قلنا في العدد الأسبق إن كلية الآداب بالجامعة المصرية ستحتفل بإقامة أسبوع للجاحظ بمناسبة مرور أحد عشر قرناً على وفاته ابتداء من يوم 25 مارس، ونشرنا برنامج المحاضرات لأيام الأسبوع
ونكتب هذا يوم الجمعة إذ كان أمس (الخميس) اليوم الأول من أسبوع الجاحظ، فقبيل الساعة السادسة مساء وفد على قاعة المحاضرات بالجمعية الجغرافية الملكية جمهور كبير من المتأدبين، بينهم طائفة من السيدات والآنسات، وظل الجمهور يتوافد إلى ما بعد ابتداء الحفلة حتى اكتظت بهم القاعة
وفي منتصف الساعة السابعة نهض إلى المنصة الدكتور طه حسين بك عميد كلية الآداب فافتتح الحفلة بكلمة بدأها بأنه يقوم بافتتاح الأسبوع لاعتذار مدير الجامعة لانحراف خفيف، وشكر حضرات أعضاء قسم اللغة العربية لقيامهم بإحياء ذكرى الجاحظ، وقال: (أريد أن تتصل سنتنا هذه كما اتصلت في العام الماضي بحيث تستحيل دروسنا العامة في كل سنة إلى دروس تحليلية لكاتب أو شاعر أو عظيم)
وقام بعده الدكتور عبد الوهاب عزام فتحدث عن حياة الجاحظ وبدأ بطائفة من مأثور الكلم في تقريظ الجاحظ، وذكر سيرة مجملة له، فقال: (ولد الجاحظ بالبصرة ونشأ بها فقيراً، وروى ياقوت عن المرزباني أنه رؤي يبيع السمك والخبز بسيحان، ولكن الرجل المستوقد ذكاء، المولع بالمعرفة لم يكن ليصده شيء عن طلب العلم، فأخذ العلم عن شيوخ تصدوا للتعليم، وأفاد مما قرأه، وتثقف من الأعراب، وحرص على أن يبحث في كل ما يرى ويسأل كل من يرجو عنده علماً في أمر جليل أو حقير حتى صارت معارفه خلاصة المعارف التي أدركها المسلمون في عصره، زيادة على ما أدركه هو واستنبطه، وقد أفاض الأستاذ في التحدث عن نواحي حياة الجاحظ وأشار إلى ما وقع في كتبه من الألفاظ الفارسية فقال: لا أحسب الجاحظ قد حذق الفارسية واستفاد من كتبها.
وتكلم الأستاذ أحمد أمين عن (ثقافة الجاحظ) فقال: (إن الجاحظ أكبر شخص تثقف ثقافة واسعة في العصر العباسي، فقد أحاط بمعارف زمانه تقريباً) وقال إنه ظل يحصل المعلومات المختلفة حوالي القرن فتيسر له بما منحه من الزمن والصبر والحافظة ما لم يتيسر لغيره، وذكر الأستاذ أن الجاحظ تثقف ثقافة اعتزال، وهي أوسع ثقافاته لأنها تتطلب(195/83)
من صاحبها الإحاطة بالأديان المعروفة في عهده، إلى أن قال: (وقد كانت للجاحظ ثقافة أخرى هي الأخذ عن الكتب، وكان هذا معيباً، وكان صاحبه يسمى (صحفياً)، وبعد أن أفاض في بيان شغفه بالاطلاع والاستقراء قال إن الجاحظ تفرد بالثقافة الواقعية إذ انغمس في الحياة ودرس كل ما وقع تحت حسه، وأنه أبدع في الناحية الاجتماعية فتكلم عن التجار والصناع والجبناء والبخلاء الخ
وانتهى اليوم الأول من أسبوع الجاحظ بانتهاء محاضرة الأستاذ أحمد أمين
وفاة درنكووتر
توفي الأديب الشاعر المؤلف التمثيلي المستر درنكووتر في أثناء نومه بسكتة قلبية. وقد تكلمنا عنه بإفاضة أيام وفد على القاهرة لإلقاء بعض المحاضرات.(195/84)
العدد 196 - بتاريخ: 05 - 04 - 1937(/)
العام الهجري
عام الإسلام والسلام
هكذا تتعاقب أمواج السنين على ساحل الحياة، فتنفي الخبث وتطرح الغثاء، وتركم الأحداث، وتزيد في سجل التاريخ صفحة بعد صفحة؛ وابن آدم الفاني محمول على غواربها الرعن، تقذف بعضه مع الرمل والزبد، وترجع بعضه إلى العباب واللج! ومن يرجع فسوف يعود؛ ومن عاد فسوف لا يرجع!
هكذا يتحرك الفلك الدوار حركة الطاحون الثقيلة الساحقة، فيلفظ القشر، ويحفظ اللباب، ويصفي أكدار الوجود بالعدم، ويعفي حطام الصيف برياح الخريف، ويجدد ما رث من ديباجة العيش بأفواف الربيع؛ وابن آدم في يد القدر المصرف محراث ومنجل؛ بعضه يزرع الأمان والعمران والخير، وبعضه يقطع السلام والوئام والحب، وبين هاتين القوتين المتكافئتين يسير هذا الكوكب المظلم فلا يقف، ويتدفق هذا الدهر الأتي فلا يركد، ثم لا ينسحق بينهما إلا هذا الغبي الذي سلط نفسه على نفسه!
لله الحمد ولنا المجد! لم تكن أمتنا من شيعة الظلام ولا عصبة الخصام ولا فرقة الهدم؛ إنما كانت خير أمة أخرجت للناس، أمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وأعلنت كلمة الله، وبلغت رسالة الحق، وحملت أمانة العلم. هذا تاريخنا، تتألق أيامه الغر في ظلام الماضي، كما تتألق الكواكب الزهر في حلك الليل. أرشدنا الضال فاهتدى، وحمينا الذليل فعز، وعلمنا الجاهل فتعلم؛ ثم مكنا في أرضنا الفسيحة ودنيانا العريضة لعناصر الجمال والخير، فقويت في كل نفس، وازدهرت في كل جنس، وانبعثت في كل دين، وانتشرت في كل أفق؛ وحققنا لهذا الإنسان طريد العدوان وعبد الطغيان أحاديث أحلامه وهواجس أمانيه: من الأخوة التي يعم بها النعيم، والمساواة التي يقوم عليها العدل، والحرية التي تخصب فيها المدارك؛ لأن رسالتنا لم يوحها الجوع ولا الطمع، وإنما أوحاها الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلام والنور، وأوجد الفساد والصلاح، ليدرأ قوة بقوة، ويصلح نظاما بنظام، وينقذ إنسانا بإنسان
فلما أدركنا ضعف المخلوق ونقص البشر، ففدحتنا تكاليف الرسالة وأعباء المجد، أغفينا حقبة لنسترفه ونستجم؛ ثم صحونا اليوم نمسح الكرى عن الجفون، وننفض الغبار عن(196/1)
الأوجه، فإذا العالم يعصف به سعار من الجشع المسلح والطمع الباغي؛ وإذا الدين الشرقي يقلبه المزاج الغربي إلى كلب وغلب: فعبقرية موسى رباً ودسيسة، وروحية عيسى خصومة وحرب؛ وإذا رجل لم تنبته صحراء العروبة، ولم تنفحه عطور الشرق، يطغيه الحديد ويبطره العديد، فيقول وهو يحطم الصليب في الحبشة: أنا حامي الإسلام!
وأذل الإسلام إذا لم يعزه أهله! لا يا سيدي! إن الإسلام قوته فيه ودفاعه منه؛ ولا يزال كتابه في أيدينا يعمر القلوب بالقوة، ويغمر النفوس بالحياة: والقوة قوة الإيمان، والحياة حياة الروح؛ أما قوة الأساطيل على الماء وفي الهواء فعمرها يوم وليلة، ثم لا تكون إلا دخاناً في السماء، وحطاماً على الأرض!.
لا يكون الغرب بغير الشرق إلا كما يكون الجسم بغير الروح. فلابد من تآلف العقليتين وتحالف القوتين لإقرار النظام في الدنيا والسلام في العالم. والإسلام - دستور الديمقراطية الصحيحة، والاشتراكية المنظمة، والاخوة الشاملة - يبسط يده لكل يد تدفع الإنسانية إلى التقدم، وترفع المدنية إلى السمو. وهؤلاء المستعمرون الجياع الذين هالهم سره وراعهم معناه، فحاولوا أن يطفئوه في مشرق نوره، ويخفتوه في مصدر صوته، ليسرقوا الضمائر في الظلام، ويسلبوا الذخائر في الغفلة، قد أخطأنا فهمه وجهلوا قواه. فإن نوره من الله، وسيسطع ما سطعت الشمس؛ وإن صوته من السماء، وسيرتفع ما ارتفع الحق؛ وإن سلطانه من العدل، وسيبقى ما بقى الكون. فإذا انشقت الأرض، وانفطرت السماء، وانكدرت الشمس، عاد إلى مصدره الأزلي باهراً كما صدر عنه، طاهراً كما انبثق منه!
لقد أصابوا أخيرا فخطبوا وده وطلبوا حلفه. ذلك عهد جديد بين الشرق والغرب، أو بين السلم والحرب، سيقف فيه الحق الصريح أمام الباطل الخداع وجها لوجه. وسيعلم الإنجليز الذين حالفوا العراق ومصر، والفرنسيون الذين عاهدوا سورية ولبنان، أن الإسلام أصد وعدا، وأن العرب أوفى ذمة. ولعل هذه التجربة القريبة ترفع حجب الظنون عن القلوب والعيون فيعيش أولئك أصدقاء في فلسطين، ويعيش هؤلاء حلفاء في المغرب
إن الإسلام روح فهو حياة، وعقيدة فهو قوة، وشريعة فهو دستور، ومحبة فهو سلم. فعاملوه على ذلك تكسبوا عطفه وتغنموا رفده؛ أما الخداع والرياء، أو الشدة والجفاء، فتلك أسلحة مفلولة، إن قطعت قبل بالأمس فلن تقطع بعد اليوم.(196/2)
أحمد حسن الزيات(196/3)
في غار حراء
للأستاذ أحمد أمين
في غار حراء - وهو غار يقرب من ثلاثة أمتار في مترين في قمة جبل على يسار السالك من مكة إلى عرفة - كان محمد وهو في سن الأربعين قبيل الرسالة يتجنث
كان محمد في هذه الأيام يألف العزلة (لم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده) وكان يخرج إلى شعاب مكة وبطون أوديتها
وكان يقضي شهراً مجاوراً في غار حراء
هكذا تقول كتب السيرة
فيم كان يفكر؟ وما الذي كان يطلب؟ وما هذه الحالة النفسية الجديدة التي استولت عليه؟ وما الذي جعله يهرب من الناس وقد كان بهم أنيساً؟ يسعد بالوحدة، ويسعى إلى العزلة، ولا يطمئن إلا إلى نفسه وتفكيره؟ وما الذي جعله يختار قمة جبل يشرف منه على العالم حوله فتسبح نفسه في التفكير من غير أن يحدها حد أو يقف بها عند غاية
ما هذه الأفكار التي كانت تملأ نفسه شهراً فلا يمل التفكير، ولعله كان يود أن يبقى كذلك أشهراً لولا واجب أهله وواجب عشيرته؟
ولكن هل لنا أن نتساءل هذه الأسئلة؟ وإذا سألناها فهل في استطاعتنا أن نجيب عنها؟
هل في استطاعة الجاهل أن يشرح أفكار الفيلسوف؟ وهل في مكنة من لا يحسن الرياضة أن يتخيل ما يفكر فيه الرياضي؟ وهل للنملة أن تتساءل فيم يفكر الإنسان؟
ولكن ما حيلة الإنسان وقد خلق طموحا إلى أقصى حد وأبعد غاية، لم يقنع في باب المعرفة بشيء، لم يقنع بالأرض ففكر في السماء، ولم يقنع بالظاهر ففكر في الحقائق، بل لم يقنع بآثار الله فأراد أن يعرف ذات الله، وهيهات هيهات!
أكبر الظن أن (محمداً) في هذه الفترة، وعلى الأخص في غار حراء كان في حيرة ما أشدها من حيرة عبر الله عنها بقوله (ووجدك ضالا فهدى)
لقد عرف قومه فلم يعجبه دينهم ولا نوع حياتهم ولا كفرهم ولا إيمانهم ولا أخلاقهم؛ وسافر إلى الشام فرأى فيها مدينة الرومان بمالها وأعمالها التجارية وترفها ونعيمها ودينها الرسمي ومظاهره، فلم يعجبه شيء من ذلك. لقد رآهم يعيشون كما يعيش السمك يأكل بعضه بعضاً،(196/4)
أو كما تعيش الذئاب والشياه في حظيرة واحدة
رحماك الله! ما هذه الحيرة الشاملة؟ لا البداوة لسذاجتها ونظامها أعجبته، ولا الحضارة بترفها وزخارفها أعجبته. لم يعجبه ما رأى من وثنية، ولم يعجبه ما رأى من نصرانية. فأين الحق؟
لقد اطمأن إلى شيء واحد وهو أن كل ما رأى ضلال؛ وحيره شيء واحد وهو سؤاله أين الهدى
حالة نفسية إذا تملكت نفسا مرهفة وشعورا دقيقا ملكت نفسه وغمرت قلبه؛ فحلا له أن يعتزل الناس لأنهم يحولون بينه وبين تفكيره ويقطعون عليه سلسلة مشاعره
لقد جرب العزلة الساعة واليوم فوجدها تفتح قلبه وتريح نفسه، ووجد فيها مفتاحا لحيرته واتجاه لهدايته فبالغ فيها حتى بلغت الشهر!
إن الناس وضوضاءهم ومناظر حياتهم يضنون نفسه فليهرب منهم، وإن منظر الطبيعة بجمالها وبهائها ورونقها ليحي نفسه فليطمئن إليه. يتعاقب عليه في عزلة الليل والنهار فيجد في كل غذاء نفسه: هذا الليل في أعلى الجبل بسكونه وهدوئه، وسمائه ونجومه، والعالم حوله كله نائم، وهو يناغي النجم، ويشاطره الاضطراب والحيرة، وهذا النهار - في أعلى الجبل أيضا - يشرف منه على العالم من تحته، فيهزأ بالناس وسخافاتهم هزؤا مشوبا برحمة، واستخفافا ممزوجا بعطف
كل ذلك وأكثر من ذلك كان يخفق له قلب محمد في غار حراء.
لقد عرف الباطل، ويريد أن يعرف الحق؛ وأدرك الضلالة ويريد أن يدرك الهدى؛ ولم يحب ما عليه الناس، ولكن يريد أن يعرف ما ينبغي أن يكون عليه الناس.
هذا الظلام فأين النور؟ وهذا العمى فأين البصر؟ وهذا ما يجب ألا يكون، فأين ما يجب أن يكون؟
لقد طلب الحق - في غار حراء - بعد أن تهيأت نفسه واستعدت روحه، وكملت مشاعره، وتوجت بالحيرة، فكانت حيرته إرهاصا لليقين، وضلاله إرهاصا للهدى
لم يطلب الحق من طريق الشعر؛ فالشاعر يتخيل ثم يخال، والشاعر يخلق ما لم يكن ولا يدرك ما يجب أن يكون، والشاعر يغني لنفسه - أولا - ولا باس أن يسمع للناس،(196/5)
والشاعر يعيش في جو خيالي يخلقه بنفسه لنفسه. وليس هذا من النبوة في قليل ولا كثير. ولم يطلب الحق من طريق الفلسفة أو العلم، فكلاهما عبد المنطق، عبد الألفاظ، عبد الكتب، عبد النصوص؛ وأحسن أمرهما أنهما عبدان للعقل، والعقل معيب مغرور مضل؛ ولكل إنسان عقله، ولكل إنسان تفكيره، ولكل إنسان منطقه وقضاياه
إنما طلب محمد الحق من طريق أسمى من ذلك كله، وأرفع من ذلك كله: طلبه من طريق القلب، وأعلن أنه لم يطلب علما ولكن طلب إيمانا، فأعلن أنه أمي وفخر بأميته، لأن القلب فوق اللغة، وفوق الكتابة والقراءة، وفوق العلم، وفوق المنطق؛ وهو القدر المشترك بين الناس، لا يؤمن بحدود اللغة والجنس، ولا يؤمن بحدود اللسان والألوان
من أجل هذا لم يذهب - وقد حار - إلى معلم يعلمه الكتاب، ولا إلى مثقف بالكتب والأديان، وإنما فضل على ذلك كله غار حراء حيث الطبيعة على فطرتها مفتوحة أمام قلبه، وحيث يتصل هو وهي بربها وربه
لقد اهتدى إلى الصراط المستقيم، واتجه اتجاه الأنبياء، لا اتجاه الشعراء والعلماء، وتهيأ للأمر العظيم، فلمعت في قلبه الشرارة الإلهية، كما يتهيأ السحاب فيلمع البرق
لقد أضاءت له هذه الشرارة الإلهية كل شيء، وكانت رسالته من جنس هدايته؛ فرسالته أن يبعث الحياة في القلب، ويبعث الضوء إلى النفس، كالقمر يستمد نوره من الشمس، ثم يعكس أشعته الجميلة على الناس، يشترك في الاهتداء به العالم والجاهل، والذكي والغبي، والفيلسوف والعامي، على اختلاف فيما بينهم، لأن لديهم جميعا قدرا مشتركا من القلب صالحا للاهتداء
وليست العقول مسايرة في الرقي والانحطاط للقلوب، فقد يكون مريض القلب صحيح العقل، وقد يكون صحيح القلب مريض العقل، ومقياس صحة الاستفادة من النبوة صحة القلب لا صحة العقل، فلذلك آمن بلال قبل أن يؤمن عمرو بن العاص، واسلمت جارية بني مؤمل قبل أن يسلم أبو سفيان
كانت فترة غار حراء الحد الفاصل بين محمد بشرا، ومحمد بشرا رسولا. لقد صعد إليه إنسانا حائرا، وهبط منه إنسانا نبيا، مهتديا مطمئنا. صعد شاكا. وهبط مؤمنا. لمع في قلبه النور الإلهي فإذا كل شيء حوله شفاف يراه بقلبه ويكشفه بنوره(196/6)
نزل من الغار يدعو الناس أن يستضيئوا بضوئه، وأن يحيوا قلبهم من حياة قلبه، وأن يسمعوا لصوت الله على لسانه، وأن يروا عظمة الله في كل أثر من آثاره
أي شهر كان هذا الشهر؟ لو وزن به الزمان لوزنه، وأي مكان غار حراء؟ لو فاضل كل مكان لفضله
أحمد أمين(196/7)
نجم أحمد!
للأستاذ توفيق الحكيم
وقف اليهودي على أحد آطام يثرب ناظر إلى السماء يعلن إلى بني قومه ميلاد النبي في صيحة مدوية: طلع الليلة نجم أحمد! عجبا من العجب! أحقاً لم ير ذلك اليهودي نجم أحمد قبل تلك الليلة؟ يخيل إلي أن الناس في ذلك الزمان كانوا يسيرون مطرقين كالعميان. إن نجم أحمد طالع في كل لحظة يشع نورا من بداية الكون لو أن للكون بداية، إلى نهاية الزمن لو أن للزمن نهاية. نجم أحمد هو الحق. والحق لا يبدأ ولا ينتهي. ولا يظهر ولا يختفي. أنه موجود
إذن ما الإسلام؟ وكيف ظهر الإسلام بظهور محمد، والمسيحية بظهور المسيح؛ واليهودية بظهور موسى؟ هنا لزم التفريق بين الحق وثوب الحق. بين المعنى والأسلوب. ما الإسلام إلا أسلوب من أساليب الحق. ورداء من أرديته. كذلك المسيحية وكذلك اليهودية. وكذلك كل دين من تلك الأديان السماوية التي تتحد في الجوهر وتختلف في المظهر: وهنا نستطيع أن نفاضل بين الأساليب؛ وهنا فقط يجوز لنا أن نفاخر بالدين الأخير، إذ جاء بأسلوب جامع مانع، سهل ممتنع، محكم الوضع، مصقول التراكيب. فالمفاضلة لا تكون في الجوهر، لأنه واحد أحد؛ إنما المفاضلة في الأثواب
وهنا يخطر على البال سؤال: هل تجوز المفاضلة بين الأثواب وهي كلها من صنع الخالق المعصوم الذي لا ينبغي أن يخطئ ولا أن يصحح ما سبق أن صدر عنه. أو أن جوهر الحق وحده من شان الله، أما الأسلوب الذي يعرض به على الناس فهو من شأن الرسل والأنبياء؟ قبل الإجابة على هذا السؤال يجب النظر في قضية أخرى: هل للطبع والمزاج والخلق الذي ركب عليه النبي أو الرسول أثر في أسلوب رسالته؟ هل شخصية الرسول تطبع بخاتمها شكل الدين الذي يدعو إليه؟ وهل لظروف العيش التي نشأ عليها النبي دخل في اتخاذ (القالب) الذي أفرغ فيه (موضوع) النبوة؟ إن أجب على كل هذا بالإيجاب فإن التبعة في (أسلوب) الأديان تقع بلا مراء على كاهل الأنبياء. والنبي إذن مسئول عن الطريق الذي اتبعه للإبانة عن (الحق) مسئولية ملقاة على (شخصيته) التي صبغت الشريعة بصبغتها. وعلى قدر المسئولية تكون العظمة؛ وعلى قدر (الشخصية) ذات الوجود الفعلي(196/8)
تقاس العبقرية العظمة والمجد الأسمى.
إن صح هذا الكلام فإني أستطيع القول إن النبي أو الرسول لا يصل إلى الحق متجرداً عن شخصيته، بل إنه لا يستطيع الدنو من الحق إلا عن طريق شخصيته. كذلك فعل النبي العربي، وكذلك فعل المسيح وموسى. وكذلك كل نبي لا يستطع أن يرى الحق إلا عن طريق إحساسه وطبعه وعقله، وهي ملكات تختلف باختلاف الأشخاص. وهنا يبدو سر تباين الأساليب التي جرت عليها الأديان في عرض جوهر الحق على الناس. ولعل محمداً هو أكثر الأنبياء حرصاً على تنبيه الناس في كل مناسبة إلى وجود شخصيته المستقلة، فهو لا يفتر يذكرهم أنه بشر خاضع للقوانين التي يخضع لها البشر، وأنه لا يتصل بالله هذا الاتصال الخاص الذي قصر على الرسل إلا إذ يشاء الله. وأنه في كثير من حياته الخاصة أو العامة حيث لا وحي يهديه السبيل، يتصرف كما يتصرف البشر. هكذا فعل في معارك بدر وأحد والخندق إذ كان يستمع إلى مشورة أصحاب الرأي من رجاله. وهكذا فعل إذ لم يخف ميله إلى الطيب والنساء. بل إنه أعلن ذلك الميل لعلمه أن الميول من مميزات الطبع التي ركبها الخالق في البشر. والنبي الحق أجل من أن يكتم مزاجاً أو طبعاً، وهو يعرف أن المزاج والطبع من مقومات الشخصية.
وهنا تبدو حكمة الإسلام ظاهرة بين سائر الأديان. فهو دين بسيط فطري لم تدخله صناعة. كل شيء فيه صادق خالص صاف، ليس فيه إنكار لقوانين الطبيعة، بل فيه مسايرة حكيمة ومصاحبة رشيدة لكل ما فرضه النظام العلوي على البشر من حيث تركيبهم المادي والمعنوي. ذلك أن أسلوب محمد في إدراك (الحق) كان أسلوباً مستقيما. فهو قد أدرك أن (معنى) الحق إنما هو (السبب) الذي يصدر عنه الناموس الأكبر، وأن روح الوجود هو (النظام) إذ لا يتصور أن تكون (الفوضى) من عناصر الخليقة. بل أن (الفوضى) إذا حلت في نظام الوجود انقلبت نظاماً، لأنه لا وجود بلا نظام؛ بل إن كلمة (الفوضى) لا محل لها إلا في أدمغة البشر يعبرون بها عن كل ما يحدث شيئا من الخلل في ترتيب حياتهم الضيقة المحدودة. أما الكون غير المتناهي فلا يعرف غير النظام، هذا النظام الذي فرض على الإنسان والحيوان والجماد. هل من سبيل إلى مخالفته؟ إن مخالفة النظام الطبيعي للإنسان والأشياء مخالفة لله؛ وكل دين يقف في وجه النظم الطبيعية لا يمكن أن يكون من عند الله،(196/9)
لأن الله لا يناقض نفسه. كل هذا فهمه محمد ووعاه ببصيرته النورانية النافذة، فجاء أسلوب الإسلام في الإفصاح عن (الحق) واضحاً جلياً؛ لا يأمر بالرهبنة، ولا بالفرار من الدنيا، ولا بتعذيب الجسد من أجل الله لأن الله لا يأمر بتحطيم ما بناه
إنما يريد الله أن تعيش الأحياء طبقاً لقوانين الحياة التي وضعها لها، وأن تجاهد في سبيل هذه الحياة، وأن تتغلب على عناصر الفناء بما هيأه لها من مناعة طبيعية، أو مناعة اكتسابية. والدين هو أداة المناعة الاكتسابية لمكافحة عناصر الفناء المادية والأدبية
فلئن كانت غاية الدين عند البشر توفير أسباب الحياة الصحيحة، والدنيا الصحيحة خير تمهيد لآخرة صحيحة، فإن الإسلام بلا مراء هو دين الصحة في كل شيء. فهو ذو صوت جهير في الدعوة إلى صحة الجسم وصحة العقل وصحة العقيدة. ولئن كان ماضي هذا الدين السليم مجيدا، فإن مستقبله ولا ريب يبشر بازدهار يعم الأرض لو استطعنا أن نجرده من سفسطة الجامدين، وننقيه من ثرثرة المتنطعين، وننقذه من احتكار الجهال المحترفين، وأن نرده إلى مبادئه البسيطة الصافية التي لا تصدم تقدما ولا تعارض التطور الطبيعي للأذهان والأشياء. وقتئذ فقط نستطيع أن نغزو به كل النفوس وكل العقول. فإن الدين (المثالي) هو الدين البسيط. وهل أبسط من الإسلام شريعة وهي لا تعرف (رجال دين) ولا تقر وجود أناس يجعلون من هداية الناس حرفة يأكلون منها ويكنزون، ومن (الدين) مهنة تدر الرزق وتعطي متاع (لدنيا)؟ إن أولئك الذين يجعلون (الدين) سلما (للدنيا) لا (الدنيا) سلما (للدين) قد طردهم الإسلام بعيدا عن حظيرته، وجعل الدين سمحا باسما باسطا ذراعيه لكل الناس لا احتراف فيه ولا احتكار. نعم، إن حاجة البشر كافة قد أصبحت متجهة إلى هذا النمير العلوي الصافي من المبادئ البسيطة المستقيمة التي لا خداع فيها ولا تمويه ولا تناقض ولا تشويه ولا إخلال ولا تدخل في قوانين الطبيعة الأساسية التي وضعها المبدع الأعظم. إذا تم ذلك للإسلام في هذا العصر فلسوف يأتي يوم يقف فيه أهل الأرض أجمعون من كل جنس ولون على آطام بلادهم يصيحون في كل حول صيحة ذلك اليهودي:
(لقد طلع نجم أحمد!)
توفيق الحكيم(196/10)
الإسلام بعد 1355 سنة
للدكتور عبد الوهاب عزام
مضت خمسة وخمسون وثلاثمائة وألف عام منذ هاجر الرسول وأصحابه إلى المدينة، طوى التاريخ خمسا وخمسين وثلاثمائة وألف مرحلة منذ خرج محمد وأصحابه يحملون دعوة التوحيد والأخوة، وكلمة الحق والعدل والحرية - ركم الزمان على عام الهجرة أربعة عشر قرنا ونصفا ومازال يخرق الحجب نوره، ويلوح من خلال الأجيال سناه.
مضت أربعة عشر قرنا في جزر التاريخ ومده، وغير الدهر وخطوبه. قامت دول وزالت دول، وقويت أمم وضعفت أمم، وحيت مذاهب وماتت مذاهب، والأرض ترجف باعتراك الإنسانية واحتراب الأديان، وتدوي بالآراء تتصادم، والأفكار تتقاتل، ومن وراء هذا خلق يغلب خلقا، وسنة تميت سنة، وآية تنسخ آية، وأثر يبقى على أثر.
فأين الإسلام اليوم من مبتدئه؟ وأين بلغ المسلمون بعد أربعة عشر قرنا؟
قال كاتب أوربي منذ سنتين إن دعوة الإسلام قد انتهت، وإن الإسلام قد وهن، ولم تبق فيه قوة تحرك الأمم وتسير الأجيال.
أحق أن الإسلام قد انتهت دعوته، ودرست آياته، ولم تبق إلا أسماء وأوهام ورسوم وأعلام؟ هل الإسلام اليوم لا تنبض به القلوب، ولا تشق به العزائم، ولا يقيم المثل العليا للعمل في هذه الحياة، أصار الإسلام تاريخا دابراً، وانقلب مجداً ماضيا؟ هل طفئت النار، وأقوت الديار؟
ما هي دعوة الإسلام؟ دعوة ذات شعب تتناول العقائد والأعمال، وتهيمن على العقل والقلب، وتحيط بالجماعة من أقطارها، وتشمل الأمم جميعها، ولكنها في أصولها ترجع إلى أمرين: التوحيد - توحيد الله وتوحيد النفس بتخليتها من الأوهام المتنازعة والخرافات المتهافتة وإقامتها على طريق بينة لا حيرة فيها ولا ضلال؛ ثم توحيد الأفراد في الجماعة بالعدل الشامل والتسوية التامة، وإعطاء كل ذي حق حقه، لا عبد ولا حر، ولا سائد ولا مسود، ولا رفيع ولا وضيع؛ ثم توحيد الجماعات فلا شرقي ولا غربي، ولا عربي ولا عجمي. والأمر الثاني: العمل الصالح: أن يسير الفرد والجماعة والأمم إلى الخير، إلى العمل لإقامة الحق وهدم الباطل، ونشر العدل ومحو الجور - أن تمتلئ القلوب نارا(196/11)
تحفزها للعمل، ونورا يهديها السبيل، وتسمو النفوس عن الصغائر والدنيا، وتطهر من الأحقاد والضغائن، وتحرر حتى تأبى على القيود، وتتسع على الحدود، وتنطلق في الكمال إلى أبعد غاية
فهل انتهت هذه الدعوة الإسلامية؟ هل أظلم قلب المسلم؟ هل ذلت نفسه؟ هل ذهب الخشوع بآماله؟ هل رده الدهر إلى الصغار، وأنزله اليأس إلى القرار؟ هل يئس المسلم من السيادة ورضى أن يسلم قياده؟
كلا كلا، أن في الإسلام من المثل والأخلاق والفضائل والعزة والإباء والسمو والتاريخ الوضاء ما يملأ المسلمين حياة وآمالا وطموحاً واحتراما. لم تنته دعوة الإسلام ولكنها اليوم تقوى وتعظم، وقد تهيا الزمان لها ومهدت الحادثات سبلها. بدأ الإسلام دعوته منذ أربعة عشر قرناً ولكنها لم تبلغ غايتها وأجدر بها اليوم أن تبلغها
ما تزال النفوس الإنسانية طماحة إلى السمو، نزاعة إلى الخير، مفعمة بحب الحق والعدل، تواقة إلى الأخوة والحرية. فلن تقف دعوة الإسلام. ما يزال المسلم الحق يرى نفسه خليفة الله في الأرض، مكلفاً أن يقيم العدل بين الناس، موكلا بنصرة الخير ومحاربة الشر، أنى كان ومتى استطاع. كل الأرض داره، وكل الزمان وقته. فلن تقف دعوة الإسلام ما يزال المسلم ينطوي على عزة تقهر الخطوب، وأمل يغلب الزمان؛ ونفس لا تسف، وقلب لا يذل، وما تزال سيرة محمد في عقله وقلبه، ولا يزال مجد الإسلام ملء جوانحه، ولا تزال كلمة الحق والعدل ملء ضميره. فلن تقف دعوة الإسلام. إن دعوة الإسلام لا تقف حتى يموت الخلق العلي والقلب الأبي في نفوس البشر.
وقل للذين يزعمون إنهم حماة الإسلام: إن الإسلام في حماية أهله ورعاية تاريخه. ما أذل الإسلام إن ابتغى في غير أولاده حماة! وما أذل المسلمين إن رضوا بغير حماية الله! يا حسرة على الحق إن التمس من الباطل حاميا! ويا خسران العدل إن ابتغى من الظلم ناصراً! وويل لورثة محمد إن لم تحمهم سيرة محمد وخلفائه، ومن أنجبتهم العصور من أئمته وأبطاله!
إن في دين المسلم، وإن في قلب المسلم، وإن في خلق المسلم، ما يربا به عن كل دنية، ويصمد به إلى كل هول، ويثبته في كل كارثة، ويسمو به على كل عقبة.(196/12)
أيها الحماة الأبرار! لقد أدرتموها على المسلمين حرباً طاحنة في المشرق والمغرب، وغزوتموهم بالسلاح والفتنة والفرية، وكدتم لهم في السر والعلانية، واستبحتم فيهم كل منكر، حتى إذا ظننتم أنهم هانوا وذلوا، ويئسوا وملوا قلتم: هلم أيها الضعفاء، فنحن الحماة الأقوياء!
أيها الحماة: شد ما قسوتم على المسلمين! ثم شد ما رفقتم بهم! أيها الحماة: لقد تعلمون أن بضعة آلاف من بني الإسلام ثبتوا لكم وسخروا بقواكم وفنونكم وأساطيلكم وجيوشكم وطياراتكم أكثر من عشرين عاماً ولم يكن سلاحهم إلا عزة الإسلام ومجد العرب.
سلاحهم عزيمة الجهاد
وقوتهم ما سلبوا الأعادي
يصابرون الأكبد الصوادي
ويأكلون الجوع في البوادي
قد يئسوا يأساً من الأمداد
إلا ثبات القلب في الجلاد
ونصرة الرحمن للعباد
أبت لهم كرامة الإسلام
أي إباء العرب الكرام
أن يسلموا الأوطان دون الهام
منيتهم مشارع الحمام
فلما تكسر في أيديهم كل سلاح، وأعوزهم كل قوت، وضاق على عزائهم كل مجال، خرجوا من ديارهم أنفة أن يروا الصغار في الديار، وإباء أن تجمعهم والمذلة أرض؛ وهم اليوم مشردون في الأقطار، قد نالت الخطوب من أموالهم وجموعهم ونعيمهم ودعتهم ولم تنل من أنفسهم، فكل منهم علم جهاد، وصحيفة فخار، وسجل مآثر، وشهادة ناطقة بما تتجاهلون من العزة الإسلامية، والأنفة العربية. ألا إن الإسلام لم تنته دعوته، لم تضعف كلمته، وسيبقى كلمة الله في الأرض، ودعوته إلى الحق، وحجة على الخلق، في أمره بالأخوة والحرية، والعمل في الحياة على أقوم السنن، إلى أكرم الغايات.(196/13)
ألا إن الإسلام دعوة إلى الحياة لا تموت، ودعوة إلى الحرية لا تستعبد، ودعوة إلى العزة لا تذل، ودعوة إلى العمل لا تفتر
ألا إن الإسلام دعوة إلى السلام والإخاء، وإلى الصدق والوفاء. فإن دارت به الأكاذيب، واجتمعت عليه الأباطيل، وسيم الهوان، وقوبل بالعدوان، فهو دعوة إلى العزة والاباء، والصبر على اللاواء، والموت في سبيل الحق، والخلود من وراء الموت.
عبد الوهاب عزام(196/14)
الدبلوماسية في الإسلام
العلائق بين مصر وبيزنطية في عهد الدول الفاطمية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت بغداد محور السياسة الإسلام في المشرق يوم كانت الدولة العباسية في ذروة قوتها وفتوتها؛ وكانت الدولة البيزنطية تتجه يومئذ ببصرها إلى بغداد قلب الإسلام النابض، ترقب حركاتها ومشاريعها، وتتحوط لفوراتها وغزواتها. وكانت المعارك تضطرم بين الدولتين بلا انقطاع تقريبا أيام الرشيد والمأمون والمعتصم؛ ولكن فتوة الدولة العباسية لم يطل أمدها؛ فمنذ أواخر القرن التاسع تسري إليها عوامل الانحلال والوهن، وتخبو فيها فورة النضال والغزو، ويتجه بصر الدولة البيزنطية إلى قوة ناشئة أخرى على مقربة من حدودها الجنوبية. ذلك أن مصر، التي بقيت زهاء قرنين ونصف قرن ولاية خلافية، غدت في ظل الولاة الأقوياء دولة شبه مستقلة، وأخذت تجيش بمختلف الأطماع والمشاريع، وألفت الدولة البيزنطية في قيام الدولة الحمدانية بالشام، وقيام الدولة الطولونية ثم الدولة الاخشيدية بمصر، مواطن جديدة للخطر يجب اتقاؤها. وأخذ ميدان النضال بين الإسلام والنصرانية يتحول من سهول أرمينية وأواسط الأناضول إلى سهول كليكية وشمال الشام. ولما قامت الدول الفاطمية بمصر، رأت الدولة البيزنطية من قوتها وغناها ووفره جيوشها وأساطيلها ما ينذر بتفاقم الخطر، وأدركت أنها تواجه على يد هذه الدولة القوية فورة إسلامية جديدة تضطرم قوة وفتوة وطموحا، وأخذت ترقب حركات الدولة الجديدة ومشاريعها في يقظة وجزع.
وشغلت الدولة الفاطمية مدى حين بخطر القرامطة الذي كان يهددها في موطنها الجديد، ويكاد ينذرها بالمحو والفناء العاجل. وألفت الدولة البيزنطية من جانبها فيما أثارته غزوات القرامطة للشام من الاضطراب والفوضى، فرصة للإغارة على الشام ودفع حدودها إلى الجنوب؛ وكانت الدولة الحمدانية في حلب قد اضمحلت ولم تقو بعد على رد الغزاة من الشمال، ولم تلبث أن انضوت تحت لواء الروم (البيزنطيين) وتعهدت لهم بأداء الجزية استبقاء لحياتها، واتقاء لسطوة الدولة الفاطمية الجديدة. وبينما كان القرامطة يزحفون على مصر، وجيوش المعز الفاطمي تدفعهم عنها، غزا الروم الشام، وعاثوا في سواحله واستولوا(196/15)
على إنطاكية، وهزموا الجيوش الفاطمية أولا، ثم عادوا فارتدوا أمامها تحت أسوار طرابلس، واختتم عهد المعز لدين الله، والروم يبسطون سلطانهم على قسم كبير من شمال الشام.
وفي عهد العزيز بالله استؤنف النضال بين الدولتين؛ وكان خطر القرامطة قد خبا وتحطم تحت ضربات الدولة الفاطمية. وألفى الفاطميون والروم أنفسهم في سهول الشام وجها لوجه؛ وكانت الدولة البيزنطية تجوز في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر مرحلة جديدة من القوة والنهوض في عصر الأسرة البسيلية، ولاسيما في عهد الإمبراطور باسيل الثاني (976 - 1025م)، معاصر العزيز بالله وولده الحاكم بأمر الله؛ وكانت السياسة البيزنطية كعادتها تشجع كل عناصر الانتقاض أو الخروج في المملكة الإسلامية؛ فلما همت الجيوش الفاطمية بغزو حلب واستغاث بنو حمدان بحلفائهم الروم، سار الروم لقتال المصريين ونشبت بينهما معركة طاحنة على مقربة من إنطاكية (381هـ - 991م)، فهزم الروم هزيمة شديدة؛ وخشيت السياسة البيزنطية عواقب هذا الفشل، فسار الإمبراطور باسيل الثاني بنفسه إلى الشام وغزا حمص وأعمالها، وبسط سلطانه على معظم سواحل الشام؛ وارتاعت الخلافة الفاطمية لهذا التطور الخطير في حوادث الشام، وهم العزيز بالمسير بنفسه إلى قتال البيزنطيين، ولكن الموت أدركه في الطريق؛ وخلفه ولده الحاكم بأمر الله طفلا، وتولى تدبير شؤون المملكة وصيه برجوان الصقلى؛ واضطربت حوادث الشام حينا، وشجعت السياسة البيزنطية قيام الثورة في صور، وسار الروم في البر والبحر لمؤازرة الثوار؛ ولكن برجوان كان رجل الموقف، فبعث إلى الشام بجيش كبير، استطاع إن يخمد الثورة، وأن يهزم البيزنطيين في عدة مواقع (378هـ - 998م)، واضطر باسيل الثاني أن يسير بنفسه إلى الشام مرة أخرى. ولكنه ما لبث أن اضطر إلى العودة إلى قسطنطينية ليتأهب لرد خصومه البلغار الذين هددوه بالغزو من الشمال:
وهكذا لبثت الشام مدى حين ميدان النضال بين الدولتين الفاطمية والبيزنطية. كانت السياسة البيزنطية ترى في قيام الدولة الفاطمية وتوطدها بمصر والشام خطرا جديداً عليها، وتحاول أن تغالب هذا الخطر ما استطاعت؛ وكانت الدولة الفاطمية من جانبها تعمل لتوطيد حدودها الشمالية ورد الخطر البيزنطي عنها، ولم تكن تجيش في ذلك بأكثر من(196/16)
نزعة دفاعية، بينما كانت الدولة البيزنطية تجيش في عهدها الجديد بنزعة إلى الفتح والتوسع. وكانت الخلافة الفاطمية تتوق إلى اتقاء الأحداث والحروب الخارجية لتتفرغ إلى تنظيم شؤونها الداخلية؛ فلما هزمت الجيوش الفاطمية جيوش الإمبراطور في الشام واستطاعت بذلك أن تثبت تفوقها العسكري، انتهز مدبر الدولة برجوان هذه الفرصة ليعقد الهدنة مع الدولة البيزنطية، فبعث إلى الإمبراطور يقترح عقد الصلح والمهادنة، فاستجاب باسيل الثاني لدعوته، وانفذ سفارة إلى بلاط القاهرة؛ واحتفى البلاط الفاطمي بالسفير البيزنطي احتفاء عظيما وزين الديوان الخلافي لاستقباله زينة تنوه الرواية بفخامتها وروعتها؛ وانتدب برجوان اريسطيس بطريرك بيت المقدس وخال الأميرة ست الملك ابنة العزيز بالله وأخت الحاكم بأمر الله للسير مع السفير البيزنطي وتقرير شروط الهدنة مع القيصر وعقد أواصر الصداقة بين الدولتين؛ فسار اريسطيس إلى قسطنطنية، وقام بالمهمة؛ وعقدت بين مصر والدولة البيزنطية معاهدة سلم وصداقة لمدة عشر سنين؛ وأقام اريسطيس في عاصمة بيزنطية أربعة أعوام حتى توفي؛ ولم تحدد لنا الرواية تاريخ هذه السفارة ولكن المرجح أنها وقعت في أواخر سنة 389 أو أوائل سنة 390 (سنة 1000م)
وشغلت الدولة البيزنطية مدى حين بشؤونها الداخلية وحروبها في البلقان وأرمينية. وقنعت من الشام بإنطاكية، وهدأ النضال بين الدولتين حيناً، وتحسنت العلائق بينهما؛ ولكن سياسة الحاكم بأمر الله إزاء النصارى، واشتداده في مطاردتهم، وما اتخذه من الإجراءات العنيفة لهدم الكنائس والأديار، ولاسيما كنسية القيامة (القبر المقدس) ببيت المقدس أثارت حفيظة السياسة البيزنطية، وحفيظة الكنيسة الشرقية التي كانت تعتبر نفسها حامية النصرانية في المشرق؛ بيد أن الدولة البيزنطية لم تستطع يومئذ أن تتدخل في سير الحوادث. وكانت الأميرة ست الملك أخت الحاكم تخشى عواقب هذه السياسة العنيفة وتجاهد في تلطيفها، وكان لها حسبما تؤكد الرواية أكبر يد في تدبير مصرع أخيها وإنقاذ الخلافة الفاطمية من عواقب هذه السياسة الخطرة. فلما انتهت المأساة بذهاب الحاكم، وقام ولده الظاهر في عرش الخلافة بتدبير ست الملك ورعايتها، عادت الخلافة الفاطمية في الحال إلى تسامحها المأثور نحو النصارى، وردت إليهم حرياتهم وحقوقهم، وسمح لهم بتجديد ما درس من كنائسهم، ولاسيما كنيسة القيامة، وألفت ست الملك الفرصة سانحة لتجديد الصداقة والمهادنة(196/17)
مع الدولة البيزنطية، فبعثت نيقفور بطريرك بيت المقدس سفيرا إلى باسيل الثاني ليعمل على عقد أواصر التفاهم والصداقة بين الدولتين سنة 414هـ (1024م) ويطلعه على ما اتخذه بلاط القاهرة من الإجراءات لتحرير النصارى ورفع الإرهاق عنهم وحمايتهم في أموالهم وأنفسهم؛ ولكن الأميرة ست الملك توفيت قبل أن يستطيع السفير تأدية مهمته، ورده بلاط قسطنطينية بلطف، فعاد أدراجه، ولم يمض قليل حتى توفي باسيل الثاني (1025م).
ولكن الخلافة الفاطمية آثرت أن تمضي في سياستها الودية نحو الدولة البيزنطية؛ ومع أن الجيوش البيزنطية اشتبكت في الأعوام التالية في عدة معارك وحروب محلية في حلب وإنطاكية مع الأمراء العرب المحليين، وهزمت أمامهم غير مرة، فإن حكومة القاهرة لم تشأ أن تتدخل في تلك المعارك ولا أن تنتهز تلك الفرصة لمحاربة البيزنطيين؛ ووقعت المفاوضات بين الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله والإمبراطور رومانوس الثالث لعقد معاهدة صداقة بين الدولتين، واشترط الإمبراطور لعقدها أن يتولى إعادة تعمير كنيسة القيامة وأن يعمر النصارى ما شاءوا من كنائسهم الدراسة، وان يقيم بطريركا من قبله لبيت المقدس، وأن تمتنع حكومة القاهرة من التعرض لشؤون حلب أو مصايرها باعتبارها داخلة في حماية الإمبراطور وتؤدي له الجزية، وأن تمتنع عن نجدة صاحب صقلية المسلم إذا هاجمته الجيوش البيزنطية؛ ولكن الظاهر رفض التخلي عن حلب باعتبارها عاصمة إسلامية جليلة؛ وطالت المفاوضات بين الفريقين، وانتهت بعقد معاهدة صداقة بينهما، سمح فيها للإمبراطور أن يتولى تعمير القبر المقدس، وللنصارى أن يعمروا كنائسهم وأن يعود منهم من أسلم كرها إلى دينه؛ وأن يطلق الإمبراطور سراح الأسرى المسلمين لديه، وأن يعيد مسجد قسطنطينية كما كان ويسمح فيه بالآذان وبالخطبة للظاهر؛ بيد أن الكنيسة الشهيرة لم يجدد بناؤها إلى بعد ذلك بنحو عشرة أعوام في عهد المستنصر بالله
وفي عهد الخليفة المستنصر بالله ولد الظاهر اضطربت شئون الخلافة الفاطمية، واضطربت العلائق بين مصر وبيزنطية، وعانت مصر في أوائل هذا العهد أروع مصائب الغلاء والقحط والوباء مدى أعوام ثمانية تعرف بالشدة العظمى (446 - 544هـ) وأرسل المستنصر بالله إلى الإمبراطور قسطنطين التاسع أن يمده بالغلال والأقوات، وتم الاتفاق بينهما على شروط هذه المعاونة، ولكن الإمبراطور توفي قبل تنفيذ الاتفاق، فخلفته(196/18)
الإمبراطورة تيودورا، واشترطت لتنفيذ شروطا جديدة أباها المستنصر، واضطربت علائق الدولتين، واشتبك الفريقان في عدة معارك شديدة في البر والبحر؛ وفي سنة 447هـ (1055م) أرسل المستنصر سفيراً إلى تبودورا هو القاضي أبو عبد الله القضاعي ليحاول تسوية العلائق واستئناف الصداقة؛ ولكن السياسة البيزنطية آثرت جانب السلاجقة ورأت أن تتفاهم معهم، وأخفق سعي السفير المصري؛ وكانت فورة السلاجقة قد اضطرمت قبل ذلك بالمشرق، وأخذت تنذر باجتياح الشام، وتطورت حوادث الشام في الوقت نفسه تطورا سيئا، واستولى الزعماء العرب على قواعده وثغوره، فانتزعت حلب من يد الخلافة الفاطمية نهائيا، وكادت دمشق وفلسطين تخرج عن قبضتها، وتضعضعت قوى الدولة في الداخلة والخارج؛ ثم كانت وثبة السلاجقة نحو المشرق واستيلاؤهم على فلسطين ودمشق؛ وأعقبت ذلك فورة من الغرب كانت أخطر ما عرفت الأمم الإسلامية: تلك هي ثورة الحروب الصليبية التي اضطرمت منذ أواخر القرن الحادي عشر، وسرعان ما ظفرت بانتزاع الشام وفلسطين من قبضة الإسلام؛ وحلت المملكة اللاتينية في بيت المقدس مدى حين، وقامت الإمارات النصرانية في الشام حاجزا بين الدولة الفاطمية والدولة البيزنطية، وتحول مجرى العلائق الدبلوماسية بين الإسلام والنصرانية، وافتتح بينهما عهد طويل من النضال المضطرم؛ وانحدرت الدولة الفاطمية إلى مرحلة الانحلال الأخير، كما انحدرت الدولة البيزنطية خصيمتها ومنافستها القديمة إلى مرحلة مماثلة من الضعف والانحلال
محمد عبد الله عنان(196/19)
ليتني كنت أدري!
للدكتور محمد عوض محمد
1
ليتني كنت أدري!
ما طواه الغيْبُ من نَيْلٍ ووَيْلٍ
وشقاءِ لابسٍ ثوبَ نعيمٍ
وظلامٍ أقْتَم الوجه بهيمٍ
وقضاء مبرمٍ في جنح ليلِ
ليتني كنت أدري!
2
ليتني كنت أدري!
يومَ أن سرت على النهج القويمِ،
لم أَحِدْ عنه يميناً أو يساراً
مُثبتاً طرفي وقلبي وجناني،
في طريق ضيِّقٍ، واهي الأديمِ
يملأ الجفن تراباً
. . . . . وشقاءً وغُبارا. . .
أن مِنْ حولي جِنَاناً
وهواءً خالصا. . .
يملأ القلب صفاء وسرورا وفخارا. . .
عاَلمٌ قد حُفَّ بالخير العميمِ
ساحر المنظر موفور النعيمِ
ليتني كنت أدري!
3(196/20)
ليتني كنت أدري!
حينما أُلْبِستُ ثوباً من حديدٍ
ليس يَبْلَى. . . .
كي يقيني حادث الدهر العنيد. .
أَنْ سيغدو الجسم مُضْنى
ومُعَنَّى بالقيود. .
والفؤاد الحرُّ رهناً
ببلاءٍ وجمودِ
يقتل الروح على الأيام قتلا. .
ليتني كنت أدري!
4
ليتني كنت أدري!
حينما أمسكت كأسي بيميني،
أحتسي منها رحيقا وسُلافا،
شَرهاً لا يرتوي مني غليلٌ
نَهِماً لا ابتغي عنها انصرافا،
أنني أشرب من داء دفينِ
أنني أرشفها سما زعافا
ليتني كنت أدري!(196/21)
صوت الإله!
أَنْصِتي يا جبالُ! قد هدأ الليَّ ... لُ وأَرْخَتْ جفونها الظلماءُ،
ومضى اليوم مُتعْباً ينشُد الأمْ ... نَ وقد كدَّ ظهرَه الإعياء،
وسَرَتْ في الوجودِ لهفة مشتا ... ق لمعنًى ينشق عنه الفضاءُ.
جثم الكون رابضا مُرْهفَ الأذ ... ن لِسِرٍْ توحي به العلياء:
لنشيدٍ يسري إذا سكن اللي ... ل فتَرْوى به النفوس الظِماءُ:
نَغَمٌ يترك النفوس وفيها ... منه نور وروعة وصفاء؛
أنصتي يا جبال! قد هدأ اللي ... ل وأرخت جفونها الظلماء!
أنصتي يا طيور! قد سكن النَّسْ ... رُ وآوت لوكرها العنقاء،
وغطاء الظلماء قد شملَ العا ... لم فالقبح والجمال سواء؛
فاستكني في الوكر أو فاستقري ... فوق غصن تبلُّهُ الأنداءُ
وأَقلي الإنشادَ! فالدهر والعا ... لم والليل كله إصغاءُ:
لغناء ينساب كالجدول السا ... حر؛ ما للقلوب عنه غَنَاءُ!
لا تعيه أذن السميع ولكن ... يملأ القلبَ حسنُه والرُّواءُ. . .
أنصتي يا طيور! قد سكن النس ... رُ وآوت لوكرها العنقاء. . .
محمد عوض محمد(196/22)
الذي نريده
للأستاذ عباس محمود العقاد
ما الذي نريده من حياة جديدة للمصريين والشرقيين؟
الذي نريده كثير جدا من الطمأنينة التي مصدرها الشعور بالقوة، وقليل جدا من الطمأنينة التي مصدرها عدم الشعور
نريد أن نحس ذلك القلق الروحي الذي يحسه الغربيون على أثر كل معرفة جديدة، وفي إبان كل اضطراب جلل، وفي أعقاب كل دولة دائلة وفي مطالع كل مرحلة مقبلة. لأن القلق علامة النمو والحركة؛ والنفس تنمو فيضيق بها كساؤها، وتشعر بالحرج والتقلقل لا تستريح فيه ولا يريحها. وتحاول أن تخلع ما ضاق ورث، وتلبس ما اتسع وحدث. وهذا دواليك مادامت تنمو وتستقبل الأحوال بعد الأحوال والأطوار بعد الأطوار
أما الطمأنينة التي تستقر بصاحبها لأنه لا ينمو ولا يتحرك، فتلك مصاب يرثى له وليست بنعمة يغبط عليها: أرأيت الحيوان الأعجم تفارقه الثقة قط؟ كلا! إنه يشبع ويسمن وينظر إلى الدنيا نظرة الرضى والتحدي كأنه بلغ الغاية وأوفى على الرجاء. . . وهو قد بلغ الغاية حقا ولكنها غاية أقل من البداية، وأوفى على الرجاء حقا ولكنه رجاء أخبث من القنوط. وشر ما يبتلى به المصري والشرقي هذه الثقة وهذه الطمأنينة. فاللهم كثيرا جدا من القلق، وقليلا جدا من الراحة والركود
الذي نريده كثيرا جدا من الإيمان الذي يسكن بصاحبه لأنه نفي جميع الشكوك، وقليل جدا من الإيمان الذي يسكن بصاحبه لأنه يجهل الشكوك
الذي نريده كثيرا جدا من الخيال الذي لا يزال ينقلنا من واقع حسن إلى واقع أحسن، وقليل جداً من (حب الواقع) الذي لا يخرجنا مما نحن فيه، لأن النوم واقع عند النائمين، والجهل واقع عند الجاهلين، والفقر واقع عند الفقراء، والأسر واقع عند المستعبدين
زعموا أن الشرق مبتلى بداء الخيال والهيام بالأحلام
ألا ليت ما زعموه قد صدقوا فيه! ألا ليت الشرق يحلم ويتخيل، لأن الذي يعرف الحلم والخيال يعرف الأمل والطموح
أن (الطيارة) هي واقع اليوم ولكنها خيال الأمس. وهكذا ينتقل العاملون من خيال إلى(196/23)
واقع، ومن واقع إلى واقع غير الذي كان.
وإن الخبز والمتعة واقع عندنا اليوم، وواقع عندنا بالأمس، وواقع في جميع الأزمان، ولن يزال واقعنا الوحيد حتى نحلم ونتخيل فنطمح ونأمل ونحيا ونعمل، ونسوق الدنيا معنا من حال إلى حال، ونخرج بها في ركابنا من نطاق إلى نطاق
ألف ليلة وليلة ليست عالم الخيال والأحلام، ولكنما هي واقع العاجزين والضائعين، لأن خبزها هو خبز المائدة، غير أنه مفقود ليس بمأكول؛ ولذتها هي لذة المخدع، ومخدعها هو المخدع الذي ينال بالدرهم والدينار، لولا أن الدرهم والدينار ناقصان!! ومن يحقق ألف ليلة وليلة لا يحقق عالماً جديداً ولا فتحاً غريباً، ولكنما يحقق (الواقع) الذي عرفه الناس من أقدم الأيام ولا يستطيعون أن يفقدوا المال والحطام، وهما أيضاً من أوقع الواقع وأحس المحسوسات!!
فلا يقولن قائل إن الشرق يحلم لأنه يكتب ألف ليلة وليلة، بل هو مبتلى بالواقع محبوس فيه لأنه يحلم هذه الأحلام ويتخيل هذا الخيال
ألف شرقي يدين بواقع العاجزين فدى لشرقي واحد يبيع العيش الصغير بالأمل الكبير، ويحلم ويتخيل لينقل الواقع من طبقة إلى طبقة، ومن مجال إلى مجال
نريد كثيراً جداً من (الذوق) الذي مصدره الفهم واليقظة والدماثة.
وقليلا جداً من الذوق الذي مصدره التأنث والسقم والاصطناع
لقد شبع الشرق من ظرف الظرفاء الذين يصرخون من الهباء كما يصرخ الجسم الورم من لمس الذباب
وشبع الشرق من ظرف الظرفاء الذين يتحلون بالتثني والتأوه كما يتحلى بهما النساء
وشبع الشرق من ظرف الظرفاء الذين يبرمون بالجد كما يبرم به الصغار الهازلون
وشبع الشرق من ظرف الظرفاء الذين ليس منهم عامل في ميدان، ولا نافع لبني الإنسان، ولا مجتهد يحسن الاجتهاد، ولا فكه يحسن الفكاهة، ولا رجل عظيم أو مقبول في زمرة العظماء
شبع الشرق من هذا الذوق، فهو من شبعه هزيل الجسد والروح، وهو من شبعه أجوع ممن صام ألف عام(196/24)
أما الذوق الذي لم يشبع منه الشرق فهو الذوق الذي يحس الصغائر لأنه يحس كل شيء، لا لأنه على الصغائر موقوف، وفي الصغائر محبوس ومقصور
وهو الذوق الذي ينفذ من (البوتقة) لأنه جوهر حميم، ولا يفرق من وهج النار كما يفرق الزيف والغشاء المصبوغ
الذي نريده كثير جداً من الضحك الذي معناه الإقبال على الدنيا والاضطلاع بالأعباء والقدرة على التبعات
وقليل جداً من الوقار الذي معناه التهيب والرياء واتخاذ المظاهر درعاً يستر ما وراءه من ضعف وهزيمة وعجز عن الكفاح
الضحك ملء الصدور والحناجر خير من الوقار ملء اللحى والتجاعيد؛ والضحك الرنان كأنه موسيقى النصر في ميدان الكفاح خير من الوقار المحجم كأنه مخبأ الهارب من الميدان، وراء غبار الهزيمة وغشاء الدخان.
الذي نريده كثيرا جداً من الحرية التي تعرف الحدود، وقليل جداً من الحدود التي لا تعرف الحرية. فليس من مقياس لحق الحرية أصح وأحكم من قدرة النفس على احتمالها بغير رقيب ولا موجه ولا حسيب
إن الحرية التي يتبعها الرقيب هي منحة من ذلك الرقيب واستعباد فيه السيد وفيه المسود
أما الحرية التي تعرف حدودها فهي حق لصاحبها لا يعطيه أحد ولا يسلبه أحد، لأن الحر الذي يعرف كيف يلتزم الحدود يعرف ولا ريب كيف يحمي الحدود
الذي نريده بين القديم والجديد أن نمتلئ بالحياة، فإذا بالتعبير الصالح الجميل ينبثق من تلك الحياة
فليس القديم بضائرنا إذا حيينا وشعرنا وعمدنا بعد ذلك إلى التعبير
وليس الجديد بنافعنا إذا عبرنا محدثين، ونحن غير أحياء وغير شاعرين
ليست آفتنا أننا نعيش كما يعيش القدماء، بل آفتنا أننا نندب القدماء ليعيشوا بديلا منا!
وليست آفتنا قلة الشعر الجديد، بل قلة الشعور الجديد
وليست آفتنا أن القصة قليلة عندنا، بل آفتنا أن القليل هو الحياة التي تستحق أن تكون قصة، و (الواعية) التي تستوعب تلك الحياة(196/25)
وليست آفتنا كساد المسرح، بل آفتنا أننا في مسرح الدنيا بلا أدوار ولا فصول؛ ولو كانت لنا في مسرح الدنيا أدوار وفصول لشاقنا أن نراها مروية في أدوار الممثلين، محكية في أقوال المؤلفين
الذي نريده أن نفهم ما نريد وأن ننجز ما نريد، وأن نعرف الفرق بين فهم القول وفهم الإرادة، فإنك إذا قلت لسامعك إنك تريد شيئاً من الأشياء في يوم من الأيام فقد فهم ما تقول، ولكنه لن يفهم ما تريد حتى ينجز ما طلبت في الموعد الذي طلبت، وهذا هو الفهم الأصيل
الذي نريده كثير جداً
وقليل جداً إذا استطعناه، وإننا لمستطيعوه ببركة العزم والإيمان
عباس محمود العقاد(196/26)
الجزيرة والتاريخ الإسلامي
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
منذ بضع سنوات - ست أو سبع - زرت الحجاز وقضيت فيه أياماً أنظر وأسمع وأفكر. فرأيت أني أصبحت أحسن فهماً للتاريخ الإسلامي والأدب العربي وأقدر على تمثيل الصور والحقائق فيهما وإدراكها على نحو لم يكن يتيسر لي قبل ذلك. ولهذا اقترحت على صديقي الأستاذ الدكتور هيكل بك - لما شرع يكتب (حياة محمد) وينشرها فصولا في السياسة الأسبوعية أن يزور الحجاز فليس أعون على كتابة التاريخ الإسلامي من ذلك. والحجاز بلاد متحضرة ولكني مع ذلك اهتديت إلى كثير وسأحاول أن أتخير طائفة من الأمثلة تجلو ما أعني وتبين ما أقصد إليه. فمن ذلك أني دعيت في جملة من دعوا إلى الغذاء في (وادي فاطمة) وهو واحة جميلة في صحراء جرداء وهناك نصبت لنا الخيام وصفت الموائد وقد وصفت ذلك كله في (رحلة الحجاز) فلا أعيده هنا. ولكنه اتفق أني ذهبت أتمشى بعد الأكل مع بعض الإخوان فلقينا جماعة من البدو فقال لهم أحدنا إن في السرادق آكالا طيبة كثيرة ودعاهم إلى الذهاب فذهب أكثرهم وبقي واحد تخلف معنا معتذراً بأنه (أكل البارحة)، فاستغربت قوله هذا ولكني كنت مثقل الرأس من كثرة ما أكلت فلم أستطع أن أجعل بالي إلى كلامه أو أن أعيره التفاتا. ومضت السنون وجاء إلى مصر صديق من أبناء سورية جاب بلاد العرب وطوف فيها كثيراً ولا يزال يؤثر المقام في الجزيرة، فهو أكثر الوقت مع الملك العظيم ابن السعود، فجلسنا إليه نستمع إلى حديثه الممتع ووصفه البارع لتجاربه ومشاهداته العديدة الدقيقة. وأعني به (خالد بك الحكيم) فتذكرت قول ذلك البدوي في وادي فاطمة (أكلت البارحة) وقلت لنفسي إني قد وقعت على الخبير فلأسأله فلن أجد أدرى منه وأعرف. فقال لي إن هذا معقول، ولو أن البدوي قال (أكلت أول من أمس فأنا لا أستطيع أن آكل اليوم) لما كان ذلك إلا طبيعياً. وذكر لي أن البدوي يذهب في الصحراء ماشيا على قدميه أو راكبا ناقته وعلى رأسه العقال وتحتها اللفافة - ويسمون العقال عقالا لأنه في الحقيقة حبل يعقل به البعير - ويلتف بالعباءة ويتلثم ولا يكاد ينبس بحرف. فأما السكون وقلة الكلام فليدخر كل ذرة من قوته للجهد الذي تتطلبه الصحراء - والكلام جهد فهو إنفاق - وأما التلفف فليحتفظ برطوبة جسمه فيكون(196/27)
أقدر على احتمال الحر والصبر عليه. ويظل ماضيا حتى يبلغ مضارب عشيرة أو قبيلة فيسقى ما شاء من اللبن ويمضي عنها إلى سواها وكلما نزل على قوم بروه وسروه وسقوه اللبن لأن مثله ممن ينحر لهم القوم. ثم يتفق أن يأتي قوما نحروا لضيف كريم فإذا قام الضيف وإخوانه عن الطعام، أقبل على (اللحم والأرز) من هم دونهم مقاما، فيقعد الرجل ويهبر من اللحم ما شاء ومن الأرز ما أحب. قال صديقي (وصدقني حين أقول لك إن هذا البدوي يأكل بعض أقات من اللحم وملء كيلة من الأرز. وهو يأكل كل هذا بعد أن لبث أياما - عشراً أو عشرين أو أكثر أو أقل - لا يجد من الطعام إلا اللبن وقليلا من التمر أحيانا فإذا أكل كل هذا اللحم والأرز وأثقل به معدته بعد ما يشبه الصيام أو فطام النفس كظها واحتاج إلى يوم كامل أو أيام للهضم.
فلم يسعني إلا أن أفكر في أمر هذا البدوي الذي يصبر على الصحراء وحياتها المرهقة ومطالبها المجهدة وعنائها الشديد ولا طعام له سوى اللبن والتمر أحياناً. إن هذا جلد لا أكاد أعرف له مثيلا. ومن كان يحتمل هذه الخاصة ولا يعجز مع ذلك عن مطالب الحياة التي لا رفق فيها من حرب وسعي وأسفار في الفيافي المهلكة فإن مثله يعدل ولاشك ألف جندي من جنود الدولة الرومانية المتخنثة، ولا عجب إذاً كان بضعة آلاف من هؤلاء البدو الأشداء الخشنين المعروقين قد عصفوا بمئات من الآلاف من جنود الدولة الرومانية التي كانت تقيد جنودها وتصفدهم لتمنعهم أن يهربوا ويفروا. .
وأحببت أن أعرف قيمة الحياة فيما يحس العربي - أعني البدوي - فلم أجد لها قيمة. وما عسى أن تكون قيمتها عند من لا يكاد يجد طعاماً أو ماء، ومن لا يكاد يأمن غدر الصحراء وعصف رياحها. أو لم نقرأ عن واقعة الخندق أن الرياح عصفت بجيش المشركين وقلبت قدورهم وهدمت خيامهم حتى يئس أبو سفيان ودعا قومه إلى الانكفاء إلى مكة؟. وحدثني غير واحد ممن لقيت في الحجاز أن المرء - بعد المعركة - يجيء إلى الواحد من هؤلاء البدو فيسأله عن صاحب له أو قريب أو ابن ماذا فعل الله به، ويتفق أن يكون قد قتل في المعركة، فلا يزيد على أن يقول لك (بح) يعني (ذبح) ولكنه يأكل الذال في النطق فلا تسمع منه إلا (بح). . ثم لا دمع ولا أسف ولا حسرة ولا لهفة ولا جزع ولا غير ذلك مما ألفنا أن نقرن به الموت. فكأن حياة البدوي الشاقة تفقدها قيمتها وتسلب الموت لذعه وتفتر(196/28)
وقعه. وما قيمة القتل في حرب أو نحوها والحياة معرضة للبوار والتلف في كل ساعة؟؟ وتصور كيف يكون إقبال مثل هؤلاء البدو على الحرب وقس إليه ما عسى أن يكون من إقبال غيرهم من أبناء المدنية والترف والبذخ على القتال!. إن الذي يقبل عليه البدوي ليس خيراً فيما تحس نفسه من الحياة التي كان يحياها. وإذا أضفت إلى هذا فعل العقيدة والإيمان الراسخ بحياة أخرى أطيب وأعز وأكرم فهل يستغرب أحد أن هؤلاء البدو العراة الحفاة الذين لا يملكون إلا السيف والرمح والإيمان المستغرق، اكتسحوا دولا كبيرة وممالك عظيمة، وهدموا بناء كان يبدو شامخاً؟.
ولست ترى في الصحراء قبراً أو صوى منصوبة تدل على أن فلاناً أو علاناً دفن هنا. والناس يعيشون في هذه الصحراء ويموتون فيها ويفنون تحت رمالها ثم لا شيء بعد ذلك، لأنهم لا يعرفون المغالاة بقيمة الحياة إذ كانت لا قيمة لها عندهم. ولو أنهم اتخذوا المقابر وأعلوها ورفعوها وعنوا بها وكانت عندهم مقبرة مثل مقبرة (جنوى) التي يزورها الناس ليعجبوا ببراعة الفن فيها، لما أمكن أن تخرج من جزيرة العرب تلك الأمة التي انحدرت على العالم المتحضر في زمانها كما يتحدر السيل الجارف فأغرقته. ولم تغرقه فقط ولم تفتح البلدان أو تحكمها فحسب، بل قلبتها عربية صرفاً. وقد استطاع الفرس أن يحتفظوا ببعض صفاتهم وخصائصهم وبروحهم القومية - كما لم يستطع البيزنطيون أن يفعلوا فيما استولى العرب عليه من بلادهم - لأن الفرس كانوا أقل تخنثاً من البيزنطيين. ولست مؤرخاً ولكني أظن أن هذا هو السبب، يضاف إليه أن البلاد التي فتحها العرب من دولة الأكاسرة كانت فارسية وأهلها من الفرس على خلاف ما فتح العرب من بلاد الدولة الرومانية، فإنها كانت أجنبية لا رومانية ولا بيزنطية، فبقاء الشعور القومي في بلاد فارس طبيعي ومعقول والفتح لا يمكن أن يقتله، وانعدام مثل هذا الشعور فيما فتحه العرب من أملاك الدولة الرومانية معقول أيضاً. لأنه لم يكن هناك في الأصل، ولهذا بقيت فارس شوكة في جنب الدولة العربية.
وقد زرت العراق وسوريا - أو كما صارت الآن مع الأسف فلسطين ولبنان والشام - كما زرت الحجاز فلم أستغرب أن ينتقل مركز الثقل في الدولة العربية من الحجاز إلى الشام أولا ثم إلى العراق، فإن طبيعة الأراضي الحجازية تجعل من المستحيل عليها أن تكون(196/29)
مقر دولة مترامية الأطراف عظيمة الرقعة. نعم تستطيع بسهولة أن تحتفظ باستقلالها وعزتها ولكنها لا تقوى على حكم أقطار أخرى بعيدة كالشام والعراق ومصر. وقد بقي الحجاز مقر الدولة العربية في صدر الإسلام وعلى عهد الخلفاء الراشدين ولكن هذا كان زمن التوسع والامتداد، لا زمن الاستقرار والنظام الدائم. فلما انتهت الفتوح أو معظمها وأهمها، وصارت الفتوح بعد ذلك عبارة عن توسع طبيعي لدولة مستقرة تغريها ما أنست من نفسها من القوة والبأس والشوكة بالتوسع والزحف، وتدفعها مقتضيات المحافظة على ما في اليد إلى هذا الزحف، صارت جزيرة العرب لا تصلح أن تكون هي مركز الدولة. أما في زمن أبي بكر فقد كانت الحاجة تدعو إلى توطيد الأمر في قلب الجزيرة أولا قبل إمكان التفكير في غيرها. وأما في زمن عمر فقد كانت الجيوش تزحف فلا يعقل أن تنقل العاصمة قبل أن يستتب الأمر. نعم فتحت البلاد في عهده، ولكن الفتح يستدعي التمكين والتوطيد أولا. ثم إن عمر كان يشق عليه أن يخرج من الجزيرة، وكانت صلته بالنبي عليه الصلاة والسلام أوثق من أن تسمح له بترك الجزيرة، حتى لو كان كل شيء قد استقر وانتظم. ولم يكن قد عاش في الشام أو مصر أو العراق حتى تبدو له مزية التحول بقاعدة الدولة إلى جهة أخرى. وأما زمن علي وعثمان فقد كان زمن اضطراب ونزاع وانقسام، وكان هذا حسبهما شاغلا عن إقامة مركز الدولة إقامة ثابتة نهائية في مكان آخر غير الحجاز. ولما انتهى النزاع بفوز معاوية كان هذا قد أدرك مزية البلاد الأخرى وعرف فضلها كمركز الملك ومقر للدولة التي شادها بفضل ما تولى منها في الفترة السابقة.
وبلاء جزيرة العرب أنها مجدية قاحلة، فإذا امتدت لها رقعة ملك أسرع أهلها إلى التحول عنها إلى غيرها، لأن الحياة في غيرها تكون أرغد والعيش أطيب. والمرء يحن إلى الراحة والدعة مهما بلغ من اعتياده الخشونة والمشقة والشظف، وفرقٌ بين هجرة تدعو إليها كثرة السكان، وهجرة تدعو إليها الفاقة والمحل. ولابد لبلاد تريد أن تكون مقر دولة كبيرة أن تكون هي ذات موارد كافية إلى حد ما. ولهذا لم يكد العرب يفتحون الأقطار المجاورة حتى كثرت هجرتهم إليها طلباً للرغد والراحة. ومن ألف التنقل وكثرة الرحيل من ناحية إلى أخرى انتجاعاً للرزق لم تشق عليه الهجرة إلى بلاد بعيدة لأنه لم يزل أبداً مهاجراً في قلب بلاده. ومادامت الدولة واحدة في الحجاز ومصر والشام والعراق فأخلق(196/30)
بهذا أن يكون مشجعاً على الهجرة ومستحثاً على النزوح. وبذلك صارت الجزيرة أخلى من الناس وأقل صلاحاً لأن تكون مركز الدائرة ومقر الدولة. وقد يتغير حال الجزيرة في المستقبل وقد تظهر فيها موارد ثروة طبيعية تغنيها ولكن محل أرضها عقبة في سبيل الحياة. ومهما يبلغ من غناها في المستقبل فإنها ستظل أحوج إلى غيرها من غيرها إليها - إلى حد بعيد - على أن كلامنا على الماضي الذي لم يكن يعرف البترول والمعادن وما إلى ذلك مما جد في الدنيا لا على المستقبل الذي هو غيب.
إبراهيم عبد القادر المازني(196/31)
في رأس السنة الهجرية
معنى الهجرة
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . مشى (عبد الله) حذراً، يتلفت إلى الوراء خشية أن يراه بعض سفهاء قريش، فيقطعوا عليه سبيله، فلم ير أحداً، وكانت طريق مكة خالية لأن الناس قد أموا الحرم ليجلسوا في مجالسهم كعادتهم في كل مساء فاطمأن وسار قدما، حتى إذا خرج من مكة وجاوز الحجون، واتسع الوادي أمامه وانفرج، صعد الجبل يأخذ طريقه إلى الغار؛ ونظر. . فراقه منظر الغروب. على هذه السفوح والذرى، وأحس بجلال الموقف، وأخذ عليه نفسه هذا الصمت العميق، وهذه الصفرة التي تعم كل شيء، فنسي غايته ووقف ينتظر. . رأى مكة تلوح أبنيتها من فرجة الوادي، وتبدو الكعبة قائمة في وسطها، والأصنام التي تحف بها تظهر على البعد كأنها لطخ سود. . فذهب به الفكر سريعا إلى ذينك الرجلين اللذين تركهما صباحا في الغار. وذهب يتحسس لهما خبر قريش. ويعلم علمهما. ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأباه الصديق. . فخاف أن يكون قد أصابهما شر، فاغمض عينيه عن هذه المشاهد، ومضى في طريقه وهو يتعجب من قريش حين زهدت في المجد والظفر، وآثرت هذه القرية الجاثمة بين هذين الجبلين كأنما هي مخبوءة في صندوق من الصخر، على السهول والجنان والمدائن التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقودها إليها وانصرفت عن الراية التي دفعها إليها محمد، لتسير بها إلى أرض النخيل والأعناب فتركزها في دمشق والإسكندرية، وعلى إيوان كسرى. وفضلت عليها رايتها التي لم تتعود الخفق في سماء المعارك الكبرى، ولا ألفت الاهتزاز على أسوار المدن المفتوحة. . لقد عرض محمد على قريش أن تعطيه هذه الأصنام ليكسرها. ويعطيها بدلا منها ملك كسرى وقيصر، ويعطيها العقل المبدع، والقانون العادل، والعبقرية والخلود، فأبت، وعكفت على أصنامها وتماثيلها. . فما أعجب عقل قريش!
ونظر إلى مكة مرة ثانية، فإذا الظلام قد لفها بردائه، ثم ابتلعها ولم يعد يبدو منها إلا بصيص من النور فخالط نفسه سرور مبهم، وشعر بزوال هذا الخطر القرشي، واستروح رائحة الظفر، فامتلأ قلبه أملا، وجعل يجيل بصره في الأفق الواسع، فيخيل إليه أنه يرى(196/32)
راية محمد ترقص على هام القصور البلق في الشام، والصروح البيض في المدائن. . . فمضى يتسلق الصخور إلى الغار، وهو يقفز قفزاً، يظن من شدة النشاط وقوة الأمل أنه سيطير!
وكانت الجزيرة يومئذ تتمخض بالموجة الكبرى. . . ولطالما ماجت هذه البرية القاحلة التي تلتهب في أيام الصيف التهاباً، وهذه الرمال التي تسلسل إلى غير ما حد، ففاضت على أرض العراق الشام وكانت منبع الحياة. لقد كان ذلك، والتاريخ جنين في بطن العقل البشري لم يولد بعد، وكان وهو طفل لا يعي، وكان والتاريخ صبي يميز ويدرك، فرآه فسجله في دفتره. . .
رأى وادي النيل، وحوض الرافدين، يمشيان إلى الخراب، قد نضبت فيهما الحياة، فما راعه إلا موجة تنشأ من الجزيرة، من وسط الرمال، فتقذف إلى مصر بـ (مينا) ليكون أول فرعون فيها، وتلقى ببني كلدة إلى العراق، فإذا هؤلاء الوافدين من أعماق القفز، يفتحون حقائب أدمغتهم، فيخرجون منها الحضارة الأولى، (حضارة البابليين القدماء) قبل الميلاد بستة وثلاثين قرناً
ويكر الزمن، وتدور الأفلاك، فتطحن الناس، وتحطم الحضارة وتطفئ الشعلة، فتنادى العراق والشام يطلبان المدد، وتسمع الصحراء فتتهيأ وتتحرك وتموج موجة أخرى فيقذف إلى ساحل البحرين بأنشط (مجموعة بشرية) عرفها التاريخ القديم، ثم تلقي بها إلى ساحل سوريا لتطل على العالم، فلا تلبث أن تغلغل فيه تحمل إليه تجارتها وحروفها ولا تلبث أن تغدو شريان الحياة في العالم، وتنشئ في كل موضع (مستعمرة فينيقية) هي في الحقيقة مدرسة عالمية، كان من أمهر من تخرج فيها (اليونان)
ولقد ماجت الجزيرة موجات أخرى. . . ولكنها اليوم تتمخض بالموجة الكبرى!
فكر (عبد الله) في هذا وهو يتسلق الصخور، إلى الغار، وكان لطول ما سمع من حديث الإسلام شديد الرغبة في توحيد العرب، وسوقهم إلى إنقاذ أرض الوطن (في الشام والعراق) من الحكم الأجنبي، وكانت هذه الفكرة جديدة لم يعرفها العرب، أثمرتها في رأس (عبد الله) الدعوة التي استجاب لها، وآمن بها، واستسلم عبد الله إلى أفكاره، وأطلق لها العنان، وشمل العالم كله بنظرة واحدة، فرآه ينتظر شعباً جديداً طاهراً لم تدنسه تلك الحضارة الزائفة، حراً(196/33)
لم تذله تلك الأنظمة الجائرة، أبيا لم يألف طغيان الملوك، وجبروت الأباطرة، ليختم صفحة الماضي السوداء، ويفتح في التاريخ صفحة بيضاء جديدة
إن البناء القديم قد تهدم وخرب، ولم يعد صالحا، ولابد من شعب قوي ماهر، يهدم هذه الأطلال البالية، ثم ينشئ بناء جديدا.
إنه ليس في العالم إلا ثلاث كتل كبيرة. . . كتلتان تتصارعان صراع الديكة، قد أمسكت كل واحدة بعنق الأخرى، فسالت دماء الشعوب، والملوك يضحكون ويفرحون لأنهم سيصبغون بالدم ثيابهم لتغدو قرمزية حمراء، يمتازون بها من (سواد الشعب) وطاحت جماجم الشعوب، والملوك يضحكون ويفرحون، لأنهم سيبنون منها برجا، يترفعون به عن غمار الشعوب
هاتان هما الإمبراطوريتان الفارسية والرومانية، وهناك كتلة أخرى في زاوية الكون نائمة على ضفاف (الكنج) ووراء (همالايا) لا يدري بها أحد. . .
أمم تشقى ليسعد أفراد. شعوب تضنى ليحيا رجال. مدن تحرق لتشعل منها (سيجارة) إن هذه حال يجب أن يوضع لها حد! فمن هو الذي ينقذ العقل البشري من قيود الجهل والاستبداد! من هو الذي يمحو هذه الأرستقراطية العاتية السخيفة؟ من يهدم هذه الهياكل البالية ليقيم على أطلالها صرح الحضارة؟ من الذي يمهد السبيل للمستقبل المنتظر، لعصر الراديو والطيارة؟ لعصر العلم والفضيلة؟ لعصر الحرية والعدالة والمساواة؟ لعصر السوبرمان. . .
لا أحد!
كل شيء هادي في العالم!
إن القافلة تمشي ببطء في عرض البادية، قد خرس الحادي، ومات الدليل، إنها تمشي نحو الموت!
إن السفينة تتخبط في لجة اليم، تميل وتضطرب، لم يعد لها أمل، قد هبت العاصفة وطغى الموج، وغرق الربان!
يا من يهد القافلة الضالة؟
يا من يخلص السفينة الحيرى؟(196/34)
يا من ينصر الشعوب المظلومة؟ يا من يحمي العقل المهان؟ يا من ينقذ الفضيلة المعذبة؟
ليس من مجيب، كل شيء هادي في العالم!
بلغ السيل الربى، وعم اليأس، واشتدت المصيبة، فتلفت الناس فلم يجدوا أمامهم إلا البيع والكنائس، فأموا بيوت الله، ونفضوا أيديهم من الدنيا، وجاءوا يبغون فيها الفرج، لقد سدت في وجوههم كل الأبواب، ولكن باباً واحدا لا يزال مفتوحا فوق رءوسهم، هو باب السماء.
وسمعوا الفرج على ألسنة الكهان ورجال الدين، علموا أنه سيبعث نبي جديد، يطهر الأرض، وينشر العدل، فخرجوا فرحين مستبشرين، قد أحيا قلوبهم الأمل
وطفقوا يفتشون عن النبي الجديد، فتشوا عنه على ضفاف الأنهار في سهول العراق الجميلة. . . فتشوا عنه على جبال لبنان الشجراء، وحدائق الشام الغناء، فتشوا عنه في المدن الكبرى، عله يظهر إلى جانب القصور في القسطنطينية والمدائن، مثوى الجبروت البشري، فيهزها ويزلزلها، فتشوا عنه في كل مكان فلم يجدوه، إنه لن يخرج في السهول ولا في الجبال ولا في المدن الكبرى - ولكنه سيخرج من حيث انبثقت الحياة، من حيث بزغ فجرها من حيث خرجت الحضارات الأولى. . . من الجزيرة
تلك هي أم العالم فليلجأ العالم إلى أحضانها، كلما حاق به خطر؟
فتشوا عن النبي المنتظر في كل مكان فلم يجدوه، وازداد عسف الملوك، وظلم الطغاة، واشتد البلاء، وكمت الأفواه، وقيدت العقول، وديس الحق. . . فلجأ الناس مرة ثانية إلى البيع والكنائس. فسمعوا فيها البشارة، وكانت هذه المرة واضحة قريبة. . .
(يا شعوب العالم)!
(استبشروا فقد نشأت اليوم الموجة الخيرة التي ستغمر العالم - وتغسله من أدران الماضي - لقد نشأت من غار عال منقطع. في قمة جبل رفيع، ومشت تقطع الرمال - نحو أرض الثمار والرياحين - نحو أرض المدنيات. . . لقد ابتدأ اليوم أكبر حادث تاريخي: إن ركاب النبي المنتظر، قد تحرك من مكة يسير إلى نصرة الشعوب - إلى حماية العقل، إلى إنقاذ الفضيلة، إلى إنشاء عصر الحرية والعدالة والمساواة)
فخفقت القلوب في كل مكان لذكر النبي المصلح، وعاشت بحبه، وسألت:
- إلى أين بلغ؟ إلى أين بلغ؟(196/35)
- لقد بلغ الغار، فوقف فيه يودع هذه الجماعة السخيفة، التي جاءها أعظم رجل، بأعظم مبدأ، فلم تفهم منه شيئا، وحسبت أنها تستطيع القضاء عليه، فهي تريد أن ترد النبي فتقتله أو تسجنه، فهي تبعث رسلها، يفتشون عنه في أنحاء البادية، وشعاب الجبال، ومنعرجات الأودية، وينفضونها نفضاً، ولكنهم يعمون عن هذا الغار العالي المكشوف الذي يطل منه سيد العالم
- أهؤلاء يحرمون البشر من العصر الذهبي المرتقب؟ ويقضون على الأمل الوحيد الذي تعيش به ملايين الخلائق؟ يا للمجرمين، يا للجاهلين المغترين!
وتفرق الناس يهتفون في كل مكان باسم المنقذ الأعظم، باسم النبي!
وانتبه (عبد الله) فإذا هو قد تأخر، وضل الطريق، فصحا من ذهوله، وتسلق الصخر مسرعا نحو الغار، لقد فهم معنى الهجرة، التي لم تفهم قريش معناها - وحسبتها سفرا من مكة إلى المدينة، لقد علم أنها انتقال من الماضي الأسود الكئيب، إلى المستقبل المشرق المنير. . . فليقفز إلى الغار قفزا. . .
وبعد، فيا من ينعمون بحضارة القرن العشرين:. .
يا من يعرفون قيمة الفكر البشري، ويستمتعون بثمراته. . .
يا من يقدرون العدالة والحرية والمساواة. . .
لا تنسوا أبداً أن المنار الذي اهتدت به القافلة الضالة، والسفينة الحيرى، إنما خرج من ذلك الغار، فاذكروا دائماً عظمة هذه الغيران غار (حراء) إذ بزغت منه أنوار الديانة التي هذبت العقل الإنساني، وأرشدته إلى أقوم سبل الحقيقة والخير والجمال، وغار (ثور) إذ بدأت منه الموجة التي نسفت قصور الظالمين، وصروح العتاة، وقفت على الماضي السخيف، وحملت إلى العالم أسمى المبادئ وأعلاها، حين حملت إليه تعاليم حراء
إن هذه الغيران كعبة في التاريخ، لا ينبغ عقل ولا يمشي في طريق التفكير الصحيح، إلا بعد أن يطيف بها، ويقف عليها. . .
إن العالم قد سار نحو الكمال، يوم سار محمد (صلى الله عليه وسلم) نحو الغار. . .
إنه لولا الهجرة، ولولا الفتح الإسلامي. . . ما خرج العالم من الهوة، التي دفعته إليها أرستقراطية السادة الأشراف، وجبروت الملوك المستبدين. . . ولا كانت حضارة القرن(196/36)
العشرين!
. . . هذا هو معنى الهجرة، التي نحتفل اليوم بذكراها، فحق على كل متمدن أن يشاركنا في هذا الاحتفال!
عين التنته - سوريا
علي الطنطاوي(196/37)
من صفحات البطولة
سلاميش
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
قد كان ذلك أثناء الحرب الصليبية التي ثار لهيبها في الشام نحو قرنين طويلين؛ وكانت جنود مصر العظيمة تحاصر مدينة إنطاكية إحدى المدن التي كانت لا تزال باقية في يد المسيحيين. وكانت جيوش مصر تحارب ببسالتها المعروفة لا يعرف أحد من جنودها ما معنى الخوف بل يهوي بفرسه كالصاعقة وهو يصيح صيحة الحرب فيوقع بعدوه الفشل فيتفرق ويتبدد، ثم يشيط في رماحه وسيوفه.
وكان منظر هذه الجنود مما يروق الأعين ويبهر الأنظار، فقد كان الفرس وراكبه قطعتين من آيات الفن ومبدعات الصناعة، فالفارس في ملبسه الحربي عليه العلامة الصفراء تبرق في شعاع الشمس وفوق جسده الدروع والسلاح يحسبها الناظر إليها من عسجد مصفى وإن كانت من صافي الحديد والفولاذ؛ وكانت ملابسه من تحت تلك الغواشي لا تظهر منها إلا أطراف مزركشة بالذهب أو أذيال من صافي الحرير والقصب؛ وكان الفرس يختال تحت راكبه كأنما هو يزهى بما عليه من زينة وحلية ويفاخر بمن عليه من نجد مغوار
ودافع المحصورون في إنطاكية دفاع الأبطال، لم يتركوا الأسوار حتى لم يبق بها ركن غير مثلوم، ولم يدعوا الضرب حتى لم يبق لمجانيقهم حجر يقذفون به أو نار يلقون بها على أعدائهم. وانتصرت جنود السلطان العظيم بيبرس. ودخلت المدينة في أبهة النصر واختيال القوة. وكانوا وهم يدخلون المدينة لا ينسون أنهم يلجون أكبر معقل بقي للنصارى في الشام بعد أن كانوا قد بسطوا أيديهم على ذلك القطر كله.
كان قائد الجند شابا في مقتبل العمر اسمه سلاميش لو رآه أحد في غير لباس الحرب لظنه أحد أبناء الملوك المنعمين. وجه مشرق إشراق الزهرة اليانعة، وقوام ممشوق كأنه رمح رديني، وعينه تلمع كأنها ريا بفرند سيف دمشقي. ولكنه كان في عدة الحرب عليه اللأمة والدروع وفي يده الرمح وفي منطقته السيف، ودخل على رأس الجنود فوق جواده الكريم ناظراً إلى الأمام معبسا جاداً والجنود من ورائه لا يلتفت أحد منهم إلى يمين أو إلى اليسار، ولا يتخلف أحد منهم عن طاعة الأمر بمقدار همسة هامس أو طرفة عين. وكانوا كلما(196/38)
نظروا إلى قائدهم الشاب زادت قامتهم استقامة، فإن هم بعضهم ببسمة وقفت البسمة على شفتيه حذر أن يطلع عليه إذا هو التفت.
وكان يوم دخول إنطاكية يوماً مشهوداً، فكان نساء المدينة وصبيانها أسرى ينتظرون حكم الفاتح فيهم؛ وكان رجالها وشبانها بين مقيد في الأصفاد، وجريح في مثاوي العلاج، وقتيل طريح على جانب الأسوار أو عرض الطريق، وبلغ القائد وجيشه ميدان المدينة الأكبر وقد احتشد فيه الأسرى والضعفاء يتطلعون جميعاً إلى من في يده الحكم في مصائرهم، وخمدت الأنفاس، وهدأت الأصوات، وأومأ القائد للجيش بالوقوف حول الميدان، فوقف الجند ينتظرون إلى أكوام الغنائم التي سيقسمها السلطان الأعظم بينهم وهي من كل نفيس ونادر من تحف الأمراء والأغنياء وقد وقف حولها جماعات من سبايا الحرب بين صبية وعذارى أو كهول وشبان ينظرون إلى قيودهم حانقين، أو يبكون ويندبون معولين.
وتقدم نحو سلاميش وفد من كبار المدينة وأمرائها حتى إذا ما صاروا منه على بضع خطوات ركعوا له ووقفوا يطلبون الإذن للكلام، فأذن لهم وهو معبس على عادته لا تفارقه تلك النظرة الجامدة التي في عينيه، وجعلوا يتكلمون بلسانهم وقد وقف رجل منهم يترجم ما يقولون. وطلبوا إليه أن يمن عليهم بالفكاك وأن يهبهم نساءهم وذراريهم تقربا إلى الله الذي نصره بعد أن وضعت الحرب أوزارها ودانت المدينة لحكم السلطان الأعظم، وقالوا له فيما قالوا (حسبك من تقتل من شباننا وكهولنا، وما تخرب من ديارنا ومعاهدنا؛ فلئن كانت بنا كبرياء لقد ذلت، ولئن كانت فينا عزة لقد هانت؛ وكفاك من الحرب النصر فلا تضم إليه دموع المساكين، ولهيب الفراق بين الأبناء والوالدين) غير أن سلاميش بقي على تعبيسه ووجومه ولم يجب إلا بإشارة لجنوده أن يعيدوا الأسرى إلى حيث كانوا وأن يستعدوا لنقل الغنائم والأسرى إلى مخازن السلطان أو إلى خيامه، فلم يكن للوفد إلا أن ينصرف والحسرة تأكل قلوبه.
ثم أمر القائد جنوده بالمسير إلى مخيمه وسار في الطليعة يتقدمه لولا أن استوقف نظره جماعة من الجند يجرون شخصا وهو يمانع ويجاهد، فتأمل الشخص فلاح له عن بعد شخص امرأة، فوقف وأمر الجنود بالوقوف، ثم أسرع إلى مكان الجند ليرى ما هناك فوقعت عينه على فتاة بين أذرع جنديين يدفعانها ويترددان في حملها. ولما اقترب منها(196/39)
رأى شابة نحيلة ممشوقة فارعة، بوجهها صفرة قد غطتها حمرة، وفي عينيها حلاوة قد غشيتها صرامة، وهي تنظر إلى الجنديين مرفوعة الرأس كأنها تزهى، جامدة العينين كأنها تتحدى. وقد تمز ثوبها وتلوث من آثار الوسخ والدماء، لا يكاد يستر من جسمها إلا ما يستر ظل أوراق الشجر من صفحة الجدول.
وقد انسدل على كتفيها غطاء من شعرها الفاحم وهو يلمه في ضوء الشمس الغاربة. فدخلت الرحمة قلبه برغمه، وتمهدت عبسته ولانت نظرته وأشار إلى جنوده بالكف عنها، ثم نزل إليها وأخذ بذراعها فأسلست له وسارت معه حتى اقترب من شيخ فقيه كان في صحبة الجيش وأمره أن يترفق بها حتى تذهب إلى خيمته. ثم عاد وقد أطرق قليلا حتى علا صهوة جواده. ثم ركض إلى حيث ترك جنوده واستعاد نظرته وعبسته. وألقى إليهم الأمر بالمسير وقضى سائر اليوم في شغل من أمر جيش حتى أوغل الليل وعلا البدر وحان وقت العودة فآب إلى سرادقه.
وتذكر الفتاة التي كانت أعمال اليوم قد أنسته ذكراها، فأمر غلاما أن يحضرها إليه، وجلس يستعيد صورتها ويتمثلها وهي تناضل على ضعفها وتتكبر على ذلها، ولم يتمالك أن ربت الرقة إلى قلبه، ولم يستطع قهر عبرة ترددت في عينه. وغاب الغلام قليلا ثم عاد وحيدا فنظر إليه سلاميش كأنما يستفهم عما أتى به، فقال الغلام بعد التحية (إنها لا ترد بكلمة ولا ترفع إلي بصرها)، فصرفه سلاميش وجلس هنيهة يفكر، ثم نهض متثاقلا وسار إلى خيمتها حتى إذا دخل ألفاها على الأرض وقد وضعت رأسها بين كفيها.
فدنا منها ووضع يده على رأسها وتبسم ابتسامة ضئيلة وقال: (يحزنني أنهم أساءوا إليك)
فانتفضت الفتاة كأنما لسعتها جمرة، ثم رفعت رأسها وقامت تنظر إليه والحقد مرتسم على محياها، ونار الغضب تضطرم في عينيها، وكانت الملابس الرثة التي أتت بها قد تبدلت وألبست حلة من الحرير الأسود جعلت وجهها المصفر وعليه آثار الدموع يبدو كالزنبقة المبللة بالندى، ودفعت يده التي مدها نحوها وقالت وفي صوتها بحة: (أبعد يدك عني أيها القاتل السفاك. أدر وجهك الكريه عني فأنت قاتل أبي وأخي، وأنت سافك دماء قومي، وأنت المعتدي على وطني، ابعد عني وافعل بي ما شئت من عذاب أو قتل تكمل به وحشيتك وفظاعة جندك).(196/40)
وكانت هي في ثورتها هذه تقذف بنظراتها إليه كالسهام النافذة، وكان صدرها يعلو ويهبط في هياجها، وشعرها الطويل الاسحم يضطرب بعضه فوق كتفيها وبعض على صدرها أو جوانب جسمها
ودهش سلاميش من قولها ولم تفته فصاحة في لفظها ولا رخامة في صوتها، ولكنه لم يجب بكلمة، بل رفع حاجبيه وانثنى راجعا إلى خيمته يسير في بطء ويثور به شيء يشبه الحزن
وأرسل إلى الشيخ الفقيه يستحضره، وأتى إليه فجعل يسأله عن المدينة وأهلها، وعن تلك الفتاة وبيتها، فلقد كان ذلك الفقيه من أهل المدينة قبل الفتح يعيش بين أهلها ويعاشرهم ويخالطهم، فعلم منه أن تلك الفتاة بنت أكبر أغنياء إنطاكية، وأن أباها كان شديد الولع بتثقيفها، وأنها قرأت أدب العرب كما قرأت أدب الفرس، وكان لها أخ قتل في أثناء الحصار، ومات أبوها يوم الفتح، وكان يدعو قومه إلى المصالحة قبل أن تفتح المدينة عنوة، وأراد أن يحمل قومه على تدارك الأمر قبل انفراطه فاتهموه بالجبن، وصاحوا في وجهه، أنه آثر السلامة، فحملته الحفيظة مع كبر سنه على الركوب في وجه الجيش الفاتح، ومات عند أبواب المدينة تحت سنابك الجيش الظافر
وسمع سلاميش تلك القصة فأفلتت منه زفرة لم يستطع كتمانها، وبات الليلة والأحلام تتخل نومه حتى لاح الفجر، فصحا وهو مضطرب النفس قلق البال
ولكن أعمال اليوم لم تترك له متسعا للتفكير في القناة ولا في همومها، وكان كلما تذكر كلماتها له نازعته نفسه إلى القسوة عليها، ثم لا يلبث أن يلين، وتعاوده رحمته. حتى إذا انقضى اليوم وعاد في المساء إلى خيمته رأى نفسه يسير نحو مكانها، وتقرب إليها وهو يتردد ويترفق ثم وقف إلى جوارها هنيهة وقال بصوت خفيض:
(لعلك اليوم أهدأ مما كنت بالأمس)
فلم ترفع إليه بصرها، بل بقيت جالسة، ورأسها بين كفيها
والتفت إلى خوان بالقرب منها، فرأى عليه طعاما يمسس. فقال وهو يتكلف الهدوء والجفاء: (وهل تريدين أن تموتي جوعا؟)
فلم تجب على قوله، بل حاولت كتم نحيبها.
فقرب منها، وحاول أن يضع يده على رأسها ليرفعه وهو محترس متلطف، ولكنه ما كاد(196/41)
يلمسها حتى نفرت منه وصاحت به قائلة:
(أقول لك اتركني)
فلم يستطع أن يخالفها، فأبعد يده عنها، وتراجع، ناظرا نحوها، ثم تنفس نفسا طويلاً وخرج وفي قلبه حزن وقلق
وقضى ذلك اليوم موزع القلب كئيبا، حتى لحظ أصحابه كآبته، وعجب جنوده لجفائه ونفرته، فكان لا يأمر إلا متبرما غاضبا، ولا يسمع إلا متجهما ساهما، حتى عجب الناس من ذلك الغضب، في عقب الانتصار، ومن ذلك الضجر لمن كان مثله مكللا بالمجد والتوفيق. وما انتهى من عمله حتى أسرع إلى سرادق، ووقف هذه المرة مترددا وجلا، ودخل في رفق وخشوع إلى مكان الفتاة، فأبصرها على ما كانت عليه في الصباح، والخوان لا يزال إلى جانبها، قد تبدل طعامه، ولا يزال كاملا لم تنل منه شيئا
ونظر إليها مليا ثم قال برفق: (أما تكلمينني؟ إنني أرجوك أن تنظري إلى وتنطقي بما يجول في نفسك ولو كان قاسيا)
ثم مد يده إلى رأسها ومسح عليه متلطفا - ولكنها هذه المرة لم تثر ولم تغضب. وكأن نبرات صوته قد حملت إليها ما في فؤاده من حزن من أجلها. على أنها بقيت ساكنة، وهي جالسة في مكانة كئيبة.
فجلس إلى جوارها ساعة يحاول محادثتها وهي لا تجيب إلا بدمعة تثور بين حين وحين في عينيها فتمسحها بمنديل ثم تعود إلى وجومها وسكونها، فقال لها ولسان ينم عن مقدار عطفه وحزنه:
(إنني لا أريد إيلامك - لأنني لا أستطيع أن أراك متألمة - ولو كان ذهاب ألمك بإبعادك عني لفعلت. ألك أهل في عكا أو في مدينة أخرى من المدن فأرسلك إليهم؟ أن السلطان لن يرد لي طلبا إذا طلبت منه شيئا)
فلم تجبه حتى أعاد عليها القول راجيا مستعطفا - وكان أول ما قالته له أن هزت رأسها نحوه وقالت: (ليس لي أهل - قد قتلهم جميعا) ثم شهقت بالبكاء واسترسلت في هزة مريرة من الحزن
ولم يملك سلاميش نفسه من أن تجيش بالحزن ولكنه تمالك بعد قليل وهدأ من جأشه وقال(196/42)
لها:
(أنني أرحمك في حزنك ولكني لا أملك دفعه. فقد كان أهلك أعدائي وكنا معا في ميدان قتال يسعون فيه إلى قتلي كما كنت أسعى إلى قتلهم. وهل للشجعان مصير إلا الموت في ميدان الحرب؟ وهل كان أولى بأهلك أن يشهدوا مدينتهم تحطم وتسلب وهم بين هؤلاء الأسرى؟
أنهم لو كانوا بين هؤلاء الأسرى لما ترددت في افتدائهم من أجلك ولكنهم في غير حاجة إلى ولا إليك. إنني قد رأيتك وبهرني حسنك، ثم رأيت حزنك فآلمني حزنك. ثم تكشفت لي كبرياؤك فقهرت كبريائي، ولو شئت أن تبعدي إلى مكان تختارينه لما رفضت لك مشيئة - وإن أحببت المقام هنا - كنت عندي ولا أقول لي حتى تقولي ذلك أنت)
فنظرت الفتاة نحوه وقد زال من عينها ذلك البرق القاسي الذي كان يلوح منهما كلما نظرت نحوه من قبل، وأطالت نظرتها إليه ثم أغضت بعد أن طبعت في خيالها صورته
ولم يذهب سلاميش ذلك المساء إلى خيمته حتى كان قد قاسمها بعض الطعام الذي قدم إليها في ذلك اليوم ولم تنل منه قبل ذلك شيئا
وفي ذلك المساء وفد إلى سلاميش بريد السلطان يحمل إليه أمر الارتحال إلى دمشق بمن معه من الجند. ويأمره فيه بتقسيم الغنائم بين أمرائه وجنوده وبتوزيع الأسلاب من أموال وسبايا. ووهبه نصيبه من ذلك كله جزاء له على بسالته واعترافا له بما كان من نضاله
وبكر سلاميش فذهب في الفجر إلى خيمة الفتاة وهو خفيف الخطوة متهلل النفس إذ كان قد عزم على خطة أملاها عليه قلبه، فرأى الفتاة راقدة على أريكة قضت عليها الليلة لم تذق للنوم طعما؛ فلما وقع نظرها عليه جال على وجهها طيف ابتسامة واعتدلت في مكانها ونظرت إليه وهو قادم نحوها. ولما حياها تحية الصباح ردت تحيته، ثم جلس قريبا منها ولم يكن عند ذلك على عادته من اعتداده بنفسه وكبريائه، بل كان في حديثه خفيض الصوت مهتز الأنفاس.
قال لها: (قد أمرني السلطان أن أتحرك اليوم إلى دمشق بعد أن انتهى الآمر هنا)
فلم تجبه بل نظرت نحوه، كأنما تسأله عن مصير وطنها، ومن فيه من رهطها، وكأنه أحس بما في نفسها من التساؤل فقال: (وقد أراد السلطان العظيم حفظه الله أن يجعل لي حظه من هذه المدينة، فصاحت الفتاة ومدت نحوه يديها: (إذن فالمدينة في يديك) فقال لها:(196/43)
بل نصيب السلطان منها وسأجعل نصيب من الغنيمة من في المدينة من الأسرى تاركا للجند أموالها وتحفها)
فصاحت الفتاة ووقفت أمامه قائلة (وماذا تفعل بهم؟)
فتبسم سلاميش نحو وقال (هم لك)
فصاحت وصوتها يتهدج من الفرح (هل تفعل؟)
فقام ومد يديه نحو وقال (لقد أكرمني السلطان العظيم بنصيبه، وسيكون أقر عينا إذا علم أين ذهبت به)
فمدت يديها وأمسكت بيديه الممدودتين وقالت (ما اسمك؟) قال باسما (سلاميش) فنظرت إلى وجهه لحظة ثم تركت يديه وأطرقت إلى الأرض فقال (وإنني أود أن أعرف ما تحبين فأنفذه لك فإن دارك هنا لم يمسها أحد من الجنود. لقد عرفت دارك وعرفت أهلك من بعض أهل المدينة وأعدت كل ما أخذ منها إلى مقره، ولك أن ترجعي إلى دارك إذا شئت عزيزة في ظل السلطان العظيم).
فنظرت الفتاة نحوه وترددت قليلا ثم قالت في حياء (وأنت؟)
فقال سلاميش وهو يمانع نفسه من الاضطراب:
(سأذهب إلى دمشق كما أمر مولاي)
فسكتت الفتاة لحظة ثم مدت يديها بحرارة وقالت:
(سلاميش! وأنا كذلك إلى دمشق أسير) ثم ارتمت بين ذراعيه.
محمد فريد أبو حديد(196/44)
نسيبة
للأستاذ إبراهيم مصطفى
المدرس بكلية الآداب
سيدة من بني الخزرج من أهل يثرب، ولم يكونوا إذ ذاك سموا أنصاراً ولا كان الرسول هاجر إليهم، ولكن حديثه كان يملأ الجزيرة ودعوته تشغل العرب وقرانه يبث بينهم ويتلى، كما كانت الأشعار تنشد وتروى.
وكان أهل المدينة أشد عناية بهذه الدعوة وأحفى سؤالا عنها. فهم أصهار قريش وشركاؤهم في التجارة وحفظة طريقهم إلى الشام وبينهم اليهود أهل الكتاب ورواة المأثور ومجمع الأخبار
وجلست نسيبة في مساء إلى زوجها وولدها يتحدثون في أمر محمد وأنباء دعوته وما حدث في قرآنه، وتلى تال (الر تلك آيات الكتاب الحكيم. أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم، قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) وآيات أخرى من كتاب محمد. وعجبت نسيبة للكافرين أن ينكروا على رجل منهم أوحي إليه أن يهديهم وأن يبشرهم وينذرهم، وتساءلت بهذا السحر المبين أين يكون؟ وما هي إلا الدعوة الصالحة والحق الواضح والبيان الجميل. لشد ما ظلم الرسول قومه وبئسما افتروا عليه. واشتاق القوم أن يروا محمداً وأن يستمعوا إلى حديثه ويستزيدوا من قرانه.
وما جاء ميقات الحج حتى كانت القافلة تسير من يثرب إلى مكة في نحو خمسمائة حاج أكثرهم الرجال وقل فيهم النساء ومن بينهم نسيبة. وهاقد أدرك الركب في مكة وتوافى إليها الحجيج من كل فج واستقرت القبائل في منازلها والرسول يسعى إليهم يعرض عليهم دينه ويبين رسالته ويتلو قرانه بل يعرض نفسه أيضاً، لقد ضاق به المقام في مكة ونبا وآذاه أهله في نفسه وفيمن من آمن به، وبالغوا في الإيذاء والتنكيل حتى عاد بينهم كالعاني الأسير أو أنكد. وما يبغي الرسول؟ إنما يريد من العرب قوماً يسعونه حتى يؤدي رسالته، ويحمونه حتى يبين حجته، ثم يدعون من آمن لإيمانه ومن كفر لكفره. وما من قبيلة رضيت هذا أو انشرحت له صدراً إلا جماعة من أهل يثرب واعدهم الرسول إذا انحدروا(196/45)
من منى أن يوافوه في الشعب الأيمن بأسفل العقبة وأمرهم ألا ينبهوا نائماً ولا ينتظروا غائباً وأن يستخفوا من قريش ويحذروا عيونهم وأرصادهم، وما وافى الموعد حتى كان بين يدي الرسول سبعون منهم. بينهم نسيبة وسيدة أخرى عاهدهم وعاهدوه أن يسعوه بينهم وأن يحموه حمايتهم لأحدهم حتى يبين حجته ويبلغ رسالته. وراحوا بعهدهم يخفون من قريش ومن الناس أن يعلموه، وعادت نسيبة إلى بلدها سعيدة بإيمانها فخورة بعهدها، وقدرت ما يكلفها هذا العهد نفسها على الرمي بالنبل والضرب بالسيف وأعدت لهذا الجهاد ولديها حبيباً وعبد الله.
ودار الزمن وفر الرسول من مكة وهاجر إلى المدينة وتلقاه الأنصار بالنشيد والترحيب، ثم نشبت الحرب بين الرسول وبين المشركين من قريش في يوم (بدر). وشهدها المهاجرون الأولون والأنصار السابقون ونسيبة منهم تسقى من استسقى وتضمد الجرح من جرح، وتشهد غلبة الحق لأول يوم انتصر فيه. وعظم هذا اليوم على المشركين وهم الأكثرون فأعدوا عدتهم وحشدوا للرسول في (أحد) وشهدته نسيبة أيضاً ومعها زوجها وولداها في يمينها السقاء والضماد، واستعرت الحرب وغلب المسلمون ثم نالتهم هزيمة، فما ارتاعت نسيبة إلا لجموع من المشركين تقصد إلى محمد تريد أن تحيط به وتكاد أن تبلغه والمسلمون عنه في ناحية مثقلون بالهزيمة، فألقت السقاء والضماد وسددت بالسهم ورمت عن الرسول بالنبل، حتى التحم به المشركون فشرعت السيف وجالدت القوم حتى جرحت وخارت وارتمت على الأرض مصروعة. وثبت الرسول وهزم عنه المشركون وانجلى من الغمرة ما انجلى وتساءلوا بنسيبة فإذا هي ملقاة يفور دمها من جرح غار بكتفيها. ضمدوا الجرح وسقوها الماء فما تنبهت حتى سألت: وأين الرسول؟ وما صنع المشركون معه؟ إنه لناج وإنه منك لقريب. وجرحك الغائر ودمك السائل وقوتك الموهنة وولداك الناشئان وبعلك الشيخ - كل أولئك منك دون محمد!؟ أجل دون محمد ودون رسالة محمد، لها خرجنا ومن أجلها قاتلنا، ولها نحيا، وفي سبيلها نموت. وبرئت نسيبة ونسيت الفخر إلا بهذا اليوم، وبالأثر الباقي من ذلك الجرح. (روى ابن هشام عن أم سعد قالت: دخلت على نسيبة أم عمارة فقلت لها: يا خالة أخبريني؛ فقالت: خرجت يوم أحد ومعي وعاء فيه ماء فانتهينا إلى رسول الله وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت(196/46)
إلى رسول الله فكنت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي، وأرت على عاتقها جرحا أجوف له غور)
وقد أحسنت السيدة نسيبة تربية ولديها حبيب وعبد الله وملأت قلبهما إيماناً وصدرهما شجاعة وسواعدهما قوة، وعرف رسول الله فضلهما وقدرهما، وأحضرهما المشاهد وجعلهما سفراء ورسلا إلى من شاء من رجال العرب ورؤوس القبائل، أرسل عبد الله إلى اليمن مع معاذ، وأرسل حبيبا إلى مسيلمة الجبار البطاش المتنبئ كذبا في قومه بني حنيفة وهم من أكثر العرب عدداً وأغناهم وأقواهم بأساً. أتدري ما صنع الكذاب بحبيب؟ لا يملك القلم أن يقصه عليك، وبأشق الجهد أن يرويه لك، ففي الجزء الأول من أسد الغابة في ترجمة حبيب (أن رسول الله أرسله إلى مسيلمة الكذاب الحنفي صاحب اليمامة فكان مسيلمة إذا قال تشهد أن محمدا رسول قال نعم، فإذا قال تشهد أني رسول الله قال لا أسمع، فيقطع منه عضواً، ففعل ذلك مراراً وقطعه مسيلمة عضواً عضواً) اهـ
وقبض المصطفى عليه الصلاة والسلام لأجله، وزلزل المسلمون لموته وارتدت من العرب أحياء وجموع، وكان مسيلمة أشد الخصوم لددا وأقواهم كيداً وأكثرهم مالا وعدداً، كاثر بقومه بني حنيفة واعتصم بحصونه في (اليمامة) وصمد إليه خالد بن الوليد بجيش فيه السيدة نسيبة وولدها عبد الله؛ واستعصى أمر مسيلمة وكاد يهزم المسلمون، ثم تجمع نفر من المستبسلين، رموا بأنفسهم مسيلمة لا يبالون إلا أن يبلغوا إليه وينالوا نفسه، وفي هذا النفر نسيبة وولدها عبد الله، أما نسيبة فجالدت بالسيف حتى بتر ذراعها وأما عبد الله فصمد وألح في الهجوم على مسيلمة مستقتلا مستبسلا حتى أدركه وأغمده السيف. مات مسيلمة فماتت الفتنة بموته وتم أمر بني حنيفة مع ابن الوليد صلحاً؛ وعادت نسيبة إلى بلدها بساعد واحد وولد واحد، وهي بما مضى أسعد منها بما بقى. كل إلى فناء، وإنما الفوز والمجد أن يكون في سبيل الحق ذهاب ما ذهب منك
ونسى التاريخ نسيبة وأغمض العين عن بقية أيامها وضن أن يحدثنا بما نحب من ختام جهادها ومواطن مثواها. إلا إن مثواها الجنة، وإن ذكرها في الطيبات لخالد.
إبراهيم مصطفى(196/47)
من مواقف العروبة
للأستاذ محمد سعيد العريان
من ذلك الفتى الشعاع، يختال في العزم والقوة، والشباب والفتوة، حاسرا عن ذراعه، متقدما على صحابته، قد فرعهم طولا، وبهرهم تماما وحسنا. . .؟
قال أصحاب محمد: (ذلك قزمان المدني. ما نعرف في أصحابه من يفوقه شهامة ورجولة؛ إنه ليعين الضعيف، وينتصر للمظلوم، ويسرع إلى الصريخ؛ لا تني به عزيمته عن أمر يقصد إليه؛ وما تعرف المدينة في فتيانها أغير من على حماه، وأبر منه لأهله. . .!)
قال محمد: (إنه لمن أهل النار. . .!)
واستمع المسلمون لرأي النبي في الفتى الذي اجتمعوا على الإعجاب به والتمدُّح بخلاله، فما راجعوه الرأي ولا ناقشوه العبارة؛ إنهم ليؤمنون بالنبي إيمانهم بكلمة الله؛ وإنهم ليعرفون محمدا أصدق نظراً وأنفذ بصيرة فما تخفى عليه من أصحابه خافية. إنه ليكاد ينفذ إلى سرائرهم جميعا بعينيه الثاقبتين، فيعرف ما تجيش به نفس كل رجل منهم، وإنهم ليعيشون من هذه المدينة في جو من الحذر والتربص، بين المنافقين من أتباع عبد الله ابن أبي بن سلول، وبين اليهود من بني قريظة والنضير؛ فما يسيئون الرأي في واحد بينهم إلا حسبوه عينا وربيئة من عيون المنافقين واليهود؛ فمن يكون (قزمان) بين هؤلاء وأولئك؟ وهل يدري أحد ممن هو وإلى من ينتسب؟ إنه لرجل يعيش في المدينة كما يعش أهل المدينة جميعا، ولكن أحدا منهم لا يعرف عنه أكثر مما يرى منه. . .
وتذامر المشركون من أهل مكة على قتال محمد، واجتمع إليهم من اجتمع من قبائل كنانة وأهل تهامة، يطلبون الثأر لقتلى بدر. وسار جيش الشرك في ثلاثة آلاف مقاتل، ما منهم إلا موتور يحرص على الأخذ بالثأر ولو مات دونه؛ وتطايرت رمال الصحراء تحت سنابك الخيل وأخفاف الإبل، نذيرا بما سيكون في غد بين الطائفتين؛ وسال الوادي يقذف بالزبد رجال على الصهوات تلمع سيوفها تحت الشمس ثائرة مهتاجة؛ وتجاوبت جنبات البادية بحداء الرجال على نواصي الخيل ورنين الدفوف بين الظعائن؛ حتى أشرف الجيش على (أحد) فلتبثوا ينظرون ما يكون من أمرهم وأمر محمد. . .
وخرج محمد وأصحابه سبعمائة رجل إلى لقاء الجيش عند أحد، فما تخلف في المدينة إلا(196/48)
الصبيان والشيوخ والنساء والعجزة. وما انخزل عنه إلا المنافقون من أتباع عبد الله بن أبي، وتخلف قزمان فيمن تخلف بالمدينة. .!
وغدا قزمان يمشي في طرق المدينة لا يصحبه إلا ظله. أين رفاقه وصحابته؟ لقد خرجوا جميعاً إلى لقاء العدو فما تخلف منهم غيره، ففيم بقاءه ولا بقاء لمثله؟ ولكن فيم خروجه وما يؤمن بما يؤمن به صحابته؟ لقد خرجوا دفاعاً عن دينهم الذي يدينون الله عليه، وذياداً عن الحق الذي يذعنون له، بلى، وحفاظاً على الوطن العزيز أن تطأ ثراه نعال الغرباء. . .
وتحدث قزمان إلى نفسه هُنيَّة: (ما مُقامي هنا وأصحابي هناك؟ وَيْ! وماذا تكون مقالتهم عني وليس في المدينة غيري وغير هؤلاء؟)
هؤلاء كل ما هنا لك: شيخ هم يمشي على عصوين، وأعمى ضرير يتوكأ على عكازته، وطفل لدن يركب عصاه يستبق مع لداته، وعجوز عرقتها الأيام جالسة وراء الباب تنتظر ما يأتي به الركبان من أخبار الحرب، وشابة مخضوبة البنان متوارية في الخباء وأذنها إلى الطريق تتسمع نبأ عن زوجها الذي خرج للجهاد؛ وهذا الفتى وحده. . .!
وعاد قزمان يتحدث إلى نفسه: (. . . وماذا يكون من أمري حين يعود أصحابي أو حين تأكلهم الحرب فلا يعودون؟ بل ماذا يكون إن كانت الهزيمة وعجز الأوسُ والخزرجُ أن تدافعا عن المدينة؟ وما مقامي وكيف أكون إن ظفر العدو واستباح الحمى ووطئت نعاله تراب الوطن. . .؟ يا لأحساب قومي، ويا لعزة بلادي. . . ولكن. . .! يا للعروبة! أتغفر لي أن أقاتل في صفوف محمد وما أنا على دينه؟)
وتوزعته الفكرتان لا تسلمانه إلى رأي فيهدأ، ثم لم يلبث أن خلع الفكرتين جميعا إلى خاطر هفت له نفسه. . .
ومضى يحث الخطا إلى داره (سُلافة بنت طلحة)، يلتمس في الأنس بها ساعة من نهار هدوء البال وراحة النفس. منذ كم لم يجتمع قزمان وسلافة تسر إليه ويسر إليها؟ إن لها في نفسه لمكانا؛ وإن له في نفسه لحديثا يسره أن يلقاها فيحدثها به وتحدثه؛ لقد كانت العيون بينهما حائلة، فهاهي ذي الفرصة قد أمكنته ليجلس إليها ساعة في غفلة العيون. . . وطرق الباب. . .
-: (من؟ من يدق الباب؟)(196/49)
-: (قزمان. . .!)
-: (ويْ. . .! قزمان؟ وما جاء بقزمان الساعة؟)
-: (سلافة. . .)
-: (حسبتك هناك. . .!)
-: (أتظنين يا سلافة؟)
-: (بل أعتقد. . . قزمان لا يكون هنا وقومه هناك!)
-: (ولكني هنا من أجلك يا سلافة!)
-: (وقومك. . .؟ وأهلك. . .؟ ودينك. . . .؟)
-: (أنت قومي، وأهلي، وديني. . .!)
-: (لست منك يا قزمان إن لم تكن من أهلي وقومي وديني؛ لخير لي أن أفقدك في الجهاد وأنت أحب إلي. . .!)
-: (سلافة!)
-: (سلافة لقزمان البطل المجاهد وليست لك. . .!)
وغادر الفتى فتاته وقد اجتمع إليه هم ثالث، وسار بين البيوت مطرق الرأس، تتناوله نظرات الريبة والحدس. وسمع عجوزاً تتحدث إلى جارتها: (أما سمعت يا عاتكة؟)
-: (ماذا؟)
-: (حسيل بن جابر، وثابت بن وقش؛ إنهما من تعلمين: هل يقوى أحدهما أن يحمل نفسه من الهرم والضعف؟ لقد لحقا اليوم برسول الله يرجوان المثوبة في الجهاد أو الشهادة، وما عليهما والله إن بقيا في الآطام مع النساء والصبيان، وما منهما إلا له اخوة أو ولد في الحرب يكفون عنه. .!)
قالت صاحبتها: (بلى، قد علمت يا أختاه! فهل جاءك أن عمرو بن الجموح لم يمنعه من الحرب أنه يمشي برجل واحدة، وأن له بنين أربعة مثل الأسد يشهدون المواقع مع رسول الله؟)
وسمع الرجل ما تتحد به المرأتان، فكأنما كانت ترجمانه بالحجر فما يستطيع أن يتماسك مما ينهال عليه. واستمر يمشي وكأنما تستعر الحرب في رأسه لا في الميدان البعيد(196/50)
ومرت به (نسيبة بنت كعب)، تحمل سقاء فيه ماء، فاستوقفها يسألها عن خبرها فما أجابت نداءه؛ لقد كانت في طريقها إلى أحد، لتقوم بما تقدر عليه في صفوف المجاهدين. .!
وعاد قزمان يتحدث إلى نفسه: (ويلي! ما أنا هنا والحرب هناك؟ وما يكون من أمري غدا على الحالين: في النصر والهزيمة؟ أفراراً من الموت؟ أنكوصا عن الواجب؟ أكفراً بالوطن والأهل والعشيرة؟ ألا إنه يومك يا قزمان، فليجاهدوا هم في سبيلهم، وليكن جهادي معهم لأجل الوطن. . .!)
وترامت السهام، وبرقت الأسنة، والتفت السيوف، وابتدأت المعركة بين الجيشين وقزمان غير بعيد؛ لقد أدرك الجيش ولما يبدأ النضال، فما فاته أن يشهد المعركة من البداية
من ذلك الفتى الشعشاع، يختال في العزم والقوة، والشباب والفتوة، حاسراً عن ذراعه والسيف في يده، يحتز الرءوس، ويقطع الأوداج، ويلقي الرعب في قلوب الأعداء؟
إنه قزمان نفسه؛ لقد قاتل في ذلك اليوم قتالا شديداً، وأبلى بلاء حسناً، فما وضع السيف حتى أثخنته الجراحة.
والتف المسلمون حول قزمان يخففون عنه ما ناله من أذى القتال، وما منهم إلا معجب بصبره وقوة بلائه، فهم يقولون: (والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر!) قال: (بماذا أبشر!) فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. . .)
ونظر المسلمون بعضهم إلى بعض ثم انفضوا. . .
(إنه لمن أهل النار!) هكذا كان يقول عنه محمد. صدق رسول الله!
ونظر قزمان إلى نفسه، فإذا هو يتلاشى نفسا في نفس، وذكر صنيعه في ذلك اليوم، فعادت إليه الفكرتان الأوليان تصطرعان في نفسه، لا تسلمانه إلى رأي فيهدأ. أي الخطتين كانت أهدى سبيلا: أن يدع هذا الدين تمزقه أعداؤه وتمزق معه أهله وعشيرته شر ممزق، أو يقاتل في صفوف قومه دفاعاً عن أحسابهم؟
أما إنه لا سبيل إلى ما فات. لقد أدى واجبه لوطنه، ولكن. . . ولكنه غير مستريح إلى ما كان منه. . .
ونزت به نازية، فلم يجد لنفسه خلاصا من عذاب الفكر إلا بالموت، فاتكا على سيفه فأزهق نفسه. . .!(196/51)
يا لله! لقد نفذت إلى نفسه بارقة من شعاع هدته سبيل الوطنية، ولكن قلبه ظل في ظلمات من الضلال والشرك.
لو عرف ذلك الدين الذي جاهد له يومه الأخير، لأشرق له الدنيا كلها، وانبثق الصبح في قلبه، ولمات يوم مات تشيعه الملائكة وتهزج له أناشيد الخلود!
ليته عرف! ولكن، حسبه أنه كان مثالا في الوطنية، ليت كثيراً يعرفونه. . .!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(196/52)
بين حراء. . . وعرفات
للأستاذ عبد المنعم خلاف
وقف الرجل الذي تلخص فيه مجد الإنسان وتحقق به وشاع منه على عرفات في حجة الوداع، وقد احتشدت حوله في ذلك الرحب الصامت الرهيب الذي فيه أول بيت وضع للناس، الأزمان والدهور وأرواح الملأ الأعلى والرسل والحكماء وأعضاد الإنسانية وحاملي المشاعل على طريقها، وأفواج الخلائق من عالم الذر والبرزخ، وأجساد أولئك المتجردين من لبس المحيط والمخيط من صحابته المخبتين. . ومن فوق الحشد الخفي والمستعلن ينظر وجه الله ذو الجلال إلى عبده ورسوله وهو يلقي الكلمة الخاتمة البلاغ الأخير بالآيات المنزلة من حول العرش: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). . . ويعلن حقوق الإنسان وواجباته ويسأل الجموع المحشودة: هل بلغت؟ فتردد البطاح والأودية والشعاب التي كان يأوي إليها في طلب الهدى ثم في التخفي بالدعوة ثم في الجهاد لها - الجواب الإجماعي في إقرار وشكران
وما بد من أن الكلمة الأولى: (اقرأ باسم ربك. . .) التي طالعه بها الوحي في (حراء) كانت تتردد على سمعه في تلك البرهة الخالدة، فتتوالى أمام مخيلته عزائم جهاده في الأرض التي كان كل قديس فيها رجسا، وكل بَرَّة فَجْرة، وكل امرئ آثما في عقيدة القلب، خرفاً في رأى العقل، ضارياً في معاملة الخلق، طفلا في طقوس العبادة. . . أيام أن كان يتخفى بالغار في حيرة وانفراد ورهبة وصمت وشك وفراغ، وأعصاب مرهفة، وقلب مفجوع بالضلالات المعقدة، وعقل عظيم، ولكنه أمي ينظر إلى كون مبهم مختلط نظرا لا يقع إلا على قمم الجبال وصفرة الرمال وأمم تحنو على أصنام من الأناسي والأحجار والأخشاب، ومواكب من النجوم تبدأ كل يوم من الشرق وتروح إلى الغرب في قهر وصمت وطواعية ووجوم. . . وهو ذا الآن على عرفات في استعلانٍ ومعرفة وحشدٍ وطمأنينة وضجة ويقين وامتلاء في العقل من عالم الشهادة، وفي الروح من عالم الغيب، وفي اليد من أجساد العباد الذين لم يؤمنوا به حتى أحبوه أكثر من نفوسهم التي بين جنوبهم، فهم في يده يقذف بهم على كل أفق وتحت كل كوكب ليكونوا امتدادا منه وظلا من دعوته. . وقد امتلأ قلبه بالأمل الواثق بان الله متم نوره ومعل كلمته. وقد شبع عقله من جوع إلى المعرفة واتصلت به شرارة(196/53)
الوحي، وانتهت إليه ينابيعه فأضاء وصفا وعمق، ففيه لبني الإنسان الهدى والحلي والطهر.
وقد تعوض نظره من رءوس الجبال التي حول حراء، برءوس خاضعة من النساء والرجال الذين رباهم ثلاثا وعشرين حجة في كل يوم بآية من الكتاب أو جملة من بيانه أو فعلة من سلوكه أو إيماءة أو صمت. . حتى صقلوا وصاروا أناسا كالنجوم المصابيح.
بين الكلمة الأولى الآمرة المغرية المثيرة لعقله وروحه بقصة خلق الإنسان ذلك الكون العجيب من علق، وقصة القلم ذلك الشيء العجيب الذي يجعل الدنيا كلمات بين البنان واللسان: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربُّك الأكرمُ الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) وبين الكلمة الأخيرة المخبرة الهادئة الممتنة بكمال الدين واختيار الطريق: (اليوم أكملت لكم دينكم. . .). . . دار الفلك ثلاثا وعشرين دورة على محور من ذلك الرجل الذي كان عقله مرآة لما يدور في السماء حول صلاح عمار الأرض. وهاهو ذا يقف معلنا (أن الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) وأن حركة بدء واستهلال وولادة ثانية للإنسانية تتمخض عنها الأيام الوالدات. . .
وإنها لكلمة ثقيلة التبعات لأنها حديث عن ابتداء الزمن واستدارته كهيئته في اليوم الأول.! ومنذا الذي يجرؤ على الحديث بها إلا أن يكون نبيا؟
إذاً هو الأب الثاني للبشر ولدت منه الإنسانية ولادة روحية وعلية كما ولدت من آدم بالجسد. ألم يستدر الزمان معه كما بدئ مع آدم؟ ألم تبلغ البشرية به رشدها وتترك طفولتها وسفهها ووقوفها عند المجسمات من الأرباب والمعجزات؟ ألم يسلمها مفاتيح الطبيعة ويهب بها إلى الفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، وكيف بدأ الخلق؟ ألم يرفع الحجب والشفاعات بينها ويبن ربها الأقرب إليها من حبل الوريد؟ ألم يمح الفوارق بين أجناسها وألوانها وأوطانها كما يمحو الأب الحاني الفوارق بين بنيه من الجسد والروح؟ ألم ينهها أن تقفوا ما ليس لها علم وأن تتبع الظن الذي لا يغني من الحق شيئا؟ ألم يدعها إلى أن تؤمن بجميع الرسل والأنبياء وبما أنزل الله من كتاب؟ ألم يعلن حقوقها وواجباتها وأخوتها ومساواتها والعدل بينها؟ (لأن ربها واحد وأباها واحد) ألم يترك لها ميراثاً خالداً منظماً مستوعباً شؤونها وحيوانها في البيت والجماعة والحرب والسلم والعاجلة والآجلة؟(196/54)
ولم يترك موقفه الأخير منها وهي أمامه في عرفات ممثلة في الحبشي بلال الأسود والرومي صهيب الأصفر والفارسي سلمان الأبيض والعربي في العدد الأكثر إلا وقد أخذ منها قراراً بإبلاغه الأمانة وأدائه الرسالة وأشهد الله على ذلك. ولو سكتوا لنطق الحصى الذي كان يرجم به في بدء الدعوة وحطام الأصنام التي هشمها بيمينه في يوم الفتح. .
أيها الرسول المنقذ! كلمة إقرار بالبلاغ يرسلها القرن الرابع عشر في فجر عام جديد لتلحق بإقرار صحابتك في فجر القرن الأول ويوشك الزمن أن يأخذ هذا الاعتراف من أفواه أهل الأرض جميعاً بعد أن ابتدءوا يعرفونك وينصفونك.
لقد بلغت كتاب الدنيا ورسالة كل شيء، إلى القلوب السليمة الكبيرة فجعلت من كل شيء محراباً تقف فيه لعبادة الله ذي المجد، وحب الحق والخير والجمال. .
ولا يزال صوتك يدوي في الآفاق مخترقاً أربعة عشر قرناً بسرعة الشمس والضوء، ولن يزال كذلك يعلن الكلمة التي أضاءت لها الظلمات وقام عليها صلاح العالم.
الحقوق والواجبات التي خصصت حياتك لتقريرها وأعلنتها في الخطبة الجامعة على الحشد الذي لم تلقه بعد كما توقعت. . صارت أبجدية الإنسانية ومزمور أمانيها، حملها العباد الذين كلفتهم حملها ممن شهدوا مقامك وسمعوا بلاغك أو سمعوا به،. حملوها أنهارا تجري من الصحراء أرض الجفاف إلى الوديان والسهول المخصبة بالنبات، الكزة المجدبة من فضيلة الإنسان فأمرعت بالخير والحق والجمال والسلام
وقد ثارت البشرية لهذه الحقوق بعدك ثورات عدة كلما بدأت رءوس الأصنام البشرية أو الحجرية تتحرك بعد أن قمعتها وحطمتها ببرهانك وفيصلك. . فالثورة الإنجليزية لإقرار الشورى، والثورة الفرنسية لإعلان حقوق الإنسان. . إنما هما صدى يحكى في خفوت وضآلة وبطء وتخلف، ثورتك الكبرى على الأرباب الزائفين والطواغيت وعناصر الدمار والفساد التي تأفك الإنسانية وديعة الله في الأرض وتصرفها عن وجه الله ذي الجلال ومقام الحق ونصاب العدل
وشتان ما بينهما وبينهما! إنها ثورة رجل يهتف في بوق النبوة له قلب فيه مدد من هدى الوحي، وسلام من رحمة الروح، وله يد بريئة من الإثم والجبروت تضرب أحياناً بمبضع الطبيب لإذهاب الألم لا لإحداثه. وكلاهما وبخاصة الفرنسية ثورة دامية قاسية عمياء(196/55)
ضارية، قامت بها أيد أرضية حيوانية فيها أظافر ومخالب. . تدفعها قلوب فيها أطماع وغل وحقد مؤرث. ومن عماها أكلت الحطب والأيدي التي كانت تقدمه، ولطخت وجه الحرية بمآثم وشناعات لا تزال تغض منها وتثير حول ذكراها سخطا واشمئزارا، والتاريخ ميزان.
(بغداد)
عبد المنعم خلاف(196/56)
الخلود
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
أمل حلو زاد التعلق به فلبس ثوب الحقيقة، وخيال عذب طاب لنا أن نسبح وراءه فاكتسى بكساء الواقع، وغيب شغفنا بالبحث عنه حتى كدنا نبرزه في مظهر الحاضر، وسلوة نتسلى بها عن الحرمان أو عثور الجد وسوء الطالع، وثار من الموت ذلك الخصم العنيد الذي يحمل الشاب على الرحيل في عنفوان شبابه، ويرغم الشيخ على السير وأن تباطأ به ركابه. فهو إذن عون على الحياة وامتداد لها: عون على ما فيها من بؤس وشقاء والآم وويلات، وكثيرا ما نستطيب شدة اليوم في سبيل فرج الغد؛ ووصلة لأجل وإن طال قصير، وعمر وإن بغل أرذله عزيز، وعيش وإن ساء مرغوب فيه. وربما كان حب الحياة أول ملهم بتجددها، وكانت غريزة الاحتفاظ بها أول دافع للقول باستئنافها. وقد صور الإنسان هذا الاستئناف وذلك التجدد بصور شتى وأشكال متباينة هي في جملتها صدى لرغباته ونزعاته وميوله وأهوائه، أو انعكاس لعالمه الحاضر والحياة التي يحياها. فتصور الهمجيون الذين يعيشون عيشة السلب والنهب والقتل وسفك الدماء الخلود على أنه عودة للإنسان في شكل مارد جبار شيطان رجيم يثأر لنفسه ممن عدا عليه. وظنه بعض المتحضرين ضربا من اليقظة يرفل فيه المرء في حلل السعادة وآيات النعيم، ولهذا أعدوا في القبور وسائل الزينة والزخرف ولذيذ الطعام والشراب. ثم جاءت التعاليم السماوية فصورته في صورة أسمى، وكسته بكساء أفخم، وأغدقت على الحياة المقبلة متنوع الأوصاف بين مادية وروحية وحسية وعقلية كي تقنع العامة والدهماء وترضي المفكرين والعقلاء
كم كنا نود أن يبقى للخلود حلاوة الأمل فنسير وراءه سيرا أعمى، وعذوبة الخيال فنتعلق به في شوق وحرارة راغبين مخلصين، وحرمة الدين فنؤمن به إيمانا جازما لا يساوره شك أو ارتياب ولا يعزوه برهنة أو استدلال. ولكن العقل الذي منحنا إياه وبلينا به في آن واحد يأبى إلا أن يعكر علينا بعض الصفو ويحرمنا من أحلام لذيذة. فيفلسف ما لا صلة له بالفلسفة، ويبحث ويعلل فيما يسمو عن البحث والتعليل، ويقيس ويستنبط فيما لا يخضع لمبادئ القياس والاستنباط. وقد سرت عدواه إلى موضوع الخلود منذ عهد بعيد، فأخذ يتفهم(196/57)
سره وغايته ويبرهن على إمكانه أو ضرورته. وليس ثمة فلسفة إلا قالت في الخلود كلمتها بالإيجاب أو السلب، بالقبول أو الرفض، وأي فيلسوف لم يتساءل من أين جئنا وإلى أين نذهب ولم يبحث عن المصدر والمرد والمبدأ والمعاد؟
فاليونانيون وإن كانوا قد شغلوا بالكون وتغيراته والحياة الحاضرة وقوانينها لم يفتهم أن يدلوا في هذا الموضوع الخطير بآرائهم. ورجال القرون الوسطى كان لابد لهم أن يبدئوا فيه ويعيدوا ويعترضوا ويجيبوا، فهو من فلسفتهم الدينية في صميمها ونقطة هامة من نقط التوفي بين العقل والنقل التي ملكت عليهم أذهانهم. وفي التاريخ الحديث نرى الروحيين والماديين بين مثبتين للخلود ومنكرين. وإذا شئنا أن نمثل لكل عصر من هذه العصور برجل فهناك شخصيات ثلاث لا يكاد يذكر موضوع الخلود إلا ذكرت، ولا نظن أن آخرين سواها تمثل عصرها في هذا الباب تمثيلها، ونعني بها أفلاطون، وابن سينا، وكانت.
فأما أفلاطون فهو من غير شك أكثر فلاسفة اليونان اشتغالا بالخلود وأول من حاول أن يبرهن عليه برهنة عقلية منطقية. تحدث عنه عرضا في غير ما موضع، ثم لم يقنع بهذا فوقف عليه محاورة مستقلة مشهورة هي (فيدون). وفيها يجري ذلك الحديث العذب الأخاذ على لسان أستاذه سقراط ومن حوله من الأتباع والتلاميذ. وأفلاطون روائي ماهر وقصصي مبدع يعرف كيف يضع روايته ويرتب قصته ويتخير أبطاله ويرسمهم بريشة المصور الفنان. فهو يدع (سقراط) المتهم البريء الذي يرقب الإعدام بين عشية أو ضحاها، والحي الذي يسعى إلى الموت في خطى حثيثة رزينة راغباً لا راهباً ومختاراً أو شبه مختار، يتحدث عن خلود الروح في آخر يوم من أيام حياته فما أجل المحدث وما أنسب الظرف وما أروع الحديث! ولسقراط سنة معهودة في حواره من استيلاء على نفوس محاوريه وإرشاد إلى سبل القول وهداية إلى مواطن الضعف وافتنان في وسائل الإثبات. وتكاد ترجع برهنته على الخلود إلى نقط ثلاث: برهان التضاد وبرهان المشابهة ثم برهان المشاركة. فنحن نلاحظ أولا أن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وأن الأكبر يتولد عن الأصغر والأحسن عن الأسوأ؛ فهناك تبادل دائم بين الأضداد. ومادام الموت والحياة ضدين فهما متعاقبان. وقديما قالت الأرفيه والفيناغورية بالتناسخ وتداول الأجيال البشرية! وبهذا يخرج الحي من الميت كما يخرج الميت من الحي، وتبقى النفس رحالة متنقلة من(196/58)
جسد إلى جسد دون أن يطرأ عليها عدم أو فناء. ونسلم ثانيا مع أفلاطون أن النفس تدرك المثل والحقائق العامة الأزلية الباقية! والشبيه وحده هو الذي يدرك الشبه. فلابد أن يكون للنفس ما للمثل من ثبوت وبقاء. وأخيراً لنفس مشاركة للحياة بذاتها ومنافية للموت بطبعها، فهي بحسب مدلولها وحقيقتها حياة. ولا يمكن أن يجتمع في ماهية واحدة ضدان! فالنفس حياة فقط ولا تقبل الموت بحال، وأني لأتساءل بعد كل هذا هل وفق أفلاطون في برهنته؟ إذا اختبرنا أدلته لم نتردد في أن نجيب بالسلب، فإن فكرة صدور الصد عن ضده مرفوضة من أساسها، ونظرية التناسخ واضح بطلانها. ولا نظن أن أحدا يسلم اليوم مع الإغريق أن الإنسان لا يدرك إلا ما يشابهه. فإنا لو قبلنا هذا لوقفنا بالمعلومات الإنسانية عند دائرة ضيقة، ولم يبق بين علماء الحياة من يقول بذلك المذهب النفسي القديم الذي كان يعد النفس في آن واحد مصدر الحياة والحركة والإحساس والتفكير. على أن أفلاطون نفسه كان على بينة من حرج موقفه وخطورة مهمته وضعف حجته، فأنه يصرح على لسان سمباسي أن العلم بحقيقة الخلود ممتنع أو جد عسير في هذه الحياة. وجدير ببحث كهذا أن يوضع في قالب القصة وكفى، لا أن يصاغ بصيغة الأقيسة والبراهين
وسواء أوفق أفلاطون في برهنته أم لا فإنه قد سن سنة استمسك بها من جاء بعده، أو نهج نهجا حبب إلى الخلف السير فيه، فأنزل الخلود من السماء إلى الأرض، وأحل فيه منطق العقول محل همس الضمائر والقلوب. وكان من أكبر فلاسفة القرون الوسطى تأثرا به في هذا الصدد ابن سينا الذي قد يردد بعض أدلته أحيانا أو يؤيدها ويدعهما أحيانا أخرى، لاسيما وقد توفر لديه ما لم يتوفر لدى أستاذه! فقد وقف على الوحي الإلهي الذي صير الخلود عقيدة بعد أن كان مجرد أمل ورجاء، وسمع لغة القرآن الصريحة في الحشر والنشر والبعث والقيامة، فرأى لزاما عليه أن يربط هذه التعاليم الدينية بالبراهين الفلسفية، وفي خيال حلو هو أشبه ما يكون بخيال أفلاطون يقص علينا قصة هبوط الروح من عالمها العلوي ومقامها في هذا العالم الفاني ثم عودتها إلى بحر اللانهاية حيث الأبدية والخلود
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة ناظر ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات توجع(196/59)
إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت عن الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها لاشك ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية ... في العالم فخرقها لم يرقع
ولا يقف ابن سينا عند هذا الشعر وهذا الخيال، بل يأبى ألا أن يبرهن على خلود الروح برهنة منطقية ويثبته إثباتاً فلسفياً، فيقرر أن النفس وهي جوهر بسيط لا يمكن أن تشتمل على مبدأين متناقضين، وقد ثبت أنها حياة بفطرتها وطبيعتها فلا يمكن أن يكون فيها أي استعداد للفناء. وفوق هذا سواء لديها أبقي الجسم أم فني، فإن صلتها به ليست صلة ارتباط وتلازم متبادل، بل صلة سيد ومسود ومالك ومملوك. ولن يضير السيد في شيء ما قد يلحق عبده من التغير، كما لا يؤثر في شخص المالك ما قد يطرأ على ملكيته من الفساد. فالنفس هي المتصرفة في البدن والمدبرة لأمره، ولن ينقلب الآمر مأموراً ولا المتأثر مؤثراً. بيد أن حظ ابن سينا في هذه البرهنة الفلسفية والأدلة العقلية ليس أعظم من حظ أفلاطون. فإن الجوهر البسيط الذي يفترضه هو موضع البحث والمنافسة ومثار الأخذ والرد، وصلته بالجسم لا تزال حتى اليوم عقدة العقد ومشكلة المشاكل؛ ولم يتوصل أنصار المذهب الروحي على اختلافهم إلى حلها أو الفصل فيها بقول جازم
ولقد تنبه (كانت) إلى هذا التهافت في البرهنة والقصور في الإثبات. فرفض في كتابه (نقد العقل المجرد) الأدلة التي تساق لإثبات خلود الروح وأبان أنها غير موصلة. وما كان للعقل أن يهتدي إلى شيء يقيني في دائرة الأمور المغيبة؛ وفي هذا ما يسمح للنقل أن يحتفظ لنفسه بمكان في جانبه، وما يهيئ للوحي والإلهام الفرصة أن يكملا نقص البحث والنظر. خصوصا والتبعة الأخلاقية لا قيام لها بدون الثواب والعقاب والحساب والمسئولية، والواجب في حاجة ماسة إلى تأييد الدين ونصرته. لهذا نرى (كانت) يعود في كتابه (نقد العقل العملي) فيحاول إثبات خلود الروح عن طريق الأخلاق بعد أن أظهر أنه لا يمكن إثباته فيما وراء الطبيعة. وذلك أن الخير الأسمى الذي ننشده والسعادة الحقة التي نسعى إليها لا سبيل إلى تحقيقهما في حياتنا الحاضرة القصيرة. فإن شئنا أن يكون للواجب الذي ننادي به قيمته وللأخلاق التي ندعو إليها جلالها وحرمتها فلابد أن نجزم بخلود الروح. ولاسيما والعدالة تأبى كل الأباء أن يكون جزاء الفضيلة هو الإعدام، وأن يستوي البر(196/60)
والفاجر في مصير واحد وفناء لا رجعة بعده. وكأني بكانت يردد، هو كذلك، فكرة تنبه لها أفلاطون ويوضح معنى أشار إليه من قبل شيخ الأكاديمي في جمهوريته؟ غير أن هذا البرهان الأخلاقي ليس أكثر إقناعا من سابقيه؛ وكل ما يمتاز به أنه أقرب إلى فكرة الخلود وأكثر تلازما مع طبيعتها وأميل إلى جانب القلب والعاطفة من تلك الأدلة العقلية الصرفة. وما أشبهه بالغرض منه بالبرهان والمبدأ يسلم به احتراما وتقديسا لمبادئ أخرى.
والحق أن الخلود ليس مما يبرهن عليه برهنة عقلية منطقية. وما كان أغنى الفلسفة أن تغامر بنفسها في هذا المضمار وأن تنزلج في هذا المأزق الحرج. في مقدورنا أن نقول إنه ممكن أو محتمل أو ضروري، ولكن لا سبيل لنا بحال أن نقرر اعتمادا على عقولنا وحدها أنه أمر واقعي. وأنى لنا ذلك ومن وصلوا إلى مرتبة الخلود يأبون أن يعودوا إلى حياة قاسوا فيها الأمرين، ولاقوا ما لاقوا من جهد وعناء؟ ولم يصل استحضار الأرواح بعد إلى درجة اليقين وليس في وسائله ما يبعث على الثقة والطمأنينة. وإذا كان العقل عاجزا عن إدعام الخلود وإثباته فهو أعجز عن دحضه وإنكاره. وخطأ أن يزعم أنصار المذهب المادي أن تجربتهم لا تسلم بحياة بعد هذه الحياة، وأن بحثهم يرفض أي وجود بعد هذا الوجود. فإن للتجربة ميدانا لا تتجاوزه، وللبحث العلمي دائرة لا يتعداها؛ ومن العبث أن نتكلم باسم العلم في دائرة تسمو على العلم، وأن نفسر عالم الغيب الفسيح بقوانين عالم الشهادة المحدود. ولن يضير الخلود في شيء أن تعجز عقولنا الضعيفة عن الانتصار له فأنه يستمد جلاله ورهبته من مصدر أسمى ومقام أرفع. ولن يعيبه مطلقا أن تقصر لغة أهل الأرض في بيانه فأنه من خصائص سكان السماء ووقف عليهم. هو أمر خارج عن عالم الفناء وحقيقة مخالفة لما ألفه المحدثون، وما كان لفان أن يدرك إدراكا واضحا ما يتنافى وطبيعته ألا أن عرج إلى سماء الخالدين
إبراهيم مدكور(196/61)
نتاج العبقرية المنسية
في الحسن بن الهيثم
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يفكر الدكتور النابغ الأستاذ مشرفة عميد كلية العلوم للجامعة المصرية في إقامة مهرجان لأحياء ذكرى ابن الهيثم في العام المقبل بمناسبة مرور 900 عام على وفاته
ولا عجب إذ فكر العميد في هذا، فابن الهيثم من عباقرة العرب الذين نبغوا في الطبيعة والرياضيات والهندسة وقدموا جليل الخدمات لها، ولولاه ما كان علم البصريات (الضوء) على ما هو عليه الآن
ويؤلمني أن أقول إنه لو كان ابن الهيثم من أبناء أمة أوربية لرأيت كيف يكون التقدير وكيف يذاع اسمه وتنشر سيرته على الناس وتدخل في برامج التعليم ليأخذ منها الأجيال إلهاماً وحافزاً يدفعهم إلى الاقتداء به والسير على طريقته
أليس في عدم معرفة ناشئتنا وشبابنا شيئاً عن ابن الهيثم إجحاف وعيب فاضح؟ أليس إهمالا منا أن نعرف عن بطليموس وكيلر وباكون أكثر مما نعرف عن ابن الهيثم؟
ألا يدل هذا على نقص معيب في برامجنا الثقافية القومية؟ ولا يظن القارئ أن ابن الهيثم وحيد في هذا الإجحاف والإهمال فليس حظ أكثر علماء العرب ونوابغهم وعباقرتهم بأحسن من حظه، فها هي ذي حياتهم ومآثرهم لا تزال محاطة بغيوم الغموض وعدم الاعتناء وهي في أشد الحاجة إلى أناس يتعهدون إزالة الغيوم وإظهار المآثر على حقيقتها للناس. ولاشك أن في إظهارها إنصافاً لهم وخدمة للحقيقة، كما أن في عرضها على الناشئة من العوامل التي توجد فيهم الاعتزاز بالقومية والاعتقاد بالقابلية وشعوراً يدفعهم إلى السير على نهج الأجداد في رفع مستوى المدنية. ولا يخفى ما في هذا كله من قوى تدفع الأمة إلى حيث المجد والسؤدد، قوى تمهد السبل لتقوم (الأمة) بواجبها نحو نفسها ونحو الإنسانية فتساهم في بناء الحضارة وإعلاء شأنها
والآن نرجع إلى ابن الهيثم فنقول إنه ظهر في أوائل القرن الخامس للهجرة في البصرة ونزل مصر واستوطنها إلى أن مات سنة 1038م. وقد عرف الأقدمون فضله وقدروا نبوغه وعلمه فقال ابن أبي أصيبعة: (وكان ابن الهيثم فاضل النفس قوي الذكاء متفننا في(196/62)
العلوم لم يماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقرب منه، وكان دائم الاشتغال كثير التصنيف وافر التزهد. . .) وقال ابن القفطي: (إنه صاحب تصانيف وتآليف في الهندسة، كان عالماً بهذا الشأن متقناً له متفننا فيه، قيما بغوامضه ومعانيه، مشاركا في علوم الأوائل أخذ عنه الناس واستفادوا. .)
وكذلك عرف الإفرنج قيمة ابن الهيثم فأنصفوه بعض الإنصاف واعترفوا بتفوقه وخصب قريحته فنجد دائرة المعارف البريطانية تقول: (إن ابن الهيثم كان أول مكتشف ظهر بعد بطليموس في علم البصريات. . .)
وجاء في كتاب تراث الإسلام: (إن علم البصريات وصل إلى أعلى درجة من التقدم بفضل ابن الهيثم) واعترف العالم الفرنسي لوتير فياردو بأن كبلر أخذ معلوماته في الضوء ولاسيما. ما يتعلق بانكسار الضوء في الجو من كتب ابن الهيثم. ويقول سارطون (إن ابن الهيثم عالم ظهر عند العرب في علم الطبيعة بل أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى ومن علماء البصريات القليلين المشهورين في العالم كله. . .).
ولعل الأستاذ (مصطفى نظيف) أول عربي في هذا العصر أنصف ابن الهيثم بعض الأنصاف ووقف على التراث الضخم الذي خلفه في الطبيعة ولاسيما فيما يتعلق ببحوث الضوء. قال الأستاذ نظيف في مقدمة كتابه النفيس الفريد (البصريات) ما يلي:. . (والذي جعلني أبدأ بعلم الضوء دون فروع علم الطبيعة الأخرى أن علماً ازدهر في عصر التمدن الإسلامي وكان من أعظم مؤسسيه شأناً ورفعة وأثراً الحسن بن الهيثم الذي كانت مؤلفاته ومباحثه المرجع المعتمد عند أهل أوروبا حتى القرن السادس عشر. . .) فلقد بقيت كتبه منهلا عاماً نهل منه أكثر علماء القرون الوسطى كروجر باكن وكبلر وليونارده فنسي وبووتيلو وغيرهم. وكتبه هذه وما تحويه من بحوث مبتكرة في الضوء هي التي جعلت ماكسي وماير هوف يقول صراحة: (إن عظمة الابتكار الإسلامي تتجلى في علم البصريات. . .)
ومن أهم كتب ابن الهيثم وأكثرها استيفاء لبحوث الضوء كتاب (المناظر) ويتبين من هذا الكتاب أن ابن الهيثم هو الذي أضاف قانون الانعكاس القائل بأن زاويتي السقوط والانعكاس واقعتان في مستوى واحد. وقد أدخل فيه أيضا مسائل مهمة عرفت (بمسائل ابن(196/63)
الهيثم) اشتهر بعضها كثيراً كالمسألة الآتية: إذا علم موضع نقطة مضيئة ووضع العين، فكيف تجد على المرايا الكرية والأسطوانية والمخروطية النقطة التي تتجمع فيها الأشعة بعد انعكاسها. ويعود سبب شهرة هذه المسألة إلى صعوبات هندسية تظهر في أثناء الحل إذ ينشأ عن ذلك معادلة من الدرجة الرابعة استطاع أن يحلها (ابن الهيثم) باستعمال القطع الزائد. وأجرى تجارب عديدة تبين له منها أن الضوء ينتشر في خطوط مستقيمة أثناء سيره في الهواء أو في وسط آخر، وأن الضوء إذا سار من وسط إلى وسط آخر انعطف عن استقامته. وقاس كلا من زاويتي السقوط والانكسار وبين أن بطليموس كان مخطئاً في نظريته القائلة بأن النسبة بين زاويتي السقوط والانكسار ثابتة، وقال بأن هذه النسبة لا تكون ثابتة بل تتغير ولكنه على الرغم من ذلك لم يوفق إلى إيجاد القانون الحقيقي للانكسار. واستعمل آلة لإيجاد العلاقة بين زاوية السقوط وزاوية الانكسار وهي تشبه الآلة التي نستعملها الآن. وعمل جداول أدق من جداول بطليموس في معاملات الانكسار لبعض المواد. وأتى على تجارب عديدة اثبت فيها انعطف الأشعة عند سيرها من وسط شفاف إلى وسط آخر شفاف. وقد شرح في بعض كتبه الظواهر الجوية التي تنشأ عن الانكسار فكان أسبق العلماء إلى ذلك. ومن هذه الظواهر التي ذكرها وشرحها الانكسار الفلكي أي أن الضوء الذي يصل إلينا من الأجرام السماوية يعاني انكساراً باختراقه الطبقة الهوائية المحيطة بالأرض، ومن ذلك ينتج انحراف في الأشعة، ولا يخفى ما لهذا من شأن في الرصد. فمثلا يظهر النجم على الأفق قبل أن يكون قد بلغه فعلا، وكذلك نرى الشمس أو القمر على الأفق عند الشروق والغروب وهما في الحقيقة يكونان تحته. ومن نتائج الانكسار أن قرص الشمس أو قرص القمر لا يظهر بالقرب من الأفق مستديراً بل بيضوياً. هذه الظواهر وغيرها استطاع ابن الهيثم تعليلها تعليلا صحيحاً واستطاع أيضاً الوقوف على أسبابها الحقيقية. ومن الحوادث الجوية التي عللها الهالة التي ترى حول الشمس أو القمر. وقال بان ذلك ينتج عن الانكسار حينما يكون في الهواء بلورات صغيرة من الثلج أو الجليد فالنور الذي يمر فيها ينكسر وينحرف مع زاوية معلومة، وحينئذ يصل النور إلى عين الرأي كأنه صادر من نقط حول القمر أو الشمس فتظهر الأشعة دائرة حول الجرمين المذكورين أو حول أحدهما. وهو من الذين لم يأخذوا برأي اقليدس واتباع بطليموس القائل(196/64)
بأن شعاع النور يخرج من العين إلى الجسم المرئي، بل قال بأن شعاع النور يأتي من الجسم المرئي إلى العين. وبحث في كتابه أيضاً في قوى تكبير العدسات؛ ويرى كثيرون إن ما كتبه في هذا الصدد قد مهد السبيل لاستعمال العدسات في إصلاح عيوب العين. وكتب في الزيغ الكرى وفي تعليل الشفق وقال انه يظهر ويختف عند ما تهبط الشمس 19 درجة تحت الأفق، وأن بعض أشعة النور الصادرة من الشمس تنعكس عما في الهواء من ذرات عائمة وترتد إلينا فنرى بها ما انعكست عنه. وبين أن الزيادة الظاهرة في قطري الشمس والقمر حينما يكونان قريبين من الأفق وهمية؛ وقد علل هذا الوهم تعليلا عملياً صحيحاً لم يسبق إليه، بناء على أن الإنسان يحكم على كبر الجسم أو صغره بشيئين: الأول الزاوية التي يبصر منها أو زاوية الرؤية، والثاني قرب الجسم أو بعده من العين. وابن الهيثم أول من كتب عن أقسام العين وأول من رسمها بوضوح تام. وقد اعتمد في بحوثه هذه على كتب التشريح التي كانت في زمانه، ووضع أسماء لبعض أقسام العين وأخذها عنه الإفرنج وترجموها إلى لغاتهم. وتقول دائرة المعارف البريطانية إن ابن الهيثم كتب في تشريح العين وفي وظيفة كل قسم منها. وقد بين كيف ننظر إلى الأشياء بالعينين في آن واحد، وأن الأشعة من النور تسير من الجسم المرئي إلى العينين، ومن ذلك تقع صورتان على الشبكية في محلين متماثلين. ولعل هذا الرأي هو أساس آلة الاستريسكوب
وفوق ذلك هو أول من بين أن الصور التي تنشأ من وقوع صورة المرئي على شبكية العين تتكون بنفس الطريقة التي تتكون بها صورة جسم مرئي تمر أشعته الضوئية من ثقب في محل مظلم، ثم تقع على سطح يقابل الثقب الذي دخل منه النور، والسطح يقابله في العين الشبكية الشديدة الإحساس بالضوء، فإذا ما وقع الضوء حدث تأثير انتقل إلى المخ، ومن ذلك تتكون صورة المرئي في الدماغ. وله أيضاً معرفة بخاصيات العدسات اللامة والمفرقة والمرايا في تكوين الصور؛ وكتب في المرايا المحرقة وأجاد في ذلك إجادة دلت على إحاطته الكلية بمبدأ تجمع الأشعة التي تسقط على السطح موازية للمحور بعد انعكاسها عنه وكذلك بمبدأ تكبير الصور وانقلابها وتكوين الحلقات والألوان.
ويظن البعض أن ابن الهيثم لم يشتغل في الرياضيات، مع أن الواقع خلاف ذلك فله فيها بحوث تدل على سعة اطلاعه ونضجه العلمي، فلقد بحث في المعادلات التكعيبة بواسطة(196/65)
قطوع المخروط. ويقال إن الخيام رجع إليها واستعملها. وقد حل كثيراً من المعادلات بطريقة تقاطع المنحنيين وتمكن من إيجاد حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ حول محور السينات أو محور الصادات. وتنسب إليه بعض رسائل في المربعات السحرية واستعمل نظرية إفناء الفرق ووضع أربعة قوانين لإيجاد مجموع الأعداد الطبيعية المرفوعة إلى القوى 1، 2، 3، 4. وله بحوث في الهندسة تدل على تعمقه في علوم زمانه. ولقد طبق الهندسة على المنطق وألف كتابا يقول فيه. . . (. . . كتب جمعت فيه الأصول الهندسية والعددية من كتاب أقليدس وابلونيوس ونوعت فيه الأصول وقسمتها وبرهنت عليها ببراهين نظمتها من الأمور التعليمية والحسية والمنطقية حتى انتظم ذلك مع انتقاص توالي اقليدس وابلونيوس. وله مؤلفات أخرى قيمة في الرياضيات والطبيعة منها كتاب شرح أصول اقليدس في الهندسة والعدد وتلخيصه كتاب الجامع في أصول الحساب. وكتاب في تحليل المسائل الهندسية، وكتاب في تحليل المسائل العديدة بجهة الجبر والمقابلة مبرهناً، وكتاب في حساب المعاملات وكتب أخرى في بحوث رياضية عالية. وله غير كتبه في الرياضيات والطبيعة كتب في الإلهيات والطب يربو عددها على الخمسين.
واشتغل ابن الهيثم في الفلك ويعترف بذلك سيدليو فيقول: (وخلف ابن يونس في الاهتمام بعلم الفلك جمع منهم حسن بن الهيثم الذي ألف أكثر من ثمانين كتابا ومجموعة في الأرصاد وتفسير المجسطي. . .)
هذا بعض ما أنتجه ابن الهيثم في ميادين العلوم الطبيعة والرياضية يتجلى للقارئ منها الخدمات الجليلة التي قدمها لهذه العلوم والمآثر التي أورثها إلى الأجيال والتراث القيم الذي خلفه للعلماء والباحثين مما ساعد كثيراً على تقدم علم الضوء الذي يشغل فراغاً كبيراً في الطبيعة، والذي له اتصال وثيق بكثير من المخترعات والمكتشفات، والذي لولاه لما تقدم علما الفلك والطبيعة تقدمها العجيب، تقدماً مكن الإنسان من الوقوف على بعض أسرار المادة في دقائقها وجواهرها وكهاربها وعلى الاطلاع على ما يجري في الأجرام السماوية من مدهشات ومحيرات.
والآن نقف عند هذا الحد آملين أن تخرج فكرة الدكتور مشرفة إلى حيز الوجود فيكون بذلك قد أنصف عالما عالميا من أفذاذ علماء الطبيعة والرياضة. ويكون أيضاً قد أدى واجبا(196/66)
ثقافيا وطنيا هو من أقدس الواجبات، وأضاف مأثرة إلى مآثره العديدة في خدمة الثقافة العربية وبعثها.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(196/67)
تصيح نص عربي قديم
وفيه شاهد على تطور العقلية العربية بعد الإسلام
للأستاذ عبد القادر المغربي
جاء في كتاب (طبقات الشعراء) لأبي عبد الله بن سلام الجُمَحي المتوفى (سنة 222هـ) نص يتعلق بأخبار (عقيل بن عُلَّفة) فيه اضطراب وفيه تلفيق أحببنا تحقيقه في هذا المقال.
والنص - عدا ذلك يتضمن فائدة تتعلق بالاجتماع الإسلامي وتصف لنا ناحية من نواحي عقلية العرب وتطورها بعد الإسلام
وعقيل بن علَّفة هذا من أتباع (مدرسة المخضرمين) أو (مدرسة الخضرمة) أن سمح لنا بهذا التعبير. وهي المدرسة التي تتلمذ فيها طائفة من الأعراب أسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم؛ فكانت معرفتهم بآدابه سطحية. كانوا يراعون تلك الآداب حيناً ثم يغلبهم طبعهم الجاهلي فيعودون إلى ممارسة ما اعتادوه في جاهليتهم حيناً آخر. كانوا يتعزون بعزاء الجاهلية. ويحاربون القبائل المعادية لهم عصبية لوشائج الأنساب لا إقامة لحدود الله وشرائع الإسلام. وما كانوا يتورعون من شرب الخمر في بعض الأحايين ولا من الحنين إلى نزعاتهم الجاهلية: ومنها الفخر والمنافرة والمهاجاة والإفراط في الغيرة. كان فيهم جفاء وغلظة لم تخالطها بشاشة الإسلام وسجاحته ولين جانبه.
ومن أشهر تلاميذ هذه المدرسة (عقيل بن علّفة المري) و (عُلّفة) على وزان (قُبّرة) اسم للواحدة من ثمر الطلح. وهو ثمر أشبه باللوبياء.
كان عقيل أعرابيا جلفا مفرط الغيرة، له نزوع شديد إلى عادات الجاهلية، فخوراً بها، داعيا إليها
هنأ يوما أحد فتيان قريش بزواجه قائلا له: (بالرفاء والبنين والطائر المحمود) فقيل له: يكره أن يقال هذا في الإسلام وإنما هو من تهاني الجاهلية. فأجاب عقيل: يا ابن أخي! ما تريد إلى ما أحدث؟ إن هذا قول أخولك في الجاهلية إلى اليوم لا يعرفون غيره)
وقد رويت كلمته هذه للزهري فقال إن ابن عُلّفة كان من أجهل الناس)
وعدا بنو جعفر على مولى لابن علفة، فعدا هو على مولى لهم ولم يرفع الأمر إلى عامل الخليفة وأنشد:(196/68)
فلا تحسبوا الإسلام غيَّر بعدكم ... رماح مواليكم فذاك بكم جهلُ
ومن أخبار جفائه ما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج (ج1 ص440) نقلا عن ابن قتيبة. قال:
خطب هشام بن إسماعيل المخزومي والي المدينة (وهو خال الخليفة هشام بن عبد الملك الذي قال فيه الفرزدق بيته المشهور: وما مثله في الناس إلا مملكا الخ)
خطب إلى عقيل بن عُلفة ابنته فرده وقال:
رددتُ صحيفة القرشي لما ... أبت أعراقه إلا احمرارا
يريد أن فيه شبها للعجم وعرقا منهم فلم يزوجه لذلك. وكان هشام أبيض أشقر فهو مظنة أن يكون أعجمي الأصل. والعرب تسمى الأعجمي أحمر، وتجمعه على أحامر. لأن الشقرة تغلب على جنسه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (بعثت إلى الأسود والأحمر) يريد إلى العرب والعجم
وروى أبو عبيدة أنه قيل لعقيل: والله ما نراك تقرأ شيئاً من القرآن. قال: بلى والله إني لأقرأ. قالوا: فاقرأ (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) فقرأ (إنا خَرَطْنا نوحا إلى قومه) قالوا: أخطأت والله. قال: فكيف أقول؟ قالوا. تقول: (إنا أرسلنا نوحا) لا (خرطنا نوحا) فقال: أشهد أنكم تعلمون أن (أرسلنا) و (خَرَطْنا) سواء ثم أنشد
خُذا صدَر هرْشَي أوقفاها فإنما ... كلا جانبي هَرشْي لهنَّ طريق
وهذا البيت يتمثل به حين التسوية بين أمرين. و (هرشي) كسكري ثنية قرب الجُحفة في طريق مكة يرى منها البحر ولها طريقان طريق عبر عنه الشاعر بصدر هرشي وطريق عبر عنه بقفا هرشي، وضمير (لهنَّ) يرجع إلى النياق. والخطاب في (خذا) يرجع إلى رفيقي سفره فهو يقول لهما: اسلكا إلى هرشي أي الطريقين شئتما: جهة صدرها أو جهة قفاها فأنتما واصلان إليها.
وهذا المثل الفصيح على حد المثل العامي الشامي (كل الدروب على الطاحون) أي تؤدي إليها. ومعنى (خرطنا) الذي قال عقيل إنه بمعنى (أرسلنا) ما ذكره القاموس في قوله (خرط عبده على الناس إذا أذن له في أذاهم)
قال التاج (شبه العبد بالدابة التي يفسح رسنها وترسل مهملة تفعل ما تشاء) فالخرط اصله(196/69)
في الدابة ثم نقل إلى العبد، ونقله عقيل إلى نوح عليه السلام، وهذا من عنجهيته وتعنته في جاهليته
ولعقيل شعر يؤثر لفصاحته وبلاغته: من ذلك قوله يرثي ابنه علّفة:
لتمش المنايا حيث شئن فإنها ... مُحلّلة بعد الفتى ابن عقيل
فتى كان مولاه يحل بنجوة ... فحلَّ الموالي بعده بسبيل
يقول: إن حلفاء علفة أو جيرانه كانوا في حياته ينزلون في مرتفع من الأرض حيث هم مكرمون أو حيث تضيء نيرانهم للمدلجين بما يجود به عليهم علفة من القرى، أما اليوم وقد مات علفة فنزولهم أصبح في قوارع الطرق حيث يمتهنون أو حيث يتكففون الناس طالبين صدقتهم كعامة أبناء السبيل. ونسب إليه بعضهم البيت المشهور:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
وإنه قاله في ابنه عميس والصحيح أن هذا البيت من أبيات لغيره، فلعله استشهد به كما استشهد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنسب إليه أيضاً.
أما النص الذي روي من أخبار عقيل وفيه اضطراب وتلفيق من جهة، وعبرة اجتماعية إسلامية من جهة ثانية - فهو ما في كتاب (طبقات الشعراء) لابن سلام (صفحة 214) ونصه:
(حدثني أبو عبيدة أن يزيد عبد الملك خطب إلى عقيل ابن علفة ابنته وقال: زوجني فلست بواجد في قومي مثلي. قال عقيل: بلى والله لأجدن في قومك مثلك وما أنت بواجد في قومي مثلي. فحبسه يزيد فضرب عقيل كتف ابنه جثامة وقال زوجه يا بني فأنت أحق باللائمة، فزوجه أم عمرو ابنة عقيل، فلما أهداها تمثل جثامة فقال:
أيعذر لاهينا ويلحين في الصبي ... وهل هن والفتيان إلا شقائق
فرماه عقيل بسهم وقال: أتتمثل بهذا عند بناتي؟ فخرج جثامة مراغماً لأبيه (أي مفارقاً له على رغم منه وكراهة) فأنى يزيد ابن عبد الملك فكتب عقيل إلى يزيد: إنه قد أتاك أعق خلق الله. وكان يزيد قد أعطاه وحباه. فأخذ ذلك منه وحبسه) انتهى نص ابن سلام.
لكن الخبر من عند قوله (فلما أهداها تمثل جثامة الخ لا يلتحم مع ما قبله إذ لا علاقة بتمثل جثامة بهذا الشعر: أيعذر لا هينا الخ مع تزويج عقيل ابنته من الخليفة. فلم يبق إلا أن(196/70)
الخبر مضطرب يحتاج إلى تصحيح. أو نقول هو ملفق يحتاج إلى تقويم وتوضيح.
والتلفيق أصله في الثوب: يعمد إلى ما بلي ورث من وسطه ثم يضم لفقاه (أي طرفاه) أحدهما إلى الآخر ويخاطان.
فالخبر المنقول من طبقات الشعراء ينتهي لفقه الأول عند قوله (فزوجه أم عمرو ابنة عقيل) وبين هذا اللفق واللفق الذي بعده وهو (فلما أهداها تمثل الخ) كلام ساقط سهواً من النساخ يمكننا العثور عليه في معجم البلدان طبعة أوربا (ج4 ص667) عند الكلام على دير سعد. وهذا نص ما في المعجم بعد حذف السند:
(خرج عقيل بن علفة وابنه جثامة وابنته الجرباء. (ولعلها غير أم عمر التي زوجها من الخليفة في الخبر المنقول عن طبقات الشعراء) حتى أتوا بيتاً له ناكحا في بني مروان بالشامات (يعني أن عقيلا كان ناكحا أي متزوجا امرأة في بني مروان وقد أتاه زائراً مع ولديه، والشامات هي بلاد الشام) ثم إنهم قفلوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال عقيل:
قضيت وطراً من دير سعد وطالما ... على عرض ناطحنه بالجماجم
ضمير قضت يرجع إلى النياق. وقوله (على عارض) بالعين المهملة ولعل صوابه (على غرض) بالمعجمة مصدر غرض إليه إذا اشتاق إليه).
(ثم قال عقيل لابنه: أنفذ يا جثامة (أي أجز البيت بضم بيت آخر أليه) فقال جثامة:
فأصبحن بالمومات يحملن فتية ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
إذا علم غادرنه بتنوفة ... تذار عن بالأيدي لآخر طاسم
(طاسم بمعنى طامس وكأنه مقلوبه) ثم قال عقيل لابنته الجرباء: أنفذي يا جرباء فقالت:
كأنَّ الكرى سقّاهمو صَرْخَدِية ... عُقارا تمطى في المطا والقوائم
(قول الجرباء هذا في وصف الخمرة وتأثيرها في ظهر شاربها وقوائمه راب أباها عقيلا وجعله يعتقد أن ابنته الجرباء من شاربي الخمرة وإلا لما أجادت وصفها)
فقال عقيل: شربتها ورب الكعبة، لولا الأمان لضربت بالسيف تحت قرطك. أما وجدت من الكلام غير هذا؟
فقال جثامة أخوها (منافحاً عنها): وهل أساءت؟ إنما أجادت وليس غيري وغيرك (يريد جثامة) أنه لا يضر أخته في خلوتها مع أبيها وأخيها إذا قالت الشعر وأجادت في وصف(196/71)
الخمرة، وإجادتها لوصفها لا يستلزم أن تكون شربتها. وإنما هي أديبة متقنة لصنعة الكلام وقرض الشعر فهي إنما تدل في شعرها على مقدرتها وإجادتها الصناعة لا أكثر ولا أقل. لكن دفاع جثامة عن أخته الجرباء غاظ أباه عقيلا فرماه بسهم فأصاب ساقه وأنفذ الرحل. ثم شد على الجرباء فعقر ناقتها، ثم حملها على ناقة جثامة وتركه عقيراً مع ناقة الجرباء. ثم قال لولا أن تسبني بنو مرة لما عشت (وهذا خطاب لابنه العقير أو ابنته) ثم خرج متوجهاً إلى أهله وقال للجرباء: لئن أخبرت أهلك بشأن جثامة أو قلت لهم إنه أصابه غير الطاعون لأقتلنك. فلما قدموا على بني القين ندم عقيل على فعله بابنه جثامة فقال لهم: هل لكم في جزور انكسرت (يريد ناقة الجرباء التي عقرها) قالوا: نعم. قال: فالزموا أثر هذه الراحلة حتى تجدوا الجزور. فخرجوا حتى انتهوا إلى جثامة فوجدوه قد أنزفه الدم فتقسموا الجزور واحتملوا جثامة وأنزلوه عليهم وعالجوه حتى بريء وألحقوه بقومه، فلما كان قريبا منهم تغنّى:
أيعذر لاهينا ويُلحين في الصِبي ... وما هنَّ والفتيان إلا شقائق
المراد بالصبي اللهو الذي يكون في زمن الصبى عادة: فقال له القوم إنما أفلت (أو صوابه أَبْلَلْتَ) من الجراحة التي جرحك أبوك آنفاً وقد عاودت ما يكرهه. فامسك عن هذا ونحوه إذا لقيته لا يلحقك منه شر وعر (العُر الجرب والعرب يقرنونه بالشر لأنه يتلف أبلهم فكان أبغض شيء إليهم) فأجابهم جثّامة: إنما هذه خطرة خطرت، والراكب إذا سار يغني) انتهى نص المعجم.
فقول جثامة: أيعذر لاهينا الخ. إنما جاء في خبر رجوع عقيل مع ابنه وابنته من عند أصهاره بني مروان المقيمين في الشامات كما هو في معجم البلدان ولم يجيء في خبر تزويج جثامة أخته من الخليفة كما هو نص طبقات الشعراء. وقد تبين من هذا أن نص الطبقات ملفق من الخبرين المذكورين.
وفي الخبر الثاني الذي جاء في معجم البلدان وصف لنفسية عقيل بن علفة الجاهلي الجافي الطبع ونفسية ولديه الناشئين في الإسلام وقد فهما منه (أي من الإسلام) أنه لا يشدد النكير على متبعيه إلا في ارتكاب منكر أو استباحة حرام. أما أن تقول الفتاة المسلمة الشعر وتحسن صنعته وتصف الخمرة بما جعله الله فيها من تأثير في جسم شاربيها فلا يراه ذلك(196/72)
الفتى المسلم حراما، وإنما الحرام شربها فهو الذي يجب تجنبه، ولذا وقف في جانب أخته ينافح عنها. ويدرأ صولة أبيه الجاهلي عليها ويرفع صوته - كما علمه الإسلام - بان للفتيات الحق في تناول متع الحياة المباحة كما للفتيان. وأنه كما يعذر اللاهي من الفتيان ينبغي أن تعذر اللاهية من الفتيات: فلا يعذرون هم ويلحين هن بغياً وعدوانا إذ ليسوا جميعاً إلا شقائق وإخواناً. وقد جاء هذا الشعر الذي تمثل به جثامة قولا شارحاً للأثر المأثور: (النساء شقائق الرجال).
(دمشق)
عبد القادر المغربي(196/73)
على ذكر الحرب الأهلية في إسبانيا
نهضة العلوم الطبية في إسبانيا العربية وتأثيرها في أوربا
للدكتور زكي علي
من بين الكتب التي ظهرت أخيراً عن الحرب الأهلية المروعة القائمة في إسبانيا الآن كتاب (الثورة في إسبانيا) قال فيه مؤلفاه هاري جانس وتيودور رابارد في معرض الكلام عن ماضي إسبانيا: (إن طرد العرب من إسبانيا كان كارثة على مدنيتها وقد كان الباعث عليه التعصب للروح الإقطاعية السائدة في أوربا والرغبة في تقويض دعائم الثقافة العربية وتأثيرها)
وقد أعادت الحرب الحاضرة في إسبانيا ذكريات تاريخها الماضي وكيف كان عهد العرب أزهى عصورها، وكثيراً ما أشارت صحف أوربا إلى ذلك الماضي إما بالمقالات أو بالصور. وأذكر أنني رأيت صورتين رمزيتين تبعثان في النفس مزيد الاعتبار إحداهما في صحيفة أمريكية تمثل (عودة العرب) والأخرى على غلاف مجلة سويسرية مصورة تمثل (العرب على أبواب مدريد) إشارة إلى انتظام فرق من عرب المغرب الإسباني في سلك جيش الجنرال فرانكو لفتح إسبانيا، ولكن شتان بين الفتحين، وما أعظم الفرق بين العهدين. ولست بصدد الكلام عن تاريخ الفتوحات والحروب وإنما أحببت اتخاذاً الأحوال الحاضرة وسيلة للتذكير بما كانت عليه إسبانيا من النهضة على عهد العرب قاصراً الكلام على العلوم الطبية وما كان لها من تأثير ونفوذ في الحركة الفكرية في أوربا في ذلك الحين وهي التي صارت أساس نهضتها فيما بعد.
كان لتألق نجم الثقافة العربية في سماء إسبانيا على أثر الفتح الإسلامي أعظم الأثر في نهضة العلوم الطبية لا في إسبانيا وحدها بل في أوربا بأجمعها. وكان لما أولاه الخلفاء العلوم والفنون من العناية والتشجيع فضل كبير في ازدهار الحركة الفكرية والنشاط العقلي وانبعاث أضواء الحضارة العربية لتسري في سائر أنحاء أوروبا، وسرعان ما أصبحت إسبانيا أسطع درة في سلسلة الثقافة العربية الممتدة من ربوع الهند إلى أقصى غرب أوربا، وعن طريق هذه الحلقات المتصلة من مدنية الإسلام تدفقت الكنوز الضخمة من علوم الأقدمين التي كانت نسياً منسياً قبل أن يبعثها العرب ويضيفوا إليها كنوزاً غنية جديدة(196/74)
بفضل عبقريتهم وأثر الإسلام في حضهم على البحث وحثهم على الكشف والدرس والتحصيل
وما أتى القرن العاشر للميلاد حتى كان العرب قد أحضروا إلى إسبانيا مجموعة ضخمة من التأليف العلمية والطبية الإغريقية العربية، ووضعوا بذلك أساس الحركة الفكرية التي دامت في عصرها الذهبي من القرن العاشر، إلى الثالث عشر، وجعلت إسبانيا في ذلك الحين، المركز الوحيد الذي يشع على أوروبا النور والعرفان، والذي سرت منه الثقافة العربية، حتى صارت ملموسة الأثر في سائر أنحاء الغرب
ونبغ في هذه الحركة طائفة كبيرة من علماء العرب وشخصياتهم الطبية البارزة، وكان لأعمالهم وتواليفهم أثر مباشر في نهضة العلوم الطبية لاسيما أن الخلفاء أكثروا من تشييد المستشفيات، وكانوا يلحقون بها المدارس الطبية ومدارس الصيدلة والمكاتب العلمية.
وقبل أن نخص بالذكر هنا اشهر البارزين في هذه النهضة نشير إلى ما يدل على مبلغ حضارة إسبانيا وازدهارها تحت حكم العرب، فنذكر أنه في القرن العاشر بلغ عدد سكان قرطبة أكثر من ثلاثمائة نفس، وكان بها خمسون مستشفى وتسعمائة حمام وثمانمائة مدرسة وستمائة مسجد ومكتبة ضخمة تحوي ستمائة ألف مجلد وسبعون مكتبة خاصة. وإذا ما أشرنا في هذا المقام إلى جامع قرطبة الشهير، الذي يعتبر من آيات الفن - لا في العصر الإسلام وحده بل في كل العصور - فإننا نذكر الكلمة الشهيرة التي وجهها شارل الخامس سنة 1526 إلى مجلس الكاتدرائية الكاثوليكية توبيخا لهم على تشييد الكنسية في قلب الجامع العظيم، إذ قال لهم: (قد بنيتم هنا ما تستطيعون، وكل واحد سواكم - بناءه في جهة أخرى ولكنكم خربتم ما كان فريدا في العالم كله)
وفي صدد الحضارة العربية أيضاً يقول الطبيب المؤرخ الأمريكي فكتور روبنصن صاحب (قصة الطب): (كانت أوروبا في ظلام حالك بعد غروب الشمس بينما كانت قرطبة تضيئها المصابيح العامة، كانت أوروبا قذرة، بينما قرطبة شيدت ألف حمام؛ كانت أوروبا تغطيها الهوام بينما كان أهل قرطبة مثال النظافة؛ كانت أوروبا غارقة في الوحل، بينما كانت قرطبة مرصوفة الشوارع؛ كانت سقوف القصور في أوروبا مملوءة بثقوب المداخن، بينما قصور قرطبة تزينها الزخرفة العربية العجيبة؛ كان أشراف أوروبا لا يستطيعون إمضاء(196/75)
أسمائهم بينما كان أطفال قرطبية العربية يذهبون إلى المدارس؛ كان رهبان أوربا يلحنون في تلاوة سفر الكنيسة بينما كان معلمو قرطبة قد أسسوا مكتبة تضارع في ضخامتها مكتبة الإسكندرية العظيمة.)
والآن نعود لنذكر بين متقدمي المشاهير في النهضة الطبية ابن الوافد الذي اشتهر في أوربا باسم (997 - 1074) وكان طبيباً بمستشفى طليطلة وامتاز بأنه وضع أساس طريقة عقلية للعلاج مرتكزة على النظم الغذائية. وكان أشهر مؤلفاته كتاب الأدوية البسيطة طبع هذا الكتاب بعد ترجمته إلى اللاتينية أكثر من خمسين مرة. ثم هناك أبرز شخصية في النهضة الطبية العربية وفخر الجراحة العربية أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي الذي عرفته أوروبا باسم (1013 - 1106) وإليه يرجع الفضل في النهوض بمهنة الجراحة إلى المركز اللائق بها وكانت قبله قد انحطت إلى الحضيض ولكن سرعان ما بلغت الجراحة على يد أبي القاسم الزهراوي أعلى مراتبها في ذلك العصر فانه ألف في الطب النظري والعملي كتابه الشهير (التصريف لمن عجز عن التأليف) وبه قسم خاص بالجراحة يقع في ثلاثة كتب استوفى فيها أبو القاسم علوم الجراحة وعملياتها وبين آلاتها بالصور فكان تأليفه هذا أول كتاب موضح بالصور والأشكال في الجراحة. ولا أجد في هذا المقام قولا أدل على مكانة الزهراوي من قول الأستاذ الشهير فورج من أعظم الجراحين الفرنسيين في الوقت الحاضر إذ كتب عنه منذ سنوات: (يعتبر الزهراوي بلا شك أعظم شخصية في الجراحة العربية، وهو الحجة التي كان يلجأ إليها كافة مؤلفي الجراحة العربية، وهو الحجة التي كان يلجئ إليها كافة مؤلفي الجراحة في العصور الوسطى مع أعظم الاحترام. وقد ولد في الزهراء (من ضواحي قرطبة) التي كان فرساي خلفاء بني أمية في الأندلس. ويستحق كتابه في (الجراحة) أن يبقى في تاريخنا كأول تأليف في الجراحة على أنها علم مستقل مؤسس على قواعد التشريح. وصار كتابه فيما بعد مرشد الجراحين منذ ترجمه إلى اللاتينية حول وسط القرن الثاني عشر جيرار دي كريمونا. ومما يبرهن على أن الزهراوي كان الثقة والعمدة في الجراحة والمشار إليه في علومها أن سلفنا العظيم جي دي شولياك جراح مونبلييه استشهد بأبي القاسم في مؤلفاته نحو مائتي مرة!
(ولا مراء في أن الجراحة العربية في ذلك الحين تقدمت تقدماً عظيما في الغرب. ويكفى(196/76)
أن نذكر أنه في أواخر القرن الثالث عشر لما قدم الجراح لانفرانك من إيطاليا ودرس مؤلفات أبى القاسم أصدر رأيه في جراحي باريس لذلك العهد بقوله: (يقومون بالعمليات الجراحية مع درجة من الجهل يكاد لا يوجد معها شخص واحد منهم يمكن أن يعد جراحاً حقيقياً! وقد كان أبو القاسم أول من كتب في علاج الأقواس الضرسية (في طب الأسنان) وتشوهات الفم، وأول من ربط الشرايين قبل امبرواز باريه الفرنسي. وقد وصف عمليات تفتت حصاة المثانة وعملية استخراجها بالشق، وتكلم عن مسألة التقيح ووصف الوضع المعروف باسم (وضع والحز) في التوليد، والشلل عقب كسر السلسلة الفقرية، وتكلم بدقة عن إزالة الأجسام الغريبة من الأذن، وأجرى عملية فتح قصبة الرئة وعالج الخراجات الكبيرة - بشقها وتفريغها تدريجاً، واستعمل محلول الملح في علاج الجروح، ووصف علاج الناسور بالكي. وهو أول من استعمل (السنارة) في استخراج الورم المسمى (يوليبوس) وتكلم في موضوع الولادة عن مجيء الجنين في الأوضاع غير المنتظمة، وعن التوليد بالآلات. وهو أول من أدخل استعمال الحرير وأوتار العود بهيئة خيوط للربط في العمليات الجراحية، وتكلم أيضاً عن وقف النزف بالكي، وقد بقي كتاب أبي القاسم في (الجراحة) أساس التعليم الجراحي ومزاولة مهنة الجراحة في أوربا عدة قرون، ونشرت ترجمته في فينا سنة 1497؛ وفي سنة 1500 كان المعول عليه في تعليم الجراحة في مدرسة البندقية بإيطاليا، وطبع أيضاً في (بال) بسويسرا سنة 1541
وأما أشهر أطباء العرب الاكلينكيين في الأندلس فهو محمد بن مروان بن زهر الاشبيلي وعرف في أوربا باسم (توفى سنة 1162) وهو ينحدر من عائلة عربية عريقة أنجبت كثيراً من الأطباء وذاعت شهرته الطبية في جميع الأنحاء. وهو أول من ثار على طريقة جالينوس وابتكر طرقا جديدة تدل على عبقريته؛ وأهم كتبه (التيسير) وفيه وصف شامل لأمراض عديدة. وكان ابن زهر أول من وصف التهاب التامور المصلي وخراج المنصف الصدري وشلل البلعوم والتهاب الأذن الوسطى. ووصف لبن الماعز في الدرن، ويعتبر أيضاً أول عالم بالطفيليات لأنه أول من أتقن وصف حيوان الجرب.
وأما أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي (1126 - 1198) الطبيب الفيلسوف العظيم فمع أنه بلغ ذروة الشهرة كفيلسوف الإسلام وشارح أرسطو فقد كان له(196/77)
أيضاً فضل لا ينكر في تقدم العلوم الطبية؛ وهو الذي هز بناء التعاليم الجالينية من أساسها، وزعزع نظرية صفة الأدوية الكثيرة في التذاكر الطبية، وهو أول من أشار إشارة علمية إلى الدورة الدموية في كتابه (الكليات) فسبق بذلك وليام هارفي. ومن أعظم الشخصيات الأندلسية في القرن الثاني عشر الفيلسوف الطبيب الإسرائيلي موسى بن ميمون الذي صار فيما بعد طبيباً خاصاً لسلطان صلاح الدين، وله مؤلفات عديدة في الفلسفة والطب ترجمت من العربية إلى اللاتينية ومنها كتباه في (السموم والتحرز من الأدوية القتالة) وكتاب (البواسير) (وترى هنا صفحة من هذا الكتاب الأخير عن نسخة خطية نقلت عن الأصل الذي كتبه ابن ميمون بيده) وكتابا (الوصايا) في التغذية وقانون الصحة و (بيان الأعراض) و (مقالة في الربو) الخ.
ويمتاز ذلك العصر بازدهار فن الصيدلية أيضاً وظهور التواليف العديدة فيه. واسم (أبن البيطار) أشهر من أن يذكر، وقد ولد أبو محمد عبد الله بن احمد بن البيطار في (مالقة) وصار أوحد زمانه في علم النبات وأتقن دراية كتاب (ديسقوريدس) الإغريقي اتقانا بالغاً وكان حجة لا يباري في علوم الأدوية المفردة والحشائش، وأهم كتبه (الجامع في الأدوية المفردة) وهو فريد في بابه إذ يشتمل على وصف دقيق لأكثر من ألف وأربعمائة عقار كان جزء كبير منها جديداً في ذلك الوقت، وصار هذا الكتاب في الواقع المرجع الأساسي في أوروبا للمادة الطبية وعلوم الأغذية.
أما كتب الأدوية المركبة فكانت تسمى الأقرياذين (مأخوذة عن اليونانية) وهو اسم حرف فيما بعد في المحفوظات اللاتينية المترجمة عن العربية إلى كلمة والعرب هم أول من وضع دساتير الأدوية المعروفة الآن باسم (فارماكوبيا) وعنهم أخذتها أوروبا كما أخذت عنهم عادة وضع الأواني الزجاجية الكبيرة المحتوية على السوائل الملونة عند مدخل الصيدليات وكان نظام الصيدلة عند العرب يقضي بالتمييز بين مخازن العقاقير (ويقابله الآن لبيع العقاقير البسيطة بحسب تعريفة محددة وبين الصيدليات (الأجزاخات) لصرف العقاقير المركبة والتذاكر الطبية وكانت كلها موضوعة تحت الرقابة الشديدة بمقتضى القانون. وقد أدخل فردريك الثاني هذا النظام إلى أوروبا وأصدر سنة 1233 قانوناً بقي نافذ المفعول زماناً طويلا في صقلية، كان يكلف الطبيب بمقتضاه أن يبلغ عن أي صيدلاني(196/78)
(صيدلي) يثبت له أنه يبيع أدوية فاسدة
وقد أخذت أوروبا عن العرب استعمال كثير من الأدوية الجديدة ذات المفعول اللطيف والتي أدخلها العرب في المادة الطبية للعلاج مثل السنا المكي والراوند والتمر الهندي والمسك والقشية والمسن والكافور وجوز الطيب والقرنفل والزعفران والشمر وعرق السوس. وعن العرب أيضا أخذت أوروبا طريقة طلاء حبوب الأدوية بالورق المذهب أو المفضض وتقطير ماء الورد، كما أن أوروبا مدينة للعرب بإدخال الجوز المقيئ في القرن الحادي عشر والأكونيت (خانق الذئب) وشرح تأثير الإِرجوت (الجويدار) والحنظل والقنب الهندي والعنبر. وكان دستور الأدوية (الفارماكوبيا الإسلامية) في إسبانيا يحتوي على أكثر من مائتي نبات جديد لم تعرفها أوروبا من قبل. ولا يزال كثير من الكلمات العربية الأصل مستعملة في الصيدلة إلى اليوم منها الكحول والشراب والقلي والنفط والبازهر (بنزهير) والجلاب
ثم كان من مفاخر المدنية الإسلامية إنشاء المستشفيات في معظم المدن الكبيرة مثل قرطبة واشبيلية وغرناطة وطليطلة وبلنسية ومرسية والمرية ومالقة وغيرها، وكان نظام هذه المستشفيات وإدارتها وتجهيزها تجهيزاً وافياً على نسق لم تعرفه أوروبا في ذلك العهد. وفضلا عن أن هذه المستشفيات كانت مراكز لعلاج الأمراض فقد كانت أيضاً معاهد للتعليم الأكلينيكي وأكاديميات للمعارف الطبية، وكانت مجهزة بمكاتب طبية نفيسة. ويعزى إلى العرب أيضا الفضل الأول في إيجاد المستشفيات الخاصة بذوي الأمراض العقلية ومن أهم تلك المستشفيات ما أنشئوه في بلنسية، وقد شهد جميع مؤرخي الطب بأن للعرب فخر معاملة هؤلاء المرضى بالرفق والشفقة والإنسانية بينما كان (المجانين) في أوروبا يعاملون إذ ذاك كالمجرمين يعذبون ويضطهدون. وقد أعاد جوان جيلابرت جوفريه بناء مستشفى بلنسية للأمراض العقلية عام 1410
كذلك لما أراد فيليب الثاني عام 1566 أن يعيد تنظيم المستشفيات في مجريط (مدريد) أقام على أنقاض معهد سان لازاروا (وكان في الأصل مستشفى أسسه المسلمون) مستشفى جديداً باسم سان جوان دي ديوس، وضم إليه مستشفى دي لاباز للأمراض المعدية ولذوي العاهات.(196/79)
وقد أظهر أطباء العرب في إسبانيا في فهم الأوبئة والعدوى مقدرة وذكاء منقطعي النظير بين كافة أطباء أوروبا في العصر القديم والعصور الوسطى، يدلك على ذلك إنهم بحثوا منشأ الأوبئة وانتشارها بالعدوى. وقد ألف الطبيب الشهير ابن الخطيب من غرناطة (1313 - 1374) كتاباً نفيساً عن (الطاعون) وصف فيه الطاعون الذي حل بأوروبا في القرن الرابع عشر وذكر فيه أن وجود العدوى تثبته التجربة ثم البحث ودليل الحواس ثم الرواية الموثوق بها عن انتقال المرض بالملابس والأوعية والحلي (كالقرط في الأذن) ومن شخص لآخر في المنزل الواحد وبإصابة ميناء سليم بوصول أناس مرضى من أرض موبوءة. . .!)
وكذلك كتب (ابن خاتمة) (توفي 1369) كتابا عن الطاعون الذي فتك بالمرية في إسبانيا في سنتي 1348 و1349، وهذا الكتاب يفوق في دقته كل ما كتب في أوروبا عن الطواعين من القرن الرابع عشر إلى السادس عشر.
ولا يتسع المقام هنا للإسهاب في ذكر سائر النوابغ من أطباء العرب في ذلك العصر. وإنما ننوه بأنه كان من أهم عوامل بث العلوم الطبية العربية ونشرها في أوروبا إنشاء مدارس الترجمة التي كانت أهمها مدرسة طليطلة التي شيدها في سنة 1130 الأسقف ريموند وازدهرت حتى القرن الثالث عشر.
وكانت جامعات العرب في إسبانيا إذ ذاك قبلة أنظار طلاب العلم من كافة أنحاء أوروبا فكانوا يفدون إليها من كل حدب وصوب لينكبوا على دراسة العلوم العربية وترجمتها ثم نقلها إلى بلادهم فظل النفوذ العربي سائداً في الغرب قروناً عديدة وظلت تآليف الأطباء العرب مدة خمسمائة سنة برنامجا لدراسة الطب في أوروبا.
ومما يدلك على مدى سريان النفوذ العربي وهيمنته على النهضة الطبية في أوروبا أن الطبيب الشهير بطرس ألفونسو (ولد سنة 1062) بعد أن أتقن الطب في مدارس العرب في إسبانيا قدم إلى إنجلترا ليكون طبيباً خاصاً للملك هنري الأول واشترك مع (والحز وبرايور أوف مالفرن) في وضع كتاب في الفلك اعتمد فيه على المصادر العربية، وكانت جهود هؤلاء الثلاثة بمثابة أول أثر للعلوم العربية في إنجلترا ثم لم ينقض بعد ذلك وقت طويل حتى امتاز أديلارد أوف بارت بكونه أول عالم أوربي كبير حضر إلى طليطلة(196/80)
للتخصص في العلوم العربية، فاتصلت بذلك الحلقة الثقافية بين إسبانيا العربية وإنجلترا. ومن ثم ازداد اهتمام العلماء في إنجلترا بعلوم العرب وتفوق من بينهم ميشيل سكوت (1175 - 1232) وروجر باكون (1214 - 1294)
فأما سكوت فكان طبيبا وفيلسوفا ومتضلعا في العربية، وبعد أن درس في اكسفورد وباريس انتقل إلى بالرمو وبولونيا بإيطاليا، ومن هناك واصل سفره في طلب العلم إلى طليطلة ليروي ظمأه من ينابيع حكمة العرب وعلومهم وفلسفتهم، واشتهر فيما بعد بتآليفه الكثيرة في الكيمياء والفلك والطب وكان أكثر اعتماده على المصادر العربية.
وأما روجر باكون فقد اشتهر في اكسفورد بكونه شارح الفلسفة العربية والارسطوطية وألف في علم البصريات كتابا نقل فيه عن كتب الخازن، وهناك في مكتبة مجلس كاتدرائية كانتربوري نسخة خطية مزخرفة من أواخر القرن الثالث عشر تسمى هي أقدم تفسير معروف لكتاب ارسطو في المنطق ظهر في إنجلترا على أثر إحياء العرب لفلسفة ارسطو، وهي تحمل اسم جون دي لندن الذي أخذ عن روجر باكون العلوم العربية.
ويرجع إلى العرب أيضاً فضل المحافظة على تراث الطب الإغريقي القديم وهناك حقيقة ذات أهمية قصوى في هذا الصدد وهي أن سبعة كتب من (تشريح جالينوس) وصلت أوربا عن طريق ترجمتها العربية أما أصولها الإغريقية فكانت قد فقدت.
وكان أشهر المترجمين للعلوم الطبية من العربية إلى اللاتينية (جيرار دي كريمونا) 1114 - 1187 الذي اشتغل في مدرسة طليطلة معظم حياته وأتم في العشرين السنة الأخيرة منها ثمانين ترجمة بعضها في غاية الأهمية، ومنها كتاب الجراحة لأبي القاسم الزهراوي وقانون ابن سينا، وكتاب المنصوري للرازي، وبعض أجزاء (الحاوي).
ومن أعظم المترجمين والمفكرين من الأوروبيين في العصور الوسطى جربرت دي أوريلاك (930 - 1003) الذي صار فيما بعد البابا سلفستر الثاني فإنه عبر جبال البرانس وأتى إلى طليطلة لتحصيل علوم المسلمين ونقلها إلى أوروبا القوطية، ثم إنه عاد إلى فرنسا وأذاع علوم العرب في مدينة (ريمس) ثم نقل تلك العلوم إلى أنحاء فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ويعتبر أحد واضعي أساس النهضة العملية والأدبية والدينية في أوروبا في القرن الحادي عشر ويقال إنه الذي أدخل إلى أوروبا الأرقام العربية.(196/81)
ومن بين مشاهير الذين حضروا من إنجلترا إلى طليطلة روبرت أوف إنجلاند) (عاش حوالي 1143) وهو أول من ترجم القرآن ثم دانيل مورلي (1170)
وكان ارنولد دي فيلا نوفا (1235 - 1313) آخر العلماء الأسبان الذين كان لهم نصيب وافر من ترجمة مؤلفات العرب الطبية إلى لغات الغرب، وقد صار فيما بعد طبيبا خاصا لبطرس الثالث ملك أرغون، ودرس الطب في جامعة مونبلييه ونقل عن العرب استعمال الصبغات في الأدوية، وادخلها في دساتير الأدوية الأوروبية، كما أنه ترجم كتاب ابن سينا عن القلب
وقد أنار العرب لأوربا سبيل الدراسة المبينة على التجربة والمشاهدة ويقول مؤرخ مونبلييه الشهير جرمان (الفرنسي) إن بقاء مؤلفات الأطباء العرب في برنامج الدراسة الطبية في مونبلييه حتى ختام القرن السادس عشر خير شاهد على صفات الإيضاح والتنوير وعلى الطريقة التعليمية التهذيبية التي امتاز بها الكتاب العلميون في الأمة العربية)
وتوجد في سجلات كلية الطب بباريس قائمة جرد للكتاب الطبية بها في سنة 1395 تحتوي على اثني عشر مجلدا كلها مؤلفات لأطباء العرب. وكان لويس الحادي عشر دائم القلق على صحته ولهذا كان حريصاً على أن تكون في مكتبته كتب (الرازي) الطبيب العربي الأشهر ولم يكن منها إذ ذاك في مكتبة مدرسة الطب بباريس سوى نسخة واحدة فاستعارها الملك بشرط أن يردها وقد فعل!
وأرى في ختام هذا البحث أن أذكر كلمة المؤرخ (لبري): (لو لم يظهر العرب في التاريخ لتأخرت نهضة العلوم والفنون (الرينسانس) في أوروبا قرونا عديدة).
(جنيف)
زكي علي(196/82)
الفداء
للأستاذ أمجد الطرابلسي
(فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين. سلام على إبراهيم)
قرآن كريم
شعَّ من بَسمةِ الصباحٍ الضّياءُ ... وأفاقتْ منْ نومها البطحاءُ
وتعرتْ كثبانُها والرَّوابي ... وتغطّتْ هضابُها السَّمراء
وتبدّتْ ذُكاءُ فانتفضَ الرّمْ ... لُ ابتهاجاً لّما تبدَّتْ ذُكاء
وشَّتِ الأرضَ بالضلالٍ فنوناً ... هيَ للطّرْفِ والنهَى إغواء
فمن الشمسِ والرمالِ نُضارٌ ... ومن الظلِّ واحَةٌ غَنّاء
السهوبُ الفِساحُ، والأفُقُ الزّا ... هي، وتلكَ الغمائمُ الشَّقراء
والخِضَمُّ المَوَّاج بالماسِ والتب ... رِ المصفّى والقبّةُ الزرقاء
والبطاحُ الغَرْقَى، وسِلْسِلةُ الكُثْ ... بانِ، والرَّمْلُ، والحصَى، والسَّناء
صورةٌ تغمُرُ العيونَ وسِحْرٌ ... عبقريٌ، ومُتعةٌ، ورُواء
وَحشةٌ ملؤها الجمالُ وصمتٌ ... خاشعٌ لا تشينُهُ ضوْضاء
أيها الشاعُر أتئدْ! هل تؤدي ... ما تؤديَّ الطبيعة الخرساءُ؟
إنّ صمتَ الرَّمال عودٌ ومِزما ... رٌ ونأيٌ ومِزهرٌ وحُداء
نَغَم يُفْعِمُ المسامِعَ سِحْراً، ... وغناءٌ، هيهات منه الغناءُ!
مَنْ هوَ السالكُ القفارَ وئيداً ... للأسى في جبينه سماء؟
كاسفَ البالِ ليس يَبْهُرُه الحس ... نُ، ولا يستبيه ذاكَ البهاء
مطرقاً رأسهُ الصديعَ تبدّى ... في أساريرِ وجههِ البأساء
وإلى جنبهِ ابنهُ حائرَ اللبَّ ... م تَنَزّي في صدرهِ الأهواء
يَتأَسَّى خُطَى أبيهِ وللْحِمُ ... لانِ بالشاةِ أسوةٌ واهتداء(196/83)
يسألُ الرَّملَ عن وجوم أبيهِ ... فإذا الرَّمل منصتٌ والفضاء
يسأل الأرضَ والسماَء فما تن ... ييهِ أرضٌ ولا تجيب سماء!
وتراه بَهمُّ يسأل عن ذا ... كَ أباه الحزينَ لولا الحياء
يا إلهي! هذا خَليلُكَ إبرا ... هيم يَغدو لما أرادَ القضاء
وإلى جنبهِ ابنهُ البرُّ إسما ... عيل سلواهُ في الدُّنى والعزاء
جاءه وحيُك المقدَّسُ في اللي ... ل وقد عمَّتِ الدُّنى الظَّلْماء
قال (قرِّبْ إلى السماءِ القَراب ... ينَ، فقد شاقتِ السماء الدماء
إنها تبتغي وحيدَكَ ذبحاً ... ليسَ في غَيرهَ لها إرضاء!)
هبَّ من نوْمِه الشروِد مُراعاً ... ونأى عن جفونِهِ الإغفاء
إنما تطلُبُ السماء فتاه! ... ليسَ مما تبِغي السماء نجاء!
قد قضى الله ما أرادَ وأمضى ... وقضاء اللهِ الرحيم مَضاء
ليكن ما أرادَ سوْفَ يضحَّي ... بابْنِهِ وهو عيشُه والهناء. . .
يا رحيمَ الأكوان! حكمتُك الغرَّا ... ء، حارتْ في كُنهها الحكماء
إنْ أضْرَي الجراحِ يا رب ما عا ... ناهُ في الأرض رسْلُكَ الخلَصاء
أنت قدَّرتَ أن يعذّب في الأر ... ض نبيٌّ، ويسْعد الأغبياء!
طالَ سْيُر الفتى وناءت قواه ... وعراهُ بعد النشاطِ وَناء
أينَ يمضي به أبوه ولا زا ... د لديهِ، وليس في القفر ماء
الفيافي ممتدَّةٌ كالأماني ... لا تناهي وكلها جَرداء
فَإلامَ السيرُ الممِضُّ وما للِ ... قَفزِ من أول وليسَ انتهاءُ؟؟. .
وَتَجَرَّى وقال يَسْتطلِعُ السرَّ ... وقد آده الوّنى والظَّماءُ
وشجاه الصمتُ الطويلُ، وللصَّم ... ت على القلب غمَّة دكناء:
(أبتي طالَ سيرنا وعراني ... نصبٌ منه مُرمِضٌ وعناءُ
أين نبغي؟ لعلنا قد ضَللْنا ... نهْجنا! أينَ قصدُنا والرَّجاء؟
أبتاهُ كلَّت يداي ورجلا ... يَ، وأدمتُ أصابعي الحصباء
مِلْ إلى الظِّلْ نَسْتَجِمَّ قليلا ... فلقدْ هَدَّ قوتي الإعياء!)(196/84)
فأجابَ الأبُ الرحيمُ يواسي ... هِ وقد شفّه الأسى والشقاء
باسماً يمنع المدامع أن تج ... ري، وأن تستَفزَّه البُرَحاء:
(يا صغيري الحبيبَ، كيف خبا عز ... مُكَ، أين الثبات أين المضاءُ؟
غايةُ السير ذروةُ التّل هذا، ... وعليه المقيلُ والإرساء
فوقه يا بني تؤسى الجراحا ... ت، وتلقى الجهود والأعباء
فوقه يا بنيَّ يرقُبنا العطف ... من اللهِ ربِّنا والرّضاء)
فاستحى الطفل من أبيهِ وأغضى ... منتهى البثِّ والأسى الإغضاءُ
ثمَّ سارا وفي الفؤادين نارٌ ... وأحاديثُ جَمَّةٌ وبكاءُ!. . .
واستوتْ في سمائها الشمس عجباً ... وتَلَظَّتْ من وقدها الرَّمضاء
وتَغَنَّتْ فيها الجنادبُ فَرحى ... وعليها من الرِّمال خِباء
سكنتْ خطرةُ النَّسائم فالأرْ ... ضُ لهيبٌ والأفق والأجواءُ
وأناخَ الخمولُ كَلْكَلُ المُضْ ... ني، وأغفتْ كالمتْعَب البيداءُ
فبكى الطفلُ لا يحيرُ شكاةً ... والفيافي عن بثه صماءُ
مُطرقا رأسَهُ الصغير ليَخفي ... عن أبيه البُكى، وكيفَ الخفاء؟
وأبوه الساجي يُسارقُهُ اللحْ ... ظَ فَتنزو في صدره الأدواءُ
مَشْهَدٌ يمنعُ القوافي مِنَ الجر ... ي وَتَعْيا عن وصفه الشعراء!
إيهِ دمعَ البنينَ ماذا يُعاني ... ويقاسي مِنْ سكبكَ الآباء!؟
رحمةً للأب الشّفيق ولْلأمَّ ... م إذا ما تَباكتِ الأبناءُ!
مَسَح الطفل أدمعاً فوق خَدَّيْ ... هِ وأهدابهِ لها لألاءُ
قائلاَ والشحوبُ في وجهِهِ با ... دٍ كم قد براه داءُ عَياء:
(يا أبي قد دنا المكان وفيه ... للمهيَض الهناء والنَّعماءُ
هو ذا المذبحُ المُقدَّس والحْب ... لُ، وهذي سكينك العَوْجاء
وعلى منكبيَّ مِحرَقَةُ الذَّبْ ... ح، فأين الضّحَّيةُ القَرْناء؟
أتٌرى قد نسيتها أمْ تراها ... سبقتنا بها إليه الرِّعاء؟)
صُعِقَ الوالدُ الوجيع وسالت ... عَبرةٌ فوق خَدّه عصماء(196/85)
وأجاب ابنَهُ مشيحاً بوجهٍ ... غضَّنتْه السِّنون والأرزاء:
(يا صغيري هناك يَرْقُبُنا القر ... بان، لا يقعُدَنْ بنا الإبطاء
لنحثَّ الخطى إليه سراعاً ... فسيحْلوا لنا هناك البَقاء)
إيه يا موكبَ الجلال الذي ما ... دتْ له من خشوعها الصحراء!
فالروابي ذواهلٌ مطرقاتٌ ... والنُّسَيْمات حوله سَجواء
إنَّ هذي الدموعَ ضجَّت لها الدني ... ا، ورُجَّتْ لسكبها الأرجاء
وأجل الدموع ما يَذرف القل ... ب، وتعي عن حبسِهِ الكبرياء
الفتى خافتُ الأنين صَموتٌ ... قد بَراه طول الَمدى والَحفاء
وأبوهُ يبكي عليهِ حناناً ... يا لَدَمْعٍ تَسُحُّه الأنبياء!
يا لدمْعٍ تهزُّهُ رحمةُ القل ... بِ، فُيبقيهِ م الجفونِ الإباء!
ذاكَ إبليسُ فتنة الشَرِّ والآ ... ثام، مَنْ كلُّ هَمِّهِ الإغواء
ساَءهُ أنْ يفوزَ ما أمر اللَّ ... هُ، وأنْ يُخْذلَ الخنا والرِّياءُ
فأتى هاجَراً يُنَبِّئُها الأمْ ... رَ، وإبليسُ ساعداه النِّساء
قال: (فيمَ الثّواءُ يا أُمَّ إسما ... عيلَ، والثُّكْلُ بيِّنٌ والشقاء
لستِ تدرين ما يحيك لكِ المق ... دار نامت عن حظِّها الأشقياء!
قد غدا بابنكِ المحَبَّبِ إبرا ... هيم تحدوهُ جُنَّةٌ هَوْجاء
زاعماً - والإلهُ أعول من أنْ ... تَصْطلي نارَ سُخطِهِ الأبرياء -
أنَّ وحياً أتاهُ، في الليل، والنا ... سُ نيام، والأرض والآناء
ودعاهُ ليذبحَ الطفلَ صبراً! ... تلك رُؤيا كذوبة شنعاء
أسرعي! أنقذيه! من قبل أن تُر ... وى بقاني دمائه الغبراء. . .)
فأجابته وهي تُخفي أساها ... ولَظاها: (لن يكذبَ الإيحاء!
إن يكن ذاكَ ما أراد إلهي ... فهُوَ الخير كله والهناء)
إيه إبليس! خاب فألُكَ يا مِس ... كينُ! ما كلُّ غادةٍ حوَّاء!
وصلَ الوالد الحزين، ولكن ... ودَّ لوْ طالَ سيره والعناء
وابنه من ورائه مُثْقَل الخط ... وِ، تلظَّى في صدره الصعُّداءِ(196/86)
رازحٌ تحتِ عبئهِ لاهث الصد ... ر، وللظهر كالمسِنَّ انحناء
حطَّ عن منكبيْه وهو يجيل ال ... طّرفَ: أين الخراف، أينَ الظباء!
نظرَ الطفل حوله، فإذا الأر ... ض خلاء من الأضاحي قَواء
وتحرَّى فلم يجد حوله الذبحَ ... ولا هزَّ مسمعيه ثغاء
فرنا ثائرَ الشكوك، وفي عْي ... نيه شوق للسرَّ واستقصاء
وأبوه يحار في فمه النط ... ق، وفي الرزء تبكم البلغاء
شدَّ من حزنه على قلبه الوا ... هي، وعشّتْ عيونه الضرّاء
وتهاوت دموعه مثل ما رفَّ ... ت على زنبق الربى الأنداء
ربَّ رحماك! ما يقول؟ وما يف ... شي؟ وكيف المقال والإفشاء؟
هبْه يا رب من لدنك بياناً ... فلقد يعقد اللسانَ البلاء!
قالَ يا نورَ مُقلتيَّ ويا من ... هو عيشي وسلوتي والرجاء
يا وحيدي! يا مائلي! يا سراجي ... ما تدَجَّتْ همومي الكدراء
طال ما قد كتمتُ عنك من السر ... م وقد شاق سمعك الإصغاء
يا رجائي! ماذا أقولُ؟ وهل للنُّ ... طق في زحمة الدموع غَناء؟
كلما همَّ بالكلام لساني ... أيْبَستْه المصيبة السوْداء!
أترى أنتَ إن ذكرتُ لك الأمْ ... رَ مطيعي أم غاضبٌ أبّاء؟
جاءني الوَحْي في المنام بأمرٍ ... ليس فيه دفْعُ ولا إرجاء
قال لي: اذبح غداً وحيدَك، يا للْ - هَوْل تنزو لذكْره الأحناء
يا بنيَّ! انظرْ ما تراهُ، ولا تأ ... خذُك بي غضْبةٌ ولا استهزاء
ليت شعري! أذاك أمرُ إلهي ... أم تُرى تلكَ لوثتي الحمقاء؟)
فاقْشَعَّر الفتى كما انتفضتْ في ... خَطرة الرِّيح وردةٌ حسناء
وسَرَت رهبةُ الرَّدى في مُحيا ... هُ، ورفّت غمامةٌ صفراء
ودَّ لو يكتمُ الأسى عن أبيهِ، ... كيف يخفى عن العيون الداء؟
رعدةُ الموت ما تخلّصَ منها ... فقراءٌ قضوا ولا أُمراء
إنما الموتُ حيثما حلَّ في الكو ... خِ وفي القصر غُمّة وبلاء(196/87)
هو للشَّيبِ مثلما هو للأط ... فال، غُوْلٌ، وحيّةُ، رقطاء
وأجاب الفتى يواسي أباه ... لو يفيد العزاء والتأساء!
(أبتاه! هوَّن عليك! فإني ... لستُ ممَّنْ من القضاءِ يُساء
حبّذَا مصرعي بكفّك إمَّا ... كان فيه لربَّنا إرضاء
أبتاه! افعلْ ما أمرت ولا تأ ... خُذْك بي رحمةٌ ولا أهواء
أنْفِذْ الوحْيَ يا أبي! هل يطيعُ الل ... هَ إلا المعاشر السعداء؟
أبتاه! إن حانَ يومي فهلْ عُنْ ... هُ محيدٌ، أو هل ليومي اتَّقاء؟
أبنا خالد على هذه الأرْ ... ضِ، وما للحياة فيها بقاء؟
لا تهنْ يا أبي هَلَّم فأضْجِعْ ... نيَ من قبل أن يَدِبّ المساء
ثم عصِّب عينيَّ رفقاً بمندي ... لٍ، فَلِلْمَوْتِ سَحْنة نكراء
واشحذ الْخِنْجَرَ المُظَمَّأَ حتى ... تتلظَّى شباتُه الحَمْرَاء
ثم ضعه على خناقي واذبح ... ني كما تُذْبَحُ الظَّبا والشاء. . .
فإذا ما ذبحتني وتروَّت ... من دَمي هذه الرمال الظِماء
فاحترس أن يصيبَ كفك شيءٌ ... منه، أو أن يبَلَّ منك الرداء
وتجنب رَشاشهُ، لا يهنْ أجْ ... ركَ فيهِ، ولا يقلَّ الجزاء
دعْه للرَّمْل ينسربْ في حنايا ... هُ، ففيه لحرِّها إطفاء
دعْه يذهب كما تبَدّدَ عِطْر ... في الفضا أو تغَيّبَتْ أصداء
وإذا ما فرغتَ منِّي وحالت ... بيننا ظلمةُ الرّدى السَّحْماء
وأردت الرجوعَ بعدي إلى الدا ... ر، فلي يا أبي إليكَ رجاء
ذاكَ ثوبي فانْزعْه عنِّي إذا م ... تُّ، وقد خضّبَتْه مِنِّي الدماء
واحيهُ إذ تعود ذِكرى لأمِّي ... فبهِ سَلوَةٌ لها وعزاء
إيه! أمَّاه لو علمت مصيري ... وتَبَيّنْتُ ما تريد السماء
لَتمّليْتُ منكِ لثماً ونقبي ... لاً، ولكن هيهات منّا اللقاء!
لستُ آسى إلاّ عليك من الدُّني ... ا، ولوْلاكِ لم يرُعْني العفاء. . .
عذب الموت في سبيلكَ يا ربُّ ... وساغَ البلىَ وطاب الفناء(196/88)
فمرور السكَّينِ في العنق لثمٌ ... ولهيبُ النيرانِ ظلٌّ وماء. .
أضجعَ الوالد ابنَه مثلما تُضْ ... جعُ شاةٌ وديعةٌ خرساء
والفتى ساكنٌ كما نام في الَمه ... دِ تغنيه أمُّه الَحسناء
مُغْمِضٌ عيْنَه على الدمع، هل يب ... ديهِ إلاّ الأذِلْة الجُبناء؟
والأب الواله المعذّب تدوي ... ثائراتٍ في صدْره الأنواء
قبَّلَ الطِّفْلَ ثم عصِّب عينيه ... وقد ينْفَع البصير الغطاء
تؤلم المبصرَ الدياجي وتنجو ... من قذاهن مقلة عمياء
وانتضى الخنجر الرهيب بكف ... أرعشتها الفجيعة الحمراء
مثلما أُرعشت بكأس الحميا ... كف صب مجنونة هوجاء
كاد يردى فتاه لولا هتاف ... في السموات مطرب ونداء
وإذا بالسماء تلتمع الأن ... وار فيها وتسطع الأضواء
وإذا باللحون ترقص في الجوِّ ... حبوراً وتهتف الأصداء. . .
رفع الوالد المعذب عيناً ... ملأتها المدامع العصماء
فإذا بالدموع تضحك في عْي ... نيه بِشراً وتنجلي الضراء
وتهزُّ البشرى الرحيمة كفْي ... هـ فتهوى سكينه الصّماء
ملك في الفضاء يحمل كبشاً ... قد تعالى في السُّحب منه الثغاء
هبط الأرض مثلما تهبط الروْ ... ض اشتياقاً حمامة بيضاء
فدية للصبي أرسلها الله ... تهادى بحملها البشراء
رحمة الله كم تداركتِ الخلْ ... ق وقد أعوزتهم الرحماء!
يا خليل الرحمن هيا ارفع الطف ... ل فقدْ ردْتهُ إليكَ السماءُ
واذَبح الكَبْشَ يا نبيُّ فِداءً ... عظمَ المفتدى وطابَ الفداء
واسجدا خاشعين شكرا لمنعم ... البرايا نداه والآلاء
رحمه الله تغمر المجرم العا ... صي، فكيف الخلائق الأبرياء
إيه شعري قد تَيْمَتْك البطولا ... تُ وأَغواك نورُها الوضّاء
غَنِّها فهيَ للجراحات مَلْهى ... وعزاءٌ وبَلْسمٌ وشفاء(196/89)
وارْوها فالشْبابُ مُصغ لما تن ... شد قد هدِّه الأسى والداء
والزمان الشقيُّ ساد به الشرَّ ... وأخنى على بنيه الشقاء
عُذِّبت في جحيمهِ العبقريَّا ... ت كما فاز بالنّعيم الرِّياء. . .
غنّها ربما تعزّي جريحٌ ... أو تجافتْ عن ذلَّها الْجَبنَاءِ
سِيَرُ الخالدين كمْ شبّ في أح ... ضانها الخالدون والعظماء
دمشق
أمجد الطرابلسي(196/90)
علم التاريخ عند العرب
للأستاذ عبد الحميد العبادي
التأريخ بالهمز والتاريخ بدون همز، والتوريخ، تعريف الوقت. وهو لفظ عربي أصيل، وقيل بل دخيل مأخوذ من أصل سرياني معناه (الشهر): وكانوا قبل الإسلام يوقتون بالنجوم والأهلة يكبسون الشهور إلحاقاً للسنة القمرية بالسنة الشمسية؛ وكانوا يؤرخون من الحوادث العظام والوقائع المشهورة كعام الفيل وبناء الكعبة ونحوهما. فلما كانت خلافة ثاني الخلفاء أمر عمر الناس فأخروا من عام الهجرة، ومضى الأمر على ذلك حتى يومنا هذا
هذا في اللغة؛ أما في الاصطلاح فالتاريخ عندهم فن يبحث عن وقائع الزمان من حيث توقيتها (وموضوعه الإنسان والزمان. وهو على هذا المعنى قديم عندهم، نما معرفة بسيطة ساذجة من معارف العرب قبل الإسلام، ثم تكمل على الزمن حتى أصبح علماً من أجل علومهم وأعظمها شأناً. فعرب الجاهلية كانوا لغلبة الأمية عليهم يتذاكرون أيامهم وأحداثهم من طريق الرواية الشفوية على هيئة أشعار مقصدة أو أخبار متفرقة؛ وشذ عن تلك الحال من اطرح منهم البداوة ونزل حواضر الجزيرة وخاصة أهل اليمن والحيرة، فقد نقش الأولون بالخط المسند على مبانيهم لمعا من أخبار ملوكهم وشئونهم العامة؛ ودون الآخرون بخطهم أخبار مملكتهم وأودعوها أديار الحيرة وكنائسها
فلما جاء الإسلام، وقامت الدولة العربية ومست الحاجة إلى معرفة سيرة الرسول العربي وأحواله استقصاء للسنة توفر رجال على جمع أخبار السيرة وتدوينها، فكان ذلك بدء اشتغال العرب في الإسلام بالتاريخ، وإن كان التاريخ لم يخرج يومئذ عن كونه نوعا من أنواع الحديث. وأقدم من كتب في موضوع السيرة عروة بن الزبير بن العوام المتوفى عام 93هـ، وأبان بن عثمان ابن عفان المتوفى عام 105هـ، ووهب بن منبه المتوفى حوالي عام 110هـ. ثم انتهى علم السيرة والمغازي إلى رجلين من الموالي هما محمد بن اسحق المتوفى عام 152هـ وقد اختصر سيرته ابن هشام المتوفى عام 218هـ ومختصره هذا هو الذي بأيدي الناس اليوم؛ ثم محمد بن عمر الواقدي المتوفى عام 207، وكثير من روايته مضمن في كتاب الطبقات الكبير لابن سعد المتوفى عام 230هـ هذا إلى كتاب له في مغازي الرسول مطبوع متداول(196/91)
وفي أثناء ذلك كانت قد تمت الفتوح العربية الكبرى ووقعت الفتن العظمى، ونبض عرق العصبية القبلية، وشاعت بين المسلمين أخبار الأمم القديمة والديانات غير الإسلامية على أيدي رجال مثل كعب الأحبار المتوفى عام 34هـ (؟) وعبيد بن شرية المتوفى حوالي عام 70هـ ووهب بن منبه المتوفى حوالي عام 110هـ فتوافرت أسباب شتى اقتضت جمع وتدوين الأخبار المتصلة بكل ذلك؛ فتدوين أخبار القدماء مثلا دعت إليه رغبة العلماء في فهم إشارات إلى الأمم الغابرة وردت في الكتاب والسنة، وميل بعض الخلفاء كمعاوية والمنصور إلى الإطلاع على سياسات الملوك ومكايدهم؛ هذا فضلا عن حرص الموالي على التنويه بمجد بلادهم القديم. ثم إن تدوين الأنساب وأيام العرب كان مطاوعة لحاجة الشعراء إليها عامة قي مقام الفخر والهجاء، وحاجة الدولة للأنساب خاصة للاستعانة بها في تقدير العطاء للجند. وكان الباعث الأقوى على تدوين أخبار الفتوح رغبة ولاة الأمور في معرفة ما فتح من البلدان صلحا، وما فتح عنوة، وما فتح بعهد، لأن لكل حكما خاصا من حيث الجزية والخراج. فلما دون ذلك كله وجد إلى جانب السيرة نوع آخر من الرواية التاريخية موضوعه أخبار الماضين، وأحوال الجاهلية، وحوادث الإسلام. وقد أطلقوا على ذلك كله لفظ (الأخبار) وعلى المتخصص في روايته (الأخباري) كما عرف المتخصص في رواية الحديث (بالمحدث). ونلحظ النقلة من الحديث إلى الأخبار في رجال خواص منهم ابن إسحاق والواقدي المتقدما الذكر. والمدائني المتوفى عام 225هـ. فكل من هؤلاء كان محدثا وأخباريا معا. كما نلحظ بداية التخصص في الأخبار في مثل محمد بن السائب الكلبي المتوفى عام 146هـ وكان مقدما في علم الأنساب، وعوانة بن الحكم المتوفى عام 147 وقد جمع أخبار بني أمية، وأبي مخنف المتوفى عام 157، وله كتب في الردة ووقعة الجمل ووقعة صفين وأخبار الخوارج. وسيف ابن عمر المتوفى عام 170 وله كتاب كبير في الفتوح، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى عام 204 وله في أخبار الأوائل وأيام العرب وأنسابهم وأخبار الإسلام كتب كثيرة أحصاها ابن النديم في كتاب الفهرست، وقد طبع منها حديثا (كتاب الأصنام)
وقد وجد في تلك المرحلة نوع من التخصص المحلي في رواية الأخبار، فكان لبعض الأقطار الإسلامية الرئيسية أخباريون اختصوا بجمع أخباره وتدوينها. قال ابن النديم:(196/92)
(قالت العلماء: أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بأمر الحجاز والسيرة، وقد اشتركوا في فتوح الشام)
على أن المحدث كان عند جمهور ذلك الزمان أشرف موضوعا وأسمى منزلة من الأخباري؛ وذلك يرجع إلى شرف موضوع الحديث وإلى أن الأخبار وخصوصا قديمها كانت مظنة الأغراب والتلفيق والاختلاق. ولقد بلغ الأمر بهم أن كانوا يضعفون المحدث إذا مال إلى الأخبار، فقد ضعفوا محمد بن اسحق وكان أصلا رواية للحديث، ثم صار يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم أهل العلم الأول. وربما لم يستحسنوا للفقيه المختص باستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة أن يتوفر على طلب الأخبار. ذكر ابن خلكان (أن أبا يوسف كان يحفظ المغازي وأيام العرب وأنه مضى ليستمع المغازي من محمد بن اسحق أو غيره وأخل بمجلس أبي حنيفة، فلما أتاه قال له أبو حنيفة، يا أبا يوسف! من كان صاحب راية جالوت؟ فقال له أبو يوسف: إنك إمام؛ وإن لم تمسك عن هذا سألتك والله على رؤوس الملأ أيما كان أولا، وقعة بدر أو أحد، فإنك لا تدري أيهما كان قبل الآخر، فأمسك عنه)
وجملة القول أن أهل السيرة والأخبار قد رسموا في أواخر القرن الثاني الموضوعات الأساسية للتاريخ عند العرب، وهي أموراً أربعة: (1) أخبار الماضين (2) أحوال العرب قبل الإسلام (3) السيرة (4) أخبار الدولة الإسلامية. ومن أوائل القرن الثالث إلى أوائل الرابع يلحظ الباحث زيادة جوهرية في المادة التاريخية ودقة وتحرراً في مصادرها. فقد استقرت دواوين الدولة العباسية وتمهدت قواعدها ولاسيما دواوين الإنشاء والجند والخراج والبريد، وأمكن المشتغلين بالتاريخ أن ينتفعوا بها في بحثهم، كما يؤخذ مما اشتملت عليه تواريخ القرن الثالث من عهود رسمية ومراسلات سياسية وإحصاءات للمواليد والوفيات، ومدد ولاية كبار الدولة من وزراء وقواد وعمال وقضاة وولاة لمواسم الحج ووصف للحروب الداخلية ووقائع الغزو على الحدود صيفاً وشتاء وغير ذلك. ثم إنه في العصر المذكور قويت حركة النقل عن اللغات الأجنبية كالفارسية والسريانية واليونانية واللاتينية. وقد بدأت هذه الحركة من حيث التاريخ بترجمة ابن المقفع عن الفارسية حوالي عام 140 لكتابي خدينامه وآيينامه في تاريخ الفرس وأحوالهم؛ ومن هذا القبيل كتاب عهد أردشير(196/93)
الذي ترجمه إلى العربية البلاذري المتوفى عام 279، ومنه أيضاً ترجمة تاريخ هيروشيوس وإن كان ذلك قد تم بالأندلس حوالي منتصف القرن الرابع. ثم إن سهولة الانتقال بين أنحاء الدولة الإسلامية حملت كثيراً من طلاب العلم والمؤرخين خاصة على الرحلة في طلب الرواية وأخذها عن الشيوخ، ولرؤية عجائب البلاد ومشاهدة آثارها، فوجد بذلك مصدر هام للمادة التاريخية هو المشاهدة والمعاينة. وعلى الجملة فإن مؤرخي القرن الثالث حددوا بصفة عامة مصادر التاريخ عند العرب فكانت أربعة أشياء (1) كتب السيرة والأخبار (2) السجلات الرسمية (3) الكتب المنقولة عن اللغات الأجنبية (4) المشاهدة والعيان
وبتعاظم المادة التاريخية وتحرر مصادرها بالقياس إلى ما كانت عليه الحال من قبل لم ير كثير من أفاضل العلماء وثقات الفقهاء باساً بالتوفر على دراسة التاريخ والتأليف فيه؛ ومن ثم أخذ التاريخ مظهره الرائع كعلم من أجل علوم المسلمين وأعظمها شأناً، وأخذ المؤرخون مكانتهم بين علماء الدولة الإسلامية كرجال لهم خطرهم في الحياة العامة سياسية كانت أو عقلية أو أدبية. وتضاءل مدلول لفظ الأخباري حتى أصبح كما فسره بعد السمعاني المتوفى عام 562 بقوله: (ويقال لمن يروي الحكايات والقصص والنوادر الأخباري) نذكر من بين مؤرخي القرن الثالث ابن قتيبة صاحب كتاب المعارف وقد توفي عام 270، والبلاذري صاحب كتابي فتوح البلدان وأنساب الأشراف وتوفى عام 279، واليعقوبي صاحب التاريخ المضاف إليه وتوفي عام 284، والدينوري صاحب الأخبار الطوال والمتوفى عام 290 وابن جرير الطبري صاحب تاريخ الرسل والملوك والمتوفى عام 310هـ
أخذت الوحدة السياسية التي انتظمت الدولة العباسية تتداعى من منتصف القرن الثالث، ولم تلبث تلك الدولة أن أصبحت مجموع دويلات عديدة يحكمها متغلبون مختلفو الأجناس في مشارق الدولة ومغاربها، وجرت اللامركزية السياسية إلى لا مركزية أدبية. فتوزعت الثقافة الإسلامية على الأمصار بعد أن كادت تكون مجموعة في حاضرة الخلافة وحدها. ونافست بغداد قرطبة والقيروان ومصر وحلب وأصفهان، وغزنة والري وبلخ وغيرها، وكثر العلماء في الأمصار كثرة عظيمة. كل ذلك أثر في كتاب التاريخ عند العرب تأثيراً كبيراً يتضح في كثرة ما ظهر ابتداء من منتصف القرن الثالث من التواريخ المحلية وكتب(196/94)
التراجم والطبقات خاصة؛ من ذلك تاريخ فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم المتوفى عام 257، وكتاب ولاة مصر وقضاتها للكندي المتوفى عام 350 وتاريخ بغداد وأعلامها للخطيب البغدادي المتوفى عام 463، وتاريخ دمشق وأعلامها لابن عساكر المتوفى عام 571، والبيان المغرب في إخبار المغرب لابن عذارى (القرن السابع)، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي (626)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (681هـ) وإلى جانب ذلك ظلت سلسلة التواريخ العامة مطردة من حيث انتهى الطبري، فوضع المسعودي المتوفى عام 346 كتابيه مروج الذهب وأخبار الزمان، وصنف ابن مسكويه (421) تجارب الأمم، وابن الأثير (630) كتابه الكامل
واستتبع التفرق السياسي وهن القوة الذاتية للعالم الإسلامي فطمع فيه أعداؤه من وراء الحدود واجترءوا عليه واستباحوا حماه، وبدت مقدمات ذلك في استئساد الروم وانتقاصهم شمالي الشام في القرن الرابع، ثم أغار الصليبيون في القرن الخامس والسادس على ملك المسلمين بالمغرب والمشرق، ولم تكد تلك الغمة تنجلي عن العالم الإسلامي حتى كانت الداهية الدهياء والطامة الكبرى وهي غارة المغول، فقضى على الخلافة العباسية ودمرت معالم الحضارة الإسلامية في القارة الأسيوية تدميرا
واتضحت عبر التاريخ وصروف الزمن بعد تلك الأحداث الجسام والخطوب العظام، فكان طبيعيا أن ينحو المؤرخ الإسلامي في التاريخ تلقاء ذلك كله منحى فلسفيا عميقا فيتعرف علل الحوادث وأسباب قيام الدول وأسباب سقوطها ومظاهر العمران وأصول الاجتماع ونحو ذلك. وهذا ما صنعه فيلسوف مؤرخي العرب قاطبة عبد الرحمن بن خلدون المتوفى عام 808 في مقدمة تاريخه التي لم يكتب مثلها في الإسلام على الإطلاق. ثم لم يلبث علم التاريخ أن نظر إليه على أنه يمكن أن يكون هو نفسه محلا للتاريخ فوضع في ذلك الصفدي (764) مقدمة كتابه الوافي بالوفيات، والسخاوي المتوفى عام 902 كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ)
فيرى القارئ أنه فيما بين الرواية الشفوية القديمة وفلسفة التاريخ لابن خلدون وتاريخ التاريخ للسخاوي، قد نما التاريخ عند العرب وتفرع وأزهر وأثمر، فلما نضب معينه بانحلال الحياة الإسلامية العامة المستقرة جرى عليه ما يجري على الأحياء من حكم البلى(196/95)
والفناء متى انقطعت مادة حياتها
ذلك مجمل حال التاريخ عند العرب نشوءاً واكتمالا وهرماً وفناء؛ أما من حيث الطريقة العلمية التي اتبعوها فالتاريخ ابتدأ عندهم كما رأينا فرعاً من علم الحديث فكان حرياً أن يتأثر بطريقة المحدثين في جمع الرواية التاريخية ونقدها، فكان أهل السيرة والمغازي والأخبار يجمعون مأثور الروايات ويدونونها مع إسنادها إلى مصدره الأصلي وهو عادة رجل عدل له علم مباشر بالواقعة المروية كأن يكون عاينها أشترك فيها كما هي الحال في رواية أخبار السيرة والإسلام، أو أخذها من بعض مظانها ككتاب قديم ضاع، أو من بعض أهل البادية، وتلك كانت الحال في رواية أخبار الأمم القديمة والعرب قبل الإسلام. فكان النقد عندهم أو الجرح والتعديل كما يسمونه ذاتياً منصباً على الرواة، لا موضوعياً منصباً على المرويات. هذه الطريقة ضمنت لهم إلى حد بعيد صحة الأخبار المتصلة بالقسم التاريخي من السيرة وبحوادث الدولة الإسلامية، ولكنها عجزت عن أن تضمن لهم ذلك في أخبار القدماء والعرب قبل الإسلام والقسم الأول من السيرة. والحق أن هذه الموضوعات الأخيرة هي أضعف وأغمض نواحي كتب التاريخ عند العرب.
وإذا كان الإسناد عندهم أساس نقد الأخبار فقد كان أساس ضبطها هو التوقيت الدقيق بالسنين والشهور والأيام، وهو ضابط انفردوا به عن نظرائهم عند اليونان والرومان وأوروبا في العصور الوسطى قال المؤرخ الإنجليزي (بكل): إن التوقيت على هذا النحو لم يعرف في أوروبا قبل عام 1597. على أن هذا النظام ابتدأ ضعيفا عندهم، فكثير من حوادث الفتوح الأولى قد وقع في توقيته خلط شديد واختلاف كثير. ثم تكمل التوقيت على مر الزمن بتعدد طرق الخبر الواحد وبالأخذ عن المصادر الرسمية التي سبقت الإشارة إليها.
وقد اتبعوا طريقة علماء الحديث كذلك في تدريس كتب التاريخ وتلقيها عن مؤلفيها بالسند المتصل قراءة وسماعا وإجازة؛ فكتاب الأصنام مثلا تتصل سلسلة روايته عن ابن الكلبي من عام 201 إلى قريب من عام 500، ومثل ذلك يقال في مغازي الواقدي وكثير غيره من كتب التاريخ. وتلك مبالغة محمودة في المحافظة على النصوص التاريخية الهامة والكتب المعتبرة أمهات وأصولا.(196/96)
تلك طريقتهم في جميع الرواية التاريخية ونقدها وضبطها؛ أما عرضهم لها فأصحاب السيرة والمغازي والأخباريون الأوائل كانوا يجمعون الروايات ويرتبونها بحسب موضوعاتها رسائل أو كتباً تشبه أبواب الحديث؛ ثم جاء المؤرخون فسلكوا في عرض الحوادث طريقتين أولاهما وأقدمهما الترتيب على السنين، ويظهر أن أول من صنف على هذا النمط الهيثم بن عدي المتوفى عام 207، ثم اتبعها من بعده الطبري وابن مسكويه وابن الأثير وأبو الفداء، والأخرى الترتيب على العهود، وقد جرى عليها اليعقوبي والدينوري والمسعودي وغيرهم.
ويتصل بعرض الحوادث أسلوب أدائها وتصويرها: أما الأسلوب فكان على وجه العموم سهلا غير متكلف، وأما التصوير فكان فيه وضوح وقوة وحياة كما في العقود الأولى من تاريخ الطبري وفي بعض فصول ابن مسكويه والصولي.
ويمكن تلخيص أوجه النقص في طريقتهم في أمور ثلاثة: ضعف ملكة النقد عندهم بوجه عام، وإدارتهم التاريخ على الأفراد والحروب والسياسة في أبسط صورها، وعدم عنايتهم بالشئون العامة للجماعات أو بتعليل الحوادث والنفاذ إلى أسرارها
على أنه مهما قيل في نقص طريقتهم من الناحية العلمية فحسبهم أنهم خلفوا للمؤرخ الحديث ثروة تاريخية طائلة يستطيع أن يتدارك في صياغتها ما فاتهم. وإن العالم الحديث يسجل لهم أنهم أول من حاول ضبط الحوادث بالأستاذ والتوقيت الكامل. وانهم مدوا حدود البحث التاريخي ونوعوا التأليف فيه وأكثروه إلى درجة لم يلحق بهم فيها من تقدمهم أو عاصرهم من مؤرخي الأمم الأخرى، وأنهم أول من كتب في فلسفة التاريخ والاجتماع وتأريخ التاريخ، وأنهم حرصوا على العمل جهد طاقتهم بأول واجب المؤرخ وآخره، وهو الصدق في القول والنزاهة في الحكم
عبد الحميد العبادي(196/97)
التصوف الفلسفي في الإسلام
للدكتور أبو العلا عفيفي
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
سأعرض في هذا البحث للتصوف الفلسفي من ناحية نشأته والعناصر التي دخلت في تكوينه لا من حيث مسائله ولا نظرياته، وإن كنت سأشير إلى بعض هذه النظريات إشارة سريعة مجملة
ونشأة التصوف الفلسفي في الإسلام متصلة بنشأة التصوف نفسه من جهة، وبنشأة الزهد الذي تقدم التصوف الفلسفي منه وغير الفلسفي
وربما خلط بعض الناس بين التصوف والتصوف الفلسفي من جهة، وبين التصوف والزهد من جهة أخرى؛ أو فهم الثلاثة أنها من المترادفات، وليس هذا بنادر الوقوع. أما الزهد فهو الناحية العملية من الطريق الصوفي؛ أو هو الحياة التي يحياها الصوفي، تلك الحياة البادية في مظهره الخارجي من تقشف في المأكل والمشرب واعتزال للناس وانقطاع إلى الله، والبادية في حياته الباطنة الروحية من خشية من الله وورع وتقوى وعبادة وصوم وصلاة وذكر وتهجد وهجر للدنيا وزخرفها. وأما التصوف فأصدق وصف له أنه طريق لتصفية النفس ومجاهدتها ورياضتها والانتقال بها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام والترقي بها في خطوات بطيئة عسيرة حتى يصل بها صاحبها إلى المقام الذي يطلق عليه الصوفية اسم مقام الشهود أو الوجد أو الفناء - وهو المقام الذي يدرك فيه الصوفي - وفي هذه الحال لا فرق بين صوفي مسلم وصوفي مسيحي أو يهودي أو بوذي - يدرك من الحقائق ما لا سبيل للعقل الإنساني أن يدركه، ويتذوق من المعاني ما يكل اللسان الإنساني عن شرحه
وأما التصوف الفلسفي فهو الأساس الميتافيزيقي أو النظريات الفلسفية التي يحاول بها الصوفيون في وقت صحوهم تفسير أو تعليل ما يجدونه في وقت سكرتهم أو في حالة وجدهم
وقد وجدت هذه الأنواع الثلاثة في الإسلام وظهرت فيه ظهورا تاريخيا متواليا بحيث يمكن اعتبار كل منها دورا من أدوار التصوف هو بمثابة المقدمة المنطقية للدور الذي يليه، فظهر الزهد في القرنين الأولين من الهجرة، وظهر التصوف في القرن الثالث، وظهر(196/98)
التصوف الإسلامي في القرن الرابع وما بعده، ولم يأت القرن السادس والسابع حتى بلغ التصوف الفلسفي أقصى حده في النضوج ثم ضعف شأنه بعد ذلك تدريجياً
أما الزهد فقد ظهر في الإسلام قويا فتيا بمجرد ظهور الإسلام تقريبا؛ ذلك أن الإسلام دين ورحمة وزهد وتقوى؛ وليس دين دنيا وشهوات ولذات كما يصفه بذلك أعداؤه الذين يحاولون تعليل نشأة الزهد في الإسلام بأنها راجعة إلى عوامل كلها خارجة عن الإسلام، ويخصون بالذكر من بين هذه العوامل المسيحية والرهبنة المسيحية التي كانت منتشرة في صحراء العرب وبلاد الشام ومصر وغيرها من البلاد الإسلامية
نعم لم يدع الإسلام إلى الرهبنة، بل هو صريح في إنكارها في القرآن والحديث، ولكنه دعا إلى العبادة والورع والتقوى والتهجد وقيام الليل والصوم والصلاة
نعم لم يذكر القرآن كلمة زهد ولا مادة الزهد إلا في آية واحدة في سورة يوسف في قوله تعالى (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) ولم يذكرها هنا على سبيل المدح ولا بالمعنى الذي نتكلم عنه، ولكنه وإن لم يذكر (الزاهد) فقد ذكر العابدين والسائحين والقانتين والمخبتين والركع السجود، وكل هذه من صفات الزاهدين
وإذا كان الزهد طريقة للتقرب إلى الله ومناجاته وذكره فقد وصف القرآن الله بأنه رحيم، وبأنه ودود، وبأنه قريب من عبده، بل إنه أقرب إليه من حبل الوريد، وبأنه سميع مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه
فلا حجة للقائلين بان فكرة الحب الإلهي قد دخلت إلى الزهد الإسلامي عن طريق المسيحية لأن الإسلام قد قضى على كل أمل في الاتصال الروحي بين العبد وربه يوصفه الله بأنه جبار متكبر منتقم الخ
ظهر الزهد في الإسلام إذن داعيا إليه الإسلام كما قلنا وداعيا إليه ظروف أخرى هي الظروف السياسية القاسية التي عاش فيها المسلمون في عهد الخلفاء وعهد بني أمية - فقد كان هذا العصر عصر حروب وفتن مستمرة وقلاقل واضطرابات - وفيه دخلت النظريات السياسية إلى العقائد الدينية، وتدخل الحكام في آراء الناس الدينية ومعتقداتهم، فاضطهدت الحرية وكبت التفكير الحر: فشعر من لم يميلوا إلى اعتزال الناس بضرورة العزلة وزهدوا في الدنيا وزخرفها وفي الحكومة والحكام(196/99)
أما الرهبنة المسيحية فقد كان لها أيضاً أثرها في الزهد الإسلامي لا من حيث أنها كانت السبب في وجوده، بل من ناحية أنه تسرب إلى طريقة المسلمين في الزهد كثير من تقاليد الرهبان المسيحيين وعاداتهم وطقوسهم
بل إن القرن الثاني لم يكد ينتهي حتى انتظمت حركة الزهد الإسلامي داخل أديرة وصوامع أشبه بأديرة وصوامع المسيحيين: فأسست خانقاه في دمشق سنة 150هـ وأخرى بخراسان سنة 200. ويقول عبد الرحمن جامي في كتابه نفحات الأنس أن أول خانقاه أسست في الإسلام كانت بالرملة بفلسطين أسسها في القرن الثاني راهب مسيحي - وإن كان المقريزي يقول في الخطط إن الأديرة لم تظهر في الإسلام إلا في القرن الخامس الهجري - ولعله يقصد بذلك انتشار الأديرة في البلاد الإسلامية لا مجرد وجود بعضها
وقد امتاز الزهد في القرنين الأول والثاني - ولاسيما القرن الثاني بصدق الورع والتقوى وسلامة الإيمان والخشية الشديدة من الله ومن عذاب جهنم، والأمل الشديد في الحظوة برؤية الله في الدار الآخرة، وكثرة المناجاة والكلام في الحب الإلهي
وقد تغلغل الزهد في نفوس المسلمين العامة والخاصة على السواء، وظهر منهم في القرن الثاني أمثال الحسن البصري المتوفى سنة 110 وهو المؤسس لفرقة الصوفية بالبصرة، وإبراهيم بن أدهم البلخي المتوفى سنة 161، وداود بن نصير المتوفى سنة 165، والفضيل ابن عياض المتوفى سنة 186، ومن النساء رابعة العدوية التي توفيت سنة 135
وكانت رابعة آية من آيات الله في الزهد: زهدت أولا في الحياة الدنيا وزخرفها طمعا في الآخرة وجنتها، ثم زهدت في الجنة طمعا في الفوز بمحبة الله ورضاه
وقد حل الحب الإلهي من قلبها كل مكان فأصبحت لا تناجي سوى الله ولا تتحدث إلا إليه؛ وفي هذا يحكي شهاب الدين السهروردي في عوارف المعارف أنها كانت تقول:
إني جعلتك في الفؤاد مؤانسي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد جليسي
ويقول القشيري عنها إنها كانت تقول في مناجاتها (إلهي! تحرق بالنار قلبا يحبك؟) فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل ذلك؛ فلا تظني بنا ظن السوء
أما القرن الثالث فدور انتقال من الزهد إلى التصوف بمعناه الحقيقي. والواقع أن هذا الدور(196/100)
كان أقرب إلى الزهد منه إلى التصوف. في هذا القرن نجد كلمة (صوفي) شائعة الاستعمال ولم يكثر استعمالها قبل نهاية القرن الثاني خلافا لما ذهب إليه القشيري، فلم يفرق الناس بين زاهد وصوفي لأنه لم يوجد من الزهاد من ينطبق عليه وصف صوفي بالمعنى الدقيق. أما في القرن الثالث فحصل التمييز بينهما فسمى الزاهد زاهدا وسمى الصوفي صوفيا أحيانا وعارفا أحيانا
بل إننا نجد في هذا القرن تحولا في وجهة نظر الزهاد أنفسهم، فإنهم لم يعودوا ينظرون إلى الزهد باعتباره غاية في نفسه، بل نظروا إليه باعتباره وسيلة لتحقيق غاية أخرى هي الكشف: أي أنهم اعتبروا الزهد مرحلة من مراحل الطريق بواسطتها يصل السالك أو المريد إلى تصفية النفس والترقي بها في معارج الحياة الروحية إلى أن يصل بها إلى حالة الفناء التي تنكشف له فيها الحقائق الألهية، فتنعكس هذه الحقائق على مرآة قلبه كما تنعكس صور المرئيات على صفحة المرآة الصقيله المجلوة
وفي هذا القرن أيضاً نجد القوم يكثرون من الكلام في المواجد والأذواق، ويصفون الأحوال والمقامات، ويتكلمون في الصحو والسكر والمحو في الوحدة والسكرة والتفريد والتجريد والفناء والبقاء وغير ذلك من أحوالهم الصوفية
يعرف معروف الكرخي المتوفى سنة 200 التصوف بأنه الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الناس؛ يريد أنه إدراك الحقائق الإلهية بواسطة الكشف والزهد في الدنيا. وهذا تعريف جديد للتصوف لم نسمع به من قبل
ونغمة أخرى جديدة نسمعها من ذي النون المصري الذي كان أول من تكلم في المعرفة الحاصلة بالكشف واعتبرها المقياس الحقيقي لحياة الرجل الصوفي، يقول: إنه بمقدار ما يعرف الصوفي من ربه يكون إنكاره لنفسه. وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات، وهي الحالة التي عبر عنها غيره بالفناء
وفي هذا المعنى يقول الحسن بن علي بن يزدينار: (يكون العارف بمشهد من الحق إذا بدا الشاهد، وفني الشواهد، وذهب الحواس، واضمحل الإحساس) وهو قول ينسبه بعض الصوفية للشبلي، ونغمة ثالثة نسمعها من أبي يزيد البسطامي (المتوفى سنة 261) في الحال التي يعبر عنها القوم بالفناء: يقول أبو يزيد وقد سئل عن العارف (أي الصوفي):(196/101)
(للخلق أحوال ولا حال للعارف، لأنه محيت آثاره ورسومه، وفنيت هويته (أي شخصيته) لهوية غيره، وعييت آثاره لآثار غيره؛ فالعارف خير والزاهد سيار) وفي هذه إشارة صريحة إلى التفرقة بين الزاهد والعارف أو الصوفي
في أثناء هذا القرن كان التصوف الفلسفي في دور التكوين؛ فقد توفرت العوامل على ظهوره، وتهيأت النفوس لقبوله، وظهرت بوادره بالفعل في عبارات بعض الصوفية أمثال ذي النون المصري وأبي يزيد البسطامي. ولكن من المغالاة أن نقول إن لأحد من متصوفة القرن الثالث مذهبا فلسفيا خاصا أو عقيدة فلسفية صوفية معينة، على الرغم من أن كثير من أقوالهم يمكن تأويلها تأويلا فلسفيا
ولكن سرعان ما انتهى عصر الانتقال وبدأ التصوف يدخل في دوره الثالث وهو الدور الفلسفي الحقيقي؛ وكان ذلك في القرن الرابع وما بعده، فقد تحول التصوف إلى شكل جديد بدخول النظريات الفلسفية فيه. وربما كان أول السابقين إلى هذا الميدان الحسين بن منصور الحلاج المتوفى سنة 309هـ
لم يقف الصوفية بعد القرن الثالث عند حد الكشف والشعور بالمواجد والأذواق في أحوالهم الصوفية، بل حاولوا أن يفسروا ما يدركون ويؤولوا ما يشعرون به، ويعللوا لما يتذوقونه من تلك المعاني التي هي فوق طور العقل، فكانت نتيجة شرحهم وتفسيرهم وتعليلهم أن وضعوا نظرياتهم الفلسفية. عرفوا الكشف في أحوالهم فحاولوا أن يضعوا نظرية للكشف في صحوهم: أدركوا وحدة الوجود في حالة فنائهم فحاولوا تفسير وحدة الوجود. أدركوا الوحدة في الكشف والتعدد في الصحو فدعاهم ذلك إلى تفسير معنى الوحدة والكثرة، ومعنى الحق والخلق ومعنى الفيض والاتصال، والجمع والتفرقة وغير ذلك
فمجموعة تفسيراتهم لمظاهر الحياة الصوفية هي الذي نعنيه بفلسفتهم التي يمكننا أن نلخصها في ثلاث نظريات: نظريتهم في طبيعة الوجود، نظريتهم في المعرفة، نظريتهم في الإنسان ومركزه في العالم وموقفه من الله
على أن من الصوفية من رجال العصر المتأخر أمثال محي الدين بن عدي، وشهاب الدين عمر السهروردي المقتول، من سلك مسلك الفلاسفة من بادئ الأمر، فكانت لهم وجهات نظر فلسفية خاصة في طبيعة الوجود وفي الإنسان والعالم، فاستعملوا المنهج النظري(196/102)
الفلسفي وأساليب الفلاسفة واصطلاحاتهم واستدلالاتهم، ثم نظروا إلى التصوف باعتباره مرحلة متممة لمذهبهم، كما نظر الصوفية إلى الزهد باعتباره مرحلة متممة لطريقتهم
والفرق بين هذا النوع من الصوفية والنوع الأول أن الأولين أمثال الحلاج يضعون نظرياتهم الفلسفية في عرض تأويلهم وتفسيرهم لما يشاهدونه في أحوالهم ومواجدهم؛ أما الآخرون فيلجئون للكشف والذوق توكيدا وتحقيقا للنتائج التي يصلون إليها بالنظر العقلي
وهذه الطريقة ممثلة تمام التمثيل في كتب ابن العربي بوجه خاص، فإنه بعد أن يبحث المسائل الفلسفية بحثاً عميقا ويناقشها من جميع وجوهها يحس كأن العقل غير كاف في الوصول إلى درجة اليقين فيها، فيحيل القارئ إلى الكشف والذوق، أو يخبره بأنه هو نفسه قد أدرك حقيقتها كشفا أو ذوقا
صار التصوف الفلسفي بعد ذلك سيراً حثيثا بخطوات واسعة فسيحة وظهرت فيه المذاهب الفلسفية الكاملة، بل والمدارس الفلسفية، وألفت فيه المؤلفات أمثال الأحياء والمشكاة للغزالي والنصوص والفتوحات لابن العربي وحكمة الإشراق للسهروردي والإنسان الكامل لعبد الكريم الجبلي
أما العوامل التي ساعدت على ظهور التصوف الفلسفي فكثيرة متعددة، فقد كانت البيئة التي يعيش فيها متصوفة القرن الثالث وما بعده مزيجا غريبا من الأمم المختلفة والثقافات المختلفة والديانات المختلفة والفلسفات المختلفة، بل كان الجو الذي يتنفس فيه المسلمون خليطا من هذه العناصر كلها: فلا عجب إذن أن يأتي التصوف الفلسفي في الإسلام ممثل لكل مذهب من المذاهب، حاويا لكل بدعة إسلامية وغير إسلامية، فإن فلسفة التصوف الإسلامي ليست مذهبا واحداً ولا عقيدة واحدة، بل مجموعة من المذاهب بعضها يتفق مع روح الإسلام وبعضها يتعارض مع التعاليم الإسلامية معارضة صريحة
واهم هذه العناصر التي دخلت في التصوف الفلسفي ومنها تركب هي:
أولا - التصوف نفسه بكل ما فيه من وصف للحياة الروحية، وكلام في المقامات والأحوال، وذكر للمواجد والأذواق، وتعبيرات عن خاطر النفس ومحاسبتها ومراقبتها
ثانيا - القرآن والحديث: فإن الصوفية قد اتخذوا كثيراً من الآيات القرآنية أساسا لنظرياتهم فأولوها تأويلات تتفق وروح هذه النظريات، وذلك مثل قوله تعالى: كل شيء هالك إلا(196/103)
وجهه. وقوله: كل من عليها فان، وقوله: الله نور السموات والأرض الخ فقد أولوا الوجه في الآيتين الأوليين على أنه الذات الإلهية الأزلية المقومة لكل موجود؛ وأولوا الهالك والفاني على أنه مظاهر الوجود أو الوجود المتكثر: أما النور ففسره تفسيراً زرادشتيا على أنه الوجود الحقيقي وضده الظلمة التي هي العدم المحض. أما الأحاديث التي يستشهد به الصوفية فأكثرها مدخول على النبي منتحل
ثالثاً - علم الكلام: فقد وصل علم الكلام في إبان ظهور التصوف الفلسفي في الإسلام أقصى حده في النضوج الفلسفي، وتسرب الكثير من نظرياته إلى نظريات الصوفية
والمعروف أن عدداً كبيراً من رجال الصوفية في القرن الثالث كانوا من كبار المتكلمين أيضاً أمثال أبو القاسم الجنيدي والحارث المحاسبي وغيرهما
والناظر في كتب التصوف أمثال اللمع للسراج والتعرف للكلاباذي والرسالة للقشيري وغيرها يعرف مدى علم الصوفية بمسائل الكلام ومدة مزجهم لها بنظرياتهم. وتكفي الإشارة هنا إلى عقيدة وحدة الوجود التي هي أخص مظهر للتصوف الفلسفي الإسلامي، فإنها فيما أعتقد راجعة في اصل نشأتها إلى تفكير إسلامي كلامي صوفي؛ وليست كما يقول بعض المستشرقين راجعة إلى الفلسفة الأفلاطونية الجديدة أو الفلسفة الهندية؛ فقد بدأ الصوفية يبحثون في عقيدة التوحيد بحثا كلاميا فوقعوا من حيث لا يعلمون في عقيدة وحدة الوجود. بدءوا يبحث الوحدانية فقالوا: الله واحد بمعنى أنه لا شريك له، فنفوا الشريك والند والضد والمثل. وقالوا أهم صفة للإله الواحد وجوب الواجد. ثم بحثوا في واجب الوجود فقالوا الله واجب الوجود بمعنى أن وجوده من ذاته، وغيره ممكن الوجود أي وجوده من غيره، ولكنهم زادوا على ذلك بقولهم إنه واجب الوجود بمعنى أن وجوده هو الوجود الحقيقي وكل ما عداه فوجوده ظاهري أو وهمي. ثم توسعوا في معنى وجوب الوجود فقالوا إن واجب الوجود هو الفاعل لكل شيء والعلة في وجود كل شيء - فانتهوا من بحثهم بنتيجتين:
الأولى: نفى للعلل كلها والقول بأن لا فاعل على الحقيقة إلا الله
والثانية: نفى الوجود المتكثر الظاهر في الكون والقول بأنه وجود زائل متغير - وأن المقوم لكل موجود والحقيقي في كل موجود هو الحق أو الله(196/104)
وهكذا بدءوا بقولهم: لا إله إلا الله، وانتهوا بقولهم: لا موجود على الحقيقة إلا الله. ثم وجدوا - أو خيل إليهم أنهم وجدوا - ما يعزز دعواهم هذه في الحالة الصوفية التي يعبرون عنها بالفناء وهي الحالة التي يشعر فيها الصوفي بالوحدة المطلقة فلا يدرك فيها فرقا بين حق وخلق - وهي الحالة التي صاح فيها الحلاج بقوله: أنا الحق!
وقد سمى الصوفية عقيدة التوحيد بتوحيد العوام، وعقيدة وحدة الوحدة بتوحيد الخواص، وأوردوا لكل منهما تعريفا خاصا
يقول الجنيد في تعريف توحيد العوام إنه إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته. ويقول في تعريف الخواص إنه الخروج من ضيق الرسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية يعني بذلك الفناء
رابعا - الفلسفة الأفلاطونية الجديدة - لاسيما الأفلاطونية الجديدة المتأخرة التي ظهرت في كتابات برفلس ويبميليخوس والكاتب الأفلاطوني المسمى خطأ ديو تسبوس الازيوباغني.
ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا تكاد مسألة من مسائل التصوف الإسلامي الفلسفي أو نظرية من نظرياته تخلو من أثر للفلسفة الأفلاطونية الجديدة: فنظريات الصوفية في خلق العالم والفيض أو الصدور عن الواحد الحق، وكلامهم في النفس والعقل والقلب والكشف والمعرفة والشهود، وفي العالم العلوي والعالم المحسوس وفي الإنسان الكامل، كلها مطبوعة بطابع هذه الفلسفة ومستند إليها
خامسا - المسيحية ولا نعني بالمسيحية الديانة المسيحية وعقائدها، بل الحياة المسيحية كما حييها المسيحيون في البلاد التي انتشر فيها الإسلام ممثلة في حياة الرهبان والمتصوفين؛ ولم يأخذ الصوفية عن المسيحيين بعض أساليبهم في الزهد ومظاهر التقشف ولباس الصوف الذي منه اشتق اسمهم فحسب، بل أخذوا عنه بعض نظرياتهم في طبيعة المسيح وفي التثليث: فقال بعضهم بالحلول، مثل الحسين بن منصور الحلاج الذي قتل بسبب هذه العقيدة سنة 309. ومن أبياته في الحلول قوله:
سبحان من أظهر ناسوته ... سرَّ سناً لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهراً ... في صورة الأكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب
وقال بعضهم صراحة بالتثليث، وأن التثليث أساس يقوم عليه أمر الخلق كله، ولكنه تثليث(196/105)
اعتباري قائم بالفردية الإلهية. وبهذا المعنى يجهر ابن عربي في غير مبالاة في قوله:
تثلَّثَ محبوبي وقد كان واحداً ... كما صير الأقنام بالذات أقنما
وليست نظرية الصوفية فيما يسمونه النور المحمدي (أو الحقيقة المحمدية) الذي يقولون إنه كان في القدم قبل أن يخلق الله العالم، وأنه بواسطته ومن أجله خلق الله العالم، سوى صورة من صور النظرية المسيحية في المسيح الذي يطلقون عليه اسم (الكلمة) ويقولون أنها كانت في الأزل مع الله، وأنه بواسطتها ومن أجلها خلق الله العالم
سادسا - الفلسفة الهندية التي دخلت الإسلام عن طريق فارس وما وراء النهرين وما جاورهما من حدود الهند، فإن المسلمين لم يفتحوا الهند إلا في القرن الرابع الهجري (في زمن السلطان محمود الغزنوي المتوفى سنة 421)، ولكن الفلسفة الهندية البوذية والتصوف الهندي قد شقا طريقهما إلى بلاد الفرس وما جاورها بل الفتح الإسلامي بنحو ألف سنة، وقد كان كثير من بلاد هذه الناحية مراكز مشهورة بالتصوف غاصة بالإدارة الوثنية القديمة: نخص بالذكر منها مدينة بلخ
ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أن كثيرا من أوائل الصوفية في الإسلام قد جاءوا من بلخ هذه وما جاورها، وبواسطتهم دخل في التصوف الإسلامي كثير من النظريات الهندية والتقاليد البوذية في مجاهدة النفس ورياضتها وتعذيب البدن وما إلى ذلك. من هؤلاء إبراهيم بن أدهم الذي يقول عنه الأستاذ جولدزيهر إن قصته قد حيكت على مثال قصة بوذا من أنه كان من بيت من بيوت الملك فزهد في الملك والدنيا بأسرها وعاش من عمل يده؛ ومثل أبي يزيد البسطامي الذي كان من أصل فارسي زرادشتي تلقى عقيدة الفناء عن أبي علي السندي، كما تلقى عنه الطريقة الهندية المعروفة بمراقبة الأنفاس؟ والفناء الذي يتكلم عنه أبو يزيد والذي شاع بعده في كلام الصوفية جميعهم هو ما يسميه الهنود (زفانا) أي انمحاء الشخصية الفردية والشعور بالوحدة العامة للوجود. ومما يدل على أن عقيدة الفناء هندية الأصل أنها ظهر أول ما ظهرت في كلام الصوفية من الفرس أمثال أبي يزيد البسطامي، وليس لها وجود في عبارات أهل مصر والشام أمثال ذي النون المصري مع أن ذا النون كان من معاصري أبي يزيد
كل هذه العناصر وعناصر أخرى ثانوية الأهمية دخلت التصوف الإسلامي فغيرت من(196/106)
عادته وصورته، وعنها جميعها ظهرت ناحية من نواحي الحياة العقلية الروحية في الإسلام على جانب كبير من الأهمية، لأنها مرآة نرى فيها النشاط العقلي والروحي على السواء، كما نرى فيها وصفا دقيقا لأحوال النفس الصوفية في أرقى درجات صفاتها، ومحاولات فلسفية أراد بها أصحابها وضع نظريات في طبيعة الوجود أو طبيعة المعرفة أو طبيعة الإنسان ومركزه من الله والعالم
ولم يقف الصوفية، كما لم يقف فلاسفة الإسلام من هذه المصادر كلها موقف سلبيا، أي لم يكونوا مجرد نقلة أو مرددين لأقوال غيرهم ترديد الصدى للصوت، بل مزجوا كل هذه العناصر المختلفة المتباينة مزجا ربما لم يعهده تاريخ الفلسفة ولا تاريخ التصوف في أي أمة أخرى، وخرجوا بعد كل ذلك بمذاهب في التصوف الفلسفي كان لها أثرها ولها خطرها في تطور الفلسفة والتصوف في القرون الوسطى والحديثة، لاسيما بعد أن بلغ التصوف الذروة الفلسفية في مذاهب أمثال محي الدين بن عربي، وشهاب الدين عمر السهروردي المقتول، وعبد الحق بن سبعين الأندلسي، وعبد الكريم الجيلي، والصدر القونوي، وجلال الدين الرومي، وعبد الرحمن جامي وغيرهم
من هذا يتبين أن كل نظرية في نشأة التصوف الإسلامي قائمة على فكرة إرجاعه إلى أصل واحد مقضي عليها بالفشل. إذ قد رأيت النواحي العديدة الإسلامية وغير الإسلامية التي استمد منها التصوف مادته.
ولكن بعض المستشرقين إن لم يكن أكثرهم لم يروا حرجا في القول بأن التصوف الإسلامي قائم على أصل واحد أو مستمد من جهة واحد: فذهب الأستاذ فون كريمر ودُوزي إلى أن أصل التصوف الإسلامي هندي أساسه مذهب الغيدانتا؛ وذهب الأستاذ (مركس) إلى أن أصله الفلسفة الأفلاطونية الجديدة؛ وقال الأستاذ برون إنه فارسي في جوهره وإنه نتيجة لرد فعل أحدثه ثوران العقل الآدمي ضد الدين الإسلامي الفاتح. وربما كان الأستاذ نيكلسون أكثر اعتدالا وأوسع نظرا من هؤلاء جميعاً، إذ يعترف أن التصوف الإسلامي ظاهرة معقدة غاية في التعقيد، وأن أصوله متشبعة كثيرة لم يكشف البحث الحديث إلا عن بعضها فقط
والحق أن كل نظرية من هذه النظريات إنما تعبر عن جزء من الحقيقة لا الحقيقة برمتها، وأن الذي دعا هؤلاء المستشرقين إليها قصرهم النظر على ناحية خاصة من التصوف دون(196/107)
النواحي الأخرى وملاحظتهم لبعض جهات الشبه بين التصوف الإسلامي والأحوال التي قالوا إنه مستمد منها ناسين أو متناسين الثقافة الإسلامية والعقلية الإسلامية التي هضمت كل ما وصل إليها من عناصر الفلسفة والتصوف الأخرى، واستخلصت لنفسها فلسفة وتصوفا جديرين بالبقاء وجديرين بأن يطلق عليهما اسم الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي
أبو العلا عفيفي(196/108)
صديق من صنوف الأعداء
للأستاذ أمين الخولي
- 1 -
مرت القرون تترى، والغرب يرمي الشرق بأفلاذ أكباده، ويرصد لكيده أنفس عتاده، ويهيج لقتله غطاريف أجناده، والشرق صامد باسل، صابر على هذا البلاء النازل. . . يا عجبا! هما يتنازعان قبرا، وإن يكن لسيد الحواريين، وكلاهما يؤمن أنه مرفوع، وفي السماء قار. ليس في الأرض مرقده، ولا بين أطباق الثرى جسده. ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض. حكمة الله وسنة الاجتماع، لتتصل الأسباب، وتتم النواميس، وتنمو الحضارات، وتتواصل المدنيات
في القرن الثالث عشر الميلادي، وهذا الأتون لما يخمد، يؤجج الحقد أواره، ويؤرث البغض ناره، كانت تتدانى قلوب بهذا التباعد، وتتعارف نفوس بالتقاطع السائد، ويأبى الله إلا أن يكون هذا الكون خيراً شيب بشر، وشراً حمل خيراً، وأن تكون الحرب ناراً ونوراً
- 2 -
كان جرمانياً صليبة، أوربياً محضاً، غربياً صرفاً؛ البابا وصيه وهو صغير، والبابا مدبره وهو كبير؛ نشأ في حضن المسيحية، وغذاه حب الكنسية الكاثوليكية، وبورك به طفلا، وفتى وزوجا وأباً، كما توج بها ملكا وأيد منها، فبسط يده أمام المذبح يقسم أن يسير إلى الشرق غازياً، ويخلص قبر المسيح فادياً، ويعز النصرانية في شرقها والغرب: ذلكم فردريك الثاني هو هنشتاوفن، إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، وملك صقلية - 1212 - 1250م -
- 3 -
لكن الشرق الساحر، بسناه الباهر، ومجده الزاخر، وعقله القاهر، وفنه الفاخر، قد فتن الأنبرور على غربيته؛ واستهواه في أوربيته، وأصباه على جرمانيته، فإذا العاهل شرقي في هواه وميله، شرقي في علمه وفنه، شرقي في مزاجه وذوقه، شرقي في خاصته وجنده؛ وإذا هو لا يبر للكنيسة بقسم، ولا يفي بموعد،. . ثم إذا هو حرب على صاحب مفاتيح(196/109)
الجنة، ينتهك حرمته، ويحقر قداسته؛ يرفع على رأسه سيفه، بدل أن يحني أمامه رأسه. وإنها لمفارقة سجلها التاريخ دهشا
- 4 -
كان ذوقه شرقيا، في جده ولعبه، في قصره وحاشيته، في مركبه وسلاحه؛ يدبر ذلك من أمره أتباع شرقيون مسلمون، قد حكى في ذلك ما عرف الشرق من قصور الخلفاء، حتى ما أفرد من مقاصير النساء أنس إلى الفن الشرقي صامته وناطقه؛ تجري حياته على أنماط وعادات شرقية تحرسه أجناد من بني الشرق المسلمين يجيد العربية فيما يعرف من لغات حتى يتكلمها ويدرس بها وكم وراء ذلك من مظاهر فنية، وولع شرقي ليس أقل من هذا شانا ولا أيسر خطراً
كان عقله شرقيا، آثر الثقافة العربية على الثقافة اليونانية وعمل على اكتساب غربه من ذلك ما يصل إليه جهده، فمنح التفكير العملي لعصره اتجاها جديداً؛ وكان أقوى وأقدر من عرف الغرب في حركة نقل المعارف عن الشرق في تلك الأعصر؛ وفي كنفه نشط مترجمون من أنحاء أوربا المختلفة، لنقل ما حفظ الإسلام من تراث الإنسانية، وذخر المدنية
ونسى أو تناسى ما بين الشرق والغرب إذ ذاك، من حروب مشبوبة، وعداوة مذكاة، فراسل ملوكه في الود، وفي العلم، يسألهم فتاوى الرياضة، وفنون الحكمة، سواء في ذلك دانى الشرق منه، وقاصيه عنه؛ فكتب إلى علماء سبتة يسألهم في شئون فلسفية، رد عليه فيها ابن سبعين أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم الاشبيلي، كما كتب إلى الملك الكامل بمصر في مسائل مشكلة من الهندسة والحكمة والرياضة، ورد عليه الشيخ علم الدين قيصر الحنفي وغيره من علماء مصر: التي كانت تتلقى هجمات الغرب، وتلقنه أصول الحياة في وقت واحد
- 6 -
كان شرقي الوجدان، غمره فيض الشرق الروحي، ونزوعه الصوفي فلم يأسره تلقينه، ولم يعقله تعميده؛ بل كان وراء ذلك كله: دخل بيت المقدس - حفظا لناموسه - برضا الملك(196/110)
الكامل صلحا فجامله المسلمون بمنع الأذان، وإذا هو يقول: والله كان غرضي في المبيت بالقدس أن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل. وإذا المسلمون يحسون تسامحه، فيقول مؤرخهم: إنه كانت دهريا، وإنما يتلاعب بالنصرانية. وحقا قد عرفت منه الكنيسة أشد ما عرفت في تاريخها من ثورة ونضال
- 7 -
تلك شخصية خليقة بالدرس الفلسفي والتاريخي، رجل أنقذ العقل إذ الجهل حالك، والظلام قاتم؛ وحرر الوجدان إذ العصبية طاغية باغية؛ وعرف الإسلام وتحبب إليه إذ أنكره الغرب وقاتله جاهداً جاهلا، وأخلص له الصداقة حتى لقبه قومه (السلطان المعمد).
إلا أنه فضل الشرق ومثله لا يجحد، وأنه مجد الشرق ومثله يعشق، وأنه عرف الشرق ومثله لا يجهل
- 8 -
أيها الشبان: تلك فتنة الشرق، فهل فقدها فيكم؟؟
أيها الشبان: تلك روحانية الشرق، فهل خسرها بكم؟؟
أيها الشبان: تلك قوة الشرق، فهل أضلها عندكم؟؟
ألا أجيبوا داعي الزمن المثوب!
أمين الخولي(196/111)
الجيش والبحرية
في العصر العباسي الأول
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
استمد العباسيون قوتهم من الجيش الذي نما نمواً عظيما على أثر دخول الكثيرين في الإسلام وانضوائهم تحت لوائه، وقد بلغ عدده في عهد الخلفاء العباسيين الأوائل مئات الألوف من الجند، ووصل هذا العدد في العراق وحدها إلى 125. 000 جندي. وكان هؤلاء الجند يكونون الجيش النظامي للدولة تدفع لهم رواتبهم بانتظام. ومن ثم قلت أرزاقهم تبعا لزيادة عددهم. ولما بلغت قوة العباسيين أشدها في بغداد، أصبح الجندي يتقاضى راتباً شهريا قدره عشرون درهما (وكان الدرهم يساوي أربعة قروش تقريبا)، وكانت هناك مع الجنود النظاميين طائفة أخرى من الجند المتطوعة من البدو، وطبقة الزراع وسكان المدن الذين اشتركوا في الحروب مدفوعين بعوامل دينية أو مادية
وكان تقسيم الجند تابعاً لجنسية أفراده: فمنهم الحربية وهم الفرسان الذين كانوا يتسلحون بالرماح؛ وهؤلاء من جند العرب. والمشاة وكانوا من الفرس ولاسيما الخراسانيين (وكان من سياسية الخلفاء أن يحكموا عرب الشمال والجنوب بتركهم يحارب بعضهم بعضا)؛ حتى إذا ما انقضى العصر العباسي الأول دخل في الجيوش العباسية عنصر جديد ما لبث أن غدا له النفوذ، وأصبح أشد خطراً من الخراسانيين، وهو عنصر الأتراك الذين كانوا يكونون القسم الرابع من الجيش العباسي. وما انفكت جموع هؤلاء الأتراك تتدفق سنة بعد سنة على أسواق بغداد حتى استطاعوا أن يصلوا من هذه الأسواق إلى بلاط الخلفاء ثم إلى جيش الخليفة أخيراً؛ وقد خصهم الخليفة برعايته أملا في أن يكونوا بذلك أقوى ساعد للخلافة العباسية. ومن ثم أصبحوا حراس الخلفاء، وسرعان ما أضحوا آفة على أهل بغداد الذين عانوا من جراء عنتهم وجورهم شيئاً كثيراً، وما لبث أن امتد نفوذهم إلى الخلفاء الذين غدوا تحت رحمتهم
وكان أكبر القواد المعروفين في أول عهد هذه الدولة أبو مسلم الخراساني، وكان تحت(196/112)
إمرته جند الشرق الخراسانية؛ وعبد الله ابن علي العباسي على جند المغرب، وأكثره عربي من بلاد الجزيرة والشام. فلما خرج عبد الله بن علي على المنصور وانتصر عليه أبو مسلم بجنده الخراساني كان هذا انتصاراً للفرس على العرب، ومن ثم رجحت كفة الخراسانيين في الجيش؛ بيد أن المنصور خشي شر أبي مسلم وشر جنده، فقضى عليه، ورأى عدم الاعتماد على الخراساني، لأن العصبية العربية كانت لا تزال في قوتها، فاصطنع كثيرين من العرب، وسلمهم قيادة جنده، كما استعان ببعض أهل بيته. فمن أعظمهم عيسى بن موسى الذي انتصر على محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن العلوي وأخيه إبراهيم. وقد ظهر من قواد العرب معن بن زائدة الشيباني، وكان من قواد الأمويين؛ واشتغل مع يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق وحارب معه في واسط، ولما سلم ابن هبيرة اختفى معن حتى كان يوم الهاشمية الذي ثار فيه الراوندية على المنصور، فقاتل عن الخليفة وهو ملثم، وأوقع برجال هذه الطائفة، ثم كشف للخليفة عن نفسه، فأمنه ووصله بعشرة آلاف درهم، وسماه (أسد الرجال) وولاه اليمن ثم سجستان، فبقي فيها حتى قتله الخوارج بمدينة بست سنة 151هـ. ومن قواد العرب عمر بن العلاء وهو أعظم قواد المنصور، وفيه يقول بشار بن برد:
فقل للخليفة إن جَئته ... نصيحا ولا خير في المتهم
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثم نم
فتى لا ينام على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم
وقد وجهه المنصور سنة 141هـ لإخضاع أهل طبرستان، وكانوا قد خرجوا عليه، فنازلهم ابن العلاء طويلا، وفتح بلادهم من جديد، ولم يزل ممتعا بعطف المنصور، وابنه المهدي حتى مات في خلافة المهدي
أما الآلات الحربية التي كانت تجهز بها الجنود، فلم تكن تختلف كثيراً عن الآلات البيزنطية، فكان من أسلحتهم القسي والسهام والرماح والسيوف والفؤوس الحربية (البلط)
وكانت ملابس الجند تشمل تلك الملابس القديمة الملائمة لهم والتي كانت في نفس الوقت ذات منظر يدل على ذوق سليم: خوذة، ودرع، ومنطقة، وغيان. وكانوا يعنون عناية خاصة بالسيوف التي كانوا يصنعونها بطريقة فنية، ويحلونها بالفضة. وكانت السروج(196/113)
مماثلة في شكلها للسروج الإغريقية التي هي من نوع السروج الشرقية تماماً.
وكان عرض الجيش جزءا من تدريب الجند في أوائل عهد الدولة العباسية وبخاصة في عهد المنصور الذي اهتم اهتماماً كبيراً بالمسائل الحربية. وكان يحب أن يعرض جنده وهو جالس على عرشه لابساً خوذته ودرعه، فكانت تصف الجيوش أمامه في ثلاثة أقسام: عرب الشمال (مضر)، وعرب الجنوب (اليمن) والخراسانيون. ومما ذكره المسعودي في كتابه مروج الذهب عن حصار جند المأمون بغداد نتبين وصف الآلات الحربية التي كان يستعملها العباسيون في ذلك العصر. وهاك ما ذكره المسعودي بنصه: (ونصب هرثمة بن أعين على بغداد المنجنيقات ونزل في رقة كلواذا والجزيرة، فتأذى الناس به، وصمد نحوه خلق من العيارين وأهل السجون، وكانوا يقاتلون عراة في أوساطهم السامين والميازر. وقد اتخذوا لرءوسهم دواخل من الخوص سموها الخوذ، ودرقاً من الخوص والبواري، قد قرنت وحشيت بالحصا والرمل. على كل عشرة عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير، ولكل ذي مرتبة من المركوب على مقدار ما تحت يده. فالعريف له أناس مركبهم غير ما ذكرنا من المقاتلة، وكذلك النقيب والقائد والأمير، وناس عراة قد جعل في أعناقهم الجلاجل والصوف الأحمر والأصفر، ومقاود قد اتخذت، ولجم من مكاس ومَذاب، فيأتي العريف وقد أركب واحداً وقدامه عشرة من المقاتلة، ويأتي النقيب والقائد الأمير، فتقف النظارة ينظرون إلى حربهم مع أصحاب الخيول المعدة، والجواشن والدروع والتجافيف والرماح والدرق التبتية)
ولما ولي المتوكل الخلافة، أمر كل الجنود بتغيير زيهم القديم، وألبسهم أكسية رمادية، وأمرهم ألا يجعلوا السيوف على أعناقهم، بل يضعوها في مناطقهم حول وسطهم.
ومن أي جهة بحثنا في الجيش فإننا نصادف ما يماثلها في العصر الحديث؛ من ذلك نظام الجاسوسية عند العباسيين، فقد كانوا يستخدمون في ذلك كلا الجنسين من الرجال والنساء الذين كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة متنكرين في أزياء التجار والأطباء وغيرهم، لجمع الأخبار ونقلها إلى دولتهم. ولم تكن الجاسوسية العربية أكثر نشاطا ولا أعم انتشارا في بلد من البلاد منها في الدولة البيزنطية التي كانت لا تزال تنافس الدولة العربية، والتي كان أهلها في الماضي أساتذة العرب في الفنون الحربية(196/114)
ولكي يحمي العرب أنفسهم من غارات الإغريق أقاموا الحصون على تخوم دولتهم وهي الثغور؛ وهذا ضرب من الفنون الحربية التي تدل على نشاط العرب وولعهم بالحروب ونبوغهم الذي كان غريزيا فيهم. وكان حد سورية المقابل لآسيا الصغرى مصدرا للخطر بالنسبة إلى العرب؛ وقد تحاربت القوتان المتنافستان مدة طويلة، فكانت كفة النصر ترجح مرة في جانب العرب وأخرى في جانب الإغريق. لذلك كانت هذه الثغور وهي طرسوس، وأذنة، والمصيصة، ومرعش، ومَلطِية، تقع طورا في أيدي العرب، وطورا في أيدي الروم.
ولما استولى المنصور على المدن الرومية الواقعة على حدود سورية المقابلة لأسيا الصغرى مثل طرسوس وأذنة ومرعش وملطية حصنها وأحكم بناءها من جديد وأطلق عليها اسم الثغور
ولما ولي هرون الرشيد الخلافة أنشأ ولاية جديدة سميت ولاية الثغور، جعل لها نظاما عسكريا خاصا وأقام فيها المعاقل، كما أمدها بحاميات دائمة؛ ومنح الجند علاوة على أرزاقهم أرضا قاموا بتعميرها، وزراعتها هم وأسراتهم، فازدهرت هذه الثغور على الرغم من الحروب المتواصلة، وأصبحت أحوالها في يسر ورخاء إلى أيام الواثق، ثم أخذت بعد ذلك في الأفول، وطالما كان العلماء والشعراء الذين يؤثرون الهدوء يلجئون إلى هذه الثغور والتفرغ للبحث والدرس.
وهناك ناحية أخرى تدل على قوة المسلمين في ذلك الوقت هي الأساطيل الحربية. ولم يكن العرب يعنون بالحروب البحرية في صدر الإسلام لبداوتهم وعدم ممارستهم ركوب البحر. وكان أول من ركبه أبو العلا الحضرمي والي البحرين في عهد عمر، فقد توجه لغزو بلاد الفرس في اثني عشر ألفا من المسلمين دون إذن الخليفة، وعادوا إلى البصرة محملين بالغنائم بعد أن فقدوا سفنهم التي عبروا بها إلى بلاد فارس. ولما علم بذلك عمر - وكان يكون ركوب البحر - غضب علي أبي العلاء وعزله. ولما فتحت الشام ألح معاوية على عمر في ركوب البحر كي يغزو بلاد الروم لقربها منه، فيكتب إليه يردعه عن ركوب البحر
ولما ولي عثمان الخلافة ألح عليه معاوية في غزو بلاد الروم، فأذن له على ألا يحمل(196/115)
الناس على ركوب البحر، فاستعمل على البحر عبد الله بن قيس فغزوا خمسين غزوة بين شاتية وصائفة، كما غزا عبد الله بن سعد أبي سرح والي مصر من قبل عثمان البحر، فحارب سنة 34هـ قسطنطين بن هرقل وانتصر عليه في موقعة ذات الصواري. وفي هذه السنة أيضا فتح العرب جزيرة قبرص، كما جردوا حملة لغزو البلاد البيزنطية. ومنذ ذلك الوقت أخذت الحملات البحرية تترى على تلك البلاد
ولما ولي معاوية الخلافة عني بإنشاء السفن الحربية، وفي عهده غزا عقبة بن عامر جزيرة رودس. وفي 53هـ غزا الروم البرلس في عهد ولاية مسلمة بن مخلد (47 - 62هـ)، وقتلوا عددا كبيرا من المسلمين وعلى رأسهم وردان مولى عمرو بن العاص؛ ومن ثم اهتم أمراء مصر ببناء السفن، فأنشئت لأول مرة سنة 54 هجرية دار لبنائها في جزيرة الروضة
أما أن العرب كانوا مدينين في الأصل للبيزنطيين في هذه الناحية من الفنون الحربية فهذا أمر لا سبيل إلى إنكاره؛ إلا أن العرب الذين فطروا على الشجاعة وحب المغامرة وإن تتلمذوا للبيزنطيين في تلك الناحية فترة من الزمن، فانهم قد أصبحوا أساتذة أوروبا في هذه الفنون. يدلنا على ذلك هذه الاصطلاحات البحرية المستعملة في أوربة إلى اليوم، والتي لا تزال محتفظة بعربيتها. وكان أثر العرب في شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط بوجه خاص ابعد مدى من غيرهم من شعوب أهل أوروبا. ويقول فون كريمر: (ومما يوضح لنا أن الأسطول العربي القديم كان نموذجا لأساطيل الأقطار المسيحية أن كثيراً من المصطلحات العربية البحرية لا تزال شائعة على ألسن البحارة في جنوب أوربا نذكر منها كلمة المأخوذة عن لفظ (جبل) العربي وكلمة وبالإيطالية المأخوذة عن لفظة (دار الصناعة) وكذا المأخوذة من لفظ (غراب) العربية، والمأخوذة عن لفظة (أمير البحر)
حسن إبراهيم حسن(196/116)
تبصرة وذكرى
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
ليس خيراً في الاحتفال بذكرى هجرة الرسول من الاجتهاد في إحياء سنته صلوات الله عليه عن طريق التنبيه إلى بعض الأخطار التي تحف بها في هذا العصر الذي تكالبت فيه عليها الميول والشهوات ومختلف النزاعات الناجمة في الغرب، والتي توشك إن لم يجتهد أولو الرأي والدين في صدها وإيقافها عن حدها أن تطمس من نور سنة صاحب الهجرة صلى الله عليه وسلم ونور كتاب الله نفسه، فتعمى قلوب بعد إبصار، وتنشأ ناشئة المسلمين في دياجي الشك بعد أن كان يرجى أن تنشا في نور اليقين
وأخطر تلك النزعات الناجمة والشهوات الهاجمة نزعة التشكيك في أحكام الدين من ناحية، وشهوة تأويلها إلى ما يتفق وما يسمونه روح العصر، أو بالأحرى رأي الغرب وحكمه من ناحية أخرى. وأصحاب هذه النزعة حين يذكرون روح العصر أو يدعون إلى اتباع الغرب إنما يريدون تقمص روح الغرب واتباع خطواته في الاجتماعيات، أي في الميدان الذي ما نزل الدين إلا لتنظيمه، وما جاء الرسول إلا لتقويم الحياة فيه. والغرب كما نبهنا في مثل هذا المقام من قبل لم يصب سنن الله إلا في عالم المادة أما في عالم الروح والاجتماع فالغرب لم يصب سنة ولا حكما، بل هو في حيرة من أمره: يضطرب بالنظم المتناقضة، ويعج بالآراء والنظريات، ويميد بالأهواء والشهوات، حتى أصبحت عوامل القوة والأمن التي أصابها من ناحية علومه الطبيعية، هي بذاتها عوامل الخطر والخوف فيه؛ وأصبح من مدنيته هذه المادية المسرفة المغرورة كالساكن على حرف بركان
لكن الذين يدعون إلى الغرب فتنتهم قوته المادية، وجهلوا ضعفه الاجتماعي، فظنوا أن القوة في ناحية معناها القوة في كل ناحية، وأنه لما كان على حق في طبيعياته، فهو على حق في اجتماعياته؛ فسبيل النهوض والقوة في زعمهم هو أن يدع الناس ما هم عليه، ويأخذوا بما هو عليه، لا يبالون ماذا يتركون، ولا يترددون ماذا يأخذون
لكنهم نظروا أيضاً فوجدوا أن هذا معناه الدعوة إلى ترك كثير مما أمر به الإسلام والأخذ بكثير مما نهى عنه. والإسلام مهما ضعف في نفوس أهله فقد بقيت من روحه فيهم ومحبته بينهم بقية لا تؤمن معها عواقب هذه الدعوة على الدعاة من ناحية، ولا يرجى معها من(196/117)
ناحية أخرى أن يستجيب أهله إلى ما يخالف نظمه وأحكامه التي جرى عليها المسلمون منذ قام صاحب الهجرة صلوات الله عليه فوضح للناس الدين حكما وعملا باسم الله فاطر السموات والأرض وفاطر الناس. هنالك ذهب دعاة الغرب مذاهب، وانقسموا طرائق، فيما يدعون إليه، وكيف يحملون الناس عليه
فمنهم من نظر فإذا القوة بيده، ولاه الناس إياها في ثقة به وغفلة عن نيته، فرآها فرصة سانحة قد لا يؤتيه الزمن مثلها لحمل الناس على ما يريد، وتحقيق ما كان يتمناه من زمن بعيد، فحمل قومه على غير الدين، بنفس القوة التي ائتمنوه عليها للدفاع عن الدين. واشتط حتى كان يشنق في سبيل القبعة، ويحبس ويجلد في سبيل السفور والاختلاط؛ ولم يقف حتى جرد الدولة عن الدين. وحال في أمته بين الإسلام وبين الحكم الذي هو أخص خصائصه، وحتى استبدل بأحكامه أحكام أوروبا في الميدان الذي لم تكن أوروبا لتطمع في غزوه: ميدان الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وتوريث. وشاءت رحمة الله ألا يطرد النجاح لهذا الصنف من المفتونين ممن أراد حمل الناس على سنن الغرب بالقوة رغم الدين، فكان من هؤلاء من أفلح قومه في الثورة عليه غضبا لدينهم حتى أنزلوه عن عرشه وشردوه عن بلده، فكان فيما لقيه من الهزيمة والتشريد بعض العزاء للمسلم الذي ينظر إلى ما يجري في أقطار الإسلام الأخرى من بعيد، وشبه إنذار لمن عساه أن تحدثه نفسه بسلوك نفس الطريق. فوقف الخطر من هذه الناحية وإن كان يخشى أنه لم يزل، إذ يخشى أن يكون هذا النوع من الخطر كامنا في بعض الأقطار ينتظر الفرصة ليشب كالنار
على أن مقلدة الغرب والمتحمسين له ليسوا كلهم ممن يستطيع أو يرجو أن يستطيع أن يحمل الناس على خطوات الغرب بالقوة. والذين ليس بيدهم القوة من دعاة الغرب لم يحملهم فقدان القوة على ترك السعي إلى غرضهم، بل هم دائبون ناصبون في سبيله لكنهم يكيفون وسائلهم بما يلائم الظروف. صحيح أن جميع وسائلهم يصح أن تتلخص في (بث الدعوة) لكن سبيل الدعوة معبد لهم ميسر، فإن جميع ما يراه الناس ويسمعونه في ملاهيهم ومتروضهم، وجميع ما يقرأونه للتسلية لا يخلو مما يتألفهم إلى ما ينافي الدين ويبث فيهم روح الغرب الماجن من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون؛ فالأغاني بألحانها ومعانيها المتهالكة، والراديو بما يذيعه من مهازل المسارح ومماجن الصالات، والسينما بما تعرضه(196/118)
من روايات صنعت في الغرب لتمثل فيما تمثل نواحي الشهوات فيه بما يغري بها الناس، والمجلات والجرائد بما تنشر من قصص غير طاهر وصور غير نقية منقول أكثرها عن مجلات الغرب وجرائده من غير نظر إلى الشرق وإلى البلاد الإسلامية منه على الأخص - كل هذا وكثير غيره يعمل عمله في النفس المسلمة الناشئة وغير الناشئة فتضعف من روح التدين فيها، وتمهد للغرب ودعاته سبيل الاستيلاء عليها
هذه العوامل في ذاتها خطر كبير، لكن لا يزال هناك في المسلمين شعور بأنها خطر، وأن من الواجب مقاومتها والعمل على تلافي آثارها. صحيح أن هذا الشعور أكثره كامن لا يبدو إلا حينا بعد حين، وإذا ظهر قويا فترة عاد إلى مكمنه فترات، لكنه على أي حال شعور سليم، وهو على كل حال موجود منتشر، ووجوده هو معقد الأمل والرجاء أن يصير يوما ما قوة دافعة تدفع هذه الكتل البشرية الإسلامية في طريق الإسلام لتحيا في بلادها حياة مسلمة، ولتقيم على الأرض مرة أخرى دولة لا يكون الحكم فيها إلا لله العلي الكبير
لذلك كان الخطر الأكبر والشر الأعظم هو ما اتجه إليه دعاة ما يصح أن يسمى باللاإسلامية، من تخدير هذا الشعور الإسلامي وإضعافه ثم إطفائه لما أوجسوا منه خيفة، ورأوا في إحساس المسلم بفرق ما بين تعاليم الغرب وتعاليم الإسلام، عقبة العقبات في سبيل دعوتهم التي يبثونها والتي ما فتئوا يوهمون الناس أن الخير كل الخير فيها. فتقت لهم حيلتهم ولطف كيدهم أن ينيموا هذا الشعور ويزيلوا هذا الإحساس فاتخذ كل منهم سبيلا إلى نفس الغاية، أو بالأحرى لم يدعوا سبيلا إلى تلك الغاية إلا سلكوها.
فمنهم من جعل يوهم المسلم المحافظ المتحفز للمقاومة أن المقاومة غير مجدية. وان روح العصر لاشك غالب. ففيم المغالبة والأمر مفروغ منه والنصر مكتبو لأهل الرأي الجديد من الجيل الجديد؟ وهذه طريقة قد آثرت في كثيرين بل قد أفلحت مع بعض من كان يظن انه اعقل وابصر من أن يجوز عليه هذه الخدعة من أهل القلم من المسلمين، فكتب حديثا ييئس فئة الشباب المتمدين في حركتهم الدينية الحديثة ضد الاختلاط، لا لأن الاختلاط عنده صواب ولكن لأن وقت المقاومة قد فات، إذ الاختلاط قد بدأ منذ خمس عشرة سنة أو يزيد! ولو كانت هذه الحجة على أساس من الحق لما أصابت الدعوة اللاإسلامية شيئا من النجاح، لأن عمرها كله لا يزيد على ربع قرن، ومع ذلك لم ييأس أهلها أن يبدءوها برغم القرون(196/119)
الكثيرة التي رسخت فيها تلك النظم والتقاليد الإسلامية التي قاموا لمحاربتها: وقد بدأوها بالفعل وأصابوا - لما اغتر المسلمون بقوتهم وضعفها - هذا النجاح الذي أوحى إلى ذلك الكاتب المسلم ما وحى من الكلام.
ومنهم من يحاول إدخال الطمأنينة على قلوب المسلمين المتململين بإيحائه إليهم أن لا ضير ولا خوف على الدين من ترك دعاة ما يسمونه الجديد يبشرون دعوتهم يمينا وشمالا في أذهان الاطفال، وفي عقول النساء والرجال، لأن الحق سيتضح والباطل سينهزم والأصلح سيبقى، وبتركهم يفهمون أن الباطل سينهزم من نفسه، والحق سينتصر على رغم قعود أهله، وأن الدين له رب يحميه؛ وإذن فليس هناك من داع إلى أن يعملوا هم على نصرته أو يكلفوا أنفسهم مشقة الجهاد في سبيله. ويصادف هذا الإيحاء نفوساً تحركها للقيام كتحركها للقعود، فنجنح إلى القعود والراحة مرة أخرى وتترك الميدان خلواً أو شبه خلو لأولئك الدعاة، وهي بذلك تعرض نفسها للهلاك لأن رب الدين حين يحمي الدين يحميه طبق سنته التي خلت في الأولين بإهلاك القاعدين واستخلاف غيرهم من المجاهدين الذين (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
وأبلغ في الكيد من هذا إذا أرادوا أمراً وعارضهم حكم الدين أن يشككوا في ذلك الحكم ويزعموا للناس أن ليس في الدين ما يمنع مما يريدون؛ فإذا قيل لهم إن الحكم ثابت عن طريق الإجماع أنكروا الإجماع إن يكون أصلا من أصول الدين، أو طالبوك بأن تثبت انعقاد الإجماع؛ فإذا جئت لهم بالنص على انعقاده تجده في بطون الكتب، جوزوا أن يكون الكتاب قد أخطأ أو أن يكون صاحبه قد كذب، أو احتجوا لرأيهم برأي شاذ لبعض من كان لعله مثلهم في ماضي الإسلام من الخارجين عن جماعة المسلمين. ولو كان الحكم لا يثبت في الدين لرأي شاذ يراه واحد ولو كان من أهل العلم ما انعقدت بيعة أبي بكر، فإن خلاف سعد بن عبادة وهو من كبار الصحابة في أمر تلك البيعة معروف، بل إذا كان الحكم في جماعة ما يمكن تعطيله بمثل حجتهم الواهية هذه ما أمكن تنفيذ حكم أو دستور في أمة من الأمم في هذا العصر أو في أي عصر، ولكان قولهم هذا أبلغ ما يبرر به حكم الفرد، إذ يصير حكم الفرد في هذه الحالة هو البديل الوحيد من الفوضى
فإذا كان في الحكم نص من السنة الكريمة واحتججت للحكم بذلك النص شككوا في السنة(196/120)
وقالوا إن الذي وضع على الرسول كثير، فلعل هذا من المكذوب الموضوع. فإذا قلت إنه قطعا ليس من الموضوع لأنه وارد في الصحاح، قالوا إن الحديث الصحيح لا يمكن الجزم بأنه ثابت قطعا عن الرسول، فإن ما ثبت قطعاً عن الرسول هو المتواتر وهذا محدود معدود
ويحاولون أن يشككوك في الحديث جملة باستغلال أمانة علماء الحديث ومبالغتهم في التدقيق عند تمييز درجات الحديث، إذ جعلوا الاحتمال العقلي البعيد للسهو أو النسيان أو الخطأ فارقا بين الصحيح وبين ما لا يمكن أن يتطرق إليه إلا ذلك الاحتمال وهو المتواتر مع أن حديث الرسول قد محص بما لم يمحص به حديث أو رأي أو فعل صدر عن بشر كائنا من كان، وأن هذا الحديث الصحيح قد صح عن الرسول بالسند الممحص المنقود فاختبر عن طريق تمحيص السند من بين مئات الآلاف من الأحاديث فلم يتجاوز عدده بضعة الآلاف، منها كثير مشترك. والمبالغة في التدقيق فقط هي التي تجيز عقلا من بعيد ألا يكون مثل هذا الحديث مقطوعا بصدوره عن الرسول برغم ذلك التمحيص الدقيق. ولو كان مثل هذا الاحتمال مسقطا للحديث لسقط التاريخ كله ولكان من العبث الاعتماد على تاريخ، أو كان هذا الاحتمال يجيز إهمال الحديث فلا يعمل به لجاز إهمال كل ما هو في مرتبة دون مرتبة اليقين في العلم وفي الفلسفة، مع أن العلم يتمسك بالنظرية الراجحة حتى يثبت بطلانها؛ وأولئك المشككون أنفسهم يستندون في تدعيم آرائهم إلى آراء ونظريات هي من ناحية الثبوت في العلم أو الفلسفة دون مرتبة الحديث الصحيح بكثير من ناحية الثبوت في الدين. على أن الإجماع منعقد بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم بوجوب الأخذ في الأحكام بالحديث الصحيح، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يأخذون في أحكامهم بالحديث يثبت عن الرسول عن طريق فرد ذكر أو أنثى، وكانوا يرجعون عما عساهم يكونوا ارتأوه أو حكموا به مما يخالف ذلك الحديث كما ترى توجيه ذلك مفصلا في الرسالة التي كتبها الإمام الشافعي مقدمة للأم في الأصول
ويلتحق بهذا النوع من كيد أولئك المشككة المعطلة ما يحاولونه من تعطيل القرآن وإبطال مفعوله عند المسلم بالتوسع في تأويله وصرف الآي عن وجهه وتخصيص عمومه وتخريجه على نحو يوافق ما يريدون ويعتقدون من آراء الغرب ونظرياته. ولقد لطفت(196/121)
حيلتهم في هذا حتى وقع في أحبولتها بعض قصيري النظر ممن ينتسبون إلى الدين من المسلمين؛ ووقوع ولو واحداً من رجال الدين في أحبولتهم تلك دليل على مبلغ الخطر الذي يحف بالإسلام اليوم في بلاده وصميم أهله. وإذا لم ينهض المسلمون لدرء هذا الشر ويصدقوا الله الجهاد فيه غير متوانين ولا متواكلين ولا مسوفين، فسيجزيهم بتراخيهم ذلة في الدنيا، ويستخلف من بعدهم قوماً آخرين يؤيد بهم دينه الكريم (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
محمد أحمد الغمراوي(196/122)
في ظلال الهجرة
غزوة بدر
للأستاذ إبراهيم مأمون
ذكْرى، كما شاء الزمانُ أجالَها ... وخطى نكرت العالمين حيالَها
ما المرسَلات وما العواصفُ؟ ويحُها ... هل جزْن بيداً، أو طويْنَ تلالَها؟
وإلاَمَ يحتثّ الهجان حُداتها ... في مهمَهٍ سبقتْ عليه ظلالَها؟
قل للطوائر في الجواءِ حوائما: ... ربُّ السماءِ لغيركنّ أحالَها
للريح. تنتظم الغمام ظعائناً ... وتُمدّ من لُمَعِ الشعاع كلالها
حرم السماء مجالُها، وكأنها ... سفنٌ تخذْن من الغباب مجالها
يَمشْين في حرس السماء، تُديرها ... أيدي الهواء. وما وَعَيْنَ عِقالها
هي آذنت (بدراً) بنصر (محمد) ... وعلى يديه اسْتنزلَتْ آمالها
جاءت (بجبريل السماء ووحيها)، ... وحَدَتْ بآمال العلا (ميكالها)
تلك السماء تَشَقّقتْ بغمامِها ... تولي الرّسالة في (العريش) صِيالَها
أزْجَتْ إلى جيش الحنيف مَلائكا ... لَمس القليبُ طِعانها ونزالها!
مَثلَ الحمام برَفْعها وبخَفْضها، ... وجرى الهوانُ يمنَها وشمالَها!
سائِلْ جلود الشرِك عن تبْريحها ... والشركُ يبكيها، ويندبُ آلها
واستَواحِ أشلاء القليب. فإنها ... تبْيانُ (بدرٍ) إن أردْت مَقَالهاَ
يا يومَ بدرٍ: والمواقفُ جمةٌ ... فيكَ الحنيفةُ زايلَتْ أسمالهَا
لبست دروعَكَ سابغات في الوغى ... ومضتْ بساحِكَ تستثير رجالها
تلقى (محمداً النبيّ) يقودُها ... ويُعزُّ رايتها، ويُنْهض قالها
ويذودُ عنها العادياتِ بحلمِهِ ... حيناً، وحيناً يستجيبُ قتالَها
ما اللاتُ؟ ما العزُىّ؟ وأينَ مناتهمْ؟ ... غال الحنيف عبادها، وأزالهَا
والشركُ نكسه الجهادُ، فلم يقمُ ... أرأيتَ (هنْداً) مَثّلَتْ أمثالَها؟
تدْعو النساَء إلى العويل، وتنتضي ... سيفَ المَهانِة لم يغث أبطالها
تُغري الوغَى بملاحمٍ دَمويَّةٍ ... شعواَء تُنهض بالرماح سَجالها(196/123)
بعثتْ من البيض الخفافٍ رسالةً ... حَلَقَتْ لها يا فوخَها وقَذالها
وجَفتْ غدائرها وألقت قُرطَها ... وتناهبت حسراتُها خَلخالها
تحدو الرجال إلى المواقعِ تارةً ... وتسير أخرى تستفِزَّ خبالها
كوَساوس الشيطان أغرتْ مؤمناً ... فجفا مودَّتها، وعافَ وصالها!
ما غاظها جيشُ السماءِ. وإنما ... جيشُ (المهاجر) يوم بدْر غالها!
بَرز الَحنيفُ على الحياض إلى الردى ... يرمي الجهالةَ أو يَدُعَّ مِطالها!
وكأنَّ أرضَ اللهِ تقذفُ ما بها ... وسماَءهُ تولى النبيَّ نِضالها!
والكفر في بؤر الخنا متطلعٌ ... للعدوة الدنيا يرى رئبالها!
ويحسّ في كفيه أنفاسَ الوغَى ... تُبْدِي من الصمتِ الرزين مَلالها
ألوى بجيْش الشّرك مَرهُوبَ القنا ... ونَضا قراهُ، وما نضَتِ سِربالها
يا باسطَ الكفين في كنفِ العُلا ... تَدْعو السماَء. وما تركْتَ سُؤالهَا
النصر وافى، واصطفتْك مغانمٌ ... والله قسمَ بينَكم أنفالَها
فلذات مكة في رباك سوَائل ... ترجو نَدَاك وما رجوتَ نوالها!
كانت تريكَ ببطن مكة بغيَها ... أفلا أرتك لدى الوغى استبْساَلها؟
خيرَ البرية: تلك عقبى صابرِ ... لاحتْه مكة: ظاهرت جُماَّلَها
جنباتُ مُلكِ الله فزَّع دُعمها ... دعَواتك اللائي نثرتَ إلا لهَا
والعرشُ حوّم في رحاب المنتهى ... يُصْغي لسدرتها وأنت حِيالَها
ويمدّ أجنحةَ الجلالَ لمنكبِ ... بادي اللآلئ يجتلى لألَّها
جافته برْدتُك الشريفة مذ رأت ... ملأ العلا يُضفي عليه مثالها
لو يعلم (الصدَّيقُ) عند وقوعها ... ما تَرْتديه لهالهُ ما هالها!
وسبَاه من وادي السَّنا لمحاتُه ... ومَضى إليها يبتغي إمْهالها!
ليرَى تحيتها لوجْهك ضاحياً ... ويَراك توليكَ العُلا إجْلالها!
ويَراك والسبْع الطباقُ خواشع ... ويَراك والدنيا تَراك ثمالَها!
نور الجلالة تحت ثوبك مشرق ... يَهدي السماَء نجومها وهلالَها،
من غير هَدْيِك ما تبسم طالع ... في أمة أغْرَى الهوَى إهمالَها!(196/124)
تلك الخلائق ما محمَّدُ: أعرضتْ ... ورأت حرامَ الراشدين حَلالَها!
رجعتْ بها الأهواءُ عن غاياِتها ... وتنَقَّصَتْ في العاجزين كمالها
فُتنتْ بزائفة النهوض، ولو رأتْ ... مَجْدَ الأوائل أكْبرتْ أطْلاْلهاَ
كَفَرتْ على مهْدِ الندى آباَءها ... وجَفَتْ على قرْب المدى أخوالها
جادتْ على وادي السماح برُوحها ... للناهبين، وما رعَتْ إقلالها
جعلت لخاذل دينها تسليمَها ... ولناصريه المتّقين جدالها
ولو إنها التمستْ هداك لصافحتْ ... غُدُوَاتكِ البيض الخطا آصالها
ما اعتزّ من عزّوا بغيرك هاديا ... وبغيرك الدنيا رأتْ إذلالها
خطرتْ تجر القيْد تحسب أنها ... بلغتْ أمانيها أو استْقْلاِلها!
نشوى بحكم الفرْد صاغ من العصا ... قلمَ المؤدّب يجتوي إملالها
تدعو وتنهض في الحياة مُضَلِّلاً ... جعَل المتاحَ من الأمور مُحالها
تتزاحم الشورى على أبوابها ... فتشيح عنها تبْتغي أبطالها!
ويميتْ أكفاَء الرجال هداتُها، ... وَيْح المواهب لا ترى اسْتغْلالها!
وأدُوا البنين، كأنّ شرعتك انتهت ... وكأنّ عُدْوانَ الزمانِ أدالها!
وكأنّ بغي الجاهلية لم يزَل ... يُلغِي الحقوق ويَزْدري سَألها!
ولعلّ من وأد البنات أثابها ... والجاهلية ترتضي إغْفَالها!
يا آسيَ التقوى: جفاها طُّبها، ... بكَ تستجير، فهل ترى ابلالها؟
ذاق الأمَّرين الأساةُ، وأخفقوا؛ ... فمن الذي يشفي العقام عضالها؟
لَّجت بصيحتها المشارقُ لم تجد ... كفا تحلّ بحزمها إشكالها!
نُعلي المعابدَ لا قنوتَ لخاشعٍ ... فيها؛ ولا نَلقى هناك (بلالها)!
ما أكثر الداعين باسم هُداتها ... حتى إذا نُودُوا جَفوا أقوالها!
ورأوْا مبادئها مسبةْ جيلهم ... وكأنها لم تنتظم أجيالها!
هي تلك يا طه شريعة دينهم؟ ... أمْ تلك دنيا يشربون نهالها؟
إبراهيم مأمون(196/125)
في الأدب المقارن
الشعر والنثر
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الشعر أسبق ظهوراً من النثر في عالم الفن الذي يحتفي صاحبه بإنشائه وتنميقه، ويتعمد إيداعه شعوره وأفكاره على نحو جميل يراد له السيرورة والبقاء. فالشعر يظهر ويرتقي والأمة ما تزال متبدية قليلة الحظ من الثقافة وأسباب العمران، أما النثر الفني فلا تدعو الحاجة إليه ولا تتم وسائله إلا في أمة متحضرة مستقرة واسعة الثقافة منتشرة فيها الكتابة الخطية، فالكتابة الخطية تتيح للكاتب أن يتوفر على إنشاء النثر المنمق، الذي يحوي تعميقاً في التأمل واتصالا في المجهود الأدبي وتدبيجاً للفظ، وتتيح أيضاً للنثر الفني أن يبقى ويذيع. أما الشعر فهو غني بموسيقاه ورويه عن تقيد الطروس، وهو أهل للنهوض بحاجة الأمة المتبدية، من التعبير عن عواطفها وأفكارها البسيطة؛ ومن ثم ارتقى الشعر الإغريقي كما يتمثل في ملاحم هوميروس رقياً عظيما، والأمة ما تزال إلى البداوة أقرب، وتطور حتى تفرع منه فن جديد هو فن التمثيل، كل ذلك قبل أن تتوطد قواعد النثر اليوناني، وقبل أن يبلغ مبالغه على أيدي هيرودوت وتيوسيد وأفلاطون.
وكلا الشعر والنثر مدينان في ظهورهما ورقيهما - كسائر الفنون - للدين والدولة بفضل عظيم: ينشأ الشعر مختلطا بالموسيقى مصاحبا للرقص في الحفلات الدينية، التي تحفلها الجماعات الأولى في مواسم آلهتها، وينفصل عن الموسيقى والرقص ويخرج من حظيرة الدين إلى حظيرة الدولة، فيمدح الملوك ويزين قصورهم كما كان يفعل الشعر الإغريقي في عصر الطغاة، وعلى أيدي الكهنة يتألف أول ما تعرف الأمة من مبادئ النثر الفني، من نبؤات مسجوعة وحكم وعقائد مدونة أو شفاهية وقصص عن الملوك والآلهة، ثم ينحاز الكتاب الناثرون كما انحاز الشعراء إلى بلاطات الملوك ودواوينهم، يزجون بضائعهم وينزلون آمالهم؛ ثم يستقل الشعر والنثر عن حظيرتي الديانة والدولة قليلا قليلا، بشيوع الرقي العقلي وانتشار الثقافة وتميز شخصية الفرد عن شخصية الجماعة، فيصبح كل منهما(196/126)
فناً غايته التعبير الجميل عن شعور الإنسان بالحياة، وعلى قدر تحرر كل منهما من العلاقة بالكهان وبالحكام، وتخلصه من الغرض المادي يكون رقيه الفني وصدقه في أداء رسالة الحياة.
فبانتشار الحضارة والثقافة يرتقي الشعر عما كان عليه في عهد البداوة، ويظهر بجانبه النثر فناً ثانياً مترجماً بالألفاظ عن شعور الإنسان وتفكيره، منافساً له في كثير من مواضعه ومعانيه. فيتقاسمان النهوض بمهمة الأدب، ويظهر من الأدباء من يجمعون بين الفنين، يبرزون في كليهما أو يشتهرون بأحدهما فوق اشتهارهم بالثاني. ويشارك النثر الفني الشعر في كثير من خصائصه، أي خصائص الفنون جميعاً، كالموسيقية، والخيال، والتقابل، والتماثل، والتجاوب؛ بيد أنه وإن تشارك الفنان في شتى الخصائص والموضوعات، فما يزالان متميزين في خصائص، مستقلا كل منهما دون الآخر بموضوعات هي به أشبه وهو على تأديتها أقدر. فللشعر قصب السبق فيما هو أدخل في باب الخيال والعاطفة والشمول والغموض أحياناً، وللنثر ما هو أقرب إلى التفكير والمنطق والدقة والترتيب والاستقصاء، ومن ثم يلجأ الشاعر الناثر إلى الشعر طوراً وإلى النثر تارة
فالشعر والنثر كلاهما قادران على تأديته أغراض الوصف والحكمة والعتاب والاعتذار والفكاهة؛ وربما رق النثر في كل ذلك وتشبع بالخيال حتى صار أشبه بالشعر، لا يميزه عنه سوى انعدام الوزن وإن ساواه في الموسيقية؛ أما الحماسة والنسيب مثلا فالشعر أمهد لهما سبلا وأرحب مجالا، إلا أن يجيء النثر الحماسي خطابة فيكون له من رهبة الموقف وتعبير سيماء الخطيب وهيبة محضره عوض عما يمتاز به الشعر من خيال وروعة واستجاشة للعواطف، ومن ثم كانت الخطابة من أشبه فنون النثر بالشعر؛ وأما في سرد الوقائع التاريخية أو القصص الفردية، أو تقرير الحقائق العلمية والأدبية، فالنثر أرحب بكل ذلك صدراً وأطول باعاً. ومن ثم كان نقد الشعر والأدب عامة وتسديد خطى الأدباء وإظهار محاسن الشعراء من أهم وظائف النثر التي يضطلع بها إذا ما توطد وساير الشعر جنباً لجنب
وقصارى القول أن موضوعات الشعر والنثر يتباعد طرفاها، ويلتقي الطرفان الآخران حتى يختلطا؛ وإن الروح الشعري قد يكون في النثر الجيد كما قد ينعدم من النظم الرديء؛(196/127)
ولما كان الشعر والنثر يعبران مشتركين عن شتى خوالج النفس الإنسانية، فمن الطبيعي أن يرتقيا معاً في عصور الرقي الإنساني وينحطا معاً في عصور الانحطاط. بيد أنه يلاحظ بجانب ذلك أن أحدهما ربما ارتقى وفاز باحتفاء الأدباء والثاني في انخذال وقعود، تبعاً لما تميل إليه نزعة الشعب في عصر من عصوره، فكما يختلف الفرد الواحد بين نزعة الخيال والعاطفة والخفة أحياناً، وبين نزعة التأمل الوقور والاستقصاء الهادئ للحقائق أحياناً حسب اختلاف أطوار النفس الإنسانية الخفية الأغوار المنقلبة الأطوار، كذلك تمر الأمم بعصور طموح ومغامرة يزدهر فيها الشعر والنثر الشعري، وبعصور هدوء وركود، وتأمل علمي وفلسفي، يغزر فيها النثر ويلعب دوراً كبيراً ويخفت صوت الشعر
فإذا نحن رسمنا لأطوار الشعر والنثر دورة، كتلك التي رسمها أرسطو لنظم الحكم في المدن اليونانية، بين ملكية وارستقراطيه وهلم جراً، كان أول أطوار تلك الدورة طورا شعرياً طويلا، يبلغ ذروته بنهضة الأمة بين الأمم، ونيلها نصيباً وافراً من الحضارة والثقافة، يلي ذلك طور نثري يشتغل فيه النثر بنقد ما تجمع لديه من آثار الشعراء المتقدمين، وينخذل الشعر في أثنائه أو عقبه مباشرة؛ فإذا ما انبثت في الأمة روح جديدة جاء طور شعري جديد سابق أيضاً، يليه طور نثري وهلم جراً. ولعل في تاريخ الأدب الفرنسي مثالا لذلك واضحاً: إذ سبق الشعر الفرنسي بالظهور على أيدي التروبادور ورونسار، ثم نهض النثر على أيدي رابليه ومونتين في عهد النهضة الأوربية، ثم نهض الشعر مرة أخرى في عهد لويس الرابع عشر على أيدي كورني وراسين، ثم كان القرن الثامن عشر عهد نثر طويلا ظهر فيه فلتير وروسو، ثم كانت النهضة الرومانسية الشعرية فظهر لامرتين وهوجو، ثم نهض النثر بانتشار الحركة العلمية وذيوع القصة، وظهور القصاصون كبلزاك وموباسان، والنقاد كرينان وتين
يتشارك النثر والشعر - منذ ظهور النثر الفني - في تأدية رسالة الأدب ويتشابكان موضوعات وغايات، ويتراوحان صعوداً وهبوطا مع تعاقب العصور، ويظهر النوابغ في كل منهما، وينال هؤلاء وأولئك حب المثقفين وإعجابهم؛ بيد أن الشعر يظل آثر لدى المثقفين وأكثر استئثاراً بحفظهم وساتشهادهم، ويظل الشعراء أحظى بالرعاية والاهتمام، وآثارهم أحظى بالدرس والنقد. وإلى الشعر والشعراء ينصرف الذهن أول ما ينصرف إذا(196/128)
تحدثنا عن الأدب أو فكرنا في الأدباء، أو أردنا الموازنة والاستشهاد أو التدليل على صحة نظرية. وبأسماء فحول الشعراء تسمى عصور الأدب المتتابعة في تاريخ الأدب الإنجليزي، كل ذلك لما يمتاز به الشعر من تضمين المعنى الشامل اللفظ الموجز، والنظرة النافذة القول الرصين، وما يتوفر عليه من شرح العواطف والذكريات، والآمال والأشجان والإطراب، ومازال الإنسان أكثر انجذاباً إلى العاطفة منه إلى الفكر، وهو من ثم يؤشر الشعر على النثر.
نشأ الشعر العربي وارتقى في البادية، سابقاً للنثر، إذ بلغ ما بلغه من الرقي على أيدي أصحاب المعلقات وأضرابهم، والنثر لا يتعدى بعد الخطب القصار والحكم المنثورة والأسجاع المأثورة والوصايا المتفرقة. نعم كان للقبائل خطباء كما كان لها شعراء. ولكن العرب كانوا بالشعر أولع حتى عدوه معرض مفاخرهم، وقالوا: (الشعر ديوان العرب)، ولم يقولوا: (الأدب) ولا (الخطابة). ولم تذع كلمة النثر حتى تحضروا وتثقفوا وانتشرت بينهم الكتب. وكان الشعر والنثر معا في بدء أمرهما مختلطين بالدين والدولة، فشاعر القبيلة كان وزير دعايتها بتعبير العصر الحاضر، والشعر والسحر والكهانة والعرافة والتنبؤ والسجع كانت معاني وألفاظا متلاحمة الوشائج. وقد كان للدين بين العرب من أقدم عصورهم مكان، وأخرجت جزيرتهم عدداً من الأنبياء عديداً، وكان الشعر إلى ظهور الإسلام ينشد في المواسم الدينية، وتخاطب به الآلهة، من ذلك قول بعض اليمانيين في طوافهم:
عك إليك عانية ... عبادك اليمانية
ولم يفصم الشعر والنثر العربيان يوما علاقتهما بالدين والدولة، بل ظلا طول عصورهما على اتصال بهما متين؛ بل بفضل الدين احتوى النثر العربي على أثر فني لا يجاري بلاغة، بل هو نموذج البلاغة الذي ظل يحتذى ويدرس ويقتبس في النثر والشعر معا طول العصور، وهو القرآن الكريم، وبقيام الملك على أساس ديني اتصلت علاقة الأدب بكلا الملك والدين، وظل الشعر يتقرب إلى الحكام بالمدح، والنثر يعمل في دواوينهم، ولم يخرج الأدب العربي خروجا تاما من طور خدمة الملوك، إلى الطور الفني الخالص المنزه عن كل غرض خارجي أو مطلب مادي، وإنما ظل الشعراء والكتاب يعتمدون على رعاية الأمراء، ويسخرون فنهم لخدمتهم(196/129)
وتوالت أطوار الشعر والنثر في تاريخ الأدب العربي: فسبق الشعر في الجاهلية، وحل محله النثر في صدر الإسلام متمثلا في الكتاب الكريم وخطب الرسول وخلفائه وكتبهم وكتب عمالهم، واستعاد الشعر مكانته في عهد الأمويين على ألسنة جرير والفرزدق والأخطل وجميل وكثير وابن أبي ربيعة وأضرابهم؟ وعند ذلك كان العرب قد تشربوا الحضارة والثقافة، فظهر النثر الفني على أقلام عبد الحميد وابن المقفع والجاحظ والبديع؛ وبلغ الشعر في الوقت نفسه أوجه على أيدي معاصري هؤلاء من الشعراء، كبشار وأبي نواس والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي والمعري، ثم أفل نجم الشعر بدءا من القرن الخامس وأفسده التعمل، وأعوزته روح الطموح والمغامرة التي غاضت من نفوس الأمة التي أرهقها المتسلطون، وبقيت للنثر بقية من قوة مستمدة من نضج الثقافة الإسلامية، فكان العصر التالي طور نثر طويلا أنجب من النقاد والمؤرخين والكتب أضراب ابن خلكان والنويري والقلقشندي وابن رشيق وابن خلدون، ممن كان هم أكثرهم جمع الآثار الأدبية والتاريخية المتخلفة من العصور السالفة، وتنظيمها والتعليق عليها. ثم لحق الوهن والإسفاف النثر كما لحق الشعر. فلما كانت النهضة الحديثة، كان الشعر أسبق إلى النهوض والحياة والتخلص من شوائب الصنعة والتقليد، فالشعر أسبق من النثر إلى الازدهار وأسبق منه إلى الذبول.
كان الشعر أسبق إلى الظهور والرقي في الجاهلية، وكان العرب يعدونه ديوانهم، وكانت له لديهم مكانة عظيمة، وقد ظلت له هذه المكانة على توالي العصور، على رغم ظهور النثر الفني ورقيه وحصول الكتاب دون الشعراء على المراتب السامية كالوزارة؛ وظل الشعر أعلق بالنفوس وآثر بالحفظ والذكر، ولم يسايره في الحفظ والسيرورة من آثار النثر إلا القرآن الكريم، وهو مملوء بالروح الشعري حافل بالتشبيهات والمجازات البليغة. ولما ارتقى النثر الفني راح يتتبع خطى الشعر: يقتبس أبياته ويضمن شطراته، ويتناول موضوعاته، ويحاكي موسيقاه ووزنه، فاصطنع السجع والازدواج والجناس، وأصبح السجع في النهاية للنثر لازماً لزوم القافية للشعر. والحق أن الأدب العربي بفنيه الشعر والنثر اتسم دائما بالاحتفاء باللفظ وجرسه وتنميقه، والأسلوب وتقسيمه وتدببجه، وقد ظل ذلك مستساغا مقبولاً حينا ثم أفرط وسمج. وظل الشعر العربي شديد الحرص على فخامة(196/130)
الموسيقى ووضوحها واطرادها بلا إخلال، كالإخلال الذي يكثر في الشعر الإنجليزي ويلجأ إليه شعراء الإنجليزية قصداً للتنويع واجتناب الاطراد الممل، وظلت القافية في الشعر العربي كذلك واضحة جزلة مكونة في الواقع من قافيتين صوتيتين، كما في (عانيه) و (مانيه) في البيت السالف الذكر، وهذا ما يعرف في الإنجليزية بالقافية المؤنثة، وقد دخلت الإنجليزية نقلا عن الإيطالية ولكن الشعراء سرعان ما نبذوها، لعدم ملاءمتها لطبيعة اللغة الإنجليزية التي تمج الإفراط في الموسيقية نثراً أو نظما.
ولما ظهر النثر الفني بجوار الشعر، ونبغ فيه الكتاب واحترفوا إنشاء الرسائل الديوانية، وحرصوا على التزود بكل أسباب الثقافة، والتحلي بكل موجبات الفضل، عالج أكثرهم الشعر طبعا أو تكلفا، فأثرت عن الحسن بن وهب وابن الزيات وابن الصولي وسعيد بن حميد وابن العميد وابن عباد والخوارزمي والبديع والجرجاني والعسكري، أشعار قالها بعضهم تظرفا ورياضة للقريحة، وقالها بعضهم جادين في التعبير عن خوالج صميمة وآراء صادقة. وقد قيل إن الجاحظ عالج قرض الشعر طويلا ثم أقلع حين لم يفلح. وكان البديع والحريري يخالفان في مقاماتهما بين شعر ونثر لا يكاد يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعروض، وفيما عدا ذلك يتساويان تنميق لفظ وبلاغة إنشاء، ومن أجمل أشعار الكتاب قول الجرجاني من أبيات هي من غرر الشعر العربي: -
يقولون لي: فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
إذا قيل: هذا مشرب قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وقد كانت المقابلة والمفاضلة بين الشعر والنثر من هم نقاد العربية وكان أكثرهم يميل مع الشعر؛ على أنها مفاضلة لا موضوع لها: فليس الشعر خيراً من النثر ولا النثر خيرا من الشعر، وإنما كلاهما ضروريان وكل منهما جميل في موضعه، زد على ذلك أن أولئك النقاد كانوا يدخلون في حسابهم اعتبارات خارجية لا صلة لها بالفن الصميم، بل هي شؤون اجتماعية أو سياسية أو فردية صاحبت الأدب في بعض العصور، فأصحاب الشعر يستدلون على أفضليته بأن الشاعر يخاطب الأمير باسمه مجرداً وباسم أمه وبصيغة المفرد، وبأن الشعر رفع قبائل كأنف الناقة ووضع أخرى كنمير، وبأن الكذب ومدح النفس يقبلان فيه ولا يستساغان نثراً؛ وأصحاب النثر يؤيدون حجتهم بأن الرسول الكريم لم يقرض(196/131)
الشعر، وأن الشعراء يخدمون الكتاب ويأخذون هباتهم. وأن الكاتب يجلس والشاعر ينشد وهو قائم وهلم جرا.
نشأ الشعر والنثر الإنجليزيان كذلك على صلة بالدين والدولة، وكان مزاولوهما الأوائل أمثال تشوسر وسبنسر وهوكر من رجال السياسة والدين والحرب، أو كانوا على اتصال بالساسة والمحاربين وعلماء الدين. ومن الكنيسة خرج فن التمثيل ذو الصلة الوثيقة بالأدب، فكان قوامه الشعر أولا على عهد شكسبير؛ ثم إنجاز تدريجاً إلى النثر؛ وكان للإنجيل أثر بليغ في اللغة الإنجليزية؛ غير أن الشعر والنثر ما لبثا بعد ذلك أن انسلخا تدريجاً عن الملك والكنيسة والأحزاب والأعيان، واعتمد كلاهما مكان أولئك جميعاً على الجمهور القارئ، ودخلا في طور الفنون الخالصة التي لا غاية لها سوى وصف مشاعر الإنسان وشعوره بجمال الحياة وغبطاتها، وهو الطور الذي لم يبلغه الشعر والنثر العربيان تماماً، بل قام من الأدباء الإنجليزي من ناصبوا الملكية والكنيسة، مثل شلي وبيرون
وكان الشعر الإنجليزي أسبق إلى الازدهار من النثر: فبلغ أوجه في عهد اليزابث في آثار شكسبير ومعاصريه، وتجلت الروح الشعرية حتى في النثر القليل الذي خلفه ذلك العصر الحافل بروح الإقدام، فهوكر مثلا وهو يدرس مسائل دينية يعرج فيصف الموسيقى وصفاً شعرياً زائفاً؛ وتلا ذلك طور نثري طويل في القرن الثامن عشر، بلغ فيه النثر الغاية من السلاسة ورحب الجوانب، ثم كانت هبة قومية جديدة فنهض الشعر في العهد الرومانسي نهضة باهرة، وكان كثير من شعرائها كتابا حذاقا أيضاً تفيض كتاباتهم النثرية بما تفيض به أشعارهم من روح رومانسية؛ ثم ارتقى النثر في أعقاب ذلك مرة أخرى، فظهر من النقاد ماكولي وارنولد، ومن القصصيين ثكري ودكنز، ومازالت القصة في ازدهار مطرد
وبلغ النثر الإنجليزي من الرقي الشكلي والموضوعي ما لم يبلغه النثر العربي: فظهرت فيه المقالة والصورة والترجمة والتأريخ والقصة الفنية. وبهذا كله تهيأ له أن يزاحم الشعر على مكانته، لاسيما بفضل القصة والرواية التمثيلية، بل هو انتزع الرواية التمثيلية من الشعر واستأثر بها. والقصة اليوم تستقل بأسماء أعلام الأدب الإنجليزي، وقد مارسها أكبر شاعرين محدثين: كبلنج وهاردي، بل كانت ممارسة النثر بجانب الشعر دائما من أدب شعراء الإنجليزية، يبسطون فيه آراءهم في النقد الأدبي والأحوال الاجتماعية. فكان دريدن(196/132)
وكارلي وبوب الشعراء مثلا من أوائل من كتبوا المقالات، أما كبار شعراء العربية فقلما روي لهم نثر مطنب
على أن الشعر الإنجليزي وإن زاخمه النثر في العصر الحديث هذه المزاحمة. واستأثر دونه بأكثر احتفال الأدباء والقراء، لم يفقد موضعه الأثير من نفوس المثقفين، وإنما هو يجتاز مثل عصر الركود الذي شهده في القرن الثامن عشر، إذ أن النثر والشعر كما تقدم يتجاذبان النفس الإنسانية على اختلاف العصور، بيد أن الناس حتى في مثل هذا الطور لا ينزعون عن حبهم للشعر. بل يلتفتون إلى الماضي يروون صداهم من عبابه الزاخر، ولا تزال لشكسبير وملتون ووردزورث وشلي منازل في قلوب قراء الإنجليزية، كمنازل ابن الرومي والمتنبي والمعري في قلوب قرائهم، لا يحتل مثلها الكتاب الناثرون في كلا الأدبين
فخري أبو السعود(196/133)
بين يومي الهجرة والفتح
حمامتان تتناجيان
للأستاذ محمود غنيم
قالت الأولى: هلمي يا أختاه نغادر سطح هذا الغار - غار ثور - قبل أن يدركنا هذا الجيش اللهام، فيغطينا العثير الذي تثيره سنابك خيله. يا لله! إنه ليحث الخطى نحو قومنا - قريش - ولا قبل لقومنا به، عشرة آلاف أو يزيدون - إن صدق حدسي - مع كل منهم سيفه القاطع ودرعه المنيعة، ويقين أقطع من سيفه وأمنع من درعه. يا لله لقريش! من أين أقبل هذا الجيش؟
قالت الثانية: لقد جاء القوم عن طريق يثرب، لكني لا أخالهم جميعا يثربيين. انظري، هذه خيل من سليم، وهذه من مزينة، وهذه من غطفان، هم أمشاج أخلاط، من كل فج وعلى كل لون؛ ولكن شيئا لا أكاد أتبينه، تبدو أنواره على أساريرهم، ويشع بريقه من عيونهم - يؤلف بينهم، ويجعل منهم كتلة واحدة كأنهم بنيان مرصوص
بيد أن شعورا داخليا في نفسي يجعلني لا أرهب هذا الجيش، هذا الجيش، حتى لأكاد أقف على ذباب سيوفهم وفوق شبا رماحهم آمنة مطمئنة، كأنني فوق منبر الحرم، أو على حافة مقام إبراهيم. انظري معي، أنعمي النظر، ألا ترين تلك الكتيبة الخضراء التي تتوسط الجيش؟ ألا ترين هذا الرجل الذي يتوسط تلك الكتيبة الخضراء، يومئ للقوم فيسيرون، ويقفهم فيقفون؟ إن لي عهدا بهذا الرجل - إن لم تخني الذاكرة - آه! تذكرت يا أختاه، أليس هذا صاحبنا بالأمس الذي استضفناه في هذا الغار ثلاثة أيام منذ عشرة أعوام؟ إنه محمد، محمد، محمد، ألا تذكرين؟
قالت الأولى: تذكرت كل شيء، حتى لكأن هجرته بنت الصباح، وكأن مكانه في الغار لا يزال حارا، وكأن جرس صوته يرن في أذني وهو يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا) ألم أحدثك يومئذ أن لهذا الرجل شأنا؟ ما الذي أوحي إلينا يومئذ أن نحكم تدبير تلك المؤامرة التي اشتركنا فيها لتضليل القوم وإخفاء محمد عن عيونهم؟ يوم عششنا بفم الغار، وما كان فم الغار لنا بعش، ونسجت العنكبوت خيوطها على بابه، وما كان لها به عهد، وأرسلت الشجرة الجرداء ذوائبها فاعترضت الطريق إليه. لقد تضافرنا على تضليل القوم(196/134)
حتى ضل القوم، فظلوا يتخبطون في كل مكان، ويهيمون في كل واد، يبحثون عن محمد، ومحمد منهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه، لعثر عليه
تذكرت يوم تألب شبان قريش على محمد، وأحاطوا بداره إحاطة السوار بالمعصم، ينتظرون طلوع الصباح، فيعطرون أديم الأرض بأطيب دم جرى في اطهر عروق، ويفصلون أعظم رأس عن اكرم جسد، وكيف أن محمدا تغفلهم في الهزيع الأخير من الليل فأضجع عليا في فراشه، وسجاه ببرده الحضرمي، ليوهم القوم أنه هو ثم انسل من بينهم، والكرى آخذ بمعاقد أجفانهم. كم كان ليلا هادئا ساكنا، لم يقطع عليه سكونه إلا دبيب محمد الخافت، يسير على أطراف أصابعه، وإلا طرقة هامسة من أطراف أنامله على باب صديقه أبي بكر سرعان ما استجاب لها، كأنما كانا على ميعاد، على أنهما لم يأمنا أن يخرجا من باب الدار، فخرجا من فجوة في الجدار، ثم اتجها في طريق اليمن حتى طرقا علينا باب الغار، وقد آذن أن ينبلج النهار، فقابلناهما بالنجلة والإكرام، طيلة ثلاثة الأيام. كم كان يثير إشفاقي وإعجابي ما كان يبدو عليهما من الخوف المركب في طبيعة الإنسان، مقرونا بالثبات الذي تبعثه قوة الإيمان!
نعم تذكرت ذلك كله، وتذكرت كيف كان عبد الله بن أبي بكر يندس بين قريش نهارا، ثم يوافيهما في الغار ليلا، فيسر إليهما ما يأتمرون به، وكيف كان عامر بن فهيرة غلام أبي بكر، يمر بغنم عليهما موهنا فيحتلبان ويذبحان، ثم يعفى بها على آثار عبد الله. وتذكرت يوم اعتزما الرحيل فالتمسا ما يعلقان به الطعام فشقت أسماء بنت أبي بكر - ذات النطاقين - نطاقها شطرين، علقت الطعام بشطر، وانتطقت بشطر. وتذكرت سراقة بن مالك وما كان من أمره يوم جعلت قريش لكل من يقبض على محمد مائة بعير، فخرج يلتمس محمدا، فإذا محمد من عن كثب. لكنه ما كاد يصيح صيحة الظفر، حتى شعر بجواده قد عثر، فأنهضه فكبا ثانية، ثم ثالثة، حتى كأن الحصان فقد قوائمه، أو فقد الأرض التي تستقر عليها قوائمه؛ وإذ ذاك رأى الفارس أن الأرض اثبت ظهرا من حصانه، فترجل ودنا من محمد، لكن لا ليقبض عليه، بل ليعتذر إليه. ألم أخبرك يومئذ أن الرجل يكتنفه غموض وتحوطه أسرار؟
قالت الثانية: دعيني مما تقولين، أي سر في جواد يكبو بصاحبه، أو في حمامة تبيض، أو(196/135)
عنكبوت تنسج خيوطها، أو شجرة ترسل أغصانها؟ إنما السر كل السر في تعاليم هذا الرجل التي تنفذ إلى قلوب أصحابه، فتفعل فيها ما لا تفعل خمر الأندرين ولا سحر بابل. لقد هاجر الرجل وهو وحيد طريد، فمن أين جاء بهذا العدد العديد، الغارق في يلب الحديد؟، أتذكرين ما كنت تتنبئين به يومئذ من أن أهل المدينة لن يكونوا أبر به من أهله الذين آذوه وطردوه، ولو تمكنوا منه لقتلوه، ولا من أهل الطائف الذين أغروا به الصغار، فحصبوه بالأحجار؟ أما كنت تقولين: ماذا عسى أن تكون إقامة محمد بين ظهراني أهل المدينة، والمدينة معقل اليهودية التي يناصبها العداء، ومهد الفتن التي لا تهدأ ثائرتها بين الأوس والخزرج، وبينهما ما بينهما من تراث ودماء، يتوارثها الأحفاد عن الأجداد؟
وقد ينبت المرعى على دمى الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
لقد كنت تقولين ذلك، وحق ما تقولين، فليت شعري ماذا فعل محمد حتى استسل تلك السخائم المستأصلة من نفوس القبيلتين؟ وكيف هادن اليهود، وهم اشد تمسكا بتوراتهم، من أهل مكة بهبلهم ولاتهم؟ بماذا تفسير هذا؟ وما هو هذا الذي يأتي به يسميه قرآنا، فيصبه في الآذان كما تصب الخمر في الأفواه، ويتلوه عليهم كما تتلى الرقى والتعاويذ؟ إن لم يكن خمرا، ولم يكن سحرا، فأي شيء هو؟ لقد سافر محمد في قلة وذلة، لا ينفر منه وحش، ولا تشعر بوطأته أرض، فما باله يعود فتتدكدك الأرض تحت وقع سنابك خيله، وتلوذ الوحوش منه بقمم الجبال؟ كان هو وزميله ودليل عند هجرتهم يسيرون ليلا، ويختفون عن العيون نهارا كما يزور الحبيب الحبيب، عندما يخشى عين الرقيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وانثني وبياض الصبح يغري بي
كانوا لا يأمنون نميمة الشمس، ولا إغراء القمر، ولا وشاية ظلالهم بهم، ولا يطمئنون إلى سلوك طريق معبدة ذلول، فهم أبداً يعوجون ويعرجون ويصدون وينحدرون، فما بالهم الآن يسيرون في وضح النهار، ويكادون يغطون قرص الشمس بما يثيرون من غبار، ويهتكون حجابها بكل صارم بتار؟
لشد ما تغيرت الحال! ولشد ما تدهشني تلك المغناطيسية التي تجذب إليه الرجال! ولعمري ما رأيت اتباعا أشد تعلفاً بصاحبهم من تعلق أصحاب محمد بمحمد. أو ما تذكرين يوم كانت قريش تطرح بلالا على الرمضاء إذا اشتد الهجير، وتلقي على صدره حجراً ينوء بحمله(196/136)
البعير، لكيف عن اتباع محمد، فلا يزيد على قوله: أحد، أحد؟ أو ما تذكرين يوم أسرت هذيل زيد بن الدئنة وباعته من قريش لتقتله ببعض قتلى بدر، فتقدم إليه أبو سفيان، وهو واقف على أبواب الأبدية وقال: أنشد الله يا زيد: أيسرك أن محمداً الآن في مكانك تضرب عنقه، وأنت في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن تصيبه شوكة في قدمه وأنا في أهلي. أليس معنى ذلك أن القوم يتفانون في حب محمد ودين محمد، وهم أشد ما يكونون تفانيا إذا حزب الأمر واشتدت اللازبة وتحرجت المواقف)
قالت الأولى: لقد ذكرتني بأبي سفيان وإنني أكاد ألمح شخصاً يشبهه في سواد الجيش، يسير تحت لواء محمد. انظري معي، أنعمي النظر، كأنه هو، عجباً! أترينه هو أيضاً سرى فيه تيار كهرباء محمد وجذبه مغناطيسه فاستجاب له، بعد أن ناهضه من بدء دعوته؟ أليس هو قائد جيش المشركين ببدر، ثم بأحد ثم بالخندق؟ ثم أليس هو زوج هند بنت عتبة التي مضغت كبد عمه حمزة بأحد، وأرادت أن تشفى صدرها بابتلاعها لولا أن شعرت بمرارتها فلاكتها، ثم قذفتها، والتي آلت إلا يطأ فراشها أبو سفيان بعد بدر حتى ينتقم لأبيها وأخيها، والتي جدعت أنوف صرعى المسلمين بأحد، وصلمت آذانهم، واتخذت من كل ذلك قلادة تحلى بها عنقها؟ ليت شعري أترينها هي أيضاً قد استجابت لمحمد فاستجاب بعلها، إنها لأحاجي وألغاز
قالت الثانية: حقا أنني لألمح أبا سفيان يسير تحت لواء محمد بجوار عمه العباس، وليس غريبا أن يكون تيار محمد جرفه كما جرف آلافا من أمثاله. إن تيار محمد جارف، وريحه عاصفة تجتاح كل ما يعترضها في طريقها، ولئن كان أبو سفيان ناهض الإسلام ضعيفاً لما ضره أن يؤيده قوياً. وما أقل أشياع الضعيف حتى يشتد ساعده فيكثر أشياعه، وينضوي تحت لوائه من أسرف في عدائه. وهل تعتقدين أن كل من ناوأ الإسلام ناوأه مقتنعاً ببطلانه، أو أن كل من أيده أيّده بدافع من وجدانه؟ وهل كان أبو سفيان بدعا في الرجال؟ كم لأبي سفيان من أمثال وأشباه، كانت لهم تجارة وجاه أشفقوا عليهما وعلى أنفسهم من الهوان فصدهم ذلك عن الإيمان. أما وقد تغير مركز محمد فيجب أن يعتدل موقف هؤلاء من محمد. وما يدريك أن أبا سفيان سيجني من وراء إيمانه خيراً كثيراً؟ وما يدريك أنه سيخرج من بين صلب أبي سفيان وترائب هند من يفتح البلاد ويتحكم في رقاب العباد(196/137)
باسم محمد ودين محمد؟ على أن أبا سفيان ما لجأ إلى الإيمان، إلا بعد ما قاساه من الهوان. أما سمعت ما تحدث به الناس أنه بعد أن نقضت قريش عهد الحديبية جعل قلب أبي سفيان لا يستقر بين ضلوعه خشية محمد وبطش محمد فتسنم راحلته، وتوجه شطر المدينة ليؤكد العهد إن وفق، أو يستشف نوايا محمد إن أخفق، فنزل أول ما نزل على ابنته أم حبيبة زوج محمد، فما كادت تراه حتى طوت فراشا كان مبسوطا أمامها، فقال: أتطوين الفراش رغبة بأبيك عنه، أو رغبة به عن أبيك، فقالت: لا والله إنه فراش رسول الله الطاهر الأمين، أخشى عليه دنس الشرك ورجس الوثنية، فتشاءم الرجل، ونهض مغضباً، ودخل على محمد فازور عنه جانبه، فلجا إلى أبي بكر فطوى عنه كشحا فلاذ بعمر، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار. عندئذ ارتد على عقبه يجر ذيل الفشل وخيبة الأمل. على أنه بعدها لم يغمض له جفن، ولم يهدأ له جأش، وجعل يتوقع غزو محمد لملكه، وإن كان محمد حاط هذا الغزو بالكتمان. ولقد اشتد القلق بأبي سفيان، فخرج منذ حين ليكشف أمر المسلمين. نعم لقد شاهدته منذ حين في نفر من قريش، خرجوا يستطلعون خبر الجيش، فلقد تناقلت خبره الركبان، رغم مبالغة محمد في الكتمان. وكأني بأبي سفيان ما كاد يلوح غبار الجيش لعينيه، حتى سقط في يديه. وكانت في نفسه بقية شك في دعوة محمد، فما هو إلا أن رأى جيش المسلمين، فإذا الشك يقين، وكأنني به وقد مثل بين يدي محمد. فنظر إليه نظرة يكمن فيها شبح الموت، ولسان حال الرسول يقول:
إن على الله أن تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعاً
فلم يسع أبا سفيان إلا التسليم والإذعان
قالت الأولى: هاهو ذا الجيش قد دنا من مكة حتى صار قاب قوسين أو أدنى، وإنني لألمح أبا سفيان واقفاً بمضيق تمر عليه جيوش المسلمين فيلقا فيلقا، وما أخال هذا إلا من تدبير محمد، حتى يلمس الرجل مقدار ما يستهدف له قومه من الخطر إذا حدثتهم أنفسهم بالمقاومة، فيذهب إليهم نذيرا ينقل ما ألقي في نفسه من الرعب إلى قلوبهم. يا لله لسياسة محمد! إنه يريد أن يتم الفتح بدون أن تتطاير الرءوس، أو تتناثر الأشلاء، أو تراق قطرة من دماء. هل تريده أن تتبيني صدق ما أقول؟ أرهفي أذنيك. أصيخي إلى هذا النداء: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن) أسمعت النداء؟ أتحققت صدق(196/138)
رغبة محمد في السلام؟ وكيف يريد أن يحقن دماء أهل المدينتين: التي ربته وليداً والتي آوته طريداً. هاهو ذا أبو سفيان يتقدم الفاتحين داعيا قومه إلى ترك الكفاح وإلقاء السلاح. وهاهو ذا جيش الفاتحين ينقسم أربعة أقسام، يدخلون مكة من جهاتها الأربع: الزبير بن العوام على رأس فريق، وخالد بن الوليد على رأس فريق، وسعد بن عبادة على رأس ثالث، وأبو عبيدة بن الجراح على رأس الرابع. ولست أظن أن هؤلاء سيلقون مقاومة، وإن كنت أشك في هؤلاء الذين يقيمون بأسفل مكة، وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل، فما أظنهم يخلدون إلى الاستسلام، بل يأبون إلا امتشاق الحسام. على أن خالدا سوف يعمل فيهم نباله ونصاله، فلا يلبثون إلا ساعة من نهار يلوذون بعدها بأذيال الفرار، وتستطيعين أن تعتبري هذا اليوم في تاريخ مكة فاصلا بين عهدين، خالدا على مر الجديدين. هنيئا لمحمد! لقد غادر مكة آبقاً تحت أذيال الظلام، ثم دخلها دخول القياصرة العظام، فليصدح مؤذنه بالأذان حتى يش اجواز الفضاء، وليقم شعائره في ضوء النهار لا من وراء ستار، وليطف بأرجاء مكة آمنا مطمئنا، وليتفقد منزله إن كانت أبقت أيدي القوم عليه، وليزر معاهد صباه، وليغش حراء الذي كان يتحنث فيه، وليملأ عينيه من أرض مكة وسمائها، وليملأ رئتيه من هوائها، ليتنفس هواءها الآن نقيا صافيا، بعد أن حرمه عشرة أعوام، وتنفسه مسموما موبوءا ثلاثة عشر عاما. ولتتداع إلى خاطره الذكريات، وليستجمع العمر في لحظات. ويل لهبل ومناة، والعزى واللات، ولتلك الأصنام المشدودة إلى الكعبة بالرصاص. ولتلك الصور التي تمثل ملائكة السموات غواني فاتنات. هذا آخر عهدهن بأستار البيت، لشد ما كان يمقتها محمد. وكأني به يعمل فيها معول التحطيم ويحرم من أجلها على قومه النحت والتصوير، وهكذا تسيء الوثنية إلى الفن كما أساءت إلى الدين، ولكن ما تظنين محمداً فاعلا لقريش؟
قالت الثانية: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، إن محمدا ابر بقومه من أن يجد عليهم أو يؤاخذهم بما اقترفوا، وإنه لأكبر من أن يتشفى بالترة عند المقدرة، وقريش يأسرها المعروف كما ترهبا حدة السيوف. ولو أن محمدا أراد الانتقام لرأى من المهاجرين محبذين، ومن الأنصار أنصارا. إن سيوف أولئك وهؤلاء لتظمأ إلى ما في عروق القوم من دماء، أو ما سمعت سعد بن عبادة عندما دخل مكة صاح قائلا: (اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل(196/139)
الحرمة) فما هو إلا أن سمع محمد صياحه، فتقلصت شفتاه، وقدحت الشرر عيناه، ثم اختطف الراية من سعد، وأعطاها قيسا ابنه. إن الرجل لا يريد بقومه شرا، وإنه ليضرب للعالم بذلك المثل الأعلى في الصفح والمغفرة عند القدرة، وإني لأذكر لمحمد مواقف من هذا القبيل تعتبر مثلا عليا في الصفح الجميل. فلقد سمعت أنه يوم حشد هذا الجيش لفتح مكة، أخذ على الناس المواثيق أن يتكتموا أمره ولا يذيعوا سره، ولكن حاطب بن بلتعة كان له بمكة ولد وأهل أشفق عليهم فكتب إليهم حتى يتجهزوا لقتال محمد؛ بيد أن خبر الكتاب نمى إلى محمد، فسرعان ما أرسل عليا والزبير في أثر حامل الكتاب، وكان امرأة فأدركاها فاعترفت بحرمها وأخرجت الكتاب من بين غدائرها. تعرفين ماذا كان جزاء حاطب وهو من جيش الرسول ومن شهود بدر؟ لقد جوزي على هذه الخيانة العظمى بالصفح والغفران! قال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإن الرجل قد نافق، فقال الرسول - بعد أن أطرق هنيهة - (دعه يا عمر وما يدريك أن الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهكذا تذكر النبي بجوار هذا الغدر موقف الرجل ببدر فاغتفر الإساءة اللاحقة للإحسان السابق وخالف ما درج عليه الناس، فكل الناس
ينسى من الإحسان طودا قد رسا ... وليس ينسى ذرة ممن أسا
ولقد تمثلت محمدا إذ وقف بأحد بعد أن وضعت الحرب أوزارها فرأى عمه حمزة مبقور البطن مجدوع الأنف ممضوغ الكبد ممثلا به أي تمثيل. فأقسم لئن أظفره الله بقريش ليمثلن بسبعين من قتلاهم؛ فهاهي ذي قريش مطأطئة الرقاب، وهاهي ذي رءوس قريش دانية القطوف، فما يمنع محمدا أن يطفئ من غلته ويبر بأليته؟ إنه المتسامح في اجمل صوره وأعلى أمثلته. على أنني لا أخال محمدا مهما بلغ من تسامحه يعفو عن الحويرث الذي أغرى على زينب ابنته عند هجرتها، أو عن هذين الرجلين اللذين أظهرا الإسلام ثم ارتكبا جريمة القتل بالمدينة ثم ارتدا إلى الشرك، أو عن قينة ابن خطل التي كانت تتغنى وتسمر بهجائه، فهو لابد قاتلهم، ولعلك لا تنكرين ذلك على محمد متناسية أن اللين لابد أن يشوبه العنف وإلا شاه جماله. ولقد كانت لمحمد بجانب تسامحه البالغ صرامة بالغة. ولعلك تذكرين أنه يوم قبل الفداء من بعض أسرى بدر وأطلق بعضا آخر أبى إلا أن يضرب عنق النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط، لشدة ما ناله من الأذى على أيديهما قبل(196/140)
هجرته. ولعلك تذكرين أنه ما كادت جنود الأحزاب تتخلى عنه في غزوة الخندق حتى تفرغ لليهود الذين تألبوا مع العدو عليه في ساعة العسرة فأباح دماءهم وأموالهم ونكل بهم شر تنكيل، وكيف أنه كان يعترض لقريش وغير قريش من المشركين يريق دماءهم، ويسلبهم إبلهم وشاءهم حتى يعتصموا بالإسلام، وما كان ذلك تجنيا من محمد، ولكنها الدعوة الروحية يجب أن تؤيدها القوة المادية، حتى ينظر إليها الناس نظرة جدية، وهكذا تمهد السيوف للأقلام، ويتضافر الاثنان على نشر لواء الإسلام
قالت الأولى: ثم ماذا بعد فتح مكة
قالت الثانية: ما يدرينا؟ لقد كان محمد يعد قومه ملك فارس والروم فيتهكم به كفار قريش قائلين: (هذا ابن أبي كبشة - يعنون زوج مرضعه حليمة - سيرث ملك الأكاسرة والقياصرة)، ولعله لو امتد بنا الزمان بضعة أعوام، شهدنا تحقيق هذه الأحلام
قالت الأولى: لقد احسنا إلى محمد يوم آويناه في الغار، وساعدناه على الفرار.
قالت الثانية: أكبر الظن أننا أحسنا إلى الإنسانية جمعاء: استحدثنا ثقافة، وأقمنا بناء حضارة، وغيرنا مجرى التاريخ.
كوم حمادة
محمود غنيم
مدرس بالمدرسة الابتدائية الأميرية(196/141)
نفخة شرقية في أدب غربي
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
كان شاعر الألمان (جوته) يعنى منذ صباه بتاريخ الشرق وشعره. فدرس العبرانية وأدمن مطالعة التوراة. وكان يهتز لها لما يجده بها من أريحية الشعر، وبخاصة (قصة راعوث) و (نشيد الأناشيد). وهو يعتبر النشيد نسيج وحده في الرقة وحرارة الحب، وكان يستروح منه نسمة دافئة تهب من بقاع كنعان، وتتراءى له فيه حياة الحقول الوادعة ومزارع الكروم ومنبسط الرياض ومنابت الطيوب العاطرة. ويأنس من بعيد زحمة المدن ببني إسرائيل، وفيما وراء ذلك جميعه يتخيل ديوان سليمان وأبهة ملكه.
وينتقل جوته من العهد القديم العبري. إلى عصر الجاهلية العربي. حيث يقع على الكنوز المذخورة في المعلقات. تلك القصائد المطولات التي أحرزت الفوز بميدان النزال الأدبي في أسواق الشعر عند العرب. وهو يتمثل منها أهل البداوة الرعاة المقاتلين، لا يبرحون في غارات إثر غارات، يؤججها ما بين قبائلهم من تراث وخصومات. ويقول شاعر الألمان إن المعلقات تحدثه بأقوى بيان عن العصبية التي تربط أبناء القبيلة الواحدة، وعما الطبع عليه العرب من روح الإقدام والبسالة، والتحرز من العار والاستمساك بدرك الثار، وطلاب المجد، والتماس الفخار. وكيف أنهم كانوا يقدمون النسيب بين يدي هذه الفضائل الشديدة فيلطف عرامها وعنفها، بما يبثه من الأسى والحنين ولوعة الهوى وحسن الوفاء. ويزيد هذه القصائد العصماء قيمة عنده أن لكل منها سمة غالبة يلمسها القارئ ولا ينكرها
على أن الذي شغل جوته أكبر الشغل هو شخصية سيدنا محمد. وغير خاف أن العالم المسيحي كان من أيام الحروب الصليبية سيئ الرأي بطبيعة الحال في صاحب الشريعة الإسلامية. وكانت الكنيسة تتجاهل وجود القرآن وتحرم ترجمته، حتى جاء القرن السادس عشر والسابع عشر، فعمد بعض العلماء إلى نشر تراجم له مشفوعة دائما بدحض ما جاء به وتفنيده. ولعل ذلك منهم من قبيل التقية ودفع الشبهة، وحرصا على تزكية عملهم والتكفير عنه عند أهل ملتهم. ثم بزغ على الأثر عصر الشك، أو ما يسمونه عصر النور. وكان دعاته يحملون على الأديان كافة حملتهم الشعواء، ولا يريدون أن يروا في أصحابها إلا دجاجلة مغررين يزعمون للناس أنهم ملهمون. إلا أن الأحوال تعدلت، وانبرى بعض(196/142)
المحققين من جهابذة الغرب إلى هدم التخرصات المنسوبة إلى محمد في العالم المسيحي، وكتبوا سيرته الشريفة بروح عالية توفر لها التجرد عن الهوى والاستغراق في الموضوع فانجلى لكل ذي عينين محمد رجل الدين، الثابت اليقين في الله الواحد الأحد، وعرفوا فيه رسولا من رسل العناية لنشر التوحيد من أقاصي الهند إلى ربوع الأندلس. واطلع شاعرنا جوته وقتئذ على سيرة محمد، وحيا فيه النبي العظيم والروح القوي الأمين، حاطم الأصنام الداعي إلى دين الفطرة
وقرأ جوته القرآن وطبع مختارات منه مأخوذة عن الترجمة الألمانية. وظل طويلا يمعن في درسه إمعان الباحثين. وهو يشير إلى أن القارئ الأجنبي قد لا يحبه لأول قراءته، ولكنه يعود فينجذب إليه، وفي النهاية يروعه ويلزمه الإكبار والتعظم
ويستشهد جوته بآيات الكتاب العزيز في بيان تعاليم الدين (ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون. إن الذين كفروا سواء عليم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم)
ويقول جوته إن القرآن يردد هذه التعاليم ويكرر البشير والنذير سورة بعد سورة. ولا يرى جوته في هذا الترديد والتكرار ما يراه النقاد الغربيون. لأن النبي لم يرسل للناس برسالة شاعر للتفنن والتنويع في ضروب الكلام، وعرض الصور المزوقة من الأخيلة والأوهام، لاستحداث اللذة وإدخال الطرب على الأسماع والأذهان. بل هو بنص القرآن بعيد عن هذا الوصف. وإنما هو نبي مرسل لغرض مقدر مرسوم يتوخى إليه أبسط وسيلة وأقوم طريق، وهذا الغرض هو إعلان الشريعة وجمع الأمم حولها وانضواؤهم إلى لوائها. فالكتاب العزيز أنزل ليقتضي الناس الخبوت والإيمان، لا لمجرد المتعة والاستحسان، وإذا ما عرض للقصص فليس المقصد الأول هو التاريخ والأخبار، وإنما ضرب الأمثال للموعظة والاعتبار
وقد أراد جوته تأليف قصة تمثيلية عن محمد، وشرع فيها من أيام شبيبته فنظم منها مناجاة للنبي وهو بالليل وحده في الخلاء تحت السماء الساجية السافرة النجوم. وقد اقتبس فيها(196/143)
هذه الآيات في دحض الشرك: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة! إني أراك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشكرون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، حنيفاً وما أنا من المشركين). ثم أدار جوته حوارا بين محمد ومرضعته حليمة. كما أنه وضع نشيداً على صورة مقطعات يتناوب إنشادها (علي) وزوجه (فاطمة) بنت الرسول. وهو تصوير رائع لقوة هذا الإنسان المبعوث من عند الله، ووصف شعري لفيض الإسلام وسرعة ذيوعه ودخول القبائل والأمم فيه أفواجا أشبه ما يكون بالنبع في الجبل لا يزال يتحدر من النجاد إلى الوهاد، ويزخر بما ينصب فيه من الروافد فيتسع مجراه وينتظم البلاد الواسعة والممالك العظيمة حتى يبلغ المحيط الأعظم
ولم تزل فكرة هذه الرواية ماثلة في مخيلة جوته حتى وضع مشروعها. وعلى مقتضاه تبدأ الرواية بنشيد ينشده محمد وحده بالليل تحت السماء الساجية، ويشعر بنفسه العاكفة على التأمل والتفكير يسمو صعداً إلى الله تعالى الذي تستمد سائر الكائنات وجودها من وجوده. ويكاشف محمد بهذا الهدى زوجه خديجة فتؤمن به عن طواعية أول المؤمنين. ثم في الفصل الثاني يقوم النبي يناصره علي بالدعوة إلى دينه بين قومه فيلقى العطف من فريق، والمعارضة من فريق، كل على حسب طبعه وما ركب في جبلته. ويقع الخلف بين القوم وتشتد الملاحاة ويضطر محمد إلى الهجرة. وفي الفصل الثالث ينتصر محمد على خصومه ويطهر الكعبة من الأوثان. وتستوي دعوته دينا مقررا، وتجتمع له أسباب الجهاد قولا وفعلا. ويظهر الرجل السياسية إلى جانب الرجل الديني. وفي الفصل الرابع يتابع محمد مغازيه، ويتخذ لها عدتها ويتوسل بوسائلها. وتدس له السم امرأة من يهود خيبر ثكلت أخاها. والفصل الخامس والأخير يبلغ فيه محمد أوج كماله وتتجلى عظمته الروحية. ثم تعاود عقابيل السم فينتقل إلى جوار ربه. . . غير أن هذه الرواية وقفت عند حد المشروع، مما نأسف له شديد الأسف.(196/144)
وقد كان جوته في مدينة (ويمار) - وهي الآن تكريما له عاصمة الريخ الألماني - حين جاز بها الروس المسلمون من شعب البشكير على ظهر جيادهم، ونزلوا بها، واتخذوا أحد معاهد البروتستانت مسجداً للصلاة. ولا تسل عن فرحة جوته بهم وحضوره صلاتهم واستماعه إليهم يرتلون آيات القرآن ومقابلته إمامهم وتحيته لأميرهم في المسرح. وهو يذكر في هزة المحبور أنهم اختصوه من رعايتهم بقوس وسهام لم يزل يعلقها فوق موقده طيلة عمره تذكارا باقيا. وبلغ من حب جوته للشرق أنه كان يعالج محاكاة الكتابة العربية ورسم حروفها، ويغتبط وهو يقيمها ويسطرها من اليمين إلى اليسار على عكس كتابة أهل الغرب
فهل وقف جوته عند هذا الذي عرفه وأحبه في الشرق؟
الواقع أن فيما عرفه جوته حتى الآن عن الشرق وفيما أحبه منه مقنعاً وأي مقنع. ولكن الرجل أبت له نفسه الرحيبة ألا يجتمع فيها الشرق السامي والشرق الآري كما يقولون: شرق العبرانيين والعرب وقد تقدم، وشرق الهند والفرس
فقد أقبل الرجل يتعرف إلى المئات والمئات من آلهة الهند ويشهد في التهاويل والصور وأوثانهم الهائلة المخيفة، واطلع على مطولات أساطيرهم، واحتار بين أتاويه مذاهبهم، وتعجب لاختلاط الشهوات بالقداسات عندهم، والتقاء الحضيض بالسموات في نظرهم. وقد أخرج من ذلك أساطير هندية رائعة منها (الإله والراقصة) و (موبذ البراهمة وزوجه) وغيرهما
وقد أثنى جوته على حكايات الفيلسوف (بيدبا) التي وضعها للملك (دبشليم) على ألسنة الحيوان، ويلاحظ جوته أن الفرس نقلوا هذه دون غيرها عن الهند لعدم اتصالها بالوثنية الهندية الفظيعة، ونفور أذواقهم الدقيقة المهذبة من تلك الفلسفة الدينية العويصة. أما هذه الحكايات عن كليلية ودمنة فهي تقع موقع القبول عند الناس أجمعين، وقد صار لها شأنها الكبير عند الفرس والعرب لما انطوت عليه من الحكمة العملية والخبر بالحياة.
وكان شاعرنا الألماني في ذلك الأوان قد أوفى على الستين، ولكنه مجدد الشباب أبداً كالخالدين. وقد اختار لمطافه الأخير أدب فارس، أدب الجنات والبساتين، أدب الورد والبلابل، والحب الحسي والوجد العلوي. ولقد استغرق جوته في هذا الأدب ونسى عالمه(196/145)
الخارجي وكان يؤثر واحداً بين شعرائه الكثيرين، وقد اتخذه صاحبه ومرشده الديني في هذا الجو الشرقي المشبع بالمتعة والحنين. وهو شمس الدين محمد حافظ الشيرازي أرق شعراء الفرس الغنائيين.
وزاد اعتزال جوته لما حوله، وأبعد بفكره، أميالا بعد أميال، وارتفع أطباقا فوق أطباق، وتخلص من قيود الزمان والمكان وانفتحت له من ديوان حافظ الشيرازي أبواب الشرق، الشرق مهد الإنسانية، بما فيه من أوضاع للشعر والاجتماع والأخلاق والدين تختلف عما يعهد). فخلص جوته من هذه وتلك إلى صميم الحياة، إلى الوحدة والبساطة.
وكانت أشعار حافظ تكشف لجوته عن حياة تمت إلى حياته بأقرب وشائج القربى. حياة حياها هو أيضاً، حياة نفس تتقبل الوجود بمنتهى الحرية والمتعة، وتناجي الغيب دون أن تقطع ما بينها وبين الأرض. وتواجه التعصب والجمود بالتصوف الحي والإحساس بالشمول. لكأنما هي حياة جوته هذه التي يحكيها حافظ. الممالك تنهار ويقوم الحاكمون في إثر الحاكمين فلا تسمع منها غير الغناء يتحوى نفوسهما وأشجانها الحلوة وأسرارها الخالدة. وكلاهما يقف وجهاً لوجه أمام قاهر طاغية - هذا أمام تيمورلنك، وهذا أمام نابليون، فلا تنخذل عبقرية الأدب في وجه عبقرية الحرب. إن جوته لمأخوذ بهذه المشابهة يهتز لها من أعماق نفسه. فهو يعلم ما لهذه اللحظة من خطر. إذ يتصل فيها الجنسان باتصال نفسين كبيرتين من الجانبين. وهذا هو جوته يحس باستكمال شطره الثاني، يحس بالشرق والغرب يلتقيان فيه. وتضمهما دفتا كتاب واحد يخرجه للناس هو (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي).
وأبواب الديوان اثنا عشر باباً؛ وهذه هي بأسمائها الشرقية على الترتيب: كتاب المغني. كتاب حافظ. كتاب حافظ. كتاب العشق. كتاب التفكير. كتاب السخط. كتاب الحكمة. كتاب تيمور. كتاب زليخا. كتاب الساقي. كتاب المثل. كتاب الفرس. كتاب الخلد. وفيما يلي ترجمة القليل من روائع هذه الأسفار:
نشيد الهجرة
(الشمال والغرب والجنوب أقطار تتناثر بدداً، وعروشها تنثل وممالكها تنهار. فهاجر وامض إلى الشرق الطهور، تستروح الطيب من الآباء الطيبين. وبالحب والنشوة والغناء يرد عليك ريعان صباك كأنما نضح عليك من نبع الشباب السرمد الخضر عليه السلام.(196/146)
(هناك في ظل النقاء والصدق تطيب لي الرجعى إلى نشأة الإنسانية الأولى. إلى الأزمان التي تلقى فيها بنو الإنسان كلمة الحق منزلة من الله بلسان أهل الأرض. فلم يقدحوا فكراً ولم يكدوا ذهنا. إلى تلك الأزمان التي كانوا فيها يبجلون السلف. وينهون عن كل دين غير دينهم
(أريد التملي من عصور الفطرة بأفقها الممدود المحدود: فكر قانع وإيمان واسع
(أريد معاشرة الرعاة في المنتجعات، والاسترواح في ظلال الواحات، والارتحال مع القوافل متجرا في الطرح والبن والمسك، طارقاً كل درب من البوادي إلى الحضر
(وسيان أنجدت أو اتهمت، فإن أغانيك يا حافظ تؤنسني في وعثاء السفر، إذ يترنم المرشد بها على ظهر برذونه مأخوذا طربا، وكأنما يوقظ بها النجوم الوسنى، ويرهب قطاع الطريق
(هناك في الشرق في ردهات حماماته وبين جدران خانه، أريد أن أذكرك يا مولانا حافظ وقد رفعت حبيبتي خمارها، وتضوع الطيب من غدائرها المهدلة المضمخة بالعنبر
(وليعلم الذين ينفسون على حافظ جمال حياته وحلاوة شعره، والذين تطوع لهم نفوسهم التعريض بهتانا بكفره، أن كلمات الشاعر لا تبرح حائمة حول جنة الخلد، طارقة في لطف أبوابها تطلب الخلود)
تعويذة
(لله المشرق، ولله المغرب، وفي راحتيه الشمال والجنوب جميعا
(هو الحق، وما يشاء بعباده فهو الحق. سبحانه له الأسماء الحسنى، وتبارك اسمه الحق، وتعالى علواً كبيرا
(ينازعني وسواس الغي. وأنت المعيذ من شر الوساوس. فاللهم اهدني في الأعمال والنيات إلى الصراط المستقيم
(ومهما تضللنا النزعات وتزين لنا الشهوات. فالنفس التي لا تذهب في الغي شعاعا ولا تضيع ضياعا، لا تلبث بالادخار والأباء أن تنطلق عارجة إلى أوجه العلاء
(وللناس في ترديد أنفاسهم آيتان من الشهيق والزفير: هذا يفعم الصدور وهذا يفرج عنها. كذلك الحياة عجيبة التركيب. فاشكر ربك إذا بليت. واشكر ربك إذا عوفيت(196/147)
منن أربع
لكيما يسعد العرب في البيداء، راتعين في بحبوحة الفضاء، وأولاهم المولى ذو الخير العميم مننا أربعة:
أولى هذه المنن: العمامة. وهي زينة أروع من التيجان كافة. ثم خيمة يتحملونها من مكان إلى مكان، حتى ليعمروا كل مكان. ثم حسام بتار هو أمنع من الحصون وشاهق الأسوار. ثم القصيد يؤنس ويفيد، ويسترعي أسماع الخرد الغيد)
الحرية
(دعوني كما أهوى على صهوة جوادي السابح، وابقوا أنتم في بيوت المدر وخيام الوبر! إنني لأنطلق جذلان في الفضاء الشاسع، وليس فوق عمامتي إلا النجوم الزواهر
وما زينت السماء الدنيا بمصابيح، إلا هدى للناس في البر والبحر ولتكون متعة للناظرين أبد الدهر كما ولوا وجوههم قبلة السماء)
عناصر الشعر
(كما العناصر التي يقوم بها القصيد حتى يتملاه العامة ويلذ سماعه الخاصة؟
(إذا قيل الشعر فليكن النسيب المقدم. فإن الحب إذا مازج الشعر زاد نبراته حلاوة وبعدها فليردد الشعر رنين الكؤوس ولتتلألأ فيه كميت الخمر كالياقوت فإنما العشاق والندامى هم وحدهم من ترتاح لهم وتهش لمجلسهم
كذلك يطيب في الشعر سماع صلصلة السيوف ودوي النفير ولجب الوغى حتى إذا انجلى الحظ أبلج أزهر دان الناس للبطل، وغدا بينهم مؤلها بما أصاب من النصر المؤزر
(ولا معدى للشاعر في آخر الأمر عن التنكر لأشياء شتى والتعرض لها بالهجاء. فما كان لمثله أن يلقى القبيح المشنوء. بمثل ما يلقى الحسن المستحب
(فإذا اجتمعت للشاعر هذه المقومات الأربعة. فقد أشاع البهجة والحياة بين الورى أجمعين. إلى أبد الآبدين
أسير:
(هنا كان الطرف الأدعج والثغر الأحوى اللذان حظيت منهما باللحاظ والقبل، قوام سبط،(196/148)
وأعطاف بضة لينة، كأنما هي لحورية من جنة النعيم.
(أكانت هنا حقا؟ وأين مضت؟ أجل، هي بعينها التي جادت بهذا كله، هي التي سمحت ثم ولت هاربة. لقد تيمتني وتركتني ما حييت أسيرها)
كتاب مطالعة:
(سفر ما أعجبه بين الأسفار! ذلك سفر العشق. لقد أمعنت في مطالعته. بضع صفحات من اللذة، وأبواب مستفيضة في الألم. اختص الفراق بجزاء كامل واقتصر اللقاء على فصل وجير. على مقطوعة. وللأشجان مجلدات مذيلة بحواش لا حصر لها ولا آخر)
سلام:
(واها! ما أسعدني!. . . كنت أتمشى خلال الحقول فإذا الهدهد يطفر في طريقي، وكانت بغيتي البحث هنا وهناك عن ودعت متحجرات مما تختلف عن البحر القديم، فاعترضني الهدهد في اختيال ناشرا تاجه متبخترا في هيئة المدل الساخر، وإنه لسخر الحي بالميت. فقلت له: يا هدهد! في الحق إنك لطائر جميل. انطلق يا هدهد وبلغ حبيبتي أني لها وملك يمينها ما حييت. وكذلك كنت يا هدهد من قبل رسول الحب بين سليمان وملكة سبا)
(فقال الهدهد: إن التي أنت موفدي لها، قد أودعتني كامل سرها، في نظرة واحدة من ناعس طرفها. وأنا أغبطك على سعادتك. فأنت محب وأنت محبوب. ودوام الحب الزاهر مقترناً بالقوى الخالدة بقية أيامك قدر لك مقدور وطالع مكتوب)
قارورة العطر
(لكي يتحبب إليك المحب بالعطر العبق، ويزيد في انشراحك وبهجتك، يهلك العطار على النار العدد العديد من أكمام الورد. فلابد له من عالم منها ليستقطر ملء قارورة صغيرة، قارورة مخروطة مستدقة كأناملك لكي تهدي إليك، فهل ترانا نذكر هذه الآلام والعطر يفعم حسنا ويزيد في متاعنا! هيهات. وكم هلكت أنفس لا عداد لها في سبيل عظمة تيمور)
لذة الإحسان
ما أحلى نظرة الجارية ذات الدل وهي تغمر بطرفها. ونظرة النديم تلمح عينه بالرضى وهو يحتسى كأسه. وما أحلى تسليم السيد الآمر بشملك بعطفه. وشعاع الشمس في الخريف(196/149)
ينعشك بدفئه. فليكن أحلى من هذه جميعاً في نفسك حركة الاستعطاف اللطيفة تمتد بها كف الفقير في طلب الصدقة، وتتلقى منك بالحمد الجميل ما تجود به. فما أحلاها وقتئذ نظرة وما أحلاها تحية وما أحلاها بلاغة في السؤال. تأمل هذا فإذا أنت الكريم الجواد على الدوام.
مثل الإيمان
تحدرت من السماء إلى لجة الخضم قطرة مرتجفة، فأنحت عليها الأمواج خفقاً وضربا. ولكن الله جزاها عن صبر إيمانها خيرا. فوهب لقطرة المطر قوة واعتصاما. فاحتوتها الصدفة في حرز حريز. وأتم الله عليها العز والجزاء الأوفى فهي اليوم على تاج الشاه درة تتألق حلوة اللمح سنية البهاء
الدين
من الحماقة التعصب للدين. وإذا كان الإسلام هو التسليم لله فقد وجب أن نحيا ونموت مسلمين أجمعين.
ونحن نقف من الديوان عند هذا الحد. وان كان في الديوان زيادة للمستزيد. ولكن ضيق المقام يمنع من الإفاضة. وفيما تقدم الكفاية للدلالة على ما انطوى عليه هذا الشاعر الغربي من الروح الشرقي.
والعجيب أن شاعرنا هذا كلما تقدمت به السن وآذنت شمس حياته بالغروب كان يزداد تطلعا إلى الشرق
وهذا عجيب، ولكنه من جوته غير عجيب فإن ذلكم الرجل العامر بالحياة كان حتى ساعة إن حضرته الوفاة مولعاً بكل مطلع للنور حسيا كان أو روحيا. وقد قضى نحبه ويده المرتجفة تشير برفع الأستار، وعيناه إلى النافذة وهو يتمتم بهذه الكلمة العليا والمطلب الأخير: المزيد من النور! المزيد من النور
عبد الرحمن صدقي(196/150)
علوم القدماء عند العرب
ولاسيما في القرن الخامس للهجرة بمصر
للدكتور يوسف شخت
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب
أجمع علماء الشئون الشرقية على أن أحد أركان المدنية الإسلامية راجع إلى المدنية الإغريقية في آخر مراحلها
فلم يكد العرب يشتركون في تدعيم صرح تلك المدنية العظيمة إلا بلغتهم ودينهم. أما معظم المواد الأخرى فهو مأخوذ من ذلك التراث المجيد الذي تركه اليونان والذي قد توطن في البلاد الشرقية منذ عصر الاسكندر ذي القرنين. ثم جاءت الدولة العربية فأكملت توطن العلوم والآداب الإغريقية في الشرق الأدنى، ومكنتها من الإزهار في تلك المنطقة الرحيبة التي احتضنتها في دائرة حدودها السياسية. فنجد إن حركة ترجمة الكتب اليونانية في الفلسفة والعلوم الطبيعية والطب التي كانت قد بدأت في تلك البلاد قبل فتح العرب لها قد نشطت إلى حد بعيد في آخر القرن الثاني وفي القرن الثالث للهجرة. ولما كانت لغة التراجم الأولى هي اللغة السريانية فإنها بهذا الوضع بقيت الوسيط بين تراث اليونان وبين مدنية الإسلام كما كان معظم المترجمين من النصارى النسطوريين وفي مقدمتهم الحكيم الفيلسوف حنين بن اسحق (194 - 260) الذي كان يشتغل (في بيت الحكمة) ذلك المعهد العلمي الذي أسسه المأمون الخليفة العباسي ببغداد لترجمة كتب العلوم. حنين هذا هو الذي خلق المركز الرائع لآراء جالينوس في القرون الوسطى في الشرق ومنه إلى الغرب
ويشهد بالمجهود العظيم الذي بذل في ترجمة الكتب اليونانية أن الخلفاء أنفقوا على الرحلات للبحث عن مخطوطات قيمة، وأن حنينا، كما أوضح بنفسه لم يكتف بأصل واحد وإنما كان يراجع بقدر الإمكان لا أقل من ثلاث نسخ ليستطيع بمقارنتها الحصول على متن صحيح
كانت هذه أي - دورة التراجم - مرحلة استعداد، وتبعها في القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس الدور العظيم للعلوم الطبيعية والطبية في بلاد الإسلام. وجد علماء(196/151)
المسلمين أنفسهم بعدئذ على أساس متين من العلوم اليونانية مضافا إليها بعض نتائج دراسات الفرس والهنود، وبدءوا يضيفون إلى هذا التراث من مبتكراتهم. وفي الوقت نفسه فقد المسيحيون مركز احتكارهم (أو كاد) لهذه العلوم وارتفع إلى مستواهم المسلمون
إن أبرز ما في ذلك العصر من الشخصيات العملية الفذة ثلاثة: محمد بن زكريا الرازي (المتوفى سنة 311) وهو أكبر أطباء العالم الإسلامي وأحد أطباء الدنيا الخالدين، وحسين بن عبد الله بن سينا (370 - 428) وكان فيلسوفاً وباحثاً طبيعيا له أكبر الأثر في أوربا بصفته وسيطا لنقل الطب الإسلامي إليها بمؤلفه الكبير المسمى بالقانون، وأبو ريحان محمد بن أحمد البيروتي (362 - 440) وهو أكبر الباحثين الطبيعيين في دائرة الحضارة الإسلامية وأبدعهم تفكيراً ومنهجا.
ما أجود ثقافة هذا الرجل الخوارزمي العجيب وإحاطته بمختلف العلوم والفنون من يونانية وعربية وإسلامية، كما يظهر من مقدمة كتابه في الصيدلة إذ يقول:
(كل واحدة من الأمم موصوفة بالتقدم في علم ما أو عمل، واليونانيون منهم قبل النصرانية موسومون بفضل العناية في المباحث وترقية الأشياء إلى أشرف مراتبها وتقريبها من كمالها. ولو كان ذيسقوريذس في نواحينا، وتصرف جهده على تعرف ما في جبالنا وبوادينا، لكانت تصير حشائشها كلها أدوية، وما يجتني منها بحسب تجاربه أشفية، ولكن ناحية المغرب فازت به وبأمثاله وأفازتنا بمشكور مساعيهم علما وعملا. وأما ناحية المشرق فليس فيها من الأمم من يهتز لعلم غير الهند، ولكن هذه الفنون خاصة عندهم مؤسسة على أصول مخالفة لما اعتدناه من قوانين المغربيين، ثم المباينة بيننا وبينهم في اللغة والملة والعادات والرسوم وإفراطهم في المجانبة بالطهارة والنجاسة تزيل المخالطة عن البين وتفصم عرى المباحثة. ديننا والدولة عربيان وتوأمان يرفرف على أحدهما القوة الإلهية وعلى الآخر اليد السماوية. . . وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت في الأفئدة، وسرت محاسن اللغة في الشرايين والأوردة، وإن كانت كل أمة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها واستعملتها).
لم ينحصر تقدير العلوم اليونانية مثل هذا في فئة معينة من العلماء، بل كان منتشرا بين الجميع طول القرن الرابع.(196/152)
هاهي ذي بغداد بمدرستها الفلسفية الطبية التي هي خليفة مدرسة الإسكندرية المشهورة، ولا يصعب علينا اقتفاء أثر انتقالها من الإسكندرية إلى بغداد عن طريق إنطاكية وحران. ومن كبار العاملين بها في القرن الرابع المترجم المسيحي أبو بشر متي بن يونان (المتوفى سنة 328)، وأبو نصر محمد الفارابي الفيلسوف الإسلامي (المتوفى سنة 339)، وتلميذه الفيلسوف المسيحي يحيى بن عدي (المتوفى سنة 364)، والباحث المحقق أبو الحسن المسعودي (المتوفى سنة 346)، وغيرهم من الفضلاء. وقد خلد الأديب أبو حيان التوحيدي (المتوفى بعد سنة 400) في مؤلفه المسمى (بالمقابسات) ذكر مجالس أبي سليمان السجستاني المنطقي (المتوفى بعد سنة 391)
فكان القرن الرابع هذا أزهى عصر لدرس العلوم اليونانية في الحضارة الإسلامية، واستمرت تلك الدراسات وازدهرت في القرن الخامس أيضا خصوصا في بغداد، مع امتداد أشعتها إلى بلاد أخرى ولاسيما إلى مصر.
نتمنى أن نبحث ذلك الدور الأخير لنفوذ التفكير اليوناني في الشرق الأدنى بمناسبة مخطوط محفوظ في إحدى مدارس الموصل يشمل مناظرة دارت بين طبيبين فيلسوفين، وإن كانا دون أولئك الفحول درجة إلا أنهما شغلا مكانا جليلا في تاريخ الطب والعلوم الطبيعية في عالم الإسلام. هما أبو الحسن المختار ابن بطلان من نصارى بغداد، وعلي بن رضوان المصري. تتلخص مناظرتهما في أن كل واحد منهما كان يرغب في التدليل على علو كعبه في علوم القدماء، وعلى مقدرته عن الآخر وبروزه فيها عليه. فإنا أن اطلعنا على تراجم حياتهما كما جاءت في تاريخ الحكماء لابن القفطي، وفي عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، نرى أن شخصية كل واحد منهما ليس بينها وبين شخصية الآخر أي تشابه، حتى ليخال القارئ أنه يستحيل عليهما أن يكونا صديقين؛ على أن تنافسهما ربما يرجع أيضاً إلى غيرة كل منهما من صاحبه في صناعة الطب.
درس ابن بطلان الطب والفلسفة في الكرخ (حي من بغداد) على أشهر الأساتذة، وأكثرهم من النصارى، وتدل مؤلفاته على أنه لم يكن متطببا فقط، بل تبحر أيضاً في الآداب العربية والعلوم الإسلامية، كما قال عنه ابن أبي أصيبعة: (وكان ابن بطلان أعذب ألفاظاً (أي من ابن رضوان) وأكثر ظرفا وأميز في الأدب وما يتعلق به. ومما يدل على ذلك ما(196/153)
ذكره في رسالته التي رسمها (بدعوة الأطباء). ففي هذا الكتاب يحمل ابن بطلان على الفشارين المدعين بالطب، ويظهر فسادهم ومضارهم الشائعة ذاك الحين.
يغلب على الظن أن ابن بطلان لم يكن شابا عندما ترك بلدته التي حرمت عليه العودة إليها في مستهل شهر رمضان سنة 440 متجهاً إلى رحلة طويلة ماراً بالأنبار فالرحبة فالرصافة فحلب حيث مكث زماناً، ثم واصل السفر إلى إنطاكية فاللاذقية فيافا حتى جاء مصر حيث مكث ثلاثة أعوام تعرف فيها بابن رضوان. ثم غادر مصر بعدئذ إلى القسطنطينية ثم عاد منها في آخر الأمر إلى إنطاكية. قال ابن القفطي: (فأقام بها وقد سئم كثرة الأسفار، وضاق عطنه عن معاشرة الأغمار، فغلب على خاطره والانقطاع فنزل بعض أديرة إنطاكية وترهب وانقطع إلى العبادة إلى أن توفى بها). وكانت وفاته - خلافاً لما زعم ابن القفطي - بعد سنة 455 بزمان لأنه قد أهل لبناء بيمارستان إنطاكية في السنة المذكورة. وعندما كان في مصر أرسل ابن بطلان إلى المؤرخ الكاتب البغدادي هلال بن المحسن الصابئ كتاباً مفصلا عن رحلته، دل على دقة ملاحظته وعنايته بكل ما رآه، كما أنه لا يزال هذا الكتاب مرجعاً جغرافياً تاريخياً مفيداً للنواحي التي زارها ابن بطلان، فلذلك أورد ياقوت الحموي في كتابه المسمى بمعجم البلدان كثيراً من كلام ابن بطلان. ودليل على كل هذا نذكر شيئاً من وصفه لمدينة اللاذقية. قال: (وهي مدينة يونانية لها ميناء وملعب وميدان للخيل مدور، وبها بيت كان للأصنام وهو اليوم كنيسة، وكان في أول الإسلام مسجدا، وهي راكبة البحر وفيها قاض للمسلمين وجامع يصلون فيه وآذان في أوقات الصلوات الخمس، وعادة الروم إذا سمعوا الآذان أن يضربوا الناقوس، وقاضي المسلمين الذي بها من قبل الروم)
أما ما ذكره من أخبار الروم والمسلمين فهو إيضاح للحالة كما كانت. فهي دورة الانحلال والضعف السياسي للدولة الإسلامية، قد أصبحت البلاد التي كانت تتبع خلافة بغداد مستقلة، وقامت خلافة الفاطميين بمصر، أضف إلى هذا تفشي الوباء والمجاعات بأقطار عديدة وموت كثيرين من رجال العلم أحس الباقون منهم بفقدانهم وبالخلوة من بعدهم. وإنه لمما يسر أن نلاحظ أن تلك البلايا كلها لم تستطع أن تقطع النهوض العلمي العظيم ولا اتصال العلماء بعضهم ببعض برحلات علمية وراء كل الحدود السياسية ولا ارتباطهم بروابط(196/154)
الصناعة رغما عن اختلاف العقائد الدينية
على أن ابن بطلان النصراني هذا الذي كان محترماً ومقدراً عند زملائه المسلمين قاسى متاعب من المسيحيين أنفسهم؛ فأنه (لما دخل إلى حلب وتقدم عند المستولي عليها سأله رد أمر النصارى في عبادتهم إليه، فولاه ذلك، وأخذ في إقامة القوانين الدينية على أصولهم وشروطهم فكرهوه، وكان بحلب رجل كاتب طبيب نصراني. . . يحمل عليه نصارى حلب فلم يمكن ابن بطلان المقام بين أظهرهم، وخرج عنهم. . . وللحلبيين النصارى فيه هجو قالوه عندما تولى أمرهم) (مختصر من كلام ابن القفطي)
قال ابن أبي أصيبعة: (وتوفي ابن بطلان ولم يتخذ امرأة ولا خلف ولدا، ولذلك يقول من أبيات:
ولا أحد إن مت يبكي لميتتي ... سوى مجلس في الطب والكتب باكيا
كان ابن رضوان على النقيض لابن بطلان في أكثر مزاياه؛ فلم يكن لابن رضوان في صناعة الطب معلم ينتسب إليه، ولم يغادر نواحي القاهرة مرة، وكان معجباً بنفسه طماعا بخيلا، لما فقد ماله ذهب عقله، ولكنه مع ذلك كله لم يخل من خلق وعقل يحملاننا على العطف عليه والإعجاب به. هذا ما يمكننا تأكيد عن سيرة حياته: ذكر ابن أبي أصيبعة شيئاً غير قليل منها.
كان مولد ابن رضوان بالجيزة وكان أبوه فراناً، قال: (فلما بلغت السنة السادسة أسلمت نفسي في التعليم، ولما بلغت السنة العاشرة انتقلت إلى المدينة العظمى وأجهدت نفسي في التعليم. ولما أقمت أربع عشرة سنة أخذت في تعليم الطب والفلسفة ولم يكن لي مال أنفق منه فلذلك عرض لي في التعليم صعوبة ومشقة، فكنت مرة أتكسب بصناعة القضايا بالنجوم، ومرة بصناعة الطب، ومرة بالتعليم. ولم أزل كذلك وأنا في غاية الاجتهاد في التعليم إلى السنة الثانية والثلاثين، فإني اشتهرت فيها في الطب وكفاني ما كنت أكسبه بالطب، بل وكان يفضل عني إلى وقتي هذا، وهو آخر السنة التاسعة والخمسين) أما ابن القفطي فيقول (وكان في أول أمره منجما يقعد على الطريق ويرتزق لا بطريق التحقيق كعادة المنجمين، ثم قرأ شيئاً من الطب وشيئاً من المنطق وكان من المغلقين لا المحققين. ومع هذا تتلمذ له جماعة من الطلبة وأخذوا عنه، وسار ذكره، وصنف كتباً لم تكن غاية في(196/155)
بابها، بل هي مختطفة ملتقطة مبتكرة مستنبطة. فأما تلاميذه فقد كانوا ينقلون عنه من التعاليل الطبية والأقاويل النجومية والألفاظ المنطقية ما يضحك منه إن صدق النقلة).
على أنه إذا اعتبره ابن أبي أصيبعة أطب من ابن بطلان وأعلم بالعلوم الحكمية وما يتعلق بها، فربما صح حكمه بالنسبة لمهارته الطبية، إذ استشاره بعض ملوك مكران كتابة. أما في الفلسفة والأدب فلا تجد سبيلا إلى اعتباره متكافئاً مع ابن بطلان كما يظهر من مؤلفاته، رغماً عما يذكره عن نفسه في قوله: (وأما الأشياء التي أتنزه فيها فلأني فرضت نزهتي ذكر الله عز وجل وتمجيده بالنظر في ملكوت السماء والأرض؛ وكان قد كتب القدماء والعارفون في ذلك كتباً كثيرة رأيت أن أقتصر منها على ما أنصه من ذلك: خمسة كتب من كتب الأدب، وعشرة كتب من كتب الشرع، وكتب أبقراط وجالينوس في صناعة الطب وما جانسها مثل كتاب الحشائش لذيسقوريذس، وكتب روفس وأريباسيوس وبولس، وكتاب الحاوي للرازي، ومن كتب الفلاحة والصيدلة أربعة كتب، ومن كتب التعاليم المجسطي ومداخله وما انتفع به فيه، والمربعة لبطليوس، ومن كتب العارفين كتب أفلاطون وأرسطو طاليس والاسكندر وثامسطيوس ومحمد الفارابي وما انتفع به فيها؛ وما سوى ذلك إما أبيعه بأي ثمن اتفق، وإما أن أخزنه في صناديق، وبيعه أجود من خزنه)
وجدير بالذكر أن ابن رضوان المسلم اكتفى بذكر الكتب الإسلامية إجمالا وتأدية للواجب بينما فصل ذكر الكتب المنقولة عن اليونانية واحداً واحداً.
لا حاجة لنا بإيراد تفاصيل إطراء ابن رضوان عن نفسه ومديحه لعمله اليومي ووصفه لمحاسن ترتيب بيته، ولكنا نذكر آخر أمره (عن ابن أبي أصيبعة):
(كان قد أخذ يتيمة رباها وكبرت عنده، فلما كان في بعض الأيام خلا لها الموضع وكان قد ادخر أشياء نفيسة، ومن الذهب نحو عشرين ألف دينار. فأخذت الجميع وهربت ولم يظفر منها على خبر، ولا عرف أين توجهت فتغيرات أحواله من حينئذ) و (تغير عقله في آخر عمره)، وكانت وفاة ابن رضوان في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
يدل على تفانيه في حب علوم قدماء اليونان افتخاره برؤية جالينوس في منامه، قال:
(وقد كان عرض لي منذ سنين صداع مبرح عن امتلاء في عروق الرأس ففصدت فلم يسكن، وأعدت الفصد مراراً وهو باق على حاله، فرأيت جالينوس في النوم وقد أمرني أن(196/156)
أقرأ عليه حيلة البرء فقرأت عليه منها سبع مقالات، فلما بلغت إلى آخر السابعة قال: فنسيت ما بك من الصداع، وأمرني أن أحجم القمحدوة من الرأس؛ ثم استيقظت فحجمتها فبرأت من الصداع على المكان)
هذا ما يكفي تعريفاً بابن بطلان وابن رضوان، ونتجه الآن إلى المناظرة المشهورة التي قامت بينهما. قال ابن أبي أصيبعة: (وكان ابن رضوان كثير الرد على من كان معاصره من الأطباء وغيرهم، وكذلك على كثير ممن تقدمه، وكانت عنده سفاهة في بحثه وتشنيع على من يريد مناقشته. وأكثر ذلك يوجد عندما كان يرد على حنين بن اسحق وعلى أبي الفرج بن الطيب (وكان أبو الفرج هذا أستاذ ابن بطلان ببغداد) وكذلك أيضاً على أبي بكر محمد بن زكريا الرازي. ومن هذا النوع كانت مناقشته لابن بطلان. وقال أيضاً: (وكانت بين ابن بطلان وابن رضوان المراسلات العجيبة، والكتب البديعة الغريبة، ولم يكن أحد منهم يؤلف كتاباً ولا يبتدع رأياً إلا ويرد الآخر عليه ويسفه رأيه فيه.
فأول من ابتدأ المجادلة هو ابن رضوان بمناسبة رسالة لابن بطلان لم تكن موجهة ضده إطلاقاً، بل دارت حول مطلب من مطالب العلوم الطبيعية كثر الكلام فيه بين أطباء ذلك العصر، وهو: أيهما أحر طبيعة الفخر أم الفروج؟ وكان ابن بطلان يعتقد - كما اعتقد السواد الأعظم من الأطباء - أن الفرخ أحر من الفروج، ولكن اليبرودي الطيب الدمشقي الذي قد درس مع ابن بطلان على أبي الفرج ابن الطيب كان عايا أطباء مصر بمسألة ألزمهم بها أن يكون الفروج أحر من الفرخ. فجمع ابن بطلان في مقالته حججا يعضد بها رأي اليبرودي وينقض الرأي الصحيح (بقياس المتعلمين تطريقاً لهم ورياضة. . . وبقياس العلماء أن يظهر فضلهم في حلول الشكوك الغامضة. . . وبقياس المذعنين تبكيتا لهم وهجنة) وأورد في آخرها واحداً وثمانين سؤال تتعلق بالبيض والحضان والفراريج يدعو الأطباء المصريين إلى الإجابة عنها
يظهر أن ابن رضوان ظن نفسه أو بعض تلاميذه مقصوداً بملاحظة من ملاحظات ابن بطلان في رسالته هذه فأجاب عليها بمقالة لم يبحث فيها عن موضع المشكلة نفسها أم يرد على أدلة المعاياة؛ بل نجده فيها أقرب إلى السفسطة والطعن منه إلى أصول الجدل العلمي.
وحسبنا أن نلتقط من مقالة ابن رضوان هذه موضعا يذكر فيه المزايا التي لا يخلو منها(196/157)
الطبيب الكامل، قال: (وقد بين جالينوس أن الطبيب فيلسوف كامل، وأنه من قصر عن ذلك فهو متطبب لا طبيب. والفيلسوف الكامل هو الذي قد حصل على العلم التعليمي والطبيعي والإلهي والمنطقي، فالطبيب هو الذي حصل كل واحد من هذه على الكمال)
لم يقتنع ابن رضوان بهذه المقالة بل ألف رسالة أخرى ضد ابن بطلان يمكننا الحكم ابنها لم تحتو إلا هجاء وذما. فلم يستطع ابن بطلان أن يترك الأمر عند هذا الحد ووجد نفسه مضطراً إلى رد مفصل هو من أظرف الكتب العربية ومن أبدعها سماه (المقالة المصرية) عَرَجَ فيه عروجا علميا فائقا يقصد به فضح آراء ابن رضوان كلية. يشتمل على مقدمة وسبع فصول. يعتذر ابن رضوان في المقدمة إلى خصمه بأنه إنما ألف كتابه هذا امتثالا لرغبة بعض الجهات الجليلة، ويناشده بإله السماء وتوحيد الفلاسفة، أن يجيبه بقلب طاهر نقي خال من درن الغضب؛ (فثاميسطيوس يقول: قلوب الحكماء هياكل الرب، فيجب أن تنظف كما تنظف بيوت عبادته. وفيثاغورس يقول: كما أن العوام تظن أن البارئ تعالى في الهياكل فقط فتحسن سيرتها فيها، كذلك يجب على من علم أن الله في كل مكان أن تكون سيرته في كل مكان كسيرة العامة في الهياكل). أما الفصل الأول فهو في العلل التي لأجلها صار المتعلم من أفواه الرجال أفضل من المتعلم من الصحف، إذا ما كان قبولهما للتعليم واحداً، وهذا عكس ما زعمه ابن رضوان الذي، كما لاحظنا، لم يدرس هو نفسه على أستاذ بل تعلم بالمطالعة فقط. والدليل السادس منها يوضح لنا جيداً مقدار الصعوبات والمشكلات التي تلقاها أولئك العلماء الناطقون بالضاد عند دراستهم للكتب العلمية اليونانية: (يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم قد عدمت في تعليم المعلم، وهي اشتراك الأسماء، والتصحيف العارض من اشتباه الحروف بعدم النقط. . . وسقم النسخ ورداءة النقل. . . وذكر ألفاظ مصطلح عليها في الصناعة، وألفاظ يونانية لم يترجمها الناقل وهذه كلها معوقة عن العلم. وقد استراح المتعلم عن تكلفها عند قراءته على المعلم). والبيان السابع ينبني على إجماع المفسرين أن فصلا من فصول أرسطو لو لم يسمعه ثاوفرسطس وأوذيمس من المعلم نفسه لما فهم قط من الكتاب. فأما الفصل الثاني فهو في أن الذي علم المطالب من الكتب علما رديئا ثار عليه باعتقاده أن الحق محال شكوك يعسر حلها. والفصل الثالث في أن إثبات الحق في عقل من لم يثبت فيه المحال أسهل من إثباته عند من ثبت في عقله(196/158)
المحال. أما الفصل الرابع فهو في أن من عادات الفضلاء إذا قرأوا كتابا من كتب القدماء ألا يقطعوا في علمائها بظن دون معرفة الأمر على الحقيقة، يتضح فيه احترام ابن بطلان للعلماء الأقدمين من اليونان ومن بعدهم كل الوضوح. قال: (إن من عادة القدماء إذا وقفت عليهم المطالب، ولاح لهم فيها تباين وتناقص، أن يعودوا إلى التطلب، ولا يتسرعوا إلى إفساد المطلب. فإن أرسطو بقي يرصد القوس الكائن عن القمر أكثر عمره فما رآه إلا دفعتين؛ وجالينوس واظب على تطلب السكون الذي بعد الانقباض سنين كثيرة إلى أن أدركه. . . وشيخنا أبو الفرج عبد الله بقي عشرين سنة في تفسير ما بعد الطبيعة ومرض من الفكر فيه مرضا كاد يلفظ نفسه فيه. وما منهم رحمهم الله إلا من أنفق عمره في العلم طلبا لدرك الحق. هذا والذي في عقولهم مما بالفعل أكثر مما بالقوة، فإن كنا وما بالقوة فينا أكثر مما بالفعل أخلدنا إلى الطعن عليهم ضحك الحق منا وخسرنا أشرف ما فينا. ولذلك يجب على كل نسمة عالمة دونهم في المرتبة إذا رأت أقاويلهم متباينة إلا تقطع بقول فيهم إلا بعد الثقة). ثم أورد المؤلف أمثلة كثيرة من كتب أرسطو وجالينوس وابقراط وأضاف إلى كل هذا مع صغر شانه بقياس تلك الطائفة المعدودة الدفاع عن نفسه في مسألة وصف التدبير المبرد بمصر خلافاً لبغداد، وحجته اختلاف الهواء. يقول في خصائص بغداد: (بغداد بلد شمالي ليس بكدر الماء، ولا مختلف الأهوية، ولا تنقطع عنه الأمطار في الشتاء، بل قد ينزل فيها الثلج من السماء، ويجمد لكثرة البرد شطا دجلة وتزيد مياهها عند زيادة المياه، وتأتي فواكهها وأزهارها في أوانها من فصول السنة، لا يكاد يرى فيهم مقشور ولا جرب، ولا من به ضيق نفس ولا حكة إلا في الندرة. أرضها قطب إقليم قال فيه أرسطو إنه ينبت الأذكياء، قلما اختار أهله للنسل من جلب من البلاد الجنوبية، فلهذا أوجههم على الأكثر ببعض مشربة حمرة، وأخلاقهم طاهرة، وطباعهم كريمة؛ ليست أرضها في وهدة فتحرقها الشمس وتغرقها كثرة المياه وهي من أسباب العفونة نعم، ولا في غربها بحر ولا في شرقها جبل في سفحه مقبرة وتتراقى منها الأبخرة، وتعكسها الريح الغريبة إلى المدينة، لكنها في بسيط من الأرض مستو، جهاتها مكشوفة للشمس والرياح الأربع، وأهلها مع هذه الخصال المعددة المضادة لمصر محتاجون من التدبير المبرد أقل مما يحتاج إليه أهل مصر وما والاها. والمصريون محتاجون إلى أكثر منه كثيراً. فلهذه العلل عدلت بهم عن الأشياء(196/159)
الحارة إلى الأشياء الباردة على موجب قانون الصناعة. وإذا كان عذري قد اتضح بأدنى عناية، وبان خطل من عجل في تغليظي من غير ارتئاء، فما ظن الشيخ بأناس يجرون في العالم مجرى الأنجم الزهر، أبصارنا عند بصائرهم تجري مجرى بصر الخفاش عند عيون العقبان في ضوء النهاء، لاسيما المؤيد أبو زيد حنين بن اسحق الذي منح الله البشر علوم القدماء على يده، فذوو العقول إلى اليوم في ضيافته يمتارون من فضله ويعيشون من بره)
ويزعم ابن بطلان أن عمل خصمه تقليل من ذلك الاحترام الواجب لسلف العلماء كابقراط وغيره من جهابذة الفن، كما أن إهمال كتب الأولين تقود ولاشك إلى هلاك المرضى. يؤيد ابن بطلان قوله هذا بما جرى بينه وبين بعض تلامذة ابن رضوان؛ فلذلك ينبغي لابن رضوان أن يعلم الشبان تعليما صحيحاً ولا يشيع (عند الأحداث تخبط الاسكندرانيين في تفاسيرهم وجوامعهم للكتب الست عشر، ومنه اصطفن ومارينوس وجاسيوس واركيلاوس وانقيلاوس وبلاذيوس ويحيى النحوي المنجد البطل المحب للتعب. ولعل الشيخ يتعذر عليه معرفة أسمائهم على الحقيقة بالعربية. وهؤلاء مفسرو كتب الصناعة الطبية ليت شعري كيف يذمهم في عمل جوامع كتب فسروا فصوصها وعرفوا نصوصها) ثم يجيء الفصل الخامس في مسائل مختلفة، والفصل السادس في تصفح مقالة ابن رضوان الهجائية التي قال فيها على سبيل المباهلة أن يسأله ابن بطلان ألف مسالة ويسأله هو مسألة واحدة. ابن بطلان جواباً عن هذه المقالة إن الخطباء والأطباء والفلاسفة لكل واحدة من تلك الفرق طريقة تسلكها في المحاورة، وأورد لكل واحدة من تلك الطرق أمثلة من تاريخ الآداب اليونانية؛ أما طريق ابن رضوان فهو - كما زعمه ابن بطلان - هجاء محض من غير وزن وقافية.
أما السب بقبح الخلقة الذي قد اجترأ ابن رضوان أن يوجهه إلى ابن بطلان فيرده هذا بأوفى الذكاء والفطانة ذاكراً أقوال سقراط وأفلاطون وجالينوس؛ مورداً بعض أعلام الآداب العربية تجردوا من جمال الشكل مثل الجاحظ وعبد بني الحسحاس، وفي النهاية يستفتي ابن رضوان عن خلقه هو نفسه قائلاً: (لو أن رجلاً استفتى بفتوى نسختها: ما يقول الشيخ وفقه الله في رجل أسود اللون، مضطرب الطبيعة والكون، غليظ الشفتين، منتشر المنخرين، جاموسي الوجه، بقري العينين، قليل الأنصاف، محب المراء والخلاف، قلق(196/160)
المشية جهر النغمة، يفتينا في ذلك مأجوراً من الله، للزمه أن يفتي بما نسخته: الجواب ومن الله المعونة: النفس الفاضلة تابعة لأشرف كيفيات الهيولي فهي توجب عن اللون المشرب حمرة وعن التخاطيط الخبيثة الأخلاق الكريمة، وهذه المعددة هي أضداد هذه، فالنفس التابعة لها غير فاضلة، وكتبه علي بن رضوان على مذهب القدماء وبحسب تفسير الصناعة الصغيرة)
وبعدئذ يدافع ابن بطلان عن حنين ابن اسحق فيما يرميه به ابن رضوان، فإن المسألة الوحيدة الجديرة بالاعتبار تتلخص - قال - في اختلاف بين حنين وجالينوس في الظاهر فقط، كما أن الاختلاف بين أبي حنيفة من جهة وبين أبي يوسف ومحمد ابن الحسن من الجهة الأخرى في نكاح الصابئين وأكل ذبائحهم اختلاف الفتوى فقط
أما الفصل السابع والأخير فهو يتضمن فحص مفردات كثيرة من أغلاط ابن رضوان، وينتهي بإنذاره بحساب يوم القيامة (فسأطالبه في الحق إذا جلس الله لفصل القضاء واستغاث المرضى وأشخصوا الأطباء، وحضرت الملائكة الكتبة، وخرست الألسن الناطقة، وشهدت القوارير الصامتة، بدلالتها كأنها على الحالة الحاضرة، وظهر الغلط، واعترف الأطباء بالذي فرط، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. . . وليتحقق أن. . . لنا موقف حساب، مجمع ثواب وعقاب، يتظلم فيه المرضى إلى خالقهم، ويطالبون الأطباء بالأغلاط القاضية بهلاكهم، وأنهم ليسامحون الشيخ كما سامحته. . . ويتحقق أنهم لا يرضون منه إلا بالحق المبين)
لم يتأخر ابن رضوان في الرد على ابن بطلان مرتين. فلما وجد نفسه عاجزاً عن النقض الصحيح لذلك الكتاب رجع إلى أسلوبه الكريه المعتاد. أما الرد الأول فقد عجل تأليفه قبل فحصه كتاب ابن بطلان كله؛ وأما الثاني ففيه تلخيص لكل ما جرى بينهما من وجهة نظر مؤلفه، وغرضه الصريح دعوة أطباء مصر والقاهرة إلى مقاطعة ابن بطلان. يقول ابن رضوان في آخره: (فهذا فيه كفاية في أن تعجبوا من أمر هذا الرجل، وتضحكوا منه وتتركوا مكالمته فيما تستأنفوه منه، ولا تلتفتوا إلى شيء يقوله بل تنزلوه بمنزلة إنسان قد خولط ووسوس، فهو أبدأ يهذر ويهذي فلا يستحق أن يرثى له ولا يرحم قط)
هذا غاية ما يسمح لي الوقت به من شرح تلك المناظرة بين الطبيبين الفيلسوفين. حاصل(196/161)
القول أن الخصمين مع كل ما لاحظناه بينهما من الاختلاف من جهة النشأة والتربية والبيئة والدين والأخلاق دانا بعلمهما إلى الفكرة اليونانية دينا شديدا
كانا به يعترفان ويفتخران، يجتهدان في التشبه بالعلماء الأقدمين، كما أن علوم الأوائل كانت عنصراً لازماً لمدينة البلاد الإسلامية في القرن الخامس. هذا هو العصر الأخير لأثر العقلية اليونانية العلمية في الشرق الأدنى قبل أن تسير إلى الاضمحلال التدريجي حتى تتلاشى. فإن السلاجقة الذين يوافق ابتداء سيادتهم عصر ابن بطلان وابن رضوان لم يعنوا بتجديد النظام السياسي للناحية الشرقية من عالم الإسلام فحسب، بل قاموا أيضاً بتأييد السنة وبمحاربة كل الحركات العقلية التي يعتبرونها مخالفة لها، فكان لعلوم القدماء حظ غير موفور، لأن بعض المحافظين استمروا يسيئون الظن فيها خصوصاً بعد ما أنتفع بها القرامطة والفاطميون في إلباس تعاليمهم الباطنية ظواهر الحقيقة العلمية
ورغماً من هذا فقد جاء في القرون المتأخرة من حين إلى حين بعض علماء مبرزين خلعوا عن أنفسهم تلك الأغلال، وأظهروا الروح العلمية الخالصة غير ملتفتين إلى شكوك من دونهم. من هؤلاء الفيلسوف الأندلسي ابن رشد (المتوفى سنة 595)، والجهبذ موسى بن ميمون (المتوفى سنة 687) والطبيب المصري ابن النفيس (المتوفى سنة 687) مكتشف الدورة الرئوية للدم؛ إلا إنه للأسف بقي أولئك الأفاضل في أوطانهم غرباء منفردين لم تقدر آراءهم ولم تنتشر، على حين كان ابن بطلان وابن رضوان من المعبرين عن الحركة العقلية العامة في زمانهما التي اشتركا فيها مع رهط كبير من معاصريهما. لم تخل العلوم الأخرى غير الطبيعية والطبية من ذلك التدهور العلمي الذي نشاهده ابتداء من القرن السادس؛ وهذا حجة ساطعة لقيمة تأثير الفكرة اليونانية على الأعمال العقلية في كل نواحيها.
ومهما يكن من شيء فإن ما تناولناه في بحثنا هذا يصور لنا صورة واضحة لضحى العلوم اليونانية العربية في بلاد الإسلام
يوسف شخت(196/162)
العدد 197 - بتاريخ: 12 - 04 - 1937(/)
الزواج
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لا أدري ماذا دها الناس، فإنه يندر أن اسمع في هذه الأيام بزواج موفق؛ فهل صار نظام الزواج فير صالح لهذا الزمن؟ أم العيب في الناس لا في النظام ولا في الزمن؟ ولا شبهة في أن للزواج عيوبه. فما الزمن، يخلو شيء في دنيانا هذه من عيب؛ وان له لمتاعب؛ وإن مسئولياته لعديدة وثقيلة، ولكن النجاة من المتاعب عسيرة في الحياة؛ وانه ليظن حمقا من يتوهم أنه يستطيع أن يحيا ويخلو مع ذلك من المتعبات سواء أتزوج أم أثر الوحدة والاستفراد. واحسب إن كثيرين من الرجال والنساء أيضاً يقدمون على الزواج وهم يعتقدون أنه صفو لا كدرة فيه، ومتعة لا تنقص ولا ينغصها أو يفسدها شيء. وحلاوة لا تشوبها مرارة، فتخيب آمالهم كما لا بد أن يحدث، ويضجرون ويتأففون ويشكون وتتلف أعصابهم فلا تعود تقوى على احتمال ما كان ظنهم ألا يكون. وهذا شأن كل من يتناول الحياة بخفة، وواجهها بغير ما ينبغي من التهيؤ للاحتمال، ومن الاستعداد للتشدد والجلد والمقاومة.
وقد كنت أتكلم في هذا وما إليه مع صديق فقال: الحقيقة إن الزواج نظام ثبت إخفاقه وقلة صلاحه في هذا الزمن، فعذرته لأنه ممن جر عليهم الزواج نكبات كثيرة يشق احتمالها، ولكني لم أر رأيه، فقلت له: (لا تغلط يا صاحبي فان كل زمن ككل زمن، وهذه الاختراعات الكثيرة لم تغير شيئا من حياة الناس وفطرهم، ولم تقلب الحقائق الاجتماعية، وما خلا زمن قط ممن يسعدهم الزواج وممن يشقون به، ولا من الراضين والساخطين على هذا وغيره من أحوال الحياة وما زال الرجل كما كان، والمرأة كما عهدها آباؤنا وأجدادنا عفا الله عنهم ورحمهم، ومع ذلك قل لي ماذا تطلب من الزواج وأنا أقول لك ماذا ينبغي أن تبلغ به أو ما لا بد أن يصيبك من خيره أو شره)
قال: (اطلب الراحة والاستقرار. . . ماذا اطلب غير ذلك؟) قلت: (إن الراحة مطلب لا سبيل إليه في الحياة، وهي لا تكون إلا بالموت على أن هذه لا تعد راحة مادام المرء لا يحسها ولا يدرك أنه مرتاح، ولا يعرف حتى ما صار إليه؛ والاستقرار كذلك عسير لأن حياتك كلها قوامها التحول والتغير، وجسمك ونفسك وخواطرك وآمالك وشهواتك وكل ما(197/1)
فيك أو لك يتغير فكيف بالله يكون هذا الاستقرار؟ وأين السبيل إليه؟)
قال: (إنما اعني الراحة النسبية والاستقرار بالقياس إلى حياة العزوبة والوحدة)
قلت: (ولا هذه أيضاً. إن الزواج ليس أداة لراحة ولا وسيلة لاستقرار أو غير ذلك مما تتوهم، وإنما هو نظام. فإذا كان يوافقك أن تحيا في ظل هذا النظام فتفضل وأهلا بك وسهلا؛ ولكن يجب حينئذ أن تعرف إن له مقتضيات، وان توطن نفسك على الإذعان لها واحتمالها، كما يخضع الجند للنظام العسكري، ولم يقل أحد إن الجندية سبيل لراحة أو استقرار أو لذة، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى. وإنما هي نظام تقتضيه حياة الجماعة. وكل جندي يقول لنا أنه نظام شاق عسير ثقيل الوطاة، ولكنه لازم ولا بد منه. والفرق بين الزواج والجندي إن الجندي يعلم أنه داخل في نظام لا لذة فيه ولا متعة له منه وانه سيلقى عناء ويكابد متاعب، وانه معرض للجلد والسجن، بل للموت حتى من غير حرب. ولكن طالب الزواج يمنى نفسه الأماني المستحيلة فيلقى خلاف ما كان يقدر، ولو أنه وطن نفسه - كما يفعل الجندي - على التعب والنصب ووجع القلب ومعاناة المنغصات إلى آخر ذلك لسعد بالزواج، ولفاز منه بلذات كثيرة ونعم جزيلة ومتع يضن بها على النسيان. وقد ذكرت الجندية على سبيل التمثيل، ولكن للجندية علاقة وثيقة بالزواج، لأن الزواج غايته تنظيم أمور النسل اللازم للجماعة، أي مد الجماعة بالعدد الكافي من الأفراد للقيام بأعباء حياتها، فهو نظام تمهيدي للجندية. وأنا استعمل الجندية هنا بالمعنى الأعم الأشمل، واعني كل فرد لا الذين يحملون السلاح ويسيرون إلى القتال حين يدعون إلى ذلك - لا اعني هؤلاء وحدهم، فان كل فرد جندي للجماعة وان لم يحمل سيفا ولم يتقلد رمحاً، إذا كان قد بقى في عصرنا هذا من يتقلد رماحاً. والواجب على كل حال أن يدرك المرء أنه بالزواج يكون كالذي يعمل في شركة؛ وللعمل نظامه. والعمل لا تطلب منه اللذة بل الثمرة؛ والعمل لا يفيد الراحة بل التعب؛ ولا آخر للتعب ما دامت الشركة قائمة تعمل وتؤدي ما هو منتظر منها. نعم يستطيع المرء أن يفوز بإجازة، ولكن هذا ميسور في نظام الزواج: خذ إجازة كلما شعرت إنك تعبت، وامنح زوجتك مثل ذلك كلما بدا لك أن أعصابها كلت)
فعجب وسألني: (كيف ذلك. .؟ أن هذا مزاح)(197/2)
فأكدت له إني جاد، وقلت: (إني أعيش مع زوجتي كأنا صديقان؛ وليس يسعني أن افعل غير ذلك، لأنها إنسان مثلي ولها حياتها المستقلة عن حياتي وإن كنا متعايشين تحت سقف واحد. وأنا احرص في حياتي معها على الاعتراف بهذا الوجود المستقل فلا أحاول أن افني وجودها هذا واجعله يغيب في وجودي؛ ولو تيسر لي هذا لما كان لي فيه أي لذة لأني خليق أن اشعر حينئذ إني أعايش آلة لا إنساناً محسا مدركا يبادلني ما يسرني أن أراه يبادلني إياه من العواطف والاحساسات والخوالج. ولو أفنيت شخصيتها في شخصيتي لانحطت في نظري إلى منزلة الخدم الذين تطعمهم وتنقدهم أجرهم على أن يفعلوا ما تريد ولا يجاوزوا مشيئتك. وليست زوجتي خادما ولا آلة وإنما هي رفيق حياة أي صديق معين. ولست أقول هذا تملقا أو نفاقا بل أقوله لأني لا افهم معنى للزواج غير ذلك. كلا. لست احول أن اغلب إرادتي على إرادتها لأني لا أحس حاجة إلى ذلك؛ وسبيلي التفاهم لا الإكراه، واراني ابلغ بهذا ما لا ابلغ بالقوة والضغط. ومطلبي ما هو أوفق لكلينا، لا ما هو أوفق لي وحدي، فان الشركة لا تصلح بهذا الاستئثار، والزواج شركة على التحقيق، ولا يحسب أحد أن الرجل يضع في هذه الشركة أكثر مما تضع المرأة، وانه لهذا مغبون فيها، فان هذا خطأ، فليس السعي للرزق كل ما تقتضيه هذه الشركة، وان المرأة لتبذل حياتها كلها لا جهدها لإنجاح الشركة؛ وحسبها الحمل والوضع، ولو أمكن أن يحمل الرجل لأمكن أن يدرك هول ما تتحمل المرأة في سبيل هذه الشركة، ولكنه لا يحمل مع الأسف، فهو في الغالب لا يستطيع أن يقدر نصيب المرأة وما يكلفها الزواج وما يعرضها له، ولا كيف تضحي بها الحياة لتملأ الدنيا بمثلى ومثله ممن لا يستحقون هذه التضحية)
فترك هذا وقال: (ولكن ألا يجب أن يكون للبيت سيد. . . إن المركب يغرق إذا كان له رئيسان).
فقلت: (آه. . حكاية التركي الذي جرد سيفه ليلة الزفاف وأطار به عنق القطة ليرهب الزوجة المسكينة. . لا يا سيدي. . ليس الأمر أمر سيد أو سيدة، فما ثم محل لذلك. وأين محل هذا ولكل من الرجل والمرأة عمل؟ وأصدقك فأقول إني لا أدري كيف يمكن أن تجور المرأة على الرجل أو يجور الرجل على المرأة. أخل ذهنك من كل فكرة عن السيادة وأخل لها ذهنها أيضاً. . تفاهما معا. . هي لها عملها وواجباتها التي لا تستطيع - حتى إذا(197/3)
أرادت - أن تشاركها فيها؛ وأنت لك عملك وواجباتك التي يعييها أن تشاركك فيها؛ وكل منكما يمضي بعد ذلك في طريقه لينهض بأعبائه الموكولة إليه. فأين يكون الاختلاط والاحتكاك والخلاف؟ وإذا حدث خلاف فلماذا لا يكون بالحسنى. .)
قال: (والغيرة. . أليست بلاء؟)
قلت: (طبعا. . والرجل أيضاً يغار. . أليس هذا بلاء؟. . فلماذا لا تضع نفسك في موضع المرأة وتنظر إلى الأمور من ناحيتها هي أيضاً. . صحيح إن المرأة أسرع إلى الغيرة من الرجل وان غيرتها أحمى، فبلاؤها لهذا اعظم، ولكن هذه طبيعتها ولا حيلة لها في ذلك، لأن الغريزة الجنسية في المرأة أقوى منها في الرجل إذ كانت هي مدار حياتها. ثم إن الواحد منا يتقبل أصدقاءه على علاتهم ويحتمل أمزجتهم التي تخالف مزاجه، ويوفق بين رغباته ورغباتهم - وما اكثر ما تتباين - ويظل مع ذلك صديقهم ويظلونهم أصدقائه، فلماذا لا يكون هذا حال الزوجين. .؟ لماذا لا يحتمل منهما الآخر على العلات وهما بذلك أولى من الصديقين. .؟ المسألة يا أخي إن الرجل يريد أن يسود، وان المرأة تريد أن تحكم، لأن هذا هو (المودة الجديدة. ولو تركا هذا وأهملاه فنزل الرجل عن الرأي الموروث فيما ينبغي أن تكون عليه علاقة الرجل بالمرأة، وتركت هي ما تشير به (المودة) الحديثة من أن الست هي السيدة المطاعة والرجل هو التابع والخادم الذليل - لو تركا هذا وسارا في الحياة سيرة شريكين متعاونين على إنجاح الشركة واحتمال متاعبها والصبر على بلاياها في سبيل مزاياها وفائدتها لارتاحا جداً ونعما بالحياة الزوجية).
فسألني: (هل أنت سعيد؟).
قلت: (إني سعيد لأني لا أطلب من الزواج سعادة، ولو كنت اطلبها لشقيت على التحقيق؛ وقد تزوجت وأنا موطن نفسي على إن هذا واجب أؤديه كما أؤدي واجبي بالعمل في الصحافة وبالاشتغال بالأدب - واجب والسلام. فإذا فزت بمتعة فهذا فضل من الله، وإذا فاتني ذلك فما كنت اطمع فيه أو أرجوه. وقد أدخلت هذا في رأس زوجتي فهي تفهمه حق الفهم، وقد كان على أن افهمها هذا في أول الأمر لأني أردت من البداية أن أجنب سبيل الإخفاق. وقد أفلحت ولله الحمد والشكر؛ فإذا حدثتك نفسك بالزواج مرة أخرى فاصنع هذا).(197/4)
فصاح: (أنا. . . أعوذ بالله يا شيخ!)
فقلت: (أرني لم أوفق إلى إقناعك. . لا بأس. . المسألة في الحقيقة مرجعها إلى الاستعداد، ولو شئت لقلت إلى العقل والحكمة وسعة الصدر ورحابة أفق النفس)
فقال: (متشكر يا سيدي)
فعلمت انه غضب. ومع ذلك ماذا قلت. . أني لم أزد على إبداء رأي، فإذا كان لا يحتمل هذا بل يعده تعريضا شخصيا به فلا غرابة إذا كان قد أخفق في زواجه
إبراهيم عبد القادر المازني(197/5)
النجاح في القرن العشرين
لأديب مجهول
في قطعة تعد من اجمل نماذج النثر الإنجليزي يصف الأستاذ السير جيمس فريزر العادة الغربية التي كانت متبعة في تولية القسس الحاكمين بغاب ديانا القريب من موقع مدينة لارتشيا الحالية بإيطاليا: (فمن يوم إلى يوم، ومن عام إلى عام، في الحر وفي البرد، وفي الصحو وفي المطر، يخرج القسيس من المعبد حذرا يترقب ويجوب الغابة، والسيف مشهور في يده، وأن أغفى إغفاءة فقد يكون ثمنها حياته ويتولى من قتله الحكم مكانه.)
ذلك نوع من النجاح بعد به عنا الزمن، وأنكرته المدنية حتى في عهدها القديم (فإني اذكر وأنا اكتب الآن إن الإمبراطور كراكرا كان هو الذي ابطل قانون الغابة الذي سلف وصفه) لما تنطوي عليه فكرته من تغليب محض القوة أو الخديعة على كل اعتبار آخر وإباحة التخلص من وجود المنافس كلية بقتله، وقد يكون المقتول انفع لقومه من القاتل، فضلا عن أن لا حياة لمجتمع ما إلا بالتواضع على حد أدنى من الأمن على النفس والمال وما يتصل بهاتين الغايتين من أفكار أدبية ونظم قانونية.
وما زالت معايير النجاح تتغير تبعا لاختلاف الجماعات والعصور حتى أتى هذا القرن وأوضح صفاته وصول التنافس الاقتصادي فيه إلى اشده سواء بين الأفراد أو الأمم، وفي هذه الحالة ما فيها من خطر على المدينة يكاد يرجع بها إلى عهد التناحر الأول، وما استمرار الحرب الهجومية إلى هذا الوقت إلا نذير بما تستهدف له العلاقات الدولية من عودة الإنسان فيها إلى حكم غرائزه البحتة.
نترك هذا الجانب الدولي من الموضوع، فليس هو المقصود ببحثنا الآن فضلا عن مساسه بمسائل هي أدق بكثير مما يتناوله البحث في تنافس الأفراد.
والآن فما مقياس النجاح في عصر الاقتصاد؟ إن اسهل جواب على ذلك القول بأنه هو النجاح المشتق من روح العصر. أي النجاح في الماديات، واسهل جواب ليس هو دائماً فصل الخطاب، بل إن الأمر ليحتاج لنظر أدق وتفكير كثير، فقد كان التنافس في الماضي نضالا بين اثنين أو أكثر يفوز فيه أحسنهم مواهب أو فرصا، فتحول الآن إلى جهاد للتخلص مما أحاط به هذا العصر بنيه من صعوبات نشأت عن انتشار الديموقراطية من(197/6)
جانب وزيادة السكان من الجانب الآخر. وأكبر أخطار الديمقراطية هو ما نحاول نشره يوميا (خصوصا بالسينما والراديو) من فرص للمساواة المزعومة بين الناس مما يسهل انعدام شخصية الفرد في آلاف يراهم مثله. واكبر أخطار زيادة السكان هو الفقر والعطلة، فالتحول بالأخلاق من ينابيعها الأدبية والروحية إلى غرائز الإجرام الحيوانية الكامنة هي أيضاً في الطبيعة البشرية
ولا ريب في أن الناشئ في هذا القرن يقاسي من هذه الصعوبات مالا عهد للسابقين به، ويتعرض من أخطاره لما لم يعرفه غيره ممن قبله، غير انه لا ريب كذلك في أن إطلاق مبادئ النجاح المادي من عقالها وترك النضال القديم الذي يعترف بحدود الأخلاق والدين إنما هو في الواقع هروب من الجهاد الصحيح إلى عراك آخر رخيص يبيح الصعود بالهبوط، والوصول لنعيم الجسم بفقدان الروح، ولضخامة الكسب بموت الضمير
وسيكون اختيار الناس لهذا النوع أو ذاك من النضال تبع فهم كل منهم معنى الكرامة والحياة، ولا فائدة على أي حال من خطاب من فسدت مقاييسه أو خبث طبعه، ولكن الذي لا بد من بيانه في هذا الصدد أن النجاح برغم كل ما تقدم من وصف صعابه لا يستلزم تغييرا في كيف السعي بل في كمه؛ وبعبارة أخرى هو يستلزم زيادة في الجهد لا ما يدعو إليه المستهترون بالاجتماع السليم من اطراح ما قامت عليه المدنيات من قواعد الشرف والأدب.
فإذا تبين أن سبيل النجاح الآن لا يخرج عما كان في كل آن من انه طلب التقدم بكل وسيلة شريفة بقى أن نبحث عن أهم شروط هذا الطلب فلا نجد غير إرادة النجاح، والإرادة هي إرادة الوسائل وعقد النية على العمل بها لا الإرادة الجوفاء الشبيهة بالأحلام
وباعتبار ما تقدم عنه من امتياز هذا القرن بشدة التنافس الاقتصادي فيه يجب أن نضيف إلى شرط الإرادة شطاً آخر هو القدرة على إنزال المال منزلته الصحيحة من انه وسيلة للحياة المادية، وانه هو الحياة المادية نفسها يجب أن يتخذا وسيلة لأن يحيا المرء حياته الروحية التي هو جدير بها. فإذا عمل عامل بهذه العقلية وتلك الإرادة فداوم على تهذيب نفسه مع السعي لترقية حاله وحافظ على شخصيته في كل الظروف فهذا هو الفضل وهو النجاح.(197/7)
(* * *)(197/8)
مصاير الحرب في إسبانيا والصراع بين إنكلترا
وإيطاليا
بقلم باحث دبلوماسي كبير
مضت إلى اليوم تسعة اشهر مذ نشبت الحرب الأهلية الإسبانية في أواخر يوليه الماضي، وما زالت على اضطرامها، ونستطيع بعد الذي شهدناه من تطور الحوادث خلال هذه الفترة أن نقول إن هذه المعركة الطاحنة التي تخضب ارض إسبانيا بالدماء وتبسط في جنباتها أعلام الدمار والويل، لم تسفر حتى اليوم عن نتيجة حاسمة؛ بل لا نبالغ إذا قلنا أنها ما زالت حيثما بدأت من حيث أوضاعها الداخلية؛ فالجبهة الثائرة ما زالت تجاهد جهاد اليأس لتنتزع ما تستطيع انتزاعه من المدن والأراضي؛ وجبهة الحكومة أو الجبهة الجمهورية ما زالت تصمد في معظم الميادين وترد هجمات الثائرين؛ وقد أحرزت في الأسابيع الأخيرة نجاحا يذكر في المعارك الني دارت حول مدريد، ولا سيما في وادي الحجارة (جوادي لاجارا) كما أحرزت بعض النجاح في الشمال حول اوفيدو، وفي الجنوب في بسائط قرطبة وغرناطة. وقد لاح مدى حين حينما استولى الثوار على مالقة في أوائل شهر فبراير بمؤازرة الفرق الإيطالية في البر، والمدرعات الإيطالية والألمانية في البحر، إن الجبهة الثائرة تسير إلى نصر سريع محقق، وان الجبهة الجمهورية قد أضحت على وشك الانهيار والتحطم؛ وكان سقوط مالقة في الواقع تعويضا للثوار عما لحقهم أمام مدريد من فشل مستمر؛ وكان المظنون أن الثوار سيتابعون زحفهم إلى المرية ثم إلى بلنسية حيث تقوم الحكومة الجمهورية؛ ولكن سقوط مالقة أذكى في الجمهورية شعور الخطر وأذكى فيها روح النضال، فضاعفت جهودها، واستطاعت أن ترد خطر الثوار في الجنوب؛ واغتر الثوار بظفرهم في مالقة فدبروا مع حلفائهم الإيطاليين هجومهم الجديد على مدريد، واضطرمت حول العاصمة الإسبانية سلسلة جديدة من المعارك الطاحنة، ولكنها أسفرت عي تلك المرة كما أسفرت في كل المرات السابقة عن فشل الثوار الذريع، بل أسفرت فوق ذلك عن إحراز القوات الجمهورية لسلسلة من الانتصارات الباهرة في جبهة وادي الحجارة وفي آفيلا، وعن تمزيق الثوار وحلفائهم الإيطاليين، وردهم بعيدا عن حدود العاصمة وعن طريق مدريد - بلنسية الذي يحاولون احتلاله لقطع العاصمة عن باقي إسبانيا.(197/9)
وقد كان لهذا التطور الجديد في مصاير الحرب الأهلية الإسبانية أثر عميق في الموقف الدولي، فقد كشفت الحوادث والمعارك الأخيرة عن مبلغ تدخل إيطاليا في الحرب الإسبانية وعن ضخامة الدور الذي تقوم به إلى جانب الثوار، وبالأخص عما ارتكبته من المخالفات الصريحة لاتفاق عدم التدخل إذ تبين أنها أرسلت إلى إسبانيا عدة فرق عسكرية كاملة في أوائل شهر مارس، اعني بعد أن عقد ميثاق عدم التدخل في لندن وتعهدت جميع الدول الموقعة عليه ومنها إيطاليا بان تكف عن تدخلها في الحرب الإسبانية، وان تقطع عن الفريقين المتحاربين كل معاونة عسكرية، وتبين إن معظم القوى التي قامت بالهجوم الأخير على مدريد كانت مؤلفة من الإيطاليين وانه يوجد الآن في إسبانيا إلى جانب الثوار نحو خمسين ألف جندي إيطالي؛ وقد كشفت السياسة الإيطالية عن مبلغ تمسكها بهذا التدخل وتصميمها على معاونة الثوار على تحقيق الغرض الذي ترمي إليه، وهو إقامة حكومة عسكرية فاشستية في إسبانيا تكون خاضعة للنفوذ الإيطالي؛ وقد قررت إيطاليا في لجنة عدم التدخل، على يد سفيرها في لندن، أنها ترفض سحب جنودها في إسبانيا وصرحت صحافتها الشبيهة بالرسمية، بان الجنود الإيطالية لن تغادر إسبانيا حتى الظفر النهائي لزعيم الثورة الجنرال فرانكو، وأن إيطاليا لن تسمح بأي حال أن تقوم في إسبانيا حكومة بلشفية، وهو الوصف الذي تطلقه على حكومة إسبانيا الشعبية الجمهورية. ولنلاحظ أن إيطاليا تقف هذا الموقف العنيف غداة هزيمة جنودها أمام مدريد، وهي الهزيمة الذريعة التي كدرت على موسوليني صفو رحلته الرنانة في طرابلس، وحملته على العودة إلى رومه قبل أن يتم برنامجه.
وهذا الموقف الذي تقفه إيطاليا من المسألة الإسبانية يثير في لندن وباريس مخاوف كثيرة؛ وقد كان موقف ألمانيا إزاء هذه المسألة من قبل يثير مثل هذه المخاوف، ولكن ألمانيا تقف في معاونتها للثوار عند الحد الذي بلغته قبل عقد اتفاق عدم التدخل. ولا تريد الآن على ما يظهر أن تتوسع في تدخلها بعد أن رأت فشل سياستها في المسألة الإسبانية؛ أما إيطاليا فإنها تثير بموقفها صعاباً جمة في سبيل تطبيع سياسة عدم التدخل التي ترى لندن وباريس أنها خير وسيلة لحصر أخطار الحرب الإسبانية وصون السلام الأوربي من شررها المتطاير. وهنا تبدو الصبغة الدولية للحرب الأهلية الإسبانية وهي الصبغة التي نوهنا(197/10)
بخطرها وأهميتها مذ نشبت الثورة في إسبانيا. فالعلائق الإيطالية الإنكليزية، والنضال بين إنكلترا وإيطاليا في البحر الأبيض المتوسط، تلعب اكبر دور في تطور المسالة الإسبانية، وفي سير الحوادث الدولية بوجه عام. والمسالة الإسبانية ليست إلا واحدة من مسائل عديدة يثيرها النضال بين الدولتين في هذا البحر؛ وإيطاليا لم تنس موقف إنكلترا في المسالة الحبشية. ولم تنزل عن شيء من أحقادها ومشاريعها رغم عقد اتفاق (الجنتلمان) بينها وبين إنكلترا على احترام الحالة الراهن في البحر الأبيض المتوسط. وإذا كانت إنكلترا تمضي اليوم في تنفيذ برنامجها الدفاعي الهائل فلأنها اعتبرت حوادث الحرب الحبشية، وشعرت بالخطر الذي يهدد سيادتها الإمبراطورية من جراء تفوق التسليح الإيطالي في البحر الأبيض المتوسط وهي تستطيع اليوم بعد أن قطعت شوطا كبيرا في برنامجها الدفاعي أن تقف في وجه السياسة الفاشستية وان تناوئ أطماعها الخطرة. ولم ننس بعد تلك المعركة الصحفية المرة التي أضرمت بين الصحافتين البريطانية والإيطالية، من جراء أقوال (الدوتشي) ومزاعمه المغرقة في طرابلس حول حماية الإسلام والعرب، وما أثارته تلك المزاعم من سخرية لاذعة في العالم الإسلامي.
ولنلاحظ إن هذا النضال بين السياستين البريطانية والفاشستية كما انه يحدث أثره في المسألة الإسبانية أو غرب البحر الأبيض المتوسط، فإنه يحدث أثره العميق أيضاً في شرق هذا البحر ففي الأشهر الأخيرة نشطت السياسة الإيطالية قي البلقان وفي أوربا الوسطى، وأحرزت أخيراً نجاحا يذكر بعقد الميثاق اليوجوسلافي الإيطالي، ومن المعروف أن العلائق بين إيطاليا ومنافستها القوية في بحر الادرياتيك لم تكن على ما يرام، فعقد هذا الميثاق يحسم كثيرا من أسباب النزاع بينهما، ويضمن لإيطاليا حيدة يوجوسلافيا إذا وقع الصدام بينها وبين دولة أخرى، كما انه يضمن ليوجسلافيا مثل هذه الحيدة؛ والظاهر أن السياسة الإيطالية تسعى إلى عقد مثل هذا الميثاق مع المجر حيث تتمتع بنفوذ واضح، ومع تركيا الكمالية أيضاً. فإذا تم عقد هذه المواثيق، فان إيطاليا الفاشستية تسوي بذلك علائقها في شرق البحر الأبيض المتوسط وتأمن غائلة الاعتداء من هذه الناحية، وتستطيع أن تتفرغ لمقاومة السياسة البريطانية في أواسط البحر الأبيض المتوسط وفي غربه أعني في إسبانيا(197/11)
ولقد نوهنا من قبل غير مرة بخطورة هذا النضال بين إيطاليا وبريطانيا العظمى وشرحنا عناصره الظاهرة والخفية، وليس من ريب في إن هذا النضال يستغرق اليوم كثيرا من نشاط السياستين البريطانية والإيطالية؛ وإذا كانت السياسة البريطانية تبدي كعادتها كثيراً من الأناة وضبط النفس، فإنها مع ذلك لا تخفي اهتمامها بحركات السياسة الإيطالية ومقارعتها. ولقد دللت إيطاليا الفاشستية في العامين الأخيرين على ما تجيش به من الأطماع المتوثبة والنزعات الاعتدائية ولاسيما ضد الإمبراطورية البريطانية؛ فغزو الحبشة والاستيلاء عليها بالعنف، يهدد مركز بريطانيا في السودان وفي شرق افريقية؛ وتحصين جزيرة بانتلاريا الواقعة بين طرابلس وصقلية يهدد مركز بريطانيا في مالطة، ومن ثم يهدد مواصلاتها الإمبراطورية في البحر الأبيض؛ ومد الطريق البري من طرابلس إلى الحدود المصرية يخفي وراءه غايات عسكرية اكثر مما يقصد إلى غايات سلمية وتجارية؛ ونشاط السياسة الإيطالية في المسالة الإسبانية هو مظهر آخر لتلك النزعة التي ترمي إلى تهديد إنكلترا في جميع النقط الحساسة من نفوذها الاستعماري أو سيادتها البحرية.
ولكن السياسة البريطانية مع ما تبدي من ضبط النفس لا تخفي أنها مصممة على سحق جميع هذه المحاولات الفاشستية والاحتفاظ بسيادتها في البحر الأبيض المتوسط، وتدعين نفوذها وسيادتها حيثما يقتضي الدفاع عن إمبراطوريتها الاستعمارية الشاسعة. والمسالة الإسبانية هي أول مظهر من مظاهر النضال بين السياستين؛ فكما أن رومة تحاول أن تدفع تدخلها في الحرب الأهلية الإسبانية إلى النهاية أو حتى يظفر الجنرال فرانكو وتقوم في إسبانيا حكومة فاشستية تخضع لنفوذ إيطاليا، فكذلك السياسة البريطانية تعمل على إحباط هذه المحاولة بتدعيم سياسة عدم التدخل، وعزل إيطاليا عن باقي الدول، وأظهرها بمظهر المعتدي المهدد لسلام القارة، وإنكلترا تفوز في هذه السياسة بتأييد فرنسا التي تخشى عواقب التدخل الفاشستي في إسبانيا مثل ما تخشاه إنكلترا، وتأييد روسيا السوفيتية التي تناصر الكتلة الديمقراطية، والتي تعاون إسبانيا الجمهورية على مقاومة الثورة الفاشستية منذ نشوبها. ومما يلاحظ أيضاً أن ألمانيا تبدي الآن فتورا ظاهرا في تأييد وجهة النظر الإيطالية مما يدل على أنها قد ملت التدخل في مغامرة لا تؤمن عواقبها؛ هذا إلى أن حوادث الحرب الإسبانية ذاتها تدل على أن الجبهة الثورية الفاشستية قد سرى إليها(197/12)
الضعف والوهن، فانتصارات الجمهوريين الأخيرة حول مدريد وفشل الثوار في جميع هجماتهم الأخيرة، وما أذيع من وقوع التمرد في بعض الوحدات الثورية في المغرب الإسباني، كل ذلك يؤذن بان مصاير الحرب الأهلية تتطور في صالح الجمهورية الإسبانية. ولنذكر أخيراً أن اتفاق عدم التدخل الذي وفقت الدول إلى عقده وتنظيمه، سينفذ بطريقة فعلية في أيام قلائل بحيث يغدو من المتعذر على أحد الفريقين المتحاربين أن يتلقى المدد من أي ناحية. وفي اعتقادنا أن الثورة الأسبانية التي قامت منذ الساعة الأولى بتحريض الفاشستية ومعاونتها المادية ستنهار عندئذ بسرعة، وتحسم هذه المعركة الطاحنة بفوز الديموقراطية الإسبانية، وبذلك يقضي على تلك العوامل الخطرة التي تلوح في الأفق منذ اشهر مهددة سلام أوربا، والتي كان لشهوات الفاشستية ودسائسها المضطرمة اكبر فضل في بعثها وتغذيتها.
(* * *)(197/13)
النفس وخلودها عند ابن سينا
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 5 -
ليس تأثر ابن سينا بأفلاطون من الأمور التي تتطلب إثباتا جديداً، فقد فرغنا منه من قديم وأضحى واضحاً وضوحاً لا يقبل الشك. وإذا كان شيخ الأكاديمية قد استطاع أن ينفذ إلى فلاسفة الإسلام جميعا بالرغم من تعصبهم لأرسطو فان أثره في الأستاذ الرئيس اعمق، وملاءمته لتفكيره أتم واكمل. وقد بينا فيما سبق كيف قال ابن سينا بجوهرية النفس على نحو مما ذهب إليه أفلاطون. ونريد اليوم أن نوضح موقفه إزاء روحيتها فنهيئ بذلك فرصة أخرى لإظهار ما اشتملت عليه فلسفته من نزعات وآراء أفلاطونية.
ابن سينا روحي في طبيعته فالتغيرات الكونية ترجع في رأيه إلى قوى خفية تحدثها وتشرف عليها؛ روحي في طبه، إذ يعتبر النفس الإنسانية مهيمنة على كل الأجهزة والعصارات الجسمية؛ روحي في فلكه فإنه يذهب إلى أن الأفلاك والكواكب إنما تستمد قوتها وحركتها من نفوس خاصة موكلة بها؛ روحي في ميتافيزيقاه، ولا أدل على هذا من أن عالم ما وراء الطبيعة في نظره حافل بعقول قديمة أزلية كلها تفكير ونظر وتأمل؛ روحي أخيراً في أبحاثه السيكلوجية، بدليل أن النفس عنده هي كل شيء والجسم والحواس مجرد آلة لها وأداة. ونستطيع أن نقول أن فلسفته كلها تتلخص في مذهب روحاني تتجاذب أطرافه وتتناجى نواحيه وفيلسوف هذه نزعته لا يدخر وسعا في البرهنة على روحية النفس ولا يمل حديثاً كهذا، بل على العكس يعني به ويذهب فيه مذاهب شتى، فيلجأ تارة إلى بعض الأفكار الرياضية مستعينا بما فيه من لباقة ومقدرة جدلية ليحمل القارئ على التسليم بهذه الروحية. ويركن تارة أخرى إلى معلوماته الطبية. وملاحظاته السيكلوجية فيتخذ منها أدلة أخرى لا تقل عن السابق إفحاماً.
فيقرر أولاً أن النفس جوهر يدرك المعقولات والمعاني الكلية ويشتمل عليها؛ وجوهر هذا شأنه لا يمكن أن يكون جسما أو قائما بجسم، ذلك لأنا إن قلنا بجسميته لزم أن تحل(197/14)
المعقولات في مكان، وهذا محال. فإنها أن شغلت حيزا فإما أن يكون قابلا للقسمة أولاً، وما لا يقبل للقسمة هو تلك النقط الهندسية التي يتكون منها الخط والتي لا توجد منعزلة مطلقاً؛ فلا يمكن أن تكون محلا لشيء ما. وعلى هذا لم يبق إلا أن تكون المعقولات حالة في مكان قابل للقسمة. وفي هذا الغرض أيضاً صعوبات كثيرة لا سبيل إلى تذليلها ومناقضات لا نستطيع رفعها، وأهمها أن الكلي يصبح قابلا للقسمة تبعاً للحيز الذي يشغله فيصير شكلا هندسيا أو كمية عددية بدل أن يكون فكرة عقلية. وإذا قلنا بقسمته فهل هو مكون من أجزاء مكررة متشابهة أو غير متشابهة؟ إن أخذنا بالأول قادنا إلى نتيجة واضحة البطلان وهي أن يتكون الكل المتنوع المميزات من جزء واحد مكرر؛ وإن ذهبنا إلى الثاني كان معناه إن الكلي قابل للقسمة إلى مالا نهاية، شأنه في هذا شأن الجسم الذي حل فيه. ونحن نعلم أن الكليات وان قسمت إلى أجناس وأنواع ينبغي أن تقف عند حد في هذا التقسيم، فهي في ذاتها قابلة للقسمة إلى نهايته، وتبعا للحيز الذي تشغله يمكن تقسيمها عقلا إلى مالا نهاية، وهذا تناقض صريح على أن هناك معقولات بسيطة لا تقبل القسمة بحال فكيف نتصورها شاغلة لحيز قابل للقسمة؟ وإذا بطل كل هذا فالجوهر الذي تحل فيه المعقولات روحاني غير موصوف بصفات الأجسام، وهو ما نسميه النفس. وواضح إن هذه النفس هي التي تجرد الكليات عن الكم والأين والوضع وتستخلصها من الجزئيات فلا يمكن أن تضعها في حيز جديد؛ ولن يصير الكلى كلياً ولا المعقول معقولا بالفعل إلا إذا انتزع من المكان وفهم في ذاته بعيداً عن عوارض المادة هذا هو اعنف برهان يستدل به ابن سينا على روحية النفس؛ ويظهر انه كان معتدا به كل الاعتداد، فإنه ساقه في كل كتبه السيكلوجية التي وصلت إلينا في أشكال وألوان مختلفة بعضها أغمض واعقد من بعض؛ وربما كان أوضحها نسبيا ما جاء في كتاب النجاة. وليس القول بأن المعقولات لا تشغل حيزاً فكرة مبتكرة اهتدى إليها ابن سينا وحده. فأنا نجدها لدى الإغريق من قديم؛ وأرسطو بوجه خاص يفصل الكلام في وجود الكليات مبينا أنها موجودة في الجزئيات بالقوة وفي الذهن بالفعل. والوجود الذهني هو الوجود الحقيقي؛ وإذا كان بينه وبين الوجود الخارجي من فارق فهو انه مجرد عن الماديات. وأنا لنرى بين المسلمين كذلك الفارابي يحاول من قبل البرهنة على روحية النفس محاولة نظن أنها التي ألهمت ابن سينا برهانه الذي نحن(197/15)
بصدده، فهو يلاحظ إن المعقولات تتنافى مع الحيز بطبيعتها، وما دامت النفس تدركها وتشتمل عليها فهي جوهر مفارق للمادة. بيد أن الجديد لدى ابن سينا هو ذلك الجدل المحكم والإلزام المبني على أقيسة اقترائية وقسمة ثنائية لا يلبث المرء أن يسلم أمامها بالمطلوب رضى أم لم يرض. وقد لا نستسيغ نحن الآن كثيرا هذا الطراز من الإثبات، فإنه أشبه بالمناقشة اللفظية منه بالبحث العلمي، إلا أنه كان من مميزات القرون الوسطى عامة، ولابن سينا بوجه خاص فيه فائقة. ومع هذا فلن نعدم الحيلة في إنكار بعض مقدماته أو الطعن في بعض قضاياه، ولكنا لا نحب أن نسترسل في أمر نعتقد أنه قليل الجدوى. ومهما يكن من شأن البرهان السابق فإنه يعتمد على مبدأ لا يزال علم النفس الحديث يقره. فان المحدثين يفرقون بين الظاهرة الجسمية والنفسية بأن الأولى هي التي تشغل حيزا في حين أن الثانية مجردة عن المكان، وكل ما تقاس به هو الزمان الذي تحدث فيه. ولئن فات ابن سينا أن ينمي معلوماتنا السيكلوجية ببرهانه هذا فإنه سيعرض علينا ذلك ببراهينه التالية
كم كنا نود أن نجد السبيل إلى ملاحظة النفس في ذاتها لنقف على طبيعتها ومميزاتها. فأما ولا حيلة لنا إلى ذلك فلنلجأ إلى آثارها ووظائفها فإن فيها خير معين على فهم كنهها. وكثيرا ما قام الأثر دليلا على وأعانت الوظيفة على توضيح مصدرها. ومن أهم وظائف النفس والصقها بها الإدراك؛ وأنا لنلحظ فيه ظاهرة غريبة هي أن النفس تدرك ذاتها وتدرك أنها تدرك، وفي هذا دليل قاطع على أن إدراكها مباشر وبدون واسطة. ذلك لأنها لو كانت تدرك بآلة جسدية لا نعدم كل هذا وما استطاعت أن تدرك نفسها ولا أن تكون شاعرة بإدراكها، بل ولا أن تدرك الآلة التي تستخدمها. ويكفي أن نقرن هذا الإدراك العقلي بالأدراكات الحسية أو المتصلة بالجسم لنتبين الفرق بينها. فبينما النفس تدرك ذاتها وتدرك إدراكها لا تستطيع حاسة ما من حواسنا أن تحس نفسها ولا إحساسها ولا العضو الذي يوصل إليها هذا الإحساس، اللهم إلا إن عكس إليها بمرآة ونحوها. وكذلك المخيلة لا تتخيل ذاتها ولا فعلها ولا آلتها، وإنما تتخيل أمرا خارجا عن كل ذلك. وإذن تكون النفس الناطقة من طبيعة غير طبيعة هذه القوى الجسمية.
وفوق ذلك فهذه القوى تتأثر بما تقوم به من مجهود. فان عظم مجهودها أو استخدمت زمنا طويلا بدا عليها التعب والإعياء وعز عليها أن تقوم بوظائفها في دقة. فالقراءة الطويلة(197/16)
تضعف العينين، والضوء الشديد قد يعشيهما فلا تكادان تبصران، والرعد القاصف قد يصم الإذنين. وليس أثر هذه الاحساسات الشاقة بمقصور على وقتها، فقد يبقى بعدها زمنا، فمن ابصر ضوءاً عظيماً لا يبصر معه ولا عقبه ضوءا ضعيفا، ومن سمع صوتا قويا لا يسمع معه ولا على أثره صوتا ضئيلا، ومن ذاق طعما شديد الحلاوة لا يحس بعده خفيف الطعوم، وعلى عكس هذا يزداد العقل نضجا كلما استخدم وقام بوظيفته، وإذا حل مسألة معقدة كان في هذا ما يعينه على حل ما هو اعقد منها حقا انه قد يبدو متعباً أحياناً ولكن هذا راجع إلى ما يتصل به من ظروف عضويه، فإنه يستعين بالمخيلة كثيرا وهي مرتبطة بالجسم ارتباطا وثيقا.
وأخيراً كل أعضاء الجسم تضعف تبعا لتقدم السن، ويبدأ هذا الضعف عادة بعد سن الأربعين. لكن القوة الفعلية تخالف هذا تمام المخالفة، فهي لا تكتمل إلا حين يجاوز الإنسان هذه السن. يقول ابن سينا: (لا شك أن الجسم الحيواني والآلات الحيوانية إذا استوفين سن النمو وسن الوقوف أخذن في الذبول والتنقص وضعف القوة وكلال المنة، وذلك عند الأنافة على الأربعين سنة. ولو كانت القوة الناطقة العاقلة قوة جسمانية آلية لكان لا يوجد أحد من الناس في هذه السنين ألا وقد أخذة قوته هذه تنتقص، ولكن الأمر في أكثر الناس على خلاف هذا، بل العادة جرت في الأكثر انهم يستفيدون ذكاء في القوة العاقلة وزيادة بصيرة؛ فإذن ليس قوام القوة النطقية بالجسم والآلة، وإذن هي هي جوهر قائم بذاته) وأما ما يبدو من نسيان أو ضعف في التفكير أو خطأ في الأحكام أثناء الشيخوخة فليس راجعا إلى نقص أو اضطراب في القوة العاقلة، وإنما مصدره مؤثرات جسمية وعضوية وبيان ذلك أن النفس تؤدي مهمتين متباينتين ومتعارضتين تقريبا: فهي تسوس البدن وتدبر أمره، كما تقوم بالتفكير والتعقل. وكثيراً ما عز عليها الجمع بين هذين الأمرين؛ فيحول الحس دونها والاسترسال في النظر والتأمل، كما يصرفها البحث العميق ولو مدة معينة عن حاجات الطعام والشراب، فما نظمه من ضعف التفكير أو تعطل العقل لدى الشيخ أو المريض منشؤه أن النفس قد شغلت بمهمتها الجسمية، بدليل أنها تسترد كل قوتها العاقلة إذا ما زال المرض.
هذا مجمل البراهين التي يستدل بها ابن سينا على روحانية النفس، وفيها من غير شك(197/17)
ملاحظات سيكلوجية جديرة بالتقدير، فأن إدراك القوة الناطقة لنفسها وإدراكها أنها تدرك أساس موضوع السفور الذي هو من أهم مباحث علم النفس الحديث، ويمكننا أن نسلم إلى حد ما أن القوى الذهنية أقدر على تحمل المجهود من الأجهزة الجسمية. وليس بغريب على ابن سينا وهو الطبيب المعروف أن يقوم بمثل هذه الملاحظات ولا سيما وأستاذه أرسطو قد سبقه إلى بعضها ومهد له سبيل توسعتها. ولكن الغريب هو أن تستخدم أفكار أرسطية في إثبات أمر لا يقف أمامه أرسطو موقفاً واضحاً، فإنه غير صريح صراحة أفلاطون في القول بفصل النفس عن البدن وتميزها عنه، فكأن ابن سينا ببرهنته السابقة ينتصر لأفلاطون في الوقت الذي يزعم فيه أنه يردد آراء أرسطية. وإذا ما شئنا أن نحكم على هذه البرهنة في ذاتها، وخاصة في جزئها الأخير، وجدنا قيمتها موقوفة على تفسير الصلة بين الجسم والروح، وهذا ما سنحاوله في الفرص المقبلة إن شاء الله.
إبراهيم مدكور
-(197/18)
في الأدب المقارن
الطور الفني في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
مما عرف به الإنسان انه حيوان يتذوق الفن، فحب الفن طبع فيه، تبدو مظاهره حالما يأمن على نفسه ويتوفر له قوته وحاجاته، فإذا ما فرغ من الضروري من أموره التفت إلى الكمالي، وطلب الفن والجمال، ومن ثم تظهر بعض الفنون بدائية بين الجماعات المتبدية، وترتقي بينهما وتتنوع بقدر ما تسمح به بيئتها ودرجتها من الرقي المادي والعقلي. والرقص والموسيقى والشعر من الفنون السابقة إلى الظهور، لقلة ما تحتاج إليه من المواد الأولية، أما التصوير والنثر الفني والنحت والعمارة، فأكثر تأخراً عنها لما تحتاج إليه من تقدم الصناعة والمعرفة بالكتابة والاستقرار في موطن
ومهما بلغ الشعر من التقدم في عهد البداوة فما يزال محدود الجوانب قريب الأغوار متشابه الآثار؛ فإذا كانت الحضارة والاستقرار والثقافة والتدوين اتسعت مواضيع الشعر باتساع جوانب العمران، وبعد غوره باستفادته من العلم، وجاد أسلوبه باستخدام التدوين والتروي، واتصلت الجهود فيه وتكاثر الابتكار بتوفر الوقت للتفرغ والتفنن، وظهر بجانب الشعراء أخوه الأصغر سنا وهو النثر، وظهر بجانب الشعراء الكتاب، وبظهور النثر يمتد مجال الأدب حتى يتاخم مجال العلم أو يتداخل وإياه، وإذ يدون الأدب يطلع عليه أبناء الأمم الأخرى ويطلع أدباؤه، على آداب تلك الأمم فيتأثر بها ويؤثر فيها، بعد أن كان الشعر في عهد البداوة معزولا لا يحس به سواه ولا يعلم هو بوجود غيره، وبتقييد الأدب يتوارثه جيل عن جيل، ويزداد تراثه باطراد، بعد أن كان في عهد بداوته سريعا إلى التلاشي في ضباب النسيان، لا يكاد يذكر منه جيل عن أجداده إلا القليل المحرف غير المستيقن
فحين تتحضر الأمة وتتثقف، يصبح شعرها فنيا ويظهر تجانبه النثر الفني؛ على أن هذا يستغرق زمنا، ولا يجئ الفن إلا متأخراً عن الصناعة وعن العلم. فالإنسان يعمد دائما إلى الضروري حتى إذا ما قضى منه وطره تحول إلى الفن أو تحولت الصناعة ذات الغرض المادي إلى فن لا غرضاً في نفسه خارجاً عن ذاته وهكذا ينشأ التصوير والنحت والعمارة والنثر جميعاً، تكون في أول أمرها صناعات تخدم أغراضا مادية وتسد حاجات الإنسان،(197/19)
من اتخاذ المسكن وزينته وتدوين المهم من الأحكام والمواعظ والأخبار ثم العلوم، فإذا ما اطرد سلم الرقي تخلص الفن من تلك الأغراض الخارجية وصار غرضا في نفسه ومتعة في ذاته، وتعبيرا عن الشعور خالصاً، وعبادة للجمال منزهة.
إذا ما دخل الأدب هذا الطور الفني، صارت الصنعة الفنية فيه اظهر والتجويد أوضح، وليس يخلو الشعر حتى في بداوته من صنعة ومعالجة وتجويد، وبغير هذه لا يتصور له وجود ولا لسلكه انتظام؛ بيد أن الأديب في الطور الفني يصبح اكثر بصراً بتجويد اللفظ وتنسيق الأسلوب وتجميل المعنى، لما يمتاز به دون شاعر البداوة من ترفه المعيشة ورقة الذوق وسعة القراءة، والاطلاع على الآثار الأدبية والقواعد والآراء، فكلما أمعن الأدب في طوره هذا زاد الأدباء لألفاظهم تخيراً وتسهيلا، ولأساليبهم تقسيما وتذليلا، ولمعانيهم. استقصاء وتوضيحاً
وتزداد موضوعات الأدب اتساعا وبعدا عن أسباب الحياة الشخصية الحاضرة، وتحليقا في عنان الفكر وأجواز الخيال وآفاق الماضي والمستقبل: فعلى حين يكون اكثر ما ينظم من شعر البداوة نتيجة حادث طارئ أو خاطر عابر، يتوفر الأديب في الطور الفني على تقصي غايات التفكير، إرضاء لنزعة التأمل والتفكير في ذاتها وعلى توخي مناحي الفن حبا للفن وحده، ويمسي الأديب ويصبح ولا هم له إلا استقصاء حقائق الحس والمشاهدة وتصويرها في أدبه، وتكثر في الشعر والنثر آثار التأمل الطويل والوصف الفني
وإذا ما تكاثرت الآثار المتجمعة بالتدوين جيلا بعد جيل، وزخر التراث الأدبي بما تجود به قرائح الأدباء من فيض، إذا انقضت سحائب منه أعقبت بسحائب كما يقول الطائي، وكثر نظر الأدباء فيها واستظهارهم لها واحتذاؤهم إياها، لم يعدموا أن ينتبهوا إلى شواهد فيها تتكرر وحقائق تتماثل، وجزيئات تندرج تحت كليات، فاستخلصوا من كل ذلك قواعد يجعلونها نصب أعينهم في الإنشاء، ثم يحتفي بعضهم بجمعها وتبويبها والاستكثار منامثلتها، فتكون من ذلك علوم المعاني والبيان والبديع، وكتب النقد والموازنة والتحليل، وبرغم أن الفن سليقة والأدب ملكة لا اكتساب، والشعر طبع لا تطبع فان تلك العلوم وهاتيك الكتب المستحدثة تترك أثرها في تقويم السلائق، وتوجيه الملكات وتحسين البصر بالأدب وأسبابه وجمع أشتاته ولم أطرافه، ولا يستأثر النثر بهذا التبصر في الأدب بل ينظم(197/20)
الشعراء القصيد في مزايا الشعر وأطواره وأحوال الشعراء.
ومن ذلك التراث الأدبي الزاخر يكتسب الأدب شيئاً آخر: يكتسب على ممر الأجيال لغة أدبية خاصة وألفاظا خاصة للشعر وأخرى للنثر، قد صقلها الاستعمال الطويل ورفعها استخدام كبار الأدباء إياها إلى مرتبة عالية، وارتبطت بمعان سامية مما يجعلها أهلا لما ينزع إلى تصويره الأدباء من عواطف رفيعة فيصير للشعر والنثر من كل ذلك لغة خاصة متسامية على لغة العصر المستعملة في الكلام الممتازة بسهولتها وإسفافها أحياناً وتطورها المستمر بتطور الحضارة المادية؛ وتظل لغة الشعر والنثر الخاصة تلك في ازدياد كلما أضاف إليها أقطاب الأدب ألفاظا من اختراعهم أو اشتقاقهم أو مما يرفعونه بعبقرياتهم من لغة العامة، أو يقتطفونه من لغات الأمم الأخرى وتتوارث في الأدب بجانب ذلك تعابير خاصة جارية ومجازات وأخيلة وأمثال، يموت بعضها تدريجا ويحيا بعض، ويزداد بمرور الزمان صقلا وانسياغا.
هذا الطور الفني لا شك طور نضج الأدب وبلوغه اشده: فيه يجمح بين حرارة الشعور وعمق الفكرة، وبين طرافة الموضوع وجودة الأسلوب، وفيه يتخلص من أقذاء المادية وشوائب الصناعات، وفي هذا الطور لا في طور البداوة يظهر اكبر أدبائه وفحولة شعرائه؛ وما يزال الأدب في رقيه المطرد وتراثه في ازدياده المستمر، مادامت في الأمة فورة الحياة وصدق الشعور وصحة النظرة، فإذا خمدت النفوس وزاغت النظرات، انقلب الفن صناعة والحرية قيودا، وتمسك الأدباء بالقشور دون اللباب، وبالألفاظ دون الحقائق.
كان أدب الجزيرة العربية في الجاهلية وصدر من الإسلام بدويا: الشعر قوامه والبساطة سمته والقريب الحاضر من شؤون الحياة مادته، محدود المواضيع، غير متسق الأسلوب ولا منظم الأفكار ولا ظاهرا لوحدة في القصيدة. وقد استعاض العرب عن التدوين بالرواية: يروي أشعار كل فحل ناشئ يقوم له مقام الديوان المخطوط، ويقوم الشاعر من راويته مقام الأستاذ يبصره بالشعر ووجوه القول؛ وبطريقة الرواية هذه حفظ من شعر العرب شيء كثير، وبها ترعرعت الصناعة الشعرية حتى بلغت في هذا العصر مبلغا من التقدم يعتد به، وصارت لها تقاليد خاصة في الأوضاع والمعاني والألفاظ، كتصريع البيت الأول من القصيدة وتقديم النسيب في مستهلها، تتجلى كل هذه الميزات في الملعقات، التي(197/21)
يتحدث صاحب كل معلقة منها في نفس القصيدة، عن أحبابه وشرابه، وحربه واسفاره، وحكمته وأدبه وقبيلته وعزها وهلم جرا
وبازدياد حظ العرب من الرفاهة والتثقف والتهذب، ازداد الشعر تهذيب لفظ واتساق أسلوب كما يتمثل في شعر ابن أبي ربيعة وجميل؛ وظهر النثر يستخدم أولاً في تدوين العلوم ورسائل الأمراء وإجراءات الحكومة، ثم مازال حتى استحال علا أيدي ابن المقفع والجاحظ والبديع، فناً يتطلب الجمال اللفظي والمعنوي ويتوخى نواحي الفن ومذاهب التفكير بعيدة عن النفع المادي والغرض الحاضر. وبلغ الشعر الغاية من الصناعة الفنية والحلاوة اللفظية والتقسيم الموضوعي والتقصي في المعاني والتفنن في الوصف. على أيدي أبي نواس وأبي تمام وابن المعتز ولبن الرومي وغيرهم، وهؤلاء وإضرابهم هم لاشك فحولة شعراء العربية، وإن ظل كثير من الأدباء لنزعتهم من المحافظة يقدمون امرأ القيس وأصحابه من الجاهليين. وظهرت كتب النقد وعلوم البلاغة، ونظم الشعراء القصيد في إطراء فنهم، ودبجوا أشعارهم بالتشبيهات والأمثال يحتفون بطلبها ويكاثرون بعرضها، كقول الطائي:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وقد سئل بشار فيما قيل: بم فقت أهل عصرك في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه؟ فأجاب: بأني لم أقبل كل ما تورده عليّ قريحتي، ويناجيني به طبعي، ونظرت إلى مغارس الفطن ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات فسرت إليها بفكر جيد وغريزة قوية فأحكمت سبرها وانتقيت حرها وكشفت عن حقائقها واحترزت عن متكلفها. فهذا قول أديب صناع يروض المعاني والألفاظ ويعرف خطر التروي وأعمال الفكر ولا يرسل القول على عواهنه ولا يطمئن إلى الارتجال الذي كان شيمة الجاهليين ومن أمثلة التدقيق في انتقاء الألفاظ ونقدها ومراعاة تناسب حروفها ومخارجها أيضاً، أن ابن المعتز عاب على أبي تمام تكرار كلمة (أمدحه) مع الجمع بين الحاء والهاء، وهما معا من حروف الحلق، وذلك في قوله:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي
هكذا يجري تاريخ أدب كل أمة: يبدأ بطور أولي الأدب فيه ظاهر البداوة، يليه طور فني(197/22)
تابع لتحضر الأمة وأخذها بأسباب الكتابة والعلم، وقد استطال الطور الأول في العربية وغزر ما حفظ من أثاره لظروف خاصة، وإن يكن الكثير مما أثر من ذلك موضع الشك أما الأدب الإنجليزي فلا يحتوي تاريخه على آثار ذات بال تمت إلى الطور الأول المتبدي إلا أساطير وشذوراً اتخذها الأدب فيما بعد مادة لسبحاته الفنية، وإنما يبدأ تاريخ الأدب الإنجليزي الصحيح بعصر اليزابيت الذي كانت الأمة فيه قد تشربت ثقافة اللاتين والإغريق واقتبست كثيرا من حضارة أوربا، وخمدت فيها الفتن واستتب السلام في ظل آل تيودور. ومن ذلك العصر يبدأ الطور الفني للأدب الإنجليزي وهو طور تاريخه تاريخ رقي مطرد للأدب في الأشكال والمواضيع والأفكار والأساليب وتخلص مستمر من شوائب الصناعة وتجرد تام في عالم الفن الصحيح. والأدب الإنجليزي في هذا كله يمثل التطور الطبيعي المعقول لكل أدب: جرى الشعر إلى غاياته وتلاه النثر، وتوسعت جوانب كل منهما تدريجا وتعدد مجالاته وتميزت أشكاله وتبينت أغراضه.
تهيأت لكلا الأدبين العربي والإنجليزي أسباب الدخول في الطور الفني. فازدهرت الحضارة وذاعت العلوم ودونت الكتب وانتشرت الرفاهية وتوفر الوقت للعمل الفني المتصل، بيد أن الأدب الإنجليزي كان ابعد شوطا في مضمار الفن الخالص، واكثر تجرداً من شوائب الصناعة والمادة التي تلازم الأدب أو الفنون عامة في بداءتها، إذ أحاطت بالأدب العربي ظروف حالت بينه وبين التخلص من جميع هاتيك الشوائب. فجاء الأدب الإنجليزي اكثر فنية في الموضوع وفي الأسلوب.
ففي الموضوع احتوى الأدب الإنجليزي من تصوير الطبيعة وسير الأبطال وخرافات الماضين وأوصاف الرحلات وآثار الفنون الأخرى كالتصوير، ما يفيض جمالا وتنسم منه نسمات الفن الخالص والفكر البعيد والإنسانية الشاملة، وكل هاتيك مواضيع لم يولها الأدب العربي مكانة اولى، وفي الأسلوب توفر الأدباء الإنجليز على استخدام اللفظ قدر المستطاع لأداء المعنى وتصوير المنظر مستعينين بجرس اللفظ ونغم الوزن في النظم، في حين اهتم أدباء العربية للفظ في ذاته لا على كونه مجرد وسيلة للمعنى، وظهرت الوحدة الفنية أو الفكرة الجامعة في القصيدة وفي المقالة وغيرهما من أشكال الأدب في الإنجليزية، على حين ظلت القصيدة في العربية وإن أصبحت اكبر تقسيماً وأجود ترتيبا مما كانت عليه من(197/23)
قبل، عديمة الوحدة مختلطة الأجزاء، تثب من قريب إلى بعيد ومن نسيب إلى مديح، ومن مديح للغير إلى فخر بالنفس ومن فخر إلى شكوى.
ولم يتخلص الأدب العربي من شبهات الصناعة المادي قط: إذ ظل اكثر الشعراء والكتاب يخدمون الأمراء ويتوخون مواقع رضاهم. وليس يخرج الأدب من حيز الصنعة إلى عالم الفن الحر مادام ذا غرض خارج نفسه. وذلك ما لم ينكره أدباء العربية أنفسهم فظلوا يسمون الأدب صنعة أو حرفة أو آلة، وكان النقاد يوازنون بينها وبين صناعة المغنين، ويقول ابن رشيق في تعليقه على حكاية شاعر مدح علوياً ثائراً فدفنه المنصور حياً: إن ذلك الشاعر قد جنت عليه حماقته، إذ ما للشاعر وللزج بنفسه في أمثال تلك المآزق وإنما هو (طالب فضل)؟
واحتفى أدباء العربية بالألفاظ احتفاء متزايداً: فنشأ السجع والطباق والجناس والتورية وما إليها في الشعر والنثر معا، حتى بدأ اللفظ منافسا للمعنى مزاحما له على انتباه القارئ وفهمه، بل صارت له في النهاية المكانة الأولى، وتضاءل المعنى بين يديه واختفى، وأصبحت همة الأدباء موجهة لا إلى الغوص على حقائق الوجود وبواطن الشعور. بل إلى اقتناص شوارد الكلم وبارع النكات اللفظية، فعيسى بي هشام مثلا يقول انه كان يطوف البلدان (وقصاراي لفظة شرود أصيدها، وكلمة بليغة أستزيدها) وعيسى بن هشام أيضاً يعيب على الجاحظ انه (قليل الاستعارات قريب العبارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله فهل سمعتم له لفظة مصنوعة أو كلمة غير مسموعة؟)
وإنما قصر بالأدب العربي عن غايات الفن المطلق، ما قيد به من اتصال بالأمراء، وما أرهق به من تقليد للقديم: أدخلت الأولى فيه التكلف والصنعة وأبقت فيه غرضا خارجا عن نفسه وصرفت الثانية همه إلى اللفظ البليغ والعبارة الطنانة، التي تدل على بصر باللغة وتمكن من آثار فحولها المتقدمين؛ ويتجلى الفرق بين مدى الأدب الإنجليزي من الفنية الخالصة، ومدى الأدب العربي منها، من موازنة حياة الفن الخالص والتأمل الدائب، والمعالجة المستمرة لأشكال الأدب ومواضيعه، والطرق المتكرر لمذاهبه ومناحيه، التي كان يحياها وردزورث وشلي وتنيسون مثلا، وبين حياة البحتري والطائي والمتنبي المتصلة أوثق اتصال بالأمراء ومنادمتهم وتملقهم، كان الأولون كأنهم كهنة الفن المنقطعون إلى آلهته(197/24)
في محاريبه المقدسة المصونة وكان الأخيرون يعيشون في جلبة البلاطات وضجة المحافل والمواكب
فالأدب الإنجليزي بعد أن توفرت له أسباب الحضارة والثقافة والتدوين والفراغ، التي لابد منها لبلوغ الأدب أوج رقيه، توفرت له أيضاً مزيتا الاستقلال بنفسه عن إرادة الحكام وخدمتهم ونزعة التجديد والحرية التي لا تقلد الماضي ولا تقف عند حدوده وبهاتين المزيتين إلى تلك الأسباب تجمعت للأدب الإنجليزي كل وسائل التطور الطبيعي وبلوغ آماد الفن الخالص؛ أما الأدب العربي فأعوزته هاتان الميزتان، فقعد به إعوازهما في مجال الفن وأبقى به بعض شوائب الصناعة، ومن ثم أمكن القول بأن الأدب الإنجليزي بلغ طور الفن، أما الأدب العربي في جملته فظل اقرب إلى الصناعة الفنية.
فخري أبو السعود(197/25)
الجباية في الإسلام
للأستاذ فارس بك الخوري
أستاذ علمي المالية والمرافعات المدنية ورئيس المجلس النيابي
السوري
استندت الجباية عند العرب على الأسس الآتية:
1 - على القواعد المستنبطة من الكتاب والسنة؛
2 - على ما استنه الخلفاء الراشدون؛
3 - على ما أخذوه عن الدول التي غلبوها على أمرها
فلم تكن أموال الدولة في أيام الرسول سوى الغنائم يخرجون خمسها للنبي وأهل بيته ويقتسمون الباقي بين المسلمين. وكانت الخزينة في عهده قائمة على ما يجتمع لديه من الصدقات والزكوات من ماشية ونقود وحبوب وعروض يتصرف بها في وجوه المصلحة العامة. ثم عندما اتسع أمر الإسلام عمد إلى وضع الخراج. فجعل على سكان جزيرة العرب من المسلمين خراج مقاسمة على حاصلات أرضهم من العشر إلى نصف العشر بحسب درجة الأرض من الخصب ونصيبها من الري، فكانت أرض الجزيرة بتمامها عشرية ماعدا خيبر فقد صالح يهودها على نصف حاصلات أرضهم. وكان يسم الماشية العائدة لبيت المال بميسم خاص ويتولى ذلك بنفسه؛ وبلغت هذه الماشية في عهده نحو أربعين ألفاً. وبقى خمس الأفياء يعطي لأهل البيت حتى تولى الخلافة عمر بن الخطاب فعين الرواتب لمستحقيها من أهل البيت ومن القائمين بخدمة الخليفة من الحاشية والبطانة وأجراها عليهم شهراً بشهر، ورد الأخماس على بيت المال لتقسم على المسلمين.
وعندما توسع الفتح لإسلامي واستولى المسلمون على بلاد الروم والفرس في العراق والشام اختلف زعماء العرب في الخطة الواجب اتباعها باستحواز الأرض و (العلوج) الذين عليها، فأراد قوم من الصحابة وزعماء العرب أن يقتسموا الأرضين التي يفتحونها غنيمة بينهم ويكون لكل منهم نصيبه منها مع من عليها من السكان فيبقى السكان اقناناً أي أرقاء ملحقين بالأرض يباعون معها وينتقلون بانتقالها. فقال عمر: فكيف بمن يأتي بعدكم من(197/26)
المسلمين فيجدون الأرض قد اقتسمت بمن عليها وحيزت إرثاً عن الآباء؟ ما هذا برأي. فقال عبد الرحمن ابن عوف: فما الرأي إذن؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله على المسلمين. قال عمر: إذا اقتسمت ارض العراق بعلوجها وارض الشام بعلوجها فبماذا تسد الثغور وما يكون للذرية؟. وما زالوا به حتى جمع ندوة من المهاجرين والأنصار قوامها عشرون رجلا من أهل الحنكة والعقل واستشارهم في الأمر وقال لهم: سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا إني اظلمهم حقوقهم وإني أعوذ بالله أن اركب ظلماً؛ لئن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت انه لم يبق شيء يفتح بعد ارض كسرى وقد غنمنا أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وأنا في توجيهه، وقد رأيت أن احبس الأرضين بعلوجها واضع عليهم فيها الخراج فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم. أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها؟ أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر لابد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم؟ فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعما قلت وما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال ولم تجر عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم. وكان عثمان وعلي وطلحة بين القائلين بقول عمر. فقال: من لي برجل له جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها ويضع على العلوج ما يحتملون؟ فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا تبعثه إلى أهم ذلك فان له بصراً وعقلا وتجربة. فولاه مساحة ارض السواد من العراق فمسح سواد الكوفة وجباه مائة مليون درهم، وفعل بالشام كما فعل بالعراق فترك أهله ذمة يؤدون الخراج إلى المسلمين. قال أبو يوسف القاضي: إن الذي رآه عمر من ترك الأرض في أيدي أصحابها وفرض الخراج عليها هو توفيق من الله فيه الخيرة لجميع المسلمين؛ ولو لم يفعل ذلك لما شحنت الثغور وقويت الجيوش على السير في الجهاد.
وفي عهده وضعت القاعدة القائلة (أيما دار من دور الأعاجم ظهر عليها الإمام وتركها في أيدي أهلها فهي ارض خراج؛ وإن قسمها بين الذين غنموها فهي ارض عشر. وكل ارض من أراضي الأعاجم صالح الإمام أهلها عليها وجعلهم ذمة فهي ارض خراج) فضرب على(197/27)
الأرض الخراجية مالاً مقطوعاً يستأداه أصحابها العاملون بها في حالتي الخصب والجدب؛ وجعل هذا الخراج يختلف باختلاف خصب الأرض وأسلوب الري والقرب من المدن الحافلة بما في ذلك من العون على كثرة الاستغلال وبيع الغلة؛ وجعل العشر في الأراضي العشرية على ما يشرب من ماء المطر ونصف العشر على ما يسقى بالدلو، وجباه على ما يبقى في أيدي الناس من الغلة الأرضية كالحبوب ووضعه أي رفعه عما لا يبقى كالبطيخ والخضر، كما وضعه عن المسلمين في البلاد التي فتحها وأقطعهم إياها، وقال ليس على المسلمين عشر وإنما العشر على اليهود والنصارى. وقال: يا معشر العرب احمدوا الله الذي وضع عنكم العشور. فهو أول من مسح الأرض ودون الدواوين ووضع أصول الجباية ورقم الداخل إلى بيت المال والخارج منه. وهو الذي رتب الجزية على الرجال من غير المسلمين وكلف غنيهم بثمانية وأربعين درهماً، ومتوسطهم بأربعة وعشرين، وفقيرهم باثني عشر في السنة، وقال درهم في الشهر لا يعوز أحداً. وجعل المعادن لمخرجها على أن يؤخذ منه خمس المستخرج لبيت المال؛ وكذلك ما يخرج من البحر من حلية وعنبر. وهو الذي وضع اكثر القواعد المالية فلم يجرؤ من جاء بعده على مخالفتها، فبقي جانب عظيم منها نافذاً في عهد الأمويين والعباسيين واستمر بعضها حتى الزمن الحاضر.
كانت منابع بيت المال في عهد الخلفاء الراشدين منها المقرر ومنها الطارئ؛ فالمقرر هو الخراج والعشر والصدقات والجزية، والطارئ هو العشور والغنائم والافياء والأموال المستخرجة من العمال وعوائد المصادرة وأمثال ذلك. فالخراج هو ما كان يوضع على الأرض التي استولى عليها المسلمون وتركوها في أيدي أهلها ملكا لهم، فكانوا يجعلونه أحياناً خراجا موظفاً ثابتاً كما جرى في سواد العراق، وأحياناً خراج مقاسمة. وبقيت ضياع البطارقة والأمراء المنهزمين ملكا لبيت المال يقبلها العمال ويستثمرونها لحساب الخزينة العامة. والعشر هو الحصة الشائعة المضروبة على حاصلات الأرض التي اسلم أهلها عليها من ارض العرب أو العجم كالمدينة واليمن، لو ملكها المسلمون عنوة من قوم لا تقبل منهم الجزية كعبدة الأوثان والمجوس؛ ومثلها الأرض التي احتازها المسلمون وقسموها بين الغانمين.
والصدقات هي ما يعطيه المسلمون من أموالهم المنقولة ومكاسبهم؛ وكانت في الغالب بمعدل(197/28)
واحد في الأربعين أي ربع العشر؛ وتجبى على الأكثر من الماشية، فكانوا يعينون لأهل البادية مصدقين يجبون الصدقات ويردونها على بيت المال لتصرف في مصالح الخلافة. ولعل هذا الأساس بقي معتمداً عليه في الإسلام وتجلى في عهد الخلافة العثمانية بأموال الأغنام والسائمة التي مازالت إلى اليوم تجبى على هذه النسبة نفسها توسعت منابع الجباية بعد ذلك فتناولت مطارح أخرى من ذلك المكوس (الجمارك) التي كانوا يسمونها العشور لأنها كانت تؤخذ بمعدل واحد من العشرة، وأول ظهورها في الإسلام على عهد عمر بن الخطاب عندما كتب إليه أبو موسى الاشعري عامله في العراق يستشيره بما يأخذه الأجانب من تجار المسلمين الذين يدخلون بلادهم لبيع بضاعتهم، فكتب إليه عمر أن خذ أنت منهم كما يأخذون من تجارنا وخذ من أهل الذمة نصف العشر ومن المسلمين ربع العشر بقدر الزكاة المفروضة عليهم فانتشرت قاعدة التعشير في ثغور المسلمين وحدودهم واستمرت طول أيام دولتهم. ليس لدينا إحصاء يعرف منه ما كان يدخل بيت المال في عهد الراشدين من الخراج أو العشور أو الزكوات أو الأخماس أو غيرها من منابع الخزينة، وجل ما نعلمه من هذه الجهة أن الدخول كانت جسيمة جداً وجميعها تنفق في المصالح العامة ولا يختزن شيء منها قدم أبو هريرة على عمر بمال من البحرين فقال له عمر: ما معك؟ قال: (خمسمائة ألف درهم) فدهش عمر لكثرته وقال له: (أتدري ما تقول؟) قال (نعم مائة ألف خمس مرات) فصعد المنبر وقال: (أيها الناس جاءنا مال كثير، فان شئتم كلنا لكم كيلاً، وان شئتم عددنا لكم عداً، وهذا مثال على دهشة العرب بوفرة الأموال التي كانت ترد عليهم من فتوحاتهم ذهبا وفضة وعلى الإسراع في توزيعها بين المسلمين. وكان أبو بكر وعلي لا يقلان عن عمر في الزهد بالمال وتقسيمه بين الناس بالعدل
كان العرب قبل الإسلام يتعاملون بالنقود الكسروية والرومية من الدراهم والدنانير وبقى هذا حالهم إلى عهد عمر فضرب الدرهم وجعل وزنه من الفضة أربعة عشر قيراطاً من قراريط المثقال العشرين، فكانت كل عشرة دراهم من دراهمه تزن سبعة مثاقيل؛ ثم ضرب دراهم أخرى جعل وزن الواحد منها اثني عشر قيراطاً. وكان يضربها على نقش الدراهم الكسروية ويزيد في بعضها عبارات إسلامية كعبارة التوحيد أو عبارة الحمدلة. وضرب بعده عثمان دراهم نقش عليها عبارة التكبير. وحذا الخلفاء والأمراء حذوهما فضربوا(197/29)
الدراهم والدنانير بعبارات وأوزان مختلفة. وكان أعظم الذين ضربوا النقود معاوية وعبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان ويزيد بن عبد الملك وغيرهم. وإنما كان عبد الملك بن مران أول من ضرب الدنانير الإسلامية الصرفة بدون نقوش كسروية، فكان وزن ديناره يتراوح من أربعة غرامات وخمس الغرام إلى أربعة غرامات وثلثي الغرام، فهو بذلك يقارب نصف الجنيه الإنكليزي الذي وزنه أربعة غرامات وربع الغرام من الذهب وأما الدرهم الفضي فكان وزنه اقل من ثلاثة غرامات، واكثر عبد الملك من ضرب هذه النقود العربية في أيامه في الشام ومصر والعراق، وانتشر استعمالها فاستغنى العرب بها عن نقود الروم والفرس، وصار للعرب نقود خاصة بدولتهم تم بها استقلالها المالي.
فارس الخوري(197/30)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
ديباجة الكتاب
أهديت إلى الأديب الكبير الأستاذ (خليل مردم بك) مائة نقلة من (نقل الأديب) فأعطاني - وهو السخي السري - هذه اللؤلؤة العمانية أو الكلمة المردمية
كالْروض مؤتلقاً بحمرة نوره ... وبياض زهرته، وخضرة عشبه
وكأنها - والسمع معقود بها -=شخص الحبيب بدا لعين محبه
بل هي فوق القول البحتري ووصفه (أفسحرٌ هذا) أم هو كلام روحاني؟!
قال (الخليل) - وقوله ديباجة الكتاب -: (كنت احسب أن هدية الأستاذ (نقل) كاسمها فإذا هي سحر وخمر ونقل؛ وذلك إن عنوانها يستدرج القارئ ويوهمه أنه نقل فكه ليس غير، وهذا لعمري أول أبواب السحر، فإذا جاز هذا الباب (أو جازت عليه تلك الحيلة) وجد نفسه في روضة فردوسية بين أقداح ونقل فالنقلة تغري بالقدح. والقدح يستدعي النقلة. وهكذا دواليك حتى تستخفَّه نشوة الطرب وتتلاعب بنفسه ولبه:
سقوني وقالوا: لا تغنّ. ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنتِ
فيا ليت شعري كيف يستجيز من حرم الصهباء على نفسه أن يغوى الناس بالخمر، ويفتنهم بالسحر؟
1 - هذا بلاغ للناس
سئل علي بن عيسى الرماني فقيل له: لكل كتاب ترجمة فما ترجمة كتاب الله؟
فقال: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به)
2 - النيل
الأندلسي:
ما اعجب النيل، ما أحلى شمائله! ... في ضفتيه من الأشجار أدواح
من جنة الخلد فياض على ترع ... تهب فيها هبوب الريح أرواح
ليست زيادته ماء كما زعموا ... وإنما هي أرزاق وأرباح(197/31)
3 - بقية السحر في مصر
ابن المغربي:
أيا ساكني مصر، غدا النيل جاركم=فأكسبكم تلك الحلاوة في الشعر
وكان بتلك الأرض سحر وما بقى ... سوى أثر يبدو على النظم والنثر
4 - الهرمان نهدان
الشهاب الحجازي:
يا هرمي مصر لقد ... حسنتما رباها
عروس حسن قد غدت ... وأنتما نهداها
5 - مراتب الكلام
أبو هلال العسكري في (الصناعتين):
لكل مقام مقال، وربما غلب سوء الرأي وقلة العقل على بعض علماء العربية فيخاطبون السوقي والمملوك والأعجمي بألفاظ أهل نجد ومعاني أهل السَّراة؛ لأن العامي إذا كلمته بكلام العلية سخر منك، وزري عليك كما روى عن بعضهم انه قال لبعض العامة: بم كنتم تنتقلون البارحة؟ (يعني على النبيذ) فقال: بالحمالين. . .
ولو قال له: أي شيء كان نقلكم لسلم من سخريته. فيجيب أن يخاطب كل فريق بما يعرفون، وتجنب ما يجهلون
6 - في هذا مرة وفي هذا مرة
عن أبي بكرة: كنت عند النبي (صلوات الله عليه) وعنده إعرابي ينشده الشعر. فقلت: يا رسول الله، أشعراً أم قرأناً؟
فقال: في هذا مرة، وفي هذا مرة. . .
7 - ظرف الدهر
في تاريخ بغداد لابن الخطيب: حدث النضر بن حديد قال: كنا في مجلس وفيه أبو العتاهية والعباس بن الأحنف وبكر بن النطاح ومنصور النمري والعتابي، فقالوا لمنصور: أنشدنا؛(197/32)
فأنشد مدائح الرشيد؛ فقال أبو العتاهية لابن الأحنف: طرفنا بملحك فأنشد أبياته:
تعلمت ألوان الرضا خوف عتبه ... وعلمه حبي له كيف يغضب
ولي غير وجه قد عرفت مكانه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب؟
فقال أبو العتاهية: الجيوب من هذا الشعر على خطر، ولا سيما إن سنح بين حلق ووتر. فقال بكر: قد حضرني شيء في هذا فأنشد:
أرانا معشر الشعراء قوماً ... بألسننا تنعمت القلوب
إذا انبعثت قرائحنا أتينا ... بألفاظ تشق لها الجيوب
فقال العتابي:
ولا سيما إذا ما هيجتها ... بنان قد تجيب وتستجيب
قال النضر: فما زلت معهم في سرور. وبلغ اسحق الموصلي خبرنا فقال: اجتماع هؤلاء ظرف الدهر
8 - أمسلم هو؟
في (لسان الميزان): مما يذكر من سرعة جواب المتنبي وقوة استحضاره انه حضر مجلس الوزير ابن خنزابة وفيه أبو علي الآمدي الأديب المشهور فأنشد المتنبي أبياتاً جاء فيها:
إنما التهنآت للأكفاء
فقال أبو علي: التهنئة مصدر، والمصدر لا يجمع. فقال المتنبي لآخر بجنبه: أمسلم هو؟
فقال سبحان الله! هذا أستاذ الجماعة أبو علي الآمدي قال: فإذا صلى المسلم وتشهد أليس يقول: (التحيات)
قال: فخجل أبو علي وقام
9 - لا ندعه يبرد
قيل لأعرابي: ما تسمون المرق؟
قال: السخين
قال: فإذا برد؟
قال: لا ندعه يبرد(197/33)
10 - هل رأيت أحدا يهب ولده
قال جحظة: قال علي بن الجهم لخالد الكاتب: هب لي بيتك الذي تقول فيه
ليت ما أصبح من رقةَّ (م) ... خديك بقلبك
فقال: يا جاهل هل رأيت أحدا يهب ولده؟!
11 - لئلا يرى في عينها منة الكحل
أبو النصر الزورني:
ولا أقبل الدنيا جميعاً بمنة ... ولا أشترى عز المراتب بالذل
وأعشق كحلاء المدامع خلقة ... لئلا يرى في عينها منة الكحل
12 - وهوميروس عند الجمهور
في (الكلم الروحانية): سئل ديوجانس عن اشعر اليونانيين فقال: كل واحد عند نفسه، وهوميروس عند الجمهور.
محمد اسعاف النشاشيبي(197/34)
الديمقراطية
تساوي الفرص لا تساوي الأنصبة
للأستاذ أديب عباسي
ليس بين مسائل الاجتماع ما يسيء جمهور الناس فهمه ويخطئون دلالته كما يسيئون معنى الديمقراطية الصحيح في مختلف مناحيها ونواحي تطبيقها على شؤون الحياة الاجتماع. فهي في رأي قوم تحلل من قيود الاجتماع وخروج على كل عرف وعادة؛ وعند قوم غيرهم هي قسمة عادلة وملك مشاع لكل ما بيد الناس من متاع تالد ومال طريف؛ وعند فئة أخرى لا يكاد يعدو معنى الديمقراطية نطاق السياسة ومجال الحكومة، بل هذا المعنى الأخير للديمقراطية يكاد اليوم يطغى على كل معنى سواه وذلك لكثرة ما يحمل محامل السياسة ويورد مواردها العديدة في هذه الأيام.
أما أن الديمقراطية بمعناها الأعم ودلالتها الأدق ليست على الحصر هذا ولا ذاك مما مر، فشيء يحتاج إلى بعض البسط والبيان؛ فليست الديمقراطية انطلاق النفوس على سجاياها فلا قيود تراعي ولا حدود تلتزم، ولا هي تعني تسليط النوكي والكسالى على جهد المجدين فينالون منه ويصيبون مثل ما يصيب المجد بالعرق الصبيب والجهد الدؤوب؛ ولا هي تحصر في نطاق السياسة الضيق وان وسعته الجرائد وضخمه الساسة ليست الديمقراطية بمعناها الأدق أمراً من هذه الأمور. وإنما هي بدلالتها الصحيحة ومعناها العام تيسير على الناس وتهيئة لهم ليقفوا من فرص الحياة المتاحة موقفا عادلا فيشتركوا شركة متساوية في هذه الفرص المتاحة لا في الأنصبة المحققة ونتائج الجهد المبذول.
وبعبارة أخرى تكون الديمقراطية ديمقراطية المثل الأعلى إذا انصرفت إلى تهيئة الأسباب وتيسير السبل التي تجعل كل فرد من أفراد الأمة ينال على قدر استعداده وكفايته من فرص النجاح ووسائل التوفيق. وإذا شبهنا الحياة بميدان للسباق فالديمقراطية الصحيحة أن ينطلق المتبارون من نقطة واحدة بعد أن يعدوا أعداداً عادلا لهذا السباق، لا أن يكبل البعض أو يحجز عن السباق أو يترك بلا أعداد ثم يحاسب على تخلفه ويلام على إبطائه!
وإذاً فالديمقراطية الصادقة هي ديمقراطية التيسير على الناس لإظهار كفاياتهم واقتدارهم الموهوب والمكسوب. وكل ما يؤدي إلى هذه النتيجة الأخيرة فهو في صميم الديمقراطية(197/35)
الحق، وكل ما يؤدي إلى عكسها فليس من الديمقراطية في شيء. وفيما يلي شرح لوسائل تيسير الديمقراطية على النحو الذي عرفناها به.
وفي أول هذه الوسائل بل أولها أن يعم التعليم وينتظم التثقيف جميع أفراد الأمة ثم يسار فيه على نهج واضح من الاختصاص والأفراد. وعموم التعليم يجئ في أول وسائل الديمقراطية لأن عصرنا هذا عصر العلم والسرعة والاقتصاد، لإنجاح فيه مضمون إلا لمن توسل للنجاح فيه بوسائل من علم يتقن أو فن يكتسب والأوربيون على أتم الإدراك لهذه الحقيقة فتراهم لا يألون جهداً ولا يدخرون وسعا في تعميم التعليم وتيسيره بحيث ينتظم جميع أفراد الأمة ويصيب كل منه على قدر استعداده وكفايته. وهم يبالغون ويشددون في هذا التعميم والتيسير فلا يكتفون أن يعدوا وسائل العلم والتثقيف ويتركوا أمر اكتسابها لاختيار الجمهور وهوى الأفراد، بل تراهم يفرضون العلم والثقافة فرضا على جميع أفراد الأمة فلا يستطيع أحد أن يستمر على أمية أو يمضي في جهل حتى لو أراده. والأوربيون بعد لا يكتفون بأن يعمموا التعليم ويفرضوه على جميع الأفراد، بل تراهم ينوعون العلم ويعددون فروع الاختصاص حتى يصيب كل فرد من العلم ووسائل النجاح ما يتلاءم وكفاياته الخاصة ومواهبه الموروثة. وهذا هو الذي من اجله تفتح الجامعات ودور الفن الخاص حيث يستطيع كل فرد أن ينال من العلم والفن كماً وكيفاً خير ما يستطاع نيله. على أن حرص ذوي الشأن هناك على استغلال كفايات الأفراد أحسن استغلال لا يدعهم يتركون الأفراد وهواهم واختيارهم لما يشاءون من العلم والفن بل تراهم في كثير من الأحوال يتدخلون في حرية الأفراد ويحددون اختيارهم ويربطون بنوع ابرز كفاياتهم، فترى المربين وعلماء النفس يتوسلون باختبارات الذكاء العام والخاص، ليدركوا مبلغ قابلية الفرد للعلم وليدركوا في أي نواحي المعرفة والمهارة يستطيع أن يجيد ويبرز نسبيا أو إطلاقا ثم يدفعونه في ناحية ابرز كفاياته فتكون النتيجة خيرا له ولقومه
ولا يكتفي أولو الشأن هناك بأعداد الفرد أحسن الأعداد وتزويده بأحسن زاد من العلم والخبرة، بل تراهم يزيلون من طريقة الكثير من العثرات والعقبات المصطنعة غير الطبيعية؛ فلا مذهب سياسي ولا عقيدة دينية ولا منزلة اجتماعية ولا نفوذ شخصي بمعطِ فردا فرصة من النجاح لا تؤهله لها كفاياته على وجه الدقة أو التقريب. هذا ولسنا نزعم(197/36)
أن جميع الدول الأوربية بلغت من فهم الديمقراطية وتطبيقها هذا المبلغ، وإنما الذي نزعمه أن معظم هذه الدول الأوربية تفهم الديمقراطية هذا الفهم ويسعى مخلصا لتطبيقها، ومن هذه الدول من بلغت شأواً بعيدا في التطبيق.
ولا يقف الأوربيون من تحقيق الديمقراطية عند هذا الحد الذي شرحنا، بل تراهم يبذلون قصارى الجهد ليهيئوا لجميع أفراد الشعب جواً روحيا متقاربا لا في دور التعليم وحسب، بل في كل مرحلة أخرى من مراحل الحياة. فترى الحكومات الأوربية تبذل الجهود الكبيرة والأموال الوفيرة لإنشاء الحدائق العامة ودور التمثيل والسينما والمكتبات العامة وخلافها من المؤسسات الاجتماعية الروحية، فلا يكون ميسورا لأفراد دون أفراد سبيل الاستمتاع بما تيسره هذه المؤسسات من متع روحية غالية.
ويدرك الأوربيون العلاقة الوثيقة بين صحة الجسم وبين صحة الفهم وجودة الإنتاج، فترى الحكومات والجماعات غير الحكومية تبذل أقصى الجهد لإنشاء الأطفال نشأة صحيحة سليمة، ولا نزعم هنا انهم بلغوا المثل الأعلى في هذا الشأن وإنما نزعم انهم ساروا شوطاً بعيداً في تحقيق هذا المثل ولا زالوا يسعون ليصلوا نهاية الأمد.
هذا ومعظم الدول الأوربية تسعى للمباعدة بين الأفراد وبين روح الاتكال، وللظن ببذل الجهد أركاناً إلى ثروة تورث أو مال يأتي عن غير طريق السعي والعمل، فتراها تقتطع لنفسها من أموال الإرث مبالغ طائلة، فتقلل بذلك من روح الاتكال في الأفراد الوارثين، وتبذل هذا المال المقتطع في تيسير الكثير من أسباب الثقافة والاستمتاع والصحة لمن تعوزه إليها الوسيلة.
وليس هذا كل ما يفضي إليه فهم الديمقراطية وتطبيقها على النحو الذي أبنا في أول هذا المقال، فمما لا ريب فيه أن الديمقراطية التي تفهم هذا الفهم وتطبق هذا التطبيق تكون الوسيلة التي ليس فوقها وسيلة لتحسين أنواع الإنتاج المختلفة كماً وكيفاً، ولبث روح الرضى والاطمئنان في نفوس الجمهور إذ ليس في الحق ابعث على الرضى في نفوس الأفراد من شعورهم بأنهم يعملون في أحسن ما اعدوا له من عمل وأن الحكومة والهيئة الاجتماعية قد أعدتا لهم احسن الوسائل الحسية والفكرية والروحية لتوجيه كفاياتهم في خير وجهتها ثم الانتفاع من هذه الكفايات بإبرازها قوية واضحة أحسن الانتفاع.(197/37)
أديب عباسي(197/38)
تلخيص وتعليق
أسبوع الجاحظ
لمندوب الرسالة
أتينا في الرسالة (195) على خلاصة ما قيل في اليوم الأول من أسبوع الجاحظ الذي قامت به كلية الآداب، وقد كان هذا غاية ما أدركته الرسالة وهي تحت الطبع، ونعود فنقدم إلى قرائنا إجمال ما قيل في الأيام التي تعاقبت بعد ذلك.
اليوم الثاني
كان القول في هذا اليوم للأستاذين: أمين الخولي، وعبد الوهاب حمودة، وكان على الأول أن يقول في منهج التفكير عند الجاحظ وكان على الثاني أن يقول في أسلوب الجاحظ
وقد ابتدأ الأستاذ الخولي كلامه فقال: يقتضينا منهج البحث والتفكير ونحن نتكلم عن منهج الجاحظ في التفكير أن نعرف هل كان الجاحظ يقول بالمعرفة أم كان سوفسطائياً، لأنه كان يقول بالشيء وضده والحق انه كان يقول بالمعرفة وينتهجها، وله في ذلك من الآثار كتاب المعرفة وكتاب الجوابات وغيرها من الكتب التي لم تصلنا إلا أن موضوعاتها تدل على أن الرجل كان من القائلين بالمعرفة. قال الأستاذ: وطريق المعرفة عند الجاحظ للحواس والعقل على اتهام للحواس واطمئنان للعقل ولا شك أن الجاحظ كان له في الدين والأدب والحيوان وكثير من النواحي، وكان له في كل ناحية من هذه منهج تفكير ينتهجه، فهل كان في كل منهج منها على حظ واحد من الإجادة ودرجة متفقة في السير؟ أننا نرى انه كان في كل مناهج تفكيره متكلما أكثر منه أي شيء آخر، فقد كان الرجل من علماء الكلام، وكان يتخذ الكلام صناعة وتلك كانت شنشنة المعتزلة فإنهم أهل جدل وكلام ومناظرة، وقد أخذ الجاحظ منهجهم واحتذاهم، وقد امعن في ذلك حتى طغى منهجه الكلامي على تفكيره الأدبي. فكان يحفل بالجدل ويعنى باختلافات القوم يسردها وينقدها. ثم عرض لمذهب الرجل في الصدق والكذب وقال: انه كان يحتج للشيء وضده تطبيقاً على رأيه في الصدق!!
وتكلم على منهجه الرواية فأورد كلامه في كتاب الحيوان عن اصطناع الكتب ثم قال:(197/39)
ومنهج الجاحظ في ذلك مبني على العيان والخبر، ولكنه ينقد ما وصل إليه من الأخبار ويرده إلى اليقين العقلي كما انتقد الخطبة المنسوبة لمعاوية.
وأتى بعد ذلك على منهجه النظري فقال: انه كان يحترم العقل ولكنه مع ذلك لا يرى انه يكفي لسعادة الناس في دينهم ودنياهم؛ ثم هو يحترم أشياء قد جاءت على غير النهج العقلي وإنما هي نظرية سماعية كخلق عيسى وحواء وغير ذلك. وكان يرى أن الشرع إنما جاء حاداً للعقل وكان الجاحظ يشك فلسفياً ولكنه شك المتكلم يكتفي بالظواهر والمظاهر لأنه يعتد بعقله ويحترمه.
قال: وكان الجاحظ يأخذ بالمنهج التجريبي ولكن منهجه في ذلك كان ناقصاً؛ ثم عرض لنظريته في المشابهة بين الإنسان والقرد، وقارن ذلك بنظرية (دارون) ليظهر الفرق بين التجربة الناقصة والتجربة الكاملة الممحصة وضاق الوقت عن أن يتكلم الأستاذ في منهج الجاحظ الفني فاعتذر وقد ختم كلامه بقوله: إن منهجنا في تكريم الجاحظ منهج ناقص، لأن آثار الرجل لم تصلنا كاملة، فلعلنا نعمل على إخراج آثاره للناس فبذلك نكون قد كرمنا الجاحظ حقا وذكرناه وانتفعنا به
وقام من بعده الأستاذ حمودة فقال: إن أسلوب الجاحظ مرآة نفسه وحسه، وصورة عقله ومزاجه، وقد عرف الجاحظ في أسلوبه بخصائص لم يسبق إليها، منها: مزج الفكاهة بالجد، والبرهان المقنع بالتهكم الموجع، وسبب ذلك دمامة شكله، فإن أهل الدمامة قوم تشيع فيهم الدعابة؛ واستدل على ذلك بما كان من حافظ وأمام العبد ونظير واضطرابهم. ثم تتطرق إلى دعابة الجاحظ في شيء من البسط والإفاضة ثم قال: وكان الجاحظ يتخذ التهكم أسلوبا من أساليب النقد والإقناع، ورسالة التربيع والتدوير نمط من ذلك، وبعد أن قرأ الأستاذ فقرات من هذه الرسالة قال: وكثير من المتأدبين يحسبون أن ابن زيدون هو أول من اتخذ الأسلوب التهكمي في رسالته الهزلية إلى ابن عبدوس، وإنما هو تلميذ الجاحظ في ذلك على إن فنه أشبه بالهجاء وابعد من التهكم والسخر
ثم وازن بين الجاحظ وبين ابن المقفع فقال: إن ابن المقفع حكيم يستمد حكمته من نفسه؛ فتجربة الدنيا هي التي كانت تملى عليه ما يكتب، ولكن الجاحظ كان ينهج نهج من درس خطابة أرسطو فتأثر بها إلى حد بعيد، ومن المشابهة بينه وبين أصحاب الخطابة في(197/40)
الأسلوب استعماله القياس المضمر وهو ما عرف عند البديعين بالمذهب الكلامي؛ وقد كان الجاحظ أول من قال بهذا المذهب واستخدمه وأنكر وجوده في القُرآن وتابعه ابن المعتز ورد عليه ابن أبي الإصبع. . . . قال وإنما أخذ الجاحظ ذلك من كتاب الخطابة لأرسطو. وهناك دلالة قوية تدل على أن الجاحظ قد انتفع بكتاب الخطابة، ولكن هناك يعترضنا سؤال وهو أن الجاحظ قد أنكر أن لليونانيين خطابة، والجواب: أن الجاحظ حينما قال ذلك قاله وهو يرد على الشعوبية الذين كانوا يقولون إن الخطابة عند كل الأمم تنقصا للعرب، فموقف الرد هو الذي ألجأه إلى ذلك الإنكار والجواب الثاني انه لم يطلع على نصوص خطابية لليونانيين والثالث التراجم والمترجمين وانتقد على الخصوص، كتاب المنطق بأنه قرأه في أسلوب سقيم مترجم!!
فالجاحظ لا شك قد تأثر بكتاب الخطابة لأرسطو كثيراً ومنطقه، ليس كتاب البيان والتبيين إلا صدى لذلك الكتاب. وكان الجاحظ على طريقة أهل الخطابة يستخدم التمثيل إذا أحوجه الدليل وأعوزته الحجة؛ ومن ذلك ما كان في رسالته تفضيل السودان على البيضان. . . ثم قال: ومن خصائص الجاحظ: قصر الفقرات والازدواج، وتعمد السجع دون أن يتكلفه، وكذلك الافتنان في الأسلوب، والتنقل، والاستطراد، والتقصي للمعنى حتى لا يترك فيه بقية. أما الخصائص التي يشركه فيها غيره، فالسهولة والسجع وما إلى ذلك من خصائص الكتابة الشائعة في ذلك العصر. وبعد فأسلوب الجاحظ نتاج عقله وفكره أكثر منه نتاجا لروحه وعاطفته؛ هذا في رسائله العامة، أما في كتاباته الخاصة فقد كان يقصد إلى التنميق والتنويق، ويحفل بالديباجة المشرقة، ويعتد بالشواهد والأمثال يقحمها في ثنايا كلامه
اليوم الثالث
وفي اليوم الثالث تكلم الأديبان شوقي ضيف وعبد اللطيف حمزة؛ فتكلم الأول عن الجاحظ بين النقد والبلاغة فقال: لقد كانت مكانة الجاحظ في ذلك كمكانة أرسطو في الخطابة عند اليونانيين، وكان الجاحظ لا يكتب للخاصة فكان يعرف أن كتاباته في حاجة شديدة إلى التوابل لتقريبها لأذهان الجمهور.
ثم قال: والنقد لم يبدأ كفن إلا في العصر الأموي؛ وقد كانت الشعوبية هي أول حافز على النقد لأنها كانت حركة هدامة تشك في كل شيء، وكانت تشك في بلاغة الأدب العربي،(197/41)
والشك في بلاغة الأدب العربي شك في بلاغة القرآن!
ثم جاءت بعد ذلك بيئة الأدباء واللغويين في المربد وغيره من أندية الثقافة فأدوا كثيرا في خدمة النقد والبلاغة، وقد اتصل الجاحظ بكل هذه البيئات واخذ عنهم. ونحن يصعب علينا أن نحدد ما للرجل في ذلك وان نميز أقواله من الأقوال التي اقتبسها
ومهما سكن من شيء فالجاحظ قد فصل الأدب عن الأخلاق وروى كثيرا من الأدب العاري. وكان يطلب من الكتاب أن يتثقفوا ولكنه لم يطلب من الشعراء ذلك. والحق أن الجاحظ كان ناقدا ممتازا، وكانت له طبيعة في ذلك؛ وكان حر الرأي فلم يقدم القديم لقدمه، ولم يرفض الحديث لحداثته. وكان عربيا ولكنه كان يحترم شعراء الشعوبية ويقدمهم فمدح بشاراً وأبا نواس وأمثالهم. ولقد كان الجاحظ بآرائه حرياً بان يخلق من حوله حركة أدبية حافلة لو أن النقاد تابعوه، ولكنهم انصرفوا عن ذلك واكتفوا بنقد النصوص نقداً لفظياً نحوياً ولغوياً.
وليس كتاب البيان والتبيين فيما أرى صدى لخطابة أرسطو وأنا لا أشك في أن الجاحظ لم يره، وما ذكره ابن النديم لا يفيد ذلك، وأن كان العرب قد وقفوا على شيء من الثقافة اليونانية والجاحظ لم يكن من رجال المنطق. وقد عابه قدامة بأنه لم يذكر أقسام البيان!!
وقد أثرت آراء الجاحظ فيمن جاء بعده، ولعل أهم هذه الآراء مسألة اللفظ والمعنى وقد أطال الجاحظ القول في هذه المسالة وهي عنده قبل كل شيء مسالة دينية لاتصالها ببلاغة القران. وقد اسقط الجاحظ قيمة المعنى وجعل اللفظ هو كل شيء؛ وقال إن المعاني مطروحة في الطريق لكل الناس يلتقطها العامي وغيره وقد فتن العلماء بعد الجاحظ بهذا الرأي ووافقوه عليه. وقلما نجد فيهم واحدا اهتم بالمعنى والبحث فيه، بل انهم اسقطوا المعنى ولم يروا له فضلا!!
ومن بعد ذلك أخذ الأديب عبد اللطيف حمزة في الكلام عن (الجاحظ المعتزلي) فابتدأ القول في نشأة الاعتزال، فعرض لحركة الحسن البصري في مسجد البصرة وما كان بينه وبين وصل، ثم قال: ومضت الدولة الأموية، واتت من بعدها العباسية، وجاء الفرس بمزاياهم وببلاياهم، وأقول ببلاياهم لأنهم جاءوا بالإلحاد والزندقة ورفعوا لواء الشعوبية ولا شك أن المعتزلة هم الذين استطاعوا أن يردوا هجمات الفرس وان يكبتوا الشعوبيين لأنهم تدرعوا(197/42)
لذلك بالنقل والعقل والفلسفة والكلام فكان المعتزلة قوة كبيرة تجاه الزنادقة والملاحدة.
وبعد أن أورد الأصول المعتبرة عند المعتزلة وشرحها وحدد العلاقة بينها وبين غيرها من الفرق قال: وكان للمعتزلة مدرستان واحدة في البصرة والأخرى بالكوفة، وقد كان من أقطاب الأولى النظام ثم تلميذه الجاحظ، وكان المعتزلة على مقتضى تعاليمهم يتوارثون حرية الفكر فهم ولا شك جماعة أحرار الفكر كما يسميهم المستشرقون. وكان يطلق على كل اتباع رجل منهم اسم هذا الرجل فيقال النظامية لاتباع النظام والجاحظية لاتباع الجاحظ، ولقد كان لهم بحكم مهمتهم في كل ناحية من نواحي الفكر، فكانت حركتهم كما يقول الأستاذ احمد أمين - إرهاصاً لحركة فلسفية منظمة تولاها الكندي والفارابي وابن سينا وأشكالهم.
ولقد أخذ الجاحظ عن المعتزلة جميع مزاياهم، وكان بوقاً عظيماً لآرائهم يذيعها في الناس ويشرحها وقد ينتقدها ثم أشار إلى آثاره في ذلك فقال: إن اكثر رسائله قد ضاعت في أجواء العصور الخالية، وقد وصلنا بعض نصوص تدلنا على أن الجاحظ كسائر المعتزلة يطعن على أهل الحديث الحشويين وله رسالة في مدح النبي ورسالة في الاحتجاج للنبوة، ورسائل أخرى في الرد على اليهود والنصارى والرافضة وقد كانوا أعدى أعداء المعتزلة ثم له رسالة في فضيلة المعتزلة رد عليها ابن الراوندي برسالة سماها فضيحة المعتزلة وهي التي عنى بدحضها ابن الخياط في الانتصار.
ولكن مهما قيل في الجاحظ المعتزلي وأخذه بحرية الرأي لابد أن يكون له نظر في حرية الإرادة وهي مسألة المسائل بين علماء الكلام ومبعث الخلاف بين الفرق المختلفة، وقد كان الجاحظ كما عرفنا معتزلياً شديد الإخلاص لفرقته واكبر الظن أن الرجل قد وجد حلا لهذه المسالة في نظريه الطبيعيات. والظاهر أن الجاحظ قد طبق هذه النظرية على العالم الأخروي، وقد حمله هذا على الكلام في مسالة المعارف أو المدركات على أن مسألة الطبيعيات لم تكن من ابتداع الجاحظ ولكنه شرحها وبسطها وطبقها، وإنما هي لأستاذه النظام؛ وقد جاءت هذه النظرية عند بعض الفرق الأخرى، حتى نظرية العوارف التي أشرنا إليها قد انتهج الجاحظ فيها نهج أرسطو فالمظاهر التي يتجلى فيها اعتزال الجاحظ تبدو في تعصبه للمعتزلة والدفاع عن آرائهم والإشادة بفضلهم، وخصوصاً بفضل أستاذه(197/43)
النظام، ثم في الأشياء التي عرف بها وخاصة رأيه في حرية الإرادة، وأخذه بحرية الفكر إلى ابعد حد، فان الدولة كانت لا تشجع على حرية الرأي لغير المعتزلة، ومن ثم نعرف أن الجاحظ لم يضف كثيرا لآراء المعتزلة ولكنه تولاها بالشرح والإذاعة.
(البقية في العدد القادم)
م. ف. ع(197/44)
جولات في الأدب الفرنسي الحديث
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
للأستاذ خليل هنداوي
النظرية الفنية للعقل - الرمزية
بينا أخذ المذهب الطبيعي يضمحل ثم ينتصر بعض أعوام في القصة. كان مذهب جديد يذر قرنه في عالم الشعر والفن. هذا هو مذهب شعراء وفنانين كانوا يزعمون انهم لا يعلمون الأدب كله ولكن تأثيره أخذ يمتد، وحدوده بدأت تتسع، حتى اصبح مذهب العقل والحياة الباطنة، يؤثر في كل أشكال الفن، ويعمل في كل حقول الفن. هذا مذهب (الرمزية) الذي نبتت أصوله عند الشاعر (بودلير) وكان تأثيره (بودلير) أخذاً في الانتشار. ومن يجحد ما كان لبودلير من تأثير في شعراء (الرمزية) ولا سيما في الشعر الحديث الذي تهيمن عليه نفحات (بودلير). وهذه الرمزية الخفية تولدت من آثار (فرلين) ومن آثار (رامبو)
بول فرلين -
إحساس فرلين، خياله، فنه، تطوره
إحساس فرلين
لم يكن لفرلين خاصة معلومة من خواص العقل، لأن حياته لم تكد تقاد بتأملات عقله وإنما بغرائزه وإحساسه، ولم تكن لغرائزه من حاجة ولا غاية، وإنما هو الكسل والإخلاد إلى الدعة وطلب اللذائذ التي شغلته حتى لقي حتفه متسماً بالكحول. أما إحساسه فلم يكن عميقا ولم يكن معقداً. فبينما هو ينظم أبياتاً عاطفية على المذهب الوجداني إذا به ينكر الهوى والتشاؤم العاطفي. ولم يكن يتحرى عن السمو فيما ينشده وكان يجهل الدركات التي تنحط فيها الإنسانية في شدتها وفاقتها. يحب الحب ويترنم بالحب. وإذا لم ينشد اللذة البسيطة فهو لم ينشد أيضاً حب الأهواء. إن جد كان حلماً، والغواني اللواتي احبهن كن اقرب إلى الأوهام. وهذه الأوهام كانت عنده ظلالا وأشباحا. أحلامه هي قلق خفيف يتولد من طفولته، وإحساسه إحساس بسيط سرعان ما يسأم. يلبس حينا رداء الصدق وحينا رداء الكذب. فيه حياة وإبهام. وقد يكون اوجه وسطاً لو لم تسم به المخيلة والفن.(197/45)
مخيلة فرلين
إن المخيلة الكلاسيكية والرومانتيكية هي التعبير عن المعاني بصور فهمها العقل وحللها، ويقدر على تحليلها أما مخيلة. (فرلين) فقد كانت مخيلة صافية أي أنها كانت تأسرها الصورة دون أن تجرب أن تفهم معنى الصورة. والشاعر يحس إن الصورة لها معنى وإنها تعبير عن حالة في النفس ولكن هذا التعبير ما هو إلا (مطابقة لها) إذ يصعب عليه أن يعبر عنها تعبيراً منطقيا. وهكذا تغدو المخيلة المحدودة بالتعابير المنطقية مخيلة تائهة شاردة. والأهواء الشاردة - عند فرلين - لا تغدو قاعدة أو مذهبا أدبيا. فان مخيلته الصبيانية تملك على أحلام صافية تعبر عن صور صافية. وتملك على أحلام أخرى يهيمن عليها نوع من النطق المشوش. وأحلام تلتحم مع أفكار صافية لتضيعها ثم لتجدها. وهكذا يبدو على أسلوبه الخيالي سيماء الأسلوب المدرسي، والأسلوب المتفكك. وليس لهذه المخيلة من قاعدة إلا الهوى والاختيار الباطني. هذه هو مذهب فرلين إحساس متحرك صبياني يلتقي بسرعة مع مخيلة سريعة الالتقاط للأحلام المتبدلة. إذ يرى واجبه أن يعبر عن هذه الرسالات السرية المحسوسة بشدة وحدة وهي تربط هذه الحركة بهذه الأوهام وهذه الانعكاسات بهذه الأشباح، يغمرها كلها ظلمة لا يمشي فيها نور. لأن روحه الشقية وعبقريته يجدان فيها الراحة والحياة وقد دأب فرلين على التأمل في الفن المدرسي وأصحاب هذا الفن، ذاهبا متحريا عن الفن الذي يستطيع أن يعبر عن نفسه لنفسه، وتخاطب نفسه به نفسه
فن فرلين
إن فرلين لم يبتكر كل شيء فقد تحرى شعراء قبله في أوقات مختلفة عن هذا الفن الرقيق، وفرلين نفسه لم يجحد ما كان (لبودلير ومدام ديسيور دفالمور) من تأثير فيه. كما انه تأثر بشعراء من الإنجليز، تلاهم ودرسهم يوم كان في إنجلترا. على إن بودلير ومن ذهب مذهبه كانوا يحاولون أن يقرأهم الناس ويفهموهم. وكانوا - في الساعات التي تتكاثف معانيهم - يصونون الوضوح في التعبير والتركيب والنحو. أما فرلين فقد ذهب غير هذا المذهب إذ أراد أن يكون إنشاؤه خفياً، وأراد أن يضع حجابا على لغته وأوزانه التي تعبر(197/46)
عن حالات نفسه الخفية، وبهذا تراه - من اجل غايته هذه - خرق كثيرا من القواعد. فأنت ترى بعض عباراته تتقارب وتتلاحق - غنية عن عناء المنطق - بنغمة باطنية من الهوى الذي يغمرها. وحركتها لا تكون إلا إيقاعا موسيقياً لا يجد فيها الإعراب أسباب جملة صحيحة. وإنما هي جمل موسيقية لا جمل منطقية! على أن عبقرية فرلين تتجلى عي انه عمل على إيجاد أوزان باطنية موسيقية للتعبير عن خطرات النفس الباطنة تحل محل الأوزان الظاهرة وقد كانت عاطفته في ذاك دقيقة مرهفة، وذوقه عميقا في انتقاء الألحان الملائمة المنسجمة التي تعبر عن المعاني، وانك لتجد شعره - سواء كان صافيا أو مبهما - يبدو كأنه يتجرد من كل معنى. وينتهي من وصوله إلى العقل حتى ينسكب في رعشات إحساسنا الرقيقة
تطور فرلين
لقد كان (فرلين) من بدء حياته الشعرية هدفا لأطوار متباينة، ولقد يكون انتقاله من طريق المذاهب المدرسية اقل حركة لو لم يتصل (بالشاعر رامبو) الذي كان تأثيره فيه تأثيراً عميقاً. وقد اتصل به فرلين اتصالا وثيقا طوال سبعة عشر عاما. وهو الذي أوحى إليه بان يزدري هذه الحياة (العاقلة) الفن (العاقل) وهذه التأثيرات الرثة وقد عكف فرلين على شرب الكحول حتى أرعشت قوته، وطوت فتوته، فانتابته الفاقة والشقاء والموت وأصبحت عبقريته الشعرية لا تٍرسل إلا شعاعا. وأصبحت طريقته الموسيقية، من عهد - تمتمة ضيقة الأنفاس.
ارتور رامبو
نشأ (رامبو) نشأة شعرية، وكتب مقاطيع مختلفة على أساليب مختلفة. وقد حذا حذو (ليكونت دي ليل وبودلير وفرلين قبيل عام 1870 ولكن آثاره كانت تطغى عليها مخيلة محمومة ملتهبة تدفعه دائما إلى المجهول. وسرعان ما تلاشى عنده وجود العالم الحقيقي حتى أمسى عالما لمظاهر باطلة. إن الإحساس الحقيقي هو هو إحساس ابن صدفته وابن حادثه. . . هو الحجر المطروح في الماء،
أما ما هو اكثر اعتبارا فهو تلك الرعشات المترجرجة في الينبوع. هنالك حيث يبصر(197/47)
العقل العادي - على شاطئ قناة مظلمة مصنعا للخمر يؤكد لنا (رامبو) بأنه يجد على ضفة نهر لامع معبداً! هذه الأوهام هي حقيقة الوجود. (وما عسى يغدو الوجود إذا خرجت منه؟) انه في هذا الوجود لغريبة طبيعية، في هذا الوجود الحقيقي وحده لا يبقى للمنطق المعهود إلا العمل. أما السحر الباطني فله طرائقه التي لا تفهم) ولكن الإنسان يحسها ويتبعها بطريقة خفيفة وحاجة خفية كما هو الحال في أجزاء خاتم غير متطابقة نراها طبيعية ضرورية. وإذا أردت الدخول في عالم الشعر فلا تطلب ذلك العالم البالي السائم الكاذب محاولا أن تعبر عن عالم الظواهر العملية، وإنما يجب أن تغادر هذا العالم وتفر منه إلى عالم جديد. فيه تتفتح الحقيقة الشعرية والأحلام الحية. . . وقد وجد رامبو إن اللغة العادية عاجزة كل العجز عن التعبير عن هذه الحقيقة الوهمية، فعمل على تنقيحها تنقيحاً فنيا، فافترض لكل مقطع لونا وحركة، وعمل لكل فعل معنى من معاني الشعر. وبذا تلونت الكلمات وأصبح لها أوقاع خاصة. . . والكلمة عنده أصبحت تتألف من الحان يجب أن ينظر في توقيعها الموسيقي لا في معناها، وهكذا أخذ شعر (رامبو) ينزاح من زمن إلى زمن عن تأثير الصور الواضحة والمنطق، واخذ يغدو كجوقة موسيقية للحلم الباطني بفصل أصوات (كلماته ورناتها.
المدرسة الرمزية
نشأت مدرسة جديد بتأثير (فرلين) (ورامبو) وفلسفة (شوبنهاور) وهذه المدرسة الجديدة اتخذت لها الرمزية اسما. وحقيقة أمر هذه المدرسة أنها نشأت ناقمة على الشعر التقليدي عاملة على خلق شعر جديد. أما تعاليم هذه المدرسة فليست من الواضح والترابط على شيء. وإذا شئنا أن نحلل معنى (الرمز) كما أرادوه لا يصل بنا ذلك إلا إلى كلام لا يغني! وإنما يفهم هذا الرمز ويفسر معناه العميق الحي من خلال آثار هذه المدرسة ونصوصها.
وأما مذهبها العام فهو إن الشعر إنما هو تعبير عن الإحساس لا عن عقل الشاعر. وهو يتجه إلى إحساس القارئ. الشاعر يعروه إحساس ما فيعبر عنه بلغة عقله فيدركه القارئ بلغة عقله بعد أن يكلف إحساسه بالاهتزاز! وفي هذه الأطوار نرى (التأثر) قد تغير وضعف وانعدم. أن الشعر الحقيقي ينبغي أن يكون اشتراكا مباشرا لإحساس مع إحساس. إذ يجب إلا يتوقف على عرضه والتحدث عنه وإنما يتوقف على (التلقين والإيحاء) كالوتر(197/48)
يرن باللحن الذي يعطيه. . ويقول في هذا المعرض الشاعر (هنري دي ريني) (إن الشعر اصبح يهجر أسماله الخطابية القديمة التي ارتداها طويلا. اصبح لا يحلل شيئاً وإنما يلقن ويوحي. . .) ويقول مالارمي (أن تسميتك للشيء تذهب بثلاثة أرباع ارتياح الشاعر، وذلك الارتياح الناشئ عن طربه بالتنبؤ عن الشيء قليلا قليلا، إن التلقين هو الحلم) ولكي يدركوا هذه الغاية ولدوا طرائق مختلفة ففروا من الأشياء الواضحة أو انهم لم يبحثوا عنها، لأن جل الأحاسيس الشعرية في زعمهم مشوشة مفعمة بالصور المبهمة والأحاسيس التي لا يمكن التعبير عنها بجلاء إلا بعناء. ويقول (أنا طول فرانس) (لا شعر بلا معنى خفي) فمهنة الشاعر أن يتغلغل في هذه العوالم الخفية والأسرار المحجوبة، فيقرب هذه الخفقات الحية وهذه المعاني المبهمة. ويقول (دوهامل) في معرض كلامه عن (بول كلودل): (إذا كان كلودل خفياً مكتوماً فذاك لأن أبواب المواضيع التي يلجها إنما تعبر عن سر كبير هائل)؛ ولأجل التعبير عن هذه المعاني الخفية والأسرار المكتومة ذهب الشاعر إلى توليد الرموز؛ وليس الرمز في التشبيه والمجاز، إذا مر التشبيه والمجاز من العقل الذي يولدهما ويقبلهما، وإنما الرمز هو تلك الصورة أو جملة صور متتابعة أخذ بعضها بأعناق بعض يحس الإنسان مباشرة أو يحس ولا يدري سبب إحساسه بان هذه الصور لا تترجم عن شيء ولكنها تعبر - أو بعبارة أوضح تنطوي على الفكرة. والتأثير الشعري كالزهرة التي تفسر الغرسة التي هي منها وهي لا تشبهها.
ثم يغدو هذا الشعر الخفي الرمزي موسيقياً، وقد كان تأثير الموسيقى في الشعراء كبيراً في فرنسا. ولبثت الموسيقى تعد فناً بين الفنون حتى عام 1885، فالموسيقى تستطيع أن تستمد من الشعر، كما أن الموسيقي يغترف من معين وحي الشاعر. ولكنها لم تسيطر على بقية الفنون، ولكنها غدت في ذلك التاريخ الفن العتيد الذي يشرف على كل الفنون. ولقد طغت موسيقى (فاجنر) الجرماني على النوادي الأدبية. وهدت كثيرين من اتباعها إلى القدرة على التعبير الرمزي في الموسيقى. ومن ذلك الحين طفق الشعراء يعملون على ابتكار فن يؤثر رنين الألفاظ فيه تأثير الموسيقى دون أن يفتقر إلى العقل ليترجم معانيها، أرادوا أن يجعلوا من الشعر رقية، وهو لا يرتل ولكنه يرقى. . . وٍإذا تلوته يغدو موسيقياً.
وقد قال (كلودل) في مقدمته لآثار (رامبو) ملخصاُ مذهبه (بكلمات لا ينبغي أن تتحرى عن(197/49)
معانيها وإنما تقنع بتلقينها الصامت) إذ قيمة اللغة - عندنا - فيما تشير إليه اكثر منها فيما تعبر عنه تعبيراً واضحاً. فالكلمات العرضية التي ترقى إلى العقل وترديد جملة دائمة قد تؤلف شيئاً من الرقية، ولكنها تنتهي دائما بتجميد الشعور. وظل الأشياء يقع رأساً على مخيلتنا ثم يأخذ يدور حول نفسه.
وقامت تجربة أخرى هي تجربة (الشعر الحر) فأن الشعر الفرنسي برغم ثورة الرومانتيقيين فقد ظل يرسف في قيوده وأوزانه، فعمل البعض من الرمزيين على الانطلاق والتحرر منها لاسيما الشاعر (غوستاف كاهن). . . المذهب الوحيد هو الموسيقى الباطنة والتعبير الرومانتيقي كان نوعا من هذه الموسيقى. . . وهنالك أنواع أخرى موسيقية يبتكرها التوليد وتخلقها النفس المستوحية.
مثلان من شعراء المدرسة الرمزية
هنري دي ريني
لم يكن (هنري دي ريني) شاعراً رمزياً إلا لأنه عاش في زمن الحركة الرمزية. ورويدا رويدا عاد إلى شعر فيه الروح المدرسية والبرناسية. وبذلك اختلط عليه الأمر وكان في كثير من مقاطيعه فاضحاً للمعاني الرمزية.
نفس الشاعر تنطلق بكليتها نحو حلم، حلم قصيدة من قصائد الرعاة حيث تجتمع أفراح الحواس والقلب والفن وتمتزج في رقة ناعمة صافية. حلم موطن بعيد يعج بالأشكال الإلهية والأفراح الشاعة ولذائذ الحياة. ولكن النفس الإنسانية نفس قلقة مضطربة والإنسان ابتكر الفكر والعلم والهوى والخطيئة. أراد أن يبدل الحياة وأن يستعيدها. فتحرى عن حقائقها المكتومة قي مظاهرها. وعن بقائها في فنائها وعن هم المستقبل في طرب الحاضر. وهذه تجربة عميقة مبتذلة أوحت إلى كثير من الشعراء والشاعر المدرسي عبر عن هذه الخطرات بأسلوب واضح وأفكار منطقية ولكن في طبيعة هذا الحلم الباطني اضطرابات وتموجات يحس بها قبل أن يبدأ العقل عمله.
فالحلم ينسل بين أمواج الخيالات الباطلة والقلق الراهن، وعواصف الحياة الحقيقية ترفعه من هذه الاضطرابات المفاجئة وتحيطه بظلال سوداء تنزلق. وليس في هذا مطابقات، لأن(197/50)
هذه الخيالات إنما تصاغ بتأملات مركبة تركيبا سيئاً وهكذا يظل المقطع - بدون انقطاع - مشوشا يتجاذب الخيال الشعري والعقل الشعري، والصورة والرمز، ثم يغدو الشاعر كجنية سكرى بالحياة الناعمة الخالية من الفكر، والإنسان يغدو صديقاً كئيباً لعيون الأحلام والعلم وليس من الضروري أن يتناوب هذان الصوتان فقد يتعالى الصوت الواحد ممتزجاً بصدى مظلم ضجر يمل الصوت الآخر.
إننا لا نقدر أن نعرف هل يتركب الشعر من أحلام مزوقة ملفقة، أو من أخيلة الماضي والذكريات؟ أن ما نراه في مقاطيع الشاعر كائنات غير مثبتة، ليس لها أسماء ولا أوطان، لا هي أرضية ولا هي سماوية هي بعض كائنات، هي عابرات راحلات غريبات، ظلال، وجنيات، لا ندري هل زوقها الشاعر بحياة الأحلام أو بالحياة التي قضاها، ذلك ما لا ندريه ولا يدريه الشاعر. الشعر الرمزي يتولد من هذا الاهتزاز الغير المحسوس ويتم عمله حيث لا تلفيق ولا حقيقة، ولكن حقيقة ملفقة واحدة هي ابنة الحلم الباطني
على أن هذا الشعر الرمزي في كثير من الأحيان يتخذ له طريقة التعبير المدرسي وإذا كان تعبيره يظل مائعاً، وفكرته تبقى فكرة تلقين متحركة هادئة فان الصورة تخرج شيئاً فشيئا من الضباب الرمزي لكي تتوقع بأشكال موجزة رقيقة ولوحات جميلة، قصور تتآلف من ضباب وحدائق تغرس من أحلام حيث يخيل إلينا أن يداً مفكرة شالت تماثيل من رخام أواني من البرونز وطاقة من الزهر. ووردة واحدة ساطعة خافقة.
جول لافورج
يختلف تأثير شعر (لافورج) عن تأثير (شعر هنري دي ريني) فهو لا يعمل على أن يحيا في مثل أعلى من البساطة والجمال اليوناني، لقد غره شك يائس قاتم تسرب إليه من الشك الرومانتيقي وملأ قلبه يأساً. وساعد على ذلك ما ابتلى به من صحة معتلة وحظ انكد، لقد كان يطمع في أن يحيط عقله بأسرار هذا الوجود. فدرس كثيراً والتهم الفلاسفة التهاماً ولكنه عاد خائباً لأنه لم يجد في هذه التعاليم التي درسها إلا ظلاماً اتهاماً ومتناقضات! ورسا في ذهنه أن اقرب هؤلاء الفلاسفة إلى عقله هم من علموا (الجهل الإنساني) والوهم الضروري وانسياق الإنسان إلى مقادير عمياء. هؤلاء هم فلاسفة (اللا شعور) والقدرية منهم (هارتمان وشوينهاور). العاقل يجرب أن يصل إلى التنسك بشعوره بزوال هذه(197/51)
الاخيلة، وبتأمله هذا العقل المضطرب اضطرابا أبدياً في هذه الجداول من الكواكب. إن هذا العقل لا يصرفه عن أن يكون شاعرا أي صارف والشعر - بين الأخيلة الباطلة - هو اقل هذه الأخيلة خداعا. وربما هبطت أغنية عليتا لحظة وهزت حظوظنا البائسة السوداء. يمكننا أن نفكر في يساء نواعم، لأن هذه الكائنات حسنة. أو أن نستدعي - كما فعل قيني - الأبواق: الأبواق الكئيبة. بشرط ألا نخدع بأوهامها؛ الشاعر ليس بإله ولا بساحر ولا بكائن يفارق البشر. الشاعر هو موقع، وموسيقي يحسن التوقيع والضرب على القيثار.
كل الشعراء أرادوا أن يترجموا الشعر، واختلفوا اختلافاً شديداً في كنه الشعر ولكنهم ظلوا على أرستقراطيتهم يحقرون الحقيقة لأنها حقيقة الشعب كما انهم خدعوا بالأوهام البهيجة. أما شاعرنا فهو لا يريد أن ينتقي أوهامه انتقاء هو يتقبلها كما هي وكما تتمثل له يتقبل منها على السواء ما ينير فيه كآبته وسامته. وما يذهله عن هذه الحياة في وادي الأحلام. يتقبل منها أوهام الحياة السطحية والأوهام التي تلتف بالكائنات لتسبر أغوارها وتكشف أسرارها
أن (لافورج) قد هدم قاعدة قوية في الفن هي قاعدة وحدة اللهجة الشعرية، وأثر تأثيرا كبيرا في بعض شعراء العصر الحاضر.
اتباع المدرسة الرمزية
تهاوت على المدرسة الرمزية سهام نافذة من النقد ونوزعت نزاعاً عنيفاً وما كاد القرن التاسع عشر ينصرم حتى فقدت هذه المدرسة مذهبها كمدرسة ولكنها مهما ذهب الأمر فيها فقد ساعدت على خلق أجواء جديدة من الفن والشعر تختلف عن الأجواء التي خلقتها المذاهب المدرسية والإبداعية والواقعية. هؤلاء تحروا عن مثلهم الأعلى في دلائل الحياة والأعمال والتجارب العلمية ووضوح الأشكال الفنية. هب علماء وفلاسفة يعلنون أن اليقين الذي حمله العلم إن هو إلا يقين الاصطلاح وأعمال الظواهر أما الحقيقة فلا تزال مكتومة. لم تنجح كل هذه الأسباب في إزاحة الستار عنها. وبهذا بدأ فشل العلم وبفشله فشلت الحقيقة الظاهرة. ولكي نجد الحقيقة سواء كانت الحقيقة الأخلاقية أو الاجتماعية أو الفنية ينبغي لنا أن نفلت من هذا العالم المحسوس الذي لا فائدة ترجى منه إلا الفائدة العملية هذا العالم الذي طالما خدعتنا مظاهره وبياناته الكاذبة وإذا كان للحقيقة وجود فهي موجودة في عالم خفي. .(197/52)
وإنما على الفنان أو المبدع أن يذهب متحريا عنها في أطواء هذا العالم الخفي.
ولقد كان للمدرسة الرمزية اتباع وأنصار، اتخذوا الصحف الخاصة والمجلات الخاصة، يذيعون بواسطتها عن مدرستهم وآثار مدرستهم، ويردون بمكرهم مكر خصومهم واكبر هؤلاء الأنصار وأكثرهم ذيوعاً:
غوستاف كاهن: ومن آثاره الشعرية (القصور البدوية) وأغاني الحب ومسكن الجنية وكتاب الصور، وهو أول من كتب بلغة الشعر المنثور وجعل للشعر المنثور حدوداً وقواعد! وظل أسلوبه يغلب عليه الأسلوب المدرسي. وقيمة الرمز في شعره نشأت عن عواطفه التي أراد أن يتغنى بها، والتي تعبر عن ألوان النفس الناشئة كأنها رغبة محيطة مبهمة أو قلب دفين! ولكي يعبر عن هذه الألوان المختلفة لجأ إلى الرموز والتعابير المبهمة وكل ما فرضته الرمزية من أنواع التلقين.
و (جورج رودانياخ) الشاعر البلجيكي وهو ممن غلب على أسلوبهم الأسلوب المدرسي برغم ما تناول أسلوبه من معاني الرمزيين ومن آثاره التي نمت بالمدرسة الرمزية (مملكة الصمت) والحياة المسورة. هي مقاطيع تحف بها غفوات حالمة وهدءآت خفية. ونفوس يؤذيها الضجيج ومناظر قد يزورها الطرب أو الكابة تتمشى خلالها أخيلة النسيان والموت. ولقد كان لهذا الشعر الناحل المتزهد تأثير كبير.
و (بول فور) الذي أبدع (المسرح الفني) صاحب (الارانيم) وصاحب طريقة الشعر المنثور التي عاناها كثيرون قبله، فلم يستطيعوا أن يمرنوا على هذه الطريقة حتى جاء ابن بجدتها والضارب فيها كيف يشاء ولقد اخضع الإيقاع لوحي شعري حيث تتعالى الصور بدون أن تنفد طورا واضحة وتارة سرية محزنة، فيه شيء من الواقعية يمتزج مع التلقين الرمزي فتبقى المقطوعة الشعرية معلقة بين خيال الواقع وخيال الاسم كما أن (الإيقاع) يعلق بين الشعر والنثر.
(وفرنسيس جامس) صاحب ديوان (من صلاة الصبح إلى صلاة المساء) وانتصار الحياة. يغلب على أسلوبه هذا القتام الرمزي حيث ترى الرمز يدخل في السر والظل، ويغيب في الأحلام وجامس يرى الشعر - بخلاف غيره - في الأشياء البسيطة التي يلمحها وفي الحظوظ المتواضعة. وتظهر على شعره آثار الفاقة والمسكنة وها هو ذا يقول:(197/53)
(الهي! دعوتني من الناس فها نذا جئت!
وكتبت بالكلمات التي ألهمتها أبي وأمي. . .
وقد يسخر القارئ من هذه البساطة في المعاني ولكن (جامس) اكتشف ينابيع حية ندية من الشعر. بساطة عميقة مؤثرة. فهو يحب ويجعلك تحب مثله سلامة السريرة والنفوس الشاقة، والحياة الهادئة الضعيفة للأشياء. والموسيقى الباطنة في وزنه وصورة حية من صوره وكلمة ملونة.
كل هذا تراه يعبر بك عن هذه الرقة التي لا تلمس، وعن الجمال الخفي في كل أثر من آثار المبدع الخلاق.
خليل هنداوي(197/54)
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي ألفونس كار
زهرة الخشخاش
كنت فيما مضى أرسل عبيري على الأرقين فيرقدون، ولكن النوم لم يعد كافياً للناس في آلامهم، لم يعد الإنسان يكتفي بالوسن فهو يطلب الأحلام. لذلك كنت نسياناً فأصبحت أوهاماً.
لقد احتقر الإنسان عبيري المنوم فطمع بدمي المسكر، فهو يطعن قلبي بالنصال ويسقي من جراحي أشباح سلوانه.
لا تكاد زهرتي ترتفع عن التراب حتى أحس بالمسبر الجارح في قلبي مستنزفاً منه السائل المخدر يسكبه الناس في أحشائهم فيذهب بالأشباح إلى رؤوسهم.
عندما يرتشف الإنسان كأس دمي تستنبت روحه الأوهام أجنحة ترفعه إلى الأوج فإذا هو روح منعتقة من قيودها تقف لحظة في برزخ الحيرة ثم ترجع إلى أدراجها إلى الماضي أو تقتحم حجب المستقبل لترفرف على تذكاراتها أو آمالها.
مضى الزمن الذي كنت القي فيه ببذوري إلى الناس فيجدون بمنقوعها الوسن الهادي بعد منهكات الجهود، ذلك زمان كنت فيه مبعث الأحلام الهادئة الجميلة. ذلك زمان كنت فيه احمل الآمال الباسمة بالإيمان. فأقف إلى جنب فراش الأم لأريها سعادة طفلها. وأحوم حول فراش اليتيم لأريه أمه محنية فوق جبينه تهديه بركتها بقبلة سماوية.
في ذلك الزمان كنت زهرة التعزية أعيش بسكون وانقضي بسلام بعد حياة تنيرها بسمات الربيع.
من هدى الناس إلى دمى يستقطرونه شرابا يقتلهم ويقتلني ولكن على ما احزن. . . أفليس الشاعر أخي، أفليست أشعاره كدمي كلاهما يقبضان على الروح ويرفعان بها إلى أجواء الخيال.
أن شعر الشاعر ودم الخشخاش كلاهما السم القاتل أمن يجود بهما ولمن يسكر بهما.
لقد كان الخشخاش جالباً للنوم وكان الشعر منزلا للتعزية فما كلاهما اليوم إلا سيال للسكر والجنون.(197/55)
(ف. ف)(197/56)
19 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
الجاهلية: شعرها، وعاداتها، ودياناتها
ترجمة حسن حبشي
ومهما يكن من أمر صاحب هذه القصيدة فان أبياتها تنضح بالوثنية، وأسلوبها يدل على ذلك، كما أن أهميتها القصوى تتضح لنا من أنها أثارت جوته بعد أن قرأ ترجمتها باللاتينية فقام بطبع ترجمة لها بالألمانية مع نقد جميل للشعر في (الديوان الشرقي - وفي هذه القصيدة نرى الشاعر يصور كيف يلج به الثأر لخاله الذي قتله هذلي، ويصف بطولة القتيل وخلقه والغزوة التي قام بها وانتصاره (الشاعر) في النهاية على خصومه وظهوره عليهم فيقول:
إِن بالشِّعب الذيِ عندَ سَلْعٍ ... لقَتيلا دَمُه ما يُطَلُّ
خلّف العِبَْء عليّ وولى ... أنا بالعِبْءِ له مستقل
ووراء الثأرِ مني ابنُ أختِ ... مَصع عقْدَتهُ ما تُحَل
مُطرِق يَرشح سَماً كما أطْ ... رَقَ أفْعَى يَرْشح السُمَّ صِلُّ
خَبر ما نابَنَا مُصْمَئِلٌّ ... جلَّ حتى دَقَّ فيه الأجل
بزَّنى الدهرُ وكان غَشوماً ... بأبيٍ جارُه ما يُذَل
شامس في القُرِ حتى إذا ما ... ذَكّتِ الشِّعرَي فَبرْد وظِل
يابسُ الجنبينِ مِن غير بؤس ... وندِي الكفين شهْم مُدِل
ظاعن بالحزْم حتى إذا ما ... حلّ: حلَّ الحزْم حيث يَحُل
غيث مزْنٍ غامر حيْث يُجدِي ... وإذا يَسْطو فليْث أبل
مسبل في الحيِّ أحْوى رِفِل ... وإذا يغْزُو فسِمْع أزَل
وله طعمان أرْى وشَرْى ... وَكِلا الطعْمَينِ قد ذاقَ كل
يركبُ الهوْلَ وحيداً ولا يَصْ ... حُبُهُ إلا اليماني الأفَل
وفتُوٍّ هَجِروا ثم أسْرَوْا ... ليلهم حتى إذا إنجاب حلوا(197/57)
كلّ ماض قد تردَّى بماض ... كسَنا البرقِ إذا ما يُسل
فأدَّرَكْنا الثَّأرَ منْهُمْ ولمَّا ... يَنْجُ مِ الحيَّين إلاَّ الأقلُّ
فاحتْسَوْا أنفاسَ نوْم فلمَّا ... هوَّموا رُعْتُهُم فاشْمَعلُّوا
فَلئِنْ فلَّتْ هُذَيل شَباهُ ... لبما كان هذيْلاً يَفِل
وبمَا أدْرَكَهَا في مَناخٍ ... جَعْجعٍ ينْقُبُ فيهِ الأضّل
وبمَا صَبَّحَها في ذُرَاها ... منْهُ بعْدُ القتْلِ نَهب وشَمل
صليَتُ منى هُذيْل بِخرْقٍ ... لا يَمل الشّرَّ حَتى يَمَلوا
يُنْهلُ الصَّعْدَة حتى إذا مَا ... نهِلَتْ، كان لها منهُ عَل
حلتِ الخمر وكانت حرَاماً ... وبلاْيٍ ما ألَمَّتْ تحُلْ
فاسقِنيها يا سوادَ ابنَ عمرو ... إني جسمي بعد خالي لخَل
تضحكُ الضبْعُ لقتلى هُذيْلٍ ... وترى الذيب لها يَسْتَهل
وعِتاقُ الطيرِ تَغدو بِطاناً ... تتخطاهم فما تستْقل
ولم تكن الفضائل التي استوعبها العربي عن الشرف معدودة كأنها صفات شخصية فطرية أو مكتسبة، بل إرثاً ورثه الخلف عن السلف منذ القدم، ولا بد له من أن يحافظ عليه تماماًً حتى يسلمه إلى أبنائه دون أن تشوبه شائبة ما، ولم يكن الأمل، في الخطوة بخلود النفس هو ما يحفز الشاعر العربي لأن (يقول القول ويفعل فعال الشرف)، بل كان الرغبة في أن يقاسم أسلافه ذكرهم، وينافسهم صيتهم. وهو بهذا ابعد ما يكون عن الفلاح الاسكتلندي، حين يقول في مثله الدارج (الإنسان بشخصه أياً كان اصله) لأنه كان ينظر نظرة الشك والريبة إلى هذه الجدارة التي ليس لها اصل مأثور عند الآباء:
ومَا تَسْتَوِي أحسَابُ قوٍم تُوُرثَت ... قديماَ وأحسَابُ َنبْتنَ معَ البقْلِ
وإن الحسب عندهم أشبه بحصن حصين قد جد في إقامته الآباء للأبناء أو كجبل شامخ يضرب بقنته في أجواز الفضاء، يرتد عنه مهاجموه بالفشل دون أن ينالوا منه شيئاً، وكان الشعراء يعرفون جيداً المفاخر والمثالب فيتشدقون بالأولى بشرف أجدادهم وكرم أرومتهم، ويتخذون الثانية أداة ينالون بها من أعدائهم دون رعاية أو اهتمام بقواعد الأدب والحشمة.
لقد وجهت عنايتي أن أورد في هذا المجال بعض الصفات الخاصة للشعر العربي إذا ما(197/58)
قورن بالشعر العبري أو الفارسي أو الإنكليزي، ولكن لما كان إيراد الأمثال ذا جدوى غير منكورة فإني أبدأ حالا بالتكلم عن القصائد الشهيرة بالمعلقات التي تحتل مكانة سامية وذروة رفيعة في الأدب العربي.
الأرجح أن كلمة معلقة قد اشتقت من قولهم (عِلق) أي الشيء النفيس الثمين العالي المستوى. إما لأن الإنسان يتعلق بها تعلقا شديدا، أو لأنها تعلق في مكان شريف أو بين واضح كبيوت المال أو في خزائن عامة وعلى مر الزمن تنوسي المدلول الحقيقي لكلمة معلقة، وأصبح من الضروري إيجاد تفسير مقبول منصوب لها وهنا ظهرت الخرافة التي أصبحت فيما بعد مألوفة لطول تكرارها وكثرة استعمالها، والتي تزعم أن تسمية المعلقات بهذا الاسم، راجعة لتعليقها بأستار الكعبة تقديرا لفضلها الذي قضى لها به المحكمون في عكاظ على مقربة من مكة؛ حيث يجتمع الشعراء متنافسين في إنشاد أروع ما دبجته قرائحهم، وأنها كانت تكتب بماء الذهب، على القباطي الواردة من مصر قبل تعليقها على الكعبة.
(يتبع)
حسن حبشي
-
لمحة. . .!
للسيد عمر أبو ريشة
أوقفي الركب يا رمال البيد ... انه تاه في مداك البعيد
ظمئت نوقه وجف فم الحا ... دي وغصت لهاته بالنشيد
والأشداء يلهثون كخيل ال ... غزو عادت من يومها المشهود
عصفت في جفونهم ريحك الهو ... جاء والشمس عربدت في الخدود
والصبايا من الهوادج ينظر ... ن إلى الأفق نظرة المفئود
ليس يبصرن منك غير هضاب ... في هضاب مبعثرات الحدود
غابت الشمس يا رمال وهذا ال ... ركب في قبضة العياء الشديد(197/59)
وخبا الليل يا رمال ال ... ركب أخنته وطأة التسهيد
فهوى فاقد الرجاء يرى المو ... ت مشيحا بمنجل من حديد
فتراءت إليه نار على البع ... د فكانت إيماءة للشريد
فسرى في سنائها فأطلت ... خلفها مكة الفخار التليد
يا عروس الرمال يا قبس التا ... ئه في مهمه الضلال المبيد
أمَن الركبُ في جمالك فردي ... هـ إلى ذكريات تلك العهود
يوم أرخى على جوانبك الوح ... ي جناحين من سماء الخلود
حاملا آية النبوة ما بي ... ن شفاه علوية التأييد!!
صَباها قبله على فم طفل ... قرشي النجار سامي الجدود!
وحواليه من حمام الفرادي ... س حسانٌ مرنَّحات القدود
ساحبات بيض البرود كما لو ... جمد النور فوق تلك البرود
يتزاحمن وإثبات ويلثم ... ن من الشوق مبسم المولود!
فإذا بالسماء تهمي تسابيح ... وتدوي أصداؤها في الوجود
وإذا الكون بعد عيسى تعرى ... نصب عيني محمد من جديد!!
درج الطفل والهداية تحبو ... هـ بتاج من السناء فريد
(وبحيرا) في الدير يضرب في ال ... ناقوس بشرى بالسيد المنشود
والذؤابات من قريش سكارى ... في هوى الجاهلية العربيد!
هتكت كبرياؤها سنن العق ... ل وصالت بشرعها المردود
كم بنات لم تنفطم وأدتها ... كفُ باغ على القضاء عتيد
كم وراء الجدران في الكعبة العص ... ماء من عابد ومن معبود
جلجلت صرخة النبي فردَّت ... رجع أصدائها أعالي النجود
وأشاحت يسراه بالمعول الصلد ويمناه بالكتاب المجيد!!
فتهاوت تلك الصفوف من الأص ... نام عن أوج عرشها المعقود
وتبارت - الله اكبر تعلو ... من شفاه المؤذن الغريد!!!
أخذت غضبة البداوة تخبو ... بعد إعنات ضلة وجحود(197/60)
إنها النفس لا تبدل طبعا ... الفته فكيف نفس الحقود
ومن الصعب أن يشاهد أعنى ... قبس الحق في الليالي السود
يوم (بدر) فض النزاع وبث ال ... رعب في كل أشهب صنديد
فقريش مغلوبة وأبو سف ... يان في شبة رجفة الرعديد
والميامين في المدينة يطوو ... ن سيوف السلام طي الغمود
فأتم النبي آيته الكبرى ... على شعبه الكريم الودود
وانطوت تعدها الهيولي فثارت ... فتنة في النفوس ذات وقود
وتلاشت كأنها حلم الذع ... ر بجفن المسهد المكدود!!
الفجاءات كم تزلزل عزماً ... وترد الرشيد غير رشيد!!
دفقت موجة الهدى تغسل الشر ... ك وتروي النفوس بالتوحيد
وتبث الوئام والحب والرح ... مة ما بين سيد ومسود
مذهب ضجت الأعاجم منه ... وتعاموا عن شرعه المحمود
ورأوا فيه ما يدك عروشاً ... شيدوها بالظلم والتهديد
فرمت بالكتائب الخرس (روما) ... وبأبطالها الغزاة الصيد
وطغى الهول والكتائب ماجت ... في خضم من القنا والبنود
فأطلت تلك الفلول من العر ... ب بعزم النبوة المشدود
وانحنت فوق ضمر تعلك اللج ... م وتنزو مجنونة في الصعيد!
وأغارت ترمي الفوارس رمياً ... وتحز الوريد أثر الوريد
كلما انهار حائط من جنود ... اتبعته بحائط من جنود
وضفاف (اليرموك) ترسل منها ... زمزمات الحداء لابن الوليد!!
جولة ترعف الصوارم فيها ... وتصيح الأكف هل من مزيد
جولة كفَّنت بها الروم حلماً ... بين أنقاض صرحها المهدود!!
وكأن اندحارها لم يرد (ال ... فرس) عن نشر بغيها المعهود
سخرت كل فيلق كسروي ... لم يذق قبل نكبة التشريد!
مزقته في القادسية تلك ال ... بيض والسمر في اكف الأسود(197/61)
إن طود الرمال تحمله الريح ... وتذريه في الفضاء المديد
بسطت كفها الهداية والشر ... ق تفيَّا بظلها الممدود
رافعاً مشعل الحضارة والغر ... ب صريع في غفوة من جمود
إن في الشام من معاوية ... السمح بقايا من الدهاء السديد
وببغداد مسحة من نعيم ... تتغنى بذكريات (الرشيد)
وبغرناطة من الملك النا ... صر آثار روعة (للنشيد)
أمة يعربية تركت في ... مسمع الدهر آية التمجيد؟
إنما عقلها البنون فزجوا ... بالمروءات في بطون اللحود
أسكرتهم لذائذ الترف الأه ... وج عن يقظة القضاء العنيد
وتلوَّت ما بينهم تنفث ال ... سُمّ أفاعي حفائظ وحقود!
وتناسوا ما بثه السيد الأع ... ظم من سنة الوئام الأكيد
وخبت نارهم وصُبَّت عليهم ... عاصفات التعذيب والتنكيد
فإذا جبهة الشموخ لطيم ... تتنزى بالجرح عند السجود
وانتهت سيرة الجدود إلينا ... فجررنا القيود أثر القيود
والتفتنا فلم نجد غير ملك ... مزقته أصابع التبديد
ونهدنا للذود عنه ولكن ... ما حملنا غير الإِباء الحميد!
ورجعنا فكم جريحا كئيب ... يتلوا وكم قتيل شهيدا!!
يا عروس الرمال يا قبس التا ... ئه في مهمه الضلال المبيد
نحن في هذه البلاد كذاك ال ... ركب غشى في طالع منكود
انظري فالجموع شاخصة الأب ... صار ترنو إلى ضياك الوحيد
فأمددي الكف للكرام فغبن ... أن تعيش الكرام عيش العبيد!
(حلب)
عمر أبو ريشة
-(197/62)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الطفل والزواج
لي سؤال أخصك به لأسبر أعماق روحك يا أخي:
- أنت في مقتبل العمر وتتمنى أن يكون لك زوجة وولد، ولكن قل لي الست الرجل الذي يحق له هذا التمني؟ أأنت الظافر المنتصر على نفسه، الحاكم على حواسه السائد على فضائله؟ أم أن تمنيك هذا ليس إلا شهوة حيوان أو خشية منفرد أو اضطراب من قام النزاع بينه وبين نفسه؟
إن ما أريده منك هو أن تتوق بانتصارك وحريتك إلى التجدد بالولد إذ عليك أن تقيم الأنصاب الحية لانتصارك وحريتك، فترفع هذه الأنصاب إلى ما فوق مستواك. وهل بوسعك أن تفعل إذا لم تكن منين البنية من رأسك إلى أخمص قدميك؟
ليس عليك أن ترسل سلالتك إلى الأمام فحسب، بل عليك بخاصة أن ترفعها إلى ما فوق فليكن عملك في حقل الزواج منصبا إلى هذه الغاية.
عليك أن توجد جسداً جوهره أنقى من جوهر جسدك ليكون حركة أولى وعجلة تدور لنفسها على محورها، فواجبك إذاً إنما هو إبداع من يبدع.
ما الزواج في عرفي إلا اتحاد إرادتين لإيجاد فرد يفوق من كانا علة وجوده. فالزواج حرمة متبادلة ترسو على احترام هذه الإرادة.
ليكن هذا معنى زواجك وحقيقته أما ما يدعوه الدخلاء الأغبياء زواجاً فأمر أحار في تصريفه؛ فما هو إلا مسكنة روحية يتقاسمها اثنان، ودنس يتمرغ به اثنان ولذة بائسة تتحكم في اثنين، ولكن الدخلاء يرون في مثل هذا الزواج رباطاً عقدته السماء
وما أنا بالمرتضي بمثل هذه السماء، سماء الدخلاء أطبقت شباكها عليهم، تباً لهاً وسحقا لمثل هذا، الإله الذي يتقدم متراجعا ليبارك اثنين لم يجمع هو بينهما.
لا يضحكنكم هذا الزواج، فكم من طفل من حقه أن يبكي على أبويه(197/64)
رأيت رجلا وقورا فحسبته بالغا من النضوج ما يدرك به معنى الأرض، ولكنني رأيت امرأته بعد ذلك فلاحت لي الأرض كأنها مأوى المجانين. أود لو تميد الأرض بي عند ما أرى رجلا فاضلا يتخذ له زوجة حمقاء. من الناس من يتجرد كالأبطال سعياً وراء الحقائق فلا يلبث حتى يصطاد رباطاً مزيفاً يدعوه زواجاً ومنهم من اشتهر بحذره في علاقاته وبصرامته في اختياره، فإذا هو بين ليلة وضحاها قد افسد حياته ووقف يدعو هذا الإفساد زواجا. ومنهم أيضاً من كان يفتش عن خادمة لها فضائل الملائكة، فإذا هو ينقلب فجأة خادما لامرأة وقد حق عليه أن يتصف هو بالفضائل الملائكية.
فتشت في كل مكان فما رأيت إلا مشترين يقلبون السلع وعيونهم تتدفق مكراً، ولكن امكر هؤلاء الناس لا يتوصل في آخر الأمر إلا إلى ابتياع هرة يدسها في جلبابه.
إن ما تدعونه عشقاً إنما هو جنون يتتالى نوبة بعد نوبة حتى يجئ زواجكم خاتماً هذه الحماقات بالحماقة المستقرة الكبرى. ويا ليت حب الرجل للمرأة وحب المرأة للرجل كانا إشفاقاً يتبادله إلهان يتألمان، ولكن هذا الحب لا يتجلى في الغالب إلا تفاهما بين إحساس حيوانين وما خير الحب لو تعلمون إلا تحول واضطرام في ألم وخشوع إن هو إلا المشعل ينير أمامكم مسالك الاعتلاء وسيأتي يوم يتجه فيه حبكم إلى مقر ابعد وارفع من مستقر ذاتكم لقد بدأتم بتعلم الحب لذلك ترتشفون الآن المرارة الطافية كالحب على كأسه.
إن في كاس كل حب إطلاقا وحتى في كاس أرقى حب مرارة لابد لكم من تجرعها؛ وهذه المرارة هي التي تنبه فيكم الشوق إلى الإنسان الكامل وتلهب فيكم الظمأ إليه أيها المبدعون إذا كان هذا الظمأ هو الذي يدفع بك إلى طلب الزواج يا أخي وإذا كنت تشعر بشوقك يندفع كالسهم نحو الإنسان الكامل فإنني اقدس إرادتك واقدس زواجك
هكذا تكلم زارا. . .
تخير الموت
كثير من يتأخرون في موتهم، وكثير من يبكرون. فإذا قال قائل للناس بالموت في الزمن المناسب رفعوا عقيرتهم مستغربين. وزارا يعلم الناس أن يموتوا في الزمن المناسب. ولكن إن لمن يعرف الحياة أن يتخير الموت في أوانه؟
أفما كان خيرا للدخلاء على الحياة لو انهم لم يولدوا ولكن هؤلاء الدخلاء يريدون أن يولي(197/65)
الناس أهمية كبرى لموتهم، وكم من نواة تباهي بأنها كسرت وهي جوفاء. . . انهم يعلقون أهمية على الموت لأنهم ما عرفوا بهجة الموت فالناس لم يعرفوا حتى اليوم كيف يقدسون أبهج الأعياد. ولسوف أنبئكم بالموت الذي يقدس، الموت الذي يدفع الأحياء ويجتذبهم بحوافزه وآماله إن من اكمل عمله يأتي ظافرا وحوله من يحفزهم الأمل وتنطوي فيهم الأماني. تعلموا أن تموتوا هكذا، ولكن اعلموا أن لا ظفر لمن يموت إذا هو لم يبارك ما اقسم الأحياء بإتمامه.
تلك هي الميتة الفضلى، تليها في المراتب ميتة من يسقط في المعركة وهو ينشر عليها عظمة روحه غير إن ما يحتقره المجاهدون والظافرون على السواء إنما هو ميتتكم الشوهاء التي تزحف لصا وتتقدم أمرا مطاعاً
ما اجمل ميتتي إذا أنا تخيرتها فجاءتني لأنني اطلبها
ولكن متى يجدر بالإنسان أن يطلب الموت؟
إن من يتجه إلى مقصد في الحياة وله وريث وجب عليه أن يتمنى الموت في الزمن المناسب لغايته ولوريثه، لأنه يأنف حرمة لهما من أن يلقي بالأكاليل الذابلة على هيكل الحياة
إنني لا أريد أن احبك الخيوط وانسحب إلى الوراء كمن يفتلون الحبال.
من الناس من لا يتجاوز بأعمارهم الحد اللائق بالحقائق والظفر، وخليق بالفم المجرد عن أسنانه ألا يتناول بيانه جميع الحقائق. على الطامحين إلى الظفر أن يودعوا الأمجاد في الزمن المناسب ليتمرنوا على فن الرحيل عن الدنيا في الزمن المناسب أيضا، ومن واجب المرء أن يتوقف عن عرض نفسه للآكلين عندما يكفون عن تذوقها ولا يعرف هذه الحقيقة إلا من يود الاحتفاظ بمحبة من حوله. ولكن من الأثمار كالتفاح من تقضى طبيعته الحامضة عليه أن ينتظر النضوج إلى آخر أيام الخريف، فإذا هو ماثل للنظر باصفرار الشيخوخة وتجاعيد أساريرها.
ومن الناس من يدب الهرم إلى قلوبهم أولاً، ومنهم من يدب الهرم إلى عقولهم، ومنهم من يشيخون في ربيع الحياة غير أن من يبلغ الشباب متأخراً يحتفظ بشبابه أمداً طويلا.
ومن الناس من ضلوا السبيل في حياتهم، فأضاعوا عمرهم؛ فعلى هؤلاء أن يعملوا على(197/66)
بلوغ التوفيق في موتهم على الأقل. وهنالك أثمار لا تنضج لأنها سهراء في الصيف ولكنها تبقى معلقة بأغصانها لأن جبنها يصدها عن السقوط هكذا نرى في العالم أناساً يلتصقون التصاقا باغصانهم فهل من عاصفة تهب على الشجرة لتسقط ما عليها من أثمار تهرأت ورعى الدود قلبها؟ ليتقدم دعاة الموت العاجل وليهبوا كالعاصفة على دوحة الحياة غير إنني لا أرى غير دعاة للموت البطيء يعظون بالصبر واحتمال كل مصائب الأرض.
إنكم تدعون إلى مكابرة الأرض ومجالدتها، أيها المجدفون والأرض صابرة عليكم صبرها الجميل.
والحق أن ذلك العبراني الذي يمجده المبشرون بالموت البطيء قد مات قبل أوانه، ولم يزل جم غفير يعتقد بان ميتته المبكرة كانت مقدورة عليه
وما كان هذا المسيح العبراني قد عرف إلا دموع قومه وأحزانهم وكيد أهل الصلاح والعدل، لذلك راودته فجأة شهوة الفناء.
ولو انه بقى في الصحراء بعيدا عن أهل الصلاح والعدل لكان تعلم حب الحياة وحب الأرض، ولكان تعلم الضحك أيضاً.
صدقوني، أيها الاخوة، إن المسيح قد مات قبل أوانه، ولو انه بلغ العمر الذي بلغت، لكان جحد تعاليمه، وقد كان له من النبل ما يكفيه لاقتحام العدول عنها. ولكنه لم يبلغ النضوج، ولم تبلغه المحبة في الشباب، فكره الناس وكره الأرض وهكذا بقيت روحه مثقلة ولم ينشر جناحه المهيض إن في الرجل من الطفولة ما ليس في الشباب، فالرجل الناضج اقل حزنا واقدر على فهم الحياة والموت، لأنه يشعر بحريته للموت وبحريته في الموت، وإذا امتنع عليه أن بثبت شيئاً أنكره.
حاذروا أن يكون موتكم تجديفاً على الأرض والإنسان أيها الصحاب تلك هي النعمة التي استجديها من وداعة روحكم
ليرسل فكركم وفضيلتكم آخر أشعتهما في احتضاركم كما ترسل الشمس الغاربة آخر أنوارها على الأرض، وإلا فأن ميتتكم ستكون فاشلة. إنني هكذا أريد أن أموت ليزداد حبكم للأرض من اجلي، أيها الأصحاب. أريد أن أعود إلى الأرض التي خلقت منها لأجد الراحة في أحضانها.(197/67)
لقد كان زارا يرمي إلى هدف وقد أطلق سهمه الآن فارموا إلى هذا الهدف بعدي، لأنني من أجلكم أطلقت سهمي الذهبي. فما اشتهي شيئاً اشتهائي أن أراكم تطلقون سهامكم الذهبية أيضاً، ولسوف لبقى على الأرض قليلا لأمتع عيني بهذا المشهد، فاغتفروا لي هذا التخلف إلى حين
هكذا تكلم زارا. . .(197/68)
القصص
من القصص العربي
حديث سمر
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
على بساط من رمل الصحراء الأحمر، وفي ثنية من ثنايا الجبل السامق نحو السماء، وفي جو رخاء يتموج في جوانبه نسيم العشية البليل، أخذ القوم مجلسهم كالعادة يسمرون ويتفكهون! انهم فتية شبوا في ظلال الخفض والرفاهية، لم يثقلهم من الدهر هم. ولم يشغلهم من الحياة شاغل، فكلهم في بيته سليل المجد، وربيب النعمة وأخو الفراغ والجدة وكانوا من العمر في طور الشباب تغمرهم الأماني الواسعة وتستخفهم الأحلام اللذيذة، فالدنيا ما زالت في نظرهم حلوة خضرة، تتراءى لهم كالعروس قد جلتها يد الماشطة الصناع، فكلها إغراء وكلها فتنة، فتمردوا على العشيرة. وخرجوا على المجتمع، وجمعوا شملهم بالصداقة، وأقاموا الإخاء فيهم مقام القرابة، وشردوا عن أهلهم إلى البيداء، حيث مجال الحرية الواسع ومراد النظر السادر، وميدان الركض الفسيح!
وكان من عادة القوم أن يسمروا في بيدائهم، وكانوا يجرون في سمرهم على نظام متبع، وحياة رتيبة، فهم في كل أمسية حول واجد منهم يسري عنهم بالنادرة البارعة، ويفكههم بالملحة الشاردة، وكثيرا ما ينثني بهم نحو الماضي المنصرم، فيقص عليهم من ذكرياته الحلوة الطيبة، ومصادفاته الغربية
وها هم أولاء قد أخذوا مجلسهم على عادتهم في نظام واجد وأنصتوا. انتصب ذاكر منهم كان عليه حق الجماعة، ومن واجبه (حديث السمر) في تلك الليلة فقال: لقد انحدرت مع قومي فيما سلف من الزمن إلى بغداد، فاكترينا داراً شارعة على أحد الطرق المعمورة بالناس، وكنا في عيشنا نجري على طبيعة الدهر من الرخاء والبؤس، فمرة يغمرنا اليسر والرغد وطوراً يشملنا العسر والفاقة! لله تلك النفوس الطيبة يا إخوان؛ لقد كنا لا ننكر أن تقع مؤنتنا على واحد منا إذا أمكنه؛ ولقد يبقى الواحد فينا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول، وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه، وانحدرنا إلى اسفل الدار،(197/69)
ننتهب اللهو، ونهتاج العواطف بالطرب، فإذا ما عدمنا ذلك انصرفنا إلى غرفة نتمتع منها بالنظر إلى الناس، ولكن لا اعرف أن النبيذ خلا من أيدينا على أية حال.
فأنا لفي يوم من الأيام، صادفنا فيه افتقار القوت، وسعدنا منه بوفرة النبيذ وإذا بفتى يطرق علينا الباب طرقا، فلما صعد إلينا بعد الإذن ألفيناه حلو الوجه سري الهيئة، ينبئ رواؤه عن الخير، ويدل مظهره على النعمة، ابتدأنا بالتحية واستمر يقول: لقد سمعت بمجتمعكم، وحسن منادمتكم وصحة ألفتكم. وعلمت كأنما أدرجتم في قالب واحد، فأحببت أن أكون واحداً منكم فلا تحتشموني، وخذوني بأوضاع الاخوة لا بواجب الضيافة، فكنا في انس بلقياه، ونشوة من حديثه، ولكنا كنا أيضاً في هم وفكر من تدبير القوت له والحصول على الزاد الواجب لغذائه.
ولم يمضي كثير حتى أشار الفتى إلى غلامه فوضع بين أيدينا سلة خيزران فيها طعام المطبخ من جدي ودجاج وفراخ ورقاق وأشنان ومحلب وخلة، وأجبنا صاحبنا إلى ما طلب من حق الأخوة فلم نحتشم طعامه فحططنا فيه، ثم أفضنا في الشراب وأفضنا في الحديث، وانبسط الفتى معنا في الكلام فإذا به أحلى خلق الله إذا حدث، وأحسنهم استماعاً إذا حدث، وامسكهم عن ملامة إذا خولف. ثم أفضينا منه - على طول المقام - إلى اكرم محالفة، واجمل مساعدة، وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء يكرهه فيظهر لنا أنه لا يحب غيره. نطالع ذلك في إشراق وجهه. وانبساط أساريره، فصرنا نغنى به عن حسن الغناء، وشغلنا بأخباره وآدابه، وشغفتنا نوادره وآماليحه، ومع ذلك فما وقفنا على اسمه، ولا حققنا نسبه، وإنما عرفناه بأبي الفضل، وكنا ندعوه بذلك
وجلس في يوم يطرفنا بنوادره ويقص علينا شيئاً من تاريخه فقال: ألا أخبركم بم عرفتكم، ولماذا آثرت صحبتكم؟ قلنا: أنا لنحب ذلك ونطمع فيه، قال: لقد أحببت جارية في جواركم، فشغفت نفسي حبا، وتدله قلبي في هواها! فكنت اجلس في الطريق التمس اجتيازها فاراها! ودمت على ذلك حتى اخلقني الجلوس على الطريق، وأنكرت من نظرات السابلة، ورأيت غرفتكم هذه، ووقفت على خبركم في العيش وأخذكم بالائتلاف والمساعدة، فكان الدخول فيما أنتم فيه اسر عندي من تلك الجارية!
فقلنا: هون على نفسك يا ابن العم، وتمن في تحقيق مأربك، وسنجد في اختداع الفتاة حتى(197/70)
تصير إليك! فقال: حسبكم يا إخوان: إني والله على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها ما قدرت فيها حراما قط، ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فأشتريها، وبغير هذا لا يكون الوصول إليها مني على بال.
وأمضى الرجل في اخوتنا شهرين فكنا في اغتباط بقربه، وانس من صحبته، ثم خالسنا الفراق على غفلة فنالنا بذلك ثكل ممض، ولوعة مؤلمة، وما كنا نعرف له منزلا فنلتمسه، لا بابا فنطرقه. فوالله لقد كدر علينا بعده بقدر ما طاب لنا بقربه، وجعلنا لا نرى سرورا ولا غما إلا ذكرناه لأفضال السرور بصحبته وحضوره، والغم بمفارقته وغيابه، فكنا فيه كما قال الشاعر:
يذكرنيهم كل خير رأيته ... وشر، فما انفك منهم على ذكر
وتصرمت على غيابه عشرون يوماً وكأنها الدهر، وما لنا مطمع في لقياه ثانية، فأن فترات الصفو محدودة، والحياة ضنينة في إرجاع ما كان، فبينا نحن نجتاز الرصافة يوما إذا به يطالعنا في موكب نبيل، وزي جميل، وما ابصر بنا حتى انحط عن راحلته وانحط غلمانه، وإني ما زلت المحه في أعطاف الماضي وهو مقبل نحونا في لهفة يقول: والله يا إخواني ما هنا لي بعدكم عيش، ولا طاب لي انس، ولا عرفت في نفسي معنى الصفو، ولست أماطلكم بخبري فإني أتبين فيكم اللهفة إلى ذلك فميلوا بنا إلى المنزل وهو قريب، فملنا معه عن رغبة، ولما تم بنا المجلس قال: لقد آن لي أن اكشف لكم عن نفسي! أنا العباس ابن الأحنف وطبعا سقط لكم شيء من أمري، وكان من خبري بعدكم أني تركتكم اطلب منزلي لحاجة، فإذا بالشرطة في طلبي، وفي كثير من السرعة مضوا بي إلى دار الخلافة ودارة الملك، فصرت إلى يحيى بن خالد فقال لي: ويحك يا عباس؛ إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك، وحسن تأتيك؛ وان الذي ندبتك في شأنه لجليل. فأنت اعرف بخطرات الخلفاء، وإني أخبرك أن (ماردة) هي الغالبة على أمير المؤمنين اليوم، وقد جرى بينهما عتب، فهي بدل المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يتعالى على ذلك. فقل شعرا يسهل عليه سبيل الوصل، ويقرب له شقة المعاودة. ثم اطرحني إلى غرفة خالية وقدم القرطاس والدواة وقال هيا يا عباس!!
ولا أكتمكم يا إخوان لقد شرد مني الذهن وتبلد الفكر، فتعذرت على كل عروض ونفرت(197/71)
عني كل قافية، والرسل في كل فترة تعتبني والأمير يستحثني فما زلت أحاول وأداول حتى انفتح لي شيء فجئت بأربعة أبيات رضيتها إذ وقعت صحيحة المعنى، سهلة اللفظ، ملائمة لما طلب مني، وأخبرت عنها الوزير فقال في لهجة المستعجل: هاتها ففي اقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير الروي، ثم كتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة وعقبت بالبيتين فقلت:
العاشقان كلاهما متغضب ... وكلاهما متوجد متعتب
صدت مغاضبة وصدَّ مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن الميتم قلما يتجنب
إن التجنب إن تطاول منكما ... دب السلوله وعز المطلب
ثم كتبت تحت ذلك:
لا بد للعاشق من وقفة ... تكون بين الهجر والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم
فدفع يحيى بالرقعة إلى من حملها إلى الرشيد، فلما وقف عليها قال: والله ما رأيت شعرا أشبه بما نحن فيه من هذا، والله لكأني قصدت به قصداً، ثم أخذ يعاود قراءتها وهو يقول: نعم! نعم! راجع من يهوى على رغم أي والله أراجع على رغمي، لقد تمادى الهجر فلا بد أن أراجع، هات يا غلام النعل، ونهض فوصل ما انقطع وكأن الخليفة قد أذهله السرور، فلم يسأل عن الشاعر الذي اطربه، ومضت فترة الرجاء وحسبت أني نسيت فراودت نفسي بالانصراف وغدوت على يحيى أستأذنه في ذلك فقال: مهلا يا عباس! لقد أمسيت أنبل الناس، إن ماردة لما وصلها الخليفة سألت عما حمله على ذلك فعلمت انه الشعر، وقد همها وهم الخليفة أن يعرفا الشاعر الذي قدم لهما هذه اليد فجاء الرسول يسألني في ذلك فقلت له انه (العباس بن الأحنف) فأمر لك الخليفة بجائزة طائلة، وأمرت لك ماردة بأخرى ولك مني يا عباس الثالثة، وان من تمام اليد عندك ألا تخرج إلا في الزي الجليل، والمركب الفاره!!
فهذا يا إخواني ما عاقني عنكم، فهلموا أقاسمكم ما نلت وأشاطركم ما كسبت فأبينا وأبى، وتمنعنا وأصرّ. ثم ذكر لنا الجارية، وقال هيا نمضي إليها حتى نشتريها، فمشينا إلى صاحبها وكانت جارية حلوة ظريفة لا تحسن شيئاً، اكثر ما عندها ظرف اللسان وتأدية(197/72)
الرسائل، وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار. فلما رأى ميل المشتري أسام بها خمسمائة فلما أجبناه بالعجب حط مائة ثم حط مائة، فقال العباس: مهلا يا إخوان، إني والله احتشم أن أقول بعد ما قلتم، ولكنها حاجة في نفسي. فأكره أن تنظر إلى بعين من قد ماكس في ثمنها، دعوني أعطه الخمسمائة كما طلب، قلنا: وانه قد حط مائتين، قال: وان فعل؛ فصادف ذلك من مولاها رجلا حراً فاخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين، وحملها إليه! ألا رحم الله العباس وطيب ثراه، فإنه مازال إلينا محسناً يرعى حق الأخوة فينا حتى فرق بيننا الموت!
محمد فهمي عبد اللطيف(197/73)
البريد الأدبي
العالم الإسلامي اليوم
اطلعنا في بعض الصحف النمسوية الأخيرة على خلاصة آراء ومحاضرات يذيعها الدكتور يوليوس جرمانوس المستشرق المجري في الإسلام والعالم الإسلامي الحاضر؛ وقد جاء الدكتور جرمانوس إلى مصر منذ عامين وقضى نحو أربعة اشهر في تعلم اللغة العربية وحج إلى مكة (لأنه يعتنق الإسلام)، ثم عاد إلى وطنه يلقي المحاضرات ويكتب المقالات العديدة عن العالم الإسلامي، ويعلن في كل فرصة أن أحداً لم يوفق مثل توفيقه إلى دراسة اللغة العربية وشئون العالم الإسلامي قاطبة. بيد أن الدكتور يبدي في معظم الأحيان آراء لا تخرج في جملتها عما نسمعه عن كثيرين غيره زاروا البلاد الإسلامية زيارات طائرة، ثم زعموا انهم يعرفون من أمرها ومن حاضرها ومستقبلها كل شيء فهو مثلا يقول عن اللغة العربية أنها تعتبر بالنسبة إلى اللغات (أو اللهجات) التي تتكلم بها الشعوب العربية مثل اللاتينية بالنسبة إلى اللغات الرومانية التي نشأت عنها، وهذا تشبيه هو ابعد الأشياء عن الحقيقة لأن اللغة العربية لم يصبها في أي عصر من عصور الركود ذلك الموت الذي أصاب اللاتينية ولأنها تكاد تكون بشكلها المصقول لغة الحديث العادي في الطبقات المستنيرة بالبلاد العربية ثم يقول عن الإسلام انه أي الإسلام لا يجوز اليوم نهضة ما، وإنما الشعوب الإسلامية هي التي تجوز مثل هذه النهضة، وان الشباب في جميع العالم الإسلامي يتأثر اشد التأثير بمبادئ مصطفى كمال وإصلاحاته، وأن مصر وسوريا والعراق وغيرها من الأمم الإسلامية ستسير في أثر مصطفى كمال وتنهج منهجه؛ والدكتور جرمانوس يخطئ في هذا الرأي اشد الخطأ فقد أدركت الشعوب الإسلامية منذ بعيد ما تنطوي عليه الحركة الكمالية من الزيف والزيغ والخصومة المضطرمة للإسلام والعالم الإسلامي؛ ولم تبق الحركة الكمالية عنواناً لغير تركيا التي أخرجت من عداد العالم الإسلامي؛ ونستطيع أن نؤكد للدكتور جرمانوس أن مصر لم تتأثر في يوم ما ولن تتأثر بمثل هذه الحركات الإلحادية المفرقة. أما أن العالم الإسلامي لا يجوز اليوم نهضة ما، فكل الدلائل المعنوية والمادية تنم بالعكس عن نهضة إسلامية بعيدة المدى، وهذه حقيقة يقررها كثيرون ممن هم ابعد نظراً واكثر خبرة بشؤون العالم الإسلامي من الدكتور جرمانوس.(197/74)
وفاة عميد الشعر الإنكليزي
أشارت الرسالة في العدد الماضي إلى وفاة الشاعر الإنكليزي جون درمكوانز، وكانت وفاته فجأة وهو في عنفوان قوته وشاعريته، ولما يبلغ بعد الخامسة والخمسين من عمره، وقد فجع الشعر الإنكليزي حقا بوفاة درنكوانز، ذلك انه يعتبر منذ وفاة توماس هاردي ورديارد كبلنج عميد الشعر الإنكليزي، وكان مولده سنة 1882 وتلقى تربيته في أكسفورد وبرمنجهام، وبدأ حياته كاتبا في إحدى شركات التأمين، وشغف بالمسرح والشعر منذ فتوته وعاون في إنشاء مسرح برمنجهام التوقيعي الذي كان يشرف عليه الفنان الشهير السير باري جاكسون. وظهرت له أول مجموعة شعرية في سنة 1911 بعنوان (الرجال والأوقات) وظهرت في نفس العام أول قطعة مسرحية له موضوعة بالنظم، ومنذ سنة 1914 يوالي درننكوانز إصدار مسرحياته، وقد أحرزت جميعا نجاحا عظيما، منها (الثورة) وهي شعرية، و (السيوف والمحاريث) بيد أن اعظم قطعه مسرحية بلا مراء هي قطعته الشهيرة (ابراهام لنكولن) وقد مثلت لأول مرة سنة 1919، ورفعت شهرته إلى السماكين، وفي سنة 1921 ظهرت قطعته (أوليفر كرومويل)، بيد أنها لم تكن في نجاحها وروعتها كسابقتها (أبراهام لونكن). وفي سنة 1926 نشر درنكوانز رواية توماس هاردي الشهيرة (عميد كستر بروج) في صورة مسرحية. وكتب درنكوانز أيضاً عدة فصول نقدية بديعة؛ ومن أبدعها وأقواها دراسته لحياة صديقه الشاعر روبرت بروك. الذي توفى في اليونان أثناء الحرب الكبرى.
ومنذ عدة أعوام تزوج الشاعر من الموسيقية الشهيرة، ديزي كندي، وهي سيدة بارعة في ثقافتها وفي فنها، درست الموسيقى في فينا وبرعت في العزف على القيثارة براعة مدهشة، وأحرزت شهرة عظيمة في جميع عواصم القارة.
ويذكر القراء أن الشاعر الكبير وزوجته الفنانة البارعة قدما إلى مصر في شتاء 1933، وسحرت ديزي كندي بفنها الرائع المجتمع المصري الرفيع الذي هرع إلى سماع عزفها في الحفلات التي أقيمت يومئذ.
صاحب الجلالة الملك فاروق يتحدث عن البلاد الإسلامية(197/75)
قابل مندوب جريدة (ليزانال) جلالة الملك فاروق فأدلى إليه بالحديث التالي:
بدا الملك المحبوب حديثة قائلا:
لقد أصبحنا حلفاء إنكلترا وسنعرف كيف نحافظ على هذا التحالف. إن شعبي يعترف بالجميل، وهو ينسي الماضي، ويعترف بالحاضر، ويفكر في المستقبل! إن مصر كانت ولا تزال (عاصمة الإسلام) في العالم الإسلامي ومركز الحركة الوطنية فيه، وقد كان للعلائق الإنكليزية المصرية الجديدة اكبر أثر في جميع العالم الإسلامي.
- وهل لمصر علاقة سياسية مباشرة مع البلاد الإسلامية؟
- إن علائق المسلمين - ونستطيع أن نقول الشرقيين - هي علائق أخوة وتضامن واتحاد، وإذا كان المصري يهتم بقضيته الخاصة فإنه لا ينسى قط قضايا البلاد العربية الأخرى. وانك لتجد أثر كل حادث يقع في ناحية من أنحاء الشرق بشغل النفوس بسرعة في القاهرة.
- إذن يعتقد جلالتكم بوجود (الوحدة الإسلامية)
- إن هذه الوحدة كما يفهمها الأوربيون ليست موجودة؛ ولكن الشعور بالاتحاد والتضامن يعمر نفوس جميع المسلمين
إن اليقظة التي عمت البلاد الإسلامية - وخاصة البلاد العربية - بعد الحرب العامة، بدأت تظهر بوضوح وصراحة. وسيكون للمسلمين شأن كبير في المستقبل القريب.
- وهل يضمر المسلمون روح (العداء للأجنبي)
المسلمون كثيرو التسامح، وهم لا يضمرون عداء لأحد، ولكنهم يطالبون بحريتهم واستقلالهم، ويبدون استعدادهم لتوطيد علاقتهم الودية مع الأجانب
النقوش الأثرية في الواحات المصرية
كثر تردد العلماء الأثريين في العهد الأخير على الواحات المصرية، فظهر أنها ميدان حسن للبحث والتنقيب، وعثر العلماء فيها على كثير من النقوش القديمة التي ربما كانت ترجع إلى العصر الحجري، وعلى كثير من النقوش الفرعونية قد صورت على الصخور، وعلى جدران بعض الأبنية القديمة التي كشفت عنها الرمال؛ وفيها صور لبعض مناظر الحياة(197/76)
الاجتماعية القديمة والحيوانات الضارية منقوشة إلى جانب بعض الآلهة المصرية القديمة؛ وعثر المنقبون أخيراً على صور من طراز آخر منها صور تجار من اليونان والرومان، وصور قوافل عربية أو بربرية قديمة، ويقول العلامة الأثري الألماني الدكتور فنكلر انه يستدل من النقوش المكتشفة أن الصحراء الواقعة على جانبي النيل كانت مسكونة منذ نحو ألفي عام من البدو؛ وان هذه القبائل كانت تجري على مثل الفراعنة في عبادة بعض الحيوانات المقدسة، وتوجد صور رجال قد تدلت شعورهم على أكتافهم ورجال قد زينوا رؤوسهم بالريش؛ ويستدل من صور السفن المنقوشة على إن هذه القبائل لم تكن مصرية الأصل، وإنها إنما نزحت من شواطئ البحر الأحمر الشرقية إلى الصحراء؛ ولهذه النقوش أهمية خاصة في الكشف عن أصول الشعوب التي سكنت هذه الوهاد في العصر الغابر.(197/77)
الكتب
في سنن الله الكونية
تأليف الأستاذ محمد أحمد الغمراوي
عرض وتعليق - رجاء إلى لجنة ترجمة معاني القرآن الكريم
- واجب علمائنا الطبيعيين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
تفضل حضرة الأستاذ الجليل العالم المؤمن محمد أحمد الغمراوي المدرس بكلية الطب بالجامعة المصرية والمنتدب للتدريس بكلية أصول الدين من الجامعة الأزهرية فأهدى إلي نسخة من كتابه الحديث (في سنن الله الكونية) فقلت عيني فيه بشوق الذي يعرف علم الأستاذ بالطبيعة وفقهه في الدين، لأني واحد من تلاميذ محاضراته ومحادثاته في العلم والدين في نادي المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين بالقاهره، تلك المحاضرات التي كان لها كبير الأثر في إني صرت (آخذ الإسلام بروح العلم وآخذ العلم بروح الإسلام) كما يجب أن يكون وكما حققه هو في كتابه القيم، اتباعا لمنهاج القرآن وتلبية لدعوته العقول إلى الطبيعة.
والكتاب في العلوم الطبيعية، وقد درسه الأستاذ لطلاب قسم الوعظ والإرشاد بالأزهر، وقد وازنته بما درسته في دور التعليم وما قرأته في المجلات العلمية من جهة ما فيه من مادة العلم الطبيعي فقط، وأؤكد للقارئ الكريم إنني خرجت منه بأشياء جديدة كثيرة ما عثرت عليها في غيره على كثرة ما قرأت من هذه البحوث التي احبها لأنها تصلني بالحياة وقوانينها وسيرها بالأحياء، في عبارة سهلة مشرقة محبوكة، لأن المؤلف فوق انه عالم طبيعي كبير، هو أديب ضليع ومنطقي يقظ لكل ما يدور حول ما يكتبه. يشهد له بذلك كتاب (النقد التحليلي لكتاب (في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين بك) الذي بين به أن له قلما سابقا في الأدب كسبقه في العلم. (وفي سنن الله الكونية) يقع في 222 صفحة عدا الفهارس وهو مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب: الأول في العلم والدين، والثاني في المادة(197/78)
واصلها وخواصها وأحوالها وأنواعها وتغيراتها. . . . الخ، والثالث في الطاقة وأبحاثها وآثارها. . . . الخ.
وأنت واجد في المقدمة إهابة بالمسلمين ومعاهد الدراسة الإسلامية ألا يغفلوا مباحث الفطرة وعلوم سنن الحياة لأن العلم بها جزء من العلم بدينهم وأصل من أصول قرآنهم الذي يتحدث بخمس آياته عن الطبيعة والنظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وكيف بدأ الخلق. . . وان يعلموا أن رجل الدين لا يسيغ العلم إلا إذا قدم له بروح الدين، ورجل العلم لا يسيغ الدين إلا إذا قدم له بروح العلم، وهي حقيقة نفسية يجب أن يلتفت إليها. وفي التمهيد بحث قيم عن موضوع العلوم الطبيعية واثر دراستها في الوصول إلى فاطر الخلق والتوحيد بها بين العقل والقلب والعلم والعبادة.
أما الباب الأول فهو بحث جديد قيم عن العلم والدين، جدير بان يترجم إلى المجامع العلمية، وان يدرس في المعاهد الإسلامية، لان الأستاذ استطاع أن يبين بوضوح قرآنية اسم (العلم) بمعناه المحدود العصري، وقرآنية (موضوعه) وقرآنية (طريقته) ففتح بذلك فتحا جديدا (لعلم الكلام) الذي يجب أن يكون في هذا العصر بعيدا عن منهج النظار والمتكلمين القدماء الذين كانوا يعتمدون على (تجريدات) الفلسفة اليونانية.
إن قوانين العلم التي استخرجها الأستاذ من القرآن الكريم شيء ثمين جداً سيكون له أثر عظيم في تطور الفلسفة الدينية، وفي لفت الأنظار إلى القرآن الذي أتى بذلك قبل أن يأتي به فلاسفة العلم المحدثون بأحقاب وازمان؛ فالبرهان للإثبات، والحذر من تطرق الظني إلى اليقيني، والغرضي إلى الظني، ومنع الخلط بين الأشخاص في المبادئ ومنع التقاليد وتحكيم العقل العام ثم قانون توافق واطراد الفطرة ثم اعتبار أصل المشاهدة واستعمال الحواس، كل أولئك استطاع أن يتبسط فيه الأستاذ المؤلف بالشرح والبيان وان يستخرج مستنداته من القرآن الكريم، وان يحبكه حبكة علمية بإخراج فني أخاذ.
وأضف إلى ذلك انه عقد مقارنة بين العلم القديم والعلم الحديث فيها كثيرا من أغلاط العلم القديم التي جره إليها طريقته وافتراضاته. وقد وقع بعض المسلمين في خطأ كبير وأثم عظيم باعتمادهم على ذلك الأسلوب الفرضي حتى لقد بلغ بهم الأمر أن كانوا يردون القرآن إليه مع إن منهاج القرآن في طرق الإثبات والاستدلال واضح بينهم ينكر عليهم(197/79)
الشرود والوهم، ثم عقد الأستاذ فصلا بين فيه أدوار النظر العلمي من جمع الحقائق بالتجربة والمشاهدة، ثم استخراج القانون، وبين طرق اكتشاف قوانين الفطرة بالاستقراء والتلمس، ثم ضرب مثلين يوضحان طريقة التلمس، وختم هذا الباب القيم بهذا الكلام البديع: (إن هذه الحقائق الطبيعية التي يكشف عنها العلم ببحوثه إن هي إلا نوع من كلام الله أو هي كلمات الله الواقعة النافذة كما أن آيات القرآن هي كلمات الله الصادقة المنزلة. وقد سمى القرآن حقائق أسرار الخلق كلمات الله في مثل قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) - (لقمان) (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) (الكهف). وكلمات الله في هاتين الآيتين الكريمتين لا يمكن أن تكون كلماته المنزلة على رسله لأن كلماته سبحانه في كتبه المنزلة محصورة محدودة في حين أن كلماته المشار إليها في هاتين الآيتين لا حصر لها ولا نهاية. فلا بد أن تكون هي كلماته النافدة في خلقه والتي يبدو أثرها متجسماً فيما نشاهد من الحوادث وفيما يكشف العلم من أسرار الكون فالإسلام متسع للعلم كله حقائقه وفروضه؛ والمجتهد مثاب أخطأ أم أصاب ما دام يريد وجه الحق، وان كان العلم لا يعرف إلى الآن إن سبيل الحق من سبيل الله)
أما بابا (المادة والطاقة) ففيهما يعرض الأستاذ المباحث الطبيعية عرض المطلع عليها في مراجع العلم القديم والحديث، وفيهما مواقف ناجحة في تطبيق بعض الآيات الكونية في القرآن على حقائق العلم مما يضيف ثروة جديدة لنواحي إعجاز القرآن تمتلئ بها عقول الدعاة والوعاظ؛ ففي مباحث الجاذبية والأثير والظواهر الجوية والتمثيل الخضري والضوء والظل والفيء حقائق أشار إليها القرآن يجدر بكل مسلم أن يعرفها ويجدر بلجنة ترجمة معاني القرآن أن تنتفع بها، فلا تقف عند ما كان يفهمه منها العرب الذين انزل عليهم كما أشارت إلى ذلك فيما وضعته من القواعد الأولية التي تسير عليها في الترجمة، فان القرآن ليس كتاب جيل واحد؛ ولنا أن نفهم منه غير ما كانوا يفهمون وبخاصة الآيات الكونية التي لم يكن علمهم ولا علم البشرية ليساعداهم على فهمها كما نفهمها نحن الآن. ولذلك كان القرآن يقول لهم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (فلا اقسم بمواقع النجوم وانه لقسم لو تعلمون عظيم) (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق) وان(197/80)
في وقوف الأستاذ المؤلف وهو عالم بقوانين الضوء والظل وفي القرن العشرين من قوله تعالى (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا) ومن قوله (ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً) وقفة العالم أمام حقيقة لا تزال مخبأة. . لشاهداً قائماً على إن في القرآن آيات لم تكن نازلة للجيل الذي شهد نزولها، فلا يصح أن نتحاكم نحن إلى فهمهم فيها مادام الزمن (اكبر مفسر للقرآن كما قال الشيخ حسن الطويل أستاذ الأمام محمد عبده) قد أرانا بسير العلم وجها آخر يحتمله اللفظ ولا يأباه الأسلوب العربي
ولا يضر القرآن شيئا أن تتغير الأوجه العلمية التي يفسر بها كل جيل آياته، ما دامت نصوصه هو ثابتة. وما دام كل جيل جد فيه ما يرضيه فان ذلك من أسرار إعجازه ومن عجائبه، فإذا فهمنا نحن مثلا معنى اللقاح من قوله تعالى (وأرسلنا الرياح لواقح) على انه تلاقح كهربائي بين الموجب والسالب في السحاب كما فسر الأستاذ الغمراوي. وفهمنا سر الاستدلال على البعث من قوله تعالى (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) كما بينه الأستاذ فاعتقد انه لا يضر القرآن أن فهم من قبلنا في هذين الموضعين وغيرهما وان يفهم من بعدنا غير ما نفهم نحن الآن. على إن الوجه العلني متى صار حقيقة دخلت في صف الميراث العلمي الثابت، فمحتوم على المفسرين أن يأخذوا به، كما يتحتم عليهم أن يؤولوا النص القطعي إذا لم يتفق ظاهره مع ما يلزمه العقل كتقرير القاعدة الأصولية.
وبعد فقد قرأت في مجلة الهلال عدد مارس سنة 1937 قبل أن أقرأ كتاب الأستاذ الغمراوي ثلاث مقالات عن الذات الإلهية لثلاثة من كبار علمائنا الطبيعيين هم: الدكتور علي توفيق شوشة بك مدير معامل وزارة الصحة، والدكتور احمد زكي بك مراقب مصلحة الكيمياء. والدكتور محمد ولي الأستاذ بكلية العلوم، فإذا بالدكتور شوشة بك يقول: إذا كان هناك أناس أحق بمعرفة الله ودرك عظمته والإقرار بوحدانيته فهم العلماء، ذلك لأنهم اكثر خلق الله اتصالا بالطبيعة وأقربهم إلى لمس غوامضها ثم يقول: إنني كلما جلست إلى المكرسكوب أو انصرفت إلى التجارب في معملي لم ازدد إلا خشوعا أمام تلك القدرة الإلهية
وإذا بالدكتور زكي بك يقول في آخر مقاله الطويل الممتع كأنه قصيدة، المطرب كأنه ترتيلة، المثبت لوحدانية الله بأسلوب عجيب. وبعد فتسألونني: ما صورة الله؟ تلك هي(197/81)
صورته: تلك المشيئة الهائلة العاملة التي لا تنام ولا تغفل، تلك الإرادة الواحدة التي تنتظم العالم جميعا ما عرفنا منه وما لم نعرف، تلك البصيرة النافذة في كل شيء، الشاملة لكل شيء التي هي ملء الأرض السموات التي أنا وأنت من بعضها، تلك الوحدانية الشائعة الجبارة الغامضة، هي الصورة التي شاء الله أن نراها منه)
وإذا بالدكتور ولي يقول (هنالك يشعر الباحث الذي لم يتحيز إلى أي مذهب فلسفي والذي جرد نفسه من المؤثرات التي انكبت عليه أن هنالك سلطة وان هنالك قدرة فوق كل هذه المحاولات، وتنزهت عن كل هذه الصفات التي تعودها في أثناء بحثه واستقرائه) إلى أن يقول: (فالله هو هذه القدرة الباهرة التي تجردت عن الماديات وتنزهت عن كل ما هو مألوف للحواس)
قرأت هذا ثم قرأت كتاب الأستاذ الغمراوي الذي هو حجة من حجج إيمان العلماء، فإذا بي في عجب وأسف من أمر هؤلاء الذين أم يعرفوا من العلم إلا قشوره وزيوفه وهم مع ذلك قد نصبوا أنفسهم دعاة للإلحاد وإنكار الله استنادا إلى العلم! هؤلاء أكثرهم من الأدباء طالبي الشهرة الذين يغرهم ما (يصنعونه) من الألفاظ ويخيل إليهم غرورهم وفتنتهم بما يقولون انهم متى صنعوا جملة من الألفاظ فان مواكب الزمان ستقف عن المسير، وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، لأن أقلامهم هذه معاول فيما يخيل إليهم، إذا ما أعملوها في أهول الحقائق وأعظمها وأملئها للكون إلا وهي (فكرة الله) فان ذلك سيجعل البشرية تستجيب إليهم تاركة ما في صيغتها وما تنادي به الأكوان والأزمان من الإيمان!
اجل إن أقلامهم معاول ولكنها لا تهدم إلا ضمير الجاهل أو طالب اللذة الذي يريد أن يتحلل من قيود هذه الفكرة، ومن رقابتها.
فهل آن الأوان لأن يجرد علماء الطبيعة - لا علماء الدين - حملة تدعو إلى الإيمان بالله عن طريق العلم، حتى يدحضوا بها حجج أدعياء العلم والفلسفة ممن هم في الواقع أعداء الجماعة وأنصار فوضى الضمائر والأوضاع كالشيوعيين الذين يحاربون الإيمان بالله لأنه في زعمهم منشأ الأوتوقراطية فيجب أن ينزلوه - تعالى عما يصفون - عن عرشه، كما انزلوا القياصرة والمملكين!
إني اعتقد أن ذلك من أوجب الواجبات على علماء الطبيعة الذين يعرفون الله اكثر من(197/82)
غيرهم والذين ما غرر بالناس إلا من طريق الانتساب إليهم. ولن يغني البشرية شيئاً انتفاعها المادي من علوم الطبيعة مادامت لا ترى اليد الجبارة التي تدير قوانينها، ولا تسجد لها طوعا كما تسجد كرها. وها نحن أولاء نرى الإنسانية تستحيل إلى قطعان من الحيوان لها من العلم الطبيعي سلاح لا تلطف وقعه تلك الفكرة الرحيمة التي تستمدها الضمائر من (رحمان) ولا يصده خوف من (جبار) ولا يمنعه خشية (من قيوم) على السموات والأرض، (ديان) للخلائق!
وإذا كان علماء الطبيعة من غير المسلمين لا يعترفون بإله معابدهم لأن له صورة غير صورة الإله الذي يجدون يده في الطبيعة فهم لذلك بعيدون عن محيط الدعوى إلى الإيمان والدين. . . فان من حسن الحظ في الإسلام أن إله الطبيعة الذي وصل إلى الإيمان به علماؤنا عن طريق الطبيعة. . . هو ذاته (الله) كما يصفه القران الكريم الذي ما مجد الطبيعة وظواهرها وما دعا إلى تعرف أسرارها كتاب مثل ما دعا. . . بل لقد بلغ من اعتزازه بها انه لم يترك ظاهرة من ظواهرها إلا اقسم بها. . . فأقسم بالزمان والمكان والحيوان والنفس والفجر، والضحى والليل والنهار والشمس والقمر والرياح والنجم والشفق. . . إلى آخر ما في الدنيا من ظواهر الخلق والأمر. . . أفلا يجب بعد هذا أن يبين علماء الطبيعة المسلمون أسرار هذه الأقسام؟ بلى إن ذلك من أمانة العلم قبل أمانة الدين
(بغداد)
عبد المنعم خلاف(197/83)
العدد 198 - بتاريخ: 19 - 04 - 1937(/)
حول مؤتمر الامتيازات
منطق الواقع
مصر الآن أمام اثنتي عشرة دولة في (مونترو): تزيف الادعاء بالقانون. وتكفكف الغلواء بالحزم، وتكشف المغالطة بالحجة. وتقول للذين ظلموها وظلموا العدل: هأنذي أمامكم وجها لوجه، وعقلا لعقل، ولسانا للسان؛ أخاطبكم بلغاتكم كأنني منكم، وأجادلكم بعلومكم كأنني فيكم؛ فهل تجدونني أقل منكم فقها لفلسفة التشريع، وعلما بمدنية العدل، وفهما لسياسة الحكم؟ هاهم أولاء بعض أبنائي أوفدتهم إليكم يحملون كلمتي ويمثلون إرادتي؛ فهل رأيتم أروع خطابا من النحّاس، وأبرع برهانا من مكرم، وأقطع بيانا من ماهر؟ أليسوا هم حجتي العليا على أنكم تدافعون عن نظام لا يجد مساغاً من طبيعة الناس. ولا مساكاً من منطق الأشياء؟
لماذا تخشون أن يكون أمثال هؤلاء قضاة في ديارهم بين مجرميكم،
وهم يجرون مع أخياركم في عنان، ولا يتخلفون عن أقطابكم في
ميدان؟
لماذا تأبون أن يتساوى الوطني والأجنبي في الحق والواجب وأنتم ترون هذا النهر المبارك يضفي عليكم النعمة، ويميزكم على أبنائه في القسمة؟
ذلك ما تقوله مصر لخصومها (الممتازين) الذين احتشدوا في مونترو يفاوضونها في تنظيم العدوان، ويعارضونها في محو الإهانة. وهذا القول لا عيب فيه إلا اعتماده على الحق الذي زهق في دول أوربا. واستناده إلى المنطق الذي اختنق في كتب الفلاسفة. فلو أنه قيل على أسلوب الزمن الحاضر، وجرى على منهاج المنطق الحديث، لما قابله المكابرون إلا بالتصفيق. والمنطق الحديث منطق الفعل لا منطق القول. وإذا كان مدار المنطق الكلامي على القياس، فإن مدار المنطق العملي على الواقع؛ والواقع في قانون الطبيعة له سلطان الأمر الموجود وقوة الشيء المحكوم به؛ والمفاوضة فيه تختلف عن المفاوضة في النية المكتوبة والفكرة المقترحة.
كان بيننا وبين جيراننا في المزرعة حد جرى عليه الخلاف فلم يتم، فاختلط الحق بالحق(198/1)
ودخل من ملكنا في ملك الجار مقدار كبير. وفي الأسبوع الماضي ندبت الحكومة مهندسا يبين الحق المشتبه، ويعين الحد المجهول، فمسح الأرض ورد المأخوذ، ودق الحديدة وحرر المحضر، وأمضاه الجيران وفيهم العمدة. وكان الحد بين مزرعتين، ولكن الخلاف بين قريتين، فاتفقنا نحن وهم على أن نقيم الحد في اليوم التالي ونجعله مصفًى ومروًى بينهما طريق. ولكننا علمنا في الليل أنهم طمعوا فيها تحت أيديهم فلا يودون أن ينزلوا عنه. وتعليل هذا التحول يسير على من عرف غرائز الناس وخبر طبائع الريف. وفي الصباح الباكر كانت القرية فريقين: فريق الفأس والعمل وقد ذهب إلى المزرعة، وفريق المنطق والكلام وقد ذهب إلى القرية العنيدة. وانعقد مجلس القريتين في دار العمدة؛ ثم انطلقت الألسنة البليغة تتجاوب بالعواطف الشاعرة تجاوب البلابل في أعشاش الربيع. وكانت قوافي الأغاريد ترن موسيقاها بألفاظ الصداقة والود والمصاهرة والمجاورة والقانون والحق، فتطرب الآذان، وتهتز القلوب، وتشرق الأوجه.
فلما انتهينا إلى أن هناك حدا يجب أن يقام، وحقا يجب أن يُعطى، تكشر الوجه الضاحك وتنكر الصوت الرخيم، وانتفخت لغاديد الشر، فتهور بالكلام وتهدد بالمعارضة؛ وكان فيهم رجل رشيد، فكان يملأ الدلو من حين إلى حين ويفرغه على القوم فتقر الفورة ويهدأ الحديث. وفي فترة من تلك الفترات الساكنة، اقترح أن نجعل لجيراننا الطامعين أجلا متى حل وجب عليهم أن يردوا الحق من غير اعتراض ولا مطل. وارتاح القوم لهذا الحل لأنه يترك لهم العين ويأخذ منهم الأثر، ورضينا به نحن لأنه يحسم النزاع بين القريتين، ويذهب عن النفس المسالمة شعور الهزيمة.
وكان الخلاف أشد ما كان على مدة الأجل فبدأت بشهر وانتهت بخمسة. وكان الذين وضعوا أيديهم على الحق بالباطل أبسط لسانا في الرفض، وأصلب عوداً في القبول؛ أما نحن والقانون والحكومة فكان (ارتكازنا) على خلاء
كتبنا الاتفاق وأمضوه بعد وقفات طويلة على كل نص من نصوصه؛ ثم أخذنا نستعد لنشيد الختام في تمجيد الوئام والسلام، لولا رسول أقبل من الغيط يعلن إن رجال الفأس والكريك لم ينتظروا نتيجة المؤتمر. فحفروا المصفى، وشقوا المروى، وأقاموا الطريق، وحرثوا الأرض، وأنجزوا في ساعتين، ما لا ينجز في يومين.(198/2)
كان هذا الحبر أضخم الدلاء التي صبت على المؤتمر، فشدهنا نحن، وخجلوا هم. وتذكر الجيران الأعزة حينئذ عواطف المصاهرة والمجاورة فقالوا: هذا هو الحق! ذلك ملككم وما ينبغي لأحد أن ينازعكم فيه!!
كان في قدرة مصر أن تتخذ سياسة الأمر الواقع، فتلغي بإرادتها المطلقة هذه المعرة التي ورثتها عن الترك كما يورث الزهري الإفرنجي عن الأب المريض. ولو أنها آثرت هذه الخطة لوجدت حجتها في القانون لا في القوة، ولكن مصر الكريمة المضيافة لا تزال تجري على أعراق آبائها الميامين فلا ترفع اليد ما دام يغنيها اللسان
على أن قوة الحق المصري، وقدرة المفاوض المصري، جعلتا القانون الأعزل أرفع صوتا من المدافع، وأبعد نفوذاً من القنابل. وأعجب العجب أن الأمم اللاتينية التي سايرت نهضتنا وعاشرت أمتنا قرناً وثلث قرن، كانت هي وحدها التي تجهل أن مصر دولة من دول البحر الأبيض لا أمة من أمم أفريقيا، وأن لها دينا سماويا يهدي إلى الحق، وتشريعاً مدنياً يرمي إلى الخير، وخلقاً شرقياً يدعو إلى المحبة، وأن رعاياها كانوا قبل الامتيازات وبعدها يتقلبون في خيرات النيل، ولا وزر لهم إلا أخلاق هذا الشعب النبيل
أحمد حسن الزيات(198/3)
علي بك فوزي
للأستاذ أحمد أمين
لم يتجل لي وفاء المصري وإخلاصه كما رأيته أول أمس في جنازة أستاذي وصديقي علي بك فوزي. فقد استقبل النعش في محطة مصر عدد كبير من أصدقائه وساروا في مشهده يعزي بعضهم بعضا إذ أبى الفقيد أن يكون له ولد ولا مال ولا جاه: فكان أول مشهد عظيم رأيته لله وحده وكان أنبل ما رأيت منظر أحمد باشا شفيق وقد تقدمت به السن وصعب عليه السير يتحامل على صديق، ويسير من المحطة إلى جامع الكخيا، ثم أسلم عليه وأسأله هل تعرف الفقيد فيقول: لا لم أره في حياته: ولكني سمعت بنبل أخلاقه فرأيت وفاء للفضيلة أن أسير في جنازته.
رحمة الله عليه، فقد كان أمة وحده، ولم أر له نظيراً في كل من عاشرت. ولئن كان أكثر الناس نسخاً متشابهة من كتاب تافه مطبوع، فقد كان نسخة خطية من كتاب قيم نادر. متمدن على آخر طراز من طراز المدنية في ملبسه وأناقته وآدابه ولباقته، متصوف إلى آخر حدود التصوف في زهادته واحتقاره للمال والجاه والمناصب. وفوق ذلك كله في روحانيته السامية.
لم يفخر في حياته بنسب؛ على أنه كان جديراً أن يفخر به لو وجد الفخار مدخلا إلى نفسه، فقد كان جد أبيه المملوك الشارد الذي قفز بفرسه من القلعة؛ وناهيك بعظمة المماليك أيام سطوتهم.
ولم يفخر بعلمه وهو الواسع العلم العميق التفكير؛ يجيد العربية إجادة قل أن يكون له فيها نظير؛ ويتكلم الإنجليزية كأحد أبنائها؛ ويحذق الفرنسية والألمانية والتركية. ثم لا ينظر إلى اللغات على أنها مقاصد بل على أنها وسائل للثقافة، فأتخذ هذه اللغات كلها أداة يتعرف بها الثقافات المختلفة ويقف على أحسن ما ألف فيها؛ هذا إلى ضحة في النقد وقوة في الملاحظة وشخصية بارزة لا تخضع لأي مؤلف مهما عظم. ومع هذا كله تجلس إليه إن لم تكن تعرفه فكأنه أمي غبي جاهل بكل شيء، فهو ذهب خالص غطى بقشرة من طين لا تعرفه حتى تحكه وتحكه وتصل إلى باطن نفسه؛ ولا يكون ذلك إلا لتلاميذه وخلصائه، وحتى مع هؤلاء يقدم إليك نتيجة معارفه الواسعة وتفكيره العميق وهو مختف وراء ذلك(198/4)
يحاول ألا يشعرك بنفسه، وإنما يشعرك بالفكرة نفسها، فكأن كلمة (أنا) لم تكن في معجمه.
عرفته أول مرة أستاذاً لي بمدرسة القضاء يدرس لنا التاريخ الإسلامي؛ وتطاير إلينا قبل قدومه أخبار منثورة عن تاريخ حياته. إنه تخرج في مدرسة المعلمين، ثم سافر في بعثة إلى إنجلترا، ثم عاد منها بعد أن نال إجازة من جامعتها. وهي أوصاف لم نتحمس لها كثيراً. فكنا قد شاهدنا بعض من سافروا إلى أوربا ورجعوا بشهاداتهم الضخمة وألقابهم العديدة وكانوا كالبندقة الفارغة: منظر ولا مخبر، ورواء في العين، ولا شيء في اليدين؛ فقلنا لعله أحد أولئك الذين لم يكسبوا من أوربا إلا اعوجاجاً في اللسان ورطانة في الألفاظ وإنكاراً لعظمة أي شيء مصري، وعصبية لكل تافه أجنبي.
وحبسنا أنفاسنا عند قدومه نستطلع طلعته
دخل علينا رجل قصير القامة. يحاول أن يخفي قصره بطول طربوشه وارتفاع حذائه، أسمر اللون في وسامة، واسع العينين في خجل، كبير الرأس في عظمة.
يتأبط كتباً كثيرة العدد لا يتناسب حجمها مع حجمه بين عربية وإنجليزية، ويأبى أن يحملها الفراش عنه كما اعتدنا أن نرى من غيره.
وأكبر ما راعنا منه أنه بدأ درسه بعبارة عربية فصيحة التزمها في كل درسه، وفي كل دروسه بعد، وفي كل أحاديثه معنا في الدرس، لا أعرفه شذ عنها مرة واحدة، في طلاقة وعذوبة واستشهاد بالأدب العربي والشعر العربي، مما لم أعرفه لأزهري ولا لمدرس من دار العلوم. يجيد فهم عبارة الطبري على صعوبتها، وابن خلدون على عمقها، والكتب الإنجليزية العميقة. ويوضح ذلك كله بصياغة شهية لذيذة، ويطبعها كلها بالطابع العربي فلا تسمع لفظة إنجليزية، ولا تستعصي عليه عبارة يريد أن يترجمها من لغة أجنبية.
ومما زادنا إعظاماً له أنه لم يكتف بالدرس بل اتصل أيضا بنفوسنا. فكان يخرج من الدرس أحياناً إلى شرح حالة نفسية أو ظاهرة اجتماعية يصل بها إلى أعماق نفوسنا، وأخذنا بالنظام الشديد، وكان يقدسه كل التقديس، فيشمئز من الكلمة النابية ومن اللفظة تكتب منحرفة قليلا عن موضعها. ومن النكتة إن كان فيها قليل من الشذوذ.
ولا تسل عنه في ورق الامتحان، فقد كان يصحح أوراقنا في دقة غريبة، ويأتي بالأوراق مدونة فيها ملاحظاته في اللفظ والمعنى والأسلوب والخطأ الإملائي والخطأ التاريخي،(198/5)
وينتقدنا انتقاداً لاذعاً لكن طريفاً.
من أجل هذا كان الأستاذ المحبوب والأستاذ الجليل والأستاذ الظريف والأستاذ العالم.
لم تطل دراسته في مدرسة القضاء، وانتقل إلى وظيفة إدارية. ولم يطلب الانتقال لرغبة في مال فهو يحتقر المال، ولا في جاه فهو يحتقر الجاه، ولا رغبة عن التعليم فهو يحب التعليم ويصارحني أن أكبر غلطة أرتكبها أنه تحول من التعليم إلى الإدارة، ولكنه كان شديداً، وكان عاطف بك ناظر المدرسة شديداً، وكان لكل شخصيته القوية. ولكل آراؤه في سياسة الطلبة، فتصادما تصادماً نفسياً من غير أن ينبس أحدهما بكلمة؛ وكان أن خرج (علي فوزي) من المدرسة آسفين عليه كل الأسف شاعرين أنه لا يمكن أن يعوض، وكان (عاطف) أول من حزن على خروجه بعد أن حاول كل محاولة في استبقائه
وكان حساساً إلى درجة لا تتصور. تجرحه الكلمة الخفيفة لا يشعر بها أحد، والإشارة القليلة تصدر من رئيسه فيظنها بالغة منتهى الشدة، والإيماءة المعتادة فتحز في نفسه وتصل إلى أعماق قلبه.
فكيف يستطيع بعد أن يكون موظفاً؟ لقد تداول عليه وزراء عديدون لا أسميهم، كل منهم جرح نفسه جرحاً بل جروحاً. وأي الرؤساء يتحاشى حتى الهنات الهينات مع مرءوسيه؟ وأي الرؤساء يدرك مقدار السهام المسمومة التي يوجهها إلى نفس كنفس علي (فوزي) وهو لا يرى أنها سهام أصلا بل قد يظنها نوعا من الملاطفة؟ - لقد رآه وزير يكتب خطاباً بالإنجليزية فأعجبته بلاغته فقال له: لعلك تحسن أن تكتب مثل هذا بالعربية! فما كان أشدها وقعاً في نفسه.
ثم هو يعشق العدل المطلق الدقيق، ويؤلمه أشد الألم الظلم الخفيف. وكان كل يوم يرى تصرفات في الوزارات لا تتفق والعدالة التي ينشدها: هذا يحابي المتملقين، وهذا ينصر الأجانب على المصريين، وهذا يمنح ترقيات وعلاوات لغير المستحقين
ثم ما هذا النظام السخيف للدرجات؟ فهذا موظف في الدرجة الأولى وآخر في الدرجة الثانية! إنه يفهم أن يبدأ الموظف بمرتب صغير يزيد على القدم والكفاية، ولكنه لا يفهم تقسيم الموظفين إلى طبقات يعلو بعضها بعضا، ويدل بها بعضهم على بعض
لا. لا. ثارت نفسه على كل ذلك، ففي هدوء وسكون، ومن غير أن يشعر أحد من أصدقائه(198/6)
دبرّ أمره وأعد عدته للخروج من الوظائف الحكومية، وألح في طلب إحالته إلى المعاش، فكان له ذلك. ورضى بنحو خمسة وعشرين جنيها في الشهر على ثمانين وما كان يتبعها من علاوات وترقيات وحسبان معاشات
بل ليست الوظيفة وحدها هي التي يجب الفرار منها، بل يجب الفرار أيضا من مصر، فما مصر هذه التي يحكمها الأجنبي وتستسلم له؟ وما مصر التي يستمتع فيها صعاليك الأجانب بما لم يستمتع به سادة أهلها؟ وما مصر التي تجلس في مقهى من مقاهيها فتشعر أن الرومي الذي يقدم لك القهوة خير منك وأعز منك، ويستطيع أن يحتقرك وأن ينكل بك ولا تستطيع أن تفعل به ما يفعل بك؟ وما مصر التي لم تستطع أن تكون غنية في أطبائها وعلمائها وتجارها وصناعها ولم تزل عالة في كل ذلك على غيرها؟ لابد إذن من الهرب من الوظيفة ومن مصر معا
خرج من مصر ساخطاً غاضباً آسفاً حزيناً، خرج هائما على وجهه يمثل دور جده. لقد كان جده المملوك الشارد، فكان هو الحر الشارد
خرج إلى أوربا هائما في ممالكها، ولكنه كان فيها مستوحشا، نعم إنه يتكلم لغتها ويفهم مدنياتها ولكن ليس قومها قومه، ولا دينها دينه، ولا روحانياتها روحانياته. ثم ألقى عصاه في الأستانة عقب الحرب واطمأن إليها، فهي هي البلدة المستقلة بين ممالك البلاد الإسلامية؛ وهي هي التي لا تذلها الامتيازات الأجنبية؛ وهي التي يجد فيها غذاء روحه وعواطفه بمساجدها العظيمة ومآذنها التي تشق السحاب. من أجل هذا اختار السكن فيها، وفي الأحياء الوطنية لا الأجنبية، وأتخذ مجلسه في مقهى تركي بلدي تحت شجرة زيزفون بجور حائط مسجد با يزيد
ثم حاول أصدقاؤه جهدهم أن يحولوه عن رأيه ويعدلوا به عن غربته. فذهبت محاولتهم عبثا. عرضوا عليه وظائف مختلفة الألوان كان آخرها مدير دار الكتب. فكان جوابه: متى عرفتم سبب خروجي من الوظيفة وسبب خروجي من مصر لم تعرضوا هذا العرض؛ فالأصل قبل الفرع، والحرية مع الفقر خير من الذل مع الغنى
قد رزق عيناً يرى بها غير ما يرى جمهور الناس؛ فكثيراً ما كان يحتقر من يجله الناس. ويجل من يحتقره الناس، لأن له مقاييس في التقدير تختلف عن مقاييس الناس، ليس في(198/7)
مقاييسه اعتبار لثروة ولا جاه، ولا منظر، ولا حسب، ولا نسب.
حتى مكانه العام الذي كان يختاره لمقابلة أصدقائه لا يختاره لوجاهته، وإنما يختاره لنظافته، ولأن صاحبه مسلم، ولأنه يتنفس فيه جواً شرقيا لا غربيا، ولأنه ليس فيه امتيازات أجنبية، وهكذا من اعتبارات متعددة لم استطع أن أعرف منه إلا بعضها.
ويفضل أن يزور حلاقا كان زميلا له في المدرسة على أن يزور باشا من الباشوات أو من يعده الناس كبيراً من الكبراء
قد أعظمه في عيوننا صغر الدنيا في عينه؛ فليس للمال عنده إلا وظيفتان: قليله يتبلغ به ويسد حاجاته الضرورية، وكثيرة للمروءة. وأعرف له في ذلك فصولا غاية في السمو، فقد كان حيناً يسكن في أسرة أوربية عميدها فرنسي، وربة الدار ألمانية ولهما ابن وبنت، حتى إذا نشبت الحرب العظمى جند عميد الأسرة، فأحلت الأسرة فقيدنا محله على رأس المائدة.
وكان كثيراً ما يدور الجدال على المائدة في نظريات الحرب وخصوصا الفتى والفتاة، فكان الفتى يذهب مذهب أبيه ويتعصب لفرنسا وحلفائها، والبنت تذهب مذهب أمها وتتعصب لألمانيا وحلفائها؛ ثم كان من الفتى أن طعن تركيا في سمعتها وقيمتها، ولم يكن يعرف عصبية الفقيد لتركيا، فلم يعد علي فوزي يطيق البقاء بعد في البيت، ولكن ماذا يصنع ووفاؤه يقضي بمراعاة هذه الأسرة بعد غياب عميدها، وعصبيته التركية تأبى أن يسكن في البيت بعد ما كان من الفتى؟ لا يحل هذا الإشكال إلا احتقار المال. فقد تظاهر بأنه يأخذ درسا على السيدة الألمانية ودفع ما كان يدفع أيام سكناه لم ينقص منه شيئاً وإن قلل ذهابه بعد ذلك لأخذ الدرس.
وكان منظره في استانبول غريبا: يجلس في مقهى عرفه البؤساء والمحتاجون فهو يمنحهم ما أمكنه وهو الفقير الذي لا دخل له إلا معاشه الخمسة والعشرون جنيها، ينفق منها ثلثها على نفسه وثلثيها على مروءته، وطويل أن نعد مآثره في هذا الباب
أحب العزلة وأكثر التفكير. فهو في بيته وحده، إذ لا زوجة له ولا ولد. وفي تروضه وحده غالبا؛ هو وحده في أكثر أوقاته، صديقه الكتاب، ثم ضعفت أعصابه ففقد صداقة الكتاب أيضاً إلا نادراً، وكان تفكيره في العالم حيناً وفي نفسه كثيراً
وهذه حالة تستتبع الوحشة وتستتبع التشاؤم، وتستتبع الحزن والانقباض، وكذلك كان شأنه(198/8)
غلب عليه الخجل في غلو، والخجل - كما يقول بعض علماء النفس - سببه كثرة تفكير الإنسان في نفسه، فهو إذا مشى ظن أن الناس كلهم ينظرون إليه وينقدون مشيته؛ وإذا تكلم ظن أن الناس كلهم ينصتون إليه وينقدون كلامه؛ وإذا تحرك أو سكن أو تنفس فالناس يعدون حركاته وسكناه وأنفاسه؛ فكان هذا الخلق فيه أكثر شقائه. وبلغت به الحالة أن كان في آخر أيامه إذا جلس في مقهى اختار مكانه وراء عمود، وإذا سكن في (بنسيون) صحا قبل أن يصحو الناس وعاد بعد أن ينام الناس حتى لا يراه الناس: وإذا عزم على الرياضة فليلا حتى تستره ظلمة الليل، وإذا مشى في الشارع ليلا اختار من الشوارع أخلاها من الناس.
تملكه خلق الرحمة فظهر منه في كل شيء: رحم الناس فخرج لهم عن ماله. ورحم المرأة فأبى أن يتزوج، ورحم الحيوان فعاش نباتيا. وأخيراً رحم نفسه. وويل للإنسان إذا رحم نفسه وأشفق عليها! إنه ليعذب في ذلك عذاباً لا يعذبه أحد. نعمة كبرى أن يرحم الإنسان غيره، وشقوة كبرى أن يرحم الإنسان نفسه، فالرحمة استضعاف للمرحوم، فإذا استضعف نفسه فهناك الألم وهناك والحسرة، وهناك فقدان الثقة بالنفس، وهناك انسحاب من الجهاد في الحياة، وهل الحياة إلا جهاد؟
رحم الله (علي فوزي) فقد عاش غريبا، ومات غريبا، وأخشى أن يبعث غريبا
أحمد أمين(198/9)
في التاريخ السياسي
الدستور الهندي الجديد
هل يكون نذير ثورة قومية جديدة
لمؤرخ كبير
الهند الآن في مفتتح عهد جديد من تاريخها قد يكون بدء استقرار وسكينة، وقد يكون فاتحة مرحلة جديدة من النضال بين الوطنية الهندية وبريطانيا العظمى. والمسألة الهندية تعود فتشغل الأذهان في الهند وفي إنكلترا، وتستغرق أعظم جانب من اهتمام السياسة البريطانية. ذلك أن دستور الهند الجديد قد بدئ تطبيقه منذ أول أبريل الجاري، وهو الدستور الذي أقره البرلمان الإنكليزي بعد مناقشات طويلة عنيفة، وصدر في يناير سنة 1935 باسم (قانون حكومة الهند) مؤلفا من أربعمائة وإحدى وخمسين مادة، وخمسة عشر ملحقا على أن يبدأ تطبيقه منذ أول أبريل سنة 1937.
وقد اقترن تطبيق الدستور الجديد بحوادث داخلية خطيرة. ذلك أن الانتخابات التشريعية أجريت طبقاً لنصوص الدستور الجديد في شهر فبراير الماضي، في إحدى عشرة ولاية تضم مجالسها التشريعية 1585 كرسياً، فتقدم لها نحو خمسة آلاف مرشح؛ هذا عدا المجالس التشريعية العليا التي تضم 260 كرسيا؛ وبلغ عدد الناخبين نحو ثلاثين مليونا منهم خمسة ملايين امرأة؛ ففاز حزب المؤتمر الوطني وهو أعظم الأحزاب الهندية وحزب الوطنية المتطرفة، وزعيمه الباندت جواهر لال نهرو بالأغلبية المطلقة في ست ولايات من الإحدى عشرة. وكان المفهوم أن الحكومة المحلية الجديدة تؤلف من الأغلبية البرلمانية على قاعدة المسئولية الوزارية طبقاً للدستور الجديد؛ ولكن حزب المؤتمر رفض أن يضطلع بأعباء الحكم في الولايات التي فاز فيها. فلجأت الحكومة البريطانية إلى اختيار أعضاء الحكومات الجديدة بطريق التعيين حسبما نص عليه الدستور أيضا، بيد أن هذا الإجراء لا يمكن أن يعتبر في بداية العهد الجديد حلا موفقا، بل ربما كان بالعكس نذير مرحلة جديدة من النضال بين الوطنية الهندية والسياسة البريطانية
وترجع هذه المقاطعة من جانب حزب المؤتمر، حسبما صرح وزير الهند اللورد زنلاند في(198/10)
مجلس اللوردات إلى ما طلبه حزب المؤتمر من ضمانات خاصة لتولي أعباء الحكم؛ خلاصتها أن يتعهد الحاكم بأن يتبع مشورة وزرائه وألا يخالف القرارات الدستورية، وألا يستعمل سلطته الخاصة في التدخل أو الضغط على الوزارة، وهي عهود أبى الحكام أن يقطعوها لحزب المؤتمر. وترتب على ذلك أن قرر الحزب التنحي عن قبول أعباء الحكم، فخلق بهذا التنحي موقفا في غاية الخطورة والحرج؛ ويتأهب الحزب الآن ليخوض عن طريق المعارضة البرلمانية نضالا عنيفا لا يمكن التنبؤ بعواقبه.
والدستور الهندي الجديد هو أقصى مرحلة بلغتها السياسة البريطانية في تحقيق الأماني الهندية في سبيل الحكم الذاتي؛ وكان أول خطوة قطعتها السياسة البريطانية في هذا السبيل سنة 1919، غداة الحرب الكبرى، حينما رأت أن تثيب الهند البريطانية عما قدمت لبريطانيا العظمى من جليل المعاونات في الحرب الكبرى. ففي ديسمبر سنة 1919، استصدرت الحكومة البريطانية دستور الهند الجديد المعروف بدستور مونتاجو وشلسفورد؛ والأول وزير الهند والثاني نائب الملك في ذلك الحين؛ وبمقتضى هذا الدستور منحت الهند لأول مرة بعض الحقوق والمزايا الدستورية المحدودة؛ فألغى المجلس التشريعي الذي كان خاضعا لرأي نائب الملك، وأنشئت مكانه هيئة تشريعية جديدة تضم هيئتين: الأولى مجلس الدولة والثانية الجمعية التشريعية وتؤلف الأولى من ستين عضوا منهم ستة وعشرون معينون، والثانية من مائة وأربعة وأربعين عضوا منهم أربعون معينون؛ واختصت الحكومة المركزية بالنظر في الشئون السياسية والمالية والدفاع الوطني والإشراف على الإمارات وقصرت مهمة الحكومات المحلية (حكومات الولايات) على معالجة الشئون الإدارية؛ ونص في الدستور الجديد على انه مؤقت وأنه تمهيد لإنشاء الحكم الذاتي، وأنه سيعاد النظر فيه بعد فترة انتقالية قدرت بعشرة أعوام
ولكن هذه المنحة الضئيلة كانت صدمة شديدة للأماني الهندية، فاضطرمت الهند من أقصاها إلى أقصاها بفورة قوية من السخط، وظهر مهاتما غاندي في الميدان يذكي ضرام الحركة الوطنية بدعوته إلى المقاطعة السلمية والعصيان المدني، وجازت الهند مرحلة عنيفة من الاضطراب؛ ولجأت السياسة البريطانية إلى وسائل القمع المنظم. وفي سنة 1928 بدأت اللجنة الدستورية أو لجنة الإصلاح الدستوري التي ألفت برياسة السير جون سيمون مهمتها(198/11)
في درس المسألة الهندية، وكان تألفها تطبيقا لدستور ممونتاجو وشلفورد، إذ نص على إعادة النظر فيه بعد عشرة أعوام، وحددت مهمة اللجنة الجوهرية بما يأتي:
أن تبحث في كيفية سير الإدارة الحكومية، ونمو التعليم وتقدم النظم النيابية في الهند البريطانية وما يتعلق بذلك من الشؤون، ثم التقرير عما إذا كان يرغب في تطبيق مبدأ الحكومة الذاتية وإلى أي حد، أو ما إذا كان يجب توسيع أو تعديل أو تقييد مرحلة الحكم الذاتي القائمة، ويدخل في ذلك بحث ما إذا كان يرغب في إنشاء قاعة تشريعية أخرى في المجالس التشريعية المحلية. واستمرت اللجنة في طوافها ودراستها بالهند مدى أشهر، وانقسم الرأي العام في الهند إزاءها قسمين، فريق يؤيد التعاون معها، وفريق وهو الأغلبية يدعو إلى مقاطعتها. وفي أواخر سنة 1929 ألقى اللورد ايروين نائب الملك تصريحه المشهور بأن الغاية التي تتوخاها الحكومة البريطانية من الإصلاح الدستوري هي الوصول بالهند إلى مركز الأملاك المستقلة (نظام الدومنيون) فبث هذا التصريح في الحركة القومية روحا جديدا، وأيقنت أنها سائرة إلى الظفر، ونزل غاندي إلى ميدان النضال كرة أخرى، وقام بحملته الشهيرة في سبيل العصيان المدني، وعادت السياسة البريطانية إلى خطة القمع العنيف، وقبض على غاندي وآلاف عدة من أنصاره، ولكن الاضطراب بلغ حدا اضطرت معه السياسة البريطانية إلى التراجع، فتفاوض نائب الملك مع غاندي، وأطلق سراح الزعيم الكبير، واتفق على أن يشهد مؤتمر الهند الذي أُزمع عقده في لندن لبحث المسألة الهندية وأن تلغى حكومة الهند جميع إجراءات القمع التي اتخذتها
وفي أثناء ذلك صدر تقرير لجنة سيمون في مجلد ضخم، وفيه بحوث ضافية عن أحوال الهند الاجتماعية والطائفية. وخلاصة رأي اللجنة هو أن تجربة الإصلاح الدستوري مدى الأعوام العشرة ليست كافية لتقرير الخطة الدستورية الملائمة، وإن الشعب الهندي، نظراً لظروفه الجنسية والطائفية، وما يفرق بين عناصره من اختلافات عميقة في الدين واللغة والتقاليد والعادات والخواص، ليس أهلاً للتمتع بحكومة ذاتية مسؤولة؛ وأما فيما يتعلق بالتوصيات، فقد أوصت اللجنة بعدة إصلاحات نظامية وإدارية خلاصتها أن تعتبر الهند البريطانية دولة متحدة قوامها الولايات، وأن تعدل حدود الأقاليم الحالية، وأن يمنح حق الانتخاب لبعض الطبقات بشروط معينة، وأن يستبقى المبدأ الطائفي في توزيع الدوائر(198/12)
الانتخابية، وأن تفصل ولاية بورما عن الهند لأنها تكون وحدة مستقلة، وبعض توصيات ثانوية أخرى لإصلاح التعليم والنظم الإدارية. وهكذا جاءت توصيات لجنة سيمون ضربة جديدة للأماني الهندية القومية؛ بيد أن الحكومة البريطانية أشارت يومئذ إلى أن توصيات اللجنة لا تخرج عن الآراء الاستشارية، وإن مسألة الهند برمتها ستبحث في المؤتمر الخاص بذلك؛ وعاون اللورد ايروين بتصريحه بأن الحكومة البريطانية تبغي بالإصلاح الدستوري أن تصل بالهند إلى مركز (الدومنيون)، على تهدئة الرأي العام والتمهيد لعقد المؤتمر في نوع من التفاهم والوئام.
وفي أكتوبر سنة 1930 عقد مؤتمر الهند المعروف بمؤتمر المائدة المستديرة في لندن، وشهده غاندي ممثلا للهند مع عدد كبير من الزعماء الهنود يمثلون مختلف الطوائف والأحزاب. ولكن المؤتمر عقد في جو من الاضطراب والخلاف. وانشق ممثلو الهند على أنفسهم في المسألة الطائفية. فرأى غاندي أن يتمسك بالانتخاب المطلق، ورأى المسلمون أن يحتفظوا بالحقوق والنسب الطائفية. ولما اشتد الجدل والخلاف، وعجز المؤتمر عن الوصول إلى اتفاق شامل، أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستتناول الأمر بيدها ما دام الهنود أنفسهم لم يتفقوا
وهكذا استعادت الحكومة البريطانية حريتها في العمل، واتخذت تقرير لجنة سيمون ومقترحاتها أساسا لوضع الدستور الهندي الجديد؛ وصدر قانون الهند الجديد في يناير سنة 1935 بعد مباحثات ومفاوضات شاقة بين الحكومة والأحزاب، وبعد مناقشات عنيفة داخل البرلمان وخارجه، وبدئ بتطبيقه في الهند البريطانية منذ أول أبريل سنة 1937 حسبما نص فيه؛ فغدت الهند دولة اتحادية، واستقلت ولاية بورما بشئونها، وأجريت الانتخابات الأولى طبقا للدستور الجديد حسبما قدمنا
وقد شرح نائب الملك اللورد لنلثجو مذ كان رئيسا للجنة الهند قواعد الدستور الجديد في بيان رسمي جاء فيه: (يقضي النظام الحالي بأن تشرف الحكومة المركزية على أعمال الحكومات المحلية وتراقبها. ولكن الدستور الجديد يرفع هذا الإشراف، وتغدو الحكومات المحلية مستقلة في معظم شئونها، ويتمتع السكان بحكوماتهم المسئولة. أما الحكومة المركزية الجديدة فسوف تغدو حكومة اتحادية(198/13)
(بيد أن الحكومة المركزية تحتفظ بالنظر في مسألة الدفاع عن البلاد وفي مسائل السياسة الخارجية، وليس لوزرائها أن ينصحوها في هذه الشئون. كذلك يعتبر كل حاكم ولاية مسئولا عن حفظ الأمن والنظام في ولايته، وله الحق في أن يتخذ ما يجب من الإجراءات الضرورية دون رأي وزرائه)
(وسيتلقى حاكم الولاية التعليمات مباشرة من وزير الهند، كما يتلقى التعليمات من الحكومة المركزية. وهكذا نستطيع أن نقول أن الولايات الهندية ستحكم طبقا لآراء الوزراء الهنود المسئولين أمام البرلمانات المنتخبة، ماعدا بعض مسائل خاصة تبقى خاضعة لإشراف البرلمان الإنكليزي)
والآن يطبق الدستور الجديد في ظروف دقيقة ويقف حزب المؤتمر الوطني بعد ظفره بالأغلبية البرلمانية المطلقة في الولايات الست موقف المعارضة. ولقد أعلن زعيم الحزب الباندت نهرو قبيل بدء الانتخابات إن حزبه يعارض الدستور الجديد منذ البداية، وإنه يخوض الانتخابات لا لكي يتعاون مع الحكومة، ولكن لكي يستعين على محاربتها بالأغلبية البرلمانية؛ وقد نفذ الحزب وعيده فأبى أن يضطلع بأعباء الحكم في الولايات الست لأنه لم يحصل على الضمانات المطلوبة، واضطرت السلطة التنفيذية أن تقيم حكومات من عندها؛ وبذا يشل تطبيق الدستور الجديد منذ الساعة الأولى. والمعارضة تقوى كل يوم وتشتد؛ فماذا تزمع السياسة البريطانية أن تفعل؟ إن السياسة البريطانية لابد أن تجد لها مخرجا من هذا المأزق سواء بالتفاهم والمفاوضة، أو بالمضي في تجاهل المعارضة وتحديها؛ بيد إنها سوف تؤثر خطة اللين بلا ريب؛ وقد رأت السياسة البريطانية أن تقف في تحقيق الأماني الهندية في سبيل الحكم الذاتي عند هذا الحد المتواضع بعد أن لوحت للهند أبان اضطرام الحركة الوطنية، بأمنية الاستقلال الذاتي. أما اليوم وقد خبت الحركة الوطنية، وسرى إليها التفرق والوهن، فإن الهند لا تستطيع أن تطمح إلى نيل المزيد دون أن تخوض مرحلة جديدة من النضال.
(مؤرخ)(198/14)
النفس وخلودها عند ابن سينا
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
قد يكون أنصار المادية المفرطة معذورين في زعمهم أن ليس ثمة إلا الجسم وأجهزته والمخ وآثاره، فإنهم يرجعون الظواهر العقلية على اختلافها إلى مصدر ثابت ومنبع معين. كما إن المثاليين الغلاة يتفادون بعض الصعوبات حين يذهبون إلى أن النفس وحدها هي الحقيقة، وما وراءها صور وأوهام فإن هؤلاء وهؤلاء لا يعترفون غلا بأصل واحد ماديا كان أو روحياً يبنون عليه تفسيراتهم وحلولهم. أما من يقولون بالجسم والنفس، بالمادي والروحي، بالثنائية على العموم، فإنهم يصطدمون بعقبة لم يجدوا السبيل إلى تذليلها. وكيف يمكن ربط المختلف والتوفيق بين المتنافر وضم أمرين من طبيعتين متغايرتين أحدهما إلى الآخر؟ لهذا كانت الصلة بين الجسم والنفس عقدة العقد ومشكل المشاكل في كل مراحل التاريخ.
فقديما نرى أفلاطون، وهو أكبر ممثل للثنائية لدى اليونان، مضطرباً وغامضاً إزاء هذه المشكلة، فيقول حينا إن النفس متميزة كل التميز من الجسم وإنها الإنسان على الحقيقة، ويظن حينا آخر أنهما على اتصال وثيق وبينهما عراك دائم، فالجسم يصرف النفس عن الفكر ويجلب عليها آلاماً كثيرة بميوله وأهوائه، وهي من جهة أخرى تحاربه وتجد في الخلاص منه، ولكن كيف يتم هذا التفاعل ويلتقي الجسم بالنفس ويؤثر كل منهما في الآخر؟ هذا ما لم يجب عليه أفلاطون. ولعل أرسطو قد حاول التخلص من هذا المأزق حين ذهب إلى أن النفس صورة للجسم؛ والصورة والمادة متصلان ومتداخلان بحيث يكونان شيئاً واحداً. بيد أن هذا الحل غامض كذلك ولا يخطو بنا إلى الأمام كثيراً. ومع هذا فقد قرر له نجاح كبير في القرون الوسطى؛ فإن أغلب الفلاسفة المدرسيين يزعمون أن النفس صورة للجسم في الوقت الذي يقررون فيه أنها جوهر روحي ذو شخصية مستقلة، وهذا تناقض مكشوف.
وفي التاريخ الحديث يعيدها ديكارت جذعة، ويثير هذا الموضوع في شكل حاد، ويقول بجوهرية الجسم والنفس معاً مميزاً الأول بالحيز والثانية بالتفكير؛ وهذه هي الثنائية(198/15)
الأفلاطونية في أجلى مظهر. ولكن عبثاً حاول ربط هذين الجوهرين أو إيجاد علاقة بينهما. ثم طمع أتباعه في أن يتلافوا هذا النقص فلم يكونوا أعظم منه خطأ. وربما كانت فكرة التناسق الأزلي التي قال بها ليبتز هي أشهر محاولة في هذا الباب، فهو يعتقد أن الجسم والنفس نسقا أزلاً بحيث يتفقان وإن صار كل منهما في طريق خاصة؛ وخضوع الأول لقوانين السببية لا يحول دونه، والارتباط بالأخيرة التي تخضع لقوانين الفانية. وما أشبههما بساعتين محكمتي الصنع تلتقيان في قياس الزمن، وإن كانتا تبينانه بأشكال مختلفة. تصوير جميل ومهارة في التوفيق، شأن ليبتز في كل فلسته؛ غير أنه في الواقع توفيق صويري وربط خيالي، فإن مؤداه أن لا صلة بين الجسم والنفس، أو أن الصلة بينهما أنهما لا يتعارضان ولا يتعاكسان.
لم يغفل ابن سينا هذه المشكلة ولم يتردد في حلها وتوضيحها، وكيف يغفلها وهو من أنصار الروحية والثنائية؟ وقد سبق لنا أن لخصنا البراهين العديدة التي يستدل بها على جوهرية النفس وروحانيتها. وفي رأيه أن الجسم والنفس متصلان اتصالاً وثيقاً ومتعاونان دون انقطاع. فلولا النفس ما كان الجسم، فإنها مصدر حياته والمدبرة لأمره والمنظمة لقواه. ولولا الجسم ما كانت النفس، فإن تهيؤه لقبولها شرط لوجودها، وتخصصه بها مبدأ وحدتها واستقلالها؛ ولا يمكن أن توجد نفس إلا أن وجدت المادة الجسمية المعدة لها! فهي منذ نشأتها تواقة إلى الجسم ومتعلقة به ومخلوقة لأجله. وفي أدائها لمهامها الكثيرة تستخدمه وتعول عليه. ويكفي أن نشير إلى التفكير الذي هو عملها الخاص فإنه لا يتم إلا أن أرقدتها الحواس بآثارها. وواضح أن العقلي ذو دخل كبير في الجسمي، فرب فكرة هيجت الجسم وأحدثت فيه انفعالات كثيرة، وللجسمي أيضاً أثر على العقلي، فقد تنتج الحركة فكرة ويبعث اعتدال المزاج على الغبطة والسرور. يقول ابن سينا: (انظر إنك إذا استشعرت جانب الله وفكرته في جبروته كيف يقشعر جلدك ويقف شعرك، وهذه الانفعالات والملكات قد تكون أقوى وقد تكون أضعف، ولولا هذه الهيئات ما كانت نفس بعض الناس بحسب العادة أسرع إلى التهتك أو الاستشاطة غضباً من نفس بعض)
فهناك علاقة إذن بين الجسم والنفس وتأثير متبادل؛ وهذا قدر يتفق عليه كل أنصار المذهب الروحي ولا يعز عليهم إثباته، ولكن المشكلة هي: كيف يتم هذا التأثير وكيف(198/16)
يلتقي الجسمي بالنفسي؟ لكي يجيب ابن سينا على هذا السؤال يلجأ إلى طبه مستمداً منه بعض الملاحظات الفسيولوجية، فيوزع أولاً قوى النفس المختلفة على أجزاء الرأس ويعد لكل واحدة منها مقراً معيناً. فالحس المشترك مثلاً متمركز في أول التجويف المقدم للدماغ، والمصورة في آخر هذا التجويف، والوهم في نهاية التجويف الأوسط، والحافظة في التجويف المؤخر. ويلاحظ ثانياً أنه لابد لهذه القوى من خدم تنفذ أوامرها ومطايا تحمل آثارها. ومطيتها جميعاً جسم لطيف روحاني منتشر في الجسم، يخرج من القلب ويمتد إلى سائر الأطراف، ولا أدل على هذا من أنه إذا تصلب أو انسدت مسالكه انقطعت الحركة والإحساس. وهذا الجسم هو الروح التي تمد الأعضاء بالحرارة الضرورية للحياة وتربط القوى النفسية بعضها ببعض. فكأن القلب الجزء الرئيسي الذي يلتقي فيه الروحي بالمادي والعقلي بالجسمي. حقاً إن الدماغ يشرف على الجهاز العصبي ويتقبل الاحساسات ويدفع إلى الحركة، ولكنه هو أيضاً خاضع للقلب ومحتاج إلى الحرارة العضوية التي يبعث بها إليه.
هذه الفسيولوجيا تصعد إلى جالينوس وأبقراط وتمت ينسب إلى أرسطو. فإن تركيز قوى النفس في مناطق خاصة من الدماغ أمر عنى به جالينوس، ثم أخذه عنه العرب في شيء من التصرف، فتراه لدى الفارابي كما نراه لدى ابن سينا وأغلب الأطباء والفلاسفة المسلمين. والروح التي تربط القوى النفسية بأجزاء الجسم وتنفذ أوامرها ليست شيئاً آخر سوى الأبنيما التي قال بها اليونانيون الأول. وذلك أن ديوجين الأبولوني يزعم أن التفكير إنما يتولد من ذلك الهواء الذي يسبح في أوردة الجسم وشرايينه. ويقول هيرافليط إن التنفس يغذي النفس بالهواء الذي لولاه ما كانت حياة ولا عقل ومن هنا تولدت نظرية الأبنيما التي لعبت دوراً هاماً في الفسيولوجيا وعلم النفس القديم.
ومعظم أطباء الإغريق لا يرون في الأبنيما مصدر القوة والحرارة الإنسانية فقط. بل يعدونها منبع التفكير، وكثيراً ما يخلطون بينها وبين النفس. والرواقيون بوجه خاص وإن قالوا بجسميتها يصفونها بكل الصفات الروحية. وقد قدر لهذه الفكرة أن تحيا إلى أن استكشفت الدورة الدموية التي قامت على أنقاضها. ويظهر أن قسطا بن لوقا البعلبكي والمترجم المشهور المتوفى سنة 835 ميلادية هو أول من أدخلها في العالم العربي، فقد(198/17)
كتب بحثاً صغيراً فرق فيه بين النفس والروح فبينما الأولى في رأيه جوهر روحي بسيط غير قابل للفناء إذا بالثانية جسم لطيف يشرف على أعمالنا العضوية والعقلية، وإذا ما توقف عن الحركة كان الموت. فالروح إذن أداة النفس وبواسطتها يتحرك الجسم ويعد للإدراك، وبذا استطاع قسطاً أن يوفق بين الأبنيما التي يعول عليها الأطباء والنفس التي ينادي بها الفلاسفة، وقد سار على سنته من جاء بعده من مفكري الإسلام.
وأما الصلة بين القلب والدماغ وأثرهما في الظواهر النفسية فتلك نقطة خلاف بين أرسطو وجالينوس. ففي حين أن الفيلسوف يرى أن القلب هو مركز القوى النفسية الرئيسية نجد الطبيب يصعد بذلك إلى الرأس ويعتبره المهيمن على كل الحياة العقلية. وابن سينا، وإن كانت منزلته الطبية لا تقل عن درجته الفلسفية، لا يتردد في أن ينتصر لأرسطو. ويصرح، على أي أساس لا أدري، أن الفلاسفة هم أصحاب الرأي والذين يستطيعون الفصل في مثل هذه المسائل، ومع هذا فإنه لا ينكر ما للدماغ وأعصابه من دخل في الحركة والإحساس. ومهما يكن فلعل هذه الآراء هي منبع تعريف العقل المشهور الذي ردده المتأخرون من مؤلفي العرب، فهم يكادون يجمعون على أنه قوة أودعها الله في القلب ولها شعاع متصل بالدماغ.
لا نظن أنا في حاجة إلى مناقشة هذه الفسيولوجيا البائدة فإن كشف الدورة الدموية قد قضى على فكرة الأبنيما وما يتفرع عنها، ودراسة الجهاز العصبي الحديثة لا تدع مجالاً لتلك الآراء التي كانت تعد القلب المركز الرئيسي للحياة النفسية. والنظرية القائلة بتوزيع المخ إلى مناطق نفوذ مستقلة تقوم كل واحدة منها بعمل خاص، وإن كانت قد صادفت أنصاراً عديدين في القرن التاسع عشر، لا تفسر الظواهر العقلية تفسيراً مقنعاً. على أن ابن سينا كان يمزج الفسيولوجيا بعلم النفس النظري، ويخلط المادي بالروحي دون أن يوضح كيف يتفاعلان؛ والصعوبة كل الصعوبة في توضيح هذا التفاعل. فهو إذن لم يوفق لحل مشكلة الصلة بن النفس والجسم ولم يأتنا فيها بجديد؛ وكل ما عمله هو أن ضم أفكاراً أرسطية إلى أخرى جالونيسية على الرغم مما بينهما من تنافر أو تعارض.
(يتبع)
إبراهيم مدكور(198/18)
في الأدب المقارن
القصص
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الميل إلى تأليف القصص والاستمتاع بسماعه طبيعيان في الإنسان، فهو كما يميل تبعاً لغريزة الاستطلاع إلى مشاهده حوادث الحياة تترى أمام عينيه، يميل إلى حكايتها لغيره كما رآها أو تخيلها؛ ويميل إلى الاستماع إلى غيره يرويها له، يشبع بها غريزة الاستطلاع وملكه الخيال من نفسه. والحياة ذاتها ليست سوى قصة متتابعة الحوادث متوالية الفصول. وليس بد لمن شاء وصف بعض مظاهرها أو ظروفها من اللجوء إلى القصص، وإلى القصص يلجأ بداهة كل صديقين تلاقيا بعد طول فراق، وبالقصص يشغف الأطفال أشد الشغف، وبه شغف الإنسان في عهد طفولته التاريخية.
كان القصص أول صور الأدب ظهوراً، بل كان جماع الأدب والعلم والثقافة العامة لدى الجماعات الأولى، يشمل معارفهم بالخلق والطبيعة والتاريخ وعقائدهم وتقاليدهم، فما من شيء من ذلك كله إلا حاكوا له قصة، ولا مظهر إلا اخترعوا له حكاية تعلله، فكان قصص تلك العهود مملوءاً بالخرافات والأوهام، دائراً حول الآلهة والملوك والأبطال والقبائل، وبالجملة كان قصصاً رومانسياً تكثر فيه الخوارق والعظائم والمفاجئات والمخاطرات. وقد تخلف من كل ذلك تراث حافل من نثر وشعر، يتمثل في أساطير الأولين من مصريين وفرس وإغريق ورومان، وبارتقاء الجماعة العقلي يتخلص العلم رويداً رويداً من آثار القصص والخرافة ويختص الأدب بتلك الآثار وتتمثل في شعر الملاحم وما شاكله.
وإذا ما ظهر النثر الفني فقد ولت في آثاره أساطير الأولين تلك، وإن بطل الاعتقاد في كثير منها، وخطا القصص إلى المرحلة الثانية من مراحل تطوره، فاتخذ وسيلة لإسداء المواعظ وإذاعة التجارب وتحبيذ الفضيلة. أو لشرح النظريات العلمية أو الفلسفية ووضع لذلك على ألسنة الطير والحيوان، أو أفواه الأرواح والجان، وصيغ أحياناً في شكل حوار، كما يرى في قصص إيزوب وجمهورية أفلاطون وحكايات لافونتين وكتاب أميل لروسو؛(198/20)
ويتطور القصص الشعري أيضاً فتظهر الرواية الشعرية التمثيلية، وتحل محل الملحمة، وينفصل التاريخ مستقلاً عن الأدب متخلصاً جهده من الأساطير، وإن ظل الاتصال بين التاريخ والأدب وشيجاً طول العصور.
فإذا اطرد رقي الحضارة ونمو العلم وازدهار الأدب ورواج النثر الفني، خطا القصص إلى مرحلته الأخيرة نحو الكمال، فصار فناً مستقلاً من كل غاية خارجة، غايته الوحيدة غاية كل الفنون، وهي الجمال والشعور وتصوير النفس الإنسانية، وصارت له قواعده وتقاليده المفهومة، وبلغ مكانة ضرب راق من ضروب الأدب كالملحمة والدراما والخطابة، وسامي به النثر الشعر وباراه جولانا في ميدان النفس الإنسانية وأداء لوظيفة الأدب، وظهر في مضماره من فحول الكتاب من يضاهون فحول الشعر منزلة ونبوغاً، بل ظهر من الأدباء من يجمع بين الشعر والقصص، وذهب الوهم الذي كان سائداً من قبل من أن القصص مطلب هين، وقنص شهب البزاة سواء فيه والرخم.
وللقصص، إذا ما بلغ هذا الطور السامي من أطوار رقيه مزايا يختص بها دون غيره من ضروب الأدب منظومه ومنثوره فهو يمتاز برحب المجال رحباً يمكن من يمارسه من تناول أطراف الحياة المترامية، بين جد وفكاهة ووصف وحكمة وعلم وأدب، وهو يفسح للخيال متسعاً بعيد الآفاق، ويمتع اللب بما يعرض من دقائق الحياة وتفاصيلها إلى جانب جلائلها وبعيد أقطارها، وبه يعرض من أحوال الحب وأطواره ما يضيق الشعر نفسه ذرعاً باستقصائه إلى لمحات خاطفة، وقبل القصص كان النسيب وقفاً على الشعر دون النثر، والقصص لسهولة متناوله يذيع في الخاصة والعامة على حد سواء، على حين كان الشعر وقفاً على خاصة المثقفين.
ولذيوع القصص في الخاصة والعامة وجد فيه المصلحون وسيلة عديمة النظير لتر آرائهم ودعاياتهم، بتصوير الحال التي يكرهون وإبراز مساوئها وعرض ضحاياها والتنديد بجناتها وتشخيص سبل ملاقاتها، كل ذلك في أسلوب قصصي شائق تقبله النفس وتسيغه وتقتنع به اقتناعاً كان صعب المنال لو عرض عليها الأمر في صورة النصح أو الوعظ. ومن أشهر القصصيين الدعاة تولستوي وأبسن وآبانيز وغيرهم ممن كان لهم أكبر الأثر في الفكر الحديث وأعظم الضلع في التطور العقلي والمادي، وهو أثر قل أن يجاريه أثر الشعر في(198/21)
سالف العصور.
فالقصة ضرب من الأدب مرن، يجمع مزايا الشعر كالخيال والعاطفة إلى مزايا النثر كالرحب والدقة والاستقصاء والفائدة العملية، وهي بهذا تلائم العصر الحديث أكبر ملائمة، وهذا سر ذيوعها حتى كادت تعطل ما عداها من ضروب القول، فقد تهيأت الأسباب من القرن الثامن عشر إلى اليوم لنهوض القصة الفنية، التي تدرس نفس الفرد وحياة المجتمع وتحلل العواطف وتشرح الآراء والمبادئ، وذلك برقي السواد الأعظم من الأمة بعد أن كان هملاً في غابر العصور، وانتشار التعليم العام وبروز شخصية الفرد وذيوع مبادئ الحرية والديمقراطية، هذا إلى ارتقاء الطباعة واعتماد الأدباء على الجمهور القارئ لا على رعاية الأمراء والوجهاء.
ولم تقتصر القصة في رقيها هذا الحديث على أن تميزت واستقلت ضرباً قاتماً من ضروب الأدب، يتوفر على ممارسته بعض أقطاب الأدب، بل تطورت القصة تطوراً داخلياً، وتميزت فيها ضروب من القصص يتوفر على كل منها بعض القصصيين: فهناك القصة التاريخية التي تدور حول الملوك والعظماء السابقين، والقصة البيتية التي تصور المجتمع المتواضع تصويراً شائقاً، والقصة لنفسية التي تحلل بواطن النفوس معتمدة على نظريات علم النفس الحديث أحياناً، والقصة الإصلاحية التي تحاول تحسين حال العامل أو تعديل بعض النظم القانونية أو الاجتماعية، أو تقويم بعض المعتقدات والتقاليد، والقصة المستقبلية التي تتنبأ بما سيصير إليه الإنسان وتحاول تسديد خطاه إلى ما يجب أن ينزع إليه في مستقبله، والقصة البوليسية التي تعرض حيل المجرمين وخطط متعقبيهم من الشرطة، وقصة المغامرات التي تصف أعمال بعض الأفاقين ورحلاته في المجاهل.
هكذا يتطور القصص، من نوادر وأساطير بدائية واهية القصد منتشرة النظام، إلى صور فنية محكمة، ومن أشباح مبهمة وحوادث متضاربة إلى شخصيات ناطقة وسياق منطقي منسجم، ومن الخرافي والخارق والبعيد إلى الواقع والعلمي والحاضر، ومن الماضي بآلهته وأبطاله وعظمائه إلى الحاضر بمشاكله العادية وأفراده المشهودين، ومن اللفظ الطنان والخيال الشارد والعاطفة الثائرة إلى المعنى المتدبر والتأمل الهادئ والوصف المفصل؛ وهذه الصفات التي تكتسبها القصة في طورها الراقي تكتسبها معها أو بعدها الرواية(198/22)
التمثيلية التي هي أسبق من صاحبتها إلى الظهور، فتهجر الشعر إلى النثر، والخيال إلى الدقة، وتدرس النفس والمجتمع دراسة القصة لهما، لا تكادان تختلفان إلا شكلاً وطريقة تناول. فصاحب الرواية التمثيلية يترك أبطاله يرسمون شخصياتهم وأخلاقهم بأفواههم، وصاحب القصة لا يدعهم يفعلون ذلك إلا إلى مدى؛ ثم هو يتولى عنهم الشرح ويحللهم تحليلاً دقيقاً، ويكون من الأدباء من يجمعون بين كتابة الرواية التمثيلية والقصة المقروءة.
كان للإنجليز قصصهم وأخبارهم وأساطيرهم قبل أن يتحضروا كما كان لغيرهم من الشعوب. وكان كل ذلك يتداول شفاهاً، فلما تحضروا وعرفوا الكتابة كان الشعر كعادته أسبق إلى الرقي، فظهرت فيه قصص تشوسر المسماة حكايات كنتربري، ثم ارتقت الرواية التمثيلية في عصر إليزابث على يد شكسبير ومعاصريه رقياً عظيماً؛ وبدأت القصة النثرية في مرحلتها الثانية، فاتخذت وسيلة لغيرها: اتخذها صاحب كتاب (يوفيواس) وسيلة لشراح آداب الجنتلمان، واتخذها مؤلف (يوتوبيا) وسيلة لتصوير المدينة الفاضلة، واتخذها كاتب (أطلانطس) وسيلة لبسط النظريات العلمية، وفي كل هذه كان الفن هزيلاً والشخصيات مطموسة أو معدومة والسياق متداعياً.
ثم تهيأت الأسباب الاجتماعية والمادية والمعنوية سالفة الذكر اللازمة لدخول القصة طورها الثالث، طور الفن المنسجم المهذب الذي يتوفر على تحليل النفس ودرس المجتمع، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر، وقد بدأ ذلك التطور تدريجياً كما هو الشأن في كل تطورات الطبيعة والمجتمع الإنساني، فانسلخت القصة رويداً رويداً عن المقالة الاجتماعية التي كانت منتشرة إذ ذاك في الصحف الدورية على أيدي ستيل وأديسون: كانت تلك المقالة تهتم بالأحوال الاجتماعية، وتتعرض لشخصيات المجتمع تحللها، وأولعت بشخص واحد يدعى سير رودجر، تتتبعه في شتى المواقف وتنطقه بشتى الملاحظات وتحيطه بمختلف الشخصيات، فكان من مجموع تلك المقالات قصة ذات تصميم وشخصيات وبطل وحوار ووسط اجتماعي وهلم جرا، ولم يبق أمام الكتاب الذين جاءوا بعد أديسون وستيل، إلا أن يزيدوا التصميم إحكاماً والحوار تسديداً والشخصيات بروزاً.
وكان تاريخ القصة بعد ذلك خلال القرنين السالفين تاريخ تطور ورقي مستمرين، أحكمت أوضاعها وتعددت ضروبها وتتابعت أزياؤها، وظهر فيها كبار المؤلفين رجالاً ونساء: منهم(198/23)
فيلدنج وديفر وسمولت كتاب قصص المغامرات، وجين أوستن وشارلوت برونتتي ومسز جاسكل مؤلفات قصص المجتمع، وسكوت صاحب القصص التاريخية، ودكنز وبتلر أصحاب القصص الإصلاحية، وكونان دويل مخترع القصص البوليسية الذي صير اسم شرلوك هولمز علماً على ذلك الضرب من القصص، إلى غير هؤلاء من القصصيين الذين لا يحصون، وإلى غير تلك من ضروب القصص التي لا تستقصى. وفي تلك القصص تناول القصصيون أطراف الحياة المتباعدة وأمتعوا النفوس وأرضوا الفن، وما زالت القصة في صعود وكأنها لما تبلغ ذروتها.
وفي خلال ذلك الوقت كانت الرواية التمثيلية تتطور وتبعث بعثاً جديداً، على صورة مماثلة للقصة المقروءة، قوامها النثر السهل المرسل والواقع الحاضر، ومرماها درس المجتمع والشخصيات وتحليل الآراء والمذاهب، وظهر في مجالها أرنولد بنيت وبرناردشو وجالزورذي وغيرهم، وإلى الأخيرين يعزى الفضل في كثير من الإصلاح الذي طرأ على النظم الاجتماعية والمذاهب الفكرية في الجيل الأخير، حتى شبه شو بمكنسة كهربائية ذهنية، تنقي أوضار العقول من خرافات وتعصب وحماقات وتقاليد فاسدة.
وكان للعرب في جاهليتهم قصصهم وأخبارهم وأيامهم وأساطيرهم، متداخلاً كل ذلك في شعرهم ونثرهم، مختلطا بثقافتهم ودينهم، وقد تخلف كثير من ذلك بعد ذهاب الجاهلية، وظل مختلطاً بالأدب ممتزجاً بالتاريخ، يظهر في كتابات الجاحظ والأصمعي والطبري والاصبهاني، وغيرهم من الكتاب والمؤرخين على السواء؛ وحيكت نوادر جديدة حول أعلام الحب والحرب، وكابن أبي ربيعة وأبي نؤاس وعنترة ومهلهل؛ وحوى القرآن الكريم طرفاً جليلاً من شائق القصص، وما زالت السور المحتوية على قصص يوسف ومريم ونوح من أقرب سور القرآن إلى نفوس الخاصة والعامة؛ ثم انتشرت الكتابة وذاع النثر الفني، فدخل القصص طوره الثاني: الطور الذي فيه يستخدم وسيلة لغيره، فاتخذ في كليلة ودمنة وسيلة لبث الحكمة، وفي رسالة حي بن يقظان ذريعة لشرح مسائل الفلسفة، ولا حاجة إلى القول بأن خصائص القصة الفنية في هذه الكتب وأمثالها كانت ضعيفة واهية.
ثم تمهدت بعض أسباب دخول القصة في طورها الثالث الفني: باستقرار الحضارة والرفاهة، ونضج الثقافة ورواج سوق الأدب وكان ذلك في القرن الرابع، فبدأت تنمو بذور(198/24)
القصة الفنية التي تدرس المجتمع وتحلل الشخصية وتهتم بالتصميم الفني والفكرة الموحدة، ويبدو كل ذلك في مقامات بديع الزمان، فهذا الكاتب يمثل في العربية من هذه الوجهة مكان أديسون وستيل في الإنجليزية، وقد أبدى في ثنايا مقاماته من نفاذ النظرة وبداعة الوصف وبراعة الفكاهة وتنوع الموضوعات ما هو جدير بأسمى أنواع القصص؛ واخترع شخصية أبي الفتح الإسكندري فكان على الأرجح المؤلف العربي الوحيد الذي أخترع شخصية شائقة واضحة من صنع الخيال المجرد. ولم تكن شخصيات المقامات التالية فيما بعد إلا نسخاً مكررة منه لا ابتكار فيها، وشخصية أبي الفتح الإسكندري تعين من مراحل تطور القصة العربية نفس المرحلة التي تعيها شخصية سير رودجر ديكفري من تطور القصة الإنجليزية.
فمقامات البديع في الأدب العربي بمثابة مقالات أديسون وستيل في الأدب الإنجليزي: تعين بدء ظهور القصة الفنية الاجتماعية التحليلية، بيد أن تطور القصة العربية وقف عند هذا الحد لا يتخطاه. ولم يبلغ مرحلته التالية، لأن الأسباب اللازمة لذلك لم تكن مكتملة: فالمقامات ذاتها قد ظهرت متأخرة، ظهرت في أوج رقي الأدب العربي في القرن الرابع. وكان أجدر أن تأتي متقدمة في القرن الثاني مثلاً، فيليها باقي التطور المنشود الذي تلا مقالات أديسون وصاحبه في الإنجليزية، وما ذاك إلا لنزعة الجمود والتقليد التي كانت دائماً مخيمة على الأدب العربي، تمنع المغامرة الأدبية والابتكار والتنويع في الأشكال والموضوعات، وفقدت المقامات بعد بديع الزمان صبغتها الاجتماعية وأصبحت لعباً بالألفاظ والمعاني.
أضف إلى نزعة الجمود تلك استمرار اعتماد الأدب على الأمراء دون جمهور الشعب، قلما يصور رجاله مشاكل الشعب، قلما يصور رجاله مشاكل الشعب أو يحاولون الأخذ بيده وقيادة طريقه: فالحريري مثلاً حين تتابع بديع الزمان وكتب مقاماته لم يكتبها بداع من داخل نفسه يدعوه إلى تناول مشاكل المجتمع ومطامع الشعب بالدرس ولعرض والإصلاح والتوجيه، بل امتثالاً لإشارة بعض الأمراء ممن (إشارته حكم، وطاعته غنم) كما يقول هو في مقدمته ومحال أن ترقى القصة الاجتماعية في مجتمع أدباؤه متنصلون من مشاكل شعبه لائذون بظل أمرائه.(198/25)
زد على ذلك مكانة المرأة في المجتمع، التي كانت قد بلغت قبل أن يكتب البديع مقاماته حداً من التدهور بعيداً، بعد ما كان من امتداد الفتوح واختلاط الأجناس وتفشي التسري والعبث. فضرب على المرأة الحجاب، وخيم عليها الجهل واعتزلت المجتمع، والمجتمع بغير المرأة لا يخرج القصة الفنية التي تدرس الحب وتقدس الزواج وتشرح العواطف، وإنما ينتج الشعر المستهتر البذيء كشعر بشار وأبي نؤاس. وقد كان إنهاض حال المرأة نصب عيني أديسون وستيل وغيرهما ممن تلاهما من القصصيين كما كان الحب مداراً أكثر القصص، كما كان من النساء جم غفير من القصصيات كما تقدم.
وإلى نزعة التقليد التي كانت تسود الأدب العربي، كان ذلك الأدب ينزع إلى الصنعة اللفظية: فمقامات البديع ذاتها مثقلة بالصنعة والمحسنات، ولا غرو، فإذا كان الأدب قد تخلى إلى حد بعيد عن مشاكل المجتمع، فلم يبق له من مواد القول إلا النذر اليسير، فلما أعوزه الافتنان في المعاني التفت إلى اللاعب باللفظ، وإلى هذه الزركشة اللفظية قصد الحريري أول ما قصد في محاكاته للبديع، ولم يفكر قط في ابتكار جديد من جهة المعاني والأفكار ولم يحاول الزيادة عليه من جهة تناول الموضوعات الاجتماعية، بل اكتفى بالتقليد الشكلي، فجعل في كل مقامة شخصين يروي أحدهما عن الآخر، وتنقسم المقامة بذلك إلى قسمين. دهليز للقصة كما يقول العامة، والقصة ذاتها التي تبدأ بظهور البطل، ولم تجئ شخصية بطله في وضوح شخصية أبي الفتح وتعدد نواحيها.
فحالة المجتمع العربي، ونظام الحكم فيه، ومنزع الأدب العربي، كل هاتيك لم تكن ملائمة لتطور القصص إلى كماله، فوقف عند بدء الطور الثالث، وهو الطور الفني الصميم، فعرف الأدب العربي النوادر والأخبار والسير وما إليها، وعرف الحكايات ذوات المغزى العلمي أو الخلقي، ولم يعرف القصة الاجتماعية والنفسية ذات التصميم المحكم والشخصيات الواضحة، والفكرة الموحدة والغاية المستقلة والموضع الفني، ولم تسم القصة في الأدب العربي إلى منزلة عالية كالتي تمتع بها الشعر والخطابة والنقد، وظل للشعر المكانة الأولى وبقى مستأثراً بأكثر ضروب القول، ولم يظهر في القصة من الأعلام أمثال من ظهر في الشعر والنقد والخطابة، وترك القصص المطول الحافل بالوصف الاجتماعي والخيالي العامة.(198/26)
فخري أبو السعود(198/27)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعَاف النشاشيبي
13 - في النيل
في (حلبة الكميت): ركب الأمير تميم في النيل متنزهاً فمرَّ ببعض الطاقات المشرفة فسمع جارية تنشد شعراً:
نبهتُ نَدماني بدجلة مَوْهناً ... والنجم في أفق السماء معلق
والبدر يضحك وجهه في وجهها ... والماء يرقص حولها ويصفق
فأستحسنهما تميم وشرب عليهما، وما زال يستعيدهما ويشرب حتى انصرف وهو لا يعقل سكراً. فلما أصبح قابلها بهذين البيتين:
شربنا على النيل لما بدا ... بموج يزيد ولا ينقص
كأنَّ تكاثف أمواجه ... معاطفُ جارية ترقص
14 - شهادة. . .
كان أبو عيسى بن الرشيد يقول لعمه إبراهيم بن المهدي:
السكر على صوتك شهادة يا عم. . .
15 - أتكابر إبليس؟
في (محاضرات الراغب): قال أبو نُؤاس: كنت يوماً في الحمام فقلت قصيدة وفيها:
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي النار في الفَحَم
ولم يكن معي أحد فتراءى لي شبح فقال: قطع الله لسانك فإنك لا تفلح! أتقول مثل ما يقول العوام؟ ألا قلت:
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
فقلت: هكذا قلت
فقال: أتكابر إبليس؟؟
16 - أحسن الجواب
قال أبو العيناء: قال لي الخليفة المنتصر يوماً: ما أحسنُ الجواب؟(198/28)
فقلت: ما أسكت المبطل، وحيّر المحق
فقال: أحسنت والله!
17 - بالله ألا رحمت غربتها
في (اليتيمة): حكى أبو الخطاب بن عون الحريري النحوي الشاعر أنه دخل على أبي العباس النامي قال: فوجدته جالساً ورأسه كالثغامة بياضاً، وفيه شعرة واحدة سوداء، فقلت له: يا سيدي، في رأسك شعرة سوداء
فقال: نعم، هذه بقية شبابي وأنا أفرح بها، ولي فيها شعر. فقلت: أنشدنيه، فأنشدني:
رأيت في الرأس شعرة بقيت ... سوداء تهوى العيون رؤيتها
فقلت للبيض إذ تروّعها ... بالله ألا رحمت غربتها!
فقلَّ لبث البياض في وطن ... تكون فيه البيضاء ضرتها
ثم قال: يا أبا الخطاب، بيضاء واحدة تروِّع ألف سوداء، فكيف حال سوداء بين ألف بيضاء؟
18 - المقادير تصير العي خطيباً
قال الطبري في تاريخه:
يحكى أن الحجاج ذُكر عنده رجل بالجهل فأراد اختباره
فقال: أعظامي أم عصامي؟ أراد أشرفت بآبائك الذين صاروا عظاماً أم بنفسك
فقال الرجل: أنا عصامي عظامي، فقال الحجاج: هذا أفضل الناس، فقضى حوائجه. ومكث عنده ثم فتشه فوجده أجهل الناس. فقال له: تصدقني كيف أجبت بما أجبتني به حين سألتك عما سألتك؟
فقال: لم أعلم أعصامي خير أم عظامي، فخشيت أن أقول أحدهما، فقلت كليهما، فإن أضرني أحدهما نفعني الآخر
فقال الحجاج عند ذلك: المقادير تصير العيَّ خطيباً
19 - إذا تمت صارت سياسة
في تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء لهلال بن المحسن الصابي قال أبو الحسن بن الفرات:(198/29)
أصل أمور السلطان مخرقة فإذا تمت واستحكمت صارت سياسة
20 - بكت رحمة للورى بالدم
قال أبو الأصبع بن رشيد الأشبيلي لما هطلت بأشبيلية سحابة بقَطْر أحمر في يوم السبت الثالث عشر من صفر عام (564):
لقد آن للناس أن يقلعوا ... ويمشوا على السنن الأقوم
متى عهد الغيث (يا غافلا) ... كلون العقيق أو العندم
أظن الغمائم في جوها ... بكت (رحمة للورى) بالدم
21 - اقرأ قرآنك
قال الشاطبي في (الاعتصام):
كان في الزمن القريب رجل يقال له الفزارة أدعى النبوة وأستظهر عليها بأمور موهنة للكرامات والإخبار بالمغيبات، ومخيلة لخوارق العادات، تبعه على ذلك من العوام جملة. وكان مقتل هذا المفتري على يد أبي جعفر بن الزبير.
قال الحسن بن الجباب: لما أمر بالتأهب يوم قتله، وهو في السجن الذي أخرج منه، جهر بتلاوة سورة (يس) فقال له أحد الدعار ممن جمع السجن بينهما: إقرأ قرآنك، لأي شيء تتفضل على قرآننا اليوم؟ فتركها مثلاً بلذوعيته،
22 - تعالوا نتكرم اليوم
قال أبو الحسن القروي يوماً لندمائه: تعالوا نتكرم اليوم
فقالوا: وأي يوم لا يتكرم فيه سيدنا؟
قال: قولي (نتكرم) من (الكرْم) لا من الكرَم
قالوا: وكيف؟
قال: نأكل سكباجة وحصرمية، وحلوى دبسية ونشرب العنبي. ونتنقل بالزبيب، لنكون قد استوفينا مرافق الكرْم ومنافعه
قال بعضهم: ينبغي أن نستوقد بقضبانه أيضاً ليتم التكرم.
فقال: أحسنت وجودت، وأمر بذلك كله وطاب يومهم(198/30)
23 - إن غبت عنا دخل الصبح
قال القاضي الفاضل:
بتنا على حال يسر الهوى ... وربما لا يمكن الشرح
بوابنا الليل وقلنا له: ... إن غبت عنا دخل الصبح!
24 - صدق الأمير
في شرح (النهج) لأبن أبي الحديد:
ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني في مسئلة كلامية، فجعل النوشجاني يخضع في الكلام ويستخذى له، فقال: يا محمد، أراك تنقاد إلى ما أقوله قبل وجوب الحجة لي عليك وقد ساءني ذلك منك، ولو شئت أن أفسر الأمور بعزة الخلافة وهيبة الرياسة لصدقت وإن كنت كاذباً، وعدلت وإن كنت جائراً، وصوبت وإن كنت مخطئاً؛ ولكني لا أقنع إلا بإقامة الحجة، وإزالة الشبهة؛ وإن أنقص الملوك عقلاً وأسخفهم رأياً من رضى بقولهم: صدق الأمير. . .
25 - هناك والله قرارة اللؤم
وقف إعرابي فسأل قوماً فقالوا: عليك بالصيارفة.
قال: هناك (والله) قرارة اللؤم
26 - كبرت
في (نفح الطيب):
قال أبو محمد بن حزم الحافظ: كنت يوماً في مجلس الرئيس الفقيه أبي بكر بن زهر، فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خراسان، وكان ابن زهر يكرمه، فقلت له: ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم؟
فقال: كبرت!
فلم أفهم مقصده، وأستبردت ما أتى به؛ وفهم مني أبو بكر ابن زهر أني نظرته نظر المستبرد المنكر.
فقال لي: أقرأت شعر المتنبي؟(198/31)
قلت: نعم: وحفظت جميعه.
قال: فعلى نفسك (إذن) فلتنكر، وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم، فذكرني بقول المتنبي:
كبرت حول ديارهم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق
فأعتذرت للخراساني وقلت له: قد (والله) كبرت في عيني بقدر ما صغرت نفسي هندي حين لم افهم نبل مقصدك.(198/32)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
- 1 -
هل الفلسفة الإغريقية وليدة الفلسفة الشرقية؟
تمهيد
تشغل الباحثين منذ أقدم عصور التاريخ مشكلة لم يهتدوا إلى حلها حتى اليوم حلاً حاسماً يقف تيار الاعتراضات من الجهات المعارضة. وإن كانت بحوث المستشرقين والمستمصرين في العصر الحديث قد وصلت إلى ترجيح إحدى كفتي الميزان في هذه الفكرة العويصة التي يترتب عليها تغيير اتجاه الحكم على اليونان وعلى الشعوب الشرقية القديمة إلى ناحية غير التي كان يسير فيها قبل ظهور نتائج هذه البحوث. تلك المشكلة هي: هل الفلسفة اليونانية ابتدعت في يونان وليس لها أية صلة بالشعوب الشرقية؟ أو هي تراث نظمه الإغريق؟ وإذا كانت الأولى، فهل يرجع مبدؤها إلى القرن السادس فقط كما زعم (أرسطو) حين قرر أن (تاليس) هو أول الفلاسفة جميعاً؟ أو يمكن اصعاد الفلسفة إلى عصور غابرة إغريقية محضة؟ وإذا كانت الثانية، فما هو أول تلك الشعوب الشرقية الذي نشأت الفلسفة بين ربوعه؟
قرر أرسطو أن الفلسفة نشأت للمرة الأولى في تاريخ العقلية البشرية في تلك المستعمرة اليونانية التي تدعى (أيونيا) والتي سبق أن أسسها قوم من الإغريق القدماء الذين هاجروا في عصور ما قبل التاريخ إلى آسيا الصغرى وأسسوا بها تلك المدن التي لم يلبث الإغريق الأصليون أن احتلوها وبسطوا عليها سلطانهم السياسي والأدبي، فأفسحوا بذلك الطريق أمام العقل الإغريقي الجبار، وحلوا عقاله الذي كان قد أمسكه في آسيا عن الصولان في عصور ما قبل الاستعمار الجديد. وأول من بدأت العقلية الإغريقية القديمة تتمثل فيه هو: (تاليس المليتي) أول فيلسوف في الدنيا. وإذاً، فالفلسفة إغريقية الأصل والعنصر، وهي لا تصعد في رأي أرسطو إلى ما وراء القرن السادس قبل المسيح، ولكن (ديوجين لاإرس) المؤرخ(198/33)
الإغريقي الشهير الذي عاش في القرن الثالث قبل المسيح يحدثنا في كتابه (حياة الفلاسفة) عن فلسفة المصريين والفرس في العصور الغابرة حديثاً ممتعاً يدل دلالة قاطعة على أن الشرق قد سبق الغرب إلى الفلسفة بزمن بعيد. وأنه كان أستاذه في كل ما وراء الطبيعة كما كان أستاذه في العلوم الطبيعية والرياضية بأنواعها، وأن الغرب جلس في الأزمان المظلمة مجلس التلميذ المستلهم من الشرق العالم المستنير.
فأنت ترى تعارض هاتين الفكرتين وتصادمهما منذ أكثر من ثلاثة وعشرين قرناً، وترى كذلك أن لكل منهما أشياعاً ومؤيدين، ففريق يسلك منهج أرسطو فيؤكد أنه ليس للشرقيين فضل في هذه الثروة العقلية العظيمة إلا ما ظهر لفلاسفتهم بعد الإسلام من مجهودات في شرح الفلسفة اليونانية وتوجيهها؛ أما في العصور الأثرية فلم يعرف التاريخ عنهم إلا الدين المقيد بالوحي ولم يحفظ لنا عنهم مجهودات شخصية تشرف العقلية البشرية، بل إنهم نسبوا كل شيء عندهم إلى السماء، حتى تلك المتناثرات الأخلاقية المنتزعة من الفضائل العملية والمصوغة في حكم مقتضبة، ويتخذون دليلاً على هذا ما تزدحم به كتب التاريخ من ازدهار الدين وإجداب الفلسفة في الشرق كل هذا الوقت الطويل الذي تلا العصور الأثرية، ويقولون: إنه لو كان للشرق فلسفة لشملها ناموس التقدم ولشاهد العالم تطوراتها المختلفة كما حدث في بلاد الإغريق. ومن أشهر أصحاب هذا الرأي في العصور الأخيرة (بارتلي سانت - هلير) إذ يقول في مقدمة ترجمته (للكون والفساد) ما نصه: (أما من جهة الفلسفة الشرقية فإننا لا نعرف، بل ربما لن نعرف أبداً من أمرها شيئاً معيناً بالضبط فيما يختص بعصورها الرئيسية وانقلاباتها، فإن أزمنتها وأمكنتها وأهلها تكاد تعزب عنا على سواء. إنها مستعصمة دون إدراكنا مدعاة للشكوك لما يغشاها من كثيف الظلمات، حتى لو عرفنا منها هذه التفاصيل مع الضبط الكافي لما أفادنا ذلك إلا من جهة إرضاء رغبتنا في الاطلاع دون أن يتصل بنا أمرها كثيراً. إن الفلسفة الشرقية لم تؤثر في فلسفتنا مع التسليم بأنها تقدمتها في الهند وفي الصين وفي فارس وفي مصر فإننا لم نستعر منها كثيراً ولا قليلاً. فليس علينا أن نصعد إليها، لنعرف من نحن ومن أين جئنا
ثم قال:
ولقد تصديت فوق ذلك لتبيين أن العبقرية الإغريقية هي التي دانت العالم بهذا النفع العلمي(198/34)
الجليل دون أن تكون مدينة فيه لغيرها، فإذا كانت الشعوب المجاورة لها آتتها شيئاً من العلم فما هو إلا مدد مبهم غاية في الإبهام. لا مراء في أن المصريين والكلدان والهنود لهم في ماضي الإنسانية مقام كبير، ولكنهم مع ذلك في الفلسفة أو في العلم بعبارة أعم ليسوا شيئاً مذكوراً في جانب الإغريق الذين لم يكونوا ليتعلموا منهم.
وقال أيضاً: (وإن العلم على جميع صوره كان معدوماً في الشرق فأخترعه الإغريق ونقلوه إلينا).
ولهذا الرأي مقلدون في مصر كما هي الحال في كل فكرة تطعن على الشرق.
وفريق آخر يذهب إلى ما نقله (لاإرس) من أن الفلسفة الإغريقية ليست إلا تراثاً شرقياً متغلغلاً في القدم ويستندون في هذا إلى براهين أهمها ما يأتي:
1 - إن جهود المستشرقين قد وضعت أمام أنظارنا مدنيات شرقية ضاربة في التقدم بسهم نفاذ كمدنيتي مصر والعراق مثلاً، وأنبأتنا بأن هذه المدنيات سابقة على مدنية الإغريق بعدة قرون. وأثبتت لنا علائق متينة بين بعض ما تحتويه هذه المدنيات وبين الفلسفة الإغريقية ممثل علاقة نظرية (تاليس) الشهيرة القائلة بأن أصل الكون هو الماء بأنشودة خلق الكون الدينية العراقية التي تصرح بأن كل شيء في الكون منشئوه الماء إذ تقول في مطلعها ما ترجمته: (حين لم تكن السماء العليا بعد قد فازت باسمها ولم تكن الأرض هي الأخرى قد تسمت بهذا الاسم كان أبوهما: (أبسو) وأمهما (تياما) وهما: (الماء) أو جوهر كل شيء ممتزجين امتزاجاً تاماً قصد التناسل والإخصاب).
فإذا لاحظنا أن الأنشودة العراقية كانت قبل (تاليس) بعهد بعيد، وأن سيادتها في القرن السادس قبل المسيح كانت على أتم ما تكون قوة وتغلغلاً في النفوس، ولاحظنا الصلات التجارية والاجتماعية في ذلك العصر بين العراق وأيونيا استطعنا أن نرجح في سهولة كفة تأثر تاليس بتلك الأنشودة العراقية القديمة، بل استطعنا أن نجزم بأن من المستحيل أن يكون تاليس قد ابتدع نظريته في أصل الكون.
2 - إن العلماء المشتغلين بالبحث في الإنسان وخواصه والفروق الموجودة بين طوائفه المختلفة قد قرروا أنهم التقوا أثناء بحوثهم بأدلة قاطعة على أن بعض النظريات الإغريقية لا يمكن أن تكون من أصل إغريقي، لأنها توفرت فيها جميع شرائط العقلية الشرقية(198/35)
وخواصها.
3 - إن الباحثين الأثريين قد عثروا على كلمات: العدالة والفضيلة والنفس الحياة الأخرى في الشرق قبل مبدأ تاريخ وجودها في الغرب بقرون لا يعرف مداها، بل إنهم قد تأكدوا من أن الغرب لم ينطق بهذه الكلمات إلا بعد اختلاطه بالشرق.
4 - إن علماء الرياضة قد فرغوا من تقرير أنه من غير الممكن أن تبنى الأهرام في بلد لم تقطع فيه الهندسة العلمية أشواطاً بعيدة.
وفي هذا رد بليغ على الذين يزعمون أن مصر لم يكن فيها هندسة علمية، وإنما كان فيها هندسة عملية فحسب.
5 - هناك أدلة أخرى لم تصل من القوة العلمية إلى ما وصلت إليه الأدلة السابقة، وإن كان أنصار هذا الرأي يستأنسون بها مثل رحلة تاليس إلى مصر والشرق الأقصى، ومثل وجود العناصر الأولى من منطق أرسطو في المدارس الهندية السابقة لعصره، ومثل وجود الكلام عن الجوهر الفرد في المدارس الهندية كذلك أو وجود فكرة التناسخ عند المصريين والهنود وغير ذلك ممن يسند هذا الرأي الأخير ويقويه.
إذا عرفنا كل هذا وتبينا أن هذه الفلسفة اليونانية العظيمة إنما هي وليدة الأساطير الشرقية. فقد وجب على كل باحث في الفلسفة أن يبدأ بحوثه بفلسفة هذه الشعوب الشرقية، ليكون على بينة من العناصر الأساسية التي تكون منها الجسم المراد درسه
غير أن هناك عقبات ومصاعب اعترضت ولا تزال تعترض سبيل دارس الفلسفة الشرقية وتقفهم موقف الحروجة والعسر مثل:
1 - ما يزعمه بعض المتحاملين من المحدثين من أن فكرة بدء الخلق في الشرق تستمد عناصرها من الدين أكثر مما تستمدها من الفلسفة: وإن شئت فقل: إن الدين والفلسفة في الشرق شيء واحد، ولهذا لم يعرف للتاريخ نظرية فلسفية ظهرت في الشرق القديم مستقلة عن الدين، وإنما مهد النظريات الحرة البعيدة عن كل التأثيرات الدينية من غير استثناء هو بلاد الإغريق. وهذا هو الباعث الأول الذي قلل من أهمية دراسة الفلسفة الشرقية في نظر علماء العصور الحديثة وحط من قيمتها عندهم.
2 - إن المصادر التي وصلت إلينا عن فلسفة تلك الشعوب الشرقية قليلة لا تكفي لإشباع(198/36)
الرغبة العلمية عند الدارس المتقصي الذي لا يرضى من المشكلة بأقل من الإحاطة بجميع نواحيها، وإن كانت هذه الندرة في المراجع لم تحل بين الباحثين المحدثين وبين معالجة هذه الفلسفة الشرقية ووضع المؤلفات الضخمة عنها مثل كتب:
(أ) (هيكل تاريخ الفلسفة الهندية) تأليف (ماسون أورسيل) وقد ظهر في سنة 1923.
(ب) (تاريخ فكرة وحدة الوجود الهندية) تأليف (أولتترامار) ظهر في سنة 1923.
(ج) (تاريخ الديانات) تأليف (دينيس سورا) ظهر في سنة 1924.
(د) (أصول الديانة الإسرائيلية): (الجيوفية القديمة) تأليف (س. كوسان) ظهر في سنة 1931.
(هـ) (تاريخ الفلسفة الصينية) تأليف (زانكير) ظهر في سنة 1933.
على أن هاتين العقبتين المتقدمتين لا تمنعاننا من أن نعتبر دراسة الفلسفة الشرقية هي أول ما يجب على المشتغل بدراسة الفلسفة الاعتناء به، أما امتزاج الفلسفة بالدين الذي كان من عوامل حروجة دارس موقف الفلسفة الشرقية فسنجتهد في حله بأن نعين مهمة كل من هذين الممتزجين اللذين عقد امتزاجهما الموقف وجعله من المشاكل العويصة.
ولكن قبل أن نعالج هذا الموضوع ينبغي لنا أن نشير إلى أن تلك العقبة الأولى الناشئة عن امتزاج الفلسفة الشرقية بالدين ليس مسلماً بها من جميع العلماء والباحثين المحدثين، إذ يصرح بعضهم بأن هذا الامتزاج ليس خاصاً بالشرقيين في العصور القديمة، وإنما هو طبيعة إنسانية عامة كما وجدت في مصر والعراق في الأزمان الغابرة، كما وجدت كذلك في أوربا في القرون الوسطى. وليس القديس (أوجستان) والقديس (توماس) والقديس (أنسلم) - وهم من مشاهير فلاسفة المسيحيين في أوربا - إلا مظاهر لهذه الفترة البشرية التي نشأت على مزج الدين بالفلسفة، بل إن (ديكارت) و (اسبنوزا) و (كانت) أنفسهم - وهم أعلام فلاسفة العصر الحديث - ليسوا إلا مظهراً آخر من مظاهر هذا الانعطاف الطبيعي. وإذاً، فرمى الشرق القديم وحده بهذه النقيصة - إن صح إنها نقيصة - ضرب من العنت والجور اللذين يجب أن يتنزه عنهما الباحث المحايد.
وسواء أصح الرأي الأول أم الثاني، فإننا سنحاول هنا أن ندرس الفلسفة الشرقية الممتزجة بديانات الشعوب التي ظهرت فيها، عاملين - كما قدمنا - على تمييز الفلسفة من العقيدة ما(198/37)
استطعنا إلى ذلك سبيلا.
وسنبدأ دراستنا بأقدم هذه الديانات الوثنية عهداً، وهي الديانة المصرية التي لم يعرف التاريخ أعرق منها في أغوار الماضي البعيد.
(يتبع)
الدكتور محمد غلاب
-(198/38)
هتاف الشيطان
للأستاذ عبد المغني علي حسين
كنا في حجرة استقبال، بدار إنجليزية، بإحدى مدائن إنجلترا، والفصل شتاء، والوقت ليل؛ فالستائر مسدلة، ونار الفحم موقدة، ونحن في غمرة من الدفء الشهي، ذلك الموج الخفي. في اللجي الأثيري. وكانت الطبيعة في تلك الليلة غضبى والريح تهب من جميع الجهات إلى جميع الجهات، يجن جنونها فتثب على الشجر المنحف العاري تعركه عركاً وتكاد تمزقه وتشظيه، لولا تلويه، فتختلط زمجراتها بعويل الشجر. كانت الريح في الفينة بعد الفينة تهوي علينا من المدخنة، كأنما تبحث عنا جاهدة، فإذا استعصت عليها الأبواب والنوافذ لم تتحرج أن تأتي البيوت من سقوفها، فتنقض علينا تنفث في وجوهنا السناج والدخان. ثم ترتد من المدخنة لتكر على زجاج النوافذ تحصبه برشاش المطر.
كنا في الحجرة أثنين. أما الثاني فسيدة إنجليزية شقراء أرملة في نحو الخمسين، تنحني على النار فتجيل فيها العود، وتعتدل فتضع ساقاً على ساق، وتنظر إلى اللظى بعينين رماديتين حالمتين حزينتين. هي (صاحبة البيت) كما كنا نسميها. كنا نسمر سمراً متراخياً أكثره سكوت، إذ كان الحس موزعاً ما بين تخدير الدفء وتخويف الطبيعة. إلى أن حدث أمر أيقظ منا الحس. وأهاج النفس، فإذا هياج الطبيعة من هياج النفس كخطر النسيم من لفح الجحيم.
ذلك أنه كان على إحدى حوائط الحجرة لوحة فيها رسم فتى وفتاة كلاهما في نحو العشرين أو دونها، أما الفتى فكان صغير الجرم. في وجهه إشراق الذكاء. وفي هيئته جد وحيوية؛ يبسم للدنيا - الدنيا المخاتلة! وأما الفتاة فكانت ناهداً هيفاء بسمتها الحلوة خليقة أن تمحو مرارة الدهر، وتطرد الحزن من أقطار الوجود. شعرها مكور على رأسها على النمط الفكتوري؛ ثوبها طويل محكم يبدي من سحرها النسوي ما لا أظن العري يبديه؛ وقفتها فيها ميل من الدل والطراوة، وعيناها رماديتان حالمتان كان في الفتاة من سيدة الدار شبه، ولكنه ضئيل جداً.
لاحت منّي إلتفاتة إلى تلك الصورة، فقلت أسائل السيدة عنها وأجعلها موضوع حديث. فما إن فعلت حتى رأيتها وجمت وجوماً انقبض له صدري. قالت: (ألا تعرف من تكون الفتاة؟)(198/39)
قلت (من؟) قالت (أنا). فلم أقل شيئاً، ولكني عجبت من فعل السنين، لئن كانت تلك هي هذه فإن الزمن لم يترك منها إلا بقدر ما ترك في جسم أبي الهول من شكل الأسد. لابد وأن تكون أهوال ألف عام قد حشدت في عمر هذه السيدة حتى صارت مما كانت إلى ما هي الآن.
قلت فمن الفتى الوسيم؟ قالت (زوجي) واغرورقت عيناها الحالمتان، ومن الغريب أن الدموع لم توقظهما من أحلامهما.
حسبت أنني آلمتها بذكرى هناء ذاهب. وحبيب غير آيب، فقلت متعثراً معتذراً: (أخشى أن أكون أدميت جرحاً عله كان اندمل. فقالت (لا أخال مثل جرحي يندمل. وتلا ذلك سكوت وجدته خيراً من الكلام، ووددت لو أن كلاماً لم يكن.
ثم رأيت السيدة تنظر إلي نظرة فيها حنان الأم، وإذا بها تقول: (أوصيك يا بني ألا تذوق الخمر أبداً، فإن كنت شربتها فلا تقربها بعد اليوم). فدهشت لهذا الكلام المفاجئ وعجبت له. قلت (ما هذا الذي تقولين؟) قالت (لقد كانت حياتي مأساة يؤلمني أن أقصها فأحياها من جديد، ولكنها عبرة نافعة لمن هو في سنك، فسأقصها عليك.
كان زوجي في أول عهدنا فتى جم المحاسن، شديد الحب لي وللأطفال، يهوى العش الذي بنينا، وكان في عمله مثال النشاط، جم الكفايات. وشاء الجد العاثر أن ينقل إلى وظيفة (بالجمارك)، فكانت مهمته تقدير المكوس على الخمر التي ترد من الخارج، ومرت الأيام فإذا بي أشم ريح الخمر في فم زوجي، فأبديت له مخاوفي، فطمأنني قائلاً إنه يسترشد في عمله أحياناً بتذوق عينات الخمر، وإنه إنما يفعل ذلك بحذر وما يتناوله لا يذكر. ومرت الأيام فإذا به يعود إلي يترنح من الشراب ثم لم يعد المحب العطوف البسام، بل صار غضوباً إذا كلمته رفع صوته بالجواب الخشن. ثم ازداد فكان لا يفرغ هراؤه ما دمت بمرأى منه. ثم استغلظ فصار يضربني ويضرب الأطفال. كل ذلك وأنا حافظة عهده، أكتم ما أنا فيه عن الناس ثم حدث ما لم يكن منه بد، ففصل من عمله لقلة كفايته وسوء خلقه، واستعجف عيشنا، فأكلنا ما ادخرنا في العهود السمينة ويعلم الله أننا ما كنا نأكل بمعشار ما كان ينفق في الشراب. ثم ساءت صحته، وألح عليه السعال، فكان يسعل الليل بطوله وأنا معه يقظى حتى الصباح. وذات صباح انتبهت من غفوة فلم أجده في فراشه، فحسبت أنه(198/40)
بدورة المياه، ثم شممت رائحة غاز الاستصباح، فخفت أن يكون صنبوره بالمطبخ بات مفتوحاً فذهبت إلى هناك. فوجدت باب المطبخ مغلقاً، فعالجته حتى انفتح، وتراجعت إلى الوراء خشية الغاز السام، ثم نظرت أمامي فرأيت. . . ويا لهول ما رأيت. . .) وغطت وجهها بكلتا راحتيها وزلزل صدرها بنهنهة خفت أن تحطمه. قالت: (رأيته ممدداً في أرض المطبخ وقد استنشق من الغاز القاتل حتى قضي الأمر).
ثم كفكفت عبراتها، وهدأ صدرها، وجلسنا واجمين صامتين، كأنما الميت ممدد أمامنا ونحن لجلال الموت في خشوع. أردت أن أقول شيئاً أنفس به عنها فلم أجد ما أقول، وماذا يقال في رجل قتل عقله بالشراب. وقتل نفسه بالغاز. عمد إلى أنفس ما أعطاه الله، وإلى أقدس ما أعطاه الله فدمرهما، ومرغ معه في رغام التعاسة سيدة فاضلة وأطفالاً بيض الصحائف.
وحان وقتت انصراف السيدة، فجلست وحدي، أنظر إلى نار الفحم، وإنها لأبرد من نار الصدور، وذهب بي الخيال مذاهب عجيبة، حتى لقد خلت أني أرى الشيطان نحيف الوجه مستطيله محروق الجلد طويل الأصابع أحمر العينين، في مجلس من أعوانه، في جوف بركان خامد، أول ظهور الإنسان على الأرض. قرض الشيطان بأنيابه المعوجة وقال: (ماذا ترون في الدمية التي صنع الله؟) مشيراً بإبهامه إلى أعلى حيث سطح الأرض. قال أحد الأعوان: (إن في رأس تلك الدمية) جوهرة تغشى بصري، لو اعتنى بها ذلك المخلوق، وتبع ضياءها ببصره، كاد أن يرى الله جهرة!). فازداد قرض الشيطان بأنيابه وصاح: (أريد جديداً أيها الأبله) فسكت الجميع زمناً ثم عاد الذي تكلم فقال: (والله ما أحسب ذلك المخلوق إلا مفلتاً من أيدينا بجوهرته تلك، فهي خليقة أن تسمو به إلى حيث النور، ولا يبقى في الظلام خائباً منبوذاً إلا نحن). فوثب عليه الشيطان وثبة فر أمامها فأخطاته. ثم عاد الشيطان إلى مقعده والشرر يتطاير من عينيه، وإذا بجني يهبط عليهم من فوهة البركان وهو يصيح: (أحطت بما لم تحيطوا به، وجئتكم بنبأ عظيم) فصاح به الشيطان: (والله لقد كنت أنتظرك أيها الملعون لأقطع أوصاك بعد هذا الغياب الطويل. قل فلعل عندك ما يشفع لك) فشرع الجني يقول:
(بصرت بقبيل من تلك المخلوقات البغيضة يعيشون في كهوف هذه الجبال، فتخيرت واحداً منهم قوي الجسم مغروراً، فصرت أزين له الفتك بأقرانه، وفي ذات يوم رأيت امرأته تدق(198/41)
الحب بالحجر لتطحنه، ثم وضعت الطحن في حفرة بالصخر وذهبت لبعض شأنها، فزينت لأولادها العبث، فحملوا الماء وكفئوه على الطحن، ثم أنسيت المرأة طحنها يومين ليفسد، فتصاعد منه ريح خانق. وفي اليوم الثالث حضر الرجل من الصيد ضمئاً يلهث، ونادى على المرأة لتسقيه ولم تكن المرأة بالكهف، فثار ثائره، وبحث عن ماء فلم يجد فانتهزت الفرصة وأرشدته إلى حفرة الماء والطحن ليشرب مما بها فيتسمم فيموت، فلما بلغ الحفرة نظر فيها وعاف رائحتها فزينت له الشرب منها، وكان ظمؤه بالغاً، فشرب قليلاً وسكت ثم عاد يشرب حتى امتلأ، وأنا أكاد أطير من الفرح، ثم رأيته يقوم مترنحاً يضحك ملء شدقيه، فعجبت، وإذا به يسير بين الكهوف يجري وراء النساء كالمجنون فيهربن منه مذعورات، ثم لقي امرأته فهجم عليها كالوحش وقتلها شر قتلة. ثم أخذ يقتل كل من صادفه من الرجال ويعتدي على النساء. ذلك الذي حسبته سيموت قد ازداد قوة وجرأة، وأخيراً ارتمى فنام، ثم صحا بعد ساعات فرجع إليه صوابه كما كان، فعلمت أن ذلك الشراب يفقد الرجل عقله إلى حين.
عاد الرجل إلى كهفه، فلما رأى الخابية مال عليها يكرع وأعاد سيرة الأمس، وتحدث أهل القبيل بهذا الأمر العجيب فجاء الرجال وكرعوا من الخابية، وجنوا مثل صاحبهم، وقد تركتهم ولا عمل لهم إلا صنع ذلك الشراب والعب منه، وتهتيك النساء، وتقتيل الرجال ولا أحسب قبيلهم بعد قليل إلا صائراً أثراً بعد عين)
فما إن سمع الشيطان هذا الحديث حتى وثب على المتكلم ولكن ليعانقه ويقبله. وتصايح الجمع صيحات الفرح، وأخذوا يرقصون ويقفزون. ثم رفع الشيطان يده فسكتوا فقال: (أيها الإخوان! لقد تجدد أملكم بذلك الشراب العجيب فانفروا إلى سطح الأرض. وانتشروا في المشارق والمغارب، وعلموا العدو الأبله صنع الشراب، وزينوا له شربه، فسيفرح الغبي به، ويذيب منه جوهرته اللعينة، فإذا شربه صار لعبة في أيدينا، وإذا أفاق اشتاق غليه فلا نزال به حتى نهلك منه الروح والجسد جميعاً، قولوا معي أيها الإخوان: لنحيي الخمر.
فتدفقوا وهم يرددون هذا الهتاف، ولا يزال هذا هتافهم إلى اليوم.
عبد المغني علي حسين(198/42)
على أطلال الماضي
ساعة في. . . (سُرَّ مَنْ رَأَى)
(في السنة الآتية يكون قد مر على إنشاء سر من رأى ألف ومائة سنة)
ع
. . . الآن رجعت من التاريخ. إني أرى الدنيا صغيرة خابية لأني كنت في دنيا أكبر منها وأحفل بالنور والعطر: كنت في (سر من رأى)!
جلست أدون رحلتي إلى الحلة (دمشق العراق) ووقوفي على أنقاض بابل (أخت الدهر) وزيارتي السدة الهندية (القناطر الخيرية الثانية) وما أولاني الحليون من ألوان المنن وأنواع الكرم. . . فلم أكد أمضي في المقالة حتى عرضت لي رحلة جديدة إلى سر من رأى. . . ومنذا الذي لا تفتنه سر من رأى؛ ولا تهيج بلابل أشواقه؟ ومنذا الذي نظر في كتب التاريخ أو شدا بشيء من الأدب ثم لا يعرفها ولا يحس أن لها صلة بنفسه؟
رددوا هذا الاسم الجميل عشر مرات بصوت خافت كأنه مناجاة النفس، بطيء كأنه هجس الضمير، وأنتم تنظرون بعيونكم إلى بعيد، تحدقون في غير شيء، فعل من يتذكر أمراً، ثم انظروا كم يثير في نفوسكم من ذكر وحوادث، وفكر وعواطف، أقل ما توصف به، إنها لا توصف، وكيف تحتويها كلمات وهي عالم؟ وكيف تنتظمها لغة الأرض وهي من لغة السماء؟ ومتى كان الإنسان ناطقاً مبيناً؟ إن هذه اللغة رموز ضئيلة، كائنات عظيمة؛ إن العواطف مئات ومئات وما ثم إلا كلمة واحدة. . . وكذلك الجمال والحب والطبيعة. . . لا. إن الإنسان لا يزال طفلا لم يتعلم النطق ولم يحسن البيان!
سر من رأى، وما سر من رأى؟ هي التي نهضت لبغداد لما كانت بغداد عاصمة الأرض. ولما بلغت غاية المجد وابعد الأماني، وبذت كل مدينة، وكان فيها مليونان من السكان، وكان فيها العلم والفن والسلطان. . . نهضت لها تزاحمها وتنافسها، فلم تكن إلا ليال حتى غلبتها وبهرتها، وتربعت على دجلة من فوقها، وسلبتها خلفيتها وأبهتها وحلة أبنائها، وكانت اجل منها وأعظم.
سر من رأى، المدينة الملوكية، التي ولدت فجأة فإذا هي أجل المدن، وإذا في كل ناحية منها عرش، وفي كل بقعة منها عرش، وإذا هي تتشح بالنور وتتضمخ بالعطر، وتنام على(198/43)
الزهر، وإذا هي تبلغ ما لم تبلغه من بعد الزهراء المدهشة، ولا فرساي. . .
ثم ماتت فجأة، فإذا كل ذلك حلم سريع وبرق خاطف. لم تعش إلا نحو خمسين سنة، (838 - 883) وما خمسون سنة في عمر المدن، إلا خمسون دقيقة، أفرأيت الجميلة التي ولدت بأعجوبة، فإذا هي الغادة الفتانة، ثم إذا هي تقضى بعد ساعة؟
لم تكن تزدهر وتستقر حتى نودي فيها بالرحيل والرجوع إلى بغداد، فهب الناس مذعورين، يحملون ما خف حمله وغلا ثمنه وتركوا المدينة العظيمة للرياح والوحوش واللصوص. . .
قرأت ذلك من حديثها، ثم لم أعد أعرف عنها شيئا، لم أدر ما صنع الدهر بها. . . وأين من يسأل عن الآثار ويبحث عنها؟ ومن يعرف اليوم ماذا جرى بالكوفة ومسجدها؟ والبصرة ومربدها؟ أو يعلم صفة القادسية أو اليرموك؟ من يسأل عنها وهذا مسجد بغداد العظيم، مسجدها الجامع، قد أبتلعته الدور وطغت عليه فلم يبق منه إلا منارته التي تقوم منحنية تبكي هذا المجد العظيم وهذا الماضي الفخم، وتنادي لو وجدت سميعاً: وما كان ذنب هذا المسجد، وما كان ذنب هذه الآثار، إلا إننا نحن وارثوها لا الفرنسيس ولا الإنكليز، أولئك الذين لم يدعوا في بلادهم شبراً من الأرض فيه جمال من جمال الطبيعة، أو أثر من آثار الماضي، إلا كتب عنه مؤرخوهم، ووصفه أدبائهم، وصوره مصوروهم، ونحن الذين أضعنا آثارنا الجليلة، وهدمناها بأيدينا لنبني بأنقاضها دورنا الحقيرة!
أسمعتم بالمدرسة النظامية التي درس فيها حجة الإسلام الغزالي والتي كانت من أكبر جامعات القرون الوسطى؟ أتدرون ماذا بقي منها! منارة مهدمة طولها أربعة أمتار، في زقاق عرضه ثلاثة أمتار، عند جامع مرجان في بغداد، والمنارة مائلة قد انحنت تحت أثقال دار قد ركبتها، وربما هدمت المنارة لتقام عليها الدار، فمن يدري؟ وأين من يدرس الآثار ويعنى بها؟ وهذا قصر الخضراء في دمشق، ما بقي منه إلا اسمه تحمله مصبغة، في زقاق القباقيب. يا لعجائب الزمان! صار مثوى التاج ومحط العرش زقاق القباقيب. . . فمن سأل عنه؟ ومن وصفه؟ ومن حفر في أنقاضه؟ أما لو أن هذه الآثار كانت لغيرنا، إذن لحرقت هذه البقاع حرقاً ثم أخرجت كنوزها، ثم ملأت نفوس أهلها عزة، ثم كانت لهم أجنحة يطيرون بها في معارج العلاء. . . إن تحت هذه الأرض علماً ومجداً وجلالاً، ولكن ليس(198/44)
فوقها من يحفل العلم والمجد والجلال!
أو ليس من أعجب العجب، يا قومي، أن آثارنا لم يبحث عنها ولم يكشفها إلا هؤلاء الأوربيون؟ إن في دمشق قريتين هما معلولا وجبعدين تتكلمان السريانية منذ خلقتا، فما فكر أحد في درس هذه اللغة ومعرفتها، حتى جاء هذا المستشرق الشاب، رايخ النمسوي من أخر الدنيا ليدرسها. . . بل هذه هي سر من رأى، ما نقب فيها وكشفها للناس إلا هرسفلد الألماني، الذي حفر فيها سنة 1911 كلها وبعض سنة 1913 بإشارة من أستاذه ساره وبنفقة المصرف الألماني وبعض كبار الألمان. بدأ الحفر في قصر المتوكل ثم انتقل إلى الجوسق، وإلى القصر المعروف بقصر العاشق، واستخرج من هذه البقعة الصغيرة كراثم الآثار ونفائس الأعلاق، التي انتقلت إلى ألمانيا، وبقيت لدينا نسخ معدودة من هذا الكتاب الجليل الذي أخرجه هرسفلد في مجلدات كثيرة فيه صور هذه الآثار باهرة مدهشة حقاً؛ وهو يصف في المجلد الأول نقوش الجدران وزخارفها، ويقول أنه لم تكن تخلو دار من هذه النقوش الجصية البارزة الملونة أحياناً؛ وفي الثالث الرسوم والصور، وأكثر هذه الصور مما وجد في حمام الجوسق، وقد حلت هذه الصور مشكلة قصر المشتى الذي كشف سنة 1908، ويتحدث في جزء عن الأواني الزجاجية والخزفية، وقد ظهر أنه كان في سر من رأى معمل الزجاج، ومعمل للأقمشة وجدت بعض قطع ملونة من مصنوعاته.
ومن أهم ما تمتاز به المدينة شوارعها، التي لا تكاد تحوي مثلها (اليوم) مدينة في العالم، فقد كانت كلها مستقيمة متقاطعة بانتظام عجيب، والشارع الأعظم، (وآثاره باقية) يمتد بعرض مائة متر، ودورها التي كان أكثرها كبيراً في خمسون غرفة، وفيه مجار الماء وبرك، ومجار أخرى للماء القذر، وحمامات وسراديب للصيف على نظام يكفل لها حسن التهوية، وكان أكثر الدور على طراز واحد، فهي ذات ردهتين: ردهة حيال الباب تفضي إلى ردهة أخرى مستطيلة، عمودية عليها والغرف من حولهما.
وقد صحب هرسفلد رجل عسكري يدعى (لودلوف) متخصص
برسم المصورات، صنع خريطة للمدينة مفصلة بنسبة
250001 وصحبه رجلان مختصان بالنقوش هما (بارتوس(198/45)
وبيجر) على أن ما كشفه هرسفلد لا يعد شيئاً، والمتحف
العراقي عامل على موالاة التنقيب في الآثار، وجمعها في
متحف الآثار العربية، وينتظر ظهور أشياء هائلة.
سرنا إلى (سر من رأى) في قافلة مؤلفة من كبار طلاب (دار المعلمين العالية في بغداد) والدكتور كامل بك عياد (أستاذ التاريخ الإسلامي في الدار) و. . . أنا، فجزنا بالأعظمية، وعبرنا النهر إلى الكاظمية، ثم استقبلنا الفضاء.
ولم نقف في الطريق إلا على جسر حربي، وهو جسر قائم في الفلاة ذو ثلاث قناطر. عليه كتابة ظاهرة تدل على أنه بنى في أواخر العهد العباسي على نهر دجيل ليسقي مدينة حربي، فتلفتنا فإذا النهر قد جف والمدينة قد محيت والعهد العباسي قد انقضى، وإذا كل بلاد الله تتقدم وتزداد عمارة، وبلادنا تتأخر وتمعن في الخراب فوقفنا معتبرين. ومضينا مستعبرين.
ولم نسر من بعد إلا قليلاً حتى طلعت علينا (الملوية) وهي منارة جامع المتوكل، عالية تبدو من بعيد كالصرح الهائل، وقد شبهت مكانها من سر من رأى، ببرج إيفل من باريز، فهي علم البلد ورمزه. ثم بلغنا دجلة فعبرناه. ودخلنا (قرية) سامراء نستريح في مدرستها ساعة بعد مسيرة ثلاث ساعات في السيارة. ثم ولجنا حرم التاريخ، يصحبنا معلمو المدرسة الذين أولونا من أياديهم وأرونا من كرمهم وحسن أخلاقهم، ما نذكره لهم بالشكر، فلولاهم ما رأينا شيئاً، ولا عرفنا من أين ندخل أو نخرج في هذا العالم الواسع!
إي والله. هو عالم، وهو شيء عظيم جداً.
سرنا أكثر من خمسة وعشرين كيلاً، وما قطعنا إلا نصف البلد من المسجد الجامع إلى الدور العليا، وإن إلى الدور السفلي لمثلها، وإن هذا كله لنصف المدينة، وعلى الضفة الأخرى مثله.
أنا لا أستطيع أن أتصور كيف كانت هذه البرية الواسعة التي يضل فيها البصر، مدينة عامرة، وكيف كان الناس يقطعونها، وإن بين أولها وآخرها اليوم لمسيرة اثنتي عشرة ساعة على الراكب.(198/46)
كان أول ما رأينا المسجد الجامع، وهو كبير جداً لو وضعت سامراء الحاضرة فيه لوسعها وفضل عنها، لم يبق منه إلا السور وهو مبني من اللبن مثل سائر الأبنية العراقية، تدعمه من ظاهره أبراج مستديرة، ووراء السور المنارة، وتعرف عند الناس بالملوية أي المستديرة، وهي حلزونية الشكل سلّمها من ظاهرها، مؤلفة من سبع طبقات، ارتفاعها (75) متراً، وتحتها قاعدة مربعة أقيمت حديثاً لتقويتها، طول الضلع من أضلاعها (40) متراً، فصار ارتفاع المنارة قريباً من (85) متراً وقد بنيت على غرارها منارة جامع ابن طولون في القاهرة، ثم تركت هذه الصفة في المآذن واتخذ لها سلم من جوفها.
تركنا المسجد وسرنا في وجهة واحدة، كيلا نضل في وسط هذه الأطلال، وكان حولنا تلال من التراب، كانت قبل ألف ومائة سنة، دوراً عامرة، وقصوراً فخمة، فجزنا بها حتى بلغنا أنقاضاً حولها سور كبير، أخبرنا بها معلم المدرسة أنها أنقاض قصر أُم عيسى ابنة الواثق، وعلا بنا على تل عال وقال: انظروا، فنظرت فلم أر إلا برية واسعة. لا شيء فيها. . . فقال: أمعن، أنظر، وحدق في الأرض، ففعلت فرأيت شيئاً أدهشتي، وخفق له قلبي، رأيت تلالاً صغيرة منتظمة، على شكل دوائر متقاطعة على نمط هندسي بديع، تمتد إلى ما لا يدرك البصر آخره. . . فقلت وأنا مشدوه: ويحك ما هذا؟ قال: حديقة!
وأي حديقة هي؟ حسبي أن أقول: إنها شيء هائل!
ومضينا. . . نمر على الأطلال. حتى بلغنا آثار سور كبير جداً كأنه سور مدينة. . . فقال دليلنا: هذا بلاط الخليفة، فترجلنا وسرنا في طريق مبلطة باقية آثارها، ونحن نتخيل كم مر في هذه الطرقات من خلفاء وأمراء، وكم شهدت من جلال وجمال، حتى بلغنا مصيف المتوكل، وهو أول ما استقبلنا من القصور، ونسيت أن أقول إن البلاط بلدة واسعة، فيها عشرات القصور تبدو أنقاضها ناطقة بعظمتها، وفيها مسجد كبير، وفيها البركة المتوكلية المشهورة، بركة البحتري، فولجنا المصيف، وهو قصر كبير تحت الأرض، به غرفة محفورة فيها حفراً، وهي متصلة يفضي بعضها إلى بعض، ولها نوافذ كثيرة، تضمن لها حسن التهوية، وفي وسط القصر بركة. . . وقد كدنا نهلك من حرارة الشمس ونحن فوق الأرض، فلما هبطنا إلى جوف القصر كدنا نهلك من البرد. . .
وكان الصديق الأستاذ كامل بك يسرد فلسفته العلمية ويقص علينا قصة القصر وبناءه، وفنه(198/47)
وقيمته التاريخية ولكن واحداً منا لم يكن يصغي شيئاً أو يفهم شيئاً مما يقول. . . فكف وعلم أن الكلام الآن للقلب وعواطفه الحية، لا للعقل ومقاييسه الجافة، وفلسفته الباردة. . .
كنا نتخيل هذا القصر، وقد كان يعج بالحياة، ويفيض بالحب؛ كنا نسمع الأصوات، ونبصر الألوان، ونشم عبق العطر ونحس كأنا نرى الخليفة ونشهد مجالس الأدب والغناء، وخلوات الحب.
كم عاش في هذا المكان من عواطف! كم خفقت فيه من قلوب! كم امتلأ بالحياة. . . أفيؤدي ذلك كله بمثل هذه السرعة وهذه السهولة، ويشمله العدم ولا يبقى له وجود قط؟
أي امرئ عرف الحب، وكابده وأدرك معناه، ثم يؤمن بأن العدم يقوى عليه! لا. إن ذلك كله موجود! موجود في زاوية من زوايا هذا الكون الفسيح، إنه خالد لا يفنى أبداً، إن في هذا القصر ذكريات جمة، تحتويها هذه الجدران الخرساء، وهذا اللبن البارد، إن فيه صدى تلك الهمسات التي كانت تتناجى بها الشفاه؛ إن فيه خفقات تلك القلوب؛ إن فيه رنات تلك القبل.
إن سؤال الديار، واستخبار الأطلال، أقدم فنون الشعر العربي، فهل ترى الشعراء كلهم مجانين؟ أتراهم كانوا عابثين؟
لا. إن في هذه الأطلال الحياة. . . إن كل شيء في الوجود حي يذكر ويأمل ويشعر ويحلم، ولكنه لا ينطق ولا يفكر. . .
آه. . . لو أن هذه الجدران كانت تنطق، وتتحدث وتصف ما تشعر به. . .
وخرجنا من القصر، ونحن نحس كأنا قد خرجنا من أنفسنا وانتقلنا إلى عالم آخر، عالم تمتزج فيه الأحلام بالحقيقة؛ عالم شعري ساحر. . . فمررنا على جب واسع للماء خبرنا دليلنا إن بعض الجاهلين من الإدلاء والتراجمة يدعون بأنه سجن، ويختلقون حوله الأكاذيب. . . وهؤلاء الإدلاء والتراجمة بلاء أزرق، وقد سمعت واحداً منهم يشرح لبعض الإفرنج تاريخ المسجد الأموي في دمشق، فقال لهم ما نصه: (هذه هي المنارة التي بناها الوليد بن هارون الرشيد لسيدنا عيسى، ولذلك سميت منارة عيسى) وهم يكتبون في دفاترهم ما يقول، فينشرونه على إنه كتاب علمي عن الشرق وأهله، وليس العهد ببعيد بتلك الكاتبة الفرنسية التي كتبت كتاباً عن دمشق قالت فيه: ويخرج أهل دمشق كل مساء لزيارة(198/48)
قبر النبي في مكة القريبة من دمشق!!
أقول إننا سرنا إلى مسجد القصر. وقد حفر فيه هرسفلد واستخرج منه آثاراً رخامية ومحراباً جميلاً حملها إلى ألمانيا ثم انتهينا إلى البركة، ولست أكتم القراء إني كنت أظن أن البحتري يبالغ قي وصفها، على طريقة الشعراء الخياليين وأقرر ذلك في دروسي، وأقول ما عسى أن تبلغ هذه البركة، حتى تظل دجلة كالغيرى منها تنافسها وتباهيها. وحتى تبدو في الليل كان سماء ركبت فيها، وحتى أن السمك المحصور لا يبلغ غايتها لبعد ما بين قاصيها ودانيها! فلما رأيت أنقاضها رأيت شيئاً عظيماً. رأيت بحراً، رأيت ميدان سباق، دائرة قطرها نحو مائتي متر، فأكبرتها وهي جافة فكيف لو رأيتها وهي ممتلئة بالماء، ومن حولها الغرف المفروشة المزخرفة، وقد عقد فيها مجلس الخليفة، إذن لرأيت أكثر مما قال البحتري، فرحم الله الشاعر وألهم شعراءنا تخليد ما يرون من جمال بلادهم، وعظمة مصانعهم، على نحو ما خلد البحتري البركة، والجعفري وطاق كسرى!
ثم سرنا إلى قصر الخليفة الرسمي ووقفنا في إيوانه الكبير، وهو بني على شكل إيوان كسرى، ولكنه أجمل وأصغر، وقفنا صامتين خاشعين تتقاذفنا عواطف وذكريات لا يدرى مداها، نتخيل هذا الإيوان وكم عقد فيه من مجالس، وكم وقف فيه من ملوك، وكم كتب فيه من تاريخ، نبصر المعتصم وقد أخذ كأسه ليشرب فأبلغوه إن امرأة مسلمة أسيرة في بلاد الروم صاحت: وا معتصماه.
امرأة أسيرة، وأمير المؤمنين يشرب كأسه هانئاً؟ امرأة تنادي: وامعتصماه، والمعتصم لا يجيب؟ إن هذا لن يكون
وأرى المعتصم يخرج في الجيش اللجب الذي تضطرب له سر من رأى، وتميد لثقله الأرض، وتصعق لهوله المردة، وترتجف الرواسي حتى يحط على عمورية، فيدكها دكاً ويعود مثقلاً بالمجد والظفر والغنائم.
وأسمع أبا تمام ينشد آيته الخالدة.
السيف اصدق إنباءً من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به ... نظم من الشعر أو نثر من الخطب
يا يوم وقعة عمورية انصرفت ... منك المنى حفلاً معسولة الحلب(198/49)
أبقيت جد بني الإسلام في صعد ... والمشركين ودار الشرك في حبب
ثم انظر حولي فأرى كل شيء قد تبدل
تغير حسن (الجعفري) وأنسه ... وقوض بادي الجعفري وحاضره
تحمل عنه ساكنوه فجأة ... فعادت سواء دوره ومقابره
إذا نحن زرناه أجد لنا الأسى ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره
(غدا موحشاً قفراً) كأن لم يقم به ... أنيس ولم تحسن العين مناظره
كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة ... بشاشتها والملك يشرق زاهر
ولم تجمع الدنيا إليه بهاءها ... وبهجتها والعيش غض مكاسره
فإن الحجاب الصعب حيث تمنعت ... بهيبتها أبوابه ومفاخره
وأين عميد الناس في كل نوبة ... تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره
لقد هجر الحياة. ونأى عن النعيم، وجفاه. . . حتى دجلة. . . دجلة أعرضت عن القصر، ونأت عنه وقد كانت تسيل على أعتابه. وجفته وكانت مع الدهر الدوار. . . والزمان الغدار، حتى دجلة التي أفاضوا عليها المجد، ووضعوا فيها الحياة، وأعطوها أكثر مما أخذوا منها. . . حتى دجلة التي تجري منذ ملايين السنين، فلم تجد اكرم ولا اعز ولا اعظم، من أصحاب هذا القصر وبناته. . .
حتى دجلة نسيت وكانت!!
ثم ودعنا البلاط وسرنا - وقد أودعناه قلوبنا وصببنا فيه نفوسنا ودموعنا. . . سرنا في الشارع الأعظم نصف ساعة في السيارة - وقد رأيناه بيناً، عرضه مائة متر والشوارع تتفرع عنه في نظام عجيب، وهندسة محكمة - والبيت قائمة على الجانبين وقد استحال أثرها إلى تلال من التراب كأنها القبور. . .
فمررنا على معسكر أشناس، وهو أشبه بميدان فسيح جداً حوله سور. حتى انتهينا إلى المسجد المعروف اليوم بجامع أبي دلف وهو أكبر من مسجد المتوكل وفي رواق قائم على خمس قناطر ومنارة كالملوية ولكنها أصغر منها. فوقفنا عليه.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فانتهت الرحلة هنا، وعدنا ونحن صامتون خاشعون. . .(198/50)
ولقد علمنا لماذا يريدون منا أن نتجرد من ماضينا. لأننا لا نستطيع أن نبني المستقبل الفخم، إلا على أنقاض الماضي الفخم.
(بغداد)
علي الطنطاوي(198/51)
تلخيص وتعليق
أسبوع الجاحظ
لمندوب الرسالة
بقية المنشور في العدد الماضي
اليوم الرابع
كتابا الحيوان، والبيان والتبيين هما أهم ما للجاحظ من الآثار التي وصلتنا، والتي انتفع بها الكتاب والأدباء، ولقد كان اليوم الرابع للقول في هذين الأثرين الكبيرين، وكان درس الحيوان منوطاً بالأستاذ (كراوس) وكان الكلام في البيان والتبيين على الأستاذ مصطفى السقا.
وقد تكلم الأستاذ كراوس عن الحيوان كلاماً مستفيضاً فوضح غرضه وأهميته، وأهتم كثراً بتحقيق الصلة بينه وبين كتاب الحيوان لأرسطو فقال: إن أبا منصور البغدادي قد ذكر إن الجاحظ لم يعمل شيئاً إلا أن سلخ معاني كتاب الحيوان لأرسطو، ثم ضم إليه ما ذكره المدائني من حكم العرب وأشعارها في منافع الحيوان، وكان البغدادي هذا يطعن على الجاحظ، وكان كثير النيل منه، فقوله قول خصم لا يصح أن نقبله على علاته، ونحن وإن كنا نعتقد أن الجاحظ قد أتصل بالثقافة اليونانية ووقف على آراء أرسطو في الحيوان، إلا أننا نعتقد أنه ألف كتابه ليعارض كتاب أرسطو، وليقيم الدليل للشعوبية على إن العرب أصحاب علم ومعرفة كسائر الأمم، وقد أشار الجاحظ إلى ذلك إذ يقول في مقدمة الحيوان: (وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان إعرابياً، وإسلامياً جماعياً، فقد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة. وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة، ويشتهيه الفتيان كما تشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب كما يشتهيه المجد، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب)
ولذلك كان الجاحظ يهتم كثيراً بحشد أشعار العرب وأقوالهم وحكمهم في الحيوان، كما كان يهتم بالسخر من أقوال صاحب المنطق والضحك منها، فالبغدادي قد غبن الجاحظ وتجنى(198/52)
عليه وتنقصه بغير حق.
وتكلم الأستاذ السقا من بعد ذلك عن البيان والتبيين فقدم بين يدي الموضوع كلاماً طويلاً يتصل بشخصه أكثر مما يتصل بأمر الكتاب، فذكر أيامه في دار العلوم وهو طالب، وقال: إنه كان يكره البيان والتبيين ويستثقله وينفر منه، حتى حببه إلى نفسه نصيحة أستاذ مخلص، فأقبل عليه وأنتفع به في ثقافته الأدبية، وبلغ من إعجابه به أن كان يعاود قراءته، ثم عرض لموضوع الكتاب وذكر أبوابه وفصوله، وتكلم في أسلوبه وطريقته وأفرغ عليه كثيراً من الثناء والتمجيد، ومن العجب أنه ذكر تعريف الإنسان الذي نقله الجاحظ عن أرسطو فقال: إنه الحي الميت!! وقد سمعناه يعيده ثانيةً بهذا النص، وإنما هو الحي المبين على ما نعرف، ولكنه نطق التعريف كما جاء محرفاً في الكتاب!!
اليوم الخامس
وكان القول فيه للأستاذين إبراهيم مصطفى وأحمد الشايب، وكان موضوع الكلام للأستاذ إبراهيم مصطفى عن (دعاية الجاحظ)، وقد التبست الدعاية بالدعابة على السامعين، فانتظروا من الأستاذ أن يفيض عليهم من فكاهات الجاحظ ونوادره ولكنهم دهشوا إذ رأوه لا يمس ذلك ولا يقترب إليه، فجاءوا باللوم العنيف على الأستاذ، وقالوا: إنه أهمل موضوعه وخرج عليه وما كان مبعث هذا كله إلا تلك (النقطة) الخبيثة التي أهملتها يد الطابع، فأساء إلى الأستاذ وأساء إلى السامعين!
وقد أبتدأ الأستاذ القول في دعاية الجاحظ بما كان بينه وبين أبي هفان إذ قيل لأبي هفان: لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك؟! فقال: امثلي يخدع عن عقله؟! والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرةً، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة!
وعلق الأستاذ على هذه النادرة فقال: ونحن إذا تأملنا هذه النادرة نجد إن أبا هفان الشاعر قد تراجع أمام الجاحظ الناثر، أو بالأحرى نجد الشعر قد أنهزم أمام النثر، ذلك لأن الجاحظ قد نصر النثر على الشعر، فاستخدمه في موضوعات لم تكن له من قبل، وراضه على سبل استعصت على الكتاب السابقين، ثم إن الجاحظ في نثره قد أهتم بالتقرب من الجمهور ما استطاع، فأخذ يطرق الأمور التي تشغل بالهم، ويكتب في المعاني والأغراض التي تحيط(198/53)
بهم في حياته الأدبية والاجتماعية والأخلاقية والدينية، ولما قامت الفتنة بين المأمون والأمين وأندفع الناس في تيار تلك الفتنة، كان ذلك مما مكن الصلة بين الجاحظ والجمهور، لأنه أبتدأ يؤلف لهم في هذا الذي انصرفت إليه عقولهم، فكتب كتاب الإمامة لهم، فوقع عندهم الموقع الحسن، وقد قرضه المأمون وأثنى عليه، وإن تقريظ المأمون في الواقع لأدق وصف لكتب الجاحظ وكتاباته.
على أن الجاحظ في تقربه من الجمهور والعامة لم يكن إلا متبعاً لتعاليم المعتزلة الذين أخذوا يعملون لدفع الجمهور للعلم، وتقريب المعارف من نفوسهم بشتى الوسائل الممكنة، ونحن إذا تأملنا كثيراً من كتبه نجده قد أختار موضوعاتها مما يليق بالجمهور ويروج عندهم مثل كتاب البخلاء
ولقد كان الجاحظ يدخل على نفوس العامة من ناحية أخرى هي ناحية الدعابة والتفكه، فإنه كان يحفل بذلك ويعتد به، ولست أذكر من فكاهات الجاحظ وأساليبه في ذلك ومبلغ قوته في التصوير، فإن من قرأ منكم شيئاً من كتب الجاحظ فقد أدرك ذلك وتحققه، ثم عرض الأستاذ لكتاب التربيع والتدوير فقال: إنه نمط من فكاهة الجاحظ، ولكنه ملأه بالأسئلة عن أشياء لا تصح، وفيها ما يدور في أذهان العامة والجمهور، ولم يعمل الجاحظ على أن يجيب عنها، وقد قال الجاحظ في آخره: فإن أردت أن تعرف الفاسد والصحيح من هذه الأسئلة فألزم نفسك باب داري، وقراءة كتبي
وعرض للجاحظ في موقفه من المرأة فقال: إن الجاحظ لم يتزوج ولم يؤكد علاقته بالمرأة، ولكنه قد دافع عنها وأكبر من شأنها، وله كتاب (الحرائر والإماء) كتبه في مناصرة الإماء والثناء عليهن وتفضيلهن على الحرائر.
ثم تكلم عن أسلوب الجاحظ بما هو معروف، وقال إنه لم يؤثر في أحد من بعده تأثيراً فنياً، وإن ابن العميد الذي كان يتعصب للجاحظ، ويلقب في ألسنة الأدباء بالجاحظ الثاني لم يكن له من خصائص الجاحظ شيء، حتى القاضي الفاضل الذي يقول في كلام له: أما الجاحظ فما منا معاشر الكتاب إلا من دخل في كتبه الحارة، وشن عليها الغارة، وخرج على كتفه منها كاره، لا نعرفه قد تأثر بالجاحظ في قليل ولا كثير، ثم أخذ يقارن بين الجاحظ وبين المبرد في طريقته وأسلوبه، ولم ينس ثعلباً في هذه المقارنة. . وانتهى بعد ذلك إلى القول(198/54)
بإن الجاحظ كان داعية كبيراً، قد استطاع أن يتصل بالجمهور إلى حد بعيد، وأن يؤدي لنفسه وللمعتزلة من هذه الناحية شيئاً كثيراً، فكان مثله في ذلك مثل الصحفي الماهر في أيامنا الحاضرة.
وقام من بعد ذلك الأستاذ أحمد الشايب للكلام في مآخذ الجاحظ فابتدأ القول بكلام الناس في ثقافة الجاحظ واتساعها وثنائهم عليه من هذه الناحية، وقال إن الجاحظ كان واسع المعارف حقاً، قد اتصل بكل النواحي الفكرية والعقلية في ايامه، ولكن ثقافته كانت ثقافة عامة أو قل ثقافة صحفية يتلقفها من دكاكين الوراقين، وقد كان ذلك مذموما في عصره حتى كانوا يقولون: هو صحفي إذا أرادوا الذم، ونحن نرى أن الجاحظ وإن كان قد ألم بكل شيء ولكنه لم يتبحر في شيء، فثقافته أخذ من كل شيء بطرف كما يقولون.
قال الأستاذ: ولقد أخذت أنظر الجاحظ في كل ناحية من نواحي ثقافته فما وجدته إلا على ما وصفت، ثم أنتقص كلامه في الحيوان، وأورد في ذلك كلام الباحث الفرنسي كارادفو في كتابه (مفكروا الإسلام) وقد كان غاية ما حاوله الأستاذ أن ينتقص جهد الجاحظ وآراءه في الحيوان والنقد والبلاغة، وفي كل ناحية من النواحي التي كتب فيها. وقال إنه كان ينتهب آراء غيره، وكان يخلط بين النقد والبلاغة، على أن هناك فرقاً بين الناحيتين، ولقد كان الجاحظ في مؤلفاته يثير كثيراً من المشاكل ويمس الأمور المعضلة القائمة في عصره فيستطيع أن يشخصها ويكيفها ويلقى فيها الأسئلة القوية، ولكنه كان يتركها عند هذا الحد، فلا علاج يشفي، ولا جواب ينتهي بالقارئ إلى رأي حاسم، ولذلك كان من السهل على الجاحظ أن يؤلف في الشيء ضده وأن يناقض نفسه بنفسه ما دام هو يقف في ذلك عند الآراء الشائعة والمسائل الذائعة في كل فرقة. ولقد روى أن أحد الأمراء أرسل إلى الجاحظ يطلب منه أن يحتج له في رأي، فكتب له الجاحظ بما طلب، فعاد الأمير يقول له: إن الخادم قد غلظ في تبليغ الرسالة إليك وإنما أريد أن تكتب في نقيض هذا الرأي، فلم يتورع الجاحظ على أن يكتب له.
قال الأستاذ: وقد كان الجاحظ من المتكلمين، وكان الجدل والكلام في عصره على غاية ما يكون من الشدة، ولكني لم أعرفه قد كتب كتاباً في أصول الجدل أو ألف في علم الكلام كما كانت تقتضيه وظيفته ويقتضيه عصره، ثم أنتقد الجاحظ في تحقيقه، وأورد كلاماً(198/55)
للمسعودي في ذلك إذ يقول: زعم الجاحظ إن نهر مكران الذي هو نهر السند من النيل. واستدل على إنه من النيل بوجود التماسيح فيه، وهذا تحقيق باطل ناقص، لأن الجاحظ أقامه على قياس منطقي نظري فاسد النتيجة ولو طاوعنا الجاحظ في قياسه لكن كل نهر فيه التماسيح هو من النيل، لأن النيل فيه التماسيح.
وكان من رأي الأستاذ أن غاية ما للجاحظ هو الأسلوب ففيه براعته وشخصيته ومميزاته. . . ثم انتقده بالتكرار الممل، وقال إن الجاحظ كان يستعمل عبارات ثابتة يكررها كثيراً حتى كأنها (كلشيهات) فهو ينقلها من كتاب إلى كتاب ومن موضع إلى موضع، ومثل لذلك بكلامه في اصطناع الكتب إذ أورده في كتابه الحيوان، وأعاده في المحاسن والأضداد، وكذلك كلامه عن الحسد وعبارات كثيرة يدركها كل من وقف على كتبه.
اليوم السادس
أما اليوم السادس وهو اليوم الأخير فقد اضطلع به الدكتور طه وحده، وكان عليه أن يملأ فراغه فمدَّ رواق القول على كثير من نواحي الجاحظ مع أن موقفه في القول كان عند (فكاهة الجاحظ) فتكلم أولاً عن إطراء الأدباء للجاحظ وما يجب أن يكون له من هذا الإطراء؛ ثم تكلم عن دعابة الجاحظ بما تكلم به الأستاذ إبراهيم مصطفى من قبل، فقال إن الجاحظ قد نصر النثر على الشعر وجعله أقرب وأعذب في نفوس الجمهور والعامة، ولقد أشرت إلى ذلك فيما كتبته في تقدمة نقد النثر لقدامة، وقد قلت إن الجاحظ أثر في ابن الرومي من هذه الناحية، فمهد له طريق التقصي في المعنى والإسهاب.
ثم تكلم في فكاهة الجاحظ فقال: ولقد كانت الفكاهة من النواحي البارزة عند الجاحظ، وما كان الرجل يقصد في فكاهته إلى الضحك والإضحاك فحسب، ولكنه كان يقصد أيضاً إلى التصوير، ويقصد التهكم والسخر، ويقصد إلى النقد والهجاء، وأورد في الاحتجاج لذلك كلامه في نقد الخليل بن أحمد. ثم ذكر بعض فكاهاته فذكر من ذلك قصته مع محمد بن أبي المؤمل البخيل، ثم أنتدب الدكتور محمد عوض ليقرأ طرفاً من رسالة الجاحظ للمعتصم أو للمتوكل يحضه على تعليم أولاده ضروب العلوم وأنواع الأدب، وفيها كثير من ألوان الدعابة والشعر الفكه.
قال الدكتور: وعندي أن الجاحظ كان كفولتير، فكما أن فولتير لم يكن عالماً فحسب ولا(198/56)
أديباً فحسب ولا فيلسوفاً فحسب ولا اجتماعياً فحسب، وإنما كان له في كل هذا وأكثر من هذا، فكذلك نجد الجاحظ له في الأدب والفلسفة والاجتماع إلى آخر ما هو معروف عنه؛ وكما أن فولتير لم يكن في سخره وتهكمه يقف عند حد الفكاهة ولكنه كان يقصد إلى كثير من الأغراض الشريفة، فكذلك كان الجاحظ، فالمشابهة قوية بين الرجلين.
ثم قال: فالجاحظ لا شك من الشخصيات الكبيرة، وأهل العبقريات النادرة، وهو حري بالذكر والتكريم، ونحن إذ نقوم له بهذا الأسبوع بمناسبة مرور أحد عشر قرناً على وفاته، فإنما نحن نؤدي له بعض الواجب، ولا أكتمكم يا سادة إذا قلت لكم إننا في حاجة كبيرة إلى دراسة الجاحظ في كتبه وآثاره دراسة وافية كما تجب الدراسة، فإننا مع الأسف لا نعرف عنه إلا ما هو شائع في المجالس وما يسقط إلينا من نوادره. وكلية الآداب إذا كانت قد فكرت في إقامة هذا الأسبوع فإنها أرادت أن تلفت الأذهان للعناية بالجاحظ، وأن تنبه على وجوب دراسة العبقرية الواسعة الشاملة.
هكذا قال الدكتور الفاضل ولست أدري إذا كانت كلية الآداب لا تعلم عن الجاحظ إلا ما هو شائع في المجالس وما يسقط من النوادر، وإذا كانت لم تقصد إلا لفت الأذهان، فمن الذي يكون عنده العلم بالجاحظ، ومن الذي سيؤدي عنها هذا الحق في النقد والأدب.
م. ف. ع(198/57)
العاطفة
وهي تحفة في الشعر الوصفي الرائع المبتكر في أغراضه
ومعانيه
للشاعر العالم الأستاذ أحمد الزين
خَلَجاتٌ تهفو بقلب الشجَّيِّ ... هي سرُّ الحياة في كل حيِّ
هي والرُّوح في فؤادك صِنْوا ... نِ وفيض من عالَم عُلويّ
هي ذكرى بعد المشيب وسلوَى ... في اكتهالٍ وصبوة للفَتِيّ
ومُنىً للغلام يهفو إليها ... وحنان يحوط مهدِ الصبيّ
رافقتْ رحلة الحياة وآخت ... نِضْوَ أسفارها إخاء الوفيّ
هي للقلب نعمةٌ أو شقاء ... كم سعيدٍ بها وكم من شقيّ
رُبَّ من يبهر العيون رُواءً ... ناء من همها بداء خفيّ
ظاهر منه يخدع العينَ عمَّا ... ضمّن القلبُ من ضنى مطويّ
من غرام مبرّحٍ أو فراقٍ ... أو منىً عُوجِلَتْ بصوتِ النعيّ
باسم بين صَحبِه فإذا يخ ... لو بكى شجوَه بدمعٍ شجيّ
وأخي منظَر تراه فَتنْبُو ال ... عَيْنُ عن منظر رَثيث زَرِيّ
يبصر الناس منه ما يبعث الر ... حمة في قلب شانئٍ وصفَيّ
ما دَرَوْا أنه على البؤس يحيا ... بفؤادٍ خالٍ وبالٍ رخيّ
ملأت نفَسه السعادة حتّى ... لا يبالي بمنظَر أو بِزيّ
نَزَعاتُ النفوس في كلِّ قلب ... مَيَّزَتْ ببين ساخطٍ وَرضيّ
أسعدتْ آدماً وحوّاَء حينا ... ثم أشقتهما بإفك الغَوِيّ
ورث النسلُ عن أبيه مُيُولا ... لم تَدَعْه في ظِلِّ عيش هنيّ
ونفوساً حَيْرَى تقلّبها الأه ... واء مفتونة بكل طليّ
فهي بين الآمال تمرح نَشْوَى ... ثم تصحو باليأس من كلِّ شيّ
إنّ للعاطفات حُكماً قويا ... ظلمُه عاصف بكلِّ قويّ(198/58)
كم أذلّت جبارَ قومٍ، وغَلَّت ... من طليق، وأَسلْسَتْ من أبيّ
كم تولّى جهادَها في قديم الدْ ... هرنُصْح لعالم ونبيّ
جاهَداها بالعقل حيناً وحينا ... سَخَّرَا بعضَها لقَتل البَقيّ
وهي تَقْوَى مع الجهاد فوَيلْ ... للوَرَى من جهادِها الأبديّ
دافعات إلى الغواية أحيا ... نا وحينا إلى الطريق السويّ
كم يواسي بها الفقير وتنجي ... هـ من البؤس رقّة في غنىّ
كم سقيم لولا ترفُّق آسٍ ... لقضى نحبَه بداءٍ دَويّ
ومشوقٍ لولا التعلل أودى ... يأسُه بالدم الطهور الزَّكيّ
وجمالٍ لولا العواطف ساوَى ال ... قبحَ في عقلِ أبلَهٍ وذَكيِّ
فبها قُدِّر الجمالُ ولولا ... ها لعاش الوَرَى بقلبٍ خَلِيّ
يا لنفسٍ تعيش بين مُيُولٍ ... أتْعَبتْها ما بين رُشْد وَغيّ
أحمد الزين(198/59)
يوم عابس
في الربيع الباسم
للأستاذ محمود غنيم
يا لصباح أغبرِ الأديمِ ... قد طعن الربيع في الصميمِ
أمطارُه قد شوّهت آذارهْ ... وريحه قد صوحت أزهاره
قد يظفر الباحثُ بالعنقاء ... فيه ولا يرى ابَنَة السماء
فقلتُ: هل ضلَّ صباحُ اليوم ... أم أغرقت شمس الضحى في النوم؟
ويحك يا أيتها الشمس اطلعي ... يا أرضُ غيضي يا سماءُ أَقلعي
وقفتُ حيرانَ على الطريقِ ... من غير ماء صرتُ كالغريق
الأرضُ تحتاجُ إلى عوَّامِ ... فكيف بالسير على الأقدام
من رام أن يسعى يمينا أيسرا ... ومن مشى قدَّامَ عاد القهقرى
لكنني شحذتُ غرب عزمي ... وخضتُ موج ذلك الخضمِّ
فلست بالنِّكْس ولا الجبانِ ... إذا دعا الداعي إلى الميْدانِ
مشيتُ كالنشوانِ كلُّ همي ... أنيَ أحفظ اتِّزان جسمي
أسأل في الطريق كلَّ سابلِ ... كأنني أسيرُ في المجاهل
دمع السماء فوق رأسي هامِ ... والأرض من تحتيَ بحرٌ طامِ
والماءُ قدران على منظاري ... فسرت أهتدي بصوت جاري
وبعد أن كنت على (غياري) ... أخشى من الرشاش والغبار
فرطتُ فيه غاية التفريطِ ... وصرت لا أخشى سوى السقوطِ
وعثرةُ اللسانِ في المقالِ ... دونَ غبارِ الرِّجل في الأوحالِ
وبينما نحن نجوزُ حارةَ ... إذ داهمتنا عندها سيارة
تنطلق انطلاق سهمٍ مارقِ ... سابحة في خفة الزوارق
ينضحُ بالمياهِ جانباها ... على ثيابٍ ليس لي سواها
فطرزتْ إذ ذاك من ثيابي ... ما اخطأته ريشةُ السحابِ
فقلت: ويلٌ للفقير العافي ... من الغنى المترفِ المتلافِ(198/60)
قال رفيقي: دنت الدروسُ ... وبعد خمس يضربُ الناقوسُ
فقلت: مهلاً أيها الرفيق ... ما يفعلُ المدرسُ الغريقُ؟
قال: (أجيمًا) تبتغي و (سينًا)؟ ... أسرع فلست تجهل القانونا
قلت قوانين البلاد جائرةْ ... إن هي ساوتنا بأهل القاهرةْ
لا تذكر القانون في الأريافِ ... قد وضعَ القانونُ في الجفافِ
حيث الشوارعُ التي لا تنضحُ ... ولا بمكث الماء فيها تسمحُ
وهكذا (نشرب) نحن المطرا ... وساكن المدن به ما شَعَرا
وكل ما في الريف من محامدِ ... يذهب في أمطارِ يومٍ واحدِ
(كوم حمادة)
محمود غنيم(198/61)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الفضيلة الواهبة
- 1 -
وبعد أن ودع زارا مدينة (البقرة الملوَّنة) التي شغف قلبه بها، شيعه عدد غفير مما كانوا يدعون أنفسهم أتباعه حتى بلغوا إلى منعطف الطريق، فقال زارا إنه يريد متابعة سيره وحده. فودَّعه أتباعه وقدموا إليه عصا قبضتها من ذهب بشكل أفعى ملتفة حول الشمس، فسر زارا من هذه الهدية واتكأ عليها قائلاً لأتباعه:
- قولوا لي، لماذا أصبح الذهب ذا قيمة؟ أليس لأنه نادر ولا فائدة منه، ولأنه وديع في لمعانه، ويبذل نفسه في كل حين؟ لم يبلغ الذهب أسمى مراتب الأشياء القيمة إلا لأنه رمز لأسمى الفضائل، فعين الواهب برَّاقة كالذهب، ووهج الذهب رسول سلام بين النيرين.
إن أسمى الفضائل نادرة ولا نفع منها، فهي تتوهج بنورها الهادئ، وليس بين الفضائل من يطاول فضيلة السخاء.
والحق، إنني شاعر برغبتكم، أيها الصحاب، فإنكم تطمحون مثل طموحي إلى الفضيلة الواهبة، فأنتم تريدون أن تحولوا نفوسكم إلى هبات وعطايا، وإلا لكنتم أشبه بالهررة والذئاب. ولهذا تتعطشون إلى حشد جميع الكنوز في أنفسكم فهي لن ترتقي من جميع الجواهر والكنوز لأنها ظامئة أبداً إلى العطاء. تجتذبون كل ما حولكم ليتسرب إلى داخلكم فينفجر ينبوعكم بها كأنها هبة من محبتكم.
إن المحبة السخية الواهبة تستحيل إلى لص يمد يده إلى جمع الأشياء القيمة، وما أرى هذه الأنانية إلا عملاً صالحاً مقدساً.
غير أن هنالك أنانية أخرى تدهورت إلى أدنى درجات المسكنة في مجاعتها المتحكمة أبداً فيها، تلك هي الأنانية التي تطمح إلى السرقة في كل آن، فهي أنانية المرض بل هي الأنانية المريضة، تحدج كل شيء بنظرات اللص وبنهم الجائع، فتزن لقمات الآكلين من(198/62)
أبناء النعمة وتدبُّ أبداً حول موائد الواهبين. وما مثل هذه الشهوة إلا عرض الداء الدفين ودليل الانحطاط الخفي، وما الطموح إلى السرقة بمثل هذه الأنانية إلا نزعة من نزعات الجسوم العليلة.
أي شيء نراه أقبح الأشياء، أيها الأخوة، أفليس الانحطاط أقبحها؟ وهل يسعكم إلا أن تحكموا بانحطاط مجتمع لا أثر لروح السخاء والعطاء فيه.
إن سبيلنا يتجه إلى الأعالي، وما نقصده إنما هو الارتقاء من نوع إلى نوع، لذلك نرتعش عندما نسمع الانحطاط يهتف قائلاً: (لي كل شيء)
وهل روحنا إلا رمز لجسدنا وهي تطمح إلى الاعتلاء، وهل الصفات التي ندعوها فضيلة إلا عبارة عن هذه الرموز عينها؟
إن الجسد يقطع مسافات التاريخ بكفاحه، لكن ما تكون الروح من الجسد يا ترى إن لم تكن المزيع لكفاح الجسد وانتصاراته؟ وما الجسد إلا الصوت، وما الروح إلا الصدى الناجم عنه والتابع له. ليست الكلمات الموضوعة للدلالة على الخير والشر سوى رموز فهي تشير إلى الأمور ولا تعبر عنها ولا يطلب المعرفة فيها ومنها إلا المجانين.
انتبهوا، أيها الأخوة، إلى الزمن الذي يطمح فكركم فيه إلى البيان بالرموز لأن في هذا الحين تتكون الفضيلة فيكم، وفيه يبعث جسدكم ويتجه إلى الأعالي مجتذباً عقلكم من سكونه ليدفع به إلى مراحل الإبداع حتى إذا ما سار عليها عرف قيمة الأشياء وأحب فأجاد في كل أعماله.
في الزمن الذي يختلج فيه قلبكم تتكون فضيلتكم لأن هذا القلب يفيض باختلاجه كالنهر العظيم فيغمر القائمين على ضفافه بالبركة كما يهددهم بأشد الأخطار.
إنما تنشئ فضيلتكم عندما يعجز المدح والذم عن بلوغ شعوركم، فتطمح إرادة الرجولة فيكم إلى السيادة على كل شيء
إنما تنشئ فضيلتكم عندما تحتقرون النعم والفراش الوثير وعندما لا تجدون راحة إلا بعيدا عن مواطن الراحة
إنما تنشئ فضيلتكم عندما تنصب إرادتكم على مقصد واحد، وعندما يصبح هذا التحول في آلامكم ضرورة لا يسعكم التحول عنها(198/63)
أفليس هذا شكلاً جديداً للخير والشر؟ أفما تسمعون بهذا القول خرير الينبوع العميق الذي غربت مسالكه من قبل عنكم؟
إنها لفضيلة جديدة تمنح الإنسان قوة وتبعث فيه عزماً، هذه الفكرة المتحكمة في روح بلغت الحكمة لأنها شمس مذهبة التفت عليها أفعى الحكمة.
- 2 -
وصمت زارا مرسلا نظرات الحب إلى اتباعه، ثم ارتفع صوته بنبرات جديدة قائلا: - اخلصوا للأرض، يا اخوتي، بكل قوى فضيلتكم. ولتكن معرفتكم خادمتين لروح الارض، انني اطلب هذا متوسلا.
لا تدعوا فضيلتكم تنسلخ عن حقائق الأرض لتطير بأجنحتها ضاربة أسوار الأبدية، ولكم ضلت من فضيلة من قبل على هذا السبيل.
أرجعوا الفضيلة الضالة كما رجعت بها أنا إلى مرتعها في الأرض. عودوا بها إلى الجسد وإلى الحياة لتنفخ في الأرض روحها، روحا بشرية.
لقد تاه العقل وتاهت الفضيلة فخدعتها آلاف الأمور، ولما يزل هذا الجنون يتسلط على جسدنا حتى أصبح جزءاً منه فتحول فيه إلى إرادة.
لقد قام العقل وقامت الفضيلة معه بتجارب عديدة فضلاً على ألف سبيل؛ وهكذا اصبح الإنسان عبارة عن تجارب ومحاولات ألصقت بنا الجهل والضلال. وليس ما استقر فينا من تجارب حكمة الأجيال فحسب، بل جنونها أيضاً. ولكم يتعرض الوارثون إلى أخطار.
إننا لم نزل نصارع جبار الصدف، ولم يزل العته سائدا على الإنسانية حتى اليوم
ليكن عقلكم وفضيلتكم بمثابة روح للأرض وعقل لها.
أيها الأخوة فتتجدد بكم قيم الأشياء جميعها، من أجل هذا وجب عليكم أن تبدعوا.
إن الجسد يطهر بالمعرفة، فيرتفع بمرانه على العلم، لأن من يطلب الحكمة يطهر جميع غرائزه، ومن ارتقى فقد أدخل المسرة إلى نفسه.
أعن نفسك، أيها الطبيب، لتتمكن من إعانة مريضك. إن خير ما تبذله من معونة لهذا المريض هو أن يرى بعينه إنك قادر على شفاء نفسك.
إن في الأرض من السبل ما لم تطأها قدم بعد، فما أكثر مجاهلها وما أكثر خفاياها!!(198/64)
اسهروا وانتبهوا أيها المنفردون لأن من المستقبل تهب نسمات سرية حاملة بشائر لا تقرع إلا الآذان المرهفة.
إنكم في عزلة عن العالم، أيها المنفردون، ولكنكم ستصبحون شعباً في آتي الزمان، ومنكم سيقوم الشعب المختار لأنكم اخترتم نفسكم اليوم. ومن هذا الشعب سيولد الإنسان الكامل.
والحق أن الأرض ستصبح يوماً مستشفى للأعلاء، فإن في نشرها عبيراً جديداً هو عبير الإخلاص والأمل الجديد.
- 3 -
وسكت زارا كمن يقف عند كلمة تتلجلج في فمه، وبعد أن قلب عصاه طويلاً بين يديه، أطلق صوته وقد تغيرت نبراته فقال:
- سأذهب وحدي الآن، أيها الصحاب، وأنتم أيضاً ستذهبون بعدي وحدكم لأنني هكذا أريد.
هذه نصيحتي إليكم، ابتعدوا عني وقفوا موقف الدفاع عن أنفسكم تجاهي، بل أذهبوا إلى أبعد من هذا، أخجلوا من انتسابكم إليَّ فلقد أكون لكم خادعاً.
على من يطلب الحكمة ألا يتعلَّم محبة أعدائه فحسب بل عليه أيضاً أن يتعلَّم بغض أصدقائه. وما يعترف التلميذ اعترافاً تاماً بفضل أستاذه إذا هو بقى أبداً له تلميذاً. لماذا لا تريدون أن تحطموا تاجي؟
إنكم تحوطونني بالأجلال، ولكن ما هي الكارثة التي تتوقعونها من إعراضكم عني، إن في رفع الأنصاب لخطراً فاحترسوا من أن بسقط عليكم التمثال المنصوب فيقضي عليكم
تقولون إنكم تؤمنون بزارا، ولكن أية أهمية له؟ تقولون إنكم مؤمنون، ولكن ما أهمية جميع المؤمنين؟ ما كان أحد منكم فتش عن نفسه قبل أن وجدتموني، وهكذا جميع المؤمنين، فليس الإيمان شيئا عظيماً. لذلك آمركم الآن أن تضيعوني لتجدوا أنفسكم، ولن أعود إليكم إلا عندما تكونون جحدتموني جميعكم.
والحق، يا إخوتي، إنني في ذلك الحين، سأفتش عن خرافي بعين أخرى فأبذل لكم حباً غير هذا الحب.
سيأتي يوماً تصيرون فيه أصحاباً لي إذا ما وحد بينكم الأمل الواحد، عندئذ سأرغب في الإقامة بينكم للمرة الثالثة للاحتفاء بأنوار الهاجرة العظمى.(198/65)
وستبلغ الشمس الهاجرة عندما يصل الناس إلى منتصف طريقهم بين الحيوان والإنسان الكامل، وعندما يرون أملهم الأسمى على منتهى السبيل الذي يقودهم إلى الفجر الجديد
في ذلك الحين يتوارى من يسير إلى الجهة الثانية وهو يبارك نفسه إذ ترتفع شمس معرفته لتتكبد الهاجرة.
لقد مات جميع الآلهة، فلم يعد لنا من أمل إلا ظهور الإنسان الكامل. فلتكن هذه إرادتنا الأخيرة عندما تبلغ الشمس الهاجرة.
هكذا تكلم زارا. . .(198/66)
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي ألفونس كار
السرو
كنت ولداً لأول مرة جلست فيها تحت ظلك يا شجرة السرو حين كانت أسراب الحمام تفتح أجنحتها للريح فاتبعها من روحي بأطيار تشق الأثير متجهة نحو السماء.
وهأنذا أتقدم اليوم ببطء تحت أغصانك لأطرح على الأرض جسدي المتعب وقد وقفت روحي عن تباع الطيار في اعتلائها. لقد صار الولد شيخاً.
لم تزل تظللني اغصانك أيتها السروة، وقد أصبح جذعك متكأً ليدي المرتجفة، فاقف مستنداً إليه وأجيل أبصاري بين القبور حيث يرقد أجدادي وحيث أرقد أنا غداً.
ما أجملك، أيتها السروة، وأنت متجهة إلى ما فوق كصلاة المؤمنين، وحينما يمر الهواء بين أغصانك يخيل إلى المستغرق تحت ظلالك أنه يسمع ما تسر إليه قلوب أحبابه وقد استحالت إلى تراب في القبور.
لقد مرت على صداقتنا السنون أيتها السروة الهرمة، ومنذ أول عهدي بك لم أزل أتفيأ غصونك لأناجيك مفكراً في زوال الأيام. أنت أعرف مني بحالي، فأنا أستشهدك على إيماني بالخلود واحتقاري لكل مرتجف أمام الفناء.
أحبك أيتها الأغصان القاتمة. أحبك يا زهرة المدافن لأنك رمز الراحة والسكون لمن أتعبته حركة الحياة.
إلى متى تنطلق روحي من أسرها فتجول في الفضاء الفسيح الغير المتناهي كما تجول أسراب الحمام في آفاقها، فيرتفع مثلها فوق المآذن إلى السحاب إلى ما وراء كل منظور.
هنالك السكون بالارتقاء إلى الأوج الأعلى، حيث لا شقاء ولا خداع. تقدم يا ملاك الموت وأطرق الباب فإن وراءه روحاً أهرمها الدهر وهي مستعدة للرحيل.
أيها الهواء الهاب على أغصان السروة القاتمة كأسرار الأبد، كل يوم أنتظر منك مناجاتي بساعة موتي وأنت في أنينك ساكت عنها لأنها في علم الله.
ف. ف(198/67)
البريد الأدبي
الأزهر والجامعة المصرية في عيد أثينا
في هذا الأسبوع تحتفل جامعة أثينا بعيدها المئوي؛ فقد دعيت جامعتنا المصرية ودعيت والجامعة الأزهرية لشهود هذا الاحتفال العلمي، فلبتا الدعوة؛ وانتدبت الجامعة المصرية مديرها الأستاذ لطفي السيد باشا لتمثيلها، وانتدبت الجامعة الأزهرية أحد أساتذة التفتيش. ومما يلاحظ بهذه المناسبة أن الأزهر قد بدا يتخذ مكانته في هذه المهرجانات العلمية الدولية بعد أن لبث دهرا بعيداً عنها، وهذه هي المرة الثالثة أو الرابعة التي يوفد فيها ممثليه إلى الخارج للاشتراك فيها. وقد نشأت جامعة أثينا منذ مائة عام (سنة 1837) معهدا متواضعا على سفح الأكروبول. وكان قيامها من نفثات الاستقلال الذي كسبته اليونان بدمائها قبل ذلك بأعوام قلائل؛ بيد إنها قطعت خلال هذه المائة العام أشواطاً عظيمة، فأضحت جامعة كبرى تتمتع بهيبة علمية لا بأس بها.
وسيشهد عيد الجامعة الأثينية ممثلو نحو خمسمائة جامعة ومعهد، وسيفتتح الاحتفال الرسمي ملك اليونان ويلقي خطاباً في هذه المناسبة وتمتد حفلات العيد مدى أسبوع من 17 أبريل الجاري إلى 22 منه؛ وقد وضع برنامج حافل يشتمل على خطب وأحاديث علمية مختلفة وعلى حفلات ومآدب اجتماعية، ونزهات ورياضات خلوية مختلفة؛ وسيلقي ممثل الجامعة المصرية وممثل الأزهر - كل كلمته في هذا المهرجان.
ذكرى مكتشف البلهارسيا:
تستعد الجمعية الطبية المصرية للاحتفال في الشهر القادم بذكرى العلامة الألماني تيودور بلهارس لمناسبة مرور خمسة وسبعين عاما على وفاته: وقد اقترن اسم هذا العلامة إلى الأبد بأحد الأمراض المصرية المتوطنة وهو (البلهارسيا) التي ما زالت تفتك بمئات ألوف من المصريين؛ وكان بلهارس أستاذاً بمدرسة الطب المصرية، فعكف أعواماً على دراسة جراثيم الأمراض المتوطنة، ووفق بعد مباحث طويلة إلى اكتشاف ديدان مرض البلهارسيا وبعض الجراثيم والطفيليات المتوطنة الأخرى، وقد رأت الجمعية الطبية المصرية أن تقوم بواجب الوفاء لهذا العلامة الذي خدم الطب والعلم في مصر، فتكرم ذكراه في حفلة جامعة تقيمها بكلية الطب في مساء يوم الأحد 9 مايو القادم، وسيلقي بعض حضرات الأساتذة(198/69)
والأطباء المصريين كلمات في ذكرى العلامة الراحل، وفي حياته واكتشافاته الطبية، ومن المحقق أن دوائر العلم الألماني ستحتفي بهذه الذكرى أيما احتفاء، فاشتراك الجمعية الطبية المصرية في هذا التكريم تصرف محمود وعنوان على التضامن العلمي الذي لا يعرف واجباً ولا حدوداً.
جوائز مدينة باريس الأدبية:
من أنباء فرنسا الأدبية أن مجلس باريس البلدي، قد قرر إجابته لاقتراح مسيو رنيه جيوبن أحد أعضائه أن ينشئ جائزة أدبية قدرها خمسة وعشرون ألف فرنك (نحو 230 جنيه) تسمى (جائزة مدينة باريس الكبرى)، وتتولى منحها هيئة محكمين من الكتاب وأعضاء المجلس البلدي؛ وتمنح عاما بعد عام لكبير من الكتاب أو الشعراء أو المفكرين، فتمنح في العام الأول لكاتب (روائي) مثلاً تحوز مؤلفاته قصب السبق؛ ثم تمنح في العام التالي (لشاعر) وفي العام الثالث (لكاتب وصفي أو ناقد)، وفي العام الرابع (لمؤرخ أو فيلسوف) وهكذا، ويمكن منح هذه الجائزة عن مؤلف بعينه أو عن جميع التآليف مجتمعة، كذلك قرر المجلس البلدي أن يرفع الإعانة المقررة (لجمعية الأدباء) من عشرين إلى خمسين ألف فرنك في العام.
وهذه الجائزة الأدبية التي تقررها مدينة باريس ليست إلا واحدة من عشرات بل من مئات من الجوائز الأدبية المختلفة التي تقررها الهيئات الرسمية وغير الرسمية من جمعيات علمية وأدبية وصحف وغيرها لتشجيع العلوم والاداب، ورعاية الحركة الفكرية وإذكاء همم الكتاب والأدباء والفنانين، فأين جوائزنا نحن؟ ومتى تفكر هيئاتنا الرسمية وغير الرسمية في ترتيب الجوائز الأدبية الموقرة التي يمكن أن تسبغ بهيبتها الأدبية على أدبائنا وكتابنا شرفاً يتسابقون إليه، كما تسبغ بقيمتها المادية على جهودهم نوعا من المؤازرة والتشجيع؟
كتاب عن الرحلات القطبية
صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن المكتشف الأمريكي الشهير روبرت بيري وعن رحلاته القطبية المختلفة عنوانه: ومؤلفه المؤرخ الأمريكي هوبز وقد أشتهر هوبز منذ بعيد بكتاباته عن القطب والرحلات القطبية، فهو من هذه الوجهة أستاذ موضوعه؛ وهو يسرد(198/70)
في كتابه الجديد رحلات بيري القطبية منذ رحلته الأولى إلى الجزيرة الخضراء في سنة 1886، وهي السنة التي أكتشف فيها رأس الثلج الشهير. وبيري من أشهر المكتشفين والرحل في عصرنا؛ وكان مولده في ولاية بنسلفانيا سنة 1856؛ وألتحق بالبحرية الأمريكية سنة 1881؛ وفي سنة 1886 رحل إلى الأرض الخضراء رحلته الأولى؛ وفي سنة 1891 رحل إليها للمرة الثانية وقطع الجزيرة من جنوبها إلى شمالها على ظهر زاحفة ثلجية، وأنفق في رحلته ثلاثة عشر شهراً واستطاع أن يتحقق من أن الأرض الخضراء جزيرة تحدها الثلوج من الشمال كما تحدها من الجنوب. ثم قام برحلته الثالثة إلى الأرض الخضراء في سنة 1893ومكث في الجزيرة نحو أربعة أعوام؛ وكان بيري يستعين في رحلاته برجال (الإسكيمو) وإليه يرجع الفضل في دراسة خواص هذا الجنس المدهش الذي يعيش بين الجليد الخالد. وفي سنة 1898 قام بيري برحلة جديدة على ظهر الباخرة القطبية (روزفلت) حول الجزيرة الخضراء من الشمال والشرق، ولبث بيري طول حياته يتطلع إلى القطب واكتشافه؛ وفي سنة 1905 قام بأعظم رحلاته في اتجاه القطب الشمالي، ووصل في سنة 1908 على ظهر السفينة القطبية روزفلت إلى رأس شريدان، وهي أبعد نقطة وصل إليها إنسان، وقضى الشتاء في تلك الوهاد الثلجية؛ وفي أبريل سنة1909، وصل بيري إلى القطب الشمالي وحقق بذلك أمنية حياته؛ وكتب بيري عدة كتب خلابة عن رحلاته؛ ورقى إلى رتبة الأميرال في سنة 1911، وتوفى في واشنطون ستة 1919.
وقد استعرض مستر هوبز في كتابه الجديد حياة بيري ورحلاته بأسلوب شائق واستخلصها من كتبه ومذكراته ومعلوماته الخاصة، فجاء من أبدع الكتب التي صدرت عن الرحلات القطبية.
قضية أدبية غريبة
رفعت إلى محكمة نيويورك العليا قضية أدبية غريبة تشغل دوائر النشر والأدب تدور حول هذا السؤال (هل يحق للعالم الذي أضحت حياته العامة ملكاً للتاريخ أن يتمسك بإخفاء بعض حقائق في حياته لاعتبارات خاصة؟) وخلاصة القضية إن العلامة الباثولوجي الأشهر الدكتور كارلاند شتايز الذي يحمل جائزة نوبل للعلوم، والذي يشغل مركزاً هاماً في معهد روكفلر للمباحث الطبية رفع قضية على شركة نشر قاموس الإعلام يطلب فيها(198/71)
الحكم على الشركة بأن تمتنع عن نشر صورته وترجمته بقسم (أعلام يهود أمريكا) في طبعتها الجديدة، وأن تدفع له عشرين ألف جنيه تعويضاً عما لحقه من الضرر المحقق في حياته الخاصة وفي مهنته.
وقد ولد الدكتور لاندشتاينر في النمسا من أبوين يهوديين ولكنه نبذ اليهودية وأعتنق الكثلكة في سنة1890 وتزوج من سيدة كاثوليكية، ويقول محاميه أنه، أي الدكتور، يعيش منذ خمسين عاماً في وسط مسيحي، ويغضي عن علائقه الدينية القديمة؛ وحق الخصوصية هنا قائم ويجب أن يحمى. ثم إن للمدعي ولداً في التاسعة عشرة من عمره لا يعرف شيئاً عن أصل والده اليهودي، فإذا وقف على هذه الحقيقة في القاموس المشار إليه فإنه يصطدم لذلك وقد يعرضه للمذلة في الوسط المسيحي الذي يعيش فيه.
ويقول الناشرون إن قاموس الإعلام هذا عمل تاريخي جليل، وإن كل ما يتعلق بحياة المدعي من الوقائع والحقائق إنما هو ملك للتاريخ وإن نشرها له عدوان فيه على حقوقه الخاصة
وهكذا تجد المحكمة العليا نفسها أمام مأزق دقيق.(198/72)
النقد
إسماعيل المفترى عليه
تأليف القاضي بيير كربتيس
وترجمة الأستاذ فؤاد صروف
لأستاذ كبير
المستر بيير كربتيس القاضي السابق بالمحاكم المختلطة مؤرخ محقق، كتب في تاريخ مصر كتبا قيمة اعتمد في إخراجها على مصادر ووثائق أكثرها لم ينشر بعد، رجع إليها في دار المحفوظات المصرية بتصريح من جلالة الملك الراحل.
ويقول لنا الأستاذ صروف إنه يوشك أن يصدر في تاريخ مصر كتابا آخر. وليس القاضي كربتيس أول رجال الولايات المتحدة الذين كتبوا عن مصر، بل إن للكثيرين منهم على التاريخ المصري فضلا كبيرا. ويمتاز هؤلاء المؤرخون ببعدهم عن التأثر بالمصالح والعواطف السياسية. ولذلك تراهم ينظرون إلى الحقائق نظرة المحايد المحقق الذي يبحث ويتحرى ولا يهمه بعد ذلك لجأت نتيجة البحث وفق ما يحب أم لم تجئ؛ ومن أجل ذلك كانت كتبهم جديرة بأن تلقى من الكتاب المصريين المؤلفين منهم والمترجمين ما تستحقه من العناية.
ولكن يؤسفنا أن نرى هؤلاء المؤلفين والمترجمين لا يعتمدون إلا على مصادر من نوع واحد، ويغفلون المصادر الأمريكية مع أنها من أهم المراجع وأصدقها، ومع أن أصحابها بحكم مراكزهم كانوا ملمين بالشئون المصرية وكان لبعضهم يد في تصريفها.
لذلك اغتبطنا حين أخرج الأستاذ صروف ترجمته لكتاب إسماعيل الخديو المفترى عليه، ونرجو أن نرى في القريب ترجمة لكتاب (إبراهيم) وأخرى لكتاب (فارمن) وثالثة (لماكون) ورابعة (لإدون ده ليون) وغيرهم من الكتاب المنصفين
وهذا المقام الذي نضع فيه المؤرخين الأمريكيين هو الذي حملنا على قراءة الترجمة العربية لكتاب كربتيس بعد أن قرأنا الأصل الإنجليزي منذ عامين أو أكثر.
ومن أجل هذا أيضا رأينا من الواجب علينا أن نبدي رأينا في الترجمة لأن موضع الكتاب(198/73)
جليل، يفتح في التاريخ المصري فتحا جديداً. ولأن المؤلف قاض نزيه وكاتب كبير، ولأن المترجم من الكتاب المعروفين، ولأن دار النشر الحديث قد بذلت في إخراجه من العناية ما يجعلها جديرة بالثناء العظيم.
وقبل أن نبدأ بالنظر في هذا الكتاب يحسن بنا أن نضع أمام القراء المبادئ الأساسية التي سنسترشد بها في نقدنا، والتي نرى لزاما على كل مترجم أن يراعيها إذا شاء أن تكون ترجمته دقيقة أمينة سليمة.
(1) فأول ما يجب على المترجم أن يكون ملما بموضوع الكتاب الذي يترجمه، وإلا دفع في الخطأ من حيث لا يدري؛ ذلك بأن لكل علم ولكل فرع من علم مصطلحاته الخاصة التي يجب أن يعرفها المؤلف والمترجم. ويصدق هذا على التاريخ كما يصدق على العلوم الطبيعية والرياضية. ففي التاريخ معان وضعت لها مصطلحات اتفق عليها، وأصبح المؤلفون والمترجمون في غير حاجة إلى اختراع ألفاظ جديدة للتعبير عنها، بل أصبح من واجبهم أن يتقيدوا بها إن وجدت، وإلا وقعوا في الفوضى والاضطراب. وقد توجد في الكتاب المترجم أغلاط مطبعية وغير مطبعية، وأسماء الأشخاص وأماكن محرفة وغير محرفة، ولا يستطيع المترجم أن يثبتها على حقيقتها إلا إذا كان عارفا بها أو كان في استطاعته الرجوع إلى المصادر التاريخية التي تمكنه من تحقيقها. وتعريب الأسماء من اللغة الإنجليزية يحتاج إلى كثير من العلم والدقة، وإلا خرج الكتاب مشوها بعيدا عن التحقيق التاريخي قليل القيمة غير مطابق للأصل المترجم.
(2) كذلك يجب أن تكون الترجمة كالأصل من غير زيادة ولا نقص، ولسنا نرمي بذلك إلى الترجمة الحرفية التي يتقيد صاحبها بالألفاظ فيحتم على نفسه أن يأتي لكل لفظ بما يقابله ولكل عبارة بمثلها مساوية لها في الطول وعدد الكلمات: ليس هذا هو المقصود بل المقصود أن يعبر المترجم عن جميع المعاني الواردة في الأصل المترجم بلغة سليمة وأسلوب صحيح، والأمانة في الترجمة تحتم على المترجم أن لا يحذف من الأصل شيئاً إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطراراً، ويجمل به مع ذلك أن يذكر سبب هذا الحذف في هامش الكتاب أو في المقدمة إن شاء.
(3) ويتفرع من هذا مبدأ ثالث عظيم الأهمية يتوقف عليه جمال الترجمة وسلاسة(198/74)
الأسلوب، ذلك أن اللغة الإنجليزية تكتب جملا منفصلة قليلة الروابط اللفظية مع أن الفقرة الطويلة تعبر في الغالب عن معنى واحد شامل مرتبط الأجزاء متسلسل الجمل. والفقرات كذلك مرتبط بعضها ببعض. لكن هذه الروابط روابط ملحوظة غير ملفوظة في كثير من الأحيان، ويتوقف إدراك المعنى على فهم هذه الروابط بين الجمل والفقرات، وتختلف اللغة العربية في ذلك عن اللغة الإنجليزية، فالعبارة العربية تحتاج إلى الروابط اللفظية بين الجمل، ومتانة الأسلوب تستدعي حسن الانتقال من فقرة إلى فقرة، وإلا كان هذا الأسلوب مفككا غير فصيح وبعيدا عن الذوق العربي، وكل خطأ في فهم هذه الروابط والتعبير عنها يفسد الأسلوب ويغير المعنى. وربما كان ذلك أصعب شيء في الترجمة، وهو الذي يجعل الكتب المترجمة ركيكة الأسلوب أجنبية في حقيقتها، وإن كتبت بألفاظ عربية. والمترجم القدير هو الذي تقرأ كتابه فلا تشعر أنه مترجم، بل تحس بأنك تقرأ كتاباً عربياً فصيحاً.
(4) وثمة مسألة أخرى ترتبط بالمسألة السابقة وهي الأمثال والتشبيهات ونحوها، وهل تترجم بلفظها أو بمعناها. ونحن نرى أن يترجم معناها. واللغة العربية غنية بالأمثال والحكم والتشبيهات، ولا يعجز الأديب المطلع عن العثور لكل تشبيه أو مثل إنجليزي على ما يقابله في اللغة العربية، فإذا لم يجده فلا ضير عليه أن يترجمه بشرط ألا تكون الترجمة عسرة الفهم ولا بعيدة عن الذوق العربي السليم.
(5) وكثيرا ما يقصد المؤلف أن يؤكد بعض المعاني تأكيداً خاصاً لأهميتها في نظره، وكثيراً ما يسبغ على بعض المعاني ثوباً روائياً أو شعرياً يقتضيه غرضه، وواجب المترجم القدير في مثل هذه الأحوال ألا يغفل عن ذلك في الترجمة ليكون أميناً على معاني المؤلف وروحه معا.
تلك أهم المبادئ التي سنبني عليها نقدنا لترجمة الأستاذ فؤاد صروف وبقدر انطباقها على الترجمة يكون حكمنا عليها وموعدنا بذلك العدد القادم إن شاء الله
الغنيمي(198/75)
في الكتب
المطالعة التاريخية للمدارس الابتدائية
للأساتذة: محمد رفعت بك وزكي علي ومحمد مصطفى زيادة وأحمد
نجيب هاشم والسيد أحمد خليل
للأستاذ أحمد الشايب
هذه أول مرة في تاريخ الحياة المدرسية المصرية يعرض فيها التاريخ على التلاميذ عرضا علميا فنيا جميلا، يحاول به الأساتذة أن يصلوا بين الأطفال وبين العصور الأولى أقوى صلة وأجملها، وأنفعها، وأحبها إلى النفوس الغضة الحديثة العهد بالحياة. وما ظنك بدرس في التاريخ - أو كتاب في التاريخ - يشرك الطفل في بناء الماضي درسا، وقصصا، وعملا، ومتعة، فيستمع به الناشئ إلى أحاديث الملوك السابقين، ويرى آثارهم مصورة، ويدخل إلى منازلهم، ويلعب مع أطفالهم، ويصنع مثل لعبهم، ويتنقل بين الزراع، والصناع، والتجار، في المزارع، والمصانع، والمتاجر، لا مشاهدا ومتحدثا فقط، بل مشاركا، مفيدا من الماضي خير الفضائل وأنبل الصفات. ذلك، وأكثر منه، وخير منه، هو ما قام به هؤلاء الأساتذة الأفاضل مؤلفو كتاب المطالعة التاريخية للمدارس الابتدائية. وقد قرأت جزءه الأول الذي وضع في حياة المصريين القدماء، فإذا به يصور الخطوة القديمة لحياة مصر والمصريين، ولكنها مع ذلك خطوة واضحة، بهية، استطاع واصفوها محتالين متلطفين أن يمزجوها بخطأ الطفولة ومواهبها حتى لقد خشيت أن يستحيل أطفالنا، بهذا الأسلوب الفني الجميل، أبناء فراعنة، وأطفالا تاريخيين.
لترك الباحثين يختلفون حول التاريخ، أعلم هو أم فن، ولنقف عند طور الطفولة وما يلائمه موضوعا وشكلا، فلن نرى - فيما نعرف - خيرا من هذا الكتيب ولا اصلح منه لأبناء المدرسة الابتدائية، سواء في ذلك اختيار المعلومات، وتنوعها، وشمولها، وطريقة عرضها، وسهولة أسلوبها، وما أعقبها من التمارين العملية. . وأما الرسوم والأشكال فهي وحدها مدرسة في إيضاحها وفي جمالها الذي يفتن الأطفال، ويبهر الأبصار.
عرف المؤلفون، أو المربون، طبيعة الطفولة فكان تاريخهم قصصا، سهلا، مشوقا، متصلا(198/76)
بحياة التلاميذ وما يألفون، وعرفوا غرائز البنين وشغفها بالعمل، فحولوا الدرس من هذا الشكل النظري إلى تمارين عملية تسد هذه الحاجة الغريزية، ولم يقفوا عند هذا المران التقليدي حتى عمدوا إلى قوة الخيال، فاعتمدوا عليها لتجسيم الصور الوصفية، وكلفوا التلاميذ من ذلك قسطا حسنا ينزع بهم إلى هذه العادات العملية المحققة؛ ولحظوا فتنة الأولاد باللعب الصغيرة، والمناظر البهيجة، فيسروا لهم الحصول على العرائس والكرات، وزخرفوا صفحات الكتاب بأجمل ما ترك الفراعنة من صور وأشكال.
وبعد هذا ينتقلون بالطفل بين جوانب الحياة القديمة، آباء عاطفين وأصدقاء مخلصين، فهم به اليوم في النوادي الرياضية يرونه المصارعة. وحمل الأثقال والترامي بالكرات، وغدا يأخذون بيده إلى المدرسة فيشهد زملائه لاعبين كاتبين حاسبين، وبعد غد يعرضون عليه الجيش المصري بأسلحته وعرباته وسفنه يفتح في الأقطار، ويكون الإمبراطورية القديمة. ثم يدخلون معه منزلا لإحدى الأسر الراقية ليشهد مثل النظام، والطاعة، والألفة، وحسن الآداب. وقد يحملونه على سفن الملكة حتشبسوت إلى بلاد الصومال بأفريقية ليعود بالأشجار العطرية، والحيوانات العجيبة. . وهكذا لا يتركون ناحية من هذه البيئة الفرعونية حتى يغرقوه فيها سامعا، مبصران عاملاً، خائلاً كأنه يشترك في تمثيل رواية أو حفلة ألعاب.
ليس في الكتاب هذه العبارة الجوفاء، والمبالغات الممقوتة التي يلجأ إليها كتاب التاريخ للأطفال حين تعوزهم المادة الممدودة، وبراعة الأسلوب. ولقد سررت حين رأيت (خوفو) ينتهز فرصة فراغ المصريين من الأعمال الزراعية أيام فيض النيل فيملأ فراغهم وجيوبهم ببناء الهرم الأكبر، كما سررت بهذه الناحية التهذيبية التي تصل بالأبناء إلى غاية الدرس التاريخي، وتحملهم على التعلق بأسباب المجد والفضيلة، فهذا الملك أحبته الرعية لإخلاصه في خدمتها، والإسكندر المقدوني بكرت إليه إمارات النجابة، فكان ملكا كبيرا، وهؤلاء الرسل أدوا رسالة الإنسانية وصبروا في سبيلها فكانوا البررة الكرام، وهذه مصر المحبوبة العزيزة أصبحت بفضل هذا الماضي المجيد محج السائحين والباحثين من كل الأقطار.
أما بعد، فلو كان لي طفل أو تلميذ في مدرسة ابتدائية، لما تركته ليلة دون أن أتدارس معه في هذا الكتاب، وأفيض على نفسه منه معرفة، وتسلية وتهذيبا. . . ولعل التلاميذ قد ظفروا(198/77)
من هذا الكتاب بحياة مدرسية حديثة حقا، تجمع بين العلم والفن الجميل.
أحمد الشايب(198/78)
العدد 199 - بتاريخ: 26 - 04 - 1937(/)
من أحاديث الشباب
حول الديمقراطية
- لا يا عزيزي؛ أنا لا أتابعك على هذا التفسير. إن رأى الإمام محمد عبده جلي صريح. وكلمة (ينهض) في قوله المأثور: (لا ينهض الشرق إلا بمستبد عادل) أساس فكرته وعمود رأيه؛ فإن النهوض لا يكون إلا من القعود؛ والأمة القاعدة أو الراقدة لا يبعثها إلا القرع الشديد والهتاف القوي؛ ولا يمكن أن يكون هذا القارع الهاتف رأيها العام لأنه مفقود، ولا ضميرها الاجتماعي لأنه ميت؛ إنما يكون رسالة من الله على لسان نبي، أو هداية من الطبيعة على يد مصلح؛ وتنفيذ الرسالة الإلهية، أو الدعوى الإصلاحية، يرجع إلى خليفة يحكم بأمر الله، أو طاغية يحكم برأي نفسه. فإذا كانت الأمة قد نهضت بالفعل، كان الاستبداد بأمورها كفاً لنزعاتها عن الطموح، وحبساً لملكاتها عن العمل؛ لأن النهضة معناها غافل أحس وجوده، وخامل فهم نفسه، وجاهل عرف حقه، وعاطل أبصر واجبه، وضال وجد سبيله. والحياة التي تسري في أفراد الشعب الناهض، هي بعينها الحياة التي تجري في أعواد الربيع المنبعث: تتحرك في الأمة على صوت النذير في الغفلة، كما تتحرك في الطبيعة على هزيم الرعد في الشتاء. ومتى نفخ الله من روحه في خمود الحي، سيره على سنة الوجود وبصره بغاية الحياة؛ وهنا يكون المستبد مهما عدل سحاباً يحجب النور الذي أنبثق، وسموماً يصوح الزهر الذي تفتح
فقال صاحبي الشاب وقد ألقى باله لما قلت ففترت حماسته بعض الفتور:
- ولكن المستبد برأيه أو الحاكم بأمره يختصر الآراء في رأيه، ويجمع الأهواء على هواه. فنأمن التشرد الذي يضل، والتردد الذي يعوق، والتواكل الذي يضعف، والتساهل الذي يحابى. فقلت له:
- ذلك يصح والشعب لا يزال قطيعاً من الحيوان الأبله. لابد له حينئذ من الراعي وعصاه. أما إذا أصبح هذا القطيع أمة لكل فرد من أفرادها كرامة وإرادة ورأي ومصلحة، فبأي منطق تلغي هذه العقول الملايين التي جعلت لنفكر، وتنسخ هذه النفوس الملايين التي خلقت لتريد، لتجعل مكانها نفساً واحدة تغصب قوة الشعب لتقوده، وتسرق ثروته لتسوده. ثم يسرف عليها سلطانها فتتخذ الناس عبيداً والبلاد ضيعة؟(199/1)
أنا أفهم أن المرء يقهر فيخضع، ويؤسر فيسترق، لأن الأمر في ذلك لا يخرج عن قانون الطبيعة من تغلب الأقوى وسيادة الأصلح؛ ولكني لا أستطيع أن أفهم كيف يستأسر شعب بأسره لواحد منه، فيلقى بزمامه إليه، ويعول في جميع أموره عليه، والشعب مهما صغر لا يقل عن شعب، والفرد مهما كبر لا يزيد على فرد. والقوة والثروة والسلطان هي في ذلك الجمع الذي فيه الجندي والفلاح والعامل، لا في ذلك المفرد الذي فيه السرف والترف والبغي؟
لقد مات ذلك الإنسان المغفل الذي كان يجعل إلهه حيواناً يربيه ثم يمجده، أو جماداً يصنعه ثم يعبده
إن الديمقراطية يا صديقي أخلق النظم بكرامة الإنسان وسلامة العالم. هبط وحيها على الإنسان المفكر الحر في أثينا، ثم أصابها ما أصاب رسالات الخير في الأرض من شيوع الجهالة، وبلادة الحس، وأثرة الهوى، وطغيان الحكم، فصارت عروساً من عرائس الخيال كالحق والعدل والحرية، تتمثل في الأحلام، وتتراءى في المنى، وتقتل في سبيلها الأنفس الكريمة، حتى ظفر بها الأوروبي الحديث بطول جهاده وكثرة ضحاياه ووفرة علمه وقوة شعوره، فأصبح كل فرد بمقتضاها صاحب حق في الوطن، وصاحب رأي في التشريع، وصاحب صوت في الحكم؛ وصار العامل الفقير والصانع الأجير والفلاح المتواضع قادرين على أن يلغوا الوظيفة التي لا تفيد، ويسقطوا الحكومة التي لا تعدل.
الديمقراطية هي المسواة في الحق والواجب، والمشاركة في الغنم والغرم، والميدان الحر للكفايات الممتازة لا يعوقها عن بلوغ الأمد فيه عائق من نسب أو لقب أو ثروة. فكيف يجري في ذهنك هذا الخاطر وأنت من أصفى الشباب حساً وأنبلهم نفساً وأكثرهم ثقافة؟
لم يجد الشاب في نفسه ما يقوله؛ لأن الواقع في ذهنه هو اضطراب الحيرة لا اختمار الفكرة. فعبر عن كل ما بقي في خاطره بهذا السؤال:
- وماذا تقول في موسوليني وهتلر؟
- أقول أنهما مظهر حاد من مظاهر الديمقراطية. كلا الرجلين يعمل بالشعب وللشعب؛ وكلاهما يمثل قوة الأمة وينفذ إرادة الأمة؛ وكلاهما يعتقد أن اليد التي استطاعت أن ترفع تستطيع أن تضع.(199/2)
ولباب الأمر أن تعترف للأمة بالسلطان ثم تظهره بعد ذلك في أي رجل شئت، وتحت أي عنوان شئت.
أبتسم صديقي الشاب ابتسامة المقتنع، وحيا تحية المسلّم، ثم قال وهو يضع يده في يدي: إن جهودنا معشر الشباب كانت مسددة إلى غرض واحد هو استقلال الوطن. فلما أسفر الجهاد عن وجوه الفوز اضطربت الجهود وتشعبت الآراء واحتجنا في هذا العهد الجديد، إلى توجيه جديد. فقلت له: ذلك ما ستحاول (الرسالة) علاجه ابتداء من العدد القادم.
أحمد حسن الزيات(199/3)
حيرة العقل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أراني في هذه الأيام لا أكاد أعرف لي رأياً في شئ، لا لأني كففت عن التفكير فلعل الأمر على خلاف ذلك، وعسى أن أكون مسرفاً في النظر والتدبر وفي التماس الوجوه المختلفة للأمر الواحد الذي يعرض لي، وإنما ترجع حيرتي إلى أن إطالة النظر تكشف لي كل يوم عن جديد، وإلى أن تدبر النواحي المختلفة تجعل الجزم عسيراً، وتغري بالتردد، وتدفع إلى الشك، ومن طال وزنه للأمور وتقصيه لوجوهها وتأمله في البواعث والاحتمالات قل بته - وعمله أيضاً - لأن العمل يراد منه الغاية، فلابد من المجازفة والتعرض لعواقب الخطأ من بعض النواحي. وكل رجل عمل يضطر إلى الأخذ بالأرجح فيما يرى، وإلا تعذر عليه العمل بل استحال.
ورجال الحرب والسياسة والمال والتجارة ومن إليهم لا يسعهم إلا المخاطرة لأن غايتهم ليست الاهتداء إلى الحقيقة بل بلوغ الغرض. وكثيراً ما أراني اسأل نفسي لفرط ما أرى من ترددي وحيرتي، (هل أصبحت غير صالح للعمل؟) ولا يسرني ذلك فأروح أقول إن قدرة النفس على التكييف لا حد لها فيما أعرف، وإن العمل الذي يحوج إلى سرعة البت والجزم بلا تردد يضطر المرء إلى النزول على مقتضياته، وما أكثر ما تكون مواهب الإنسان كامنة، فلا يظهرها إلا انتقال الأحوال به، وأنا مع طول ترددي بين الآراء أراني مع ذلك أتصرف في مواقف العمل بسرعة وضبط وإحكام. وليس هذا من الثناء على النفس، ولكنه من الواقع الذي أعرفه بالتجربة
ومن طول حيرتي بين الآراء أصبحت أثق بخطأي ولا أثق بصوابي، وأقدر الضلال في كل ما انتهى إليه، ولا أطمئن إلى السداد فيه، ومن أجل ذلك لا أزال أراجع نفسي في كل قضية، وأنقض اليوم ما أبرمت بالأمس، ولولا أني معجل في حياتي لكان الأرجح أن أحجم عن المجاهرة برأي مخافة أن أكون قد أخطأت الصواب فيه. وأنا أعزي نفسي - لو أن في هذا عزا - بقول ويندل هولمز - على ما أذكر - إن الحقيقة (كزهر) النرد لها أكثر من وجه واحد، فإذا كنت قد رأيت وجهاً واحداً دون سائر الوجوه فإن لي العذر إذا كان هذا كل ما بدا لي، وأين في الناس من يرى وجوه الحقيقة كلها من كل جانب؟؟(199/4)
ولهذه الحيرة عللها المعقولة فأنا قد ورثت آراء، وأفدت من مخالطة الناس أراء، واكتسبت من الاطلاع آراء، وكنت أسلم بما ورثت واكتسبت، وأنا في سن التحصيل، وكنت ربما كابرت بالخلاف فيما أخذته من بيئتي، أما ما كنت أفيده من الكتب فكنت أتلقاه بالإكبار والإقرار، لأني لم أجد من يهديني أو يرشدني. فلا البيت كان لي فيه هذا المعين، ولا المدرسة كنت أجد فيها هذا المعلم الحاذق المرشد. وظل احترامي للكتب على حاله حتى احتجت في سنة أن أبيعها، وشق علي ذلك في أول الأمر، وكنت لا أكاد أطيق أن أدخل الغرفة التي كانت مرصوصة فيها. وظللت أياماً أحس كلما نظرت إلى الرفوف التي خلت مما كان عليها أني فقدت أقرب الناس إلي وأعزهم علي، وأشعر أني مشف على البكاء إذا لم أحول عيني عن هذه الرفوف الخالية. ولم يكن ما أتحسر عليه زينتها، وما أضعته فيها من مال خسرته بالبيع، وإنما كانت الحسرة على فقدان أساتذتي وإخواني. وبقيت بعد ذلك زمناً لا أمر بمكتبة عامة إلا أشحت بوجهي عنها من فرط الألم، وإلا أحسست أن يداً عنيفة تلوي أحشائي وتحاول أن تقتلعها. وكان من غرائب ما حدث أني لبثت أكثر من سنة لا أقتني شيئاً من الكتب كأنما زهدتني الحسرة على ما ضيعت في كل جديد غيره
ومن الغريب أن هذا هو نفس الإحساس الذي عانيته لما توفيت زوجتي، فقد ظللت سنوات لا أطيق أن أنظر إلى امرأة، ثم فتر الألم وخفت وطأته، كما هي العادة. وكنت في خلال ذلك قد احتجت أن أنظر بعيني وأفكر بعقلي فألفيتني أشك في كثير من مما كنت أسلم به ولا أكابر فيه بل ما كان لا يخطر لي أن أعترض عليه، وتغير الأمر، فبعد أن كنت أخذ الآراء من الكتب أو الناس، صرت آخذها من الحياة بلا واسطة، وأعرضها على عقلي بلا مؤثر فاعتدت الاستقلال في النظر، والحرية في التفكير، وخلا تفكيري وإحساسي شيئاً فشيئاً من تأثير الكتب، وسواها، وبرزت نفسي بعد طول التضاؤل؛ ثم أخذت أروض نفسي على التماس الجوانب الأخرى التي تخفى في العادة، فصارت وجوه الحقيقة تتعدد فيما أرى، وألفت ذلك حتى صار هذا ديدني مع الناس، فإذا رأيت من صاحب لي ما يسوءني حاولت أن أضع نفسي في مكانه وأن أنظر إلى الأمر بعينه هو، وأن أتمثل بواعثه واحساساته إلى آخر ذلك، فينتهي الأمر في الأغلب بأن أعذر ولا ألوم، ويذهب الألم أو الغضب أو غير ذلك مما أثار صاحبي بما يصنع.(199/5)
بل ترقيت من هذا إلى ما هو أرفع، فصار نظري إلى الناس نظراً إلى مادة تدرس لا إلى مخلوقات تعاشر ويصدر عنها ما يسوء أو يسر، ولا شك أن الفعل الحميد يحسن وقعه في النفس، وأن السوء يؤلم أو يغضب، وليس يسعني إلا أن أتلقى ما يكون من الناس بالحمد أو الذم، وبالرضى أو السخط؛ ولست بإنسان إذا لم يكن هذا شأني، ولكني أعني أني لا أعجل بالذم والسخط ولا أندفع مع أول الخاطر، بل أراجع نفسي وأجيل عيني في الأمر لأراه من ناحية غير الناحية التي طالعتني في البداية، فيتحول الموضوع من عمل أو قول باعث على الرضا أو الامتعاض إلى مادة للتفكير، وتذهب عنه الصبغة الشخصية، فكأني أمتحن نظرية ولست أزن صنع إنسان أساء أو أحسن.
ويخيل إلى الآن أني أعيش في معمل، فكل ما ألقاه في الحياة من خير وشر، وما اجدني أو أجد سواي فيه، من جد ولهو، أتناوله بالتحليل والبحث لأستخلص منه ما يتيسر لي استخلاصه من الحقائق، ثم أروح أقيسه إلى تجاربي الأخرى وأقارن وأقابل، ولا أزال أفعل ذلك حتى يهدني التعب، وقلما أهتدي، وكثيراً ما أضل، ولكني لا أسأم ولا أضجر لأن هذا صار متعتي النفسية التي لا أعدل بها متع الدنيا، بعد أن وجدت نفسي، وعثرت عليها تحت طبقات الكتب التي بعتها والحمد لله على ما كنت أتوجع وأذم الدنيا من أجله، فلولا أني بعت هذه الكتب لما وجدت نفسي، ولكان الأرجح أن أظل كالذي يعبد أصناماً.
والشك حيرة ولكنه حرية، وسعة الأفق خير من ضيقه، على الرغم من العناء الذي يكابده المرء من إرسال العين وإدارتها في النواحي الخفية أو البعيدة، وإنه لعذاب، وإن جدواه لقليلة، بالقياس إلى الجهد الذي يبذل فيه، ولكنه خير وأمتع من التحجر الذي يؤدي إليه التسليم، بلا نظر، وحسبك من متعته أنه يريك كل يوم جديداً، وقد يكون ما تهتدي إليه وتحسبه جديداً، قديماً جداً في الحقيقة ولكن المتعة في الجهد نفسه لا في النتيجة، والشأن في هذا كالشأن في الألعاب الرياضية فإن الغاية منها ليست الغلبة أو التفوق أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وإنما العبرة فيها بما تفيده من التدريب وما تكسبه بفضل الجهد الذي تنفقه فيها، ولذتها في مزاولتها لا فيما تنتهي به من الفوز وإن كان للفوز قيمته ومزيته، ولكنه ليس كل ما تزاول الألعاب من أجله
ومتى صار كل شيء مادة للدرس والبحث فقد صارت الحياة أوسع وأرحب، وصار المرء(199/6)
كأنه يحلق فوقها وإن كان يخوضها ويعانيها، وهذا ما أروض عليه نفسي الآن أن أكابد الحياة والناس، وأن يسعني مع ذلك أن أقف منها ومنهم موقف الناظر المتفرج، فكأني اثنان لا واحد، أحدهما يعيش ويجرب، ويسعد ويشقى، ويسر ويحزن، ويجد ويهزل، ويفعل ما يفعل الناس غيره؛ وثانيهما يتلقى هذه التجارب وينشرها أمامه، ويعرضها على عقله، ويقارنها ويقابلها، ويفحصها ويضم المتشاكل منها بعضه إلى بعض، ويجمع ما يمكن أن يأتلف، ويعمل خياله فيما يراه ناقصاً ليملأ الفراغ ويسد الثغرة، ويصنع على العموم ما يصنع الكيميائي في معمله الذي يجري فيه تجاربه، ولا يتأثر بالواقع، ولا يعنيه ما عانى منه، وهذا الازدواج عسير ولا شك، ولست أطمع أن أبلغ منه الغاية وأوفي على الأمد، ولكني أطمع أن أوفق في بابه إلى الكفاية مع المواظبة والصبر، ويطمعني في النجاح أن كل إنسان له أكثر من شخصية واحدة وإن كان لا يدري ذلك.
ويثقل على نفسي خاطر واحد يكاد يصدني عن المواظبة، هو ما جدوى ذلك كله؟. . ما آخر هذا العناء الذي أراه باطلا؟. آخر ذلك كله معروف. وهل ثم من آخر سوى الفناء؟. ولكني أعود فأقول لنفسي إن هذا الآخر لا آخر سواه، سواء أبذل المرء الجهد، أم قعد عنه وضن به، فلا فائدة من التقصير، ولا ضير من السعي. والحياة أن تحيا، لا أن تجمد وتركد وتأسن. أما الجدوى فلماذا أعذب نفسي بالسؤال عنها؟ وما جدوى أي شيء في الحياة؟. إن كل ما أعرفه أني موجود، وأني وهبت قدرة على الإحساس والتفكير، فكيف أعطل هذه المواهب وأبطل علمها؟. وكيف يمكن أن أنعم بالوجود وأتمتع بالشعور به وأنا أعطل ما أعطيت؟ ويعرف الجدوى من أعطاني الحياة، فلندع ذلك له فهو أعرف به.
إبراهيم عبد القادر المازني(199/7)
الأسد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جلس أبو علي أحمد بن محمد الرّوذبادي البغدادي في مجلس وعضه بمصر بعد وفاة شيخه أبي الحسن بنان الحمال الزاهد الواسطي شيخ الديار المصرية وكان يضرب المثل بعبادته وزهده، وقد خرج أكثر أهل مصر في جنازته فكان يومه يوماً كالبرهان من العالم الآخر لأهل هذه الدنيا؛ ما بقي أحد إلا أقتنع أنه في شهوات الحياة وأباطيلها كالأعمى في سوء تمييزه بين لون التراب ولون الدقيق، إذ ينظر كل امرئ في مصالحه ومنافعه مثل هذه النظرة بالمس لا بالبصر، وبالتوهم لا بالتحقيق، وعلى دليل نفسه في الشيء لا على دليل الشيء في نفسه، وبالإدراك من جهة واحدة دون الإدراك من كل جهة؛ ثم يأتي الموت فيكون كالماء صب على الدقيق والتراب جميعاً فلا يرتاب مبصر ولا أعمى، ويبطل ما هو باطل ويحق الذي هو حق.
وتكلم أبو علي فقال: كنت ذات يوم عند شيخنا الجنيد في بغداد فجاءه كتاب من يوسف بن الحسن شيخ الريّ والجبال في وقته يقول فيه: لا أذاقك الله طعم نفسك فإنك إن ذقتها لم تذق بعدها خيراً أبداً. قال: فجعلت أفكر في طعم النفس ما هو وجاءني ما لم أرضه من الرأي حتى سمعت بخبر بنان رحمه الله مع أحمد بن طولون أمير مصر، فهو الذي كان سبب قدومي إلى هنا لأرى الشيخ أو صحبه وأنتفع به.
والبلد الذي ليس فيه شيخ من أهل الدين الصحيح والنفس الكاملة والأخلاق الإلهية، هو في الجهل كالبلد الذي ليس فيه كتاب من الكتب ألبتة، وإن كان كل أهله علماء، وإن كان في كل محلة منه مدرسة، وفي كل دار من دوره خزانة كتب، فلا تغني هذه الكتب عن الرجال، فإنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل، ولكن الرجل الكامل صواب ينتهي إلى الروح، وهو في تأثيره على الناس أقوى من العلم إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع وحياتها عاملةً مرئيةً داعيةً إلى نفسها. ولو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها ووضعوا في ذلك مائة كتاب، ثم رأوا رجلا فاضلا بأصدق معاني الفضيلة وخالطوه وصحبوه - لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة وأجدى على الناس منها وأدل على الفضيلة من مائة كتاب ومن ألف كتاب. ولهذا يرسل الله النبي مع(199/8)
كل كتاب منزل ليعطي الكلمة قوة وجودها، ويخرج الحالة النفسية من المعنى المعقول، وينشئ الفضائل الإنسانية على طريقة النسل من إنسانها الكبير.
وما مثل الكتاب يتعلم المرء منه حقائق الأخلاق العالية، إلا كوضع الإنسان يده تحت إبطه ليرفع جسمه عن الأرض، فقد أنشأ يعمل ولكنه لن يرتفع. ومن ذلك كان شر الناس هم العلماء والمعلمين إذا لم تكن أخلاقهم دروساً أخرى تعمل عملا أخر غير الكلام؛ فإن أحدهم ليجلس مجلس المعلم ثم تكون حوله رذائله تعلم تعليما آخر من حيث يدري ولا يدري، ويكون كتاب الله مع الإنسان الظاهر منه وكتاب الشيطان مع الإنسان الخفي فيه
قال أبو علي: وقدمت إلى مصر لأرى أبا الحسن وآخذ وأحقق ما سمعت من خبره مع ابن طولون. فلما لقيته لقيت رجلاً من تلاميذ شيخنا الجنيد يتلألأ فيه نوره ويعمل فيه سره؛ وهما كالشمعة والشمعة في الضوء وإن صغرت واحدة وكبرت واحدة. وعلامة الرجل من هؤلاء أن يعمل وجوده فيمن حوله أكثر مما يعمل هو بنفسه، كأن بين الأرواح وبينه نسباً شابكاً، فله معنى أبوة الأب في أبنائه لا يراه من يراه منهم إلا أحس أنه شخصه الأكبر. فهذا هو الذي تكون فيه التكملة الإنسانية للناس وكأنه مخلوق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع.
ومن عجيب حكمة الله أن الأمراض الشديدة تعمل بالعدوى فيمن قاربها أو لامسها، وأن القوى الشديدة تعمل كذلك بالعدوى فيمن أتصل بها أو صاحبها، ولهذا يخلق الله الصالحين ويجعل التقوى فيهم إصابة كإصابة المرض تصرف عن شهوات الدنيا كما يصرف المرض عنها، وتكسر النفس كما يكسرها ذاك، وتفقد الشيء ما هو به شيء، فتتحول قيمته. فلا يكون بما فيه من الوهم بل بما فيه من الحق.
وإذا عدم الناس هذا الرجل الذي يعديهم بقوته العجيبة فقلما يصلحون للقوة، فكبار الصالحين وكبار الزعماء وكبار القواد، وكبار الشجعان، وكبار العلماء وأمثالهم؛ كل هؤلاء من باب واحد، وكلهم في الحكمة ككبار المرضى
قال أبو علي: وهممت مرة أن اسأل الشيخ عن خبره مع ابن طولون فقطعتني هيبته، فقلت احتال بسؤاله عن كلمة شيخ الري (لا أذاقك الله طعم نفسك). وبينما أهيئ في نفسي كلاماً أجري فيه هذه العبارة، جاء رجل فقال للشيخ: لي على فلان مائة دينار وقد ذهبت الوثيقة(199/9)
التي كتب فيها الدين وأخشى أن ينكر إذا هو علم بضياعها؛ فادع الله لي وله يظفرني بديني وأن يثبته على الحق. فقال الشيخ: إني رجل قد كبرت وأنا أحب الحلوى، فأذهب فاشتر لي رطلا منها وأمتعني به حتى أدعو لك.
فذهب الرجل فاشترى الحلوى ووضعها له البائع في ورقة فإذا هي الوثيقة الضائعة. وجاء إلى الشيخ فأخبره، فقال له: خذ الحلوى فأطعمها صبيانك لا أذاقنا الله طعم أنفسنا فيما نشتهي. ثم انه التفت إلي وقال لو أن شجرة اشتهت غير ما به صحة وجودها وكمال منفعتها فأذيقت طعم نفسها، لأكلت نفسها وذوت
قال أبو علي: والمعجزات التي تحدث للأنبياء والكرامات التي تكون للأتقياء، وما يخرق العادة ويخرج عن النسق كل ذلك كقول القدرة عن الرجل الشاذ: هو هذا. فلم تبق بي حاجة إلى سؤال الشيخ عن خبره مع ابن طولون، وكنت كأني أرى بعيني رأسي كل ما سمعت، بيد أني لم أنصرف حتى لقيت أبا جعفر القاضي أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ذاك الذي يحدث بكتب أبيه كلها من حفظه وهي واحد وعشرون مصنفا فيها الكبير والصغير. فقال لي: لعلك اشتفيت من خبر بنان مع ابن طولون فمن أجله زعمت - جئت إلى مصر. قلت: إنه تواضع فلم يخبرني وهبته فلم أسأله. قال: تعال أحدثك الحديث.
كان أحمد ابن طولون من جارية تركية وكان طولون أبوه مملوكا حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظفا عليه من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك. فولد أحمد في منصب ذلة تستظهر بالطغيان. وكانت هاتان طبيعتيه إلى آخر عمره، فذهب بهمته مذهبا بعيدا، ونشأ من أول أمره على أن يتم هذا النقص ويكون أكبر من أصله، فطلب الفروسية والعلم والحديث، وصحب الزهاد وأهل الورع، وتميز على الأتراك وطمح إلى المعالي. وظل يرمي بنفسه وهو في ذلك يكبر ولا يزال يكبر كأنما يريد أن ينقطع من أصله ويلتحق بالأمراء، فلما ألتحق بهم ظل يكبر ليلحق بالملوك، فلما بلغ هؤلاء كانت نيته على ما يعلم الله
قال: وكان عقله من اثر طبيعتيه كالعقلين لرجلين مختلفين فله يد مع الملائكة ويده الأخرى مع الشياطين، فهو الذي بنى المارستان وأنفق عليه وأقام فيه الأطباء وشرط إذا جيء بالعليل أن تنزع ثيابه وتحفظ عند أمين المارستان، ثم يلبس ثيابا ويفرش له ويغدى(199/10)
عليه ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ، ولم يكن هذا قبل إمارته. وهو أول من نظر في المظالم من أمراء مصر. وهو صاحب يوم الصدقة، يكثر من صدقاته كلما كثرت نعمة الله عليه، ومراتبه لذلك في كل أسبوع ثلاثة آلاف دينار سوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم في داره وغيرها، يذبح فيها البقر والكباش ويغرف للناس. ولكل مسكين أربعة أرغفة يكون في اثنين منها فالوذج وفي الآخرين من القدور، وينادي من احب أن يحضر دار الأمير فليحضر. وتفتح الأبواب ويدخل الناس وهو في المجلس ينظر إلى المساكين ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون فيسره ذلك ويحمد الله على نعمته. وكان راتب مطبخه في كل يوم ألف دينار، واقتدى به ابنه خمارويه، فأنشأ بعده مطبخ العامة ينفق عليه ثلاثة وعشرين ألف دينار، كل شهر
وقد بلغ ما أرسله ابن طولون إلى فقراء بغداد وعلمائها في مدة ولايته ألفي ألف ومائتي ألف دينار وكان كثير التلاوة للقرآن، وقد اتخذ حجرة بقربه في القصر وضع فيها رجالا سماهم بالمكبرين، يتعاقبون الليل نوباً، يكبرون ويسبحون، ويحمدون، ويهللون، ويقرءون القرآن تطريباً وينشدون قصائد الزهد، ويؤذنون أوقات الآذان، وهو الذي فتح إنطاكية في سنة خمس وستين ومائتين ثم مضى إلى طرسوس كأنه يريد فتحها، فلما نابذه أهلها وقاتلهم، أمر أصحابه أن ينهزموا عنها ليبلغ ذلك طاغية الروم، فيعلم أن جيوش ابن طولون على كثرتها وشدتها لم تقم لأهل طرسوس فيكون بهذا كأنه قاتله وصده عن بلد من بلاد الإسلام ويجعل هذا الخبر كالجيش في تلك الناحية
ومع كل ذلك فأنه كان رجلاً طائش السيف يجور ويعسف وقد أحصى من قتلهم صبراً أو ماتوا في سجنه فكانوا ثمانية عشر ألفا. وأمر بسجن قاضيه بكار بن قتيبة في حادثة معروفة وقال له: غرك قول الناس ما في الدنيا مثل بكار؟ أنت شيخ قد خرفت؛ ثم حبسه وقيده وأخذ منه جميع عطاياه مدة ولايته القضاء فكانت عشرة آلاف دينار؛ قيل أنها وجدت في بيت بكار بختمها لم يمسها زهداً وتورعاً
ولما ذهب شيخك أبو الحسن يعنفه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر طاش عقله فأمر بإلقائه إلى الأسد، وهو الخبر الذي طار في الدنيا حتى بلغك في بغداد
قال: وكنت حاضراً أمرهم ذلك اليوم، فجيء بالأسد من قصر ابنه خمارويه. وكان هذا(199/11)
خمارويه مشغوفاً بالصيد لا يكاد يسمع بسبع في غيضة أو بطن واد إلا قصده ومعه رجال عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنوة وهو سليم فيضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنعة يسع الواحد منها السبع وهو قائم
وكان الأسد الذي اختاروه للشيخ أغلظ ما عندهم، جسيما، ضارياً، عارم الوحشية، متزيل العضل، شديد عصب الخلق، هراساً، فراساً، أهرت الشدق، يلوح شدقه من سعته وروعته كفتحة القبر ينبئ أن جوفه مقبرة، ويظهر وجهه خارجاً من لبدته، يهم أن ينقذف على من يراه فيأكله.
وأجلسوا الشيخ في قاعة وأشرفوا عليه ينظرون، ثم فتحوا باب القفص من أعلاه، فجذبوه فارتفع؛ وهجهجوا بالأسد يزجرونه فانطلق يزمجر ويزأر زئيراً تنشق له المرائر ويتوهم من يسمعه أنه الرعد وراءه الصاعقة.
ثم اجتمع الوحش في نفسه وأقشعر، ثم تمطى كالمنجنيق يقذف الصخرة، فما بقي من أجل الشيخ إلا طرفة عين. ورأيناه على ذلك ساكناً مطرقاً لا ينظر إلى الأسد ولا يحفل به، وما منا إلا من كاد ينتهك حجاب قلبه من الفزع والرعب والإشفاق على الرجل.
ولم يرعنا إلا ذهول الأسد عن وحشيته فأقعى على ذنبه ثم لصق بالأرض هنيهة يفترش ذراعيه، ثم نهض نهضة أخرى كأنه غير الأسد، فمشى مترفقاً ثقيل الخطو تسمع لمفاصله قعقعة من شدته وجسامته، وأقبل على الشيخ وطفق يحتك به ويلحظه ويشمه كما يصنع الكلب مع صاحبه الذي يأنس به، وكأنه يعلن أن هذه ليست مصاولة بين الرجل التقي والأسد، ولكنها مبارزة بين إرادة ابن طولون وإرادة الله.
وضربته روح الشيخ فلم يبقى بينه وبين الآدمي عمل، ولم يكن منه بازاء لحم ودم، فلو أكل الضوء والهواء والحجر والحديد، كان ذلك أقرب وأيسر من أن يأكل هذا الرجل المتمثل في روحانيته لا يحس لصورة الأسد معنى من معانيها الفاتكة، ولا يسري فيه إلا حياة خاضعة مسخرة للقوة العظمى التي هو مؤمن بها ومتوكل عليها كحياة الدودة والنملة، وما دونها من الهوام والذر.
وورد النور على هذا القلب المؤمن يكشف له عن قرب الحق سبحانه وتعالى، فهو ليس بين يدي الأسد ولكنه هو والأسد بين يدي الله، وكان مندمجاً في يقين هذه الآية:(199/12)
(وأصبر لحكم ربك فإنك بأعْيُنِنَا)
ورأى الأسد رجلاً هو خوف الله، فخاف منه، وكما خرج الشيخ من ذاته ومعانيه الناقصة خرج الوحش من ذاته ومعانيها الوحشية، فليس في الرجل خوف ولا هم ولا جزع ولا تعلق برغبة، ومن ذلك ليس في الأسد فتك ولا ضراوة ولا جوع ولا تعلق برغبة.
ونسي الشيخ نفسه فكأنما رأى الأسد ميتاً ولم يجد فيه (أنا) التي يأكلها، ولو أن خطرة من هم الدنيا خطرت على قلبه في تلك الساعة أو اختلجت في نفسه خالجة من الشك، لفاحت رائحة لحمه في خياشيم الأسد فتمزق في أنيابه ومخالبه
قال: وانصرفنا عن النظر في السبع إلى النظر في وجه الشيخ فإذا هو ساهم مفكر، ثم رفعوه وجعل كل منا يظن ظناً في تفكيره، فمن قائل أنه الخوف أذهله عن نفسه وقائل أنه الانصراف يعقله إلى الموت، وثالث يقول أنه سكون الفكرة لمنع الحركة عن الجسم فلا يضطرب، وزعم جماعة أن هذه حالة من الاستغراق يسحر به الأسد. وأكثرنا في ذلك وتجارينا فيه حتى سأله ابن طولون: ما الذي كان في قلبك وفيم كنت تفكر؟
فقال الشيخ: لم يكن علي بأس، وإنما كنت أفكر في لعاب الأسد أهو طاهر أم نجس. . . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(199/13)
القاهرة المعزية
وجوب الاحتفاء بعيدها الألفي
للأستاذ محمد عبد عنان
منذ أعوام قلائل احتفلت فرنسا بذكرى إحدى مدنها العتيقة، وهي مدينة قرقشونة (كاركاسون) الرومانية لمناسبة مضي ألفي عام على قيامها؛ ومازلنا نذكر مما أفاضت به الأنباء يومئذ طرافة هذا الاحتفال وروعته وأهميته من الوجهة القومية. وقرقشونة إحدى مدن ولاية (سبتماينا) السبعة، وقد كانت مدى حين معقلا إسلاميا في جنوب فرنسا؛ ومازالت على صغرها وتواضعها شهيرة بآثارها الرومانية وتأريخها الحافل أيام الرومان والقوط والعرب
وان مصر لتستطيع أن تفخر بمدنها الألفية عنوان تراث مجيد وحضارة خالدة؛ ويكفي أن نذكر في هذا المقام عاصمتيها الجليلتين، الإسكندرية ثغرها العظيم التالد، والقاهرة عروس العواصم الإسلامية؛ فقد قطعت الإسكندرية من عمرها المديد أكثر من ثلاثة وعشرين قرنا؛ وأشرفت القاهرة على ألفها؛ وإذا كانت العاصمة الكبرى تقترب من عيدها الألفي بخطى سريعة فإن من بواعث الأسف أن يقترب هذا اليوم التاريخي العظيم دون أن تتأهب مصر للاحتفاء به وإحاطته بما يجب من ضروب الإشادة والتكريم؛ ومن بواعث الأسف إلا يرتفع حتى اليوم صوت رسمي ينبه إلى هذا الحادث القومي الجليل، وينوه بخطورته وأهميته، ويدعو المختصين إلى الاهتمام بأمره
ولقد احتفلت مصر بالأمس بالعيد المئوي لوزارة معارفها، واحتفلت من قبل بالعيد المئوي لمدرسة الطب، والعيد المئوي للمدرسة الخديوية، والعيد الخمسيني لإنشاء المحاكم الأهلية، وغيرها من المواقف والحوادث القومية، وأدركت ما وراء الاحتفاء بهذه المناسبات التاريخية من بعث للماضي، وتكريم للذكريات المجيدة، وإذكاء للعاطفة القومية، ووصل بين مراحل تأريخنا. بيد أن هذه الذكريات والمناسبات الحافلة تبدو ضئيلة متواضعة إلى جانب الاحتفاء بالعيد الألفي للقاهرة
ذلك أن الاحتفاء بالعيد الألفي للقاهرة المعزية يعتبر حادثاً منقطع النظير في تأريخ مصر الإسلامية. وليس بين عواصم العالم الكبرى سوى مدن قلائل قطعت عمرها الألفي؛(199/14)
وأشهرها وأعظمها من الوجهة التاريخية هي بلا ريب أثينه والإسكندرية ورومه وقسطنطينية. وإذا كان العالم الإسلامي يضم عدة مدن ألفية أخرى، فإنه ليس بينها من تضارع القاهرة في ضخامتها وجلالها وأهميتها السياسية والفكرية والاجتماعية
ألف عام هجرية كادت تنقضي على قيام المدينة الفاطمية المتواضعة، القاهرة المعزية أو قاهرة المعز لدين الله؛ ففي 17 شعبان سنة 358هـ (7 يوليه سنة 969م) دخلت الجيوش الفاطمية بقيادة جوهر الصقلي قائد المعز الفاطمي مدينة مصر أو مدينة الفسطاط غازية ظافرة، وعسكرت عند مغيب الشمس في الفضاء الواقع في شمال غربي الفسطاط؛ وفي نفس الليلة وضع القائد جوهر تنفيذاً لأوامر المعز أول خطة في مواقع المدينة الجديدة التي اعتزم الفاطميون إنشاءها بمصر لتكون لهم منزلا ومعقلا. وحفر أساس قصر جديد في نفس الفضاء الذي نزل فيه جيشه، فكان هذا مولد القاهرة التي سميت كذلك تفاؤلا وتيمناً بالنصر؛ وقامت المدينة الجديدة بسرعة تتوسطها القصور الفاطمية والجامع الأزهر الذي أنشئ بعد ذلك بأشهر قلائل (في جمادى الأولى سنة 359) ليكون منبراً للدولة الجديدة وملاذاً لدعوتها؛ ولم تلبث أن غدت منزل الخلافة الفاطمية مذ قدم المعز لدين الله إلى مصر بأمواله وأهله وبطانته وتوابيت أجداده، واستقر في عاصمته الجديدة في رمضان سنة 362هـ (يونيه سنة 973م)
ولبثت القاهرة مدى حين ملوكية عسكرية لا تضم سوى القصر الفاطمي ودواوين الحكم وخزائن المال والسلاح ومساكن الأمراء والبطانة ومن إليهم من التباع النازحين في ركب الغزاة؛ ولكن لم يمض جيل واحد حتى واحد حتى اتسعت جنبات المدينة الجديدة ونمت نمواً عظيما وترامت معالمها وأحياؤها إلى ما وراء السور الذي أنشأه حولها القائد جوهر واتصلت بمدينة مصر (الفسطاط) وامتزجت المدينتان وتداخلتا وصارتا تكونان معا مدينة من أكبر وأعظم مدن الإسلام في العصور الوسطى. وكان اسم القاهرة يطلق اصطلاحا على المدينة الفاطمية التي يضمها السور الذي أنشأه القائد جوهر ثم وسعه وأعاد إنشائه أمير الجيوش بدر الجمالي في أواخر عهد المستنصر بالله (سنة 486هـ ـ) وأدخل فيه عدة أحياء ومواقع جديدة: وأما المناطق التي بقيت خارج السور والتي كانت تمتد فيما بين الجامع الطولوني وقلعة الجبل إلى الجهة المقابلة على ضفة النيل، فكانت تعرف بظاهر(199/15)
القاهرة، وكان اسم مصر يطلق دائما على الفسطاط القديمة، ويطلق على المدينتين معا (مصر القاهرة)
ومازالت معالم القاهرة المعزية وحدودها القديمة قائمة يحدها من الشمال موقع باب الفتوح وباب النصر والسور الذي يصلهما وهو بقية من سور أمير الجيوش بدر الجمالي، ويحدها من الجنوب باب زويلة، ومن الشرق سفح الجبل، ومن الغرب موقع الخليج القديم، وما يلي ذلك حتى ضفة النيل، وما يزال الجامع الأزهر قائما وسط المدينة القديمة حيث قام منذ ألف عام تحيط به معظم الأحياء والدروب الفاطمية القديمة بعد أن تغيرت أسماؤها ومعالمها
ولقد شهدت القاهرة في ظل الخلافة الفاطمية ألواناً من العظمة والبهاء والبذخ قلما شهدتها في ظل دولة إسلامية أخرى؛ ومع أنها نمت بعد ذلك نمواً عظيما. واتسعت جنباتها وأحياؤها حتى غدت في القرن التاسع الهجري أضعاف ما كانت عليه أيام الفاطميين، فإنها لم تستطع بمثل ما سطعت في عهدها الأول، ولم تشهد مثل ما شهدت فيه من مواكب الخلافة الفخمة، ورسومها وأعيادها الباذخة ولياليها وحفلاتها الباهرة؛ كانت القصور الفاطمية آية الفخامة والبهاء وإن الخيال ليضطرم إلى الذروة حينما يستعرض تلك الصور الرائعة التي تقدمها إلينا الروايات المعاصرة من عظمة الخلافة الفاطمية وروعتها في مظاهرها العامة، وعن حياة الخلفاء الخاصة داخل القصر وأبهائه وأجنحته المنيفة. وقد كان القصر الزاهر يشرف من الغرب على ميدان شاسع يسع عشرات الألوف من الجند والنظارة يعرف بميدان بين القصرين، وهو اسم شهير في تاريخ القاهرة المعزية شهرة ميدان (القديس مرقص) (سان ماركو) في تاريخ البندقية، وقد سمي كذلك لوقوعه بين القصر الفاطمي الكبير والقصر الصغير المواجه له وهو المعروف بالقصر الغربي؛ وقد لبث (بين القصرين) أيام الدولة الفاطمية مسرحاً لأعظم المواكب والمظاهرات الخلافية والعسكرية، والحفلات العامة، ولبث بعد زوال الدولة الفاطمية عصراً أعظم ميادين القاهرة، وازخرها عمارة وأشدها احتشاداً، وإنك لتستطيع أن تتبع كثيراً من أخبار الخلافة الفاطمية والشعب القاهري في ميدان ما بين القصرين، كما تستطيع أن تتبع كثيراً من أخبار الجمهورية البندقية في ميدان القديس مرقص، كلاهما امتزج بحياة الدولة والشعب، واتخذ مكانة فيها.(199/16)
ومنذ بضعة أعوام شعرت بعض الجهات الرسمية بأن الجامع الأزهر يدنو من عمره الألفي. وفكرت في أن تحتفل بهذا العيد احتفالا عظيما يتفق مع روعته التاريخية، ووضع بالفعل برنامج لتنظيم هذا الاحتفال. وانتدبت لجنة لوضع تاريخ شامل للأزهر منذ قيامه إلى يوم عيده، ثم وقف المشروع لأسباب غير معروفة؛ بيد أن الذي يثير الدهشة حقاً، هو أن تخطر للقائمين بالأمر فكرة الاحتفال بالعيد الألفي للجامع الأزهر دون أن تخطر لهم فكرة الاحتفال بالعيد الألفي لمدينة القاهرة، مع أن القاهرة تسبق الأزهر في مولدها بعدة أشهر؛ وقد أنشئ الأزهر في الأصل، لا ليكون جامعة للدراسة، ولكن ليكون مسجداً للعاصمة الفاطمية الجديدة وليكون منبراً للدولة الجديدة ومعقلا لدعوتها
فإذا كان مما يحمد أن فكر القائمون بالأمر في تخليد الذكرى الألفية للجامع الشهير، فإن ما يبعث إلى الأسف أن يفوتهم حتى اليوم التفكير في تخليد ذكرى القاهرة الألفية؛ هذه الذكرى الخالدة تدنو بسرعة. فقد وضعت أسس العاصمة الفاطمية كما رأينا في منتصف شعبان سنة 358هـ ففي منتصف شعبان سنة 1358هـ، أعني بعد نحو عامين ونصف فقط تبلغ القاهرة المعزية عمرها الألفي المديد
وبعد أشهر قلائل من ذلك التاريخ، أعني في جمادى الأولى سنة 1359هـ يبلغ الجامع الأزهر عمره الألفي أيضاً، إذا اعتبرنا تاريخ البدء في إنشائه وهو جمادى الأولى سنة 359هـ.
وإنه لمن بواعث الفخر حقاً أن يكون تاريخنا حافلا بمثل هذه الذكريات العظيمة التي هي عنوان تراث قومي مؤثل
فعلينا أن نفكر مليا في الاحتفاء بهذين العيدين القوميين الجليلين وإذا كان قد فاتنا حتى اليوم أن نؤلف للاحتفاء بهما اللجان الخاصة، وأن نضع البرامج اللائقة، فإن ما يزال ثمة متسع من الوقت لتحقيق هذه الأمنية؛ ولقد ارتبط اسم القاهرة المعزية والأزهر دائماً حتى أنه ليكفي أن تؤلف هيئة واحدة للقيام بهذه المهمة، فتضع للاحتفال بعيد القاهرة الألفي برنامجا خاصا وتضع برنامجا آخر للاحتفال بالعيد الألفي للجامع الأزهر، يراعى في كل منهما ظروفه ومناسباته الخاصة؛ ومن الطبيعي أن يحتوي البرنامج على وضع تاريخ ألفي شامل لمدينة القاهرة وتاريخ شامل للجامع الأزهر؛ وأن تنظم في العيدين طائفة من المهرجانات(199/17)
العلمية والاجتماعية الباهرة وأن يدعى لعيد القاهرة رؤساء البلديات في جميع المدن الكبرى ممثلين لحكوماتهم ومدنهم. كما يدعى لعيد الأزهر ممثلو الجامعات في جميع أنحاء العالم، وأن ينظم بهذه المناسبة حج خاشع إلى معالم القاهرة المعزية وآثارها الباقية ومنها الجامع الأزهر. وأن تقام بها الأعمدة واللوحات التذكارية المختلفة، وأن تفتتح بهذه المناسبة طائفة من المشاريع العلمية والخيرية
وأنه لمما يسبغ على هذه الاحتفالات روعتها وجلالها، أن تقام إلى جانب هذه المعالم الخالدة وفيما بينها.
فهل يحدث هذا النداء المتواضع أثره؛ وهل يبادر أولو الأمر فيتخذوا الأهبة العاجلة لتحقيق هذه الأمنية القومية الرفيعة؛ وهل تشهد القاهرة المعزية، ويشهد الأزهر كلاهما عيده الألفي في فيض من الروعة والجلال؛ أم تغيض هذه الذكريات العظيمة في غمر الجدل والمناقشات العقيمة؟
محمد عبد الله عنان(199/18)
في الأدب المقارن
أثر المجتمع في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
إنما يقصد الأديب فيما ينشئ إلى التعبير عن شعوره وأفكاره لأنه يحس حافزاً يدفعه إلى ذلك التعبير، ويشعر براحة وغبطة إذا ما طاوع ذلك الحافز، بيد أنه يتأثر في كل ما يحس ويفكر ويكتب ببيئته الجغرافية ووسطه الاجتماعي وجيله الذي يحيا فيه، لا ندحة له مهما بلغ من استقلال الشخصية والأصالة في الابتكار عن التأثر بكل ذلك، بل لا نغالي إذا قلنا إن عبقرية الأديب ليست إلا مجموعة مؤلفة من تلك العوامل، والأديب الذي يعتزل مجتمعه لا يتأثر به سائر أدبه إلى الاضمحلال وأن يكون سطحيً، وكلما كان الأدب صادقا حيا كانت صلته بمجتمعه شديدة التوثق، وكان هو مرآة لذلك المجتمع واضحة، وإن لم يمنعه ذلك أن يزخر بآثار الفردية القوية والشخصيات المتميزة
فالأديب يتأثر بالمجتمع تأثراً تلقائيا غير مقصود ولا محسوس أحياناً، ثم هو يتأثر به تأثرا واعيا مقصودا، وذلك حين يلجأ الأديب عمدا إلى وصف ما يحيط به من أحوال المجتمع، وما يحمد منها وما يذم، ومن يصادفهم ويخالطهم في المجتمع من أفراد ذوي خلائق متباينة، يلذ للأديب أحيانا عرض كل ذلك في أدبه كما تعرض الصور والدمى في المعارض والمتاحف، ويغتبط أي اغتباط بقدرته على تصوير ما راعه من تلك الحقائق والسلائق على ما هي عليه، وقد يزيد فيجلوها في مجلا الفكاهة والسخرية، أو يزيد فيندد بما يرى من مساوئ ويدعو إلى الإصلاح ويوضح وسائله، ويؤلف لنفسه مبادئ يرضاها في السياسة والاجتماع والاقتصاد والدين وهلم جرا، ولا يعود معبرا عن شعور الفرد فحسب، بل يصبح قائد فكر بين الجماعة كذلك
هكذا يصبح للأدب غرض اجتماعي إصلاحي، ولا ريب أن غرض الأدب الأول هو غرض كل الفنون، من التعبير الصحيح عن صادق الشعور بحقائق الحياة وجمالها، فإذا ما ظهر بجانب ذلك غرض اجتماعي أصبح للأدب غرضان، بيد أنهما لا يتنافران بل يأتلفان في يد الأديب القدير أحسن ائتلاف، ويصوران الحياة أصدق تصوير وأجمله، أما في يد الداعية المتحمس لدعوته الاجتماعية دون كبير احتفال بجمال الفن وروعة الأسلوب،(199/19)
فيوشك أن يخرج الأثر المنشأ من عالم الأدب إلى حيز العلم، فيندرج تحت عنوان الاقتصاد أو التربية أو السياسة أو غير ذلك، أما الأديب الصميم فلا غنى له عن الجمال والصبغة الفنية، ووظيفته الكبرى في بيان الشعور وما اتصل به من أفكار
وتدبر أحوال المجتمع ونقد أخلاق بنيه لاشك مجال للأدب رحيب، ومسرح لفن الأديب خصيب، ومهما تغيرت أحوال المجتمعات على تتابع الأجيال، فإن طباع الإنسان المركبة فيه واحدة لا تتغير، ومظاهره من كرم ولؤم ونبل وإدعاء وغرور ونفاق، وولع بالمظاهر وتفاخر بالنعمة المحدثة، كل هاتيك أمور تتكرر ولا تتبدل، وتبدو في شتى الأشكال والأزياء وهي في الصميم سواء، ومن ثم نرى صوراً لها في شتى آداب الأمم على تباعد عصورها ومنازلها: فالمسيو جوردان المحدث النعمة الذي رسمه موليير متعثرا في أذيال ثروته مكاثرا بها في سذاجة، هو أحد (النوابين) المحدثي النعمة الذين أولع بتصويرهم كتاب الدرامة الإنجليز في أواخر القرن الثامن عشر، وهو هو ذلك المحدث النعمة الذي صدع رأس عيسى بن هشام في المقامة المضيرية بتعداد محتويات بيته وأثمانها ومزاياها؛ فالأديب الحاذق يفطن إلى الخطوط الرئيسية في الصورة الشخصية التي يبغي رسمها، فإذا ما صورها لم تكن صورة فرد من الأفراد، بل جاءت صورة ضرب من الناس في شتى الأمم والعصور
وقد ترك المجتمع آثاره الواضحة على تعاقب العصور في الأدبين العربي والإنجليزي، واختلط أدباهما بتأريخهما اختلاطاً شديدا، ولا غرو فالأدب من البين الفنون أشدها بالحياة اليومية والأحوال الاجتماعية والأحداث السياسية ارتباطا، وتبينت في ذينك الأدبين سمات الأجيال المتتابعة، وكثرت فيهما النظرات الاجتماعية كما كثرت التأملات الفردية، وقام فيهما من الآثار ما قوامه تدبر أحوال المجتمع ونقد أخلاق أبنائه، بجانب الآثار التي قوامها نظر الأديب في ذات نفسه وبوحه بأشجانه وإطرابه؛ بيد أن الأدب الإنجليزي كان أبعد في تناول الشؤون الاجتماعية مدى، وكان أدبائه أكثر شغلاً بالدعوة إلى الإصلاح، وإن لم يهملوا التعبير عن خوالجهم الفردية، ولم يقصروا في تصوير شخصياتهم المستقلة
ترى طابع العصر الأليزابيثي في أدب شكسبير ومعاصريه: فهو عهد فتوح ومغامرات، فامتلأت رواياته التمثيلية بذكر الشجعان والأسفار والحماسة الوطنية وتاريخ إنجلترا، وهو(199/20)
عصر لم تبدد الثقافة بعد أوهام سواد أبنائه، فمسرحياته تعج بذكر الشياطين والسحرة والأشباح والعرافة والتطير، ولم تكن نفوس أبناء ذلك العصر قد رقت ولا أذواقهم قد صقلت، ولذلك تكثر في رواياته المذابح والمبارزات وسفك الدماء؛ وكان عهد تعصب ديني، ومن ثم يسخر أدبائه من أبناء النحل الأخرى كاليهود، ولم يكن الحكم الدستوري قد توطد بعد، وما تزال للملك اليد الطولى والكلمة العليا في السياسة الداخلية والخارجية، ومن ثم ينسج شكسبير لنفسه في رواية هنري الرابع وغيرها نظرية سياسية قوامها الملكية المستبدة العادلة، ويعدها أساس نظام الكون
ونرى أثر عهد الإصلاح الديني في إنجلترا في أدب عهد المطهرين: إذ خفت صوت الأدب وغيره من الفنون التي لا يطمئن إليها عادة المتشددون من المتدينين، وأتصف الأديبان الكبيران اللذان ظهرا إذ ذاك - ملتون وبنيان - بالاهتمام بالشؤون الدينية والتأثر بالكتاب المقدس موضوعاً وأسلوباً؛ ونرى أثر عصر المجون الذي تلا ذلك في مسرحياته المملوءة بالسقاط؛ حتى إذا ما أشرق العصر التالي وقد اطمأنت النظم الدستورية وانتشرت الثقافة والثروة في جمهور الشعب أوغل الأدب في تناول الشؤون الاجتماعية، ولم يقنع بالأشكال الموجودة أصلا، فاتخذ لنفسه شكلاً أدبياً هو أليق لتصوير المجتمع ونقده وهو القصة؛ وفي قصة القرن الثامن عشر وفي شعره يتجلى ما كان يسود مجتمع ذلك العهد من تأنق وتصنع، وحرص على تعلم اللغات وممارسة بعض الفنون، ويجري ذكر خروج الأرستقراط للصيد بخيلهم وكلابهم، ويبدو من ذلك ما كان يتخلل المجتمع من نفاق ورذيلة وإدمان للشراب وإفراط في الطعام وما كان يعصف بالطرق العامة من عبث الأشقياء
اتخذت القصة وسيلة لوصف المجتمع، وقد أدت غرضها ذلك خير أداء، وكيف لا تؤديه والقصة في يد الأديب الحصيف ليست إلا قطعة من المجتمع الحي المتحرك منقولة على القرطاس؟ قطعة من المجتمع طوع بنان الأديب يؤلفها كيف شاء ويرسم بها من الأشخاص من شاء ويبرز بها من الآراء ما يختار، فلا غرو ازدادت القصة الاجتماعية رقياً وذيوعاً في القرن التالي، ازدياد المبادئ الديمقراطية انتشاراً أعقب الثورة الفرنسية، وانتشار التعليم العام، وتعقبه مشاكل المجتمع بظهور الصناعة الكبيرة، وانتشار المذاهب الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة كالاشتراكية والشيوعية، ونزاع الرأسماليين والعمال، ونهضة المرأة(199/21)
ورقي علوم الاجتماع والنفس والتربية، وخاض الأدباء غمار كل هاتيك الحركات والتيارات المتضاربة، ونقلوا في غضون قصصهم صور هاتيك المعارك الفكرية والأحوال المادية، وفي قصص مريديث ودكنز وبنلر وهكسلي وبنيت من آثار كل ذلك ما لا يستقصي، ومن تلك القصص تستخرج صور لتلك الحركات أوضح مما قد تعرضه التواريخ المنظمة
وطمت هذه النزعة الاجتماعية الإصلاحية وهذه الصبغة العلمية التحليلية، في القصة المعاصرة، فأقطاب القصة والدراما المعاصرون أمثال شو وهاردي وولنر وجالزورذي، كلهم متأثرون بالكشوف العلمية الحديثة والنظريات الاقتصادية الجديدة، والأحوال الاجتماعية الراهنة، ولكل منهم مبادئه ودعواته حتى أصبح الأدباء يختلفون ويعتركون، لا على المذاهب الأدبية والآراء النقدية الفنية كما كان الشأن فيما مضى، بل على المذاهب الفكرية والآراء السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى هذه المبادئ لا على مبادئ الفن والأدب ينقسمون شيعاً ومدارس، ويسرف بعض الكتاب كبرتراندرسل في التحمس للدعوة الاجتماعية واطراح الأسلوب الأدبي، حتى تخرج بعض مؤلفاتهم من عداد كتب الأدب، ولا تعد إلا في كتب العلم إن كانت لها قيمة هناك!
كان الشعر العربي في الجاهلية حقاً ديوان العرب كما دعوه: كانوا يقولونه في شرح أحوالهم الفردية، من حب وذكر للديار ومناجاة للمطايا، وفي شرح أمورهم الاجتماعية، من التمدح بالقرى والتفاخر بالبلاء في الحرب والتوعد بالثأر وإباء الضيم، يرسلون كل ذلك على السجية فيجيء رائعاً بصدقه معجبا برجولته، ويصوغونه فيما اتفق من لفظ وعر وأسلوب شديد، فظل شعر ذلك العصر ممثلاً صادقاً له رغم عبث العابثين به، بل لعله كان أهم مصادر تأريخ ذلك العهد حين دون تأريخه، فقد ظل المؤرخون يذكرون ما يذكرون من حوادث وحقائق ويتبعونها أبيات الشعر مستشهدين
وظهر أثر عهد الاستقرار والثروة والنجاح في ظل الأمويين في غزليات ابن أبي ربيعة وجميل وأضرابهما، ومفاخرات جرير والفرزدق وأشياعهما، ثم ظهر إثر الإفراط في تلك الثروة والفراغ والإسراف في اجتناء لذات الحضارة، في شعر بشار وأبي نواس وأمثالهما، ثم كان العهد التالي بدء التدهور والانحطاط المادي والخلقي: فهوت مكانة المرأة إلى(199/22)
حضيض من القهر والازدراء والجهالة، وفشت الرشوة والمحاباة والمصادرة بين الحكام، وكثر الفقر من جراء ذلك وإدعاء الفقر والتسول والاحتيال باسم الدين والطب والأدب والعلم، وذاع الفساد وفاحش القول ومبتذل التندر
يبدو أثر كل هذا في تنديد المعري بالمرأة وسخر غيره من الشعراء منها، وتلك الأقاصيص التي أفتن الجاحظ والأصفهاني وابن دريد في جمعها وتأليفها، عن عبث النساء وغدرهن وخيانة الزوجات وجوب تشديد الحجاب عليهن، فكان ابن دريد مثلاً يخترع الحكايات يفسر بها الأمثال السائرة فيتخذ ذلك الضرب من حديث النساء مادة لها. وبدا أثر تلك الحال السالف شرحها أيضاً في مقامات بديع الزمان والحريري، حيث لا يزال بطل المقامات يتنقل من تسول إلى احتيال إلى خديعة، ولا يزال الحارث ابن همام يؤكد حرصه في أسفاره إذا ما هبط بلداً أن يتعرف إلى واليه أو قاضيه أو بعض ذوي الكلمة فيه، يتقي بمعرفته ظلم الغاشمين والمرتشين من عمال الحكومة، ويتحاشى غوائل الإرهاق والمصادرة والسجن. ويقف كاتبا المقامات المذكورة صفحات طويلة على استعراض ضروب الشتائم والبذاء يتقاذفها أشخاص الأقصوصة. ويقول ابن الرومي واصفاً حال الموظفين والتجار وإضرابهم:
أتراني دون الألى بلغوا الآ ... مال من شرطة ومن كتاب
أصبحوا ذاهلين عن شجن النا ... س وإن كان حبلهم ذا اضطراب
وتجار مثل البهائم فازوا ... بالمنى في النفوس والأحباب
هذه لمحة خاطفة إلى آثار أحوال المجتمع المتعاقبة في الأدب العربي، إذ كان من المحال تقصي تلك الآثار الاجتماعية التي تنعكس في الأدب، مادته وأشكاله ومذاهبه وألفاظه، وما يزال الناظر في مخلفات والشعراء والكتاب يطلع من آثار مجتمعهم على جديد. وفي نوادر أبي نواس وفكاهات الجاحظ وحكايات الأصبهاني دلائل متفرقة على شتى نواحي الحياة الاجتماعية في عصورهم. وإذا قرأنا في مقامات البديع مثلا أن أبا الفتح اصطنع فيما اصطنع من حيل لاقتناص الدراهم والدنانير حرفة القراءة، فرآه عيسى بن هشام مرة وسط جمع من الغوغاء يضحكهم بألاعيب قردة، علمنا أن تلك الحرفة التي ما تزال مشاهدة في بعض البلدان حتى عصرنا هذا بعد انتشار حدائق الحيوان، كانت تمارس منذ تلك العهود.(199/23)
وكذلك نعلم أن أبناء السند وفدوا فيمن وفدوا من أبناء الشعوب إلى مقر الخلافة يبتغون الرزق تارة بالصيرفة إذ يقول الجاحظ أنه لا يكاد يوجد ذو تجارة رابحة إلا وصاحب كيسه سندي؛ وتارة بإضحاك العامة - شأن أبي الفتح الإسكندري - بألاعيب الفيل، وذلك إذ يقول دعبل:
هذا السنيدي لا فضل ولا حسب ... يكلم الفيل تصعيداً وتصويباً
كل هذه الآثار الاجتماعية ما جل منها وما ضؤل، واضحة في الأدب العربي شعره ونثره؛ بيد أن أغلبها قد جاء في الأدب عفواً أو عرضاً، ولم يقصد لذاته ولم تنظم القصيدة أو لم يصنف الكتاب عمداً لوصفه وبيانه، بله نقده وإصلاحه، فأكثر أدباء العربية بعد الإسلام وبعد استتباب الملك كانوا عن مجتمعهم في شغل، قد يرون من أموره ما لا يرضيهم، وقد تكون لهم آراء في السياسة ومذاهب في الدين لا ترضي أصحاب السلطان، ولكنهم كانوا في أغلب الأحوال يكتمون مثل تلك الآراء والنظريات، وكيف يبوحون بنقداتهم وهم بين رجاء لنوال السلطان وإشفاق من غضبه؟ إن النقد الصريح الحر والنظر الاجتماعي الصادق لا يترعرعان بين ذهب المعز وسيفه، إنما كان يجهر الأدباء بالنقد والمعارضة في الجاهلية وصدر من الإسلام، وهما عهد الحرية واستقلال الفرد؛ فلما توطدت الملكية المطلقة خفتت أصوات الأدباء وقطعت ألسنتهم. وكان شعراء الخوارج الكثيرون الذين أطاح الأمويين رؤوسهم عبرة لسواهم من الشعراء وقد مدح سويف الشاعر بعض العلويين الثائرين فوأده المنصور، وثار المتنبي في صباه يبتغي إصلاح الأحوال المتفاقمة فزج به في السجن
فالملكية المطلقة قد فرضت على الشعب ألا يراجعها في أمر، وانقلبت بالأمة العربية بذلك من النقيض إلى النقيض. كان العرب في جاهليتهم مسرفين في الاستقلال والفردية، فصاروا في ظل الملكية مسرفين في الخضوع والاستسلام، وفرضت تلك الملكية على الأدباء أن يعيشوا عالة عليها وعلى المجتمع، لا يشاركون الشعب آماله وأعماله، ولا يقودون أفكاره وحركاته، فلم يكن المجال متسعاً أمام الأديب العربي، كما كان متسعاً أمام الأديب الإنجليزي، لوصف المجتمع ونقد أحواله والدعوة إلى إصلاحه. فإن هو فعل ذلك عرض نفسه للتهلكة ولم يفد المجتمع فتيلا. إنما يؤمل الأديب الإنجليزي أن يفيد مجتمعه(199/24)
بآرائه، لأنه يخاطب بآثاره الأدبية الرأي العام في بلاده؛ الذي هو فوق الحكومة يملي عليها إرادته؛ أما في ظل الملكية المطلقة في الدولة الإسلامية، فلم يك هناك رأي عام، وكان رأي الحكومة الأعلى
لذلك عاش أدباء العربية طالبي فضل، يمدحون الأمير ويعيشون من عطاياه، وهي السبيل التي ألجئ إليها المتنبي بعد محنة سجنه، وعاش بها حياته على مضض باكياً مما هو به محسود، واستوزروا للأمراء وكتبوا وعملوا لهم، وطلبوا بذلك النجاح الشخصي لأنفسهم لا النفع الشامل لمجتمعهم. أما أدباء الإنجليزية فقل منهم من عاش في ركاب الملوك ومن فضلهم على هذا النحو، وكان أكثرهم أما مثرين غانين عن العمل لكسب القوت متوفرين على فنهم وحده، وأما مساهمين في الحياة العملية بجانب الحياة الفنية، فكان منهم من ضربوا بسهم في السياسة والدين والحرب والكشف الجغرافي وكبار وظائف الدولة، ومن أولئك فيلب سدني وبيكون ورالي وملتون وبنيان وأديسون وبيرون، وكان أكثرهم في صف الشعب وجانب الحرية
بل كان من أدباء الإنجليز من عاف الاجتماع الإنساني قاطبة، ونقم على أنظمة الملكية والكنيسة، وكره التقاليد والأعراف السائدة، وحاول إنشاء مجتمع جديد تسوده البساطة والمساواة ومن هؤلاء شعراء عهد الثورة الفرنسية، فالكتاب الفرنسيون الذين مهدوا لتلك الثورة أمثال فلتير وروسو اكتفوا بالعمل النظري وتركوا التنفيذ لغيرهم؛ أما معاصروهم ومن جاءوا بعدهم من أدباء الإنجليز، فحاول بعضهم تنفيذ مبادئهم بأنفسهم، ولهذا الغرض أنتقل بركلي إلى أمريكا وشلي إلى أرلندة، يريد كل منهما إنشاء مدينته الفاضلة، وإن كانا قد منيا بالفشل لضخامة المشروع. وعاضد وردزورث الثورة الفرنسية بقوة لمناداتها بمبادئها المعروفة حتى نقم على دولته إعلانها الحرب على فرنسا الثائرة، وكاد ينتظم في أحد أحزاب الثورة، ويركب تيارها الخطر، واستشهد بيرون في حرب استقلال اليونان
ولقد أبدى بعض أدباء العربية في عهد نضج الحضارة والثقافة والأدب شغفاً بتتبع أحوال الناس ومعايشهم وعاداتهم وأخلاقهم وظهر ذلك في كتب الجاحظ؛ على أنه كان يروي الأشياء على علاتها ويخلطها بفكاهاته؛ وفي مقامات البديع، ولم يكن أيضاً يزيد على التصوير المجرد، فإذا ما صرح بسخطه على بعض الأحوال والأحكام والأنظمة، فتصريحاً(199/25)
سريعاً فيه تسليم واقتناع بعدم جدوى محاولة الإصلاح وعدم إمكان أحسن مما كان. وظهر ذلك الميل أيضاً في شعر أبن الرومي، الذي صور كثيراً من الشخصيات الفكاهية، على أنه كان يتناولها من ناحيته الفردية وينحى عادة على أعدائه الشخصيين؛ وظهر نفس ذلك الميل إلى تتبع أحوال المجتمع في شعر المعري خاصة، وذلك من الأبواب التي تفرد بها أو كاد بين أدباء العربية، وسبق في التصريح بها عصره، وله في ذلك أبيات رائعة ليست إلا خلاصة موجزة لبعض مذاهب السياسة والاقتصاد في العصور الحديثة؛ ومن ذلك اعتباره الحكام خدام الرعية، ونقمته على عدم تساوي توزيع الثروة، وذلك قوله من لزومياته:
مل المقام فكم أعاشر أمة ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستباحوا حقها ... وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وقوله
لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته ... فقير معرى أو أمير متوج
وقد يرزق المجدود أقوات أمة ... ويحرم قوتا واحد وهو أحوج
على أن الشعر ليس بأصلح المجالات للنقد الاجتماعي والإصلاح الشعبي، وإنما مجال ذلك النثر الذي هو أكثر شيوعاً وأقرب إلى متناول القارئين، والذي هو أرحب صدراً بالشرح والتفصيل والإسهاب؛ والمقالة والقصة فرسا رهان هذا المضمار، ولكن النثر العربي لم ينهض بهذا العبء، ولم يزد أن خطا الخطوة الأولى في هذا السبيل في كتابات الجاحظ ومقامات البديع؛ وقد جاءت هذه الخطوة متأخرة. ولما جاء الجيل التالي لم تتبعها خطوة أخرى، بل أعقبها تقهقر إلى الوراء، فلم تتطور المقامة إلى قصة فنية اجتماعية تدرس المجتمع وتقوده في سبيل الإصلاح، بل تحولت في يد الحريري وغيره إلى معارض للألفاظ المزركشة والألغاز المعماة والحيل الملفقة، فقد كانت الأمة في طريقها إلى الانحلال، والأذهان في انحدارها إلى الخمود، والحكام يزدادون على مرافق الأمة وطأة، والأدب يتقلص رويداً رويداً، ويهجر لباب الحياة إلى قشور الألفاظ.
فالأدبان العربي والإنجليزي قد تأثرا في مختلف العصور تأثراً كبيرا بأحوال مجتمعيهما، وهو أمر لم يكن منه بد، بيد أن الأدب الإنجليزي كان أكثر بالمجتمع تأثراً وأكثر فيه(199/26)
تأثيراً، وأشد تشابكاً وتفاعلاً معه، لما أحاط به من ظروف مساعدة، مرجعها سيادة الحكم الديمقراطي وانتشار حرية القول والعمل وقوة الرأي العام؛ أما الأدب العربي فلبلوغه أوج ازدهاره في ظل الملكية المطلقة، قد كان يقتصر تأثره بالمجتمع وتأثيره فيه على ما جاء عرضاً غير مقصود، وما تم بحكم الظروف وطبائع الأشياء، وكان تناول أدبائه لشؤون مجتمعهم رفيقاً محدوداً، وفيما عدا ذلك كان كل منهم عاكفاً على وصف خطراته وأشجانه وصبواته، مولعاً بذم أعدائه ومساجلة صحابته، إلى غير ذلك من الشؤون الفردية
فخري أبو السعود(199/27)
وفاة شاعر تركيا الكبير
عبد الحق حامد بك
1851 - 1937
ولد عبد الحق حامد بك يوم 5 فبراير سنة 1851 بجهة ببك من الآستانة. والده خير الله أفندي من المؤرخين المعدودين. وجده حكيم باشي مُلا عبد الحق
تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة (كوليج روبرت) الأمريكية، وتلقى دروسه العربية والفارسية على معلمين خصوصيين وهم الأستاذ بهاء الدين، وسليم ثابت، وخوجا إحسان. وقد ظهرت عليه مخايل النجابة والذكاء من صغره حينما كان يقرأ في المدرسة المذكورة فعرف له ذلك معلموه في المدرسة ومعلموه الخصوصيين
يعرف عبد الحق حامد من اللغات عدا التركية - الإنكليزية والفرنسية والعربية والفارسية معرفة تامة، وله في أدبيات هذه اللغات تعمق ونظر نافذ شهد له به كل من عرفه من أهل تلك اللغات
ولما كان له من العمر ستة عشر عاماً عين والده سفيراً لطهران فذهب معه، وهناك توفي والده فعاد إلى الآستانة ولازم قلم الترجمة في الباب العالي. ثم أخذ ينشر أسفاره وابتدأت شهرته تذيع بين الأدباء فتعرف وهو شاب بسبب شهرته بالأديبين الكبيرين في ذلك الوقت شناسي ونامق كمال الدين؛ عرفا للشاعر مزيته وقدرا نبوغه في ذلك الحين. وكان بالأخص الصديق الحميم لنامق كمال الذي يكبره باثني عشر عاما
عين وهو في الخامسة والعشرين من عمره كاتباً ثانياً بسفارة تركيا في باريس، ثم رقي إلى (باشكاتب) بسفارة تركيا في لوندرا، ثم عين شاهبندراً في بومباي، ثم عاد إلى (باشكتابة) سفارة باريز مرة ثانية؛ وآخر وظائفه الحكومية تعيينه سفيراً في بروكسل 1908. وأخيراً عاد إلى تركيا بعد إعلان الحرب فانتخب عضواً في مجلس الأعيان وتولى فيه نيابة الرياسة مراراً وإلى حين وفاته شغل دورتين في انتخاب مجلس الأمة الكبيرة في عهد الجمهورية 1931، وكان في المجلس المذكور أكبر الأعضاء سناً
آثاره الأدبية(199/28)
أبتدأ أثناء إقامته في أوروبا (وقد قضى عشرين عاماً في لندرا) ينشر آثاره البديعة متبعاً طريقة جديدة مما أقتبسه من الآداب الغربية فاستحق بما أبدع من التجديد أن يشغل أعظم محل من الأدبيات التركية. وطار صيته وتسنم ذروة الشهرة بما كتب في رثاء زوجه فاطمة التي توفيت أثناء عودته من الهند ودفنت في بيروت. فكان لأثره المسمى (مقبر) أثر في الأدبيات التركية بلغ درجة الإعجاز. ثم انتشرت مؤلفاته الكثيرة التي منها:
مقبر - أولو - ماجراي عشق - أشبر - ته زاد. صبروتبان - طارق بن زياد - نظيفة - فينتين - ديوانه لكلرم - نسترين - صحرا - عبد الله الصغير - تفيله - طيفلر كجيدي - زينب - ساروانبال - فتنت - آلام وطن - دوهتري هندي - طورخان - ايجلي قيز - روحلر - بالادن برسس. ابن موسى - ارخيلر - غرام - يبانجي دوستلر - وغير ذلك من آثاره النادرة المثال. وقد منع من النشر أكثرها زمن عبد الحميد بدعوى أنها مسممة لروح الشباب، مهيجة للأفكار على حكومة الاستبداد.
ولكنه تبوأ بتآليفه هذه أعظم مكان في نشر الأدبيات الغربية التي بدأ بنشرها قبله شناسي ونامق كمال، ولكن عبد الحق حامد فاقهما وأربى عليهما بما وفق إليه من الأسلوب العذب والصناعة الأدبية الفائقة، فنال عنوان أمام المجددين دون رفيقيه الذين تقدماه. وظل مدة ستين عاماً أستاذاً للأدباء الأتراك فأسدى إلى اللغة التركية والأدب التركي من التجديد والاختراع ما ليس له نظير ولن يكون له نظير فيما بعد.
يقول الأدباء الأتراك: لولا حامد لتأخر انتشار الأدب الغربي في بلادنا عصراً كاملا، ولظل مكان حامد فارغاً كما سيظل الآن خالياً؛ ولكن لله الحمد جاء حامد وأدى ما لم يمن غيره ليؤديه للأدب فكان أدبه حياً ملهماً من شعور الأمة، لا بل الأمة هي التي تستلهم من شعوره الحساس وروحه الفياضة، فهو في شعور الأمة وحياتها من الخالدين إلى الأبد.
وخلاصة ما يقال شعر حامد بك وطريقته الأدبية، أنه لم يتقيد بالمألوف القديم من شعر الدواوين، بل أبتدع طريقة عصرية جديدة، لا يقال أنها اليوم أساس المدرسة الأدبية التركية، بل ستكون في المستقبل أيضاً منبع الإلهام الفياض لآداب الأجيال المقبلة.
كان يرجح الأدب الروائي في مؤلفاته وينتخب موضوعات تاريخية يبرزها في صور شائقة ممتعة (لتقرأ أكثر منها لتمثل) بلغة سهلة ممتعة تدل على براعته واقتداره في صنعته(199/29)
التي جعلته نسيج وحده.
توفي مساء الاثنين 12 أبريل الجاري عن 86 عاماً قضاها في خدمة وطنه وخدمة الأدب حتى أنه قبل وفاته بيوم واحد استجمع قواه وقام إلى مطالعة كتبه والبحث في تأليفه الأخير الذي يقال أنه سيكون أعظم أثر أدبي عصري، وتذاكر مع الأديب الكبير أحمد فاضل وأنشده بيته الأخير وهو قوله:
ذوق يوق كيجه سنده كوندزنده ... بن نه ايله يم بوير يوزنده
ومعناه تقريباً:
مالي ودنيا كثرت أكدارها ... لا ليلها يصفو ولا نهارها
وكانت وفاته تشابه وفاة شاعرنا الزهاوي من بعض الوجوه. فبينما كان جالساً في نادي الشرق أحس بألم شديد اضطره إلى الذهاب إلى بيته واستدعي إليه الطبيب؛ وبعد فحصه أوصى بألا يخرج من البيت ويلزم الراحة التامة. وبعد ذهاب الطبيب أشتد عليه المرض، وتحسنت صحته في الغد فأحضر له طعام فلم يقبله، وطلب فاكهة أكلها (كما أكل الزهاوي كماة) ثم قام كما قدمنا إلى كتبه وتأليفه ومذاكرة الأديب أحمد فاضل وأنشده بيته الأخير الذي ترجمناه. وفي اليوم التالي أشتد به المرض إلى الظهر، ثم نام نوماً هادئاً إلى الليل، وانتبه مدة ثم نام النومة الأبدية رحمه الله. وخلف عدا بناته من زوجه فاطمة ابنه عبد الحق، حسين وحميد. وقد تزوج بعد فاطمة بالسيدة الإنجليزية نيللي التي عاشرته عشرين عاماً، ثم تزوج بعدها بالسيدة لوسيان البلجيكية التي مات عنها. ولم يولد له من الأخيرتين أحد
وقد شيعت جنازته باحتفال فخم لم يسبق لأديب أن شيع بمثله؛ اشتركت فيه الأمة التركية بدافع المحبة والتقدير لشاعرها الكبير. وأرسل رئيس الجمهورية أحد ياوريه نائباً عنه من أنقرة. ووضعت جنازته على عربة مدفع ملفوفة بالعلم التركي. ودفن في المقبرة العصرية في زنجير لي قويو؛ وهذه المقبرة أنشأتها البلدية حديثاً، وسيكون الشاعر العظيم أول دفين فيها. وسيقام له تمثال في مكان لائق. رحمه الله واسعة
رفيق آطالاي(199/30)
على هامش كتاب
نظام الطلاق في الإسلام
للأستاذ محمود حمدان
كنت من زمن أرى أن ما تعارف الناس من أمر إيقاع الطلاق جملة، وفي أي مناسبة، ويميناً، وتعليقاً - عبث لا يتفق مع الحكمة، ويجعل أقوى العقود رباطاً، وأقدسها حرمة، وأهمها في الحياة قدراً، أوهن من بيت العنكبوت. فما كان الله ليجعل المرأة الضعيفة تتقاذفها الأهواء كالريشة في مهب الهواء
وكنت قد طلبت الفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فما وجدت في الكتب التي بين يدي. ولا عند الأشياخ الذين تلقيت عنهم جواباً عما يخالجني. فكنت أسكت وفي النفس شيء لا أستطيع أن أبوح به. وكنت كلما وقع بيدي مقال لبعض المصريين حول موضوع الطلاق أقرأه بشغف لعلي أجد فيه ضالتي، فلا أجد إلا ثرثرة متحذاق فأطرحه كاسف البال
وبعد أن تركت الأزهر الشريف كان يتاح لي في بعض الأحيان أن أقرأ للمرحوم الأستاذ رشيد رضا مواضيع مختلفة، فصرت ألمس روحاً غير الذي كنت ألمسها في الأزهر: صرت ألمس روح الحرية في الفهم وتحكيم العقل والرجوع إلى القرآن الكريم، فاطمأن قلبي وشعرت بنور الإسلام يغمرني ويكونني خلقاً آخر
قلت أذن لتحل مشاكلنا على ضوء العقل الذي وهبنا الله، ونور القرآن الكريم الذي حفظه الله كما انزل ليكون حجة على الخلق إلى يوم الدين، لا على رأي غيرنا، ولا بمقتضى كتب لم يكتب الله لها العصمة
ورجعت إلى مشكلة الطلاق فاقتنعت بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة ولا يقع ثلاثاً لمخالفة ذلك لمقتضى اللغة ولصريح القرآن وللعقل أيضاً، لأنه حصل فسخ عقد النكاح بقول المطلق: أنت طالق. فلم يبقى محل لإيقاع الفسوخ الأخرى بالوصف العددي، وأفتيت بهذا مراراً. وأثناء اشتغالي بالمحاماة الشرعية أفتيت في حادثة من هذا القبيل لو وصلت إلى المحكمة لقضي بالتفريق بين الزوجين ببينونة كبرى كما يقولون
بيد أنه لم يتح لي دراسة هذا الموضوع دراسة وافية من جميع نواحيه حتى علمت من قراءتي للرسالة الغراء - نفع الله بها وحفظ صاحبها - بصدور كتاب (نظام الطلاق في(199/31)
الإسلام) للعلامة المجتهد الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي. فقلت: ابن بجدتها، علم غزير، وذكاء وفير، والمهنة مستوجبة للدرس، والظروف مؤاتية.
قرأت الكتاب بشغف قوي وبما يستحق من عناية وإنعام نظر، فرأيته - ولا أريد أن أمدح - نعم الكتاب هو، وافياً بالغرض، قائماً على الحجة القوية من كتاب الله وسنة رسوله مسترشداً بالعقل وقوانين اللغة، بعيداً عن اللغو ومواطن الزلل، ورأيت الإخلاص للحق مماثلاً فيه بدليل توفقه - بأسلوب سهل - للإحاطة بأطراف الموضوع في موجز كهذا (وهو بالنسبة لخطورة الموضوع وجيز) وبدليل بعده عن الخوض في (سب سادات مضوا) شأن كثير ممن يتعرضون للكتابة في مواضيع اختلفت فيها الآراء وتشعبت الأقوال.
ومسأله الكتاب: إخراج الطلاق من حيز العبث الذي أدخله فيه الناس إلى حيز الحكمة التي ابتغاها الشارع الحكيم من مشروعيته، واعتباره علاجا لإصلاح ما قد يطرأ على الرابطة الزوجية من أمراض تنغص العيش، وتذهب بالسكينة المنشودة من الزواج (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها) والذي يجعل لإصلاح العلاقة الزوجية لا يستعمل لقطعها إلا إذا تعذر الإصلاح وكان العلاج هو القطع. ومن هنا أذن الله للرجل في الطلاق وجعل له فيه أداة ومهلة يتروى فيها ويراجع نفسه (لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) وبهذا تتجلى حكمة الطلاق ويبدو أنه تشريع منظم غاية التنظيم.
وقد حرص المؤلف على تقرير هذا المعنى في المواضيع المناسبة؛ غير أن ما أشترط لصحة وقوع الطلاق غير كافي للحيطة من العبث به وتعجيل الفراق. فقد أشترط في طلاق المدخول بها أن يكون الطلاق في طهر لم يمس فيه وقال: (فإذا رد الرجل مطلقته في عدتها إلى عصمته بالرجعة تجدد العقد بينهما، فكأنه وصله بعد إذ قطعه، فيمكن قطعه وفسخه مرة أخرى، وكذلك الثالثة. ص 72) وهذا كله يتصور في طهر واحد، كأن يطلق في طهر لم يمس فيه ثم يراجع نفسه فيرجعها بشروط الرجعة - ثم يرى طلاقها فيطلقها في نفس الطهر قبل أن يمس ثم يعود إليه صوابه فيرجعها، ثم يرى طلاقها في نفس الطهر أيضاً قبل أن يمس فيطلق. وحينئذ يقع الفراق الذي لا رجعة بعده في طهر واحد، ويكون قد تعجل الطلاق وخالف الحكمة في تفريقه. وليس فيما حقق الأستاذ ما يمنع المطلق من إيقاع الطلاق على الصورة الذي ذكرنا أو ما يبطل طلاقه لو فعل.(199/32)
والذي أراه يتمشى مع الحكمة هو التمشي مع نصوص القرآن الكريم، وذلك بعدم إجازة الرجعة التي تترتب عليها صحة الطلاق الثاني إلا عند نهاية العدة لقوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) وقوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) فإنه رتب الإمساك (وهو الرجعة) على بلوغ الأجل. وبلوغ الأجل في حق الرجعة يراد منه قرب بلوغ الأجل لأن الرجعة لا تصح بعد بلوغه
وحرمان الزوجين من بعضهما مدة العدة أدعى للوفاق بينهما فيما بعد. لأن الزوجة بسبب هذا الحرمان تصلح من شأنها، والزوج بسببه لا يقدم على طلاق آخر إلا إن كانت الضرورة ماسة جداً خلاف ما لو راجع حالا فإنه لا يشعر بشيء يزجره ويذيقه بالفعل خطورة ما أقدم عليه
وقرب بلوغ الأجل، أي نهاية العدة، يكون في الحيض الأخير أو الطهر الذي قبله، فإن حصلت المراجعة في الطهر الذي قبل الحيض الأخير ومست الحاجة للطلاق الثاني طلق إن شاء قبل أن يمس كما في الحديث. وإن حصلت الرجعة في الحيض الأخير صحت الرجعة ويطلق في الطهر الذي بعدها إن شاء قبل أن يمس. وهكذا في الطلقة الثالثة
وبهذا النظام لا تقع الفرقة النهائية إلا في ظرف واسع كاف للتروي ومراجعة الرأي. وهو وقت يقرب من ثلاث عدد. ومن لم يحسن العشرة فيه كان مستحقاً لعقاب الحرمان الأدبي من رفيقه، أو ألا يرجع إليه إلا بعد زوج آخر، وهو ما لا ترضاه النفوس غالباً
بقي: هل يبطل الطلاق في الحيض أو يقع ويحرم؟
رجح المؤلف بطلانه، وهو رأي بعض الأئمة؛ ورجح غيره حرمته فقط، وسمي بالطلاق البدعي. استدل المؤلف بحديث ابن عمر من روايات متعددة ذكرها فيما بين الصفحة 23 والصفحة 28، واحتج القائلون بالوقوع بحديث ابن عمر نفسه من روايات أخرى قال المؤلف عنها: (ليس فيها شيء صريح وألفاظها مضطربة وهي تخالف ما ثبت صريحاً بالروايات الصحيحة، وتخالف أيضاً ما يفهم من ظاهر القرآن)
وأنا أصدق المؤلف فيما قال في الروايات التي تمسك بها خصوم رأيه، ولم أطالعها، ولكنني أقطع النظر عنها وأقول: إن الروايات التي تمسك بها هو لا تساعده على رأيه لأن(199/33)
قوامها:
1 - ما روى مالك في الموطأ عن نافع (أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليراجعها، فليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)
2 - وما روى ابن وهب في كتابه الجامع: (قال ابن أبي ذئب أن نافعا أخبرهم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس. فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. وهي واحدة)
وهذان الحديثان هما من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد صرح فيها بقوله فليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر ثم إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق. فلو كان الطلاق الأول الذي طلقه ابن عمر غير واقع لم يكن فائدة لقوله فليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، بل كان ينبغي أن يقول فليمسكها حتى تطهر ثم إن شاء ثم إن شاء طلقها قبل أن يمس، ولا داعي لتعدد الحيض والأطهار
وأعجب للمؤلف كيف يقول: (فلو كانت الروايات التي يحتج بها القائلون لوقوع طلقة ابن عمر في الحيض صحيحة لكان الأمر بمراجعتها تم التربص بها إلى أن تطهر ثم يطلقها إن شاء الله في الطهر الثاني قبل أن يمس - أمراً بإطالة عدتها زمناً أكثر مما أريد من الرفق بها) أعجب له لأن التربص بها إلى أن تطهر الأطهار المعدودة في الحديث ثم يطلقها إن شاء هو مناط الحكمة في تفريق الطلاق (لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) وليس لإطالة عدتها بل لاحتمال رجوعه عن إرادة الطلاق فيما بعد. أما الطلاق الأول فقد وقع والتربص عدة حيض وإطهار كما في الحديث دليل على وقوعه، وإلا فهو حر في طلاقها حين تطهر الطهر الأول. وقوله في الحديث وإن شاء طلق قبل أن يمس فيظهر أنه إن شاء طلاقاً ثانياً، ولا ينافيه قوله بعد ذلك (وهي واحدة) لأن الضمير فيها للطلقة الأولى المفهومة من سياق الكلام والتي هي محط السؤال، فلا جرم يكون الجواب عنها بالإضمار ولا يمتنع(199/34)
ذلك، وهو أسلوب عربي صحيح، ولا نسلم للمؤلف (أنه لا يمكن أن يعود الضمير إليها).
وأما الروايات الأخرى التي أستند إليها المؤلف فاثنتان وهما:
1 - رواية ابن جريج عن ابن الزبير (وقال عبد الله فردها علي ولم يرها شيئاً)
2 - ورواية مسلم والنسائي بحذف كلمة ولم يرها شيئاً
فهاتان الروايتان ليستا من لفظ النبي عليه السلام، بل هما من فهم عبد الله بن عمر بحسب سماع ابن الزبير وفهمه، والأخذ بلفظ النبي عليه السلام أولا من الأخذ بفهم غيره
والرواية الثالثة وهي رواية الأمام أحمد (. . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليراجعها فإنها امرأته) تحتمل على الأقل الوقوع والأمر بالمراجعة. وعدم استعمال لفظ المراجعة في القرآن بهذا المعنى لا ينفي استعماله في الحديث
وبعد فهل الروايات التي تمسك بها القائلون بوقوع الطلاق في الحيض، أو بالتالي هل وقوع الطلاق في الحيض يخالف ما يفهم من ظاهر القرآن كما قال المؤلف؟
الجواب عندي أن حديثي مالك وابن وهب الذين تمسك بهما المؤلف يفهم منهما ما يساعد على تأويل القرآن الكريم بما لا يخالف وقوع الطلاق في الحيض
فالذي يفهم من الحديثين أنه أوقع الطلقة الأولى وكانت في الحيض، وأمر بالتريث حيضاً وأطهاراً بين هذه الطلقة وبين إيقاع الطلقة الثانية إن شاء المطلق ذلك وقال (فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)
فالطلاق للعدة المأمور به في القرآن معناه أن تطلق المرأة الطلقة الثانية بنهاية العدة من الطلقة الأولى، ويكون تفسير أية الطلاق هكذا:
(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) أي الطلاق المعهود في قوله (الطلاق مرتان) من سورة البقرة وهي أول سورة نزلت بالمدينة، (فطلقوهن لعدتهن) أي أوقعوا الطلقة الثانية لعدة الأولى أي بنهاية عدتها كما فسر ذلك الحديث حيث أوقع الأولى وأحصى العدة بتعداد الحيض والأطهار وقال بعد ذلك (فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)
وليس غريباً أن يكون هذا هو التفسير فالقرآن يفسر بعضه بعضا فالحديث مبين للقرآن (لتبين للنساء ما نزل إليهم)
فمن آيات الطلاق مع الحديث يؤخذ أن الطلاق لا يقع إلا متفرقاً بين كل طلقة وأخرى(199/35)
مقدار عدة، وإن الرجعة لا تصح إلا بنهاية العدة.
وحيث كان الطلاق يختل نظامه إذا لم يراع فيه ذلك فقد أكد الله هذا المعنى بتكريره في آيات الطلاق فقال تعالى في سورة البقرة (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) فرتب الإمساك والتسريح على بلوغ الأجل. وذكر مثله في سورة الطلاق.
والحاصل أنني أستنتج من هذا البحث ثلاثة أمور:
الأول: وقوع الطلاق في الحيض.
الثاني: أن الرجعه لا تصح إلا قرب نهاية العدة
الثالث: وهو مترتب على الثاني - أن الطلاق الثاني لا يقع إلا قرب نهاية العدة من الطلاق الأول، والطلاق الثالث لا يقع إلا قرب نهاية العدة من الطلاق الثاني
وبذلك يصبح نظام الطلاق في الإسلام ثابتاً لا يتسرب إليه الخلل ولا يمكن العبث به مهما حاول ذلك المحاولون.
فأرجو من فضيلة الأستاذ العلامة الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر مؤلف كتاب (نظام الطلاق في الإسلام) أن يتفضل بالجواب عما رآه هذا العاجز سواء بالسلب أو بالإيجاب مع الأدلة الوافية لنستنير برأي الراجح، وله منا جزيل الشكر ومن الله عظيم الثواب
داود حمدان(199/36)
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي الفونس كار
زهرة الأقحوان
نهضت الصبية مع الصباح وسارت نحو البراري. وكانت العصافير قد فتحت عيونها للنور وبدأت تزقزق وقد أحنت رؤوسها مثقلة بتيجان من لآلئ الأنداء
سرحت الغادة أنظارها على المرج، فاستوقفتها زهرة الأقحوان، زهرة النظارة والجمال، مفتحة عينها الصفراء، محدقة بالسماء
انحنت على الزهرة وقالت لها: سوف تكشفين لي سر الأسرار يا ابنة الأرض والسماء. سوف تعلن لي وريقاتك ما لا يعرفه في الإنسان إلا إله الإنسان، سوف تقولين لي إذا كان يحبني. . . وأخذت الفتاة الزهرة بين أناملها وأخذت تنزع وريقاتها
ودفعت الزهرة بالأنين لأول ورقة سقطت من تويجها على الأرض. وقالت: لقد كنت مثلك أيتها الصبية جميلة ومليئة بالحياة، مثلك كنت سعيدة، وكما أحببت أنت أحببت أنا، وما سال النسيم الذي هام بي عن سر غرامي أحداً، بل كان يمر بي كل ساعة ويحمل من عبيري كلمة الغرام حرفاً فحرفا. كان يقتلع هذه الحروف من قلبي كما تقتلعين أنت اليوم وريقاتي من تويجي بلا شفقة ولا رحمة. لقد سرق مني كل عبيري، وما عبيري إلا شعوري يحيط طهارتي بسياجه المنيع
ذهب الشعور كلمة فكلمة، وبقي قلبي عارياً كما سيبقى تويجي بين أناملك الآن. كنت أتعذب وأتأسف على عواطفي المخلوبة، على وريقاتي البيضاء. . .
ما لي ولك أيتها الصبية؟ دعيني، لا تنزعي وريقاتي، أنا أختك زهرة الأرض يا زهرة العالم، ارحمي الحياة التي وهبنيها الله، فأجود عليك بسر عظيم جزاء على إشفاقك
إن المرأة تأخذ الزهرة وتنضو وريقاتها لنستمع السؤال على جوابها المزدوج: يحبني، لا يحبني. . . .
والرجل يطلب الجواب نفسه من المرأة عندما ينثر وريقاتها البيضاء على الأرض.
أيتها الفتاة، أبقي جوابك في قلبك. . . إن الرجل ليطرحك بعيداً عنه إذا ما نزع وريقاتك البيضاء. . .(199/37)
(ف. ف.)(199/38)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسقاف النشاشيبي
27 - جنة في نار
دخل بدوي حماماً فاستطابه فقال لصاحبه:
إن حمامك هذا ... غير مذموم الجوار
ما رأينا قبل هذا ... جنة في وسط نار
28 - على أنه أقبل في الوقت
في (أغاني) أبي الفرج:
قال أبو المستهل: دخلت يوماً على سلم الخاسر وإذا بين يديه قراطيس، فيها أشعار يرثي ببعضها أم جعفر وببعضها جارية غير مسماة وببعضها أقواماً لم يموتوا. وأم جعفر يومئذ باقية. فقلت له: ويحك ما هذا؟!
فقال: تحدث الحوادث فيطالبوننا بأن نقول فيها. ويستعجلوننا ولا يجمل بنا أن نقول غير الجيد. فنعد لهم هذا قبل كونه، فمتى حدث حادث أظهرنا ما قلناه فيه قديماً على أنه قيل في الوقت.
29 - الأذن الشرعي والقياس اللغوي
في (طبقات) السبكي.
دخل رجل على الجبائي يوماً فقال: هل يجوز أن يسمى الله (تعالى) عاقلا؟
فقال الجبائي: لا، لأن العقل مشتق من العقال وهو المانع، والمنع في حق الله محال فامتنع الإطلاق. قال الشيخ أبو الحسن فقلت له: فعلى قياسك لا يسمى الله (سبحانه) حكيما لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت
فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء
وقول الآخر (جرير):
أبني حنيفة. أحكموا سفهائكم ... أني أخاف عليكم أن أغضبا(199/39)
أي نمنع بالقوافي من هجانا، وامنعوا سفهائكم. فإذا كان اللفظ مشتقاً من المنع، والمنع على الله محال، لزمك أن تمنع إطلاق حكيم عليه (سبحانه وتعالى). فلم يجد جواباً إلا أنه قال لي: فلم منعت أنت أن يسمى الله (سبحانه) عاقلا، وأجزت يسمى حكيما؟ فقلت له: لأن طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت حكيما لأن الشرع أطلقه، ومنعت عاقلا لأن الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته
30 - ما قتل المحب حرام
قال القاضي المقري: سألني ابن حكم عن نسب المجيب في هذا البيت:
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ... فأجاب: ما قتل المحب حرام
ففكرت ثم قلت: أراه تميمياً لإلغائه (ما) النافية فاستحسنته مني لصغر سني يومئذ
31 - أجد بيانها في قلبي
في (وساطة) الجرجاني:
قال يونس ابن عبد الأعلى: سألت الشافعي عن مسألة. فقال: إني لأجد بيانها في قلبي، وليس ينطلق لساني
32 - بارت قريتك
في (مفيد النعم) للسبكي:
ذكر الزبير ابن عمار أن بعض المتقعرين كتب إلى وكيل له بناحية البصرة: احمل إلينا من الخوزج والكنعد الممقورين، والإوز الممهوج، ولحم مها البيد، ما يصلح للتشرير والقديد
فكتب إليه وكيله: إن لم تكف عن هذا الكلام بارت قريتك، فإن الفلاحين ينسبون من ينطق بهذه الألفاظ إلى الجنون
33 - عبودية الطاعة وأخوة العبد
كتب أبو حيان التوحيدي إلى صاحب له: كنت أعلمتني أنك استحسنت مني هذين البيتين وهما:
إن كنت تطلب فضلاً ... إذا ذكرت ومجداً
فكن لعبدك خلا ... وكن لخلك عبدا(199/40)
وكان سببهما أن صديق لي ضرب عبداً له، فحضره صديق له، فمنعه الصديق فلم يمتنع، فكتبت إليه بهذين البيتين أذكره بحق الصديق في عبودية الطاعة، وأخوة العبد في حق الإيمان قال (تعالى): (إنما المؤمنون أخوة) هذا مع ما في التسلط على المماليك من الدناءة.
34 - يخاف أن أعلم عليه
في (زهر الآداب) للقيرواني:
قال الفتح بن خاقان: ما رأيت أظرف من ابن أبي دؤاد، كنت يوماً ألاعب المتوكل بالنرد. فاستؤذن له عليه، فلما قرب منا هممت برفعها، فمنعني المتوكل وقال: أجاهر الله بشيء وأستره عن عباده؟ فقال المتوكل لما دخل: أراد الفتح أن يرفع النرد، قال: يخاف (يا أمير المؤمنين) أن أعلم عليه. فاستحليناه وقد كنا تجهمناه
35 - الوجه الحسن والشعر المطبوع
قال أبو عمر بن سالم المالقي: كنت جالساً بمنزلي بمالقة فهاجت نفسي أن أخرج إلى الجبانة، وكان يوماً شديد الحر فراودتها على القعود، فلم تمكنني من القعود، فمشيت حتى انتهيت إلى مسجد يعرف برابطة الغبار، وعنده الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي، فقال لي: إن كنت أدعو الله أن يأتيني بك وقد فعل فالحمد لله، فأخبرته بما كان مني ثم جلست عنده فقال: أنشدني، فأنشدته:
غصبوا الصباح فقسموه خدوداً ... واستوعبوا قضب الأراك قدوداً
ورأوا حصا الياقوت دون نحورهم ... فتقلدوا شهب النجوم عقودا
وتضافروا بضفائر أبدوا لنا ... ضوء النهار بليلها معقودا
صاغوا الثغور من الأقاحي، بينها ... ماء الحياة، لو اغتدى موروداً
لم يكفهم حد الأسنة والظبا ... حتى استعاروا أعينا وخدودا
فصاح الشيخ وأغمي عليه، وتصبب عرقاً، ثم أفاق بعد ساعة وقال: يا بني، أعذرني فشيئان يقهرانني ولا أملك نفسي عندهما: النظر إلى الوجه الحسن، وسماع الشعر المطبوع
36 - أنا لا أسمع لوما في حبيب
في خزانة ابن حجة:(199/41)
كان صلاح الدين الصفدي، مذهبه تقديم أبي الطيب المتنبي على أبي تمام حبيب الطائي. فأتفق أن صلاح الدين اجتمع بابن نباتة بالديار المصرية، وذاكره في أبي الطيب وأبي تمام، فوجده على مذهبه. واجتمعا بعد ذلك بالشيخ أثير الدين بن حيان وذاكراه في ذلك، فقدم أبا تمام، فلاماه على ذلك فقال:
أنا لا أسمع لوماً في حبيب
37 - كالحسن شيب لمغرم بدلال
(في المثل السائر) لابن الأثير:
قال أبو تمام:
خلط الشجاعة بالحياء فاصبحا ... كالحسن شيب لمغرم بدلال
وهذا من غريب ما يأتي في هذا الباب. وقد تغالت شيعة أبي تمام في وصف هذا البيت، وهو لعمري كذلك(199/42)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 2 -
الديانة المصرية
يجمع الباحثون على أن الديانة المصرية هي أولى الديانات البشرية التي ظهرت على وجه الأرض من غير استثناء. ويؤكد بعضهم تأكيداً قاطعاً بأنه لم تظهر ديانة في الدنيا إلا ولها في عقائد وادي النيل عنصر، وإن كل الديانات الإنسانية ليست إلا فتاتاً متساقطا حول مائدة بلاد الفراعنة الذين سبقوا جميع سكان الكرة الأرضية إلى حمل لواء المعرفة وفتح كثير من مغلقات العالم وحل الغاز الكون. ومن أشهر العلماء الذين يعتنقون هذه الفكرة العالمان الإنجليزيان: (بري) و (أليوث سميث). أما الأستاذ (دينيس سورا) فيؤمن بالفكرة الأولى وهي سابقية الديانة المصرية على جميع الديانات الإنسانية، ولا يستبعد أن تكون جميع التطورات الدينية قد وجدت في مصر من الوثنية المحضة إلى الروحية المغالية في التجردية، بل إلى (اللأدرية) المطلقة، ولكن الذي يعارض فيه هو أن بقية الشعوب القديمة قد تغذت من تساقط فتات المائدة المصرية، كما يقول بعض العلماء؛ وبراهينه في هذه المعارضة هي:
أولاً: أنه لم يثبت عن المصريين أنهم بعثوا بعثات إلى البلاد الأجنبية للتبشير بدياناتهم حتى انتشرت بين ربوع تلك الأمم.
ثانياً: أن الآثار المصرية التي يعتمد عليها العلماء في حكمهم هذا لا تؤيدهم في دعواهم إذا تأملوا في الأمر تأملا دقيقا، لأنها ليست إلا رموزا وطلاسم قصد بها كاتبوها غايات دينية محضة لا تسجيل حقائق علمية ولا إذاعة أسرار الدين وإبانة تطوراته المختلفة. وإذاً، فلا يمكننا أن نعتمد على تلك الآثار في حكمنا، وفوق ذلك فإن أسرار العقيدة المصرية الأصلية لم تذع بين أفراد الشعب إلا في عصور التدهور أي حوالي القرن السادس قبل المسيح.(199/43)
وبناء على هذا يكون العامة - وهم الذين يحتكون بالأجانب في المعاملات - قد ظلوا جاهلين بحقيقة هذه الديانة حتى القرن السادس أي بعد ظهور كثير من الديانات الشرقية. وبهذا ينتفي تأثير الديانة المصرية على تلك الديانات.
ولا ريب أن البرهان الأول في رأينا برهان ضعيف، لأن الديانة كما تنتشر بواسطة المبعوثين المختصين، تنتشر كذلك عن طريق الاحتكاكات التجارية والسياسية والاجتماعية، ولا جرم أن هذا كان موجوداً وثابتاً الثبات كله. أما إدعاء أصحاب هذا الرأي جهل الشعب بالعقائد المصرية حتى القرن السادس فهو غير صحيح، لأن الأدب المصري - وهو مرآة الحياة الاجتماعية بما تحتويه من دين وأخلاق وغيرهما - قد أنبأنا في مواضع تجل عن الحصر بكثير من أسرار العقيدة. أضف إلى هذا أن الرسوم والنقوش التي تكتظ بها المعابد تذيع أكثر هذه الأسرار الدينية، وليس سرا ما يعلمه الكهنة والأمراء، ورجال البلاط، وكبار الموظفين، والرسامون والعمال. على أنه إذا جازت سرية ما لدى هؤلاء جميعاً - وهي بعيدة - فلا تجوز سرية ما لدى الأدباء والكتاب الذين افعموا أسفارهم بوصف هذه المعلومات بأسلوب ضاف مسهب. وإذا فالأرجح - أن لم يكن مؤكدا - أن جميع الأمم القديمة من غير استثناء هي تلميذات مصر في الدين كما هي تلميذاتها في العلم والأدب والفن.
غير أنه بالرغم من صحة هذه النظريات القائلة بأخذ الأمم الشرقية دياناتها عن مصر في نظرنا يجب علينا أن نخطو إلى إثباتها خطوات حذرة متبصرة تأتلف مع تلك المعلومات البسيطة التي اكتشفها المستمصرون، منتظرين ما تأتي به المكتشفات المقبلة عن هذه الأمة العريقة التي سمى العلماء بلادها بحق: (أرض الأسرار والعجائب).
قداسة الحيوان وأسبابها عند المصريين
رأى علماء أوروبا في العصور الحديثة، الآثار المصرية مكتظة بالحيوانات المقدسة، ورأوا كذلك بعض الشعوب البربرية المتوحشة في جنوب أفريقيا وفي أطراف أسيا وأمريكا تقدس الحيوانات في هذا العصر الذي نعيش فيه تقديسا لا يقل عن تقديس المصريين إياها في العصور الغابرة، فانخدعوا بهذه المشابهة السطحية وتوهموا أن تقديس المصريين القدماء للحيوانات هو من نوع تقديس المعاصرين المتوحشين لها، وحسبوا أن التقديس المصري(199/44)
هو: توتيميسم، وهي كلمة تدل على قداسة الحيوان الناشئة عن اعتقاد القبيلة في قرابتها أو صلتها الوثيقة بهذا الحيوان، وهذا (التوتيميسم) موجود حقاً عند المتوحشين العصريين ولاسيما في أطراف أمريكا. وقد عني العلماء باستبطان دواخل هؤلاء المتوحشين، فسألوهم عن هذه الحيوانات المقدسة فأجاب البعض بأنها أجدادهم الأولون، وأنهم حين يقدسون هذه الحيوانات لا يزيدون على أنهم يجلون عنصرهم الأول ويحترمون دماء أسلافهم التي تجري في عروق هذه الحيوانات. ورد البعض الآخر بأنها أقارب أجدادهم، وأكد البعض الثالث أنها من خلفاء أولئك الأجواد، وأعلن الرابع أن الحيوان المقدس عنده إنما هو إله قبيلة.
وقد شاهد العلماء أيضا في بعض الجهات المتوحشة القبيلة تنقسم إلى أربعة بطون: البطن الأول يقدس الكلب، وهو جده الأعلى، والثاني يقدس الخنزير. وهو عنصره الأول. والثالث يقدس الوزغ، وهو مبدؤه الأساسي. والرابع يقدس التمساح، وهو رأس الأسرة الأولى من هذا البطن.
فلما رأى العلماء هذا التقديس للحيوان عند الشعوب المتوحشة ورأوه عند المصريين الغابرين، جزموا بأن أولئك وهؤلاء متشابهون في عقيدتهم وتقديسهم لا يفرق بينهم إلا هذه العصور المترامية الأطراف
وقد أفاض بعض هؤلاء العلماء في هذه الموازنة إفاضة أنزلت أراءهم منزلة خيال الشعراء وأحلام النائمين. وأبرز هؤلاء العلماء الحالمين هو الأستاذ (فرازير) الإنجليزي مؤلف كتاب (الغصن الذهبي)
وقد عارض كثير من العلماء الأدقاء في هذه المشابهة معارضة شديدة وصرحوا بأنها تنقصها الأسانيد العلمية التي يعتمد عليها من ناحية، وبأنها غير متناسقة الجزئيات من ناحية أخرى، واستدلوا بأدلة على أن منشأ تقديس الحيوانات عند المصريين ليس هو (التوتيميسم) وإنما هو سبب آخر سنذكره هنا. وإليك شيئا من هذه الأدلة:
(1) أن المصريين القدماء كانوا يبيحون زواج الأخ من أخته مع أن جميع قبائل التوتيميسم تعد هذا العمل أكبر جرائمها التي تستوجب السخط والغضب، بل أنها مجمعة من غير شذوذ واحد منها على أن زواج الرجل بامرأة من البطن الذي هو منه محرم، وهذا خلاف(199/45)
واضح يجعل المشابهة بعيدة كل البعد
(2) أنه قد عثر على كثير من القبائل المتوحشة تجهل (التوتيميسم) جهلا تاما ولا تنظر إلى الحيوان إلا بمثل الإغضاء والإهمال الذين ينظر بهما إليه أرقى المتمدنين العصريين
(3) إن المصريين القدماء كانوا يعتقدون أن عنصرهم هو السماء فلا يمكن أن ينتسبوا إلى الإنسان العادي فضلا عن الحيوان
(4) أنهم صرحوا في عدة مواضع من آثارهم بأسباب تقديسهم لتلك الحيوانات، ولا يمت أي واحد من هذه الأسباب بصلة إلى تسلسلهم من الحيوان. وإذاً، فلا يمكن أن نسمي تقديس المصريين للحيوان: (توتيميسم) إلا إذا خرجنا بهذه الكلمة عن معناها الأصلي، وجعلناها مرادفة للتقديس فحسب بل مرادفتها للتقديس الناشئ عن البنوة أو القرابة. على أن الذين يوافقون من المستمصرين على تسمية تقديس المصريين للحيوان (توتيميسم) يجمعون على قصر هذه (التوتيميسمية) على عصور ما قبل التاريخ كما يجمعون على وجوب فصل عقائد تلك العصور (التوتيميسمية) عن عقائد العصور التاريخية الراقية.
أما منشأ هذه القداسة فهو يرجع - في رأي العلماء المحققين - إلى أنه قد حدثت حروب بين القبائل المصرية في عصور ما قبل التاريخ تجلت عن انتصار بعض هذه القبائل وانهزام البعض الآخر، فرمز المنتصرون لبلادهم ببعض الحيوانات القوية ولقرى خصومهم المنهزمين ببعض الحيوانات الضعيفة، فبقيت هذه الرموز دالة على معانيها ردحاً من الزمن ثم تعاقبت الأجيال فنسيت الأسباب الأولى وبقيت أسماء تلك الحيوانات عالقة بهاتيك القرى ورامزة لها في شكل خفي غامض. ولما كانت النفوس البشرية مجبولة على تقديس ما تجهله فقد قدست مصر تلك الحيوانات دون تفريق بين قويها وضعيفها.
ولما ارتقت مصر نوعاً، ونظمت بلادها وقسمتها إلى مقاطعات وأنشأ سكان كل مقاطعة على حدة راية خاصة بهم ظل بعض تلك الرموز القديمة باقياً ونقش كل منها على مقاطعته، كما اختفى البعض الآخر الذي لأمر ما لم يصلح للحياة، ولكن ذلك البعض الذي بقي لم يظل جامداً على راية حاله الأولى، وإنما تطور انسجاماً مع المدينة الحديثة مثل البازي الذي كان في عصور ما قبل التاريخ رمزاً لأحد الانتصارات الغابرة ثم أصبح في العصور التاريخية رمزاً للإله (هوروس) إله القوة والخير والبركة، وكالبقرة التي كانت(199/46)
كذلك في العصور الأولى رمزاً لأحد تلك الانتصارات التي سجلت على القرية المنهزمة ضعفها، فرمز إليها بحيوان صغير كالتمساح مثلاً ثم أصبح رمز البقرة رمزاً للإله (هاتور).
ومع طول الزمن اندمج بعض المقاطعات في البعض الآخر وأصبح الكثير منها تحت إمرة إله واحد كما حدث في الماضي أن أصبح المنهزم تحت إمرة المنتصر، وهذا هو مأتى تقديس الحيوانات في مصر القديمة.
(يتبع)
محمد غلاب(199/47)
سر مجهول في تحريم لحم الخنزير
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
في التشريع الإسلامي أسرار لا يعلمها إلا من طهر الله قلوبهم لحكمته، وألهمها من العلم ما لا يقاس به شيء عندها. وقد كان الناس يظنون أن الحكمة في تحريم لحم الخنزير تعبدية إلى أن أخذوا في هذا العصر يلتمسون حكم التشريع، ويعنون بالبحث عن فوائده ومزاياه؛ فحينما بحثوا في حكمة تحريم لحم الخنزير ظنوا أنه استثناء من أصل أحل لحمه، فأخذوا يبحثون في تحريمه عن حكمة خاصة به. وقد ذكروا من ذلك أن الخنزير يصاب في كثير من الأحيان بديدان تنتقل منه إلى من يأكل لحمه، وتتربى في جسده، فتكون منها الدودة الوحيدة الخطيرة؛ وذكروا أيضاً أن في الخنزير ديداناً أخرى تتربى في لحمه يقال لها (تريشين)، ومن عادتها أن تكون محاطة بكيس ينتهي أمره بأن يتحجر فتموت تلك الدودة فيه، ولكن هذا لا يكون إلا بعد أن تلد ألوفاً لا تحصى من الديدان، وكل دودة منها ينتهي أمرها إلى مثل ما انتهى إليه أمر الدودة الأولى، فإذا أكل الإنسان لحم الخنزير نزلت هذه الأكياس الحجرية الحاوية لهذه الديدان إلى معدته، وذابت فيها بتأثير العصارة المعدية، فتخرج منها ديدانها وتتكاثر في جسمه وتسكن في لحمه، وهذا من أقبح الأمراض وأشنعها وناهيك بمرض يكون فيه لحم الإنسان كله مساكن لتلك الديدان المؤذية.
وقد يكون هذا من ضمن الأسباب التي حرم الله بها لحم الخنزير، وإن كان لا يوجد له نظير فيما حرم الله أكله علينا؛ ولكن يبقى بعد هذا أن يقال: هل حرم الله علينا الخنزير لأنه خنزير، أو لأنه من جنس السباع التي حرم علينا أكلها لحكمة عظيمة سنبينها؟ ولقد سألني بعض المخالفين منذ سنين عن الحكمة في تحريم الإسلام لحم الخنزير، فأجبته بأن الله حرمه لأنه سبع من السباع، ثم ذكرت له الحكمة في تحريم لحمها. فسكت سكوت المفحم أو المقتنع، ولم يعقب على كلامي بكلمة تبين لي حقيقة أمره، فاكتفيت منه بذلك وتركته، وهأنذا أفصل هنا ما أجملته في جوابي له:
روي عن أبي هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله علية وسلم قال: كل ذي ناب من السباع فأكله حرام. فهذا الحديث يدل على تحريم ما له ناب من السباع، والناب هو السن خلف الرباعية، كما جاء في القاموس، والسبع هو المفترس من الحيوان كما جاء في(199/48)
القاموس أيضاً. وجاء فيه أن الافتراس الاصطياد. وجاء في كتاب النهاية لابن الأثير أن السبع هو ما يفترس الحيوان ويأكله قهرا وقسرا، كالأسد والذئب والنمر ونحوهما. وقال أبو حنيفة: كل ما أكل اللحم فهو سبع، حتى الفيل والضبع واليربوع عنده من السباع، وكذلك السنور. وقال الشافعي: السباع المحرمة هي التي تعدو على الناس كالأسد والنمر والذئب، أما الذي لا يعدو منها على الناس فهو حلال، كالضبع والثعلب
فإذا أردنا بعد هذا أن نعرف أمر الخنزير في ذلك وجب أن نرجع إلى ما كتب في علم الحيوان عنه. وقد جاء في كتاب حياة الحيوان للدميري أن الخنزير يشترك بين البهيمة والسبعية، ففيه من السبع الناب وأكل الجيف، ومن البهيم الظلف وأكل العشب والعلف. ويقال أنه ليس لشيء من ذوات الأنياب ما للخنزير من القوة في نابه، حتى أنه يضرب به صاحب السيف والرمح فيقطع كل ما لاقى من جسده من عظم وعصب
وجاء في دائرة معارف البستاني أن الخنزير يمتاز بقوة أنيابه المعوجة، وإن منها نابين في الفك الأعلى ونابين في الفك الأسفل يقدر أن يجرح بها جراحاً غائرة، وهو في الغالب يضرب بها الأماكن الرخوة عند الهجوم عليه، كبطن الفرس والإنسان ونحوهما، وقيل أنه يتغلب أحياناً بأنيابه على الأسد
ثم ذكر أن الخنازير الآبدة أقوى وأضخم من الخنازير المستأنسة، وأنها أشرس منها طباعا، وأعظم أنيابا، وإنها تصطاد بالحمل عليها وهي في كهوفها، وبنصب الفخاخ لها ونحو ذلك، وقد تطارد بالكلاب إلى تقف مصادمة مطارديها، ويكون وقوفها عند رجلي الفرس، وكثيراً ما تتمكن من جرحه في ساقيه بنابيها المخيفين، وقد تأتي إلى جنب الفرس وتطعنه بنابيها في بطنه فتشقه قبل أن يتمكن منها راكبه، وبعض الخنازير في أمريكا إذا حمل إنسان أو وحش على القطيع منها يقف على شكل دائرة، ويدفع بأسنانه الحادة هجمات العدو عليه، وإن كان النمر الأمريكي المشهور بالقوة، وكثيرا ما تقتل هذه الخنازير الكلاب التي تستعمل في صيدها، وكثيراً ما تقتل صيادها أو تجرحه، وكثيراً ما تجاهر الناس العداء بشجاعة لا مزيد عليها، فحمل على الإنسان بدون أن يغيظها، إذا رأت كلباً غير متعود صيدها تحيط به حالاً وتقتله، وهي على العموم شديدة البأس، كثيرة الحمق
وقد ذكر أيضا أن للخنزير ستة أضراس أو سبعة في كل جانب من جوانبه، وأن الأمامية(199/49)
منها تشبه أضراس آكلة اللحوم، أما الخلفية فتشبه أضراس الإنسان، وهذا يدل على أنه يأكل النبات واللحم
وكذلك ذكر الأستاذ أحمد ندى في كتابه (الحجج البينات في علم الحيوانات) أن الخنزير يسكن الغابات ويتغذى فيها بالجذور والثمار، ولكنه إذا فقد هذا الغذاء يصير آكل لحوم، فيفترس الحيوانات الحية، ويأكل من لحومها
وينقسم الخنزير إلى قسمين: خنزير بري وخنزير بحري. ومن الخنزير البحري نوع يسمى عند الفرنجة (بيروسا) أو الخنزير الملاسمي، ويوجد في جزائر الهند الشرقية، وهو شرس الطباع كالخنزير البري، قادر على السباحة طويلا. وقد ذكر الدميري في كتابه (حياة الحيوان) أن الخنزير البحري هو الدلفين على المشهور، وقد سئل مالك عنه فقال: أنتم تسمونه خنزيراً، يعني أن العرب لا تسميه بذلك، لأنه لا تعرف في البحر خنزيرا
(للبحث بقية)
عبد المتعال الصعيدي
المدرس بالقسم العام بمعهد طنطا(199/50)
بين القاضي منصور الهروي
والوزير أبو سهل الزوزني
للأديب الفارسي عباس إقبال
ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام
مقدمة:
لما قامت الدولة العثمانية فاستولت على أسيا الصغرى والعراق العربي والشام وجزيرة العرب ومصر وشمال أفريقية تقطعت الأواصر العلمية والأدبية التي جمعت بين العهد العباسي بين المسلمين في الأقطار كلها من بخارى وسمرقند إلى القيروان ومراكش
اشتدت المنافسة الدينية والسياسية بين الصفويين في إيران وسلاطين آل عثمان في البلاد الإسلامية الأخرى وانتهت إلى العداء والحرب، فأقامت سدا منيعا بين مسلمي إيران وإخوانهم في الدين، فتقطع ما بينهم من روابط. فمسلمو الشرق الذين كان اهتمامهم بالفارسية يزيد يوماً بعد يوم بحكم الزمان، والذين كانوا ينصرفون عن العربية لزوال دولها المستقلة سلكوا طريقاً غير الطريق التي سلكها مسلمو الغرب تحت سيطرة الترك العثمانيين ولواء السلطان حامي مذهب أهل السنة والجماعة.
وكانت عاقبة هذا أن الإيراني حرم الاستفادة من المؤلفات التي كانت تكتب خارج حدود بلاده والكتب القديمة التي كانت مدخرة في غير وطنه. وكذلك حيل بين رعايا العثمانيين وبين آثار النهضة العلمية والأدبية في إيران. وزاد تعصب الفريقين هذه الفرقة على مر الزمان. واليوم وقد نهضت أهل مصر والشام لأحياء الآداب والمعارف الإسلامية، لا نزال نرى العلماء والأدباء على براءتهم من التعصب والحمد لله يهملون كل ما كتب بالفارسية - إحدى لغتي التمدن الإسلامي العظيمتين - ويصدفون عما كتبه علماء المذهب الشيعي - أحد المذهبين العظيمين في الإسلام. يتبين من مطالعة الكتب والمقالات التي يكتبها فحول الكتاب والمؤرخين في مصر والشام أنهم متمكنون في الآداب العربية وتاريخ الإسلام، بصيرون بكثير من الحقائق الراجعة إلى الإفرنج وآدابهم. حتى إذا عرض بحث عن إيران والآداب الفارسية، أو مذهب الشيعة كبا جوادهم وكثرت زلات أقلامهم. ونرى بعض هؤلاء(199/51)
الكتاب يحاولون إلى المراجع الفارسية وهم يجهلون لغتها فيتوسلون إليها بالمراجع الأوروبية فيحرفون الأعلام حين ينقلونها من الحروف اللاتينية إلى الهجاء العربي تحريفاً يغير معالم التاريخ والجغرافيا
كتب أحد كتاب مصر (ونمسك عن ذكر اسمه إجلالا لمقام) ترجمة ناصر الدين شاه والوزير ميرزا تقي خان. وكان أخذه عن كتاب إنجليزي فكتب (نصر الدين) و (طاغي خان)، والذي يعرف العربية يدرك الفرق بين ناصر ونصر وتقي وطاغي. وللتحرز من مثل هذا اللبس عني العلماء المدققون من قبل بتأليف كتب مثل (المؤتلف والمختلف) و (والمشتبهات) و (المشترك) وغيرها. واجتهدوا في ضبط الإعلام وتعيين لفظها ورسمها.
وهذا الخلط والمسخ ظاهران في ترجمة دائرة المعارف الإسلامية التي تنشر في مصر الآن فهي مليئة بأغلاط من هذا القبيل لا يتيسر تعدادها.
إنما يريد الكاتب من هذه المقدمة أن يلفت أدباء العربية ومؤرخيها ومحققيها الذين يجتهدون في كشف حقائق التمدن الإسلامي على سنن المحققين من الفرنج، إلى هذه النكتة الدقيقة: وهي أن أمامهم مصدرين عظيمين لتكميل معارفهم في كل ما يرجع إلى التمدن الإسلامي - مصدرين لا يعنى بهما كثير من الباحثين على ما ضمنا من حقائق لا يظفر بها الباحث في الكتب العربية المعروفة. هذان المصدران هما الكتب الفارسية وكتب الشيعية التي ألفت في إيران بالعربية أو الفارسية
أرى كثيراً من فضلاء الشبان في مصر والشام يكتبون رسائل أو كتباً عن حكماء الإسلام وعلمائه ومؤرخيه فلا يستطيعون بلوغ الغاية في التحقيق بما جهلوا الفارسية فحرموا الاستفادة من الكتب في إيران. كيف يستطيع كاتب أن يحقق تاريخ ابن سينا وفلسفته وهو يغض الطرف عن كتبه الفارسية: (دانشامة علائي) و (رسالة نبضية) ومعراجنامه، أو عن اشعاره الفارسية. وكيف يستطيع أن يوفي البحث عن أبي الريحان البيروني وهو يغفل النسخة الفارسية من كتاب التفهيم في صناعة التنجيم وما كتبه عنه مؤلفو الفارسية القدماء مثل أبي الفضل البيهقي في تاريخ آل سبكتكين، ونظامي العروض للسمرقندي في جهار مقاله وفيه حقائق لا تلفى في كتب أخرى؟ ومثل هذا يقال عن كثير من العلماء أمثال الإمام فخر الدين الرازي، والعلامه قطب الدين الشيرازي، والإمام عمر الخيامي، وجار الله(199/52)
الزمخشري، ورشيد الدين الوطواط، ونصير الدين الطوسي.
من ذا الذي يعنى بالتاريخ وما يحتاج إلى كتبه مثل تاريخ قم (وقد فقد اصله العربي، ولم يبق ألا جزء من ترجمته الفارسية) ومحاسن اصفهان لسعد الدين البافروخي، وكتاب الفهرس للطوسي، ومعالم العلماء لابن شهر اشوب، والفهرست للقمي، وكتاب الرجال للكشي، وكتاب الرجال للنجاشي، وكتاب الرجال الكبير للاستراباذي، وروضات الجنات للخونساري، وكلها من أمهات كتب الشيعة؟ أو كيف يغض الطرف عن كتب التاريخ الفارسية مثل جهانكت للجويني، وجامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله الوزير، وتجزية الأمصار وتزجية الإعصار اعني تاريخ الوصاف، وزبدة التواريخ للحافظ ابرو، ومطلع السعدين لعبد الرزاق السمرقندي، وظفرنامه للنظام الشامي، وشرف الدين علي اليزدي، وحبيب السير، وروضة الصفا، ومجمع الأنساب، وتاريخ كراميره وكلها ثقة في التاريخ المغول وعصر تيمور؟
كل متأدب في العالم العربي سمع اسم أطباق الذهب لشرف الدين عبد المؤمن الأصفهاني، كتبه على نسق أطواق الذهب لأبي القاسم الزمخشري، وربما لا يوجد في هذه البلاد من يعلم أن شرف الدين المذكور (ويعرف باسم شرف الدين ابن شفروه) واحد من أشهر شعراء الفارسة له ترجمة في كل كتاب فارسي مترجم للشعراء. وكذلك كتاب الفخري لصفي الدين محمد بن علي بن الطقطي طبقت شهرته الأفاق، ولكن قليلا من فضلاء العربية من يعلم أن في الفارسية نسخة من هذا الكتاب اكثر تفصيلا كتبها هندوشاه النخجواني سنة 724، ويؤخذ من هذه النسخة الفارسية أن أسم كتاب الفخري الحقيقي: (منية الفضلاء في تواريخ الخلفاء والوزراء)
أرجو أن يعذرني القراء الكرام في تطويل هذه المقدمة التي يمكن أن يكتب في موضوعها كتاب والتي يرى القارئ فيها وفيما بعدها أن الفرع قد زاد على الأصل. أن عذري في هذه الإطالة رجائي أن يكون فيها بعض الفائدة
ومن أمثلة ما ذكرنا في المقدمة أعني الأمثلة التي تبين أن الكتب الفارسية تعين على إيضاح مسائل تاريخية ودقائق في الأدب العربي أو تتضمن أحيانا فوائد لا تلفى في الكتب العربية، قصة القاضي منصور الهروي أحد الشعراء النابهين في القرن الخامس الهجري(199/53)
ومن ذوي الصيت الذائع في البلاد الإسلامية الشرقية في هذا العصر.
القاضي أبو أحمد منصور بن أبي منصور محمد الأزدي الدولي، المعروف بالقاضي منصور أو منصور الفقيه، ولي قضاء هرات في عهد الملوك الغزنويين، وكان منصب القضاء وراثة في أسرته. وكان القاضي مع هذا المقام الجليل، يمضي أكثر أيامه في مصاحبة أهل الطرب ومنادمة أخوان اللهو والتمتع بالعيش الرضي، والوجه الجميل، يرى طبعه الشاعر أن الحياة في السرور والطرب، وكأن لسان حاله بيتا شمس الدين محمد حافظ الشيرازي:
(صديقان أريبان، ومنوان من الخمر المعتقة، وفراغ، وكتاب وزاوية في المرح، لا أبيع هذا المقام بالدنيا والآخرة وأن يكن الناس قد اتخذوني إماما)
والقاضي منصور من معاصري أبن منصور الثعالبي مؤلف يتيمة الدهر وتلميذه أبي الحسن الباخرزي مؤلف دمية القصر، وقد أثبت هذان المؤلفان له ترجمة مختصرة ونبذة من شعره في يتيمة الدهر (4 - 243) وتتمة اليتيمة (46: 2 - 53) وفي دمية القصر (في ذيل شعراء خراسان)
وهذه نبذة مما كتبه الباخرزي:
وكان مغرى بالشراب، مغرما بالأطراب، يمناه متوجة بكاس الرحيق، ويسراه مقرطة بعروة الإبريق. وخمرياته مما يحكم له فيها بالفضل على الحكمي، وغزلياته مما يحصل بها مطاوعة الغزال الإبل)
وكذلك في معجم الأدباء طرف من أخباره وقطع من أشعاره (7 - 189 - 191) ويقول ياقوت إن القاضي منصور كان من مادحي القادر بالله (381 - 422) وأنه توفي سنة 440.
وفي تاريخ آل سبكتكين الذي ألفه بالفارسية أبو الفضل محمد بن الحسين البيهقي (385 - 470)، وهو من معاصري القاضي وأصدقائه، فصل ممتع في ترجمته لا يلفى في مصدر من المصادر المذكورة، ولا في غيره من المراجع المشهورة. ونحن نثبته هنا إفادة للقراء وإثباتا لدعوانا في المقدمة (طبع طهران ص599 - 601) يقول أبو الفضل البيهقي:
وكان بهرات رجل يقال له القاضي منصور له قدم في كل علم وفضل قد سكن إلى الشراب(199/54)
واللهو، واخذ حظه من الدنيا الغادرة وجعل شعاره: خذ العيش، ودع الطيش. وكان ريحانة الأكابر لا يأنسون بمجلس لا يضمه. وكان صديقا لأبي سهل الزوزني قد أحكمت مودتهما أواصر الأدب. وكانا يتلازمان ويعكفان على المدام. بكر القاضي منصور يوماً إلى لهوه وشرابه، وأرسل إليه أبو سهل أبياتا، فأجاب بديهة على رويها؛ وأعاد أبو سهل الكتابة فأجاب أبو منصور ولم يحضر ومضى اليوم.
وهذه هي الأبيات التي كتبها الشيخ أبو سهل الزوزني:
أيها الصدر الذي دا ... نت لغرته الرقاب
انتدب ترضى الندامى ... هم على الدهر كتاب
وأَسغ غصة شرب ... ليس يكفيها الشراب
واحضرن لطفا بناد ... فيه للشوق التهاب
ودعا العذر وزرنا ... أيها المحض اللباب
بينك المر عذاب ... وسجاياك عذاب
إنما أنت غناء ... وشراب وشباب
جودك المرجو بحر ... فضلك الوافي سحاب
إنما الدنيا ظلام ... ومعاليك شهاب
فأجابه القاضي في الوقت:
أيها الصدر السعيد ... الماجد القرم اللباب
وجهك الوجه المضيء ... رأيك الرائي الصواب
عندك الدنيا جميعا ... وإليها لي مأب
ولقد أقعدني السك ... ر وأعياني الجواب
في ذرى من قد حوى من ... كل شيء يستطاب
ولو استطعت قسمت الج ... سم قسمين لطاب
غير أني عاجز عن ... هـ وقلبي ذو التهاب
فبسطت العذر عني ... في أساطير الكتاب
وكتب إليه أيضا أبو سهل:(199/55)
أيها الصدر تأن ... ليس لي عنك ذهاب
كل ما عندك فخر ... كل ما دونك عاب
وجهك البدر ولكن ... بعد ما إنجاب السحاب
قربك المحبوب روض ... صدك المكروه غاب
عذرك المقبول عندي ... أبد الدهر يصاب
أنت إن أبت إلينا ... فكما آب الشباب
أو كما كان على المح ... ل من الغيث الضباب
بل كما ينتاش ميت ... حين واراه التراب
فكتب منصور بعدما أدركه السكر:
نام رجلي مذ عبرت القنطره ... فأقبلن إن شئت مني المعذره
إن هذا الكأس شيء عجب ... كل من أغرق فيه أسكره
(باريس)
عباس إقبال(199/56)
زهرة في مستهل الربيع
للأستاذ محمود الخفيف
قد بعثْتُ القديم من أحلامِي ... إذ تَبَسَّمْتِ للربيع الجديد
يا ابنْةَ الصبح قد ثكلْتُ غرامي ... وتأسَّيْتُ من زمان بعيد
ما لهذا النّدَى يزيد أوامي ... ويُثير الجوى بقلبي الشهيد!
فيم أحْيَيْت بابتسامك وجدي ... يا عروس الربيع رفقاً بقلبي
كيف أصبْو إلى جمالك وحدي ... أيُّ حُسنٍ يخالج اليوم لبي؟
يتساوى القتاد والزهر عندي ... وتناسيَّ ماضي العيشَ حسي
يوجعُ النفس أن ترى اليومَ حُسناً ... كان بالأمس من بهيجِ رواها
تنظرُ العين لا ترى فيك معنىً ... من معاني الجمال إلا شجاها
أغنْيِات المنى تألفن لحناً ... صارَ للنفس من صميم أساها!
صوّرَت لي كآبة العيشْ حولي ... عند لقياكِ كلّ معنى كئيبِ
ذائب الطل ليسَ عِنْدِي بِطَلٍّ ... هو سَحُّ الجفون عند النحيب
وكأنّ الزمان مسَّكِ مثلي ... بالضنّى كفهُ وبالتعذيب
إنَّ هذا النّماَء يوحي لنفسي ... صوراً هُن من نسيج الفناء
سَوْفَ يُطوَى بهاؤه حين يمسي ... يوْمَكِ الضاحكُ المديد الضياء
كلما زاد قلَّ رونق أمسْي ... يا لموْتٍ رأيته في النَّماء!
هكذا يا ابنْة الربيع حياتي ... غير أني معذَّبٌ بشعوري
حائر النفس بين ماض وآت ... غاب في لُجَّةِ الزمان حبوري
سوْفَ تطوي يد المنية عمري ... بعد أن يُطفئ الزمان شبابي
لِلوَنى والنحولِ في الدهر سيْري ... لا ترى العينُ غيرَ لمع السراب
فسواء صبرْتُ أم رثّ صبري ... وسواء مسرَّتي واكتئابي
فيكِ رمز لكل ما هو فانٍ ... عابر لن يقيم إلا قليلا
يا عروس الربيع كم من معان ... فيكِ زادت غليل قلبي غليلا
يا لقلبي ما طارقات زمان ... لم تذَر لي في الكون معنىً جميلا(199/57)
أنتِ كالعيش فتنة وغرور ... وأمانيُّ كلها للنَّفاد
أنتِ كالحب نشوة وفتور ... ورُؤى تَمَّحى بلا ميعاد
لمع كلهن مَيْن وزور ... الليالي لهنَّ بالمرصاد
خيلت لي عيناي صورة أنس ... برهة ثم خيلت لي ثبورا
ورأى القلب فيكِ موحش رَمْسٍ ... يضحك الزهر فوقه منثورا
لَسواء زينت ساحة عرس ... يا ابنة الصبح أم كسوت القبورا
موْتكِ الباكر المحتم يوحي ... لفؤادي الهموم من كل جنس
كم صبي كالزهر غض صبوح ... كالرياحين عوده طيب غرس
ناعم كالملاك رقة روح ... موته يوجعُ القلوب ويؤسي!
كم فتيٍّ في ضحوة العمر ولى ... مثلما متِّ، نابهٍ عبقريِّ
ومحيا من ضاحك الزهر أحلى ... قد محاه الفناء قبل الذُّوِيِّ!
كنت ألقاك في الربيع فألقى ... ألف معنى في سحر ذاك الشباب
يمعن الحس عند مرآك عمقاً ... فأرى الروح من وراء حجاب
وكأني والقلب يسجد خفقاً ... هيكل ليس ينتمي للتراب!
ينجلي فيكِ والزمان نضير ... ومعاني الربيع تملأ نفسي
أمل ضاحك وعيش غرير ... وطيوف تثير كامن حسي
كان لي منك في الصباح بشير ... وأنيس إن غاب طائر أنسي
يا ابنة الصبح كم رأى الصبح مني ... نظرات المتيم المسحور
من بنات الهديل أقبس لحني ... حبذا السجع في صفاء البكور
وسطور الرياض تبهر عيني ... فأملي بوشيهن سطوري
كان هذا الزمان حلماً تقضى ... أي حلم خياله لن يزولا
أي حسن يبقى على الأرض غضاً ... آية الحسن أنه لن يطولا
كم قطعت الرياض طولا وعرضاً ... فرأيتَ النماء ثم الذبولا
يا ابنة الصبح قد ذكرت زماني ... حين أومأت في رواء بديع
كل شيء بعثت إلا الأماني ... أفلا كنت مثل هذا الربيع؟(199/58)
الخفيف(199/59)
البَريد الأدَبيّ
مظاهر علمية خطيرة:
تفيض الصحف الإنكليزية في التعليق على موقف الجامعات الإنكليزية من الدعوة التي وجهت إليها من جامعة تبنجن الألمانية للاشتراك في عيدها الذي سيقام في يونيه القادم احتفاء بانقضاء مائتي عام تأسيسها، فقد قررت الجامعات الإنكليزية كلها أن تعتذر عن قبول الدعوة وأن تقاطع هذا الاحتفال، ويقولون إن الجامعات الأمريكية قد تحذو حذو الجامعات الإنكليزية في هذه المقاطعة. وقد كان لهذه المقاطعة العلمية وقع عميق في ألمانيا. وقد شرحت الصحف الإنكليزية موقف الجامعات الإنكليزية، فقالت إنه لا يرجع إلى أية بواعث سياسية، ولا يرجع بالأخص إلى أية خصومة نحو ألمانيا أو الشعب الألماني، ولكنه يرجع إلى بواعث علمية محضة، ذلك أن ألمانيا الهتلرية قد أخضعت العلم للسياسة وبالغت في اضطهاد الفكر، وجعلت من الجامعات الألمانية أدوات للدعاية السياسية والجنسية، وسحقت بذلك هيبة العلم وثلت تراث الجامعات الألمانية، وقد كانت في مقدمة جامعات العالم صيتاً وهيبة؛ ولم تبق الجامعات الألمانية كما كانت قبل قيام الحكم الهتلري منابر الإعلان الحقائق العلمية، بل غدت منابر لبث النظريات العنصرية والسياسية والجرمانية الجديدة وتسخير الحقائق العلمية لخدمة مزاعم سادة ألمانيا الجددَ ومبادئهم المفرقة. وقد علقت مجلة (سبكتاتور) الإنكليزية على هذا الحادث بمقال رنان استعرضت فيه حالة التفكير الألماني الحاضر وما انتهى إليه في ظل الطغيان الهتلري من الانحلال، وأشارت بهذه المناسبة إلى ما صرح به وزير المعارف الألمانية في العام الماضي في الاحتفال بعيد جامعة هيدلبرج، من (أن العلم الألماني الجديد يرفض المبدأ القائل بأن شرف العلم وغايته ينحصران في البحث عن الحقيقة دائماً)؛ وأشارت إلى ما وقع في العهد الحاضر من تخريب الجامعات وتشريد الأساتذة بسبب كونهم من اليهود، أو لأنهم من خصوم النظام الحاضر حتى بلغ ما طرد منهم في الأعوام الثلاثة الأخيرة أكثر من ألف وسبعمائة أستاذ بينهم فطاحل العلم الألماني في كل فن وضرب.
وهذه أول مظاهرة دولية عالمية خطيرة ضد ألمانيا الهتلرية وسيكون لها بلا ريب مغزاها العميق في الحكم على المبادئ والمزاعم المفرقة التي تتخذها ألمانيا النازية شعاراً لها(199/60)
وخصوصاً في المسائل العلمية التي تعتبر بالإجماع مسائل إنسانية تهم العالم بأسره، ولا يمكن أن تدعي فيها أية أمة أو دولة شيئاً من الاختصاص، ولا يمكن أن تسيرها سوى المباحث والحقائق المجردة عن كل اعتبار قومي أو جنسي أو سياسي.
كتاب عن الواحات المصرية النائية
أصدرت الجمعية الجغرافية الملكية المصرية أخيرا مؤلفا جديدا بالفرنسية عنوانه (الاكتشافات الأخيرة في صحراء لوبية) بقلم الكونت الماسي الرحالة المعروف؛ وفيه يقص المؤلف محاولاته لاستكشاف واحة (زرزورة) وهو اسم كان يجري على الألسن مجرى الأسطورة؛ وكان أول أوربي ذكره هو الرحالة الإنكليزي ولكنسون في كتابه الذي صدر سنة 1835، وهو يصف الاسم بأنه علم على واحة تقع بعيدا فيما وراء الواحات المصرية الغربية؛ وأسفرت الاكتشافات الصخرية في الأعوام الأخيرة عن اكتشاف صحراء (العوينات)، التي لم تكن معروفة في الناحية المصرية من الصحراء؛ وكان عرب الواحات المصرية يعتقدون أنه ليس بعد واحاتهم أي واحة أو بقعة خضراء أخرى تجاه الغرب. ثم اكتشفت واحة الكفرة بواسطة عرب من قبيلة الزاوية التي نزحت من برقة استطاعوا الاتصال ببعض سكان صحراء تيبو المجاورة. وفي سنة 1923 قام البرنس كمال الدين برحلته الأولى إلى العوينات، وتبعه بعد ذلك السير جلبرت كلايتون واكتشف كلاهما بعض الأودية الجديدة. وفي سنة 1933 قام الكونت الماسي برحلة أخرى إلى واحة العيونات، واتصل في واحة الكفرة ببعض زنوج تيبو، واكتشف بواسطتهم بعض وديان أخرى. ويستعرض المؤلف هذه الرحلات الصحراوية الشائقة، ويورد بعض النصوص والمقارنات التاريخية القديمة من أقوال هيرودوتوس وغيره، ويورد صورا لبعض النقوش العتيقة التي عثر عليها في بعض صخور الصحراء
الفن المصري القديم
صدرت أخيراً طبعة إنكليزية لكتاب الفن المصري القديم تأليف الدكتور هيرمان رانكه العلامة الأثري. وأهمية هذه الطبعة في أنها تسهل على القارئ اقتناء هذا السفر وقد كان من قبل بطبعته الألمانية التي أصدرتها شركة فيدون النمسوية الشهيرة محجوبا عن القارئ(199/61)
لارتفاع ثمنه إلى بضعة جنيهات للنسخة الواحدة، إذ تعتبر الطبعة الألمانية من حيث الصورة الفنية والتلوين تحفة فنية لا يستطيع اقتناءها سوى الهواة ودور الكتب. أما الطبعة الإنكليزية فمع أنها قد احتوت جميع اللوحات والصور الفنية فإن ثمنها لا يتجاوز ثمانية شلنات
ويحتوي الكتاب على تاريخ للفن المصري القديم بقلم الدكتور رانكه وعلى موجز لتاريخ مصر الفرعونية، وبه 340 لوحة وصورة فنية، منها صورة بديعة لرأس الملكة نفرتيتي تبين بوضوح سحابة عينها اليسرى وهو عيب لا يبدو في الصورة الجانبية، وصور عديدة لأبدع التماثيل والرسوم الفرعونية الشهيرة؛ وفي الاستعراض النقدي الذي يقدمه الدكتور رانكه عن الفن المصري القديم مقارنات وملاحظات قيمة جداً من الوجهة العلمية والفنية
كتاب للمرشال دي بونو عن الحرب الحبشية
شغلت الأوساط السياسية والأدبية في أوروبا هذه الأيام بالكتاب الخطير الذي ووضعه المارشال دي بونو أول قائد عام في الحملة الإيطالية على الحبشة عن هذه الحرب وأسماه (العام الثالث عشر، الاستيلاء على إمبراطورية) وسر الضجة العظيمة التي أثارها هذا الكتاب هو ما حواه من أسرار واعترافات عن تأهب إيطالية للحملة قبل ظهور الذرائع التي تذرعت بها لإرسال جيوشها والاصطدام بالأحباش، ثم ما جاء فيه عن الأساليب التي اتبعها للتمهيد للفوز في الحرب. فقد اعترف بأنه وضع مع السنيور موسوليني خطة الحرب من سنة 1933 وجعلاها سراً بينهما لكيلا يطلع عليها الجمهور فيقاوم الفكرة؛ ثم بين ما دفعته إيطالية الرشى لاشتراء بعض الأحباش والجواسيس الذين بثهم في أرجاء الإمبراطورية فصار يعرف كل كبيرة وصغيرة فيها. وأشار أن إيطاليا أنفقت في هذا الباب بسخاء عظيم وقد أفادتها الدعاية فحرمت الإمبراطورية من حوالي 200 , 000 محارب
ويسهب دي بونو في وصف الاستعدادات العظيمة التي قامت بها إيطاليا قبل الحملة سرا أو كيف زادت قواتها في الإريترية وأنشأت المطارات وأرسلت الطيارات للاستكشاف على الأراضي الحبشية وأخذ الصور.
والظاهر أن إيطاليا كانت متوقعة أن تعلنها بريطانيا بالحرب فقد أشار إلى أن موسوليني أرسل إليه قبيل الحملة يأمره أن يوقف الحرب الحبشية إذا أعلنت بريطانيا الحرب والتزام(199/62)
الدفاع عن الإريترية.
والكتاب مصدر بمقدمة من السنيور موسوليني نفسه
المبرد
من مزايا ابن خلكان في كتابه ضبط الأسماء وقد قال:
(والمبرد بضم الميم وفتح الباء الموحدة والراء المشددة وبعدها دال مهملة وهو لقب عرف به. واختلف العلماء في سبب تلقيبه بذلك) ثم ذكر قصة (المزملة) التي أوردها ابن الجوزي في (كتاب الألقاب) وان صحت رواية في (إرشاد الأريب) وهي (لما صنف المازني كتاب الألف واللام سأل (المبرد) عن دقيقه وعويصه فأجابه بأحسن جواب، فقال له المازني: قم فأنت المبرد (بكسر الراء) أي المثبت لحق فحرفه الكوفيون وفتحوا الراء - فإن صح ذلك فقد غلب عليه اللقب المحرف على أن ابن خلكان يقول أن الذي لقبه بالمبرد (بفتح الراء) هو شيخه أبو عثمان المازني. مما يثبت قول (وفيات الأعيان) هذه الطرفة: (لقي برد الخيار المغني أبا العباس المبرد في يوم ثلج بالجسر فقال له: أنت المبرد وأنا برد الخيار واليوم كما ترى، اعبر بنا لا يهلك الناس من الفالج بسببنا).
أحد القراء
تركية تحي ذكرى الفيلسوف العظيم ابن سينا
نشطت اللجنة التي تألفت أخيراً برعاية جمعية التاريخ التركي وبرآسة نائب سيواس في المجلس الوطني الكبير شمس الدين وعضوية كبار العلماء المشتغلين في جمعية التاريخ التركي في اتخاذ التدابير اللازمة للاحتفال بذكرى وفاة الحكيم الفيلسوف ابن سينا، وذلك في يوم 20 يونيه القادم إذ يصادف ذلك اليوم بلوغ وفاة الفيلسوف الأشهر العام التسعمائة. وستقام هذه الحفلة الكبرى في أبهاء الجامعة التركية بعد إنجاز جميع المعدات
وتشير جريدة قورون التركية إلى هذا الاحتفال الممتاز قائلة:
(إن الفيلسوف ابن سينا الذي طبقت شهرته الشرق والغرب، كان أبوه من بخارى، وأمه من بلخ، فهو ولا ريب كان تركياً؛ بيد أنه لما كانت اللغة العربية على عهده هي لغة الثقافة في العالم الإسلامي قاطبة فقد كتب ابن سينا جميع تآليفه بالعربية باستثناء مؤلفين وضعهما(199/63)
باللغة الفارسية.
أما تآليف ابن سينا فتقسم إلى ثلاثة أقسام كبيرة: الطب والفلسفة والأخلاق، ويؤلف كل من هذه الأقسام الثلاثة مجلدات ضخمة، وكتابه الموضوع في الطب باسم (القانون) قد ترجم إلى اللغة التركية ترجمه عالم تركي يدعى توقاتلي مصطفى؛ وهذه الترجمة موجودة اليوم في مكتبة بايزيد وهي مكتوبة بالخط وفي مجلدات يبلغ عددها العشرين مجلداً
وإننا لمغتبطون جداً لانصراف الهمة إلى طبع كتاب ابن سينا (القانون) طبعا جديدا لمناسبة الاحتفال بذكراه. وستنشر لجنة الحفلة مؤلفا تضمنه شخصية ابن سينا العلمية والفلسفية تشرف على تأليف طائفة من كبار العلماء المتضلعين في الطب والفلسفة والأخلاق. وستعرض في الحفلة تآليف ابن سينا المطبوعة والمخطوطة)(199/64)
النقد
إسماعيل المفترى عليه
تأليف القاضي بيير كربتيس
وترجمة الأستاذ فؤاد صروف
- 2 -
ذكرنا في العدد السابق المبادئ الأساسية التي يجب أن يتقيد بها كل مترجم والتي يحكم بمقتضاها على ترجمته. واليوم ننتقل إلى الترجمة نفسها؛ ونحب قبل هذا أن نذكر للأستاذ حسنة من حسناته وهي إصلاحه خطأ مطبعياً وقع في الكتاب. ذلك أن اسم محمود باشا وزير البحرية قد حرف مرة فكتب (محمد باشا) فتدارك الأستاذ هذه الغلطة وذكر اسمه الصحيح
كذلك أصلح الأستاذ غلطة مطبعية أخرى وهي قول المؤلف عند الكلام على امتياز القناة إنه لا يحق لأحد من حملة الأسهم أن يكون له أكثر من صوت واحد فأصلح المترجم ذلك إلى عشرة أصوات كما ورد في الأصل الإنجليزي بعد سطور قلائل
وإذا رجعنا بعد ذلك إلى الكتاب المترجم لم نجد الأستاذ صروف قد وفى بالشرط الأول؛ ولسنا نريد أن نقول إن الأستاذ غير ملم بتاريخ إسماعيل وكل ما يتعلق به. كلا إنا نعتقد أنه ليس في الكتاب المصريين ولاسيما رجال الصحافة من لا يعرف تاريخ إسماعيل، ولكن الأستاذ لسبب ما لم يكلف نفسه عناء البحث عن صحة الأسماء وبخاصة الأسماء التركية فحرف بعضها تحريفاً يضل القارئ ويربكه؛ وبدل أن يرجع إلى المصادر المطولة ليحقق هذه الأسماء وضع بدلها أسماء من عنده كثير منها لا يتسمى به الأتراك.
وقد تكون هذه الأسماء للأشخاص نكرات ولكن هذا لا يعفي المترجم من البحث عنها وضبطها؛ والأتراك في مصر كثيرون ومن السهل على الأستاذ أن يعرف حقيقة الأسماء منهم إذا لم يشأ أن يرجع إلى الوثائق التي وردت فيها أو إلى كتب التاريخ نفسها؛ وبعض هذه الأسماء لرجال شغلوا أكبر مناصب الدولة ولم يكن يليق والحالة هذه أن تحرف. والى القارئ مثل واحد من هذا النوع يدل على الفرق بين الأسماء الأصلية والأسماء التي(199/65)
أوردها الأستاذ. ذكر المؤلف اسم أحد الأتراك الفارين من الاضطهاد وكتبه هكذا وبدل أن يحقق الأستاذ هذا الاسم ليعرف أن صاحبه هو علي سعاوي أفندي، كتبه موافي أفندي مع أن الحروف الإنجليزية أقرب ما تكون إلى الاسم التركي، وأمثلة هذا كثيرة. كذلك لم يتقيد الأستاذ بالمصطلحات العلمية الدقيقة الصحيحة واخترع بدلها ألفاظاً من عنده لا يقبلها الذوق فسمى الدين السائر بالدين العائم وذكر هذا اللفظ الأخير في مواضع متعددة مع أنه قد استعمل اللفظ الصحيح الأول مرة في الترجمة ولا ندري لم عدل عنه واستبدل به اللفظ الآخر. وسنذكر هذا كله مفصلا فيما بعد
تنتقل بعد ذلك للأمانة والدقة في الترجمة ومطابقة الكتاب المترجم للأصل فنقول إن الأستاذ لم يكن موفقا في هذه الناحية أيضاً فلم يحرص على معاني المؤلف بل تناولها بالحذف والتغيير بغير سبب؛ فالعبارات التي تحتاج إلى شيء من العناية لفهمها أو التعبير عنها قد حذفها أو بدلها، وكثيرا ما وضع بدلها عبارات تؤدي عكس المعنى المراد، بل إن كثيراً من العبارات السهلة العادية قد نالها أيضاً ما نال أخواتها الصعبة. وسيرى القارئ فيما بعد أمثلة من ذلك.
أما أسلوب الكتاب فيختلف باختلاف أجزائه، فالجمل في بعض أجزائه مرتبطة متصلة وفي البعض الأخر مفككة منقطعة العلاقة، وحروف العطف التي استعملها لربط هذه الجمل لا تظهر هذه الصلة؛ ويشعر القارئ وهو يطالع الفصول الأخيرة من الكتاب بنوع خاص أنه يقرأ جملا مترجمة منفصلة لا موضوعا تاريخياً مرتبط الأجزاء.
وأما التشبيهات والأمثال الواردة في الكتاب فقد ترجم الأستاذ الكثير منها ترجمة لفظية سببت غموض المعنى مع أن اللغة العربية كما قلنا غنية من هذه الناحية، ويستطيع الباحث أن يجد فيها ما يغنيه عن هذه الترجمة في معظم الأحيان. وبعضها قد حذفه الأستاذ ولم يترجم لفظه أو معناه هذه كلمة مجملة عن الترجمة ننتقل بعدها إلى بيان الأغلاط التي وقعت فيها. وكنا نحب أن نقسمها أنواعا ونذكر كل نوع على حدة، ولكننا وجدنا في ذلك عناء ووجدنا وقتنا أضيق من أن يتسع إلى هذا الترتيب، ولذلك سنذكر أغلاط كل فصل مجتمعة. وقد أحصينا أغلاط الفصول الأولى من الكتاب فوجدناها لا تقل عن خمسين في كل فصل لا تدخل فيها عيوب الأسلوب(199/66)
وسنكتفي بذكر أمثلة منها:
(1) قال الأستاذ صروف مشيراً إلى الفرمان الذي انتزعه محمد علي من السلطان أنه (يقضي باحترام شعائر الإسلام) بنصه على أن وراثة العرش تكون لأكبر أفراد الأسرة. وليس هذا من شعائر الإسلام في شيء ولم يقل المؤلف ذلك بل قال إنه يقضي باحترام التقاليد الإسلامية وفرق بين التقاليد والشعائر
(2) وترجم الأستاذ بالجهل ومعناها الحقيقي الغباوة أو عدم الفطنة
(3) وترجم بقوله أنه كان يكره (كل ما هو غربي) وهذا تعميم لم يقله المؤلف بل قال أنه يكره الحضارة الغربية
(4) وترجم عبارة برواية هزلية وإذا صح ترجمة هزلية فأين ترجمة وهي تؤدي معنى جديدا هو الذي ينطبق على هذه المهزلة، وهل غاب عن الأستاذ لفظ مروعة أو رهيبة أو نحوهما
(5)
اقتصر الأستاذ في ترجمة هذه العبارة كلها على قوله (ووصلا إلى القاهرة من دون أن يدري أحد بالحقيقة) وإذا فرضنا أن عبارة من دون أن يدري أحد بالحقيقة تؤدي معنى ما لا نسلم به فأين ترجمة مع رفيقه الصامت يريد جثة الوالي.
(6)
ترجم الأستاذ هذه العبارة بقوله: إن عباسا (أعتاد أن يسير في طريقه لا يلتفت يمنة ولا يسرة) ولا ندري كيف يستطيع الوالي أن يسير في الطريق دون أن يلتفت يمنة ولا يسرة. وهل هو جندي في ميدان التمرين؟ وليس في العبارة الإنجليزية من الغموض ما يعذر الأستاذ معه على هذا الخطأ في ترجمتها بل هي سهلة لا لبس فيها ولا غموض ومعناها (وساعده على ذلك ما عرف عن سيده من كرهه رؤية الناس إياه)
(7) ,
ترجم الأستاذ العبارة السابقة بقوله (أمر بتصويب مدافعها إلى مدينة القاهرة وكانت تحرسها حامية قوية) والمؤلف لم يقل إن حامية القلعة كانت قوية بل قال إنه (عزز حامية القلعة)
(8) - ' '(199/67)
ترجم الأستاذ هذا المعنى كله بقوله (وكان الأمير إلهامي هذا ابن عباس باشا الأكبر) ولا ندري لم أغفل الأستاذ كل ما في العبارة الإنجليزية من معان لم يذكرها كاتبها عبثاً وهل صعوبة ترجمتها تبرر هذا الإغفال؟
(9)
قال الأستاذ في ترجمة ذلك (لولا الضغط السياسي الذي أعاد محافظ القاهرة إلى صوابه وأوقع الفشل في فؤاده) فهل هذا هو المعنى؟ أو أن معنى عبارة المؤلف (لولا قوة دبلوماسية (أو سياسية إذا شاء) أشعرت المحافظ الدساس خشية الله.
(10). . , ,
ترجمت هذه العبارة هكذا: وأمر أن يتسلق صاري أحد المراكب. . . ثم يقفز من الصاري إلى الماء ويسبح زمنا! فهل معنى يقفز من الصاري إلى الماء وهل معنى يسبح في الماء؟
(11) '. .
ترجمت هذه العبارة هكذا (ومنعه من زيارة أي منزل من منازل العامة) فأضاف العامة من عنده وجعل القارئ يفهم أنه كان يسمح له بزيارة منازل الخاصة. ثم أين سبب هذا المنع وهو حرص محمد علي على أخلاق سعيد؟
(12). .
لم يترجم الأستاذ أول هذه الجملة وآخرها واكتفى بترجمة وسطها وكلاهما يؤدي معنى؛ فالجزء الأول يشير إلى أن دلسبس وسعيد كانا يمرحان في مسرات الحي اللاتيني بباريس، والثاني يدل على أن برزخ السويس لم يكن قد استرعى نظره.
(13)
قال الأستاذ في ترجمة ذلك (ولبث دلسبس يترقب الفرص) ولكن أين قول المؤلف إنه لم يكن يتولى منصباً أو يقوم بعمل معين. وهل صعوبة هذه العبارة تبرر حذفها؟
(14)
كل ما ترجم به الأستاذ هذه العبارة هو قوله (لكي تصبح فرنسا سيدة البحار) وترك الجزء المهم وهو قول المؤلف (بسيطرتها على هذا الطريق المائي ذي المركز الحربي الخطير)(199/68)
(15) , -
اقتصر في ترجمة العبارة السابقة على قوله (كانت غايته المباشرة أن. .) وترك الصفات التي وصف بها المؤلف هذه الغاية؟
(16)
قال الأستاذ صروف في ترجمة هذه العبارة وخيل إلي وأنا أنظر إلى السماء أنني أرى قوس قزح ذات جمال باهر.
فهل خيل إليه أنه رأى قوس قزح أو أنه رأى قوس قزح حقا؟ وأين هذه العبارة العربية من عبارة المؤلف المنقولة عن دلسبس نفسه والتي يقول فيها (ثم ظهرت على حين غفلة ندأة في السماء امتدت من الشرق إلى الغرب وكانت ذات جمال خلاب افتتن به ناظري) وكل ما وصف به دلسبس هذه الحادثة في حاجة إلى أسلوب غير الأسلوب الذي ترجمه به الأستاذ صروف.
(17) وصف المؤلف موقف محمد علي من قناة السويس والتجارة الأوربية الهندية بقوله:
-
أي أنه لم يكن من أولئك الذين لا يفعلون الخير ويمنعون غيرهم من فعله وقد ترك الأستاذ العبارة من غير أن يحاول ترجمتها
(18)
قال الأستاذ صروف في ترجمة هذه الجملة (ومرت بمخيلتي صورة ترعة السويس بسرعة البرق) ومعنى العبارة بالضبط (وأخذت أفكاري وأبحاثي عن قناة السويس تمر بخاطري سراعا)
(19)
عرب الأستاذ بسرقسطة فنقلها بذلك مكان
(20)
(قال في ترجمتها وذهب الأستاذ هلبرج مذهبا يتفق وما ذهب إليه القاضي الهولندي الذي تقدمت الإشارة إليه) فأين هذا من عبارة المؤلف التي يقول فيها (إنه يتفق في الرأي مع القاضي المستقيل والأمير المخلوع) ويقصد بالأمير المخلوع سمو الخديو السابق(199/69)
(21)
تركها الأستاذ من غير ترجمة
(22) '
ترجمت هذه العبارة هكذا (إنه كان أزهد الناس في العالم). فهل هذا هو معنى العبارة الفرنسية. أترك الجواب عن ذلك إلى الأستاذ الكبير صاحب الرسالة.
(23)
لم يحاول الأستاذ صروف ترجمة هذه العبارة على سهولتها ووضوح معناها الذي لم تسبق الإشارة إليه في الكتاب
(24)
ترجم الأستاذ هذه العبارة بقوله (فالحكم عليه يجب أن يكون مع مراعاة هذا الاعتبار) والمؤلف يقول إن الحكم عليه يحتاج إلى موازين أخرى (غير الموازين التي توزن بها أعمال دلسبس) فأيهما أوضح؟
(25) , , ,
لم نعثر في الكتاب على ترجمة هذه العبارة فهل هي خالية من المعنى أو أن معناها لا يستحق الترجمة؟
(26) (وأن رئيس دولة يمنح أحد رعاياه امتيازاً) زاد الأستاذ من عنده على عبارة المؤلف قوله (أحد رعاياه) وهي زيادة لا مبرر لها أفسدت المعنى ولا ندري ما الذي دعا الأستاذ إليها وهو الذي حذف من عبارات المؤلف ما حذف
(27)
هل معنى هذه العبارة هو (ويسيء إلى ذكراه بنفسه) كما قال الأستاذ صروف أو أن معناها هو (ويكشف عن خبيئة أخلاقه) قد يقول الأستاذ صروف إن هذه العبارة هي وما قبلها (يقضي على طيب أحدوثته) ترجمة لقول المؤلف
وفي هذه الحال يكون قد ترك العبارة الثانية من غير ترجمة
(28)
لم يزد الأستاذ في ترجمة هذه العبارة على قوله (اليوم الذي سبقت الإشارة إليه) فهل هذه(199/70)
العبارة الغامضة تؤدي معنى عبارة المؤلف
(29)
لم ير الأستاذ أن هذا المعنى يستحق الترجمة فتركه
هذه طائفة من أغلاط الفصل الأول من كتاب إسماعيل ذكرناها على سبيل المثل نضعها أمام القراء حتى لا يخفى عليهم ما كتبه المؤلف نفسه؛ ونقول بعد ذلك إنصافاً للأستاذ صروف أن أسلوب هذا الفصل ليس فيه من التعقيد ما في الفصول الأخيرة
وسنذكر في العدد التالي أغلاط الفصل الثاني إن شاء الله
الغنيمي(199/71)
الكتب
(1) الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية
تأليف الأستاذ محمد عبد الله عنان
(2) من حديث الشرق والغرب
تأليف الدكتور محمد عوض
للأستاذ محمود الخفيف
هما كتابان، أشعر بكثير من الغبطة إذ أقدمهما للقراء على صفحات الرسالة، ذلك لأني أرى في كليهما مظهراً من مظاهر الحركة الفكرية الحديثة في مصر، جديراً بالاعتبار والعناية.
أما أولهما فأثر جديد من آثار الأستاذ عنان، والأستاذ عنان كما أعتقد، قد أصبح بآثاره وبحوثه ناحية مستقلة في نهضة التأليف المعاصرة، ذلك أن آثاره تمتاز جميعاً بما تمتاز به الآثار العلمية القيمة، من دقة البحث، مع استقامة النهج ووضوح الغاية، وقوة الأسلوب؛ هذا إلى أصالة وسلامة منطق وبسطة في العلم، تظهر كلها واضحة في تمحيص الروايات المختلفة فيما يعرض الأستاذ من حوادث وفيما يسرد من وجوه الرأي.
عرفنا له تلك الخلال فيما سلف من آثاره، وإنا لنراها اليوم على خير ما يرجى من كتابه هذا، فهو يدور حول موضوع كان ولازال مثار الجدل الشديد ومبعث التناقض والاضطراب؛ ومن ثم فهو موضوع تظهر فيه مدى قوة المؤلف ونشاط ذهنه، وحسبك الحاكم بأمر الله وحوادث عصره، وما اكتنف شخصه من غموض وخفاء.
على أن الكتاب لا يدور كله على الحاكم، بل إن نصيب الحاكم منه لا يزيد على نصفه بكثير. ولقد أحسن الأستاذ صنعا، إذ جعل بقية الكتاب لدراسة أسرار الدعوة الفاطمية وخواص العصر الفاطمي، هذا إلى ما أورده الأستاذ في نهاية كتابه من الوثائق والسجلات الفاطمية.
مهد الأستاذ عنان لبحثه بمقدمة موجزة متينة عن حال مصر قبيل الفتح الفاطمي، ثم بكلمة عن نشأة تلك الدولة في مهدها، وذكر بعد ذلك فتح مصر وأورد طرفاً من سيرتي المعز(199/72)
والعزيز، كل ذلك في إحكام المؤرخ المتمكن الذي يستطيع على رغم الإيجاز أن يمهد السبيل لموضوعه خير تمهيد.
تناول الأستاذ بعد ذلك سيرة الحاكم، وشرح في جزالة ووضوح خلاله وصفاته وما لجأ إليه من سفك الدماء وما أقام من مراسيم اجتماعية ودينية، وما اكتنف الدولة من الأحداث الخارجية، ثم ما كان من أمر اختفائه، ويعجبك منه في هذا القسم من كتابه مهارة مناقشته الروايات المختلفة ودقة التعليق عليها، تتبين ذلك في مثل شرحه لنسب الحاكم وأخته ست الملك، ثم فيما أورد من روايات عن صفاته ومزاجه وأخيرا في حادث اختفائه.
على أن أهم الأشياء عندي في الكتاب وأولاها بالدرس والاعتبار، هو رأي الأستاذ المؤلف في الحاكم وصفاته، وهو رأي لم يسبقه إليه غيره فيما أعرف، فالأستاذ لا يرى في الحاكم ما اعتاد المؤرخون أن يروا فيه من رجل معتوه أخرق، يبطش لمجرد البطش، ويصدر من الأحكام الغريبة ما يدل على شذوذ وحمق. بل إنه على العكس يراه مصلحاً من كبار المصلحين، كانت أعماله التي اعتاد الناس استنكارها وسائله إلى ما يتوخى من إصلاح لا أكثر من ذلك ولا أقل: نعم كان الحاكم عنده (ذهناً بعيد الغور، وافر الابتكار، وكان عقلية تسمو على مجتمعها وتتقدم عصرها بمراحل، وكان بالاختصار عبقرية يجب أن تتبوأ في التاريخ مكانها الحق)
والأستاذ لا يرسل القول جزافاً، وكيف يقع لمن كانت له مثل متانة حجته وحصافة رأيه أن يجازف برأي؟ وإنما راح الأستاذ يدافع عن رأيه هذا دفاعا قوياً يبهرك ويستميلك. أليس القتل والطغيان هما من أقوى وسائل الديكتاوريات الحديثة في إقامة نظمها؟ ثم أليست سياسة الحاكم هي السياسة الميكيافيلية التي قد يلجأ إليها كثير من الحكومات في شتى الظروف؟ أليس الحد من حرية النساء مما تلجأ إليه اليوم ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشستية من وسائل محاربة الخلاعة والفجور اللذين يؤديان إلى انحلال المجتمع؟ إلى غير ذلك من حجج الأستاذ وآرائه النيرة الظريفة التي تشوقك وتلذك. والأستاذ لا يبرر بها مسلك الحاكم كما استدرك، ولكنه يدفع بها ما اتهم به.
بيد أني وإن أعجبتني تلك الآراء واستمالتني في كثير من المواقف، قد أحسست شيئاً من الصعوبة في أن أحمل نفسي على الأخذ ببعضها. نعم رأيت مشقة في أن أنفي الشذوذ بل(199/73)
الجنون عن شخص يحرم الجرجير لأنه ينسب إلى السيدة عائشة، والملوخية من أجل معاوية، والمتوكلية من أجل الخليفة المتوكل العباسي؟ وكيف أسيغ تشجيعه الدعوة الإلحادية؟ وعلى أي أساس من العقل أحمل قتله قائده الفضل بعد أن هزم أبا ركوة الذي احتل مصر؟ بل كيف يجوز في عقل خروجه ليلا إلى الجبل على ظهر حماره في غير قوة تحميه على الرغم مما كان يضطرم به المجتمع يومئذ من الرغبة في الانتقاض عليه والتخلص من طغيانه.
على أن الأستاذ يصرح في نزاهة المؤرخ وإنصافه (أنه ليس يدعي أنه يستطيع أن يعلل كل قوانين الحاكم وإجراءاته وتصرفاته أو أن ينفذ إلى بواعثها وحكمتها جميعاً، فهناك كثير منها مما لا يستطاع فهمه وتعليله)
وقصارى في هذا المجال الضيق أن أعلن إعجابي بهذا الكتاب، وأن أنوه بما أفدته من دراسة أسرار الدعوة الفاطمية ونواحي العصر الفاطمي، ذلك العصر الفذ الذي تجد من آثاره الأزهر المعمور - دراسة لم أظفر بمثلها فيما كتب حديثاً عن الدولة الفاطمية. وكم كان عظيما من الأستاذ عنان ذلك الجهد المرير الذي تستبينه فيما يشير إليه من مراجع مكتوبة وخطية ليس ثمة من يستوعبها إلا من كان له مثل جلده ودأبه وإخلاصه. ولا عجب أن جاء كتابه مظهراً من مظاهر الجد والقوة في نهضتنا الأدبية، وهو مطبوع طبعاً جميلا في دار النشر الحديث ويقع في مائتين وست وسبعين صفحة من القطع الكبير، بآخره ثبت حافل للمصادر، وفهرس أبجدي عام
- 2 -
يأتي بعد ذلك الكتاب الثاني (من حديث الشرق والغرب) للدكتور عوض، وأحب أن أتخطى الكتاب إلى صاحبه برهة فأعرض عليك طرفاً من خلاله، لا أرى مندوحة عن عرضه في مثل ذلك المقام. الدكتور المؤلف بما له من مكانة في حياتنا الأدبية غني عن التعريف، ولكني أذكر لمن لم يعرفه إلا في آثاره أن من أبرز صفاته الذكاء الحاد وعذوبة الروح ومحبة الأدب حباً صادقاً، حتى لو أنه حاول بكل ما في وسعه أن يهجر الأدب لما استطاع ذلك الهجران؛ محدث ماهر طلي الحديث، يميل إلى الفكاهة ولكنها الفكاهة التي يتخللها الجد المرير في غالب المواقف؛ يحب قومه وبلاده حباً مؤكداً؛ مثقف من الطراز الأول في(199/74)
الأدبين العربي والغربي
ذكرت من خلاله ما ذكرت لأمر يعنيني الساعة، ذلك أن كتابه الذي أقدمه لك صورة صادقة من شخصه، وذلك لعمري خير ما يوصف به كتاب لصاحبه مثل هاتيك الخلال. ولا جرم أن الصدق في الآثار الأدبية أكبر عامل في نفاذها إلى القلوب ودوامها على الأيام، وإنك لتجد الصدق في هذا الكتاب في مقدمة فضائله
وبعد فما موضوع هذا الكتاب؟ أهو سلسلة مقالات في شتى الفنون؟ كلا فلست تجد فيه ما تجد غالباً في المقالات من غلظة وثقل يتقاضيانك كد ذهنك والتحامل على نفسك. إذا فهل هو قصة أو مجموعة من الأقاصيص؟ كلا ليس هو من ذلك الفن من فنون الأدب وإن كنت تحس روح القصة وتتمثل شبحها في كثير من مواضعه. ليس الكتاب من أدب المقالة وإن كان موضوعات متفرقة، ولا هو من القصة وإن كان للكثير من موضوعاته شبحها، وإنما هو (حديث) نعم هو (أساطير وخاطرات خطرت ملكت على الفكر سبله فلم يستطع تشريدها أو الفرار منها)
ينتظم هذا الكتاب ما جاشت به نفس صاحبه من معان وخطرات، فإذا عدت إلى ما سردت عليك من خلاله، أمكنك أن تدرك موضوع الكتاب جملة وتلمح شيئا من روحه.
ذكرني هذا الكتاب الطريف الفذ، بآثار الأديبين الإنجليزيين الكبيرين (اديسون) وصاحبه (ستيل). عمد هذا الكاتبان في كثير مما كتبا في مستهل القرن الثامن عشر إلى نقد بعض أحوال المجتمع ودراسة بعض الأشخاص، بطريقة لطيفة هادئة، لا ترى فيها أثرا للهجوم اللاذع ولا التجريح القاسي البغيض، بل ترى الرفق واللين اللذين يفعلان ما لا يستطيع العنف أن يفعل، كل ذلك في خفة روح ورقة دعابة وروعة تصوير
وأنت ترى ذلك واضحا في كتاب الدكتور عوض، وإني أقرر هنا أنه ما قصر به فنه عن فنهما، ولا نزل به أسلوبه عن مستواهما؛ بل لست أغلو أن ذكرت أن بعض قطع عوض قد فاقت عندي بعضا مما قرأت لهما. خذ لذلك مثلا (في طريق البغال) و (الثور في مستودع الخزف) و (معهد الطفيليات)
اقرأ تلك وأمثالها، فلا يسعك إلا أن تسلم معي أنه يحق لأدبنا العصري أن يفخر بها. ثم اقرأ تلك القطعة: (الكائن الممسوخ) وانظر كيف كان الدكتور ماهرا مهارة يستحق عليها(199/75)
كل ثناء وتقريظ في معالجة هذا الداء الوبيل، داء الاهتمام بكل ما هو غربي في رفق وقوة معا. لقد أعجبتني تلك القطعة بنوع خاص، وأني أدعو شبابنا إلى قراءتها وأستحثهم على ذلك
الكتاب كله كما قدمت صورة من نفس صاحبه، فسواء استمعت إلى الدكتور أو قرأت له، فستجد الأمر سواء. فستظفر بعذوبة روحه في فكاهاته البارعة، وخطرات نفسه في تهكمه الرقيق العميق، كما ستلمس سموه فيما يتوخى من غرض وما يحرص على بلوغه من غاية. هذا وتحملني صراحة الدكتور أن أذكر له قطعتين لم أسغهما كما كنت أحب، هما (عاصفة في قدح) و (عقد من اليشب). ذلك أني لم أجد محلا للملكين في القطعة الأولى، ولا انسجاما في الزمن في القطعة الثانية. ولقد أذكر أيضا أني لم أفهم ما الذي أحال العسل خلا في قطعة (ثم أرادت أن تجعل منه رجلا) فجعل الزوج بغيضا في عين زوجته
وإني لأحس أن أدب الدكتور أعز علي من أن أمر على بعض هنات سقطت إلى أسلوبه دون أن أشير إليها، ذلك أنه يضع في كلامه عبارات معروفة تظهر نابيه حين يوردها في غير مواضع المزاح كقوله (أذن مؤذن الطعام) ثم كنت أعثر على بعض الأخيلة التي لم أسغها، كقوله: (الهواء مغرب في الضحك) و (سنديان الشقاء) و (مطرقة البلاء) و (شمر عن ساعد الفلسفة) وأمثالها.
على أن هذه كما ذكرت هنات ما أشرت إليها إلا لأني رأيتها غريبة وسط هذا الأسلوب المشرق البديع، في هذا الكتاب الذي أحببته وأكبرته، وأعتقد أن القراء سيحبونه مثل ما أحببت، ويكبرونه مثل ما أكبرت.
(الخفيف)(199/76)
العَالم المسرحيّ والّسِينمائِي
اليتيمة
على مسرح الأوبرا الملكية
إخراج الفرقة القومية المصرية
استأنفت الفرقة القومية موسمها الثاني ابتداء من مساء الأحد الماضي 18 أبريل الجاري، مفتتحة هذا الشطر من الموسم بمسرحية محلية هي (اليتيمة) من وضع الأديب السعيد يوسف موسى
وقد عالج المؤلف في مسرحيته ناحية من نواحي النقص الاجتماعي في البيئة المصرية، إذ جعل من بطل الرواية وبطلتها ضحيتين للتقاليد القديمة الموروثة المتسلسلة في دماء الطبقة العليا في الشعب، الذين لا يزالون يستمسكون بمعتقداتهم في أن الله جعل الناس طبقات في الغنى والجاه والحسب والنسب، وليس في العلم والفضل والقيمة الاجتماعية، ولا يعترفون بعاطفة إلا ما وافق منها تلك العادات البالية.
لهذا نرى صبري باشا يقف حائلا شديد الكثافة بين ولده ووحيده ثابت الطالب الذي يدرس الاقتصاد السياسي في فرنسا وبين ابنة ناظر زراعته المتوفى (أمينة) على الرغم من أنها نشأت في بيت الباشا نفسه وتعلمت وتثقفت كابنته، وعلى الرغم من تعلق ولده بها وولع كل منهما بصاحبه وتعاهدهما على الوفاء والزواج
لا يعبأ الباشا بهذه الاعتبارات، فينتهز فرصة عودة ابنه إلى فرنسا لإتمام دراسته، ثم يرغم حبيبة ابنه على الزواج من أحمد أفندي ناظر زراعته الذي حل محل أبيها
ولما كان هذا الزواج بإكراه وإرغام، فقد اعترى الفتاة يأس وأصابها غم، فاستحال بيت الزوجية جحيما، وانقلب نعمى ذلك البيت الوادع بؤسا وشقاء، واستمر الخصام بينها وبين زوجها واتصلت أسباب التشاحن والتغاضب حتى كره الزوج حياته وكره نفسه.
وفي صباح يوم نشبت بينهما مغاضبة اشتركت فيها (أم أحمد) وجعلت تعير الفتاة وتهجوها وتقول إن الناس يتقولون على بيتهم منذ دخلته إذ يزعمون إنها ما زوجت من ناظر الزراعة إلا لأن ابن مخدومه عبث بها ولوث شرفها وفوجئت الفتاة بهذا الاتهام فدهشت له(199/77)
وأدركها الحزن واليأس.
وجاء الباشا يعلن أن ابنه عاد من باريس وأنه قادم إلى هذا البيت ليرى (أمينة) وهو لا يعلم أنها تزوجت من أحمد أفندي
ويفزع الزوج لهذا الخبر ويجزع من رؤية هذا اللقاء، فيستعفي الباشا ويذهب إلى الدائرة ويأخذ الباشا في تهدئة الفتاة التي تشكو إليه ظلمها وتتضرع إليه أن يعفيها من هذا العذاب
وبينما هما في ذلك إذ يدخل (ثابت) فتهرع إليه الفتاة وتتعلق بعنقه ويكون بينهما لقاء تطرب له قلوب العشاق وتنفطر له مرائر الأزواج الذين يكرهون على مثل هذه الزوجية، ويطول بينهما العناق وتستمر شكواهما حتى يقول الفتى: أحبك إلى الأبد فيقول الباشا: حتى ولو كانت متزوجة؟. .
وينزل الخبر على الفتى نزول الصاعقة ويموت رجاؤه وينفصل عن الفتاة، فترجوه وتبثه آلامها وتقول إنها أرغمت وأكرهت على هذا الزواج، ولكنه يقول إنها لوثت ودنست بالزواج فهو لذلك يتركها ويدفن أماله فيها.
وحين تيأس الفتاة منه تلقي بنفسها من النافذة وتنتهي القصة
وإلى هنا نجد أن المؤلف عالج الموضوع أوفى علاج وكشف عن مستور هذه العلة وبين سوء أثرها في المجتمع موفقا في ذلك أعظم توفيق، ولذلك نعتقد أن الفرقة أنصفت حين اختارت هذه المسرحية وأخرجتها.
أما إخراج الرواية فقد تولاه مخرج الفرقة الأستاذ عزيز عيد وليست لنا ملاحظات على إخراج هذه المسرحية إلا أنه في الفصل الثاني حين استيقظت (أمينة وثابت) وهما في بيت أحمد أفندي ثم جاء الناظر وأمه طلب هذا إلى والدته أن تجيئهم بطعام الإفطار فخرجت لهذا الغرض، ولكنهم لم يذكروا شيئا عن ذلك فيما بعد ولم يحضر الطعام.
وقد أدى (أحمد علام) والسيدة زوزو حمدي الحكيم دوري البطولة في هذه الرواية وبذلا فيه جهدا جبارا كان عاملا كبيرا في نجاح الرواية إلى أبعد الحدود وفي آخر فصل من الرواية أظهرت (زوزو) منتهى ما تصل إليه عبقرية الممثلة
وكان جميع الممثلين يعرفون أدوارهم ويفهمونها تمام المعرفة والفهم، فظهروا بمظهر الإتقان البالغ الذي يستحقون عليه التهنئة الحارة الصادقة.(199/78)
الحل الأخير
إخراج أستوديو مصر
لم يكن أصحاب شركات السينما الناشئة في مصر يعنون في الروايات التي يخرجونها بالموضوع والمغزى. ولعلهم لا يرون الموضوع عنصراً مهماً في روايات السينما. وبحسبهم العناية بالمناظر والإخراج، وأن يكون الممثلون من الشخصيات المعروفة. فكانت رواياتهم خالية من المغزى أو هي ذات مغزى تافه، وكان ذلك من أهم المآخذ التي تؤخذ عليهم
نذكر هذا أمام التحدث عن رواية الحل الأخير التي عرضت بسينما رويال، وهي الرواية الثانية لاستديو مصر، وهي من الروايات المصرية القليلة التي تتضمن مغزى وتدور حول فكرة، وموضوعها من صميم الحياة. يسرد المؤلف حوادثها في تسلسل طبيعي حتى ينتهي إلى المغزى الاجتماعي الذي يرمي إليه؛ والمخرج صور هذه الحوادث على طبيعتها من غير تهويل ولا خروج عن الحقيقة. وقد فهم الممثلون ما يرمي إليه المؤلف فقاموا بأدوارهم كأنهم أبطالها الحقيقيون لا ممثلون على الشاشة البيضاء، فتم بذلك التعاون بين التأليف والإخراج والتمثيل على تصوير الغرض وإبراز الحقيقة
ولم يجر المؤلف في هذه الرواية على عادة كثير من المؤلفين في وضع الأدوار والمواقف لتناسب أشخاصا معينين، بل وضع روايته كما يقتضي انسجام الحوادث، ثم اختار لها الممثلين الموافقين فجاءت منسجمة متماسكة. وعمل المخرج على إبراز هذه الحقيقة فوجه عنايته إلى تنسيق المشاهد تنسيقا طبيعيا أكسبها روعة وجلالا، وتجنب المواقف المصطنعة أو المناظر المستفزة للمشاعر
وتعد هذه الرواية بحق مثلا يحتذى في روايات السينما المصرية وتدل على اتجاه أستوديو مصر إلى الإتقان في صناعة السينما، وقد تنبه إلى أهم عنصر من عناصر النجاح في الروايات، وهو الموضوع والمغزى، فإنه الأثر الذي تتركه الرواية في نفوس الجمهور؛ والحوادث التي لا تخرج عن مجال الحقيقة الرائعة إلى التهويل والمبالغة تشعر الجمهور بروعة الحياة الطبيعية التي يعيش فيها إحساسه وفكره(199/79)
فلعل المتصدين لصناعة السينما يلتفتون إلى هذه الحقائق ويعملون بها، متجهين إلى الفن في ذاته، نابذين غير ذلك من الوسائل التي لا تغني ولا تجدي
(ع)(199/80)
العدد 200 - بتاريخ: 03 - 05 - 1937(/)
إلى الشباب
حول الديمقراطية أيضاً
لأستاذ كبير
لست أدري والله أي يومي (الرسالة) أمجد وأعلى، أهو الأمس وقد قصدت إلى عالي الأدب تنشره. وسامي المثل تضربه؟ أم هو اليوم وقد ضمت إلى ذلك مناجاتها لشباب البلاد وتوجهها إليهم لتحاورهم فيما يمس حياتهم، ولتلتمس معهم سبيل الهداية إلى ما هو أحرى بالقصد وأجدى على الوطن؟
ولقد أصاب مقالها الأخير في الديمقراطية مكاناً من النفس هز أوتارها، فإننا في أول عهدنا بحكم أنفسنا كما تقول وقد تشعبت أمامنا السبل ونشطت الآمال من عقالها؛ ولابد لنا من أن نسترشد في هذا العصر بالعقل الرزين والمنطق المتين، كما لابد لها أن نستلهم الشرف والوطنية، وأن ننأى عن كل مضنات الخطأ أو الإسفاف. وليس أحق من الرسالة بأن تلج هذه المعاني وتعالجها معالجة صريحة قويمة؛ وليس أحق من شباب البلاد بأن يرمي في هذا الحوار بسهمه ويدلي بدلوه، فإن المستقبل للشباب، ومصير البلاد آيل إليهم بعد حين؛ وما يكون اليوم خطأ يكون عليهم في المستقبل حملاً ثقيلاً، بل ربما يكون في سبيلهم عقبة لا يطيقونها ولا يقومون على تذليلها إلا بتضحيات ومشقات. فإذا نحن قلنا إن مصلحة البلاد في توخي هذه السبيل أو تلك فإن الشباب أول من يعنيه هذا القول، وينبغي لهم أن يكونوا أول المصريين اهتماماً للبحث وسعياً وراء المصلحة، لأنهم الذين سيجنون ثمار الخير إن كان خير، أو يحملون أوزار الخطأ إن كان لا قدر الله خطأ.
ولقد ثارت في الأيام الأخيرة كلمة في صحيفة من الصحف، ثم تبعتها كلمة أخرى في صحيفة أخرى، تناول فيها كاتباها موضوع الديمقراطية؛ وهاهي الرسالة تردد المعنى نفسه وتبحث فيه على أسلوبها ونبالة مراميها. وهذا الترديد في نفسه عظيم الدلالة، لأنه يدل على إن في النفوس معنى تحاول أن تستجليه، وذلك المعنى طبيعي لمن كان في عصرنا هذا يعيش بين تيارات مختلفة في مشارق الأرض ومغاربها؛ فبعض البلاد قد أتجه وجهة يسمونها الفاشية أو الدكتاتورية، ويحاول أنصارها أن يدعو لها ويمهدوا لحكمها بكل ما استطاعوا من وسائل الدعاية، ويدعمون حجتهم بأمرين: الأمر الأول إن تلك البلاد تهددها(200/1)
أخطار جمة من جميع النواحي، فلا قبل لها بمقابلة تلك الأخطار إلا بجمع الشمل وضم الصفوف واتحاد الأفراد تحت إرادة واحدة لا يشذ عنها أحد. والأمر الثاني إن الطغاة القائمين على تلك الدول قد أصلحوا مرافق البلاد وزادوا في مجدها وقوتها ورفعوا شأنها بين بلاد العالم
ولسنا في صدد مناقشة هذه الحجج، ولا نريد أن نبين ما فيها من وجوه المغالطة والمداورة. وحسبنا أن نكرر هنا تلك الكلمة البديعة التي جاءت في افتتاحية العدد الأخير من الرسالة: (أنا أفهم إن المرء يقهر فيخضع، ويؤسر فيسترق، لأن الأمر في ذلك لا يخرج عن قانون الطبيعة من تغلب الأقوى وسيادة الأصلح، ولكني لا أستطيع أن أفهم كيف يستأسر شعب بأسره لواحد منه فيلقي بزمامه إليه، ويعول في جميع أموره عليه، والشعب مهما صغر لا يقل عن شعب، والفرد مهما كبر لا يزيد على فرد)؟
ولعل مصر أبعد بلاد العالم عن فكرة الطغيان ولعل شعب مصر أشد شعوب العالم كرهاً لحكومات الطغاة. ولقد جربت تلك المحاولة مرات في مصر الحديثة، وجربتها من قبل دول فلم تدم تجربتها طويلاً على أساس ثابت. وجربها ساسة فأسفرت تجربتهم عن فشل، وعادوا من التجربة بصفحة شوهاء؛ ولم يفوزوا بما أرادوا من ثبات الحكم بل ضاعت مجهوداتهم في مناضلة روح الشعب الثائرة، ولم يستطيعوا التفرغ لإصلاح ولا لتجديد. وحسب البلاد أنها عرفت إن مآل الطغيان إلى الانهيار، فلا نحسب أحداً يحدث نفسه بتجربة أخرى في ذلك السبيل، ولا نظن أحداً يجرؤ على الدعوة إليها صراحة، لأن الشعب كله يشعر بأن ذلك جرم اجتماعي لا ينبغي له أن يتسامح فيه. فلذلك لا نرى ثمة حاجة تدعو إلى التعرض لفكرة الدكتاتورية بالنقد أو الهدم إذ قد كفانا الماضي شرها فهدمها في عقائد الشعب وأظهرها له في ابشع صورها وأشنع آثارها
ولكنا مع ذلك نحمد للرسالة الغراء أنها هتفت بذلك الاسم الحبيب إلى النفس وهو (الديمقراطية) لأن الشباب جدير بأن يجعلها قبلته وشعاره. فإن الشعب الذي يحترم نفسه لا يتسامح في أمر حكم نفسه، بل يصر على أن يكون مرجع كل أموره إلى إرادته، ويصر على أن يكون رأي الفرد وإرادة الفرد ومجهود الفرد وحرية الفرد أساساً ثابتاً للمجتمع لا يحد من ذلك كله إلا حد الدستور وحد القانون(200/2)
ولكن الحكم الديمقراطي لا يكون حقيقياً إلا إذا كان متغلغلاً في كل نواحي الحياة غير مقصور على حكومة الدولة. فجدير بنا في هذا العهد أن نتجه إلى شبابنا نناشده أن يقيم كل حياته في مجتمعاته ومشروعاته على ذلك الأساس الحر الديمقراطي فيكون في مدارسه وفي جمعياته وفي نواديه صادراً عن عقيدة ثابتة في أن الفرد الكامل الحر هو الوحدة الصالحة للمجتمع الصالح الحر. وإن المجتمع الذي يقنع بأن يسير وراء إرادة فرد سيراً أعمى لا عن عقيدة بل عن خمول واستخذاء لن يكون مجتمعاً جديراً بالحياة.
(مصري)
-(200/3)
ندرة البطولة
للأستاذ أحمد أمين
قالوا - إنا نتلفت يمنة ويسرة فلا نجد في عصرنا بطولة من جنس بطولة العصور الماضية، ولا نجد نبوغا رائعاً قوياً كنبوغ من نبغ في الأجيال السابقة. فتش - إذا شئت - في كل لون من ألوان البطولة، وفي كل ناحية من نواحي النبوغ تجد هذه الحقيقة واضحة
فهل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟
وهل تجد في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هارون وعمر بن مسعدة؟
وهل تجد في قيادة الحروب أمثال خالد بن الوليد وأبي عبيدة؟
وهل تجد في سياسة الأمم أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز؟
وهل تجد في الغناء أمثال اسحق الموصلي وإبراهيم بن المهدي؟
وهل تجد مؤلفاً في الأغاني كأبي الفرج الأصفهاني؟
وما لنا نذهب بعيداً ويوم فقدنا السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده لم نجد عوضاً عنهما في العلم بالدين والأخلاق والسياسة؟
ويوم فقدنا البارودي وحافظاً وشوقي لم نجد لهم خلفاً في شعرائنا
ويوم فقدنا عبده الحمولي ومحمد عثمان نتبلغ من الغناء بالقليل
ويوم فقدنا الشيخ علي يوسف لم نر من يسد مسده في الصحافة
ومن الغريب أنهم يشكون في أوروبا شكايتنا، ويلاحظون عندهم ملاحظتنا، فيقولون أن ليس عندهم في حاضرهم أمثال فجنر وبيتهوفن، ولا أمثال شكسبير وجوته، ولا أمثال رفائيل ولا أمثال دارون وسبنسر، ولا أمثال نابليون وبسمارك
فهل هذه ظاهرة صحيحة؟ وان كانت فما سببها؟
قد كانت كل الظواهر تدل على إن الجيل الحاضر أحسن استعداداً وأكثر ملائمة لكثرة النبوغ وازدياد البطولة، فقد كثر العلم وسهل التعلم، ومهدت كل الوسائل للتربية والتثقيف، وكثر عدد المتعلمين في كل أمة، وفتح المجال أمام النساء كما فتح أمام الرجال، فأصبحت وسائل النبوغ ممهدة للجنسين على السواء، وتقطر العلم إلى العامة فأصبحوا يشاطرون العلماء بعض معلوماتهم، وانتشرت الصحف والمجلات تغذي جمهور الناس بالعلم والأدب،(200/4)
وأتصل العالم بعضه ببعض اتصالاً وثيقاً في المواصلات والعلم والسياسة والاقتصاد وما إلى ذلك
كل هذا يجب أن يكون إرهاصاً لكثرة النبوغ والتفنن في البطولة، لا لقلة النبوغ وندرة البطولة؛ فلم أصيبت الأمم كلها بهذا العقم وكان مقتضى الظاهر أن كثرة المواليد تزيد في كثرة النابغين، وكان مقتضى الظاهر أيضاً أن عصر النور يلد من الأشخاص الممتازين أكثر مما يلد عصر الظلام
يظهر مع الأسف - إن الظاهرة صحيحة وإن الجيل الحاضر في الأمم المختلفة لا يلد كثيرا من النوابغ، ولا ينتج كثيراً من الأبطال، وأن طابع هذه العصور هو (طابع المألوف والمعتاد) لا (طابع النابغة والبطل)
بقي علينا معرفة السبب في ذلك
من الأسباب القوية على ما يظهر أن الناس علا مثلهم الأعلى في النابغة والبطل، فلا يسمون بطلاً أو نابغة إلا من حاز صفات كثيرة ممتازة قل أن تتحقق؛ وهذا طبيعي، فكلما رقى الناس ارتقى مثلهم الأعلى
قد كنا إلى عهد قريب نعد من يقرأ ويكتب، وبعبارة أخرى (من يفك الخط) رجلاً ممتازاً لأنه نادر وقليل، فكان ينظر إليه نظرة تجلةً واحترام؛ فلما كثر التعليم بعض الشيء كان من أخذ الشهادة الابتدائية شاباً ممتازاً؛ فلما كثرت انتقل الامتياز إلى البكالوريا، ثم إلى الشهادة العليا، ثم إلى شهادات جامعات أوروبا، ثم أصبحت هذه أيضاً ليست محل امتياز، وارتفعت درجة النبوغ إلى شيء وراء هذا كله
والناس - على جملة - استنارت أذهانهم إلى حد بعيد، واكتشفوا سر العظمة، فأصبحت العظمة المعتادة لا تروعهم، إنما يروعهم الخارق للعادة، وأين هو تحت هذه الأنوار الكشافة؟
ثم شعر الناس بعظمتهم هم أيضاً وبشخصيتهم؛ والبطولة تأتي - في الغالب - عندما يسلس الناس زمام نفوسهم للبطل، فهم بطاعتهم له واستسلامهم لأمره وإشارته يزيدون في عظمته، ويغذون بطولته - فإن كانوا هم أيضاً يشعرون بعظمة أنفسهم قلت طاعتهم وقل تبجيلهم وخضوعهم لكائن من كان، وبذلك لا يفسحون للبطل بطولته فلا يكون. فلو وجد اليوم(200/5)
شخص في أخلاق نابليون وصفاته ومميزاته ما حققوه في عصرنا، ولا كان إلا رجلاً عادياً أو ممتازاً بعض الامتياز؛ فأما أن تطيعه الخلائق هذه الطاعة العمياء وتبيع نفوسها رخيصة في سبيل مجده، وتسفك دماءها أنهاراً لتحقيق عظمته، فذلك ما لا يكون اليوم كما كان بالأمس
قد تضرب لي اليوم مثلاً بموسوليني ومصطفى كمال وهتلر، ولكن الفرق عظيم جداً، فهؤلاء يؤثرون في شعوبهم من ناحية أنهم خدام للشعوب لا سادة لهم، وأن الشعب إذا عظمهم فلأنهم يخدمونه، ويوم يثبت له أنهم لا يعملون لخيره ينفضون يدهم عنه. فأين هذا من الطاعة العمياء التي كانت لنابليون؟ ولهذا نرى كلاً من هؤلاء يتملق شعبه ويحاول أن يقيم البرهان كل يوم على إنه عامل لخيره ساع في سعادته لشعوره التام بأنه إنما يحكم الشعب بإرادة الشعب لا بإرادته هو، فإذا هو لم يتمتع بهذه الثقة سقط من عرشه، وهذا - من غير شك - يقلل شان البطولة
ولهذه الأسباب التي ذكرت أنها كانت تؤذن بكثرة النوابغ هي بعينها التي قللت النوابغ؛ وتعليل ذلك معقول، فكثرة العلم واستنارة الشعب جعلت النبوغ عسيراً لا سهلاً يسيراً
ومصداق ذلك أن الأمم فيما مضى كانت تمنح المشعوذين والمخرفين ألقاب البطولة، وتنظر إليهم نظر تفوق ونبوغ؛ من أمثال من كانوا يسمونهم (الأولياء) فيكفي أن يتظاهروا بالجذب ويتصنعوا الصلاح ويدعوا معرفة الغيب ليهرع إليهم الناس ويقبلوا أيديهم ويلتمسوا منهم البركة ويرفعوهم فوق النوابغ والأبطال؛ وأحياناً يلقبوهم (بالأقطاب) فلما فتح الناس عيونهم، وعقلوا بعد غفلتهم، واكتشفوا حيلهم ومكرهم لم تعد لهم هذه المكانة، وحل بعض محلهم المصلحون الاجتماعيون الذين يخدمون أمتهم بعملهم. ومعنى ذلك أن الشعوذة والمخرفة حل محلها مقياس المنفعة وسار الناس في طريق التقدير الصحيح وهو الاحترام والتبجيل على قدر ما يصدر من الشخص من خير عام حقيقي
ومن أجل هذا أيضاً رأينا التيار في هذه الأيام يتجه إلى تقليل شأن البطولة في الأعصر الماضية، فلم يعد البطل القديم في الأدب والسياسة والفن والعلم يقدر التقدير الكبير الذي كان يقدر به من قبل، لأن الناس أخذوا يحللون كل بطل، ويبينون سر بطولته، (ومتى ظهر السبب بطل العجب) ولم يقنعهم ما كان يحيط به من غموض فألقوا أضواء كثيرة(200/6)
على من كانوا يسمون الأبطال، فأحياناً يؤديهم البحث إلى إنكار بطولة بعض الأشخاص بتاتا، وأحيانا يقللون من قيمة البطل، بل وأحياناً يرون بطلاً من أنكر الناس قديماً بطولته
ذلك لأن مقاييس البطولة تغيرت وأصبحت عند المحدثين خيراً منها عند الأقدمين، ولأن المحدثين رأوا أن القدم نسج لكثير من الناس أثواباً من البطولة لم تكن موجودة أيام حياتهم، وكلما تقدم الزمن منحهم الناس شارة بطولة جديدة - فلما عرض هذا كله للنقد وأزاح أهل العلم الحديث ستائر القدم تبين البطل في صورته الحقيقية أو قريباً من صورته الحقيقية، فأحياناً يرتفع الستار عن لا بطل، وأحياناً يرتفع عن بطل، ولكن دون ما كان يقدره القدماء؛ ونادراً ما يبقى البطل بطلاً كبيراً حتى بعدما ترتفع حجب القدم
ولهذا نجد كثيراً من المعاصرين هم في الحقيقة نوابغ، وهم يفوقون بمراحل بعض نوابغ الأقدمين، ولو كانوا في العصور الماضية لارتفعت منزلتهم فوق ما ارتفعت اليوم، ولكن لم نمنحهم نحن لقب البطولة للأسباب التي أشرنا إليها قبل من أننا رفعنا إلى حد بعيد المثل الأعلى للنبوغ، ولأننا نحلل النابغ ونكتشف سره، وذلك يقلل من تقديره، ولأنه معاصر والمعاصرة أعدى أعداء الاعتراف بالنبوغ
وقد يتصل بهذا إن كثرة النبوغ تصنيع الاعتراف بالنبوغ، فكل أمة راقية الآن لديها عدد كبير من المتفوقين في كل فرع من فروع العلم والفن - في القانون - في الأدب - في الطبيعة - في الكيمياء - في الرسم - في التصوير. فلما كثر هؤلاء في كل أمة أصبح من العسير أن تميز أكبر متفوق منهم لتمنحه صفة النبوغ؛ ومن العسير أيضاً أن تسميهم كلهم نوابغ، لأن النبوغ بحكم اسمه ومعناه يتطلب الندرة، فلما كثر النابغون أضاعوا اسم النبوغ. وعلى العكس من ذلك الأمم المنحطة. لما لم يوجد فيها إلا قانوني واحد أو أديب واحد أو موسيقي واحد كان من السهل أن يمنح لقب النبوغ.
ثم إن الديمقراطية التي سادت الناس في العصور الأخيرة ونادت بالمساواة وألحت في الطلب أوجدت في الشعوب حالة نفسية كان لها أثرها في موضوعنا إذ أصبح الناس لا يؤمنون بتفوق كبير، لا في المال فهم يريدون الاشتراكية، ولا في السياسة فقد يتبوأ الحكم حزب العمال فيدير الأمور كما يديرها الأرستقراطيون في السياسة بل أحسن منهم
فدعتهم هذه الحالة النفيسة إلى أن يكفروا بالتفوق أو بعبارة أخرى يكفرون بالنبوغ؛ وبعيد(200/7)
أن يعترف بنبوغ في جو يكفر به - لقد كان الناس قبل أكثر إيماناً بالفروق في المال والكفاية والعلم فكان هذا الإيمان وسيلة صالحة لظهور النبوغ، فلما جحدوا كل شيء كان النبوغ مما جحدوا
وأخيراً كان من أثر هذه الديمقراطية تعميم التعليم، والبحث في خير الوسائل لنشر العلم، فقامت النظريات المختلفة في التربية والتعليم وأصبح العلم شعبياً بعد أن كان أرستقراطياً
واستخدمت الوسائل المختلفة لتبسيط العلم وتحببه إلى النفوس، وغيرت نظم المدارس، فأنشئت رياض الأطفال مكان الكتاتيب، والمدارس الناعمة بدل المدارس الخشنة، واخترعت البيداجوجيا وسائل لتسهيل الدرس وإيصاله إلى الذهن من أقرب طريق
كان من نتيجة ذلك كثرة المتعلمين وقلة النابغين، واتساع البحر وقلة عمقه، وذلك لأن من كان يتفوق في الماضي كان يصادف عقبات لا حد لعددها ولا حد لصعوبتها، فكان من الطبيعي ألا يجتازها إلا الأقلّون، ولكن من يجتازها تكون لديه الحصانة الطبيعية ويكون قد تعود اجتياز العقبات واحتمل مشقة السير، فكان ذلك سبب النبوغ من ناحيتين، من ناحية قلة من يجتاز العقبات ومن ناحية من يجتازها
أما وقد أصبح التعليم معبداً ميسراً فقد زاد عدد المتعلمين وقل النابغون وأصبح الفرق بين العهدين كبذرة تربى في حديقة بستان وبذرة تنبت في الجبال حيث الرياح العاصفة والشمس المحرقة والمطر الذي لا نظام له. فأين نبت البستان من نبت الجبال، وأين الحيوان المستأنس من الحيوان المستوحش؟
وبعد، فما أحق هذا الموضوع بالدرس، وتناول الكتاب له من وجوهه المختلفة.
أحمد أمين(200/8)
قرائي الذين يحبونني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لكل كاتب قراؤه. وما من كاتباً يعدم قارئاً من كل طبقة، ولكن المعول على الأوفياء الثابتين على الولاء، فإن هؤلاء طريق الرزق، ووسيلة الاطمئنان والدعة، ولولاهم لما عرف المرء متى يمكن أن يتاح له أن يأكل، وإن كان لا يجهل كيف يجوع. ولست اعرف ماذا يصنع غيري ليهتدي إلى طبقات قرائه، ولكني اعرف إن مصلحة البريد أغنتني عن عناء السعي ومشقة التفكير في الوسائل المعينة على الاهتداء، فإن رسائل كثيرة تأتيني منها فأستخلص منها العلم الذي اطلبه والمعرفة التي اشتهيها. وما اكثر ما قلت لنفسي أن الجاحظ وأبن المقفع وعبد الحميد الكاتب ومن إليهم من هؤلاء الزملاء والرصفاء، كانوا مساكين. أوه جداً - فما عرفت الدنيا في أيامهم مصلحة البريد. وقد كان من الصعب ولاشك أن يعرفوا مبلغ حب الجمهور لهم وإعجابه بهم وماذا كان يمكن أن يبلغ من رواج كتبهم لو أنها كانت تطبع وتباع في المكاتب، وقد حرمهم هذا الحال الاستقلال عن الأمراء ومن إليهم. ومن الصعب أن يعمل المرء في الظلام. نعم كان الواحد منهم لا يعدم تشجيعاً من الشعب، ولكن هذا كان فلتة لا تحسب ولا يعول عليها. ومن السهل أن يتصور المرء إن الجاحظ مثلاً كان يلقى في الطريق واحداً يتقدم إليه ويقول له: (اسمح لي. . هل أنت الذي يسمى الجاحظ؟.)
فيهز رأسه أن (نعم) وهو راجف القلب لأنه يخشى الاعتراف الصريح المقيد، لئلا يكون هذا السائل من الشرطة
فيقول الرجل: (لقد صدقوا. . اعني أن أسمه في محله. . على كل حال. . ثابر يا بني!. . فأني أتنبأ لك بمستقبل باهر. .)
ويربت له على كنفه ويمضي عنه مبتسماً، وعينه إلى الملك الذي ينبغي أن يكون محتفظاً بمكانة على يمينه، مرهف الأذن مقيماً سن القلم على الدفتر المفتوح ليقيد له هذه الحسنة - حسنة التبرع الكريم بالتشجيع
وإذا كانت الرسائل التي ترد إلي دليلاً على شيء، فأني أكون أحب الناس - أعني الكتاب - إلى ثلاث طبقات: - المرضى، واللصوص، وقد نسيت الطبقة الثالثة. . لا بأس من يدري؟. . ربما تذكرتها أثناء الكلام. وقد عرفت هذا من الرسائل التي يحملها إلي البريد،(200/9)
كما قلت. وهذا نموذج منها: (. . . . وبعد فإني لم اسمع باسمك من قبل، ولكني مرضت ودخلت المستشفى، وجاءني زائر فترك لي كتاباً أتسلى به، غير إني لم استطع أن أتصفحه في أول الأمر لشدة وطأة المرض، فلما خف قليلاً مددت يدي إليه وبدأت أطالع. وأؤكد إنه سرني جداً. وأنا صحيح الجسم في العادة، ولكن الأمراض لا أمان لها، كما تعرف، فأرجو أن تبعث إلي بمجموعة من كتبك كلها - ومعها جملة ثمنها - استعداداً للطوارئ فإن الحيطة واجبة وإن كان الأمر كله بيد الله
وتقبل سلام المعجب بك المعتمد بعد الله عليك)
وفي وسع القارئ أن يدرك مبلغ حيرتي، فإنه لا يسعني إلا أن أتمنى لمثل هذا الرجل الصحة والسلامة، ولكن المصيبة والبلاء العظيم إنه إذا صح وسلم كان خليقاً أن لا يعود إلى كتبي ليقرأها، فما العمل؟. . هذه هي المسألة - كما يقول هملت - وليس ذنبي إن الأمراض تحبب الناس في كتبي، فإذا كنت أسر حين أقرأ في الصحف إن الملاريا انتشرت فإن لي العذر، فما كان هذا ظني، ولا خطر لي قط على بال، ولكن مشيئة الله جعلتني مثل (الحانوتي) الذي يسره ويفرحه ما يحزن الخلق ويبكي المفجوعين. ولهذا ترونني إذا سمعت بفشو مرض أدخل مسروراً على أهل بيتي وأقول لزوجتي: (خذي يا امرأة. . (وألقي إليها بكل ما يكون معي، قل أو كثر) خذي وانفقي بلا حساب، فإن ما عند الله أكثر)
فتعجب وتسألني: (ماذا جرى؟. . . هل ربحت ورقة يانصيب؟.)
فأقول منكراً عليها هذا الخاطر: (وهل مثلي يعنى بورق اليانصيب؟ سبحان الله يا امرأة في طبعك!)
فتقول ضاحكة: (ولكن ألا تخبرني؟. . إنني أكاد أموت شوقاً إلى المعرفة)
فأقول وأنا أرمي إليها بالصحيفة التي قرأت فيها خبر المرض المتفشي، وعجز وزارة الصحة عن مكافحته: (خذي واقرأي، وأشكري الله، وقبلي يدك بطناً وظهراً، فلن نجوع أو نفتقر، مادام في الدنيا شيء اسمه مرض وشيء آخر اسمه وزارة الصحة. لقد جعلوها وزارة. . . رفعوها ورقوها ووسعوها. . أليس هذا باعثاً قوياً على الاطمئنان والثقة بالله؟)
وقد بالغت حين قلت إني محبوب من اللصوص وما أردت إلا أن لصاً واحداً - على ما(200/10)
يظهر لي الآن - هو الذي يحبني، فلقد تلقيت مرة كتاباً يذكر لي فيه إنه سمع باسمي وشهرتي، فعرف إني كاتب عظيم جداً، فهو يكتب إلي مستنجداً فقد اتهموه بسرقة كلب. والقضية معروضة على القضاء، وكان محبوساً رهن التحقيق، ثم أفرجوا عنه بالكفالة الشخصية، وهو يحتاج إلى محام يدافع عنه ولكنه لا مال معه فهل أستطيع أن أدله على محام كريم، أو أعينه بطريقة أخرى. .؟ وهو يترك الأمر بين يدي واثقاً من مروءتي وكرمي فإن مثلي لا يخيب من يقصده
هذا هو الزبون الجديد، وقد قلت لنفسي لما تلقيت هذا الكتاب العجيب: (والله نجحت يا مازني!. . بلغت شهرتك أخفى الزوايا وتغلغلت إلى لصوص الكلاب. . ما شاء الله!. أحسب أن اللص حين يخرج إلى السرقة بعد اليوم، ستقول له زوجته أو أمه أو لا أدري من غيرهما:
(هل أنت متأكد إن معك كل ما تحتاج إليه؟)
فيقول: (أيوه. . أيوه)
فتقول: (أحذر أن تكون نسيت الطفاشة!. . العدة كلها معك؟. .)
فيقول: (قلت لك أيوه. . ألا تسمعين؟)
فتقول: (والمازني؟. . هل أخذته معك؟. .)
فيقول: (أوه. . طول الليل وأنا أقرأ كتابه. . وهل أستطيع أن أعمل شيئاً دون أن اقرأه؟. . أتظنينني مغفلاً؟ أم تحسبين أني حديث عهد بالفن؟)
فتقول: (لا. . إنما أردت أن أطمئن. . وأسمع. . أمش بحساب. . والبس القفاز قبل أن تلمس أي باب أو مفتاح أو حائط. . حاذر!)
فيقول: (اطمئني. . كل شيء على ما يرام. . ومعي المازني فلا تخافي ولا تقلقي)
ويلمس صدره حيث وضع الكتاب تحت ثوبه
ولكل قاعدة شذوذ واستثناء. وقد حدث منذ بضعة أيام ما كاد يغريني بتغيير رأيي في طبقات القراء الذين يحبونني ويؤثرونني على من عداي من كتاب هذا الزمان. ذلك أني كنت مدعواً إلى مأدبة عشاء فأتفق أن أجلسوني إلى جانب سيدة عجوز شمطاء، ودار الكلام على الأكل وكان بعض الذين يخاطبونني يدعوني: (الأستاذ) والبعض يؤثر أن(200/11)
يرفعني درجة فيقول لي: (يا بك) ولكنه لم يعنى باسمي أحد كأنه عيب لا يليق أن يذكر ولاسيما على مسمع من السيدات
ثم التفت إلى العجوز وقالت: (إني سعيدة)
فقلت باختصار: (أهنئك)
فألحت في صرفي عن جارتي الأخرى، وكانت فتاة هيفاء نظيرة الحسن وصوتها كالتغريد
(صحيح. . سعيدة جداً. . كل كتبك قرأناها)
فتركت الفتاة وأدرت وجهي إلى هذه العجوز وسألت باهتمام: (صحيح؟)
فقالت باضطراب رابني: (كلها كلنا)
فقال مردداً قولها: (كلكم؟. . كلها. .؟ شيء جميل؟)
فقالت: (ابني على الخصوص. . إعجابه بك لا حد له)
فأردت أن استوثق وسألتها: (هل هو مريض؟)
قالت: (أعوذ بالله. . إن صحته جيدة جداً)
فقلت لنفسي إن هذا جديد، فيحسن أن أتقصى الأمر وسألتها: (ألم يصبه مرض قط؟)
قالت: (أبداً. . أبدا. . قوي جداً. . كسيد نصير)
قلت: (عجيب هذا. .)
فقالت: (كتبك كلها عندنا تراها في كل غرفة. .)
فسألتها: (أهي حسنة التجليد؟)
قالت: (لا. . كما اشتريناها. . كل بناتي وأحفادي يقرءونها ويحملونها معهم حيثما يكونون)
قلت: (شيء جميل)
فقالت: (أوه. . لشد ما يفرحون الليلة حين أقول لهم إني كنت جالسة إلى جانب تيمور بك)
إبراهيم عبد القادر المازني(200/12)
أمراء للبيع. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال الشيخ تاج الدين محمد بن علي الملقب طوير الليل أحد أئمة الفقهاء بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة:
كان شيخنا الإمام العظيم شيخ الإسلام تقي الدين بن مجد الدين بن دقيق العيد لا يخاطب السلطان إلا بقوله: (يا إنسان)، فما يخشاه ولا يتعبد له ولا ينحله ألقاب الجبروت والعظمة ولا يزينه بالنفاق ولا يداجيه كما يصنع غيره من العلماء. وكان هذا عجيباً؛ غير إن تمام العجب إن الشيخ لم يكن يخاطب أحداً قط من عامة الناس إلا بهذا اللفظ عينه (يا إنسان)، فما يعلو بالسلطان والأمراء ولا ينزل بالضعفاء والمساكين، ولا يرى أحسن ما في هؤلاء وهؤلاء إلا الحقيقة الإنسانية.
ثم كان لا يعظم في الخطاب إلا أئمة الفقهاء، فإذا خاطب منهم أحداً قال له (يا فقيه). على إنه لم يكن يسمح بهذا إلا لمثل شيخ الإسلام نجم الدين بن الرقعة. ثم يخص علاء الدين بن الباجي وحده بقوله (يا إمام)؛ إذ كان آية من آيات الله في صناعة الحجة لا يكاد يقطعه أحد في المناظرة والمباحثة؛ فهو كالبرهان إجلاله إجلال الحق لأن فيه المعنى وتثبيت المعنى.
وقلت له يوماً: يا سيدي أراك تخاطب السلطان بخطاب العامة، فإن علوت قلت (يا إنسان) وإن نزلت قلت يا إنسان؛ أفلا يسخطه هذا منك وقد تذوق حلاوة ألفاظ الطاعة والخضوع، وخصه النفاق بكلمات هي ظل الكلمات التي يوصف الله بها، ثم جعله الملك إنساناً بذاته في وجود ذاته حتى أصبح من غيره كالجبل والحصاة، يستويان في العنصر ويتباينان في القدر، وأقله مهما قل هو أكثرها مهما عظمت، ووجوده شيء ووجودها شيء آخر؟
فتبسم الشيخ وقال: يا ولدي إيش هذا؟ إننا نفوس لا ألفاظ، والكلمة من قائلها هي بمعناها في نفسه لا بمعناها في نفسها؛ فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده الشرع عليه؛ ولو نافق الدين لبطل أن يكون ديناً؛ ولو نافق العالم الديني لكان كل منافق أشرف منه؛ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود. والمنافق رجل مغطى في حياته ولكن عالم الدين رجل مكشوف في حياته لا مغطى؛ فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة؛ وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل فإذا نافق فقد كذب؛ والعالم(200/13)
يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين فإذا نافق فقد كذب وغش وخان.
وما معنى العلماء بالشرع إلا إنهم امتداد لعمل النبوة في الناس دهراً بعد دهر، ينطقون بكلمتها ويقومون بحجتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآة النور، تحويه في نفسها وتلقيه على غيرها فهي أداة لإظهاره وإظهار جماله معاً.
أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخذ من نور واحد لا يختلف؟ إن أولئك في أخلاقهم كاللوح من البلور يظهر النور نفسه فيه ويظهر حقيقته البلورية، وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب يظهر النور حقيقته الخشبية لا غير
وعالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها، فيسهل عليه أن يتأول ويحتال ويغير ويبدل ويظهر ويخفي، ولكن العالم الحق يفكر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة فهو معه في كل حالة يسأله: - ماذا تفعل وماذا تقول؟
والرجل الديني لا تتحول أخلاقه ولا تتفاوت ولا يجيء كل يوم من حوادث اليوم، فهو بأخلاقه كلها لا يكون مرة ببعضها ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه: هم يعطونني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟
إن الدينار يا ولدي إذا كان صحيحاً في أحد وجهيه دون الآخر أو في بعضه دون بعضه فهو زائف كله. وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع أمثال هؤلاء يتعاملون مع قوة الهضم فيهم. . . فينزلونهم بذلك منزلة البهائم تقدم أعمالها لتأخذ لبطونها. والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله. . .
فإذا رأيت لعلماء السوء وقاراً فهو البلادة، أو رقة فسمها الضعف، أو محاسنة فقل إنها النفاق، أو سكوتاً عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها
قال الإمام وما رأيت مثل شيخي سلطان العلماء عز الدين ابن عبد السلام. فلقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئاً تصنعه طبيعته كما يصنع جسمه الحياة، فلا يبالي هلك فيه أو عاش إذ هو في الدم كالقلب لا تناله يد صاحبه ولا يد غيره. ولم يتعلق بمال ولا جاه ولا ترف ولا نعيم، فكان تجرده من أوهام القوة قوة لا تغلب. وانتزع خوف الدنيا من قلبه فغمرته الروح السماوية التي تخيف كل شيء ولا تخاف؛ وكان بهذه الروح كأنه تحويل(200/14)
وتبديل في طباع الناس حتى قال الملك الظاهر بيبرس وقد رأى كثرة الخلق في جنازته حين مرت تحت القلعة: الآن استقر أمري في الملك، فلو إن هذا الشيخ دعا الناس إلى الخروج علي لأنتزع مني المملكة
وكان سلطانه في دمشق الصالح إسماعيل، فاستنجد بالإفرنج على الملك نجم الدين أيوب سلطان مصر؛ فغضب الشيخ وأسقط اسم الصالح من الخطبة وخرج مهاجراً، فأتبعه الصالح بعض خواصه يتلطف بها ويقول له: ما بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وأكثر مما كنت عليه إلا إن تتخشع للسلطان وتقبل يده. فقال له الشيخ: يا مسكين أنا لا أرضى أن يقبل السلطان يدي. أنتم في واد وأنا واد:
ثم قدم إلى مصر في سنة 639 فأقبل عليه السلطان نجم الدين أيوب وتخفى به وولاه فطابت مصر وقضاءها. وكان أيوب ملكاً شديد البأس لا يجسر أحد أن يخاطبه إلا مجيباً، ولا يتكلم في أحد بحضرته ابتداء؛ وقد جمع من المماليك الترك ما لم يجتمع مثله لغيره من أهل بيته حتى كان أكثر أمراء عسكره منهم وهم معروفون بالخشونة والبأس والفظاظة والاستهانة بكل أمر. فلما كان يوم العيد صعد إليه الشيخ وهو يعرض الجند ويظهر ملكه وسطوته والأمراء يقبلون الأرض بين يديه؛ فناداه الشيخ بأعلى صوته ليسمع هذا الملأ العظيم: يا أيوب! ثم أمره بإبطال منكر انتهى إلى علمه في حانة تباع فيها الخمر. فرسم السلطان لوقته بإبطال الحانة وأعتذر إليه
فحدثني الباجي قال: سألت الشيخ بعد رجوعه من القلعة وقد شاع الخبر فقلت يا سيدي كيف كانت الحال؟
قال يا بني رايته في تلك العظمة فخشيت على نفسه أن يدخلها الغرور فتبطره، فكان ما باديته به
قلت: أما خفته؟
قال: يا بني استحضرت هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامي كالقط. ولو إن حاجة من الدنيا كانت في نفسي لرأيته الدنيا كلها؛ بيد إني نظرت بالآخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظور للناس، فلا عظمة ولا سلطان ولا بقاء ولا دنيا، بل هو لاشيء في صورة شيء
نحن يا ولدي مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحح معنى آخر، فإذا أمرناهم فالذي يأمرهم فينا(200/15)
هو الشرع لا الإنسان. وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفها؛ فما بد أن يقابلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحق في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها. فإذا كان ذلك فههنا المعنى بازاء المعنى، فلا خوف ولا مبالاة ولا شأن للحياة والموت
وإنما الشر كل الشر أن يتقدم إليهم العالم لحظوظ نفسه ومنافعها فيكون باطلاً مزوراً في صورة الحق وههنا تكون الذات مع الذات فيخشع الضعف أمام القوة، ويذل الفقر بين يدي الغنى، وترجو الحياة لنفسها وتخشى على نفسها فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة حاولت أن تقارع السيف
كلا يا ولدي! إن السلطان والحكام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها. فإذا تفككت واحتاجت إلى مسامير دقت فيها المسامير. وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخزه؟
إن العالم الحق كالمسمار؛ إذا أوجد المسمار لذاته دون عمله كفرت به كل خشبة. . .
قال الإمام تقي الدين: وطغى الأمراء من المماليك وثقلت وطأتهم على الناس؛ وحيثما وجدت القوة المسلطة المستبدة جعلت طغيانها واستبدادها أدباً وشريعة؛ إلا أن تقوم بازائها قوة معنوية أقوى منها. ففكر شيخنا في هؤلاء الأمراء وقال إن خداع القوة الكاذبة لشعور الناس باب من الفساد؛ إذ يحسبون كل حسن منها هو الحسن وأن كان قبيحاً في ذاته ولا أقبح منه؛ ويرون كل قبيح عندها هو القبيح وإن كان حسناً ولا أحسن منه
وقال: ما معنى الإمارة والأمراء؟ وإنما قوة الكل الكبير هي عماد الفرد الكبير، فلكل جزء من هذا الكل حقه وعمله. وكان ينبغي أن تكون هذه الإمارة أعمالاً نافعة قد كبرت وعظمت فاستحقت هذا اللقب بطبيعة فيها كطبيعة أن العشرة أكثر من الواحد، لا أهواء وشهوات ورذائل ومفاسد تتخذ لقبها في الضعفاء بطبيعة كطبيعة أن الوحش مفترس
وفكر إن الشيخ فهداه تفكيره إلى أن هؤلاء الأمراء مماليك، فحكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين ويجب شرعاً بيعهم كما يباع الرقيق
وبلغهم ذلك فجزعوا له وعظم فيه الخطب عليهم؛ ثم احتدم الأمر وأيقنوا أنهم بازاء الشرع لا بازاء القاضي أبن عبد السلام(200/16)
وأفتى الشيخ أنه لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة، وأنه لا يصحح لهم شيئاً من هذا حتى يباعوا ويحصل عتقهم بطريق شرعي
ثم جعلوا يتسببون إلى رضاه ويتحملون عليه بالشفاعات وهو مصر لا يعبأ بجلالة إخطارهم ولا يخشى اتسامه بعداوتهم، فرفعوا الأمر إلى السلطان فأرسل إليه فلم يتحول عن رأيه وحكمه
واستشنع السلطان فعله وحنق عليه وأنكر منه دخوله فيما لا يعنيه وقبح عمله وسياسته وما تطاول إليه وهو رجل ليس له إلا نفسه وما تكاد تصل يده إلى ما يقيمه، وهم وافرون وفي أيديهم القوة ولهم الأمر والنهي
وانتهى ذلك إلى الشيخ الإمام فغضب ولم يبال بالسلطان ولا كبر عليه إعراضه، وأزمع الهجرة من مصر فاكترى حميراً أركب أهله وولده عليها ومشى هو خلفهم يريد الخروج إلى الشام. فلم يبعد إلا قليلاً نحو نصف بريد حتى طار الخبر في القاهرة ففزع الناس وتبعوه لا يتخلف منهم رجل ولا امرأة ولا صبي، وسار فيهم العلماء والصلحاء والتجار والمحترفون كأن خروجه خروج نبي من بين المؤمنين به. واستعلنت قوة الشرع في مظهرها الحاكم الآمر من هذه الجماهير، فقيل للسلطان: إن ذهب هذا الرجل ذهب ملكك
فأرتاع السلطان فركب بنفسه ولحق بالشيخ يترضاه ويستدفع به غضب الأمة، وأطلق له أن يأمر بما شاء وقد أيقن أنه ليس رجل الدينار والدرهم والعيش والجاه، ولبس طيلسان العلماء كما يلصق الريش على حجر في صورة الطائر
ورجع الشيخ وأمر أن يعقد المجلس ويجمع الأمراء وينادي عليهم للمساومة في بيعهم وضرب لذلك أجلاً بعد أن يكون الأمر قد تعالمه كل القاهرة ليتهيأ من يتهيأ للشراء والسوم في هذا الرقيق الغالي
وكان من الأمراء المماليك نائب السلطنة فبعث إلى الشيخ يلاطفه ويسترضيه فلم يعبأ الشيخ به. فهاج هائجه وقال: كيف يبيعنا هذا الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلة العبيد ويفسد محلنا من الناس ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الأرض؟ وما الذي يفقد هذا الشيخ من الدنيا فيدرك ما نحن فيه؟ إنه يفقد ما لا يملك ويفقد غير الموجود، فلا جرم لا يبالي ولا يرجع عن رأيه مادام هذا الرأي لا يمر في منافعه ولا في شهواته ولا في أطماعه كالذين(200/17)
نراهم من علماء الدنيا. أما والله لأضربنه بسيفي هذا فما يموت رأيه وهو حي.
ثم ركب النائب في عسكره وجاء إلى دار الشيخ واستل سيفه وطرق الباب
فخرج ابنه عبد اللطيف ورأى ما رأى فأنقلب إلى أبيه وقال له: أنج بنفسك، إنه الموت، وإنه السيف، وإنه وإنه
فما أكترث الشيخ لذلك ولا جزع ولا تغير بل قال له: يا ولدي! أبوك أقل من أن يقتل قي سبيل الله
وخرج لا يعرف الحياة ولا الموت فليس فيه الإنساني بل الإلهي؛ ونظر إلى نائب السلطنة وفي يده السيف؛ فانطلقت أشعة عينيه في أعصاب هذه اليد فيبست ووقع السيف منها
وتناوله بروحه القوية فاضطرب الرجل وتزلزل وكأنما تكسر من أعصابه فهو يرعد ولا يستقر ولا يهدأ وأخذ النائب يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له؛ ثم قال: يا سيدي ما تصنع بنا؟
قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم
- وفيم تصرف ثمننا؟
- في مصالح المسلمين
- ومن يقبضه؟
- أنا
وكان الشرع هو الذي يقول (أنا)، فتم للشيخ ما أراد ونادى على الأمراء واحداً واحدا واشتط في ثمنهم لا يبع الواحد منهم حتى يبلغ الثمن آخر ما يبلغ. وكان كل أمير قد أعد من شيعته جماعة يستامونه ليشتروه. . .
ودمغ الظلم والنفاق والطغيان والتكبر والاستطالة على الناس بهذه الكلمة التي أعلنها الشرع:
أمراء للبيع! أمراء للبيع. . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(200/18)
القاهرة المعزية
ووجوب الاحتفاء بعيدها الألفي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 2 -
تقترب القاهرة المعزية من عيدها الألفي دون أنن يثير ذلك في دوائرنا الرسمية أو الأدبية كبير صدى؛ ومن الغريب أن بعض الأجانب الوافدين الذين يكتبون عن بلادنا الفصول والملاحظات الطائرة لم يفتهم أن ينوهوا فيما يكتبونه عن القاهرة بأنها مدينة ألفية، وأنها موطن الجامعة الألفية الوحيدة في العالم؛ ذلك أن هذه الحقيقة التاريخية تشير حقاً أعظم اهتمام من كل أولئك الذين يضطرمون إعجاباً بعظمة التراث الحافل، ويحنون رؤوسهم إجلالاً لروعة التاريخ
وإذا كانت القاهرة ليست هي المدينة الألفية الوحيدة بين حواضر العالم القديم، وإذا كانت أثينة ورومة والإسكندرية وقسطنطينية تشاطرها هذا الفخر وتفوقها في مداه، بل تشاطرها هذا الفخر حواضر إسلامية أخرى مثل بيت المقدس، ودمشق، وبغداد، فإنها مع ذلك تمتاز على هذه الحواضر جميعاً بأنها تمثل أروع عصور التاريخ جنباً إلى جنب؛ فالآثار الفرعونية الباهرة التي تغيض فيما وراء القرون تشرف عليها مجللة بروعة الخلود، وآثار العصور الإسلامية المختلفة تنبث في جنباتها وتسبغ عليها لوناً إسلامياً عميقاً وتزينها بكل ما ازدانت به هذه العصور المجيدة من فن وروعة وبذخ؛ ثم إن بشائر العصر الحديث وإمارات الحضر الناضج، وكل ألوان الحضارة المعاصرة بما فيها من تطور وتجديد وابتكار، تطبعها بطابعها القوي، فهي من هذه الناحية من أجمل واحدث العواصم القديمة، بل هي تفوق من هذه الناحية عواصم العالم القديم: رومة وأثينة وقسطنطينية، ومع ذلك فإن هذا التجدد السريع لم يجردها من جلالها القديم، ولم يخلع عنها تلك الروعة التي يسبغها تعاقب الأحقاب على الحواضر التالدة
وفي وسع القاهرة أن تتيه على عواصم العالم القديم كلها بتراثها الأثري والفني الباهر؛ ذلك أنها فضلاً عما يحتويه متحفها الفرعوني الشهير من الكنوز الرائعة التي لا تضارعها أية(200/20)
كنوز أثرية أخرى، تحتفظ بأعظم مجموعة من آثار العصور الوسطى يمكن أن تفخر بها مدينة عظيمة ومنها آثار المدينة الألفية القديمة التي مازالت ماثلة إلى يومنا
والقاهرة ليست مدينة عظيمة فقط، وإنما هي كباقي حواضر العالم القديم عنوان حضارة ومجمع تاريخ؛ وتاريخ الأمصار العظيمة من أهم النواحي في تاريخ الحضارات والدول، ولاسيما في العصور الوسطى، حينما كانت حياة المدينة ترتبط أشد الارتباط بمصاير حضارة أو دولة معينة. وإذا كان تاريخ أثينة والمجتمع الأثيني يعني تاريخ اليونان القديم دولة وحضارة، وإذا كان تاريخ رومة ومجتمعاتها في عصور الجمهورية والإمبراطورية، هو تاريخ الرومان والحضارة الرومانية، وإذا كان تاريخ قسطنطينية في العصور الوسطى، هو تاريخ الدولة البيزنطية وحضارتها، فإن تاريخ القاهرة وتاريخ أسرها الملوكية ومجتمعاتها الرسمية والشعبية هو تاريخ مصر الإسلامية وتاريخ حضارتها في العصور الوسطى
ولا ريب أن العيد الألفي لمصر من الأمصار التالدة أو منشأة من المنشآت الجليلة هو من الحوادث القومية العظيمة التي يحق للأمم أن تفخر بها وتعتز؛ ذلك أن هذه الأعياد الألفية ليست من الأحداث العادية في تواريخ الأمم، بل هي بالعكس أحداث فريدة نادرة، ومثلوها في تاريخ أمة من الأمم دليل على عراقة هذه الأمة في ماضيها وحضارتها ودليل على ما تمتاز به من الحيوية والصفات الأزلية؛ ومصر أمة أزلية بلا ريب، وهي من هذه الوجهة تستطيع أن تتيه على لمم الأرض جميعاً بما حباها الله به من صفات الأزلية والخلود التي ترجع بها إلى ما قبل عصور التاريخ؛ وتتخذ الأمم العظيمة من الإشادة بهذه الذكريات والخواص الأزلية وسيلة للدعاية، وتحيطها بأعظم مظاهر التكريم، وتتبع في ذلك سياسة ثابتة تقوم على تنفيذها هيئات خاصة يقظة لكل ما يجد من هذه المناسبات؛ وقد تضع هذه الهيئات برامجها وتبدأ استعداداتها للاحتفاء بإحدى الذكريات القومية العظيمة قبل وقوعها بأعوام عديدة، فإذا حل موعد الذكرى كانت الاحتفالات العظيمة والمهرجانات الباذخة والمظاهرات القومية الرائعة التي تحج إليها الوفود من كل صوب، والتي تتخذ وسيلة للدعاية الواسعة في سائر الأقطار الأخرى
ولنن يمض سوى القليل حتى تواجه مصر عيدين من أجل الأعياد القومية: هما العيد الألفي(200/21)
لقيام القاهرة المعزية، والعيد الألفي للجامع الأزهر؛ فماذا فعلت دوائرنا الرسمية والعلمية للاحتفاء بهذين الحادثين العظيمين؛ أكبر الظن أنه لم تتخذ حتى الآن أية خطة رسمية مقررة في هذا الشأن سوى ما رددته مشيخة الأزهر منذ ثلاثة أعوام في شأن الاحتفال بعيد الأزهر، ثم انقطع صداه بعد حين؛ وأكبر الظن أنه سيمضي حين آخر قبل أن توضع برامج أو تتقرر اعتمادات أو تتخذ أهبات في هذا السبيل؛ فإذا وفقت الجهات المختصة إلى اتخاذ أية خطوة عملية كان ذلك بعد فوات الوقت أو في آخر لحظة، وعندئذ يجيء الاحتفال خلواً من الروعة التي يجب أن تحاط بها مثل هذه المناسبات
والواقع أن ما تبقى من الوقت بيننا وبين هذين العيدين الجليلين لا يكاد يكفي لاتخاذ أهبات غير عادية؛ فليس بيننا وبين عيد القاهرة الألفي الذي يقع في شعبان سنة 1358 سوى ثلاثين شهراً؛ ويقع العيد الألفي للأزهر بعد ذلك بعدة أشهر في جمادى الأولى سنة 1359؛ بيد أنه مازال ثمة متسع من الوقت يكفي للعمل الجدي المتواصل في سبيل تنظيم الاحتفاء القومي بهذين العيدين في نوع من الفخامة والجلال
ولقد كانت القاهرة المعزية منشأة فاطمية، نمت وترعرعت في كنف الدولة الفاطمية الباذخة، وشهدت في ظلها ألواناً ساحرة من الفخامة والبذخ والبهاء، يقصها عليك المؤرخون المعاصرون مثل المسبحي وابن الطوير وابن المأمون؛ وكان الأزهر غرس الدولة الفاطمية اليانع، بل كان أينع ما غرست دولة إسلامية، وأعظمه قدراً، وأبعده أثراً، وأبقاه على كر العصور؛ ولقد قامت الخلافة الفاطمية بمصر بعد قيام القاهرة والجامع الأزهر بقليل، في رمضان سنة 362هـ (يونية سنة 973م) حينما قدم المعز للدين الله أول الخلفاء الفاطميين بأهله وماله إلى القاهرة عاصمته الجديدة؛ ففي أعوام قلائل يكون قد مضى ألف عام على قيام الخلافة الفاطمية بمصر، وقد كانت هي الخلافة الإسلامية المستقلة الوحيدة التي قامت بمصر الإسلامية، وعاشت في ظلها أكثر من قرنين
أفلا يجمل أيضاً أن نحتفي بذكرى الخلافة الفاطمية منشئة القاهرة والجامع الأزهر لمناسبة مرور ألف عام على قيامها بمصر؟
إن ذكرى الخلافة الفاطمية ترتبط أشد الارتباط بذكرى القاهرة والأزهر حتى إنه ليصعب أن نحتفي بعيديهما دون أن تشغل ذكرى الخلافة الفاطمية مكانتها في هذين العيدين؛ ولن(200/22)
يكون للإشارة بهذه الذكرى سوى معناها التاريخي الجليل، ولن تحيط بها أي اعتبارات دينية أو مذهبية؛ ونذكر للتنويه بهذا المعنى التاريخي الجليل، أن إسبانيا النصرانية لم تر بأسا من الاحتفاء بذكرى الخلافة الإسلامية؛ ففي سنة1929 احتفلت جامعة قرطبة بذكرى الخلافة الإسلامية لمناسبة مرور ألف عام على قيامها بقرطبة؛ وقد كان قيام الخلافة الإسلامية في قرطبة كما نعرف سنة 317هـ الموافق لسنة 929ميلادية، وكان أول خلفاء الأندلس من بني أمية عبد الرحمن الناصر، وهذه الذكرى التاريخية الجليلة هي التي احتفلت بها جامعة قرطبة في سنة 1929، وكان لتصرفها أجمل وقع في العالم الإسلامي
ولقد جرت مصر الفتية الناهضة على انتهاز كل الفرص والمناسبات العلمية والاجتماعية الدولية والاشتراك فيها، والإعلان عن نفسها بأحسن ما تعلن أمة حديثة ناهضة؛ وهي تلبي كل عام عشرات الدعوات لشهود المؤتمرات والمعارض الدولية المختلفة والمهرجانات العلمية ولا تبخل في ذلك السبيل بالاتفاق لأنها تقدر كل ما تجنيه من الفوائد المعنوية والمادية من الاشتراك في تلك الاجتماعات الدولية الكبيرة؛ وقد كانت آخر مناسبة من هذا النوع اشتراكها في معرض باريس الدولي، وهو اشتراك اقتضت نفقاته الرسمية منها زهاء عشرين ألف جنيه؛ فهل تبخل مصر بأن ترصد مثل هذا المبلغ بل أن ترصد أضعافه للاحتفال بعيد القاهرة وعيد أزهرها الألفي؟
إن إقامة مهرجان ألفي لمدينة القاهرة تحج إليه وفود الأمم من أنحاء الشرق والغرب يكون أعظم دعاية لمصر التالدة ومصر الفتية الحديثة معاً، وأعظم وسيلة للتعريف عن ماضيها الباهر وعظمتها السالفة؛ وأن إقامة مهرجان ألفي للجامع الأزهر تشترك فيه وفود الجامعات والهيئات العلمية من جميع الأمم يكون مظاهرة إسلامية علمية رائعة للإعلان عن الدور العظيم الذي أدته الجامعة الألفية في تكوين التفكير الإسلامي لا في مصر فقط ولكن في العالم الإسلامي كله، وعن الصرح العلمي العظيم الذي كان الأزهر قوامه والذي لبث ملاذ التفكير الإسلامي والآداب العربية قروناً مديدة ولاسيما في عصور الاستعباد والانحلال الفكري والاجتماعي
تلك دعوتنا المتواضعة نرسلها للمرة الثانية راجين أن تجد صدى قوياً في دوائرنا الرسمية والعلمية، فتعمل على تحقيق هذه الأمنية القومية الكبرى بكل ما يجب لها من روعة وجلال(200/23)
محمد عبد الله عنان(200/24)
في الأدب المقارن
الوصف
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الوصف من صميم الفن ولباب الأدب وأدل ضروب القول على صدق الشعور وذكاء القلب، إذ أن روائع المشاهدات وطرائف المحسوسات وجديد المرئيات من أشد الأمور تأثيراً في نفس الأديب، واستجاشة له إلى التأمل، ودفعاً له إلى القول؛ وليس خير الوصف ما أحاط بكل حقائق الموصوف وأحصى كل دقائق أجزائه، كما تحصي الصورة الشمسية كل صغيرة وكبيرة منن الشيء المصور، وإنما خير الوصف ما أظهر المهم الرائع من أجزاء تلك الصورة، وأبان عن أثرها في النفس، وما تبعثه فيها من ذكريات وأطياف وأشجان وإطراب، وارتحال الأديب من صقع إلى آخر، ومن بلد إلى سواه ومن دواعي لجوئه إلى الوصف، يعرض فيه ما يتوالى على عينيه وحواسه من آثار ومظاهر؛ ومن ثم كانت الرحلة من أهم الأحداث في حياة الأديب بل من أهم مكونات شخصيته.
والوصف من أشد آثار الأدب إمتاعاً للنفس واستدعاء لانتباهها وإرضاء لغرائزها: إذ هو يرضى من الإنسان غريزة التقليد والحكاية لشتى المرئيات والمحسوسات، ويروي منه الميل إلى الإحساس صدى عواطفه لدى الآخرين، فهو يستريح إلى الأديب الذي يصف من المشاهدات ويروي من الاحساسات ما قد يكون القارئ مر به في مختلف أطوار حياته. والوصف أيضاً يحرك الخيال ويمتعه ويفسح له مجال العمل، ويبعد به وراء حدود الحياة اليومية الحاضرة. ومن ثم نرى البيت أو البيتين يعرضان في القصيدة الطويلة مشتملين على وصف رائع لمنظر أو حادث أو إحساس، فيكونان غرة القصيدة وأحب أبياتها إلى النفوس.
ولما كان الوصف ضرباً من القول فنياً صميماً، وكان يحتاج لتجويده إلى إطالة النظر وطول التقصي ورياضة الكلام، وكانت موضوعاته أكثر من أن تعد وأوسع من أن تفنى، كان الوصف يبلغ أوج ازدهاره حين يبلغ الأدب طوره الفني، باستقرار الأمة وتحضر(200/25)
مجتمعها وذيوع الثقافة بين أبنائها، واستعمال الكتابة الخطية وتوفر الفراغ للتروي والمعالجة والمعاودة للمنشئات الأدبية فالوصف من أهم أبواب القول التي تتسع وتترقى في طور الأدب الفني ذاك. ومصداق ذلك واضح في الأدب اليوناني قبل ازدهار الحضارة وبعده: ففي أشعار هوميروس لا يأتي الوصف إلا عرضاً ولا يوصف من الأشياء إلا ما دعت إليه الضرورة، وأكثر الاهتمام مصروف إلى القصص؛ فلما جاء شعراء الدراما واستغلوا نفس موضوعات هوميروس أحياناً، وشوها ببديع الأوصاف الفنية المقصودة لذاتها.
وفي الشعر العربي الجاهلي شذرات من الوصف رائعة، إذ كان ذلك الشعر بلغ من الفنية حداً لا باس به؛ وكان لبعض الشعراء إلمام بالموصوفات يبدون فيه ما عرف به العربي من توقد القريحة ونفاذ البديهة وبلاغة الإيجاز؛ ولهم أوصاف حسنة لبعض أنواع الحيوان ولاسيما الجياد والإبل والظباء، وللمواقع والأطلال والأنواء، وفي المعلقات نماذج لكل ذلك ممتعة، حيث يصف كل من عنترة وامرئ القيس جواده ويصف لبيد ناقته، ويصفون جميعاً أطلال ديار أحبتهم
ومن أجود أوصاف الحرب في الشعر الجاهلي قول القائل:
صريف أنيابها صوتت الحديد إذا ... قض الحديد بها أبناؤها الوقر
في جوها البيض والماذي مختلط ... والجرد والمرد والخطية السمر
جاءت بكل كمي معلم ذكر ... في كفه ذكر يسعى به ذكر
لهم سرابيل من ماء الحديد ومن ... نضح الدماء سرابيل لهم أخر
مضاعفات عليهم يوم بأسهم ... لونان جون وأخرى فوقهم حمر
وبانتشار الحضارة وذيوع الثقافة اتسع باب الوصف في العربية أعظم اتساع، ووصف الشعراء مظاهر العمران والترف وقصور الملوك ومواكبهم وحدائقهم وجيوشهم وسفائنهم، ووصفوا الخمر ومجالس الشرب والطرب، ووصفوا الجواري والغلمان، ووصفوا الصيد والسباق، وأولع الجاحظ وبديع الزمان بوصف الأحوال الاجتماعية، فصورا مناظر في الحمام وفي السوق ومواقف التخاصم والتقاضي، وأجريا الحوار بين شتى الأشخاص عالهم وسافلهم. وأشتهر أبو نواس بوصف الخمر، والبحتري بوصف القصور، والمتنبي بوصف(200/26)
الحروب، وابن الرومي بوصف الفواكه والمآكل وتصوير الشخصيات الهزلية
ولما تغلبت الصناعة وطلبت البراعة اللفظية والنكتة المعنوية والتأنق والتظرف، انعدم الحس أو كاد في الوصف، وتعلق الأدباء بوصف توافه الأشياء كالمحبرة أو الإسطرلاب أو القلم أو الكأس، أو ما شابه ذلك مما هو في غنى عن الوصف، وما وصفه إلا تحصيل حاصل وإضاعة وقت، فإن الأصل في الوصف الفني كما تقدم أن يكون له باعث من شعور صميم، لا أن يكون الغرض منه حكاية تفاصيل باردة فاترة. وقد أولع بذلك الضرب من الوصف النظري ابن المعتز وابن خفاجة وكشاجم؛ فلما أوغل الأدب في التصنع وجانب الأدباء كل ذوق وكل معقول في التعمل والأغراب، انقلب الوصف في أيدي أكثرهم ألغازاً، فألغزوا في أنواع المآكل والأسماء والآلات، وبأمثلة هذا الضرب من الأحاجي السقيمة تمتلئ مقامات الحريري وأشعار ابن نباتة المصري وأضرابه
والأدب الإنجليزي حافل منظومه ومنشوره بمحاسن الأوصاف؛ بيد أن باب الوصف فيه مخالف للوصف في الأدب العربي من وجوه شتى: فهما مختلفان في الموضوعات التي اتخذها كل منهما مادة وأدمن طروقها؛ فقد تناول الأدب العربي - كما تقدم - وصف أنواع من الحيوان، ووصف مظاهر اللهو والرفاهية، وتناول بعد ذلك قليلاً من وصف الطبيعة والمجتمع؛ أما الأدب الإنجليزي فهو أحفل بوصف هذين الأخيرين منه بوصف أي شيء آخر، فالطبيعة كانت قبلة أكبر شعرائه وكتابه وشغلهم الشاغل، ووصفها كان دأبهم أياً طرقوا من موضوعات القول، فامتلأ الأدب الإنجليزي بكنوز من أوصاف الطبيعة، تكاثر ما قيل في أي باب آخر من أبواب الشعر والنثر؛ فالوصف الطبيعي مادة جانب عظيم من الشعر الإنجليزي، كما إن الوصف الاجتماعي مادة جانب عظيم من القصص والدرامات
وفي الأدب الإنجليزي ضرب آخر من الوصف يستأثر به دون الأدب العربي، على إنه من صميم الفن وأعلق نواحيه بالإنسانية الشاملة والشعور العميق، ذلك هو وصف آثار الأقدمين من عمائر وحصون وتماثيل وصور وأبناء وعظائم، ففي ذلك كله منادح للخيال ومجال للابتداع ومذاهب للفكر، وتأملات في أحوال الإنسان وتقلب العصور والأحداث، وتعظيم لقدرة الإنسان وتقدير للفنون، وكل ذلك يكاد يكون معدوماً في الأدب العربي، والمثل الرائع الفريد في هذا الباب هو سينية البحتري التي لو كثرت مثيلاتها في الأدب(200/27)
العربي لكان أرفع قدراً، وكان أعلامه أسير في العالمين ذكراً
ولم يقتصر أدباء الإنجليزية على آثار التاريخ يستوحونها ما فيها من منادح الوصف الشائق والتصوير المجسم، بل عمدوا إلى الخرافة ولعلها أحفل بذلك من التاريخ، إذ كانت أحفل منه بآثار الخيال وأحلام الإنسانية ومثلها العليا في القوة والجمال والسعادة، فاتخذ الشعراء والقصاصون تلك الخرافات مادة وهيكلا لمنشآتهم، ورصعوها بما شاءت لهم براعتهم من أوصاف ووجدوا في أشعار هوميروس وفرجيل وقصص العصور الوسطى وأساطير الشرق والغرب مجالاً لفنهم، فأعادوا سرد ما راعهم من حوادثها ومواقفها سرداً فنياً مسهب الوصف مشبعاً بجميل المناظر والعواطف.
وكما يختلف الوصف في الإنجليزية عنه في العربية في الموضوع اختلافاً كبيراً، يخلفه في الوسيلة مخالفة معدودة، ففي العربية أوصاف بالغة من الكمال والإمتاع، بيد أنها جميعاً تعتمد على المعنى دون اللفظ، وعلى التشبيهات والمجازات، وتحتوي على كأن أو كاف التشبيه ظاهرة أو مستترة، أما في الإنجليزية فيستعين الشعراء بجنب هاتيك جميعاً على وسيلة أخرى، ليست أقل أداء للغرض وتصويراً للمنظر وإشباعاً للخيال والحواس، تلك هي الملاءمة بين صوت اللفظ وبين المعنى المصوغ فيه
وهذه الطريقة التي يلجأ إليها الإنسان عمداً وعن وعي في طور الأدب الفني، قد لجأ إليها في عهوده البدائية، أيام كان يصوغ ألفاظ لغته ويطلق كلاً منها على كائن من الكائنات، أو صوت من الأصوات، أو عمل من الأعمال، أو غير ذلك. فألفاظ الرشاش والشواظ والسلسبيل والسكون وغيرها، تدل بنطقها على مدلولها لأن الأقدمين إنما اشتقوها من هيئة مدلولاتها، فعلوا ذلك عفواً وبداهة، حتى إذا ما بلغ الأدب الطور الفني واستعان الشعراء والكتاب بالتدوين وأطالوا التجويد لما ينشئون استرعت الألفاظ انتباههم بعد أن كان جل اهتمامهم موجهاً إلى المعاني؛ وعند هذا الحد من التطور افترق الأدبان العربي والإنجليزي في طريقة استخدام الألفاظ. فأما الأدب العربي فجعل اللفظ غاية في ذاته، وجعل التأنق فيه مطمحاً مستقلاً، وأما الأدب الإنجليزي فعالج اللفظ وراضه وتأنق في صياغته، ولكن لا على أنه غاية في نفسه، بل على أنه وسيلة للمعنى لا أكثر
فإذا كان في المنظر المراد تصويره حركة كجريان نهر أو عدو جواد، استخدم الشاعر(200/28)
الإنجليزي بحراً من بحور الشعر يلائم تلك الحركة، وإذا كان به صوت أو أصوات مختلطة كهدير الأمواج أو قصف المدافع، اختار من الألفاظ تلك التي تحتوي على حروف خشنة قوية، وإذا كان يصف منظراً ساكناً وادعاً لم يذكر ذلك في القصيدة ذكراً، وإنما استعمل الألفاظ ذات الحروف اللينة كالسين مثلاً، وهناك عدا هذا وذاك ضروب شتى من الملاءمة بين الصيغة والمعنى يفتن فيها الشاعر الوصاف ما شاء له فنه، ككثرة العطف أو القطع، وتكرار الحروف أو الكلمات أو التراكيب أو الشطور أو الأبيات الكاملة. وقد اشتهر بالتفنن في هذا التصوير اللفظي تنيسون وسبنسر وملتون، بل سائر أقطاب الشعر الإنجليزي، بل جاراهم في ذلك بعض الكتاب مثل ستيفنسن
وقد وقع شيء من ذلك في بعض أشعار الوصف في العربية، ولكنه كان إلهاماً محضاً أو اتفاقاً عارضاً ساقت الشاعر إليه الصدفة السعيدة أو السليقة المجيدة، دون أن يتعمده عن وعي أو يتكلف فيه عناء كالذي تكلفه في استخراج ما به من تشبيه ومجاز. ويتجلى الفرق بين الأدبين في هذا الصدد في علم البديع فيهما: فالبديع في العربية يشمل الجناس والسجع وهلم جرا، وهي محسنات للفظ مستقلاً بنفسه وليست لها علاقة بالمعنى، أما علم البديع في الإنجليزية فيشمل الملاءمة بين جرس الألفاظ وبين المعاني التي تؤديها، ويشمل تشابه الحروف الأولى في جميع ألفاظ الجملة الواحدة لأداء المعنى بطريق الجرس أيضاً، وغير ذلك من حيل بلاغية ليست لها مصطلحات تترجم إليها في العربية، لأنها لم تكن من مألوف أدبائها
واللغة العربية بغزارة مادتها وتلاطم عبابها وتعدد أوزانها وقوافيها، وجمعها بين وعر الألفاظ ولينها، ودقيق الأوصاف وجليلها، وما لها من مرونة في التراكيب ورحب في الأساليب ومطاوعة لفن الأديب، هي خير معوان له على إبراز شتى الصور من جرس الحروف وتتابع الألفاظ وتجاوز التراكب، وتدفع الأوزان ورنين القوافي. انظر إلى الوزن كيف ساعد على إبراز المعنى في قول بشار في صوت مغنية:
تميت به أرواحنا وقلوبنا ... مراراً وتحييهن بعد هجود
وقول ابن المعتز في خيل السباق:
خرجن وبعضهن قريب بعض ... سوى فوت العذار أو العنان(200/29)
ترى ذا السبق والمسبوق منها ... كما بسطت أناملها اليدان
ساعدت السليقة المواتية أو الجد الموفق بشارا، فجاء بيته ذاك ببحره الطويل وحروف اللين المتتالية الوئيدة الحركة في (تميت) و (أرواحنا) و (قلوبنا) و (مراراً) و (تحبيهن) و (هجود) أصدق مصور لصوت المغنية إذا هي مددته وخالفت بين المدات فيه والقصرات، ويبدو ذلك جلياً إذا قرء البيت على مهل. كذلك حالف التوفيق ابن المعتز فاختار لبيتيه البحر الوافر المتدفق تدفق الخيل في مجالها، وحالفه التوفيق مرة أخرى فذكر العذار والعنان، وفضلاً عن تتابع هذين اللفظين مما يزيد الحركة جلاء فإن ذكرهما مما يزيد الصورة تجسماً، فإن ذكر جزء من الصورة دون بقية الأجزاء كثيراً ما يزيد الصورة وضوحاً، ويبعث من تلقاء نفسه باقي الأجزاء إلى الخيال. ولذلك مثال آخر في قول جميل:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
فذكر الأعناق هنا بلاغة فائقة، فهو يستسيغ إلى المخيلة منظر الإبل والأباطح والركب، ويرسم حركة المطي معا. ومما يزيد الحركة تصويراً اختيار الشاعر البحر الطويل البطيء النغم. وهناك وسائل أخرى لتجسيم الحركة البطيئة، منها كثرة العطف ففيها دلالة على التطاول والتواني، ومنها كثرة الألفاظ القصيرة فإنها تستغرق نفس القارئ حتى يكاد يلهث بعد قراءتها، ومن ثم يشعر بالبطء في المعنى تبعاً للبطء في اللفظ. ومثال الوسيلة الأولى قول امرئ القيس في تتطاول الليل
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ومثال الثانية قول المتنبي:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم
فقد احتوى بيت امرئ القيس على ثلاث جمل معطوفة، واحتوت الشطرة الأولى من بيت المتنبي على خمس كلمات كلها قصير، إذا قرأها القارئ متروياً جاءت بطيئة مشعرة ببطء الجيش أو موحية بضخامته، فلم يذكر المتنبي صراحة ومباشرة أن الجيش كان (ضخماً) فيعتمد على المعنى وحده في إعطائنا الصورة، بل أوحى إلينا بمعنى الفخامة بوساطة كلمات الشرق والغرب والزحف، ولا علاقة لهذه الكلمات في غير هذا البيت بالضخامة(200/30)
قط، وبذلك استخدم المتنبي اللفظ ونطقه لأداء المعنى وهي هي الوسيلة التي استغلها أدباء الإنجليزية قصداً وعمداً أكبر استغلال وأبدعه. أما الحركة السريعة فيؤديها البحر الكامل المتدفع، وهو لذلك خير ما يصور فيه عدو الجياد، كما في قول المتنبي
أقبلت تبسم والجياد عوابس ... يخبن بالحلق المضاعف والقنا
وقول ابن هانئ الأندلسي:
وفوارس لا الهضب يوم مغارها ... هضب ولا الوعر الحزون حزون
ففي هذين البيتين تصوير رائع لعدو الخيل. وقد ساعد التوفيق الشاعرين في ألفاظهما بجانب الوزن الذي اختاراه، فتكرار حرف الباء في بيت أبي الطيب مما يزيد وقع حوافر الخيل في بيته جلبة ووضوحاً، وتكرار كلمتي الهضب والحزون في بيت ابن هانئ يوحي إلى المخيلة تتابع الهضاب والروابي أثناء عدو الفوارس، حتى يكاد يتخيل الإنسان سيقان الخيل وهي تنهب تتلك الحزون وتقفز من ربوة إلى ربوة. ويكاد البيت يعرض أمامك شريطاً سينمائياً متحركاً، ومتى بلغ الشاعر هذا المدى من دقة التصوير وروعته، فقد أوفى على الغاية من الفن والشاعرية، كذلك نرى الوزن واللفظ قد اصطلحا على إبراز المعاني في قول مسلم بن الوليد في مفازة:
تمشي الرياح بها حيرى مولّهة ... حسرى تلوذ بأطراف الجلاميد
وقول ابن حمديس:
وراقصة لقطت رجلها ... حساب يد نقرت طارها
وقول المتنبي:
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
ففي بيت مسلم تكاد تحس الرياح المحرقة تلفح وجوهنا ونتمثلها تضرب جوانب الصخور؛ وفي بيت الصقلي تتمثل حركة الراقصة السريعة الخاطفة؛ وفي البيت الثالث تتمثل المتنبي على ظهر ناقته وهي تخالف بين أظلافها ممعنة في الذهاب. لما يمتاز به بحر المنسرح من اضطراب الحركة واندفاعها، على حين يمتاز بحر الخفيف بالتؤدة وزنة الحزن، مما يجعله أليق البحور بالمرائي والوجدانيات، وهو من أهم أسباب سيماء الوقار والشجن التي تتسم بها دالية المعري المشهورة التي مطلعها:(200/31)
غير مجد في ملتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنم شاد
وصفوة القول أن الأدبين العربي والإنجليزي قد احتويا على بدائع من الوصف، هي غذاء اللب ومتاع الخيال؛ بيد إن آثارها في الأدب الإنجليزي أغزر، ونواحيها أكثر تعدداً، ونصيب الطبيعة منها أوفر، ووسائلها أكثر عدداً واختلافاً، وأدباء الإنجليزية كانوا أكثر بصراً بها وأطول رياضة لها، وكان نجاحهم فيها راجعاً إلى المجهود المتبصر الواعي، بجانب الطبع الصادق المواتي على حين كان نجاح أدباء العربية الذي مرت بعض أمثلته راجعاً في أكثر الأحيان إلى عفو الخاطر وهداية البديهة، وما ذاك إلا لأن أدباء الإنجليزية كانوا أكثر عكوفاً على فنهم، وتفرغاً لأدبهم، على حين كان أدباء العربية يولون الأمراء وذوي الهبات من اهتمامهم وتفرغهم ما كان فنهم به أحق، وشاعريتهم به أولى
فخري أبو السعود(200/32)
ثورة دجلة
للأستاذ علي الطنطاوي
(ازدادت دجلة يومي الأربعاء والخميس 3، 4 صفر 1355 زيادة هائلة لم تكن منتظرة، وغدت بغداد عرضة للغرق بين كل لحظة وأخرى، وسيق الناس كلهم للعمل على إقامة السدود، ولم تغمض في بغداد ليلة الخميس عين. . . وكان شيء عظيم. . .)
كانت تجري في الوادي حالمة سكرى، غارقة في بحر من الحب والشعر، هادئة لا ترى فيها إلا آثار هذه القبل المعسولة التي تطبعها الشمس على وجنتيها الصافيتين كل صباح ومساء، تخطفها منها في غفلة من الطبيعة، فلا يبصرها إلا الشفق الذي يطل من نافذة الأفق يرميها بنظرة الكاشح الحاشد، فيحمر وجه دجلة الفتاة من الخجل. وتغمض عينيها من الحياء ثم تسرع في جريها. . .
وكانت تتلقى بين ذراعيها العاشقين المدلهين، كلما دجا الليل وأطفئ مصباح الكون، وهم في الزوارق ذوات الأجنحة البيض التي تشبه قلوبهم في بياضها وخفقانها، فتحدب عليهم، وتحفظ أسرارهم، وتمنحهم الخلوة الحلوة الآمنة، وتترع نفوسهم بالجمال والشعر، حتى يغيبوا عن الوجود في حلم فاتن بعيد. . .
وكانت تغضي عن هذا النخيل العاشق، وقد تعانق كل زوجين منه، وتلامسا بالشفاه، واستسلما إلى الغيبة الهنيئة، وعن هذه القصور التي تفيأت ظلاله، سكرى بخمرة الجمال، قد ضمت احناءها على حياة لذة وادعة، ملؤها الحب. . .
وكانت دجلة جمال العراق ونعمته وحياته. . .
وكننت أذهب كل مساء، إلى جسر مود، انحدر من الرصافة، أمشي في طريق ضيق، كأني أهبط وادياً منن أودية بلادي الحبيبة، ثم أصعد حتى أبلغ ضفة الكرخ، فأسلك شوارع الصالحية، حتى أصل إلى المطار. . . حيث أبقى ساعة شاخصاً إلى الأفق البعيد أتبصر فيه طيف موطني الأصغر وأتحسس نسمه فأشم فيه شذا الغوطة، وانشق ريا نشرها العطر، وعرف آسها ونسرينها، وفلها وياسمينها، وزنبقها ونرجسها. . . حتى إذا قضيت من ذلك وطراً، عدت وقد خلا الجسر، فحييت دجلة، وصببت في أذنيها آلامي وأحزاني، وأستمنحتها الراحة والاطمئنان، ثم مضت إلى وكري المنعزل، في (الأعظمية) بنفس هادئة(200/33)
كدجلة مطمئنة كاطمئنانها. . .
وذهبت في مساء الأمس، كما كنت أذهب، فإذا الأرض قد بدلت غير الأرض، وإذا الجسر الذي كان وادياً ننحدر إليه، قد أمسى جبلاً نتسلقه، وصار أعلى من الشارع وقد كان تحته، وإذا الناس يقبلون عليه، فأقبلت معهم وعلى وجهي من الدهشة والحيرة مثل ما على وجوههم من الروعة والفزع، ونظرت فإذا النهر الذي كان يجري في الأعماق هادئاً متطامناً حالماً، يبدو كأنه صفحة المرآة، لا تنداح عليه دائرة، ولا تموج فيه موجة، قد علا وارتفع وعاد ثائراً هائجاً فضاحا، له هدير ودردرة، قد علاه موج كالروابي. . . وإذا هو قد نسي سنه ووقاره. وأضاع حلمه وعلمه، ورجع شاباً مجنوناً أهوج، يقفز ويصرخ، ويقرع الأرض بقدميه، ويضرب بقبضته القويتين المخيفتين أبنية الشاطئ الآمن، ويعبث بهذه الكرات الحديدية الضخمة، التي أقيمت لتثبيت الجسر العائم والتي ترجح بالقناطير، وتزن الصخور الجلاميد، ويقذف بها هنا وهناك كما يقذف الصبي كرته. . . وإذا هو مرعب حقا، يدخل الروع على أجلد الرجال. . .
وكانت الوجوه كالحة، قد ارتسمت عليها سمات الذعر الشديد والماء يرتفع، لم يبق بينه وبين الشاطئ إلا شبر واحد. لقد بلغ عمق المياه خمسة وثلاثين متراً وعشرين معشاراً. . . وخمسين. . . إنه لا يزال يرتفع. . . لقد صاقب الشاطئ. . . إن بغداد في خطر!
وطارت كلمة الخطر على الألسنة، ففزع الشعب، واهتمت الحكومة، ووضع قانون المساعدة الإلزامية، فابتدر الناس الشاطئ، واستبقوا إلى العمل. . . يقيمون السدود، ويضعون للمجنون القيود، ولكن المجنون لا يبالي بقيد الذباب. . . إنه يقتل أمة منها بضربة واحدة. . .
إن النمر يقفز في حبسه ويثب، لقد جن: إنه يريد أن يخرج فينبعث في الأرض، يريد أن يمشي إلى هذه الجنات الظليلة، التي طالما أمدها بالحياة، وحمل إليها النعمة، ليحمل إليها الموت!
وبدأ الصراع المهول بين الطبيعة والإنسان. . . وأمسى المساء على بغداد وهي قائمة على قدم وساق، ليس فيها من يبيع أو يشتري أو يلهو أو يلعب، أو يطعم أو يشرب.،. ليس لها إلا غاية واحدة، هي النجاة من الغرق. . .(200/34)
وكنت قد بلغت منزلي فصعدت السطح، فانحسرت أمامي صفحة دجلة، وهي تلتوي من حول الأعظمية كالأفعى، تطيف بها كالفضاء النازل، وقد استرخت عند المنحنى وتمددت على الحقول والدور التي هجرها أهلوها، فصار عرضها أكثر من ألفي متر. . . وصارت بحراً خضماً، ولكنه يركض دفاعاً يحمل في طياته الموت والغرق والخراب، وكانت حمرة الشفق تخالط الماء، فيلتهب فيبدو كأنه أتون مستعر، أو كأنه جهنم الحمراء. . .
وبسط الليل ثوبه الأسود على الدنيا، فأخفى تحته ثمانية وأربعين ألف شاب، يشتغلون لينقذوا بغداد من الغرق المحقق، من ورائهم أربعمائة ألف قلب، تحوطهم بالرعاية والحب. . .
واستمر الصراع المهول. . .
وكان الناس من الفزع والذعر كأنهم في يوم القيامة؛ غير أن المرء في يوم القيامة يجد ما يشغله عن أمه وبنيه، وصاحبته وأخيه؛ وهنا أم حائرة مولهة قد ضاع منها ولدها في وسط الزحمة فهي تعدو وتصيح من غير وعي لا تدري أهو في الأحياء، أم أفترسه هذا النمر الجبار. . . وهنا بنت تفتش عن أمها، وولد ينادي أخاه، وأسرة قد هيأت متاعها ووقفت على باب الدار تنظر الساعة الرهيبة التي يطغي فيها الماء فيدك أدوارها وما فيها ويدعها فقيرة مسكينة، مسكنها الشارع. . . وشباب عصفت النخوة برؤوسهم فهم يقدمون، يتسابقون إلى الخطر. . . وتلاميذ قد دفعتهم الحمية فأقبلوا يتبادرون الموت، والجنود يعملون في كل مكان بهمهم الأسود. . .
كان الصراخ يملأ الجو: هتاف الشباب، وأنغام الجند، وصياح النساء، ونداء الأولاد، والنهر فوق ذلك كله يهدر هديره المستمر المرعب، فيكون له في هذا الليل دوي مخيف، والحركة متصلة، والشوارع ممتلئة بالناس. . .
ولكن السلامة توالت. ووقف النهر عن الارتفاع، ولم يقع الشق (أي الكسر) الذي كانوا يخشونه، وكان قد تصرم الهزيع الأول من الليل، فأمن الناس، وتفرقوا إلا قليلاً قاموا يحرسون النهر، ودخلوا بيوتهم، وولجت داري أستريح، فما لبثت أن ذهبت في رقدة عميقة.
رأيت المياه تنساب في كل جهة، تغني أغنية الرعب، تقتلع البيوت ثم تلقي بها إلى بعيد،(200/35)
وتلج في باطن الأرض ثم تقلبها بما عليها، وتصعد في الجو، ثم تنزل كالبلاء المصبوب. . ثم انصدع صدع عظيم وهويت إلى قعر الهاوية، وكان حولي مئات من النمور والفهود والأفاعي، وسمعت رعداً شديداً، ورأيت برقاً ومطراً، ثم عادت السيول تجري، تدحرج آلافاً من الصخور.
. . . فتحت عيني. . وإذا الحلم حقيقة، وإذا الصيحة في الحي والقيامة قد قامت، وخفارات الحراس، وأبواق الجنود تصدح باستمرار، والنساء يولولن ويعدون، والأطفال تبكي وتركض في كل مكان، والرجال تصيح طالبة النجدة؛ وتبينت وسط الضجة الكلمة الرهيبة: كسر النهر. . النهر انكسر!
وتدفق سيل العرم!
إن هذا النهر الذي جاء من قمم الأناضول الشاهقة وسلك على السهول الممرعة، والصحاري المجدبة، قد تعب من سيره الطويل المضني. فجاء يستريح على هذه الحقول التي زخرفها الربيع وأزهر فيها النارنج، وفتح الورد والقرنفل والفل، واترع نسيمها العطر. فيحيل ذلك كله إلى صحراء قاحلة. جاء يغرس هذه الحياة الرخية السعيدة بزور اليتم والفقر والنكد.
ولكن الذنب علينا؛ لو أنا أنشأنا له مأوى يستريح فيه وسريراً ينام عليه، لهجع فيه إلى أيام الصيف، ثم لخرج بالبركة واليمن إلى أراضينا وبلادنا!
تركت الدار وخرجت أسبح في هذا الخضم من الناس، أدفع النساء والشيوخ والشباب، لأصل إلى الشاطئ فأعمل عملاً ولست أدري ماذا أعمل؟ ولست أحسن السباحة، ولست أعلم ما الفائدة من ذهابي، ولم أفكر في شيء من ذلك لأن الإنسان لا يفكر في ساعة الخطر، وإنما يعمل. . فلما وقفت على الصدع هالني وأرعبني أن النمر قد أفلت من القفص. وخرج يعدو مجنوناً مستطار اللب، كاشراً عن أنيابه يزمجر ويزأر، ويبرق ويرعد
إن الماء يندفع إلى العلاء بقوة الديناميت، ثم ينزل على الحقول، فيقضي فيها مكتسحاً كل شيء في طريقه، يقتلع الأشجار الضخمة، ويقذف بها كأنما هي عيدان الكبريت، وينسف البيوت كأنما هي علب من الورق، ويتدفق من كل جهة. . . وقد ابتلع صوته المدوي كل ضجة، وملأ الأسماع بترتيلة الموت المستمرة. . . وكان لمنظره في ظلمة الليل صورة لا(200/36)
توصف. .
وأقدم الناس، يسبقون الماء ليقيموا في وجهه السدود، ليقيدوا هذا النمر الهائج بحمية منقطعة النظير، وحماسة نادرة المثال. . . وأقدمت أخوض هذه اللجة من الناس، لأصل إلى هذه اللجة الطامية من الماء أمشي في ظلمتين: ظلمة هذا الحشد المزدحم. وظلمة الليل البهيم، أتعرض لرهبتين: رهبة الليل وسواده، والسيل واندفاعه. أصغي إلى لحنين: لحن الروع على ألسنة الناس، ولحن الهول على لسان النهر. . .
ولم أخش شيئاً. . .
إنها ساعة الخطر. . .
بوركت يا ساعة الخطر! أنت لحظة الإنسانية. أنت التي تورق فيك أغصان الحب، ويزهر فيك الإخلاص، ويعود الناس فيك إخواناً متحابين. قد خرجوا من أطماعهم ومات في نفوسهم الحسد والبغضاء وعاش فيها الحب والتضحية والإخلاص والوئام. .
تقدمت إلى الأمام ولكن لم أصل إلى شيء، لأن الناس كانوا يستبقون العمل، ويهرعون إلى الموت، كأن العمل غنيمة، والموت وليمة. . وكانوا يصرخون صراخ الحمية. ويهتفون باسم الوطن والمروءة والشجاعة. . ومرت على ذلك ساعة كاملة والصدع يتسع، والماء يزداد اندفاعاً، فكلت الأيادي النشيطة، وجمدت الصيحات والأناشيد على الشفاه، وخامر الناس اليأس. .
هنالك انتبهت فإذا أنا أسمع النشيد الذي ارتقبه واصبوا إليه، ليس نشيد الوطن والمروءة ولكنه أجل وأقوى، النشيد الذي له قوة السيل، وعظمة البحر، وبهاء الشمس، وصلادة الصخور. النشيد الذي لا يقوم له شيء، النشيد الذي كان أجدادنا يهتفون به، كلما حاقت بهم ضجة فيدكون به كل حصن ويكتسحون كل عدد، ويخلصون من كل خطر. النشيد الذي يحيل الجبان بطلاً، واليأس أملاً، والطفل رجلا. .
ذلك هو نشيد الرجال والنساء والأطفال بصوت واحد يجري على قرع الطبل، فيشق الليل، ويخشع له كل من يسمعه حتى النخيل والحقول، والسحاب والنجوم، وهذا النمر الثائر
الله أكبر - الله أكبر - لا إله إلا الله
الله أكبر - الله أكبر - ولله الحمد(200/37)
وبدأ الصراع كرة ثانية. .
وأقبلوا على العمل بهمم لا تثنى، وقلوب لا تلين، وسواعد لا تكل. .
وصب النشيد في عروقهم روح الظفر. . .
فظفروا. . .
وعندما كانت الشمس تطبع أول قبلاتها على جبين الكون كان الموكب الظافر قد رجع، يحمل أجمل أزهار الرياض التي أنقذها وحماها من الغرق. . يمشي فيه الجند والطلاب، بصفوف منتظمة، قرأت فيها أروع شعر الحياة. . . كما تلوت في هذه الجماهير المنثورة في كل مكان أبلغ (نثرها). . .
وكان الإشراق يكسو الوجوه، وغناء النصر يرقص على الألسنة. . .
فوقفت أحيي هذه المواكب الماجدة، حتى غابت عني في طريقها إلى بغداد:
ألف تحية أيها الأبطال الذين مشوا إلى الموت، لينقذوا بلادهم من الموت.
ألف تحية أيها الشعب القوي العامل الجريء.
ألف تحية أيها الطلاب المبرؤون الذين حملوا الفئوس والمعاول، وأقاموا من جسومهم الملساء الناعمة سداً في وجه هذا السيل الطامي. . .
ألف تحية أيها الجنود البواسل، يا حماة الديار، يا من وطنوا نفوسهم على محاربة كل من يريد ببلادهم شراً، سواء لديهم أكان جباراً من جبابرة الإنس، أو عفريتاً من عفاريت الجن، أو قوة من قوى الطبيعة. . .
لكم مني ألف تحية وألف سلام!
(بغداد)
علي الطنطاوي(200/38)
سر مجهول في تحريم لحم الخنزير
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 2 -
ويمكننا بعد هذا أن نحكم بأن الخنزير من جنس السباع مثل الكلب، لأنا إذا جرينا على ما جاء في القاموس من أن السبع هو المفترس من الحيوان فالخنزير يفترس الحيوانات كالسبع، خصوصاً إذا لم يجد ما يأكله من العشب. فإنه يصير إلى أن يكون آكل لحوم، فيفترس الحيوانات الحية، ويأكل من لحومها، كما جاء في كتاب (الحجج البينات في علم الحيوانات)
وكذلك إذا جرينا على ما جاء في كتاب النهاية لابن الأثير من أن السبع هو ما يفترس الحيوان ويأكله قهراً وقسرا، لأن هذا يوجد في الخنزير أيضاً، أما إذا جرينا على ما ذكره أبو حنيفة من أن كل ما أكل اللحم فهو سبع فأمر الخنزير في السبعية عليه أظهر، لأنه لا يشترط فيها الافتراس كما اشترطه فيها غيره، بل يكتفي فيها بأكل اللحم، ولذلك عد الفيل ونحوه من جنس السبع
فأما إذا جرينا على ما ذكره الشافعي من أن السباع المحرمة هي التي تعدو على الناس فإنا نجده ضيق في ذلك بما لم يضيق به غيره، ولكن الخنزير يدخل في السباع على ذلك أيضاً، لأن الخنازير كثيراً ما تجاهر الناس العداء وتحمل على الإنسان بدون أن يغيضها، كما جاء في دائرة معارف البستاني
على أن الحديث الوارد في تحريم (كل ذي ناب من السباع فأكله حرام) يظهر منه أن لأنياب السباع أثراً في تحريمها، بل الظاهر منه أنها هي العلة في هذا التحريم. ولاشك أن هذه العلة في الخنزير اظهر منها في سائر السباع لأن قوة نابه لا توجد في غيره منها، وقد بلغ من أمرها أن يتغلب بها أحياناً على الأسد، كما جاء في كتاب حياة الحيوان وغيره من الكتب القديمة والحديثة في علم الحيوان
وإذن يكون تحريم لحم الخنزير لسبعيته، وتكون هذه السبعية هي التي جعلت الإسلام ينظر إليه هذه النظرة البغيظة. وإذا كان الإسلام قد أهتم بأمره أكثر من غيره من السباع فأنزل تحريمه في القرآن الكريم، وحكم بنجاسته مع تحريمه ولم يحكم بنجاسة غيره من جنسه،(200/39)
فإن الجاحظ رحمه الله قد بين حكمة ذلك في كتاب الحيوان (ج4 ص13) وإن كانت هذه الحكمة قد جاءت في الموازنة التي عقدها بينه وبين القرد، لا فيما نحن بصدده من ذلك الأمر السابق؛ وهذا ما قاله في تلك الحكمة: إنما خص الخنزير بالذكر دون القرد مع استوائهما في المسخ لما فيه من قبح المنظر، وسماجة التمثيل، وقبح الصوت، وأكل العذرة مع الخلاف الشديد، واللواطة المفرطة، والأخلاق السمجة. وقد زعم ناس أن العرب لم تكن تأكل القرود، وكان بعض كبار القبائل وملوكها يأكلون الخنزير، فأظهر الله لذلك تحريمه إذ كان هناك عالم من الناس، وكثير من الأشراف والوضعاء، والملوك والسوقة، يأكلونه أشد الأكل، ويرغبون في لحمه أشد الرغبة.
ثم ذكر أن الخنزير يكون أهلياً ووحشياً كالحمامير والسنانير مما يعايش الناس، وكلها لا تقبل الآداب، وأن الفهود وهي وحشية تقبل كلها ذلك، كما تقبله البوازي والشواهين وغيرها، والخنزير وإن كان بهيمة فهو في طباع ذئب
فهذه الخصال التي اجتمعت في الخنزير هي التي جعلت الإسلام يهتم بأمر تحريمه ذلك الاهتمام؛ والمهم منها في نظرنا ما ذكره الجاحظ من شغف كثير من الناس بأكل لحمه واستطابته فإن هذا في الحقيقة هو الذي اقتضى أن يعنى بأمر تحريمه في الإسلام هذه العناية.
وقد أجمع الفقهاء بسبب ذلك على تحريم لحم الخنزير واختلفوا في تحريم لحم غيره من السباع، لأنه لم ينص على تحريمها في القرآن كما نص على تحريمه، ولكن جمهورهم على تحريم لحمها أيضاً، ومن خالفهم في ذلك قال بكراهة لحمها دون تحريمه. وقد اختلفوا أيضاً في تحريم الخنزير البحري، قال الربيع: سئل الشافعي رضي الله تعالى عنه عن خنزير الماء، فقال: يؤكل
وروي أنه لما دخل العراق قال فيه حرمه أبو حنيفة وأحله ابن أبي ليلى، وروي هذا القول عن عمر وعثمان وابن عباس وغيرهم، وقد أبى مالك أن يقول فيه شيئاً، وأبقاه مرة أخرى على جهة الورع. وحكى ابن أبي هريرة عن ابن خيران أن اكاراً صاد له خنزير ماء وحمله إليه فأكله، وقال كان طعمه موافقاً لطعم الحوت سواء. وقال ابن وهب سألت الليث بن سعد عنه فقال: إن سماه الناس خنزيراً لم يؤكل، لأن الله حرم الخنزير(200/40)
وهذه العلة التي ذكرناها في تحريم لحم الخنزير قد علل بها تحريم لحم الكلب أيضاً، ولا يخفى أن الخنزير والكلب يتساويان في نظر الشارع من هذه الناحية. وقد صرح ابن حميد السالمي الفقيه الإباضي بهذه العلة في تحريم لحم الكلب فقال في باب أحكام صنوف الحيوانات من أرجوزته المسماة (جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام)
وما الكلابُ عندنا حلالُ ... ولا السَّنانير كما يقالُ
لأنها من السباع الضارية ... وبعضهم أحلها علانَيه
وهذه العلة أظهر في الخنزير من الكلب، لأنها تعتمد على وجود الناب الذي يحصل الافتراس به، وقد سبق أن الخنزير أقوى الحيوان ناباً، حتى إنه يتغلب بقوة نابه على الأسد وغيره
أما حكمة تحريم لحم السباع فحفظ الإنسان من صفاتها الوحشية المنافية لبقاء العمران، لأن غذاء الإنسان له تأثير كبير في صفاته وأخلاقه. وقد غالى بعض الشرائع فحرم لحم الحيوان مطلقاً لأنه يورث في نفوس البشر ما يورث من القسوة والغلظة. والشريعة الإسلامية تنظر إلى لحم الحيوان نظرة معتدلة، فتبيحه في اعتدال ولا تحرمه على أهلها. وقد روي أن من داوم على أكل اللحم أربعين يوماً قسا قلبه. وقيل في ذلك أيضاً (إنما أهلك الناس الأحمران النبيذ واللحم) وعن عمر رضي الله عنه قال: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر وإن الله يكره أهل البيت اللحميين. ولعل الأيام المقبلة تظهر في تحريم لحم السباع حكماً أخرى غير هذه الحكمة.
عبد المتعال الصعيدي(200/41)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
38 - فمن لها بزياد أو بحجاج
الأبيوردي الأموي:
دهر تذأب من أبنائه نقد ... وأوطئت عرب أعقاب أعلاج
وأينع الهام لكن نام قاطفها ... فمن لها بزياد أو بحجاج
وكم أهبنا إليها بالملوك فلم ... نظفر بأروع، للغماء فراج!
39 - أفضل المناديل
في (الكامل):
قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه (وكان يجتنب غير الأدباء): أي المناديل أفضل؟
فقال قائل منهم: مناديل مصر كأنها غرْقئ البيض
وقال آخر: مناديل اليمن كأنها أنوار الربيع
فقال عبد الملك: ما صنعتما شيئاً. أفضل المناديل ما قال أخو تميم (يعني عبدة بن الطيب):
ثمت قمنا إلى جُرْد مسوَّمة ... أعرافهن لأيدينا منادي
40 - كفيت الدعوة
في (مجمع الأمثال) للميداني
أصل هذا المثل: (كفيت الدعوة) أن بعض المجان نزل براهب في صومعته، وساعده على دينه، وجعل يقتدي به، ويزيد عليه في صلاته وصيامه؛ ثم إنه سرق صليب ذهب كان عنده، واستأذن لمفارقته، فأذن له، وزوده من طعامه. ولما ودعه قال له: (صحبك الصليب) على رسم لهم فيمن يريدون الدعاء له بالخير. فقال له الماجن: (كُفيت الدعوة. .) فصار مثلاً لمن يدعو بشيء مفروغ منه
41 - فأرجف في السما
كان ببغداد شخص يقال له ابن بشران، وكان كثير الأراجيف فمنع من ذلك، فقعد على الطريق ينجم، فقال فيه ابن صابر:(200/42)
إن ابن بشران ولست ألومه ... من خيفة السلطان صار منجما
طُبع المَشُوم على الفضول فلم يُطق ... في الأرض إرجافاً فأرجف في السما
42 - إنك عن لسانه تنطق
في (طبقات الشعراء) للجمحي:
أتى الفرزدق الحسن البصري فقال: إني قد هجوت إبليس فاسمع
قال: لا حاجة لنا بما تقول
قال: لتسمعن أو لأخرجن فأقول: إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس. .
فقال الحسن: اسكت فإنك عن لسانه تنطق. .
43 - الشيطان أصلح للشاعر
في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) للثعالبي:
من ظريف أمر حسان أنه كان يقول الشعر في الجاهلية فيجيد جداً، ويغبر في وجود الفحول، ويدعي أن له شيطاناً يقول الشعر على لسانه - كعبارة الشعراء في ذلك - فلما أدرك الإسلام وتبُدِّل بالشيطان الملك تراجع شعره، وكاد يرك قوله؛ هذا ليعلم أن الشيطان اصلح للشاعر، وأليق به. . .
44 - حتى تجوع ببطن غيرك
في (كتاب القضاة): قال سهل بن علي: كنت ألازم خير بن نعيم القاضي وأجالسه وأنا يومئذ حديث السن. وكنت أراه يتجر في الزيت، فقلت له: وأنت أيضاً تتجر؟! فضرب بيده على كتفي ثم قال: (انتظره حتى تجوع ببطن غيرك) فقلت في نفسي: كيف يجوع إنسان ببطن غيره؟ فلما ابتليت بالعيال إذا أنا أجوع ببطونهم
45 - عمل كل واحد محضرا
قال ابن خلكان: أخبرني ابن مطروح أنه جرى بينه وبين أبي الفضل جعفر بن شمس الخلافة منازعة في هذا البيت:
وأقول: يا أخت الغزال ملاحة! ... فتقول: لا عاش الغزال ولا بقى!
فزعم ابن شمس الخلافة إن هذا البيت له من جملة قصيدة هي في ديوانه، وعمل كل واحد(200/43)
منهما محضراً شهد فيه جماعة بأن البيت له. وحلف لي ابن مطروح أن البيت له، وكان محترزاً في أقواله، ولم تعرف منه الدعوى بما ليس له
46 - الحظوظ مقسومة
في (معجم البلدان) لياقوت الحموي: رووا عن ابن عباس أنه قال: الحظوظ مقسومة لا يقدر أحد على صرفها ونقلها عن أماكنها. ألا ترى سكة اصطفانوس (في البصرة) كان يقال لها سكة الصحابة، نزلها عشرة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلم تضف إلى واحد منهم، وأضيفت إلى كاتب نصراني من أهل البحرين وتركوا الصحابة؟
47 - ما تنكر لله قدرة
في (كتاب قضاة قرطبة)
من المستفيض عن القاضي (أسلم بن عبد العزيز) قوله لرجل من أهل لبلة وقد أتاه وسلم عليه ثم جلس قال:
أتعرفني يا قاضي؟
قال له: لا
قال: أنا قاضي لبلة
فقال أسلم: ما تنكر لله قدرة. . .
48 - أحسن توجيه
في (خزانة) البغدادي:
كان أمير الدولة أبو الحسين بن صاعد الطبيب قاطع (محمد بن حكينا) ثم استماله، وكان ابن حكينا قد أضر بصره وافتقر فكتب إليه:
وإذا شئت أن تصالح بشار بن برد فاطرح عليه أباه. فنفذ إليه برداً واسترضاه فاصطلحا. وهذا أحسن ما سمعت في التوجيه. قوله (بشار بن برد) أي: أعمى (فاطرح عليه أباه) هذه لفظة بغدادية، يقال لمن يريد أن يصالح: اطرح عليه فلاناً أي أحمله إليه ليشفع لك. ولم يتفق لأحد في التوجيه أحسن من هذا
49 - أبن ورد يبغي أباه(200/44)
مر العالم أبو القاسم بن ورد بجنة لأحد الأعيان، فيها ورد، فوقف بالباب وكتب إليه:
شاعر قد أتاك يبغي أباه ... عندما اشتاق حسنه وشذاه
فلما وقف على قوله علم أنه (ابن ورد) فبادر من جنته إليه، وأقسم في النزول عليه، ونثر من الورد ما استطاع بين يديه
(النقل ممنوع)(200/45)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 3 -
الديانة المصرية - التأليه في العصور التاريخية
أثرت أقاصيص المعارك التي اشتعل أوارها بين المصريين في عصور ما قبل التاريخ في نفوس أبنائهم المصريين المدنيين تأثيراً دفعهم إلى تحوير هذه الأقاصيص الاجتماعية إلى أساطير دينية فزعموا أن (أوزيريس) - وهو إله الإنبات والخصوبة وبالجملة إله النيل - قد استعان بأخته وزوجته (إيزيس) إلهة الحكمة والتشريع والسحر ورمز الوفاء والإخلاص، وبوزيره (توت) إله العلم والتدبير وبعض الآلهة الآخرين على تكوين مملكة إلهية عظيمة في مصر. وكان لهذا الإله أخ وهو (سيت) إله الشر والقحط والاجداب فحقد عليه من أجل هذا الجلال الباهر الممثل في مملكته العظيمة الصافية، ولأنه لا يستطيع مجابهته وجهاً لوجه رهبة منه وفرقاً أمامه، فقد غدر به إذ احتال عليه بحيلة شيطانية حتى أدخله في تابوت كان قد صنعه خصيصاً لهذه الخديعة بحجة إنه يود أن يعرف سعة هذا التابوت، ثم أقفله عليه وقذف به في النيل فحمله التيار إلى المصب وسلمه إلى البحر الأبيض فحمله هذا البحر من المصب إلى (بيبلوس). وفي أثناء ذلك افتقدته زوجته الوفية فلم تجده، فأدركت ما حدث له، فصممت على أن تفتش عنه حتى تعيده إلى الحياة وإلا لحقت به، وظلت تجهد نفسها في البحث عنه حتى عثرت عليه وأعادته إلى الدلتا وقبل أن تتمكن من فتح التابوت فاجأها (سيت) وتغلب عليها بقوته ثم مزق جسم أخيه أشلاء عددها اثنان وسبعون شلوا، ألقى بكل شلو منها في مقاطعة من مقاطعات مصر، وكان عددها إذ ذاك يساوي عدد هذه الأشلاء، فلم يفت ذلك في شجاعة إيزيس ولم يضعضع من عزيمتها، بل ثابرت على جمع هذه الأشلاء المتناثرة حتى استكملتها ووضعت كل واحد منها في مكانه الطبيعي، ثم تلت عليه بعض ما تعرفه من الرقي والتعاويذ السحرية، فعاد إلى الحياة،(200/46)
ولكنها حياة لا تشبه الحياة الأولى، فلم يلبث على الأرض إلا بقدر ما أنسل (هوروس) ثم غادرها واستبدلها بمملكة الأموات العظيمة حيث أصبحت مهمته محاسبة أهل الدنيا ووزن أعمالهم وإصدار الأمر لهم أو عليهم بالنعيم أو بالجحيم
وقد استخلف على مملكة الدنيا من بعده ابنه (هوروس)، ولكن (سيت) عاد إلى مشاكسة هذا الإله الشاب من ناحية القانون فأعلن انه ليس ابن (أوزيريس) لأن (أوزيريس) قد مات منذ عهد طويل، ولأنه من غير الممكن أن ينسل في هذه الفترة الوجيزة التي عاد فيها إلى الحياة على الأرض. وإذاً فليس للعرش الإلهي وارث شرعي إلا هو. وقد رفع بهذه الدعوى قضية أمام محكمة الآلهة فهبت (إيزيس) تدافع عن شرفها، و (هوروس) يثبت بنوته من (أوزيريس) ثم استشهدت الزوجة المتهمة والابن المجحود بالإله اللبق الفصيح (توت) فشهد بشرف الوالدة وشرعية الولد فحكمت المحكمة بالعرش المقدس لذلك الإله الشاب
ومما يلفت النظر في هذه الأسطورة الشيقة هو أن (إيزيس) أثناء طيرانها للبحث عن أشلاء زوجها بكت حزناً عليه فسقطت من عينها دمعة فوق النيل فزاد لساعته، وكان ذلك في شهر بوونة، فظل النيل يزيد في هذا الشهر من كل عام إلى اليوم. ومن الغريب أن يوم بدء هذه الزيادة يسمى في أرياف مصر إلى الآن بـ (يوم النقطة) أي نقطة الدمع التي نزلت من عين (إيزيس). فأنظر كيف أن هذه الثمانية آلاف سنة لم تستطع أن تمحو هذه الأسطورة من صحائف الوجود؟!
روت بعض الأساطير المصرية الأخرى قصة (أوزيريس) و (هوروس) على نحو يخالف ذلك، ولكن هذه الرواية هي أصح الروايات أو بالأحرى هي أكثر الروايات تنسيقاً على نظام الحقائق
ومهما يكن من شيء، فإن أهم الملاحظات العظيمة القيمة في هذه الأسطورة هو أن روح القانون والأنظمة الشرعية كانت سائدة في مصر سيادة تامة حتى في عهود ما قبل التاريخ، ولولا ذلك لما طلب (سيت) عزل (هوروس) عن العرش بحجة إن بنوته من (أوزريس) لم تثبت، ولأن موته سابق على مولد هذا الإله الشاب بزمن طويل. ولولا سيادة هذه الروح القانونية أيضاً لما اضطرت (إيزيس) إلى الاستشهاد بـ (توت) على براءتها وشرعية ابنها وأحقيته في العرش.(200/47)
ويجمع على هذه الملاحظة كل العلماء الباحثين ويعدونها برهان رقي الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية وإن كانوا يختلفون في موضوع القضية الواردة في الأسطورة فيذهب البعض إلى تأييد الرأي الذي ذكرناه آنفاً، وهو إن الغاية من القضية كانت إثبات بنوة (هوروس) من (أوزيريس) بوساطة زواجه من أخته (إيزيس) ويرجعون زواج الاخوة بأخواتهم عند قدماء المصريين إلى هذه الأسطورة التي يقول البعض: إن (إيزيس) قد ادعتها لتبرر بها موقفها بعد أن ولدت (هوروس) من ناحية، ولتمكن ابنها من الصعود إلى العرش بوسيلة شرعية من ناحية أخرى.
ويؤكد البعض الآخر من الباحثين أن القضية التي أقامتها (إيزيس) أمام محكمة الآلهة لم تكن لإثبات بنوة (هوروس) من (أوزيريس) وإنما قصدت بها إثبات حق ابنها (هوروس) في العرش بحجة أنه ابنها هي، وهي أخت (أوزيريس) الإله الراحل، لأن احترام المصريين القدماء للمرأة كان يجعل الوراثة عن الخال أمراً محققاً؛ ولكن الذي لاشك فيه هو أن هذه الأسطورة على وجهيها تشهد بالشوط البعيد الذي كانت مصر قد قطعته في المدنية حتى في عصر ما قبل تكوين المملكة الأولى.
ظل ذلك النزاع الذي احتدم لهيبه بين (هوروس) وعمه أو خاله (سيت) إله الشر والغدر رمزا لتلك الحروب العديدة التي كانت تقع من حين إلى آخر بين رؤساء مقاطعات الوجهين القبلي والبحري زمناً طويلاً تطورت بعده إلى فكرة أجرأ من الرمز، وهي أن كلا من الرئيسين المتحاربين أصبح يمثل أحد ذينك الإلهين المتنازعين، ومازال هذا شأنهم حتى هب ذلك الفرعون العظيم (مينيس) أو (مينا الأول) فكان أكثر جرأة وأعظم صراحة، فأعلن في غير مواربة أن الإلهين كليهما قد حلا في جسده، وأن جسمه يشتمل على الجوهر الأساسي أو روح القدس للإلهيين جميعاً، وأنهما لهذا قد استخلفاه على ذلك العرش السامي الذي طالما كان موضع نزاع بينهما، وأنه حين يضع فوق رأسه تاج الوجهين: القبلي والبحري ويضمهما تحت إمرته في شيء عظيم من الحزم لا يزيد على كونه منفذاً فعلياً لأمر الإلهين.
وقد تم له ما أراد، إذ أصبح إلهاً حياً جامعاً بين القوتين اللتين ظلتا متفرقتين إلى عهده. ومنذ هذا العصر أطلق على (مينا) وأعقابه اسم الإله أو مليك القطرين أو اسم: (هوروس)(200/48)
و (سيت) أو مصدر الخير والشر، والنور والظلمة، والخصوبة والجدب، وأصبحت زوجته تدعى بالملكة التي تحظى في كل ليلة ب (هوروس) و (سيت) ولكن (سيت) كان في الأناشيد والأغاني يظل كامناً في أغلب الأحايين ولا يبرز على مسرح الأساطير المصرية إلا في حالات السخط والغضب، أما في الظروف العادية فلا ترى في الأناشيد إلا فرعون ممثلاً لهوروس، مشيداً بنعمه، شاكراً لآلائه، متحدثاً على لسانه بعظمة مصر وعرشها عنده، كما جاء في هذه الأنشودة الموجهة إلى مصر: (تحية إليك يا مخلوقة (هوروس) التي زينها بذراعيه مجتمعتين والتي لم يسمح لها بأن تخضع لسكان المغرب ولا لسكان المشرق ولا لسكان الجنوب ولا لسكان الشمال ولا لسكان الوسط المركزي، وإنما له هو وحده فحسب، أنت لا تخضعين إلا لهوروس الذي خلقك وأسسك ثم سواك وزينك، وأنت تحملين إليه كل ما فيك من خيرات حاضرة ومستقبلة وتقدمين إليه كل ما يشتهيه قلبه.
(يتبع)
محمد غلاب(200/49)
رسالة الشباب
إلى أين يتجه الشباب؟
الآن تقف مصر وأكثر بلاد الشرق العربي على مفرق الطرق في تاريخها الحديث، فهي تودع عهداً كان غرضها فيه واحداً استنزف كل ما لديها من حيوية ونشاط، وهو استعادة سيادتها المغصوبة ومجدها المفقود؛ وتستقبل عهد الإصلاح والإنشاء لتعوض ما فات عليها من فرص الإصلاح الداخلي، فتصلح ما أفسده العصر المنصرم، وتنشئ ما يطلبه العصر الجديد.
ومن شأن هذا العهد الانتقالي أن يحمل الأمة على إعادة النظر في أساليب الكفاح، فلكل ميدان عدته، ولكل عهد أساليبه.
والرسالة يهمها في هذا الباب مصير الشباب، فنحن موقنون بأن العهد الجديد سيتناول موقفه بالتغيير وغرضه بالتحديد
حمل الشباب بالأمس علم الجهاد الوطني، فكان جندي المعركة المضحي بوقته ومستقبله ودمه. وسجل في تاريخ الحركة الوطنية صفحات خالدات من الإخلاص والبطولة والتفدية.
أما الآن وقد صمت النفير، وتوارى الخصم المهاجم وراء المعاهدة، وارتدى ثوب الحليف، وآب المجاهدون إلى الزرع الذي تركوه، وإلى الأرض التي أغفلوها، فقد انفتحت للكفاح ميادين جديدة، وأبواب عديدة، وضاق الميدان السياسي عن الجهود الشابة والحماسات الدافقة
فهل يخرج الشباب ممن الميدان السياسي لينكب على تحصيل العلم وجمع الثروة وتنظيم الحاضر وتدعيم المستقبل ثم يتركه لقادة الرأي من شيوخ السياسة ورجال الإدارة؟
أم يبقى فيه ويظل زيته المضيء المحترق على أن يتطور مع مقتضياته الجديدة؟
وإذا أخذ بالرأي الثاني فإلى أي اتجاه يتجه بين مزدحم الآراء ومهب الأهواء في هذا العالم المضطرب الصاخب؟
ذلك ما فتحنا لأجله هذا الباب، مقدرين أن تتبارى فيه مطامع الشباب وتجارب الشيوخ
ويهمنا على الأخص رأى الشباب لأننا نريد أن نطلع على انفعالاته واتجاهاته، فنقف منها موقف البستاني من نبت الحديقة، يستأصل أشواكها وزوانها، ويتعهد أورادها وريحانها.(200/50)
ولابد لنا من كلمة ندخل بها إلى هذا الموضوع؛ فنحن لا نرى الشباب الانسحاب من ميدان الكفاح السياسي، فالجيل الماضي قد أنهكته المعركة الكبرى، وهو الآن يقوم بآخر خدماته فيمهد العمل للجيل الناشئ إذ يتعهده برعايته، ويظلله بحمايته، حتى يشتد ساعده فيترك له الميدان. وطبيعي أن اتجاه الكفاح في ميدان الإصلاح الداخلي، وتعقد مرامي هذا الإصلاح وتشعبها يتطلب شباباً كامل الثقافة صادق العزيمة واسع التجربة، يتخذ موقف المدرس لا موقف المحمس؛ وسيحتاج إلى إقناع الجماهير بالحجة، لا إلى إغرائها بالعاطفة
وأما الاتجاه فميدان الإصلاح الداخلي واسع الجنبات، وحرية اندفاع المثل والكفايات فيه أكثر، وسيتلمس كل فريق الرأي الذي يراه أكثر إسراعاً في تعمير البلاد، فيلتفت الشباب بطبيعة الحال إلى الغرب يسترشد بتجاربه ويستضيء بنوره. وهنا نحذره من أن تغره مظاهر الأمور؛ وهنا نقرع له جرس الخطر، ونصيح به صيحة الحذر فإن أوربا الآن تعج بأفكار خلابة ودعوات أخاذة زادتها الدعاية المقصودة بريقاً وضجة، فعسى ألا يغره هذا البريق، فهذه الأفكار وليدة المحنة، محنة ما بعد الحرب؛ فأوربا الآن محمومة؛ وإذا كان لابد لنا من الاقتداء بها فلنميز بين أسباب الرقي الحقيقية وبين ما أنتجته هذه الحمى من أعراض وهذيان وفوضى. ونقول بصراحة أكثر: - إن في أوربا الآن تطاحناً ظاهراً بين القومية والماركسية، وقد اندفعت الأولى للفاشية. والثانية للشيوعية؛ ولكل منهما مظهرها المتطرف الذي لا ينفع هذه البلدان الناشئة
نحن لا يفيدنا الإكثار من قرع الطبول ولا حرب الطبقات، فقد كان كفاحنا في الماضي رزيناً قوياً فنجح لأنه أستمد قوته من طبيعة الأشياء، فقاوم العبودية التي يعافها الإنسان؛ ويجب أن يظل في دوره الجديد على هذه الصبغة الأصلية لينجح
ربما تبهرنا تلك المظاهر بضجة العمل وسرعة التنفيذ، وتظهر لنا إن العمل الإنشائي في العهد الجديد أبطأ مما تصورناه؛ فإيانا أن ننسب ذلك إلى عيب في نظمنا الأساسية، لأن أشر ما نعانيه هو من أثر التحكم الأجنبي وانشغال الأمة عن تلافي نواقصها ومداواة عيوبها
وهل يعنينا إلا أن يكون الصرح وإن تراخى الزمن في إنشائه متين البنيان يستطيع مقاومة الزعازع التي تنتاب البلدان الناشئة؟(200/51)
يجب أن نحتفظ بوحدة الصفوف وان نبقى لجهادنا العام صبغة التطوع المشترك من كل طبقاته
إننا نريد أن نبني أمة قوية لا تيتم بفقد فرد، ولا تضل بزوال حزب. نريد أمة توجه ساسة، لا ساسة يوجهون أمة.
وخير ما نختتم به هذه الكلمة أن نخاطب شبابنا بما خاطب به المستر بلدوين قومه بالأمس إذ قال:
(في هذا العصر تستطيعون السير بسرعة ستين ميلاً في الساعة آمنين، فإياكم أن تسيروا بهذه السرعة في طريق التغييرات الدستورية، فإنكم إذا سرتم على هذا المنوال تحطم في يدكم الدستور، وجر في تحطمه الخراب واهراق الدماء. قد تكون الأفكار في بعض الأحيان مجلبة للخطر العظيم، فإن مئات الملايين تحكم الآن في روسيا وألمانيا وإيطاليا بأفكار غريبة عن هذه البلاد، فاتقوا شر الشيوعية والفاشية
بينكم بعض من يتحدثون عن التغييرات الدستورية بغير حساب فراقبوهم)
بهذا الخطاب يودع السياسي البريطاني الشيخ ناخبيه وهو مشفق على أمته المسكينة أن تحطمها الآراء المتطرفة. وبمثل هذا نوصي الشاب الناشئ، فالأمم الجديدة أحوج إلى مثل هذه النصيحة. وإن فيما تصنعه الأفكار المتطرفة في إسبانيا عبرة للمعتبرين
(محرر الصحيفة)(200/52)
رسالة العلم
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مراقب مصلحة الكيمياء
الرصاصة المسحورة
- 1 -
بدأنا هذه القصة بلوفن هوك، بهذا الرجل الذي لا يعرف إلا الحقيقة الواقعة يتوجه إليها قدما دون مداورة أو محاورة، وبدأناها به لأنه منذ نحو من مائتين وخمسين عاماً نظر بعين من السحر، نظر بعدسه، فرأى المكروبات أول من رأى. نقول بعين من السحر، وهو لو سمعنا نصف مكرسكوبه بأنه من السحر لشخر ونخر كما قد يفعل اليوم بعض مواطنيه الهولانديين استهزاء بنا واحتقاراً لوصفنا
وهانحن أولاء نختتم هذه القصة ببول إرليش وهذه خاتمة مباركة سعيدة، والخواتيم المباركة السعيدة لابد منها لكل قصة جدية ذات بال. كان صاحبنا رجلاً مفراحاً، وكان يدخن في اليوم الواحد خمساً وعشرين لفيفة من لفائف التبغ الطويلة الثخينة وكان مشغوفاً بشرب كوب من البيرة على الملأ مع خادم معمله القديم، وأكواب كثيرة أخرى مع زملائه من ألمانيين وإنجليزيين وأمريكيين. ومع إنه جاء في العصر الأخير الحديث إلا إنه كان به شيء كبقية من العصور الوسطى، فقد كان يقول: (يجب أن نتعلم صيد المكروب برصاص من عبقر) فضحك الناس منه. وأما أعدائه فصوروه صوراً مضحكة وكتبوا تحتها (الدكتور فنتازس)
على أنه مع هذا قد صنع حقاً رصاصة من عبقر. وكان له مزاج الكيمياويين القدماء الذين يحيلون الرصاص إلى الفضة ويستخرجون من خسيس المعادن الذهب، ولكنه صنع فوق ما حسب هؤلاء أنهم صانعوه: قلب سماً معروفاً مألوفاً يتخذه القتلة المجرمون لإبادة الأنفس، فصيره دواء وشفاء وخلاصاً لتلك الأنفس من داء من شر داءاتها. طبخ الزرنيخ(200/53)
طبخة ومزجه مزجة أحالته إلى عقار يذهب عن مرضى بني الإنسان بلعنة ذلك الداء الكريه ذي المكروب اللولبي، ذلك الداء القبيح الاسم الذي هو جزاء الخطيئة الكبرى. وكان لإرليش خيال غريب عجيب مقلوب، لا يتصل بالمألوف في هذه الأرض، ولا بالمعروف في العلم، فأعانه هذا الخيال فدار بصياد المكروب في طرائق البحث دورة جديدة، وطلع بهم وبعلم المكروب في صحراء المجهول طلعة جديدة كشفت لهم من فوق رابية عن وديان من الأرض جديدة، ولكنهم وآ أسفاه لم يدروا إلا القليل منهم ماذا يصنعون بالوديان الخصيبة الجديدة التي حلوها ولهذا السبب سنختتم هذه القصة بأرليش
وليس معنى هذا إن بحث المكروب انتهى وجاء ختامه، فأنا مؤمن، كإيماني بطلوع الشمس غداً، بأن أبحاث المكروب لم يجيء بعد ختامها، وبأن الغد كفيل بخلق قوم كإرليش يأتون من عبقر بمثل رصاصته التي أتى. ولعلهم يكونون كإرليش رجالاً برغم ابتكارهم مفاريح مماريح مهازير مفاكيه، فالأدوية الرائعة لا تستخرج من العمل الجد المتواصل والمعمل البديع وحدهما. . . أما اليوم فلا يوجد من صياد المكروب رجال إذا هم اقتنعوا بالذي يرونه ركبوا رؤوسهم في سبيله واقتحموا كل معارضة لبلوغ مقصدهم منه ولو خالف المألوف واصطدم بالشائع المعروف. فهكذا إرليش، ينظر في عينيك بوسعي عينيه محدقاً محدجاً يريد أن يقنعك بأن الاثنين تضاف إلى الاثنين فتجعل منها خمساً. وولد في سيلسليا في مارس عام 1854 فلما شب أرسلوه إلى المدرسة الثانوية في مدينة برسلاو فسأله أستاذه أن يكتب مقالة إنشاء موضوعها: الحياة حلم. فكتب هذا الصبي اليهودي الذكي يقول: إن الحياة تعتمد على الأكسدة العادية. . . والأحلام مظاهر من مناشط المخ، ومناشط المخ ليست إلا أكسدة. . . إن الأحلام أشبه شيء بفسفرة مُخّيَّة!)
وبالطبع كان حظه من هذا الإنشاء رقم خسيس، ولكن هذا لم يعكر عليه صفوه، فقد كان مرن على هذه الأرقام الخسيسة عن أعماله المدرسية. ومن المدرسة الثانوية ذهب إلى مدرسة للطب، بل إلى ثلاث مدارس للطب أو أربع. هكذا كان إرليش وهكذا تعلم. وفي كل مدرسة ممتازة في الطب دخل من استراسبورج إلى فرايبورج إلى ليبزج، ارتأى فيه الأساتذة أنه طالب غير عادي وارتأوا فيه أنه طالب سيئ بالغ أقصى درجات السوء، وذلك لأنه أبى أن يحفظ 10050 كلمة طويلة زعموا أنه لابد من حفظها لعلاج المرضى. كان(200/54)
إرليش ثائراً، وكانت ثورته جزءاً من الثورة التي بدأها بستور وطبيب القرية كوخ وسأله أساتذته أن يقطع جثث الموتى ويتعلم أجزاءها. ولكنه بدل هذا قطع جزءاً من جثة واحدة، وقطعه سليخة سليخة، وجعل هذه السلائخ غاية في الرقة ثم أكب على تلوينها بشتيت من أصباغ أنلينية بديعة اشتراها أو اقترضها أو سرقها على عين مدرسه
ولم يكن يدري هو نفسه لم يفعل هذا. وبقى إلى آخر أيامه يجد متعته الكبرى قي النظر إلى كل لون بهيج وصناعة كل صبغ زاه جميل. أقول متعته الكبرى ولا أذكر تلك المتعة الأخرى التي كان يجدها في الجدل الجموح والنقاش الشرود الذي كان يتعاطاه على مناضد البيرة ومن فوق أكؤسها
وكان يكره التربية الكلاسيكية ويعد نفسه من نصراء الجديد، ومع هذا كان يحسن الإلمام باللاتينية، ومن هذه اللاتينية كان يصوغ تلك الجمل الجامعة المقلمة التي كان يدعو بها كلما خاض غمار حرب، واستعدى العقول في الحملة على الخصماء. فبتلك الجمل الصارخة كان يعنى أكثر من عنايته بالمنطق. كان يصرخ: أي (إن الأجسام لا تعمل إلا بعد تثبيتها) وكان في صرخته يضرب المنضدة بيده حتى ترقص الصحاف التي عليها. فظلت تلك الصرخة بتلك الجملة تقوي قلبه وتحيي أمله في ثلاثين سنة لم يكن له فيها غير الخيبة. وكان إذا حدثك بهذه اللاتينية يلوح في وجهك بنظارته في إطارها القرني وهو يؤكد معناه في نفسك ويقول: (لعلك سامع! لعلك فاهم!)، ولو إنك أخذته بجده لحسبت إن هذا الهراء اللاتيني لا عقله البحاث هو الذي أفضى به إلى النجاح أخيراً. وعندي أنه أفضى بعض الشيء إلى هذا النجاح يقيناً
وكان إرليش أصغر من كوخ بعشر سنوات، وكان يعمل في معمل كنهايم في اليوم الذي عرض فيه كوخ على الناس بشلة الجمرة لأول مرة؛ وكان أرليش زنديقاً لا يؤمن بالله، فلما افتقدت السماء رباً يعبده توجه بعبادته إلى رب في الأرض، فكان كوخ. وبينا هو يصبغ بألوانه كبدا مريضه وقع على جرثومة السل ورآها قبل أن يراها كوخ بزمن، ولكن لجهله، ولقصور ذكاءه عن ذكاء كوخ، ظن تلك القضبان الملونة التي رآها بلورات جامدة، فطاش سهمه بعد أن كاد. ولما جاء مارس عام 1882 وجلس في بعض أمسائه في تلك الحجرة في برلين يستمع إلى كوخ وهو يشرح كيف أكتشف جرثومة السل، أهتز للذي سمع(200/55)
وأتضح لعينه ما كان غم عليها، ورأى الحقيقة واضحة صريحة. ووصف هذه الحادثة فقال: (إنها أكبر الحوادث أثراً في نفسه في كل ما صادف في حياته العلمية)، قالها بعدها بزمن طويل. وعلى أثرها أعتزم أن يتصيد المكروب هو أيضاً، فذهب إلى كوخ وأطلعه على طريقة بديعة يصبغ بها مكروب السل فيتراءى في العين سهلاً واضحاً - وهذه الطريقة لا تزال تتبع إلى يومنا هذا بلا تغير يذكر. ولزمه وهو يشتغل بمكروب السل حماسه الصاخب، فلوث نفسه من قدمه إلى رأسه بالمكروب، فأصابه السل فكان لابد له أن يذهب إلى مصر ففعل
- 2 -
وكان عمره إذ ذاك أربعاً وثلاثين سنة، ولو أنه مات عندئذ في مصر، إذن لنسي أمره بدون شك، أو إن هو ذكر فإنما يذكر بأنه رجل مِفراح ممراح أحب الألوان وأغرم بالخيالات ثم خاب، وكان كالمولد الكهربائي في جهده الفياض ونشاطه المتواصل. وأعتقد إنه يستطيع الجمع بين صيادة المكروب ومعالجة المرضى. وتعين رئيساً للأطباء في دار للعلاج شهيرة في برلين، ولكنه كان مرهف الحس مضطرب الأعصاب لا يقوى على استماع صراخ المرضى وأنين من يوشك منهم أن يموت بعد أن استعصي دواءهم وعز علاجهم.
نعم علاجهم. علاجهم الحق. علاجهم الشافي لا علاج الظن والتخمين، ولا العلاج بالتأسية الكاذبة والتلطف الفارغ عند سرير المريض ثم ترك الأمر للطبيعة عساها تحل العقدة التي أعجز الطب حلها. وساورته هذه الأفكار وأمثالها فأفسدت عليه صناعة التطبيب فكان طبيباً مخيباً، ذلك لأن المؤاساة ولو كانت كاذبة صفة لابد منها للأساة، أما اليأس من الأمراض ولو موئسة وقطع الأمل وتقطيعه على أسماع المرضى فلا يؤدي بالطبيب إلا إلى الخيبة. وعدا هذا فقد ساء إلريش طبيباً عندما لعبت برأسه لواعب الأحلام: كان ينظر إلى جسم المريض فينفذ ببصره إلى ما وراء جلده وكأنما يستعير لعينه مجهراً بالغ التكبير، فتتراءى له مادة الخلية المرتعشة وقد ارتسمت في عينه رمزاً كيمياوياً كبيراً لمادة كيمياوية معقدة. وتراءت له حلقات البنزين وسلاسلها الجانبية في تلك الخلايا بمثل ما تراءت له في رموز أصباغه، ونحى جانباً أحدث النظريات في علم وظائف الأعضاء، واصطنع لنفسه كيمياء للأجساد غريبة قديمة فجاءت كالثوب ذي الزي العتيق تلبسه في غير عصره. واختصاراً(200/56)
تستطيع أن تصف إرليش بما تحب إلا أنه مطبب عظيم، ولو أنه كان طبيباً فحسب إذن لحقت عليه الخيبة ولمات ذكره. . . . ولكنه لم يمت!
وصاح إرليش: (إن في اعتزامي أن أصبغ الحيوانات وهي حية، ولم لا وكيمياء أجسامها لا تختلف عن كيمياء أصباغي؟ وصبغها وهي حية قمين أن يكشف لي عن كل شيء فيها) وعلى هذا تناول صبغته الحبيبة، وهي أزرق المثلين وحقن قليلاً منها في وريد بأذن أرنب، وتتبع بعينه انسياح الصبغة الزرقاء في دم الأرنب وجسمه فوجدها تمر بكل جزء منه ثم تنقشع فلا يصطبغ بها شيء إلا أطراف الأعصاب الحية. فعند هذه الأطراف وحدها وقفت الصبغة وصبغتها دون سائر ما مرت عليه فكأنما تخيرتها تخيراً! ألا ما أغرب! ألا ما أعجب! ونسى علمه الأصيل برهة، وأغري بالمداواة وازدهته الطبابة لمحة، فقال في نفسه: (ألا من أدراني، فلعل هذه الصبغة الزرقاء تقتل الألم!) وما نطق بهذا حتى صدق نفسه وأخذ يحقن هذه الصبغة في المرضى وهم يتوجعون. ولعل آلامهم خفت بعض الشيء من جراء هذا، ولكنه ما لبث أن اعترضته في سبيل ذلك صعوبات لو تحكى ما خلت حكايتها من المتعة والفكاهة، فأجفل مرضاه من الصبغة؛ ومن ذا الذي يلومهم؟
خاب إذن إرليش فيما اعتزمه إيجاد دواء يقتل الآلام تواً، ولكنه اهتدى إلى تلك الحقيقة الغريبة عن أزرق المثلين: أنه يقع من أنسجة الجسم ومادته الحية على أشتات مئات مختلفات فلا يتعلق إلا بواحدة منها؛ ومن هذه الحقيقة ابتدع فكرة أشبه بالخيال قادته أخيراً إلى اختراع رصاصته المسحورة.
وتحدث في أحلامه قال: (هذه صبغة بين يدي لا تصبغ من أنسجة الحيوان جميعها إلا نسيجاً واحداً. وإذن فلابد من وجود صبغة لا تصبغ من أنسجة الإنسان شيئاً، ولكن مع هذا يكون من شأنها أن تصبغ المكروبات التي تعدو على الإنسان فتقتلها. وعاوده هذا الحلم خمس عشرة سنة أو تزيد قبل أن تتهيأ له الأمور لتجربة الفكرة التي تضمنها
وفي عام 1890 عاد من مصر ولم يكن مات هناك من السل وحقنه كوخ بدوائه الفظيع المزعوم للسل رجاء شفائه، ولكنه لم يمت من هذا أيضاً. ولم يلبث أن بدأ العمل في معهد كوخ ببرلين في تلك الأيام العظمى التي كان فيها بارنج يقتل الخنازير الغينية في سبيل خلاص الأطفال من الدفتريا، وكان فيها كيتا ساتو الياباني يصنع العجاب بالفئران ذوات(200/57)
الكزاز الفكي. دخل إرليش هذا المعهد الذي أثقله الوقار وأناخت عليه الرزانة بكلكلها فكان روحه الحي وفيض حياة ثوارة فيه. وكان له معمل تدخله فلا تكاد تجد سبيلك فيه لشدة امتلائه ولتبعثر الأشياء فيه، تتألق فيه صفوف الزجاجات وتتلألأ وتزهو بالذي فيها من أصباغ كثيرة ضاق وقته عن استعمالها. ويدخل كوخ على تلميذه وهو في هذا الامتلاء وعلى هذا التبعثر ليرى ماذا يصنع، وكوخ ذو سلطان في معهده كسلطان قيصر في دولته. وما كان كوخ يرى في أحلام إرليش عن رصاصته المسحورة إلا أنها بعض أحلام خرفة. أقول يدخل كوخ على إرليش في معمله فيقول: (أي عزيزي إرليش خبرني ما الذي خبرتك به تجارب اليوم). فيأتي الرد من إرليش متدفقاً مضطرباً يفسر هذا ويوضح ذلك في غزارة وتلاحق كأنه عين ماءٍ ثرة تدفعت أمواهها ساخنة إلى السماء. وذات مرة كان إرليش يبحث في الحصانة التي تأتي الفئران ضد السم الكائن في حبوب الششم والخروع إذا هي تعاطته، فلما دخل عليه كوخ فسأله في ذلك تدفع يقول: (إني أستطيع أن أقدر بالضبط مقدار السم الذي يقتل في ثمان وأربعين ساعة فأراً زنته عشرة جرامات. فهذا المقدار دائماً واحد. . . والآن أستطيع أن أخط خطاً بيانياً يرينا كيف تزيد الحصانة في الفأر - إنها تجربة تضارع في دقتها تجارب علم الفيزياء. . . . أملق سيدي سمعك إلي؟ ووجدت أيضاً كيف يقتل السم الفئران. إنه يجبن كرات الدم في شرايينها، وهذا كل تفسيرها. . .) وهو في أثناء ذلك يلوح بأنابيبه الزجاجية وقد امتلأت بدم الفئران المنجمد القاني في وجه رئيسه العظيم مؤكداً له أن مقدار السم الذي جبن هذا الدم هو عينه الذي يكفي لقتل الفأر الذي جاء هذا الدم منه. ولا يلبث كوخ أن يجد نفسه بين أرقام وتجارب تنصب عليه انصباباً فلا يكاد يلاحقها. ثم إذا هو يقول لإرليش
(ولكن مهلاً يا عزيزي إرليش، فإني أكاد أجاريك. أرجوك أن تزيد تفسيرك وضوحاً). فيجيب: (على العين والرأس يا سيدي الدكتور فأنا أعطيك المزيد من ذلك فوراً) ولا ينقطع كلامه برهة، بل هو يختطف قطعة من الطباشير ويرجع على ركبتيه ويخط على أرض المعمل أشكالاً هائلة توضح آراءه. ثم ينظر إلى كوخ فيقول: (والآن يا سيدي أفهمت ما عنيت؟ أواضح تفسيري لك الآن؟)
(يتبع)(200/58)
أحمد زكي(200/59)
رسالة النقد
إسماعيل المفترى عليه
تأليف القاضي بيير كربتيس
وترجمة الأستاذ فؤاد صروف
للأستاذ الغنيمي
- 3 -
ذكرنا في العدد الماضي طائفة من أغلاط الفصل الأول من الترجمة العربية لكتاب إسماعيل، والآن نذكر طائفة أخرى من أغلاط الفصول التالية. ويظهر أننا سنضطر إلى الاكتفاء بذكر أمثلة قليلة من هذه الأغلاط في كل فصل حتى لا نستأثر وحدنا بباب النقد في الرسالة
(1) اقتضب الأستاذ صروف الفقرة الأولى من هذا الفصل اقتضاباً أفقدها نصف معانيها. أنظر إلى قول المؤلف:
ثم انظر إلى الترجمة العربية: (إلا أن روح التفاؤل التي كانت تملأ صدره ما كانت لتمكنه من التغلب على تلك الصعاب لو أن الوزارة الإنجليزية التي كانت يومئذ في الحكم أفهمت الرأي العام البريطاني أن دلسبس ينوي. . .
(2). .
كل ما ترجم به الأستاذ هذه العبارة هو قوله: (ومهما يكن من أمر الامتياز)
(3)
هل معنى هذه العبارة هو: (كان اسم دلسبس على فم كل إنسان في مصر) كما قال المترجم أو أن معناها: (إن شهرة دلسبس جعلت الناس يذكرون اسم مصر)
(4) (ترجم الأستاذ عبارة (بالدين العائم وهو اصطلاح لم نره قبل الآن. والذي نعرفه أن معنى هذه العبارة الإنجليزية (الدين السائر)(200/60)
(5) ,
اكتفى الأستاذ في ترجمة هذه العبارة بقوله: (وأخشى أنه يمهد لكارثة) وترك قول المؤلف إنه يفسد كل شيء ولا يكاد يفعل شيئاً
(6)
قال الأستاذ في ترجمة هذه العبارة (وقد أورد أرقاما تختلف قليلاً عن الأرقام التي أوردها لورد كرومر) وقد جاء الأستاذ باسم لورد كرومر من عنده فغير بذلك المعنى، لأن المؤلف يشير إلى السير أوكلند كلفن لا إلى اللورد كرومر
(7) في ص 24 من الأصل الإنجليزي يذكر المؤلف اختلاف المؤرخين في مقدار ديون سعيد باشا ثم يرجع هذا الاختلاف إلى شيئين: الديون السائرة، وديون سعيد الشخصية فيقول:
'. .
اقتضب الأستاذ هذه العبارة اقتضاباً قطع الصلة بينها وبين ما قبلها فقال (وقد بحث الأستاذ. . . وهو من كبار علماء الاقتصاد الألمان في هذا الدين في كتاب له)
(8)
ترجم الأستاذ صروف هذه العبارة بقوله إنه (كان في الجيش المصري في أيام سعيد باشا) ومع إن الأستاذ يعرف إن إسماعيل باشا هو الذي استخدم الضباط الأمريكيين في جيشه وإن الجنرال لورانج لم يكن في جيش مصر أيام سعيد. وعبارة المؤلف صريحة في هذا لأن معناها إنه خدم في الجيش المصري وقت إن كانت ذكرى سعيد لا تزال ماثلة في الأذهان
(9)
ليس معنى هذه العبارة إنه (لم يكن قوي الجسم) كما قال الأستاذ صروف بل معناها إنه لم يكن حسن الهيئة منظرياً
(10)
اكتفى الأستاذ بترجمة جزئه الأخير فقال (وكان يخيل إلى الناظر إن عينيه نصف مغمضتين) فغير بذلك معناه(200/61)
(11)
قال الأستاذ في ترجمتها (وكان خلفه مهملاً مغضى عنه) وما أبعد هذا القول عن المعنى الذي يقصده المؤلف وهو إن خلفه رأي من الحكمة أن لا يرى الناس كثيراً
(12)
لم يزد الأستاذ صروف في ترجمة هذه العبارة التي يصف فيها المؤلف أدون دليون وإكرام محمد سعيد لدلسبس على قوله (وذكر هذا الكاتب أيضاً) وأين هذه الألفاظ الأربعة من قول المؤلف (وقد قال هذا الكاتب نفسه الذي كان يرقب الأمور من وراء الستار، والذي كانت مهمته أن يلم بتصاريفها، قال إنه في الوقت الذي كان فيه محمد سعيد يكرم دلسبس أكثر من إكرام عيسو ليعقوب) وإن شاء الأستاذ أن يعرف قصة عيسو ويعقوب فليرجع إلى سفر التكوين من الكتاب المقدس. وإذا جاز للأستاذ أن يترك ما أشر به المؤلف إلى قصة عيسو ويعقوب فهل يجوز له أن يترك ما وصف به أدون ده ليون قنصل أمريكا العام في الإسكندرية والتي أوردها ليدل على سعة إطلاع هذا القنصل وصدق أخباره؟
وهنا نحب أن نرجو الأستاذ المترجم ألا يضيف شروحاً من عنده إلى ألفاظ لا تحتاج إلى شرح، وبخاصة إذا وضع هذا الشرح في صلب الكتاب وكتب إلى جواره لفظ المعرب كوضع كلمة كوبري بعد كلمة جسر؛ واعتقادنا أن ليس في قراء ترجمة الأستاذ صروف كلهم من لا يعرف كلمة جسر
وسنكتفي بذكر هذا العدد من أغلاط الفصل الثاني لننتقل بعد ذلك إلى ذكر بعض أغلاط الفصل الثالث.
(1) 16 , 000 , 000 ,. .
ترجم الأستاذ صروف هذه بقوله: (انفق منه (من 91 , 000 , 000 جنيه) 16 مليون جنيه على قناة السويس وانفق الباقي توديراً وتبذيراً
فهل هذه هي ترجمة العبارة الإنجليزية؟ وماذا أعجب الأستاذ في لفظ تودير الذي كرره في كتابه أكثر من مرة. نعم إنه لفظ عربي في معاجم اللغة ولكن الأذن لا تستسيغه ولدينا بدلاً منه التبذير والإسراف وبسط اليد والإتلاف الخ
(2)(200/62)
انظر إلى ترجمة الأستاذ لهذه العبارة المقتطفة من كتاب لورد ملنر فقد قال:
(إن إسماعيل خير مثال للرجل المبذر عرفه التاريخ أو تصوره مؤلفو الروايات. وما من مبذر طائش كان له سلطان غير محدود على موارد غير محدودة. فقد ارتقى العرش)
ما هي العلاقة التي يستطيع القارئ أن يفهمها بين الجملة الثانية وما قبلها أو بعدها؟ إن لورد ملنر يريد أن يقول: (إن إسماعيل باشا خير مثال للرجل المبذر عرفه التاريخ أو القصص، ولم يؤت أحد مثل ما أؤتي إسماعيل من الطيش والتصرف المطلق من كل قيد في موارد لا حد لها وقد اعتلى عرش مصر الخ.
(3) قال المؤلف يشرح سبب بقاء أدون ده ليون في مصر بعد أن أعتزل منصبه:
, , ,
كلما عنى الأستاذ بترجمته من هذه العبارة هو إنه (أقام عدة سنوات بالقاهرة بعد اعتزاله منصبه) أما سبب مقامه فيها وما كان لوجوده من الأهمية فلم يذكر الأستاذ صروف منه شيئاً.
(4)
قال الأستاذ في ترجمة هذه الجملة: (فالأعمال التي كان يقوم بها على سبيل التسلية قد أصبحت ضربة لازب عليه) فهل كان الخديوي يقوم بأعمال الدولة كلها التي ذكرها المؤلف قبل هذه العبارة على سبيل التسلية أو إنها كانت واجبات يراها فرضاً عليه ولكنها في نفس الوقت كانت (مصدر سروره وغبطته)
(5) ثم أنظر إلى الفقرة الآتية من قول الأستاذ صروف: (والكاتب لا يقتصر على القول بأن قصر عابدين بناء وضيع الشكل من الوجه الهندسي بل يضيف إليه قوله إنه بهو المآدب والحفلات لا يشف مرآه أو أثاثه أو زخرفه عن شيء من العظمة) (واقرأ بعد ذلك معناه الحقيقي الذي يريده المؤلف (لكنه في كتابته يبدي آراء من عنده إلى حد ما ولا يقتصر على ذكر الحقائق المجردة حين يصف قصر عابدين (بأنه متواضع البناء) وحين يقول: (إن حجرة الاستقبال غير فاخرة الأثاث أو بديعة النقش) ولا داعي إلى ذكر النص الإنجليزي بأن ما أوردناه هنا هو ترجمته الحرفية ونحب أن نقول هنا إن ترجمة بوضيع كما فعل الأستاذ أكثر من مرة ليست ترجمة دقيقة.(200/63)
(6)
هذه معان لم يترجم منها الأستاذ صروف شيئاً
(7) ,
وهذه العبارة كلها أيضاً لم يترجمها الأستاذ بأكثر من قوله (وعلى كل يجدر بنا أن نقتبس العبارات التالية توفية للكلام حقه)
(8)
قال الأستاذ صروف في ترجمة هذه العبارة (أما البيان الذي قدمه القنصل فلم يكن يراد نشره ولذلك أطلق لنفسه العنان ليقول كل ما يخطر بباله. ونحن نجل هذا القنصل عن أن يطلق لنفسه العنان ليقول كل ما يخطر بباله ونعتقد إنه (في هذا التقرير السري الذي كتبه إلى رئيسه والذي لم يكن يراد نشره كان صريحاً كل الصراحة لا يخفي من الحق شيئاً)
(9) لينظر القارئ معنا إلى هذه الفقرة الطويلة من قول الأستاذ صروف (على إن إسماعيل لم يكتف بأن صرح بعزمه على إلغاء السخرة، وفي الحقيقة إن كلمة السخرة كانت على كل شفة حتى إن القنصل الفرنسي العام كتب يومئذ إلى وزارة الخارجية الفرنسية يقول (إن هذه اللفظة تفرق بين الأعمال الحكومية والمصالح العامة وهي تنطوي دائماً على إشارة إلى الأعمال الجارية في ترعة السويس بحيث إن جميع العيون تشخص إلى) وليقل لنا هل يفهم لها معنى؟
(10) ولينظر إلى هذه العبارة الأخرى من ترجمة الأستاذ صروف (وليس ثمة سبب يحملنا على القول بأن الخديو كان مستعداً أن يسلك تلك الخطة لو لم يكن مقتنعاً بصوابها. وعلى كل فقد أظهر بمعاداة فرنسا جرأة عظيمة
ألم يكن أسلس من ذلك أن يقول مثلاً (وليس ثمة ما يحملنا على الاعتقاد بأن الوالي قد فعل ما فعل وهو غير مقتنع بأنه إنما يؤدي الواجب المفروض عليه. وسواء أكان ذلك أو لم يكن فقد كان وقوفه في وجه فرنسا عملاً جريئاً. أما عبارة المؤلف فهي: -
(11) '
إلى القارئ كيف ترجم الأستاذ صروف هذه العبارة: (وعليه فإن الصدمة التي صدم بها(200/64)
إسماعيل قنصل فرنسا في مصر تدحض التهمة التي وجهها ملنر إلى إسماعيل). فهل هناك ترجمة أبعد عن الحقيقة من هذه الترجمة؟
تلك أمثلة من أغلاط الفصلين الثاني والثالث ذكرناها موجزة لكي يتسع لها باب النقد في الرسالة ولكي يسمح لنا الأستاذ الأديب صاحبها أن نواصل نقدنا حتى نتمه، وسنسير على هذا الإيجاز في الفصول المقبلة إن شاء الله.
الغنيمي(200/65)
البريد الأدبي
ملاحظات على التعليم في مصر
نشرت جريدة المنشستر جارديان في أحد أعدادها الأخيرة فصلاً طويلاً عن التعليم في مصر ومسائل الطلبة المصريين في حاضرهم ومستقبلهم بقلم الدكتور ماكلانهان عميد قسم الدراسات الشرقية بالجامعة الأمريكية استهله الكاتب بتقديم الإحصاءات الأخيرة عن عدد الطلبة المتخرجين في مختلف الكليات والمعاهد الفنية والخصوصية، وتبيان التقدم السريع الذي طرأ على سير التعليم العالي والفني. وفي رأييه أن هذا التقدم إنما هو نتيجة طبيعية مشروعة لآمال الشباب المصري الذي يرغب في مهن ومراكز رفيعة في الحياة العملية. بيد أن اضطراد هذا التقدم يثير مشكلة دقيقة، فهل تستمر مصر على ترك حبل التعليم العالي على غاربه؟ وهل تظل على تخريج هذه الجموع الحاشدة من الشباب الطموح المتعطل؟ أم أنها سوف تتخذ الإجراءات لتقييد بعض أنواع التعليم؟ يرى الكاتب أن مصر ستحذو حذو الأمم الأخرى في الاحتفاظ بحرية التعليم. على أن ما يثير القلق هو أن جماعة الطلبة قد اعتادت في الأعوام الأخيرة أن تأخذ الأمور بيدها وأن تطالب بأمور كثيرة فيما يتعلق بمصاريف التعليم ونظام الدراسة، وما سيكون نصيب الطلبة من إدارة الشؤون العامة ولم يشذ عن هذه القاعدة طلبة الجامعة الأزهرية الذين يبلغون وحدهم أثنى عشر ألفاً
وتبدي جماعة الطلبة رغبة قوية في الاشتراك في بحث المسائل السياسية والاقتصادية المصرية، بل يمكن القول بأنها تتأثر في حركتها بالنزعة الفاشستية، وذلك على رغم إرادة الزعماء السياسيين.
وقد اتخذت الحكومة بعض خطوات في سبيل ترقية التعليم التجاري ورفع مستواه، ولكن الشركات والمتاجر الأجنبية تصر على توفر معيار خاص من الكفاية. ومازال على مصر أن تبحث في المستقبل القريب عن حل هذه المشكلة الدقيقة، أعني مشكلة التعليم، وعما إذا كان من الواجب أن تسير في سبيل التوسع في شؤون التربية أم في سبيل تقييدها ولا ينكر أحد ضرورة التعليم كعامل في تقدم الأمة، بيد أنه يجب أن تتخذ بعض التحوطات؛ ويخشى أن يفضي التقدم السريع إلى أزمة. أما إذا كانت مصر قد عولت على السير الحثيث، فسوف يطلب إليها أن تؤدي الثمن. وقد أدركت بعض الدول الأوربية خطر تدخل الشباب(200/66)
في الشؤون العامة وتأثره بنفوذ الزعامات الشعبية الطافحة، فعملت على تجنبه
نقول. وهذه ملاحظات جديرة بالعناية والتأمل من كل أولئك الذين يعنون بتربية الشباب ومستقبله
ثلاثة كتب عن الحرب الحبشية
ظهرت أخيراً عن الحرب الحبشية ثلاثة كتب هامة، أولها وأهمها كتاب المارشال دي بونو وعنوانه: (السنة الرابعة عشرة. فتح إمبراطورية) أعني السنة الرابعة عشرة لقيام النظام الفاشستي في إيطاليا وهي سنة 1936 التي تمم فيها استيلاء إيطاليا على الحبشة، والثاني بقلم الماجور بولسون نيومان المعروف بمؤلفاته عن مصر والشرق الأدنى وعنوانه: (فتح إيطاليا للحبشة) ' والثالث بقلم الصحافي الأمريكي هربرت ماتيوس وعنوانه (شاهد عيان في الحبشة) وكتاب المارشال دي بونو هو بلا ريب أهم هذه الكتب وقد نوهت عنه الرسالة في عددها الماضي؛ فقد كان المارشال كما نعلم أول قائد للحملة الإيطالية على الحبشة، وقد قاد هذه الغزوة في أشهر الحرب الأولى؛ وأهمية الكتاب في أنه يميط اللثام عن حقائق سياسية وعسكرية خطيرة؛ مثال ذلك أن المارشال يعترف لنا في كتابه أن مشروع غزوة الحبشة يرجع إلى سنة 1933 أعني قبل حادث وال وال الذي اتخذته إيطاليا حجة لغزو الحبشة بعامين، وإن موسوليني وضع هذا المشروع خفية مع المارشال، وفكر في تحقيقه أولاً بالعمل على إضرام نار الثورة في الحبشة، ثم التدخل بحجة المحافظة على السلام؛ وقد أنفقت إيطاليا في سبيل هذه المحاولة مبالغ طائلة، ولكن القبائل لم تثر في وجه النجاشي كما أريد وحبط المشروع، فلبث موسوليني وقائده يتربصان بالحوادث حتى وقع حادث وال وال، وزعمت إيطاليا عندئذ أن الحبشة تنوي الإغارة على المستعمرات الإيطالية، ووقع الاعتداء الشنيع على الحبشة وقد عجب الرأي العام حين صدر كتاب المارشال ولم يعترض موسوليني على ظهوره متضمناً لهذه الأسرار التي تفضح مشاريع إيطاليا الاستعمارية ونياتها المبيتة على الاعتداء ولكن الظاهر أن السياسة الفاشستية لم تعد تقييم للرأي الدولي وزناً ولا ترى في لومه أو مؤاخذته عاملاً يحسب حسابه. ومن جهة أخرى فقد اعتبر التصريح للمارشال بإصدار كتابه حراً طليقاً تعويضاً أدبياً عما أصابه من آلام العزل خلال نشوب الحرب وانتداب المارشال بادوليو لإتمامها وفوزه بشرف الظفر(200/67)
دونه.
وأما كتاب الماجور نيومان فهو كباقي كتبه عرض للحوادث من الوجهة الاستعمارية، وفيه يحبذ افتتاح الحبشة ويعرب عن ثقته بأنها سوف تستقبل في ظل الحكم الأوربي عهداً جديداً، وأن الزمن كفيل بتسوية الأخطاء التي ارتكبت
وأما الكتاب الثالث، فهو كتاب (شاهد عيان في الحبشة) فهو مشاهدات صحفي، صحب الحملة الإيطالية منذ بدء الحوادث وتنقل معها في جميع الميادين. فهو ليس تاريخاً بالمعنى المقصود ولكنه جريدة يومية للوقائع مشبعة بروح العطف على الغزاة.
دار لنوادي القلم في باريس
كان الكاتب الفرنسي الكبير جول رومان رئيس نادي القلم الدولي قد أذاع في إحدى خطبه منذ اشهر إن الحكومة الفرنسية ستنشئ في باريس داراً لأعضاء نادي القلم من كافة أنحاء العالم. وقد تحقق نبأ المسيو جول رومان؛ ففي أنباء باريس الأخيرة أن الحكومة الفرنسية قد اختارت في حي الشانزليزيه داراً عظيمة فخمة، وخصصتها للوافدين على باريس من أعضاء نوادي القلم في أنحاء العالم؛ وستحتوي الدار المذكورة على غرف للنوم، وأبهاء للمطالعة والاجتماعات، وستزود بمكتبة عظيمة؛ وسيكون بها قلم سكرترية دائمة تعاون الضيوف على زيارة معالم باريس وقضاء مهامهم. وللدار المذكورة شرفة عظيمة تسع خمسين شخصاً خصصت لجلسات الصيف؛ وسيقدم طعام الإفطار للضيوف الذين يبيتون في الدار
ولما كان مؤتمر نادي القلم الدولي سيعقد هذا العام في باريس بدعوة من نادي القلم الفرنسي فإنه من المنتظر أن يفد كثيرون من أعضاء نوادي القلم في مختلف أنحاء العالم على باريس لتمثيل هيأتهم في المؤتمر؛ وسيكون نادي القلم المصري ضمن النوادي الماثلة في هذا المؤتمر على يد ثلاثة أو أربعة من أعضائه؛ وسيعقد المؤتمر المذكور، وهو الخامس عشر من نوعه، في شهر يونيه القادم
وهذا الخطوة التي تتخذها الحكومة الفرنسية لتكريم الكتاب الأجانب هي من أثر المساعي الجمة التي يبذلها مسيو جول رومان لتقوية نفوذ هذه الهيئة الأدبية الدولية
اكتشاف مدينة مصرية قديمة(200/68)
روت الصحف السويدية نبأ اكتشاف أثري هام وفقت إليه البعثة الأثرية السويدية التي تقوم بالحفر في مصر برياسة الدكتور يلمار لارسن؛ وكانت حفائر البعثة هذا العام في منطقة أبو غالب، فكشف المنقبون عن مدينة مصرية قديمة ترجع إلى نحو أربعة آلاف عام؛ وظهر من أحيائها جانب يشمل عدة منازل، ومنها منزل ظهرت به سلالم كاملة، ومخازن للغلال؛ ووفقت البعثة أيضاً إلى اكتشاف عدة آنية وتحف أثرية أخرى؛ بيد أن الحفر لم يكشف عن كل شيء بعد؛ ويرى الدكتور لارسن أن هناك منطقة أثرية هامة سيكشف عنها قريباً، وقد توفق البعثة إلى اكتشافات عظيمة الشأن من الوجهة التاريخية، وتؤمل الدوائر السويدية أن ينال متحف ستوكهولم الوطني شيئاً منن الآثار المكتشفة في قيمة مجموعته المصرية
متحف لحياة الطلبة
من أنباء ألمانيا أن مدينة فرزبورج قد قررت أن تنشئ في قلعتها الشهيرة معهداً لتاريخ الجامعات الألمانية، وسيلحق به متحف هو الأول من نوعه، لأنه سيخصص لاستعراض حياة الطلبة في الجامعة؛ وقد جمعت إلى الآن نحو ألف وستمائة قطعة مختلفة من جامعات ألمانيا من صور وأدوات وأسلحة وغلايين وبرانيط، وثياب، مما يستعمل الطلبة في مختلف العهود والفصول؛ هذا إلى كثير من الدفاتر والمحابر والأوراق والقصائد والصور التذكارية، وأدوات اللعب المختلفة نسقت جميعها في أروقة وأبهاء تمثل حياة الطلبة أثناء الدرس وأثناء اللعب والتريض
مشروع معجم للأعلام عن مصر
تصدر شركة إنكليزية قاموساً للأعلام في أوربا الوسطى وأوربا الشرقية بعنوان وهو مرجع الأعلم الوحيد من نوعه. وقد فكرت الشركة الناشرة أخيراً أن تضع ملحقاً لهذا المعجم عن الأعلام في مصر في طبعته القادمة؛ وأوفدت بالفعل أخيراً إلى مصر مندوباً خاصاً لها للمقابلة الشخصيات البارزة في مصر وجمع المعلومات اللازمة عنها لوضع التراجم الخاصة بها
ونظام هذا المعجم على نظام المعجم العالمي الكبير في وضع تراجم موجزة تدرج بها أهم(200/69)
الخواص عن الشخص مثل تاريخ ميلاده، وشهاداته، ووظائفه وعنوانه الدائم
المبرد
كنت أخذت على الأستاذ إبراهيم مصطفى في أسبوع الجاحظ أنه نطق المبرد بالفتح، فكتب (أحد القراء) الكرام إلى الرسالة ينتصف فيها إلى الأستاذ وينصره، الواقع أن هذا خطأ شائع في ألسن الناس حتى في الألسن المثقفة، وإني لأجعل الحكومة في هذه القضية لحجة اللغة والأدب أستاذنا المرصفي إذ يقول في تقدمة كتابه رغبة الآمل في شرح الكامل: (كثيراً ما يتساءل الناس عن كلمة المبرد، أبكسر الراء أم بفتحها؟ والقول الثابت عندنا ما ذكره ياقوت في كتابه معجم الأدباء قال: وإنما لقب بالمبرد لأنه لما صنف المازني كتاب الألف واللام سأله عن دقيقه وعويصه فأجابه بأحسن جواب فقال له المازني: قم فأنت المبرد بكسر الراء أي المثبت للحق، فحرفه الكوفيون ففتحوا الراء؛ وعن السيوطي في مزهره أن شيخه أبا عثمان المازني سأله عن عويصة فأجاب بجواب برد به غليله) فقال له: قم فأنت المبرد، فهو الذي لقبه به، وكان الكوفيون يفتحون الراء تهكماً به!
قلنا: ولذلك كان الرجل يقول: برد الله من بردني، والرجل أدرى بحقيقة لقبه، ونعوذ بالله أن تحق فيينا كلمته فنكون من المبردين
محمد فهمي عبد اللطيف
إحياء ذكرى المنفلوطي
لجنة إحياء ذكرى المنفلوطي تناشد أساطين الأدب وأعلام البيان العربي باسم الوفاء لفقيد اللغة والأدب المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي أن يتفضلوا بالكتابة عن أدبه الخالد من شتى نواحيه بمناسبة مرور ثلاثة عشر عاماً على وفاته وتمهيداً لإقامة مهرجان أدبي لإحياء ذكراه في 16 يوليو القادم
وترجو حضرات الكتاب والأدباء أن يعدوا مباحثهم الأدبية التي سيلقونها في مهرجان إحياء الذكرى وليتكرموا بمخابرتنا بمصر بشارع ذهني رقم 8 بالظاهر. وسنعلن فيما بعد عن المكان الذي سيقام فيه الاحتفال في الموعد المحدد علنا نكفر عن تقصيرنا في حق الفقيد الراحل ثلاثة عشر عاماً(200/70)
سكرتير اللجنة
متولي حسنين عقيل
كتب الرحلات
كتب الرحلات من الأسفار التي يعنى الأوربيون بالإكثار منها لأنها وسيلة من وسائل إيقافهم على مجرى أساليب الحياة في الأقطار الأخرى، ولعل أكثر الأمم اهتماماً بذلك الشعب الإنجليزي، فقد جبل على حب المخاطرات والتنقل بين بلدان الشرق والغرب، وهذان كتابان أصدرتهما مطبعة في الشهر الماضي أما الأول فهو رحلة إلى سمرقند وبعض البلدان الأسيوية لسيدة إنجليزية هي إثيل مانين وهي تذكر في كتابها هذا ما لاقته من صعاب البيروقراطية الروسية في منعها من الدخول هناك، وتقص كيف تمكنت من عبور الحدود ودخول تركستان الروسية من (كراسنوفدسك) الواقعة على بحر قزوين ثم منها إلى تاشقند، وذلك ففي أسلوب يستهوي القارئ وتصف معيشة أهل السهوب والقفار وتقول في سياق حديثها (وفي القوقاز، كنا أول سيدات إنجليزيات يزرن هذه البلدة الألمانية الصغيرة جراندنبرج، تلك الواحة المنسية في بحر مترامي الأطراف من العشب) كما تلم بعادات القبائل الكردية والفارسية والقوقاز، والأزْبك والتتار، وتصف حياة النساء مما يدل على أنها تغلغلت بين طبقات هذا المجتمع الذي يعد حلقة اتصال بين البداوة في صورها الأولى والحضارة الغربية وتقول إن الحرية التامة متوفرة بين هذه الشعوب الشرقية، وإن الحضارة الأوربية إنما تفقدهم الكثير من صفاتهم الجميلة ولكنها لا تصيرهم غربيين.
أما الكتاب الآخر فعن ألمانيا الهتلرية وعنوانه ألفه شاب إنجليزي حدث يدعى سمع الكثير عن ألمانيا النازية من مدح وقدح فأحب أن يلمس ذلك عن قرب فسافر إليها، وفي الفصول الأولى تقدمة تاريخية عن ألمانيا منذ أواخر القرن التاسع عشر ويصف فيه محاسن النازية ومثالبها، وإن كان يميل في الغالب لاستحسان أعمالها على وجه الإجمال
حفلات غنائية هائلة
تقام في شهر يولية القادم بمدينة برزلاو بألمانيا حفلات غناء هائلة يشترك فيها مائة وعشرون ألف مغني؛ وتنظم فيها جماعات للغناء والنشيد المشترك تضم الواحدة ثلاثين ألفاً(200/71)
أو أربعين ألفاً من المغنين؛ وهذه أعداد ضخمة لم يسمع باجتماع مثلها من قبل في حظيرة واحدة للغناء؛ ولهذا اتخذت إجراءات غير عادية لتنظيمها وتدريبها، ومهدت لها أبهاء فسيحة يجري إعدادها منذ أعوام؛ وقد تم منها بهوان عظيمان أحيط أحدهما بالمنابر وبلغ مسطحه 140 ألف متر مربع، ويمكن أن يتسع لأربعمائة ألف وعشرين ألفاً من الناس، وأقيمت في البهو الثاني منصة هائلة تتسع لثلاثين ألفاً من المغنين؛ وإنه لمن الصعب أن يتصور المرء كيف تجتمع هذه الألوف الحاشدة من الفنانين في حظيرة واحدة، وكيف ترتفع هذه الأصوات بالغناء المنسق المنتظم؛ ولكن عصرنا أضحى أهلاً لكل أعجوبة وكل مدهش
كتاب عن الرهبنة
ظهر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن الرهبنة والرهبان في إنكلترا عنوانه (الرهبان الإنكليز وإلغاء الأديار) بقلم المستر جوفري باسكرفيل وهو كتاب شائق في موضوعه وفي أسلوبه، وقد لعبت الأديار في العصر القديم دوراً هاماً في تاريخ إنكلترا كما لعبت دورها في تواريخ الأمم الأخرى؛ ومن ثم كانت أهمية هذا الكتاب؛ ولدينا نحن بالعربية أكثر من كتاب عن تاريخ الأديار والكنائس(200/72)
الكتب
عالم السدود والقيود
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
للأستاذ كامل محمود حبيب
أهو كتاب أدب؟
أهو بحث فلسفي اجتماعي؟
اهو نقد يراد به إصلاح ناحية خاصة؟
أهو سرد حوادث مرت على عيني الكاتب فسجلها يراد المتعة وإزجاء الفراغ؟
أهو صرخة من أعماق قلب رجل طوحت به الأيام إلى قرارة سجن. . . فتلمس فيها الثورة والحنق. . .؟
أم هو ماذا؟. .
لقد كفانا الأستاذ - وهو يقدم لكتابه - مئونة التخبط بين هذه الأسئلة فقال: (لست أعني بها (الصفحات) أن تكون قصة، وإن كانت تشبه القصة في سرد حوادث ووصف شخوص؛ ولست أعني بها أن تكون بحثاً في الإصلاح الاجتماعي، وإن جاءت فيها إشارات لما عرض لي من وجوه الإصلاح؛ ولست أعني بها أن تكون رحلة، وإن كانت كالرحلة في كل شيء إلا إنها مشاهدات في مكان واحد؛ ولا أستقصي كل ما رأيت وأحسست وإن كنت أقول بعد هذا أن الاستقصاء لا يزيد القارئ شعوراً بما هناك، لا فرق بينه وبين الخلاصة إلا في التفصيل والتكرار. .)
نعم، لم يرد المؤلف شيئاً من هذا وإنما أرادها جميعاً، فجمع بين أشتاتها وألف بين أطرافها ثم زاد عليها نقداً في سخرية، وتهكماً في مرارة، بثهما في أعراض هذا السفر الصغير فهو قد قال في باب (المنع والترخيص). . (فإذا أبيح الشيء مرة فإنما يباح في حالة لا تسري إلى غيرها، وفي وقت لا يمتد إلى ما بعده. . الخ الخ) وفي قصة الفجل والجرجير ص52، ص53 نوع من هذا التهكم اللاذع
ولا يبرح الأستاذ العقاد في كتابه يطرفنا بنكتة مستملحة أو حادثة ممتعة منذ دخل في عالم(200/73)
السدود والقيود إلى أن خرج منه، ففي باب (الليلة الأولى في السجن) وكذا في باب (أحمد حمزة) من الدعابات ما لا يستطيع معها القارئ أن يمسك عن الانفجار ضحكاً وقهقهة كأنه أراد أن يزيل عن القارئ بعض ما يسيطر عليه من الجد وهو يقرأ، أو كأنه أراد أن يستحث القارئ فيدفعه إلى آخر صفحة من الصفحات، أو كأنه نسى بعض ما قاسى في السجن وهو يكتب. .!
وقد يجول بالخاطر أن الإجرام ينزع عن الإنسان إنسانيته فيبدو حيواناً مفترساً يفر منه الناس، خوف التعدي وخشية الضرر، غير إننا نرى في الكتاب براهين وأدلة تأتي على هذه الخاطرة من أساسها، نراها في الصفحات (73 - 80) وفي صفحة 197. . . وقد تدفع الضرورات رجلاً دمثاً إلى اقتراف جرم محظور، فيكشف ويناله الجزاء، إلا أنه لا يندر أن يظل بعدد ذلك رجلاً دمثاً كما كان. . .
وإذا كان (السجن إصلاح وتهذيب) كما يقولون؛ فلم لا نرى أثر ذلك في سجوننا لما ينال السجين من ظلم وإعنات وتحقير ومهانة واستصغار. وإذا كانت هذه الشدة تفيد في قليل من الحالات فما لا ريب فيه أنها تبذر الحنق والضغينة والحفيظة في نفس السجين إن كان دمثاً، وتغرس فيه الثورة والجموح إن كان شريراً. ولقد أشار المؤلف إلى نظام السجون الأوربية لنرى ما بيننا وبينهم من بون شاسع في هذه الناحية، وإن كان بعض الأمم قد جاوز الحد فيما خولوا السجين من حرية وتسلية. ولقد هفت بي نفسي نحو سجون موسكو - وأنا أقرأ بعض ما كتبه جيمس برفن ستيوارت ص210 إلى ص214 - لأستمتع بما يستمتعون به بعيداً عن عناء العمل، وعناء الأمل، وعناء الفكر، إلا أنني - واستميح الأستاذ عذراً - لا أستطيع أن أعمل ثماني ساعات كل يوم تتخلها ساعة واحدة للطعام. . .
ولقد رأيت في الكتاب هدوء من يقص قصة لا تضطرب حوادثها في نفسه، ولا تلمس مفاجآتها قلبه، فعجبت - بادئ ذي بدء - غير أني عدت إلى نفسي فقلت: لعله النسيان قد محا كثيراً من الذكرى، أو لعله الاطمئنان إلى كل ما يجيء به القدر، أو لعله الإيمان بالتضحية، أو لعلها حكمة الشيوخ ورزانتهم لا تعبأ. .
هذه كلمة إن لم يكن فيها الاستقصاء ففيها التعريف بالكتاب وليس بالمؤلف.
كامل محمود حبيب(200/74)
أحسن القصص
للأساتذة: محمد عطية الأبراشي، محمود السيد عبد اللطيف،
حسن محمد جوهر
القصة ضرب من الأدب الرفيع تتجمع بين رقيق النثر ورشيق الشعر، فلها من الشعر سحره وجماله، ومن النثر ترسله وانسجامه، يسير سلساً كالماء ساعة الأصيل رقراقاً كالنسيم العليل، لا تقف في طريقه جنادل الأوزان، ولا يغل بأغلال القافية، وقد صيرت وزارة المعارف القصة أساساً من أسس التعليم في منهج المدارس الابتدائية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وتنافس الكتاب في إصدار القصص، فهذه قصة تاريخية، وتلك جغرافية والأخرى أدبية، والتلاميذ يستسيغون جميع ذلك
وبينا نحن نتمنى للقصة (في أفق المدارس) الكمال والسلامة من زيف الخيال، وزيغ المطابع والأقلام برزت الحلقة الأولى من حلقات (أحسن القصص) لأساتذة أمجاد بارعين فإذا هي مزيج من الأدبين العربي والإفرنجي، وصلة بين الخيالين الغربي والشرقي في أسلوب هو - كما يقولون - السهل الممتنع، والقريب البعيد، وإذا كان هذا أول الغيث، فإنه غيث ممرع، وصيب بالخير مترع، فالحلقة خالية من التكلف والصنعة مفعمة بالروعة والمتعة، قد أنفق عليها مؤلفوها عن سعة إيماناً بفنهم واطمئناناً إلى آثارهم، فالغلاف جميل أنيق يحدثك دون قراءة عنوانه أنه قصة، وتنطق ريشة المصور بأنها ساحرة، والورق ناصع، والطبع صاف دقيق والصور خلابة، وإن بدأ القارئ أن الكتاب في غنية عن التصوير؛ فقلم كاتبه أفصح من ريشة مصوره، وسحر عبارته آخذ من دقائق صورته.
يشتمل الكتاب على أربع قصص: قصتين عربيتين وأخريين مصريتين، تلمس في الأولى حياة العرب في حضارتهم وجدهم في دعتهم، ومزحهم في حكومتهم، وسماحتهم في ضيافتهم، وتقرأ في الثانية مثلاً لحقد المرأة، وآخر للحب الظافر، وفي الثالثة وصف محكم للصحراء وجوها وللواحات وثمراتها، ولصبر البدو وعزمهم ووثباتهم على العقبات في جلد وصرامة، وتنتظم الرابعة مواقف محرجة سهلة الابتداء عسيرة الانتهاء، وفيها مثل نبيلة للحنو والعطف.(200/75)
وإذا كان على الناقد أن يتقصى الحسنات والسيئات فأنا لا نكاد نلفي في هذه الحلقة سيئات تذكر، اللهم إلا هنات تبدو كالكلف في جبين الحسناء، من ذلك أن صورة الغلاف لا تمثل منظراً في الكتاب، والرقصة الموصوفة بأنها عربية في (خليفة في الخيال) لا تمت إلى العرب من قريب أو بعيد، كما أرى وجوه الراقصات وجوهاً غير عربية، فالوجه العربي مستطيل غالباً، وأرى أن توضيح الصور بالكتابة تحت الرسم تزييف لها، فللرسم لغته، وهو غني عن الكلام، وإلا عد دليل الضعف والقصور، وتسمية القصة الثالثة (عزة في الصحراء) تسمية غير موفقة إذ مكانتها في القصة ثانوية ولا يرفع من منزلتها أنها وحيدة أبيها، ولفت نظري تكرار عبارة (حباً وكرامة) في روايتين عربية وإفرنجية، وحبذا لو نوعت العبارة ولدى المؤلفين من أفانين القول معين لا ينضب، على أن الكتاب مع ذلك طاقة يانعة من أزاهير الجمال
المعادي
عبد العظيم علي قناوي(200/76)
العدد 201 - بتاريخ: 10 - 05 - 1937(/)
بعد مؤتمر الامتيازات
الآن يبدأ الاستقلال!
كان يوم السبت أول أمس آخر أيام المؤتمر، فغابت في أقصى الحلوق الألسنةُ التي كانت تجادل وتقاتل للمنفعة، وانبسطت من القلوب ألسنة معسولة كانت تجامل وتدامل للعاطفة. وجدوى المدنية على الإنسان، أنها خلقت له لسانا مع اللسان، إذا جرح هذا، لعق دم جرحه ذاك. وجملة القول في المؤتمر أنه ألغى الامتيازات إلا ذيلا سينسحب في ردهات المحاكم المختلطة اثني عشر عاماً ثم ينقطع. ومصر التي كابدت رهق هذا النظام المهين في الأعمال والأموال والأنفس، تدرك أن هذا الاتفاق المدني مع الدول الممتازة، أبلغ شانا وأبعد مدى من ذلك الاتفاق العسكري مع الدولة المحتلة؛ فإن الاحتلال الإنجليزي كان محصوراً في ثكنتين وقلعة، يطل من نوافذها الضيقة إطلال المتقحم الغاصب، فلا يرى إلا النظر الشزر، ولا يسمع غير الهتاف العدو؛ وكان وجوده الباطل تحدياً لرجولة الشعب فتيقظت فيه عواطف الوطنية والقومية والحرية، فدافع بمواهبه حتى نضجت فيه الكفاية، وضحى بدمائه حتى نبغت فيه البطولة. وأما الاحتلال الدولي فقد كان معتمداً على اتفاقات موروثة ومساومات مكتوبة وامتيازات مكتسبة، فتدخل في كل عمل، وتغلغل في كل مكان. وأخذ على الأهلين سبل العيش وموارد الرزق فتعطلت في نفوسهم الملكات المنشئة، وسكنت في رءوسهم النوازي الحافزة، ورضوا من بلادهم بالنصيب الأخس ضراعة وذلة؛ وكان نظام الامتيازات الذي استتبع هذا التفاوت في نظام الحياة، إيحاء ملحاً بأننا دون الأجنبي في القوة والقدرة والخلق، فخضعنا خضوع التابع، وقنعنا قنوع المحروم، وتأخرنا في ميدان الاقتصاد بقدر ما تقدمنا في ميدان السياسة. فإذا أنقذ الوفد بهذا الاتفاق كرامتنا من الذل، وسيادتنا من العجز، وثروتنا من الغبن، واستقلالنا من النقص، كنا أحرياء بأن نفخر بسمائنا التي لا تعبس، وبأرضنا التي لا تيبس، وبنيلنا الذي لا يُحلف
الآن يبدأ الاستقلال؛ لأن الاستقلال الصحيح أن تقول صادقاً في وطنك: أنا السيد؛ وفي محكمتك: أنا القاضي؛ وفي أرضك: أنا المستغل؛ وفي مالك: أنا المتصرف. على أن (بَدَأَ) ليس معناها (تم)؛ وتسجيل الاستقلال عمل من أعمال الحكومة، ولكن تثبيته عبء من أعباء الشعب؛ وإذا كان المدافع عن جهته السياسية جنود الدولة، فإن المدافع عن جهاته(201/1)
الأخرى شباب الأمة. هذه مياديننا الحيوية تعج بالجيوش الغربية، ليس لنا من بينها جندي ولا قائد، وليس لنا من ورائها فخر ولا مغنم إنما يتنافسون ونحن الخصوم ويتقاتلون ونحن القتلى. فمن الذي يحتل هذه الميادين المغصوبة، ويغزو هذه الجيوش الغاصبة؟ وهذه طبقاتنا العاملة تفتك بنشاطها الفطري جراثيم الجهل والفقر والمرض؛ فمن الذي ينبه عقولها بالعلم، ويشد أيديها بالمال، ويمسح على أبدانها بالعافية؟ الشباب هم الجواب عن هذين السؤالين وعن غيرهما من كل ما يخطر بالبال من مسائل الاستقلال ومشاكل البلد
ستقرأ في (رسالة الشباب) من هذا العدد كلمة لشاب كريم يقترح فيها على إخوانه التجنيد المدني لزحف اجتماعي عام يهاجم عوامل الضعف في العلم والأدب والسياسة والاقتصاد والأخلاق والنظم، وجعل لهذه الغزوات الأدبية خمسة أعوام تحشد فيها الجنود وتنصب القادة وتوضع الخطط وتوزع الفرق وتعين الميادين ويتم النصر، وليس أجدى ولا أجدر في الحال التي نحن فيها من هذه الفكرة. فقد وقفنا طويلا نقنع المكابرين أننا أمة لها وجود مستقل، ودولة لها سلطان سيد، فجر علينا هذا الوقوف أن تخلفنا عن الأشباه تخلفا لا يسوغه مجد الماضي ولا طموح الحاضر. فسبيلنا إلى اللحاق أن نتهالك في السير لا نتراخى ولا نتريث، نبصر هدانا على رأى الشيوخ، ونحمل ضعفنا على قوة الشباب، ونستمد حوافزنا من الذكرى، ونرسل مطامعنا مع الأمل.
هذا الاقتراح طبيعي تقتضيه الحال بعد أن فرغنا من الإنجليز بمعاهدة الزعفران، ومن الدول باتفاق مونترو، فلم يبق ما يشغل الرءوس والأيدي إلا أمورنا الداخلية، ومشاكلنا الاجتماعية. فكيف السبيل إلى تحقيق هذا المقترح؟ أنكتفي بجهاد الطلاب من الشباب في أوقات الفراغ وأيام العطلة، يزورون المدن ويرودون القرى فيثقفون العامل ويعلمون الفلاح وينفثون من روحهم الوثابة حياة في النفوس، وصحة في الجسوم ويقظة في المدارك؟ أم نؤلف فرقا دائمة من الشباب المتخرج يكون فيها المعلم والطبيب والمهندس والزراعي والواعظ، فيسيرون بعتادهم وخيامهم (روادا) يغشون القرية بعد القرية، يدرسون أحوالها، ويكشفون أدواءها، ويعالجون كل شيء بما يساعد على صلاحه، أو يعين على نجاحه؟ أم نعبئ جيشاً سلمياً نظامياً من المتعلمين المتعطلين نُعدهم إعداداً خاصا للدعاية والإرشاد والدفاع، ونمدهم بالكفاف من المال، ونجعل بعضهم مع الزراع، وبعضهم مع العمال،(201/2)
وبعضهم مع الطلبة، يروضون جسومهم على الدفاع المنظم، ونفوسهم على الخلق الصالح، وأيديهم على الإنتاج الصحيح؟ ثم ماذا تكون صلة هذه الفرق بالحكومة والأمة؟ لمن القيادة؟ على من النفقة؟ أللحكومة؟ أعلى الأمة؟ أم لهما وعليهما معا؟
ذلك اقتراح جدير بأن يقسَّم فيه الرأي ويُحكم له التدبير؛ وقد عرضه صاحبه هناك وعرضناه نحن هنا لنستعين على تمحيصه بأقطاب الرأي، وعلى تنفيذه بأرباب العزيمة.
أحمد حسَن الزيات(201/3)
الذي نعمله
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءتني من الأديب صاحب الإمضاء رسالة يقول في ختامها:
(. . . قد رأيت بما لي من حق طالب العلم على أستاذه أن أطلب إلى سيدي الأستاذ أن يتبع هذا المقال بنفحة أخرى تبين لنا ما نعمله لنبلغ من أمرنا ما نريد، وأرجو ألا يعتبر مني هذا اقتراحا أو ما في معناه وإنما هو محض استزادة من خير علمك العميق النظيف. . . .)
أحمد حنفي نصار القوصي
وهذا سؤال حقيق بأن يسأل، وكنت أود أن يسأل، فهو حقيق بأن يجاب
وجوابي للأديب أن حاجتنا الكبرى إنما هي أن نعلم كيف نريد لا أن نعلم كيف نعمل. فإذا أردنا عملنا؛ وكل مريد عامل وعارف بوسيلته إلى إنجاز مراده
مضى زمن والناس يتحدثون عن الإرادة والعمل كأنهما قدرتان مفصولتان، وعن العاطفة والفكر كأنهما شيئان لا يتلاقيان، وعن الخيال وفهم الواقع كأنهما ملكتان نقيضتان، إلى آخر ما يفرقون ويقابلون بين ملكات الطبائع وخصائص الأذهان. وهذا خطأ في تصوير الحقائق يتبعه لا محالة في تصوير العلاج والإصلاح
ليست الإرادة والعمل ولا غيرهما من الملكات والطبائع خطين متلاحقين يبدأ أحدهما عند نهاية الآخر، أو جسمين متحيزين لا يجتمعان في مكان واحد، وإنما هما مظهران من قوة النفس يصدران عن معين لا يتجزأ ولا ينفصل بالحدود والمعالم. فإذا امتلأت النفس بالقدرة على الإرادة فقد امتلأت بالقدرة على العمل في وقت واحد وفي صورة واحدة؛ ولن يفشل في عمله - وقد تهيأت للعمل أسبابه - إلا لأنه ناقص الإرادة
أرأيت إلى الناس وهم يطلبون السيادة ولا يبلغها منهم إلا قليل؟ ما بال قوم منهم يبلغونها وأقوام ينكلون عنها خاسئين؟
إنما يبلغها من بلغ لأنه أرادها ولم يرد غيرها. فهو سيد وإن تراخى الزمن دون الإقرار له بالسيادة؛ وهو سيد لأنه لن يكون عبداً وإن أخطأته الذرائع إلى حين
أما الذي يبغي أن يسود ولا يأبى أن يكون عبدا فأين هو من إرادة السيادة؟(201/4)
وأما الذي يبغي أن يسود ولا يختلف عنده مقام السيد الرفيع ومقام العبد الذليل فأين هو من إرادة السيادة؟
وأما الذي يبغي أن يسود ويحسب أن الناس يسودونه قبل أن يسود عليهم فأين هو من إرادة السيادة؟
قل إنه يتمنى أن يسود، أو قل إنه يحلم بأن يسود، أو قل إنه لا يكره أن يسود؛ فأما أنه يريد فمعاذ الإرادة أن تجتمع ونقيضها في عزيمة واحدة؛ ومعاذ الإرادة أن تجتمع ولا يتبعها عمل ولا يتبع العمل نجاح.
لماذا لا نعمل؟ لأننا لا نريد! ولماذا لا نريد؟ لأن زادنا من الحس والوعي والخيال قليل
ومع هذا نحن لا نُزهي بشيء كما نزهي بفرط الحس وفرط الوعي وفرط الخيال. . فهل رأيت إلى بعد ما بين الحقيقة والدعوى، وبعد ما بين وصف الداء ووصف العلاج؟!
إملاء النفس بالحس والوعي والخيال تملأها بالحركة والإرادة غير منفصلين. وانظر إلى الطفل الدارج لماذا لا يهدأ؟ ألانه قرأ الفصول والمباحث في فضل الحركة والنشاط؟ ألأن أحداً أمره أو أحداً أغراه؟ كلا! ولكنه يتحرك وينشط لأنه شبعان من الحس شبعان من إرادة العمل الذي يهواه. ولو سبب غير ذلك دعاه إلى الحركة والنشاط لما استجاب. إذا أحسسنا لم نصبر على الركود، وإذا نفضنا الركود فماذا أمامنا غير الحركة والعمل؟ وماذا أمامنا غير الظفر والفلاح؟
لننس كل النسيان وأشد النسيان أننا - معاشر الشرقيين قوم مصابون بفرط الحس والوعي والخيال. فإننا لأبرأ الناس من هذا المصاب إن كان مصاباً. وإننا لأحوج الناس إلى هذا الشفاء، وهو شفاء
وآية ذلك أن نسأل كم عدد المعبرين عن الحس والخيال في الشرق كله؟ وكم عدد هؤلاء في أمة واحدة من أمم الدنيا المريدة العاملة؟
كم في أمة واحدة من أمم الدنيا المريدة العاملة السيدة الأيدة من مصورين ومثالين؟ وكم فيها من موسيقيين ومنشدين؟ وكم فيها من ممثلين ومخرجين وكتاب روايات وشعراء وأدباء؟ وكم فيها من متاحف وتماثيل؟ وكم فيها من باعة أزهار وأساتذة تجميل؟ وكم فيها من مغامرين مقاديم يبيعون الواقع بالخيال، ويستغنون عن الممكن الميسور بما يلوح للعاجزين(201/5)
كأنه محال؟
كم من هؤلاء في أمة واحدة وكم منهم في الشرق كله هذا الزمان وأخشى أن أقول في جميع الأزمان؟
إن لم تكن الحقيقة أن الشرق مسكين غاية المسكنة مدقع غاية الادقاع في ازواد الحس والخيال، فالأسطورة الكبرى ولا ريب هي أنه مسرف في حسه وخياله، مفرط في شطحاته وآماله.
فما بالنا نحار كيف نعمل، وأولى بنا أن نحار كيف نحس ونتخيل؟ وما بالنا ننشد أسباباً للحركة والعمل غير أن نملأ نفوسنا بالإحساس كأنما هذا وحده غير كاف؟ وكأنما نحتاج بعد الإحساس إلى مزيد؟
إن الإنسان ليثور من السخط والغضب حين ينظر إلى فقرائنا العجزة المعدمين وهم يتيهون من الغنى الموهوم، ويتغطرسون بالثراء المعدوم. واسمعهم يتغنون بالحب مثلا والحب فيض في الشعور واتساع في آفاق الوجدان؛ واسمعهم يتغنون به وهو صنوف صنوف صنوف لا تنحصر في معنى واحد ولا في نمط فريد: حب الناشئين غير حب الكهول، وحب التفاهم والتعاطف غير حب المتع والشهوات، وحب المرأة المطواع اللعوب غير حب المرأة العصية الشموس، وحب المنكوب اللاجئ إلى حرم العاطفة غير حب السعيد الناعم بما في يديه، وحب الواثق غير حب المرتاب، وحب الوسيمة القسيمة غير حب الرشيقة الظريفة، وحبك الأول غير حبك بعد تجربة ومراس، وصنوف غير ذلك تتعدد بعداد الرجال والنساء وعداد الأحيان والأعمار والمناسبات.
اسمعهم يتغنون بهذه العاطفة الشاملة الداوية العميقة الرحيبة التي لا عداد لها بالألوان وإن عدت باللفظ في كلمة واحدة، وقل لي ماذا تسمع غير نغمة واحدة معروضة في شتى أساليب؟ ماذا تسمع غير أن حبيبة هاجرة أبدا وحبيبا سيموت أبدا وفوق ذلك قطرات هنا من دموع وشهقات هناك من أنين؟
ودع هذا واسمع المنشد أو المنشدة لا يكادان يفرغان من نغمة مبدوءة حتى يتبعهما ضجيج وزعيق وقرع وخبط وتصفيق كله نشوز واختلاط ومنافاة أبعد المنافاة لسماع الألحان والأنغام. وقل لي: هل تصدق أن هؤلاء السامعين يستمعون إلى موسيقى ويصغون إلى فن(201/6)
وينعمون بتعبير جميل وتنسيق لا يطيق الاختلال؟
فأما الموسيقى والنشوز والخبط والزعيق فمحال أن يجتمع هواها في أذن واحدة في لحظة واحدة؛ وأما الذي يجتمع مع النشوز والخبط والزعيق فهو تخبط الجسد المحموم بحمى البهيمية لا تمييز فيه ولا ذوق ولا خيال
علم الله ما أصغيت إلى جمع من هؤلاء الناعقين الناهقين ولا توسمت ما يزهون به من (حساسة) وظرافة إلا تلمست في يدي موضع السوط ألهب به تلك (الحساسة) وأطير به تلك (الظرافة) وأثبت لهم بالسوط وحده - ولا إثبات بغيره لأمثال هؤلاء - أنهم بلداء بلداء بلداء، وإنهم يغثون النفوس من فرط كونهم بلداء غارقين في بلادة لا تفيق
لا يا أساة الشرق الحزين والمشفقين عليه!
داووه من نقص الإحساس لا من فرط الإحساس؛ وداووه من ضنانة الخيال لا من سرف الخيال
وعلموه أن يحس تعلموه أن يريد؛ ومتى تعلم أن يريد فلا حاجة وراء ذلك إلى تعليم
ولقد يسأل السائل من جديد: ومن لنا أن نثبت فيه الحس المأمول؟ وجواب ذلك سهل في التعبير، ولا أزعم أنه سهل في الإنجاز والتحقيق
جواب ذلك أن الحس لا يخلق خلقاً ولكنه يتعهد بالحث والإيقاظ إن أصابه جمود ورانت عليه ثقلة الكسل والجثوم
وليس أنجع في الحث والإيقاظ من تصحيح الأجسام وتصحيح الأذواق: تصحيح الأجسام بالرياضة الصالحة القوية، وتصحيح الأذواق بالفنون الجميلة الرفيعة؛ ومن صح جسده وحسن ذوقه فلن يفوته الشعور بما حوله؛ ومن شعر بما حوله فماذا يبقى له إلا أن ينشط ويعمل، وإلا أن يريد وينجز ما يريد؟
عباس محمود العقاد(201/7)
جلسة عائلية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(عمي.!)
فلم أجب، ولم ألتفت، فكأن النداء كان لغيري، ومضيت في كلامي مع صاحبتي، وكان الهواء طول النهار راكداً، والحر شديداً، ثم بدأ الجو يطيب، والجلسة تحسن، في هذه الصحراء النائية التي لم يكن يخطر لي أن يهجم علي أحد فيها من أهلي.
(عمي. . .)
فأبيت أن أشعر أن النداء لي؛ فقالت صاحبتي: (ألا تسمع؟)
ولم يكن ثم شك في أني أنا العم المقصود، فقلت: (سامع، وفاهم. . .)
(عمي. أنت هنا؟ من الصبح أناديك)
فوقفت - فما بقي من هذا بد - والتفت إلى الصغيرة التي بح صوتها وقلت: (هل سمعتك تنادين عمك؟)
قالت: (طبعاً. . لي نصف ساعة وأنا أفعل ذلك)
قلت: (هل تريدين مني أن أبحث لك عنه؟. . أناديه معك؟ إن صوتي مع الأسف خافت. خفيف جدا. . . لا يذهب إلى أكثر من متر. يصلح للهمس فقط. في الأذن) فضحكت الصغيرة وقالت: (ماذا تقول يا عمي؟ لماذا تتكلم هكذا؟)
قلت: (عمك؟ أنا؟ أنا عمك؟).
قالت: (بالطبع. . ألا أعرف عمي؟) وضحكت.
قلت: (واثقة؟).
قالت: وهي لا تزال تضحك وقد راقها كلامي: (جدا).
قلت: (ولا شك عندك)؟
قالت: (أبدا).
قلت: (ولا رغبة في الشك؟)
قالت: (كلا).
قلت: (يعني أن لي أخا أنت بنته فأنا عمك؟)(201/8)
قالت: (آه).
قلت: (بهذه السهولة؟ بلا تردد أو مناقشة أو بحث؟. وا أسفاه!. ألحق أن روح البحث العلمي ينقص الجيل الجديد)
قالت: (ماذا تعني؟)
قلت: (يا بنت أخي - أظن أنه لاشك عندك في هذا - إن الذي أعنيه هو أن المسألة تحتاج إلى تمحيص قليل، وأن التسليم بهذه السهولة ليس من أخلاق العلماء. تفضلي واجلسي فإن الجلوس أعون على البحث السديد).
فجلست وطلبت لها شيئاً من عصير البرتقال، فهو خير ما يشرب في هذا المكان وفي مثل ذلك الجو وعرفتها بصاحبتي ثم قلت لها:
(نعود الآن إلى عمك)
فقالت: (ما له؟)
قلت: (لاشيء به. كان الله في عونه. هل تعرفين ابن الرومي؟)
فابتسمت صاحبتي وقالت الصغيرة (ابن الـ؟ ابن إيه؟)
قلت: (مسكين ابن الرومي!. ألم تسمعي به قط؟)
قالت: (لا. . أبداً. . أين هذا؟)
قلت: (مات من زمان).
قالت: (وكيف أعرفه وقد مات من زمان؟)
قلت: (صدقت، الذي يموت لا يعرفه أحد، يكون ذنبه على جنبه. خازوق!)
قالت: (ما هو؟)
قلت: (أن يموت. . أ. . أ. . إن ابن الرومي مات)
وقالت صاحبتي: (دع الموت والموتى بالله. حسبك الأحياء فأركبهم بما شئت من هزلك)
وقالت الصغيرة: (من هو ابن الرومي يا عمي؟. إني أراك تعطف عليه)
قلت: (صحيح. . مسكين،. ابن الرومي هذا يا ستي كان رجلا له لحية. . كان ينبغي أن يظل وجهه أمرد، أملس ناعما فقد كان جميلا في صباه، ولكنه كان مع الأسف رجلا، والرجال مصابون باللحى. . آه لو كانت اللحى تنبت للنساء! ولكن الله أعفاكن من هذا(201/9)
البلاء. . ومن حسن حظ ابن الرومي - أو من سوء حظه، لا أدري - أن الناس في زمانه كانوا لا يحلقون لحاهم كل يوم كما نفعل نحن تقليداً لكن يا بنات حواء. . غريب! ينفر الرجال من مظاهر الرجولة ويدأبون على محوها كل يوم!. . . ولا نرى المرأة تحاول أن تكون لها لحية كالرجل!. . لا تخافا فلست أنوي أن ألقي محاضرة عليكما، ولكنه يخطر لي الآن أن من غير المقبول من الرجل أن يتجّمل ويحاكي المرأة ويحاول منافستها في مزيتها فهل هذا يا ترى تخنث منه؟ أم هو من الرغبة في أن يتسلح للنضال بكل سلاح؟. . ما علينا!. . فلنرجع إلى ابن الرومي: كان هذا يا ستي ذا لحية خفيفة قليلة الشعرات، ولكنها لحية على كل حال؛ وكان يأسف لأن (السيفتي ريزور) - آلة الحلاقة الحديثة - لم تكن قد اخترعت في زمانه. .)
فقالت الصغيرة محتجة: (يا عمي ما هذا الكلام؟. . كيف يمكن أن يأسف على شيء لم يكن يعرف أنه سيكون؟)
قلت: (والله ذكية يا ملعونة!. . نهايته. . الحق معك. . فهل الأصح أن أقول إنه لم يكن يأسف على عدم اختراع السيفتي ريزور؟. . سيان؟. . هيه؟. وكان يا ستي يخاف من البرد جداً، فكان إذا دخل الحمام - أعني إذا أراد أن يستحم - يوقد فيه النار ليضمن لنفسه الدفء حين يكون فيه ويملاْ الطشت بالماء الساخن، ويعد الليف والصابون النابلسي الجيد - أم ترى هذا لم يكن معروفاً؟. . لا بأس - ويطلق البخور ثم يدخل متوكلاً على الله، متوسلاً إليه تعالى أن يحرسه في الحمام، وأن يخرجه منه بخير وسلام. .)
فقالت الصغيرة: (أكان يخاف إلى هذا الحد؟. . لماذا؟ مما كان يخاف؟)
قلت: (أوه، لا أدري!. يظهر أن كلباً كلباً - مسعوراً - عضه في طفولته ولم يشف قط، أو لم يشف تماماً. . كووه بالنار أو لا أدري ماذا فعلوا به. . ولكنه لم يشف)
فقاطعتني سائلة: (صحيح يا عمي؟. . مسكين!)
قلت: (لا أدري. . هذا تخمين. . وإلا فلماذا كان يخاف من الماء كل هذا الخوف حتى ليقول:
وأيسرُ إشفاقي من الماء أنني ... أمرُّ في الكوز مر المجانب
وأخشى الردى منه على كل شارب ... فكيف بأمنيه على نفس راكب؟(201/10)
فقالت صاحبتي: (يا شيخ حرام عليك!. . اتق الله!. . لا تصدقيه)
فتلفتت الصغيرة منها إليَّ، ثم قالت بعد تردد: (هل كان شاعراً؟)
قلت: (لا. . لم يكن شاعراً. . وإنما كان يغني في الحمام فيخرج الكلام موزوناً وهو لا يدرى. . ولكن الناس لا يتركون أحداً مرتاحاً. . ويظهر أن بعضهم كان يسترق السمع وراء باب الحمام، ويقيد كل ما يسمعه من ابن الرومي وهو يغني نفسه ويتسلى في الحمام. ثم جمع كل ما سمعه، ودفعه إلى الناس وقال هذا شعر ابن الرومي.، الناس ملاعين. . أشقياء. . لا يدعون أحداً مرتاحاً. . الرجل كان يسلي نفسه في الحمام فمالهم هم؟. . إيه!. . هكذا الناس يحشرون أنفسهم فيما لا يعنيهم. . فضول ورزالة. . نهايته. . وكان مما يغني به وهو ينظر في المرآة إلى لحيته، ويمشط شعراتها القليلة ويفتل أطرافها لتكون كالقلم الرصاص المبري هذا البيت:
أصبحت شيخاً له سَمْتٌ وأبهة ... يدعونني الغيد عماً - تارة - وأبا
كان يتحسر على شبابه، ويأسف لأنه صار ذا لحية. . ويظهر أن الغيد الحسان من أمثالكن يغلطن فتارة يقلن له يا عمي، وطوراً يقلن له يا أبي. . غريب ألا يعرفن أهو أب لهن أم عم؟. . ولكنك أنت لا تغلطين. . أنا عمك فقط. . متأكدة أني لست أباك أحياناً؟)
فقالت صاحبتي: (أعوذ بالله منك!)
وقالت الصغيرة: (متأكدة جداً. . عمي بالطبع. كيف يمكن أن تكون أبي؟)
قلت: (معقول ألا تغلطي. . لسببين: الأول أني لا أرسل لحيتي كما كان ابن الرومي مضطراً أن يفعل لأن الله خلق السيفتي ريزور في زماني والحمد له، أعني لله، بالطبع، لا للموسى؛ والثاني أن أباك المحترم مقبل علينا يتهادى في مشيته. . أحسبه يفخر بأن له بنتاً مثلك. . له الحق!)
وجاء الأخ الفاضل وقمت بواجب التعريف الذي لا مهرب منه، واتضح لي - بعد أن تجشمت عناء القيام بهذا الواجب أنه كان يسعني أن أريح نفسي، فقد سبق لأخي أن عرف صاحبتي في بيتنا.
وجلسوا. وجلست وأنا أتنهد وأنظر إلى صاحبتي وأقول:
(معذرة. ليس هذا ذنبي. وأنت ذكية، وتستطيعين أن تدركي بسهولة أنه لا مهرب من(201/11)
الأهل. لقد جئنا إلى آخر الدنيا من ناحية الشرق، ولو أنصف الزمان لذهب أخي الفاضل إلى آخر الدنيا من ناحية الغرب مثلا، أو الجنوب أو الشمال؛ ثلاث جهات كان يمكنه أن يذهب إليها، ولكن جاذبية الدم تصرفه عن الجهات الثلاث وتدفعه إلى هذه الجهة فيدركنا ويملأ علينا الدنيا، ويشعرنا بأنها في الحقيقة أصغر مما كنا نظنها. ويؤنسنا طبعاً. أظن أن في وسعنا أن نغتفر له هذا من أجل بنته، من أجل عينيها اللتين وقعتا علي بسرعة البرق، نصفح عن أبيها ونرحب به. تعال يا جرسون والأمر لله. وحسبي الله)
إبراهيم عبد القادر المازني(201/12)
في تبويب الكتب
للدكتور محمد عوض محمد
لقد تجري في حياتنا الأدبية الهادئة حادثات ونوادر طريفة تستحق أن تُسَّجلَ وتُثْبتَ؛ ومن ذلك هذه الرسالة التي كتبها صديقنا الأديب إسماعيل بن زيد إلى صديقه الفاضل الأستاذ طه حسين، مُستفَتْيِاً ومداعباً
وصاحبنا إسماعيل يزعم أنه قد تكدست لديه المؤلفات القيمة، ولكنه لا يعرف كيف يقسم كتبه إلى أبواب وفصول، ولذلك لم يستطع نشر شيء من مؤلفاته إلى اليوم. وهو يزعم في هذا أن عناء التأليف والتصنيف ليس بشيء يذكر إلى جانب عناء التبويب والتفصيل.
فلم يكد يطالع في كتاب للأستاذ حسن إبراهيم حسن قِطعةٌ يصف فيها الأستاذ طه حسين بأنه (لا يشق له غُبار في تبويب الكتب) حتى تناول قلمه الرشيق، وأرسل إليه هذا الكتاب، الذي عثرنا عليه بمحض الصدفة، والذي نثبته هاهنا بنصه وفصه:
استفتاء
إلى العميد العظيم طه بن حسين!
نَعِمَ صباحُك أيها العميد!
وبعد فإني أريد أن أستفَتْيِكَ في أمر شهد لك فيه صديقنا حسن إبراهيم حسن بالتقدم والبراعة، حيث قال في غير موضع من رسائله الممتعة إنك لا يشق لك غبار في تبويب الكتب
ولدي أيها العميد العزيز رسائل عديدة في موضوعات جليلة، حرت في أمري وفي أمرها: كيف أجعل لها أبواباً ونوافذ وشبابيك. . . وهي رسائل - وحقك - ذات خطر عظيم وشأن جليل؛ أريد أن أتقدم بها إلى بعض معاهد العلم لكي أحصل بها على ألقاب فخمة، وأسماء ضخمة. .
وما خيرُ حياة، يعيش صاحبها من غير ألقاب ولا أسماء؟ ولقد حدثني من أثق بشهادته أن الألقاب أعظم شيء في الحياة، وأنه أفضل لابن آدم أن يكون له لقب، من أن يكون له أدب. وأن يكون له اسم، من أن يكون له جسم. والألقاب مثلها كمثل الأثواب تستر الهنات، وتكسب الفخامة والجلال.(201/13)
ألا ترى أن الكُرُنب وهو نبت قليل الخطر، حقير الجوهر، قد سما على سائر النبات، وشمخ بأنفه، ومال بأعطافه؛ وليس له من فضيلة يُدِلّ بها سوى أنه يتألف من ثياب بعضها فوق بعض، فإذا نزعت عنه ثيابه لم تجده شيئاً.
ومثل هذا يقال في الخس والجرجير، وهما الغذاء الأساسي لكبار الكتاب والشعراء. . .
صدقني، أيها العميد! إن الثياب والألقاب هي كل شيء في الحياة.
والآن لابد لك - إن كنت ترعى للمودة حرمة، وتستجيب لداعي الإخاء والصداقة - أن تُفْتِيني كيف أرتب الأبواب لهذه الأسفار التي أريد أن أتقدم بها إلى رجال العلم، إن كنت حقاً لا يشق لك غبار في تبويب الرسائل والأسفار.
فأما الرسالة الأولى فهي (في صيد الضفادع: كيف يكون ومتى يكون) فقد حرْت كيف أبوّب هذه الرسالة. هل يكون الباب الأول منها في الضفادع أم في الصيد. . وقد تراءى لي أن أتحدث عن هذه الكائنات العزيزة؟ هل هي من حيوان البر أم من حيوان الماء؟ وهل نقيقها خارج من الحنجرة والبلعوم أم من الحلق والخياشيم؟ وهل هي أسرع حين تسبح في الماء، أو حين تثب على أديم الغبراء؟ وهل غذاؤها الطحلب الحامض أم الحلو؟ والعشب اليابس أم الطري؟ وهل أرجلها أطيب في المأكل أم أيديها؟ وهل يُمَهَّدُ لصيدها بأناشيد وأغانٍ غربيَّة على طريقة شوبرت، أم بأناشيد شرقية مثل نغمات معبد في الثقيل الأول على مدار البنصر؟ وهل تستطيع ضفدعة أن تسبح في الماء إذا استلقت على ظهرها من شدة الضحك مثلا؟ فإن كانت عاجزة عن السباحة وهي في هذه الحال. جاز لنا أن نفكر جدياً في صيدها وهي تضحك حين نتلو عليها رسالة للجاحظ، أو قطعة لموليير.
كذلك يجب أن تفهمني في أي بابٍ أضع ما كان بين الضفادع ومسيلمة الكذاب، وهل انخدعت بأكاذيبه كما ينخدع الناس بأحاديث الكذابين في كل مكان وزمن. ومتى كانت الضفادع ممن يؤخذ بالأكاذيب؟ فهل يجوز استخدام هذه الحيلة في صيدهن والاستيلاء عليهن؛ أم تلك خدعة لا تليق بالصياد الشريف والباحث العفيف؟
فهلم يا مُبَوِّبَ الكتب! ضع أبوابا ونوافذ ودهاليز لهذه الرسالة ولا تبطئ علي فإني مستعجل.
أما الرسالة الثانية فموضوعها (تعليم الجراد مبادئ الفلسفة) فقد أنبأنا عالم فاضل أن هذه(201/14)
خير وسيلة لتحويل الجراد عن حياة النهب والسلب، إلى حياة الشرف والاستقامة. . وتحولُ عقبات كثيرة دون تثقيف الجراد بهذه الثقافة الفلسفية المنشودة، ذلك أن الجراد لا يستقر لحظة في مكان، فلا تكاد تتحدث إليه عن أفلاطون وتأخذ في شرح القواعد التي تقوم عليها جمهوريته، حتى تستهويه سنبلةُ قمح أو كوز من الذرة، فيتركك في فلسفتك العلوية وينطلق إلى عالمه السفلي. ولقد تظن أنه سيقف على كوز الذرة زمناً طويلاً يمكِّنك من أن تشرح له كتاب الأخلاق لأرسطو، لكنك لا تكاد تفرغ من الفقرة الأولى من الفصل الأول حتى يكون المجرم قد سئم الكوز الأول، ووثب يلتمس كوزا سواه.
غير أن العالِم الجرادي الألماني ميلر قام بعدة تجارب تدل على أن في الجراد ميلا إلى فلسفة ماكيافلي ونيتشه، ولابد من أن نفرد باباً خاصاً لتحقيق هذا الأمر.
وهناك عقبة أخرى تجعل من الصعب إدخال الفلسفة في رأس الجراد، ذلك أنني قد كشفت في ساعة من ساعات الإلهام أن الجراد لا يفهم بعقله، بل بفمه وبطنه. فهل الفلسفة من المواد التي يمكن استيعابها عن طريق البطن والمعدة؟ هذا أيضا باب مهم أرجو أن تفتيني في أي جزء من الكتاب أجعله، وأي الأقسام تليق به ويليق بها، ولابد كذلك من بحث عميق في عادة النهب والسلب عند الجراد: هل ترجع إلى البيئة، أو ترجع إلى الوراثة والغريزة؟ فإن كانت أصيلة في النفس، مغروسة في الطبع، فبأي الوسائل نحتال إلى إدخال الفلسفة في نفوس طبعت على الانتهاب والاختطاف؟
هلم أيها العميد وشمر عن ساعد التبويب، ولا تدعني في حيرتي طويلا!
أما الرسالة الثالثة فهي: (في استخراج أشعة الشمس من قشر الخيار). وهذا موضوع قد أشار إليه الأستاذ (سويفت) ولكنه قصر في متابعته واستقصائه. وفي نظري قد آن لهذا الموضوع أن يقتل بحثا وتمحيصا، حتى لو استنفدنا في سبيل ذلك كل ما في الأرض من خِيارٍ وِقثّاء.
إن أشعة الشمس ضرورية للإنسان والحيوان على السواء؛ فقد حدثنا من نثق بعلمه أن القليل منها إذا أخذ في فنجال على الريق كل صباح يشفي من الأمراض، ويحدث في البليد ذكاء وفي الغبيِّ فَهْما؛ وناهيك بما في هذا من فائدة في زمان ضعفت فيه الأحلام، وصغرت فيه الأفهام. ولئن اعترض معترض بأن هذا الموضوع لا يهمنا لأن بلادنا غنية بأشعتها،(201/15)
فليس في هذا وجاهة؛ لأن الباحث لا يختص ببحثه أرضا ولا بلداً؛ وفي العالم أقطار كثيرة قد حرمت هذه النعمة، ولابد من تزويدها بأشعة مستخرجة من قشر الخيار، ومع هذا فإن هنالك شكا كبيراً في أن الأشعة التي تتأثر بها وتتعرض لها هاهنا، هي من ذلك النوع الخياري الممتاز، وإلا لما انتشرت البلادة في وادي النيل السعيد كل هذا الانتشار. فلقد بات من الثابت المعلوم أن للخيار مقدرة فذة يمتاز بها على سائر الكائنات في استخلاص الأشعة النقية - فوق البنفسجية وتحتها - وتثبيتها في ثنايا قشوره
هذا بحث طويل عريض عميق أرجو أن تسلط عليه غبارك الذي لا يشق، من أجل تبويبه وتفصيله وترتيبه.
بقي البحث الرابع الذي أرجو أن يكون شهياً مُمتعا، وهو (في أثر الموسيقى في طول الأنف وعرضه وارتفاعه) فقد تعلم غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر أن الأنف أشرف الأعضاء وأمثلها، وأن العرب كانت لا تجد مدحا أسمى ولا شرفا أعلى من أن يكون الرجل أشمَّ العِرْنين، ولم تنحط الزَّنج عن سائر الشعوب والأجيال، ولم يستعبدهم الناس استبعادا إلا لما في أنفهم من الفطس. والذين زعموا أن فطس الأنف عند الزنج راجع إلى بيئتهم لم يأتوا بشيء؛ والصحيح عندنا أن هذا راجع إلى موسيقاهم وغنائهم المنحرف كما وصفه ابن خلدون. ودليلنا في هذا محسوس وملموس، ذلك أن الشعوب المتمدنة من أهل أوربا وأمريكا، منذ اتخذوا موسيقى الزنج للهوهم ورقصهم قد استعرضت أنوفهم، واستولى عليها الفطس، كأنما القوم يجلسون على أنوفهم إذا جلسوا لا على مقاعدهم. وقد قام بعض الباحثين المحققين بقياس سعة الأنف وارتفاعه، فبدا له انخفاض محسوس في الأنوف اليوم، بالنسبة لما كانت عليه في أواخر القرن الماضي وخرج من هذا البحث إلى نظريته المعروفة بأن العالم سائر كله إلى الفَطَس، وأن الكبرياء والشمم محكوم عليهما بالفناء وهو يزعم في هذا كله أنه راجع إلى كثرة البُقع في وجه الشمس؛ وهو في تعليله هذا جدُّ واهم، والصواب ما ذكرناه من أن هذه الظاهرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بانتشار موسيقى الزنج والإقبال الشديد عليها.
كذلك أخطأ نهج الصواب ولم يوفق في بحثه ذلك العالم الذي أرجع هذه الظاهرة إلى انتشار عادة الحكِّ على المناخير التي كانت سائدة أيام الحرب الكبرى وما بعدها، فقد ثبت انتشار(201/16)
هذه العادة في أزمنة أخرى مثل عصر نابليون، فلم يكن لها في المناخير تأثير يذكر.
والراجح ما ذكرناه من اتصال هذا بالموسيقى. والله سبحانه وتعالى أعلم.
والبحث في هذا الموضوع متشعب الفروع والغصون، متعدد المخارج والمداخل، وأريد منك أن تبوِّبه تبويباً يلُمُّ شعثه، ويجمع بين شوارده ونوافره؛ ويجب أن يكون تبويباً مَرِناً نستطيع أن ندخل فيه أية دراسة أنفية جديدة قد تبدو لنا في أثناء التأليف والتصنيف
هذا بعض ما لدينا من الرسائل التي نرغب منك أن تساعدنا في تبويبها. فهلم أيها العميد، واجلس في كرسيك المعهود، ممسكا في يمينك سُبحْتك التي تستعين بها على التسبيح، وربما كانت لك فيها مآرب أخرى - وممسكاً في يسارك سيجارة تبعث الوحي وتفتح أبواب التبويب.
فان فعلت أسديت إلى البحث العلمي يداً يعمل بها ورجلاً يمشي عليها. هداك الله إلى محجة الصواب، وإليه المرجع والمآب
أخوك المخلص: إسماعيل بن زيد
طبق الأصل
محمد عوض محمد(201/17)
في التاريخ السياسي
الدبلوماسية الأوربية في طورها الجديد
بقلم باحث دبلوماسي كبير
اجتازت الدبلوماسية الأوربية منذ نهاية الحرب الكبرى ثلاث مراحل: الأولى مرحلة التصفية وهي التي شغلت فيها الأمم الظافرة والمهزومة معا بتصفية التركة الفادحة التي خلفتها الحرب، واحتملت الدول المهزومة معظم تبعاتها وأَعبائها. والثانية يمكن تسميتها بمرحلة عصبة الأمم ولوكارنو، وهي المرحلة التي اشتد فيها ساعد العصبة بمؤازرة الدول الظافرة وانضمام ألمانيا المهزومة إليها لأول مرة بعد أن قامت بتأدية معظم الأعباء والمغارم التي فرضت في معاهدة الصلح؛ وفي أثنائها أيضا تقدمت فكرة السلامة المشتركة تقدما عظيما، فعقد ميثاق لوكارنو لتأمين سلامة حدود الرين بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا، وعقد مؤتمر نزع السلاح واستمر حيناً يباشر أعماله، وعقد ميثاق تحريم الحرب الذي اقترحته أمريكا على دول العالم، وقد استمرت هذه المرحلة حتى سنة 1932. والمرحلة الثالثة، مرحلة السياسة القومية العنيفة، وعود الدبلوماسية الأوربية إلى أساليبها القديمة من عقد المحالفات والمواثيق العسكرية الظاهرة والخفية، وتكوين الجبهات الخصيمة، والتسابق في التسليح، وهذه هي المرحلة التي تجتازها أوربا اليوم.
ولاشك أن هذه المرحلة هي أخطر وأدق مرحلة انتهت إليها الدبلوماسية الأوربية مذ عقدت معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) ولاشك أيضاً أنها تسير بأوربا إلى موطن الفصل
وتنقسم أوربا اليوم إلى معسكرين واضحين هما معسكر الدول الفاشستية التي تتخذ شعارها القومية المتطرقة والعسكرية المتوثبة والتسليح الشامل، وقوام هذه الكتلة إيطاليا الفاشستية وألمانيا النازية. ومعسكر الدول الديمقراطية إذا صح التعبير، وشعارها السلام المسلح، والاستعداد لدفع الاعتداء الذي قد يقع عليها من الدول الفاشستية، وقوام هذه الكتلة إنكلترا وفرنسا تؤازرهما روسيا السوفيتية.
وهذا التطور الحاسم في سير الدبلوماسية الأوربية، وتحولها من ميدان التعاون السلمي الذي عملت فيه من قبل إلى ميدان التنابذ والخصومة المسلحة يرجع قبل كل شيء إلى عنف الفاشستية الإيطالية والألمانية والى شهواتها وأطماعها المغرقة وإلى اعتدادها بالقوة المادية(201/18)
الغاشمة؛ بيد أن الفاشستية تلقي التبعة في ذلك على الدول الديمقراطية وعلى ما أبدته من الأثرة في استخلاص المغانم الاستعمارية والاقتصادية لنفسها دون إيطاليا وألمانيا، ودفعهما بهذا التصرف إلى خطة العنف واليأس التي تلجأن إليها
وتستقبل الدبلوماسية الأوربية عهدها الجديد بسلسلة من الأحداث والظواهر الجديدة؛ أولها وأهمها انهيار ميثاق لوكارنو نهائياً، بعد أن نقضته ألمانيا من جانبها في العام الماضي؛ وانحلال التحالف الصغير في شرق أوربا بعقد الميثاق الإيطالي اليوجوسلافي؛ وتوثق العلائق بين السياستين الفرنسية والبريطانية؛ وفتور العلائق بين تركيا وروسيا السوفيتية، وتقدمها في الوقت نفسه بين تركيا وإيطاليا وتقوية الجبهة الإيطالية الألمانية واشتداد ضغطها في وسط أوربا وفي شرقها
وقد كان عقد الميثاق الفرنسي الروسي في أوائل العام الماضي أول نذير بانهيار الأوضاع القائمة، ففي 7 مارس سنة 1936، أعلنت ألمانيا نقضها لآخر الشروط العسكرية التي فرضت عليها في معاهدة الصلح وهي الخاصة بتجريد منطقة الرين من التسليحات والتحصينات، وأعلنت في نفس الوقت نقضها لميثاق لوكارنو، بحجة أن الميثاق الفرنسي الروسي قد عقد بقصد تهديدها وتطويقها وأن عقده مخالف لما كفلته نصوص ميثاق لوكارنو من سلامة الحدود الألمانية الفرنسية على الرين؛ وكان تصرف ألمانيا ضربة قاضية لهذا الميثاق الذي علقت عليه أوربا والعالم كله يوم عقده أعظم الآمال، ولم تلبث بلجيكا وهي إحدى الدول الموقعة عليه، والتي تستمد سلامة حدودها من نصوصه، أن رأت أيضاً أن تتحرر من تبعاته، فأعلنت سياسة الاستقلال والحياد الجديدة التي انتهت أخيراً بصدور تصريح بريطاني فرنسي يحررها من تبعاتها المترتبة عليها في ميثاق لوكارنو، مع استبقاء تعهد فرنسا وبريطانيا من جانبهما بالدفاع عن البلجيك في حالة الاعتداء عليها؛ وهكذا انهارت دعائم هذا الميثاق الذي كان دعامته السلام في غرب أوربا، وحلت مكانه حالة جديدة لم يتضح مداها بعد؛ على أن هنالك حقيقة لا ريب فيها، هو أن، انهيار ميثاق لوكارنو، وما اقترن به من مضاعفة التسليح الألماني، وتقدم التفاهم بين ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشستية كان عاملاً في إذكاء استعدادات فرنسا وبريطانيا العسكرية، وفي توثق العلائق بينهما(201/19)
وكان للمسألة الحبشية أثرها القوي في التقرب بين إيطاليا وألمانيا، وتوجيه الأوضاع الجديدة للدبلوماسية الأوربية، فقد رأت إيطاليا بعد الذي لقيته أثناء اعتدائها على الحبشة من خصومة بريطانيا، أن تنسلخ نهائياً عن كتلة الدول الغربية، وأن تتقرب إلى ألمانيا النازية التي تؤمن بمثل مبادئها العسكرية العنيفة، والتي أيدتها وآزرتها خلال الأزمة الحبشية لأنها تجيش بمثل مطامعها الاستعمارية. وقد أثمر هذا التقرب بين الدولتين الفاشستيتين ثمرته في أوربا الوسطى وأوربا الشرقية؛ وتبدو نتائج هذا التطور واضحة في موقف إيطاليا نحو النمسا ومسألة انضمامها إلى ألمانيا (الآنشلوس)، فقبل التقرب الألماني الإيطالي، كانت إيطاليا تعارض هذا الانضمام بكل قوتها، وتعلن أنها مستعدى لتأييد الاستقلال النمسوي بالقوة المادية إذا اقتضى الأمر، ومازلنا نذكر موقفها في سنة 1934 حينما وقعت الثورة النازية في النمسا، فقد حشدت بعض قواتها على الحدود النمسوية استعداداً لمقاومة أي حركة تقوم بها ألمانيا في سبيل الاستيلاء على النمسا. أما اليوم فإن السياسة الإيطالية حسبما تبين من مباحثات الدكتور شوشنج المستشار النمسوي والسنيور موسوليني، لا تريد أن تذهب في سبيل تأييد النمسا إلى هذا الحد، خصوصاً وأنها ترى مسألة الضم إلى ألمانيا بعيدة الحدوث في الوقت الحاضر؛ وتحاول السياسة الإيطالية فوق ذلك أن تباعد بين النمسا وتشيكوسلوفاكيا التي تربطها بروسيا علائق وثيقة. ومن جهة أخرى فإن التحالف الصغير المكون من تشيكوسلوفاكيا ورومانيا ويوجوسلافيا قد تصدعت أسسه من جراء التقرب بين يوجوسلافيا وإيطاليا وارتباطهما بميثاق صداقة وتفاهم؛ وهذا الميثاق الجديد فضلاً عن كونه يلطف حدة التنافس بين الدولتين، يمهد لنفوذ إيطاليا في البلقان؛ وهنا تصطدم جهود السياسة الفاشستية والسياسة النازية، ذلك أن ألمانيا تريد أيضاً أن تمكن لنفوذها في البلقان، وأن تستأنف زحفه القديم نحو الشرق؛ ولكن إيطاليا استطاعت أن تسبقها في هذا الميدان على ما يلوح، وذلك بعقد الميثاق اليوجوسلافي، والتقرب إلى تركيا الكمالية تقرباً ربما أسفر في القريب العاجل عن عقد ميثاق بين الدولتين؛ كذلك تتودد إيطاليا إلى اليونان وتعمل على توثيق العلائق معها
وهكذا تنشط السياسة الفاشستية للعمل السريع الحاسم في حوض الدانوب وفي شرق أوربا؛ وتعمل السياسة النازية من جانبها، في نفس الميدان، في الحدود التي خصصت لنفوذها فيما(201/20)
يسمونه (محور برلين رومه)، وتعمل بالأخص في المجر ورومانيا، هذا عدا محاولاتها في النمسا؛ وترمي إيطاليا بهذه الجهود الدبلوماسية المتواصلة إلى تأمين مكانتها وسلامها في شرق البحر الأبيض المتوسط لكي تتفرغ إلى العمل في هذا البحر، ضد بريطانيا العظمى وضد ما تدعيه لنفسها فيه من السيادة البحرية، ولتحقق ما تزعمه لنفسها من الأطماع الاستعمارية؛ وترمي ألمانيا النازية بالعمل في شرق أوربا وفي البلقان إلى تكوين جبهة موحدة ضد روسيا السوفيتية بيد أنه يشك كثيراً فيما إذا كانت ألمانيا تفيد من هذه الجهود ضد المارد الروسي العظيم
ويجب أخيرا ألا ننسى المشكلة الأسبانية الشائكة، وما كان لها من أثر في هذا التطور الجديد في سير الدبلوماسية الأوربية؛ وسيكون لنتائج الحرب الأهلية الأسبانية متى استقرت نهائياً أثرها العميق أيضاً في توجيه الأوضاع السياسية الجديدة في غرب أوربا
وقد أدركت الدولتان الغربيتان الكبيرتان، أعني بريطانيا العظمى وفرنسا، ما تقتضيه هذه العوامل والظروف الجديدة من تغيير عميق في سياستيهما، وخصوصاً إزاء ما تبديه الدولتان الفاشستيتان أعني إيطاليا وألمانيا من نشاط متواصل في الاستعدادات العسكرية؛ فأما فرنسا فقد اقتنعت بأن المواثيق والعهود الدولية لم تبق لها قيمة يعتمد عليها وأن ألمانيا النازية بعد أن حطمت كل ما تبقى من عهودها في معاهدة الصلح وفي لوكارنو، وأخذت تستأنف قواها العسكرية القديمة، لا يمكن ردها وكبح جماح عدوانها وأطماعها إلا بمضاعفة الاهبات العسكرية، وهذا ما تفعله اليوم هي وحليفتها روسيا السوفيتية التي تحذر من عدوان ألمانيا مثل ما تحذر فرنسا؛ وأما بريطانيا العظمى، فقد اقتنعت بعد مأساة الحبشة بانهيار فكرة السلامة المشتركة وعبث الاعتماد عليها في رد الاعتداء المدبر، وأدركت ما يهدد سلامة الإمبراطورية البريطانية من جراء ظهور الفاشستية الإيطالية بمظهر الظافر المتحفز؛ فأخذت تستدرك بسرعة مدهشة ما فاتها من الاهبات العسكرية، ووضعت برنامجاً هائلاً للتسليح يكفل لها تفوقها القديم في البحر والهواء ويمكنها من أن تعود فتملي كلمتها وإرادتها على أولئك الذين يتحرشون بها ويحاولون تحديها ومنافستها، وتزداد العلائق توثقا بين الدولتين الغربيتين الكبيرتين، يجمع بينهما الخطر المشترك، والمصالح المشتركة، وروابط الديموقراطية(201/21)
وهكذا تعود أوربا إلى ما كانت عليه قبل الحرب: معسكران خصيمان يعمل كل منهما لإحراز التفوق في الاهبات العسكرية، ويسيطر كل منهما بنفوذه على عدد من الدول الصغيرة؛ وهذان هما معسكر الفاشستية، تقوده ألمانيا وإيطاليا، ومعسكر الديموقراطية تقوده بريطانيا وفرنسا؛ وهكذا تعود الدبلوماسية الأوربية إلى وسائلها القديمة من عقد المحالفات العسكرية والمعاهدات السرية والاعتماد على القوة الغاشمة
(* * *)(201/22)
في الأدب المقارن
الخيال في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الخيال، أو القدرة على انتزاع شتى الصور الذهنية من الواقع واستحضارها والتصرف فيها، من المواهب التي يمتاز بها الإنسان على سائر الأحياء، ويمتاز بها النابغة على سائر الناس. رقي العلم رهين برقيه، واتساع الأدب متصل باتساعه، وهو بين الجماعات الأولى مصدر تلك الأساطير والأوهام التي تسود بينهم، كما أنه مصدر ما تغص به اللغات من مجازات وتشبيهات، بها تتسع جوانب اللغة وجوانب التفكير معاً أيما أتساع، ولولا الخيال لالتزم الفكر الإنساني الواقع المتحجر أي التزام
والخيال قوام جانب عظيم من الأدب، إن لم يكن قوام الجانب الأرقى فيه، إن لم يكن قوام الأدب جميعاً: فبالمجازات والتشبيهات يتأتى للأديب أن يصور شعوره ويبرز تفكيره، إذ يمثل لنضرة الخد بنضرة الورد، ولطلعة البطل بهيبة الأسد، ولجيشان المعركة بتدافع الآذى، وهلم جرا. وبالخيال يستطيع الأديب أن يسبك موضوعه ويجمع أطرافه، وينبذ ما لا حاجة به إليه من تفصيلات قد تشوه ما هو بسبيله، ويضفي ثوباً من الجمال والانسجام على ما ينشئ. والخيال أظهر ملكات الشاعر وأول مميزات الشعر التي تفرق بينه وبين النثر
وارتقاء الخيال واتساعه وكثرة آثاره أهم ظواهر دخول الأدب في طوره الفني: فإنه إذا خرجت الأمة من بداوتها وعزلتها وبسطت سيادتها واتصلت بجيرانها القريبين والبعيدين، وتحضرت وتثقفت، اتسعت أذهان أبنائها وترامى خيالهم وتصوروا من الحقائق والمعاني والممكنات ما لم يكونوا يتصورون، وغزر المعين الذي يستمدون منه التشبيهات والاستعارات، وينتزعون منه الحكم والأمثال، ويتوفر الفراغ ويتسع للمجهود الأدبي المتصل، فتظهر القصة والدرامة والقصيدة الطويلة، ويحلق الأدباء في أجواز الخيال وآماد الماضي والمستقبل، مبتعدين عن دواعي الحاضر الحازبة ومجالاته الضيقة، ولا يبلغ الأدب أوج رقيه حتى يرتقي الخيال فيه هذا الارتقاء وحتى يشغل أكثر جوانبه
وللخيال في الأدب الإنجليزي مكان رفيع وأثر بعيد شامل يتمثل في موضوعات الأدب(201/23)
وأشكاله وطرائق تناول الأدباء لما هم بسبيله: فالأديب الإنجليزي غزير العاطفة، إذا جاشت أطلق لها العنان واسترسل مع خياله، وأثار به منظر طبيعي أو غناء طائر أو ذكرى طارئة أو أثر من آثار الغابرين أو أسطورة من أساطيرهم شتى الأحلام والأطياف، وتناهت به عاطفته إلى حدود الأماني وآفاق الماضي والمستقبل، وهذا الاسترسال مع الخيال إذا أثارته فكرة رئيسية هو مرجع وحدة القصيدة في الإنجليزية
وهناك عدا هذا الخيال المنبث في كل مناحي الأدب أشكال خاصة من الأدب قوامها الخيال، ينهض بكيانها ويوثق وشائجها. وهذه هي الملاحم الطوال في الشعر والقصص الممثلة أو المقروءة شعراً أو نثراً، ففي هذه لا يلتزم الأديب الواقع المجرد بل يفترق عنه افتراقاً جسيما، ويؤلف من شتى أفكاره وتجاريبه وأمانيه وصور الحياة التي مرت به، عالماً يجيش بالحياة والحركة ويموج بالعواطف والنوازع ويفيض بالجمال والإمتاع؛ بهذه الضروب القائمة على أساس من التخيل المحض يحفل الأدب الإنجليزي
فقد عالج الملاحم والمطولات من القصائد ملتون وسبنسر وهاردي ووردزورث وكثيرون غيرهم. وأشعار الملاحم تعج بالمردة والجبابرة والآلهة، وتحفل بخوارق الأعمال وجسائم البطولة، وهي على رغم هذا لا تخرج عن عالمنا الإنساني ولا تغفل النفس الإنسانية، بل تظل نوازع تلك النفس ومشاغلها هي الهدف الوحيد الذي يرمي إليه ناظموها: إذ فيها يتخذ أولئك الأرباب والجبابرة طبائع الناس وميول الأفراد، وإن فاقوا البشر قوة وعظما؛ ومن هنا يتأتى للشاعر أن يبسط آراءه في ميدان متسع وإلى مدى فسيح، فيستعرض مشاغل عصره ويبث خوالج نفسه، فالخيال هنا لا يعدو الحقيقة وإنما يوضحها أحسن توضيح، فضلاً عما يمتع النفس به من قصص متسق وجمال وجلال
وفي الأدب الإنجليزي ما لا يعد من قصص في الشعر والنثر ممثلة ومقروءة، وقوام القصة بطبيعتها الخيال، وإن تراوح نصيبها منه، فهناك القصص التي ترمي إلى أغوار الماضي وتدور حول عظماء التاريخ والأساطير، من طموح يبيع نفسه للشيطان كي يعينه الشيطان على إدراك مطامحه، إلى دائن يتقاضى دينه من لحم غريمه ودمه، كما في روايات مارلو وشكسبير. وهناك القصص الواقعية التي تلتزم الحقيقة إلى حد بعيد، وتصور المجتمع الحاضر تصويراً دقيقاً لا يدع شاردة ولا واردة، كقصص هاردي، ودرامات جالزورذي،(201/24)
ولكل من الضربين متعته
ولشغف الإنجليز بسبحات الخيال، وميلهم إلى إطلاق الفكر في أجوازه، لجأوا في شعرهم ونثرهم إلى تصوير حوادث التاريخ وغرائب الأساطير، فاستقى شعراؤهم وكتابهم عذب القصص وممتعه من تاريخ إنجلترا وتواريخ اليونان والرومان وبني إسرائيل وغيرهم، واتخذوا من خرافات الأمم مجالاً لفنهم، فعرض سبنسر وتنيسون وكولردج وغيرهم تلك الخرافات عرضا شعريا رائقا مرصعا بجميل الوصف وبدائع المناظر الطبيعية، وشائق مواقف الحب والبطولة.
ومن ثم امتلاء الأدب الإنجليزي بأسماء الشخصيات الخيالية التي اخترعها الأدباء من مخيلاتهم ولم يكن لها قبلهم وجود أو كان لها وجود مبهم في عالم الخرافة فأخرجوها بعبقرياتهم إلى عالم النور والوضوح، وألبسوها ثوباً من الجمال والجاذبية، وأصبح بعض هؤلاء الأشخاص الخياليين الذين امتلأت بذكرهم وأخبارهم الملاحم والقصص والشعر والنثر، أعلاماً على طبائع في الإنسان معروفة، ورموزاً على حقائق في النفس البشرية مشهودة، فشكسبير مثلا لم يكن يدع خلقاً إنسانياً نبيلا أو وضيعاً إلا صوره في رواياته وخلق ما لا يعد من الشخصيات الحية، مثل هملت وروميو وجولييت وياجو وشيلوخ، وغيرهم ممن صار لهم وجود قائم في عالم الأدب كوجود أعلام الماضي في عالم التاريخ
لم يجر الأدب العربي إلى هذا المدى من الخيال، فلم تكن فيه ملاحم ولم تكن المطولات من هم شعرائه، ولم يرتق فيه القصص ولم يحتو على شخصيات متخيلة من خلق الأدباء، وظل الحاضر القريب والواقع المحقق ديدن أدبائه، فالأديب العربي كان شديد الإيجاز في مقاله وتعبيره عما يحس، يعبر عن أفكاره أشتاتا كلما عن له حافز إلى الكتابة، لا يدخر أفكاره ولا يربط منها حاضراً بماض، بل يرسلها الشاعر على السجية أبياتاً محكمة النسج موجزة البيان، ويرسلها الكاتب روايات قصيرة متتابعة منسوبة كل رواية منها إلى صاحبها أو راويها أو شهودها؛ فأحسن أشعار المتنبي حكم موجزة متتابعة مستقل كل منها ببيت لا تكاد تجمعها علاقة؛ وقوام كتب كثيرة كمؤلفات الجاحظ والثعالبي وابن عبد ربه روايات وشواهد متتابعة، لا يكاد يكون للأديب فضل غير جمعها وتبويبها
كان الشعر الجاهلي محدود الخيال قريب المأخذ لمكان أربابه من البداوة وبعدهم عن(201/25)
الثقافة، فلما تحضر العرب وتثقفوا واختلطوا بالأمم واطلعوا على أحوال الأقطار البعيدة، أتسع من جراء ذلك خيالهم وبان أثره في شعرهم ونثرهم، فالمحدثون من الشعراء لاشك أبعد خيالاً وأكثر تفنناً في التشبيهات من الجاهليين. وظهر ضرب من القص الخيالي يتجلى في مقامات بديع الزمان، ورسالة الغفران، ففي هذه وتلك مواقف وحوادث كلها من اختراع الخيال؛ ثم هناك الروايات والأخبار العديدة التي كان يخترعها الرواة والكتاب، يطلبون الأغراب والتطرف والرواج، أو يؤيدون الحجج والمذاهب.
بيد أن هاتيك جميعاً آثار ضئيلة الشأن، وهي إذا قيست بما في الإنجليزية من سبحات الخيال، لم تكن إلا شبيهة بطيران الدجاجة الخفيف مقيساً بتحليق البازي الكاسر؛ ورسالة الغفران على جمال فكرتها ومشابهتها لما في آداب الأمم الكبيرة في جريان حوادثها في عالم الخلد، وامتلائها بممتع المواقف والمحاورات، مكتظة بمسائل النحو والأدب النظرية العقيمة، التي كان كثير من الأدباء ينفقون أعمارهم في غياهبها غافلين عما هو أهم منها من حقائق الحياة وجمالها، ولم يكن الخيال ولا الجمال ولا القصص غرض المعري الصحيح حين أملاها، وإنما كانت تلك المسائل اللغوية هي مقصده الأول؛ ومقامات البديع على جمالها واهتداء البديع إلى اختراع شخصية أبي الفتح فيها، مكتظة كذلك بالألاعيب اللفظية والبراعات اللغوية؛ فالمقامات ورسالة الغفران جميلتان على أن تكونا خطوتين إلى ما بعدهما، ومرحلتين في طريق نمو القصص الصحيح وازدهار الخيال الراقي؛ بيد أن ذلك النمو لم يطرد وذلك الرقي وقف في أول الطريق. وإن من العجائب حقاً أن يكون أعظم أثر خيال في الأدب العربي من صنع شاعر كفيف محجوب عن آفاق الحياة ومباهجها
فكبح عنان الخيال كان دأب أدباء العربية حتى بعد دخول الأدب عصره الفني، فالفكرة التي تخطر للأديب الإنجليزي فيحوك حولها قصة تموج بشتى الصور المنتزعة من الحياة، أو ينظم حولها قصيدة طويلة تجمع أشتات الأفكار والمعاني، يكتفي الأديب العربي بصوغها في بيت شعر محكم يذهب مثلا ويروع بإيجازه وشموله، لا بتقصيه واستيعابه، فكل بيت من أبيات المتنبي السائرة يحوي نظرة نافذة إلى حقائق الحياة، هي بنفسها محور صالح أن تدور حوله قصة أو درامة، بينما الأديب العربي قد أودعها أوجز لفظ وأعمه(201/26)
وقد نظم شلي قصيدة في قرابة مائة بيت، حين استرعى تفكيره هبوب ريح الشتاء الباردة في إيطاليا، فصور عصفها بالأوراق الجافة، ودفعها البذور إلى حيث تنام في التربة حتى ينبهها الربيع بدفئه وطيب أوانه، وشبه ثوران عاصفتها على الأفق بالشعور المتهدلة عن رأس ما يناد إحدى العرائس الخرافية، ووصف اقشعرار النبات المائي في قاع المحيط لدى إحساسه مرور تلك الرياح، ثم طلب إلى الريح أن ترفعه كما ترفع تلك الأوراق وتدفعه كما تدفع تلك البذور، وتنفخ فيه من قوتها، وتتخذه ناياً لها، عله يستطيع أن يطير بأجنحتها، ويبذر بين الخلق بذور أفكاره الإصلاحية التي كان أميناً لها طول حياته. ولشكسبير مقطوعة عن ريح الشتاء أيضاً في رواية (كما تشاء)، يسترسل فيها في التأمل على ذلك نحو؛ أما الشاعر العربي فإذا استرعى انتباهه هبوب الريح فيودع خاطره أوجز لفظ، واصفاً تهييج الريح لذكرياته أو محملاً إياه سلامه إلى أحبائه، كما قال بشار:
هوى صاحبي ريح الشمال وإنما ... أحب لقلبي أن تهب جنوب
وما ذاك إلا أنها حين تنتهي ... تناهى وفيها من عبيدة طيب
والغريب أنه برغم غنى الأدب الإنجليزي بآثار الخيال وندرة تلك الآثار في الأدب العربي، ترى كلمات الخيال وخيال الشعراء والمخيلة وغيرها كثيرة التداول في العربية نادرة الورود في النقد الإنجليزي؛ وإنما كان نقاد العربية يطلقون اسم الخيال على أبعد الأقوال عن مجال الخيال الصحيح، يطلقونه على ما درج عليه الشعراء المداحون من اختراع مواقف الغرام في استهلال قصائدهم، وتلفيق صفات الجود والبأس لممدوحيهم، ومن ثم اشتهر البحتري بالخيال، لا لأنه دبج القصص المحكم أو نظم المطولات الرائعات بل لأنه كان من أمضى الشعراء في بابي المديح والغزل الاستهلالي، ومن أكثرهم ذكراً للأطياف والوداع واللقاء، وليس تحت مثل هذا الخيال طائل، إذ قوامه التكلف والمحال والإيغال في البعد عن حقائق الحياة والشعور، بينما أخص خصائص الخيال الفني الصحيح صدق البيان للشعور الصحيح في أعمق أعماقه وأرحب آفاقه
فإذا قال بشار إن الجود من كف ممدوحه يعدي، وقال أبو تمام إن ممدوحه لا يستطيع قبض أنامله لأنه تعود بسطها بالعطاء، وقال المتنبي إن أسنان صواحبه برد خشي أن يذيبه من حر أنفاسه فكان هو الذائب من حر أشواقه، وإذا شبه ابن المعتز الهلال بمنجل يحصد(201/27)
نجوم الليل حصداً، أو شبه ابن خفاجة النهر وعشب ضفافه بهدب يحف بمقلة زرقاء، فقد باعدوا جميعاً وأغربوا وخالفوا حقائق المنطق والشعور، وجاءوا بما هو أشبه بعبث الصبيان وهذر المخمورين، وكان قولهم أبعد الأشياء عن الخيال، فالخيال ليس هو تجاهل حقائق الحياة وتحديها والتفنن في مناقضتها، وإنما هو قدرة الفكر على استيعابها والاشتمال على قريبها وبعيدها، والتصرف فيها والتفنن في عرضها، ولا غرو إذ كانت تلك نظرة نقاد العربية إلى الخيال أن قالوا إن أعذب الشعر أكذبه، والحق أن أعذب الشعر أصدقه، وأجود الخيال أكثره اشتمالاً على الحقيقة
وغزارة آثار الخيال في الأدب الإنجليزي ترجع لاشك إلى اختلاف مناظر الطبيعة في إنجلترا وتعددها وتقلب أحوال الجو، ثم هي ترجع إلى اتساع أذهان الإنجليز باقتباسهم حضارة أوربا ومساهمتهم فيها، وإلى الكشوف الجغرافية العظيمة التي عاصرت نهوض الأدب الإنجليزي، وهي ترجع أيضاً إلى اطلاع الإنجليز على الأدب اليوناني الحافل بروائع الحوادث والأساطير، المملوء بأشعار الملاحم والدرامات، فقد كان لشعراء الإنجليزية وكتابها من ذلك معين لا يفنى، وكان الاطلاع على التراث الكلاسي بمثابة كشف جغرافي آخر واطلاع على عالم ثان غير هذا العالم المعهود، مما أطلق الأذهان إلى غايات الخيال، وكان للأدب العامي في ذلك أثره أيضاً
وترجع ضآلة حظ الأدب العربي من الخيال الصحيح السامي، وكثرة ما به من آثار التخيل الزائف، إلى نزعة الجمود التي كانت تسوده وتقره دائماً على محاكاة الأقدمين واحتذاء الأدب الجاهلي، وهذا بطبيعته المتبدية وبيئته الصحراوية التي ترعرع فيها، أدب أولى قليل الحظ من الخيال كثير الالتزام للواقع الحاضر؛ هذا إلى اشتغال الأدباء بمدح ذوي السلطان واجتهادهم في تخيل كل منقبة وإضافتها إليهم؛ أضف إلى ذلك أن الأدب العربي لم ينتفع كما انتفع الأدب الإنجليزي بأدب الإغريق، فحجبت عنه تلك العوالم الزاخرة بالحقائق والخيالات. وقد اطلع العرب على فلسلفة الإغريق فحاكا غير واحد من فلاسفتهم جمهورية أفلاطون بتخيل المدينة الفاضلة، ولو اطلعوا كذلك على أدبهم لاستفادوا منه فائدته المحتومة
ظل الأدب العربي مكبوح الخيال ملتزماً للواقع مؤثراً للإيجاز متشبثاً بالرواية التاريخية المسندة، وترك الخيال الواسع للعامة يسبحون في عوالمه التي تستهوي النفس الإنسانية،(201/28)
فجالوا في نواحي القصص يودعونه أفكارهم على ما بها من قصور، وآمالهم على ما بها من سذاجة وما يشوبها من شهوات الحس، وثقافتهم على ما يخالجها من جهل واضطراب، وجاء الأدب العربي الفصيح في أزهر عصوره مشتملاً على ضروب من التخيل الفج لا يستسيغها لب، ولا يقرها فن، مشتملاً بجانب ذلك على وجدانيات صادقة وحكم وأمثال رائعة موجزة، هي خير ما في الأدب العربي من لباب الفكر والشعور، فالأدب العربي يبلغ قمة مجده بما فيه من آثار الحكمة، لا بما يحويه من صور الخيال
فخري أبو السعود(201/29)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 4 -
الديانة المصرية - التوفيق بين الديانة والفلسفة
إن ذيوع عقيدة تأليه الملك أو حلول روح القدس في جسده الذي حدثناك عنه في الكلمة السابقة قد خلق أمام العقل المصري مشكلة معقدة عويصة يمكن أن تعتبر اللبنة الأولى من بناء الفلسفة المصرية، وأن تعد محاولة حلها أقدم المحاولات الفلسفية التي عرفها تاريخ العقل البشري. لأن عهدها يصعد في سلم الماضي أكثر من ستة آلاف سنة، وأين من هذه الفلسفات الأخرى التي لا يتجاوز أقدمها بضعة عشر قرنا قبل المسيح؟ تلك المشكلة التي نشأت عند المصريين من تأليه الملك هي: (إننا نشاهد أن الملك يموت كما تموت عامة الناس فكيف يموت الإله الذي أولى صفاته الخلود؟!).
لم تكد هذه المشكلة تأخذ مكانها في الحياة الفكرية المصرية حتى وجد المتفلسفون الأولون لها حلا وهو أن فرعون لا يموت كما يموت الناس، وإنما حين يعجز جسمه المادي عن النشاط العملي يخرج منه السر الإلهي أو الروح القدس، ليحل في جسم ابنه الشاب الممتلئ قوة ونشاطاً. وإذاً فروح (هوروس) هي التي تحكم في كل هذه الأجساد المختلفة المسماة بالفراعنة والتي أطلق على كل جسد منها اسم خاص في الظاهر فحسب، ولكن هذا الجواب لا يشفي غليل المتفلسفين الباحثين عن خفايا الكون وأسرار الوجود، لأنهم لا يكادون يتلقون هذا الجواب حتى يصطدموا بالتقاليد الدينية التي تصرح بأن فرعون وهو في قبره يعين ابنه على الحكم وينصحه في المواقف الحرجة. ومن هذا تنشأ مشكلة فلسفية أخرى وهي (كيف تقولون إن روح (هوروس) تغادر جسم فرعون المائت بعد عجزه عن النشاط إلى جسم ابنه الشاب النشيط ثم تعودون فتقولون: إن فرعون بعد رحيله إلى العالم الآخر يظل متصلاً بابنه يعاونه وينصحه؟ فالتصريح الأول يفيد أنه ليس هناك إلا شخصية روحية(201/30)
واحدة تغادر الجسم الضعيف العاجز إلى الجسم القوي النشيط، والتصريح الثاني يفهم منه أن فرعون بعد موته تبقى له شخصية روحية مستقلة تنصح الملك الجديد وتعاونه. ولا ريب أن هذا تناقض ظاهر يدعو العقول الفلسفية إلى البحث والتنقيب، وهذا هو الذي كان بالفعل، إذ بدأت الروح الفلسفية تسري بين البيئات المصرية المفكرة منذ ذلك العهد المتغلغل في غيابات الماضي فاهتدت إلى حل خيل إليها أنه مقبول من الوجهة العقلية، وهو أن (هوروس) له عدة شخصيات إحداها الشخصية الدنيا التي تتقمص جسد فرعون؛ وثانيتها الشخصية العليا الحاكمة في عالم الآخرة؛ وثالثتها الشخصية الوسطى وهي التي تقوم بنصيحة الشخصية الدنيا في جسدها الجديد، وبهذا تنحل المشكلة ويزول التناقض.
لم يكن المصريون كغيرهم من الأمم القديمة يعتقدون أن الجسم الفرعوني بعد مغادرة الروح إياه يصبح جيفة كأجسام بقية البشر والحيوانات، وإنما كانوا يرون أن حلول روح القدس فيها تكسبها شرفا خالدا وبركة أبدية. ولهذا فبقدر ما يبقى جسم الملك محفوظاً في قبره تنتشر السعادة ويعم الخير في مصر، وهذا هو الإدراك الأول الذي كان يعاصر مبدأ الملكة القديمة، أما بعد هذا العهد بقليل فقد أنتقل تقديس الروح من دائرة الملوك الضيقة إلى جميع الأرواح البشرية وأخذ المفكرون يترقون في الروحية حتى بلغوا فيها الأوج الذي سنشير إليه فيما بعد.
وقد كانت الروح تعنى بأن يترك في الجسم فرجة، لتستطيع العودة إليه منها متى شاءت الرجوع من عالم (أوزوريس) إلى عالم الدنيا، ولكن هذه العودة لم تكن محبوبة عند الروح إلا إبان صلاحية الجسم لها، فإذا يبست (المومياء) وتقلص جلدها وانكمشت أعصابها وفقدت هذه الصلاحية تأخرت الروح عن المجيء إلى الجسم، وهذه خسارة كبرى كانت أحد الدوافع التي حملت المصريين على الدقة في صنع التماثيل بعد التحنيط.
وكان عالم (أوزيريس) في أول عهد المصريين بهذه العقيدة عالماً قاسياً محفوفاً بالأشواك والمخاطر حتى على فرعون نفسه، إذ كانت روحه لا تمر إلى مملكة (أوزيريس) إلا بعد أن تجتاز عدة عقبات ومصاعب تنشأ من أسئلة دقيقة ومحاسبات عسيرة يوجهها الحارس المكلف بمحاسبة المارة، وكانت هذه المملكة في عقيدة المصريين تحت الأرض وكان يجب أن يمر إليها الفراعنة، ومن في حكمهم، ليستمتعوا بعد اجتياز عقباتها بالنعيم المقيم في عالم(201/31)
الخلود.
ولما رأى الكهنة أن فرعون يقاسي قبل الوصول إلى إمبراطورية (أوزيريس) أهوالا صعابا أشاروا بأن تتلى عند دفن المومياء الملكية التعاويذ التي تلتها (إيزيس) على جسم زوجها أوزيريس فأعادته إلى الحياة، أو أن تكتب هذه التعاويذ وتوضع مع المومياء في مقرها الأخير، ليعود فرعون في سهولة إلى الحياة ليجتاز العقبات إلى مملكة الآخرة
ولما ارتقت الديانة المصرية تطورات هذه الشعيرة فانتقل فرعون من مملكة (أوزيريس) إلى مملكة (رع) كبير الآلهة وترك الأولى لأفراد الشعب الذين يجب أن يجتازوا الصراط جميعاً إلى المملكة وأن يمر بهم ما كان في العهد القديم خاصاً بفرعون
أما فرعون فقد أصبح في العقيدة الجديدة قميناً بأن يذهب إلى المملكة الساطعة كما كان يسمونها، وكان يستعين على الصعود إليها في السماء تارة بجناحي (هوروس) وأخرى بجناحي (توت) وثالثة بسلم يحضره إليه الآلهة، وهو سلم طويل يتصل أوله بمملكة (أوزيريس) تحت الأرض وتلامس قمة مملكة (رع) في السماء فإذا وصل إلى هذا المقر الإلهي ظل فيه زمناً يحمل أسم (هوروس) ويستمتع بامتيازاته، ثم ارتقى بعد ذلك إلى منزلة (رع) نفسه وامتزج به واتحد فيه اتحاداً كلياً. ومنذ أن ظهرت في الديانة المصرية هذه الصلة بين (رع) وفرعون حصل فيها تطور وانقلاب عظيمان إذ أصبح (رع) هو الذي يطوف بالملكة ليلاً ثم يتغشاها قبل حملها بالملك المقبل. وهكذا اصبح (رع) هو الأب المباشر لفراعنة الدنيا وهو الكل الأعظم الذي يتلاشون فيه في الآخرة
هل نشأ التطور الديني الجديد من الفلسفة أو الفلسفة هي التي نشأت من هذا التطور؟
اختلف الباحثون من العلماء في هذه النقطة في الإجابة على هذا السؤال اختلافاً شديداً، فأجاب الفريق الأول وهم الأكثرية العظمى من الباحثين بأن الأصل هو التطور الديني وأن الفلسفة ناشئة عن هذا التطور ووليدة احتكاك الأفكار حوله كما حدث في مسألة تعدد شخصيات روح (هوروس) التي أسلفنا لك الحديث عنها. وأجاب الفريق الثاني إجابة مباينة لرأي الفريق الأول تمام المباينة فقرروا أن التفكير الحر هو الذي سبق إلى إنشاء نظريات فلسفية لم يجد الدين بداً من أن يتجه نحوها ويصبغها بلونه. وإليك بيان هذين المذهبين:(201/32)
المذهب الأول
لما سرت عقيدة امتزاج الآلهة التي ترجع بالتعدد إلى أصل واحد وقالت بالثالوث المكون من: (أوزيريس) و (إيزيس) و (هوروس) الثلاثة الراجعين إلى واحد، ثم تطورت من التثليث الموحد إلى التتسيع الموحد كذلك، فقالت بتسعة آلهة يرجعون في النهاية إلى إله واحد، حدث اضطراب في الأفكار، وتناقضت العقيدة مع العقل وكاد يحدث بينهما تناقض خطير لولا أن أخذ المفكرون يفلسفون ويسلكون الممكن والمستحيل من السبل ليوفقوا بين العقل والعقيدة ولكنهم أخضعوا العقيدة للعقل، بل وللعقل الواقعي أو الطبيعي حيث قرروا أن الماء هو (الكاؤوس) المبهم أو العنصر الأول المشتمل على جميع ما في الكون من عناصر، وأنه كان ولا شيء معه لا آلهة ولا أناسي، وأول من ظهر من الماء هو (رع) الذي لم يلبث أن تمركز وكون الشمس، ذلك الكوكب العظيم الذي من فعله ظهر إلهان عظيمان هما: (سو) أي الهواء و (تيفنيه) أي الفراغ. ومن اجتماع هذين الإلهين تولد إلهان آخران هما: (جيب) أي الأرض و (نوت) أي السماء، ومن اجتماع هذين الإلهين أيضاً نشأ أربعة آلهة كل اثنين منها على طرفي نقيض من الآخرين، فأما الزوج الأول فهو (أوزيريس) أي النيل، و (إيزيس) أي الأرض المخصبة؛ وأما الزوج الثاني، فهو (سيت) أي الصحراء، و (نيفتيس) أي الأرض القاحلة، وهذه هي الآلهة التسعة الراجعة إلى واحد والتي كان المصريون يطلقون عليها: , أي المتسع أو التاسوع المقدس. ولم يكن هذا التاسوع هو كل ما عند المصريين من آلهة وإنما كان هيئة رياسة عليا لجمهور كبير من صغار الآلهة وأنصافها
المذهب الثاني
ذهب جماعة من العلماء نخص منهم بالذكر الأستاذ (ألكسندر موريه) المستمصر الكبير إلى أن التاسوع لم يكن هو الأصل كما فهم العلماء الآخرون، وإنما اكتشف العقل المصري القوي المتمدين تسع قوى من قوى الطبيعة هي الشمس والهواء والفراغ والأرض والسماء والنيل والخصوبة والجدب والصحراء ثم أسندوا إلى هذه القوى كل أفاعيل الكون، ولما رأوا أن هذا التفكير الفلسفي ليس في متناول أذهان العامة لم يسعهم إلا أن يؤلهوا هذه(201/33)
القوى، وأن يطلقوا عليها أسماء مقدسة لتفهمها الجماهير هي نفسها حين رأت هذا التقدير العظيم من جانب العلماء لتلك القوى أولته تأويلاً دينياً يتفق مع عاطفتها الفطرية التي لا تقدس إلا المعبودات؛ وفي كلتا الحالتين يكون العقل المصري العلمي هو الذي أوجد التاسوع، لا التتاسوع هو الذي أوجد التفكير في قوى الطبيعة كما يذهب الفريق الأول)
(يتبع)
محمد غلاب(201/34)
مدخل الفردوس المفقود
لملتون
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
يا ربة الشعر أنشدينا:
كيف كان من الإنسان أول العصيان؟
ما تلكم الشجرة الحرام وما جناها؟
فقطفها الفاني أورَدَ الأرضَ الفناء،
وأضعنا به عَدْناً، وعانينا ما نلاقي من عناء.
وهكذا نظل حتى يبعثنا نبي عظيم، فيسترد لنا دار النعيم،
غردي! يا من أوحيت إلى موسى،
في جنح الذٌّرى من (حوريب) أو (طور سينين)
فألهمت ذيَّاك الراعي، الذي عَلّم القبيل المصطفى
كيف استقام في الأزل العماءُ، فجاءت منه الأرض والسماء.
فإن استطبتِ سماوة (الصهيون)،
حيث غدير (سلوى) تدفق واثباً حيال بيت الله،
فإيِاك ثمت أستعين على نشيدي العصيب
الذي اعْتَزَمَ ألا يلوى في تحوامه
حتى يحلق صاعداً فوق سامق (أونيا)
ينشد غاية لم يحاولها قبلُ نثرٌ ولا قصيد.
أنت على الخصوص يا ذا (الروحُ) إليك أنحو!
يا من يؤثر على جلاميد المعابد طهر القلب والتقوى،
فَأتني العلم إنك أنت العليم.
قد شهدتَ الوجود منذ فاتحة الوجود،
وجَلسْتَ في وداعة الورقاء، باسطاً جناحيك العاتيين،
تأمَّلُ (المهوى) الرحيب، حتى أثقلته فكراً وشعراً.(201/35)
فاجلُ يا ذا الروح قاتمي، وارفع وطئ دعائمي،
عَليّ بهذا المقال الجليل أبلغ شأواً،
فأكون (للحكمة السرمدية) ترجماناً
ولرحمة الله بالإنسان برهاناً.
ألا حدثينا - فليست تخفى الجنة عنك شيئاً، كلا، ولا مهوى الجحيم السحيق - حدثينا
عن أبوينا الأوًّلين: ماذا دعاهما، إذ هما يرفلان في ذاك النعيم،
وإذ هما عند الله أقرب المقربين، ماذا دعاهما
أن يهجرا (الباري) فيهويا؟ وأن يعصيا مشيئة الله
لمحظور واحد، لولاه لسيطرا على العالمين؟
من ذا أغواهما بديّاً بذاك العقوق الذميم؟
إنه (الأرقم) الرجيم ثارت غيلته
حقداً ووتراً، فمكر بأم البشر
حين ألقاه الغرور من الفردوس طريداً،
وفي أعقابه عصبة الملائكة الثائرين.
فتطاول أن يَفْضُل في السلطان سائر الأخدان
وطمع بعونهم أن يضارع (العلي العظيم)
أن عصاه؛ ثم دعاه الأمل الطامع في العرش والملكوت أن يثير في الجنة حرياً وقودها
الغرور والفجور
فخاب الرجاء؛ إذ طوح به الله ذو الجبروت
فهوى من علياء السماء يتقد لهيباً،
يروع القلب منه ما احترق وما انحطم؛
وتردى في هاوية ما لها من قرار، بها يأوي
مغلولا بصم السلاسل يصطلي النار جزاء
بما حدثته النفس أن يناجز (القوي القدير)
وفي قرارٍ مهواه تسع فضاوات(201/36)
مما يذرع به الأناسي خطو الليل والنهار
تردى الأثيم هزيلاً بصحبة شيعته
يتقلب في حمأة الجحيم، لعيناً خالداً في لعنته؛
ثم قضى نحسه أن ينال من غضب الله المزيد
فأخذت تضنيه لوعة النعيم المفقود، وتشقيه لذعة العذاب الموجود، وطفق يجيل البصر
الذي يقدح الشرر
والذي شهد ما شهد من أليم الكرب والكدر
وفي نظراته الغرور العنيد والمقت الشديد
فسرعان ما رأى - ما وسع الملائكة النظر -
رأى ما حوله موحشاً قفراً يبابا
ورآه في جب مخيف التهبت جوانبه التهاباً
كأنه أتون سحيق مستعر، ناره لا تبعث النور،
فإن هو إلا ظلام منظور كأنما أضيء ليضيء
مشاهد الغم ومطارح الهم وأشباح الأسى
حيث الدعة والسلام لا يجدان مقراً
وحيث لا يشرق الأمل الذي يشرق على العالمين أجمعين،
فهو ما ينفك يصلى عذاباً مقيما وطوفاناً من حميم
تغدو لظاه شواظ أبدا تذكو ولا تخبو
فذلك مستقر أولئك العصاة كما أراده عدل الإله
حيث أعِدَّ لهم سجن محلولك داج
مُقامهم فيه ينأى عن الله وعن نور السماء
ثلاثة أمثال ما ينأى قلب الأرض عن قطبها الأقصى
فيا بعد مأواهم عن الذي كان منه مهواهم!
وهنالك سرعان ما شهد الأثيم رفاق هُوِيه
يحتويهم الطوفان وتغمرهم الأعاصير ونار السعير؛(201/37)
ورأى إلى جواره يتلوى من يتلوه سلطاناً وعصياناً
ومن عرفته أرض القدس بعدئذ باسم (إبليس)
فاتجه إليه كبير أعداء الله:
من سُمَي في السماء منذ ذلك الحين (شيطانا)
وألقى عبارة جريئة دوت في ذلك السكون الرهيب، فقال:
(أفأنت هو؟ - إذن يا ويلتاه! لشد ما زللت وما تبدلت! -
ألا إن كنتَ مَنْ في دار النور والنعيم
كان متشحتً بهالة من سنيِّ الضياء
أخمدت بسناها الألوف من مشرق الوجوه -
لئن كنتَ من وشجني به يوما
تبادل العهد، واجتماع الرأي والكلمة، واتحاد الأمل،
وآصرتنا غمرات هذا المطلب الجليل،
فهاهي ذي أواصر الشقاء توشج اليوم بيننا، فتوُحدُ هلكنا.
أفرأيت إلى أي هاوية أوينا، ومن أي الذرى هوينا؟
ألا إن الله في غضيته، ساق الدليل على رجحان قوته؛
فَمنْ قبلئذ كان يدري كم تبطش تانك الذراعان العَتِيَتان؟
ولكنيِّ على ذاك لست بنادم، وإن صَبَّ علينا (الظافر) القادر
ما استطاع في سورته من صنوف العذاب
فعزمي الصمم لن يحول، وإن حال مني رونق الإهاب؛
ولن أبدل ما أثاره حقي الهضيم في نفسي من أبي الكبرياء
التي سموت بها فنازلت (أقوى الأقوياء)
واستَعْدَيْتُ معي في النزال عرمرما
من (الأرواح) شاكي السلاح
الذين استبسلوا فكانوا على حكم الله مارقين،
وآثروني من دونه، ثم قارعوه جبروتا بجبروت(201/38)
حتى زلزلوا قوائم عرشه
في حرب كانت في حومة السماء سجالا
وماذا أنْ فاتنا النصر في حومة الوغى؟
فأنا بذلك لم نفقد كل شيء -
وهل يكون هزيما، من له هذا العزم الحديد
والثأر السديد والمقت الذي لا يزول؟
ومن له هذا الجنان الذي لا يلين ولا يحول؟
ذاك نصر لن يسلبنه الله بسورته أو صولته
فما كان أخسها ضعة،
لو أني جثوت له مسترحما وركعت ضارعا،
أو أني خشعت لصولته،
وهو الذي ارتاع لهذي الذراع منذ هنيهة
حتى ارتاب في دولته!
أما وقد شاء القضاء لسطوة الآلهة ألا تدول،
ولهذه الجحيم ألا تزول،
وبعد أن عجمتنا خطوب هذا الحدث الجسيم،
فازددنا به رشادا وما فُلَّ لنا سلاح
وما يزال يحدونا زاهر الرجاء،
فلنُثِرْها على عدونا الألَدَ - بالقتل أو الختل - حربا عوانا،
إنه أصاب النصر فانتشى جذلا
أَنْ رآه طليق الحكم، فطغى في السماء)
هكذا قال (الملكُ) الكافر، برغم ما يشقيه من العذاب
مختالا يصول، وإن يكن حطيم النفس باليأس العميق،
فلم يلبث رفيقه الجريء أن أجاب: -
(مولاي! وأنت زعيم العديد من العتاة متوجين(201/39)
قدتَ إلى الوغى تحت لوائك (السيروفيم) مدججين
وتهددت رب السماء الدائم بالخطر
فأقمت الدليل على رفيع جلاله
سواء أكان بالحق أم بالحظ أم بالقدر.
يا ويح نفسي أن ترى جليا هذا الخطب الرهيب
الذي طوَّحَنا فأشجانا وهزمنا فأردانا
وأضاع منا الجنة، وهوينا به إلى هذا الحضيض
يهدنا، ونحن المعشر القوي، هلاك مبيد
ما بادت الأرباب وكائنات السماء:
فلا يزال الروح والعقل منا عن الهلك في حرز حريز
وسرعان ما نسترد العنفوان المفقود، وأما المجد فلن يعود
وسالف النعيم قد استأصله الشقاء الموجود.
ولكن لم لا يكون الله هو لنا (قاهر)
(فقد آمنت أنه على كل شيء قادر،
إذ ما كان يستطيع أن يدك قوانا سوى مطلق قدرته)
لم لا يكون الله قد أبقى على نفوسنا وقوانا،
فلم ينتقصها ليشتد أذاناً ونضطلع بمر العذاب
لكي يُرضي فينا غيظه الناقم
أو ليأمرنا بما شاء من فادح الأعمال، فنستطيع الأداء؟
فقد أمسينا له بحق النصر عبيدا أرقاء،
إن شاء اصطلينا النار في قلب الجحيم
وإن شاء سَخّرنا في اللج البهيم
فإن أحسسنا بالقوة موفورة، فأين في ذلك الغَنَاء؟
وهل أجدى علينا خلود البقاء إلا دوام الشقاء؟)
زكي نجيب محمود(201/40)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
أحقاد
أفتقيمون للحق دليلا من اقتحام أحد الناس للهب في سبيل تعاليمه؟ وهل لمثل هذا التعليم ما للعقيدة التي تتولد متقدة من لهبها نفسه. إذا ما تلاقي رأس بارد بقلب مضطرم نشأت من التقائهما تلك العاصفة التي يدعوها الناس مخلصا. ولكم وجد على الأرض من رجل أعرق منشأ وأرفع مقاماً ممن يدعوهم الشعب مخلصين، وما كان هؤلاء المخلصون إلا عاصفات كاسحات تهب متوالية على الأرض
إذ ما كنتم تنشدون سبل الحرية، أيها الأخوة، فعليكم أن تنقذوا أنفسكم حتى ممن يفوقون هؤلاء المخلصين عظمة ومجداً. فإن الإنسان إنسان ألمانيا الكامل لم يظهر على الأرض بعد. لقد حدقت بأعظم رجل وبأحقر رجل عن كتب وهما عاريان فظهرا لعياني متشابهين، بل رأيت أعظمهما أشد توغلا في المعائب البشرية من الآخرين.
هكذا تكلم زارا. . .
الفضلاء
لا ينبه الشعور الغافل إلا الإرعاد والأبراق، وما تكلم الجمال إلا بنبرات هامسة لا تنفد إلا أشد الأرواح انتباهاً
أسمعتني عصمتي اليوم ضحكة تعالت فيها قهقهة الجمال السامية. فجمالي يسخر بكم، أيها الفضلاء، إذ سمعته يقول: - إنهم يطلبون لفضائلهم ثمناً.
إنكم تتقاضون ثمن فضيلتكم وتطالبون بالجزاء، أيها الفضلاء، طامحين إلى امتلاك أماكن في السماء، بدلا من أماكن في الأرض، والى الظفر بالأبدية بدلا من الدهر الزائل.
إنكم لتحقدون علي لأنني أعلم الناس أن ليس هنالك لا حسيب ولا مثيب، والحق أنني أمتنع عن القول بالثواب بل أذهب إلى أبعد من هذا فأقول أن ليس للفضيلة ما تجزي به نفسها جميل الجزاء.(201/42)
إن ما يؤلمني هو أن العقاب والثواب قد دسا دساً في غاية كل أمر، بل حشرا حشراً في أعماق نفوسهم، أيها الفضلاء. ولكن لكلمتي أن تشق أعماق هذه النفوس ذاهبة فيها كقرن الوعل وكالسكة تشق الأرض لتحرثها. فلتتكشف نفوسكم عن خفاياها أمام النور، لأن الحقيقة لن تنفصل عن الضلال فيكم حتى تنطرحوا عراة تحت شعاع الشمس. ذلك لأن حقيقة ذاتكم إنما هي أطهر من أن تسمح بتدنسكم بكلمات الانتقام والعقاب والمكافأة والمقابلة بالمثل.
إنكم تحبون فضيلتكم كما تحب الأم طفلها، وهل سمعتم أن أما طلبت مكافأة على عطف الأمومة فيها؟
هل فضيلتكم إلا ذاتكم نفسها وهي أعز ما لكم؛ وما أمنيتكم إلا أمنية الحلقة التي لا تلتوي وتستدير إلا ليصبح أخرها أولا لها.
إن كل عمل ينشأ عن فضيلتكم إنما هو بمثابة نور كوكب يعروه الانطفاء، فما يزال نوره يخترق مجراه في الأفلاك، وليس من حد ينتهي سيره إليه. وهكذا لن تزال أشعة فضيلتكم سائرة في سبيلها حتى بعد انتهاء عملها وتواريه في عالم النسيان، لأن إشعاع الفضيلة مستمر لا يعروه زوال.
لتكن فضيلتكم تعبيراً عن ذاتكم وما تلك غريبة عن هذه فلا تحسبوا أنها جلد ورداء.
هذه هي حقيقة روحكم الكامنة، أيها العقلاء. ولكن من الناس من يخيل له أن الفضيلة عبارة عن تشنج تحت السياط الجالدة، ولطالما سمعتم صياح هؤلاء الواهمين.
ومن الناس من يرى الفضيلة في الكسل والرزيلة، وما بنتبه عدلهم إلا عند ما يتثاءب حقدهم وحسدهم؛ عندئذ يفركون أجفانهم وقد أثقلها النعاس.
من الناس من تشدهّم شياطينهم إلى أسفل فكلما تدهورا على الدركات زادت أحداقهم توهجاً وتزايد شوقهم إلى ربهم. إن صوت هؤلاء المتدهورين يبلغ آذانكم.
أيها الفضلاء وهم يصيحون: - إن كل ما هو خارج عن كياني إنما هو الله وإنما هو الفضيلة.
وهنالك آخرون يتقدمون مثقلين مقرقعين كأنهم عجلات تحمل صخوراً إلى الوادي، وهؤلاء الناس لا ينون يتكلمون عن الفضيلة، وما الفضيلة في عرفهم إلاّ عبارة عن كابح عجلاتهم.(201/43)
وهنالك قوم أشبه بالساعات يربط زنبركها فتسمعك تكتكتها وهم يريدون أن تدعى حركتهم الآلية فضيلة. إنني ألهو بمشاهدة مثل هذه الساعات لأنني ما صادفتها مرة إلا ربطت زنبركها بتهكمي وأكرهتها على تحريك رقاصها.
وهنالك المغترون بذرة من العدل ترتفع فيهم على جبل من الدعوى فتراهم يجدفون على كل شيء إلى أن يغرقوا العالم بظلمهم؛ وما تخرج كلمة الفضيلة من أفواه هؤلاء الناس إلا وتحسب أنهم يتجشأونها، وإذا قال أحدهم: - لقد عدلت، فكأنه يقول: - انتقمت.
هؤلاء من يريدون أن يفقئوا أعين أعدائهم بفضيلتهم وما يطلبون من الاعتلاء إلا إسقاط سائر الناس.
وهنالك أيضاً من يدب إليهم الفساد كأنهم ماء آسن في المستنقعات، يختفون بين المناصب منادين بالفضيلة كأنها جمود في المستنقعات. فهؤلاء الناس يعلنون أنهم لا ينهشون أحداً ويتحاشون الالتقاء بالناهشين، فإذا عرض عليهم أي رأي أخذوا به تفادياً لكل أخذ ورد.
وهنالك عشاق الحركات المعتقدون بأن الفضيلة نوع من الأيمان فتراهم في كل حين جاثين على ركبهم وقد قبضت إحدى راحتيهما على الأخرى تمجيداً للفضيلة وما يدرك قلبهم منها شيئاً.
وهنالك من يرون الفضيلة في القول بلزوم الفضيلة وهم لا يعتقدون إلا بلزوم ردع الشر بالقوة.
وبعض من امتنع عليهم أدرك ما في الإنسان من صفات عليا لا يذكرون الفضيلة إلا عند ما يحدقون بما فيه من دنايا وهكذا لا تنشأ فضيلة هؤلاء القوم إلا من عيوب عيونهم.
من الناس من يطلب المعرفة وتقويم ما التوى فيه فيدعو هذه النزعة فضيلة؛ ومنهم من يطلب قلب كيانه رأساً على عقب فيدعو هذه الرغبة فضيلة أيضاً، وهكذا ترى الجميع يعتقدون بوجود الفضيلة في ناحية من نواحي كيانهم وتراهم يتجهون إلى معرفة ما فيهم من خير وشر. غير أن زارا قد جاء إلى جميع هؤلاء المخادعين وإلى جميع هؤلاء المجانين ليقول لهم إنهم لا يعرفون عن الفضيلة شيئاً وإن ليس في وسعهم أن يعرفوها.
ما أتى زارا إلا ليشعركم بأنكم تعبتم من تكرار الأقوال القديمة التي علمكم إياها المخادعون والمجانين، فينفركم من كلمات المكافأة والمقابلة بالمثل والعقاب والانتقام في العدل ولتقلعوا(201/44)
عن القول بصلاح الأعمال عند تجردها عن الغايات
لتكن ذاتكم متجلية في عملكم كما تنجلي الأم في طفلها وليكن هذا التعبير ما تعرفون الفضيلة به.
والحق، أنني انتزعت منكم كثيراً من أقوالكم وسلبتكم أعز ما تتلهون بمضغة عن الفضيلة، ولذلك أراكم تزورون كالأطفال. وقد كنتم مثلهم تتسلون بألعابكم على الشاطئ فطغت موجة انتزعتها من بين أيديكم وحملتها إلى العباب، فها أنتم تعولون الآن كهؤلاء الأطفال، غير أن الأمواج ستكر راجعة حاملة إليهم ألعاباً جديدة ناثرة بين أيديهم الأصداف المخططة، وأنتم أيضاً أيها الصحاب ستسلمون مثلهم حين تأتيكم التعزية ناثرة بين أيديكم الأصداف المخططة.
هكذا تكلم زارا. . .(201/45)
شاعر الإسلام محمد عاكف
للدكتور عبد الوهاب عزام
تتمة
عرف قراءة الرسالة الموضوعات التي عالجها الشاعر الكبير في ديوانه (الصفحات) كما عرفوا من قبل مثلا من شعره. واليوم أقدم لهم مثالاً من شعره الاجتماعي الذي يصور فيه الواقعات الصغيرة والحادثات الجارية التي لا يأبه لها الناس كثيرا، وهي قطعة من الجزء الأول من الصفحات.
وينبغي أن يذكر القارئ ما ينال الشعر حين يترجم منثوراً فيفقد كثيراً من روعته، ولاسيما نظم عاكف الذي يذهب مثلا في انسجامه وقدرته على تذليل كل موضوع أبي وكل معنى شامس.
كان أنصاره وخصومه مجمعين على أنه أوتى في النظم قدرة تأبى على المحاكاة. وكان دعاة الأوزان التركية وأعداء العروض العربي يقولون لا يهزم هذا العروض حتى يقتل محمد عاكف فهو حجة دامغة تفحم كل معارض. وما ظنك برجل يصف مصارعة فينطق الشعر بحركات المصارعين وأقوالهم في بيان سلس ونظام لا شية فيه من التكلف
السفط
قبل خمسة عشر يوماً غدوت على عادتي من داري مبكراً ومحلتنا في أطراف استانبول فليس يستطيع السير في أزقتها إلا من يحسن السباحة، ما تزال تعترض سبيله بحيرة مائجة بعد أخرى. فإذا أظلم الليل فليس إلا الصبر على اللأواء، واحتمال ما يرمي به القضاء. لابد من قنديل في إحدى اليدين واسقنديل في الأخرى. هذه سبيل النجاة لا سبيل سواها
وكانت في يدي هراوة أتحسس بها الطريق إن أصابت جزيرة وقفت، وإن لقيت بحراً وثبت.
ويأوي دليلي الأمين إلى أطناف الدور العتيقة المتداعية ويلوذ بجدرانها فيصدم شيئاً ضخماً. نظرت فإذا سفط كبير قديم. قلت سفط حمال. لمن هذا ليت شعري؟ ويقبل غلام في الثالثة(201/46)
عشرة عامداً إلى السفط بعصا غليظة، فمازال يرفع عصاه جاهداً ويهوي بها حرداً حتى تدحرج السفط خائراً منهوكاً
- (قد مات أبي تحتك وأنت لا تزال في وسط الزقاق جاثماً متعجرفاً)!! وبرزت من دار أمامنا امرأة نّصَف:
- ويلك يا بنيَّ! هلمَّ اليّ، كفّ. إياك أن تحطمه. مالك وللسفط يا بني؟ إنه أخرس لا فم له ولا لسان. لقد ارتفق به أبوك سنين ثمانيا، وكان يقول إنه سفط مبارك، قلما بقيت تحته بغير حمل. وقد ذهب أبوك فهو اليوم كاليتيم. وستعول به أمك وأخاك. أطفل أنت؟ ألا تعرف ما عليك؟
قلت: - استمع يا بني إلى أمك
فصاح الصبي متجهماً: -
(يا ذا اللحية ألا عمل لك؟ اذهب من هنا إلى جهنم. اذهب ما وقوفك هنا هاذيا في هذه الغداة؟ إن قلبي يشتعل. قد ذهب أب لي كالجبل
- ماذا تبغي الآن من رجل في مقام أبيك؟ اسمع يا بني. .
- دعيه يا سيدتي إنه طفل، أنا لا أبالي ما يقول.
- ما اسمك يا بني؟
- حسن
- أصغ يا حسن. إنك ستضير نفسك فهذه الحدة. لقد احترق قلبي يا بني حين عرف مصيبتك، ولكن أباك قد أوصى إليك وذهب. فانظر كيف جاهد هذه السنين الطوال ورباك بعرق جبينه! وكذلك عليك ألا تترك أخاك يتيما. عليك أن تربيه.
- بالسفط؟ أكذلك؟
- نعم نعم. ما هذا الكلام يا بني؟ أعار أن تعمل؟ ثم أن تحمل الأعباء؟ إنما العار الاستجداء، إنما العار أن تسأل الناس ولك يد ورجل
- ما أصدق ما قال عمك يا ولدي. قبل يا بني يد عمك.
- أنسيت سريعاً ما قالته امرأة جارنا؟ ألم تقل: (يا حسن خالي ضابط في إحدى المدارس. ولو كلمناه مرة لأخذك إلى المدرسة. انتظر سأكلمه)(201/47)
فلا تعلميني أنت واجعليني في هذه السن حمّالا!!
عرفت أن الحديث طويل وأنه سيزداد طولا وكانت مشاغلي كثيرة ذلك اليوم فتركتهما.
ليت شعري ما خطب حسن المسكين اليوم؟
لي بنية عرمة لا تستقر في الدار. خرجت بها إلى الفاتح، بعد العصر بقليل. فبينا ندخل من باب الفحامين راق البنية منظر الجمل، تعجب من هذا البدن المعوج، وذلك العنق المفرط في الطول. وهذه الأرجل، وهذا الذيل المعلق من خلفه - هذا الذيل أليس هذا كله عجيبا؟
التفت ورائي فإذا على خطوات منا شيخ ربعة، وضاء الوجه مشرق السيما. قد لف على وسطه شالا، وعلى رأسه يابانية، وبجانبه صبي ينوء تحت سفط كبير. أقبلا يمشيان الهوينى. فوا عجبا! هذا هو الصبي الذي رأيته ذلك الصباح. . أي مرأى! مرأى يذيب القلب ويذهب باللب: رجلان هزيلتان عاريتان إلى الركبتين، وبدن يرعد تحت ثوب رقيق يكاد ينجمد من البرد. وقدم حافية، ورأس حاسر. لم تكن نفسا هذه اللهثات ولكن أنينا مديدً، ولم تكن نظراً هذه اللمحات ولكن بكاء شديداً، يا له بؤساً حافياً حاسرا. وإنه لحسرة ذلك الجبين المجعد في الثالثة عشرة.
ويخرج من المدرسة الرشدية أفواج من الطلبة قد انتظموا صفوفا، وساروا قليلاً ثم وقفوا. ما أقسى هذا المنظر على قلب حسن التعيس! أجل غلمان تفيض منهم نغمات النعمة والشباب يطير كل منهم إلى عشه السعيد. وسيفرغون للعب عما قليل، هؤلاء سعداء، وأما حسن فسيحمل أبدا على كتف الفاقة هذا السفط المشئوم الذي ورثه عن أبيه - السفط الذي أراد أن يحطمه حين بصر به في طريقه.
ليس هذا حملا ولكنه عقاب القدر لهذا البريء
وا حسرتاه، ما ذنبه، ما ذنب هذا المعاقب الذي لا يدري ما ذنبه؟
عبد الوهاب عزام(201/48)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعَاف النشاشِيبي
50 - الطبيب أبو المنذر نعمان
قال ابن فارس: سمعت أبا الحسن السروجي يقول: كان عندنا طبيب يسمى نعمان ويكنى أبا المنذر فقال فيه صديق لي:
أقول لنعمان وقد ساق طبُّه ... نفوساً نفيسات إلى باطن الأرض
(أبا منذر) أفنيتَ فاستبق بعضاً ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض!)
51 - قبل أن تكدره الخلائق بأنفاسها
قال الأصمعي: كانت امرأة من العرب تأتي بصبية لها كل يوم قبل الصبح، فتقف بهم على تل عال وتقول: أيْ بنيَّ، خذوا صفو هذا النسيم قبل أن تكدره الخلائق بأنفاسها
52 - لو رقد المخمور فيه لصحا
قال الثعالبي في (اليتيمة):
قرأت في بعض الكتب عن ابن حمدون قال: كان الفتح ابن خاقان يأنس بي، ويطلعني على الخاص من سره، فقال لي مرة: أشعرتَ يا أبا عبد الله، إني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة (يعني جارية له) فلم أتمالك أن قبّلتها، فوجدت فيما بين شفتيها هواء رقد المحموم فيه لصحا
فكان هذا مما يستحسن ويستظرف من كلام الفتح. وكأن الوأواء قد سمع ذلك فنظمه في قوله:
سقى الله ليلا طاب إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصباح عناقا
بطيب نسيم منه يُستجلب الكرى ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
53 - الجندي العربي المجهول
في (عيون الأخبار):
حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا فندب الناسَ إلى نَقْب منه فما دخله أحد. فجاء رجل من عَرْض الجيش فدخله ففتحه الله عليهم، فنادى مسلمة أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد.(201/49)
فنادى أني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي فعزمت عليه إلا جاء. فجاء رجل فقال استأذن لي على الأمير
فقال له أنت صاحب النقب؟
قال أنا أخبركم عنه
فأتى مسلمة فأخبره فأذن له، فقال له. إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً:
(1) ألا تسودوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة
(2) ولا تأمروا له بشيء
(3) ولا تسألوه ممن هو
قال: فذاك له
قال أنا هو
فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب
54 - لا تظنوا أنني أسلو
أبو الوليد بن الجنان محمد بن الشرف من شعراء الملك الناصر صاحب (مصر) والشام:
أنا من سكر هواهم ثمل ... لا أبالي هجروا أم وصلوا
فبشعري وحديثي فيهم ... زمزم الحادي وسار المثل
إن عشاق الحمى تعرفني ... والحمى يعرفني والطلل
رحلوا عن ربع عيني فلذا ... ادمعي عن مقلتي ترتحل
ما لها قد فارقت أوطانها ... وهي ليست لحماهم تصل؟
لا تظنوا أنني أسلو فما ... مذهبي عن حبكم ينتقل
55 - الأب والابن والروح القدس
كان أبو نواس جالسا وفي يده كأس خمر، وعن يمينه عنقود، وعن يساره زبيب. فقيل له ما هذا؟
فقال: الأب والابن والروح القدس
56 - ويرحم القبح فيهواه(201/50)
قال جعفر بن قدامة: كنا عند ابن المعتز يوما ومعنا النميري، وعنده جارية لبعض بنات المغنين تغنيه وكانت محسنة إلا أنها كانت في غاية من القبح، فجعل عبد الله (أي ابن المعتز) يجمشها، ويتعلق بها. فلما قامت قال له النميري: أيها الأمير، سألتك بالله أتتعشق هذه التي ما رأيت قط أقبح منها؟
فقال عبد الله وهو يضحك:
قلبي وثاب إلى ذا وِذا ... ليس يرى شيئاً فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي ... ويرحم القبح فيهواه
57 - يا كذاب!
قال رجل لامرأة: قد أخذت بمجامع قلبي فلست أستحسن سواك
فقالت: إن لي أختا هي أحسن مني وهاهي خلفي. فالتفت الرجل فقالت: يا كذاب! تدعي هوانا، وفيك فضل لسوانا
58 - هذه أنفاس ريا جلقا
قال ابن الكتبي في (فوات الوفيات):
قال بعضهم: مررت يوما ببعض شوارع القاهرة وقد ظهرت جمال حمولها تفاح فتحي من الشام، فعبقت روائح تلك الحمول، فأكثرت التلفت لها، وكان أمامي امرأة سائرة ففطنت لما دخلني من الإعجاب بتلك الرائحة فأومأت إلي وقالت:
هذه أنفاس ريّا جلّقا
59 - يا نسيما هب مسكا عبقا
قال السلمي الدمشقي المعروف بالبديع (وقد اشتهرت هذه الأبيات، وغنى بها المغنون):
يا نسيما هب مسكا عبقا ... هذه أنفاس ريا جلقا
كفّ عني (والهوى) ما زادني ... برد أنفاسك ألا حُرَقا
ليت شعري نقضت أحبابنا ... (يا حبيب النفس) ذاك الموثقا؟
يا رياح الشوق، سوقي نحوهم ... عارضاً من سحب عيني غدقا
وانثري عقد دموع طالما ... كان منظوما بأيام اللقا(201/51)
60 - لأجل هذا البيت الواحد
وفد أبو الفضل بن شرف بن برجة على المعتصم (صاحب المرية) يشكو عاملا ناقشه في قرية يحرث فيها وأنشده الرائية التي مطلعها:
قامت تجر ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخصر والميثاق والنظر
إلى أن بلغ قوله:
لم يبق للجور في أيامهم أثر ... غير الذي في عيون الغيد من حور
فقال له: كم بيتا في القرية التي تحرث فيها؟
قال فيها خمسين بيتا
قال: أنا أسوغك جميعها لأجل هذا البيت الواحد، ثم وقع له بها، وعزل عنها نظر كل وال(201/52)
رسًالة الشِّعر
وحي الربيع!
للسيد حلمي اللحام
فتنة الغوطة:
ماجتِ الغوطة الأنسية بالحس ... نِ وفاضت شذاً، وسالتْ غِناَء
غمغْماتٌ بين العشاش، وهمس ... في زوايا الغصون يَنْدى ولاء
ليت شعري ماذا تتمتْمُ هذي الطي ... رُ، فوْق الربا، صباحَ مَساء!
أترى أرْسلَ النسيمُ نداَء الح ... بِّ في سرها، فخنَّتْ وفاَء؟
أم سرى العِطر فاغماً فانْتَشت من ... هُ وناحَتْ، رياضَه الغَنَّاء!
أمْ حباها الرَّبيعُ أحلى معان ... يهِ، فراحَت تعيدها أصداء؟!
وعلى أفيح المروج عذارى ... يرْتشفْن الأظلالَ والأنداء
ويُصوِّرن في الضمائر أطْيَا ... ف هوى تترع الوجود رواء
ويغَنينَ هائمات نشاوى ... فَيَميد الروض الأَغن اشتْهاء!
ويدَغدِغن ذكريات أخي الح ... ب، فيهوِي فؤادُه إعياء. . .(201/53)
دنيا الشاعر:
شاعرٌ مُرهف الشعورِ، حنون اللحْ ... نِ، يهْوَى الخيَالَ والأوهاما
عَينْه ترْمقُ السماء فهل فا ... رَقها حلمُها، فهامتْ هياما؟
أم سَبي عَالَمُ الأشِعةِ جفَنْيْ ... ها، فحامَتْ ترْتاءُ فيه مقاما!
قَلْبهُ جذْوة من الحقَّ والنو ... ر تشع الهْدى، وتجلو الظلاما
إن غفا المْجَد أشْعَلَ الثورْة الح ... مراء، كالشَّمس، أو يذيب القتاما
أو تدجَّى الفضا فتانِكَ عَينا ... هُ تكادانِ ترْشفان الغماما
روحه مِزْهرٌ ينامُ على الأف ... قِ كزَهر لم ينفض الأكماما
كلما مسَّتِ النسائمُ منه ... وتراً راحَ يرْسل الأنغاما
أيها الشاعر الطروب إملاء الدني ... احُبوراً وبهجْة وابتساما
واسكبِ اللحنَ في النفوس كما يَس ... رب فيها صَوْت الحبيب مداما!(201/54)
عالم الحبيب:
يا حبيبي أطِلَّ من كوَّة الغيْ ... ب وأشْرِقْ على الوجود صباحا
واسْرِ في مقلتيَّ حُلماً ضَحُوكا ... واهمْ في مهجتي ندى وسَماحا
وادْ وِفي خاطري نشيداً مُرناً ... وابْقَ في خافقي سناً لمَّاحا
وأثرْ غافِيَ الصبَّابات، وانكَأ ... ذكريات الصبِّا، وأدم الجراحا
لا يَسيلُ الغْناءُ من مهجة الش ... اعر إلا إذا استحرَّ نواحا
والأماني لا تجنحُ إلا ... بشجون الغرام: عزَّت جناحا
واسقِني من دمِ ابنْةِ الكرم، واسكب ... في دمي من صدى غِنائِك راحا
وأرق من شعاع عينيكَ في رو ... حي ضياء، ونشوة، ومرحا
زرْقة يسبغ الصفاءُ عليها ... من غلالاتِهِ الرِّقاق وشاحا
أنا منها في زورق يَمخْرُ الْيَ ... مَّ، وبدر السماء في الأفق لاحا(201/55)
ضحكة الربيع:
يا حبيبي تعال نغنم صِبا العم ... ر، ونكرع كؤوسه والدِّنانا
ونغن الشباب أعذبَ ألحا ... ن التصابي، ونطرب الأكوانا
ما ترى ضحكة الربيع على السه ... ل، وزهو الجواءٍ، والألوانا
نبضت بالحياة خضر التعاشي ... ب، ورفَّ الندى عليها جمانا
ألقى يبهر العيون سناهُ ... ورؤى حلوة تفيضُ حنانا!
أي كفٍّ سمحاء نضَّرت الأف ... ق ووشَّتْ وجه الثرى العريانا
أي سر في الزهر يبتعث الح ... ب ويحيي المنى ويذكي الجنانا
هو في مرشف المحب كثغر الح ... ب، يرمي فؤاده نشوانا
وهو في ناظريه صورة طيف ... علق الطرف لحظة ثمَّ بانا
ليتنا بلبلان يغمرنا الصف ... وُ، ويوحي الهوى لنا الألحانا(201/56)
غناء الحب:
أيها الحبُ أنت فيض من الخل ... د يحيل الأسى الممضَّ رغابا
أنت ومْض الهدى على مهمة العي ... ش، يضيء الشعاب والأسرابا
أنت لحن الحياة إن رَقرق الشد ... وعليها زهت وطابت رحابا!
غنِ هذي العِشاشَ تندَ صبابا ... ت، وتنسج من الضحى جلبابا
وترددْ فيها الحمائمُ والطي ... رُ أغاني الهوى رخاماً عذابا
غَن هذي الحقولَ تخضل أفيا ... ءً، وتهتز دَوْحة وجنابا
غن هذي الأزهارَ تّطرح الأكم ... امَ عنها، وتنشر الأطيابا
عن هذي القلوبَ حتى تحس الش ... عرَ، والحسن والمنى والشبابا
كل نفس لم ترْتشفْ من حُمَيَّا ... ك تخالُ الحياة سمّاً مذابا
كل قلبٍ لم تجْرِ فيه ينابيع ... كَ يَبقى، على الزمان، يبابا
حلمي اللحام(201/57)
أخرس. . .!
للأستاذ عمر أبو ريشة
رفع الرأس للسماء وصلَّى ... بدموع ترجرجت في هدبهْ
بين شَدقيه مضغة عقلتها ... يوم ميلاده أنامل ربه!!
جرَّدت عن لسانه لذَّة النط ... ق وبثَّت إعجازه في قلبه
فإذا حبه يصول عليه ... وإذا بؤسه يعيث بحبه!
أخذت ثورة الكآبة تطغى ... بين حالي فؤاده ولسانهْ
ليس يستطيع أن يبث خليلا ... ما تقول الدموع في أجفانه!
حمل العبء وجده كغريب ... ضلَّ عن أهله وعن جيرانه
تتهاوى أشلاء آماله الغرّ ... تباعاً على خطا أحزانه
كيف يطوي سفر النعيم كئيباً ... والشباب الشباب في ريعانه؟!
صفقت قبضة الذهول حجاه ... فانثنى في الحياة حيران تائه
أشعث الشعر لوَّح السهد خَدَّ ... يه وهزَّ الشقاء من كبريائه
تلمح الفقر هادئاً في زوايا ... مقلتيه وثائراً في ردائه!
يسحب الساق متعباً كعليل ... هجر الدار قبل يوم شفائه!
كلما جاشت اللواعج فيه ... أطرق الرأس غارقاً في شقائه!
وقف العاشق الكئيب حزيناً ... يرقب الغادة الطهور إزارا
فتراءت إليه من بعد لأي ... فهفا لوعة وضج اصطبارا
فجئنا باسطاً يديه إليها ... شاكياً بالدموع حباً مثارا
فرمته. . بدرهم. . وتوارت ... وسنا ثغرها يشع افترارا
رفع الرأس للسماء وأرغى ... في أبدي (ما لست أدري) وسارا!
عمر أبو ريشة(201/58)
القبرة
للأستاذ إبراهيم العريض
تُحوِّم في أفق السماء أصيلا ... كنجم تراءى للعيون ضئيلا
فيتخذ الصوت الذي تستجدُّه ... مع الريح في رحب الفضاء سبيلا
يدق على الأسماع خافتُ جرسه ... فإن أعلنته الريح جاوزَ ميلا
وتدركه شيئاً فشيئاً غشاوة ... من الحزن حتى يستحيل عويلا
أقبرة! هل أنتِ في الجوِّ قطعة ... من الحسِّ سالت باللحونِ مسيلا
تغالين في الألحان حتى إذا انتشت ... بها روحكِ الولهى خفتِّ قليلا
كما تخفتُ الأوتار بعد رنينها ... ويبقى صداها في النفوس طويلا
فقد برأَ الله الطبيعة - وهي لا ... تحس به - حتى بعثت رسولا
فأحسنت في الترتيل حتى كأنما ... بآيكِ ظلُّ الروضِ صارَ ظليلا
ولقَّنتنا سرَّ الجمالِ ولم نكن ... لندُركَ لولاكِ الوجودَ جميلا
فما زهرة في الروض تفتح جفنها ... على الدمع إلاّ وهي تنشد سولا
فتغرينها في شجوِها بابتسامةٍ ... بِبَثكِ معنى للخلود جليلا
(البحرين)
إبراهيم العريض(201/59)
رسالة الشباب
الزحف الاجتماعي
لم نكد نفتح هذه الفرجة لآراء الشباب نرى منها اتجاه موجاته ومنزع
خلجاته حتى انثالت علينا رسائله الفتية تعرض مسائله، وتبحث
مشاكله، وتصور هواه. وسننشر منها ما يستحق النشر، ونناقش ما
يستوجب المناقشة، عسى أن يكون من وراء ذلك الطريقُ الذي يستقيم
عليه الجهاد ونوفي منه على الغاية كتب (شاب) مكتمل الشباب ناضج
الفكر يقول:
قرأت مع الإعجاب كلمتكم البليغة في مجلة الرسالة المحبوبة تعلنون فيها أنه يهمكم على الأخص أن تعرفوا رأي الشباب وتطلعوا على انفعالاته واتجاهاته وتبدون فيه رأيكم، في أن واجب الشباب أن يستمر على صياله في ميدان الكفاح السياسي.
ولسنا معشر الشباب نوافق على رأيكم في أن الجيل الماضي قد أنهكه النضال في المعركة الكبرى، ونعتقد أن قولكم هذا ناشئ من تواضع طبيعي، إذا أنكم من ذلك الجيل الماضي فلستم تريدون أن تستأثروا بالمفاخر كلها فتنازلتم عن المجد طواعية واختيارا. فأنا نرى أن ذلك الجيل الماضي قد أخذ على عاتقه أمانة قومية ثقيلة الحمل، ولا يزال قادرا على المضي في سبيله رافعاً علم البلاد موفقا إن شاء الله. ولا نزال نرى رجال هذا الجيل أمثلة نحتذيها ونسير في آثارها إذ لابد للمعركة من قواد وجنود، فإذا كانوا هم القواد ونحن الجنود فليس ذلك بمنقص من مقدار جهادهم، لأن جهاد القواد لا يقل في عظمته ومجده عن جهاد عامة الجند. وإننا ندخر لمستقبلنا أن نكون في آخر عهدنا بالجهاد قوادا عندما يجيء الوقت الذي يكون علينا القيام بالقيادة - وإنه ليقر أعيننا أن نتصور أننا نكون عند ذلك جديرين بالثقة والتقدير، ينظر إلينا شبان عهدنا فيجدوننا لا نزال إخوانا مجاهدين متضامنين معهم في القيام بالواجب
نرى أن الشباب يستطيع أن يؤدي واجبه الوطني في ناحية لا يستطيع أن يجول فيها رجال الجيل الماضي، فإننا أقدر على الاتصال بجمهور الشعب وأخف حركة وأقوى على(201/60)
احتمال المجهود الجسماني الذي تطلبه الحركة المستمرة، ولهذا نرى أن من واجبنا هذا الاتصال بالجمهور لكي نعمل على نشر المبادئ السياسية السامية والعمل على تنوير الشعب وتثقيفه وتنظيم ما يحتاج إلى التنظيم من حياته العامة.
ويستطيع شبان البلاد ولاسيما طلبة المدارس والكليات أن ينتشروا في الريف والمدن في أثناء العطلة الصيفية ويقوموا على إنفاذ برنامج وطني شامل، وأقترح لهذا أن تقوم دعوة واسعة على تكوين جمعية منظمة من هيئات الطلبة والشبان لتنظيم البرنامج الذي يقوم الشبان على انفاذه؛ وأعتقد أن شباب البلاد إذا تضافر في مدى خمسة أعوام يسميها (أعوام الزحف العام الاجتماعي) على أن يغزو أطراف الريف والمدن بدعاية تهذيبية واقتصادية قوية أمكن أن تخرج البلاد بعد تلك الأعوام الخمسة بفائدة عظمى تساعد أكبر المساعدة على جعل استقلالنا حقيقياً بكل معنى الكلمة، ونكون عند ذلك قد قمنا بحمل الواجب مع الكتلة الوطنية المخلصة.
فأرسل إليكم هذه الدعوة لعلها تصادف قبولا عند إخواني الشبان وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً إلى خدمة بلادنا التي نرجو أن تتضامن على خدمتها كل الصفوف وكل الأجيال
(شاب)
اعتراض الشاب الفاضل وجيه واقتراحه أوجه؛ ورأيه يستحق النظر المتقصي والبحث المفصل. وسنعود إليه في العدد المقبل فنناقش الوسائل إلى تنفيذه
السياسة فتوة هذا العصر
وكتب إلينا الأديب صاحب الإمضاء يقول:
. . . يظهر مما كتبتموه في العدد الماضي أنكم ترون دخول الشبان في الميدان السياسي، وفي هذا على ما أظن توجيه لجهوده في طريق غير مأمون ولا موصل. إذا كان واجبنا الأعظم في الحياة أن نقدم للمجتمع خير ما نستطيعه من إنتاج فلماذا لا نصرف هذا النشاط المتدفق إلى ميادين العلم والأدب والفن والاقتصاد فيؤتي أكله وينتج ثمره، وندع السياسة لأهل الرأي من شيوخ الأمة الذين مارسوها واضطلعوا بها وعرفوا مداخلها ومخارجها؟ - إن السياسة حطمت كثيراً من المواهب الصالحة، وجرف تيارها كثيراً من العناصر النافعة،(201/61)
فهلا ترون أن يكون شباننا كشبان إنجلترا لا يسمعون بالسياسة إلا بعد أن يقطعوا أكثر مراحل الحياة وتمرسوا بكل عمل من أعمال الأمة؟ إن الموضوع في نظري يحتاج إلى إثارة المناقشة ومعاودة البحث فلعلي أكون المخطئ، ولعلي أكون المصيب. . .
العباسية
محمد زهدي ناصر
ربما كان رأي الكاتب الفاضل يستقيم إذا كانت مصر كإنجلترا في شدة بنيانها وثبات دعائمها وقوة مجتمعها ونضوج أحزابها واطراد سياستها، ولكننا نعيش في شعب ناشئ لا يزال يصارع أطماع القوة من الخارج، وعوامل الضعف من الداخل؛ ومادامت القلوب خانعة والنفوس قانعة والطرق وعرة والأحداث راصدة، فإن العمل السياسي أو التوجيه القومي يبقى أول الواجبات وأنبل الأعمال على الشباب. أن الشاب هو أجلد على انتجاع الطريق المخوف، واكتشاف الموضع المجهول، ومواجهة العدو الكامن، وإيقاظ الشعور الخامد؛ ولا يهمه أن يحترق وهو يضيء، ويغتال وهو يهدي، ويسقط وهو يدافع. ولا ريب أن الشيوخ أنضج رأيا وأنفذ بصيرة وأوسع ثقافة ولكن الشباب هم الأيدي التي تنفذ، والروح التي تنشط، والأجنحة التي تطير، على أن السياسة التي نريدها للشبان أوسع وأشمل مما يتصوره الكاتب الفاضل؛ فالسياسة دعوة وتدبير وقيادة، وقوى البلد المادية والأدبية معطلة من طول الإغفاء والترك؛ والإحساس الشاب هو وحده الذي يستطيع أن يحرك في طبقات الشعب هذا الجمود المزمن بالدعوة الصارخة، والإرشاد الصالح، والقدوة الحسنة، إن السياسة هي فتوة العصر الحديث في الأمم الحديثة؛ وإن الأمم الأوربية التي أضعفها انحلال الخلق، أو فتكت بها أدواء الحرب، لا يجدد الآن ما رث منها ولا يحيى ما مات فيها إلا الشباب
قد يكون صحيحاً أن الشباب لو انصرف إلى الاختصاص في العلم لجاء بأعظم المخترعات ودون خير المؤلفات؛ ولو كتب في الأدب لخلد اسمه بين أعلامه؛ ولو مارس الفن لتألق نجمه في سمائه، ولكن أي علم يفيد أكثر من هذا الذي تنير به للشعوب المغلوبة طريقها إلى الحرية والمجد؟ وأية قصة تكتبها أروع من هذه التي تكون أنت أحد أبطالها؟ وأية(201/62)
قصيدة تنظمها أبلغ من أن تكون مثال التضحية؟ وأية صورة ترسمها أجمل من هذه الجموع البائسة تعمل على نقلها من حال البؤس إلى حال النعيم؟ وأي طب أنفع من طب الجموع؟ وأي تدوين للتاريخ أتم من أن تصنع التاريخ! قل معي: حيا الله السياسة وأدامها فتنة للشباب!(201/63)
رسالة العلم
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مراقب مصلحة الكيمياء
كان حظ ارليش من التوقر والرزانة حظ الفقير المعدم، وذلك من حيث سلوكه ومن حيث آراؤه سواء سواء. أما من حيث سلوكه فكان يرسم صوراً من نظرياته في أي مكان اتفق على كم قميصه وعلى نعل حذائه؛ وكان يرسمها على صدر قميصه فستصرخ زوجته، أو على صدر قميص صاحبه إذا خان الحظ هذا الصاحب فلم يستطع أن يفلت قبل أن تقع الواقعة. انعدام فيه الحس بالذي يليق والذي لا يليق فكان كولد صغير أولع بالأذى. أما من حيث آراؤه فكان يقضي الأربع والعشرين ساعة التي يحتويها اليوم يتخيل الأسباب الغريبة المستحيلة ليفسر كيف يتحصن الإنسان من الأدوء، أو كيف نقيس الحصانة، أو كيف تنقلب الصبغة إلى رصاصة مسحورة؛ وخلف وراءه صوراً من هذى الخيالات تجدها في كل بقعة وناحية
وبالرغم من هذا كان أدق الناس في التجارب التي يجربها وكان أول من رفع عقير بالتسخط على صُيَّاد المكروب لتخبطهم في طرائق للبحث مهوشة ولتوقعهم كشف الحقائق العاصية بمجرد سكب شيء من هذا على شيء من ذاك. وفي طلب الدقة قتل إرليش في معمل كوخ في تجربته خمسين فأراً حيثما كان يكتفي من قبله بقتل فأر واحد، وذلك لاستخلاص قوانين بسيطة سهلة تتعبر بالأرقام في سهولة خال أنها تفسر لغز الحصانة وسر الموت والحياة. وهذه الدقة التي لم تنفعه في حل هذه الطلاسم أعانته أخيراً على اصطناع رصاصته المنشودة
- 3 -
هكذا كان إرليش مرحاً فرحاً متواضعاً لا يفتأ يجد النكتة عن نفسه، ويولد الفكاهة من سخافته فينطلق بها لسانه غير باسم ولا هازل، وبهذا كسب الأصدقاء كسباً هينا. وكان ماكرا، فقصد إلى أن يكون بعض هؤلاء الأصدقاء من ذوي الجاه والنفوذ ولم يلبث أن(201/64)
صار في عام 1896 مديراً لمعمل استقل به وحده؛ وكان اسمه المعهد البروسي الملكي لامتحان الأمصال ومكانه في استجلتس بالقرب من برلين؛ واحتوى على حجرتين صغيرتين كانت إحداهما مخبزاً وكانت الأخرى اصطبلا. قال إرليش: (إننا نخيب لأننا لا نتوخى الدقة في أعمالنا)، يشير بذلك إلى خيبة بستور الصغرى في ألقحته، وخيبة بارنج الكبرى في أمصاله. وألح يقول: لابد من وجود قوانين رياضية تجري على سننها هذه الأمصال وهذه السموم وأضدادها). وظل هذا الرجل يضطرب مع خياله غادياً رائحاً في هاتين الحجرتين المظلمتين مدخناً مفسراً مجادلاً معاتباً مدققاً في القياس ما أمكنته الدقة، بين قطرات من أحسية مسمومة وأنابيب مدرجة مقدرة من أمصال شافية
نعم لابد من قوانين! ويقوم على تجربة يؤديها. ويخرج من التجربة على نتيجة باهرة، فيقول: (أتعلمون لم كانت هذه النتيجة هكذا؟) وإذا به يخطط صورة غريبة للسم تخبر عن مظهره كيف يكون، وإذا به يخطط صورة أخرى لخلية الجسم تنبئ عن مظهرها الكيماوي كيف يجب أن يكون. ويستمر يعمل، وتستمر ألوف الخنازير الغينية تسير إلى موتها صفاً صفاً ويجد أن ما يختلف مع نظريته البسيطة من النتائج أكثر مما يأتلف بها، فلا تروعه هذه الاستثناءات لقاعدته، ويَدِرْ عليه خياله الخصب فيخترع قواعد أخرى تتولى أمر هذه الاستثناءات. ويخطط في سبيل الشرح صوراً أغرب وأعجب. إلى أن وصل إلى أن وصل إلى نظريته الشهيرة عن الحصانة المعروفة بنظرية السلسلة الجانبية فصارت أحجيةٌ مغلقة لا تكاد تفسر شيئاً ولا تَقدر على التنبؤ بشيء. وظل إلى آخر أنفاسه يعتقد بصدق هذه النظرية السخيفة. ودقها النقّادون دقا من كل جانب وفي كل بقعة من بقاع الأرض، وظل متشبثاً بها. وإذا أعوزته التجربة في الرد على منتقديه وإفحامهم بالحجة لجأ إلى المكابرة والمماحكة، وكان يدفع عن نظريته في المؤتمرات الطبية فينهزم فيها فيخرج منها يسب خصومه علانية وهو في طريقه إلى البيت، وفي الترام يرفع عقيرته بالسباب وهو فرح منبسط، فيغصب الكمساري فيعيد السباب تكراراً يتحداه به أن ينزله من الترام إذا هو استطاع
ولما جاءت سنة 1899 كان إرليش بلغ عامه الخامس والأربعين. فلو أنه مات عندئذ لأدخله التاريخ في زمرة الخائبين. فكل المجهود الذي بذله في البحث عن قوانين تجري(201/65)
عليها الأمصال لم يجئه إلا بصور من نتاج الخيال لم تقنع أحداً، وهي على كل حال لم تفد شيئاً في سبيل تقوية أمصال ضعيف أثرها في العلاج، خاب إرليش فما الذي هو صانعه بعد هذا؟ وفكر وخطط، ثم اتصل ببعض من عرف من رجال ذوي جاه وسلطان، فمالقهم وداهنهم وسلب ما أراد من عقولهم، وإذا بك تجد خادمه الأمين الثمين، السيد المحترم قدريت، قضَّاء الحاجات من كل ما هب ودبَّ، إذا بك تجده قائماً في معمل سيده في استجليتس يحل أجهزته للرحيل عن برلين ومدارسها الطبية وجلبتها العلمية إلى مدينة فرنكفورت على نهر المين. وتسألني ما الذي جذبه إلى هذه المدينة؟ إن الذي جذبه إليها أن بقربها تلك المصانع الشهيرة التي يخرج فيها أعلام الكيمياء تلك الأصباغ الجميلة الشتيتة العديدة عدا لا يناله الحصر، الجميلة جمالاً لا يؤديه الوصف، فكأنها باقات الزهر ازدهاراً وابتساما. وجذبه إليها أن بها أغنياء من اليهود عُرِف عنهم حب المجتمع وسهولة بذل الذهب في خيره. والذهب والذكاء والحظ والصبر أمور أربعة يراها إرليش لازمة لنجاحه فيما قصد إليه. وإذن جاء إرليش إلى فرنكفورت، أو على حد قول السيد المعظم المحترم النافع قدريت: (جئنا إلى فرنكفورت): ويعلم الله ما عانى قدريت في نقل تلك الأصباغ والمجلات الكيماوية المتناثرة بما فيها من هوامش كتبها إرليش وما بصفحاتها من طيات كان يطويها عليها ليرجع بها إليها
أظنك أيها القارئ تخرج من قراءة قصة المكروب هذه على أن صيادة الميكروب القويمة لا يصلح لها إلا نوع واحد من البُحَّاث، باحثٌ يعتمد على نفسه وحدها كل الاعتماد، باحث لا يلقى بالا إلى ما يجده غيره من البُحَّاث، رجل يقرأ الطبيعة ويعاف الكتب. إذن فاعلم أن إرليش لم يكن هذا الرجل، فإنه قل أن نظر في الطبيعة إلا أن تكون ضفدعته المختارة التي حفظها في جنينته فأعانته باختلاف مناشطها على التنبؤ بالجو ما سيكون - وهذه الضفدعة تولى أمرها السيد قدريت. فكان أول واجباته أن يأتيها بكثير من الذباب. . . . . لا، لم يكن إرليش يقرأ الطبيعة بل يقرأ الكتب ومن هذه جاء بكل أفكاره
عاش بين الكتب العلمية، واشترك في كل مجلة كيماوية تخرج في لغة يقرؤها، وفي مجلات أخرى تخرج في عدة لغات لم يكن يقرأها. وتبعثرت الكتب في معمله وانتشرت، فكان يجيئه الزائرون فيقول لهم: (تفضلوا فاجلسوا) فإذا نظروا حولهم لم يجدوا موضعاً(201/66)
يجلسون فيه. وكانت المجلات تطل من جيوب معطفه - هذا إذا تذكر ولبس معطفاً، وتدخل الخادمة بالقهوة إليه في الصباح فتتعثر في أكوام من الكتب لا تفتأ تكبر يوماً عن يوم. فهذه الكتب والسجائر الكبيرة الغالية استعانت جميعاً على إفقاره. وتراكمت الكتب أكواماً على أريكة مكتبته فعششت الفئران فيها. وكنت تجده إما قائماً في تلوين باطن حيواناته بأصباغه وتلوين ظاهر نفسه بها، وإما قاعداً ينظر في هذه الكتب. وكل ذي بال تجده في هذه الكتب تجده في رأس إرليش ينضج ويختمر ويستحيل إلى تلك الآراء الغريبة البعيدة، ثم تظل مخزونة هناك حتى تستخرجها الحاجة. هكذا كان إرليش يأتي بآرائه. وإنك لن تستطيع أن تتهمه بسرقتها من آراء غيره، فإنها بين دخولها رأسه وخروجها منه تنطبخ انطباخاً يفقدها كل معالمها الأولى
وجاء عام 1901 فبدأ العام الأول من أعوامه الثمانية التي قضاها يبحث عن رصاصته المسحورة. ففي هذا العام قرأ أبحاث ألفنس لفران وهو إن ذكرت الرجل الذي كان اكتشف مكروب الملاريا. وكان لفران أخذ في هذه الأيام الأخيرة يشغل همه بالأحياء الحيوانية الصغيرة المسماة بالتريبنسومات وكانت تدخل إلى الخيول فتعيث في مؤخرها وتصيبها بالداء المعروفة بمرض الورك وكان لفران حقن هذه الشياطين المزعنفة في الفئران فوجدها تقتل من المائة مائة. وجاء ببعض هذه الفئران وهي تعاني المرض فحقنها بالزرنيخ تحت جلدها فوجد الزرنيخ قد أفادها بعض الشيء وقتل كثيراً من التريبنسومات التي تعيث بالفساد فيها ولكنه مع ذلك لم ينج منها فأراً واحداً. وإلى هذا الحد وقف لفران
وما عتم إرليش أن قرأ هذا حتى صاح: (هذه فرصة عظمى، هذا مكروب أنسب ما يكون للبحث، فهو كبير يرى في سهولة، وهو يربى سهلاً في الفئران، وهو يقتلها دائماً فلا يخيب مرة واحدة. فأي مكروب خير من هذا في البحث عن الرصاصة المسحورة التي تقتله! فمن لي بصبغة تقدر على شفاء فأر واحد لا أكثر شفاء شاملا كاملا!)
(يتبع)
أحمد زكي(201/67)
القصَصُ
من القصص العربي
ثقيل ما أظرفه
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
قال الفتى لصاحبه وهو يقص عليه تاريخه ويروي له من حوادثه: لقد نشأت يا صاحبي في البصرة، وقد كان والدي من أمجاد البادية، وأجواد العرب، قضت عليه شؤون الدنيا بالنزوح إلى ذلك المصر، يوم أن شب على جدرانه النعيم، وأشرقت في محلاته أنوار الحضارة، فنسلت إليه صنوف الناس من كل حدب، وفيهم طالب الكسب بالتجارة، والراغب في العلم بالتعلم، والطامع في الصلة بالشعر، والحريص على متاع الحضارة بالبذل، ولست أدري لأي أمر من هذه الأمور نزح والدي عن موطنه، ولكني أدري أنه ما كان في حاجة إلى مال، ولا هو من أهل الرغبة في العلم، فلعله كان لا يطمع إلا في نعيم الحضارة الوارف، يروي به جسمه ويمتع به نفسه. على أني سمعت بأنه كان مطلوباً بدم في إحدى القبائل فربما كانت هجرته فراراً من العدو وخوفاً من الانتقام
وليس تحقيق هذا مما يعنيني، وإنما أريد أن أقول لك: إن والدي لم يعرف للحضارة أساليبها، فعاش في حياته الجديدة على أوضاع الحياة القديمة، فالامتهان في نظره مهانة، والعمل في تقديره ذلة، والمال في يده شيء حقير تافه يبذره باسم الجود، ويسرف فيه بلفظ الإنفاق، ففي كل عشية له مجلس عامر بالغناء والشراب، وفي كل ضحوة سامر حافل بالإخوان والأصحاب، وبين هذه وتلك موائد ممدودة، وولائم قائمة، كأن أيام عندنا عرس دائم، فكان أن درجت في أعطاف هذا البذخ، ومررت على هذه الحياة اللاهية المسرفة حتى كنت فتى يافعاً ولم تعرف الأيام مني غير اللهو المسرف، والتبذل المفرط، والبطالة المستهترة. ليس في تفكيري أن أعمل، بل ليس من همي إلا أن أشبع الجسد من لذائذ الحضارة ومتاعها الموفور
ومضت السنون بعضها في أعقاب بعض، ونحن على هذه الحال من السرف والبطالة، وكان لابد للمعين أن ينضب، فقل المال كثير، وتضاءلت الثروة الضخمة، ولم يلبث والدي(201/68)
أن مات بعمره، وإذا كان لي أن أنسى فلن أنسى ما حييت يوم أن عدت من قبره أتكسر على نفسي كما يعود القائد المخذول من ساحة الحرب، أحصي المال المتروك فلا أقع على شيء، وأتلمس الأصحاب فلا أقف لهم على ظل، وأنظر إلى نفسي فأجدني كالآلة المعطلة لا أصلح لشأن من شؤون الحياة، حتى ليرهقني سد الرمق في مجتمع صاخب عجاج يتدافع أهله بالمناكب في طلب الرزق، ويقتتلون على الفوز باللقمة الحقيرة، وأن من الصعب على نفسي أطلب العيش من مروءات الناس، وأن أقيم الأود من فضلهم ومعروفهم. لأن ذل السؤال صعب على نفس يجري في عنصرها إباء البادية، وتكنفها كرم النشأة، وقد قيل: إن من طبع الكريم أن يخفى عسرته ويكتم شدته:
يحني الضلوع على مثل اللظى حرقا ... والوجه غمر بماء البشر ملآن
ويعلم الله لقد كتمت ما استطعت، وصبرت حتى أرهقني الصبر وكنت كل يوم أؤمل في غد فلا يكون الغد إلا أشد. آه يا صاحبي لشد ما ضمني الدهر ضماً لا رحمة ولا شفقة! ولشد ما عركتني الأيام عرك الرحى بثفالها كما يقولون! ولا أكتمك أني فكرت في الخلاص من ذلك بالموت، ولكني خفت أن يقول الناس في شأني: جبان فر من معركة الحياة، ومارق تمرد على حكم القدر؛ وعملت على أن أصل نفسي بموطن العشيرة في البادية، ولكني تذكرت الدم الذي كان مطلوباً به والدي فخشيت الهلاك من تلك الناحية، لأن البدوي حريص على ثأره مهما طال به الزمن، حتى ليطلبه في الأجيال المتعاقبة
فلما اضطرب بي الفكر، وتبلبل مني الخاطر، سألت صاحباً من أهل الرأي لعله يشير بما ينفع، فقال لي: لو ذهبت فتسببت. فقلت: ما لي صناعة، ولا عندي بضاعة! فقال: على كل حال: انك امرؤ فيك ظرف، ولك لطف، وانك لو انحدرت إلى بغداد لا تعدم لك في مجالسها السامرة، وأنديتها الساهرة. فرأيتها نصيحة نافعة من الرجل، وقلت لعل الأخذ بها يجدي، فأني أحفظ عن والدي شيئاً من طرائف الأعراب وقصص البادية. ولقد أكسبتني الحياة السالفة دراية بأداء الحديث، اختار له موضعه، وأخرجه مخرجه، وأعرف كيف أصل به إلى نفس السامع، وأستطيع أن أجري النادرة الطيبة فأهز القلوب وأحرك المشاعر. على أني قدرت في ذلك السفر منأى يسترني عن أخوان أكتم عنهم حالي، ويخجلني أن يروني أتدنى في طلب الرزق، فعزمت على تحقيق الفكرة، ولم يبخل على(201/69)
الرجل بزاد السفر، وسرعان ما كنت في الركب السائر والقافلة الراحلة.
هبطت بغداد يا أخي أجهل ما أكون بمسالكها ومحلاتها، فأخذت في السير على هدى السابلة، وإرشاد المارة، حتى انتهيت إلى دارة الخلافة، ونزلت بدار الضيافة، وكأن نحس الطالع قد سبقني إلى ذلك البلد الأمين، إذ علمت أن الخليفة المأمون قد حرم الفناء وشدد فيه، وأمسك على الناس أبواب اللهو والاستهتار، فانفضت الملاعب والمشاهد، وأعتمت الأندية والسوامر، وصار ليل المدينة ليلاً محلولكاً مملولا، لا يرن به طاس ولا يحن فيه مزهر، فأيقنت بنحس السفرة وحبوط المسعى، وتمثلت لي الدنيا في مثل كفة الحابل، وهانت علي النفس العزيزة، إذ لم أجد أمامي طريقاً للعيش غير التساقط على بيوت أهل الفضل والخير، أتدسس إلى موائدهم، واتقحم على ولائمهم، وأنف في طريقهم، وأجري في ركبهم، فلم تمض أيام حتى كنت قد وقفت على جميع أعيان المدينة ووجوه القوم، وعرفت مراتبهم في الجود والخير، وتبينت أساليبهم في الحياة ونظام العيش، وعرفوني هم كذلك متطفلا بغيضاً وفضوليا ثقيلا!
فأني لفي يوم خرجت فيه إلى الجسر، علني أجد أميراً أتبعه، أو كبيراً أمتاح من فضله، فلم أذهب غير بعيد حتى رأيت إسحاق الموصلي يتحدث إلى علي بن هشام بكلام يخفيه، فأرهفت أذني أتسمع فسمعته يقول: لقد زارتني اليوم فلانة يا علي، وهي كما تعلم من أحسن الناس غناء، وأطيبهم محضراً، فبحياتي إلا كنت اليوم عندي، فنجلو السمع ونمتع القلب، وننتهزها فترة من فترات العمر التي حرمناها، ونعيدها ذكرى من ذكريات الأيام الماضية، فوعده بالحضور ومضى كل لسبيله. فقلت في نفسي: يا لها من فرصة سانحة لابد أن أحتال في اغتنامها! وأخذت أفكر وأقدر، وأسعفتني الفكرة بالحيلة النافذة، فملت إلى من أعارني الزي النبيل والمركب الفاره، ومضيت إلى منزل علي بن هشام فقلت لحاجبه: عرف الأمير أن رسول صاحبه إسحاق الموصلي بالباب، فدخل الحاجب وخرج مسرعا يحمل الأذن بالدخول، فدخلت على علي فرحب بي أجمل ترحيب، فقلت له: صاحبك إسحاق يقول لك إنك تعلم ما اتفقنا عليه فلم تأخرت عني؟ فقال: الساعة وحياتك نزلت من الركوب، والساعة أغير ثيابي وأوافيه، فأمهله قليلاً وإني على أثرك.
فاستويت على دابتي، ووافيت منزل إسحاق، فقلت للحاجب عرف الأمير أني رسول علي(201/70)
بن هشام، فدخل الحاجب وخرج مسرعاً يقول: ادخل يا سيدي جعلت فداك، فدخلت فسلمت، فنهض إلي إسحاق في بشاشة، فقلت: أخوك علي يقرئك السلام، ويقول لك الساعة نزلت من الركوب، وقد غيرت ثيابي وتأهبت للمسير تحقيقاً لوعدك فما ترى؟ فقال: قل له يا سيدي قتلتنا جوعاً، ونحن من انتظارك على أحر من الجمر، فبحياتي إلا ما أسرعت
فعدت إلى منزل علي، وقلت للحاجب عرف الأمير أن صاحبه أمرني أن لا أبرح أو يجيء، فقد طال عليه الانتظار، وأضر به الجوع. فأسرع علي فغير ثيابه، وركب دابته، وسار وسرت من خلفه، حتى نزل بباب إسحاق فنزلت معه، وبعد السلام أخذنا مكاننا على المائدة. وإسحاق لا يشك أني أخص الناس بعلي، وعلي لا يشك أني أخص الناس بإسحاق، فبالغ كل في إكرامي وإيثاري باللقمة الشهية، والهبرة الوثيرة. ولما قضينا حق الخوان أو حق البطن انصرفنا إلى الشراب، وخرجت إلينا جارية كأن بشاراً كان ينظر إليها من وراء الغيب إذ يقول:
تلقى بتسبيحة من حسن ما خلقت ... وتستفز حشا الرائي بأرعاد
كأنما صورت من ماء لؤلؤة ... فكل جارحة وجه بمرصاد
ولم تلبث أن حملت عودها وغنت صوتاً فعلت فيه ما أحل الله وحرم، ودارت الأقداح، فشعشعت القلوب، وأيقظت العواطف وأفعمت النفس بالصفو والأنس، وبقينا في هذا حتى هم النهار بالتصرم، وألح علي البول فنهضت إلى الخلاء، فسمعت علياً يقول لإسحاق: ألا ما أخف روح هذا الفتى يا سيدي وما أطيب نوادره! فمن أي وقت كان لك؟ فقال إسحاق: أو ليس هو بصاحبك؟! قال: لا وحياتك ولا أعرف أني رأيته قبل اليوم، وأنه جاءني برسالتك يستعجلني للحضور وقص قصته في ذلك، وقص إسحاق مثلها، وداخله من الغيظ ما لم يملك معه نفسه، فقال: أنها لكبيرة يا صديقي على النفس، طفيلي يستجرئ على فيستبيح النظر إلى حرمي والدخول إلى داري! أبلغنا من الهوان إلى هذا الحد، وبلغت الصفاقة بهذا وأمثاله إلى هذا القدر؟ والله لا بد أن أنتقم. وسأعرف كيف أصون بيتي من كل رذل ثقيل. يا غلمان! السياط والمقارع. أعدوا عدتكم، واحشدوا جمعكم. وقامت في الدار جلبة ارتجت لها الجدران، وارتاعت لهولها الجيران، وكل هذا وأنا في الخلاء أفكر وأقدر؛ وكانت عزيمة صارمة، إذ خرجت على القوم في ثبات واطمئنان، كأني لا أعبأ(201/71)
بأمرهم، ولا أحفل بشأنهم، وأقبلت على إسحاق فقلت: وماذا بقي من جهدك بعد ذلك؟ ألا ويل لك يا رجل ثم ويل! لقد كان أولى بك أن تعرفني قبل هذا كله، فكنت هونت على نفسك هذا كله؟! قال: ومن تكون؟ قلت أنا - كما تقول - الثقيل البغيض المتطفل الذي اجترأ على بيتك واستباح النظر إلى حرمك. لا: بل أنا الذي أعددت له السياط والمقارع، وانتدبت لضربه الجلادين، وأقسمت بكل محرجة ألا تتركه إلا لحماً من غير دم، وعظماً من غير لحم، ولو علمت الواقع لعلمت أني أنا القادر الذي عفوت، والقوي الذي سامحت، وأني لا أستطيع أن آخذك بجرمك فأدفعك إلى الهلاك أنت وصاحبك دفعاً. فشده الرجل بما سمع، فقال: ولكن بربك ألا أخبرني من أنت؟ قلت. أنا صاحب خبر أمير المؤمنين وعينه والأمين على سره، ووالله لولا تحرمي بطعامك، وممالحتي بحديثك، وأني أعرفك أنت وصاحبك على الإخلاص للخليفة والطاعة له، لتركتكما في عمى من أمري حتى كنت تعرف عاقبة حالك، وإقدامك على ما فيه هلاكك. فنهض إلي الرجلان يسكتاني في استعطاف، ويعتذران في انكسار. وقال إسحاق: فديتك يا سيدي! إنّا لم نعرف حالك، ولم نتبين أمرك، فلنا العذر، ونسألك الصفح، ونضرع إليك في كتمان ما كان، وأنت بنا المحسن المجمل. فوعدتهما بالخير وقلت: لا يخون العهد إلا لئيم وحاشاي. وجاء وقت الانصراف فخلع علي إسحاق ثياباً فاخرة، وأمر لي بمركب نبيل، ودفع إلي بصرة فيها ثلاثمائة دينار، ونهض في وداعي حتى مضيت.
فلما كان من الغد دخل علي بن هشام على المأمون فقال: كيف خبرك يا علي في أمس؟ قالها على حسب ما يجري في السؤال وقد كانت عادته، ولم يفطن لها علي فتغير لونه، وانخذلت به رجلاه، إذ لم يشك في أن الحديث قد رفع إليه، فأكب على البساط يقبله ويقول: يا أمير المؤمنين العفو! يا أمير المؤمنين! الصفح الجميل! يا أمير المؤمنين الأمان! فوالله لن تعود، قال: لك الأمان ولكن بماذا جئت يا علي؟ فأخبره الخبر، فضحك المأمون حتى كاد أن يغشى عليه، وقال: إنه (لثقيل ولكن ما أظرفه)، وأرسل في طلب إسحاق فلما حضر قال: هيه يا إسحاق؟ كيف كان خبرك أمس؟ فأخبره كخبر علي بن هشام، والمأمون يضحك ويصفق من العجب، ثم قال بحياتي ما في الدنيا أملح من هذا، فاطلب الرجل وجئني به. واجتهد إسحاق في ذلك حتى وجدني، فكنت على ما ترى يا صاحبي في المقدمين من ندماء(201/72)
المأمون، والأخيار من أصفيائه، ولا تنس أن هذه قد حملت المأمون على أن يرد على الناس حريتهم، فأباح لهم الغناء، وتركهم يأخذون بأسباب الأنس والسرور
محمد فهمي عبد اللطيف(201/73)
البَريدُ الأدَبيّ
الجمعية الطبية ومشكلة تحديد النسل
عقدت الجمعية الطبية المصرية عدة اجتماعات لبحث مشكلة تحديد النسل. كان آخرها اجتماع يوم الثلاثاء الماضي (4 مايو)، وقد اهتمت الجمعية الطبية بإثارة هذا الموضوع وبحثه مذ ظهر رأي شرعي لفضيلة مفتي الديار المصرية خلاصته أن تحديد النسل بالوسائل المشروعة جائز في بعض الأحوال والظروف القاهرة؛ ورأت الجمعية الطبية أن تأخذ البحث بيدها وأن تنيره لا من الوجهة الطبية فقط بل من جميع نواحيه الأخرى الاجتماعية والاقتصادية؛ ولهذا الغرض عقدت أربع جلسات كبيرة، ألقى فيها عدد كبير من الأطباء والمفكرين والاقتصاديين والاجتماعيين آراءهم؛ وكان اتجاه هذه المباحث يرمي إلى وجه العموم إلى تبرير تحديد النسل نزولاً على الضرورات الصحية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي لا مفر من الخضوع لمقتضياتها. وقد ظهر من الإحصاء الأخير أن سكان مصر في زيادة مضطردة مؤكدة وأنه إذا لم توفق البلاد إلى تنمية مواردها الزراعية والإنتاجية بسرعة توسيعاً يتفق مع نمو السكان، فإن مصر ستواجه في المستقبل القريب مشكلة اقتصادية واجتماعية خطيرة؛ ومن جهة أخرى فإن مقتضيات الحياة العائلية توجب أحياناً أن يقف إنتاج النسل عند حدود معينة، وإلا كان مستقبل العائلة مهدداً بالأزمات الاجتماعية هذا؛ إلى مقتضيات العوامل الصحية، وظروف الحياة الجديدة التي تجعل من المرأة أكثر من آلة للإنتاج البشري. هذه خلاصة الآراء والنظريات التي عرضت وشرحت في الجلسات المذكورة؛ وستعنى الجمعية الطبية بجمع كل ما قيل وكتب عن هذا الموضوع الخطير ونشره في كتاب خاص وهي عناية تشكر عليها
جائزة مختار
كانت لجنة جائزة المرحوم مختار مثال مصر الكبير قد جعلت موضوع جائزتها هذا العام (الفلاحة) فتقدم إلى المباراة أكثر من عشرين مثالاً من الفنانين الشبان، وقدموا تماثيلهم إلى اللجنة، وكلها تعبر عن الفلاحة المصرية بأشكال ومواقف مختلفة. وقد اجتمعت اللجنة أخيراً في قاعة جمعية المهندسين الملكية برآسة معالي محرم باشا وزير الأشغال وحضور السيدة هدى هانم شعراوي رئيسة اللجنة الفخرية والعاملة الحقيقية لتأسيسها؛ واستعرضت(201/74)
اللجنة التماثيل المقدمة وانتهت إلى منح الجائزة الأولى وقدرها 15 جنيهاً إلى المثال فتحي محمد علي، والجائزة الثانية وقدرها 10 جنيهات إلى المثال أحمد محمد صدقي أفندي. ومنحت ثلاث جوائز صغيرة أخرى إلى ثلاثة من المتقدمين. وفي بقاء هذه اللجنة وقيامها بمهمتها النبيلة إلى اليوم وهي العمل على إحياء ذكرى مثال مصر الكبير مختار وتشجيع الفن الذي نبع فيه، وتعهد الغرس الذي غرسه ما يبعث على الغبطة، ويحمل على الثناء والتقدير لعواطف الوفاء التي أحاطت اللجنة بها ذكرى المثال الراحل
ذكرى تيودور بلهارس
سبق أن أشرنا إلى ما اعتزمته الجمعية الطبية المصرية من تكريم ذكرى العلامة الألماني تيودور بلهارس، مكتشف ميكروب البلهارسيا لمناسبة مرور خمسة وسبعين عاماً على وفاته؛ وذلك في التاسع من الشهر الجاري. ونذكر الآن بهذه المناسبة كلمة عن حياة هذا العلامة الراحل؛ فقد ولد في سنة 1825 في سجمارنجن (بألمانيا) ودرس الطب في فريبورج وتبنجن - وعين في سنة 1849 أستاذاً بجامعة فريبورج. وفي العام التالي قدم بلهارس إلى مصر برفقة أستاذه الدكتور جريزنجر الذي انتدب طبياً لوالي مصر، وعهد إليه بوضع نظام طبي لمصر. وفي سنة 1852 استقال جريزنجر من منصبه وخلفه بلهارس كرئيس للقسم الطبي بالداخلية. وفي سنة 1855 انتدب أستاذاً بمدرسة الطب، وبعدئذ بعام تولى كرسي التشريح بالمدرسة. وفي أثناء ذلك عكف بلهارس على درس جراثيم الأمراض المتوطنة، ووفق في سنة 1856 إلى اكتشاف مكروب المرض الذريع الذي يفتك بملايين المصريين وسمي (البلهارسيا) وبعد ذلك بثلاثة أعوام نشر بلهارس رسالة عن مسألة الأوبئة بمصر. وكان بلهارس أثناء ذلك يعاني من جراء الطقس وشدة الحرارة. وفي أوائل مايو سنة 1862 أصابته نزلة معوية قوية، فتوفي في التاسع من هذا الشهر ودفن بمصر القديمة بمقبرة الآباء الفرنسيسكان، وفي سنة 1930 عثر الدكتور كايمر على قبره بعد أن اختفى زمنا، وتعاون مع بعض زملائه ولاسيما الدكتور مكس مايرهوف على نقل رفاته وإيداعها كنيسة المقبرة
المبرد أيضاً(201/75)
منقول الأستاذ (المرصفي) هو رواية ياقوت في كتابه (إرشاد الأريب) وقد أشرت إلى ذلك. وأضيف إلى تحقيق ابن خلكان، وحكاية (برد الخيار) - وقد رواها كثيرون منهم القيرواني في كتابه (جمع الجواهر في الملح والنوادر) - هاتين الروايتين:
قال ابن عبد ربه في كتابه (العقد)
سوء الاختيار أغلب على طبائع الناس من حسن الاختيار؛
ألا ترى أن محمد بن يزيد النحوي - على علمه باللغة ومعرفته باللسان - وضع كتاباً سماه بـ (الروضة) وقصد فيه إلى أخبار الشعراء المحدثين، فلم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له، فما أَحسبه لحقه هذا الاسم (المبرد) إلا لبرده، وقد تخير لأبي العتاهية أشعاراً تقتل من بردها)
وفي (تاريخ بغداد) لابن الخطيب:
قال أبو الفضل بن طومار: كنت عند محمد بن نصر بن بسام فدخل عليه حاجبه فأعطاه رقعة وثلاثة دفاتر كباراً، فقرأ الرقعة فإذا المبرد قد أهدى إليه كتاب (الروضة) وكان ابنه عليّ حاضراً فرمى بالجزء الأول إليه، وقال له: انظر يا بني، هذه أهداها إلينا أبو العباس المبرد، فاخذ ينظر فيه، وكان بين يديه دواة، فأخذها عليّ ووقع على ظهر الجزء شيئاً وتركه وقام. فلما انصرف، قال أبو جعفر (محمد بن نصر) أروني أي شيء قد وقع هذا المشئوم! فإذا هو:
لو برا الله المبرَّدْ ... من جحيم يتوقَّدْ
كان في (الروضة) حقاً ... من جميع الناس أبردْ
وعصر ابن عبد ربه وعصر ابن الخطيب هما أقرب إلى زمن المبرد من وقت ياقوت. وذلك اللقب المشهور هو الذي جلب في قولي ابن عبد ربه وعلىَّ تلك الدعابة.
وأن هذا الإمام العظيم لخليق بأن يشغلني ويشغل حضرة الأديب (محمد فهمي عبد اللطيف). وصاحبُ (الكامل والاقتضاب) وغيرهما جدير بأن يذكر - في كل وقت - بخير أو شر. . .
(أحد القراء)(201/76)
وفاة الأب لامنس
توفي أخيراً المستشرق البلجيكي الأب هنري لامنس، وكان هذا الحبر العلامة من خيرة المستشرقين الذين انقطعوا لدراسة العصر الأموي، وله فيه عدة مؤلفات قيمة. كان مولده في البلجيك سنة 1862، وقد نزح منذ حداثته إلى لبنان واعتنق الرهبنة وانتظم في سلك الأباء اليسوعيين ودرس العربية وعلومها دراسة مستفيضة
ولعلنا نوفق في عدد تال إلى الإفاضة في تاريخ حياته ووصف مؤلفاته(201/77)
رسَالة النقد
إسماعيل المفترى عليه
تأليف القاضي بيير كربتيس
وترجمة الأستاذ فؤاد صروف
للأستاذ الغنيمي
- 4 -
نحب أن نبدأ هذه الكلمة بالإشارة إلى غلطة هامة من أغلاط الفصل الثالث وهي قول الأستاذ صروف إن إسماعيل كان (يستقبل ولديه وأحدهما الآن رئيس المجلس الخاص والآخر وزير المالية والحربية والأشغال العمومية، وبذلك جعل لإسماعيل ولدين وهو غير صحيح، وجعل واحداً منهما رئيس المجلس المخصوص، وجعل الثاني وزيراً للمالية والحربية والأشغال العمومية مجتمعة، فهل تأكد الأستاذ صروف حين كتب ذلك أن وزارات المالية والحربية والأشغال كانت كلها مجتمعة لوزير واحد من أبناء إسماعيل؟ إذا كان البحث قد دله ذلك فأراد أن يصحح قول المؤلف فلماذا لم يشر إلى ذلك صراحة وإذا لم يكن فلماذا غير قول المؤلف
, ,
ولو كانت وزارات المالية والحربية والأشغال العمومية اجتمعت كلها لوزير واحد من أبناء إسماعيل لما قال المؤلف بصيغة الجمع ولعله ظن أن لفظ لا يستعمل إلا للإشارة إلى اثنين ونحن نقول إنه للإشارة للجمع كما يستعمل للإشارة إلى المثنى.
ننتقل بعد ذلك للفصل الرابع فنقول إن حظه من الحذف والتغيير كحظ الفصول الثلاثة السابقة. ولقد أحصينا فيه أكثر من خمسين غلطة مختلفة الأنواع نكتفي بذكر أمثلة منها:
(1) قال المؤلف يصف موقف وزارة الخارجية البريطانية من مشروع قناة السويس:
, ,
لم يترجم الأستاذ صروف هذه العبارة كلها إلا بقوله: (وعليه شرعت وزارة الخارجية(201/78)
البريطانية في تحريض الباب العالي واستفزاز همته) وأين هذا من قول المؤلف (وكذلك أخذت دوننج استريت تضغط على الباب العالي مدفوعة إلى ذلك بهذا الباعث الذي ذكرناه وإن كانت في الوقت نفسه قد بقيت مخلصة كل الإخلاص لإسماعيل لأن العمل الذي قامت به يتفق مع خططهما المشتركة
(2) وقال المؤلف عن فرديناند دلسبس:
ولكن الأستاذ صروف أغفل الجملتين وأولاهما على الأقل ذات معنى جديد لم يشر إليه من قبل وهو إن حبه فرنسا مما يشرفه ويعلي من قدره.
(3) وقال المؤلف يصف الوزير المصري نوبار باشا:
,
فقال الأستاذ صروف مترجماً هذه العبارة (على أن نوبار باشا لم يكن ممن يسهل إهانتهم وعدم الاعتداد بهم، وبذلك أضاف من عنده لفظ الإهانة وهو عمل لا يليق وحذف في نظير إضافتها الجملة الثانية كأن المترجم يجوز له إذا أضاف من عنده عبارة أن يحذف في نظير ذلك عبارة أخرى. ومعنى العبارة الإنجليزية: (أن الوزير المصري لم يكن ممن يسهل إغفالهم (أو الاستهانة بأمرهم إذا شاء) من غير أن يقابلوا هذا العمل بمثله فلم يسعه إلا أن يهاجم خصومه كما هاجموه).
(4) وقال المؤلف:
. .
فترجم الأستاذ صروف هذا كله بقوله (وعليه)
(5) وقال المؤلف يصف ما لقيه إسماعيل من الصعاب في موقفه بين فرنسا وإنجلترا:
. .
فترجم الأستاذ صروف ذلك بقوله (وكان سمو الخديو. . . مضطراً إلى السير بحكمة بين رغبات فرنسا التي كانت تدافع عن امتياز دلسبس) نحن لا نحتم على الأستاذ أن يترجم إلى قراء العربية ولا نحتم عليه أن يشير إليهما إشارة بسيطة في هامش الكتاب، ولو فعل لجمل بذلك ترجمته لأن القصص اليوناني القديم أصبح قصصاً عالمياً ولا مانع من أن(201/79)
يشار إليه في الكتب العربية، ولكننا كنا ننظر منه أن يترجم العبارة الأخيرة التي وصف بها المؤلف الامتياز. ولو قال (وكان على الوالي أن يتبين طريقه بين ثلاث قوى شديدة الخطر أولها فرنسا التي كانت تناضل عن امتياز أسس على الصداقة القوية بين سعيد ودلسبس فكان لذلك مجحفاً بحق مصر. . . الخ
15
لم ير الأستاذ صروف في هذه العبارة ما يستحق الترجمة وإلا فلماذا أغفلها؟
(7) وقال المؤلف مشيراً إلى بيع حصة مصر في أرباح القناة
قيل في ترجمة هذه العبارة من أولها إلى آخرها (وكان المسيو بلنيير والماجور بارنج هما الموكول إليهما تصريف الأمور في مصر عندما جمعت مصر) فهل هذا هو كل ما قاله المؤلف، أو أن الباقي لا يستحق أن يترجم؟
(8) ومن العبارات التي اقتضت أو لخصت بعض معانيها كل الفقرة الواردة في ص61 من كتاب الأستاذ صروف وفي ص59 من الأصل الإنجليزي. وقد تركت من هذا التلخيص عدة معان. ولما كان إيراد الأصل والترجمة يشغل نحو صحيفة من صحف الرسالة فأنّا نكتفي بالإشارة إليها ليرجع إليها القارئ إن شاء
(9) ثم نرجو أن ينظر القارئ معنا إلى العبارة الإنجليزية الآتية والى ترجمة الأستاذ صروف ليرى الفرق بين المعنيين قال المؤلف
, , , - , ,. .
وقال الأستاذ صروف في ترجمتها (ولو أدركها يومئذ ما أتهم إسماعيل بأنه لم يترك لمصر عند تنزله عن العرش أية حصة من أرباح ترعة السويس. والشيء الوحيد الذي كان يحق لملنر أن يفعله هو أن يقف بيانه وعارضته على أن. . .) أن الجملة الأخيرة في هذه العبارة وهي قول الأستاذ صروف (والشيء الوحيد الذي كان يحق لملنر أن يفعله) بعيدة كل البعد عن الأصل الإنجليزي الذي معناه (ونظن أنه لو وجه نظره إلى ذلك لوقف بيانه وعارضته على إثبات أن. . .) ويظهر أن الأستاذ صروف قد فاته أن هذه الجملة هي جواب ثان للشرط الوارد في أول الجملة الأولى وهي ولو نبه اللورد ملنر إلى ذلك أو ولو(201/80)
أدركها كما يقول المترجم. فليس هناك إذن شيء يحق لملنر أن يفعله.
(10) وهذه الغلطة نفسها أي عدم انتباه الأستاذ صروف إلى وجود جواب شرط ثالث جعله يقطع الجملة الآتية من سابقاتها ويغير معناها تغييراً كلياً قال (على أن الهفوة التي ارتكبتها تلك اللجنة في مارس سنة 1880 كانت عظيمة جداً إلى حد أنها لم تجد مناصاً من إلقاء اللوم على الخديو المعزول) مع أن معنى هذه العبارة الحقيقي: (ولو وجه نظره إلى ذلك لحاول من غير شك محاولة جدية أن يلقي اللوم على الأمير المنفي لأن الغلطة التي ارتكبت في مارس سنة 1880 كانت غلطة شنيعة) ولذلك قلنا في مقالنا الأول إن إدراك العلاقة القائمة بين الجمل الإنجليزية شرط أساسي للترجمة الصحيحة.
(11) وإلى القارئ مثال صغير من عدم التدقيق. قال المؤلف على لسان إسماعيل
فأضاف الأستاذ لفظ والأرجح في ترجمته لهذه العبارة مع أن المؤلف يقول (إن هذه الأسهم لن تدر على أي ريح) بصيغة التأكيد. إن لفظاً واحداً يزيد أو ينقص يكفي في بعض الأحيان لتغيير المعنى.
(12) قال المؤلف ينتقد عمل المراقبة الثنائية
, ,
فلم ير الأستاذ في هذا المعنى شيئاً يصح أن يترجم
(13) قال الأستاذ في ص65 من الترجمة (وعند ما أرغم ذلك العاهل على التنزل عن عرشه في سنة 1879 كان الماجور يارنج هو المراقب البريطاني العام وصاحب السلطة المطلقة في لجنة المراقبة الثنائية.)
وكلمة كان في هذه الجملة كلمة مشئومة أفسدت المعنى لأن تارنج لم يكن مراقباً عاماً وقت خلع إسماعيل والمؤلف يقول:
. . 1879
ولقد كان عدم الدقة في ترجمة كلمة هو السبب في هذا الخطأ التاريخي
(14) قال المؤلف تعليقاً على التهم التي وجهها ملنر إلى إسماعيل باشا(201/81)
فترجم الأستاذ صروف ذلك بقوله:
فهذا القول يدل على أن للمسألة وجهة أدبية. والمعنى الحقيقي لهذه العبارة هو (أن هذا الاتهام يطرح الأمور المالية جانباً ويضع أمامنا مسألة أخلاقية)
(15) يشير المؤلف في ص65 في الأصل الإنجليزي إلى ما استخلصه إسماعيل من شركة القناة وما أنفق من مال للدفاع عن الفلاح ويقول أنه لو وجد ناقد لكتاب لورد ملنر لتجلت للناس حقيقة هذا العمل المجيد.
ولو وجد هذا الناقد أيضاً للفت نظر الناس إلى أن استرداد ستين ألف هكتار من أرض مصر الزراعية من براثن شركة القناة لم يكن من الأعمال المزرية. . . الخ)، ولكن الأستاذ صروف قد فاتته هنا أيضاً ارتباط الجمل بعضها وإن الجملة السابقة هي أيضاً جواب شرط ثان للجملة التي قبلها في آخر الفقرة السابقة
فقال في ترجمتها (وكان يجدر باللورد ملنر أن يذكر حسنة أخرى من حسنات إسماعيل وهي استنقاذه ستين ألف هكتار من الأراضي الزراعية من بين مخالب الشركة وهي مجمدة لا يجوز إغفالها) والفرق شاسع بين ما قاله المؤلف وما قاله الأستاذ صروف لأن المؤلف يقول:
نقول مرة أخرى أن إدراك العلاقة بين الجمل شرط أساسي للترجمة الصحيحة.
(15) 16 , 000 , 000 , 10 , 000 , 000
هذه المسألة الحسابية لم يعن الأستاذ بترجمتها
(16) وإلى القارئ مثل من الاضطراب في العبارة يحار بسببه القارئ في فهم المعنى. قال الأستاذ صروف:
(فإذا نظرنا إلى ذلك الامتياز باعتبار الأراضي الخصبة الآهلة بالسكان التي نشأت على ضفافها وباعتبار أنها تقوم بحاجات المدن ومقتضيات الري كانت قيمتها أعظم مما قدرت به يومئذ بحيث إذا أردنا أن نحكم على إسماعيل من وجهة علاقته بشركة السويس حكماً منصفاً لم يكن لنا بد من تقدير هذه القيمة. على أن محاسبتنا لإسماعيل في هذا المقام هي من الوجه الأدبي، وعليه فيكاد يكون من المعتذر تقدير الخدمة التي أسداها ذلك العاهل إلى(201/82)
بلاده.
أيدري القارئ حقيقة ما يريد أن يقوله المؤلف. أنه يريد أن يقول: (وهذا الامتياز وهو حق الشركة في أن تورد الماء إلى مجتمع غني كبير العدد مطرد النماء ليستخدمه في حاجات المدن وفي شؤون الري، هذا الامتياز يساوي الآن أضعاف المبلغ الذي يقوم به. ولو كنا نريد أن نضع أمام القارئ الحساب الختامي لعلاقة إسماعيل المالية بقناة السويس لوجب علينا أن نضع بدل هذا القدر المجهول رقماً حقيقياً معلوماً، لكن بحثنا الآن مقصور على تلك الآثار التي لا تدركها الحواس والتي تسمى بالعوامل الأخلاقية، فإذا نظرنا إلى المسألة من هذه الوجهة كان من المستحيل أن نغلو في تقدير فضل إسماعيل في الاحتفاظ بهذا المرفق العام الخطير خالصاً لمصر).
ونكتفي بهذا عن ذكر العبارة الإنجليزية لأنها طويلة تشغل كثيراً من فراغ هذه الصفحات القليلة التي تسمح لنا بها هذه المجلة. ونحن نؤكد للقراء أن هذه الترجمة الأخيرة تكاد تكون ترجمة حرفية للأصل الإنجليزي.
(16) قال المؤلف عن النزاع القائم في الولايات المتحدة بين مصلحة الأمة والمصالح المكتسبة لشركات الاحتكار
فترجم الأستاذ صروف ذلك بقوله (فالكفاح ضدها هو كفاح في سبيل الخير العام) والمؤلف يقول: أن (الكفاح القائم هناك كفاح بين الصالح العام والحقوق المكتسبة)
نكتفي اليوم بهذا القدر لنبدأ بذكر أغلاط الفصل الخامس في العدد القادم إن شاء الله
(الغنيمي)(201/83)
العدد 202 - بتاريخ: 17 - 05 - 1937(/)
مصطفى صادق الرافعي
شديد على الرسالة أن تنعى الرافعي إلى ديار الحنيفة وأقطار العروبة بدل أن تزف إليها كعادتها درة من غوص فكره وآية من وحي قلمه! وعزيز على هذه القلم أن يتقطر سواده على الرافعي وهو نوره في مداده وسنده في جهاده وصديقه في شدته! وعظيم على العالم الأدبي أن يرزأ في الرافعي وهو الطريقة المثلى لغاية الناشئ، والمثل الأسمى لطموح الأديب، والحجة العليا على قصور القاصر!
يا لله!! أفي لحظة عابرة من صباح يوم الاثنين الماضي يلفظ الرافعي نفسه في طوايا الغيب كومضة البرق لفها الليل، وقطرة الندى شربتها الشمس، وورقة الشجر أطاحها الخريف؛ ثم لا يبقى من هذا القلب الجياش، وهذا الشعور المرهف، وذلك الذهن الولود، إلا كما يبقى من النور في العين، ومن السرور في الحس، ومن الحلم في الذاكرة!!
كان الرافعي يكره موت العافية فمات به: أرسل إلي قبل موته الفاجئ بساعات كتابه الأخير يشكو فيه بعض الوهن في أعصابه، وأثر الركود في قريحته؛ ويقترح علي نظاماً جديداً للعمل يجد فيه الراحة حتى يخرج إلى المعاش فيقصر جهده على الأدب؛ ثم يسرد في إيجاز عزائمه ونواياه، ويعد المستقبل البعيد بالإنتاج الخصب والثمر المختلف؛ ويقول: (إن بنيتي الوثيقة وقلبي القوي سيتغلبان على هذا الضعف الطارئ فأصمد إلى حملة التطهير التي أريدها. . .)
كتب الرافعي إلي هذا الكتاب في صباح الأحد، وتولى القدر عني الجواب في صباح الاثنين: قضى الصديق العامل الآمل الليلة الفاصلة بين ذينك اليومين على خير ما يقضيها الرخي الآمن على صحته وغبطته: صلى العشاء في عيادة ولده الدكتور محمد؛ ثم أقبل على بعض أصحابه هناك فجلا عنهم صدأ الفتور بحديثه الفكه ومزحه المهذب؛ ثم خرج فقضى واجب العزاء لبعض الجيرة؛ ثم ذهب وحده إلى متنزه المدينة فاستراض فيه طويلا بالمشي والتأمل؛ ثم رجع بعد موهن من الليل إلى داره فأكل بعض الأكل ثم أوى إلى مضجعه
وفي الساعة الخامسة استيقظ فصلى الفجر وهو يجد في جوفه حزة كانت تعتاده من حموضة الطعام. فلما فرغ دخل على ولده الطبيب فسقاه دواء، ثم عاد فنام. وهب من نومه في منتصف الساعة السابعة، وخرج يريد الحمام فسقط وا حسرتاه من دونه سقطة همد فيها(202/1)
جسده فلا صوت ولا حركة! وذهب الرافعي ذو اللسان الجبار والذكر الدوار والأثر المنتشر، ذهاب الحباب كأنه لم يملأ مسامع الدهر، ولم يشغل مدارك الناس زهاء أربعين سنة!
كان آباء الرافعي شيوخ الحنفية في مصر، تولوا قضاءها وإفتاءها وإقراءها حقبة طويلة من الدهر؛ فدرج هذا الناشئ الصالح في حجور أربعين قاضيا من قضاة الشريعة كانوا من أهل بيته، وقد نوه بهم اللورد كرومر في بعض تقاريره. وكان أبوه الشيخ عبد الرازق الرافعي قد جرى على أعراق هذه الأسرة الكريمة من ورع القلب وصحة الدين وسلامة الضمير؛ ثم تميز في قضائه بمرارة الحق وصلابة الرأي وثبات العقيدة، فجاء مصطفى في كل ذلك صورة أسرته وسر أبيه
لم يذهب الرافعي إلى الأزهر، فقد كان في أزهر من قومه؛ وإنما نشأ في مغداي ومراحي بين طلخا والمنصورة أفندياً يتلقى معارفه الأولى بمدرسة الفرير، ويتخرج في علوم اللسان والشريعة على أبيه، حتى حذق العربية وفقه الدين وثقف الأدب وأصبح فارسا في الحلبتين ولما يعد العشرين. فلما بلغ ربيع العمر ختم الله على سمعه بالصمم الشديد، فكان منذ شبابه الأول بنجوة من لغو الناس ولغط المجتمع، فسلم عقله من السخف، وبرئ ذوقه من التبذل؛ وعاش في عالم الخيال ودنيا الكتب، فاتسع أفق تفكيره، وارتفع مقياس فنه. وظلت طبيعته البشرية على الكهولة نقية حرة كطبيعة الفتى الشابل، فيها الغضب الحاد، والرضى الهش، والدلال المتعظم، والهوى الجموح، والفتوة الأبية. فهو يخلص في الحب ويصدق في البغض، فلا يداور ولا يداري، ولا يحقد ولا يحسد
عملت في الرافعي عوامل الوراثة والبيئة والدراسة والعاهة؛ واتفق له من كل أولئك ما لم يتفق لغيره، فكان أفقه العلماء في دينه وأعلم الأدباء بلغته، وواحد الآحاد في فنه. والدين واللغة والأدب هي عناصر شخصيته وروافد عقليته وطوابع وجوده. لذلك كان يقظ الرأي شاهد الحس لما يعلق بثلاثتها من أباطيل وشبه. وعبقريات المصطفى إنماكانت تتنزل على قلمه المرسل حين تمتد الأفيكة إلى كتاب الله أو إلى لغة العرب أو إلى أدب الرافعي
الرافعي أمة وحده لها وجودها المستقل وعالمها المنفرد ومزاحها الخاص وأكثر الذين كرهوه هم الذين جهلوه: كرهه الأدباء لأنه أصحر لهم بالخصومة فانفرجت الحال بينهم(202/2)
وبينه. وكرهه المتأدبون لأنه رفع مقياس الأدب فوسمهم بالعجز عنه. وأنكره العامة لأن الأمر بينهم وبينه كالأمر بين العمى والنور! إنما يحب الرافعي ويبكيه من عرف وحي الله في قرآنه، وفهم إعجاز الفن في بيانه وأدرك سر العقيدة في إيمانه.
ذلك بعض الرافعي الإنسان؛ أما الرافعي الفنان فموعدك به خمود الحزن وانكسار المصيبة.
أحمد حسن الزيات(202/3)
كتاب الإرشاد
إلى فلسفة الجراد
للدكتور طه حسين بك
عميد كلية الآداب
صديقي العزيز المجهول إسماعيل بن زيد حفظه الله وأكثر من أمثاله.
تحية طيبة تلقاك حيث كنت، فإني لا اعرف أين تكون، كما إني لا اعرف من تكون.
أما بعد فقد قرأت كتابك في (الرسالة) منذ أيام، ولست ادري أين ظفر به صديقنا الدكتور عوض، فإني لم أتلقه قبل نشره، ولو قد وصل إلى لما أبطأت في الرد عليك برغم كثرة العمل واشتغال النفس بأشياء يراها الناس خطيرة بعيدة الأثر في حياة الأفراد والجماعات، وأراها أنا كما تراها أنت أهون شأناً وأقل خطراً من صيد الضفادع، وتثقيف الجراد واستخراج أشعة الشمس من قشر الخيار. واكبر الظن انك رجل رؤوف بالأصدقاء شفيق على الإخلاء خطر لك أن تستفتيني فيما عرض لك من الأمر فسطرت كتابك وهممت بإرساله إلي، ثم عرفت إني مجهود مكدود فرحمتني ورفقت بي وأجلت إرسال كتابك إلي حتى ينقضي العام وافرغ لمثل هذه الموضوعات الجليلة القيمة. ولكن كتابك وقع إلى صديقنا عوض على أي نحو من هذه الأنحاء التي تقع بها الكتب إلى الناس أو يقع بها الناس على الكتب وعوض رجل فيه مهارة العفاريت ولباقة الشياطين اكتسبهما في اكبر الظن من ترجمته لقصة فاوست ومن طول عشرته لشيطان الشاعر الألماني العظيم. فلم يكد يقع الكتاب إليه أو لم يكد هو يقع على الكتاب، حتى أسرع به إلى الرسالة يكيد بنشره لك ولي جميعاً.
يكيد لك لأنه يحسب أن الناس سيضحكون حين يظهرون على هذه الموضوعات الغريبة التي تفكر فيها وتنفق في درسها وقتك وجهدك، ويكيد لي حين يطلب إلي باسمك على ملأ من قراء الرسالة أن أبواب لك الكتب التي تريد أن تذيعها في هذه الموضوعات.
وليس عوض شيطانا ولا عفريتا ولا مترجماً لفوست ولا معاشرا طويل العشرة لمفستو فيليس انقضى يومه وليله دون أن يجد ويكد ليغيظ إنسانا من الناس ويعبث بصديق من(202/4)
الأصدقاء، واحسبه أن أعياه الظفر بمن يغيظه أو يعبث به لا يتردد في أن يغيظ نفسه أو يعبث بها، وله في الحطيئة قدوة سيئة وأسوة قبيحة. ولابد من أن يوجد في الأرض من يدعو الناس إلى الشر ويدفعهم إلى البغي كما يوجد في الأرض من يدعو الناس إلى الخير ويهديهم إلى البر والرشاد.
وقد هممت أيها الصديق العزيز المجهول أن اعرض عن هذه الرسالة التي لم أتلقها أو أن أؤجل الرد عليها كما أجلت أنت إرسالها ولكني - ولا أكذبك - لم أكد أتم قراءتها حتى استرحت إليها ونعمت بها لأنها صادفت هوى في نفسي ولاءمت بعض ما كان يضطرب في رأسي من الخواطر والآراء. فلم أجد بدا من أن أرد عليك في (الرسالة) لأني لا اعرف عنوانك ولأني قرأت كتابك في الرسالة وتلقيته من طريقها، ولأني لا آمن هذا العفريت الذي نسميه عوضاً ونكل إليه تعليم الجغرافيا في كليتين من كليات الجامعة أن ينالها بقليل أو كثير من التبديل والتغيير، وأنت تعلم أن من العسير جدا أن أجيبك في فصل واحد إلى تبويب هذه الكتب الأربعة التي ألفتها غير مبوبة، فذلك يحتاج إلى وقت وفراغ لا أملكهما في هذه الأيام أيضاً؛ وذلك يحتاج بعد هذا إلى مكان من الرسالة قد لا تستطيع أن تخصصه لنا دون أن تظلم واحداً أو اثنين من كتابها الأدباء. ولست اذكر الرفق بالقارئ ولا الترفيه عليه، فالقارئ آخر من أفكر فيه؛ وليس يعنيني أن يغضب أو يرضى، وليس يهمني أن يقرأ أو يعرض عن القراءة، فإني لا اكتب له وإنما اكتب لك. وأنا لا اكتب له لأن هذا الموضوع اعمق وأدق من أن يكتب للقراء؛ إنمايكتب للقراء في فلسفة أفلاطون وأرسططاليس ونيتشة وأمثالهم من أصحاب العقول الجبارة؛ فأما فلسفة الجراد فإنها الطف وأخفى وأرق من أن تبلغها عقول المثقفين أو تنفذ إليها بصائر المستنيرين؛ لهذا أفكر فيك أنت ولا أفكر في القراء؛ ولو فكرت فيهم لما كتبت شيئا، لأني لا احب أن ألقاهم بما يكرهون لا سبيل إذن إلى أن أتحدث إليك في هذه الموضوعات الأربعة التي ألفت فيها كتبا غير مبوبة، وإنما أتحدث إليك في موضوع واحد منها اختاره ليكون نموذجا لغيره من الموضوعات التي ألفت فيها والتي يمكن أن تؤلف فيها؛ فإن أبيت إلا أن أبوب لك هذه الكتب الأربعة فقد نستطيع أن نصنع ذلك في مجالس خاصة نلتقي فيها بين حين وحين لهذا العمل الجليل، نلتقي فيها لنتحدث على مهل وفي حرية دون أن يشاركنا في الحديث(202/5)
هؤلاء القراء الذين لانا منهم أن يذهبوا فينا المذاهب وان يطلقوا فينا الألسنة وان يظنوا بنا الظنون.
وقد اخترت تعليم الجراد أصول الفلسفة موضوعا لهذا الحديث. وأول ما ألاحظه أيها الصديق العزيز المجهول انك أهملت عنوان الكتاب الذي ألفته إهمالا شديدا، واكبر الظن أن إهمالك للفنون هو الذي حال بينك وبين تبويب الكتاب على ما تحب.
ولست ادري أصحيح ما قال القدماء من أن الكتاب يعرف بعنوانه، ولكني اعتقد أن عنوان الكتاب يبوبه وينظمه، ويلائم بين أجزاءه ويشيع فيه هذه الموسيقى التي تحببه إلى النفوس وتغري به عقول القراء. وأول ما يجب العناية بالعنوان فيما أرى أن نذهب به مذهب القدماء الصالحين، فلا نرسله إرسالا ولكن نقيده بالسجع، لأن إرسال الأشياء في غير قيد يمكنها من أن تهيم على وجهها وتنطلق في غير وجه، وتكون كالجراد هذا الذي لا يستقر على سنبلة أو كوز إلا ريثما ينتقل إلى سنبلة أو كوز. فإذا أردت يا صديقي أن تضع كتاباً فلا تفكر في موضوعه ولا في أجزائه ولا في أبوابه وفصوله ولا في غاياته وأغراضه، فهذا كله يأتي وحده دون أن تدعوه أو تلج في دعائه بالعناية أو التفكير، إنما الشيء الذي يجب أن تقف عليه جهدك، وتنفق فيه وقتك، وتستنفد فيه قوتك، هو العنوان، والعنوان المقيد المسجوع. ويشهد بذلك تراثنا الأدبي العظيم الذي أن أحصيته وجدت أكثره قد قيد بهذه العنوانات المسجوعة؛ ويشهد بذلك صديقنا الزيات فقد كانت لنا معه جولات قيمة خصبة أيام الشباب في هذا الفن الذي لا يحسنه إلا اقلون؛ ويشهد بذلك صديقنا محمود حسن زناتي الذي كان أستاذنا في هذا الفن العجيب. لذلك لم أكد اختار هذا الموضوع للحديث حتى فكرت قبل كل شيء في عنوان الكتاب الذي ألفته ولم تنبئني منه إلا بطرف يسير قصير. وقد سميت هذا الكتاب كتاب الإرشاد إلى فلسفة الجراد وأخص ما يمتاز به العنوان البارع أن يراه القارئ فيظنه واضحا جليا، فإذارآه الأخصائي تبين فيه ألوانا من الغموض وفنونا من الغرابة تحتاج إلى الشرح والتفسير، والى الحاشية والتقرير ولاشك في أن المثقفين من قراء الرسالة سيرون هذا العنوان سهلا سائغا وقريبا دانياً. ولكن أصحاب البيان والراسخين في علم التأويل سيلاحظون أن كلمة الفلسفة هنا قد استعملت في غير معناها الحقيقي المعروف؛ فليس للجراد فلسفة؛ والدليل على ذلك انك تريد أن تعلمه(202/6)
الفلسفة، وإذن فقد يقال أن في هذه الكلمة مجازا مرسلا لأن المؤلف أراد فلسفة الجراد باعتبار ما سيكون، لأن الجراد إذا قرأ كتابك أن شاء الله تهذب وتأدب وصارت له فلسفة. ولكن ليس هذا هو الذي أراده المؤلف، فقد يكون أراد شيئا آخر، وهو أن للجراد الآن فلسفة جرادية يراد أن يعدل عنها إلى الفلسفة الإنسانية. وقد يكون المؤلف أراد بالفلسفة المصدر أي جعل الجراد فيلسوفا يقال فلسفت الشيء جعلته فلسفيا، وفلسفت الإنسان جعلته من أصحاب الفلسفة، وفلسفت الجراد جعلته مفلسفا. ولا تبحث عن هذه الكلمة في المعاجم العربية القديمة، فقد لا تظفر في هذه المعاجم بشيء، ولكن ابحث عن هذه الكلمة عند الفلاسفة في كلية الآداب فهم الذين يلائمون بين القديم والجديد، وهم الذين يرجع إليهم في مثل هذه المشكلات.
أرأيت أن كلمة واحدة من هذا العنوان قد أثارت كل هذه الأبحاث التي أومأت إليها إيماء، فكيف بكلماته الأخرى إذا لوحظت مفرقة وإذا لوحظت مجموعة. والشيء الذي ليس فيه شك هو أن هذا العنوان سيضمن لك شيئين: الأول انه إعلان سيعجب القراء ويروقهم، بل سيبهرهم ويروعهم، وسيدعوهم إلى شراء الكتاب والترويج له عند الأصحاب والأصدقاء. ولعله يروق في وزارة المعارف وأنت أعلم بما وراء ذلك من المنافع التي لا تحصى. والشيء الثاني أن هذا العنوان سيرسم لك برنامج الكتاب ويمكنك من تبويبه في غير مشقة ولا عسر. ولا تكلف نفسك تروية ولا تفكيراً، ولكن خذ كلمات هذا العنوان واجعل منها عنوانات لأبحاثك فسترى أن كتابك قد بوب بإذن الله. فليكن موضع الباب الأول إذن هو البحث عن كلمة الكتاب مما اشتقت، ومن أين أخذت، وما معانيها المختلفة الني دلت عليها في العصور المختلفة والبيئات المتباينة. ولا تخف أن يقال لك أن هذا استطراد وإطالة وتزيد في القول، فلولا الاستطراد والإطالة والتزيد في القول لذهب أكثر العلم أو أكثر الأدب على الأقل. ولك في الجاحظ أسوة حسنة فهو قد أطال في ذكر الكتاب حين أراد أن يؤلف في الحيوان.
وقد ألف أرسططاليس من قبله في هذا الموضوع فآثر الإيجاز واجتنب الاستطراد وكانت النتيجة أن الناس جميعا يقرءون كتاب الجاحظ وليس منهم من ينظر في كتاب أرسططاليس، لأن كتاب أرسططاليس علم وقد غير علم الحيوان، وكتاب الجاحظ أدب(202/7)
وقلما يتغير الأدب، ولاسيما حين يمتاز بالإطالة والاطراد. ونحن في كلية الآداب لا نبدأ دروس الأدب حتى نعلم الشبان علما كثيراً عن لفظ الأدب ومعانيه، فسر سيرتنا ولا بأس عليك. وإذا فرغت من هذه الأبحاث القيمة التي لا تتصل ولا يجب أن تتصل بالموضوع، فخذ بعد ذلك في بحث يكون صلة بينها وبين الموضوع وهو إضافة الكتاب إلى الإرشاد والصلة بينه وبين الجراد. وكيف تختلف الكتب باختلاف أصناف الناس، وكيف تختلف الكتب باختلاف أنواع الحيوان، لا من جهة موضعها وأسلوبها فحسب، بل من جهة أحجامها وقطعها أيضاً ومن جهة مادتها التي تطبع وتذاع فيها، ومن جهة الخط والحروف التي تستخدم في هذا الطبع؛ فأنواع الطبع تختلف باختلاف القراء في القدرة والذوق، وكذلك الأحجام، وكذلك مادة الورق والغلاف؛ ويجب أن يطرد هذا بالقياس إلى الحيوان وبالقياس إلى الجراد خاصة، وواضح جدا أن هذا سيذهب بك في ألوان من البحث الطريف الذي لم تسبق إليه؛ فإذافسرت آراءك ببعض الصور فثق بأنك ستحدث في عالم التأليف حدثا عظيما، وثق بأنك ستفتح للجنة الترجمة والتأليف والنشر أبوابا لن تتردد في ولوجها ولكنها لن تعرف كيف تخرج منها.
ثم دع هذا الباب إلى الباب الثاني واجعل عنوانه الإرشاد واسلك في هذا الباب مسلكك في الباب الاول، فاخضع لفظ الإرشاد ومعانيه لكل هذه التجارب التي أخضعت لها لفظ الكتاب ومعانيه، ثم ابحث عن إرشاد الجراد كيف يكون فاعقد فصلا تصور فيه مذهب الذين يرون أن الجراد يفهم بالعقل وبين كيف يكون إرشاده على هذا النحو، واعقد فصلا آخر تصور فيه رأي المحدثين الذي يرون أن الجراد يفهم بالفم والبطن وبين فيه كيف يكون إرشاد الجراد من طريق الأفواه والبطون. والناس كما تعلم يختلفون في هذا الموضوع، ومنهم من يرى أن تكتب أصول الفلسفة على أوراق الأشجار والنجوم والزرع التي يحبها الجراد ويميل إلى أكلها ويقولون أن الجراد إذا أكل هذه الأوراق المفلسفة فهم العلم ووعى الحكمة واصبح فيلسوفا بإذن الله.
ثم اجعل الكلمة الثالثة عنوانا للباب الثالث وهي إلى. ولابد من أن تبحث عن السبب في أن الإرشاد يتعدى بالى ولا يتعدى بغيرها من حروف الجر؛ ولم لا يقال كتاب الإرشاد لفلسفة أو بفلسفة أو في فلسفة أو من فلسفة أو عن فلسفة أو على فلسفة الجراد. وواضح أن كل(202/8)
حرف من هذه الأحرف سيحتاج إلى فصل مطول جدا وستجد في كتاب المغني لابن هشام ما يعينك على تحرير هذه الفصول. ولا تخف من هذه الإطالة فإنها هي التي ستنفعك وتروج كتابك عند أصدقائنا الأزهريين. ثم إذا أردت أن يروج كتابك عند الجامعيين وفي كلية الأدب خاصة فاحسن عنايتك بالباب الرابع وهو باب الفلسفة وهو اللب الأول للكتاب، لأن الأبواب التي سبقت كانت قشوراً ولكنها كانت قشورا لابد منها، فكل لب محتاج إلى قشر وإلا لما كان لبا. فابحث الآن عن الفلسفة وعن أصل لفظها وأحذر أن تقول إنه يوناني فقد يكون هذا مطابقاً للحق، ولكن الحق في هذه الأيام لا يغني عن البدع شيئا. والبدع في هذه الأيام إن تخرج الأشياء عن أصولها وتوضع في غير مواضعها وترد إلى غير مصادرها. والظاهر أن كلمة الفلسفة ترجع إلى أصل سأمي عربي، وما أشك في أنك ستجد في شعر قضاعة بيتا يثبت لك وللناس جميعا أن العرب قد عرفوا الفلسفة واستعملوا لفظها قبل أن يولد سقراط. ولابد أن تعرض معاني الفلسفة ومذاهب الفلاسفة في العصور المختلفة وتبحث عن أيها أدنى إلى الجراد، إلى عقله إن كنت من أنصار العقل، وإلى بطنه إن كنت من أنصار البطون. فإذا فرغت من هذا البحث الهائل المخيف وصلت إلى الباب الأخير الذي هو نتيجة النتائج وجوهر الجواهر وأصل الأصول وفصل الفصول وخلاصة الكتاب ولب الألباب وهو باب الجراد الذي وجه إليه الإرشاد.
وهذا الباب معقد بطبعه فلابد من أن تبحث عن لفظ الجراد من أين جاء والى أين انتهى، ولابد من أن تبحث عن منزلة الجراد بين أنواع الحيوان، ولابد من أن تبحث عن محاسنه وعيوبه، ثم لا بد من أن تبحث عن عقله وما يكونه من الملكات وعن بطنه وما يمتاز به من الخصال في الاستيعاب والهضم وتصريف العلم والفلسفة إلى أجزاء الجسم وأطرافه والوصول آخر الأمر إلى أن يسير الجراد سيرة فلسفية صالحة. فإذاوصلت إلى هذا الموضع من كتابك وخيل إليك أنك قد انتهيت به إلى غايته وأفدت العلم فائدة محققة تمكنك من نيل الدكتوراه من كلية الآداب فعد إلى منهج ديكارت وألغ هذا الذي كتبته كله إلغاء، وافترض انك لم تكتب شيئا ولم تعلم شيئا واستأنف التحدث من جديد فسترى أنك قد أضعت وقتك في غير نفع، وأنفقت جهدك في غير طائل، واستهلكت راحتك وورقك وحبرك وأقلامك في غير غناء، لأن الجراد ليس في حاجة إلى أن يتعلم الفلسفة الإنسانية(202/9)
الآن، فقد تعلمها منذ عهد بعيد؛ فهو أن كان ناهبا سالبا ومغيراً محاربا فقد أخذ ذلك عن الإنسان. وهل زاد الإنسان على أنه حيوان قوام حياته السلب والنهب والحرب؟ وهو إن كان خفيفا سريعا متنقلا لا يستقر على حال من القلق فقد أخذ ذلك عن الإنسان. وما أظن أنك تستطيع أن تلقى جرادة تجهل قول الشاعر القديم:
تنقل فلذات الهوى في التنقل
وهو إن كان مفتنا في الخفة والتنقل فقد أخذ هذا الافتنان عن الإنسان، لأنه يراقب الحضارة وتطورها، ويراقب المبادئ وتلونها، ويراقب اضطراب الناس في آرائهم وأهوائهم ومذاهبهم ومبادئهم، ويراقب الضمائر التي تباع، والعقول التي تمتهن، والحريات التي تزدرى، والأصول التي تتخذ تجارة ووسيلة إلى الربح وتحقيق المنافع الدنيئة. وقد هم الجراد أن يقلد الإنسان في هذا فأدركته بقية من عقله أو من بطنه الذي تستقر فيه الفلسفة وامتنعت به عن أن ينحط إلى هذه القرارة الحقيرة الموبوءة التي انحط إليها الإنسان الحديث، فظل حيث هو يغير كريما ليأكل من ثمرات الأرض ما يستطيع أن يصل إليه، ويعود كريما أن استطاع العودة أو يموت كريما بما يسلط عليه الإنسان من ألوان البأس وضروب الفناء. وأنت حين تصل إلى هذه النتيجة بين اثنتين: فإن كنت من أنصار الفساد وعشاق الانحطاط الذين يرون أن الإنسان قد وصل في هذا العصر إلى أرقى أطوار الحضارة فاستأنف العمل لتبحث عن طريق تهدي بها الجراد إلى تقليد الإنسان في الانحدار إلى هذه القرارة، وإن كنت من المحافظين الذين يكرهون التطور الحديث ويمقتون نتائجه فادع الإنسان إلى أن يتعلم فلسفة الجراد وضع في هذا كتابا اسمه: (التبيان عن تجرد الإنسان) والتجرد هنا مشتق بالطبع من الجراد. وتقبل أيها الصديق العزيز المجهول اخلص تحياتي
طه حسين(202/10)
ظاهرة وتعليلها
للأستاذ أحمد أمين
أعرفه غزير العلم واسع المعرفة، ولكنه يأبى أن يجالس أمثاله من العلماء، ولا يلذه إلا أن يجالس لفيفاً من صغار الناس في مهنتهم وعقليتهم؛ وليس الشراب هو الذي يجمعهم ويؤلف بينهم كما هو الشأن في كثير من الأحيان.
واعرفها فتاة على جانب من الجمال، ولكنها لا تؤمن بجمالها، لأن أهلها ادخلوا في روعها من صغرها أن الجمال في البياض والحمرة والشعر الأصفر، وهي سمراء شديدة السمرة وليس في وجهها حمرة ولا في شعرها صفرة، فهي في اعتقادها ليس لديها من الجمال شيء، وأراها تصاحب فتاتين ليس فيهما من الجمال شيء، وتأبى أن تصاحب جميلة، وخاصة إذاكان جمالها في لونها الأبيض المشرب بحمرة.
وأعرفه فناناً كبيراً، ولكنه يأبى أن يجالس الفنانين الكبار أمثاله ويفضل أن يجلس إلى مبتدئي الفن يعلمهم ويصلح من أخطائهم، وهم من جانبهم يتملقونه، ويفيضون عليه من ألقاب الثناء ما يملؤه غبطة وسروراً.
وأعرف عشرات من هذه الأمثلة أشاهدها كل يوم، وأسمع بها كل حين وأقرأها في وصف كثير من الرجال والنساء، فما سرها؟
سرها عندي أن من طبيعة الإنسان أنه يكره (الضعة) ويكره كل ما يشعره بالضعة، ويحب العظمة ويحب كل ما يشعره بالعظمة.
من أجل هذا تراه - في العادة - يكره أن يجالس من هو خير منه في علمه وفنه وأدبه، لأن ذلك كله يشعره بصغر نفسه؛ وهو أقل كراهية لمجالسة من هو مثله، لأنه لا يحط من شأن نفسه؛ وهو أشد حبا لمجالسة من دونه لأن ذلك يجعله أكثر شعوراً بعظمة نفسه
ويمكن تطبيق ذلك على كثير من الأحداث اليومية والمشاهدات المألوفة. ألست ترى أن (حلبة الكميت) أو جمعية الشراب تكره كل الكراهية أن يكون بينهم وقت شرابهم من لا يشرب، ويستثقلونه مهما ظرف، ويستسمجونه مهما لطف، لأنه يذكرهم بالفضيلة حين ارتكابهم الرذيلة، ويشعرهم بأنهم الوضعاء وهو الرفيع، وأنه العين الناقدة وأنه الرقيب عليهم، وأنه العاد لسقطاتهم، وأنه المحتفظ بقوة إرادته عن ضعف إرادتهم؟ كل هذا يشعرهم(202/11)
بالضعة فيكرهونه، ويبدءون بالإلحاح عليه أن يشرب لا حباً فيه ولكن حباً لأنفسهم، وإبعاداً لشعورهم بضعتهم، ولا يزالون يستحلفونه حتى إذانجحوا أمنوا الشعور بالضعة، وإذا فشلوا مقتوه ومقتوا جلوسه بينهم، لأنه نغص عليهم بهجتهم - ومن أجل هذا أيضاً أحبوا أن يسمعوا أدب الخمر، وأحبوا أن يسمعوا من يفلسف لهم الحياة وأنها ليست إلا متعة الساعة وشهوة الوقت. فإن تجاوز المحدث ذلك إلى أنه لا يعبأ بحرام ولا حلال، وأن يقول كما قال أبو نواس:
فإن قالوا حرام قل حرام ... فإن لذاذة العيش الحرام
فذلك عندهم أظرف وأفكه لأنه اجتث الشعور بالضعة من جذوره.
هذا هو سبب العداء دائما بين الفضيلة والرذيلة أو بين الفاضل والرذل، وهذا هو السبب في أن الرذل يكره الفاضل أكثر مما يكره الفاضل الرذل. لأن الرذل هو الذي يشعر بالضعة من رؤية الفاضل.
وهو السبب في أن الفقير يكره الغني أكثر من كره الغني للفقير. لأن الفقير هو الذي يشعر بالضعة إذاقاس نفسه بالغني
وكثيراً ما يكون سبباً في فساد الحياة الزوجية، أن تكون في أحد الزوجين صفات راقية ليست في الآخر، فيشعر هذا الآخر بالضعة عند قياس نفسه بنفس قرينه فتسوء الحياة ويجهل السبب.
بل أرى أن في هذا القانون تفسيراً لكثير من الرجال والنساء الذين يحبون العزلة وينفرون من الناس.
فتفسير هذا أنهم يشعرون بنقص فيهم من ناحية من النواحي الخلقية أو العلمية أو الاجتماعية
كأن يشعروا أنهم لا يحسنون حديث المجالس، أو أن في جسمهم عاهة من العاهات، أو أنهم إذاجودلوا أفحموا، أو إذا نيل منهم لم يستطيعوا أن يأخذوا بحقهم. فتراهم يفضلون العزلة ويتغنون بمدحها، ويصبون جام غضبهم وسخطهم على الناس ويطنبون في ذم الأخلاق وسوء المجتمعات - والسير وراء ذلك كله، وهو نقص في محب العزلة جعله يشعر بضعة نفسه في المجتمعات؛ وهو يكره الضعة ويكره كل ما يسببها، وهو لا يحب أن يلوم نفسه(202/12)
وهي السبب، لأن في هذا ضعة أيضاً، فيلوم الناس ويلوم المجتمعات، ويكون مثله مثل من عجز من أن ينتقم من عدوه، فانتقم من صديقه
أتدري السبب في أن الشباب لا يودون كثيرا أن يجالسوا آباءهم ولا اخوتهم ولا أقرباءهم ويفضلون - غالبا - أن يجالسوا الغرباء؟
هو أيضاً - هذا القانون، فإن آباءهم واخوتهم وأقرباءهم يعلمون نشأتهم وكل شيء فيهم، وكل شيء حولهم، وفي ذلك عيوب عرفوها، وزلات وقعت تحت أعين الآباء ومن إليهم، فالشباب يشعر بهذا التاريخ كله إذاجلس إليهم، وهذا يشعره بالضعة. فهو يفضل عليهم صداقة الغرباء، لأنهم يجهلون تاريخه، ويجهلون زلاته فهو عندهم لا يشعر بنقص، ولا يشعر بضعة، فكان إليهم أميل، وبهم آنس؛ والمثل العربي يقول (برق لمن لا يعرفك) ومعناه تبجح وهدد من لا يعرفك، لأن من عرفك لا يعبأ بك
لقد كان لي أستاذ في سن الخمسين وكان جلساؤه أقلهم في سن الستين، فسألته في ذلك فقال: إني اخترتهم لأني اشعر وأنا معهم أني شاب
بل هذا هو السر في أن الرذيلة في كثير من الأحيان توثق الصداقة بين أصحابها، فالمقامر أقرب إلى صداقة المقامر، ومدمن الخمر إلى مدمنها، والغزل إلى الغزل، واللص إلى اللص، وقل أن ترى ذلك في الفضيلة فالصدق قل أن يؤلف بين اثنين لصدقهما، والعدل إلى العدل، ولا الصريح إلى الصريح
والسبب في هذا أن ذوي الرذيلة يشعرون بالضعة من رذيلتهم فيهربون إلى الأراذل مثلهم حتى يتجردوا من هذا الشعور؛ أما الشعور بالعدل أو الصدق فليس فيه هذا الألم فلا يحتاج صاحبه إلى البحث عن مهرب - وهو السبب في احتياج أصحاب الرذيلة إلى مخبأ، فحجرة المقامرة مستورة، ومجلس الشراب في مخبأ، والغزلون يتسترون، ومحال الحشيش والكوكايين في حرز الخ، وليس السبب في ذلك فقط أن رجال الأمن يطاردونهم. بل أكاد أوقن أن هذه الأمور لو أبيحت من رجال الأمن لتستروا أيضاً لأنهم يريدون أن يهربوا بأنفسهم من الشعور بالضعة أمام من لم ينغمسوا في الرذيلة انغماسهم
ألست ترى معي أن الرجل الملتزم للأخلاق المتشدد فيها أقل الناس أصدقاء واشد الناس وحشة، وكلما اشتد في تزمته اشتد الناس في كراهيته، وأن الرجل كلما سما عقله بعد عن(202/13)
الناس وبعدو عنه وأنهم قد يجلونه ولكن لا يحبونه، لأن سموه إعلان لضعفهم، وعلوه رمز لضعتهم؟
ولعل كثيرا من صفحات التاريخ المملوءة باضطهاد العظماء وقتل النبغاء، واغتيال الأبطال، تستر وراءها هذا السر الكامن الخطير، وهو أن الاضطهاد والقتل والاغتيال كان سببه الخفي شعور المدبرين بضعتهم أمام هؤلاء العظماء فتخلصوا من الشعور بالضعة بالقضاء على من كانوا سببه - فلما انمحوا من الوجود كان لا بأس عند من قتلوهم أن يمجدوهم، وأن تمجدهم القرون بعدهم، لأن الحقيقة الواقعة اشد أشعارا بالضعة من الذكرى الماضية
وبعد فلا يستطيع الناس أن يتغلبوا على هذه الرذيلة وأن يجلس عالمهم إلى من هو أعلم منه، وفنانهم إلى من هو أفن منه، وفاضلهم إلى من هو أفضل منه، يستفيد منه ويأخذ عنه في غير حقد ولا ضغن إلا بكثير من مجاهدة النفس وهيهات ثم هيهات
أحمد أمين(202/14)
لعب الطاولة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
ليس لي شغف بالألعاب، فإن حياتي كلها لعب؛ فما حاجتي إلى لعبة معينة على الخصوص. ولكن لي إخواناً ألقاهم في حيث ألفوا أن يكونوا - أي في القهوات - وليس من العدل أن أكرههم على أن يلقوني في حيث أحب أنا وأوثر. ولأن ينتقل واحد إلى جمع أيسر من أن ينتقل جمع إلى واحد. ولست اعرف عملا لرواد القهوات إلا أن ينظروا إلى المارة وهم مقبلون ومدبرون فإذااتفق أن كانت الصفوف الأمامية مزدحمة ولا محل لطالب الجلوس إلا في الداخل، فماذا يمكن أن يكون عمله إلا قراءة الصحف - إذا كان وحده - أو تدخين (الشيشة) - أو كما تسمى أيضاً (الأرجيلة) و (النرجيلة) - ولعب الطاولة أو الشطرنج أو (الدومينو) فأما الشطرنج فيحتاج إلى عقل يكده اللاعب، وهو لم يجيء إلى القهوة ليتعب بل ليتسلى. وأما (الدومينو) فآفتها الحساب، فلم يبق إلا الطاولة يفتحها الصديقان ويقبلان عليها ليخرجا بها من الصمت الثقيل، وليختصرا الوقت الذي يربانه أطول من أن يحتمل وإن كانت شكواهما - كغيرهما - أن العمر في هذه الدنيا قصير، أو ليتقيا الحديث في أمر نافع أو جدي.
ولم أجد إلى الآن لاعباً للطاولة استريح إلى منازلته، وأفيد متعة من ملاعبته، فهذا واحد لا يحلو له أن يروي لك قصة حياته إلا وهو يلعب! وتكون قد حمست وكبر أملك في الفوز، فتضطر أن تضطجع وتصغي، أي أن تدع حماستك تفتر ودمك يبرد. وليته مع ذلك يقص حكايته ويفرغ منها فإن البلاء أنه يقطع الحديث ويقول لك: (دوري يا سيدي. شيش بيش. . خذ) ويلقي إليك حجراً (مضروبا) أو يضعه لك في كفك تأكيداً لاغتباطه بسوء حظك. فتتمنى لو وسعك أن تقذف بالحجر. . فلا أنت سمعت القصة، ولا أنت مضيت في اللعب بالروح التي كانت مستولية عليك. وليس هذا لعباً وإنما هو. . هو. . لا أدري ماذا أسميه، أو كيف أصفه، فقل أنت فيه ما تشاء!
وثان لا يلاعبك إلا برهان، وهذا ضرب من القمار لا أطيقه، وقد حاول كثيرون من إخواني أن يعلموني لعب الورق فأخفقوا - أو أخفقت أنا على الأصح - وماذا عندي مما يمكن أن أقامر به غير حياتي؟ وأقول لصاحبي (هذا قمار فالعب بغير رهان) فيقول:(202/15)
(قمار؟ استغفر الله. هذه تسلية. زيادة تصلح بها روح اللعب، فيصبح أحمى وأمتع فأصر وأقول (كلا. إذاأردت اللعب فليكن بغير رهان) فلا ينهزم ويقول (قرش واحد!) فأقول: (ولا مليم) فيهز رأسه آسفاً ويقبل
ونشرع في اللعب ويتفق أن يؤاتيه الحظ فيضيق على الخناق ويعظم أمله في النصر فيميل على الطاولة ويقول (ما رأيك؟. هذا الدور لي أم لك؟) فأدير عيني في مواضع الحجارة فلا أرى داعياً لليأس فأقول (إني أرجو أن يكون الدور لي) فيقول (حسن. . تراهن؟) فأقول محتجاً (رجعنا؟. لا يا سيدي) فيقول (إذا كنت واثقاً من الفوز فماذا يمنعك أن تراهن؟) فأقول (لست واثقاً. . ثم إن الأمر عندي مرجعه إلى كراهتي للقمار، لا للخوف من الخسارة (فيتنهد أسفاً على الفرصة التي أضعتها عليه ببلادتي وجمودي
وثالث لا يترك الأمر للحظ كما هو الواجب في لعبة كهذه بل (يقرص كما يقولون - أي يسوي) (الزهر) واحداً فوق الآخر ثم يلقيهما برفق وتؤدة لتجئ الأعداد أو الأرقام التي يطلبها، وهذا شيء لا يليق لأن مؤداه أن ملاعبك قد وثق من الفوز بالغة ما بلغت قدرتك ومهارتك وبراعتك في اللعب. ولا ادري أية متعة يستفيدها المرء من (القرص) إلا إذاكانت المتعة هي التنغيص عليك
وأعوذ بالله من لاعب لا يزال يحوجك إلى النهوض عن كرسيك لتبحث عن (الزهر) الذي قذف به لا تدري أين وتمضي دقائق في البحث والتحديق - وأنت منحن - تحت الكراسي وبين أرجل الناس الذين لا تعرفهم. وكثيراً ما يتفق أن يكون (الزهر) الضائع في طية البنطلون. وليس بالنادر ألا تجده لا أنت ولا صاحبك فتصفق ليجيئك عامل القهوة (بزهر) جديد. وقد يكون العامل سمجاً أو قليل العقل فيروح يبحث أولاً، وتنقضي دقائق أخرى وأنت تتبعه بعينيك. ثم يجيء (الزهر) الجديد فيتناوله صاحبك - لأن هذا دوره ويقلبه في كفيه ويقول (لا. هذا كبير.) أو لا. هذا صغير (فيضيق صدرك وتقول (يا أخي العب. كله زهر) وتستأنفان اللعب فتزهق روحك لأن صاحبك ممن يأبون إلا أن يقدروا كل احتمال، ويحسبوا كل حساب، ويحتاطوا لكل أمر، كأنما صار مصير العالم رهناً بهذه اللعبة، فينفد صبرك وتقول له (يا أخي العب) فيقول (حلمك يا سيدي. . بقي أن سحبنا هذا (القشاط)؟. من يدري؟. ربما ضربنا وعطلنا. طيب. . وإذا خرجنا فماذا يكون؟. والله هذا أحسن. .(202/16)
أقول لك. . ننتظر ولا نخرج. . نسد عليه هنا. . لا والله. . الخروج أحسن. . لكن يمكن يساعده الحظ فماذا يكون العمل؟.) وهكذا إلى غير نهاية
وشر من هذا الذي يعقب على كل لعبة منك بالاستحسان أو الاستهجان ولا ينفك يقول لك (كان أولى أن تصنع كيت وكيت) فتقول (وما لك أنت؟. أنا المسئول عن لعبي وأنا الذي يخسر لا أنت) فيقول (لا يا سيدي، المسألة هي أن اللعب مع غير الحاذق لا لذة فيه)
وقد لا يكتفي بالتعليق والتعقيب بل يحاول أن يلعب لك لعبك. ويردك عما تريد، أو ما تهم به، من تنقيل الحجارة على الوجه الذي يبدو لك، وينقلها هو لك على هواه وأولى بمثل هذا أن يلاعب نفسه، ولكن لذته هي أن يفرض عليك إرادته، مدعياً أن هذا هو ما يقضي به الفن، وأن الغيرة على الفن لا تسمح له بالتساهل، ويتركك تخلط وتغلط وتخالف الأصول.
وآه لو وقعت مع واحد من المبتدئين لا يزال يعد - ويشير أيضاً - بإصبعه في كل لعبة. . وآه وآه وآه - ثلاث آهات طويلة يمتد بها النفس إلى الليلة التالية - من المغالط الذي يدعي أن الرقم خمسة وأربعة، على حين رأيته بعينيك ثلاثة وستة. ويزعم أنه جاء بالحجر من هنا وهو قد جاء به من آخر الدنيا، وتراه (أكل) أربعة، فتنظر إليه عاتباً فيبتسم، ولا يتلعثم، ويرفع بين إصبعيه حجراً ويقول لك (والله ما أكلت إلا واحداً فقط) فلا تستطيع أن تقول له أنه كاذب ويعييك أن تدرك الباعث على هذه السرقة في لعبة يراد بها التسلية وتزجية الوقت ليس إلا.
وأحياناً يحلو لصاحبك أن يمازحك. . . ولكن أي مزاح فيتلف لك أعصابك ويطير عقلك. . . لأنه يزيغ بصرك بكثرة عبثه (الظريف). ويا ويلك ممن يغضبه أن يرى نفسه مشفياً على الهزيمة فيعيث بيديه في الحجارة ويفسد نظامها وترتيبها، ويغلق الطاولة في وجهك، ثم يوليك ظهره أو جنبه، ويضع رجلا على رجل - أعني ساقا على ساق - وهو لا يبرطم بما لا يسرك أن تسمع، وقد ينهض ويتركك بلا كلام أو سلام
ومن بلاء الطاولة أنها تجمع عليك الناس، ويندر أن يكونوا ممن تعرف، فتراهم قد التفوا بكما - والبعض جالس والبعض واقف سينظرون ولا يسكتون ليهون احتمالهم، بل يستجيدون لعبك أو يستضعفونه، بصوت مسموع، وقد يراهنون عليكما كأنما أنتما جوادان في ميدان السباق. . . . . .(202/17)
فتسمع أحدهم يقول (أنا أحط على هذا (ويشير إليك فما يعرف اسمك) ريالا. . . تجي يا الفريد؟)
فتسمع الفريد يقول (يكفي نصف ريال. . .)
فيلتفت الأول إلى غيره ويقول (تجي يا جاك؟)
فيمط جاك بوزه ويقول: (لا ما يستاهل)
فتعلم انك لا تساوي مليما في رأي جاك، وأنك من الجياد التي لا تستحق المخاطرة عليها بمال ولو قل.
ومن المستحيل أن يستطيع أحد أن يصف لعب الطاولة، وكيف كسب دوراً أو خسره (ولكن بعضهم يتكلف ذلك ويحاوله ويقول لك كلاما لا يمكن أن تفهم منه شيئا، أو تعرف له مدلولا. وأمثال هذا ليس من سوى الإلحاح في المقاطعة، واللجاجة في إسكاتهم بما أقول أنا. يبدأ الواحد منهم وصفه الذي لا يصف شيئا فأشعر - سلفا - أن رأسي تحطم فأقول (اسمع. . حدث أمس شيء غريب)
فيقول (وبعد ذلك ضربته وهربت وسددت عليه. . .)
فأقاطعه وأقول (كنت راكبا الترام رقم 70 (وليس ثم ترام بهذا الرقم ولكن هذا لا يهم لأن المراد هو أن أتكلم بأي كلام والسلام) فجاءت فتاة صغيرة لاشك أنها من تلميذات المدارس فقد كانت تحمل حقيبة. .)
واسكت لآخذ نفس، فيغتنم الفرصة ويقول (ثم يا سيدي بدأت الأكل. . أكلت. . أكلت. .) فأعود إلى المقاطعة وأقول (وكان الترام مزدحما فوقفت لها لتجلس في مكاني. . الأدب واجب، أليس كذلك)
فيقول (وظللت آكل حتى. .)
فأسرع فأقول (فشكرتني برقة. الحقيقة أنها فتاة مؤدبة. هنا حدث شيء عجيب فقد وفق الترام في محطة اختيارية من غير أن يطلب ذلك أحد من الركاب ولا من الواقفين على الرصيف)
ويشعر هو أن لا فائدة في محاولة التغلب عليّ فيضطجع وينظر إلى شزرا ويخرج سيجارة ويشعلها ويروح يدخن غير ملتفت إلي، أو عابئ بي، ولكني لا أدعه يهملني مخافة أن(202/18)
يستأنف الوصف الذي قطعته عليه، فأقول (سامع؟. حدث شيء أغرب. سار الترام بسرعة ومررنا بمحطات كثيرة لم نقف عليها لا بل وقعنا فيها كلها وأخيراً وصلنا إلى الموسكي. . أعني المغربلين. . بعد ربع ساعة من قيامنا. . أليس هذا جميلا؟. ما قولك؟. ألا تقول شيئا؟
فيقول (شيء بديع جداً)
فأقول (أشكرك. . ليلتك سعيدة)
فيقول وهو معبس (سعيدة)
وأنهض منصرفا وقد نجوت من الوصف.
كلا. لن ألاعب أحداً الطاولة. وإذا شاء إخواني أن ألقاهم فليكن ذلك في مكان لا طاولة فيه
إبراهيم عبد القادر المازني(202/19)
في التاريخ السياسي
مصر والامتيازات الأجنبية
كيف ألغيت الامتيازات في مونترو بعد أربع قرون على قيامها
لباحث دبلوماسي كبير
انتهت المفاوضات التي تجري بين الحكومة المصرية وبين الدول منذ الثاني عشر من شهر أبريل في مونترو - في مسألة إلغاء الامتيازات الأجنبية بعقد اتفاق جديد بين مصر والدول حققت فيه مصر أمنيتها الكبرى، وهي إلغاء الامتيازات الأجنبية.
والامتيازات الأجنبية التي وفقت مصر إلى إلغائها في مونترو هي من تراث الدولة العثمانية الذاهبة، وترجع إلى أوائل القرن السادس عشر، حينما بدأ السلطان سليمان بعقد معاهدة مع فرانسوا الأول ملك فرنسا، منحت فيها للرعايا الفرنسيين الذين يقيمون في أراضي الدولة حقوقاً ومزايا خاصة؛ واستطاعت معظم الدول الأوربية بعد ذلك أن تحصل تباعا من سلاطين تركيا على منح مماثلة لرعاياها؛ ولم يأت القرن الثامن عشر حتى كانت هذه الامتيازات التي اتخذ منحها في البداية صورة التفضل والمنحة الاختيارية قد غدت بالنسبة للأجانب حقوقاً مكتسبة تغل سلطة الباب العالي نحو الأجانب في كثير من الشؤون المالية والقضائية
ولما كانت مصر بحكم خضوعها للدولة العثمانية في تلك العصور تخضع لنظام الامتيازات الأجنبية الذي يطبق في جميع الأراضي التابعة للدولة، فقد بقي هذا النظام سارياً فيها حتى بعد أن حصلت على استقلالها في عصر محمد علي، ولم تستطع أن تتحرر منه بعد أن رسخت جذوره على كر العصور وغدا معقلا لرعايا الدول الممتازة يحتمون به، ويتمتعون في ظله بكثير من الحقوق وضروب الإعفاء القضائية والمالية
وكانت الدول تعمل تباعا على توسيع هذه الحقوق والامتيازات حتى غدت في النهاية عبئاً ثقيلا على كاهل مصر يحد من سيادتها في كثير من النواحي، ويعرقل حريتها وتقدمها، ويحدث الخلل والاضطراب في شؤونها القضائية والمالية والإدارية. وتفاقمت هذه الحالة في عهد الخديو إسماعيل ففكر وزيره نوبار باشا في مفاوضة الدول في إنشاء نظام خاص(202/20)
ومحاكم خاصة للأجانب، وانتهت هذه المفاوضات إلى إنشاء المحاكم المختلطة في سنة 1875، لتختص بالفصل في قضايا الأجانب المختلفي الجنسية والأجانب والمصريين، وجعل أغلبية قضاتها من الأجانب، ووضعت لها لوائح وقوانين جديدة مستمدة من القانون الفرنسي؛ والدول ذوات الامتيازات التي عقدت مع مصر هذا الاتفاق هي: بريطانيا العظمى؛ الولايات المتحدة (أمريكا)، فرنسا، ألمانيا، النمسا والمجر، إيطاليا، الروسيا، السويد والنيرويج، إسبانيا، البلجيك، اليونان، هولنده، الدنماركة، البرتغال.
وهذه خلاصة القواعد الأساسية لاختصاصات المحاكم المختلطة.
أولاً - تختص بالفصل في المنازعات المدنية والتجارية بين المصريين والجانب، سواء في المسائل العقارية أو المنقولة
ثانياً - تختص بالفصل في المنازعات المدنية والتجارية بين الأجانب المختلفي الجنسية؛ وكذلك بين الأجانب المتحدي الجنسية في المسائل العينية العقارية فقط.
ثالثاً - إذا وجد رهن عقاري لأجنبي على عين ثابتة تختص المحاكم المختلطة بالفصل في صحة الرهن وكل ما يتعلق به ويترتب عليه.
رابعاً - تختص بالفصل في التعويضات التي يطلبها الأجانب من الحكومة المصرية عن الضرر الناشئ عن أعمال الإدارة إذا مست هذه التصرفات حقوقا مكتسبة أو مقررة.
خامساً - أما في المواد الجنائية فلا تختص المحاكم المختلطة إلا بالفصل في بعض الجنح والمخالفات البسيطة، وبالأخص الجرائم التي تقع على قضاة المحاكم المختلطة وموظفيها
وإلى جانب المحاكم المختلطة بقيت المحاكم القنصلية مختصة بالفصل في المواد الجنائية المتعلقة بالأجانب، وفي المنازعات المدنية والتجارية المنقولة بين الأجانب المتحدي الجنسية وفي قضايا الأحوال الشخصية، كل قنصلية بالنسبة للرعايا التابعين لها.
وهذا كله إلى جانب ضروب الإعفاء والحصانة التشريعية والمالية والبوليسية التي يتمتع بها الأجانب، فليس في وسع الحكومة المصرية أن تصدر تشريعاً يسري عليهم إلا بموافقة دولهم، وفيما بعد بموافقة الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة؛ وليس لها أن تفرض عليهم أية ضريبة إلا بموافقة دولهم، وليس للبوليس أن يهاجم منازلهم أو محالهم في المسائل الجنائية أو يفتشها إلا في حالة التلبس أو بموافقة القنصل، وليس له أن يقرر إبعاد(202/21)
أجنبي غير مرغوب فيه لا بموافقة القنصلية التابع لها.
وقد كان الأمل معقوداً بأن يكون إنشاء المحاكم المختلطة خطوة موفقة في سبيل الإصلاح، وفي سبيل تخفيف الأغلال التي تحد من السيادة المصرية، ولكن ظهر بمضي الزمن أن المحاكم المختلطة جاءت بالعكس عبئا باهظاً على السيادة المصرية وإنها ذهبت في أحكامها، وفي تفسيراتها القضائية وفي مزاعم اختصاصها إلى حدود غير معقولة حتى غدت أشبه بدولة داخل الدولة، وغدت حصناً للنفوذ الأجنبي، وسياجا منيعا لحماية المصالح الأجنبية؛ وابتدعت المحاكم المختلطة نظرية الصالح المختلط، فادعت الاختصاص في كل قضية وكل نزاع فيه صالح أو شبة صالح لأجنبي، وتوسعت في تفسير كلمة أجنبي بحيث شملت كل الأجانب التابعين للدول الممتازة وغير الممتازة والرعايا المحميين وغيرهم، وأضحت رقيبا على السلطة التشريعية فيما تصدره من قوانين يراد سريانها على الأجانب مهما كان نوعها وغرضها.
وشعرت الحكومة المصرية وشعرت مصر كلها بفداحة هذه الأغلال المرهقة التي تقيد سيادتها وسلطاتها من جراء هذا النظام الشاذ الذي فرضته عليها الامتيازات الأجنبية، والذي غدا بما يسبغه على الأجانب من الحقوق والمنح الاستثنائية، وصمة في جبين الأمة تؤذي شعورها وكرامتها؛ هذا فضلا عن كونه قد غدا بما يسبغه على سفلة الأجانب وأفاقيهم من ضروب الحماية غير المشروعة، وما يمكن لهم من ضروب العيث والفساد والإجرام الدنيئة - خطرا على الأمن والنظام والصحة والأخلاق العامة. لذلك لم تنس البلاد، منذ اضطرمت بحركتها الوطنية الكبرى أن تعتبر قيام الامتيازات الأجنبية كارثة قومية لا تزول إلا بزوال هذه الامتيازات.
- 2 -
ولما وفقت مصر بعد طول الكفاح إلى التفاهم مع بريطانيا العظمى واستطاعت أن تفوز منها بوثيقة استقلالها بعقد المعاهدة المصرية الإنجليزية في أغسطس الماضي، كانت مسألة الامتيازات الأجنبية ضمن المسائل الجوهرية التي تناولتها، ووضعت قواعد خاصة لحلها.
فقد نص في المعاهدة المصرية الإنكليزية في المادة الثانية عشرة على ما يأتي:
(يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن المسئولية عن أرواح الأجانب وأموالهم(202/22)
في مصر هي من خصائص الحكومة المصرية دون سواها، وهي التي تتولى تنفيذ واجباتها في هذا الصدد).
ونصت المادة الثالثة عشرة على ما يأتي:
(يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن نظام الامتيازات القائم بمصر الآن لم يعد يلائم روح العصر ولا حالة مصر الحاضرة.
ويرغب صاحب الجلالة ملك مصر في إلغاء هذا النظام دون إبطاء.
وقد اتفق الطرفان المتعاقدان على الترتيبات الواردة بهذا الشأن في ملحق هذه المعاهدة).
وخلاصة الملحق المشار إليه، هو أن مصر ترمي إلى اتخاذ التدابير التي تمكنها من إلغاء نظام الامتيازات وما يترتب عليه من القيود التشريعية والمالية بالنسبة للأجانب في أقرب وقت وإقامة نظام انتقال لمدة معقولة لا تطول بلا مبرر تبقى فيها المحاكم المختلطة وتباشر الاختصاص المخول الآن للمحاكم القنصلية في المواد الجنائية والمدنية فضلا عن اختصاصها الحالي ثم تلغى نهائيا بانتهاء فترة الانتقال، ولتحقيق هذه الغاية تتصل الحكومة المصرية بالدول ذوات الامتيازات للاتفاق على ما تقدم. أما فيما يتعلق ببريطانيا العظمى، فإنها بصفتها من الدول العظمى، وبصفتها حليفة لمصر لا تعارض مطلقاً في التدابير المشار إليها، وتعد فوق ذلك بان تعاون مصر على تحقيق غايتها وذلك باستعمال نفوذها لدى الدول الممتازة، فإذاتعذر وصول مصر إلى غايتها بطريق التفاهم مع الدول، فإنها تحتفظ بحقوقها كاملة إزاء نظام الامتيازات والمحاكم المختلطة، أو بعبارة أخرى تصبح حرة في إلغائها من تلقاء نفسها.
وينص الملحق المذكور فوق ذلك على بعض المبادئ العامة التي اتفق على اتخاذها أساساً لوضع الاتفاق المذكور، ومنها أن أي تشريع مصري يطبق على الأجانب يجب إلا يتنافى مع مبادئ التشريع الحديث ويجب ألا يتضمن تمييزاً مجحفاً بالأجانب، وأن تبقى مسائل الأحوال الشخصية الخاصة برعايا الدول الممتازة من اختصاص المحاكم القنصلية لمن ترغب ذلك من الدول، وأن يعاد النظر في القوانين الحالية وأن يصدر قانون جديد لتحقيق الجنايات.
وقد بادرت الحكومة المصرية مذ أبرمت المعاهدة المصرية الإنكليزية في ديسمبر الماضي،(202/23)
إلى اتخاذ الخطوات لسريعة لتنفيذ هذا البرنامج. ففي السادس عشر من يناير سنة 1937 وجهت الحكومة المصرية إلى الدول ذوات الامتيازات مذكرة أولى تدعوها فيها إلى المثول في المؤتمر الذي اعتزمت عقده للبحث في مسألة إلغاء الامتيازات الأجنبية في مدينة مونترو بسويسرا في 12 أبريل. وفي الثالث من فبراير وجهت إليها مذكرة أخرى تفصل فيها المبادئ التي ترى مصر من جانبها أن تتخذها أساساً للاتفاق المنشود، وخلاصتها أن يحال اختصاص المحاكم القنصلية سواء الجنائية أو في منازعات الأجانب المتحدي الجنسية إلى المحاكم المختلطة، وأن لا يشمل اختصاص هذه المحاكم سوى الأجانب الذين هم فعلا رعايا الدول ذوات الامتيازات، وأن يلغى التوسع الصوري الواقع في تفسير كلمة أجنبي وفي مسألة الصالح المختلط، وأن يكون للمحاكم الأهلية أن تنظر في قضايا الأجانب الذين يرغبون في اختصاصها، وأن تمتنع المحاكم المختلطة عن النظر في القضايا الخاصة بسيادة الحكومة وألا تفسر أو تفصل في صحة أي قانون أو أمر أداري، وألا يكون هناك تمييز بين القضاة الوطنيين والأجانب في مسالة تنظيم الدوائر ورياستها، وأن تحرر الأحكام باللغة العربية مع إحدى اللغات الأجنبية المقررة. . . الخ
وقد قبلت الدول الممتازة دعوة الحكومة وأبلغتها في الوقت المناسب أسماء مندوبيها في المؤتمر؛ وهذه الدول هي بريطانيا العظمى، فرنسا، والولايات المتحدة (أمريكا) وإيطاليا، والسويد، والنرويج، وأسبانيا، والبلجيك، واليونان، وهولنده، والدنماركة، والبرتغال. أما ألمانيا فقد فقدت امتيازاتها بمقتضى معاهدة فرساي في سنة 1919، وتعاقدت فيما بعد بمعاهدة صداقة مع مصر منحت فيها بعض الامتيازات المؤقتة لحين إلغاء الامتيازات، وكذلك فقدت إمبراطورية النمسا والمجر (وهي الآن مكونة من النمسا، والمجر، وتشيكوسلوفاكيا) امتيازاتها بمقتضى معاهدة سان جرمان (معاهدة الصلح أيضاً)، ولكن النمسا عقدت مع مصر معاهدة صداقة منحت فيها امتيازات مماثلة لامتيازات ألمانيا؛ وكذلك فقدت روسيا السوفيتية امتيازاتها نهائيا، ولم تعترف الحكومة المصرية بها إلى اليوم
وعقد مؤتمر مونترو في موعده المحدد أي في الثاني عشر من أبريل سنة 1937؛ وكان وفد مصر مؤلفا من مصطفى النحاس باشا رئيس الوزارة، والدكتور أحمد ماهر رئيس مجلس النواب، وواصف غالي باشا وزير الخارجية، وعبد الحميد بدوي باشا رئيس أقلام(202/24)
قضايا الحكومة؛ واستمر المؤتمر منعقدا حتى اليوم الثامن من مايو حيث تم توقيع الاتفاق الذي انتهت إليه مصر والدول؛ وكانت فرنسا اشد الدول صلابة وتمسكا؛ وقد دافعت مصر عن وجهت نظرها ما استطاعت، وتمسكت بالأخص بالنقط الأساسية التي تتعلق بالسيادة المصرية؛ بيد أنها اضطرت إلى التساهل في بعض التفاصيل والضمانات الخاصة بفترة الانتقال؛ وجاز المؤتمر كثيرا من الأزمات الدقيقة التي أثارتها فرنسا بتشددها وفداحة مطالبها. وهذه خلاصة للمبادئ الهامة التي تم الاتفاق عليها:
أولا - وافقت الدول على إلغاء الامتيازات الأجنبية وكل ما يترتب عليها من الحقوق والمزايا الخاصة إلغاء تاماً شاملاً
ثانيا - ألغيت جميع القيود التي كانت قائمة في سبيل التشريع المصري بما ذلك التشريع المالي على الأجانب، واصبح من حق مصر أن تطبق على الأجانب جميع القوانين التي تطبقها على الوطنين، وألغى حق الإشراف الذي كانت تزاوله المحاكم المختلطة في تطبيق هذه القوانين وفي الحكم بصحتها
ثالثا - رضيت مصر بتنظيم فترة للانتقال حددت مدتها باثني عشرة عاما، يحتفظ خلالها بالمحاكم المختلطة، ويضاف إلى اختصاصها اختصاص المحاكم القنصلية في المواد الجنائية والمدنية؛ وكذلك في مواد الأحوال الشخصية بالنسبة للدول التي ترغب في نقل الأحوال الشخصية إليها
رابعا - يقتصر اختصاص المحكم المختلطة أثناء هذه المدة على رعايا الدول ذوات الامتيازات، وكذلك رعايا الدول الآتية: ألمانيا، النمسا، تشيكوسلوفاكيا، المجر، يوجوسلافية، سويسرا، بولونيا، رومانيا؛ ويتناول اختصاصها الرعايا المحميين أيضاً في المواد الجنائية. أما في المواد المدنية فلهؤلاء الرعايا أن يختاروا بين المحاكم الأهلية والمختلطة. وفي الأحوال الشخصية بالنسبة للرعايا الذين ينتمون إلى طوائف دينية معينة يبقى الاختصاص الطائفي. ولا امتيازات لرعايا سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن
خامسا - يحظر على جميع المصريين أن يلجئوا إلى حماية أية دولة أجنبية
سادسا - في نهاية فترة الانتقال تلغى المحاكم المختلطة وذلك في 12 أكتوبر سنة 1949، كما تلغى المحاكم القنصلية ويخضع جميع الأجانب المقيمين بالقطر المصري للقضاء(202/25)
المصري في جميع الأحوال المدنية والجنائية والشخصية
هذه هي المبادئ الجوهرية التي انتهى إليها اتفاق مونترو بين مصر والدول لحل مشكلة الامتيازات الأجنبية
ويعتبر اتفاق مونترو بالنسبة لمصر حادثا عظيما في تاريخها لا يقل في أهميته عن المعاهدة المصرية الإنكليزية ذاتها؛ وقد تحطم صرح الامتيازات الأجنبية بعد أن لبث زهاء أربعة قرون كابوسا مرهقا، يحد من سلطان مصر وسيادتها حدا أليما، ويجعل الأجانب سادة في أرضها يتمتعون بحقوق ومنح لا يتمتع بها أبناء البلاد أنفسهم. نعم أن مصر اضطرت نزولا على مقتضيات الظروف الدولية أن تقبل فترة انتقال يبقى فيها هذا النظام أثنى عشرة عاما أخرى تستعد المصالح الأجنبية فيها لاستقبال العهد الجديد؛ ولكن نظام الانتقال يعتبر بصورته التي بسطناها نظاما مخففا معقولا بالنسبة للامتيازات القديمة، ولا يحد من السياسة المصرية حدا خطيرا، هذا فضلا عن أن أثنى عشرة عاما ليست شيئا مذكورا في حياة الأمم
(* * *)(202/26)
من الأدب التحليلي
أنا. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
- 1 -
. . . . . . قال لي أهلي: لقد جئت إلى هذه الدنيا عاريا بلا أسنان، لا تحسن النطق، ولا تعرف شيئاً. . . فضحكت ولم أصدق. فأعادوا ذلك علي وألقوه كأنه قضية مسلمة وأمر واضح لا يحتمل الشك، وعجبوا مني حين أكذبه وأرده. . . ولكني بقيت على رأيي الأول، لم استطع مطلقاً أن أصدق ما يقولون، لأني أعرف بنفسي منهم، ولأني أذكر ماضي كله: أذكر أنني فتحت عيني ذات يوم فجأة ونظرت. . . فوجدت نفسي، ورأيت أن لي أسناناً وعلي ثياباً، وبي قدرة على المشي والنطق، ورأيتني شخصاً مستقلا عن أبي وأمي وسائر أهلي، أحب أشياء لا يحبها أحد منهم، وأكره أشياء لا يكرهونها، ولا يميزني منهم إلا إني كالطبعة المختصرة من الكتاب، فيها كل الأبواب والفصول بيد أنها موجزة و. . . بالقطع الصغير). . .
أفيعقل أن أكون موجوداً قبل ذلك اليوم، وأنا لا اعرف نفسي؟
مستحيل!
وأستقر في ذهني من يومئذ، أولدت وأنا في الرابعة من عمري!!
- 2 -
وصرت أرى هذا الطفل دائما، أبصر صورته في المرآة وأسمع صوته بإذني، وأصغي إلى حديث أمي عنه بشغف وسرور، فكنت أشعر بميل غريب إليه، حتى إني لأعترف الآن بأنه كان أحب إلي من أمي، التي لم أكن أعدل بها أحداً ولا اقبل كنوز الأرض بدلا من امتصاص ثديها والنوم على صدرها. . .
ذلك الطفل الباسم، ذو العينين السوداوين، والشعر. . . يا للأسف! إني لا أستطيع أن أتخيل شعره، لقد محيت صورته من ذاكرتي، لقد اختفى من الدنيا منذ ربع قرن، لقد ذهب إلى حيث لا أدري؟ فهل كنت أنا ذلك الطفل؟ هل تجيء يده الصغيرة الغضة في يدي الخشنة(202/27)
التي اخط بها هذا المقال؟ فأين ذهب إذن؟ ومن أين جئت أنا؟. . . إنني لست ذلك الطفل ولست غيره. . . فكيف يعقل هذا؟
هذا يحيرني دائما، ولا اعرف له حلا، بل إن مجرد التفكير فيه يدفعني إلى الجنون. . .
- 3 -
ونظرت يوما من الأيام - فإذافي مكان ذلك الطفل اللاهي اللاعب - العابث بكل شيء، الذي يحطم كل ما يصل إليه، ويقبض على الجمرة المشتعلة بيده كما يقبض على البرتقالة الحمراء، ويعبث بلحية القاضي إذا هو بلغها، كما يعبث بشعر الهرة. . . إذ أتى مكانه تلميذ يقرأ مكرهاً، ويكتب مضطراً ويحمل هم المدرسة التي يذهب إليها كل يوم كالذي يساق إلى الموت، لا يعرف لوجوده فيها معنى، ولا يدري فيم يدع عطف أمه، والأنس باخوته، ولم يترك بيته وما فيه من الدفء في الشتاء، والظل في الصيف، ليذهب إلى هذه الدار التي يحشد فيها الأطفال الأبرياء المساكين، لتحشى أدمغتهم بمسائل لا يدركون معناها، وشروح لا يعرفون مغزاها، وتنال من أبشارهم وظهورهم عصا المعلم الغليظة، وتقذى عيونهم برؤية طلعته البغيضة، لا المعلم يبسم لهم، ويدعوهم إلى حبه، ولا أهلوهم يستمعون شكواهم وينصفونهم. . . لقد كان في هذه المدرسة كالمحكوم عليه بالسجن ظلماً. . .
يا لهذا التلميذ البائس الذي لم يكد يفتح عينيه على الدنيا حتى أبصر الشقاء والألم. لقد مات كمداً، ومضى مسرعا في طريق الفناء. . . مسكين. . . إنه لم يكن إلا أنا، أنا الذي ولدت ومت مائة مرة، حتى صرت الآن. . . (أنا)
- 4 -
وكان يوم آخر، فإذا (الفلم) ينكشف هذه المرة عن منظر جديد: اختفى التلميذ الجميل، ذو السراويل القصيرة، والقميص الأحمر، والحقيبة الزرقاء الصغيرة، وذهب بجسمه ونفسه وميوله وأفكاره، وظهر الشاب الحليق الوجه، ذو (الربطة) الطويلة، والحقيبة السوداء الواسعة. . . ظهر في الثانوية طالباً متحمساً، كأنما ركبت أعصابه من الديناميت، وصنع فمه على مثال فوهات الرشاشات، فلا يكاد يقع في المدرسة حادث، أو تقوم في البلدة ضجة، إلا انفجر الديناميت وانطلق الرشاش، وقام في الطلاب خطيبا ثائراً مثيراً، فحطموا(202/28)
الباب وخرجوا. . . كان ينتقم بهياجه وثورته لذلك التلميذ الهادئ الحي المظلوم. . . ولكن الامتحان لم يلبث أن كشر له عن أنيابه وجاء ينتقم منه. . .
هذه هي البكالوريا. فتهيأ لها. إن مستقبلك معلق عليها. . . ولم يكن قد فكر في المستقبل. أو حسب له حساباً فلما سمع به وقف وتردد وكبح من جماح نفسه. . . يجب أن يضمن المستقبل. ليصل إلى آماله. آماله الكبار التي كانت تملأ نفسه ولا يشك في بلوغها. . . وكان قد بدأ ينشر في جرائد البلد فهو يجب أن يكون كاتباً كبيراً منتجاً يخدم بقلمه وطنه. ويدافع به عن الحق والفضيلة. ويقاتل به خصومها وأعداءها ويساهم في تحرير وطنه. ويكون له في (الإصلاح الشعبي) أثر يذكر. فليسع إذن لنيل الشهادة، فإنها تبلغه كل أمل. وتوصله إلى ابعد غاية. أن الدنيا كلها ترتقب نجاحه في (البكالوريا). فإذانجح فتحت له الأرض كنوزها. وحمله الناس على أعناقهم إلى سدة المجد. وقاموا بين يديه قيام الخدم بين أيدي الملوك. . .
تلك كانت أحلام الصبا. . . فيا رحمة الله على عهد الصبا!
- 5 -
حرم الشاب على نفسه كل متعة من متع الدنيا، فلا نزهة ولا راحة، ولا حظ له في النوم العميق، ولا الطعام الهنيء ولا شغل إلا شغل المدرسة، حبس نفسه بين كتبه ودفاتره يقرأ أناء الليل وأطراف النهار، ينتقل من هذيان الأدباء إلى طلسمات الرياضيين والعلماء، وحساب الجيب والمماس، إلى شعوذات الطبيعيين وأصحاب الكيمياء، ودرس الملح والحامض والضياء والكهرباء، إلى خرافات الفلكيين وجغرافية السماء، يدس هذا الهراء كله في دماغه ليصبه يوم الامتحان في ورقة الفحص، ثم يلقيه في مكانه، ويخرج من المدرسة فارغ الرأس كما دخلها أول مرة. . .
كان يخشى أن يثأر منه المدرسون الذين جرعهم الصاب وسقاهم الحنظل باعتراضاته ومناقشاته وثوراته فيسقطوه في الامتحان، فجد كل الجد، ولم يدع في كتب المدرسة حاشية إلا حشاها في رأسه، ولا تعليقة إلا علقها في ذاكرته، ثم دخل الامتحان بعقل من سطوح وأجسام، وخطوط وأرقام، وخرافات وأوهام، فنجح أعظم نجاح. . .
وهل ينجح في الامتحان إلا من حفظ ولم يفهم؟ وهل تدل هذه الامتحانات إلا على قوة(202/29)
الذاكرة، وشدة الحفظ وإتقان المنهج المقرر؟
نجح، فوثب فرحا، وتهيأ لخوض معركة الحياة، فقالوا له: مهلا! قال: ماذا؟ قالوا: لابد من شهادة عالية، أن المستقبل لا يضمن إلا بشهادة عالية!
قال: ويحكم! وهل يبنى المستقبل على (الورق)؟
وانطلق يلعن هذا المستقبل، الذي حرمه عبث الطفولة ومتعة الشباب، ونغص عليه حياته، ولم يتركه يستريح إلى حاضره يوماً واحداً، كان أبداً يدفعه إلى الأمام، فيعدو كالفرس المحموم، فيتعب من العدو، ولا يصل إلى منزل!
- 6 -
راح الشاب يدرس الحقوق لينال الشهادة، ويضمن المستقبل، ويشتغل بالأدب، ليستجيب للرغبة، ويحظى بالمتعة ويعمل في الجريدة، ليضمن العيش، ويعول الأسرة. . . واستمر على ذلك حتى نال (الليسانس) فربح بقربه من الأدب البعد عن الناس، والجهل بالحياة، وكسب بميله الأدبي وطبعه المستوحش، وجهله بالحياة، خصومة الناس، ومضادة الكبراء وعداوة المال. . .
- 7 -
نزل الشاب إلى ميدان الحياة، برأس مترع بالعلوم، والمبادئ السامية، ويد مثقلة بالشهادة الابتدائية والثانوية والعالية، وجيب خاوٍ خالٍ.
فلم تكن إلا جولة واحدة، حتى ولى منهزما!
ذلك لأن سلاحه، من (طراز قديم) لم يعد يصلح اليوم في معركة الحياة!
ولقد خدعته المدرسة، وكذبت عليه، وصورت له الحياة على غير حقيقتها:
قالت له المدرسة: العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، فرأى أن المال في الحياة خير من العلم، العلم لا ينال إلا بالمال، فلو أن شابا كان أذكى الناس، وأنبه الناس، وكان مفلساً لا يملك أجور المدرسة، وأثمان الكتب والثياب، لما قبل في جامعة ولا حصل علما - والعلم لا يثمر إلا بالمال، فلو أن اعلم أهل الأرض، كان مفلساً، يفكر في خبزه من أين يأتي به، وبيته كيف يستأجره، لما بقي له عقل يفكر، وذكاء ينتج، ورأى أن(202/30)
أصحاب الأموال الجاهلين، تبيحهم الحياة أجمل ما تملك من متع ولذائذ ومجد وجاه، والعلماء الفقراء محرومون من كل شيء.
نعم أن المدرسة كانت تكذب عليه!
وقالت له المدرسة: (الأخلاق أساس النجاح) وضرب له المعلم مثلا سيئا طلابا لا أخلاق لهم ولا عفاف. وضرب له مثلا عالياً طلاباً كانوا نموذج الطهر والاستقامة والشرف، فرأى أن الأولين قد بلغوا أعلى المراتب وأسمى المناصب والآخرين تحت تحت. . . على العتبة. . .
فعلم أن المدرسة كانت تكذب عليه!
وقالت له المدرسة: أن الحق فوق القوة. القوة للحق وليس الحق للقوة، فآمن بذلك وصدقه، وتسلح بسلاح الحق، فما راعه إلا اللص يضع مسدسه في صدغه يطلب ماله وثيابه، فألقى عليه محاضرة في الحق، جمع فيها كل ما تعلمه من أساتيذه، وأضاف إليه ما انشق عنه ذهنه فرد عليها اللص بقهقهة مروعة. . . وذهب بأمواله وثيابه ورجع هو عارياً. لم يبق له إلا فكرة سخيفة لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تنجي من برد. . .
ورفع شكواه إلى القاضي، فلم ير عند القاضي حقا يقهر القوة، ولكن وجد عنده قوة تصنع الحق، وجد قوة الجنود، فأين يبقى الحق إذاثار اللصوص على الجند أو فتكوا بهم؟
هذه هي سنة الحياة، وليس على الحياة ذنب، فهي سافرة لن تستتر ولم تخدع أحداً عن نفسها، ولكن الذنب على الأدباء والمدرسين الذين وضعوا عيونهم في أوراقهم، وحبسوا أنفسهم في مكاتبهم، وأرادوا أن يدرسوا الحياة فلم يفهموا منها شيئاً. . .
- 8 -
وجلس الشاب (الليسانسيه في الحقوق) يدون آراءه تلك في كتاب، فلما انتهى منه حمله إلى الناشر، وكله زهو وإعجاب بنفسه. . . فقلبه الناشر العامي وصفحه، فلما رأى اسم صاحبنا عليه لوى شفتيه، وقوس حاجبيه وقال له:
- إن الناس لا يقرءون الآن ما تكتب، ومتى صرت (في المستقبل) كاتباً مشهوراً ننشر لك آثارك
فخرج متعثراً بأذيال الخيبة. . . يلعن المستقبل لعناً(202/31)
ما هو هذا المستقبل؟ وهل اقتربت منه شبراً واحداً وأنا أركض وراءه منذ سبعة وعشرين عاما؟ فمتى أصل إليه؟ وأين هو؟ أهو في العام الآتي، أهو فيما بعد خمس سنين؟ وهل يبقى مستقبلا إذاأنا بلغته أم يصبح حاضرا، ويكون على أن أبلغ مستقبلا آخر؟. . أيكون مستقبلي القبر؟ لقد طوفت في الآفاق، وشرقت وغربت، وأنجدت وأعرقت. . . فما رجعت إلا بالخيبة والتعب والإفلاس. فأين أجد الهدوء والراحة من هموم العيش، حتى أنصرف إلى ما خلقت له من الدرس والمطالعة والكتابة والتأليف؟
وذهب الشاب (الليسانسيه في الحقوق) يفتش عن الخبز فلم يجده عند ناشر الكتاب، ولا في إدارة الجريدة ولا في مكتب المحامي ولم يجده إلا في مدرسة القرية، فصار (معلم صبيان) فيها، يقرئهم ألف باء، ثم ارتقت به الحال قليلا، فصار يدرس سير الأدباء، وأشعار الشعراء. . . يكد ويتعب، في الليل والنهار يحمل آلام الغربة، وعناء العمل، ثم لا ينتج أثراً أدبياً، ولا يفيد علماً ولا يحفظ في جيبه درهما واحداً. . .
إنه يشتغل من اجل المستقبل. . . . . .
- 9 -
أين ذلك الطفل الذي كان يكره المدرسة، ويبغض المعلم القاسي - من هذا المعلم الفظ، الذي يرهق الأطفال ويهز عصاه في وجوههم، ويقرع بها جنوبهم. . . من يستطيع أن يتصور أن هذا هو ذلك؟ وأي شبه بينهما؟ إنهما مختلفان في الجسم والشكل والطبائع والميول، فلن يكونا شخصا واحداً!
أين ذلك الطالب المتحمس الذي كان يقود الطلاب إلى المظاهرات، ويخطب في المساجد والمجامع والأسواق؟ من هذا المدرس الخامل الذي يلقي دروس الأدب على هؤلاء الطلاب، ويبدو فيهم كشيخ هم في الثمانين؟ هل هما شخص واحد؟
إن ذلك الطالب لو رأى هذا المدرس لأبغضه وكرهه ولما تردد في البطش به!
وأين ذلك الشاب الذي تفيض نفسه بالآمال الكبار؟ من هذا اليائس القانط الذي لم يعد يأمل في شيء، لأنه جرب فلم يصل إلى شيء؟
- 10 -(202/32)
وبعد. فلم أفكر في هذا؟ إنني لا ادري من أنا، ولا أعرف كيف وجدت، ولا أعلم ما هي صلتي بذلك الطفل الذي نسيت حتى صورة وجهه، وذلك التلميذ الذي لم اعد اعرفه إلا بالتخيل، وذلك الطالب الذي احبه وأتشوق إليه، وذلك المعلم الذي أرثي له وأشفق عليه؟
هل أنا كل هؤلاء؟ وماذا بعد؟
يا الله! إني أحس كأني جننت حقاً؟!
(بغداد)
علي الطنطاوي(202/33)
تحية للرافعي
للأستاذ منصور فهمي بك
مات مصطفى صادق الرافعي، وما لقيته إلا مرات قليلة قد لا تتجاوز أصابع اليد عدا، ولم ترتبط بيني وبينه عقدة الصداقة الخاصة التي طالما يكون من شأنها أن تؤلف بين قلوب الناس على الأنس والمودة في الحياة، وطالما يكون من شأنها في الممات أن تؤوي الأسى في القلوب.
على انه إذاكان قد قل لقائي بالرافعي في الحياة، ولم تربطني به علاقة وثيقة من حقها أن تدفع القلم في سبيل الرثاء فإن في حق الوفاء لما قدم الرافعي من خير متسعاً يفسح لقلمي ولغيره من الأقلام الوفية أن تذكر ذلك الراحل العظيم.
وعظمة الرافعي التي أنوه بها الآن على عجل إنما مرجعها اتصاله الوثيق بتراثنا الأدبي القديم دون غيره فنهل من شرابه العذب، وتغذى من خلاصاته القوية الصالحة، فإذا بها تتمثل في أسلوبه، وتتغلغل في أدبه وتهذيبه، وتتمازج في تفكيره وتعبيره، وتندمج في تقديره وتدبيره، فاستطاع أن يشق للأدب القديم التليد، سبيله في الأدب الحديث العتيد.
فأي إنسان يرى في التراث الماضي نبل هذا التراث ولا يألم حين يفتقد حارساً يقظاً لهذا التراث وداعياً له عليما، ومعرفاً به حكيما؟ وأي وريث لثقافة العرب لا يجزع حين يموت أديب عربي كبير كان يعرض في أدبه للخلف، جميل ما جادت به نفوس السلف؟ وأي أسف لا يستولي على النفوس بموت الرافعي النابغة الأديب حين يمر على الخاطر أن الناس قد فتنوا بالحاضر، فنسوا وعقوا محامد الغابر؟
وإذا كان من حق الآثار الصالحة أن تبعث من قبورها، أفلا يحق على الناس أن يأسفوا على من كان يعمل على نشرها من مراقدها؟
وا أسفاً على الرافعي، ثم وا أسفاً على الرافعي!
فإلى الأدباء إذن وإلى الشعراء، وإلى آل الرافعي جميل العزاء، وعليهم جميعاً للرافعي الأديب الكبير بعد ذلك حق الوفاء.
منصور فهمي(202/34)
في الأدب المقارن
التاريخ في الأدبين العربي والإنكليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
التاريخ قصة الإنسانية وحكاية ماضيها، يصف حياة الإنسان من قديم عهوده، وتقلب أحواله على مرور العصور، وكفاحه في سبيل التقدم والسعادة، ويعرض أعمال الأمم وعظائم الأفراد وتعاون الشعوب حينا وتعاديها أحيانا، ويشرح سريان الحضارة والثقافة من صقع إلى صقع، ومن جيل إلى جيل، ومن أمة إلى أخرى، وما أضافته إليهما عبقرية كل شعب، من مستحدثات العلوم والفنون والصناعات؛ فالتاريخ سجل مليء بالعظات والدروس، حافل بالمتعات والطرائف، يمتع اللب سياقه القصصي، وينبه الخيال بعده الزمني، ويملا النفس أحيانا بالفخار الوطني، ويثقف الإنسان في حاضره ويبصره بما بين يديه، حين يعرض عليه أنباء الماضي ووقائعه
ولا يستمد التاريخ مما دونه المؤرخون في طروسهم فقط، بل يستمد بجانب ذلك من آثار الفنون المتخلفة عن الأمم، من عمارة ونحت وتصوير وأدب، ففي كل هاتيك صور من عقلياتها ومذاهبها ومجتمعاتها ومنازعها؛ فتاريخ الحضارة المصرية القديمة لا يستمد إلا أقله مما دونه المصريون أنفسهم أو من جاء بعد عهدهم من مؤرخي الأمم التالية، أما أكثر ما يعرف عن حياتهم الاجتماعية وتقاليدهم وديانتهم وعلومهم، فمستقى من مخلفاتهم في عالم البناء والنحت والنقش والصناعة، وقل مثل ذلك في تاريخ اليونان والرومان، وغيرهم من الأمم التي أنشأت الحضارات وكان لها في العلم والفن شأن يذكر
فتاريخ الأمة وفنونها متصلان أوثق اتصال، فالعوامل النفسية التي تسيطر على المجتمع والحكومة وتؤدي إلى الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية، هي هي العوامل النفسية التي تسيطر على فنون الأمة، فيميل أبناءها إلى فنون دون أخرى، وينحون بفنونهم أنحاء خاصة دون غيرها؛ فقدماء المصريين الذين كانوا يخضعون لملكية مطلقة دينية الصبغة ويؤلهون ملوكهم، نبغوا في علم العمارة في بناء المعابد والمقابر دون القصور، ونحتوا التماثيل للملوك والآلهة، لا للأبطال والزعماء والخطباء والرياضيين كما فعل الإغريق ولم يرتق فيهم الأدب الذي يترجم عن مشاعر الفرد، ويعبر عن خوالج المجتمع(202/35)
والأدب أشد الفنون اتصالا بتاريخ الأمة وارتباطا بتطورات المجتمع، إذ كان صدى ناطقاً دقيقاً لما يحس به الفرد والمجتمع، بل الأدب مصاحب في بدئه للتاريخ في ظهوره، يتمازجان لدى الجماعات البدائية في محاولتها تفسير ظواهر الكون والتغني بمفاخر أسلافها، ويشاب كل ذلك بالخرافات، ويظل الأدب والتاريخ مختلطين على ذلك النحو مادامت الأمة في عهد بداوتها، فإذا ما تحضرت ودونت الكتب بدأت العلوم تتفرق وتتميز ويستقل كل منها بنفسه، فظهر المؤرخون واستقلوا بأمرهم عن الأدباء، بيد أن الصلات بين الأدب والتاريخ تظل محكمة، إذ كان كل منها مرآة للمجتمع تعكس صورته من زاوية مختلفة
فالأديب لا غنى له عن درس تاريخ الماضين والتبصر في تاريخ عصره، كي يتثقف عقله ويحصف فكره لأحوال البشر، والمؤرخ لا غنى له عن النظر في كتب الأدباء ليفهم روح العصر الذي يؤرخ له ومثله العليا، ولا غنى له إذا أراد أن يجيء تاريخه كاملا عن أن يفرد جانباً منه لدرس الحياة الأدبية لذلك العصر، والمؤرخ للأدب لا ندحة له عن درس التاريخ السياسي للعصور الأدبية، والبيئات السياسية والاجتماعية التي عاش فيها الأدباء الذين يترجم لهم؛ وقد كان من عظماء اليونان والرومان أمثال ديموستين وتيوسيديد وقيصر وشيشرون من جمعوا بين البلاغة الأدبية والتأليف التاريخي، أو بين حرفة الأدب وحرفة السياسة وصنعة الحرب
إذا ما بلغت الأمة طور الحضارة والاستقرار والثقافة، ودخل الأدب في طوره الفني، تميز التاريخ وقام علما مستقلا بنفسه كما تقدم والتفت إليه الأدباء فوجدوا به مجالا لفنهم رحيباً ومرتعاً لابتكارهم خصيباً، فهم لا يكتفون باستيعاب حقائقه واجتناء فوائده، بل يتخذون من مشاهده وأحداثه ورجاله مادة وغذاء لأقلامهم، ومسارح لخيالهم ومنادح لبيان آرائهم في الإنسان والحياة، وشواهد لتدعيم حججهم في المذاهب والمشاكل، فيتخذ منه الشعراء موضوعات لقصيدهم، والقصصيون هياكل لقصصهم، ويجدون في عوالمه البعيدة وحوادثه القريبة وعظمائه النابهين مهربا للنفوس من عقال الحاضر القريب، وأحداثه العادية
كان الشعر في الجاهلية ديوان العرب لأنه - هو والقصص - كانا يحويان أخبار العرب، ويحفظان مشهور حوادثهم وأيامهم، ويحكيان أخبار رحلاتهم واستقرارهم، ويشيران إلى ما(202/36)
وراء ذلك من عوامل اقتصادية واجتماعية وعصبية، فلم يكن العرب إذ ذاك يعرفون من التاريخ إلا حفظ الأنساب، فلما تحضروا واستقروا في المدن تضاءل شأن النسابة وظهر التاريخ المدون، ظهر أولا لغرض عملي شأن كل العلوم والفنون، لحفظ أخبار الفتوح وسيرة النبي الكريم شيئاً فشيئاً وصارت له أغراض غير هذه وتناول موضوعات أخرى أرحب وأعم
بيد أن التاريخ لدى العرب - كالأدب - ترعرع في ظل الملكية المطلقة، فجاء كلاهما مشتملا على نفس النقائص: احتفى كلاهما بأمر الملوك وأغفل جانب الشعوب، واهتم بالأحداث السياسية والحروب وتجاهل التطورات الاجتماعية والاقتصادية، واتسم كلاهما بالمحافظة والتقليد والنقل في غير نقد، لأن وطأة الملكية كانت تضطر كلا منهما إلى الإطراق والإغضاء والتغافل عن مواطن الضعف ودواعي الإصلاح، وكما كان الشعراء يقرضون الشعر ليتقدموا به إلى الأمراء متزلفين، فيملاؤنه بالمدح المغالي فيه، كان بعض المؤرخين يصنفون أسفارهم ليرفعوها إلى بعض الخلائف والسلاطين بغية الثواب والحظوة، فيملاؤنها بمدحه ومدح أسرته وتعداد مآثره ومفاخر دولته، ويؤيدون دعواه وينحون على عداه، ويتغاضون عما عدا ذلك
وقد ظل الاتصال قائما بين الأدب والتاريخ بعد تدوين الكتب واستقلال علم التاريخ بنفسه، فظلت كتب الأدب تحوي كثيراً من أخبار الجاهلية والاسلام، بل كانت تلك السير والإخبار والشذرات والنوادر من أهم مواد كتب الأدب العربي، ووردت في أشعار الشعراء شتى الإشارات إلى أحداث الماضي ورجاله، كما أن المؤرخين وكتاب التراجم والمعاجم كثيراً ما كانوا يلجأون إلى الشعر مستشهدين لما هم بصدده من تحقيق حادثة، أو تصويب رواية؛ وكان بعضهم يعيرون الشعراء اهتمامهم فيترجمون حياتهم ترجمة موجزة، وكان بعض الشعراء ينظم في أحداث جيله، كما فعل ابن الرومي في ثورة الزنج وفي مقتل بعض العلويين الخارجين. وكان كتاب الأمراء يتناولون مسائل السياسة في رسائلهم، فيندرج أشعار أولئك وكتابات هؤلاء في تراث التاريخ اندماجها في كنوز الأدب
بيد أن الأدب العربي الذي أغفل كثيرا من موضوعات القول التي يتهافت عليها الأدب إذا ما بلغ طوره الفني، أهمل التاريخ إهمالا كبيرا، فلم يتخذ من حوادثه وحيا للنظم، ولا من(202/37)
أعاجيبه مدارا للقصص، ولا من أبطاله أمثلة للتمجيد، فليس من بين أدباء العربية الكبار من استهزه حادث تاريخي قرأه، أو أثر تاريخي وقف به، إلى نظم قصيدة أو إنشاء رسالة يستجلي فيها عبر التاريخ ويمجد قوة الإنسان، أو يندب ضعف حيلته إزاء جبروت المقادير. وليس من كتاب العربية ذوي الأساليب الجزلة من شمر عن ساعد الجد والبحث والاطلاع حتى كتب تاريخاً رفيعاً لبعض العصور أو الرجال، تاريخاً يعد تحفة في عالم الأدب كما قد يعد مرجعاً في عالم التاريخ، وإنما كان بعض الشعراء يتنصلون من الشؤون الاجتماعية والسياسية، ويتبرؤن من الاشتغال بمسائل التاريخ، كما قال ابن المعتز:
قليل هموم القلب إلا للذة ... ينعم نفسا آذنت بالتنقل
ولست تراه سائلا عن خليفة ... ولا قائلا: من يعزلون؟ ومن يلي؟
ولا صائحا كالعير في يوم لذة ... يناظر في تفضيل عثمان أو علي
أما في الإنجليزية حيث كان الأدباء والمؤرخون كغيرهم من أفراد الشعب يشاركون في الحياة الاجتماعية والسياسية بآرائهم ومذاهبهم، بل بأعمالهم ومساعيهم، فقد جاء كل من الأدب والتاريخ أكثر حرية وأقرب إلى جانب الشعب، وأكثر طروقاً لمواضيع المجتمع ومشاكل بنيه، وجاء الاتصال بين الأدب والتاريخ شديد التوثق، وجاء الأدب الإنجليزي أحفل بآثار المجتمع الذي قيل فيه من الأدب العربي، ومن ثم تدرس النصوص الأدبية الكثيرة في أثناء دراسة التاريخ في الجامعات، فتدرس آثار ملتون مثلا عند دراسة عهد المطهرين في إنجلترا
ووجد أدباء الإنجليزية في التاريخ مجالا واسعاً لفنهم وابتداعهم، فجال فيه شكسبير ومعاصروه جولات عديدة، واتخذوا مشاهد رواياتهم في بلاد اليونان أو إيطاليا أو دانيمركة أو إنجلترة القديمة، واشتق ملتون ودريدن موضوعات كثيرة من قصيدهم من تاريخ اليهود وأبناء ملوكهم وأنبيائهم، فلما ظهر النثر الفني بجوار الشعر لم يغفل التاريخ ولم يكن أقل لموضوعاته طرقا من الشعر، بل كان أحرى أن يشتمل على حقائقه ودقائقه ويعالج مسالكه ودروبه. بما يمتاز به على الشعر من رحب جوانبه ودقة تعبيره) فعالج جيبون وهيوم وآدم سميث وكارليل وغيرهم التاريخ والاجتماع وفلسفتيهما في أسلوب أدبي شائق، وجمع بعض الأدباء أمثال ماكولي وأرنولد بين الكتابة في الأدب والتأليف في التاريخ فكان الأدب(202/38)
والتاريخ لديهم كلا واحدا يجولون في نواحيه بلا تفريق، وبقيت كتاباتهم يدرسها طلاب الأدب كما يدرسها باحثو التاريخ
بل بلغ غرام بعض الأدباء بالماضي، وشغفهم بتقاليده وأزيائه ومحبتهم لأفذاذه وعظمائه حداً بعيدا، وقد كان سكوت من ذلك الضرب الذي يحيا في الماضي وبجلائله ولألائه وبطولته، ولا يكاد يلتفت إلى الحاضر أو يعنى بالمستقبل، وفي ذلك العالم السالف كتب سكوت أحسن قصصه. وممن كتب في الروايات والقصص التاريخية أيضا تنيسون وبروننج ودرنكور تروشو، وقد نرى موضوعاً تاريخياً حديثا كالثورة الفرنسية، وقد تناوله المؤلفون الإنجليز من شتى النواحي، فمحلل لحوادث الثورة وشخصياتها ككارليل، ومندد بمبادئها كبرك، ومرحب بتلك المبادئ مترنم بها كوردزورث، ومتخذ من قصة وليد تلك الثورة نابليون موضوعا لملحمة طويلة كهاردي، وهكذا تحيا حوادث التاريخ في أذهان مطالعي الأدب مصورة من شتى النواحي
ولا شك أن هذا التاريخ الأدبي، إذا سميناه كذلك، أجدر بالقراءة وأحق باهتمام المثقف من التاريخ المجرد، إذ في آثار الأدباء تحيا حقائق التاريخ وتدب فيها روح إنسانية جديدة وتمتلئ بالإمتاع، ويعود التاريخ والأدب وكلاهما مظهر لحياة الإنسان المطردة التطور والتغير، وتفكيره الدائب الحركة والتقلب، وفي هذا التاريخ الأدبي يرتبط الحاضر بالماضي، والقريب من الأمم بالبعيد، وتتقاصر مسافات الزمان والمكان، ولا يبقى إلا الإنسانية الشاملة، وهذه الإنسانية هي مجال كل فن صميم
هذا التاريخ الأدبي لم يعرف في العربية) فكان هناك المؤرخون وكان هناك الأدباء، ولكن كلا منهما كان مستقلا عن الآخر استقلالا كبيراً، ولم يكن الأدباء يعدون التاريخ مجالا من مجالات أدبهم، أو مطمحا من مطامح فنهم، يبتكرون في مجاله وينشئون، وما ذاك إلا لانشغالهم بالقريب الحاضر من شؤون العيش، عن البعيد المترامي من أمور الحياة وآفاق الفكر، لأن الأدب ظل أكثره بلاطياً يمدح الأمير ويحرر رسائله، وكان الفوز بتلك الخطوة مطمح الأديب ووسيلته الكبرى إلى الظهور فإذا ما بلغ ذلك المكان لازم ذلك الضرب الوحيد من القول، ولم يصرف أدبه إلى التأمل في شؤون الماضي والمستقبل، وهكذا أغفل الأدب العربي التاريخ فيما أغفل من موضوعات هي صميم الفن، لوثيق صلتها بالإنسانية(202/39)
فخري أبو السعود(202/40)
ضوء جديد على الدين الدرزي
الحياة والمعيشة الدرزية
للأستاذ محمد خالد ظاظا
يقول الأستاذ (عنان) إن كافة الرواة أجمعوا على أن الحاكم ذهب (ضحية المؤامرة والجريمة المدبرة) مع أن أنصار الحاكم ومؤيدي مذهبه يدعون أن الحاكم ارتفع إلى السماء امتحاناً للمؤمنين ولم يقتل أبداً؛ وعن قريب سيعود من البلاد الصينية ومعه الجيوش الجرارة فيفتح هذه البلاد جميعها ويعيد الحالة إلى ما كانت عليه؛ وسوف لا يبقى إلا الديانة الدرزية الحقة. لأنه بحكم الواقع تلغي جميع الأديان عند قدومه. وهؤلاء المؤمنون نزحوا من البلاد المصرية وقطنوا البلاد الشامية في الجبال الشرقية منها، وأسسوا مدناً وقرى اشتهر منها السويداء ومجدل شمي وبعقلين. وقد كانت لهم هذه الجبال معاقل تصد عنهم غارة الأمم الفاتحة حتى أصبح يخشى بأسهم وشدتهم، ولم يختلطوا مع الأقوام السورية، بل تجنبوهم حتى أنهم لبثوا ليومنا هذا محافظين على تقاليدهم وعاداتهم برغم تطور الزمان وانقلاب السلطان، وبقيت هذه الديانة سراً مدفوناً إلى حين نشوب الثورة السورية في عام سنة 1926 فأذاعت من أسرارهم وديانتهم ما خفي طيلة هذه الأعوام الماضية. فالدروز ثاروا ودافعوا عن بلادهم وساهموا بقسط وافر من الوطنية، واضطروا بحكم الشدة أن يتركوا بلادهم تفعل بها نيران القنابل والمدافع فعلها، فلعبت الأيدي بكتبهم المقدسة وتراثهم المدفون وانتقلت هذه الكتب إلى أيدي الكثيرين
وقد أكد لي أحد رجال الدروز العقل أن كتابهم المقدس الذي يسيرون بموجبه ويتبعون أثره هو خلاصة عدة كتب مقدسة، أو بالأحرى خلاصة جميع الكتب الدينية ويزاد عليه بعض الحكم والنصائح. ويندر وجود هذا الكتاب عند كل درزي لأنه ينسخ ويخبأ عند رئيس الدين الأكبر لا يقرأ به إلا في الخلوة - أي الجامع. وكيفية قراءته أن الشيخ يجلس في صدر المكان ويلتف حوله السامعون بشكل حلقة مكتفي الأيدي، مطأطئي الرءوس والأبصار، خاشعي البصائر، يسمعون ما يقوله، ويفعلون ما يأمرهم به. ولا يدخل في هذه الخلوة إلا من استكملت به درجة الرجولة التامة، وبلغ مبلغ الرجال العقل، وهم بحسب ديانتهم ينقسمون إلى درجات ثلاث:(202/41)
الدرجة الأولى: الجهال وهؤلاء لا دين لهم ولا يعلمون شيئاً من أمور الديانة الدرزية، وهم على الأغلب دون الثلاثين
الدرجة الثانية: العقل ولا يصل الرجل منهم إلى هذه المرتبة إلا بعد أن يبرهن أمام القوم أنه أخلد للسكينة وترفع عن الأفعال الدنيئة. وعليه قبل أن يصبح عاقلا أن يحلق رأسه بالموسى ويترك لحيته تسترسل في نموها نحو الصدر وكلما طالت كان أجره عظيما، وثوابه جزيلا. وعلية أن يتعمم بالعمة البيضاء الكبيرة.
الدرجة الثالثة: الأجاويد، وهذه الطبقة هم الأكثر تقشفاً والأعظم أجراً، وهم رؤساء الديانة الدرزية ومشايخ المؤمنين الموحدين وبيدهم الأمر والنهي، فإذا ما وجدوا أمراً ساءهم من أحد العقل طردوه من الخلوة وأخذوا الدين منه. وبذلك يصبح المطرود لا دين له، فلا يحق لهم الجلوس معه ولا السلام عليه ولا الأكل والشرب قربه، يفر منه كل من يراه، حتى أن عائلته تنفر منه وتكرهه؛ وإذا مات في هذه الأثناء يموت مسلماً وتنتقل روحه إلى كلب أو نصراني أو يهودي أو أي حيوان آخر. وأما إذا مات درزياً ومعه الدين فينال الحسنات وتنتقل روحه إلى درزي آخر أو تذهب إلى بلاد الصين، وهناك تعيش قرب الحاكم بأمره والأخوان الصالحين. ويعتقد الدروز بالتقمص ويقولون أن الروح تنتقل من رجل إلى آخر كما أسلفنا.
والمرأة الدرزية حكمها في الدين حكم الرجل، ولها ثلاث درجات بخلاف مذهب النصيرية الذين يعطون للمرأة ديناً مطلقاً، والدين عندهم من خصائص الرجال دون النساء. والدروز لا صلاة ولا صوم مفروض عليهم، ولا يعرفون شيئاً من أنواع الطرب لأنها معدودة عندهم من المنكرات المحرمة في الدين. وأقسامهم المغلظة هي: بالنبي شعيب واليعفوري، والحدود الستة، والحكمة المقدسة.
وللنبي شعيب احترام عظيم في نفوسهم ولا يعتقدون إلا بنبوته دون كافة الأنبياء. وأما اليعفوري فهو أحد أوليائهم الصالحين ذوي الكرامات له مقام يقع بين قرية مسعدة وقرية مجدل شمي في القسم الجنوبي من سورية. ويقصده الدروز من أماكن بعيدةللتبرك به والدعاء له. ولعل أغرب ما في مذهبهم أنهم لا يتزوجون من المسلمين ولا يزوجون بناتهم منهم بحجة أنه يسمح للمسلم أن يتزوج بنصرانية أو يهودية، أو يحق لمن يدخل في الدين(202/42)
الإسلامي أن يتزوج مسلمة مهما كان شأنها، ولا يقبلون أحداً أن يدخل في دينهم مهما كان شأنه، ولا يسمحون لأحد منهم أن يترك دينه ويدخل في دين آخر وإن فعل ذلك عرض نفسه للقتل المحتم. وإذا خطفت فتاة منهم يتحرون عنها حتى يجدوها فيقتلون الخاطف والمخطوفة خوف إفشاء السر - هذا إذا علموا مكانهما.
والدروز ذو أجسام كبيرة وقامات طويلة ووجوه دموية يغلب عليهم الشجاعة، يسترون رؤوسهم بالعمائم الكبيرة البيضاء ويحتذون الزربول ويلبسون السروال والصدرية والعباءة ذات الأكمام القصيرة، ديانتهم عندهم إلى التقشف في كل شيء في الحياة رغبة في نوال الآخرة والجنة المعهودة.
وتحرم عليهم تعاطي المسكرات والملذات وشرب الدخان ومن فعل ذلك منهم يطرد كما أوضحنا سابقاً. وأما النساء فيتلثمن بالشاشة البيضاء ولا يظهرن من وجوههن إلا عيونهن ويرتدين الثياب الطويلة حتى الأرجل، والشرف هو الواجب الأول عندهن - وهن على العموم يتمسكن بأهداب الفضيلة وترك الرزيلة. . .
محمد خالد ظاظا(202/43)
إلى الأستاذ المازني
من الأستاذ محمود تيمور
سيدي الأستاذ الأجل:
أشرت إليّ في حديثك الطريف المنشور بالعدد 200 من الرسالة الغراء، إشارة تنطوي على دعابة من دعاباتك اللطيفة التي تعودنا أن نسمعها منك. فقد ذكرت أنك كنت مدعوا إلى مأدبة عشاء، واتفق أن أجلسوك بجانب سيدة (وقور) ظنتك إياي. فانطلقت تمتدحك. وتمدح مؤلفاتك، وتخبرك مسرورة أن أولادها يقرؤون كتبك (أي كتبي ولا مؤاخذة) وأنهم جد معجبين بك.
أشكرك يا سيدي الأستاذ على نشرك هذا الخبر. وسواء أكان من مبتكرات خيالك أم هو حقيقة واقعة لا شأن للخيال فيها، فإني أرى فيه دعاية طيبة لي ولمؤلفاتي، خصوصاً وأني اعد في هذه الآونة مجموعة جديدة. ولعلك قد علمت بخبر هذه المجموعة فتطوعت، من تلقاء نفسك، حبا في مساعدة زملائك الصغار (الصغار في المنزلة، وليس في السن طبعا) والأخذ بيدهم في معترك هذه الحياة الأدبية العابسة. أشكرك على طيبة قلبك؛ فأنت حقا زميل نافع لزملائه. وإني أخشى أن يفطن الأستاذ الزيات إلى هذه الطريقة المخادعة التي لجأنا إليها - أنت وأنا - فاستغللنا بضع أعمدة مم رسالته في الإعلان عن أنفسنا ومؤلفاتنا. فتكون العاقبة غير حميدة!
لا أدري، أي شيطان أجلسك بجوار هذه السيدة الوقور، فصرفتك بحديثها الثقيل عن مغازلة - بريئة أو غير بريئة - لجارتك الأخرى، تلك الغادة الهيفاء التي صوتها كالتغريد (على حد تعبيرك). لو علمت هذه السيدة الوقور أي خسارة لحقت بأدبنا العربي، بصرفها إياك عن غادتك الهيفاء، لتركتك على الفور طليقا تنعم بحريتك مع فتاتك، تستمتع بتغريدها العذب، ولفاز أدبنا بقصة رائعة من قلمك، تصف لنا فيها مغامرة جديدة من مغامراتك الغرامية، تلك المغامرات التي سيكون لزوجك (الخيالية) أثر كبير فيها، فنسمعك تقول لها: يا امرأة، ما شأنك أنت وهذه الغادة الهيفاء التي صوتها كتغريد الطيور. . . .؟ فلا تكاد تتم جملتك حتى تشعر بيد قد استولت على إذنك، وأخذت تعركها عرك أستاذية عريقاً. . .!
ولكن ما لنا ولهذا؟ إني أراهن أن هذه السيدة الوقور لم تقرأ سطراً واحداً من مؤلفاتي وإلا(202/44)
لما تركتها بين يدي صبيانها (فتيان وفتيات) يقرءونها بلا تحرج. هذه المؤلفات يا سيدي الأستاذ لا تخلو - كما تعلم أو لعلك لا تعلم - من قطع نعتها البعض بأنها من الأدب المكشوف. وإني شخصيا لا أميز بين هذه القطع وبين غيرها؛ فالأدب ليس له عندي غير اسم واحد هو الأدب بمعناه الواسع؛ وليس له إلا هدف واحد: هو الفن، أو على الأصح هذا ما نزعمه - والله أعلم!
فهل لك يا سيدي المحترم أن تبادر إلى هذه السيدة، وتعلن لها تلك النتيجة المحزنة، ثم تدعوها باسم الفضيلة والأخلاق أن تسلمك هذه المؤلفات الموبوءة لتطهر البيت منها؟ ولك أن تقترح استبدالها بغيرها مما يعنى بالتربية والتهذيب، وزرع الفضيلة في النشء الصغير. وكنت أود أن تحل كتبك محل كتبي، ولكني أشك في صلاحيتها لهذا الأسرة المحترمة؛ إذ أن مغامراتك الغرامية المنقطعة النظير، وهذا الشجار العائلي القائم على الدوام بينك وبين أهل بيتك (في عالم الخيال طبعا)، خطر لا يقل في نظري عن الأدب المكشوف. إذن، عليك أن توجه نفسك شطر مكتبة الأطفال. وليس أمامك إلا صديقنا الأستاذ كامل الكيلاني، فهو خير من يزودك بما تشتهي وتحب.
إن ذكر الأدب المكشوف والمغامرات الغرامية والشجار العائلي، سيدعو الفتيان والفتيات، من الأدباء وغير الأدباء، إلا أن يلتفتوا بنوع خاص لهذا النوع الجديد من الأدب، فيهرعوا إلى المكاتب متزاحمين. . . ومن ثم ينهال علينا وافر الربح. . .
وبعد هذا، ألا ترى أننا مازلنا نستغل طيبة الأستاذ الزيات في سبيل الدعاية لأنفسنا؟ إذاً فلنختصر ولنقفل الباب
والشكر الوافر والتحية القلبية من المعجب بأدبك
محمود تيمور(202/45)
الرافعي
للأستاذ محمود محمد شاكر
رحمةُ الله عليك! رحمةُ الله عليك!
رحمة الله لقلبٍ حزينٍ، وكبدٍ مصدُوعة!
لم أفقدك أيها الحبيب ولكنِّي فقَدتُ قَلْبي.
كنتَ لي أملاً أستمسِكُ به كلما تقطَّعَتْ آمالي في الحياة.
كنتَ راحة قلبي كلما اضطرب القلبُ في العناء.
كنتَ اليَنْبُوع الرَّويَّ كلما ظَمِئّ القلبُ وأحرقه الصَّدَى.
كنت فجراً يتبلَّج نورُهُ في قَلْبي وتتنفس نسماته،
فوَجدتُ قلبي. . . إذ وجدت عَلاقتي بكَ.
لمْ أفقدكَ أيها الحبيبُ ولكني فقدتُ قلبي
جزعي عليك يمسك لساني أن يقول، ويرسل دمعي ليتكلم.
والأحزان تجدُ الدمعً الذي تذوب فيه لتهونً وتضَّاءَل،
ولكنَّ أحزاني عليك تجد الدمع الذي تروَى مِنْه لتنمو وتَنْتَشر.
ليس في قلبي مكان لم يرفَّ عليه حبي لك وهوَايَ فيك،
فليس في القلب مكان لم يحرقه حزني فيك وجَزَعي عليك.
هذه دموعي تُتْرِجم عن أحزان قلبي،
ولكنها دموع لا تُحْسِنُ تَتَكَلّم
عشتُ بنفسٍ مُجْدِبةٍ قد انصرفَ عنها الخصب،
ثم رحمَ الله نفسي بزهرتين تَرِفَّان نضرة ورواء.
كنتُ أجدُ في أنفسهما ثرْوة الروضة الممْرعة فلا أحسُ فقر الجدْب!
أما إحداهما فقد قطفتْها حقيقةُ الحياة،
وأما الأخرى فانتزعتها حقيقةُ الموت،
وبقيت نفسي مجدبة تستشِعرُ ذلَّ الفقر
تحت الثرى. . . عليك رحمة الله التي وسعتْ كلَّ شيء،(202/46)
وفوق الثرى. . . عليَّ أحزان قلبي التي ضاقت بكل شيء؛
تحت الثرى تَتَجَدَّدُ عليكَ أفراحُ الجَنة؛
وفوق الثرى تتقادمُ عليَّ أحزان الأرض!
تحت الثرى تتراءى لرُوِحك كلَّ حقائق الخلود
وفوق الثرى تتحقَّقُ في قلبي كلُّ معاني الموت.
لم أفقِدْك أيها الحبيب ولكنّي فقدت قَلْبي
حَضَر أجلك، فحضرتني همومي وآلامي.
فبين ضلوعي مأتم قد اجتمعت فيه أحزاني للبكاء؛
وفي روحي جنازة قد تهيَّأتِ لتَسير؛
وعواطفي تشيِّعُ الميت الحبيب مُطرقة صامتة؛
والجنازة كلها في دمي - في طريقها إلى القبر
وفي القلب. . . في القلب تُحفَر القبور العزيزة التي لا تُنْسَى
في القلب يجد الحبيب روحَ الحياة وقد فرغ من الحياة؛
وتجد الروح أحبابها وقد نأى جُثْمانها.
في قلبي تجد الملائكة مكاناً طهرَّته الأحزان من رجس اللذات.
وتجِدُ أجنحتها الروح الذي تهفهف عليه وتتحفَّى به.
هنا. . . في القلب، تتنزَّل رحمة الله على أحبابي وأحزاني،
ففي القلب تعيش الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تَفْنى،
وفي القلب تُحْفَرُ القبور العزيزة التي لا تُنْسى
لم تُبْقِ لي بَعدَك أيها الحبيب إلا الشوقَ إلى لقائك.
فقدتُكَ وَحْدِي إذ فقدك الناس جميعاً
سَمَا بكَ فرحك بالله، وقعدت بي أحزاني عليكَ.
لقد وجدتَ الأنْسَ في جوارِ رَبَّك، فوجدتُ الوحشة
في جوار الناس
لم أفقدك أيها الحبيب ولكني فقدت قلبي(202/47)
لم تُبق لي بَعدَك إلا الشوق إلى لقائك
رحمة الله عليك، رحمة الله عليك!
محمود محمد شاكر(202/48)
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 5 -
الديانة المصرية - التوفيق بين الديانة والفلسفة
أشرنا في الكلمة السابقة إلى الخلاف الذي وقع بين المستمصرين حول التطور الديني المصري وهل هو وليد الفلسفة أو الفلسفة هي وليدته. ولما كنا قد تناولنا بهذه المناسبة الكلام على (رع) وتاسوعه، فقد وجب علينا إتماما للموضوع أن نشير إلى آلهة أخرى لا تقل عن السابقين أهمية، وهي (مآت) ابنة (رع) العظيمة
ليست هذه الآلهة من التاسوع، لأنها روحه كله، وبدونها لا يحيا أي واحد من الآلهة، لأنها هي: (الحقيقة والعقل والعدالة). وهل يمكن أن يحيا أي إله بدون الحقيقة والعقل والعدالة؟ وتمتاز هذه الآلهة بأنها تجيء إلى الأرض يحملها فرعون ويتولى تطبيق صفاتها وإبرازها إلى حيز الوجود بطريقة عملية ويظل حارسها الأمين إلى أن يموت فتعود إلى السماء وتبقى فيها ريثما يصعد الملك الجديد على العرش فيوكل إليه أمر حملها وحراستها كسابقه. ولهذا كان كل فرعون يعنى بأن يكتب على آثاره أنه لم يدخر وسعا في حماية الحقيقة والعدالة وفي إعلاء شأن العقل، لكي يثبت بهذا أنه قام بواجبه في حمل (مآت) إلى الأرض ورعايتها خير قيام. وهاك ترجمة شيء مما يخاطب به فرعون (رع) كبير الآلهة فيقول: (هاأنذا أتيت نحوك، وذراعاي مجتمعتان لحمل مآت التي أنت موجود، لأنها موجود؛ وهي موجودة، لأنك موجود؛ والتاسوع يناديك أنك أنت الإله العظيم الذي انتصرت منذ ملايين السنين. وان مآت هي وحيدتك)
ولاشك في أن لمرادفة مآت ابنة رع للحقيقة والعقل والعدالة أهمية فلسفية وأخلاقية عظيمة، إذ منذا الذي لا يبحث عن الحقيقة ولا يحترم العقل ولا يطبق العدالة مع علمه بأن هذه الأشياء الثلاثة هي مرادفة لابنة رع، وهي روح التاسوع المقدس كله. وإذن، فقد كانت هذه(202/49)
الأسطورة عاملاً قويا في تحفيز الهمم على البحث عن الحقيقة وعلى احترام العقل وعلى إجلال فضيلة العدالة كما سنذكر ذلك فيما بعد. وهل الفلسفة النظرية الإغريقية شيء آخر غير البحث عن الحقيقة؟ وهل الفلسفة العلمية شيء غير تطبيق الفضائل التي - أهمها بعد الحكمة الناجمة عن احترام العقل المشروط في الفلسفة المصرية - هي فضيلة العدالة التي استقامت بها كفتا ميزان السماء والأرض؟
تعقل العامة
كان كل ما أسلفناه لك من تطورات دينية ومن محاولات قوية في التوفيق بين الدين والعقل هو تعقلات الخاصة والمستنيرين. أما العامة فكان لهم تعقل يخالف هذا مخالفة طفيفة حينا وشديدة حينا آخر، فهم لما وجدوا (أتوم) الممتزج عند الخاصة برع لا زوجة له ولم يستطيعوا أن يعقلوا أثره الذي سماه الخاصة (فعل الشمس) ونسبوا إليه نشوء الفراغ والهواء زعموا أنه ولد طفلين بطريقة لا ترضى عنها الأخلاق، وهما الهواء والفراغ، فتزوج ذكرهما أنثاهما فولدت له السماء والأرض، وهذان الأخيران أيضا قد تزوجا بدورهما) ولكنهما التصقا ببعضهما التصاقا محكما يحول بينهما وبين تحقق وجود الكائنات؛ فلما رأى الهواء ذلك اجتهد في تفريقهما فسعى حتى مر من بينهما ففصلهما ورفع السماء إلى أعلى فوق ذراعية، فغضب الزوجان من هذه الفرقة غضبا شديداً ومازالا يجتهدان في أزالتها حتى الآن.
وما الجبال الشامخة التي تحاول الوصل بين الأرض والسماء إلا من نتائج هذه المجهود الذي يحاوله الزوجان. غير أن هذه الفرقة التي آلمت الزوجين إيلاما شديداً كانت سعيدة، لأنها سمحت للكائنات الحية بالوجود فوق الأرض كما سمحت للشمس بأن تظهر من السماء، ولكن سكان (هيليو بوليس) الذين كانوا على وفاق هي هذه الأسطورة يبدءون بعد هذه النقطة يختلفون، فيذهب بعضهم إلى أن (نوت) الذي هو عند الفريق الأول أحد الزوجين المتفرقين إنما هو البقرة العظمى الخالدة التي تنسل كل يوم عجلا هو شمس ذلك اليوم؛ أما زوجها فهو رع نفسه، ولذلك أصبح رع في نظر هذا الفريق متزوجا وترك حياة العزوبة القاحلة. وهناك فريق ثالث تفرع من الفريق الثاني وذهب إلى أن هذه البقرة الخالدة هي (نون) التي هي أصل العناصر جميعها والتي منها نشأ رع نفسه(202/50)
غير أنه ينبغي أن نلاحظ أن البقرة الخالدة التي هي عند بعض العامة زوجة رع وعند البعض الآخر منهم أمه ليست إحدى هذا البقر الذي يدب على الأرض، وإنما هو تصوير لكائن عظيم كثير الخصوبة والإنتاج لا أكثر ولا أقل. وهذا الفريق الأخير الذي يرى أن البقرة الخالدة هي أم رع يعتقد أنها واقفة في الجو، وأن رع يتنزه في فلك من الذهب يسبح فوق ظهرها كل يوم من الشرق إلى الغرب على مرأى من الناس جميعاً. ولما أدركته الشيخوخة، وكانت أعضاؤه من ذهب، وعظامه من فضة، فقد طمع البشر في أن يستولوا عليه وأخذوا ينظرون إليه بعين الشراهة، فشاكته منهم هذه الجرأة الوقحة وصمم على عقابهم، ولكنه أبى أن يستبد بإصدار هذا العقاب فدعا مجلس الآلهة للانعقاد وعرض عليه هذه القضية، فأشارت عليه أمه بأن يبعث فيهم الآلهة (هاتور) تريق دماءهم وتقطع أعناقهم جزاء وفاقا لوقاحتهم وطمعنه في الآلهة؛ وقد كان، فنزلت الآلهة هاتور مقتلة مدمرة حتى ملأت سطح الأرض دماء، وكانت ستظل على هذه الحال حتى تبيد جميع العنصر البشري لولا أن أخذت الإله الشفقة على الإنسان من جديد، فصمم على العفو عنه، ولكنه لم يستطع إقناع (هاتور) الجبارة بالعدول عن خطتها التي كلفها بها مجلس الآلهة فاحضر لها عصيراً أحمر من بعض الفاكهة وأنباها بأنه من دماء البشرية التي تحقد عليها فشربته مسرورة ولم تعد تميز شيئاً، وبهذا وقف القتل والتدمير
وبعد أن كف رع حركة القتل عن بني الإنسان أحس بتقزز من استمراره في الحكم مع هذه الشيخوخة فاعتزل السلطة آسفاً محزوناً على الشباب وقوته. وقد انتهزت (ايزيس) هذه الفرصة الذهبية فاتجهت إلى رع وأنبأته بأنها تستطيع أن تعيد إليه الشباب على شرط أن يكشف لها عن اسمه الأعظم الذي لا يعرفه إلا هو. وما زالت به تغريه حتى حصلت على بغيتها التي كانت تعلم أنها تنيلها كل فرصة، للتصرف في الكون ثم مرت هذه السلطة بالتتابع إلى الآلهة (سو) فـ (جيب) فـ (أوزيريس) فـ (هوروس) ففرعون؛ وبهذا استطاع الشعب أن يؤول عقيدة الخاصة في ألوهية فرعون (ولعل القارئ لا تخفى عليه فطنة أولئك العامة الذين حينما رأوا الخاصة يؤلهون فرعون، ابتدعوا لذلك مبررات لبقة تسير في طريق منسق من رع إلى فرعون
نظرية الفكر المصرية أو أصل المثل الأفلاطونية(202/51)
كان المصريون يعتقدون أن الاسم هو كل شيء في الكائن وأنه لا كائن بدون اسم، أو أن الاسم هو الفارق الأوحد بين العدم والوجود. لهذا تقول الآية المصرية القديمة: (أن جميع الآلهة قد خرجوا من فم رع وأن رع هو الذي خلق كل عناصر الطبيعة). ومعنى هذا أن (رع) هو الذي سمى الآلهة والعناصر، وكان أول من نطق بأسمائها جميعاً ومن حيث إنه كان إذ ذاك وحده. فيكفي لإيجاد الإله أو العنصر أن ينطق باسمه فيما بينه وبين نفسه أو أن يفكر فيه لأن نطق الاسم باللسان ليس إلا تعبيراً عن المسمى الموجود أو الفكرة التي يحتويها القلب والتي هي جوهر الأشياء جميعاً وبدونها لا يفوز موجود بالكينونة. وقد ذهب كهنة (هيليو بوليس) أو مدينة الشمس إلى أن الفكرة لا تمنح الكائن الوجود فحسب. بل أنها هي التي تحفظ عليه وجوده الدائم، فإذا قدر على أي كائن ما أن يزول اسمه من فكرة الإله، فأنه يهوى في الحال إلى العدم المطلق. ولا احسب أن من العسير على الباحث المتقصي أن يستكشف عناصر (المثل الأفلاطونية) واضحة جلية في هذه الفلسفة المصرية التي سبقت أفلاطون بأكثر من ثلاثة آلاف سنة، لأن أفلاطون يعتبر جميع هذه الكائنات المادية التي تدب على الأرض خيالات لا حقائق، ولا يعترف بوجود حقيقي إلا لعالم (الفكر) المجرد عن علائق المادة وغواشي الطبيعة. أما هذه الوجود المشاهد بالمدركات الدنيا، وهي الحواس، فهو لا يزيد على أنه ظلال لعالم الحقيقة الذي لا تدركه إلا قوه البصيرة التي تخلص صاحبها من الشهوات الحيوانية؛ وأما هذه الظلال المشاهدة، فوجودها لا يحقق حقيقة الكائن لأنه وجود مؤقت فوق أنه خيالي. وإذاً، فلست أظنني في حاجة إلى إيضاح الرابط المتين الموجود بين نظرية أفلاطون هذه وبين قول المصريين: (إن الفكرة لا تحقق للكائن وجوده فحسب، بل هي وحدها التي تضمن له دوام هذا الوجود) أو قولهم: (إن جميع الموجودات قد خرجت من فم (رع) وإنه يكفي لإيجاد الكائن أن يجري اسمه على لسان (رع) بعد أن مر مسماه بقلبه، لأن اللسان ليس إلا معبراً عن الجنان)
أليس في تعبيرهم بأن الفكرة وحدها كافية لتحقيق الوجود وخلوده تصريح واضح بأن كل ما عدا الفكرة في الكائن لا يؤبه له؟ ثم أليس في قولهم: أن الموجودات كلها خرجت من فم (رع) إيذان بأن المادة المحسة لا يستحق منها بالوجود إلا فكرتها التي خطرت لرع وأن المحس منها لا قيمة له؟(202/52)
لا ريب أن في هذا الاكتشاف الذي أسجله اليوم على صفحات هذه المجلة رداً جديداً على أرسطو و (سانت هلير) ومقلديهما وإذنابهم القائلين باستقلال الفلسفة اليونانية وعدم تأثرها بالفلسفات الشرقية، كما أن فيه رداً بليغاً على ذلك الفريق الذي يحط من شأن العقلية الشرقية، لأن مذهب (المثل) - وهو أسمى ما أنتجته العقلية الغربية - هو مشيد على أساس هذه النظرية المصرية ما في ذلك لبس ولا ارتياب. وكما أن الفكرة هي التي تمنح الوجود للحوادث وتحفظه عليها، هي تحفظ الوجود الكامل كذلك على (رع) نفسه ولهذا السبب أهتم بأن يخلق العالم، لكي يظل اسمه حيا منبثاً في جميع عناصر الطبيعة، مذكوراً على السنة أفراد المخلوقات حتى يضمن لنفسه وجوداً كاملا من كل الوجوه، لأن تعقله هو لذاته لا يكفي في تحقيق الوجود الكامل إلا إذا خلا الكون من جميع ما سواه؛ أما وفي الوجود كائنات أخرى، فلا يتحقق له الوجود الأكمل إلا بتغلغل فكرته في كل قلب وجريان اسمه على كل لسان.
ومن هذا التغلغل نتج دور تفكيري عجيب، وهو أن الإله ضروري للإنسان بحيث لا يمكن وجوده إلا به، وأن الإنسان ضروري للإله بحيث لا يمكن استمرار وجوده الكامل إلا بتغلغل الإنسان إياه وتفكيره فيه ونطقه باسمه. ولا ريب أن هذه الدائرة قد أعلت من شأن الكهنة، لأنهم هم أكثر الناس ذكر للأسماء المعبودات، وبالتالي هم أكثر الناس تأثيراً في احتفاظ الآلهة بوجودهم الكامل.
(يتبع)
محمد غلاب(202/53)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشة
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الوغد
ما الحياة إلا ينبوع مسرة. ولكن أيان شرب الوغد فهنالك جدول مسموم. أحب كل ما هو نقي، ولكنني لا احتمل رؤية الأشداق تتثاءب معلنة ظمأ الأرجاس، وقد جاؤا يسبرون أعماق البئر بأنظارهم فانعكست في قرارتها ابتسامتهم الشنعاء توجه سخريتها إلي.
لقد دنسوا المياه المقدسة بأرجاسهم، وما تورعوا فدعوا أحلامهم القذرة سروراً فدسوا سمومهم حتى في البيان. أن اللهب يتعالى مشمئزاً عندما يعرضون قلوبهم المائعة عليه، والروح نفسها تغلي وتتصاعد بخاراً عندما يقترب الأوغاد من النار، والأثمار نفسها يفسد طعمها وتتراخى عندما يلمسونها بأيديهم، وإذا ما حدجوا بأنظارهم الأشجار المثمرة فإنها لتجف على أعراقها.
لكم من معرض عن الحياة لم ينفره منها سواء الوغد الزنيم، فعافها إذ لم يشأ أن يقاسم هذا الوغد ما عليها من ماء ولهب وأثمار.
لكم من شارد لجأ إلى الصحراء متحملا السعار عائشاً بين الوحوش كيلا يجلس إلى بئر يدور بها حداة العيس بما عليهم من أقذار.
ولكم جاء الأرض من مكتسح أشبه بالبرد المتساقط من السحاب ولا أمنية له سوى ضرب قدمه في أشداق الأوغاد ليسد حناجرهم.
ما صعب عليّ الاعتقاد باحتياج الحياة إلى العداء والقتل والاستشهاد كما صعب عليّ التسليم بضرورة وجود الوغد الزنيم فيها.
أمن ضرورة الحياة هذه الينابيع المسممة والنيران المشبوبة تفوح بالروائح الكريهة وهذه الأحلام الرجسة وهذه الديدان ترتعي في خبز الحياة؟
ليس العداء ما قرض حياتي بل الكراهة والاشمئزاز. ولكم استثقلت الفكر نفسه عندما رأيت شيئاً من الفكر في رأس الوغد الزنيم.(202/54)
لقد وليت ظهري للحاكمين عندما أدركت معنى الحكم في هذه الأزمان وتأكدت انه إنجاز بالقوة ومساومة الأوغاد عليها.
استولى اليأس عليّ فاجتزت مراحل الماضي والمستقبل وأنا أسد أنفى إذا انتشرت عليّ منهما روائح البيان السخيف
لقد عشت طويلا كالكسيح أصابه الصمم والعمى والخرس كيلا أعايش أوغاد السلطة وزعانف الأقلام والمسرات
ارتفع فكري درجة فدرجة وهو يعاني من حذره ما يعاني ولا عزاء له إلا بالغبطة؛ وهكذا مرت حياة الأعمى وهو يتوكأ على عصاه.
ما حدث لي يا ترى؟ وما الذي أنقذني من اشمئزازي وأعاد النور إلى عيني؟ وكيف تمكنت من ارتقاء المرتفعات حيث الينبوع الذي لا يحيط به الأوغاد؟.
أهي الكراهة نفسها استنبتت جناحي وأوجدت لي القوة للاهتداء إلى مفجر الينابيع؟ والحق أنني ارتقيت الذروة، ولو لم ابلغها لما وجدت ينبوع الغبطة والسرور.
لقد وجدته، أيها الأخوة، فرأيته يتدفق على الذروة غبطة وحبوراً، فاهتديت إلى المكان الذي يتاح فيه للإنسان أن يروي ظمأه دون أن يعكر عليه الأوغاد الأدنياء.
أنك لتسيل بشدة، أيها الينبوع المتفجر بالغبطة فتفرغ الكأس التي تملأها دهاقا،
عليّ أن أتمرن على الاقتراب منك بتؤدة، أيها الينبوع فإن قلبي يندفع بعنف إلى مسيلك. لقد استولى اليأس مع الحبور على هذا القلب الذي تمر عليه بحرها أيام صيفه فهو يتشوق إلى مياهك تنزل عليه برداً وسلاما.
لقد انقضت أحزان ترددي في الربيع وأذاب الصيف ثلوج نقمتي، فأصبحت وكل جوارحي تتوق إلى الاصطياف. أن خير الراحة ما تنتجع في أعالي الجبال قرب الينابيع الباردة. إليّ أيها الأصحاب لنحول هذه الراحة إلى غبطة وحبور فهذه ذروتنا، وهنا موطننا حيث نعتصم بالصخور فلا يبلغها الأرجاس ولا يصل إليها عطشهم المدنس.
أرسلوا أنظاركم الطاهرة على ينبوع مسرتي، أيها الأصحاب، فإنها لن تعكره بل تبقى على نفائسه فيبتسم لكم.
هنا تتعالى دوحة المستقبل. فلنبن لنا عشا بين أغصانها فتجيء إلينا العقبان حاملة لنا(202/55)
الغذاء، نحن المنفردين.
ذلك غذاء لا يستطيع الأرجاس مقاسمتنا إياه فهو النار تحرق أشداقهم. وما نعد هنا مساكن للمدنسين، فإن سعادتنا تلفح أجسادهم وأرواحهم. ونحن نريد أن نحيا فوقهم فنهب كالرياح في مسارح العقبان ومطالع الشموس.
أنني سأعصف كالريح الصرصر على الأرجاس فاخمد أنفاسهم بأنفاسي، ذلك هو المقدور. فما زارا إلا ريح عاصفة ترهق الأعماق، وهو ينصح أعداءه وكل متفيئ نافث بألا يبصقوا في وجه الرياح.
هكذا تكلم زارا(202/56)
رسالة الشباب
السياسة والروح العام
جاءنا من الأستاذ محمد فريد أبو حديد هذا الكتاب تعليقا على كتاب الأديب محمد زهدي ناصر وتوضيحا لتعقيبنا عليه ننشره شاكرين للأستاذ مساهمته الحرة في دعوة الرسالة
اطلعت في مجلتكم الغراء على مقال للأديب محمد زهدي ناصر ذهب فيه إلى أن دعوة الشباب إلى الاشتغال بالسياسة فيه مضيعة لجهودهم وفيه إقحام لهم في ميادين لا يستطيعون اقتحامها ولا يجمل بهم التلوث بما فيها من الأدران وهم لا يزالون في سن البراءة والإخلاص، وأنه أجدى بهم أن ينصرفوا إلى العلم والدرس حتى يستطيعوا أن يستفيدوا بوقتهم أكبر استفادة.
والحق أن الأديب على حق في رأيي إذا كان المقصود هو اشتغال الشباب بالسياسة العملية، فإن تلك السياسة أشد تعقداً وأوعر مرتقى من أن نجازف بشبابنا فندخله في ميدانها. ولقد كان رد الرسالة على حضرته رداً صائباً، ولكني أخشى أن يكون المحرر الأديب الذي كتب ذلك الرد لم يوضح التفريق بين السياسة والروح العام إذ قال: (على أن السياسة التي نريدها للشبان أوسع وأشمل مما يتصوره الكاتب الفاضل؛ فالسياسة دعوة وتدبير وقيادة؛ وقوى البلد المادية والأدبية معطلة من طول الإغفاء والترك؛ والإحساس الشاب هو وحده الذي يستطيع أن يحرك في طبقات الشعب هذا الجمود المزمن بالدعوة الصادقة والإرشاد الصالح والقدوة الحسنة) فالأستاذ المحرر يريد أن يفرق بين أن يعمل الشباب في ميدان السياسة العملي وأن ينغمر في تيار الاختلاف الحزبي، وبين أن يكون الشباب عاملا حياً تتوثب فيه الحماسة إلى ما فيه خير المجموع وتتقد في الروح العامة التي تتجه إلى إعلاء الوطن ورقي أهله من كل الوجوه. فهذا الروح العام الذي يتجه نحو المثل الأعلى جدير بأن يملأ قلوب الشباب، وليس فيه ما يشغل عن الدرس والعلم، بل إن قلب الشاب الذي يخلو من الاهتمام بأمور وطنه العام ولا يثور إلى الرغبة في خير مواطنيه ورفعة شأنهم لهو قلب فاتر قليل الخير.
إ سي، ذلك هو المقدور. فما زارا إلا ريح عاصفة ترهق الأعماق، وهو ينصح أعداءه وكل متفيئ نافث بألا يبصقوا في وجه الرياح.(202/57)
هكذا تكلم زارا. .(202/58)
رسالة الشباب
السياسة والروح العام
جاءنا من الأستاذ محمد فريد أبو حديد هذا الكتاب تعليقا على
كتاب الأديب محمد زهدي ناصر وتوضيحا لتعقيبنا عليه
ننشره شاكرين للأستاذ مساهمته الحرة في دعوة الرسالة
اطلعت في مجلتكم الغراء على مقال للأديب محمد زهدي ناصر ذهب فيه إلى أن دعوت الشباب إلى الاشتغال بالسياسة فيه مضيعة لجهودهم وفيه إقحام لهم في ميادين لا يستطيعون اقتحامها ولا يجمل بهم التلوث بما فيها من الأدران وهم لا يزالون في سن البراءة والإخلاص، وأنه أجدى بهم أن ينصرفوا إلى العلم والدرس حتى يستطيعوا أن يستفيدوا بوقتهم أكبر استفادة.
إإإإإن أعز ذكريات الشباب التي نحملها هي تلك الرغبة المتوقدة في خدمة الوطن، وهي تلك الأماني التي كنا نسعى جهدنا إلى تحقيقها، إذ كانت الأماني لا تزال طليقة، وإذ كان القلب لا يزال قوي النبضات. . . .
محمد فريد أبو حديد
جمعية الانبعاث القومي
وجاءنا من الأديب صاحب الإمضاء ما يأتي:
حيا الله (الرسالة) في عهدها الجديد: عهد توجيه شباب مصر إلى واجبه الأسمى نحو مصر.
وبارك الله في أستاذنا الكبير صاحبها، وجعله نبراساً ساطعاً للعاملين المخلصين من أبناء مصر، في سبيل مجدها ونهضتها.
وبعد: فلي كلمة متواضعة. من حقي أو من واجبي - كشاب - أن أدلي بها في موضوع الاقتراح الناضج الذي نشر في العدد السابق من الرسالة. تحت عنوان (الزحف الاجتماعي). أرجو - مخلصاً - أن يكون لها أثرها المفيد عند تنفيذه.(202/59)
اقتراح لا أخالني أجانب الصدق إذ أقول انه اقتراح شباب مصر جميعاً، قام بواجب التبليغ عنهم أحدهم وأدى رسالته أميناً مشكوراً.
أرى، لضمان نجاح هذا المشروع القومي الجليل. وتمشيا مع ظروفنا الحاضرة، أن تتوفر لتنفيذه على الوجه الأكمل الشروط الآتية وهي:
أولا: - تضامن شيوخ الأمة مع شبابها.
ثانيا: - أن تكون قيادة المشروع للأمة وحدها. وتؤلف لهذا الغرض جمعية، اسميها (جمعية الانبعاث القومي). من عناصر قوية بارزة تمثل كلا من الجامعة الأزهرية والجامعة المصرية، والصحافة المصرية والمؤسسات المصرية وعلى رأسها بنك مصر
ثالثا: - على الحكومة فقط تعبيد الطريق للعاملين دون التدخل فضلا عن الرقابة، إلا في حدود القانون.
رابعا: - أن يكون عنصر الرواد من الجنسين، ويشترط فيهم الكفاية والأهلية، ويعطي تشجيعا للمتعطلين منهم مكافآت مالية ثابتة.
خامسا: - إدماج الجمعيات الخيرية والعلمية والثقافية الموجودة حالا تحت لواء جمعية الانبعاث القومي توحيداً للجهود والأغراض
سادسا: - أن تقوم بالنفقة الأمة وحدها في شخص الأغنياء من جميع الطبقات ومتوسطي المعيشة من أفراد الأمة، عن طريق الإعانات الدورية، والاشتراكات الشهرية
سابعا: - الاحتفاظ بقومية المشروع من المبدأ إلى المنتهى
سيد عويس
عبرة الشباب من حفلة التتويج
شهد الأسبوع الماضي في لندن مهرجانا قلما يجود الدهر بمثله. ذهلت فيه إنجلترا عن مشاغلها ومشاكلها، في خارجها وفي داخلها، ثم راحت تخرج تاريخها الرائع الساطع من كنوز ماضيها الجليل الأثيل لتجعل منه الدرة الكبرى لتاجها الماسي الذي تضعه من جديد، على مفرق ملكها الجديد.
سمع الناس وصف المهرجان في الراديو ورأى الناس مناظر المهرجان في السينما، فتمثلت(202/60)
لهم عظمة هذه الأمة العريقة على أروع ما يتصوره الخيال ويدركه الحس: تقاليد الماضي العتيقة في جدة الحاضر الطريفة؛ وقرع النواقيس بجانب قصف المدافع؛ ومظاهر الأرستقراطية النبيلة في وسط الديمقراطية الأصيلة؛ وملك أثقلوه بالماس والذهب، وقلدوه السيوف والصوالج، وألبسوه الحلل والمعاطف. وضمخوه بالزيت المبارك، أجلسوه على كرسي متآكل فوق حجر منسوب إلى يعقوب وأركبوه مركبة بالية نابية طافت به شوارع لندن؛ ثم رئيس الأساقفة في طقوسه الغربية، وكبار النبلاء في أرديتهم العجيبة! وهذه القوى الثلاث: قوى الملك والدين والنبل هي التي كانت تحكم الدنيا الغربية أيام كان الزمان غير الزمان، والإنسان غير الإنسان، فأصبحت اليوم من عبر التاريخ التي تعرضها إنجلترا على أعين الأمم الحاشدة في لندن وهي تقول لهم: انظروا ماذا كافحت الأمة الإنجليزية حتى ظفرت بالحرية والديمقراطية والدستور! هل منعنا احتفاظنا بالتقاليد من أن نكون أمة التجديد، واحترامنا للدين من أن نكون أمة المدنية، وإخلاصنا للملك من أن نكون أمة البرلمان؟
في هذا الذي تسمعه وتراه من أمس الإنجليز ويومهم جواب مفحم لأولئك الغلاة الذين يريدوننا على أن نتجرد من الماضي العظيم، ونتخلى عن التراث الكريم، ونخرج إلى العالم كما تخرج اللقطاء إلى الوجود، لا تليد يغذي الطريف. ولا نسب يرفع الحسب.
إن شخصية الفرد هي مجموعة مزاياه الخاصة في التفكير والخلق والتصرف، وشخصية الأمة هي مجموعة تقاليدها الصالحة من العادات والاعتقادات والنظم. والشخصية هي حافزة الفرد على النهوض، ودافعة الأمة إلى الاستقلال؛ فإذا عبث بها عابث من النزق أو الضعف انمحى طابع الفرد فشاع، وفنيت قومية الشعب فخضع.
وإذا قال لنا الإنجليز أقوى دول الغرب، واليابان أقوى دول الشرق، إن الحاضر الثابت لا يقوم إلا على الماضي الراسخ، وإن الحوافز الشخصية لا يقويها إلا السنن القومية، كان شبابنا أحرياء بأن يقولوا لأولئك الناعقين: لا تحجلوا حجل الغراب، ولا تنصبوا مضختكم على السراب!(202/61)
رسالة العلم
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي بك
مدير مصلحة الكيمياء
- 4 -
وفي عام 1902 انبرى إرليش يطلب غايته، فأخرج كل ما لديه من الأصباغ وسواها صفاً صفاً فلمعت وبرقت واختلط لألاؤها. وتقاصر متقرفصاً أمام قمطراتها فتراءت زجاجاتها على رفوفها كالفسيفساء الرائعة في اختلاط ألوانها. فصاح لما جرت عينه عليه: (ألا ما أجل وأجمل!). ثم اقتنى لنفسه طائفة كبيرة من أصح الفئران. واقتنى لنفسه معها دكتوراً يابانياً مخلصاً غاية الإخلاص في عمله، صبوراً غاية الصبر فيه؛ وكان اسمه شيجا وكان عمله ملاحظة هذه الفئران وقص قطع من أطراف ذيولها ليأتي منها بنقطة من الدم يبحث فيها عن التريبنسومات، أو قص قطع أخرى من نفس الذيول ليأتي منها بنقطة دم يحقنها في دم الفأر السليم التالي وهلم جرا - واختصاراً كان واجبه أن يقوم بكل الأعمال الثقيلة الطويلة التي لا ينهض بها إلا جهد الياباني وصبره. وجاءت التريبنسومات اللعينة إليه أولا من معمل بستور بباريس في خنزير غيني حق عليه الفناء. ومن هذا الخنزير أخذها وحقنها في أول فأر، ومن ثم بدأ الطراد
وجربوا في هذه الفئران نحوا من خمسمائة صبغة! تجارب اعتباط وخبطات عشواء لا تمت بسبب إلى الأسلوب العلمي، ولكن هكذا كان إرليش في بحثه. كان كأنه البحار الأول يبحث بين أخشاب الشجر عن أوفقها لصناعة مجاذيفه. كان كالحداد الأول ينكش معادن الأرض يتحرى أنسبها لسبك سيوفه. كانت في اختصار طريقة بدائية هي أقدم طرق الإنسان للوصول إلى المعرفة، طريقة المحاولة الطويلة والعرق الكثير في سبيلها. وتقسماها بينهما، فقام إرليش بالمحاولة الطويلة، وقام شيجا بالعرق الكثير. وتلونت أجسام(202/62)
الفئران ألوانا كثيرة، فمن الأحمر ومن الأصفر ومن الزرق، ولكن التريبنسومات اللعينة تكاثرت وازدحمت ورقصت في دمائها ثم قتلت الفئران جميعا مائة في المائة
وزاد إرليش في سجائره الأجنبية الغالية تدخينا، حتى في الليل كان يقوم ليدخن منها. وزاد شربه المياه المعدنية. وقذف بالكتب إلى رأس قدريت المسكين، وعلم الله ما كان مثله ليلام على جهله السبب في أن هذه الأصباغ لا تقتل هذه المكروبات. ونطق إرليش باللاتينية جملا رنانة، وابتدع أغرب النظريات يشرح بها ما ينتظر من هذه الأصباغ أن تفعله، وابتدع منها أعدادا لم يسبقه باحث إلى ابتداع مثلها من نظريات كلها خاطئة. ولكن في عام 1903 جاءت إحدى هذه النظريات الخاطئة تأخذه بيده فتهديه سواء السبيل
فذات يوم كان إرليش يمتحن ما تصنع أصباغ فصيلة البنزو بربورين - في الفئران، وهي أصباغ معقدة التركيب جملة، فوجد أن الفئران لا تحفل بها وتموت في تواصل مسئم لا انقطاع فيه. فتقطب جبين إرليش وقد كان مقطبا خلقة من هموم عشرين عاما لم يجد فيها النجاح إلى أعماله سبيلا. فقال لشيجا: -
(إن هذه الصبغة لا تنتشر إنتشارا مرضيا في جسم هذا الفأر، فلو أننا يا عزيزي شيجا غيرنا تركيب هذه الصبغة قليلا؛ لو أننا ومثلا أضفنا إلى جزيئها المجموعة الكبريتيه - فلعلها عندئذ تذوب في دم هذا الفأر وتنتشر بذلك فيه. وتقطب جبين إرليش ولم تكن يد إرليش بيد الكيميائي الصناع، ولكن رأسه كان مستودعا عظيماً ودائرة معارف واسعة لعلم الكيمياء. . وكره الأجهزة المركبة بمقدار ما أحب النظريات المعقدة. ذلك أن لم يكن يدري ماذا يصنع بالأجهزة. وإذا هو تناول الكيمياء بيده فإنما يتناولها للهو تناول اللاعب في الماء يخوض في الشاطئ الضحل ويخشى التعمق فالغرق. يبدأ ألف بدء بألف تجربة في أنابيب اختباره، فيلقي من هذه المادة على هذه، ومن هذه على تلك، وينظر ما أثر هذا في تغيير لون الصبغة؛ ثم هو يخرج متدفعا من معمله ليرى أول شخص يلقاه جمال ما وجد، ملوحا بالأنبوبة في وجهه صارخا فيه: (أنظر أي جمال! أنظر أي بدع!). أما التركيب الكيماوي الدقيق وخلق المواد الكيماوية بعضها من بعض فعمل لم يكن له إلا أساتذة الكيمياء وأبطالها.
وصاح إرليش: (لابد من تغيير تركيب هذه الصبغة قليلا، وإذن تنفع حيث لم تنفع من(202/63)
قبل!) وكان كما تعلم رجلا مفراحا ممراحاً، وكان من أظرف الرجال واحبهم إلى الناس، فلم يلبث أن عاد من مصنع الأصباغ القريب وفي يده تلك الصبغة المذكورة وقد ألصقوا بجزيئها المجموعة الكبريتية المطلوبة فتغير تركيبها التغير (القليل) المطلوب
وضرب شيجا بمحقنه تحت جلد فأرين يطلق فيها تريبنسومات داء الورك. ومضى يوم؛ ثم أعقبه يومان، فأخذت عيون الفأرين تلتحم جفونها بهلام الموت، وقف شعرهما وتعامد هلعا من الفناء المنذر، ولم يبق إلا يوم واحد حتى ينتهي أمرهما جميعا. . . ولكن صبرا! فتحت جلد أحدهما ضرب شيجا محقنه يطلق في جسمه تلك الصبغة الجديدة الحمراء التي تغير تركيبها (قليلا). وشهد إرليش ما صنع شيجا، واخذ يتمتم ويدمدم ويقيس الأرض بخطى ذاهبة آيبة، ويضرب بيديه ورجليه. وما هي إلا دقائق حتى أخذت إذنا هذا الفأر تحمران وانفتحت عيناه بعد انغلاق، وأخذ بياضهما يستحيل إلى لون الورد فيزيد في احمراره على حمرة إنسانيهما. هذا يوم إرليش الأسعد. هذا اليوم الذي خبأته له الأقدار طويلا وخبأت فيه مجده. فتلك التريبنسومات ذابت بدم الفأر ذوبانا في وجه هذه الصبغة كما ذوب ثلج الأرض إذا طلعت عليه شمس إبريل الدافئة. تساقطت كل هذه المكروبات واحدة بعد واحدة حتى أخيرة الوحدات، أسقطتها تلك الصبغة المسمومة، تلك الرصاصة المسحورة التي طلبها طويلا حتى وجدها أخيرا. والفأر ماذا كان منه؟ انفتحت عيناه بعد انغلاقها وأخذ يجوس بمنخره في سقاطة الخشب بقاع قفصه حتى جاء يتشمم جثة زميله الذي لم يعالج بالصبغة وقد ارتمت هامدة باردة يرثى لها.
هذا أول فأر على ظهر هذه الأرض نجا من شِرّة هذا المكروب. أنجاه إرليش بفضل المثابرة والحظ، وبفضل الله، وبفضل صبغة أسموها (أحمر التريبان وأما اسمها الكيماوي فيطول. كثيرا وما أنجاه حتى زاد جرأة على جرأته، وزادت أحلام هذا اليهودي الألماني توثبا. قال يحلم: (ها قد وجدت صبغة تشفي فأرا فلأجدنّ أخرى تشفي ألف ألف رجل)
ولم يتحقق رجاؤه بالسرعة التي تمنى، واستمر شيجا يضرب أحمر التريبان في أجسام الفيران في جلد شنيع، فشفيت بعضها وساء حال بعضها. وقد يظهر على أحدها أنه برئ فيلعب ويمرح في قفصه، ثم يمضي عليه ستون يوماً فيطلع عليه الصباح بسوء المزاج، فيأتي شيجا فيقص قطعة من ذيله ثم يدعو إرليش ليريه المكروب الحي الفظيع وقد كثر في(202/64)
دم الفأر حتى تلبد. ما افظع هذه التريبنسومات، وما اخدعها وما أصلب عودها! إن كل المكروبات الفظيعة عودها صليب؛ وإنك لواجد هذا المكروب أصلب المكروبات عوداً. وكيف لا وهذا هو قد اجتمع عليه ألماني وياباني فقذفاه بتلك الصبغة الزاهية فلعقها واستمرأها. وقد يتراجع عنها في حذر وتبصر وينتحي لنفسه منجى عن السوء في بعض نواحي الفأر ولكنه يتربص الفرص ليخرج ويتكاثر مرة أخرى.
فأرليش لم يكد يستمتع بنجاحه الأول القليل حتى توالت عليه ألف خيبة وخيبة.
فالتريبنسوم الذي وجد داود بروس أنه سبب مرض الناجانا وكذلك التريبنسوم الذي يسبب مرض النوم كلاهما برقا لأحمر التريبان وهزءا منه وضحكا عليه وأبيا كل الإباء أن يقرباه، كذلك وجد إرليش أن الصبغة التي نجحت نجاحاً باهراً في الفيران، أخفقت كل الإخفاق لما جربت في الفيران البيضاء والخنازير الغينية والكلاب. له الله ما كان أكثر جلده على مشقة مثل هذا العمل الطويل المسئم الذي لم يكن لينهض به إلا رجل ملحاح مثله رأى بشائر النجاح في شفاء فأر واحد فتشبث بأن النجاح سوف يأتي كله ولو امتد به الزمن واشتد عليه العمل.
إنك لو عرفت كم قتل إرليش من الحيوانات في تجاربه لقلت: (يا خسارتها)، وأنا مثلك كنت شديد الإيمان بالعلم معتزاً به وبسرعة إنتاجه اعتزازاً بلغ حد الغرور والغباء، فكنت مثلك أقولك: (يا خسارتها). ولكن لا. أو أن شئت فقل إنها خسارة كبرى، ولكن اعلم إلى جانب هذا أن الطبيعة ذاتها كثيراً ما تجود بأبرع أنتجتها ولكن بعد أن تبذل وتسرف في البذل في سبيلها عن سعة عظمى. ومع هذا فلابد أن تذكر أن إرليش تعلم من هذه الخسارة درساً قيما: هات صبغة لا نفع فيها إلا ازدهاؤها وجمالها، وغير تركيبها الكيماوي قليلا، تستحل إلى دواء ذي شفاء. فهذا الدرس نفع إرليش وملأه بالثقة وهو الواثق المعتز بنفسه دائماً أبدا
وزاد معمله على الزمن اتساعاً، وزاد نصيبه من محبة الناس واحترامهم. واعتقد أهل المدينة فيه العلم وفهم كل خفية من خفاياه وحل كل طلسم من طلاسم الطبيعة. وعلموا فيه النسيان فأحبوه لهذا النسيان. وتحدثوا فيما تحدثوا أن السيد الأستاذ الدكتور إرليش كان يعلم من نفسه النسيان، فتحين أحيان الأفراح في بيته فيضرب لها الموعد للاحتفال بها، فيخشى(202/65)
أن ينسى المواعيد فيكتب لنفسه بنفسه خطابات في البريد يذكر نفسه بها. قالوا: (ما اسماه إنساناً!). وقال الحوذيون الذين اعتادوا حمله كل يوم إلى معمله: (ما أعمقه مفكراً) وقال لاعب الأرغون في الشارع، وكان إرليش يتحفه بالحلوان الطيب كل أسبوع ليضرب له بموسيقى الرقص في البستان بجوار معمله. قال: (لابد أن هذا الرجل عبقري!). وكان إرليش يكره الأرستقراطية في الموسيقى والآداب والفنون، ويرى أن موسيقى الرقص تدر عليه أحسن أفكار. وقال أهل المدينة الأخيار: (ما أكثر ديمقراطيته في الحياة إذا هي قورنت بأرستقراطيته في العلم،) وسموا شارعاً باسمه في فرنكفورت. ولم يبلغ سن الكبر حتى قالوا فيه ما قالت أساطير الأولين
ثم عبده أثرياء القوم. وفي عام 1906 نزل عليه السعد من السماء، فوهبته امرأة تدعى فرنسسكا إسباير وكانت أرملة لصاحب مصرف ثري مبلغاً عظيما من المال ليبني معملا يسميه (جورج إسباير)، وليشتري حاجته من الأدوات الزجاجية والفئران، وحاجته من حذاق الكيمائيين الذين يستطيعون بتلويحة يد أن يخلقوا كل صبغة حبيبة إليه، وان يركبوا كل العقاقير الكيمائية التي يركبها هو تخطيطاً على الورق ولولا هذه الهبة من هذه السيدة ما استطاع إرليش أن يصنع رصاصاته المسحورة أبداً، فلصنعها احتاج إلى مجهود هذا المعمل الكبير، هذا المصنع المليء بالبحاث وفي هذا البيت ترأس إرليش على بحاث كيمائيين وسادة مكروبيين فكان كرئيس شركة تخرج في اليوم آلاف السيارات، ولكنه في الواقع كان رئيساً عتيق الطريقة فلم يجر على أسلوب رؤساء الشركات الحدثين من دق الأجراس وإصدار الأوامر من كرسيه في حجرة الرياسة. بل كان دائم الحركة جوالا يدخل في هذا المعمل، ثم في هذا، ثم هذا، في كل وقت من أوقات النهار، ينظر ما يصنع أعوانه بل أرقاؤه وعبيده لكثرة ما يهيل عليهم من الأعمال. يدخل إلى هذا فيوبخه، ويدخل إلى هذا فيلاطفه ويربت على ظهره، ثم آخر يحكي له عن أخطاء صارخة آتاها هو نفسه من قبل
(يتبع)
أحمد زكي(202/66)
رسالة الفن
ليوناردو دافينشي
الرجل الكامل
للدكتور أحمد موسى
- 1 -
من أزهى عصور الفن في أوربا عصر الرفعة الإيطالية الذي اتجه فيه الفن منذ بدء القرن السادس عشر اتجاهاً مثلياً سواء في التحت أو التصوير.
وكان الميل كله منصبا على التعبير عن المثل الأعلى في النحت، وكان العطش نحو الكمال الفني بالغاً أشده، الأمر الذي ترتب عليه اتجاه الفنانين إلى الجمع بين الجمال السامي وبين المشاهد الحية:
فعمل الفنانون العارفون على دراسة الفن الإغريقي والتبحر فيه والغوص إلى أعماقه، مستلهمين منه الوحي، ساعين وراء درره الفذة، التي لولاها لما أمكن وصول الفن في عصر الأحياء إلى ما وصل إليه، مما يحار المشاهد في تعليل المقدرة الهائلة التي ذهبت به إلى هذه الناحية العالية، التي كانت ولا تزال رمزاً يتجه إليه الفنانون والعاشقون بكليتهم وبوجدانهم.
وعلى ذلك لا مناص من اعتبار عصر الرفعة عصر إحياء للفن الكلاسيكي في جوهره، واقتباس منه في مظهره، ورجوع إليه في أساسه، واستلهام منه في خياله.
ويرى المشاهد لما تركه أساطين الفن في القرن السادس عشر بإيطاليا، أن الغاية كانت الوصول إلى أسمى واكمل تكوين كلي، وأرفع وأجمل مجموع إنشائي، كما يلاحظ أن التصوير الزيتي أصبح تصويراً تاريخيا أكثر منه اجتماعيا أو منظرياً.
ولم يفز بدرجة الوصول في القرن السادس عشر إلا ثلاثة هم: ليوناردو، وميكيلانجلو، ورفائيل.
وإذا كنا قد تخيرنا اليوم ليوناردو دافينشي، فإن ذلك راجع إلى أنه المؤسس لهذا الاتجاه(202/67)
العظيم. فكان بذلك النابغة الفذ، الذي لم يماثله في نبوغه أحد من معاصريه، فقد جمع إلى القدرة الفنية، الإحاطة بالهندسة والرياضة والعلوم الطبيعية والميكانيكا التطبيقية والموسيقى والشعر، كما كان مهندساً معمارياً قديراً ومثالا ومصوراً.
وعرف عنه أنه كان جميل الخلق جميل الطلعة نبيل الأصل، فلا غرابة إذا أطلق عليه المؤرخون (الرجل الكامل. كتب في كثير من الأبحاث، وله فيها آثار جليلة، من أهمها لتاريخ الفن كتاباه البديعان (قواعد علم التصوير)، و (الصناعة والجمال). ولكن جوهر حياته، وأعظم ما أنتج ووصل إلى الذروة فيه كان التصوير الذي اتخذه مهنة له عاش من أجله لتأدية رسالته فيه.
أما مميزاته الفنية فكانت المعرفة والمقدرة والخلق إلى أبعد حدود معانيها كلها. أما المعرفة فقد وصل فيها إلى حدود الدهشة فأحاط بالطبيعة إحاطة غريبة، لاسيما إلمامه بطبيعة الإنسان من الناحية التشريحية والفسيوجنومية، أعن ما يفهم من إشارات الأيدي وأوضاعها، وما تعبر عنه كل إشارة وما يقصد بكل وضع لها، ودرس حياة الحيوان وحياة النبات، وأخيرا المناظر الطبيعية الشاملة لكليهما، فضلا عن محبته العظيمة للحيوانات، ورغبته البالغة في مراقبتها ودراستها.
كان له الفضل في تأسيس منهج جديد في التصوير فجعله نابضا بالحياة، كما خلق فيه الظل والنور الممزوجين كالدخان فخلا كلاهما من خطوط التحديد، وأصبح النور مندمجاً في الظل متداخلا فيه لا يستطيع الناظر إليه أن يحدد موضع الفصل بينهما.
ووصل بتسجيله للواقع إلى أبدع ما يمكن الوصول إليه وهو المثل الأعلى في الجمال، وكان التكوين الكلاسيكي مذهبه، كما كان الانسجام روح هذا المذهب.
وتوفر معنى الأستاذية في الإنشاء الموضوعي لكل لوحاته، لعمق بحثه، ورقة تأثره، وبعده عن العنف التكويني إلا في بعض لوحاته التي أصدرها في المرحلة الأخيرة من حياته، فخلق بريشته شعراً منثوراً، يذهب بالمشاهد إلى استماع العاشق بالقرب عن معشوقه، كما لا يحرم المعشوق من كل معاني المديح والإطراء، فتراه يظهر أجسام النساء جميلة صحيحة منسجمة التكوين بعيدة عن التكلف أو التعمد.
ولد ليوناردو سنة 1452 في فيلا فينشي في حدود مقاطعة فيرنزا (فلورنسا)، جاء صغيرا(202/68)
مع أبيه بيرو دافينشي إلى فلورنسا العاصمة، وتربى تربية علمية إلى أن التحق بالعمل عند اندريا فيروتشيو، واستمر لديه حتى سافر إلى روما في مارس سنة 1480، وأقام فيها إلى يوليو سنة 1481 ثم عاد إلى فلورنسا.
على أن لوحات ليوناردو الأولى ليست معروفة كلها، وقد أحاط بها شيء من الغموض لا يمكننا من تناولها جميعها بالفحص الوصف. ولكن هذا لا يمنع من أن نذكر أهم لوحتين له في مرحلته الفنية الأولى، وكلتاهما تمثل (التبشير)، توجد الأولى باللوفر ومؤرخة سنة 1470، والثانية بالجاليري أو في فيتزي بفلورنسا مؤرخة سنة 1472، وفيها ترى العذراء جالسة إلى مدخل بيتها وعلى يسار اللوحة ركع ملاك يبشرها بالمسيح، وفي مؤخر المنظر مجموعة أشجار ذات لون طبيعي جميل.
وله أيضاً جزء من لوحة معلمه فيروتشيو (تعميد المسيح)، قام ليوناردو بتصوير الملاك عليها، وهي محفوظة بأكاديمي فلورنسا وصورة العذراء مع الطفل (متحف ميونيخ) 1478، وقيامة المسيح مع القديس ليوناردو والقديسة لوتشيا (جاليري برلين) وصلاة الملوك الثلاثة للمسيح، وهي صورة لهيكل كنيسة عملت لوضع الفكرة والتصميم باللون الأسمر (جاليري الفاتيكان). ولعل آخر صورتين للمرحلة الأولى في خلقه الفني هما الصورتان المتشابهتان اسما وموضوعا (الماذونا في المغامرة)، الأولى من ناسيونال جاليري بلندن والثانية ش1 - باللوفر. والناظر إلى هذه اللوحة تأخذه لأول وهلة روعة القوة الإنسانية، وإحاطة ليوناردو بالمظاهر الطبيعية والتأثر بها؛ فالمغامرة الجميلة مجسمة صادقة المحاكاة، وأوراق الشجر حية دقيقة التفاصيل، هذا إلى جانب تصويره لطبقات الأرض على شاطئ الغدير فجعلها تحاكي النظرية الجيولوجية محاكاة علمية.
انظر إلى ركعة العذراء، وإلى الطهارة المتجلية في ملامح وجهها، ثم تأمل قوة الإخراج الرائعة لملابسها، وشاهد الظل والنور الذي تخلل انكسار هذه الملابس، ولاحظ الطريقة الفذة التي أخرج بها اليد اليسرى للعذراء وهي تشير للملاك، ثم تأمل إلى جانب هذا، الحنان الفائق الذي يتمثل في الكيفية التي أمسكت العذراء بها الطفل الجالس إلى يمينها.
وقف الملاك راكعا خلف المسيح الطفل يشير بيمناه إلى طفل آخر يصلي أمامه، والمتأمل لوجه الملاك لا يستطيع إلا أن يرى فيه سحرا يبعث في النفس كل معاني التقديس(202/69)
للملائكة، ولعلك إذا قارنت بين نظرة العذراء إلى اسفل، ونظرة الملاك إلى المشاهد ترى أنك لا تعرف أيهما أروع، فأنت تحار في هذه القوة الخارقة التي وهبها ليوناردو والتي لم تكن لغيره من معاصريه.
انظر إلى اللوحة نظرة محيطة، واجتهد أن تتذوق ما فيها من تفاصيل، وارجع بفكرك إلى علم النبات، تر أن الفنان قد أعطانا فكرة رائعة عن جمال الأشجار من كبيرة وصغيرة، تأمل أوراق الشجر تر أنها كلها مع صدقها في محاكاة الطبيعة مختلفة التكوين والشكل، وهذا دليل على التفوق والإحاطة
(له بقية)
أحمد موسى(202/70)
البريد الأدبي
الفن المصري في حاجة إلى الرعاية
ارتفع صوت الفنانين المصريين بالشكوى من موقف الحكومة معهم وضنها عليهم بالتشجيع والرعاية. بينما هي لا تضن بتشجيعها ورعايتها على الفنانين الأجانب الذين يهبطون مصر ويجدون فيها سبيل العيش خصبا موفورا في ظل هذه الرعاية. وفي مصر الآن طائفة لا بأس بها من الشباب الذين برعوا في الفنون الجميلة وتلقوها في أحسن المعاهد الأوربية، وقد ظهرت هذه البراعة ماثلة في كثير من المعارض التي عرضت فيها صور وتماثيل من صنع الشباب المصري؛ ولكن الحكومة المصرية أو بالحري وزارة المعارف لم تحفل كثيرا بمجهود أولئك الفنانين الشبان، وقلما عنيت بشهود معارضهم، بينما لا تتوانى عن شهود معارض الفنانين الأجانب سواء بحضور الوزير ذاته أو بعض أكابر الموظفين، أو شراء بعض اللوحات والقطع المعروضة. ومنذ أعوام قلائل أنشأ الفنانون المصريون لهم رابطة لتعنى بشؤونهم، فلم تولها الجهات الرسمية أية رعاية، ولم تتكرم عليها بأية معاونة. وهذه سياسة تحمل على التساؤل. ونحن لا نأخذ على وزارة المعارف أنها تشجع الفن والفنانين من أي الجنسيات؛ ولكن الذي يحز في نفس كل مصري أن يبقى هذا التشجيع كأنه وقف على الفنانين الأجانب؛ وأن يترك الفنانون المصريون بلا رعاية رسمية تذكي عمهم وتحقق أمانيهم. وقد آن الوقت الذي يحسن أن تعدل فيه وزارة المعارف خطتها، وأن تشمل الفنانين المصريين بسابغ رعايتها
مؤتمر القلم الدولي وبرنامجه:
يعقد المؤتمر الدولي الخامس عشر لاتحاد نوادي القلم في باريس في يوم الأحد 20 يونيه، ويستمر انعقاده إلى الرابع والعشرين وتقام حفلة الافتتاح في معهد التعاون العقلي، ويشمل البرنامج عدة حفلات واستقبالات ومآدب منها حفلة استقبال يقيمها رئيس الجمهورية للمندوبين، وحفلة ساهرة تقام في الكوميدي فرانسيز، وزيارات لمعالم باريس وفرساي، وحضور اللوار، ومعرض باريس الدولي. ويشمل برنامج العمل فضلا عن بحث الاقتراحات المختلفة مناقشة عدة مسائل أدبية هامة منها:
(1) هل يوجد أسلوب معاصر للأدب العالمي؟(202/71)
(2) كيف يمكن التوصل إلى جعل الثقافة عالمية بغير طريق الترجمة؟
(3) وكيف يمكن تنظيم التبادل في مسألة العقد الأدبي بين مختلف الأمم وإنشاء نقد أدبي دولي؟
(4) الوسائل التي يمكن بحثها للتعبير المشترك في أدب الجيل الحاضر والمستقبل.
(5) مستقبل الشعر في العالم الحديث.
وسينزل المندوبون ضيوفاً على لجنة تنظيم المؤتمر أيام المؤتمر الرسمية. وقد سبق أن أشرنا إلى أن نادي القلم المصري سيشترك في هذا المؤتمر على يد وفد من أعضائه برياسة الدكتور طه حسين بك عميد كلية الآداب، وقد ينتهز ممثلو مصر هذه الفرصة فيقدمون الدعوة إلى لجنة تنظيم المؤتمر بعقد أحد المؤتمرات لا قريبة المقبلة لنوادي القلم بمدينة القاهرة؛ على أن ذلك لا يمكن أن يكون قبل سنة 1940.
استعمار المناطق القطبية
لفتت روسيا السوفياتية في الأعوام الأخيرة أنظار العالم بالجهود الجبارة التي تقوم بها في سبيل إصلاح المناطق القطبية واستثمارها وتعميرها. والمناطق القطبية كما هو معروف بسائط شاسعة لا نهائية من الجليد، وتكاد تكون قفراً من البشر. وروسيا تسيطر على مساحات عظيمة من هذه المناطق سواء في سيبيريا أو في الجزر الشمالية القطبية مثل نوفازمبلا وستبزبرجن. وقد صدر أخيراً كتاب عجيب عن الجهود التي تبذلها روسيا لتعمير هذه الوهاد الثلجية الهائلة، وفيه بحوث هامة عن (المعهد القطبي) الذي أقامته الحكومة الروسية في لنتجراد وزودته بجمع عظيم من العلماء في مختلف الفروع التي تعاون على تحقيق هذه المهمة الاستعمارية العظيمة مثل الجيولوجيا والمترولوجيا والكيميا وعلوم المحيط واليولوجيا والتحليلات وغيرها. وعدد هؤلاء الأخصائيين ثلاثمائة وخمسون، وهم يبذلون جهوداً تدعو إلى الإعجاب في الكشف عن أسرار هذه الأنحاء القطبية. وعنوان الكتاب المذكور هو: (أربعون ألفاً ضد المحيط المتجمد) ومؤلفه كاتب خبير بشئون روسيا هو هوسمولكا. وقد يتعرض المؤلف جهود روسيا في سبيل اكتشاف المناطق القطبية وتعميرها، وذكر أن هذه المهمة تكاد تكون اليوم وقفاً على روسيا؛ وروسيا تقوم فيها بأعظم قسط من الجهود الإنسانية وربما كانت جهودها في ذلك أعظم ما قدمته في(202/72)
العصر الأخير للعالم وللإنسانية. ويصف الكاتب أعاجيب (المعهد القطبي) وجهود علمائه وما وفقوا إليه من الاكتشافات العلمية والعمرانية، كل ذلك في فصول قوية شائقة بما تحويه من مختلف المعلومات الغربية عن الحياة في تلك الأصقاع المتجمدة
جوائز أدبية أمريكية
من أنباء نيويورك أن جائزة الأدب الكبرى المعروفة بجائزة (بولتزر) وقدرها ألف دولار (مائتا جنية)، وهي المخصصة لأحسن رواية، تصدر في العام قد منحت بواسطة جامعة كولومبيا التي تتولى أمرها، إلى الكاتبة الأمريكية مس مرجريت متشل من أجل روايتها (ذهبت مع الريح) التي بيع منها في أقل من عام نحو مليون ونصف نسخة
ومنحت نفس الجائزة عن أحسن قطعة مسرحية تصدر في العام إلى الكاتبين المسرحيين جورج كاوفجان وموسى هارت من أجل مسرحيتيهما (لن تستطيع أخذها معك)، وهي تمثل الآن على جميع المسارح الأمريكية الكبرى
ومنحت جائزة (بولتزر) أيضاً عن الصحافة لمستر جون ومن محرر جريدة (شمس بلتيمور) لأنه نشر أبدع مقال افتتاحي في سنة 1936
بحث عن البغاء
صدر أخيراً في فرنسا كتاب اجتماعي خطير عنوانه (بحث عن البغاء) بقلم الكاتب الكبير جان جوسي فرابا، وهو عبارة عن صور قوية مؤثرة مما شهد الكاتب وبحث بنفسه سواء في أماكن البغاء العلنية، أو في الشارع، أو في المنازل السرية الرفيعة، أو في أوكار البؤس المروعة. وقد قضى الكاتب في بحثه أعواما يجوس فيها أعماق باريس، ويحقق حالها الاجتماعية الخطيرة، وهو يتوجه فيه بالدعوة الحارة إلى الحكومة والبرلمان والأمة الفرنسية أن يعملوا جميعا لإنقاذ الإنسانية من هذا الوباء الاجتماعي الجارف وقد أثار الكتاب منذ ظهوره كثيراً من الاهتمام.
موقع طروادة
لبثت إلياذة هوميروس حتى العصر الحديث تعتبر قطعة من الخيال المحض، ولبثت مدينة طروادة التي اتخذت مسرحا لحوادث الإلياذة مدينة خيالية؛ ولكن مباحث العلامة الأثري(202/73)
شليمان في منطقة (حصارلك) في غرب الأناضول كشفت عن موقع مدينة مسورة، عليها آثار الغنى والفخامة، ودلائل تدل على أنها احرقت؛ فقيل عندئذ أن هذه ليست سوى مدينة طروادة، وأن هوميروس حينما تحدث عن حصار طروادة حديثه الرائع لم يكن يروي سوى واقعة تاريخية؛ وحاول كثير من العلماء أن يطبقوا أوصاف الإلياذة على المدينة المكتشفة؛ بيد أن الحفر المتواصل في هذه المنطقة كشف عن سبع مدائن قديمة. فأيها في الواقع طروادة؟ ولاحظ بعض العلماء من جهة أخرى أن هذه المدن المتواضعة لا تتناسب مع الأوصاف الرائعة التي يسبغها الشاعر على (طروادة). وقد ظهر أخيراً كتاب بالفرنسية عنوانه (الجدل حول طروادة). بقلم العلامة الفرنسي شارل فلاي، يستعرض فيه مختلف الفروض والنظريات التي تنطبق على طروادة وظروفها. ذلك أن المعروف أن طروادة قد خربت وأبيدت، فكيف يرجو المنقبون أن يقفوا على أطلالها كاملة؟ ومن جهة أخرى فليس من المحقق أن هوميروس كتب عن علم دقيق بالجغرافيا والمواقع، وقد يكون للخيال شأن كبير في الأوصاف التي يقدمها ألينا عن المدينة الشهيرة، ويحاول المؤلف أن يناقش هذه الآراء كلها، وأن يستخلص أوضح النتائج التي تؤيدها الأسانيد التاريخية والجغرافية والأثرية عن موقع طروادة، وعن مصايرها منذ التاريخ القديم
الخطابات الغفل
ذاع في العهد الأخير في فرنسا توجيه الخطابات القاذفة الغفل من التوقيع، وضبطت لهذه الخطابات عدة وقائع رنانة؛ وكتب الكتاب والعلماء بهذه المناسبة يبحثون عن أعراض هذه العلة وأسبابها؛ ويقول الدكتور لوكار في مقال نشرته جريدة الجورنال الباريسية أن كتابة الخطابات الغفل ترجع إلى بواعث ثلاثة هي المصلحة والانتقام والحسد، فهذه البواعث الثلاثة هي التي تحمل الشخص العاقل على عدم توقيع ما يكتبه. بيد أن هناك أشخاصا تنتابهم أزمات عقلية وعصبية معينة فيكتبون مئات الخطابات الغفل، وهنا تبدأ أعراض المرض ذلك لأن شهوة الخطابات الغفل مرض حقيقي؛ وربما كانت أهم أسبابه راجعة إلى عوامل جنسية، ومن النادر أن تجد الخطابات الغفل مكتوبة باتزان أو لغة محتشمة، فهي في الغالب مصوغة في لهجة فاحشة. ولكنها تدل أيضاً على جهل كاتبيها بهذه الصيغ القاذفة لأنهم في الواقع ينتمون إلى بيئة رفيعة.(202/74)
وكثير من العذارى اللائي تقدمن في السن. أو أرهقهن الضغط الاجتماعي يجدن متنفسا في كتابة الخطابات الغفل؛ وقلما تصدر هذه الخطابات من شخص - رجل أو امرأة - يتمتع بحياة جنسية منتظمة
ومن خواص كاتب الخطاب الغفل إلا يعترف أبداً. وكثير من النساء يضبطن وهن متلبسات بالكتابة ومع ذلك ينكرن عملهن.
والخلاصة أن شهوة الخطابات الغفل مرض؛ والمصاب بها يمكن أن يعتبر شخصا غير عادي إذا لم يكن مجنونا في الواقع(202/75)
رسالة النقد
إسماعيل المفترى عليه
تأليف القاضي بيير كربتيس
وترجمة الأستاذ فؤاد صروف
للأستاذ الغنيمي
- 5 -
نستطيع أن نفهم أن المترجم قد يخطئ في عبارة صعبة غامضة المعنى، ولكن الذي لا نستطيع أن نفهمه أن يعمد المترجم إلى عبارة سهلة واضحة المعنى فيستبدل بمعناها معنى آخر من عنده بعيد كل البعد عن المعنى المراد
(1) أنظر إلى قول المؤلف عن موقف إسماعيل من السخرة
'
فهل في هذه العبارة غموض يجيز للأستاذ صروف أن يترجمها بقوله: (إن موقف إسماعيل بازاء السخرة لم يكن يقصد منه التظاهر) من أين جاء الأستاذ بالتظاهر. أن المعنى الذي لا يخفى على إنسان هو لم يقف إسماعيل موقفه من السخرة لفكرة عارضة زائلة)
(2) ومن هذا النوع أيضاً العبارة الآتية التي تبين الأثر الذي انطبع في ذهن إسماعيل حين رأى صمويل بيكر لأول مرة
والتي ترجمها الأستاذ صروف بهذه العبارة الغامضة (وقع عنده موقعا حسناً) فأين ذلك من قول المؤلف أن إسماعيل قد اعجب بشخصيته القوية أو أثرت فيه شخصيته القوية
(3) ولا يختلف عن ذلك ما ترجم به الأستاذ صروف وصف المؤلف لحملة بيكر الذي يقول فيه
فقد ترجمه الأستاذ صروف بقوله (أنها كانت عملا ذا شان خطير) أما سبب هذا الخطر(202/76)
وهو طبيعتها وصفتها الرسمية فلم يعن المترجم بيانه كما بينه المؤلف
(4) ومن العبارات التي أغفلها المترجم قول المؤلف في موقف إسماعيل من السير صمويل بيكر
, ' ;
وكل هذه معان لها قيمتها لم يذكرها المؤلف عبثاً، وليس فيها شيء من الصعوبة، ولكن الأستاذ حذفها كلها
(5) وترجم الأستاذ عبارة بقوله التجارة المنظمة مع أن معناها التجارة المشروعة؛ والفرق بين المعنيين كبير لأن النخاسة قد تكون تجارة منظمة. أما التجارة المشروعة أو المباحة فلا يمكن أن تشمل تجارة الرقيق
(7) ثم لينظر القارئ معنا إلى هذه العبارة التي يصف بها المؤلف عمل المراجعين الذين جاءوا لفحص حسابات إسماعيل
; ; ; ; ; , ;
ولينظر بعد ذلك إلى ترجمة الأستاذ صروف التي يقول فيها (إن فاحصي الحسابات (المراجعون) لا يهمهم عادة إلا فحص ما يقدم إليهم من سجلات ودفاتر ومن مستندات الديون التي هي للغير أو على الغير)
ونحن إذا تجاوزنا عن أسلوب هذه العبارة نرى أنها لم تؤد إلا جزءا يسيراً من معنى العبارة الإنجليزية. قد يكون في هذه العبارة الإنجليزية شيء من الصعوبة ولكن هذه الصعوبة هي محك القدرة على الترجمة وإلى الأستاذ ترجمة لهذه القطعة جامعة لكل ما فيها من المعاني:
(إن المحاسبين في العادة لا قلب لهم، وليس لهم شأن بإحساس الناس وعواطفهم، ولا يضعون نصب أعينهم إلا غرضا واحدا هو البحث والتدقيق، لا تأخذهم فيه هوادة. وكل ما يعنون به هو ما للشخص وما عليه سواء أكان ذلك حقيقة حاضرة أم تقديرا مستقبلا
(7) هل يصدق القارئ أن الأستاذ صروف قد ترجم
بقوله (قبل مغادرته السودان في مهمته الأولى) وهل يمكن أن لا يعرف الأستاذ صروف أن(202/77)
معناها (سافر إلى) لا غادر؟ وأين كانت مهمة غردون الأولى التي سافر إليها من السودان؟
إنا لا نكاد نصدق أن الأستاذ صروف قد ترجم هذه العبارة أو اطلع عليها وعلى الأصل بعد الترجمة
قال المؤلف في الأموال التي أنفقها إسماعيل في حرب الرقيق
فقلب الأستاذ صروف معنى هذه العبارة إذ قال: (ومع أن الاعتبارات المار ذكرها قد تسوغ إنفاق إسماعيل للمال الخ) مع أن الترجمة الصحيحة هي: وحتى لو كانت هذه الاعتبارات كلها تبرر إغفال الأموال التي أنفقها إسماعيل وتجيز محوها مسجل أعماله الأدبية الخ) وما اكبر الفرق بين المعنيين!
(8) وقال المؤلف في تقديره الأموال التي أنفقها إسماعيل في محارة النخاسة
فلم ير الأستاذ صروف أن يترجم هذه العبارة بأكثر من قوله (ولا يعزب عن البال) والأستاذ مولع بمثل هذه العبارة المبهمة فقد تكررت هي ولفظ (وعليه) أكثر من مرة بدل جمل طويلة ذات معان كثيرة في الأصل الإنجليزي
(10) ويقول القاضي كربيتس إن قناصل أوربا وأمريكا كانوا يجمون تجارة الرقيق، وأن السفن التي كانت تحمل العبيد كانت ترفع الراية الأمريكية ثم يقول بعد ذلك:
فقال الأستاذ صروف في ترجمتها إنهم كانوا بمأمن من تعرض قناصل أوربا وأمريكا) مع أن المعنى الحقيقي أن (قناصل أوربا وأمريكا كانوا يحمون هؤلاء التجار من أن يتعرض لهم أحد. ذكر المؤلف ذلك في الفقرة السابقة لهذه العبارة المنقولة من كتاب السير صمويل.
(9) هل سمع القارئ أن كلمة:
معناها (القرية المقصودة) هذا ما ترجمها به الأستاذ صروف بدل القرية الآمنة أو الغافلة عما يراد بها.
(10) وقال المؤلف عن العقد الذي كان بيكر وإسماعيل باشا(202/78)
أليس المعنى الذي يفهمه كل إنسان من هذه العبارة هو: ويلوح أن (السير صمويل بيكر) هو الذي كتب صورة العقد الذي يحدد علاقته بالوالي. لكن الأستاذ لم يفهمها كذلك بدليل أنه قال في ترجمتها (ويظهر أنه كان بينه وبين الخديو عقد لتنظيم علاقته به) وهذا ما لم يقله المؤلف، فإن وجود العقد لاشك فيه كما قال ذلك بصريح العبارة بعد سطر واحد من هذا الكلام ولكن الذي لم يتأكد منه هو أن كاتب هذا العقد هو السير صمويل بيكر.
(11) وقال المؤلف يصف صعوبة نقل المؤن والذخائر والسفن من مصر إلى السودان
-
فترجم الأستاذ صروف ذلك بقوله (كان يجب نقلها مسافات شاسعة جدا) وأين بقية المعاني؟ أين طرق نقلها - البواخر البحرية والقوارب النهرية وظهور الإبل؟
نكتفي بهذه الأغلاط من الفصل الخامس لننتقل إلى الفصل السادس لنبدأه بهذه الغلطة التي لا يصح أن يقع فيها مترجم.
(1) قال المؤلف عن الرجال الذين صحبوا بيكر في رحلته
, ,
أيدري القارئ ماذا قال الأستاذ صروف؟ قال: (أبطالها السير صمويل بيكر نفسه وابن أخيه واتباعه عبد القادر ومسلم ومنصور ورجل قبطي وطائفة من الاتباع والأنصار). أننا كلما أمعنا في قراءة الكتاب زادت شكوكنا في أن الأستاذ صروف قد ترجمه بنفسه أو اطلع على الترجمة، وإلا فهل كان يخفي عليه أن معنى العبارة هو: (أبطالها السير صمويل بيكر وابن أخيه وعبد القادر المسلم ومنصور القبطي وكل رجل من هذه الطائفة المصطفاة): قد يظن الأستاذ صروف أن الشولات تجيز له أن يفهمها كما فهمها ولكن ذلك ظن غير صحيح فعبد القادر هو المسلم ومنصور هو القبطي مهما وضع بينها من شولات
(1) وقال المؤلف في هذا المعنى نفسه:
فقال المترجم (لصوصها الذين تحولوا إلى الشهامة) وهي عبارة لا معنى لها ولا ندري لم لم يترجمها الأستاذ كما هي ليفهمها الناس فيقول (لصوصها الذين عدوا (أو اصبحوا) فيما(202/79)
بعد قديسين)
(3) وقال المؤلف يصف حفلة رفع العلم المصري على البلاد التي فتحها بيكر.
فقال الأستاذ صروف (ووقف الجنود بشكل ثلاث أضلاع من أضلاع مربع مستطيل) ولا ندري ما هو هذا المربع المستطيل ولا من أين جاء الأستاذ صروف بلفظ مستطيل التي أفسدت المعنى
(3) وقال إسماعيل في عهده إلى السير صمويل بيكر وهو ذاهب لمحاربة الرق
فقال الأستاذ صروف في ترجمة الجملة المنقولة عن وثيقة رسمية عظيمة القيمة: (فتجذب إليك القبائل) فأين هذا من معناها الحقيقي وهو أنك لا تلبث أن ترى الأهليين يستبدلون بعملهم المحرم عملا مشروعا)
(4) وقال المؤلف عن غردون وإسماعيل
ومعنى ذلك أنهما (من أشراف الإنجليز الذين يضنون بصداقتهما وثقتهما على أشرار الناس) ولكن الأستاذ صروف يترجم ذلك بقوله (وما كانا ليفرطا في صداقته)
(4) هل معنى (بعض الأرباح) أو معناها أرباحاً عظمية
(5) وقال المؤلف في معرض كلامه عن الضابط الأمريكيين الذين استخدمهم إسماعيل.
وهي عبارة معناها (لا توجد كتاب زرقاء تؤيد هذه الأقوال ولكن المترجم لسبب ما ترك هذه العبارة من غير ترجمة
(6) وقال إسماعيل في خطابه إلى رئيس الضباط الأمريكيين.
معناها أني أعتمد على حكمتك وإخلاصك وغيرتك) ولكن الأستاذ ظن أن مشتقة من لفظ فترجم العبارة كلها بقوله: (إني أعتمد على حبكم وإخلاصكم ومراعاتكم لشروط الكتمان) فغير بذلك المعنى وأفسد الأسلوب(202/80)
(7) وقال المؤلف يعلق على تعيين الجنرال استون رئيسا لهيئة أركان حرب الجيش المصري
. . .
وهي عبارة طويلة ترجمتها بالضبط (وكان لهذا التعيين معنى أبعد من مجرد! اختيار مت، ولورنج، وسيلي فجيش الوالي كان نحوي كثيرا من الضباط الأجانب. لقد كان اختيار هذا الضابط الأمريكي لذلك المنصب ثم اختيار عدد كبير من بني وطنه معه ذا معنى خاص. كان إيذانا بانقضاء عهد السيادة الفرنسية على مصر ولم يكن معناه أن إنجليزيا سكسونيا قد خلف غاليا (فرنسيا) أو أن الصقلي والتيوتوني قد ضعف آمرهما معا. لم يكن معناها ذلك بل كان معناه أن عهدا جديدا قد طلع على مصر وأن إسماعيل قد حرر بلاده من القيود الأجنبية واعتزم أن لا يكون لأحد سلطان عليه: نعم أنه استعان بالأمريكيين ولكن أحداً لا يجهل أن الولايات المتحدة لم يكن لها مطامع استعمارية في مصر أو في أفريقية
ثم انظر بعد ذلك إلى ترجمة الأستاذ (وكان لهذا التعيين مغزى ابعد من تعيين سائر الضباط الأجانب في جيش الخديو إذ كان نذيرا بانتهاء السيادة الفرنسية وببدء عهد جديد تتمتع فيه مصر باستقلالها ويصبح فيه الخديو سيد نفسه. ومما أعان على تحقيق ذلك ما يعرفه الخاص والعام من أن الولايات المتحدة كانت منزهة عن كل غرض استعماري أو غاية إمبريالستية في مصر وأفريقيا.)
لو أن الأستاذ كان يلخص الكتاب لجاز له أن يقول هذا القول على ما فيه من تغيير واختلاف عن قول المؤلف؛ أما الترجمة فلا يجوز فيها هذا. وقد حذفنا أصل هذه الفقرة الإنجليزي لأنه يشغل عمودا كاملا من الرسالة فليرجع إليه القارئ أن شاء ونؤكد له انه يطابق ترجمتنا مطابقة تامة
(8) هل يصدق القارئ أن الأستاذ صروف يقول (وفي وسعنا أن نخمن على تلك الأعمال) ترجمة لقول المؤلف.
الذي معناه (إننا نستطيع أن نتصور مجموع هذه المبالغ بوجه التقريب الخ)
ولنكتف بهذا القدر اليوم وموعدنا العدد القادم أن شاء الله(202/81)
الغنيمي(202/82)
العدد 203 - بتاريخ: 24 - 05 - 1937(/)
الرافعي
للدكتور عبد الوهاب عزام
(قال قائل: (مات سنائي!)
إن موت مثل هذا العظيم ليس خطباً أمماً. لم يكن تبنة ذهبت بها الريح، ولا كان ماء جمد في الزمهرير، ولا كان مشطاً كسرته شعرة، ولا كان حبة سحقتها الأرض؛ إنما كان كنزاً من الذهب في هذا التراب لا يزن العالمين بمثقال ذرة.
لقد رمي القالب الترابي إلى التراب، وحمل الروح والعقل إلى السموات)
ذكرت هذه الأبيات: أبيات جلال الدين الرومي حينما قرأت نعي الرافعي، واعجباً! أنضبت هذه النفس الفياضة؟ أذبل هذا الخلق النضير؟ أخمدت هذه الجذوة؟ أطفئ هذا المصباح؟ أكلت هذه العزيمة الماضية؟ أفترت هذه الهمة الدائبة؟ أأظلم هذا القلب الذي يملأ الدنيا ضياء؟ أوقف هذا الفكر السيار؟ أوقع هذا الخيال الطيار؟ أسكن هذا القلم المصور الذي يصبغ العالم كما يشاء، يضحكه ويبكيه، ويسخطه ويرضيه، والذي إذا شاء صور أحزانه مواسم، ورد أعياده مآتم؟
أمات الرافعي في وقدة جنانه، وشعلة بيانه، وعزة قلبه وسلطانه؟ أطوي القلب الذي وسع الدنيا وما وسعته، وحقرها وأكبرته؟
كلا كلا! إن مولد الحر في الدنيا قليل؛ وإن موت الحر مستحيل. إن مولد الحر تتمخض عنه الأجيال بعد عناء، ويمهد له الزمان بعد جهاد، ليولد على الأرض تاريخ أو فصل من تاريخ، فإذا انقضى عمله وجاء أجله فهو تاريخ لا يمحى، وذكرى لا تموت!
إن الحر ليولد على هذه الأرض كما يولد النجم في أطباق السماء فلا يزال وضّاء هادياً، أو كما يولد النهر في سفح الجبل فلا يفتأ جارياً ساقياً، أو كما تولد الحقيقة في أفكار البشر ثم لا تموت.
إن الحر الكريم قطرة صافية تستمد الله، فلا يحول عنها نوره؛ ولا يتحول عنها وحيه، وهي في خلق الله سنة لا تتبدل فلا تستعبد الحر الأهواء، ولا تذله المطامع؛ وهو يأبى على الحدود، وينفر من القيود، ويكبر على الزمان والمكان، إن خلق الناس زمانهم خلق هو زمانه، وأن حد الناس مكانهم حد هو مكانه؛ فإذا ساق الناس التقليد أو قادهم، وإذا خيل(203/1)
إليهم الباطل حقاً والحق باطلاً؛ وقف هو هازئاً أبياً يستوحي ربه، ويستفتي قلبه؛ وإذا جرف التيار الخاصة والدهماء، فاضطربوا في موج الحادثات كالغثاء، ترمي بهم كل شط، وتنفر من كل أرض، ثبت الحر كالطود الأشم في البحر الخضم:
يضل كالطود يجري حوله نهر ... من الخطوب له بالناس طغيان
فاتت مآرب أهل الذل قمته ... فما يذلّله نيل وحرمان
إن الرجل الحر صفحة في التاريخ جديدة، وخطوة في سير البشرية متقدمة، على حين لا يظفر التاريخ بجديد في آلاف المواليد، ولا يخطو خطوة إلى الأمام في كثير من الأعوام. وهل التاريخ كما قالوا إلا إعادة وتكرار؟
ولقد أوتي الرافعي من الحرية الإلهية نصيباً، ومن النور الإلهي قلباً، ومن الفيض الإلهي ينبوعاً، فلبث دهره نسيج وحده، وظل حياته ينير للسالكين، ويسقي الظامئين. ولقد أوتي من العزة الإسلامية ما تخر له الجبال، ومن الهمة القرآنية ما تنشق له الأهوال. ولقد أوتي من الإيمان ما أصغر الدهر في سطواته، ومن نور الإيمان ما شق على الزمان ظلماته.
كان الرافعي نوراً وسلاماً، ومحبة ووئاماً، فإذا سيم الدنية في دينه أو في أمته؛ وإذا تجهم الباطل لحقه، أو تطلعت المذلة إلى خلقه، ألفيت النور ناراً تلظى، والسلم حرباً تهيج، والحب بغضاً ثائراً، والرحمة شدة حاطمة.
لبثت سنين طوالا أقرأ للرافعي ولا أراه، وأحبه ولا ألقاه، وأتحدث عنه معجباً ثم أقول لمحدثي: هذا وجه ما سعدت برؤياه، حتى لقيته العام في لجنة التأليف والترجمة والنشر وكأنا صديقان قديمان. ثم أتاحت الفرص لقاءه مرتين أو ثلاثاً كانت آخرتها في دار (الرسالة) بعد أن كتبت مقالتي عن كتابه وحي القلم. ثم افترقنا وما علمت أنه آخر العهد وفرقة الدهر!
وإني لأعترف للقارئ في غير تزيد ولا تصنع أني أجد في نفسي وقلمي تهيباً للكتابة عن الرافعي؛ وأرى جوانب تتسع ثم تتسع حتى يضيق المجال. ولقد حاولت أن أنظم فكنت كلما أخذت القلم تذكرت هذه الأبيات من منظومتي (اللمعات) فقلت إنها تمثله. إنها تمثل الرجل الحر حيث كان
حبذا الصوت فمن هذا البشير؟ ... ومن الهاتف بالقلب الكسير؟(203/2)
ومن البارق في هذي الغيوم؟ ... ومن المسعد في هذى الهموم؟
ومن الهابط في نور السما ... هادياً في الأرض جيلاً مظلماً؟
ومن السائق شطر الحرم ... وإلى الأصنام سير الأمم؟
ومن القارئ في بيت الصنم ... سورة الإخلاص في هذا النغم؟
ومن الحر الذي قد حطما ... من قيود الأسر هذا الأدهما؟
ومن الآبي على كل القيود؟ ... ومن القاطع أغلال العبيد؟
ومن الباعث في ميت الأمم؟ ... ثورة العزة من هذي الهمم؟
لاح كالغرة في هذا السواد ... بص كالجمرة في هذا الرماد؟
إنه ليصدق من يجيب كل سؤال في هذه الأبيات بهذا الاسم الكبير: (مصطفى صادق الرافعي).
عبد الوهاب عزام(203/3)
بل ضرورية جداً
للأستاذ عباس محمود العقاد
تعودنا أن نسمع أن الفنون الجميلة من الكماليات التي يأتي دورها بعد العلم والصناعة في الأهمية، وفي مقالكم المشار إليه تقولون إن علينا أن نبدأ بالفنون الجميلة والرياضة لنتعلم الإرادة والعمل، فهل لكم أن تنيروا الطريق لنا بالتوفيق بين القولين. . .)
الإسكندرية
صالح شحاته
الحق يا صاحبي أننا في عصر نحتاج فيه إلى غربلة وافية لجميع الألفاظ التي لهجنا بها زمناً في مطلع نهضتنا الحديثة، ومنها ألفاظ الضروريات والكماليات وتقديم الأهم على المهم والمفاضلة بين العلوم والفنون، وسائر هذه المحفوظات التي خلت من المدلول لكثرة تكرارها واكتفاء الآذان بسماعها دون التفكير فيها.
فمن الواجب (أولاً) أن نفرق بين الفرد والأمة فيما هو من الشؤون الضرورية وما هو من الشؤون الكمالية.
فالفرد لا يشترط فيه أن يستوفي جميع المزايا الإنسانية والملكات الحية، وليس من اللازم ولا من المستطاع أن يكون قوياً وذكياً وجميلاً وعالماً وشاعراً وصانعاً وغنياً وسائساً زعيما ومفكراً مقتدى به وإماماً متبعاً في مطالب الحياة كافة.
ولكن إذا اجتمع عشرون مليون فرد في قطر واحد فمن الضروري - وليس من الكمالي - أن تتوافر بينهم جميع المزايا الإنسانية والملكات الحية التي تتفرق في الأفراد، وإلا كان النقص دليلاً على مسخ ذريع في التركيب وعجز شائع في عناصر الطباع. ويستوي هنا أن يكون الناقص لعباً أو جداً، وفناً أو علماً، وخلقاً أو رأياً، فإنما المهم أن الملايين العشرين يتسعون لكل مزية عرفت في بني الإنسان، وإلا كانوا ناقصين في الضروريات للأمة وإن كانت معدودة بالقياس إلى الفرد من الكماليات والنوافل.
ومن الواجب (ثانياً) أن نقلع عن تقويم المطالب القومية بمقدار الحاجة إليها والاستغناء عنها، فان ذلك تقويم غير صالح وغير صحيح.(203/4)
فنحن نستطيع أن نعيش بغير ملكة النظر وبغير ملكة السمع أو الكلام سبعين سنة دون أن نهلك من جراء ذلك.
ولكننا لا نستطيع أن نعيش بغير الرغيف وما إليه سبعين سنة ولا سبعين شهراً ولا سبعين يوماً إلا هلكنا هلاكاً لا ريب فيه؛ ولم يقل أحد من أجل ذلك إن الرغيف أغلى من البصر، وإن ملكات الحس لا تستحق المبالاة كما يستحقها الطعام والشراب.
وندع تقويم الفكر إلى تقويم السوق، فأنا واجدون أن الرغيف أرخص من الكتاب، وأن التمثال أغلى من الكساء، وأن الحلية أقوم من الآنية الضرورية، وأن قيمة الشيء لا تتعلق بمقدار الحاجة إليه والاستغناء عنه، بل بمقدار ما نكون عليه إذا حصلناه. فنحن إذا حصلنا الرغيف فأقصى ما نبلغه في تحصيله أن نتساوى وسائر الأحياء في إشباع الجسد وصيانة الوظائف الحيوانية. ونحن إذا حصلنا الفنون الجميلة فما نحن بأحياء وحسب، ولا بأناسي وحسب، ولا بأفراد وحسب؛ بل نحن أناسي ممتازون نعيش في أمة ممتازة، تحس ما حولها وتحسن التعبير عن إحساسها.
إن الضروريات توكلنا بالأدنى فالأدنى من مراتب الحياة، أما الذي يرفعنا إلى الأوج من طبقات الإنسان فهو ما نسميه النوافل والكماليات، أو هو ما نستغني عنه ونعيش!
ولكن كيف نعيش؟
هذا هو موضع السؤال الصحيح. فان كنا لا نبغي إلا أن نعيش كما تعيش الأحياء كافة فحسبنا الضروريات المزعومة إلى حين: حسبنا الخبز حتى يجيئنا من ينزع منا الخبز أيضا ونحن لا نقدر على دفاعه، ولا نطيق غير الخضوع له والصبر على بلائه.
وإن كنا نبغي أن نعيش (أكمل) العيش فلا غنى إذن عن الكماليات لبلوغ الكمال، ولا معدي إذن عن اعتبار الكماليات من ألزم الضروريات.
ومن الواجب (ثالثاً) أن نذكر ما هو (العلم) الذي يفوقنا به الغربيون قبل أن نعقد المقارنة بين العلوم والفنون.
فالغربيون لا يفوقوننا بالعلم (المصنوع) علم الطيارات والسيارات والسفن والدبابات والمناسج والمنسوجات.
كلا! لا يفوقنا الغربيون بهذا، فان الشرقي ليحذق صناعة الطيارة إذا رآها كما يحذقها(203/5)
الغربي الماهر في عمله، ولعله يبذه ويسبقه في الوقت والبراعة.
إنما يفوقنا الغربيون بالعلم الملحوظ لا بالعلم المصنوع: يفوقوننا بعلم الملاحظة والابتكار والاختراع؛ يفوقوننا بالعلم الذي يحتاج إلى عين لا تفوتها الرؤية، وبديهة لا يفوتها الإدراك، وخيال لا يفوته تركيب الصغائر وضم الأجزاء إلى الأجزاء حتى يتألف منها المصنوع الجديد.
وما هذا الذي يفوقوننا به غير ملكة الحس والتخيل التي يترجمها المصور تمثالاً والموسيقي لحناً والشاعر قصيداً والمخترع صناعة حديثة؟ ما هو غير أن نحس ما حولنا ونقرن بين إحساس وإحساس حتى نستخرج منها جميعاً صورة كاملة في عالم العلم أو في عالم الفن أو في عالم التجارة؟
فليست المقارنة بين العلم والفن مقارنة بين طيارة تنفع في التجارة والحرب وتمثال لا ينفع لغير الزينة، بل هي مقارنة بين ملكة مستنبط لا تتم بغيره الحياة، وملكة مستنبط لا تتم بغيره الحياة!
وإذا فقدنا الفنون الجميلة فليس كل ما نفقده إذن هو تمثال الرخام الذي لا يصلح لغير الزينة، بل نحن فاقدون جزءاً من حياتنا وجزءاً من العلاقة بيننا وبين الدنيا، وعائشون عيشة الممسوخ الأبتر المحجوب عن جوانب دنياه.
إن الرجل البصير يرى الحجر كما يرى الجوهرة، ولكنه إذ عجز عن رؤية الحجر وهو أمامه فليس الحجر وحده بالمفقود في نظره، بل المفقود كل شيء يتراءى لعينيه.
لقد حيينا في خدمة غيرنا عصوراً طوالاً حتى أوشكنا إذا قيل لنا: (اشعروا بالحياة) أن نطلب أجراً على حياتنا
فالرجل الذي يسأل: ما فائدة الفنون الجميلة؟ هو كالرجل الذي يسأل: ما فائدة العين؟ وما فائدة الأذن؟ وما فائدة الشعور؟ وما فائدة الحياة؟
وإن الإنسان لينظر إلى الروضة ولا يبسط يديه بعدها إلى أحد يعطيه أجراً على ما رآه، فلماذا يحس الجمال وهو يسأل عن فائدة الإحساس؟ ولماذا يعبر عن الجمال وهو يسأل عن فائدة التعبير؟ ولماذا يقتني التمثال وهو يسأل لماذا تقتنيه؟ ولماذا يسمع الغناء وهو يسأل لماذا أصغي إليه؟(203/6)
إنه ينبغي أن يصنع ذلك لأنه يحس، وإنه يحس لأنه يحيا فمن من يا ترى يريد أجراً على الحياة! إن كان عبداً فمن سيده فليطلب أجره لو كان سيد يعني بتهذيب عبيده؛ وإن كان هو سيداً فهو مالك حياته وكفى أنه يحيا تعليلاً لكل عمل وترغيباً في كل مطلب وتقويماً لكل عزيز نفيس.
ولقد يخطئ بعض الفلاسفة المصلحين في تقويم الفنون فيستكثرون ما أنفقت عليها الدول والملوك الثروات من مال وفير وجهد عنيف. كذلك أخطأ تولستوي في كتابه عن الفن الجميل وهو نفسه قد أنفق عمراً مديداً في خدمة الفن الجميل.
على أن خطأهم قريب المأخذ سهل المراجعة من ناحية الحساب، إذ ليس القياس في هذا الصدد أن ننظر إلى مدينة مثل (هليوود) كم تنفق من الملايين على الروايات والممثلين! وإنما القياس أن ننظر إلى مدن العالم كم عددها بالقياس إلى (هليوود) وحدها أو كل مدينة جرت على مجراها.
وليس القياس أن ننظر إلى الموسر كم يبذل من الألوف في تمثال واحد، وإنما القياس أن ننظر إليه والى كل فرد كم ينفق على خبزه وكسائه وسكنه وراحته، وكم ينفق على الفنون الجميلة التي يهواها من تماثيل وأغان وأشعار؟ ومتى نظرنا هذه النظرة علمنا أن الكماليات لا تجور على الضروريات، وأن قياس النفقات على ما يسمى بالكماليات والنفقات على ما يسمى بالضروريات أقل من قياس الآحاد إلى المئات.
إلا إننا نعود فنقول إن الفنون الجميلة ضروريات في الأمم وإن عدت نوافل في آحاد الناس، وإنها ضروريات لمن ينشد (العيش الأكمل) ولا يقنع بكل عيش بأنها ضروريات لمن يسأل: كيف نسود؟ وإن كانت هباء عند من يسأل: كيف نعيش؛ وأحرى به أن يسأل: كيف نموت؟ فعيش هذا وموته سواء.
عباس محمود العقاد(203/7)
فائدة هندسية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كيف تقيس المسافة بين نقطتين؟ أما أنا وأنت - أو أنت وأنا، كما يقضي الأدب الحديث أن أقول - فان الواحد منا يقف ثم يروح يخطو بين النقطتين كالجندي الحديث العهد بالتدريب العسكري، ويقول وهو يفعل ذلك: (واحد. . . اثنين. . ثلاثة. . الخ) ثم يضرب عدد الخطوات في طول كل خطوة فيكون الناتج هو المسافة التي يراد قياسها. أو يفعل شيئاً آخر: يجئ بحبل ويمده بين النقطتين ثم يعقد عقدة في كل ناحية، ثم يجئ بمقياس كالمتر ويقيس به ما بين العقدتين، فإذا لم يكن ثم متر، فان المسافة بين أنامل يمناك - حين تمد ذراعك - والكتف اليسرى طولها متر.
ولكن لي صاحباً يعرف طريقة أخرى في قياس المسافات المستقيمة أبرع مما نعرف، وقد حدثني بها ووصفها لي. ونحن نتغدى منذ أيام قال:
(لا علم كالهندسة. . . أعني أنها علم مضبوط لا موضع للخطأ فيه)
وأنا - كما يعرف القارئ - لا علم لي بالهندسة ولا بسواها مما هو منها بسبيل. ولست ادري إلى هذه الساعة كيف أمكن أن أجتاز الامتحانات المدرسية التي كانت تعقد لنا في المدارس، أو في السرادقات، وقد كان مما نمتحن فيه الهندسة - بأنواعها، فإنها كثيرة - والجبر والحساب وحساب المثلثات إلى آخر هذا الذي نسيت حتى أسماءه. وأحسب أن الذين كانوا يراجعون أوراق الإجابات كانوا يقولون إن هذا المازني سيكون أديباً كبيراً، والأدب لا يتطلب العلم بالرياضة، ومن الخير للأدب أن ندعه يخرج بشهادته وأن لا نعطله بالرسوب. فإلا يكن هذا هكذا، فليقل لي من يدري كيف أمكن أن أجتاز هذه الامتحانات في علوم الرياضة والكيمياء أيضاً والطبيعة كذلك؟ فإني أذكر - الآن - أني كنت أملأ أوراق الإجابة عن أسئلة الرياضة وما إليها من المعارف المستحيلة بالرسوم والتصاوير: رسوم فتيات وطيور وبقر وجمال، وكنت أفرد الصفحة الأخيرة من ورقة الإجابة لأساتذتي في علوم الرياضة، فأرسم بضعة خطوط هنا، وأكتب تحتها (المستر فلان) معلم الحساب، وخطوطاً أخرى تحتها وأكتب إلى جانبها (المستر علان) مدرس الجبر وهكذا ومن يدري؟. لعل رسمي لأساتذتي كان يرضيهم ويعجبهم، فيدعون جواب المسائل ويمنحوني الدرجات(203/8)
على الرسم الجيد من الذاكرة!
وقلت لصاحبي: (يا سلام!. صحيح؟)
فقال (بالطبع. . . اسمع. . . كيف تقيس المسافة بين شاطئ النيل؟)
قلت: (أوه. . المسألة لا تحتاج إلى هندسة أو غيرها. . أمشي على كوبري قصر النيل وأعد خطاي ثم أضرب العدد في طول الخطوة. . . مسألة بسيطة جداً)
فقال: (لا لا لا لا. افرض أنك تريد أن تقيس المسافة بين الشاطئين حيث لا كوبري ولا شبهه)
قلت: (آه. . . هذه مسألة أخرى. . أقول لك. . أركب زورقاً ومعي حبل أثبته على شاطئ وأدليه في الماء ونحن نمرق حتى نبلغ الشاطئ الأخر ثم نقيس الحبل)
قال: (يا أخي ألا تعرف أن الزورق لا يستطيع أن يمضي من شاطئ إلى شاطئ في خط مستقيم؟)
قلت: (صحيح. . والله فاتتني! طيب! وما العمل؟ أما أنا فلا أرى طريقة أخرى فيحسن بالنيل أن يقنع بأن يبقى بغير قياس لعرضه. . يكفي طوله)
قال: (لا تمزح. .)
قلت مقاطعاً: (والله إني أتكلم جاداً. . ثم إني لا أدري لماذا أتعب نفسي وأكلفها أن تقيس النيل؟)
قال: (اسمع. . أنا أعرفك الطريقة. . . ألم تتعلم في المدرسة أن ضلعي المثلث المتساوي الضلعين أكبر من الضلع الثالث أي القاعدة؟)
قلت: (جايز)
قال: (جائز؟ ماذا تعني؟ هذه حقائق)
قلت: (جائز! الحقيقة أني تعلمت أشياء كثيرة في المدارس ولكني لا أذكر الآن شيئاً منها فأنا مضطر أن أصدقك. . . ولكني أخشى أن يكون غرضك أن تضحك مني، ولهذا أؤثر الحذر وأقول لك جائز. . على كل حال تفضل)
قال: (حسن. . أسمع. . هذه حقيقة لا شك فيها. . ضلعا المثلث المتساوي الضلعين أكبر من القاعدة. . فكيف ينفعنا هذا في قياس عرض النيل؟. . أنا أقول لك. . . تأخذ ثلاثة(203/9)
أوتاد، وثلاثة حبال، وتذهب إلى أحد الشاطئين وتثبت فيه - على الأرض - وتدين. . تدقهما دقاً قوياً ليثبتا ولا يتزعزعا. . . وتذهب إلى الشاطئ الآخر، وتدق هناك الوتد الثالث. . . هذا الوتد الثالث هو رأس المثلث. . . وما بين الوتدين الآخرين على الشاطئ الآخر هو القاعدة. . فاهم؟ ثم تصل الأوتاد بالحبال. . . مسألة سهلة جداً. . . ثم تقيس وتحسب فتجئ النتيجة مطابقة للحقيقة)
قلت: (غريب!. ولكن أسمع. . ما العمل في المراكب والزوارق التي تمخر؟ هل تؤخرها حتى تفرغ من الحساب أليست هذه مشكلة عسيرة الحل؟. أم لها يا ترى حل هندسي أيضاً؟)
قال: (يا أخي لا تمزح. . لقد فعلت ذلك مرات كثيرة)
قلت: (صادق. . صادق. . والله إن هذا لذكاء!. لو كان الذي اهتدى إلى الحقائق الهندسية يعرف أنك ستستغلها على هذا النحو العلمي المفيد. .؟)
قال: (لقد ورثت هذه الدقة عن أبي. . ولكني لم أبلغ مبلغه مع الأسف. . . مع التدرب آمل أن أكون مثله. . إن حسابي الآن - طبقاً لهذه الحقيقة الهندسية لا يجئ مخالفا للواقع إلا بمقدار خمسين أو على الأكثر سبعين متراً فقط. . شيء تافه كما ترى!)
قلت: (ولكن هل من الضروري أن يكون المثلث متساوي الضلعين أو لا أدري ماذا تسميه؟)
قال: (لا. . أبداً. . ليس هذا ضرورياً. .)
ثم شردت نظرته وعلا وجهه السهوم، فتركته لخواطره ولم يلبث أن رد عينه إلى وقال:
أبي لا يكاد يخطئ. . . صياد ماهر جداً. . . وأغرب ما في الأمر أنه يستطيع أن يقول لك إنه أخطأ الهدف بمقدار متر أو نصف متر أو سنتي. . . خرجنا مرة إلى الصيد فأدهشني بدقته وإحكامه. . . أطلق البندقية على بطة ثم نظر إلى وقال: يا فريد! الطلق مرّ من تحتها على مسافة ثلاثة سنتيات. . ثم رمى أخرى وقال يا فريد: الطلق مر من فوقها على مسافة ملليمترين؛ ورمى ثالثة وقال آه يا فريد! هذه طلقة لا مثيل لها. . شعرة فقط بينها وبين البطة!. وهكذا يا أخي. . فهل سمعت بمثل هذه البراعة العجيبة؟. . مقدار شعرة فقط، لا أكثر ولا أقل؟ تصور الشعرة ماذا يبلغ من سمكها؟. ومع ذلك عرف! استطاع أن يقدر(203/10)
المسافة بين الطلق والبطة على هذا البعد العظيم ما قولك؟. . أليس آية؟)
قلت: (والله شيء مدهش حقيقة. . . ومن أين جاءته هذه البراعة؟)
قال: (العلم نور يا أخي. . وما فائدة العلم إذا كان الإنسان لا يطبقه ولا ينتفع به في حياته؟)
قلت: (صدقت. . ولكن هل أبوك يعرف المسافات بين الطلقات وبين الطيور التي لا يصيدها بالهندسة - أعني بواسطة المثلث المتساوي الضلعين أو غير المتساوي الضلعين؟)
قال: (وهل هذا كل ما في الهندسة؟ يظهر أنك نسيت دروسك)
قلت: (كل النسيان. . نسيتها قبل أن أحفظها)
قال: (صحيح. . هذا يحدث كثيراً)
قلت (إنه يحدث دائماً)
قال: (لا. أنا لم أنس دروسي قبل حفظها. . ولا بعد الحفظ)
قلت: (أنت أعجوبة. . وهل في الناس اثنان مثلك؟)
فصار وجهه كالحمرة من شدة الحياء والخجل من سماع المدح، وكأنما أراد أن يصرفني عن نفسه.
فقال: (ولكن أبي ليست له مثل هذه الدقة حين تكون الحيوانات أليفة والطيور داجنة)
قلت: (وكيف كان ذلك؟)
قال: (إن نظره بعيد جداً يبصر كل شيء - أي شيء - على مسافة ميل، ولكن إذا كان الشيء قريباً منه، صعبت عليه الرؤية الدقيقة. . وأذكر أنه قام بيني وبينه خلاف على المسافة بين رجلي الدجاجة)
فصحت به: (إيه؟)
فقال: (لا تصح هكذا. . إننا في مطعم. . فهل تريد أن يلتف حولنا الناس؟)
قلت: (معذرة. . لقد نسيت أن ههنا ناساً. . الحق أن كلامك استبد بعقلي. تفضل)
قال: (أشكرك. . نعم اختلفنا على المسافة بين رجلي الدجاجة. . هو يقول إنها خمسة سنتيات وأنا أقول إنها أقل بكثير. . وأخيراً اتفقنا على قياسها بالضبط والدقة، فقال أبي هات الدجاجة، فجئته بها. . تناولتها من رجليها فقال كيف تريد أن تقيس وقد ضممت(203/11)
رجليها. فتناولتها من عنقها، فصارت تلعب وتحاول أن تفلت وتضرب برجليها فاستحال قياس ما بينهما، ثم سكنت ولكن رجليها بقيتا مضمومتين فاتفقنا على تركها على الأرض، وحاولنا أن نغريها بالسكون بقليل من الحب رميناه لها لتلقطه، ولكنها يا أخي لا تسكن أبداً. . حركة دائمة)
قلت: (لماذا لم تنتظرا حتى تنام وحينئذ يتيسر القياس كما تشاءان؟)
قال: (والله فكرة)
قلت: (هل تعني أن تقول إنك لم تعرف إلى الآن أيكما المصيب وأيكما المخطئ؟)
قال: (بالطبع أبي هو المخطئ. . ألم أقل لك إن نظره بعيد؟)
قلت: (آه صحيح. .)
قال: (طبعاً)
قلت: (طبعاً)
وكانت هذه نهاية الحديث في يومنا ذاك، فعدت إلى البيت وقيدته لئلا أنساه.
إبراهيم عبد القادر المازني.(203/12)
في الأدب المقارن
بيئات الأدباء في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
أثر البيئة في الإنسان ومجتمعه وعلومه وفنونه من النواميس التي اهتم العلم الحديث بكشفها وتتبع مظاهرها والرجوع إليها في شتى الدراسات. وأثر البيئة في أدب كل أمة على إطلاقه واضح مشاهد؛ بيد أن لكل أديب بيئة خاصة داخل البيئة العامة التي تحيط به وبغيره من أدباء أمته، ولهذه البيئة الخاصة أثر بعيد في تكييف عبقريته وتوجيه ميوله وصبغ نظرته إلى الحياة وتكوين فهمه للأدب، ولهذه البيئة في أكثر الأحايين فضل توجيه عبقريته إلى الأدب دون غيره من الفنون والحرف الإنسانية.
فالوراثة لها أثر في فن الأديب، لاشتراكها في تكوين مزاجه وميوله، وذلك الأثر الوراثي ملحوظ في أدب شلي وبيرون من شعراء الإنجليز، بل في حياتهما إذ عاش كل منهما ساخطاً قلق المقام مضطرباً بين البلدان مساجلاً المجتمع حرباً لا تهدأ، وقد كان كلاهما منحدراً من أسرة أرستقراطية عرفت صفات الجماح والتمرد في غير واحد من أسلافها. وللوراثة أثرها الواضح في أدب أبن الرومي الذي جاء لانتمائه إلى الروم مخالفاً أدب غيره من فحول العربية، في النظرة إلى الحياة والطبيعة، وفي استقصاء المعاني وتوليدها.
ولتكوين جسم الأديب، بين الصحة والمرض والكمال والنقص والوسامة والدمامة أثره كذلك في أدبه، فالأديب السليم الجسم يكون صافي المزاج معتدل النظرة إلى الحياة، والأخر المعتل الصحة المنهوك بالأوصاب، كالمعري وأبن الرومي في العربية، وبوب وسويفت وجراي في الإنجليزية، يكون ضيق العطن أوقاتهم النظرة إلى الحياة أو كثير النقمة على معاصريه شديد الشغب معهم. وقد قيل قديماً إن للأدب ضريبة على محترفه يتقاضاه إياها من ذات جسمه أو ذات نفسه، فلا تكاد ترى أديباً إلا محروباً أو شقياً أو معسراً، ولعل فقدان الأديب لبعض ما يتمتع به سواه من بهجة الحياة من دواعي إرهاف حسه وصرفه إلى التأمل وعطفه إلى الأدب، ولعل المعري لولا عماه وانحباسه عن متعات الدنيا على ذلك الوجه، لما حفل بالتفكير في الأرض والسماء وأصل الخلق ومصير الإنسان وهلم جرا.(203/13)
وللتربية والنشأة المنزلية أثرهما في تكوين الأديب، فكثيراً ما تتجه عبقرية الناشئ إلى الأدب لأن أباه أو كافله مشتغل بالأدب، وقد كان ذلك شائعاً بين العرب، إذ كان الآباء يقومون بتأديب أبنائهم، فنشأ كثير من الأدباء كالصاحب وأبن العميد وأبن المعتز وأبن زيدون في بيوت فضل وأدب. وقال ياقوت في ترجمة المعري: (وكان في آبائه وأعمامه، ومن تقدمه من أهله وتأخر عنه من ولد أبيه ونسله، فضل، وقضاة وشعراء، أنا ذاكر منهم من حضرني لتعلم نسبه في العلم). ولحظ البيئة المنزلية من الرقي أو الحطة أثره كذلك في أخلاق الناشئ ومنازعه، ومن ثم يتسم أدب الشريف الرضي في العربية وتنيسون في الإنجليزية بنزعة التسامي والتدين، لانتمائهما إلى أرومة شريفة دينية، بينما تبدو لوثة العامية والتبذل في أشعار بشار وأبي نواس.
ولنصيب الأديب من الغنى أو الفقر أثر بعيد في حياته وعقليته وأدبه، فلا بد للأديب من حظ من المال يستطيع معه أن يتفرغ إلى فنه أو يتفنن في ابتكاره، أما إذا كان لا يكسب رزقه إلا بجهد جهيد فهيهات أن يوفي الأدب حقه. والأديب المعسر المخفق كابن الرومي لا ينفك شاكياً في شعره متحرقاً؛ ولا يشكو هذه الشكوى أديب نشأ في بيت نعمة كابن المعتز أو نجح في أدراك الغنى كالبحتري، فشعر هذين أكثر امتلاء بوصف اللذات وأوقات الصفاء. وقد وجد أبن الرومي على البحتري وهجاه حسداً وغيظاً، فرد عليه البحتري رداً هادئاً وأتحفه بهديه، فعل المطمئن إلى نفسه الراضي في بحبوحته، ولم يطلب الطغرائي شططاً حين قال أريد بسطة كف أستعين بها على قضاء حقوق للعلى قبلي.
ولنوع الثقافة التي يتلقاها الناشئ، والأدب الذي يقرأ، والأستاذ الذي يأخذ عنه، والأديب الذي يقدمه ويشغف بآثاره، والأدب الأجنبي الذي يدرسه، لكل ذلك أثره في توجيه أدبه وفلسفته في الحياة. فأراء المتزندقة التي فشت في صدر العصر العباسي ظاهرة الأثر في شعر بشار وحماد وأبي نواس، والآراء الفلسفية التي ذاعت بعد ذلك ظاهرة في أشعار الطائي والمعري والمتنبي؛ ولم يتأثر أدباء العربية بأدب أجنبي تأثراً ذا بال، أما أدباء الإنجليزية ففضلاً عن اغترافهم جميعاً من مناهل الأدب اليوناني، كان منهم من تأثر بالأدب الإيطالي كسبنسر، وبالألماني كشلي وسكوت وكارليل، وبالفرنسي ككثير من كتاب القرن الثامن عشر وشعراء القرن السابع عشر؛ وكما أثر مذهب أبي تمام الشعري في تلميذه(203/14)
البحتري وفي المتنبي وغيرهما، كان لملتون أثر بعيد في كثير من شعراء الإنجليز منهم وردزورث وتنيسون.
ولجيل الأديب، بسياسته وأدبه وأخلاقه وأزيائه وفنونه، أعظم أثر في أدبه: فبعض الأدباء ينحاز إلى حزب سياسي ويخصص جانباً من كتاباته للدفاع عنه، كما كان الكميت ودعبل وعمارة اليمني شيعيين ينتصرون لآل البيت؛ وكما كان بشار عقيلياً بالولاء ينتصر لمضر ويفخر بغضبتها إلى تهتك حجاب الشمس؛ وكما كان أبن الرومي علوياً بالولاء أيضاً. وكان أدباء الإنجليزية أكثر اتصالاً بشؤون المجتمع والسياسة وتأثراً بها، فعرضوا لمشاكل عصورهم في أشعارهم وقصصهم، وحين ملأ دكنز قصصه بوصف أحوال الطبقات العاملة، إنما كان متأثراً بأحوال عصره الصناعي، وإذا امتلأ شعر المتنبي بذكر القنا والصوارم والفتكة البكر وتضريب أعناق الملوك، فإنما كان ذلك صدى عصر التناحر والقلاقل الذي عاش فيه.
وتؤثر حرفة الأديب كذلك في أدبه، موضوعه ولغته وتشبيهاته: فالأديب الجندي كعنترة وأبي فراس لا يكاد يخوض في غيره حديث النجدة والعزة والبأس وإطاحة الرؤوس عن الأجسام؛ والأدباء الوزراء الذين عرفوا في الدول الإسلامية تتعلق خير كتاباتهم بالسياسة والولاية والعزل وهلم جرا؛ والشاعر المداح كالبحتري لا ينفك عن ذكر أحوال الملك ومظاهر أبهته؛ وتوماس هاردي الذي كان مهندساً معمارياً مشغوفا بفن العمارة لا يزال يبدي ويعيد في وصف العمائر والصروح في شعره وقصصه، ويستخدم في ذلك من المصطلحات العلمية ما لا يكاد يفقهه إلا خبير مثله بتلك الشؤون؛ أما الأديب المنقطع إلى الأدب فلا يكاد يخوض في غير شؤون الأدب وسير الأدباء.
وقد أورد الجاحظ هذه الحقائق مورد الفكاهة في رسالة صناعات القواد، إذ جعل الطبيب والخياط والخباز والمؤدب وصاحب الحمام وغيرهم، يتحدثون في الأدب وينظمون الشعر فيستخدم كل منهم مصطلحات حرفته في استعاراته وتشبيهاته.
وللإقليم الذي يختاره الأديب مستقراً ومقاماً، والأقاليم التي يرحل إليها في أدوار حياته، أثر عظيم في موضوعاته وأسلوبه: إذ هو يشتق أسباب القول مما يحيط به في حله وترحاله، ولا ريب أن الأديب الكثير الرحلة يكون أوسع أفقاً وأغزر مادة وأعمق فكرة من الأديب(203/15)
القاعد، إذ كان من يعيش يرى ومن يسير يرى أكثر كما يقول المثل العامي. وقد كان وردزورث يقطن مقاطعه البحيرات في إنجلترا وكان كثير التجوال بين الجبال والروابي، فجاء لفظة مجرداً عارياً عري الصخور وتجردها، وكثرت فيه ألفاظ الوحشة والوحدة وهلم جرا. ونشأ كبلنج في الهند فامتلأ شعره وقصصه بوصف غياضها وأدغالها، وحفل بالتعصب الجنسي المتطرف؛ وتركت رحلات المتنبي بعض الآثار في أشعاره، من وصف الطبيعة كوصف بحيرة طبرية وشعب بوان، إلى وصف الأحوال السياسية في مثل قوله:
بكل أرض وطئتها أمم ... ترعى بعبد كأنها غنم
فإلى البيئة إلى ينشأ فيها الأديب وتضطرب في محيطها حياته، مرد ما يمتاز به أدبه من اتجاه خاص وطرق موضوعات دون غيرها، وتناول لها على نحو خاص، وما يتصف به من سمو أو ضعة، وورع أو استهتار، وفكاهة أو انقباض، وتفاؤل أو تشاؤم، وعمق أو سطحية، يختلف حظه من كل ذلك عن حظوظ أبناء أمته بل أبناء جيله بل أصحابه وخلفائه؛ وبسبب عوامل البيئة تلك يختلف عنترة وعمر بن أبي ربيعة والشريف الرضي والمتنبي في العربية في الموضوع والنزعة واللفظ والاسلوب، كما يختلف وردزورث وبيرون وسكوت وشلي في الإنجليزية، حتى يستغث الثاني شعر الأول أي استغثاث، ويجمل الثاني رأيه في الأخير في قوله: ذلك الملحد شلي! وما ذاك إلا لاختلاف ما يحمل رأس كل منهم من أثار الوراثة والثقافة والعقيدة والتربية والنشأة، على تعاصرهم وتشاركهم في وجوه أخرى، وعلى كونهم يعدون اليوم أبناء مدرسة واحدة.
على أن اختلاف بيئات الأدباء أشد ظهوراً في الإنجليزية منه في العربية، لأن أدباء الإنجليزية أكثر اضطراباً في المجتمع وإدخالاً له في أدبهم وأكثر ارتحالاً في البلدان وذهاباً في آفاق الفكر وإعراباً عن أفكارهم الصميمة وأثار تجاربهم، ولأن المجتمع الإنجليزي تغير وتجدد على توالي العصور من عهد اليزابث إلى الوقت الحاضر ما لم يتغيره المجتمع الإسلامي، والثقافة الإنجليزية تطورت بتقدم العلوم ما لم تتطوره الثقافة العربية، فالمحافظة كانت أغلب على المجتمع والفكر العربيين، وهي أيضاً كانت سمة الأدب العربي وديدن أدباء العربية، ومن ثم تشابهوا كثيراً في الموضوعات والأساليب على تباعد المواطن والعصور.(203/16)