء وأنوفهم راغمة
إن في استطاعتنا أن نملأ بأغلاط الكتاب صفحات بل أعداداً من مجلة الرسالة لأن ما تتبعناه من فصوله هو الستة فصول الأولى وبعض أغلاط من فصوله التالية. لكننا آثرنا أن نترك الباقي لمن هو أقل منا عملاً أو أوسع منا وقتاً. على أننا قد نعود إلى الكتاب مرة أخرى إذا أمكنتنا الظروف(204/75)
الغنيمي(204/76)
العدد 205 - بتاريخ: 07 - 06 - 1937(/)
الطربوش والقبعة
بمناسبة فوزنا الجديد
كان للطربوش امتياز على العمامة أيام كان الأمر للترك والأرناءود، لأنه كان يومئذ تاج السلطان، وشعار الحكم، ولباس الجيش، ورمز البطش، وعلامة الخطر؛ فكان يكفي أن يكون في الحي أو في الناحية (جندي) واحد لتخشع النفوس وتخضع الرءوس ويمحى القانون وتنتفي الحكومة، فلا يمر أحد وهو واقف، ولا يشتجر اثنان وهو موجود، ولا يعرف الناس من وراء بيته شرطة في قسم، ولا قضاة في محكمة
وكان للقبعة امتياز على الطربوش أيام كان الشأن لاحتلال الإنجليز وامتياز الدول؛ لأنها كانت حينئذ شارة الغلبة وبراءة الإجرام وصك الغصب وجواز المرور وإشارة الثراء وأمارة التفوق؛ فكان يكفي أن نرى (الخواجة) لنرى الغانم الذي لا يغرم، والمتصرف الذي لا يحاسب، والضارب الذي لا تقدر أن تغل يديه، والسفيه الذي لا تستطيع أن ترد عليه، والمدير الذي يملك المصارف والمصانع والمتاجر والشركات والبارات والمقاهي والملاهي والفنادق، ومن ورائه (المحكمة المخصوصة)، والمحاكم القنصلية، والمحاكم المختلطة، والتبجح الأشر والدعوى العريضة والبأو السليط. فكان الطربوش عنواناً على ذلك الإنسان الذي أفسدت فيه العبودية والجهالة مزايا الإنسانية فجعلتاه حياً تعافه الحياة، ووطيناً ينكره الوطن، ووريثاً يأنف منه التراث، وخلفاً يعرض عنه التأريخ؛ وكانت القبعة سمة على ذلك الأجنبي المتقحم بقوته على الضعف، وبقدرته على العجز، وبصحوته على الغفلة؛ فالتمايز في واقع الأمر كان بين ناس وناس، لا بين لباس ولباس. فأنك إذا وضعت الطربوش على جبهة الأسد كان مفخرة، وإذا وضعته على رأس القرد أنقلب مسخرة؛ وهل تصنع القبعة في الرأس الذليل إلا أن تجعل منه زنجياً في أمريكا، وحبشياً في أفريقيا، وصعلوكاً في كل قارة؟
أما نحن اليوم فخلق جديد في دنيا جديدة: تنبهت فينا ملكات الجنس فثرنا على الخسف، وتمردنا على الأذى، وزاحمنا الناس بالمناكب العريضة على مكاننا الخالي منذ قرون في صدارة الأمم، فانفتح الطريق البشري من خلفنا على المجد الأول، ومن أمامنا على النصر الأخير، وأصبح في وضع الطربوش على جباهنا مواح من سمو الشمس وشموخ الهرم،(205/1)
وفي حمرته معان من أشعة الشروق، ودماء التضحية، وأوراد الربيع. وأضواء اللهب. فالتبرم به اليوم لا يجد له فيما أظن مساغاً من العقل مادام الرأس الذي يحمله قد أرتفع وامتلأ واتزن.
لا أريد أن أدخل بين الطربوش والقبعة، ولا أن أدعو إلى ذاك أو إلى تلك؛ وإنما أريد أن أقول إن ضعفنا هو الذي ظلم الطربوش كما ظلم اللغة والعلم؛ فإذا سوغ المنطق أن نترك الطربوش لأنه لا يطاول القبعة، سوغ كذلك أن نهجر العربية لأنها لا تنتشر في كل أرض، وأن نخرج على العلم لأنه لا يخفق في كل سماء. ولن تجد أهون على الناحية من رجل يأنس في نفسه الضعة فيحتال على العظمة بارتداء ثوب العظيم
ماذا يضرك الطربوش إذا كان لك طوائر تئز في السحاب، وبواخر تمخر في العباب، ومدافع ترعد في البر، وغازات تسطع في الجو، ومجلس ظاهر في العصبة، وقول نافذ في السياسة، ورأي مسموع في العلم، ومذهب متبوع في الأدب، ووطن يدبره حكمك، ويستثمره علمك، ويستقل بخيره وميره بنوه؟
وماذا تنفعك القبعة إذا قنعت من استقلالك بالإقرار به، ومن وطنك بالقرار فيه؛ ورضيت أن تعيش حميلة على قوة الحليفة، وصنيعة على رحمة الدول؛ واكتفيت بمظاهر التمدن من اللباس والرياش والترف واللهو؛ وظللت على الغرائز الجافية والحس البليد، تكذب لتمزح، وتغش لتربح، وتناقش فيفرط عليك صوتك ولسانك ويدك، وتحضر مجلس السماع فتجعله من التأوه والأنين والصخب والعربدة ماخوراً في مستشفى؛ وتسير في الطريق مرحاً أو ذاهلاً فتصدم المار فيلتفت إليك التفاتة العاتب ترضيه ابتسامة عاذرة، فتهجم أنت عليه بالنظرة الشزراء والكلمة الفاحشة؛ وتصعد الترام فتخطو بنعليك على أقدام الراكبين حتى تبلغ محلك فتنحط فيه كاشر الوجه غير ملتفت، أو ضاحك السن غير مكترث؛ وتمر بك الآنسة الخفرة أو السيدة الحاصن فتخز حسها بالنظر الفاجر، وتؤذي سمعها بالمنطق الخطل، ولا ينبهك ضميرك الأغلف إلى أن للأسرة حرمة وللمجتمع كرامة؟
طهر رأسك يا سيدي من درن هذه الخلال ثم ضع عليه طاقية أو لبدة أو أي غطاء شئت، ترتفع منزلتك في كل عين، وتقر هيبتك في كل صدر؛ فأن قيمة ذلك في الرأس الذي يحمله، والشعب الذي يمثله، لا في أصله ولا في شكله ولا في لونه؛ والثوب كما يقول(205/2)
الفرنسيون لا يصنع الراهب
أي شرف أرفع للرأس، وأي فخر أملأ للفم، من أن تذهب اليوم بشرقيتك ومصريتك وطربوشك فتقول للذين غمطوك بالأمس: أرأيتم إلى الجوهر الحر والمعدن الكريم، كيف طمرته القرون، وصهرته الأحداث، وتناهبته الأطماع، ثم خرج من عرك العبودية ومعركة الحرية، باهر اللون، متميز الشكل، كامل الخصائص، حر الوجود، لا هو ماسة في خاتم ولا درة في تاج!!
أحمد حسن الزيات(205/3)
ندرة البطولة
للأستاذ عباس محمود العقاد
العالم الفاضل الأستاذ احمد أمين يروي ما يتحدث به فريق من المتشائمين حين ينعون على العصر الحديث ندرة البطولة وقلة النبوغ، ويسأل معهم: (هل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟ وهل تجد في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هرون وعمرو بن مسعدة! وهل تجد في الغناء أمثال اسحق الموصلي وإبراهيم بن المهدي؟) وقس على ذلك بطولة الحرب والسياسة والزعامة وسائر البطولات
ثم يعقب الأستاذ على ذلك قائلا: (يظهر لي مع الأسف أن الظاهرة صحيحة، وان الجليل الحاضر في الأمم المختلفة لا يلد كثيراً من النوابغ ولا ينتج كثيراً من الأبطال، وإن طابع هذه العصور هو طابع المألوف والمعتاد، لا طابع النابغة والبطل)
ثم يستعرض الأسباب ويختمها بقوله: (ما أحق هذا الموضوع بالدرس وتناول الكتاب له من وجوهه المختلفة)
والموضوع كما قال الأستاذ النابه حقيق بالدرس والتناول من وجوه مختلفة، وليس له أو أن يفوت بفواته. فإذا شغلتنا موضوعات أخرى عن تناوله في الأيام الماضية فليس ما يمنع اليوم أن نبدي الرأي فيه
ورأينا إننا نخالف الأستاذ مخالفة النقيض للنقيض؛ ونعتقد أن العصر الحديث أغنى بالبطولة والنبوغ من كل عصر سلف بغير استثناء ولا تحفظ ولا تغليب للظن والاحتمال. وإنه ليس اسهل ولا اقرب من ظهور خطأ المتشائمين فيما وصلوا إليه من نتيجة، لأنه ليس أسهل ولا أقرب من ظهور الخطأ فيما اعتمدوه من قياس
إن الوجه في المقارنة بين جيل وجيل أن نحصر الزمن وأن نحصر المزايا، وأن نحصر العناصر التي تقوم عليها شهرة الأدباء أو الأجيال
وهذا الذي ينساه المفاضلون بين عصرنا الحديث والعصور الغابرة كل النسيان
فمن أمثلة ذلك سؤالهم. (هل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟)
فالذين يسألون هذا السؤال يحسبون الماضي كله عصراً واحداً يقابله واحد من الحاضر هو(205/4)
العصر الذي نعيش فيه
وينسون أن الزمن الذي نشأ فيه بشار والمعري يمتد من أواسط القرن الثاني للهجرة إلى أواسط القرن الخامس، أي نحو ثلاثمائة سنة!
وينسون أن المكان الذي نشأوا فيه يمتد من العراق إلى الشام، ومن الحضر إلى البادية
وينسون أن العصر الحاضر الذي نعيش فيه لا يمتد إلى اكثر من أربعين أو خمسين سنة وهو الزمن الذي يبدأ بفتوة الشاعر وينتهي بوفاته
وإنما الوجه أن يحصروا أربعين أو خمسين سنة من العصر الحديث ثم يحصروا أربعين أو خمسين سنة من العصور القديمة، ثم يعقدوا المقارنة بين هاتين الفترتين، فإنهم ليدركون إذن حقيقة التفاوت بين عصرنا الحاضر وبين كل عصر من تلكم العصور
كذلك ينسى النعاة على المحدثين أن يسألوا أنفسهم: ما هي المزية التي كان بها النابغ القديم (أنبغ) من قرينه الحديث؟
فلا يسألون مثلاً: ما هو كتاب الجاحظ الذي يستعجزون أبناء عصرنا عن الإتيان بنظيره؟ فإن لم يكن كتاب فما هو الموضوع؟ وإن لم يكن موضوع فما هو المقال أو الجملة أو العبارة!
ولو كلفوا أنفسهم سؤالاً كهذا لمالت معهم كفة الميزان وعلموا أن الجاحظ ومن هم أكبر من الجاحظ يحتاجون إلى أن يتتلمذوا على أناس من المتخلفين، وقلما يعتزون بمزية واحدة لا يعد لها نظير من مزايا المتأخرين
وأعجب من ذلك حديثهم عن الموصلي وإبراهيم بن المهدي ومن جرى مجراهما من المطربين في العصور الأولى. فماذا سمعوا من هذا أو ذاك؟ ومن أين لهم إن الموصلي يبلغ شأو سلامة حجازي أو السيد درويش أو أم كلثوم فضلاً عن السبق الذي لا يجارى والبون الذي لا يدرك؟
أما أنا فاغلب الظن عندي أن الأمر معكوس، وإن ألحان الموصلي لا تعدو أن تكون مزيجاً من تنغيم البدو وصبغة الحضارة المستعارة والآلات الناقصة، وكل ما يأتي على هذا النمط معروف الأصول معروف النطاق، وإن لم يكن معروفاً بحروف النوطة وأصوات السماع
كذلك ينسى المتشائمون أن يتقصوا عناصر الشهرة في العصور القديمة قبل أن يعقدوا(205/5)
المقارنة بينها وبين نظائرها في العصور الحديثة
فدع أنهم ينسون أن يرجعوا إلى وقائع قائد مثل يوليوس قيصر أو الاسكندر المقدوني أو جنكيز خان قبل أن يرجحوهم في فنون الحرب على فوش وهند نبرج ومصطفى كمال ولو انهم رجعوا إلى تلك الوقائع لما أكبروا من شأن الانتصار فيها كل ذلك الإكبار
ودع أنهم ينسون أن كل حرب لابد فيها من ظافر ومن مهزوم، وإن الظفر وحده ليس بشيء إن لم ننظر معه إلى عوامله ودواعيه وتتبين أنها صالحة للتكرار في كل وقعة وكل حين
ودع أنهم ينسون أحكام المصادفات والعوارض وأنها تندر في الزمن الحديث وتكثر في الزمن القديم
دع هذا جميعه فقد يكون في نسيانه بعض أعذار لمن ينسونه، ولكن كيف تراهم يجارون الأقدمين في مبالغاتهم عن هؤلاء العظماء وهي قائمة على دعاوي وأكاذيب نحن على يقين من بطلانها كل البطلان؟ ألم يكن هؤلاء العظماء أربابا وأنصاف أرباب وقديسين في رأي الأقدمين؟ فكيف نقابل بينهم وبين خلفائهم في عصرنا قبل أن نسقط في الميزان تلك المبالغات وتلك الدعاوي والأكاذيب؟ إن هذا لخليق أن يضيف إلى فضل المتأخرين لا أن يغض منه ويحيف عليه، لأنهم وهم آدميون ليس إلا يوضعون في الميزان أمام أرباب وأنصاف أرباب!
ليس في تاريخ بني الإنسان منذ بدايته إلى يومنا هذا عصر يعرض لنا من عجائب الحوادث والأمم والأفراد مثال ما يعرضه لنا العصر الذي نحن فيه
ليس في تاريخ بني الإنسان عصر برز فيه من البطولة والمغامرة والدهاء والقدرة والصبر على النصر والهزيمة مثل ما برز أمامنا في الحرب العظمى
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر تولى فيه عروش القياصرة والخواقين والأكاسرة وقبض فيه على أعنة السلطان رجال من (أبناء الشعب) كمصطفى كمال ورضا بهلوي وستالين وموسليني وهتلر وكابللرو وكارديناس. فماذا عندنا من الأدلة على إن العصاميين في الزمن القديم كانوا أعجب وأدنى إلى البطولة في صنيعهم من هؤلاء؟
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من نخوة الحب وفروسية العاطفة مثل(205/6)
ما عرضه لنا العصر الحاضر في غرام ملك الإنجليز السابق وصديقته السيدة سمبسون. فماذا عندنا من الأدلة على إن غرام هيلانة في طروادة المزعومة كان أعجب وأدنى إلى البطولة من هذا الغرام؟
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من أطوار الشعوب ما عرضته لنا الثورة الأسبانية والثورة الروسية من قبلها وعرضته معها الثورات في مصر والهند والصين. فماذا عندنا من الأدلة على إن عصر الثورة الفرنسية أو عصور ثورات اليونان والرومان كان لها نصيب من العجب وجلائل الخطوب أوفى من هذا النصيب الذي شهدناه؟
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر أنجب في كل أمة نموذجاً يمثلها كما أنجب عصرنا سعد زغلول وغاندي وسون ياتسن وشيان كاي شيكر وفيصلاً وابن سعود
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر فيه ما في عصرنا من الحقائق التي تشبه الخيال، والعبر التي تشبه نوادر الأمثال، والشواهد التي تتعدد على كل ملاحظة من ملاحظات النفس الإنسانية والبواعث القومية والطوارق السياسية. فعندنا وعلى مسمع ومشهد منا مصداق كل رأي حام في ذهن فيلسوف، وتطبيق كل مذهب دعا إليه داعية قديم أو حديث في عالم النظريات
وليس في تاريخ بني الإنسان مخاطرات أهول ولا أنبل من مخاطرات ركاب الطيارات والمظلات والغواصات المتفجرة والسفن المدمرة التي يقع فيها الخطر كل يوم ويقع فيها الإقدام كل يوم، ولا مبالاة بالموت ولا بالخطر كأنهما رياضة من اللهو أو لعبة من العاب الرهان
فإن كنا لا نسمي ما نبصره ونسمعه عجائب وروائع ولا نحسبها معارض للبطولة والنبوغ فقد غيرنا الأسماء وقد بدلنا اللغة، وقد أصبحنا مطبوعين على النظر إلى البعيد دون النظر إلى القريب
نعم إننا ننظر حولنا إلى عظيم في الشعر من طراز شكسبير فلا نرى له نداً بين الشعراء المعاصرين. ولكن النوابغ من طراز شكسبير تتساوى فيهم جميع العصور ولا يستأثر بهم القرن الذي نبغوا فيه، وهكذا كان أبناء القرن السادس عشر خلقاء أن يبحثوا في زمانهم(205/7)
عمن يضارعون نوابغ القرن العشرين في العلم والاختراع والموسيقى والفن كافة فلا يجدوا بينهم أنداداً لهم يضارعونهم كثرة وقيمة؛ وإن العصر الحديث مع هذا ليفهم قصائد شكسبير خيراً مما فهمها معاصروه، ويقدره خيراً مما قدروه، ويمثل رواياته أكثر وأجمل وأبرع وأكفل بالإقبال والإعجاب مما كانوا يمثلونها في حياته
أذكر أنني رأيت منذ سنوات في إحدى الصحف الإنجليزية صوراً لبعض العظماء الغابرين في أزياء العصر الحديث، شفعتها الصحيفة بهذا السؤال: هل تعرفهم؟
وحق للصحيفة أن تسأل سؤالها الآن. لأن الصور التي رأيناها لأولئك العظماء قد سلبتهم كثيراً من الهيبة وبددت ما حولهم من هالات الفوارق والمسافات التي يوحيها اختلاف المظاهر والأزياء.
وإن حاجتنا اليوم لشديدة إلى متحف يستعرض لنا عظماء الأمس في أزياء اليوم، وعظماء اليوم في أزياء الأمس، لنعرف مقدار ما تضيفه إلى الغابرين من هيبة الفوارق والمسافات ومقدار ما نسلبه المعاصرين من جراء الألفة والمقاربة
فإن تعذر علينا أن نرسم ذلك المتحف عيانا فلنرسمه بالظن والتقدير. ولنرجع إذن إلى مقاييسنا وموازيننا نلمس مواضع الزيادة والنقصان فيها، ونصلح جوانب الغلو والبخس في كفاتها، ونغنم تصحيح الميزان في الحكم على الرجال والأزمان، لأن هذا التصحيح غنيمة أنفس وأجدى من تفضيل نابغ على نابغ أو ترجيح جانب على جانب. إذ لا ضرر ولا قصور في اختلاف التفضيل والترجيح متى صحت النظرة واستقام القياس. تلك هي الحقيقة فيما يقال عن ندرة البطولة والنبوغ بيننا كما أراها
أما تواتر القول بندرتها بين جماعة من الناقدين منهم أناس فضلاء محبون للإنصاف فله أسباب قد نعود إلى تفصيلها ومناقشتها
عباس محمود العقاد(205/8)
الزمن
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
حدث مرة أني سافرت فجأة إلى أوربا من غير أن يعرف أحد من أهلي وأصحابي - عزمت على ذلك وأمضيت العزم فكانت هذه الرحلة التي لم تكن لي في حساب قبل يومين اثنين. وأسباب ذلك كثيرة يطول شرحها. وركبنا الباخرة فما كان يمكن أن اذهب إلى أوربا سابحاً، ومضى يوم وثان وإذا بفتاة ممن عرفناهن على ظهر السفينة مقبلة علي تقول:
(هل ضبطت الساعة؟)
ونظرت إلى ساعتها الصغيرة على معصمها ثم رفعتها إلى إذنها فقلت: (دعي هذا لي فإني حاد السمع مرهفه. . هاتي يدك واسمعيني)
قالت: (يظهر انك لا تسمع إلا ما تريد. . لقد سألتك الآن هل أصلحت ساعتك؟)
فقلت وأنا أتعجب: (أصلحتها؟. . ومن الذي قال إن ساعتي خربت؟. إني أؤكد لك أنها من أحسن الساعات. . كانت لرجل ممن يكثر المال في أيديهم يوماً فيذهبون يشترون كل ما يخطر لهم على بال، ويصبحون في اليوم الثاني وقد صفرت أكفهم فيرهنون ما اشتروا أمس أو يبيعونه. . صاحب هذه الساعة شاء أن يرهنها، ثم لم يؤد ما اقترض عليها، فاضطر الصائغ اليهودي أن يبيعها. . ولا أحتاج أن أقول إنك ترين الرجل الفاضل الذي اشتراها منه)
فألقت إلي ابتسامة عذبة أدارت رأسي دورة جديدة - وأقول الحق إنها هي التي كانت سبب سفري إلى أوربا فجأة - وقالت: (لاشك أنها ساعة معرقة في الفخار. . ولكنها تحتاج الآن إلى إصلاح)
فقلت ببساطة: (أبداً. .)
فقالت: (أسرع. . رد العقربين)
فدهشت وقلت: (أردهما؟. . لماذا؟. .)
قالت: (نعم. . . ردهما. . . أخرهما ساعة. . . لو كنا في الشتاء لوجب أن تؤخرهما ساعتين)
قلت: (اسمعي. . . لو أمرتني أن أرتد طفلاً، وكان هذا في وسعي، لفعلت بلا تردد، وبلا(205/9)
شرط سوى أن ترتدي معي طفلة لنلعب معاً. . . ونكبر معاً. . . ونعوض على العموم ما فاتنا - ما فاتني أنا على الأصح - ليس عليك إلا أن تأمري فإذا الذي تشائين كائن - ولكن من المجانين الذين يحبون أن يعلموا لماذا يصنعون ما يصنعون)
قالت: (لا أدري سوى إن كل الناس هنا ردوا عقارب الساعات وأرجعوها ساعة. . . حساب الوقت بعد هذا الخط يتقدم ساعة)
قلت: (تعنين يتأخر)
قالت: (كلا. . . بل يتقدم) قلت: (لن نحل هذا الأشكال قط فيحسن أن نتركه. . . ولننتقل إلى سواه فهل تعنين إننا كنا سائرين إلى الوراء؟. كنا نرتد في الزمن؟)
قالت: (لا أدري. . . هكذا يقولون. . . فأصلح الساعة وتعال إلى فوق فإن الجو جميل)
قلت: (أفهميني أولاً كيف كنا نرجع القهقرى في الزمن)
فلم تستطع أن تفهمني - ولها العذر، وكيف بالله تستطيع أن تفهم إنك تمشي إلى الوراء وأنت تمشي إلى الأمام؟ - وأصررت أنا على ترك ساعتي كما هي، وقلت لها: (إنك ولا مؤاخذة مثل مدرس الجغرافيا الإنجليزي في المدرسة الخديوية)
قالت: (ماله؟)
قلت: (كان يقول لنا، لنفرض أنكم في استراليا - ولا أدري لماذا اختار استراليا ولكن هكذا كان يقول - وإني أنا - يعني نفسه - في لندن. . . فماذا يحدث؟. . . فلا نعرف ماذا يمكن أن يحدث، فيقول. . . اسمعوا في يوم من الأيام، وليكن الجمعة، فأعترض وأقول: إن يوم الجمعة فيه ساعة منحوسة، فيقول: حسن، إذن ليكن اليوم يوم الأحد وليكن الوقت الصباح. . . ولنفرض أيضا أن المخاطبات التليفونية ممكنة بين استراليا ولندن فيدق لي أحدكم التليفون ويقول صباح الخير. . . مفهوم؟. . . فنقول جداً: فيسألنا ماذا ينبغي أن أقول أنا في رد التحية التي وجهها إلي من باستراليا؟ فنقول له تقول صباح الخير، أو عموا صباحاً يا أولاد كما تقول لنا هنا، فيقول كلا!. . . في هذا تخطئون لأننا في لندن نكون في ذلك الوقت في مساء السبت بينما تكونون انتم في استراليا في صباح الأحد، فأنا أرد على تحيته بقولي له (عم مساء) فتقولون لي مستغربين كيف هذا؟. . . إننا مازلنا في الصباح، فأقول إن الوقت الآن في لندن الثامنة مساء، وقد تناولت عشائي منذ لحظة(205/10)
قصيرة؛ فتقولون كلا، بل الساعة الآن الخامسة صباحاً، ونحن لم نفطر فألتفت إلى الذين معي وأقول اسمعوا. . . إن لفيفاً من تلاميذي في استراليا استيقظوا - بصيغة الماضي من فضلكم - صباح غد فيسألني إخواني كيف يمكن أن تعرف ما عسى أن يفعلوا غداً صباحاً؟ فأقول إني اعرف ما عسى أن يفعلوا غداً صباحاً لأنهم أنبأوني إنهم فعلوه فيقول إخواني لي إنك مجنون - أو كلاماً آخر كهذا - لأنهم لا يستطيعون أن يتصوروا أن يكونوا هم في الساعة الثامنة مساء من يوم السبت على حين يكون غيرهم في نفس الوقت في الساعة الخامسة صباحاً من يوم الأحد، فنهز نحن التلاميذ رؤوسنا الصغيرة ونقول، ولا نحن نفهم هذا، فيقول المدرس اسمعوا. . . لنفرض إن لي طيارة سريعة تقطع المسافة بين القاهرة واستراليا في أربع ساعات أو خمس. . . اركبها من القاهرة يوم السبت وأفطر في استراليا صباح الأحد وأرجع إلى القاهرة مساء السبت - أرجع إليها قبل الوقت الذي غادرتها فيه - فما قولكم؟. . . أليس هذا واضحاً؟. . . فنضع أصابعنا في الشق، ونريح أنفسنا من العناء الباطل، ونقول إن الأمر واضح جداً.
وأزيد أنا على هذا إن من الواضح من كلامك أن في وسعك أن تقوم من القاهرة يوم السبت وتكون في استراليا - أو حيث شئت غيرها - يوم الاثنين، لا الأحد فقط، ثم ترجع إلى القاهرة يوم الجمعة، الذي هو قبل السبت الذي سافرت فيه. . . معلوم!. . الأمر واضح جداً!. . فيحسب المدرس أني أسخر منه، ويعاقبني بالحبس ساعة، آخر النهار. . هذا يا ستي ما كان مدرسنا يعلمنا. . لقد ضاع علينا والله ما أنفقناه في التعلم. . والآن بعد أن استرحنا من المدارس والمدرسين المخرفين نركب هذه الباخرة الجميلة ونحن نعتقد أن الدنيا بخير، وأن العقول لم تطر من الرؤوس وإذا بهم يقولون لنا ردوا عقارب الساعات لأنا رجعنا ساعة؟؟ والذي يدهشني هو أن تصدقيهم
فتقول فتاتي: (ولكن هذا صحيح)
فأصيح بها - برغمي -: (كيف تقولين هذا الكلام؟. . هل تريدين مني أن أقول إن الساعة الرابعة حين تكون الخامسة؟. إنك تكلفينني شططا)
فتقول: (لقد كسبنا ساعة)
فأقول: (أرجوك!. أرجوك!.)(205/11)
فتقول: (صحيح والله)
فأقول: (يا بنت الحلال كيف يمكن أن نكون قد كسبنا هذه الساعة وهي قد ولت؟. ثم إني لم أكن معك فيها، لأني كنت نائماً فالخسارة مضاعفة)
فتضحك وتقول: (كسبناها لأنا استرجعناها)
فأقول: (إيه؟ استرجعنا الساعة التي ولت؟. مدهش!)
فتقول: (ألا تصدق؟)
فأقول: (يا حبيبتي، يا روحي، يا عقلي. . أرجوك!. ألف راء جيم واو الخ الخ.)
فتضحك فأقول: اسمعي إني لا أحب أن يبقى هذا الخلاف بيننا، وأنا من أجل عينيك النجلاوين أفعل ما تريدين - لاعن اقتناع، بل إرضاء لك - وأنا مستعد أن أقول إننا رجعنا إلى العام الماضي. . والله فكرة! تعالي نرجع طفلين ونلعب.)
فتذهب تعدوا ضاحكة وأعدوا وراءها حتى أدركها.
إبراهيم عبد القادر المازني(205/12)
خاتمة المأساة الأندلسية
الصراع الأخير بين الموريسكيين وأسبانيا
للأستاذ محمد عبد الله عنان
بينما كانت هذه الحوادث والمعارك الدموية تضطرم في هضاب الأندلس وسهولها وتحمل إليها أعلام الخراب والموت، إذ وقع في المعسكر الموريسكي حادث خطير هو مصرع محمد بن أمية؛ وكان مصرعه نتيجة المؤامرة والخيانة؛ وكانت عوامل الخلاف والحسد تحيط هذا العرش بسياج من الأهواء الخطرة، وكان محمد بن أمية يثير بين مواطنيه بظرفه وفروسيته ورقيق شمائله كثيراً من العطف، ولكنه كان يثير بصرامته وبطشه الحقد في نفوس نفر من ضباطه؛ وتقص علينا الرواية القشتالية سيرة مقتله، فنقول انه كان ثمة ضابط من هؤلاء يدعى ديجو الجوازيل له عشيقة حسناء تسمى (زهرة) فانتزعها محمد منه قسراً، فحقد عليه، وسعى لإهلاكه بمعاونة خليلته، فزور على لسانه خطاباً إلى القائد العام (ابن عبو) يحرضه على التخلص من المرتزقة الترك، وكان ثمة منهم فرقة في المعسكر الموريسكي، فعلم الترك بأمر الخطاب، واقتحموا المعسكر إلى مقر محمد بن أمية. وقتلوه بالرغم من احتجاجه وتوكيد براءته؛ واستقبل الجند الحادث بالسكون؛ وفي الحال اختار الزعماء ملكا جديدا هو (ابن عبو) فتسمى بمولاي عبد الله محمد، وأعلن ملكاً على الأندلس بنفس الاحتفال المؤثر الذي وصفناه. وكان مولاي عبد الله اكثر فطنة وروية وتدبراً، فحمل الجميع على احترامه؛ واشتغل مدى حين بتنظيم الجيش واستقدم السلاح والذخيرة من ثغور المغرب، واستطاع أن يجمع حوله جيشاً مدرباً قوامه زهاء عشرة آلاف بين مجاهد ومرتزق ومغامر
وفي أواخر أكتوبر سنة 1569 سار مولاي عبد الله بجيشه صوب (أورجبة) وهي مفتاح غرناطة واستولى عليها بعد حصار قصير، فذاعت شهرته، وهرع الموريسكيون في شرق البشرات إلى إعلان طاعته، وامتدت سلطته جنوباً حتى بسائط رندة ومالقة؛ وكثرت غارات الموريسكيين على فحص غرناطة (لافيجا)، وقد كان قبل سقوطها ميدان المعارك الفاصلة بين المسلمين والنصارى. وكان فيليب الثاني حينما رأى استفحال الثورة الموريسكية وعجز القادة المحليين عن قمعها؛ قد عين أخاه الدون جون (خوان) قائداً عاماً(205/13)
لولاية غرناطة؛ ولما رأى الدون جون اشتداد ساعد الموريسكيين، اعتزم أن يسير لمحاربتهم بنفسه، فخرج في أواخر ديسمبر على رأسي جيشه، وسار صوب (وادي آش)، وحاصر بلدة (جاليرا) وهي من امنع مواقع الموريسكيين، وكان يدافع عنها زهاء ثلاثة آلاف موريسكي منهم فرقة ترية، فهاجمها الأسبان عدة مرات، وصوبوا عليها نار المدافع بشدة، فسقطت في أيديهم بعد مواقع هائلة أبدى فيها الموريسكيون والنساء الموريسكيات اعظم ضروب البسالة، وقتل فيها عدة من أكابر الأسبان وضباطهم، ودخلها الأسبان دخول الضوارى المفترسة وقتلوا كل من فيها، ولم يفروا النساء والأطفال، وكانت مذبحة رائعة، (فبراير سنة 1570) وتوغل الدون جون بعد ذلك في شعب الجبال حتى سيدون الواقعة على مقربة من بسطة، وكانت هنالك قوة أخرى من الموريسكيين بقيادة زعيم يدعى (الحبقي) تبلغ بضعة آلاف، ففاجأت الأسبان في سيدون ومزقت بعض سراياهم، وأوقعت الرعب والخلل في صفوفهم، وقتل منهم عدة كبيرة، ولم يستطع الدون جون أن يعيد النظام إلا بصعوبة، فجمع شتات جيشه، وطارد الموريسكيين، واستمر في سيره حتى وصل إلى اندرش في مايو سنة 1570
وهنا رأت الحكومة الأسبانية أن تجنح إلى شئ من اللين خشية من عواقب هذا النضال الرائع، فبعث الدون جون رسله إلى الزعيم الحبقي يفاتحه في أمر الصلح، وصدر أمر ملكي بالوعد بالعفو التام عن جميع الموريسكيين الذين يقدمون خضوعهم في ظرف عشرين يوماً من إعلانه، ولهم أن يقدموا ظلاماتهم فتبحث بعناية، وكل من رفض الخضوع ماعدا النساء والأطفال دون الرابعة عشرة، قضي عليه بالموت؛ فللم يصغ إلى النداء أحد. ذلك أن الموريسكيين أيقنوا نهائيا بأن أسبانيا النصرانية لا عهد لها ولا ذمام وإنها غير أهل للوفاء، فعاد الدون جون إلى استئناف القتال والمطاردة وانقض الأسبان على الموريسكيين محاربين ومسالمين يمعنون فيهم قتلاً وأسراً؛ وسارت قوة بقيادة دوق سيزا إلى شمال البشرات واشتبكت مع قوات مولاي عبد الله في عدة معارك غير حاسمة وسارت مفاوضات الصلح في نفس الوقت عن طريق الحبقي؛ وكان مولاي عبد الله قد رأى تجهم الموقف ورأى اتباعه ومواطنيه يسقطون من حوله تباعا، والقوة الغاشمة تجتاح في طريقها كل شئ، فمال إلى الصلح والمسالمة، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من براثن القوة(205/14)
القاهرة؛ واتفق المفاوضون على أن يتقدم الحبقي إلى الدون جون بإعلان خضوعه وطلب العفو لمواطنيه، فيصدر العفو العام عن الموريسكيين، وتكفل الحكومة الأسبانية حمايتها لهم أينما ارتأت إقامتهم، وفي ذات مساء سار الحبقي في سرية من فرنسا إلى معسكر الدون في اندرش وقدم له الخضوع وحصل على العفو المنشود
ولكن هذا الصلح لم يرض الموريسكيين، ولم يرض بالأخص مولاي عبد الله وباقي الزعماء، ذلك لأنهم لمحوا فيه نية أسبانيا النصرانية في نفيهم ونزعهم عن أوطانهم؛ ففيم كانت الثورة إذاً، وفيم كان النضال؟ لقد ثار الموريسكيون لأن أسبانيا أرادت أن تنزعهم لغتهم وتقاليدهم، فكيف بها إذ تعتزم أن تنزعهم ذلك الوطن العزيز الذي نشأوا في ظلاله الفيحاء، والذي يضم تاريخهم وكل مجدهم وذكرياتهم؟ أنكر الموريسكيون ذلك الصلح المجحف، وارتاب مولاي عبد الله في موقف الحبقي إذ رآه يروج لهذا الصلح بكل قواه، ويدعوا إلى الخضوع والطاعة للعدو، فاستقدمه إلى معسكره بالحيلة؛ وهنالك اعدم سراً
ووقف الدون جوان على ذلك بعد أسابيع من الانتظار والتريث، وبعث رسوله إلى مولاي عبد الله، فأعلن إليه انه يترك الموريسكيين أحراراً في تصرفهم، بيد انه يأبى الخضوع ما بقي فيه رمق ينبض، وانه يؤثر أن يموت مسلماً مخلصاً لدينه ووطنه على أن يحصل على ملك أسبانيا بأسره؛ والظاهر أن مولاي عبد الله كانت قد وصلته يومئذ أمداد من المغرب شدت أزره وقوت أمله؛ وعادت الثورة إلى اضطرامها حول رندة، وأرسل مولاي عبد الله أخاه الغالب، ليقود الثوار في تلك الأنحاء؛ وثارت الحكومة الأسبانية لهذا التحدي، واعتزمت سحق الثوار بما ملكت؛ فسار الدون جوان في قواته إلى ودي آش، وسار جيش آخر من غرناطة بقيادة دوق ركيصانص إلى شمال البشرات، وسار جيش ثالث إلى بسائط رندة، واجتاح الأسبان في طريقهم كل شئ وأمعنت في التقتيل والتخريب، وعبثاً حاولت السرايا الموريسكية أن أن تقف في وجه هذا السيل فمزقت تباعاً، وهدم الأسبان الضياع والقرى والمعاقل، وأتلفت الأحراش والحقول حتى لا يبقى للثائرين مثوى أو مصدر للقوت، وأخذت دعائم الثورة تنهار بسرعة وفر كثير من الموريسكيين إلى إخوانهم في أفريقية، ولم يبقى أمام الأسبان سوى مولاي عبد الله وجيشه الصغير؛ بيد إن مولاي عبد الله لبث معتصماً بأعماق الجبال يحاذر الظهور أمام هذا السيل الجارف(205/15)
وفي 28 أكتوبر سنة 1570 اصدر فيليب الثاني قراراً بنفي الموريسكيين من مملكة غرناطة إلى داخل البلاد. ومصادرة أملاكهم العقارية وترك ملاكهم المنقولة يتصرفون فيها؛ ونفذ القرار الجديد بمنتهى الصرامة والتحوط، وجمع الموريسكيون في الكنائس أكداساً، يحيط بهم الجند في كل مكان، ونزعوا من أوطانهم وربوعهم العزيزة، وشتتوا داخل الأقاليم الأسبانية، وانهار بذلك المجتمع الموريسكي في مملكة غرناطة
ولم يبق إلا أن يسحق مولاي عبد الله وجيشه الصغير؛ وكان هذا الأمير المنكود يرى قواده وموارده تذوب بسرعة وقد انهار كل أمل في النصر أو السلم الشريف؛ بيد انه لبد مختفياً في أغوار الجبال مع شرذمة من جنده المخلصين، وفي مارس سنة 1571 كشف بعض الأسرى سر مخبئه للأسبان فأوفدوا رسلهم إلى معسكره في بعض المغائر وهناك استطاعوا إغراء ضابط مغربي من خاصته يدعى (الزنيش) أغدقوا له المنح والوعد إذا استطاع أن يسلمهم مولاي عبد الله حياً أو ميتاً وزودوه بالعفو الشامل؛ فدبر الضابط الخائن خطة لاغتيال سيده؛ وفي ذات يوم فاجأه مع شرذمة من أصحابه فقاوم مولاي عبد الله ما استطاع ولكنه سقط أخيراً مثخناً بجراحه فحمل الخونة جثته إلى غرناطة؛ وهناك رتب الأسبان موكباً أركبت فيه الجثة مسندة إلى بغل كأنما هي إنسان حي، ثم حملت إلى النطع وأجري فيها حكم الإعدام، فقطع رأسها ثم جرت في شوارع غرناطة مبالغة في التمثيل والنكال، وبعد ذلك أحرقت في الميدان الكبير
- 5 -
وهكذا انهارت الثورة الموريسكية وسحقت وخبت آخر جذوة من العزم والنضال في صدور هذا المجتمع الأبي المجاهد وقضت المشانق والمحارق والمحن المروعة على كل نزعة إلى الخروج والنضال، وهبت ريح من الرهبة والاستكانة المطلقة على ذلك المجتمع المهيض المعذب، وعاش الموريسكيون لا يسمع لهم صوت، ولا تقوم لهم قائمة، في ضل العبودية الشاملة والإرهاق المطبق حقبة أخرى
على أن أسبانيا النصرانية لم تطمئن مع ذلك إلى وجود هذا الشعب المستكين الأعزل الذي مازال رغم ضعفه وذلته يملأ جنباتها بفنونه ونشاطه المنتج؛ وكانت الكنيسة مازالت تنفث إلى الدولة تحريضها البغيض على مجتمع لم تطمئن إلى صحة إيمانه، وكانت الدولة ذاتها(205/16)
تلتمس المعاذير لاضطهاد هذا المجتمع ومطاردته. فهي تخشى من أن يعود إلى الثورة، وهي تخشى من صلاته المستمرة مع مسلمي أفريقية، وكان التنصر المطبق قد عم الموريسكيين وغدا أبناء قريش ومضر بحكم القوة والتطور نصارى وقشتالين، يشهدون القداس، ويتكلمون القشتالية؛ غير انهم لبثوا مع ذلك في معزل تلفظهم أسبانيا النصرانية وتحيطهم بريبها وبغضها؛ وكانت ثمة منهم جموع كبيرة في بلنسية ومرسية؛ ففي عهد فيليب الثالث اتخذت أسبانيا النصرانية خطوتها الحاسمة، وأصدرت قرارها الشهير في صحف الاضطهاد، بنفي الموريسكيين أو العرب المنتصرين من أسبانيا، وإخراجهم نهائياً من جميع الأراضي الأسبانية (سنة 1609م - 1017هـ) وحشدت السفن لنقل من كان منهم في الثغور إلى أفريقية، ونزح سكان الشمال منهم إلى فرنسا حيث استقروا في لانجدوك وجويان، وبذلك انتهى الفصل الأخير، من مأساة الموريسكيين وطويت صفحة شعب من امجد عصور التاريخ وحضارة من اعرق حضاراته
ولكن فلك التاريخ يسير بلا هوادة؛ فقد كانت مأساة الموريسكيين ضربة لأسبانيا النصرانية ذاتها، وكانت بدء عصور التدهور والانحلال التي مازالت تتخبط أسبانيا في ظلماتها
وهل يكون من عدالة الله في أرضه وبين شعوبه أن تجتاح أسبانيا النصرانية اليوم موجة مدمرة من الحديد والنار تحصد أبناءها وحضاراتها حصداً؟ وهل تكون الحرب الأهلية الأسبانية نقمة الموريسكيين تلحق أسبانية بعد أربعمائة عام؟
(تم البحث)
(النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(205/17)
في الأدب المقارن
أثر الأخلاق في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
التخلق من صفات الإنسان الذي يحيا في الجماعة، تضطره الحياة الاجتماعية إلى تعديل كثير من طباعه الفطرية التي يجبل عليها، وكبح ما يتنافى منها مع مصلحة المجتمع، الأخذ بما فيه تلك المصلحة، فالأخلاق الحسنة أو الفضائل هي الصفات التي بها يكون صلاح الفرد والمجتمع، ومن أجل هذا الصلاح يحمد الصدق والشجاعة والعفة، ويذم الكذب والجبن والفجور؛ وهذه الأخلاق الحسنة التي هي مزيج من طباع الإنسان المركبة فيه، ومقتضيات المجتمع التي يفرضها عليه، تكاد تتفق بين جميع الأمم في شتى الأصقاع والعصور، فما من أمة لا يحمد فيها الكرم والإيثار والقناعة وتذم الرذائل المضادة لهذه الفضائل، معايير الأخلاق هذه يكاد يتحد فيها الجميع، إنما تختلف الأمم والأفراد في مدى مراعاتها حقاً واتباعها عملاً، باختلاف الجبلات والأوساط الجغرافية والاجتماعية.
وللأخلاق أثرها المحقق آداب الأمة وأدب الفرد. تنعكس الأخلاق في مرآة الأدب كما تنعكس العقليات، ويكون ظهور آثارها في الأدب أحياناً بدهياً تلقائياً غير مقصود، كما يكون أحياناً مقصوداً معنياً، إذ يلجا الأديب إلى تصوير أخلاقه الذاتية وأخلاق غيره من أفراد مجتمعه، وتختلف صبغة أدب الأمة الأخلاقية من جيل إلى جيل، حسب ما يتوالى على المجتمع من عوامل الفضيلة والرذيلة، ومتانة العقيدة الدينية أو انحلالها، وارتفاع المثل العليا التي يتوخاها المجتمع أو انحطاطها، اثر كل ذلك واضح في آداب الأمة المكتوبة وفي أقاصيصها الشعبية وأناشيدها المتداولة.
وفي الأخلاق الفاضلة كما تقدم صلاح المجتمع، بيد أن تحبيذ الفضيلة وذم الرذيلة ليسا وضيفة الأدب الأولى، إنما وضيفته تصوير الجمال ووصف الشعور وبيان الحقائق على ما هي عليه غير مموهة، والعبقرية الفنية والفضيلة ليستا دائما توأمين، بل ربما كان الكثير من رجال الفن أميل إلى الإفراط والتفريط في حياتهم، وابعد عن القصد والاعتدال من عامة الناس، وقد ترقى الفنون وتزدهر في عصور الأدبار الخلقي، كما كانت الحال في إيطاليا في عهد النهضة الأوربية؛ على إن الأدب وان لم تكن غايته نشر الفضيلة، ولا(205/18)
وضيفته ترقية الأخلاق، إن هو إلا مظهر من مظاهر رقي الإنسان وتحضره، وناحية من نواحي حياته الاجتماعية يجب عليه أن يخضع لما يخضع له سائر مناحي تلك الحياة من مقاييس خلقية فيها صلاح المجموع
فإذا لم يكن واجب الأدب الوعظ والإرشاد إلى الخلق القويم فواجه الذي لاشك فيه ألا يصادم الخلق القويم ولا يتحدى تقاليد المجتمع الصالحة، وواجبه أن يتجه ما استطاع وجهة الخير ويتنكب مواضيع الفساد ودواعي التبذل، وكل اثر أدبي مهما بلغت براعته وصدقه ودل على عبقرية صاحبه، إذا خالطه الفجور والإفحاش واتسم بالاستهتار وتوخي الهنات والسوءات، لابد أن يمجه الذوق السليم وينفر منه الطبع الكريم، لما فيه من منافاة للأخلاق السامية التي يأخذ نفسه بها كل متحضر متهذب متثقف ويدرج عليها حتى تتأصل فيه وتصير له طباعاً ثانية
كانت للعرب في الجاهلية أمثلة عليا من الأخلاق الفاضلة التي تمليها حياة البادية، كالشجاعة والذود عن الذمار والدفاع عن الحريم والجود والقناعة وإجارة المستجير؛ وحول التمدح بتلك الأخلاق يدور جانب عظيم من الشعر الجاهلي، يعزو الشاعر تلك الفضائل إلى نفسه تارة كما فعل عنترة في معلقته، وإلى قومه عامة كما فعل عمرو بن كلثوم ولبيد والسموأل، وإلى ممدوحه كما كان يفعل زهير والأعشى، ولبعض أشراف الجاهلية كالأفوه الأودي وحاتم الطائي وذي الإصبع العدواني، وآثار في ذلك رائعة ببلاغتها وقوة أسرها وسمو منزعها، ويرسلها بعضهم قصيداً رصيناً، وبعضهم يرسلها نصائح للمخاطب، ويصوغها بعضهم وصايا إلى أبنائهم، وبعضهم يجعلها حواراً بينه وبين زوجه على تلك الطريقة العربية الجميلة؛ وطلب العرب حسن الأحدوثة وطيب الأثر، ولم يدخروا في ذلك قولاً أو فعلاً، قال حاتم الطائي:
وتذكر أخلاق الفتى وعظامه ... مغيبة في اللحد بال رميمها
وبديهي إن التمسك بكل هاتيك المثل العليا الخلقية لم يكن ديدن جميع العرب ولا التغني بها دأب جميع الشعراء، بل كانت أسباب الشر والفجور موفورة، ودواعي المجون والخلاعة عديدة، تتجلى في سيرة امرئ القيس الذي لم يكن يكاد يفيق غراماً أو خماراً، وحياة طرفه التي صورها في معلقته، حيث وصف ثلاث حاجاته في الحيات، فمنهن سبقه العاذلات(205/19)
بشربة كميت، وتقصير يوم الدجن ببهكنة تحت الخباء المعمد، وكره إذا نادى المضاف محنباً، وكان ذيوع المفاسد قبيل ظهور الإسلام سبب ظهور كثير من الحكماء الذين اخذوا أنفسهم بالزهد ودعوا إليه، كما اخذ كثير من أشراف العرب أنفسهم بمجانبة الخمر والقمار ونحوهما، ومن أولئك عامر بن الظرب الذي يقول وقد حرم في جماعة من السادة الخمر على أنفسهم
أقسمت بالله اسقيها واشربها ... حتى يفرق ترب القبر أوصالي
مورثة القوم أضغاناً بلا إحن ... مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي
وظل أكثر المثل العليا الأخلاقية في الإسلام كما كان في الجاهلية، بعد أن هذب الإسلام من حواشيها وكفكف من غلوائها، فتمدح شعراء الإسلام بالفضائل كالكرم والوفاء وحسن الجوار وكتمان السر والحلم عن السفيه والتصون عن الفحشاء والترفع عن المماراة والمجازاة بالحسنة عن السيئة، كما فعل مسكين الدارمي وأوس بن معن، والمقنع الكندي والشريف الرضي، وتفاخروا بالبلاء في الحروب والإباء على الضيم والتعالي على الجهال وطلب السيادة والمعالي، كما فعل أبو فراس والمتنبي، ومدح الشعراء ممدوحيهم بهذا وذاك، ورموا مهجويهم بأضداد تلك الفضائل، وتهكموا في مداعباتهم بالبخلاء والجبناء والمنهزمين والأدعياء والمتطفلين. ومن محاسن أشعار امتداح الخلق الكريم قول سالم بن وابصة الذي يتمثل فيه الروح الإسلامي:
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كأن به عن كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى ... ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجرا
إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا
وقول الشريف الرضي:
يصول عليّ الجاهلون وأعتلي ... ويعجم في القائلون وأعرب
لساني حصاة يقرع الجهل بالحجى ... إذا نال مني العاضه المتأوب
ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها ... ولا انطق العوراء والقلب مغضب
وكأن احتواء الشعر على تلك الآداب النفسية من أسباب ضن العرب الشديدة به، وتسميتهم إياه ديوانهم، وأخذهم أبناءهم بحفظه. وكانت دراسة آثار أبطال العرب وأشرافهم تلك تقوم(205/20)
في التربية العربية مقام دراسة أشعار هوميروس في التربية اليونانية القديمة، كل منهما تقدم للناشئ نماذج من الفضيلة وأمثلة من الشخصيات العظيمة يحاكيها ويتشبه بها، وهذا الباب من اكرم أبواب الشعر العربي واجمعه لخير ميزات الأدب العربي، ومن البلاغة والصراحة والإيجاز ونفاذ النظرة
على انه بجانب هذه النزعة الخلقية السامية المتخلفة عن أشراف الجاهلية، والتي رفعتها فضائل الإسلام درجات من الرقة والسمو ظهرت رويداً رويداً نزعة مضادة لها كانت ذات اثر في الأدب واضح وضوح نزعة التسامي تلك أو هو أوضح، وتلك هي نزعة الاستهتار والمجون والإباحة التي كانت نتيجة محتومة لاتساع الفتوح واختلاط العرب بأشتات الأجناس واستفحال الترف واتساع الثروة وتفاقم دواعي الشهوات؛ ثم انحطاط مكانة المرأة من جراء ذلك واختفائها من المجتمع. حتى ذاعت فيه الآداب الخشنة والألفاظ الفاحشة، بدل أن يتهذب مع الحضارة، ويتخلص من جفوة البداوة الجاهلية
وانعكس أثر كل هذا الفساد في الأدب العربي، فجاءت كتب الأدب محملة بالحكايات المخزية والعبارات النابية والإشارات المندية، وشبب الشعراء بالذكور، وتمدحوا بالتسلل إلى الخدور، وتفاخروا بالإسراف في الشراب والعكوف على سماع الألحان، وجاهر بعضهم بالزندقة وتهكموا بعقائد المجتمع الدينية، ووقع بعضهم في خصومهم بأفذع الهجاء وتهجموا على أعراضهم واتهموا حلائلهم. وفي أشعار جرير والفرزدق وبشار وأبي نواس والمتنبي وابن الرومي من ذلك الشيء الكثير
أوغل الشعراء في تلك الأبواب إيغالاً لا يكاد يصدقه العقل، ومن العجيب أن الطريقة التقليدية التي يجري عليها تاريخ الأدب العربي لا تزال تعد من فحول العربية شعراء لم يكد يؤثر عنهم مقال في سوى تلك الأغراض الحيوانية. ومن البديهي انه مهما تفنن الناظم في وصف الخمر وتصوير الشهوات، فلن يرفعه ذلك إلى مصاف الشعراء العظام. ودواوين ابن أبي ربيعة وبشار وحماد وأبي نواس وأمثالهم إن هي إلا استهتار وتمدح بالمخازي ومجاهرة بالفسوق محكمة الديباجة بارعة النظم؛ فإذا كان هؤلاء من فحول الأدب العربي فما أقصره عن بلوغ المثل الأعلى للأدب الراقي. ومن ايسر مجون أبي نواس قوله:
ألا فاسقني خمراً وقل لي: هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر(205/21)
فهو لا يقنع أن يفرط في الشراب ما شاء، بل يأبى إلا الإمعان في الفجور وإلا أن يتم لذته بالجهر بالعربدة
ولئن حمدت الحرية الفكرية التي كان يتمتع بها الفلاسفة والعلماء في كثير من الدول الإسلامية، فما كذلك هذه الحرية التي استباحها المجان من الأدباء، الأولى حرية تساعد تقدم الفكر ورقي العلم، والثانية تؤدي إلى انحطاط الخلق وتضرب في دعائم المجتمع. الأولى حرية فكرية نافعة، والثانية إباحية خلقية ضارة، والأدب يرسم للمجتمع - وان لم يقصد - مثلاً عليا يتوخاها، فإذا تمادى في تصوير دنئ النوازع فانه يهبط بالنفوس إلى مستوى منحط لا تريد عنه ارتفاعاً. وليس شك في إن أشعار أبي نواس ومثاله كانت من اكبر أسباب انحطاط المجتمع الإسلامي، وقد كانت حياة الصعلكة التي كان يحياها، وأشعار العربدة التي نظمها، نموذجا للأدباء في عصور الأدبار، فكان الأدب والصعلكة وإدمان الشراب ووصف الخمر فبنظرهم توائم لابد أن تجتمع
ففي الأدب العربي آثار من الخلق الكريم وتمدح بالفضيلة، بجانبها آثار من الأخلاق المنحطة ومجاهرة بالاستهتار؛ وفي الإنجليزية طرف من هذه وطرف من تلك أيضاً: فقد تأثر بعض شعراء الإنجليزية بالمثل العليا الأخلاقية التي سنتها المسيحية، بجانب تلك التي أثرت عن الوثنية، وظهر اثر ذلك في أشعار سبنسر الذي جعل كل فارس في ملحمته (الملكة الحسناء) عنواناً على فضيلة من الفضائل المسيحية. وبدا ذلك أيضاً في أدب عهد المطهرين، ففي كتاب (رحلة الحاج) لبنيان تتشخص الفضائل والرذائل على ذلك النحو، ثم كان تنيسون وكبلنج يمزجان النزعة المسيحية بالنعرة الوطنية؛ وظهرت في الأدب الإنجليزي بجانب ذلك نزعة الاستهتار والمجون في بعض الفترات، كما حدث في بعض القرن السابع عشر من جراء التأثر بالبلاط الفرنسي المترف، وفي أواخر القرن التاسع عشر من جراء التأثر بالأدب الفرنسي أيضاً، إذ نزع بعض القصصيين الإنجليز كأوسكار وايلد إلى ذلك الضرب التحليلي من القصص الذي يسرف في تصوير الذات، واستكناه دنئ العواطف وخسيس النزعات
على إن كلا الأمرين - اعني التمدح بكريم الأخلاق والمجاهرة الاستهتار والتبذل - كانا ضئيلي الأثر قصيري العمر قليلي الاتباع في تاريخ المجتمع والأدب الإنجليزي، فالتشدق(205/22)
بالمحامد والمكارم ليس يعجب الذوق الإنجليزي الذي يؤثر الصمت ويفضل العمل على القول، ومن ثم لم تنفق أخلاقيات تنيسون وإضرابه بين صفوة المثقفين، بل كانت من أسباب خمول ذلك الشاعر بعد وفاته؛ والتمادي في التحدث بالشهوات بعيد كذلك عن طبع الإنجليزي والاجتراء على قواعد الفضيلة ومراسيم الحشمة وتقاليد المجتمع لا يحظى منه بغير الإنكار والإعراض، ومن ثم ثار بالمتهورين من الشعراء والكتاب أمثال بيرون وشلي واوسكار وايلد، فالجأ الأولين إلى حياة المنفى وزج الثالث في غيابة السجن، ولم تشفع لهم لديه مواهبهم الممتازة ولا صيتهم خارج إنجلترا، بل قد يغلوا المجتمع الإنجليزي في الغيرة على تقاليده إلى حد يسميه بعض الناس نفاقاً اجتماعياً، فيغضب على أدباء كرام سليمي الطوية، كما غضب على هاردي ولورانس من القصصيين المحدثين
فالطبع الإنجليزي يأبى أن يكون الأدب مطية للتفلسف الخلقي والفخر الطنان، كما يأبى أن يكون الأدب معرضاً للتبذل والتوقح، وإنما رسالة الأدب الإنجليزي التي ورثها عن الأدب الإغريقي هي الجمال والشعور الصادق، يحوط ذلك جو من الوقار والتسامي كان يعوز حتى الأدب الإغريقي ذاته أحياناً؛ وإنما احتفظ الإنجليز بصفات الرجولة والرزانة تلك لأنهم - فضلاً عن طبيعتهم الهادئة التي هي وليدة جوهم البارد - لم ينساقوا في تيار من الترف الموبق بانتشار فتوحهم وترامي أملاكهم، كما فعل غيرهم من الأمم التي شادت الإمبراطوريات في عصور التاريخ، لان تشييد الإمبراطورية البريطانية جاء تدريجياً هادئاً كالنمو الطبيعي، وبنجاة الإنجليز من مفاسد الترف والثروة المفاجئة سلمت لهم أخلاقهم القويمة.
أضف إلى ذلك تمتعهم بالحكم الديمقراطي، أي بحكمهم أنفسهم وخضوع الشعب لمشيئة الشعب وحدها، مما جعل للرأي العام الكلمة العليا في المحافظة على الأخلاق والذب عن تقاليد المجتمع إذا تحداه متحد وقع عليه الغرم المادي والأدبي وطاشت دعوته قبل ان يتأثر بها سواه؛ على حين كان الرأي العام في الأمم الإسلامية ضعيفاً مستخذياً أمام جبروت الملكية المطلقة، فكان أفاضل القوم ينقمون على حركات الاستهتار في المجتمع وآثار المجون في الأدب، ولكنهم كانوا مغلولي الأيدي لا يستطيعون عن عقيدتهم دفاعاً، وألف بعضهم حيناً جمعيات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والضرب على أيدي العابثين(205/23)
فأصابهم من بطش السلطان وتعقبه ما لم يصب أولئك العابثين.
وكانت الملكية في الدول الإسلامية أحياناً تشجع التهاجي بالمقذغات بين الشعراء شغلاً لهم وللجمهور عن شؤون السياسة وظل بشار يتحدى عقائد الناس ويسخر من فضائلهم وينال من أعراضهم وهو آمن معافى، حتى تطاول على عرض الخليفة ذاته فكان في ذلك تلفه. ولما لم يكن للناس من قوة الرأي العام حارس ومدافع، عمد من استطاع منهم بحول أو مكيدة إلى الانتقام بنفسه ممن تعرض له بالفحش، فلقي كل من المتنبي وابن الرومي حتفه على يد مهجوه. هكذا استفحل المنكر في المجتمع والإباحة في الأدب من اثر ذيوع الترف وتحكم الملكية المطلقة، رغم أن المجتمع كان مجتمعاً إسلامياً والدولة كان أساسها دينياً، وكان الأجدر أن أدباً يزدهر في ظل الدين الإسلامي الحنيف، يكون اعف الآداب لفظاً وأشرفها قصداً.
وقد تقدم القول إن سريان ذلك الفساد في كيان المجتمع الإسلامي عقب الفتوح أدى إلى انحطاط المرأة واختفائها من المجتمع، وكان ذلك من دواعي انتشار هجر القول في الأدب فان وجود المرأة في المجتمع عامل تجمل وتوقر وتعفف في المسلك والمقال، وهو عامل سعد به الأدب الإنجليزي فكان من أسباب تساميه الخلقي، وظلت النظرة إلى المرأة في الإنجليزية سامية عفيفة، وظلت صحبتها منبع وحي وداعية تكرم لدى الأدباء، وقد قال ستيل عن صاحبة له فاضلة إن محادثتها هي ثقافة قائمة بذاتها
فالأديب الإنجليزي لا يتمدح بالمحامد ولا يجاهر بالمباذل، لأن طبعه لا يستسيغ هذا ولا ذاك، ومجتمعه لا يقبلهما منه، ثم هو لا يهجو غيره ولا يفحش في الهجاء. وإنما يصور أخلاق أفراد المجتمع بما فيها من فضائل ومعايب، ويتهكم بالمنشدقين بالفضائل والمتظاهرين بالعلم أو بالثروة أو بالعظمة، أي بالمسرفين في كل شئ المجاوزين حد القصد والاعتدال، والتوسط الذي هو خير الأمور، فالاعتدال شعار الإنجليزي في مسلكه وفي أدبه، والتطرف يثير سخره واحتقاره، وهذا الميل منه واضح في مواضيع الأدب الفكاهية، وضوحه في أغراضه الجدية
فخري أبو السعود(205/24)
ذكريات. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
هما موقفان لا أزال اذكرهما، أو تغمض عيني كف الغاسل:
أما الأول فعلى ضفاف بردى، في الثامن والعشرين من سبتمبر 1936
وأما الثاني فعلى شاطئ دجلة في الخامس من مايو 1937
كان بردى يخطو على مهل، متهللاً منطلق الوجه، يرد على الشمس الوليدة أول تحياتها، وهي تغمره برشاش من عطر أشعتها الحمراء. . . وكنت في السيارة الفخمة، انظر إلى جموع المودعين من الصحب والرفاق، الذين خرجوا من بيوتهم في هذا الصباح، ليودعوني قبل نزوحي إلى العراق فأقلب النظر في وجوههم، شاكراً لهم فضلهم، حزيناً لفراقهم، ثم أتأمل بردى صديق الصبا وسمير الوحدة ونجي النفس، فأبصر في خلاله ظلال الحور والصفصاف تميس دَلاً وتيهاً، وارى ظلال المآذن البعيدة السامقة تضطرب في الماء فابصر فيها ذكرياتي حية تطالعني وتحدثني، وتعيد على مسمعي قصة حياتي، وتتلو علي تاريخي فأحس بلوعة الفراق، وأشعر في تلك الساعة باني احب دمشق. . . دمشق مثوى ذكرياتي، ودنياي من الدنيا، وغاية أملي في حياتي. . . ثم يطوي المرج هذه الصور كلها، ولا يدع حيال عيني إلا صور اخوتي، فأتأملها بعين دامعة وقلب واجف خائف من الفراق، ثم تجتمع كلها في وجه واحد، هو احب الوجوه إلي وأدناها إلى قلبي. . . والمح في الماء مشهداً طال عليه العهد ونأى به الزمان. فأراه ينفض عنه غبار السنين العشر، ويعود حياً جديداً. . .
. . . رأيتني في محطة الحجاز، آية الفن الحديث في دمشق، والمحطة مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه، فمن مسافر عجل، ومن مودع باك، ومن بائع يصيح. . . ومن آت وذاهب، وطالع ونازل. . . وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا، وإلى جانبي أختي الصغيرة. . . انظر إلى بعيد، فأرى هناك، في أخريات الناس امرأة تمسك بيديها طفلين، ملفعة بملاءة لا تبدي منها شيئاً، ولكن وراء هذا القناع الأسود عينين تفيضان بالدمع عالقتين بمكاننا من القطار. وخلال تلك الضلوع قلباً يخفق شوقاً، ويسيل دمعاً، ووراء هذه الوقفة الساكنة الهادئة ناراً تضطرم في الجو، وزلزالاً شديداً يدك نفسها(205/25)
دكاً. . .
وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد قلبنا خفقاناً واضطراباً، ثم قذف إلى الجو بدخانه كأنما هو حي قد اخذ بموقف الوداع، فزفر زفرة الحزن الدفين، والألم الحبيس ثم هدر وسار وراحت المحطة تبتعد عنها وعني عالقة بيد تلك المرأة التي تلوح لي بمنديل أبيض، حتى غاب عني كل شئ. . .
هنالك تلفت فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يجد لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار - لولا أن تعلقت بي أختي التي كانت على صغرها اكبر مني، وعلى أنوثتها أقوى واجلد. . .
أردت أن القي بنفسي لأني لم اكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي التي كان تعلقها بنا، وتعلقنا بها لا يشبه ما نرى من الأمهات والأبناء، وكان. . . آه ماذا تفيد (كان)، وقد كان ما كان؟. . .
تلك هي أمي، التي مر على (غيابها) عني سنوات طوال، ولكني أحس كان الحادثة كانت أمس - فتحز في نفسي ولا أطيق أن اكتب عنها حرفاً
تلك هي أمي التي كانت لي أماً وأباً، بعد أبي رحمهما الله، وكانت حبيبة وكانت أستاذة، وكانت دنياي وكانت آخرتي. . . وكانت أمي!
تلك هي أمي التي فوجئت كما تفاجأ الشجرة الغضة الفينانة في ربيعها الزاهر، حين تعصف بها العاصفة فتدعها جذعاً مقطوعاً جافاً. . .
تلك هي أمي التي ما نسيتها - علم الله - أبداً، ولم اذكرها أبداً، كأنها تملأ نفسي ولكني لا اجري ذكرها على لساني. أراها في أحلامي حية فاشعر كأني عدت حياً، وأهم بعناقها وافتح عيني فأجد على وجهي حر لطمة الدهر الساخر، ولكني احمل اللطمة. وأغضى على القذى، ولا اخبر اخوتي بشيء، لئلا اذكرهم ما هم ناسون، أو اجدد لهم بالمصيبة عهداً، فأهمل ذكرى أمي ويهملونه. . . ولعل كل واحد منهم يحس مثلما أحس ويكتم مثلما اكتم!
ذكرت ذلك ساعة الوداع، لأني كنت متألماً، وليس لآلامي كلها إلا معنى واحد هو إني اذكر وفاة أمي، ذلك هو الألم عندي لا ألم سواه
فلما صحوت نظرت في وجوه المودعين فلمحت وجه أمي مرة ثانية، ولكني لمحته حياً(205/26)
ماثلاً في وجوه اخوتي الأحباء. فودعته بدمعة من العين، وابتسامة على الفم، وإشارة بالكف، ثم سارت بنا السيارة تطوي الأرض وتستقبل الصحراء. . .
ذلك هو الموقف الأول!
أما الموقف الثاني فقد كان على شاطئ دجلة في الهزيع الأول من الليل؛ وكانت محطة بغداد الغربية زاخرة بعشرات من خير شباب بغداد وزهرة فتيانها تركوا دروسهم وامتحانهم القريب وخرجوا من دورهم في هذا الليل ليودعوا صديقاً احبهم وأحبوه، واخلصوا له الحب واخلص لهم. . . ذلك الصديق هو أنا، وأولئك هم تلاميذي بل اخوتي، جاءوا يودعونني لا قياماً بواجب رسمي، ولا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب، ولكن وفاء وحباً. والحب اجمل ما في الوجود؛ والوفاء اقدس ما فيه بعد الإيمان. . . وكنت مستنداً إلى نافذة القطار الذي سيحملني إلى البصرة، أصغي إلى خطبهم وأشعارهم التي صبوا فيها عواطفهم، وكتبوها بمداد قلوبهم، أتأمل فلا أرى (والله) إلا بردى ودمشق واخوتي
وغبت عني في شبه ذهول، فما انتبهت إلا وأنا وحيد في القطار، أضم إلى قلبي هذه الهدية التي قدمها إلي تلاميذي. وأطللت من النافذة فلم أجد إلا الظلام. . .
لما دخلت عليهم الصف أول مرة كنت مشتاقاً إلى بلدي كارهاً لغربتي متألماً ملتاعاً، فلم أر في الصف إلا عيوناً جامدة وقلوباً معرضة وأفواهاً مغلقة، وكانوا عندي من العدم لأنه لم يكن لهم في ذاكرتي وجود. ولكن لم ألبث أن وضعت بين أيديهم قلبي فأحببتهم كما يحب الأخ أخاه، (احبهم في مجموعهم لا احب واحداً منهم. . .) واخلص لهم، واحرص على رضاهم وأحس الفرح يغمر نفسي إذا قدمت لواحد منهم خيراً. أو درأت عنه شراً ويتصدع فؤادي إن وجدت أحدهم متألماً، فلا أني اخفف ألمه. وادفع عنه حزنه؛ وكنت أعيش بهم ولهم ومعهم
ووضعت بين أيديهم رأسي أطلعهم على كل ما اختزنته فيه هذه السنين الطوال. استغل اضعف المناسبات لأطلعهم على جمال الأدب العربي، وعظمة التراث الإسلامي، وقيمة التفكير الحديث، واتجاه النقد الجديد، وأعلمهم الاستقلال الفكري، واحفزهم إلى المناقشة، ولا استعمل في إقناعهم سلطة المدرس لان ذلك ضعف، ولكن استعمل قوة المحق ولسن الجدل النظار. واعترف لهم بالحق إذا ظهر على لسانهم؛ واقر باني لا ادري ما لا أكون(205/27)
أدريه. . . وابعث في ملكاتهم المهملة، وأشجعهم على الإنتاج والنشر. . .
وكان زملاؤنا المدرسين يحذرونني عواقب هذه الطريقة لان الطلاب (في رأيهم) لا يقدرون قيمة الحرية واللطف، ويحسونها عجزاً وضعفاً ويتخذونها سبيلاً إلى الشغب ولكني وجدتهم يقدرون قيمتها، ويحترمون المدرس العادل العالم اللطيف، أكثر مما يحترمون المدرس الجبار العنيف، ووجدت هذه الطريقة قد أجدت جدى كبيراً، فاقبل الطلاب على الأدب وقد كانوا عنه منصرفين، وصار احب الدروس إليهم وقد كانوا يكرهونه، ونشأ فيهم كتاب وشعراء ونقاد يؤمل منهم بعث الحياة الأدبية في العراق في بضع سنين. . .
وضعت بين أيديهم رأسي وقلبي، فلما أثمر الثمرة ولما تحركت هذه العيون بالإخلاص، وأقبلت هذه القلوب بالحب وتفتحت هذه الأفواه عن اجمل أحاديث العلم والأدب والود. . . ولما محيت تلك الفروق كلها. وزال التكلف بين المدرس والطلاب، ولم يبق إلا اخوة يعيش الواحد منهم للجميع، ويعمل الجميع للواحد. . . جاء الأمر بنقلي إلى البصرة. . .
وهأنذا الآن في البصرة في هذه الغرفة الصغيرة اذكر مجالسنا على شاطئ دجلة فيخفق قلبي خفقاناً شديداً، وأتمثل أمامي صورة أخي الشاعر وهو ينشدنا أعذب أشعاره التي تشبه في رقتها نسيم الماء الرخي اللين، وفي انسيابها دجلة التي خلع عليها الغروب ثوباً منسوجاً من خيوط النور فيه مائة لون. . . واذكر (ليلة المطر). . . ليلة جلسنا في هذه الحديقة التي تنبسط وراء المطار المدني في بغداد، وأمامنا الفضاء الذي يمتد إلى. . . إلى دمشق، لا يحجبه شئ؛ وكان مصباح المطار الأحمر القوي يريق ضوئه على الحديقة ومن فيها فيجعلها كأنها بقعة من عالم مسحور، لا يشبهه شئ، ولكنه جميل أخاذ يملأ النفس نشوة وسكراً؛ وكانت الطبيعة تبدو أمامنا كأنها لوحة خطتها ريشة ابرع المصورين؛ فهذه الحمرة العجيبة، وزرقة السماء الصافية، وسواد الليل عند الأفق، والنساء بثيابهن الملونة المبرقشة، والنادبون بقمصهم البيض، يمشون على الحشائش. لا يسمع لهم صوت، يتكلمون همساً. . .
وكان النسيم رخياً ناعشاً، تميل منه الأزهار فتفوح من أثوابها رائحة العطر، فتطفو على هذا النسيم والأضواء البعيدة - كأنها تائهة في الظلام فهي ترتجف من الخوف، وقد جمعت الطبيعة في تلك الليلة سحرها كله: صفاء السماء، وسكون الليل: والربيع الذي زخرف هذه(205/28)
الحديقة ورصعها بالورد والزهر، ووضع فيها خلاصة فنه ونتاج عبقريته
وكان كل شئ عاشقاً قد سكر بخمرة الجمال، وراح يحلم. فالصحراء الواسعة قد سكرت وتغلغلت في الظلام منفردة تحلم بالظل والماء، والسهول المجاورة راحت تحلم بربيع دائم، وعاد الأمس حياً حالماً بالخلود، واطل الغد نشوان يحلم بليلة مثل هذه الليلة. . .
وكنت احلم. . . فما راعني وهبط بي من سماء أحلامي إلا ضحكة عذبة رقيقة كأنها رنين الذهب، لم اسمعها بإذني ولكني رايتها بعيني تتدحرج طافية على وجه النسيم الأحمر حتى غاصت في الظلام الساكن، وعاد الصمت. . . وكانت ضحكة عاشقين قد نسيا الوجود وما فيه، وغابا في حلم حي يقظان!
فهاج ذلك صديقي الشاعر فانحنى علي، وألقى في أذني إحدى أغانيه (الجديدة)
(زرعت روض شفتي بالقبل فأزهر واينع، ولكن لم يقطفه أحد فذوى وجف
(وأعددت سرير الحب في قلبي وضمخته بالعطر، ولكن لم يهجع عليه أحد فعلاه الغبار
(كأن الناس لما خلقوا قسموا أنصافاً، ثم نثروا في الحياة، فمن وجد نصفه صار إنساناً، ومن وجد غيره كان مسخاً، ومن لم يجد بقي نصف إنسان
(فأين أنت يا نصفي الآخر؟
(لقد ضاع النصف الذي فيه قلبي، فمن هي التي يخفق قلبي في صدرها
(من هي التي تنظر بعيني، وتسمع بأذني؟
(ومن هي التي لم أرها أبداً، ولا أرى غيرها أبداً؟)
شعرت بأن أغاني الشاعر قد سمت بي إلى عالم كله خير وجمال، وشعرت بنشوة عجيبة وعلمت أن ما أنا فيه غاية السعادة ونهاية السمو، وإذا أنا اسمع نغمة موسيقية فاتنة عادت تسمو بي، حتى رأيت ما كنت فيه أرضاً وهذي سماء، فذكرت كلمة فاجنر: (تبدأ الموسيقى حيث ينتهي الشعر)
واختلط علينا الجمال، فصار باقة واحدة، قد اجتمع فيها همس الحب وألحان الموسيقى بعبق الزهر، وأريج العطر؛ بخيوط الأشعة، وروعة الألوان، فصرنا نسمع ما يرى، ونشم ما يسمع، وصارت الحواس كلها حاسة واحدة. . . هي حاسة الجمال!
وهأنذا اذكر مئات من الذكريات، وأتمثل طلابي كلهم أمامي حتى إني لأمد يدي أصافحهم(205/29)
فلا تقبض يدي إلا الهواء فأرتد مذعوراً واجلس يائساً. . . لقد غدا هؤلاء الفتيان جزءاً مني لأنهم عاشوا في نفسي ذكريات. . . كما عشت في نفوسهم ذكرى، فنحن مجتمعون ولو نأت بنا الديار. . .
وهأنذا آلف هذا البلد الذي كرهته واجتويته، وأصبر على شظف العيش فيه من اجل هؤلاء الطلاب الذين أحبوني هم أيضاً و. . . أحببتهم، وتعلقوا بي، فلا يأتون المدرسة إلا لسماع درسي، فان لم يكن لي درس أقاموا في بيوتهم يجدون ويستعدون للامتحان، ولا يدخرون وسعاً في إسداء يد إلي أو دفع الألم عني. . . ويحرصون على راحتي اكثر من حرصهم على نجاحهم في امتحانهم، ويفضلون كلمة مني على كلمة تقولها القانون. . .
اصبر من اجل هؤلاء الذين اغرس الآن حبهم في قلبي لانتزعه منه غداً وادعه جريحاً. . . أفهذه حياة المعلم؟ ماذا يبقى من قلب في كل مدرسة منه قطعة؟
هنيئا لمعلم ليس له قلب. . . . . .
ويا ويل المعلم إذا كان إنساناً. . . . . .
(البصرة)
علي الطنطاوي(205/30)
الإسلام والديمقراطية
للأستاذ عبد المجيد نافع
أحببت أن أتكلم عن الإسلام والديمقراطية لأني رأيت بعض الصحف الأجنبية كلما تعرضت للنظم في مصر قالت: ليست الديمقراطية مادة للتصدير! وهي تقصد أنها لا تصلح لنا ولا نصلح لها. وما علمت أن قوما يدينون بالإسلام حرام أن تضيع الديمقراطية بينهم
وإذا ناديت أن الإسلام دين الديمقراطية فإني استوحي التنزيل الحكيم، وأستلهم الحديث الشريف، وأستهدي المأثور من أقوال أعلام الإسلام، واحكم في ضوء الأعمال الخالدة في تاريخ الإنسانية، ليتم لي القول أن دين محمد قد كتب للحرية أجل الصفحات وأروعها، وقرر من مبادئ الأخاء أسماها، ومن قواعد المساواة أعلاها. فكان دين الديمقراطية من الوجهتين النظرية والعملية، وكانت خير ديمقراطية أخرجت للناس
إذا اعتبرنا ميلاد الديمقراطية الغربية إعلان حقوق الإنسان في الانقلاب الفرنسي الكبير عام 1789 فان الإسلام قد سجل مبادئها قبل مولدها في أوربا بأكثر من ألف ومائتي عام. وإذ كان الفضل للمتقدم، فالفضل للإسلام في تحرير الإنسانية من ربقة الاستبعاد، وخلاصها من أغلال الأوهام
جاء الإسلام فوضع قواعد الديمقراطية في غير جلبة ولا ضوضاء، ودون أن يحدث هزة عنيفة في كيان الأمة العربية، بل دون أن يريق قطرة واحدة من الدماء. على حين أن الروح الديمقراطي لم يستطع أن يتنفس في جو أوربا، وبذور المساواة لم تنبت في البيئة الغربية، إلا بعد قرون ثلاثة حافلة بالثورات، وصراع دموي بين طبقة الأشراف وطبقات الشعب، صبغ ارض أوربا بالدماء
وسترون إن الإسلام جاء بالأخاء الصحيح، والمساواة الحق في حين أن الديمقراطية العصرية، باعتراف أنصارها وخصومها على السواء، لم تبرأ من شوائب النظم البالية العتيقة
الديمقراطية، في اصطلاح العلوم السياسية، هي النظام الذي يحكم الشعب فيه نفسه بنفسه، أما مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارهم عنه(205/31)
على إني أسارع إلى القول بان مدلول عبارة الديمقراطية قد اتسع اليوم نطاقه بحيث اصبح يشمل النظم الاجتماعية والاقتصادية فوق اشتماله على النظم السياسي. ولو شئنا أن نستغني بالأجمال عن التفصيل، لقلنا في كلمة: إن الديمقراطية هي النظام أو مجموعة النظم التي تحقق مبادئ الحرية والمساواة بين الناس بقدر ما يمكن أن يكون الإنسان حراً، وبالقسط من المساواة الذي لا يصطدم مع النواميس الطبيعية
ورأيت الناس مشغوفين كلفين بالديمقراطية حتى لأجدهم يسرفون في استعمالها فيقولون الأدب الديمقراطي، والفن الديمقراطي؛ بل أراهم لا يقتصون في التبرع بها حتى يخرجوا بها عن معناها الأصلي، فالرجل المتواضع في عرفهم رجل ديمقراطي، وان كان للديمقراطية من ألد الخصام
عرف أرسطو الديمقراطية بأنها نظام الحكم الذي تنتقل السلطة فيه إلى أيدي طائفة من المواطنين الأحرار المتساوين عند طبقة الأرستقراطية
يخلص لنا من هذا التعريف إن الحرية والمساواة هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما صرح الديمقراطية.
إن من ينعم النظر في أقوال أرسطو يجد إن حكيم اليونان كان متبرماً بالنظام الديمقراطي في عصره، لا لأنه كان يتنكر لمبادئ الحرية، أو يخاصم تعاليم المساواة، أو يضيق صدراً بتوسيع دائرة اشتراك الشعب في إدارة شؤون الدولة، بل لان النظام الديمقراطي في عهده قد ساء حتى تردت اليونان في هاوية الفساد والفوضى
كلما اتسع أفق المعارف الإنسانية، شعر الناس بالكرامة وأحس العقل البشري بالعزة، فتطلعوا إلى تحقيق المثل العليا، وطمحوا إلى توسيع قاعدة اشتراكهم في إدارة دفة الشؤون العامة، والهيمنة والإشراف على أمور الدولة، لذلك كان النضال حاداً عنيفاً بين الشعوب الطامحة إلى الحرية، والطغاة المستبدين الذين يصدونهم عن سبيلها، والتطاحن شديداً بين طبقة الأشراف التي تنعم بالامتيازات، وطبقات الشعب التي تتطلع إلى تحقيق مبادئ المساواة. وإذن فمن الحق أن يقال: إن تاريخ الديمقراطية هو تاريخ الحضارة الإنسانية
وما انصف كارل ماركس الحقيقة والتاريخ حين صاح بان البطون هي مصدر الانقلابات في كل أدوار التاريخ، وان الناس حين هبوا يسفكون دماءهم، ويزهقون أرواحهم، فإنما(205/32)
كانت هبتهم للخبز لا للحرية، وفورتهم في سبيل أغراض مادية لا لتحقيق المثل العليا والسعي وراء الكمال الإنساني
وما انصف من قبله بعض قادة الفكر في روما حين قالوا بان الشعب الروماني يجتزئ بالخبز والملاهي عن الحرية السياسية والاشتراك في تسيير أداة الحكم
وإذا كان قد أتيح لفريق من الرومان أن يقولوا ساخرين متهكمين: لدى الشعب أصوات انتخابية وليس لديه خبز؛ فقد كان ذلك من جراء فساد النظم، وانحطاط أداة الحكم، لا من جراء مسخ الطبيعة البشرية
تميز تاريخ روما القديمة بسلسلة من المناضلات متصلة الحلقات بين جماعة الأشراف وطبقات الشعب لتحقيق مبادئ المساواة
على أن تربة روما لم تكن صالحة لنمو بذور الديمقراطية، وكلما اتسع ملك الرومانيين وبسطوا سلطانهم في الأرض طلقوا مبادئ الديمقراطية واعتنقوا روح الاستعمار، وأقاموا بناء إمبراطوريتهم على الغلبة والقهر، وأصبحت الأمم المغلوبة على أمرها أسلاباً تقتني وضياعاً تستغل
كان المسلمون إذا فتحوا أمة تركوا لأهلها حرية العقيدة وحرية العبادة وخلوا بينهم وبين أملاكهم، وضمنوا لهم أمنهم وأرواحهم وسووا بينهم في المعاملة وهتفوا فيهم بذلك المبدأ القويم: لهم مالنا وعليهم ما علينا
وكذلك كان الإسلام كلما دخل أمة حمل معه بذور الإخاء والمساواة.
أود أن أضع تحت الأنظار صورتين متباينتين لامة اليونان القديمة، وأمة العرب قبل بزوغ فجر الإسلام، لتروا بأعينكم وتلمسوا بأيديكم، إلى أي حد وفق دين الهدى والحق إلى صبغ جزيرة العرب بالصبغة الديمقراطية وطبع أهلها بطابع المساواة
كانت اليونان القديمة بطبيعة تكوينها ومزاج أهلها مهداً صالحاً للديمقراطية، فقد كانوا يقيمون بالمدن ولا مشاحة في أن المدن هي مواطن الديمقراطية. وكانت ميول اليونانيين متجانسة، ومشاعرهم منسجمة، ومصالحهم متحدة، غير متنافرة تجمعهم ذكريات تاريخية مشتركة، وتؤلف بين قلوبهم مثل عليا واحدة
على النقيض من ذلك تماماً تجد سكان الجزيرة: فقد كان العرب يسكنون مضارب الخيام،(205/33)
وانقسموا إلى شيع وقبائل. وكانت أهواؤهم متفرقة، ومصالحهم متنافرة. بل كانت المنازعات بينهم سلاسل متصلة الحلقات، والحروب متواصلة الضروب
ومن ينكر اعتزاز العرب بالعصبية؟!
ومن ينسى تطاولهم بالأحساب والأنساب؟!
ومن ذا الذي لم يملأ سمعيه بأخبار مفاخرتهم ومكاثرتهم ومنافرتهم؟!
فأنت ترى من هذه الصورة أن جزيرة العرب لم تكن المهاد الصالح لنموا شجرة الديمقراطية، والعرب لم يكونوا القوم المستعدين لإساغة تعاليم الديمقراطية وهضمها
وجاء الإسلام فنشر راية الديمقراطية، وبث مبادئ الأخاء والمساواة، لا لأن الجو كان مهيئاً لها، ولا لأن العقول كانت مستعدة لهضمها، ولا لأن الإسلام شاء ان يتمشى مع العرب في رغباتهم، ومنازع نفوسهم ليصم الأولياء، ويكسب الأنصار، ولكن الإسلام جاء فألقى بذور الديمقراطية، لأنه دين الفطرة، لأنه دين الإنسانية الطامحة إلى الكمال، لأنه الدين الذي اخذ نفسه ببث احكم المبادئ، وغرس أقوم الأحكام.
اجل، لقد حمل الإسلام راية الأخاء وأهاب باتباعه: إنما المؤمنون اخوة. والمؤمنون بعضهم أولياء بعض: وعبيدكم الذين هم ملك يمينكم إخوانكم في الدين.
نعم، لقد رفع الإسلام لواء المساواة، وأذن في أنصاره: لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والناس سواسية كأسنان المشط.
ولم يقف الإسلام عند حد تلقين اتباعه مبادئ الإخاء والمساواة نظرياً، بل راضهم عليها عملياً، فشرع لهم الأحكام القائمة على الإخاء والمساواة، واراهم القدوة الصالحة، والأسوة الحسنة، فطبعت قلوبهم على الإخاء، وأشربت نفوسهم حب المساواة، حتى صاح أعرابي في وجه عمر صيحته التاريخية الخالدة، ولم يتعثر، ولم يتلجلج: لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا.
انطفأت شعلة الديمقراطية في عصور الظلمات في أوربا، وخبا نور الحرية، واندثرت معالم المساواة، وانشطر المجتمع الأوربي إلى ثلاث طبقات: فريق الأشراف، وجماعة الاكليروس، وطبقة الشعب. وكان التاريخ الغربي صفحة دامية من النضال بين الشعوب المهضومة الحقوق والطغاة المستبدين الذين يتنكرون لتلك الحقوق فينكرونها. واتصل(205/34)
التطاحن بين الطبقات؛ فأما الأشراف فكانوا يحرضون على امتيازاتهم، وأما رجال الدين فكانوا يضنون بأنفسهم أن يهبطوا إلى مستوى الشعب، وأما الشعب الطامح الطامع في رد اعتبار الكرامة البشرية، ووضع حد لامتهان العقل الإنساني؛ فلم يضن بأية تضحية يبذلها في سبيل الحرية والمسواة، فبذل دماء المجاهدين بسخاء
كانت الحرية السياسية منعدمة، والحرية الشخصية كلمة جوفاء، والحرية الدينية خيالاً متلاشياً، والمساواة عبارة ذاهبة في الهواء. وكان الملوك المستبدون يستمدون عناصر طغيانهم مما أسموه (الحق الإلهي). وكان الأشراف يلتمسون أسباب تميزهم من اختلاف المولد، ورجال الدين يتوسلون إلى التمتع بالامتيازات بما تأولوه من نصوص الدين، وصبرت الشعوب وصابرت حتى عقد النصر بلوائها على تلك القوى مجتمعة.
وشاورهم في الأمر: وأمرهم شورى بينهم: وكذلك وضع الإسلام قاعدة الحكم النيابي.
وما كان على الإسلام ان يضع غير الأصول والكليات والقواعد العامة؛ فأما الصور والأشكال التي يتحقق بها معنى الحكم النيابي فمن الطبيعي أن يترك اختيارها للقائمين بالتنفيذ.
ولا تحسبوا أن الحكم النيابي لا يوجد إلى حيث يوجد مجلس نواب ومجلس شيوخ. ففي مدن اليونان القديمة كان الشعب يحكم نفسه بنفسه مباشرة بغير واسطة نواب أو ممثلين. وكذلك الشان اليوم في بعض المقاطعات السويسرية حيث يحصل استفتاء الشعب في جميع الشؤون التي تمس حياته العامة. ولقد يوجد التمثيل النيابي وعلى الرغم من وجوده تنعدم سلطة الأمة وتصبح خيالاً متلاشياً. ثم ألا ترى أنصار الحكم النيابي وخصومه على السواء في أوربا يشكون من اضطهاد الأغلبيات للأقليات وتراهم يحاولون أن يطبوا لهذا الداء بواسطة التمثيل النسي؟
الشورى إذن هي قوام الحكم النيابي وهي دعامته وروحه دون اعتبار بالصور والأشكال.
في الصدر الأول من الإسلام كان يطبق مبدأ الشورى تطبيقا دقيقاً.
أيقن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه لم تعد للمسلمين مندوحة عن حرب الفرس، وانه إذا دانت لهم تلك البلاد خفقت راية الإسلام في ربوع الشعوب.
لم يشأ ابن الخطاب أن يستبد بالأمر أو يستأثر بالرأي وهو من تعلم بعد نظر وصواب فكر(205/35)
وقوة حزم وعزم، بل أراد أن ينزل على رأي المسلمين فيمن يصلح لتولي القيادة؛ وأراد أن لا يضيق دائرة الاستشارة أو يقصرها على فريق دون فريق، فاستشار العامة والخاصة معاً، فأما العامة فأشاروا عليه أن يكون بنفسه على رأس الجيش إذ كان الناس اشد تعلقاً به، واكثر طاعة له. وأما الخاصة فأشاروا عليه بان يسلم القيادة لغيره وان يبقى هو بالمدينة ضناً بحياته وحرصاً على بقائه يدير دفة الشئون. ثم ارتأوا أن يكون سعد بن أبي وقاص على رأس الجيش، فنزل عمر على إرادتهم وولاه القيادة.
وضع الإسلام دعائم الحكم النيابي وطبق أبو بكر وعمر مبدأ الشورى تطبيقاً دقيقاً.
لكن وا أسفاه ما لبثت دولة بني مروان أن احتك خلفاؤها بالفرس والروم فرأوا مبلغ تسلط الحكومة على الرعية، وإذعان المحكومين لسلطان الحاكمين، فجنحوا للاستبداد، وضربوا بمبدأ الشورى عرض الأفق، ذلك بان النفس البشرية نزاعة إلى الاستبداد بفطرتها، وللبيئة في طبع النفوس بطابعها اثر أي اثر.
ولو أن بني مروان لم ينزعوا إلى الاستبداد لما وجدت دعاية بني العباس ضدهم سميعاً ولا مجيباً
كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال ثالث: عليّ طبخها. فقال صلى الله عليه وسلم: وعليّ جمع الحطب. فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك ذلك، فقال قد علمت ولكني اكره أن أتميز عليكم، فان الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه؛ وقام فجمع الحطب
ولا أريد أن اشوه جلال هذا المثل الرائع بمحاولة التعليق عليه ولما استقرت الخلافة إلى أبي بكر، وذلك سنة إحدى عشرة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فان أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني
ومما يروى عن زهده ورضاه بالكفاف من العيش إن زوجته اشتهت حلواً. فقال: ليس لنا ما نشتري به. فقالت: أنا استفضل من نفقتنا في عدة أيام ما نشتري به. قال: افعلي، ففعلت ذلك، فاجتمع لها في أيام كثيرة شئ قليل، فلما عرفته ذلك ليشتري به حلواً أخذه فرده إلى بيت المال. قال: هذا يفضل عن قوتنا، واسقط من نفقته بمقدار ما نقصت كل يوم وغرمه لبيت المال من ملك كان له(205/36)
ولما ولى الخلافة رأى أن يستمر على استغلال ملكه والارتزاق من وراء عمل يده ولا ينفق على نفسه من بيت مال المسلمين شيئاً واصبح يوماً وعلى ساعده أبراد وهو ذاهب إلى السوق فلقيه عمر فقال: أين تريد؟ قال: إلى السوق. قال: أتصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقاً إلى أبو عبيدة فقال: افرض لك قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم كسوة الشتاء والصيف، إذا أخلفت شيئاً رددته وأخذت غيره، ففرضا له كل يوم نصف شاة وما كساه في الرأس والبطن
واخرج ابن سعد عن ميمون قال: لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين فقال: زيدوني فان لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمسمائة
وخطب عمر بن الخطاب يوماً فقال: أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه. فقام رجل فقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا. فقال عمر: الحمد لله الذي أوجد في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بسيفه
أراد أحد ملوك الروم أن يتعرف شخصية عمر العظيمة ويتبين العوامل التي جعلت حفنة من العرب تدوخ الممالك وتبسط سلطانها على الإمبراطوريات الضخمة العظيمة، فبعث برسول فتلمس الرسول طريقه إلى عمر، وإذ سأل الناس عنه أشاروا إلى رجل نائم إلى جانب جدار وهو يتوسد عصاه. فقال: عدلت فأمنت فنمت يا عمر.
ولما سير العرب جيوشهم على مصر وعلى رأسها عمرو بن العاص أرسل ملك مصر من يستطلع طلع تلك الحملة. فما راعه إلا أن يرى عمراً القائد للجيش يتبسط في تناول الطعام مع جنوده على الأرض. فلما ارتد الرسول فأعطى الملك تلك الصورة الرائعة قال: إن قوماً ذلك شأنهم، وتلك حال كبارهم مع صغارهم، محال أن تجد الهزيمة إلى صفوفهم سبيلاً.
يجترئ خصوم الإسلام على الدعوى بان مجد الإسلام قام على السيف. وتلك دعوى باطلة تضافر العدل والحق على هدمها من أساسها.
وكيف يجوز في عقل عاقل أن حفنة من الرجال تقوى على هدم إمبراطوريتي الرومان والفرس إذا لم تكن عدتها إلا السيف؟
أين قوة العرب المادية من قوة الفرس والرومان؟ وأين مواردهم من مواردهم؟(205/37)
وكيف استطاع المسلمون أن يفتحوا في ثمانين سنة ما فتحه الرومان في ثمانمائة؟ فامتد رواق الملك العربي من الأندلس إلى حدود الهند، وخفقت راية الإسلام فوق تلك الربوع جميعاً؟
عندي أن المبادئ الحقة العادلة هي التي مهدت للمسلمين السبيل إلى بسط ملكهم في الأرض.
ثلاثة قرون كاملة حفلت بالثورات الدموية في سبيل تقرير قواعد الديموقراطية العصرية في أوربا. شهدت إنجلترا انقلابين في سنة 1642 و1688. وفي عام 1766 وقعت حرب استقلال أميركا لخلع نير الاستعباد البريطاني. واضطرمت نيران الثورة في فرنسا عام 1789. وكأن شجرة الحرية كانت لا تزال في حاجة لدماء لترويها، والديموقراطية لضحايا وشهداء لتغذيها، فتأججت نيران الثورة في 1830 و1848. وتواصلت الثورات في أوربا بين 1906 و1920
فأنتم ترون أن النصر لم يعقد بلواء الديمقراطية إلا في القرن التاسع عشر
وفي أواسط القرن الثامن عشر في فرنسا لم تكن حرية سياسية ولا مساواة اجتماعية. حتى هب فولتير وروسو يبشران بمبادئ الحرية والمساواة. وتشبع لافايت بتعاليم الديمقراطية، فلما عاد ورفاقه إلى فرنسا حملوا إليها بذورها الصالحة
وجعل روسو براعة الاستهلال في كتابه (العقد الاجتماعي) ولد الإنسان حراً على أنا نراه في كل مكان يرسف في القيود
وأعلنت الثورة الفرنسية حقوق الإنسان في عام 1789 وجرت المادة الأولى من إعلان الحقوق: يولد الناس أحراراً ويبقون أحراراً ومتساوين
رأيتم أن الحرية والمساواة هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما صرح الديمقراطية.
ولقد جاء الإسلام فأعلن حقوق الإنسان قبل الثورة الفرنسية بأكثر من 1200 سنة
أتى رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال: عذت معاذاً: قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فجعل يضربني بالسوط ويقول أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم عليه ويقدم بابنه عليه فقدم: فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر اضرب ابن(205/38)
الأكرمين. ثم قال للمصري: ضعه على صلعة عمرو، قال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني. يعني المصري.
(يتبع)
عبد المجيد نافع المحامي(205/39)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
71 - فما يبلغ السيف المهند درهماً
في (نقد الشعر) لقدامة:
قد أومأ السمط بن مروان بن أبي حفصة في مدحه شرحبيل بن معن بن زائدة إيماء موجزاً ظريفاً أتى على كثير من المدح باختصار وإشارة بديعة فقال:
رأيت ابن معن أفتن الناس جوده ... فكلف قول الشعر من كان مفحما
وأرخص بالعدل السلاح بأرضنا ... فما يبلغ السيف المهند درهما
72 - نقنع منه ببعضه
في (غرر أخبار الفرس وسيدهم) للثعالبي:
رُفع إلى أبرويز إن بعض العُمال استدعي إلى الباب فتثاقل عن الإجابة فوقع: إن ثقل عليه المصير إلينا بكله. فأنّا نقنع منه ببعضه، ونخفف عنه المؤونة فيحمل رأسه إلى الباب دون جسده
ومن معنى هذا التوقيع أخذ المنصور قوله في توقيعه إلى قائد ركب محظوراً: يا هذا إن كان رأسك قد أثقلك خففناه عنك
73 - لم تبق رتبة لمستحق
في (تاريخ الوزراء) لهلال بن المحسن:
بلغني أن بعض خواص (المقتدر بالله) سأل علي بن عيسى الوزير زيادة أحد العمال المتقدمين، في خطابه. وكان يخاطبه بـ (أعزك الله) فامتنع عليه امتناعاً شديداً وعاوده حتى وعده وكتب إلى الرجل بـ (أعزك الله) ممدود ما بين العين والزاي فقال: ألم يعدني الوزير بالزيادة؟ قال: قد فعلت. قال: في أي شئ؟ قال: كنت أجمع بين العين والزاي وقد مددت بينهما مدة، وهي الزيادة
فكان القوم على هذه الصورة من المناقشة ليبين الترتيب فيها. فأما عصرنا هذا فقد اختلفت الرسوم فيه، وقلت المراعاة لما كانت موكولة به. لا جرم أن الرتب قد نزلت لما تساوت(205/40)
ولم يبق لها طلاوة يشار إليها حتى لقد بلغني عن مولانا الخليفة (القائم بأمر الله) أنه قال لم تبق رتبة لمستحق.
74 - إذا تقاربت الآداب
كتب البحتري إلى صديقه ابن خرداذبة الأديب المشهور:
إن كنت من فارس في بيت سؤددها ... وكنت من محتدى بالبيت والنسب
فلم يضرنا تنائي المنصبين وقد ... رحنا نسيبين في علم وفي أدب
إذا تقاربت الآداب والتأمت ... دنت مسافة بين العجم والعرب
75 - ما عندكم في المرية غير الدجاج
في (نفح الطيب): كان المعتصم ابن صمادح قد أحسن إلى النحلي البطليوسي ثم إن النحلي سار إلى إشبيلية فمدح المعتضد ابن عباد بشعر قال فيه:
أباد ابن عباد البربرا ... وأفنى ابن معن دجاج القرى
ونسي ما قاله حتى حل بالمرية فأحظره ابن صمادح لمنادمته، وأحضر العشاء موائد ليس فيها غير دجاج، فقال إنما أردنا أن نكذبك في قولك:
وأفنى بن معن دجاج القرى
فطار سكر النحلي، وجعل يعتذر فقال له: خفض عليك إنما ينفق مثلك بمثل هذا، وإنما العتب على من سمعه فاحتمل منك في حق من هو في نصابه ثم أحسن إليه
وخاف النحلي ففر من المرية ثم ندم فكتب إلى المعتصم:
رضا ابن صمادح فارقته ... فلم يرضني بعده العالم
وكانت مريته جنة ... فجئت يما جاءه آدم!
فما زال يتفقده بالإحسان على بعد دياره
76 - تمثال شبديز وابرويز
شاعر:
(شبديز) منحوت صخر بعد بهجته ... للناظرين فلا جري ولا خَبَبُ
عليه (برويز) مثل البدر منتصباً ... للناظرين فلا يجدي ولا يهب(205/41)
وربما فاض للعافين من يده ... سحائب، ودقها المرجان والذهب
فلا تزال مدى الأيام صورته ... تحن شوقاً إليها العرب والعجم
أبو عمران الكردي:
وهم نقروا (شبديز) في الصخر عبرة ... وراكبه (برويز) كالبدر طالع
عليه بهاء الملك والوفد عكف ... يخال به فجر من الأفق ساطع
تلاحظه (شيرين) واللحظ فاتن ... وتعطو بكف حسنتها الأشاجع
يدوم على كر الجديدين شخصه ... ويلقى قويم الجسم واللون ناصع
77 - ثم أتوب
في (أمالي) القالي:
دخل أعرابي على بعض الأمراء وهو يشرب فجعل يحدثه وينشده ثم سقاه، فلما شربها قال: هي (والله) أيها الأمير (أي هي الخمر) فقال: كلا، إنها زبيب وعسل، فلما طرب قال له: قل فيها فقال:
أتانا بها صفراء يزعم أنها ... زبيب فصدقناه وهو كذوب
وما هي إلا ليلة غاب نجمها ... أواقع فيها الذنب ثم أتوب
78 - . . . ما فاته من الدنيا
في (روضة المحبين) لابن قيم الجوزية:
عن عبد الله بن شوذب: دخلت امرأة جميلة على الحسن البصري فقالت: يا أبا سعيد ينبغي للرجال أن يتزوجوا على النساء؟
قال: نعم
قالت وعلى مثلي؟ ثم سفرت عن وجه لم ير مثله حسناً وقالت: يا أبا سعيد لا تفتو الرجال بهذا ثم ولت
فقال الحسن: ما على رجل كانت هذه في زاوية بيته ما فاته من الدنيا!
79 - مهرها إسلامه
في طبقات ابن سعد:(205/42)
جاء أبو طلحة يخطب أم سليم بن ملحان، فقالت: إنه لا ينبغي لي أن أتزوج مشركاً، أما تعلم يا أبا طلحة. إن آلهتكم التي تعبدون ينحتها عبد آل فلان النجار، وإنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت فانصرف عنها وقد وقع في قلبه من ذلك موقعاً، وجعل لا يجيئها يوماً إلا قالت له ذلك. فأتى يوماً فقال: الذي عرضت عليّ قد قبلت
فما كان لها مهر إلا إسلام أبي طلحة(205/43)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 8 -
الديانة المصرية
العلم والأب والفن والقانون
رأى رجال الدين أن الشعب لا يتبع التقاليد الدينية إلا إذا امتزجت تعاليمها بنفوس أبنائه امتزاجاً قوياً، وهذا لا يتيسر إلا إذا بشر بالدين رجال مثقفون فصحاء يملكون أعنة البلاغة ويستولون على أزمة البيان. وإذاً، فهم مضطرون قبل كل شيء إلى أن يفسحوا في مدارسهم للأدب أمكنة واسعة وأن ينزلوه بين معارفهم منزلة عالية وقد فعلوا، فكان من نتائج هذه العناية الفائقة بالأدب أن ظهر كتاب (أفتاح حتب) وزير الملك (إيزيس) الذي هو أقدم كتاب في الدنيا والذي يرى فيه القارئ من الحكم والنصائح والأمر باحترام المرأة وإعزازها والتحذير من إغضاب الملوك والرؤساء والحث على طلب العلم واعتباره أهم ضروريات الحياة وألزم واجبات الأشخاص من كل الطبقات إلى غير ذلك من وصف حلاوة الشباب ولذة القوة ومرارة الشيخوخة وانكسار النفس في أيامها وانطفاء مصباح الآمال والأحلام إلى آخره إلى آخره، مما يجعل من غير الممكن أن يكون كتاب هذا شأنه من منتجات عقول شابة في الأدب، ناشئة في الكتابة والتأليف.
ومن الطبيعي أن الأمة التي يصل فيها الدين والأدب إلى هذه المرتبة الرفيعة تسمو فيها الحالة الاجتماعية سمواً عظيماً يتبعه تقدم في جميع نواحي الحياة، لأن الأمة تنبغ في المخترعات وتبرع في الفنون بمقدار حاجتها إليها، وهذه الحاجة تتعدد تبعاً لتقدم المدنية التي هي أولى مظاهر السمو الاجتماعي. وإذن فالدين يتطلب سمو الأدب، والأدب عامل أساسي في الرقي الاجتماعي، والمدنية أولى مظاهر هذا الرقي، والحاجة إلى الاختراع والفن طليعة نتائج تلك المدنية. وهذه هي الدرجات التي صعدت عليها الدولة المصرية القديمة حتى وصلت إلى قمة سلم الحياة العالية فارتقت فيها الفنون الجميلة على اختلاف(205/44)
ألوانها حتى وصلت إلى درجة حيرت كبار الفنيين في العصر الحديث.
لم تكن معارف المصريين إبان الدولة القديمة ناشئة ولا في أول عهدها بالحياة كما يزعم الجاهلون، ويدل على ذلك أنه في أواخر القرن الماضي اكتشف عالم من كبار المستمصرين الفرنسيين خلف الهرم الغربي جثة موظف كبير من موظفي الإمبراطورية الأولى كتب على تابوته العبارة التالية: (هذه جثة الحارس الأكبر لدار الكتب الملكية).
وقد علق الأستاذ (ماسبيرو) على هذه العبارة في كتابه (تاريخ الشرق القديم) طبعة أولى بأن هذه المكتبة التي كان هذا الموظف الكبير مديرها أو حارسها كانت تحوي بين جدرانها كثيراً من الكتب في الأدب والفلسفة والأخلاق والتاريخ والاجتماع والقانون والسياسة والطب والحساب والهندسة والفلك والسحر والتنجيم
ويؤكد الأستاذ (ماسبيرو) أن هذه المواد التي كانت موجودة في أدمغة العلماء ومسطرة في أوراق البردي لم تكن أثناء الدولة القديمة في عهد الحداثة والتكوين، بل كانت قد نضجت نضوجاً تاماً وأصبحت في دور الإنتاج العملي المفيد، إذ أن من المستحيل أن تبنى الأهرام في عصر بادئ في الهندسة لم يتعمق أهله - أو العلماء منهم على الأقل - في غامض النظريات ومعقد الرسوم؛ وكذلك من المستبعد عقلاً أن نتصور أن المحاكم التي لا تحكم على المجرم إلا بعد سماع المرافعات الشفوية الطويلة، وقراءة المذكرات التحريرية المقدمة من المتهم يكون قضاتها ومستشاروها حديثي عهد بالقوانين المدنية والجنائية
وإنني أنتهز فرصة هذه المناسبة فأذكر لك مثلاً من أمثلة استقلال هذا القضاء وعدالة الملوك في تلك العصور الغابرة التي نتصور أنها كانت مفعمة بالظلم والاستبداد:
حاولت زوجة (باتوو) الخائنة قتل زوجها عدة مرات قبل أن يجلس على عرش مصر، فلما تولى المملكة لم يشأ أن يقتلها دون تبرير هذا القتل بحكم المحكمة، ولم يكن شئ أسهل عليه من أن ينتقم بالقتل من زوجة مجرمة أثيمة، ولكنه أعلنها بالحضور أمام المحكمة التي تألفت من أكابر رجال القضاء في الدولة، ووقف جلالته خصماً نزيهاً لهذه الخائنة، وتلا مذكرة الاتهام على مسامع القضاة ثم ترك لهم الكلمة، فطلبوا إليها أن تدافع عن نفسها، ولكنها حنت رأسها مشيرة إلى الإفلاس من البراهين وإلى التسليم بالإجرام، فأصدر القضاة حكمهم عليها بالإعدام(205/45)
فأنت ترى هذه الصورة العادلة التي صور بها مؤلف القصة فرعونه العظيم. وقد تكون هذه القصة خيالية، ولكن الذي لاشك في هو أن الكتاب في كل عصر يستمدون مؤلفاتهم مما يقع حولهم من الحوادث ولو في شئ من المبالغة والمغالاة فنحن نستطيع أن نؤكد أنه كان في تلك العصور الغابرة قضاة يستندون في أحكامهم إلى قوانين مدنية وجنائية، وأنهم كانوا يسمعون ويقرأون دفاع المتهمين وشهادة الشهود، بل يبالغ الأستاذ (نوباري) المستمصر الألماني فيؤكد لنا أن القضاء في تلك العصور كان لا يقل عنه في عصرنا الحاضر بحال
وإذا غادرنا القضاء وعنايته بالقوانين وتوجيه العدالة والإنصاف واهتمامه بأنواع الدفاع وضروب المرافعات ثم اتجهنا إلى الطب ألفيناه قد بلغ حد النضوج ووصل إلى درجة توشك أن تلحق بالكمال. ويبرهن على ذلك ثقة الأطباء بأنفسهم وتحققهم من معارفهم إلى درجة المجازفة بحياتهم في سبيل توطيد تلك المعارف، فقد كان الطبيب إذا اخترع نوعاً جديداً من الدواء لم يكن قد سبقه إليه طبيب آخر يرفع اختراعه إلى هيئة الاختصاص حتى إذا نظرت فيه استدعته أمامها وتلت عليه نص الشرط الذي نلخصه فيما يلي: - (للطبيب أن يعالج مريضه بهذا الدواء الذي اخترعه، فإذا شفي وثبت بالكشف الطبي بأن شفي بسبب هذا الدواء، منح مكافأة مادية قدرها كذا وكذا. وأخرى معنوية، وهي تدوين اسمه واسم دوائه في الدواوين الرسمية والكتب العلمية المقررة، وإذا مات المريض مسموماً بدوائه حكم على الطبيب بالإعدام).
فإذا قبل الطبيب هذا الشرط وأخذ منه توقيع بالقبول أمام شهود عدول صرح له بالابتداء في تجربة الدواء.
وفي رأينا أن هذا النظام المصري القديم أدق وأحرص على سلامة الجمهور من نظام القرن العشرين الذي لا يتحرز فيه الأطباء من العبث بأرواح المرضى الذين أصبحوا لهم عبيداً يأتمرون بأوامرهم التي لا يلاحظ فيها قانون ولا تترتب عليها أية مسؤولية رادعة، بل لا يترتب عليها سؤال بسيط من قبل القضاء وضحايا الأطباء والصيادلة الذين لا يعنون العناية الكافية بتركيب الدواء لا تندرج تحت حصر، ومهما يكن من الأمر فهل تتصور أن أطباء ناشئين في الطب أو مبتدئين في الحكمة لم يقتنعوا بعد بتجاربهم العلمية يقدمون على تعريض حياتهم للخطر؟(205/46)
أحسبك بعد أن صورت لك هذه المنزلة العالية التي ارتقى إليها الطب المصري في العصور القديمة توافقني على أن الآراء القائلة بأن الطب المصري كان نوعاً من الرقي والتعاويذ السحرية أو مشوباً بها كما صرح الأستاذ أمين الخولي في مذكراته صفحة 44 هي ضرب من الخرافات التي ليس لها من الأدلة العلمية مستند ولا دليل
وإذا ألقينا نظرة متأملة على الرسم مثلاً وجدناه لا يقل روعة وجلالاً عن بقية الفنون والعلوم الأخرى التي أسلفنا لك أنها كادت تصل إلى مرتبة الكمال
وأخص ما يمتاز به الرسم المصري هو ما يشاهده عليه الرائي من الحياة لأنك حين تنظر إلى ما يرسمونه من صور لا تشك في أنها حية تستمتع بالحركة والإحساس وذلك لإتقان رسمها وإجادة الفن فيها.
ولقد بلغ هذا التصوير درجة جعله يعم المعابد والمقابر ثم يتخطاها إلى المنازل والمنتديات، والحدائق والمتنزهات والمحاكم والدواوين وينقش على الحوائط والأسوار والسقوف والأراضي وفي غرفة النوم وحجر الاستقبال وقاعات المائدة وفي كل مكان. وإليك ما قاله الأستاذ (بريستيد) في هذا الشأن:
(وبلغت الفنون الجميلة درجة قريبة من الطبيعة. بعيدة عن الأوهام لم تبلغها أية بلدة أخرى في تلك العصور القديمة) إلى أن يقول: (بل كان المصري مغرماً بمظاهر الطبيعة الأصلية فقط كما يراها داخل منزله وخارجه، ولذلك نقش زهر (اللوطس) على أيدي ملاعقه وشرب النبيذ في أقداح زرقاوية اللون على شكل برعوم اللوطس، وصنع أرجل سريره بهيئة أرجل الثيران القوية العضلات ولبسها بالعاج، ورسم سقف منزله بهيئة سماء تبدو منها النجوم ورفعها على عمد شبيهة بالنخيل الباسقة الأغصان أو بسيقان اللوطس المنتهية أعاليها ببراعيم ذلك النبات، وكثيراً ما زين المصري سقوف حجراته برسوم الحمام والفراش الطائرة بين الأشجار. وكان يحلي أرض منزله باللون الأخضر على شكل مستنقعات يسبح بين أعشابها السمك ونشاهد بها أحياناً ثيراناً وحشية طاردة للعصافير المحلقة فوق الأعشاب المائلة، ويرى الناظر أن هذه الطيور تسعى في الوقت نفسه لخلاص صغارها من ابن عرس الذي يريد افتراسها.
أما الأدوات المنزلية المستعملة يومياً في منازل الأغنياء فجميلة متناسبة الأجزاء تشاهد(205/47)
على أبسطها صنعاً مناظر الطبيعة وجمالها المرئيات في خلال القطر المصري).
وليس هذا هو كل شئ في رقي الصناعات العملية في مصر بل إن هناك خوارق ومعجزات ظهرت على أيدي أولئك الصناع المهرة البارعين، فالتاريخ يحدثنا بأن الصائغين قد بلغوا في صناعة الحلي دقة لم يسع فنيي مصر الحديث إلا أن يعترفوا أمامهم بعجزهم الكامل عن مجاراتها، وهو ينبئنا كذلك بأن صناع الكؤوس والأكواب قد وصلوا في صناعتهم إلى حد أن يبتدعوا أكواباً من الصوان تشف عما في دخلها فيرى في وضوح كما يرى ما هو في داخل الزجاج سواء بسواء، وأن النساجين توصلوا إلى صنع غلائل من الكتان شفافة لا تحجب ما وراءها ولا ريب أن هذا هو في الصناعة أعلى مراتب الإعجاز.
ويحدثنا الأستاذ (بريستيد) في صفحة 66 من كتابه (أن مهندسي العمارة والبنائين عرفوا شيئاً كثيراً من علم رفع الأثقال (الميكانيكا) كما يستدل من قبو مقبرة ببيت الخلاف يرجع تاريخها إلى القرن الثلاثين قبل الميلاد وغير ذلك مما يبرهن على أن العلوم العقلية والعملية كانت قد وصلت في مصر إلى أبعد مدى تستسيغه تلك العصور.
هذا، ولما كانت الفلسفة الهندية هي أهم الفلسفات الشرقية جميعها بعد فلسفة مصر من ناحية وأقدمها إلا الفلسفة المصرية من ناحية أخرى فقد آثرنا أن نثني بها بعد أن بدأنا بفلسفة وادي النيل التي هي مبدأ الجميع في رأي أدق العلماء والباحثين.
(يتبع)
محمد غلاب(205/48)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
مشاهير الحكماء
جميعكم أيها الحكماء المتمتعون بالشهرة، قد خدمتم الشعب وما يؤمن به من خرافات، ولو أنكم خدمتم الحقيقة لما كرمكم أحد، ومن أجل هذا احتمل الشعب شكوكم في بيانكم المنمق لأنها كانت السبيل الملتوي الذي يقودكم إليه. وهكذا يوجد السيد لنفسه عبيداً يلهو بضلالهم الصاخب. وما الإنسان الذي يكرهه الشعب كره الكلاب للذئب إلا صاحب الفكر الحر عدو القيود الذي لا يتعبد ولا يلذ له إلا ارتياد الغاب
إن ما حسبه الشعب في كل زمان روحاً للعدل إنما هو العدو الكامن المترصد لروح الحرية يستنبح عليها أشد كلابه افتراساً وقد قيل في كل زمان (لا حقيقة إلا في الشعب فويل لمن يطلبها خارجاً عنه)
لقد أردتم أن تؤيدوا الشعب في ما يبدي من خشوع وإجلال، فدعوتم هذه المذلة (إرادة الحق) فيالكم من حكماء
غير أنكم كنتم تقولون في أنفسكم لقد نشأنا من الشعب وصوت الشعب هو صوت الله فكنتم كالحمار الصبور المراوغ تعرضون وساطتكم على الشعب، ولكم من ذي سلطان أراد أن توافق عجلته ذوق الشعب ففطر لجرحها حماراً صغيراً، حكيماً مشهوراً. . .
فيا مشاهير الحكماء، إنني أطلب منكم أن تخلعوا عنكم ما تتلبسون به من جلود الأسود وجلود الوحوش الكاسرة المخططة وفراء المستكشفين للمجاهل والفاتحين. إذ لا يسعني أن أؤمن بالحقائق التي تنادون بها ما لم تقلعوا عن بذل التبجيل والتعظيم، فما رجل الحق إلا الضارب في القفار ولا إله له لأنه حطم بين جنبيه قلب التبجيل والتعظيم وإذا هو تلفت ورمال الصحراء تحرق قدميه إلى الواحات حيث يتدفق الماء الزلال، ويمتد وارف الظلال، وترتاح الحياة ملقية عصا الترحال، فلا يقتاده الظمأ إلى الاتجاه نحوها طلباً للاغتباط بين المغتبطين لأنه يعلم أنه لكل واحدة أصنامها، وما يريد الأسد إلا الانفراد(205/49)
محرراً من عبودية الأرباب ومن سعادة المستبدين، بعيداً عن الآلهة والمتعبدين وعن الخوف ومنزليه في القلوب، ذلك ما يصبو رجل الحق إليه. وما عاش رجال الحق إلا في القفار يسودونها بانطلاق تفكيرهم في مجالها الوسيع. وهل في المدن إلا مشاهير الحكماء يتناولون خير الغذاء كذوات الضرع تغذى لتحلب. ويجرون عجلة الشعب وقد كُدنوا بها كالحمير
وما أنا بالناقم عليهم ولكن ليعلموا أنهم خدم مشدودون إلى عجلة وما يرفع من ذلهم توهج الذهب على العجلة التي يجرونها
ولطالما أخلص هؤلاء الناس في خدمتهم فاستحقوا الثناء لأن الحكمة تقضي بأن يفتش الخادم عن سيد يستفيد من خدماته
لقد وجب أن يتسامى عقل سيدك وتعلو فضيلته لأنك بهما تعلو أنت
والحق أنكم قد علوتم بارتقاء عقل الشعب وفضيلته، أيها الحكماء الخادمون للشعب كما اعتلى هو بكم. وما أعلن هذا لتمجيدكم، فإنكم قد بقيتم أنتم شعباً حتى في فضائلكم، وما تزالون شعباً لا بصيرة له، ولا يدرك للعقل معنى
إنما العقل حياة تمزق الحياة تمزيقاً، وما تزداد الحياة معرفة إلا بما تتحمل من آلام، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
لا يسعد العقل إلا إذا مسح بالدموع وتوج بالتضحية فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
إن عماء الضرير وتلمسه لطريقه إنما هو شهادة لقوة الشمس، التي حدق بها فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
على طالب المعرفة أن يتعلم البناء باستخدامه الجبال حجارة لإقامة صرحه، وما يصعب على العقل أن ينقل الجبال، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
إنكم لا تلمحون من العقل إلا ما يقذف به من شرر، فلا تعرفون، أي سندان هو هذا العقل، ولا تعرفون أيضاً قساوة المطرقة التي تتهاوى عليه
والحق أنكم تجهلون كبر العقل ويصعب عليكم احتمال تواضعه لو أراد تواضع العقل أن يعلن حقيقته
إنكم ما تمكنتم في أي زمان من إرسال عقلكم إلى مهاوي الثلوج، فما بكم الحرارة الكافية(205/50)
لاقتحامها، ولذلك لا تدركون لذة من تنعشه لفحات هذه المهاوي، غير أنني أراكم بالرغم من هذا تقدمون على مداعبة التفكير، وقد جعلتم الحكمة ملجأ ومستشفى للمتشاعرين. . .
لستم عقباناً أيها الحكماء المشتهرون، فأنتم إذاً لا تدركون ما يلد العقل من لذة في ارتياعه، فلا يحق لغير المجنح أن يخترق الهواء فوق الوهاد
ما أنتم إلا فاترون أيها الحكماء، وفي كل معرفة عميقة يهب تيار من الصقيع لأن ينابيع العقل الخفية باردة كالثلج ولا تلذ ببردها غير الأيدي الملتهبة بحرارة جهادها
إنني أراكم أمامي أيها الحكماء المشتهرون ملفعين بقساوتكم جامدين على غروركم فما للريح أن تدفعكم ولا للإرادة أن تهيب بكم إلى الإقدام
أما رأيتم على مضطربات الأمواج شراعاً خفاقاً يندفع وقد عصفت في ثنياته هوجاء الرياح. إن حكمتي تجتاز العمر خافقة كهذا الشراع وقد ملأتها عواصف التفكير، تلك هي حكمتي الشاردة النفور. فهل لكم أن تجاروني في اندفاعي أنتم يا من تخدمون الشعب، أنتم مشاهير الحكماء
هكذا تكلم زارا. . .
نشيد الليل
لقد أرخى الليل سدوله فتعالى خرير المياه المتدفقة، ولنفسي أيضاً ينبوعها المتفجر
لقد أرخى الليل سدوله فتعالت الأناشيد من أفواه جميع المغرمين، وما روحي إلا نشيد من هذه الأناشيد. إن في داخلي قوة ثائرة تريد إطلاق صوتها وهي شوق إلى الحب بيانه بيان المغرمين. أنا نور وليتني كنت ظلاماً، وما قضي عليّ بالعزلة والانفراد إلا لأنني تلفعت بالأنوار. ولو أنني كنت ظلاماً، لكان لي أن أتعلق بإسداء النور فأنقع من درها غلتي، لكان لي أن أرسل بركتي إليك أيتها النجوم المتألقة كصغيرات الحباحب في السماء إذ أتمتع بما تذرين عليّ من شعاع. غير أنني أحيا بأنواري فأتشرب اللهب المندلع من ذاتي وقد حرمت لذة الآخذين، وقد خطر لي مراراً أن في السرقة من اللذة ما ليس في الأخذ.
إن يدي لا تقف عن البذل وذلك هو فقري فأنا أنظر أبداً إلى العيون يملأها الانتظار وإلى الليالي تلهبها الأشواق، وذلك هو الحسد الذي يقض مضجعي
يا لشقاء الواهبين. . . يا لظلمة شمسي ويا لشوقي إلى الاشتياق ويا لشدة المجاعة في(205/51)
شبعي
إنهم يأخذون ما أهبهم ولكنني أبقى بعيداً عن أرواحهم فإن بين الباذل والآخذ هوة عميقة، ولعل أقرب الأغوار قعراً أصعبها ردماً
إن نوعاً من الجوع ينشأ في أحشائي فيحفزني إلى إيلام من أرسل إليهم أنواري. فأتوق إلى سلب من أغدق عليهم هباتي وهكذا أتعطش إلى إيقاع الأذية فأرد يدي بعد أن أكون مددتها وأتردد تردد الشلال في تدفقه نحو مراميه
إن مثل هذا الانتقام يراود عظمتي، ومثل هذا المكر ينشأ من عزلتي
لقد فقدت السعادة في العطاء لوفرة ما أعطيت وقد زهقت فضيلتي من نفسها ومن جودها، إن من يستمر على بذل الهبات مهدد بفقد الحياء. ولابد أن تتصلب راحته ويتصلب قلبه.
لم تعد مآقيّ تذرف الدموع على خجل المسترحمين وها إن يدي قست حتى امتنع عليها أن تشعر بارتعاش الأيدي إذا امتلأت.
أين هي دموع عيني وأين رقة قلبي. فيا لوحدة جميع الواهبين ويا لصمت كل متلفع بالسناء.
إن شموساً لا عداد لها تدور في قفار الأجواء مخاطبة بإشعاعها لبدات الظلام وأنا وحدي محروم من حديث هذه الشموس وبيانها.
ويلاه! أية علاقة يمكن أن تربط الأنوار بالأجرام المنيرة من نفسها؟ فإن الأنوار تمر عليها وهي تحدجها بلفتات الجفاء وتمضي ذاهبة في سبيلها، وهكذا تسير جميع الشموس في أجوائها نافرة من كل جرم منير باردة لا تحس أخواتها بحرارتها.
إن الشموس تندفع كالعاصفات في أبراجها متبعة ما اختطته إرادتها الجبارة وفي ذلك كتمان حرارتها وبرودتها.
هل غيرك أيتها الأجرام الملفعة بظلام الليل من يخلق حرارة من اللمعان؟ أنت وحدك ترضعين أفاويق القوة من أنداء النور.
ويلاه إن الصقيع يدور بي ويدي تحترق من لفحات الجليد، فأنا مشتعل بسعار لا يطفئ أواره غير عطشكم، لقد سادت الظلمة فلماذا قضي عليّ أن أكون نوراً منفرداً متعطشاً إلى الظلام؟(205/52)
لقد سادت الظلمة فتدفقت كالجداول أشواقي وهي تريد أن تهتف بما تضمر.
لقد أرخى الليل سدوله، فتعالى خرير المياه المتدفقة، ولنفسي أيضاً ينبوعها المتفجر.
لقد أرخى الليل سدوله فتعالت الأناشيد من أفواه جميع المغرمين، وما روحي إلا نشيد من هذه الأناشيد.
هكذا تكلم زارا. . .(205/53)
ساعة في هياكل الشعراء
طاغور
شعره، تأمله وتساؤله، مناجاته، الشرق والغرب
للأستاذ يوسف البعيني
كأني بالقارئ وقد أثاره حب الاستطلاع فقال يطالبني بشوق واهتمام قائلاً: أراك قد اخترت - طاغور - موضوعاً لبحثك وحديثك دون سواه من الشعراء اللامعين على كثرتهم وتعدد نواحي الاستقراء في شؤونهم وشجونهم. وأنا حتى أجيبك إلى طلبك وأبين لك الغاية من اختياره لحديثي هذا، أريدك أن تعلم أن طاغور هو شاعر عبقري متصون ذو خيال رقيق تسربل بالرشاقة والفخامة والتوت عنه عواتير العقم والخشونة. وهذه مزية سامية لم يتصف بها شاعر من شعراء هذا العصر
على أن إذاعة البحث في شاعرية طاغور تتطلب أمراً هاماً وهو أن نلقي نظرة بعيدة على شخصيته لنعلم ما إذا كان مثالاً صادقاً للعصر الذي يعيش فيه، وما إذا كان مرآة صافية لأخلاق البيئة التي ترعرع فيها. أم هو شاعر محلي محصور الثقافة والإحساس لا ينقل لقرائه سوى أصداء أوهامه، ولا يرسم شعره إلا المواضيع التافهة والصور الباهتة فحسب
أما أنا فأرى أنه يمثل عصره تمام التمثيل لأنه يعيش في عهد التجديد ونهوضه وبعثه، وفي عهد يقظة الروح بالشرق الأقصى وإذاً فأحلامه التي تلمع في شعره هي أحلام الجيل الذي يعاصره، ذاك الجيل الذي روعته الثورات والحروب، وأبهضته مخاوف الألم والموت
شعره
قرأت لطاغور كثيراً من شعره، وكنت قبل أن أقرأ ذلك الشعر أعتقد أن الشاعر الحقيقي هو من يحسن حبك القوافي وسبك الألفاظ وتحكيم الأوزان. ولكن بعد أن قرأته وتذوقت أقواله وتصوراته أصبحت أعلم أن الشاعر هو ذلك المفن المتقد الإحساس الذي يحرق نفسه بخوراً فوق محاريب البشرية لينير تلك الأرواح العامهة في دياجي آلامها وبلاياها
وتأكدت أن الشاعر هو من يرهف أذنيه لاستماع خشخشة العبودية تجرها الأقدام الدامية في سيرها إلى أعماق السجون، ونحو أعواد المشانق!(205/54)
هو من تحزنه الزهرة الذابلة، وإنه يشاهد في ذبولها صفحة حياته البالية. . .
هو من يخيفه قصف الرعود لأنه يعيد إلى ذهنه ذكرى الحروب والثورات. . .
بلى. . . في شعر طاغور شاهدت كيف يحرق الألم نفس الشاعر، وسمعت زفرات قلب متفطر ينسحق في قبضة الأسى والحنين، ويتبعثر بين غمائم التذكار والكآبة!
وطاغور شاعر متفنن ذو رقة لذيذة وخيال طافح بالعذوبة، وأنت إذا قرأت قطعة من شعره فكأنك تقرأ روحاً تذوب في مرجل آلامها وحسراتها، أو تشرب كأساً من الدموع المريرة
إذا حدثك عن حب مستتر في كهوف الماضي، فأنت ترى ذلك الحب بعينيك. وإذا رسم لك ما ينهش قلبه من أسى وحنين فتكاد تسمع ذلك بأذنيك فتحترق شفقة عليه!
يداعب ميولك ومشاربك فتحس به قد دخل عليك واحتل ذاتيتك، فتتعشقه راكضاً وراء الفراشة في الحقل، أو صاعداً إلى النجوم على سلم منسوج من ضوء القمر
وهو خيالي. . . ولكن ياله من خيالي رائع يحاول أن يملأ كأسك من عصير روحه الساحرة. لكنه يعترف لك بأن هذا الذي يرشحه في مراشف سطوره وتعابيره ليس سوى أنداء هابية سكبتها الطبيعة في روعه الخافق ليفرغها في محاجر الإنسانية التي تريد التملص من قيودها وأغلالها
فمن هذا يستدل القارئ على بعد غور شاعريته، وصفاء مصدره، وصدق عقيدته، ورحابة آفاق تأملاته وأحلامه!
تأمله وتساؤله
لم يعرف الأدب العالمي في أوائل هذا الجيل شاعراً كثير التأمل والتساؤل إلا - بيير لوتي - الأديب الفرنسي المشهور، هذا الشاعر الحساس أخرج للناس طائفة من القصائد والقصص هي غاية في الاستغراق والتحالم بينها كتاب (موت أنس الوجود) الذي رسم فيه ليالي مصر المقمرة البيضاء رسماً يغمر القلوب بموجة من السحر والجمال، وينبه في سراديبها المظلمة أشباح الشجن والحنين، ويعلم الناس أن بيير لوتي لم يفعل ذلك إلا ونفسه مستبشرة بنور الفن، ثملة بلذة المذهب الوجداني وفتونه. ولكن طاغور، أي حافز، بل أي داع دفع به إلى اجتناء تلك الزهرة اليانعة وهو رجل يعيش في معترك بعيد من الفن والنضج والألمعية. إذا لم يكن ذلك دليلاً واضحاً على أن الروح العظيمة، الروح المستنيرة(205/55)
بنور الآلهة، لا يقعدها المحيط الصاخب عن تغريدها، ولا تؤثر بها عوامل الحياة
ولكي يقف القارئ على صحة ما أقول، أورد له مثالاً من تأمله وتساؤله. قال في قصيدة جزلة مؤثرة تحت عنوان (المنشأ) أنالته مع غيرها جائزة (نوبل) في عام 1914:
(سأل الطفل أمه ذات مرة: أين كنت يا أماه، وفي أي مكان كنت تحتفظين بي؟
فارتعشت عواطف الأم حنواً وضمت طفلها إلى صدرها وأجابت:
كنت يا حبيبي مستتراً في أعماق فؤادي، بل كنت ماثلاً بين ألاعيب طفولتي. . فعندما كنت أنهض في الصباح لأجبل مثال الله العجيب من الطين لم أكن أجبل سواك
كنت يا بني في هيكل بيتنا المقدس سراً أعبده فأعبدك فيه. وهكذا نشأت في حياتي وحياة أمي من قبلي. فبآمالي ورغائبي كنت أغذيك، وبحرارة الروح الكامنة فيّ كنت أهيئك للحياة!
وبينما كنت لا أزال عذراء، كانت روحي تفتح كمائم زهرتك المزممة لتلفك بعبير الشوق والحنين. يوم ذاك كنت يا بني نوراً ضئيلاً يلمع في أحشائي كسنا الشمس عندما تنحسر عنه سجوف الظلام.
فيا حبيب السماء ووليد الصباح المشرق في وهاد قلبي: إني كلما تأملتك يغمرني فيض من العاطفة فأحس أنك لي وحدي، وأننا متحدان دائماً بالشعور والعاطفة
ولكن ليت شعري، أي القوى هي تلك التي جعلتني أحتفظ بك أيها الكنز الثمين؟
وفيما هو مصغ إليها، دب الموت في فؤاد الطفل فقال متمتماً:
- ها قد دنا الموت يا أماه ليذهب بي حيث يذهب الموتى أجمعون. . ولكن عندما يأتي المساء وتمدين يدك لكي تطبعي على شفتي قبلة ناعمة يمازجها العطف والحنان سيهتف بك هاتف من الظلام مغمغماً بأن لا تجدينني ههنا!
ولكن ثقي يا أماه بأني سأتحول نسيماً يقبل ثغرك كل حين، أو نوراً يضيء مأواك في الليالي الداجية المفعمة بعويل العواصف وأنين الرياح
وفي الليل، في ذكرياتك المحرقة عندما تناجين طفلك الحبيب، سأقول لك نامي يا أماه ولا تذكريني. فإني عندما يمسي البدر هلالاً أسيل مع الشعاع لأنام في حضنك الأمين!
وسأغدو حلماً يدخل من فتحات عينيك لأنزع من قلبك حزنه القاتل الساحق. ولكن إذا أفقت(205/56)
مذعورة ترين حولك فراشة بيضاء تؤنسك بطنين أجنحتها الصغيرة
ومتى أقبل عيد (جايا) وترنحت عذارى الهيكل مخففات بأنغامهن العذبة وحشة حياتك، سأهربق نفسي في تلك الأنغام حتى إذا لامست قلبك محت عنه كل الأحزان
وإذا جاءتك خالتي حاملة إليّ هدية جميلة وسألتك أين طفلك يا أختاه فإني أذوب شوقاً إليه. . . فأجيبي أختك يا أماه بأني توسدت عينيك، وامتهدت روحك التي لا يستطيع أن يلحدها الموت)
أجل. . . إن في هذه القطعة الفاتنة التي يسأل فيها - رابندرانات طاغور - أمه الطبيعة عن كيفية مجيئه إلى هذا العالم
نعم إن فيها عصارة من جيد الشعر لا تأتي بمثلها إلا نفس انحدرت إلى قلب الحياة حيث التقطت كل ما فيها من ألم وبؤس، وفرح وسعادة، وابتسامات ودموع. . . ولعمري إن نفساً تنتهي بك إلى هذا الحد العميق لهي نفس جبارة تجابه الدهر بشعاعها الوضاح، فتملأ الأيام هيبة وجمالاً، والليالي سحراً ونوراً!!
مناجاته
وطاغور شاعر عالمي قبل كل شئ. فإن آراءه أصوات مرتلة تلعب بالقلوب والمشاعر، وتحمل الإحساس على أجنحة من الخيال، فترود به معالم الخلود وتغذيه بمواد الجمال الأزلي، وتطبعه بطابع الجمال الإلهي
ومما يمتاز به طاغور هو أنه شاعر متصوف كثير التأمل، عميق المناجاة. وإن الإنسان لبحار عندما يقرأ قطعة له فيرى المعاني موشحة بغلاف رقيق من الفلسفة الوجدانية. وقد نجح تصوفه أخيراً إلى حد أصبح يحب فيه أن يرى الله في كل مكان تحتضنه عيناه، فهو يود أن يشاهده في الوردة الخضراء، وفي طلعة الفجر، وفي مغرب الشمس، وفي سكون الليل، وفي سر الموت والحياة
نجوى
(ألا شرفني يا إلهي، وجرد حياتي من تلك المساوئ المعيبة التي تسود دائماً ابن الطينة. ضعها تحت رعايتك، وأخبئها بين ظلال الموت والنور، أو في مكمن الليل بين نجومك. ثم(205/57)
أطلقها في الصباح بين الزهور لتشدو كالبلابل بتسابيحك وترانيمك!!)
حنين
إيه أيها القدر العاتي! لقد حجبها القبر عني فما اكتأبت. ولكن أبت إرادتك إلا أن تبقى ساقية حبها سارية في أودية قلبي لا ينضب لها معين، ولا ينقطع لها خرير
ولكن الزمن قاس جداً، فهو لا يحنو على النفوس المعذبة. وإنه ليهزأ من ألم القلوب كلما لج بها تذكار الماضي الدفين
آه!! إني أذكر. . . ولكن الحياة كلها نسيان. إنها سريعة الخطى نحو الموت. . . إنها تختفي ولكنها تترك للخيال مرارة الذكرى وتباريح الشوق والحنين
وفي اعتقادي أن هذه المقاطع هي من أروع المناجاة. وأنت إذا قرأت باقي مناجاته ترى رجلاً حائراً مرتعشاً قد شمله ظلام ليل الأسى. فهو يبكي، وهو يرجو (القدر) أن يرحمه في دجى الليل البهيم بخلود ذكرياته الماضية. ويالها من ذكريات رقيقة عارية من أثواب الادعاء والكبرياء، حافلة بمعاني اللوعة والحزن هي ذكريات الشاعر الحنون
والحقيقة أنك لا تكاد تقرأ هذه المناجاة حتى تجري الدموع من عينيك ويغمرك سكون رهيب طافح بالجبن والكآبة، وحتى يأخذك شئ من اليأس والسخط على الحياة والاستمساك بها!!
الشرق والغرب في نظر طاغور
ولطاغور رسالة قيمة يبشر فيها بانتشار السلام والمحبة بين الناس على اختلاف مشاربهم ومنازعهم وميولهم. وهذا لعمري عمل جليل يدل على عظمة هذا الشاعر الجبار. فهو رجل عالمي جامع، وبخلاف (كتابنا وشعرائنا) الذين يكتبون للدين والأحزاب والجنسية أو لفئة جاهلة متعصبة من الناس. . . ومن المضحك أن هؤلاء الأدباء المزيفين الذين يقلقون الشرق العربي بكتاباتهم وأشعارهم ينعون على البشرية عدم اكتراثها بهم. . .
لقد قرأت كثيراً من مؤلفاته. ففي كتابه - سيد هانا - يتغنى بالمحبة ويدعو الناس إلى اعتناقها. ولطالما نادى بتوثيق عرى الحب ليعيش العالم في سعادة وهناء. ومن قوله:
(إذا كانت الأمهات يلدن والقبور تبتلع، فلماذا الحروب والثورات التي تدمي فؤاد الإنسانية(205/58)
وتقلق روعها؛ ولماذا لا يعيش الإنسان تلك المدة القصيرة في حب وسلام؟)
فمن هذه الجملة الوجيزة يستخلص القارئ صورة صحيحة لنفسية طاغور
وأما الشرق والغرب فهما في نظره أخوان توأمان يجب عليهما التقيد بقانون العدل والمساواة. وأنه ليس حقاً أن يظل الشرق عبداً للغرب كما هي الحال اليوم، فيسومه جميع أنواع الذل والعبودية
في عام 1920 طاف طاغور في أنحاء العالم، ثم عرج أخيراً على - نيويورك - المدينة المنتعلة أجنحة الروح، والهازئة أبراجها الحديدية الصماء بأحلام الشرق وعوائده القديمة. . . فألقى هناك محاضرة فخمة عن مدينة الشرق وطابعها الفلسفي جاء فيها ما يأتي:
(الغرب يكون للشرق عوامل الحياة الراحلة، والشرق يعطي الغرب تعاليم الروح الخالدة. فيالله انظر أيها الغرب وتأمل. ألا يستطيع الشرق المستعبد أن يقدم لك غير أرضه ورقاب أبنائه؟
فإلى متى ينظر الغرب إلى الشرق نظرة السخرية والاحتقار، ومتى يستيقظ الغرب من نشوته العمياء؟
لا تصدق يا غرب عنا كل ما تسمعه من دعاة الاستعمار، فإن هؤلاء يصورون لك الشرق صورة متناقضة ينهش حقائقها التعاظل الممقوت. بل تعال أنت أيها الغرب الحر المتسامي، غرب أجناد الحق وأبناء الخلود، وادرس حياة الشرق الجميل. . . تعال بروح الحرية التي بنيت عليها حضارتك الأولى، فترى حينئذ كما نرى نحن أن الشرق الضعيف أهل للحرية، وأن في أعماق أخلاقه ومبادئه وميوله حكمة خالدة أسمى من الحياة المادية)
وكأني هنا - بطاغور - وقد رأى بعينيه جشع الغرب وتكالبه على امتلاك قطعة من الأرض، وشاهد انتحار الفضيلة فيه، واستيلاء الحياة المادية على عقول أبنائه، وتقلص الشعور من النفوس، وتلاشي حرارة الشعر، وتمشي الأطماع والأكاذيب في سننه وقوانينه فهو يقول (إن في أعماق روح الشرق وميوله جمالاً أسمى من الحياة المادية التي يعيشها الغرب) وإن ذاك الذي تضمه روح الشرق ومبادئه ليس سوى الوداعة المستحكمة من قلوب أبنائه، والطهارة الناشرة أجنحتها فوق قصوره وأكواخه، والنجوم التي تنير حقوله ووهاده. . . فتبدو الحياة في ذلك الشرق الشعري الخالب كأنها حلم من الأحلام الرائعة.(205/59)
وفي الحقيقة أن طبيعة الشرق لهي عرس من أعراس الحياة. فعلى الشواطئ تمرح عذارى الحب والجمال، وفي الكهوف تمرح تخيلات الدهور والأجيال
إن في روح هذا الشاعر الهندي المتصوف الذي نشأ في ظلال الشرائع الشرقية القديمة مالئاً قلبه من عصير (النرفانا) وكتب أجداده الخالدة خيالاً يقظاً سوف يصغي الدهر إلى همسه المسكر مستمهلاً في فراره بين أكوام الموتى وساحات الحروب. . . ولكن إنسانية اليوم لن تصغي إلى حفيف أجنحة أطيافه، ولن تلمح ما في حكمته من نور، ولن تجرع ما في كآبته الصاحية من كوثر حي، لأنها إنسانية ثملة بأبخرة الدماء، وعبق البارود، وهزيم المدافع، وقلقلة القيود
ستبقى ثملة. . . وسوف لا تستفيق من نزواتها وخيلائها حتى تقتلها النزوات وتقهرها الخيلاء فتبصر عندئذ نجمة الحق لامعة في أفقها المعلى حيث تلتقي الأزلية والأبدية، وحيث يتعانق فجر الحياة ومساؤها.
(البرازيل)
يوسف البعيني(205/60)
رسالة العلم
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي بك مدير مصلحة الكيمياء
ظل يغدو ويروح بين عماله في هذا البيت فلا يستقر به مكان، وظل يشرف فيهم على تركيب مركبات جديدة رجاء أن تكون أكثر إبداعاً من المركب الذي كان، ودار في كل حجرة وسار إلى كل ركن فلم يستطع أحد حتى قدريت أن يتتبع أثره. وأملى كاتبته الآنسة مرثا مركرت مئات من الكتب اتسعت لكثير من حماسته وحرارته، وقرأ آلافاً من الكتب جاءته من كل ركن من أركان الأرض، واحتفظ بتقرير دقيق عن كل حالة بل عن كل جرعة من الجرعات الخمس والستين ألفاً من السلفرسان التي حقنها الحاقنون في بقاع الدنيا في عام 1910. وكان احتفاظه بها على مثال هذا النظام الغريب الذي تأصل في هذا الرجل: كتبها جميعاً على صحيفة ورق كبيرة دبسها في باطن باب القمطر الذي كان في مكتبه، وغطت الصحيفة باطن هذا الباب من أعلاه إلى أسفله فكان كلما طلب شيئاً في أسفل الصحيفة تقاصر وتقرفص، وكلما طلب شيئاً في أعلاها تطاول على أصابع رجليه وتمدد، وكان في كلتا الحالتين يركز بصره تركيزاً. ويعمله إعمالاً ليقرأ سطورها وهي خطوط دقيقة مهملة معماة.
وتزايدت التقارير فجاءت بأنباء عن حوادث للشفاء غريبة بديعة حبيبة تلذ قراءتها، ولكنها تضمنت كذلك أنباء مسيئة متجهمة تتحدث عن فواق وقيء ثم تصلب في الأرجل وتشنج في الجسم يعقبه الموت. وجاءت الأنباء الفينة بعد الفينة بموت مرضى كان يجب ألا يموتوا، وجاء موتهم عقب حقنهم بالدواء.
ألا ما أشد ما اشتغل إرليش ليفسر هذه الأحداث! ألا ما أشد ما قسى على نفسه ونحل من جسمه ليتجنب هذه الأرزاء، فما كان إرليش بالرجل الجامد الذي لا تهزه مصائب الخلق ولا تؤلمه آلام الناس، فأجرى التجارب العديدة، وكتب الكتب الكثيرة يستفسر عن تلك الرزايا كيف وقعت، وعن المحاقن كيف ضربت، وكان يجلس في الأمساء يلعب الورق(205/61)
وحده، فيغلبه الفكر في تلك الحوادث، فيأخذ يكتب على هوامش الورقات ما يعن له من تفسيرات، أو هو يكتبها على ظاهر مجلات قصصية تحكي عن فظائع وجرائم بوليسية كان يفزع دائماً إلى قراءتها ظناً منه أن فيها دون سواها راحة البال المكدود ورياضة النفس المريضة، ولكنه ما استروح قط ولا استراض، وكيف يفعل وهذه البلايا تتقفى أثره فتذهب بالذي كسبه من مجد عظيم.
وزادت أسارير جبينه تغضناً، وازدادت تعمقاً، واسود ما تحت عينيه الزرقاوين، وبقيت فيهما بقية ما فتئت ترقص من تلك الفكاهة الهادئة المستحية.
فهذا المركب رقم 606 نجى آلافاً من الموت، ونجى آلافاً من الجنون، وخلص آلافاً آخرين مما هو شر من الموت: من قطيعة المجتمع إياهم لما ضرب المكروب في أجسامهم ضرباً، وأكل منها أكلاً، حتى صارت مناظرهم في العين قذى وفي الأنفس تهوّعاً. ولكنه بعد تنجيته المرضى بهذه الآلاف أخذ يقتل منهم بالعشرات، وأخذ إرليش ينهك جسمه الناحل أو ما تبقى له من جسم، حنى أصبح خيالاً، وذلك ليفسر أحجية عز على الحكماء تفسيرها. ولقد مضى الآن على آخر سيجارة دخنها إرليش عشر سنوات، والأحجية ما زالت أحجية. فترى من هذا أن النجاح العظيم الذي كسبه إرليش كان أكبر حجة على بطلان نظرياته. قال: (إن المركب رقم 606 يتحد اتحاداً كيميائياً بالمكروب فيقتله، وهو لا يتحد مع الجسم فهو لا يناله بسوء). هذه نظرية من نظرياته فأين هي مما جرى؟
إن المركب رقم 606 مركب ذو كيمياء معروفة، ولكن تفاعله مع الجسم تفاعل خاف مجهول، وأخفى منه كيمياء هذا الجسم الإنساني العجيب، هذه المكنة الحية الغريبة، هذا الطلّسم الذي لا نفهم إلى اليوم منه وآسفاه كثيراً. ولقد أخطأ إرليش ونال عاقبة خطأه، لأنه لم يدرك إلا بعد فوات الأوان أن رصاصته المسحورة يطلقها آلاف المرات فتصيب غايتها من المكروب آلاف المرات، ولكنها قد تطيش أحياناً فتصيب غير غايتها فتقتل العدو والصديق. على إنه لا تثريب اليوم عليه ولا ملامة، فإن يكن أردى العشرات فقد رد الصحة والسلامة على الألوف. وصادة المكروب العظام ماذا كانوا سوى سادة مقامرين، إذن فلنذكر إرليش بالحمد، ولنذكره بشجاعته وجرأته ومخاطرته، ولنذكره بما دفع من البؤس عن ألوف كثيرين(205/62)
ولنذكر بأنه أنار سبيلاً جديدة سيسلكها صادة المكروب لا محالة من بعده يبحثون فيها مثله عن رصاص جديد يطلقونه على مكروب جديد
وليس هذا بالأمل البعيد أو الأمنية الخائبة. فقد بدت فعلاً تباشير ما نرجوه من بعد إرليش. فإن قوماً بحاثاً من غير ذوي النباهة وذائعي الصيت قاموا في مصانع الأصباغ بمدينة إلبرفلد يترسمون خطى الأستاذ الأكبر، وبعضهم من أعوانه الأقدمين، فكدوا وكدحوا كما كانوا في خدمته يكدون ويكدحون، حتى وقعوا على عقار جديد غريب أبدعوه إبداعاً. وقد احتفظوا بسر تركيبه، وأسموه (باير رقم 205) 205. وهو مسحوق عادي المظهر لا يهولك منه شئ، ولكنه يشفي من مرض النوم الذي ينتهي دائماً بالموت في بلاد روديسيا وبلاد نياسا بأفريقيا. وإن كنت لا تزال تذكر فهو الداء الذي كافحه الرجل الجلد دافيد بروس آخر كفاح في حياته، وارتد عنه مغلوباً. فهذا العقار يفعل في خلايا الجسم وسوائله أفعالاً لو سمعتها لحسبتها خرفاً أو خيالاً. ولكن أحسن ما في الحسن منها أنه يقتل المكروب قتلاً، وأنه يقتله قتلاً دقيقاً جميلاً كاملاً شاملاً لو سمع به إرليش لتحركت أشلاؤه في قبره سروراً واغتباطاً. فإن كان في المكروب ما لا يقتله، فهو على الأقل يحُد من نشاطه ويقلم من أظفاره فيجعله أنيساً مأموناً. على أن حكاية هذا العقار لم تختتم بعد فلندع للأيام ختامها
وإني لواثق وثوقي بطلوع الغد بأن المستقبل كفيل بخلق صادة للمكروب غير من ذكرنا يطلعون على الناس برصاصات غير ما وصفنا، ستكون أكثر سلاماً على الإنسان وأشد حرباً على المكروب وأفتك بكل جرثوم خبيث شديد المراس حكينا حكايته في هذه القصة فلنذكر إرليش بأنه فاتح هذا الباب وأول سالك لهذه الطريق
وقبل أن أختم هذه القصة أجد في صدري سراً لابد من فضحه قبل الختام: ذلك أني أحب صادة المكروب هؤلاء، من لوفن هوك إلى إرليش، ليس على الأخص للكشوفات التي كشفوا، ولا للنعم الجليلة التي بها على البشرية أنعموا، ولكني أحبهم على الأكثر لأتهم رجال أي رجال، أحبهم لرجولة جميلة فيهم سأظل أذكرها لكل فحل منهم ما استطاعت ذاكرتي وعياً
ولهذه الرجولة الجميلة أحببت إرليش. كان إرليش رجلاً مِغراماً ممراحاً يحمل أوسمته معه(205/63)
في صندوق أخلاطاً أملاطاً لا يدري في أي المحافل والمآدب بأيها يزدان. وكان رجلاً قليل التؤدة فزاعاً يخطر له الخاطر فيفزع فجاءة إليه وينسى ما هو فيه. جاءه رجل من إخوانه بحاث المكروب ليخرج به العشية على شراب، وكان إرليش في بيته في حجرة نومه يلبس ويتهيأ للخروج، فما علم بمقدمه حتى خرج في قميصه يحييه
وكان رجلاً صموتاً معتكفاً. قال له بعض عباده يشير إلى المركب رقم 606: (إنه عمل رائع من خلق عقل جبار. إنه كشف من كشوفات العلم الرائعة). فقال له إرليش معيداً: (عمل رائع من خلق عقل جبار، وكشف رائع من كشوفات العلم!؟ لا يا زميلي العزيز، بل هي فلتة واحدة من فلتات الحظ جاءتني بعد سنوات لم أعرف فيها إلا إلى الخيبة سبيلاً)
احمد زكي(205/64)
رسالة الفن
مكيلانجلو
العبقرية الملهمة
للدكتور احمد موسى
- 2 -
وعاد من بولونا إلى فلورنسا في صيف سنة 1495 بعد أن نحت فيها بعض القطع التي نذكر أهمها (الملاك الراكع) و (القديس بطرونيوس). أما في فلورنسا فقد عمل تمثال (يوحنا الصبي)، وهو التمثال الذي أتمه سنة 1495 كما سبق القول وهو محفوظ ببرلين
وله أيضاً تمثال مشكوك في صحة انتسابه إليه يسمى (أودونيس الميت) لا يزال محفوظاً بمتحف ناسيونال في فلورنسا
وسافر في يونيو سنة 1496 إلى روما لأول مرة، وأقام فيها إلى يونيو سنة 1501، وهناك أنتج أبرز عمل في مرحلة حياته الأولى بناء على طلب أحد الفرنسيين سنة 1499 لعمل مجموعة منظرية تمثل المادونا حاملة جثة المسيح على فخذيها وهي موجودة بكنيسة بطرس بروما. والناظر إليها يرى إشعاع المثل الأعلى ممثلاً خير تمثيل في كل أجزائها، فضلاً عن رجوعها إلى الفن الإغريقي من الناحية المجموعية، إلى جانب حداثتها في قوة الإخراج، وحسن التكوين، والألم والجزع الذي ارتسم على وجه المادونا بالغ حد الإعجاز لغيره
وله أيضاً قطعة أسماها باخوس (إله الخمر) (ش 1) عملها تنفيذاً لطلب السنيور جالي أحد مشاهير النجار في عصره، وبالنظر إليها يتضح الإبداع في التكوين الجسماني الرقيق، كما تظهر لنا الكيفية التي أخرج بها الوجه والشعر المحاط بعناقيد العنب ظهوراً جلياً وبهذا يتم الانسجام المعنوي للتمثال، انظر إلى اليد اليمنى وكيف حملت وعاء الخمر، وتأمل إلى أي حد بلغت رقة إله الخمر في طريقة حمله هذا الوعاء، ثم شاهد الولد الصغير الجالس إلى(205/65)
يمين باخوس حاملاً عناقيد أخرى غطاها بلباسه في شئ كثير من الحرص أشبه بمن يطوق حاجة عزيزة عليه. وقد كون ميكيلانجلو الساق على هيئة ساق الخيل إكمالاً للتعبير عن قصته الإغريقية
وله غير ذلك تمثال كيوبيدو (أو أبولو) محفوظ بمتحف لنسنجتون بلندن
ومن يونيو سنة 1501 إلى مارس سنة 1505 أقام في فلورنسا واتصل فيها بليوناردو دافينشي، بالرغم من اختلاف مشارب كل منهما؛ إلا أنه تأثر به إلى حد بعيد. وله في هذه الفترة تمثال (داود) (ش 2) وهو منحوت من قطعة واحدة من الرخام ومحفوظ بأكاديمية فلورنسا
ولعلك تلمس الفارق الشديد بين تمثال باخوس وبين هذا التمثال من الناحية المجموعية والتكوينية والتفصيلية، وبذلك تستطيع أن تقرر أن هذا العبقري الملهم قد أدى رسالته بأقصى ما يمكن الوصول إليه من النجاح.
وتمثاله (صبي الراعي) لا يقل عن هذين التمثالين روعة، وهو لصبي طويل حسن التكوين إلى أبعد حد، ارتسمت على وجهه مسحة الصلابة والأنفة الريفية. وغير ذلك خمسة تماثيل صغيرة عملها لتحلية هيكل كنيسة سينا والمادونا مع يسوع الطفل بكنيسة لييفراون في بروجه، وهي ويسوع بالحجم الطبيعي تقريباً، وقد جعل ملامح المادونا على غاية البهاء والتناسب
هذا وله منحوتات نصف بارزة مستديرة الشكل للمادونا مع الطفل القارئ ويوحنا، وهي محفوظة بفلورنسا وبأكاديمية لندن
إلى هنا تكون مرحلة إنتاجه في شبابه قد انتهت. ويستقبل مرحلة الرجولة من سنة 1505 عندما استدعاه البابا يوليوس الثاني إلى روما ليشرف على تشييد ضريحه. وقد صادفته عقبات جمة حالت دون تنفيذ هذا المشروع الفني، وقاسى الأمرين. أهمل التصميم الذي وضعه لهذا الضريح بعد المجهود الهائل الذي استنفده. ولم ينفذ إلا بعد انقضاء أربعين سنة بعد كثير من التعديلات والبتر. وأول خطوة لهذه المأساة بدأت عندما أهمل البابا نفسه تصميم ميكيلانجلو مدة سنة كاملة، ولم يطق العبقري هذا التسويف فرحل إلى فلورنسا، لأنه لم يكن قد حضر إلى روما إلا بناء على استدعاء البابا.(205/66)
وشاءت المصادفة أنه كان يوماً في بولونا، وإذا به يواجه البابا ويصافحه، فطلب إليه ترميم تمثاله البرنزي في هذه المدينة؛ وهو تمثال قيم كان قد أصيب بالعطب من جراء التخريب الذي قام به البولونيون فيها. وبعد انتهائه من العمل عاد إلى روما في ربيع 1508، وهناك كلفه البابا تعديل مصورات السقف ذي الستة عشر حقلاً بالفاتيكان، وفيه انهمك عاملاً أربع سنوات من 1508 إلى 1512.
وبعد موت يولويس بدأ ميكيلانجلو في تنفيذ مشروع الضريح من سنة 1513 إلى 1516، وما قارب الانتهاء حتى فاجأه ليو العاشر خليفة يوليوس بوقف العمل.
وانقضت الأيام وتعاقبت الشهور، فاستأنف ميكيلانجلو العمل في الضريح الشامل لبناء أرضي مربع الشكل ينتهي أحد أضلاعه إلى حائط مجاور؛ كله من الرخام وله ستة نوافذ مستعارة كل منها أشبه بقبلة أقام فيها تمثالاً لإحدى آلهات النصر وجعل السقف محمولاً على رؤوس الأسرى كما هو واضح بالنظر إلى الصورة. هذا عدا التماثيل الحاملة للتابوت، والمحيطة به، منها ستة جالسة وأربعة واقفة، وعدا تمثال البابا نفسه راكعاً أعلى التابوت.
وللبناء الأرضي لهذا الضريح تمثالان لعبدين (محفوظان باللوفر) وفيهما تمثل ألم العبودية تمثيلاً رائعاً، كما أن له تماثيل أخرى لمساجين وهي أيضاً عظيمة.
ولابد لنا من ذكر تمثاله (النبي موسى) وهو الجالس في الوسط (ش 3) وهو تمثال معروف في العالم كله بعظمة إخراجه وقوة إنشائه، ولذلك يعتبر دون حاجة إلى تدليل أعظم تمثال مفرد في مدرسة النحت الحديث. انظر إليه تره جالساً وقد ارتسم على وجهه ألم التفكير في مصير بني إسرائيل، وظهرت بوادر الغيظ على وجه النبي، مما دفع به إلى وضع يده اليسرى على بطنه، وأسند اليمنى على كتابه، مداعباً شعر لحيته الطويل بأصابعه، ألا ترى أن ميكيلانجلو بهذا النحو قد وفق إلى إخراج آية من آيات الفن الخالدة؟ وهل تظن أنه مهما أوتي فنان من سعة الخيال وقوة الإخراج، يستطيع أن يعبر لك عن نبي طائفة من الناس دون وطن معين، بأحسن مما أخرجه ميكيلانجلو؟ تأمل الكيفية التي أخرج بها التمثال العظيم الذي يعد في نظر الدارس معجزة فنية لا يستطيع إنسان أن يأتي بمثلها! ثم انظر إلى اللحية وإلى طول الشعر والبعثرة التي أصابته من مداعبته له بأصابع يمينه كما قلت.(205/67)
هذا كله لا ينسينا التنويه بعظمة الإخراج الكلي للضريح، الشامل لنقوش على غاية الدقة والانسجام المعاصر
ترك روما إلى فلورنسا في صيف سنة 1517 للشروع في عمل الواجهة البنائية (لسان لورنسو) التي قرر أن يكون لها ثمانية أعمدة واثنا عشر تمثالاً كلها من الرخام، وستة تماثيل نحاسية، وتسعة عشر منظراً نصف بارز، وصادفته صعاب لا تقل عن سابقتها، إلا أن نظرته إليها لم تكن بالحدة الأولى.
ظل مقيماً في فلورنسا، وهناك أتم في سنة 1521 إخراج التمثال الرخامي للمسيح، والذي كان قد وضع منهج العمل فيه سنة 1514 ولعل هذا التمثال أعظم قطعة تمثل فيها النبل والترفع في الإخراج
وله أيضاً في هذه الفترة تمثال مشهور لأبولو، تركه دون إكمال وهو لا يزال محفوظاً بفلورنسا.
أما ثاني إنتاج رائع في حياته، فهو وضعه لتصميم مقابر المديتشي وتنفيذه لما جاء فيها من فن الإعجاز، وهو ما سنتناوله بالدرس في المقام القادم
احمد موسى(205/68)
البريد الأدبي
مجلس التنظيم وعيد القاهرة الألفي
يظهر أن الدعوة التي وجهت منذ حين على صفحات الرسالة إلى السلطات المختصة للعمل على إحياء عيد القاهرة الألفي بما يليق بهذه المناسبة التاريخية من الاهتمام والتكريم قد لقيت صدى ضعيفاً في بعض الدوائر، فقد نشرت الصحف أخيراً أن مجلس تنظيم القاهرة قد رأى لمناسبة حلول العيد الألفي للقاهرة المعزية أن يطلق اسم القائد جوهر الصقلي منشئ العاصمة الفاطمية (القاهرة) على قسم من شارع السكة الجديدة، وأن يطلق اسم الخليفة المعز لدين الله الذي أمر قائده جوهر بإنشاء المدينة، وإليه تنسب (القاهرة المعزية) على شارع المغربلين. ومجلس التنظيم يرى بذلك أن يكرم ذكرى الرجلين العظيمين اللذين يرجع إليهما قيام هذه العاصمة الألفية الجليلة. بيد أننا نلاحظ أن اختيار هذين الشارعين لإطلاق الاسمين عليهما ليس اختياراً موفقاً، بل هو ينم عن التقتير والضن؛ إذ بينما نرى أسماء تاريخية أقل أهمية ورنيناً وأقل جدارة واستحقاقاً تطلق على شوارع عظيمة من شوارع العاصمة، نرى مجلس التنظيم يكتفي بهذين الشارعين تكريماً لمنشئ القاهرة. وإذا كان مجلس التنظيم يريد بهذا الاختيار أن يحافظ على المناسبات التاريخية، فيحسن به أن يختار شارع الأزهر الجديد ليطلق عليه اسم القائد جوهر، فجوهر هو أيضاً مؤسس الجامع الأزهر، وفي وسعه أن يطلق اسم المعز على شارع الموسكي ثم امتداده من السكة الجديدة حتى الدراسة، أو على الشارع الممتد من باب الفتوح حتى السكة الجديدة، ثم امتداده حتى باب زويلة، فهذان الشارعان هما في الواقع قطر المدينة الفاطمية القديمة. أما إذا لم يكن للخطط التاريخية دخل في هذا التكريم، وإذا كان التكريم مقصوداً لذاته فليطلق اسمي جوهر والمعز إذن على شارعين من أعظم شوارع القاهرة، لا على شارعين من أحقر شوارعها
النيل في مصر لأميل لودفيج
ظهر أخيراً الجزء الثاني من كتاب النيل لأميل لودفيج وعنوانه (النيل في مصر) أما الجزء الأول وعنوانه (النيل من المنبع إلى مصر) فقد صدر منذ بضعة أشهر حسبما ذكرنا في هذا المكان من الرسالة، وهو يتناول وصف النهر العظيم من منابعه حتى حدود مصر(205/69)
الجنوبية، ووصف الحيوانات والجماعات التي تسكن هذه المناطق. أما الجزء الثاني فقد خصص للقسم الممتد داخل مصر، وفيه وصف ضاف لهذا القسم ولمصر التي عاشت من مائه منذ القرون الغابرة حتى الوقت الحاضر. ومن رأي الكاتب أن النيل كانت له دائماً في هذا القسم العامر من مجراه مؤثراته العميقة على الشعوب التي سكنت واديه، وكان لهذه الشعوب بلا ريب نفوذها وإرادتها في تكييف مجرى النهر والانتفاع بمائه. ويتناول لودفيج وصف هذه المرحلة التي يبلغ طولها ستمائة ميل، كما يتناول وصف مصر منذ الفراعنة، وعصر المسيح والقديسين، ثم مصر الإسلامية، ومصر أيام عصر الانحلال التركي؛ ثم يصف مغامرة نابوليون القصيرة، وحفر قناة السويس وتدخل إنكلترا، ثم يتناول حركة مصر القومية في أسلوب حماسي مشبع بالعطف. ويتبع لودفيج في الكتابة والوصف أسلوباً جديداً لم يسبق لمن طرق نفس الموضوع أن اتبعه، فالنيل ليس في نظره وحدة جغرافية فقط توصف من الناحية الطبيعية، بل هو كائن حي له خواصه الإنسانية كما أن له خواصه الجغرافية والطبيعية، ولهذا يعامله لودفيج كأنه شخصية تترجم كما يترجم الرجل العبقري. وفي مواقف كثيرة ترى لودفيج شاعراً يتبع الوصف الخيالي؛ وإذا كان يبدو محققاً في بعض الحقائق والوقائع التاريخية، فهو يبدو أحياناً سطحياً يكتب كما يكتب السائح الطارئ. ومن جهة أخرى فقد وجه النقد المر إلى الأسلوب الذي أخرج به الكتاب بالإنجليزية (لأنه كتب أصلاً بالألمانية) وقيل إن فيه كثير من النقص والتشويه
كتاب خطير عن روسيا السوفيتية
ظهر أخيراً كتاب خطير في روسيا السوفيتية بقلم زعيم كبير من زعمائها القدماء هو ليون تروتسكي أحد مؤسسي روسيا البلشفية؛ ويقدم إلينا تروتسكي كتابه الجديد بعنوان (خيانة الثورة. ما هو الاتحاد السوفيتي وأين يسير) ونحن نعرف أن تروتسكي لبث من سادة روسيا وزعمائها حتى سنة 1927، وعندئذ بدأ الخلاف بينه وبين ستالين وعصبته، وانتهى الأمر بتغلب ستالين ونفي تروتسكي وتمزيق عصبته. ومن ذلك الحين يعيش تروتسكي في منفاه متتبعاً أحوال روسيا وتطوراتها. ولكن تروتسكي يخلف وراءه عدداً كبيراً من الزعماء القدماء الذين يناصرونه ويخاصمون النظام الجديد، ولهؤلاء أنصار كثيرون في روسيا. وينعى تروتسكي على ستالين سيد روسيا الحالي أنه خان قضية العمال، وبدد تراث(205/70)
لينين، واتبع سياسة رأسمالية، وأنه أقام نظام إرهاب شامل. ويقول تروتسكي في كتابه المذكور: (إن الثورة قد غدر بها القائمون بالأمر، ولكن لم تسحق نهائياً). هذا هو ملخص نظريته وهو يشرح بعد ذلك مساوئ النظام القائم، ويدلل على أن ستالين يسير بوحي الدول الرأسمالية، ويرغم روسيا على الخضوع لها؛ ويشهر بسياسة الإرهاب القائمة، وذيوع الجاسوسية الشنيعة. وتدبير المؤامرات ضد الأبرياء من الزعماء المخالفين. ولا ريب أن تروتسكي هو اليوم أعظم حجة في شؤون روسيا السوفيتية. ويقال إن لديه مستندات هامة تلقي الضياء على أعمال العصبة التي تسيطر اليوم على مصاير روسيا؛ وسوف يثير كتابه اهتماماً جديداً بأحوال روسيا وشؤونها
ومما يؤثر عن تروتسكي أنه فضلاً عن الدور العظيم الذي لعبه في قيام الثورة البلشفية وسحق حكومة القياصرة، يعتبر من أعظم كتاب روسيا المعاصرين؛ وهو يكتب بعدة لغات بمقدرة مدهشة.
حديث جديد عن المسرح المصري:
قرأنا في بعض الصحف الفرنسية الواردة في البريد الأخير حديثاً جديداً لمسيو أميل فابر عن المسرح المصري. ويذكر القارئ أن مسيو فابر، وهو من أكبر الفنانين الفرنسيين، وكان مدير المسرح الكوميدي فرانسيز، قد انتدبته الحكومة المصرية في الشتاء الماضي لدراسة المسرح المصري، واقتراح ما يجب اتخاذه لإنهاضه وإصلاحه، وأنه قام بهذه المهمة، ولا يزال تقريره بين يدي ولاة الأمر في وزارة المعارف. ويقول مسيو فابر في حديثه الجديد إن المسرح المصري يرجع نحو أربعين سنة، ولكنه يعيش منزوياً على هامش الحوادث؛ بيد أن المسرح العربي جدير بأن ينهض وأن يتسع نطاق عمله، فاللغة العربية هي لغة مصر وشمال أفريقية، فضلاً عن البلاد العربية، بل هي ذائعة في أمريكا الجنوبية حيث يوجد ثمانون ألف سوري في المهجر.
والمسرح المصري ينقصه التأليف المسرحي وتعوزه الأبهاء والزخارف. وهنالك ممثلون للكوميديا ولا توجد لها ممثلات، حتى أن أدوار النساء يقوم بها الرجال. ومن الأسف أن المسرح المصري لا يملك الآن غبر دار الأوبرا؛ وهذه الدار تحتلها في معظم الفصل فرق أجنبية مختلفة؛ وفي وسع الحكومة أن تشتري مسرح الأزبكية، فهو يصلح لتمثيل القطع(205/71)
الكوميدية. والمسرح المصري فقير في المناظر حتى أنه يصعب فيه تمثيل القطع المنوعة. أما عن التأليف المسرحي فلا يوجد بمصر، وكل ما هنالك قطع مترجمة عن الإنكليزية والفرنسية والألمانية. وليست هنالك قطع أصيلة مكتوبة بالعربية. وأخيراً توجد مشكلة اللغة، فالحكومة ولجنة الفرقة القومية تريدان استعمال اللغة العربية الفصحى، وهذه لا يفهمها كثير من رواد المسرح.
راء (المبرد) مرة أخرى للأستاذ إبراهيم مصطفى
لقي اسم المبرد من عناية الرسالة وعناية الأدباء الباحثين حظاً حسناً. وكان مثار الخلاف أني قلت (المبرَّد) بالفتح في محاضرة ألقيتها بالجمعية الجغرافية فنقدني أديب وتصدى له أديب وامتلأ الحوار بالحجة وبقيت أقرأ مستفيداً شاكراً. وحق عليّ من بعد، أن أذكر ما من أجله فتحت هذه الراء
لقد تلقيت هذا الاسم بالكسر عن الشيخين اللغويين الشنقيطي والمرصفي. وسمعنا من الشنقيطي شعراً أو نظماً في ذم من فتحها ليس يخلو ذكره من تفكهه وهو:
والكسر في راء المبرَّد واجب ... وبغير هذا ينطق الجهلاء
وكان رحمه الله يلقي القول يفخمه ويمط البيت عند آخره. أما شيخنا المرصفي فلم يكن متشدداً في الكسر تشدد الشنقيطي، ولكن كان يفضله ومن هنا غلب على لسان الأدباء كسر الراء وتلقيناه ولقيناه كذلك. ثم تبين لنا أن الصواب هو الفتح لما رأينا أن هذا الاسم إنما وضع نبزاً للعيب لا لقياً للمدح. وكان من عادة ذاك الزمن أن يكون تكريم العلماء بالكنية؛ ويكثر أن تغلب عليهم ألقاب تحمل نبزاً وعيباً؛ وقد يبدو ذلك غريباً ولكنه أمر واقع. فأبو العباس محمد بن يزيد (المبرد) شيخ النحاة بالبصرة، وأبو العباس احمد بن يحيى (ثعلب) شيخ النحاة بالكوفة في زمنه يعاصره وينافسه؛ وثعلب والمبرد نبزان، وكذلك أمام الأدباء في ذات العصر أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
والجاحظ نبز بلا ريب. ومن ألقاب العلماء في ذاك الزمن قطرب وعجرد والجعد والبغل والحامض والأخفش والأعمش والأعور والأعمى والأثرم والأشعث والفراء والزجاج والرؤاس (بائع الرؤوس) ولكل كنية لا يدعى إلا بها ولا يحب أن يتسمى بغيرها.
ولو كان في هذه الأسماء مثار للخلاف واحتملت أنبازهم الفتح والكسر كالمجحظ والمخفش(205/72)
والمعور لرأيت من يدعى لها ويقربها من المدح بوجه ما (كالمبرد) وينسى أصل النبز وعادة العصر ولولا سعة صدر الجاحظ لقال أيضاً جحظ الله من جحظني. وقال الأخفش خفش الله من خفشني كما قال المبرد: برد الله من بردني - على أن السعي لتجميل ألقاب العلماء عاطفة جميلة، ولكنها تباعد التاريخ وتخفي الحق؛ فقد رأيت لم خالفنا ما روينا عن الشيخين. ولعمري لو أنهما شهدا وهدي إليهما ما قدم في الرسالة من النصوص لما رأيا إلا الفتح، ولشكراً للأديب العالم الذي تسمى (أحد القراء) فطوى اسمه ونشر علمه. فما كان لهؤلاء العلماء من التشدد في الحق إلا ريثما تنكشف لهم الحجة في غير ما بأيديهم؛ فهم أتباع الحق أبداً. ولقد ذكرت بهذا قصة للمرحوم الشيخ الشنقيطي كان يقرأ عليه الأستاذ الخضري شعراً فيه كلمة (الخرامي) بالراء المهملة، فقال الشنقيطي هي الخزامي بالزاء أصلحها، فحدثنا الشيخ الخضري أن نفسه تطلعت أن ينظر القاموس ليرى الكلمة وكان قريباً منه فنظره وإذا في القاموس الخزامي والخرامي بالزاء وبالراء وكل منهما نبت بالصحراء، فقرأ على الشيخ ما وجد. قال الشيخ: أعدها بالراء وأستغفر الله. قال الخضري: كنت أظن أن القاموس أدنى علم الشيخ من اللغة. فضحك الشنقيطي وقال: (دون هذا وينفق الحمار) فتلك منزلة العلماء من الحق إذا تبين وما التوفيق إلا بالله
إبراهيم مصطفى(205/73)
القصص
بل ضرورية جداً
للسيدة كرم حسن فهمي
(إلى أستاذي الجليل عباس محمود العقاد)
عادت خضرة وقد أنهكها التعب من جمع القطن تحت أشعة الشمس المحرقة في الحقل
عادت خضرة إلى الدار ذات الحيطان السود والسقف المتداعي وجلست بجانب أخيها حسن على الحصير البالية وسألته:
. . . ألم تجد عملاً في القاهرة؟
. . . لم أجد
ألم تذهب إلى عمك؟
. . . لا فائدة
تذكرت خضرة زيارات عمها الغني للقرية وكيف كان يستقبله القرويون وما استدانه والدها الفقير مبالغة في إكرامه
بل تذكرت كيف كان حديث عمها لا يدور إلا عن نفسه وأملاكه ومركزه الرفيع في الجيش وعن قصره وما يحويه من تحف وصور وتماثيل
وتذكرت خضرة أن عمها عرض على والدها قبل وفاته أن يستصحبها معه إلى القاهرة ورفض والدها إذ ذاك
فاليوم وقد مات أبوها وماتت زوج عمها المخيفة التي ورث عنها كل هذه الثروة فلِمَ لا تذهب؟
. . . ألا تأخذني معك يا حسن إلى قصر عمي
. . . إنك لم تذهبي إلى القاهرة قط
. . . أرجو يا حسن! ربما كان لي من التأثير على عمي ما ليس لك فيهتم بشأنك
سافرا إلى القاهرة وأدهشت حركة المدينة الكبيرة الفتاة وبلغت أخيراً قصر عمها وتساءلت عن محتوياته في دهشة والعم يشرح:(205/74)
هذا البساط النادر ثمنه مائة جنيه. فخلعت الفتاة خفيها ووضعتهما تحت إبطها خشية تلويثه
العم: وهذه السجادة الفارسية الأثرية ثمنها ثلاثمائة جنيه.
فتحسستها الفتاة وقالت: لكنها قديمة يا عمي، فقهقه صاحب القصر وأجابها: لهذا كانت ثمينة، فإنها أثرية منذ ألف سنة
. . . انظري هذا التمثال النصفي البديع! صنعه أكبر مثال فرنسي معاصر
. . . وهذه صورة زوجتي بريشة الرسام سوسانت كلفتنا مائة جنيه
قالت الفتاة: هل هي أثرية أيضاً أي منذ ألف سنة؟
فقهقه العم مرة أخرى لسذاجتها
وفي المساء نامت الفتاة تحلم بالقصر البديع الذي يقطنه عمها وحيداً لا يشاركه فيه إلا خادمه العجوز وإلا هذه التحف والتماثيل. ونام أخوها حسن وهو يدبر أمراً
في مساء اليوم التالي عاد حسن إلى القصر بعد أن جال في شوارع العاصمة وقال لعمه:
عثرت اليوم يا عمي على صورة فنية بديعة للرسام الشهير ج. س
قال العم: يا لشوقي لصورة من ريشته!
حسن: رفض الإيطالي العنيد أن يبيعها
العم: أغره بالمال، هذه ألف جنيه؛ وإذا طلب أكثر فأنا مستعد
وعاد حسن في صباح اليوم الثالث يحمل إطاراً كبيراً أسدل عليه ستار من الحرير الأزرق حجب الصورة، ووضع الإطار بصورته الغامضة في صدر قاعة الاستقبال الكبرى بقصر عمه
وفي المساء حضر صاحب القصر ومعه رهط من الغواة والفنانين والمعجبين بالفنون
ووقف حسن بجانب الإطار ورفع عن الصورة الستار وتكلم:
أيها السادة. ترون الآن صورة (فانتين البائسة) صورها هوجو بقلمه كلاماً، وعربها حافظ بلاغة، ورسمها ج. س الرسام الإيطالي الشهير صورة ناطقة
كم أتقن الفنان تصويرها وتصوير البؤس فيها! ألا تعد آية من آيات الفن؟ كم تقدرون ثمناً لها؟(205/75)
العم: ألف جنيه
بعضهم: وأكثر
واستطرد حسن يقول: يجب أن نقدر الفن فالفن ضروري للحياة (بل ضروري جداً)
فمن الواجب أن نقلع عن تقويم مطالبنا بمقدار الحاجة إليها، فإن ذلك التقويم غير صحيح، فنحن نستطيع أن نفقأ أعيننا بأصابعنا أو نقطع ألسنتنا ونعيش بغير ملكة النظر والكلام سبعين سنة ولا نستطيع أن نعيش بغير الخير. . .
وندع تقويم الفكر إلى تقويم السوق، فالحلية أقوم من الآنية الضرورية، ولأن نشيد قصراً بديعاً ينحت فيه عشرة مثالين فينتجون تماثيل للزينة خير ألف مرة من بناء مصنع أو سفينة يعمل فيهما الآلاف فينتجون. . .
(والتمثال أغلى من الكساء) وكأس الويسكي أغلى من طن الماء، والطباق أغلى من الهواء.
(وأقصى ما نبلغه في تحصيل الخبز أن نتساوى وسائر الأحياء، ونحن إذا حصلنا الفنون الجميلة فما نحن بأناسي فحسب بل أناسي ممتازون نعيش في أمة ممتازة) نعيش في أكواخ من اللبن والطين
(فإن كنا نبغي أن نعيش كما تعيش الأحياء فحسبنا الضروريات المزعومة) حتى تأتي الكماليات فتلاشيها (وحتى يأتي غيرنا) فينزع هذه وتلك.
(ومن الواجب ثالثاً أن نذكر ما هو العلم الذي يفوقنا به الغربيون) فليس هو التجارب العويصة في مصانع السيارات، ولا الاختبارات والمخاطرات الشاقة في عالم الطيارات والسفن والدبابات، كلا، لا يفوقنا الغربيون بهذا فإن الشرقي ليحذق صناعة الطيارة. . . إذا. . . (فتأملوا من فضلكم إذا).
أيها السادة! في علم حسابنا أن القصيدة الغرامية تساوي طيارة، وفي نحونا أن التمثال يعني سفينة أو سيارة، وقال أمين الريحاني: يا من يبيعني فلسفة بطيارات فلم يعبأ به أحد.
(ولقد يخطئ بعض المصلحين في تقويم الفنون فيستكثرون ما أنفقت عليها الدول والملوك والسروات) وأخطأ اللورد بافرلوك لما قال (إن المقتصدين أسياد العالم) ورو كفلر مجنون إذ رفض رسم صورته نظير ثلثمائة جنيه بريشة أكبر رسام أمريكي.
أيها السادة! قدرتم ألف جنيه لصورة (فانتين البائسة) فكم تقدرون لها الآن إذا عرفتم أنها(205/76)
بائسة حقيقية من اللحم والدم؟ (تتحرك الصورة وتخرج من الإطار لأنها امرأة حقيقية)
كم تقدرون لها الآن؟
أصوات - لا شئ
أيها السادة. . . هكذا نقوم الحقيقة. وهكذا نقوم الخيال، وهكذا نبيع نصف عقولنا ونخسر نصف أعمارنا وننفق نصف أموالنا لنظهر بمظهر الامتياز واللباقة والتهذيب
أيها السادة. . . تلك أمم بلغت شأوها ونالت الضروريات ثم التفتت إلى الكماليات، ونحن أمة لا نزال في أشد الحاجة إلى الضروريات، والضروريات القصوى أولاً
كرم حسن فهمي
حرم ناظر محطة م. أ(205/77)
العدد 206 - بتاريخ: 14 - 06 - 1937(/)
أدب السندوتش
لعلك تقول لنفسك سائلاً أو هازلاً ما علاقة الأدب بالسندوتش؟ ولو
كنت أريد الأدب الذي تعارفه أولو الجد من الناس لأعيا نفسك وأعياني
أن ندلك على هذه العلاقة. ولكنني أريد الأدب الذي تتأدبه ناشئة اليوم؛
والسندوتش أو الشطيرتان بينهما الكامخ كما يريدون أن نقول، لقيمات
تشتريها وأنت واقف في المطعم، وتأكلها وأنت ماش في الطريق،
وتهضمها وأنت قاعد في المكتب، فلا تجد لها بين ذهول العجلة وتفكير
العمل هناءة في ذوقك ولا مراءة في جوفك. وهذا الضرب من الطعام
القائم على القطف والخطف جنى على الأسرة فحرمها لذة المؤاكلة
ومتعة المنادمة وأنس العشرة؛ وجنى على المائدة فسلبها فنها الطاهي
وذوقها المنظم وجلستها البهيجة؛ وجنى على الصحة فأضعف الشهوة
وأفسد الهضم ونقص العافية. والثقافة الأدبية اليوم لاتختلف في سرعتها
وتفاهتها وفسادها عن هذا النوع الجديد من الأكل، فهي نتفات من
الكتب، ولقفات من الصحف، وخطفات من الأحاديث، ومطالعات في
القهوة أو في الترام أو في السرير يلقط الكلم فيها النظر الخاطف، كما
يلقط الحب الطائر الفزع، ثم نتاج مختصر معتسر كجنين الحامل
أسقطته قبل التمام، وصراخ مزعج في أذني هذا السقط ليستهل وهو
مضغة من اللحم المسيخ لا تشعر ولا تنبض، وأصبح مآل غرفة
المكتب في البيت كمآل غرفة الطعام وقاعة الجلوس فيه، بغى عليها
سندوتش الصحيفة كما بغى على هاتين سندوتش البار والقهوة
يقول أنصار السندوتش في الحياة: إن المائدة لا تتفق مع الزمن الدافق والعمل المتصل(206/1)
والتطور المستمر والحركة السريعة؛ فان في طول الجلوس إليها، وقواعد الأكل عليها، وتعدد الألوان فيها، واحتفال الأسرة لها، إضاعة للمال والوقت، وقتلاً للنشاط والحركة، وجلباً للسقام والمرض.
ويقول أنصار السندوتش في الأدب: إن قواعد اللغة قيود لا توافق حرية العصر، وأساليب البلاغة عوائق لا تجاري قراءة السرعة، وبدائع الفن شواغل لا تساعد وفرة الإنتاج. والحق الصريح أن آكلي السندوتش أعجلتهم محاقر العمل ومشاغل الرزق عن النعيم الآمن، والجمام الخصب، والبيت المطمئن، فجعلوا صعلكة المطاعم نظاماً وفلسفة؛ وأن قارئي السندوتش صرفتهم وعوثة الطريق وتكاليف الغاية عن اكتساب الملكة، وتحصيل الأداة وتوفير المعرفة، فقنعوا بهذا الفتات المتخلف ثم تجشئوا من غير شبع، وتشدقوا من غير علم، وطلبوا محوا القيود والحدود والمقاييس ليصبح الأدب كوناً عاماً والفن حمى مباحاً، فيسموا راوي الأقاويل قصصياً، ووزان التفاعيل شاعراً، ونهاش الأعراض ناقداً، وسلاب القرائح نابغة؛ ولكن الطبيعة التي تحفظ سر الكمال، وتحمي ندرة النبوغ، وتبغي بقاء الأصلح، تأبى إلا أن يظل قراء السندوتش وآكلو السندوتش فقراء ذوي عمل، أو أغنياء ذوي لهو، لا تهيئهم الحياة المضطربة إلى زعامة في أمر ولا إلى نبوغ في فكرة
أثار هذا الموضوع في ذهني طائفة من الرسائل النقدية تلقيتها من أقطار العربية تستنكر بعض ما تظهر المطابع المصرية من لغو الكهول وعبث الشباب، ونشدد النكير على بعض الأحاديث الأدبية التي تبثها الإذاعة اللاسلكية، وبعجب فاضل من بغداد وأديب من حلب كيف تمتهن مصر كرامتها فترفع صوتها الأدبي في العالم من فم شاعر له ديوان مطبوع وذكر مرفوع ثم لا يدري شيئا في قواعد اللغة ولا ضوابط العروض، فكان يقرأ النثر ولا يقيم لسانه، وينشد الشعر ولا يضبط ميزانه، حتى قالوا والعهدة عليهم إنه أنشد قصيدة ابن سعيد المغربي، وهي من بحر السريع على روي الكاف الساكنة، ففتح الكاف وجعل صدور الأبيات من بحر وأعجازها من بحر آخر!
الواقع الأليم أن الذين درسوا لغتهم وفقهوها من الأدباء النابهين نفر قليل، فإذا استثنيت هؤلاء الستة أو السبعة وهم من الكهول الراحلين، وجدت طبقة الأدباء كطبقات الصناع والزراع والتجار يأخذون الأمور بالتقليد والمحاكاة لا بالدرس والمعاناة؛ وكما تجد في(206/2)
هؤلاء من ينشئ المتجر ثم يكله إلى أجنبي ينظمه ويرتبه، تجد في أولئك من يؤلف الكتاب ثم يدفعه إلى نحوي يعربه ويهذبه. ولا نجد في تاريخ العربية قبل هذا العصر، ولا في تاريخ اللغات في جميع العصور، من يحسب نفسه أديباً في لغة وهو لا يعرف منها إلا ما يعرفه العامي الألَف. والغرور المتبجح والادعاء السفيه لا يستطيعان أن يحملا الناس على أن يقرءوا السخف، ولا الزمن على أن يبقي على الضعيف.
إن رسالة الأدباء كرسالة الأنبياء فيها عبقرية وجلالة وسمو. فإذا لم يكن الكاتب أو الشاعر خليقاً أن يسيطر على العقول والميول بمكانه في العلم وسلطانه في الأدب ورجحانه في الرأي كان أشبه بمن يدعي النبوة في مكة، أو بمن يمارس الشعوذة في لندن!
إن المدارس المصري تعلم اللغة على منهاج غير واضح، والجامعة المصرية تبني الأدب على أساس غير صالح، والجامعة الأزهرية لا تزال تنفض البلى عن كتب ملتاثة التعبير من مخلفات العجمة، إن صلحت لشيء فلن تصلح لتعليم البلاغة. فليت شعري إذا خلت أمكنة هؤلاء النفر الذين نبغوا بالاستعداد والاجتهاد كيف تكون حال الأدب الرفيع في مصر؟ أيذهبون وبُطئان ما يُعوضون على رأي الأستاذ احمد أمين، أم يذهبون وسرعان ما يُخلفون على رأي الأستاذ العقاد؟
أحمد حسن الزيات(206/3)
ندرة البطولة
للأستاذ أحمد أمين
كتب الكاتب القدير الأستاذ عباس محمود العقاد مقالاً رد فيه على مقالتي في (ندرة البطولة)؛ وأنا سعيد حقاً بهذا الرد الممتع، فقد أبان فيه جانباً من جوانب الموضوع، وأوضحه أيما إيضاح، ودعمه بالحجج والبراهين القوية
وحبذا لو اتخذ هذا المقال مثلاً للناقدين، فيناقشون ما يعرض من الأفكار في هدوء وجد وتفكير عميق وأسلوب مهذب، ولا يكون لهم غرض إلا الوصول إلى الحق وتجليته
ثم نعود بعد إلى موضوعنا، فيخيل إلي أن ليس بيني وبين الأستاذ العقاد خلاف إلا في مسألة واحدة متى حددت ظهر وجه الصواب وانكشف جانب الحق
تلك هي تحديد ما نريد بالنابغة أو البطل، وما نريد بالمقارنة بين العصر الماضي والعصر الحاضر.
مقياس النابغة في نظري أن يفوق أهل زمانه ويسبقهم في فنه أو علمه أو أدبه حتى لا يدركوه إلا بعد أزمان؛ وعلى مقدار هذا السبق يكون النبوغ. فسيبويه نابغة في النحو لأنه رأى من قواعده ما عجز أهل زمانه عن النظر إليه، وفاقهم في ذلك بمراحل؛ واسحق الموصلي نابغة لأنه ابتدع من الفن ما لم يعرفه فنانو عصره، وكان في ذلك هو السباق وهم المقلدون. وقل مثل ذلك في الجاحظ وأبن الرومي وشكسبير وجوته. فأما إن هو عرف ما يعرفه أهل زمانه، أو أتى من الفن بما يأتيه أهل زمانه، فلسنا نسميه نابغة وإنما نسميه عالماً أو فناناً
هذه مسألة، والمسألة الأخرى أننا إذا أردنا أن نقارن عصراً بعصر في كثرة النبوغ وندرته، فلا نقارن معلومات عصر بمعلومات عصر، ولا فن عصر بفن عصر، إنما نقارن مسافة البعد بين النابغين في عصر وبين عامة المتعلمين فيه؛ ونفعل مثل ذلك في العصر الذي نريد أن نقارن به. فإذا أردنا المقارنة بين العصر العباسي الأول - مثلا - وبين عصرنا الحاضر في الأدب، وازنا بين ابن المقفع والجاحظ وبشار وأبي نواس، وبين الكتاب العاديين والشعراء العاديين في ذلك العصر، وقسنا مسافة البعد بينهم؛ ثم فعلنا مثل ذلك في عصرنا الحاضر، فإن كانت مسافة البعد بين البارزين والعاديين في العصر(206/4)
العباسي أطول منها بين البارزين والعاديين في عصرنا حكمنا بأن البارزين في العصر العباسي أنبغ
هذا في رأيي أعدل في الحكم، وأقرب إلى الصواب؛ وإلا لم يعد أي نابغة من نوابغ العصر الماضي نابغة؛ فتلميذ المدارس الثانوية اليوم يعرف من قواعد النحو ما لم يكن يعرفه سيبويه، ويعرف من الطبيعة ما لم يكن يعرفه (نيوتن)؛ وتلميذ الهندسة اليوم يعرف من نظريات الهندسة ما لم يكن يعرفه إقليدس، ويعرف من الهندسة التحليلية ما لم يكن يعرفه ديكارت؛ وقد يكون من كتابنا اليوم من يجيد الكتابة خيراً من ابن المقفع والجاحظ، ولكن قيمة سيبويه ونيوتن وإقليدس وديكارت وابن المقفع والجاحظ ليست في مقارنتهم بأمثالهم في عصرنا، ولكن بمجموعة المتعلمين في عصرهم، ثم بموازنة ذلك في عصرنا على هذا النمط وهذا المنهج. فنقطة المقارنة هي مسافة البعد، لا مجموع المعارف ولا المقدرة الفنية أو السياسية أو الحربية. هذه هي نظريتي، فأنا أدعي أن العصر الحاضر تندر فيه البطولة ويقل فيه النبوغ بهذا المعنى
فلا يسألني الأستاذ بعد ذلك (ما كتاب الجاحظ الذي يعجز أبناء عصرنا عن الإتيان بمثله؟)
ولا يقل: (إن الموصلي وإبراهيم بن المهدي لا يبلغان شأو سلامة حجازي والسيد درويش وأم كلثوم)
ولا يذكر أن فوش وهندنبرج ومصطفى كمال أتوا من الواقع ما يفوق ما أتى به يوليوس قيصر وإسكندر المقدوني وجنكيزخان. . . الخ
فكل الذي ذكره الأستاذ حق، ولكنه لا ينقص ما ادعيت. قد كان ينقضه لو أنني ادعيت أن النبوغ هو إتيان الآخر بخير مما أتى به الأول؛ ولو ادعيت ذلك لكانت دعوى ظاهرة البطلان، ولكان ابني في المدارس الثانوية خيراً من رياضيي القرون الوسطى، فهو يعرف ما لم يعرفوا، وأنبغ من كل علماء البلاغة في العصر العباسي الأول لأنه يعرف من مصطلحات البلاغة ما لم يعرفوا؛ وهكذا في كل علم وكل فن
أخشى أن أكون في مقالي السابق لم أوضح القصد، ولم أجلِّ الغرض؛ أما الآن فأظن أن الأستاذ يوافقني بعد هذا التحديد على نظريتي؛ فعندنا كتاب قديرون يفوقون الجاحظ في كتبهم وفي تأليفهم، ولكنهم مع ذلك لم ينبغوا نبوغ الجاحظ، فقد كان بصيراً بين عميان،(206/5)
وصاحياً بين سكارى، وفي القمة ومن حوله في القاع؛ ولكن كتابنا إن فاق منهم عدد قليل فحولهم كثير مقاربون؛ وإن نبغ في عصرنا قانوني فليس هو في السماء ومن عداه في الأرض كما كان الشأن في القرون الماضية، ولكنك ترى قانونيين مثله أو قريبين منه ومسافات البعد ليست واسعة
والعالم الآن متخم بالعلماء المتبحرين، والساسة الماهرين، والفنانين المبدعين، والحربيين القادرين، والصناع الحاذقين، ولكن من العسير جداً أن تعد منهم نوابغ لأن كل طائفة منهم تكاد تكون كأسنان المشط في الاستواء، وإن فاق واحد منها فتفوق قليل
ظهر نابليون فاستعبد الناس، وأجرى الدماء أنهاراً، وقلب الممالك رأساً على عقب، ودوخ الدنيا، فكان نابغة حقاً في ناحية؛ وبيننا الآن في عصرنا من هم أعلم منه بفنون الحرب ومن هم أقوى منه إرادة، وأبعد نظراً، ولكن من الصعب أن نسميهم نوابغ، لأن الناس ليسوا مغفلين كما كانوا أيام نابليون، ولأنه وحده كان هو القاهر المريد ومن حوله كانوا هم المنفذين المأمورين، فظهر ولم يظهروا، ونبغ ولم ينبغ بجانبه إلا قليل
لقد أتى عصرنا بالعجائب - كما يقول الأستاذ - (وأتى بالحقائق التي تشبه الخيال، وبالعبر التي تشبه نوادر الأمثال) ولكن كل ذلك - مع الأسف - لا يسمى نبوغاً بالمعنى الذي نقصده، لأنها قد كثرت حتى صارت مألوفة معتادة. هل إذا كثر الصناع الماهرون في بلدة سميتهم كلهم نوابغ؟ أم هل إذا كثر القانونيون البارعون في فرنسا سميتهم كلهم نوابغ؟ أو هل إذا كثر الفلاسفة المتعمقون في ألمانيا كانوا كلهم نوابغ؟ كلا ليس هذا هو مصطلحنا في الحياة، فالبلدة التي يكثر فيها الجمال يكون الجمال فيها عادياً مألوفاً، والحقل الذي تطول أكثر أشجاره وتنمو نمواً جيداً لا يمكننا أن نسبغ صفة التفوق عليها جميعاً وهكذا
فكثرة العلماء والفنانين في عصرنا الحاضر حجة لي لا عليَّ، وهي السبب في أننا لا نعدهم نابغين ولا أبطالا. ولو كان واحد منهم في الزمن القديم، وكان وحده هو البارز وهو السائد لكان وحده هو النابغ. فلو كانت المسألة مسألة تقدم عصرنا وتفوقه على الاعصر الماضية في سياسة جميع العلوم والفنون لوافقتك على ذلك كل الموافقة، ولكن المسألة هي مسألة النبوغ في العصر. فلو قارنت مزرعة بمزرعة وكانت كل أشجار إحدى المزرعتين ضعيفة وكل أشجار الأخرى قوية نامية لقلت بلا تحرج وبالبداهة إن المزرعة الثانية خير(206/6)
من الأولى، وإنها تفوقها بمراحل؛ ولكن لو سئلت هل في المزرعة الثانية شجرة متفوقة على أقرانها لقلت بالبداهة أيضاً (لا) بملء فيَّ.
فعصرنا كذلك غني بكل مرافق الحياة، غني بالرجال في كل علم وفن، ولكن هذا الغنى سلبه النبوغ أيضاً، فكان عجيباً أن نرى الغني علة الفقر، والتخمة سبب الجوع.
لقد انقسم كل مجتمع إلى طوائف، وكان من نتائج المدنية الحديثة زيادة التخصص، فكما تخصص الصناع في جزء خاص من الصناعة تخصص علماء كل علم لفرع منه، فصار من المضحك أن يكون الرجل قانونياً في كل فروع القانون، أو طبيباً في كل فروع الطب، أو أديباً في كل فنون الأدب؛ ونشأ عن هذا التخصص توفر العدد الكثير على كل فرع من فروع العلم والفن وإتقانهم له؛ فحيثما تلفت وجدت العدد الذي لا يحصى في الأمم المتمدنة في كل نوع وكل فرع وكل صناعة. ونتج من ذلك أن ما كان يسمى نبوغاً في العصور الماضية أصبح اليوم شيئاً عادياً مألوفاً، فعز النبوغ وندرت البطولة - ولم نعد نرى أمثال الجاحظ الذي يؤلف في الأدب والاجتماع والجغرافيا والتاريخ والمذاهب الدينية والطب والنفس والحيوان والاقتصاد؛ وصار الاقتصار على مادة واحدة بل فرع من مادة بل جزء من فرع هو المنهج العلمي الصحيح، وهذا أغنى العلم وسهل للعدد الوفير أن يصل إلى شأو بعيد وفي الوقت نفسه كان سبباً لقلة النبوغ، فالنبوغ يكثر حيث يعز الشبيه
هذا من ناحية العلماء أنفسهم وكثرتهم، وهناك ناحية أخرى وهي ناحية الناس الذين يحكمون بالنبوغ، فلابد للنبوغ من نابغ وحاكم بالنبوغ، كما لا بد للجميل من ناظر ومنظور. فهؤلاء الناس أصبحوا - على العموم - مثقفين ثقافة عامة خيراً مما كانوا عليه في العصور الماضية. اتسعت معارفهم ودقت أنظارهم، وكان لهم أيضاً شبه تخصص، فمنهم من يميل إلى الأدب، ومنهم من يميل إلى العلم، ومنهم من يميل إلى الفن. وأصبح الفرق بينهم وبين العلماء المتخصصين أقل بكثير من الفرق الذي كان بين العامة والعلماء في العصور الماضية؛ وكذلك شأنهم في السياسة، بل شأنهم في السياسة خير من شأنهم في العلم، كل يعرف حقوقه وواجباته السياسية، ويستطيع أن يزن قادته وزناً صحيحاً إلى حد ما.
كل ذلك أنتج نتيجتين بعيدتي الأثر، أولاهما أنهم أصبحوا يتطلبون من النابغة ما يشبه(206/7)
المستحيل حتى يعد في نظرهم نابغة، وقد كان ذلك فيما مضى سهلاً يسيراً، فمن عاش في الظلماء يبهره نور القنديل، ومن عاش في ضوء الكهرباء لا يبهره ضوء الشمس؛ والثانية أن الناس أصبحوا متسائلين مدققين باحثين لا يستطيع السياسي القدير أن يتلاعب بهم وأن يجعلهم آلة صماء كما كانوا من قبل. من أجل هذا لا نرى كبار الساسة اليوم يستطيعون أن يخضعوا الناس لأمرهم كما فعل نابليون ويوليوس قيصر وجنكيزخان وأمثالهم، وعدم الخضوع وكثرة السؤال والتدقيق يقلل من مجد الساسة، ولا يرفعهم إلى درجة الآلهة وأنصاف الآلهة كما كان في سالف الزمان؛ ومثل هذا يقال في كل علم وكل فن
فعصرنا الحاضر (طابعه طابع المألوف والمعتاد لا طابع النابغة والبطل) وإن كان مألوفنا ومعتادنا أرقى من نابغة القرون الماضية وبطل القرون الماضية
إن كان هذا - يا أخي - هو الذي أردتُ فأظن أنه لا يرد علي بمزايا العصر الحاضر، وعلم العصر الحاضر، وفن العصر الحاضر؛ وإذا كان النبوغ في السبق وكانت المقارنة بين عصرين بقياس مسافتي البعد، فأرجو أن نكون على وفاق فيما ذكرتَ وذكرتُ، وسلامي عليك ورحمة الله
أحمد أمين(206/8)
آلعلم للعلم، أم العلم للوطن بوسيلة دراسة التاريخ؟
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري
- 1 -
رغب إليَّ بعض الشباب أن أدلي برأيي في موضوع (هل العلم للعلم أم العلم للوطن - بوسيلة دراسة التاريخ) وهو الذي استفتت المفكرين فيه الرابطة العربية، فكتبت هذا المقال متوخياً فيه بيان الرأي على وجه عام، غير متصدٍ لمناقشة رأي خاص. وقد رأيت نشره بالرسالة الصديقة ليتسع مدى المناقشة في هذه المسألة بتنوع المجال
أبو خلدون
أنا لا أعترض على من يقول إن (العلم للعلم)؛ واسلم بأن (الأبحاث العلمية) يجب أن تكون غايتها (معرفة الحقيقة)، معرفة مجردة من كل الاعتبارات النفعية.
غير أنني أقول في الوقت نفسه أن العلم شيء آخر، فما يصح في (العلم) قد لا يصح في (التعليم).
فعندما نقول (العلم للعلم)، لا يتحتم علينا - منطقياً - أن نقول في الوقت نفسه (التعليم للتعليم). وعندما نسلم بأن (العلم لذاته لا لشيء غيره)، لا يلزمنا التسليم في الوقت نفسه بأن (التعليم أيضاً لذاته، لا لشيء غيره).
فأن مبدأ (العلم للعلم) لا يمنعنا من القفول بأن (التعليم ليس من الأمور المقصودة بالذات، بل هو من الوسائل التي تستخدم للوصول إلى بعض الغايات).
إن هذه الغايات لا تكون (مادية ونفعية) في كل الأحيان، بل تكون (معنوية وتربوية) في معظم الأحوال: فقد يقصد من التعليم (إعطاء بعض المعلومات المفيدة للحياة) في بعض الأحوال؛ غير أنه يقصد منه - في كثير من الأحيان - (الحصول على بعض الفوائد المعنوية والتأثيرات التربوية)، كالتعويد على البحث والملاحظة، والترغيب في الدروس والمطالعة، أو تنمية الميول الفنية واستثارة العواطف النفسية. . . وأما التعليم الذي يتجرد عن مثل هذه الأهداف والغايات، فأنه يكون مخالفاً لأسس التربية الصحيحة مخالفة كلية.
ويمكننا أن نقول: (إن قيمة التعليم تقاس بقيمة الغايات التي تقصد به من جهة، وبجودة الطرق(206/9)
التي تتبع في خلاله من جهة أخرى، ولا نغالي إذا قلنا: إن (الغايات) في هذا الشأن تكون أهم من (الطرق) بوجه عام؛ لأن (الطريقة تتبع الغاية وتخضع لمقتضياتها) بطبيعة الحال.
هذا، ومما تجب ملاحظته في هذا الباب أن تعليم أي علم من العلوم لا يمكن أن يشمل ويستوعب جميع الحقائق المكتشفة والمقررة في ذلك العلم، حتى في الدراسات العالية. فكل تعليم يضطر - بطبيعة الحال - إلى انتخاب بعض الحقائق والاهتمام بها أكثر من غيرها. فنستطيع أن نقول لذلك: إن التعليم يتضمن شيئاً من الانتخاب؛ فجودة التعليم تتوقف على حسن الانتخاب؛ ولا جدال في أن حسن الانتخاب لا يتيسر إلا بموازنة الفوائد التي يمكن الحصول عليها من تعليم كل بحث من الأبحاث، من جميع الوجوه العلمية والتربوية. ولا شك في أن هذه (الموازنة) توسع مجال عمل (الغايات في التعليم) توسيعاً كبيراً.
وأما نوع التربية الذي يستهدف والتأثير الذي يتوخى من تعليم كل علم من العلوم، فيختلف باختلاف العلوم من جهة، وباختلاف درجات التعليم من جهة أخرى. فالفوائد العلمية والأهداف التربوية التي تستهدف في تعليم الرياضيات مثلاً تختلف عما يتوخى من تعليم الطبيعيات والاجتماعيات. كما أن الغايات التي تقصد في تعليم هذه العلوم في المدارس الابتدائية، تختلف عما يقصد منها في تعليمها في المدارس الثانوية والعالية.
ونستطيع أن نقول بوجه عام: أن دور الغايات التربوية في التعليم يتضاءل كلما ارتفعت درجة التعليم؛ ومع هذا فإن التعليم العالي نفسه لا يتجرد عن الغايات التربوية تماماً، فإن هذا التعليم أيضاً لا يكتفي بسرد الحقائق وحدها، بل يستهدف في الوقت نفسه تعويد الطلاب على (التعلم من تلقاء أنفسهم)، بمراجعة المصادر وجمع الوثائق وملاحظة الوقائع واستقراء الحوادث. . . حسب ما تقتضيه طرائق البحث العلمي والدرس الذاتي. .
وأما التعليم العالي الذي لا يقوم بهذه المهمة خير قيام، فإنه يكون مقصراً في واجباته الأساسية، مهما توسع في سرد الحقائق وتوغل في شرح الأبحاث:
فلا نغالي إذا قلنا: أن التعليم لا يصبح مقصوداً بالذات، إلا في الدراسات العليا الاختصاصية وحدها.
- 2 -
إن ما قررناه آنفاً في شأن (العلم والتعليم) ينطبق على أمر (التاريخ وتعليم التاريخ) بطبيعة(206/10)
الحال.
ففي شأن التاريخ أيضاً نستطيع أن نقول: إن الأبحاث العلمية التي تتوخى معرفة الحقائق التاريخية شيء، والشؤون التعليمية التي تتوخى نشر تلك الحقائق شيء آخر. ومهما بالغنا في القول بأن (التاريخ) يجب أن يكون الغرض منه معرفة الحقائق معرفة مجردة عن كل غاية، لا نستطيع أن نقول ذلك في (تعليم التاريخ)، بحال. بل لابد لنا من التسليم بأن هذا التعليم يجب أن يوجه نحو غايات تربوية واضحة. . على أي حال.
ويجب أن نلاحظ زيادة على ذلك، أن الغايات التربوية التي يُرمى إليها من (تعليم التاريخ) كبيرة وخطيرة جداً، لأن المعلومات التاريخية تمتاز عن سائر المعلومات بالتأثيرات العميقة التي تحدثها في الشعور القومي والحس الوطني، وبالأدوار العامة التي تلعبها في تكوين القومية الوطنية.
فإن شعور الأفراد نحو أمتهم ووطنهم لا يتأثر بمعرفتهم أو عدم معرفتهم للحقائق الطبيعية مثلاً؛ غير أن شعورهم هذا يتأثر تأثراً شديداً من علمهم أو عدم علمهم بالوقائع التاريخية التي تعاقبت على الوطن والأمة في سالف الأزمان.
ويمكننا أن نقول: أن الشعور القومي يستند على (الذكريات التاريخية) أكثر من كل شيء آخر. ونستطيع أن نؤكد أن (الأفكار والمعلومات المتعلقة بالتاريخ) تلعب دوراً هاماً في حياة الأمم، وتؤثر تأثيراً كبيراً في سير حوادثها.
ولهذا السبب نجد أن الأمم المتمدينة بأجمعها تهتم بالتاريخ اهتماماً عظيماً. فهي لا تكتفي بالتذكير بالماضي بواسطة الدروس والمؤلفات بل تبذل أنواع الجهود لإقامة التماثيل والأنصاب، بقصد (تجسيد وتخليد الذكريات)؛ كما تنتهز جميع الفرص لإقامة الاحتفالات، لإحياء ذكر بعض الوقائع التاريخية، بقصد استثارة انتباه الشعب وإيقاد نار الذكريات القومية في قلوب الناس.
كما نشاهد أن الدول المستعمرة، عندما تستولي على أمة من الأمم، تحاول أن تدعم استيلاءها العسكري باستيلاء معنوي، وتعتبر السيطرة على (المعلومات التاريخية) من أهم وسائل هذا الاستيلاء. ولذلك، حالما تنتهي من الأعمال التي تمحو بها الحكومة المحلية وقواها المختلفة، تأخذ في تصويب سهامها نحو (التاريخ القومي)، وتبذل كل ما لديها من(206/11)
الوسائل لإخفات صوت ذلك التاريخ، وتستعمل كل ما لديها من الحيل لإبعاد ذاكرة الأمة عن تاريخها الخاص.
كما نجد أن الشعور القومي عند الأمم المحكومة يأخذ في الخمود والتضاؤل عندما يسحب النسيان ذيله على (التاريخ القومي) ولا سيما عندما تنصرف الأمة عن تاريخها الخاص إلى (التاريخ) الذي تلفقه وتعرضه عليها السلطة الحاكمة. . حسبما تقتضيه سياسة السيطرة والاستعمار.
وأما عودة الشعور القومي إلى مثل هذه الأمم المحكومة فلا تتم إلا بعودة الذكريات التاريخية؛ ولا نغالي إذا قلنا: أن حركات الاستيقاظ والانبعاث ومجاهدات الاستقلال والاتحاد. . لا تبدأ إلا بتذكير الماضي واستلهام التاريخ، هذه حقيقة ناصعة تتجلى من بين صفحات التاريخ بوضوح تام.
فإن (حب الاستقلال) يتغذى بذكريات الاستقلال المفقود؛ والتوقان إلى السؤدد والمجد يبدأ بالتحسر على السيادة الماضية والمجد السالف؛ والإيمان بمستقبل الأمة يستمد قوة من الاعتقاد بماضيها الباهر، والنزوع إلى الاتحاد يزداد شدة وحماسة بتجدد ذكريات الوحدة المضاعة. . . هذه كلها حقائق ثابتة، تشهد بها جميع التواريخ، من تاريخ استقلال اليونان إلى تاريخ اتحاد الألمان، ومن تاريخ ثورة الصرب إلى تاريخ وثبة الأتراك. .
ولذلك كله نجد أن جميع علماء التربية يتفقون في القول بأن دروس التاريخ من أهم وسائط التربية الوطنية والقومية.
فهل يجوز - وهذه هي الحال - للمعلمين ن والمؤلفين أن يتعاموا عن ملاحظة تأثير المعلومات التاريخية في هذا المضمار، وألا يستفيدوا من تأثيرها هذا في تقوية الروح القومي وتوجيه الشعور الوطني نحو الأهداف التي يتطلبها مجد الأمة ونهوضها؟
- 3 -
يظن البعض أن استخدام دروس التاريخ كواسطة للتربية الوطنية والقومية وتكييف كتب التاريخ لمقتضيات هذه التربية، هما من الخطط والنزعات الخاصة بالأمم التي تدار بالديكتاتوريات الوطنية؛ والواقع أنه لا فرق بين هذه الأمم وغيرها في ذلك. ونحن لا نعلم بوجود أمة بين الأمم الراقية تجردت عن هذه النزعة فأهملت الاستفادة من دروس التاريخ(206/12)
في هذا المضمار.
وإذا تجلت آثار هذه النزعة الآن عند فريق من الأمم بوضوح أكبر فما ذلك إلا لأن هؤلاء غيروا نظام حكمهم حديثاً فاضطروا لذلك إلى القيام بتكييف تاريخهم لمقتضيات هذا النظام الجديد بصورة فجائية وعلى رؤوس الأشهاد، في حين أن غيرهم أقدموا على مثل هذا العمل قبلهم، فأوجدوا لأنفسهم تاريخاً مكيفاً بمقتضيات الوطنية، منذ مدة غير يسيرة من الزمن. . . فيمكننا أن نقول: إن الفرق بين الفريق الأول والفريق الثاني ينحصر في تاريخ عملهم بهذه النزعة، لا في انقيادهم إليها أو انصرافهم عنها.
ومن الغريب أننا نجد بين مفكري الفريق الثاني من الأمم من ينتقد بشدة الخطط التي يتبعها الفريق الأول في هذا الباب. غير أننا نشبه انتقادهم هذا بعمل بعض الأمم المستعمرة التي تستهجن فكرة الاستعمار عندما تشاهد آثارها عند غيرها، مع أنها كانت ولا تزال من آباء الاستعمار وأبطاله، ومع أنها تنعم بخيرات مستعمرات كثيرة ولا تتوانى في التوسل بجميع وسائل العنف والشدة لإدامة سيطرتها عليها.
فيجب علينا ألا ننخدع بمثل هذه الدعايات والانتقادات السياسية وأن نعلم علم اليقين أن تكييف دروس التاريخ بمقتضيات القومية والوطنية من الخطط التي تعمل بها جميع الأمم من غير استثناء، ومن الخطط التي تتحتم على جميع الأمم المستضعفة بوجه خاص. . .
هذا ويجب أن نلاحظ في الوقت نفسه أن (التكييف) الذي نشير إليه لا يستلزم (الاختلاق). لأن (الانتخاب والإبراز) وحدهما يكفلان (التكييف) ويكفيان (للتوجه) بوجه عام.
وذلك لأن الوقائع التاريخية تؤلف سلسلة طويلة لا مجال لتحديدها، بل شبكة معقدة لا حد لتعقيدها، فعدم ذكر الوقائع بأجمعها - قصداً أو اضطراراً - واختيار بعضها أو تفصيله أو اختصاره - كل ذلك مما يغير منظر الوقائع وتأثيرها النفسي تغييراً كبيراً، كما تتغير الألوان حسب مشيئة المصورين، تبعاً لتغيير أنواع الأصباغ التي تمزج بعضها ببعض من جهة، ولتغير نسب هذا المزج من جهة أخرى.
ولذلك نستطيع أن نقول: إن عملية الاختيار والإبراز، إذا كانت من الأمور المهمة في جميع فروع التعليم، فهي في منتهى الأهمية في تعليم التاريخ.
لنذكر مثالاً بسيطاً لتوضيح تأثير عملية الانتخاب والإبراز في مثل هذه الأمور لنفرض أننا(206/13)
نود أن نبحث عن علاقة فرنسا بوحدة إيطاليا: فإذا استعرضنا الحوادث التي تعاقبت في إيطاليا منذ حروب نابليون إلى حرب السبعين، ولاحظنا علاقة هذه الحوادث بسياسة فرنسا وأعمالها، وجدنا أن هذه السياسة كانت مساعدة لوحدة إيطاليا في بعض الأحوال والأدوار. ومعرقلة لها في أحوال وأدوار أخرى، فإذا ذكرنا النوع الأول من الوقائع دون أن نبحث عن النوع الثاني منها، أو إذا سردنا النوع الثاني من الوقائع دون أن نتطرق إلى النوع الأول منها. سنوصل قراءنا وطلابنا إلى أحكام متخالفة ومتعاكسة في هذا الباب. وهذا الاختلاف سيظهر حتى عند عدم إهمال ذكر نوع من نوعي هذه الوقائع إهمالاً تاماً، بل نتوسع في شرح أحد النوعين ونكتفي بإشارة مختصرة في النوع الآخر.
وهذا يحدث فعلاً في تدوين وتدريس هذه الوقائع التاريخية في مدارس كل واحدة من هاتين الدولتين. فإن الفرنسيين يوجهون الأنظار إلى الوقائع التي كانت من نوع المساعدة للوحدة الإيطالية، ويبرزون هذه الوقائع أكثر من غيرها. . في حين أن الإيطاليين - بعكس ذلك - يوجهون الأنظار إلى الوقائع التي كانت من النوع الثاني، ويتوسعون فيها أكثر من غيرها ولهذا السبب تجد أن رأي الإيطاليين في هذه القضية يختلف عن رأي الفرنسيين اختلافاً بيناً في معظم الأحوال.
وقد لاحظ الكثيرون من رجال الفكر والسياسة، التأثير الشديدة الذي يتأتى من دروس التاريخ في إدامة الضغائن وإثارة الحروب بين الأمم، فاخذوا يفكرون فيما يجب عمله في هذا الباب؛ وهذا ما حمل عصبة الأمم على الاهتمام بالأمر اهتماماً خاصاً، وتكوين فرع مختص بشؤون تعليم التاريخ بين جوانب معهد التعاون الفكري الأممي. . كما حمل عدداً كبيراً من المربين والمؤرخين على عقد مؤتمرات أممية عديدة للمداولة في القضايا المتعلقة بدروس التاريخ. . .
وإذا تتبعنا مناهج هذه المؤتمرات ونشراتها، ولاحظنا أعمالها ومقرراتها، نجد أنها لم تعارض قط في (استخدام التاريخ كواسطة للتربية الوطنية) وكل ما طلبته من المعلمين والمؤلفين في هذا الباب، انحصر في التماس السعي إلى تخليص دروس التاريخ وكتب التاريخ من الأبحاث والاتجاهات التي تثير الضغائن وتحول دون التفاهم والتقارب بين الأمم.(206/14)
إنها دعت المعلمين والمؤلفين إلى توجيه جهودهم وأعمالهم إلى هذا الاتجاه على الدوام، دون أن تطلب إليهم أن يجردوا دروسهم وكتبهم من النزعات القومية والوطنية. أو يتركوا الاستفادة من التاريخ في التربية القومية والوطنية.
وعلى كل حال نستطيع أن نؤكد أن (تعليم التاريخ) يستهدف التربية الوطنية والقومية قبل كل شيء، عند جميع الأمم بدون استثناء.
- 4 -
بعد هذه التفصيلات يجدر بنا أن نعود إلى أنفسنا ونتساءل عما يترتب علينا عمله في دروس التاريخ، نحن الناطقين بالضاد.
نحن نعتقد بأن حاجتنا إلى الاستفادة من التاريخ في التربية الوطنية والقومية، تفوق حاجة جميع الأمم على الإطلاق. لأن حالة العالم العربي الآن تزيد في احتياجه إلى الاستفادة من دروس التاريخ وكتب التاريخ في هذا المضمار زيادة هائلة.
هذا ويجب ألا ننسى من جهة أخرى أن موضوع تأليف وتدريس التاريخ - في العالم العربي - ظل بعيداً عن مقتضيات البحث العلمي والتربية الوطنية في وقت واحد
وذلك لأن المؤلفات التاريخية العربية تستند إلى نوعين من المصادر: غربية وشرقية؛ والمصادر الغربية لم تتخلص تماماً من تأثير (النظرات الأوربية) التي نشأت على معاداة الشرق واستضعاف العرب حتى الآن. . . وأما المصادر الشرقية فقد ظلت بعيدة عن التطورات العلمية والنزعات التربوية في وقت واحد. . .
فيجب علينا في مرحلة النهضة التي وصلنا إليها أن نعيد النظر في أبحاث التاريخ بروح علمي وشعور قومي؛ وأن نوجه لأنفسنا - على هذا الأساس - مؤلفات تاريخية تجمع بين مقتضيات البحث العلمي ومطالب التربية الوطنية في وقت واحد. .
بغداد
أبو خلدون(206/15)
في الحب وتهيؤ النفس له
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أشرت في فصل إلى الوقت الذي تكون فيه النفس أحسن تهيؤاً للحب وقلت أنه وقت الفتور الخفيف، لا النشاط ولا التعب الشديد. وقد رأيت أن كثيرين استغربوا هذا؛ فيحسن أن أبين ما أعني وأن أجلوه إذا استطعت. وخير وسيلة لذلك أن نضيق دائرة الاحتمالات وأن نسأل أنفسنا في أية ساعة يا ترى من ساعات الليل أو النهار يكون المرء أقوى استعداد نفس للحب؟. أيكون ذلك في الصباح حين ينهض المرء من النوم مستريحاً مجدد النفس موفور النشاط؟ أي على الريق؟. لا أظن! وأحسب أنه لو خطرت أمام المرء في هذه اللحظة أبرع الفتيات جمالاً، وأرشقهن قداً، وأسحرهن لحظاً، وأحلاهن ابتسامة، لما كان لجمالها من الوقع إلا أيسره. نعم يطرف المرء ويفرك عينيه ليستوثق من أنه ليس في حلم ولا يسعه بعد أن يوقن أن عينيه لم تخدعه إلا أن يعجب بالقد الرشيق والرونق البارع. وقد ينطق فيقول (ما شاء الله، سبحان ربي الخالق) ولكن الأمر يقف عند حد الإعجاب، أو قل إن السهم لا يستطيع أن ينفذ من اللحاف. وليس أحلى من أن يستطيع المرء أن يستأنف النوم بعد أن يستيقظ في البكور، فإن للنوم في هذه اللحظة إغراء لا أعرفه يكون له في ساعة أخرى؛ والرجل الذي يسعه أن يقاوم إغراء النوم في البكرة المطلولة لا أظن شيئاً آخر يعجزه. والجسم في هذه الساعة يكون مستريحاً إلى تفتير الراحة فيكون المرء مستيقظاً ولكن ينقصه النشاط الكافي والتنبه التام ومن هنا لا يحدث الحسن أثره لأنه لا يلاقي وعياً كاملاً.
أم ترى يكون الحب أسرع إلى النفس وأنفذ إلى القلب حين يخرج المرء في الصباح؟ لا أظن أيضاً! فإن القوى تكون مجددة والنفس منتعشة. ومعنى هذا أن نشاط الإنسان جم وأن قدرته على المقاومة تامة؛ ففي وسع الإنسان أن يعجب في هذه الساعة ما شاء من غير أن يقع في الشرك أو يصاب في مقتل. والحب مرض.
ومن الحقائق التي لا مكابرة فيها أنه كلما كان الجسم أصح كانت مقاومته للمرض أوفى وأكبر؛ وما من ساعة يكون فيها الجسم أوفر نشاطاً، وأعظم استجماماً، كساعة الصباح، بعد راحة النوم العميق الكافي، ومن كان يعرف أن أحداً أصيب بالحب في الفجر أو الصبح(206/16)
فليتفضل عليَّ بنبأ ذلك فأن العلم به ينقصني؛ وقد قرأت كل ما وسعني أن أقرأ من شعراء العرب والإنجليز وغيرهم واطلعت على ما وقع لي من التراجم والأخبار ومن قصص العشاق الصحيحة والكاذبة المختلفة فلم أر أن أحداً أحب على الريق، فإذا كان هناك من اهتدى إلى غير ذلك فإنه يكون أحسن توفيقاً وأنا مستعد لتصديقه وتصحيح رأيي.
ولا أكاد أتصور أن يحب المرء وهو جائع ولا بعد أن تكتظ معدته بالطعام؛ فأما قبل أن يأكل فلأن إلحاح المعدة يشغله ويستغرق عنايته ولا يترك له بالاً إلى أمر آخر. وأما بعد الأكل فإن الامتلاء يصرف جهد الجسم إلى المعدة؛ أو إذا شئت فقل إنه يعدل المزاج فيشعر المرء أن كل شيء في الدنيا على ما يرام. وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فلا تكون له رغبة ولا فيه استعداد لتغيير هذه الحالة وإبدالها بغيرها مما لعله مزعج أو ناف لهذا الشعور السار الذي تسكن إليه النفس. وقد جربت - وأظن أن غيري جرب أيضاً - أن أسباب الخلاف والنزاع وخصوصاً بين الرجل وزوجته تفتر جداً، وكثيراً ما تزول جملة، بعد الأكل لسببين: الأول أن الجسم يشغل بما حشي به وصار أولى بجهده؛ والثاني أن الشعور بلذة الامتلاء - وهو شعور راجع إلى الحرص على الحياة - وما يفيده ذلك من الرضى والاغتباط لا يدعان محلاً للعودة إلى خلاف سخيف خليق أن يفسد هذا الشعور الجميل.
وأنا لا عالم ولا فيلسوف ولا شيء على الإطلاق مما يجري هذا المجرى، وإنما أتكلم بما أعرف وأتحدث عما جربت؛ والذي عرفته وجربته هو أن المرء في الصباح يحس حصانة ومناعة - من الأمراض ومن الجمال - وقلما يعني بأن يتبع النظرة في هذا الوقت؛ ولو أن اليوم كله صباح لكان على الحب السلام، ولكن اليوم ليس كله صباحاً مع الأسف. والمثل يقول إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع. وما من أحد يستطيع أن يكون في الظهر كما يكون في الصباح، ولا في التاسعة صباحاً كما يكون في التاسعة مساء. في الصبح يكون قوياً قادراً على العمل كفئاً لمقاومة المغريات لأنه مستجم مستريح، فإذا جاء الظهر يكون قد تعب وشعر بالفتور وبالحاجة إلى الراحة والطعام - أو الطعام والراحة - ويكون العمل قد هد منه وسرق من قوته وسلبه بعض ما ادخره للكفاح والنضال. ولكن الحاجة إلى الطعام تكون أقوى ما يحس وألح ما يدرك، فيصرفه ذلك عن كل ما عداه ولا يبقى له هم إلا أن(206/17)
يجلس إلى مائدة حافلة بما يسكت هذه العصافير المزقزقة ويعفيه من ثقل الشعور بما يتلوى في جوفه. فإذا رأى جمالاً فبعيد جداً أن يحبه مهما بلغ من ظمأ النفس إلى الحب؛ وقد يشعر بالسرور وينشرح صدره ولكنه لا يتمهل في عدوه إلى البيت أو إلى حيث يكون الطعام الذي يطلبه ما لا سلطان له عليه، وأحسب أن كل ما يؤدي إليه رؤية الجمال في هذه الساعة هو أن السرور يزيد القدرة على التهام الطعام.
ويأكل المرء وينام ويستيقظ ويقوم متثاقلاً، وقد أصاب حظاً من الراحة - لا كل ما يحتاج إليه - ويستحم أو يكتفي بغسل رأسه ووجهه ولكن الثقلة لا تزايله، لأنه لم يستوف نصيبه العادل من الراحة، ولم يعوض كل ما أنفقه في يومه، فهو لا يزال متعباً ولكنه تعب خفيف لا يشق على النفس ولا يبهظ الجسم احتماله. وهذا هو الوقت الخطر على ذي القلب الحساس. ويستوي أن يكون الوقت العصر أو نصف الليل فإن المهم أن يكون الجسم متعباً بعض التعب وأن يكون تعبه بحيث لا يثقل عليه ولا يمنعه أن يخرج ويجالس الناس ويشهد السينما ويسهر مع الساهرين ويلتمس المتع التي يلتمسها الناس في العادة بعد أن يفرغوا من أعمالهم ويتخلوا لأنفسهم. والتعب الخفيف هو الخطر. وهذا لا وقت له على وجه التعيين فقد يكون العصر وقته عندي في يوم والصباح وقته في يوم آخر. والتعب الخفيف هو فرصة الأمراض والحب لأن المرء لا يفطن إليه ولا يباليه ولا يتحرز من عواقبه ولا يحاول أن يقاوم ما يهجم عليه في فترته، فكأن المرء يؤخذ على غرة، وأهبته للكفاح والمقاومة غير تامة.
ولو عنى الإنسان بأن يدرس نفسه ويتدبر حالاتها لوجد أنه لا يمكن مثلاً أن يفضي بسر له يحرص عليه وهو مستجم مستريح الجسم، وإنما يبث نجواه ويقول بسره وشجوه حين يكون متعباً قليلاً - كائناً ما كان سبب التعب، فقد يكون ذلك من جراء العمل أو يكون بفعل الخمر أو يكون بعد المشي مسافة طويلة أو بعد جلسة يمتد زمنها، أو على أثر برد خفيف إلى آخر ذلك - وصاحب الجسم المستوفي نصيبه من الراحة لا يخطر له مثلاً أن يخوض بحثاً في نظام الكون، ويروح يجزم بما يدور في نفسه من الأوهام التي يحسبها حقائق لا تدفع، لأن صحة الجسم تساعد على إدراك القصور الإنساني. وإنما يفعل ذلك الذي به تعب خفيف لا يحسه، ولا يعرف له وطأة. والتعب الخفيف يهيج شهوات الجسم كما يتيح(206/18)
لجراثيم الأمراض فرصة العيث، فيلقى المرء نفسه غير قادر كما ينبغي على المقاومة، ويحس أنه أصبح طوع الجواذب؛ فإذا عرضت عليه كأساً لم يطل تمنعه، وقد تحدثه نفسه بأن ذلك ربما كان أجلب للنشاط وينسى رد الفعل الذي يعقب هذا النشاط المجلوب. وإذا خايله الجمال تحركت نفسه كما لا يمكن أن تتحرك وهو موفور القوة أو شديد التعب. وإذا استطرد الحديث إلى ما وراء الطبيعة جازف بالآراء وقطع وجزم بلا تردد أو تلعثم. وليس ذلك من الثقة بالنفس ولا من طول التدبر والنظر وإنما هو من الفتور الحاصل الذي يغري بالكسل واتقاء عناء البحث الذي يزيد به التعب. والمرء في هذه الحالة لا يكسل وهو شاعر بكسله ولا يتقي العناء وهو عارف بأنه يتقيه، وإنما يفعل ذلك بغريزته التي تدفعه من حيث يشعر ولا يشعر إلى وقاية نفسه والمحافظة عليها.
ومتى جاوز التعب - أعني الشعور به - الحد الذي يسهل احتماله ويهون الصبر عليه فقد استحال الحب. فالمتضور جوعاً، والذي يرعد من البرد، والذي به مغص أو غيره من المزعجات والمنغصات، والذي يكاد يسقط من فرط الإعياء، والذي يغالبه النوم ويثني رأسه النعاس الخ الخ لا يمكن أن يجد الحب سبيلاً إلى قلبه قبل أن يزول ذلك عنه، وإذا اتفق أنه كان عاشقاً فأنه لا شك ينسى حبه وعشقه حتى يشفى أو يستريح أو يشبع، ومن كان لا يصدق فليجرب وليختبر نفسه. وفي وسع كل إنسان أن يجعل باله إلى حالات نفسه في الصحة والمرض وفي الجوع والشبع وأن ينظر هل يكون له عقل يفكر في حبيب وهو جائع أو بردان أو متألم أو متهافت من النصب.
والمرأة تدرك هذه الحقائق بغريزتها الذكية، فهي دليلي على صحة ما أقول. واسألوا أنفسكم متى ترون المرأة تعنى بزينتها وعرض محاسنها على الرجل فلن تجدوها تفعل ذلك في الوقت الذي تحس فيه أن الرجل مستجم مستريح أي قادر على مقاومة مفاتنها، وإنما نراها تفعل ذلك وتلجأ إلى معونة الثياب المنسجمة على الجسم المبرزة للمفاتن، وإلى المساحيق التي تؤكد الإشراق والنضرة في وقت التعب الخفيف لا في وقت النشاط التام ولا وقت التقوض والانهداد. وأحسب أن من المفهوم أن كلامي هو على المرأة حين تتصدى للرجل بحكم طبيعتها لا عامدة ولا حين تخرج لعملها إذا كانت تعمل أو لقضاء حاجة لها فما تستطيع إلا أن تتزين إلى حد ما تبرز للناس لأن طبيعتها وتغريها بأن تحشد قوتها كلها(206/19)
وسلاحها أجمعه على سبيل الاستعداد للمنازلة، ولو كانت فرصتها بعيدة فأن الأمر بين الرجل والمرأة أمر حرب - هي تقاتله وتحاول أن تغلبه بالجمال وهو سلاحها وهو يقاومها ويحاول أن يغلبها بقوته وجلده الخ، وقد يكون من غريب أمر هذه الحرب أن النصر فيها موزع وأن الذي يبدو فيها ظافراً كثيراً ما يكون هو المهزوم، وأن الذي يتظاهر بالتسليم وإلقاء السلاح عسى أن يكون هو الغالب المنصور بل الفريقان المقتتلان لا نصر لهما ولا هزيمة، وإنما النصر للحياة التي تسخرهما لغاياتها وتتخذ منهما أداة. ولكن هذا استطراد فلنعد إلى سؤالنا، ولنتوسع فيه قليلاً. فهل يظن أحد أن من المصادفات البحتة أن المرأة لا تتزين في الأغلب إلا في العصر أو المساء أو الليل؟. إن ثياب المرأة للزينة، قبل أن تكون للمنفعة - وكذلك ثياب الرجل إلى حد كبير - ولكن الزينة مقدمة على المنفعة عند المرأة، لأن المرأة هي الشرك الذي تنصبه الحياة للرجل، والزينة تؤكد الجمال وتبرزه. وهل يستطيع أحد أن يزعم أن هذه الثياب التي تلبسها المرأة لها أدنى نفع في وقاية أو ستر؟ ولكنها لا تعني بالزينة في الأوقات التي تقول لها غريزتها إنها تكون زيادة لا داعي لها ولا تأثير، مثل الصباح الباكر أو قبل الظهر حين يكون الناس جياعاً، فإذا مال ميزان النهار الذي هو وقت العمل الطبيعي وأحدث العمل اليومي أثره الذي لابد منه وأنتج السعي للرزق أو غيره ذلك الفتور الخفيف وأنشأ الرغبة في اللهو والتسرية عن النفس والتماس ما ينسي الإنسان تعب النهار ومشقات العمل ومتاعب الحياة - إذا جاء هذا الوقت رأيت المرأة معنية بزينتها وثيابها، ومن هنا كانت ثياب السهرة وتوخي المرأة فيها أن تجعلها ثياب جلوة، تجلو محاسنها كلها وتعرض مفاتنها وتحيلها أوقع في النفس، ولو كان الأمر إلى العقل وحده وإلى الفائدة المطلوبة من الثياب لما كان الليل أحق بهذه الثياب من النهار، ولكن الغرض ليس الفائدة بل الفتنة، والفتنة تكون أسهل ومطلبها أيسر بعد تعب النهار وبعد حلول الفتور الخفيف الخفي الذي يساعد على التغلب على الفريسة.
ولنسأل سؤالاً آخر: لماذا يحلو الغزل والمناجاة في الليل الساجي وفي ضوء القمر اللين ولا يحلوان تحت الشمس المحرقة وفي الظهر الأحمر؟. وأجمل الجواب اتقاء للإطالة فأقول: إن الليل هو وقت الفتور، وإن سهوم القمر وسكونه يزيدان هذا الفتور، وإن اجتماع الفتور الطبيعي بالليل بعد الكدح بالنهار واللين المفتر الذي يحسه الإنسان من ضوء القمر يجعل(206/20)
مقاومة الإغراء أضعف، لما يحدثه ذلك من استرخاء الأعصاب وكسلها؛ وشيء آخر أحسبه حقيقة وإن كنت لا أعرف له علة وذلك أن للقمر أثراً محسوساً في حالة الأعصاب. ومن هنا يعتقد العامة أن طول النظر إلى وجه القمر يحدث الخبل ويورث الجنون؛ ولا أعرف علة لذلك ولست أدري أن العلم اهتدى إلى تعليل له، ولكن الذي أعرفه أن للقمر أثراً معترفاً به في المد والجزر، فما دام أن له هذا الأثر فماذا يمنع أن يكون أثره أبلغ وأوسع نطاقاً وأمس بحياة الجسم الإنساني وحالاته؟ إن الماء الذي يؤثر فيه القمر ليس شيئاً أجنبياً منا وإنما هو بعض ما نحيا به، بل هو أصل لا مكابرة فيه. ثم أن أثره في المرأة معروف، حتى أن الدورة عندها تحسب بالشهر القمري. والذي أعرفه أيضاً أن الناس من اقدم العصور قرنوا ضوء القمر بالجنون ولا تزال في اللغات المختلفة ألفاظ يفهم منها اقتران معنى الجنون بضوء القمر. بل إن اللفظ الدال على الجنون في لغات كثيرة مشتق من أسم القمر. وعسى من يسأل (ولكن ما علاقة هذا بالحب؟) والجواب أني لفت النظر إلى أن الغزل والمناجاة يكونان في الأغلب والأعم في الليل ويطيبان في ضوء القمر. وقد قلت إن تجربة الناس من أقدم العصور هدتهم إلى أن للقمر أثراً سيئاً في عقل الإنسان واتزانه؛ وقد بقي في لغاتهم أثر هذا الاعتقاد. وقد يكون أو لا يكون هذا صحيحاً ولكنه خلاصة تجارب الخلق ومشاهداتهم في عصور طويلة لا يعرف لها أول، وبعيد جداً أن يكون كله وهماً. ومهما يكن من ذلك فالمحقق أن ساعات الليل ساعات ضعف بالقياس إلى نشاط النهار بعد راحة النوم الكافي. فالتأثر بالجمال يكون فيها أقوى والمقاومة تكون أضعف.
وقد قلت أن الحب شرك تنصبه الطبيعة للإنسان لإبقاء الدنيا عامرة بنسله - لا أدري لماذا - ولكن هذا هو المشاهد على كل حال. ففي هذا يحسن أن أقول كلمة وجيزة: سئلت امرأة عجوز عن آرائها في بعض وجوه الحياة فقالت: إن سخافة الرجال تظهر في ثلاثة أمور: الأول أنهم يتكلفون عناءً شديداً ليتسلقوا الشجر ويقطفوا الثمر؛ ولو أراحوا أنفسهم وجلسوا ينعمون بالظل تحت أفنان الشجرة لألقت إليهم بثمرها في أوانه. والثاني أنهم يذهبون إلى الحرب ليقتل بعضهم بعضاً؛ ولو انتظروا لجاءهم الموت جميعاً. والثالث أنهم يجرون وراء المرأة؛ ولو كفوا عن ذلك لجرت وراءهم المرأة. فهذه عجوز حكيمة. وأحسب أن حكمة الصبر هذه يرجع الفضل فيها إلى السن العالية وما تجره من العجز. ولكن الواقع على كل(206/21)
حال أن المرأة هي التي تطارد الرجل وليس الرجل هو الذي يطارد المرأة. وقد كنت في أول عهدي بالأدب أستنكر قول ابن الرومي:
أصبحت الدنيا تروق من نظر
بمنظر فيه جلاء للبصر
أثنت على الله بآلاء المطر
فالأرض في روض كأفواف الحبر
نيرة النوار زهراء الزهر
تبرجت بعد حياء وخفر
تبرج الأنثى تصدح للذكر
والشطر الأخير هو المقصود. وكنت أستثقل قوله إن المرأة تتبرج لتتصدى للرجل ولكن المرء يزداد فهمه للحياة على الأيام. وإنه ليضحكني الآن أن الرجل يتوهم أنه هو الصائد الجريء المقدام الذي يوقع منظره الخشن الرعب في قلب المرأة المسكينة الضعيفة! وإنما يضحكني أن هذا الوهم وما يفضي إليه من الغرور هما اللذان يوقعانه في شرك المرأة. فهو ينسى لغروره أنه لا يفكر في الحب إلا بعد أن تلقحه المرأة بجرثومته، أي بعد أن يصاب به. على حين كانت المرأة تعد عدتها لهذا اليوم وتتدرب على إجادة هذا الفن وتدرس كل أساليب الإغراء مذ كانت طفلة في المهد. وهذه مبالغة ولكني أريد أن أقول إن الطبيعة جعلتها أداة لإغراء الرجل وأعدتها بفطرتها لاجتذابه واستدراجه وإيقاعه في الفخ. وهي في هذا لا تحتاج إلى معلم، وحسبها غريزتها هادياً ومرشداً. وهي تتقن فن الاستدراج إتقاناً عظيماً وتعرف في أية لحظة ينبغي أن تزيد المسافة بينها وبين الرجل الذي تدعه يتوهم أنه هو الذي يبدأ بمطاردتها، وتعرف متى تتباطأ وتقصر الخطو، لتزيد أمله في إدراكها، فيقوى عزمه ويشتد عدوه وراءها والمرأة أعرف بالمرأة، أو هي أولى بذلك من الرجل وأخلق بأن تكون أقدر عليه، وقد وجدت في كتاب لكاتبة اسمها (الينورجلين) - واسم الكتاب (العاطفة التي تدعى الحب) هذه النصيحة التي يجدر بكل رجل أن يتدبرها قالت:
(قاعدة عامة - أول ما ينبغي أن تتذكريه هو ألا تظهري رغبة شديدة أو إقبالاً عظيماً أو لهفة، فأن الغرض هو الاستيلاء على الرجل. والرجل مهما بلغ من وداعته وضعفه يحب(206/22)
أن يتوهم أنه هو الذي يقوم بالمطاردة. ولا بد للفتاة التي تخرج للقنص والصيد من أن تدرس أساليب الصيد ووسائله وأن تستعين على التوفيق بمعرفة طباع القنيصة. وما من رجل يعتقد أن في وسعه أن يصيد غزالاً بأن يجري وراءه ويصيح به. والأساليب التي يستخدمها لصيد الفهود والنمور غير التي يلجأ إليها حين تكون غايته الأرانب، ومتى استطعت أن تثيري اهتمامه بك فليس عليك بعد ذلك إلا أن تغذي نفسه ببواعث الرغبة فإذا هو بين يديك، واعلمي أن الرجل يجد لذة في المطاردة، ولكن حماسته تفتر متى ألفى الطريدة في حقيبته. وإذا وجد أن الصيد سهل جداً فقلما يعنى بأن يمد يده ليتناوله وقد يدعه على الأرض حيث وقع. أما إذا كان الطراد شاقاً عنيفاً مثيراً وكانت الطريدة شديدة الحذر طويلة الصبر على جهد الطراد فإن الرجل خليق بأن يزهى بالفوز بها وأن يروح يعرض الصيد على العيون مفاخراً مباهياً) أهـ.
ولا شك أن الواجب الذي أوكلته الطبيعة إلى المرأة شاق، فليس من السهل أن تلعب دور الهارب وهي في الوقت نفسه مصممة على الوقوع في يد المطارد. فقد تطول المسافة بينها وبينه جداً فييأس وينكفئ راجعاً ويعدل عن المطاردة. فإذا تركته يدنو منها جداً ويدركها بسرعة وسهولة وبلا جهد يستحق الذكر فقد ينفض يده من الأمر لأنه يراه أسهل عليه من أن يحس أنه يفيد منه متعة ويروح يلتمس صيداً غيره يستحق العناء. فالأمر يتطلب حذقاً في التقدير وبراعة وسرعة في التقرير من جانب المرأة. ومن هنا يحدث كثير من المضحكات التي يعجب لها الرجل ولا يرى له قدرة على فهمها. وكثيراً ما يفوته الجانب المضحك لأنه يشغل بالفهم على طريقه هو، فيصرفه ذلك عن الفكاهة. من ذلك مثلاً أن واحدة اشترطت لقبول الزواج أن يكون للرجل ألف جنيه مدخرة لأن القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود، فراح المسكين يقتصد ويدخر - أو يحاول ذلك على الأصح - وطال الأمر وتعاقبت الشهور وهو يجد ولا يتكلم ولا يظهر أيضاً وكيف يظهر لها قبل أن يجمع المبلغ المطلوب. فلقيته اتفاقاً وسألته عما صنع، فقال: (لم استطع أن اقتصد إلى اليوم أكثر من جنيهين) فابتسمت له بعد أن أطالت النظر إليه وقالت (أظن أن هذا قريب جداً من الغاية)
وكما أن الرجل يجد لذة في المطاردة، كذلك المرأة تجد لذة في أن تُطارَد حتى ولو كانت(206/23)
نيتها معقودة على النجاة لا على الوقوع؛ وهذا معقول، لأنه يسر المرأة أن تعرف أنها جميلة وأن الرجل يريدها وإن كانت هي لا تريده. وأحسب أن المتعة المستفادة من الطراد هي كل ما في الحب من لذاذة؛ ومتى انتهى الأمر ووقعت الفريسة، فتر النشاط والحماسة، وسكنت النفس وهدأت الأعصاب. ومن هنا يخطئ الذين يتوهمون أن للحب عمراً أكثر من عمر المطاردة، ومن هنا أيضاً يخيب أمل الذين يتزوجون وهم يحسبون أن الحب يدوم. وما أكثر من يسألون عن الوفاء والحفاظ ما فعل الله بهما. ولو فكروا لما انتظروا وفاءً ولا حفاظاً ولا خاب لهم أمل ولا ندبوا حظوظهم في الدنيا، فإن الحب - ككل شيء في هذه الحياة - لا عمر له ولا بقاء؛ وهو يبقى ما بقيت لذته؛ ولذته تنتهي بانتهاء المطاردة. كل شيء في هذه الدنيا إلى حين، فلماذا يكون الحب وحده هو الباقي الدائم؟
والمرأة تدرك هذه الحقيقة بغريزتها أيضاً؛ ولذلك نراها تحاول أن تستبقي روح المطاردة بعد انتهائها بما نسميه الدلال وهو فن يراد به أن يشعر الرجل أن به حاجة إلى السعي والجهد فيؤدي ذلك إلى شحذ الرغبة ونفي الفتور وتجدد الطلب. فالحق أن الطبيعة حكيمة وإن كانت حكمتها لا تبدو لنا في أكثر الأحيان.
إبراهيم عبد القادر المازني(206/24)
لمناسبة تتويج جلالة الفاروق
رسوم البيعة والتتويج في عهد الدولة الفاطمية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يبلغ صاحب الجلالة الملك فاروق الأول ملك مصر رشده الدستوري في الثامن والعشرين من شهر يولية القادم. وقد أثيرت بهذه المناسبة مسألة الرسوم والإجراءات التي يحسن اتباعها لإعلان هذا الحادث السعيد، وافتتاح العهد الجديد بما يليق به من الروعة الملوكية والدستورية.
ومن المقرر أن الدول الملوكية العريقة تتبع في مثل هذه المناسبات رسومها وتقاليدها الملوكية الخاصة؛ وقد رأينا كيف أحيطت حفلات التتويج البريطاني بكثير من الرسوم الملوكية القديمة التي يرجع بعضها إلى عدة قرون؛ ولكن يلاحظ هنا أن الملوكية الإنكليزية لبثت منذ قيامها حتى يومنا متصلة الحلقات، يحتفظ العرش بمعظم رسومها وتقاليدها عصراً بعد عصر. أما الملوكية المصرية فقد انقطع سيرها وعفت رسومها منذ الفتح العثماني زهاء أربعة قرون حتى أعلن المغفور له الملك فؤاد الأول ملكاً على مصر في سنة 1922.
ومع ذلك فأن للملوكية المصرية الإسلامية رسوماً وتقاليد عريقة انتهت إلينا منها صور وذكريات باهرة. وقد عرفت مصر الإسلامية هذه الرسوم الملوكية الخاصة منذ استحالت من ولاية خلافية إلى وحدة سياسية مستقلة في ظل الدولتين الطولونية والأخشيدية اللتين كانتا بالرغم من ولائهما الاسمي للخلافة العباسية تتمتعان ببعض الرسوم والتقاليد الملوكية الخاصة، مثل صدور البيعة للأمير، وتحليه بألقاب الإمارة وأحياناً بالألقاب الملوكية مثل اتخاذ محمد بن طغج لقب الأخشيد (أي أمير الأمراء)، أو تمتعه ببعض الامتيازات الملوكية السياسية، كما فعل الأخشيد حينما اتصل بقيصر قسطنطينية مباشرة في المكاتبات الدبلوماسية المتعلقة بمصر وغير ذلك؛ وثانياً حينما غدت مصر خلافة أو دولة مستقلة كاملة السيادة في ظل الدول الإسلامية المتعاقبة.
وقد عرفت الملوكية المصرية رسومها وتقاليدها الراسخة في ظل الدولة الفاطمية: وكانت هذه الدولة القوية تجنح إلى البهاء والفخامة في جميع رسومها وتقاليدها. وكانت تولية(206/25)
الخليفة الفاطمي تحاط بطائفة من الرسوم والمواكب الباذخة؛ ولما قدم المعز لدين الله أول الخلفاء الفاطميين إلى مصر سنة 362هـ، بعد أن افتتحها قائده جوهر الصقلي قبل ذلك بأربعة أعوام (سنة 358هـ) لم ترتب إجراءات خاصة لإعلانه خليفة أو ملكاً على مصر، لأن المصريين ارتضوه على يد زعمائهم وأعيانهم خليفة وملكاً عليهم عند الفتح حينما قدموا خضوعهم لنائبه وممثله جوهر، وقطع جوهر الدعوة العباسية، وبدأت الدعوة للخليفة الفاطمي؛ بيد أنه حينما وصل المعز إلى الإسكندرية في شعبان سنة 362هـ، استقبله أعيان مصر وعلى رأسهم قاضيها الأكبر وجددوا له مراسيم الخضوع والبيعة، وقصد المعز بعد ذلك إلى القاهرة ونزل بالقصر، وبدأ عهده في الحكم والولاية في اليوم الخامس عشر من رمضان، إذ جلس بالقصر على عرشه الذهبي الذي أعده له جوهر في الإيوان الجديد، وأذن بدخول الأشراف ثم الأولياء وسائر وجوه الناس، وكان القائد جوهر قائماً بين يديه يقدمهم إليه فوجاً بعد فوج فيأخذون له البيعة والعهد، وعلى هذا النحو نظمت مراسيم التتويج لأول خليفة فاطمي بمصر.
ومنذ عهد العزيز بالله ولد المعز لدين الله تتخذ رسوم التتويج الفاطمية صورها الباذخة، وكانت هذه الرسوم تجري أولاً في القصر الفاطمي في الإيوان الكبير ثم بعد ذلك في قاعة الذهب التي أنشأها العزيز بالله، وجددها المستنصر بالله فيما بعد، وكان بها عرش الخلافة، وبها يجلس الخليفة أيام المواسم العامة، ويجلس للركوب يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وبها كان يقام سماط العيدين، وسماط رمضان للأمراء، وكانت تعرف بقصر الذهب. وكانت مبايعة الخليفة الجديد تجري في حفل عام يرتبه مدبر الدولة أو كبير الوزراء أياً كان لقبه، وصاحب الباب أو حاجب الحجاب وهو اكبر رجال القصر، والسفهسلار أو القائد العام للجيش، وذلك بالاتفاق مع قاضي القضاة، وهو في العرف السياسي أعظم رجال الدولة مقاماً ونفوذاً
وكان ينادي بالخليفة الجديد عقب وفاة سلفه مباشرةً؛ ولا فرق في ذلك أن يكون الخليفة الجديد صبياً أو بالغ الرشد؛ ويقع هذا الإجراء الأول بالقصر أو حيث كانت وفاة الخليفة الذاهب، ويتولاه أعظم رجال القصر نفوذاً أو قاضي القضاة ثم يعقبه إجراء البيعة العامة بالإيوان الكبير وهو أيضاً من منشآت العزيز بالله، وجرت فيه بيعة الحاكم بأمر الله فابنه(206/26)
الظاهر لإعزاز دين الله، فابنه المستنصر بالله، فابنه المستعلي بالله، فابنه الآمر بأحكام الله. ثم نقل الخليفة الآمر بأحكام الله سرير الملك (العرش الخلافي) من الإيوان الكبير إلى قاعة الذهب، فحلت مكان الإيوان من ذلك الحين في إجراء الرسوم الخلافية العظيمة؛ وكان الاحتفال بالبيعة عامّاً يشهده رجال الدولة وأكابر الجند والأعيان وأفراد الشعب، ويبدأ بأخذ البيعة للخليفة الجديد قاضي القضاة وأعضاء الأسرة الفاطمية وأكابر رجال الدولة والقصر، ويسلمون عليه بسلام الخلافة وصيغته (السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته) ثم يقبلون له الأرض؛ وإذا وافق جلوسه يوم عيد، خرج الخليفة في موكبه إلى الصلاة، كما حدث عند تولية الظاهر لإعزاز دين الله حيث وافق جلوسه يوم النحر (عيد الأضحى) فأخذت له البيعة، ثم خرج إلى صلاة العيد، وعلى رأسه المظلة وحوله العساكر، وصلى بالناس، ثم عاد إلى القصر، فكتب بخلافته إلى سائر الأنحاء.
وكان للعرش الفاطمي عدة من الذخائر والآلات الملوكية كانت آية في الفخامة
والبهاء والبذخ، من ذلك سرير الملك، أو العرش الذي يجلس عليه الخليفة يوم توليه الملك، ثم بعد ذلك أيام المواكب والاستقبالات الرسمية. ويقول مؤرخ معاصر في وصفه: (إن وزن ما استعمل من الذهب الابريز الخالص في سرير الملك الكبير مائة ألف مثقال وعشرة آلاف مثقال، ووزن ما حلي به الستر الذي أنشأه سيد الوزراء أبو محمد اليازوري من الذهب أيضاً ثلاثون ألف مثقال، وأنه رصع بألف وخمسمائة وستين قطعة جوهر من سائر ألوانه. وذكر أن في الشمسية الكبيرة ثلاثين ألف مثقال ذهباً، وعشرين ألف درهم مخرقة، وثلاثة آلاف وستمائة قطعة جوهر من سائر ألوانه وأنواعه، وأن في الشمسية التي لم تتم من الذهب سبعة عشر ألف مثقال) والى جانب العرش يوجد تاج الخليفة أو التاج الشريف، وهو تاج يضعه الخليفة على رأسه في الموكب والأيام العظام، وبه جوهرة عظيمة تعرف باليتيمة زنتها سبعة دراهم، وحولها جواهر أخرى دونها؛ وقضيب الملك، وهو عود طوله شبر ونصف ملبس بالذهب مرصع بالدر والجواهر يحمله الخليفة بيده في المواكب العظام؛ والسيف الخاص، يحمل مع الخليفة في المواكب العظام أيضاً؛ وله أمير من أعظم الأمراء يحمله عند ركوب الخليفة؛ ومنها المظلة التي تحمل على رأس الخليفة عند ركوبه، وهي قبة فاخرة ملبسة في أنابيب الذهب، وحاملها من أعظم الأمراء؛ والرمح والدواة، والدرقة،(206/27)
والحافر، وهي قطعة من ياقوت أحمر في شكل الهلال تحمل في وجه فرس الخليفة عند ركوبه في المواكب العظيمة؛ ومنها الأعلام والبنود والسلاح الخاص الذي يحمله الركابية أو الحرس الملكي.
وقد انتهى إلينا وصف بعض المناظر الواقعية التي أحاطت بتولية أحد الخلفاء الفاطميين، وهو الحاكم بأمر الله ولد العزيز بالله، نقلها إلينا مؤرخ معاصر هو عز الملك المسبحي وزير الحاكم وصديقه ونحن نعرف أن الحاكم بأمر الله تولى الحكم حدثاً عقب وفاة والد العزيز في مدينة بلبيس في 28 رمضان سنة 386هـ. يقول المسبحي: (قال لي الحاكم، وقد جرى ذكر والده العزيز يا مختار، استدعاني والدي قبل موته، وعليه الخرق والضماد، فاستدناني إليه وقبلني وضمني إليه وقال: وأغمي عليك يا حبيب قلبي ودمعت عيناه. ثم قال امض يا سيدي والعب، فأنا في عافية قال، فمضيت، والتهيت بما يلتهي به الصبيان من اللعب إلى أن نقل الله سبحانه وتعالى العزيز إليه، قال فبادر إلى برجوان، وأنا في أعلى جميزة كانت في الدار، فقال: انزل، ويحكم الله فينا وفيك، قال فنزلت، فوضع العمامة بالجوهر على رأسي وقبل لي الأرض، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال، وأخرجني حينئذٍ إلى الناس على تلك الهيئة، فقبل جميعهم لي الأرض وسلموا علي بالخلافة، وقع هذا المنظر بمدينة بلبيس في 28 رمضان. وفي اليوم التالي سار الحاكم إلى عاصمة ملكه في موكب رهيب فخم وأمامه جثة أبيه، وبين يديه البنود والرايات؛ وقد ارتدى دراعة مصمت، وعمامة يكللها الجوهر، وتقلد السيف وبيده رمح فدخل القاهرة عند مغيب الشمس؛ وفي الحال أخذ في تجهيز أبيه، ودفن عشاء بالقصر. وفي صباح اليوم التالي، بكر سائر رجال الدولة إلى القصر، وقد نصب للخليفة الصبي في الإيوان الكبير، سرير من الذهب عليه مرتبة مذهبة، وخرج من القصر إلى الإيوان راكباً وعلى رأسه معممة الجوهر والناس وقوف في صحن الإيوان، فقبلوا الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على عرشه، وسلم عليه الجميع بالإمامة ونودي في القاهرة والبلدان أن الأمن وطد والنظام مستتب فلا مؤنة ولا كلفة، ولا خوف على النفس أو المال.
هذه لمحة من الرسوم والتقاليد التي كانت تجري عليها الدولة الفاطمية في تولية خلفائها، وهي رسوم ملوكية عريقة يطبعها لون من البذخ الساحر، وقد كانت الدولة الفاطمية، وهي(206/28)
أولى الدول الإسلامية المستقلة بمصر، دولة البذخ والبهاء. وكانت رسومها وتقاليدها فيما بعد مستقى خصباً للدولة الإسلامية التي تعاقبت من بعدها في عرش مصر.
محمد عبد الله عنان(206/29)
دموع الحب
للأستاذ يوسف البعيني
لتَتَذوق رحيق الفن، وتتسلل إلى سراديبه الرهيبة وتعانق غوانيه المعطرة. . يجب أن تقرأ - بول فاليري - فقصيدة واحدة من هذا الشاعر العبقري المجدد حياة فنية منفردة لها ألوانها وخطوطها وأصباغها. جملة صغيرة من ريشة بول فاليري تعطيك معنى ألذ من تغريد البلبل، وأطرب من أنغام الرباب. وأعذب من الأحلام. . أما الحياة التي تلمسها في سطوره وصوره فتبكي وتفرح، تشكو وتبتسم. تغرد للصباح الضاحك، وتكتئب للمساء الحزين؛ حياة ككل حياة، لكنها تختلف برموزها وأسرارها. وهذه الرموز والأسرار هي عبقرية الشاعر العظيم والفنان الملهم؛ وهي كائنه الحي الأعلى؛ هي روحه التي غاصت في البحر فالتقطت درره، وتغلغلت في الليل فاتشحت بإزاره. وفي القلوب فاجتنت ميولها وعواطفها وشهواتها.
لقد قرأت أكثر مؤلفاته فتبينت فيها الفن المجنح الذي يفتح عينيك على صور موشاة بجميع ألوان الحياة وأدهنتها الرائعة. وما إن تحدق قليلاً بسطر من سطوره حتى تتولاك رحاب الشاعرية؛ هي غيبوبة بعيدة القرار يشملك بها الشاعر الفنان فيريك بهجة الربيع واخضراره، ويسمعك عويل الخريف وشكواه. وإن شاعراً يغمرك بكل ما تشتاقه الروح ويحلم به القلب ليعرف من الحياة غير أسمائها. ويقرأ من الكلمات أكثر من حروفها، ويبصر في مشاهد الأعراس والمآتم غير ما يبصره الناس!
ومن أروع ما طالعته أخيراً لهذا الشاعر الساحر رسالة دعاها - دموع الحب - قرأتها بروح نَهِمة تريد أن تتفهم معاني الحياة وتتكشف أسرار الجمال فإذا هي قطعة فنية خالبة يشوقك ما فيها من تقديس لدموع الحب، الحب الذي يتفجر من صدر المرأة فيبقى خافقاً في روع الماضي والحاضر والمستقبل. وليت شعري هل في العالم حديث أعذب من حديث رقيق تدبجه ريشة الفنان المتعبد للمثل الأعلى في ساعات وحيه وإلهامه؟ إن الكلمة التي تتحدر في قلبك وقد تشربت بدموع الحب وتسربلت بضبابه لهي الكلمة الحية، بل هي الكلمة الخالدة التي تتباغم بها أشباح الأيام والليالي.
ولكنني وقفت مبهوتاً أمام مقطع صغير عنوانه - انتحار ودموع - لا لشيء إلا لأنه مقطع(206/30)
تنبو عنه الحياة، وإن يكن يستظرفه الفن؛ وينبذه الحب الروحاني الملظى بجمر التضحية والمدمَّى بالألم والاستشهاد، وإن تكن ترتضيه الشهوة الوحشية المتنطسة. . وإني لمورد خلاصته فيما يلي لتعلم أن الشاعر مهما مُنح من فن وإبداع. وأوتي من تصور وإدراك، يظل جاهلاً أسرار المرأة، رازحاً من حبها ودموعها على كلال.
أما المرأة التي جاء الشاعر يقدس دموعها في ذلك المقطع الصغير فهي - كليوباطرة - ملكة مصر وربة النيل. ولكن أصادقةٌ تلك الدموع التي ذرفتها المرأة الحسناء على موت حبها؟ هذا ما أريد معرفته. . فلتقرأ الآن خلاصة القصيدة:
قبل أن تودع كليوباطرة حياتها الزاخرة بذكريات الحب أحبت أن تهيئ لعشاق جمالها مأدبة كبرى مثقلة بكرمها الملكي، ففعلت: وبعد انتهاء المأدبة أحضرت لها وصيفتها الأمينة (إيراش) سلة مملوءة بالتين، فكافأتها وشكرتها كثيراً ثم أخرجت من طيات ثوبها الفاخر خطاباً قصيراً لتسلمه الوصيفة إلى (أوكتافيوس) قيصر رومه في ذلك العهد.
وبعد هذا بحين انسحبت كليوباطرة إلى مخدعها الشيق المزين بزهر الجلنار وجلست وحيدة، وفي وحدتها الموحشة شرعت تحلم إلى أن اخضلت أجفانها بالدموع
بكت لأنها تذكرت أيامها الماضية. . . تلك الأيام المخمرة بالحب!
إلا أنها لم تلبث أن مسحت دموعها ونظرت إلى وريقات التين نظرة عميقة مفعمة بالتأمل وطافحة بالحزن والألم. وذلك لأن عيني الحية الماكرتين كانتا تلمعان في وسطها لمعاناً موجساً مخيفاً كنور الحباحب على قبر مهجور.
وفيما هي تتناول الحية السامة بأناملها قالت تباغمها بكلام رقيق كنوم السحر: أيتها المخلوقة الفاتنة، المرذولة من جميع الناس، إني أعبدك. . . ولهذا ترينني لا أخشى لذعتك! نعم لا أخشاها. . . لكونها تريحني من هذا العالم، وتجمعني بمن أحب. . . ثم وخزتها وخزة موجعة فتململت الحية ولسعتها في صدرها!
عند هذا نهضت كليوباطرة وتمددت على سريرها هامسة: هأنذي أوافيك يا أنطونيوس! يا من غذيت أزاهير أحلامي بالحب!
انتحرت - كليوباطرة - فاضطرب النيل وارتعشت أوراق النخيل في مملكة ممفيس. . . لقد ارتجف كل كائن حي خلا قلباً واحداً لم يرتجف، هو قلب - أوكتافيوس - سيد رومة(206/31)
في ذلك الزمن. لكنه على الرغم من كل ذلك فض الخطاب الصغير وتمتم قائلاً:
إنها تريد أن تدفن مع حبيبها أنطونيوس. نعم، تريد أن تعانقه دائماً بعد الممات. فليكن لها ما تبتغي. . . هو الحب فلتبلل ضريحها دموعه المقدسة.
هذا ملخص القصيدة. ففيه تلمس تخليد الشاعر لحب - كليوباطرة - ذلك الحب الذي شغل فريقاً من العبقريين في التاريخ، ولكن على الرغم من الجمال الشعري والإشراق الفني في القصيدة أود أن أعرف أصادقة تلك الدموع أم كاذبة، أشريفة أم أثيمة؟
لم يبق بين الذين عنوا بتاريخ كليوباطرة من لم يمجد دموعها في حبها، ويطري موقفها المؤثر في ساعات انتحارها. أما أنا فأهزأ بتلك الدموع التي حملتها على الانتحار لأنها دموع لا يقرها الحب الروحي السامي الخاضع للتضحية
لقد بكت كليوباطرة وهي تنتحر، ولكنها لم تبك على حب مقدس، بل على نزوة حمراء تصرمت وتبددت. . . والحب الذي يسوده نزوان اللحم والعظام خادع كالتراب المذهب
إن أشرف أنواع الحب هو ما تندت به العاطفة واختمرت به الروح، فدموعه تبقى منهلة في المحاجر كندى الفجر. أما الحب الذي تولده الأعصاب فدموعه مستقطرة من الوحل لا من أجفان السماء
ولا يعتقد القارئ أن كليوباطرة احتكرت وحدها هذا النوع الفريد من الحب الحيواني الغليظ، فهنالك امرأة تبزها هي (جان ديفال) التي أضرمت بضراوتها المستنكرة عبقرية - بودلير - شاعر فرنسا في الجيل الماضي. فقد كونت فيه عنصرين متناصرين أبداً. . . عنصر يستلينه جسدها الغامر بالشهوة، وعنصر يحترق حنقاً منها فيجوب رحاب الروح شاكياً من تلك النار المشبوبة، الناغلة بأحط أنواع الحب. ومن يراجع كتابه المشهور - أزاهير الشر - وهو من أروع الكتب الشعرية في دولة البيان يقرأ تلك المقاطع التي تصور انتحاره النفسي البطيء، وهي عندي من أبلغ ما أخرجه الشعراء في العالم
فانظر كيف يصفها الشاعر:
(عندما أجلس قربها في ليالي الخريف الدافئة مستنشقاً شذا صدرها الحار. . . تحملني الأحلام إلى بلاد سعيدة رافلة في حلل وضاءة من نور الشمس فأرى فيها نساء تسبيك أجسامهن الفاترة المتكاسلة لما يعذبها من شهوة مخدرة، وبرح أليم!(206/32)
وعندما تنتقل متمايلة في غلائلها الهفافة، المنبهة للحواس. . . أخالها ترقص كتلك الأفاعي الخبيثة التي يرقصها الحواة في الشرق على أنغام الشبابة الحزينة!
وعندما تتمدد عند أقدامي مستضرعة إليَّ بأرق كلمات الصبابة لكي أطفئ جذوة لحمها المحرقة. . . أحسبني أرى موجة من أمواج البحر العرارة تتراخى واهية على الشاطئ بعد أن أفرغت الزبد من فمها!
- هي بعينيها المتقدتين كأشرار المعادن
- وهي بلحمها الوضاء المغري كجمرة الأتون الحمراء
- إن فيها بريقاً وناراً. . .
- وإن فيها لهيباً وكبريتاً!
- هي امرأة سحرية. . . تمثل لك بجمودها المخزي أبا الهول الصامت، وبشهوتها اللافحة حية هائلة مخيفة!)
ثم انظر كيف يصفها هنا:
(أحبك وأمقتك معاً أيتها الفاجرة الطاعنة قلبي بخنجر سام، الناغلة في جسمي كما تنغل الحشرات في جيفة منتنة!
الماردة في روحي كالشياطين!
أيتها الضارية المتخذة شرفي سريراً لفحشائها، أيتها الساقطة المكبلة إرادتي بالأصفاد، إني أكرهك. . . فلعينة أنت!
لقد استغثتُ بالسماء أن تقبضني إليها. واستنجدت بالموت تخلصاً من موبقاتك. . . فلا السماء سمعت دعائي، ولا الموت استجاب طلبي، وكيف تفعل السماء والموت وأنا أنزف دمي على مضجعك الفاسد، وأنحر جسدي في طريق استهتارك المتقنعة؟)
إن دموعَ الحب رائعة ومؤثرة عندما تجيشها العاطفة المسحوقة، ويحركها الإحساس الذبيح. أما إذا أجراها الغرام العابث فهي أفظع من المقصلة، وأقسى من العبودية
مسكين إذاً - بول فاليري - لقد أخطأ وهو يصور دمعة من دموع الحب. فلو أنه رسم لنا دموع الذين يموتون من اليأس، ويأسهم من خيانة المرأة لكان أبدع وأجاد
إن الحياة، الحياة المتغلغلة في القلوب والأرواح والسابحة على أمواج الماضي والحاضر(206/33)
والمستقبل، إن هذه الحياة لتهزها نبرة الشاعر العبقري وتفتنها ألوانه وخطوطه وأصباغه التي يطلي بها قصائده. أما الدموع الكاذبة الأثيمة التي يسعى إلى تقديسها بذلك البيان المورق الأنيق لتنفر منها ولا تقرها أبداً!
البرازيل
يوسف البعيني(206/34)
في الأدب المقارن
أثر المرأة في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
للمرأة أثرها الخطير في المجتمع، ولمنزلتها من الارتفاع أو الانحطاط أوثق الصلات بتقدم المجتمع أو تأخره، واطراد رقيه أو ابتداء تدهوره، ولنظرة الرجل إليها ومعاملته إياها أبلغ الدلالة على سمو الأخلاق أو تدليها، فالمرأة هي الأليف الذي يسكن إليه رجل اليوم، والمربي الأول الذي ينشئ رجل الغد؛ فإذا كان ذلك يأوي منها إلى صحبة ممتعة للنفس مغذية الشعور، وكان هذا ينشأ في حجر راعية نيرة حازمة، فقد توفرت للمجتمع أكبر أسباب السعادة والنجاح، أما حيث تحتقر المرأة وتذاد عن نور العلم ازدراء لها واستهانة بوظيفتها، ويساء فهم علاقتها بالرجل حتى لا تحسب تلك العلاقة سوى شهوة تافهة، فذاك مجتمع دوام انحطاطه محتوم، واطراد تدهوره بدهي، إذ لا نجاح لمجتمع تغمط فيه مكانة المرأة، وتغفل وظيفة الأم، وتجهل نعمة التعاون الزوجي.
ولما كان للمرأة هذا الأثر العميق في المجتمع ورقيه وآدابه العامة، كان لها في أدب اللغة أثر بعيد ومكان ظاهر؛ فإلى منزلتها من الرفعة أو الضعة ترجع الصبغة التي ترين على الأدب من وقار وعفاف أو استهتار وفجور، وعلى التغني بجمالها والترنم بحبها يتوفر باب من أهم أبواب الأدب وهو النسيب، وارتفاع شأنها في المجتمع مقرون دائماً بازدهار الأدب، لأن المجتمع الذي يجل المرأة ويتغنى بمحاسنها مجتمع صادق الشعور، عالي النفوس، وبعكس ذلك المجتمع الذي يزدري المرأة ويسخر منها وترين فيه الشهوة لا ينتج علماً ولا أدباً، وارتفاع شأن المرأة في المجتمع مقرون كذلك بمساهمتها في الأدب منشئة وناظمة وناقدة، والأدب لكل هذه الأسباب مرآة صادقة واضحة لمنزلة المرأة في المجتمع، ومنزلة المجتمع من الرقي، وحظه من الأخلاق.
كان للمرأة العربية على العموم في الجاهلية وصدر الإسلام لاسيما نساء السادة والأشراف، منزلة عالية: كانت تشارك الرجل أعمال السلم وتعاونه في إبان الحرب، واشتهرت نساء كثيرات في تاريخ تلك العهود، واحترفن الأعمال كالطب والتدريس، وشاركن في السياسة فتركن أثرهن في سير الحوادث، وزاد الإسلام منزلة المرأة ارتفاعاً وحررها من كثير من(206/35)
أسباب الشقاء التي كانت تقاسيها نساء الطبقات السفلى، ومما له دلالته على مكانة المرأة إذ ذاك أن كبار الرجال كانوا يغمزون بالانتساب إلى أمهاتهم وعصبياتهن، وكانوا يلقبون في مواقف التبجيل والمدح بابن هند وابن عائشة وابن ذات النطاقين.
هذه المكانة المحترمة التي تمتعت بها المرأة في المجتمع في ذلك العصر، تركت آثارها واضحة في أدبه: فقد كان أدب ذلك العصر مزدهراً قوياً صادق العاطفة نبيل الغرض في جملته، وكان للمرأة فيه ذكر مردد، تستهل بذكرها القصائد، وتنظم في الترنم بحبها الأشعار. ويسجل الشاعر حواره مع زوجه في شتى الشئون في القصيدة يبدأها بقوله: (وقائلة. . . فقلت لها. . .)؛ وبلغ النسيب في هذا العصر أعلى درجاته من الرقي وعمق الشعور وعفة المقال. وما أجمل نسيب عنترة بعبلة، ومناجاة جميل لبثينة، وهتاف قطري بن الفجاءة بزوجه أم الحكيم؛ وساهمت المرأة في الأدب، فأثر عن كثير من الأعرابيات غرر من سحر البيان، وعرفت نساء من خيرة المسلمات بالرواية والنقد، وظهر في هذا العصر أكبر شاعرتين في تاريخ الأدب العربي: الخنساء وليلى الأخيلية اللتان ضارعتا الفحول رصانة قصيد وجودة معان؛ وكان بجانبهما العدد العديد من الشاعرات المجيدات اللائى كان بعضهن يساجلن محبيهن شعراً؛ وتفاخر الشعراء بالعفة وحسن المعاشرة والجوار ورعاية مكانة المرأة، قال مسكين الدارمي:
ما ضر جاري إذ أجاوره ... ألا يكون لبيته ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر
هنالك بلغ المجتمع الإسلامي أوج رقيه، ثم داخلته عوامل الفساد بتضخم الملك الفجائي وانتشار الثروة والجواري والغلمان وذيوع الترف والانصراف إلى الشهوات، ومخالطة الشعوب المختلفة واقتباس الضار من تقاليدها. ووهنت أخلاق العرب القويمة التي رفعوا بها لواء سيادتهم، فضعفت روابط الأسرة بذيوع التسري، وانحطت نظرة الرجل إلى المرأة بانتشار صناعات القيان والمغنيات والراقصات، وفشت الريبة وشدد الحجاب على المرأة وعزلت عن المجتمع فحرمت العلم والنور والحياة، وحرم المجتمع تأثيرها المرقق للشعور المتسامي بالآداب، وازداد المجتمع انحطاطاً وشاع فيه هجر القول، وخلا تاريخ ذلك العهد من اسم امرأة واحدة ذات أثر في حياة الأمة.(206/36)
فهذا الطور الثاني من تاريخ المرأة العربية مضاد للطور الأول سارت فيه مكانتها إلى انحطاط مستمر، وبدا أثر ذلك الانحطاط في أدب ذلك العصر: اتسم بالإفحاش والإقذاع، وضعف وحل التقليد فيه محل الابتكار، والزخرف اللفظي محل الشعور العميق وأصبح النسيب فيه إما بذيئاً شهوانياً كأشعار بشار. وإما تقليدياً وهمياً أجوف كاستهلالات البحتري، وشبب بعض المجان بالذكور، وتفنن بعض الكتاب كابن دريد في أحاديثه وصاحب كتاب محاسن الأضداد، والأصبهاني في أغانيه في إيراد القصص الشهوانية والنوادر التي تبدو فيها المرأة متاعاً ينهب، أو مخلوقاً نزقاً خائناً متقلباً؛ ولم تنبغ في الأدب امرأة يعتد بآثارها، وإذا كانت القيان قد ألهمن الشعر كثيراً من الشعراء، وكانت منتدياتهن مجمعاً للأدباء، فما أنتج ذاك كله إلا أدباً شهوانياً فاتراً هزيلاً، وبعد أن كان الشاعر في الطور السابق يتمدح بتبجيل المرأة، ويتقرب إليها بالمكارم (لنحمد يوماً عز شمائله) كما قال كثير أصبح النيل منها والإغراء بها والتهكم بطباعها من هم بعض الشعراء، قال بشار:
عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يسهل بعد ما جمحا
وقال غيره:
وإن حلفت لا يخلف النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
وهكذا حرم الأدب العربي إلهام المرأة السامي الجميل، وما أقل ما بقي من منادح القول لأدب حرم ذلك الإلهام! وجاء شعر فحول العربية في أوج ازدهار الأدب خلواً من تاريخهم الغرامي الصحيح؛ فهل كان لأبي تمام والبحتري والمتنبي غرام صادق عميق، صهرت في تنوره نفوسهم، وتكشفت لهم الحياة من خلاله عن عوالم جديدة من الإحساس والتفكير. إن أثر ذلك معدوم في شعرهم، وليس في شعرهم إلا النسيب التقليدي الاستهلالي المملوء بذكر هند ودعد، والكثبان والأغصان، والأطياف والمدامع؛ لا يثير في نفوسهم هذه العواطف العجيبة إلا الطمع في عطايا الممدوحين، أما النسيب المستقل بكل القصيدة المقصود لذاته فليس هناك. وبلغ من موت العلاقة السامية بين الرجل والمرأة أن المتنبي نفسه كان لا يكاد ينظم في النسيب الاستهلالي أبياتاً تحمله عليها تقاليد الصنعة حتى يبرم وتململ، فيزيح النسيب جانباً صائحاً بصاحبته المتخيلة: صلينا نصلك في هذه الدنيا، فإن مقامنا فيها قليل، فإن لم تصلي فاذهبي ودعيني أستطرد إلى ما هو أهم من أمرك من امتداح هذا الكريم ذي(206/37)
العطايا الجزيلة، أو ربما انقلب على محبوبته وجنسها هاجياً، فقال إن القوافي جميعاً في بواطنه ظلام.
لم يقتصر التهجم على المرأة على ذوي المجون وعبيد الشهوات بل اتخذ سبيله إلى كتابات المفكرين، وتقنع بمظهر العلم في آثار المعري الذي صب في لزومياته جام غضبه على المرأة، ورماها بالغدر وشبهها بالأفعى، وعاد إلى تشديد الحجاب عليها ونهى عن تعليمها حتى تقويم السطور، ولا ريب أن مزاج المعري السوداوي وحياته المقفرة من حنان المرأة، ونقمته على الحياة جميعاً، كل ذلك كان ذا أثر في نظرته القاسية إلى المرأة، واعتباره إياها رمزاً للحياة في جهلها وتقلبها وغدرها، بيد أن ظروفه الشخصية التعسة هذه إنما هيأته ليكون معبراً عن أفكار عصره الذي كان يعج بالفساد والاضطراب والانحطاط الخلقي، فلا ريب أنه كان يجد آذاناً صاغية، وأنه مسؤول عن بعض ما حاق بالمرأة بعد ذلك من قهر وإهمال.
فتاريخ المرأة العربية طوران: الأول طور رقي مصاحب لسمو الأخلاق ورقي المجتمع ونهوض الدولة وازدهار العمران، والثاني طور انحطاط معاصر لقعود الهمم وتدهور المجتمع وإدبار السلطان وركود الأدب؛ أما تاريخ المرأة الإنجليزية فهو طور رقي مستمر مطرد من عهد شكسبير إلى الوقت الحاضر، ازدادت فيه المرأة حظاً من التعليم والاحترام والمساهمة في الأعمال، ولم تعترض ذلك الرقي المطرد إلا فترة رجعة في عهد الملكية العائدة من فرنسا في القرن السابع عشر، وما لبثت تلك الفترة الماجنة أن تلاشت إذ صمد لها الخلق الإنجليزي المتين، وشمر لإماطة آثار كبار الهمم من الأدباء المثقفين، وتابعت المرأة سبيل رقيها المقرون برقي الأخلاق وسيادة الآداب العامة وتقدم المجتمع.
كانت منزلة المرأة في عهد اليزابث على درجة من الرقي محسوسة وكان بنات السراة ينلن من التهذيب مثل حظ البنين، واشتهرت منهن بسعة العلم كثيرات مثل ليدي جين وليدي بيكون والدة الفيلسوف فرنسيس بيكون، وليس أدل على ارتفاع مكانة النساء في ذلك العهد من قبول الشعب اليزابث، وهي بعد في حداثتها ملكة عليه دون تردد، وإيلائه إياها من الولاء ما لم يوله غيرها من الملوك، وإظهارها هي حنكة سياسية بذت بها ملوك أوربا وساستها، ووضعت بها أساس مجد إنجلترا، وازن ذلك بما كان من ارتياع الناس في عهد(206/38)
انحطاط المرأة العربية سالف الذكر، حين وليت شجرة الدر عرش مصر، حتى بعث الخليفة العباسي يوبخ أمراء مصر ويتوعدهم بالويل والثبور، إن لم ينضحوا ذلك العار الذي يبقى في الأجيال، على حين لم يحرك أسلافه ساكناً يوم ولى نفسه العرش عبد خصي، كان يبرى بظفره القلم.
وأثر المرأة الإنجليزية في الأدب تبعاً لرقي منزلتها الاجتماعية جليل، يزداد وضوحاً وشمولاً على تقدم العصور: فهي تبدو في قصص تشوسر تشارك الرجال أعمالهم، وفي درامات شكسبير مثالاً للقدرة الفائقة أحياناً، وموضعاً للحب والتقديس تارة، ورمزاً للطهارة والوفاء طوراً، وفي أشعار شكسبير ومعاصريه ومن جاءوا بعده من كبار شعراء الإنجليزية نسيب حار العاطفة سامي النظرة، وفي القصص والشعر دراسات لشتى الشخصيات النسوية، وفيهما تمجيد للجمال وتبجيل للمرأة، ويتوسل إليهما بسرد خرافات الإغريق وبطلاتهم وإلاهاتهم، وأساطير القرون الوسطى، سرداً شعرياً خيالياً؛ وضربي المرأة في إنشاء الأدب بسهم وافر فكان من النساء شواعر وقصصيات بارين فحول الرجال.
ويبدو أثر المرأة الإنجليزية في المجتمع والأدب الإنجليزيين على أوضحه في القصة: فقد كان للمرأة الفضل الأول في ظهور هذا الضرب من الأدب، فعلى أيدي اديسون وستيل اللذين اهتما بتثقيف المرأة وتنقية المجتمع ظهرت بذور القصة، ولما أخذت القصة شكلها الاجتماعي الحديث في القرن الثامن عشر، كان للمرأة دور رئيسي في حوادثها، ولولا اختلاط المرأة الإنجليزية في المجتمع ومساهمتها في الحياة لما نمت القصة، ولا وقفت على قدميها، وقد جاء نموها وذيوعها مصاحباً لنهضة المرأة وازدياد حظها من التثقف. ولما بلغ ذلك الرقي الاجتماعي غاية بعيدة في القرن التاسع عشر، بانتشار الديمقراطية وذيوع التعليم العام، نبغت جمهرة من كبريات القصصيات بارين كبار قصصيي العصر الحديث، وفي مقدمتهن جين أوستن وشارلوت برونتي ومزجاسكل
والقصة ضرب من الأدب يلائم طبع المرأة أكثر مما يلائمه نظم الشعر الذي هو أشبه بالرجل، لأنه يحتاج إلى قوة وفخامة وشمول نظرة لا تتسق كثيراً للمرأة، التي إنما صفاتها الدماثة والدعة، أما القصة التي تدرس الحياة الاجتماعية وتصف الحركات والسكنات، وتحصي التفاصيل وتتبع الحوادث وتسرد ما قيل وما فعل، فتجد فيها المرأة خير مجال(206/39)
للتعبير عن خلجاتها ومشاهداتها، وملاحظاتها الدقيقة للأشخاص والأشياء؛ زد على ذلك أن المرأة تستطيع في القصة أن تعبر على لسان غيرها عن نزعات الحب وأطواره، تعبيراً لا يستساغ منها إذا هي أطنبت فيه شعراً
فالقصة أدب المرأة: ظهورها رهن برقي منزلة المرأة في المجتمع، فإذا ظهرت فحول المرأة يدور حديثها، وبين النساء تلقى الرواج والإقبال، وفيها تجد المرأة خير مجال لمواهبها الأدبية، ومن ثم أنتجت المرأة الإنجليزية في فن القصة خير إنتاجها الأدبي، أما المرأة العربية فأخرجت أحسن آثارها في الشعر في طورها الأول، فلما تطور المجتمع العربي وجاء أوان ظهور القصة الاجتماعية، كانت عوامل الفساد سالفة الذكر قد اجتاحت مكانة المرأة وضربت بحجاب كثيف بينها وبين المجتمع والأدب، فأقمئت القصة في بدء نموها، واستحال تطورها ورقيها، وجاءت مقامات البديع التي هي الخطوة الأولى في الأدب العربي في سبيل القصة الاجتماعية، خلواً من شخصية نسائية واحدة جديرة بالذكر، ولم يعرض الحريري إلا عجوزاً يسحبها أبو زيد في استجدائه، أو لكاعاً ينابزها وتنافسه في بذائه
ولنجاة المجتمع الإنجليزي من مثل تيار الترف الجارف الذي غمر المجتمع العربي، عقب الفتوح، ظل ذلك المجتمع رفيع الآداب قويم الأخلاق، وظل الأدب عفيف المقال، وظل النسيب شريف اللفظ والغرض، وخلا النسيب الإنجليزي مما تدرن به النسيب العربي في عصره المتأخر، من تحدث بالشهوات ووصف لأجزاء الجسم وهجاء للجنس اللطيف وتغزل بالذكور؛ فإذا حمل على المرأة خصم عنيد كملتون الذي وصمها بالنزق والختل وجعلها دون الرجل منزلة، وجعل شخصية (دليلة) في قصته الشعرية (سمسون الجبار) نموذجاً لها، أو سلك مسلك الاستهتار والتبذل كبيرون الذي كان يقرن الانقياد للشهوات باحتقار المرأة، لم يجد من حوله إلا صدى ضعيفاً لا يلبث أن يتلاشى مع صوته، ويتابع المجتمع سبيل تقاليده التي درج عليها، تقاليد الاعتدال والتعفف واحترام المرأة
فأثر المرأة في الأدبين العربي والإنجليزي جلي خطير، بيد أنه أجلى وأجل خطراً في الأدب الإنجليزي، وهو في الأدب العربي دليل ارتقاء تبعه انحطاط، وفي الإنجليزية برهان ارتقاء مطرد، في المجتمع والأخلاق والأدب، ومكانة المرأة الإنجليزية العالية في(206/40)
مجتمعها مرد ما يمتاز به الأدب الإنجليزي عامة والنسيب خاصة، من عفة ووقار؛ وهبوط مكانة المرأة العربية في عصور التدهور مرجع الفحش الذي ذاع في النسيب والهجاء وغيرهما من أبواب الأدب العربي في عصوره المتأخرة، وبرغم تساوي المرأة العربية والمرأة الإنجليزية في تقصيرهما دون الرجل في حلبات الأدب، وضآلة أثرهما فيه إذا قيس بآثار الرجل في شتى الأغراض، فإن المرأة الإنجليزية تفوق العربية في كثرة إنتاجها الأدبي، كما فاقتها في كثرة ما أنشأ الرجل حولها من أدب، وما استلهمها من وحي، للسبب عينه: وهو أن المرأة الإنجليزية كانت أكثر مساهمة في المجتمع وارفع منزلة فيه
فخري أبو السعود(206/41)
الإسلام والديمقراطية
للأستاذ عبد المجيد نافع
بقية ما نشر في العدد الماضي
رأى عمر مرة يهودياً ممسكاً برسول الله يطالبه بدين له، فعظم ذلك عليه وأخذ بخناق اليهودي وقال: دعني أقتله يا رسول الله. فقال: دعه يا عمر إن لصاحب الحق مقالاً
وخطب أبو بكر فقال: القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق إن شاء الله تعالى
واختلف عمر مع أعرابي فاحتكما إلى أبي بكر فقال: قف بجانب خصمك وقص يا ابن الخطاب قصتك. فقام عمر وعلى وجهه أثر الامتعاض. فقال له أبو بكر: أيسوؤك أن تقف بجانب خصمك؟ قال: لا، ولكن ساءني أن كنيتني وفي الكنية تعظيم
ولما أسلم جبلة بن الأيهم ملك غسان وفد على عمر بن الخطاب بأبهة الملك وحشمه فتلقاه عمر بالترحيب، وبينما هو يطوف يوماً وطئ على إزاره أعرابي فضربه على وجهه، فشكاه الأعرابي إلى أمير المؤمنين، فاستدعى عمر جبلة وقال له: إما أن ترضيه وإما أن يضربك كما ضربته. فكبر ذلك على جبلة وقال: ألا تفرقون بين الملك والسوقة؟ قال: لا، قد جمع بينكما الإسلام. فاستمهله إلى الغد ثم أخذ قومه وفر بهم ليلاً، ولحق بالإمبراطور هرقل بالقسطنطينية
وعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد من قيادة الجيش وقال له: ما عزلتك لريبة فيك، ولكن افتتن الناس بك فخفت أن تفتتن بالناس
على أن نفس خالد كانت متشبعة بمبادئ المساواة، فارتضى أن يهبط من القيادة إلى مصاف الجندية، وأن يكون في الجهاد جندياً بسيطاً
وإن شئت أن ترى آية من آيات المساواة في الإسلام فأنعم النظر في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء حيث يقول: آس بين الناس في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك
وكذلك كان يبغي عمر العدالة ومظاهر العدالة
وجمع عمر الناس بالمدينة حين انتهى إليه فتح القادسية ودمشق فقال: إني كنت امرأً تاجراً(206/42)
وقد شغلتموني بأمركم هذا فماذا ترون أن يحل بهذا المال؟ فأكثر القوم وعلي رضي الله عنه ساكت. فقال: يا علي ما تقول؟ قال: ما يصلحك ويصلح عيالك بالمعروف ليس لك من هذا الأمر غيره. فقال: القول ما قال علي بن أبي طالب
وما كان المسلمون يأنفون من العمل الحر الشريف، فقد كان أبو طالب يبيع العطر وربما باع البر. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه بزازاً. وكان عثمان بزازاً. وكان طلحة بزازاً. وكان عبد الرحمن بن عوف بزازاً. وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل. وكان العوام أبو الزبير خياطاً. وكان الزبير جزاراً، وكان عمرو بن العاص جزاراً
يفاخرنا الغربيون بعظمائهم الذين خرجوا من صفوف العمال وأولئك بناة مجد الإسلام قد خرجوا من جميع البيئات. ونبتوا في كل الطبقات
وما سقت لك تلك الأمثال عبثاً، وإنما أردت أن أدلك على أن المساواة في معناها الصحيح، وفي كافة مظاهرها ومختلف صورها لم تتحقق يوماً كما تحققت في الصدر الأول من الإسلام
مساواة أمام القانون، فقد شرع للناس كافة لا فرق بين عظيم وحقير، وغني وفقير، وقوي وضعيف
مساواة أمام القضاء، ولقد أطلعتك على جانب منها في أروع مظاهره وأسمى معانيه
مساواة في الوظائف العامة، فقد رأيت كيف ينشأ الرجل منهم في البيئة الصغيرة ثم يصل إلى أسمى مناصب الدولة
مساواة في الضرائب، فما كانوا يرهقون أحداً أو يظلمون فتيلا
وعلى الجملة فقد كانت مساواة في الحقوق والواجبات
حقق الإسلام مبدأ المساواة السياسية والمساواة المدنية
على أنه لم يشأ أن يمني أتباعه بالمساواة الاقتصادية أو بعبارة أوضح بالمساواة في الأرزاق، ذلك بأنه دين الفطرة
وكيف السبيل إلى المساواة الاقتصادية، وفي الناس العملاق والقزم والقوي والضعيف وجبار العقل والأبله المعتوه
إن نواميس الطبيعة تأبى المساواة الاقتصادية، ولئن جاز أن تكون في هذا الميدان مساواة(206/43)
فأولى بها أن تكون مساواة في البؤس والشقاء
رأى الإسلام أن المساواة الطبيعية مستحيلة. فقال تعالى في محكم كتابه: وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات
وشاء الإسلام أن يلطف من قسوة قوانين الطبيعة فشرع الزكاة. وعندي لو أن نظام الزكاة طبق على وجهه الصحيح لوجدنا السبيل إلى حل المسألة الاجتماعية التي عجز إلى اليوم عن حلها فطاحل الاجتماع في أوربا. تلك المسألة التي كانت مثار النضال بين الطبقات، ومبعث المذاهب المتطرفة والنظريات الهدامة
وإذن فليس من الإسراف في القول أن يقال أن الإسلام هو الحصن الذي يرد غزوة المذاهب الهدامة التي تهز كيان المجتمع الأوربي أعنف الهزات، وتهدد الحضارة الأوربية بالتلاشي والفناء
لم تعرف أوربا المساواة في القرون الوسطى فقد انقسمت الشعوب إلى طبقات ممتازة وطبقات محرومة من الامتيازات، وكان للأشراف قوانينهم الخاصة ومحاكمهم الخاصة وعقوباتهم الخاصة وضرائبهم الخاصة، وكانت المدارس الحربية يحرم دخولها على طبقات الشعب، وكانت المناصب الكبرى في الدولة وقفاً على طبقات الأشراف
وهل تحققت المساواة بمعناها الصحيح في أوربا اليوم؟ لا تزال هناك مراحل كثيرة لا يزال على أوربا اجتيازها قبل ترسيخ قواعد المساواة
أوليس النظام في فرنسا مزيجاً من النظم الديمقراطية والأوضاع الملكية والأشكال الأرستقراطية؟
وإنجلترا التي يقولون عنها إنها مهد النظام الدستوري ومعقل الديمقراطية أوليس فيها إلى اليوم لوردات ومجلس لأولئك اللوردات؟
أثار كاتب فرنسي الشكوك حول تحقق مبدأ الحرية السياسية في فرنسا فاسترعى النظر إلى أن رأي الأمة الفرنسية لا يؤخذ في أمس الشؤون بحياتها وأشدها تعلقاً بمصيرها كحالة الحرب مثلاً
واستلفت ذلك الكاتب الأنظار أيضاً إلى أن القضاة في فرنسا يؤخذون من بيئات خاصة والمحلفين من طبقات عليها مسحة الأرستقراطية، واختلاف العقوبة حين يرتكب الفعل(206/44)
الواحد غني أو فقير
والحكم مع إيقاف التنفيذ؟ أفلا يكاد يستأثر به الغني دون الفقير مع أن الغني قد يكون اختلس مبالغ طائلة أو بدد أموالاً كثيرة؟
أفلا يسخر المداره المقاويل من كبار المحامين بلاغتهم في انتزاع في انتزاع الأغنياء دون الفقراء من براثن العدالة؟
وهل يتاح للفقير ما يتاح للغني أن يبقى بملابسه فلا يرتدي ملابس السجن، ويأكل من بيته فلا يأكل من طعام السجون حين يكون سجيناً تحت التحقيق مقابل جعل بسيط تتقاضاه منه إدارة السجن؟
وأين المساواة إذا كنتم أيها الغربيون تسلحون الأغنياء بأسلحة العلم العالي وتجردون منه الفقراء الذين لا يكادون يجدون السبيل إلى ثمن الخبز فضلاً عن أجر التعليم؟
ليس عجيباً إذن أن يهاجم الديمقراطية خصومها تارة باسم العلم وطوراً باسم الواقع
وليس بدعاً أن يصيح صائح: المجتمع الأوربي يسعى للمساواة ولا يجد السبيل إليها، شأنه في ذلك شأن الإنسانية التي تجد في طلب السعادة والحقيقة فلا تظفر بهما كما أعيا طلابهما فوست جيته
التسامح الديني في الإسلام يقابله الاضطهاد الديني في أوربا في عصور الظلمات
وإذا ذكرنا اضطهاد الفكر والعقيدة ذكرنا محاكم التفتيش
وفي الحق لم تشهد الإنسانية قضاء أشد نزوعاً إلى الظلم وأكثر جنوحاً إلى القسوة من قضاء محكمة التفتيش
نهضت تلك المحاكم لتصد عن الكنيسة تيار الإلحاد المتدفق، فلئن كانت دينية في نشأتها فان التعصب قد سخر العدالة في سبيل تحقيق لبانته وغايته
وفوق ذلك فقد وقفت تناهض كل حركة فكرية وعلمية، ولعل من أبرز ضحاياها غاليلو الرياضي الفلكي الشهير. أحدث ذلك العالم ثورة في العلوم الفلكية ولبث ردحاً من الزمن يواصل العمل في بث نظرياته في دوران الأرض. فأصدرت البابوية، وفقاً لآراء أحبار محكمة التفتيش قراراً بنقض تلك النظريات وتحريمها، واعتبارها تحدياً للنصوص المقدسة. ونصح البابا لغاليلو بالكف عن نشر دعاويه. فلم يأبه الرجل لقرار التحريم، ولم(206/45)
يحفل بذلك النصح، ومضى في خدمة العلم والحقيقة. وفي عام 1632 نشر كتابه (محادثات عن الأصول العالمية) فأحدث صدوره رجة عظيمة واستقبلته دوائر العلم والفكر في أوربا استقبالاً حماسياً منقطع النظير. وهنا ثارت ثائرة الكنسية وحرمت بيع الكتاب في الحال. ودعي غاليلو للمثول أمام محكمة التفتيش في روما، فاعتذر بشيخوخته وضعفه وكان قد نيف على السبعين. فاستشاط البابا غضباً وعد تخلفه عصياناً. فأجاب الدعوة واعتقل في قصر محكمة التفتيش في إبريل من عام 1633. حقق معه وعذب ولم ترحم محكمة التفتيش شيخوخته وضعفه. وكانوا كلما أمعنوا في تعذيبه، ولجوا في التنكيل به، أمعن هو في التشبث بالحق، والإصرار على الحق. فإذا زادوه نكالاً صاح في وجوههم: ومع ذلك فإن الأرض تدور!
وإنه ليهولك أن تعلم أن عدد المحكومين عليهم من محاكم التفتيش المختلفة بلغ في الفترة ما بين 1481 - 1498، 125294 منهم 8800 أعدموا بإحراقهم و6500 أحرقت رموزهم و90 ألفاً طبقت عليهم عقوبات مختلفة بالسجن والغرامة والتوبة
وفي الفترة ما بين 1499 - 1506 بلغ عدد المحكوم عليهم 34992 منهم 1664 أحرقوا و832 أحرقت رموزهم والباقون وقعت عليهم أحكام مختلفة
ومن 1506 إلى 1518 بلغ عدد الضحايا 50 , 167 من هؤلاء 2536 ماتوا حرقاً و1638 أحرقت رموزهم والباقون طبقت عليهم عقوبات أخرى
والآن ندع التقدير للمؤرخ الشهير (لورنتي) وهو أكبر حجة وأعظم ثقة في الموضوع
31 , 912 أحرقوا
17 , 659 أحرقت رموزهم
271 , 450 طبقت عليهم عقوبات شديدة
ــــــ
341 , 021 المجموع
والآن فاسمع هذا الوصف الذي تقشعر له الأبدان وصاحب الوصف هو فيكتور هوجو ألقاه في الاحتفال بتأبيت فولتير:
في 13 أكتوبر من عام 1761 وجد شاب مشنوقاً. ثارت الخواطر واضطربت الأفكار.(206/46)
وهاج رجال الدين بينا أخذ رجال القضاء في التحقيق. ومشى الناس بعضهم إلى بعض يتساءلون: انتحار أم قتل؟ وكان الاتهام منصباً على رأس الوالد. وقال الذين أثاروا الشكوك حوله إنه من الهجنوت وقد حال بين ابنه وبين اعتناق المذهب الكاثوليكي. وكانت البداهة تمج هذا الاتهام وتحمي الوالد من ارتكاب هذا الجرم الفظيع. وإلا فأي عقل يسوغ أن يسفك الأب دم الابن ويشنق الشيخ الشاب
وما لبث الناس أن شهدوا في يوم 9 مارس سنة 1762 مشهداً هائلاً رهيباً. رأوا رجلاً جلل الشيب فوديه يساق إلى أحد الميادين العامة، ذلكم هو جان كالا، وما راعهم إلا أن يروا الشيخ المتهدم الفاني عاري الجسم مطروحاً على عجلة موثق الأكتاف متدلي الرأس. ووقف إلى جانب المشنقة ثلاثة رجال فأما الأول فطبيب ليعنى به. وأما الثاني فقس يحمل الصليب. وأما الثالث فالجلاد وبيده قضيب من حديد.
وعرت الضحية نوبة ذهول واضطراب، وتمشى الرعب في أضالعه، فما كان يرنو إلى القس بل كان يرمق الجلاد بنظراته المضطربة الحائرة، وما يلبث الجلاد حتى يهوي بالقضيب الحديد فيهشم للمسكين ذراعاً. أنين يمزق نياط القلوب يعقبه فقد الرشد. فيتقدم الطبيب فيعيده إلى الصواب بشم بعض الأملاح. فينبري الجلاد لضربة جديدة. صرخات دامية ثم غيبة عن الصواب. يعيدونه للحياة والجلاد يعاود الضرب. وإذا كان كل عضو لابد أن يكسر في موضعين فلا مفر له من تلقي ضربتين. وإذن فقد تلقى المسكين ثماني ضربات. وفي عقب الضربة الثامنة يقدم القس له الصليب ليقبله. على أن (كالا) يشيح عنه بوجهه. لو كانت الرحمة تجد سبيلاً إلى تلك القلوب المتحجرة لقلنا إن كان في نفوسهم بقية منها فقد أجهز الجلاد على (كالا) بضربة قاضية من رأس القضيب الغليظة، حطمت صدره تحطيما. وبذلك وضع حد لعذاب كالا وآلامه. إذ فاضت روحه في الحال.
دام التعذيب ساعتين كاملتين، وما إن مات كالا حتى تبين في جلاء ووضوح أن الشاب مات منتحراً. على أن جريمة قد ارتكبت ومن هم مرتكبوها؟ هم جماعة القضاة الذين قضوا على كالا بغير حق.
وفي عام 1765 بعد ليلة عاصفة وجدوا على إفريز أحد الجسور صليباً خشبياً عتيقاً ملقى على الأرض. ومضت ثلاثة قرون والصليب معلق في رأس السور. فمن الذي طرح(206/47)
الصليب أرضاً؟ من ذا الذي اجترأ على ارتكاب ذلك الإثم؟ لا يعلم أحد. أيكون أحد المارة هو الذي عبث به؟ أم تكون الريح هي التي عصفت به؟ ويرى الناس مطران (أميان) يرغي ويزبد، ويبرق ويرعد، ويتوعد ويتهدد بالنار كل من يعلم الحق ثم يكتمه. وهنا تتلاقى هوجاء التعصب مع هوجاء الجهالة. ولا تلبث العدالة أن تكتشف أو تتوهم أن تكتشف أن ضابطين مرا بالجسر وأنهما كانا ثملين وينشدان نشيداً حربياً؛ فأما أحدهما فيلوذ بأذيال الفرار، وأما ثانيهما (لابار) فيؤخذ بتلابيبه، فيسأل، فيعتصم بالإنكار ويقسم جهد أيمانه إنه لم يمر بالجسر. فيبدو لهم أن يسألوه عن شركائه. ولكن شركاءه في ماذا؟ أفي أنه اجتاز الجسر؟ أم في أنه أنشد وصاحبه نشيداً عسكرياً؟ ثم يعذبونه لينتزعوا منه اعترافاً فيحطمون إحدى ركبتيه. والمكلف بأخذ الاعتراف منه يهوله صوت قرقعة العظام حتى يغيب عن صوابه من عظم الهول. ثم يسوقون لابار إلى أحد الميادين العامة، وقد أذكوا في بعض جوانبها نيراناً مضطرمة. يتلون عليه الحكم. فيكسرون إحدى يديه. ثم يستلون لسانه بكماشة من حديد. ثم يرحمونه بأن يفصلوا رأسه عن جسده. ثم يلقون جثته طعاماً للنيران، وكذلك مات لابار في ربيع العمر إذ لم يكن جاوز التاسعة عشر وراح ضحية بريئة للتعصب الأعمى.
لم يقض الإسلام بإلقاء أحد طعمة للنار لمجرد الزيغ في عقيدته ولم يضطهد حرية الفكر والاعتقاد، ولم ينكل بغير معتنقيه ولم يطارد العلماء والفلاسفة بل اتسع صدره للعلم والفلسفة.
وهنا لا نرى مندوحة عن أن نبدد وهماً، فنسارع إلى القول بأن حروب الخوارج لم تكن لها صبغة دينية على الإطلاق، بل كانت حروباً سياسية بحتة.
نعم، لم يكن مثار تلك الحروب الخلاف في العقائد، وإنما أشعلتها الآراء السياسية في طريقة الحكم، وما اقتتل الخوارج مع الخلفاء لينصروا عقيدة. ولكن سعياً وراء قلب نظام الحكم وتغيير شكله.
ومن اضطرمت نار الحرب بين الأمويين والهاشميين لشيء غير الخلافة، وبذلك كانت حروباً سياسية لا دينية.
وكان المسلمون إذا هموا بفتح أمة خيروا أهلها بين الإسلام أو الجزية أو الحرب. وذلك هو(206/48)
أقصى ما يبلغ إليه التسامح. فإذا أدخل الإسلام بلداً تحت ظلاله خلى بين المحكومين وبين حريتهم الدينية، وما يكلفهم إلا بجزية يؤدونها صيانة لأنفسهم ومحافظة على أمنهم في ديارهم وذوداً عن عقائدهم ومعابدهم
لهم ما لنا وعليهم ما علينا
من آذى ذمياً فليس منا
إن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم
ذلك هو شعار الإسلام في معاملة الذميين.
روى البلاذري في فتوح البلدان أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخارج، وقالوا قد شغلنا عن نصرتكم والدفاع عنكم فأنتم على أمركم. فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ونهض اليهود وقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها.
من ذلك ترون أن الجزية كانت تؤخذ مقابل الدفاع
يقولون إنا في عصر عملي يكره الأحلام والحالمين
بل نحن في عصر مادي فترت فيه حرارة الناس في التعلق بالمثل العليا وانعدم إيمانهم بالمبادئ السامية أو كاد وأصبح من يتشبث فيهم بتلك المبادئ يسمى خيالياً يعيش في السحاب.
وترى خصوم الديمقراطية يهاجمونها بعنف وشدة، فهذا يهاجمها باسم العلم وذاك يهاجمهم باسم الواقع وغيرهما يتكلم عن أزمة الديمقراطية، ورابع يخوض في حديث إفلاسها.
يقولون أن النواميس الطبيعية لا تعرف المساواة، وإن الأرستقراطية هي دعامة الحضارة والرقي، وإن من الناس من يجب أن يعمل بيده ومنهم من يجب أن يتوافر على الأعمال العقلية، وإن حكماء اليونان كان لهم بعض العذر حين ذهبوا إلى تبرير الرق بضرورة أن يتفرغ الحكماء لإدارة شؤون الدولة.
ولا شك أن الديمقراطية تعاني اليوم أزمة شديدة بدليل أن الديكتاتورية قد غلبتها على أمرها(206/49)
في بعض الأمم.
على أن البقاء للأصلح من المبادئ والفوز معقود بلواء الديمقراطية في النهاية إن شاء الله.
والذين بنوا الحضارة هم من الطبقات الشعبية لا من طبقات الأشراف.
والمشاهد الملموس في أوربا أن طبقات الأشراف تفنى سراعاً.
والمذاهب المتطرفة التي تغزو موجتها أوربا اليوم لا يلبث أن يتجلى زيغها حين يتبين للناس أنها تبني لهم قصوراً من الورق أو قصوراً في إسبانيا.
والإسلام الذي وقف طوال العصور في وجه العواصف الهوج الجبل الأشم هو الإسلام الذي يقف اليوم معقلاً حصيناً يرد عن العالم الإسلامي عادية خصوم الديمقراطية وعدوان دعاة المذاهب الهدامة.
فإذا دعونا اليوم للتشبث بمبادئه والتعلق بتعاليمه فإنما ندعو إلى الاحتفاظ بمعقل الديمقراطية، إنما ندعو إلى الذود عن دين الحرية والإخاء والمساواة.
عبد المجيد نافع(206/50)
الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 9 -
الفلسفة الهندية
تمتاز بلاد الهند بخصوبة أوديتها، وتعدد نباتاتها وكثافة غاباتها وتعقد مسالكها، وكثرة متعرجاتها ومصاعدها ومهابطها، وتباين أجوائها ومناخاتها، ووفرة التناقض الطبيعي في أرضها وسمائها، فبينما ترى فيها جبالاً شاهقة تتجاوز السحاب سمواً، وهضبات متفرقة تفصل بعضها عن بعض هوى سحيقة وحفر طبيعية عميقة، وتلالاً تتخللها من جهة كثبان ضخمة وتعترضها من الجهة المقابلة صخور عظيمة النتوء صعبة الاجتياز، إذ بك ترى إلى جانب هذا أودية مبسوطة ومروجاً باسمة تتباهى بما تزدان به من ألوان وأفانين الثمار والبقول. وكذلك جوها لا تكاد تحس بدفئه وحرارته حتى يفاجئك بردة ورطوبته، بل أن الإنسان - كما أنبأني أحد الذين أقاموا في هذه البلاد - قد يشكو من شدة الحرارة التي يحس بها في جنبه الأسفل الذي يلي الفراش بينما يألم أشد الألم من الرطوبة التي تصب على جنبه الأعلى. ولا ريب أن هذه طبيعة غريبة قد يدهش لها المصري الذي اعتاد أن يشاهد زيادة النيل ونقصانه، واشتداد البرودة وتوسطها، وارتفاع الحرارة وهبوطها، وحرارة الشمس ووداعتها، وحلول الفصول وارتحالها، كل ذلك في أوقات منظمة محددة لا تختلف إلا لشذوذ نادر يعلله العلماء حيناً ويعجزون عن تعليله حيناً آخر.
كل هذا التعدد في المناظر والمظاهر الطبيعية أثر بارز في عقلية الهنود على رغم ما يوجهه بعض العلماء إلى نظرية تأثير المناظر في العقليات من طعون واعتراضات يحطون بها من شأنها ويحاولون إثبات الأثر كله للعنصر ومواهبه الفطرية.
ومهما يكن من الأمر فقد استطاع التاريخ أن يتغلغل بالمدنية الهندية في أغوار الماضي مدى ثلاثين قرناً قبل المسيح إذ يحدثنا أن تلك الأودية المخصبة كانت في ذلك العهد مأهولة بقوم من الجنس السامي لهم مدنيتهم وديانتهم وتفكيرهم، وأن هؤلاء القوم قد ساهموا في(206/51)
بناء صرح المدنية العالمية بنصيب وافر، وكان لهم في تاريخ الفكر البشري مجهود جبار ظل مجهولاً أو غامضاً على الأقل حتى قام العلماء الأثريون والمستشرقون بمكتشفاتهم العلمية وأماطوا اللثام عن هذه الحقائق الناصعة وساعدوا البحث الحديث على رد الأشياء إلى أصولها، وأبانوا أن الديانات الهندية المتأخرة والفلسفات العويصة التي ظهرت في تلك الأصقاع إنما تتصل بالعناصر السامية القديمة أضعاف اتصالها بالمنتجات الآرية التي غمرت الهند بعد الفتح الأجنبي.
يحدثنا بعض المؤرخين أن الهند كانت قبل هذا الفتح الآري قبائل متفرقة أو شعوباً صغيرة، لكل شعب حاكمه وقوانينه وعقائده وعاداته، وأن الوحدة السياسية والعمرانية إنما وجدت فيها على أيدي أولئك الفاتحين (الآريين) الذين يزعم الأستاذ (ماسون) أنهم كانوا في أزمنة لا تعيها ذاكرة التاريخ يقطنون وادي (الدانوب) المخصب في تلك العهود الغابرة، ثم عبروا البوسفور إلى آسيا لضرورة العيش الذي ألجأهم إليه قحل وقع في وطنهم قبل هذه الهجرة التي لم تكن مألوفة لديهم على عكس الشعوب الآسيوية الرحالة. ومازالوا يتابعون سيرهم انتجاعاً للغيث فعبروا الفرات وواصلوا الزحف حتى (البنجاب) وأخذوا يغيرون على تلك البلاد الخصبة الوادعة حتى بسطوا سلطانهم وأسسوا بها وحدات قوية يصح أن تسمى دولاً، وكان ذلك حوالي القرن الخامس عشر قبل المسيح. ومنذ ذلك العهد بدأت الهند في مرحلة جديدة في الدين والفلسفة والعلم والسياسة، وهذه المرحلة هي التي تشغل الآن أذهان الباحثين المشتغلين بدراسة الفلسفة الهندية.
أما الأغصان الأخرى التي بقيت في الدانوب من تلك الدوحة الآرية فقد انتشرت في أوربا يحمل كل غصن منها اسماً خاصاً به مثل (السيلت) و (الجرمان) و (السلاف) و (الاتين) و (الهيلين) وقد خالف أصحاب هذه الفكرة الرأي القديم القائل بأن أصل العنصر الآري كان يقيم في بلاد الهند ثم ارتحلت منه بطون إلى أوربا فكانت منشأ هذه الأجناس السابقة الذكر. ولا ريب أن لكل منهما أدلة خاصة.
غير أن النار لم تكن هي الإله الأوحد عند هؤلاء القوم تؤيد مذهبه، لأن مجرد اتفاق هذه الأجناس الأوربية مع آريي الهند في اللغة (السنسكريتية) وفي بعض العقائد والنظريات لا يؤيد الرأي الأول ولا ينصر الثاني؛ غير أن أصحاب الرأي الحديث يزعمون أن مكتشفات(206/52)
حديثة يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل المسيح تؤيدهم فيما ذهبوا إليه من أن الهجرة كانت من أوربا إلى آسيا. وسواء أصح الرأي الأول أم الثاني فإن الاستكشافات الحديثة التي قام بها العلماء منذ أن بدأها الأستاذ (يانيرجي) الهندي، وثنى على أثره فيها (سيرجوهن) تسمح لنا بأن نؤكد أن مدنية الهند الغابرة تمتد جذورها في الماضي أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، ولكن هذه المدنية التي كانت قد ازدهرت في وادي (البنجاب) قبل احتلال (الآريين) لتلك الأصقاع بأكثر من خمسة عشر قرناً قد اندثرت قبل هذا الاحتلال بزمن لا يعرف التاريخ تحديده بالضبط.
ويؤكد فريق من الباحثين أن تلك المدنية القديمة كانت راقية رقياً يسمح لها بأن تصعد إلى ما هو أدنى من صفوف المدنية الفرعونية بقليل، ويجعل (الآريين) الفاتحين إلى جانب الوطنيين برابرة متوحشين، وأنت ترى أن هذا الرأي يخالف ما نقلناه لك آنفاً من أن السكان الأصليين كانوا شعوباً منتثرة أقل مدنية من الفاتحين، وأن (الآريين) هم أول من حققوا لبلاد الهند الوحدة السياسية والاجتماعية.
ومهما يكن من شيء فقد احتل أولئك (الآريون) تلك الأصقاع المتمدينة وطغوا على مدنيتها وديانتها طغياناً محاهما من صحائف أذهان الخاصة وإن كان لم يستطع أن يمحوهما من صحائف الوجود، بل ولا من أذهان العامة والجماهير.
هذا، وللعلماء الباحثين موطد الأمل في أن يصلوا على ممر الزمن إلى حل رموز الآثار الهندية القديمة التي أنشأها الوطنيون قبل الاحتلال الأجنبي، فإذا وصلوا إلى هذه البغية استطاعوا أن يتبينوا المدنية الهندية القديمة والديانة المحلية وما امتزج بهما وطغى عليهما من مدنية الفاتحين وديانتهم. أما الآن فأكثر ما يقال في هذا الصدد لا يعدو دائرة الفرض والتخمين.
على أن أهم ما يلفت النظر في الاكتشافات الحديثة للآثار الهندية القديمة هو أنه قد عثر على بعض تماثيل يرجع تاريخها إلى عهد المدنية الأولى، ولكنها تشبه كل الشبه تمثال الإله (سيفا) الذي هو من آلهة عهد الاحتلال (الآري) وكذلك عثر المكتشفون على رموز يرجع تاريخها إلى القرن الثلاثين قبل المسيح، وهي لا تزال حية في الديانة الحديثة حياة قوية.(206/53)
ويستنتج الباحثون من هذا أن الإله (سيفا) ليس إلا إلهاً محلياً قديماً لونه الفاتحون بلون جديد ثم أقروه في الديانة المحدثة، كما أن تلك الرموز الحية في الديانة (الهندوأرية) هي بعينها الرموز الوطنية القديمة. وينجم عن هذا أن تكون الديانة الهندية المستحدثة بعد (البراهمانية الأرثوذوكسية) مزيجاً من الديانة المحلية المندثرة والديانة (الهندوآرية) ولكنه كان مزيجاً مجهولاً لدى الهنود أنفسهم ولدى جميع العلماء والمؤرخين حتى ظهرت استكشافات (بانيرجي) الأخيرة.
وتدل دراسة الديانة الهندية بوجه عام على أن الهند هي بعد مصر البقعة الثانية التي يصح أن يطلق عليها اسم أرض الآلهة والتي لا يفوقها في كثرة آلهتها وتعقد مشاكلها الدينية وصعوبة تحديد اختصاص الآلهة وسعة الخيال وخصوبته في تصوير المعبودات إلا بلاد الفراعنة.
الديانة المحلية
لم يصل الاكتشاف الحديث بعد إلى الدرجة التي يصح معها للباحث الدقيق - كما أسلفنا - أن يصدر حكماً جازماً على الدنيا المحلية التي سبقت عهد الاحتلال (الآري) إذ قد رأيت تناقض العلماء وتضارب آرائهم في هذا الموضوع حيث يقرر فريق منهم أن الوطنيين الأوليين كانوا أرقى عقلية وأعظم مدنية من الفاتحين. ويذهب فريق آخر إلى العكس فيقرر أنهم كانوا بطوناً منتثرة وقبائل متفرقة لا تربطهم مدنية اجتماعية ولا تجمعهم وحدة سياسية، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن أولئك القوم كان لهم ديانة مهما تبلغ من السذاجة فإن لها قيمة تاريخية لا يصح للمشتغلين بتاريخ العقلية الإنسانية أن يهملوها. وتتلخص هذه الديانة في أن النار كانت هي المعبودة المقدسة التي تقدم إليها الضحايا والقرابين من لحوم مشوية وخمور معتقة وألبان وخبز وأعشاب صالحة للأكل أو للتخمير إلى غير ذلك، وأن كهنة النار الذين كانوا يتولون إيقادها كان لهم بين أفراد الشعب مكانة رفيعة وإجلال مفروض. وقد كان هؤلاء الكهنة سدنة للنار وسحرة وأساتذة فنيين يعلمون الشعب طقوس الدين وأركان العبادة.
وإنما كان هناك آلهة كثيرون، بعضهم يتمثل في الشمس وما تسكبه على الكون من نعمة الإضاءة والدفء والإنعاش، والبعض الآخر يتمثل في تنين هائل أو وحش مخيف. وكان(206/54)
عدد أولئك الآلهة يصل أحياناً إلى ثلاثين أو ثلاثة وثلاثين إلهاً متساوين حيناً، ولهم رئيس أعلى حيناً آخر، ولكن هذا الرئيس لم يكن هو خالق الأكوان، لا لأن هؤلاء القوم كانوا دهريين أو طبيعيين، بل لأن سذاجتهم كانت قد بلغت حداً حال بينهم وبين الرجوع بعقولهم إلى بدء الخلق، فاقتصروا على التفكير فيما هو بين أيديهم فحسب ولم يتعدوه إلا إلى ماض قريب فرضوا فيه وجود عالم أحط منهم مرتبة وأقل مدنية. وبناء على هذا كان عمل الإله أو الآلهة عندهم مقصوراً على التصرف في الموجود ولا يتناول الإيجاد بأي حال.
وكانوا يعتقدون أن هناك عالماً آخر وراء هذا العالم يدعى (عالم الأموات) وأن ملك هذا العالم هو أول ملك من أجدادهم وهو: (ياما) بن (فيفاسفان) كما كانوا يعتقدون أن الخيرين الذين يموتون وهم حائزون رضى الآلهة لا تكاد أرواحهم تغادر أجسامهم حتى يمنحهم أولئك الآلهة معرفة الغيب والقدرة على التصرف في الكون وعلى تدبير الأقدار خيرها وشرها.
(يتبع)
محمد غلاب(206/55)
الرافعي في الحجاز
مصطفى الرافعي
للأستاذ محمد حسين زيدان
ليست هذه الكلمة رثاء أرثي به الفقيد ولكنها حادثة وقعت لنا بسببه فأحب إخواني نشرها ليعلم الناس مكان الفقيد من نفس شباب الإسلام والعرب في كل قطر ومصر.
كنا أربعة نسمر حول مائدة فانتحى اثنان منا جانباً يتذاكران اللغة الإنكليزية وجلس آخر يقرأ - يقرأ ضحى الإسلام - أما أنا فكنت أكتب موضوعاً لجريدة (المدينة) وجاء صديق يحمل (الرسالة) ولم نكن قرأنا هذا العدد الذي يحمل، إذ تأخر وصوله فقلت: الرسالة؟ الرسالة! هاتها. فتصفحت الافتتاحية وخطوتها إلى كلمة الأستاذ أحمد أمين. فالأستاذ المازني، ثم إني قرأت للرافعي (أمراء للبيع) فلما وصلت إلى منتصف المقال ألقيت الرسالة وقلت لأصدقائي (هلموا إليَّ - هيا بنا نؤمن ساعة - أقرأ لكم الرافعي) فقالوا: اقرأ. اقرأ. فأخذت أقرأ وهم سامعون ساهمون. يسمعون البيان بيان الرافعي. ويعجبون بالبطولة. بطولة الشيخ ابن عبد السلام. ويهزءون بالقوة الغاشمة والإمارة الكاذبة والجهل الفاضح. وما انتهينا من المقال حتى ملأ الإعجاب أفئدتنا. وهذا حالنا كلما قرأنا لأبي السامي ومن تصاريف القدر وأعاجيبه أنه لم تمض لحظة حتى وافانا البريد فطالع أحدنا (أم القرى) وفيها الخبر الفاجع المحزن خبر وفاة الفقيد. فنزل علينا كالصاعقة ولقد كنا لا نصدق. قبل لحظة كان الرجل حياً يسمعنا بيانه وإيمانه ويطالعنا بعجيب من البطولة والصراحة والصرامة في الحق وتأييد الحق. والآن هو ميت نسمعه أنين الحزين وبكاء المتألم. وطفق أحدنا يبكي ويقول: لكم العزاء في الرافعي فقد حرمنا نحن الناشئة أديباً كبيراً نتعلم منه البيان والأدب العالي والنبل والفضيلة. حرمنا هذا في زمن اتجه أدباؤنا إلى إرضاء الساسة والعامة، والعامة هم عصا الساسة يسوقون بها هؤلاء الأدباء، وإن كان هؤلاء الساسة لا يتحركون إلا بما يرضي العامة لأنهم يستمدون سلطتهم على مقدرات الأمة وشؤونها من هذه العصا العوجاء (الرأي العام) وما هو الرأي العام (يرحم الله قاسم أمين) - قلت: حسبك فقد آلمتنا وأبكيتنا قال: أكتب حادثنا وحديثنا في جريدة (المدينة) ليعرف هذا وإني أعرفك لا تستطيع أن تكتب راثياً فالرثاء شعر ولست بشاعر، وإنما أنا أبكي الفقيد(206/56)
بدموعي وفؤادي المحترق. قلت: أعرفك بكاء وإني لعاجز. ولكن اسمع وما أردت أن أكون دونه - اسمع لقد انهدمت الدعامة الرابعة من دعائم (الرسالة) بموت الرافعي. وإنا لنرجو أن تعود، فهي اليوم تقوم على ثلاثة دعائم، قال: لم أفهم فأفصح، قلت: يا هذا ألا ترى أن دعائم الرسالة أربع:
العاطفة والشعر، فالعقل والعلم، فالتجربة والتهذيب، فالإيمان والفضيلة: رجل العاطفة والشعر الزيات يكتب بعاطفته من قلبه وحنينه وأنينه ليلهب عواطف الأمة ويوقظ شعورها ويوقد حماسها فتتجه نحو المثل الأعلى. يفعل هذا لأن فيه طبيعة الشاعر الملهم المتألم المتأمل.
ورجل العقل والعلم أحمد أمين يكتب بعقله وعلمه ليثير عقل الأمة وليزيد في علمها من علمها وتراثها فتسير في طريق العقل النير والعلم الممحص، يفعل هذا لأن فيه طبيعة القاضي النزيه والعالم المخلص. . . ورجل التربية والتجربة المازني يكتب من تجاريبه ودراسته للنفس والأمة ليهذب من أخلاق الشباب، فيسير على ضوء التجربة من حوادث الماضي. يفعل هذا لأن فيه طبيعة الأستاذ المربي.
ورجل الإيمان والفضيلة الرافعي يكتب بإيمانه وعقيدته ليدافع عن إيمان الأمة ويثبت إيمان الأمة وعقيدتها، فتسير بنور الإيمان ثابتة العقيدة طاهرة المبادئ جريئة في الحق صريحة في نبذ الباطل، يفعل هذا لأن فيه طبيعة المسجد وشيوخ المسجد، ولأن فيه أثراً من وراثة الأسرة المجيدة والبيت الرفيع من الفاروق رضي الله عنه إلى عبد الغني وعبد القادر وأمين وعبد الرحمن ومصطفى صادق. أسمعت ووعيت؟ قال: سمعت وزد. قلت: وإن هذا الارتباط بين كتاب الرسالة بدون تعمل وتعمد من أعاجيب نهضة الأمة ويقظة الأمة ورغبة الأمة وتوفيق الرسالة، فهي قد لفظت وتركت غير هؤلاء الذين شذوا عن هذه المبادئ وضمت من سار على نهجها وخطتها. تركت غير هؤلاء عن غير قصد ولا عمد، وإن زعموا أنهم تركوها حاسبين أنها محتاجة إليهم مع أنها في غنى عنهم، فليسوا هم أصحاب الرسالة وإن أيدوها بموقفهم السلبي ومناقضتهم، فإن جلاء الحق لا يظهر إلا بمزاحمة الباطل، أسمعت ووعيت؟ قال: هذا صحيح فزدني. قلت: ماذا أزيدك؟ وأخذتني عبرة وطفقت أنشد بيت الرافعي الذي يرثي به أحمد تيمور باشا، وما أحقه أن يرثى به.(206/57)
تأتي المصائب كالتقليد في نسق ... أما مصيبتنا هذي فتخترع
وبعد فهذه حادثة واقعة وحديث جرى ما زدت في ذلك شيئاً. يرحم الله أبا السامي فقد ناضل عن الأدب وجدد في البيان. إنه خلاق المعاني وملك الألفاظ يتلاعب بها كيف شاء. ناضل عن الأدب حتى كاد يستقر، ودافع عن الدين والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً يجزيه الله عليه أحسن الجزاء وإنه ولي الرحمة والغفران.
عن جريدة (المدينة المنورة)
محمد حسين زيدان(206/58)
أدب الرافعي أدب ممتاز
للسيد كمال الحريري
للمرحوم فقيد الأدب مصطفى صادق الرافعي في وصف الجمال وصوره والتعبير عن آثاره في النفس والروح طريقة ممتازة هو فيها طراز وحده بين أدباء العربية في جميع عصورها. فأنت من وصفه الجمال الإنساني أمام لوحات بيانية سحرية، تكاد الحياة والعاطفة والروح تنطق مجتمعة من خلالها. وهو في الوصف الروحي العاطفي للجمال الإنساني المادي، صاحب مدرسة سدت في فراغ الأدب ثغرة ما أغنت استعاراته وتشابيهه عن سدها شيئاً. ولا غرو فإن روح التعبير عن الجمال التي تسللت إلى أنامل فيدياس الإغريقي فأنشأت له من الصخر الأصم هياكل وتماثيل بشرية في عاطفتها وحيويتها وروحها، قد هبطت بعد أجيال على قلم الرافعي، فأوحت إليه تحفه الأربع في فلسفة الجمال والحب. وأنا في هذا الحوار الذي دار بيني وبين صديقي الرسام إنما أعرض لوناً جديداً حيوياً من أصباغ وصف الجمال البشري، للأستاذ الرافعي وحده فضل استكشافه وفرضه على الأدب، ولوددت أن الأدباء غمسوا فيه ريشاتهم حين رسمهم لوحات الجمال الإنساني. ولا بأس أن أحتكم في تذوق هذا اللون أو النفور منه إلى أدباء الرسالة ليقولوا فيه كلمتهم.
لي صديق فنان في الرسم، وريشته لسانه، وترجمانه ألوانه، أسمعته جملة لي في وصف أبي نواس وهي: لقد كان أبو نواس في حدائق الكرخ فراشة شاعرة ترتع بين أغصان القدود وأوراد الخدود. ثم وقفت عند هذه الجملة منتظراً أن تروقه هذه الاستعارة. ولكنه زاد علي أن قال: صعب علي يا صديقي أن أتصور كيف يتجرد صاحبك أبو نواس من هيكله البشري ليتجسد في جسم فراشة شاعرة ترتع بين أغصان القدود ووردات الخدود. وهل القدود مما تنبت الأيكة والخدود مما تتفتح عنه خميلة الورد؟
قلت دهشاً: أين يذهب بك يا صاح؟ إن هي إلا استعارة بديعة يلجأ إليها الأدباء حين يشبهون اعتدال القد بالغصن وحمرة الخد بالورد. قال: إن أصحابك يسيئون إلى الخدود الموردة والقدود المتأودة حين يشبهون الأولى بالورد والأخرى بالغصن. الغصن جميل والورد فتان ولكن جمالها مادي لا يقاس إلى جمال خد العذراء حين يتورد وقوام الحسناء حين يتأود.(206/59)
وأمامي الآن - وهنا أشار إلى لوحته - منظر فتاة حسناء تقطف من خميلة وروداً زاهية حمراء. فأيهما أجمل وأنضر وأحلى وأملح؟ هذه الورود في يديها أم هذه الحمرة في خديها؟. إن حمرة خديها الملتهبين بدماء النضارة والصبا حرام أن تشبه بحمرة الورد. فليس في الورد خدود تلتهب التهاباً، ولا وجنات ترف نضارة وشباباً. وكيف يستوي خد الورد البارد الجامد الذي لا يحرك إحساساً ولا يثير عاطفة، وخد الفتاة المضرم من نار الصبى، المتوهج من حرارة العاطفة، المشبوب من خمرة الروح، المطلول من ندى الشهوة، يثير في كل قلب ألواناً من المشاعر الراقدة، وضروباً من الأحاسيس الهامدة؟
وعيون النرجس على ما بها من جمال وتناسق بليدة جامدة فليس فيها هدب طويل يثير، ولا جفن كحيل يغري. وأين من مقل النرجس (مغناطيس) العيون (وكهرباؤها) وسحرها وإغراؤها؟
الجمال بسره الكامن وجوهره الرمزي إنما هو فن الروح والعاطفة، فكيف تعبر عنه وردة محمارة أو غصن أملود أو طاقة نرجس أو سبيكة ذهب أو فضة مجلوة أو ما شئت من هذه التشابيه النفسية المادية التي خلقت لإمتاع النظر اللهيف وإرضاء الحاسة الرغيبة؟ أما تمثيل الجمال وتصوير الحلاوة ففن تلعب فيه الروح أهم دور وأخطره، وليست كل هذه التشابيه من فن الروح في مراح ولا مغدي. قلت: ولكن الجاحظ يقول في وصف جارية حسناء (وكأنها طاقة نرجس أو كأنها ياسمينة أو كأنها خرطت من ياقوتة) ثم ينقطع به نفس الوصف فلا يجعل للروح وفنها بالاً ولا ذكراً. قال صديقي ولكن ما عجز عنه الجاحظ من الوصف الروحي للجمال المادي أدركه نابغة كتاب هذا الجيل الرافعي. وهمك به من أديب يستعلن بالأدب العربي على آداب الأمم الراقية ويقول (أنا أدب لغة القرآن).
ولقد لبثت زمناً أبتغي من الأدب العربي صوراً بيانية لوصف الجمال الإنساني تكون في دقة تعبيرها كلوحات الزيت أو صور الفوتوغراف، فلا أظفر منه إلا بهذه الاستعارات (الزهرية) أو التشابيه الجوهرية حتى قرأت للمرحوم كتبه الثلاثة في فلسفة الحب والجمال فألقيت عصاي وآمنت بمعجزات الرافعي.
قال الأستاذ رحمه الله في كتابه حديث القمر:
يا رحمة لهذا الجمال! وجه وضئ الطلعة كأنه السعادة المقبلة يصل إليه دم الشباب من(206/60)
القلب فيتحول فيه إلى جمال وفتنة، وكأن معاني الحسن التي تتحير في خديه حقيقة إلهية تطل على النفوس من وراء الشفق. فيه عينان تنظران والله بروح تكاد تنطق ولا يفهم عنها إلا كأنها ناطقة. وتفيضان دلالاً وتفتراً فكأنما تلقيان على الروح فترة تحلم فيها من أحلام السماء وتستيقظ. وخدان تحير فيهما الجمال فوقف يتلفت عن يمين وشمال، وتراهما أسيلين بارزين، فيالله! هل هما ثديان صغيران من الورد يرضعان كفل الحب؟ قال: صديقي فكم بين هذا الوصف الساحر الدقيق العاطفي وبين وصف صاحبك الجاحظ المادي السطحي (وكأنها طاقة نرجس وكأنها ياسمينة)؟. إن هذه التشابيه على ما بها من جمال المادة والعطر واللون مادية لا ترسم حور العين وسحر الجفون ولا تصور تواثب النهود والحياة الكامنة في الخدود. أتدري لماذا؟ لأن لغة العواطف يا صاحبي غير لغة الورود، وتمايل الأغصان لا يشبهه تأدد القدود.
(حلب)
كمال الحريري(206/61)
أي أسبانيا
للأديب حسين شوقي
أي أسبانيا! إني لأذرف دمعة صادقة على نكبتك لأنك وطني الثاني! ألم أقض طفولتي في ربوعك أثناء الحرب العالمية حينما نفي إليك والدي؟
أي أسبانيا! أصحيح أن الموت والدمار نزلاً بمدنك التي كانت رؤيتها بهجة للنفس ومتعة للنظر؟
أي أسبانيا! أصحيح أن المرء يستنشق رائحة البارود البغيضة من حقول بلنسية حيث كانت تعبق رائحة البرتقال؟
أصحيح أن يد الدمار قد امتدت إلى غرف الحمراء حيث مرحت الأميرات العربيات في شباب الدهر، بين أحضان الترف والنعيم؟
أصحيح أن كنائسك الفخمة قد أحرقت أو تهدمت، وكانت مقصد النبيلات الأسبانيات - أيام فتوح شارل الخامس وفيليب الثاني - للتضرع والصلاة، كي ترد إليهن أزواجهن من الحرب سالمين مظفرين؟. .
أي أسبانيا! أصحيح أن قومك الذين كانوا بالأمس مضرب الأمثال في اللطف والدعة وإكرام الضيف والترحيب بالغريب جن جنونهم بغتة، كأنهم أصيبوا بداء الصرع، فأخذوا يقتلون يمنة ويسرة؟
أصحيح أن قلوبهم غلظت إلى حد أنهم يقطعون أيدي الحسان الناعمة كي يلبسوها حليها، تلك الأيدي التي ما خلقت إلا للتدليل والتقبيل؟
أصحيح أنهم سئموا مصارعة الثيران فاستبدلوا بها الأنفس البشرية؟
أي أسبانيا! أين كانت كامنة هذه القسوة؟
بل من أين هبطت عليك؟
إن بعض الكتاب الغربيين ينسبها إلى الدم العربي الذي يجري في عروق الأسبان اليوم، ولكن الله يشهد أن هذا الدم بريء، لأنه دم أموي نبيل! إن أسلافنا العرب الذين استوطنوا الأندلس كانوا أبطالاً ولم يكونوا أنذالاً، إنهم لم يقتلوا العجزة والأطفال والنساء!
بل إن العرب فقدوا ثمار فتوحهم العظيمة بما كانوا يبدون من الحلم المتناهي إزاء الشعوب(206/62)
المغلوبة! ألم يتركوا لها حرية العقائد والعادات، وكتفين بأخذ الجزية؟
إذن ما مصدر هذه القسوة؟
إن (أنامونو) الفيلسوف الأسباني الشهير الذي توفي أخيراً ينسبها إلى دم النور (بفتح الواو) المنتشرين بكثرة في ربوع أسبانيا، وبخاصة في الجنوب، لأن هؤلاء القوم لهم - على حد زعمه - غرائز بعيدة عن المجتمع، بل وحشية. ومما يؤيد قوله هذا ما حدث في برشلونة من أعمال القتل والحرق والسلب فقد قام بمعظمها عمال من الجنوب لم يستوطنوا برشلونة إلا في السنوات الأخيرة. . .
أي أسبانيا! أصحيح أن حسانك قد مللن أقنعة رؤوسهن الجميلة من (الدانتلا) والمعروف (بالمانتليا) ففضلن عليها خوذة الجند الحديدية؟
أصحيح أنهن حطمن بأيديهن تماثيل العذراء التي طالما توسلن إليها كي ترقق لهن قلب العاشق النافر؟
أصحيح أنهن أصبحن يقتلن بالحديد والنار بعدما قتلن زمناً بسهام اللواحظ وحد الجفون؟
أصحيح أنهن سئمن أناشيد الحب فأخذن يحرضن خطابهن الرشيقين ذوي العيون العربية البراقة على الذهاب إلى ساحات الموت؟
أي أسبانيا! أصحيح أن قومك يهدمون مآثر ماضيهم المجيد بزعم التقدم والرقي؟
رب! كيف تمحى قرون متتابعة من العز والفخار؟ هل من المدنية أن تدفن المتاحف وتنسف الآثار؟
ألا ينظرون إلى حسرة أبناء العالم الجديد لافتقارهم إلى الآثار وهم قدوة المدنية والتقدم؟
ألا يرون كيف ينقل هؤلاء القوم الكنائس والقصور الأثرية من أوربا، حجراً حجراً، لإعادة تركيبها في بلادهم، رغم ما يكلفهم عملهم هذا من جهد ومال؟
أي سرفانتس! هلا تركت ضجعتك الهنيئة الأبدية لحظة لتشاهد مقدار عبث قومك؟
أي سرفانتس! إن صاحبك (دون كيخوت) لأقل جنوناً من هؤلاء القوم جميعاً إذ جنونه برئ لا يتعدى مهاجمة الخراف والطواحين، أما هؤلاء فلا يهدأ لهم بال إلا بقتل الأطفال والنساء والإخوان من بني جلدتهم!
(كرمة ابن هانيء)(206/63)
حسين شوقي(206/64)
رسالة الشعر
هياكل بعلبك
للأستاذ أمجد الطرابلسي
وأجل من حللِ الغبيّ ووشيه ... خِرَق على الأبطالِ أو أسمال
أطلالُ! ما البنيانُ يا أطلالُ؟ ... فَنِيَتْ على ضُحاتِكِ الأجيالُ!
هَزِئَتْ رمامُكِ بالزمانِ وصرفهِ ... ما تفعلُ النكباتُ والأهوالُ؟
يفنى الزمان جديدُهُ وجميلهُ ... وعلى حطامِكِ بسمةٌ وجمالُ
إن الخلود يَفرُّ من سطواتهِ ... عادي الردى وتباعَدُ الآجالُ
لا يَقحمُ النّكسُ المُروِّعُ غابةً ... تختال في جنباتها الأشبالُ
يا غادة الماضي البعيد تَبَختَري! ... إن العصورَ هوادِجٌ وحِجال
تيهي على الدنيا فإنكِ أختها ... والسّحْرُ بينكما الزمانَ سِجال
وتخايلي مِلَء العيون، مليكهً ... تعنو لها الأملاكُ والأقيال
فَلَصَولجانُكِ يا مليكةُ صفعةٌ ... يخزي بها المتكبر المختال
هاتي حديثَكِ بَعلَبَكُّ أو اصمتي! ... إن الزمان محدِّثٌ قوّال
تتكلم الآبادُ فيكِ مبينةً ... وتخيرُ الأعصارُ والأجيالُ
هذي الرسمُ وهي الزمان وما وهت ... وقضى البُناةُ الظالمون ودالوا
مازال يدهمها الزلزال بعدهم ... حتى ارتضى بالخَيبَةِ الزلزال
ماذا يضيركِ أَن وَهَت وتمايلت ... عَمَدٌ ودالت دولةٌ ورجال
إن الخلود على جبينكِ مشرقُ ... ونصيبُكِ التقديسُ والإجلالُ
وأجلُّ من حُللِ الغبيِّ ووَشيهِ ... خِرَقٌ على الأبطال أو أسمال!
يا بعلبكُّ! وقفتُ فيكِ كأنني ... وصحابتي بين الطلولِ رمالُ
نرنو إلى الرِّئبالِ وهو من الصفا ... فيكادُ يُفزِعنا بكِ الرئبالُ
ونحدّثُ الأطلالَ وهي طريحةُ ... فتكادُ تنطقُ مثلَنا الأطلالُ
نتسلَّقُ العمَدَ المنيفةَ مثلما ... تتسلّق الصَّخَر الأشمَّ نِمالُ
فنُطلُّ منها فوق سفرٍ زاخرٍ ... أسطارُه الأعصارُ لا الأقوال(206/65)
نتلو صحائفَهُ وملء برودنا ... عُجبُ العجيبِ، وفيمَ لا نختال؟
أقدامنا فوق الزمان قَريرةٌ ... ولنا الهيكِلُ والبُعولُ نِعالُ
نختالُ في ذُرُواتِها فتسُبنا ... عُصُرٌ تكنّفها الظلامُ طوالُ
يا أيُّها العاتون! بعض عُتوِّكم ... إن الزمانَ مخادعٌ ختّال!
أرأيتمُ لَعِبَ الصّروفِ وهدمَها ... ما يرفعُ الإرهاقُ والإذلال؟
هذي النِّعالُ تدوسُ وهي فخورةٌ ... ما شادتِ الأصفادُ والأغلال!
تلكَ الأوابدُ كم أهِلَّ لها دمٌ ... وسقى ثراها مَدمَعٌ هَطَّالُ
كم ذلّتِ الأملاكُ في أعتابها ... وجَثَت على أقدامِها الأبطالُ
واليومَ نَمرَحُ نحنُ في هاماتِها ... يا للمَشيب تُهينُهُ الأطفالُ!
يا للفنونِ الخالداتِ تَدوسُها ... وتُذِلها المجَّانُ والجُهَّالُ!
عفواً هيكِلَ بعلبكّ! فإنما ... هذا الزمانُ وصَرْفُهُ أحوالُ
صبْراً على عبَثِ الزمان! فربما ... رقصت على جُثث الأسود سخال
كنّا نجوسُك ساخرين وربما ... أقعى لكِ الجبّارُ والصَّوَّالُ
كم ذلَّتِ الأدغالُ بعدَ لُيوثِها ... ولقد تُهابُ لأسدِها الأدغال
جوبتيرُ! أين جبارٌ لك شيدوا ... ما لا يزول على الزمان وزالوا؟
بذلت لهيكلك الرفيع نفوسهم ... ودمائهم، وأُهينتِ الأموال
أَرضيتَ أن تُبنى القُصورُ من الأذى ... لك أو يخضَّبَ بالدم التِّمثَالُ
عبدوكَ فاستعْبدتهم، وتمزَّقت ... في ظلِّكَ العُبدانُ والعُمّالُ
تلك العُبوديَّاتُ من آثارها ... هذي الصُّروحُ كأنها الأجْبالُ
نحتتْ بأصفادِ العبيد صخورُها ... وعلى العُناةِ أقيمتِ الأثقال
لا كنتِ يا آثارُ! إنكِ طعنةٌ ... في كلِّ قلبٍ شاعرٍ ونصلُ
عبدوا بكِ الشمسَ المنيرةَ في الضحى ... والشمسُ خيرٌ كلَّها وجَمال
خَشَعتْ لها منذُ القديم مَعاشرٌ ... شغَفتهُمُ الأنوارُ والأظلالُ
فَلئن يَعبدكِ الناسُ أو يستهزِئوا ... فاليومَ معبودُ الأنامِ المالُ
كم تُحْرقُ الأبناءُ قُرْباناً لهُ ... وتُذبَّحُ الأعمامُ والأخوالُ(206/66)
أغلى من الخُلُق المُكَرَّم دِرْهَمُ ... وأجلُّ من أعلى العُلى مِثقالُ
(باخوسُ) يا رَبَّ الكؤوسِ! وكم عَنا ... لمُجونكَ المُتزمِّتُ المفضالُ
هذي الكروم تكادُ وهْي نحيتةٌ ... يُصْبي العُقولَ رَحيقُها السَّلسَالُ
يا ليتَ شِعريَ ألهّوك فهلْ رأوا ... كيفَ استبدَّتْ خمرُك الجِريالُ
شادوا لكَ الصَّرْحَ الأشمَّ تَجِلّةً ... وجَثا لكَ النُّسَّاكُ والضُّلاّلُ
وبنوا لِفينوس جِوارك معْبداً ... يختالُ فيهِ الحُسْنُ والإدلالُ
صُوَرُ الهوى المعسولِ ملءُ رحابهِ ... والجوُّ حُبٌّ كلُّه ووِصال
يا أمَّةَ الرُّومانِ! مازالَ الوَرى ... يَسبيه كُوبٌ مُترَعٌ ودلال
في كلِّ قلبٍ للمحاسِن مَعْبدٌ ... تأوى الجراحُ إليهِ ةالآمالُ
لكنّما ذهَبتْ مُلوكُكِ في الهوى ... سِيَراً تدارُ كُؤوسُها وتُجَالُ
(أنطونيو) ملءُ الخمائِلِ حبُّهُ ... و (سِزَار) كم ضُربَتْ به الأمثال
مَلِكان صاغَهما الغرامُ قصائداً ... تَشدو بها الأسحارُ والآصال
بِنتَ الخلود! أما سَئِمْتِ جراحَهُ؟ ... إن الخلودَ سآمةٌ ومَلال!
إني لأسمعُ من صَفاكِ صُراخَهُ ... وكأنهُ التَّنْعابُ والإعوالُ
ماذا عرَفْتِ من الحياةِ، وإنما ... سرُّ الحياةِ تعاقُبٌ وزَوالُ؟!
ويل لمفجوعٍ يرى أحبابَهُ ... يترَحَّلون ومالَه تَرحال!!
تنتابُهُ من بعدهمْ أطيافُهمْ ... والذكرياتُ عواصفُ ونبال
أوَ تذْكرينَ (أبا عبيدة) غازياً ... من حولِهِ الفرسانُ والنُّبَّالُ؟
تتبخترُ الجُرْدُ الضّوامرُ تحتهُمْ ... نَشْوى يُصَعِّرُ جيدَها الإدلال
تزْهو على الأرض الفخور بحمْلها ... عَزَّت وعَزَّت فوقها الأحمال!
رَكْبٌ تحفُّ به الملائكُ هُتَّفاً ... وتحوطُهُ بقلوبها الأجْيالُ
أرَأيتِ أشرَفَ فاتحاً، سارَ الهدى ... في ركْبهِ واليمنُ والإقبالُ؟
أعلمت. . .؟ مالى والسؤال فربما ... نكأ الجراحَ الداملاتِ شؤال!!
أمجد الطرابلسي(206/67)
إلى عصفورة
للأستاذ خليل هنداوي
حلِّقي، حلقي! لك الجو مهد ... والسماوات، والمعي كالشهاب
رجعي ما أردت شدوكِ حتى ... يسكر الكون بالغناء المذاب
أنا لا أستطيع يوماً صعوداً ... وجناحي مهشم الأسباب
أنا طير يدري السماء ويدري ... ما يواري السحاب خلف السحاب
كلما هم لم يطعه جناح ... أوهنت عزمه رياح الرغاب
كمحب سار الركاب بمن يهوى ... ولكن هواه عند الركاب
أنا كالزهر أملأ الجو عطراً ... وجذوري تعلقت بالتراب(206/68)
رسالة الشباب
هلموا يا شباب!
كأن كلمة الشباب مقصورة الدلالة على الطلاب. كأن الذين هم في ربيع العمر من الموظفين والمحامين والأطباء والملاك لا يعنيهم الأمر إذا وجهت دعوة إلى الشباب. فقد دعت الرسالة الشباب إلى أن يديروا بينهم الرأي فيما يهيئ الأمة إلى العهد الجديد من توفير سلامة الجسم وتقريب وسائل الثقافة وترقية أساليب الإنتاج وتكوين رأي عام صحيح وصريح يتشاور في بناء الهيكل القومي على أساس الخلق والدين والعلم والتعاون، ويتجاوب في كل حادث بالصوت المتحد الذي ينبه الغافل ويحذر المغتر ويكون سياجاً للأمة من جمحات الأهواء وطغيان النفوس. تحرك هذه الدعوة الطيبة كرام الطلاب ثم شغلهم الاستعداد للامتحانات عن توسيع المناقشة فيها ودراسة الوسائل إليها، وانتظرنا من غيرهم أن يلجوا هذا الميدان الإصلاحي، أو يعملوا على تزويد الداخلين فيه، فلم نسمع صوتاً ولم نشعر بحركة، كأن أصحاب الوظائف وأرباب الأعمال يظنون أن واجبهم ينتهي عند عتبة الديوان، وأماهم يقف على باب المكتب؛ أما العمل التعاوني القومي فأمره بين شيوخ الحكومة وشباب الجامعة.
أنا أحد الذين حددت آمالهم وأعمالهم الوظيفة، ولكني أشعر أن الإنسان المثقف والوطني الصادق لا يسمح لنفسه أن يمثل في يقظة أمته فتور النعسان أو جمود الكسلان فيكتفي بقراءة الصحف في القهوة ومناقشة الأخبار في الطريق. المسألة مسألة تجنيد عام لمحاربة عوامل الضعف التي فشت فينا من تغير الزمان وفساد الحكم، فيجب أن يؤدي كل منا واجبه الوطني في الميدان الذي يستطيعه. والموظفون وهم ألصق الناس بالجمهور يستطيعون أن يؤدوا واجبهم على الوجه الأكمل فيرشدون الجاهل، ويعاونون المتعلم، ويضربون للناس الأمثال في إخلاص العمل وتقدير المسئولية وسلامة الضمير ومراعاة المصلحة. والذين يتصلون منهم بالفلاحين من أطباء ومهندسين ومعلمين يتسع أمامهم مجال الإصلاح فيكونون رسل سلام ودعاة خير وناشري ثقافة، فإلى إخواني الشباب والموظفين أوجه هذه الكلمة وأرجو أن يكون لها صدى في نقاباتنا وأنديتنا ومكتباتنا، يبلغ كل أذن ويهز كل قلب فنجيب دعوة الداعين ونعمل مع العاملين.(206/69)
علي إسماعيل بالمالية
حول توجيه الشباب
إن أول واجب أشعر به هو تقديم وافر الشكر لصاحب الرسالة ومحرر رسالة الشباب فيها، وكل من ساهم ويساهم في تأدية هاته الرسالة السامية التي اضطلعت بأعبائها الثقال المجلة المحبوبة إلى جانب رسالة الأدب والعلم والفن التي قامت بتأديتها خير قيام. ونحن شديدو الإيمان بأن نصيبها من التوفيق في تأدية رسالة الشباب لن يكون أقل منه في غيرها إن شاء الله.
ولقد استرعى انتباهي - بصفة خاصة - هاته الكلمة التي ختم بها محرر رسالة الشباب صفحته في عدد سابق وكان عنوانها: (عبرة الشباب من حفلة التتويج). وإني وإن كنت من كارهي الحديث المعاد أشعر بدافع قوي يحملني على أن أعيد مغزاها على إخواني الشباب لا ليمتعوا أنفسهم بسلاسة أسلوبها أو جمال شاعريتها أو غير ذلك من ضروب الاستمتاع. بل ليجعلوها منهاجهم في كل عمل من أعمال الحياة.
ذلك المغزى أو العبرة، كما أرادها المحرر - والتي أريدها نبراساً للشباب هي: إن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس لم يمنعها احتفاظها بالتقاليد من أن تكون أمة التجديد، واحترامها للدين من أن تكون أمة المدنية، وإخلاصها للملك من أن تكون أمة البرلمان والديموقراطية والدستور.
فأي عبرة هذه؟ بل أي عبر يمكن لشبابنا المثقف أن يتلقنها من حفلة تتويج ملك الإنجليز؟ وأي توجيه هذا الذي ينادي به أستاذنا عميد كلية الآداب لشباب مصر بعدما سمع بأخبار حفلة التتويج، وفهم منها ما فهم من محافظة الإنجليز على تقاليدهم واحترامهم لدينهم الذي هو مصدر الروحانية عندهم كما أن ديننا يجب أن يكون مصدر روحانيتنا؟
وحتى هذا المقال الأخير الذي قرأته لعميدنا الكبير في إحدى مجلاتنا تحت عنوان: (توجيه الشباب أيضاً) كنت أحس في مطالعته بارتياح عميق بل باغتباط لا شائبة فيه. ولكني لم أكد أتصفح هذا المقال وأكرر ذلك - عادتي في كل ما يكتبه كبار أدبائنا - حتى وجدت لساني يتطاول - على الرغم مني - باتهام عميد الأدب بعدم توفيقه المرة في معالجة شئون(206/70)
الشباب. فليسمح لي سيدي الدكتور بهذه اللهجة الجافة التي لم أجد خيراً منها لمناقشة رسالته. فهي الصراحة لا تعرف المجاملة والحق لا يقوم على المداهنة.
ينادي عميد الأدب بأن يتجرد شباب مصر من روحانية الشرق التي هي لباب دينه، ليتجه بفكره صوب مادية الغرب ليغترف من تعاليمها الخير على ما يقول، فأي خير هذا الذي وجدته يا سيدي في مادية الغرب التي تحبها، وتؤمن بها وتنتظر منها الخير الكثير وقد فقدته في روحانية الشرق؟
أهذه المبادئ والمذاهب الخاطئة التي ينادي بها زعماء الغرب والتي تسير بأوربا نحو الهلاك السريع والتي بنيت على حب المادة والعمل للمادة وحدها؟ أم هذه النزعات والميول المتطرفة التي قلبت رسالة الإنسانية السامية إلى رسالة بهيمية وضيعة والتي سوف يجني الغرب ثمارها المرة الشائكة إن عاجلاً وإن آجلاً؟ أم هذا وذاك من مساخر الغرب ومساوئ ماديته؟
إن أحداً لا ينكر سير الغرب بخطى واسعة نحو الرقي والحضارة المزعومة في هذا العصر. ولكني كبير الشك في أن هذه الحضارة - التي سخرت للمادة وقامت على دعائم خالصة من المادية - تعمر أو تطول. وليست هذه الأحداث والمهازل - التي يعج بها المجتمع الغربي، ويستصرخ المصلحين لإنقاذه منها - إلا إحدى نتائج هذا الاتجاه المادي الصرف.
أما الحضارة الحق التي يؤمل من ورائها الخير، وينتظر لها البقاء، ويجب علينا أن ننير سبيل شبابنا إليها فهي تلك التي تأخذ ضرورتها من المادة إلى جانب حاجتها من الروح. وما تذوق الحياة جسد من غير روح. وهذه سنة الله في خلقه أنطق بها رسوله الأمين حيث قال: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).
وعندي أن هذا الحديث الشريف هو جماع دستور الفرد الذي ينشد الكمال من المجتمع الذي يرجو الصلاح. وتلك الإمبراطورية الإسلامية - التي بلغت حدود الهند والسند شرقاً والاطلنطيقي غرباً - قامت على أسس من الروحانية الشرقية التي ينكرها الدكتور ولا يرى فيها أي خير. . .
كامل بركات(206/71)
من رسالة
. . . أما إن الشباب سيظل زيت النهضة المضيء المحترق فهذا مما لا شك فيه.
سلخنا من العمر ثمانية عشر عاماً هي ربيعه في نهضة شريفة سامية طامحة جامحة جريئة رزينة - نقنع بالحجة ونغرى بالعاطفة ونلهم الشعور ونحرك القلوب - فعزيز علينا ثم عزيز أن نسلم علم الجهاد وقد دافعنا عنه بالمهج والأرواح، فإلى الأمام نسير في كل فن وعلم بتجاريب السنين الماضية، أما الميدان السياسي فلن يضيق عن الجهود الوثابة التي اكتسبت من المحن خبرة ومن الشدائد عظة، وقد كان لنا فضل السبق في الإصلاح وهاهو ذا بنك مصر لا يزال شاهداً بما كان للشباب من قوة أثر في تعميره. بل إن طربوش القرش هو غرس الشباب.
فمن يوم أن قام الشباب قومته إلى الآن لا نجد أثراً عمرانياً أو أدبياً أو سياسياً إلا لمست فيه يد الشباب حادة قوية.
ومازال كل في طريقه شجاعاً في غير عنف، فخوراً في غير زهو، جريئاً يقول الحق ولا يهاب فيه الموت. وتلك كلها صفات اكتسبت من تعاليم سعد، وتغلغل أثر النهضة في نفوس تعطشت إلى الحرية فنالتها من يوم أن طلبتها.
حرية بعنا لأجلها نفوساً عزيزة علينا، ودستوراً قاومنا في سبيله كل من حدثته نفسه أن يكون عليه ظهيراً. وسنعرف بإذن الله كيف نحيطه بسياج من الأخلاق متين، غير منتظرين الوحي من الغرب؛ فالديموقراطية الشرقية مستمدة من وحيي الله ومن تعليم الأنبياء، فالمشورة كانت من صفات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وما كان مستبداً حتى في إبان الحروب التي تتخذها الأمم الغربية كلها ذريعة لإعلان الأحكام العرفية. وإن كان بعض مشرعي الغرب يحذرون شعوبهم من اندفاع جارف يؤدي بهم إلى الفاشستية أو الشيوعية، فانا لا نزال بحمد الله بعيدين عن كل ذلك، فإن التأني البصير خير من الاندفاع الأعمى، وإن دستوراً راسخاً متين البنيان لذو أثر عظيم في تشييد صرح النهضة. فليطمئن الشيوخ، فلن يجدوا إلا شباباً مجرباً وثاباً دمه الحار بمثابة وقود لعقله المتزن.
م. س سليمان(206/72)
البريد الأدبي
تقرير صحيفة ألمانية لأمة سامية
استقبلت مصر حين دخولها في عصبة الأمم في أواخر مايو الماضي بتحية إجماعية مؤثرة من اثنين وأربعين دولة بينهما اثنتان من الدول العظمى؛ وكان التقدير الذي لقيته مصر يقوم بالأخص على التنويه بمكانتها التاريخية، وعلى الدور العظيم الذي أدته في تكوين الحضارة اليونانية القديمة؛ ومن ثم في تكوين الحضارة الغربية بوجه عام؛ ولم تكن هذه المظاهرة الاجتماعية المؤثرة حديثاً أفلاطونياً فقط، ولكنها كانت إشارة بحقيقة تاريخية يستحيل على أوربا الحديثة تجاهلها، وفي الأسبوع الماضي نشرت جريدة (الأسبوع) الألمانية عدة صفحات خاصة بمصر وحضارتها القديمة، ثم استأنفت في عددها الصادر هذا الأسبوع فكتبت عدة صفحات أخرى واستطردت فيها إلى الإشادة بما لمصر من فضل على المدنية وما يرجى لها من مستقبل باهر، وهذه أول مرة في عهد ألمانيا النازية تقوم الصحف الألمانية بمثل هذه الإشادة بمقام أمة شرقية (سامية)، ولقد كان علماء الآثار الألمان في مقدمة علماء الغرب الذين عاونوا على اكتشاف الحضارة الفرعونية وعلى إظهار الدور العظيم الذي قام به الفراعنة في تكوين حضارة العالم، فلم تكن هذه الحقيقة بخافية يوماً على العلم الألماني. ولكن حدث بعد ذلك أن اجتاحت الدعوة الهتلرية العلم الألماني كما اجتاحت كل شيء في حياة هذه الأمة العظيمة، وذاعت نظريات هتلر عن الشعوب الشرقية والشعوب السامية بوجه خاص.
فهذه الشعوب في نظر زعيم ألمانيا الجديدة، شعوب منحطة، هدامة للحضارة، غير أهل لإنشائها. ومصر أمة سامية شرقية، فهي طبقاً لإنجيل ألمانيا الجديد أمة منحطة هدامة للحضارة، لا تستحق أن ترتفع إلى مصاف الأمم (الآرية) وهي الشعوب التي يحق لها أن تستعبد الشعوب السامية وأن تخضعهالثقافتها. ولقد اعتبرت مصر في ألمانيا بعد ذلك بصفة رسمية دولة غير آرية لا يصح لأبنائها أن يختلطوا بالعنصر الآري، وكان لذلك فيما نذكر ضجة في العام الماضي. فهل نعتبر إقدام صحيفة ألمانية كبيرة على التنويه بحضارة أمة (سامية) كمصر دليلاً على تطور هذه النظرية النازية المجحفة؟ إن الصحافة الألمانية تخضع في كل ما تكتب لرقابة حكومية صارمة؛ فإذا كان يسمح لها الآن أن تنوه بمركز(206/74)
أمة (غير آرية) في إنشاء الحضارة العالمية، فإنه يسمح لنا إن نعتقد أن التفكير الألماني قد أخذ يتحرر من بعض النظريات المفرقة التي أذاعها كتاب (كفاحي)، وهي نظريات ليس لها في الغالب سند من التاريخ الحق أو التدليل الصائب.
كتاب عن تاليران
عرف تاليران الوزير الفرنسي الشهير بأنه نموذج للسياسي الداهية الذي لا يعرف في سبيل تحقيق سياسته مبدأ ولا ذمماً، وأضحى اسمه علماً على السياسة القادرة المتقلبة، بيد أن للتاريخ دورته وتطوراته؛ فإذا كان التاريخ قد رأى في تاليران من قبل سياسياً غادراً متقلباً، فقد يرى فيه اليوم رأياً آخر. وهذا الرأي الجديد عن شخصية تاليران وعن سياسته يقدمه إلينا وزير إنكليزي هو مستر دوف كوبر في بحث تاريخي جليل صدر أخيراً بعنوان (تاليران) والواقع أن حياة تاليران العجيبة تستحق الدرس؛ فقد خرج من الكنيسة إلى السياسة، وخدم لويس الخامس عشر، فلويس السادس عشر، فالمؤتمر الوطني والثورة الفرنسية، فنابليون بونابرت في جميع أطوار حكمه، ثم لويس الثامن عشر، وشارل السابع، وأخيراً لويس فيليب؛ وهكذا وضع تاليران مواهبه تحت تصرف أنظمة وحكومات مختلفة؛ ولم يحجم في أي ظرف عن أن يتخلى عن حكومة أفل نجمها لتأييد حكومة جديدة، ولم ير بأساً من أن يخون عرشاً على وشك السقوط لخدمة عرش تألق نجمه؛ فهذا التقلب الغادر هو الذي يأخذه المؤرخون الفرنسيون على تاليران، ويرون فيه سفالة أخلاقية لا تغتفر؛ ولكن الوزير الإنكليزي يرى في كتابه الجديد رأياً آخر؛ فهو يرى أن تاليران كان مثل السياسي العملي البارع؛ وهو يقدم لنا عنه هذه الصورة القوية: (إن للفرنسيين ذاكرة بعيدة؛ والسياسة في نظرهم هي استمرار التاريخ. والكتاب الفرنسيون ينتمون إلى مختلف الأحزاب والنحل: فهم ملكيون أو جمهوريون أو بونابارتيون. أما تاليران فلم يخلص لناحية خاصة من هذه. ولهذا لم يجد قط مدافعاً عنه في فرنسا. ومع ذلك فليس للفرنسيين أن ينحوا عليه باللوم؛ ذلك لأن تقلباته كانت تبذل في سبيل فرنسا كلها، وهو يصرح بحق أنه لم يتآمر قط إلا حينما يندمج معظم مواطنيه في سلك المؤامرة. وقد هلل كباقي الفرنسيين لمثل الثورة الفرنسية واعتقد في ضرورتها. ولكنه كباقي فرنسا سخط على حكم الإرهاب وخدم الحكومة المؤقتة وناصر نابليون كرسول النظام والسلم. بيد أنه كباقي فرنسا كان يبغض(206/75)
الظلم، فلما سئم من الحروب عاد يسعى إلى إعادة البوربون. ولما رأى استحالة العمل مع شارل العاشر، اتجه نحو لويس فيليب، وقد كانت مثله التي لم يحد عنها قط الملكية الدستورية، وتأييد النظام والحرية في فرنسا. والسلام في أوربا، والتحالف مع إنكلترا).
وقد انتهى الوزير الإنكليزي إلى هذا الرأي بعد البحث واستقراء الوثائق التاريخية الهامة؛ وهو يستعرض كل أعمال تاليران وتقلباته ويشرحها على ضوء الحوادث والأشخاص؛ وهو يجنح إلى العطف في معظم تعليقاته؛ ومن رأيه أن تاليران كان من أعظم الساسة الذين عرفهم العالم، وأن تقلباته المزعومة لم تكن إلا نوعاً من السياسة العملية التي يقدرها الإنكليز قدرها، وأنه كان يتمتع بصفات باهرة جعلت منه أقدر سياسي في عصره.
ونحن إذا قلبنا صحف تاريخنا وجدنا لدينا قرين تاليران؛ ذلك هو السياسي الفيلسوف ابن خلدون؛ فهو أشبه الناس بتاليران في خدمة الحكومات المختلفة، وفي الأخذ بقواعد السياسة العملية، وفي تقلباته مع الظافرين.
من نفائس أوراق البردي
تحتفظ مكتبة فينا الوطنية بمجموعة من أوراق البردي المصرية القديمة، ومنها خمسة أوراق ظهر من فحصها ودراستها أنها جزء من التوراة، وأن هذه التوراة المخطوطة هي أقدم توراة وجدت حتى الآن. وقصة هذه التحفة الأثرية هي كقصة جميع التحف التي تتسرب من مصر إلى الخارج بانتظام؛ وهي أنه في سنة 1930 اشترى بعضهم لحساب مكتبة (فينا) عدة من أوراق البردي من أحد تجار العاديات في القاهرة؛ ولما أظهر البحث أنها قسم من التوراة سئل التاجر المذكور عما إذا كان يمتلك أوراقاً أخرى من هذا النوع فذكر أنه باع مجموعة أخرى منها إلى أحد اليهود المشهورين وهو مستر شستربيتي. ولم يمض على ذلك قليل حتى أذاعت الدوائر الأثرية في لندن أنها قد حصلت على أقدمنسخة في العالم كله من العهد الجديد (الإنجيل)، وبه نص كامل لإنجيل متي، وأن هذه النسخة ترجع إلى منتصف القرن الثالث الميلادي. وتحتفظ فينا في الوقت نفسه بأقدم قطعة من أوراق البردي اليونانية، وبهذه الوثيقة نص كامل لقصة (فرار ارتميسيا) الشهيرة كذلك تحتفظ بأقدم ورقة من أوراق البردي اللاتينية، وهي وثيقة عسكرية ترجع إلى أيام الإمبراطور أوغسطوس أعني إلى القرن الأول من الميلاد غير أنه لا ريب أن أوراق(206/76)
البردي المصرية القديمة من أثمن ما تحتفظ به العواصم الأوربية المختلفة، ومع أن مصر لا زالت تحتفظ منها بمجموعة ضخمة فإن أثمن ما فيها قد تسرب إلى الدوائر الأثرية الأجنبية في مختلف أنحاء العالم.
المكاتب العامة في فرنسا
قررت الحكومة الفرنسية تحقيقاً لأغراض سياستها الثقافية أن تعمل على تعميم المكاتب الشعبية بطرق وأساليب مغرية للقراءة والتثقيف. وقد رؤى أن تنظم هذه المكاتب في المدن المكتظة بطريقة خاصة، إذ تنشأ في مواقع مزهرة منيرة، وأن تعمل لها واجهات زجاجية تحلى بالصور ولأزهار والتحف، ثم تعرض فيها أحدث الكتب كما تفعل المكاتب التجارية؛ والمقصود بذلك التوصل إلى إغراء المارة من عمال وعاملات وطلبة أنهكهم العمل أو الطواف بدخول المكتبة وتمضية لحظات في القراءة أو تصفح الكتب والمجلات المصورة، وسيعنى بأن تعرض في هذه المكاتب جميع الصحف والمجلات من كل لون ونزعة سياسية، كما تعرض الكتب العلمية والروايات وغيرها ليكون هناك مجال للجميع كل حسب ذوقه ونزعته، كذلك ستنشأ في هذه المكتبات أجنحة خاصة للأطفال وتزود بطائفة من كتب الأحداث المصورة؛ بل واللعب والصور المختلفة.
المؤتمر الدولي لكتاب اللغة الفرنسية من الأجانب
افتتح يوم الثلاثاء الماضي في باريس المؤتمر الدولي لكتاب اللغة الفرنسية من الأجانب فألقى الأستاذ جورج قطاوي الأديب المصري خطبة جاء فيها:
في مقدمة الكتاب المصريين باللغة الفرنسية واصف غالي باشا وزير الخارجية المصرية وقد شرفنا بحضور اجتماعنا هذا. وجميع المصريين يقدرون عمله السياسي حق قدره، فالاستقلال الذي أحرزته مصر مكنها من دخول جامعة الأمم من عهد قريب مرجع الفضل فيه إلى الجهود الوطنية والتضحيات وهمة الذين جاهدوا إلى جانب سعد زغلول باشا وفي جملتهم واصف غالي لنيل الأمة المصرية مطالبها المشروعة. فالخطب التي ألقاها واصف غالي والنشرات التي أصدرها في أثناء الثورة المصرية تكاد تكون صدى لصوت دانتون أحد أعلام الثورة الفرنسية الكبرى. ومع اشتغال واصف غالي بالشئون السياسية لم يهمل(206/77)
حرفة الأدب والبحوث التاريخية وقرض الشعر، فإن آثاره القلمية معدودة من محاسن النثر وعيون الشعر، وقد بين أن الغرب والنصرانية اقتبسا كثيراً من الحضارة الإسلامية. وأحيا ذكر شياطين الشعر العربي القديم والقصة العربية، ولم يسبقه في معالجة هذا الموضوع إلا المغفور له ثروت باشا أحد رؤساء الوزارة المصرية السابقين.
وما من أديب في مصر كلطفي السيد وطه حسين وأحمد ضيف ومنصور فهمي لم ينشر نبذاً باللغة الفرنسية على هامش مؤلفاته العربية النفيسة. ولو شئنا الإسهاب في هذا الموضوع لتمادى الكلام إلى مدى بعيد. وحسبنا أن نذكر أسماءهم. وأظن أن اسمي عدس وجوزيبوفتشي مستحقان أن يكونا في رأس جدول أسماء الذين نكرمهم، فإن كتابهما (جحا الساذج) قد بلغ بهما إلى أوج البلاغة، فقال عنه اوكتاف ميريو إنه لا يقل قيمة عن الكتب التي نسجت بردتها يراع ستندهال وفلوبير وتلستوي.
وقال إنه لم يدرك حقيقة الشرق إلا حينما قرأ كتاب (جحا الساذج)
وكتب أحمد ضيف بالاشتراك مع فرنسوا بون جان قصة (منصور) وغيرها فوصف الأول محاسن الريف المصري ومعيشة النوتية في النيل ومرفأ الإسكندرية، واشترك معه بون جان في وصف جامعة الأزهر.
وفي جملة الذين عالجوا محاسن مصر القديمة التركية أحمد راسم فإن نثره الشعري يحكي بسلاسته وابتكاره ما نراه في شعر فرنسيس جام، وفي كتابة أحمد راسم تكثر النكتة والتعابير الشعرية والأمثال العلمية. وقد عالج تحليل قصائد الشعراء المصريين باللغة الفرنسية، وسيتسنى لكم الإطلاع على تراجم هؤلاء الشعراء في الديوان الذي يعده في القاهرة المسيو روبرت بلوم الأديب الفرنسي الذي اختار مصر وطناً له.
ومن المؤلفين الذين لا يذهل راسم عن الإشادة بهم أمامكم شاعر أريد أن أسبقه إلى التنويه به وهو محمد ذو الفقار فإنه من أرقى شعراء مصر وأحسنهم ديباجة، ولكنه ينفر من الظهور والتبجح، وهو علاوة على تفوقه في الشعر يعد من المصورين البارعين. ويحب في غالب الأحيان أن يستر عواطفه الحقيقية بنكتة لطيفة أو بتهكم لاذع. وقد قال عنه أحد النقاد:
(أن الكلمات العادية في اللغة الفرنسية تتخذ إذا عالجها بقلمه طلاوة جديدة).(206/78)
وأول من رفع الستار عن قصائد ذو الفقار وأعلنها للجمهور هو الكاتب المصري جورج دوماني بك، ولم يكن قبل ذلك قد اطلع عليها إلا خلصاؤه. أما جورج دوماني الذي استهوته السياسة والأعمال وشغلته عن عالم الأدب، فهو والحق يقال من أدق النقادين نظراً وألذعهم قلماً. فالمواهب التي يسخرها لتخليد ذكرى بعض زملائه وإظهار عبقرية البعض الآخر، تدل على أن نزوعه إلى النقد لم يضعف فيه قوة الشاعرية.
ومن عهد قريب صارت مصر تضيف إلى عداد شعرائها الذين ينظمون باللغة الفرنسية شاعرة جديدة هي السيدة قوت القلوب كريمة المغفور له عبد الرحيم الدمرداش باشا، فقد أصدرت رواية مطولة بعنوان (الحريم) أجادت في إنشائها كل الإجادة ونظم لها الكتاب الفرنسيون عقود الثناء عليها.
وإذا كانت الصداقة، الحقيقية وليدة اندغام بعض المتضادات والتقرب عن طريق المصاهرة فقد وجدت فرنسا ومصر لتتفاهما فعند طرفي حوض البحر الأبيض المتوسط لا تتخدش شواطئنا المتطرفة بخطوط منحرفة. وكأن شعبينا قد أعدا من الوجهتين الجغرافية والتاريخية لأن يكونا في ملتقى الطرق حيث تتواجه وتندغم الحضارات المتضادة. فباريس في الغرب تقوم بين العالم الجرماني والعالم اللاتيني بهمة تماثل المهمة التي تقوم بها الإسكندرية بين آسيا والعالم الأفريقي. ونجد في فرنسا كما نجد في مصر الفلاح المتعلق بالأرض وحراثتها، فاليسر لم يجرده من الميل إلى العمل ولا التعلق بأهداب الحرية ولا يسعى وراء الاقتصاد المحمود. وكان (بوسيه) يقول عن مصر الفرعونية: إن الأحوال الجوية المتساوية فيها دائماً تولي عقول أهلها متانة وثباتاً.(206/79)
الكتب
غريب القرآن
لمحمد بن عزيز السجستاني المتوفى 450هـ
طبع المطبعة الرحمانية بالخرنفش بمصر
أنجزت المطبعة الرحمانية بالخرنفش بمصر طبع هذا الكتاب النفيس من تراثنا الأدبي بعد ما عهدت إلى الأستاذ الشيخ مصطفى عناني بك المفتش الأول بالمعاهد الدينية، تصحيحه وترقيمه، وضبط المهم من ألفاظه وتعليق حواشيه ومراجعته على أصوله؛ وقد اعتنى به ناشره عناية فائقة تناسب قيمة هذا الكتاب الجليل.
ونحن نحب أن نعرف هذا الكتاب إلى جمهور المتأدبين من قراء الرسالة لينتفعوا به ويستفيدوا منه؛ فهذا كتاب وضعه واضعه ليعين قارئ القرآن وسامعه على أن يفهم ما يشاء من آياته على وجه السرعة، غير مستعين بما كتب المفسرون لأنه ينشد الفهم العاجل أو لأنه لا يتسع صدره لفضول الكلام الذي يملأ كتب التفسير في إسهاب عجيب. ونحن الآن نسمع القرآن يتلى في (الراديو) أو يقرأ في المساجد والمآتم والبيوت، فنستمع إلى هذا الجرس الجميل في كتاب الله ونتابعه بإذن واعية وفكر يقظ وقلب مشوق؛ ثم يضايقنا أحياناً أن يقف الفكر عند آية أو كلمة من آية لا نستطيع أن نفهمها لطول العهد بما قرأنا من كتب التفسير، أو لبعدها عن محيطنا اللغوي؛ في مثل هذه الحالة يعيننا كتاب (غريب القرآن) فيفسر لنا الكلمة الغريبة عنا في بساطة ووضوح تعيننا على فهم الآية كلها وتصل بين ما نسمع من آي الذكر الحكيم.
وعلى أنه مع ذلك قاموس صغير يعين اللغوي والكتاب والشاعر بما اجتمع فيه من كلمات قد لا نجدها فيما بين أيدينا من معاجم اللغة. ثم هو مرتب ترتيباً أبجدياً يدل على موضع الكلمة منه بسهولة وبغير كبير عناء.
لهذه الأسباب كان طبع هذا الكتاب خدمة كبرى أسديت إلى العربية يستحق ناشره من أجلها الشكر الجزيل.
وهذه هي الطبعة الثانية من الكتاب، وكانت طبعته الأولى منذ خمس عشرة سنة؛ على أن(206/80)
ما لقيه الكتاب من رواج، وتقدير الأدباء والمتأدبين لقيمته العلمية والأدبية، قد حدا ببعض المرتزقة من تجار الكتب أن يعيدوا طبعه من غير إذن ناشره، فكان على عملهم طابع السرقة ودليلها، فجاء مطبوعهم مغلوطاً ناقصاً مشوهاً يسيء إلى الكتاب وقارئه أكثر مما يسيء إلى ناشره.
ولكن هذه الطبعة الجديدة بضبطها وتحقيقها والعناية بها قد أنستنا هذه السيئة التي أقدم عليها طابعه المغتصب، وردت إلى الكتاب قيمته العلمية الجليلة.
س
شرح الإيضاح
تأليف الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي
أتمت المطبعة المحمودية التجارية بالأزهر بمصر طبع الجزء الرابع من شرح الإيضاح في علوم البلاغة للأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي، فتم به شرح كتاب الإيضاح للخطيب القزويني، وهو الكتاب الذي جمع فيه بين طريقة الإمام عبد القاهر الجرجاني، وطريقة الشيخ أبي يعقوب السكاكي، بعد أن هذب الطريقتين، وأبدع في ترتيب مسائل علوم البلاغة، فاستقام له بهذا طريقة ثالثة يلغ من حسنها أنها لا تزال قدوة المؤلفين في علوم البلاغة إلى يومنا هذا.
وقد شرح الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي في هذا الجزء علم البديع من كتاب الإيضاح، وسار فيه على طريقته في الأجزاء الثلاثة قبله؛ لا يعني إلا بشرح ما بهم من المسائل التي تكون من صميم هذه العلوم. فإذا فرغ من شرح المسألة عنى بشرح شواهدها وتكميلها وإيراد شواهد أخرى لها، وضرب بما سوى هذا عرض الحائط، وهو مما لا تزال المعاهد الدينية تشبث به، وترى أنه الميزة التي يمتاز بها الأزهري على غيره. ونرى نحن أن إصلاح العلوم في الأزهر لا يتم إلا بالقضاء على هذا الأسلوب الذي يبعدها عن تحقيق ثمراتها، وتلتوي به مسائلها على المعلم والطالب حتى ينتهي منها على مثل ما بدأ به فيها، وحتى لو شاء الاثنان أن يقضيا سنة في مسألة على هذا الأسلوب لقضياها في تحقيقها، وقد تضيق بهما عن غايتهما، ومن غريب أمر هذا الأسلوب أنك تتعب في تذليله ما تتعب حتى(206/81)
تنتهي منه، فإذا عدت إليه بعد هذا بسنة أو شهر أو يوم كنت كأنك تحاول شيئاً لم تذلله من قبل، وأحوجك إلى مثل تعبك الأول أو أشق منه. فيا لله من هذا الأسلوب العويص الذي لا يذلل، ولله لهؤلاء المساكين الذين يشقون فيه هذا الشقاء بدون ثمرة نافعة!
ولا يفوتنا بعد هذا أن نذكر مثالاً من شرح الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي في هذا الجزء، ليعرف منه القارئ نوعاً من طريقته في شرح مسائل البلاغة، وهي طريقة يجمع فيها بين العلم والأدب، وتحقيق المسألة وإيراد الشاهد على نحو ما كان يفعل المتقدمون قبل شيوع الطريقة النظرية في تدوين هذه العلوم.
قال الخطيب في تعريف علم البيان (علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة).
فقال في شرحه: قد أخطار السبكي أن كل واحد من تطبيق الكلام على مقتضى الحال ومن الإيراد بطرق مختلفة ومن وجوه التحسين قد يوجد دون الآخرين، فلا يكون الأول عنده شرطاً في الثاني كما سبق في علم البيان، ولا يكون كل منهما شرطاً في الثالث كما هنا، ولكن الحق خلاف ذلك، لأنه لا قيمة لوجوه التحسين عند فقد المطابقة ووضوح الدلالة، ولا لوضوح الدلالة عند فقد المطابقة، ولهذا عد من عيوب الطباق قول الأخطل:
قلت المقام وناعب قال النوى ... فعصيت قولي والمطاع غراب
لأن هذا من غث الكلام وبارده.
وكذا قول أبي تمام:
يوم أفاض جوى أغاض تعزياً ... خاض الهوى بحري حجاك المزبد
لأنه جعل الحجى مزبداً، ولا يعرف عاقل يقول إن العقل يزبد، وكذلك خوض الهوى بحر التعزي من أبعد الاستعارات.
وإنا نهنئ الأستاذ الصعيدي بتمام شرحه على الإيضاح، وندعو الله أن يقويه على هذا العمل المتواصل.
(ص)
بغداد أو المدينة المدورة في عهد الخلافة العباسية(206/82)
كان الأستاذ النبيه بشير يوسف فرنسيس قد أخرج في الصيف الماضي الجزء الأول من ترجمة كتاب (بغداد أو المدينة المدورة) لمؤلفه المستشرق الذائع الصيت الأستاذ (غن ليسترنج) وكنت في وقته قد كتبت كلمة في العدد (153) الصادر بتاريخ 8 حزيران 936 من مجلة (الرسالة) الغراء بينت فيها ما لفريق من علماء المشرقيات من الفضل الأكبر في إخراج الآثار القيمة والأسفار العظيمة، وقد وعدت القراء بنشر مقال أصف به الكتاب عند نشر الجزء الثاني، وهأنذا بعد أن تناولت الجزء الثاني - وهو المتمم للكتاب - من مؤلفه الفاضل أفي بوعدي فأقول كلمتي خدمة للحقيقة والتاريخ.
لقد بذل المؤلف في إخراج كتابه هذا جهوداً عظيمة لا تقدر بقدر حتى تمكن من إخراج كتابه إلى عالم المطبوعات بصورة متقنة مستنداً إلى أوثق المصادر التاريخية وأصدقها برهاناً وأقواها حجة، وإن هذا الكتاب لهو معجم جغرافي لمدينة بغداد وفروعها وشعباتها، ومحلاتها، وأزقتها، وشوارعها العامة والخاصة، وقبورها، وبيوتها، ودورها، وجسورها، وجميع مرافقها ومساجدها، ومعابدها، ومدارسها، ومعاهدها الدينية والعلمية منذ تأسيسها على عهد أبي جعفر المنصور المتوفى سنة (145هـ 762م) حتى انقراض الدولة العباسية بهجوم المغول على بغداد واستيلائهم عليها سنة (656هـ 1258م). نظرة بسيطة يلقيها القارئ على مقدمة الكتاب وثبت المصادر التاريخية التي استقى منها المؤلف وألف كتابه هذا تجعله يقدر ما لهذا السفر الجليل من القيمة التاريخية العظيمة التي خدم بها المؤلف العرب والعلوم التاريخية العربية، وبعد أن فرغ المؤلف من مقدمته دون الوقائع المهمة التاريخية منذ سنة (132هـ 750م) حتى سنة (640هـ 1242م) بجدول ذاكراً فيه اسم السنة واسم الخلفاء والحوادث والأبنية الحادثة والمؤرخين المعاصرين. ثم قسم الكتاب إلى أربعة وعشرين فصلاً بين فيها الحوادث الواقعة واحدة تلو الأخرى بصورة واضحة لا إشكال فيها ولا التباس، وقد وضح كثيراً من الحوادث في ثماني خرائط تبين موقع بغداد في مختلف القرون. وقد بلغت صفحات الكتاب ثلاثمائة واثنتين وعشرين صفحة من القطع المتوسط.
وبعد فإن الجهود العظيمة والأعمال الجبارة التي قام بها المترجم الفاضل لم تكن بأقل أهمية مما بذله المؤلف من الجهود.(206/83)
ويكفيه فخراً أنه بالرغم من أن التعليم مستغرق كل وقته فإنه اغتنم فرص الراحة والخلود إلى السكينة فآثر الخدمة العامة على النفع الخاص وثابر على جهاده في الترجمة وتعقيب الحوادث من مصادرها الأصلية - رغم ندورها في العراق - حتى أخرج ترجمته هذه إلى عالم المطبوعات بأحسن صورة وأبدع أسلوب. وإني لا يسعني هنا إلا أن أقدم التهاني القلبية للمترجم الفاضل، وأدعو إخوانه الشبان المتحمسين المخلصين إلى اقتفاء أثره والسير على منواله ليفيدوا بلادهم ويستفيدوا، فإن رجل الدنيا من أفاد واستفاد.
(بغداد)
إبراهيم الواعظ(206/84)
العدد 207 - بتاريخ: 21 - 06 - 1937(/)
الأدب وتحصيله
على ذكر مقال (أدب السندوتش)
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
نعي صديق الأستاذ الزيات - صاحب الرسالة - على أدباء هذا الجيل الجديد، جهلهم بلغتهم وتقصيرهم في تحصيل آدابها، وقال: (أن الواقع الأليم أن الذين درسوا لغتهم وفقهوها من الأدباء النابهين نفر قليل. فإذا استثنيت هؤلاء الستة أو السبعة وهم من الكهول الراحلين، وجدت طبقة الأدباء كطبقة الصناع والزراع والتجار يأخذون الأمور بالتقليد والمحاكاة، لا بالدرس والمعاناة) وقال أيضاً: (ولا تجد في تاريخ العربية قبل هذا العصر، ولا في تاريخ اللغات في جميع العصور، من يحسب نفسه أديباً في لغة وهو لا يعرف منها إلا ما يعرف العامي الألَفُّ).
وهذا صحيح. واحسبني من الستة أو السبعة الذين أشار إليهم الأستاذ؛ وإني لمن الكهول فقد جاوزت الأربعين وقاربت الخمسين، ولكني إن شاء الله من الباقين لا من الراحلين، فأني أحس من العزم والقوة والنشاط ما لو فرق بعضه على الأدباء النابتين أو الناجمين في زماننا هذا، لكفاهم وزيادة. ولست أكتب لأقول هذا، وإنما أريد أن أرسم للقراء صورة لأيام التحصيل الأولى. وأقول (الأولى) لأنا ما زلنا دائبين على التحصيل لا نعرف له نهاية إلا نهاية الحياة نفسها.
عرفنا القراءة والاطلاع ونحن تلاميذ في المدارس الثانوية؛ وأدع غيري وأتحدث عن نفسي فأقول إن مواردي كانت محدودة جداً؛ وكان حسبي أن أؤدي نفقات التعليم. وكنت أحمد الله إذا وجدت بعد ذلك قرشاً في اليوم. وكان من زملائي في مرحلة التعليم الثانوي الأستاذ حسن فهمي رفعت بك - وكيل الداخلية الآن - ولا أعرف كيف كان حاله، ولكني أعرف أنه كان يعيرني ما يشتري من الكتب بعد أن يفرغ منها؛ وقلما كان يسترد ما يقرضني من كتبه. وكان فريق منا يعني بأن يحضر دروس الأمام الشيخ محمد عبدة، والشيخ سيد المرصفي، وانتقلنا إلى التعليم العالي، وكتب الله لي - على خلاف ما كنت أريد - أن أدخل مدرسة المعلمين العليا، فكان مرشدي فيها وأستاذي، زميلي وصديقي الأستاذ عبد الرحمن شكري، فقد كان شاعراً ناضجا ذا مذهب في الأدب يدعو أليه؛ وكنت(207/1)
أنا مبتدئا، فصرفني عن البهاء زهير وابن الفارض وابن نباتة ومن إلى هؤلاء، ووجهني إلى الأدب الجاهلي والأموي والعباسي، ودلني على ما ينبغي أن أقرأ من الأدب الغربي. وكانوا ينقدوننا في هذه المدرسة بضعة جنيهات في الشهر: ثلاثة في السنة الأولى، وأربعة في الثانية والثالثة، فكنت أقسم هذه الجنيهات قسمة عادلة، فأدفع للبيت نصفها وأستأثر بالنصف، وأذهب إلى مكتبة فأنتقي منها (مؤونة الشهر). وكنت أعود إلى البيت بهذا الحمل فتسألني أمي، (أنفقت فلوسك كلها! وتظل طول الشهر تقول لي: هاتي!. هاتي!. أي تدبير هذا؟)
فأقول: (يا أمي. . لك مئونتك من السمن والعسل والأرز والبصل والفلفل والثوم، ولي مئونتي من المتنبي والشريف الرضي والأغاني وهازليت وتاكري وديكنز وماكولي؛ ولا غنى بك عن سمنك وبصلك، ولا بي عن هؤلاء؟)
فتبتسم وتقول: (طيب. .) وتدعو لي بالتوفيق
وكنت أشتري ديوان الشعر ورقا، أعني بغير غلاف أو تجليد، ليتسنى لي حين أخرج من البيت أن أحمل معي ملزمة أو ملزمتين، أقرأ فيهما وأنا جالس في مقهى، أو إذ أتمشى على شاطئ النيل. وكان حديثنا إذ نجتمع في الأدب والكتب؛ وكانت رسائلنا التي نتبادلها في الصيف حين نفترق لا تدور إلا على ما نقرأ؛ وكان أحدنا يلقى صاحبه في الطريق اتفاقاً فيقول له: (لقد عثرت على كتاب نفيس بغلاف فتعال نقرأه) لا يدعوه إلى طعام، أو شراب، أو سينما، أو لهو، بل إلى قراءة كتاب. وكان كل من يقع على كتاب قيم يخف به إلى صاحبه فينبئه به ويخلصه له ويحضه على اقتنائه. وكان أساتذتنا في مدرسة المعلمين يحثوننا على التحصيل وييسرون لنا أسبابه، ما وسعهم ذلك، فلما تركنا المدرسة وفرغنا من الطلب (الرسمي) كنا قد عرفنا أمهات الكتب في الأدبين العربي والإنجليزي، وغيرهما أيضاً من الآداب، ودرسنا أكثر شعراء العرب والغرب، وكان لكل منا مكتبته الخاصة المتخيرة
وتزوجت. وفى صباح ليلة الجلوة، دخلت مكتبتي ورددت الباب. وأدرت عيني في رفوف المكتب، فراقني منها ديوان (شيللي) فتناولته وانحططت على كرسي وشرعت أقرأ، ونسيت الزوجة التي ما مضى عليها في بيتي إلا سواد ليلة واحدة؛ وكانوا يبحثون عني في(207/2)
حيث يظنون أن يجدوني - في الحمام، وفي غرفة الاستقبال، وفي (المنظرة) - حتى تحت السرير بحثوا، ولم يخطر لهم قط أني في المكتبة، لأني (عريس) جديد لا يعقل في رأيهم أن يهجر عروسه هذا الهجر القبيح الفاضح! وكانت أمي في (الكرار) أو المخزن تعد مالا أدري لهذا الصباح السعيد، فأنبئوها أني اختفيت كأنما انشقت الأرض فابتلعتني، وأنهم بحثوا ونقبوا في كل مكان فلم يعثروا لي على أثر، فما العمل؟
فضحكت أمي وقالت: (ليس في كل مكان. . . أذهبوا إلى المكتبة فأنه لا شك فيها).
فقالت حماتي وضربت صدرها بكفها: (في المكتبة؟ يا نهار أسود! وهل هذا وقت كتب وكلام فارغ؟).
فقالت أمي بجزع: (أسمعي. . . كل ساعة من ساعات الليل والنهار وقت كتب. . . أفهمي هذا وأريحي نفسك، فأن كل محاولة لصرفه عن الكتب، عبث).
فقالت حماتي: (لو كنت أعرف هذا. . . مسكينة يا بنتي. . . وقعت وكان ما كان).
فقالت أمي: (هل تكون مسكينة إذا وطدت نفسها على هذه المعرفة؟ ويحسن أن تكبحي لسانك، وأن تدعي الأمر لبنتك فانه من شأنها).
فلم تكبح لسانها بل قالت: (لو كانت ضرة. . . لكان أهون!).
فقالت أمي: إنك حمقاء. . . وليس في الأمر ما يحوج إلى هذا الهراء. . . أذهبي إليه وناديه. . .).
فارتدت إليّ، وفتحت الباب علي، وكنت ذاهلا؛ فلما شعرت بالباب يفتح أزعجني ذلك، فأشرت إلى الداخل أن يرجع من غير أن أنظر إليه؛ وكنت مقطباً، وكان لساني يخرج أصواتاً كهذه: (شش! شش!).
فخرجت المسكينة وأغلقت الباب، وذهبت تقول لأمي والدموع تنحدر من عينيها إني طردتها وصحت بها: (هشش!) كما يصاح بالدجاج؟
وقد عرفت هذا كله فيما بعد، فطردتها، لأن خفت أن تخرب لي البيت؛ ثم إني تزوجت بنتها، ولم أتزوجها هي، فما مقامها عندي ولها بيت طويل عريض وزوج كريم؟ وكان رأي بنتها فيها مثل رأيي، فلم يسؤها مني ما فعلت. وأراحنا الله من دوشتها، ولكن زوجتي كانت تقول إلى آخر أيام حياتها رحمها الله: (ليس لي ضرة سوى هذه الكتب) - كانت تقول لها(207/3)
مازحة، فقد راضت نفسها على احتمال هذا الجنون مني، واستطاعت أن تدرك أنه ليس لها ولا لسواها حيلة، وأن في الوسع صرفي عن أي شيء إلا الكتب والدرس.
ويا ما أذكى المرأة!! تكون لها حاجة تريد مني قضاءها، وتخشى رفضي وعنادي، فتكتمها ولا تكاشفني بها، وتنتظر حتى تراني غارقاً في كتاب، وذاهلا به عن الدنيا، وآية الذهول أن تدخل مرات فلا أشعر بها، فتقبل علي وتلاطفني وهي عارفة بما سيكون مني، فأعبس، كما كانت تتوقع، فتقول (كلمة واحدة. . . لن أعطلك. . .).
فأقول متململاً متأففاً: (لا حول ولا قوة إلا بالله! قوليها يا ستي ولا تعطليني) فتطيل عامدة لتضجرني: (كلمة واحدة بس. . . لماذا تغضب هكذا؟. . . ألا يتسع صدرك لكلمة ليس إلا؟)
فأكاد أجن وأقول: (يا ستي قوليها، وأريحيني!)
فتقول: (المسألة الفلانية. . .)
وأنهض، وأمضي بها إلى الباب وأنا أقول: اصنعي ما تشائين. كل ما بدا لك اصنعيه، ولكن لا تعطليني. . . أنا محتاج لعقلي كله الآن. . . ألا تفهمين؟ هذه نسخة مخطوطة، منسوخة. . . من ديوان أبن الرومي. . . نسخها حمار كلها غلط وتحريف وتصحيف،. . . ليس فيها بيت واحد له معنى. . . فكيف يمكن أن أصلح غلطة واحدة إذا كنت تطيرين لي عقلي بالفساتين والخياطة والركامة. . .؟؟. . .)
فتبتسم، فقد بلغت سؤلها، وتعدني أن تحرس هذا الباب فلا تترك أحداً يدخل منه أو يقربه.
ومن العناء الذي تكلفته أني اشتريت الأغاني الذي طبعه (الساسي) - اشتريته ورقاً على عادتي، فكنت أراجع الأبيات التي ترد فيه، في دواوين الشعراء أو كتب الأدب الأخرى، فأصلحها أو أتمم القصيدة - أنسخ ذلك في ورقة وألصقها في الكتاب، وكلما فرغت من جزء جلدته، وقد أصبح ضعف ما كان؛ وهذا هو الكتاب الوحيد الذي بعته بأضعاف ثمنه، فقد اشتريته بمائة قرش وخمسة قروش، فلما بعت مكتبتي في سنة 1917 أو 1918 - لا أذكر - ابتاعه مني وراق بخمسين وسبعمائة قرش، وقد ندمت على بيعه، فما أستطيع أن أصنع الآن ما صنعته قديماً، ولكن العناء الذي تكبدته نفعني، فقد أحوجني إلى مراجعات لا آخر لها، وأطلعني على ما كنت خليقاً أن أخطئه فيفوتني العلم به(207/4)
وأنا مع ذلك أقل الثلاثة - العقاد وشكري - اطلاعاً وصبراً على التحصيل. وأدع للقارئ أن بتصور مبلغ شرههما العقلي؛ ولا خوف من المبالغة هنا، فإن كل ظني دون الحقيقة التي أعرفها عنهما. وأنا أجتر كالخروف، ولكنهما يقضمان قضم الأسود، ويهضمان كالنعامة، فليتني مثلهما!
إبراهيم عبد القادر المازني(207/5)
كثرة البطولة أو ندرتها؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
لخص العالم الفاضل الأستاذ أحمد أمين ما بيننا من خلاف على مسألة النبوغ والبطولة في ختام مقاله فقال:
(عصرنا الحاضر طابعه طابع المألوف والمعتاد لا طابع النابغة والبطل، وإن كان مألوفنا ومعتادنا أرقى من نابغة القرون الماضية وبطل القرون الماضية
(أن كان هذا - يا أخي - هو الذي أردتُ فأظن أنه لا يرد علي بمزايا العصر الحاضر، وعلم العصر الحاضر، وفن العصر الحاضر. وإذا كان النبوغ في السبق وكانت المقارنة بين عصرين بقياس مسافتي البعد، فأرجو أن نكون على وفاق فيما ذكرتَ وذكرتُ)
وموضع الوفاق بين ما قال الأستاذ وما قلت أننا لا ينبغي أن نقيس علم السابقين إلى علم المحدثين، فليست المقارنة بين مقدار ما نعلم ومقدار ما يعلمون، وإنما المقارنة بين الملكات في الزمن الماضي، والملكات في الزمن الحاضر، وهذا ما نختلف عليه؛ إذ لا موجب عندي لأن تكون ملكات النابغين في عصرنا أقل مما كانت في عصر الأقدمين
إن النبوغ صفة في أصحابها وليست صفة في غيرهم، فإذا تعلم غير النابغين أو لم يتعلموا فصفة النبوغ باقية في أصحابها سواء ظهروا بين المتعلمين أو ظهروا بين الجهلاء. وكل ما هنالك من فرق أن النابغة الذي يظهر بين المتعلمين أنبغ من زميله الذي يظهر بين الجهلاء، وتلك شهادة للنابغين في العصر الحديث تضاف إلى ميزان الحسنات والمرجحات
ومسافة البعد بين النابغ القديم ومعاصريه، هي مسافة البعد بين نابغينا وأبناء عصرنا إذا نحن تجاوزنا مسألة التعليم ووفرة المتعلمين، لأن النبوغ ملكة مطبوعة، والمسافة بين المطبوعين وغير المطبوعين اليوم هي هي المسافة بين الفريقين قبل مائة عام أو ألف عام. فليس فضل إديسون في زماننا أنه يعرف في علم الضوء وعلم الصوت ما ليس يعرفه أبناء عصره، ولكنما فضله أنه نابغ وهم غير نابغين، فأفاد بالعلم اليسير ما لم يفده الآخرون بالعلم الغزير، وظلت المسافة بينهم وبينه في النبوغ كالمسافة بين أرخميد ومن عاصروه من غير النابغين، وإن أختلف العصران في شيوع العلم وكثرة المتعلمين
يقول الأستاذ الفاضل: (مقياس النابغة في نظري أن يفوق أهل زمانه ويسبقهم في فنه أو(207/6)
علمه أو أدبه حتى لا يدركوه إلا بعد أزمان، وعلى مقدار هذا السبق يكون النبوغ. فسيبويه نابغة في النحو، لأنه رأى من قواعده ما عجز أهل زمانه عن النظر إليه).
وأنا أقول كما يقول الأستاذ: إن النابغة يفوق أهل زمانه في معرض من معارض العلوم والفنون، ولكني لا أقول إن عصرنا لم ينجب أمثال سيبويه، بل أقول إن سيبويه لو عاش في عصرنا لما فاق نوابغه الأحياء. وإن نوابغنا الأحياء لو عاشوا في عصره لما قصروا عن شأوه، لأن الملكات التي تعرف وحدة الأسماء والأفعال بين لغات أوربا ولغات آسيا لا تقل عن الملكات التي تعرف الوحدة أو الاختلاف بين قبيلة وقبيلة من أبناء البادية، لا لأن الأمر يرجع إلى كثرة المتعلمين عندنا وقلة المتعلمين قبل نيف وعشرة قرون.
وعندي أن المعاصرين ينظرون إلى نوابغهم وأبطالهم كما كان الأقدمين ينظرون إلى النوابغ والأبطال في عصورهم إلا من كان منهم موسوماً بسمة الدين أو محوطاً بهالة الإيمان.
فالأستاذ يقول أن نابليون ظهر (فاستعبد الناس وأجرى الدماء أنهاراً وقلب الممالك رأساً على عقب ودوخ الدنيا فكان نابغة حقاً في ناحية. وبيننا الآن في عصرنا من هم أعلم منه بفنون الحرب ومن هم أقوى منه إرادة وأبعد نظراً، ولكن من الصعب أن نسميهم نوابغ، لأن الناس ليسوا مغفلين كما كانوا أيام نابليون. ولأنه وحده هو القاهر المريد ومن حوله كانوا المنفذين المأمورين، فظهر ولم يظهروا، ونبغ ولم ينبغ بجانبه إلا قليل).
فليت الأمر كما يبشرنا الأستاذ من هذه الناحية: إنما الواقع أن أحداً من أبناء القرن الثاني عشر لم يناد بأن الإمبراطور معصوم كما ينادي الفاشيون من أبناء القرن العشرين بعصمة (ألد وتشي) وطاعته بغير تفكير ولا امتعاض.
والواقع أن نابليون لم يجسر يوماً على صنيع كالذي صنعه (الفوهرر) قبل ثلاث سنوات من (تطهير) البلاد بلا محاكمة ولا سؤال.
وقد كان (لفين) ينحي على القديسين، ولا يعترف للعظماء بأثر في توجيه التاريخ إلى الأثر الذي يعترف به الشيوعيون، فلما مات أقاموا له ضريحاً لم يحلم به كاهن ولا راهب في عهد القياصرة أو عهد الكنائس والقديسين.
وإننا لنسمع كل يوم عن الألوف التي تندفع حول نوابغ الصور المتحركة للظفر بتوقيع(207/7)
بطاقة أو صورة شمسية، كما نسمع بالألوف التي تتدفع من أجل هذا حول أبطال الألعاب الرياضية وأبطال السياحة والطيران وأشباههم من أصحاب الشهرة في كل ميدان يتصل بالجماهير. أما العلماء والأدباء فمن نبغ منهم وأشتهر فليس نصيبه من الإعجاب والجزاء بأقل من نصيب أمثاله قبل أجيال وأحقاب، ومن لم ينبغ ولم يشتهر فله قرناء يماثلونه بؤساً وغبناً وشظفاً في أقرب العصور وأبعد العصور.
لا، بل نحن لا نستثني أصحاب المكانة الدينية على إطلاق الاستثناء، فما يربحه الدعاة باسم الدين اليوم لا يقل عما كانوا يربحونه في الأيام الخالية؛ والثقة بأغاخان اليوم وهو يعيش في أوربا عيشة المترفين والمتطلقين لا تقل عن الثقة بإمام زاهد عاكف على العبادة كان يعيش في صومعته قبل عصر الكشف والاختراع.
ولم ننفرد نحن بإكبار البعيد في الزمان أو المكان وترجيحه على أنداده وقرنائه الذين نراهم رأى العين ونعرفهم بالمصاحبة واللقاء، فقديماً كانوا يقولون إن زامر الحي لا يحظى بإطراب، وقديماً كان الجاحظ يكتب الرسائل وينحلها الكتاب الأسبقين ليحظى بالإصغاء والتقريظ.
وأحسب أن إيثار الماضي على هذا النمط له علة شائعة بل علل شائعات لا تنحصر في وقت ولا يخلو منها قبيل.
فالماضي يشبه المثل الأعلى لأنه غائب عن الأنظار كالمثل الأعلى في هالاته وخيالاته، أما الحاضر فهو كالواقع المحسوس الذي نحب أبداً أن نتجاوزه ونطمح إلى ما وراءه.
ولقد كان المشركون ينكرون النبي عليه السلام ولا ينكرون منه إلا أنه (يأكل الطعام ويمشى في الأسواق). ترى هل كان الأنبياء فيما مضى لا يأكلون طعاماً ولا يمشون في سوق؟ كلا بل كانوا يأكلون ويمشون، ولكنهم بعدوا واحتجبوا فخيل إلى غير معاصريهم أنهم مختلفون.
ومن العلل التي تجنح ببعضهم إلى تهيب (السلف الصالح) أننا ننظر إليهم كما ننظر إلى الآباء والأجداد، كأنهم كبار ونحن صغار، لأنهم ولدوا قبلنا بمائة عام أو مئات من الأعوام، وينسى المتهيبون أن السابقين كانوا أطفالا في سن الطفولة وأننا سنصبح شيوخا مع السنين أو نربى في الشيخوخة على أولئك الآباء والأجداد(207/8)
ومن تلك العلل ما أومأنا إليه في مقالنا الأول عن سهو الذين يقارنون بين الماضي والحاضر فيجعلونها كفتين تتساويان في نطاق الزمان والمكان، مع أن الحاضر زمن واحد والماضي حاضر قد تتكرر عشرات ومئات
وعندنا نحن الوارثين للثقافة العربية سببان آخران لا يلحظان بهذه القوة في جميع الشعوب: أحدهما أن العربي يعتز بالأنساب وينوط الفخر كله بماضيه، لأنه سلالة من القبائل التي تغلب فيها العصبية وترسخ فيها الأصول.
والثاني أن الماضي أقرب إلى منشأ الدين، فيخيل إلينا أن الأقدم فالأقدم هو الأصلح فالأصلح والأعلم فالأعلم، وإن لم تدلنا الدلائل على اطراد هذا القياس
تلك الأسباب كلها خليقة أن تضعف احتراسنا كلما عمدنا إلى الموازنة بين حاضر وغائب وقريب وبعيد. فهي صنجة تؤخذ من كفة الأقدمين وتضاف إلى كفة المحدثين في ميزان الأنصاف. ومما لاشك فيه أن ملكات النبوغ لا تقل في عصرنا بل هي أحجى أن تزيد وتنشط، بل هي قد زادت ونشطت فعلا باتساع مجال السعي والمنافسة والتفكير والاستنباط؛ ومما لا شك فيه أن الأقدمين لم ينظروا إلى معاصريهم إلا كما ننظر نحن إلى معاصرينا، وأنهم لم يشعروا قط بتلك المهابة التي نضفيها عليهم الآن ولا بذلك الترجيح الذي نمحضهم إياه. أما أنهم كانوا يرون نوابغهم وأبطالهم كما نراهم الآن فذلك ما نخالف فيه الأستاذ لأنه خلاف المعهود والمروي والمسطور. وهبهم أكبروا معاصريهم لأنهم قلائل، وأصغرنا معاصرينا لأنهم كثيرون لا نادرون كما يقول الأستاذ الفاضل، فإنما يكون ذلك كالذهب الذي يكثر تداوله فيرخص سعره وهو ذهب لا شك فيه. وإنما يكون النبوغ نبوغاً ولا يكون شيئاً آخر مهما يكن حظ الناس من التعليم، لأنه ملكة في الطباع لا يختلف كنهها وإن اختلفت أنظار الناس إليها، ولا تزال الإنسانية بحاجة إلى الكثير منهم والقليل
وخلاصة القول إننا نستطيع أن نقول مع الأستاذ الكبير إن النبوغ في عصرنا كثرة لا ندرة، ولا نستطيع أن نقول معه أن المسافة بين النابغ وسواد الناس تقترب في العصر الحديث، لأن ازدياد التعليم يزيد نصيب المتعلم من المعرفة ولا يخوله فطرة أخرى ولا ملكة مطبوعة كتلك التي يخلق بها النابغون الممتازون
عباس محمود العقاد(207/9)
العلم والوطنية
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
من الأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري
مدير دار الآثار ببغداد
قرأت الكلمة الرشيقة التي دبجتها يراعتكم الفنانة، في صدد الرد على استفتاء الرابطة العربية حول مسألة (العلم للعلم أم العلم للوطنية؟)
قرأتها بإمعان واهتمام، وأعجبت بالأخيلة والتشبيهات التي تحلت بها؛ غير أنني لم أقتنع بصحة الأفكار والآراء التي تضمنتها
لقد قلتم بصيغة التأكيد الحاسم: (العلم والوطنية لا يمكن أن يتفقا. . .)
إذن فأنتم تعتقدون أن العلم والوطنية مختلفان؛ وزيادة على ذلك تقولون بأن اختلافهما هذا سيستمر إلى الأبد، ولن يزول في يوم من الأيام. . .
على أني أعترف أيها الأستاذ بأنني من الذين يدينون بدين العلم والوطنية في وقت واحد، ومن الذين يقولون على الدوام بوجوب (نشر الروح العلمي) من جهة، و (تقوية الشعور الوطني) من جهة أخرى
أفلا تعذرونني إذن إذا ما اعتبرت نظريتكم هذه من الخطورة بمكان، فأخذت على عاتقي مناقشتكم فيها مناقشة شاملة لإظهار الحقيقة التي اعتقدها؟
تقولون، أيها الأستاذ، بأن (العلم والوطنية لا يمكن أن يتفقا) وتحاولون أن تبرهنوا على هذه الدعوة بثلاث قضايا:
(إن الوطنية هي الأنانية في المجموع)
(والأنانية عمياء)
(والعلم هو البصر - المنزه - بحقيقة الأشياء. . .)
إنني لا أود أن ابدأ المناقشة بالبحث عن مبلغ صحة هذا القضايا؛ بل أود أن أسلم بها مؤقتاً، لأرى هل تكفي للدلالة على صحة رأيكم في هذا الصدد. . .
تقولون: (إن الوطنية هي الأنانية في المجموع) فهل تستطيعون أن تقولوا - في الوقت(207/11)
نفسه - بأن العلم ينكر الأنانية على الإطلاق، ولا يعترف بأثرها في حياة الحيوان والإنسان؟
تقولون: (إن الأنانية عمياء) فهل تستطيعون أن تقولوا - في الوقت نفسه - إن العلم يخالف كل ما هو أعمى؟ أفتنكرون أن القوى الطبيعية أيضاً عمياء؟
تقولون: (إن العلم هو البصر المنزه بحقيقة الأشياء) فهل تستطيعون أن تأتوا ببرهان يدل على أن الوطنية (خارجة عن حقائق الأشياء)؟. . .
كلا. . إن الوطنية قوة اجتماعية فعالة، ليس إلى إنكارها من سبيل. . . آثارها تظهر دائماً، من خلال الوقائع التاريخية والحادثات الاجتماعية، بكل وضوح وجلاء فهي تدخل لذلك في نطاق (حقائق الأشياء). كما تدخل فيه سائر القوى والمؤثرات الطبيعية، كالوراثة والمناعة والمغناطيسية والجاذبية. . .
فإذا أردنا أن نجعل الوطنية موضوع بحث علمي، يجب أن ندرسها كما ندرس الحادثات والقوى الطبيعية بوجه عام، والحادثات والقوى الاجتماعية بوجه خاص. . .
ولا جدال في أن العلم يدرس الكون وحادثات الكون (بحياد تام). يدرس خواص الأشياء، ويتتبع سير الحادثات ويتحرى أسبابها، ويستقصي قوانينها؛ وقد يتنبأ في بعض الأحوال بمستقبلها أيضاً، استناداً إلى القوانين التي اكتشفها والعوامل التي أظهرها. . . إنه يفعل كل ذلك، دون أن يقدم على استحسان أو استهجان الحقائق الثابتة بوجه من الوجوه، دون أن يتأثر بموافقة أو مخالفة تلك الحقائق لمصالحنا المادية أو لنزعاتنا الفكرية بصورة من الصور. لأن مهمة العلم تنحصر في معرفة حقائق الأشياء واكتشاف قوانين الحادثات، ولا يتعدى ذلك إلى تحبيذ أو تقبيح تلك الحقائق أو استحسان أو استهجان تلك القوانين. . .
لنا أن نتخيل كوناً غير هذا الكون، ولنا أن نتصور (مجتمعاً غير هذا المجتمع)، ولنا ألا نكتفي بالتخيل والتصور بهذه الصورة، بل نوصل الأمر إلى درجة التمني، فنتمنى أن يتحول الكون إلى الحالة التي تخيلناها، وأن يتطور المجتمع إلى الهيأة التي تصورناها. . ولنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك أيضاً:
لنا أن نعتبر ما تخيلناه وتصورناه في هذا الباب مثلاً أعلى نسعى إلى تحقيقه بنشاط وحماس، وهدفاً أسمى نتجه نحوه بقوة واندفاع. . . لنا أن نفعل كل ذلك، على أن نعلم في(207/12)
الوقت نفسه، بأن تفكيرنا وعملنا في هذا السبيل يكون من قبيل الشعر أو الفلسفة أو السياسة. . . فلا يدخل في نطاق (البحث العلمي) بوجه من الوجوه. .
لكم، أيها الأستاذ، أن تتمنوا زوال الأنانية من الأمم؛ ولكم أن تصبوا إلى رؤية مجتمع تتغلب فيه مصلحة الدول على مصلحة الدولة الواحدة، ولكم إذا شئتم أن تقوموا بدعاية ترمي إلى تضحية مصلحة الدولة الواحدة إلى مصلحة سائر الدول. . . فأني لا أناقشكم في كل ذلك في هذا المقام؛ غير أنني أقول بأنه لا يحق لكم بوجه من الوجوه أن تعزوا تمنياتكم ونزعاتكم هذه إلى (العلم) فتقولوا (العلم لا يتفق مع الوطنية)
فأن العلم لا يختلف الآن إلا مع ما يخالف الواقع. . وأننا مهما تعمقنا في تحليل طبيعة العلم من جهة وطبيعة الوطنية من جهة أخرى لا نجد بينهما ما يستوجب الاختلاف بوجه من الوجوه.
بعد أن وصلنا إلى هذه المرحلة من المناقشة أرى أن نترك هذه (الأحكام الآنية) جانباً، لنستقرئ الوقائع التاريخية فننظر فيما إذا كان العلم والوطنية قد اتفقا أم اختلفا فعلاً في مختلف الأجيال. . .
إنني أستطيع أن أذكر وقائع تاريخية كثيرة تشهد على (اتفاق العلم مع الوطنية) و (خدمة العلم للوطنية) بصورة فعلية، لعل اقدم هذه الوقائع يعود إلى عهد (أرخميديس) الشهير، ويتعلق بقصة مقاومته للرومان، فأن هذا العالم الكبير الذي يعتبر من آباء علم الميكانيك، والذي يتردد أسمه حتى على ألسنة طلاب المدارس الابتدائية في دروس الطبيعة والأشياء، هذا العالم الكبير لعب (بعلمه) دوراً هاماً في تاريخ وطنه سيراقسة، فعندما حاصرها الرومان، وضع كل ما عنده من علم وقوة وتفكير واختراع إلى خدمة وطنه، فأستعمل المنجنيقات والمرايا المحرقة لتخريب أسطول المحاصرين، فمكن المدينة منَ الدفاع عن نفسها دفاع الأبطال، إذن، فالعلم والوطنية اتفقا في نفسية أرخميديس في أمر الدفاع عن الوطن المحصور، ولم يختلفا بوجه من الوجوه.
أن الثورة الفرنسية أيضاً تعطي لنا مثالاً بارزاً (لتعاون العلم والوطنية): عندما تألبت الدول الأوربية على فرنسا بقصد خنق الثورة في مهدها، جابهت الدولة المذكورة مشكلة كبرى، كادت تقضي عليها لولا مساعدة العلم والعلماء لها، فأن الحصار الذي أحاط فرنسا بالنار(207/13)
والحديد من كل الجهات، حرم رجال الثورة إمكان استيراد المواد الأصلية الضرورية لصنع الصابون والبارود والمدافع والأسلحة، عندئذ فكرت لجنة الدفاع الشعبي في الاستفادة من علماء الكيمياء، فاستنهضت هممهم لتخليص الوطن من هذه المحنة. ومن هؤلاء العلماء (برتوله) و (فوركروا) وجهوا أبحاثهم العلمية وجهودهم الفكرية، نحو أيجاد الطرق التي تساعد على إحضار المواد المذكورة بصورة صناعية من المواد الموجودة داخل البلاد، فنجحوا في مسعاهم هذا وخدموا وطنهم بذلك أجل الخدمات.
وأما بعد ذلك فنستطيع أن نقول: إن (خدمات العلم للوطنية) أصبحت من الأمور الاعتيادية التي يصعب إحصاؤها فأن صحائف تاريخ العلوم من جهة وتاريخ الدول من جهة أخرى مملوءة بأمثلة دالة على ذلك، ولاسيما ما حدث منها خلال الحرب العالمية.
وربما تقولون أيها الأستاذ، (إن هذه كلها من الأمور التطبيقية) وستكررون في هذا المقام رأيكم في (العلم وتطبيق العلم) لأنكم قلتم في كلمتكم (فالعلماء الحقيقيون لا يطبقون العلم، إنما يعيشون حياتهم للمعرفة المجردة لا يبتغون من ورائها غير مجرد الدنو منها، تلك لذتهم الكبرى، أما رجال الأعمال الذين يأتون بعد ذلك لاستغلال نتائج هذا العلم فليسوا من العلماء وإن درسوا العلم دراسة عميقة)
فاسمحوا لي أن أقول: إن الطبيعة بعيدة عن مثل هذه التقسيمات القطبية في أمر (العلوم وتطبيقاتها) فأن استغلال نتائج العلوم - بعد اكتشافها - لا يكون دائماً من عمل رجال آخرين غير العلماء المكتشفين، بل كثيراً ما نشاهد في تاريخ العلوم أن العالم الباحث، بعد أن يتوصل إلى معرفة الحقائق واكتشاف القوانين ينتقل بنفسه إلى التفكير في النتائج المأمولة والفوائد المتوقعة منها، ويبحث عن تطبيقاتها فهل يحق لنا - في هذه الحالة - أن نخرجه من عداد (العلماء بحجة أنه لم يكتف باكتشاف الحقيقة، بل تعدى ذلك إلى التفكير في الاستفادة منها؟ فهل يحق لنا مثلا ألا نعتبر أرخميديس من (العلماء الحقيقيين) بالرغم من نظرياته واكتشافاته العلمية الكثيرة - لمجرد إقدامه على تطبيق بعض القوانين التي اكتشفها؟ وهل يحق لنا أن نخرج (برتوله) من عداد العلماء - بالرغم من نظرياته وقوانينه المشهورة - لمجرد عدم اكتفائه باكتشاف تلك القوانين - وإقدامه على توجيه بعض أبحاثه العلمية إلى الاتجاه الذي تتطلبه منه خدمة الوطن؟.(207/14)
كلا. . . إن مبدأ (العلم للعلم) يتطلب البحث عن الحقائق لنفسها ولو لم ينتظر فائدة من وراء معرفتها، غير أنه لا يتطلب الامتناع عن الاستفادة منها.
إن هذا المبدأ يتطلب الاعتراف بالحقائق الثابتة، مهما كانت نتائجها؛ غير أنه لا يتطلب الامتناع عن توجيه الأبحاث العلمية نحو الحقائق التي ينتظر الحصول على فائدة وطنية من وراء معرفتها.
هذا وإتماماً لاستقراء الوقائع التاريخية، يجب عليّ أن أشير إلى بعض الحوادث التي تدل على حدوث شيء من المخالفة والمشادة بين رجال العلم ورجال الوطنية في بعض الأحوال: إن تاريخ الثورة الفرنسية يعطينا مثالاً بارزاً لذلك: فأن رجال الثورة أعدموا (لافوازييه) الذي يعتبر مؤسس علم الكيمياء الحديث، و (بايلي) الذي أشتهر بأبحاث فلكية هامة؛ وسجنوا (كوندورسه) الذي كان من كبار المفكرين، فاضطروه إلى الانتحار تخلصاً من المقصلة والعذاب. . .
كما أن الانقلاب الألماني الأخير أعطانا مثالاً جديداً لذلك: فأن الحكومة الوطنية، طردت من البلاد عدداً غير قليل من العلماء، وعلى رأسهم (إينشتاين) الشهير. . .
غير أنه يجب علينا أن نلاحظ أن هذه الوقائع لا تدل على خصام بين العلم والوطنية، من حيث الأساس. لأن العلم قلما يتفرغ إلى الأبحاث العلمية تفرغاً مطلقاً، فأنه لا يتجرد عادة عن الحياة الشخصية، بل كثيراً ما يقوم ببعض الأعمال السياسية أيضاً، كما أن تفكيراته لا تكون علمية في كل الموضوعات، إذ أنه قد يفكر كما يفكر سائر الناس في المسائل التي تخرج عن نطاق اختصاصه، ولا سيما في الأمور التي تدخل ساحة الدعايات الحزبية والأعمال السياسية. فإذا ما تحدث مخالفة بينه وبين رجال السياسة الوطنية، يكون قد حدث ذلك بالرغم من علمه لا بسبب علمه.
فأن (لافوازييه) مثلاً كان من النبلاء الذين يحملون لقب (المركيز) كما أنه كان من (الملتزمين) الذين كانوا يشتغلون بجباية الضرائب من الناس. فإذا ما اتهمه رجال الثورة الفرنسية - بحق أو بغير حق - بالخيانة للوطن، وحاكموه فاعدموه، إنما كان ذلك من جراء صفاته وأعماله هذه، لا من جراء أبحاثه وآرائه العلمية.
وكذلك الأمر في (إينشتاين): فأن أبحاثه العلمية ونظرياته الفلسفية لم تجرده عن النزعات(207/15)
الطائفية ولم تبعده عن الأعمال السياسية. فإذا وجد رجال الحكومة الوطنية الألمانية - بحق أو بغير حق - في سلوكه وسلوك طائفته ما يضر بسلامة الوطن، كان ذلك من جراء أعماله وأعمال طائفته السياسية، لا من جراء أبحاثه وآرائه العلمية.
وربما كان من المفيد أن نذكر رأي بعض العلماء لإِيضاح هذا البحث أكثر مما تقدم. وربما كان رأي (باستور) الشهير من أبلغ الشهادات في هذا الباب:
إن هذا العالم الذي يعتبر بحق من العلماء الذين انتظمهم الروح العلمي بأكمل معانيه، والذي قام بسلسلة أبحاث تعد بحق من أبرز وأنجع الأمثلة للطريقة التجريبية. . . هذا العالم الكبير كان وطنياً متحمساً طول حياته؛ وقد قال في خطبة بليغة ألقاها في أحد المؤتمرات الأممية:
(لا وطن للعلم أو بالأحرى، وطن العلم يشمل العلم بأجمعه ومع هذا لكل عالم وطن وعلى كل عالم أن يهتم بكل ما يخدم مجد وطنه ففي كل عالم حقيقي كبير تجدون دائماً وطنياً كبيراً)
والآن بعد الانتهاء من هذه المناقشة، اسمحوا لي أن أعود إلى إحدى القضايا التي كنت سلمت بها جدلاً، وهي أولى القضايا الثلاث التي سقتموها للبرهنة على عدم إمكان اتفاق العلم والوطنية:
(الوطنية هي الأنانية في المجموع)
إنني لا أنكر صحة القضية من حيث الأساس، غير أنني أرى من الضروري أن نتبعها بقضية ثانية فنقول:
(الوطنية هي الأنانية في المجموع، غير أنها التضحية والإيثار في الفرد. . .)
نعم أن الوطنية هي التضحية والإيثار - بالنسبة إلى أفرد البشر، وإن كانت من قبيل الأنانية بالنسبة إلى الكتل البشرية. ونستطيع أن نقول: أنها أرقى أشكال التضحية والإيثار. فإن مظاهر التضحية والإيثار لا تتجلى في مجال من مجالات أعمال الإنسان بالتنوع والسمو والقوة التي تتجلى بها في مجال الوطنية. وأما مظاهر الإيثار التي تنشأ من الشعور الأممي فإنها لا تذكر بجانب ذلك. . .
إنني لا أود أن أتوسع في هذه المسألة الآن غير أنني أود أن أختم هذه الرسالة بإحدى(207/16)
الكلمات التي قالها جان جاك روسو بأسلوبه الخلاب:
(بعض الناس يحبون أبناء الصين، وذلك لكي يتخلصوا من الواجبات الفعلية التي يتطلبها منهم حب أبناء وطنهم الأقربين)
(بغداد)
أبو خلدون(207/17)
في التاريخ السياسي
الحرب الأهلية الأسبانية وخطرها على السلام
بقلم باحث دبلوماسي كبير
حينما اضطرمت الحرب الأهلية الأسبانية في أواخر يولية الماضي، لمحنا في حوادثها منذ البداية عوامل معركة دولية خطرة وكنا يومئذ نتلمس القرائن والأدلة لتأييد هذا الرأي، لأن العوامل الدولية التي كانت وراء هذه المأساة لم تكن قد وضحت بعد بصورة جلية، بيد أنه لم تمض عدة أسابيع على ذلك، حتى تكشفت هذه العوامل واضحة، وحتى بدأ إصبع إيطاليا وألمانيا ظاهراً وراء الثورة الأسبانية يذكى ضرامها ويمدها بكل صنوف المعاونة العسكرية والسياسية، وحتى بدت روسيا السوفيتية في جهة أخرى وراء الجبهة الجمهورية الأسبانية تؤيدها بكل ما وسعت وتمدها بالأسلحة والذخائر والفنيين، وحتى بدت إنكلترا وفرنسا أيضاً من وراء الجبهة الجمهورية تمدها بعونها السياسي والأدبي. وآثرت إنجلترا وفرنسا الأخذ بسياسة عدم التدخل في المشكلة الأسبانية ونجحتا في حمل الدول الأخرى أعني إيطاليا وألمانيا وروسيا والبرتغال على إقرار هذه السياسة، وتألفت لجنة عدم التدخل الدولية في لندن. وبينما كانت هذه اللجنة تسير في مباحثها وقراراتها ببطء وتسويف ظاهرين كانت المعركة الدولية في أسبانيا تتفاقم يوماً بعد يوم ويتوالى نزول القوات الإيطالية والألمانية في الثغور الأسبانية لتشد أزر الجبهة الثورية، وتتوالى الإمدادات الروسية لتشد أزر الجبهة الجمهورية ويتسع تدخل إيطاليا وألمانيا في أسبانيا نفسها، وفي جزر البليار ومراكش الأسبانية بشكل يزعج فرنسا وإنكلترا. عندئذ خطت السياسة البريطانية خطوة أخرى واستطاعت بعد مفاوضات ومباحثات طويلة أن تحمل الدول الممثلة في لجنة عدم التدخل على إقرار مشروع دولي لرقابة الشواطئ والحدود الأسبانية وذلك لمنع الإمدادات الأجنبية عن الفريقين المتحاربين، وتطبيق سياسة عدم التدخل بطريقة فعلية، وترك المشكلة الأسبانية يحلها الشعب الأسباني وحده، وبذلك تحصر الحرب في أسبانيا، ويحمى السلام الدولي من عواقبها.
وننفذ مشروع الرقابة الدولية منذ عدة أسابيع. واشتركت فيه إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال، وحصرت الشواطئ والحدود الأسبانية على يد السفن الدولية والمراقبين(207/18)
الدوليين. ولكن الواقع أن إيطاليا وألمانيا كانتا قد بعثتا إلى أسبانيا قبل تنفيذ مشروع الرقابة من القوات العسكرية والجوية - لمعاونة الجنرال فرانكو زعيم الثورة الأسبانية ما اعتقدتا أنه كاف لإحراز الجبهة الثائرة النصر النهائي على الجمهوريين وإقامة الحكم الفاشستي المنشود في أسبانيا على أنقاض الحكم الجمهوري، بل ظهر أن إيطاليا وألمانيا لم تكفا عن إرسال الإمداد حتى بعد أن نفذ مشروع الرقابة، على أن الرقابة الدولية أفادت في تضييق نطاق المعاونات الخارجية، وحصرت احتمالات الحرب الأهلية نوعاً.
وفي أثناء ذلك حاولت السياسة البريطانية أن تتقدم خطوة جديدة في تصفية المشكلة الأسبانية، فقدمت إلى الدول اقتراحها بسحب جميع الجنود الأجانب من أسبانيا سواء منهم من يحارب مع الجنرال فرانكو أو مع حكومة مدريد؛ فرفضت إيطاليا النظر في الاقتراح، وأجابت الصحف الإيطالية بأن الجنود الإيطالية لن تغادر أسبانيا قبل أن يحرز الجنرال فرانكو النصر النهائي. والمعروف المحقق أن لإيطاليا في أسبانيا جيشاً لا يقل عن مائة وعشرين ألف مقاتل، هذا عدا القوات الألمانية وهي تقدر بنحو ثلاثين ألفاً، وهذه القوى الأجنبية هي عصب الثورة الأسبانية وهي سند الجنرال فرانكو؛ وقد أبدت ألمانيا وإيطاليا في غير فرصة سواء في التصريحات الرسمية أو عن طريق الصحافة أنها لن تدخر وسعاً في تأييد الجنرال فرانكو حتى يحرز النصر النهائي، وحتى تقوم في مدريد حكومة فاشستية، ولم يبق ريب بعد أن الثورة الأسبانية إنما هي محاولة عسكرية فاشستية تدبرها الفاشستية الإيطالية والألمانية، وأن الجنرال فرانكو إنما هو أداة هذه السياسة الأجنبية؛ فالثورة الأسبانية تفقد بذلك كثيراً من صبغتها الوطنية، وتفقد عطف الديمقراطية، والعالم المتمدن الذي يعرف وسائل الفاشستية وأساليبها الهمجية وجنوحها إلى العنف والعدوان، ويقدر خطرها على السلام العام
ولكن هل تنجح الفاشستية في هذه المحاولة الدموية؟ لقد مضى على الثورة الأسبانية التي دبرتها الفاشستية وسلحتها أحد عشر شهرا، واستطاع الجنرال فرانكو بمؤازرة معاونيه الأجانب أن يستولوا على نصف الأراضي الأسبانية؛ ولكنه لم يحرز حتى اليوم أي نصر حاسم، بل فشل في كل محاولة خطيرة قام بها لتحطيم قوى الجمهورية، وكان مقدراً أن الثورة لن تستغرق في تنفيذ برنامجها أكثر من عدة أسابيع، ولكن مضت الأسابيع والأشهر،(207/19)
وتحطم هجوم الجنرال فرانكو على مدريد ولقي الثوار أكثر من هزيمة شديدة أمام العاصمة ومزقت الوحدات الإيطالية في وادي الحجارة شر ممزق؛ وعندئذ فكر الحلفاء في مهاجمة ناحية أخرى من الجبهة الجمهورية، فنظم فرانكو هجومه على بلاد الباسك منذ أكثر من شهرين، حاول أن يطوقها من البر والبحر؛ ولكن قوات الباسك خيبت آمال الهاجمين، وردتهم غير مرة، وأنتقم فرانكو وحلفائه من الجمهورية الصغيرة الباسلة بتخريب بلادها وضياعها، وأحرق الطيارون الألمان المدن والقرى الباسكية من الجو بطريقة وندالية أثارت سخط العلم المتمدن وكان فرانكو يقدر أنه بحصار بلباءو من البحر يمهد لافتتاحها بسرعة وأنه كما حدث من الهجوم على مالطة يستطيع الاعتماد على معاونة الغواصات الإيطالية، ولكن إنجلترا التي خشيت على مصالحها ومناجمها العظيمة في هذه المنطقة بعثت بوارجها الكبرى إلى مياه بلباءو، وأنكرت حق حكومة فرانكو في محاصرتها وخرقت السفن الإنكليزية الحصار وأمدت المدينة المحصورة بالأطعمة، وعاونت على إخلائها من غير المحاربين؛ ومازالت قوات الباسك تصمد للمهاجمين وتكبدهم أفدح الخسائر، وأن كان في الأنباء الأخيرة ما يدل على أن بلباءو قد لا تستطيع المقاومة طويلاً.
قلنا أن الفاشستية الإيطالية تزعم أنها لن تتخلى عن الجنرال فرانكو حتى يحرز النصر النهائي، وتزعم إيطاليا وألمانيا معاً أنهما لن تسمحا، بإقامة حكومة بلشفية في أسبانيا تهدد السلام في غرب أوربا؛ وهما تصفان حكومة أسبانيا الجمهورية بالحكومة البلشفية لأنها تستمد العون من حكومة موسكو، وتلك دعاية مغرضة كما أسلفنا في فرص سابقة، فالجبهة الأسبانية الجمهورية هي جبهة الشعب الأسباني التي تحاول الفاشستية تحطيمها على يد الجنرال فرانكو، وإذا كان في الجبهة الجمهورية عنصر شيوعي فهو أقلية سياسية، كما هو الشأن في معظم الدول الديمقراطية؛ وإذا كانت الجبهة الجمهورية تعتمد على مؤازرة روسيا السوفيتية، فلأنها الدولة الوحيدة التي سارعت لنجدتها في محنتها، ولأن روسيا ليست لها مطامع استعمارية في أسبانيا بل يحدوها إلى هذا العون معركة المبادئ والمثل، فهي في أسبانيا تضرب الفاشستية ألد وأخطر خصومها على أنه إذا كانت الفاشستية تزعم أنها لن تتخلى عن فرانكو حتى يحرز النصر النهائي، فإن السياسة البريطانية من جهة أخرى تبدي صراحة أنها لن تسمح بانتهاك استقلال أسبانيا أو الاعتداء على سلامة أراضيها؛ ٍوهذا ما(207/20)
صرح به أخيراً مستر ايدن وزير الخارجية في مجلس العموم، ومعنى ذلك أن بريطانيا لن تسمح بفوز الجنرال فرانكو، لأن هذا الفوز الذي تدعمه الحراب الأجنبية يعقبه بعض المطامع الإيطالية في جزر البليار وربما في مراكش الأسبانية؛ وإنكلترا مع تمسكها بسياسة الحيدة وعدم التدخل في المسألة الأسبانية، لا تخفي عطفها على حكومة بلنسية، وفي ذلك تؤازرها فرنسا بل ربما ذهبت فرنسا إلى اكثر من هذا العطف في معاونة الجبهة الجمهورية، وإذا كانت إنكلترا وفرنسا تقفان في الميدان الدولي إلى جانب أسبانيا الجمهورية، فإن ذلك لا يرجع إلى لونهما الديموقراطي ولا إلى معركة المبادئ فقط، بل يرجع بالأخص إلى خوفهما من غلبة الفاشستية في أسبانيا، ومما تهدد به مصالحهما الاستعمارية ومواصلاتهما في غرب البحر الأبيض المتوسط.
ومن جهة أخرى فإن إنكلترا وفرنسا تخشيان على مصير السلام من تفاقم الحوادث الأسبانية. ولقد تجلى هذا الحرص على السلام في حادثة البارجة الألمانية دويتشلاند، فقد ألقت طيارات حكومة بلنسية القنابل على هذه البارجة أثناء رسوها في ميناء أبيزا بجزيرة ميورقة فقتلت من بحارتها خمسة وعشرين وجرحت عدداً آخر؛ وثارت ألمانيا لهذا الاعتداء فلم يمض يومان حتى ضربت بوارجها ثغر ألمرية الأسباني على حين فجأة ضباً شديداً فقتلت وجرحت من أهلها المسالمين مئات وخربت قسماً كبيراً منها؛ وعلى أثر ذلك أعلنت ألمانيا وإيطاليا انسحابهما من لجنة عدم التدخل حتى توضع الضمانات الكفيلة بحماية بوارجهما؛ وكان لهذا الاعتداء الذي يشبه أعمال القرصنة من جانب البوارج الألمانية وقع عميق في الأوساط الدولية، لأنه حتى مع التسليم بأن ألمانيا قد اعتدي عليها في حادثة البارجة دوتشلاند، فإنها لم تتقدم بطلب الترضية الودية ولم تقدم إلى حكومة بلنسية إنذارا بها كما يقضي بذلك القانون الدولي، ولم يسبق في قانون الأمم أن اعترف بحق الانتقام من المدن الآمنة دون أن تكون هناك حرب شرعية بين الخصوم. خصوصاً إذا وقع الانتقام على النساء والأطفال كما حدث في ضرب المرية. ومن الغريب أن تنفرد ألمانيا بمثل هذا التصرف لاعتداء وقع على إحدى سفنها تبرره حكومة بلنسية بوجود هذه السفينة في إحدى الموانئ التي بيد خصومها الوطنيين، مع إن مثل هذا الاعتداء قد وقع من قبل في أكثر من فرصة على السفن الإنكليزية ولم تندفع في مثل هذا الانتقام الوحشي.(207/21)
على أن إنجلترا رأت مع ذلك أن تتفادى عواقب هذا المشكل الخطر، وأن تعمل على رد ألمانيا وإيطاليا إلى لجنة عدم التدخل، فوضعت مشروعاً جديداً يقضي بتعيين مناطق أمينة تستطيع السفن المشتركة في المراقبة أن تلجأ إليها ويحترمها الفريقان المتحاربان، ويعترف المشروع فوق ذلك بحق الدفاع الشرعي للسفن التي يتعدى عليها وقت الاعتداء فقط، ولكن الإجراءات اللاحقة تكون موضع بحث بين الدول، وتدل الأنباء الأخيرة على أن ألمانيا وإيطاليا قبلتا هذا المشروع، وقررتا العودة إلى لجنة عدم التدخل، وبذلك تكون السياسة الإنكليزية قد استطاعت أن تتفادى عواقب هذا الاحتكاك الخطر بين ألمانيا وحكومة بلنسية.
على أن المأساة الأسبانية ما زالت مفعمة بالأخطار والمفاجآت. والخطر في هذه المأساة هي صبغتها الدولية، التي أشرنا إليها. فالصراع الدولي بين الجبهتين الأوربيتين الفاشستية والديموقراطية مازال قائماً، وإذا لم تبذل الدبلوماسية الأوربية جهوداً جدية لإخراج القوات الأجنبية من أسبانيا، وترك أسبانيا تقرر مصيرها بيدها، فسوف تبقى المشكلة الأسبانية خطراً دائماً على السلم الأوربي.
* * *(207/22)
في الأدب المقارن
الحكمة في الأدبين العربي والإنكليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
يولد المرء جاهلاً ثم لا تزال التجارب تبصره بحقائق الحياة ولا يزال الدهر يعلمه ويؤدبه، ولا يزال هو بثاقب فكره، يتعظ بماضيه وينتفع بمشاهداته، ويصوغ من جزيئات التجارب التي يمر بها كليات يلخص فيها نواميس الحياة وطباع الأشياء، التي يجدر بالعاقل أن يسايرها ويحتال لها، لا أن يصادمها ويجري على غير سننها، وتلك هي الحكم التي هي لباب التجارب وثمار المعرفة، والتي يغتبط الأديب أي اغتباط حين يستخلص عصارتها من مرير الشدائد وعصيب الأزمات، ويتجلى له ضياؤها بعد أن تنقشع غيوم المطامع وعواصف المخاوف، ويتوارثها الناس جيلاً بعد جيل، وتتشكل مع اختلاف بيئاتهم وتقاليدهم، ويشدو بها الصغار وهم ناشئون ولا يعرف صدقها إلا الكبار، بعد أن يخوضوا أتون التجارب الذي ينضج النفوس.
فالحكمة خلاصة التجربة العلمية، ولا تقرأ في الكتب ولا تؤخذ عن المؤدبين. ومن ثم يستوي فيها الخاصة المثقفون والعامة الأميون، إذ كان كلاهما يستقي من معين الحياة المشهودة؛ وتذيع بين العامة أمثال وحكم هي غاية في الصدق ونفاذ النظرة وبلاغة التعبير. وقد يطابق بعضها أمثال الخاصة والحكماء في كتبهم؛ وتدل تلك الحكم السائرة بين الشعب على الكثير من أخلاقه وأعماله، من سعي وتوان، ووقار واستهتار، وإمعان في الحروب واستراحة إلى السلم والدعة، ومن ثم نرى كثيراً من الأمثال المتخلفة عن جيل الانحطاط الماضي، رغم صدقها وعمقها مصوغة في أبذأ لفظ وأفحش صورة، ونرى كثيراً منها يحث على القناعة والتواكل والقعود.
ومن الحكم ما نرسل موجزة مستقلة كأنها القضايا المنطقية مبدوءة ببعض حروف الشرط أو أسمائه، ومنها ما تصاغ في قصة محكمة ذات مغزى، ومن تلك القصص ما ينسب إلى حكيم من الأقدمين كلقمان، أو إلى شخص خيالي مثل جحا الذي صاغ العمة حوله قصصاً بالغة غاية الحكمة والمتعة والفكاهة، ومن تلك القصص ما يجري على السنة الحيوان، ويقوم الأسد فيها بدور السلطان ويلعب الثعلب دور المكر والاحتيال، ويمثل الذئب دور(207/23)
الغدر والافتئات، وقد كان للأمم القديمة كالمصريين والفرس والهنود، من كل هذه الضروب حظ وفير، وفيها يبسط الحكماء المجربون لأبناء جلدتهم ثمار تجاربهم، ويحضون على حسن المعاملة ويدعون إلى الفضيلة.
والشرق، مهد المدنيات القديمة والإمبراطوريات العظيمة، والملكيات المطلقة ذات الحول والأبهة والبذخ، والموارد الواسعة والكنوز الطائلة، هو مهد الحكمة ومطلع الحكماء والأنبياء، فيه تتجلى طباع الأشياء على جهارتها، ويتجاور البذخ المفرط والبؤس المرمض، وتتابع السعود والنحوس، وتتقلب الأيام والدولات وتعقب عصور الرخاء والازدهار عهود الشدائد والأدبار، ومن كل ذلك تستخلص عبر الحياة وعظاتها، ويتجلى لذوي النفوس العالية غرورها وبهارجها، وتنصرف همة الحكماء والفضلاء إلى هداية مواطنيهم إلى سبيل الخير والسلامة وتلقينهم كيف يعيشون في أمن من جور الغاشمين وبطش الأقدار ويسعون جهدهم لتخفيف ما حولهم من آثار البؤس والبلاء، وإصلاح ما يرون من أسباب الفوضى والفساد، وهكذا كان يظهر المصلحون والأنبياء بين اليهود والهنود وغيرهم من أمم الشرق، بين الفترة والفترة.
وللحكمة الصادقة المصوغة في اللفظ البليغ المحكم مكانها في أدب كل لغة: ففي كل أدب ما لا يعد من الحكم المتواترة يقتبسها الأدباء في مواطنها، وقد نسيت أسماء قائلها وضاعت نسبتها وصارت من تراث الأدب المشاع، وفيه كذلك ما لا يعد من آثار الشعراء والكتاب التي أساسها الحكمة وقوامها خلاصات التجارب التي عركتهم؛ وفي الأدبين العربي والإنجليزي تراث حافل من الحكم والأمثال، وفي كل منهما أدباء اشتهروا خاصة بصوغ الحكم وجرت آثارهم على الأقلام والأفواه، لما تمتاز به من صدق النظرة وشمول الفكرة وإيجاز اللفظ.
ففي الإنجليزية اشتهر شكسبير أولاً وبوب ثانياً بروائع حكمهما. وسارت كثير من أبياتهما مسير الأمثال، لما امتز به كلاهما من التمكن من اللغة وبلاغة الأداء ووجازة التعبير، رغم اختلافهما فيما عدا ذلك من نظرة إلى الحياة ومذهب في الفن؛ وندر من كبار أدباء الإنجليزية من لم يسر له مثل أو أكثر فيما توفر عليه من موضوع كالطبيعة والجمال والاجتماع والمرأة وهلّم جرا ومن الإنجيل سرت في اللغة الإنجليزية المكتوبة والمتكلمة(207/24)
أمثال وحكم عديدة، لا تزال تحمل طابعها الإسرائيلي وتدل بأسماء أعلامها ومواطنها على نشأتها الشرقية؛ وسرت في الإنجليزية كذلك أمثال عديدة من الإغريقية واللاتينية يترجمها الأدباء إذا استعملوها وقد يثبتونها في لغتها الأصلية.
بيد أن ذلك هو كل ما هنالك، والحكمة في الإنجليزية نادرة إلى حد بعيد، وهي لم تكن من مطلوب أدبائها ولا من هم شعرائها يتوخونها عمداً ويودعونها اللفظ البليغ الموجز، ولم يكن الإيجاز من دأبهم كما كان من دأب شعراء العربية وأدبائها في أحسن آثارها وأزهر عصورها، فالأديب الإنجليزي إذا أخذ في الكتابة أرسل لخياله العنان، وأبرز فكرته الواحدة في شتى الصور متسلسلة متتبعة غيرها من الأفكار، أما الأديب العربي فيؤثر الإيجاز البليغ ويودع المعنى الواسع الشامل البيت الموجز أو العبارة المحكمة ويتجه إلى غيره، وهذا الإيجاز المشهود في جيد الشعر الجاهلي راجع بلا شك إلى أمية العرب وحاجتهم إلى الاستغناء بالقول الجامع، والاجتزاء بالحكمة الشاملة، وقد توورثت هذه الخلة من خلال الأدب الجاهلي فيما تلا ذلك من عصور الأدب العربي كما توورث غيرها من خلالّ.
ومما حبب العرب في جاهليتهم في الحكمة أخذهم بحياة الحل والترحال، واشتغالهم أبدا بالقتال وإدراك الثارات: فتلك حياة شديدة كانت تتطلب كثيراً من العمل وقليلاً من الكلام المفيد مع قلته. وكان الانتفاع بالتجارب من أكبر أسباب النجاح فيها، والاشتهار بالحكمة والدراية من صفات الشيوخ والرؤساء؛ ومنهم كان كثير من فحول الشعر ورجال البيان ومصاقع الخطباء كالأفواه الأودي وأكثم بن صيفي وقس بن ساعدة الأيادي. ومن ثم أثر عن الجاهليين ما لا يعد من روائع الحكم نظماً ونثراً. ومن أمثلتها خطبة قس بن ساعدة وحكم زهير بن أبي سلمى في معلقته.
وقد أعجب المتأخرون من الشعراء والأدباء بهاتيك الحكم أيما إعجاب، وشمروا عن ساعد الجد للإتيان بأمثالها، وعدوها محك قدرة الشاعر وبرهان الشاعرية الصادقة، وكاد يلهيهم الاشتداد في طلبها عن ابتكار شيء جديد في الشعر.
وكان العرب في الجاهلية لا يعدون الشاعر فحلا حتى ينطق بالحكمة، فما لم يأت بشيء منها فهو وبعد غر لم ينضجه تنور التجارب ولم تتكشف له حقائق الحياة؛ وظل الأعشى فيما قبل مزوياً عن مرتبة الفحول، رغم ضربه بسهم في مجالات المدح والهجاء والاعتذار(207/25)
ووصف الخمر، حتى قال في مدحه سلامة ذو فائش: (والشيء حيثما جعلاً) فرفعته هذه الجملة الموجزة إلى مصاف النابغة وامرئ القيس. وتروى حكايات كهذه عن شعراء الإسلام: فقد قيل إن جريراً سمع دالية عمر بن أبي ربيعة التي يقول منها: (إنما العاجز من لا يستبد)، فقال: (ما زال هذا الفتى يهذي حتى قال الشعر)، فهو لم يحفل بكل ما قاله الفتى في التشبيب، حتى ضرب على وتر الحكمة فاستثار إعجابه.
وأدب الجاهلية وصدر الإسلام حافل بتلك الحكم البليغة المشتملة على تجارب قائليها من سادة القبائل وأشرافها، الجامعة لنظراتهم في الحياة وخطتهم وسننهم فيها، وتمدحهم بما رسموه لأنفسهم من مناهج وما أخذوها به من فضائل، وهذا الباب من أكرم أبواب الأدب العربي وادعاها إلى الإعجاب، ومن أجله كان العرب في تلك العهود يغالون بالشعر وينشئون أبنائهم على مدارسته، وكانوا يسمون هذا الباب من الشعر بالأدب، لأن حفظ آثاره والتمثل بها يؤدبان النفس ويهذبان الخلق، وذاك هو الاسم الذي أطلقه أبو تمام في حماسته على ذلك الضرب من القول الشامل للحكمة والتمدح بالفضيلة. وقد اتسع معنى هذا اللفظ فبعد أن كان اسم جزء صار اسم كل وأطلق على الشعر جميعه والنثر معاً. وليس شك في أن هذا التطور الطبيعي البسيط هو منشأ كلمة أدب اللغة، وإن يكن بعض المستشرقين قد تحذلق وزعم أنها مقلوبة عن كلمة دأب. فذلك من قبيل النظريات المحضة التي لا تبلغ مبلغ اليقين أبداً؛ وليست إلا من قبيل التظرف العلمي والتظاهر بالتعمق في البحث، وإن لم يجد ذلك العلم فتيلا، ولم يدرك يوماً منزلة الإقناع.
كانت الحكمة من أظهر أبواب الأدب في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان من أقطابها في الجاهلية من ذكر، وفي الإسلام الإمام علي والأحنف بن قيس وكثير من الصحابة، وبظهور الإسلام ثم توطد الدولة زاد العرب كلفاً بالحكمة وزاد الداعي إليها أهمية، فقد جاء في القرآن الكريم والحديث حافلين بروائع الحكم وجوامع الكلم، التي أربت على الغاية من البلاغة والسمو، وحثاً على طلب الحكمة التي هي ضالة المؤمن، وقد ظل الكتاب والحديث دائما نموذج الأدباء ومستقاهم؛ فلما فرضت الملكية المطلقة سلطتها كاملة، وأخرست الأفواه وأسكتت النقد، عادلة حينا وجائرة أحيانا، وجد الناس في الحكمة الشاملة المعممة سلوة للنفوس المقهورة، وعزاء عن المآرب المحظورة، وتنفيسا عن المطامح المستورة، واتقاء(207/26)
لشبهات السلطان، فأجريت الأمثال والمواعظ على ألسنة السلف الصالح، وملوك الأمم الغابرة وحكمائها وفلاسفتها، ووضعت على أفواه الحيوان والأرواح، وأرسلت شعراً ونثراً، وترجمت عن اللغات، وكان من ذلك مترجمات ابن المقفع.
وكانت الصبغة الدينية التي لازمت توطد الدولة الإسلامية وتطور المجتمع الإسلامي، داعياً آخر إلى انتشار الحكمة في الأدب، وفي الحكمة كتب ونظم كثير من رجال الدين، ومن آثار الحكمة التي مبعثها الشعور الديني أشعار أبي العتاهية وأبن عبد القدوس والأمام الشافعي، ومما زاد هذه النزعة الدينية احتداد، وهذه الحكم الدينية ذيوعاً، ما كان يجاورها من مظاهر الترف المغرق وآثار اللذات والمفاسد، فكانت تلك رد فعل لهذه، وكان من الشعراء المغرقين في المجون والتبذل كأبي نواس وبشار، من تعاودهم رجعات من التبصر في الحياة وغرورها، حين تسئمهم اللذات ويرهقهم بشمها وخمارها، فيرسلون في أشعارهم من الحكم ما قد ينسب إلى أزهد الزهاد وأحكم الحكماء
وبدخول الأدب العربي طوره الفني طلب الشعراء البراعة والتفنن بصوغ الحكم وضرب الأمثال محاكاة للأقدمين وتوليدا من معانيهم، وكانوا يشفعون الحكمة الإنسانية أحياناً بمصداقها من عالم الطبيعة والحيوان والجماد، فإذا أرسل أبو تمام حكمة في ظهور فضل المحسود على يد الحاسد ضرب لذلك مثلاً اشتعال النار فيما جاورت وإعلانها بذلك طيب عرف العود، ويقول في موضع آخر منتزعاً مصداق كلامه من ظواهر الطبيعة:
وإذا رأيت من الهلال نموه ... أيقنت أن سيكون بدراً كاملاً
ويقول غيره:
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء
واشتغل المسلمون بدراسة الفلسفة اليونانية دون الأدب اليوناني، فتأثر أدبائهم بتلك الدراسة، وازداد ولعهم بالحكمة، واتخذت حكمتهم صبغة فلسفية أقرب إلى القضايا المنطقية وأشبه بالاستقراء العلمي، وذلك واضح في أشعار المتنبي والمعري اللذين انحرفا بذلك بعض الانحراف عن الأسلوب العربي الأصيل، الذي يمتاز بالبلاغة والوضوح والإطلاق، وبلغ من تأثر شعر الحكمة في العربية بروح الفلسفة اليونانية، أن أبا علي الحاتمي وضع رسالة يرد فيها أكثر حكم المتنبي إلى كلام أرسطو. وفي شعر المتنبي بلغت الحكمة العربية(207/27)
أوج رقيها، أو بالأحرى بلغ الشعر العربي ذروة عظمته، وبلغ من احتفاء الشعراء بتضمين الحكمة أشعارهم أن قيل في الموازنة بين أبي تمام والمتنبي والبحتري إن الأولين حكيمان، والشاعر البحتري، لكثرة ما في شعرهما من الحكم، وأبو تمام هو القائل في ذلك الضرب من الشعر:
يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويقضي بما يقضي به وهو ظالم
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
فالولع بالحكمة ظاهر في الأدب العربي: فاقتباس المأثور من كلام المتقدمين أكثر ذيوعاً في العربية منه في الإنجليزية، والحكمة مادة جانب عظيم من كتب الأدب التي تحفل بما أثر عن الحكماء والخلفاء والفقهاء من جوامع الكلم، وهي موضوع مطولات كثيرة كمقصورة أبن دريد ولامية أبن الوردي وأرجوزة صاحب كتاب الصادح والباغم، وبها تمتلئ الخطب المنسوبة إلى وفود العرب إلى كسرى وإلى أهل بيت المهدي عند مشاورته لهم في حرب خراسان. وقد أولع الكتاب بنثر حكم الشعراء في رسائلهم مسجوعة منمقة، كما أولع الشعراء بنظم الحكم السائرة وأمثال العامة، وكان الشعراء أكثر لجوءاً إلى نظم الحكم وسرد العبر والاستشهاد بعظات التاريخ خاصة في قصائد الرثاء ورسائل التعزية وأشعار الشكوى والوجدانيات؛ وكثيراً ما كانت تساق الحكم في هيئة نصائح. ويقول أبن عبد القدوس (والنصح أغلى ما يباع ويوهب) ومن شعر النصيحة جيمية محمد لأبن بشير التي يقول منها:
قدم لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقا عن غرة زلجا
أم الموضوعات التي طرقتها الحكمة في الأدب العربي فلا تحصر، فقد جالت في شتى نواحي الحياة: من غرور الدنيا وتقلبها ووجوب الحذر منها وتوقع زوالها، إلى مزايا الشدائد وامتحانها للرجال، إلى ندرة الصديق الصدوق، ومن شؤون الحياة اليومية إلى سياسة الدول وحكم الشعوب، ومن آداب الحوار إلى آداب مصاحبة السلطان؛ وكان بعض الشعراء يتوفرون على ضروب دون غيرها من الحكمة، حسب ما توجههم إليه بيئاتهم ونفسياتهم؛ فأبو العتاهية كان دائم الذكر للموت، والمتنبي كان يشتق حكمه من حياة التناحر والمطامع والمعارك الأدبية والسياسية التي كان يحياها، والمعري كان يستقي حكمته(207/28)
ويستخرج عبرة من ظواهر الكون التي كان دائم الاشتغال بها، فهذان البيتان من نظمه يحملان طابع تفكيره ولا يمكن أن ينسبا إلى سواه:
يغادر غابة الضرغام كيما ... ينازع ظبي رمل في كناس
سجايا كلها غدر ولؤم ... توارثها أناس عن أناس
فكثير من الظروف التي أحاطت بالأدب العربي في الجاهلية والإسلام كانت تدعو إلى انتشار آثار الحكمة فيه، فجاء حافلاً بها منثوره ومنظومه على متعدد الصور ومختلف الأوضاع، ومثل هاتيك الظروف لم تصاحب الأدب الإنجليزي، ومن ثم كانت الحكمة فيه أندر كثيراً، فلا البداوة ولا الملكية المطلقة ولا رد الفعل المنعكس من الترف المفرط، ولا الروح الديني المتغلغل في المجتمع، لم يؤثر شيء من ذلك في الإنجليزية تأثيره في العربية ولم يقتصر الإنجليز على دراسة الفلسفة الإغريقية بل درسوا معها الأدب الأغريقي، وعنه تلقوا رسالته وهي الجمال، فصارت هذه رسالة الأدب الإنجليزي أيضاً، فكان الأديب الإنكليزي يتوخى الجمال فيما يشاهد ويحس ويكتب، في حين كانت الحكمة والعبرة والموعظة قبلة الأديب العربي في كل ذلك، ومن الأدب الإغريقي تعلم الأديب الإنجليزي أيضاً أن يطلق لفكره العنان ويفسح لبيانه المجال، على حين ظل رائد الأديب العربي بلاغة الإيجاز، وكبح جمحات الخيال.
ومن ثم تمثل خير ما في الأدب العربي في حكم الشعراء والخطباء والكتاب، وجوامع كلهم وموجز بيانهم، وتمثل خير ما في الأدب الإنجليزي في سبحات الخيال المطلق المطنب، من درامات وملاحم وقصص، فالعيب الاجتماعي أو النقص السياسي الذي كان يراه الأديب العربي، فتحمله الظروف سالفة الذكر على أن يصوغه حكمة موجزة عامة لا تثير ريبة السلطان، كان يحوك حول الأديب الإنجليزي في قصة اجتماعية رحيبة الجوانب تشخص موضع الداء تشخيصاً؛ وتعين الدواء، ويتجلى الفرق بين الأدبين في هذا الصدد في نوع عبقرية شاعريهما الفذين: فقد بلغت العبقرية الشعرية الإنجليزية ذروتها في آثار شكسبير صاحب الدرامات العجاجة بالخيال المطلق، وبلغت العبقرية الشعرية العربية أوجها في قصيدة المتنبي الحافل بالحكمة البليغة.
فخري أبو السعود(207/29)
البطولة وهل ندرت؟
للأستاذ فتحي رضوان
يحلو لي أن ادخل في المناقشة التي أدارها الكاتبان (النابغان) عباس العقاد وأحمد أمين حول النبوغ والبطولة. . . يحلو لي أن ادخل في هذه المناقشة خصماً ثالثاً، وإن كنت أكره لفظة (خصم) ولكن ما حيلتي وقد علمنيها القانون. . .!
لقد طالعت مقال الكاتب (النابغ) أحمد أمين، وأدركت نظريته التي بناها على أن النبوغ هو سبق النابغ لمعاصريه، حتى ليعجزوا عن اللحاق به، إلا بعد زمن قد يطول، وذلك حين يكون النبوغ عالياً ورفيعاً، وقد يقصر، وذلك حين لا يكون النابغ ممتازاً إلا بقدر. . .
ولقد ساقته هذه النظرية إلى نتيجة آمن بها، ودافع عنها، وضرب الأمثال العديدة على صحتها وسلامتها. والنتيجة هي التي استوقفتني، فدفعتني إلى التأمل فيما جاء بهذا المقال، ثم هي التي حفزتني على كتابة هذا الرد فالأستاذ أحمد أمين يرى أن نوابغ هذا العصر قلة، لأن أساليب التربية الحديثة، ونظام المجتمع الذي نعيش في ظله أشاع العلم، وأضعف الفوارق بين الخاصة والعامة، وأتاح فرصة التحصيل والتفوق للفقراء وذوي الثراء. وقد بلغ اقتناع الأستاذ أحمد أمين بهذه النظرية وبنتيجتها مبلغاً حمله على أن يضرب لنا الأمثال بالتلميذ في المدارس الثانوية، فهو بنظر إليه كل يوم، فيراه يطالع كتب الطبيعة التي تشرح قواعد الضوء والصوت، والحرارة والكهرباء، فيقول: (إنه يعرف ما يعرفه نيوتن، وأكثر مما يعرفه)، ثم يراه يقرأ كتب النحو والصرف، والبلاغة فيقوى يقينه بأن ما وصل إليه من نتيجة صحيح جداً فيقول: (إنه يدري من النحو ما لا يدريه سيبويه) ثم يطمئن إلى هذا الاستقراء فيقول لنا إذا كان محصول علمه يفوق علم جهابذة العلوم والآداب، وهو بعد تلميذ في المدارس، يخطئ ويصيب، وينجح ويتعرض للسقوط، ويذاكر ويشكو قسوة الامتحان، فكيف تظنون أن عهد النبوغ لم ينصرم بعد؟. وأين مجال التفوق أمام الموهوبين وذوي الجد ما دامت المدارس قد ذللت المعرفة وفتحت أبوابها على المصاريع؟
قد كان التفوق والنبوغ بالأمس ممكناً، لأن النابغة كان مبصراً وسط عمى، وصاحياً وسط مغفلين ومدركاً بين جهال، أما اليوم فأصغر علماء الطبيعة كأكبرهم، يعرفان من أمر هذا العلم وقواعده قدراً يكاد يكون متساوياً، فإذا وجد الفارق بين العالم الصغير والعالم الكبير(207/31)
فليس هو بالفارق الذي يضفي على الكبير منها صفة النبوغ والتفوق. . .
وقد سألنا الأستاذ أحمد أن ندله على السياسي الذي يفوق أقرانه ويبذهم، وقد نبهنا إلى استنارة الشعوب وبصرها الآن بأساليب الحكم وفقهها لطرائق الإدارة؛ ثم سألنا أن ندله على العالم الذي يسبق جيله أو معاصريه، ونبهنا إلى أن العلوم اليوم والفنون كذلك قائمة على سنة التخصص، وأفهمنا أنه لا يوجد طبيب، وإنما يوجد أخصائيون في كل فرع من فروع الطب، ولا يوجد قانونيون، بل مطبقون لناحية واحدة من نواحي القانون. . .
والحق أننا نشكر للأستاذ هذا التنبيه، لأننا نستطيع بعده أن ندله على النابغين المتفوقين الذين يسبقون معاصريهم بالسنين ويفوتونهم بالمراحل، فالتاريخ لم يعرف حاكماً كموسوليني ينبعث من خنادق الحرب، ثم يشتغل سنين معدودة في الصحافة، ثم تدين له الدولة والأمة بالطاعة والانصياع، ويصبح البون بينه وبين أكبر رجال أمته شاسعاً، حتى لا يكاد يوجد في إيطاليا إلا موسوليني، الكلمة كلمته، وكلمته قانون، وقانونه مقدس أسمى من أن يشوبه خطاْ، ثم تتحالف عليه الدول وتطوق بلاده بحصار لا يرحم، فيجرح شجاعته، ويواجه العاصفة بسيل من الخطب ودنيا من التدابير. . . فالتخصص ومجانية المدارس وتذليل أساليب التحصيل، كلها لم تحل دون بروز شخصية سياسية طاغية في إيطاليا. وهذا البروز، هو النبوغ على الأقل كما وضح لنا الأستاذ أحمد أمين مقياسه - ولكن الأستاذ يريد أن ندله على نوابغ كثيرين وإلا كان محقاً فيما ذهب إليه من أن العصر الحديث لا يعتبر عصر النوابغ، بل عصر ارتقاء الجماعة الإنسانية ارتقاء لا يسمح بإيجاد الفوارق الواسعة بين العامة والخاصة، وبين الكبار والصغار، ولكن حسب الأستاذ الكبير أن يدير بصره في العالم بأسره ليعلم أننا نعيش في عصر النابغين فألمانيا يحكمها رجل واحد يتصرف في أمورها كما يحلو له، أو على الأقل كما يحلو له ومستشاروه الذين من حوله.
وروسيا على رأسها رجل يضع دستورها، وينفذ قانونها ويشرف على جيشها، والذين من حوله أقزام ينظرون إليه ولا يقوون على مقاومة إرادته. . . وعلى الأستاذ الكبير أن يسأل من اليوم صاحب النفوذ الذي لا يحد في تركيا، وفي بولندا - قبل وفاة سلسودسكي - وفي النمسا وفي تشكوسلوفاكيا في عهد مازاريك ليعرف أننا محكومون بالنابغين والمتفوقين في(207/32)
عالم السياسة وليدرك أن بصر الشعوب بأساليب الحكم، وفطنتها الدستورية، لم تحل دون ظهور هذه الكثرة من ذوي السلطان المطلق. .
فإذا رجعنا إلى التاريخ القديم، وجدنا أن روما التي احتملت موسوليني أربع عشرة سنة متوالية، لم تستطع أن تحمل يوليوس قيصر مثل هذه المدة.
قد يعترض الأستاذ فيقول: ولكن من قال عن هؤلاء الحكام نابغون؟ وهو لا يحرجني بهذا السؤال، لأنه هو الذي ضرب لنا المثل (بنابليون) ولا أحسب أن نابليون من حيث معدن العظمة يبذ واحداً من هؤلاء الذين ذكرت أسمائهم
فإذا أدرنا وجهنا إلى ميدان العلوم والفنون ألفيناه ميدان العمالقة والأقزام، ميدان الذين تلامس هاماتهم السماء والذين تلاصق أسماؤهم التراب، على الرغم من أن هؤلاء وأولئك، حصلوا على نصيب واحد من العلم المدرسي، فالأستاذ أحمد أمين يصيب كثيراً من العناء إذا هو أراد أن يجد قريناً لرجل ككارل ماركس ألف كتاباً فثل هذا الكتاب عروشاً، وأزال دولا، وقلب وجهة التاريخ، ورجل كداروين لا يشابهه في ميدان الطبيعة أكثر الذين حوله، ولا نستطيع أن نقول إن كارل ماركس هو وحده النابغة في ميدان الاقتصاد، ولا أن داروين هو وحده المتفوق في ميدان الطبيعة، فإلى جانب ماركس برودون وبلاخانوف ويوخارين وغيرهم وغيرهم ممن كانوا إلى جانب طلاب الاقتصاد وأساتذته وكتابه والمشتغلين به نوابغ بل عباقرة. وفي الأدب يكتب الآن الكثيرون، والمطابع لا تنفك تخرج المؤلفات والمصنفات، ولكن ألا يوجد الكاتب الذي كلمته في حساب المادة عشرات الجنيهات، والكاتب الذي لا تساوي كتبه شروى نقير. . . ثم ألا يوجد الكاتب الذي تفعل بدائعه في النفوس وفي الشعوب فعلا تارة يدفع بها إلى العنف، وأخرى يميل بها إلى الرضا. . . فكثرة الكتاب في أوربا وفي العالم، وكثرة الموسيقيين وكثرة الاقتصاديين لم تحل دون النابغين، ولكن الأستاذ أحمد أمين يريد أن يرى هؤلاء النوابغ، ويريد أن يسألنا عن الفرق الكبير بين كاتب إنجليزي وكاتب إنجليزي آخر. . . والحق أننا لا نتعب كثيراً في أن ندله عليهم، لا بذكر الأسماء بل بوضع قاعدة تغير الموقف.
فالأستاذ لا يرى موسيقياً كالموصلي ولا كبتهوفن. ولا شاعراً كشكسبير، ولا كالمتنبي. ولا كاتباً كعبد الحميد ولا كابن المقفع ولا كما كولي، فيقول: لا نبوغ في هذا الأيام وينسى أن(207/33)
الذين يتحدث عنهم جميعاً طواهم الموت وأحاطهم القدم بجلاله، ومحا أسماء منافسيهم الذين كانوا يعيشون معهم وبقيت أسمائهم وحدهم، وأن المعاصرين يعيشون معنا، ونحن نقرأ أسماء النوابغ وأسماء العامة، أقصد العاديين من الكتاب والفنانين، ولكن غداً سيموت الجميع، والأجيال القادمة هي وحدها التي ستدون أسماء المتفوقين الذين عاشت بدائعهم، وخلدت مؤلفاتهم، وظهرت آثارهم، عظيمة ومؤثرة وجليلة وستقول هذه الأجيال كما يقول اليوم الأستاذ أحمد أمين إن جيلها يخلو من النوابغ وإن الأجيال السابقة هي عهد المتفوقين والمبرزين.
فمثلنا مثل الذي يقف إلى جانب الجبل، لا يرى قممه، ولا سوافله، إنما يرى جسماً مسطحاً لا تضاريس فيه، فإذا بعد عنه ظهرت معالمه وبانت خطوطه واتضح له أنه عال في ناحية ومنخفض في ثانية، أو قل إن مثلنا مثل الوالد يعيش مع بنيه فلا يدري أنهم يزدادون طولاً مع مرور الزمن، فإذا غاب عنهم شهراً وعاد أدرك أن هذا أطول من ذاك، وأن أكبرهم أشد سمرة من أصغرهم، لأن طول النظر إلى الصورة لا يبرز معالمها.
المدارس انتشرت، والمعارف رخصت، ولكن النفس البشرية هي هي باستعدادها، سيبقى النبوغ فيها استعداداً لا يضعفه نظام، ولا يقويه نظام، إنما يغير فيه قليلاً.
لقد طرنا في السماء، وغصنا في الماء، ولكن لا يزال الواحد منا إذا ما خلا إلى نفسه في القمر، ثارت شجونه، وتحركت في عيونه شؤونه، تماماً كما يفعل أبن الصحراء وراكب الجمل.
وأحفادنا سيقولون - حينما يقرءون مقالنا - إننا تعجلنا الزمن، فقلنا عن عهدنا إنه عهد لا نبوغ فيه، وإنهم سيرونه عهداً ككل العهود، فيه النوابغ وفيه العاديون، فيه العمالقة وفيه الأقزام.
فتحي رضوان(207/34)
على هامش رحلتي إلى الحجاز
ليلة في مكة
بقلم الدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست
أخذ الغسق يهبط بسرعة في وادي مكة الضيق، المشبع بهواء الصحراء الجاف؛ وهنا بدأت خيوط الأصيل الذهبية تتلاشى ثم تختفي دفعة واحدة كأن ستارا أسدل عليها بغتة؛ وبعد فترة وجيزة أخذ الليل ينشر خيمته السوداء فنسينا حينذاك ذكريات الغروب الجميلة وأصبحت لدينا كحلم سافر بعيد، ثم خيم السكون وشمل المدينة كلها.
وكنت أشاهد منظر غروب الشمس من إحدى نوافذ بيتي الصغير في مكة، ولم ير الديك الذي كان يصيح طيلة النهار داعياً لإيقاف صياحه، كأن عظمة هذا الغروب لم تؤثر في نفسه، ولكن الدجاجات لاذت بالصمت وراحت تتسلق أقفاصها استعداداً للنوم.
وكان يقع في طرف فناء البيت الصغير الذي أعد لضيافتنا قسم خاص بالحريم تجلس في إحدى غرفه سيدة وقور اسمها سنية، تقرأ القرآن على ضوء مصباح خافت اللون، على حين كانت ابنتها فاطمة النحيلة الخصر منصرفة إلى أعداد طعام العشاء لإرساله إلينا مع إحدى العجائز، وحتى هذه العجوز الشمطاء كانت تتخذ كل الحيطة عند إحضارها الطعام بحيث لا يظهر وجهها، وكانت تحمل الصينية على يديها ثم تدفعها بحذر على عتبة الغرفة وتنسل راجعة، فأقوم بدوري لآخذ الصينية بمجرد وضعها على العتبة، أما الطعام فهو لا يخلو عادة من الأصناف العربية المشبعة بالتوابل
كانت هذه العجوز تحاول كما قلت أن تمنعني من رؤية وجهها، ولقد أفلحت في ذلك إلى حد كبير، فلم أر منها إلا ذلك الهيكل العظمي، ولم أسمع من حركتها إلا صوت ذلك القبقاب الخشبي الذي كنت أسمع طقطقته على الدرج حين صعودها وحين أوبتها إلى الحريم، فالمرأة في كل زمان ومكان، هي المرأة، أو ذلك اللغز الغامض، في الغرب وفي الشرق على السواء، فإذا ما دفعني حب الاستطلاع لرؤية فاطمة الجميلة، وليس هذا بمستغرب من رجل مثلي، أخذت أنظر إليها خلسة من إحدى الثغرات، ويلوح لي أن الفتاة الصغيرة كانت(207/35)
تشعر أيضاً بأن العيون موجهة إليها من خصاص الشباك فكانت تتخذ كل حيطة وحذر فتقفل نوافذها وترخي السدول عليها حتى تمنع عنها تلك النظرات التي تخافها وتخشاها، ولكن فاتها أن في الفضاء تياراً خفياً ينشر جاذبية العواطف، وينبعث من شعاعه شرارة سرعان ما تكون سبباً في تأجج تلك النيران التي تضيء الحياة بلهيبها. هذه التيارات مخيفة في الواقع لأنه حين اشتعالها تزيد أوار الحب في القلوب البشرية، فتوقظ فيها وسائل الحياة ووسائل الموت دون تفريق بينهما. أما أنا فلا أخفي عنك أنني ارتعدت من هول ذلك التيار، فرميت رأسي إلى الوراء حياء مخافة أن يقع نظر الفتاة علي وأنا أتجسس عليها عن كثب، ومخافة العار والفضيحة ولا سيما وأنا غريب عن البلاد
ففي ارض الحجاز، تلك البلاد التي لا يوجد فيها من الجنس الأوربي غير شخصي الضعيف، مرتدياً تلك الملابس الإفرنجية، والذي تخرج من فمه رطانة لا يفهمها غيره، كنت مضطراً بحكم البيئة التي تربيت فيها أن ابحث وأدقق في كل ما يقع نظري عليه، ولكن بروح أجنبية، فكان شأني شأن اللص الذي يتسلل إلى بيت تحت جنح الظلام، في وقت هجوع سكانه، ثم يخشى أن يقوده سوء الطالع فتصدم رجله قطعة من الأثاث، أو يفتح باباً خلسة، بيد مرتجفة، بل قد تراه يتلفت ذات اليمين وذات اليسار خائفاً وجلاً، فإذا صادف أن شعوره الإجرامي لم ينبض في صدره، فحينذاك يكاد يطير فرحاً لاقتناصه فريسته، وإذا لم يجد وازعاً من ضميره فانه يفخر بانتصاره على ضحيته، ومن الأسف أن هذا الشعور الإجرامي يلازمنا من المهد إلى اللحد، فأمامنا الرجل العادي الذي يهرع إلى فراشه ليلاً على حين نقضيه نحن في مسامرة النجوم، وفي الوقت الذي يعود هو فيه إلى بيته بعد أن يكون قد أكتسب قوته بعرق جبينه فما علينا إلا أن نوجه أنظارنا إلى ألوان الشمس العظيمة ساعة غروبها، ونتعلم منها عن كثب طرق التحول ونعد قبلاتها الحلوة التي تطبعها على سطح الأرض من نعم الطبيعة، أجل يتحتم علينا أن نبحث بدقة وحذر خشية أن نتخبط في ديجور الظلام كما يتخبط اللص في الخفاء
انه لأحساس نبيل لو أتيح للإنسان أن يكون كشجرة الأرز الباسقة، تلك الشجرة المغروسة على أعالي القمم، تنقل عينها من حين إلى آخر على المروج الخضراء والكروم الزمردية، ولكن هذه الشجرة - وهي سيدة الأشجار - ستبقى على الدوام مهددة بميلها للسقوط في(207/36)
وسط الأدغال، حيث الحركة والحياة بين الحشرات والأزهار وبين القطعان في مراعيها، وحيث الأطفال يضحكون وحيث تستغرق السعادة في سباتها العميق
هذه الأفكار مرت سراعاً بمخيلتي، عندما كنت انظر صفوف نوافذ منازل مكة التي تطل على هذا الوادي الضيق، ثم وقع نظري على المآذن الشامخة وقد فارقتها أشعة الشمس الذهبية، كأنها تناديني أن أقترب منها. وهذه الشمس التي غربت هي بغير نزاع ذلك الصاحب الأمين للأجنبي، فشمس الصباح وشمس الظهيرة بهما قوة واقتدار مثل قوة الشاب العاشق، ولكنها على الدوام واحدة لا تتغير، أي أنها لا لون لها، وتكاد تكون في الغالب وحشية شاحبة ومزعجة. إنها لاشيء سوى القوة الغشوم، فهي كالآلة، بيد أنه ينقصها الإحساس، والصوت والضمير، والشوق. فهذه الشمس التي تغرب، ليست سوى حب الرجل البالغ، فالضمير، والمعرفة، والفرح، والأحزان قد تغلبت عليها مئات المرات، وأخضعتها لسلطانها، وظلت للآن في كفاحها تغالبها، وستظل في هذا الكفاح الدائم راضية بالحياة، ممتزجة مع الموت
هنا سمعت المؤذن يدعو المؤمنين إلى الصلاة، وهنا يجب علينا أن نولي وجوهنا شطر الكعبة المقدسة لنسجد للحي القيوم، مالك الملك، الذي خلقنا فسوانا، وفي قدرته الحياة والموت، صاحب الأمر الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، إننا ندعوه ونبتهل إليه في قعودنا وقيامنا، إذا ليس أفضل من الابتهال إلى قدرته، تلك القدرة الدائمة الأبدية، فطوبى لمن يخشون ربهم. نعم طوبى لهم وحسن مآب
خيم الظلام المخيف على جميع أطراف مكة، وفي هذه البقعة الصحراوية الجرداء نرى بيت الله، ذلك البيت العتيق قبلة الشعوب الإسلامية، الذين ينسون حطام الدنيا ومتاعبها ويطئون المادة بأقدامهم ويستعيضون عنها بالأيمان المطلق، وهو لعمري أثمن من كل شيء في الوجود، فيتخلصون من شرور الجسد ويصعدون بأرواحهم إلى أعلى عليين، وما أحلى وأطيب سماعك آذان المغرب في بلاد العرب، أو على الأقل ما وجدت شيئاً أروع منه، خصوصاً وقد قدمت إلى هذه الأرض المقدسة لأتطهر من أدراني وأبغي الثواب والمغفرة، وسيعلم الإنسان عندما تصعد الروح إلى بارئها، وعندما تنهار أعمال الرجال، فأننا بفطرتنا(207/37)
نلجأ إلى حماية الرب العظيم، حيث الماء والهواء يحركان الصخور؛ ولكن على الرغم من ذلك نحاول أن ننشل أنفسنا من وهدة القنوط بقوة الأيمان، تلك القوة التي تخفف عنا عذاب الضمير وتهدئ من ثورة عواطفنا الجامحة، فتطمئن قلوبنا بذكر الله وتجري على شفاهنا آيات الكتاب الكريم
أليست كلمات الله العذبة الفصيحة قادرة على أن ترشد الإنسان مهما كان زائغ العقيدة إلى الصراط المستقيم؟
ذلك الصراط الذي وعد الله به عباده المتقين فيرون ضوء الشمس الساطعة في كل جزء من أجزاء الحياة، وعندما تشعر النفس بالكآبة فلا عزاء لها إلا أن تيمم نحو الخالق العظيم لأن الله سبحانه وتعالى يحب من عباده التوسل والضراعة إليه، والكل يغترفون من فيض نعمائه لأنه رحيم رؤوف بعباده. على ضوء هذه العقيدة اضطجعت في غرفتي وأغمضت عيني فشعرت بازدياد ضربات قلبي ثم ألفيت نفسي أتلو آية الكرسي، وهناك شعرت بدمعتين حارتين تنحدران على خدي. ثم أسدل الليل ستاره وخيم السكون على أنحاء المدينة وبدأ القوم يوقدون مصابيحهم الزيتية، وحضرت الخادم تحمل طعام العشاء فسرعان ما شعرت بأني أهبط من طبقات السمو والتفكير في صفات الخالق إلى حضيض الأرض، وبعد أن تناولت عشائي نهضت فارتديت سروالي وعصبت رأسي بعصبة أحكمت فوقها عقالا، ثم يممت شطر جبل أبي قبيس لزيارة صديقي الأستاذ عبد الله رافع الذي دعاني مع آخرين لقضاء ليلة ساهرة في بيته، فاخترقت في طريقي سوق المدينة ورأيت الشوارع لا تزال مكتظة بالزوار وحجاج البيت الحرام. وكانت دار صديقي حافلة بالضيوف فما كدت أغشي الصالة الكبرى حتى أحسست أني في عزلة عن الضوضاء، وشعرت بالهدوء الشامل والطمأنينة المريحة
وأستطيع أن أقول إن جماعة الوهابيين في بلاد العرب يحرمون بتاتاً الاجتماع في الولائم وغيرها، وحجتهم في ذلك أنها مخالفة لنصوص الشريعة والسنة، ويقولون أن في التقشف الغذاء النفساني لكل طالب، ويعززون رأيهم بأن الإنسان ما خلق إلا للعبادة والتقوى، وليس له أن يتوغل في إعطاء النفس شهواتها لأن الحياة في ذاتها كلها تعب وقصيرة؛ وليس الغرض منها أن يتمتع الناس وينغمسون في شهواتهم. بيد أني أرى أنهم يبالغون في هذا(207/38)
التحريم لأن الله حين نظر إلى التراب الذي خلق منه آدم والذي تكون منه العالم، سقطت من عينه دمعة، وهذه الدمعة كانت تحمل شطراً من القلب ومن طبيعته أن يوجد فيه الحب والأحزان وغيرها من الصفات الكامنة الآن في نفوسنا.
(البقية في العدد القادم)(207/39)
أول مدرسة مصرية فرنسية
للدكتور زكي مبارك
هذه أول مرة تلقى فيها كلمة اللغة العربية، بجانب كلمة اللغة الفرنسية، في هذا المعهد؛ وذلك حق كسبته اللغة العربية منذ عامين، منذ إنشاء القسم المصري الذي تسود فيه اللغة العربية سيادة أصيلة، ويدرس فيه الأدب العربي دراسة مفصلة، على نحو ما يدرس في أرقى المدارس المصرية
والقسم المصري لم ينشأ في هذا المعهد لمجرد المجاملة، وإنما هي خطة تعليمية قضى بها المنطق السليم. وتوجيه صالح وفق إليه المشرفون على سياسة التعليم في هذا المعهد الذي يجمع بين القديم والحديث.
فأنا أيها السادة أتكلم باسم أساتذة اللغة العربية في القسم المصري كما تكلم زميلي المسيو بارال باسم أساتذة اللغة الفرنسية في القسم الفرنسي، وكذلك يأخذ الأدب العربي مكانه في تقاليد الحفلات السنوية منذ اليوم، ويصير من حظ هذا المنبر أن يطرب في كل عام وهو يستمع لغة القرآن.
وإنشاء القسم المصري في معهد الليسيه هو الذي أوحى إليّ موضوع هذه الخطبة، وهو الكلام عن أول مدرسة مصرية فرنسية في التاريخ الحديث.
والمدرسة التي أعنيها هي البعثة التي أرسلها محمد علي الكبير إلى فرنسا في سنة 1826 وقد كانت مؤلفة من اثنين وأربعين طالباً منهم ثلاثة من طلبة الأزهر الشريف.
وما سميت تلك البعثة مدرسة من باب المجاز فقد كانت مدرسة بالفعل، وكذلك سماها المسيو جومار في التقرير الذي نشره في الجورنال أزياتيك في سنة 1828.
ومن طريف التشابه أن أذكر أن المدرسة المصرية الأولى كانت مؤلفة من اثنين وأربعين طالبا ثم زاد طلبتها بعد ذلك وأن القسم المصري في الليسيه كان طلبته في الأسبوع الأول أثنين وأربعين طالبا ثم تكاثر العدد وازدحمت الفصول.
ولعل تشابه الحظوظ في هذه البداية يبشر بتشابه الحظوظ في التسامي والتفوق. والله بالتوفيق كفيل.
سافرت البعثة من مصر في يناير فوصلت إلى باريس في يوليو، وإنما كان السفر طويلا(207/40)
لان المواصلات لم تكن سهلت إلى الحد الذي تعرفوه في هذه الأيام، وقد كانت تلك الرحلة المطولة سبباً في أن يتعرف الطلاب إلى الأقاليم الفرنسية، ويدرسوا ما ائتلف وما اختلف من أخلاق الناس.
ولما استقر الطلبة في باريس عاشوا تحت إشراف ثلاثة من الأساتذة المصريين، وكان لأولئك الأساتذة الثلاثة واجبات دراسية، ومن هذا ترون كيف كان المصريون يعرفون واجبهم في ذلك الحين
كان الطلبة يقيمون أول الأمر مجتمعين في بيت واحد يسمونه المركز، ثم رؤى أن يتفرقوا في المنازل الفرنسية ليتذوقوا الروح الفرنسي. فنظمت لهم لائحة مكونة من أربعة عشر مادة. وإليكم نصوص تلك المواد لتروا كيف كانت إدارة البعثة تفهم الواجبات التعليمية في تلك العهود
المادة الأولى: (1) إن يوم الأحد المقرر لهم الخروج فيه يلزم أن يخرجوا من البنسيونات في الساعة تسعة ويأتوا إلى البيت المركز من أول الأمر ويقدموا وقت الدخول ورقة معلمهم إلى الأفندي النوبتجي لأجل أن يعلم ساعة دخولهم في البيت، وبعد ذلك يذهبون إلى المواضع المعدة للفرجة بشرط أن يجتمع ثلاثة أو أربعة، ثم يرجعون إلى البنسيونات في أيام الصيف الساعة تسعة، وفي أيام الشتاء الساعة ثمانية
المادة الثانية: إن من لم يمتثل لخصوص ما سبق يمنع من الخروج من البنسيون بحسب الاقتضاء جمعة أو جمعتين
المادة الثالثة: إن كل من له شكاية من معلمه لا تسمع ولا تقبل حتى يكتبها في ورقة. ولا تسمع إلا إذا كانت من جهة التعليم أو جهة أخرى يحصل له منها ضرر
المادة الرابعة: إن جميع الأفندية يمتحنون في آخر كل شهر ليعرف ما حصلوه من العلوم في هذا الشهر ويسألون عما يحتجون إليه من الكتب والآلات ويكتب في آخر كل شهر كسبهم وتحصيلهم وأفعالهم على الوجهة الصحيح
المادة الخامسة: لو احتاجوا شيئاً من الكتب والآلات في أثناء الشهر يطلبونه من معلمهم بورقة يكتبونها له، ومعلمهم يخبر بذلك مسيو جومار، فأن رآه مناسباً يعطيهم ذلك بعد ما يخبر النوبتجي، فأن اشترى أحداً شيئاً من غير إجازة يلزمه أن يدفع ثمنه من عنده(207/41)
المادة السادسة: إنه بعد الامتحان بما ذكرنا في المادة الرابعة إن أستحق أحد من الأفندية الهدية لنجابته تعطى له كتب وأدوات وسعة
المادة السابعة: في محل التفرج أو على الطريق لا ينبغي لأحد منهم أن يرتكب ما يخل بمروءته، وهذا الأمر هو أهم الجميع وممنوع أشد المنع
المادة الثامنة: إن كل الأفندية الذين في البنسيونات لا يدخلون البيت المركز إلا كل خمسة عشر يوماً مرة وهو يوم الأحد
المادة التاسعة: إن يوم الأحد الذي لا يأتون فيه إلى البيت يخرجون فيه مع أولاد الفرنساوية أو مع المعلمين إلى مواضع التفرج أو الرياضة أو ما ينبغي رؤيته، وكذلك يوم الخميس أو يوم التعطيل، أن لم يكن عليهم شغل فيذهبون مع من ذكر إلى المواضع المذكورة
المادة العاشرة: إذا خالف أحد هذا الترتيب يقابل بقدر مخالفته، وإذا اظهر عدم الطاعة يحبس بالخشونة، وإن كان يتشبث بأفعال غير لائقة وأطوار غير مرضية وجاءت تذكرة من معلمه تشهد عليه بقبح حاله وتبين عصيانه فمثل ما ذكر حضرة ولي النعم أفندينا في القوانين التي أعطاها لنا نتشاور مع المحبين لحضرة أفندينا من أهالي هذه المدينة ونرسل فاعل القبح والعصيان بنفسه حالاً إلى مصر من غير شك ولا شبهة.
المادة الثانية عشرة: إن جميع الأفندية يكونون في البنسيونات في هذا الترتيب على حد سواء، وإن كان في البنسيونات مائدتان إحداهما للمعلمين والأخرى للتلاميذ فأفنديتنا يأكلون مع معلميهم.
المادة الثالثة عشرة: إن الأفندية المذكورين يلزمهم جميع ما ذكر من القوانين من غير امتياز ولسبب ذلك أعطينا كل واحد منهم صورة ذلك
المادة الرابعة عشرة: كل المواد السابقة هي خلاصة أفكارنا ونتيجة أذهاننا وأذهان الأعيان الذين وصاهم علينا حضرة أفندينا، وبناء على ذلك كل أحد يلزمه أن يتبعها مع التنبيه لأجل تحصيل رضاء حضرة أفندينا ولي النعم. فمن لم يمتثل أو تعلل بشيء يجرى عليه ما هو مذكور في قانون حضرة أفندينا ولي النعم حفظه الله.
أيها السادة:
حدثتكم أن محمد علي الكبير وكل رعاية تلك البعثة إلى المسيو جومار، فاسمحوا لي أن(207/42)
أشير إلى بعض النواحي من أخلاق ذلكم المربي العظيم.
كان المسيو جومار يحرص أشد الحرص على تذكير الطلبة المصريين بأنهم من شعب مجيد له فضل سابق على الإنسانية فقد قال في الخطبة التي ألقاها عليهم في حفل توزيع الجوائز في اليوم الرابع من يوليه 1828:
(أيها الشبان، هذه أول مرة بعد وصولكم إلى فرنسا تعطى لكم أمام الجمهرة المكافأة التي تستحقونها على عملكم الذي ثابرتم عليه، وهذا اليوم يعد من أفضل أيام حياتكم، والأكاليل التي ستتوج بها رءوسكم بعد هنيهة هي رمز فخر عظيم، لأنكم أتيتم في عاصمة العلوم والفنون، وفي وسط مدينة تجمع بين جوانبها كل ما وجد من عناصر المدنية اليونانية وكل ما وجد من العناصر الفخمة في طيبة ذات المائة باب.
أمامكم مناهل العلم فاغترفوا منها بكلتا يديكم، وهذا هو قبسه المضيء بأنواره أمام أعينكم، فاقتبسوا من فرنسا نور العقل الذي رفع أوربا على سائر أجزاء الدنيا، وبذلك تردون إلى وطنكم منافع الشرائع والفنون التي ازدان بها عدة قرون في الأزمان الماضية فمصر التي تنوبون عنها ستسترد بكم خواصها الأصلية، وفرنسا التي تعلمكم وتهذبكم تفي ما عليها من الدين الذي للشرق على الغرب كله)
ولم يقف المسيو جومار عند هذا الحد من التذكير بمجد مصر، بل يتحدث إلى الجورنال أزياتيك عن البعثة المصرية فأشار إلى ما أنشأ محمد علي الكبير من المدارس في وادي النيل فقال إنها ستكون عاملاً لرد النور إلى وطنه الأصلي، ذلك النور الذي يجب على كل من يعني بنشر العلوم والمعارف والمدنية أن يرده إلى مهده الأصيل
ولعلكم تسألون أيها السادة عن عناية محمد علي الكبير بتلك البعثة، وجواب ذلك عند الشيخ رفاعة الطهطاوي، فقد حدثتنا مذكراته أن محمد علي الكبير كان يبعث إليهم من وقت إلى أخر خطاباً يحضهم به على الجد والتحصيل، وأثبت شاهد لذلك نسوق منه طرفا للدلالة على مبلغ عناية ذلك الرجل العظيم بأولئك المبعوثين
قال طيب الله ثراه:
قدوة الأماثل الكرام الأفندية المقيمين في باريس لتحصيل العلوم والفنون، زيد قدرهم
قد وصلتنا أخباركم الشهرية والجداول المكتوب فيها مدة تحصيلكم، وكانت الجداول(207/43)
المشتملة على شغلكم ثلاثة أشهر مبهمة لم يفهم منها ما حصلتموه في هذه المدة، وما فهمنا منها شيئاً، وأنتم في مدينة مثل مدينة باريس التي هي منبع العلوم والفنون، فقياسا على قلة شغلكم هذه المدة عرفنا عدم غيرتكم وتحصيلكم، وهذا الأمر غمنا كثيرا، فيا أفندية ما هو مأمولنا منكم، فكان ينبغي لهذا الوقت أن كل واحد منكم يرسل لنا شيئاً من أثمار شغله وآثار مهارته، فإذا لم تغيروا هذه البطالة بشدة الشغل والاجتهاد والغيرة وجئتم إلى مصر بعد قراءة بعض الكتب فظننتم أنكم مثلهم في العلوم والفنون فأن ظنكم باطل، فعندنا ولله الحمد والمنة رفقاؤكم المتعلمون يشتغلون ويحصلون الشهرة فكيف تقابلونهم إذا جئتم بهذه الكيفية وتظهرون عليهم كمال العلوم والفنون، فينبغي للإنسان أن يتبصر في عاقبة أمره وعلى العاقل أن لا يفوت الفرصة وأن يجني ثمرة تعبه. . .
فأن أردتم أن تكسبوا إرضاءنا فكل واحد منكم لا يفوت دقيقة واحدة من غير تحصيل العلوم والفنون، الخ، الخ
ويحدثنا الشيخ رفاعة أن هذا الخطاب كان له في أنفس الطلاب تأثير شديد، وكان من نتائجه أن صاروا يكتبون إلى مصر في كل شهر بياناً بما قرءوه وما تعلموه
أيها السادة، سمعتم اسم المسيو جومار في هذه الخطبة غير مرة، وعرفتم فضله على تلك البعثة، فمن الخير أن نشير إلى أن محمد علي حفظه له ذلك الجميل، فأرسل إليه خطاب ثناء في 10 يناير سنة 1834 وترون ذلك الخطاب في كتاب سمو الأمير عمر طوسون عن البعثات
أما بعد فقد كان المسيو جومار واثقاً كل الثقة وهو يلقي أول خطبة في توزيع الجوائز على أول مدرسة مصرية، وقد حققت الأيام ظنه فكان أولئك المبعوثون رسل علم وهداية وكانت معارفهم الأدبية والعلمية أساسا لما عرفت مصر من أصول التمدن الحديث
وأنا أيها السادة في أول خطبة لتوزيع الجوائز على طلبة القسم المصري أثق بتلاميذي أكثر مما كان يثق المسيو جومار بتلاميذه، وأعتقد أن القسم المصري بالليسيه سيخرج لكم نماذج جميلة من الشبان المثقفين الذين يعرفون واجبات الرجال
نحن نعرف تلاميذنا أيها السادة، وأؤكد لكم أننا وضعنا في صدورهم جذوة لن تخمد، وهديناهم إلى نمير من المعارف لن ينضب ولن يغيض(207/44)
والتلاميذ الذين يفرحون اليوم بتسلم الجوائز خليقون أن ينسوا إساءتنا إليهم أيام الدرس، فقد أسرفنا في إثقالهم بالواجبات وعاقبناهم أحياناً على هفوات صغيرة لا تستحق العقاب، إنهم خليقون أن ينسوا عنفنا وقسوتنا في معاملتهم فقد كنا على يقين من أن الأبوة تبيحنا حق التحكم فيهم، وتفرض علينا أن نلقاهم بوجوه تمثل الحزم وقلوب تضمر العطف والوداد
إنما نمنحكم الجوائز أيها الأبناء النجباء لتنسوا هموم الدرس فماذا تصنعون أنتم لمكافأة أساتذتكم؟ إن لنا في ذمتكم جائزة واحدة فتفضلوا بها علينا
أو تدرون ما هي تلك الجائزة؟ هي أن تكونوا أبطالاً يرفعون الوطن ويخدمون الإنسانية
لقد منحناكم خير ما نملك، فامنحوا الوطن والإنسانية خير ما تملكون
أيها الأبناء النجباء
لقد شقينا لتسعدوا، فليس من الكثير أن نطلب منكم أن تشقوا ليسعد الوطن وتسعد الإنسانية
تذكروا يا أبناءنا الأعزاء أن الشقاء في سبيل الخير هو السعادة الغالية التي ينشدها أرباب القلوب
زكي مبارك(207/45)
في الأدب الإنجليزي
شكسبير والأدب العربي
للأستاذ جريس القسوس
(مهداة إلى الأستاذ فخري أبو السعود)
يقف من يتعمق في دراسة الأدبيين العربي والإنجليزي على ظاهرة غريبة حرية باهتمام من يعنون بدراسة الآداب الإفرنجية، أعني بها التماثل الظاهر بين ما يرد في كلا الأدبين من قصص وحكم وآراء فلسفية: وهو تماثل يحمل المرء على الاعتقاد الجازم بأن أحد هذين الأدبين قد أقتبس من الآخر، أو تأثر به تأثراً بعيداً
وفي روايات شكسبير خاصة من القصص والحكم والكنايات والإشارات ما يثبت أن مؤلف هذه الروايات الخالدة كان ملماً بعض الإلمام بالأدب العربي، وخاصة القديم منه، ولا نقول العكس لأن هذه القصص المتشابهة وردت في الآداب العربية قبل الإنكليزية بعهد طويل.
وأنني لا أرى مبرر للزعم بأن شكسبير نقل حكمه وآراءه الفلسفية عن الأدب العربي، إذ أن الشاعر في كل آن ومكان وفي أية حالة أو ظرف من ظروف الحياة، لا يخرج عن كونه أنساناً يتألم ويحس بما يحس به غيره من الشعراء عند الأمم الأخرى، وإن اختلفوا لغة وجنساً، فالحياة والطبيعة البشرية، اللتان هما المصدران الرئيسيان واللتان يستمد منهما الشاعر المخلد وحيه، إنما هما ثابتتان لا تتغيران أصلاً في كل بيئة وزمان، فشكسبير والمتنبي، وبيرون وعمر بن أبي ربيعة، وشلي وموسيه، ودانتي وأبو العلاء، جميعهم حلقوا في سماء الشعر، واختلجت في صدورهم أحاسيس وأخيلة وفكر متماثلة بعض التماثل في المعنى، وإن كانت تختلف بما ألبسته هذه المعاني الرائعة من أثواب قشيبة منمقة. لهذا ترى العباقرة في كل باب وفن يتجردون من السفاسف البشرية التافهة والهنات السخيفة التي يتمسك بأذيالها فئة الجهال، كالفروق الدينية الجنسية واللغوية، إذ يتسامى العباقرة عن كل تعصب ذميم ممقوت وينضوون تحت لواء مملكة واحدة هي فوق هذه الممالك التي تظهر متباينة الألوان على المخططات الجغرافية
ولعل هذا القول يصدق على التشابه الظاهر بين الحكم والآراء الفلسفية الواردة في شكسبير(207/46)
والأدب العربي، أكثر منه على الخرافات والقصص العامية
فهذه تتداولها الألسن من قطر إلى قطر وتتناقلها الأجيال من عهد إلى عهد؛ ولا حرج على الأديب المنتج من تضمين أدبه قصة عامية تلقاها عن أمة أخرى بالرواية أو المطالعة. وللعالم والأديب الكبير بيزا قنصل رومانيا السابق في فلسطين. أبحاث شيقة حول موضوع شكسبير والخرافات الشرقية، وقد سرد في محاضرة له قيمة سماها:
(شكسبير والقصص العامية الشرقية) طائفة من القصص والخرافات التي كانت تدور على ألسنة العوام والفلاحين في الشرق، وحين رجع الصليبيون إلى أوربا نقلوا معهم الشيء الكثير منها، فانتشرت تلك القصص بين الخاصة والعامة في الأوساط الأوربية، فكان شكسبير أحد أولئك الذين ذكروا هذه القصص في منتوجاتهم الأدبية، وأنا لا أدري إلى أي حد تبلغ هذه النظرية من الصحة، بيد أنني وقفت على قصص عديدة في روايات شكسبير، ذكرتني بأخرى في الأدب العربي، شبيهة بها بعض الشبه.
ولا أخال أحداً طالع رواية مكبث ولا يذكر لأول وهلة قصة زرقاء اليمامة، فشكسبير قد ضمن هذه الرواية فكرة الغاب المتحرك، إذ حينما عبأ مكدوف جيشه العظيم منتقماً لوالده المغدور به، ومستعيدا ملكه المغتصب من مكبث القائد الطاغية العنيد، بعث مكبث من يستطلع أمر العدو، فاعتلى أحد جنده ربوة عالية تشرف على جيش عدوه. وبدلاً من أن يرى جيشاً لجباً، رأى غاباً كثيفاً يتحرك نحوه رويداً رويداً، فعاد الرسول وأخبر مولاه بما رأى، فأيقن مكبث أنه لا محالة هالك، إذ بذاك تتحقق نبوة الساحرات الثلاث اللاتي ظهرن له في أول عهده، وتنبأن له باعتلاء العرش، وأنه لن يلقى حتفه حتى يرى غاب برنام يتحرك نحو مقاطعة دنسنان وما كان غاب برنام الذي شاهده جندي الطليعة يتحرك إلا جيش مكدوف متستراً بأشجار اقتطعها وحمل كل جندي منهم شجرة يسير تحتها متخفياً ليتمكنوا بذلك من مفاجأة العدو، والإيقاع به على حين غرة، وهكذا أسفرت المعركة عن انهزام مكبث ولقاء حتفه على يد الابن الثائر.
وصاحب الأغاني يذكر كيف كانت زرقاء اليمامة ترى الجيش من مسير ثلاثين ميلا، وكيف أن قوماً آخرين غزوا قبيلتها، فلما قربوا من مسافة منظرها، قالوا (كيف لكم الوصول مع الزرقاء)، فأجمعوا على اقتلاع أشجار تستر كل منها فارساً إذا حملها، ففعلوا(207/47)
ذلك وساروا، فأشرفت الزرقاء كعادتها، فأجابت قومها وقد سألوها (ما ترى) قائلة: (أرى شجراً يسير) فقالوا: (كذبت أو كذبتك عينك) واستهانوا بقولها، فلما أصبحوا، صبحهم القوم، فاكتسحوهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقيل أخذوا الزرقاء فقلعوا عينيها
وقصة أخرى يشير إليها المستشرق الإنكليزي الشهير نيكلسون في كتابه في سياق البحث عن الحياة العامية في القسم الجنوبي من جزيرة العرب ولقد وردت هذه القصة في قصيدة (أسعد كامل أو أبو كرب) التي أطلق عليها نيكلسون أسم (قصيدة الساحرات الثلاثة) ذلك لما بينها وبين خرافة الساحرات الثلاثة. اللواتي يمثلن ذلك الدور المدهش في رواية مكبث، من تشاكل وتشابه عظيمين، والقصيدة كما سترى، موضوعة في قالب أقرب إلى العامية منه إلى الفصحى. وقد نقلها فون كريمر المستشرق الألماني إلى الألمانية مودعاً إياها كتابه وكذلك نقلها نيكلسون إلى الإنكليزية في كتابه المذكور
وفي هذه القصيدة يخاطب أسعد أبنه حسناً ويوصيه بالبطولة، ويسرد له في سياق الحديث قصة الساحرات الثلاث كيف صادفنه غلاماً، فمزجت له الكبرى أولاً دواء، وأعطته فشرب، وقدمت له الوسطى ضبياً برياً امتطاه وذلله، ثم جاءت الصغرى تمرّضه فتجنّبها، ولما أيقن في هذه الجرأة النادرة والقدرة على مقارعة الخطوب، تنبّأن له بعهد سعيد ومستقبل باهر، يتنسم فيه ذرى المجد، وهكذا تمت النبوة فقد أصبح أسعد، على ما جاء في القصيدة، قائد جيش مجر، ثم ملكا تهابه الأعداء.
وأنت تذكر أن مكبث كان في أول عهده قائداً مغواراً في عسكر الملك دانكين ولما عاد هو وبنكو مظفَّرين لقيا في طريقهما، ثلاث عجائز شمط، دأبهنَّ القيام بأعمال سحرية خارقة، ولهن القدرة على قراءة المستقبل، ومعرفة الغيب فتنبأن أن سيكون مكبث مبدئياً من الشرفاء، ثم يعتلي العرش، وبعد ذلك بقليل تحقق القسم الأول من النبوءة، فقد اختار الملك القائد مكبث ليكون شريفاً، ثم تعلم كيف سوّلت لمكبث نفسه التطلع إلى الملك، فدعا الملك (دنكن) إلى وليمة وقضى عليه ليلاً، ثم نصب نفسه ملكاً على الشعب
ومن يدرس ما جاء على لسان هؤلاء الساحرات في رواية مكبث من أقوال دقيقة معقدة ويقابل ذلك بحديث الساحرات في العقيدة العربية يلقي تشابهاً يدعو إلى الإعجاب الشديد، فساحرات مكبث من شأنهن طبخ الأدواء ومزجها واستعمالها في جميع أعمالهن السحرية،(207/48)
وشبيه بذلك ما جاء عن ساحرة أسعد الكبرى، فقد ورد أنها
جاءت إليه الكبرى بأسقية ... شتى وفي بعضها دم كدر
ثم إن الضبع الذي قدمته الساحرة الوسطى لأسعد هو من مطايا ساحرات أسعد؛ وفي رواية مكبث تشير إحدى الساحرات إلى اتخاذ زوجها النمر مطية تحمله إلى حلب العربية ولا أدري ما الذي حدا بشكسبير إلى ذكر حلب البلدة السورية العربية، ولو لم يكن بين هاتين الخرافتين من علاقة وثيقة وسبب متين
أما وقد بسطنا بعض وجوه الشبه بين الخرافتين، فمن المستحسن الإتيان بقصيدة أسعد بكاملها ليتسنى بذلك مقابلتها مع الخرافة الشكسبيرية بالتفصيل والتدقيق
الدهر يأتيك بالعجائب
و ... الأيام والدهر فيه معتبر
بينا ترى الشمل فيه مجتمعا ... فرقة في صروفه القدر
لا ينفع المرء فيه حيلته ... فيما سيلقاه لا ولا الحذر
أتى زعيم بقصة (عجب) ... عندي لمن (يسترد هذا) الخبر
يأتي بتصديقها الليالي
و ... الأيام إن المقدور ينتظر
يكون في (الأسد) مرة رجل ... (ثم) له في ملوكه الخطر
مولده في قرى ظواهر هم ... دان بتلك التي اسمها (خمر)
يقهر أصحابه على حدث ... السن (ويحقرهم) فيحتقر
حتى إذا أمكنته صولته ... وليس يدري ما شأنه البشر
أصبح في هيوم على وجل ... وأهله غافلون ما شعروا
رأوا غلاماً بالأمس عندهم ... أزرى لديهم بجهله الصغر
أن يفقدوه لا در درهم ... لو علموا العلم فيه لافتخروا
حتى إذا أدركته روعته ... بين ثلاث وثلاثة صخروا
جاءت إليه الكبرى بأسقية ... شتى وفي بعضها دم كدر
فقال هاتي إليّ أشربها ... فقالت له ذر فقال لا أذر
فناولته فما تورع عن ... حصاة حتى أماده السكر
فنهنهته الوسطى فنازلها ... كأنه الليث هاجه (الزعر)(207/49)
قالت له هذه مراكبنا ... فاركب فشَّر المراكب الحمر
فقال حقاً صدقت ثم سما ... فوق ضبيع قد زانه القمر
فدق منه جنباً فغادره ... فيه جراح منها به أثر
ثم أتته الصغرى تمرضه ... فوق الحشايا ودمعه درر
فمال عنها بمضجع ضجر ... لا يتساوى الوطاء والزعر
كان إذ ذاك بعد صرعته ... من شدة الجهل تحته (الإبر)
فقلن لما رأين جرأته ... أسعد أنت الذي لك الظفر
في كل ما توجهه بوجهها ... وأنت يشقى بحربك البشر
وأنت للسيف والسنان وفي ... الأبدان تبدو كأنها الشمر
(وإن) أنت المهريق (كل) دم ... إذا ترامى (بشخصك) السفر
فارشد ولا تستكن في (خمر) ... ورد ظفاراً فإنها الظفر
فلست تلتذ عيشة أبداً ... وللأعادي عين ولا أثر
نحن من الجن يا أبا كرب ... يا تبع الخير هاجناً (الذعر)
فما بلوناه فيك من تلف ... عن عمد عين وأنت مصطبر
ثم أتى أهله فأخبرهم ... بكل ما قد رأى فما اعتبروا
فسار عنهم من بعد تاسعة ... إلى ظفار وشأنه (الفكر)
فحلَّ فيها والدهر يرفعه ... في عظم الشأن وهو يشتمر
حتى أتته من المدينة تش ... كو الظلم شمطاء قومها غدروا
(أدت) إليه منهم ظلامتها ... ترجو به ثأرها وتنتصر
فأعمل الرأي في الذي طلبت ... (فكان) كل بذاك يأتمر
فعبأ الجيش ثم سار به ... مثل الدبا في البلاد ينتشر
قد ملأ الخافقين عسكره ... كأنه الليل حين يعتكر
تعمم أعداءه (كتائبه) ... وليس يبقى فيهم ولا يذر
حتى مضى منه (لثانية) ... وفاز بالنصر ثم ينتصر
إنا وجدنا هذا يكون معاً ... في علنا والمليك مقتدر(207/50)
فالحمد لله والبقاء له ... كل إلى ذي الجلال مفتقر
(السلط - شرق الأردن)
جريس القوقس ب. ع
مدرس اللغة الإنجليزية في مدرسة السلط التجهيزية(207/51)
نقل الأديب
الأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
90 - من اكتتب ضمنا بعثه الله ضمنا
في (الفائق) للزمخشري:
قال عمر (رضى الله عنه): من اكتتب ضمناً بعثه الله ضمناً. وهو الرجل يضرب عليه بالبعث فيتعالَّ ويتمارض ولا مرض به. ويحكى أن أعرابياً جاء إلى صاحب العرض فقال:
إن تكتبوا الضمني فإني لضمن ... من داخل القلب وداء مستكن
91 - منذ ثلاثين سنة أنتظر
سئل الشاعر الأهوازي كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت (والله) أظرف الناس، وأشعر الناس، وآدب الناس،
فقال السائل: اسكت حتى يقول الناس ذلك.
فقال: أنا منذ ثلاثين سنة انتظر الناس، وليسوا يقولون.
وعزيز علي مدحي لنفسي ... غير أني جشمته للدلاله
وهو عيب يكاد يسقط فيه ... كل حر يريد يظهر حاله
92 - حلقة، حلقة
في تاريخ ابن عساكر:
كان زريع على عسس بلال فقال له يوماً: يا بني، إن أهل الأهواء يجتمعون في المسجد ويتنازعون، فأذهب فتعرف ذلك، فذهب ثم رجع إليه، فقال: ما وجدت فيه إلا أهل العربية حلّقة، حلّقة.
فقال له: ألا جلست إليهم حتى لا تقول: حلّقة، حلّقة؟
93 - الخاطر
قال ابن جني في (الخصائص):(207/52)
حدثني أبو علي (الفارسي) قال: قلت لأبي عبد الله البصري: أنا أعجب من هذا الخاطر في حضوره تارة ومغيبه أخرى، وهذا يدل على أنه من عند الله، فقال: نعم، هو من عند الله إلا أنه لا بد من تقديم النظر، ألا ترى أن حامداً البقال لا يخطر له.
ومن ظريف حديث الخاطر أنني كنت منذ زمان طويل رأيت رأياً جمعت فيه بين معنى آية ومعنى قول الشاعر:
وكنت أمشي على رجلين معتدلا ... فصرت على أخرى من الشجر
ولم أثبت حينئذ شرح الجمع بينهما ثقة بحضوره متى استحضرته، ثم إني الآن وقد مضى له سنون أعان، الخاطر واستثمده وأفانيه وأتودده على أن يسمح لي بما كان أرانيه من الجمع بين معنى الآية والبيت، وهو معتاص متأب، وضنين به غير معط.
94 - أفضل الناس بعد رسول الله
أتى شيعي وسني أبا نؤاس فقالا: أي الناس أفضل بعد رسول الله؟
فقال: أفضلهم بعده يزيد بن الفضل.
فقالا: ومن يزيد بن الفضل؟
فقال: رجل يعطيني كل سنة ثلاثة آلاف درهم. . .
95 - ريبة
في (الكشاف):
عن بعض العرب أنه سئل عن نسبه، فقال: قرشي والحمد لله!!
فقيل له: قولك: (الحمد لله) في هذا المقام ريبة. .
96 - أستريح منه إليك
في (الصناعتين) لأبي هلال العسكري:
قال معاوية (رضي الله عنه) لابن أوس: ابغ لي محدثاً
قال: أو تحتاج معي إلى محدث؟!
قال: أستريح منه إليك، ومنك إليه، وربما كان صمتك في حال أوفق من كلامك.
97 - والي شرطة بغداد وأهل السنة والشيعة سنة 442(207/53)
في (النجوم الزاهرة) لابن تغري بردي:
في سنة (442) كان من العجائب أنه وقع الصلح بين أهل السنة والشيعة، وصارت كلمتهم واحدة، وسبب ذلك أن أبا محمد النسوي ولي شرطة بغداد، وكان فاتكا، فاتفقوا على أنه متى رحل إليهم قتلوه؛ واجتمعوا وتحالفوا، وأذن بباب البصرة بـ (حي على خير العمل) وقرئ في الكوخ فضائل الصحابة، ومضى أهل السنة والشيعة إلى مقابر قريش فعد ذلك من العجائب، فان الفتنة كانت قائمة، والدماء تسكب، والملوك والخلفاء يعجزون عن ردهم، حتى ولي هذا الشرطة
98 - تغير شعره ورق طبعه
قال السمعاني: لما ورد علي بن حسن الباخرزي بغداد مدح (القائم بأمر الله) بقصيدته التي صدر ديوانه وهي:
عشنا إلى أن رأينا في الهوى عجبا ... كل الشهور وفي الأمثال: عش رجبا
أليس من عجب إني ضحى احتملوا ... أوقدت من ماء دمعي في الحشا لهبا
وإن أجفان عيني أمطرت ورقا ... وان ساحة خدي انبتت ذهبا
وان تلهب برق من جوانبهم ... توقد الشوق في جنبيَّ والتهبا
فاستهجن البغداديون شعره وقالوا: فيه برودة العجم، فانتقل إلى الكوخ وسكنها وخالط فضلاءها وسوقتها ثم أنشأ قصيدته التي أولها:
هبت علي صبا تكاد تقول ... إني إليك من الحبيب رسول
سكري تجشمت لربي لتزورني ... من علتي، وهبوبها تعليل
فاستحسنوها وقالوا: تغير شعره، ورق طبعه
99 - خطباء الطير
قال الثعالبي: خطباء الطير هي الفواخت والقماري والراوشين والعنادل وما أشبهها، وأظن أن أول من اخترع هذا الاستعارة المليحة أبو العلا السروي في قوله:
أما ترى قضب الأشجار لابسة ... حسناً يبيح دم العنقود للحاسي؟
وغردت خطباء الطير ساجعة ... على منابر من ورد ومن آس(207/54)
100 - ما مدحته إلا ثقة بضمانك
مدح ابن نباتة الكبير فخر الدولة وزير بهاء الدولة ابن عضد الدولة بقصيدة قال فيها:
لكل فتى قرين حين يسمو ... وفخر الملك ليس له قرين
أنخ بجنابه واحكم عليه=بما أملته وأنا الضمين
فامتدح بعض الشعراء فخر الدولة بعد هذه القصيدة، فأجازه بجائزة لم يرضها، فجاء الشاعر إلى ابن نباتة وقال له:
أنت غررتني، وأنا ما مدحته إلا ثقة بضمانك فتعطيني ما يليق بمثل قصيدي، فأعطاه من عنده شيئاً رضي به، فبلغ ذلك فخر الدولة، فسير لابن نباتة جملة مستكثرة لهذا السبب.
101 - أحسنت والله! هذا أحسن
قال ابن الخطيب البغدادي: كان بين أبوي العباس (ثعلب والمبرَّد) منافرات كثيرة، والناس مختلفون في تفضيل كل واحد منهما على صاحبه. وقال محمد بن خلف: كان بين المبرَّد وثعلب من المنافرة ما لا خفاء به، ولكن أهل التحصيل يفضلون المبرَّد على ثعلب
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: حضرت مجلس أخي محمد بن عبد الله بن طاهر، وحضره أبو العباس ثعلب وأبو العباس المبرَّد النحويان. فقال لي أخي محمد: قد حضر هذان الشيخان وأنا أحب أن أعرف أيهما أعلم، فاجلس في الدار الفلانية، ويحضر هذان الشيخان حضرتك ويتناظران ففعلت ما أمر، وحضرا فتناظرا في شيء من علم النحو مما أعرفه، فكنت أشاركهما فيه، إلى أن دققا فلم أفهم، ثم عدت بعد انقضاء المجلس، فسألني فقلت: إنهما تكلما فيما أعرف فشاركتهما في معرفتي، ثم دققا فلم أعرف ما قالا. ولا والله يا سيدي، ما يعرف أعلمهما إلا من هو أعلم منهما، ولست ذاك الرجل. فقال أخي: أحسنت والله! هذا أحسن(207/55)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
نشيد الرقص
ومر زارا بالغاب يوماً ومعه صحبه فاكتشف وهو يفتش عن ينبوع مرجاً منبسطاً بين الأشجار والأدغال، وكان هنالك رهط من الصبايا يرقصن بعيداً عن أعين الرقباء. وإذ لمحن القادم وعرفنه توقفن عن الرقص ولكن زارا اقترب منهن وخاطبهن قائلا.
- داومن على رقصكن، أيتها الآنسات الجميلات، فما القادم بمزعج للفرحين وما هو بعدو للصبايا. أنا من يدافع عن الله أمام الشيطان، وما الشيطان إلا الروح الثقيل فهل يسعني أن أكون عدواً لما فيكن من بهاء ورشاقة وخفة روح؟ وهل لي أن أكون عدواً للرقص الإلهي ترسمه مثل هذه الأقدام الضوامر الرشيقات. . .؟
لا ريب في أنني غابة اشتبكت فيها قاتمات الأشجار وساد الحلك على أرجائها ولكن من يقتحم ظلماتي بلا خوف ليجدن تحت سرواتي الرهيبات طرقاً تحف بجانبيه الورود، وليجدن أيضاً الإله الصغير الذي تشتاقه الصبايا منطرحا بسكون قرب الينبوع وقد أغمض عينيه
لقد نام في وقت الظهيرة، هذا الإله المتراخي، ولعله سعى طويلا ليصطاد من الفراشات عدداً كبيراً. .
لا يكدركن مني أيتها الراقصات الجميلات تأديبي لهذا الإله الصغير، ولعله يصيح ويبكي ولكنه إله يجلب المسرة حتى في بكائه. فلسوف اقتاده إليكن والدموع سائلة على خديه ليطلب إليكن أن ترقصنه، وإذا ما رقص فسأرافقه أنا بإنشادي فما تجيء نغماتي إلا هزيجاً أصفع به الروح الثقيل، روح الشيطان المتعالي الذي يقول الناس إنه يسود العالم
وهذه هي الأغنية التي رفع زارا صوته بها بينما كان (كوبيدون) إله الحب يرقص مع الصبايا الفاتنات:
(لقد حدقت يوماً في عينيك، أيتها الحياة، فحسبتني هويت إلى غور بعيد القرار، غير أنك(207/56)
سحبتني بشابك من ذهب وأطلقت قهقهة ساخرة عندما قلت إن غدرك لا قرار له. وأجبتني: - هذا ما تقوله الأسماك جميعها، فهي إذ تعجز عن سبر الأغوار تحسبها لا قرار لها. وهل أنا إلا المتقلبة النفور؟ وهل أنا إلا امرأة، وامرأة لا فضيلة لها. لقد تقول الناس كثيراً عن صفاتي ولكنهم أجمعوا على أنني غير المتناهية، المليئة بالأسرار
أيها الرجال، إنكم ترون في فضائلكم، فأنتم لا قبل لكم بادراك شيء آخر غيرها أيها الفضلاء. . .
هذا ما كانت تقهقه به في سخريتها تلك الحياة، غير أنني لا أثق بها ولا أصدق ضحكها عند ما تهجو نفسها
وناجيت يوماً حكمتي النفورة فقالت لي غاضبة: - إنك تطلب الحياة وتشتاقها وتحبها وذلك ما يحفز بك إلى بذل الثناء عليها
ولولا أنني تمالكت نفسي لكنت رددت بعنف على حكمتي وأعلنت الحقيقة لها وهي تغاضبني وهل من جواب أشد وقعاً على الحكمة من أن تهتك سرائرها
ما أحب شيئا ًمن صميم الفؤاد إلا الحياة، ولا يبلغ حبي لها أشده إلا حين أكرهها. وإذا ما أنا اندفعت إلى الحكمة وأغرقت في الالتجاء أليها فما ذلك إلا لأنها تبالغ بتذكيري بالحياة. فان للحكمة عيني الحياة لها ولها ابتسامتها. بل لها أيضاً شابكها المذهب، فما حيلتي بهما إذا تشابهتا إلى هذا الحد؟
وعندما سألتني الحياة عن الحكمة أجبتها: هي الحكمة يشتهيها الإنسان بكل قوته ولا يشبع منها. فهو يحدق فيها ليتبين وجهها من وراء القناع ويمد أصابعه بين فرجات شباكها متسائلا عن جمالها وما يدريه ما هو هذا الجمال ومع هذا فان أقدم الأسماء لا تنفك عن الانجذاب إلى طعمة شباكها فهي متقلبة شديدة المراس. ولكم رأيتها تعض على شفتها وتسرح شعرها، ولعلها شريرة ومخادعة، بل لعل لها صفات المرأة بأجمعها فهي لا تبلغ أبعد مداها في اجتذاب القلوب إلا عندما تهجو ذاتها. . .
وبعد أن قلت هذا عن الحكمة للحياة، مرت على شفتيها ابتسامة شريرة وغضت من جفنيها قائلة: - عمن تتكلم. . . لعلك تتكلم عني أنا. . . وهل للإنسان أن يعلن مثل هذه الأمور بوجه من تعنيه حتى ولو كان محقاً. فما قولك الآن في حكمتك يا هذا. . .؟(207/57)
وفتحت الحياة المحبوبة عينيها فحسبتني عدت إلى التدهور في الهاوية البعيدة القرار)
هذا ما يتغنى زارا به وما انتهى الرقص وتوارت الصبايا عن أبصاره حتى تملكه حزن عميق فقال: لقد اختفت الشمس وترطب المرج وقد بدأ الغاب يرسل لفحاته الباردات. أن شيئاً مجهولاً يدور حولي ويحدجني قائلاً: - ألم تزل على قيد الحياة، يا زارا؟ ولماذا أنت حي بعد؟ وما هي فائدة هذه الحياة؟ ما هو مصدرك وإلى أين مصيرك أفليس من الجنون أن تبقى في الحياة؟
ويلاه، أيها الصحاب، أن ما يتناجى فيّ إنما هو الغسق فاغتفروا لي شجوني. لقد جاء المساء فاغتفروا لي قدوم المساء. . .
هكذا تكلم زارا. . . . . .
الكهنة
وتمثل زارا مرور رهط من الكهنة أمامه، فقال لأتباعه: هؤلاء هم الكهنة؛ فعليكم - وإن كانوا أعدائي - أن تمروا أمامهم صامتين وسيوفكم ساكنة في أغمادها فإن بينهم أبطالاً ومنهم من تحملوا شديد العذاب فهم لذلك يريدون أن يعذبوا الآخرين.
إنهم لأعداء خطرون، وما من حقد يوازي ما في اتضاعهم من ضغينة، وقد يتعرض من يهاجمهم إلى تلطيخ نفسه. ولكن بيني وبينهم صلة الدم وأنا أريد أن يبقى دمي مشرفاً حتى في دمائهم.
وعاد زارا يتمثل أنهم مروا وانصرفوا، فشعر بألم شديد قاومه لحظة حتى سكن روعه، فقال: - إنني أشفق على هؤلاء الكهنة، وأنا لا أزال أنفر منهم ولكنني تعودت الإشفاق مرغماً نفوري منذ صحبت بني الإنسان، ومع ذلك فأنا أتألم مع هؤلاء الكهنة لأنهم في نظري سجناء يحملون وسم المنبوذين في العالم، وما كلبهم بالأصفاد إلا من دعوه مخلصاً لهم، وما أصفادهم إلا الوصايا الكاذبة والكلمات الوهمية، فمن لهؤلاء من يخلصهم من مخلصهم. . .
لقد لاحت لهؤلاء الناس جزيرة في البحر على حين ثارت عليهم زوبعة فنزلوا إليها فإذا هم على ظهر تنين نائم على العباب
وهل من تنين أشد خطراً على أبناء الحياة من تنين الوصايا والكلمات الوهمية وقد كمن(207/58)
فيها المقدور طويلاً حتى حان وقت انتباه التنين؟ وهاهو يهب مفترساً جميع من بنوا مساكنهم على ظهره.
انظروا إلى المساكن التي بناها هؤلاء الكهنة، وقد أسموها كنائس وما هي إلا كهوف تنبعث روائح التعفن منها. وهل للروح أن ترتفع إلى مستواها تحت لآلاء هذه الأنوار الكاذبة وفي هذا الجو الكثيف، حيث لا يسود إلا عقيدة تصم الناس بالخطيئة وتأمرهم بصعود درجات الهيكل زحفاً على الركب
أنني لأفضل أن أنظر إلى اللحظات الفاحشة من أن أرى هذه العيون أطبقت أجفانها معلنة خشوعها واستغراقها.
من ذا الذي اخترع هذه الكهوف وهذه الدرجات يرقاها النادمون زاحفين، أهي من إيجاد من استحيوا من صفاء السماء فلجئوا إلى الاستتار؟
لن أعود بقلبي ألج مساكن هذا الإله إلا إذا انثلمت قبابها واخترقتها نور السماء الصافية لتتكشف عن الشقائق الحمراء النابتة على جدرانها المتهدمة.
لقد أراد هؤلاء الكهنة أن يعيشوا كأشلاء أموات فسربلوا جثثهم بالسواد فإذا هم ألقوا مواعظهم انتشرت منها رائحة اللحود.
إن من يجاور هؤلاء الناس فكأنما هو ساكن على ضفة الأنهار السوداء حيث لا يسمع إلا نقيق الضفادع الحزين
ليسمعني هؤلاء الناس نشيداً غير هذا النشيد لأمرن نفسي على الاعتقاد بمخلصهم، إذ لا يلوح لي أن أتباع هذا المخلص قد ظفروا بالخلاص.
لكم أتمنى أن أراهم عراة، وهل لغير الجمال أن يدعو الناس إلى التوبة، ولكنهم عبارة عن فجائع مستترة لا يسعها أن تجتذب إلى الإيمان أحداً.
والحق، أن مخلصي هؤلاء الكهنة أنفسهم لم ينحدروا من سماء الحرية وما وطئوا مسالك المعرفة قط، فما كانت حكمتهم إلا نسيجاً ملأته الخروق رقعوه بما أوجد جنونهم من آلهة. لقد أغرقتهم حكمتهم في بحيرة الإشفاق فهم كلما زفروا فيها أرسلوا بجثة عظمى تطفو على سطحها.
ولقد زعق هؤلاء الرعاة بقطعانهم فمضت متدافعة إلى فجوة واحدة وقد علا صراخها كأن(207/59)
التوصل إلى مخارج المستقبل ممتنع من غير هذه الفجوة الضيقة. أما والحق ما هؤلاء الرعاة إلا فريق من هذه السائمة وقد ضاقت عقولهم ورحبت نفوسهم وسرعان ما تصغر العقول إذا كبرت النفوس.
لقد تركوا على كل معبر اجتازته أرجلهم آثار الدماء، إذ كانوا يستلهمون جنونهم ليعلموا الناس أن الدماء تقوم شاهدة للحق. وقد جهلوا أن أفسد شهادة تقوم للحق إنما هي شهادة الدم، لأن الدم يقطر سماً على أنقى التعاليم فيحولها إلى جنون وإلى أحقاد.
أفتقيمون للحق دليلاً من اقتحام أحد الناس للهب في سبيل تعاليمه. وهل لمثل هذا التعليم ما للعقيدة التي تتولد متقدة من لهبها نفسه؟ إذا ما تلاقى رأس بارد بقلب مضطرم نشأت من التقائهما تلك العاصفة التي يدعوها الناس مخلصاً. ولكم وجد على الأرض من رجل أعرق منشأ وأرفع مقاماً ممن يدعوهم الشعب مخلصين، وما كان هؤلاء المخلصون إلا عاصفات كاسحات تهب متوالية على الأرض
إذا ما كنتم تنشدون سبل الحرية، أيها الاخوة، فعليكم أن تنقذوا أنفسكم حتى ممن يفوقون هؤلاء المخلصين عظمة ومجداً. فان الإنسان الكامل لم يظهر على الأرض بعد. لقد حدقت بأعظم رجل وبأحقر رجل عن كثب وهما عاريان فظهرا لعياني متشابهين، بل رأيت أعظمهما أشد توغلا في المعائب البشرية من الآخرين.
هكذا تكلم زارا. . . . . .(207/60)
رسالة الفن
في فن التصوير
يقف الإنسان أمام صورة من الصور ويلقي عليها نظرة عارضة عاجلة فيصدر في الحال حكمه عليها أعجب بها أم لم يعجب؟ أنالت من نفسه ارتياحا؟ أسكن وجدانه إليها؟ ولماذا أعجب بها؟ ولماذا لم يعجب؟ وما هي العاطفة الكامنة التي تصدر هذا الحكم بتلك السهو لها أو عليها؟ أهو الذوق؟ وما هو الذوق؟ أهو العقل؟ وعلام يستند العقل؟ هذا ما نحاول شرحه في هذا المقال متوخين الإيجاز في تناول موضوع التصوير بصفة عامة لأنه فن واسع الأفق لا يحيط به مقال واحد ولا كتاب واحد.
ليس التصوير إلا لغة للتغيير وأسلوباً من أساليب الوصف والإفضاء
عن الشعور والعاطفة، فكل مصور درس أصول التصوير وقواعده هو
ككل إنسان تلقن قواعد الكلام وأصول الصرف والنحو ليستطيع
التخاطب بلغة سليمة متآلفة، ولكن على قدر انتشار اللغة سليمة
صحيحة غير مشوبة باللحن لا نجد كل متكلم أديباً ولا شاعراً، فكذلك
ليس كل من تناول ريشة الفن وأتقن مزج الألوان فناناً موفقاً، وكذلك
على قدر التفاوت بين طبقات الأدباء والشعراء يتفاوت الفنانون مقدرة
وعجزاً.
فلغة التصوير على ذلك ليست إلا أداة أو وسيلة لغاية بعيدة يريد المصور أن يبلغها، ونحن إذ ننظر إلى الصورة يجب أن نبحث أولاً عن هذه الغاية - ماذا يريد صانعها أن يقول.
فإذا لم نجد من وراء صورته فكرة أو غاية مفيدة فالصورة لغو لا طائل تحته، إذ لكل صورة قصة يجب أن تقصها وإلا فهي بكماء صماء أو هراء من القول وهذر مخطوط ومضيعة للجهد والوقت بالغة ما بلغت أداة التعبير من إتقان. وأقل ما نلتمسه في صورة من الصور أن نستخرج لها ميزة تميزها وشخصية تتسم بها. هل سجلت شيئاً جديداً كان خافياً علينا؟ أو هل فسرت معنى مجهولاً؟ أو هل مهدت خطوة في سبيل غرض سام؟ أو هل(207/61)
ألقت بصيصاً ولو ضئيلاً من النور على ظلام الحياة؟ أو هل أضافت نغمة ولو خافتة إلى موسيقى الكون؟ إذا التمسنا شيئاً من ذلك ووجدنا له أثراً يشير إليه أو لمسنا صدى له في نفس المصور كان لنا أن نأمل من هذا الفنان شيئاً.
المصور العبقري كالشاعر العبقري كلاهما كالنبي المعجز غرس الله في قلوبهم بذرة الخلود تجمع بينهم رابطة الروح السماوي والنور الإلهي وهم يصدرون عن إيمان صادق ووحي أمين وإن كان لكل وجهة يوليها وعالم يكشفه.
والمصور الصادق قطعة من الحياة تهذبت وتثقفت، يرتاد سبيله ملهماً ببصيرة سماوية وقلب دافق ألا حساس مرهفه، ومهجة فياضة الشعور، ووجدان بالغ الدقة منته في اللطف؛ فهو روح مجرد يطير في كل أفق، ويحوم في كل خميلة، ويرد كل غدير، ويعتلي كل فن، ويدوم فوق كل منظر بهيج فيحيطه بفؤاد خفاق، ويلتهمه بعين حديدة، ويحيله أشعة وظلالا ويحمله روحا بروح تسجله للأبصار في أسلوب ناطق وخفي، ويحده بإطار من شعوره وفيض إحساسه.
فإذا كان هذا قدر المصور الفنان الصادق الأمين. إنسان بالغ النبل نقي الروح زكي النفس عظيم السمو لزم أن يكون أسلوبه الذي يضمنه روحه نبيلاً على قدر نبله سامياً على قدر سموه، ولزم أن تكون موضوعاته التي يختارها لأداء فكرته وحكاية قصته ولشرح عاطفته أو غير ذلك من الأغراض، لزم أن تكون على قدر نبله وسامية على قدر سموه؛ فالفنان الذي يصور البعث أو الوحي أو الصلاة أو الحنان أو الحب أو الأمومة وما يدخل تحت فصل الجمال الروحي أنبل من المصور الذي يصور الحقد والدمامة أو التبذل والوحشية أو الرذيلة للاستمتاع بتصويرها لا للنهي عنها، هذا تدور خواطره على مشاغل الناس اليومية المادية، وذلك لا تتعلق نفسه ولا يحس في قلبه إلا بكل جليل الشأن. ويلي هذين من يعني بتصوير الصغير من الأمور والتافه الحقير كلعب الأطفال وأعمال المهرجين وما إلى ذلك ولا ينبغي أن تضيق هذه الحدود إلى أقصى تخومها فنحكم بمقتضاها حكماً قاطعاً لا نقض فيه، إذ أن الفنان النبيل قد يتناول موضوعاً يقل عن مستوى موضوعاته فيسبغ عليه من روحه ويفضي عليه من قدرته وبراعته، ولكن كثيراً ما يشرئب النقاش الصغير غير الموهوب والمشغول بحقير الأمور إلى تقليد جليلها فلا يبلغ منه مبلغاً ولا يخرج عن(207/62)
الدائرة التي يدور فيها، وينتهي حيث يبتدئ، بل أنه يكشف عن عجزه ويدل على ضعفه ولا يتمخض بعد الجهد الشاق والعناء العنيف عن غير ما تطيقه مؤهلاته وما تنتجه قريحة مثله، ومثل هذا النقاش يحسب غروره وحياً وطمعه عظمة الروح وعلواً في النفس
وشتان بين الاثنين! إحداهما كالنحلة لا يغذيها إلا الرحيق ولا تهيم أو تسعى إلا وراء الشذى الذكي والعبق النقي والعرف الندي، ولا يستهويها إلا الزهر المنور والجو المعطر؛ والآخر كالزنبور الطنان يقع على الأقذار ويستطعم الأدران ويأكل الحشرات والديدان.
والنحلة تنتج رحيقاً من رحيق، والزنبور أذى وشرا. تلك رمز التضحية والغيرية، وهذا عنوان الأنانية والأثرة؛ تلك متواضعة خجولة تعمل في رصانة وسكون، وذلك مدّع مغرور صخاب طنان بهرجت الطبيعة من ألوانه وعددت فيها للنميمة عليه والإيقاع به أو لتفاديه
فلا تستصغرن من النحلة اندماج لونها وهدوئها؛ ولا يغرنك من الزنبور بروزه وطنينه.
وكذلك لا يغرنك من الصورة بهرجة الدعاية لها بل ابحث عن الغاية المجيدة وعن التعبير الصادق الجميل.
كثيراً ما يتفق الناس على أن هذه المرأة جميلة، وأن تلك دميمة، ويكادون لا يختلفون في حكمهم، فما الذي جمع بينهم على رأي واحد؟ قد يحتج بأن هذه هي أذواقهم وهذه أمزجتهم وأنهم يرون أنها جميلة لأن هذا إحساسهم فلا تطلب تعليلا ولا تحليلا، وفي الحق أن المرأة الجميلة تعجبنا لأول ما نراها لأن قلبنا يهفو إلى حسنها، ونفوسنا تصبو إلى جمالها، ولكننا نتفق في النزوع إلى جمالها والصبابة إليها بدافع من الغريزة فالغريزة هي في الواقع التي تؤلف بين الرجال على الإعجاب بجمال المرأة أو هي على الأصح التي كانت منذ الزمن الأول ترغب الرجل في المرأة؛ فلما ارتقى وهذب من غرائزه وتسامى بها عن أن تكون مطلقة الحيوانية تغير إلى حد كبير نظره إلى المرأة فأصبح يجل جمالها لذاتها مجرداً عن دافع الشهوة، وبعدت عن خياله تلك الصور التي كانت تجسمها الغريزة الجنسية وتمثلها الرغبة الحيوانية، فلم نعد نسمع شاعراً يتغنى بثقل الردفين وانقطاع الخصر وكثيب الرمل ولم نعد نسمع قول بشار بن برد:
أو عضة في ذراعها ولها ... فوق ذراعي من عضها أثر
أو لمسة دون مرطها بيدي ... والباب قد حال دونه الستر(207/63)
ولم نعد نسمع تلك النواسيات الماجنة وما إليها من دلائل الاحساسات البهيمية، وإذا بنا تطرق قلوبنا هذه الأغاني الخالدة التي تسمو بأرواحنا، إذا بنا نسمع قول العقاد يقول:
أغلى جمالك في النواظر أنه ... عوض لشين في النفوس كثير
وأنا له منها المقادة أنه ... في الأرض رمز كمالها المحظور
وقوله: -
أن التعاطف بالأرواح بغيتنا ... وفي القلوب على الأرواح عنوان
وقوله: -
فعش في جوار الناس شخصاً مجسماً ... وعش في فؤادي صورة تتخيل
فالغريزة هي الأصل في الإعجاب بشيء دون شيء، ولما تهذبت وارتقت استحالت إلى ما نسميه نبلاً أو ذوقاً رفيعاً وإن بقيت للغرائز الأولى بعد نزعاتها.
ولكن هذا الذوق له فصول وأسس، وله قواعد وقوانين تظبطه وتحده، فلم يعد جمال الجسم الإنساني صباحة وجه، وسطوع جبي، وامتلاء جسم أو نحافته، أو غير هذه الأوصاف من المعاني المطلقة، بل وضعت له مقاييس وأطوال - وإلى هنا يكون للذوق ضابط يحفظه في حدود مرسومة، ولكنه لا يخضع لها خضوعاً مطلقاً ولا ينكمش بين تلك الأعلام والأوضاع الضيقة إذ أنه يكون بذلك جامداً كزاً ذا وجه واحد. ولكن ذلك الجمود يتحرك ويحيا بما ينفخ فيه من روح، وما ينفث فيه من سحر، فيتخذ صوراً متباينة مختلفة، وإن كانت كلها تدور في حدود هذه الأوضاع، ولكل وجه سيماه ضربت المثل بجمال الجسم الإنساني ممثلاً في المرأة لأنها مركز اهتمام الرجل، ولأن الاتفاق على مقياس الجمال فيها يكاد يكون مفروغاً منه. وكلما بعد موضوع الحكم عن أن يكون ذا صلة بغريزة من الغرائز، أو بعلاقة مباشرة بعاطفة فسيولوجية أو نفسية، تعقد الموضوع، وصعب الاتفاق على حكم واحد فيه، واختلفت الأذواق: فهذا ذوق جميل يصدر حكماً صائباً، وذلك ذوق فاسد مضطرب الحكم، ولهذا السبب كان لا مناص من أن يوضع لكل شيء حدود يصدر الحكم على أساسها، فالشجر والنبات، والنهر والشلال، والغدير والبحر، والمحيط والجبل، والسماء والسحاب، والأبنية والعمائر. لكل هذه المظاهر أصول وقواعد يؤدى الفن في حدودها، وكانت هذه الأصول على ذلك ضابط الذوق إلى حد محدود، فكأن الذوق الجميل لم ينشأ نشأة لدنية، بل(207/64)
هو في الحقيقة غاية الثقافة والتهذيب، وهو عندما يقبل شيئاً أو يرفضه يظهر لنا أنه أتى ذلك في التو بغير سند واضح، ولكن عمل الذوق في الحقيقة نتيجة طبيعية لما وعته النفس وكسبه العقل من قضايا مختلفة ومقدمات منطقية وتاريخ حافل من تجارب الحياة
وليس من شأننا هنا أن نعدد الأصول التي تراعي في التعبير عن هذه المظاهر الطبيعية السالفة الذكر فلها مجال آخر نرجو أن يتاح لنا في المستقبل، ولكنا هنا سنبسط الشرائط التي يجب توفرها في الصورة، بوجه عام، وفي الفنان أيضاً والتي يمكن بمقتضاها أن نصدر حكماً أدنى للصواب فيما نشاهده من صور الفنون هذه الشرائط هي كما ذكرها جون راسكن:
1 - الصدق والحقيقة
2 - البساطة
3 - نوع من الإبهام السحري
4 - أيجاز التعبير
5 - الجرأة
6 - السرعة
هذا ولكي يكون تقديرنا لجمال المظاهر الطبيعية أتم وأوفى يجب أن نجردها من النفعية وننظر لها نظرة خالصة للفن ذاته وللجمال ذاته. فعندما نرى نهراً جميلاً يجري بين شاطئين بسقت عليهما الأشجار وغطاهما بساط سندسي من العشب يجب أن تقبل أذواقنا جمال هذا المنظر كما خططته يد الله بعيداً عن تدخل يد الإنسان في التحكم فيه والسيطرة على أجزائه - فنخفي عن ذوقنا أنه أقيم هنا سد اعترض من النهر انسيابه الجميل - وأن هناك آلة رافعة وضعت لتختلس من مائه بضجيجها وصريرها، وقامت على جانبه شوهاء كالقرحة في الجسم الغض. وننفي عنه أن هناك حطابا قويا يعمل فأسه في جذع شجرة ليسقطها وليأخذ خشبها ليصنع منه بابا أو نافذة.
الينبوع إذ يتسلسل ماؤه على الحصى ويتدفق على الثرى أجمل مما لو أحطناه بسور من البناء لنحصر ماءه، والسياج الحديدي حول مجموعة من الأشجار مشوه لجمالها، والعصفور الطليق أجمل من العصفور الحبيس في قفص ضيق. وهكذا فإن القلب يحس(207/65)
إحساساً خالصاً بجمال الطبيعية ويندمج فيها ويخفق لها لأن طبيعة الإحساس العاطفي المحض في القلب وهو تامورة الحياة في الجسم الإنساني، أجل وهو الذي يستجيب ويلبي كل شيء جميل حي
وإذا أصاب القلب مرض أو تعطلت وظيفته النبيلة لسبب ما كأن كدر صفاءه غضب أو اهتياج أو حقد أو غيرها من الحالات التي تخرجه عن طبيعته انبتت علاقته بالحياة فلم يعد يستجيب لها ولا يحس بها إحساساً سليماً صحيحاً. وكذلك الحال عندما نرى مظهرا من مظاهر الطبيعة قد طرأ عليه ما يعطل من طبيعة الحياة فيه. فالزهرة النظرة يعجبنا منها رونقها واتساقها وزهاء لونها ونورها وهي بذلك حية سليمة، وهي لحياتها جميلة غاية الجمال، فإذا رأيناها ذاوية خبا رونقها ومالت إلى العدم؛ والظبي رشيق الحركة وهو سليم صحيح، فإذا أصيب في ساقه بعرج فهو سقيم ثقيل، والطير جميل وهو قوي الجناح سليمة، فإذا كسر جناحه فهو ضعيف ذليل - وكل هذه المخلوقات سعيدة ما دامت وافرة الحياة سليمة الوظائف وهي بذلك جميلة غاية الجمال
ولا ينبغي أن نقرن النظر لشيء الجميل بتحليله إلى عناصره وتعليل مظاهره فنبحث في أن ماء النهر يكون من عنصري الهيدروجين والأوكسجين، وأن النهر ينحدر ماؤه بالجاذبية، وأن الشجر يمتص بجذوره من الأرض عناصر التغذية، وأنه يحيل ثاني أوكسيد الكاربون إلى أوكسجين نهاراً والعكس ليلاً.
فالنظرة إلى الجمال يجب أن تكون مجردة من جميع هذه العوامل وإلا طغى الفكر المحلل على الذوق السليم وسكتت العاطفة وقد تكلم العقل وانتقلنا إلى عالم مادي وبعدنا عن عالم الروح والكمال.(207/66)
البريد الأدبي
ربيعة الرقي رقصة الذئب والحمل
يعف كل متأدب الشاعر الفرنسي المشهور لافونتين ومنظومته المعروفة (الأمثال) ولكن من تتبع المصادر التي أخذ عنها هذا الشاعر أمثاله، يتبين أن معظم هذه القصص المنظومة التي حكى أكثرها على لسان الحيوان، مأخوذة من مصادر شرقية ولا سيما كتاب كليلة ودمنة وأشباهه. نقلت هذه القصص إلى أوربا قبل عصر لافوتين بالتراجم اللاتينية أو على ألسنة التجار والمسافرين، وتناولها هذا الشاعر فغيرها لتلائم أذواق بلاده، ثم صبها في قالب من الشعر الفرنسي السلس. وتبع هذه الطريقة شاعر فرنسي آخر أسمه فلوريان بعد لافونتين بنصف قرن.
وليس قصدنا أن نبحث في هذا الموضوع انكشف عن مرجع كل قصة من أمثال لافونتين، وإنما نريد هنا أن نقتصر على واحدة من أكثر هذه الأمثال ذيوعا، وهي قصة الذئب والحمل التي شاعت حتى طبقت الآفاق وصارت مثلا لتجني الأقوياء على الضعفاء.
وكان كاتب هذه السطور يصحح كتاب (طبقات الشعراء المحدثين) لأبي العباس عبد الله بن المعتز الذي تطبعه لجنة ذكرى جب في إنكلترا، وسيظهر عما قريب، فألفيت الحكاية نفسها في قصيدة لربيعة الرقي أحد الشعراء المحدثين، وعلمت أن هذه الحكاية أيضاً مقتبسة من القصص الشرقية القديمة التي كانت شائعة عند المسلمين في عصر ربيعة الرقي وعنهم نقلها أهل أوربا، فنظمها لافونتين واشتهرت في تلك الأقطار
وقد رأيت أن هذه المسألة لا تخلو من فائدة، وأن ديوان ربيعة الرقي أحد شعراء الغزل المشهورين في عهد هارون الرشيد غير مطبوع فاستحسنت أن أقدم إلى قراء الرسالة الكرام قصيدة ربيعة المشتملة على هذه القصة وهي هذه:
أعلل نفسي منك بالوعد والمنَى ... فهلاّ بيأسٍ منك قلبي أعلّلُ
ومَوْعِدك الشهدُ المصفّى حلاوة ... ودُون نجاز الوعدِ صاب وحنْظل
وأَمنحُ طرف العينِ غيرَكِ رقْبةَ ... حَذارَ العدَى والطرفُ نحوكِ أميَلُ
لكيما يقولَ الناسُ أنَ امرَأ رَمى ... رَبيعةِ في ليلَى بسوءٍ لمبطلُ
لقد كذب الواشونَ بغياً عليهما ... وما منهما إلا برىٌ معقلُ(207/67)
فلو كنت ذا عقل لأجمعت صرمكم ... برأيي ولكني امرُةٌ لست أعقلُ
وكيف يصبر القلب لا كيف عنكم ... وبابُ فؤادي دونَ صرمِكِِ مُقفَلُ
ومن أينَ لا من أين يَحْرم قتلُكم ... وقتلى لكم يا أم ليلى محلّلُ
أغركِ أن لا صبرَ لي في طِلابِكم ... وأن ليسَ لي إلاّ عليكِ معّولُ
ولما تبينتِ الذي بي منَ الهوَى ... وأيقنتِ أني عنكِ لا أتحول
ظلمت كذئب السوء إذ قالَ مرة ... لسَخلٍ رأى والذئب غرثان مرمل
أأنت الذي في غير جُرْمٍ شتمتني؟ ... فقال: متى ذا؟ قال ذا عام أوُّلُ
فقال وُلِدْتُ العامَ بل رُمْتُ غدرة ... فدونك كلني لا هَنا لك مأكل
أتبكين من قتلي وأنتِ قتلتني ... بحبِّك قتلاً بيناً ليس يَشْكل
فأنت كذبَّاح العصافير دائباً ... وعيناه من وجد عليهن تهمل
فلو كان من رأف بهن ورحمة ... لكف يداً ليست عن الذِّبح تَعطْل
فلا تنظري ما تهمل العين وانظري ... إلى الكف ماذا بالعصافير تفعل
(باريس)
عباس إقبال
حمى السياحة
كانت السياحة إلى ما قبل جيل فقط نوعاً من الترف لا يتمتع به سوى الأغنياء؛ وكانت الرحلة إلى الشام أو إلى استانبول مثلاً بالنسبة لآبائنا وأجدادنا حادثاً عظيماً يتحدث به؛ وكان السفر إلى باريس أو الريفيرا متعة الأمراء والخاصة.
أما اليوم فان السياحة تغدو حركة ثقافية ورياضية عالمية، يستطيع أن يتمتع بنعمها جميع الطبقات المتوسطة، وغدت المواصلات البحرية والبرية والجوية ميسورة يطيقها ويستعملها جميع الناس؛ وفي عصر السرعة الذي تهب ريحه اليوم على جميع الأمم والمجتمعات يستطيع السائح أن يطوف قارة بأسرها في أيام معدودات، ويستطيع أن يقطع البحر إلى إيطاليا في سبعين ساعة فقط، وإلى فرنسا في أربعة أيام، ويستطيع أن يقطع ما بين الإسكندرية ولندن بالطيارة في عشرين ساعة. وقد نظمت جميع الأمم السياحية عواصمها(207/68)
وربوعها ومنتزهاتها بصور وأساليب جذابة سواء في برامج الزيارة أو في تخفيض النفقات، وتسابقت معظم الأمم في تقرير الامتيازات للسائحين بتسهيل المواصلات ومسائل النقد وغيرها مما يغري السائح بتفضيلها، وتعنى الهيئات الثقافية والرياضية بتنظيم الرحلات الرخيصة للطلبة وأصحاب المهن وجماعات المثقفين وتعنى مكاتب السياحة نفسها بتنظيم الرحلات الرخيصة للطبقات المتوسطة بأجور مدهشة.
فالسياحة لم تبق اليوم أمنية المترفين ولا حكر الأغنياء، ولكنها تغدو في متناول معظم الطبقات؛ ويرجع الفضل في ذلك إلى تحسن المواصلات العالمية ورقيها السريع المدهش، وإلى تنافس الأمم السياحية في استثمار موارد السياحة إلى أقصى الحدود، ويرجع أيضاً إلى تقدم الصلات الدولية بين الشعوب المختلفة وإلى الرغبة في تبادل الاطلاع والمعرفة والتثقيف، وتبادل المزايا التجارية والاقتصادية، وقد هبت هذه الريح السياحية على مصر في الأعوام الأخيرة، وأتيحت الفرصة لطبقات جديدة من المتوسطين أن يقوموا برحلات بديعة بأجور زهيدة، وسرت الرغبة في جميع طبقات المثقفين ولا سيما الشباب أن يسافروا وأن يسوحوا وأن يتعرفوا أحوال الأمم الأخرى، وقد وصلت هذه الحمى السياحية إلى أقصاها في هذا الفصل حيث تعتزم ألوف عديدة من المصريين السفر إلى زيارة معرض باريس الدولي لا فرق في ذلك بين المترفين وصغار الموظفين والطلبة والمتوسطين؛ وهذه رغبة مشروعة لا اعتراض عليها، بيد أنه يخشى أن تؤدي المبالغة في تحقيقها إلى إسراف لا تحمد عواقبه، إذ تتسرب أموال المصريين إلى الخارج بكثرة، وتضطرب مالية كثير من المتوسطين وصغار الموظفين خصوصاً وأنه لا توجد بمصر قوانين لتقييد العملة أو تحديدها كما هو الشأن في معظم البلدان، ولهذا يحسن بولاة الأمور أن يبحثوا هذه المسألة وأن يضعوا لها بعض الحدود والقيود المعقولة
كتاب جديد لماريا ريمارك
صدر أخيراً في أمريكا كتاب جديد لماريا ريمارك عنوانه: (الرفاق الثلاثة) وريمارك كما نذكر هو مؤلف الكتاب الذي لقي أعظم نجاح في عصرنا وهو القصة المسماة (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) التي تدور حوادثها على حياة الجندي أثناء الحرب الكبرى. والكتاب الجديد هو أيضاً قصة اجتماعية عسكرية من النوع الذي حذقه هذا المؤلف الذي(207/69)
حباه الحظ بأكثر مما حبته مواهبه الكتابية
وريمارك الآن في التاسعة والثلاثين من عمره؛ وحياته قصة عجيبة، فهو ألماني من وستفاليا، وكان في حداثته يغني في جوقة بعض الكنائس؛ ولما نشبت الحرب كان جندياً يحارب في الميدان الغربي؛ ولما انتهت الحرب في سنة 1918 وعاد ريمارك إلى وطنه لم يجد سبيلاً للعيش؛ فاحترف مهنة البائع المتجول في القرى وأخذ يبيع السلع الرخيصة للنساء القرويات، ولكنه كان في خوف دائم من البوليس لأنه لا يحمل رخصة البائع، ثم ترك هذه الحرفة واشتغل صبياً لبناء أثري، ثم اشتغل عاملاً في أحد الملاجئ وبدأ حياته الكتابية بتحرير الإعلانات، وكان يحررها أحياناً بالنظم، ثم اشتغل كاتباً رياضياً لإحدى الصحف، ثم كتب قصته الشهيرة فلم تنل في البداية سوى قليل من النجاح، ولكن القدر كتب له بعد ذلك هذا النجاح العظيم الذي لقيه والذي أثري من جرائه وعرف الحياة الناعمة وهو ما يزال في عنفوان شبابه، وكان من حسن طالعه أيضاً أنه كسب على مائدة الميسر ذات يوم مبلغاً كبيراً من المال قبل أن يؤاتيه النجاح، فاستطاع بذلك أن يصلح من شأنه وأن يسيح في معظم بلاد العالم. ويعيش ريمارك الآن في منفاه في سويسرا كباقي الكتاب الألمان الأحرار الذين طاردتهم ألمانيا الهتلرية وأخرجتهم من أرض الوطن
قسم التفكير والآداب بمعرض باريس
أنشئ أخيراً في معرض باريس الدولي قسم للكتاب وإذاعة الفكر برياسة المسيو (جوليان كان) مدير المكتبة الوطنية. والمنتظر أن يكون هذا القسم نواة لمتحف الآداب الذي سينشأ في المستقبل القريب في أبنية (دار الصناعة) (الأرسنال) وسيكون متحف الآداب أكبر ما عرف من نوعه، ويضم مجموعات عظيمة من الصور والمخطوطات والطبعات النادرة والتجارب المصححة والوثائق المتعلقة بتراجم كبار الكتاب والمجموعات الخاصة؛ وهذه المجموعات والتحف توجد الآن مبعثرة في أقسام المكتبة الوطنية: ويتضمن القسم الأدبي بالمعرض تطور الآداب منذ عصر الإمبراطورية حتى الوقت الحاضر، ومنها معروضات كثيرة تخص الكتاب المعاصرين. والمقصود أن تعطى فكرة واضحة عن تطور الكتابة والطباعة والأعمال الأدبية، وأن تعرف أكثر الأوقات والمواسم الأدبية إنتاجا. ويشمل القسم الأدبي ما يتعلق بكتاب عظام مثل بلزاك وفكتور هوجو وفلوبير وستندال ورينان وبودلير(207/70)
وبروست، ويقوم بعرض كل كاتب من هؤلاء كاتب من المعاصرين يختص بالتحدث عن حياته وآثاره وأسلوبه. ويشرف على عرض مخطوطاته وصوره وجميع الوثائق المتعلقة به ومنها تحفه وآثاره وتجارب المطبعة التي تحمل تصحيحاته، وطبعات كتبه وترجماتها. كذلك أعدت أقسام خاصة لكل نوع من المدارس الأدبية مثل المدرسة الواقعية والطبيعية والرمزية، وأدب المقاهي والأبهاء وغيرها، ولا ريب أن هذا القسم من المعرض سيجذب أنظار الكثيرين من الكتاب والأدباء من جميع الأمم
آثار فرعونية في خطر
من أنباء فينا أن الدكتور أرنست آبلت العلامة الأثري النمساوي والأستاذ بالمعهد المصري بجامعة فينا قد أعاد أخيرا إلى العاصمة النمسوية بعد أن قضى بمصر بضعة أشهر منقباً في بعض أنحاء الصعيد الجنوبية، ووقف على معلومات ومواد أثرية ثمينة ولا سيما بشأن المعابد والهياكل الجنوبية. وقد صرح الدكتور آبلت لبعض الصحف النمسوية أن تعلية خزان أسوان، وما يستتبع ذلك من غمر مياه النيل لبعض المناطق الأثرية المجاورة يهدد سلامة المعابد والآثار القائمة في هذه المناطق خصوصاً أن المياه تغمر بعضها الآن حتى القمة، وكانت البعثة النمسوية للحفريات قد توقفت عن العمل نحو ثلاث سنوات لحاجتها إلى المال ثم استأنفت عملها في الشتاء الماضي. وقد عثرت أثناء حفرياتها على عدة هياكل عظمية فرعونية وبعض تحف حجرية، وستعود في الشتاء القادم إلى استئناف أعمالها في منطقة بني سلامة من أعمال مديرية أسوان
كتاب فارسي قديم في الجغرافية
أصدرت مطبعة (بريل) في ليدن كتاباً فارسياً قديما في الجغرافية ترجمة المستشرق منورسكي ترجمة كاملة عن الفن الفارسي:
وهذا الكتاب - وأسمه (حدود العالم) - لمؤلف فارسي قديم لم يعرف، ألفه سنة 372 هـ. وكان قد عني به المستشرق الروسي بارتولد فكتب له مقدمة طويلة ونشره سنة 1930، غير أنه وجد صعوبة في تحقيق أسماء الأماكن والمدن الإنجليزية التي وردت في الكتاب فعمد إلى اختصار بعض موضوعاته.(207/71)
كتاب المثنوى في الإنكليزية
أصدرت مطبعة بريل في ليدن الجزء السابع من سلسلة كتاب المثنوى لجلال الدين الرومي، وهي توالي إخراج هذا الكتاب سلاسل وأجزاء مع ترجمته إلى الإنجليزية وتعليقات عليه بقلم المستشرق رينولد نيكلسن
وكتاب المثنوى مؤلف قيم معروف، وقد قرظ صاحبه بهذه العبارة المأثورة: (أنه جاء بكتاب وإن لم يكن نبياً) وقد عرض فيه مؤلفه لمبادئ الصوفية وتعاليمها فشرحها شرحا مستفيضا.
ويتضمن هذا الجزء الذي صدر أخيرا تعليقات المستشرق نيكلسن على الجزء الأول والثاني من الكتاب، أما الأجزاء التي ظهرت من قبل فهي:
1 - نص الكتابين الأول والثاني.
2 - ترجمة الكتابين الأول والثاني إلى الإنجليزية.
3 - نص الكتابين الثالث والرابع.
4 - ترجمة الكتابين الثالث والرابع إلى الإنجليزية.
5 - نص الكتابين الخامس والسادس.
6 - ترجمتهما إلى الإنجليزية.
لجنة أحياء ذكرى المنفلوطي:
ناشدت لجنة إحياء ذكرى المنفلوطي أساطين الأدب وأعلام البيان في الشرق العربي على صفحات الجرائد والمجلات أن يتفضلوا بالكتابة عن أدب الفقيد الخالد من شتى نواحيه بمناسبة مرور ثلاثة عشر عاماً على وفاته وتمهيداً لإحياء ذكراه في 16 يوليو القادم، وكان ذلك في أول مايو غير أنه والأسف يحز في نفوسنا لم يتحرك قلم لأداء هذا الغرض النبيل كما أنه لم تصل السكرتارية حتى الآن أية رسالة في هذا الموضوع، ولقد قر الرأي - بناء على اقتراح الأستاذ توفيق حبيب - على وضع كتاب عن أدب المنفلوطي لتخليد ذكراه، تتبارى فيه جهابذة الأدباء في جميع أقطار الشرق العربي، وذلك بأن يختار كل من حضرات الأدباء والشعراء ما يروقه من الموضوعات فيكتب فيها بحثاً ضافياً يرسله إلى(207/72)
السكرتارية قبل آخر يونيو الحالي حتى إذا تكامل لديها ما يكفي لمادة الكتاب قامت بطبعه وأنفقت ثمنه في تشييد قبر يتفق ومكانة المنفلوطي العالمية. واللجنة تتوجه بالرجاء الشديد إلى حضرات الكتاب والأدباء والشعراء ألا يضنوا بمجهوداتهم وأن يحققوا ما تعلقه عليهم من آمال.
سكرتير اللجنة
متولي حسنين عقيل(207/73)
القصص
ممنون الفيلسوف
أو الحكمة الإنسانية
بقلم فولتير
ترجمة الأستاذ عبد اللطيف النشار
آلى ممنون على نفسه: أن يصير فيلسوفاً عظيماً في يوم من الأيام. وقليل من الناس هم الذين لم يعتزموا في وقت ما مثل هذا العزم الرائع.
قال ممنون في نفسه: إن بلوغ الكمال في الفلسفة معناه بلوغ الكمال في السعادة. وليس علي أن أعمل لكي أصير فيلسوفاً إلا التجرد من كل الشهوات؛ ولا شيء أسهل من ذلك كما يعرف كل إنسان. وسأبدأ بمقاومة الحب فإذا رأيت امرأة جميلة أقول في نفسي إن هذه الخدود ستدركها الغضون، وإن هذه العيون ستصبح طعاماً للدود، وإن هذا الرأس سيصبح جمجمة منخوبة. فإذا ما تصورت خيالها وهي كذلك فأن جمال وجهها لن يؤثر في نفسي
هذا من جهة. ومن جهة أخرى فأني سألزم القصد والاعتدال، فإذا ما وجدت من نفسي إغراء على شرب النبيذ الشهي أو الطعام المريء أو غيره مما يفتتن به المجتمع ذكرتها بآلام الرأس من التغالي في الشراب، وبآلام البطن من التغالي في الطعام، وحذرتها من فقدان العقل والصحة. ومتى تجنبت التغالي ظلت صحتي موفورة وظل ذهني نقياً وضاءً
وقال ممنون: كذلك يجب ألا أفكر كثيراً في الثروة لأن رغائبي معتدلة وما عندي من المال يكفي لأن أعيش مستقلاً وهذه أكبر نعمة في الوجود. ولن أجد ضرورة لحضور الحفلات الراقصة في القصر. ولن أحسد إنساناً ولن يحسدني إنسان، وهذا كله سهل. ولي أصدقاء، سأحتفظ بهم ولم ينشب بيني وبينهم خلاف فلم أعترض أحدهم في قول أو فعل وسيسلكون معي هذا المسلك، ولا صعوبة في ذلك. . .
وهكذا وضع ممنون خطة لفلسفته ثم أطل من النافذة فرأى امرأتين تسيران تحت الأشجار، وكانت إحداهما كبيرة تبدو عليها علائم الرضى، والثانية صغيرة جميلة، ولكن علائم التذمر بادية عليها. وكانت تبكي وتتنهد، فتأثر فيلسوفنا من رؤيتها - على أنه من المحقق أن(207/74)
جمالها لم يكن له دخل في هذا التأثير - (لأنه آلى على نفسه ألا يزعجه شيء من هذا القبل) بل كان تأثره بسبب الحزن الذي رآها فيه، فنزل من المنزل ليعزي تلك السيدة بفلسفته، فروت له الجميلة بإبسط اللهجات وأشدها تأثيراً ما تتألم منه. وشكت له من عم تتخيل وجوده يريد أن يحرمها ثروة تتوهما. وقالت: يظهر أنك رجل حكيم، وإنك لتنقذني من متاعبي إذا أتيت إلى منزلي ودرست قضيتي وأشرت علَّى بالرأي الذي تراه
فلم يتردد ممنون في اتباعها لدرس قضيتها دراسة فلسفية وليشير عليها بالرأي الراجح
وقادته المرأة الجميلة إلى حجرة تفوح منها روائح العطر وأجلسته على نمرقة متسعة وجلست أمامه جلسة المتحدث إلى من يتحدث وقد تقاربت إقدامهما، وكان إحداهما يقص قصته والآخر يصغي إليه أتم الإصغاء
وكانت السيدة تتكلم وهي ناظرة إلى الأرض والدموع تنحدر من عينيها بين حين وحين. ثم ترفع بصرها لتنظر إلى وجه الحكيم ممنون. وكان الحديث في منتهى الرقة، وقد زاد عطف الفيلسوف وسر بأن يكون في وسعه تخفيف الألم عن مخلوقة بهذه الدرجة من الجمال، وهذه الدرجة من التعاسة. ولما اشتدت حرارة الحديث جلس المتحادثان المتقابلان جنباً لجنب، وتدانى الساقان، وكان ممنون يمنحها من نصحه الرقيق ومن عطفه حتى صار كلاهما لا يستطيع الكلام عن الموضوع الذي كانا يتناولانه. وحتى صار كل منهما لا يدري أين هو وفي مثل هذا الحين من الذي يظن أنه يأتي إليهما غير العم الذي كانت تشكوه؟ لقد جاء مسلحاً، وكانت أولى كلماته أنه سيضحي بالحكيم ممنون، وبنت أخيه، وقد أسرعت الأخيرة ففرت، وهي موقنة بأن صاحبها سينجو إذا اشترى حياته بكل ما معه من المال وقد اضطر إلى بذل ما معه ليفتدي نفسه وقد كان الناس في ذلك العهد سعداء لأنهم يستطيعون النجاة، بسهولة بمثل هذه الوسيلة. وكانت أمريكا لما تستكشف بعد، وكانت السيدات التاعسات أقل تعرضا للخطر مما هن عليه الآن
وخرج ممنون من المنزل متعثراً بأذيال الخجل فذهب إلى منزله. وهناك وجد دعوة لتناول العشاء من بعض أصدقاءه الخلصاء، فقال في نفسه إذا بقيت وحدي في المنزل فإن ذهني سيظل مشغولاً بالتفكير في حادثة اليوم، ولا أستطيع أن أتناول لقمة، وربما جلب إلى ذلك مرضاً، ولذلك سأذهب إلى أصدقائي، وسأنسى في مجلسهم ما ارتكبته اليوم من الحماقة(207/75)
وذهب إليهم فوجدوا عليه بعض علائم القلق وحثوه على أن يشرب ليصرف عن نفسه الهم فقال في نفسه: (إن قليلاً من النبيذ لا يتنافى مع الاعتدال) وهكذا شرب ممنون حتى سكر.
ودعي إلى اللعب بالأوراق فقال إن اللعب بها مدة يسيرة مع صديق لا يتنافى مع الاعتدال، وهذا اللعب من خير الوسائل لتمضية الوقت.
ولعب حتى خسر كل ما معه وهو أربعة أضعاف ما كان مستعداً ليلعب به.
ولسبب ما نشأ خلاف بين اللاعبين واشتد الخلاف فصار مشاجرة، فرماه بعض أصدقائه بصندوق صغير جرح رأسه وإحدى عينيه، فحمل الفيلسوف ممنون إلى منزله سكران مفقود إحدى العينين.
نام، ولما أبل بعض الابلال أرسل إلى مدير المصرف الذي يودع فيه أمواله يطلب ما يفي به ديونه في اللعب، فعاد الخادم وأخبره بأن المصرف أفلس بالتدليس وأن مئات من الأسر قد أصبحت في أشد حالات البؤس والفاقة، فكاد يذهل ممنون، وذهب إلى البلاط لرفع قضيته، وهناك وجد عدداً من السيدات وآخر من القسس ورأته إحدى صديقاته فصاحت: (مالك يا مسيو ممنون! كيف فقدت إحدى عينيك؟) ثم جرت دون أن تنتظر الجواب، فانتظر ممنون حتى الساعة التي يستطيع فيها الارتماء على قدمي الملك لبث شكواه.
وأخيراً جاءت تلك الساعة فقدم إليه عريضته، واستقبله الملك استقبالاً حسناً. ولكن كبير الأمناء صاح به بعد ذهاب الملك: (كيف تقدم عريضتك إلى الملك مباشرة دون تقديمها إليّ؟ وكيف تطلب المقاضاة على تفليسة شريفة ضد ابن أخت وصيفة زوجتي؟ إن هذا التصرف يدل على أنك لا تحرص على عينك الأخرى)
فعندما سمع ممنون ذلك - وكان إلى الآن عازماً على هجر النساء والتقليل من الطعام والشراب وترك المشاجرة - عزم أيضاً على الكف عن دخول البلاط وعن طرق سبيل القضاء لأن هذا سبيل ألحق به الإهانة وحرمه الأنصاف
وتصدع قلبه من الحزن فعاد إلى المنزل يائساً. ولكنه وجد المحضرين يشرعون في بيع أثاثه وفاء لديون دائنيه فوقع على الأرض في حالة تشبه الإغماء، ورأى في الطريق السيدة التي قابلها في الصباح مع عمها فضحكا منه ضحكة عالية.
وفي المساء صنع ممنون لنفسه وسادة من القش ونام بجانب الحائط، فرأى في الحلم تلك(207/76)
الروح الفلسفية التي كان يتعشقها وهي روح من النور لها ستة أجنحة جميلة، ولكن ليس لها رأس ولا قدمان وهي لا تشبه شيئاً مما سبقت له رؤيته، فقال: (من أنت أيتها الروح؟)
قالت: (أنا روحك) فقال: (ردي إلي عيني وصحتي وثروتي وعقلي)
ثم قص عليه قصة يومه فقالت: (هذه حوادث لا تحدث في الموطن الذي أنا فيه).
قال: (وأين ذلك الموطن؟ فأجابته: (هو على بعد خمسمائة مليون فرسخ من الشمس، وهو موطن جميل. وليس هناك شياطين تغري ولا أصدقاء يجالسون المرء ليسلبوا ماله، وليس هناك من يخرقون عيون الناس، ولا إفلاس بالتدليس، ولا أمناء ملوك يسخرون ممن يطلب العدالة؛ وليست تخدعنا النساء لأنه لا نساء بيننا، وليس عندنا طعام ولا شراب، وليس عندنا تفليس لأنه لا ذهب عندنا ولا فضة، وليس لنا عيون تقلع لأن أجسادنا نورانية ليست كأجسادكم. وليس عندنا بلاط لأن الكل متساوون).
قال ممنون الفيلسوف: (إذا لم يكن عندكم نساء ولا طعام ولا شراب فكيف تقضون أوقاتكم؟)
قالت: (نحن موكول إلينا مراقبة دنياكم وقد جئت إليك لأعزيك).
قال ممنون: (ولكن لماذا لم تأتي بالأمس لتمنعيني من اقتراف ما اقترفت؟).
فقالت: (لقد كنت مع أخيك الأكبر (حسن) الذي كان في بؤس أشد من بؤسك لأن سلطان الهند أمر بقلع عينيه وهو الآن في السجن ويداه ورجلاه في السلاسل والأغلال)
قال: (وهل من العدل أن يكون اثنان من أسرة واحدة إحداهما أعور والثاني أعمى، وإحداهما ينام على وسادة من قش والآخر في السجن؟).
فقالت الروح: (إن حظك سيتغير سريعاً. نعم أن عينك لن تشفى ولكنك ستصير سعيداً إذا نزعت عن فكرك الرغبة في أن تكون فيلسوفاً كاملاً)
قال ممنون: (إذاً فذلك مستحيل!) فقالت الروح: (إنه لمن المستحيل أن يصير المرء كامل العقل كامل السعادة، فنحن أنفسنا بعداء عن الكمال مع أننا أرواح، وسيأتي عالم غير هذا العالم يكون ذلك كله ممكناً فيه. ولكن بيننا وبين هذا العالم مائة ألف مليون من العوالم يتدرج فيها المرء إلى ذلك العالم الكامل. وفي كل درجة من تلك الدرجات العالية تنقص الفلسفة وتنقص المسرات بالتدريج حتى يصير الناس في العالم الكامل كلهم بلهاء)(207/77)
قال ممنون: (أخشى أن تكون هذه العوالم التي نتدرج فيها إلى الكمال ليست إلا مستشفيات للمجاذيب وإن عالمنا هذا ليس إلا واحد منها)
فقالت الروح: (إذا لم يكن هذا الوصف منطبقاً فأنه ليس بالبعيد)
قال: (ولكن هل الشعراء والفلاسفة مخطئون إذ يقولون إن كل شيء في هذا الوجود آخذ في سبيل الارتقاء)
فقالت: (كلا ليسوا مخطئين ولكن لكي نتبين الصدق فيما يقولون يجب أن نراعي صلة كل شيء بمجموعة العالم فإنما كمال الأشياء أن يتم اتصالها بالعالم لصالح العالم)
فأجاب ممنون: (لست أستطيع تصديق ذلك إلا إذا رجعت إليّ عيني)
عبد الطيف النشار(207/78)
العدد 208 - بتاريخ: 28 - 06 - 1937(/)
الضعف في اللغة العربية
للأستاذ أحمد أمين
رددت الجرائد والمجلات في هذه الأيام الشكوى من ضعف الطلبة وخريجي الجامعة في اللغة العربية - ولا شك أنها مسألة لا يصح أن تمر من غير أن يتداولها الكتاب بالشرح والتعليل، ويقلبوها على وجوهها المختلفة، حتى يصلوا إلى علاج حاسم.
أما إن الطلبة ضعاف جداً في اللغة العربية فأمر لا يحتاج إلى برهان. فأكثرهم لا يحسن أن يكتب أسطراً ولا أن يقرأ أسطراً من غير لحن فظيع يكاد يكون بعدد الكلمات التي يكتبها أو يقرؤها؛ وهم إذا خطبوا أو قرءوا أو كتبوا أو أدوا امتحاناً رأيت وسمعت ما يثير العجب ويبعث الأسف. وأما أن الضعف في اللغة العربية نكبة على البلاد فذلك أيضاً أمر في منتهى الوضوح، لا لآن اللغة العربية لغة البلاد والضعف فيها ضعف في القومية فقط، بل لأنها اللغة التي يعتمد عليها جمهور الأمة في ثقافتهم وتكوين عقليتهم؛ فاللغة الأجنبية التي يتعلمها طلاب المدارس الثانوية والعالية ليست هي عماد الثقافة، وليست هي التي تكون أكثر جزء في عقليتنا، إنما الذي يقوم بهذا كله هو اللغة العربية التي نتعلمها في الكتاتيب ورياض الأطفال، وندرس بها العلوم المختلفة في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية. فالضعف في اللغة العربية ضعف في الوسيلة والنتيجة معاً، على حين أن الضعف في اللغة الأجنبية في كثير من الأحيان ضعف في الوسيلة فقط، ولهذا أعتقد أن معلم اللغة العربية في المداس على اختلاف أنواعها عليه أكبر واجب وأخطر تبعة، وبمقدار قوته وضعفه تتكون - إلى حد كبير - عقلية الأمة.
وبعد، فما هي الأسباب التي نشأ عنها هذا الضعف؟ أظن أنه يكفينا في هذا المقال الإجابة عن هذا السؤال وإرجاء الكلام في العلاج إلى مقال أو مقالات أُخر.
فعندي أن الأسباب ترجع إلى أمور ثلاثة: طبيعة اللغة العربية نفسها، والمعلم الذي يعلمها، والمكتبة العربية.
فأما طبيعة اللغة العربية فهي صعبة عسره إذا قيست - مثلاً باللغة الإنجليزية أو الفرنسية. ويكفي للتدليل على صعوبتها ذكر بعض عوارضها: فهي - مثلاً - لغة معربة، تتعاور أواخرها الحركات من رفع ونصب وجر وجزم حسب العوامل المختلفة؛ ولا شك أن اللغة(208/1)
المعربة أصعب من اللغة الموقوفة، أعني التي يلتزم آخرها شكلاً واحداً في جميع المواضع ومع جميع العوامل كاللغة الإنجليزية والفرنسية.
وهي صعبة كذلك من ناحية أن حروفها وحدها لا تدل على كيفية النطق بها، بل لابد لصحة النطق من الضبط بالحركات أو المرن الطويل، على عكس اللغات الأوربية التي تدل كتابتها على كيفية النطق بها في أكثر مواضعها، والضبط بالشكل عسير فلا نستعمله في الجرائد والمجلات ولا في أكثر الكتب الأدبية قديمها وحديثها.
وهي صعبة - أيضاً - من ناحية الاختلاف الكثير في الفعل الثلاثي، فله أشكال كثيرة لا يمكن إخضاعها لضوابط حاسمة، وكصيغ جموع التكسير فهي كثيرة وضوابطها قلما تطرد، وكنظام العدد والمعدود فإنه معقد تعقيداً شديداً حتى لا يجيده إلا الخاصة وأشباههم.
كل هذا ونحوه يجعل اللغة العربية صعبة المنال، وإتقانها يحتاج إلى مران كثير ومجهود كبير من المتعلم والمعلم.
ولست أعرض هذا لبيان ما إذا كانت هذه الأعراض مظهراً من مظاهر رقي اللغة أو ضعفها فان هذا لا يعنيني الآن، وأما الذي يعنيني فهو تقرير صعوبة اللغة العربية وحاجتها الشديدة إلى عناية كبرى لتذليل صعوباتها ورسم أقرب خطة للتغلب عليها حتى يحذقها المتعلم من أقرب سبيل.
فإذا نحن وصلنا إلى المعلم فقد وصلنا إلى نقطة شائكة، ذلك لأننا اعتدنا دائماً أن ننقل النقد في الأمور العامة إلى مسائل شخصية، ونحول الكلام في المبادئ العامة إلى فئات وأحزاب، ونسئ الظن بالناقد، فإن كان من فئة خاصة ظنوا أنه يدافع عن فئته وأنه يريد تنقص غيره، فهل يسمح لي المعلمون بأن أصارحهم القول مؤكداً أن لا غرض لي إلا الإخلاص للحق؟
إن كان كذلك فإني اصدقهم القول بأن جزءاً كبيراً من ضعف اللغة العربية يرجع إليهم. ولست أنكر أن منهم أفذاذاً نابغين يصح أن يكونوا المثل الذي ننشده، ولكن المنطق عودنا أن يكون حكمنا على الكثير الشائع لا على القليل النادر
فالحق أن دار العلوم والأزهر وكلية الآداب لم تستطع أن تخرج المعلمين الأكفاء الذين نتطلبهم والذين تتطلبهم اللغة العربية للأخذ بيدها والنهوض بها ومحاربة الضعف الفاشي(208/2)
فيها.
فأما دار العلوم فقد تأسست، والذي دعا وزارة المعارف إلى إنشائها أنها أحست بعجز الأزهر عن أن يمدها بالمعلمين الصالحين لها، إذ رأت الأزهر تنقصه - إذ ذاك - الثقافة الحديثة والعلم بمناهج التربية والتعليم، وقد نجحت الوزارة في تحقيق هذا الغرض إلى حد كبير، وأخرجت رجالاً نهضوا باللغة العربية إلى حد ما، وأحسنوا التدريس على خير مما كان يدرسه الأزهريون، ولكن دار العلوم كانت سادَّة لحاجة الأمة في السنين الأولى من إنشائها، ثم تقدمت الأمة في ثقافتها ووقفت دار العلوم حيث كانت، فأصبحت لا تؤدي رسالتها كاملة، وأصبح خريج دار العلوم لا يحذق الأدب القديم ولا الأدب الحديث، ولا يستطيع تغذية الشعب بالأدب الذي هو في حاجة إليه، ولا له من المهارة في الوسائل ما يستطيع بها أن ينهض بالطلبة النهوض اللائق، ولا هو يساير الزمن في ثقافته حتى يخضع الطلبة لشخصيته القوية؛ ودليل ذلك أمور كثيرة: منها ضعف المكتبة العربية وهو ما سأبينه بعد؛ ومنها عجز معلمي اللغة العربية عن تشويق الجمهور والطلبة إلى القراءة العربية، حتى أنا نرى الناشئ لا يكاد يستطيع القراءة في الكتب الأجنبية حتى يهيم بها ويفضلها ألف مرة على المطالعة العربية؛ ومنها نظر الطلبة في صميم نفوسهم إلى أن اللغة العربية مادة ثانوية وأن وضعت في المناهج في أوائلها؛ ومنها أن الثقافة في الجمهور فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي والأدب العربي والمعلومات العامة التي تتصل بذلك ضعيفة إلى حد بعيد، والمسؤول عنها - كما أسلفنا - هم معلمو اللغة العربية لأنها لغة البلاد وعليها يعتمد في تكوين العقلية، إلى كثير من مثل هذه الأسباب.
وأما الأزهر من ناحية اللغة العربية فهو الآن وليد دار العلوم، والمشرف على تعليم اللغة العربية فيه هم خريجوها؛ فقصار أه أن يبلغ من الرقي ما بلغته مدرسة دار العلوم في تعليمها ونظمها ومناهجها حتى يحل محلها؛ ويكفي هذا برهاناً على أنه لا يحقق الغرض الذي نرمي إليه.
وأما قسم اللغة العربية في كلية الآداب فكذلك ناقص ضعيف، فهو يعلم طرق البحث الجامعي، وهذا يضطره إلى أن يتوسع في مسألة وأن يهمل مسائل، فلا يخرج الطالب دارساً لكل ما ينبغي أن يدرس. أضف إلى ذلك أنه يعتمد في طلبته على طائفة يخرج(208/3)
أكثرها من المدارس الأميرية وحصلوا على شهادة الدراسة الثانوية، وهؤلاء لا يصلحون صلاحية تامة لدراسة اللغة العربية إلا بعد عهد طويل لا تكفي له سنو الدراسة الجامعية؛ ذلك أن اللغة العربية متصلة اتصالاً وثيقاً بالدين، ولا يمكن أن يحذقها ويستطيع أن يفهم كتبها القديمة إلا من بلغ درجة عالية في فهم القرآن والحديث والفقه وأصول الفقه والتاريخ الإسلامي، والطلبة الذين تأخذهم الجامعة لهذا القسم لم يثقفوا هذه الثقافة، ولا تستطيع الجامعة أن تكمل هذا النقص مهما بذل المدرسون من الجهد، ومن أجل هذا ترى أن طلبته بينما يجيدون نهج البحث في المسائل إذ يقصرون تقصيراً معيباً في مسائل تعد في نظر ألا زهر ودار العلوم مسائل أولية وهي في الواقع كذلك.
إذن من الحق أن نقول إن المعاهد التي تدرس اللغة العربية في مصر تعجز عن إخراج المعلم الكف، ومن العجيب أن توجد هيئات ثلاث لتحضير معلمي اللغة العربية والبلد لا يحتاج إلا إلى هيئة واحدة؛ ثم كل هذه الهيئات معيب لتوزع قواها، ولو وجدت القوى في هيئة واحدة - ولا أتعرض الآن لبيان ما هي - لاستطاعت أن تخرج خير نموذج للمعلم، ولكن يعصف بهذه الفكرة الصالحة تعصب كل فئة لنفسها، فضاعت بذلك المصلحة العامة
ويتصل بأمر المعلمين مسائل كانت هي الأخرى سبباً في الضعف وهي مناهج الدراسة والامتحانات والتفتيش
فمناهج تدريس اللغة العربية متحجرة برغم ما يبدو من مدنيتها وأناقتها. خذ - مثلاً - منهج قواعد اللغة العربية والبلاغة تجد أنهما إلى الآن لا يزالان هما بعينيهما منهجي سيبويه والسكاكي على الرغم من زخرفتهما، فالتقسيم الذي قسمه سيبويه في النحو والتعاريف التي وضعها والمصطلحات التي ذكرها هي هي في كتب المدارس اليوم. وكل ما حدث حتى في الكتب التي ألفت منذ سنوات قليلة - هو ذكر الأمثلة الرشيقة وتبسيط الشرح، ولكن لم نبذل أي مجهود في معالجة النحو على أساس جديد كضم مسائل متعددة إلى أصل واحد حتى يسهل على الطالب فهمها وتحصيلها وكوضع مصطلحات جديدة أقرب إلى الفهم ونحو ذلك، وحسبنا دليلاً على ذلك ما نراه في أجروميات اللغات الحية الأخرى، فأجرومية اللغة الفرنسية أو الإنكليزية اليوم تخالف - في الجوهر - ما كانت عليه منذ عشرين سنة فضلاً عن قرن وقرنين(208/4)
ومصيبتنا في البلاغة أعظم، فبرامجنا لا توحي بلاغة، ولا تربي ذوقاً؛ وإلا فقل لي بربك ماذا تفيد دراسة (الفصل والوصل) على هذا المنهج إلا تكرير مصطلحات فارغة ككمال الاتصال وكمال الانقطاع وشبه كمال الانقطاع وشبه كمال الاتصال؟ وأخبرني أي أديب يراعي ذلك عند كتابته، ومتى كانت هذه المصطلحات الفارغة وسيلة لرقي الذوق الأدبي؟
وليست برامجنا في الأدب بأقل سوءاً من هذين، فأنا نضع في البرنامج أول الآمر مسائل فلسفية وقواعد في النقد وتاريخ الأدب في العصور المختلفة قبل أن يلم الطالب بجمهرة كبيرة من الأدب يقرؤها ويحفظها ويتذوقها، وبذلك تقدم له نتائج من غير مقدمات، وتصعده على السطح من غير سلم
والذين يضعون البرامج يكلفون وضعها في أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين، وماذا على وزارة المعارف لو كلفت من يضع لها البرامج المستقبلة في سنتين أو أكثر على ألا توضع إلا بعد دراسة عميقة، ثم تنشر في الجرائد والمجلات وتتقبل الاعتراضات عليها ويعمل بالصالح منها، ثم تثبت الوزارة العمل بها عهداً طويلاً حتى تتم تجربتها؟
ثم الامتحانات أمرها غريب! فمع هذا الضعف الذي نسمعه في كل مكان، تظهر نتيجة الامتحانات في اللغة العربية باهرة، والسقوط فيها نادر! فشيء من شيئين: إما أن تكون الشكوى في غير محلها، وهذا ما لا يسلم به عاقل، أو تكون الامتحانات على غير وجهها، وهذا ما يقوله كل عاقل، وسبب هذا السوء في الامتحانات كثير، فنظريات النحو واسعة تحتمل أن يكون لكل خطأ تأويل من الصواب، ومنها عدم تقدير ورقة الامتحانات في جملتها حتى يصح أن يسقط الطالب إن أتى بخطأ شنيع في موضع ولو أصاب في مواضع أخرى، ومنها الرحمة والشفقة في التصحيح، وأؤكد أن لو زالت هذه الرحمة سنة من السنوات وأدرك الطالب ما تعامل به ورقته من الحزم في الامتحان لخدم هذا الموقف اللغة العربية في المدارس جملة سنين
ثم التفتيش؛ والمفتش معذور، فهو كالقاضي يطبق مواد القانون ولا يشرعها، فعليه أن ينظر كم موضوعاً إنشائياً كتبه الطلبة، وهل هذا يتناسب مع العدد المقرر في السنة، وهل ترك المدرس كلمة خطأ في كراسة الطالب من غير أن يصححها، وهل أساء المدرس إساءة كبرى فأستعمل كلمة (التيليفون) و (الراديو) أو على العموم استعمل كلمة ليست في(208/5)
(القاموس المحيط) أو (لسان العرب) فأما هل نجح المدرس في تعليمه اللغة العربية لطلبته، وما الوسائل التي استعملها، وهل تقدم الطلبة في القراءة والكتابة فأمر في المنزلة الثانية؛ وأما ما ينبغي أن يدرس هنا أو لا يدرس. وما العوامل في الرقي باللغة العربية - على العموم - فأمر يرجع في الأغلب إلى المشرع لا إلى المفتش
نعود - بعد - إلى المسألة الأخيرة من أسباب ضعف اللغة العربية. وهي مسألة (المكتبة العربية) فالحق أنها مكتبة ضعيفة فاترة، هي مائدة ليست دسمة ولا شهية ولا متنوعة الألوان.
والحق أيضاً أن القائمين بإحضارها لم يجيدوا طهيها؛ فدار العلوم وقد أتى على إنشائها أكثر من خمسين عاماً وقد خرجت الألوف من أبنائها، هل أجادت في إخراج الكتب النافعة المختلفة الألوان والموضوع؟ أو هي قصرت كل التقصير فأخرجت من الكتب ما لا يتفق وعدد خريجيها ومنزلتهم في الحياة الاجتماعية والأدبية؟
والأزهر هو أقدم عهداً وأعرق أصلا لم يشترك في التأليف الحديث اشتراكاً جدياً، ولم يساهم بالقدر الذي كان يجب عليه، ولم يعرف عقلية الناس في العصر الحديث حتى يخرج لهم ما هم في أشد الحاجة إليه
وكلية الآداب - وأن قصر عهدها - لم تؤد رسالتها في هذا الموضوع كاملة، واتجهت أكثر ما اتجهت إلى الثقافة الخاصة لا العامة
فمكتبتنا في كل نواحيها ناقصة من ناحية الأطفال، ومن ناحية الجمهور، ومن ناحية المتعلمين. وحسبك أن تقوم بسياحة في مكتبة أفرنجية وأخرى في مكتبة عربية لترى الفرق الذي يحزنك ويبعث في نفسك الخجل والشعور بالتقصير
ماذا يقرأ الطفل في بيته وفي عطلته؟ وماذا تقرأ الفتاة في بيتها؟ وأين الروايات الراقية التي يصح أن نضعها في يد أبنائنا وبناتنا؟ وأين الكتب في الثقافة العامة التي تزيد بها معلومات الجمهور؟ وأين الأدب القديم المبسط؟ وأين الأدب الحديث المنشأ؟ الإجابة عن هذه الأسئلة يعرفها كل قارئ لمقالتي، وواضح أن اللغة لا ترقي بكتبها في قواعد النحو والصرف والبلاغة بمقدار ما ترقى بالكتب الأدبية ذوات الموضوع
سيقول المعلمون: وماذا نصنع وليس العيب عيبنا، فوزارة المعارف ترهقنا بالدروس(208/6)
وترهقنا بنظام الكراسات وتصحيحها، وبنحو ذلك حتى لا نجد وقتاً لترقية نفوسنا والازدياد في معلوماتنا فضلاً عن المساهمة في تضخيم (المكتبة العربية) والمشاركة في إصلاح جوانب النقص منها
ذلك حق، ولكنه ليس ردا على ما أقول، فإني في هذا المقال أكتفي باستعراض الأدواء استعراضاً خاطفاً سريعاً ثم أعود بعد، إن شاء الله إلى ذكر ما يعن لي من طرق العلاج
وأياً ما كان فالموضوع جد خطير، وهو - كما قلت - جدير بأن يتناوله الكتاب بالبحث والتفكير والكتابة ومناقشة الآراء؛ وكل ما أرجوه هو ما أشرت إليه ألا تتحول المسألة إلى نزاع شخصي أو طائفي، فالأمر أهم من ذلك كله، وإلى الجحيم كل مسألة شخصية أو طائفية تقف في سبيل الخير العام
أحمد أمين(208/7)
في الحب أيضا
وجواب بعض المسائل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
يظهر أنني لم أحسن البيان فيما كتبته عن الحب والوقت الذي تكون فيه النفس احسن تهيؤاً له، فقد تلقيت رسائل من هنا وههنا، ومن مصر وغيرها من أقطار العرب، جملة ما استخلصته منها أني حمار طويل الأذنين، وأن لي نهيقاً عالياً ولكنه نهيق لا أكثر، وقد أكون كذلك فما أدري، ولو أني عرفت نفسي على حقيقتها لكان هذا حسي، وعزائي، إذا كنت هذا، قولُ رصيفي الفاضل أبن الرومي:
فيّ طبعٌ ملائكيُّ لديه ... عازف صادف عن الإطراب
أو حمارية فمقدار حظي ... شبعةٌ عنده بلا أتعاب
فبين الملائكية والحمارية هذه الجامعة - إن الملائكية تغري بالعزوف والزهد ترفعاً أو استنكافاً، أو لا أدري لماذا، فما ارتقيت قط إلى هذه المرتبة، وأن الحمارية تؤدي أيضاً إلى الزهد وإن كان هذا منها عن نقص الإدراك وعدم الشعور بالحاجة. ولا تعنيني الأسباب، وإنما تعنيني النتيجة وهي كما ترى واحدة والحمد لله، ولقد أطلت النظر إلى وجهي في المرآة لما وردتني هذه الرسائل ورفعت يدي إلى أذنيّ أتحسسهما ثم قلت لنفسي إن الحمارية طبيعية لا صورة، وارتددت عن المرآة ورأسي مثنىٌ على صدري وأذناي مسترخيتان - مجازاً.
وقال أحد الأفاضل الذين كتبوا إلي، إني لو قضيت يوماً على شاطئ البحر في الإسكندرية لأدركت أن الحب يجئ في وقت النشاط الجم لا الفتور كما زعمت، واعترف لي غير واحد أنهم أحبوا على الريق وذكر لي أحدهم أنه كان يلقي صاحبته كل صباح فأحبها، وقال ثان انه سمع صوتاً في الصباح فخيل إليه أنه يعرفه، فلما رآها عرف أن ذاكرته لم تخنه، وكان أن احب ذات الصوت الذي أيقضه من النوم، ولكن الله لم يكتب له الفوز بها. وذكر ثالث أن المرأة تتزين في كل وقت - في البيت وخارج البيت الخ الخ فما بي إلى الإطالة حاجة
لهذا قلت إني لم أحسن البيان، فما أردت أن أعين ساعة معلومة للحب في الصباح أو(208/8)
الظهر أو العصر أو الليل، وإنما أردت أن أبين أن الحب - ككل مرض - تكون فرصته حين يكون الجسم متعباً قليلاً وأن كان المرء لا يدرك ذلك ولا يفطن إليه. وهذا التعب الخفيف لا وقت له، وما أكثر ما أصبحت برأس مصدع على الرغم من النوم ساعات طويلة فأضحك وأقول لزوجتي: (يا امرأة، هل رأيت أحداً قبلي يفطر على الأسبرين؟) فتسألني: (أبك حاجة إلى الأسبرين؟) فأقول: (نعم بي حاجة إليه. . إلى صيدلية كاملة من الأسبرين. . . ولكني سأحاول الاستغناء عنه، إنما أردت أن أبين لك أن زوجك أعجوبة. . الناس غيري يصبحون وريقهم يجري على الفول المدمس والبيض والقشدة واللبن والشاي والمربيات وما إلى ذلك، أما زوجك المحترم فلا يخطر على باله شيء من ذلك كل همه قرص من الأسبرين يعفيه من وقع هذه الفؤوس التي تحطم رأسه)
فتقول: (الذنب لك. . من قال لك أفعل ما فعلت البارحة؟)
فأقول: (يا ستي أن المهم الآن هو التسكين وبعد ذلك يصح أن يجيء دور الحساب. . . ثم إني لا أذكر ماذا كنت أصنع البارحة. . كلا. . لا يختلج في ذاكرتي شيء. .)
وأما صاحبنا الذي كان يرى فتاته كل صباح فأحبها، فأقول له أن هذا ليس من الحب على الريق وقد وقع لي ما وقع له، أيام كنت تلميذاً في المدرسة الخديوية، وكان بيتي في (البغالة) وطريقي إلى المدرسة من درب (الجماميز) وكنت أرى في كل صباح فتاة على وجهها النقاب الأبيض وحولها ذلك الإزار الأسود - وكان هذا هو اللباس الشائع في ذلك الزمان - ومعها خادمها يحمل لها كتبها ويتبعها ويحرسها، وهي ذاهبة إلى المدرسة السنية، وعائدة منها إلى البيت فكنا نلتقي كل يوم، واستملحت وجهها، وأعجبني قدها، فكنت أتعمد أن اقف على أول الطريق حتى أراها مقبلة وتكرر ذلك فصار عادة.
ومضت سنوات طويلات وأصبحت مدرساً، وإني لراكب مرة إلى الجيزة وإذا بي أرى أمامي فتاتي القديمة، ومعها طفلان فعرفتها، فما تغيرت عن العهد بها، ونظرت حولي فلم أر أحداً معها سوى هذين الطفلين فتشجعت وقلت لها: (اسمحي لي. . إننا صديقان قديمان إذا كانت ذاكرتك كذاكرتي. . هل تذكرين هذا الوجه الدميم الذي كنت لا أخجل أن ألقاك به كل صباح في شارع درب الجماميز وأنت ذاهبة إلى المدرسة؟)
فابتسمت وقالت: (أظن أني أذكره).(208/9)
قلت - ويداي على طفليها -: (وهذان. . . المحروسان أهما اللذان كان يمكن أن يكونا ولدي؟).
ففهمت وهزت رأسها أن نعم، فقلت: (وتسمحين لي أن اقبلهما، إذ كنت لا أستطيع أن أقبل غيرهما؟)
فهزت رأسها مرة أخرى، فقبلتهما وقلت كالمعتذر: (اذكري أنهما كان يمكن أن يكونا لي)
وقصت عليّ قصة عجيبة، فقالت: إن جاراً لها أحبها وأن أباه أبى أن يزوجه قبل أن يفرغ من المدرسة، فحاول أن يتصل بها فلم يوفق، فأنتحر، فسألتها: أين كنت تسكنين؟) فذكرت لي أسم الشارع والحارة، فإذا الذي انتحر قريب لي!
وقلت لها: أما أنا وأنت فلم ننتحر. . . آثرنا أن نتزوج. . . أظن أن الأمرين سيان. . .)
فأنا أيضاً أحببت في الصباح، كما أحب الفاضل الذي كتب إلي، ولكن الحب لم يكن على الريق بل كان بتأثير العادة وفعلها.
وصاحبنا الذي سمع الصوت في الصباح فتذكره - هذا أيضاً لم يحبب على الريق وإنما استقيظت في نفسه ذكرى، ولو كانت هذه أول مرة يسمع فيها الصوت الحلو لاستغرب ولكان قصار أه أن يستعذبه وأن يشتاق أن يرى صاحبته، ولما منعه ذلك من أن يتثاءب ويمتطي ويشتهي ويعاود النوم.
بقيت الزينة وأظن أني قلت إن المرأة تحب أن تؤكد جمالها وتبرز مفاتنها بالزينة، وأنها لا تستطيع أن تهمل زينتها حين تخرج في أي وقت. فلا خلاف بيني وبين الناقد الفاضل فما أنكرت أن المرأة تطلب الزينة، لأن طبيعتها تقضي عليها بذلك حتى ولو كان الرجال لا يرتاحون إلى هذه المساحيق المختلفة الألوان. ولو ظللت تنهي المرأة عن ذلك طول العمر لما انتهت إلا إذا كانت هي تزهد في المحسنات من تلقاء نفسها أو تضطر إلى الزهد لمرض جلدي أو نحوه. وما أكثر من قلت لهن: (أين منديلك؟) فتخرجه وترينيه وتسألني: (ماذا تريد أن تصنع به؟) فأقول: (لست أحب أن أرى فمك الجميل كالطماطة المشقوقة، فهاتي المنديل لأمسح هذا الأحمر) فتأبى وتقاوم، فألح عليها وأقول: (ثم إن هناك داعياً آخر هو أن هذا الأحمر يحول دون التقبيل) فيكون هذا مغرياً لها بالإصرار على ترك الأحمر على شفتيها، على حين كنت أظن - لغروري - أني زهدتها فيه. .!!(208/10)
وأحمد الله الذي أعفاني وأراحني من سخافة المساحيق، فأن زوجتي لا تتخذها، فليس في بيتي ذرة من الأحمر أو الأبيض. ومن القواعد المقررة عندنا أن على من تزورنا من قريباتنا أو من هنّ في حكمهن لتقض يوماً أو أياماً معنا، أن تجيء معها بمساحيقها، فلن تجد حتى ولا ما يُنْفَضُ على الوجه بعد حلاقة الذقن. وأحسب أن زوجتي اطمأنت إلى عجز فريستها عن النجاة فهي لا تعنى الآن بشيء من هذه المزينات. .
ولست مجنوناً حتى أقف على شاطئ البحر وأنظر إلى الفتيات الناهدات، الرشيقات، المشوقات، وهن يخرجن من الماء وقد لصق بأبدانهن القليل الذي عليها، فإني محتاج إلى عقلي كله، ولكني أحسب الفاضل الذي كتب إليّ يدعوني إلى ذلك، يدرك أن الأمر هنا أشبه بأن يكون أمر اشتهاء، لا حب، وخليق بالمرء وهو ينظر إلى هذه الفتنة المجتمعة، أن تدركه الحيرة، وأن يزوغ بصره، فلا يعود يدري أي هؤلاء الجميلات أولى بحبه، فأن لكل جسم فتنة، ولكل محيا سحره، ولو أني وقفت على البحر لكان الأرجح أن احب هؤلاء جميعاً، جملة، وأن أشتهي أن أضمهن كلهن في عناق واحد، فان الظلم قبيح، وأن نفسي لا تطاوعني على غمط الجمال في أية صورة من صوره، ومن يدري. . . لعل القدرة على أدراك معاني الجمال في مظاهره المختلفة هي التي وقتني الحب، ومنعت أن أعشق واحدة على الخصوص أجن بها.
ولكني لست واثقاً أن هذا كهذا، وأن كان يحلو لي أن أغرّ نفسي به، والأرجح إنها بلادة، وان جلدي سميك. . .
ويجب أن نفرق بين النشوة العارضة، والنشاط الصحيح وبين الإعجاب والحب؛ وأن ننسى كل ما علق بالحب من الحواشي الخيالية التي كان الفضل فيها لمبالغة الشعراء وهذيان المرضى، فليس الحب إلا مرضاً فالشأن فيه هو الشان في كل مرض. والمرء يصاب بالأمراض في حالتي الصحة والضعف ولكنه يكون أكثر تعرضاً للمرض في حالة الفتور الخفي الذي يضعف المقاومة، لأنه يغري بالاطمئنان على حين ينبغي الحذر، أو هو في حقيقته ضرب من الجوع كما قلت.
وفي الناس الشره المبطان، وفيهم القنوع الذي يكفيه اليسير الموجود. والجوع ضعف. والجائع لا يملك من القدرة على مقاومة الأغراء ما يملك الشبعان(208/11)
هذا جواب بعض ما وردني من المسائل. وقد مللت الحب وذكره، ولم أكن أظن أن الكتابة فيه تثير كل هذه الضجة، قاتل الله الشعر والشعراء!!
إبراهيم عبد القادر المازني(208/12)
جهاد شعب مصر في سبيل حقوقه في القرن الثامن
عشر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
ألف الأستاذ محمد كتاباً أسماه (سيرة السيد عمر مكرم) نتبع فيه تاريخ الحركة القومية في مصر منذ القرن الثامن عشر وتناول سيرة (السيد عمر مكرم) زعيم مصر إذ ذاك، وأوضح فيه سعي مصر إلى الحرية والاستقلال في فجر العصر الحديث، وبين أن الروح القومية والتطلع إلى الحرية كانا قويين منذ القرن الثامن عشر
والكتاب تحت الطبع، وسيظهر قريباً، وهذا الفصل الممتع من ذلك المؤلف القيم:
ولم يكن صوت المصريين داوياً في مجتمعات الديوان وحدها، بل كان للشعب منافذ أخرى يعبر بها عن أرادته ويردد منها شكواه ويرسم بواسطتها أمانيه ومثله العليا، فأن بعض المتكلمين من الوعاظ الذين كانوا يتعاقبون في تلك العصور كانوا بمثابة الصحفيين يعقدون مجالسهم في المساجد فيلقون فيها دروساً في معاني العدل وواجبات الحكام وحقوق المحكومين، ويدسون في خلال تلك الدروس نقدات للحكام لا يخشون منهم غضباً ولا يتوجسون منهم خوفاً، وكان بعض الحكام يضيق بنقدهم؛ ولكنهم كانوا في أغلب الأحوال يتركونهم آمنين أحراراً لا يقيدون ولا يعاقبون على ما يصدر عنهم من النقد. وكان نقدهم في كل الأحوال نقداً عالياً نبيلاً يقصدون به تصوير المثل الأعلى للحكم، ويدعون فيه إلى العدل وأداء الواجب. والعل أول من نبغ من هؤلاء الوعاظ هو الشيخ الحفني الذي كان يعاصر ملك مصر العظيم علي بك الكبير. وهو محمد بن سالم الحفناوي أو الحفني الحسيني نسباً وكان زاهداً ورعا كريماً كثير البذل للفقراء. واتخذ سبيل الدعوة إلى الخير على طريقة صوفية اسمها الطريقة الخلوتية وكثر اتباعه واعتقد فيه الناس اعتقاداً كبيراً سواء في ذلك العامة والخاصة، حتى قال عنه الجبرتي صاحب (عجائب الآثار): (أنه كان قطب رحى الديار المصرية لا يتم أمر من أمور الدولة إلا باطلاعه ومشورته)، وكان لا يتردد في إبداء نصحه صريحاً قوياً وإن كره أهل الحكم رأيه وصراحته وكان الشيخ الحفني فوق هذا عضواً في ديوان الحكومة يمثل الشعب المصري مع جماعته من إخوانه تمثيلاً رائعاً، حتى كان علي بك الكبير على شدته وقوة ملكه لا يستطيع مقاومته ولا(208/13)
معاداته. وكان في مناقشاته في الديوان لا يتردد أحياناً أن يهدد الحكام باسم الشعب إذا هم عمدوا إلى ما يسئ إليه أو يضر بمصلحته، فقد وقف مرة يناقش في ضرورة إرسال حملة حربية لإخضاع بعض الأمراء الخارجين في الصعيد. وكان رأيه أن تلك الحملات الحربية تضر بالناس وتعطل مصلحتهم، فلم يتردد في آخر خطبته القوية أن يصيح قائلاً: (والله لن نسمح أن يسافر أحد وإن سافرت الحملة فلن يحدث خير أبداً) ولما توفى الشيخ الحفني حل محله في زعامة النقد واعظ آخر وهو ابن النقيب السيد علي بن موسى الحسيني المقدسي، وعرف بابن النقيب لأن جدوده كانوا نقباء الأشراف في بيت المقدس. وكان واسع العلم يلقى دروساً في المسجد الحسيني في التفسير والفقه والحديث. وكان فوق ذلك كتاباً وأديباً حسن الأسلوب، وزاهداً لا يضن بشيء يملكه على سائليه.
ولهذا كانت له مكانة عظيمة في قلوب الناس. وكان فوق كل هذا فارساً ماهراً في فنون الحرب واستعمال السلاح واللعب بالرماح، فكان يجمع كل صفات النساك المحاربين الذين ينهجون نهج القاضي عيسى الهكاري الذي كان معاصراً لصلاح الدين الأيوبي واشترك معه في محاربة الصليبين.
وكان أهل مصر يعرفونه بالمحدث، ومع أنه كان محبوباً عند الأمراء ورجال الدولة لم يمتنع عن نقد ما كان يراه فيهم وفي أحكامهم من العيوب، وكان نقده أحياناً يبلغ حد المرارة والعنف، ولكن صدر هؤلاء الحكام لم يضق به، ولم يحدث له من وراء نقده أي ضرر. مع أنه ذهب مرة إلى القسطنطينية حوالي عام 1763 للميلاد فلم يسمح له بالبقاء طويلاً فيها لما عرف عنه من الصراحة في النقد، واضطر إلى العودة إلى مصر. وكان الأمير محمد بك أبو الذهب يرحب به ويوسع له في مجلسه مع ما يلقي منه من النقد، وكان يقابل نقده بالإحسان فوق التسامح، ومن ذلك أنه سأله مرة عن حاله، وكيف وجد عاصمة الخلافة في استانبول عند زيارته لها، فكان جوابه على ذلك قوله: (لم يبق باستانبول خير ولا بمصر كذلك خير، فلا يكرم بهما الأشرار الخلق) فلم يغضب الأمير من رده بل أرسل إليه بعد انصرافه من مجلسه هدية قدرها مائة ألف نصف فضة ليقضي بها ديونه ولينفق منها على الفقراء كعادته.
وقد عاصر هذا الواعظ الكبير شيخ آخر جليل كان ينهج مثل نهجه مع شيء من الاعتدال،(208/14)
وهو الشيخ علي الصعيدي وكان معاصراً لملكي مصر العظيمين علي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب. وبلغ من إكرام هذين الملكين له أنهما كانا إذا دخل عليهما أفسحا له وقبلا يده، ولم يردا له شفاعة، وكان كثير الشفاعة عندهما يتدخل لمصالح الناس. فكان من الدولة بمثابة النائب الشعبي الذي يسعى لمصالح الناس عند أهل الحكم. وكان الناس يلجأ ون إليه إذا ما مسهم ما يشكون منه، فيكتب شكواهم في ثبت ويدخل بها على الأمير فلا يخالفه في شيء مما يرجوه فيه، ولا ينقبض عنه، وكان يقول لمحمد بك أبي الذهب إذا وجد منه شيئاً من التردد: (لا تضجر ولا تأسف على شيء يفوتك بغير حق في الدنيا، فإن الدنيا فانية وكلنا نموت ويوم القيامة يسألني الله عن تأخرنا عن نصحك؛ وها نحن قد نصحناك وخرجنا من العهدة). فإذا امتنع الأمير عن إجابة مطلب له صرخ وقال له: (اتق النار وعذاب جهنم) ثم يمسك بيده ويقول له: (أنا خائف على هذه اليد من النار).
وسنذكر فيما يأتي أسماء بعض زعماء الشعب الذين انتهجوا فيما بعد خطة أخرى غير النقد والنصح عندما تحولت مجاري الأمور في أيام مراد وإبراهيم. وحسبنا هنا أن نقول إن أمراء مصر في أثناء القرن الثامن عشر كانوا يحاولون بكل ما استطاعوا أن يكون حكمهم مرضياً عنه عند الشعب، وأن يكونوا في سياستهم موفقين إلى العدل فيهم بحسب عقلية عصرهم وأساليبه وكانوا يعملون على تقريب أهل العلم والأعيان والأدباء، ويشجعونهم على غشيان مجالسهم، فكانت مجالس علي بك الكبير تمتاز بوقار من يؤمها من العلماء الإجلاء، والزهاد الفضلاء. وكذلك كانت مجالس أبي الذهب من بعده، في حين كانت مجالس الأمير رضوان بعد ذلك مضرب الأمثال في البهجة الفنية والسمو الأدبي، حافل بأسماء تباهي بها مصر من الأدباء المبرزين الأعلام، وكان هذا التقريب عاملاً من أقوى العوامل على أيجاد روح من الود طالما ساعد على تبادل العطف بين الحاكم والمحكوم، وهو عطف كان يؤدي بغير شك إلى إصلاح الحكم والمحافظة على حقوق الناس وعواطفهم.
ولما تولى الطاغيتان إبراهيم ومراد؛ تغير الحال واختل الأمر ورأى الشعب أن لا بد له من انتهاج خطة جديدة للمحافظة على حرياته وحقوقه؛ فخطا خطوة جديدة لم يسبق له عهد بها، فإن الطاغيتين كانت تحيط بهما هالة من أهل الطاغوت، وهي عصبة للشر ما كانت تتنبه(208/15)
إلى حق، ولا ترعوى عن غي، ورأى أهل مصر أنهم حيال نوع جديد من الحكم، لا تنفع فيه النصيحة ولا تستقيم معه الأمور على الشفاعة، ولم يكن للشعب بعد أن عجز عن النصح إلا ذلك الحق الطبيعي الذي للشعوب وهو أن يرغم الحكام على الإصلاح، وهكذا رأى أهل مصر إلا ملجأ لهم من طغيان إبراهيم ومراد، إلا أن يلجئوا إلى القوة والثورة.
بعد مضي سنة واحدة من حكم الطاغيتين، ثارت مسألة في خلاف على وقف، ولم يكن للمسألة في ذاتها خطر خاص، بل كان القصد منها نضالاً على مبدأ قانوني وهو: هل يجوز للأمير القوي أن يدل بقوته ويثور على القانون فيعصاه، أم لا بد له من الخضوع للقانون ولو كان خصمه ضعيفاً لا سند له من سلطان الدولة، وكانت الخصومة بين رجل من أفراد الشعب، وأمير من كبار الأمراء من عصبة الطغيان، واعتصم الرجل الضعيف بالشريعة فلجأ إلى القضاء، ولوح الأمير القوي بالقوة والبطش، وحكم الشرع للرجل الضعيف، فأبى الأمير الإذعان للحق؛ وأصبح الأمر معلقاً بين أن ينتصر القانون، وبين أن تجتاح القوة كل سياج وكل حرمة.
فأدرك العلماء أن واجبهم يناديهم - وهم ممثلو الشعب والطبقة المستنيرة منه - بالمحافظة على القانون والحق، ولم يترددوا لحظة، بل هبوا لنداء الواجب، وتصدر فيهم زعيم اسمه الشيخ الدردير، رحمه الله وطيب ثراه، فأرعد الأمير المدل وابرق، وأرغى وأزبد، ونهر وتوعد، فوقف العلماء وثبتوا، وأرغوا وأزبدوا كذلك، وقام الشعب من ورائهم يؤيدهم. وكانت مظاهرة كبرى، فأغلق الناس حوانيتهم لينظروا مآل النضال بين الحق والقوة، وأوشك الأمر أن يؤدي إلى فوضى شاملة، لولا أن جزع عقلاء الأمراء من ذلك الاضطراب، وأشفقوا من تلك الحال فاجتمعوا وتشاوروا ثم أرسلوا إلى الأمير المعاند فلاموه على وقفته، وأمروه بالنزول على ما أراد القانون، فأذعن وهو كاره بعد مشادة عنيفة، ولم يرض العلماء أن يدعوا الأمر يفلت من أيديهم بغير حق مسجل يكتسبونه للناس، فطلبوا أن تكتب لهم وثيقة بالحق المكتسب، وكتب لهم صلح رسمي به شروط على الأمراء، وتعهد من الحكام بالتزام ما يقضي به القانون ويحتمه العرف.
وقد أثرت أمثال هذه الصيحة في الأمراء، فصاروا يخشون الشعب خشية عظيمة، حتى إنه عندما أشيع مجيء الحملة التركية لإصلاح الحكم في مدة مراد وإبراهيم بقيادة القبودان(208/16)
حسن باشا، ذعر الطاغيتان خوفاً من أن ينتهز الشعب تلك الفرصة فيثور مظهراً ما في نفسه من الألم، فحاولوا التقرب إلى زعمائه، وقد وصف أحد من شهد ذلك العصر تذلل الأمراء بقوله: (فذهب إبراهيم بك إلى الشيخ البكري، ثم الشيخ العرومي والشيخ الدردير، وصار يبكي لهم وتصاغر في نفسه جداً وأوصاهم على المحافظة وكف الرعية عن أمر يحدثونه أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت، فانه كان يخاف ذلك جداً)
والحق أن شعب مصر كان عند ذلك قوى الإحساس بنفسه، وبما ينبغي له من الحرية، وما يجب له من الحقوق، لا يتهاون في إظهار ذلك الإحساس بشتى الوسائل كلما لاحت له فرصة، أو كلما حدث حادث يشتم منه رائحة الاستهانة بكرامته أو الاعتداء على حرماته. ولهذا كانت ثوراته تتوالى عند كل مناسبة، فما تكاد ثورة تهدأ في القاهرة حتى تشب أخت لها في رشيد، وما تكاد تلك تخبو حتى تبدأ أخرى في بلبيس، وكان بعض هذه الثورات يبدو عنيفاً كأنما هو ينذر بثورة شاملة كثورة فرنسا. ونحن إذا بحثنا حال فرنسا قبيل ثورتها لا نستطيع أن نرى من بوادر ثوران النفوس أكثر مما بدا في أواخر القرن الثامن عشر في مصر، فان فرنسا ظلت على ما كانت عليه من سوء الحكم، ومن العبث بالحريات إلى أواخر ذلك القرن؛ لا بل إن سوء الحكم فيها قد زاد في أواخر ذلك القرن عما كان في أواسطه، فكانت أفاعيل لويس الخامس عشر وخليلته المشؤومة في أواخر ذلك القرن جديرة بكل حنق وكل غيظ، ولكن الفرنسيين لم يثوروا عند ذلك، وإنما كانت ثورتهم في أيام الملك الطيب الذي جاء عقبه، أما في مصر فقد بدت تلك الثورات كالشرر المتطاير وما كان أقمنها أن تنتهي إما بثورة تامة كثورة فرنسا، وأما بإصلاح تدريجي شامل يتناول كل نظمها.
وأغلب ظننا أن حكام مصر ما كانوا ليسمحوا للأمور أن تتفاقم إلى أن تحرج الصدور وتدفع بها إلى الثورة المدمرة، فقد كانوا دائماً ينزلون عند إرادة الشعب بعد أن يروا غضبته، ويصلحون ما يشكوا منه من فساد، ويقومون ما يشير إليه من اعوجاج؛ وتكررت الأمثلة الدالة على ذلك
فريد أبو حديد(208/17)
مصر في خاتمة القرن السابع عشر
كما رآها العلامة عبد الغني النابلسي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ليس في تاريخ مصر الإسلامية أغمض من العصر التركي بل نستطيع أن نقول إن ليل الإسلام وليل الأمم العربية والإسلامية كلها يبتدئ بابتداء العصر التركي. وبينما نرى تاريخ مصر الإسلامية زاهراً وضاء قبل الفتح التركي إذا الستار كثيف من الغموض والظلمات ينسدل من بعده على هذه العصور المجيدة، وإذا بالانحلال والفساد والفوضى تغمر ذلك المجتمع الزاهر الذي لبث قروناً يسطع خلال العصور الوسطى؛ وفي هذه المرحلة الغامضة المؤسية من تاريخ مصر لا نظفر بكثير من المواد أو المصادر التي تلقي كبير ضوء على المجتمع المصري، ولا يدون المؤرخ غير تعاقب الولاة الترك ولا يكاد يروي لنا شيئا من الأحداث العظيمة أو الحوادث الشائقة، اللهم إلا في أواخر هذا العصر، حينما تستيقظ الحركة القومية المصرية من سباتها الطويل، وينزع الزعماء المماليك إلى تحطيم نير الأجنبي، ثم تمهد الحملة الفرنسية لانهيار الحكم التركي، وبزوغ العصر الجديد.
بيد أننا نستطيع أن نتتبع أحوال المجتمع المصري في تلك المرحلة على يد جمهور من الأدباء والرحل الذين وفدوا على مصر في تلك العصور سواء من الشرق أو الغرب. وقد انتهت إلينا طائفة من مشاهداتهم التي دونوها في رحلاتهم، وهي وثائق لها قيمتها في الكشف عن بعض نواحي المجتمع المصري في هذا العصر؛ ثم هنالك أنفس آثار هذه المرحلة إطلاقا، وهي مذكرات الجبرتي التي تلقي أعظم ضياء على تاريخ مصر والمجتمع المصري في القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر.
وقد رأينا أن نستعرض مشاهدات أولئك الرحل كلما سنحت الفرص، وأن نستخرج من آثارهم ما يفيد في تعرف أحوال المجتمع المصري في تلك المرحلة، وسنبدأ اليوم باستعراض رحلة علامة وأديب دمشقي وفد على مصر في خاتمة القرن السابع عشر، وترك لنا عن رحلته بمصر أثراً يدون به بعض الملاحظات المفيدة عن المجتمع المصري في ذلك العصر.
ذلك الرحالة هو الفقيه والعلامة الصوفي الشهير عبد الغني النابلسي، وهو شخصية غريبة(208/18)
تستحق الدرس؛ بيد أنا نكتفي هنا بترجمته بإيجاز، فهو عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني أبن إسماعيل بن أحمد النابلسي الحنفي الدمشقي النقشبندي القادري، وينعت بشيخ الإسلام وأستاذ الأساتذة؛ ولد بدمشق في سنة 1050 هـ (1640 م) ودرس القرآن والحديث والفقه والنحو، وقرأ على أعظم شيوخ العصر في دمشق، وانتظم منذ فتوته في الطريقة القادرية ثم الطريقة النقشبندية، وأنكب على قراءة الأدب الصوفي ولا سيما آثار محي الدين ابن العربي؛ وتولى التدريس حيناً بالجامع الأموي؛ وحمله تيار التصوف في شبابه إلى نوع من الشذوذ والهيام فلزم داره مدى أعوام، وأطلق شعره حتى تدلى على كتفيه، وأطلق أظافره، وصارت تعتريه نوبات من الذهول حتى ظن أنه جن؛ ورماه خصومه بالزندقة واشتدت الحملة عليه؛ ولكنه تغلب على خصومه، وضاعفت المحنة هيبته وشهرته؛ وكان مغرماً بالسياحة، فسافر إلى استانبول أو دار الخلافة كما كانت تسمى يومئذ، سنة 1075 هـ (1664 م) ومكث بها حيناً؛ ثم طاف بالشام وثغوره، ورحل بعد ذلك إلى مصر والحجاز؛ وانقطع للتدريس منذ سنة 1115 هـ، وهو في الخامسة والستين من عمره وأقام في أواخر حياته بالصالحية على مقربة من دمشق، وعلا قدره وطار صيته، وتوفي سنة 1143 هـ (1730 م) وقد أربى على التسعين من عمره، ودفن بالصالحية، وقبره يعتبر مزاراً يتبرك به إلى اليوم.
وكتب النابلسي عدة كبيرة من الكتب والرسائل في التفسير والحديث والفقه والتصوف؛ وقد اشتهر بالأخص ببديعيته في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وهي المسماة (نسمات الأسحار في مدح النبي المختار)؛ وله شرح لديوان ابن الفارض؛ ومنظومة في تاريخ ملوك بني عثمان؛ ودون رحلته عن الشام ومصر والحجاز في سفر كبير اسماه (الحقيقة والمجاز)؛ وبلغت مؤلفاته ورسائله أكثر من مائة، اشتهر الكثير منها في أنحاء العالم الإسلامي
كانت أمنية الحج باعث الرحلة الكبيرة التي قام بها عبد الغني النابلسي سنة 1105 هـ (1693 م) في الشام ومصر والحجاز؛ وهو يخصص لهذه الرحلة كما قدمنا سفراً خاصاً عنوانه (الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز)، لدينا منه بدار الكتب نسخة خطية جميلة؛ وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، يخصص القسم الأول منه لرحلة الشام وفلسطين، والثاني للرحلة المصرية، والثالث لرحلة الحجاز؛ ويدون النابلسي رحلته(208/19)
بطريقة اليوميات، فيذكر تنقلاته وزياراته ومشاهداته، ويستطرد في أحيان كثيرة إلى ذكر النبذ التاريخية والأدبية؛ وقد بدأ رحلته من مدينة دمشق في غرة المحرم سنة 1105، (2 سبتمبر سنة 1693) وطاف أولاً بمدن الشام وثغوره، ووصل إلى الحدود المصرية حسبما يذكر في يومياته في اليوم الثالث بعد المائة من بدء الرحلة وذلك في 14 ربيع الثاني سنة 1105، ودخل مدينة القاهرة من باب الشعرية في 24 ربيع الثاني (أواخر ديسمبر سنة 1693) وهو يحييها بإعجاب وحماسة كما حياها من قبل جميع الأعلام الوافدين عليها من المشرق والمغرب؛ ونزل ضيفاً على صديقه الشيخ شاهين بن فتح الله حيث أفرد له داراً خاصة ملاصقة لداره ورتب له بها كل ما يلزم لراحته ورفاهته؛ وكان أول من استقبله من أعيان مصر عميد السادة البكرية السيد زين العابدين البكري، فزاره بداره الواقعة على بركة الأزبكية، ويشير النابلسي إلى فخامة هذه الدار وروعة مجلسها المنيف المطل على البركة، ويصف البركة الشهيرة (ذات الروح والريحان التي فيها نفحة من نفحات الجنان)؛ ثم يصف الحمام المجاور لدار البكرية، وبه جناح خاص لا يدخله سوى السيد، وقد دعاه إليه وتمتع بالاستحمام فيه. وكان والي مصر التركي يومئذ علي باشا خازن دار واليها من قبل السلطان أحمد خان (1690 - 94)، فاستصحبه السيد البكري لزيارته بمنزله بالقصر العيني المطل على النيل؛ وكان لمضيفه السيد شاهين علاقة صداقة بالوزير (الوالي) فكان يدعوه للمنادمة، ويذهب النابلسي معه إلى مجلس الباشا فيقضيان في زيارته أوقاتاً طويلة
وزار النابلسي المحكمة وقاضيها التركي عارف أفندي وأعجب بضخامتها وبساتينها اليانعة، وزار مراد بك المصري وهو من أعيان الصناجق المصرية بقصره الفخم في (سبيل علام) على قيد ساعتين من القاهرة، وينعته (بفخر الأكارم والاماجد) وقد اعجب النابلسي بفخامة مجالس أعيان المصريين وبذخها وحسن روائها، وكانت تجهز بالأنوار الساطعة من قناديل وشموع، تطلق فيها مباخر العود والعنبر، وينتظم فيها أهل الفن ويوقعون نغماتهم الساحرة على الجنك والعود والرباب وتنشد فيها القصائد الغراء، وبالجملة. فقد كانت مجالس السَحر والطرب والسمر الرفيع.
ويصف النابلسي جزيرة الروضة وجمالها، والمقياس وعجائبه وجامع عمرو وفخامته؛ ثم قلعة الجبل، وقد كانت مركز الوزير التركي (الوالي) وبها ديوان العساكر، ويصف لنا(208/20)
المؤرخ بئر (الحلزون) الشهيرة التي أنشأها بها السلطان الغوري لاستخراج الماء من أعماق الأرض وقد شهد البقر تدور فيها على عمق سحيق، وكان بالقلعة يومئذ عدة من السرايات والجوامع والمساجد والحمامات كأنها مدينة مستقلة، وأبراجها العظيمة مما يفلت الأنظار، وكان بها مصنع خاص لعمل الكسوة النبوية، وعمل السجاد للحرم الشريف.
ثم يحدثنا الرحالة عن الجامع الأزهر وعن شيخه وهو يومئذ الشيخ منصور المنوفي الشافعي الضرير، وكان يكثر من زيارته ويجتمع بأستاذته وطلابه ويستمع لبعض ما يلقى فيه من دروس ويقول لنا النابلسي إن طلبة الأزهر رجوه في إلقاء بعض دروس في الحديث فأعتذر إليهم، وكانوا يجتمعون حوله، ويلتمسون بركته، وهو يبكي تأثراً.
وكان الرحالة كثيراً ما يمر في غدواته وروحاته بباب زويلة، وقد كان يومئذ مخرج القاهرة القديمة من الجنوب، ولم يفته أن يصف محلة زويلة، وما كان يجتمع بها يومئذ من أرباب الملاعب والسميا، وهم طائفة المهرجين والحواة، الذين لم ينقرض نسلهم إلى يومنا
على أن أهم ما عنى به الرحالة هو زيارته للقرافة ومزاراتها، وقد كانت الفسطاط ما تزال مجمع المقابر والمزارات الفخمة، تتوسطها مقبرة الشافعي الخالدة؛ وكان النابلسي كما رأينا من أقطاب الصوفية الذين تستهويهم ذكريات القبور والمزارات المشهورة، ومن ثم نراه يفيض في وصف زياراته للقرافة ومقابر الفسطاط التاريخية ولا سيما مقبرة الشافعي، وينوه بعظمتها وسحرها، ويترجم لمن يأتي ذكرهم من العلماء والأولياء؛ ثم يصف زيارته لمزار وليه المصطفى ابن الفارض بجامع القرافة، كما يصف لنا حلقات الذكر الصوفي الذي تنشد فيه القصائد والأناشيد المؤثرة، ويقول لنا إنه شهد الأولياء أحياناً يأخذهم التأثر فيمزق بعضهم ثيابه أو يدوس الناس هائماً على وجهه لا يلوي على شيء
ولبث النابلسي بالقاهرة ثمانين يوماً حتى اقترب موعد السفر إلى الحج؛ فقابل أمير الحاج المصري إبراهيم بك واستشاره في خير الوسائل للسفر الأمين، وبذل أمير الحج له ما استطاع من النصح والمعونة، وأعد النابلسي عدته للسفر وودع أصدقائه في مظاهر مؤثرة، وغادر القاهرة في السادس من رجب (سنة 1105) في ركب من المصريين والشاميين، وغادرها من باب الشعرية كما دخلها، وودع الوزير خارج القاهرة بقصره بالعادلية، وإلى هنا تنتهي رحلته المصرية(208/21)
وإذا كان النابلسي لم يعن كثيراً بدراسة أحوال المجتمع المصري يومئذ ولم يقدم إلينا عنه بيانات شافية، فأنه يقدم إلينا بيانات وملاحظات لها قيمتها في دراسة المجتمع المصري في خاتمة القرن السابع عشر؛ ولعل أنفس ما فيها أقواله عن معالم القاهرة ومعاهدها، فهذه الأقوال في ذكر أبواب القاهرة وبركة الأزبكية وجزيرة الروضة والمزارات الشهيرة وغيرها ما يفيد في تعرف خطط القاهرة في هذا العصر، وهي تعتبر حلقة في مجموعة الآثار التي لدينا عن الخطط، ثم أن أحاديثه عن أعيان القاهرة وعن مجالسهم من الصور التي لها قيمتها في تعرف مجتمع هذا العصر، ولنذكر أن العصر الذي يحدثنا عنه النابلسي يسبق بداية العصر الذي يحدثنا عنه الجبروتي بنحو خمسين عاماً فقط، ومن ثم ففي وسعنا أن نصل بين المواد المشتركة في هذين الأثرين في دراسة المجتمع المصري في القرن الثامن عشر
محمد عبد الله عنان(208/22)
في الأدب المقارن
التشابه والاختلاف في الأدبين العربي والإنجليزي
خاتمة
للأستاذ فخري أبو السعود
يروع الناظر في الأدبين العربي والإنجليزي شدة ما بينهما من تباعد، وكثرة ما هناك من وجوه الاختلاف، وقلة ما فيها من وجوه التشابه والاتفاق، ولا غرو فان الظرف الجغرافية والتاريخية التي أحاطت بنشأة كل منهما ونموه وازدهاره، وكانت متباينة أي تباين، والعوامل الاجتماعية والسياسية التي تترك آثارها في الأدب كانت متضادة أي تضاد، فجاء الأدبان اللذان هما وليدا تلك الظروف والعوامل مختلفين أعظم اختلاف، في الموضوعات والأساليب والأشكال والأغراض، ولم يتفقا إلا في كل عام من الوجوه التي يستوي فيها جميع الآداب لشيوعها بين جميع شعوب الإنسانية
فالأمة العربية أمة سامية ضربت في فيافي الجزيرة أحقاباً، وترعرع أدبها تحت سماء البادية، ثم خرجت من جزيرتها فورثت حضارات الأمم الشرقية، وأخضعت لسلطانها أغنى بلاد الشرق وسيرت تحت لوائها شعوباً أرقى منها مدنية وأعرق في العلم والصناعة ودانت لحكومة ملكية مطلقة، وكان الدين أساس دولتها وشارة مجتمعها؛ والأمة الإنجليزية أمة آرية خرجت من جزيرتها المنعزلة فجولت في البحار، وشاركت في تراث الإغريق والرومان، واعتنقت المسيحية، وساهمت في الحضارة الأوربية، وتمسكت بنظام الحكم الديمقراطي؛ فهما أمتان مختلفتان في الجبلة ونوع المجتمع ومتجه التفكير، فاختلفت أدباهما تبعاً لذلك، ولم يتفقا كما تقدم إلا في وجوه عامة ومناح عارضة:
فعصر الجاهلية في تاريخ الأدب العربي شبيه بعصر ما قبل اليزابث في التاريخ والأدب الإنجليزيين: ففي ذينك العصرين كان كل من الشعبين يعيش داخل جزيرته في عزلة كبيرة عن العالم. على حال شبيه بعصر الأبطال في بلاد اليونان الذي أنتج ملاحم هوميروس، وكان الأدبان تبعاً لذلك جافين، وعرى اللفظ والأسلوب، ساذجي المعنى، بعيدين عن الصناعة الفنية، وكانا أقل رقياً من الأدب الفني الذي جاء في العصر التالي، وإن يكن(208/23)
الأدب العربي بلغ في عهد الجاهلية والبداوة والعزلة مبلغاً من الرقي أعلى كثيراً من مبلغ الأدب الإنجليزي قبل أن يتصل اتصالاً وثيقاً بثقافات الأمم الأخرى وآدابها
ونهضة العرب بظهور الإسلام تماثل نهضة الإنجليز في عصر اليزابيث، بوصول النهضة الأوربية إلى إنجلترا، واتجاه نظر الإنجليز إلى ما وراء البحر، ففي كل من هذين العصرين بدأت الأمة تخرج من محيط جزيرتها وتشب عن طوق عزلتها، وتتصل بالعالم وتصطنع حضارته، وتبني لنفسها إمبراطورية مترامية الأطراف، وارتقى أدبها من جراء ذلك ارتقاء عظيماً، ورقت ديباجته ودخل في طوره الفني، طور الإنشاء المحكّم والمجهود الأدبي المتصل، وانتشرت كلتا اللغتين في بقاع الأرض وافتتحت آدابها كثيراً من الأمم: فاللسان العربي الذي لم يكن يتجاوز حدود الجزيرة في الجاهلية، صار يتكلم من تخوم الصين إلى المحيط الأطلسي، وأثر في لغات وأزال غيرها وحل محلها، واللغة الإنجليزية التي لم يكن يتكلمها إلا ملايين معدودة في عهد شكسبير أصبحت تتكلم وتدرس في مشارق الأرض ومغاربها، وأصبح أدبها عالمياً كما كان أدب العرب عالمياً على عهد عظمتهم
ولم تكن كل من الأمتين توطد أركان إمبراطوريتها حتى انسلخ عنها جانب من أملاكها ونما مستقلاً حتى طاولها في النفوذ والسلطان، وداناها في ازدهار العلوم والآداب: فكما انفصلت الأندلس عن الخلافة العربية، استقلت الولايات الأمريكية عن الإمبراطورية البريطانية، بيد أن البلاد الأصلية احتفظت بالزعامة الأدبية على طول المدى: فلم تنجب الأندلس من الأدباء من بذوا فحول العباسيين، ولا ظهر في أمريكا ولا غيرها من أنحاء الإمبراطورية البريطانية من دانى شكسبير وملتون، فلعل التراث الثقافي الحافل، والماضي التاريخي المؤثل من ضروريات ازدهار الأدب الأساسية، وذلك ما كان يعوز الأندلس الإسلامية، وما يعوز أمريكا الحديثة، فظلت كلتاهما تلتفتان إلى الوطن الأول في طلب النموذج والمنهاج والوحي
وكلا الأدبين العربي والإنجليزي تأثر إلى حد بعيد بالكتاب السماوي الذي تدين به أمته: فأثر القرآن في المجتمع العربي وتاريخ اللغة العربية وآدابها وثقافة آدابها وأساليبهم جسيم شامل، فقد كان منذ جاء مثلاً أعلى في البلاغة وثقافة قائمة بذاتها، والإنجيل منذ ترجم إلى الإنجليزية في عهد صلاح الديني كانت له اليد الطولى في تثبيت الأسلوب النثري(208/24)
الإنجليزي، وتثبيت مفردات اللغة وإدخال مفردات جديدة، واشتقاق غيرها، واختراع طرق للاشتقاق أدت إلى توسيع جوانب اللغة، وكان دائماً قدوة للأدباء يحتذونها في إسلاس الأسلوب، وله أثر مباشر جلي في كتابين هما من ذخائر الأدب الإنجليزي، أحدهما (رجلة الحاج) لبنيان والثاني (الفردوس المفقود) لملتون، ففي كليهما يقوم أساس القصة على ما ورد في الإنجيل من أنباء الخلق والبعث والحساب، بل أن دراسة الإنجيل كانت هي الثقافة الوحيدة التي نالها بنيان، الذي كان قساً ضئيل الحظ من العلم، ومع ذلك يعد أسلوبه المبني على أسلوب الإنجيل في الذروة في أدب اللغة.
تلك أمثلة من وجوه التشابه في الأدبين، وظاهر أنه تشابه عام عارض محدود، أما وجوه التناقض فعديدة تشمل نواحي الأدب وتضرب جذورها في صميمه: فالأدب العربي ازدهر في كل دولة إسلامية فهو أشد تأثراً واصطباغاً بالنزعة الدينية من الأدب الإنجليزي، ومع ذلك قد جرى العرب إلى غايات من الترف واجتناء اللذات لم يبلغ بعضها الإنجليز، وبدأ أثر ذلك الترف المغرق بجانب ذلك الروح الديني في أدبهم؛ وقضت التقاليد التي نمت في المجتمع الإسلامي بإسدال الحجاب على المرأة، فتقلص ظلها من المجتمع وضؤل أثرها في الأدب، وازداد ضآلة بمرور الأيام بدل أن يزداد جسامة بتوطد الحضارة وذيوع التعليم واتساع جوانب الأدب، فكانت المرأة الإنجليزية أبين أثراً في أدبها - كاتبة ومكتوبا عنها - من المرأة العربية.
وعرف الإنجليز فنونا لم يحفل بها العرب كثيرا كالتصوير والنحت، وأغرموا بما اطلعوا عليه من آثار تلك الفنون من مخلفات الأمم القديمة، وامتلأ أدبهم بوصف كل ذلك وتقديره والأدب العربي يكاد يكون خلوا من ذلك؛ وانكب أدباء الإنجليزية على دراسة الآداب الأوربية المعاصرة وأفادوا منها كثيراً، وتوفروا خاصة على دراسة الأدب الإغريقي القديم، فكان لهذا الأدب أبعد الآثار وأشملها في الأدب الإنجليزي: رحب آفاقه وبسط أساليبه وأشكاله، ومد أمامه منادح القول ووجه نظره إلى جمال الحياة الذي تصويره غرض الأدب والفن جميعاً واكتسب الأدب الإنجليزي صبغة إغريقية ظل الأدب العربي بعيداً عنها، فأن هذا الأخير لشديد اعتداده بنفسه لم يحاول أن يطلع على آداب غيره، أو يستفيد من تراث اليونان الأدبي الحافل فكان ذلك الإقبال على الأدب الإغريقي من جانب الإنجليز، وذلك(208/25)
الأعراض عنه من جانب العرب من أكبر دواعي اختلاف الأدبين وتباعدهما.
وفي عهد الدولة والحضارة والثقافة، عهد الطور الفني للأدب حين يبلغ أوج رقيه، رضخ العرب للملكية المطلقة، والملكية تكف الشعب عن الحكم وتكف الأدب عن النقد والإصلاح وتلحق الأدباء بحاشيتها، فجاء الأدب العربي بلاطياً في جملته، يمتدح بمآثر الملوك ويصف مواكبهم ومظاهر عظمتهم، ويغفل الشعب وأحواله وآماله إلى حد بعيد، على حين اعتمد الأدب الإنجليزي في اكثر عصوره على استجلاب رضا الشعب، وتصوير أحواله ونشدان آماله، فامتلاء الأدب الإنجليزي بالنظرات النقدية والقصص الاجتماعية والبحوث السياسية، وحفل بتمجيد الحرية والديمقراطية واحترام الفردية والرأي العام، على حين امتلاء الأدب العربي بالمدائح والرسائل الديوانية، فمن أكبر مظاهر اختلاف الأدبين العربي والإنجليزي، صبغة الأخير الشعبية الفردية وصبغة الأول البلاطية الرسمية.
وهذا الانضواء تحت لواء الملكية أكسب الأدب العربي صفات وخصائص ظل الأدب الإنجليزي خلوا منها: فغلبت على الأدب العربي - الذي تعود الإغضاء والرضا بالكائن وعدم محاولة الإصلاح - نزعة المحافظة والتقليد، على حين سادت الأدب الإنجليزي روح التجديد، وتجدد على طول العصور لفظا وأسلوبا وموضوعا؛ وكان من دواعي تلك المحافظة أيضا اشتغال غير العرب بالأدب العربي، بل ظهورهم على العرب في جمال الصناعة الأدبية، وقدم من جراء ذلك كله الأسلوب على المعنى، وكان يعد أديباً من تمكن من أصول اللغة وأحكم إنشاء الجمل البليغة، لا من لطف حسه وأرهف شعوره، واتسعت نظرته وسمت فكرته في الحياة؛ وكان من أثر نزعة المحافظة والجمود التي سادت الأدب العربي أن جمدت أشكاله وموضوعاته، فلم تتطور أشكاله وتتميز وتتعدد، ولم تتجدد موضوعاته وتتكاثر وتتوالد، على حين كان تاريخ الأدب الإنجليزي تاريخ تجدد مستمر وإخصاب متزايد في هذه النواحي جميعا.
ولسير الأدب العربي في ركاب الأمراء، واعتماده على عطفهم دون عطف الجمهور، أهمل الأدب موضوعات كثيرة هي من صميم الفن ولباب الحياة، وهي هم الأديب المفكر المحس، كعبادة مفاتن الطبيعة والتفنن في عرضها، واستلهام حكم التاريخ والتأنق في وصفها، واستيحاء جلائل البطولة وتصوير روائعها، واستخلاص مواضع الفتنة والمتعة(208/26)
والجمال من خرافات الأقدمين، وإرضاء الفن بنظمها وتجديد شبابها، وعرض آثار الرحلات التي يقوم بها الأديب ووقعها في نفسه، والسبح في عوالم الخيال البعيدة الساحرة، والضرب في أعماق الماضي وآماد المستقبل وآفاق الإنسانية الواسعة، كان الأدب العربي - لاعتماده على صلات الأمراء - في شغل شاغل بحاضر العيش وقريب المطلب عن كل تلك العوالم الزاخرة بالفن والحياة والشعور والمتعة، فأهمل بعضها ولم يمس بعضها إلا مساً رفيقاً، وبكل هاتيك العوالم وذخائرها وأصدائها يحفل الأدب الإنجليزي
هذا الاختلاف المطرد الشامل في البيئة والمجتمع والموضوع والأسلوب، مرجع ذلك الاختلاف الرائع الملحوظ بين كتب الأدبي العرب وكتب الأدب الإنجليزي، وفحول هذا وأقطاب ذاك، وسيرهم وآثارهم وعقليا تهم وشخصياتهم، حتى ما نكاد نرى في الأدبين شاعرين متماثلين أو كاتبين يذكرنا إحداهما بالآخر، من جهة العقلية والأسلوب أو الموضوعات، أو يتشابه موضوع كتاب هنا وموضوع كتاب هناك، أو تخال فكرة قصيدة في هذا الأدب صادرة عن نفس الحالة النفسية الصادرة عنها أخرى في الأدب الآخر، ليس هناك شيء من ذلك، وليس بين الأدبين إلا التباعد والتناكر، كما يتباعد ويتناكر شخصان غريبان مختلفا الموطن والنشأة والتربية، والعقيدة الدينية والثقافة، والنزعة في الحياة والمتجه في التفكير
فإذا وازنا بين كبيري شعراء الأدبين، المتنبي وشكسبير، بدا لنا الاختلاف والبون العظيم: فجانب كبير من شعر المتنبي موقوف على المدح والهجاء، ولم يقل فيهما شكسبير حرفاً، وشعر المتنبي مليء بالحكم البليغة الموجزة المتجاورة يزاحم بعضها بعضاً وشعر شكسبير حافل بوصف الشخصيات وتحليل النفوس تحليلاً مسهباً لا يتوخى بلاغة الإيجاز في شيء؛ وبجانب المدح والهجاء والحكمة وما يتصل بذلك لم يكد المتنبي يطرق موضوعاً آخر بعيداً عن دائرة حياته الشخصية، بينما روايات شكسبير وقصائده تعج بوصف الطبيعة وتقديس الفنون كالموسيقى وتمجيد الأبطال، وتضرب في شعاب الخرافة وأرجاء التاريخ؛ وشكسبير يراوح في نظمه بين أشكال الشعر المختلفة، بين الشعر المرسل والدوبيت والسونيت، والفقرات المتراوحة طولاً، المتداخلة القوافي، وقد دعي ضرب من السونيت باسمه لما أكسبه بعبقريته من مرونة، على حين ظل المتنبي - وهو الشاعر العظيم المتمكن من اللغة(208/27)
والأدب المطلع على حقائق الحياة - متمسكاً بالشكل الشعري الوحيد الذي وصل إليه من المتقدمين، وهو القصيدة المصرعة الموحدة الوزن والقافية غير الموحدة الفكرة، فلم يمنح الأدب العربي شكلاً ولا موضوعاً لم يكن من قبله؛ وعاش المتنبي ومات طامحاً إلى الملك وتضريب الأعناق، ساخطا على تبريزه في مضمار الأدب الذي كان يحسد عليه ويكاد له من أجله، ولم يكن شيء من ذلك مما يخطر لشكسبير على بال
وجلى واضح أن هذه الفروق بين الشاعرين العظيمين إنما ترجع إلى العوامل الاجتماعية والسياسية، التي كانت تحيط بكل منهما وتكون نفسيته وعقليته، وإلى هذه العوامل ذاتها يرجع التباين الشديد بين أبي نؤاس وأبي تمام والبحتري وأبن العميد وبديع الزمان من جهة، وبين ملتون وبيرون وشلي وكيتس وجيبون وكارليل وماكولي من جهة أخرى، وهو تباين يجعل من المحال تشبيه واحد من الفريق الأول بواحد من الفريق الثاني، في سيرته في الحياة أو فلسفته الفكرية أو مذهبه الأدبي، وإن كان من أسهل الأمور استخراج العديد من أوجه الاختلاف والتضاد.
هذا الاختلاف في البيئتين الجغرافية والظروف التاريخية، والعوامل الاجتماعية والاقتصادية، والجبلة والتقاليد والمنازع، وهذا التباين بين الأدبين في المشرب والأسلوب والموضوع وشخصيات الأدباء وسيرهم، كل ذلك يجعل الموازنة بين الأدبين من أمتع الدراسات الأدبية وأحفلها بالدروس والعبر، وادعاها إلى استخلاص المبادئ والنظريات الأدبية، وإلى التفطن إلى العوامل المؤثرة في الآداب ونتائجها، وقديماً قيل: وبضدها تتميز الأشياء، ولو كان الأدبان شديدي التشابه وليدي ظروف متقاربة وعوامل مؤثرة متماثلة، لما كان في الموازنة بينهما كبير طائل، ولا كان تتبع ظواهرهما يستحق طويل عناء، ولأشبها أن يكونا أدبا واحدا مشتركا بين أمتين، موزعا بين لسانين.
فخري أبو السعود(208/28)
واجبنا الثقافي نحو الآداب والفنون
للأستاذ إسماعيل مظهر
قال الأستاذ الكبير لزلي إستيفن في أول الفصل الثاني من كتابه العظيم (الفكر الإنجليزي في القرن الثامن عشر) ما يلي:
إن الكتب التي هي بمثابة الدعائم الثابتة في تاريخ الآداب، إنما تكون من الطائفتين: أحدهما طائفة الكتب التي تلخص جدل الماضي، والثانية طائفة الكتب التي تعد جدل المستقبل
والظاهر من كلام هذا الرجل الفذ يتضمن في مطاويه كثيرا من الحقائق التي ينبغي لنا أن ننعم النظر فيها، ونطيل التأمل والاستبصار منها، ذلك بأن آدابنا وفنوننا حتى الآن تفتقر إلى الطائفتين معاً: تحتاج إلى كتب تلخص جدل الماضي، وتحتاج إلى كتب تعد العدة لجدل المستقبل.
أما الكتب التي تلخص جدل الماضي فلا سبيل إليها إلا بالترجمة والنقل عن اللغات الأخرى، لنستكمل بها - في لغتنا العربية المنيفة - الأداة التي تعدنا لجدل المستقبل. وعلى هذا نريد أن ننظر أتسع آدابنا وفنوننا اليوم تلك الكتب التي تتضمن مشاكل الماضي وتعدنا لمشاكل المستقبل؟
أما الذين هم أميل إلى التفاؤل فيقولون إن ما بين أيدينا من الكتب يكفي لتكوين الأديب الذي يستطيع أن يخلق القضايا العقلية والنظريات التي سوف تكون عدة الجدل في المستقبل. وعلى النقيض من هؤلاء فئة تذهب إلى عكس ما تذهب إليه الأولى وإن كل من يعرف مقدار التراث الذي خلفته القرون الأولى، ويجول بفكره جولة يقطع بها تاريخ ستين قرناً من الزمان ليقنعه بعدُ الشقة التي تفصل بين أبناء العرب وبين المراجع التي هي عدة لجدل المستقبل، بلزوم الإكباب على درس ما يلخص جدل الماضي، من آثار الآداب والفنون.
عن لي أن أكتب في هذا الموضوع، وأن أخص الرسالة بما أكتب، إثر سؤال تقدم به إلي صديق من خريجي الأزهر ومن رجال التخصص فيه يريد به أن يعرف المصادر التي يستطيع أن يدرس فيها تاريخ الاسكندر المقدوني وحياته وأعماله، وقد أراد أن يكتب رسالة(208/29)
في تاريخ هذا الرجل وأن يعقد في الرسالة فصلا يبحث فيه العلاقة التاريخية بين الاسكندر المقدوني وذي القرنين الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وعبثاً ما حاولت أن أستذكر اسم كتاب واحد في اللغة العربية يمكن أن يتخذ مرجعاً في مثل هذا الدرس التاريخي الحافل. وهب أني استطعت أن اقفه على أسم كتاب أو كتابين، على تقدير ذلك، فهل ذلك يغنيه عن الرجوع إلى المصادر القديمة التي تصدت لذكر الاسكندر المقدوني وفتوحاته، مثل فلوطرخوس وإفلينيوس وإسطرايون وبطليموس ويوستين وكورتيوس وغيرهم وغيرهم ممن لا تحصيهم الذاكرة، وهل ذلك يغنيه إذا أراد أن يكتب في أخلاق الإسكندر عن درس المراجع التي كتبت في فيليبس الثاني أبيه، والمراجع التي كتبت في صفات أمه أولمبياس؟ هل ذلك يغنيه عن أن يعرف أن هناك قصة أكثر ما فيها خرافي تدعى عند الأعاجم قصة الاسكندر، يرجح الثقات أنها كتبت في مصر في خلال القرن الثالث الميلادي، وأن هذه القصة ترجمت إلى أكثر اللغات الحية ما عدا العربية بالطبع، وأن ذيوع هذه القصة كان سبباً فيما ذاع عن الإسكندر من الخرافات، حتى قيل إنه نبي مرة وإنه رسول مرة أخرى؟
ذكرت للأديب العالم الذي سألني مجمل هذه الأشياء، وزدت على ذلك أن درس تاريخ الإسكندر على الصورة التي رسمها يحتاج إلى إلمام بتاريخ الثقافة الهلينية وعلاقتها بغزوات الإسكندر في الشرق؛ ثم زدت على ذلك أن هذا الدرس يحتاج إلى إكباب على درس جغرافية حوض البحر المتوسط القديمة والمدن التي قامت حقاً فيه وتاريخها وأثرها في نشر الثقافة الهيلينية، ثم درس جغرافية الشرق القديمة من حدود بحر الروم إلى حدود بلاد الهند؛ ثم زدت على ذلك أنه من المحتوم على من يريد أن يدرس هذا الدرس وينحو هذا النحو أن يلم بتاريخ الصراع بين فارس وبلاد اليونان قبل ظهور الإسكندر، وأن يلم بالحالات التي قامت في بلاد فارس قبيل الفتح المقدوني.
صور لنفسك أيها الباحث بعد ذلك عدد المراجع التي يحتاج إليها باحث كهذا الباحث ليدرس موضوعاً خيل إليه بدءاً أن بحثه هين وأن درسه سهل، وصور لنفسك بعد ذلك مقدار ما يكون في بحث مثل هذا يتم بغير مراجع وثيقة فيها من نقص وجهل وتقليل، ثم صور لنفسك بعد هذا كله مقدار ما يكون في مؤلف يبرز للناس عفو الخاطر من قدرة على تلخيص جدل الماضي، وليكون للمستقبل جدله الخاص به؟ وإني لأقول آسفاً إن صديقي(208/30)
هذا على مقدار ما كان فيه من شغف لبحث هذا الموضوع، قد أضطر إلى الميل عنه إلى بحث آخر عربي المرجع، بحث من تلكم البحوث التي يعتمد فيها على كتب عربية لم يصقلها النقد، ولم يقف على إخراجها للناس علماء أنفقوا من وقتهم في تصحيحها وضبط أعلامها وألفاظها ما يجدر بكتب هي في الواقع مراجع العلم ومآل العالم في البحث
انتهت محاولة ذلك العالم بأن يتحول عن الإسكندر إلى غيره، لأنه فقد المراجع التي يستطيع أن يتخذها عدة للبحث. ولم ينته الأمر عند ذلك. فقد أرسل إلى أديب من أدباء العراق كتاباً يسألني فيه عن المراجع العربية التي يستطيع أن يخلص منها بشيء من تاريخ تأسيس مدينة الإسكندرية والبحوث التي قام بها الذين عنوا بموضوع هذه المدينة، ولقد أردت أن ألبي طلب الأديب فبحثت عن المراجع فلم أجد لها أثراً، ونقبت عن الكتب التي ألمت بشيء من تاريخ العصر المقدوني بمصر فلم أقف لها على وجود وفي النهاية اضطررت أن أكتب إليه بأن يستعين بأحد الذين يجيدون اللغة الإنجليزية ويراجع ما كتب مهفي وهوجارت واردن بيفن، وأنا على علم بأن حظه من التأليف والبحث سوف لا يعدو حظ صديقي الأول:
وبعد فأن أمثال الباحثين كثيرون، يريدون أن يلخصوا جدل الماضي، وأن يعدو العدة لجدل المستقبل، ولكن عمادهم مفقود، وسلاحهم مفلول، على أن ما طلب الباحثان لأهون بكثير مما يطلب غيرهما، فالتاريخ على ما فيه من عويص المشكلات يهونه نقل مراجعه إلى العربية، بقدر ما يصعب نقل الآثار الأدبية أو الفلسفية، فلو أن كاتباً أراد أن يكتب في تاريخ الشعر الإغريقي فأي المراجع يقصد وأي الأبواب يلج؟ ولو أن كاتباً أخر أراد أن يستقصي تاريخ المذاهب الفلسفة التي اندست في ما نظم شعراء الحكمة عند اليونان، فأي الكتب ستذكر وأي المدونات يدرس؟
دعك من كل هذا، وصور لنفسك حال باحث يريد أن يقف على تاريخ العصر الروماني في مصر، أو أن يقف على شيء من تاريخ الكنيسة النصرانية فيها، أو أن يقيم من تاريخ الصراع بين الهيئتين السياسية والدينية، هيكلاً يخلص منه تاريخ شامل لمصر في خلال سبعة قرون حكم فيها الرومان أرض النيل، فأي الكتب العربية يستوحي وأي الأبواب يطرق؟(208/31)
أما إذا كان هذا مقدار النقص الذي نحسه في مراجعنا العربية في مسائل هي أكثر المسائل مساساً بتاريخنا، فكيف بنا إذا أراد أحدنا أن يتخذ من الكتب العربية مرجعاً لدرس تاريخ الاستكشاف الجغرافي وعلاقة ذلك بتاريخ الاستعمار الأوربي، أو التاريخ السياسي لدول أوربا في القرن التاسع عشر، أو أثر الحروب الأوربية في تكوين التصور السياسي الجديد في القرن العشرين؟
تشعرنا هذه الحقائق بأن أدبنا ناقص، وأن علمنا ناقص، وأننا مصدودون عن البحث بصواد ليس لنا من يد في دفعها ونحن اكثر شعوراً بذلك إذا أردنا أن نؤلف في تاريخ العلم الحديث أو في تاريخ الفكر عامة أو في تاريخ الفنون أو الفلسفة.
مثل الظرف التي تجتازه ثقافتنا، قد اجتازته من قبل أمم عديدة. والعرب في العصر العباسي، وأوربا في حدود القرون الوسطى، أقرب ما نمثل به، على أن احتياجنا إلى الكتب التي ندرس فيها شتى موضوعات الأدب والفن، ونكمل بها عدتنا في اللغة العربية، ينبغي أن لا يقتصر على كتب المراجع وحدها بل يجب أن يتعدى إلى الأمهات المؤلفة في مختلف الموضوعات، ففي تاريخ اليونان مثلاً تدعونا الحاجة إلى أن ننقل إلى جانب المؤلفات القديمة مؤلف جورج جروت مثلا، وفي تاريخ الرومان نضطر إلى نقل كتاب ممزن الذي حلل الحياة الرومانية اجتماعياً واقتصادياً وكتاب انحلال القيصرية الرومانية الذي يبحث الأسباب السياسية التي أدت إلى ذلك الانحلال. كذلك ينبغي لنا أن ننقل إلى العربية كل المراجع التي تعالج تاريخ الفكر وثورات العقل وأن لم نلم بكل ما يتاح لنا الإلمام به من المظان التي توسع من أفق العلم بأخبار الأمم وحالاتها وأسباب ارتفاعها وسقوطها
أضف إلى ذلك أن أدبنا تنقصه المعاجم الكثيرة، فهل يمكن لأديب باحث أو عالم متفرغ للعلم أن يستكمل عدة البحث بغير معاجم قريبة التناول سهلة الأسلوب؟ وإذا أردت أن تعرف مقدار افتقارنا إلى المعاجم فانظر هل في مراجعنا شيء من المعاجم الآتية: -
(1) معجم لغوي تاريخي
(2) معجم اصطلاحي لمفردات العلوم
(3) معجم لغوي عام(208/32)
(4) معجم الآداب
(5) معجم للفلسفة وعلم النفس
(6) معجم الأسماء القديمة
(7) معجم الأسماء الحديثة: في الجغرافيا والتاريخ
(8) معجم الأسماء العربية
(9) معجم أسماء طبقات الحيوان
(10) معجم أسماء طبقات النبات
(11) معجم المصطلحات الإسلامية
إلى غير ذلك مما يصعب حصره وتحديد الحاجة إليه.
وأنك إذا تصفحت رسالة في التاريخ القديم مترجمة إلى اللغة العربية عن الفرنسية، ثم قارنتها برسالة في نفس الموضوع مترجمة إلى العربية عن اللغة الإنجليزية أو الألمانية، لتعذر عليك في كثير من الأحوال التمييز بين الاسم العلم الواحد لشدة ما تنافر الناقلان في طريقة نقله إلى العربية، حتى لقد تقدم إلي كثيرون من طلاب الآداب يسألون عن حقيقة أسماء مختلفة عرضت في درج رسائل في التاريخ، وبمقارنتها اتضح لي أنها اسم واحد نقله عدة من المترجمين بصيغ مختلفة في العربية. ولا شك في أن هذه الفوضى الغامرة من شأنها أن تعمي على طلاب العلم وربما كانت سببا في تناقضهم.
وإذا وقع التناقض للملمين بشيء من آداب اللغات الأوربية بسبب ذلك، فأحرى ممن يدرسون باللغة العربية خالصة، أن يكونوا أشد تناقضا وأكثر تطوحا مع الأوهام التي أكاد أجزم بأنها شائعة في أكثر ما يكتبونه ويؤلفونه شيوعاً عظيماً إذا تعرض أحدهم للكتابة في غير الموضوعات الإسلامية، وما السبب في هذا إلا احتياجنا إلى معاجم لأسماء الأعلام تجري في تعريب الأسماء القديمة والحديثة على قواعد معينة، اللهم إلا ما عربه العرب، وهو قليل، فأنه يبقى كما عربوه.
خيل إلى بعض المشتغلين بحركة الثقافة في مصر، وتتبعوا أطوارها منذ مائة سنة، أن ما نقل إلى العربية من فروع المعرفة كاف لأنه يكون جزءاً صالحا من العلم بحقائق الأشياء، والحقيقة التي أحسها تناقض هذا الخيال، فقد اتبع النقلة عندنا حتى الآن طريقتين: إما(208/33)
التلخيص وإما نقل نتف من المذاهب أو قطع متفرقة عن كتاب الأدب المعروفين، وكلا الأمرين مضر أقصى الضرر بالثقافة الصحيحة، فأن هذه الثقافة لا يمكن أن تتلقى نتفا وأقساطا إلا لتكون أدبا ناقصاً أو علماً ناقصاً أو فناً ناقصاً، والمعرفة إذا اعتورها النقص في الأصول التي تقوم عليها، امتنع عليها أن تكون أداة قويمة لخلق التصورات العامة في العلم والأدب والفلسفة. وخلق التصور العام في العلم والأدب والفلسفة هي الغاية التي يجب أن تنتهي إليها الثقافة العامة، هي المثل الأعلى الذي ينبغي أن ينشد من العلم، وهي الهدف الذي يجب أن يرمي إليه التعليم.
إذن يكون ما نقلنا إلى اليوم من الآثار العلمية والأدبية عن المعرفة الجديدة، وبالحرى عن الثقافة الأوربية، إنما هو نتف وأجزاء، لها من الفائدة على قدر ما فيها من تعبير صحيح عن مذاهب أصحابها، وقلما يعبر الجزء عن الكل تعبيراً صادقاً قويماً
من جراء هذا كان ذلك الارتجاج العظيم الذي نشهده في مجالي الأدب العصري في مصر والشرق. ذلك بأنه أدب اعتمد على نتف من قديمنا وعلى نتف من الحديث المنقول عن أوربا، اعتمد على درس غير كامل لآدابنا القديمة، وعلى درس غير كامل للآداب الأوربية، فكان في جملته أشبه ببقايا السلع المختلفة إذا اجتمعت لتكون شيئاً جديداً، ولك أن تتصور مقدار ما في ذلك الشيء المكون من تلك البقايا من تنافر ونقص، إذا أنت صورت لنفسك حيواناً استحدثت صورته من أجزاء مختلفة من البقايا الحفرية جمعت من مختلف أجزاء الكرة الأرضية.
تلك حال الأدب، وهذه طريق العلم في عهدنا الجديد؛ فمن المسؤول إذن عن هذه الفوضى العظيمة؟
من الحقائق التي لا نزاع فيها أن ما استحدث حتى الآن من ألوان الأدب والعلم على نقصه، إنما يرجع إلى جهود بضعة أفراد يمكن عدهم على أصابع اليدين. على أن جهود هؤلاء كانت جهوداً متفرقة موزعة لم تجتمع يوما على غرض رمت إليه ولا نظرت إلى هدف صوبت نحوه ووجهت عملها نحو البلوغ إليه. ولقد عانى أكثر هؤلاء من عنت الدنيا ومن انصراف الناس عن الأدب والعلم ما جعلهم يفرون من ميدان العمل الواحد تلو الأخر، ليفسحوا الطريق لغيرهم ممن يريدون أن يقامروا على موائد الأدب والعلم إما بمالهم أو(208/34)
بعافيتهم، تاركين للأقدار وزن ما جهدوا فيه وعملوا له السنين الطوال. ومن أعجب العجب أن أكثر الذين سقطوا في ذلك الميدان كانوا ممن حملوا لواء فكرة جديدة أو مذهب حديث حاولوا نشره في الناس وفيهم حرارة الأيمان وحماسة الاقتناع بصلاحياته، وكان من الواجب أن يؤيدوا ولو إلى الحد الذي يمكنهم من إتمام رسالتهم وتأديتها على وجه يضمن في المستقبل سلامتها لتكون عدة من العدد التي يقوم من حولها جدل المستقبل. ولكن شيئاً من ذلك لم يعش في بيئتنا الأدبية على صورة يتخيل معها أشد الناس تفاؤلاً بأن لها أثراً ثابتاً في عقل الجماعات العلمية أو الأدبية في هذه البلاد أو في غيرها من بقاع الشرق.
فلا نكران إذاً في أن الأفراد قد قاموا بأوفر نصيب في تنشئة تلك الجرثومة التي تبعث في أدبنا شيئا من مجالي الحياة، ولا يطالب الأفراد مطالب بأكثر مما جهدوا له إلا ويكون إلى الظلم والتجني أقرب منه إلى الأنصاف والعدل.
غير أن أمامنا بعد الأفراد الذين عملوا على تكوين التصور الأدبي الجديد جهات أربع يجب أن نتوجه إليها بالكلام في ختام هذه الكلمة
فأن الأدب والعلم لم ينلهما حتى الآن نصيب من تقدير ظهراء لهم من الجاه والمال ما يكفل لأفراد ممتازين في المعرفة على اختلاف ألوانها إبراز أثارهم وتسجيلها في تاريخ العصر الذي يعيشون فيه ولقد كان لظهراء العلم والمعرفة في القرون الوسطى الأثر الأعظم في نقل العلوم إلى أوربا، كما كان لهم في العصر العباسي الأثر الأدنى في نقل العلوم والمعرفة إلى الشرق. وفي مصر ولله الحمد فئة من هؤلاء ولكنهم لا يفكرون في الأدب أو في العلم أو في حماية حرية الفكر إلا كما يفكرون في أتفه الأشياء التي تمر بهم في الحياة. وهؤلاء لا يستحقون من كل نصير للأدب أو حليف للعلم إلا أشد اللوم والتقريع. ولقد برهن هؤلاء على أنهم في هذا العصر، عصر النور والمعرفة، أقل إجلالاً للعلم وتقديراً للمعرفة والأدب والفن، من أمراء المماليك رحمهم الله، وقد أزدهر عهدهم بالأدب واستنار بالعلم، لأنهم كانوا ولا شك من أشد أمراء المسلمين رعاية لآثار العقل والفن أدبية كانت أو فنية. لقد كان أمراء المماليك ظهراء لرجال العلم نصراء لرجال الأدب وفي معتقدي أن ذلك أفخم وأروع ما خلفوا لإعقابهم من صالح الأعمال
بقي بعد ذلك جهات ثلاث: الأولى وزارة المعارف، والثانية الجامعة المصرية، والثالثة(208/35)
الأزهر الشريف، ولا أعلم لماذا لا يكون في كل من هذه الجهات مؤسسات علمية لترجمة ما يعنيها من المؤلفات قديمة وحديثة؟ اللهم إلا أننا لم ندرك بعد أننا في نهاية الأمم المتمدنة من حيث العلم والمعرفة والعناية بنقل العلوم والمذاهب الأدبية والفلسفية إلى لغتنا العربية المبينة
سيظل أدبنا وعلمنا ناقصين من نقل المظان والأمهات إلى العربية؛ فهل نحن فاعلون؟
إسماعيل مظهر(208/36)
على هامش رحلتي إلى الحجاز
ليلة في مكة
بقلم الدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست
تتمة ما نشر في العدد الماضي
ولا بد أن هذا الأمر كان مقصوداً من الله جلت قدرته وهي بعض صفاته العليا. فالعلماء الذين يتجردون من المادة ويصعدون بأفكارهم إلى أعلى عليين، والصوفيون الذين يحاولون التوحيد بين ذاتهم وذات الله وفنائهم فيها، والفلاسفة الذين ارصدوا أنفسهم في سبيل البحث عن الحق المطلق الذي لا يلمس وليس له زمان. ألم يكن هؤلاء جميعاً يحاولون الوصول من طرق مختلفة، إلى غرض واحد، هو الأشراف الباطني؟ تلك هي نعمة التجرد التي ترد الظلام كما يرده المشعل في الليل، وفي الوقت ذاته يعمي حامله إلا عن نفسه.
ولا يخفى أن النفس العربية نبتت في الصحراء القاحلة - أجل - لقد رأت ذلك النور المتألق في تلك الصحراء التي تحدها بحار من الرمال، ويعلوها أفق لا شائبة فيه حيث يستطيعون حتى في ضوء القمر أن يميزوا بين الظل والنور، بين الأسود والأبيض. ولكنهم قلما يدركون شيئاً من أسباب هذا التطور، ولا يعرفون ما تخفيه لهم الأقدار في رحلاتهم البعيدة وهم يجتازون مفاوز الصحراء، إنهم يستخفون بمظاهر هذا العالم الفاني لأنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً بحياة أطيب وأنقى من تلك التي يعيشونها الآن، وللدار الآخرة خير وأبقى.
لقد راعني جلال الحفلة، فرأيت الرجال يضطجعون على الأرائك المبعثرة في أركان الثوى يتمتعون بلذة التدخين في ظل المصابيح ذات الضوء الشاحب، وعلى الرغم من أن التدخين محرم في الأراضي السعودية فقد ألفيت بعضهم يدخن النارجيلة ويسبح مع دخانها في عالم الخيال.
وقابلني رب الدار بكل بشاشة وترحاب وكذلك بقية الضيوف، وكان السرور يطفح من وجوههم والبشر يتألق على محياهم، وكانت أول تحية سمعتها من صاحبي قوله:(208/37)
- على الرحب والسعة، الله سبحانه وتعالى يوليك برحمته ويمنحك بركته.
فأجبت: شكراً لك وللرفاق، وفي الحقيقة إنني مستأنس لوجودي بينكم، فلا حرمنا الله منكم.
ثم اتكأت على إحدى الأرائك ووضعت وسادة تحت ذراعي. وفي الحال أحضر صاحب الدار نارجيلة مزخرفة بالنقوش بيد أني اعتذرت عن التدخين لعدم تعودي عليه من قبل، وأنني أخشى أن يصيبني دوار منه، مع اعتقادي بأن في تدخين النارجيلة لذة وتنشيطاً للقريحة، وهو مظهر من مظاهر العز الشرقي البائد، حيث تظل رافعاً رأسك، محدقاً في غيرك وأنت ممسك بقبضة خرطوم النارجيلة.
في ذلك الثوى المثقل بدخان التبغ والذي كانت حرارته تكاد تصهر الوجه، رأيت لأول مرة منظر الجواري وهن يدخلن علينا بأكواب الشاي المعطر، وكانت إحداهن المسماة فريدة، عذراء في ريعان الصبا، وهي من جنوب بلاد العرب، صبوحة المحيا، بسامة الثغر، رشيقة في حركاتها، تخطو كخطو الغزال الوحشي. وكانت تحلي جيدها ومعصميها ببعض الحلي، وترتدي من الملابس أفخرها، وكانت عندما تصل إلى موضع الضيف تحني رأسها بابتسامة ثم تقدم إليه الشراب المثلج.
هذه الجارية كانت مملوكة لصاحب الدار الذي يسيطر عليها سيطرة تامة، فمن حقه مثلاً أن يبيعها أو يعتقها أو يهبها إلى غيره وعلى الرغم من أن الفتاة كانت تدرك ذلك فقلما كانت تأبه بهذه الأحمال الثقيلة، بل كانت تتنقل من مكان إلى مكان دون خوف أو وجل، كعصفور موضوع في قفص يحوي طيوراً جارحة. أما الرجال فأنهم يتسامرون في خلواتهم بأحاديث الهوى والعشق ويلتمسون في ذلك عزاء وسلوى. لآن المرأة في كل البلاد العربية لا يمكنها أن تشترك في الحفلات والمجتمعات، بل أنهن يكتفين بالنظر خلسة إلى الرجال أثناء سمرهم، وهن لا يعلمن شيئاً من مجريات الأمور الخارجية إلا ما يصل إلى سمعهن من الأحاديث التي تدور حول الموائد
ولقد أفضى إليَّ أحد الضيوف المسمى الغرابي بحادث زواجه للمرة الثانية وما لاقاه من زوجه الجديد من عنت وقسوة عندما أراد التبني بها، فالزواج في تلك الديار موكول إلى أهل الزوجة، وعليهم أن ينتخبوا بأنفسهم الزوج الصالح لأبنتهم، أما القبائل البدوية التي ترابط خارج مكة فهم لا يتزوجون إلا من عشيرتهم. وذكر صاحبي الغرابي، أنه بعد إتمام(208/38)
مراسيم حفلة العرس، تلك الحفلة التي يحتفل بها الرجال والنساء كل على حدة، يدلف العريس إلى مخدعه حيث تكون العروس في انتظاره، ومن البديهي أن ذلك السيد الذي فرضوه عليها، لم يقع نظرها عليه قبل الساعة.
يدخل صاحبنا المخدع الذي يكون مضاء بمسرجة باهتة اللون، وهناك يقع نظره على كومة منزوية في أحد الأركان وما تلك الكومة إلا عروسه ملفوفة بين الوسائد، ومشدودة بالحبال، وتشعر بدخول عريسها فتخرج رأسها من بين تلك الوسائد - كما يخرج القنفذ رأسه - فيتقدم إليها بلطف محاولاً أن يصافحها، ولكن عوضاً عن أن تمد يدها إليه، فأنها تلطمه على خديه بكل قواها، بحيث تبعده عنها. ثم يحاول أن يقترب منها للمرة الثانية فيكون نصيبه مثل ما أصابه في المرة الأولى
وربما أحدثت في يده جروحاً من أظافرها الطويلة - أما هو فيجد نفسه غير قادر على معاملتها بالمثل. وبفرض أنه حاول أن يضربها، فأنها لا تحس بتأثير تلك الضربات التي لا تقع إلا على الوسائد. وفي هذه الحالة ليس من وسيلة أمامه سوى أن يشرع في تمزيق هذه الوسائد، الواحدة بعد الأخرى.
وهو في خلال هذه الفترة معرض لكل ضروب اللكم والعض والخربشة. ولا يكاد يفرغ من هذه العملية الشاقة حتى يضنيه الإجهاد فتهدأ ثائرة العروس وتبدأ تسلم نفسها إليه).
وضحكنا ضحكا عالياً من هذا الحديث ثم أخذنا نتمتع باحتساء القهوة العربية وأكل شرائح البطيخ. وكانت هذه القصة الطريفة بداءة السمر لأنهم استحضروا بعد ذلك حاكياً كان مخبأً في إحدى الزوايا، وشرعوا يضعون عليه أقراصاً بها قصائد وأغاني تسودها مسحة من الحزن والكآبة. وأرتفع صوت بعض الضيوف بأغان من نوع الرومبا، وكان في ركن من أركان الثوى رجل يغني بواسطة عود يحمله، وكان هذا الرجل قد تعلم هذا النوع من الضرب الموسيقي المصحوب بالغناء في فترة إقامته بالديار المصرية ولما رآني مهتماً بالأغاني التي يذيعها اقترب مني وطلب إلي بإلحاح أن أندمج معهم في هذا اللهو البريء، فلبيت الطلب وتناولت العود فضممته إلى صدري، كما تضم المرضعة فطيمها، وسرعان ما تحركت أصابعي فوق الأوتار وانبعثت من حلقي أنشودة مجرية، من نوع تلك الأغاني التي تعلمتها في البراري فسر المدعوون من تلك النغمات التي لم تألفها آذانهم وأقبلوا(208/39)
يصافحونني بحرارة. وهنا دخلت الجواري حاملات في أيديهن الصواني الطافحة بأنواع شتى من المرطبات، ثم تقدمت إحداهن فتصدرت الثوى وبدأت تطربنا بصوت عربي جميل يسيل رقة وليونة على حين كنا نتلذذ بالشراب المثلج سكارى من رائحة التبغ ومسرات الغناء.
والواقع أن هذه الأغاني الشعرية الرائعة هي إحدى عوائد العرب القديمة التي ما برحت نافذة إلى عصرنا الحاضر دون تغيير ولا تبديل. فالعرب عن بكرة أبيهم ميالون بفطرتهم إلى الشعر، ففيه الحكمة التي تأخذ بمجامع اللب، وله تأثير خاص على الحواس والمشاعر. مع أنهم في أحاديثهم الخاصة يلجأ ون إلى استعمال اللغة الدارجة، وهي لهجة معقدة ليس في وسع كل إنسان أن يتفهمها بمجرد سماعها. وقد يتعذر على كثير من الناس أن يتذوقوا طلاوتها لأول وهلة، رغم أنها حافلة بالألفاظ العذبة والنكات السمحة، أما الشعر العربي فيدور كله حول الغزل، ويرجع الفضل في ازدهار حركة الشعر الغزلي إلى عمر بن أبي ربيعة الملقب (بدون جوان جزيرة العرب).
وكانت الفتاة قد انتهت من غنائها فنهضت وغادرت الثوى ثم تقدمت أخرى وأنشدت قصيدة غرامية تفيض بالعواطف الذاتية، وبعد ذلك خيم الصمت والسكون، ولم يعد يسمع غير أصوات تقلب المياه في جوف النارجيلة، وأصوات التنهدات والزفرات وهي تخرج قوية حارة من صدور الرجال وراعني هذا الصمت العميق الشامل، وأحسست أني تحت تأثير قوة مغناطيسية لا قوة لي على دفعها أو ردها، وراعني أيضاً أنها كانت حالة جميع الضيوف تقريباً، فلقد رأيت أنهم يتوجعون ويتأوهون، ولاحظت أن البعض منهم يئن من لوعة الفراق، ويتذكرون خليلاتهم، فاقتربت من أحدهم ويدعى الكتبي وسألته على الفور:
هل أنت مغرم يا صاحبي إلى هذا الحد؟ فأحنى رأسه ولم يحر جواباً لأول وهلة، ولاحظت أن وجهه احتقن بالدم ثم سمعته بعد لحظة يقول:
ولكن ليس في وسعي أن أملكها، فأنا كما ترى رجل فقير، وهي من عائلة مثرية. ما حيلتي وقد وقعت في شراك غرامها وأصبحت أسير هواها؟ لقد أصبحت أسير امرأة. . .
وكف عن الحديث فجأة، فطيبت خاطره وقلت له:
- ولكن المرأة التي تشير إليها ليست كسائر النساء(208/40)
فقال الرجل:
- انك تقول الحق وتنطق بالصواب ولكن انظر إلي فقد أصبحت في حالة يرثى لها، بعد أن وقعت في غرامها. ما حيلتي وقد رزقها الله قدٌّا نحيلاً وقامة هيفاء، وعينين نجلاوين كعيني الغزال؟ أنني أبتهل إلى الله ليل نهار أن يجعلها من نسائي ويرزقني منها الذرية الصالحة
وتأثرت تأثراً شديداً من حالة هذا العاشق المد نف وأردت أن أنتقل إلى صاحب آخر، وكان الليل قد أنسلخ منه نحو ثلثيه، فألفيت الضيوف يسبحون في عالم الخيال وعالم الحب، وكلهم يشكون تباريح الهوى ولوعة الهجر، ولاحظت أن البعض منهم يبكون نساءهم ويندبون حظوظهم، وهكذا كانت ترتعد فرائصي من هول الموقف وأنا أفر من صاحب إلى صاحب
والخلاصة التي أستطيع أن أقررها أن هذه العواطف النبيلة التي اكتسبها البدو إن هي إلا أثر من آثار الصحراء التي يرجع الفضل إليها في تهذيب نفوسهم، وفي تلقينهم أصول هذا الغزل الذي قلما نجده في سواهم من الشباب
وحينذاك أخذ ضوء المصابيح يخفت فدخلت إحدى الجواري الحسان إلى البهو تحمل مصابيح أخرى جديدة بعد أن سحبت المصابيح المستعملة من داخل الفوانيس.
وكان من حظي أن اقتربت الجارية من ناحيتي ولاحظت أن وسادتي سقطت على الأرض فالتقطتها من مكانها بمهارة وقدمتها إلي. هناك وقع نظري عليها وطالعت وجهها في ضوء المصباح اللامع، وراقني منها شعرها الأسود المتموج كخيوط الليل، وأسنانها اللؤلؤية وقامتها الهيفاء، كما أعجبت بحركاتها الرشيقة، فأدمنت النظر إليها وصرت أتبعها بخاطري وهي تتحرك كالطائر من غصن إلى غصن، ولاحظ مضيف اهتمامي بهذه الجارية فأقترب مني وقال:
- هل أزعجتك عائشة؟
فأجبته على الفور:
- أنها فتاة بديعة حقاً
ثم حاولت أن أغير مجرى الحديث، ولكنه أدرك حيلتي فقلت له: ماذا دهاك يا أخي؟ هل(208/41)
كنت سبباً في إيلامك؟
فأجاب: كلا! لا شيء مطلقاً، لقد اغتبطت حين سمعتك تطنب في جمال عائشة، لأنني شخصياً مفتون بها موله في حبها فقلت مبتسماً:
- ولكن مادام الله قد من عليك بها فانك في نظري رجل سعيد.
فتبرم وقال في ضجر: أنا سعيد؟ ومن أين لي هذه السعادة؟
فقلت له: أليست عائشة ملك يمينك؟
فقال: أجل أنها لي، ولكنها جارية، ابتعتها بعشرين ديناراً من سوق الرقيق، كانت إذ ذاك في العاشرة من عمرها وهي الآن في السادسة عشرة.
فنظرت إليه في دهشة، بيد أنه أحنى رأسه ثم صرح لي أنه يحبها من أعماق قلبه، فسألته للمرة الثانية: وما يمنعك عنها وهي جاريتك وملك يمينك؟
فأجاب: هذا صحيح، ولكن دون ذلك خرط القتاد، فالإنسان في هذا الوجود قد يبلغ قمة المجد وقد يصل إلى الشهرة وإلى المال ولكن هذه أمور ثانوية وليست لها أدنى قيمة إذا لم تؤدبنا إلى حب جارية مملوكة.
فهززت رأسي وأعدت نفس السؤال: ولكنها ملك يمينك؟
فقال: هذا صحيح، أن جسمها ملكي ولكن روحها ليست ملكاً لي، إنني لا أبغي منها ذلك الجسد ولا متعة الشهوة وحدها، بل أريد أن تبادلني حباً بحب وإخلاصاً بإخلاص.
وراحت الدموع تنحدر من عينيه وتسيل فوق خديه، ورمقته بنظرة فيها كل معاني الشفقة والرثاء لحالته، فهو والد وله أطفال وزوجتان أخشى عليهم جميعاً عاقبة هذا الحب الجديد.
وأعقب ذلك صمت طويل، تذكرت في خلاله مواقف الحب وسلطانها على النفوس، ثم رأيت أن أغادر الدار فودعت مضيفي وسرت اجتاز شوارع مكة الضيقة، حتى وصلت إلى الميدان العام وكانت تخترقه قافلة يحدو أصحابها بغناء شجي مطلعه:
من ذا (يلمني) إن بكيت صبابة ... الدمع دمعي والعيون عيوني
عبد الكريم جرمانوس(208/42)
موانع الابتكار في أدبنا الحديث
للأستاذ محمد يونس
إنه ليسعدنا حقاً أن يكون قريباً ذلك اليوم الذي نشعر فيه من جمهرة كتابنا أنهم أحلوا الابتكار محل المحاكاة وأبدعوا فيما يكتبون إبداعاً فيه غناء وإغناء للأدب العالمي العام
الدكتور منصور فهمي
مجلة مصرية
كان حديث الدكتور منصور فهمي في مجلة المصرية ذا شجون، فقد تناول فيه الأدب العربي الحديث والأدباء بالنقد اللاذع، وصورهم بصورة المقلد المفتون، وعراهم من أردية المجد التي اكتسوها بعد الكفاح الطويل.
وأنا وأن كنت إلى حدّ ما أؤيد الدكتور في أن أدبنا الحالي أدب تقليد ومحاكاة لا أدب ابتكار وإبداع، فأني أخالفه في تحديد أدب المحاكاة عندنا وفي قيمة هذا الأدب، ثم لا ألقي اللوم كله على الأدباء أنفسهم، لأن الدوافع إلى المحاكاة كما سيرى القارئ قريباً أقوى من أن يغلبها الكاتب اللبيب.
كان كلام الدكتور عن الأدب عاماً وشاملاً كل أنواعه، ولكن من الظلم ونحن نلصق طابع التقليد على أدبنا الحديث أن نغفل طائفة خاصة من الكتاب برعت في الابتكار وأعني بها كتاب المقالة. فالمقالة خطت في الأدب العربي الحديث خطوات واسعة وأصبحت تتحدث في موضوعاتها الخاصة وأهدافها القريبة حديثاً وصل حد الابتداع عند كثير من الكتاب وها هي ذي المقالة العربية في مصر لا تقل عنها في البلدان الغربية إن هذه المقالات التي تقدمها إليك الصحف والمجلات تحركك معها إلى حيث تريد من حيث لا تريده أنت، وتفهمك مطالبها بكل وضوح، هي فخر الأدب الحديث. وكثيرون لدينا برعوا في حيل الإقناع وفي مفاجأة القارئ واللعب به وبكل ما يجعل للمقالة العربية مجدها وشخصيتها. إلى هنا يقف أدباؤنا عن الابتكار، وما بقي من أنواع الأدب العربي أكثره خلو من الابتكار، ولكن خلوه من الابتكار لا يعني فقره في الإجادة ودقة الإنتاج، فأدب المحاكاة أدب قائم بذاته له قيمته وفائدته، وله - وهذا ما نريد الإشارة إليه في هذا المقال - أو انه، ولابد للأدب(208/43)
كما للمجتمعات البشرية من المرور في أدوار تاريخية مختلفة يتبع فيها سنة التطور ومنطق التدرج وهو قانون ثابت لا تفيد معه ثورة الأديب، ولا ألقاب الابتكار والتجديد التي تمنح له بغير حساب
وهذا الدور في الأدب العربي، دور محاكاة ونقل تتجه فيه العبقرية راضية أو غير راضية إلى النقل عن أدب الغرب أو إحياء ما اندرس من أدب العرب، وهو تيار جارف لا يقف أمامه كاتب مهما كبر، ولذلك فشلت محاولات الابتكار عند كبار أدبائنا. هذه محاولات شتى قام بها كثيرون منهم في السنوات الأخيرة وأرادوا أن يظهروا بها الابتكار والإبداع. ليقرأها القارئ جيداً وليحكم عليها من غير مداجاة، ألا يرى عليها الهزال والشحوب؟ فيدرك أن هذه الجهود المبتورة لا تناسب اسم أولئك الكتاب ومالهم من مجد عظيم نالوه عن طريق النقل.
وما يقال عن النثر يقال عن الشعر أيضاً. ولقد أدرك شوقي - رحمه الله - في أواخر أيامه أن خير ما يختم به إنتاجه قصص شعرية، عجز عن أن يستمدها من المحيط الذي يعيش فيه فرجع إلى كليوباترة في التاريخ المصري ومجنون ليلى في التاريخ العربي، وكأن الحياة الدارجة ما استطاعت أن تلهم الشاعر الموهوب موضوعاً لرواية قوية تقترن بحياة هذا الجيل
ولا عيب على هؤلاء الأدباء أن ينجحوا في دور الناقل ويخفقوا في دور المبتكر، ولا ينقص من قيمة جهدهم أن يبرز في النقل وحده، فالأدب المنقول يؤدي واجباً كبيراً في خدمة الأمة العربية ويشغل حلقة لابد منها للوصول بين الماضي والمستقبل، هي قسمة لابد منها وتوزيع لنوع الإنتاج بين أدباء المستقبل وأدباء اليوم الذين كان من حظهم أن يأتوا في في هذا العهد، عهد النقل فلا يسطع نجمهم إلا فيه ولا يذهب تقيدهم به سناء عبقريتهم
وهنا من حق القارئ أن يسألني: لماذا يعجز أدباؤنا عن الابتكار؟ أهو كسل منهم كما يقول الأستاذ المازني وفيهم النشاط الجم. أم فقر في المواهب، وفيهم العبقري الموهوب أم فقر في المحيط وهو عامر بشتى الصور والمفاجآت؟
وقد ثار مثل هذا التساؤل من حين قصير بين أدباء الإنكليز وتناول ناقدان كبيران البحث عن أسباب جمود الأدب الإنكليزي الحديث (ولا سيما في ناحية القصة التي تجتاح أكثر(208/44)
ميادين الأدب الغربي) وتأخره عن الأدب الأمريكي الذي أصبح يخطو خطوات واسعة وينتج آثاراً مدهشة.
قال أولهم: أن الابتكار - وليد ما أسماه شعوراً بالاستغراب يأخذ على الكاتب أنفاسه ويدفعه في مجالي الإبداع، ومتى عجز المحيط عن إثارة مثل هذا الشعور في الكاتب إما لكثرة الصور السابقة المرسومة عنه أو لفقره خلا جو الأدب من المبتكرين
وقال الثاني: إن الأديب يبتكر يوم يثق بمحيطه ويؤمن به، ويعجز عن الابتكار إذا فقد هذه الثقة فلا يثير فيه العناية بدرسه وتصويره بلونه الخاص
وإني أرى أن المانع من الابتكار في الأدب العربي، مزيج من السببين.
ولقد يبدو غريباً لأول وهلة أن تكون الحالة واحدة في المحيط الإنكليزي الذي كثرت الصور عنه وفي المحيط العربي الحديث الذي لم ترسم له صورة صحيحة باهرة إلى الآن، ولكن هذا نتيجة فقدان الشعور بالاستغراب، أما في الأول فأحسب القارئ قد فهم سببه وهو كثرة الصور الباهرة التي رسمها لهذا المحيط أكابر الكتاب فلم نترك مجالاً للمزيد؛ وأما في الثاني فلأن هذا المحيط لا يمكن أن يثير الكاتب إلى الاهتمام به ما دام فكره مشدوهاً بأنوار أخرى بديعة تأتيه من بعبد.
أرجو أن يتصور القارئ نفسه مكان الأدب العربي اليوم: فهو إذا كان مجدداً لا يزال مسحوراً بصور الأدب الغربي العامرة وما فيها من عبقرية ونبوغ؛ وإذا كان من دعاة القديم فلا يزال مفتوناً بالصنعة الباهرة وقوة الاندفاع والحيوية التي يشهدها عند الجاحظ أو المتنبي مثلاً. أن هذه الصور تأخذ بلبه فتشغله عن المحيط الذي هو فيه وهو لا يزال محدقاً بها غير ملتفت إلى ما حوله ما دامت أضواؤها الخلابة تبهر عينه، وأني لأشعر أن هذا الكاتب المنصف لنفسه ولقارئه إذا حاول رسم صورة لشخص من الذين حوله يقعده عن المحاولة ما يراه من تصوير باهر لأساتذة كبار كموباسان ودكنز، فيقول في نفسه: خيراً أن أنقل هذه الصورة الغريبة للناس من أن أقحمهم على مجازفاتي في التصوير، ويقعد عن الابتكار.
ومثله هنا مثل العاقل لا يشعل سراجه ما دامت الشمس طالعة، فهو يكتفي بفتح باب النافذة فتضيء أشعتها المكان وليس في هذا عيب على كهرباء البيت ولا انتقاص لمخترعها(208/45)
العظيم.
ولن يشعل صاحبنا العاقل كهرباءه إلا ساعة تغيب الشمس وهي هنا في الأدب الساعة التي تذهب فيها دهشة الأديب من منتجات الأدب الغربي أو العربي القديم.
وهنا يدخل السبب الأخر الذي ذهب إليه الناقد الإنكليزي الثاني، فأن انبهار الأديب العربي بصور الأدب الغربي أو العربي القديم يبهت أمامه صور محيطه ويضعف ثقته فيه، فلا يزال هذا المحيط متردداً بين الغرب والشرق وبين الجديد والقديم وبين التقليد والرجعية وقد فقد شخصيته المستقلة القديمة التي تثير الكاتب إلى التغني بأمجادها، ولم يكتسب الشخصية الجديدة التي تثيره إلى الإشادة بقوتها، ولذلك كان طبيعياً أن يذهب الكتاب والشعراء إلى المحيطين البعيدين، الغربي والعربي القديم، لأن شخصيتهما أقوى وأتم.
وأظن القارئ أدرك الآن لماذا اندفع شعراء العصر الأول من الإسلام في الابتكار في الشعر لأن المحيط الجديد الذي خرج إليه العرب من الجزيرة كان عامراً مدهشاً وهكذا ذهب أبو نواس المشدوه بالمحيط الجديد يفاخر به ويتهكم على شعراء الجاهلية، أما ابن المعتز الذي ألف حياة النعيم الجديد إلى حد ما، فكانت أحسن نفحاته هي التي يستمد وحيها من الصحراء ومعانيها التي أصبحت غريبة عنه تثير استغرابه أكثر مما حوله، وأن كانت نضارة هذا المحيط الباقية حافزة له على عدم التخلي عنه تماماً كما صنع الذين جاءوا من بعده ممن ذبلت أمامهم زهرة المحيط الجديد وعاشوا في العهد المتأخر فرجعوا إلى تراث الجاهلية يقلدونه تقليداً فاضحاً لأن هذا الشعر الجاهلي أقوى شخصية وأسطع نوراً من أي شعر جاء بعده
ونعود إلى أدبائنا اليوم، فهم مهما غالوا في المكابرة لا يستطيعون إنكار زهدهم واستخفافهم بهذا المحيط الباهت الألوان الفقير إلى الأمجاد الباهرة، ولذلك فهم لن يبتكروا إلا يوم يؤمنون به، ولا يؤمنون به إلا متى ذهب أثر الدهشة التي يحدثها الأدب الغربي الجديد أو العربي القديم في أذهانهم، على أن ترافق هذا زيادة في سطوع المحيط.
هذه هي موانع الابتكار وهي قوية لا يستطيع الكاتب مهما كانت عبقريته التخلص منها
خير لأدباء هذا الجيل أن يكتفوا بأدب النقل ويجودوا فيه ويهيئوا المجال للجيل القادم فأن مجدهم لن يقوم إلا على النقل وهو مجد له خلوده.(208/46)
(نزيل القاهرة)
محمد يونس(208/47)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
102 - فيه غيره. . .
ابن الشبل البغدادي:
وكأنما الإنسان فيه غيره ... متكوناً والحسن فيه معار
متصرف وله القضاء مصرف ... ومكلف وكأنه مختار
طوراً تصوّبه الحظوظ وتارة ... خطأ تحيل صوابه الأقدار
تعمى بصيرته ويبصر بعد ما ... لا يسترد الفائت استبصار
فتراه يؤخذ قلبه من صدره ... ويزد فيه وقد جرى المقدار
فيظل يضرب بالملامة نفسه ... ندماً إذا لعبت به الأفكار
لا يعرف الإفراط في إيراده ... حتى يبينه له الأصدار
103 - لم تبلغ قدريتي هذا كله
حدث المبرد: قال رجل لثمامة (القدري المعتزلي):
أنت إن شئت قضى فلان حاجتي
فقال ثمامة: أنا قدري، ولم تبلغ قدريتي هذا كله؛ إنما قلتُ: (أن شئتُ فعلتُ) ولم أقل: إن شئتُ فعل فلان
104 - جد الأدب جد وهزله هزل
قال خالد بن يزيد الكاتب: لما بويع إبراهيم بن المهدي طلبني، وقد كان يعرفني وكنت متصلاً ببعض أسبابه.
فقال: يا خالد، أنشدني من شعرك
فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس شعري من الشعر الذي قال فيه رسول الله: (إن من الشعر حُكما) وإنما أمزح وأهزل، وليس مما ينشده أمير المؤمنين
فقال لي: لا تقل هذا يا خالد، فأن جد الأدب جد، وهزله هزل، أنشدني، فأنشدته:
عش فحبيبك سريعاً قاتلي ... والضنى - إن لم تصلني - واصلي(208/48)
ظفر الشوق بقلب كمد ... فيك، والسقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئاب وبلى ... تركاني كالقضيب الذابل
وبكى العاذل لي من رحمة ... فبكائي لبكاء العاذل
فاستملح ذلك، ووصلني
105 - ندمان الفتى قبل كأسه
العطوي (أبو عبد الرحمن):
يقولون قبل الدار جار موافق ... وقبل طريق المرء أنس رفيق
فقلت:
وندمان الفتى قبل كأسه ... فما حث سير الكأس مثل صديق
106 - الملحية
قال ابن أبي الحديد: وجدت بخط أبي محمد عبد الله بن أحمد الخشاب في تعاليق مسودة أبياتا للعطوي وهي:
قد رأينا الغزال والغصن والنجمين ... شمس الضحى وبدر الظلام
فوحق البيان يعضده البرهان ... في مأقط ألد الخصام
ما رأينا سوى الملحية شيئا ... جمع الحسن كله في نظام
فهي تجري مجرى الاصالة في الرأي ... ومجرى الأرواح في الأجسام
وقد كتب أبن الخشاب تحت الملحية: ما اصدقه إن أراد بالملحية الحكمة!
107 - شهود ثقات
أنشد رجل الأمام إبراهيم الحربي قول الشاعر:
أنكرت ذلي فأي شيء ... أحسن من ذلة المحب
أليس شوقي، وفيض دمعي ... وضعف جسمي، شهود حبي
فقال إبراهيم: هؤلاء شهود ثقات. . .
108 - هذا من خاطر الجن
قال الصولي: حدثني علي بن عيسى قال: كان البحتري معي جالسا، فسلم على ابن لعيسى(208/49)
بن المنصور، فقال لي: ومن هذا
قلت: هذا ابن عيسى بن المنصور الذي يقول أبن الرومي في أبيه:
يقتر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد
فقال لي: أف، وتف! هذا من خاطر الجن لا من خاطر الإنس ووثب ومضى
109 - وإذا غاب فبالثاني
(في محاضرات الأدباء) للراغب:
قال خالد بن صفوان لجاريته: أطعمينا جبناً فأنه يشهي الطعام ويدبغ المعدة، ويهيج الشهوة، فقالت: ما عندنا
فقال: ما عليك، فأنه يقدح في الأسنان، ويلين البطن وهو من طعام أهل الذمة.
فقال بعض أصحابه: بأي القولين نأخذ؟
فقال: إذا حضر فبالأول، وإذا غاب فبالثاني
110 - استعدت التاريخ
قال الفقيه المقري: أنشدت يوماً الابلي قول أبن الرومي:
أفنى وأعمى ذا الطبيبُ بطبه ... وبكحله الأموات والأحياء
فإذا مررت رأيت من عميانه ... أمما على أمواته قدَّاء
فاستعادني حتى عجبت منه مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر وانفعاله، وظننت أنه أعجب بما تضنه البيت الأول من غريب اللف والنشر والمكرر الذي لا أعرف له ثانياً فيه، فقال: أظننت أني استحسنت الشعر؟
فقلت: مثلك يستحسن هذا الشعر
فقال: تعرفت منه أن العميان كانوا في ذلك الزمان يقرءون على المقابر فأني كنت أرى ذلك حديث العهد فاستفدت التاريخ
111 - . . . حتى أتى الله بالفرج
في (العقد): قال عبد الله بن مسلم بن جندب:(208/50)
تعالوا أعينوني على الليل إنه ... على كل عين لا تنام، طويل
قال عبد الله: فطرقني عيسى بن طلحة فقال لي: سمعت قولك فجئت أعينك
فقلت: يرحمك الله، أغفلت الإجابة حتى أتى الله بالفرج
112 - وآباؤنا أفعال غيرنا
أتى ضرار المتكلم بمجوسي ليكلمه فقال: أبو من أنت؟
فقال: نحن أجل من أن ننسب إلى أبنائنا إنما ننسب إلى آبائنا
فورد على ضرار ما لم يكن في حسابه، فأطرق ساعة ثم قال: أبناؤنا أفعالنا وآباؤنا أفعال غيرنا
113 - ليته جور مشاع
عبدان الأصبهاني:
تكلفني التصبر والتسلي ... وهل يسطاع إلا المستطاع؟
وقالوا قسمة نزلت بعدل ... فقلنا ليته جور مشاع!!
114 - وأما غيرهن فما نلتمس صبوتهن
قال المبرد: حدثني الزيادي قال: قيل لأعرابي: ألا تخضب بالوسمة؟
فقال: لم ذاك؟
قال: لتصبو إليك النساء
فقال: أما نساؤنا فما يرون بنا بديلا، وأما غيرهن فما نلتمس صبوتهن
115 - كيف يصوغ الموسيقي الألحان
قال الرشيد لإبراهيم المَوْصلي: كيف تصوغ الألحان؟
فقال: يا أمير المؤمنين أخرج الهم من قلبي وأمثَل الطرب بين عيني، فتنزع إليّ مسالك الألحان فأسالكها بدليل من الإيقاع فلا أرجع خائباً
فقال له الرشيد: يحق لك (يا إبراهيم) أن تدرك ما طلبت
116 - أن الحديث مع الغناء حرام(208/51)
أحمد بن علَّويَه الكرماني:
حُكْمُ الغناء تسمّع ومدام ... ما للغناء مع الحديث نظام
لو أنني قاض قضيت قضيّة ... أن الحديث مع الغناء حرام
117 - أعطني فروتي
في الشرح الكبير للشريشي، قال بعضهم: كنت في متنزه لي وإذا شيخ معه صبي في يوم بارد فكنت أسمع الصبي يقول للشيخ: أعطني فروتي، فيناوله شيئا لا أتبينه. فبعثت غلامي ينظر إليه فإذا عند الشيخ قنينة، كلما طلب الصبي فروته سقاه قدحاً.(208/52)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 10 -
الفلسفة الهندية
البراهمية الأولى أو الأورثوذوكسية
تشبه آلهة البراهمية الأولى بوجه عام آلهة الإغريق، إذ لا يخفى على الباحث - إذا أغضى عن الموازنة الدقيقة - ما يلفت النظر من المشابهة الواضحة بين آلهة (الفيدا) وآلهة (الإلياذة) و (الأودسا) تلك المشابهة التي لا تجعل مجالا للشك في أن آلهة الكتابين من أسرة واحة يتفقون جميعاً في البساطة والطفولة وسرعة الغضب وسهولة العودة إلى الرضى وفي الخلو من الحقد وسوء النية والأنانية والوحشية المتأصلة في آلهة الآشوريون أو البابليين مثلاً، وهم يتفقون كذلك في القرب من صف الإنسانية كاستعانتهم ببني البشر مثلا في الوصول إلى غاياتهم ثم مكافأتهم إياهم بحمايتهم لهم وعطفهم عليهم.
ومما يلفت النظر في هذه المشابهة هو بساطة اختصاص آلهة (الفيدا) كآلهة (الالياذة) و (الأودسا) وخلوها من التعقيد الذي كان فيما بعد من مميزات الديانة (الأندويسمية) التي ظهرت بعد الفيدا بعدة قرون وكانت مزيجاً من الديانتين:
(الفيدية) والهندية المحلية القديمة، ف (أندرا) مثلاً هو كبير الآلهة وهو إله السماء والمناخ، و (رودرا) و (أجني) هما صاحباه وساعداه على تصريف شؤون الكون. و (جاما) إله الموت و (أوسهاس) إلهة الفجر. وهكذا كل إله له اختصاص محدد ودائرة محصورة.
بدء الخلق
تستقي (البراهمية) الأولى عقيدة بدء الخلق من أسطورتين قديمتين فأما أولهما، فهي أن الإله (براجاباتي) هو في نفس الوقت خالق ومخلوق، لأنه كان في أول الأمر واحداً فأشتاق(208/53)
إلى التكثر وتمناه، فلم يكن من بقية الآلهة إلا أن أجابوه إلى سؤله، فضحوه وقطعوه إرباً ونثروا أجزائه في جميع البقاع، لتحقيق هذا التوحد المنشود من جميع الأجزاء، وهذا الشوق هو سر التجاذب الخفي الموجود في جميع عناصر الكون، وأنجع الوسائل لتحقيق هذه الغاية هي الضحايا التي يقوم بها بنو البشر.
على أن الوصول النهائي إلى هذه الغاية لا يتحقق تماماً، لأن ما يجتمع من هذا الإله بوساطة الجاذبية الطبيعية من جهة وبالضحايا المقدمة من بني الإنسان من جهة أخرى لا يلبث أن يعود إلى التفكك بعملية خلق جديد يتولاها هذا الإله بنفسه من نفسه رغبة في إنشاء كون وتكثير وحداته. وستظل هذه الدورة مستمرة كالحلقة المفرغة التي لا يمتاز مبدؤها عن منتهاها إلى ما شاء الله أن يكون، ولكن القرابين والضحايا هي أهم أسباب هذا التجاذب الذي بقع بين العناصر المتناثرة فيجمع شتاتها، إذ هي العامل الأوحد الذي يصل بين الإله والأناسي من جهة وبين الأفراد بعضهم مع بعض من جهة أخرى، وأكثر من هذا أنها هي التي تعيد للإله قوته بعد تفككها بسبب تناثر أجزائه.
هذه هي الأسطورة الأولى في عقيدة بدء الخلق، أما الثانية فهي أن الإله (براجاباتي) أحس يوماً بشغف مادي شديد نحو ابنة (أوسهاس) إلهة الفجر الجميلة فأبدى لها هذه الرغبة فارتاعت منها ارتياعاً شديداً وفرت من وجهه مذعورة، فتعقبها وأخذ يرقب حركاتها، فكلما تشكلت بأنثى كائن من الكائنات تشكل هو بصورة ذكر هذا الكائن، وظل على هذه الحال حتى استولى عليها ونال منها بغيته، فحملت لساعتها بأول أفراد هذا العالم الموجود.
وحدة الوجود
كان من نتائج الأسطورة الأولى أن سرت في تلك البلاد فكرة وجود ساذجة لم تلبث أن تحولت إلى وحدة الوجود الفلسفية، تلك الوحدة التي أخذت تقوى مع الزمن حتى عم الاعتقاد بها بلاد الهند كافة. وها هو البيروني يحدثنا عن وحدة الوجود في الديانة الهندية بعد تاريخ (الفيدا) ببضعة وعشرين قرناً فيقول: (قال (باسديو) في كتاب (بكيتا): أما عند التحقق فجميع الأشياء إلهية لأن (بشن) جعل نفسه أرضاً ليستقر الحيوان عليها، وجعله ماء ليغذيهم، وجعله ناراً وريحاً لينميهم وينشئهم، وجعله قلباً لكل واحد منهم، ومنح الذكر والعلم وضديهما على ما هو مذكور في بيذ).(208/54)
اختلاف الطبقات
كانت طبقات الشعب الهندي في عهد البراهمية الأولى أربعاً، أولاها البراهمية وهم الكهنة ثانيتها (كساتريا) ويسميها البيرتي (كشتر) وهي طبقة الجند، ثالثتها طبقة الفيسيا يسمها البيروني (بيسن) وهي طبقة العمال وأصحاب المهن والزراع، رابعتها سودرا ويسميها البيروني (سودر) وهي طبقة الأرقاء، ومما جاء في كتاب البيروني عن هذه الطبقات قوله: (وهذه الطبقات في أول الأمر أربع، علياها البراهمة قد ذكروا في كتابهم أن حلقتهم من رأس براها وأن الاسم كناية عن القوة المسماة طبيعية، والرأس علاوة الحيوان فالبراهمة نقاوة الجنس، ولذلك صاروا عندهم خيرة الأنس، والطبقة التي تتلوهم (كشتر) خلقوا بزعمهم من مناكب براهم ويديه، ورتبتهم عن البراهمة غير متباعدة جداً، ودونهم (ييش) ثم (شودر) خلقوا من رجلي براهم. وهاتان المرتبتان الأخيرتان متقاربتان)
كتابهم الأول المقدس - الفيدا
ليست (الفيدا) كتاباً هندياً أصلياً وإنما هي كتاب (أندروآرى) حمل الفاتحون عناصره معهم إلى وادي (البنجاب) المفتوح حيث فرضوا تعاليمه على الوطنيين فرضاً. وإذاً فهو لا يمثل العقلية الهندية ولا يصور المدنية القديمة التي كانت زاهرة في تلك البلاد قبل وجوده فيها بأكثر من خمسة عشر قرناً كما أسلفنا، بل بالعكس كثيراً ما يجد فيه القارئ صورا عقلية واجتماعية هي على طرفي نقيض مع الصور التي اكتشفها الأثريون حديثاً للهند المحلية الغابرة، وفوق ذلك هو مكتوب باللغة (السانسكريتية) التي لم تكن معروفة عند الهنود الأصليين من غير شك والتي هي لغة الآريين وحدهم.
غير أن هذا الكتاب لا يزال هو أقدم المستندات العلمية المعتمدة في تاريخ الديانة الهندية، وسيظل كذلك - رغم يقيننا بأجنبيته - حتى يكشف علماء العاديات ما يحل محله في هذه الأولوية من الكتب المقدسة القديمة.
ولا يعرف المؤرخون بالضبط متى جمعت (الفيدا) وإنما كل الذي ثبت لديهم هو أن بعض أناشيدها يرجع إلى القرن الخامس عشر قبل المسيح، وأن صيرورة هذا الكتاب إلى ما هو عليه الآن قد استغرقت عدة قرون، ويرجح بعض العلماء أنه قد جمع في القرن الثاني عشر(208/55)
قبل المسيح، وأن تياره القوي لم يستطع أن يجرف العقيدة القديمة من نفوس جميع أبناء الشعب الهندي، وإنما قد صبغ تلك العقيدة بلونه الجديد كما أسلفنا، ولم يقو على محوها إلا من نفوس الخاصة المثقفة أما الجماهير فقد ظلت العقيدة القديمة محتفظة بمكانتها في نفوسهم احتفاظاً كان في أول الأمر صامتاً أما قوة الديانة الأجنبية المنتصرة، ولكنه أخذ بعد ذلك يقوى وينتعش شيئاً فشيئاً حتى برز منه الشيء الكثير على مسرح الوجود.
لكلمة (الفيدا) عدة معان، أدقها: (العلم عن طريق الدين بكل ما هو مجهول). وينجم عن هذا التعريف أن تكون (الفيدا) منبع جميع المعارف الهندية من: ديانات وأخلاقيات ونظريات علمية أو اجتماعية، وهي تحتوي أوراداً تعبدية وأناشيد دينية، وتعاويذ سحرية نزل بها الوحي من عند الله على قلب (براهما) فتلاها على الناس فاستظهروها وأخذوا يتعبدون بتلاوتها دون أن يكتنهوا أسرارها. وهي مؤلفة من أربع مجموعات تختلف كل واحدة منها عن الأخرى باختلاف الموضوع الذي تعالجه، فالأولى تسمى (رك بيذ) - (رك فيدا) وهي تحتوي على الأوراد، والثانية تسمى: (سام بيذ) - (سامان فيدا) وتحتوي على الأناشيد. والثالثة (جزر بيذ) - (ياجوس فيدا) وتحتوي على طقوس الضحايا والقرابين. والرابعة (أثارفين - بيذ) - (أتهارفان فيدا) وتحتوي على التعاويذ السحرية.
هذا، واليك ما كتبه أبو الريحان البيروني عن هذا الكتاب: (بيذ) تفسيره العلم بما ليس بمعلوم، وهو كلام نسبوه إلى الله تعالى من فم (براهم) ويتلوه (البراهمة) تلاوة من غير أن يفهموا تفسيره، ويتعلمونه كذلك فيما بينهم يأخذه بعضهم من بعض، ثم لا يتعلم تفسيره إلا قليل منهم. وأقل من ذلك من يتصرف في معانيه وتأويلاته على وجه النظر والجدل ويعلمونه (كشتر) فيتعلمه من غير أن يطلق له تعليمه ولو لبرهمن، ثم لا يحل لبيش ولا لشودر أن يسمعاه فضلاً عن أن يتلفظا به ويقرآه، وإن صح ذلك على إحداهما دفعته البراهمة إلى الوالي فعاقبه بقطع اللسان. ويتضمن (بيذ) الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب بالتحديد والتعيين بالثواب والعقاب، ومعظمه على التسابيح وقرابين النار بأنواعها التي لا تكاد تحصى كثرة وعسرة، ولا يجوزون كتابته، لأنه مقروء بألحان، فيتحرجون عن عجز القلم وإيقاعه زيادة ونقصاناً في المكتوب. ولهذا فاتهم مراراً ويروي لنا البيروني كذلك أن أكثر البراهمة يدعون أن (الفيدا) معجزة لا يستطيع أحد مهما أوتي(208/56)
من ذكاء الجنان وقوة البيان أن يأتي بمثله، أما أقلهم فيزعمون أن بلغاءهم قادرون على الإتيان بمثله ولكنهم ممنوعون عن ذلك احتراماً له)
ولعلك - إن كنت ممن لهم إلمام بالمذاهب الإسلامية - تذكر أن هذه المسألة بالذات قد أثيرت بين علماء المسلمين، وأن هذا الخلاف عينه موجود بينهم على الصورة التي وجد عليها بين البراهمة، فذهبت الأكثرية الساحقة من علماء المسلمين إلى أنه ليس في طاقة البشر الإتيان بمثل أصغر سورة من القرآن مهما أوتوا من الفصاحة والبلاغة، وذهبت أقلية من هؤلاء العلماء إلى أن الفصحاء ممنوعون قسر إرادتهم عن هذه المحاكاة بحيث أنه لو فرض وجود كتاب آخر يستوي مع القرآن في البلاغة ويصعد إلى طبقته في الفصاحة والإتقان لأمكن للفصحاء تقليده. وإذاً فالعجز عن الإتيان بمثل القرآن في رأي هذا الفريق ليس أصلياً في عقول الفصحاء، وإنما هو عارض دعا إليه إجلال القرآن. ونحن نرجح أن عناصر الخلاف في هذه المسألة بين علماء المسلمين إنما هي دخيلة جاءتهم من الديانة الهندية، ونرجح كذلك أنهم لو لم يتأثروا بهذا الخلاف الهندي لضلوا جميعاً على رأي واحد في هذه المسألة ولأجمعوا على أن القرآن لا يقصد به بقوله: (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) إلا إعلان العجز الطبيعي الأصيل، وإلا لما صح التحدي، لأنه لا معنى لأن تتحدى شخصاً ثم تدعه على حريته، بل تحاول صرفه عما تحديته فيه وإذا، فلو دقق هذا الفريق النظر في الآية الكريمة لما ذهب إلى ما ذهب إليه.
هذا، ولا يفوتنا قبل مغادرة هذه النقطة أن نعلن أن هذه المغالاة من جانب البراهمة في تقديس كتاب الفيدا هي التي حالت بينه وبين التبديل والعبث اللذين وقعا في كتاب البوذية كما سنشير إلى ذلك في حينه.
(يتبع)
غلاب(208/57)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الانتصار على الذات
ليست إرادة الحق في عرفكم، أيها الحكماء، إلا تلك القوة التي تحفزكم وتضطرم فيكم، تلك هي إرادتكم التي أسميها أنا (إرادة تصور الوجود) فأنكم تطمحون إلى جعل كل موجود خاضعاً لتصوركم، وأنتم تحاذرون بحق أن يكون هذا الوجود قد أحاط به التصور من قبل فتريدون أن تخضعوا لإرادتكم كل كائن لتتحكموا فيه بالصقل ليصبح مرآة تنعكس عليها صورة العقل.
هذا ما تطمحون إليه، يا أحكم الحكماء، وتلك هي إرادتكم تجاه القوة والخير والشر وتقدير قيم الأشياء.
إنكم تريدون خلق عالم يمكن لكم أن تجثوا أمامه، تلك هي نهاية نشوتكم وآخر أمنية لكم. ولكن البسطاء الذين يدعون شعباً يشبهون نهراً تخوضه أبداً ماخرة تقل الشرائع، وقد جلسن عليها بعظمة وأنزلن على وجوههن الحجاب.
لقد أرسلتم إرادتكم وشرعتكم على نهر الزمان، ولكن إرادة القوة مثلت أمامي وكشفت لي حقيقة الخير والشر في اعتقاد الشعوب.
وهل سواكم، أيها الحكماء، من أنزل بإرادته المتسلطة هذه الشرائع في هذه الماخرة وقد حليتموهن بالجواهر وأسبغتم عليهن أروع الأسماء.
لقد سار النهر يحملن بانسيابه وسهم الماخرة يشق أمواجه ومن يبالي بالموجة تقاوم عبثاً في إرغائها وإزبادها.
إن الخطر الذي يتهدد خيركم وشركم لا يكمن في النهر، أيها الحكماء، بل الخطر في إرادة القوة نفسها لأنها الإرادة الحية الدائمة المبدعة.
أن ما سأقوله عن الحياة سيوضح لكم اعتقادي في الخير والشر عندما أتناول ببياني ما تفعل العادات في الأحياء.(208/58)
لقد سايرت الكائن الحي على معابره وأشواطه لأتعرف إلى عاداته، وعندما كانت الحياة صامتة نصبت أمامها مرآة بألف ضلع لأستنطق عينيها فكلمتي لحاظها.
في كل مكان عثرت فيه على حي، طرقت أذني كلمات الطاعة فما من حي يتعالى عن الخضوع، وعرفت أيضاً أن ليس من محكوم في الحياة سوى من لا قبل له بإطاعة نفسه. . . تلك هي عادة كل حي. .
وهذا ما سمعت أخيراً: إن تولي الحكم أصعب من الطاعة لأن الآمر يحمل أثقال جميع الخاضعين له وكثيراً ما ترهق هذه الأثقال كواهل الآمرين.
إن في أمر خطراً ومجاذفة، وكل مرة يصدر الحي فيها أمراً يقتحم خطراً.
وإذا ما تحكم الحي في ذاته فأنه يؤدي جزية لسلطانه إذ يصبح قاضياً ومنفذاً وضحية للشرائع التي يستنها.
وتساءلت عن علة هذه الأمور وعن القوة التي ترغم الحي على الانقياد والتحكم فتجعله خاضعاً حتى إذا حكم. ولعلي توصلت إلى سبر قلب الحياة إلى الصميم، فأصغوا إلى قولي أيها الحكماء
لقد تيقنت وجود إرادة القوة في كل حي ورأيت الخاضعين أنفسهم يطمحون إلى السيادة لأن في إرادة الخاضع مبدأ سيادة القوي على الضعيف، فإرادة الخاضع تطمح إلى السيادة أيضاً لتتحكم فيمن هو أضعف وتلك اللذة الوحيدة الباقية لها فلا تتخلى عنا.
وبما أن الأضعف يستسلم للأقوى والأقوى يتمتع بسيادته على هذا الأضعف فإن الأقوى يعرض نفسه للخطر في سبيل قوته فهو يجاذف بحياته مستهدفاً للأخطار.
أن إرادة القوة كامنة حتى في مجال التضحية والخدمة المتبادلة وبين نظرات العاشقين لذلك يتجه الأضعف إلى السبل الملتوية قاصداً اجتياز الحصن والتربع في قلب الأقوى مستولياً فيه على قوته
لقد أودعتني الحياة سرها قائلة: لقد تحتم علي أن أتفوق أبدا على ذاتي. وأنكم لتحسبون هذا الاندفاع إرادة إبداع أو غريزة تحفز بي إلى الهدف الأسمى والأبعد منالاً بعديد جهاته، في حين أن ليس هنالك إلا وجهة واحدة وسر واحد. وأنني لأفضل العدم على التحول عن هذه الوحدة.(208/59)
والحق أنكم حيث تشهدون انحداراً وسقوط أوراق من الأدواح، فهنالك تشهدون تضحية الحياة من أجل القوة.
لقد وجب علي أن أكون أنا الجهاد والمستقبل والهدف وأن أكون في الوقت نفسه الحائل الذي يعترضني في انطلاقتي إلى هدفي
لذلك لا يعرف الإنسان الطريق المتعرجة التي عليه أن يسلكها إذا هو لم يدرك حقيقة إرادتي.
مهما كان الشيء الذي أبدعه ولي ومهما بلغ حبي له فإن عليّ أن أنقلب له خصماً، وأتحول عن حبي وحناني، ذلك مل قضته إرادتي عليّ
وأنت، أنت يا من تطلب المعرفة ليس لك من سبيل غير سبيلي فعليك أن تقتفي أثر إرادتي، وما تقتفي إرادتي إلا آثار إرادة الحق
ما عثر على الحقيقة من قال بإرادة الحياة، لأن مثل هذه الإرادة لا وجود لها، وليس للعدم إرادة كما أن المتمتع بالحياة لا يمكنه أن يطلب الحياة
ولا إرادة إلا حيث تتجلى حياة، ومع هذا فإن ما أدعو إليه إن هو إلا إرادة القوة لا إرادة الحياة
أن هنالك أموراً كثيرة يراها الحي أرفع من الحياة نفسها، وما كان ليرى أشياء أفضل من الحياة، لو لم تكن هنالك إرادة القوة.
هذا ما علمتني إياه الحياة يوماً، وأنا بهذا التعليم أهتك أسرار قلبكم، أيها الحكماء، فأقول لكم: إنه ليس هنالك من خير دائم وشر دائم، لآن على الخير والشر كليهما أن يندفعا أبداً إلى التفوق والاعتلاء
وأنتم أيها الواضعون للقيم أقدارها بمقاييسكم وأوزانكم وبما تقولونه عن الخير والشر هل كان لكم أن تفعلوا هذا لو لم تكن لكم إرادة القوة؟ وما تطمحون في أعماق ضمائركم إلا إلى الشهرة والشعور بتأثركم وفيضان أرواحكم. ولكم تجهلون أن في الأمور التي تخضعونها لتقديركم قوة أعظم من تقديركم تنمو وتتفوق على ذاتها لتحطم غلافها وقشورها، فمن أراد أن يكون مبدعاً سواء أكان في الخير أو في الشر فعليه أن يبدأ بهدم ما سبق تقديره وبتحطيمه تحطيماً. وهكذا فأن أعظم الشر يبدو جزاء من أعظم الخير، ولكن هذا الخير لم(208/60)
يعط إدراكه إلا للمبدعين
لقد حق القول علينا أيها الحكماء، مهما كلفنا الجهر به فأن الصمت أشد وطأة علينا، لأن كل حقيقة نكتمها إنما تتحول إلى سم زعاف فينا، فلنحطم الحقائق التي نجهر بها ما يمكنها أن تحطم فأن هنالك أبنية عديدة يجب علينا أن نرفعها
هكذا تكلم زارا. . .
العظماء
إن في بحراً هدأت أعماقه، فمن يظن أنه يخفي مسوخا دأبها المزاح؟ إن أغواري صامدة لا تتزعزع، غير أنها تتماوج بالمعميات وتجاوب فيها من الضحك نبرات وأصداء.
رأيت اليوم رجلا من العظماء الإجلاء الذين يكفرون من أجل الروح. فاستغرقت روحي في ضحكها هازئة بقبحه. غير أن هذا العظيم لم يبد ولم يعد. بل أنتفخ صدره كمن يتنفس الصعداء، فلاح لي بحقائقه المروعة وبأثوابه الممزقة غصناً كله أشواك وليس فيه ورد.
ما تعلم هذا القناص الضحك ولا عرف الجمال، فأنه راجع من غاب المعرفة أغبر الوجه بعد أن صارع فيها الوحوش فانطبعت صورهم على سيمائه، فهو كالنمر يتحفز للوثوب، وما أحب مثل هذه الأرواح المنقبضة على ما تضمر.
تقولون، أيها الصحاب، إنه لا جدال في الذوق وفي الألوان فكأنكم تجهلون أن الحياة بأسرها نضال من أجل الأذواق والألوان.
ما الذوق إلا الموزون والميزان والوزان. . . فويل لكل حي يريد أن يعيش دون نضال من أجل الموزونات والموازين والوازنين
ليت هذا الرجل العظيم يتعب من عظمته ليظهر الجمال فيه فأنه في ملاله من هذه العظمة يستحق أن أتذوقه فأجد له طعماً.
إذا لم يتحول العظيم عن نفسه فلا يمكنه أن يقفز فوق خياله لتغمره أشعة شمسه. لقد تفيأ الظل طويلا، هذا المفكر من أجل الروح، فشحب وجهه وكاد في انتظاره أن يموت جوعاً، وهذه عيناه تشعان بالاحتقار وشفتاه تتبرمان بالاشمئزاز، أنه يلتمس الراحة الآن ولكنه لم ينطرح تحت الشمس بعد.
ليت هذا الرجل يتمل بالثور فيفوح من سعادته عبق الأرض لا احتقار الأرض. ليته كالثور(208/61)
الأبيض يعج أمام المحراث فيرتفع عجيجه تسبيحاً للأرض وما عليها.
لقد أكفهر وجه هذا العظيم إذ تلاعبت على خديه إظلال يده فاخفت عيناه. وأعماله نفسها لم تزل كالخيال تلوح ولا تبدو عليه. فإن اليد ترسل ظلا قاتماً على العامل إذا هو لم يتفوق على عمله
إنني أقدر احتمال هذا الرجل لنير الثور ولكنني أتمنى أن تشع نظرات الملاك في عينيه، ولن تشع هذه النظرات ما لم ينس ما فيه من إرادة الأبطال. لأن ما أريد له هو أن يصير رجلاً سامياً لا أن يبقى في مربية الرجل العظيم حيث يفقد الإنسان إرادته فتتلاعب به أضعف النسمات.
لقد تغلب هذا العظيم على الجبابرة وتوصل إلى حل الرموز ولكن عليه الآن أن ينقذ هذه الجبابرة وهذه الرموز ليحولها إلى طفولة الألوهية.
إن معرفة هذا الرجل لم تتعلم الابتسام ولا الترفع عن الحسد كما أن موجة شهواته لم تكن في خضم الجمال. وما عليه أن يدفع بهذه الشهوات إلى سكون الشبع بل عليه أن يغرقها في الجمال لأن اللطف لا ينفصل عن مكارم من بلغوا الأوج بتفكيرهم
على البطل ألا يستسلم للراحة ما لم يضع يده على رأسه ليتفوق على راحته، وما يصعب على البطل شيء كإدراكه الجمال، لأن الجمال لا يستسلم لأبناء العنف.
أن بين الإفراط والتفريط قيد أنملة، فلا تحتقروا هذا المدى لأنه بعيد وإن قصر وفيه الأهمية الكبرى. ولكن عضلات العظماء لا تلجأ إلى السكون وأرادتهم لا تنضب. وما من جمال إلا في تنازل القوة إلى الرحمة وحلولها في المنظور.
أنني لا أطالب بالرحمة سواك، أيها المقتدر، فلتكن الرحمة آخر مرحلة تقطعها في انتصارك على ذاتك. وما كنت لأفرض الخير عليك لولا أنني أراك قادراً على ارتكاب كل الشرور. ولكم أضحكني أولئك الصعاليك يعدون أنفسهم رحماء وقد شلت يدهم ولا حول لهم ولا طول
عليك أن تتمثل في فضيلتك بفضيلة الأعمدة التي تزداد بها دقة وصلابة في لبابها كلما ازداد ارتفاعها
أجل أيها الرجل العظيم إنك ستبلغ الجمال يوماً فترفع المرآة إلى وجهك لتتمتع برؤية(208/62)
جمالك وعندئذ تختلج روحك بالشهوات وعندئذ تتجلى العبادة في غرورك
لا يقترب البطل في أحلامه إلى مرتبة البطل الكامل ما لم يغفل الروح ويتحول عنها.
هكذا تكلم زارا. . .(208/63)
رسالة الفن
ميكيلانجلو
العبقرية الملهمة
للدكتور أحمد موسى
- 3 -
وما صادفه من صعاب سبق ذكرها، صادفه هنا في تنفيذ مشروعاته الفنية الخاصة بحقوق أميري المديتشي جيليانو ولورنسو، اللتين كان قد أوصى بعملهما الكردينال جليودي مديتشي في سنة 1519، ولم يبدأ في تنفيذهما إلا سنة 1521 بعد تعديلات وأخذ ورد
على أنه عمل بيده فيها من سنة 1527 إلى سنة 1530، ووقف عندما أضطر للفرار لهبوب العاصفة السياسية التي انتهت بانهزام المديتشي وخروجهم من فلورنسا. عندئذ عمل ميكيلانجلو تحت لواء الجمهورية حتى عودة المديتشي ثانياً
وبعد موت البابا بقليل سافر في سبتمبر سنة 1534 إلى روما دون أن يتم أعماله إلى النهاية فقد ترك اثني عشر تمثالاً دون إكمال إلى أن أتمها جورجيو فاساري (1511 - 1574) الذي كان مصوراً ومهندساً معمارياً ومؤرخاً لعصره، والذي بنى قصر أوفيسين بفلورنسا بردهته المعتبرة من أجمل ردهات قصور إيطاليا
ويحسن بنا أن نعلم بعض الشيء عن هاتين المقبرتين المشهورتين، التين تعدان آية من آيات الإعجاز الفني، فبين حائطين تنحصر مسافة خصصت للمقبرتين، ولكل منهما تمثالان رمزيان إحداهما لامرأة والآخر لرجل، وفوقهما نافذة أشبه بقبلة وضع فيها تمثال للمتوفى جالس.
أما التماثيل الرمزية فهي عارية الجسم، وأكبر من الحجم الطبيعي قليلاً، وتمثل الأوقات اليومية الأربعة وعلاقتها بالنفس وهي (الليل، النهار) و (الفجر، المساء) معبرة عن الأسى والحزن لوفاة الأميرين.
وقد عبر ميكيلانجلو عن الليل بامرأة نائمة وعند قدميها بوم. وأما النهار فقد مثله برجل هرقلي التكوين، ولكنه ترك الرأس والذراع غير كاملين، وكلاهما في غاية القوة الإنشائية(208/64)
وحسن الإخراج، ولكن الطريقة الوضعية لهذين التمثالين تكاد تكون مستحيلة بالنظر إلى الكيفية التي أجلسهما بمقتضاها، وهذا ما قررته عندما تناولنا مميزاته الفنية بالبحث
ونأتي هنا بصورة لجانب آخر من هذه المقبرة (ش1) فترى فيها لورنسو جالساً، وعند قدميه تمثالا الفجر والمساء (ش2، ش3). أنظر إلى رأس كل منهما وتأمل القوة في الإخراج والعظمة في الإنشاء؛ فالوضع العام خال من الإرغام والطريقة الوضعية أهدأ كثيراً من تماثيله لليل والنهار، وقد عبر عن الحزن تعبيراً قوياً، هذا والتكوين الجسماني وسير الخطوط الإنشائية مما يثير الدهشة والاستغراب لهذه القوة الخارقة في تقدير الجمال الكامل وحسن إخراجه
أنظر إلى جمال اليد اليسرى للمرأة، وإلى اليد اليمنى للرجل وتأمل نعومة جسم المرأة وقوة عضلات الرجل، ترى أن ميكيلانجلو كان موفقاً كل التوفيق في هذين التمثالين
أراد أن يمثل لك بطريقة إخراجه ألم الأحلام الحزينة في الليل وما ترسمه على الملامح عند الفجر، فأخرج وجه المرأة على هذه الصفة، كما أراد أن يمثل لك كيف أن الحزن نهاراً يعود على الجسم العامل والعقل المفكر بملامح أقرب إلى إنهاك القوى والتعجيل بحلول الشيخوخة، فكان إماماً يحتذي وقائداً يتبع وفناناً يذكر على مر القرون
وتمثالاه لجليانو وفلورنسو أقرب إلى الإخراج الإغريقي وهما لا يمثلان صاحبيهما وإنما رمزيان للتعبير عنهما فالأول مثل قائداً حربياً ارتسمت على وجهه ملامح التفكير وقوة الإرادة وصرامة الأوامر. وأما الثاني (لورنسو) (ش1) فتراه جاساً وقد اكتسى جبينه بغطاء رأسه فأحدث ظلاً على العينين أكسب صاحبهما شيئاً من الخفاء وعمق التفكير. أنظر إلى اليد اليسرى وقد لامست شفتيه وإلى السبابة وقد جاورت الأنف، ثم تأمل المجموع الكلي، تر أن صاحب هذا التمثال بحالته هذه وبطريقة جلسته وعمقه في تفكيره، لابد وأن يكون من رجال السلطة العامة. وهذا ما قصده ميكيلانجلو تماماً فقد سجل بذلك للأخوين أميز وأبرز صفاتهما وهي الحكم.
والدارس للمجموع الإنشائي لهاتين المقبرتين يسجل لميكيلانجلو المعرفة الصادقة بأصول علم التشريح بالنسبة إلى التماثيل، والإحاطة الكاملة بعلم النفس بالنسبة إلى مظهرها، فضلاً عن القدرة في فن المعمار التي تجلت في وضعه التصميم الكلي وما أنطبع عليه من(208/65)
الانسجام
وله على الحائط الثالث للمقبرة مجموعة تمثل المادونا مع يسوع الطفل، وهي جالسة والطفل متجه إلى ثديها للرضاعة، وهي لا تقل جمالاً عن قطعه الأخرى، لا سيما وأن المادونا على جانب كبير من الجمال الرفيع مع شيء كثير من الحزن
وعلى ذلك لا مناص للمؤرخ الفني من اعتبار هاتين المقبرتين مجموعتين أعظم إنتاج مجسم أخرجه ميكيلانجلو وأكمل عمل فني أفرغ فيه غايته وأدى به رسالته، كما أن ما شملتاه من تماثيل بجانب تمثاله للنبي موسى (راجع المقال السابق) أهم وأبرز إنتاج فني في مدرسة النحت الحديث
أما المرحلة الثالثة من حياته فقد بدأت منذ رحيله نهائياً إلى روما في سبتمبر سنة 1534، وإقامته فيها حتى وفاته بعد أن بلغ التاسعة والثمانين في 18 فبراير سنة 1564
وقد ارتقى رئيساً عاماً للمعماريين والنحاتين والمصورين في القصر الابوستولي، وكلفه البابا بتصوير السقف السكستيني (نسبة إلى البابا سكستس الرابع) واشتغل منهمكاً فيه من سنة 1535 إلى سنة 1541، وصور (يوم القيامة) كما صور بين سنة سنة 1542 وبين سنة 1550 الصور اللازمة لمجموعة باولينا.
أما من سنة 1542 إلى سنة 1545 فقد أكمل البناء التذكاري ليوليوس، وهو بناء شامل لطبقتين (دورين) لكل منهما ثلاث قبلات، في الطبقة الأرضية تمثال موسى، وعلى اليمين واليسار وضع تمثالان جديدان، الأول يمثل (ليا) امرأة يعوب الأولى وبيدها المرآة، والثاني لامرأته الثانية (راشيل) وهي تصلي، وهما مليئتان بالحياة والحركة.
أما في الطبقة العليا، فله قطع مثلت البابا والمادونا والكاهن والنبي، وهي ليست في جودة قطعه السابقة، ولذلك يخيل إلينا أنها من نحت تلاميذه.
ونحت بعض التماثيل وتركها دون إتمام، منها مجموعته لبيتا ومنها المجموعة الصغرى محفوظة بقصر روندانيني بروما، ومجموعته الكبرى عملها خصيصاً لمقبرته وهي تشمل أربعة تماثيل موجودة الآن في كاتدرائية فلورنسا بالردهة الرئيسية.
واشتغل في هذه المرحلة بالشعر أيضاً وله ملحمات معروفة، خصوصاً تلك التي كتبها غزلاً في معشوقته فيتوريا كولونا بين سنة 1534 و1547 وكان لها تأثير عظيم في فنه وفي(208/66)
مجرى حياته
ومنذ سنة 1546 أسند إليه الأشراف الفعلي على بناء قبة كنيسة بطرس واشتغل بهندسة المعمار السبعة عشر سنة الأخيرة من عمره، ودفن في كروسه بفلورنسا.
أما ميكيلانجلو المصور فسيكون موضوع بحثنا في العدد القادم.
أحمد موسى(208/67)
البريد الأدبي
وفاة جيمس باري عميد الكوميديا الإنكليزية
نعت أنباء لندن الأخيرة كاتباً من أعظم كتاب إنكلترا المعاصرين هو السير جيمس باري القصصي والكاتب المسرحي الكبير؛ توفي عقب أصابته بالتهاب رئوي صاعق. وكان مولده سنة 1860 في قرية من أعمال أسكتلندة وتلقى تربيته في جامعة أدنبورج، وشغف بالأدب منذ حداثته وفي سنة 1883 بدأ حياته في الصحافة، واشتغل بالتحرير في جريدة (نونتنهام جورنال)، ولفت الأنظار إليه بعدة مقالات أدبية رائعة؛ وفي سنة 1885 انتقل إلى لندن، وظهر كتابه الأول بعد ذلك بعامين بعنوان: (الموت أفضل) وهو مزيج من الخيال الساحر والتهكم اللاذع ثم ظهر كتابه وهو مجموعة صور ريفية فزاد في شهرته؛ وبعد قليل ظهرت روايته الصحفية الشهيرة (حينما يكون الرجل أعزب) ثم مجموعة صور جديدة عن الحياة في أدنبورج، وظهرت في سنة 1889 أقوى وأعظم رواياته وهي (أرملة في ثياب خشنة) ثم رواية ظريفة عن التدخين عنوانها ثم (الوزير الصغير)
وفي ذلك الحين بدأ باري يكتب للمسرح، وافتتح مجهوده بمسرحية عنوانها فنالت نجاحاً عظيماً وتلاها بكوميديا عنوانها (قصة غرام الأستاذ) ' - في سنة 1895؛ وأصدر في هذا الوقت أيضاً مذكراته في حياته الأولى مع والدته بعنوان ثم استأنفها في روايتين أخريين هما وتمتاز هذه السلسلة بأسلوبها الفكاهي اللاذع الذي برع فيه باري براعة عظيمة
وفي سنة 1902، أخرج باري مسرحيته الغريبة: (العصفور الصغير الأبيض)، وهي أول حلقة من سلسلة القطع الشهيرة التي اتخذ لها بطلاً مدهشاً هو (بيتر بان).
واشتهر أيضاً بقطعة أخرى عنوانها: (لعبة الاختفاء مع الملائكة) وفيها يشرح طريقته في العمل وفي الحياة كأنها مداعبة مع الملائكة
ويرى النقدة أن سير باري بلغ أروع مواهبه في الكوميديا، وأنه يعرضها بفن لا يجارى ويتفوق فيها على المأساة (الدرامة)، وفي أثناء الحرب أخرج باري عدة من المسرحيات المؤسية والكوميدية، بيد أنها لم تكن من النوع الممتاز وأشهر هذه القطع: (قبلة لسندريلا) ويبدو باري في هذه القطع متأثراً بطابع هانس اندرسون(208/68)
وحصل باري سنة 1913 على وسام البارونية، ثم وسام الاستحقاق سنة 1922. وانتخب منذ سنة 1830 مستشاراً لجامعة ادنبورج.
أعياد جامعة لوزان
قرأنا في البريد السويسري الأخير شيئاً عن جامعة لوزان التي احتفلت أخيراً بعيدها بمناسبة مرور أربعمائة عام على تأسيسها ويذكر القراء الجامعة المصرية قد اشتركت في هذا الاحتفال على يد مديرها الأستاذ الكبير لطفي السيد باشا وقد نشأت جامعة لوزان سنة 1537 أكاديمية متواضعة أنشأها أهل برن في مقاطعة فات (فود) بعد أن افتتحوها لتكون معهدا للتبشير للدين البروتستانتي الذي غلب في سويسرا يومئذ، وقطعت الأكاديمية الجديدة عهداً من الاضطراب خلال الجدل والخصومات الدينية، ولكنها لقيت عضداً كبيراً في معاونة البروتستانتيين الفرنسيين؛ وفي سنة 1700 زادت الأكاديمية على قسم اللاهوت قسمين جديدين للتاريخ والقانون، ولما استقلت مقاطعة فات بشئونها الإدارية عنيت بتنظيم الأكاديمية، وصدر سنة 1837 قانون بإنشاء ثلاث كليات بها. وفي سنة 1869 وضع العلامة لوي ريشونيه مشروعا لتنظيمها، وأخيرا في سنة 1890 حولت إلى جامعة كبيرة، وأنشئت لها مبان فخمة.
وقد كان الاحتفال بعيد جامعة لوزان مظاهرة علمية دولية عظيمة؛ فقد اشترك فيه ممثلو الجامعات والهيئات العلمية في سائر أنحاء الأرض؛ وافتتح الاحتفال في الكاتدرائية الكبيرة، ثم أقيم مهرجان علمي بالجامعة لمنح العالميات الفخرية لطائفة من العظماء؛ ثم نظمت بعد ذلك نزهة لقصر شيلون الشهير الذي تغنى به الشاعر بيرون
كتاب جديد لأميل لودفيج
يعنى الكاتب المؤرخ الألماني الكبير أميل لودفيج بعد أن أخرج كتابه الضخم عن نهر النيل بقسميه حسبما ذكرنا ذلك في الرسالة، بوضع كتاب جديد عن كليوباترا ملكة مصر، وينتظر أن يظهر هذا المؤلف الجديد بعد بضعة أشهر فقط؛ وفي ترجمة كليوباترا يستطيع أميل لودفيج أن يعرض كل مواهبه وبراعته كمترجم لأبطال العالم، وقد ظهرت هذه البراعة من قبل في جميع التراجم التي أخرجها المؤرخ عن (المسيح) وعن (نابليون) وعن(208/69)
(بسمارك) وعن (ولهلم القاني) وغيرها، بيد أنه يجد في حياة كليوباترا ميداناً أكثر سحراً وخصوبة، فحياة هذه الملكة المصرية العظيمة لم تكن سوى مأساة مؤثرة؛ وأميل لودفيج في الواقع كاتب مسرحي قبل كل شيء يجيد عرض المآسي؛ وأخص ما في تراجمه هو هذا العرض الذي يصوغها في صور الأشخاص الحية، تراها أمامك تحت قلمه بجميع مناظرها وجميع حسناتها وعيوبها، وعنصر المأساة هو الذي يجذب أميل لودفيج ويذكي خياله وقلمه، ولا يتوفر هذا العنصر قدر توفره في حياة كليوباترا فهي ملكة عظيمة وامرأة ساحرة، تستعمل سحرها كامرأة في الذود عن مركزها كملكة، فإذا خانها الحظ، ولم يعد سحرها يحدث أثره، وحينما تشعر أن كل شيء قد أفلت من يدها ولم يبق غير العبودية، فإنها تؤثر أن تغادر هذه الحياة بمحض أرادتها؛ وفي حياة كليوباترا نلتقي بشخصيات عظيمة كشخصية أنتوني، ويوليوس قيصر، ثم أوغسطوس، وفي هذا المزيج من العبقريات المدهشة يستطيع أميل لودفيج أن يطلق العنان لقلمه، وسوف تعني شركة (الان وانوين) بإخراج هذا الكتاب
جامعة إنكليزية في قبرص
منذ بضعة أشهر قام اللورد جورج لويد المندوب السامي لإنكلترا بمصر سابقا برحلة في بلاد الشرق الأدنى، وقيل أنه مكلف بمهمة سياسية وثقافية خاصة، والآن يتضح لنا طرف من هذه المهمة؛ فقد راع السياسة البريطانية انتشار الثقافات الأجنبية الأخرى؛ ولا سيما الثقافة الإيطالية في مصر وفلسطين وقبرص ومالطة، فرأت أن تتقي هذه المنافسة الخطرة بمثلها؛ وعرض لورد لويد أخيراً نتائج بحثه على لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم البريطاني؛ وأخص ما يقترحه اللورد علاجاً لهذه المشكل أن تنشأ جامعة إنكليزية في قبرص تكون مهداً لإذاعة الثقافة البريطانية في شرق البحر الأبيض المتوسط، ويقول لورد لويد بأن الثقافة البريطانية ليست اقل في نوعها ونفوذها من الثقافة الإيطالية، وأن شعوب هذه الأنحاء تفكر ولا ريب أن تتغذى بالثقافة البريطانية، ثم أن الدعاية الإيطالية التي تشتد وطأتها الآن في شرق البحر الأبيض المتوسط لا يمكن مقاومتها إلا عن هذا الطريق الثقافي القوي
وإذا كانت إيطاليا وهي ليست ذات مصالح حيوية في هذا القسم من البحر الأبيض تعنى(208/70)
هذه العناية بنشر ثقافتها فأولى ببريطانيا العظمى ذات المصالح العظيمة في هذه البلاد أن تدعم هذه المصالح بنشر ثقافتها
مسارح الهواء الطلق
أعدت ألمانيا هذا العام ثمانية وأربعين مسرحاً مكشوفاً يمثل فيها في الهواء الطلق، وتوجد هذه المسارح اليوم في معظم المدن الكبرى ومراكز الاصطياف والاستشفاء؛ ويجري فيها التمثيل في شهور الصيف من يوليه حتى سبتمبر وقد اختير لها برنامج معظمه من القطع الكلاسيكية الخالدة مثل (حلم ليلة صيف) و (روميو وجوليت) لشكسبير ومسرحيات جيته وشيللر شاعري ألمانيا العظيمين، وكذلك أنتخب عدة قطع محدثة من مسرحيات أبسن وهابتمان، وبيرجنت، وفلوريان جينر وغيرهم، وبعض قطع كوميدية شهيرة. وسوف تمثل أيضاً في هذه المسارح المكشوفة أوبرات موسيقية لأعظم أقطاب الموسيقى مثل جلوك، وهاندل وريخارد شترادس، وأوجين البرت وغيرهم
وفكرة المسارح المكشوفة مستمدة من اليونان القديمة حيث كانت أثينة وأسبارطة وكورونته تغص بهذه المسارح الرياضية الفنية، وكانت المدارس الشعبية العملية تتخذ أداة لتثقيف الشعب وتهذيب مشاعره
الاحتفال بذكرى وفاة أبن سينا
من أنباء الآستانة أن جمعية التاريخ التركية احتفلت في 21 من هذا الشهر بمرور 900عام على وفاة الطبيب الفيلسوف التركي الكبير أبن سينا احتفالا يليق به. وقد بدأ الاحتفال في الساعة الثانية في معهد البيولوجيا بالجامعة. وألقى كثير من العلماء الأتراك والأجانب محاضرات شرحوا فيها الخدمات التي أداها أبن سينا للعلم. ونخص بالذكر من بين هؤلاء العلماء المسيو لوفان رئيس شرف الجمعية الدولية لتاريخ الطب والدكتور تريكور رداير أستاذ تاريخ الطب بالجامعة والرئيس العامل لنفس الجمعية والدكتور جوبولو. وقد نشرت بهذه المناسبة كتاباً عن حياة الفيلسوف الشهير وأعماله وعرضت في الوقت نفسه كتب أبن سينا المخطوطة والمطبوعة في المعهد البيولوجي وقد أعدت جمعية التاريخ التركية في المطبعة الأميرية بالألوان الكتاب الأصلي للفيلسوف الشهير وهو الموجود في متحف(208/71)
المؤلفات التركية والإسلامية
كذلك احتفل في جميع أوزبكستان بالذكرى التسعمائة لوفاة (أبن سينا) وقد جمعت بهذا المناسبة النماذج النادرة لمؤلفات العالم الكبير باللغات العبرية والعربية واللاتينية في مكتبة طشقند وقد نشر المستشرقون في أوزبكستان نشرة تضمنت مقالات عدة عن أبن سينا
منح جوائز التفوق العلمي
أتصل بنا أن معالي وزير المعارف يدرس الآن مشروعاً لإقامة حفلات عامة في القاهرة تمنح فيها جوائز للتفوق العلمي وهذه رغبة من رغبات الرسالة نادت بها في مستهل هذا العهد الجديد ونقول بهذه المناسبة إن مجلس إدارة الجامعة قرر إقامة حفلة سنوية تمنح فيها الدرجات الجامعية باحتفال كبير(208/72)
القصص
بقعة من حبر
للقصصي الفرنسي رينه بازين ' '
للأديب أحمد المحمود
1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13، 14، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 21، 22، 23، هذا كل ما أستطيع أن أذكره عن الثلاث والعشرين سنة الأول من سني حياتي، ومجرد تعداد هذه الأرقام يكفي - كما ترى - لإظهار تشابهها المشترك وتوضيح وحدة اللون بينها.
مات أهلي ولم أعد للطفولة الأولى، وإني لأستحضر صورهم في شيء من الجهد والمشقة، وتكاد معالم البيت الذي شهد حبوي الأول تنمحي من ذاكرتي لولا أنني نشأت غير بعيد عنه أرنو إليه ويرنو إلي، ولكن الدار بيعت وا أسفاه! وغاضت حياتها أبد الدهر، أجل بيع البيت فجرى عليه حكم القدر القاسي وفي هذا المكان اكتحلت عيناي بالنور، وفي مدرسة البلدة تصرم ثمانية عشر عاماً من عمري وقد أعتاد المدير أن يشرح لنا معنى المدرسة وأنها عائلة ثانية لها قيمتها وأثرها في النفس حتى خيل لنا أنها تفضل الأولى بمراحل كثيرة وتسمو عليها شرفاً وقدراً.
وما كدت أنهي دراستي الثانوية وأحمل شهادتها النهائية حتى بعث بي خالي إلى باريس لدراسة الحقوق والتثقف بالثقافة العالية وفي ثلاث سنوات نلت الإجازة التي مضى عليها ثمانية عشر شهراً وهي في يدي، ثم أقسمت يمين المهنة وغدوت - بهذه الصفة المكتسبة على حد تعبير خالي - محامياً متمرناً وكنت كل صباح اثنين أثبت وجودي في المكتب مع زملاء آخرين وظهر لي بذلك أنني حزت ثقة الأرملة واليتيم.
نلت إجازة الأدب - في يسر ولباقة - بينما كنت أتابع دراستي الحقوقية، وأنا الآن أوشك أن أغدو (دكتورا) في الحقوق، ولقد كانت امتحاناتي حسنة في الجملة، ولكنها ليست في الدرجة التي كنت أرجوها إذ قال لي أستاذي إن الذوق الأدبي عمل فيها عمله الشديد (وطبيعة الحقوق - يا بني - لا تمت - على عادة العلوم - إلى القلب والعاطفة بسبب من(208/73)
الأسباب). أصحيح أن قلبي موزع بين الأدب والحقوق؟ ذلك ما لا أعتقده، ولكنني لن أعترف بهذا إلى أستاذي الذي لم ينس بعد أنني نلت أجازة في الأدب. إنه يبني علي بعض الآمال ومن الطبيعي أن أبني عليه - بدوري أنا - بعض الأماني في الفحوص المقبلة.
وماضي حياتي تختصره ورنقتان نلتهما وثالثة تتراءى لي عن بعيد، وأوشك أن أنالها، ثم خال ذو ثروة كبرى. وإلى تاريخ 10 ديسمبر 1884 لم يكن ثمة حادث يذكر ولكن من يستطيع أن يضمن جمود الحياة فلا تتطور، وهذا حادث خطير جرى لي بعد ظهر هذا اليوم فأثر في نفسي أثره العميق وهاج من خواطري كلما أمعنت التفكير والتحليل له والوقوف عنده.
كثيراً ما كنت أذهب إلى دار (المكتبة الأهلية) للعمل في صالة المخطوطات الخاصة التي تضم بين جدرها الطبقة المشهورة من الكتاب والعلماء المرخص لهم بالعمل فيها، وكنت في كل مرة ألج باب هذه الصالة أحس بشعور الغبطة والكبرياء لوجودي في مكان لا يقبل إلا من كان على جانب من الشهرة وذيوع الاسم. وأتخطى برهبة سدة الحارس الذي اتخذ مكانه إلى رتاج الباب يستقبل الزائرين القدماء ببسمة لا تخرجه عن وقاره وهيبته عندما يمرون به إلى مقاعدهم. ولم تكن بيني وبينه هذه المعرفة الزمنية حتى يجود عليَّ بابتسامة، ولكنه على كل حال كان يستقبلني بانحنائة قصيرة من رأسه وقد اعتاد أن يراني كل يوم فلا يطلب مني البطاقة كما كان يطلبها من الزائرين الجدد وفهمت أنني أصبحت فرداً من أفراد العائلة فما عليَّ إلا أن أجوس خلال البيت بأمن وسلام.
ها أنذا في هذه الصالة الفخمة أسرح البصر في اتساعها وجدرها المزينة التي تشبه في أصباغها الجميلة الألواح الفنية الرائعة فتبعث في النفس شعور الإجلال والتعظيم. وعلق بصري بما يشبه المنبر فتبينت أن هذا المكان يجلس فيه النفر المختار من رواد هذه الدار الذين يتمتعون بألقاب العلم وأوسمة الأندية الأدبية. وينتثر إلى جانبي هذا الممر على صورة أصبحت عادية سكان المكتبة العلماء، ومن يتأملهم مقوسي الظهور مطرقي الرؤوس حادبين على كتبهم يفترسونها بصمت وسكون رهيبين يتعظم في نفسه تأثير الفكرة في العقل البشري ومبلغ اجتياحها في رؤوس هؤلاء التي قلت شعورها، ومع ذلك فإن هذا الجمع من القرعان كان لا يعدم بعض من برقت شعورهم(208/74)
وغالبا ما ينقطع بعض هؤلاء العلماء القراء - عندما أمر - عن القراءة فيشخصون إلي بعين (تائهة) بلهاء لا تميزني جلياً لإغراقها في القراءة والتفهم، ولكن هذه الأبصار كانت تنحسر عني عندما تلمح تقطيب وجهي فتتصهب العيون وتعود إلى ما كانت عليه وهي أشد ما تكون نشاطاً وشوقاً وندماً على أن أضاعت الوقت في تفحص هذا الآتي الغريب. ولكني كنت أحس بخواطر هؤلاء وبما هم دائبون فيه. هذا يبتدر رفيقه بأنه يدرس منشأ الصناعات والحرف وأصولها، وذاك عاكف على دراسة عصر لويس الثاني عشر، وآخر يهمس في أذن رفيقه: أنا أدرس أحوال المرأة المدنية في عصر طيباريوس، ويسرع آخر إلى شده الجمع بأنه يبحث عن ترجمة جديدة لهوراس. وشعرت بأن جميع من في هذا المكان يبتدرني بالسؤال: وأنت أيها الحدث ماذا جئت تفعل هنا؟ ألا لا تعكر صفو هذا المكان الوقور
ماذا جئت أفعل هنا؟! وا أسفاه!. . . يا سادة. . . وهل أنا في حاجة إلى أن أقول لكم إن خالي ما فتئ يستحثني ويلحف علي في إنهاء أطروحة الدكتوراه ويضطرني إلى العودة إلى الريف ويبدي سأمه من بطئ الوضع والتأليف، وها هو ذا صراخه في كتبه إلي: (أقلل من النظريات يا بني؟. . . أسرع إلى العمل ودع عالم الخيالات والأحلام وما الذي أهاب بك إلى انتقاء هذا الموضوع دون سواه؟. .) والواقع أن موضوع (أطروحتي الرومانية) انتقى خصيصاً لتمديد إقامتي في باريس. (لاتين جونيوس) هذا موضوع أطروحتي - أيها السادة القراء - وأنه لموضوع طريف كما ترون ولكنه صعب عسير التوضيح، وليس بينه وبين الحياة العملية أقل صلة أو علاقة وهو يسبب لي تعباً كثيراً ونصباً جما، ويا ليتكم تتصورون بعض ما أقاسيه من مشاق الدرس والمراجعات والمطالعات
ومن الصدق والواجب أن أقول إنني كثيراً ما أمزج مع هذه المشاق بعض القراءات المسلية الجذابة وأرود أمكنة المعارض والملاهي وأن خالي يجهل من أمري كل شيء إلا أنني مدمن للكتب والموسوعات ومغرق في استنطاق أسطرها ومتونها وهوامشها وأن خالي ليعجب كثيراً بابن أخته الناشئ، هذا الراهب الناسك (البندكتي) الذي لا يفارق دور العلم وأروقة (المكتبة الأهلية) في باريس، بابل الحديثة - كما يسميها - مفنياً لياليه وأيامه مع (غايوس) مستصحباً (لانتييه) غير عابئ بكل ما لا يمت إلى هؤلاء بصلة. وأنا أحرص(208/75)
كثيراً على حسن ظنه بي فأرسل له دائماً بطاقات الانتساب للمكاتب ودور العلم موقعة من قيميها ومحافظيها وهو دائماً يحتفظ بها حتى يتوفر لديه منها صندوق.
ولقد وصلت هذا الصباح ناشطاً أكثر مني في بقية الأصباح وكأن سوء الطالع كان يرافقني للقضاء على هذا النشاط المنبعث من قرارة نفسي فسبب لي بلية ما كان اشغلني عنها وأغناني!. .
تنتصب إلى جانبي سدة قيم المكتبة أريكتان تحملان أوراق الطلب وأقلام الكتابة وقادتني خطاي إلى الأريكة اليمنى ويا ليتني لم أقصدها، إذن لكنت في نجوة عما أنا فيه الآن من أسف وندامة.
أخذت الريشة المتصلة بسلسلة نحاسية وخططت بغير وضوح كثير أسم الكتاب والمؤلف الذي أتوخى مطالعته وأعدت الريشة إلى مكانها، ولكن ما أدري والله كيف أركزتها ولعلها فقدت اتزانها فاضطربت وتدحرجت السلسلة والريشة وأني لأسمع صوتها. . . لقد ارتجفت وندت نقطة حبر كبيرة. . . على. . . على كتاب أثري. . . أمام أحد الأعلام الشيوخ!. . وإن كنت أذكر لا أذكر إلا انتصاب هذا الإنسان الأبيض الهزيل في ظلام مقعده صارخاً:
- يا للغباوة!. . لقد لوثت الكتاب الأثري!
وملت إلى المقعد أتفحص فعلتي التاعسة فوجدت أن نقطة الحبر السوداء القاتمة قد استقرت على غلاف الكتاب إلى جانب اسمه المذهب، وها هي ذي تتفرطح فتتشعب إلى ما يشبه المغزل والسنان وأشكال مختلفة، وهنا وهناك انتثرت نقاط صغيرة وتوزعت على صفحته كما تنتثر النجوم في السماء. وإذا ببعض الخطوط تتجمع فتشكل أخدوداً ينحدر فيه الحبر إلى أسفل الصفحة. وتطلعت فإذا أنا محاط بهالة من القراء وكلهم ينظرون إلي بعين متفحصتين فجمدت عروقي وسمرت في مكاني لانتظار الفضيحة وتمتمت بكلمات اعتذار وأسف كانت لا ترد علي ما فات. وأما قارئ الكتاب فلم ينبس ببنت شفة وكأنه قد فقد الحركة وكنا ننظر سوية إلى تشكل البقعة ونرود بأعيننا خطوط جريانها وانبثاقها على الصفحة وكأنه قد عاد إلى مداركه بعد استقرار البقعة واستكمال الملاحظة فاهتز اهتزازة محمومة وتناول من جيبه ورقة نشاف وشرع يمتص برجفة عصبية لطوخ الحبر ويعالجها بدقة الممرضة تضمد جراحاً. واهتبلت الفرصة لا تقهقر إلى الصف الثالث من المقاعد(208/76)
حيث وضع لي غلام المكتبة الكتب التي طلبتها. وجلست أحمل نفسي على الاعتقاد بأنني لو لم أفه بشيء ولو أنني أتوارى عن الأنظار أو أن أخبئ رأسي بين يدي كرجل أثقلته جسامة المسؤولية إذن لكفيت هذا الغضب وهذا الصخب ولكن الأمر لم يكن ليتوقف عند هذا الحد، وفوقت البصر قليلاً أسترق تتمة المشهد فإذا بي أبصر هذا الإنسان الأبيض الصغير الذي كان واقفاً إلى جانب القيم يكثر من الحركات بيديه قد أصبح بين يدي وكان تارة يشير بسبابته إلى الكتاب الملوث وطوراً إلي متجها نصف اتجاه، وحزرت من دون ما تعب أو مشقة أنه يقصدني بالكلمات الخشنة التي كان يذروها، وقد بدا لي بنظرة خاطفة أن قيم المكتبة أشفق علي من كلمات هذا الشيخ الذرب، فاحمر وجهي خجلاً وأحسست بالخجل يسير في كل جسمي
وهاهم أولاء يتصفحون دفتر وأظنه البيان الذي يشير إلى قيمة الكتاب وثمنه ومكان الابتياع وانهم ليتآمرون على إفراغ المكان مني وتحديد الجزاء والغرامة!. . أواه!. . يا خال تأهب لتحملها!
إلى هنا استرسلت في أفكاري المحزنة وما رجعت إلى نفسي إلا وشعرت بأن يداً تربت على كتفي دون أن أحس بدنو صاحبها، وقال:
- إن المحافظ يطلبك إليه
فنهضت أتأثر الغلام وما أن حاذيت القارئ الرهيب الذي كان قد استقر به مكانه حتى لممت بعضي في الوصول إلى سدة القيم الذي بدرني:
- أو أنت الذي لوثت هذا الكتاب؟. .
- نعم يا سيدي
-. . . إنك لم تتعمد فعلتك هذه؟
- طبعاً لا، وأنا آسف لوقوع الحادث يا سيدي
- أنت على حق في ندمك وعلى صواب، لأن هذا الكتاب من أندر الكتب الأثرية الموجودة، والبقعة أيضاً من اغرب البقع ولا أعتقد أني رأيت بقعة على هذا الشكل.
وأحسست بأني سأقول له إن الإنسان يلوث كما يشاء، لولا أنني أمسكت نفسي، فقال لي:
- اكتب أسمك وصنعتك ومكان أقامتك؟(208/77)
فكتبت ما يلي:
(فابيان جان جاك مويارد محامي، 91، شارع رن
- هذا كل شيء؟. . .
- نعم هذا كل شيء، مؤقتاً ولكنني أعلمك بأن (مسيو شارنو) مغيظ جداً ومن المناسب والمستحسن أن تعتذر له عن الخطيئة التي اقترفتها.
- مسيو شارنو!؟. .
- نعم المسيو شارنو عضو المؤسسة العلمية الذي كان يقرأ الكتاب الأثري.
وتساءلت في نفسي عن هذا القارئ الخطير. . . يا الهي!. . أيكون المسيو شارنو هذا الذي تكلم لي عنه المسيو فلامارون رئيس لجنة التدقيق في أطروحتي؟ أنهما زميلان إذن إحداهما عضو مجمع العلوم السياسية والمعنوية والثاني عضو معهد دراسة النقوش والفنون الجميلة.
شارنو!. . شارنو!. . أجل ولا يزال جرس هذه الكلمة يطن في أذني ولا سيما في المرة الأخيرة عندما قال لي أستاذي: أنه (أي شارنو) صديقي الحميم من معهد الفنون والآثار. وأحسست بأن خطراً يتهددني في شهادتي وامتحاناتي ونزلت إلى أعماق نفسي أتحسس غوامضها فإذا بي في مأزق حرج ما أهتدي إلى الخروج منه، وأن الخوف يتسرب إلي من جهتين اثنتين:
أولاً - لا أعلم ماذا ينتظرني من الجزاء والعقوبة للكلمة التي فاه بها القيم عندما استكتبني اسمي وكنيتي. وثانياً - أخشى أن يفسد علي هذا العالم (شارنو) عطف أستاذي فلامارون لانتهاكي حرمة الكتاب الذي كان يقرأه، هذا إذا كان نزقا غضوباً كما ظهر لي عند وقوع الحادث المشئوم.
وهل يجب أن أعتذر للمسيو شرنو؟ وأي الأعذار أقدمها له؟ وهل أنا لوثته حتى أسرع إلى الاعتذار؟ أم أن هذا من حق الكتاب الذي احتمل اعتدائي؟ أن المسيو سالم مما لحق بالكتاب وليس على قميصه أو أثوابه شيء من الحبر أو اللطوخ، فلماذا أذن يأخذني بهذه الحدة وهذا الغضب؟. . ولكنني سأقول له:
- سيدي أنا أسف جداً لأنني عكرت عليك الصفو في أبحاثك العلمية. أن كلمة أبحاثك(208/78)
العلمية ستتملق ولا ريب أثرته وإحساسه وستكون مخدراً قوياً لأعصابه المتوترة. . .
واستجمعت نفسي للنهوض وإذا بالمسيو شارنو يقبل بهزة عصبية وبغضب ما زال يشتد منذ وقوع الحادثة وترتسم على وجهه أمائر الاستياء الشديد من تقلص في الشفاه إلى سهوم في الوجه والنظر وكان يتأبط محفظته وذراعه تضطرب في إمساكها إلى خاصرته. وحدجني بنظرة قاسية. . . وتابع خطاه.
حسناً يا مسيو شارنو!. . إن رجلا غاضبا في حالتك التي أشهد لا يمكنه استساغة المعاذير ولكنني سأعتذر لك فيما لو تقابلنا إذا كان للأيام أن تضعنا وجهاً لوجه. . .
(طرطوس)
أحمد المحمود(208/79)
العدد 209 - بتاريخ: 05 - 07 - 1937(/)
الجيل الجديد
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
زارني منذ بضعة أيام عدد من شبان هذا الزمان فنظرت إلى ثيابهم الجميلة وتفصيلها المحبوك على قدودهم الممشوقة وتحسرت على أيامنا. وكان بينهم واحد يلبس بنطلونا قصيرا فقلت له: (أتلبس هذا عادة؟) قال: (نعم. سبور) قلت: (في أي مدرسة أنت؟) قال: (في الخديوية) قلت: (أسمع. أنا أيضاً كنت تلميذا في المدرسة الخديوية ولا أذكر إني رأيت فيها - في تلك الأيام - تلميذاً يلبس بنطلوناً قصيراً، لا أدري لماذا؟ ربما كانت الروح (الاسبور) تنقصهم في تلك الأيام، ولكني أعرف أيضاً أني في صغري كنت لا أقبل أن ألبس هذا البنطلون القصير. . . كان أخي الأكبر يأخذني قبيل افتتاح المدارس إلى محل (ماير)، وكان أشهر محلات الثياب في تلك الأيام، فيعرض على البائع أمثال هذا البنطلون فأقول لأخي: هذه سراويل لا بنطلون، وآبى كل الإباء أن أتخذها. وأصر على البنطلون الطويل فيضحك أخي ويقول للبائع: (هات له بنطلوناً طويلاً. . إنه يريد أن يكون رجلاً ويحس انه رجل، فلا داعي للتنغيص عليه). وأنا أفهم أن تلبس هذا القصير حين تلعب ولكن الحياة ليست كلها لعبا. . فيها ساعات للعمل والجد على ما أظن)
فقال أحد زملائه: (إنه لا يزال صغيراً)
قلت: (لا أدري. لقد كنت أيضاً صغيراً لما كنت أرفض ارتداء هذا البنطلون. كنت في التاسعة من عمري يومئذ. وأحسب أن من كان في التاسعة جدير بأن يسمى صغيراً. . وليس للإحساس بالرجولة وقت معين أو سن مخصوصة. . فمتى تريد يا صاحبي أن تشعر إنك رجل!)
والتفت إلى إخوانه وقلت لهم: (ليت واحداً منكم يقول لي كيف تقضون يومكم)
فترددوا، وصار واحد منهم يبتسم، وثان يفرك يديه، وثالث يتمتم بكلام غير مسموع فقلت لهم: (أنا اصف لكم كيف كنا نقضي اليوم في حداثتنا. . . كان بيتنا في ذلك الوقت عتيقا جداً، وله فناء واسع كبير فيه شجرة جميز ضخمة. وكان في الفناء (حاصل) رحيب فيه أيضاً بئر، فكنت أستيقظ في الساعة الخامسة صباحاً - صيفا وشتاء - فأنحدر إلى هذا الحاصل وأدلي دلوي في البئر فأملأه وأصبه على بدني - بعد خلع ثيابي طبعاً. كان هذا(209/1)
يقوم عندي مقام (الدوش) في أيامنا هذه. . . فقد كان الماء يحمل إلى البيوت في القرب على ظهور السقائين لا في الأنابيب كما هو الحال اليوم. . . ثم أصعد إلى المسكن فأفطر وأتناول كتاباً وأقرأ حتى يدنو موعد المدرسة فألبس ثيابي بسرعة. . . في دقيقة واحدة بلا مبالغة، وما زلت الآن قادراً على ارتداء الثياب في مثل هذا الوقت القصير. . . أي في دقيقة. . . وأحسب إني لو عملت في فرقة تمثيلية لأدهشت المتفرجين بسرعة اللبس. . . ما علينا. . . إنما ذكرت هذا لأني رأيت كثيرين يضيعون ساعات في ارتداء الثياب: يقفون أمام المرايا ويتأملون أنفسهم في صقالها من الخلف والأمام ومن اليمين والشمال كأنهم سيعرضون في مسابقة للجمال، أو كان أهم عمل للإنسان في هذه الحياة هو أناقة الملبس وحسن البزة وجمال الهندام. إذا مالت ربطة الرقبة نصف ملليمتر كان هذا عيباً فظيعاً؛ وإذا كانت هناك ذرة واحدة من التراب على نعل الحذاء خربت الدنيا وقامت القيامة في البيت على الخادمة المهملة. ما علينا كما قلت. ثم أذهب أجري إلى المدرسة أجري بالمعنى الحرفي لأني كنت أقرأ فلم أجعل بالي إلى الوقت وموعد المدرسة. وما أكثر ما كنت أجري وفي يدي ربطة الرقبة فلا يتيسر لي أن أضعها حول رقبتي إلا في الصف أو في المكتب. ولو تخلفت عن المدرسة لما كان في ذلك بأس ولا منه ضير، فقد كنت أنا ولي أمر نفسي، ولكنا نحب المدرسة وكانت لنا رغبة في التعلم. وينقضي اليوم المدرسي فنكر راجعين إلى بيوتنا ثم نخرج للرياضة والنزهة والترويح عن النفس ساعة أو ساعتين
وأذكر لكم شيئا. . كنا ثلاثة أو أربعة لا نكاد نفترق. ولم نكن في مدرسة واحدة ولكنا كنا نلتقي بعد المدرسة في بيت أحدنا ومعنا كتبنا أو بعضها فنتبادل الدروس التي تلقيناها في يومنا، ثم نمضي إلى قصر النيل أو غيره - على أرجلنا - فإذا كان اليوم خميس ركبنا زورقاً على النيل وكان أبو أحدنا رجلاً فيه شذوذ، فكان يتفق أن يجيء إلى بيتي يقف في الفناء الرحيب تحت الجميزة ويصفق، حتى إذا شعر أن أحداً أطل من النوافذ العليا كف عن التصفيق وانطلق يصيح: (يا أهل عبد القادر. . حوشوا أبنكم عن أبني. . أفسد أخلاقه وعلمه السهر إلى الساعة اثنين) فيخيل لمن يسمعه يصيح إننا نسهر إلى الساعة الثانية صباحا أي بعد منتصف الليل، ولكنه كان يعني لا ساعة الثانية بالحساب العربي: أي العشاء أو بعد ذلك بقليل. . .)(209/2)
فقال أحد الشبان: (لم يكن في أيامكم سينما ولا غيرها من الملاهي التي تضيع الوقت)
فقلت: (إن اللهو ميسور في كل وقت. وطالبه لا يعدمه في أي مكان أو زمان. والمهم هو إرادة اللهو لا اللهو في ذاته. وأنا أراكم تريدون الحياة كلها لهو لا جد فيها ولا عمل؛ وهذا هو الفرق بيننا وبينكم، فقد كنا ندرك أن اللهو ساعات لا ينبغي أن نعدوها، أما أنتم فلا يكاد الواحد منكم يدرك أن للعمل وقتا أو أن العمل واجب. . تريدون اللقمة ممضوغة بل مهضومة قبل أن تضعوها في أفواهكم، بل أنتم لا تريدون أن تكلفوا أنفسكم عناء بلعها وازدرادها. . من منكم يعنى بأن يفتح كتابا غير كتب المدرسة؟ لقد كنا نذهب إلى المكاتب ونبحث فيها عما نريد من الكتب. . وانتم تنشر لكم الصحف إعلانات مشوقة مرغبة مغرية عن الكتب فلا يخطر لأحدكم أن يشترى منها كتابا. . حتى كتب المدرسة لا تقرؤونها. . وشكواكم أبداً من الامتحان وصعوبته. . وسعيكم دائما إلى التسهيل والتخفيف والرأفة. . وما أحسبكم تطلبون إلا أن تعطوا الشهادات بلا امتحان. . والوظائف بلا استحقاق. . وقد سمعت بعضهم يقول أن الجرائد والمجلات تشغل الطلبة في هذه الأيام عن الدرس والتحصيل، وأعتقد أن هذا كلام فارغ فقد كانت في أيامنا جرائد ومجلات كنا نقرأها جميعا. . اللواء والمؤيد والجريدة والمقطم والدستور والهلال والمقتطف، بل كنا نذهب إلى دار الكتب لنقرأ فيها المجلات القديمة مثل الضياء والبيان لصاحبهما المرحوم اليازجي. . . وكذاب من يقول إنكم تقرءون الصحف، فما تقرءون فيها حين ترونها إلا أخبار الامتحان والإضراب والمظاهرات الساعية إلى الوزارات تستجدي النجاح. . . وما تقرءون إذ تقرءون إلا المجلات الهزلية لأن حياتكم هزل بحت)
فقال أحدهم: أن الحركة الوطنية هي المسئولة عن انصراف الطلبة عن التحصيل. فلم يقنعني قوله هذا وبينت له أن الحركة الوطنية كانت أيضا في أيامنا. . . بل كانت في ذلك الوقت أحمى، وكان مصطفى كامل يقيم البلاد ويقعدها بخطبه ومقالاته اليومية. ولكن قراءة أو سماع الخطبة لا يستغرق اليوم كله ولا يستنفد الجهد أجمعه. . . وقد كانت هناك في أيامنا جمعيات أدبية شتى وكنا نعنى بأن نشهدها كلها. ولو أن جمعية أدبية قامت في زماننا هذا لما حضرها إلا مؤسسوها. . . وحتى هؤلاء في مواظبتهم على الحضور شك كبير. . وفي كل أمة صحف ومجلات وأمور تشغل أبناءها، وما أظن أن أحدا سيدعي أن مشاغلنا(209/3)
أكبر من مشاغل الشعب البريطاني أو الألماني أو الفرنسي. . ومع ذلك لا نرى هذه البلادة المخيفة والانصراف الموئس عن الجد.
وقصصت عليهم قصة فقلت: (إني بعد أن تخرجت من مدرسة المعلمين العليا وأصبحت مدرسا اتفق يوما أن كنت جالسا في مقهى بميدان قصر النيل - ميدان الإسماعيلية الآن - وكان معي كتاب (حديث المائدة) لويندل هولمز، وكنت أقرأ فيه حديث الشاعر على المائدة، فمر بي إنجليزي كان معلما لي في مدرسة المعلمين فخففت إليه وحييته، فقد كنت أحبه، فكان أول ما قاله لي: (أظن أنك لا تقرأ شيئا في هذه الأيام؟) فسألته عن سبب هذا الظن القبيح بي فقال: (ألست مدرساً وموظفاً ولك مرتب تتقاضاه في آخر كل شهر؟ فما حاجتك إلى القراءة؟) وكان يتهكم. ولو أني شئت لما عبأت بسوء رأيه هذا ولكنه شق على أن يتوهم أني ما كنت أقرأ إلا طلباً للشهادة ورغبة في الوظيفة، فرجعت إلى حيث كنت قاعدا وعدت إليه بالكتاب الذي كنت أقرأ فيه ودفعت به إليه وقلت له: (واسألني إذا شئت. . امتحني. . نعم فأني مستعد، فابتسم وقال: إنما كنت أمزح. . لأحثك على المواظبة على الاطلاع. . وأني لأعرف أنك تحب التحصيل للتحصيل، ففرحت بهذا جدا وعدت إلى مجلسي مسروراً مغتبطاً بحسن رأي أستاذي؛ وقد لقيته بعد ذلك بسنوات طويلات المدد في إنجلترا وكنت أهم بالعودة وأتزود من مكتبة هناك فقال لي: (أراك لا تزال تقرأ؟) قلت: (إن لنا مثلا يقول إن الزامر يموت وأصابعه تلعب. . صار الأمر عادة يا سيدي. . لا أستطيع أن أنام إلا إذا قرأت شيئا. . لا لأنام فان الكتب لا تنيمني، بل لأحلق في سماء الفكر وأرتفع لحظة عن هذه الأرض. .)
فاعتذر أحدهم بأن الدروس كثيرة وأنها مضنية، وهذا صحيح، فإنها أكثر مما ينبغي، ولكني قلت لهم: إن دروسنا كانت أقل وأفرع وكان أمرها أهون، ولكن الذي كنا نقرأه من تلقاء أنفسنا، بلا حث أو حض، كان أضعاف أضعاف ما تتبرمون منه. . لقد كان أحدنا يقرأ في الليلة الواحدة كتابا. . من منكم يعرف أن لداروين كتابا اسمه أصل الأنواع؟. . أو من منكم يعرف اسم داروين؟. . لقد قرأت هذا الكتاب الجاف في صدر أيامي. . وقرأته بلا معين وحطمت رأسي به. . وما أكثر ما حطمت رأسي بأمثاله. . الحقيقة أنكم قوم ولا مؤاخذة فارغون. . وأنتم الذين سيكون في أيديكم زمام هذا البلد المسكين!)(209/4)
ولا أعرف لماذا زارني هؤلاء الشبان، ولكني أعرف أنهم انصرفوا راضين على الرغم من هذه العلقة!
إبراهيم عبد القادر المازني(209/5)
السندوتش والمائدة
للأستاذ عباس محمود العقاد
أدب السندوتش هو أدب الفاقة والعجلة، وأدب المائدة هو أدب اليسار والوقار، كما سماهما الكاتب البليغ الأستاذ الزيات وأصاب في التسمية. لأنها تسمية وتوصيف وتعليل في وقت واحد
وقد ختم الأستاذ مقاله سائلا: (ليت شعري إذا خلت أمكنة هؤلاء النفر - أدباء الكهول - الذين نبغوا بالاستعداد والاجتهاد كيف تكون حال الأدب الرفيع في مصر؟ أيذهبون وبطئان ما يعوَّضون على رأي الأستاذ أحمد أمين، أم يذهبون وسرعان ما يخلفون على رأي الأستاذ العقاد؟)
وفي جواب هذا السؤال أيضاً لست من المتشائمين، لأن الجواب بعضه من سر المستقبل. وبعضه من حقائق الماضي؛ فان وقفنا من المستقبل بين الشك والرجاء فموقفنا من الماضي أدنى إلى رجاء المتفائل. وأقصى عن يأس المتشائم، بل لعله موقف لا يحمل في أطوائه غير يقين الرجاء.
قبل ربع قرن من الزمان كان أناس غير قليلين يسألون كما يسأل الأستاذ الزيات اليوم: ترى من يرفع لواء الأدب بعد أعلامه البارزين في هذه الآونة؟ ترى هل ينطوي اللواء بعدهم أو تهيئ له الأيام أكفاً تنشره كما نشروه وتعزه كما أعزوه؟
ولم يكن اسم واحد من الأسماء الستة أو السبعة الذين أشار إليهم الأستاذ الزيات معروفا تلك المعرفة التي تغني في إجابة السؤال؛ وربما كانوا مجهولين كل الجهل في غير مجال الأصحاب أو مجال المتطلعين المتسمعين إلى أبعد الأصداء؛ فكان الجواب الغالب على الألسنة أن المستقبل مقفر مدبر، وأن من مات فات وليس له لاحق بين ناشئة الجيل
فإذا سألنا في مفرق الجيلين مثل ذلك السؤال ورأينا البوادر تملي علينا مثل ذلك من الجواب، فليس من اللازم أن تصدق البوادر، وأن تنقضي خمس وعشرون سنة أخرى دون أن يخلف السابقين عوض من اللاحقين، وإن خفي نجمهم اليوم أو تراءى على الأفق ترائيا يتشابه فيه النجم والسديم
وإننا لنذكر اليوم الستة أو السبعة القائمين بأمانة الأدب وننسى الستين أو السبعين الذين(209/6)
كانوا يهزلون كما يهزل بعض الناشئين في أيامنا، ويتبلغون بالقليل من زاد الاطلاع كما يتبلغ أدباء السندوتش بيننا: نسينا أولئك الستين أو السبعين لأن الزمان قد نسيهم وعفى على أسمائهم وآثارهم، ولكنهم كانوا في أيامهم يحجبون الأفق ويشبهون الشخوص على الأنظار ويبعثون اليأس ويثبطون الرجاء. فليس من البعيد أن يكون لهم نظراء يلبسون الأمر علينا، وأن يكون للستة أو السبعة نظراء ينقشع عنهم الغبار بعد عشرة أو عشرتين من السنين، وإن جاز أن يخيب الظن كما يخيب بعض الظنون
وفي العالم كله نوازع شتى تنزع بالناس الآن إلى الأدب الرخيص أو أدب السندوتش أو أدب الفاقة والعجلة، وقلما تختلف البلاد في هذه النوازع على اختلاف النظم الاجتماعية والمذاهب الحكومية التي تساس بها الشعوب في العصر الحديث
ففي البلاد الديمقراطية يكثر القارئون بين سواد الشعب ويتوخى الناشرون الرواج فيؤثرون ما هو أشيع وأيسر على ما هو أندر وأنفع؛ ويطغى الأدباء الهازلون على أصحاب الجد والأمانة، فلا تتساوى الرغبة في الأدب النفيس والرغبة في الأدب الخسيس
وفي البلاد الفاشية يتحكم المستبدون في أذواق الكتاب والشعراء فلا يذعن لعسفهم واستبدادهم إلا طائفة من المرتزقة المتزلفين الذين لا يقدرون على الأدب القيم؛ ولو أبيح لهم أن يطرقوه ويتوسعوا فيه، فهم أحرى أن يعجزوا عنه وهم مكبوحون مسوقون بالرهبة والإغراء
وفي البلاد الاشتراكية يعتقد الحكام أن الآداب هي لسان حال الطبقات، وأن الأدب الذي يليق بهم هو أدب الطبقة السفلى ومن إليها من أشباه العامة والمسخرين. وحسبك من أدب يقوم على أذواق هؤلاء، ويجري مع هذه الأهواء
ولا ننس عصر الآلات وما يجرف به الناس من سرعة جامحة ونزوة جامحة. ولا ننس (الحرية الشخصية) وما سولته للصغار والأوشاب من غرور المساواة وتمرد المباهاة، فقد بدأت باعتبار الرجل نفسه نداً للسراة والوجهاء ولو كان في الصعاليك والفقراء، وانتهت باعتبار الرجل نفسه نداً للعلماء والأذكياء ولو كان من الجهلاء والأغبياء، فضعف الخجل من التقصير، وضعف الطموح إلى مساواة الأعلين، وأصبح العي الفهُّ لا يداري عيه ولا فهاهته لأنه صاحب (حق) في العي والفهاهة، وصاحب دعوة في المساواة لا يعدم لها(209/7)
أنصاراً بالألوف والملايين!
تلك النوازع في بلاد العالم كله على اختلاف النظم الاجتماعية والمذاهب الحكومية خليفة أن تنصر أدب الفاقة والعجلة، وتنحى على أدب اليسار والوقار. ولكننا نرجع إلى العصور الغابرة فلا يصادفنا عصر منها إلا كانت فيه نوازع كهذه النوازع في نصرة الأدب المبذول وخذلان الأديب الكريم العزيز. وقريبا من عصرنا هذا كان تمليق الأغنياء والخضوع للجامدين والولع بمحاكاة الأقدمين وضعف الثقة والعجز عن حرية التفكير والإبداع نوازع أخرى لا تقل في أثرها الوخيم عما أحصيناه من مساوئ عصرنا، فلا نفاذ في عصور الزمن لبواعث الضعف ولا نفاذ فيها لبواعث القوة؛ وشأن العقول في ذلك شأن الأبدان بين دواعي السقم ودواعي الصحة، لا ينفرد عصر بالأمراض كلها ولا ينفرد عصر بالعافية كلها، ولا يزال الحال في تعادل ونقص وتعويض ما دامت الحياة حيه تعطي وتأخذ من دنياها بمقدار
على أننا لا نخادع أنفسنا ولا نستر الفوارق التي بيننا وبين غيرنا. ففي إنجلترا مثلا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم برتراند رسل وهو يتهد في أعوص الموضوعات؛ وفي فرنسا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم رومان رولان وبرجسون في المثل العليا وما وراء الطبيعة؛ وفي ألمانيا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم هوسرل وهيدجر في معارض لا يعنى بها فيما أحسب عشرة من قرائنا المصريين؛ وفي إيطاليا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم فريرو وجنتلي وجروشي في معضلات الاجتماع والتاريخ. وإنما مثلت بالفلسفة وحدها لأن موضوعاتها أعسر، وقراءها أندر، وعقول الباحثين فيها أكبر وأقدر؛ وهي بعد عنوان لما وراءها من أدب الجد والأمانة والرصانة والترفع عن القشور.
أما في مصر فأدب الجد والأمانة والرصانة والترفع عن القشور إنما يقوم على كواهل أصحابه ولا يقوم على كواهل القراء؛ وكل ما نملك من عزاء أن الجد والهزل في هذا الباب يتساويان، فليس بيننا كاتب هازل يعيش بهزله، وليس بيننا كاتب جاد يعيش بجده؛ وسبيل العزاء في هذا أن الهزل والجد يعيشان على نمط واحد، فلا يجوز الهزل حتى يطمس معالم الجد، وأن شاء أن يجور
كذلك يتعاقب أدباء الكهول وأدباء الشباب في أوربا، ولهم في التعاقب معنى يتمثل في(209/8)
تعاقب الأدوار وتلاحق الأفكار، وتباين المدارس الذهنية على حسب الأحوال والأطوار
أما عندنا فحين ظهر بيننا من ينتعون أنفسهم بمدرسة الشباب لم يكن معهم شيء جديد ولا دليل على الحداثة غير شهادة الميلاد، وراحوا في دعوتهم يميعون تميع الذي يربت على عطفيه ويتحبب إلى نفسه ويفرط في تدليل سنه كأنه يتقدم في سوق الرقيق لا في ميدان الفكر وحلبة الصراع
بيد أننا قد جربنا الاختلاف بيننا وبين أوربا الحديثة في خصال كثيرة صلح بعضها ولا تزال لها بقية على سنن الإصلاح؛ فلنجرب ما بيننا وبينها من اختلاف في هذه الخصلة خمسا وعشرين سنة أخرى، ولا ننتظر نهايتها حتى نتفاءل ما وسعنا التفاؤل على أبواب المجهول، وحسبنا منه فيما نحن فيه أن يتساوى الأمران فلا موجب للأمل ولا موجب للقنوط، وكل ما كان بالأمس فهو وشيك في غد أن يكون
أيذكر الأستاذ الزيات ما كانوا يعيبونه قبل خمس وعشرين سنة على كتاب الجيل الناشئ وشعرائه وناقديه؟؟ كانوا يجمعون العيوب كلها في كلمة واحدة يسمونها (التفرنج) ويعنون بها الخروج على قواعد العربية، وكان يخيل إلى سامعيهم أنهم على صواب لا ريب فيه؛ فهل نرى اليوم مصداق ذلك في لغة الفريقين من المسومين بالإعراب والموسومين بالتفرنج في ذلك الحين؟ أقرب الظن أن هؤلاء (المتفرنجين) من كهول اليوم أوفى للعربية من أولئك المستعربين المتشددين، فإن لم يكن ذلك شفيعا للأمل في غد، فلعله أن يكون معينا على الانتظار!
عباس محمود العقاد(209/9)
في التاريخ السياسي
المسألة الفلسطينية والآراء المعروضة لحلها
بقلم باحث دبلوماسي كبير
تجتاز المسألة الفلسطينية الآن دورا دقيقا حاسما؛ فهي الآن قيد البحث والدرس من جانب السياسة البريطانية، والسياسة البريطانية تحاول هذه المرة أن تضع لحلها تسوية دائمة يقبلها العرب واليهود معا؛ ومنذ أن احتلت بريطانيا العظمى فلسطين، وصدر عهد بلفور لليهودية بجعلها وطنا قوميا لليهود، أعني منذ عشرين عاما، لم توفق السياسة البريطانية إلى تحقيق السكينة والسلام في فلسطين؛ ذلك لأن النظام الغريب الذي ابتدعته السياسة الاستعمارية لهذه البلاد العربية لم يكن طبيعيا يرجى له البقاء، فهو فضلا عن كونه يقضي بتمزيقها إلى شطرين هما فلسطين وشرق الأردن، فانه أيضاً يقضي بجعلها، وهي البلاد الإسلامية العربية، وطنا قوميا لليهود من جميع أنحاء العالم؛ وقد كان حلم اليهودية منذ أواخر القرن الماضي أن تستعمر فلسطين، وأن تحقق باستعمارها أمنية العودة إلى أرض الميعاد وإحياء مملكة إسرائيل بعد أن دثرت منذ آلفي عام؛ فلما أسفرت تطورات الحرب الكبرى عن قيام الحكومة البريطانية بإصدار عهدها بتعضيد إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، فتحت فلسطين على مصراعيها لتلقى الهجرة اليهودية من سائر الأنحاء، ولم تمض أعوام قلائل حتى طغى هذا السيل الجارف على فلسطين، واستأثرت اليهودية بمعظم مرافقها الاقتصادية، وشهد العرب في فزع وروع بلادهم تتحول بسرعة إلى مستعمرة يهودية يكادون يصبحون فيها غرباء عن أوطانهم؛ ومع أن اليهود ما زالوا من الوجهة العددية أقلية (فهم اليوم نحو أربعمائة ألف مقابل نحو ثمانمائة ألف من العرب) فانهم من الوجهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هم ذوو النصيب الراجح في شئون فلسطين وفي مرافقها وثرواتها، تعضدهم السياسة الإنكليزية وترجح رأيهم ومصالحهم.
هذا الوضع الشاذ لمصاير الفلسطينية لم يكن يرجى له البقاء، ولم يرتضه العرب منذ الساعة الأولى بل قاوموه بكل قواهم، وثارت فلسطين العربية غير مرة في وجه هذا الاعتداء الصارخ على حقوقها القومية والتاريخية، وأسمعت صوتها للسياسة البريطانية وللعالم كله، وكان العام الماضي مشهد فصل رائع من ذلك النضال الجلد المؤثر الذي(209/10)
تخوضه فلسطين للذود عن كيانها. وللمرة الثالثة أو الرابعة تحاول السياسة الإنكليزية أن تبحث المسألة الفلسطينية على ضوء الحوادث والتطورات الواقعة، وقد حاولت من قبل أن تعالجها ببعض الحلول الجزئية، كإنشاء مجلس تشريعي، أو تقييد الهجرة اليهودية، أو الحد من بيع الأراضي إلى اليهود؛ ولكن الأمة الفلسطينية لم تقبل هذه الحلول العرضية، وما زالت تتمسك بمطلبها الأسمى، وهو إلغاء عهد بلفور وإلغاء الانتداب البريطاني ومع أن السياسة البريطانية ما زالت تصر على خطتها في التمسك بالانتداب وعهد بلفور، فأنها تشعر اليوم شعورا قويا بأنه يستحيل عليها من الوجهة العملية أن تمضي في هذه الخطة، وأن السلام لا يمكن أن يستتب في فلسطين ما لم يوضع حل نهائي شامل للمسألة الفلسطينية يرضى العرب واليهود معا. وهذه في الواقع هي النقطة الشائكة في الموضوع، ذلك أن كل حل تلحظ فيه أماني العرب لابد أن يجد فيه من نشاط الصهيونية وأمانيها في فلسطين، وهذا ما لا ترضاه اليهودية، بل تقاومه بكل قواها؛ واليهودية قوة عالمية ذات شأن وذات نفوذ يذكر في عالم السياسة والمالية العليا، والسياسة الإنكليزية لا يمكن أن تنسى هذه الحقيقة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن بريطانيا العظمى قطعت لليهودية في شأن الوطن القومي عهودا يصعب عليها أن تتراجع فيها، أدركنا مبلغهما يحيق بحل المسألة الفلسطينية، من المصاعب الفادحة والاعتبارات الدقيقة.
وقد كانت آخر خطوة اتخذتها الإنكليزية في سبيل المسألة الفلسطينية، انتدابها في العام الماضي على أثر الاضطرابات التي اضطرمت بها فلسطين مدى أشهر لجنة ملكية لتحقيق أسباب هذه الاضطرابات وسماع أقوال العرب واليهود وتعرف موقف كل فريق وأمانيه وأسباب تذمره؛ وأن توصى بعد درس الحالة بخير الحلول التي تراها كفيلة بوضع الأمور في نصابها وحل المسألة الفلسطينية حلا يوفق بين مختلف الأماني والرغبات ويكفل استتباب النظام والأمن في فلسطين؛ وقدمت هذه اللجنة إلي فلسطين في أواخر العام الماضي وقامت بمهمتها؛ وفي الأنباء الأخيرة أنها وضعت تقريرها المنشود ورفعته إلي الحكومة الإنكليزية لدراسته واتخاذ قرارها بشأنه؛ ولم يعرف رأي اللجنة بعد في حل المسألة الفلسطينية بصورة قاطعة، ولكن الصحف البريطانية أذاعت أخيراً أنباء يستفاد منها أن اللجنة ترى أن تقسم فلسطين إلى منطقتين إحداهما عربية والأخرى يهودية، وأن(209/11)
يختص العرب بالمنطقة الشرقية ولها منفذان إلي البحر عن طريق يافا وحيفا؛ وأن يختص اليهود بالمنطقة الغربية ويعطي لها نظام الدومينون، وأن تجعل مدينة القدس وبيت لحم منطقة دولية مستقلة تحت إشراف عصبة الأمم، وأن تجعل حيفا قاعدة بحرية بريطانية؛ ويلاحظ أولا أن هذه الفكرة في تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب إلى مناطق اتحادية، وجعل مدينة القدس مركزاً دينياً حراً على مثل (مدينة الفاتيكان) في رومه. ليست جديدة ولم تنفرد بإبدائها اللجنة الملكية البريطانية، بل هي فكرة ظهرت منذ أعوام وقل بها بعض زعماء الصهيونية ورجال السياسة، على اختلاف في بعض التفاصيل؛ ولكن هل يعتبر هذا الحل علاجا ناجعا للمسألة الفلسطينية؟ وهل يرتضيه طرفا النزاع؟ وهل يحقق السلام المنشود؟ هذا ما يشك فيه الشك أولاً، لأن العرب لا يرتضون حلا لقضيتهم يقوم على تمزيق بلادهم واقتطاع نصفها لليهودية بصفة نهائية وحصرهم في منطقة ضيقة هي أقل المنطقتين من حيث المزايا الإقليمية والاقتصادية؛ وثانيا لأن اليهودية تأبى أن تحد أطماعها في فلسطين على هذا النحو، ولا ترضى بأقل من فلسطين كلها ميدانا لنشاطها الاستعماري، بل لقد حاولت اليهودية في الأعوام الأخيرة أن تدفع نشاطها إلى شرق الأردن، وهي المنطقة التي حرمها صك الانتداب على الوطن القومي اليهودي فكيف بها ترضي اليوم أن تحصر في المنطقة الساحلية؟ وكيف ترضى اليهودية أن تنزع من نفوذها مدينة القدس، إيليا أو أورشليم عاصمة داود وسليمان. ومثوى ذكرياتهم التي يبكونها منذ ألفي عام؟ الواقع أن فكرة التقسيم؛ إذا صح أنها هي العلاج الذي تراه اللجنة الملكية، حلا للقضية الفلسطينية، تصطدم بأكبر العقبات، ولا يلوح أنها تلقى حظاً كبيراً من القبول أو النجاح
هذا وقد تقدمت في تلك الأثناء بعض المقامات المصرية العليا التي تعنى بالشئون العربية والإسلامية باقتراح جديد لحل المسألة الفلسطينية خلاصته أن تضم فلسطين إلى سوريا وأن تؤلف منهما مملكة عربية إسلامية متحدة يتبوأ عرشها أمير من أمراء العرب البارزين وتعقد هذه المملكة مع بريطانيا العظمى وفرنسا معاهدة صداقة وتحالف على مثل المعاهدة المصرية الإنكليزية. وإدماج فلسطين في تلك المملكة العربية الجديدة يعاون على حل مسألة الوطن القومي اليهودي بصورة عملية؛ ذلك أن اليهود يصبحون في المملكة الجديدة أقلية دينية، ويكون مثل الأقليات الدينية بمصر، تكفل لهم قوانين البلاد الأساسية المساواة مع(209/12)
باقي السكان في الحقوق والواجبات
وأذاعت الأنباء أيضا أن الأمير عبد الله أمير شرق الأردن يرى لحل القضية الفلسطينية رأياً مماثلا بيد أنه يرى أن تكون المملكة العربية المشار إليها مكونة من فلسطين وسوريا، والعراق
ويقال أن هذا الاقتراح بإنشاء مملكة عربية متحدة تكون فلسطين إحدى أجزائها هو الآن موضع اهتمام الدوائر السياسية البريطانية، بيد أنه يلوح لنا أن هذا الحل يثير صعاباً عملية جمة. ومن المحقق أولا أن الأمة الفلسطينية يسرها أن تنضم إلى شقيقتها الكبرى سوريا، وأن يستأنف القطران بذلك وحدتهما التاريخية. ولكن هذا الضم لا يتوقف على رأي السياسة البريطانية وحدها، بل يتوقف أيضا على رأي السياسة الفرنسية التي تسيطر حتى اليوم على مصاير سوريا؛ ومن المشكوك فيه جدا أن توافق عليه بريطانيا العظمى لأسباب عسكرية واقتصادية خطيرة؛ ومن جهة أخرى فان سوريا الجمهورية لا ترتضي الانضواء تحت لواء الملوكية المقترحة ولبنان تتمسك باستقلالها وانفصالها؛ وأما اليهودية فإنها قد لا تأبى مثل هذا الحل، بل ربما رحبت به لأنه يفتح أمامها آفاقا جديدة للعمل، وإذا كان وجود الوطن القومي اليهودي في فلسطين خطراً اقتصادياً واجتماعياً على الأمم الإسلامية المتاخمة له، فان هذا الخطر يغدو أشد وأعظم إذا اتسع نطاق العمل أمام اليهودية واستطاعت أن تخلق لها مراكز جديدة للنشاط والعمل في القطر السوري أيضاً؛ هذا ومن الخطأ أن نقدر قوة اليهودية بأقليتها العددية، فان هذه أقلية تستند إلى قوى عظيمة في الخارج تغذيها بتعضيدها المادي والمعنوي؛ واليهودية العالمية قوة لا يستهان بها
والخلاصة أن المسألة الفلسطينية لا تزال في دور؛ وليس في الحلول المعروضة ما يؤدي إلى تسويتها بصورة دائمة مرضية، غير أنه لما كانت الحكومة البريطانية قد اقتنعت بعد حوادث العام الماضي بأنه لابد عمل شيء جديد يكفل استتباب النظام والأمن في فلسطين فهي بلا ريب ستحاول القيام بتجربة جديدة؛ واستتباب السلام في فلسطين يهم السياسة البريطانية في الظروف الحلية بنوع خاص، لأنها أضحت ترى في فلسطين مركزاً جديداً للدفاع الإمبراطوري يمكن الاعتماد عليه؛ وتقرير اللجنة الملكية الآن قيد البحث والدرس، وسنرى عند أذاعته على أي الأسس ترى اللجنة أن تقسم فلسطين إلى دولتين إحداهما(209/13)
عربية، والأخرى يهودية، وسنرى أيضاً إذا كانت الحكومة البريطانية تميل إلى تطبيق هذه التجربة الجديدة في فلسطين، على أنه مما لاشك فيه أن اليهودية تعمل اليوم كما عملت دائما على تدعيم مطالبها وأمانيها مهما كانت السياسة الجديدة التي تنتهجها السياسة البريطانية؛ وسيجتمع عما قريب في مدينة تسيريخ (زيوريخ) بسويسرا مؤتمر صهيوني عالمي جديد، يعيد إلينا ذكرى مؤتمرات بال الشهيرة التي وضعت فيها أسس السياسة الصهيونية الحاضرة؛ ونحن على يقين من أن العرب يقصروا في الدفاع عن قضيتهم التي برهنوا دائما على انهم أهل للدفاع عنها؛ بيد أن الظرف الحاضر يقتضي بلا ريب مضاعفة الجهود؛ فعلى العرب أن ينظموا صفوفهم ليستأنفوا نضالهم السلمي المشروع، مزودين بقوة العدالة والحق والإيمان
(* * *)(209/14)
فصول في التصوف الإسلامي وفتوحات ابن العربي
التصوف والصوفية في الإسلام
للأستاذ خليل هنداوي
وإن كانت (الأبيقورية) ذهبت مذهباً متطرفاً في المادة فأن
الصوفية أيضاً قد نحت نفس هذا المذهب في شططها وغلوها
في الروح والنفس وجوهر الله.
يقول الأستاذ (فريد وجدي) في دائرة المعارف: إن التصوف هو مذهب كان الغرض منه تصفية القلب عن غير الله والصعود بالروح إلى عالم التقديس بإخلاص العبودية للخالق والتجرد عما سواه. وهذا قديم كقدم النزعة التي أوجدته، فان الإنسان منذ ألوف من السنين أدرك أن خلف هذه الغلف الجسدانية سراً مكنوناً، فنشأ هذا المذهب في كل أمة راقية، ولبس شكلاً مناسباً لعقولها وأفكارها، وهو معروف في الهند والصين ألوف من السنين، وله عند الهنديين أساليب شديدة على النفس، ولكنه لما وجد تحت ظل الإسلام وأحيط بأدب القرآن دخل في دور جديد). وقد اختلف العلماء والمتصوفون أنفسهم في حقيقة تاريخ مذهب التصوف والى أين يذهب عهده، على أن عهده يرجع إلى قديم الزمن وان لم يكن معروفا قبل بهذا الاسم، وقد اختلق العرب اشتقاقا لهذه الكلمة واختلفوا في وضعها، فمنهم من ذهب مذهب القائل: (إن أول من انفرد في الإسلام بخدمة الله عند المسجد الحرام رجل يقال له (صوفة) واسمه الغوث بن مر فانتسبوا إليه لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله، فسموا بالصوفية) وقال الزبير: قال أبو عبيدة: (وصوفة وصوفان يقال لكل من ولي من البيت شيئاً من غير أهله، أو قام بشيء من أمر المناسك). وقد ذهب قوم إلى أن التصوف منسوب إلى أهل الصفة في الانقطاع إلى الله وملازمة الفقر، وهم المعروفون في الإسلام بأهل الصفة. والتصوف عندهم يقصد به رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة وحمله على الأخلاق الفضيلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص. ومنهم من نسب الصوفية إلى لباس الصوف. فقيل في أحدهم صوفي، وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف، ولاهم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ولكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال.(209/15)
ويقول الشيخ الشعراني في كتابه الطبقات: (إن طريق الصوفية مقيدة بالكتاب والسنة، وإنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء) وأنها لا تكون مذمومة إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير، أما إذا لم تخالف فغاية الكلام أنه فهم أوتيه رجل مسلم، فمن شاء فليعمل به ومن شاء تركه. والتصوف هو عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل والكتاب والسنة، فكل من عمل بها انقدح له من ذلك علوم وأدب وأسرار وحقائق تعجز الألسن عنها نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها. فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو. ولا يدرك أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة إلا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ إلى النهاية. وكيف تخرج علومهم عن الشريعة والشريعة هي وصلتهم إلى الله عز وجل في كل لحظة؟ وقد اجتمع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله إلا من تبحر في علم الشريعة وعلم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها، وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعارتها وغير ذلك، فكل صوفي فقيه ولا عكس.
وقد ورد فصل يحسن ذكره في هذا الموضع للدلالة على الروح الصوفية التي كانت تسود عقول أصحابها من كتاب (اللمع في التصوف) قال الشيخ أبو نصر: سألني سائل عن علم التصوف ومذاهب الصوفية وزعم أن الناس اختلفوا في ذلك فمنهم من يغلو في تفضيله ورفعه فوق مرتبته، ومنهم من يخرجه عن حد المعقول والتحصيل، ومنهم من يرى أن ذلك ضرب من اللهو واللعب وقلة المبالاة بالجهل، ومنهم من ينسب ذلك إلى التقوى والتقشف، وليس التصوف في تنوق الكلام واللباس وغير ذلك، ومنهم من يسرف في الطعن وقبح المقال فيهم حتى ينسبهم إلى الزندقة والضلالة، وليس من مذهبهم النزول على الرخص وطلب التأويلات والميل إلى الترفه والسَّعات، وركوب الشهوات لأن ذلك تهاون بالدين، وإنما مذهبهم التمسك بالأولى والأتم في أمر الدين. والصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون نوع ولم يترسموا برسم من الأحوال المحمودة والأخلاق الشريفة.
ما هو التصوف؟ سال سائل محمد بن القصاب وهو استناد الجنيد الصوفي الشهير، فقال: أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام. وقال الجنيد: التصوف(209/16)
أن تكون مع الله بلا علاقة. وفي الحقيقة أن هذه الكلمة هي التي يتخذها الصوفيون أساسا لتصوفهم في المشرق كان أم في المغرب. ويدخل موضوع التصوف المبني على هذه القاعدة في عداد المذاهب الفلسفية، فالإنسان إذا أراد أن يكون مع الله بلا علاقة فهو محتاج ولا ريب إلى معرفة الله وتحديد علاقاته مع الإنسان معه، ولا ريب أن هذه الموضوعات هي سبيل مظلمة من سبل الفلسفة التي يستضيء الفيلسوف عقله لإنارتها، والصوفي يعتمد توكله وإيمانه.
وكلمة التصوف جاءت إلى العربية من اليونانية (صوفيا وهي تعني إغلاق الفم والصمت. وليس ببعيد هذا، لأن التصوف جاء إلى العرب ونشأ بينهم بعد هجرتهم من الجزيرة، وتعرفهم إلى مدنيات الأمم المجاورة لهم كالفرس واليونان وكانت فكرة التصوف عند هؤلاء شائعة
والأرجح أن يكون التصوف مذهبا مستقلا له شأنه. ينظر صاحب هذا المذهب إلى الكون نظر أصحاب المذاهب الأخرى له. وكما أن المتشرع الحكيم يضع من عنده القوانين للكون ويحدد كل شيء بالنسبة إليه بنظام، وكما أن الفيلسوف قد يجحد كل ما يصنعه غيره ويناقش الطبيعة بلغته الفلسفية الخاص، فالصوفي كذلك له من مذهبه ما يجعله مستقلا تمام الاستقلال عن المذاهب الأخرى: ينظر إلى الكون بعينه المجسدة، ويتفهم الفضائل حسبما يوحي إليه مذهبه، ولا بأس بأن نقول كمن قال (فيكتور كوزان): إن التصوف هو مذهب من المذاهب الفلسفية وإنما يستعين على الظهور بالدين؛ وهو إن لم يكن غنيا بمنطقه وقواعده وارتقائه على العقل فهو يتضمن قالب المذهب الفلسفي ولا يحدد إلا نقطة نظرية ضيقة المجال. وقد غلب هذا المذهب على المذاهب الطبيعية، وعم في سائر الديانات التي ارتكزت على الكتب السماوية والتعاليم البشرية.
على أن هذا لم يمنع قول القائلين: أن الصوفية ليست مذهبا يعتنقه المرء، يأخذ بعقائده وتقاليده. فإنها أدنى إلى الطبائع في بعض النفوس منها إلى قواعد مذهب مقرر، وأنت ترى كثيرين من الناس يعيشون عيشة الصوفية في زهدهم وقناعتهم وما هم بالصوفيين.
حكم العلماء على الصوفية
نشأ المذهب الصوفي شأن كل مذهب يكون الإخلاص رائده، ثم يتسرب إليه التحيل(209/17)
والهدى، ولم يعرف التاريخ مذهبا داجي فيه أصحابه مثلما عرف من التصوف، فقد دخل فيه المخلص والزنديق والنشيط والبليد، فالتصوف أساسه الزهد والتظاهر بالفقر وكراهية الدنيا، وكم من أناس حبب لهم العيش الرخاء والتواني في السعي، فأووا إلى هذه المذاهب التي تعلي من قيمتهم وتظاهروا بالتصوف، وقديما كان الناس يتسابقون إلى إيواء الصوفي وإطعامه، والمبالغة في إكرامه، وهكذا كانوا ينتقلون في عيشهم من بادرة إلى بادرة معتمدين على الظاهرة الصوفية، وليس في قلوبهم إلا الغل والنفاق، ولابن تيميه فتوى جليلة في الصوفية وحال أقسامهم، فقد قال بعد أن شرح موضع الصوفية من العلماء: (والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم، ففيهم السابق السابق بحسب اجتهاده، وفيهم من قد يجتهد فيخطيء، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، وقد انتسبت إليهم طائفة من صوفية الحقائق الذين اعتنقوا مذهب الصوفية بإخلاص قلب، ووفاء سريرة، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم ممن لا يغنون فتيلا، والصوفية كانوا ولم يزالوا من جملة الزهاد، ولكنهم انفردوا عن الزهاد بصفات وأحوال، واتسموا بسمات خاصة بهم، والتصوف طريقة بدؤها الزهد الكلي كما قدمنا في كل متاع الدنيا؛ ثم ترخص المنتسبون إليها - لما حرموا من ملذة الدنيا فجعل البعض ذلك لهم حيلة - بالسماع والرقص، فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب.
ويبدو أن هذا الضرب من التحيل لم يبخس حق قيمة المتصوفين الحقيقيين، وقد قال القشيري في رسالة: (لم يكن عصر في مدة الإسلام وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ وتواضعوا له تباركوا به، فقد أذعن الإمام الشافعي لشيبان الراعي حين طلب الإمام أحمد بن حنبل أن يسأله عمن نسي صلاة لا يدري أي صلاة هي؟ وإذعان أحمد لشيبان كذلك حين قال لشيبان (هذا رجل غفل عن الله فجزاؤه أن يؤدب). وكذلك إذعان الإمام أحمد لأبي حمزة البغدادي واعتقاده فيه حين كان يرسل إليه دقائق المسائل ويقول: ما تقول في هذا يا صوفي؟ وكان يروى أن الإمام أحمد كان يحث ابنه على الاجتماع بصوفية زمانه، ويقول انهم بلغوا في الإخلاص مقاما لم يبلغه
وقد أوى منهم إلى ضروب من الكرامات زعموا أنها خاصة لا تصدر إلا عنهم، يريدون(209/18)
من وراء ذلك أن الله يسخر قوات الطبيعة والأشياء لهم، ولكن هذا النوع من هذه الكرامات لم يرق معشر العلماء فاختلفوا في أحكامها. والناس في إنكارها أقسام، منهم من ينكرها مطلقاً، ومنهم من يقول أن هذه الكرامات تشبه السحر من أهل السيميا، وينصح للإنسان بعدم صدهم وعدم تصديقه لهم. وقد أفتوا بتكفيرهم كما أفتوا بتكفير الغزالي وحرق كتابه الأحياء. ولكن البعض من أئمة هذا المذهب لم يجعلوا هذه الكرامات قواعد راسخة للصوفية لا يكون صادقا إلا من يؤتاها ويأتي بها.
وقد قال أبو يزيد البسطامي - واضع الله وراء جبته: (لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود، ومن ترك التقشف ولزوم الجماعة وحضور الجنائز وعيادة المرضى وتلاوة القرآن وادعى بهذا الشان فهو مبتدع، وفي هذا دلالة واضحة على أن من يدخل في هذا المذهب ويعتنق مبادئه ثم يطرح عنه قواعد الشريعة المشيد عليها هو مبتدع مختلق، يحترف الصوفية فرارا من كلفات الدين ومشقات العيش
وخلاصة الأمر أن التصوف تقلب كثيرا وتحرر كثيرا وطرأ عليه ما يطرأ على سائر المذاهب عادة، ولكن التصوف الحقيقي ظل محترما في عيون الناس وقلوب الناس. وليس بوسعنا إخراج الحكم عليها من باب أحكام العلماء لاختلاف فتاواهم فيها وإنما علينا أن نستعرض مبادئها وقواعدها ونرى ما يلائم منهاجه منها سنة الحياة وما يباين، وهنالك القول الفصل
خليل هنداوي(209/19)
من الأدب التحليلي
أنا. . . والنجوم!
للأستاذ علي الطنطاوي
ما من كلمة هي أثقل على أذن السامع وأبغض إليه، من كلمة (أنا)، وما حديث أكره إلى الناس من حديث المرء عن نفسه. . . بيد إني متحدث الليلة عن نفسي، وقائل (أنا)، وجاعلها عنوان مقالتي، لأني منفرد بنفسي، لا أجد من أتحدث عنه إلا (أنا).
أنا حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفسي، وحين أصف شعور واحد وعواطفه، أصف شعور الناس كلهم وعواطفهم، كصاحب التشريح لا يشق الصدور جميعا ليعرف مكان القلب وصفته، ولكنه يشق الصدر والصدرين ثم يقعد القاعدة، ويؤصل الأصل، فلا يشذ عنه إنسان. . . سنة الله في الخلق، وقانونه المحكم، ونظامه العجيب الذي جعل الناس مختلفين وهم متشابهون - ومتشابهين وهم مختلفون، برأهم على الوحدة في الحقيقة، والتنوع في الجمال، فخلق العيون كلها خلقا واحدا، كل عين ككل عين، في تركيبها ووضعها، وصفتها، وما عين في شكلها ومعناها وجمالها، تلك حكمة الحكيم الخبير، وهذه صنعة المبدع القدير!
أنا منفرد على سطح دار في (الزبير) في هذه الليلة الساكنة المتلألئة النجوم، وأمامي الصحراء التي تمتد إلى عمان واليمن ونجد والحجاز، وورائي السواد الذي يصل إلى أرض فارس، وهي قريبة، حتى أني لأرى لهيب النفط المشتعل في (عبادان) وأنا في مكاني. . . أتأمل هذه الصحراء المجيدة المباركة، التي كتب على رمالها أروع سطور المجد، وأجل صحائف التاريخ، ونبت في رمالها دوح الحضارة الذي أوت إليه الإنسانية، وتفيأت ظلاله يوم لا ظل في الأرض إلا ظله؛ وأفكر فيطول بي التفكير، ويطل بي الفكر على آفاق واسعة ودنياوات عظيمة، وتنبلج في نفسي أصباح منيرة، فأجد في رأسي مئات من الأفكار الجديدة الكبيرة، وفي نفسي مئات من الصور الرائعة المبتكرة، ولكني لا أكاد أمسك واحدة منها لأقيدها بالألفاظ، وأغلها بالكلم حتى تفلت مني وتعدو في طريقها منحدرة إلى أغوار عقلي الباطن، فلا أنا استمتعت بها استمتاع الناس بأفكارهم، ولا أنا سجلتها في مقالة وصنعت منها تحفة أدبية، ولو أني قدرت أن أكتب معشار ما أتصور لكنت شيئا(209/20)
عظيما، ولكني لا أقدر. . . ولا أصب في مقالاتي إلا حثالة أفكاري؛ تنبت الأفكار في نفسي وتزهر وتثمر، ثم تذوي وتجف فآخذ الهشيم فأضعه في مقالتي!
ويتفجر الينبوع في نفسي، ويتدفق ويسيل، ثم ينضب وينقطع، فآخذ الوحل فأضعه في مقالتي!
وينبثق الفجر في نفسي، ويقوى ويشتد، ويكون الضحى والزوال، ثم يعود الليل، فآخذ قبضة من ظلام الليل، لأكتب منها مقالة، عنوانها. . . (ضياء الفجر)!
من أجل ذلك أكره أن أنظر في كل ما نظرت، وأستحي أن أعود إليه، وأحب كل جديد لم ينشر، وأرى أن الذي يمدحني بمقالاتي يحقرني لأنه لا يعلم أنها درهم من خزائن نفسي المفعمة بالذهب، فهو يقول لي: إن الدرهم كبير منك لأنك فقير، ولكن الذي ينقد مقالاتي وينقصها يقول لي: انك غني فالدرهم قليل منك، إن هذه المقالة حقيرة لأنك أنت عظيم. . .
لقد تعلمت هذه المسألة من عهد قريب، فصرت أحب النقد، وكنت أجهلها من قبل فأميل إلى الثناء والتقريظ
لبثت أعرض هذه المواكب من الأفكار، حتى تعبت ومللت، فألقيتها كلها في الصحراء، وجلست أفكر في الصحراء وحدها. . .
نظرت إليها وهي متمددة على سرير الجزيرة الواسعة - نائمة - فامتلأت إكباراً لها وإعظاماً، ثم فكرت أن لو فتحت الصحراء عينها - أكانت تبصرني - وتحس بوجودي؟ أأشعر أنا بوجود رملة حملتها الريح فطارت بها، فمست وجهي وهي طائرة، ثم مضت في سبيلها؟ ما أنا في وجود الصحراء الأرملة، وما حياتي إلا لحظة من حياتها، ولو تثاءبت الصحراء، أو حكت أنفها لتصرم قرن كامل قبل أن تنتهي من تثاؤبها وحكها أنفها. . . فما أعظم الصحراء وما أطول عمرها. . .
- بل ما أقل الصحراء. وما أقصر عمرها!
ما الصحراء؟ بل ما الأرض كلها؟ وما هذا المليار من القرون الذي عاشته؟ انه يوم من حياتي، إنها نقطة من بحري. . . إني نمت يوما فلما أفقت وجدت نقطة صغيرة هناك، فقلت: ما هذا؟ قالوا: مخلوق صغير يدعى الشمس. . . فعجبت من صغرها، ثم لم أحفل بها، فما أرضك هذا يا. . . يا. . . يا أيها العدم!(209/21)
هذا ما قاله لي كوكب قريب، كان ينظر إلي باسما. . . فذكرت ما قاله علماء الفلك عن الكواكب وعظمتها، فسكت ولم أنطق. . . وإذا بكوكب آخر يطل من هناك يقهقه ضاحكا يصرخ في وجه الأول: اسكت أيها النملة الحقيرة، من أنت؟ إن آلافاً مثلك لا تملأ وادياً واحداً من أوديتي، أنني أحمل مائة مثلك بين أصبعين من أصابعي. . .
وكان وراءه كوكب خافت لا يقول شيئا، لأنه لم يعلم بوجود هذا كله - لا يراه لبعده وصغره، وكان وراءه ستمائة مليون من الكواكب كل واحدا أكبر من الذي قبله، وأصغرها من هذا الكوكب كالفيل من البعوضة. . . فجلست أحدق في هذه الكواكب ذاهلا مشدوها، وانقطعت أفكاري عن الجريان وأحسست بضآلتي، حتى لقد خلتني عدما. . .
ثم صغرت هذه الكواكب في نظري لما رأيت شيئا أعظم منها، صغرت لما رأيت السماء (سقفا مرفوعا)؛ حتى غدت كلها (مصابيح تزين السماء الدنيا)، ورأيت السموات تطيف بها كلها. تحيط بهذا الفضاء (سبعاً طباقا) ورأيت الجنة من وراء ذلك (عرضها السموات والأرض) ورأيت العرش والكرسي. وملك الكائنات العظيمة، فأحسست أن عقلي ينهدم ويتحطم حين يحاول التفكير فيها وهي مخلوقة، فكيف به حين يحاول التفكير في الخالق؟
وذهبت أقابل بين هذه العظمة الهائلة التي لا يدنو من تصورها العقل، وتلك الدقة الهائلة دقة الجراثيم التي يمر الألف منها من ثقب إبرة، دقة الكهارب التي يكون منها في الذرة الواحدة مئات من الكواكب الصغيرة، يدور بعضها على بعض، كما تدور كواكب المجموعة الشمسية، ذهبت أقابل بين هذا وذاك فعجزت، وأنكن نفسي وجحدتها وامتلأت إيماناً بالخالق الأعظم، فصحت من أعماق قلبي:
لا اله إلا الله!
أنكرت نفسي. ولم أعد أراها شيئا. . . ونسيت يدي ورجلي، حتى لقد حسبتهما جزءا من الكرسي أو السرير الذي أجلس عليه، وأضعت ميولي كلها وشهواتي. حتى لم يبق لي (أنا) وإنما صرت (أنا) الكون كله، الكون الذي ردد معي قولي، لا اله إلا الله! فأحسست حينما أنكرت نفسي. بلذة الوجدان التي لا توصف:
لا يعرف العشق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
وبدأت أفهم ما كنت قرأته من أقوال أهل التصوف، وتعلمت أن الإنسان لا يحس بعظمة إلا(209/22)
إذا نسي نفسه وعظمته. هنالك يجد هذا (الجرم الصغير) الذي هو رملة في الصحراء وعدم في وجود الكوكب، والذي لا يمتد عمره أكثر من لحظة في عمر السماء. . . يجده أكبر من الكواكب، وأخلد من السموات، لأنه عرف الله وأدرك حلاوة الإيمان. . . وقمت بعد ذلك أصلي، فلما قلت: الله أكبر، محي الكون كله من وجودي، ولم يبق إلا أنا العبد المؤمن الضعيف، والله الإله العظيم الجبار!
ليس في الدنيا شيء أجل ولا أجمل من الصلاة!
(البصرة)
علي الطنطاوي(209/23)
على هامش رحلتي إلى الحجاز:
في تكية الدراويش
للدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست
عن كتاب نشره باللغة المجرية بعنوان (الله أكبر)
كان شعاع شمس الشتاء يسطع في جو القاهرة ويتألق في السماء اللازوردية، ويريق ضوءه القرمزي على المآذن والقباب فتتوهج أطرافها في الضوء الساطع كما يتوهج الذهب في كف الرجل الكريم. أما أسطح بيوت القاهرة فكانت فرصة لها لتداعب هذه الأشعة - تلك المداعبة الصحية - والريح تعبث بالأوراق والغصون في حدائق قصر النيل الغناء.
وكنت في خلال هذا الوقت وحيدا في غرفتي، شاعرا بأن السكون يطبق علي كجناحين كبيرين، ومنصرفا إلى دراسة بعض كتب الأدب العربي القديم لأقارن بين عصر وعصر، وبلغ بي التعب أشده من عكوفي على القراءة ومحاولة تفهم معاني الكتاب لأنني كنت أميل بفطرتي إلى تحليل أفكار المؤلف والوقوف على المعاني المستترة في باطن الكلمات. ولاح لي أنني أشبه بغواص يجاهد في بحر من الظلمات ليستخرج منه اللآلئ والأصداف. وما أمر العكوف على قراءة الكتب الخطية في بلاد الشرق؟ تغلق باب الغرفة دونك وتحاول أن تظل بمعزل عن العالم لتمثل في خاطرك العصر الذي عاش فيه المؤلف والظروف التي كانت محيطة بها، وإنها لمعجزة أن يظل الكتاب مهملا سنوات برمتها، فما تكاد تفتحه حتى تهب عليك النسمة القديمة بسحرها وعطرها وتسمع كلام المؤلف أو صوت الشاعر كأن لم يغيره تقلب الحوادث وانصرام الأجيال
وفيما كنت أقلب هذه الأفكار وأشباهها إذ طرق الباب، وكان الطارق صديقي محمد أمين حسونه، أتى لزيارتي ودعوتي إلى نزهة خلوية في ضواحي القاهرة. وكانت الزيارة في يوم الجمعة - وهو يوم عطلة عامة في البلاد الإسلامية - ففي هذا اليوم المقدس تعطل المصالح والدواوين وتقفل الحوانيت، ويتحتم على المسلمين أن يهرعوا إلى المساجد إذا سمعوا صوت الآذان. أما الآخرون الذين لا تربطهم بالتجارة صلة فهم يقضون ذلك اليوم(209/24)
في اللهو والمتعة على ضفاف النيل الجميلة وفي داخل الحدائق الفيحاء المبعثرة في جوانب القاهرة.
وفي أثناء احتساء القهوة اقترح صديقي حسونه أن نقصد إلى حدائق الحيوانات للتريض أو تناول طعام الغداء في ظلال الأهرام. ولكني أجبته: وما رأيك في زيارة إحدى تكايا البكتاش
هناك طفح وجه صديقي بشرا. وفي الحال وافقني على القيام بهذه الزيارة. فقلت له: لقد زرنا الهرم عدة مرات وتحملنا بعض المشاق للوصول إليه بالترام. ثم تحدثنا عن بناء الأهرام وكيف حاول العرب أن يهدموا ذلك الأثر الخالد لاعتقادهم بأنه يحوي كنوزا في جوفه. ولكن على الرغم من المجهودات الشاقة التي بذلوها فانهم اضطروا إلى الانقطاع عن هدمه بعد أن أنهك قواهم وكلفهم نفقات باهظة، وعندما استولى المماليك على مصر كانوا يظنون أن الأهرام من عمل الطبيعة. وحاول البعض منهم أن يجرب أخذ الأحجار منها للبناء ولكنهم أكرهوا على التخلي عن هذه الفكرة لصعوبة تنفيذها وربما كان عدم قدرتهم على تنفيذها موافقة لإرادة الله الذي قضت حكمته ببقاء هذا البناء المهيب الشامخ كرمز لعظمة مصر القديمة. وكثيراً ما قصدت إلى منطقة الأهرام وقضيت سويعات شاعرية أناجي القمر وأراقب أشعته اللجينية وهي تغمر الأحجار الضخمة التي يتألف منها البناء الشامخ.
في هذه البقعة الساحرة يجتمع الماضي والحاضر والمستقبل وتبدو عظمة مصر الخالدة التي بهرت العالم. ولكن مالنا نتغنى الآن بتلك الأكوام الحجرية المكدس بعضها فوق بعض. أجل ليس في هذا ما يسر الخاطر ولا ما يشرح النفس - وما هي القيمة الروحية التي تمدنا بها رؤية الأهرام أمام زيارة تكية الدراويش، تلك الطائفة التي ما زالت تلهب في نفوسنا أسمى معاني الخلود ومتاع الآخرة.
وانطلقنا في طريقنا إلى تكية البكتاشية بعد أن عبرنا شوارع القاهرة الرئيسة وانتهت بنا العربة إلى مقابر الخلفاء. هناك أفضى إلى صديقي حسونه أنه حين كان طفلا وأسيئت معاملته أمام الأسرة، لم يجد من يلجأ إليه سوى كلب أرمنتي كان مقعيا على الدرج في نفس هذه البقعة، وكان يستدفئ بالشمس فاحتضنه ثم بكى. وبعد برهة وصلت إلى سمعه أصوات(209/25)
موسيقية متنافرة، فإذا بها حفلة من حفلات الزار التي تعودت نساء القاهرة إحياءها. وكانت الحفلة تقام في أحد المنازل المجاورة لتلك القبور. فحمل صديقي الكلب وانطلق إلى هناك حيث أتيح له أن يشاهد أكثر من عشرين سيدة وهن يرقصن على نغمات الموسيقى بجنون وحشي إلى حد أن كن يتصادمن ويتلاحمن، وكان البعض منهن يمزقن الأثواب. أو يمتطين ظهور الخراف البيضاء المصبوغة بالدم. وأسر إلى صديقي بأنه أحس بالراحة ساعتئذ ولم يعز هذه الراحة إلى أية صفة مجهولة، بل ببعد هؤلاء المريضات عن الإنسانية، وفي عزلتهن هذه ما يشفي عواطفهن الهستيرية ويبرئهن من النضال الدنيوي الذي وقعن فيه.
وبينما كنا نبحث ونتجادل في البواعث الحقيقية لحفلات الزار، ألفينا أنفسنا أمام أبنية التكية الملصقة بحبل المقطم، وبعد أن ارتقينا الدرج واجتزنا حدائق التكية أحسست بنشوة وانتعاش، كالنشوة التي تحدثها الريح في يوم ساكن، ولقد ازداد سرورنا عندما اجتمعنا بطائفة من الزوار الأجانب الذين أتوا خصيصا لشهود حفلات الذكر الموسيقي، كذلك رأينا فريقا من النساء وهن واقفات بخشوع وشاخصات بأبصارهن إلى الأشجار الباسقة التي تكاد تشق أجواز الفضاء.
أما بيوت الدراويش ومساكنهم فتقع في الجهة اليسرى من الحديقة، وهي مساكن نظيفة، غاية في البساطة ولكنها فاخرة الرياش، تزينها لوحات بها رسوم رؤساء الطائفة السابقين. وتعلو هذه الإطارات - بلطة - وهي رمز الدراويش. ويزور التكية عادة جم غفير من أعيان الأجانب وبعض أمراء الشرق، ولقد شاهدت الكثير من رسومهم الفوتوغرافية وتوقيعاتهم لدى شيخ التكية. ويقع بالجهة اليمنى من الفناء الداخلي مطبخ ضخم البناء، وما كدنا نصل إليه حتى شممت رائحة الشواء ورائحة الطهي الزكية، وسال اللعاب في فمي وتحركت شهيتي فتقدمت نحو المطبخ ورأيت الطاهي يشوي شرائح اللحم الضأن. وعزم علينا الطاهي بأن نتذوق طعامه، فلم أجد مانعا من إجابة طلبه وأخذت ألتهم قطعة اللحم بشهية.
تبلغ مساحة مطبخ البكتاشية نحو مائة متر مربع بحيث تسع إعداد طعام لأكثر من مائتي شخص تقريبا، ولقد أخبرني الطاهي أن للزمن تقلباته وانهم الآن يتوخون الاقتصاد في مأكلهم مع انهم من سنوات خلت كانوا يتمتعون بأنواع المآكل الشهية، وأنهم كانوا يولمون(209/26)
الولائم الفاخرة لأكثر من مائة ضيف بعد انتهاء حفلات الذكر، أما الآن فقد تغيرت الأحوال لأن الهبات التي كانت تصلهم كادت تقطع، ومن الغرابة أن كل ما في التكية قديم أثري، فالدراويش قد بلغوا من العمر عتيا، لا يعرف من أمرهم إلا نفر قليل من سكان القاهرة، ولا يزورهم إلا خاصة الأصدقاء، ولولا زيارة بعض الأجانب لأصبحت تلك الدور في عالم النسيان. حتى صديقي المصري حسونه الذي لازمني في هذه الزيارة لم ترق في عينيه أحوال تلك الطائفة ولكني على الضد منه ألفيت لذة عظيمة لزيارة هذه الطائفة التي تربطني بها روابط روحية.
البقية في العدد القادم
عبد الكريم جرمانوس(209/27)
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي ألفونس كار
نخاسة الأزهار
ما اجتزت سوق الأزهار مرة إلا شعرت بحزن شديد، كأنني أتجول في سوق النخاسة حيث تقوم المساومة على الأجساد وتلقى العبودية طابعها المروع على وجه الإنسان
يتمشى الأغنياء بين الأزاهر فيحدجونها بأنظارهم متفحصين أشكالها وصحتها وأعمارها. فإذا ما تمت الصفقة خرجت الزهرة المبيعة من سوق النخاسة لتتبع خطوات سيدها.
سيرى وراء من اشتراك أيتها الزهرة التعسة. اذهبي إليه لتخدمي شهواته، زيني قصره بجمالك فلسوف ينزلك ثمين الآنية ويحوطك بأطالس الأعشاب. سيكون مسكنك فخما، أيتها لزهرة، فودعي الشمس والهواء، ودعي الحرية فالعبودية فاتحة ذراعيها لتضمك إلى صدرها.
يا لشقاء هذه الأزهار! إنها تعرض أكواماً يلفحها الحر والقر فتذوي مهتوكة تحت نظرات الفاحشين من الناس
لقد مر البائع فارفعي رأسك أيتها الزهرة، ليراك منتصبة تملأك الفتوة نضارة، فأنت لنضارتك معروضة على المشترين إن أكثر الأزهار المعروضة في سوق النخاسة تحني رأسها وقد ارتخت قوائمها فتلاعبت فيها أضعف النسمات. لقد رسمت الأسفار البعيدة عليها آثار الضنى. وكتب الشقاء على تويجها آيات المذلة والاستعباد. وما تهتم هذه الزهرات بجمالها، وهي تعلم ما تحتم عليها من الخضوع لسيد مجهول يتحكم فيها.
لقد تسعد إحداها إذا اشترتها فتاة لتزين بها نافذتها فتجد الماء وتجد الهواء لتحيا وتطل عليها من وراء الأشجار أشعة الكوكب الذهبي يناجي فيها ابنته في كل صباح.
هنالك تسمع الزهرة تغريد أخيها الطير يمازجه نشيد الغادة بصوتها الحنون.
ما أسعد الزهرة التي تمر بها فتاة معلقة بذراع أمها فتحملها إلى غرفتها الطاهرة تجود بعطرها في الليل ممتزجا بأحلام العذراء أما أنت أيتها الأزهار التي ينثرك الأغنياء في قصورهم في ليلة عيد، فما أشد ويلك وما أظلم الأفق الذي تستقبلين. أملاي أجواء القصر بالعبير في ليلة واحدة لقاء اجر معين،(209/28)
فانك ستحملين من عيد إلى عيد حتى يرتعي السل صدرك الضعيف فتجودين بالحياة على المزابل بزفرة دامية
وأشد منك شقاء يا زهرات الأعياد زهرة تشتريها سيدة مستبدة لا تطلب من الأزهار إلا أوائل أريجها حتى إذا تخدرت منها طرحتها إلى الخدم يجهزون عليها بعيدة عن الهواء في ظلمات الليالي.
ويل لهذه الأزهار تهمس أنينها همسا فلا يسمع أحد ببلواها، فهي مستعبدة صامتة لا تعرف إلا أن تحني رأسها وتندفع إلى الفناء.
تقتطف الزهرة من حضن أمها وتؤخذ بالعنف من بين أخواتها وأصحابها، لتطرح حيث تجود بنضارتها وعبير صباها، فيا للجريمة لا عقاب عليها!
لقد منعت القوانين نخاسة السود ولكنها ما منعت نخاسة الأزهار.
ليهتف المصلحون بصوت وجدانهم فما من سميع وقد مات جان جاك روسو وبرنار دي سان يار. ولكن من نستصرخ وإلى من نتجه؟ فليس أنصار الحق نفسهم المنادون بمنع النخاسة بين الناس هم الذين ينسلون تحت جنح الليل يتلهون بدوس الأزهار واقتلاع وريقاتها الطاهرة من تويجها الضعيف. . .؟
أفليست السلطة هي التي تسمح باقتلاع الأزهار من منابتها إلى سحيق الإفطار حيث تعيش ولا أسرة لها لأن بذورها تطرح على أرض تخنقها وتواريها.
مررت يوما في تلك الساحة، فرأيت زنبقة رائعة الجمال يساوم عليها رجل ألقت السنون غشاء على عينيه، وهو يصب نظراته على الوريقات البيضاء فتختلج ويمد يده إلى ساقها ليجس بضاضته، فتتلوى خجلا وذلا، فانحدرت من أجفاني دمعة حري رأيت مثلها تنحدر على مهل من التويج الأبيض، فخيل إلى أن الزنبقة تقول لي: - اشترني أنت ولا تتركني فريسة في يد هذا الرجل فان نظراته تحرقني ولمساته تقضي علي، أنقذني فإنني إن تبعته أموت
هتفت: - سأخلصك أيتها الزهرة الطاهرة
فدهش الشيخ لهذا الهتاف، فأدار وجهه نحوي وأرسل إلي نظرة الاحتقار مشيرا إلى الخادم، فحمل الزنبقة وسار بها وعبثا حاولت إقناع البائع بفسخ البيع لأن الشيخ كان قد أدى ثمن(209/29)
الأمة الشقية
تبعتها وأنا أزودها نظرات الأسى والحنان فكانت تبتسم لي بدموعها من بعيد. وتوارت عن ناظري، وفي صباح اليوم التالي وقفت أمام القصر أستخبر النسيم عن زهرتي الحزينة. ففتحت النافذة بعنف ورأيت الخادم يرمي بالزنبقة الذابلة إلى مطارح الأقذار
لكم من زهرة تجود بأنفاسها على مثل هذا الفراش. . .
(ف. ف)(209/30)
باقة من شعر طاغور
ترجمة الأديب نصري عطا الله سوس
- 1 -
// لقد خلعت أغنيتي كل زينتها
إنها لا تُزهَى بالملبس والزخرف
إن الزخرف ليفصم عرى وحدتنا ويقف بيني وبينك، وطنينه يغرق همساتك
وان زهوي كشاعر لَيتبدد خجلا أمام مرآك.
آه يا مولاي الشاعر!
إني أجلس عند قدميك
وكل ما أبغيه أن تجعل حياتي بسيطة ومستقيمة كعود من القصب، كي تنفخ فيه موسيقاك
- 2 -
أتناول يديها وأضمها إلى صدري
وأحاول أن أملأ ذراعي بجمالها، وأن أسرق بسمتها الحلوة
بالقبل، وأن أشرب نظراتها الفاتنة بعيني
آه! ولكن أين ذلك؟ من ذا الذي يستطيع فصل الزرقة عن السحاب؟
أحاول امتلاك الجمال فيتملص مني، تاركا (الجسم) وحده بين يدي فأرجع حائرا تعبا
كيف للجسم أن يلمس الزهرة التي لا تمسها إلا الروح؟
- 3 -
قلبي، ذلك الطير الآبد وجد سماءه في عينيك
انهما مهد الصباح ومملكة النجوم
إن أغاني تضيع في أعماقهما.
دعيني احلق في هذه السماء المتفردة بلا نهائيتها
دعيني أشق سحبها وأنشر جناحيَّ في نور شمسها
- 4 -(209/31)
قال: (حبيبتي، ارفعي عينيك)
فنهرته في حدة وقلت: (ابتعد) فلم يتحرك
وقف حيالي واجعل يدي الصغيرتين في يديه فقلت: (اتركني) ولكنه لم يذهب
مال علي بوجهه حتى لامس أذني فنظرت إليه وقلت: (يا للعار!) فلم يتحول
ولمست شفتاه خدي فارتعشتُ قائلة: (لقد تماديت كثيرا) فلم يخجل
ورشق زهرة في شعري فقلت: (بدون جدوى) ولكنه وقف ساكنا
ثم أخذ إكليل الزهر من عنقي وذهب. . .
أني أبكي وأسائل قلبي: (لم لا يعود؟)
- 5 -
أيها الحب
إن قلبي يتوق ليلا ونهارا إلى أن يلقاك لقاء يستغرق كل شيء. . . كلقاء الموت
إكتسحني كعاصفة
خذ كل ما لدي
شرد نعاسي
وانهب أحلامي واستلبني من دنياي
وفي ذلك الدمار - وفي العراء الروحي المطلق، دعنا نصير وحدة من الجمال
وا أسفاه! باطلة رغبتي
أين الأمل في اندماج تام فيك وحدك. . . يا الله.
- 6 -
إن عينيك القلقتين الحزينتين تطلبان كنهى كما يطلب القمر أعماق البحر
لقد نزعت عن حياتي أثوابها أمام عينيك - لم أخف عنك شيئا من البداية للنهاية. ولذا
أنت لا تعرفينني
لو كانت حياتي جوهرة لكسرتها مئات من القطع وصنعت منها عقدا يزين عنقك
لو كانت زهرة صغيرة رشيقة لقطفتها من جذرها ورشقتها في شعرك!(209/32)
ولكن حياتي (قلب) يا حبيبتي. . . لا شواطئ له ولا نهاية إنك لا تعرفين حدود هذه
المملكة. . . ولو أنك ملكتها
لو كانت حياتي لحظة سرور لتفتحت عن بسمة لطيفة تدركينها في لحظة!
لو أنها لم تكن غير ألم لذابت دموعا شفافة تنعكس عليها أعمق أسرارها دون كلمة!
ولكنها حب. . . يا حبيبتي
مسراتها وآلامها لا تحد
حاجاتها وثروتها أبديان
إنها قريبة منك كحياتك
ولكنك لا تستطيعين إدراك قرارها. . .
- 7 -
أنا أهواك يا غرامي فاغفري لي حبي إياك
مثل عصفور ضال أسرت
عندما هز قلبي سقط عنه قناعه وعاد عاريا. دثريه بالشفقة يا حبيبتي، واغفري لي حبي.
إذا لم تستطيعي حبي - يا حبيبتي - فاغفري لي ألمي
لا تنظري إلي من بعيد بازدراء
سأسترق خطاي إلى زاويتي وأجلس في الظل
وأحجب خجلي العاري بكلتا يدي
فأشيحي بوجهك عني واغفري لي ألمي
حبيبتي، إذا كنت تحبيني فاغفري لي سروري
وإذا حمل فيض السعادة قلبي بعيدا فلا تبسمي لاستسلامي للخطر
وعندما أستوي على عرشي وأحكمك بقسوة الحب، وعندما أمنحك عطفي - كإله -
تحملي كبريائي - يا حبيبتي وسامحيني عن فرحي. . .
- 8 -
أيتها المرأة! انك لست من صنع الله فقط، بل من صنعا الرجال أيضاً(209/33)
انهم يضفون عليك من قلوبهم جمالاً. . .
الشعراء ينسجون لك نسيجاً من خيوط الخيال الذهبي،
والرسامون يمنحون صيغتك خلودا مجددا
البحر يعطي لآلئه، والمناجم ذهبها، وحدائق الصيف أزهارها، لتجملك وتجعلك أنفس مما
أنت
رغبات قلوب الرجال تضفي مجدها على شبابك
إنك نصف امرأة ونصف حلم.
نصري عطا الله سوس(209/34)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 11 -
تطور البراهمية الأولى
نصت (الفيدا) على أن الخيرين يذهبون إلى جوار الآلهة ويمتزجون بهم في عالم الخلود، وأن الشريرين يذهبون على بعض الأقوال إلى العدم المطلق، وعلى البعض الآخر يتجسدون من جديد. ولما أصبح القول بالرأي الأول يتنافى مع عقيدة خلود النفس التي كانت قد عمت جميع البيئات المفكرة على أثر إيمان الناس بأن العالم ليس ألا أجزاء (براجاباتي) المتناثرة، فلم يبق إلا الأخذ بالقول الثاني، فأخذوا به وتفلسفوا فيه، فنقلوه من تجسد ساذج إلى تناسخ فلسفي معقد، ولكنه كان تناسخا آريا، مبعثه السرور من الحياة والتفاؤل في تقدمها وسيرها نحو الكمال والرغبة في الامتزاج بالإله (براجاباتي) والاتصال ببقية الآلهة والشغف بتحقق السرور والمعرفة الكاملة التي لا تتحقق إلا بالتناسخ الذي هو شبيه بفعل الإله (براجاباتي) في تحقيق السرور والمعرفة، إذ قررت شروح أحد نصوص (الفيدا) وهو النص الخاص بنثر أجزاء (براجاباتي) في الكون، إن هذه الأجزاء لم تنتثر إلا بدافعين قويين كانا عند هذا الإله: أحدهما الشغف بحيازة السرور، والثاني الشوق إلى المعرفة. واذا، فيجب أن يكون هذان المقصدان ضمن غايات التناسخ ليتم تشبهنا بهذا الإله الخير الذي رضي بتفريق أجزائه، ليحوز السرور بوجودنا، ولتحدث له المعرفة الكاملة بطوفان أجزائه في الكون كله.
غير أن هذا التفاؤل لم يلبث أن تضاءل شيئا فشيئا حتى تلاشى نهائيا وحل محله تشاؤم قاتم قابض أثر في الحياة الفكرية الهندية تأثيرا عميقا. وقد نشأ هذا التشاؤم في أول أمره من اعتقاد المفكرين في أن الحياة خير كلها، وإنها لهذا يجب الحرص عليها والتهالك في الاستمساك بها، ولكن قصرها من ناحية وعدم التحقق من الاستيلاء على زمامها من ناحية(209/35)
أخرى، يوجدان حسرة في القلب وضيقا في الصدر وشعورا بخيبة الأمل يسود له المزاج وتنقبض له النفس، وهذا هو الذي كان في المبدأ ثم جعل يتطور مع الزمن حتى زالت العقيدة في خيرية الحياة زوالاً تاماً وحلت محلها عقيدة تناقضها تمام المناقضة، وهي أن الإنسان شقي تعس في جميع أدوار حياته، إذ هو في حياته الأولى فريسة للمصائب والنكبات والمخاطر والأمراض، وهو قاصر عن الاستحواز التام على جميع المتع والمسرات، وإذا حاز شيئاً منها فالأجل قصير جداً يستوجب الشفقة والرثاء، فإذا ترك هذه الحياة كان أكثر تعاسة وبؤساً، إذ هو ينتقل في الأجسام المختلفة من وضيع إلى اوضع، غير عارف بمصيره ولا متحقق من حظه، لأن كل مرحلة من مراحل حياته المتعددة تقذف به إلى المرحلة التي تليها قذفاً دون إرادة منه ولا اختيار، وفوق ذلك فهو مسئول في كل مرحلة من هذه المراحل التناسخية أمام الآلهة مسئولية قاسية على ما اقترف أو ما هوى فيه قسر إرادته من آثام وسيئات
وإذاً فالحياة شر، والعالم شر، وهذا الوجود المادي كله شر، وكله باطل، والحقيقة هي غيره، والاعتقاد بأن هذا العالم المادي هو متناثرات أجزاء (براجاباتي) - كما كان سائدا في الزمن السابق - جريمة من الجرائم، لأن الآلهة حق، وهذا العالم المادي باطل، ولا يمكن أن يتكون الباطل من أجزاء الحق، وإنما الصحيح هو أن أجزاء الحقيقة الإلهية حالة في هذا العالم المادي الباطل، ولا وسيلة للخلوص من شر هذا العالم إلا استخلاص الحقيقة من الباطل، ففي جانبنا الاستخلاص لا يتحقق إلا بالتخلي عن المادة، وفي جانب الآلهة، حسب الإنسان أن يفهم أن وراء كل مظهر من هذه المظاهر حقيقة هي الجوهر الصحيح في هذا المظهر. وهذه القاعدة عندهم تتناول حتى (براهما) رأس الآلهة نفسه، فهم يعتقدون أن الحقيقة في (براهما) هي (براهمان) أي الكائن اللا شخصي أو الموجود المنزه عن الجرمية، والحال حلولا غير مادي في جميع عناصر الكون، وأن إدراكه على هذه الصفة هو المحقق الأوحد للنجاة من التناسخ المؤلم ولضمان الخلود، ولكن - الإدراك لا يتيسر إلا بهجر المادة وتجنب جميع مظاهر الحية العملية وتسليم النفس للتأمل العميق المنتهي إلى الغيبوبة والامتزاج بالله والفناء في ذاته(209/36)
الكتب الدينية في عهد التطور
البرانات
(الفيدا) وهو الكتاب الأساسي للديانة البراهمية، وهو وحده المنزل، أما غيره من الكتب فهي من عمل البشر المصطفين الذين هم أقرب إلى (براهما) وهي لذلك. لاتصل من القداسة في نفوس الشعب إلى المرتبة التي وصلت إليها (الفيدا) وهي كذلك غير معجزة ولا مستحيلة التقليد ولكن إمكان تقليدها مقصور على طائفة واحدة من المقربين وهي طائفة (راشين) من خواص البراهمة. وهاك حديث البيروني عن هذا الكتاب:
(وأما البرانات - وتفسير بران: الأول القديم - فأنها ثمانية عشر، وأكثرها مسماة بأسماء حيوانات وأناس وملائكة بسبب اشتمالها على أخبار أو بسبب نسبة الكلام فيها أو الجواب عن المسائل إليها من عمل القوم المسنين: (رشين) والذي كان عندي منها مأخوذاً من الأفواه بالسماع فهو (آدبران) أي الأول. و (مج بران) أي السمكة و (كوم بران) أي السلحفاة. و (براه بران) أي الخنزير و (نارسنك بران) أي الإنس الذي رأسه رأس أسد. و (يامن بران) أي الرجل المتقلص الأعضاء بصغرها. و (تاج بران) أي الريح. و (نند بران) وهو خادم له (مهاديو) و (اسكند بران) وهو ابن (مهاديو). و (آدت بران) و (سوم بران) وهما النيران. و (سانب بران) وهو ابن (بشن) و (هماندبران) وهو السماوات. و (ماركتو يوبران) وهو (رش كبير). و (تاركش بران) وهو العنقاءو (بشن بران) وهو (ناراين). و (براهم بران) وهو الطبيعة الموكلة بالعالم. و (يشن بران) وهو ذكر الكائنات في المستأنف)
كتب أخرى
يروي لنا البيروني كذلك أن للقوم كتباً كثيرة أخرى تعد بمثابة دساتير وقوانين دينية واجتماعية وأخلاقية. وقد لخص الكلام عنها فقال: (وأما كتاب (سمرت) فهو مستخرج من (بيذ) في الأوامر والنواهي، عمله أبناء (براهم) العشرون ولهم كتب في فقه ملتهم وفي الكلام وفي الزهد والتأليه وطلب الخلاص من الدنيا مثل كتاب عمله (كور الزاهد) وعرف باسمه ومثل (سانك) عمله (كبل) في الأمور الإلهية ومثل (باتنجل) في طلب الخلاص واتحاد النفس بمعقولها ومثل (نايبهاش) لكابل في (بيذ) وتفسيره وأنه مخلوق وتميز(209/37)
الفرائض فيه من السنن. ومثل (ميمانس) عمله (جيمن) في هذا المعنى. ومثل (لوكايت) عمله المشتري) الخ
ألوهية الطور الجديد
كان العامة في الهند بعد تطور (البراهمة) يعتقدون بوجود ثلاثة آلهة: الأول (براهما) وهو الرئيس الأعلى. الثاني (فيسنو) وهو اله الحياة الدائب على إنماء الحياة وازهارها، والثالث (سيفا) وهو اله التدمير والخراب الذي أهم مميزاته الهدم والإبادة والذي لولا سلطان (براهما) لصير الحياة منذ زمن بعيد أثرا بعد عين، ولكن (براهما) الغير المحدود القوة يمسكها دائما أن تميد ويحفظها من شر هذا المدمر الوحشي.
هذا عند العامة. أما الخاصة فكانوا يعتقدون - كما أسلفنا - بوجود اله واحد أزلي أبوي منزه عن الاستعانة بغيره وعن كل ما يوجب نقصه في زعمهم.
وأبو الريحان البيروني يذهب في كتابه إلى ما هو أبعد من هذا فيؤكد أن فكرة الألوهية عند خاصة الهنود كانت سامية جليلة، وأنهم كانوا يعبدون إلها متصفا بكل كمال، ميزها عن كل نقص. ويعلق على هذا بقوله: (ولنورد في ذلك شيئا من كتبهم لئلا تكون حكايتنا كالشيء المسموع فقط) ثم يروي بعد ذلك محادثة وردت في أحد كتبهم المقدسة بين سائل مسترشد ومجيب موضح؛ وفي هذه المحادثة يرى الباحث الأدلة ناصعة على ما يدعيه البيروني من سمو التأليه عند خاصة الهند. واليكم نص هذه المحادثة: قال السائل في كتاب (باتنجل): (من هذا المعبود الذي ينال التوفيق بعبادته؟. قال المجيب: (هو المستغني بأزليته ووحدانيته عن فعل لمكافأة عليه براحة تؤمل وترتجي، أو شدة تخاف وتتقى، والبريء عن الأفكار لتعاليه عن الأضداد المكروهة والأنداد المحبوبة؛ والعالم بذاته سرمدي. إن العلم الطارئ يكون لما لم يكن بمعلوم، وليس الجهل بمتجه عليه في وقت ما أو حال) ثم يقول السائل بعد ذلك: (فهل له من الصفات غير ما ذكرت؟ ويقول المجيب: (له العلو التام في القدر) لا المكان، فانه يجل التمكن. وهو الخير المحض التام الذي يشتاقه كل موجود. وهو العلم الخالص من دنس اللهو والجهل): قال السائل: (أفتصفه بالكلام أم لا؟) قال المجيب (إذا كان عالما فهو لا محالة متكلم). قال السائل: (فان كان متكلما لأجل علمه، فما الفرق بينه وبين العلماء والحكماء الذين تكلموا من أجل علومهم؟. . . قال المجيب: (الفرق بينهم(209/38)
هو الزمان فانهم تعلموا فيه وتكلموا بعد أن لم يكونوا عالمين ولا متكلمين، ونقلوا بالكلام علومهم إلى غيرهم، فكلامهم وإفادتهم في زمان؛ وإذ ليس للأمور الإلهية بالزمان اتصال. فالله سبحانه عالم متكلم في الأزل، وهو الذي (يراهم) وغيره من الأوائل على أنحاء شتى، فمنهم من ألقى إليه كتابا، ومنهم من فتح الواسطة إليه بابا، ومنهم من أوحى إليه فنال بالفكر ما أفاض عليه)، قال السائل: (فمن أين له هذا العلم؟) قال المجيب: (علمه على حاله في الأزل وان لم يجهل قط، فذاته عالمه لم تكتب علما لم يكن له كما قال في (بيذ)، قال السائل: (كيف تعبدون من لم يلحقه الإحساس؟) قال المجيب: (تسميته تثبت أنيته. فالخبر لا يكون إلا عن شيء، والاسم لا يكون إلا لمسمى، وهو وان غاب عن الحواس فلم تدركه، فقد عقلته النفس وأحاطت بصفاته الفطرة، وهذه هي عبادته الخالصة، وبالمواظبة عليها تنال السعادة
ثم يعقب البيروني على هذه المحادثة بقوله: فهذا كلامهم في هذا الكتاب المشهور. وفي كتاب (كينا) وهو جزء من كتاب (بهارث) فيما جرى بين (باسديو) و (أرجن): إني أنا الكل من غير مبدأ بولادة ومنتهى بوفاة، لا أقصد بفعلي مكافأة ولا أختص بطبقة دون أخرى لصداقة أو عداوة؛ قد أعطيت كلا من خلقي حاجته في فعله، فمن عرفني بهذه الصفة وتشبه بي في إبعاد الطمع عن العمل، انحل وثاقه، وسهل خلاصة وعتاقه) وهذا كما قيل في حد الفلسفة: إنها التقيل بالله ما أمكن. وقال هذا الكتاب: اكثر الناس يلجئهم الطمع في الحاجات إلى الله. وإذا حققت الأمر لديهم وجدتهم من معرفته من مكان سحيق، لأن الله ليس بظاهر لكل أحد يدركه بحواسه، فلذلك جهلوه، فمنهم من لم يتجاوز فيه المحسوسات، ومنهم من إذا تجاوزها وقف عند المطبوعات. ولم يعرفوا أن فوقها من لم يلد ولم يولد ولم يحط بعين أنيته أحد، وهو المحيط بكل شيء علماً)
(يتبع)
محمد غلاب(209/39)
الموشح
للأستاذ توفيق الضوي
لقد كان الشعر في أول أمره سجعا غير مقيد بالقوافي الموحدة؛ إنما كان قطعاً قطعاً وشذوراً شذوراً كل اثنين منها أو أكثر على قافية واحدة، ثم توحدت القوافي في بعض الأوزان الشعرية انطلاقا مع الأفكار والمحاكاة، عدا الأراجيز التي بقيت مختلفة القوافي فسهل النظم عليها في القواعد والضوابط التي هي من القيود المتينة، ثم لما كثرت الأغراض وضاقت قوافي الشعر عن استيعابها عدل الأندلسيون إلى التفنن فيها فأوجدوا الموشحات غير متقيدين بالقوافي الواحدة، بل تفننوا فيها بمظاهر مختلفة ذهابا مع الأفكار وهياما في سماء الخيال. على أن للقريحة والذوق وللحس والخيال تأثيرا كبيرا على الشعر وتجديده وابتكار معانيه والتصرف في قوافيه والتلاعب بأوزانه فوق ما لتأثير السلالة والإقليم والعمران وما يتعلق بها، فلهذا كان الفرق بين الشعر العربي والأعجمي عند الأمم، ويبن الغربي والشرقي عند العرب. ومن المعلوم أن فنون الشعر سبعة: هي القريض، والموشح، والدوبيت، والمواليا، والزجل، والكان وكان، والقوما. وقيل إن الحماق منها أيضا فتكون ثمانية. وثلاثة من فنون الشعر هذه معربة ولا يغتفر اللحن فيها. وهي القريض والموشح والدوبيت؛ وثلاثة ملحونة دائما وهي الزجل وكان والقوما. وأما المواليا فيحتمل الإعراب واللحن. والآن نتكلم عن الموشح الذي هو مدا بحثنا. . .
فالموشح فن من فنون الشعر الرائعة التي توسع فيها شعراء الأندلس إطلاقا لبنات أفكارهم في سماء الخيال فأجادوا ما شاءت بلاغتهم وعنايتهم في إظهار المنظومات في قالب جديد مطبوعة على غرار جميل مطرزة بوشي لطيف حتى تفرقوا على غيرهم بهذا التصرف البديع الذي اقتبسه عنهم المغاربة فالمصريون فالسوريون فالعراقيون؛ وعم عالم الشعر العربي الذي زاده التوشيح محاكاة فوق محاكاة أوزانه المطربة، فكانت الموشحات موسيقى الشعر التي تضرب على أوتار القلوب، فتناولها الشعراء بمنتهى الإقبال والتكريم وتباروا في الإجادة في فنونها هائمين في سهولها وضروبها، راشفين من صافي معينها، واصفين مظاهر الطبيعة والعالم على اختلاف شؤونها. فالأندلس أم الموشحات، وصفاء أذهان شعرائها راس هذه الاختراعات. . . وهذا ما قال صفوان المرسي الأندلسي يصف تأثير(209/40)
مناظر الأندلس في شعرائها حتى أحسنوا النظم والنثر متفوقين فيهما على غيرهم
هنالك بين الغصن والقطر والصباح ... وزهر الربى ولدت، آدابى الُغرا
إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري ... تعلم نظام النثر من ههنا شعرا
وإن نثرت ريح الصبا زهَر الربى ... تعلمت حل الشعر أسبكه نثرا
فوائد أسمار هناك اقتبستها ... ولم أر روضا غيره يقرئ السحرا
كأن هزيز الريح يمدح روضها ... فيملأ فاها من أزاهره درا
قال ابن خلدون في الموشح: لما كثر الشعر في الأندلس وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنا سموه الموشح ينظمونه اسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتا واحدا، ويلتزمون عدد قوافي تلك الأغصان وأوراقها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة. واكثر ما ينتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتم كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب، وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد. وتجاروا في ذلك إلى الغاية، واستظرفه الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه.
قال أبو عبد الله محمد الأزرق الأندلسي في مدح موشحه ذهابا إلى القصيدة:
بعثت بها عذراء رائعة الحلى ... قضت أنها للمعلمات مرشحة
توشحت اللفظ البديع وأقبلت ... فها هي تبدو للعيون موشحة
ووصفها ابن دحبة الأندلسي بقوله:
الموشحات هي زبدة الشعر ونسبته، وخلاصة جوهره وصفوته. وهي من الفنون التي أغرب بها أهل المغرب على أهل المشرق، وظهروا فيها ظهور الشمس الطالعة والضياء المشرق. . . وقال ابن معصوم في سلافة العصر: ولأهل اليمن أيضا نظم يسمونه الموشح غير موشح أهل المغرب؛ والفرق بينهما أن موشح أهل المغرب يراعى فيه الإعراب، وان وقع اللحن في بعض الموشحات التي هي على طريقتهم لكون ناظمه جاهلا بالعربية فلا عبرة به، بخلاف موشح أهل اليمن فانه لا يراعي فيه شيء من الإعراب بل اللحن فيه أعذب، وحكمه في ذلك حكم الزجل
وللموشحات اصطلاحات لابد منها، مثل اللازمة، والمبدأ، والدور، والدرج، والبطايحي،(209/41)
والمجنح، والخرجه، والسلسة، والقفلة، والانصراف، والمجنب الخ
وأول من اخترع الموشحات في شبه جزيرة الأندلس مقدم بن معافر الفريري؛ والفريري نسبة إلى فريرة وهو حصن بالأندلس من أعمال كورة البيرة؛ وقد يكون جده منسوبا إلى فرير وهي قرية بين جيجون وبخارى في بلاد العجم، أو بلدة بخراسان كما ذكر السمعاني في أنسابه وياقوت الرومي في معجم البلدان. وهو من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني (273هـ، 886م) وأخذ عنه أبو عبد الله محمد بن عبد ربه مؤلف العقد الفريد. وجاء بعدهما كثير من الشعراء فتفننوا في الموشحات حتى فاقوا من سبقهم فاشتهرت موشحاتهم، وأشهرهم عبادة القزاز وغيرهم. وانتقل بعد ذلك الموشح من الأندلس إلى المغرب، ومن هذه إلى مصر، ومنها اتصلت بسورية فالعراق. وذلك في العصر العباسي الرابع وفي أثناء القرن السادس للهجرة. . .
قال الزبيدي في معجم تاج العروس: التوشيح اسم لنوع من الشعر استحدثه الأندلسيون، وهو فن عجيب له أسماط وغصون وأعاريض مختلفة، واكثر ما ينتهي عندهم إلى سبعة أبيات. وقال أيضا: الوشاح بالضم والكسر رسان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما، تتوشح المرأة به، ومنه اشتق توشح الرجل بثوبه، وقال غيره أخذ التوشح من الظبية الموشحة وهي التي في جنبها طرتان
قال القيراطي موجها بالزجل والموشح ذهابا إلى الشعر:
أرتاح للأقمار وهي طوالع ... وشموس راحي للمغارب تجنح
ويهزني زجل الطيور بلحنها ... والروض بالزهر النظيم موشح
وباختراع فن الموشح كان له الثر العظيم في الشعر الأوربي، فحاكى شعراءهم هذه الأوزان والأشكال كما نرى في منظوماتهم، ولاسيما قصائد فكتور هوجو شاعر فرنسا في ديوانه المسمى بالشرقيات، وكذلك قصائد غوته الشاعر الألماني وغيرهما من شعراء بقية الأمم الأوربية التي وقفت على أشعار عرب الأندلس وموشحاتهم الخالدة، فكانت القافية عندهم لا تلتزم في أكثر من بيتين كالأراجيز عندنا، أو أنها تلتزم في أبيات وتتغير وتعود إلى اللازمة كما في الموشحات؛ ومنها نوع من الشعر يسمونه الأبيض وهو ما كان غير مقفى كشعر شكسبير شاعر الإنكليز وغيره. . .(209/42)
قال أبو الوليد بن رشد الأندلسي في تلخيص كتاب أرسطو في الشعر ما نصه: والمحاكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة أشياء: من قبل النغم المتفقة، ومن قبل الوزن، ومن قبل التشبيه نفسه. وهذه قد يوحد كل واحد منها مفردا عن صاحبه مثل وجود النغم في المزامير، والوزن في الرقص، والمحاكاة في اللفظ: أعني الأقاويل المخيلة غير الموزونة. وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها مثل ما يوجد عندنا في النوع الذي يسمى الموشحات والأزجال وهي الأشعار التي استنبطها في هذا اللسان أهل هذه الجزيرة إذ كانت الأشعار الطبيعية هي ما جمعت الأمرين جميعا؛ فالصناعة المخيلة أو التي تفعل فعل التخييل، ثلاثة. . صناعة اللحن. والوزن وعمل الأقاويل المحاكية. ومن أبدع فنون الموشحات كتاب المديحات لعبد المنعم عمر بن حسان الغساني الأندلسي الجلياني ألفه سنة 569هـ ويوجد في المكتبة الخالدية في القدس الشريف، وكتاب جيش التوشح للسان الدين بن الخطيب، وعقود اللآل في الموشحات والأزجال، لشمس الدين النواحي، لدار الطراز في عمل الموشحات لابن سناء الملك، والدر المكنون في سبعة فنون لمحمد أحمد بن إياس الحنفي، وحاوي الفنون وسلوة المحزون لابن الطحان وغيرها من المؤلفات القديمة القيمة. هذه كلمة موجزة عن تاريخ الموشح وعمله كتبها خدمة الشعر والموسيقى ليكونوا على علم بأصول الموشح وتاريخه لارتباطه الوثيق بفن الموسيقى والغناء
(إسكندرية)
توفيق الضوي
أستاذ في الموسيقى(209/43)
من روائع أدب الغرب
ناقوس القرية
لشاعر الحب والجمال: ألفونس دي لامرتين
الحياة: موجة في خضم تأوهات، صبرها الشهد، كأس المجد،
تملأ بالعبرات.
(لامرتين)
كالزفرات تعلو خفقات الناقوس الخاشع المتئدة. الإحراج تمسكها. الوديان تبددها. يد الصغير، توازن كأسه، وتفرغ نغمات الروض العلوية، في نسيم الليل المدلهم.
رجف من أصواته العالية، جزع من خفقاته المتوالية. البلبل يطير تاركا بيته المضطرب مياه الغدير المتموجة، تجنى الأزهار اليانعة من جوانبه. أرملة القرية، تركع لصدى نغماته تترك خيط مغزلها لترسل الرحمات للموتى.
يوقظ في قلبي، غناء هذا البرج الرنان. . .
لا سرور النهار الذي انتهى،
ولا بؤس اليوم الذي انقضى،
ولا صور الماضي الفتية، والذكريات الغنية، التي تهدمت في هذه الطرقات بين الأنوار الذابلة.
لا نومي الهادئ في ظلال أغصان الدلب الندية،
ولا أول نسمة في حياتي،
ولا صوت أقدامي التائهة، فوق هذه الذروات العالية، ولا السرور العظيم تحمله إلى موجاتك يا نسيم الصبا، المثقل بالروائح العطرة التي لا تنضب.
لا ذكرى الجواد الواقف في المرج وقد لوى عنقه الحريري على يدي المدربة، ومزج ضفائر عنقه، بشعرات رأسي الشقراء، والأرض ترن تحت سنابكه القوية كالسندان، بينا(209/44)
ردفه يحملني، وزبد شدقيه يكسو فضة ناصعة حشائش الوادي.
لا الحب نفسه. . .
الحب، الفجر الأول في الحياة.
حيث شهور الربيع تجري ماء الحياة في نسغ النبات، فتزهر العقول وتخضر الأحراج.
في الظلال أصوات العذارى الحاملات الجرار لملئها من الينبوع، تصل لسمعي وئيدة، فتدب في جسدي الرعشة ولا أنت. . .
أنت التي أبكيك أبدا،
الفورة الأولى لدمي،
صوت الفؤاد الذي يفنى، ويوقظ في روحي الدمدمة السحرية، معطرة بالعنبر، فتنثر في الأجواء رياح الشعر
أواه. أيها المجد، ولا أنت. . .
لا الشتاء يحمل إليك دون أسف أيامي مع بقايا الأعشاب الفارغة من الحب.
ونثرات الأوراق الذابلة، وصدى المجد الفارغ.
أعشاب الطريق، مزروعات علوية، تعطر الأقدام، ولكن جذورها لا تغرس في القلوب.
لا أكاليل الأعراس، يقطفون زهورها في المساء. فيسممها الحقد، ويذبلها الحسد.
ولا ما يهب الحياة نشوة، تاج المجد المحطم تحت يدي. الزهرات المعارة، لا تمسكها ساق، تذبل وتجف، ثم تقع من فوق الحبيين
هو ذاك اليوم.
أصواتك ممتزجة بزفرات امرأة، مخضلة بالعبرات، مترعة باليأس، رنت في أرجاء الوادي، تبكي نعشين مرا، يجللهما الحزن، ويسبل عليهما الألم رداءة،
في قبر واحد، دفنت أرواح ثلاثة ونسيت على حافة اللحد.
من الفجر حتى الليل، من الليل حتى الفجر، تذرف الدمع أيها الناقوس. كما أذرفه. تجمع بين قلبينا زفرة محرقة. الأهوية والسماء تردد نواحك، كما لو فقد كل كوكب أمه، وكل نسيم ولده.
من ذلك اليوم رنانك المقدسة ارتسمت في ذاكرتي المفجعة. وامتزجت بكأس آلامي(209/45)
المترعة. اختلطت زفراتك بأصوات قلبي، وتردد صداها في أنحائه. معدنك الرنان المغموس في اللهيب يماثلني عندما يبكي، هو قطعة من روحي، يوقع عليها ملاك نغماتك.
أرقد لغفلتك، وانهض ليقظتك. صوت نعيك، صديق تسمعه أذناي. بين رنين الأجراس، أفرق نغمتك. تغمرني موجاتك. كالأجراس تعلو في جنباتها رنات بعوضة طائرة.
أقول لنفسي: هذه الزفرة الحزينة المبهمة، يحملها إلي نسيم الليل العميق، موجة اثر موجة. أواه لأجلي تتردد هذه الأصوات العالية. أفهم ما يقول. ويدرك ما أفكر. والهواء الجاهل في هذا السكون المحتدم يحمل إلى لهجته المؤثرة.
أقول لنفس: صوت هذا المعدن المتردد، قبل أن يصل إلى قلبي، ويغمر جنباته ويغرق قطعاته. اهتز فوق أطلال الماضي الراقد، يحمل إلي من بقايا قبته المتهدمة أشياء.
حجر القبر، حيث دفن حبي، يقرع بهذا اللحن العذب. لا تعجب يا ولدي إذا اهتزت أفكاري لأصوات هذا الناقوس. مغرم بصمته الأمين للردى. لأول رنة تختلج تحت قبته أقف مصغيا لما يحمله إلي الحمام
أما أنت، مذياع الحزن البشري الذي اخترعته الأرض لتجهر بآلامها. غن نشيد القلوب المحطمة الرائع، فزفراتك تهب الأحجار روحا، والمقل الجافة دموعا، والصلاة خشوعا أبديا، والقبور حزنا سرمديا.
عندما يحمل العمال نفسي وبقايا حطامي، تبقى هنا روحي تقذف حممها الملتهبة نحو السماء. الباكون، حاشية باردة، تسير خلفي لتضع جسدي، تحت باب حقير، ترتمي عليه أشعة الشموس.
إذا يد ورعة قرعتك لشرفي. فلا تحزن مخلوقا بزفراتك المتصاعدة. لا تنشر الدموع في الأفق. التمس جرس العيد واقرع فوق لحدي، برنة سلسلة سجن قرحة تقع على عتبته
غرد كالعندليب لحنا خالدا، يرتفع من منزلك، والسوط الأسمر يوجه نحو فجر النهار خفقته المحزنة.
غن أنشودتك المترددة في أعماق السموات تطفئ شهوة الخصوم المتشبثين بأدران الحياة.
إليك
اقرع قبل اليوم، دق رويدا الساعة. صديق في منزلي الحقير، يحضر ليضيء في هذا(209/46)
القلب المهدم، الحزن العميم، ويترك قبل أن يذهب قطرتين من العطر تضمخان طويلا كفني.
حسين تفكجي(209/47)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
في بلاد المدنية:
ذهبت بعيدا طائرا في أجواء المستقبل فارتعشت وذعرت عندما نظرت ما حولي فما وجدت من معاصر لي غير الزمان. وليت الأدبار مسرعا حتى وصلت إليكم، يا رجال اليوم، ونزلت بينكم في بلاد المدنية، فألقيت عليكم أول نظراتي بصفاء نية لأنني جئتكم بقلب مصدوع، ولا أعلم ما أهاب بي إلى الضحك بالرغم من ارتياعي، فان عيني ما رأت من قبل مثل هذه الخطوط والألوان.
ذهبت في ضحكي وقد ارتعش قلبي واصطكت رجلاي فقلت في نفسي (لعل هذه مصانع آنية المواد الملونة).
لقد برزتم أمامي يا رجال اليوم، وعلى وجوهكم أعضائكم من الألوان عشرات الأنواع، وحولكم عشرات المرايا تعكس تموجات ألوانكم؛ والحق أنكم لا تستطيعون أن تجدوا ما تتقنعون به أشد غرابة من وجوهكم نفسها، يا رجال اليوم، فمن له أن يعرف من أنتم؟
لقد حفر الماضي في وجوهكم آثاره فألقيتم فوقها آثارا جديدة، لذلك خفيت حقيقتكم عن كل معبر وأعجزت كل بيان.
ولو كان لأحد أن يفحص الأحشاء فهل بوسعكم أن تثبتوا أن لكم أحشاء وما أنتم إلا جبلة هباب ألوان وقطع أوراق ألصقت إلصاقا. وهذه جميع الأزمنة وجميع الشعوب تتزاحم مرسلة نظراتها من وراء قناعكم كما تفصح جميع حركاتكم عن تراكم كل العادات والمعتقدات فيكم. فإذا ما نزعت أقنعتكم وألقيت أحمالكم ومسحت ألوانكم ووقفت حركاتكم فلا يبقى منكم إلا شبح ينصب مفزعة للطيور.
والحق، ما أنا إلا طائر مروع، لأنني رأيتكم يوما عراة لا تستركم ألوانكم فاستولى الذعر علي إذ انتصبتم أمامي هياكل عظام تومئ إلي بإشارات العاشقين.
أنني افضل أن أكون من عمال الجحيم وخدام الأشباح. لأن لسكان لجحيم ما ليس لكم من(209/48)
شخصية معينة، وأمر ما ألقاه هو أن أنظر إليكم سواء استترتم أو تعريتم، يا رجال اليوم. . .
إن جميع ما يدعو إلى القلق في آتي الزمان وجميع ما ارتاعت له في الماضي تائهات الطيور، إنما هو أدعى الاطمئنان والارتياح من حقيقتكم، لأنكم أنتم القائلون: (إنما نحن الحقيقة المجردة عن كل خرافة واعتقاد) وبهذا تتبجحون وتنتفخون دون أن يكون لكم صدور.
وهل من عقيدة لكم وأنتم المبرقشون بجميع ما عرف الزمان من ألوان حتى اليوم؟ وهل أنتم إلا دحض صريح للإيمان نفسه وتفكيك للأفكار جميعها؟ فانتم كائنات أوهام يا من تدعون أنكم رجال الحقائق.
لقد قامت العصور كلها تتعارك في تفكيركم، وما كانت هذه العصور في أحلامها وهذيانها إلا أقرب إلى الحقيقة من تفكيركم وأنتم منتبهون.
بليتم بالعقم ففقدتم الإيمان وقد كانت للمبدع أحلامه وكواكبه قبلكم فوثق من إيمانه.
ما أنتم إلا أبواب فتحت مصاريعها لحفار القبور، وما حقيقتكم إلا القول بان شيء يستحق الزوال.
إنكم تنتصبون أمامي كهياكل عظام متحركة، أيها المبتلون بالعقم، ولا ريب في أن أكثركم لم يخف عليه أمر نفسه عندما تساءل: (هل اختطف اله مني شيئا وأنا نائم؟ والحق أن ما سلب مني يكفي لإيجاد ارأة، فما اضعف أضلاعي) هكذا يتكلم العدد الوفير من رجال هذا الزمان.
ان حلكم ليضحكني أيها الرجال؛ ويزيد في ضحكي أنكم لأنفسكم مستغربون. ولشد ما يكون وبلى لو امتنع على أن أضحك من استغرابكم ولو اضطررت إلى ازدراد ما في أوعيتكم من كريه الطعام.
أنني أستخف بكم لما على عاتقي من ثقيل الحمال فما يهمني لو نزل عليها بعض الذباب فانه لن يزيدها ثقلا وما أنتم من يحملني أشد الأتعاب أيها المعاصرون.
وا أسفاه إلى أية ذروة يجب علي أن أرتقي بأشواقي فأنني أدير لحاظي من أعالي الذرى مفتشاً عبثا عن مسقط رأسي وأوطاني، فأنا لا أزال في أول مرحلتي في المدن أتنقل أمام(209/49)
أبوابها.
لقد اندفعت بعواطفي نحو رجال هذه الايام، ولكنني ما لبثت أن تبينت فيهم قوما غرباء عني لا يستحقون إلا سخريتي، وهكذا أصبحت طريدا يتشوق إلى مسقط رأسه وأوطانه. ولا وطن لي بعد الآن إلا وطن أبنائي في الأرض المجهولة وسط البحار السحيقة، لذلك وجب أن ندفع بشراعي على صفحات المياه لأفتش عنه.
على أن أكفر أمام أبنائي لأنني كنت ابنا لآبائي. على أن أكفر عن حالي العتيد بكل جهودي في آتي الزمان
هكذا تكلم زارا.
المعرفة الطاهرة
عندما أطل القمر على ليلة أمس خيل إلي أنه أنثى أثقلها الحبل وكأن في أحشائها كوكب النهار. وقد جاءها المخاض وأنا أميل إلى تذكير القمر مني إلى تأنيثه وإن خلا من صفات الرجولة فانه رائد ليل يمر على السطوح وقد ساءت نواياه، فهو كالراهب المتدفق شهوة وحسدا يتمنى لو يتمتع بملذات جميع العاشقين
لا، إنني لا أحب هذا الهر المتجول على مزاريب السطوح، لأنني أكره كل متلصص أمام النوافذ التي لم يحكم أقفالها. إن القمر ليمر خاشعا متعبدا على بساط النجوم وأنا أكره كل من ينساب في مشيته فلا تسمع وقعا لأقدامه، فان خطوات الرجل الصريح تستنطق الأرض؛ وما يمشي الهر إلا متجسسا، وهذا القمر لا يتقدم إلا بخطوات الغدر كالهر.
ما أوردت هذا المثل إلا لكم وعنكم يا أبناء الخبث وقد أرهقت إحساسكم لطلب المعرفة الصافية، وما أنتم في نظري إلا عبيد الملذات لأنكم أنتم أيضاً تحبون الأرض وما عليها ومنها. لقد عرفت طويتكم فإذا في حبكم ما يخجل وما يفسد الأخلاق، فما أشد شبهكم بكوكب الليل.
لقد أقنعوكم بأن تحتقروا كل ما ينشأ من التراب، ولكن هذا الإقناع لم ينفذ إلى أحشائكم، وأحشاؤكم هي أقوى ما فيكم؛ وهكذا أصبح عقلكم خجلا من سيطرة أحشائكم عليه، فهو يتبع الطرق الخفية المضلة فزعا من حجله. أنصتوا إلى مناجاة عقلكم لنفسه فهو يقول: ليت لي أن أرتقي إلى حيث أنظر إلى الحياة محررا من الشهوة فلا ألهث أمامها ككلب يدلي(209/50)
لسانه وقد شفه السغب من شهوته.
ليت لي أن أسعد بالتأمل متفوقا على إرادتي متحررا من خساسة الأنانية ومطامحها فيسود على السلام ولا يبقى لعيني سوى لحظات القمر الثملة.
إن عقلكم يطلب التملص من ذاته لأنه طريد يشتهي أن يتعشق الأرض كما يتعشقها القمر فلا تتمتع إلا عيونكم بجمالها
إن عقلكم يرى المعرفة الظاهرة لا تحتله ما لم ينبسط أمام الأشياء دون امتلاكها مكتفيا بانعكاس أشباحها عليه كما تنعكس الأشباح على مرآة لها مئات العيون.
أيها الخبثاء المتحرقون بالشهوات، لقد خلت شهوتكم من الطهارة فلذلك تجدفون على الشهوة، فأنتم لا تحبون الأرض كما يحبها المبدعون والمجدون الذين يسرون بما يبدعون وبما يجددون. فلا طهارة إلا حيث تنجلي إرادة الإبداع، فمن اتجه إلى خلق من يفوق عليه فذلك عندي صاحب اطهر إرادة وأنقاها.
طلبت الجمال فما وجدته إلا حيث تنصب الإرادة بأكملها إلى المراد، وحيث يرتضي الإنسان بالزوال لتجديد الصور وتبدلها، فالمحبة والموت صنوان متلازمان منذ زمان الأزل فمن أراد المحبة فقد رضي بالموت. هذا ما أقوله لكم أيها الجبناء
ولكن نظراتكم المنحرفة المؤنثة تحب الاستغراق في التأمل فتريدون أن يدعي جمالا ما تحدجونه أنتم بعين الحذر والجبن؛ إنكم لتدنسون أشرف الأسماء.
إن اللعنة التي تحل بكم، أيها السائرون وراء المعرفة الطاهرة إنما هي عجزكم عن التوليد في حين أنكم تلوحون كالحبالى المثقلات على الآفاق.
إنكم تحشون أفواهكم بأنبل الكلمات بان قلبكم يتدفق عطفا وما أنتم إلا منافقون.
لقد أخشنت القول لكم فكلماتي مشوهة ذرية؛ غير أنني أتناولها من الفتات المتساقط من موائد ولائمكم فاستعملها حين أعلن الحقيقة للخبثاء وهذا ما بيدي من حسك وأصداف يخدش آنافكم أيها الخبثاء.
إن الهواء الفاسد يهب بلا انقطاع حولكم وحول مآدبكم لأنه مشبع من أفكاركم الدنسة وأكاذيبكم وخداعكم.
عليكم بأن تبدءوا باطراح خوركم لتتوصلوا إلى الوثوق بأنفسكم فما ينقطع عن الكذب من(209/51)
لا ثقة له بنفسه
لقد أخفيتم وجوهكم بأقنعة الإلهة أيها الرجال الأتقياء فأنتم ديدان قبيحة نتشح برداء الأرباب
إنكم لجد متبجحين يا رجال التأمل، حتى إن زارا نفسه أخذ بمظاهر جلودكم الإلهية فخفيت عنه الأفاعي الكامنة وراءها
لقد كنت أرى في عيونكم روح اله أيها الطالبون المعرفة الطاهرة، قبل أن تكشف لي تصنعكم فعرفت أنكم امهر المتصنعين
لقد بعد المجال بيني وبينكم فما تميزت فيكم الثعبان القبيح، ولا وصلت إلي رائحته الكريهة، وما خطر لي أن أمامي حرباء تتلون بشهواتها. ولكنني عندما اقتربت منكم تبددت الظلمة حولي. وها إن الفجر يغمركم بأنواره فلكل قمر جنوح إلى الغياب في شهوته. انظروا إلى هذا القمر فهو في افقه شاحب مذعور وقد باغته الفجر بأنواره المرسلة، فكل شمس يتجلى حبها الطاهر في تشوقها إلى الإبداع
أما ترون الفجر ينسحب على البحر وقد اهتاجه الشوق والحنين؟ إنما تشعرون بظمأة في حبه وحر انفاسه، فكأنه يزيد ارتشاف اللجج. وهاهي ذي تتعالى نحوه بآلاف نهودها، واللجة نفسها متشوقة إلى وصال كوكب النهار ليرشفها ارتشافا فتتحول إلى سحب ومسالك أنوار، بل هي نفسها تفنى في النور متحولة إلى نور
وأنا كوكب النهار أحب الحياة وكل لجة بعيدة الأغوار؛ تلك هي معرفتي. إنني أجتذب كل غور ليتعالى إلي. . .
هكذا تكلم زارا. . .(209/52)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسقاف النشاشيبي
118 - المرأة والكتب
في (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة: حدثني الشيخ شديد الدين المنطقي بمصر قال: كان الأمير ابن فاتك محبا لتحصيل العلوم، وكانت له خزائن كتب، فكان في أكثر أوقاته إذا نزل من الركوب لا يفارقها، وليس له داب إلا المطالعة والكتابة. وكانت له زوجة كبيرة القدر من أرباب الدولة. فلما توفي (رحمه الله) نهضت هي وجوار معها إلى خزائن كتبه، وفي قلبها من الكتب، وانه كان يشتغل بها عنها، فجعلت تندبه، وفي أثناء ذلك ترمي الكتب في بركة ماء كبيرة في وسط الدار هي وجواريها. . . ثم أشيلت الكتب بعد ذلك من الماء. وقد غرق أكثرها، فهذا سبب أن كتب المبشر بن فاتك يوجد كثير منها وهو بهذه الحال
119 - على الطنبور
قال جحظة: وهب لي جعفر بن المأمون طنبور عبيدة الطنبورية فإذا عليه مكتوب بآبنوس:
كل شيء سوى الخيانة في الحب يحتمل
120 - حتى متى أرفعك؟
قال أسماء بن خارجة لجاريته:
أخضبيني
فقالت: حتى متى أرفعك؟!
فقال:
عيرتني خلقاً أبليت جدته ... وهل رأيت جديداً لم يعد خلقاً
121 - في الدنيا والآخرة
قال الجاحظ: روي أن أعرابيا اشتد عليه البرد فأصاب نارا، فدنا منها ليصطلي بها وهو يقول: اللهم، لا تحرمنيها في الدنيا ولا في الآخرة
122 - الجديد والقديم(209/53)
أبو بكر محمد بن نصر الأوسي:
وان كان عندي للجديد لذاذة ... فلست بناس حرمة لقديم
123 - إذا استحكمت المودة بطلت التكاليف
قال عبد العزيز بن الفضل: خرج القاضي أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج وأبو بكر محمد بن داود الظاهري وأبو عبد الله نفطويه إلى وليمة دعوا لها، فأفضى بهم الطريق إلى مكان ضيق، فأراد كل واحد منهم أن يتقدم عليه، فقال ابن سريج: ضيق الطريق يورث سوء الأدب
وقال ابن داود: لكنه يعرف مقادير الرجال. . .
فقال نفطويه: إذا استحكمت المودة بطلت التكاليف
124 - غزل الصداقة
في (المقابسات) قال الحسن بن وهب: غزل الصداقة أرق من غزل العلاقة)
وهذه نفثة فاضل قد أحس كمال الصداقة
125 - أسمه أبو العتاهية
تكلم بعض القصاص قال: في السماء ملك يقول كل يوم: لدوا للموت وابنوا للخراب.
فقال بعض الأذكياء: اسم ذلك الملك أبو العتاهية. . .
126 - الشاكر والصابر في الجنة
نظرت امرأة عمران بن حطان يوما في المرآة - وكانت أجمل النساء - فأعجبها حسنها، ونظرت إلى عمران - وكان قبيحا فقالت أبا شهاب، تعال فانظر في المرآة! فجاء فنظر إلى نفسه وهو إلى جانبها كأنه قنفذ ورأى وجها قبيحا، فقال: هذا أردت؟!
فقالت: إني لأرجو أن أدخل الجنة أنا وأنت
قال: بم؟
قالت: لأنك رُزقتَ مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت. والشاكر والصابر في الجنة. . .
127 - فلا(209/54)
في (العمدة) لابن رشيق: قيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدا لا يشتهي النسيب؟
فقال: أما ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا. . .
128 - لا حكم إلا للملاح
أبو القاسم المرتضى:
بيني وبين عواذلي ... في الحب أطراف الرماح
أنا خارجي في الهوى ... لا حكم إلا للملاح
129 - ماء الملام، جناح الذل
قال أبو تمام في قصيدة:
لا سقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
فبعث مخلد الموصلي إليه بقارورة يسأله أن يبعث له فيها قليلا من ماء الملام، فقال لصاحبه: قل له يبعث إلي بريشة من جناح الذل لأستخرج بها من القارورة ما أبعث إليه
قال ابن أبي الحديد: هذا ظلم من أبي تمام لمخلد، وما الأمران سواء لان الطائر إذا أعياه تعب وذل، وخفض جناحه، وكذلك الإنسان إذا استسلم ألقى بيديه ذلا، ويده جناحه، فذاك هو الذي حسن (واخفض لهما جناح الذل) ألا ترى لو أنه قال: واخفض لهما ساق الذل أو بطن لم يكن مستحسنا
130 - ولع الشعراء ببعض الألفاظ
في (سر الفصاحة) للخفاجي:
قلما يخلو واحد من الشعراء المجيدين أو الكتاب من استعمال ألفاظ يديرها في شعره. وقد كان أبو الحسن مهبار ابن مرزويه ممن غَرِى بلفظ (طين وطينة) فما وجدت له قصيدة تخلو من ذلك إلا اليسير.
وقال أبو الفتح بن جني: لأبي الطيب المتنبي: إنك تكرر في شعرك (ذا وذي) كثيراً، ففكر ساعة ثم قال: إن هذا الشعر لم يعمل كله في وقت واحد. فقلت: صدقت إلا أن المادة واحدة، فأمسك
131 - القاضي بسعادتك(209/55)
قال أبو اليمن زيد الكندي: كنا نلقب أبا المكارم محمد بن الملك بن أبي جرادة (القاضي بسعادتك) وذلك أن القلانسي دعاه في وليمة - وكنت حاضرها - فجعل لا يسأله عن شيء فيخبر عنه بما سر أو أساء إلا قال في عقبه (بسعادتك) فان قال له: ما فعل فلان؟ قال: مات بسعادتك، وان قال له: ما خبر الدار الفلانية؟ يقول: خربت بسعادتك. فسميناه (القاضي بسعادتك) وكان يقولها لاعتياده إياها لا لجهل كان فيه، وكان أدب وفضل وفقه وشعر جيد
132 - وبأ حسنت لا يباع دقيق
حضر جحظة مجلس بعض الكبار مراراً، وكان إذا غنى يقول له: أحسنت، ولم يكن يخوله شيئا، فقال فيه:
إن تغنيت قال: أحسنت أزدني ... وب (أحسنت) لا يباع دقيق
133 - فلهذا يرقص الحبيب
قال كان: من معاني الأبيوردي البديعة قوله من جملة أبياتا وصف الخمرة:
ولها من ذاتها طرب ... فلهذا يرقص الحبب
134 - أنت الحسن إذن
قال أبو نواس: استقبلتني امرأة فسفرت عن وجهها، فكانت على غاية الحسن، فقالت: ما اسمك؟
قلت: وجهك
قالت: أنت الحسن إذن!
135 - يتيم
قال ابن خالويه في كتاب (ليس): أنشدني أعرابي:
ثلاثة أحباب: فحب علاقة ... وحب تِمِلاّق وحب هو القتل
فقلت له: زدني
فقال: البيت يتيم.(209/56)
136 - فر زيتون من الجبن
في (الغيث المسجم) للصفدي: كتب القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر لما التقى (الملك الظاهر) مع (زيتون الفرنجي) قريبا من عكا، وهرب زيتون، وأسر غالب من كان معه من الفرنج، فجاء في جملة الكتاب: (وفر زيتون من الجبن) قيل إن الملك الظاهر لما سمعها أعجبته وخلع عليه
137 - أينما كانت انتفعنا بها
في كتاب (قضاة قرطبة) لمحمد بن الحارث الخشني:
قال محمد بن فرج الفقيه: ما رأيت أعقل من زياد بن عبد الله (الخطيب بالمسجد الجامع بقرطبة) قلت له يوما: يزعم هؤلاء المعدلون إن هذه الشمس. مقرها السماء الرابعة. فقال: (أينما كانت انتفعنا بها) ولم يزدني على ذلك فعجبت من عقله(209/57)
نفثة محزون
للأستاذ إبراهيم عبد الوهاب
في ميعة الصبا ونضرته، وفي ربيع الحياة وزهوه، أختطف الموت أبني ولم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، ففاض صدري بهذه الكلمة تفجعاً عليه ورثاء له
عافَ الحياة ومَلَّ من أوْصابها ... لما ألَحّ الداَء في أسبابها
بَكَرَت إليه يد المنونِ ولم يكد ... يُوِفي من الدنيا على أبوابها
ورمت مَنيته إليه شباكها ... وعَدَتْ عليه بظفرها وبنابها
وطوت صحيفتَهُ ولما يَكْتَمِلْ ... عنوانُ قصتها وبَدْءُ كتابها
فمضى كأزهارِ الربيع قصيرةٌ ... أيامُها وفريدة في بابها
أبني أيُّ فجيعةٍ غدَّارةٍ ... دَهْياَء قد نزلت بفصْلِ خطابها
رمت القلوب فأقْصَدتْ حياتها ... وَمَحتْ جميل الصبر في أعقابها
وأسالت الدمع الأبيَّ كأنه ... غيثُ السماءِ هَمَي وهَطْلُ سحابها
لَهَفي عليك وأنت نِضْوٌ خائر ... تشكو من الحمى ومن أذنابها
وتبينت مضطرباً كأنك في لظى ... قَلقَا تَوجَّعُ من أليم عذابها
حلت بجسمك لا تريد فراقه ... فكأنما ألْفتْكَ من أحبابها
ورمت يديك برعدة مشئومة ... أيقنْتُ أن الموت ينذرنا بها
الجسم مرتعها ولحمك طُعْمُها ... وعصير قلبك من لذيذ شرابها
صهرتك لم ترحم صباك ولم تَهِنْ ... حتى مضت بالروح أسلابها
وقف الطبيب إلى سريرك مطرقا ... حَيْران مُغْتنمًّا لدائك آبِها
ودعا صحابته إليك فلم يجد ... رأياً جديداً أو مشيراً نابها
وأهابَ بالطب العتيد فخانه ... وأراد معجزة فما أوْفَى بها
الطب إن شاء الإله وسيلة ... تشفي من الحمى ومن أترابها
أو لم يشأ تلقاه شر رسالة ... للموت يُزْجيها إلى أربابها
قل للمؤمل في الطبيب وطبه ... إن الحياة رهينةٌ بكتابها
لا الطب يصنعها ولا أقطابه ... الله قدرها ليوم مَآبِها(209/58)
هي صنعة المولى تَمَلَّكَ سِرَّها ... وأجادها وَوَعي دقيق حسابها
أبُنَيَّ أزْمَعْتَ النوى وتركتني ... أشْتَفُّ من كدر الحياة وصابها
أذكيت نار الحزن تلتهم الحشا ... وتذيب قلبي من سعير لهابها
تلك الدموع الحائرات بمقلتي ... هي مهجتي تنساب من أهدابها
أفلا رَحِمْتَ أباك من أدوائه ... حتى أضفت لها الفراق مشابهاً
ورَحِمْتَ أمك من لواعج ثكلها ... وغزير عبرتها وسود ثيابها
تبكي وتندب حظها وعِثَارهُ ... وَربيبَ مهجتها وصِنْوَ شبابها
وتود لو أنَّ الدموع شرابُها ... أو أن ماء البحر من تسْكابها
وتطوف حول القبر تلتمس الهدى ... فكأنما أوفتْ على محرابها
حَيْرَى مُحَسَّرةً تمثل حزنها ... فتكاد تلمسه على جلبابها
الخطب أرهقها وحَطَّمَ عودها ... ولرُبَّ عاقلةٍ مَضى بصوابها
قد كنت وَثّاب الذكاء مَحَّبباً ... وبرئت من طبَعِ الخصالِ وعابِها
قد كنت بهجة دارنا وسرورها ... فغدت بفيض الحزن من أَعتابها
قد كنت لي أملاً ألُوذُ بنوره ... في لجة الدنيا وشق عبابها
غدت الحياة ثقيلة أيامها ... ضَيْقٌ على رَغمي فسِيحُ رحابها
ما أضيع الآمال بعدك والمنى ... هي خُدْعَة الدنيا وكِذْبُ سَرَابها
حشدت لي الأيام حُرَّ نِصَالها ... ومضت تجُذُّ بحدها وذُبابها
وتتابعت نُوَبُ الزمان كأنما ... ألِفتْنيَ الأحداثُ في إغْبَابها
وأصاب هذا الدهر خير أحِبّةٍ ... سَلكتْهُمُ العلياءُ في أنْسَابها
كانوا ملاذ الفضل مُعتصمَ الحجا ... وبشاشة الدنيا وزَهْوَ خِضَابها
قد كنت أمرح بينهم في روضة ... والآن صرت لوحدتي ويَبابها
أَبني إن عظمت بفقدك نكبتي ... فرَجائيَ المولى عظيمُ ثوابها
ناداك ربك فاستجبت نداءه ... وصدَفْتَ عن دنيا الورى وكذابها
نم في جوار الله غير مُرَوَّع ... وانعم بجنته ورحب جنابها
وَارْتعْ هنالك بين رَيِّق مائها ... وبهيج سُنْدُسِها وفي أعْنابها(209/59)
وارْجُ الإله لوالديك تصبُّراً ... ينسيهما البلوى وَوَقعَ مُصابها
إن الذي خلق المكاره والأسَى ... هو باري الرحماتِ يُسْعِدُنا بها
إبراهيم عبد الوهاب
المدرس بمدرسة المنيرة الابتدائية الأميرية(209/60)
رسالة الفن
ميكيلانجلو
العبقرية الملهمة
للدكتور أحمد موسى
- 4 -
تكاد تكون شخصية ميكيلانجلو من أعقد الشخصيات؛ ذلك لتعدد نواحي دراسته وتحديد مواهبه الفنية فإذا استعرضت تاريخ حياته في مختلف المصادر، وجدت أن كل مؤرخ فني تفرغ لتناوله من ناحية معينة، بغية الوصول إلى تعريف محدود له، ينتهي بوضع أساس يتفق وعظمته.
وقد قرأنا عنه الكثير، وشاهدنا من إنتاجه وأثاره ما فيه الكفاية، ووجدنا بعض مؤرخي الفن يدرس كمهندس معماري، وآخر يحلله كنحات، وثالث كنقاش، ورابع كمصور، وخامس كشاعر، وسادس كعاشق، دفع به الهوى إلى تلحين ملحمات غزلية ألفها في ساعات إلهامه.
وقد أخذنا على عاتقنا دراسة ميكيلانجلو دراسة فنية مبسطة ولكنها شاملة، وتناولناه بالبحث كنحات عظيم. ولكن لا نكون قد أدينا رسالة الفن تمام التأدية إذا لم ندرسه كمصور أيضاً، حتى تتم بذلك معرفتنا له من ناحيتيه البارزتين وهما النحت والتصوير؛ ولا سيما وهو لم يكن ليقل عظمة في الأخير عن الأول، بل إنه استطاع إظهار أدق وأعمق مشاعره النفسية، وأفكاره الملهمة في التصوير الذي أخرجه على أعظم جانب من الإجادة وحسن الانسجام.
وإذا كنا قد علمنا أن ترك بعض منحوتاته دون إكمال، فإنه يهمنا أن نعلم أنه لم يترك من مصوراته إلا ما ندر غير كامل، ومن هنا نستطيع أن ندرسه دراسة وافية كمصور، ونصل بها إلى الأعماق التي لم نستطع الوصول إليها في النحت الذي قررنا أن اتجاهه فيه كان مثلياً كما كان في التصوير، وهي ظاهرة طبيعية يحتمها التناسق في الإنتاج الفني والخلق المبتكر.(209/61)
وإذا كان ميكيلانجلو قد ظهر أمامنا بعد استعراض منحوتاته، دائم الطموح نحو الكمال الإنساني، ساعياً وراء المثل العليا في التكوين الإنساني والموضوعي، مهتما تمام الاهتمام باختيار المواقف العنيفة التي خرج بها عن المألوف من ناحية الإنشاء الوضعي والتي مقتضاها أن أظهرت تفاصيل الجسم على أقوى ما يمكن ظهورها به؛ فإن هذا نفسه كان الاتجاه الذي سار فيه والهدف الذي رمى إليه في التصوير الذي لم يجمع فيه بين المناظر الشخصية مفردة كانت أو مجتمعة وبين الطبيعة إلا فيما ندر، مخالفاً في ذلك ما رأيناه عند ليوناردو دافينشي (راجع المقالين الخاصين به)
ويشعر المشاهد لمصوراته عموماً كأنه واقف يستعرض تماثيل مجسمة لا صور أو لوحات مسطحة، ومن هذا نستطيع أن نكون لفنه التصويري طابعاً مميزاً وروحاً خاصا، وهو أنه كان مصوراً نحاتياً أكثر منه مصوراً بحتاً، إذ أن كل مصوراته تمت بصلة كبيرة إلى قواعد النحت، أكثر من انتمائها إلى قواعد التصوير.
على أن مصوراته هذه لم تكن مرسومة بالزيت كما يعتقد كثير من الناس، بل كانت تصويراً على الجص الطازج، وهذه الطريقة التي تتلخص في التصوير بألوان الماء على طبقة رقيقة من الجص أو الجير قبل جفافه هي التي يعبر عنها رجال الفن بتصوير الفرسكو
وقد صور بعض مصوراته بطريقة أخرى. وذلك أنه أخذ الألوان الطبيعية من الأرض وأضافها إلى محلول الغراء والعسل، وعندما أراد التصوير بها أضاف إليها الغراء الكثيف أو بياض البيض واستعملها مباشرة ولعلنا بدرسه على ضوء أبسط أصول تاريخ الفن نضطر إلى تقسيم تراثه إلى ثلاث مراحل تستغرق كل مرحلة منها نحو ثلاثين سنة، على اعتبار أنه عاش حوالي التسعين
وتنحصر المرحلة الأولى بين سنة 1475، 1505 وهي التي قضى معظمها كنحات، وقد سبق لنا درسها، وله فيها ثلاث قطع لا تزال باقية، أولها صورته (دفن المسيح) وثانيهما (مادونا مانشيستر) وتشمل مريم ويسوع ويوحنا وأربعة ملائكة والروح الغالبة على هذه اللوحة ظهور البساطة بأجلى معانيها، مع عظمة التكوين الإنساني، وهذه سابقتها محفوظتان بجاليري لندن غير كاملتين.(209/62)
وقطعته الثالثة تمثل العائلة المقدسة، وهي صورة مستديرة - ش1 - محفوظة بمتحف أوفيسين بفلورنسا، صورها سنة 1504 وتمثل مريم والطفل وخلفهما يوحنا ومجموعة أطفال في مؤخرة اللوحة.
أنظر إلى مريم وكيف أسندت الطفل بوضع أطراف يدها اليمنى تحت إبطه وإسناده له بيسراه ثم تأمل الجمال البادي على ملامحها، وحسن إخراج الملابس وثناياها. إلى جانب جلستها الرائعة، وظهور قدمها اليمنى بحالة فنية لا ترتفع إلى مثلها غير عبقرية ميكيلانجلو.
ثم شاهد ما أرتسم على وجه يوحنا من علامات الحب والإشفاق على الطفل يسوع. ولا حظ شعر الرأس والذقن إلى جانب الحياة التي تشع من عينيه.
ورسم الأطفال في مؤخرة الصورة أقوياء التفاصيل والتكوين الجسماني وهذا من مميزاته الخاصة، وميله إلى قواعد النحت أكثر من ميله إلى قواعد التصوير.
وتعطيك النظرة الشاملة للمجموع الإنشائي للصورة فكرة هائلة عن جمال الوضع الأولي والتصميم الكلي للوجه. فالرؤوس الثلاثة تكاد تكون بارتفاع واحد. ومع هذا لم تخرج عن أصول الانسجام فضلا عن بعدها عن الازدحام الذي يؤدي غالباً إلى ضعف التوجيه. هذا إلى هدوء الألوان وبعدها عن الحدة.
وله مصورات تخطيطية بين سنة 1501، 1505 منها ما مثل دراسات لرؤوس بمشاهدتها تعطيك فكرة صادقة عن مدى تأثره بليناردو دافينشي.
ولعل أبرز ما أنتجه في هذه المرحلة أيضاً الصور الكارتونية للتصوير الجصي (الفرسكو) الذي لم يتم عمله والذي كان مخصصاً لبيت البلدية في فلورنسا، وهذه تخالف في روحها وتكوينها لوحاته التي أظهرت تأثره بليوناردو وهي تمثل مذبحة كاشينا التي أنتصر فيها الفلورنسيون على محاربيهم من بيزا في 27 يوليو سنة 1364
وقد مثل في هذه اللوحة جمهرة من الفلورنسيون يستحمون وأعداؤهم من بيزا يفاجئونهم، وهي رائعة الإنشاء قوية الإخراج مليئة بالحركة والرشاقة.
وله أيضاً في هذه المرحلة (1505) كارتونات مصورة لم يبق منها للأسف إلا اثنتان، الأولى لأجوستينو فيسيانو والثانية تمثيل منظر (الصاعدين) - ش2 - ، وهي بالنظر إليها(209/63)
تبين رجلا عجوزا جلس على مرتفع من الأرض بينما يشير بيمناه إلى الهدف الذي يريد الوصول إليه، وأمامه ولداه وقد مد الأول منهما يسراه إلى رابع لم تظهر منه إلا أطراف أصابعه الأربعة، والطريقة التي انحنى بها الولد للأخذ بيد زميله من أطراف أصابعه هي من أقوى ما يستطيع فنان اختياره.
أنظر إلى اليد اليمنى وكيف استندت إلى حافة المرتفع، ثم تأمل الحرص البادي على يده اليسرى الممدودة لمساعدة زميله. وإذا تأملت ما تخلل الأحجار من نباتات ظهرت نهايتها ونظرت إلى الأشجار وما غلب عليها من ظل ونور، وشاهدت الكيفية التي عالج بها أوراق الشجر إلى جانب المرتفعات البعيدة في مؤخرة الصورة، ترى أن ميكيلانجلو كان عنيفاً ولكنه العنف الذي أدى إلى الخلود الفني.
أحمد موسى(209/64)
البريد الأدبي
كتاب عن التربية في مصر
صدرت أخيراً كتاب بالإنكليزية عن مستقبل التربية في مصر بقلم أستاذ إنكليزي معروف في دوائر التربية المصرية هو الدكتور جاكسون الأستاذ سابقاً بمعهد التربية، عنوانه: (التربية والعهد الجديد في مصر) وقام بإصداره معهد التربية؛ ويقول الأستاذ جاكسون إن الذي حمله على تأليف هذا الكتاب هو الحاجة الماسة إلى هذه المرحلة من تاريخ مصر الاجتماعي، إلى وضع سياسة حديثة للتربية تقوم على جهود موحدة نزيهة ومثل عملية. ويتناول الأستاذ في كتابه ثلاث مسائل رئيسية هي: أولا - مهمة التربية في مصر وفي رأيه أنها العمل على إنشاء ثقافة مصرية. ثانياً - مسألة أعداد المعلمين. ثالثاً - مسألة النظام.
ويتناول الأستاذ جاكسون في هذه المسائل تناول العارف المطلع، ولا غرو فقد أنفق أعواماً يعمل في أوساط التربية المصرية، وهو يحاول في بحوثه أن يوفق بين المقاصد العملية وبين المثل النظرية، ويقدم اقتراحات عملية لبعض المسائل المستعجلة التي تواجهها مصر اليوم: فهو يرى مثلاً أن التعليم الثانوي في مصر نظر محض ويقترح أن تدمج فيه بعض العناصر العملية، وينوه بخطر التعليم السطحي، ويرى أن تزداد البعثات العملية القصيرة إلى الخارج؛ ثم هو يحذر ولاة الأمر من التقتير على المعلمين لأن المعلمين المغبونين الساخطين يعدون خطرا على المجتمع، ويرى في تعليم اللغة الإنكليزية ألا يبدأ به إلا من السنة الثالثة الابتدائية بعد أن يكون التلاميذ قد حصلوا على قسط معقول من اللغة العربية.
ويتحدث الأستاذ جاكسون طويلا عن مسألة النظام والطاعة؛ وهو يرى أن استتباب النظام شرط جوهري للتقدم، ويرى ضرورة التشدد في مسألة القوانين النظامية، ثم يقول إنه ما دامت الصبية في وسعهم أن يقلبوا قرارات معلميهم إلى عكسها سواء بالشكوى إلى ذويهم أو بالاعتصاب والصخب، فإنه يستحيل عليهم أن يتعلموا احترام السلطة المدرسية التي هي جوهرية بالنسبة للتعليم والعلم. إن الاعتصاب من أنواع العنف فيجب محاربته وقمعه بالحزم من جانب السلطات وبتنمية الروح الاجتماعي في المدارس وهو روح يكاد يكون مفقوداً.(209/65)
ولا شك أن مسألة التربية وتوجيهها من أهم المسائل التي يجب أن تعنى بها مصر المستقلة؛ فمصر تحتاج إلى خلق جيل جديد يتمتع بصفات جديدة تناسب العهد الجديد وتناسب مسئولياته؛ ومن الأسف أن ولاة الأمر لم يوفقوا حتى اليوم إلى تناول هذه المسألة الخطيرة بما يجب من الاهتمام، ولا ريب أن كتاب الأستاذ جاكسون يحتوي كثيراً من الحقائق والملاحظات الجديرة بالدرس والاعتبار.
حول عيد القاهرة الألفي
أذاعت الصحف المصرية أن وزارة التجارة والصناعة تنوي أن تنتهز فرصة سنوح العيد الألفي لمدينة القاهرة المعزية فتقيم معرضاً مصرياً عظيماً تدعو الدول ولا سيما الدول الشرقية والإسلامية إلى شهوده والاشتراك فيه؛ وهذه فكرة جليلة بلا ريب؛ وقد سبق أن نوهت (الرسالة) في أكثر من مقال رنان بأهمية هذا العيد التاريخي ووجوب الاحتفاء به في مظاهر عظيمة تتفق مع أهميته وجلاله؛ على أن هذه الدعوة لم تلق إلى اليوم صداها المنشود؛ وإذا كان مجلس التنظيم قرر بهذه المناسبة أن يطلق اسم الخليفة المعز واسم القائد جوهر على شارعين من شوارع القاهرة القديمة، وإذا كانت وزارة التجارة تريد أن تتخذ هذه المناسبة لإقامة معرض دولي عظيم، فإن هذه الإجراءات والقرارات المتفرقة لا تكفي في نظرنا للاحتفاء بهذا العيد. بل يجب أن يكون الاهتمام به شاملاً، وأن تؤلف لجنة حكومية عامة تمثل جميع الوزارات المصرية والهيئات العامة، لتضع برنامجاً شاملاً لهذا الاحتفال التاريخي الجليل، تندمج فيه هذه الإجراءات الجزئية التي ترى الجهات المختلفة اتخاذها؛ ومن المحقق أن عيد القاهرة الألفي هو من أعظم الأعياد القومية، فيجب أن يتخذ برنامج الاحتفال به هذا اللون، وعلى أي حال فما يدعو إلى الغبطة أن تبدأ السلطات بالتحرك للتفكير في إحياء هذا العيد بعد أن طال صمتها، وبعد أن لم يبق على وقوعه سوى زمن قليل.
الشيخ منصور المنوفي لم يكن شيخاً للأزهر
قرأت ما كتبه الأستاذ الجليل محمد عبد الله عنان في عدد الرسالة الغراء (208) تحت هذا العنوان - مصر خاتمة القرن السابع عشر كما رآها العلامة عبد الغني النابلسي - فرابني(209/66)
منه قوله (ثم يحدثنا الرحالة عن الجامع الأزهر وعن شيخه وهو يومئذ الشيخ منصور الشافعي الضرير) وحدثتني نفسي أن هذا الاسم لم يمر عليها في شيوخ الأزهر، فأخذت على عادتي أرجع إلى مصادري التي قرأتها لأحقق هذا الأمر الذي استغربت فيه، وأدركني الشك في صحته.
فرجعت إلى الخطط التوفيقية وإلى تاريخ الأزهر فوجدتهما متفقين على أن الذي كان شيخاً للأزهر في تلك السنة التي رحل فيها الشيخ النابلسي إلى مصر، وهي سنة 1105هـ - 1693 - هو الشيخ محمد النشرتي المالكي. وقد كان شيخاً للأزهر من وفاة الشيخ عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي سنة 1101هـ إلى أن توفي سنة 1120هـ.
وقد ذكر الجبرتي وفاة الشيخ الخرشي في سنة 1101هـ وقال عنه إنه الإمام العلامة والحبر الفهامة شيخ الإسلام والمسلمين وارث علوم سيد المرسلين الشيخ محمد الخرشي المالكي شارح خليل وغيره، ويروى عنه والده الشيخ عبد الله الخرشي وعن العلامة الشيخ إبراهيم اللقاني، كلاهما عن الشيخ سالم السنهوري المالكي، عن النجم الغيطي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن ابن الحافظ الحجر العسقلاني بسنده إلى الأمام البخاري.
ثم ذكر وفاة الشيخ محمد النشرتي في سنة 1120هـ وقال عنه إنه الإمام العلامة الشيخ محمد النشرتي المالكي، وهو كان وصياً على المرحوم الشيخ الوالد بعد موت الجد، توفي يوم الأحد بعد الظهر، وأخر دفنه إلى صبيحة يوم الاثنين، وصلى عليه بالأزهر بمشهد حافل، وحضر جنازته الصناجق والأمراء والأعيان، وكان يوماً مشهوداً.
أما الشيخ منصور المنوفي فقد ذكر الجبرتي وفاته سنة 1135 وكان قد جاوز تسعين سنة، وقال عنه أنه الشيخ العلامة الفقيه المحدث الشيخ منصور بن علي بن زين العابدين المنوفي البصير (لا الضرير) الشافعي، ولد بمنوف ونشأ بها يتيماً في حجر والدته، وكان باراً بها، فكانت تدعو له، فحفظ القرآن وعدة متون، ثم ارتحل إلى القاهرة وجاور بالأزهر وتفقه بالشهابين البشبيشي والسندوبي، والشمس الشرنبابلي والزين منصور الطوخي، ولازم النور الشبراملسي في العلوم وأخذ عنه الحديث، وجد واجتهد وتفنن وبرع في العلوم العقلية والنقلية. وكان إليه المنتهى في الحذق والذكاء وقوة الاستحضار لدقائق العلوم، سريع الإدراك لعويصات المسائل على وجه الحق، نظم الموجهات وشرحها، وانتفع به(209/67)
الفضلاء وتخرج به النبلاء وافتخر بالأخذ عنه الأبناء على الآباء.
وقد رأيت بعد أن ارجع إلى المصدر الذي نقل عنه الأستاذ عنان، فذهبت إلى دار الكتب وطلبت رحلة الشيخ النابلسي (الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز) فوجدته قد ذكر في صفحة (202) أنه طلع عليه صباح يوم الأحد 28من شهر ربيع الثاني فحضر عنده الإمام العام الهمام الشيخ منصور المنوفي الأزهري الشافعي الضرير شيخ الأزهر ومعه الجماعة والطلبة وكثير من المجاورين بالجامع الأزهر، وحصل بعض أبحاث وفوائد علمية.
ثم ذكر في صفحة (204) أنه أصبح صباح يوم الاثنين 29 من شهر ربيع الثاني، فجلس على عادته يستقبل من يأتي إليه من الأصحاب والأخوان، ثم قام من مجلسه إلى مجلس الشيخ زين العابدين بدعوة منه، فرأى عنده صديق فخر العلماء الأعلام الشيخ أحمد المرحومي شيخ الأزهر، ومعه بعض أصحابه الكرام، فجلس يتذاكر معهم في مسائل العلوم ويتطارح الكلام من منطق ومفهوم.
ثم ذكر في صفحة (275) أنه أصبح يوم الجمعة 10 من جمادي الثاني فاجتمع بالشيخ الأمام العلامة منصور المنوفي الشافعي الضرير شيخ الأزهر.
ثم ذكر في صفحة (284) أنه اصبح يوم السبت 25 من جمادي الثاني فذهب بعد الظهر إلى عيادة صديقه العلامة الشيخ أحمد المرحومي شيخ الجامع الأزهر.
وهذه هي المواضع التي جاء فيها ذكر هذين الشيخين المتعاصرين في كتاب الشيخ النابلسي، وهو يعطيهما فيها صفة الشيخ الأزهر في الزمن الذي قضاه بمصر في رحلته إلى الحجاز وكان ذلك سنة 1105هـ كما سبق. فلو أخذنا هذا الكلام على ظاهره لكان للأزهر في تلك السنة شيخان مجتمعان معاً وهذا غير مقبول، مع مخالفته لما ذكره من أن شيخ الأزهر في تلك السنة كان الشيخ النشرتي المالكي، فلم يبق إلا أن الشيخ النابلسي تبرع بتلك الصفة لذينك الشيخين، ويجب أن تؤخذ على هذا لا على أنها حقيقة تاريخية.
وقد ذكر الجبرتي وفاة الشيخ أحمد المرحومي في سنة 112 وقال عنه أنه السيد عبد الله (لعله أبو عبد الله) الإمام العلامة الشيخ أحمد المرحومي الشافعي.
وهذا رأيي في تحقيق هذه المسألة التاريخية أنشره على صفحات الرسالة الغراء، ولعله(209/68)
يكون للأستاذ عنان رأي آخر في تحقيقها ينشره علينا فيها، والله يتولانا جميعاً بتوفيقه.
عبد المتعال الصعيدي
بين الجامعات الألمانية والإنكليزية
احتفلت جامعة جتنجن الألمانية خلال هذا الأسبوع بمرور مائتي عام على قيامها؛ وكان المظنون أن يكون هذا الاحتفال بالغاً في أهميته وعظمته، لما لهذه الجامعة القديمة العريقة من ماضي علمي جليل، ولما لها بالأخص من علاقات وثيقة بالثقافتين الإنكليزية والأمريكية إذ كانت دائماً مقصد الشباب من الأمتين، ولكن حدث ما لم يتوقعه أحد، وهو أن الجامعات الإنكليزية والأمريكية اعتذرت جميعاً عن شهود هذا الاحتفال الذي دعيت جميعاً إليه، ولم تذكر الجامعات المعتذرة أسباب هذه المقاطعة العلمية؛ ولكن بعض الصحف الإنكليزية والأمريكية تحدثت عنه، وهي جميعاً ترجع الأسباب إلى خضوع الجامعات الألمانية في منهاجها العلمية والثقافية لسياسة الحكومة النازية خضوعا يضر بالمثل العلمية والثقافية العليا وينافي أسمى المزايا العلمية وهي حرية البحث وتوجيهه إلى الحقيقة وحدها؛ ولم ترض الجامعات الإنكليزية والأمريكية أن تشترك في احتفال جامعة جتنجن حتى لا يقال أنها تعترف بوحدة المثل الثقافية والتعليمية بين الدول الديمقراطية التي تمثلها بين الوطنية الاشتراكية الألمانية.
والواقع أن حال الجامعة الألمانية قد ساء في العهد الأخير وانحط مستوى التعليم العالي وأقفر كثير من الجامعات من الأساتذة والطلبة. مثال ذلك إن جامعة جتنجن فقدت من أساتذتها النصف فأصبحوا خمسة وأربعين بعد أن كانوا تسعين، وأبعد البعض لأسباب عنصرية والبعض لأسباب سياسية، ونقص عدد طلبة الجامعة من 4200 في سنة 1933 إلى 1800طالب فقط هذا العام، وهجرها معظم الطلبة الأجانب، وأصيبت سمعتها العلمية والثقافية.
وقد حذت الجامعات السويسرية حذو الجامعات الإنجليزية فاعتذرت عن الاشتراك في هذا الحفل لأسباب مماثلة، ولكن الجامعة المصرية قد قبلت الدعوة واشتركت في الاحتفال على يد مديرها.(209/69)
إنكلترا وطريق الهند
صدر أخيراً في ألمانيا كتاب سياسي عسكري خطير عنوانه (طريق إنكلترا إلى الهند) ' بقلم الهر كارل بارتس يشرح المؤلف بأسلوب تاريخي سياسي قصة الصراع بين السياستين البريطانية والفرنسية لامتلاك الهند في القرن الثامن عشر، وكيف أن إنكلترا استطاعت أخيراً أن تظفر بالهند دون معارك عسكرية كبيرة، لأن الهند كانت عندئذ ممزقة الأوصال مفرقة الكلمة، فاستطاعت السياسة الإنكليزية أن تضرب الطوائف والممالك الهندية بعضها ببعض.
ويقول الكاتب أن إنكلترا من ذلك التاريخ تحمي إمبراطوريتها الهندية بجميع الوسائل والقوى، وتحمي الطريق إلى الهند من جبل طارق ومالطه ومصر وعدن والجزيرة والدردنيل؛ ثم يحلل جميع العوامل السياسية والعسكرية التي ترتبط بهذه المسألة؛ ويستعرض شعوب الهند وآسيا ومهادها الصوفية الغريبة، كما يستعرض من حياة الرجال الذين تدين لهم بريطانيا بامتلاك الهند.
ويلاحظ الكاتب أن إنكلترا لا تطيق ظهور أية دولة عظيمة على مقربة من طريق الهند؛ ومع ذلك فقد استطاعت إيطاليا أخيراً أن تفتح الحبشة وأن تربض في منتصف هذا الطريق؛ ومن المحقق أن إنكلترا لقيت في المسألة الحبشية هزيمة فادحة، بيد أن إنكلترا لزمت الصمت، وسارت في برنامج تسليحها، وسوف يبين لنا المستقبل، ما إذا كانت استطاعة السلاح الجوي أن يحافظ على طريق الهند، وهو إلى اليوم لم يجرب تجريباً كافياً.
وفاة العلامة أدولف ايرمان
نعت أنباء برلين الأخيرة العلامة الأثري أدولف ايرمان وهو من أكبر الأخصائيين في علم الآثار المصرية؛ وكان مولده في سنة 1854ودرس التاريخ والفلسفة، ثم تخصص في الحضارات القديمة، وبالأخص في حضارة مصر الفرعونية ولبث أعواماً طويلة أستاذاً لحضارة مصر القديمة بجامعة برلين. ثم عين بعد ذلك مديراً لقسم الآثار المصرية بمتحف برلين، فعكف على دراسة النقوش القديمة وأوراق البردي التي يغص بها هذا القسم،(209/70)
وأخرج عدة رسائل في حضارة مصر الفرعونية وفي آثارها وفنونها.
وزار الأستاذ ايرمان مصر مرتين؛ بيد أنه درس الآثار المصرية في متاحف أوربا دراسة مستفيضة؛ وكان يعتبر حجة فيها؛ وكان إلى جانب زميله الدكتور أبشر العلامة الأخصائي في حل الرموز والنقوش الفرعونية أعظم أستاذين في تلك المدرسة الأثرية التي ما زالت منذ نحو نصف قرن تعمل للكشف عن حقائق أعظم وأقدم الحضارات.
الحركة التمثيلية في مصر حديث لرئيسي فرقة (دبلن جيت)
نشرت جريدة (ايرش تيمس) حديثا طويلا للمستر هلتون أدواردس مدير فرقة (دبلن جيت) التي قدمت إلى مصر في الشتاء الماضي؛ ومما قاله أن الشعب في مصر على اتصال دائم بالقارة الأوربية فلديهم إلمام بالقصص التمثيلية الأوربية أوسع من إلمام الشعب الإنجليزي بها.
قال: وقد زرنا مصر عامين متواليين فمن سوء السياسة الاستمرار على الذهاب إلى هناك. وسيكون في العام القادم دور إحدى الشركات الفرنسية.
وتقول الجريدة أن المستر إدوارس درس المسرح المصري دراسة عميقة. ومن رأيه أن الشركات التمثيلية المصرية ستبلغ أعلى مستوى وأن أهل الإسكندرية أقل اهتماماً بالروايات التمثيلية من أهل القاهرة.
قال: وقد شهدنا في أثناء مقامنا في مصر التمثيل في المسارح العربية ورأينا فيها حركة نشيطة جداً، وقد طلب إلينا أن نتقبل عددا من الطلبة المصريين في دبلن ولكنهم ليسوا متضلعين في اللغة الإنجليزية، فمتى جاءوا فستتاح لهم الفرصة لتعلمها ودراسة الطرق المسرحية في وقت واحد.
تأبين الرافعي في طنطا
تألفت بطنطا لجنة من بعض المحاميين والأطباء والعلماء وأعضاء مجلس النواب والشيوخ ومن الأعيان والتجار لتأبين فقيد الأديب الكبير المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي وسيعلن فيما بعد عن ميعاد الحفلة ومكانها.
وقد قررت اللجنة أن لا يتعدى التأبين الموضوعات الآتية:(209/71)
(1) الرافعي: تاريخه وحياته الوظيفية.
(2) الرافعي الشاعر.
(3) الرافعي الأديب.
(4) الرافعي المؤلف
(5) فلسفة الرافعي.
وترجو اللجنة حضرات الأدباء والشعراء ممن يرغبون في الاشتراك فيها بأعمالهم أن يخابروا سكرتيرها، ويتفضلوا بإرسال خطبهم وأشعارهم إليه لعرضها على اللجنة وإقرارها.
أمين حافظ شرف
طنطا - شارع الشيخة صباح القديم(209/72)
القصص
أغنية الدير
للكاتب الإنجليزي وليام كانتون
ترجمة الأستاذ كامل محمود حبيب
هبط جون أوف فولد إلى هيثهولم - لأول مرة - رئيساً للدير هناك وفي صحبته شتى المؤلفات النادرة الأنيقة في الفلسفة والدين والأدب، مغلفة في جلد ثمين موشى بالذهب والفضة ثم الملابس الغالية الطريفة من الحرير والمخمل؛ وعباءات من الكتان الجميل، دقيقة الصنع، وقلانس محلاة بالعسجد، أشياء تنبئ عن نعمة وترف. . .
وراح القس الجديد ينفث من روحه التواقة الصافية في جنبات الدير، فوضع في نوافذ الناحية الغربية التي يسكنها هو أصصا من البلور بها طاقات من شتى ألوان الزهور الناضرة. وزين حجرة سانت إيجون بالأصص المرصعة باليواقيت، فيها فنون وفنون من الزهر الصناعي؛ وفي سماء الحجرة طير من لجين تبدو كأنها محلقة في سماء الأرض تهفو نحو هذه الطاقات وتحوم حولها؛ ثم أمر فصففت المناضد والكراسي الخشبية الجميلة في حديقة الدير ليجلس عليها الموسيقيون كل صباح وكل مساء، يعزفون ويرتلون الأناشيد الدينية الشجية. . . لقد كان الأب جون يفور نشاطاً وقوة، في روحه الصفاء والجمال، وفي قلبه الإيمان واليقين؛ فأراد أن يبعث في الدير روح الجنة ليستروح هو وإخوانه من الرهبان نسمات الخلد من هذه الناحية النائية من الأرض. . .
وبذ هذا الدير غيره جمالا وروعة وبهاء
وكان الأب توماس وكيل الرئيس يرى ما يفعله الأب جون وفي قلبه الاضطراب والأسى، وفي نفسه الغيظ والحنق؛ وكان يجلس إلى نفسه بين الحين والحين يحدثها: حقاً، إن هذه الأشياء لا تعني الرب، وهي تبعث في العين السرور والبهجة، وتدخل إلى القلب اللذة والطرب، وتنفث في الحياة المتعة والجمال! ماذا تفيد هذه الكنوز الغالية، والطرف الجميلة، والآثار النادرة؛ وهي تجذب القلب عن العبادة، وتورث في النفس حب الحياة وحب الاستمتاع؟ ما للراهب ولهذه الأشياء وهو يريد وجه ربه مخلصاً له؟ هذا بعض عبث(209/73)
الشيوخ وحرفهم حين يسيطرون على بيوت الله، يجمعون شتى الطيبات، وألوان الملذات، فتلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة؛ وعن أناس يبيتون في العراء حفاة عراة، ويتضورون جوعاً، لا يجدون مأوى، ولا يجدون كساء ولا طعاماً، ليت هذا الشيخ الغفل ينظر بعين القس الورع إلى ما يقاسيه الفقراء وذوو الحاجة فيخفف من غلوائه، وينزع عنه بعض حماقاته!. .
وفي الحق لم يكن توماس ليستشعر في نفسه الأسى والألم لما يقاسيه بعض الناس من فاقة وعوز، ولم تكن في قلبه الرحمة والشفقة؛ ولكنه كان يحس ألم الحقد والحسد يتنزى في صدره كلما وقعت عينيه على ما أنتثر هنا وهناك في نواحي الدير منذ هبط الكاهن الأعظم جون.
لقد كان توماس على غير ما كان عليه رفاقه: كان رجلا فيه الكآبة والعبوس، فكان الرهبان والقسس يعبدون الله مخلصين وفي قلوب الطرب والسرور. وفي قلبه هو التجهم والحقد؛ في أرواحهم اللذة والقناعة، وفي روحه هو الجفاف والغلظة؛ وفي أنفسهم الرضا والاطمئنان، وفي نفسه التقلقل والاضطراب. ثم هم يرون في أرض الله مسرحاً للعين والقلب والنفس جميعاً، وهو في منأى عنهم قد شغلته فكرة تضطرب في رأسه.
واعتاد الأب توماس أن يدلف إلى المعبد كل مساء وفي يده مصباحه، وقد أرخى الليل أستاره، ونامت الحياة في كل حي، يتهجد ويتعبد، ساجداً راكعاً، قارئاً مرتلا؛ يناجي ربه في هدأة الليل وسكونه، يسأله ويستغفره، فما يبرح حتى تخونه قوته، ويهن عزمه، وتضطرب مفاصله، من أثر الاندفاع والبرد في وقت معاً؛ فيرتد إلى حجرته يتكفا في طريقه. .
وانطلق - ذات مرة - إلى حيث ينطلق كل ليلة، وقد تأججت في نفسه ثورة الحقد على رئيسه جياشة مضطرمة، تكاد تعصف بإيمانه وعقيدته. . انطلق والبرد يزلزل أعصابه ويتغلغل في أوصاله وهو في طريقه لا يتململ ولا يعبأ. . وسجد في محرابه. . . غير أن صوتاً موسيقياً عذباً هادئاً رن في مسمعيه فنزعه من أخيلته، فأنصت يتسمع. . . ثم استوى جالساً، وحدق فيما حوله يريد أن يستشف أمراً، وبدت عليه الدهشة حين رأى ضوءاً خافتاً يضطرب في أرجاء الدير يزداد سطوعه رويداً رويداً، وتعلو معه نغمات الموسيقى فتزداد حلاوة ووضوحاً.(209/74)
ورنت الموسيقى الإلهية في جنبات المعبد، وارتفعت الأصوات الملائكية تنشد نشيداً عذباً يرقق القلب، ويبعث فيه الروعة والجلال وخيل إليه أن الرسوم والأحجار والسقف والحوائط. . . جميعاً تردد هذا النشيد في رنات سماوية وأحس بالناي الإلهي تحت ركبتيه تنبعث منها أهازيج يطرب لها الفؤاد وتهتز النفس.
واستولت على الراهب الحيرة فما استطاع أن يبرح مكانه. . . ثم أرهف سمعه فإذا الصوت ينبعث من ناحية المحراب أولا ثم يمسك، فيندفع كل ما حوله يرتلون الأنشودة في صوت فيه السحر والجمال، وترتفع رنات الموسيقى لتزيد النشيد طلاوة وحلاوة، وبدا له المكان يهتز طرباً كأنه يرقص مع النغم الشجي المنبعث من هنا ومن هناك.
وتراءت له صور الملائك تضطرب في هذا الضوء الإلهي الساطع، وفي أيديهم المعازف، وخيل إليه أن هذه الأشباح رسوم صورها له خياله فحسب، فانتفض من مكانه يحدق ذات اليمين وذات الشمال، ويتحسس بيديه نواحي المكان، وحين بدا له أن ما يرى حقاً لا مرية فيه، اضطرب، وزالت عنه شجاعته، وجمد في مكانه وقد سيطر عليه الفزع والخوف، غير أن صوتاً لذيذاً رن في مسمعيه يطمئن نفسه:
نحن الملائك نبتهل إليك يا رب
نحن الملائك نبتهل إليك يا رب
وأجال بصره فرأى على جانبي المحراب ملكين يترنمان: على مر الأيام والليالي ونحن نسبح بحمدك يا رب ونقدس اسمك العظيم يا رب، ما دام هذا الكون اللانهائي. ومن بين شفتيهما يتصاعد النفس فينعقد سحباً كثيفة بيضاء في أعلى المكان، فاستشعر في نفسه الخور والضعف غير أن حب الاستطلاع دفعه إلى المحراب ليرى. . .
واستطاع أن يرى رسوم الملائك والملوك على أستار المعبد تردد هي أيضاً هذه الأغنية.
والصور على زجاج النوافذ ترتل هي أيضاً الأغنية ورؤوس الملائكة المنحوتة في رخام المعبد ترتل الأغنية والأسد والدواب المرسومة هنا وهاهنا ترتل هي الأخرى الأغنية.
وتماثيل القديسين المنثورة في نواحي المكان ترتل هي أيضاً الأغنية.
والرسوم على الجدران ترتل أيضاً الأغنية.
وبدا له أن كلمات هذه الأغنية قد رسمت بحروف من ذهب يتوهج فيخطف البصر. على(209/75)
دروع الملوك والأمراء وذوي الجاه في سقف المعبد؛ والجميع يهزجون ويهتزون من فرح ومن سرور كأنهم أحياء، وتصاعدت أنفاسهم إلى سماء المعبد، سحبا تغطي السقف وتحيط بالأعمدة، ثم أمسك الجميع سوى رنات الناقوس العظيم في أعلى المحراب
وملأ مسمعي توماس صوت يردد الأغنية خارج المعبد في نبرات أخاذة شجية، يخترق سكون الليل وظلامه ليستقر في أذنيه هو. إنه. . . إنه منبعث من حجرة التماثيل، حيث الملوك والملكات، حيث الأمراء والعظماء، حيث الكهنة والشهداء، حيث القسس والرهبان؛ قد صففت تماثيلهم الفضية والبرنزية والرخامية والحجرية، لقد أجابوا جميعاً دعوة الداعي فانطلقوا يترنمون بالأغنية الإلهية في طرب ولذة. . . وهدأت الموسيقى خارج المعبد لتبدأ مرة أخرى داخله، ثم. . . ثم اندفعوا جميعاً بصوت فيه العذوبة والحلاوة يرددون:
على مر الأيام والليالي ونحن نسبح بحمدك يا رب، ونقدس اسمك العظيم يا رب؛ ما دام هذا الكون اللانهائي واصطرعت في رأس توماس فكرة أفكار متناقضة فما استطاع سوى أن يرفع عقيرتة:
يا إلهي، فليشملنا عفوك وغفرانك؛
فليشملنا عفوك وغفرانك يا إلهي!
ثم تراخت قوته فانطرح على الأرض ذاهلا. . .
وأفاق فما وجد إلا الظلام يشمل الأرض، وإلا السكون يسيطر على الكون، وإلا مصباحه الضئيل يضطرب في ناحية من المعبد. . . فارتد إلى حجرته وقد آلمه ما نازعته إليه نفسه من حقد على عبد من عباد الله الصالحين، حباه الله بفضل من لدنه، فبذل فضل جهده في العناية بمخلوقاته الخرساء الصماء، وفي تنسيق قطعة من أرض الله لتكون جنة الله على أرضه، ونزع ما في صدره من غل، فأيقن أنه إن لها الإنسان عن ذكر ربه ففي الكون مخلوقات ما تفتأ تردد ما دامت السموات والأرض:
. . . نحن نسبح بحمدك يا رب،
ونقدس اسمك العظيم يا رب؛ مادام هذا الكون اللانهائي.
كامل محمود حبيب(209/76)
العدد 210 - بتاريخ: 12 - 07 - 1937(/)
مصطفى لطفي المنفلوطي
بمناسبة ذكراه الثالثة عشر
كان في مستهل هذا العصر نفر من الأيفاع الخلصاء ينتقلون بين حلق الأزهر كما تنتقل النحل بين قطع الروض، لا يتشممون غير الزهر، ولا يتذوقون إلا الرحيق؛ وكانوا كالفراش رقاق الجسوم خفاف الأجنحة يتهافتون على أضواء النوابغ المعاصرين أينما تشع؛ وكانت الومضات الروحية الأخيرة للبارودي واليازجي ومحمد عبده وقاسم أمين ومصطفى كامل والشنقيطي قد التمعت إلتماعة الموت لتنطفئ كلها متعاقبة في العقد الأول من عقود هذا القرن، فهيأت الأنفس والأذواق إلى أدب جديد كنا نفتقده فلا نجده؛ وكان إخواننا اللبنانيون في مصر وأمريكا قد فتحوا نوافذ الأدب العربي على الأدب الغربي فأرونا فنونا من القول وضروبا من الفن لا نعرفها في أدب العرب؛ ولكنها كانت في الكثير الأغلب سقيمة التراكيب مشوشة القوالب، فأجمناها على نفاستها كما أجمنا أساليب المقامات من الألفاظ المسرودة والجمل الجوف والصناعة السمجة والمعاني الغثة
وحينئذ أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه (المؤيد) إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين النغم، ورأى القراء الأدباء في هذا الفن الجديد ما لم يروا في فقرات الجاحظ وسجعات البديع، وما لا يرون في غثاثة الصحافة وركاكة الترجمة، فأقبلوا عليه إقبال الهيم على المورد الوحيد العذب.
وكان هذا النفر من الأيفاع المتأدبين يجلسون في أصائل أيامهم الغريرة أمام (الرواق العباسي) يتقارضون الأشعار، ويلهون بإغفال الناس، ويترقبون (مؤيد) الخميس ليقرءوا مقال المنفلوطي خماس وسداس وسباع، وطه مرهف أذنيه، ومحمود مسبل عينيه، وفلان مأخوذ بروعة الأسلوب فلا ينبس ولا يطرف. وكلهم يودون لو يعقدون أسبابهم بهذا المنفلوطي الذي اصطفاه الله لرسالة هذا الأدب البكر، وجعله الأمام المفتي تلميذه المختار؛ ولكن المنفلوطي كان في ذلك العهد الذي قرأناه فيه قد جاوز الثلاثين، فهو قليل الإلمام بالأزهر، لا يجلس إلى شيخ ولا يأوي إلى رواق؛ وكان قد هيأ نفسه ليكون كاتباً لا (عالماً) فلم يجعل همه لامتحان، ولم يشغل ذرعه بشهادة.
وبعد سنتين نشر مختار ما دبج من فصوله في المؤيد في كتاب عنونه بالنظرات، وكان قد(210/1)
حكم على الشيخ عبد العزيز شاويش في مقاله: (طبقات الكتاب) حكماً شديداً ورطه فيه على ما أظن صلته بالمؤيد وبالمغفور له سعد باشا، والشيخ شاويش يومئذ محرر اللواء، بعد مصطفى باشا كامل، ولطه به اتصال، فحرضه على أن ينقد (النظرات) فنقدها ذلك النقد الغاضب الصاخب في ثلاثين مقالة ونيفا لم تدع سبيلاً إلى التعارف بيننا وبينه
ثم زاولت التعليم فكنت أستعيد قراءة المنفلوطي مقسما بين أقلام الطلبة. وفي سنة 1920 ترجمت (آلام فرتر) وكان صاحب العبرات يومئذ قد بلغ الغاية في الشهرة والأدب، فرغب في أن يراني؛ وكان لنا صديق مشترك فجمع بيننا في داره؛ ورأيت المنفلوطي لأول مرة فرأيت رجلا مجتمع الأشد، مربوع الخلق، ممتلئ البدن، غليظ الشارب، حسن السمت، لا تلحظ على وجهه المطهم المصقول مخايل الفنان ولا سهوم المفكر؛ ثم تحسبه وهو يحدثك حديثه المقتضب الخافض سريا من عامة السراة في الصعيد لاحظ له من بلاغة اللسان ولا رياضة القلم. ثم داخلته فتكشف لي عن ألمعية أصيلة تستتر عادة بين الحياء والحشمة؛ ووثق الود بيني وبينه توافق المزاج المنقبض والطبع الحي والوجود المنعزل، فدرسته على ضوء ما أعلم من نفسي فلم أجاوز الحق في تصويره وتقديره
كان المنفلوطي قطعة موسيقية في ظاهره وباطنه؛ فهو مؤتلف الخلق، متلائم الذوق، متناسق الفكر، متسق الأسلوب، منسجم الزي، لا تلمح في قوله ولا في فعله شذوذ العبقرية ولا نشوز الفَدامة. كان صحيح الفهم في بطء، سليم الفكر في جهد، دقيق الحس في سكون، هيوب اللسان في تحفظ. وهذه الخلال تظهر صاحبها للناس في مظهر الغبي الجاهل، فهو لذلك كان يتقي المجالس ويتجنب الجدل، ويكره الخطابة؛ ومرجع ذلك فيه إلى احتشام التربية التقليدية في الأسرة، ونظام التعليم الصامت في الأزهر، وفرط الشعور المرهف بكرامة النفس. ولكنك إذا جلست إليه رأسا إلى رأس، تسرح في كلامه، وتباري لسانه وخاطره في النقد الصريح والرأي الناضج والحكم الموفق والتهكم البارع، فلا تشك في أن هذا الذي تحدثه هو المنفلوطي الذي تقرأه. ثم هو إلى ذلك رقيق القلب، عف الضمير، سليم الصدر، صحيح العقيدة، نفاح اليد، موزع العقل والفضل والهوى بين أسرته ووطنيته وإنسانيته.
(للكلام بقية)(210/2)
أحمد حسن الزيات(210/3)
في التاريخ السياسي
ماذا في روسيا السوفيتية
الصراع بين البلشفية والرجعية
بقلم باحث دبلوماسي كبير
يتساءل الناس عما يحدث في روسيا السوفيتية، وما هو سر هذه المحاكمات الدموية التي تتري منذ عام في موسكو، والتي يقبض فيها على أكابر الزعماء جماعات، ثم يعدمون بعد محاكمة مرتبة موجزة؟ ففي الصيف الماضي قبض على عدة من الزعماء وعلى رأسهم سينو فييف رئيس الدولة الشيوعية الأسبق، وحوكموا بتهمة التآمر على سلامة الدولة بتحريض ليون تروتسكي زعيم البلشفية المنفي، وأعدموا بعد محاكمة قصيرة؛ ثم عقدت خلال الأشهر الأخيرة عدة محاكمات مماثلة، حكم فيها بالموت أو السجن على عدة أخر من الزعماء البارزين مثل العلامة الفيلسوف بوخارين رئيس الدولة الشيوعية السابق، وكارل رادك أعظم كتاب البلشفية المعاصرين، وياجودا مدير البوليس السري وغيرهم؛ ومنذ أسابيع قلائل امتدت يد المطاردة إلى الجيش الأحمر وقبض على عدة من قادته وفي مقدمتهم المارشال توخاتشفسكي، وحوكموا بسرعة مدهشة بتهمة الاتصال بدولة أجنبية معادية لروسيا وإمدادها بمعلومات عن الجيش الأحمر وعن أسرار روسيا العسكرية، ثم اعدموا ليلة صدور الحكم؛ وأذاعت الأنباء على اثر ذلك أن بوادر التمرد ظهرت في بعض وحدات الجيش الأحمر، وأن الثورة نشبت بالفعل في بعض أنحاء روسيا، وأن طاغية الكرملين ستالين، يلجأ في إخماد التذمر أو الهياج إلى أروع الوسائل، وهكذا؛ فما هي عوامل هذا الاضطراب الذي يتخذه البعض نذيراً بانهيار النظام السوفيتي؟ وما هي الحقيقة وراء ذلك كله؟
إن الثورة البلشفية التي سحقت عرش القياصرة منذ سنة 1917، وبسطت على روسيا سيادة (الكتلة العاملة)، واتخذتها ميداناً للتجربة الشيوعية، لم تصل بعد إلى نهايتها؛ وما زالت روسيا السوفيتية تعيش منذ عشرين عاماً في ظل نظم ثورية تسير من طور إلى طور؛ وهذا الصراع الذي يضطرم اليوم بين ستالين وبين جماعة من خصومه، والذي تبدو(210/4)
بوادره في تلك المحاكمات الدموية الرنانة، إنما هو نذير تطور جديد في الثورة البلشفية لم تكتمل عوامله بعد؛ ويلاحظ أن هذه الإجراءات الدموية التي يجد ستالين في اتخاذها إنما تقترن بصدور الدستور السوفيتي الجديد الذي تم وضعه في الصيف الماضي، ثم صدر في ديسمبر سنة 1936. بيد أنه يجب لكي نفهم عوامل هذا التطور الأخير، أن نرتد إلى الوراء، لنرى كيف نشأ الصراع بين ستالين وخصومه، وكيف أن هذا الصراع يرتبط أشد الارتباط بتطور التجربة الشيوعية في روسيا
كانت الثورة البلشفية تقوم عند بدايتها على دعائم ثلاثة: الشيوعية المطلقة، وسيادة الكتلة العاملة، وإضرام نار الثورة العالمية؛ وكان لنين رأس المذهب الجديد وزعيم الدولة الشيوعية الجديدة يستمد كل وحيه من تعاليم إمام المذهب وأستاذه الأكبر كارل ماركس؛ ولكن التجربة الشيوعية لم تلبث أن اصطدمت من الوجهة العملية بمصاعب اقتصادية واجتماعية خطيرة، ولم يلبث لنين نفسه أن أقتنع بوجوب الاعتدال في تطبيق التجربة والأخذ بسياسة اقتصادية جديدة تغفل فيها بعض المبادئ الشيوعية المتطرفة، وتدمج فيها بعض المبادئ الرأسمالية من (البورجوازية). وبدأ لنين بتطبيق هذه السياسة الجديدة منذ سنة 1921 ولكنه لم يلبث حتى توفي (يناير سنة 1924) وكانت وفاة لنين في الواقع فاتحة هذا الصراع الذي تجوز الثورة البلشفية أطواره من ذلك الحين؛ فقد تولى مقادير الأمور بعد لنين ثلاثة من خاصة أصدقاءه وأعوانه وهو سنوفييف وكامنيف وستالين؛ ولكن قطباً آخر من أقطاب البلشفية هو ليون تروتسكي مؤسس الجيش الأحمر (الجيش البلشفي) وأعظم رجل في الثورة بعد لنين كان يسهر على مصاير الثورة ويحاول أن يسير دفتها طبق آرائه، وبينما كان ستالين وزملاؤه يتوسعون شيئاً فشيئاً في تطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة، وهي تنطوي بالأخص على الاعتراف بالملكية الصغيرة، ومهادنة الدول الرأسمالية والتعامل معها، ومراعاة الاعتبارات الزراعية والتجارية والصناعية في الإنتاج، كان تروتسكي يعمل لمعارضة هذه السياسة ويرى أنها خيانة للثورة والمبادئ الشيوعية الصحيحة، وكان تروتسكي يشدد بالأخص في وجوب إضرام نار الثورة العالمية ويرى أنها هي السبيل الوحيد لظفر الاشتراكية، هذا في حين أن ستالين وفريقه يرون الاقتصار على تطبيق التجربة الاشتراكية في روسيا وحدها ويرون نجاحها محققاً دون(210/5)
الثورة العالمية؛ وكان تروتسكي بماضيه الثوري الحافل وصداقته المؤثلة للنين، وما له من فضل عظيم في نجاح الثورة البلشفية، ونفوذ قوي في الجيش الأحمر، عماد الثوريين المتطرفين ومعقد آمالهم، ولكنه لم يحسن استخدام هذا النفوذ وتوجيهه؛ ومن جهة أخرى فقد استطاع ستالين وفريقه أن يستغلوا الظروف الاقتصادية، وأن يعتمدوا في تنفيذ سياستهم على الرجال الإداريين؛ واستمر النضال بين الفريقين يشتد ويتفاقم، ولكن ستالين استطاع أن يقوي مركزه ونفوذه شيئاً فشيئاً داخل الحزب الشيوعي وخارجه، وأن يعمل على أضعاف خصومه وتسفيه معارضتهم وسياستهم، ولما شعر بأنه غدا هو الأقوى والأشد ساعداً ونفوذاً، رفع القناع فجأة، وأخذ يطارد تروتسكي وشيعته جهاراً؛ وكان يعتمد في المبدأ على مؤازرة عدة من أكابر الزعماء مثل سيونيف وكامنيف وتومسكي وريكوف وغيرهم، فلما شعر أنه يستطيع العمل دونهم أنقلب إلى مطاردتهم، فانضم هؤلاء إلى الفريق المعارض؛ ونزل ستالين وشيعته إلى ميدان النضال، واستطاع تباعا أن يقضي على خصومه وأن يخرجهم من حظيرة الحزب الشيوعي الذي هو كل شئ في حياة روسيا العامة، والذي يسيطر ستالين باعتباره سكرتيره العام على توجيهه واستخدام نفوذه وسلطانه؛ ثم خطا ستالين خطوة أخرى، فنفى تروتسكي وشرد الزعماء من أنصاره، وشتت شمل المعارضة كلها سنة (929) واستأثر عندئذ بكل نفوذ وسلطة وغدا سيد روسيا وزعيمها القوي، وأخذ يوجهها في الطريق الجديد الذي اختاره لها؛ فوضع مشروع السنوات الخمس لتنظيم الإنتاج الروسي، وهو المشروع الذي قلدته فيه ألمانيا وإيطاليا بعد، وعمل على التقرب من الدول الغربية، وكان من أثر هذه السياسة أن انضمت روسيا إلى عصبة الأمم، وتفاهمت مع فرنسا تفاهما انتهى بعقد الميثاق الروسي الفرنسي؛ وجد ستالين في تسليح روسيا ولا سيما منذ قيام الوطنية الاشتراكية (الهتلرية) في ألمانيا حتى غدت اليوم أقوى دول القارة في التسليحات البرية والجوية، وبذلك اجتنبت روسيا عزلتها السياسية القديمة، واتخذت مكانتها في السياسة الأوربية العامة إلى جانب الكتلة الديمقراطية، وأضحت عاملا حاسما في التوازن الأوربي.
على أن المعارضة القديمة التي لبث تروتسكي روحها وزعيمها لم تخمد ولم تسحق، فقد أستمر تروتسكي في منفاه في مختلف البلاد الأوربية يشهر بقلمه ولسانه حرباً عواناً على(210/6)
ستالين وسياسته، ويذكي بنفوذه القديم روح النضال في أنصاره داخل روسيا؛ وهو الآن في منفاه النائي بالمكسيك، وبالرغم من محنته وشيخوخته ما يزال يشهر سهام الخصومة والنضال على عدوه؛ ويقول التروتسكيون إن ستالين قد سحق الثورة وبدد تراث لنين، وبسط على روسيا نوعاً من الاشتراكية الوطنية التي بسطها الهتلريون على ألمانيا، أو بعبارة أخرى بسط عليها نوعاً من الدكتاتورية البورجوازية (الرأسمالية)، وأرتكب بذلك أعظم خيانة لقضية الثورة البلشفية والثورة العالمية.
والواقع أن الدستور الجديد الذي صدق عليه مؤتمر السوفيت الأعلى في 5 ديسمبر الماضي يدلل بروحه ونصوصه على هذه الحقيقة التي يتخذها التروتسكيون محوراً للخصومة والنضال، وهو أن الثورة الشيوعية قد انتهت، وانتهت كذلك فكرة الثورة العالمية. ذلك أن الدستور السوفيتي الجديد يعترف صراحة بحق الملكية الفردية التي يعتبر إلغاؤها أساساً جوهرياً لمجتمع الشيوعي؛ ويشتمل الاعتراف بهذا الحق ملكية الإيرادات الناتجة عن العمل وملكية المساكن الشخصية والأثاث المنزلي وحاجات الحياة اليومية، ويشمل أيضاً حق الميراث؛ ويمنح حق الملكية بالأخص للطبقات الممتازة في الدولة كموظفين وأعضاء الحزب الشيوعي، والذين حصلوا على أوسمة من ذوي المواهب والخدمات الممتازة؛ ومن جهة أخرى فأن الدستور الجديد يعترف بأن الحزب الشيوعي هو مصدر السلطات، ويحمي الدكتاتورية التي يبسطها على روسيا في الوقت الحاضر، ويؤيد بذلك طغيان ستالين زعيمه وسكرتيره العام؛ ثم أن الدستور الجديد لا يعترف بحرية الصحافة والرأي والاجتماع كحق للأفراد، وإنما يقرر أن الدولة هي التي تكفلها وهي التي تمد الشعب بالنشرات والصحف والخطباء وغيرهم، وهي التي تسيطر بذلك على عقل الشعب وروحه، وتسيره حيث شاءت.
هذه هي أسس الدستور السوفيتي الجديد؛ فأي فرق بينها وبين الفاشتية الإيطالية، أو الاشتراكية الوطنية (الهتلرية) الألمانية؟ أنه الطغيان الحزبي المطلق؛ وإنه لفناء الحقوق والحريات العامة كلها في شخص الدولة، والدولة هي الحزب القابض على السلطان؛ ومعنى ذلك إن ستالين قد أضحى بقوة الدستور الجديد يشغل في روسيا نفس المركز الذي يشغله موسوليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا؛ وهذا النظام الذي يتوجه الدستور السوفيتي(210/7)
اليوم هو النظام الذي تعيش روسيا في ظله منذ استطاع ستالين أن يجمع في يده القوية كل مقاليد السلطة والحكم
وهذا هو محور النضال الذي يضطرم بين ستالين وخصومه؛ وهذا هو السر في تخوف الطاغية من كل حركة أو بادرة تدل على التذمر أو المقاومة؛ ومنذ عام يجد ستالين في مطاردة خصومه وكان يخشى منهم منافسة أو مقاومة؛ ولا تزال إجراءات القمع الدموية تجري اليوم في روسيا في جميع دوائر الحكومة والجيش، ولن تقف حتى يأمن ستالين كل معارضة وحتى يوقن أنه أخمد كل صوت وكل نزعة إلى المقاومة. ولكن هل ينجح الطاغية في هذه المهمة الفادحة؟ هذا ما نشك فيه؛ فروسيا البلشفية هي غير ألمانيا وإيطاليا، ولن يستطيع كائن أن يخمد في هذا المجتمع الروسي الذي عاش في ظل الثورة عناصر النضال والثورة؛ وقد تسفر الحوادث عما قريب عن نتائج وتطورات جديدة؛ بيد أنها لن تكون على ما نعتقد سوى طور جديد من أطوار الثورة البلشفية.
(* * *)(210/8)
عين الرضى وعين السخط
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
هل صحيح ما يقول الشاعر أن عين الرضى عن كل عيب كليلة. . . لا أدري فقد صار كل شئ يحيرني، وما من أمر إلا أراني يبدو لي فيه رأيان أو مذهبان لطول ما عودت نفسي أن أنظر إلى (الجانب الآخر) فلو أني كنت قاضياً لظلت أحكامي تدور في نفسي ولا يجري بها لساني أو يخطها قلمي. وليس هذا من التردد، فأن من كان ضيق الصدر متنبه الأعصاب مثلي قلما يتردد. وما أكثر ما يؤثر الجزم والبت وإن كان في شك من الصواب كبير. ولكنما هذا من حب الموازنة والرغبة في إنصاف كل جانب من جوانب الرأي. وقد قلت لنفسي وأنا قاعد أتدبر قول هذا الشاعر القديم إن أعظم الرضى رضى المرء عن نفسه. أم ترى هذا ليس من الرضى. . لا أدري أيضاً. . وأخشى أن أظل لا أدري فلا أخرج بشيء أبداً. . . ولو أني أعطيت نفس إنسان غيري لما قبلت؛ ومع ذلك لا تخفى علي عيوبي ونقائصي من مادية وأدبية، ومن بدنية أو نفسية أو عقلية، فأنا أعلم أني. . . . ولكن هل من الضروري أن أفضح نفسي وأهجوها إلى الناس. . . ومن دلائل الرضى عن النفس على الرغم من الإحاطة بعيوبها، والفطنة إلى مواطن الضعف والنقص فيها أني أستخف بهذه العيوب ولا أبالي أن أذكرها، ولا أعبأ شيئاً إذا رأيت الناس يعرفونها كما أعرفها؛ وأني لأدرك بعقلي أنها نقائص ومذام ولكني أراني اتخذ أحياناً من المعالنة بها مفخرة ومحمدة، ولست أستخف بها في الحقيقة ولكنما أحاول تهوينها على نفسي حتى لا يكربني أمرها، ولأظل محتفظا بحبي لنفسي ورضاي عنها وغروري بها، وحب النفس من حب الحياة
وتذكرت وأنا أقلب هذا وأديره في رأسي مقالا أو فصلا لأديسون الكاتب الإنجليزي المعروف - أم ترى لا يقرأه أبناء الجيل الجديد - يتصور فيه أن الله جلت قدرته أذن للناس أن يخلعوا ويرموا ما لا يرضيهم من أجسامهم، فهذا رمى أنفه وذاك آخر ألقى أذنيه، وأخرج الثالث عينيه وقذف بهما، ونزع رابع ساقه وطرحها؛ وهكذا حتى صارت الأعضاء والجوارح المرمية المزهود فيها كوماً عالياً. وعاد الله فأذن لهم أن ينتقي كل واحد من هذا الكوم بديلاً مما زهد فيه ورماه فأقبلوا يقلبون ويبحثون وأخذ كل واحد ما أعجبه ووضعه(210/9)
موضع العضو المنزوع، ثم نظروا بعد ذلك إلى أنفسهم فلم يعجبهم حالهم ولم يرضوا عن أنفسهم واستبشعوا ما أخذوا بديلاً مما نزلوا عنه فجأروا بالشكوى إلى الله تعالى وتوسلوا إليه أن يأذن في أن يسترد كل منهم أعضاءه الأصلية. فتقبل الله دعاءهم رحمة منهم بهم، فما أسرع ما خلعوا ما استعاروا واستعادوا ما كانوا يسخطون عليه ويتبرمون به!
وهذه القصة الخيالية تدل على أن المرء لا يسعه إلا أن يفطن إلى حقيقة نفسه، ولكن إدراكه لعيوبه لا يمنع الحب الإيثار. وأحسب أن من هنا ما يسمونه (مركب النقص) أي معالجة الإنسان مداراة عيب يثقل على نفسه الشعور به، ومحاولة تعويضه من ناحية أخرى، والمقارنة والامتحان هما باب المعرفة، ولا سبيل إلى هذا الذي يسمى (مركب النقص) إلا بعد المعاناة أي الامتحان والمقارنة ولو امتنعت أسباب المعاناة والمقارنة بينه وبين غيره لما شعر المرء بنقص في نفسه أو في بدنه، ولما أحس الحاجة إلى مداراة النقص وستر العيب بإلتماس الصحة أو القوة في ناحية أخرى.
وأراني لا تخفى عليّ عيوب أبنائي وهم أحب إلى خلق الله إلي بعد نفسي كما لا أحتاج أن أقول فما أعدل بنفسي أحداً، وما أكثر ما سمعت أمي رحمها الله تقول إذا رأتني أشكو ألماً إنها تؤثر أن تكون هي المصابة، وأحياناً كنت أسمعها تدعو الله أن يتوفاها قبلي فأنكر هذا عليها في سري وأعجب كيف يمكن أن يتمنى إنسان أن يموت قبل غيره. هذا إحساس لا أستطيع أن أدعيه. ولو أني خيرت أن أموت قبل أولادي أو أن يموت أولادي قبلي لما رآني أحد أتردد أو أتحير، وربما أظهرت التردد نفاقاً وستراً للأنانية الصارخة، ولكن هذا لا يكون مني إلا نفاقاً وكذباً على الله والناس لا أكثر ولا أقل. وكثيراً ما سألت نفسي أترى الرجل غير المرأة؟ وأنا أؤمن بأن أمي كانت مخلصة صادقة السريرة، وقد كانت الدنيا كلها لا تعدل عندي قلامة ظفر من أصغر إصبع في رجلها. فهل تراها لو أن الأمر كان جداً لا تتردد في إيثاري على نفسها؟ من يدري؟ الرجل غير المرأة على التحقيق. . وشعور الأب غير شعور الأم، هي حملته تسعة أشهر على قلبها فهي تحس أنه قطعة منها بالمعنى الحرفي لا مجازاً، ومن أين يتأتى للرجل مثل هذا الشعور وهو لم يعان شيئاً ولا يدري أكثر من أن امرأته جاءته بغلام أو بنت قد لا يكون له رغبة فيه أو فيها. فأنا أستطيع أن أصدق هذا الإيثار من المرأة، ولكني لا أستطيع أن أصدق أن يكون الرجل مثلها إيثاراً(210/10)
لأبنه على نفسه - على الأقل فيما يمس الحياة - إلا إذا كانت نسبة عناصر الأنوثة في نفسه كبيرة.
ويحضرني الآن بيت قلته من قصيدة نسيتها وأظنه كان ختام القصيدة وهو:
ألا ليتني في الأرض آخر أهلها ... فاشهد هذا النحبَ يقضيه عالَمُ
وعيب البيت في نظري أن فيه مغالطة واضحة - على الأقل لي - ذلك أني لا أتمنى أن أكون آخر من يبقى في الدنيا لأرى كيف يفنى العالم، بل لأني لا أريد أن أترك الدنيا، فأن كان لا بد من تركها والخروج منها، فلتخرب قبلي أو فليكن موتي هو الإيذان بخرابها وإمحاء هذا العالم كله. ولم أستطع وأنا أنظم البيت أن أختزل كل هذا في شطر واحد فجاء البيت غير دقيق في التعبير عن حقيقة ما في نفسي
وقد أحببت مرات عديدة - لا عداد لها في الحقيقة فأني أبداً كما قال في الأستاذ العقاد:
(أنت في مصر دائم التمهيد ... بين حب عفا وحب جديد)
والسبب في ذلك أن عمر الحب عندي لا يطول إلا ساعة أو ساعتين أو ليلة أو ليلتين - إلى أن أمل والسلام - وما من واحدة أحببتها إلا تمنيت على الله أن يهبني القدرة لأصلح بعض ما لا أرضى عنه فأملأ هذا الساق وأديرها، وأعالج الترهل الذي يبدو لي في الثديين مثلا أو الردفين، وأصلح الأنف، وأخفف النتوء الذي في أرنبته، وأرسم الحاجبين رسماً جديداً يكون أقرب إلى ذوقي ورأيي في التناسب، وأعالج نفسها أيضاً علاجي لبدنها وهكذا إلى آخره، فما بي حاجة إلى الإطالة، وليس هذا من الاعتراض على خلق الله سبحانه وتعالى. . حاشا وكلا. . وإنما هو من اشتهاء الكمال كما أتصوره، ولا كمال في الدنيا مع الأسف
وقد صدق الشاعر في الشطر الثاني من بيته كما لم صدق في شطره الأول فما من شك أن عين السخط تبدي المساوي. وثم عيون أخرى عديدة تبدي المساوي غير عين السخط، وفي وسعنا أن نتسامح مع الشاعر المسكين وأن نقول أنه يعني بين السخط عينا تبدي المساوي، وأنه لم يرد القصر ولا التخصيص
وأسأل نفسي وأنا أكتب هذا الفصل: (ماذا أخطر ببالك هذا البيت؟) والحقيقة أني لا أدري سوى أني أردت أن أكتب كلاما فحضرني هذا البيت، فما أكثر الكلام الفارغ وما أسرعه(210/11)
إلى اللسان.
إبراهيم عبد القادر المازني(210/12)
تأملات في الأدب والحياة
للأستاذ إسماعيل مظهر
الثقافة التقليدية:
في مقالات بعنوان (التعليم والحالة الاجتماعية) نشرتها في الرسالة الغراء منذ حين، روجت لنظرية استخلصتها من تاريخ الأمم ودعوتها نظرية (الثقافة التقليدية). ومؤدى هذه النظرية أن لكل أمة من الأمم ثقافة مأثورة تنتقل على الزمن من أهل إلى أهل، وتتوارثها الأمم طبقة بعد طبقة، وأن الثقافة التقليدية الخاصة بكل أمة من الأمم أو سلالة من السلالات، لها من الأثر في الحالات الاجتماعية، ما للصفات الوراثية الحيوية من الأثر في الأفراد، وأن شباب الأمم من حيث القدرة على الرقي والاحتفاظ بالصورة من المدنية تلائم مقتضى البيئة والظروف القائمة من الدنيا الحافة بالأمم، إنما يرجع في الحقيقة إلى استمساك الأمة بثقافتها التقليدية واتخاذها أصلا ثابتاً يغرس فيه ما ينتحل من ثقافات الأمم الأخرى، فتتكيف هنالك المبادئ المنتحلة، تكيفاً ملائماً لطبيعة ما توارث الأمم من مأثور ثقافتها التقليدية. وبذلك تحتفظ الأمة بطابع خاص وتجري تطوراتها الاجتماعية والعقلية والنفسية على قاعدة ثابتة وأسلوب راسخ، فتأمن بذلك شر الفورات الفجائية والثورات المجتاحة والكوارث الاجتماعية المفنية، ويكون لها من مجموع ما حفظت من مأثور أسلافها ضابط يضبط نزوات الأفراد، ويهيئ المجموع بعقلية ذات طابع تقليدي تكون لها بمثابة الكَمَّاحة التي تصدها عن التورط في نواح غير مضبوطة المعايير، أو التعلق بأذيال فكرات ومبادئ مريضة المنطق، بعيدة عن حاجاتها الأولية التي تضمن لها الاتزان والتعقل في طريقها إلى أسمات جديدة من المدنية أو الرقي العقلي.
ولقد أردت بهذه النظرية أن تكون أساساً لسياسة التعليم في مصر، فنتخذ من الأصول التقليدية التي قامت عليها المدنيتان العظيمتان، مدنية الفراعنة في مصر، وأساسها الزراعة والقوة الحربية ومدنية العرب وأساسها الإسلام والأدب العربي، منارة نستشرف منها ما نحتاج من مبادئ عامة فنحور من برامجنا التعليمية وخططنا الثقافية بما يلائم طبيعة التقاليد المأثورة عنهما، ذلك بأن الثقافة التقليدية في نفسية الأمم وعقلياتها بمثابة الصفة الوراثية في الفرد، لا تنفك الأمم عن الأولى أو ينفك الفرد عن صفة تلقاها عن أسلافه(210/13)
هذه النظرية على ما فيها من بساطة في الظاهر تحتاج في إثبات حقائقها إلى تأملات تاريخية عميقة، ينفذ الباحث من طريقها إلى أبعد غور من الأعماق التي ينزل إليها قارئ التاريخ العادي. فأن وراء الحوادث الظاهرة في صفحات التاريخ كانقراض الأمم المالكة، أو فتوح البلاد، أو اندحار الجيوش وانتصارها، أو قيام الحكومات المختلفة وسقوطها، أو تسلط الأفراد على الأمم وإطراح الأمم لسلطة الأفراد، حقائق أخرى تصدر عن صفات نفسية تختفي من وراء الحوادث الظاهرة، فتكون بمثابة القوة المحركة أو الطاقة في المادة، فهي خفية بأعيانها، ظاهرة بآثارها. وهذه القوة إنما تمكن وتستخفي طوعاً لظروف خاصة، وتظهر وتستقوي على غيرها طوعاً لظروف أخرى، وهذه الظروف التي تمكن معها القوى المحركة للجماعات أو تظهر، ينبغي أن تكون موضوع كل من يكب على التأملات في الثقافات التقليدية لدرس مالها من أثر في كون هذه القوى أو ظهورها، بحسب ما يحيط بالجماعات من ظروف تبعدها عن ثقافتها التقليدية أو تقربها منها
أما إذا أردنا أن نستوثق من حقيقة هذه النظرية، فعلينا أن نرجع إلى التاريخ، علينا أن نرجع إلى أقرب تاريخ منا، أي إلى تاريخ العرب. فأن الأمة العربية سادت الدنيا عندما استمسكت بعرى ثقافتها التقليدية، وفقدت الدنيا عندما انحرفت عن الاسترشاد بثقافتها المأثورة. وكذلك كان شأن روما وشأن اليونان قبل العرب. أما الدورات التي انتابت الأمم متراوحة بين الاستعلاء حيناً والتَّنكُّس حيناً آخر، فما هي إلا دورات تقرأ فيها صوراً من التطور ترجع في حقيقتها إلى استمساك الأمم بثقافتها التقليدية حيناً، وتفريطها في ذلك حيناً آخر
فعلينا إذن أن نرسم لمستقبلنا خطة نتخذ فيها ثقافتنا التقليدية نبراساً نستضئ به، وإلا فأنا سوف نظل نتخبط في الظلام فلا نستقر
حادثة:
قد تقرأ تاريخاً كاملا كتاريخ الإسكندر المقدوني وفتوحاته الكبيرة، وقد تستجلي في هذا التاريخ صوراً من شجاعة الرجل ومن إقدامه، وقد تجد في انتصار من انتصاراته سبباً للتأمل والعبرة؛ غير أن كل هذا لا يدلك على حقيقة الرجل قدر ما تدلك حادثة من الحوادث الصغيرة في حياته.(210/14)
بعد أن هزم الإسكندر جيش فارس الهزيمة الأولى، تقدم بجيشه نحو (طرسوس)، وهي مدينة حصينة من مدن آسيا الصغرى، تعرف في التوراة باسم (طرشيش)، وجاء عيون الإسكندر يخبرونه بأن الجيش الفارسي قد عزم على أن ينهب المدينة ويحرقها إذ لم يبادر الإسكندر باحتلالها. فترك قائده الأكبر (قرمنيون) على رأس المشاة وتقدم الفرسان منحدراً من الجبال الهاوية بمقربة من البحر، إلى السهل الذي تستوي فيه طرسوس، وجد في السير، حتى يتسنى له أن ينقذ المدينة قبل أن يفعل بها الفرس، والسهل الذي تستوي فيه المدينة شديد الحر كثير الرطوبة، وقد افرغ الإسكندر على جسمه درعه الثقيل وعدة حربه، ممتطياً صهوة جواده الصَّوَّال (بُوقيفالوس)، فقطع أميالاً من الوهاد والوديان، حتى إذا أشرف على المدينة، كان قد بلغ منه العطش، فنزل على ساحل نهر (البَرَدَان) وخلع درعه وأستحم في النهر، والظاهر أن هذا النهر ينبع من الجبال ويستمد ماءه من ينابيع باردة، فماؤه مثلج بفطرته، ولقد أصاب المأمون مرض إثر استحمامه في نهر البَرَدان فمات، ولقد أوشك الإسكندر أن يموت، كما مات خليفة المسلمين من بعده؛ ولزم الإسكندر فراشه بعد أن دخل (طرسوس) وشاع أن حياته في خطر.
كان من الأطباء الذين يعنون به طبيب شيخ يدعى (فليب الأكرناني)؛ وكان من قبل طبيباً لأبيه ومن المتفانين في خدمة بيت مقدونيا المالك؛ وقد أقر جميع الأطباء بأن الإسكندر ميؤوس منه، إلا هذا الرجل، فأنه نصح الإسكندر أن يذعن إلى رأيه وأن يشرب جرعة سيعدها له بنفسه، ورضى الإسكندر بذلك على رغم عناده، وخرج الطبيب من حجرة الملك المريض ليعد جرعة الشفاء.
في اللحظة التي خرج فيها الطبيب إلى الحجرة، دخله رسول من قبل قائده (قرمينون) يحمل رقعة في يده، فقدمها إلى الإسكندر؛ وكانت تحذيراً للإسكندر من طبيبه (الأكرناني) فقد أتصل بسمع القائد أن الطبيب مالأ الفرس عليه وأنه تلقى منهم رشوة ليدس له السم في الدواء.
كان الإسكندر قد أتم قراءة الكتاب لما دخل عليه الطبيب حاملاً الجرعة التي أعدها، فتناول الإسكندر الجرعة بيده اليمنى وناوله الرقعة بيده اليسرى؛ وطفق الإسكندر يكرع الجرعة، والطبيب ينظر في الرقعة نظرات جامدة حيرى؛ ثم ناول الإسكندر الكأس الفارغ للطبيب،(210/15)
وناول الطبيب الرقعة للأسكندر؛ ونظر كل من الرجلين في وجه الآخر برهة، ثم استلقى المريض على فراشه، وانصرف الطبيب إلى شأنه، من غير أن ينبس أحدهما ببنت شفة.
ألست تجد في هذا الحادث الصغير معنىً عظيماً يدلك على أن القلب الذي حمله الإسكندر كان جديراً بأن يفتح العالم ويدوخ الدنيا برمتها؟
حاجة اللغة العربية:
وقد تكون لغتنا العربية السمحاء في حاجة إلى كثير من وجوه الإصلاح. قد نقول بأن كتب النحو غامضة وأن قواعد الصرف مشتتة، وقد نقول إن أدب العربية لم يخدم بعد الخدمة الواجبة، بل نقول إن اختلاف مذاهب النحويين، وجمود الكثير من اللغويين أمر لا بد من النظر فيهما وإصلاح شأنهما بما يلائم حاجات أبناء العربية في هذا العصر، كل هذا وأكثر منه صحيح، والحاجة إليه ماسة؛ غير أن أحوج ما تحتاج إليه اللغة العربية المعجمات؛ وأول ما نتكلم في المعجمات القديمة
أما هذه فأما مطولة ترضي نزعة الباحث الذي تمكن من الأدب وربي فيه الذوق الأدبي، فأدمن البحث وطلب الاستقصاء؛ وإما مختصرةً اختصاراً مخلاً في كثير من نواحي الإرشاد اللغوي؛ وليس بين هذين وسط يسد طلبة الأديب العابر في رياض الأدب عبور المستفيد، فلا هو بالمستقصي ولا هو بالقانع بما بين يديه، وهؤلاء هم جمهرة الأدباء عندنا، بل وفي كل الأمم. ناهيك بأن معجماتنا القديمة قد تركت كل مادة علمية من المواد التي عرفها العرب ودرسوها من غير تعريف؛ فهذه دويبة، وذاك طوير؛ وهذا نبت يكون في العراق، وذلك عرق في الساعد أو الزند؛ وكذلك صفة الأمراض، أفي الإنسان كانت أم في الحيوان، فقد قرأت في صبح الأعشى من عيوب الخيل ما يزيد عن المائة عيب، كلها، كما اعتقد، تمت إلى أمراض؛ غير أنك قلما تقع على عبارة تشخص لك المرض أو أعراضه الصحيحة؛ فمعجماتنا ناقصة من هذه الوجهة نقصاً شائناً، ناهيك بأن في كتب الأدب والتاريخ والخطط والشعر والتراجم ألفاظاً لم تدخل المعجمات القديمة؛ ولا نقصد بذلك الألفاظ المولدة، بل نقصد بها ألفاظاً فصيحة صحيحة، فالمعجمات القديمة إذن لم تحط بكل ما في العربية من مادة لغوية؛ وهذا نقص نضيفه إلى ما عددنا قبل.
نتكلم بعد هذا في أنواع المعاجم التي نطالب الآن بوضعها لتتم حاجة اللغة؛ وأول ما نحتاج(210/16)
إليه المعاجم التي تقابل فيها مفردات لغتنا، مفردات لغة أخرى؛ وليست الحاجة في هذا مقصورة على لغة أو لغتين فأن الواجب يحتم علينا أن ننظر إلى كل اللغات الحية، بل وبعض اللغات غير كثيرة الانتشار، لنضع لها معجمات تقابل مفرداتها مفردات من اللغة العربية، على غرار ما نرى في المعاجم الكثيرة عند الأمم التي أدركت ما للمعاجم من أثر في إحياء اللغات ونشر الثقافة والمعرفة.
تأتي بعد ذلك حاجتنا إلى المعاجم الخاصة بالعلوم والفنون؛ فلست تجد الآن معجماً واحداً يرضي حاجة المختصين في علم من العلوم أو فن من الفنون ويسعفهم بالكلمة الصحيحة والتعريف الكامل للمصطلحات التي تصادفهم أثناء بحوثهم؛ وهذا نقص معروف شائع، فلا حاجة إلى التوسع في شرح الحاجة إلى سد ثغرته؛ وإنما يتبقى لنا أن نتعرف أن أمامنا في هذا مجهود شاق طويل علينا أن نبذله وأن نضحي فيه بالجهد والمال والعين والعافية.
أما الطامة الكبرى والمصيبة العظمى فتشعر بها إذا قارنت بين الأسماء القديمة والحديثة الواردة في كتب التاريخ أو الجغرافية، فقد تقرأ الاسم الواحد الدال على ذوات بعينها مرسوماً بعدة أهجية مختلفة في كتب مختلفة أو في كتاب واحد؛ فقد يتفق أن يكون المؤلف قد اعتمد على كتب إنجليزية تارة وعلى كتب فرنسية تارة أخرى؛ فينتقل الاسم الواحد كما يلفظه ويرسمه الإنجليز مرة، وكما يلفظه ويرسمه الفرنسيون مرة أخرى؛ ولا تبلغ بلبلة الألسن في هذه الناحية من الفساد مبلغها في نقل الأسماء القديمة، وبخاصة إذا كانت أسماء عرفها العرب، فقد قرأت في كتب مختلفة الأعلام الآتية: مرجراط، مرجرات، مرغرات، مرغراط، مرج راهط، مرج راهد، مرجراه، وكلها للموقعة المعروفة في مرج راهط؛ وقرأت: رقطيس، راقتيس، راقطبس، راقوده، رقوته، وكلها للمستعمرة الإغريقية المعروفة راقوطيس في شمال الدلتا في تاريخنا القديم وهي راقودة عند العرب؛ وقد أذكر أن الفروق في رسم الأعلام قد بلغ من الاختلاف في أسماء أخرى مبلغاً لا يدركه أشد الواقفين على حقيقة الأسماء القديمة، ولا شبهة عندي أن مبتدئاً في درس التاريخ أو الجغرافية إذا وقع له مثل هذا في كتب مختلفة أو كتاب واحد لظن لأول وهلة أن اختلاف الرسم يدل على اختلاف الذات.
هذه الحال تحفزنا إلى الدعوة لوضع معاجم لأسماء الأعلام، فنحتاج إلى معاجم في أسماء(210/17)
الأعلام القديمة؛ ومعاجم لأسماء الأعلام الحديثة، ومعاجم تضبط فيها أسماء الأعلام العربية، وإن من الأسماء العربية ما تقرأه على أوجه عديدة إذ لم يكن تام الضبط بالشكل الكامل.
لم أتناول في هذه الكلمة إلا بعض حاجة اللغة العربية إلى المراجع، فهل قدرنا كل ذلك؟ وهل اتخذنا العدة للعمل؟ وهل لهذا العمل ظهراء من بين أغنياء هذا البلد والقائمين على أمره؟ نرجو مؤملين أن تتوجه الجهود إلى هذا العمل إن كانت الرغبة فيه موجودة، ونرجو أن يتضافر الكتاب والباحثون على خلق الرغبة فيه إذا لم تكن موجودة.
إسماعيل مظهر(210/18)
إلى الأستاذ أحمد أمين:
الضعف في اللغة العربية
للأستاذ محمد سعيد العريان
تناول الأستاذ الجليل أحمد أمين في العدد 208 من الرسالة موضوع الضعف في اللغة العربية، بعد ما تناوله عديد من الصحف والمجلات في هذه الأيام؛ وما كان لي أن أعني بمناقشة ما قال الكاتبون في هذا الموضوع والإدلاء برأيي فيه لولا اعتدادي بمكانة الأستاذ الكبير وما لآرائه من خطر وقيمة، فأنا لهذا أكتب أليه أستدرك أشياء وأنبه إلى أشياء لعل لها أثراً في توجيه البحث ينتهي إلى الغاية التي يريد ونريد.
وأحب قبل أن أمضي فيما أنا بسبيله أن أؤكد لأستاذي ما لا بد من توكيده: إنني فيما أكتب إليهبعيد عما يسميه النزاع الشخصي أو التعصب الطائفي، فإذا رأى في مقالي ما يجعلني إلى طائفة من القائمين على شئون اللغة العربية فليتبرع لي بحسن الظن، وأن رأى مني انحرافاً عن الصواب فلينسبني إلى الخطأ في الاجتهاد، لا إلى الهوى والتعصب
وبعد فماذا يعني الأستاذ بالضعف في اللغة العربية؟ أتراه يعني إن اللغة العربية في هذه الحقبة من تاريخها الأدبي سائرة إلى الضعف؟ أم هو يعني ضعفها على ألسنة تلاميذ المدارس وطلاب الجامعة وناشئة المتأدبين من كتاب هذا العهد؟
هذا سؤال أحسب الجواب عنه صريحا محدداً في مقال الأستاذ؛ فما من شك في أن اللغة العربية في هذا العهد خير منها منذ ستين عاماً وقبل ستين عاماً، وإن لم تبلغ بعد الهدف الذي ترمي إليه. وأما ضعفها في السنة طلاب المدارس وخريجي الجامعة وناشئة المتأدبين، فأمر لا شك فيه كذلك ولا يحتاج إلى برهان.
وإذا تحدد موضوع البحث على هذا الوجه فأن علينا مناقشة الأسباب التي يرجع إليها هذا الضعف في اللغة العربية. وأرى الأستاذ الجليل يرجعها إلى أمور ثلاثة تتفرع في النهاية إلى ست مسائل: هي طبيعة اللغة نفسها، والمعلم، وبرامج التعليم، والامتحانات، والتفتيش، والمكتبة العربية. وسأقصر حديثي الآن على بعض هذه المسائل دون سائرها؛ إذ هي عندي أجدر بالعناية وأحق بالنظر. وأولى هذه المسائل هو المعلم، وأراني أشارك الأستاذ في قوله: (إن معلم اللغة العربية في المدارس على اختلاف أنواعها عليه أكبر واجب(210/19)
وأخطر تبعة، وبمقدار قوته أو ضعفه تتكون - إلى حد كبير - عقلية الأمة. .) ولكني مع ذلك لا أشاطره الرأي بأن جزءاً كبيراً من ضعف اللغة يرجع إلى المعلمين. فما المعلمون في مدارسنا - وأنا واحد منهم - إلا أدوات عاملة بغير إرادة: ليس لهم حرية في العمل ولا خيرة في الطريقة، ولا فكرة في التنفيذ؛ وإنما يشرع لهم الشارع في وزارة المعارف وعليهم الطاعة العمياء والإرادة الخرساء. قد يكون عيباً في المعلم أن ينزل عن رأيه بهذا الهوان؛ ولكنه يريد أن يعيش، ومن ورائه المفتش، والمفتش الأول، والمراقب، والوزير؛ كل هؤلاء عليه عيون لواحظ، ليس عليهم أن يوجهوه أو يروا له الرأي الصالح بمقدار ما عليهم أن يحصلوا عليه مخالفاته لما أرادت الوزارة من الخطة والمنهج والنظام. .
وأراني قد بينت للأستاذ موقف المعلم ومكانته في المدارس المصرية، مسوقاً إلى أن اعتب عليه أن ينال معلمي اللغة العربية ودار العلوم بما يشبه أن يكون مصدره فكرة قديمة مستقرة في موضعها من فكرة الكاتب الجليل لا تتصل بموضوع البحث من قريب أو بعيد! وإلا فأين هذا الموضوع من دعواه بأنه خريج دار العلوم أصبح لا يحذق الأدب القديم ولا الأدب الحديث، ولا يستطيع تغذية الشعب بالأدب الذي هو بحاجة إليه. . .؟
إننا هنا نتحدث عن ضعف اللغة العربية في المدارس لا ضعفها في الأدب العام الذي يغذي الشعب ويساير النهضة؛ ولو كان هذا هو الموضوع لاستطاع أن يجد البراهين في كل ما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء منذ نيف وستين عاماً، وكلها شاهدة بما لدار العلوم من أثر على اللغة في هذا القطر وفي الأقطار العربية عامة، وما أرى الأستاذ يستدرك فيعترف بأنه من خريجي دار العلوم أفذاذاً نابغين يصح أن يكونوا المثل الذي ينشده إلا مجاملة لطائفة من أصدقائه وزملائه في الجامعة، وما تغير هذه المجاملة شيئاً من وجه الرأي، وما تغير شيئاً من الحقيقة التي يلحظها كل من يقرأ مقالة الأستاذ الكبير، وهي أنه خرج من البحث في كفاية خريجي دار العلوم باعتبارهم معلمين، إلى البحث في كفايتهم باعتبارهم كتاباً وأدباء ومنشئين أثروا تأثيرهم في الأدب العام أو لم يؤثروا، وما هذا مصدر البحث ولا مورده. . .
وما أريد أن أطيل في هذا العتب، فأن هنا (النقطة الشائكة) التي كان هم الأستاذ أن يتحاشاها، وكان همي لولا (الواعية الباطنة) التي أقحمتها في غير موضعها من مقال(210/20)
الأستاذ الجليل.
وأعود إلى ما كنا فيه فأقول إن الأستاذ لم يبلغ إلى الحقيقة في قوله: إن دار العلوم وغيرها لم تستطع أن تخرج المعلمين الأكفاء الذين نتطلبهم وتتطلبهم اللغة العربية للأخذ بيدها والنهوض بها ومحاربة الضعف الناشئ فيها. وكان وجه الرأي أن يقول: إن وزارة المعارف لم تترك للمعلمين حرية العمل وحرية الرأي في المناهج للأخذ بيد اللغة العربية والنهوض بها ومحاربة الضعف الناشئ فيها؛ وذلك بما قيدتهم من قيود لا تدع لهم الخيرة في أن يفكروا في الوسائل ولا في الغايات التي يجب أن يأخذوا بها الناشئة من طلاب اللغة العربية ليبلغوا بهم حيث يريدون.
ولمنهج التعليم أكبر الأثر بعد ذلك فيما آلت إليه حال اللغة العربية في المدارس المصرية، وعلى ألسنة الناشئين من المتأدبين؛ ولا أعني بهذا منهج اللغة العربية وحده؛ فهذا جزء من كل له أثره في الثقافة العامة التي توجه التلميذ وجهته، وتعده لأن يكون ما يكون في غده: رجلاً لأمته يحرص على قوميته وتراث أهله ومقومات وجوده، أو واحدا كبعض من نعرف من شبابنا، لا يعرف له قومية وليس فيه حفاظ على ما خلف الآباء، ويضيع فيما يضيع من تراث الأجيال لغة قومه ودين قومه. والدين واللغة في تاريخ هذه الأمة شيء واحد، يقوم كل منهما من الآخر مقام الأخر مقام الجزء ما يكمله، وهما معاً عماد القومية العربية المسلمة التي نريد أن نطبع عليها ناشئة الغد.
هذا نقد عام لبرامج التعليم في مدارسنا لا أحاول تفصيله، وحسبي في هذا السبيل أن أنبه أستاذي الجليل إلى نظرة الطلبة في صميم نفوسهم إلى أن اللغة العربية مادة ثانوية وإن وضعت في المناهج في أولها - ليس من عمل المعلم بقدر ما هو من تأثير المنهج الذي يفرض فيما يفرض على التلميذ في المدرسة الابتدائية برنامجاً طويلاً عميقاً في اللغة الإنجليزية قبل أن يستقيم لسانه في نطق جملة عربية واحدة. كما أن ضعف الثقافة في الجمهور فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي والأدب العربي والمعلومات العامة التي تتصل بذلك - ليس مسئولاً عنه معلمو اللغة العربية، لأن ذلك ليس داخلاً في برنامج ما يدرسون لتلاميذهم، وليسوا هم القائمين على تدريس التاريخ الإسلامي، ولا شيٍء مما يتصل به من المعلومات العامة في مرحلة من مراحل التعليم؛ وقد كان ذلك إليهم منذ سنين، وكانت حال(210/21)
اللغة يومئذ خيراً منها في هذه الأيام.
وهنالك أمر ذو خطر يتصل بمنهج اللغة العربية ذاتها، ولا مناص من الالتفات إليه؛ ذلك هو ترتيب المنهج وتوزيعه على سني الدراسة المختلفة، ولا أعني هنا الكم والمقدار، إنما أعني الكيف والطريقة.
إن الأستاذ أحمد أمين قد قصر نقده للمناهج على المادة دون الموضوع؛ فراح يتهم قواعد النحو والبلاغة في مادتها وتقسيمها دون نظر إلى مؤداها وغايتها وموضوعها من مراحل التعليم.
إن الآفة والعلة والداء ليست في قواعد البلاغة ومصطلحات النحو وفصول الأدب؛ فما نحن بمسئولين بأن نجعل هذه المقاييس اللغوية تسلية وملهاة يتلهى بها التلميذ في وقت بطالته وفراغه كأنها قصة أو فكاهة، فما هذا موضعها من العلم ولا مكانها؛ ولكن العلة والآفة والداء أننا نعلم التلميذ قواعد اللغة قبل أن يعرف شيئاً من اللغة أو يقرأ منها قدراً صالحاً ليعينه على الفهم والمحاكاة؛ وإننا ندرس له البلاغة قبل أن نقدم له النماذج الكثيرة من الكلام البليغ التي تنبه فيه ملكة النقد قبل أن نعطيه قواعد النقد ومقاييس البيان الرفيع، وأننا نجرعه مصطلحات الأدب وفنونه قبل أن يتذوق الأدب نفسه. هنا العلة فلنلتمس لها الدواء قبل أن نفكر في حلاوته أو مرارته.
إن قواعد النحو، ومصطلحات الأدب، وفنون البلاغة، كفلسفة القصة من القصة: لا ينبغي التفكير فيها والمعاناة في استخراجها قبل الفراغ من القصة نفسها، والحكم على الشيء فرغ من تصوره، كما يقولون؛ فصوروا للطفل آداب لغته قبل أن يعطوه هذه المقاييس الصماء ليزن بها ما ليس في يده.
إن هذه المناهج بعيدة من الطبيعة بعد الغاية التي وصلنا إليها من الغاية التي إليها نقصد؛ وإنما ينبغي حين نريد تعليم اللغة العربية على منهاج صحيح أن نحاكي الطبيعة الخالقة في منهاجها الواضح؛ والطبيعة قد أملت علينا الطريقة التي يجب أن نأخذ بها كل ناشئ يتلقى لغة من اللغات، ففرضت عليه أن يمر في أطوار التعليم بثلاث مراحل: السماع والتلقين، ثم المحاكاة والتقليد، ثم الابتكار والإنشاء. فأن الطفل يولد وله صوت وسمع وليس له بيان، ثم يأخذ بمحاكاة الأصوات التي يسمعها؛ فإذا تكونت له أعضاء النطق أخذ يلقف الكلمات(210/22)
مما يسمع من أهله فيرددها كما سمعها بلهجتها ونبرها، ثم يتدرج من ذلك إلى التعبير عن حاجته باللسان الذي يتحدث به من حوله؛ على أن قاموسه في ذلك لا يعدو كلمات قليلة على مقدار وعيه وحفظه وقدرته على التقليد؛ وكلما تقدمت به السن واتسعت الدائرة التي يضطرب فيها ويستمع إليها ويلقف منها زاد محصوله اللغوي؛ ثم لا يلبث أن يلم بكل معنى وبكل لفظ وبكل عبارة، فيتحدث كما يتحدث الناس، لا يعجزه ان يفهمهم ولا يعجزون، وحينئذ يتم تمامه اللغوي في اللغة التي يتحدث بها أهله.
هذه هي الطبيعة الملهمة وطريقتها في إعداد الطفل إلى تلقي اللغة والفهم عنها والإبانة بها. فأين طرائقنا من هذه الطريقة التي فرضتها الطبيعة على كل إنسان ناطق. . .؟
وعلى هذا المنهج الطبيعي نفسه تخرج الخالدون من أدباء هذه الأمة، فبلغوا ما بلغوا وخلفوا لنا هذا التراث الباقي على الزمن من الشعر والأدب. وطريقة الأخذ عن الرواة هي طريقة الطبيعة نفسها، وهي هي كانت كل ما يؤهل الأديب أو الشاعر إلى التبريز في الأدب والإجادة فيه. وما كان الأصمعي وأبو عبيدة والقالي وغيرهم ليعلموا تلاميذهم أول ما يعلمونهم - المحادثة والإنشاء والقواعد والتطبيق، إنما كانت دروسهم في حلقات الدرس والرواية هي هذه الأمالي الباقية من جيد الشعر والخطب والأمثال والقصص، أما النحو والصرف وقواعد البلاغة فكانت شيئاً من وراء ذلك لا ينظر إليه إلا عند الحاجة، وهي اليوم عندنا أول الطريق وأخره.
وأمامنا الأمثال في كل جيل وفي كل عصر من عصور العربية ترشدنا إلى الطريق التي يجب أن نسلكها في تعليم العربية، ولكننا نغمض عنها أعيننا ونضرب في البيداء، ومع ذلك ما ننفك نسأل أنفسنا:
(أين ومتى نبلغ الغاية؟)
وهل بلغ البارودي وحافظ وإضرابهما ذلك المبلغ من الشعر والأدب بالقواعد والتطبيق ومعالجة الإنشاء، أو بالاطلاع والرواية والحفظ من مأثور النظم والنثر؟
ينبغي أن نعلم العربية على الطريقة التي يتعلم بها الطفل أن يتكلم؛ فلتكن دروس العربية الأولى أن نتحدث إلى التلميذ ثم نسأله أن يتحدث، وأن نحمله على المطالعة ثم نطلب إليه أن يكتب، وأن نقدم له الغذاء من متن هذه اللغة ومن أساليبها في أقاصيص صغيرة مسلية(210/23)
نقصها عليه بلسان عربي سلس الأداء واضح النبرات مفهوم المعنى، ثم نطلب إليه أن يعيد ما سمع بلغة كالتي تحدثنا بها إليه ولا تخرج عن قاموسه الذي نعرفه كلمة كلمة لأننا نحن الذين أمليناه عليه كلمة كلمة في هذه الأحاديث والقصص التي روينا له، ولا نفتأ كل يوم نزيد في معجمه اللغوي كلمات وأساليب فيما نتحدث به إليه؛ فإذا بلغنا به مبلغاً ما بهذه الوسيلة فلنفكر حينئذ في تلقينه قواعد اللغة وموازين الكلام الصحيح لا على أنها قواعد جديدة يجب أن يدرسها، ولكنها على أنها جزء غير مسموع من الكلام الذي سمع، ونطق غير ملفوظ من الكلام الذي تحدث به. وهنا نقطة يجب أن لا تغيب عن أحد من المشتغلين بالتعليم، هي أن هذا ليس واجب معلم اللغة العربية وحده، ولكنه واجب عام ينتظم المعلمين جميعا؛ وإلا كان عبثاً ما يحاوله معلم العربية، فما يعالج هو تقويمه من ألسنة التلاميذ بالقدوة والمثال تفسده الرطانة الأعجمية في لسان باقي المعلمين.
هذا هو الأمثل بأن يؤدينا إلى الهدف الذي نريده لو أخلص العاملون، فليجربه من شاء ثم يحدثني عن النتيجة؛ فأنا نفسي قد حاولت هذه الطريقة في بعض الفرق (على غفلة من المفتش وغفلة من المنهج. . .) فما ادعوا إليها إلا مقتنعا بها مؤمناً بنتيجتها.
والآن وقد وصلت إلى هذه النقطة من الموضوع، أراني مع الأستاذ أحمد أمين في الحديث عن المكتبة العربية؛ فلو أنني زعمت له ولنفسي إن عندنا المعلم الكفء الموهوب الذي لا يمل الحديث مع تلاميذه بلسان عربي مبين جذاب ليزودهم بالغذاء المريء والنموذج الصالح من متن اللغة وأساليبها، لما وسعني الزعم بأن عندنا الكتاب الذي يصلح أن يكون لهذا التلميذ أستاذاً في غيبة أستاذه؛ يعطيه ما يعطيه المعلم من متن اللغة وأساليبها في عرض جذاب يحبب إليه مطالعته والتزود منه ثم يحمله من بعد أن يحرص على المطالعة لتكميل ثقافته ويجعل لها وقتاً من وقته طوال حياته في زمن التخرج وبعد التخرج.
ولو أنني زعمت أن عندنا هذا الكتاب لكذبتني وزارة المعارف التي لا تعطي تلاميذ مدرستها الابتدائية إلا كتابا واحدا للمطالعة العربية ألفه مؤلفه في القرن الماضي. . . وما يزال حيث كان! على حين تعطي هذا التلميذ نفسه بضعة كتب للمطالعة الإنجليزية قد تبلغ ستة كتب أو سبعة في السنة الدراسية، ثمن الكتاب منها يبلغ ضعف كتاب المطالعة العربية، وهي دقة بالغة في تنفيذ سياسة الاقتصاد. . .!(210/24)
على أن هنا حقيقة لا ينكرها أحد ولا يغفل عنها أحد، هي أن المطالعة عند كل المشغولين بالمطالعة - عادة لازمة أكثر مما هي وسيلة من وسائل العلم، فإذا لم يعود الطفل على أن يقرأ منذ حداثته فهيهات أن يمكن حمله على المطالعة المثمرة من بعد؛ وهنا سر انصراف شبابنا عن المطالعة والأدب إلى ذلك اللغو وتلك الدعاوى الفارغة التي تملأ أفواههم عن الأدب والتجديد.
ومن ثم يجب أن نبحث أول ما نبحث في نقص المكتبة العربية للأطفال، ثم من يليهم، ثم من يليهم، إلى أن نبلغ الطبقة التي نجد فيها من يقرأ أمثال الأغاني والأمالي وعيون الأخبار والطبري وغيرها من تراثنا الأدبي الذي لا نجد من يقبل عليه إلا القليل من قراء العربية.
وأنني أؤكد للأستاذ أحمد أمين أن المكتبة العربية لم تضعف هذا الضعف لعجز في المعلمين أو نقصٍ في كفاية القائمين على شئون اللغة العربية، ولكن وسائل التخذيل وقلة المكافأة. . . وقد عالجت طائفة غير قليلة من أدباء العربية هذا النقص في مكتبة الأطفال، وكان خليقاً أن يبلغوا بها مبلغاً تطمئن إليه، لولا قلة المكافأة وسوء التقدير، وأنا نفسي ما زال أعاني أزمة عنيفة بيني وبين نفسي من جراء محاولة من هذه المحاولات لا صلاح مكتبة الطفل، صرفتني عن العمل لغيرها وقطعتني عن الجو الأدبي الذي كنت أعيش فيه والذي كنت أهيئ نفسي لمنزلة في الغد هي أجدى علي وأنفع، وجعلتني غرضاً لسهام اللوم من أصدقائي الذين كانوا يحسنون الظن باستعدادي الأدبي، والأستاذ الزيات صاحب الرسالة أول هؤلاء اللائمين، مع إعجابه بما أقدم للطفل العربي من أدب سائغ. وهاأنذا ما أزال في المحاولة، ومازلت أطمع في أن أبلغ بالقصص المدرسية - أصدرها مع زميلين من زملائي - مبلغاً أقتنع فيه بأني قد أسديت يداً إلى المكتبة العربية واحسبني قد سمعت مرة من الأستاذ أحمد أمين ثناءً على عملنا كان خليقاً بأن يحملني على الثبات ومضاعفة الجهد في هذه المحاولة؛ ولكن عملاً كهذا يا سيدي لا يجزئ فيه أن أسمع كلمات الثناء وعبارات التشجيع وأنا أبذل فيه من أعصابي ومن مالي وعمري ولا مكافأة ولا تعويض. أفيحسب أستاذنا الجليل أن سعيد العريان ومعه مائة مثله من معلمي اللغة العربية في مدارس الحكومة يستطيعون أن يسدوا هذا النقص في المكتبة العربية ووزارة المعارف لا(210/25)
تحاول أن تشعرهم من قريب أو بعيد بأن لهم عليها حقاً أكثر من: أحسنت وأجدت ولله أنت. . .!
أم تحسب أحداً يقدم على أن يبذل لمثل هذا العلم جنيها لعله أحوج إليه في بيته، وهو يعلم أن وزارة المعارف لا تكافئ الكتاب والمؤلفين إلا أن يكونوا مفتشين أو أشباه مفتشين؛ حتى لو أن معلماً صغيراً (مثلي. . .!) أنشأ عملاً خليقاً بأن من ينتفع به، أسرع إلى محاكاته واحد من هؤلاء فيكافأ على التقليد ويضيع العمل الجيد على منشئه بلا مكافأة ولا تعويض. . .؟ يا سيدي! والله ما كان في بالي أن أشكو، ولا أردت أن يكون الحديث عن نفسي، وليس من طبعي أن أقول: ليتني وليت الناس! ولا كان همي أن التمس المعاذير للمقصر والمجيد؛ ولكنك رغبت إلى كل ذي رأى أن يدلي برأيه، فهذا ما دفعني إلى ذاك، وأرجو ألا أكون على حيد الطريق فيما كتبت، أو أن أزيل حسن الظن من نفسك، ولعل لي عودة قريبة إلى الموضوع والسلام عليك.
(طنطا)
محمد سعيد العريان(210/26)
في القديم والجديد
كلمة وكليمة
للرافعي فقيد اللغة والأدب
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
. . . إن الخلاف بين ما يسمونه القديم والجديد ليس بخلاف على جديد ولا قديم، ولكن على ضعف وقوة؛ فأن قوماً يكتبون وينظمون، ولكن لم تقسم الفصاحة والبلاغة على مقدار ما يطيقونه من ذلك، ولا يتسع الصحيح لآرائهم في اللغة والأدب؛ وقد أرادوا أن يسعوا كل ذلك من حيث ضاقوا، ويطاولوه من حيث تقاصروا، وينالوه من حيث عجزوا، فظنوا بالأمر ما يظن إنسان يمشي على الأرض ويعرف أنها تدور فيؤول ذلك بأنه هو مدير الأرض على محورها بحركة قدميه. . . نحن نقول: أسلوب ركيك، فيقولون: لا بل جديد!! ونقول: لغة سقيمة، فيقولون: بل عصرية!! ونقول: وجه من الخطأ، فيقولون: بل نوع من الصواب!!
. . . إننا لا نعرف قديماً محضاً ولا جديداً صرفاً، ولا نقيم وزن أحدهما إلا بوزن من الآخر إذا أردنا بهما سنة الحياة، وأنت لم تجد حياً منقطعاً مما وراءه؛ بل أنت ترى الطبيعة قيدت كل حي جديد إلى أصلين من القديم لا أصل واحد هما أبواه، فمنها يأتي، ومنها يستمد، وهما أبداً فيه وإن كان على حدة.
. . . المذهب القديم هو أن تكون اللغة لا تزال لغة العرب في أصولها وفروعها، وأن تكون هذه الأسفار القديمة التي لا تحويها لا تزال حية تنزل من كل زمن منزلة أمة من العرب الفصحاء، وأن يكون الدين العربي لا يزال هو هو كأنما نزل به الوحي أمس، لا يفتننا فيه علم، ولا رأي، وأن يأتي الحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء لا منفعة فيهما معاً إلا بقيامهما معاً. . .
. . . سألت بعضهم ما هو الجديد الذي تحامون عنه؟ قال: هو ما يكتب به في الصحف. قلت: فأن فيما يكتب الضعيف والساقط المرذول ثم ما هو إلى الجزالة والفصاحة، ثم ما يلتحق بجيد الكلام، فأي هذه تريد؟ وأيها ليس قياساً من أصلها العربي المعروف؟ أفتجعلون(210/27)
النقص مذهباً من كماله ثم لا تكتفون بخطأ واجد وتدعون أن الكمال في نفسه يجب أن يعد مذهباً من النقص؟ أم الجديد هو ما يكتب به في الصحف، تعني لأنك أنت تكتب الصحف. . .؟
التجديد في الأدب إنما يكون من طريقتين: فأما واحدة فإبداع الأديب الحي في آثار تفكيره بما يخلق من الصور الجديدة في اللغة والبيان، وأما الأخرى فإبداع الحي في آثار الميت بما يتناولها من مذاهب النقد المستحدثة، وأساليب الفن الجديدة. وفي الإبداع الأول إيجاد ما لم يوجد، وفي الثاني إتمام ما لم يتم، فلا جرم كانت فيهما معاً التجديد بكل معانيها، ولا تجديد إلا من ثمة، فلا جديد إلا مع القديم. . .
لم أقرأ إلى يوم الناس هذا في معنى هذا (الجديد) كلاماً يبلغ أن يصور منه برهان أو تؤلف منه قضية صحيحة، وكل أقاويلهم ترجع إلى ثلاثة أبواب: جديد، ومجدد، ولنجدد، فأما الأول فهو عندهم تقبيح القديم والزراية عليه والتنفير منه، وأما الثاني فهو العائب والشاتم والمتهزئ، وأما باب قولهم (ولنجدد) فهو لا يزال إلى الآن مقصوراً كل واحدٍ منهم للآخر: (ولنجدد). . .
. . . أنا والله لا أعرف أهؤلاء القوم يجدون أم يسخرون! ولكن الذي لا أجهله أن في بعض الناس أرواحاً وأمزجة انطبعت فيها صور الاجتماع الأوربي بما يحوي من فضائله ورذائله لأن هذه نتائج تلك ما منها لهم بد - فتريد هذه النفوس الرقيقة الجميلة!! أن تنسخ الرسم الإسلامي الشرقي وتقر كل ذلك الأوربي في مكانه. تلك هي نزعة التجديد. .!!
. . . لقد رأيت لأصحاب (المذهب الجديد) أصلاً في تاريخ الأدب العربي كانت جذوره ممن انتحلوا الإسلام وهم يدينون بغيره، وممن كانوا يدينون به وتزندقوا فيه، حتى قال الجاحظ في بعض رسائله يعني هؤلاء وأولئك: (فكل سخنة عين رأيناها في أحداثنا وأغبيائنا!! فمن قبلهم كان أولها) ورحم الله أبا عثمان، إن التاريخ ليعيد نفسه اليوم (بنسخة عين جديدة). . .
إنهم أرادوا (بالمذهب الجديد) أن يكتب الكاتب في العربية منصرفاً إلى المعنى والغرض تاركا اللغة وشأنها متعسفاً فيها آخذا ما يتفق كما لا يتفق، وما يجري على قلمه كما يجري، معتبرا ذلك اعتبار من يرى أن مخه بلا غلاف من عظام رأسه، وأن عظام رأسه كعظام(210/28)
رجليه! وأن أصابع قدميه كأهداب عينيه!! وأن مطلق التركيب هو مطلق النظام والمناسبة!! وأن اللغة أداة ولا بأس بالأداة ما اتفق منها، ولا بأس أن يمزع الجراح مزعاً من جلد العليل بأسنانه أو بأظافره أو بنصل الفأس. . . ما دامت معقمة وما دام ذلك يعينه هو فعل المبضع لا يزيد المبضع عليه إلا الدقة. .
إن أرادوا بهذا وأشباهه ما يسمونه المذهب الأدبي الجديد قلنا: لا، ثم لا، ثم لا، ثلاث مرات. . .
أظن أن اللغة العربية لم ترتفع منزلتها عند هؤلاء الحمقى المجددين إلا إذا أصبحت لغة فرنسا أو إنجلترا. . . فيومئذ يكون الجاحظ جاحظاً بقوة الأسطول، وعبد الحميد بقوة الجيش، وابن المقفع بسلاح الطيران، إذ هم وأمثالهم أسلحة التاريخ التي يقاتل بها مجد الأمة ليغلب وينتصر، وهذا بعينه هو من دليلنا على أن هؤلاء الخمسة أو الستة المجددين هم خمسة أو ستة مجانين في أمراض العقل الاجتماعي. . .
(أختارها وأخرجها)
محمد فهمي عبد اللطيف(210/29)
التقاء النجف بالأزهر
رأي العلامة الشهرستاني
للأستاذ عبد المنعم خلاف
العلامة الكبير السيد هبة الدين الشهرستاني رجل من رجالات العراق الذي يشار إليهم، ويعتمد على رأيهم في شئون الدين والدولة، تولى وزارة المعارف العراقية لأول عهد البلاد بالاحتلال الإنجليزي، فكانت له فيها مواقف جريئة مع مستشارها الإنجليزي لا يزال الناس يتحدثون بها ويثنون عليها. وكان العامل الأول على نشر التعليم بين المسلمين بعد أن كانوا يعزفون عنه نظراً للصبغة الاحتلالية التي كانت تسيطر عليه. وهو فوق ذلك صاحب قلم بارع في سرد حقائق الإسلام وجلاء مآثره، يشهد بذلك كتبه العديدة وخصوصاً كتابه (المعارف العالية) الذي نحى فيه منحى عصرياً حميداً يحبب إلى الشباب قراءته، وهو محاضر طلق اللسان لين الصوت وقور المظهر، وديع النفس تشعر أن فيضاً من سمو الروح وجلال الخلق يغمرك وأنت في مجلسه. وهو من كبار مجتهدي إخواننا الشيعة، وإن كان لسمو خلقه وغزارة علمه وأتساع أفقه لا يختص بفريق دون فريق. وكان على رأس الرعيل الأول من علماء الإصلاح في النجف الأشرف أهاب بعلمائه وطلابه سنة 1328هـ في مجلته (العلم) أن يرموا بأبصارهم إلى ما وراء أسوار معاهدهم الدينية من شئون الحياة والعلوم العصرية، كما أهاب الأستاذ الأمام محمد عبده برجال الأزهر. وقد صار له الآن تلاميذ ومريدون يتولون نشر دعوته وتعميم طريقته.
وقد كان من حسن حظي أن أتيحت لي فرصة زيارته فملأت بصري بصورته الجليلة. وشيخوخته الوقور التي ذكرتني بالصور الذهنية لعلماء بغداد الأولين، بعد أن ملأت سمعي بذكره العاطر وثناء الناس عموماً عليه. فصدق العيان الخبر.
وكان لا بد أن يتطرق الحديث إلى شئون المسلمين والآمال في المستقبل الذي تحفز التاريخ ليكتب فيه صفحة جديدة للنهضة الدينية والدنيوية في ديارهم.
وهو يرى أن الوحدة الإسلامية المنشودة التي يمهد لها المخلصون من رجال الإسلام، ويدعون إليها لا يمكن أن تتم إلا بالتقاء النجف بالأزهر بتبادل الزيارات بين العلماء والبعثات بين الطلاب، وإطلاع رجال كل من المعهدين على الأنظمة في الآخر(210/30)
وهذا رأي لا ريب سديد وقريب التحقيق يجب أن يلتفت إليه العاملون لجمع الشمل وتحقيق الوحدة. أنقله إلى مسامع حضرة الفضيلة الأستاذ الأكبر المصلح الشيخ المراغي الذي تركزت فيه آمال النهضة الإسلامية، وسار الأزهر في عهده خطوات موفقة إلى الغاية التي ينشدها الناس من رجال الدين.
والواقع أن الخلاف بين الشيعة وأهل السنة الذي يجسمه العوام والإغفال، وينفخ فيه أعداء الطائفتين جميعاً من وراء ستار، لا يمكن أن يزول إلا إذا رأى العوام رجال الدين من الفريقين يتآخون ويتبادلون الزيارات ويتعلم كل منهم على الآخر في أخوة وصفاء، فالعوام هم الذين يعظمون الصغائر ويكبرونها، أما العلماء من الفريقين فهم أفقه وأعقل من أن يجدوا مواضع الخلاف القليلة محلا لجفاء وهوة تفصل بين أهل التوحيد.
ولقد وجدت هذه الرغبة في التوحيد متجلية عند علماء الشيعة في مواقف عدة، فالسيد محمد حسين آل كاشف الغطاء يدعو إليها في المؤتمر الإسلامي بالقدس، وها هو ذا العلامة الكبير السيد هبة الدين الشهرستاني رجل الإصلاح، يرسم الطريق ويضع الخطة لها ويعد بمواصلة العمل في سبيلها على رغم شيخوخته، والأستاذ حسين مروة يدعو إليها منذ شهرين في الرسالة. . . . كل هذا يبشر باقتراب الموعد ومواتاة الظروف، ولم يبق إلا أول العمل فهيا.
عبد المنعم الخلاف(210/31)
شخصيات مجهولة في الأدب العربي
إبراهيم بن سهل الأشبيلي
بقلم محمد الأمين بن محمد الخضر الشنقيطي
كثيراً ما رأيت من بعض الأدباء جهلاً شائناً بذلك الشاعر المطبوع إبراهيم بن سهل؛ فخدمة للأدب، وإحياء لذكره، أتقدم بهذه الكلمة الموجزة إلى صحيفة العلم و (رسالة) الأدب، راجياً أن أتبعها أخرى إن سمحت لي الظروف وكان في صفحات الرسالة متسع
نسبه، ميلاده، وفاته
هو أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بعيش بن سهل الاشبيلي، نسبة إلى إشبيلية مدينة من أعظم المدن الأندلسية. ولد سنة ستمائة وتسع عشرة هجرية، ومات غريقاً في البحر وهو أبن أربعين، سنة ستمائة وتسع وخمسين هجرية كما ذكره أبو الحسن الخزرجي
قال صاحب نفح الطيب: غرق وهو أبن أربعين سنة في البحر. وقيل وقد جاوز الأربعين. ولما غرق قال فيه بعض الأكابر: عاد الدار إلى وطنه. وذكر مالك بن المرحل في غرقه قصة طويلة، خلاصتها أنه كان من كتاب أبي علي بن خلاص صاحب سبتة فأرسله مع أبنه المستنصر ملك تونس فغرقا في البحر لشدة هيجانه. ولما بلغ المستنصر غرق ابن سهل قال: عاد الدر إلى وطنه.
إسلامه
كان يهودياً وأسلم، وقد أختلف العلماء والمؤرخون في صحة إسلامه، فمن قائلا إن إسلامه كان ظاهراً وباطناً، ومن قائل أنه في الظاهر فقط. ولا بأس أن أنقل هنا بعض أقوال الفريقين. قال محمد صغير الأفراني المراكشي: كان يهودياً ثم من الله عليه بالدخول في الملة المحمدية وحسن إسلامه. وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة بارعة، قال أبو حيان وقفت عليها، وهي من أبدع ما نظم في معناها. وقال العزفي: كان يتظاهر بالإسلام ولا يخلو من قدح أو اتهام. وقال ابن مرزوق: صحح لنا من أدركنا من مشائخنا أنه مات على الإسلام. وقال صاحب نفح الطيب: اجتمع جماعة مع ابن سهل في مجلس أنس فسألوه - لما أخذت منه الراح عن إسلامه - هل هو في الظاهر والباطن أم لا؟ فأجابهم: للناس ما(210/32)
ظهر ولله ما استتر. وقال ابن سعيد القيسي في كتابه القدح المعلى: كتبت إلى ابن سهل أستدعيه إلى أنس بثلاث أبيات فأجابني سراعاً بأبيات آخرها
سآلفها إلف العتيق كتابه ... ولأشتهي ورداً سواها لدى الخمر
فلما وصل أظهرت استحسان سرعة جوابه غير أني أنكرت عليه منزع بيته الأخير فقال: أليس في الجنة نهر خمر؟ فقلت: بلى فقال: حسبي لا أبغي به بدلا. فقلت: بحرمة ما بيننا إلا ما أصدقتني هل أنت على دين أسلافك، أم على دين المسلمين، وأزلت عني شك الناس فيك. قال: للناس ما ظهر ولله ما استتر. وقال في عنوان الدراية: سمعت شيخنا أبا الحسن الأندلسي يقول: شيئان لا يصحان: إسلام ابن سهل وتوبة الزمخشري من الاعتزال. وقد أستدل الأفراني المراكشي على حسن إسلامه بقوله:
تسليت عن موسى بحب محمد ... ولولا هدى الرحمن ما كنت أهتدي
وما عن قلى قد كان ذاك وإنما ... شريعة موسى عطلت بمحمد
جاعلاً أنه قصد بموسى الكليم عليه السلام، وبمحمد نبينا عليه الصلاة والسلام، وعندي أنه لا دليل في هذين البيتين (رغم اعتقادي حسن إسلامه)، وأن موسى المذكور غلام كان يعشقه، وذكر أسم محمد تورية، وقد جاء ذكر موسى هذا في شعره كثيراً، من ذلك قوله:
كساني موسى من سقام جفوله ... رداء وأسقاني من الحب أكؤسا
وقوله:
ليس ثاري على موسى وحرمته ... بواجب وهو في حل إذا وجبا
وقوله:
أشاعوا أنني عبد لموسى ... نعم صدقوا عليّ بما أشاعوا
وفي بيتيه الآتيين فصل القول أنه معشوقه لا الكليم عليه السلام:
موسى تنبأ بالجمال وإنما ... هاروت لا هارون من أنصاره
إن قلت فيه هو الكليم فخده ... يهديك معجزة الخليل بناره
شهادات العلماء فيه
قال ابن القاضي في كتابه درة الجمال: كان ابن سهل ممن أنتحل صناعة القريض فافتن بها وتصرف، وعنى بعالم الأدب فوعى وصرف، إلى أن بلغ الغاية في الشعر فصار فيه(210/33)
أوحد، لا ينعت ولا يحد. وقال أبو حسن الخزرجي في كتابه إعلام الزمن: إبراهيم بن سهل كان شاعر زمانه أسلم بعد يهوديته ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة بديعة. وقال مالك ابن المرحل: كان معنا ابن سهل وحسن إسلامه، ولازم صلاة الجماعة، ونظر في الأدب فنبغ في الشعر. وقال الأفراني: وإن من تتبع مقطعاته علم أن له خبرة واسعة بفن العربية كقوله:
أموسى أيا كلي وبعضي حقيقة ... وليس مجازا قولي الكل والبعضا
خفضت مقامي إذا جزمت وسائلي ... فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا
وفي هذين البيتين تنكيت على أبي القاسم الزجاج إذ قال في جملة: (وإنما قلنا بدل الكل والبعض مجازا) وسئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظمه، فقال: لأنه أجتمع فيه ذلان: ذل العشق وذل اليهود.
عفافه
وقد كان فيما يظهر من كلامه عف الإزار، وبيته المشهور من أعظم الأدلة على ذلك وهو:
وأبى عفافي أن أقبل تغره ... والقلب مطوي على جمراته
وقوله:
بتنا نشعشع والعفاف نديمنا=خمرين من غزلي ومن كلماته
وقد ذهب ابن القاضي في شرحه لأبيات الذهبي لما تعرض لابن سهل إلى أن هذا من صناعته لا طبيعته، ولعمري إن هذا منه توريك وتحامل؛ وإلا فأي مانع من أن يكون العفاف فيه سجية؟
شعره:
وله ديوان شعر مشهور، وقفت عليه وهو في غاية الجودة، ولا بأس أن أثبت هنا من شعره ما يرخص الدرر، ويكون في هذه الأسطر بمثابة الغرر من ذلك قوله:
مضى الوصل إلا أمنية تبعث الأسا ... أداري بها همي إذا الليل عسعسا
أتاني حديث الوصل زوراً على النوى ... أعد ذلك الزور اللذيذ المؤنسا
ويا أيها الشوق الذي جاء زائرا ... أصبت الأماني خذ قلوباً وأنفسا(210/34)
وقوله:
قالوا سيسلبك العذار سفاهة ... وحصاد عمري في نبات عذاره
إن لم أمت قبل العذار فعندما ... يبدو أيسلم عاشق بفراره
مثل الغريق نجا فوافى ساحلا ... قاذا الأسود روابض بجواره
إن العذار صحيفة تتلو لنا ... ما كان صان الحسن من إسراره
وقوله:
يا حسنه والحسن بعض صفاته ... والحسن مقصور على حركاته
صافحته والليل يذكي تحتنا ... نارين من نفسي ومن وجناته
أوثقته في ساعدي لأنه ... ظبي خشيت عليه من نفراته
والقلب يرغب أن يصير ساعدا ... ليفوز بالآمال من ضماته
وقوله:
نظر جرى قلبي على آثاره ... خلع العذار فلالعاً لعثاره
يا وجد شانك والزمان وخلني ... ما المرء مأخوذ نزلة - جاره
دنف يغيب عن الطبيب مكانه ... لولا ذبال شب من أفكاره
للدمع خد فوق صفرة خده ... فتراه مثل النقش في ديناره
وقوله:
ردوا على طرفي النوم الذي سلبا ... وخبروني بقلبي أية ذهبا
علمت لما رضيت الحب منزلة ... أن المنام على عيني قد غضبا
فقلت وا حربا الصمت أجدر بي ... قد يغضب الحسن إن ناديت وا حربا
وقوله:
يقولون لو قبلته لأشتفي الجوى ... أيطمع في التقبيل من يعشق البدرا
ولو غفل الواشي لقبلت نعله ... أنزهته أن أذكر النحر والثغرا
ومن لي بوعدٍ منه أشكو بخلفه ... ومن لي بوعد منه أشكو به الغدرا
وما آنا ممن تحمل الريح شوقه ... أغار حفاظاً أن أبوح له سرا
وقد أبدع في فنون البيان وأتى في شعره منها بالعجب العجاب. فمن أحسن توجيهه قوله:(210/35)
لقد كنت أرجو أن تكون مواصلي ... فأسقيتني بالبعد فاتحة الرعد
فبالله برد ما بقلبي من الجوى ... بفاتحة الأعراف من ريقك الشهد
وله موشح كبير، أبدع فيه وأجاد، تبارى العلماء في شرحه وإظهار معانيه ودرره، برهن فيه على سعة باعه في العربية والصناعة الشعرية، أوله:
هل درى ظبي الحمى أن قد حما ... قلب صب حله عن مكنس
فهو في جر خفض مثلما ... لعبت ريح الصبا بالقبس
ولعلي في فرصة أخرى أتمكن من شرح بعض أبياته وإبراز مكنوناته والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(210/36)
موت صديق
للكاتب الفرنسي
من كتابه (رحلة حول غرفتي)
ترجمة الأستاذ خليل هنداوي
سعيد ذلك الذي يجد صديقاً يلائمه منه قلبه وروحه. صديق يجمعه به حدة وذوق، وألفة وعاطفة، وجامعة معرفة. صديق لا يقلقه طمع ولا تسيره مصلحة. صديق يؤثر ظل شجرة على ترف مدينة. سعيد من يملك صديقاً!
كان لي صديق أحتضره الموت مني في عنفوان صباه، ومطلع عمله في العهد الذي أصبحت صداقته حاجة لقلبي شديدة. كنا نتآزر معاً على أعمال الحرب، ولم يكن لنا إلا غليون واحد نتناوبه وكأس واحدة نشرب بها، وسقف خيمة واحدة يظللنا. في الظروف التعسة كان لنا ذلك السقف حيث كنا نحيا معاً وطناً جديداً. رأيته ينجو من كل مهالك الحرب ويسلم من أهوالها كأنما الموت كان يدخر أحدنا للأخر، وكأنما نفذت نباله التي صوبها إليه دون أن تصيبه. ولكن هذا لم يكن إلا ليجعل فقده - عندي - أكثر ترويعاً. ولقد كان في قعقعة السلاح والذهول الذي يملك النفس من جراء الأخطار ما يحول دون بلوغ آلام نزعه إلى عاطفتي وإحساسي. وموته قد يكون نفعاً لوطنه وشؤماً على أعدائه. لو كان ذلك لكان أسفي عليه قليلاً، ولكني فقدته في وسط المسرات ورأيته يحتضر بين ذراعي في حين كانت تقوى صحته وتتوثق روابط مودتنا في أيام الراحة والسكون.
آه إنني لن أتعزى عن فقده، وإن ذكراه لا تبرح قلبي ولا تحيا إلا في طواياه. وإنها لن تكون في اللذين كانوا يحيطون به أو اللذين حلوا محله، هذه الفكرة تجعل وقع فقده أنأى على النفس وآلم للقلب. وهذه الطبيعة التي تتراءى لنا خلية لا تبالي حظ الناس تضع رداء ربيعها الزاهي وتتزين بأبهى حلل جمالها حول المقبرة التي يستريح جثمانه فيها. فالأشجار مورقة متشابكة الأغصان، تشدو العصافير تحت ظلالها، وللذباب الربعي أغاريد على أزهارها. كل شيء يتنفس فرحاً وحياة في مساكن الموتى، وفي المساء، حين يلمع القمر في السماء، وأنا أتأمل هذا المثوى الكئيب أسمع الصرصور يوالي بطرب إنشاد (أغنيته)(210/37)
التي لا يسأم ترديدها، متوارياً بين الأعشاب التي تحجب اللحد الذي يثوي فيه صاحبي، إن فساد الكائنات هذا الفساد الذي لا يحس به، وكل نكبات الإنسان ومصائبها لا يعد شيئاً في الوجود الكلي، إن موت إنسان يحس به، يحتضر بين أصحابه اليائسين، وموت فراشة أهلكتها نسيم الصبح البارد في فجوة زهرة، هما حادثان متماثلان عند الطبيعة. فما الإنسان إلا خيال أو ظل أو ضباب يذوب في الفضاء.
خليل هنداوي(210/38)
الشعر على اللسان النبوي
للسيد جلال الحنفي
الذي لا زلنا نسمعه ونقرأه بحيث بات من البديهيات التي لا يتجادل فيها، وأصبح من غير المحمود الخروج عليه: أن الشعر لم يكن يلتئم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم. ويقال إن النبي أنشد قول طرفة المشهور على هذا الشكل:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار
فقيل له: ليس البيت كذلك يا رسول الله، وإنما هو هكذا:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
فرجع صلى الله عليه وسلم منشداً للبيت كما أنشده من قبل، ولم يتمكن من إنشاده بلفظه.
وإني لأعجب منتهى العجب كيف يسوغ لأحد أن يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا العّي الذي ينقص أي امرئ إذا نسب إليه، وناهيك بالنبي وهو أفصح من نطق بالضاد، وصاحب الكلم الجوامع.
ولا أريد هنا أن أدلي بالنصوص التي يعلم منها أن النبي رغب في الشعر وحث عليه وافتخر ببعض رجاله، ودرج على ذلك بقية من أصحابه، وإنما أعرض هنا طائفة من المواطن التي تقيم الحجة على ما يسند إلى الرسول غير صحيح؛ وأنه أنشد بضعة أبيات في أحوال متعددة من دون أن يخرجها عن سننها.
فلقد أنشد صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق من شعر عبد الله بن رواحة:
هذا الحِمال لا جمال خيبْر ... هذا أبرُ ربَّنا وأظهر
ولكن ابن شهاب الزهري قال تعليقاً على هذا تخلصاً من الحجة التي تقع على القاعدة الموضوعة في هذا الأمر، قال:
(ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت)
والحقيقة أيضاً خلاف هذا إذ أنه صلى الله عليه وسلم أنشد في حفر الخندق أيضاً لابن رواحة على ما رواه البخاري، ومسلم والمؤرخون:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا(210/39)
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
وأنشد رسول الله يوم الخندق أيضاً:
بسم الإله وبه هدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
يا حبذا رباً وحب دينا
وأنشد عليه الصلاة والسلام لأمية:
رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد
وأنشد فيما أنشد:
أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأح ... مر ما حلت نواديكم
ولولا الحبة السمرا ... ء لم تسمن عذاريكم
وكان صلوات الله عليه كثيراً ما ينشد لعنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل
وينشد للبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
وإني لأخجل في تحقيق مثل هذا الأمر والدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما عقلوه فيه من العجز عن النطق بالبيت على وزنه من حيث لا حكمة هنالك، ولولا أن تكون المسألة ضاربة إطنابها بين المعتقدات لما أسلكت قلمي في سبيل نقدها.
(بغداد)
جلال الحنفي
خطيب جامع عطاء(210/40)
بعض أسباب الضعف في اللغة العربية
للأستاذ عويس القرني
كتب الأستاذ الكبير أحمد أمين في أسباب الضعف في اللغة العربية، ودعا الباحثين أن يدلوا بآرائهم في ذلك ليتبين الأمر على وجهه ونصل إلى علاج ناجع لترقيتها.
وحرص الأستاذ المصلح على ترقية اللغة العربية هو الذي دعاه إلى فتح باب البحث، ولذلك نتقبل نقده قبولاً حسناً؛ والأمر يهم مدرسي اللغة العربية، إذ أن حديث الأستاذ يمسهم في خاصة أمرهم ويرميهم بالتقصير والقصور، فهم يدفعون عن أنفسهم ذلك بأدلة الواقع المحسوس.
ولا يدعونا للدفاع عن أنفسنا عاطفة حزبية، أو رغبة طائفية، فذلك ما لا نرضاه ونميل إليه، وإنما يدفعنا إلى ذلك الرغبة في إظهار الحقيقة.
والأستاذ الفاضل عودنا في بحوثه وتأليفه الإنصاف ووزن الأحكام بميزان الصدق والحق.
ودار العلوم التي رماها بالتقصير والتخلف لم تتوان منذ أنشئت عن أداء مهمتها، ولم تدخر وسعاً في تقويم الألسنة وتثقيف العقول في جميع مراحل التعليم.
وأية نظرة إلى منهاج المدرسة تدل دلالة بينة على مقدار صلاحية أبناء الدار في عملهم؛ فهم يدرسون اللغة العربية أدبها وقواعدها وفقهها، كما يدرسون القران الكريم، والفقه وأصوله، والفلسفة، والمنطق، والتاريخ، والجغرافيا وغيرها يدرسون تلك العلوم بتوسع على أساتذة أكفاء.
وأبناء الدار منبثون في طول البلاد وعرضها، يعلمون النشء ويقومون أخلاقهم، ويبثون في نفوسهم الوطنية الصادقة ويعودونهم البحث ويشوقونهم إلى الإطلاع.
والعلوم التي يدرسونها في مدرستهم يراها الأستاذ في حديثه الماضي ضرورية لمعلمي اللغة العربية، وهذه المواد لا تتوافر دراستها إلا في ذلك المعهد الجليل.
ودار العلوم لا تدعي الكمال، وهي دائبة في طلب الإصلاح وتعديل منهاجها كلما رأت ضرورة إلى ذلك.
يقول الأستاذ إن خريجي دار العلوم لا يفهمون الأدب القديم ولا الحديث، وهذا حكم لم تصح حيثياته التي تبرره، ومن السهل على كل إنسان أن يرمي الناس بالضعف أو الجهل،(210/41)
ويظل حكمه موقوفاً إلى أن تتبين دلالاته.
لا يضير مدرسي اللغة العربية قلة التأليف، فإن طبيعة عملهم تثقيف العقول، وتعويدها البحث والتفكير المستقيم، وعقد الصلة بين النشء وبين الحياة، وهم لم يقصروا في واجبهم، والنهضة الفكرية كما يشهد الأستاذ لهم فيها أكبر نصيب.
وعملنا كعمل غيرنا من أصحاب الفنون، فكما لا ينقص من قدر الأطباء والمهندسين والقضاة ألا يؤلفوا في فنونهم التي حذقوها، فكذلك شان المعلمين.
ونجاح الإنسان في حياته منوط بإتقان عمله، وأداء رسالته
والآن أظهر بعض أسباب الضعف في اللغة العربية، مما لم يذكره الأستاذ في حديثه السابق.
اللغة العامية:
معلم اللغة العربية يبذل مجهوداً كبيراً في تعليمها وتلقينها لأبنائه، ولو كان يسمع التلميذ من بيئاته لغة عربية، ويتحدث بلغة عربية لظهر مجهود المدرس وترقت حال التلاميذ، ولم نشعر بهذا الضعف، والذي يبنيه الأستاذ في الفصل يهدم خارجه في البيت وفي الشارع؛ بل أن بعض مدرسي العلوم الأخرى يتحدثون مع تلاميذهم بلغة عامية، ويقبلون منهم الإجابة بها متى أدت إلى المطلوب، وينشأ من ذلك ما تراه من استهانة التلاميذ بلغتهم الأصلية، ولا يتعودون التجويد ولا العناية متى ما كان دون ذلك يقبل منهم
وما حيلة أساتذة اللغة العربية وحدهم، وهم يبنون وغيرهم يهدم؟ فعلة العلل - على ما أرى - طغيان اللغة العامية على الفصحى في كل مكان، حتى في المدرسة نفسها.
والعلاج أن نعني باللغة العربية جميعاً في محادثاتنا وكتاباتنا حتى نصل بها إلى حالة مرضية، ونقوي أنفسنا بذلك.
وقد لحظت وزارة المعارف وجوب التحدث باللغة العربية، فحتمت على مدرسيها جميعاً التحدث باللغة العربية الفصحى، ولكن الواقع غير ما يجب.
الطريقة
ومن أسباب الضعف التي عرفتها منذ اشتغلت بالتدريس، طريقة التدريس بها. فأمام(210/42)
المدرس منهاج مطول من القواعد وأبواب متعددة، والمنهاج يتطلب منه الشرح بطريقة خاصة ويطلب من المدرس تقسيم المنهاج على شهور السنة، وإلقاء كل درس في ميعاده. وإذا خرج المدرس عن الطريقة المطلوبة إلى طريقة يراها مفيدة إلى التلميذ، فقد يرى رؤساؤه أنه أتى أمراً آدا والطريقة التي نسير عليها الآن يرى التلاميذ فيها عناية بالقواعد فيتوفرون عليها لعلمهم إنها وسيلة النجاح، وطريقة الحصول على درجات عالية، ولا يصرفون في تلك العناية إلى التطبيق العملي، وإلى لباب الأدب، والآثار الفنية التي تكون التذوق، وتثمر العقل وتزيد الثروة، فتجود لغتهم، ويقوى تعبيرهم عما في نفوسهم. والعناية بالقواعد تخرج التلاميذ عن الغاية السامية من العلم، إلى اعتباره وسيلة للنجاح، ولذا يهملون بانتهائه وينسون باجتيازه والذي أراه أن تغير الطريقة الحالية في جميع سني الدراسة إلى طريقة عملية تطبيقية، وذلك إما بعرض نماذج أدبية مختلفة، وإلقاء أسئلة منوعة في الدرس تحوي أجوبتها الصحيحة القواعد المطلوبة، وإما بوصف محسوس أو شرح حادثة، ثم يوجه نظر التلاميذ إلى القاعدة، بعد أمثلة كثيرة، فالقاعدة تدرس كشيء ثانوي لا أولي.
وهذه الطريقة نافعة قد جربتها فثبتت لي فائدتها، وكل عبئها يقع على المدرس في تحضيرها وإعدادها إعداداً صالحاً، وهي تقرب من الطريقة الطبعية.
القواميس العربية
ومن أسباب الضعف في اللغة العربية فقرها من القواميس الحديثة المصورة التي تحدد المعنى في الذهن تحديداً بيناً.
وأمامنا الآن قواميس قديمة نأخذ منها معاني المفردات مع تقدم الزمن، واختلاف العصور.
ويشاهد الباحث حاجة ملحة إلى مظان البحث فلا يجد، على حين نشاهد في اللغات الأخرى ثروة عظيمة لمن يريد البحث والإطلاع. فعلى من تقع مسؤولية ذلك؟ أعلى مدرس اللغة العربية أم على العلماء؟ أم على الجامعة؟
الحق إننا شاعرون بالنقص، ولكن لا حيلة لنا في الكمال إلا بقدر.
عويس القرني(210/43)
هل التقليد هو النظرية السائدة في التعليم والتشريع
بمصر الحديثة؟
للدكتور محمد البهي قرقر
في مصر يلاحظ الإنسان العادي إذا ما تتبع الصحف اليومية فحسب تغييراً متتالياً في برامج التعليم وتعديلا من وقت لآخر في قوانين البلاد المدنية.
تؤلف وزارة المعارف لجاناً لتهذيب مناهج التعليم، يكاد يكون ذلك في آخر وفي أول كل سنة دراسية، وتكلف وزارة الحقانية في فترات قصيرة متتالية بعض رجالها المسئولين على شكل هيئات استشارية - تغير بعض مواد القانون الجنائي أو المدني مثلا. كل ذلك تتسابق الصحف في الإعلان عنه، وهو أيضاً حقيقة واقعة تتكرر كلما حدث تغيير أو بعض التغيير في هيئة الحكومة المركزية.
قد يمر الإنسان العادي بمثل هذه الأخبار دون أن يوقف بها وقفة تفكير، بل ربما يعدها مثلا النشاط الحكومي، ولكن الباحث الاجتماعي الذي يربط الحوادث بأسبابها، أو الباحث النفسي الذي يفتش للظواهر النفسية عن مصادرها، لا يدع هذه الظاهرة، ظاهرة التعديل المتكرر، تمر إلا ويستخلص منها نتائجها، ولكن لا في صورة نهائية يقينية - فذلك ما لا يعمد إليه الباحث المتروي - وإنما يضعها في صيغة استفهامية مرددة، وأول ما يخطر بفكره: هل لهذا التغيير والتحوير من سبب؟ هل ذلك السبب أساسي؟ أي له علاقة بالأساس الذي بني عليه التعليم وأرتبط به التشريع، أم هو عرض إضافي؟
وأساس التعليم والتقنين يختلف طبعاً باختلاف أحوال كل أمة، ويتكيف بالظواهر الاجتماعية والأوضاع الجغرافية لكل شعب: فالجنس والدين واللغة والعادات من المقومات الأولية في تكييف التعليم والتشريع. فالجنس - وأقصد به الجنس التاريخي الذي يتكون بمرور الزمن وتنشأ عنه وحدة جنسية - له صفات وغرائز نفسية ربما تباين كل التباين صفات وغرائز جنس آخر، فالجنس الشمالي مثلا عرف بالبطء في الفهم والتروي في التفكير، بينما الجنس الجنوبي - وخاصة سكان البحر الأبيض المتوسط - حاد الذكاء كثير الأخطاء في استنتاجاته العقلية. والدين له دخل كبير إلى حد ما في تكوين العادات الخلقية، الفردية والاجتماعية منها، في كل شعب، بل في وسط شعب واحد، فقد يرى الإنسان في(210/45)
الشعب مظاهر خلقية متباينة ترجع في اختلافها إلى اختلاف معتقدات الشعب نفسها. وكل لغة - بسبب تميزها بوسائل التعبير التي تنم عن طرق في التفكير لكل أمة خاصة - تعتبر عاملاً مهماً في تلوين التعليم والتشريع لا يقل عن عوامل العادات والوضع الجغرافي والحالة الاقتصادية للأمة.
فالتعليم الطبيعي إذن يسير على وفق غرائز الشعب وصفاته النفسية، لا بد أن يلاحظ فيه دين الدولة ولغتها وعاداتها. وسواء اعتبرت هذه كلها أو بعضها في نظر أمة أخرى أو أفراد منها - بناء على صورة نفسية مخصوصة ملقنة مثلا - ساذجة فطرية أو راقية، فالمبدأ الأساسي هو ربط التعليم بها ربطاً وثيقاً؛ وهذا الربط عينه هو ما يسمى عند علماء النفس والتربية بنظرية التعليم الوطني.
كذلك التشريع. فالجنائي والمدني منه يرتكزان على نفسية الشعب التي تتمثل في أفراده وعلى أخلاق الشعب وعوائده التي للدين فيها أثر كبير. فالمشترك الحديث لا يفرض عقوبة على جرم مثلاً إلا إذا وثق أن من وراء ذلك الردع والتهذيب، والردع والتهذيب كلاهما مرتبط بمعرفة نفسية المجرم وبظروف الإجرام، والمرآة الوحيدة التي تنعكس عليها نفسية المجرم وتتشخص فيها هي تحليل نفسية الشعب الموروثة والمكتسبة، والمقياس الذي يوضح ظروف الجريمة هي عادات الشعب وقانونه الخلقي، وليست المبالغة في العقوبة وحدها كافية في الردع والتهذيب كما يظن بعض المشترعين. وتشريع العائلة أساسه أيضاً دائماً عادات العائلة نفسها والعرف الشعبي الذي يحيط بها ومعتقدها الديني الثابت فيها ومنهجها الخلقي الذي تسيطر عليه. فإذا كان التشريع على هذه الأسس كان أيضاً تشريعاً وطنياً والتعليم والتشريع إذا كانا وطنيين كانت الغاية منهما محققة وثابتة وهي رفع المستوى التهذيبي للشعب من ناحيتين يلتقيان عند نقطة واحدة؛ إلا أن إحداهما وهي ناحية التعليم، ذات أثر داخلي، والأخرى وهي ناحية التشريع؛ أثرها من الخارج.
وكل حركة سياسية وطنية ترمي - إذا كانت سائرة في طريقها الصحيح - أولاً وقبل كل شيء إلى جعل التعليم والتشريع وطنيين، ولكن لا معنى صبغهما بالصبغة الحزبية وإلا كانت الغاية منهما خدمة شخصية بحتة.
على ضوء هذا التعريف الوجيز يمكن للإنسان أن يتبين أسباب التعديل والتغيير في مناهج(210/46)
التعليم وفي حركة التشريع بمصر الحديثة.
قسمت مدارس الحكومة إلى درجات معينة: إلزامي وابتدائي وثانوي وجامعي. ووضع لكل نوع من هذه المدارس منهاج خاص، وربما - بل هو الواقع - لا يكون الخطوة الضرورية للنوع الذي يليه من التعليم. ثم لوحظ أنه لا بد أن يكون في المنهاج الخاص لكل نوع وحدة عامة قد تتنافى مع الحالة الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية التي تكتنف كل مدرسة والتي تؤثر إلى حد ما في محيط تعليمها.
ففي التعليم الإلزامي مثلاً يوجد برنامج واحد شامل لمواد التعليم لكل مدارس القطر الإلزامية، بينما المناطق الجغرافية المختلفة وأحوال البلاد الاجتماعية المتباينة لم تنل أية عناية فيه. وهنا يمكن للباحث الاجتماعي أن يدعي أن هذا المنهاج ليس وطنياً؛ إن هو إلا منهاج عبر سفينة التقليد من حيز إلى آخر، من شعب إلى غيره، ولكنه لا يقطع بأجنبيته إلا إذا تحقق من نتائجه، ونتائج التعليم مهما أختلف في أسلوبه يجب أن تكون التهذيب، وبلا ريب لم يكن التهذيب في يوم من أيام حياة التعليم الإلزامي نتيجة له، وإن كان مقصداً له مرسوماً، بل كانت نتائجه، وستكون كلما طال أجله على هذا النحو، إيجاد مشاكل اجتماعية تزداد تعقيداً على ممر الأيام. وليس أصرح في بيان هذه النتيجة من كلمة النائب المحترم الأستاذ عزيز أباظة عند مناقشته ميزانية وزارة المعارف في مسألة التعليم الإلزامي. فهو يقول: (إن الوسيلة المتبعة في التعليم الإلزامي بمصر قد تكون متفقة مع الأحوال الفنية - وطبعاً هو يعني أنها قد تكون طبق النظريات المقلدة - ولكنه يعتقد أن هذا التعليم في وضعه الحاضر لا يفيد البلاد شيئاً) لأنه لم يقم على أسس البلاد الوطنية.
كذلك إذا جاوزنا التعليم الابتدائي والثانوي، وناقشنا التعليم الجامعي، وخاصة ما يدعى منه زعامة التعليم الأدبي والثقافة العربية، رأينا ما يسمى (بالتجديد) الذي صار نغمة تسمع في كل جدل ومناقشة، ليس ما يجري فيه من التعديل إلا تعديلاً وتغييراً لا يعدو أن يكون سببه التقليد أيضاً أو هو التقليد نفسه. فمثلاً إنشاء سنة توجيهية، كمقدمة لدراسة الأدب العربي، يدرس فيها آداب اللغتين اليونانية واللاتينية، مع شدة ما بينهما من ناحية وبين الأدب العربي من ناحية أخرى من تباعد وانفكاك، محض تقليد للجامعات الأوربية، فهذه تحتم دراسة اللغة اللآتينية، لأنها مرجع النقل في العلم الغربي وأصل لمصطلحاته الفنية لليوم.(210/47)
كذلك تحتم هذه الجامعات على طلب التخصص في الفلسفة الإغريقية دراسة اللغة اليونانية القديمة للعلة نفسها بخصوص هذا الموضوع من الفلسفة عامة، ولكن أمصطلحات فن دراسة الأدب العربي مشتقة كذلك من اللغة اللاتينية أو اليونانية مثلا؟ أم ذلك هو التقليد (والتجديد)؟
كذلك يجد الباحث الاجتماعي نظرية التقليد هي أساس محور التعديل والتغيير في التشريع المصري. فعند قراءتي: (يوميات نائب الأرياف) للأستاذ توفيق الحكيم في مجلة (الرواية) أستوقف نظري حكاية حادثة قضائية هي نفسها تعد من الحوادث اليومية العادية، ولكنها تعطي للباحث صورة واضحة عن هذا التقليد: (سيقت امرأة ريفية إلى الوقوف أمام محكمة جزئية للحكم عليها، لأن جريمتها أنها غسلت ملابس في ترعة عمومية، فلم يجد القاضي بداً من تغريمها، لأنه أمام نص قانوني) هذا النص القانوني أقتبس من النص الفرنسي الذي هو نتيجة لازمة لمخالفة نظام قائم في فرنسا. هذا النظام القائم هو أن البلديات هناك شيدت أولاً أحواضاً عامة للفقراء للغسل والاستحمام تسهيلا لهم من جهة، ومنعاً لانتشار الجراثيم في مياه عمومية من جهة أخرى، ثم شرعت بعد ذلك هذا النص وهو تشريع طبيعي. فتعديل القانون المصري وإدخال هذا النص الفرنسي فيه دون أن يكون بريف مصر منشئات مثل هذه، تعديل لم يراع فيه إلا التقليد من ناحيته السلبية، ولم يلاحظ بأي حال أسلوب المعيشة في قرى مصر وحالتها الاجتماعية وعوائد أهلها.
وليست أمثال هذه الحوادث القضائية هي التي تظهر فقط أن أساس تعديل القوانين في مصر هو التقليد، بل ما زال بعض كبار رجال القانون المصري المسئولين يباهي ويفتخر بأن التشريع المصري الحديث أصبح يضاهي أحدث القوانين لدى الأمم الراقية. ولكن الأمم الراقية نفسها إذا افتخرت بقوانينها فإنما تفتخر لأنها وفق حضارتها وثقافتها، وفق حالة شعوبها الاجتماعية والاقتصادية؛ وبالعكس تسخر من الشعوب الأخرى التي تحاول تقليدها في تشريعها لذات التقليد وحب الانتساب إلى الرقى والمدنية في شكلها الظاهري. فكثير من الشعوب الغربية يعيب تركيا الحديثة في اقتباسها القانون السويسري مثلاً في أحوال العائلة، والقانون الفرنسي في المسائل المدنية والتجارية - مع إن العائلة التركية لا تجتمع مع العائلة السويسرية إلا في النسبة البشرية؛ أما التربية، أما الغرائز النفسية، أما العادات(210/48)
المتناقلة فشتان ما بينها من اختلاف -. التقنين عند تلك الأمم الراقية ليس عملية هينة يقوم بها القانون وحده، وإنما ساعده الأيمن في ذلك العالم النفسي الذي يبحث في تكييف صفات الشعب النفسية، والعالم الاجتماعي الذي يربط ظواهر الأمة الاجتماعية بأسبابها ويقارن بينها وبين ظواهر أمة أخرى، والعالم الاقتصادي الذي يبحث أسباب ضعف أو ارتفاع ميزان الأمة التجاري وحالة معيشتها.
فالتعليم والتشريع إذا في مصر الحديثة كما يراه أي باحث اجتماعي نفسي أساسه التقليد أو على الأقل هو الجزء الأعظم المكون لهذا الأساس، أما العوامل الوطنية المحلية فنصيبها في ذلك ضئيل. وما يسمى بالحركة الوطنية لا يتجاوز للآن أن يكون حركة صورية فحسب لم تنفذ بعد إلى الباب بل ربما يقال عنها أيضاً إنها تقليدية.
تعليم وطني، تشريع وطني وحركة وطنية في مصر - لم تزل كلها بعد ألفاظاً معانيها غير محدودة، وخيالات لم تقابلها إلى الآن حقائق راهنة. نعم هنالك المواد الأولية لبناء حركة تعليمية تشريعية وطنية، هنالك عادات للأمة، هنالك مقاييس خلقي - وليكن فيها بعض نواحي النقص أو الضعف أو الانحطاط فمعالجة ذلك موكولة إلى المصلح الاجتماعي - ثم هنالك دين ولغة تتمثل فيهما ثقافة الأمة الموروثة كما تتمثل في أبي الهول وأهرام مصر مدنيتها القديمة؛ هناك أيضاً البناء الذي ينقصه فقط الإتمام والتوسيع، هنالك الأزهر الذي رجع بنظره الآن إلى ألف عام مضت - وهو لم يتقوض ولن يتقوض - كمصدر لهذه الثقافة الوطنية، كمصدر لهذا التشريع الوطني. ذلك هو فخر مصر، فجامعة اكسفورد اللاهوتية، جامعة اكسفورد التي هي معقل الثقافة الإنكليزية القديمة الموروثة جيلاً عن جيل، معقل لتقاليد لم تزل وستبقى فخر الشعب الإنكليزي مادام اعتزازه بالمحافظة على التقاليد.
حركة وطنية ما هي إلا حركة رجعية، وليست تقليدية، حركتها تنظر إلى تراث الماضي لتبني عليه مجد المستقبل لا لتقوضه وتستبدل به غيره؛ فالتبديل معناه إنشاء خلق جديد على رغم الطبيعة وسنة الكون، وتلك محاولة شاقة لم تخطر ولن تخطر ببال مصلح اجتماعي عاقل، لأنها محاولة عبث وخيال لن يتحقق. تقليد وحركة وطنية شيئان لا يجتمعان في نظر عالم اجتماعي نفسي، لا يجتمعان في نظر زعيم وطني، وإن كانا قد(210/49)
يجتمعان في نظر روائي خيالي لم يلمس الحقائق بعد؛ قد يجتمعان في نظر من شغف (بالتجديد) والانتساب إلى البحث لا لأنه يحب الجديد ويميل إلى البحث، بل لأنه قد لا يدري ما هو التجديد وما هو البحث. في المقال التالي سأعالج العلل النفسية لهذا التقليد.
محمد البهي قرقر
دكتور في الفلسفة وعلم النفس من جامعات ألمانيا(210/50)
على هامش رحلتي إلى الحجاز
في تكية الدراويش
للدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست
خاتمة
وتقع في جانب الجبل مغارة عميقة هائلة ليست كلها من عمل الطبيعة، بل أنهم اجتهدوا في توسيعها شيئاً فشيئاً، فهذه المغارة هي في الواقع مقبرة الدراويش يتوسطها مقام الشيخ الكبير أبو عبد الله المغاوري الذي يرجع الفضل إليه في تأسيس تكية القاهرة، يحف به مئات من قبور الأخوان الدراويش، وهي متناثرة هنا وهناك في جوف المغارة. وأسر الى صديقي بأن هؤلاء الأخوان إنما تحرروا من قيودهم الزمنية وانطلقوا إلى العالم الأخر ليظفروا بلمحات يكشف لهم فيها الغيب، ويروا ما لا تراه العيون. بيد أنني لم أفكر كما فكرت الساعة في أن الرجال في أية لحظة من لحظات حياتهم هم أموات بالنسبة لتلك اللحظة، فليس الوقت هو الذي يمضي سراعاً، ولكننا نحن الذين نبتعد عن الزمن الصامت الثابت.
وإذا ما أراد الزائر أن يهبط إلى جوف المغارة فعليه أن يخلع نعليه أولا ويودعهما في صندوق خشبي مستطيل الحجم بجوار الباب، كما يتحتم عليه أن يدفع بعض ما تيسر في صندوق النذور. ولقد رأيت أن المترددين لزيارة هذه القبور نفر يسير من سكان القاهرة الفقراء، وأخصهم النساء اللواتي يلتمسن شيئاً من العزاء والسلوى في وقوفهن أمام الأضرحة والقبور.
خلعت وزميلي نعلينا وتأهبنا للتوغل في داخل المغارة التي كانت شمس الصباح تنفذ من فوهتها. وبعد أن دفعنا بضعة قروش لحارس المقبرة وهو من الدراويش الأشداء، دلفنا إلى مقصورة الشيخ الكبير مؤسس الطريقة؛ وكان في خارج المقبرة عدد من العجائز يرفعن أيديهن إلى السماء ويبتهلن إلى الله بالدعوات الصالحات، وقد علمت أن في وسع الموسرات منهن أن يدخلن إلى المقصورة ويمسسن الضريح بأيديهن للتبرك - ولكن هذا(210/51)
نادر - أما بقيتهن فمن الفقراء اللواتي لا يملكن قوت يومهن، وهن يكتفين بالوقوف بباب المقصورة وأمامهن أحد الدراويش حاملا في يده مقرعة ليفسح الطريق للزائرين.
إن زيارة الأضرحة في مصر لا تزال من العادات المتفشية بين جميع الطبقات؛ وعلى الرغم من محاربة العلماء لها، فليس من السهل القضاء على الخرافات الكثيرة المتأصلة في نفوس العوام، لأنهم يعتقدون أن بعض الأولياء تحل بركتهم بالمرضى فيبرؤون. ولقد قضى الوهابيون على هذه البدع والنقائض كلها فحرموا زيارة الأضرحة والتبرك بالأولياء، واستطاعوا أن يعيدوا إلى بلادهم الشرائع الإسلامية خالية من كل شائبة. وهم يقولون إن قوة الإنسان في حد ذاتها محدودة، وليس في وسع أي مخلوق أن يشارك الله في قدرته؛ ويعتقدون أن وجود هذه الأضرحة يعيد إلى الذاكرة عبادة الأوثان التي قضى عليها الإسلام وحاربها بكل قوة.
ووقع نظرنا على ضريح الشيخ المغاوري يتوسط المقصورة في مساحة لا تقل عن تسع ياردات، وفي طرف الضريح رأس من الحجر ملفوف عليه قماش أخضر مطرز. وكذلك رأينا شمعتين كبيرتين الحجم موضوعتين بجوار الشاهد، حتى خيل إلينا أنهما حارسان. ولا يجب أن يفهم من هذا إن هاتين الشمعتين موضوعتان لغرض الإضاءة، كلا بل هما للزينة والتأنق، لأننا شاهدنا مصباحاً متدلياً من السقف ينشر ضوءه الشاحب المخيف على وجوه الزائرين.
جلست مع صديقي حسونه على المقعد الحجري المعاقب لضريح الشيخ، نرقب عن كثب هذا المشهد المؤلم، مشهد عشرات النسوة وهن يتمرغن في الخارج على الحجارة ويرسلن أصواتاً مخيفة مزعجة كالنباح، وأومأت إلى صديقي أنه يستطيع أن يستخلص موضوع رواية يوضح فيها بجلاء حالة المرأة المصرية، ثم يعرج على وصف حالة العامل المصري والفلاح المصري ويحلل نفسية كل منهما. فالفلاح في مصر لا يزال يكد ويشقى، ويلاقي من صنوف الهوان ومرارة العيش، كما كان يعانيه زميله أيام بناء الأهرامات دون تغيير أو تبديل في أسلوب الحياة، وما برحت الخرافات والبدع الدينية ظاهرة الأثر رغم تقدم الحضارة وانتشار العمران، وما زالت مسيطرة على نفوس هؤلاء العوام.
أجل! إنه لولا وجودي في القاهرة لما فكر صديقي حسونه في أن يقصد إلى تلك الخرائب(210/52)
والأضرحة، ولكني أغريته بزيارتها حتى يتمكن من أن يجمع المواد التي يتألف منها كتاب أو رواية تضم معتقدات العوام وحالتهم الفطرية.
ولا أبالغ إذا قلت إن هذه وهذا الضريح الذي يتوسطها وتلك الأضواء الخافتة المستحيية، وهذا الشيخ الذي تفد النساء لزيارته خاشعات مسترسلات في توسلاتهن الحارة. كل هذه مشاهدة كان لها تأثير خاص على مشاعري. أما حارس الضريح الذي لا يأذن لأحد بالدخول إلا إذا ناوله الجعل المخصص للزيارة فأنه قادنا إلى أقصى المغارة حيث ألفينا نحو ثماني نساء يطفن بالضريح ويلمسن الكسوة بأيديهن تبركا. ولقد حدث أن شاهدت واحدة منهن وهي واقفة كالصنم، شاخصة ببصرها نحو المصباح الذي يرسل ضوءاً خافتاً لونه أحمر، شاهدتها جامدة كالتمثال أكثر من دقائق معدودة، لا تبدي حراكا ولا يهتز لها جفن، وراعني أن ألفيت برقعها الأسود ملقى وراء ظهرها، وكان وجهها شاحباً شحوب الموتى، ولكن صديقي علل ذلك بأن الشمس قلما تسطع على هذه الوجوه، لأنهن يعشن محجبات في داخل دورهن وإذا ما خرجن أحكمن وضع البراقع السميكة التي تحجب على وجوههن ضوء الشمس فيكتسب الجلد لون الصفرة، وكانت هناك عجوز شمطاء تلقي بجسمها على جدار الضريح كأنما الشخص المدفون أحد أحفادها، وثالثة نحيلة طويلة، ترتدي السواد وتلطم صدرها بكلتا يديها، ثم لا تلبث أن ترفعهما إلى السماء وتتوسل بصوت مرتفع. ورأيت الدموع تنحدر من عينيها وقد ارتسمت على وجهها آيات الرعب والفزع، ثم سمعنا بعد ذلك صوتاً يخرج من صدرها، وبعد برهة أخذت تولول وتمزق ثيابها. وكانت هذه الصرخة نذيراً لبقية النسوة اللواتي حافظن حتى هذه اللحظة على الصمت، فأنهن أسرعن إلى تقليد حركاتها والارتماء ثم التمرغ على الثرى والتدحرج حتى يصلن إلى المحراب، وهناك تخور قواهن. أما صديقي فقد راعه هذا المشهد المؤلم الذي يصور حالة خاصة من حالات الأمراض النفسية، فأمسك بذراعي وطلب إلي أن نغادر هذا المكان سريعاً، بيد أنه نسي أن هذه المناظر الهستيرية هزتني هزة عنيفة بحيث كدت أرتمي بدوري على الأرض، لولا أنني قاومت هذه الرغبة وأقصيتها عن ذهني. ما هذا البكاء، وذلك العويل، وشق الثياب؟ لقد تمالكت رشدي ورحت أحدق في وجوهن لأحاول أن أستخلص منها قصة كل واحدة، وإليك نتيجة استنتاجي:(210/53)
تربى الفتاة المسلمة على الطاعة والخضوع والانقياد، لا على الحرية والصراحة في الرأي والتفكير، فالطاعة والانقياد هما الدعامة الأولى للتربية في مصر، وهذا هو السبيل للحياة المقبلة. فللوالد الحق في أن يجبر أبنته على الزواج من الشخص الذي يختاره لها ويفرضه سيداً عليها، وليس عليها سوى الامتثال لمشيئته، كما أن للزوج سلطة ضربها إذا عصيت له أمراً. وإذا أرادت المرأة أن تثأر لنفسها فليس أمامها سوى طريق واحد، هو طريق المؤامرات السرية والدسائس. والعادة أن جميع الأزواج لا ينظرون إلى زوجاتهن إلا نظرة الازدراء والتحقير، بل إن البعض منهن يعتبرن من سقط المتاع. وهذا هو السبب الذي يدعو الكثيرات منهن إلى أن يقصدن إلى تلك الأضرحة ليتوسلن إلى أصحابها ويستنجدن بكراماتهم من هول تلك الفضائع ولا يخفى ما للعواطف المكبوتة من الأثر السيئ في النفوس، وهؤلاء اللائى يدفن رغباتهن في صدورهن إنما يتعرضن لأفظع الآلام الهستيرية، فيعمدن إلى إقامة حفلات الزار والتوسل بزيارة الأضرحة للبرء مما يصيبهن من الأمراض العصبية.
- إنني لا أزال وأنا أكتب هذه السطور أتذكر صورة هذا الرجل الذي دخل علينا ونحن بضريح الشيخ المغاوري ثم أتخذ موقفه بين الشمعتين وما كاد يرى صياح النسوة حتى راح يهز رأسه عنيفاً بطريقة منتظمة، ثم ينادي بأعلى صوته: الله، الله. . . وبعد برهة كان يلتوي على الأرض التواء الحية الرقطاء وتتقلص عضلات وجهه، ويرسل صراخا كالنباح قائلاً: الله أكبر! الله أكبر! حتى خيل إلينا أن صخرة المقبرة أوشكت أن تلتقط منه لفظ الجلالة. وكدت أفقد رشدي من هول الموقف، وأحسست كأن حشرجة الموت تنشب مخالبها في حلقي، فأردت أن أستنجد بكل قواي غير أني لم أستطع إلى ذلك سبيلا؛ فجاهدت قدر طاقاتي حتى لا أسقط على مقعدي، ولكن بلا جدوى أيضاً لأنني شعرت كأن بي مسا من الجن، وأن كابوساً قد جثم فوق صدري، وأن العرق البارد يتحلب من وجهي. وأخيراً هدأت نفسي فغادرت المكان وهتفت بصديقي أدعوه إلى الصلاة. ولكنه أجابني بعدم قدرته على أدائها وهو لا يزال يرجف فزعا. فتركته ومضيت إلى القبلة، حيث عادت إلي طمأنينتي الأولى. وبعد الصلاة رحت أفتش عن صديقي فإذا به يقف بجوار المحراب باهت اللون، ينتظرني بفروغ صبر لنغادر هذا المكان الذي يرمقه بعيون مفتحة رعباً.(210/54)
وتأوه صديقي ونحن نغادر باب المغارة، ثم أفضى إلي بأنه من الصعب أن يشعر بأقل ميل نحو الشرق، حيث الأضرحة والعقائد القديمة البالية والعادات المرذولة، ولكن أمه - تلك السيدة الوقور الطيبة الأخلاق - طالما شكت إلى إيمانه المزعزع واتجاهه نحو الغرب، وكانت تصلي من أجله عسى الله أن يرشده إلى الطريق السوي ويغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وانطلقنا إلى حديقة المغارة وما كدنا نستقبل الهواء الطلق حتى وقع نظرنا على طائفة من السائحات الأمريكيات وهن يصغين باهتمام إلى شروح بعض التراجمة والإدلاء، فهتفت بصديقي قائلا:
- هذا هو الغرب الذي تتعشقه
(تمت)
عبد الكريم جرمانوس(210/55)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 12 -
النفس - خلودها - التناسخ
رأيت فيما أسلفنا من مستحدثات عهد التطور تلك النظرية الفلسفية العميقة التي تقرر أن الوجود المادي باطل، ولكنه مشتمل في داخله على جوهر سام هو وحدة الحقيقة في كل موجود، ورأيت كذلك أن هذه النظرية لم تقتصر على كائن في الوجود دون كائن، فهي قد تناولت الآلهة والأناس والحيوان والنبات، غير أن أهم ما يعني الباحث في هذا الجوهر الحق المختبئ وراء الأستار المادية إنما هو النفس.
وقد عني خاصة اليهود بها عناية شديدة منذ أقدم عهودهم بالتفكير، فقرروا أنها هي الجوهر الحق في الإنسان؛ ولذلك أطلق عليها أسم الإنسان لأنهم اعتبروا الجسم بدونها باطلاً لا يستحق أن يدل على الإنسان كما تدل عليه النفس. ولا شك أن الباحث حين يتأمل هذه النظرية للوهلة الأولى يلمح فيها عناصر نظرية (أفلاطون) في النفس والمادة حيث يقرر أن النفس هي وحدها النور الخالد والحق الأسمى في الإنسان، أما الجسمان المادي فأنه خيال باطل لا تطلق عليه كلمة (حقيقة) إلا تجوزاً، لحلول النفس فيه ولصوغه على نماذج المثل التي أبنا أن عناصرها مصرية.
ويرى فلاسفة الهند أن النفس جاهلة بالفعل عالمة بالقوة، وأن الجهل والعلم صفتان متعاقبتان عليها باختلاف الظروف والأحوال. ولا جرم أن الهنود قد سبقوا (أرسطو) بعدة قرون إلى نظرية جهل النفس بالفعل وعلمها بالقوة وفوزها بالعلم الفعلي عن طريق الكسب والتجربة، تلك النظرية التي يبسطها أرسطو بسطاً واضحاً حين يرد على أفلاطون القائل بأن النفس كانت عالمة بالفعل قبل أن تحل الأجسام المادية ثم نسيت تلك المعارف بعد حلولها في المادة الكثيفة، وهي الآن لا تتعلم شيئاً جديداً، وإنما نتذكر ما كانت قد تعلمته في(210/56)
الماضي ثم نسيته.
والنفس عند الهدوء خالدة لا يعتورها الفناء، لأنها هي كل ما في الإنسان من حقيقة كما أسلفنا، ولهذا فهم لا يعتبرون الموت أكثر من تغيير ثياب النفس ومآويها، إذ إنها هي لا تتعرض بالموت لأي شئ إلا انتقالها من مأوى إلى مأوى بما يسمونه التناسخ أو التقمص. وقد أفاضت الكتب الهندية دينية وفلسفية في هذه العقيدة أو النظرية إفاضة جعلتها كأنها وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهاك شيئاً مما نقله لنا البيروني خاصاً بعقيدة خلود النفس وتقمصها:
قال (باسديو) لـ (أرجن) يحرضه على القتال وهما بين الصفين: (إن كنت بالقضاء السابق مؤمناً فأعلم أنهم ليسوا ولا نحن معاً بموتى ولا ذاهبين ذهاباً لا رجوع معه، فأن الأرواح غير مائتة ولا متغيرة، وإنما تتردد في الأبدان على تغاير الإنسان من الطفولة إلى الشباب والكهولة ثم الشيخوخة التي عقباها موت البدن ثم العود. وقال له: كيف يذكر الموت والقتل من عرف أن النفس أبدية الوجود لا عن ولادة ولا إلى تلف وعدم، بل هي ثابتة قائمة لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يغصها، ولا ريح تيبسها، لكنها تنتقل عن بدنها إذا عتق نحو آخر ليس كذلك كما يستدل البدن واللباس إذا خلق. فما غمك لنفس لا تبيد، ولو كانت بائدة فأحرى ألا تغتم لمفقود لا يوجد ولا يعود. فان كنت تلمح البدن دونها وتجزع لفساده فكل مولود ميت، وكل ميت عائد، وليس لك من كلا الأمرين شيء، إنما هما إلى الله الذي منه جميع الأمور وإليه تصير). ولما قال له (أرجن) في خلال كلامه: (كيف حاربت براهم في كذا وهو متقدم للعالم سابق البشر، وأنت الآن فيما بيننا منهم معلوم الميلاد والسن؟). أجابه قال: (أما قدم العهد فقد عمني وإياك معه، فكم مرة حيينا حقباً قد عرفت أوقاتها وخفيت عليك، وكلما رمت المجيء للإصلاح لبست بدناً، إذ لا وجه للكون مع الناس إلا بالتأنس). وحكى عن ملك أنسيت أسمه أنه رسم لقومه أن يحرقوا جثته بعد موته في موضع لم يدفن فيه ميت قط، وأنهم طلبوا موضعاً لذلك فأعياهم حتى وجدوا صخرة من ماء البحر ناتئة فظنوا أنهم ظفروا بالبغية. فقال لهم باسديو: إن هذا الملك قد أحرق على هذه الصخرة مرات كثيرة فافعلوا ما تريدون فانه إنما قصد إعلامكم وقد قضيت حاجاته)
وقال باسيديو: فمن يؤمل الخلاص ويجتهد في رفض الدنيا ثم لا يطاوعه قلبه على المبتغى(210/57)
أنه يثاب على عمله في مجامع المثابين، ولا ينال ما أراد من أجل نقصانه، ولكنه يعود إلى الدنيا فيؤهل لقالب من جنس مخصوص بالزهادة ويوفقه إلى الإلهام القدسي في القالب الآخر بالتدرج إلى ما كان أراده في القالب الأول، ويأخذ قلبه في مطاوعته ولا يزال يتصفى في القوالب إلى أن ينال الخلاص على توالي التوالد)
وقال في كتاب (سانك): أما من أستحق الاعتلاء والثواب فانه يصير كأحد الملائكة مخالطاً للمجامع الروحانية غير محجوب عن التصرف في السموات والكون مع أهلها أو كأحد أجناس الروحانيين الثمانية. وأما من أستحق السفول بالأوزار والآثام، فانه يصير حيواناً أو نباتاً أو يتردد إلى أن يستحق ثواباً فينجو من الشدة أو يعقل ذاته فيخلى مركبه ويتخلص.
قال صاحب كتاب (باتنجل): إفراد الفكرة في وحدانية الله يشغل المرء بالشعور بشيء غير ما اشتغل به، ومن أراد الله أراد الخير لكافة الخلق من غير استثناء واحد بسبب، ومن اشتغل بنفسه عما سواها لم يصنع لها نفساً مجذوباً ولا مرسلاً. ومن بلغ هذه الغاية غلبت قوته النفسية على قوته البدنية. فمنح ألا فتدار على ثمانية أشياء بحصولها يقع الاستغناء، فمحال أن يستغني أحد عما يعجزه واحد. تلك الثمانية هي: التمكن من تلطيف البدن حتى يخفى عن الأعين؛ والثاني التمكن من تخفيفه حتى يستوي عنده وطء الشوك والوحل والتراب؛ والثالث التمكن من تعظيمه حتى يراه في صورة هائلة عجيبة؛ والرابع التمكن من الإرادات؛ والخامس التمكن من علم ما يروم؛ والسادس التمكن من الترؤس على أية فرقة طلب؛ والسابع خضوع المرؤوسين وطاعتهم؛ والثامن انطواء المسافات بينه وبين المقاصد الشاسعة.
تقاليد البراهمة
كتب كثير من العلماء الفرنجة المحدثين المشتغلين بتاريخ الفلسفة حول تقاليد البراهمة وطقوسهم الدينية، فهممت بأن ألخص لك هنا ترجمة ما كتبوه من هذه التقاليد على نحو ما فعلت في الطقوس المصرية، ولكني وجدت ما كتبه أولئك العلماء ليس إلا هيكلاً عظمياً إلى جانب ما نقله أبو الريحان البيروني عن هذه التقاليد، فلم يسعني إلا العدول عن الناقص إلى الكامل أو القريب من الكمال. وكنت أحب أن ألخص هذا النص في عبارات من عندي لكي لا أكثر من النقل عن الغير، ولكن ضرورة الاصطلاحات الفنية من جهة وخلو كلام(210/58)
البيروني من الحشو في هذه النقطة من جهة أخرى قد ألجأني إلى الآتيان بالنص لتحقيق الفائدة المرجوة. وهاك ما قاله البيروني عن هذه التقاليد:
عمر (البرهمن) بعد مضي سبع سنين منه منقسم لأربعة أقسام: فأول القسم الأول هو السنة الثامنة يجتمع إليه البراهمة لتنبيه وتعريفه الواجبات عليه وتوصيته بالتزامها واعتناقها ما دام حياً ثم يشدون وسطه بزنار ويقلدونه زوجا من (جنجوي) وهو خيط مفتول من تسع قوى، وفرد ثالث معمول من ثوب يأخذه من عاتقه الأيسر إلى جانبه الأيمن ويعطي قضيباً يمسكه وخاتم حشيشة يسمى (دربهى) يتختم به في البنصر اليمنى، ويسمى هذا الخاتم (ببتر) والغرض فيه التيمن والبركة في عطاياه من تلك اليد، والتشديد فيه دون التشديد في أمر (جنجوي) فأن جنجوي مما لا يفارقه البتة، فأن وضعه حتى أكل أو قضى حاجته خالياً عنه، كان بذلك مذنباً لا يمحصه عنه غير الكفارة بصوم أو صدقة. وقد دخل في القسم الأول إلى السنة الخامسة والعشرين من سنيه، ووجدت ذلك في (بشن بران) إلى السنة الثامنة والأربعين. والذي يجب عليه فيها هو أن يتزهد ويجعل الأرض وطاءه ويقبل على تعلم (بيذ) وتفسيره وعلم الكلام والشريعة من أستاذ يخدمه أناء ليله ونهاره، ويغتسل كل يوم ثلاث مرات، ويقيم قربان النار في طرفي النهار، ويسجد لأستاذه بعد القربان، ويصوم يوماً ويفطر يوماً مع الامتناع عن اللحم أصلاً، ويكون مقامه في دار الأستاذ ويخرج منها للسؤال والكدية من خمسة بيوت فقط كل يوم مرة عند الظهيرة أو المساء، فما وجد من صدقة وضعه بين يدي أستاذه، ليتخير منه ما يريد ثم يأذن له في الباقي فيتقوت بما فضل منه ويحمل إلى النهار حطبها من شجرتي: (بلاس) و (دوب) لعمل القربان؛ فالنار عندهم معظمة وبالأنوار مقترنة، وكذلك عند سائر الأمم فقد كانوا يرون تقبل القربان بنزول النار عليه ولم يثنهم عنها عبادة أصنام أو كواكب أو بقر وحمير أو صور.
وأما القسم الثاني فهو من السنة الخامسة والعشرين إلى الخمسين، وفي (بشن براين) بدل هذه الخمسين سبعون، وفيه يأذن له الأستاذ في التأهل فيتزوج ويقيم (الكذخداهية)، ويقصد النسل، على ألا يطأ امرأته في الشهر أكثر من مرة عقب تطهر المرأة من الحيض، ولا يجوز له أن يتزوج بامرأة قد جاوز سنها اثنتي عشرة سنة، ويكون معاشه إما من تعليم (البراهمة وكشتر) وما يصل إليه منه فعلى وجه الإكرام لا على وجه الأجرة، وإما من(210/59)
هدية تهدى إليه بسبب ما يعمل لغيره من قرابين النار، وإما بسؤال من الملوك والكبار من غير إلحاح منه في الطلب أو كراهة من المعطى فلا يزال يكون في دور هؤلاء (برهمن) يقيم فيها أمور الدين وأعمال الخير، ويلقب: (برهت)، وإما من شيء يجتنيه من الشجر أو يلتقطه من الأرض، يجوز أن يضرب يده في التجارة بالثياب وبالفوفل، وإن لم يتولها واتجر له (بيش) كان أفضل، لأن التجارة في الأصل محظورة بسبب ما يداخلها من الغش والكذب، وإنما رخص فيها للضرورة، إذ لا بد منها، وليس يلزم البرهمن للملوك ما يلزم غيره لهم من الضرائب والوظائف. فأما التتابع بالدواب والبقر والأصباغ والانتفاع بالربا فأنه محرم عليه، وصبغ النيل من بين الأصباغ نجس، وإذا مس جسده وجب عليه الاغتسال ولا يزال يقلس ويقرأ على النار ما هو مرسوم لها.
وأما القسم الثالث، فهو من ألسنة الخمسين إلى الخامسة والسبعين، وفي (بشن) بدل الخمسة والسبعين تسعون، وفي هذا القسم يتزهد ويخرج من الكذخداهية ويسلمها والزوجة إلى أولاده إن لم تصحبه إلى الأصحار، ويستمر خارج العمران على السيرة التي سارها في القسم الأول، ولا يستكن بسقف ولا يلبس إلا ما يواري سوءته من لحاء الشجر، ولا ينام إلا على الأرض بغير وطاء، ولا يتغذى إلا بالثمار وبالنبات وأصوله، ويطول الشعر ولا يتدهن.
وأما القسم الرابع فهو إلى أخر العمر يلبس فيه لباساً أحمر ويأخذ بيده قضيباً ويقبل على الفكرة وتجريد القلب من الصداقات والعداوات، ورفض الشهوة والحرص والغضب، ولا يصاحب أحداً البتة، فان قصد موضعاً ذا فضل طلباً للثواب لم يقم في طريقه في قرية أكثر من يوم، وفي بلد أكثر من خمسة أيام، وإن دفع أحد إليه شيئاً لم يترك منه للغد بقية، ولم يكن غير الدؤوب على شرائط الطريق المؤدي إلى الخلاص والوصول إلى (موكش) الذي لا رجوع فيه إلى الدنيا.
وأما ما يلزمه في جميع عمره بالعموم فهو من أعمال البر وإعطاء الصدقة وأخذها، فأن ما يعطي البراهمة راجع إلى الآباء ودوام القراءة وعمل القرابين والقيام على نار يوقدها ويقرب لها ويخدمها ويحفظها من الانطفاء ليحرق بها بعد موته، واسمها (هوم)، والاغتسال كل يوم ثلاث مرات في سند الطلوع وهو الفجر، وفي سند الغروب وهو الشفق، وفي(210/60)
نصف النهار بينهما، أما بالغداة فمن أجل نوم الليل واسترخاء المنافذ فيه فيكون طهراً من كائن النجاسة واستعداداً للصلاة، والصلاة هي تسبيح وتمجيد وسجدة برسمهم على الإبهامين من الراحتين الملتصقتين نحو الشمس فإنها القبلة أينما كانت خلا الجنوب، فليس يعمل شيء من أعمال الخير نحو هذه الجهة، ولا يتقدم إليها إلا في كل شيء رديء. وأما وقت زوال الشمس عن نصف النهار فانه مرشح لاكتساب الأجر، فيجب أن يكون فيه ظاهراً، والمساء وقت العشاء والصلاة، ويجوز أن يفعلهما من غير اغتسال، فليس أمر الاغتسال الثالث مثل الأول والثاني في التأكد، وإنما الاغتسال الواجب عليه في الليل وفي أوقات الكسوفات بسبب إقامة شرائطها وقرابينها. وتغذي البرهمن في جميع عمره في اليوم مرتين عند الظهيرة والعتمة، فإذا أراد الطعام أبتدأ بإقرار الصدقة منه لنفر أو نفرين وخاصة للبراهمة المتوحشين الذين يجيئون وقت العصر للسؤال، فأن التغافل عن إطعامهم إثم عظيم، ثم للبهائم والطير وللنار ويسبح على الباقي ويأكله، وما فضل منه فيضعه خارج الدار ولا يقرب منه إذ لا يحل له، وإنما هو لمن سنح واتفق من محتاج إليه، سواء أكان إنساناً أو طائراً أو كلباً أو غيره، ويجب أن تكون آنية مائه على حدة وإلا كسرت، وكذلك آلات طعامه. وقد رأيت من البراهمة من جواز مؤاكلة أقاربه في قصعة واحدة وأنكر ذلك سائرهم.
(يتبع)
محمد غلاب(210/61)
من صور الشارع:
العدالة
للأستاذ أمجد الطرابلسي
اللّيلُ داجٍ وأعاصيرُهُ ... مجنونةٌ تضحتُ منه الرّعودْ
والبرقُ في آفاقِهِ لاهِبٌ ... كشعْلَةِ الغيظِ بصدْرِ الحسودْ
والمطرُ الدَّفّاقُ في لحِنهِ ... مسترسِلٌ يُبَدئَهُ أو يٌعيد
يصافحُ النهرَ فتعلو لهُ ... نَغمةُ نايٍ وأرانينُ عود
والشارعُ الجَهْمُ مصابيحُهُ ... كأعينِ الذؤبانِ فوق النجود
قَفْرٌ منَ الناسِ، فلا سيّدٌ ... يخطرُ مختالاً ولا من مَسود
إلا عرابيدُ هُنا أو هنا ... كأنما أَرْجُلُهُم في القيود
يبغونَ مَنْجى من مُلِثِّ الحيا ... لولا خُمارٌ مُسْتَبِدٌّ عنيد
ونام. . . إلا مرقصاً فاجراً ... يقظانَ لا يعرفُ معنى الهجود
نهارُهُ الليلُ، وسُمارُهُ ... كُثْرٌ إذا أغفى الغبيُّ البليد
تمزّقُ الدجيةَ أنوارُهُ ... كأنها أنوار عُرسٍ وعيد
وتطربُ الشارعَ أنغامُهُ ... رَنّانَةً صَخّابةً من بعيد
دخلته. . . يا حسنَه منظراً! ... راحٌ ورَوْحٌ ولحونٌ وغيد
من كلِّ خَوْدٍ خلِقَتْ فتنةً ... لحظا وقدّاً ونهوداً وجيد
وأهوجٍ في عنفوانِ الصِّبا ... صريع كأسٍ ومُعنى خدود
والناسُ في رقصٍ وفي نَشْوَةٍ ... حولَ دُمى الحسنِ قيامٌ قُعود
ما منهُمُ إِلا فَتى عابثٌ ... ما فيهمُ إلا الضَّحوكُ السّعيد
كأنّهمْ في فَرَحٍ دائمٍ ... مُذ نزلوا الأرضَ وعيشٍ رغيد
يا شاكياً أوصابَ هذي الدُّنا ... لا زلتَ إلفاً للضّنى والجمود
أتدَّعي البؤسَ وتشكو الورى ... ورهنُ كفيكَ المنى والسُّعود
أليس فوقَ الأرضِ غيرُ الأسى ... أما تَرى عيناك غيرَ اللحود
هذي الأغاريدُ وهذا الهوى ... وذلك الحسنُ وتلك القُدود(210/62)
وهذه الأقداحُ فَوّارةً ... والدلُّ والسِّحر وخفقُ النُهود
أليسَ فيها ما يَبُلُّ الصَّدى ... ويفْرِجُ القلبَ المعنى العميد
عدتُ إلى الشارع نَضْرَ المنى ... والكونُ في عَينَّي خلقٌ جديد
تقولُ لي النفسُ وقد أُنْسِيَتْ ... ما أَلِفَتْهُ من شَقاءٍ تليد:
أليسَ حقّاً صفو هذي الدُّنا؟ ... أليسَ لي من خيرِها ما أريد؟
وسرتُ نشوانَ حليفَ الرٍّضى ... يغْمُرُ جَفنيَّ جمالُ الوجود
فرحان. . . لولا منظر لاحَ لي ... أماتَ في قلبي الحبورَ الوليدْ
طفلٌ على وجهِ الثرى نائمٌ ... كأنهُ الجيفةُ فوقَ الصَّعيد
تحسبُهُ في بؤسهِ كوكباً ... تحت نُثاراتٍ من السٌّحْبِ سودْ
تدفعُ عنه البردَ أَسمالهُ ... لو تَدْفَع الأقدارَ كفُّ العبيد!
وجاَءه الشُرْطيُّ مستأسداً ... يحرِمُهُ هذا الرقادَ الشّرودْ
أليسَ في مَنظَرِهِ غُصَّةٌ ... لسادةِ الأرضِ عبيدِ النقود؟
أما على الدولة غَسْلُ الثرى ... من الفُضالاتِ وما لا يفيدْ؟!
أيقظهُ من نومهِ هاتفاً ... بلهجة الآمر ربِّ البنود
(هَيّا إلى دارِكَ. . . . هَياّ أفِقْ! ... في الدارِ لا فوقَ الرَّصيفِ الهجود!)
الدّار! ما الدار؟ وما شأنُها؟ ... ما الأهلُ؟ ما آباؤهُ؟ ما الجدود؟
وهل ينامُ الناسُ في دورهم ... أم مثلهُ فوق الصّفا والجليد؟
وهل له بين الصّروح العُلى ... قصرٌ مشيدٌ، أو مَقرُّ وطيد؟
يا ناسُ. . . دُلوه على مقبرٍ ... وَهْوَ بهِ راضٍ شكورٌ سعيد!!
يا نعمةَ الدنيا ويا عدلها! ... ماذا جنى هذا البريءُ الشهيد؟
أماله مُتسَعٌ ناعمٌ ... وسْطَ المقاصيرِ وفوقَ المهود؟
ضاقَ الثرى عنه وأترابهُ ... بين الرياحين وفوق الوُرود
أليسَ حُلْما صفو هذي الدنا ... وفوقها هذا الشقي الشريد!؟
يا طفلُ عِشْ فوق الثرى جائعاً ... وقضِّ أيامَك كلْباً طريد!
ليَهِنكَ الفقرُ وويلاتهُ ... فالفقرُ نُبْلٌ وسموٌّ وَجود!(210/63)
إن جعتَ فالمجدُ طعامٌ. . وإِن ... ظِمئتَ فالنبلُ شراب برود!
لا تحسدِ الناسَ على حظِّهم ... فالأم الناسِ شقيُّ حسود!
ولا تكن لصا ولا مُجْرِماً ... فإِن عقباكَ العذابَ المبيدْ!
ولا تَدَعْ للغيظِ من مَسْرَب ... إلى حناياكَ ولا للحقود!
وأربع على الذلِّ ولا تأبه ... واسجُدْ لمن يطلبُ منك السجودْ
فغاصبُ الأموالِ حرٌّ بها ... يبخلُ إن شاَء أو يجودْ!
مالكَ والدنيا ولذاتها ... ألم تقدَّرْ لكَ دارُ الخلودْ.!؟
إيهِ خروفَ الذبحِ متْ يائساً ... فالكونُ للعِقبان أو للأسود!
أو فاتخذ بين الورى مخلباً ... كمخلب الليثِ وناباً حديد
ثم أنتزع حقك مستنسراً ... ولا تدعهُ لُعْبةٌ للقُرود!. . .
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(210/64)
عناد. .!!
خطبت إليه عروس الخيال ... أزف إليها المنى الساميه
أزف إليها أغاني السماء ... وأمهرها مهجتي الغالية
وأجعل حبي لها هكيلا ... تكون صلاتي به ناميه
غلائلها من ضياء النجوم ... وأزرارها القبلة الواريه
منازلها حيث شاء النعيم ... وأبوابها في يدي الحانيه
وأحلامها طول أيامها ... كما تحلم الزهرة الراويه
تطوف عليها طواف السلام ... وترقص رقصاتها العاريه
أفيء إليها بشوقي الوفير ... فتلقى به نعمة العافيه
نظل كطيرين في روضة ... أليفين في عيشه راضيه
نطير كروحين في جنة ... نعانق أحلامنا الظاميه
نقبل خد الصباح المنير ... ونرقص للنسمة الساريه
وأنت تبارك أشواقنا ... وتبني لنا العش في الداليه
فندعو بكل أهازيجنا ... لمنشئ جنتنا الدانيه
وننشد أنغامك السامعات ... ونشكر آلاءك الضافيه
حنانك لا أنت قارون في ... خزائنه الأنهر الجاريه
ولا أنت (فوردٌ) ولا شبهه ... ولا أنا ذو راحة خاليه
فهذا وذاك رهين الفناء ... وكل سيقضي بلا باقيه
يعدد آلامه ذو الغنى ... كعد دنانيره الفانيه
ولكن قلباً كبير الغرام ... يعيش الحياة. . . الثانيه
(الكرك)
حسني فريد(210/65)
رسالة الفن
ميكيلانجلو
العبقرية الملهمة
للدكتور أحمد موسى
خاتمة
أما المرحلة الثانية التي تنحصر بين سنة 1505، 1535 فهي تبدأ عندما رحل إلى روما وأقام فيها، حيث أتم أبرز عمل في حياته، ألا وهو تصوير السقف السكستيني بالفاتيكان على الجص (الفرسكو)، فظل من مايو سنة 1508 إلى خريف سنة 1512 منكباً على العمل لا يعاونه مساعد ولا ينصرف إلى غيره؛ الأمر الذي عاد عليه بشيء من حدة الأعصاب يؤوله غير عارفيه بكراهيته للناس.
وهذا السقف مقبب يتوسطه حقل يكاد يكون مسطحاً، وجنوبه مقببة أيضاً ولكن بشكل سيمتريكي متناظر، يتخلل هذه الجوانب نوافذ على هيئة أهلة.
ولا بد أن تؤدي بنا الرغبة في تفهم إنتاج ميكيلانجلو تفهماً صحيحاً إلى تقسيم تصويره هذا السقف إلى أربع شعب: إحداهما تتناول المصورات الدينية التي صورها في وسط السقف في تسعة حقول عدا صور الجوانب التي منها أربع كبيرة والأخرى صغيرة؛ محاطة كلها بإطارات وجامات من الشبهان (البرونز)؛ والأخرى تمثل مناظر تاريخية للعهد القديم كخلق الدنيا، وخلق آدم وحواء، ونوح والطوفان، والخالق يبدي إرادته، وتناولت غيرها خلق النور من الظلام، وخلق الشمس والقمر والنبات، وخلق الحيوان، وخلق آدم. وفي هذه القطعة عبر عن نهاية النهايات أبدع تعبير يمكن أن يتصوره ويخرجه فنان، وخلق حواء والخطيئة والطرد من الجنة، وفي هذا أجاد في تمثيل قوة الإرادة عند حواء، والطوفان.
وله صور على الجوانب المقببة لا يتسع المجال لذكرها جميعاً، ولكني أقتصر على ذكر أهمها من الصور التاريخية، التي من أروعها صور الأنبياء والكاهنات وهي تقع بين(210/66)
فتحات النوافذ، وقد أجاد تصويرها وكلها ترمي إلى نشر رسالة الخلاص والتبشير بانتهاء الجاهلية واليهودية. وأستطيع أن أقرر أن هذه المناظر أجمل وأعظم ما أبدعه فنان على مر القرون، فهي الكعبة التي يحج إليها كل فنان حيث يقف ناظراً مستلهماً، فيذهب به خياله إلى التسبيح بذكر العلي القدير الذي جعل من بين خلقه من استطاع الوصول بالفن إلى هذا الكمال. يقف المشاهد أمام هذا الخلق الرائع والجمال السامي والنبل العظيم كما لو كان في حلم هنئ فيشعر دون إرادة منه بعبيق العبادة يحيط به، ونقاوة القلب وصفاء الضمير يغمر كيانه، ويحس أنه قد تجرد من حاجات النفس المادية، ثم لا يلبث أن يرجع ببصره مطأطئ الرأس أمام العظمة الإلهية التي تمثلت خير تمثيل في إبداع العبقري الملهم
ولا بأس من أن نعرج قليلاً على ذكر بعض هذه المصورات التي أرى أن أهم ما يجب تعريفه للقارئ منها هو: صورة جرمياس وقد غطت وجهه تجاعيد الهم والتفكير والكرب، وصورة يونس والحوت. وصورة كاهنة عجوز ساحرة.
كما أن له صوراً قصد بها التحلية ولم يسمها وهي تشمل رجالاً وأطفالاً، وقد عرت جسوم الأولين، ويستوقف المتأمل في هذه الصور جمال التفاصيل وقوة الإخراج، والإبداع في إبراز الحركات الجسمانية كاملة قوية مما يجعلها تنبض بالحياة وتتحدث عن عظمة الفن.
ومن هذا نرى أن السقف السكستيني هو أعظم إنتاج وصل إليه ميكيلانجلو، ليس في هذه المرحلة الثانية فقط؛ بل في حياته كلها، لأنها مثلت القدرة الفائقة في الخلق الفني الأسمى والتفوق الرائع في التعبير عن المثل الأعلى، كما تعرفنا بعينيه المحيطتين اللتين نظر بهما إلى الحياة فتغلغل إلى كنهها.
وسافر بعد هذا إلى فلورنسا وهناك لا نعرف له إلا صورة واحدة أسماها (ليدا والبجعة) وهي مصورة بطريقة تمبرا (راجع المقال السابق) أتمها سنة 1530، وللأسف توجد في أسوأ حال بالناشيونال جاليري بلندن.
وكان أهم عمل له في المرحلة الثالثة صورته (ليوم القيامة) وهي هائلة عملها بالفرسكو على حائط الهيكل السكيتيني من سنة 1535 إلى سنة 1541، وتشمل السيد المسيح كقاضي العالم وإلى جواره مريم وحوله القديسون وبالقرب منه صورتان رسمت كل منهما في نصف دائرة ممثلة مجموعات من الملائكة.(210/67)
أما في الوسط فيوجد سبعة ملائكة رفع الأتقياء إلى النعيم وعلى اليسار الإلقاء بالمغضوب عليهم في الجحيم، وهنا نرى عبقرية ميكيلانجلو قد بدت في أقوى مظاهرها.
وتحت هذه المناظر صورة أخرى تمثل البعث وغيره من المناظر الدينية، كلها عظيمة الإنشاء قوية الإخراج، وفيها يتمثل العنف والسيطرة الكاملة على التصوير الجسماني في أروع مظاهره وأبدع حركاته، وقد تحقق بإخراجها على يد ميكيلانجلو حلم الفنانين والمثل الأعلى لمؤرخي الفن الذين يعتبرون خلقه وإبداعه أسمى مقياس يمكن الوصول إليه؛ ولا سيما أنه قد تحرر في كثير من هذه المناظر من قيود الكنيسة وتعاليمها، طامحاً نحو السمو والكمال الفني المنشود، فخرج عمله شعراً منثوراً من الناحية المعنوية، وتصويراً عظيماً من الناحية الفنية.
والناظر إلى هذه الصور يرى عليها شيئاً من اللون الدخاني قد غلبه على كل ألوانها مرور مئات السنين وكثرة إشعال البخور داخل الكنيسة.
أما آخر أعماله التصويرية فهو مجموعة المصورات المسماة (باولينا) وهي أيضاً بالفاتيكان بروما. وأهمها صورتان عظيمتان كبيرتان، الأولى لظهور المسيح، والثانية لصلب بطرس (1545 - 1550) وهما لا تقلان روعة عما سبقهما، ولو أن طريقة الإخراج كانت على كل شيء يسير من التكلف، أما الثانية فقد ظهرت واضحة جلية في الكيفية التي سار عليها في تصوير الأجسام الهائلة التي بدا عليها العنف والحركة.
ومهما حاولنا الوصف فأن مشاهدة هذه المناظر مما لا بد منه لمن يريد الوقوف على مدى القوى البشرية الموهوبة من الخالق ومدى ما يمكن الوصول إليه من عمل فني رائع، إن قدر لنا أن نفهمه استطعنا أن نستمتع بناحية من أسمى وأروع نواحي الاستمتاع الإنساني.
وله أيضاً في هذه المرحلة صورتان تخطيطيتان لمعشوقته فيتوريا كولونا، ويتجلى فيهما تأثره بالدين، كما نلاحظ من عنايته الفائقة ما كان لهذه المعشوقة من قدر في نفسه وأثر عليها، أما صورته لمريم والمسيح مأخوذا من الصلب، وصورته للمسيح مصلوباً فان أصولهما مجهولة للآن.
وتكاد تكون جامعة أكسفورد هي الفريدة التي حصلت على مجموعة جيدة من تصويره الخطي، ويعقب ذلك جاليري بوناروتي في أوفيسين والمتحف البريطاني ومتحف اللوفر.(210/68)
تلك صفحة مبسطة لحياة رجل خالد أعتبره الفن إماماً والتاريخ مقياساً، فمحاولة الإحاطة به هنا متعذره؛ لأن إبداعه الفني وتحليل آثاره العظيمة لا يحيط بها إلا ضخم المجلدات.
أحمد موسى(210/69)
البريد الأدبي
شيخ الأزهر وقت مقدم النابلسي
ذكرت ضمن مقالي المنشور بالرسالة (عدد 208) عن رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي في مصر في أواخر القرن السابع عشر واقعة وردت على لسان الرحالة أكثر من مرة، وهي أن شيخ الأزهر وقت مقدمه إلى القاهرة في أوائل سنة 1105هـ (1693م) كان (الشيخ منصور المنوفي الأزهري الشافعي الضرير)؛ فعلق الأستاذ عبد المتعال الصعيدي على هذه الواقعة (الرسالة رقم 209) بكلمة أبدى فيها ارتيابه في صحتها، وذكر نقلاً عن الخطط التوفيقية أن شيخ الأزهر وقت مقدم النابلسي لم يكن سوى الشيخ محمد النشرتي المالكي، وأنه تولى مشيخته من سنة 1101هـ إلى سنة 1120هـ.
وقد رجع الأستاذ الصعيدي بنفسه إلى رحلة النابلسي (الحقيقة والمجاز)، فألفى ما نقلته عنه صحيحاً، وأنه أشار إلى الشيخ منصور المنوفي ووصفه أكثر من مرة بأنه شيخ الأزهر ولكنه مع ذلك يصر على ارتيابه في صحة هذا الوصف.
ولم اكن أقصد حين كتبت مقالي عن رحلة النابلسي أن أحقق من كان شيخ الأزهر في ذلك الحين، فهذه مسألة لم تكن ذات شأن في موضوعي، وإنما قصدت قبل كل شيء أن أستخلص من هذه الرحلة الصورة التي يقدمها لنا الرحالة عن مصر ومجتمعها في ذلك الحين؛ على أني مع كل ما نقله الأستاذ الصعيدي عن المصادر المتأخرة (مثل الجبرتي والخطط التوفيقية) لا زلت أميل إلى الأخذ بقول النابلسي من أن الشيخ منصور الأزهري كان شيخاً للأزهر حسبما يقدمه لنا، أولاً لأن هذا القول هو قول معاصر وشاهد عيان عرف الشيخ وحادثه بنفسه، ولست أعتقد أنه يسبغ عليه هذه الصفة عفواً، وثانياً لأن الشيخ النابلسي يقدم إلينا بياناً صحيحاً عن أكابر الحكام والمشايخ في مصر وقت مقدمه، ومن الصعب أن نعتقد أنه يخطئ في تعرف شيخ الأزهر وهو من الشخصيات البارزة التي يهمه أن يتصل بها أما كون الشيخ النابلسي يسبغ هذه الصفة على شيخ آخر وكون المصادر المتأخرة تذكر أن شيخ الأزهر في ذلك الحين هو الشيخ النشرتي فقد يمكن تفسيره بأن الشيخ المنوفي لم يمكث في المشيخة سوى اشهر وربما أسابيع قلائل، وعلى ذلك فقد أغفل المتأخرون ذكره في ثبت مشايخ الأزهر.(210/70)
وعلى أي حال فأنه مما يصعب على المؤرخ إغفال قول معاصر وعلامة ثقة كالشيخ النابلسي.
محمد عبد الله عنان
بحوث طبية هامة لطبيب مصري
رفع الدكتور أنيس أنس بك الطبيب الباتولوجي الأول بمعامل وزارة الصحة إلى صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا نتيجة بحث علمي قام به أخيراً وتناول فيه موضوعين:
الأول خاص بسبب تضخم الطحال في القطر المصري ووادي النيل بوجه عام؛ وقد سبق لباحثين كثيرين أن بحثوا في هذا الموضوع منذ أربعين سنة فلم يصلوا إلى نتيجة حاسمة، وتضاربت الآراء العلمية حول سبب (تضخم الطحال) فقال بعضهم: إن سببه (ميكروب) مجهول، وقال آخرون: إنه نوع من الفطريات. إلخ. غير أن الدكتور أنس بك اهتدى إلى أن السبب الحقيقي لهذا التضخم هو بويضة البلهارسيا (المرض المتوطن في مصر ووادي النيل). وقد اعتمدت الجمعية الملكية البريطانية لطب المناطق الحارة والصحة العامة هذا البحث في جلستها المنعقدة بتاريخ 25 أبريل سنة 1937 ونشرته بمجلتها.
أما البحث الآخر فقد أقترن بقيام الدكتور أنس بك بعدة إحصاءات لعمليات الزائدة الدودية فاهتدى إلى أن معظمها أو ما يقرب 60 % منها راجع إلى التهاب حاد ناشئ عن الإصابة بالبلهارسيا أيضاً وخاصة في المديريات الشمالية، وقد بين أنس بك أنه لا ضرورة لأجراء العملية لهؤلاء المصابين بل يكتفي بعلاج سببها وهو مرض البلهارسيا. ثم أوضح في بحثه كيفية الوصول إلى التمييز بين التهاب الزائدة الدودية الصديدي الذي ينتهي غالباً بالتهاب البريتون والوفاة، وبين التهاب الزائدة الدودية الناشئ عن إصابة البلهارسيا. فكان هذا أول بحث من نوعه في عالم الطب. وقد قامت الجمعية الدولية للجراحة في مؤتمرها العاشر ببحث هذه النتائج فاعتمدت ما انتهى إليه الدكتور أنس بك ونشرته على نفقتها باعتباره استكشافاً جديداً لم يسبق المؤلف المصري إليه أحد.
في الأكاديمية الفرنسية:
احتفلت الأكاديمية الفرنسية أخيراً باستقبال عضو جديد فيها هو الكاتب القصصي(210/71)
والصحفي الكبير إدمون جالو وقد انتخب للكرسي الذي خلا بوفاة الشاعر والقصصي والنقادة الأشهر بول بورجيه الذي توفي منذ بضعة أشهر، وكان بورجيه يشغل هذا الكرسي منذ أكثر من أربعين عاماً؛ وقد أفتتح إدمون جالو عهده في الأكاديمية كالمعتاد بإلقاء حديث طويل عن سلفه وعن حياته الأدبية ومميزاته ومواهبه؛ وكان أهم ما في حديثه أن بورجيه قد تأثر في حياته بحادثين عظيمين طبعا حياته كلها بطابع خاص؛ أولهما وفاة والدته وهو طفل وزواج والده من سيدة أخرى، وثانيهما أنه رأى حكومة الكومون في باريس (سنة 1871) وقد اثر الحادث الأول في نفسيته أعظم تأثير، واستطاع أن يدرس خلاله تلك العاطفة التي كثيراً ما ينوه بها في قصصه وهي: (الغيرة)
وإدمون جالو من كتاب الجنوب في فرنسا، وهو مرسيلي الأصل، وله عدة روايات وقصص ممتعة، وهو صحفي يكتب في كبريات الصحف الفرنسية فصولا أدبية مختلفة.
وطن قومي للنور
أختار النور (الغجر) في بولونيا لهم ملكاً جديداً، ومنهم في بولونيا بضعة عشر ألفاً مفرقين في سائر أنحائها؛ وقد صرح الملك الجديد بأنه سيعمل على حل مسألة الوطن القومي للنور وسيزور السنيور موسوليني لأجل هذه الغاية، وربما استطاع النور أن يجدوا لهم وطناً قومياً في الحبشة يلم شعثهم ويجمع صفوفهم؛ وهذه مسألة قديمة تبحثها بعض الجمعيات السياسية في إنكلترا وألمانيا منذ نحو قرن، بيد أنها لم تعمل لها شيئاً لحلها. على أن النور استطاعوا خلال القرن الأخير أن يحصلوا على حقوق المواطنين في معظم البلاد الأوربية مثل النمسا والمجر ورومانيا. وقد أخذ الكثيرون منهم يهجرون حياة البدو، ويستقرون على قواعد الحضارة الحديثة، واندمج الكثير منهم في المجتمع الحديث ونسوا لغتهم وعاداتهم القديمة؛ وقد حصل النور في بلاد البلقان على حقوقهم السياسية بمقتضى معاهدة برلين في سنة 1878؛ وفي سنة 1906 عقدوا أول مؤتمر من النور في صوفيا وطولب فيه بمنح الحقوق السياسية لنور تركيا؛ وخطب يومئذ رئيس النور رمضان عليف، وحثهم على المطالبة بالحقوق السياسية.
والآن يرى النور أن يقوموا بحركة جديدة لإنشاء وطن قومي خاص بهم على مثل ما فعل اليهود في فلسطين. ومن المستحيل أن يعرف عدد النور، بيد أنهم يبلغون في أوربا وما(210/72)
حولها نحو ثلاثة ملايين.
متحف للآلات الموسيقية
افتتح متحف في نيوبرت من أعمال نيرمبرج (ألمانيا) يحتوي على مجموعة فريدة من الآلات الموسيقية هي أتم مجموعة من نوعها، وتضم هذه المجموعة نماذج من الآلات الموسيقية في القرون الخمسة الأخيرة، وكلها في حالة جيدة من الحفظ ويمكن العزف عليها، وهي بذلك تقدم إلى الموسيقيين ومؤرخي الموسيقى مادة بديعة للدرس والتأمل، وبواسطتها يمكن استعراض التطورات المختلفة في تركيب البيانو الذي اصبح أداة العصر وكيف أصبح على ما هو عليه الآن، ومن النماذج المعروضة بهذا المتحف معزف (اكلافسان) صنع في سنة 1703 ذو ثلاث أنغام وكان ملكا لآل مديتشي سادة فلورنس، وبيانو صنع سنة 1740 في أوبرزنتوفن من أعمال بلغاريا، وبيانو آخر كان ملكا لأمير الموسيقى موتسارت من صنع كيرنباخ بمايانس، ونماذج أخرى لآلات مختلفة ترجع إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر.
موسم الفن والموسيقى في سالزبورج
يقام موسم الفن والموسيقى في مدينة سالزبورج (النمسا) هذا العام بين 24 يوليه و31 أغسطس، وقد غدا هذا الموسم حادثاً فنياً عالمياً يجلب إلى سالزبورج في كل عام آلاف الزائرين من مختلف الأقطار، ويشرف على إحياء هذا الموسم كالعادة أقطاب الفن العالميون نمسويون وغيرهم، مثل أرتورو توسكانيني، وبونوفالتر، وماكس رينهارت، وهانس كنبرتسسبوش، ومعروف أن سالزبورج هي موطن موتسارت، ولهذا تحظى أوبراته بعناية خاصة، وسيمثل منها هذا الفصل (دون جوان) (والمزمار المسحور)، (وليل فيجارد)، وتمثل أوبرات خالدة أخرى مثل (الأساتذة المغنون) لفاجنر، و (فيدليو) لفان بتهوفن، و (فالستاف) لفيردي؛ وأوبرات أخرى لريخارد شتراوس؛ كذلك تقام حفلات موسيقية عظيمة من مقطوعات موتسارت وشوبرت، وبيتهوفن وفبير وهايدن وغيرهم، ومنها حفلات كنسية تقام في كاتدرائية سالزبورج، وإلى جانب هذه الحفلات التمثيلية الرائعة التي تقام في مسرح البلدية الكبير تقام طائفة أخرى من الحفلات الباهرة في مسرح(210/73)
موتسارت من أول يوليه إلى أول سبتمبر، وتموج مدينة سالزبورج أثناء هذا الموسم الفني العظيم بالزائرين من مختلف أنحاء الأرض، ويبلغ الإقبال على هذه الحفلات حدا لا يتصور، بحيث يستحيل على الراغبين أن يفوزوا بتذكارهم إذا لم تحجز قبلها بأسابيع.
ذكرى أبى العلاء في الرابطة العربية
رأى مجلس إدارة الرابطة العربية وقد حان موعد العيد الألفي لفيلسوف العرب وحكيمها وشاعرها (أبي العلاء) أن يوجه إلى العالم العربي نداءه ورجاءه أن يعاونه في المهرجان الأدبي الكبير الذي سيقيمه تخليداً لهذه الذكرى وإشادة بأدب هذا الشاعر الذي يعد مفخرة العالم قاطبة والشرق خاصة.
وإن الرجل الذي تدعو الرابطة إلى الاحتفال بذكراه الألفية ليس بأقل مكانة من أدباء العالم الذين قادوا الذهن الإنساني وأناروا دياجير الحياة بما وهبوا من حكمة، فهو في مقدمتهم بل مجليهم الأوحد، فان قامت الشعوب الغربية بتخليد ذكرى هؤلاء الفلاسفة في مواسم حافلة يحج إليها الناس من كل فج ليتلقوا منها الوحي والإلهام الأدبي، فالأحرى بالشرق العربي أن يخلد ذكرى فيلسوفه العظيم.
وإن الروح الطيبة التي أملت الاحتفالات الفخمة بتخليد ذكرى المتنبي لتجعل الأمل قوياً والرجاء كبيراً في أن يلقى هذا النداء كل إقبال وتشجيع.
هذا وستصدر الرابطة قريباً بياناً جامعاً بأسماء حضرات أعضاء اللجنة التحضيرية وموعد إقامة المهرجان ونظامه ومدته
سكرتير الرابطة
كامل زيتون
تأبين الرافعي
نشرت الرابطة العربية بياناً في الصحف اليومية والأسبوعية بأسماء حضرات أعضاء لجنة الاحتفال بتأبين فقيد العروبة والإسلام المرحوم السيد مصطفى صادق الرافعي، وبالموضوعات النثرية التي سيتناولها الأدباء في رثائه، وحددت موعداً لإقامة الحفلة في شهر أكتوبر المقبل، فتحركت لذلك عواطف أعيان الأدب وأمراء البيان وقادة الفكر في(210/74)
العالم العربي وأرسل إليها بعض حضراتهم ما جادت بهم قرائحهم الوقادة إشادة بأدب الفقيد الكبير وتقديرا لآرائه وبحوثه.
ولما كانت الرابطة معتزمة إصدار كتاب جامع لتاريخ حياة الفقيد، وبعض آثاره، وما يقال في رثائه شعراً ونثراً تخليداً لذكراه واعترافاً بمجهوده الجبار في خدمة العروبة والإسلام، وليكون نموذجاً حياً للأدب الخصب والثقافة العالية فهي تأمل في كتاب الشرق العربي وأدبائه، وأئمة البيان فيه وشعرائه، أن يبادروا بإرسال ما توحيه إليهم ضمائرهم المؤمنة بفلسفة الفقيد الكريم، والمقدرة لأدبه الحي الحديث والقديم، في أقرب وقت بعنوان سكرتير الرابطة بحدائق القبة شارع الملك رقم 112 حتى يكون لدى الرابطة متسع لإصدار هذا الكتاب يوم حفلة التأبين.
سكرتير اللجنة
كامل زيتون(210/75)
القصص
عزلة
للكاتب القصصي الفرنسي جي دي موباسان
ترجمة الأستاذ خليل هنداوي
وكان ذلك عقب غداء فشا على أثره طرب قوي، قال لي صديق قديم:
- هل لك بأن تجوز ممشى (الشانزليزيه) سعياً على الأقدام؟
انطلقنا بخطوات وئيدة، تظللنا أشجار في مطلع الإيراق، وقد هيمن السكون على تلك البقعة، ما عدا تمتمة مبهمة دائمة تصاعد من قلب (باريس)، ولقد تهب نغمات باردة تضرب وجوهنا، ومن فوقنا قناديل من نجوم تبسط على أديم السماء الأسود أزراراً ذهبية!
قال رفيقي:
- لست أدري لماذا أرى الليل - هنا - أجمل منه في مكان آخر؟
يخيل إلي أن أفكاري تتمدد في أرجائه، وأن في روحي هذه المسارب من النور الدافق التي تطمعني - خلال برهة واحدة - بأن اطلع على السر الإلهي للأشياء، ولكن سرعان ما توصد النافذة، فينتهي بإغلاقها كل شيء.
وكنا بين الذهلة والذهلة نلمح على الأرصفة شبحين متلاصقين يزلقان في الليل أو نمر بمقعد منعزل استوى عليه كائنان لا يراهما الرائي إلا نقطة سوداء. همس في أذني رفيقي: - إنهما لا يبعثان في فؤادي سأماً - ولكن إشفاقاً كبيراً، ومن كل أسرار الحياة لا يلوح لي إلا سر واحد يشغلني، وإن كل عناء في الحياة مصدره أننا نحيا دائماً منعزلين! وكل ما نبذل من جهودنا لا نريد به إلا الفرار من هذه العزلة. إن هؤلاء العشاق المنطرحين على المقاعد في الجو الطلق يفتشون مثلنا عما يخفف مضض انعزالهم - وما ذلك إلا عمر لحظة - ثم يظلون منعزلين ونحن أيضاً.
إنهم يحسون هذه العزلة، أقل أو أكثر منا، وهذا كل شيء. منذ حين أقاسي العذاب لأنني أدركت واكتشفت العزلة المروعة التي أحيا فيها، وعلمت أن لا شيء يستطيع أن يقضي عليها مهما جربنا، ومهما عملنا، ومهما ذهبت إليه خفقات أفئدتنا، ونجاوى شفاهنا، وضمات أذرعنا، فنحن دائماً نظل منعزلين.(210/76)
إنني قدتك هذا المساء إلى هذه النزهة، فراراً من لجوئي إلى بيتي، لأنني أتألم كثيراً من العزلة التي تهيمن على المنزل، وما عسى يجديني هذا؟ إنني أكلمك وأنت تسمعني، ونحن وحدنا جنباً إلى جنب، ولكننا منعزلان. . . .
يقول الكتاب المقدس: سعداء هم مساكين الأرواح، إن عندهم وهم السعادة، إنهم لا يشعرون بشقائنا المنعزل، ولا يبهتون مثلي في الحياة، لا يعرفون من اللمس إلا لمس المرافق، ولا يعلمون من الفرح إلا قناعتهم الأنانية بالفهم وبالنظر، وبالتنبؤ وبالتألم دون نهاية من إدراك عزلتنا الأبدية.
إنك لتراني مجنوناً! أليس كذلك؟
إنني بعد ما أحسست عزلة كياني، خيل إلي أنني أهوى يوماً فيوماً في مهوى مظلم لم يقع طرفي على حافة له، ولم أدرك له نهاية، وربما كان بلا غاية. فأفلت إليه وحدي دون رفيق معي ولا حولي، ولا سالكٍ طريقي المظلمة. هذا المهوى هو الحياة، وخلال ذلك كنت أسمع صخباً عالياً وصيحات وأصواتا فكنت أدنو من هذا الصخب المضطرب متسللا، ولكني لم أعلم علم الحق من أين مأتاه، وما ألفيت إنساناً، وما عثرت على يد أخرى ترتفع في هذا الظلام المسدل علي.
هنالك رجال مثلنا أحسوا هذا الألم الممض وتنبئوا به، منهم (موسى) الصائح:
(من جاء؛ ومن دعاني؟ لا أحد!
أنا وحدي! وهذه الساعة التي تدق
يا للعزلة! يا للشقاء!)
ولكن العزلة - عنده - ما كانت إلا شكاً طارقاً، ولم تكن حقيقة ثابتة كما هي عندي. أنه كان شاعراً، يؤنس الحياة بأخيلته وأحلامه. إنه لم يكن وحده أبداً. ولكني أراني وحدي وهنالك (غوستاف فلوبير) أحد كبار أبناء الشقاء في هذا الوجود، لأنه كان أحد عباقرته، كتب إلى صديقة له هذه العبارة اليائسة (نحن كلنا في صحراء؛ لا يفهم أحداً منا أحداً) بلى! لا يفهم أحد منا أحداً، فمهما فكروا، ومهما قالوا وجربوا فالأرض هل تعلم ما يجري على مسارح هذه الكواكب المنتشرة كذرة نارية في هذا الفضاء نرى منها على البعد صفاء بعضها، والأكثر عدداً منها ضائع في اللانهاية، وقد يؤلف القريب منها كلا واحدا كما هو(210/77)
الحال في ذرات الجسد.
وهكذا الإنسان لا يدري ما يجول في صدر رفيقه الإنسان وإن واحدنا لأكثر بعداً عن الآخر من هذه الكواكب السابحة، وأكثر اعتزالاً لأن الفكر لا يسبر غوره.
هل تعلم شيئاً أبعث على الهول من هذا التماس الخاطف في الأكوان الذي لا نستطيع إدراكه. إننا نحب بعضنا بعضا كأننا مقيدون مبسوطة أذرعنا دون أن نقدر على ضم. على أن حاجة ضرورية للاتحاد تؤلفنا، ولكن جهودنا لا تزال ضائعة، وثقتنا غير مجدية، وعناقنا ضعيف، وحناننا باطلاً، فإذا أردنا اتحاداً لم تعمل مطامعنا إلا على إقصاء واحدنا عن الثاني.
إنني ما شعرت أنني (واحد) إلا حين استسلم لصديقي وافتح قلبي له. إذ أفهم ذلك الحاجز القائم بيني وبينه. هو هنالك، ذلك الإنسان، أرى عينيه تسطعان حولي ولكن نفسه - وراءها - لا أدركها. هو يسمعني، ولكن فيم يفكر؟ أجل! فيم يفكر؟ إنك لا تفهم هذا القلق، إنه ربما يقليني، أو يحقرني، أو يسخر مني، إنه يفكر فيما أقول، يناقشني، يحكم علي، يراني أبله أو أحمق. وأنى لي أن أدرك ما يفكر فيه؟ وأنى لي أن أفهم هل يحبني كما أحبه؟ وما يجول في هذه الجمجمة المستديرة!؟ وأي سر هذا الفكر المجهول في كائن: الفكر المتواري الحر الذي لا نقدر على معرفته ولا قيادته، ولا الاستيلاء عليه، أو الظفر به؟
أنا، أردت بكل نفسي أن أسلم نفسي كما هي وأفتح أبواب نفسي جميعها. ولكني لم أقدر على هذا الإسلام كله، لأنني أصون في أعماق نفسي (مكان ذاتي الخفية) حيث لا يظهر أحد ولا يقدر أحد أن يكتشفه أو يدخله، لأنه لا أحد يشبهني، ولأنه لا أحد يفهم أحداً!
أفهمتني أنت الآن؟ كلا! إنك لتحكم علي بالجنون، إنك تتأمل في، وتحترز مني! وتسأل نفسك: (ماذا به هذا المساء؟ ولكنك إذا قدر لك يوماً أن تدرك موضع الألم في فعد إلي لتقول لي: (قد فهمتك!) وحينذاك تجعلني سعيداً - ولو عمر لحظة -
هن النساء اللواتي جعلنني أحسن تقبل وحدتي، آه كم تذوقت من الألم في سبيلهن! لأنهن منحني، أكثر من الرجال، التوهم بأنني لست وحيداً!
عندما يحب الإنسان يحس أن عالمه قد اتسع، وأن سعادة - فوق السعادة الإنسانية - تغمره. هل تعلم سبب ذلك؟ وهل تعلم مصدر هذه السعادة؟ يعود مصدره إلى أن الإنسان(210/78)
أعتقد بأنه ليس وحيدا. وأن العزلة أو الابتعاد عن الكيان الإنساني قد انتهى سلطانه، ويا للوهم!
المرأة هي اشد قلقاً منا بهذه الحاجة الملحة للحب الثابتة التي تأكل قلبنا المنعزل، وهي الأكذوبة الكبرى من الحلم إنك لتعرف هذه السويعات الجميلة التي نقضيها مع هذا الكائن التي طالت غدائر شعره، وراقت ملامحه أو فتكت لحاظه، فأي هذيان يملك علينا أرواحنا؟ وأي وهم يغمرنا؟
أنا وهي لم نكن إلا واحداً في هذه الساعة، ولكن هذه الساعة لن تحين، وبعد أسابيع انتظار وأمل وفرح خادع، أجد نفسي فجأة أكثر انعزالاً ووحدة من أي عهد مضى! فبعد كل قبلة وبعد كل عناق أجد العزلة تتسع آمادها، ويا لها من عزلة مروعة مؤلمة!
يقول الشاعر (سوللي برودوم)
ليس العطف والحنان إلا هيماناً مقلقاً
كلها تجاريب باطلة يقوم بها الحب التاعس مجربا (الاتحاد المحال) بين (الأرواح والأجساد)
وثم وداعاً، فقد انتهى كل شيء، على أن هنالك جهدا في معرفة المرأة التي كانت كل شيء لنا، وفي لحظة من الحياة، وما عرفنا ولن نعرف الفكرة الباطنة والسطحية من دون ريب! وفي الساعات ذاتها حيث يخيل إلينا أن الأكوان أصبحت في عهد اتحاد سري وامتزاج كامل للرغاب، تنزل إلى أعماق نفسها، وكلمة قد تكون تبدي خطأنا، وتطلعنا - كأنها البرق الوامض في الليل - على الهاوية التي تفصل بينها وبيننا!
وهنالك ما هو خير وأحسن في الوجود؛ أن تقضي أمسية مع امرأة تحبها دون أن تتكلم، سعيداً كل السعادة، مغتبطاً بمجرد قيامها إزاءك. حاذر أن تطلب أكثر من هذا، لأن امتزاج كائنين مستحيل.
أما أنا الآن فقد غلقت أبواب نفسي، لا أقول لأحد عما أعتقد، ولا أظهر ما أفكر، أنظر إلى الأشياء، وأنا عالم ما تحمله إلى العزلة المروعة - دون أن أعلن عنها، وما عسى تهمني الأفكار والمشاحنات والمسرات والاعتقادات؟ لا أستطيع أن أقاسم أحداً فكرة، نفسي تتنصل من كل شيء، وفكرتي الباطنة تظل خافية على الناس، وعندي جملة عامة لكي أجيب بها(210/79)
على الأسئلة التي تلقي علي كل نهار. وعندي ابتسامة تقول:
نعم! حين لا أكلف نفسي مشقة الكلام
لبثنا في مشينا حتى عرجنا في سيرنا على قوس النصر، ثم هبطنا ساحة (. . . .) وكان يعرض فكرته متهملاً وقد أضاعت ذاكرتي الشيء الكثير مما عرضه.
وقفت فجأة باسطاً يده نحو المسلة العالية المنتصبة الشامخ رأسها في النجوم المفنية القصية عن موطنها الحاملة تاريخ وطنها المنقوش بإشارات غريبة، وقد هتف صاحبي:
- إننا كلنا مثل هذه الأرض!
ثم غادرني دون أن ينبس بكلمة
أهو مجنون أم عاقل؟ لست ادري: ولكن يخيل إلي طوراً أنه على بينة من أمره، وطوراً أنه فقد عقله.
خليل هنداوي(210/80)
العدد 211 - بتاريخ: 19 - 07 - 1937(/)
الضعف في اللغة العربية
للأستاذ احمد أمين
أبنت في مقالي السابق أعراض الداء ووعدت القارئ أن أعرض في المقال التالي للعلاج
وقد قرأت في الصحف وصفا لعلاج قيل إن مكتب التفتيش في وزارة المعارف اقتراحه؛ وخلاصته زيادة الحصص للغة العربية، وتوسيع مكتبة التلميذ. وظن أن هذا علاج ليس كافياً ولا شافياً، وأنه لا يلاقي المرض في الصميم، وأنه لا يقدم في الموضوع ولا يؤخر، فلو ضاعفنا الحصص والمعلم على حاله من النقص، والمنهج كما هو من الضعف، لم نصل إلى نتيجة ولم تتحسن حالة المرض
إنما العلاج الحقيقي في إصلاح المعلم وما إليه من منهج وامتحان وتفتيش، فالمعلم الآن تخرجه ثلاث معاهد: دار العلوم والأزهر وقسم اللغة العربية في كلية الآداب. وكلها معيبة بعيوب ابنتها في مقالي السابق، فلابد للإصلاح من توحيد تلك الجهود الموزعة والاقتصار على معهد واحد يسلح بكل أنواع الأسلحة الملائمة
وعندي أن اصلح معهد لذلك هو (دار العلوم)، فتاريخها القديم في التعليم، وسبقها الأزهر في هذا الباب، يجعلان المصلحة في بقائها؛ وكذلك صبغتها الدينية، وما بين اللغة العربية والدين من صلة وثيقة يجعلها اصلح من قسم اللغة في كلية الآداب، ولكنها في شكلها الحاضر غير صالحة، بل لابد لصلاحيتها من أمور:
(1) فصلها عن وزارة المعارف وتبعيتها للجامعة أسوة لها بكل المدارس العليا التي كانت تابعة للوزارة كالمعلمين والهندسة والزراعة والتجارة. فالجامعة أوسع حرية واكثر استقلالا، والحرية والاستقلال اصلح للنحو العلمي والرقي العقلي
(2) إعادة النظر فيها من جديد: في نظامها وبرامجها، فقد بليت واكل عليها الدهر وشرب، ولم تعد أساليبها التي كانت صالحة منذ عشرين عاماً صالحة الآن؛ على أن يشرف على وضع هذه النظم جماعة من خيرة رجال مصر ثقافة وعقلا وسعة تفكير وعلماً بمناهج التربية
(3) أن تكون الدراسة فيها مقصورة على المواد العلمية، وبعد الانتهاء يدرس المتخرج سنة أو سنتين أساليب التربية في معهد التربية.(211/1)
(4) أن يعاد إنشاء تجهيزية دار العلوم لتغذي دار العلوم، على أن تكون مدرسة ثانوية تابعة للجامعة أيضا، ويعاد تنظيمها بخير مما كانت، فيتوسع فيها في الدراسة الدينية من قرآن وتفسير وحديث وما إلى ذلك، وتدرس فيها لغة أجنبية حتى يخرج الطالب منها مساوياً للطالب في المدارس الثانوية الأخرى ومتفوقاً في اللغة العربية والدين الإسلامي، وخريجو هذه المدرسة يغذون دار العلوم وقسم الفلسفة في كلية الآداب ونحو ذلك، ويكون في دار العلوم دروس في اللغة الأجنبية أيضاً تتمم ما درسه الطلبة في المدرسة الثانوية
(5) تكون الدراسة في دار العلوم دراسة قاسية شديدة دقيقة، في الانتقال وفي الامتحان، فلا يسمح لضعيف ولا متوسط الكفاية أن يخرج من هذه المدرسة لأنها ستكون - على ما اعتقد - أفعل مدرسة في رقي الأمة وتكوين عقليتها والنهوض بحياتها.
هذا هو في نظري أهم علاج لضعف اللغة العربية، فالحصة من هذا المعلم الكفء خير من مائة حصة من معلم غير كفء؛ وقديماً قالوا: (ضربة المعلم بألف)
ويلي هذا في الإصلاح إصلاح برامج التعليم؛ فالحق - كما قلت - أنها برامج متأخرة توضع على عجل وتنفذ على عجل، والفرق بين برنامج قديم وبرنامج حديث فرق ضعيف لا يمس الأصول. واذكر أن وزارة المعارف كانت كلفت ثلاثة كنت أحدهم في وضع برامج اللغة العربية سنة 1928، فاجتهدنا في النحو أن ندمج أبواباً بعضها في بعض ونحذف أبواباً لا يترتب عليها عمل في كتابة صحيحة أو نطق صحيح، وحذفنا كل منهج البلاغة القديم ووضعنا مكانه منهجاً جديداً كل الجدة، ولم نضع منهجاً لأدب اللغة إلا في السنتين الأخيرتين من المدارس الثانوية، أما السنوات الثلاث الأولى فقصرناها على قراءة نصوص في الأدب نثراً ونظما وتذوقها ومعرفة موضع الجودة فيها وتكليف الطلبة حفظ الكثير منها واحتذاءها، ولكن - مع الأسف - أهمل هذا المنهج بل وضاع أيضاً.
فمناهج اللغة العربية وخاصة في المدارس الثانوية تحتاج إلى ثورة تقلبها رأساً على عقب تبسط فيها المصطلحات وتحذف منها الأبواب القيمة ويقتصر فيها على ما ينتج استقامة اللسان والقلم
ولو ألف في وزارة المعارف هيئة فنية (مراقبة) للبرامج ووضعها وطريقة تنفذيها لكانت افضل من كل المراقبات الأخرى لأن هذا هو العمل الأساسي للوزارة وما عداه تبع له.(211/2)
وليس عمل برنامج اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية من الأمور السهلة، فهو يحتاج إلى دراسة المناهج السابقة من أول وضعها، ويحتاج إلى دراسة المناهج للغات الحية الأخرى في الأمم المختلفة للاستفادة منها والاتصال بتلاميذ المدارس في مراحلهم المختلفة لمعرفة مقدار عقليتهم وهكذا.
ثم الامتحان له كبير أثر في ضعف اللغة، لان التلاميذ عندنا اعتادوا أن يقرءوا للامتحان، ويتعلموا للامتحان، وبقدر صعوبة الامتحان والتشديد فيه تكون عناية الطلبة.
والامتحان في اللغة العربية معيب من وجهين: من وجهة ورقة الامتحان فأنها في اغلب شأنها نظرية لا عملية وتعتمد على الذاكرة والحفظ أكثر مما تعتمد على التفكير والعمل، واللغة أداة للتعبير، والغاية منها تقويم القلم واللسان فيجب أن يرمي الامتحان إلى هذه الغاية؛ أما أن تكون الأسئلة فيما هو التشبيه الضمني، وما هي الاستعارة المكنية، واثر الثقافة اليونانية في الثقافة العربية، فأسئلة لا يصح أن تكون في المرحلة الأولى ولا الثانية من التعليم، إنما تكون بعد أن يستكمل الطالب الجانب العملي
وكذلك من جهة التصحيح، فقد استولى على مصححي اللغة العربية نوع من العطف أشبه ما يكون بالعطف على المجرم فلا يعاقب؛ وبعطف إلام الجاهلة على أبنها فلا تؤدبه، وأخشى أن يكون هذا التقليد في تصحيح اللغة العربية موروثاً عن رجلين أحدهما المستر دنلوب وكان ينصح بالتساهل في اللغة العربية لأنه لم يكن يهمه أمر قوتها، وثانيهما المرحوم الشيخ حمزة فتح الله فقد طبع على الرحمة التي لا حد لها، وشاع عنه أن لكل مسالة وجهين، ثم انحدر هذا التقليد من السلف إلى الخلف
والمصححون يبنون تساهلهم على فكرتين باطلتين: أولاهما أن اللغة العربية هي اللغة الأصلية فلا يصح أن يرسب الطلبة فيها، وهذا خطأ، لان لغتنا الأصلية هي اللغة العامية لا اللغة العربية الفصحى وشتان ما بينهما، ولو كانت هي لغتنا الأصلية ما شكونا هذا الضعف؛ وثانيتهما غلبة الرحمة عليهم وقد أبنا ضررها.
وليس أدل على فساد الامتحان من حسن النتيجة المئوية مع ضعف الطلبة ضعفاً نضج منه جميعاً بالشكوى. أمن المعقول أن نلمس هذا الضعف ثم تكون نسبة النجاح فوق الثمانين في المائة؟(211/3)
كل هذا جعل التلاميذ يهزؤون باللغة العربية ولا يعيرونها التفاتاً، ويحترمون اللغة الأجنبية والرياضة لان الاحترام عندهم تابع لنسبة النجاح، فكلما كانت النسبة قليلة كانت العناية بالعلم أقوى؛ وليس ينسى أحد منا العبارة التي تدور على ألسنة الطلبة وهي أنهم إذا سمعوا طالباً يجتهد في استذكار اللغة العربية قالوا: له (وهل يسقط أحد في العربي؟)
ثم لهم طريقة في التصحيح ليست صحيحة، فهم لا يقومون الورقة ككل، ولكن يجزئونها جزيئات صغيرة ثم يضعون درجة على كل جزيء فيحدث أن الطالب يأتي بأخطاء شنيعة تدل على الجهل التام ومع ذلك ينجح، حتى يخيل إليّ أن التلميذ إذا أعرب (في البيت) في حرف جر والبيت مفعول به منصوب لأعطوه 50 % على صحة إعرابه (في) وخطئه في إعرابه (البيت)
ومالي اذهب بعيداً وقد حدث في هذا العام أن كانت فتاة قريبة لي تمتحن في البكالوريا، فجاءت يوم امتحان اللغة العربية وقالت: لقد أعربت (كفى حزناً) كفى فعل أمر وحزناً مفعول به، أليس كذلك؟ فقلت: نعم ليس كذلك، وقالت: لقد قلت إن من خطباء العصر الأموي أبا بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، أليس كذلك؟ فقلت أيضاً: نعم ليس كذلك، وأطلعتني على بقية الأجوبة فأيقنت برسوبها؛ ولو كان لي الأمر ما أنجحتها مهما أجادت بعد هاتين الغلطتين الفظيعتين، ولكني دهشت اشد الدهش لنجاحها!
أنا كفيل بأن سنة واحدة توضع فيها ورقة الامتحان عملية اكثر منها نظرية، ويشدد فيها في التصحيح شدة حازمة تساوي الشدة في تصحيح الرياضة واللغة الأجنبية، كافية في أن يوجه الطلبة عنايتهم الكبرى للغة العربية فيزول الضعف وتحسن النتيجة
ولا ننسى أن التفتيش بعد ذلك له أثره، فلو حدد الغرض منه لبانت قوته الحالية أو ضعفه، فليس المفتش جاسوساً يضبط الجريمة، ولا هو عدّاد يعد موضوعات الإنشاء والتمرينات، ولا غرضه الأول أن يقول إن كلمة كذا ليست في القاموس، كلا ولا غرضه الأول أن يكتب عن المدرس أنه جيد أو ممتاز أو ضعيف، إنما مهمته الأولى حسن توجيه المعلمين إلى تحقيق الغرض من دراسة اللغة العربية والوصول بالطلبة والمدرسين والكتب والمناهج إلى أرقى حد مستطاع، وبمقدار تحقيق هذا الغرض أو عدم تحقيقه يكون الحكم على قيمة التفتيش(211/4)
إذا اصلح المعلم والمنهج والامتحان والتفتيش صلحت اللغة العربية في المدارس. وهذا هو العلاج الوحيد الصحيح، أما ماعداه فعلاج غير حاسم ولا ناجع
أحمد أمين(211/5)
أدب الموافقة
للأستاذ عباس محمود العقاد
(أعتقد أن قيمة الكاتب موصولة صلة خفية بمقدار ما يستجيشه من روح الثورة. ولعليّ أقترب من صحة التعبير إذا قلت روح المقاومة. إذ لست من الحمق بحيث أتخيل أن كتاب الجناح الأيسر وحدهم هم أصحاب المزية الفنية)
(قلت محتجاً على صاحبي: إن أجمل الآثار الفنية ومنها الآثار التي يكتب لها الشيوع بعد ظهورها كثيراً ما كانت في بداية الأمر مقصورة في عرفان قدرها على فئة جد قليلة. وناولته كتاباً أتفق أن كان معي ساعتئذ قائلاً: إليك فاقرأ. إن بيتهوفن نفسه قد جرى عليه مثل ذلك)
ستدفعون الفنانين بينكم إلى الموافقة. ومن أبى من خيرتهم المنتقاة أن يبتذل فنه ألجأتموه إلى السكوت، فتعود الثقافة التي تزعمون خدمتها وإيضاحها والذود عنها وهي وصمة عار عليكم)
(مهما يكن من جمال العمل الفني في بلاد الجمهوريات الشيوعية الروسية فهو يعيب صاحبه إن لم يكن على النسق المرسوم. إن الجمال عندهم خلة من خلال الموسرين! ومهما يكن من عبقرية الفنان فهو مصدوف عنه عفواً أو قسراً إن يعمل على النسق المرسوم، فكل ما يطلب منهم الموافقة، وهو ضامن بعدها كل ما عدا ذلك)
(إذا أضطر العقل اضطراراً إلى الإذعان لكلمة الأمر فأقل ما هنالك أنه قادر على الإحساس بفقد الحرية. أما إذا سيس العقل من بداية الأمر سياسة توحي إليه أن يذعن قبل أن تأتيه كلمة الأمر فقد بلغ من فقده أن يفقد حتى الشعور بالاستعباد. وإني لأعرف من اجل هذا أن كثيراً من الفتيان الشيوعيين يستغربون ويمنعون في الإنكار إذا قيل لهم أنهم محرمون نعمة الحرية)
(إن خير الوسائل التي يبلغ بها الكاتب مزيته العالمية لهي مواهبه المتفردة كل التفرد. لأن المرء إنما يكون بشراً عريق الإنسانية بفرط ما فيه من الخصال الفردية، فما كان روسي أعرق روسية من مكسيكم جوركي، وما أصغت أسماع العالم إلى كاتب روسي أشد من إصغائها إليه)(211/6)
تلك شذرات من الكتيب اللطيف الطريف الذي كتبه الأديب الفرنسي الكبير (أندريه جيد) بعد عودته من البلاد الروسية، متحريا فيه ما تعود أن يتحراه من الصدق والصراحة والاعتراف بالخطأ والأنفة والإصرار عليه ذهابا مع الغرور والكبرياء. وقد كان من نصراء الدولة الروسية الحديثة وأصحاب الرجاء العظيم في تجاربها ومساعيها، فلما شهد الحقيقة بعينيه لم يخادع نفسه ولم يغالط حسه، وعاد يأسى ويأسف في لهجة منزهة من الضغينة والتشهير، ولكنها تشف عن خيبة الرجاء في كثير من الأمور
فالثقافة هي مقياس الصلاح في كل نظام
أما مقياس الثقافة فهو الابتكار والحرية، أو هو (المزايا الشخصية) التي يعبر عنها الفنان والشاعر والكاتب كما قررنا ذلك واعدنا تقريره مرات، ولا نظنه اليوم في غنى عن التقرير
لا أمل في نظام حكومي أو نظام اجتماعي لا تقترن به ثقافة العلوم وثقافة الفنون
ولا أمل في ثقافة نعرف ما تنتجه قبل أن ينتج، ونستغني عما تصوغه قبل أن نطلع عليه، لأنه لن يعدو ما نعلم وما نظن من موضوع ومن غاية ومن قالب ومن تصوير وتفكير
وقد نسى (جيد) أن الكاتب الروسي في ظل الشيوعية مطالب بشيء غير (الموافقة) واصعب تحصيلا على طالبه من الموافقة! لأنه إذا وافق الروسيين الخاضعين للأمر والوحي والإلهام فمن الواجب أن لا يوافق القراء الغرباء الذين لا يخضعون لأمر ولا يصدرون عن وحي أو الهام. وويل للكاتب الروسي الذي يصاب باستحسان العالم لما يكتب ويبتلى بتقريظ النقاد في بلاد راس المال لما يمثله من شعور ويرمز إليه من آمال ويشابه به الآدميين الموسرين من عواطف وأحلام وأفكار
تلك إذن خيانة، تلك إذن مخالسة وخديعة، تلك إذن مؤامرة بين الكاتب وبين نظام راس المال، ويكفي أن يتشابه الإنسان الشيوعي والإنسان (البورجوازي) في بعض العواطف والأحلام لتثبت دلائل المؤامرة كل الثبوت، أو يثبت شذوذ الكاتب عن خلائق الشيوعيين، لأنه إنسان كسائر الناس!!
ومن أضاحيك القوم أن تصدر رواية لبعض أعلامهم بالإنجليزية والفرنسية والشيكية ولما تصدر بالروسية، ونعني بها رواية (نحن) لمؤلفها الكاتب الروسي النابغ (زمياتين) الذي(211/7)
يدين بالثورة ولكنه يدين بآمال لبني الإنسان وراء آمال الشيوعيين. . . . فيقول الناقدون الحكوميون الحصفاء: وماذا عسى أن تكون تلك الآمال؟ أليس هذا دليلاً على أن الكاتب يخامره شعور كشعور الموسرين الذين فقدوا غنائمهم فهم أبداً في حنين إلى حال وراء هذا الحال؟!
وحقت اللعنة على زمياتين لأنه يحظى بالشهرة والمتابعة بين أناس من الآدميين البورجوازيين. فضاع الرجل في بلاده ولم يغن عنه إعجاب القراء في غيرها، ولم يؤذن له أن يكون إنسانا لأن الإنسانية تشمل الناس جميعاً. أما الشيوعية فلا ينبغي أن تشمل أحداً غير الشيوعيين!. .
ونحسب أن المقاييس كلها عرضة للضلال والحيرة والاشتباه. إلا مقياس الحرية الفنية فهو وحده حسب الباحث من قياس صحيح واف لمراتب الأمم وفضائل المجتمعات ومآثر الحكومات
فلا حرية - حق حرية - حيث تتقيد الثقافة الفنية، ولا استبعاد - حق الاستبعاد - حيث تنطلق الثقافة الفنية من قيودها
وبهذا المقياس الصادق المحكم ننفذ إلى الصميم من وراء الأغشية والظواهر ولا نقصر الحكم على الحرية التي تمثلها الشرائع ودساتير الحكومات
فرب أمة لا تشتمل قوانينها على خرف واحد يحرم الابتكار والحرية، بل تنص القوانين فيها على حرية الرأي وحرية الإبداع والتصوير، ثم يظهر (الأثر الفني) فيها فتضيق به الصدور وتشيح عنه الأبصار وتتلاحق الكوارث على رأس صاحبه، لأنه يقول ما لا يعجب الناس وإن لم يقل ما يخالف القوانين ويناقض الدساتير
تلك أمة من العبيد وإن قيل على الورق إنها أمة من الأحرار. وشر ما فيها إنها مستعبدة مقهورة بغير حراس وغير قيود وغير طغاة، ولو كان استعبادها من حراسها وقيودها وطغاتها لزال الاستعباد حين يزول جميع هؤلاء
ورب أمة تزدحم الأوراق فيها بتحريم هذا وعقوبة ذاك ولا تنقطع فيها مبدعات الجمال وآيات الفنون فترة من الفترات. فارجع إلى مقاييس القوانين كلها تقل لك إنها أمة مغلوبة مسلوبة، وارجع إلى مقياس الفن وحده يقل لك ما هو اصدق واعمق، وهو أن السعة سعة(211/8)
النفوس والأذهان لا سعة الدساتير المسطورة على الأوراق؛ وإن نفساً تتسع للإبداع الحديث وترحب بالرأي الغريب وتستقبل النوازع النفسية والخوالج الفنية بغير حدود ولا أرصاد لهي حرة في غنى عن الإذن لها بالحرية، وهي وشيكة أن تنفض عن كواهلها كل ثقل يحول بينها وبين العمل الطليق
شر الآداب هو أدب الموافقة والمجاراة، لكننا نخطئ إذا حسبنا الحكومات الغاشمة علة هذا الأدب دون سائر العلل التي تفرضه على الكتاب والقراء
فالأدب التجاري أدب موافقة ومجاراة وإن لم تفرضه حكومة ولم يطلبه حاكم غاشم. لأن الذي يكتب للرواج يكتب ما يوافق الأذواق ويجاري الأهواء ولا يكتب ما ينبعث من سليقة حرة وقريحة شاعرة، والذنب في ذلك على الأخلاق لا على القوانين
والأدب الضعيف أدب موافقة ومجاراة وإن لم تفرضه حكومة ولم يطلبه حاكم غاشم، لأن النفس الضعيفة لن تهتدي إلى القوة ولو أخلى لها الحاكم طريقها. فهي توافق وتجاري عجزا عن الخلاف والانفراد، لا خوفاً من التفكير الطليق والقول الصريح
والأدب الجامد أدب موافقة ومجاراة، لأنه ينافر الحركة ويوافق السكون والركود
والأدب الذليل أدب موافقة ومجاراة، لأن الذليل لا يحسن غير التمليق والازدلاف، ولن يكون الملق إلا بالموافقة ولو كانت غير ماجورة، وبالمجاراة ولو كانت غير مشكورة
وما من عيب تعيله على أدب من الآداب إلا انتهى في قراره إلى أن يكون ضرباً من الموافقة ونقصاً في الحرية والإبداع، فالموافقة لا جديد فيها ولا حاجة إليها ولا دوام لها، وإنما تولع النفوس بالأدب لأنها متغيرة وليست براكدة، ولأنها متطلعة وليست بعمياء، وكيف يتفق التغير والمطابقة؟ وكيف يتمشى التطلع والاستقرار؟
إلا إننا نبادر فنقول إن أناساً يتمردون ولا يجيئون بخير مما هو منظور من الأدباء الموافقين المستسلمين، لأن التمرد المصطنع إن هو إلا موافقة مستورة ومجاراة معكوسة، فيه كل ما يؤخذ على التقليد من نقص وكل مما ينعى عليه من وخامة، وذلك ما نعود إلى تفصيله في مقال تال
عباس محمود العقاد(211/9)
منتسكيو آراؤه ومثله
للأستاذ إسماعيل مظهر
إن أسم منتسكيو لأسم عظيم. والأثر الذي خلفته أعماله ينزل من الخلود في داخل أوربا وفي خارجها منزلة تمهد لمن يريد أن يترجم له أن يتصل به منتحيا طرقاً شتى ومداخل متفرقة. ذلك بأن أعمال هذا الرجل العظيم قد تركت أثراً رئيسياً في جميع ما ظهر في عالم الفكر من النظريات السياسية، حتى أن كاتباً من اشهر كتاب هذا العصر قد ذهب في نقد نظرياته مذهباً قضى فيها بأنها أول ما مهد لظهور فكرة (العقد الاجتماعي) التي كونها (رُوسُو) ودافع عنها أبلغ دفاع. ولا شك في أنك تبهر بعبقرية هذا الإنسان الفذ إذا علمت أن نظرياته السياسية كانت العمدة في صوغ دستور الولايات المتحدة، ومن هنا كان اثر (منتسكيو) عظيماً في الترويج للفكرات والمبادئ التي قام عليها الدستور الإنجليزي، كما كانت باكورة الدراسات العميقة التي تناولت بدايات التكوين السياسي الذي نشأ في فرنسا خلال القرون الوسطى. فكان بمجموعه أعماله ودراساته وأفكاره من الرجال الذين عبَّدوا الطريق للثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر
لهذا يجدر بنا أن نمهد للكلام في الترجمة له بذكر شيء من الأطوار التي تقلبت فيها حياته السياسية. فقد كان (منتسكيو) رئيساً لمحكمة (بوردو) العليا، وهي أول هيئة تشريعية إقليمية كانت في فرنسا. وكان أعضاؤها يطمعون في أن يكون لهم مقاعد في محكمة باريس العليا. غير أن محكمة العاصمة الكبرى لم تذعن لهذا المطلب. لهذا ظلت النزعة (البرلمانية) جلية الأثر جد الجلاء في كل ما كتب (منتسكيو)، بالرغم مما كان يطنب فيه من الالمامات التاريخية المستفيضة وتعلقه في مجال البحث الاجتماعي بمعالجة مشكلات أوربا خاصة؛ والإنسانية عامة. فيجب أن نعي إذن ذلك الأثر المزدوج الذي أحدثته المحاكم العليا في تاريخ فرنسا. فإنها كانت حتى نهاية القرن السادس عشر الأداة الرئيسة التي اتخذتها الملوكية المركزية، ذريعة لمدِّ نفوذها، وتثبيت سلطانها، اتقاء لنفوذ النبلاء ومطامعهم من ناحية، ودرءاً لسلطان الكنيسة من ناحية أخرى. وكانت هذه الأداة مجدية في إضعاف نفوذ النبلاء الموروث، وهو نفوذ يتضمن فيما يتضمن سلطاناً واسعاً، مالياً وإدارياً
وكانت الخطة أن تقرر المحاكم العليا أن من حقها النظر في (الدعاوى الملكية) التي كان(211/10)
كبراء أصحاب القطائع يرغبون في أن تنظر أمام محاكمهم الخاصة. وكذلك قررت تلك المحاكم على اختلافها، أن من حقها النظر في الدعاوى التي يقتضي النظر فيها انتقاصاً من سلطان الكنيسة، قضائياً ومالياً. ولا شك في أن القوة الباطشة التي حازتها الملوكية المركزية في فرنسا في القرن السابع عشر، كانت نتيجة لأشياء ثلاثة: الجيش، ومجلس البلاط، والمحاكم العليا
ولم تكن المحاكم العليا عند أول نشأتها في فرنسا، إلا جزءاً من مجلس البلاط. وكان من أثر هذه المحاكم كما يقول (هانوتو) أن احتفظت فرنسا بوحدتها، ولم تمزق ولايات متفرقة
وفي أخريات القرن السادس عشر حدث انقلاب، ساد محاكم فرنسا العليا، وظهر أثره واضحاً في روحها المعنوية وفي عملها. فإنها بدأت تستمسك بقوة بكل ما يدعي الملك من حقوق الدولة، لتقضي بذلك على ما بقي لكبار أصحاب القطائع ورؤساء الكنائس من الامتيازات. غير أنها، بجانب هذا، بدأت تظهر بمظهر الأداة المستقلة عن إرادة الملك أيضا. فكانت بطبيعة تكوينها وتاريخها، الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تعارض إرادة الملك آمنة رخية البال. ذلك بأن أعضاء هذه المحاكم كانوا يملكون بالوراثة حق الجلوس فيها. ولم يكن من الهين أن يسلب واحد منهم حقه فيها، حتى أن (رشيليو) في كتابه (العهد السياسي)، قد عبر بعمق عن الأخطار التي يجوز أن يواجهها العرش من نفوذ أعضاء المحاكم العليا، أو من مسلكهم الذي يسلكونه عند الضرورة. وعصر (الفروند) والسنوات الأخيرة من حكم الملك لويس الخامس عشر، وقد حققت كل ما جال في مخيلة (رشيليو) من المخاوف. ومجمل ما نرمي إليه من هذا كله أن نوضح أن (منتسكيو) كان يرى أنَّ الوظيفة الأولى للمحاكم العليا إنما هي في أن تصمد لقوة الملك وأن تحد من سلطانه: قال:
(إن هذه الهيئات - المحاكم العليا - من أبعد الأشياء تلاؤماً مع طبع الملوك. فإن أعضاؤها كثيراً ما ينغصون على الملك بسرد حقائق غير مرغوب في سماعها ولا يتصلون بالملك إلا لعرض الشكايات الحق. وأنت إذ ترى أن فئة البطانة الملكية تلقي في سمع الملك دائماً أن الشعب في رغد وسعادة في ظل الحكومة، إذا بتلك المحاكم تظهر ما في أقوال هؤلاء من كذب ونفاق، وتقرع مسامع العرش، حيناً بعد حين، بصدى تلك الأنات العميقة الجافية التي تتنفس عنها صدور أولئك الذين يمثلونهم)(211/11)
كتب منتسكيو بضع عبارات بالغة منتهى الجودة والإبداع حلل فيها نفسيته، وصور بها أخلاقه ويحسن بنا أن ننقل بعض فقرات منها؛ وذلك أقوم سبيل تعرف به شيئاً من حقيقة منتسكيو:
يقول أنه وهب حساً عميقاً جعله يقدس معنى الصداقة، فلم يجازف بإن يخلع نعت الصديق على كل من أتصل بهم من الناس؛ ولذا يذكر، ولعله يذكر بحق، أنه لم يفقد طوال حياته غير صديق واحد.
وكان خجولاً، حتى أن الخجل كان مصيبته الخلقية الكبرى؛ قال:
(يخيل إليّ أن الخجل يغشّي على كل أعضائي الجسمانية، فيربط لساني، ويظلم افكاري، ويقضي على كل ما عندي من قدرة على التعبير. ومن العجيب أني أقل تعرضاً لنوبات الخجل في حضرة ذوي الألباب مني في حضرة الحمقى والمغمورين)
فلا عجب إذن إذا رأينا (منتسكيو) يمقت كل المقت ذلك الجو الخانق الذي كان يأنسه في البطانات الملكية؛ قال:
(لم أجهد نفسي في أن أسعد وأربى من طريق البطانة. وإنما أمَّلت دائماً أن أثري من عملي في ضياعي، وأن أتلقى الخير من يد الآلهة لا من يد البشر).
وليس لنا بعد هذا أن نعجب من أن (منتسكيو) كان لا يرى سبيلا للفرار من متاعب الحياة إلا بالنزوع إلى أسمى ما تتجه إليه الأنفس الأبيَّة، المتطلعة إلى المثل العليا، والغايات السامية؛ قال: -
(كان الإكباب على الدرس والتحصيل الدواء الواحد الذي استطعت أن أنجو به من كثير من مرارات الحياة. ولم آنس في الحياة من حرج، لا تكفي ساعة واحدة اقضيها في القراءة، لكي تذهب بكل آثاره من نفسي)
وكان عريض الأمل، شامل النظر، كلي المرامي، أنساني النزعة، فإن الثورة الفرنسية، وهو من اكبر الممهدين لها، لم تلبث أن استقوت عليها بعد قليل الروح القومية، فأسلمت نابليون قيادها، وألقت بين يديه بروحها؛ تلك الروح التي كانت أكبر الأسباب في انتصاراته؛ غير أن سيل الفكر الجارف الذي تقدم شبوب الثورة، كان من غير شك، ذا صبغة إنسانية. ومن كلمات منتسكيو ننقلها هنا يتضح لك الاتجاه الحقيقي للفكر الفرنسي(211/12)
قبيل الثورة العظمى؛ قال:
(إذا وضح لي أن شيئاً من الأشياء لي فيه نفع، ولكنه مضر بأسرتي، فإني أنفيه من عقلي، واطرده من مخيلتي. وإذا وقعت على شيء نافع لاسرتي، ولكنه مضر بوطني، فإني اجتهد في أن أنساه. أما إذا سقطت على شيء مفيد لوطني، ولكنه مضر بأوربا، أو بالسلالة البشرية، فاقل ما اعتبر أن نيله جريمة كبرى.)
وكان لمنتسكيو نظرات فلسفية عميقة في حقيقة الخلق الإنساني، طبقها واتخذها في الحياة إماماً. وكان ككل الفلاسفة العمليين الذين درجوا من قبله يعتقد أن اللذة والألم دستور السلوك الإنساني. ولكنها اللذة التي لا تطفر فتصير شهوة، والألم الذي يحتمل بصبر وشجاعة في سبيل تحقيق المثاليات؛ وقال:
(إن دورة عقلي قد هيئت، لحسن الحظ، بحيث تجعلني شديد الحساسية فأتأثر بالأشياء ابتغاء الاستمتاع بها. ولكن لم تبلغ حساسيتي بالأشياء حداً يجعلني أتألم من فواتها)
من هنا نستطيع أن نؤلف صورة تدلنا على شيء من حقيقة (منتسكيو)، وهذا كافٍ للتعريف به. ولهذا ننتقل إلى الكلام في مبادئه ونظرياته السياسية، فإنها أخص ما يعلق بالذهن كلما ذكر أسم (منتسكيو)
إذا شرعت تقرأ كتاب منتسكيو (روح القوانين)، وضحت لك صورتان جليتان: الأولى، رجوعه في التدليل على نظرياته إلى التاريخ؛ والثانية: نزعته إلى أحكام الآخرة بين النظرية السياسية، والعلوم الطبيعية. وللصورتين أهميتهما القصوى في التعريف بمنتسكيو ودرس مذاهبه. ناهيك بأنهما بداية ذلك التطور الفكري الكبير الذي تناول منازع هذا الرجل العظيم منذ نشأته مُفكِّراً، حتى تمام تكوينه كقوة عظيمة، أثرت ولا تزال تؤثر، في مناحي الفكر والعمل الإنساني
كان (منتسكيو) مفرط العناية بقراءة التاريخ. ولن تبالغ إذا قلت أنه كان بالتاريخ أشد هياماً من (روسو). ذلك إلى أنه أوسع من (فولتير) نظراً، واشمل إحاطة، وانزع إلى معالجة المشكلات الاجتماعية. ومع كل هذا فإن معرفته بالتاريخ مقيسة على مفهومه الحديث، كانت ضيقة محدودة. وكان من المحتوم أن يكون علمه بالتاريخ ضيق الحدود؛ إذا وعينا أن التاريخ الحديث خلق جديد من مخلوقات القرن الثامن عشر(211/13)
كانت معرفة (منتسكيو) بحوادث التاريخ تامة، بالغة منتهى الضبط والإحاطة. ولقد حوى كتابه (عظمة الرومان وانحطاطهم) أسمى صور البلاغة، وجمال الأسلوب. بل إنك لا تقول شططا إذا قضيت بأن اكثر النظريات التحليلية التي بثها فيه (منتسكيو) عند الكلام في أربعة القرون التي أظلت نشوء النصرانية، سبقاً وتعقيباً، كانت عادلة متزنة، لا هي إلى الإفراط ولا هي إلى التفريط، ولقد كتبت الفصول الأولى من هذا الكتاب في عصر لم يكن سلطان النقد قد تناول فيه التاريخ بعد؛ فإنه كتبها قبل ظهور كتاب (تييوهر) الذي يعد الفتح الأول للنقد في مجال التاريخ. وكانت آراؤه في القيصرية الرومانية الغربية وسبب انحلالها نفس الآراء التي ذاعت في سبب انحلال القيصرية البوزنطية. وتلك وجهة من النظر التاريخي ذاعت في القرن الثامن عشر؛ ومن حسن الحظ أن البحوث التي ظهرت في خلال نصف القرن الماضي، قد طهَّرت منها عقول المؤرخين، تطهيراً كاملاً
وكان (منتسكيو)، إلى هذا، محيطاً بتاريخ رومية أوسع إحاطة، فاهماً جوهره أقوم فهم، ملماً بعناصره أمتن إلمام. ولكن معرفته بتاريخ اليونان كانت بغير شك أقل من معرفته بتاريخ رومية. وكتاباته في تاريخ العصور الوسطى؟، لا تخرج عن كتابات مُلِمٍّ بالآثار البدائية (الأرخيولوجيا) لا بالتاريخ
أما معرفته بتاريخ فرنسا فكانت شاملة، وبخاصة تاريخها في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ ولا شبهة في أنه كان محيطاً بتاريخ العصر الذي عاش فيه. وكان شديد العناية بدرس تاريخ إنجلترا، مشغوفاً بمسائله ومشكلاته. ولكن نظرته فيه كانت شاذة بالرغم من طرافتها
ولم يهمل (منتسكيو) التاريخ العام، الذي يعتبر تاريخ رومية وفرنسا وإنجلترا، أجزاء منه ونتفاً؛ بل زوده بعناية الدرس والتحصيل. فإن تاريخ مصر وبابل والهند والصين واليابان وشعوب خط الاستواء، وشعوب الجمد الشمالي، كانت ماثلة له حية في مخيلته. ولكن لم يكن الزمان قد زود المشتغلين بالتاريخ بعد بمادة يستخرجون بها من ماضي الشعوب صوراً واضحة جلية
يظهرنا هذا على أن عنايته بالتاريخ كانت كبيرة ولكن من الخطأ أن نتصور أن فلسفته السياسية كانت مستمدة من معرفته بالتاريخ، أو مستندة إليها؛ فإنك إذا مضيت تماثل بين ما(211/14)
كتب أرسطوطاليس أو لادويرابس، وبين ما كتب (منتسكيو) وقعت على الفارق العظيم، والصدع النائي الذي يفصل (منتسكيو) في العصور التي تقدمته، والعصور التي تلته، وجملة الفارق بين الأساليب التي اتبعها القدماء والأساليب التي انتحاها المحدثون. فإن (منتسكيو) كان يتخذ من التاريخ مضربا للأمثال والمثلات، ليؤيد وجهة نظره، ولكنه لم يستمد من التاريخ بالذات تلك الآراء التي قامت عليها نظرياته السياسية، وليس عندنا من دليل على هذا أقوم من الدليل الذي ترجع فيه إلى الفصل الثامن من كتابه (روح القوانين) إذ يقول:
(كما أن الديمقراطيات تفسد وتنهار باعتداء الأمم على المحاكم العليا - البرلمان - والحكام والقضاة، واستلاب حقوقهم وخصائصهم، كذلك تسقط الملوكيات، أو هي تأخذ في الانحلال إذا مضت تسلب النقابات والجمعيات والمدن امتيازاتها الطبيعية والحالة الأولى مظهر لاستبداد الجماعات، والثانية مظهر لاستبداد الفرد.)
(إن السبب الذي اسقط أسرتي (تسن) و (سووي) كما يقول مؤلف صيني، إنما يرجع إلى أن أمراء الأسرتين لم يكتفوا من الحكم بالأشراف الأعلى على شؤون الدولة، كما كان شأن الأمراء في الأسر اللواتي سبقت في الحكم، وكما هو طبيعي أن يكون في ملوكيات رشيدة؛ بل حاولوا أن يتحكموا ويحكموا في كل شأن من الشئون بأنفسهم، وبغير واسطة. وكلمات هذا المؤلف الصيني، تعبر عن الأسباب التي يعود إليها سقوط الملوكيات في كل الأزمان.)
(إنما تسقط الملوكيات بأن تقوم في نفس الملك شهوة أن يظهر جبروته وسلطانه، فيحرِّف النظم المقررة ويفسدها، بدل أن يحافظ عليها ويرعاها. ومثل ذلك أن يغتصب الحقوق والامتيازات التي تقوم عليها بعض النظم من يد فئة، ويهبها باختياره، ولمجرد إشباع شهوته، لفئة أخرى، وان يحكم خياله وتصوراته في شؤون الدولة؛ دون عقله ونهاه.)
(تنهار ملوكية عندما يقدم ملك يحاول أن يحصر كل شيء في ذاته. فيركز الحكومة في عاصمته، ويركز العاصمة في بطانته وحاشيته، ويركز البطانة في ذاته؛ وفوق كل هذا يكون سقوط الملوكية سريعاً مروعِّاً، عندما يسيء الملك فهم سلطته ومركزه، وحب شعبه له، وعندما يغيب عن فهمه أنه يجب أن يشعر دائما بأنه في أمن وسلام، قدر ما يشعر المستبد القاهر أنه دائماً في خطر) أهـ(211/15)
فهل من شك في أن (منتسكيو)، وهو رئيس محكمة (بوردو) العليا إنما يعبر بهذا عما قام في ذهنه عن ملوكية لويس الرابع عشر وخلفه، وأنه ذلك المؤلف الصيني، الذي يخيل إلينا أنه لم يوجد إلا في مخيلة مؤلف (روح القوانين) لم يقحم في هذا الموقف إلا ليكون مادة لضرب المثل، وإظهار المثلة؟ ليس هذا ببعيد. ذلك بأن (منتسكيو) يعرف تمام المعرفة، كما ذكر في غير الموطن الذي نقلنا عنه هذا القول، أن الملوكيات كثيراً ما فسدت وانحلت متأثرة بأسباب تختلف كل الاختلاف عن الأسباب التي ذكرها.
كذلك لا يستطيع المؤرخ أن يعزو كبير قيمة لنزعة هذا العبقري إلى الاستعانة بالعلوم الطبيعية. فإن قوله بأثر البيئة الطبيعية كان أمراً له في البحوث الاجتماعية والسياسية، إلى جانب الجدة والحداثة، خطره العلمي. غير أن هذا البحث مجلُواً في الصورة التي لابسته في ما كتب (منتسكيو)، وفي الصورة المحرفة التي ظهر بها في بحوث (روسو) لن يجد فيه المفكر الحديث مقنعاً، أو يقع فيه على حقيقة تنقع الغلة. فلقد عالج تطبيق العلوم الطبيعية على الاجتماعيات من وجهة هي على غرابتها وبعدها عن مناحي الفكر الحديث، تثير عند المحدثين اللذين يعرفون مرامي العلم العملي ومنازعه. كثيراً من الاستخفاف بها، والسخرية منها. ومثلنا على ذلك ما عالج به حالات إنجلترا الاجتماعية من الآراء التي بثها في فصلين من (روح القوانين) فإن آراؤه التي بثها في ذينك الفصلين، تحمل على القول بأن (منتسكيو) كان فيها إلى الهزل والمجانة. اقرب منه إلى الجد. ويزيدني بهذا الأمر ثقة أن فلاسفة القرن الثامن عشر لم يتعففوا عن النزعة إلى المجون، بجانب ما كان فيهم من حب النفع العلمي، والاستقامة في التفكير. وعندي أن (منتسكيو) لم يرم بما كتب في الفصلين السالفين إلا إلى الاستخفاف بقرائه الإنجليز. وما قولك في رجل يبدأ البيان عن حالات الإنجليز الاجتماعية بالكلام في تأثير طقس بلادهم، فيعزو إليه نزعة الإنجليز إلى الانتحار! ثم يحاول أن يعلل الصورة التي تلابس ميولهم القومية، فيقول أنها ترجع إلى صف الاستعداد الطبيعي على ترشح العصارة العصبية. وهذا قول لا يكفي أن يكون سبباً في تعليل ميول الإنجليز القومية لا غير، بل يكفي للقول بأن الشعب الإنجليزي مقضي عليه بالفناء جميعاً.
وهو يحاول في فصل تال أن يفسر تأثير ذلك الأمر على شكل الحكومة الإنجليزية فيقول(211/16)
أن سلالة لها استعدادها في التأثر بالاستثارات المختلفة وقلة ثباتها على شيء، لن تصبر على حكومة تلقي مقاليدها في يد فرد واحد، فلا لقوم خارجة على سلطان الحكومة وعلى سلطانه، وإنه من الطبيعي أن تحلم أمة غرس فيها طقس البقعة التي تسكنها من كرة الأرض خليقة القلق والجزع، بحيث لا تحتمل البقاء على حالة بعينها، أو الصبر على شيء بذاته، بقوانين مستخلصة من التجارب، فيكون من الصعب نبذها والنزوع إلى غيرها. ويخلص (منتسكيو) من هذا إلى رأي أعجب من كل آرائه الآخر، مؤداه أن الدستور الإنجليزي، إنما هو جني الضباب الذي يحط على بلادهم. أضف إلى ذلك أنه يعزو دين الإنجليز إلى السبب عينه، في موضع آخر من ذلك الكتاب.
إسماعيل مظهر(211/17)
من ذكريات الحملة الفرنسية
رستم مملوك الإمبراطور
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يرقد نابوليون في مثواه الخالد في مؤخرة صرح الانفاليد بباريس، في تابوت من المرمر القاتم. تظلله قبة فخمة رائعة، وقد ركزت حوله عدة من الأعلام التي ظفر بها الإمبراطور في الوقائع الشهيرة التي خاضها وكان النصر حليفه فيها مثل مارنجو، وفاجرام، وايلو، واوسترلتز، ويينا، والاهرام، وغيرها؛ وقد استوقفنا يوم أتيحت لنا زيارة قبر الإمبراطور منظر ذينك العلمين الممزقين اللذين كتب أمامهما موقعة الاهرام، فلم نستطيع أن نميز لهما لوناً أو علامة خاصة أو أن نقرأ فيهما شيئاً
كانت الحملة المصرية من أعظم الحوادث التي تركت في ذهن نابوليون أثراً خالداً؛ ومع إنها اختتمت بالفشل من الوجهتين العسكرية والسياسية فإنها تركت من الوجهة المعنوية أعمق الآثار؛ ولم يكن نابليون حين مقدمه إلى مصر فاتحاً يبحث وراء طالعه فقط، ولكنه كان يتصور أنه يستطيع أن يعيد حلم الاسكندر، فيبدل آلام والحضارات؛ ومن ثم فقد حشد في جيشه المطابع والأدوات العلمية إلى جانب المدافع، والعلماء المبرزين في كل فن إلى جانب الضباط والقادة؛ ولم يكن ظفر نابوليون بفتح مصر والبقاء فيها مدى حين، ليضارع تلك الجهود البديعة التي اضطلع بها علماء الحملة الفرنسية لدراسة مصر وحضارتها، وتلك النتائج العلمية الباهرة التي وفقوا إليها، ودونوها فيما بعد في كتاب (وصف مصر) أعظم وأقوى موسوعة ظهرت عن مصر، في العصر الحديث
ولما عاد نابوليون من مصر إلى فرنسا حينما تعقدت الحوادث وتجهمت، (أكتوبر سنة 1799)، لم يكن لديه أمل في استبقاء مصر طويلا، ولكنه أراد أن يغادرها جنده في افضل الظروف والشروط؛ وهذا ما وقع بعد قليل، فقد انتهت الحوادث بجلاء الفرنسيين عن مصر في أواخر سنة 1801؛ ولكن نابوليون لم يقطع صلته بمصر، ولم ينقطع اهتمامه بشئونها؛ فقد عني بعد ذلك بتأليف لجنة من العلماء الذين رافقوا الحملة إلى مصر مثل برتوليه ومونج وفورييه، لتضع موسوعة شاملة عن مصر، وظهر أول مجلد من هذه الموسوعة، أو كتاب وصف مصر الذي أشرنا إليه في سنة 1809، واستمر صدورها بعد(211/18)
ذلك أجزاء متعاقبة إلى سنة 1826، وكانت من أعظم ثمار الحملة العلمية
ولبث نابوليون وثيق الصلة بمصر وذكرياتها عن طريق آخر؛ ذلك هو حرسه الخاص الذي ألفه من بعض المماليك والأقباط والترك والسود الذين اصطحبهم معه من مصر؛ وكانت هذه الفرقة المختارة التي يرتدي أفرادها الثياب الشرقية الزاهية ويركبون الخيول المطهمة تصحب القنصل الأول، ثم الامبراطور، في غدواته وروحاته، إلى التويلري ومالميزون؛ وكان منظرها الفخم المروع معاً، يثير طلعة الباريسيين ودهشتهم، فيحتشدوا لرؤية أولئك الفرسان الشرقيين، أولي الشوارب المفتولة، والعمائم الملونة، والثياب الفضفاضة، كلما مر ركب نابوليون
وكان عميد هذه الكوكبة المختارة جندي مملوك يدعى رستم. ولرستم مع نابوليون قصة طريفة نرويها في هذا الفصل. كان رستم أحد أولئك المماليك الذين يصعب تعقب أصولهم أو حياتهم الأولى، ألقى به القدر إلى القاهرة بعد أن بيع مراراً ولقي خطوبا، وقدم إلى بونابارت في القاهرة حينما طلب أن يؤتى له ببعض الإدلاء الوطنيين. وكان رستم يومئذ فتى في عنفوانه وسيم المحيا، فراق نابوليون منظره، وسأله حسبما يقرر لنا رستم بعد ذلك في مذكراته، هل يجيد الركوب والطعان، فأجاب رستم بالإيجاب. وسأله نابوليون عن اسمه، فأجاب أن اسمه الأخير يحيى، ولكن اسمه الحقيقي الذي سمي به في بلاد الكرج مسقط رأسه هو رستم؛ فامره نابوليون أن يتسمى بهذا الاسم، ثم وهبه سيفاً دمشقياً رصعت قبضته ببعض الجواهر، ومسدسين زينا بالذهب، وألحقه بخدمته
ولم تمض أيام قلائل حتى اضطر نابوليون إلى مغادرة مصر مسرعاً إلى فرنسا، فلم ينسى أن يصطحب معه مملوكه الجديد رستم على ظهر السفينة (مويرون) التي أقلته إلى فرنسا مع بعض علماء الحملة من أصدقائه؛ وكان رستم يختص بخدمة سيده الجديد، ويقضي المساء على مقربة من الحلقة التي تتألف كل ليلة في مؤخرة (مويرون) من نابوليون والعالمين برتوليه ومونج يتحدثون في الشئون العامة أو يلعبون الورق؛ وكان نابوليون كثيراً ما يقول لمملوكه أنه سيجد في باريس كثيراً من المال والنساء الحسان، فيطرب رستم، وتضطرم مخيلته بالأحلام اللذيذة، ويتذكر ماضيه التعس الحافل بصنوف البؤس والمخاطرة، وما اسبغ الحظ عليه من رعاية ذلك السيد العظيم الذي سيقوده إلى مستقبل(211/19)
حافل بصنوف السعادة والنعيم
ووصلت (مويرون) إلى المياه الفرنسية بعد رحلة خطرة دامت نحو خمسين يوماً؛ ولما وصل رستم في ركب سيده إلى باريس، رأى منظراً رائعاً لم يتصوره من قبل، وسحرته عظمة العاصمة الفرنسية، التي لم تكن القاهرة أعظم مدينة شاهدها في الشرق إلى جانبها شيئاً مذكوراً؛ ولم تمض أشهر حتى ظفر نابوليون بإلغاء الحكومة الإدارية المؤقتة (الديركتوار)، وصدر دستور القنصلية (ديسمبر سنة 1799)، وانتخب نابوليون قنصلاً أولا، وانتخب معه صديقاه كامباسير ولبرون كقنصلين ثان وثالث؛ وهنا جاء دور رستم في الظهور إلى جانب سيده في المواكب العظيمة، وكان نابوليون يتوق دائماً إلى أن يحيط نفسه بتلك المظاهر الشرقية الساحرة، فكان رستم يتقدم عربة القنصل الأول دائماً، وهو على ظهر فرس بديع، وقد ارتدى صديرية من القطيفة الزاهية فوق ثوب واسع، ووضع على رأسه عمامة بيضاء أنيقة؛ وكان منظره الشائق الساحر معاً اجمل ما في ركب القنصل حين يغدو وحين يروح
وجاء دور الإمبراطورية وتألق نجم رستم سراعا، وشهد الحفلة الدينية الكبرى التي توج فيها الإمبراطور بالرغم من معارضة رجال الخاصة، واعد له بهذه المناسبة ثوبان فاخران وضع رسمهما (إيسابي) مصور الإمبراطور، وظهر رستم في كنيسة (الانفاليد) وعليه صدرية من الكشمير الفاخر المطرز بالذهب وعمامة رائعة الحسن، وذاعت شهرته حتى اصبح من طرائف باريس التي يعني برؤيتها كل زائر للعاصمة، وطبعت صورته ووزعت بالألوف في جميع أنحاء فرنسا؛ وأغدق الإمبراطور على مملوكه العطاء والصلة ورتب له عدة رواتب حسنة حتى غدا من أهل اليسار والنعم؛ وكان الإمبراطور يثق به ثقة لأحد لها، فلم يكن من أقطاب حرسه الخارجي فقط، ولكنه كان حارسه الأمين في حياته الداخلية أيضاً؛ فكان ينام عند عتبة غرفة الإمبراطور في البهو الملاصق، وكان هو الذي يحمل العشاء إلى الإمبراطور والإمبراطورة حينما يكونان في الفراش؛ وكان ملحوظا بالرعاية من جميع أعضاء الأسرة الملكية والحاشية، حتى أن الملكة هورتنس ابنة الإمبراطورة جوزفين، وزوجة الجنرال مورات، عنيت بتصويره، وكانت تغنى له المقطوعات الساحرة حتى لا ينام أثناء التصوير(211/20)
وتاقت نفس رستم إلى الزواج، وهام بحب آنسة تدعى دوفيل وهي ابنة أحد منادي الإمبراطور، وكانت رائعة الحسن في التاسعة عشرة من عمرها؛ ولما طلب رستم يدها قامت في سبيله بعض صعاب شكلية لأنه لم يكن كالفتاة كاثوليكي المذهب، ورفض الأسقف الموافقة على هذا الزواج فتدخل الإمبراطور وقضى على هذه الصعاب، وتم زواج رستم بالآنسة دوفيل في سنة 1806؛ ورزق رستم منها غلاما سمي (أشيل)، فطرب الإمبراطور لمولده وأغدق العطاء لمملوكه
وظل رستم متمتعاً برعاية الإمبراطور، يمرح في ظلال النعماء والنفوذ، حتى وقعت الكارثة، وهزم نابوليون في حرب التحرير واضطره الحلفاء الظافرون إلى التنازل عن العرش والسفر إلى جزيرة (إلبا)؛ وهنا سئل رستم كما سئل المخلصون من حاشية الإمبراطور، عما إذا كان يرغب في مرافقة الإمبراطور إلى المنفى، فتردد رستم في اللحاق به، وهرول إلى زوجه في باريس مغادراً ذلك القصر الذي أنفق فيه أعواما طوالا متمتعاً برعاية أعظم رجل في فرنسا، وفي أوربا بأسرها؛ ودلل بذلك على أثرته، ووضاعة نفسه؛ بيد أنه ندم على فعلته بعد، حينما رأى بداية العهد الجديد تميل إلى اضطهاد كل من كانت له صلة وثيقة بالعاهل المنفي؛ وكانت فرقة المماليك التي ينتمي إليها رستم قد انحلت مع مرور الزمن غادرها معظم رجالها ومات عدد منهم، وبقي رستم بعد ذلك ابرز أعضائها القدماء، ورأى رستم نفسه ينزل من علياء نفوذه بسرعة، ويجرد من سيفه وعمامته، وينظر إليه بعين الشك من الحكومة الجديدة. ألم يكن رسم اخلص حرس الإمبراطور وأقربهم إليه وأشدهم وطأة على أعدائه؟ وأحيط رستم برقابة صارمة، ونقل عيون الحكومة الجديدة عنه أغرب الأخبار، وقيل أنه يدبر مؤامرة لقلب الحكومة الملكية؛ والواقع أن رستم كان أبعد الناس عن هذه الريب، ولم يكن يود إلا أن يعيش في سلام بعيداً عن ذلك الماضي الذي يريبه ويزعجه
ولما عاد الإمبراطور من منفاه في إلبا توجس رستم شرا، وهرول إلى سيده القديم يلتمس الصفح والإعادة؛ فأبى الإمبراطور رؤيته، ورده باحتقار. وكان رستم يقيم عندئذ منزويا في بعض ضواحي باريس. فلم يكن أحب إلى نفسه من أن يستأنف حياة الانزواء والهدوء؛ ولم يمض غير قليل حتى وقعت الكارثة الحاسمة وهزم نابليون في واترلو وحمل إلى منفاه في(211/21)
سنت هيلانه؛ ولم يهتز رستم لهذه الحوادث، وقنع من الحياة بالهدوء والسكينة؛ وعاد إلى سكنى باريس بعد أن نسيته الحكومة الجديدة، ولم تحاول إقلاق راحته، بيد أنه لم يكن يتمتع بعد برخائه القديم بعد أن أنقصت رواتبه، وكثر عياله، فنراه في سنة 1824 يسافر إلى لندن إجابة لدعوة أحد أصحاب المسارح، وهنالك يعرض نفسه في ثيابه الشرقية القديمة ويكسب بذلك بعض المال
وقضى رستم في لندن نحو عام، ثم عاد إلى باريس، وانتقل بأسرته إلى بلدة دوردان على مقربة من باريس ليعيش فيها؛ وهنالك لم تفارقه صفة (مملوك الإمبراطور)؛ وكانت هذه الصفة تثير من حوله الفضول وتسبغ عليه مهابة خاصة؛ بيد أنه لم يكن يتمتع يومئذ بشيء من مظاهره الشرقية القديمة؛ وكان يحب الصيد، ويغشى مجتمعات المدينة، ويتصل بكثير من أهلها بأواصر الصداقة المتينة؛ وكان كثيراً ما يقص ذكرياته عن الإمبراطور ويفاخر بما لديه من آثار الإمبراطور مما أفاضه عليه من أيام عزه؛ وكان بعض الساخطين عليه يرمونه بالخيانة، ويقولون عنه أنه خائن لبلاده خائن لولي نعمته، بيد أن رستم لم يكن ليعبأ بهذه المطاعن، وكان يحتفظ دائماً بسكينته وهدوء نفسه
وتوفي رستم سنة 1845، في الرابعة والستون من عمره ودفن بمقبرة دوردان وكتب على قبره ما يأتي (هنا يثوي رستم رضا، مملوك الإمبراطور نابليون سابقاً؛ ومولده بتفليس من أعمال الكرج)؛ وكانت وفاته خاتمة لآخر الذكريات الحية في تاريخ الحملة الفرنسية على مصر
محمد عبد الله عنان(211/22)
وحي الثلاثين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
على مقطع من مقاطع الزمن الذي يبنيني، أقف مستدبراً مواكب الحياة الحاضرة، لأستعرض هذه العقود الثلاثة التي كونت جسمي ذرة ذرة، وملأت رئتي شهقة وأفرغتها زفرة، وسلسلت عقلي فكرة فكرة!
وأريد في وقفتي هذه أن يكون في روحي غيبوبة وامتداد، وفي ذاكرتي صحو واجتماع، وفي قلبي حنين واهتياج، وفي عقلي سكون وإدراك، وفي جسمي صحة ووقود، وفي قلمي حساسية وبيان. . . فإن الصور التي ارصدها مخبوءة في ركام من أيامي البالية التي لبستها أمام الشمس والقمر فطبعاها بالخاتمين (الأبيض والأسود) ثم نضوتها ومعها بسمة أو دمعة أو فكرة أو ذكرى، أو قطعة من قلبي أو هزة من جسمي في غرارة الطفولة أو ضحوة الصبا أو فوعة الشباب الذي يوشك أن يمضي به ما أشاب الصغير أفنى الكبير من كرّ الغداة ومرّ العشى. .!
أمسى! يا وادي الظلال الساكنة من حياتنا العاملة الناصبة. أنا الآن في حركة أدبار وارتداد إليك، في ساعة ليس لي فيها حاضر راهن يشغلني، ولا أمل غائب يغازلني، واقف فيك على أطلالي! ابحث فيها عن صور عيني ولها فيك ظلال، وأنغام أذني، ومنها بك أصداء. . بل أني لأبحث عن سري وميراثي من عهد آدم حادراً في الأصلاب متنقلا في الأحقاب في عالم غيبي ومشهدي!
فمن لي بما يروي لي ما بين مبتداي ويومي هذا. .؟ إنها شقة بعيدة احسب أنها تعي تهاويل الخيال المسعد!
وقد قالت (الفسلجة): إني صورة تتجدد فيها خلايا جسمي كل سبع سنين. . . فلست أنا الجسم الأول ولا الثاني ولا الثالث ولا الرابع. . . وليس في بقية منها، فإذا بحثت عن أجزائي التي ماتت وأبعاضي التي غيبت، فلن أجدها إلا في ذلك الجسم العظيم الذي أنا خلية منه: الأرض. ويالها من تيهٍ لمن يبحث!
إذاً يا روحي، أنت (المكان) الذي يمكن أن ابحث فيه عني: سراً كامناً في عالم الغيب، ثم نواةً فعقدةً فَلبّاً فثمرةً مدركة. فافسحي لي من شأنك العظيم واحرقي بخوراً يعد لي جواً(211/23)
أعيش فيه ساعة الذكرى!
ودخلت قدس الروح المعطر، ومعي ذلك (الصندوق العجيب) جمجمتي! أتحسس الشعاع الأول الهادي إلى مفتاح حياتي، فلم أرَ ولكني سمعت نجوى تقول:
(حينما طلبت شعلة الحياة حطباً جديداً قبل ثلاثين سنة، دفع بك وأنت (لاشيء) في غيبوبة الأزل على حبل نسل تناهي إليك من أبيك عن أبيه عن. . . آدم في صف كبير مع لداتك الذين أتى دورهم في الاحتراق. . . فانعقدت البذرة وتخلقت وركبت الذات ووضعت الذرة الصغيرة التي فيها كل ميراث آدم، واتصلت بها الشرارة الخفيفة المجهولة فدار قلبك الصغير فأضاف بنبضه صوتاً إلى ضوضاء الحياة. . وبحركته دفعاً إلى موكبها. . وبحرارته جمرةً في شعلتها. . . فاختلج آدم فَمَن والاه على السلسلة التي بينك وبينه، فرحاً بالامتداد والخلود. . واستبقت الملائكة والشياطين إلى احتلال الأمكنة فيك استعداداً للمعركة المقبلة. . . وعششت في قلبك الغربان والخفافيش السود، والحمامات البيض شأنها على كل غصن. . . وطارت عليك الذرات الجامدة التائهة لتكون لبناتٍ حيةً في البناء الجديد.
ثم فصلت عن المستودع التي التقى فيه أزلك وأبدك، وخرجت في موكب الربيع في أبريل سنة 1907 مع أوراقه وأزهاره وأغصانه وأفراخه. . كتلةً لحمية عمياء بكماء صماء. . فأسرع جو الأرض إلى رئتيك المختلجتين في ارتباك وسرعة لتلحقا حركة الحياة بالإحياء، وفتحت الأضواء أجفانك، وكل شعاع يريد أن يكون بشير النور ورسالة الشمس أم الحياة إلى (عدستك) الجديدة.
وكان أول صوت اقتحم أذنيك من ضجة الحياة، صوت الآلام. . آلام تكاليف الحياة وحمل أمانتها الفادحة التي عرضت (على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان). . . صوت أمك. .
وبكيت من ازدحام هذه العوامل على جسمك الرقيق الغريب بينها فأذاقوا فاك لذته فسكت. . . وكان هذا أول درس عرفته من منطق أهل الأرض مع المزعجين.!
ثم عاشت هذه الكتلة طفيلية في حياة كحياة النبات، وفي فراغ كفراغ النائم ومضت الدنيا تدور كل يوم حول (صندوقها العجيب) فتدخل إليه على شعاع أو صوت أو طعم أو لمس لتثبت وجودها فيه أو لتخلق فيه خلقاً آخر على الأصح (والأكوان عداد العقول) كما يقول(211/24)
الرافعي العظيم.
وتفاعلت أشياء الدنيا مع أشياء القلب فأخذ الشخص الكامِن يبدو ويمتد فكل ذرة تلد وكل معنى يتركب من هذه الأبجدية وظهرت بعض النسب بين الأشياء، واشرأبت الأشياء إلى براهين وجودها. .
فقلت لصوت النجوى: أكانت الدنيا عدما قبلي؟!
فأجاب: قالت بعض الفلسفات: الدنيا فكرة!
قلت: لا! بدون برهان. . .
قال الصوت: أنت وأخوك قد خرجتما من مستقر واحد بجسمين مختلفين قد تقمصتك روح وتقمصته أخرى. أفرأيت لو خالف بينك وبينه فكنت إياه وكان إياك؛ أفلا كان العالم غير ما هو الآن عندك وعنده وعند الناس؟
فتأملت ولم أعط الجواب للآن.!
ثم أنقطع الصوت وابتدأت أرى في الجمجمة خيوط ضوء على حواء وآدم في شخصي ألام والاب، واسمع منها أهازيج الجنة وأصوات ولدانها في أصوات لداتي وأترابي بملاعب الطفولة، وأرى قطعة من سماء القاهرة والشمس فيها والقمر، فوق المكان الذي تيقظت فيه من الغيبوبة والذهول: حارة الروم. . . سقاها الحيا، فوقفت أبحث عن الطفل الصغير وضعفه وجهله وبراءته وفراغه وثيابه وحلواه وحيوانه وصورته التي كان يتعجب منها كثيراً. . . فوجدتها أشياء لا تزال تضحك كما كانت. . . وأنا أبكي بعلمي وأنوء بقوتي، وانفجر بامتلائي وأجن بيقظتي. .
ففتحت لها قلبي فكادت تنكره وتختنق بما فيه.
وقلت يا حمراء هل رجعة! ... قلت وهل يرجع ما فاتا!
ثم جاء العهد الذي رأيت فيه الدنيا في شخص المعلم لها عصا تلوح لي بها إلى الحق والواجب، والنفس والغير، وتشير بها إلى الأمام. . . إلى الغاية. . . إلى الرجولة، ثم تصلصل بالقيود حين يصلصل الجرس. . .
فصحوت لأعلام الطريق واستيقظت لصحبة ذلك الشخص الغامض المبهم الذي أبتدأ يضايقني بندائه، ويشغلني بأشيائه. . . أنا! فتمنيت وتخليت وتشبهت وجاء الأمل والعمل،(211/25)
وأسلمني الزمان إلى عهد الشباب بنداءاته وهزاته، وأقبلت الدنيا بإعراسها واحتوائها ومباهجها ومفاتنها تتحبب وتغازل وتغنى للثمرة الناضجة. . واستيقظت الشياطين والملائكة للمعركة التي رسمت خططها واحتلت لها الأمكنة في قلب الجنين، وحامت الحمامات والفراشات البيض، والأغربة والخفافيش السود، فتغيرت نبضات القلب وسمعت منه أصوات لا عهد لها ولا تاريخ. . وقال الجسد: هاأنذا. . . وقالت النفس: وها أنذي. . . وقالت الحياة: دونكما. . .
ووقفت أنا. . . أرى المعركة وأتفرس في القتلى والمصروعين بدهشة وأسف ولذة وعجب إلى يومي هذا، وهكذا يدور الصراع والقبر الموعد. . .
وارتسمت البشرية بعلومها وآدابها كلماتٍ على ذلك العرض الأبيض الذي في رأسي: فألف وياء، وواحد وألف، وأرض وبحر وسماء، ومادة وقوة، ومثلث ودائرة، وزنوج أفريقية وبيض أوروبا، وبوذا وفينوس، والجمل وزبلن، والسلحفاة والطيارة والراديو، والقبر والقصر، والحق والواجب. . وقيل وقالوا. . . ولست أدري بعد ذلك: أهو قبض على ريح.؟. أو إمساك على ماء؟! أو سراب على سبسب؟!
أيها الدهر الذي صحبته ولبسته ذرة صغيرة إلى أن صرت كوناً فيه قلب وعقل! هاأنذا كواقف في صحراء تلتقي بها على مدى بصره آفاق السماء، إذا تلفت وراءه وجد إبهاماً وغموضاً وإذا تطلع أمامه وجد إبهاماً وغموضاً. . .
وددت لو أني كنت الرجل الأول لأشهد نشأة الإنسان والرجل الأخير لأشهد فناء الإنسان. . . الإنسان الواحد الهائل الذي يتمثل في هذه الأشخاص التي تمتلئ بها الأرض وتفرغ منها كل لحظة. . . الإنسان الذي وقع عليه كل الضوء وكل الظلام. . . وددت هذا لأعرف! ولكن ليس لي متقدم عن زماني هذا ولا متأخر.
يا لبنات الجسد. . . يا قلبي الذي لم أره ولن أراه. . يا أعضائي وأجزائي التي تجمعت لأكون. . .
يا ناصيتي وقدمي، وأهابي وفؤادي وظاهري وباطني. . .!
أما سئمتن الألفة تحت هذا الرباط الضاغط، فترون الفكاك والانطلاق؟
إني اشعر أن حملتكن إصراً، وأرهقتكن من أمري عسراً، وآذيتكن من جوار روحي: بيت(211/26)
النار!
إني يقظ للصحبة وفيٌّ للرفقة في هذه الرحلة، لا أبخل عليكن بالنظرة الراثية!
أيتها الأيام المقبلة التي فيها الأعباء الكبيرة والصحو من الرؤى والأحلام، وبلوغ القمة ثم الانحدار إلى الحفرة التي فيها الدوام والقرار. .
أعيذ حرارة قلبي من يدك الباردة. .، وما وراء قلبي فهو لسطوة قوانينك، وصرامة نواميسك. فهذا شعري فاصبغيه بلون الكفن. . . وجلدي فسجلي فعلك بتجعيده، وقدماي فافتلي قيدهما، وأوصالي فافصمي عراها، وإن شئت فاغلقي عيني وأحوجي سمعي إلى ترجمان، واجعليني كجذع هصرت غصبونه وذهبت حلاه وفنونه. .
أما قلبي فدعيه لي بأوتاره وأشواقه، صوتاً أخيراً وصاحباً محدثاً أعيش معه يوم يدبر الناس وتزيغ الحواس؛ حتى تطلبني الأرض جسداً تأكله!
عبد المنعم خلاف(211/27)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
لما جاءني نعي الرافعي بعد ظهر الاثنين 14 مايو سنة 1937 غشيتني غشية من الهم والألم سلبتني الفكر والإرادة وضبط النفس فلم أكد أصدق فيما بيني وبين نفسي أن (صادق الرافعي) الذي تنعاه لي (البلاغ) الساعة هو الرجل الذي أعرف ويعرف الناس؛ ودار رأسي دورة جمعت لي الماضي كله بزمانه ومكانه في لحظة فكر، وتتابعت الصور أمام عيني تنقل إليّ خيال هذا الماضي بألوانه وإشكاله ومجالسه وسمره وأحاديثه، من أول يوم لقيت فيه الرافعي من خريف سنة 1932 إلى آخر يوم جلست إليه في قهوة (بول نور) منذ شهرين فحدثته وحدثني ثم انصرفت وانصرف وفي نفسي منه شيء وفي نفسه مني. . .
وعدت إلى النعي أقرأه وفي النفس حسرة والتياع، فما زادتني قرأته شياً من العلم إلا أن مصطفى صادق الرافعي قد مات!
حينئذ أحسست كأن شيئاً ينصب انصباباً في نفسي، وأن صوتاً من الغيب يتناولني من جهاتي الأربعة يهتف بي، وأن حياة من وراء الحياة تكتنفني الساعة لتملي عليّ شيئاً أو تتحدث إليّ بشيء. ونفذت إلى أعماق السر حين شعرت كأن عينين تطلان علي من وراء هذا العالم المنظور لتأمراني أمرا، هام عينا الرجل الذي أحببته حباً فوق الحب، وأخلصت له وأخلص لي إخلاصاً ليس منه إخلاص الناس، ثم نزع الشيطان بيني وبينه ففارقته وفي نفسي إليه نزوع وفي نفسه إليّ، ثم لم القه من بعد إلا مرسوماً في ورقة مجللة بالسواد. . . وانحدرت من عيني دمعتان!
وانطلق بي الترام إلى غير وجهة معروفة، والدنيا في نفسي غير الدنيا، والناس من حولي غير الناس؛ فلما صار بي الترام في ميدان (العتبة) رأيت جماعة من الشبان والصبيان يسيرون في موكبهم وموسيقاهم هاتفين بنشيد الرافعي:
حماة الحمى يا حماة الحمى ... هلموا هلموا لمجد الزمن(211/28)
لقد صرخت في العروق الدما ... نموت نموت ويحيا الوطن
فكأنما كانت أصوات هؤلاء الشبان، في تلك الساعة، هاتفة بهذا النشيد، لتنبهني إلى أن الرافعي الذي وقع في نفسي منذ قليل أنه مات، هو حي لم يمت؛ وأن هذه النقلة من حياة إلى حياة، خليقة بأن تكون لمثل الرافعي هي الميلاد الثاني. وثابت إلى نفسي فاستشعرت برد الراحة وهدوء الإيمان
وانتهيت إلى (نادي دار العلوم) فما جلست قليلا حتى أقبل صديقي الأستاذ محمود شاكر وفي عينيه دموع وفي شفتيه اختلاج فمد إليّ يداً يصافحني وهو يقول: (الرافعي مات. . .) وأطرق وأطرقت، وانسرب الفكر في مساربه، فما عرفت إلا منذ الساعة أي واجب عليّ لهذا الراحل العزيز.
لقد عاش الرافعي في هذه الأمة وكأنه ليس منها، فما أدت له في حياته واجباً، ولا اعترفت له بحق، ولا أقامت معه على رأى؛ وكأنما اجتمع له هو وحده تراث الأجيال من هذه الأمة العربية المسلمة، فعاش ما عاش ينبهها إلى حقائق وجودها ومقومات قوميتها. على حين كانت تعيش هي في ضلال التقليد وأوهام التجديد. ورضى هو مقامه منها غريباً معتزلا عن الناس لا يعرفه أحد إلا من خلال ما يؤلف من كتب وينشر في الصحف، أو من خلال ما يكتب عنه خصومه الاكثرون، وهو ماض على سنته، سائر على نهجه، لا يبالي أن يكون منزله بين الناس في موضع الرضا أو موضع السخط والغضب، ولا ينظر لغير الهدف الذي جعله لنفسه منذ يومه الأول، وهو أن يكون من هذه الأمة لسانها العربي في هذه العجمة المستعربة، وأن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه، يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال؛ وما كان - رحمه الله - يرى في ذلك إلا أن الله قد وضعه في هذا الموضع ليكون عليه وحده حياطة الدين والعربية، لا ينال منهما نائل إلا انبرى له، ولا يتقحم عليهما مقتحم إلا وقف في وجهه؛ كأن ذلك (فرض عين) عليه وهو على المسلمين (فرض كفاية)؛ وأحسبه قال لي مرة وقد كتب إليه صديق يلفته إلى مقال نشرته صحيفة من الصحف لكاتب من الكتاب تناول فيه آية من القرآن بسوء التأويل: (يا سعيد، من تراه يقوم لهذا الأمر إن سكت الرافعي؟) وكان هذا من اعتداده بنفسه، ولكنه كان مذهبه وإليه غايته، وكأن القدرة التي هيأته وأنشأته بأسبابها لهذا الزمان قد فرضت عليه وحده سداد هذا الثغر؛(211/29)
وكان إلى ذلك لا ينفك باحثاً مدققاً في بطون الكتب حيناً وفي أعماق نفسه المؤمنة حيناً آخر، ليستجلي غامضة من غوامض هذا الدين أو يكشف عن سر من أسراره فينشر منه على الناس؛ وأحسبه بذلك قد أجدَّ على الإسلام معاني لم تكن تخطر على قلب واحد من علماء السلف، وأراه بذلك كان يمثل (تطور الفكرة الإسلامية) في هذا العصر، فإذا كانت الأمة العربية المسلمة قد فقدت الرافعي فما فقدت فيه الكاتب، ولا الشاعر ولا الأديب؛ ولكنها فقدت الرجل الذي كان ولن يكون لها مثله في الدفاع عن دينها ولغتها، وفي النظر إلى أعماق هذا الدين يزاوج بينه وبين حقائق العلم وحقائق النفس المستجدة في هذا العصر، ولقد يكون في العربية كتاب وشعراء وأدباء لهم الصيت النابه، والذكر الرائع، والصوت المسموع؛ ولكن أين منهم الرجل الذي يقوم لما كان يقوم له الرافعي: لا يترخص في دينه، ولا يتهاون في لغته، ولا يتسامح لقائل أن يقول في هذا الدين أو في هذه اللغة حتى يرده من هدف إلى هدف أو يرض عليه الصمت. . .
وبعد فماذا يعرف الناس عن الرافعي وماذا أعرف؟ هل يعرف الناس إلا ديوان الرافعي، وكتب الرافعي، ومقالات الرافعي؟ ولكن الرفعي الذي يجب أن يعرفه أدباء العربية ليس هناك. فماذا يكتب عنه الكاتبون غداً إذا أرادوا أن يكتبوا هذا الفصل الذي تم تأليفه في تاريخ العربية، وماذا يقول الراثون عنه في حفلة التأبين؟
لقد عشت مع الرافعي عمراً من عمري في كتبه ومقالاته فما عرفته العرفان الحق؛ وعشت معه بعد ذلك في مجلسه وفي خاصته، وخلطته بنفسي وخلطني بنفسه؛ فما أبعد الفرق بين الصورتين اللتين كانتا له في نفسي من قبل ومن بعد؛ أفتراني بهذا أستطيع أن أقول عن الرافعي شيئاً أؤدي به بعض ما على من الدين للعربية وللفقيد العزيز؟ مالي أتهيب هذا المجال فلا أقدم حتى أحجم؟ إنني لأحس عبئاً ثقيلاً على عاتقي، لا طاقة لي بأن أحمله، وليس على أحد غيري أن يقوم به. ولقد طلب إليّ الأستاذ الزيات منذ عامين أن اكتب شيئاً عن الرافعي يعرفه إلى قراء (الرسالة) فما احسبني لقيت في ذلك من الجهد إلا بمقدار ما استحضرت الفكر وتناولت القلم؛ على أن الرافعي كان يومئذ حياً، وكنت أحذر أن يغضب أو ينالني منه عتب؛ فكيف بي اليوم والرافعي بعيد في العالم الثاني، والكلمة اليوم للتاريخ، ووسائل العلم مني قريبة؛ ورسائل الأستاذ الزيات تتري تستنجزني الوعد وتقتضيني الحق(211/30)
الذي عليّ للأدب والعربية، وصوت الفقيد العزيز يهتف بي حيثما توجهت: (إن لي عليك حقاً وإن للأدب عليك. . .!)
ولكني ما أكاد أمسك القلم حتى يكتنفني الشعور بالعجز فأكاد أوقن أنه لا أحد يستطيع أن يكتب عن الرافعي إلا الرافعي نفسه، ولكن الرافعي قد مات. . .
أيها الحبيب العزيز الذي ما أزال من كثرة ذكراه كأنني منه على ميعاد معذرة إليك!
وهاأنذا أحاول أن اكتب عن الرافعي؛ فلا ينتظر أحد مني أن أتكلم عن الرافعي الشاعر، أو الرافعي الكاتب، أو الرافعي الأديب، أو الرافعي الفيلسوف؛ فما يتسع لي الوقت، وما يرضيني عن نفسي ولا يقنعني بالوفاء أن أكتب عن هذه الحيوات الكثيرة التي اجتمعت في حياة إنسان؛ فلينهض لذاك غيري؛ ولكني سأكتب عن الرافعي الرجل الذي عاشرته زمناً، ونعمت بصحبته، وخلطته بنفسي، وتحدث قلبه إلى قلبي، وتكاشفت روحه وروحي؛ سأكتب عن الرافعي الرجل الذي عاش على هذه الأرض سبعاً وخمسين سنة ثم طواه الموت؛ سأحول أن أجمع شتات حياة تفرقت أخباراً وأقاصيص ونوادر على لسان معاصريه أو غابت سراً في صدور أهله وخاصته؛ أما الرافعي الشاعر الكاتب الأديب الفيلسوف فسيجد الباحثون مما أقول عنه مادة لما يقولون فيه، ولعليّ أن أوفق في البلوغ إلى ما قصدت. وإنني لأتهم نفسي من كثرة ما أحب الرافعي أن أتحيف الأدب لو بدا لي أن أقول: هذا رأي. ولكني سأقول: هذا ما رأيت. فمن كانت له عين بصيرة تنفذ إلى ما وراء المرئيات وتربط الأسباب بالمسببات فسيبلغ جهده ويرى رأيه
ولقد كان الرافعي منذ شهرين إنسانا حياً بعواطفه وأمياله وحبه وبغضه وشهواته النفسية، ولكنه اليوم فصل من تاريخ العربية بألوانه وفنونه؛ فلا عليّ اليوم أن قلت كل ما أعرف عنه خيراً وشراً؛ فإنما أكتب للتاريخ، والتاريخ لا يحابي ولا يحتسب، وستمر بي في تاريخ الرافعي حوادث وأسماء سأصفها وأعرِّف عنها بقدر ما، كما سمعتها أو عرفت عنها؛ فأيُّما كاتبٍ أو أديب أو رجل أو امرأة أو ذي شأن أحس فيما أكتب شيئاً ناله بما يوجب المدح أو المذمة فلا يشكر ولا يتعتب؛ فإن التاريخ بعد أن يقع لا يمكن محوه بممحاة تلميذ. . . وما فات من تاريخ الإنسان فهو جزء أنفصل من حياة صاحبه، وإنما له ما هو آت، وما أحب أن يقول لي أحد صدقت أو كذبت؛ فما هذا الذي أكتب رأيا أراه، ولكنه رؤية رأيتها أو(211/31)
رواية رويتها فأثبتها مسندة إلى راويها وعليه تبعتها
إن التاريخ الأدبي للرافعي يبدأ من سنة 1900 وتاريخ ميلاده قبل ذلك بعشرين سنة؛ وأنا ما بدأت صلتي بالرافعي إلا سنة 1932 فما كان من هذا التاريخ فسأرويه من غيب صدري أو مذكراتي وعليّ تبعته، وما كان من قبل فقد سمعت به من أهله وأصدقائه الأدنين وخلطائه منذ صباه، أو كان مما قصه عليّ أو عرفت عنه من أوراقه الخاصة ورسائله إلى صحبه ورسائل صحبه إليه. فهذه مصادر علمي أقدمها بين يدي هذا الحديث ليعرف قارئه أين مكانه من الصدق ومنزلته من الحق. على أن للذاكرة خئون، وما يمر على فكر الإنسان من مختلف الحوادث وصروف الأيام ينسيه أو يلهيه أو يخلط في معلوماته شيئاً بشيء؛ فمن كان يعرف شيئاً من تاريخ الرافعي ورأى أني تصرفت فيه بنقص أو زيادة أو تغيير أو تبديل فليراجعني الرأي وليرشدني إلى الصواب، على أن أكون عنده بمنزلة من حسن الظن وأن يكون عند نفسه؛ وألا فليرحني وليرح نفسه فما بي حاجة إليه ولا به حاجة. ورجائي هذا إلى أصدقاء الرافعي وخاصته وخلطائه؛ أما الذين يروون عن السماع فليعلموا أن الحديث المتداول يزيد وينقص، فما أرويه هو أقرب إلى الحق مما يكونون سمعوه
الرافعي في يومه الأخير
في الساعة الثانية بعد الظهر الأحد 13 مايو سنة 1937 نهض الرافعي من مكتبه بمحكمة طنطا الكلية الأهلية منطلقاً إلى داره في رفقة صديقه الأديب أمين حافظ شرف، وتحت إبطه عديد من الكتب والصحف والمجلات، تعود ألا يسير إلا معه مثلها، وفي يمناه عصاه يهزها أمام ووراء؛ وما افترقا حتى تواعدا على اللقاء مساءً في مكان ما، ليذهبا معاً إلى (متنزه البلدية) فيشاهدا فرقة راقصة هبطت إلى المدينة منذ قريب، وتغدى الرافعي وصلى الظهر ونام، ثم نهض في الساعة الخامسة فصلى العصر وجلس يداعب أولاده - وجلوسه مع أولاده يداعبهم ويمزح معهم ويتبسط لهم جزء من عمله اليومي - ثم ذهب إلى عيادة الدكتور محمد الرافعي حيث لقي هناك أخاه الدكتور نبوي وصهره الأستاذ مغازي البرقوقي، فجلس الرافعي يمزح ويضحك ويتندر أكثر مما عرف عنه من المزاح والضحك والتندر في يوم من الأيام؛ ثم صلى المغرب والعشاء في العيادة، ودعا أخاه ليصحبه إلى(211/32)
مأتم جار من العامة ليعزيا أهله؛ والمعروف عن الرافعي أنه كان يكره حضور المأتم وتقديم التعازي كراهة ظاهرة؛ وقلما كنت تشاهده في مأتم إلا في النادر، حتى أنه لما توفيت زوج ابنه الأستاذ سامي الرافعي لم يجلس في المأتم إلا لحظات، ثم أنفرد في خلوته يستوحي الحادثة مقاله المعروف: (عروس تزف إلى قبرها!) وجاء المعزون يلتمسون الأستاذ الرافعي فلم يجدوا إلا ولده وصهره. أفكان الرافعي بحضور هذا المأتم في يومه الأخير يريد أن يصل نسباً أو يعقد آصرة بالعالم الثاني؟ أو كان ميعاداً إلى لقاء قريب. . .!
ثم ذهب الرافعي بعد التعزية إلى موعد صديقه ماشياً، وقطعا الطريق إلى المتنزه على الاقدام؛ فتفرجا، وشاهدا ما شاهدا في الحفلة الراقصة، وأخذ الرافعي ما اخذ من وحي الراقصات لفنه ومادته الأدبية، واخذ صديقه ما اخذ؛ أفكان بهذه الحفلة يريد أن يصل ما أنقطع من قصة (الجمال البائس) و (القلب المسكين) و (في اللهب ولا تحترق). . .؟
وفي منتصف الساعة الثانية عشرة كان الرافعي في طريقه إلى بيته بعد ما ودع صديقه في منتصف الطريق؛ فلما بلغ الدار خلع ثيابه، وتناول عشاء خفيفاً من الخبز والبطارخ، والبطارخ طعام الرافعي الذي يحبه ويؤثره على كل طعام في المساء، لأن له عملاً أدبياً معه. . .!
واستيقظ مع الفجر على عادته كل يوم، فتوضأ وصلى، وجلس في مصلاه يدعو الله ويتلو قران الفجر. وأحس بعد لحظة حراقا في معدته فتناول دواءه وعاد إلى مصلاه، وصحا ولده الدكتور فشكا إليه ما يجد في معدته، وما كان إلا شيئاً مما يعتاده ويعتاد الناس كثيراً من حموضة في المعدة، فأعطاه الدكتور شيئاً من دواء وأشار عليه أن ينام، ولبس الدكتور ثيابه، ومضى ليدرك القطار الأول إلى القاهرة، ومضت ساعة؛ ثم نهض الرافعي من فراشه لا يحس ألماً ولا يشكو هما وما به علة، فأخذ طريقه إلى الحمام؛ فلما كان في البهو سمع أهل بيته سقطة عنيفة أحدثت صوتاً شديداً؛ فهبوا مذعورين ليجدوا عميد الدار جسداً بلا روح.
قال الدكتور محمد: (ولما وجدت البرقية تنتظرني في محطة القاهرة وليس فيها سبب ما يدعونني إليه، تحيرت حيرة شديدة؛ بلى أيقنت أن شيئاً قد حدث، وأن كارثة وقعت؛ ولكن لم يخطر في بالي أنه أبي. لقد تركته منذ ساعتين سليما معافى قوي القلب أقوى ما يكون(211/33)
قلب رجل في سنه. . . كل المفاجآت المروعة قد خطرت في بالي إلا هذا الخاطر، ولكن. . . ولكن الذي مات كان أبي. . .!)
يا صديقي، لك العزاء ولنا؛ أحسبت أن الرافعي سيموت في فراشه وهو قد نذر أن يموت في الجهاد وفي يده الراية ينافح بها الشرك ويدعو إلى الله ويواصل حملة التطهير. . .؟
طبت نفسا يا مصطفى، ولكم كنت تخشى الهرم والمرض والزمانة ولزوم الفراش وثقل الأيام التي تعد من الحياة وما هي من الحياة، فأي كرامة نلت؟ وأي مجاز جزت؟ وهل رأيت الطريق بين الحياتين إلا ما كنت تريد؟ وهل كانت إلا خفقة نفس نقلتك من ملأ إلى ملأ أرحب وأوسع في كنف الخلد وفي ظلال الجنة يرحمك الله يا صديقي ويرحمنا!
(لها بقية)
(طنطا)
محمد سعيد العريان(211/34)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 13 -
البوذية
لما كانت البوذية ثانية الديانتين الجوهريتين في بلاد الهند، فقد كان من الطبيعي - وقد بدأنا بالبراهمة - أن نثني بها محاولين إيضاح غوامضها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ولكن ينبغي لنا قبل الدخول في تفاصيل هذا المذهب أن نلم بشيء مما حواه لنا التاريخ الغامض عن حياة المنشئ العظيم لهذه الديانة الخطيرة التي لعبت في تاريخ الإنسانية دوراً من أهم الأدوار. وإليك هذا الموجز المضطرب من حياة هذا الزعيم الديني الكبير
ولد (جوتا ما سيرهارتها) في (كابيلا فاستو) على حدود (نيبال) حوالي سنة 560 قبل المسيح من أسرة نبيلة، إذ كان والده رئيس قبيلة (ساكيا). ولما شب زهد في نعمة والده وأخذ هذا الزهد يزداد شيئاً ًفشيئا حتى إذا بلغ من نفسه منتهاه ألقى بالحلل الفاخرة جانباً واستبدلها بثياب خشنة مرقعة ثم هجر منزل أسرته إلى الغابات والأحراش لا يلوي على شيء من مظاهر النعمة التي كانت تحدق به إحداق السوار بالمعصم، لأنه آمن بأن مصدر جميع هذه الآلام التي تكتظ بها الحياة البشرية إنما هو الهوى المنبعث من الشهوات الجسمانية، وأن المخلص الوحيد من هذا السجن المطبق إنما هو في التلاشي المادي، وهذا التلاشي لا يتحقق إلا بالزهادة والتخلي عن جميع ملاذ الحياة وشهواتها. وقد أيقن كذلك بأن اللذائذ المادية ستار من الظلام يحجب عن النفس كل معرفة حقة، فالوسيلة الوحيدة إذاً، للتخلص من الألم ولتحقيق المعرفة هي الزهادة في المادة من جميع نواحيها.
لم تكد هذه العقيدة تستولي على نفسه حتى بدأ في تحقيقها، فانسلخ عن كل مظاهر الترف وأنسحب عن المدينة إلى إحدى الغابات الموحشة، فآوى فيها إلى شجرة كبيرة اتخذ ظلالها الوارفة مقامه، ثم أخذ يحاسب نفسه على ما قدمه من خير وشر حيناً، ويتأمل في أسرار(211/35)
الكون وخفايا الوجود حيناً آخر، واستمر على ذلك زمناً طويلا لا يزاول من أساليب الحياة إلا هذا الأسلوب المماثل الذي لا فرق بين أمسه ويومه وغده. . . وأخيراً شعر ذات ليلة وهو سابح في بحار الفكر والتأمل أن المعرفة قد انقذفت إلى قلبه دفعة واحدة، وأن أداء واجبه منذ اليوم لم يعد يتحقق بالنسك والتأمل فحسب كما كان قبل ليلة المعرفة، وإنما اصبح يتناول إلى جانب ذلك شيئاً آخر، وهو التبشير بمذهبه في كل مكان، ومحاولة غرسه في كل قلب، فهب لساعته يصدع بديانته الجديدة جهراً وفي غير مبالاة، وسرعان ما تجمع حوله عدد من الشباب والشيوخ يتشربون تعاليمه تشرب الأرض اليابسة للمياه، ثم جعل عدد هؤلاء التلاميذ يزيد شيئاً فشيئاً وأخذت هذه الديانة تعم ويتسع نظامها حتى بلغ عدد معتنقيها نحو أربعمائة وسبعين مليونا من الأنفس في الشرق الأقصى
كان بدء بوذا في الصدع برسالته على رأس العام السادس والثلاثين من عمره، فظل جهاده في نشرها زهاء أربع وأربعين سنة لم ينضب أثناءها لنقاشه نبع، ولم يخفت لتبشيره بدينه صوت، ولكن لم يثبت عنه أثناء هذا الزمن الطويل الذي قضاه في نشر رسالته أنه غضب مرة واحدة مع مناقشه، بل كانت الرحمة والعطف يفيضان من أساليبه في مختلف الظروف ومتباين الأحوال لا فرق بين أن يكون مناقشه من تلاميذه المحبين أو من خصومه الحاقدين.
وأخيراً توفى هذا الحكيم حوالي سنة 480 قبل المسيح عن ثمانين عاما قضاها بين الزهد والتقشف والدعوة لديانته الجديدة، وكان موته بين جمع من تلاميذه الأصفياء - مثال البساطة البعيدة عن جميع مظاهر الجلال التي تحوط عادة آخر ساعات عظماء الرجال
شخصية بوذا بين الشك واليقين
سأل الملك (ميلاندا) أحد ملوك الهند الأقدمين الحكيم (ناجازينا) وهو أحد أتباع البوذية قائلا: (أيها الحكيم المحترم هل رأيت بوذا؟) فأجاب الحكيم: (كلا يا صاحب الجلالة). س: (وهل أساتذتك رأوه؟). ج - (ولا أساتذتي يا صاحب الجلالة) قال الملك: (إذاً، يا ناجازينا، فليس هناك بوذا ما دام لم يقم على وجوده برهان قوي). فلما سمع الحكيم (ناجازينا) هذا الاعتراض الذي وجهه الملك إلى إلهه، وكان حقا لا يملك على وجوده برهانا مباشرا، شرع يدلل عليه بآثاره الكونية فقال: (إذا غاب بوذا عن الأنظار، فهنالك آثاره التي أنشأها،(211/36)
ومصنوعاته التي خلقها فهي أقوى الأدلة على وجوده، هنالك هذا العالم البديع الذي خلقه وهناك هذا العدد العظيم الذي أرسى سفنه بحكمته وقدرته على شاطئ النجاة بعد أن أنقذها من خضم الألم. وإذا كان من يرى مدينة منسقة بديعة التكوين والتنظيم لا يستطيع إلا أن يعلن إعجابه بمنشئها وأن يرفع الصوت قائلا: ما أحكم هذا المهندس الماهر الذي شيد هذه المدينة وأتقن تنظيمها! فالأمر يجب أن يكون بالنسبة إلى مدينة الكون العام التي أنشأها بوذا واحكم تنسيقها.
وفي الحق أن نظرة واحدة إلى ما عليه الكون من نظام وانسجام تكفي لترسيخ الإيمان اليقيني بوجود بوذا،. فلم يكد الملك يسمع من الحكيم هذا البرهان حتى أعلن أنه مقتنع بوجود بوذا اقتناعه بوجود جده الأعلى مؤسس أسرته المالكة الذي لم يره كذلك، وصرح بأن المشاهدة ليست كل شيء، وأعلن أن كثيراً مما لا تعترف به المشاهدة له وجود واقعي يقيني
ويعلق الأستاذ (أولترامار) في كتابه (تاريخ وحدة الوجود الهندية على هذا بقوله: (أما النقد الحديث، فلا يجد في هذا البرهان ما وجده ذلك الملك الطيب القلب من الرضى والاطمئنان فهو إذ يوافق على أن مؤسس البوذية وجد تاريخياً لا يستطيع أن يؤمن بأن هذا المؤسس كان في الواقع على النحو الذي صورته عليه الأسطورة الهندية، وفوق ذلك فتاريخ الديانات يعترف في صراحة أمام النقد الحديث بأن براهين هذا الحكيم كانت مبنية على أسس ضعيفة واهية لا تستطيع الثبات في ميدان الجدل المنطقي وأن قيمة هذه البراهين تزيد ضآلة بقدر ما يكشف التاريخ أن أهم مصادرها هو الأساطير الشعبية المفعمة بالخرافات والأباطيل)
ويؤكد الأستاذ (أولترامار) أن استخلاص العناصر الصحيحة من وسط ذلك المحيط الهائل المليء بالأساطير الخيالية في ترجمة بوذا وصفاته وتعاليمه من الصعوبة بموضع، وهو لهذا يحيل القارئ إلى مؤلفات ثلاثة رجال من كبار العلماء الذين وصلوا إلى نتائج بحوث قيمة في هذا الموضوع، ليستأنس بآرائهم وهم: (كيرن) و (سينار) و (أولدنبيرج). فأما أول هؤلاء العلماء وهو الأستاذ (كيرن) فهو ينكر إنكاراً تاماً القيمة التاريخية لهذه الأساطير ويصرح بأنه لا أثر للحقيقة في كل ما نقل لنا عن (بوذا) وبأن هذه السيرة البوذية لم تكن(211/37)
إلا رموزاً للمثل العليا في نظر الشعب
وأما الأستاذ (سينار) فهو لا يرى في السيرة البوذية اكثر من أنها أسطورة قديمة رصعت بأبهى ما وعاه الشعب من أخلاق عدة أبطال طواهم الزمن فنسيت أسماؤهم وعلقت بالأذهان آثار بطولتهم
وأما الأستاذ (أولدنبيرج) فهو أقل قسوة على بوذا من زميليه، إذ يعترف بأن طائفة من الحقائق الحائرة منبثة في وسط هذا البحر من الأساطير وأنه ليتيسر للباحث الدقيق أن يستخلص من بين الفرث والدم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. أما بوذا على حالته التي هو عليها الآن في الأسطورة قبل تمييز الخيال من الحقيقة فهو لا يبعد عن كونه شخصية رمزية
ويميل الأستاذ (أولترامار) إلى هذا الرأي الأخير. إذ يعتقد أن الباحث العميق يمكنه أن يصل - عن طريق الموازنة الدقيقة بين كل المصادر - إلى حقائق يقينية عن شخصية بوذا وديانته وتعاليمه وأنه هو شخصياً قد وصل إلى كثير من هذه الحقائق، وأن إحدى هذه الحقائق التي وصل إليها هي أن بوذا قد وجد حقاً، وأنه كان شخصية غير عادية لها من الميزات ما لم يفرز بها سواها في العصر الذي كانت تعيش فيه، وأن هذا الرجل - بصرف النظر عما أحكمت حوله الأساطير من سياج التألية - كان قوي الإرادة إلى حد بعيد، ولكن هذه القوة وجهت كلها إلى النضال الداخلي، فبينا كان ظاهره يدل على الوداعة ولين الجانب وخفض الجناح كانت نفسه تحوي في داخلها عراكا قويا ضد الشهوات والرغبات ولم يسمح لهذا النضال أن يتجاوز نفسه إلى الخارج إلا في ناحية واحدة وهي ناحية إقناع سائليه ومناقشيه ولكن هذا الإقناع كان دائما ممزوجا بروح السلام العام الذي يتخلل كل نواحي مذهبه
وعنده أنه كما أن الأرض تحمل ما يلقى فوق ظهرها من خبائث الأشياء دون ضجر وتتقبلها قبولها للطيبات، كذلك يجب على البوذي أن يحتمل باسما احتقار الناس وإهاناتهم وأن يتقبلها بنفس الروح التي يتقبل بها الإجلال والتشريف. وكما أن الماء يتخلص عن التراب، ليروي الظمآن، كذلك يجب على البوذي أن يشعر أعداءه بنفس الخيرية التي يشعر بها أصدقاءه(211/38)
وأهم ما يلفت النظر في شخصية بوذا هو أن وثوقه بنفسه وإيمانه بمبدئه، وعقيدته في نجاح رسالته لم تكن ممكنة التشبيه بأي شيء آخر، وهو لهذا يقول: (إن من المحتم أن هناك طريقاً للخلاص، وأن من المستحيل ألا توجد هذه الطريق، وسأعرف كيف ابحث عنها، وساجد حتما تلك الوسيلة التي توصل إلى الخلاص من كل وجود.
كان بوذا يجمع حوله الشباب، ليلقي عليهم تعاليمه المأثورة التي كانت تنال من نفوسهم منالا بعيد الغور، ولكن الأسطورة التي كانت كأنها إطار حول حياته زعمت أن موجة من الأيمان كانت تخرج من عيني بوذا بمجرد نظره إلى تلاميذه فتسلك سبيلها إلى قلوبهم وتحتلها احتلالا قوياً قبل أن تنبس شفتاه بأية كلمة من تعاليمه.
يتبع
محمد غلاب(211/39)
حديث في سفر
للأستاذ محمود السيد
لقد كان التطلع إلى الأحداث الجارية منذ يوم الهدنة التي أعقبت الحرب الكبرى في البلاد الشرقية المجاورة لنا، ديدني، والسفر إليها غايتي، ومعرفة بواعث النهضات الرائعة التي نهضها أهلها، مقصدي. وكنت أحاول البدء بتركية التي أحسن لغتها وألمُّ بعض الإلمام بأدبها القوي في حيويته الرقيق بجماله، فلم أوفق. على أني قد وفقت في العام الثاني والثلاثين والتسعمائة والآلف، لزيادة بلاد الجارة الصديقة إيران، وكنت يومئذ تعباً جداً من لغوب الحياة الراكدة، سائماً أيامها المتوالية المتكررة عندنا في غير ما انبعاث صحيح، ولا انقلاب من العهد القديم إلى عهد الدنيا الحديث؛ نازعاً إليّ اغتراب أنسى فيه، إلى حين من الزمن، الآم المتطلعين من أبناء الشعب الصابر النبيل، إلى حياة هنيئة حرة في مجد جديد يرام كالمجد القديم؛ وقد أسمع وأرى ما يذكر ويفيد
غادرت بغداد شاخصاً إلى طهران مساء اليوم السابع عشر من شهر ايار، مستقلا قطار خانقين. وفي فجر اليوم التالي بلغت هذه البلدة الصغيرة التي يتكلم قطينها شتى اللغى، لأنها بلدة الحدود ونافذة العراق المطلة على إيران. وقد فكرت فيها والأسف يحز في قلبي كائنة المغول الأولى، إذ جاءوها في محرم الحرام من العام الثالث والأربعين والستمائة للهجرة، نازلين إليها من همذان ففتحوها ثم قربوا من يعقوبا؛ وكانت بغداد سكرى في غفلة عن الزمن القلب الحوّل والأقدار الغادرة. ولم يفعل خليفتها ووزيره وصحبهما سوى التهيؤ - التهيؤ فقط - للدفاع بأجناد من الخلائق فقدت المثل العليا، فخارت عزائمها ووهت بعد مرّة، إذ أوهنها تخنيث الترف، وتبلبل العقائد، وانحطاط الخلق، واضمحلال روح الاستقلال، ثم أرتد المغول عنها متحفزين لهجمة ثانية قاضية. وكذلك فعلوا، فقد عادوا مرة أخرى في العام الخامس والخمسين بعد الستمائة للهجرة يقودهم هلاكو. . .
لم أقم في خانقين التي كانت طريق البلاء الأكبر النازل على العراق بعد ازدهار الحضارة العربية الإسلامية فيه، إلا ساعتين. واكتريت لي سيارة رافقني فيها إلى كرمانشاهان تاجر أيراني ذو سجاحةٍ وظرفٍ. ثم جاء بعده عقيب السري منها مسافر عراقي من مشايخ العلم، تراءت لي في محياه دلائل الحماسة في الدين، وفي سلوكه دلائل الحماسة في القومية. فهو(211/40)
عربي من أهل النجف، يدرك روح العصر بعض الإدراك، على ميل شديد فيه إلى الماضي، وحنين إلى دولة العرب في أيامهم الذهبية التي خلت من قبل. وكان سميراً من الطراز الأول، ورجلا يصلح، لو أدرك روح العصر كل الإدراك، لأن يكون قريباً من الكمال الإنساني المجرد من الصفات التي يخلعها على الإنسان في المجتمع نضال المتعصبين في الملل واعتراك النحل وتصادمها. وهو - كما كان يقول - من العاملين لآخرتهم كأنه موشكٌ أن يموت غدا، ومن العاملين لدنياهم كأنه يريد أن يعيش أبداً. وقد حداني الحديث ذو الشجون إلى أن أساله: من السعيد في الدنيا أيها الشيخ الفقيه؟
فأجابني وهو يعبس بمسبحته السوداء: ومن ذا الذي تعني؟ آلسعيد من أهل السياسة؟ آلسعيد من أهل الحرب والطعان؟ آلسعيد من التجار؟ آلسعيد من المحترفين خدمة الحكومة بأعمال الدولة؟ آلسعيد من ذوي الحرف والصناعات؟. . الخ
فحيرني تَسْآله هذا، وأعجبت بمنطقه، فقلت وقد أدركت بعض قصده: من السعيد من الطبقة التي ينتمي إليها أنت يا شيخي؟
قال: أحسنت. لقد حددت التعريف فأنصفت. . السعيد منا نحن رجال العلم القديم والدين من صح فيه قولُ عمر بن عبد العزيز الوراق لأبي بكر بن حزم: (إن الطالبين الذين أنجحوا والتجار الذين ربحوا هم الذين اشتروا الباقي الذي يدوم بالفاني المذموم، فاغتبطوا ببيعهم، وحمدوا عاقبة أمرهم. . . فالسعيد الموفق من أكل من عاجله قصداً، وقدم ليوم فقره ذخراً، وخرج من الدنيا محموداً. . .)
قلت: يا شيخي هذه فلسفة صوفية قد تنافي - إذا كنت مقتصراً عليها - ما زَعَمتَ لي إذ قلت في بعض حديثك أنك من العاملين للآخرة ومن العاملين للدنيا فأهملت الدنيا هنا؟ أليست هي على رأيك: (الأمر الفاني المذموم).
قال: إذن لابد من إيضاح. . أن أمرها لفان ومذموم لأمثالي إذا ما اقتصرنا في الحياة عليه. وهذا التشديد في ذمها صمام أمننا، لأننا صرنا إلى حال لا تسر المؤمن المحض؛ وإذا كان هذا العصر عصر الاختصاص، فإننا قد بعدنا - إلا الأقل الأندر منا - عن اختصاصنا وهو العمل بروح الدين ورحنا نتطلع إلى مطامع الدنيا، وحطامها، فنسينا النصيحة والدين هي، واقبلنا على كل ما فيه زهو وغرور. . .(211/41)
قلت: هذا صوت صارخ في البرية، فهل للشيخ أن ينصحني؟
قال: لا تعجل، فإن لكلامي بقية قليلة. وفي القليل بلغة
فأصغيت إليه، فمضى يقول: فأما العمل للدنيا بالنسبة إليّ، فإني احرث الأرض وازرع في بستان ورثته من آبائي أرضاً قاحلة، وأتعفف عما في أيدي الناس، ولا أمد عيني إلى مال؛ وبمنتوج بستاني وعمل يدي احفظ على كرامتي، واشتري ورقي وحبري وكتابي وثوبي وطعام عيالي، وارفع رأسي موفور العزة في عشيرتي وأهل بلدي؛ فهل من تقصير لدي بعد هذا في أمر الدنيا؟
قلت: كلا. لقد أوفيت يا شيخي.
قال: وأنصحك يا صاحبي - ولعلك في غنى عن النصح - أن تكون ذا دين، فأني لأشم في رائحة كتبك هذه التي تحمل بين يديك في رحلتك، التي لا اعرف منها الغاية والمدى، شيئاً أراه فوق التجدد الذي أنشده - مع من ينشده - لكم معشر الشباب فقد يصح لكم التجدد على طريقة معتدلة لا تمس الدين، ولا تذهب بالقومية مذاهب الفناء والدمار؛ ولكن غير هذا لا يصح.
قلت: يا شيخي! الآن كنت تنادي بالاختصاص، فقد فهمت أنك من حماة الدين الذي لن تمسه بسوء أن شاء الله، وأن كنت أقرا كتباً تجادل فيه، فلكي استطلع طلع المجادلين واعرف مقالاتهم.
قال مقاطعاً:
للرد عليهم ولا شك.
فقلت مستمراً في قولي: ولكني أراك في قولتك الأخيرة متطرقاً إلى القومية، فهل لي أن افهم رأيك الواحد في النحلتين.
قال: بلي؛ فأنا قومي بعد كوني مسلماً. وإذا ادعيت مع المدعين أن للعرب الفضل الأكبر في هذه الحضارة العتيدة، فلن أخطئ الهدف من الصواب. وأنت تعلم أن أجدادنا نشروا ثقافتهم في آسية وأشاعوا علومهم في أوربة صعداً من الأندلس وأسسوا في بلادهم المدارس، وسافروا إلى أقاصي البلاد في سبيل العلم، بعد أن نقلوا إلى اللغة العربية كثيراً من الكتب العلمية، ونقحوها وهذبوها أصولاً وفروعاً، وأضافوا إلى بعضها، فاصبح زمام(211/42)
الحركة العلمية العالمية في أيديهم دهرا.
وكان سلطانهم ممتداً من ساحل المحيط الاطلنطيكي إلى تخوم الصين، وكانوا هم أهل الصنائع والفنون
وكانوا أهل الشرائع العادلة، وأولي نظام في سياسة الملك قويم، وآداب خالدة رائعة وفلسفات
قلت: معلوم
قال: اجل، فهذا شيئاً مفصل في كتب التاريخ؛ فما الذي يمنعني الآن من أن افخر بهم، وبماضيهم المجيد الزاهر، لكي ابعث في نفوس بني جلدتي - أبنائهم - الصُبُوَّ إلى السير على آثارهم مع أداء الواجب الحق لما يتطلبه العصر الحديث منها من أعمال مهما كان نوعها، ترفع لامتنا رايتها خفاقة بين رايات الأمم الحية القوية المنيعة الجانب، الرافلة في حلل المدنية، المتمتعة بمتع المجد والاستقلال. وكذلك كان أجدادنا العرب أولئك في أزمانهم السعيدة، وأيامهم الخالدة الذكر، في سفر الحياة. وإنهم كانوا مع شيوع الفلسفة لديهم مسلمين حق إسلام، يشعرون برابطة العروبة غالباً، وإن كانت القومية على الطراز الغربي الجديد غير معروفة لديهم. . . فاكرر لك مرة ثانية: أنا قومي بعد كوني مسلماً؛ وليس عندي - لنفسي - رأي غير هذا. . .
إلى هذه النقطة من الحديث بلغ الشيخ. فانتهينا إلى مرحلة من الطريق، وجبت فيها علينا الراحة. وكنا في ضاحية قرية كائنة على جرف واد يشرف عليه جبل سامق، نبتت في سفوحه الجنات والحدائق الغلب؛ فأردت أن اكتفي من الرجل بما سمعت فالتفت إلى السائق أساله (الشاي) له؛ فقال مبتسماً وهو ينزل من السيارة: لعلك ترى في كلامي اقتضاباً مخلا، فإني وأن كنت شيخاً، لا اعرفني إلا من أقل الطلبة علماً فإن ألفيت في منطقي وفي رأيي ما لا تراه وافياً فسامحني فيه، فهذا حديث عجلان. . .
(نزيل القاهرة)
محمود. أ. السيد(211/43)