في داخلها، فوقعوا على شعب غريب عن أهلها يعيش في الداخل ويبلغ عدده زهاء مائتي ألف، وليس بينه وبين باقي سكان الجزيرة شبه في الجنس أو العادات. وجاء بعدهم بالطيارة إلى الجزيرة بعض الأخصائيين في علم الأجناس وبحثوا أحوال هذا الشعب المتأخر المنقطع عن العالم فألفوه ماهرا في الزراعة خبيراً بطرق الري. ورأى العلماء أنه يوجد بين هذا الشعب وبين المصريين شبه كبير، ورتبوا هذا الاستنتاج على عدة حقائق علمية، منها أنهم يحرزون من الآلات الموسيقية ما هو شبيه بالآلات التي ترسم على الآثار الفرعونية، كذلك أسلحتهم الحجرية تشبه أسلحة المصريين القدماء. كذلك يوجد في معتقداتهم الدينية كثير مما يشبه عقائد المصريين القدماء. ويرى هؤلاء العلماء المكتشفون أنه ليس بعيداً أن يكون المصريون القدماء قد ساحوا إلى تلك المياه في العصور الغابرة، ونزلوا على تلك الجزيرة الثانية وحل بعضهم بها، وأقاموا فيها مجتمعا خاصا بهم ونقلوا إليها بعض عاداتهم وحضارتهم. بيد أنه يبقى على أولئك العلماء أن يبحثوا عما إذا كان لذلك الشعب من الخواص الجنسية، وعما إذا كان في لغته، ما كان للشعب المصري القديم؛ فإذا وقفوا إلى وجود هذه الخواص، فعندئذ يغدو الاكتشاف حقيقة علمية لا ريب فيها
ولقد دلت أبحاث المكتشفين من قبل على وجود آثار حضارة مشابهة لحضارة الفراعنة في بعض أنحاء أمريكا الجنوبية والمكسيك، ولكن البحث لم يقطع بوجود الصلة بين هذه الحضارة وحضارة المصريين القدماء.
فبير عميد الموسيقى الألمانية
احتفلت دوائر ألمانيا الفنية والموسيقية أخيراً بذكرى الموسيقي الألماني الكبير كارل ماريافون فبير وذلك لمناسبة مرور مائة وخمسين عاما على وفاته. وكان مولد هذا الموسيقي الكبير في ديسمبر سنة 1786 في إحدى قرى هولشتين وكان أبوه رئيساً لموسيقى البلاط المحلي - فخرج على رأس فرقة من الممثلين الهزليين يطوف جميع أرجاء ألمانيا، ومعه أبنه فبير؛ وهكذا قضى الموسيقي العظيم حداثته متجولا في مختلف الأنحاء؛ ومنذ سن العاشرة ظهر شغفه بالموسيقى؛ ولم يمض عامان حتى وضع أولى مقطوعاته الموسيقية؛ وفي الرابعة عشرة وضع أولى (أوبراته)، وفي الثامنة عشرة أتم فبير دراسته الموسيقية، وغدا علماً يشار إليه. وتولى رياسة الفرقة الموسيقية في برزلاو -(187/72)
وقام بتنفيذ موسيقى (طيطوس) لموتسارت ثم التحق بخدمة دوق فرتمبرج. وبعد أن تنقل حينا في قصور هذا الأمير اتهم بالتدخل في الشؤون السياسية فقبض علية وزج إلى السجن. ولما أطلق سراحه تقلب حينا بين مانهايم ودارمشتات وبامبرج حيث تعرف بالكاتب الأشهر هوفمان، زار ميونيخ وهنالك مثلت (أوبرته) (أبو حسن) ثم قصد إلى فيمار وتعرف بشاعر ألمانيا الأكبر جيته، وأشتغل بعد ذلك في درسدن وفي برلين واشتهرت أوبراته ومقطوعاته الغنائية؛ وكانت أشهر قطعه (فراي شتس) التي نالت في عصره أعظم نجاح، والتي تعتبر فاتحة عهد جديد في تاريخ الموسيقى وهذه القطعة التي حملت فاجنر فيما بعد على أن يقول (لم يوجد موسيقى أكثر ألمانية من فبير)
وتوفي فبير في الأربعين من عمره في لندن ثم نقل رفاته بعد ذلك إلى مدينة درسدن تثوي إلى يومنا.
عيد جريدة الطان
من أنباء باريس أن جريدة (الطان) كبرى الصحف الفرنسية قد احتفلت بعيدها الخامس والسبعين في حفل فخم أقيم في بهو الاستقبالات بقصر أورسي وشهده جمع عظيم من الوزراء والنواب وأكابر الكتاب والفنانين ورجال المال والصناعة وأعضاء الأكاديمية والمجمع العلمي، وخطب فيه عده من الوزراء وأقطاب التفكير الفرنسي مثل مسيو أندريه تاردييه، ورنيه بو، وجاك شاستنيه وغيرهم منوهين بعظمة الطان وعظمة المهمة التي تضطلع بها وكونها فخر الصحافة الفرنسية بلا مراء سواء من حيث رصانتها وسمو تفكيرها أو أسلوبها الرفيع المتزن، والواقع أن الطان على رغم ثوبها المحافظ وحرصها على القديم وأحجامها عن مجاراة التطور الصحفي المعاصر من حيث التصوير والتنويع، تبقى عميدة الصحافة الفرنسية من حيث غزارة مادتها وقوة تحريرها ونزاهة غايتها واحتشام أسلوبها
وقد أسست الطان منذ خمسة وسبعين عاماً سنة 1861 في أواخر الإمبراطورية الثانية؛ وكان مؤسسها صحفيا يدعى نفتزر. أسسها أولا لخدمة التجارة الدولية. ثم تحولت إلى جريدة سياسية قوية، أهم مظاهرها إذاعة الأنباء الدولية؛ ثم كانت المرحلة الثالثة في عنايتها بالعلوم والآداب والنقد؛ وكتب فيها أئمة التفكير الفرنسي مثل شيرر وسانت بيف(187/73)
وبريسون وبلان، وكتب فيها عظماء الوزراء والساسة مثل بوانكاريه وتاردييه. وقد اشتهر مراسلوها الخارجيون بأنهم أعظم مراسلين من نوعهم حتى قيل في المثل أن فرنسا لها سفيران: (السفير الفرنسي ومراسل جريدة الطان) وأشرفت على إدارة هذه الصحيفة الشهيرة مدى نصف قرن أسرة ايبرار، التي أنجبت عدة من كبار الصحفيين والكتاب، وكان أخرهم في الإشراف عليها أميل ابيرار الذي تخلى عن إدارتها منذ نحو عشرة أعوام.
أيام تولستوي الأخيرة
صدرت أخيراً ترجمة إنكليزية لمذكرات الكونته تولستوي زوج الكاتب الروسي الأشهر ليون تولستوي بعنوان (المعركة الأخيرة) ترجمها ومهد لها الكاتب الإنكليزي الميرمود. وقد ذاعت عن أيام تولستوي الأخيرة قصص عديدة، فقيل إنه في أواخر حياته كان يعيش عيشة الفلاحين الذين اعتنق قضيتهم؛ وقيل إنه رجل نظري لا يفعل ما يعتقد. فهذه المذكرات التي كتبها عن هذه المدة من حياته ألصق الناس به تبدد كثيرا من الأخطاء الذائعة وتلقي ضوءاً كبيراً على خاتمة الكاتب العظيم في مقامة الهادئ في (سنايا بوليانا)
وقد اجتمعت أسباب عديدة لتنغص عيش تولستوي في أعوامه الأخيرة، وأهمها الدسائس والشجار المتواصلة بين زوجه وأبنائه من ناحية، وبين أبنته الكبرى وهي أعظم أصدقائه. وكان تولستوي يود في تلك الفترة أن يترك العالم لينقذ روحه، وكانت ثمة مسألة مؤلفاته ولاسيما مذكراته وكلها ذات قيمة أدبية ومادية معا. وهذه المذكرات التي تنشر اليوم تشمل سنة 1910 التي توفي فيها تولستوي. وفيها مذكرات كثيرة من تحرير تولستوي نفسه عن أحواله وشؤونه اليومية.
وكانت هذه المذكرات بين تراث أسرة تولسيوي حتى صحت عزيمة ولده سيرجي على طبعها وإخراجها، وقد تولى ترجمتها الميرمود صديق تولستوي وأخرجها في أسلوب صادق مؤثر كما هي في أصلها، ومهد لها بمقدمة بديعة يحلل فيها شخصية الكاتب العظيم تحليلا يدل على الوفاء والإعجاب الذي لا حد له، وشرح كثيرا من مواقفها وغوامضها. وما كادت هذه الترجمة الإنكليزية تصدر حتى هرع القراء إلى اقتنائها بسرعة مدهشة دلت على ما لذكرى الكاتب العظيم من الأثر والصدى.
جائزة للقصص التاريخي(187/74)
كانت جريدة (الانترانسيجيان) الفرنسية قد خصصت منذ حين جائزة مالية كبيرة، تقوم بمنحها الأكاديمية الفرنسية والمعهد العلمي لمؤلف أحسن قصة تاريخية تعرض فيها حقائق التاريخ في أسلوب القصص الرفيع. وقد عقد أخيراً اجتماع كبير من بعض أعضاء الأكاديمية وكثيرين من رجال الأدب لتخصيص هذه الجائزة عن سنة 1936، وكانت لدى اللجنة عشرة مخطوطات جديدة، فنال الجائزة المسيو روجيه رجيس عن قصته التاريخية التي عنوانها وهي قصة تدور على أسر نابوليون الثالث في الحرب السبعينية في قلعة (هام) وبطلتها فتاة حسناء هي (صانعة قباقيب)؛ ومع أن للواقعة أصلا تاريخيا لاشك فيه، فإن المؤلف استطاع أن يخرج منها قصة خيالية ممتعة.
وقد تبوأت القصة التاريخية مركزها في الأدب الفرنسي في العصر الأخير بنوع خاص وكان كتابها في الغالب مؤرخين من الطراز الأول، وكان أستاذ هذا الفن من المعاصرين المؤرخ لينوتر الذي توفي منذ نحو عام، وكان يكتب قصصه التاريخية في جريدة (الطان) بعنوان (التاريخ الصغير) وفيها يحي شخصيات وحوادث تاريخية مجهولة ويسبغ عليها من قلمه سحراً لا يبارى
ألمانيا وكتابها المنفيون
أصدرت الحكومة الألمانية أخيراً قانوناً ينزع الجنسية الألمانية عن طائفة كبيرة من الكتاب والمفكرين الذين يخاصمون النظام الهتلري والذين غادروا ألمانيا منذ بدء الحركة اتقاء الفتك والمطاردة. ومن هؤلاء الذين نزعت عنهم الجنسية الكاتب القصصي الكبير توماس مان وجميع أفراد أسرته، والمؤرخ الكبير الأستاذ ديتريش فون هلد براند الذي يشغل الآن كرسياً في جامعة فينا، وعدة كبيرة من الكتاب والصحفيين والفنانين الذين يقيمون في مختلف العواصم الأوربية. وهذا آخر إجراء تتخذه الحكومة الهتلرية في شأن هؤلاء الكتاب المنفيين بعد أن نزعت كل أملاكهم وحرمت نشر كتبهم في ألمانيا.
حياة النور
النور أو الغجر من الشعوب البدوية المدهشة التي مازالت تحتفظ بعاداتها وتقاليدها القديمة وسط أمواج الحضارة المحدثة. ومع أن النور يستقرون جماعات كبيرة في أواسط أوربا،(187/75)
ولاسيما في المجر ورومانيا، فإنهم بدو في أعماق نفوسهم بمعنى انهم لا يستقرون على أسلوب معين في الحياة. وقد صدر أخيراً بألمانيا كتاب عن هذا الشعب الغريب بقلم الدكتور مارتني بلوك عنوانه (النور: حياتهم ونفسيتهم) , وأصدره معهد التراجم بمدينة لايبزج، ويتناول المؤلف حياة النور وخواصهم وعاداتهم، ثم يحاول شرح نفسيتهم ومشاعرهم وتفكيرهم بطريقة تدل على تعمقه في هذا البحث. ويبين محاسن عاداتهم التي مازالت تقوم على الفطرة والسذاجة كما يبين مساوئهم وميولهم الخبيثة التي أملتها عليهم عصور من التشريد والاضطهاد. ومع أنه ينحو في مؤلفه نحواً علمياً رزيناً فإنه يتبع في نفس الوقت في عرض آرائه أسلوباً بسيطاً جذاباً؛ ويفيض المؤلف في خواص النور النفسية والفكرية والفنية، ويصف براعتهم في بعض الفنون مثل الموسيقى التي اشتهروا بها ونحو فيها نحواً خاصاً لا يباريهم فيه أحد.
مع أن مصادر هذا البحث ليست كثيرة، فإن الدكتور بلوك استطاع أن يجمع في مؤلفه شوارد موضوعه بإفاضة، وأن يجمع فيه كثيراً من المسائل والحقائق التي تلقي ضياء كبيراً على حياة هذا الشعب الغريب الذي مازال ينظر إليه أينما حل بعين البغض والريب
جريدة الشباب بدلاً من الشورى
جاءنا من الأستاذ محمد علي الطاهر أنه اتفق مع الأستاذ محمود عزمي على أن يتولى إصدار جريدته (الشباب) بشكل آخر في خلال شهر فبراير المقبل.
وهو يرجو من أصدقاء الشورى القدماء أن يمنحوا الجريدة الجديدة نفس الثقة التي منحوها للشورى، وسيظل عنوانه كما كان: 30 شارع عبد العزيز بمصر تليفون 56800(187/76)
الكتب
شرح الإيضاح
تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
أتمت المطبعة المحمودية التجارية ومكتبتها بالأزهر بمصر طبع الجزء الثالث من شرح الإيضاح في علوم البلاغة للأستاذ عبد المتعال الصعيدي المدرس بكلية اللغة العربية
وقد بدأ في هذا الجزء بشرح قسم علم البيان من كتاب الإيضاح وأتمه فيه، وسار في شرحه على منوال الجزء الأول والثاني لا يعنى بالمماحكات اللفظية والمناقشات التي لا تتصل بصميم علوم البلاغة، وإنما عني بتحقيق مسائل هذه العلوم، وبشرح شواهدها ونسبتها إلى أصحابها. وقد يذهب في ذلك إلى مخالفة من سبقه من علماء هذه الفنون، كما ذهب في هذا الجزء إلى أن وظيفة علم البيان تخالف وظيفة علم المعاني مخالفة تجعله علماً مستقلاً عنه، وليس شعبة منه، كما ذهب إليه الإمام السكاكي ومن تبعه
فوظيفة علم المعاني على هذا تطبيق الكلام على مقتضيات الأحوال، ومرجع ذلك إلى مراعاة ما يرجع فيه من جهة البلاغة؛ ووظيفة علم البيان معرفة إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة من الدلالة ليعرف ما يقبل منها وما لا يقبل، ويحترز بهذا فيها عن التعقيد المعنوي؛ ومرجع ذلك في الكلام إلى مراعاة ما يجب فيه من جهة الفصاحة بقطع النظر عن مراعاة مقتضى الحال وإن كان لابد من ذلك فيه، ولكن هذه وظيفة علم المعاني، وشأنها من وظيفة علم البيان كشأن وظيفة علم النحو وغيره منها
وعلى هذا لا يكون من شأن علم البيان أن ينظر في مثل قول امرئ القيس:
ألم تسأل الربع القديم بعسعسا ... كأني أنادي إذ أكلم أخرسا
من جهة مطابقته لمقتضى الحال أو عدم مطابقته له وإنما ينظر فيه من جهة فساد التشبيه، لأجل انه لا يقال كلمت حجراً فلم يجب فكأنه كان حجراً، وإنما الجيد في ذلك قول كثير عزة:
فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت
كأني أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصم لو تمشي بها النفس زلت
وكذلك ينظر في امرئ القيس:(187/77)
وأركب في الروع حيفاتة ... كسا وجهها سعف منتشر
من جهة فساد الاستعارة فيه؛ لأنه إذا غطى الشعر العين لم يكن الفرس كريماً، ولا يعنيه في ذلك اعتبار المطابقة وعدمها
وكذلك ينظر في قول أبي تمام:
رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه ... بكفيك ما ماريت في أنه برد
من جهة أن الرقة لا تستعار للحلم، وإنما يوصف بالرجحان والرزانة كما قال النابغة:
وأعظم أحلاماً وأكبر سيداً ... وأفضل مشفوعاً إليه وشافعا
وهكذا يسير الشرح في علم البيان على هذا المنوال، يطنب إذا اقتضى المقام الإطناب. ويوجز إذا اقتضى المقام الإيجاز، فجزى الله مؤلفه عنه خير الجزاء.
(ص)
مرافعات
تأليف الأستاذ حسن الجداوي
كثير منا رأى الدفاع في قاعة المحكمة وهو يدافع عن المتهم. . يدافع عن المجرم! ويحاول بقوة حجته وشدة عارضته وذلاقة لسانه أن يحطم الأغلال والقيود التي تطوق الرجل ويطلقه من إساره. . . أو يرجو متى أفلت أمر الرجل من يده وغدا مصيره إلى الظلمات أن يعامل بروح القانون. وكثير منا أنصت إلى وكيل النائب العام وهو يحمل على المتهم، ويدافع عن الإنسانية المعذبة في أشخاص هؤلاء المجرمين السفاكين الذين يسودون وجه الحياة المشرق النظير ويلطخونه بالدماء، لا يزجرهم زاجر ولا يأخذ على أيديهم قانون. ولكن قليلاً منا من فكر في الظروف القوية التي تسوق المجرم إلى الإجرام، قليل منا من فكر في ظروف الحياة القاسية التي تخلق المجرمين والسفاكين وتدفعهم إلى ارتكاب أشنع الآثام. قليل من الناس من يفكر كما يفكر الدفاع وهو يدرس القضية ويقف أمام القضاء يشرح أدوارها ويبسط فصولها ويلقي الضوء القوي الباهر على ما خفي منها من أسرار.
هذه المرافعة البيانية القوية لها أثرها المحمود في نفوس القضاة ونفوس الناس فكثيراً ما تقسوا الحياة وتتضافر العوامل السيئة على المتهم المسكين، فلا ينقذه إلا محاميه ومرافعة(187/78)
محاميه، متى كانت قوية خلابة كهذه المرافعات التي بين أيدينا الآن، والتي ترجمها الأستاذ حسن الجداوي عن الفرنسية وتخير فيها قضايا إنسانية تقع في كل بلد وتجري في كل محكمة وتدور على كل لسان. فقضايا حرية الرأي والصحافة والدفاع عن العرض، والقتل بدافع الغيرة والشفقة، والخيانة الزوجية التي يضمها هذا الكتاب القيم، كلها قضايا إنسانية لا تقف على بلد واحد وشعب واحد. ولقد أبدع المترجم في الترجمة خير إبداع، ووفق أحسن توفيق، فجاء كتابه تحفة أدبية رائعة أكملت نقصاً محسوساً في المكتبة العربية وسدت فراغا كبيراً في الأدب القضائي
وسيجد القارئ في مرافعة بعض المحامين الفرنسيين منطقاً أخاذاً ولساناً رائعاً دعم بالدراسة الفنية الدقيقة كمرافعة جوزيه في قضية التجميل حتى قال عنها زميله وخصمه (لقد أدهشتني مرافعة الأستاذ جوزيه تيري بما فيها من معلومات طبية أنحني أمامها، كنت أسائل نفسي أيهما أخطر علي الأستاذ جوزيه تيري أو الدكتور جوزيه تيري؟) وهذا أقل ما يجب أن يكون عليه المحامي في هذا العصر، إحاطة شاملة بعلم التشريح وعلم الإجرام وعلم النفس
وفي قضية حرية الدفاع سيقرأ القارئ دفاعاً فذاً فيه بلاغة وقوة وبيان وحجج منطقية وكلام يجري مجرى الأمثال (إن القوانين لم تعد تطبق بل أصبحت تفسر، وتفسر دائماً بالمعنى الذي لا تدل عليه ولا إرادة المشرع لها. . . إنهم يعذبون القوانين ليجعلوها صالحة لتعذيب الناس) وما الذي سيقوله القارئ بعد هذا الكلام.
وفي محاكمة شارل الأول ترى صورة قوية للشعب الإنجليزي الصابر الباسل المتفاني في حب مليكه حتى في عهد كرمويل.
وفي القرن الماضي أعدم مجرم شقي بطريقة همجية وحشية فثار شارل هيجو ابن شاعر فرنسا الكبير فوصف الحادث في الصحف وحمل عليه حملة شديدة وسيق بعدها إلى المحاكمة. ومما كتب قوله:
(ما الذي ارتكبه هذا الرجل ضد الهيئة الاجتماعية؟ أنه قتل. . وما الذي فعلته الهيئة الاجتماعية بذلك الرجل؟ إنها عذبته. . . ولكن أتدرون ما الأثر الذي تركته فعلتكم؟ لقد أتيتم أمرا إدا، فيه قسوة وفيه وحشية وفيه إيلام. . إنكم بدلاً من أن تكسبوا عطف الجمهور(187/79)
المشاهد لجانب القانون كدتم تحولون عطفه لجانب المجرم. لقد أخفق الجلاد الأول فجئتم بثان، وبعد نصف يوم من جهاد مستمر أستطعم آخر الأمر أن تقهروا الرجل، وتمسحوا في آن واحد الدم من نصل المقصلة والعرق من جباهكم. . لا لا. إن الإعدام ليس بالمنظر الجميل. . .)
ومرافعات الكتاب كلها قوية بليغة وهي على نسق قصصي يسر ويشوق، ويعرض صوراً بارزة من الحياة. وسيجد فيها القارئ لذة خالصة وفائدة محققة، أما المحامي فسيطلع في لغته على مرافعات يكفي أن يقال عنها إنها لأفذاذ رجال القانون.
هذا والكتاب مطبوع طبعاً جيداً على ورق ناعم وغلاف مقوى وهو يقع في 180 صفحة من القطع الكبير وهو مفهرس الأعلام حسن التبويب زهيد الثمن.
ونرجو ونحن نهنئ المؤلف على جهده الأدبي المشكور أن يتحفنا دائماً بأمثال هذا الكتاب الرائع.
محمود البدوي(187/80)
العدد 188 - بتاريخ: 08 - 02 - 1937(/)
لو كنا نقرأ. . .
في مصر تسعمائة وتسعون في كل ألف لا يقرأون، وتسعة من العشرة الباقية ينتفون الأخبار من الصحف اليومية، ويقطفون النكت من المجلات الخفيفة؛ وواحد هو الذي يقرأ الكتاب المثقِّف ويطالع المجلة المهذِّبة؛ وهذا الواحد الأحد يدركه في أكثر العام فتور الطبع أو عدوى البيئة أو فوضى النظام فيعاف الكتاب، ويجتوي الصحيفة، ثم يقعد في مشارب القهوة يتقمع، أو يسير في مجالي الطبيعة يتأمل، أو يضطجع في مراقد السكينة يستجم. ذلك تقدير مقارب نتهجم به على (مصلحة الإحصاء) وفي يدينا استقراء متتبع لا يتهيأ لغير من قضى أكثر العمر في التعليم والتأليف والصحافة. وتقدير المؤلفين والكتاب في هذا الباب هو الكاشف الحق عن مكان الأمة من التربية القويمة والثقافة السليمة والرقي الصحيح. أما قياس درجة الرقي على نسبة القارئين بالقوة لا بالفعل، فذلك عمل كل ما يدل عليه أنه خانة في سجل التعداد - ماذا يردّ على العقلية المصرية إذا بلغ (فكاكو الخط) فينا مائة في المائة مادام فك الخط لا يطلق عقلا أسيرا ولا يجلو بصرا حسيرا ولا يذكي قريحة كابية؟ أوافق مصلحة الإحصاء على أن في الخمسة عشر مليون نفس أكثر من مليوني قارئ، وأن في هذين المليونين ألوفا من ذوي الشهادات المدرسية والدرجات الجامعية يستطيعون أن يكشفوا للعقل آفاق المعرفة، وينهجوا للنفس طرائق الكمال؛ ولكنك إذا وازنت بين عدد المتعلمين وعدد ما يطبع من الكتاب وما يوزع من الصحيفة خامرك الشك في إحصاء المصلحة، أو في تعليم المدرسة، أو في عقلك أنت! ينتشر في العام كله بضعة من الكتب يتراوح ما يطبع من كل واحد منها بين الألف والثلاثة، ثم تساق إلى قراءته بالطبل والزمر مصر جمعاء وفي معونتها العالم العربي أجمع، ومع ذلك لا تنفد طبعته المباركة بعد الأغراء بالإعلان والإهداء قبل خمس سنين!
أليس معنى ذلك أن هذا الشعب أمي وإن عرف حروف الهجاء، وعامي وإن تلقب بألقاب العلماء؟ تتبع الطالب من يوم دخوله روضة الأطفال إلى يوم خروجه من الجامعة؛ فهل تراه يقرأ - إن قرأ - إلا كتب المدرسة أو ملخصات المعلم أو فكاهات الصحف؟ إنك تراه ساعة الدرس وأذنه إلى فم الأستاذ، ويده على القلم، وعينه في الدفتر، يختصر ما اختصر، ويقتصر على ما أقتصر؛ وتراه ساعة الفراغ يحاول أن ينقشه بالتكرار على صفحة ذهنه، فيصدع رأسه بترديد ما لا يفهمه، ويغثي نفسه بإساغة ما لا يهضمه، حتى إذا خرج من(188/1)
المدرسة خرج مكروباً لا يتقار من الكلال والسأم، فينفس عن صدره بالفكاهة الرخيصة أو القراءة السهلة ? فإذا نال الشهادة بالحفظ تبعه هذا النفور إلى منصبه إذا كان عبد الوظيفة، أو إلى مكتبه إن كان حر العمل، فيكره الأدب لأنه يتذكر درس (المحفوظات)، ويعاف القراءة لأنه لم ينس درس (المطالعة)؛ وعمله وأمله لا يقتضيانه التعمق ولا المزيد، فيعود كما بدأه الله أمياً يعمل بالإرشاد، وفطرياً يهتدي بالغريزة. والمعلم الذي يخرّج التلميذ اليوم، كان هذا التلميذ نفسه بالأمس: أرسل إليّ مدرس في كلية الآداب كتاباً يسألني فيه أن أقطع عنه (الرسالة) لأنه لا يجد وقتا لقراءتها، وهو لا يلقاك إلا حدثك بما قالته المجلة الفلانية عن الفتاة فلانة، وما تهزأت به المجلة الأخرى من الأستاذ فلان؛ ثم سأله أحد طلابه ذات يوم عن (واسط) فقال له: أحسبها مكاناً في طريق القصير ? قرأت هذا الكتاب فعذرت وكيل المعرض الزراعي الصناعي وقد دخل عليه مندوب الرسالة يطلب إليه (تصريحاً صحفياً) بدخول المعرض، فقال له وإمارات التعجب الساخر تتخايل على جبينه العريض: ولكني لم أر هذه (الرسالة) قط! فلم يجبه مندوبنا وإنما أجابه حاجبه هو بقوله: لا، يا بك! هذه مجلة صفتها كيت وكيت؛ وأنا وابنتي نقرأها كل أسبوع، ونجلدها كل سنة ? سمعت هذا الخبر فعذرت ذلك الباشا القاروني الذي أهديت إليه الرسالة لصلة بين أخي وبينه، فردها علي وقد كتب على غلافها الأبيض بالقلم الغليظ: (مرفود) فوقع في نفسي أن الباشا يتشبه بالملوك والخلفاء، في رفد المعوزين من الأدباء والشعراء، فهممت أن أكتب إليه أشكره وأستعفيه لولا أن نبهني صديق أوتي منطق الناس أن (مرفود) معناها (مرفوض) ولا أريد الترسل في هذا الحديث، ففي ذاكرة كل صحافي من بابه طرائف وأعاجيب
الحق أننا لا نزال أمة أمية ننظر إلى الكتاب نظر المتعظم الخائف، أو المتقنع العازف؛ ومادمنا لا نرى الكتاب ضرورة للروح، كما نرى الرغيف ضرورة للبدن، فنحن مع الخليقة الدنيا على هامش العيش أو على سطح الوجود
تتطور المذاهب والآراء، كما تتطور الحلي والأزياء؛ فإذا لم تتقصّ بالقراءة المتجددة أخبار هذا التطور في أطراف الأرض عشت في عصرك غريب العقل أجنبي الشعور وحشي الثقافة، كالذي يلبس في الناس زيا مضى بدل زي حضر
إن من وظائف المدرسة أن تعودك القراءة وتعلمك كيف تقرأ، وإن من وظائفك أن تقرأ(188/2)
وأن تعرف ماذا؛ فإذا لم تفعل هي فقد قصرت عن رسالة، وإن لم تفعل أنت فقد فرطت في واجب
ليت الذين يطلبون من الأدباء أن ينتجوا ويجيدوا الإنتاج، يطلبون من القراء أن يقرءوا ويحسنوا القراءة. فلو كنا نقرأ لخلقنا الكاتب والكتاب ولو كنا نقرأ لأخصبنا حقول المعرفة فأزهرت في كل مكان وأثمرت في كل نفس؛ ولو كنا نقرأ لما كان بيننا هذا التفاوت الغريب الذي تتذبذب فيه الأفكار بين عقلية بدائية وعقلية نهائية؛ ولو كان العالم العربي يقرأ لنشر من الكتاب زهاء مائة الألف، ووزع من الصحيفة قرابة المليون؛ وإذن تستطيع أنت أن تتصور كيف تزهر الثقافة وتنتشر الصحافة ويتنوع الأدب ويرقى الأديب!
أحمد حسن الزيات(188/3)
حديث مجلس
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
زارني صديق، ففعلت ما يفعل المرء مثله في العادة حين يجيئه ضيف: قدمت له السجاير ليأخذ منها واحدة وأشعلت عود الكبريت. وكنت لا أشعر برغبة في التدخين في تلك اللحظة، فكانت أصابع إحدى يدي ممدودة إليه بالكبريت وأصابع اليد الأخرى تثني الغطاء على السجاير، فلما أشعل سيجارته رددت يدي إلى فمي وزممت شفتي لأنفخ وأطفئ النار ألفيتني أتردد ثم أتناول سيجارة.
وقلت لصاحبي وأنا أنفخ الدخان مثله (أرأيت. . . لم أكن أريد أن أدخن، ولكن العادة غلبتني حين رأيت النار في طرف العود بين أصابعي، وأنا أغالط نفسي وأقول لها مازحا إن الكبريت أغلى من السجاير، وإن من سوء التدبير أن أضيع عود الكبريت من أجل سيجارة واحدة. وتروقني هذه المغالطة لأنها تفتح لي باب القياس والتمثيل فأقول إن الإنسان كثيرا ما يضيع الكثير من جراء حرصه على القليل فما رأيك؟)
قال: (رأيي أن هذا صحيح. وسأقص عليك قصة)
قلت: (هاتها)
وسرني أني أطلقت لسانه وأنه صار في وسعي أن أستريح من الكلام، فإن من نقائصي أني طويل الصمت وإن كنت في العادة ثرثاراً عظيما، واحسبني أهرب بالصمت من الناس، وبالثرثرة من نفسي
وسمعته يقول: (كنت منذ سنوات أتعلم العزف على الكمان، وكان معلمي تركيا ضيق الصدر من أولئك (المولوية) الذين يعيشون في التكايا ويزجون فراغ الحياة بالموسيقى وما تغري به. وكنت قد اشتريت (فرسا) جديدة للكمان - والفرس كما تعرف هي قطعة من الخشب المنجور ترفع عليها الأوتار، فلما رآها أستاذي غضب ورماها وقال إنها غليظة، وذهب يعنفني ويؤنبني كأنما كنت أنا صانعها، أو كأنما كنت أدري قبل ذلك شيئا عن الكمان والأوتار والفرس، فكرهت سوء خلقه وثقل على نفسي سلوكه وزهدت في التعلم - على هذا الرجل على الأقل - وزارني بعد خروجه صديق رآني منقبضا متجهما، فسألني عن السبب فحدثته به، فأحب أن يرى هذه (الفرس) التي أثارت كل هذا الخلاف، وكانت لا(188/4)
تزال على الأرض، فأشرت إليها فتناولها وقال: (هذه) وجعل يقلبها في يديه مستغربا، ثم طلب أن أدعها له، فقلت: (خذها يا سيدي) فما لها قيمة في الحقيقة فإن ثمنها لا يزيد على قرشين، ولكن معلمي كان ممن يخلقون من الزبيبة خمارة عظيمة
ومضى بها صاحبي ونسيت الأمر كله جملة وتفصيلا، وإذا به بعد سنة أو نحو ذلك يقول لي أنه يتعلم العزف على الكمان وإن الدافع له على ذلك والمغري به كان هذه الفرس التي ظل بضعة شهور يخرجها من مكانها كلما خلا إلى نفسه ويتأملها
وهو الآن من خير هواة العزف على الكمان
قلت: (وأنت)
قال: (أنا. . انقطعت عن الدرس. . لم أجد أستاذا أقدر منه أو مثله قدرة وإن كنت وجدت كثيرين أرحب صدرا. . . على أني كنت أدور على المعلمين كارها وبي فتور شديد فكففت)
قلت: (هل تعلم أني أنا أيضاً تعلمت العزف على الكمان. . ظللت أتعلم أكثر من سنة. . فلو أني واظبت لكنت الآن من أمهر العازفين على هذه الآلة. . خمس وعشرون سنة. . من يدري. . لعلي كنت خليقا أن أتحول عن الأدب إلى الموسيقى. ولكن قلة الصبر. . والخجل من أن يسمع الجيران الأصوات النابية التي أخرجها. . والاستحياء من أن يعرف عني أني مبتدئ، كل هذا صرفني. . كما صرفتني عوامل أخرى عن الشعر. .)
فابتسم وقال: (والآن؟)
قلت: (الآن. . أنا الذي كنت خليقا أن أكون شيئا. ولكن. . لا بأس. . أرانا بعدنا جدا عن الموضوع)
فابتسم مرة أخرى وقال (لا بأس. .)
قلت: (صدقت. . كل شيء ككل شيء في هذه الحياة. . هبني كنت الشيء الضخم الذي كان يغريني الصبى والخيال الجامح بالطمع فيه والتطلع إليه فماذا إذن؟.)
قال: (كنت تكون أشد رضى عن نفسك)
قلت: (كنت أشعر. . كلا. . كان رأيي في نفسي يبقى كما هو. . ربما غرني رأي الناس أحيانا، ولكن بلائي أني حين أغتر أدرك أني مغتر فيسلبني إدراكي هذا متعة الغرور. .(188/5)
لست أقول إني غير قابل أو مستعد للغرور أو عرضة له، فإني كغيري في هذا، والغرور لازم لإطاقة الحياة، وبغيره لا أدري كيف يطيق الناس عيشهم. ولكني لا أزال أدير عيني في نفسي وأتأملها وأفحصها وأنكت تربتها كما ينكت المرء الأرض بطرف العصى، وأخلق بهذا أن يكشف للإنسان عن حقائق غير التي يزيفها أو يموهها الغرور. . وأول ما يعرفه المرء - بفضل الفحص المتواصل والتدبر المستمر - هو حدودها، ومتى عرف المرء حدود نفسه فأيقن أنها لن تغيب عن عينه قط. . وقد يعالج توسيعها وإفساح ما بينها. . ولكنها تظل ماثلة أبدا. . والشعور بهذه الحدود كرب وبلاء. . والجهد الذي يبذله الإنسان لعلاج النقص الذي يشعر به في نفسه كرب آخر. . آلة محدودة القوة تريد أن تبلغ بها ما تستطيعه آلة أخرى أقوى منها. . هذا الجهد ماذا تظنه يكلف الآلة المسكينة المحدودة القوة والعزم. . وفوق كل قوة أخرى أعظم. . وتجاهد حتى تبلغ بنفسك فوق ما كان ظنك أنها قادرة عليه فلا تقنع بهذا. . لأن هناك مرتبة أعلى ومنازل أخرى أسمى، فأنت لا تزال تستحث نفسك وتدفعها وتخزها. . ولانهاية لهذه الدائرة. . وهذه هي حياتنا جميعا. . في الحقيقة والخيال. . محاولات مستمرة لعلاج ما نحسه من نقصنا. . ولا يخلو هذا من جانبه المضحك. . فقد يعيينا أن نصلح الفاسد ونعالج الضعف، أو أن نعوضه من ناحية أخرى قابلة للزيادة والنمو فنروح نستر العيب أو الضعف أو النقص سترا نظنه وافياً كافياً أو نحتال لنبدو كأن قوتنا هي في هذه الناحية التي نعرف ضعفنا فيها. والإنسان ليس بشيء إذا لم يكن منافقاً مرائياً ودجالا كبيرا).
فقال صاحبي: (أو لا يدرك المرء حدود نفسه إلا إذا دأب على إدارة عينه فيها؟)
قلت: (لا. . ليست هذه سوى طريقة واحدة لمعرفة النفس، ومثلنا العامي يقول إن سكة أبي زيد كلها مسالك. ولا أعرف من هو أبو زيد هذا. ولكني أعلم أن المعرفة سكتها كثيرة المسالك. ومن المسالك التجربة والمعاناة. والتجربة تتيح للإنسان أن يقيس ما عنده إلى ما عند سواه فيعرف في أية ناحية قوته، وفي أي النواحي نقصه وضعفه وتقصيره. . وأعترف لك بحقيقة. . لقد كنت في سني وفي ميعتي يهولني أن أرى نفسي عاجزاً عن الحب الذي أرى غيري قادراً عليه. . . نعم كنت أشعر بالإعجاب وبسحر الجمال وفتنة الحسن، ولكن شعوري هذا كان لا يطول ولا يلبث أن يفتر. . ولم يكن الحب عندي أكثر(188/6)
من مظهر رغبة وقتية تزول إذا زال الداعي إليها كما يجوع المرء فيشتهي الطعام، حتى إذا أصاب شبعه صد عنه ولم يعد يذكر إلى أن يجوع مرة أخرى. . . فلا أرق ولا شوق ولا أحلام ولا بكاء، وإذا حرمت حظاً في باب الحب فكما يحرم المرء نصيباً من لون من ألوان الأكال كان يشتهي أن يفوز به. . وما أكثر ملايين الناس الذين يعيشون محرومين ويعلمون أنهم محرومون ومع ذلك يحيون ويسعدون بالحياة. . . كذلك كنت. ولم يكن إخواني كذلك، ولا كان الذين اقرأ أخبارهم في كتب الأدب مثلي، فكنت استغرب وأنكر من نفسي هذا الجمود أو إن شئت هذه الحصانة أو المناعة من الحب بالمعنى المعروف المألوف. الحب الطاغي العنيف الذي لا يفتر ولا يخبو له ضرام والذي يذكرك بمجنون ليلى وأشباهه. فأغراني هذا الذي بلوته من نفسي بالتكلف ولججت في التكلف حتى لكان يخيل إلي أحياناً أن الأمر صار جداً لا هزل فيه. وكنت أشجع نفسي على الأرق وأحثها على التذكر والشوق، وألح عليها بأجمل شعر الغزل في الأدب العربي والآداب الغربية لأوحي إليها الروح الذي ينقصها، وكنت أتمثل هذه الحالات التي يصفها الشعراء واسمع بها من الأخوان، وأروض نفسي على مثلها وأجعلها تستغرقني حتى قلت شعرا كثيرا في ذلك لا يشك قارئه في أنه صادر عن عاطفة صادقة عميقة قوية. ولم أكن أنا أشك في أن الأمر كذلك أيام كنت أقول هذا الشعر لأني لم أزل أعالج نفسي بالإيحاء إليها حتى صار الأمر أشبه ما يكون بالحقيقة. ولكني كنت في أعمق أعماق نفسي أدرك الحقيقة. وكنت أمتحن نفسي أحياناً بالبعد فلا أراني اشتاق أو أتلهف أو أتحسر أو أصبو إلى آخر ذلك. وأخيرا مللت هذا التكلف. وهذا من أسباب تركي للشعر. وثم أسباب أخرى ولكن هذا من أكبرها إذا لم يكن أكبرها).
فاستغرب صاحبي وجعل ينشدني بعض ما يحفظ - وما نسيت أنا - من شعري، ويسألني أكان هذا تكلفا، فقلت له (لم يكن الشعور الموصوف في هذه الأبيات كاذبا، فانه كان صادقا في ساعته. . كان حبا قصير العمر جدا. . حب ساعة. . إعجاب إذا شئت، نشوة عارضة كنشوة الخمر. وكونها عارضة. . . من فعل الخمر أو بتأثير الحسن لا يمنع أن الشعور الذي تحدثه صادق في حينه. وقد يلح المرء على نفسه بالإيحاء إليها حتى يشعر بما يشعر به العاشق الحقيقي. فيكون شعوره أيضاً في حينه صادقا. ولكن بعد ذلك. . بعد أن يثوب(188/7)
الرشد الذي أضاعه الخمر، ويرجع الاتزان الذي أفسده منظر الحسن، أو تعود الحالة الطبيعية التي اضطربت من جراء الإيحاء. بعد ذلك يذهب ما جاءت به النشوة الوقتية، وقد أفادني علاج نفسي ورياضتها على أن تستغرقها الحالة التي أتمثلها. نعم بقيت عاجزا عن العشق وفي أمان من جنون الحب فإن هذه طباع لا حيلة لي فيها، ولكني أصبحت بفضل هذه الرياضة أستطيع حين أفكر في شيء أو أكتب شيئاً أو أشغل بأمر أن أذهل عن الدنيا فلا أسمع ولا أرى، ولا يستطيع شيء أن يصرفني عما أنا فيه. . خرجت بفائدة على كل حال. وكثيرا ما ترى الإنسان يطلب شيئاً فيخطئه ويفوز بغيره.)
فقال (ولكنك محروم وهذا فظيع)
قلت (كلا. أنا على نقيض ذلك سعيد. مستريح من وساوس الحب وبلابله وهواجسه وتخريفه، وفي وسعي دائما أن أمتع نفسي بالحسن وأنا هادئ الأعصاب مدرك لما أنا فائز به بلا إسراف أو غمط في التقدير، ومن غير أن أنغص على نفسي هذه المتع بعد ذلك بالوساوس والخيالات وما إلى ذلك مما يكابده المحبون. . . وأقول لك الحق إني أصبحت لا أصدق من يزعم أن حبه على نحو ما يصف الشعراء ومن إليهم. ولا أعتقد إلا أن ذلك نشوة يطيلون عمرها بالإيحاء. والإيحاء يا صاحبي - إلى النفس والى الغير - عامل خطير الأثر في حياتنا. صدقني)
قال: (ولكني جربت)
قلت: (ما أظن بك إلا أنك تخدع نفسك. وهذه سنة الإنسان أبداً. عد إلى نفسك وحلل خوالجك بلا خوف من مواجهة الحقيقة ولا جزع ولا إشفاق. اجعل من نفسك شخصاً مستقلا. طبيبا يفحص حالة ولا يعينه إلا ما يهتدي إليه. وانظر ما يكون. . ثم تعال واخبرني. وأنا واثق أن النتيجة ستكون مطابقة لما حدثتك به عن نفسي)
فوعد أن يفعل. . ولكنه لم يعد إلي
إبراهيم عبد القادر المازني(188/8)
في الأدب المقارن
التفاؤل والتشاؤم
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
حب الحياة كائن في طبيعة كل حي، والرضى بها والاطمئنان إليها والإقبال عليها شيمة جميع الأحياء مادامت بنياتهم صحيحة وحاجاتهم حاضرة، والمرح واللعب غاياتهم الأخيرة مادامت غرائزهم مقضية اللبانات مشعبة المطالب. ولما كان الإنسان يمتاز بالخيال والفكر فإن له مطالب نفسية غير مطالب جسده الغريزية؛ يرضى ويرتاح إذا قضاها، ويقنط ويكتئب إذا أخطأها؛ وليس يشكو الحي أو يألم، وليس يسخط الإنسان أو ينقم، إلا أن يغدو وهو سقيم الجسم أو محروم الغريزة أو ممنوع المطالب. فحب الحياة والإقبال عليها والرضى عنها هي الحال الطبيعية العادية، وذم الحياة والعزوف عنها والسخط عليها حال طارئة استثنائية، نتيجة لامتناع وسائلها وعدم مواتاة أسبابها.
فالمتشائمون قوم قست الحياة عليهم فحرمتهم قليلا أو كثيراً مما حبت به سواهم، فثاروا عليها وكالوا لها قسوة بقسوة، وجزوها على حيفها بمرير الذم والتفنيد؛ فلسنا نرى بين المتشائمين الزارين على الحياة والأحياء رجلا صحيح البدن معتدل المزاج مجدوداً واثقاً بنفسه، بل كلهم ممن أكسبتهم الوراثة والنشأة والبيئة أجساماً معتدلة أو أعصاباً مختلة، أو ألحت عليهم الخطوب فحطمت مساعيهم، أو اقتنعوا بعجزهم عن مصاولة الأحياء في ميدان الحياة، فأورثهم ذلك حساً مرهفاً متيقظاً إلى مواطن الشر والقسوة والنقص في الحياة، فقعدوا يبرون لها وللمقبلين عليها السهام.
وفي الحياة مواطن للنقص لا تحصى، يهتدي إليها الناقمون عليها بلا عناء، وهي تعرض مثالبها عليهم وتضع أصابعهم على نقائصها؛ بيد أن المتفائل المعافى الجسم الناجع المسعى قلما يلتفت إلى تلك المساوئ، وإذا التفت إليها فبرهة قصيرة يأسى فيها ويعتبر، ثم يعود إلى ما كان فيه من استمراء لمتعات الحياة واجتلاء لمفاتنها، متعزياً بهذه المفاتن والمتعات عن تلك النقائص والمقابح، باذلاً جهده لتوفير السعادة لنفسه ولمن حوله، ومحو ما يستطيع(188/9)
من أسباب الشقاء؛ على حين يظل المتشائم أمام ما يروعه من مساوئ الحياة قائماً، لا يريد أن يحول بصره إلى سواها، بل يهول تلك المساوئ كما يسول له حسه المرهف وخياله المغرق.
والأدباء وغيرهم من رجال الفنون عادةً أرهف حساً وأبعد خيالاً ممن عداهم، وما من أديب إلا تتجسم له مقابح الحياة جهمة مقززة في فترة من فترات حياته، فتعافها نفسه، وينقم عليها وعلى نفسه وعلى الأحياء جميعاً؛ فأما من كان متفائلا بطبعه معتزاً بنفسه واثقاً من قدرته على خوض وغى الحياة، فسرعان ما يخرج من تلك الغمة وتنتصر فيه دفعة الحياة القاهرة، فيلتفت إلى ما بالحياة من مباهج بجانب ما بها من مآس، ويطلب العزاء ببعض تلك عن بعض هذه، ويستن لنفسه مثلاً أعلى جديداً في الحياة؛ وأما المتشائم المحس بوطأة الحياة الثقيلة على جسمه المتعب وأعصابه المنهوكة ونفسه الخائرة، فيرفض كل عزاء ويأبى كل إيمان ويسخر من كل مثل أعلى
فالفرق الرئيسي بين المتفائل والمتشائم هو أن الأول يرضى العزاء والثاني يرفضه، والأول يؤمن بمثل أعلى والثاني يأبى الإيمان بشيء، فالمتشائم يرفض الدين فيما يرفض، فالتشاؤم والدين ضدان لا يلتقيان: التشاؤم إزراء بالحياة وإنكار لجدواها وتحقير لأبنائها، والدين يبشر بجدوى الحياة الصالحة ويبث العزاء في النفوس عن آلام الحياة. وما كانت الديانات الأولى كديانات المصريين والفرس إلا محاولة حاول بها الإنسان أن يفسر ما راعه من تجاور قوى الخير والشر في الحياة، وأن يتعزى بجانب الخير عن جانب الشر منها، أما والتشاؤم هو فقد الإيمان بالحياة ورفض العزاء عن شرورها، فالتشاؤم والدين نقيضان، ولا ترى متشائماً إلا يسر الإنكار للدين أو يعلنه، ولا مؤمناً معتصماً بدينه قد هوى في لهوات التشاؤم
وليس فقد الإيمان بالحياة ومثلها العليا - أو التشاؤم - ينتهي بصاحبه في كل حالة إلى الإسراف في رفضها واعتزالها، بل هو ربما أدى إلى إسراف مناقض لهذا: إسراف في انتهاب لذاتها القريبة وإشباع الغرائز النهمة منها، تناسياً لمنغصاتها وتخلصاً من لذعات التفكير في نقائصها؛ فالمتشائمون المعتزلون للحياة الناقمون على الإحياء الساخرون من المجتمع، والمتشائمون المستهترون باللذات المتهكمون بتقاليد المجتمع وأخلاقه، الخارجون(188/10)
على عرفه المصادمون له في عقائده؛ أولئك وهؤلاء سيّان في التشاؤم ورفض الإيمان والعزاء النفسي، أو قل هما طرفان متباعدان بينهما الوسط الذي يحتله المتفائلون الراضون بالحياة على علاتها، المتسلون بنعمائها عن بأسائها في قصد واعتدال، المتشبثون ببعض مثلها العليا
على أن المتشائمين أنفسهم لا يخلون من عزاء وإن توهموا سوى ذلك؛ وأشدهم إمعاناً في التشاؤم لا ينضب من نفسه حب الحياة، وعزاء أكثرهم هو ذلك الفن الذي يزاولونه، هو أدبهم الذي يودعونه فلسفتهم المتشائمة وخطراتهم القائمة، ففي كتابة أفكارهم تلك راحة لنفوسهم المعذبة وشفاء لغرائزهم الظامئة؛ ولولا أنهم ما يزالون يحبون الحياة في صميم أفئدتهم، على رغم إعلانهم الحرب عليها، لما لبثوا بساحاتها؛ ولو أنهم يزدرونها ويزدرون أبناءها بقدر ما يزعمون، لما حفلوا بتدوين آرائهم فيها وعرض تلك الآراء على أبناءها؛ ففلسفتهم المتشائمة تناقض نفسها بنفسها
فإذا كانت فلسفة تصدق أو تفسير للحياة يقبل، فليست فلسفة المتشائمين بالتي ترجح وتفسر الحياة، وليست رسالتهم التي يؤدونها إلى الإنسانية بالتي تقبل، لأن فلسفتهم كما تقدم تناقض نفسها، وتناقض طبيعة الحياة التي بثت حبها في جبلات أبنائها، ومهدت من متعاتها ما يرجح شوائبها، وزودت بنيها بالسلاح اللازم لهيجائها. ليست فلسفة المتشائمين بالمقبولة في جملة، وإن احتوت في أطوائها من صائب النظرات وبديع اللفتات وآثار الفكاهة والسخر والوصف والتحليل ما يمتاز به أصحاب ذلك المزاج، وما يهديهم إليه حسهم المرهف المستوفز وخيالهم المتيقظ المسترسل
وفلسفات المتشائمين في مختلف الأمم والأجيال متماثلة، ومواضيعهم متقاربة: إسهاب في شرح مظاهر تنازع البقاء، وإطناب في ذكر لئيم الطباع في الأحياء وفي الإنسان خاصة، وإصرار على تذكر الموت وكرور الزمن وحلول البلى، وتهويل لضعف الإنسان إزاء جبروت القدر، وتصوير لنفاق المجتمع وجور أنضمته، وتحقير للمرأة وموازنة بينها وبين الحياة؛ وآراؤهم في كل ذلك مردها إلى اضطراب تكوينهم وتزعزع ثقتهم بأنفسهم وحرمانهم من شتى مطالب الحياة؛ ففلسفة المتشائمين لا تدلنا على حقائق الحياة والكون، بمقدار ما تدلنا على نفوس أصحابها وأمزجتهم وعوامل تكوين أذهانهم(188/11)
فهم يجزعون لمرآي تنازع البقاء لإحساسهم بأنهم عزّل ضعفاء، وينحون على المجتمع بقوارع الكلم لأنهم عاجزون عن الانغمار فيه ونيل الحضوة والصدارة به، ويذكّرون الناس بالموت والدثور لأن الناس يتمتعون دونهم بالطيبات، فهم يسلّون أنفسهم بتكرار القول بأن تلك الطيبات عما قليل ذاهبة، ويخوفون الناس بجبروت القدر لأن غيرهم يتمتعون بالقوة والاقتدار، فهم يلوحون أمام أعينهم بالقدر الذي يتلاعب بهم ويضحك من تدبيرهم، ويرمون المرأة بالغدر والتقلب لأنها تفي لغيرهم، ويجاهرونها بازدرائهم إياها لأنهم يسرون الإحساس بازدرائها إياهم وإعراضها عنهم.
ولما كان مردّ المزاج السوداوي المتشائم إلى عوامل فردية محض، من وراثة أو بيئة، يظهر المتشائمون في شتى الأمم والأجيال متفرقين لا اتصال بينهم من مدرسة أو مذهب؛ على أن مسحة التشاؤم تطغي عادة في آداب عصور الأدبار السياسي والضيق الاقتصادي والفوضى الخلقية، فيسود الشك والرفض والتهكم المرير، كما كان الشأن في الأدب الروسي تحت الحكم القيصري؛ كما أن صبغة الأيمان والبشر والتفاؤل تغلب في عصور الرخاء والنجاح والمغامرة، وهي الصبغة التي سادت الأدب الإغريقي في عصره الذهبي عقب الانتصار على الفرس. فلما تلا ذلك عهد الأدبار ظهر السخر والشك ومذاهب الرفض والاعتزال من جهة، ومذاهب الاستهتار والإباحية من جهة أخرى
ولعل أشد أدباء الإنجليزية نكيرا على الإنسان وتهكما بمساعيه وتهويناً لشأنه هو جوناتان سويفت، وهو أديب نشأ نشأة ضنكة مقلقة، ولازمه داء في أذنه جشمه آلاما مبرحة، ومازال حتى طغى على عقله في أواخر حياته؛ وحالف الإخفاق مطامحه السياسية وصاحب النحس غرامه، فلم يبق له إلا الانزواء في عزلته ببعض بلدان أيرلندة، وإلا أن يقول لبعض أصحابه إنه يمقت ذلك الحيوان المسمى الإنسان من أعماق قلبه، وما ذاك إلا لما كابد من عنت الظروف والأمراض ولدد الخصومات وغصص الإخفاق، وهو الذي كان فيما عدا ذلك من أوفى الناس عهدا وأصفاهم ودا، وهو الذي عطف على الأرلنديين ودافع عنهم، على حين ناصبهم من قبل ذلك مواطنه وزميله في حرفة الأدب ادموند سبنسر. وكتاب سويفت (رحلات جليفر) على ما به من سلالة وفكاهة وبراعة تصوير، مملوء بالسخر المرير من الإنسانية.(188/12)
وزعيم التشاؤم في العصر الحديث توماس هاردي، الذي كانت أشباح الموت والبلى والقدر لا تبرح ناظريه، وكان لا يمل تكرار موضوعه الوحيد في شتى قصائده وقصصه: موضوع ضعف الإنسان وقلة حيلته وعبث مسعاه، حيال ضربات القدر الأعمى، ودوران رحى الزمن الطحون، فكان دائبا يتفنن في اختراع المواقف المفجعة والظروف المنحوسة، يتخذ مشاهدها في المقابر والبراري وفي الأيام الداجنة الكالحة، ويطيف أشخاص روايته بين الموتى، وينطق الموتى في أشعاره، ويغالي في تصوير فجائع الحب: بين الغدر والسلو والنسيان والغيرة وجفاف الجمال؛ فأشعاره لا تكاد تنتقل بك من غمة إلا إلى غمة، ولا من محنة للإنسان إلا إلى انتصار وحشي للأقدار عليه
ومعاصره أو خليفته في هذه النظرة المتشائمة إلى نصيب الإنسانية في الحياة هو هاوسمان، الذي كان يحاكيه كثيراً في اختيار مواضيعه وطريقة معالجتها وإجرائه الحديث فيها بين الأحياء والأموات. ومن نماذج ذلك الضرب من شعر التشاؤم قوله: (- أما برحت خيلي تحرث الأرض كعهدي بها، إذ أنا حي أسواقها واسمع صليل شكائمها؟ - بلى ما تزال تنقل خطاها وشكائمها تصل، ولم يتغير شيء برغم أنك قد رقدت تحت الأرض التي كنت من قبل تحرثها - أو ما تزال الكرة تترامى ويتسابق خلفها الرفاق على شاطئ النهر، وإن أك لا أستطيع اليوم نهوضاً؟ - نعم تترامى الكرة بينهم وكلهم باذل في اللعب جهده، وذلك مرماهم قائماً وحارسه لايني - وفتاتي التي شق عليّ فراقها، أسأمت البكاء واستطابت طعم الغمض؟ - نعم هي ناعمة في خدرها، فنم أنت وقر - وهل صديقي صحيح معافى وقد نحلت أنا وبليت؟ وهل وجد بعد فراشي فراشاً وثيراً؟ - أجل أنا يا صاح لي ضجعة كأروح ما يشتهيه الفتى: أسلي حبيبة رجل قضى، ولا تسألني حبيبة من)
ومن أمثلة الوراثة المختلة والمزاج السوداوي في تاريخ الأدب الإنجليزي كوبر وبيرون: كلاهما كان مضطرب التكوين اضطراباً أدى إلى ظهور الغرابة في مسلكيهما وأدبيهما. على أنهما رغم اتفاقهما في ذلك كانا يختلفان ثقة بالنفس: كان أولهما ضعيفاً متناهياً في الخجل، وكان الثاني مفرطاً في الزهو والاعتداد بمواهبه ونسبه، فقنع كوبر بحياة العزلة ولم يعلن على الناس حرباً، وإن ظهرت أعراض التشاؤم في كثير من شعره؛ أما بيرون فصادم المجتمع بمسلكه الخلقي كما هاجمه في شعره؛ ولما لفظه المجتمع الإنجليزي زاد(188/13)
عتوا وجرأة، وتحدياً لخصومه وتشفياً من مؤيدي النظم الاجتماعية التي كان يمقتها. هذا فضلاً عما حفلت به آثاره عامة من تصوير لضعف الإنسان وقصر مدته وعبث جهوده.
ورمز التشاؤم في العربية هو ولا شك المعري، الذي اجتمع عليه من أسباب التشاؤم ما لم يجتمع على غيره: من اعتلال التكوين الجسمي، واختلال الصحة، والحرمان من شتى اللذات، واضطراب العصر الذي عاش فيه، فجاءت فلسفته مثالاً نادراً لفلسفات المفكرين المتشائمين: حقر الإنسان. وأنذر ببطش الأقدار، وذكر بالموت، وشك في الدين، وأزرى بالمرأة، وندد بالمجتمع، وفند الحكام، وأطنب في تنازع البقاء؛ ورثى مع ذلك للإنسان ورأف بالحيوان، وضاق بنفسه كما ضاق بغيره وحرم على نفسه اللذات وعاش نباتياً ومات عزباً لم يجن على أحد، وعبر عن نظراته النافذة الحكيمة التي سبق بها عصره، تعبيراً شعرياً عربياً جزلاً ممتعاً؛ وكان صادقاً صريحاً: اعترف بأنه لم يختر تلك الحياة الضنكة إلا لأن سواها قد شآه، فهو القائل.
ولم أرغب عن اللذات إلا ... لأن خيارها عنى خنسنه
فقد كان لدقة حسه شديد الحرص على كرامته، شديد التوقي لمواطن السخر والزراية، فكان ذلك حائلاً بينه وبين ما تصبو إليه غرائزه من متعات، وكانت حياته معركة طويلة قائمة داخل نفسه، بين الرغبة في الاستمتاع بطيبات الحياة والإصرار على رفضها، لاستعصاء سبلها على الكفيف المجدور، إلا أن يبيح كرامته ويهدر حياءه. وما أطار خياله إلى طيبات الفردوس إلا حرمانه من طيبات الحياة وطول نزوع نفسه إليها. وما كان وصفه لمتعات الخلد إلا إرضاء لشهواته المخمدة تحت رماد التوقر والتقشف. وما كان تأليفه رسالة الغفران أو اتخاذه الخلد مسرحاً لها إلا تنفيساً عن مكتوم نوازعه؛ وبفضل هذه النوازع المكبوتة خلّف المعري الكفيف أثراً من آثار الخيال فريداً في اللغة، كان المبصرون من أدباء العربية منصرفين عن مثله
والمعري نسيج وحده في التشاؤم في العربية، يرفع راية الرفض للحياة والاعتزال لها والإزراء عليها، ويمارس في حياته ما ينادي به في أشعاره، ولا ينضوي تحت تلك الراية سواه: إنما كانت غالبية المتشائمين في العربية الذين نبذوا الإيمان ورفضوا العزاء وهانت عليهم الحياة فلم يجدوها أهلاً لسعي ولا لحفاوة هم طائفة المتشائمين المستهترين، الذين(188/14)
ظهروا حين طغت تيارات الترف والمادية والشكوك، على المجتمع والعقائد في العهد العباسي كبشار وأصحابه، وأبي نواس وأضرابه، أولئك ساقهم تفكيرهم إلى تصغير الحياة وما يقدس الناس من مثلها العليا، فلم ينبذوا الحياة جملة بل راحوا يطفئون غليل نفوسهم المتحرقة في لذات الحياة الدنيا، ويشبعون غرائزهم الحيوانية متهكمين بما عدا ذلك مما يسميه المجتمع فضائل وعظائم وعقائد. وأبو نواس هو القائل:
وما هنأتك الملاهي بمث ... ل إماتة مجد وإحياء عار
والقائل:
قلت والكأس على كف ... ي تهوى لا لتثامي:
أنا لا أعرف ذاك ال ... يوم في ذاك الزحام
وإنما حرضهم على سلوك تلك السبيل ما كان يسود عصرهم من حرية تقرب من الإباحية، وما كان يسود المجتمع العربي دائماً من صراحة لا نظير لها في المجتمع الإنجليزي، حيث التقاليد الاجتماعية شديدة الصرامة، فعلى حين كان يتأتى لبشار وأبي نواس وأضرابهما أن يباشروا وهم معافون حياة الاستهتار التي باشروها، ويتهكموا بعقائد غيرهم ما شاءوا، ويترنموا بمخازيهم شعراً، نرى بيرون الذي لم يجر إلى مداهم يلفظ من المجتمع الإنجليزي الذي بجله من قبل لشعره وحسبه
وحياة المعري وبشار موضع لموازنة ممتعة: كلاهما عاش كفيفاً، أي مكفوفاً إلى مدى بعيد عن كثير من مسرات الحياة ومتعات المبصرين، فخلقت فيهما تلك الحال وحشة وشذوذاً وزراية على الحياة والأحياء، ولكن المعري كان دقيق الحس مرهف الأعصاب ضعيف البنية، فنفض يده من الحياة ونجا بالسلامة والكرامة، وبشار كان مفرط الجسم متنزّي الحيوانية مضطرم الشهوة، فأكب على إشباع شهواته مستهدفاً لزراية الآخرين وتهكمهم، وشهر عليهم سوط لسانه المقذع، كما يشرع السبع المنهمك في تمزيق فريسته مخلبه لذب غيره من السباع عنها.
تلك مظاهر التشاؤم، أو فقه الإيمان بسمو الحياة والعزاء النفسي عن شوائبها، في الأدبين العربي والإنجليزي، وفيما عدا ذلك كان أقطاب الأدبين - لما يتدفق في شرايينهم وشرايين أمتيهم من دفعة الحياة - متفائلين متشبثين بأهداب المثل العليا التي ترضاها لهم طبائعهم(188/15)
وبيئاتهم، يغبر لهم وجه الحياة حينا فيبدو أثر ذلك عابساً في آثارهم، ثم يجنحون إلى التعزي والإيمان: فملتون في الإنجليزية مثلا على فرط ما لاقى من خذلان في حياتيه الفردية والعامة وما حل به من فقدان البصر، ظل وطيد الإيمان متطلبا للعزاء إلى منتهى حياته، وكتب ملاحمه في أواخر أيامه طلبا للترفيه عن نفسه ولكي (يبرر للناس أعمال الله)؛ والمتنبي في العربية رغم ما أصاب من إخفاق متوال في مطلب حياته الأسمى، الذي (جل أن يسمى)، ورغم ما كابد من حسد وكيد وعداوة، وما صب على الناس من قوارص كلمه، ظل أبدا (من نفسه الكبيرة في جيش وفي كبرياء ذي سلطان)، متدرعاً متأهباً للجلاد.
وإن يكن هناك مجال للمقابلة، فالأدب العربي لا شك أكثر اصطباغاً بالتفاؤل والإيمان، على كثرة ما به من الشكوى؛ والأدب الإنجليزي أحفل منه بآثار التشاؤم، ولاسيما في العصور الحديثة التي زادت الحياة فيها تعقدا ووطأة؛ وإنما يبث ذلك التفاؤل في المجتمع والأدب العربيين أمران: صحو الجو الذي يعدل المزاج ويبعث البشر والطلاقة، والدين الإسلامي الذي يبث الإيمان في النفوس ويحض على اجتلاء متعات الحياة التي أحل الله، والذي هو كما تقدم القول أكثر تغلغلا في سرائر معتنقيه، وشمولا لجوانب حياتهم من غيره من الأديان.
فخري أبو السعود(188/16)
ضوء جديد على مأساة شهيرة
هل قتل الحاكم بأمر الله أم اختفى؟
نظرية الدعاة السريين ومزاعمهم
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمة
تلك هي النظريات والشروح الغربية التي لجأ إليها الدعاة لتفسير اختفاء الحاكم وغيبته؛ ولا ريب أن اختفاء الحاكم على هذا النحو الفجائي كان ضربة شديدة للدعاة؛ فقد كان الحاكم ملاذهم وحاميهم، وكان شخصه محور دعوتهم وعماد مزاعمهم؛ فلما اختفى الحاكم انهارت الدعوة في مصر بسرعة، وتفرق الدعاة في مختلف الأنحاء اتقاء المطاردة به، ولكن الدعاة ألفوا في هذا الظرف ذاته مستقى جديداً لدعوتهم؛ فقد اختفى الحاكم ولكن إلى رجعة؛ وليس على المؤمنين أن يعرفوا أين اختفى وكيف اختفى؛ ولكن عليهم بالصلاة والاستغفار حتى يرضى عنهم، ويعود إليهم عندما تحل الساعة، ذلك لأنه اختفى غضباً عليهم لما أمعنوا فيه من الآثام والخطايا، ولن يظهر إلا عندما تصفو قلوب المؤمنين وتصفو نياتهم؛ وفي هذا الاختفاء ذاته، دليل ساطع على ألوهيته وخارق قدرته، وهو في السماء أو في الأرض روح بلا جسم، يشرف على عباده (وإنه ليراهم من حيث لا يرونه)!
هذا وقد مضى إلى اليوم على مصرع الحاكم تسعمائة وخمسة عشر عاما، ولا يزال الموحدون يؤمنون برجعته ويرقبونها؛ ولم يقل لنا الدعاة أنى ومتى تكون هذه الرجعة من عالم الأبدية، وكل ما هنالك أن حمزة يقول للمؤمنين في رسالته الشهيرة، (إنه متى أطلت عليهم رحمة الله خرج ولي الله إمامهم باختياره راضياً عنهم، حاضراً في أوساطهم. .) ويكرر الدعاة هذه الإشارة الغامضة إلى مثول الحاكم ورجعته في رسائلهم، ولاسيما رسالة الغيبة التي أشرنا إليها، فيقولون: (إن مولاكم لا تخلو منه الدار وقد عدمته أبصاركم) (إن مولاكم يراكم من حيث لا ترونه) (أحسنوا ظنكم بمولاكم يكشف لكم عن أبصاركم ما قد غطاها من سوء ظنكم) وأمثالها من الإشارات والعبارات الرمزية الجوفاء. وخلاصة مزاعمهم في ذلك هو أنه متى حلت الساعة، يقوم جند الموحدين من ناحية الصين،(188/17)
ويقصدون إلى مكة في كتائب جرارة، وفي غداة وصولهم يبدو لهم الحاكم على الركن اليماني من الكعبة، وهو يشهر بيده سيفاً مذهباً، ثم يدفعه إلى حمزة بن علي فيقتل به الكلب والخنزير وهما عندهم رمز الناطق والأساس؛ ثم يدفع حمزة السيف إلى محمد (الكلمة) وهو أحد الحدود الخمسة، وعندئذ يهدم الموحدون الكعبة ويسحقون المسلمين والنصارى في جميع أنحاء الأرض، ويملكون العالم إلى الأبد، ويبسطون سلطانهم على سائر الأمم، ويفترق الناس عندئذ إلى أربع فرق. الأولى الموحدون وهم (العقال) أو (العقلاء) والثانية أهل الظاهر وهم المسلمون واليهود والثالثة أهل الباطن وهم النصارى والشيعة، والرابعة المرتدون وهم (الجهال) (الجهلاء)؛ ويعمد حمزة إلى أتباع كل طائفة غير الموحدين فيدمغهم في الجبين أو اليد بما يميزهم من غيرهم، ويفرض عليهم الجزية وغيرها من فروض الذلة والطاعة، وأما أصحابه فالعقلاء منهم يصحبون أرباب السلطة والمال والجاه في سائر أنحاء الأرض
والظاهر أن هذه المزاعم الأخيرة في سحق أنباء الأديان الأخرى مستمدة من أقوال حمزة ذاته في رسالته المسماة (النهاية والبلاغ في التوحيد) إذ يقول: (وعن قريب يظهر مولانا جل ذكره سيفه بيدي، ويهلك المارقين ويشهر المرتدين، ويجعلهم فضيحة وشهرة لعيون العالمين؛ والذي يبقى من فضلة السيف تؤخذ منهم الجزية وهم صاغرون، ويلبسوا الغيار وهم كارهون)
تلك هي نظرية الدعاة السريين ومزاعمهم في غيبة الحاكم وفي رجعته، وهي نظرية في منتهى الإغراق والجرأة؛ بيد أنه لا ريب في سخفها؛ وقد ألفى الدعاة بعد انهيار دعوتهم في مصر، ملاذا لهم في الشام، فوجهوا إليها أنظارهم، وحاولوا بشروحهم ومزاعمهم الجديدة أن يستبقوا ولاء شيعتهم وأنصارهم هنالك، ومازالت ثمة بقية من شيعتهم إلى يومنا وهم طائفة الدروز
بيد أن الدعاة لم يكونوا مبتدعين أيضا في نظريتهم الجديدة؛ فقد رتبوا فكرة اختفاء الحاكم ورجعته على فكرة قديمة هي فكرة بعض غلاة الشيعة في المهدي المنتظر؛ ومنذ عصر علي بن أبي طالب تتبوأ هذه الأسطورة مكانها؛ ويزعم هؤلاء الغلاة وهم الرافضة، أن عليا لم يمت، ولكنه حي غائب عن أعين الناس مستقر في السحاب، صوته الرعد، والبرق(188/18)
صوته؛ ومنهم من يقول مثل هذا القول في ابنه محمد بن الحنفية، وأنه مستقر في جبل رضوى من أعمال الحجاز؛ ويقول آخرون وهم الاثنا عشرية إن هذا الإمام المنتظر هو محمد بن الحسن العسكري (وهو أيضا من ولد علي) وأنه لم يمت، ولكنه اختفى وغاب عن الأنظار، ولا يزال مختفيا إلى آخر الزمان، ثم يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا
فالقول باختفاء الحاكم مستمد من هذه الأسطورة القديمة؛ وقد كانت هذه الأسطورة، أعني أسطورة الغيبة والرجعة، وما يكتنفها من الرموز والغموض، مبعث الخفاء دائما؛ وكان هذا الخفاء ذاته مبعث الخشوع والروع في المجتمعات الساذجة المؤمنة؛ وكان مبعثا لأكثر من دعوة بالنبوة والإمامة؛ بل كان مبعثا لدعوى الألوهية ذاتها؛ أليس منتهى الخفاء والروع أن يغيض الحاكم على هذا النحو إلى حيث لا يعلم أحد؟ وقد رأى الدعاة أن يستغلوا هذا الخفاء في تأييد دعوتهم، وأن يبثوا بين المؤمنين جوا من الرهبة والخشوع لذكرى ذلك الذي اختفى ليعود حين تحين الساعة، والذي (يرى ولا يرى)
على أن هناك نقطة غامضة في موقف الدعاة إزاء هذا الاختفاء إذا سلمنا بان الحاكم اختفى ولم يقتل؛ ذلك هو الدور الذي يحتمل أن يكون قد أداه الدعاة في هذا الاختفاء ذاته. فهل للدعاة يد ما في هذا الاختفاء؟ وهل دبروه أو اشتركوا في تدبيره؟ أليس من المحتمل أن يكون الدعاة هم الذين اقنعوا الحاكم بأن يختفي تقوية للدعوة، وتمكينا للزعم بألوهيته لدى الأولياء والكافة؟ بل نستطيع أن نتساءل أيضا، أليس من المحتمل أن يكون الدعاة قد فكروا في اغتيال الحاكم خدمة لدعوتهم، وانهم دبروا مؤامرة لاغتياله أو اشتركوا في تدبيرها واستطاعوا أن يحكموا تدبير جريمتهم، لكي يستغلوا بعد ذلك فكرة الاختفاء على النحو الذي أسلفنا؟ هذه أسئلة قد تخطر على الذهن في مثل هذا الموطن، خصوصا وقد كان حمزة وصحبه أهلا لكل اجتراء، ولا تبعد فكرة الجريمة عن أولئك الذين اجترءوا على زعم الألوهية البشرية، وسفكوا في سبيلها دماء الأبرياء؛ بيد أن هذه مسائل يحيط بها الظلام المطبق، ولا يقدم التاريخ إلينا عنها أية لمحة أو ضياء، ومن المستحيل أن نعاملها بأكثر من فروض عارضة، وستبقى أبد الدهر على التاريخ لغزاً مغلقاً.
بيد أنه من الغريب أن تلقى هذه الفروض المغرقة سبيلها إلى دوائر البحث الحديث. فنرى المستشرق فون ميللر مثلا يأخذ بنظرية اختفاء الحاكم، ويعلق عليها بما يأتي:(188/19)
(أما أن أخته قد دبرت قتله لخوفها من تنفيذ وعيده لها بالقتل، فهو حديث خرافة، والواقع أن مصيره لم يعرف قط، وعندي أنه طبقاً لكل ما نعرفه من حياته، قد رأى استحالة تحقيق مبادئه في مصر، فاعتزل الحياة واختفى في مكان ما ليقضي حياته بعيداً عن الأنظار لكي يعتقد أنصاره على الأقل أنه هو (الناطق) حقيقة (ناطق الزمان) وأنه سيعود من رمسه آخر الزمان في شخص الإمام أو المهدي؛ وهذا ما لا يزال ماثلا إلى اليوم في عقائد الدوز)
أما نحن فمازلنا نرجح فكرة المؤامرة والجريمة: وسواء أكانت المؤامرة من تدبير ست الملك، أم من تدبير أبن دواس، أم كانت من تدبير الدعاة أنفسهم، وسواء أكان الذي ارتكب الجريمة هم عبيد ابن دواس، أم البدو الذين اعترضوا الحاكم ليلة اختفائه: أم آخرون لم يعرفوا: وسواء أكانت البواعث السياسية أم البواعث الدينية هي التي أملت بتدبير المؤامرة وارتكاب الجريمة، فإن ما لدينا من الروايات والقرائن على أن الحاكم قد زهق ضحية الجريمة، يرجح في نظرنا كل فرض آخر مما استعرضنا
وليس من المستحيل أيضاً، أن يكون الحاكم قد اختفى من تلقاء نفسه أو بتحريض الدعاة لبواعث أو مشاريع خيالية أو جنونية قامت في نفسه: بيد أن هذا الفرض يبدو في نظرنا من الضعف والإغراق بحيث له موضعاً من التاريخ.
هذا والظاهر أن فكرة اختفاء الحاكم بأمر الله لبثت مدى حين تردد بين آونة وأخرى حتى أوائل عهد المستنصر بالله، أعني بعد وقوع الحادث بنحو ربع قرن، وقد أشرنا فيما تقدم إلى قصة ذلك المشعوذ الذي تسمى (بأبي العرب) وزعم حينا أنه الحاكم ثم توارى بعد ذلك. بيد أن هنالك قصة أخرى من هذا النوع كادت أن تحدث فتنة حقيقية؛ ففي رجب سنة 434هـ (1043م) في أوائل عهد المستنصر، ظهر بمدينة مصر شخص يدعى (سكين) كان يشبه الحاكم في بعض ملامحه، وادعى أنه الحاكم، وأنه بعث بعد موته وعاد من غيبته؛ والظاهر أنه كان من عصبة الدعاة السريين، وأن الدعاة أرادوا بدفعه إلى هذه المغامرة أن يحاولوا إثارة الفتنة التي خمدت، وأن يطبقوا نبوءاتهم وما بشروا به في رسائلهم من رجعة الحاكم بصورة عملية؛ فالتف حوله فل الملاحدة، من شيعة الدعاة الذين يعتقدون أو يتظاهرون بالاعتقاد في هذه الخرافة؛ وفي ظهر يوم سار سكين وأصحابه إلى القاهرة وقصدوا إلى القصر الكبير، ولما حاول الجند منعهم نادى الملاحدة بأنه الحاكم، قد(188/20)
عاد من غيبته، فارتاع الجند مدى لحظة ثم ارتابوا في الدعي فقبضوا عليه، وحملوا على صحبه، واشتبك الفريقان في معركة حامية ضجت لها أرجاء القصر، وقتل من الملاحدة عدد كبير واسر الباقون، وصلب سكين وأصحابه وقتلوا بالنبال شر قتلة
وكانت هذه آخر مغامرة من نوعها، ولا نسمع بعد ذلك شيئاً عن أولئك الدعاة الملاحدة أو دعوتهم بمصر. ولا نجد بعد ذلك أثراً لأسطورة غيبة الحاكم أو رجعته إلا في الشام حيث استقرت الدعوة في بعض أنحائه ورسخت حتى يومنا.
(النقل ممنوع قطعاً - تم البحث)
محمد عبد الله عنان(188/21)
النفس وخلودها عند أبن سينا
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
النفس سر الله في خلقه وآيته في عباده، ولغز الإنسانية الذي لم يحل بعد، وقد لا يحل يوما ما. هي مصدر المعارف المختلفة والمعلومات المتباينة، ولكنها لم تسم إلى أن نعرف حقيقتها معرفة صادقة يقينية؛ وهي منبع الأفكار الواضحة الجلية، إلا أن فكرتها عن ذاتها مشوبة بقدر كبير من الغموض والإبهام. ومع هذا فالإنسان منذ نشأته تواق إلى تعرفها جاد في تفهمها، ولا يزال حتى اليوم يبذل قصارى جهده في إدراك كنهها والوقوف على أمرها. وبوده أن يعرف في دقة ماهيتها ويدرك الصلة بينها وبين الجسم ويتبين مصيرها ومآلها. وكيف لا وهو طلعة يحب أن يعرف كل شيء، وهو في معرفة الأشياء المجهولة والأمور المستترة أرغب. وإذا كان قد خطا خطوات فسيحة في سبيل فهم الطبيعة وتوضيح آياتها فنفسه التي بين جنبيه أولى بالبحث والتوضيح، هذا إلى أنه مدني بطبعه لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن إخوانه وذويه، ومعرفته لنفسه كثيراً ما تعينه على تفهم بني جنسه، وكم بذل الأخلاقيون والمربون من جهد في تحديد الدعائم النفسية التي يقوم عليها إصلاحهم ووعظهم وتعليمهم وإرشادهم. والأديان والشرائع تخاطب النفوس قبل أن تخاطب الأبدان، وتتجه إلى الأرواح أكثر من اتجاهها إلى الأجسام. والثواب والعقاب والمسؤولية الأخلاقية والدينية بوجه عام تدعو إلى التفكير في الروح وخلودها ومآلها بعد مفارقة البدن. ففي أحوال الإنسان الفردية وظروفه الاجتماعية وأبحاثه العلمية وتعاليمه الدينية ما يدفعه إلى كشف ذلك السر الذي أودعه الله فيه والذي آمن به الناس جميعا دون أن يروه.
لهذا كان موضوع النفس شغل الباحثين والمفكرين في مختلف العصور؛ وليس ثمة فيلسوف إلا أدلى فيه برأي وتعرض له بالبحث والتحليل، وربما كان في تاريخه ما يلخص تاريخ الفلسفة بأسرها. بيد أن أبن سينا، فيما نعتقد، قد عني به عناية كبيرة لا نجدها لدى واحد من رجال التاريخ القديم والمتوسط. حقاً إن أفلاطون تحدث عن النفس في محاورات عدة ووقف على خلودها محاورة مستقلة؛ وكتاب أرسطو في النفس ومؤلفاته المسماة (بالطبيعيات الصغرى) تصعد به إلى مرتبة أسمى عالم نفسي عرف في التاريخ القديم. ولم(188/22)
يغفل أفلوطين أمر النفس في تاسوعاته، وشغل بوجه خاص بهبوطها من العالم العلوي واتصالها بالعالم السفلي ورغبتها الدائمة في أن تعود إلى مقرها الأصلي. ولفلاسفة القرون الوسطى المسيحيين وخاصة أوغسطين وتوماس أبحاث مختلفة في حقيقة النفس ووظائفها. إلا أن هؤلاء جميعاً لا يبدو عليهم الشغف بهذا الموضوع مثل ما شغف به أبن سينا، فإنه يعود إليه غير مرة ويقف عليه جملة رسائل مستقلة، ويتحدث عنه في كل كتبه الرئيسية التي وصلت إلينا. ففي كتاب القانون المعروف يبين قوى النفس المختلفة على طريقة الأطباء ويشير إلى الصلة بينها وبين الجسم. وفي الشفاء يعقد فصلاً مستفيضاً يفصل فيه أراءه النفسية، وفي النجاة يلخص هذا الفصل ويصوغه في قالب مدرسي محكم، وفي الإشارات ينظم في نحو عشرين صفحة عقداً من مسائل علم النفس كله درر قيمة وآيات بينة. وله تعليق على كتاب النفس لأرسطو لا يزال مخطوطاً حتى اليوم ولم يقنع بهذا، بل كتب رسالة قيمة في القوى النفسية أهداها للأمير نوح بن منصور الساماني، ورسالة أخرى في معرفة النفس الناطقة وأحوالها، وشرح هبوطها إلى الجسم وحنينها إلى مصدرها الأول في قصيدة مشهورة.
كنا نتوقع وأبن سينا هو الطبيب والفيلسوف أن يستخدم طبه في دراسة الظواهر النفسية وأن يستعين بالملاحظة والتجربة على شرحها وتوضيحها فينمي معلوماتنا ويخطو بنا إلى الأمام في سبيل هذا البحث الدقيق. ولكنه، فيما يظهر: كان يعتقد أن الفصل في مشاكل علم النفس ليس من عمل الطبيب ولا من دائرة اختصاصه، بدليل أنه يشير في القانون إلى بعض نقط متصلة من نفس وقواها قد اختلف فيها الأطباء والفلاسفة، ويصرح بأن الكلمة كلمة الآخرين. وإن استيفاء هذه النقط إنما يتم في كتبهم والواقع إن التجارب المنظمة والأبحاث العلمية الدقيقة المتصلة بالنفس أثر من آثار التاريخ الحديث وحده، بل القرنين الأخيرين فقط، وفي وسط طبي حضر فيه التشريح وحرم من الأدوات الحديثة لم يكن في الإمكان دراسة المخ والجهاز العصبي دراسة تجريبية كاملة. ولا نكاد نحظى بباحث بين المسلمين نحى هذا المنحى التجريبي فيما وراء أبن الهيثم الذي أدلى بآراء في الضوء والرؤية تقترب مما جاء به فيبير حديثاً. وأما ما يذهب إليه أبن سينا من تقسيم المخ إلى مناطق تقابل قوى النفس المختلفة ومن ملاحظات فيسيولوجية شيء فهو ترديد لما قال به(188/23)
أطباء وفلاسفة اليونان. فقد كان أمامه تراث عظيم خلفه أفلاطون وأرسطو وجالينوس وأفلوطين أفاد منه كثيراً وعول عليه التعويل كله. وإليه يرجع الفضل في عرض هذا التراث في صورة واضحة مهذبة لم نعهدها عند سابقيه، وإذا كان قد فاته أن يتوسع في دراسة المخ والظواهر النفسية دراسة تجريبية فإنه لم يفته أن يفتن في البرهنة على وجود النفس وخلودها افتناناً يستلفت النظر ويستحق التقدير. ولعل ذلك راجع إلى أن النزعة الميتافزيقية والفلسفية البحتة غلبت عليه في كل أبحاثه النفسية
وبالرغم من أن أبن سينا عالة على السابقين في أغلب آراءه المتعلقة بالنفس وأحوالها فإنه قدر لهذه الآراء نجاح عظيم في القرون الوسطى ولدى بعض رجال التاريخ الحديث، فكانت عماد علم النفس جميعه في العالم العربي منذ القرن العاشر الميلادي إلى أخريات القرن التاسع عشر؛ وخلفت آثاراً واضحة في الفلسفة المدرسية اليهودية والمسيحية؛ واتصلت بنسب إلى بعض ما جاء به ديكارت في حقيقة النفس ووجدوها. وقد عرف لها الباحثون المحدثون هذه المنزلة فسارعوا إلى دراستها وجمع مصادرها وبيان أثرها في المدارس الغربية. وربما يكون البادرون كارادي فومن أول من لخصوها وحاولوا إعطاء فكرة عنها. فقد عقد لعلم النفس السينوي (نسبة إلى أبن سينا) فصلاً في كتابه المسمى: ثم جاء الدكتور صليبا أخيراً فتوسع في هذا الموضوع قليلاً في رسالته التي تقدم بها إلى السربون للحصول على الدكتوراه. أما من اشتركوا في نشر مؤلفات أبن سينا السيكولوجية فيجب أن نشير أولاً إلى الدكتور صمويل لانداور الذي نشر رسالة القوى النفسية المهداة إلى نوح بن منصور الساماني سنة 1875؛ وقد وفق في عمله هذا كل التوفيق وأحاطه بوسائل الدقة والبحث الصحيح فاعتمد على أصول عربية وعبرية ولاتينية ليختار النص المناسب والتعبير المقبول؛ ولم يفته أن يرجع إلى المصادر اليونانية رجاء أن يوضح بها بعض عبارات أبن سينا. وعلى ضوء مجهوده العظيم استطاع فنديك بعد ذلك بنحو 30 سنة أن يعيد نشر هذه الرسالة مرة أخرى مع ترجمة إنجليزية دقيقة وفي العام الماضي نشر ثابت أفندي الفندي أحد خريجي كلية الآداب ومبعوثها الآن في باريس رسالة أخرى في معرفة النفس الناطقة وأحوالها. ويظهر أن أثر أفكار أبن سينا السيكولوجية في المدارس المسيحية قد شغل الباحثين ومؤرخي الفلسفة من قديم. ففي النصف الثاني من القرن الفائت(188/24)
نرى هانيبرج يدرس نظرية المعرفة لدى أبن سينا والبير لجراند. وفي أوائل القرن العشرين كتب فنتر في إحدى صحف مونيخ العلمية مقالاً طويلاً عن الجزء السادس من طبيعيات الشفاء المترجم إلى اللاتينية، وهذا الجزء هو الذي يدرس فيه أبن سينا النفس وقواها وفي سنة 1929 وفى المسيو جلسن مؤرخ الفلسفة المدرسية وأستاذها في (كوليج دي فرانس) هذا الموضوع حقه من البحث، وبين أثر أبن سينا في هذا المضمار بما لا يدع مجالاً للشك
وفي اختصار يمكننا أن نقول إن علم النفس عند ابن سينا كان أعظم حظاً من أجزاء فلسفته الأخرى وكان نصيبه من الدراسة والبحث أكبر منها جميعاً، بيد أن هذه الدراسات على اختلافها ناقصة وغير مقنعة. فبعضها لا يخرج عن ترجمة حرفية أو ملخص غير كامل لآراء أبن سينا. وبعضها يعنى بهذا الفيلسوف لدى اللاتينيين أكثر من عنايته به لدى العرب، ويفصل القول في أثره في الغرب تاركاً جانباً ما كان من أمره في الشرق، وأغلبها ينسى الأساس اليوناني الذي بنى عليه فلسفته عامة وأبحاثه النفسية خاصة. وسنتتبع هنا آراءه النفسية المختلفة مبينين أولا صلتها بالوسط الذي نشأ فيه وبالأفكار الإسلامية على العموم وباحثين ثانياً عن منابعها لدى فلاسفة اليونان وأطبائهم، ومظهرين أخيراً ما كان لهما من أثر في الشرق والغرب.
إبراهيم مدكور(188/25)
من روائع أدب الغرب
الخلود '
لشاعر الحب والجمال الفونس دي لامرتين
ترجمة السيد حسين تفكجي
أحبها فبادلته حبه، فراحا يرشفان أكؤس الغرام تحت ظلال الأشجار الباسقة.
في أفياء الأدواح المنتشرة غنى لها لحن غرامه. فسمعه الطير على غصنه، وأنصت له العصفور على فننه. اختلسا النعيم ساعات معدودة. حتى رمى الدهر سهم التفرقة، فسافرت بعيدة عنه إلى باريس.
انتظر كتابا منها يطمئنه على صحتها يرجع الأمل إلى صدره، والى فؤاده أشعة الحياة. ولكن ساعي البريد أتاه بكتاب نعيها.
مسكينة؟! أماتت (جولي). أو يموت من عاش لأجل الحب؟ لم يصدق عينيه. سار يخبط خبط عشواء، يردد ألفاظها، يقف الساعات الطوال مكانه يرجع أنشودة غرامها.
إنها أمل رحل. وحب مقيم)
نظم قصيدته (الخلود) ' فكانت قطعة من قلبه الملتهب، ونشيدا لفؤاده المضطرب.
قضت (الفير) (كما يدعوها) نحبها. فدبت إلى جسم (لامرتين) يد المرض.
كان في ريعان الشباب. ظن نفسه أنه على طريق الآخرة يسير. فلذا جاءت قصيدته (الخلود) جامعة لشتى معاني الفلسفة، والحب والجمال، والخلود، والحياة والموت.
إلى جولي
شمس حياتنا اصفرت وهي في فجرها. ترسل على جباهنا الذابلة ووجوهنا المنهوكة المتعبة أشعتها المضطربة، وأضواءها الحائرة، التي تغالب طلائع الظلام وتناصب هواجمه. الظل يمتد، النهار يموت؛ كل شيء يزول، وكل شيء يفر ويحول.
كم يهلع المرء لهذا المنظر الرهيب ويرتجف! لشد ما يتراجع وهو راعن الأوصال مضطرب الفؤاد عن شاطئ الهاوية الماثلة أمامه! بل لكم يخفق قلبه الضعيف، إذ ينصت من بعيد لتلك الأنشودة المظلمة!(188/26)
تلك أنشودة الموت، مازالت تتردد في أعماق صدره، وتنتشر في أنحاء نفسه. وتلك الزفرات المتصاعدة والتنهدات المرسلة، والأنات المخنوقة، والأنفاس المتحشرجة، لهي آهات الحبيب، وزفرات الخليل، وانتحابات الولهى، تضطرب وتتراجع، تتقدم وتتأخر، حول سرير الموت.
الناقوس الصغير مازال يرسل الهمسات، ويعلو بالخفقات. أصواته التي تطويها معالم الفضاء تنبئ الأحياء أن شقياً بائساً رحل، ومكدوداً تاعساً إلى هوة القبر نزل
أحييك أيها الموت، أيها المنقذ السماوي، سوف لا تظهر أمام ناظري بهيئتك المرعبة، وبزتك الموحشة، وطلعتك المشؤومة. إن يمينك سوف لا تشارفني بمرهف ماضيك، أني لا أرى تجهم وجهك، ولا أقرأ في عينيك معالم الجريمة والخيانة، فأنت الذي تنقذنا من آلامنا، تخفف من أحزاننا، تأخذ بيمنانا لتقودنا إلى حيث الرب الرحيم تستعدي رحمته على نكباتنا، وتستنزل رأفته على ويلاتنا.
إنك لا تميت بل تنقذ؛ إنك لا تهلك بل ترحم؛ إن يدك يا رسول السماء تحمل إلي نبراساً إلهيا، يوم تغمض عيناي الكليلتان أجفانهما. تأتي تحت الأضواء المنعشة لتبلل ناظري، وتغمض عيني، والأمل إلى قربك يطفر، يظلله الأيمان، تشده التقوى، فتفتح أمامي عالماً رائعاً
إلي أيها الموت. أقبل واكسر عني أغلال الجسد. بدد عن نفسي قيود الأوصال. أفتح باب سجني واكسر مغالق حبسي وأعرني أجنحتك الرفرافة، وقوائمك الهفهافة. ماذا يمنعك عني؟. لماذا تتأخر؟ ماذا يعيقك عن زيارتي الأخيرة؟ تقدم إلي. فإني أريد أن أرمي بنفسي نحو ذلك الكائن المجهول، حيث أعرف سر حياتي ومماتي
أي شيء فصل عني؟ من أنا؟ ومن سأكون؟.
أموت ولا أعرف ماهية الحياة وسر الوجود، وأذهب وأنا أجهل ما البقاء! ما أنت أيتها الروح المبهمة، أيها الطيف المجهول؛ أيها السر الغامض. قبل أن أردى في لحدي أريد أن أسألك: أية سماء بحقك تسكنين؟ وفي أي عالم تعيشين؟ وأي قدرة إلهية رمتك إلى هذه الكرة المحطمة، حيث عالمنا الضعيف الهشيم، وأي يد إلهية قذفت بك إلى سجنك الفخار، واعتقلك في محبس الطين؟ وأي سر عجيب ربطك بالجسد وربط الجسد بك وأي يوم(188/27)
تنسلخ الروح فيه عن المادة؟ وتصبح عالما بنفسها، تقوم بأودها دون أن تعتمد على الجسد البالي والجسم الفاني؟
إلى أين تذهبين؟ أتتركين الأرض الجميلة لترحلي إلى قصر منيف؟ هل نسيت كل شيء؟ أم لا زلت تذكرين؟ إن هناك القبر، فهل ستبعثين إلى عالم مجهول جديد؟ أتعودين إلى حياة أشبه وعالم أحكى وأمثل إلى حجر الله، حيث رأيت أشعة الحياة ولمست معالم الوجود. أم إنك ستفصلين من كل شيء تدب إليه يد الفناء؟ وتسير في عروقه دماء البلاء
أستنعمين بمناعم الخلود الأبدية وتلعبين في الجنان غير البالية؟
نعم، هذا أملي الوحيد يا نصف حياتي. تلك هي الأمنية التي بها رأت الروح التي تضيء جوانب صدري طرق الحياة. وكانت عزاء نفسي المتألمة التي قضي عليها بالسجن في هذا الجسد البالي. شهدت ربيع حياتك يرحل وألوانه البهيجة تموت وتذبل، وزهوره المتلألئة تسير نحو هوة الفناء، والحزن مازال يفتك بي، والموت يدير مني الخطوات وأنا أجود بالنفس الأخير، ترتسم على شفتي الابتسامة، وتنهمل من عيني دموع الفرح، مقدماً إليك كلمات الوداع الأخير، منتظراً نظراتك لتشع في عيني قبل أن يغمضهما الموت
أولئك الذين تعلقوا بأذيال المادة، وكانوا أشبه بالقطيع، يسيرون وراء راعيهم (أبيقور سيهتفون (يا له من أمل كاذب خلب قد مضى ورحل، عندما يرون معالم الدنيا قد قضت وانتهت
وذلك العالم الذي مازال يفحص أسرار الطبيعة يود اكتشافها، يدرسها في زاوية مهملة تسمى العقل. سيقطع الدهر في فهم كنه المادة، يعيش في عالم الملموسات، يغفل عن الروح ولكنهم سيهتفون به:
أيها الأحمق، أي كبر سخيف يكسوك؟ أنظر حولك! تأمل بناظريك! كل يبتدئ لينتهي، وكل يدب نحو الفناء دبيبه. إن سيرك نحو هدف ممثل، والى غاية نهائية هي (هوة الموت)
انظر إلى الحقل وقد علت أوراقه صفرة الذبول! ألا ترى الزهرة تتعب وتضمحل ثم تلفظ الأنفاس؟ ألا تشهد في هذه الأحراج الملتفة تلك السدرة العظيمة بجبينها الشامخ ونظراتها إلى العلياء كيف هوت تحت ثقل السنين ورزحت تحت أعباء الدهر، ثم امتدت على العشب النضير المنتشر على البطحاء الأرض؟(188/28)
ألا تنظر الأنهار تنضب في مجاريها، والبحار تجف في قيعانها، وهذا الكوكب المتلألئ في السماء أخرت يد الزمن ولادته، وهذه الشمس، وما أشبهها بنا! إنها تسير إلى الفناء والعدم، وفي السماء حيث الأموات ينتظرون يوماً به ينعمون.
تأمل حواليك الطبيعية. مرت الأجيال فتكاثفت أتربتها. وتحولت الأعوام إلى ذرات غبار تناثرت في فضائها
إن الزمن بخطوة واحدة يذل من كبريائك، يخمد عزة نفسك، ويطفئ جذوة اشتعالك، يقبر في جوفه العميق الحوادث، ويرمس في لحده المخيف الأيام.
ولكن الإنسان، الإنسان وحده، المجنون الأكبر في هذا الكون! إنه ليظن أن القبور لتسعد بسكانها، ويأمل أن يعيش الحياة ثانية فيها، فيظفر طياتها بالحياة أثر الحياة، ويحلم بالأبدية والخلود، وهو كريشة في مهب زوبعة العدم الهائجة
ليجبكم غيري، يا عقلاء الأرض، يا مدعي الفلسفة. اتركوا لي خطأي، فأنا أهوى فلذا آمل، فإذا كان الخلود خطيئة لا توجد مرسومة إلا في بعض العقول دون أخرى، فكم هذه الخطيئة عزيزة لدي!
اتركوني أيها العقلاء أنعم بجانب ضلتي، إني أحب أن أتمنى وأن أعلل الأشياء، إن عقلنا الضعيف المضطرب يتحير. بلى إن عقلنا ليمسك عن الكلام أمام حججكم، ولكن الإدراك يجيبكم
أما أنا، عندما أرى الكواكب تسبح في السماوات العلى، والنجوم تنحرف عن طرفها المدبرة وسبلها المقررة، واشهد النجم في حقول الأثير اللانهائية يناطح النجم، والكوكب يركض أثر الكوكب، فأنصت لصراخ الأرض، واستسكن لسماع صرخاتها المتوالية تتنهد، وقد شق جوفها، ومادت كرتها هائمة تضطرب، بعيدة عن السماوات وشموسها، تبكي الإنسان المحطم، أبنها العاني، المسرع في طريق الموت الذي هام في حقول الأبدية المظلمة، عندها أكون الشاهد الأخير، والحاضر الفرد، وقد احتاطني المدلهمات، وأمسك بيدي الموت إلى جوف الظلمات. وبالرغم من ضعفي سأنهض واثباً، لا خوف يدب إلى قلبي، ولا ذعر يمسك علي فؤادي، أفكر فيك، أرقب بفارغ الصبر عودة الفجر الأبدي ليضيء العالم المحطم، حيث أرقب لقاءك وأرجو زورتك(188/29)
كنت تذكرين دائماً رحلتنا الهنيئة وسفرتنا الرغدة، يوم نشأ غرامنا الخالد وبدأ حبنا المقيم، فكنا ننعم على ذوائب الصخور القديمة التي شهدت مجد الأولين حيناً، وحينا على ضفاف البحيرة الساكنة، نرقب أمواجها الهادئة، ونستمع إلى أصوات مياهها العذبة، فتحمل نفوسنا على جناح النعيم حيث نسلو العالم الصاخب.
كنت أخوض معك الظلماء التي أنتجها التفاف الأشجار. وأسير جنبك تحت الظلال الوارفة والأفياء المنتشرة، نهبط الربى لنصعد الجبال. لحظة سعيدة مرت أصغينا خلالها لموسيقى النجوم الغامضة، وأصخنا بسمعنا إلى غناء الكواكب الجميل، لا صخب يتخلله ولا ضوضاء تمسك ألحانه
كم دهشنا لهذه الصورة الجميلة التي تغطي العالم، عدنا أدراجنا إلى المعبد، خشعنا أمام الضوء الخافت الذي يرسل أشعة متضائلة تبعث إلى القلب الرهبة، والى الأجسام الرعشة. سكرى من جمال الوجود، كنت ترددين النظر بين الأرض والسماء ثم تهتفين:
(إله الغيب، هذه الطبيعة مأواك، عندما نتأمل بنظراتنا صنع يديك، الروح تراك متمثلا في كل صورة من إبداعك، فهذه الدنيا صورة كمالك: النهار نظرتك، والجمال ابتسامتك. في كل مكان القلب يعبدك، والنفس ترجو أن تدب فيها الأمل وتنفخ طياتها روح العمل
(أيها الخالد اللانهائي القدير الجليل! إن قلمي ليعجز عن وصف اسمك وكتابة حسناتك، والروح التي حبيتها بنفختك تمجد عظمتك حتى تخمد فيها الحركة، وتسكن بين جنباتها الخفقات
(أيها الإله القدير! إن الروح لتخضع لحكمتك العليا وأنشودتك المثلى. تريد أن تطفر نحو علاك، وتثبت إلى سمائك. إنها لتشعر أن الحب هو ختام حياتها، فهي تحترق لمعرفتك وتلتهب لمرآك
كذلك كنت تقولين وبهذه النفثات كنت تناجين. وقلبانا يجمعان التنهدات، يمزجان الأنات، يصعدان الزفرات، يرسلانها صوب هذا الكائن العظيم الذي يدل عليه هوانا، ويشهد لعظمته غرامنا، نخشع بصلاتنا أمامه، نحمل طيات قلوبنا محبته واحترامه، يرسل إليه الفجر تخشعاتنا وتضرعاتنا، ويرفع نحوه المساء تذللاتنا وابتهالاتنا، وعيوننا السكرى بجمال ما صنعت يداه، تتأمل بين الفينة والفينة الأرض حيث نفينا والسماء مسكنه.(188/30)
أواه! في هذه اللحظة والروح على وشك الفرار تريد البعاد، تود تحطيم السجن. هو ذا الإله يطل علينا من عليا سمائه، يستجيب دعانا، ينظر إلى شكوانا نظرة عطف تنقذ كلينا.
إن روحينا تريدان أن ترجعا إلى حيث وجدتا النور. واستشفتا الضياء. تريدان أن تقطعا معاً خضم هذا العالم إلى النهاية المحتمة، يداً بيد، ووجهاً إزاء وجه. حتى تصلا على جناح الحب إلى النهاية. فهي تصعد كضوء النهار إلى أن تنتهي إلى حيث الإله الخالد، وترتمي تحت أقدامه متعانقة باكية.
هذه الأفكار: أتراها تغشنا وتخدعنا؟
أواه! أللعدم خلقت أرواحنا؟ أللفناء كانت حياتنا؟ أتشترك الروح في مصير الجسد إلى العدم، ويلتهمها جوف القبر الغامض كما تلتهم الضواري اللحم، ويضيع بين ترابها العظم؟ أتعود إلى التراب الذي منه نشأت، أم تطير في الأجواء ولا تستحيل إلى هباء؟ أم تراها تتبدد في الفضاء، كما تتبدد صرخات صوت قذفته عروس حسناء؟
بعد حسرة ضائعة، وزفرة راجعة، وتوديعة باكية، أترى يفنى المحب، ويطوي الدهر في صفحات كتابه غرامنا؟ أواه؟! إن هذا السر العظيم لا يعرف كنهه إلا أنت. ألا انظري موت من أحبك (الغير) أجيبي. ردي علي!
حسين تفكجي(188/31)
وطني في عرس الحرية
للأستاذ عبد المنعم خلاف
عرش الشمس، عليه صباح مشرق، كله أضواء وأنداء وأغاريد وطوالع سعدٍ، واستهلال مجد
يَرِفُّ فوقه علم هو النمو والخصب والعلا وإقبال الأيام، رفيف القلوب حوله والأجفان فيه
وعلى العرش ملك يومئ الزمن باسمه إلى تاريخ وقف، وتاريخ أقبل. . . . وبشبابه إلى ربيع مخضر يلف بنت النيل بطيلسانه وريعانه فتنبت الورد والشوك. والغصن والرمح، للجمال والقوة. فهو ملك وكلمة من كلمات الغيب ألهمها (فؤاد) فوضعها فيما وضع من أعلام المجد
وأمة صهرت الفتن جوهرها نصف قرن، فخرج صافياً غير مدخول ولا زائف، قد (تكتل) وتجمعت ذراته، وتضائلت خلاياه، ونشطت عضلاته، ونهض في مركزه بين مشرق الشمس ومغربها صلب العاتق كالأهرام، رشيقا كالنيل، رهيبا كالصحراء، ينتظر أن يحمله الزمن رسالته الحديثة
وشعب يبدو كخلية النحل، يعمل في رأي مجتمع، ونشوة بعذوبة الوحدة بعد مرارة الفرقة، وحيرة الادلاج والسري خمسين سنة في مجهل السياسة، وقد ترك على الطريق جثثاً صرعى ونفوساً هلكى، فلما عسعس الليل وملّ الحادي وحار الدليل، أسعفه القدر بانفلاق الإصباح وإقبال النور والهدى إلى الغاية
وتاريخ يمسك قلمه القديم الذي كتب به أولى صحائف الحضارة والعلم ليكتب صحيفة جديدة نرجو ألا ينقضي مداها ولا يأفل سناها
وأرواح حائمة من الأبوة الأمجاد تصلي في ملكوت السموات أن يحمي رحمن العالم أرض الذرية ووصلة الشرق بالغرب.
وشيوخ محنكون يضعون الأساس ويخلقون الجو الجديد للروح والجسم، بالقلم والسيف، للمجد والحق.
وشباب ملتهب الفؤاد مسعر الروح، يريد أن يقيم البناء بنجوم السماء. . لا يدري ماذا يقدم من مطالب الوطنية ورغائب الحياة الجديدة، فما يولد يوم إلا ومعه إلهام منه يتنزل على(188/32)
العقول بمعنى من معاني توكيد الاستقلال والتأهيل لاستكماله، لأنه يشعر بالعظيمة التي ألقيت على كاهله في عصر الانتقال وتغير مجرى التاريخ، وإليه مآل الحوادث وقرار النتائج
ذلكم هو وطني من بعد. . أبي وأبوكم الرحيم أيها المصريون! تشيع منه في عيني صورة حاضرة على غيابه، مجلوة على احتجابه، طائفة في المُصبح والمُمسي، والخلوة والجلوة
وقد شاء الله أن تعود الحرية النائية إلى ربوعه وأنا عنه بعيد، فلم أشهد مواكبها وعرسها على الجباه والشفاه، ونشوتها في الأرواح والأشباح، وأملأ فراغي من فرح الحياة بها كما ملأته من الأسى عليها وهي حمراء دامية. . واضحك للبلسم كما بكيت للدم!
ولي ولع برؤية الجماهير ورصدها، وللجماعة في أعصابي سحر. . . عجيب يجدد إيماني بقوة الذرة إلى الذرة. إلى الصحراء، وبالقطرة إلى القطرة. . . إلى الدأماء، وبالإنسان إلى الإنسان. . إلى الدولة. فكانت مناي أن أرى الشباب الذي طالما خر إلى الأرض شهيداً يخر للأذقان ساجداً تحت رجفة من هتاف الزعيم (اسجدوا. . اسجدوا لله شكرا)
طلع الفجر يا بني أبي! وانفجر الضوء، فاغسلوا قلوبكم بنوره، ونقوا ضمائركم بطهوره، وأشيعوا معانيه في صدوركم، وسلطوه على أوكار الظلام والضعف والجهل، واقتلوا به الحشرات المخربة الدنيئة. . . ثم أجمعوا أمركم لسفر طويل في طريق وعر مملوء بالإشراك والتعاسيف والمتاهات والزحام والسعالي والغيلان. . وجثث الأمم الوانية الخطى، الخرقاء التدبير، المتخاذلة القوى، المفرقة الهوى. . . طريق المجد!!
وقبل السير قفوا وتلفتوا إلى الخلف، وسرحوا الأبصار في معالمه، وتذكروا أغلاط الماضي واستوحوا هداه وعبره، فإن ذلك أحرى أن يطرد معه السير على الجادة دون انحراف إلى بنيات الطريق
بغداد
عبد المنعم خلاف(188/33)
حول رأيين في
الوحدة الإسلامية
للأستاذ حسين مروة
لنكاد نلمس اليوم في مظاهر الحركة الإصلاحية القائمة في ديار الإسلام وأمة القرآن الكريم - اتجاها جديدا يغتبط به كل مسلم يستشعر في نفسه الأيمان الحق، ومظهرا مباركا يرتاح إليه كل موحد يحمل في صدره عاطفة الخير الصريح، وإننا - إلى اغتباطنا بهذا الاتجاه - لنزداد طمأنينة إليه إذ نتلمس بين عوامله وأسبابه عامل النضج الفكري وفهم الحقائق المستوحاة من ملابسات الحياة وروحية الدين الإسلامي الحنيف. وإننا لنذهب في طمأنينتنا واغتباطنا هذين مذهباً أبعد مدى، إذ نشهد بين العاملين على هذا الاتجاه طائفة رجال الدين التي يرى كثير من المشتغلين في هذا الحقل إنها السبب الأول في إخفاق الحركات الإصلاحية التي نشأت في الأعوام المتأخرة لتوحيد كلمة الأمة الإسلامية وجمع رأيها الشتيت ورتق ما فتق التاريخ من مجدها السني وعزها الرفيع.
وفي الحق أن طائفة رجال الدين هذه كانت في عصور التاريخ الإسلامي الأولى هي العنصر الصحيح الذي عمل للإسلام أكثر مما عملته العناصر الأخرى، إذ بينما كانت هذه العناصر تحمل المعاول لهدم صروح الوحدة الإسلامية الشامخة - كان علماء الدين يجلسون إلى القرآن والحديث الشريفين يستوحونهما حقائق الدين؛ ويستهدون بنورهما المبين إلى حل المشكلات وتوضيح الغامضات، يجتمعون على ذلك فيما بينهم وإن باعدت المذاهب بين صفوفهم، ويتواصلون تواصل الأرحام وإن حاولت أهواء السياسة أن تنثر جماعاتهم نثراً وأن تستغل بساطتهم البريئة استغلالا، وأن تستثير حفائظهم الدينية لتأييد اغراضها، فتراهم - على هذا كله ينصرفون عما حولهم من شؤون إلى دراسة، أو تدريس، أو تأليف، أو مناظرة علمية مهذبة الحواشي طاهرة المقاصد موطأة الأكناف بالسماحة الرحبة والتساهل العذب وأدب البحث النزيه. وإذا كنت ترى في مخلفات هذه الطائفة في عصورها تلك من المؤلفات والدراسات ما لا يدل على شيء من هذا الذي نقول - فإنما هو النادر الذي لا يصح القياس به، أو هو مما ألحت عليه السياسة بأسبابها ونوازعها الأثيمة. وهكذا كانت السياسة تلحف بالتنقص من أطراف الوحدة، وتلج في تبديد(188/34)
الشمل، وتجهد في تضييع الخلق العلمي السمح، واستئصال هذه البقية الكريمة من تراث العصر الأول للإسلام - حتى انثال رجال الدين إلى السياسة، وأنهال العلماء على الدنيا، وكان ما كان من هذه الطرائق المبعثرة، وهذه الأهواء المتدافعة، وهذه الدنيا الإسلامية المليئة بالأحداث الجسام والنوازل المروعة الفادحة
وعفا الله عن رجال الدين هؤلاء ومن خلف من بعدهم إلى يوم المسلمين هذا، فلقد سايروا أهل المطامع، وكانوا معهم إلبا على الدين من حيث لا يشعرون، وكانوا لهم عونا على الإثم من حيث هم غافلون، ونحن لا نشك في أن أصحاب الرأي القائل بأن علماء الدين قد عرقلوا سير الإصلاح في الإسلام - على شيء من الحق، وإن لم يكونوا على الحق جمعية فيما نرى، لأن تخلف هؤلاء عن قافلة رجال الإصلاح الذين قطعوا شوطاً في هذا المضمار - ليس هو السبب - كما يرون - في إخفاق الحركات الإصلاحية التي قامت في هذه الأمة إلى اليوم، لأننا لا نعتقد أن سلطة رجال (الاكليروس) الإسلامي تتناول هذا المدى من التأثير في سير الأمور العامة في دنيا المسلمين، ولعلنا لا نزيغ عن الحق إذا قلنا لأصحاب هذا الرأي إن السبب الأول في فشل المصلحين يرجع إلى عاملين أثنين: أحدهما - كاتبوا التاريخ الإسلامي أنفسهم الذين أمعنوا كثيراً - علم الله - في تملق السياسة ومجاراة أهواء النفوس من أي حزب كان هؤلاء ومن أي شيعة ولون، جعلوا تاريخنا مثارا للحزازات وموقظا للنعرات كلما شاء الزمان أي يبدلنا بشرنا خيراً، وبفرقتنا اجتماعا، وشر البلية في هؤلاء أننا مرغمون على قرائنه فما الحيلة إذن؟. ترى هل يعمد القائمون على فكرة الإصلاح إلى ما كتب المؤرخون عن عصور القلق الإسلامي فيقطعون ألسنتهم فيما يتحدثون به إلينا من فضول الأحاديث؟.
وأما العامل الثاني فليس في قراء (الرسالة) الكريمة - كما نعتقد - من يجهله، أو ليس هو (الغرب) الغازي. . . المظفر. . .، ويعلم القراء ما وراء هذا من شجون الحديث وشؤونه الرائعات.
هذان ما نعتقد أنهما السبب الأول في تمزيق شمل المسلمين. وإذا كان لرجال الدين من أثر بعد هذا، فذلك هو استسلامهم إلى هذين العاملين استسلاماً ساذجاً أخرق، ولا نقول عنه إلا ذلك. . .(188/35)
ونعود الآن لنقول ثانية: إن هذا الاتجاه الحادث في دفة الحركة الإصلاحية، يزيد في اطمئنانا إليه أن بين عوامله وأسبابه فهم أولي الشأن من طوائف المسلمين حقائق الحياة المحدقة بهم وأسرار الروحية الإسلامية السمحاء، وأن في صف العاملين عليه طائفة رجال الدين، ورجال الدين هؤلاء المساهمون في هذا الاتجاه ليسوا من الأزهر الشريف وحده، وليسوا من النجف المقدس وحده، ولكن المعهدين الشقيقين كليهما يمدان الفكرة الجليلة المنشودة: (الوحدة الإسلامية) بروح منهما وبسبب من عندهما بليغي الأثر، كريمي العنصر، طيبي المنبت، وهاهي دار (الكنانة) العزيزة، زعيمة هذه الفكرة المثلى وحاملة المشعل المقدس اليوم قد شهدت منذ أيام عالما جليلا من علماء النجف يحاضر في دار جمعية الشبان المسلمين في موضوع (الوحدة الإسلامية) بروح من التسامح جليل البادرة، ويجتمع إلى عظماء البلد الإسلامي الكريم يحادثهما حول هذا الشأن فيلقي في رجال العرش المؤثل الرفيع كل العطف، ويشهد في أوساط الأزهر العظيم أبلغ المثل على نضج الفكرة، ويأنس من علية البلد وزعمائه الأبرار ومن حملة العلم والقلم ورجال الفكر فيه - ألمع الدلائل على قرب اليوم السعيد، إذ يصبح المسلمون إخواناً كأنهم البنيان المرصوص تظلهم جميعاً راية التوحيد العليا.
ولكننا - ونحن نعرض لهذا كله - نرى من واجبنا أن نقول كلمة في مرحلة ثانية للموضوع، وهي التي أردناها أول ما أردنا أن نكتب في هذا الباب، ذلك أن للموضوع مرحلتين: أولهما - حاجة الأمة الإسلامية إلى الوحدة الشاملة الكبرى، وهذه قد فرغ الباحثون من التدليل عليها، ووضعها في ميزانها الصحيح، وفرغ كذلك المصلحون منعقد الضمائر على الإيمان بها وجعلها مثلاً أسمى تستهدفه النفوس، وتستهون في سبيله الجهود. والمرحلة الثانية هي: قضية العوامل والأسباب القرب أثراً وأعظم فعلا في تحقيق هذه الأمنية الغالية والمثل الرفيع.
هذه المرحلة الثانية قال الكاتبون والمصلحون فيها ما شاؤا، ولقد طلع على العالم الإسلامي منذ أعوام بعيدة أو قريبة، رأي بهذا الشأن عرفه السوريون أكثر من غيرهم، إذ نشأ - أول ما نشأ - في ديارهم، ويقول أصحاب هذا الرأي إن الخلافات المذهبية - ولاسيما بين طائفتي السنة والشيعة - هي مصدر الفرقة، وهي مصدر البلاء والشقاء، وإذن فلنعمد إلى(188/36)
قلع هذا الوباء من أصله، ونجذه من جذوره، بأن نجمع المسلمين كافة على مذهب واحد يستخلص من مجموعة هذه المذاهب على ضوء القرآن والحديث، ولكن هذا الرأي لم يكد يظهر حتى اختفى دون أن يثير وراءه جدلا ولا بحثا، ودون أن يترك بعده صوتاً لنادب عليه أو شامت به؛ وهاهو ذا اليوم يظهر ثانية على لسان سماحة العلامة الزنجاني - ومن النجف كذلك -، فإذا هو يلقي هذه المرة في مصر وفي ديار الشام غير ما لقي أول مرة، وإذا هو موضوع بحث وعناية من العلماء ورجال الفكر وأولي الشأن الجليل في القطرين الشقيقين. وبينا نفكر في إدلاء دلونا بين الآراء في الموضوع وإذا (الرسالة) الرفيعة تطلع علينا فنستقبلها بالهمة الروحية التي نستقبلها بها في كل مرة، ونقف - أثناء سبرها - على مقال جليل للأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي في الموضوع نفسه وبعنوان: (الوحدة الإسلامية) وللأستاذ حرمة في النفس حملتنا على أن نجمع الفكر إلى مقاله، فإذا هو يقول فيه ما كنا نحاول أن نقول في الموضوع قبل ذلك، وها نتقدم إلى (الرسالة) الغراء بهذه الكلمة العاجلة تأييداً لرأي الأستاذ الصعيدي الذي تفرد به بين من عرضوا لهذا (المشروع) بشيء من القول:
في الحق - يا سيدي الأستاذ - أن محاولة توحيد المسلمين عن هذا الطريق الذي يقولون، لهي - شهد الله - عامل جديد على توسيع شقة الخلف بينهم، وتهديد هذا الكيان الحاضر - على هزاله - بالاضطراب فالاضمحلال.
ليس هذا أوان التلبيس والإبهام ونحن نبحث أمراً حيوياً له خطره وله عواقبه الجليلة ونتائجه المرموقة، فلنقل - إذن - بصراحة: إن خلاف الطائفتين في أصول العقائد حقيقي، وليس هو - كما قالوا - ظاهري قشري يستطاع (تصفيته) في اجتماع أو مؤتمر أو ما يشبه هذا. ولنقل كذلك - بمثل هذه الصراحة -: إن من العسير، بل من المتعذر، أن نحمل أية من هذه الطوائف على التزحزح عن مبدأ واحد من مبادئها أو أصل واحد من أصولها - قيد شعرة، بعد أن أصبحت هذه المبادئ والأصول عقيدة في العقائد. ولا نظن السادة أصحاب هذا الرأي يجهلون أن العقيدة جزء من كيان المرء لا ينفك عنه مادام كياناً ينسب إليه ويتميز به، ونظننا في غنى عن التبسيط بهذه الناحية، وفي مباحث العلوم النفسية والاجتماعية وفي منطق الواقع نفسه ما يغني عن التبسط والتدليل(188/37)
ولنفرض - جدلاً - أن اجتمع نخبة من علماء كل طائفة، وتجرد هؤلاء عن اعتبارات المذهب، وموحيات العقيدة، وبحثوا الأمر بحثاً علمياً صريحاً مستهدين بروح الإسلام الأعلى ومبدأ القرآن الأول، ثم أقروا جملة من المبادئ والأصول قد تكون مزيجاً من مذاهب شتى وقد تميل إلى مذهب دون مذهب - لنفرض هذا كله، ولنجعله بمكان من الاعتبار الصحيح، ولكن من يضمن لنا هذه الدهماء أن تتنازل عن عقائدها لقاء ما يقول لها العلماء، هكذا قضى البحث وقواعد العلم، وهكذا تشاء مصلحة الإسلام. أو أن تتقبل هذا المذهب (الجديد) بطمأنينة ورضا واقتناع، ومن يضمن لنا كذلك هذا التاريخ الأرعن أن يوقظ النعرات من جديد فنستهدف مشكلة جديدة ونضيف إلى هذه المجموعة (الضخمة) من المذاهب مذهباً جديداً، أو قل: عاملاً جديداً على صدع الصف وخلق الفوضى التي نحاول أن نبيدها من الوجود؟.
لا. لقد جاء الأستاذ الصعيدي - حفظه الله - بالحق إذ نحا غير هذا المنحى في سبيل الإصلاح وجمع الشمل. ولقد نحونا مثل هذا كذلك في مقالات نشرتها جريدة (الهاتف) النجفية ناشدنا فيها هيئة العلماء العليا في النجف أن يعتبروا هذه الخلافات في أصول العقائد بين المذاهب الإسلامية، كما يعتبرون هذه الخلافات في الفروع بين مجتهدي المذهب الواحد، وأن تمد مدرسة النجف يدها إلى شقيقتها الكبرى مدرسة الأزهر، وأن يتبادل المعهدان الكريمان البعوث العلمية ويوحدا مناهج التعليم فيها وأن يشتركا في الرأي كلما حدث في الإسلام حدث من إصلاح أو تثقيف، أو تأليف، أو تأسيس الخ.
هذه هي الخطة المثلى التي نرجو أن يعتبرها المصلحون من علماء الطائفتين قاعدة لأعمالهم في سبيل الوحدة الإسلامية المنشودة. وإننا لنرجو أن يكون لنا في هذا الاتجاه الإصلاحي الجديد - سبب أي سبب في تحقيق هذه الأمنية الحبيبة.
وأنا أرجو - في ختام كلمتي - أن أحقق أمنية تعتلج بالصدر في أن أشد الرحال في اليوم القريب إن شاء الله إلى الأزهر العظيم رجاء أن نشق الطريق إلى تواصل الأرحام بين المعهدين الشقيقين، وتحقيقا لمقترح الأستاذ الصعيدي الكريم، والله ولي الأمر.
حسين مروة(188/38)
دعابة الجاحظ
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
كان أبو عثمان الجاحظ لوقته شيخ الأدب، وفخر العرب، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، إن تكلم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدل، وكان إلى جانب هذا كله ظريفاً مرح النفس، يحرص على النادرة ويحتفل بها، ولو كان فيها ما ينال من شخصه، ويمسه في سمته. ولما كان الأدباء قد أكثروا القول عن الجاحظ في أدبه وفنه، وعلمه وتحقيقه واقتداره على الكلام والجدل، فقد رأينا أن ننظر إليه في دعابته ومرحه؛ وإنها لناحية للباحث فيها مراد ومنزع، وللقارئ منها متاع ولذة. ولعل من الخير قبل الإمعان في البحث أن ندحض وهما يقوم في رؤوس بعض الناس إذ نجدهم ينكرون ذلك على الجاحظ وأضراب الجاحظ، لأن كرامة الأديب أو العالم في رأيهم أكبر من أن تكون مصدر عبث ومجانة، وأرفع من أن تبتذل في الضحك والتنادر، وقديما قيل: ليس لمزاح مروءة، ولا لممار خلة. ولقد رأيت ابن قتيبة لما أراد أن يثلم الجاحظ لم يدخل عليه إلا من هذه الجهة إذ قال: إنه كان يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث. وفات هؤلاء الناس أن الإنسان حيوان ضاحك باك بطبعه، وأن الله قد خلق فيه الضحك قوة تعينه على استساعة هذه الحياة المريرة، كما خلق فيه البكاء قوة تقف به موقف العظة والاعتبار. وقد روي فيما روي عن الحسن البصري أنه قال: حادثوا هذه القلوب فأنها سريعة الذبول، وارعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنكم إن لم ترعوها تنزع بكم إلى شر غاية!! ومما جاء في التاريخ أن عبد الله بن طاهر جلس مجلسا أنصف فيه من وجوه القواد، وأمراء الأجناد، وضرب العناق، وقطع الأيدي، وردّ كبار المظالم، ثم قام وقد دلكت الشمس، فتلقاه الخدم، فأخذ هذا سيفه، وهذا قباءه، وهذا إزاره، فلما دخل دعا بنعل رقيقة فلبسها ثم رفع ثوبه على عاتقه وتوجه نحو البستان وهو يتغنى:
النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم
قال عيسى بن يزيد: وكنت جريئا عليه، فجذبت ثوبه من عاتقه وقلت له: أتقعد بالغداة قعود كسرى وقيصر، ثم تعمل الساعة عمل علوية ومخارق؟! فردّ ثوبه على عاتقه وهو يقول:(188/39)
لابد للنفس إن كانت مصرفة ... من أن تنقل من حال إلى حال
ومن أولى - رعاك الله - بأن يصرف نفسه من حال إلى حال، ومن أحق بالاسترواح والانشراح من ذلك العالم أو الأديب الذي يصهر ذهنه في خدمة الإنسانية، كالذبالة تضيء للناس وهي تحترق؟ وهل هو يفعل في ذلك إلا ما تقضي به إنسانيته، وتدفعه إليه طبيعته؟ فإذا طاب لنا أن نقف بهذا وأمثاله موقف التزمت والوقار في كل فترة من فتراتهم، فنحن في الواقع نجردهم من نصف إنسانيتهم ونعطل فيهم قوة خلقها الله لهم مباءة للرفاهية والراحة، بل نحن نبقي لهم حياة هي الكرب الآخذ بالخناق، والجحيم الذي لا يطاق (وإني لأعجب لبعض الناس أن تطرق إلى عقولهم تلك العقيدة الغريبة وهي أن حياة الأبرار في الجنة، أرفع وأشرف من أن يدخلها الضحك، ويكون فيها التنادر. ولقد رأيت كثيرا من هؤلاء يهيئون نفوسهم في هذه الحياة الدنيا لاستقبال تلك العيشة العابسة التي يزعمونها في دار النعيم، فهم يطردون من صدورهم كل ميل إلى السرور والانشراح، ويكشحون عن صحائف وجوههم كل لمحة من سنا البشر والطلاقة. وكثيرا ما أصادف في غدواتي أحد هؤلاء العابسين فينظر إلي كمن عرفني نظرة موحشة شزرة، كأنما هو قاضٍ سماوي قد هبط إلى هذا العالم ليحكم بأقصى العقوبة على كل من يعرف، ومثل هذا الرجل يقطع ولاشك ذنب هرته إذا هو صادفها تعبث به، فبالله سله من علم الهرة أن تعبث بذنبها؟!.)
هذا وللجاحظ في هذا المعنى كلام حسن هو من أقوم ما قيل في بابه، وأدق ما أتى في معناه، وإنما ساق الرجل الحديث في ذلك وهو ينضح عن نفسه، ويدحض شبهة كالتي نعالجها، إذ خاف - وهو العالم الأديب - أن يتهم بالنزق والسفه من أجل ما يستروح به من المزح والفكاهة، وبسوقه من الطرف والتنادر. والظاهر أن مسألة الجد والمزاح كانت من المسائل التي شغلت الأذهان في عصر الجاحظ، فكثر حولها القول، وطال فيها الخلف والتضارب، وما كان ذلك إلا نتيجة لازمة لتلك الحياة الفكرية التي كان عليها القوم، وهي حياة مضطربة لم تأخذ وضعها من الاستقرار بعد، ولم تكن قد خلصت من شوائب الأخذ والرد، فهناك علماء الفقه والسنة مازالوا يتلمسون نصوص الشريعة يطبقونها على ما أمامهم من مظاهر وظواهر، وتبيان ما هو حلال منها وما هو حرام، والى جانب هؤلاء جماعة يتولون الوعظ بأحوال السابقين، والزجر بالقصص والآثار، وإن فيهم من لا يتورع(188/40)
عن التزيّد والافتراء، والحشو والكذب، لتأييد أمر له فيه غرض ومآرب. وثمة عناصر فارسيةً من الشعراء والأدباء لا يتحرجون من اقتحام الدين والخروج على الأوضاع، فكل همهم إشباع الجسد، وإمتاع القلب. وفيهم من يذهب في التظرف مذاهب، فكان من الطبيعي أن تقوم مسألة (المزاح) عند كل فريق من هؤلاء باعتبار، وأن يجري فيها القول على خلافٍ، إذ لكل هوى ومنزع، وقدعرض الجاحظ أقوالهم أجمل عرض فقال: (وقد ذهب الناس في المزاح إلى معانٍ متضادة وسلكوا منه في طرق مختلفة، فزعم بعضهم أن جميع المزاح خير من جميع الجد، وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان، وأن الحمد والذم بينهما نصفان) وبعد أن أتى الجاحظ على جمل هذه الأقاويل أخذ في إعلان رأيه فقال: (ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزح في الجملة، كالجد في الجملة، بل نزعم أن بعض المزح خير من بعض الجد، وعامة الجد خير من عامة المزح، وقد يكون الكلام في لفظ الجد ومعناه معنى الهزل، كما يكون في لفظ الهزل ومعناه معنى الجد، ولو استعمل الناس الدعابة في كل حال، والجد في كل مقال، وتركوا التسجيح والتسهيل، وعقدوا أعناقهم في كل دقيق وجليل، لكان السفه صراحاً خيراً لهم، والباطل محضا أردّ عليهم، ولكن لكل شيء قدر، ولكل حال شكل، فالضحك في موضعه، كالبكاء في موضعه، وكذلك التبسم والقطوب، والمنع والبذل، فأن ذممنا المزاح ففيه لعمري ما يذم، وإن حمدناه ففيه ما يحمد، وفصل ما بينه وبين الجد أن الخطأ إلى المزاح أسرع، وحاله بحال السخف أشبه، فأما أن يذم حتى يكون كالظلم، وينفى حتى يصير كالغدر فلا، لأن المزاح مما يكون مرة قبيحاً ومرة حسنا، ولا يكون الظلم إلا قبيحا، وبعد: فمن حرّم المزاح وهو شعبة من شعب السهولة، وفرع من فروعه الطلاقة، وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنفية السمحة، ولم يأتنا بالانقباض والقسوة. .)
ولاشك أن الجاحظ في رأيه هذا قد وقف موقف العدل والأنصاف، وقال قولا هو غاية القصد. ولقد أحسن الرجل كثيراً إذ راعى (المقام) في حكومته بين الجد والمزاح، فقال بأن (لكل شيء قدر، ولكل حال شكل، فالضحك في موضعه، كالبكاء في موضعه، وكذلك التبسم والقطوب، والمنع والبذل) نقول: بل وكذلك كل شأن من شؤون هذه الحياة، وما أحسب أحداً في الناس يجهل أن وضع الندى في موضع السيف مضر، كوضع السيف في موضع(188/41)
الندى؛ ولكن قل في الناس من يتعرف الوضع المناسب، ويتبين المقام المشاكل، وما ذلك في الواقع إلا مسبار الذكاء، ومحك البراعة، وهل التنادر يقوم إلا على قوة المفارقات، والتمييز بين المناسبات؟ وهل الرجل الذي يلقي بالنادرة في موقف العظة والاعتبار، أو يخلق الضحكة ينطلق بها فمه بين مظاهر الأسى والحزن، ألا نزق طائش، بل قل سفيه لا يحس بالواجب، ولا يقدر العواقب، وسرعان ما ترمقه العيون بالنظر الشزر، ويقعد في الجالسين مقعد الثقيل المملول، وربما كانت نادرته حلوة رائعة، وضحكته رقيقة حسنة، ولكنه ألقى بها في المقام الكز، واختار لها الموقف الخشن!!
ولا عاب في المزح عند الجاحظ إلا أن الخطأ إليه أسرع، وحاله بحال السخف أشبه، ومن ثم فهو يرى أن من الصون للأديب أو العالم أن يكون فيه على قصد، وأن يعالجه على قدر، هو قدر الاسترواح والانشراح. ولقد أوضح هذه الناحية إذ يقول: (والمزاح باب ليس المخوف فيه التقصير، ولا يكون الخطأ فيه من جهة النقصان، وهو باب متى فتحه فاتح، وطرق له مطرق، لم يملك من سده مثل الذي يملك من فتحه ولا يخرج منه بقدر ما كان قدم في نفسه، لأنه أصل بناءه على الخطأ، ولا يخالطه من الأخلاق إلا ما سخف، ومن شأنه التزيد، وأن يكون صاحبه قليل التحفظ، ولم نر شيئاً أبعد من شيء ولا أطول له صحبة. .، من الجد والمزاح، والمناظرة والمراء. . .)
وهذا كلام يتفق فيه الجاحظ هو وصاحب حديث المائدة، إذ يقول في كلام له عن الجد والمزاح (أنا لا أمقت منكم ميلكم إلى الضحك، ولا أضن عليكم بالكلمة تضحككم متى قدرني الله على ذلك، فأما أن تطلبوا إلي ألا أقول إلا ما يضحك، وإلى أنفسكم ألا تفعل شيئاً غير الضحك، فذاك مخالف لسنة الطبيعة، وجدير بمن هذا شأنه أن ينقلب قرداً لتوّه وساعته. . . ولذا كان من البلية على الكاتب أو الشاعر أن يسترسل في باب المضحك، فإنه يعوّد الناس بذلك ألا ينتظروا منه إلا ما يضحك وألا يعرفوه إلا مزاحاً، فهم يضحكون معه مادام يضحكهم، فإذا أراد أن يجد وشرع ينطق بالعلم والحكمة ضحكوا منه وهزئوا به). ثم ينظر صاحب حديث المائدة إلى الموضوع من ناحية لم يتمعنها الجاحظ فيقول: (على أن هناك سبباً أغمض من ذلك، ألا تشعر أنك ترى نفسك فوق كل إنسان يتصدى لإضحاكك، سواء بحركات جسده أو بحركات قلمه؟ بل ألا تشعر بأنك تفيض عليه من برك(188/42)
وإحسانك إذ تمن عليه بتقبلك منه الوثبات الحقيقية أو الشعرية!!. فإذا لزم أدبه، ووقف عند حده فخيراً يفعل، وإذا حاول أن يعلو إلى مقامك الرفيع، فأخذ يدلي إليك من منبر عظته نوابغ الحكم، فبئس ما صنع، وساء ما أتى، وهيهات أن يقوم عندك مقام الواعظ، أو يفوز منك بنظرة الإجلال التي هو جدير بها لعلمه وأدبه!).
وما كان الجاحظ من الدعابة والمزح، إلا في ذلك المقام الكريم الذي اتفق عليه هو وصاحب حديث المائدة، فتجده يستروح بالنادرة، ويتفكه بالدعابة، ولا يضن على السامر بالكلمة تصفق لها القلوب، وترتاح لها النفوس. وإنه في أبحاثه وكتاباته ليبتدع النكتة ابتداعاً، ويحتفل بالنادرة يسوقها إلى القارئ، ولكن كل هذا في المقام المناسب، وعلى القدر اللازم، فما تعدى طوره، ولا خرج عن قدره، ولا أستذل كرامته بالتزيد والإمعان في المجانة. وإذا كان ابن قتيبة قد عاب الجاحظ بالعبث والضحك، فما ابن قتيبة إلا مسرف في هذا الاتهام، وإنه ليطعن الجاحظ في غير مطعن، بل أنه ليريد أن ينكر على الرجل طبيعته البشرية، وكأنه كان يحمله له ضغناً، ولماذا ينكر ابن قتيبة على الجاحظ ما استباحه هو لنفسه في عيون الأخبار من سرد المضاحيك والمعائب، حتى ليقول في مقدمة ذلك الكتاب بلهجة صريحة: (وسينتهي كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة وما روي عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له، فاعرف المذهب فيه وما أردنا به، واعلم أنك إن كنت مستغنياً عنه بتنسكك، فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه، وإن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك، فيهيأ على ظاهر محبتك! ولو وقع فيه توقّي المتزمتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه، ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل عليه معك. . .)، وأحب أن يتأمل القارئ قوله - شطر بهائه وشطر مائه - فيا ليت شعري إذا كان توقّي المزاح والفكاهة سيذهب بالبهاء والماء، فماذا يبقى بعد!؟.
(للكلام صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف(188/43)
جولات في الأدب الافرنسي الحديث
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
لأستاذ الأدب في جامعة السربون (دانيال مورني)
بقلم الأستاذ خليل هنداوي
(فصول ملخصة من كتاب تاريخ الأدب والعقل الفرنسي الحديث لأستاذ الآداب في جامعة السوربون (دانيال مورني) تبحث تطور الشعر والرواية والنقد والتاريخ والفلسفة) ودانيال مورني أستاذ له مدرسته التحليلية وطريقته الأدبية التي يفرضها على آداب أمته في هذا الجيل! وهو مؤرخ للأدب بطريقة خاصة يكاد يكون بها نسيج وحده. تقرأ كتبه ومقالاته فتشعر باطلاع واسع عميق وجهد كبير وفكر عال استطاع أن يقرأ ويفيد ويحلل فتأخذ منه ما اوجزه فإذا به يخفي طي سطوره القليلة ما يغني!
يكتب بأسلوب سهل كتابة يغلب عليها الأسلوب الأدبي طوراً والأسلوب التحليلي تارة، وهو في كل ذلك حي تجري حياة الفكر فيه، يكتب عن المدرسة الأدبية أو حياة الأديب صفحة أو صفحتين ويقف وإنك لراغب في الزيادة! ولكن وقوفه هو الحاجز الذي يجب أن يقف عنده. ولن يمضي زمن حتى ينشأ هذا الأسلوب الموجز في تحليل الأدب وتعيين مواقفه الحاسمة. وأشهر كتبه المنشورة تاريخ شامل للأدب الفرنسي قديمه وحديثه. وتاريخ لمراحل خاصة للعقل الفرنسي وقد أحببت أن أدرس هذا الكتاب لأنه درس شامل لعقل وأدب. لا يذهب وراء الخيال كثيرا كأنه كل شيء، ولا ينطلق وراء العقل كثيراً كأنه كل شيء. . . لأن صاحبه يرى التأثير متبادلا بينهما، ففيه نرى تأثير العلم في تطور الأدب وتأثير الأدب في الفلسفة. وفيه يرى أصحابنا تأثير النظريات الفنية والعلمية في توجيه الأدب.
(خ، هـ)
رقية العلم عام 1880
لم تبلغ العلوم الطبيعية من الذيوع والقوة ما بلغته في أواخر القرن التاسع عشر. فأن أهم اكتشافاتها ومخترعاتها إنما تمت في عهد قبل عهد الأواخر. فكتاب (داروين) مثلا عن(188/44)
أصل الأنواع إنما ظهر عام 1859 وكذلك في الأعوام الأخيرة نشأت اكتشافات جديدة غمرت الأرض وألقت في إخلادهم أن العلم قادر على تبديل الحياة الاجتماعية وغير عاجز عن تغيير الحياة ذاتها. وساعدت على نشر هذا الاعتقاد الانتصارات المتتالية في كل ميادين العلم. ولم يقبل عام السبعين حتى ازداد هذا الاعتقاد عنفا ورسوخاً حتى اعتنقه بعضهم كما يعتنق ديناً. على أن الناظر لا يرى خلقا جديداً في مذاهب العلم وأساليبه وأصوله، ولكن غير العلماء كانوا يتحرون في أصوله عن النور الذي ينبغي له أن ينير مسالك الحياة الاجتماعية والحياة الخاصة وما قدر لها. فـ (رينان وتين) قد جمعت آثارهما قبل عام السبعين ولكن الشباب لم يتخذ منهما قائدين إلا بعد هذا العام. وهكذا انتشر سلطان العلم وغلب على كل سلطان وطني على الأدب واصبح موضع الأنظار. وأعلن أحد رسل العلم (برتلو) بعد اكتشافه في الكيمياء مذهب تأليف الأجزاء المتفرقة بأنه بواسطة هذا المذهب يستطيع إنسان الغد أن يصبح المسيطر على عالم الأجساد والنفوس. فهو يضع غذاءه ويخلق عصور الرفاهية التي تتجلى فيها المساواة والإخاء إزاء شريعة العمل المقدسة. كل شيء سجله العلم ويخلقه خلقا جديداً. وكذلك شأن الأخلاق يدركها هذا التطور الذي أدرك الطبيعة
كل شيء في الحقيقة ينتظم ليخضع كل فكرة إنسانية لقوانين العلم. وقد كان علم طبقات الأرض وعلم الآثار القديمة والتوسع فيها كانا ذائعين في القرن الثامن عشر قبل أن تتفجر عن العلم اكتشافاته وتزداد حركته. وهنالك مجامع كثيرة قامت ومدارس نشأت تطلب أن تقيم الدراسة المحض للحقائق بدلا من الركض وراء الخطرات الخيالية اللامعة على غير جدوى. ولكن هذه المطالب كانت لا تزال تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فيها تردد غير المطمئن وشك غير المؤمن. فبقي التعليم وجامعاته والنقد وحركاته أمينة لمذاهب الأدب القديمة التي تعتمد على الذوق والذهاب إلى إحياء فن الأوائل بالخيال، حتى بزغ عام السبعين فبدأت الأذواق تنفر من هذه الأخيلة، ودعا الأدباء إلى اعتناق علم (الألمان) الذين ربحوا الحرب، ليكون منهم علماء في دراسة اللغات ومؤرخون وأساتذة، وأن تكون دراساتهم مرتكزة على بحث الحقائق وتجريدها ونقدها نقداً علمياً. وقد طغت هذه الدعوة العنيفة على جامعات فرنسا وغزت مجامعها الأدبية. فتغير الأسلوب وتبدلت المناهج،(188/45)
ونرى أثر ذلك في مدرسة (أثينا) الفرنسية التي أخذت تنهج في الدرس نهجاً حديثاً، وفي بقية مدارس أنشئت لهذه الغاية كمدرسة (روما) ومدرسة القاهرة، وفي بعض مجلات علمية أنشئت لتعمل على تشجيع هذا المذهب الجديد!
وقد سرى هذا الارتجاج إلى الفلسفة فخالت أن العلم يبدل منهجها. وبدا أثر هذا الارتجاج في الدراسات النفسية التي كانت تعتمد على الدرس الباطني فبدل نوع هذا الدرس وجاءوا بعلم جديد لدرس النفس لا يعتمد إلا على الفحص والتجريب والبرهان. وخزانة الفلسفة الفرنسية لا تزال طافحة بهذا النوع الجديد من الدرس كآثار الفيلسوف (ريبو) في معالجة أمراض الذاكرة والإرادة والشخصية. وكلها أبحاث قائمة على الفحص العلمي والبرهان العملي الذي لا مجال للخيال فيه وهي تثبت أن أصول علم النفس الروحاني لا تتلاءم مع الأعمال، وأننا بدرسنا - علمياً - لفساد المادة الدماغية ندرس كذلك فساد الفكرة التي لابد أنها مظهر من مظاهرها واثر من تأثيرها.
أما علم درس المجتمعات فهو لا يشبه العلم فحسب، بل يجب أن يكون علماً صارماً في تطبيق مبادئه وفي تطبيق نتائجه، كما هو الحال في علوم الطبيعة ولم ينشأ هذا العلم في فرنسا إلا بعد عهد، ولكن هذا لا يمكن أن يكون وليد المذاهب العقلية. وإنه علم ومنطق يراد به خلق أصوله ومذاهبه. وقد وقف العالم (دور كهايم) جهوده على القول بأن الحوادث الاجتماعية هي حوادث مخصصة معينة يجب اعتبارها كأنها خاضعة لقوانين خاصة يكتشفها علم الاجتماع كما يكتشف علم الطبيعة قوانين الطبيعة
وهنالك فئة علمية تدين بالعلم. هذه الفئة التي قدم لها (رينان) كتابه (مستقبل العلم) هذه الفئة هي التي مشت وراء تعاليم (دارون) وعلى هذه الفئة ثبت مستقبل العلم ومستقبل الديموقراطية، وفي الحقيقة كانت الجمهورية الفرنسية متقلقلة متزعزعة حتى عام 1880، فتألب رجال السياسة والصحافة على استنقاذها من مأزقها، فعمدوا إلى التبشير بكلمات (برتلو) بالمساواة والحرية والاتحاد والسعادة، بالعمل على تأييد العلم الذي يجازى العاملين من أجله بالسلامة والعافية ورفاهية العيش، وهو الذي سيحل عقدة الحياة والوجود.
إن هذه الرقية العلمية غزت الأدب فيما غزت وكان لها فيه تأثير بليغ.
خليل هنداوي(188/46)
دمعة وفاء على المرحوم الأستاذ غانم محمد
بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته
للأستاذ زكي نجيب محمود
أحقاً يا غانم حم القضاء وقام فيك الرثاء؟ أحقاً طاح بدوحك العاتي منجل الفناء؟ وا فجيعتاه؟ قم إذن يا صاح فاهتف بالمحاجر أن تسح الدمع هتوناً سخيناً، وبالحناجر أن تسكب ذوب النفوس أنيناً حزيناً.
عجباً! آستطاع الدهر في لمحة من الزمن، أن يطوي الشمس في ظلمة الرمس؟ آستطاع الموت بلفظة في لحظة أن يدك طوداً كان شامخاً بالأمس؟ أفي اليوم الذي نرجو للأمة فيه غانماً وغانماً، يهوي مخلب الموت، بين أشاجعه رعب القدر، وننظر فإذا غانمنا الواحد قد افتقدناه في مثل اللمح بالبصر؟ حنانيك يا رباه! أأصبت بالمنية غانماً أم أصبت عشيرة في رجائها؟ أرميت بالبلية رجلا أم رميت الرجولة في سويدائها؟ فما كان فقيدنا في عداد القوم واحداً كسائر الآحاد، بل كان ينبوعاً للرجولة دافقاً، وقلباً للوطنية خافقاً، يمتلئ همة حتى ليسكب الهمة في بنيه، ويشتعل حماسة حتى ليبث الحماسة في مواطنيه، لا يدخر في سبيل ذلك ما وسعه من جهد اللسان والقلم. فهأنذا أطوي الليالي القهقرى أعواما ثلاثة، فإذا بالمطبعة العربية تذيع في الناس كتاباً لا يخطف العين مظهره، ولا يضج به في الناس منشئه ومسطره: جان دارك تأليف غانم محمد.
أقبلت على الكتاب حينئذ، ولم أكن أدري عن صاحبه إلا أشتاتاً منثورة، فحسبته بادئ الأمر كتابا من الكتب أخرجه للناس كاتب من الكتاب، فما هي إلا صفحات عشر أتلوها حتى همست لنفسي قائلا: كلا! تالله إن الرجل لكاتب بارع وأديب قدير، اختلجت في نفسه الفكرة عنيفة جبارة، تنشد التصوير والتعبير، فاستجاب لدعوة القلم وكأنه فولتير يثور فيسطر فيثير. نعم لم تكن إلا صفحات عشرا أتلوها حتى أيقنت أن الكاتب منتش مخمور، قبس من صحائف التاريخ هدى ونوراً ليلقيه في جوانحنا لهباً مسعوراً! فما كتابه هذا عن جان دارك إلا منصرف تدفقت فيه أواذي نفسه المضطربة المصطخبة في بيان رائع خلاب. كأنها وحي النبوة يستحيل إلى بلاغ في كتاب.
(استمع إليه كيف يستهل كتابه:(188/48)
لم اكتب مذ عرفت أناملي قبض القلم وتحريكه، ولم تنطق شفتاي مذ انفرجتا للنطق، ولم يخفق قلبي، ولم يجش وجداني وتنشرح جوانحي، منذ أن خرجت إلى الدنيا، لأمر من الأمور هو أسمى وأرفع واشرف من الغرض الذي أرمي إليه بموضوع اليوم)
ثم أنفذ إلى الختام وأنصت إليه ماذا يقول قبيل أن يضع القلم: (وإني أختم هذا الكتاب مترسماً أثر جان في دعوتها وحياتها وصفاتها، وكلي أمل خالص أن تبعث قراءة قصتها في قلوب القارئين نور الأيمان الصادق ونشوة الوطنية الحقة. . . إن ما حققته جان في مقدورنا أن نحققه، إذا ما ارتفعت بنا، كما ارتفعت بها هي من قبل، أجنحة الوطنية والدين. . . أيتها الفتاة المنقطعة النظير! انفخي فينا من روحك، وبثي فينا من حماستك، لكي نحيا حياتنا ونموت في سبيل الله والوطن!!)
وإذا أنت مضيت بين تلك الفاتحة وهذه الخاتمة، لم تقرأ أسطراً كالأسطر، بل أحسست في الكلم حرارة وقوة وحياة، فهو ثائر حيناً شاعر حيناً، إذا جالت جان دارك في أجنادها زأر القلم في يده زئيراً، وإذا جلجلت جان دارك في أصفادها صرّ القلم من الأنين صريراً. وهكذا صور تتلوها صور، أبدعها صناع فسواها، وألهبها من شعوره فأذكاها. حتى لتقرأ الكتاب وكأنما تخوض في أتون مستعر، أو كأنك تنصت إلى صوت من السماء يهتف بك: تلك جان دارك في فرنساها، وهأنت ذا في مصرك، فماذا أنت صانع ليذكو شعورك الخابي، وينهض بلدك الكابي؟! وهذا النداء في ذلك الحين ما كان ابلغه من نداء حيث كادت تذهل أنفس عن الطموح إلى السماء، فانحرفت إلى الأرض راضية من الغنيمة بالحب والماء!
لم أكد أفرغ من قراءة الكتاب عندئذ حتى حملت قلمي على وهنه وعثاره. ودعوت للكتاب (في الرسالة) لأني آمنت أن الدعوة له صيحة وطنية واجبة، وكلما ازددت للكتاب قراءة ازددت يقيناً بما قلته إذ ذاك من أن غانماً (اخرج بكتابه للناس درة من أثمن ما تحوي لجة التاريخ من درر، ونشر صفحة من أسطع ما طوى الدهر من صفحات، ومن إنه بهذا الكتاب قد أذاع في الناس مثلاً أعلى للتضحية والفداء، ونموذجاً سامياً للوطنية المشتعلة الصادقة ممثلة في جان دارك). وما أزال عند كلمتي التي ختمت بها مقالي من أن غانماً (قد وفق في التصوير توفيقاً بلغ حد الكمال، وأن ليس هذا الكتاب واحداً من الكتب يتلى ثم(188/49)
يطوى وكأنه لم يكن، إنما هو فيض من الشعور القوي النبيل سيغمرك ويحتويك حين قراءته وسيطبعك بطابع هيهات أن يزول أثره ما بقيت على الدهر إنساناً)
ذلكم هو غانم الذي التقيت به في كتابه منذ أعوام ثلاثة لقاء قارئ بكاتب، ثم التقيت به منذ أشهر ثلاثة لقاء روح بروح، ثم افترقنا فراق الأبد، بعد أن خلف لنا حرارة نفسه وحلاوة جرسه في كتابه الخالد
فرحمة الله ورضوانه على الفقيد الكريم
زكي نجيب محمود(188/50)
شاعر الإسلام
محمد عاكف
بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
كتب الأديب الكاتب عمر رضا صهر الأستاذ محمد عاكف مقالاً في جريدة جمهوريت التركية بعنوان (أيام عاكف الأخيرة) فأردت أن يطلع عليه قراء الرسالة في هذه الترجمة:
منذ ستة اشهر أرست في استنبول باخرة قادمة من مصر، توسمت النازلين منها فإذا على السلم شبح لم أثبته للنظرة الأولى، فلما أنعمت النظر عرفت الفاجعة؛ وتأوه رفيقي مدحت جمال آهة أعربت عن وقع الفاجعة في نفسه.
لقد انحطم الأستاذ عاكف! ولكنه كان على ذلك، لا يزال متفائلاً يحسب أن هواء الوطن يحييه. ذلك كان ضنه، وذلك ما أمله إلى آخر رمق من حياته. أخبرته يوماً أن أحد أقاربه يود مقابلته. فقال: (لا يشق على نفسه؛ سأزوره أنا حين أستعيد بعض عافيتي)
ولقد حيرني حقاً هذا الرجاء، وهذه القوة الروحية التي رسخت فيه بعد أن آذنه الأطباء بخطر المرض، وضعف الأمل، ورأى هو صحته تضمحل يوماً بعد يوم. كان تفاؤله يملأ نفسي عجباً، فكنت أقول لنفسي: أتراه يريد أن يشعرنا الطمأنينة وينفي عنا الفزع؟ ثم أرجع فأقول: كلا إن هذا الأمل القوي لا ينبع من تعلق البشر بالحياة وإفراطهم في حبها، بل وراءه منبع ابعد غوراً، وأغزر فيضاً، وأسمى مكاناً
كان الزائرون يتتابعون إلى حجرته في المستشفى، وكان في هذه الزيارات إرهاق له. وكان الأطباء يكرهونها ولكنه هو كان يحرص على لقاء أصدقاءه ورؤية أحباءه، وكان يسكن إلى محادثة كل واحد منهم منفرداً ولا يجد في هذا حرجاً ولا نصبا.
ولم يكن بد من تغيير هذه الحال، فدعي الأستاذ لينزل ضيفاً في دار لأحد أصدقاءه القدماء. وكانت الدار في (علم طاغي). وحسب أصدقاء الأستاذ أنه سيجد في هواء هذه الجهة وماؤها بعض شفاءه إلى ما تجدي عليه العناية بنظام الغذاء وتناول الأدوية التي كانت تجلب له من أوربا(188/51)
فرح الأستاذ كثيراً حين بلغ علم طاغي وسكن إليها. ورسم له أن يهبط المدينة مرة كل أسبوع لزيارة أصدقائه واستشارة أطبائه. وكان هو يقول: سأفترش سجادة تحت شجرة وأنشق الهواء النقي، وأستمتع بحرارة الشمس الصافية، وأحاول أن أسترجع قواي وشيكاً. فإذا آنست في بدني الصحة، دعوتكم جميعاً إلى علم طاغى، وعندي هناك طاه منقطع النظير.
وحق إن الأستاذ افترش سجادته في ظلال أشجار علم طاغي الخضراء، وأنس بها وتمشى في تلك المروج، ولكن مرارة الدواء كانت تنغص عليه جمال المكان ومسراته، بل كانت ترد هذه المتعة الموموقة سماً قاتلاً. وكان يقول: لو إن هذه الأدوية تشرب مرة واحدة كل يوم! لا أكاد اخلص من جرعة حتى ألزم بجرعة أخرى، فأنى لي أن أشهد جمال علم طاغي وآنس لذاتها.
لست أنسى قوله ذات يوم: (يا بني لقد كنت أطوي الطريق من اسكدار إلى علم طاغي سيراً على قدمي لا أبطئ ولا أقف. وهاأنذا اليوم اقطع الطريق لا تمس قدماي الأرض. ولكن ماذا تجديني هذه السيارات وآهاتي فيها لا تفتر. آه لو شفيت فعدت سيرتي أقطع الطريق على قدمي!.) - وأما هواء (علم طاغي) فلم يرد على الأستاذ عافيته بل كانت قواه في خور مستمر.
ليت شعري ماذا ألهمه هذا التفكير العميق الذي دام أشهراً؟ وماذا كان يريد أن يعرض علينا من أفكاره حين يبل من مرضه!! لقد كان نظم (قصة الاستقلال) إحدى أمانيه منذ سنين. وكان يبغي من التجاءه إلى مصر أن يخلص من متاعب الحياة ويفرغ لهذه القصة. فلما هم بهذا طلبت إليه رياسة الأمور الدينية في أنقرة أن يترجم القرآن الكريم إلى اللغة التركية، فأشفق وأبى وأعتل بأن أمامه قصصاً يود أن ينظمها، فلم يقبل عذره وتوسلت رياسة الأمور الدينية بصديقه الحميم أحمد نعيم بك أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة استنبول فاضطر عاكف أن يذعن كارهاً. والحق إن إباءه الإطلاع بترجمة القرآن أول الأمر كان من إجلاله الكتاب الكريم واعتقاده إن إنساناً لا يستطيع أن يؤدي ترجمته على الوجه الجدير به مهما أوتي من العلم والبيان. وكان كلما سئل عن الترجمة قال: (لم اقدر عليها. إنها لم ترضني فكيف ترضي غيري؟.) وقضى الأستاذ سبع سنين في مصر وهو في شغل(188/52)
شاغل عن ترجمة القرآن، وكانت النتيجة ما رأينا فقد ضاعت تلك السنون وحرم الأدب التركي من أثر خالد. وكان نظم حجة الوداع من أمانيه - هذا المشهد التاريخي العظيم الذي يمثل الرسول في حجته الأخيرة يخطب على مائة ألف من المسلمين، وكذلك كان يريد أن ينظم قصة تمثيلية في الحروب الصليبية وبطولة صلاح الدين الأيوبي، وحالت دون الأماني حوائل، وعاد الأستاذ إلى استنبول عليلاً بدت عليه إمارات الهجوم الأخير من هذا المرض المشؤوم فثقل لسانه قليلاً ولكنه لم يفقد من إدراكه إلا يسيراً
ويوماً تغيرت حال الأستاذ فجأة، وبدت عليه إمارات القوة والنشاط، فكان يتحدث إلى الناس ويستمع إليهم، ويطلب أن يكونوا حوله ولا يرضى أن يترك وحده.
وفي مساء هذا اليوم ضاقت نفسه فلم يلبث إلا يسيراً حتى كانت الخاتمة
(للكلام بقية)
عبد الوهاب عزام(188/53)
سجين شيلون
للشاعر الإنجليزي لورد بيرون
بقلم الأستاذ محمود الخفيف
تتمة ما نشر في العدد الماضي
- 7 -
ذكرت أن أقرب الأخوين إلى مكاني تساقطت نفسه وذوى عوده، وكذلك ذكرت أن قلبه القوي انصدع وانسرقت قوته
عزفت نفسه عن الأكل وعافته، ولم يك ذلك لما كان عليه من قبح ووحشية، فقد ألفنا طعام الصيد ورضنا أنفسنا عليه.
أبدل ما كنا نشربه من لبن تجود به غنمات الجبل، بماء أتوا به من الخندق، وكان الخبز الذي يلقى إلينا على حال أحسسنا معها كأن دموع الموثقين البائسين قد سقته فألانته آلاف السنين، منذ ألقى الإنسان ببني جنسه أول مرة في الأصفاد كما يفعل بضواري الوحوش!
ولكن ما كان ليضيره ذلك أو يضيرنا، لم يكن ذلك ما أذاب قلبه وفت في عضده، فقد كانت روح أخي من ذلك الطراز الذي تتسرب إليه برودة الموت حتى ولو كان في قصر، إذا حيل بينه وبين شعاب الجبال وجوانبه الحادرة. وليت شعري لم أخفي الحقيقة وأؤجل النطق بها. . . لقد لفظ أخي أنفاسه
رأيته يموت ولكن وا حسرتاه لم أستطع أن اسند رأسه، لا ولم استطع أن أمسك بيده وهي تموت ولا بعد أن همدت فيها الحياة، لم أستطع شيئاً من ذلك ولو أني تنزيت في الحديد وحاولت عبثاً أن أفك السلاسل واجعل أصفادي شطرين. لفظ أخي أنفاسه، ففكوا سلاسله وحفروا له لحدا قليل العمق، وقد جعلوه هكذا قريب القرار في مثل تلك الأرض الباردة أرض ذلك القبو
ولقد توسلت إليهم أن يمنوا علي بسلوة لنفسي فيدفنوا جثمانه في بقعة يقع عليها ضوء النهار وهي فكرة سخيفة، ولكنها أوحت إلى نفسي أن قلبه الذي فطر على الحرية لن يجد حتى في ضجعة الموت راحة في مثل ذلك السجن(188/54)
وكان أولى بي أن أكفي نفسي عناء هذا التوسل، فما أغنى عني منهم شيئاً، إذ ضحكوا في برود ثم وسدوه وسدوا عليه حيث سجنوه، وهناك رقد ذلك المخلوق الذي أجزلنا له الحب تحت أرض منبسطة لا ينبت فوقها عشب، ترتكز فوقها السلاسل المفرغة والأغلال نصبا ملائما لذلك الاغتيال!
- 8 -
ولكن الآخر، ذلك الفتى الحبيب الذي كان يشبه الزهرة، ذلك الذي أعززناه منذ أن رأت الوجوه عيناه، ذلك الذي كان يحمل صورة أمه في وجه صبوح. ذلك الطفل الذي تحب فيه الطفولة جميعاً، ذلك الذي كان أحب وأعز خيال إلى أبيه الشهير، والذي اصبح في السجن آخر ما بقي لأعنى به، والذي كنت من أجله أجهد أن أبقي على حشاشة نفسي، عسى أن يقلل ذلك من شقاءه وعسى أن تتاح له الحرية يوماً ما؛ أقول حتى ذلك الأخ أيضاً، ذلك الأخ الذي ظل إلى ذلك الوقت محتفظاً بروح ذاتية أو موحاة، غلب على نفسه في النهاية ورأيته يذبل كما تذبل الزهرة على غصنها يوما بعد يوم
يا إلهي! إنه لمما يبعث الرعب في القلوب، أن نرى الروح البشرية تنطلق مولية في أية صورة وفي أي موقف، ولقد رأيتها من قبل تنطلق في دم مسفوح، ورأيتها في البحر الثائر تجاهد الموج المنتفخ القاذف، ورأيت المضاجع المحتضرة مضاجع الذين أسرفوا على أنفسهم يشيع فيها الهذيان من شدة الهول، رأيت ذلك كله وما حوى من صور مرعبة، ولكن رزئي في أخي كان فاجعة.
لم يصحب موته هول مما أسلفت، وإنما أسلم روحه مستيقنا غير معجل، وتساقطت نفسه ومضى هادئا وادعا، أكثر نعومه في نحوله، وابرز جمالا في ضعفه؛ ذهب غير دامع المقلتين ولكنه عطوف رؤوف، حزين على من خلفهم وراءه؛ سار للموت وفي وجنتيه نضرة بدت كأنها تهزأ بالقبر! ولقد ذهبت صبغتها في رقة وهدوء كما يتلاشى في السماء قوس الغمام؛ سار وفي عينيه بريق يكاد ومضه يضيء ذلك القبو
مات لم أسمع له غمغمة ولا أنة تحسر على هذا الذي انتابه قبل أوانه. لم أسمع سوى كلمات قليلة عن حياة هي خير وأبقى، وإشارة طفيفة إلى الأمل أراد بها أن يثيره في نفسي إذ قد غرقت في السكون، وأحسست بفقدان روحي في ذلك القفر الذي عظم عندي عن كل(188/55)
قفر.
وأخيرا توانت وتضاءلت تلك التنهدات التي كان يحاول كتمانها، تلك التنهدات المنبعثة من هزال نفسه المتلاشية
أصخت بسمعي، ولكني لم اسمع شيئاً، فصرخت إذ ذهب الهلع بلبي، فعدت في وحشية المذعور ثم أدركت أني صرخت عبثاً؛ ولكن هلعي ما كان لينهنه بزجر، لذلك عاودت الصراخ واحسبني سمعت صوتا، وإذ ذاك فصمت سلسلتي في وثبة قوية وأسرعت إليه ولكنني لم أجده!
وما فعلت سوى أن رحت أحدق في تلك البقعة القاتمة، وما أحسست سوى أني مازلت حيا وأن رئتي تتنفسان ذلك الهواء الرطب اللعين هواء القبو.
وهكذا انكسرت تلك الحلقة التي كانت تصلني باللانهاية، والتي كانت تربطني بتلك السلالة المضمحلة التي انحدرت منها؛ انكسرت في ذلك المكان المهلك تلك الحلقة الوحيدة آخر الحلقات واعزها جميعا لدي. وبات أخواي أحدهما تحت الأرض والآخر فوقها وكلاهما لا ينبض فيه عرق
أخذت بيدي تلك اليد التي تدلت هامدة، ولكن يدي وا حسرتاه كانت مثلها في برودتها. ولم أعد أجد في نفسي القوة لأن أتحرك أو أناضل، ولكني على الرغم من ذلك أحسست أني ما زلت حيا، وتملكني ذلك الشعور المضطرم الذي لا يقر، ذلك الشعور الذي يكون مبعثه إدراكنا أن الشيء الذي أوليناه محبتنا لن يعود أبداً إلى ما كان عليه. وليت شعري لم عجزت عن أن أضع حدا لتلك الحياة؟ لم يعد يربطني بالأرض أمل. ولكن ظلت لي فيها عقيدتي وهي التي حالت دون أن اقتل نفسي.
- 9 -
أما ما كان من أمري بعد ذلك، فلست أتبينه تماماً. لا أذكر سوى أنني فقدت شعوري أولا بالضوء ثم بالهواء، وأخيراً بالظلمة نفسها. لم أعد أفكر في شئ أو أحس شيئاً، ووقفت حجراً بين الأحجار. كنت كالصخرة الجرداء يغشاها الضباب، إذ لم يكن حولي سوى الفراغ والكآبة والظلام. لم يعد ثمة ليل ولا نهار؛ حتى ولا ذلك النور البغيض نور القبو الذي كان ينفر منه بصري الكليل، لم يبقى إلا الفراغ الذي فني فيه الكون كله فلا أحس(188/56)
سواه، والوجود الذي لا يرتبط بمكان في معناه!
لم يعد ثمة سماء ولا أرض، ولم يعد ثمة ثبوت ولا تحول ولا زمن ولا خير ولا شر، لم يكن هناك سوى السكون، والتنفس الذي لا يبعث حركة فلا هو إلى الحياة ولا هو إلى الموت.
كنت في بحر من الخمود الراكد تغشاه الظلمة، لا تدرك له نهاية، ولا يسمع فيه صوت، ولا تحس فيه حركة!
- 10 -
طافت بعقلي بغتة بارقة من النور؛ كانت غناء حلوا تغنى به طائر، غناء انقطع ولكنه ما لبث أن عاد؛ ولقد كان أجمل سجع سمعته الآذان! طربت له أذناي حتى دارت عيناي تتبعان هذه المباغتة السارة، في تلك اللحظة لم تستطيعا أن تريا إني حليف الشقاء، ولكن حواسي عادت في خطا كئيبة إلى طريقها التي الفتها، ورأيت جدران القبو وأرضه تدور فتلتف حولي في بطئ كما كانت من قبل، ورأيت ذلك البصيص المنبعث من الشمس يزحف كما كان يزحف من قبل؛ بيد أني رأيت ذلك الطائر في تلك الكوة التي دخل منها الشعاع يقف مشغوفاً أليفاً كما لو كان فوق شجرة، بل اكثر ألفة مما لو كان هنالك. كان طائراً جميلاً ذا جناحين أزرقين وغناء جم المعاني؛ ولقد خيل إلي إنه تغنى بتلك المعاني جميعاً من أجلي! وما وقعت عيناي من قبل على طائر مثله ولن تريا بعد شبيهاً له أبداً. وبدا لي كأنما كان يعوزه إلف كما كان يعوزني إلف، ولكنه لم يصل إلى نصف ما كنت فيه من وجد ووحشة. وكذلك بدا لي إنما قد جاء ليهبني حبه، على حين لم يبق لي من يهبني ثانية مثل ذلك الحب. ولقد جعلتني هذه البشرية المنبعثة من حافة القبو أشعر ثانية وأفكر ولست أدري أكان أطلق سراحه حديثاً أم أنه كسر قفصه وجاء ليطل عليّ قفصي! ولكني أيها الطائر الجميل وقد عرفت معنى الأسر لن أستطيع أن أريده لك!
وليت شعري لعله زائر من الفردوس تنكر في جناحين! ذلك إني كنت أفكر أحياناً أنه ربما كان روح أخي هبطت إلي. ولتغفر لي السماء تلك الفكرة، تلك اللحظة التي جعلتني أذرف الدمع وجعلتني ابتسم ولكنه في النهاية ولى بعيداً عني، وإذن فقد كان من بني الفناء؛ عرفت ذلك حق المعرفة. وإلا فما كان ليذرني هكذا في وحدة أحسستها ضعفين: وحدة كنت(188/57)
فيها كما يكون الجسد في أكفانه، أو كما يكون السحاب المنعزل: ذلك السحاب الفريد الذي يتراءى في اليوم الضاحي حينما تكون نواحي القبة صافية كلها فيبدو في الجو كعبوس لا موجب لظهوره والسموات طلقة والأرض في بهجة
- 11 -
طرأ على حالي نوعاً من التغير إذ أصبح آسري ذوي رحمة؛ ولست أدري ماذا جعلهم كذلك وقد ألفوا مناظر الشقاء، ولكن ذلك ما حدث. بقيت سلسلتي المكسورة منفصمة الحلقات. وكانت الحرية عندي أن أتجول في صومعتي من جانب إلى جانب، وأن أقطعها طولاً وعرضاً، وأن أطأ أرجاءها جميعاً، وأدور حول كل عمود، ثم أعود إلى حيث بدأت، لا أتجنب وأنا أطأ الأرض بقدمي إلا ذينك القبرين العاريين: قبري أخوي. ذلك أني كنت إذا ظننت أن وطأة على غير قصد مني قد أهانت مضجعهما الخافض، ينبعث نفسي لاهثاً كثيفاً، وينقلب فؤادي المتحطم ضريراً عليلاً.
- 12 -
تسلقت الحائط ولكني ما أردت الهروب. فقد غال الردى كل من كانوا يحبونني من البشر، ومن ثم صارت الأرض كلها عندي سجناً أكثر سعة مما أنا فيه، لم يكن لي ولد ولا والد ولا ذو قربى، ولا شريك فيما ألاقي من شقاء.
ذكرت ذلك فاغتبطت به لأن فكري في هؤلاء قد أورثني الجنون، ولكني كنت أتطلع إلى تسلق الجدار حتى النوافذ التي تعترضها القضبان. كما كنت أتطلع إلى أن أصوب بصري مرة أخرى في هيام إلى تلك الجبال الشاهقة
- 13 -
رأيتها لما تزل على ما كنت عليه فلم تنل منها يد التغيير كما نالت مني في الأغلال؛ ورأيت الثلج الذي يكلل هاماتها منذ آلاف السنين كما رأيت البحيرة الواسعة الطويلة اسفل منها، ونهر الرون الأزرق في أشد فيضه وسمعت جارف السيل يتلاطم ويندفق فوق الصخر المتشقق والجذوع المتحطمة؛ وأخذت عيناي المدينة النائية البيضاء المنازل، كما لمحت القلاع التي تفوقها ابيضاضاً تجري مسرعة؛ ثم وقع بصري على جزيرة صغيرة(188/58)
تراءت حتى لي أنا باسمة، ولم يلح سواها أمام نظري؛ جزيرة صغيرة خضراء ظهرت كأنما لا يزيد عرضها على ذلك إلا قليلا، قامت فيها ثلاث شجرات باسقات، وكانت تهب عليها نسمات الجبل وتجري بجوارها المياه، كما كانت تنمو فوقها زهرات جميلة اللون عاطرة الأنفاس.
ورأيت فيما رأيت السمك يسبح إلى جدران السجن؛ ولقد بدا للعين مرحا: وحداته وجماعاته؛ وأبصرت النسر يركب متن الريح الهائجة، ويخيل إلي إني لم أره من قبل في مثل تلك السرعة. وعندئذ اخضلّت عيناي بدمع جديد وتبلبل خاطري، وودت لو أني لم انطلق من تلك السلاسل، ولما نزلت أحسست كأن الظلمة في مأواي الكدر تقع عليّ كأنها حمل ثقيل: كانت كأنها القبر ينطبق عليّ من جهدنا في خلاصه، وأحس بصري وقد انقلب إلى هكذا محزوناً كأنه يطلب راحة كراحة القبر.
- 14 -
ولست ادري كم لبثت بعدها في ذلك القبو، ربما كانت شهوراً أو أعواماً أو أياماً. لم أحص لها عدداً ولم ألق إليها بالاً ولم يك ثمة من أمل يرفع عيني ويمسح عنهما القذى المحزن. وأخيراً اقبل الرجال ليطلقوني من الأسر، فلم أعن أن أعرف ما سبب هذا ولا حفلت أين اذهب، فلقد تساوى في النهاية عندي الفكاك والقيد. وتعلمت أن أصالح على اليأس نفسي. ولذلك حين اقبلوا يطلقونني وحين ألقيت جميع السلاسل جانباً، أحسست أن تلك الجدران السميكة قد صارت لي معتكفاً وأصبحت علي وقفاً؛ وكأني شعرت نصف شعور ساعتئذ إنهم أتوا ينتزعونني من وطنٍ ثان. لقد اتصلت بيني وبين العناكب أسباب الصداقة، وكنت أراقب عملها الدائب، كما كنت أرى الجرذان في نور القمر. وليت شعري ماذا يدعوني أن أحس أنني دون هؤلاء جميعاً؟ لقد صرنا آلاّفا جمعتهم وحدة المكان
وكنت أنا فيهم ملك الجميع، ولي الحول أن اقتل أنى شئت! ولكنا تعلمنا أن نعيش معاً هادئين، وذلك لعمري من عجيب الأمور! في ذلك السجن توثقت الألفة بيني وبين الأغلال ذاتها. وهكذا ينتهي بنا طول الاعتياد إلى ما نصير إليه فهأنذا الذي لاقيت ما لاقيت قد تنهدت حينما عادت حريتي إلي!
الخفيف(188/59)
الفنون
اكروبوليس أثينا
ومعبد بارتنون:
للدكتور أحمد موسى
يرى الواقف في وسط أثينا على بعد ليس بقليل، مرتفعاً أشبه بتل منبسط القمة تعلوه مبان ظاهرة، أكثرها ارتفاعاً معبد بارتنون.
والقاصد إلى هذا المرتفع يعرج إلى جهته الغربية ليستطيع الوصول إليه، فتنتهي به الطريق إلى مدخل بروبيلين المعتبر من أكبر الأعمال البنائية في أثينا، مبني كله من الرخام بين سنة 437 وسنة 432 ق. م، على آثار بناء قديم، تحت إشراف المهندس منيسيكلس وأستغرق بناؤه زهاء الخمس سنوات. وهو بحالته الحاضرة لا يزال يعطي المشاهد أنموذجاً فذاً لعصر البناء الفني في أثينا، فضلاً عن أنه مثال رائع لجمال البناء على مر القرون.
وهو بوضعه أشبه شيء بجبين الحسناء في نظر المتجه إلى اكروبوليس، لأنه في مقدمة ما يرى الداخل إلى المرتفع، يمر منه للوصول إلى المعابد.
وكانت شهرة بروبيلين وبارتنون شهرة فاقت كل وصف في ذلك الحين، ومع أن عمل التجديد به لم ينته بعد، إلا أن الزائر لأكروبوليس لا يمر منه دون أن يأخذه العجب من عظمة إخراجه وإتقان بنائه وجمال أجزائه.
ويتكون الجزء الأوسط منه من مداخل بعضها خلف بعض على جانبيها أعمدة من الطراز الدوري تحمل سقفاً جملوني الشكل يبدأ بإفريز شمل نقوشاً ورسومات دون تماثيل، كما ذكر ذلك كل من سبن وهيلر & اللذين زاراه سنة 1675.
ويلاحظ المشاهد لمدخل آثار الألوان وماء الذهب على أجزاء من رؤوس أعمدته، كما يرى أن الردهتين الأمامية والخلفية تتجهان بستة أعمدة دورية إلى الشرق والغرب، وبينهما يقع المدخل بفتحات كبار كانت في ذلك الحين مما يمكن إغلاقه حسب الرغبة بواسطة أبواب أشبه بأجنحة.(188/61)
وعمل المدخل المؤدي إلى الباب الوسط بحيث يتصل بالردهة الغربية، وله أيضاً ثلاثة أعمدة يونية الطراز على كلا الجانبين، وتتصل الصالة الداخلية من الشمال والجنوب ببناءين صغيرين زاداهما قوة وهيبة جعلت من المجموع الكلي لبروبيلين فخامة ظاهرة، وطرازاً أنيقاً
أما البناءان الصغيران فيسمى الأيمن منهما بينا كوتيك لأنه كان شاملا لمجموعات صور الفنانين في ذلك الحين. والأيسر أصغر بكثير من الأيمن نظراً لما طرأ على العمل من التعطيل بسبب حرب البلوبونيس ولمعارضة حزب الكهنة في امتداد البناء خشية أن يصل إلى حدود معبد أثينا نيكا وارتميس برورونيا فيقلل من شانهما، كلاهما يكمل الجمال الإنشائي لبروبيلين. (أنظر ش1 من المقال السابق)
وهناك ردهات أخرى لم يتم بناؤها كما كان مفروضاً وفق التصميم الذي وضعه منيسكليس للأسباب المشار إليها.
يسير المشاهد بعدئذ إلى معبد بارتنون الخالد الذي يعد أبهى بناء فني في العصر القديم كله، فهو وحيد في مظهره العام وأبهة بنائه وعظمة تجسمه وضخامته دون خروج على أصول الانسجام في أكمل معانيه.
وإذا شاهدت كل آثار أثينا فلن ترى من بينها بناء يفوق بارتنون؛ ومع أن الفارق بين مظهره الحالي ومظهره القديم شاسع جداً إلا أنه لا يزال يشع جمالا خالداً يملأ الروح بهجة ويفعم العقل روعة.
يقع بارتنون في وسط جنوب المرتفع، فهو بموقعه هذا يشغل نقطة أشبه بمركز قوس دائري يلتف حوله كل ما قام على المرتفع من مبان زادت في عظمت وقوته (أنظر ش1 من المقال السابق).
كان أساس الحوائط وما يعلوه قليلاً من الرخام الخالص عندما هاجم الفرس أثينا وأشعلوا النار بالمرتفع، ولكن أدركه عصر بركليس فجدد بناؤه وجعل كله من الرخام.
قام بركليس ببناء هذا المعبد كما تولى بنفسه الأنفاق على تكاليفه. أما أستاذا بنائه فكانا اكتينوس وكلليكراتس
وتعد حليات البناء الخارجية من أروع القطع الفنية التي عملها الفنان العظيم فيدياس(188/62)
فكانت معجزة سميت باسمه إلى اليوم، وضع تصميمها واشرف على عملها واشترك فيها بيده ونفخ فيها من روحه. كان فيدياس صديقاً مقرباً لبركليس، فأفادت هذه الصداقة إلى حد بعيد في إخراج معبد بارتنون على هذه الصورة من الجمال والروعة.
أقيم هذا البناء كما تشير الكتابات الخاصة به في القرن الخامس عام 438، وافتتح عام 447 ن. م.، ومن هذا يتضح أنه تم في عشر سنوات بعد مجهود جبار استغرق كل أيام السنين العشر. وإذا علمنا أن هذه الأعجوبة البنائية الرائعة شملت 62 عمودا كبيرا و36 عمودا صغيرا وحوالي الخمسين تمثالا بحجم الإنسان الطبيعي لتحلية الموضعين المثلثي الشكل من الناحية الأمامية والخلفية المحمولة على الأعمدة لتكوين واجهتي السقف الجمالوني وبأفريزه البالغ طوله 160 مترا حول البناء من نواحيه الأربع، واثنين وتسعين مستطيلا صغيرا انحصرت بين رؤوس الأعمدة وقاعدة السقف فكونت الأفريز؛ وأخيراً تمثال أثينا الذي بلغ ارتفاعه ثلاثة عشر متراً وصنع كله من العاج والذهب؛ إذا تمثلنا كل هذا الإنتاج الفني الهائل في بناء واحد تناسقت كل أجزاءه وانسجمت كل مشتملاته، وجدنا أنفسنا أمام عظمة قل أن يجود الزمان بمثلها مرة أخرى.
انظر إلى الأعمدة المتكررة دون إملال ودون تشابه (ش - 1)، وتصور إلى أي حد وصل فنانو الإغريق، والى أي درجة بلغت القدرة في الإنتاج الفني الذي يعد بحق آية من آيات القدرة الإنسانية في أبهى ما وصل إليه تفكيرها وشعورها بالوجدان والجمال.
والأعمدة كما ترى عملت مسلوبة من أعلاها، كما أنها لم تكن مستديرة صماء حفرت على طولها قنوات متوازية سارت على ارتفاع العمود فزادته حسناً وأكسبته حياة. حملت الأعمدة السقف الجمالوني الذي لم يبن فوقها مباشرة، بل ارتفع قليلا ليترك مكاناً إلى المستطيلات الصغيرة الملتفة حول محيطه الخارجي البالغ طوله 160 متراً كما سبق القول. وترى على هذا المحيط الإفريز الشامل لتلك المستطيلات المملوءة بالمناظر البارزة الأخاذة لبصر المشاهد المدقق. اشتملت كلها ما يمثل كثيراً من حياة الإغريق العامة والخاصة. والمجال هنا لا يسمح بالتوسع في التكلم عنها أو الإتيان بمعظم صورها. ولما كانت دراستنا في هذا المقال إجمالية، فإننا نأتي ببعض هذه القطع.
فإذا تأملت المتسابقين بخيولهم (ش2) أخذتك روعة غريبة تملك عليك مشاعرك عندما تعلم(188/63)
أن هذا ما استطاع الفن الإغريقي إبداعه قبل المسيح بخمسة قرون.
انظر إلى الإنشاء الكلي للقطعة وتصور أن هذا منحوت على الرخام ومع ذلك ظهر بهذه القوة التي مثلت صورة تنبض بالحياة. انظر إلى الخيل وهي جامحة والى تفاصيل أجسامها وهي في غاية من الدقة، والى بروز عضلاتها التي لا تخالف أصول التشريح؛ ثم تأمل الفرسان واذكر قدرة فيدياس في عظمة إخراجه لهم دون تناظر ودون تماثل، لاشك ترى أن هذا دليل الغنى الفني إلى ابعد حدوده. تأمل عيون الفرسان وعيون الخيل تر اليقظة الكاملة في الأولى والوثوب التام في الثانية.
والصورة 3 أوضحت لنا أربع نساء تحمل كل منهن آنية، ظهرت أجسامهن كاملة مغطاة إلى أعناقهن بملابس امتلأت بالحياة فالتعاريج والتفاصيل التي شملتها هذه الملابس لا ترى لها نظيراً في قوة الإخراج ولم يترك الفنان رؤوسهن متشابهة، بل جعلها تختلف الواحدة عن الأخرى مسجلا بذلك الحالة كما كانت، فضلا عما ينجم عن ذلك من تقوية درجة الاستمتاع النظري، فجعل اليمنى تربط الشعر برباط رفيع، على حين جعل الثانية بذؤابة صغيرة ظهر بروزها من خلف رباط الرأس، وتركت الثالثة شعرها مسترسلا على ظهرها، أما رابعتهن فقد أخفت الشعر تحت غطاء هرمي الشكل.
أما تفاصيل الوجوه فهي مع كونها تعبر عن جمال المرأة الإغريقية فإنها تمثل الخشوع إلى حد بعيد؛ إنهن يحملن ما بأيديهن بقصد التوجه إلى المعبد. أما نبل الإخراج فهو ظاهر من طريقته في تكوينهن الواحدة وراء الأخرى في انسجام.
وصورة حاملي الأواني (ش4) تريك، فوق قوتها الفنية البعيدة إلى أي حد استطاع المثال أن يجعل من حركة سير الثلاثة رجال صورة رائعة لقدرته على الإخراج - تأمل صدر الرجل الأوسط تر الفنان لم يتركه دون حياة، فوضوح خطوط العضلات وبروزها مع ما تراه شاملا للقطعة من حسن التصوير ودقة الثنايا، كل هذا جدير بالإعجاب. إن غنى مادة فيدياس ظاهر واضح عندما تحقق من الكيفية التي سار عليها المثال في تكوين ذراعي كل رجل وكيفية حمله الآنية فوق رأسه وسندها بيمينه.
ومن قطع بارتنون الرائعة أيضاً اللوحة (ش5) حيث ترى إلى أقصى اليسار رجلا جالسا يتحدث إلى شاب بجواره. مشيراً له بيسراه إشارة المستمر في الحديث، وهو ينصت إليه،(188/64)
وإلى اليمين ترى ولداً عارياً يستند إلى ركبة أمه وهي تشير إليه لافتة نظره إلى شيء معين، وكأن مجاورتها تشترك معهما في النظر، وهي في مجموعها أوضحت ما أراده الفنان من تمثيلها آلهة العدالة.
أما صورة تيسويس (ديونيزوس) الجالس عارياً فهي وحدها درس كامل لجمال الإنشاء وصدق التعبير وقوة الإخراج، فكل ما برز فيها من تفاصيل تشريحية مملوءة بالحياة وان المتحف البريطاني ليفخر بوجود هذه القطعة وغيرها من تماثيل بارتنون التي لا تزال إلى الآن النماذج الفذة لفن النحت.
ومهما يكن من شيء فإن بارتنون أعظم بكثير من أن يسجل بين سطور لا يتجاوز ما جاء فيها قطرة في محيط فنه وجماله.
(لها بقية)
أحمد موسى(188/65)
من هنا ومن هناك
الاثنولوجيا الجديدة وهر هتلر
الأثنولوجيا أو علم الأجناس البشرية هو علم حديث لا يزيد عمره على الخمسين أو الستين سنة، وأشهر العلماء الذين ساهموا في مباحثه هم هكسلي وولفرد بلنت وجريفث تايلر وسير. ف. بتري والأستاذ ج. ف هورابين الذي وضح بالرسوم خلاصة التاريخ لولز ثم الأستاذ العلامة إليوت سميث الذي يتعصب لمصر القديمة ويعترف أنها صاحبة الفضل في تثقيف العالم. ولقد كانت الاثنولوجيا القديمة تحصر الأجناس البشرية في السلالات الثلاث التي تنتسب إلى أبناء نوح وهم حام وسام ويافث، وقد نسخت الأثنولوجيا الحديثة تلك النظرية البالية وأصبحنا نرد الشعوب في أقاصي الأرض إلى أصول أقرب إلى الحقيقة وإن يكن الجدل لم ينته بعد حول هذه الأصول
وقد أثار العداء الناشب بين هر هتلر وبين اليهود الجدل من جديد حول الأصول الأثنولوجية وكانت النتيجة الهائلة أن طرد اليهود من ألمانيا وأن حرمت ألمانيا التزاوج على أبنائها من غير الآريين، وهي تخص بهذا التحريم الشعوب السامية وإن تكن تقصد - كما صرح ساستها - أنها تعني اليهود من بين الشعوب السامية قاطبة!!
وبعد أن نهضت اليابان نهضتها الحاضرة أصبح علماء الأثنولوجيا في شك مريب من القيم الذهنية التي كانوا يخصون بها بعض الشعوب. ونحن لا تعنينا هذه القيم الآن وإنما أردنا أن نقدم للقارئ خلاصة مفيدة عن الأجناس التي تعترف بها الأثنولوجيا الحديثة
1 - فهم يرجعون الأصول الإنسانية إلى العصر الباليوليتي الأقدم واشهر أناسيه هم: إنسان هيدلبرج والإنسان النيندرتالي وإنسان بلتدن ثم الإنسان الراقي الذي هو الجد الأول للشعوب
2 - ثم يأتي العصر الباليوليتي الحديث وتنقسم أناسيه إلى مجموعتين كبيرتين: المجموعة الكروماجنارديه والمجموعة الجريمالديه وهذه المجموعة هي مجموعة الزنوج وقبائل البوشمان والأستراليين والطسمانيين والأندمانيين
3 - أما المجموعة الجريمالديه فهي مجموعة الجناس الراقية وتتفرع إلى ثلاث شعب: الأجناس النورديه والأجناس السامية والأجناس المغولية(188/66)
4 - على أن بعض العلماء يطلق اسم (الجنس القوقازي) على سكان أوروبا وغرب آسيا، ويقسم القوقازيين إلى (نورديين) وهم أهالي شمال غرب أوروبا ثم (أيبريين) وهم أهالي البحر البيض و (ألبيين) وهم سكان اللب والجبال الممتدة منها
5 - وهناك أجناس مولدة (خلاسية) من النورديين والأيبريين أهمها الأيرلنديون والقلتيون والغاليون
6 - وإذا ذكر الآريون فإنما يجيء ذكرهم عند الكلام عن الفيلولوجيا (التي تعني علم فقه اللغات) ويشملون الإنجليز والفرنسيين والألمان والأسبان والإيطاليين والإغريق والروس وأهل أرمينيا. والفرس وشمال ووسط الهند ويسمون - أو
7 - وتشمل شعبة الساميين المصريين والعرب والشآميين والفرس والسامريين والدرافيد (الهند) والسياميين وأهل ملايو
8 - أما شعبة المغول فتشمل الهون والترك والمنغوليين والإسكيمو والأمرنديين واليابانيين والصينيين والتتار
9 - ويتكون من أجناس المجموعة الراقية الكروماجنارديه مزيج وسط يطلقون عليه (البرونيتيين) وهم شعوب الثقافة الهليوليتية
ولا يحسبن القارئ أن هذه الأجناس صافية مستقلة بأصولها محتفظة ببذرتها فقد تزاوجت كثيراً وتداخل بعضها في البعض الآخر. ومن أنفع الكتب التي تفيد المستزيد في هذا الباب كتاب الأستاذ إليوت سميث (هجرة الثقافة في العصور القديمة)
د. خ
لويجي بيراندللو:
مات الأديب الإيطالي العظيم لويجي بيراندللو منذ شهرين فخسرت فيه إيطاليا ملكا أكبر من الحبشة! وإمبراطورية أوسع من إمبراطورية سبط يهوذا. وشتان بين فتح مغتصب، وأدب خالد مكتسب!
لقد استطاعت إيطاليا أن تساهم في الثقافة العالمية منذ القدم إلى اليوم بطائفة من الأدباء الأفذاذ الملهمين، لولاهم لتأخر موكب الإنسانية، ولتباطأت النهضة (الرنيسانس) عن(188/67)
تاريخها منذ خمسة قرون، ولاستطالت العصور الوسطى، ولتبدل مجرى التاريخ. وهذه الأسماء البارزة في تاريخ الفكر الإنساني: فرجيل، هوريس، شيشرون، سنكا، دانتي، بوكاشيو، جاليليو، كوبرنيكوس رفائيل، سانازارو، كارو، كاسا، كاستليوني، ليوباردي، بترارك الخ. هي أسماء عظيمة لاشك، وقد ضم إليها ورقد إلى جانب أصحابها لويجي بيراندللو فزاد التراث وعظمت إيطاليا
ولد براندللو في جيرجنتي إحدى مدائن صقلية وشب في أسرة كثيرة المتاعب والخصومات، وقد ماتت أمه فتزوج أبوه وكان أباً شهوانياً مولعاً ببنات الهوى، وقد ظل متصلا بابنة عمته الأرمل برغم زواجه، وقد حملت منه سفاحاً فأرضاها بهبة مالية على أن تهاجر إلى بلد آخر
ويظهر أثر هذه الحياة العائلية المضطربة في بيراندللو، وقد سجل فضيحة أبيه في درامته (إكساء العراة) حيث يصور العلاقة الأثيمة بين الفتاة أرزيليا ومخدومها الذي شغف بها حباً واتصل بها ثم أولدها. فلما حاولت الانتحار ولم تستطعه ألحف عليها مخبرو الجرائد ليتعرفوا سبب محاولتها الانتحار حتى اضطرت أن تعترف لهم بكل شيء ثم أفلحت آخر الأمر في أن تنتحر.
وفي درامته (إيف - و - لين) يصور لنا شاباً مالياً يتزوج من الفتاة الجميلة (إيفلين) ثم يقع في عسر مالي فيهرب ويتركها وقد ولدت منه طفلاً جميلا - وتتصل إيفلين بمحامي زوجها فتتزوج منه وتلد له طفلة بارعة الجمال. . . وتمضي الأيام. . . ويعود الزوج الأول وقد هاجه الشوق إلى زوجته ولكنه يجدها متزوجة محاميه وقد ولدت له هذه الطفلة - وكان كل منهما يدللانها فيدعوها الأول (إيف) ويدعوها الثاني (لين) - وهنا تظهر براعة بيراندللو في تصوير العواطف المتباينة في قلب هذه المرأة وحيرتها بين حبها القديم وواجباتها الزوجية الحاضرة، وبين حبها لطفلها الأول الذي اصبح اليوم شاباً وطفلتها الأخرى من زوجها الآخر. . . ثم لا يسعها إلا الرضى بما قسم لها. . .
ولم ينبه ذكر بيراندللو إلا بعد إصداره درامته الخالدة (ماتياس باسكال) والتي يصور فيها حياة رجل ضج بالحياة وتبرم بزوجه وحماته فهرب منهما واعتزم الرحيل إلى الدنيا الجديدة. ولكنه مر في طريقه على مونت كارلو بلد الميسر والمقامرة فرأى أن يجرب حظه(188/68)
على الروليت فربح أرباحاً طائلة - ولكنه قرأ في الجرائد أن جثة غريق ظهرت في النهر وأنها لرجل يدعى (ماتياس باسكال) فضحك ماتياس. وهنا خطر له أن يستغل الحادث وأن يعيش عيشة رجل مجهول طليق من الأوضاع الاجتماعية ولكنه سرعان ما يفقد شخصيته ويحس كأنه ميت حي!
وبعد صيت بيراندللو فعين أستاذاً للآداب في جامعة رومة، ولكن مهنته الجديدة زادت في متاعبه، فقد كان يعلم التلميذات في الجامعة وكن ظباء كلهن، واضطرمت الغيرة في قلب زوجته، وكثيراً ما اتهمته بميله إليهن وغرامه بهن؛ وغلى هو في التبرؤ إليها ولكنها ازدادت حقداً عليه بزعم غلها يده في نفقته الشخصية حتى لم تكن تسمح له إلا بدريهمات لا تغني. . . ثم تضاعفت غيرتها وساورتها الشكوك فكرهت أبناءها وقلبت بيتها جحيماً لا يطاق، فاضطر بيراندللو آخر الأمر أن يلجأ بها إلى مستشفى للأمراض العقلية
وقد أرسل بولديه إلى الميدان في الحرب الكبرى فأسر الأكبر وجرح الأصغر، ثم وصل إليه أبوه المفلس الأعمى من صقليه، فزادت أشجانه وتضاعفت متاعبه ولاسيما بعد أن لفظت الألسن وولغت في عرض أبنته التي اضطرت أن تقضي بقية حياتها في دير بعيد منفردة بعد أن فشلت في الانتحار غير مرة. . . . . . فمن هذه الفذلكة السريعة يدرك القارئ كيف أثرت تلك الحياة المشجونة القلقة التاعسة في كاتب إيطاليا العظيم، حين أصدر درامته الخالدة العبقرية (ستة أشخاص يبحثون عن مؤلف) والتي ملأها بكل مخاوفه وأحزانه
وقد تأثر بيراندللو بالكاتب الروسي دستوئفسكي، وبين دراماته وقصص دستوئفسكي صلات وثيقة، ولا نكاد نقرأ قصة أو درامة لبيراندللو إلا ونلمح أثر البطل راسكو لنيكوف ومناظر (بيت الموتى) ماثلة فيها - وقد تأثر كذلك بالسيكولوجي النمساوي فرويد وقد غادر منصبه في الجامعة سنة 1922 ليتفرغ للمسرح، وقد كان يصحب فرقته التمثيلية إلى مختلف العواصم الأوربية والأمريكية ليباشر إخراج دراماته بنفسه
ومن أخلد دراماته وقصصه: هنري الرابع - و - أنت تضحك - وزوجها - كوميديا الموت - وحصان في القمر - والفخ - وشهوة الشرف. . . الخ.
ومما يؤخذ على بيراندللو إغراقه في الخيال وتجزئ الشخصيات والغموض الشديد في(188/69)
بعض مواقف دراماته المملوءة بالمنازعات
وقد نتناول بعض دراماته بالبحث والتحليل في إعداد تالية
د. ح(188/70)
البريد الأدبي
المصطلحات العسكرية في مجمع اللغة العربية:
تألفت في المجمع اللغوي الملكي لجنة لوضع كلمات عربية للمصطلحات العسكرية المستعملة في الجيش من حضرات الأساتذةالأب انستاس الكرملي وحسن حسني عبد الوهاب باشا والشيخ أحمد السكندري وسيادة حايم ناحوم أفندي ومنصور فهمي بك، وقد روعي في تشكيلها أن تظم بعض ممثلي الأقطار العربية الأخرى للاستئناس بما اتبع في البلاد الأخرى ورغبة في توحيد المصطلحات في جميع الأقطار العربية.
ومما يذكر أن بعض هذه الأقطار مثل العراق عرب تلك المصطلحات منذ مدة وقد حصلت اللجنة على بيان بالمصطلحات العربية في تلك البلاد. وكان المجمع قد كتب إلى وزارة الحربية لموافاته بالمصطلحات العسكرية المستعملة في الجيش الآن والتي ينظر أن تستعمل فيه بعد زيادته وإعادة تنظيمه، وقد الفت وزارة الحربية لجنة لموافاة المجتمع بما يطلبه. وقد أرسل المجمع إلى وزارة الحربية خطاباً طلب فيه انتداب ضابط ملم باللغة العربية ليحضر الجلسات التي يعقدها المجمع للنظر في وضع عبارات عربية لعبارات التعاليم العسكرية
الاجتهاد في الأصول
قرأت ما كتبه الأستاذ علي الطنطاوي في الرد على ما ذهبت إليه من تجويز الاجتهاد في الأصول كالفروع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمجتهد أجرين إذا أصاب وأجراً واحداً إذا أخطأ، ولم يفرق بين أصول وفروع، بل أطلق الأمر إطلاقاً، وفتح باب الاجتهاد في الأصول والفروع معاً
وقد أنكر الأستاذ هذا أشد الإنكار لأنه يخالف ما استقر عليه الرأي بين المتأخرين من علماؤنا في الاجتهاد، ويخالف تعريفهم له بأنه استنباط الفروع من الأصول، فيخرج من هذا المسائل الكلامية لأنها ليست من الفروع، ولأن الحق فيها واحد فمن أخطأه فهو آثم، فإن كان الخطأ فيما يرجع إلى الأيمان بالله ورسوله فالمخطأ كافر
وما كنت أظن أن الأستاذ يؤاخذني بهذا بعد أن قرأ ما كتبته في موضوع الاجتهاد، وهو موضوع سأعود إليه بعد في مجلة الرسالة الغراء، فإني فيما كتبت في هذا الموضوع خارج(188/71)
على أولئك العلماء من المتأخرين، فلا يصح أن يحتج علي برأيهم في الاجتهاد، وتقييدهم له بالفروع دون الأصول
فالاجتهاد عندي بذل الجهد في استنباط الأحكام من النصوص الشرعية، اعتقادية كانت تلك الأحكام أو عملية
وليس بصحيح ما ذهب إليه الأستاذ من أن المخطئ في المسائل الكلامية آثم، لأن الخلاف بين أهل الكلام ليس مقصوراً على الخلاف بين جماعة أهل السنة وغيرهم من الفرق التي يقال إنها آثمة، فهناك خلاف أيضاً في علم الكلام بين أهل السلف والخلف من جماعة أهل السنة، وهناك خلاف أيضاً بين الخلف من الاشعرية والماتريدية، وهو خلاف لا أثم فيه لقيامه على الاجتهاد، وأنا لا أزيد على هذا إلا أني لا افرق فيه بين أهل السنة وغيرهم
عبد المتعال الصعيدي
كتاب سياسي خطير
صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب سياسي عنوانه (عند الصفر) بقلم رتشارد فرويند وهو كاتب إنكليزي من اصل نمسوي، عرف أخيراً بقوة كتاباته السياسية وحسن تقديره للحوادث والنتائج؛ ويتناول المؤلف في كتابه مواطن الخطر في أوربا الحالية وفي أفق السياسة الدولية بصفة عامة؛ ولا يعنى الكاتب بالنظريات والمبادئ النظرية، ولكنه يعنى بنوع خاص بالحقائق العملية وبالحوادث الواقعة؛ وهو يعلق أملا ضئيلا على عصبة الأمم وعلى مستقبلها وما يمكن أن تؤديه في إنقاذ العالم من اضطرابه الحالي. ويتحدث عن كل مسالة وكل دولة في أوروبا، وعن الحوادث والقوى التي تضطرم بها أفريقية والشرق الأقصى في الوقت الحاضر؛ وهو أكثر ميلا إلى التشاؤم، ولا يرى في النظم والمجتمعات الحالية سوى معترك من الأنانية القومية. ويخشى أن يسفر هذا الاضطراب عند أية لحظة عن الانفجار الذريع الذي يحمل العالم إلى مصير كله الويل والدمار
ويعنى المستر فرويند بمركز ألمانيا الهتلرية بنوع خاص، ويرى أنها تمثل الآن طوراً من أطوار الطموح والتوسع، لابد له أن ينفجر آجلا أو عاجلا؛ ومن حسن الحظ أن ميول هتلر الشخصية وبغضه المأثور لروسيا والبلاشفة يحول دفة المعترك اليوم إلى جهة الشرق وإلى(188/72)
الجنوب الشرقي؛ ولكن إذا مات هتلر، أو إذا استطاعت روسيا أن تسحق تحديه، فقد تتجه ألمانيا إلى ناحية أخرى، وقد تتجه إلى الإمبراطورية البريطانية. ويرى مستر فرويند أن ألمانيا الهتلرية قد بدأت بالفعل تتجه إلى مناوأة المصالح البريطانية في كثير من المواطن، وأن السياسة الإنكليزية تسيء صنعاً إذا هي لم تعتبر بهذه الحقيقة وآمنت بوعود هتلر وتأكيداته؛ وعلى أي حال فإن المصاعب الداخلية التي تتخبط فيها ألمانيا الآن كفيلة بأن تشحذ سياسة العدوان الألمانية وتدفع ألمانيا في طريق الحرب والاعتداء
أما عن إيطاليا فيرى مستر فرويند أنها تنمو وتتقدم باستمرار، وأنه لابد أن تأتي الساعة التي تضطر إنكلترا فيها إما إلى الحرب وإما إلى التراجع، لأنها لا تستطيع أن تنزل عن سيادتها في البحر الأبيض المتوسط دون المخاطرة بكل مركزها في أفريقية والشرق الأدنى. كذلك يتوقع الكاتب أن تضطر إنكلترا قريباً إلى الوقوف في وجه اليابان بشيء من الحزم لأنها بدأت فعلاً تهدد منطقة المصالح البريطانية. ويعرض مستر فرويند نظرياته بقوة وصفاء ويدعمها بكثير من الحقائق والحوادث الواقعة
رأي جديد في أسباب الثورة الفرنسية
يرى البحث الحديث رأيا جديداً في الثورة الفرنسية وفي أسبابها، فبينما تجمع الروايات والبحوث القديمة كلها على أن الثورة ترجع إلى أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية فقط، إذا بالبحث الحديث يرى أنها ترجع أيضاً إلى جهود الجمعيات السرية الخفية ولاسيما محافل البناء الحر (الماسونية) وأن هذه الهيئات السرية قد لعبت من وراء الستار دورا عظيما لإضرام نارها
وقد ظهر أخيرا كتاب بالإنكليزية عنوانه: (لويس السادس عشر وماري انتوانيت قبل الثورة) بقلم السيدة نستا وبستر وفيه تميل المؤلفة إلى الأخذ بهذا الرأي، وتفصل العوامل والظروف الخفية التي كانت تحيط بهذين الملكين التعيسين قبل نشوب الثورة. وترى السيدة وبستر أن المساعي الخفية التي قامت بها الجمعيات السرية وراء الستار كانت كالأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عاملا خطيرا في نشوب الثورة الفرنسية؛ ومن رأيها أن قضية عقد الملكة الشهيرة التي ثارت حول اسم الملكة واتهم فيها الكردينال دي روهان والكونت كاجليوسترو، إنما ترجع إلى تدبير هذه القوى الخفية، وإن(188/73)
كاجليوستر لم يكن سوى داعية خطر يحمل رسالة هذه القوى، ويحيك شراكه من وراء الكردينال. ولقد كانت هذه القضية أو هذه الفضيحة من أعظم أسباب الثورة، ومع أن السيدة وبستر تعدد عيوب ماري انتوانيت ووجوه ضعفها كامرأة وملكة، فإنها تدافع عنها في موطن الشرف والكرامة، وتقول إن الدعاية الواسعة التي أثيرت حول أسمها لتشويه سمعتها الشخصية لم تكن سوى مزيج من الأكاذيب والوشايات المدبرة وأن ماري انتوانيت، كانت امرأة وافرة الشرف والعفة، وملكة وافرة الكرامة والعقل.(188/74)
الكتب
رسالة المنبر إلى الشرق العربي
للأستاذ فليكس فارس
يقول الله في صفة بقية القوم الصالحين من القسيسين والرهبان (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) وقد قرأت كثيراً من هذا الكتاب فتراءت لي هذه الآية، وتراءى الأستاذ فليكس فارس بقية من هذه البقية الصالحة، فهو طالب حق لا يغفل، وساع إلى غاية لا يمل. والكتاب مجموعة من أدب الأستاذ تربط بينها هذه الرابطة: طلب الحقيقة مبرأة من العصبية لما يخالفها، وسعى إلى غاية مبدأة في الطلب، يحتمل في سبيلها إرهاق الفكرة للبلوغ، وحرمان النفس للسمو، والعدل بين المتخالفين لإقرار الحق وتثبيته والعلو به عن نوازع النفوس وشهواتها، وهو في ذلك فارس كاسمه متدفع متدفق، مأمون العثرة، حديد النظرة، ثابت الجنان لا يرهب ولا يتخلف
وقد تعاطى - في كتابه - القول في كثير من الأدباء، وتكلم في أدبهم الكلام القسط، وكشف ببيانه عن الحقيقة الأدبية التي انطوى عليها أدبهم، وعن الحقيقة الفنية التي اشتملت عليها جوانحه، وافصح عن الحقيقة الشرقية التي تعمل في حياة الشرق عمل الدؤوب والاستمرار لتجعل في ضعفه قوة عضلة تستعصي على الأنياب الأجنبية التي تزعم أنها (تستعمر) أرضه وبلاده ونفوس أهله وبنيه. فجزى الله (فارس الحلبة) خير ما جوزي مجاهد عن أمته.
وقد سمى الأستاذ الفارس كتابه (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) وأصاب، فهو في جوهره يحمل الأصل المشرق الذي تكون منه الرسالة. ففيه الشمول والتعدد واختلاف الأغراض وما يتبع ذلك مما يمتاز به الكاتب من جودة الفكرة، وجلاء العبارة، وحسن القصد، وبلاغ الغاية. فأنت من أول فصل مندفع إلى قراءة البقية لما تجد من الروعة واللذة والفائدة.
بدأ رسالته بقوله (نحن وأنتم)، وهي أول رسالة إلى البلاد العربية مصر والشام والعراق وأرض الحجاز فهو فيها عربي قد غلبته عروبته على هواه وعلى عصبيته، يدعو دعوة الحق لليقظة والاتحاد والتعاضد والتخلص من آصار العبودية القاتلة التي تتلجلج في(188/75)
أوهامها تلجلج المحموم، ثم يتدافع من ثم إلى رسالته في الثقافة الشرقية والعربية، فهو عربي مفكر يقظ مؤمل هاد إلى حقيقة الثقافة الشرقية العربية، عامل على ربط الأول بالآخر من هذه الأمة، داع إلى نبذ الأوهام المتمكنة من وباء الجهل القديم، والسمو عن التورط في التقليد الذي لا يرد بنا إلا موارد التلف. ثم يقف بك على باب أدب من أدب (جبران) وهو كتاب وحده فيه من الفكر ما تختلف عليه العقول، وحسب القارئ أن يقرأه فأن فيه روح الكاتب متجلية كاشفة ناقدة بصيرة عليمة بفنها وإحساسها قادرة على الإبانة عن خلجاتها خير الإبانة. ثم الرسالة الخامسة وهي إصلاح الحياة البيتية، وهو من أدق أبواب هذه الرسالة، يبين عن الفكرة الاجتماعية المخلصة التي تدفع الأستاذ إلى البصر والتفكير والنقد والتمييز، ولولا ما يحول بيننا وبين الإفاضة لأثبتنا بعض هذا الباب وعقبنا، فهو على جلالته فيه مواقع من القول لو عاد إليها الأستاذ بثاقب فكره ومسدد نظره لأنكشف له الحق الذي ينشده ويبغيه.
وأما الرسالة الأخيرة فهي (المهود في الشرق والغرب) وهي التي كتبها بالفرنسية ونشرها ثم ترجمها إلى العربية، فلا غرو أن كانت هذه الرسالة (هي رسالة الشرق والغرب) فإنها بنيت على أصل ثابت من نظرة الشرقي المتحفز بشرقيته في الحياة الغربية التي انتقلت إلينا انتقال الوباء. وأهم ذلك مسألة النسل، وقد كان الرافعي قد كتب (رؤيا في السماء)، فترجمها الأستاذ الفارس واستخرج منها الحكمة الإسلامية في الزواج والنسل وما أعجزت به هذه الشريعة فكر الإنسان في إصابتها مكان الداء على اختلاف الزمان والمكان، وانطوائها على الدواء الذي لا يدع للعلة ما تتعلق في الجسم الاجتماعي
فهذه هي رسالة المنبر إلى الشرق العربي، وهي قبس من إشراق هذا الشرق المتلفع المتجافي ذي الأهوال والأسرار
ثمن الكتاب عشرة قروش ويطلب من إدارة الرسالة ومن المكاتب الشهيرة.
(ش)
نظرات تاريخية دستورية
للأستاذ حسن صادق(188/76)
180 صفحة من القطع المتوسط
مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر
قلما يعالج الباحث القانوني في مصر موضوع البحث الدستوري، وقلما يتناول الأنظمة النيابية في العالم بأي درس أو بحث. وإذا استثنينا بضع مذكرات موجزة يضعها أساتذة القانون لطلبتهم. فإننا نرى هذا الميدان خلوا من أقلام الباحثين.
وأخيرا يطالعنا الأستاذ حسن صادق بكتابه (نظرات تاريخية دستورية) ويشمل هذا الكتاب ثلاثة بحوث مستفيضة لثلاثة من دساتير العالم الهامة التي تكونت بعد الحرب العظمى وهي: الدستور الألماني، النمسوي، والتشيكوسلوفاكي.
مهد الأستاذ لكتابه بمقدمة قصيرة، أوضح فيها كيف جاهدت مصر في سبيل دستورها على يد زعيميها، وبين فيها كيف كان لزاما على المصري أن يعرف ماله من حقوق وما عليه من واجبات، وأشار فيها إلى أن الغرض من كتابه هو المساهمة في تربية الشعب تربية دستورية صادقة.
ثم بدأ الكاتب بدراسة الدستور الألماني دراسة دقيقة، فتكلم أولا عن الوجهة التاريخية في ذلك الدستور منذ أن سنه بسمارك في إبريل سنة 1871 فخلص ذلك الشعب الذي رسف في قيود الرجعية زمناً طويلا، والذي آده الظلم وأضنته الآلام من نير الظلم ووطأة الاضطهاد، وعلمه كيف يحكم نفسه بنفسه، وكيف يصبح سيداً لا مسوداً، وكانت ألمانيا إلى قبل الحرب مكونة من دويلات صغيرة. وكانت السيادة في دولة الريخ ممثلة في مجلسين: الأول وهو البندسرات ويتكون من مندوبي أمراء الدول. والثاني الريخستاج وينتخب من الشعب. ثم الإمبراطور وهو الرئيس الأعلى للدولة.
واستمر الحكم على هذا النظام إلى أن شبت ثورة سنة 1918. وأخذ الشعب يعمل بجد وعزم حتى سن لنفسه دستوراً، يذهب في الديموقراطية إلى أبعد حد. وأنشأ سلطاناً نيابياً يعبر عن سلطته حق التعبير، وجعل نفسه الحاكم العام في كل خلاف يقع بين عناصر الدولة، وبذلك جعل الشعب الحكومة تستمد منه سلطانها وتدين له بمناصبها إن شاء أسقطها، وإذا شاء أبقاها، وفي ذلك اطمئنان الشعب.(188/77)
ثم انتقل الكاتب إلى الكلام عن الدستور النمسوي فبين لنا كيف تخلص ذلك الشعب بعد جهاد طويل من أغلال الإمبراطورية النمسوية التي قيدته زمناً طويلاً. فما أشرق عام 1918 حتى هب الشعب يطالب بحقوقه. فسن لنفسه دستوراً ووضع السلطة كلها في يد المجلس الوطني، وهذا المجلس له حرية مطلقة في تحديد انعقاده وتأجيله ولا يمكن لرئيس الدولة أو الوزارة التدخل في ذلك. وفي أثناء الحل والعطلة تقوم مقامه لجنة تراقب أعمال الحكومة. . وإذا خالف الرئيس أو الوزارة قواعد الدستور حوكموا أمام المحكمة الدستورية. والدستور النمسوي منظور فيه إلى الدستور الألماني ومقتبس منه في بعض أجزائه.
أما الشعب التشيكوسلوفاكي الذي نزلت به ضروب الظلم، وصنوف الإرهاق أيام الإمبراطورية النمسوية فأنه انتهز فرصة انهزامها سنة 1918، فأعلن استقلاله، وسن لنفسه دستوراً مقتبسا من دساتير العالم الأخرى. ونص فيه على وجوب دوام الحياة النيابية وذلك بتأليف لجنة من 24 عضواً ستة عشر من الشيوخ وثمانية من النواب، تزاول عمل البرلمان في عطلته وذلك لضمان وجود السلطة التشريعية حتى لا تستأثر السلطة التنفيذية بالأمر
ومما يلاحظ في الكتاب أن الدساتير الثلاثة التي اختارها الأستاذ متشابهة إلى حد ما، ويشمل ذلك التشابه أيضاً نظام الحكم في هذه الدول الثلاث (الحكم الجمهوري) فلو أن الكاتب الفاضل اختار لنا صوراً مختلفة من الدساتير العريقة الأخرى التي يمكن للشعب أن يفيد من تجاربها الدستورية لجاء الكتاب جامعاً شاملا.
والكتاب - في دقة آرائه وبحوثه - مجهود موفق نشكره للأستاذ، وقدوة طيبة نرجو أن نجد في مصر من يقتدي بها، وثمرة تبشر باهتمام الكتاب بالناحية الدستورية، ومساهماتهم في تربية هذا الشعب تربية دستورية صادقة.
أحمد ف. م
التلميذ
لبول بورجيه
ترجمة الأستاذ عبد المجيد نافع(188/78)
لعل من فضول القول أن يتحدث متحدث عن الفراغ الذي ملأته ترجمة هذه القصة إلى العربية، فما أشد ما كانت تمتلئ قلوبنا أسفاً وحسرة حينما نرى الدنيا تتحدث عن بول بورجيه، ونسمع بأدبه وترى في قصته الخالدة مثلا من أروع المثل للقصص المفتن الدقيق، والأدب العالي الجميل؛ ثم نتلفت حولنا، فنرى مكانه في العربية خالياً إلا من كلمات عنه طائرة هنا وهناك، لا تمثل في ذهن القارئ العربي أدبه، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يجد فيها ذلك المتاع الفني المهذب، أو يستشعر لقاءها تلك اللغة العقلية السامية التي يبتعثها في النفس أدب ذلك الأديب.
وقصة التلميذ التي بين يدينا هي، فيما يقول بعض نقاد الأدب الفرنسي، أروع ما كتب بول بورجيه وما نحسبهم أطلقوا هذا إطلاقاً إلا أنها خير ما يمثل مذهبه في كتابة القصة، فقد أبدع فيها أيما إبداع في عرض الدقائق النفسية عرضا فنياً خلابا، وتحليل الأمزجة العقلية المعقدة تحليلا عبقريا رائعا. حتى لا يكاد يفلت منه عنصر من العناصر التي تكون الشخصية، على ما فيها من غموض وإبهام وتصوير ذلك في صورة فنية منسقة مضطردة، لا يحس القارئ فيها بنبوة، ولا يلمح بها شيئا من الصنعة المتكلفة، أو التلفيق البغيض.
وهو في هذه القصة يعرض شخصية شاب من شبان القرن التاسع عشر، وهو من أعقد العصور فيما أحسب إذا اعتبرنا التأثيرات المختلفة، والنزعات المتباينة، والاتجاهات الغريبة التي تعرض لها الفكر الأوربي في تلك الفترة من الزمن، وأمتحن بها محنة ظهر أثرها في جميع مجالات الحياة، فلا يدع شيئاً مما يكون الشخصية حتى يسوقه في سياقة الغنى الرائع، فإذا أتم عرض شخصيته في صورة فيلسوف من فلاسفة ذلك القرن. قد فني في الفلسفة حتى صار صورة حية منها كر عليها كرة أخرى، فإذا بذلك كله آثار سطحية، وإذا بتلك الصبغة الفلسفية وهذه الصوفية العلمية لم تستطع أن تغير من كيانه الداخلي أو تنسخ ذلك الميراث الذي ورثته الإنسانية الحاضرة عن أناسيها الأولى. فما تزال له من تحت هذا الظاهر الوقور المتزن غرائزه الطبيعية الكامنة التي كان يبدو بادئ الرأي أنها ضعفت وتلاشت بتأثير تلك الحياة الفلسفية الخلابة، ولكنها لم تلبث أن وجدت في البيئة التي تلائمها: ورأت من حولها موضوعا لبروزها ونشاطها حتى ثارت ثورتها، وخرجت من مكمنها، ملونة ألواناً. . بتأثير المؤثرات المختلفة التي كونت صاحبها، ولا تزال تعمل(188/79)
فيه وتوجهه في طريقها وفي هذه الألوان الغريبة التي عملت في تكييفها شتى العوامل، وفي إظهارها مفتنة متموجة، تتجلى عبقرية بورجيه وقدرته الفائقة على تحليل الحالات النفسية المعقدة إلى دقائقها، وتصويره لها في أروع صورها وأدقها، في أسلوب بياني خلاب.
فما من شك في أن هذه القصة من أعجب المثل الأدبية الخليقة بالخلود، الحقيقة بأن تمثل في كل لغة تقيم للأدب العالي وزناً، فللأستاذ المترجم أخلص التهنئة على هذا التوفيق الذي صادفه في ترجمتها، وأجزل الشكر على الجهد البليغ الذي بذله فيها، حتى جلاها في أسلوب عربي رائق، ومظهر من النشر أنيق.
وبعد فقد كنا نود، مع هذا الصنيع المبارك المشكور، لو أن الأستاذ المترجم عني بأن يبرز إلى اللغة العربية صورة من هذا الأثر الفني الخالد دقيقة كاملة بتفصيلاتها. كما أبرزها جميلة وافية في جملتها. ولكنه اتخذ لنفسه مذهبا في الترجمة وضع فيه الأدب ودقة النقل في المكان الثاني. ووضع فيه جمهور القراء في المكان الأول: فهذه صورة لا تتفق مع تقاليد جمهورنا، إذن يجب أن تبعد! وهذه مسألة فلسفية أطنب المؤلف في عرضها حتى لا تلائم عقلية جمهورنا، إذن يجب أن تبتر! وهذا إسهاب في التحليل والتصوير يبعث السأم إلى نفوس جمهورنا، إذن يجب أن ينفى! ولا بأس بشيء من ذلك مادام سياق الرواية مضطردا، ووقائعها متسقة، وفكرتها محققة. هذا هو مذهب الأستاذ المترجم عرضه في مقدمة ترجمته. وعندنا أن هذا المذهب إن جاز أن يتخذ في نقل بعض الآثار الأدبية الأخرى فلا يجوز أن يتخذ في هذا الذي سماه الأستاذ المترجم نفسه خالدا، والذي صدر عن نابغة كتاب فرنسا حقا، فهو أثر عالمي لا ينبغي أن يخضع لسيطرة بعض هذه الاعتبارات البسيطة. على أنا لا نمنع مع هذا أن المسالة دقيقة كل الدقة، وأن الفصل بين المذهبين ليس من الأمور الهينة التي يتقبلها الضمير دون معاناة.
أما أسلوب المترجم فهو على ما نعرف منه: عربي جميل ناصع، لا ابتذال فيه ولا إبهام. وقد وفق - على حد قوله - إلى إحلال المعاني الغربية في معان عربية. على أنا كنا نود أيضاً أن لو برئ من مثل هذه العبارة: (عالما لا يشق له غبار، ولا يصطلي له بنار) فليس هذا فيما نحسب معنى عربيا، بل هو دمنة بدوية.(188/80)
وهناك هنوات لغوية لا نرى بأسا في أن نشير إلى شيء منها مثل قطع همزة الابن في صفحة 41، ومثل قوله (ص55) أصبحت وأمي وحيدين) والصحيح الفصل في مثل هذا بالضمير المنفصل فيقال: (أصبحت أنا وأمي وحيدين)، ومثل قوله (ص19) (قد تلقى خمسة أو ستة خطابات) وليس هذا فيما أحسب بناء عربياً، وإن كان من الممكن أن يخرج له وجه نحوي، والعربية المستقيمة تقول: خمسة خطابات أو ستة وهذا على كل حال أمر هين يسير، لا يغض من القيمة الأدبية لذلك الصنيع العظيم.
(الحاجري)(188/81)
العدد 189 - بتاريخ: 15 - 02 - 1937(/)
الحياة والقيود
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قلت لصديق ونحن خارجون من السينما - أو لعلنا كنا داخلين فما أذكر الآن: -
(يا أخي أحسب إن من الخسارة علينا أننا خلقنا في هذا الزمان، ولو تأخر بنا الحظ جيلاً آخر لكان عيشنا خليقاً أن يكون أطيب وأرغد، فإن هذا عصر انتقال لم تستقر فيه الأمور على حد مريح)
فوافق واستطردنا إلى حديث آخر. ولكني ظللت أفكر فيما قلت فبدا لي أني أخطأت، ولا نكران أن زمننا هذا زمن انتقال، ولكن هذا حال كل زمان، فما تلزم أمور الحياة حداً تنتهي إليه ولا تكون قط على حال لا يتغير أو لا يتبدل. وكل عصر عصر انتقال. والتحول هو قانون الحياة فلا وقوف ولا رجوع، لأن هذا وذاك مستحيلان في الحياة. ولو كنا خلقنا في زمن غير هذا - قبله - لكنا أحسسنا ما نحسه الآن من إننا في عصر انتقال وإننا نعاني من جراء ذلك اضطرابا وقلقا وقيوداً كثيرة تثقل علينا ونعتقد أن الأيام ستصدعها عن الناس وتعفيهم منها ولتوهمنا إن الناس سيكونون حينئذ اسعد وارغد عيشاً واكثر حرية واقل شعوراً بالتقلقل والاضطراب والحيرة بين القديم المنشوء الذي يتزلزل والجديد المأمول الذي بدت بشائره. وحضرني وأنا أفكر في مثال قريب، فقد كنا في الجيل الذي مضى نسخط على الحجاب وما يقتضيه من التفريق بين الرجال والنساء، وكانت بشائر السفور قد بدت، ولكن أملنا يومئذ في أدراك عهده والانتفاع به قبل أن تعلو بنا السن وتفتر الحيوية ويفسد علينا الأمر كله - كان يبدو لنا بعيداً. وقد أدركنا زمن السفور بأسرع مما كنا نتصور ووثبنا إليه في أوجز مما كنا نقدر، وقبل أن ترتفع أسناننا وينضب معين الحيوية فينا، غير أنا بعد أن صرنا إلى هذا الحال الجديد الذي كنا نحلم به ونتطلع إليه ونتخيل إن الحياة ستكون به أهنأ وأطيب - لم نرض ولم نقنع. ولسنا الآن في حاضرنا ننظر إلى ما كان بل نحن ننظر إلى تيار الزمن واتجاهه، ونقول انه يتحدر إلى ساحة من الحرية أوسع وارحب. ولا سيما بعد أن عرف الإنسان ضبط النسل. والشجرة - كما لا أحتاج أن أقول - تعف بثمرها، فحيث لا توجد ثمرة لا يخطر للمرء أن هناك شجرة فهي غير موجودة فيما يعلم وإن كانت في الواقع هناك(189/1)
لا. . لم نخسر بأن خلقنا في هذا الزمان. وليست العلة أننا موجودون في زمان دون آخر. بل العلة إن العمر إلى انتهاء وأن الحياة إلى نفاذ كائنا ما كان الزمن الذي نحن فيه. ولا خير في تقطيع النفس حسرات على ما عسى أن يكون الغيب منطوياً عليه، وأحجى بالإنسان أن يقصر همه على حاضره فانه هو الحقيقة التي يضيع كل شيء إذا هو ضيعها. ومهما يبلغ من اتساع نطاق الحرية في المستقبل فان حياة الجماعة لا تنتظم إلا بالقيود والحواجز والاسداد. وستظل هناك قيود من ضروب شتى
ومع ذلك ماذا ينقصنا من الحرية في زماننا هذا. . السنا نصنع ما نحب كما نحب وحينما نحب. . ولا شك أن هناك قيوداً وأغلالاً غير قليلة أو هينة، ولكن هذه القيود هي التي تكسب الحياة الطعم وتفيدها المزية والفضيلة. ولست أحاول أن أعزي نفسي بهذا الكلام أو أغالطها به بل أنا أومن بأن الأمر كما أقول والحال على ما أصف
وتصور أن الماء المنحدر من الجبال أو غيرها لم تعترض طريقه الاسداد ولم يمنعه شيء أن يظل يتدفق وينتشر على وجه الأرض حتى يذهب أو ينتهي إلى البحر، أكان من المكن في ظنك أن تتكون بحيرة مثلاً. . وقد لا تكون ثم حاجة إلى البحيرة وقد تحتاج الجماعة في وقت ما إلى محوها من الوجود، ولكن هذا لا يؤثر في القضية ولا ينفي أن البحيرة إنما تتكون بفضل الاسداد التي يلقاها الماء وهو يجري
والطيارة التي تحلق في الجو وتنقلنا إلى حيث نحب وتقصر المسافات وتطوي الأبعاد والتي نعدها من آيات هذا العصر، كيف كان يمكن أن نفعل ذلك لولا مقاومة الهواء لدفع المحرك؟. بل كيف كان يتسنى أن تتحرك لولا هذه المقاومة. ولست أعرف شيئاً في هذه المسائل العلمانية فإني من اجهل خلقه سبحانه وتعالى وتنزه عن العبث، ولكني التفت إلى هذا الأمر يوماً وكنت في طيارة وإنا فيها لمسرورون مغتبطون بهذا التحليق وإذا بها تسقط كالحجر مائة وخمسين قدماً كما قيل لي فيما بعد، وكانت هنيهة قصيرة جداً. ولكنها على قصرها الشديد كانت أقسى ما جربت في حياتي، فقد أحسست أن قلبي صار في حلقي من فعل السقوط المفاجئ لا من الخوف فما اتسع الوقت لخوف أو رجاء. ثم عادت الطيارة فمضت بنا في طريقها وكرت إلى مثل الارتفاع الأول فلم أفهم سبب هذه السقطة المزعجة، فلما نزلنا كدت أنسى أن أسأل عن السر فيما حدث، ولكنني تذكرت بعد أن مشيت خطوات(189/2)
فارتددت إلى الطيار فقلت له يا أخي قد سقطنا في الهواء فما سبب ذلك؟ قال هل أحسست شيئاً؟ قلت كيف لا أحس وقد كانت أنفاسي تنقطع.؟ قال لقد صادفنا فراغاً. . قلت كيف واستغربت فبين لي أن بعض طبقات الجو تخلو لأسباب شتى - نسيتها - من الهواء فتصبح فارغة، فإذا دخلت الطيارة منطقة الفراغ لم تستطع أن تجتازها لأن الهواء هو الذي يعينها بمقاومته على الطيران، ولهذا تسقط حتى تخرج من المنطقة الفارغة فيتيسر لها أن تمضي في طيرانها وذكر لي أن المنطقة التي صادفناها كانت أكبر ما لقي من الفراغ مذ ركب طيارة
وقد علق بذهني هذا ودار في نفسي من يومئذ فأضفته إلى ما كنت أعرف من فضل المقاومة بل ضرورتها فأني عاجز عن تصور حياة لا يلقي فيها الحي مقاومة. وكيف تكون يا ترى هذه الحياة إذا أمكن أن توجد حياة على هذا النحو. . لا أدري ولا أحسب أن أحداً يستطيع أن يزعم أن في وسعه تخيلها. . ماذا يدفع فيها إلى العمل ويغري بالسعي. . ويبعث على الطموح. ز الذي هو الوسيلة إلى حفظ النوع في الدنيا؟ كيف يكون حينئذ ولا مقاومة هناك ولا عائق ولا صعاب ولا عراقيل ولا حواجز من العرف أو القانون أو غير ذلك. . أتراه عبثاً ومسلاة. . وكيف تكون له لذة اللهو ومتعة العبث ومزية التسلي وهولا يمكن أن يوجد أصلاً. . أم ترى ينحط فينقلب مجرد رغبة عارضة واشتهاء زائل بزوال دواعيه الوقتية. . وكيف تنشأ الرغبة وماذا يشحذ الشهوة ولا شيء هناك من قبيل الموانع
ودع الحب وأنظر في غيره وأسأل نفسك ماذا عساك أن تطلب حينئذ ولا عسر هناك ولا عناء ولا خوف من حرمان لأنه لا عقبة هناك ولا صعوبة ولا مقاومة من الأحوال أو الحظ أو الناس أو التنافس أو غير ذلك مما تكون به المقاومة. .
ويطول بي الكلام إذا أنا أحببت أن أتقصى وجوه هذا الأمر: وما الداعي إلى الإطالة والمسألة واضحة. كلا لم أخسر بأن خلقت في هذا الزمن. ولا خسر أحد شيئاً بأن خلق في زمنه وإنما ينظر الإنسان إلى ما هو مستطيع ويقيسه إلى ما يشتهي فيرى البون عظيماً والبعد كبيراً والمسافة طويلة بين المطلوب والموجود، فيتوهم أن ذلك إنما كان هكذا لأن في الزمن عيباً وفي أحواله فساداً، وأنه لو كان في زمن آخر لكان حقيقياً أن يكون أمله أقرب منالاً وسعيه أعظم توفيقاً. وهذا وهم كما قلت فأن رغائب الإنسان في أي زمن أكثر(189/3)
مما يبلغ وينال. والذي يسمح لرغبته بأن تطغى إلى هذا الحد حتى لتصور أمر الحياة على هذا النحو المقلوب تكون شهوته أقوى من إدراكه أو إرادته أو أعصابه إذا شئت
ولم ألق صديقي لأبلغه أني غيرت رأيي أو صححته، فهأنذا أقول له ذلك في (الرسالة)
إبراهيم عبد القادر المازني(189/4)
صعاليك الصحافة. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
لما ظهر كتابي (وحي القلم) حملت منه إلى فضلاء كتابنا في دور الصحف والمجلات أهديه إليهم ليقرءوه ويكتبوا عنه. وأنا رجل ليس فيَّ أكثر مما فيَّ، كالنجم يستحيل أن يكون فيه مستنقع. فما أعلم في طبيعتي موضعاً للنفاق تتحول فيه البصلة إلى تفاحة، ولا مكاناً من الخوف تنقلب فيه التفاحة إلى بصلة، ولست أهذي من كتبي إلا إحدى هديتين: فإما التحية لمن أثق بأدبهم وكفايتهم وسلامة قلوبهم؛ وإما إنذار حرب لغير هؤلاء
والقرآن نفسه قد أثبت الله فيه أقوال من عابوه ليدلل بذلك على أن الحقيقة محتاجة إلى من ينكرها ويردها، كحاجتها إلى من يقر بها ويقلبها؛ فهي بأحدهما تثبت وجودها، وبالآخر تثبت قدرتها على الوجود والاستمرار. والشعور بالحق لا يخرس أبداً، فإذا كانت النفس قوية صريحة مر من باطنها إلى ظاهرها في الكلمة الخالصة، فإن قال لا أو نعم صدق فيهما، وإذا كانت النفس ملتوية اعترضته الأغراض والدخائل، فمر من باطن إلى باطن حتى يخلص إلى الظاهر في الكلمة المقلوبة، إذ يكون شعوراً بالحق يغطيه غرض آخر كالحس ونحوه، فإن قال لا أو نعم كذب فيهما جميعاً
وكنت في طوافي على دور الصحف والمجلات أحس في كل منها سؤالً يسألني به المكان: لماذا لم تجيء؟ فإني في ابتداء أمري كنت نزعت إلى العمل في الصحافة، وأنا يومئذ متعلم ريِّض ومتأدب ناشيء، ولكن أبي رحمه الله ردني عن ذلك ووجهني في سبيلي هذه والحمد لله، فلو أنني نشأت صحافياً لكنت الآن كبعض الحروف المكسورة في الطبع. . .
وللصحافة العربية شأن عجيب، فهي كلما تمَّت نقصت، إذ كان مدار الأمر على اعتبار أكثر من يقرءونها أنصاف قراء أو أنصاف أميين. وهي بهذا كالطريقة لتعليم القراءة الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية، فتمامها بمراعاة قواعد النقص في القارئ. . . وما بدُّ أن تتقيد بأوهام الجمهور أكثر مما تتقيد بحقيقة نفسها. فهي معه كالزوجة التي لم تلد بعد. لها من رجلها من يأمرها ويجعلها في حكمه وهواه، وليس لها من أبنائها من تأمرهم وتجعلهم في طاعتها ورأيها وأدبها. ثم هي عمل الساعة واليوم فما أبعدها من حقيقة الأدب الصحيح إذ ينظر فيه إلى الوقت الدائم لا إلى الوقت الغابر، ويراد به معنى الخلود لا معنى النسيان(189/5)
ولا يقتل النبوغ شيء كالعمل في هذه الصحافة بطريقتها. فأن أساس النبوغ (ما يجب كما يجب)، ودأبه العمق والتغلغل في أسرار الأشياء وإخراج الثمرة الصغيرة من مثل الشجرة الكبيرة بعمل طويل دقيق. أما هي أساسها (ما يمكن كما يمكن)، ودأبها السرعة التصفح والإلمام وصناعة كصناعة العنوان لا غير
فليس يحسن بالأديب أن يعمل في هذه الصحافة اليومية إلا نضج وتم وأصبح كالدولة على (الخريطة) لا كالمدينة في الدولة في الخريطة، فهو حينئذ لا يسهل محوه ولا تبديله. . . ثم هو بمدها بالقوة ولا يستمد القوة منها، ويكون تاجاً من تيجانها لا خرزة من خرزاتها، ويقوم فيها كالمنارة العظيمة تلقي أشعتها من أعلى الجو إلى مدى بعيد من الآفاق. لا كمصباح من مصابيح الشارع.
وحالة الجمهور عندنا تجعل الصحافة مكاناً طبيعياً لرجل السياسة قبل غيره، إذ كان الرجل السياسي هو صوت الحوادث سائلاً ومجيباً، ثم يليه الرجل شبه العالم، ثم الرجل شبه الممثل الهزلي. . والأديب العظيم فوق هؤلاء جميعاً، غير أنه عندنا في الصحافة وراء هؤلاء جميعاً
ولما فرغت من طوافي على دور الصحف جاءت هي تطوف بي في نومي. فرأيتني ذات ليلة أدخل إحداها لأهدي (وحي القلم) إلى الأديب المتخصص فيها للكتابة الأدبية، ودلوني عليه فإذا رجل مربوع مشوه الخلق صغير الرأس دقيق العنق جاحظ العينين، تدوران في محجريها دورة وحشية كأنما أرعبته الحياة مذ كان جنيناً في بطن أمه لأنه خلق للإحساس والوصف، أو كأنما ركب فيه النظر الساخر ليرى أكثر مما يرى غيره من أسرار السخرية فينبغ في فنونها، أو هو خلق بهاتين العينين الجاحظتين دلالة عليه من القدرة الإلهية بأنه رجل فذ أرسل لتدقيق النظر
وقال الذي عرَّفني به: حضرته عمرو أفندي الجاحظ. . . وهو أديب الجريدة
قلت شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر؟
فضحك الجاحظ وقال: وأديب الجريدة، أي شحاذ الجريدة. يكتب لها كما يقرأ القارئ على ضريح؛ بالرغيف والجبن والبيض والقرش. . .
قلت: إنا لله فكيف انتهيت يا أبا عثمان إلى هذه النهاية وكنت من أعاجيب الدنيا، وكيف(189/6)
خبت في الصحافة وكنت رأساً في الكلام؟
قال: نجحت أخلاقي فخابت آمالي، ولو جاء الوضع بالعكس لكان الأمر بالعكس. والمصيبة في هذه الصحف أن رجلاً واحداً هو قانون كل رجل هنا
قلت: وذاك الرجل الواحد ما قانونه؟
قال: له ثلاثة قوانين: الجهات العالية وما يستوحيه منها. والجهات النازلة وما يوحيه إليها. وقانون الصلة بين الجهتين وهو. . .
قلت: وهو ماذا؟
فحملق فيَّ وقال: ما هذه البلادة؟ وهو الذي (هو). . . أما ترى الصحيفة ككل شيء يباع؟ وأنت فخبرني - ولك الدولة والصولة عند القراء - ألم تر بعينيك أنك لو جئت يدفع ثمانمائة قرش، لكنت في نفوسهم أعظم مما أنت وقد جئت تهدي ثمانمائة صفحة من البيان والأدب؟
قلت: يا أبا عثمان. فما تكتب هنا؟
قال: إن الكتابة في هذه الصحافة صورة من الرؤية، فماذا ترى أنت في. . وفي. . وفي.؟ لقد كنا نروي في الحديث. (يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقرة بلسانها) فلعل من هذه الألسنة الطويلة لسان صاحب الجريدة. . .
قلت: ولكنك يا شيخنا قد نسيت القراء وحكمهم على الصحيفة.
قال: القراء ما القراء، وما أدراك ما القراء. وهل أساس أكثرهم إلا بلادة المدارس، وسخافة الحياة، وضعف الأخلاق، وكذب السياسة؟ أن الإبداع كل الإبداع في أكثر ما تكتب هذه الصحف، أن تجعل الكذب يكذب بطريقة جديدة. . . وما دام المبدأ هو الكذب فالمظهر هو الهزل. والناس في حياة قد ماتت فيها المعاني الشديدة القوية السامية، فهم يريدون الصحافة الرخيصة، واللغة الرخيصة، والقراءة الرخيصة. وبهذا أصبح الجاحظ وأمثاله هم (صعاليك الصحافة)
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير، فنهض إليه ثم رجع بعنين لا يقال فيهما جاحظتان بل خارجتان. . . وقال: أفّ. (وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون).
كلا والذي حرم التزيُّد على العلماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ضل(189/7)
سعيه).
قلت: ماذا دهاك يا أبا عثمان؟
قال: ويحها صحافة. قل في عمك ما قال في المثل: جحظ إليه عمله.
قلت: ولكن ما القصة؟
قال: ويحها صحافة. وقال الأحنف: (أربع من كن فيه كان كاملاً، ومن تعلق بخصلة منهن كان من صالحي قومه: دين يرشده، أو حسب يصونه، أو حياء يقناه). وقال: (المؤمن بين أربع: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يجاهده، وشيطان يفتنه. وأربع ليس أقل منهن: اليقين، والعدل، ودرهم حلال، وأخ في الله). وقال الحسن بن علي. . .
قلت: لم أحسن المهاترة في المقال الذي كتبه اليوم. . . . ويقول رئيس التحرير: إن نصف التمويه رذيلة؟ فأن نصفه الآخر يدل على أنه تمويه. ويقول: إن سمو الكتابة انحطاط فصيح، لأن القراء في هذا العهد لا يخرجون من حفظ القرآن والحديث ودراسة كتب العلماء والفصحاء، بل من الروايات والمجلات الهزلية. وحفظ القرآن والحديث وكلام العلماء يضع في النفس قانون النفس، ويجعل معانيها مهيأة بالطبيعة للاستجابة لتلك المعاني الكبيرة في الدين والفضيلة والجد والقوة؛ ولكن ماذا تصنع الروايات والمجلات وصور الممثلات والمغنيات وخبر الطالب فلان والطالبة فلانة والمسارح والملاهي؟
ويقول رئيس التحرير: إن الكاتب الذي لا يسأل نفسه ما يقال عني في التأريخ، هو كاتب الصحافة الحقيقي، لأن القروش هي القروش والتأريخ هو التأريخ. ومطبعة الصحيفة الناجحة هي بنت خالة مطبعة البنك الأهلي. ولا يتحقق نسب ما بينهما إلا في إخراج الورق الذي يصرف كله ولا يرد منه شيء
إنهم يريدون إظهار المخازي مكتوبة كحوادث الفجور والسرقة والقتل والعشق وغيرها؛ يزعمون أنها تروى وتقص للحكاية أو العبرة، والحقيقة أنها أخبارهم إلى أعصاب القراء. . .
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. .
لها بقية
(طنطا)(189/8)
مصطفى صادق الرافعي(189/9)
إلى رجال التعليم
بقايا التركية في لغة مصر الرسمية
للأستاذ أبي خلدون ساطع بك الحصري
مدير دار الآثار العربية بالعراق
لقد لاحظ العلماء الذين توغلوا في درس الحوادث الاجتماعية اللسانية، أن الكلمات ما تنتقل من لغتها الأصلية إلى اللغات الأخرى حسب العلائق التي تنشأ وتتوثق بين الأمم التي تتكلم بها، وقد تندمج هذه الكلمات في اللغة التي دخلت عليها؛ فتنتظم في سلك كلماتها الأصلية وتتكيف بمقتضيات قواعدها الخاصة؛ وقد تولد نسلاً جديداً في موطنها اللغوي الجديد، يختلف عن النسل الذي كان قد تولد منها في موطنها الأصلي اختلافاً كلياً
أما أنواع الكلمات التي تنتقل بهذه الصورة من لغة إلى لغة، فتتبع - بطبيعة الحال - أنواع العلائق التي تحدث بين الأمم التي تتكلم بها: فالمعاملات التجارية تئدي إلى انتقال المصطلحات العلمية مع الآراء والمعلومات، والسيطرة السياسية تؤدي إلى انتشار الكلمات والتعبيرات المستعملة في الأنظمة الإدارية والعسكرية، والكلمات والمصطلحات التي تدخل على اللغة بسبب هذه العلائق المتنوعة، تبقى فيها عادة حتى بعد انقطاع تلك العلائق. . ولهذا السبب نجد العلماء الذين يستكشفون الحقائق في مجاهيل التأريخ يستندون في بعض الأحوال إلى (مقارنة الألسن) و (تتبع الكلمات) في استدلالاتهم المتعلقة بالحوادث التاريخية والتطورات الاجتماعية.
لعل الآثار التي تركتها التركية في مصر، ولا سيما في لغة الدواوين الرسمية، من أبرز الأمثلة وأقربها إلى ما أسلفنا. إذ أننا إذا استعرضنا عناوين الوظائف الرسمية في جداول الميزانية ودليل التليفون وتصفحنا بعض النشرات الرسمية، وتتبعنا بضعة أعداد من الجرائد اليومية، فسجلنا الكلمات والتعبيرات التركية التي نصادفها خلال هذا البحث السريع. . دهشنا من كثرة الكلمات والتعابير الباقية من عهد الحكم التركي في مصر
نستطيع أن نقول إن معظم النعوت والألقاب المستعملة في مصر هي من بقايا ذلك الحكم. ولا سيما الكلمات والتعابير التي تدل على الرتب الملكية والعسكرية، فكلها ترجع إلى منشأ(189/10)
تركي بدون استثناء فإن كلمات (بك، أفندي، باشا، هانم) تركية الأصل. مع هذا تستعمل في مصر كالكلمات العربية، ويقال لذلك (بكوية وبكوات) و (باشوية وباشوات، أفندية، وهوانيم) ومما تجب ملاحظته أن الألقاب ألغيت في تركية أخيراً واستبدلت بكلمة (باي) للرجال و (بايان) للنساء
فمن يتتبع الجرائد التركية الآن لا يجد فيها أثراً للكلمات التي بحثنا عنها؛ غير أن من يتصفح الجرائد المصرية يصادف في كل نسخة منها مئات
ومما يستلفت الأنظار أن الألقاب الرسمية التي تستعمل في مصر عند ذكر أصحاب الرتب أو مخاطبتهم - مثل: صاحب العزة، صاحب السعادة - أيضاً تمت بقرابة إلى العهد التركي، بالرغم من مظهرها العربي: فأن الأتراك عندما أرادوا أن يضعوا لقباً خاصاً بأصحاب كل رتبة من الرتب الملكية والعلمية، اقتبسوا من العربية كلمات كثيرة، مثل (رفعة، عزة، سعادة، عطوفة، دولة، فخامة، فضيلة، سماحة، سيادة، عناية، عصمة.) وأضافوا إلى كل واحدة منها حرف (لو) الذي يعرف في قواعد الصرف التركي باسم (أداة المصاحبة) فقالوا (. . . عزتلو، سعادتلو، دولتلو، فخامتلون فضيلتلو، سماحتلو. . .) إن هذه النعوت والألقاب استعملت في مصر مدة غير قصيرة بصيغتها التركية، ثم استبدلت فيها (أداة المصاحبة) التركية بتعبير (صاحب الـ. . .) العربية؛ فتحولت بذلك هذه الألقاب إلى (صاحب العزة، صاحب السعادة، صاحب الدولة، صاحب الفضيلة. . .) فنستطيع أن نقول: إن هذه الألقاب تركية بمدلولاتها الحالية، وإن كانت عربية بألفاظها الأصلية. وإلا فلا يوجد أي سبب معقول لاعتبار (الفضيلة أو العزة أو السعادة) من النعم التي يستطيع أن يحصل عليها الإنسان عن طريق إنعام الملوك والحكومات. .
وأما أسماء الرتب العسكرية المستعملة في مصر، فبعضها تركية بحتة مثل شاويش، باششاويش، أونباشي، يوزباشي، بيك باشي،. . .
فان اللفظة الأولى كلمة مفردة، والأربع الباقية كلمات مركبة، تعني (رئيس الشاويشية، رئيس العشرة، رئيس المائة، رئيس الألف. .)
وهناك أسماء رتب عسكرية مؤلفة من كلمة تركية وكلمة عربية، حسب الاستعمال التركي: مثل (بلوكامين) بمعنى أمين الرهط، و (ميرالاي) بمعنى آمر الكتيبة. .(189/11)
وأما كلمة (صاغ) التي تدل على إحدى الرتب العسكرية في مصر، فتركية أيضاً؛ غي أنها لا تستعمل في التركية للدلالة على رتبة من الرتب العسكرية أبداً. لأن معناها اللغوي عبارة عن (أيمن)، نظراً لرتبته العسكرية. وأما كيف صارت هذه الكلمة لقباً لإحدى الرتب العسكرية في مصر، فلا يتضح إلا بمراجعة تاريخ الألقاب العسكرية في تركيا: إذ يوجد في الجيش التركي رتبة عسكرية تسمى باسم (قول أغاسي) بمعنى (آمر الجناح). وبما أن القطع العسكرية كانت تقسم إلى جناحين، كانوا يقسمون هذه الرتبة قبلاً إلى درجتين فيسمون الأولى (صاغ قول أغاسي) بمعنى (آمر الجناح الأيمن)، ويسمون الثانية (صول قول أغاسي) بمعنى (آمر الجناح لأيسر). غير أنهم وحدوا الدرجتين مؤخراً، فحذفوا كلمات (صاغ) و (صول) من هذه الألقاب، واقتصروا على تسمية الرتبة بـ (قول أغسي) أي (آمر الجناح). ويظهر أن لفظ (صاغ قول أغاسي) كان يستعمل في مصر أيضاً؛ غير أنه أختصر مؤخراً، بدون ملاحظة معاني الكلمات التي يتألف منها، فجرى الاختصار عن طريق حذف الكلمتين الأخيرتين، والاحتفاظ بالكلمة الأولى وحدها. وبما أن الصفة في اللغة التركية تتقدم على الموصوف، كما أن المضاف إليه يتقدم على المضاف، صار هذا الاختصار بمثابة حذف كلمتين (آمر) و (الجناح) والاحتفاظ بكلمة (الأيمن) وحدها، وبهذه الصورة أصبحت كلمة (صاغ) التركية، التي تدل على (اليمين) أو (الأيمن)، اصطلاحاً على الرتبة من الرتب العسكرية المصرية
غير أن الكلمات التركية المستعملة في الجيش المصري لا تنحصر في أسماء الرتب العسكرية التي أسلفنا ذكرها. بل أن المصطلحات العسكرية التالية أيضاً تمت إلى منشأ تركي صريح؛ بلوك، تابور، آلاي، أورطة، قيشلاق، قره قول، طوبجي، نوبتجي. .
إن كلمة (اورطة) تستحق النظر والتأمل بوجه خاص: فأن هذه الكلمة من التعبيرات الدارجة في تشكيلات مصر الدارجة وهي تدخل في التراكيب مثل الكلمات العربية، فيقال مثلاً (الاورطة الثالثة) و (استعراض الأورطتين) وأعلام الاورط، كما يقال (اورطته، اورطتيه، اورطتيهما. . .). . مع إنها من الكلمات التركية المهجورة في تركيا نفسها فان استعمالها في الجيش التركي قد بطل منذ عهد بعيد، يرجع إلى تاريخ إفناء الانكشارية، وإحداث النظم العسكرية الجديدة: ومن المعلوم أن المدة التي مضت منذ ذلك التاريخ تناهز(189/12)
القرن الكامل
هذا، ومما يجدر بالانتباه أن قاموس الاصطلاحات العسكرية المصرية يحتوي على بعض الكلمات الفارسية أيضاً - مثل، بيادة، سوارى، ياور، سردار. - غير أن هذه الكلمات لم تدخل على العربية من الفارسية مباشرة، بل دخلت عليها بواسطة التركية. ولذلك يجب علينا أن نعتبر هذه الكلمات أيضاً من بقايا الحكم التركي بالرغم من أصلها الفارسي
كذلك كلمة (حكم دار) أيضاً تشبه الكلمات المذكورة آنفاً، إذ أنها مركبة من كلمة (حكم) العربية وكلمة (دار) الفارسي، فمعناها اللغوي عبارة عن (صاحب الحكم). غير أن معناها الدارج في تركية إذ أن تعبير الـ (حكم دار) لا يستعمل في التركية إلا للدلالة على (الملوك)
هذا وإذا استعرضنا عناوين الوظائف والخدمات المختلفة نجد بينها أيضاً عدداً كبيراً من التعبيرات التركية
أولاً، سلسلة كبيرة من التعبيرات التي تحتوي على كلمة (باش) التركية: باش كاتب، باشمفتش، باشمهندس، باشمعاون، باش محضر، باش صراف، باش حكيم، حكيمباشي، خاخامباشي، باش ساعي، باش فراش، باش طباخ، باش جنايني، باش بستاني، باش ميكانيكي، باش آدلاء، باش رئيس البحرية، باش رئيس المطافي. فإذا أنعمنا النظر في هذه التعبيرات نجد أن كلماتها الأساسية عربية، غير أنها موصولة بكلمة (باش) وفقاً لقواعد اللغة التركية، وإذا بحثنا في عن منشأ التراكيب نجد أن نصفها الأول مستعمل في التركية أيضاً غير أن نصفها الأخير لم يستعمل في التركية أبداً. فنستطيع أن نقول إن القسم الأول منها (من باش كاتب إلى خاخام باشي) مقتبسة من التركية. وأما القسم الثاني (من باش ساعي إلى باش رئيس المطافي) فمستحدثة في مصر نفسها. قياساً على التراكيب المماثلة المستعملة في التركية
ثانياً، سلسلة غير قصيرة من التعبيرات التي تحتوي على أداة (جي) التركية: تليفونجي، تلغرافجي، بوسطه جي، نوفكجي، نيشانجي، تعليمجي، مخزنجي، محاسبجي، قهوجي، سفرجي، عطشجي، عربجي، قمشجي، اجزاجي، تيمارجي، جاشمبجي، مطبعجي، استفجي، جزمجي، مكوجي، اشرجي، ناضورجي، مفتاحجي. وما يجب عليه التنبيه إليه أن التراكيب(189/13)
الأربعة الأخيرة ليست مستعملة في التركية، مما يدل على أنها استحدثت في مصر قياساً على أمثالها وعلاوة على كل ما تقدم نذكر فيما يلي الكلمات التركية التي صادفناها في النشرات الرسمية:
فنار، ليمان، أورمان، كوبري، قزان، طولمبة، بوري، باشبوري، أوضه، قاووش، آغا، ترزي. وهذه الكلمات تدخل في تراكيب بعض التعبيرات مثل: مصلحة الليمانات والفنارات، حديقة الأورمان، أوضة المحامين، الطلمبات الأميرية، تعمير القزانات مصلحة الكباري، كما نذكر فيما يلي الكلمات الفارسية التي صادفناها في تلك النشرات، والتي انتقلت إلى مصر بواسطة التركية أيضاً سراي، شنكل، كليم، نيشان، أورنيك، ماهية، رفت، خانة،. . .
ومما يجدر بالذكر أن الكلمة الأخيرة تدخل في تراكيب كثيرة مثل: أجزخانة، كتبخانة، دفترخانة، بطركخانة، سلخانة، جبه خانة، يمكخانة، أدبخانة، عربخانة، شفخانة، مهندسخانة.
بعد أن القينا هذه النظرة السريعة على اللغة الرسمية في مصر يجدر بنا أن نقوم بمقارنة عامة بين دواوين سورية والعراق في هذا الموضوع
من الغريب أن هذه المقارنة تظهر لنا تبايناً عظيماً في الأمر: إذ بينما نجد أن دواوين مصر مضيافة لجميع هذه الكلمات الدخيلة والمصطلحات الأعجمية نجد أن دواوين سورية وللعراق - بعكس ذلك - مجردة منها ومتعصبة عليها. .
هذا. . مع أنه قد مضى على انفصال مصر عن تركية عهد طويل، في حين أنه لم يمض على انفصال سورية والعراق عنها إلا زمن قصير، ومع أنه لا يشاهد في مصر أثر للقوانين الموضوعة في العهد الترك، في حين أن عدداً غير قليل منها لا تزال نافذة في سورية والعراق. . .
ومع أن أنظمة الحكومة المصرية مختلفة عن الأنظمة التركية اختلافاً كلياً في حين أن أنظمة سورية والعراق لم تتباعد عنها إلا تباعداً جزئياً. . . وما أن الذين يعرفون التركية بين موظفي الحكومة المصرية قليلون جداً، في حين أن عددهم كثير في سورية والعراق. . ومع أن اللغة الفصحى منتشرة في مصر انتشاراً كبيراً، ودراسة الآداب العربية متقدمة فيها(189/14)
تقدماً عظيماً، في حين أن كل ذلك لا يزال محدوداً في سورية والعراق
فيجدر بنا أن نتسائل عن أسباب هذه الأحوال والحوادث المتناقضة: كيف أن مصر حافظت، ولا تزال تحافظ، في دواوينها الرسمية على هذه المصطلحات الأعجمية، بالرغم من قدمها في الانفصال وتقدمها في فصاحة القلم واللسان؟ وكيف أن حكومات سورية والعراق - بعكس ذلك - تخلصت في دواوينها من جميع تلك المصطلحات، بالرغم من قرب عهدها في الانفصال وحداثة دخولها في مضمار فصاحة الإنشاء والبيان؟
إننا نعتقد بأن أسباب ذلك تعود إلى تباين الظروف التي حدث فيها انفصال هذه الأقطار العربية المختلفة عن الدولة العثمانية: فان انفصال مصر حدث قبل أن يستيقظ الشعب يقظة مقرونة بشعور قومي واضح، وللغة العربية استولت على الدواوين المصرية بصورة تدريجية، دون أن تضطر إلى الاصطدام مع اللغة التركية والقيام عليها بحركة عنيفة. وهذا ما جعل مصر متساهلة مع الكلمات التركية ومضيافة لها، بل لا نغالي إذا قلنا: غير منتبهة إلى أعجميتها.
وأما انفصال سورية والعراق عن الدولة العثمانية، فلم يحدث إلا بعد حوادث كثيرة أدت إلى أيقاظ الشعب يقظة مقرونة بشعور قومي واضح واللغة العربية لم تصبح رسمية هناك إلا بعد أن حدثت مشادة بينها وبين التركية وبعد أن مازج هذه المشادة شيء غير قليل من العنف من الطرف الواحد ومن الثورة من الطرف الآخر. فقد قامت في سورية والعراق، وفي أواخر العهد العثماني، جمعيات عديدة تطالب بـ (حق التعلم والتعليم بالعربية)، تارة بالطرق السياسية، وطوراً بالطرق الثوروية. ولم تنل تلك البلاد هذا (الحق) بصورة فعلية إلا بعد الحرب العالمية، فعندما تألفت الحكومة العربية بجد وحماس؛ فلا نغالي إذا قلنا أن المصطلحات التركية خرجت من الدواوين هناك مع خروج الموظفين الأتراك منها.
والحكومة العراقية التي تأسست بعد سقوط الحكومة العربية السورية أيضاً حذت حذوها ف هذا الباب؛ وزيادة على ذلك وجدت أمامها متسعاً من الوقت لإتمام عملها في تكوين مجموعة المصطلحات الإدارية والعسكرية من الكلمات العربية التي لا تشوبها شيء من الأعجمية
هذه هي سلسلة الحوادث والأسباب التي وجهت الأمور في سورية والعراق إلى اتجاه(189/15)
يختلف عن الاتجاه الذي سارت عليه في مصر في هذا المضمار. . .
مع هذا، لابد من الإشارة إلى أن هذه الأسباب تعود إلى النشأة الأولى وظروف الانفصال فأدت إلى إبقاء هذه المصطلحات في لغة الدواوين المصرية إلى الآن. غير أنه يجدر بنا أن نتساءل: هل هذه الأسباب ستضمن دوام هذه المصطلحات بعد الآن أيضاً؟
إنني لا أتردد في الإجابة على هذا السؤال بالنفي. فلا أستبعد أن يصبح معظم ما كتبه آنفاً (حكاية ماض) - في عصر مصر الحديث - بعد مدة وجيزة من الزمن
بغداد
أبو خلدون
ساطع الحصري(189/16)
في الجامعة المصرية
كرسي خاص لدراسة الأدب المصري الإسلامي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قرأت مع الغبطة نبأ ذلك الاقتراح الجليل الذي تقدم به صديقي الأستاذ العميد الدكتور طه حسين إلى مجلس إدارة الجامعة المصرية بوجوب إنشاء كرسي خاص للأدب المصري الإسلامي؛ وهو اقتراح لا ريب أن سيلبيه المجلس الجامعي الموقر، وسيلقي بلا ريب تأييداً حاراً من كل أولئك الذين يقدرون تراث التفكير القومي، ويعتزون به، ويتوقون إلى بعثه وإحيائه واستعراض نفائسه، بعد أن طال الأمد على إغفالها ونسيانها.
ولقد حاولت منذ أعوام أن الفت النظر إلى وجوب العناية بدراسة تأريخ مصر الإسلامية وآدابها، وحاولت جهدي أن أحث الشباب المتأدب على قراءتها ودراستها، وكان من بواعث دهشتي أن الجامعة المصرية الفتية لم تفكر منذ قيامها في إنشاء كرسي خاص لتأريخ مصر الإسلامية، وكرسي آخر لآدابها إلى جانب ما أنشأته من كراسي خاصة للتأريخ الأوربي والآداب الفرنسية والإنكليزية؛ فإذا كان الأستاذ العميد يتقدم اليوم باقتراحه بإنشاء كرسي خاص للأدب المصري الإسلامي فهو إنما يعبر في ذلك عن أمنية قديمة لنا جميعاً، والجامعة إنما تعمل بتحقيقها على استدراك نقص في دائرة الثقافة القومية كان خليقاً أن يستدرك منذ بعيد
والواقع أن الأدب المصري الإسلامي لم ينل في عصرنا شيئاً من العناية التي هو حقيق بها، في حين أن كثيراً من نواحي الأدب الأخرى من شرقية وغربية تنال من عنايتنا أوفر حظ؛ وما زال الأدب العربي يقدم إلينا في صورته العامة ويمثل لنا بنوع خاص في الأدب العباسي، وقلما نعني بدراسة نواحيه الخاصة، بل إن الشباب المتعلم ليرغب اليوم عن الأدب العربي كله ويتجه شطر الأدب الغربي، ويعرف عن تطورات الأدب العربي وخواصه؛ ويعرف من شخصيات الآداب الأوربية وآثارها ما لا يعرف عن شخصيات الأدب العربي وآثارها؛ وإذا كانت ثمة أقلية من الشباب المتأدب تعنى بالأدب العربي عل وجه التعميم، فهي قلما تعنى بدراسة شيء من تراث أدبنا المصري
ونحن نعرف الأسباب التي يرجع إليها هذا الشذوذ في ثقافتنا الأدبية وهذا الانصراف عن(189/17)
تراثنا العربي وتراثنا المصري بنوع خاص؛ وهي أسباب سياسية واجتماعية لا نرى محلاً لاستعراضها في هذا المقام؛ بيد أنه يجدر بنا أن نشير هنا إلى سبب مادي واضح، هو أننا لم نوفق حتى اليوم سواء في برامجنا الدراسية أو في بحوثنا الأدبية إلى تقديم الأدب العربي في مثل تلك الصور الأنيقة الشائقة التي يقدم بها الأدب الغربي إلى قرائه؛ ومن ثم كان انصراف الشباب عن الأدب القومي إلى صنوف منوعة من الأدب الغربي يجد في قراءتها كثيراً من المتاع العقلي، فيؤثرها بعناية وفراغه، ولا يستطيع أن يتذوق بجانبها شيئاً من ذلك التراث الذي ما زال يغمره القدم وما زال يقدم إليه في صور العصور الوسطى
وإذا كنا قد دعونا منذ أعوام إلى العناية بدراسة الأدب المصري الإسلامي، وإذا كنا نرى وجوب التخصص في دراسة هذا الادب، فليس ذلك فقط لأن البواعث القومية تدعو إلى مثل ذلك في كل أمة حية تشعر بماضيها وتعتز بتراثها القومي، بل لأن هناك أيضاً من البواعث العلمية والثقافية والتاريخية ما يدعو إلى اعتبار الأدب المصري الإسلامي وحدة أدبية مستقلة بين تراث الأدب المصري الإسلامي وحدة أدبية مستقلة بين تراث الأدب العربي العام، تستحق أن تدرس على وحدة؛ وأن تدرس على حدة؛ وأن تدرس خواصها وتطوراتها دراسة خاصة، كما يدرس الأدب العباسي أو الأدب الأندلسي
بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن الأدب المصري الإسلامي يستأثر بمميزات خاصة قلما توجد في فرع آخر من الأدب العربي؛ نعم إن الأدب العباسي والأدب الأندلسي، وأدب الشام، وأدب شمال أفريقية يمتاز كل منها بمميزاته الخاصة، من إقليمية، واجتماعية وسياسية، ولكن الأدب المصري فضلاً عن احتفاظه بمثل هذه المميزات العامة يمتاز أيضاً بطابعه المصري العميق؛ وتبدو هذه الخاصة واضحة في كل فنونه ومراحله، وتكاد تغلب على كل خواصه الأخرى؛ وذلك يرجع إلى عوامل تاريخية وثقافية خاصة؛ فقد اتخذت الحضارة الإسلامية في مصر طابعها الخاص؛ وكان قيام الأزهر بالقاهرة منذ منتصف القرن الرابع عاملاً جديداً في توكيد هذا الطابع الخاص للأدب المصري؛ ولما انهارت الخلافة العباسية في المشرق وفرت العلوم الآداب الإسلامية أمام الغزاة البرابرة من السلاجقة والتتار، تبوأت مصر زعامتها الفكرية في المشرق، ولبثت القاهرة بجامعتها(189/18)
الكبرى، ملاذ التفكير الاسلامي، حتى الفتح التركي؛ وفي جميع هذه المراحل كان الأدب المصري الإسلامي يحتفظ بجميع مميزاته وخواصه في جميع مناحي التفكير، في الشعر والأدب والتاريخ والعلوم والفنون؛ وإذا كان الأدب المصري قد تأثر في العصور ببعض العوامل الخارجية، سواء من المشرق أو المغرب، فأنه لم يفقد بالأخص شيئاً من طابعه المصري العميق
ويبدو هذا الطابع المصري الخاص لأدبنا الإسلامي في تراثنا الفكري بأوضح صورة؛ ففي الرواية والتأريخ، وفي الشعر والنثر. وفي أساليب والتفكير والكتابة، نلمس هذه الخاصة ولا سيما في الشخصيات والآثار النموذجية؛ فأنه يصعب مثلاً أن تجد بين شعراء العربية في الأمم الأخرى، شاعراً مثل البهاء زهير، أو ابن نباتة؛ فهذان شاعران مصريان روحاً ومعنى، يمثلان مصر أقوى تمثيل وأصدقه، ومن النادر أن تجد بين شعراء العربية من يحمل الرسالة القومية بمثل ما يتجلى في شعرهما من إخلاص وقو ة في التعبير عن الروح القومي وكل خواصه ومميزاته؛ كذلك ينفرد الأدب المصري بنوع من أدب الموسوعة أو (الأدب الانسيكلوبيدي، ولدينا من ذلك آثار تعتبر بحق نماذج فريدة مثل نهاية الأدب للنويري، ومسالك الأبصار للعمري. وصبح الأعشى للقلقشندي، وهي آثار ليس لها نظائر من حيث تنوعها وطابعها العام، وتخصصها مع ذلك فيما عرضت إليه؛ وانفردت الرواية المصرية الإسلامية أيضاً بمميزات خاصة تستحق أن ندرس على حدة، فأليها يرجع الفضل مثلاً في ابتكار فن الخطط والآثار، الذي يقوم على استعراض تأريخ المجتمع والحضارة إلى جانب تاريخ الدول، ونستطيع أن نقول بحق أنه لا يوجد بين آثار الرواية الإسلامية كلها أثر كخطط المقريزي في طرافته وقيمته الاجتماعية والتاريخية؛ وهذه أمثلة قليلة من كثيرة نستطيع أن ندلل بها على ذلك الطابع القومي الخاص الذي يمتاز به أدبنا المصري الإسلامي على غيره من آداب الأمم الإسلامية الأخرى
كذلك يجب أن لا ننسى أثر الأزهر في تكوين ذلك الطابع الخاص؛ وقد لبث الأزهر قروناً ملاذ العلوم والأدب في مصر الإسلامية؛ وأثره في تكوين تراثنا الفكري أعظم من أن نحيط به في مثل هذا المقام، وهو أثر يستحق أن يدرس لذاته ولأهميته وإذا كلن الأزهر نفسه أحق بأن يدرس تأريخه العلمي الحافل؛ فانه من المعقول أيضاً أن تكون رسالة الأزهر في(189/19)
ماضيها وحاضرها موضعاً للدراسة المستفيضة في استعراض مراحل الأدب المصري الإسلامي التي تعني الجامعة المصرية بالبحث في إنشاء كرسي خاص لها؛ بل يلوح لنا أن مثول الأزهر في تاريخنا الفكري بمثل هذه القوة من العوامل الأدبية الخطيرة التي تملي بضرورة إنشاء هذا الكرسي الخاص
وقد كنا نود أن تعني الجامعة المصرية إلى جانب عنايتها بإنشاء كرسي للأدب المصري الإسلامي بإنشاء كرسي آخر لتأريخ مصر الإسلامية؛ فقد انقضى عصر طويل لم يحظ فيه تاريخنا الإسلامي بما يجب من الدرس والعناية؛ ونحسب أن العوامل السياسية التي كانت تملي من قبل بإسدال الستار عن ماضينا وعلى ذكرياتنا القومية المجيدة. وبتصوير مصر في جميع مراحل تاريخها أمة مستعبدة، لم تذق في ماضيها الطويل الحافل طعم الحرية والاستقلال قد أنقضت؛ ونحسب أن الوقت قد حان لأن يعرف الشباب المصري عن تاريخه القومي على الإقلال مثلما يعرف عن تاريخ الأمم الغربية الذي تسخو برامجنا التعليمية في تلقينه للطلاب، وأن يرفع عن تاريخنا ذلك الستار الذي أسدلته يد الاهواء، وأن نستعرض ذكرياتنا القومية المجيدة على ضوء البحث المنزه، فيكون لنا منها غذاء قومي حقيقي، يخلق بالعصر الجديد الذي تستقبله مصر، فالتاريخ القومي في جميع الأمم الحية عنصر هام في تكوين الشعور الوطني وفي تغذيته وإذكائه
فالمشروع الجليل الذي يتقدم به اليوم الأستاذ العميد إلى مجلس الجامعة المصرية إنما تملي بتحقيقه بواعث علمية وقومية معاً؛ وما نحسب المجلس الموقر إلا سيقدر هذه البواعث قدرها وسوف يكون إنشاء الكرسي المنشود حادثاً علمياً في تاريخ برامجنا الدراسية؛ وفي اعتقادنا أن الجامعة ستفهم مهمة هذا الكرسي بأوسع معانيها، فتجعل منه بداية حسنة لدراسات مصرية إسلامية شاملة فيما بعد، وسوف يكون لهذه الدراسات أكبر الأثر في إحياء تراثنا الفكري، وسيكون لها بالأخص أكبر الأثر في التدليل على أهميته وعلى قيمته التي طمستها عصور طويلة من النسيان والنكران
محمد عبد الله عنان(189/20)
في الأدب المقارن
البطولة في الأدبين العربي والإنكليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
البطل فرد يمتاز عن غيره من أفراد مجتمعه بمواهب عقلية أو خلقية أو جسدية، يظهر بها بينهم وينال من أجلها إجلالهم ويبذلها في خدمتهم ويتولى قيادتهم في معترك الحياة ردحاً من الزمن، ويترك في تاريخهم أثراً يطول عهده أو يقصر؛ فالبطل لا يكون إلا في مجتمع، وهو عادة نموذج لصفات أبناء ذلك المجتمع ومثل أعلى لنوع حياتهم، ومواهبه إجابة لمطالب ذلك المجتمع وحاجاته في فترة من الزمن، فالأمة المحاربة إذا كانت تجري الحياة في عروقها قوية وتتمتع بالصفات اللازمة للبقاء ينبغ فيها القائد، والأمة الشاكة الحيرى يظهر فيها النبي، والشعب الذي يشكو فساد أنظمته الاجتماعية يقوم فيه المصلح
والأمة المتبدية الساذجة التي لم تستقر بعد ولم تبرح حياتها سلسلة متواصلة من الحروب، لا يكاد يظهر فيها من أنواع البطولة إلا القواد البسلاء، الذين يقودونها في مهاجراتها ومحارباتها لجيرانها، ويبدون من ضروب الشجاعة ويفتقون من أفانين الحيلة والرأي والمكيدة ما يبلغون به الفرصة في أعدائها؛ ولأولئك الأبطال في تلك الجماعات مكانة لا تطاول وأثر لا يبارى وكلمة لا ترد، وإن أحدهم ليغني غناء الجحافل، ويعدل بين قومه ما لا تعدل الآلاف، ولا غرو: فالحروب في أمثال تلك العهود أكثرها مصاولات فردية، وتسمى تلك العهود لذلك عصور الأبطال
وفضلاً عما يناله البطل في عصره من تبجيل وتقديم، فإنه إذا ما مات وخلا مكانه وافتقد مثاله، زاد ذكره ارتفاعاً وزاد ذاكروه مبالغة في تعظيم آثاره وتصوير وقائعه وتخيل صفاته ومواهبه، وما يزال جيل يزيد على جيل حتى تقوم حول بعض الأبطال أقاصيص طويلة السرد، تنطوي على شيء من الحقيقة الأولى ويتكون أغلبها من صنعة من الخيال ومما تصبو إليه النفس الإنسانية دائماً، من أمثلة القوة والشهامة والنجدة والغلب وحماية الذمار، ومما تتوق دائماً إلى تصوره من روائع المشاهدات، وجسام الوقائع؛ بل كانت بعض المجتمعات البدائية تغالي فترتفع بأبطالها إلى مصاف الآلهة، كما فعل أوائل قدماء المصريين بأوزيريس وأخته وابنه، وكما فعل أوائل الاسكندناويين ببطلهم أودين، أو إلى(189/21)
مراتب أنصاف الآلهة كما فعل الإغريق القدماء بأبطالهم
وإذا ما استقرت الأمة وتحضرت، وجنحت إلى السلم ولم تعد الحرب هي حالها الاجتماعية وضؤلت مكانة أبطال السلم من أنبياء ومصلحين ومشرعين وحكام وأرباب علم وفن، وهبطت قيمة القائد في الجيش قليلاً فلم يعد هو وحده المهيمن على مصائر الحرب بل صار للعدد والنظام والسلاح وغير ذلك حساب كبير؛ وبطل تصديق المتعلمين بواقع الأقاصيص المتخلفة عن عصور الأبطال؛ ولكن البطولة أعلى صورة من الصور خالدة، وعبادة الناس في كل العصور لها قائمة، بل إن احتفاء الأمة بأبطالها من أبرز دلائل حيويتها، كما أن من دلائل حيويتها حفول تاريخها بأسمائهم، بل يغالي كارليل ويزعم أن تاريخ الأمة هو تاريخ أبطالها، وتاريخ العالم إن هو إلا سير الأبطال
وتلك الأقاصيص المتخلفة عن عصور الأبطال إذا فقدت اعتقاد الناس بصدق كثير مما فيها فم فقدت إلا هيناً يسيراً، ولن تفقد ما يعج به من روائع الأوصاف وبدائع الصور وممتع الأخيلة وشائق المواقف والوقائع، والعرض الصادق لأحوال المجتمعات المتخلفة عنها تلك الآثار، والتأمل في طبائع الإنسان ومذاهبه في الحياة؛ فتظل تلك الأقاصيص تحفظ لنفاستها، وتظل كنزاً ثميناً لقرائح الأدباء وأخيلتهم، يطيب لهم الهيام في عالمها البعيد، وإجراء أفكارهم على ألسنة أشخاصها العظماء، واستعارة وقائعها وتشاهدها في التمثيل لوقائع عصورهم وأحداثها، وإبراز معانيهم وأغراضهم بالإشارة إلى حوادثها وملابساتها؛ وخير مثال لكل ذلك عصر الأبطال في بلاد الإغريق:
فعصر الأبطال في بلاد الإغريق، الذي أمتد زمن استقرارهم في شرق البحر الأبيض وتشربهم حضارته، هو أشهر عصور الأبطال وأسيرها ذكراً، لأن أشعار هوميروس قد خلدت روائع الصور لأحواله وعظائم أبطاله، وبدائع الأوصاف الشاملة لمعتقدات القوم وتصورهم لآلهتهم؛ حتى إذا ما انقضى ذلك العصر وبرزت اليونان في عالم التاريخ الواضح وطلعت في عصرها الذهبي وحلت الفلسفة محل الخرافة، وبطل الاعتقاد بكثير من أخبار الإلياذة والأوديسة، اتخذت أشعار الملاحم تلك مادة لضرب جديد من الأدب هو الدرامة، التي ظهرت لتسد حاجة ذلك العصر ما لم يعد يسده شعر الملاحم الذي يلتفت إلى الماضي ويتوفر عليه، ولا يعير الحاضر التفاتا(189/22)
وكلتا الأمتين العربية والإنجليزية قد مرت في استقرارها وتحضرها بعصر أبطال ترك أثره في أدبها: وعصر الأبطال في التأريخ العربي هو عهد الجاهلية الذي انتهى بظهور الإسلام وظهور الأمة العربية في ضوء التأريخ المستيقن، فالجاهلية العربية شديدة الشبه بالعصر الهوميري: فيه كانت الأمة منقسمة على نفسها لا تفتر عن القتال، ولا يزال يظهر فيها من الأبطال أمثال عنترة ومهلهل ودريد بن الصمة، ولا تزال تتحدث بأيام المواقع وتتفاخر وتتنافر كما تفاخر أبطال الحروب الطروادية، ولولا أن الإسلام وضع حداً فجائياً لذلك العصر، لما بعد أن تتجمع أشعاره وأقاصيصه في ملحمة أو ملاحم كبرى؛ وكان العرب على تفرقهم يشعرون بوحدتهم في الجنس واللغة ويجتمعون في مواسم الحج وأسواق التجارة والأدب، كما كان اليونان يجتمعون في دلفي وأوليمبيا، وكما كان اليونان يزدرون غيرهم ويلقبونهم بالبرابرة كذلك كان العرب يعتدون بعربيتهم ويلقبون غيرهم بالاعاجم، ولم يفتهم أ، يجمعوا شملهم تحت لواء العربية لدفاع الفرس في موقعة ذي قار، كما فعل الإغريق من قبل إذ تجمعوا بزعامة أثينا لرد عادية الفرس أيضا، وفي موقعة ذي قار يقول الأعشى:
لما أمالوا إلى النشاب أيديهم ... ملنا ببيض فظل الهام يقتطف
وخيل بكر فما تنفك تطحنهم ... حتى تولوا وكاد اليوم ينتصف
ومر الإنجليز بمثل ذلك العصر في عهد استقرارهم في الجزيرة، وأهم الآثار الأدبية المتخلفة عن ذلك العصر ملحمة بيولف التي تصف كيف تغلب أمير إنجليزي على وحش هائل أقض مضاجع بعض الملوك المجاورين، وذلك العصر في التاريخ الإنجليزي شديد الغموض، ولغموضه ذاك رُدًّت إليه خرافات لعلها لم تكن منه في شيء كقصص الملك آرثر وفرسان مائدته المستديرة، وهي قصة قد نالت من احتفال أدباء الإنجليزية ما لم تنله قصة بيولف، لسذاجة هذه وشدة إمتاع تلك، واحتوائها على كثير من تقاليد العصور الوسطى وأنظمة فروسيتها ومغامراتها
ولم ظهر الأدب الإنجليزي الحديث، بعد انتشار الحضارة والعلم، اتخذ الشعراء والروائيين من تراث العصر السابق مادة لخيالهم، ولم يكتفوا بذلك بل استعاروا خرافات عصر الأبطال الإغريق مضافاً إليها تاريخ الإغريق والرومان، مما انطوى عليه ذلك التاريخ من(189/23)
سير الأبطال، فحفل الأدب الإنجليزي بذكر البطولة وتمجيد الأبطال، سيان إنجليزيهم وأجنبيهم، تاريخيتهم وخرافيتهم، عجت بذكر هؤلاء وأولئك روايات شكسبير، وتفنن سبنسر وتنيسون في سرد قصص آرثر وفرسانه، واستعار شلي أبطال اليونان وآلهتهم لبعض مواضيعه، كما في قصيدته (بوميثيوس المقيد) ولم يألُ سكوت جهداً في تصوير بطولة القرون الوسطى في قصصه
تناول الأدباء سير أولئك الأبطال بالدراسة الفنية لشتى الأسباب: لما ركب في الطبع الإنساني من عبادة الأبطال والشغف بحديثهم، ولما يُضفيه مجدهم وبأسهم على الموضوع التناول من عظمة وجلال، ولما يبعثه حديثهم في النفس من تسام وصبوٍ إلى المثل الأعلى، وما يبثه ذكر أبطال الوطن في نفوس أبنائه من فخر وثقة؛ فلعباده البطولة في إطلاقها وتمجيد العظمة الإنسانية في عمومها تناول شكسبير سير قيصر وبروتس وكريولانس وعطيل بالوصف، وكتب ماثيو ارنولد قصيدته الطويلة سهراب ورستم، ولتبجيل البطولة القومية والاعتزاز بأبوة الوطن الذين شادوا مجده تناول شكسبير مواقف هنري الخامس في حرب مائة العام، وألف سكوت قصصه الاسكتلندية مثل خرافة منتروز وكونتين دروارد
ولم يقتصر أدباء الإنجليزية في تمجيدهم للبطولة واحتفائهم بالأبطال على الماضي الخرافي أو التاريخي البعيد، بل التفتوا إلى الحاضر والماضي القريب، ووفوا أبطال جزيرتهم الذين وطدوا مكانتها وأعلوا كلمتها حقهم من الذكر والتعظيم، في جانبي المنثور والمنظوم؛ بل كان الأبطال الخرافيون يستعارون أحياناً رموزاً للعظماء المعاصرين، كما فعل ادمزند سبنسر في قصته الشعرية (الملكة الحسناء). وكما قيل أن شكسبير قد قصد من الزمن لشخصية هملت إلى شخصية إرل إسكس؛ وقد أحتفل سوذي وكاميل وتنيسون وما كولي نتمجيد أبطال الإنجليز وعظمائهم في البر والبحر أمثال نلسون وولنجتون وكلايف. وكتب كارليل كتابه (الأبطال وعبادة الأبطال) فأسهب في الكلام على مظاهر البطولة في شتى الأزمان والأمم، واثر الأبطال في تقدم العمران البشري وما هم جديرون به من حفاوة
فالأدب الإنجليزي، بعد انقضاء عصر الأبطال المحاربين، لم يخل من ذكر البطولة وتمجيد الأبطال، بل ظل معنياً بأبطال الماضي ولم يجعل الحاضر دبر إذنه: لأبطال الماضي البعيد بوقائعه الخارقة التمجيد والتصوير الفني المبالغ المغرق في الخيال والشاعرية، ولأبطال(189/24)
الحاضر التكريم والتأريخ الذي هو أدنى إلى الحقيقة دنو عصرهم من الأذهان، وأبعد من الخرافة والخيال بعد الإنسانية عن عصور طفولتها؛ أما في الأدب العربي فقد أنقطع ذكر الأبطال أو كاد بانتهاء عصر البطولة الجاهلية: أهمل الأبطال الجاهليون أو فازوا بالنظرة العابرة والذكرة العارضة، ولم يكن أبطال الإسلام أوفر منهم حظاً من عناية الأدباء. مهما كان نصيبهم من اهتمام المؤرخين ومكانهم في التاريخ
ولم يخل تاريخ العرب بعد الإسلام من أبطال يمجدون وتنسج حولهم القصائد الطوال، ولا أقفر تاريخهم من حوادث مملوءة بالوحي الشعري الصادق، بل أن تاريخ نهضتهم وبسط سلطانهم لهو ملحمة التاريخ الكبرى التي تزري بكل ملحمة، وتسخر من الوقائع الموضعية الضئيلة التي حاك حولها هوميروس قصيده الفاخر، وقد أنجبت تلك النهضة - بعد شخصية الرسول الكريم التي لم يجد بمثلها الزمن - نخبة من أبطال السلم والحرب، كخالد وعمر وعلي وابن العاص ومن عاصرهم وتلاهم من فحول الأبطال الذين لو تنجب أمة أعظم منهم. واحتوى تاريخ العرب على سير أفذاذ يستفزون الوحي الشعري خاصة، لما انطوت عليه سيرهم من طرافة وجاذبية: كالحسين الذي استشهد على أسنة الرماح آبياً أن يستأسر، وصلاح الدين الذي رفع لواء الإسلام وقصم ظهر الصليبيين في سورية، وعبد الرحمن الداخل الذي شاد من الفوضى دولة أزهر دول التاريخ، ومحمد بن القاسم، الذي فتح السند وهو يافع والذي قيل فيه:
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤددا من مولد
ولكن الأدب العربي قد نبذ ذكر أولئك جميعاً ظهرياً، ولم يحتو من ذكر البطولة والحماسة والحروب إلا على وقائع ثانوية كفتح عمورية وأعمال أنصاف الأبطال، كبدر بن عمار، وغيره من ممدوحي الشعراء الذين كانوا يطمعون في رضاهم ونوالهم، فجاء مدحهم لهم شديد التكلف مغرقاً في التهويل؛ أما إذا لم يكن نوال ولا سلطان حاضر فلا بطولة تستهز نفس الشاعر، ولا عظمة تستدعي إعجابه وتستجيش وحيه، ولا يرد ذكر عظماء الجاهلية في القصيد إلا مستعارة صفاتهم وفضائلهم للمدوح مهما ظهرت فضفاضة عليه داعية إلى السخرية، بل كان أولئك العظماء يزدرون في مواقف الملق لأرباب السلطان: فقد قيل إن بعض الحضور عاب على الطائي تشبيهه ممدوحه (بأجلاف العرب) حين أنشد سبيته في(189/25)
مدح أحمد بن المعتصم فقال منها:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
ومن مثل هذا الحديث تتبين بعض أسباب إعراض الأدب عن حديث البطولة: كالتكسب بتمليق أمراء أنانيين يأبون إلا أن يكون كل المدح لهم؛ بيد أن هناك سبباً أهم هو انعدام روح القومية بين العرب: فقد كانت العصبية القبلية فوق القومية العربية في عصر الجاهلية، فلما وحد الإسلام العرب تحت لوائه وحض على التآخي ونبذ العصبية، لم يستمر العرب دولة واحدة مستقلة منعزلة زمناً طويلاً كافياً لتوحد عناصرها توحداً صحيحاً، واعتناقها جميعاً للقومية العربية مكان العصبية القبلية، بل اندفعوا وهذه العصبية ما تزال على أشدها يفتحون شرقي العالم وغربيه، فإذا هم في بضع سنين يموجون في إمبراطورية مترامية، ضلت قوميتهم العربية في قومياتها المتعددة، وظلت عصبيتهم المأصلة تستأثر بولائهم وتثير الفتن بين قبائلهم، وكان هذا التناحر القبلي من أكبر أسباب انتصار الفرس، ووثوبهم إلى السلطان على أيدي العباسيين
فالمجتمع العربي عرف العصبية القبلية الضيقة الحدود والإمبراطورية العالمية الفضفاضة الجوانب، ولم يعرف القومية العربية التي تسمو على العصبية وتفخر بأبطال العرب الغابرين من أي الإحياء كانوا، والتي تضيق دون مدى الإمبراطورية الواسعة، التي لا يجمعها ماض واحد ولا تشترك في تراث عمراني ثقافي فرد. فلم يكن العربي المسلم يفخر بأبطال العرب المشتركين كابن الوليد وابن الخطاب قدر ما يفخر بآبائه الذين تنتسب إليهم قبليته فابن الرومي في القرن الثالث يمدح أبا الصقر فلا يفوته أن يمدح قبيلته شيبان، وأبو الصقر يرى أن ابن الرومي لم يوف شيبان حقها فيحرمه العطاء، وأبو فراس في القرن الرابع يفخر ببني حمدان الذين يراهم لم يخلقوا إلا (لمجد أو لبأس أو لجود)، ولا يرد ذكر العرب في شعره، وهذه النزعة القبلية الضيقة لا تنتج شعر بطولة فنياً راقياً، بل تنتجه الروح القومية المتدفقة
إنما كان الدين يحل محلل القومية من نفوس العرب، ومن ثم كان له في أدبهم أثر بعيد المدى، ولذلك نرى أن جانباً عظيماً مما قد ندعوه شعر بطولة في العربية يدور حول أعظم الشخصيات الدينية في الإسلام بعد الرسول الكريم، شخصية الإمام علي، وشخصيات(189/26)
أبنائه: ففي الأشعار التي تندب مصارعهم - رغم اتسامها بالحزن والفجيعة، وقلة ما تسجله من عظائم أولئك الأبطال الذين نهضوا في الحقبة بعد الحقبة، وساروا إلى الموت مملوءين ثقة وبسالة - تمجيد صادق الشعور للمثل العليا مشخصة في أولئك النفر الغر الميامين، ولدعبل وابن الرومي وغيرهما أشعار حارة فيهم، ومن ذلك قول الأول:
وليس حي من الأحياء نعلمه ... من ذي يمان ومن بكر ومن مضر
إلا وهم شركاء في دمائهم ... كما تشارك أيسار على جزر
قتل وأسر وتحريق ومنهبة ... فعل الغزاة بأرض الروم والخزر
وسبب آخر عظيم الأثر في خلو الأدب العربي من تمجيد البطولة، هو أن هذا الضرب فني يحتاج في ممارسته إلى تفرغ وطول معاناة وكثرة مراجعة، ومثل هذا الفراغ لم يتهيأ لأدباء العربية، ومثل هذا العكوف أو الترهب الفني الذي حظي به ملتون ووردزورث وتنسيون وغيرهم من شعراء الإنجليزية لم يفز به شعراء العرب وكتابهم، أضف إلى ذلك أن الأدب العربي كان دائماً يؤثر التقليد ويحجم عن اتخاذ مواضيع أو صور جديدة لم يرثها العرب الأولين، ولهذه النزعة المحافظة قد نفي من حظيرته كثيراً من فنون القول ومنادح الفن، لم يرها من شأنه ولم يحسبها جديرة بالتفاته، لأنه لم يرثها عن الأقدمين ولم يطلع على أدب الإغريق فيقف على بدائع النظم التي تأتي من ذلك الباب
وكان الأدب العربي كلما نفي من حظيرته باباً من أبواب القول يمت إلى الطبيعة الإنسانية بسبب لا يجذ، ويروي من النفس البشرية غليلاً دائم الحاجة إلى الري، تلقفه عن الأدب العامي فنهض عنه بالعبء الذي طرح، وآثر إرضاء النفس الإنسانية حين آثر الأدب الفصيح إرضاء التقاليد، ومن ثم حلك الأدب العامي، أو الخيال العربي، حول أبطال الجاهلية كعنترة وكليب، وعظماء الإسلام كعلي بن أبي طالب وهارون الرشيد، روائع قصص البطولة ومنازلة الصناديد ومقابلة الأنس والجان واجتلاء أسباب المتعة والبهجة والفكاهة؛ وما كان بالأدب العربي الفصيح قصور عن ذلك الضرب من القول لو أراده. انظر إلى روعة الوصف في قول المتنبي:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم
وقول ابن هانيء الأندلسي في جيش جوهر:(189/27)
إذا حل في أرض بناها مدائناً ... وإن سار عن أرض ثوت وهي بلقع
فهذا وصف للجيوش لن تحوي أبلغ أشعار أروع منه، ولا غرو: فقد كانت المادة متوفرة لأدباء العربية لينسجوا من أحاديث البطولة وأوصاف المواقع ما شاءوا، فقد تفنن المسلمون في وسائل الحروب البرية والبحرية وحازوا فيها غايات السبق، والدول والانقلابات كانت تتوالى على أعين الأدباء تباعاً واللغة العربية الرحبة المساعدة بالألفاظ، الغنية بالأوزان الرصينة والقوافي المتعددة، خير معوان على نظم قصيد الملاحم ووصف عظائم الأبطال، فلو التفت الشعراء إلى هذا المجال من القول لرأوا سعة ولكنهم أغفلوه فيما أغفلوه فيما أغفلوا، وعدوا البطولة والأبطال شأناً من شؤون التاريخ، لا فناً من فنون الأدب
فخري أبو السعود(189/28)
2 - دعابة الجاحظ
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
ولقد رأيت في الناس من يحسب أن التنادر من الشيء الهين، الذي يستطيعه كل إنسان، ويقدر عليه كل شخص؛ وهذا حسبان خطأ، فان التنادر فن له ثقافة ودراية كسائر الفنون، ولا بد من حذقه من استعداد موهوب، وملكات فطرية، يتصل بعضها بالقلب، وبعضها بالعقل، وقد يناقض بعضها بعضاً، وقد لا تجتمع كلها لشخص واحد، ومن ثم اختلف حظ الناس في إجادة هذا الفن، كاختلافهم في إجادة الشعر والكتابة والرسم وغيرها، ففيهم الذي يبلغ في ذلك مرتبة العبقرية، ومنهم من يقف عند حد النبوغ، وفيهم من هو دون ذلك وأقل، ثم تتدلى وتتدلى حتى تقع على البليد الأصم الذي لا يفهم ما يقول، ولا يفقه ما يقال، فهو أخو الجمادات في فقدان الشعور، وبلادة الإحساس، وإن كان قد تميز بالنطق، وبالنطق فحسب!
ومن أجل أن نقيم الأود في هذا الخطأ على وجه أوضح، ونعطي الموضوع بعض ما يستحقه من الشرح، نقول بأن التنادر لا يقف في اتجاهاته ومراميه عند العبث والضحك، ولكنه في الواقع يقصد إلى ما هو أهم وأجل، ويرمي إلى أغراض متعددة، كل غرض منها يعتمد على ملكات ولا بد له من استعداد خاص، فمن ذلك السخر وهو يقوم على الذكاء وقوة الإدراك، وحسن المفارقات؛ والدعابة وهي تعتمد على انبساط النفس، ومرح الطبيعة، وخفة الروح؛ ثم الهزل وإنما يكون عن استهانة بتكاليف الحياة وعظائم الأمور، وتفريط في الواجب؛ وقد يتدفع الإنسان إلى الهزل والعبث بدافع العطف والتبسط، كما تضحك من طفلك الصغير، ومن أصحاب النقص وذوي العاهات. وقليل في الناس من تجتمع له كل هذه الجهات بملكاتها كما كان الجاحظ، وكثير من نجده يجيد الضرب والضربين، فهو في أحدها يقطف، وفي بعضها يقف
على أنه لابد لحذق هذا الفن بعد كل هذه المواهب والملكات من ثقافة بضروبه، وعلم بمسالكه وانتهاجه، حتى يمكن للتنادر أن يقع بالنادرة من قلوب السامعين موقعاً يهز المشاعر، ويشفي نجى البلابل، وقد تكلم الجاحظ في تبيان النهج الذي يكون به أداء النادرة وحظها من القبول والاستملاح والاستطابة فقال: (والنادرة الباردة جداً قد تكون أطيب من(189/29)
النادرة الحارة جداً، وإنما الكرب الذي يخيم على القلوب ويأخذ الأنفاس، النادرة الفاترة التي لا هي حارة ولا هي باردة، وكذلك الشعر الوسط، والغناء الوسط، وإنما الشأن في الحار جداً والبارد جداً. . .
ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من كلام الأعراب، فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإن أنت غيرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير لها لفظاً حسناً، أو تجعل لها من فيك مخرجاً سرياً، فان ذلك يفسد الإمتاع بها، وبخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها، واستملاحهم لها. .)
وثمة ناحية لا أحب أن تغرب عن البال، وهي أن الإنسان وإن اجتمعت له ملكات التنادر، وتمت له مواهب الدعابة، وكان على علم بشرائط ذلك وضروبه، فأنه مع هذا كله لا يستطيع أن يكون له فبهذا الفن إلا إذا استوفى شرائط أخرى في هيئته ومخبره وإشاراته، وما هذه الشرائط في الواقع إلا أداة هذا الفن وآلته، فكما أنهم ارتضوا للخطيب نمطاً خاصاً في موقفه من اعتجار العمامة، وإصابة الإشارة، وجهارة الصوت، وجودة الإيقاع؛ وكما أنهم اشترطوا للمنادم بزة معلومة من الزي، وحسن الحديث ولطف المدخل، فكذلك رأوا من شرط المسامر والمنادر أن يكون خفيف الإشارة لطيف العبارة، ظريفاً رشيقاً، لبقاً رفيقاً، غير فدم ولا ثقيل، ولا عنيف ولا جهول، قد لبس لكل حالة لباسها، وركب لكل آلة أفراسها فطبق المفاصل، وأصاب الشواكل، ولقد تم للجاحظ كل هذا من مواهب الفن وملكاته، فبلغ فيه مبلغ العبقري النادر، وكان له في كل ضرب من ضروبه واتجاهاته، يتهكم تهكماً مراً لاذعاً، ويداعب مداعبة حلوة سائغة، ويهزل هزلاً هو مراح الأرواح، وأنس القلوب. وإنك لتجده في سائر كتاباته وأحاديثه يجمل القول بالنادرة، ويخلط الجد بالدعابة، فيجعله حسيباً إلى النفوس، سهلاً في التناول، وما أعرف للجاحظ ضريباً في تلك الناحية غير الكاتب الإنجليزي الماجن صاحب (الأفكار البليدة) فقد كان ذلك الكاتب خفيف الروح، قويم الفكر، له آراء صائبة، ولكنه كان يسوقها إلى القارئ مساق الدعابة والتفكه، وكان مشغوفاً بنقض ما تواضع عليه الناس من الفضائل والأخلاق، فيحسب الغرور فضيلة، والقناعة بلادة،(189/30)
ويرى أن أهل الخير والطيبة على باطل، وإنه في ذلك كالجاحظ إذ كان يكتب في الأمور المتناقضة، والحالات المتضاربة، فيحتج لفضل السودان على البيضان، ويفتخر للرماد على المسك، وإن الشبه ليشتد بين الرجلين إذ يتحدث كل منهما عما يتصل بنفسه، ويمسه في شخصه، ولقد وقفت على فصل لذلك الكاتب يتكلم فيه عن الذاكرة، ويتنادر بضعف ذاكرته حتى بلغ به أنه كان ينسى أسمه في بعض الأحيان، فاذكرني ذلك بما كان من أمر الجاحظ إذ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام، فسألت أهلي بماذا أكنى فقالوا لي: أبو عثمان!!
ولقد كان الجاحظ في كثير من قبح الشكل، ودمامة الخلقة، وقصر القامة، ونشوز التركيب. ولكنه كان على الرغم من ذلك كله طيب المحضر، شهي الحديث، خفيف الروح. ظريفاً في إشاراته، فكان بذلك ريحانة السامر، وأنس النادي، ومهوى الرؤساء وولاة الامر، يطلبونه لخفته، ويحرصون عليه لظرفه، ويغمرونه لذلك المرح الذي يفيضه عليهم. وأسوق إليك من ذلك طرفاً: حدث الرواة أن الجاحظ كان جانب الوزير أبن الزيات ينصره على القاضي ابن أبي دؤاد، وكان الشنآن مستحكماً بين الرجلين، فلما غضب المتوكل على أبن الزيات وقتله، وتم الظفر للقاضي، خاف الجاحظ على نفسه التلف، فطلب السلامة بالهرب، فلم يلبث أن قبض عليه، وحمل إلى ابن أبي دؤاد مغلول العنق، مقيد الرجلين، في قميص سمل. فلما وقف بين يديه، وأرسل القاضي في وقف بين يديه، أرسل القاضي في طلب حداد. فقال الجاحظ أعز الله القاضي، ليفك عني أو ليزيدني؟ قال: بل ليفك عنك! فلما جيء بالحداد، غمزه بعض أهل المجلس أن يعنف بساقه، ويطيل أمره قليلاً، فلطمه الجاحظ وقال: اعمل عمل شهر في يوم، وعمل يوم في ساعة، وعمل ساعة في لحظة، فإن الضرر على ساقي، وليس بجذع ولا ساجة. فضحك ابن أبي دؤاد وأهل المجلس منه. وقال ابن أبي دؤاد لمحمد ابن منصور وكان حاضراً: أنا أثق بظرفه، ولا أثق بدينه!! ثم قال يا غلام صر به إلى الحمام، وأمط عنه الأذى، فنزع منه الغل والقيد وأدخل الحمام وقد حمل إليه تخت من ثياب وطويلة من خف، ثم جاء فصدر المجلس، ثم أقبل عليه وقال: هات الآن حديثك يا أبا عثمان
وكم كنا نشتهي أن يصلنا ذلك الحديث الذي لا نشك في أنه كان عذباً شهياً يفيض بألوان من المرح، وفنون من الأنس، قد توثب فيه الجاحظ على طريقته من نادرة إلى نادرة،(189/31)
وتنقل به من طرفة إلى طرفة. فيا ترى ماذا قال أبو عثمان، وبماذا أجاب ابن أبي دؤاد ولماذا سكت الرواة؟!
(له بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف(189/32)
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي آلفونس كار
الفونس كار من أبرز أدباء القرن التاسع عشر وقد أشتهر بأسلوب خاص من السهل الممتنع، ومن ابلغ آثاره (حديث الأزهار) وهو مجموعة قطع صغيرة في كل منها مجال وسيع للتفكير، وهذه بعض أحاديث أزهاره أنقلها إلى العربية وأقدمها إلى قراء الرسالة.
ف. ف
(1)
الزهرة الأولى
لقد انبلج صبح نيسان (أبريل) فإلى الحقول يا بنات الأمل لاقتطاف أول زهرة من أزهار الربيع.
اقطفي أول زهرة يا فتاتي وضعيها تحت طيات ثوبك على صدرك، فأنها طلسم السعادة يشدد العزم ويحيى الأمل.
ليست الوردة ولا البنفسجة أولى أزهار الربيع، بل هي الزهرة التي تلمحها العين قبل سواها؛ هي التي يبدو لمرتاد الحقول كأول ابتسامة ترسلها الطبيعة من خلال دموع الشتاء.
لقد كانت الوردة أول زهرة أعلنت إلى قدوم الربيع في السنة الماضية؛ وكانت زهرة البنفسج رسول الحياة إلى قلبي في أول هذا الربيع. ومن يدري ما تكون الزهرة الأولى بعدها، فلعلها زهرة القبور.؟
من أي نوع كنت يا زهرة الربيع، أنت ابتسامة الحياة بعد الموت، ولمعة الأمل بعد اليأس. أنت الزهرة الأولى، لا تلمسك يد دون أن ترتجف، ولا تقع عليك عين دون أن تترطب بندى الأجفان.
إن الناظر إليك يا أولى الزهار، ليشعر بأن فتوة القلب ستعود مع فتوة الزمان، وأن النفس ستنور مع تتويج الأزهار وتخضّر ذاوياتها مع اخضرار الأوراق.
أنت الأمل يا زهرة نيسان، بل أنت ابتسامة أوهام ينخدع بها المرء فيؤمن بإمكان رجوع المنصرم وعودة خطوات الزمان.(189/33)
أولى الأزهار شبيه بالأعياد في دوران الأعوام، فهي درة في عقد الساعات والايام، إذا ما بدت في الحاضر نبهت ما مضى بمثل زمانها الغابر ودفعت بالقلب إلى العودة نحو الزمان القديم إنها لوقفة يربط الإنسان فيها حلقة الآن الحاضر بمثلها من الآن البعيد، فيحسب نفسه إلهاً ينفخ في الأموات نسمة الحياة. وما أوجع ما يشعر به حينما يرى هذه الرجعة وهماً تولده حرارة القلب وتبدده عاصفات الأقدار.
ما أجملك أيتها الزهرة الأولى، وما أحلى وما أمر ما تفعلين بالقلوب، ينشر مشهدك من جوانب التذكار ألوفاً من مجنحات الحياة ثم يطويها ليردها مكسورة الأجنحة إلى قبر الزمان.
إنها لسريعة الذبول، أولى أزهار الربيع، وما أشبهها بما تولد في القلب من شعور.
سلاماً على وريقاتك يا زهرة الربيع وبلسماً من عبيرك على قلوب العاشقين والشعراء، على قلوب الحزانى والآملين.
لئن كان في وهمك بعض العذاب، فان فيه ما يعيد إلى التذكار برهة من متلاشيات الحياة.
في أول قطفك برهة من الشباب للشيخ، ولحظة أمومة للثكلى، وفترة بنوة لليتيم. وما بين وريقاتك الباسمة فترة لقاء لأبناء هذه الحياة بأحبابهم الراحلين الثاوين في القبور
سلام عليك يا زهرة الربيع، فأنني وجدت بك وأنا أقتطفك لوحدي ما كنت أجده وأنا أقتطفك من قبل مع الأحبة المودعين.
فليكس فارس(189/34)
جولات في الأدب الفرنسي الحديث
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
لأستاذ الأدب في جامعة السربون (دانيال مورني)
بقلم الأستاذ خليل هنداوي
القصة الواقعية
أميل زولا
أصول مذهبه:
يتولد أدب زولا من إرادة قانونية ومن طبع لا يتلاءم مع هذه الإرادة. أما هذا النظام فهو يعود إلى تأثير (بالزاك) فيه و (فلوبير) وفلسفة (تين) والواقعيون هم الذين قالوا بأن القصة لا ينبغي أن تكون رومانتيكية إبداعية لأنها ليست وليدة خيال أو وهم، وإنما يجب أن تكون محاكاة حقيقية للحقيقة، ولكن زولا بما أوتي من الخصب وبما أفاد من مطالعة المتأخرين وجد إن هنالك مذهباً أجدر بالأخذ، يجب أن تخلق القصة المبنية على الامتحان الذي يصل إلى عرفان حقائق علمية. وقد آلت بزولا مطالعته للدراسات النفسية التي نشأت في جيله كنظرية ولادة العواطف ونظرية الوراثة الطبيعية فلسفياً وفسيولوجياً إلى أن يرى أن الطبائع في الرواية المدرسية إنما كانت عقداً بسيطة، على أن كل ما في الإنسان وكل ما في القصة يخضع للجبلة الطبيعية أو للطبع. وهذا الطبع إنما هو وليد الوراثة ووليد تأثير الأوساط والظروف، فواجب القصة إذن ألا تقف بحثها على دراسة حالات نفسية ما هي إلا كلمات مصفوفة، وإنما على حالات واقعية. فتأنيب الضمير مثلا ما هو إلا اضطراب بسيط عضوي، (وإنما غايتي أن أكون كاتباً واقعياً وطبيعياً) ولكن القصة الامتحانية يجب أن يكون لها هدف أبعد، إنها ستكون درساً. فقد يجلس القصصي وتحمله ملاحظته وتأملاته إلى حالة من حالات كل يوم، فيرى مثلاً حالة جنون التصوف أو هلاك المدمنين للكحول، أحل بهم هذا عن مصادفة، أم نتيجة شريعة معلومة؟ إذا أردنا أن نعرف ذلك فلنقم أشخاصاً وأنفسنا مقام من تخيلهم فكرنا المؤلف على الطريقة الامتحانية، ولنتأمل مجرى هذه(189/35)
الأشياء، فإذا وصلنا في النهاية إلى النتيجة التي أدركناها بالتأمل الأول كان لنا أن النتائج الواحدة تتبع الأسباب الواحدة، وهكذا أوجدنا قانوناً، وعملنا علماً!
على أن أهواء (الرومانتيكيين) لم تكن أبسط ولا أسهل من هذه البحوث العنيفة التي يشبهها زولا بحقائق علمية يختلقها رجل الأدب كما يشاء هواه لكي يصل إلى النتائج التي تلائم فكرته وغايته. وأحكام زولا العلمية لم تكن أكثر جداً من بحوثه.
وقد وضع زولا قصصه سائراً على طريقته بصبر وجلد، لا يعرف الملل، وقد عمل على الذهاب من المبدأ إلى النتائج، فبعض أشخاصه تؤثر فيهم عوامل الوراثة، وبعضهم لا يستطيعون فراراً من تأثير الأوساط والظروف وبهذا لم تظهر الفضيلة عنده كمثل مستقل وإنما الفضيلة تحتاج إلى الوراثة والى تأثير الأوساط والظروف كما هو الحال في الرذيلة التي تنشأ بهذا التأثير.
طبع المؤلف وعبقريته
لقد كان طبع زولا أشد وأقوى من تعاليمه الفلسفية، وقد كانت آثاره الأولى تفيض عاطفة ورقة. لق كان كاتباً رومانتيكياً! وهو لا يجهل ذلك في نفسه. فلقد أخذ عهداً على نفسه بأن يكون واقعياً وطبيعياً، وطلب إلى القصصي أن يكون ذا عاطفة، تموج في صدره كل العواطف حيث لا تغنيه عاطفة التأمل والتحليل وحدها. ولقد كانت تموج في صدر زولا العواطف على اختلافها: العواطف الاجتماعية، والعواطف النبيلة. ولقد كان جمهورياً ثم صار اجتماعياً فاشتراكياً. وله هذه الجملة المأثورة (الجمهورية ستكون واقعية أو لن تكون). فكان من وراء ذلك إن رأى في الأغنياء والأسياد والمثرين رجالاً لؤماء وأرواحاً قاسية وعقولاً منحطة، ولا ينزل النبل والشرف والحقيقة إلا منازل رجال الشعب والفنانين والمفكرين المؤمنين بالجمهورية الواقعية. وفي استطاعتنا أن نناقش هذه الأفكار ولكنها بجملتها تصل بنا إلى بعض الأنانية والحمق، والى الإشفاق على البؤس والبؤساء.
إن الصورة التي صور بها - زولا - الإنسانية صورة مظلمة الألوان، تحمل في طياتها اليأس والوجوم، تتلخص هذه الصورة في أنها مجموعة مظلمة للعيوب والخبث والرياء، وجهود دائبة تبعث على الإشفاق تذهب مذهب العنف في قتال الفاقة الروحية والجسدي؛ على أن زولا برغم ذلك كله يعتقد أن هذا النضال شريف وعظيم، يبشر بمستقبل خير من(189/36)
الحاضر ويعلن أن الحياة الحرة المخصبة هي التي ستظفر وتنتصر. وتراه قبل كتابة (أناجيله العاطفية) كان يعتقد بجمال الحياة، هذا الجمال الذي هو عنوان قصه له، إن جمال الحياة سينتصر على كل شناعة فيها، وسيغلب على كل مناسك وشعائر لا تبعث إلا على الزهد والفرار من الحياة وسيقهر المذاهب المسممة. الحياة وحدها ستكون جميلة لأنها ستكون صادق مبدعة. وهكذا تجد زولا يتشاءم ويطغي عليه تشاؤمه تلوح خلاله لمعات الرجاء، ويمشي فيه شعاع التفاؤل
ولزولا مخيلة قوية وثابة. إن الشيء الذي يحبه حباً جماً هو مشهد الحياة. يحب الشناعة فيها والرذيلة والفساد أيضاً، أليس هو مشهداً من مشاهدها؟ وإن مشهد الحياة يجمل بنفسه حيث يبدو مجموعة صور تتجلى فيها لجبة الحياة، وفي الحق لا تظهر عبقرية زولا وفي الحق لا تظهر عبقرية زولا إلا في هذا القدرة على التخيل. وان هوجو وفلوبير قد وصفا الجماعات في حركتها، وفي عراكها وصراعها، ولكنه وصف ينشأ حول أبطال القصة ولا يدخل في أنفسهم. أما زولا فقد بدل هذا النظام، وترك الحياة المضطربة المبهمة تسود جو القصة كلها. فهنالك صور كبيرة تهيمن على الجماهير، وهنالك كائنات سرية عظيمة كأنها تحيا باضطراب الجماعات، وأن عالماً ضخماً واسع الحدود، ذا لجب وصخب، مبهم التفسير، يفتش ويتحرى ويجد تأويل نفسه في هذا الرمز يبدو - طوراً - كصورة عنه، وتارة كوهم باطل!
وقام لزولا منتمون لمدرسته، أخذوا بمبادئه الأدبية وهجروا مبادئه الفلسفية، فلم يشاءوا أن يجعلوا تأريخ البشرية مقيداً بتاريخ الوراثة والأدواء الكحولية، ولم يعتقدوا بأن القصة إنما تكون تجربة فسيولوجية اجتماعية. . . فعادوا إلى المصادر التي صدر عنها زولا، والى الواقعية التي أقتبسها من فلوبير وكونكور، ورأوا أن كل ما فيه اختلاق هو افتراء، ورأوا ألزم شيء التحدث عن شيء لاحظناه، ولو أن الحياة قدمت لنا مشاهد نادرة الوقوع فمن الواجب أن نهملها لأنها افتراء! مادة الرواية هي مادة كل يوم، هي مادة كل شيء لا ابتداء له ولا انتهاء، مادة كل ما يمكن وقوعه كل يوم في كل كون، والحياة التي تتمثل لنا كل يوم وفيكل كون هي حياة فيها القبح والشنيع، أما الجمال والفضيلة فهما صفتان نادرتان، أو أقل هما مستحيلان، وهما مما لا يصح اتخاذه موضوع القصة، القصة التي تعرض الشناعة(189/37)
والرياء الضعيف الممتثل في مجتمع بنيت أسسه على رذائل مشتهرة وأنانية متبجحة. وإنما قيمة القصة وحسنها يتوقفان على مقدار صدقها في وصف هذه الشناعة والرياء
هذه مبادئ جهد بها هؤلاء ولكنهم لم يكونوا أمناء لمبادئهم، فقد كانت فضيلتهم زاهية مختالة، قتلوا كبرياء وخلقوا كبرياء، وكرروا موضوع (كتلة الشحم) تحت مظاهر متحدة الغرض، وكل رواياتهم تعود إلى وصف فئة تتظاهر بنصر الفضيلة، تمدح جماعة سافلة إذا افترقت إليها، وتعود إلى إهانتها إذا فرغت منها. ولهذا لم يبق من (الواقعية) إلا مبادئ عامة قد تتلاقى بالمذهب (المثالي) حيث تكتب القصة بإسناد وأدلة، والروائي لا يحيا إلا في العالم الباطن، عالم نفسه، وإنه ليخرج منه ليلتقط من الحياة اليومية ألف مشهد، ويتحرى في هذه المشاهد عن الغرائز والهواء التي تتمثل هذه القصة. الحياة الحقيقية ليست هي حياة صفوة مختارة، وقد تكون هذه الحياة كاذبة مرائية، إن الحياة في حياة المجموع، حياة الشعب الصادقة، والفن يكون في تصوير هذه الحياة الشعبية
جي دي موباسان
جمال الحياة ومذهبه الواقعي:
عاش موباسان للحياة ولجميع لذائذ الحياة. لقد كان فتى (نورماندياً) له مظهر يملأ العين ونفس لا تعرف الكلال. كان يهيم شغفاً بالطبيعة وجمالها وهو القائل (إني أحب السماء كعصفور، والغابات كذئب شرس، والصخور كوعل أحب حباً وحشياً عميقاً قدسياً وحقيراً - كل شيء يحيا). ولقد كان له في فنونه حواس لا للتمتع فحسب، بل للملاحظة، وقد كان الصديق المقرب الوفي للكاتب (فلوبير) إذا هم بأن يكتب قيد بانتباه ودقة لا كل ما شاهده، بل كل ما يقدر أن يشاهده. ولقد أعطى صوراً كثيرة قوية عن مناظر السين والمارن ومقاطعة نورمانديا وعن حياة القرويين وطلاب الجامعات. وفي قصصه الأولى سخر من معايب نفسه ومخازيها، وسخر من كل ما يراه كاذباً في المجتمع في الأديان والشرائع والعادات.
لقد كان ماجناً مرحاً ولكن لم يطل عهد مجونه ومرحه. فقد تألم وغزا الألم جسمه ونفسه فبدل كل نظراته الواهمة في الحياة(189/38)
لقد كان مسرفاً جد الإسراف في التمتع بالحياة، وقد أساء لنفسه وجسده بهذا الإسراف، إسراف عنيف في لذته وصناعته كأنما كان طبيعة شاذة عنيفة في ميولها! فبكرت إليه الاوصاب وتناوشت جسمه العلل، فأراد أن يقاوم سلطانها فعكف على الخمر والمورفين والمخدرات وما لبث قليلاً حتى أثر ذلك في نفسه فولد فيها الاضطراب فتبدلت ألوان الحياة في وجهه، واستحال نورها ظلمة حالكة، وأخذت هذه الروح المرحة تشك في فرح الحياة وبدأت تحقر معانيها، وآزره على ذلك عقول أوى إليها كان تفكيرها متجهماً، فهو يحب شوبنهاور ممن وجدوا الحياة صفحة سوداء. ومنذ ذلك الحين إذا كل شيء في عينه زهواً باطلاً وجنوناً وعدما: (سعداء همة أولئك الذين لا يبصرون بسأم كبير: لا شيء يتبدل، ولا شيء يتحول، وأن كل شيء يغمره سأم طويل. . فكرة الإنسان ساكنة لا تتحرك وإنما تدور ضمن حدودها المتقاربة كذبابة في قارورة مسدودة) وهذا الضجر الذي عراه يظهر على صور مختلفة في ثنايا مواضيعه ورواياته؛ على أنه لم يجعل من هذه الإنسانية الكئيبة المحزنة صورة فتانة، وهو إذا لم يجل هذه الصورة بوجه صحيح فانه كان مفعماً شفقة وحناناً عليها، فهو في المواطن التي تهتز فيها الغرائز وتملك على المشاعر يبصر فضائل خفية وجمالاً متوارياً ونزوعاً عنيفاً متألماً نحو المثل الأعلى، تراه يعود إلى حديث من أحاديث الحياة حيثما كان مصدره، يسكب عليه الحنان والرقة، ويسبغ عليه الجمال؛ على أن فوزه الأدبي والثروة التي نالها قد بدلاه وأثرا في نفسه، فقد كان يغشى الأوساط الأرستقراطية ويتمتع بما تخلقه هذه الأوساط من الفنون والمرح العنيف في الحياة، فلم يعد يقنع بطريقته وفنه الأول في وصف الأشياء البسيطة وتصوير الحوادث القريبة. إنه نشط إلى ما تدعوه طبيعته الصافية إلى تحليل نفوس مركبة يستحوذ عليها القلق ويهديها الشقاء، ومن جملة هذه الأنفس نفسه. كتب قصة (قوى كالموت) و (قلبنا) و (بطرس) و (حنا) وما هي قصص تحليلية. هو يريد فيها أن يخفي التحليل بدلاً من نشره. وأشخاصها يريدون أن يخدعوا الناس أسرار نفوسهم بهذه الفصول والحركات التي يأتون بها. وأكثر قصصه تجري على طريقته، القصة الشخصية التي تدور حوادثها حول بطل هو صاحب القصة، تجري على طريقة الاعترافات التي تعبر عن الحياة الباطنة والتحليل الخلقي.
على أن موباسان كانت جهوده بارزة في تطور المدرسة الواقعية وهو في خير قصصه(189/39)
تبدو واقعيته في ذوق حاد مشبوب يسمو إلى فتنة الحياة الشعبية وهجو الحياة الاجتماعية هجواً لا فظاظة فيه ولا مرارة في انتقاء هذه الحقائق التي تمثل الحقيقة الأكثر ارتباكاً في الحياة. كل شيء في أسلوبه يدل على صرامة واتزان. ولا يمل (موباسان) من قول كل شيء. ولكن من قول كل ما يوحي إليه عقله بقوة وبيان. وقد تفتنه الطبيعة وتأسره وتؤثر فيه، ولكن القصة تخون نفسه، وأخيراً تراه لا يتردد في التحري عن الحقيقة الإنسانية التي تعكس في لحظة واحدة من هذه الحياة المتغيرة العابرة شيئاً من حقيقة النفس الخالدة للناس.
(يتلوه بحث تأثير العلم في الرواية)
خليل هنداوي(189/40)
التبعة الأدبية
للدكتور حسن صادق
سنبين في هذه الكلمة تبعة الشعراء والكتاب التي يحملونها أمام التاريخ وتثقل على أسمائهم وشهرتم عند مؤرخي الأدب وتطوره، إذا أنتجت أعمالهم الأدبية حالة من الاضطراب العقلي والقلق النفسي بين شباب الأجيال المتعاقبة
وقد يقول قائل إن من ينسب إلى مصنفي الكتب مثل هذه التبعة الخطيرة، إنما يجعل للأدب قيمة أكبر وأعظم من قيمة الدور الحقيقي الذي يقوم به في حياة الأفراد والشعوب. ولكننا نجيب على هذا الاعتراض بأن الطريق الوحيدة التي نملكها لحفظ كنز الإنسانية الأدبي ونقله من جيل إلى جيل، من فجر العصور التاريخية إلى اليوم، هي الكتب؛ وكل ما نعرفه عن العصور الماضية البعيدة لم نصل إليه إلا بأعمال الكتاب. وفضلاً عن ذلك فإن الدراسة المضنية التي يقوم بها الأساتذة أثناء الأعوام الطوال في معهد العلم المختلفة، ليست إلا شرحاً وتفسيراً لأعمال مكتوبة
وينتج عن ذلك أن الحضارة والأدب أمران متعاونان لا ينفصلان، وأن أحدهما بغير الآخر لن يكون إلا التكرار المستمر لوقائع ومذاهب ونظريات بعينها، بدون أية مقارنة ممكنة بين الماضي والحاضر. وما دام هذا هو اعتبار مهمة الكتابة فأن من السهل تصور التعبئة الهائلة الملقاة على عاتق الذين يدونون أفكارهم وينشرونها بين الناس
إن الروح السائد بيننا الآن، قد كونه الشعراء والكتاب والمؤرخون والفلاسفة الذين يتحدثون إلينا بوساطة كتبهم منذ آلاف السنين؛ وسيتأثر من غير شك روح الأجيال القادمة بما نكتب اليوم أو ببعضه على الأقل، ومن أجل ذلك يشعر الإنسان بشيء من الانفعال المستبهم كلما نشر كتاب جديد، لأنه يجهل مبلغ الخير أو الشر الذي ينتجه الكتاب خلال سير الإنسانية.
وليست أنواع الكتب جميعاً متساوية فيما تنتج من الأثر، ولكن أعظمها سلطاناً على النفس وأشدها خطراً وأقواها بأساً هي الكتب التي مصدرها الخيال، أو ما يصح أن يطلق عليها الكتب الشعرية
وفي الحق أنى الكتب الغزيرة المادة التي تدل على التبحر وتتطلب الجدال والمناقشة، أو التي تثبت آراء وأفكاراً وأسس تفندها وتهدمها، سواء أكان موضوعها التأريخ أم الفلسفة أم(189/41)
الدين، تجد أمامها كتباً أخرى كتبت في الموضوعات نفسها للقضاء على الأثر الذي أنتجه النوع الأول من الكتب؛ وبهذه الطريقة نجد تصحيحاً لشر هذه، في الخير الذي تنشره تلك. وجمهرة الناس الذين لهم حق الخيار في الأخذ بما يرون لهم من الآراء، يستطيعون الوصول إلى الحقيقة بفضل جهودهم العقلية الخاصة. وبهذه المناسبة أذكر كلمة حكيمة للكاتب الفرنسي أناتول فرانس، فقد دخلت عليه في صباح أحد الأيام سيدة، فراعها كثرة ما رأت عنده من الكتب والمجلدات، وقالت له في دهشة شديدة: أقرأت يا سيدي الأستاذ هذه الكتب جميعاً؟ فقال نعم، ومن أجل هذا لا أعرف شيئاً. فازداد عجبها من هذا الجواب الغريب وسألته الإفصاح فقال: كل كتاب من هذه الكتب ينقض الآخر ويهدمه. ولهذا السبب لا يخرج القارئ منها جميعاً إلا بفائدة واحدة، هي أن يتعلم كيف يفكر
ولنفرض - كما هو الواقع - أن مؤخراً نشر كتاباً لحمته الهوى وسداه الحقد على شعب أو ملك أو زعيم ما، ففي هذه الحال يكتب مؤرخ آخر في الموضوع نفسه كتاباً يدافع به عن الشعب أو الملك أو الزعيم الذي حمل عليه المؤرخ الأول، ثم يقوم مؤرخ ثالث بجمع الوثائق والأدلة الصحيحة ويثبت الوقائع والآراء في دقة تاريخية، وهكذا. فإن كان المؤرخ الأول قد قصد إلى الشر، فان نجاحه لا يكون إلا في حدود ضعيفة وقتية لا تلبث أن تزول. وكذلك الحال في ميدان الفلسفة، فإذاً دعاك حكيم إلى الركود وعدم الاكتراث مثلاً، أظهر لك حكيم آخر بالمنطق ضرورة الإرادة والعزم والحركة.
فمهما تكن قوة أصحاب المذاهب والمفكرين، فليس لهم علينا إلا سلطان نسبي، لأننا نظل سادة أنفسنا في قبول مبادئهم ومذاهبهم أو رفضها، ونجد في كتابات أخرى السلاح الذي ندفع به عن أنفسنا هجمات هؤلاء
أما حالنا مع الشاعر فعلى النقيض من ذلك، لأنه السيد المطلق في الميدان الذي اختاره لنفسه. والشاعر هنا هو الذي يخلق من عبقريته الخاصة عالكماً من الحوادث والانفعالات والصور ينفث فيه كل حيوية الأشياء الحقيقية، وإذن فالشاعر هو الروائي أو المؤلف التمثيلي، أو الموسيقار، أو مبتكر الحكايات الخرافية أو مصنف الملاحم أو مبتدع الكلام الموزون المقفى
وبفضل هذه الموهبة، موهبة خلق عالم مستقل، يكون الشاعر فخماً عظيماً أو خطراً مخيفاً.(189/42)
إنه لا يبحث ولا يناقش ولا يبرهن، ولكنه يبتدع ويخترع. فهو لا يقنعنا، ولكنه يستهوينا ويفتننا كما تفتننا المناظر الطبيعية الجميلة واصطفاق الأشجار في سكون الغابة وخرير الماء في الغدير، أي أن الشاعر يغزونا دون أن نستطيع الدفاع عن أنفسنا وصد غارته عنا. وهو بعبقريته يجعلنا عاجزين عن أن نحذر سلطانه، وفرض علينا أريج أزهاره وظلال غاباته والتحليق في أفقه، فنحن في الواقع سجناء سحره، وأين نجد ملجأ للخلاص من الصور والأخيلة التي يطبعها فينا؟ أنلجأ إلى شاعر آخر؟ كلا لأن هذا يكون تعباً ضائعاً لا طائل تحته. فكل شاعر منهم له ميدان حر مستقل خالص، وليس من المعقول أن يفند الإنسان ملحمة بأخرى ولا درامة بأخرى ولا نشيداً بأغنية. ومن هنا نرى الخير أو الشر الذي يستطيع الشاعر عمله. فهو يستطيع أن يغرس فينا بذور البطولة أو جراثيم الجبن؛ وفي وسعه أن يقودنا إلى الخير أو يدفعنا إلى الشر على الرغم منا
والشاعر الكبير الجدير بهذا اللقب هو الذي يشعر بالرحمة العميقة، ويحتقر المتاع المادي، ويستعذب الآلام في سبيل المجد المستقبل. ويلهمنا حب الحياة ويحثنا على إعزاز الإرادة وقهر الهوى، ويدفعنا إلى ضروب التضحية المجيدة، أي يدفعنا إلى البطولة مهما اختلفت البلاد والجنس والذين والفلسفة. وهذه صفات مشتركة بين الشاعر والبطل
وكلامنا هنا عن الشاعر العبقري؛ أما الشاعر الذي يعوزه الابتكار والأسلوب والعبقرية فلا قيمة له ولا أثر يخشى منه. ومثل هذا ربما يحصل على نجاح وقتي، ولكن شهرته لا تطول ونفوذه لا يمتد ولا يثمر
والشاعر العبقري نوعان: الأول هو الذي أوتي المقدرة على استهواء الناس بخصوبة ذهنه ورقة خياله وقوة ألفاظه وإحكام نسجه، ثم يستسلم فيما يكتب لضعف الهوى ويتغنى بالحياة السهلة الرخوة ويندفع في الملذات الحقيرة المبتذلة ويؤثر بهذا فيمن يسحرهم ويدعوهم إلى الضعف والجبن والأثرة والاشتهاء والشراهة. والثاني هو الذي يحملنا نحو مثل أعلى من القوة والنور والبطولة ولا يورطنا في اضطراب الذهن ورعشة الأعصاب والحواس
حسن صادق(189/43)
13 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة محمد حسن حبشي
إن تاريخ البدو أيام الجاهلية لا يخرج عن كونه سجلاً لحروبهم، أو بالأحرى هو ذكر عصابات كانت تغير على القوافل بين آن وآخر بغية لسلب والنهب. ولم يكن ثمة حاجة تدعو إلى الاستغاثة، بل كان كل فريق منهم يفخر بنسبه، ويصب على الآخر وابلاً هطالاً من الأهاجي المقذعة، وتؤسر الإبل والنساء، كما كانت المناوشات العدة تقوم بينهم ولكن القليل منها يؤدي إلى نشوب حرب، وكان ذلك نوعاً من الحروب الهومرية أتاح فرصة طيبة للقيام بأعمال تنطوي على البطولة. ويقول ثوربك بصدد هذا الشأن: (وإذا شئنا أن نكتب التاريخ الواقعي لمثل هذه المنازعات البدوية وجدنا ذلك أقرب إلى المستحيل. أما عن المصادر المعاصرة له التي تستأهل عناية الباحث فليس لدينا سوى القصائد والمقطعات الشعرية التي ظلت محفوظة، وطبقاً لما يذكره السيوطي كان العرب يطلبون من أي بدوي يقص حادثة تاريخية أم يقرنها ببعض أبيات تتعلق بها. والحقيقة أن كل مثل هذه الأقاصيص التي ضغطت على مر العصور حتى وصلت إلينا قد تبلورت حول القصائد. ومما يؤسف له أنها قلما كانت صحيحة، ويتضح في اغلب الأحيان أن الأقاصيص قد اخترعت اختراعاً وهيئت حتى توافق موضوع الأشعار) ورغماً من أن معظم ما يتعلق بأيام العرب خرافي إلى حد بعيد إلا أنه يصف في أمانة الخصومات القبلية التي كانت تنشب بينهم والطريق الذي كانوا يسلكونه فيها، وقصة حرب البسوس التالية - وهي أشهر حرب في الجاهلية كافية في تصوير هذا الجانب المهم من الحياة البدوية، وجنوب أرض نجد المرتفعة يقترب المسافر بالتدريج من البحر الأحمر الذي تفصله عن الجبال المحاذية له أرض منخفضة ضيقة يقال لها تهامة، أما الحجاز فهو تلك الهضبة الوعرة المسلك التي تقوم بين نجد والشاطئ وهذا هو الشعب الذي كانت تسلكه في الأزمنة القديمة قوافل السبئيين محملة بالبضائع الغالية الثمينة، ميممة شطر موانئ البحر الأبيض المتوسط؛ ومنذ عدة قرون قبل الميلاد نشأت محطتان تجاريتان عظيمتان هما مَكُرَب (مكة فيما بعد) وفي شمالها يثرب (اسم المدينة قبل الإسلام) ولسنا نعرف شيئاً عن سكانهما الأولين أو تاريخهم(189/44)
إلا ما تفيض به روايات الكتاب المسلمين التي تطوي القرون القهقري حتى تصل إلى ذكر أيام آدم وإبراهيم؛ ولقد كانت مكة مهد الإسلام هذا الدين الذي كان - كما يذكر محمد (ص) - ملة إبراهيم، ولكن جاء من بعده خلف أفسدوه إلى أن أرسله الله ليطهره من شوائبه مبشراً به من جديد، ولذلك قيل إن دين أهل مكة قبل ظهور الإسلام بزمن كبير كان هو في ذاته الإسلام. وإن مدينة الإسلام المقدسة لتظهر منذ آلاف السنين وهي مغمورة بفيض هذا السناء، ويقال أن العرب حينذاك كانوا جميعاً يعبدون (الله) ثم تفرقوا بعد ذلك وزلوا بعبادة الأوثان ولكنهم عادوا كحجاج إلى مزارٍ خصص أولاً للكائن الأعظم الفرد، بيد أن المطاف قد استحال إلى حرم الآلهة القبائل المختلفة، وهذه النظرية من أول ما جاء به الإسلام، وسأقص - جهد ما أمكنني الاختصار - النقط البارزة القوية
في وادي مكة - وهي البيت الأول لهذا الفريق من الجنس العربي الذي يدعي أنه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم من زوجه هاجر - يقوم بناء مكعب الشكل على غير نظام، وفي مساحة صغيرة ذلك هو الكعبة، وتنسب قصة بنائها إلى آدم الذي شادها بأمر سماوي، وحينما طغى الطوفان وطوى في لجته كل ما على الأرض رفعت الكعبة إلى السماء حتى غاض الماء أعاد بناءها في مكانها السابق إسماعيل وإبراهيم، وبينما كانا منهمكين في عملهما هذا جاءهما جبريل بالحجر الأسود المعروف وموضعه الجنوب الشرقي من البناء، وأوصاهما بأداء فريضة الحج. ولما انتهى البناء انتصب إبراهيم واقفاً على صخرة يطلق عليها المتأخرون (مقام إبراهيم) واستدار إلى الجهات الأربع ثم ولى وجهه شطر السماء وصاح (أيها الناس: لقد فرض عليكم الحج إلى البيت العتيق فاستمعوا لألهكم) وحينئذ أجابته من كل الجهات أصوات هاتفة (لبيك اللهم لبيك).
وكثر نسل إسماعيل حتى ضاق بهم الوادي فساح عدد جم منهم في فجاج الارض، وخلفتهم قبيلة جرهم كأسرة حاكمة للبقعة المقدسة، ولقد غرقت تلك القبيلة في الكبرياء والآثام حتى حلت نقمة الله عليها، وكثيراً ما يشار إلى انفجار سد مأرب الذي جعل الكثير من عشائر اليمن تشد رحالها ناحية الشمال، ولقد استقر المهاجرون في الحجاز واستأصلوا غالبية الجرهميين ثم واصلوا السير إلا قبيلة واحدة هي قبيلة خزاعة التي استقرت في جوار مكة إمرة زعيمها لحيّ، واشتهر عمرو أبن لحيّ بين العرب بثرائه وكرمه، ويقول أبن هشام(189/45)
(حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحيّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مأرب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له هذه أصنام نعبدها نستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا. وقال لهم: أفلا تعطونني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنماً يقال له هبل. فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه. وقلده العرب في ذلك فجاءوه بأوثانهم ونصبوها حول المعبد، وبذلك تم انتصار الوثنية وعم انتشارها، حتى لقيت كل هاتيك الأوثان مصرعها حينما دخل محمد (ص) مكة على رأس جيش من المسلمين في السنة الثامنة للهجرة (= 629م)
أما أشهر القبائل التي نسلت من إسماعيل من عدنان واستقرت في الحجاز فهي هذيل وكنافة وقريش، وينبغي أن نجعل أسم هذه القبيلة الأخيرة على الدوام نصب أعيننا، إذ نجدها قبل ظهور محمد بقرن صاحبة السيادة في مكة. وشيوخها حراس الكعبة، وتلك المرتبة قد حصلوا عليها لما تدر من ثراء عظيم. وبسبب صعودهم إلى معارج القوة أنه كان لكلاب بن مرة ولدان: هما زهرة وزيد وكان الثاني طفلاً حينما اغتصب الموت أباه، وتزوجت أمه فاطمة من رجل يدعى ربيعة فاحتملهما إلى بلاده، وشب زيد بعيداً عن وطنه الأول ومن ثم سمي (قصياً) ولما بلغ مبلغ الرجال وعرف موطنه أتى مكة حيث كانت السيادة فيها معقودة على هام بن خزاعة وتحت زعامة شيخهم حليل بن حبشية، فكانت شؤون الكعبة بعيدة عن قريش وهي من سلالة إسماعيل، ثم أن قصي بن كلاب خطب إلى حليل بنته حبى فرغب فيه حليل، وكان هدف قصي أن يخلف حليلاً في هذه المكانة الرفيعة بيد أن هذا سلم مفاتيح الكعبة ساعة وفاته إلى أحد ذوي أقربائه واسمه أبو غبشان، وكان كثير الشرب فاحتال قصي عليه وأسكره حتى باعه مفاتيحها لقاء زقة من النبيذ. ولهذا يقال في الأمثال (أظل من غبشان) ولم ترض خزاعة بهذا الأمر فامتشقت الحسام، ولكن قصياً ظهر عليها. ومن ثم غدا المهيمن على شؤون البلدة وحرمها القدسي وكانت باكورة أعماله أن جمع قريشاً وكانت قد تفرقت في سهول مكة فسمته قريش (المجتمع) وبنى دار الندوة حيث يجتمع شيوخ العشائر والقبائل فيها متبادلين الرأي والمشورة فيما يعرض أمامهم من الأمور، ولما مات قصي احتفظت قريش بهذا الإرث المقدس وظل في(189/46)
بيتها.
وربما كانت موت قصي قد حدث في النصف الثاني من القرن الخامس للميلاد، وقد ولد الرسول بعد ذلك بقرن أعني عام 570 أو 571م وهنا ينبغي الإشارة إلى أن تاريخ مكة طوال هذه الفترة كان سجلاً لمشاغبات تافهة قل أن تخللها حادثة ذات أهمية، كما أننا نجد الصدارة لأسلاف النبي طوال هذه المدة. وتظهر المنافسة التاريخية للبيتين الأموي والعباسي في شخص مؤسسيهما: أمية وهاشم؛ وفي أثناء ذلك كان نفوذ قريش ثابت الدعائم، واسع الانتشار، وغدت الكعبة دار ندوتهم الأهلية الكبرى، كما أن وفود الحجج الذين أقبلوا من مختلف أصقاع بلاد العرب لم يعملوا فحسب في رفع العبء عن قريش بل عاونوها في تنبيت مركزها التجاري، ولقد قصصنا عليك من قبل، كيف عزم أبرهة - والي الحبشة على اليمن - على النيل من مكة بما ارتكبه أحد القرشيين من تدنيس كنيسة صنعاء، وقد يصح أن يكون هذا سبباً يتخذه أبرهة بيد أنه كان يريد بلا شك الاستيلاء على مكة ومفاتيح تجارتها.
ويزعم المؤرخون المسلمون أن هذه الحادثة العجيبة وقعت عام ميلاد الرسول في السنة المعروفة بعام الفيل حوالي 570م، وبرهان على أن العرب قد هالهم مرأى هذه الحيوانات الضخمة أن واحداً أو أكثر قد صحب الحملة الحبشية، وقد أوقع صدى استعداد أبرهة الحربي الرعب في قلوب القبائل التي حاولت في مبدأ الأمر أن تصده، معتبرة الدفاع عن الكعبة أن تصده، معتبرة الدفاع عن الكعبة واجباً مقدساً، ولكن سرعان ما طارت نفوسهم شعاعاً إذ رأوا أن لا قدرة لهم على ذلك، وبعد أن هزم أبرهة ذا نفر الحميري، عسكر في جوار مكة دون أن يلقي مقاومة تذكر، بعث إلى عبد المطلب جد النبي الرسالة التالية، وكان عبد المطلب موقراً محترماً من جميع القبائل (إني لم آت إلى سربكم، إنما جئت لأهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم) فرد عليه عبد المطلب (والله ما نريد الحرب وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، وإن للبيت رباً سيمنعه، وإذا لم يشأ فلا حول لنا) وأنطلق عبد المطلب إلى معسكر الأحباش مع حناطة رسول أبرهة فتوسط له أنيس عند الملك وقال له (أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال) فأذن له(189/47)
أبرهة، وكان عبد المطلب رجلاً عظيماً وسيماً جسيماً، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره وجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه (قل له ما حاجتك) فقال عبد المطلب (حاجتي إلى الملك أن يرد عليّ مائتي بعير أصابها لي) فقال أبرهة لترجمانه (قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتي بعير قد أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟) فقال عبد المطلب (إني أنا رب الإبل وإن للبيت رباً سيمنعه) قال (ما كان ليمنع مني) قال (أنت وذاك، أردد إليّ إبلي)
ويقال أن القبائل المقيمة حول مكة قد أوفدت رسلاً من لدنها ومن بينهم عبد المطلب فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم ولما استعاد عبد المطلب إبله انصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفاً عليهم من معرة الجيش، ثم قام فأخذ بحلقه باب الكعبة وقام معه نفر من قريش فقال عبد المطلب:
لا هُمَّ إنَّ العبد يْم ... نع رحله فامنع حلالَكْ
لا يغلبنَّ صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك
ولئن فعلت فربّما ... أولى فأمر ما بدا لكْ
ولئن فعلتْ فإنّه ... أمر تتمّ به فعالك
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة فأقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جانب فيله وقال (ابرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل فوجهوه لمكة فأبى ثم للشام فهرول، وللمشرق واليمن ففعل مثل هذا، وأرسل الله عليها طيراً من البحر أمثال الخطاطيف يحمل كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجر في منقاره وحجران في رجليه لا تصيب أحداً منهم إلا هلك وقد أشير إلى هذا الحادث في السورة الخامسة بعد المائة المعروفة بسورة الفيل حيث يقول تعالى (ألمْ تر كيف فَعَلَ رَبُّكَ بأصْحَاب الفِيل. ألمْ يَجْعَلْ كيْدَهُمْ في تَضْليل، وأرْسَلَ عليْهِمْ طيرْاً أبابِيل، ترميهِمْ بِحَجارَةٍ مِنْ سِجِّيل، فَجَعَلَهُمْ كَعَصفٍْ مَأكُول)(189/48)
وإن الفصل الذي قام بتمثيله عبد المطلب في هذه القصة لهو فصل ديني الغرض منه تبجيل شأن هذه المدينة المقدسة، كما يتضح لنا منه ما كانت عليه أسرة النبي من سطوة وثراء قبل انبثاق نور الإسلام بنصف قرن، (وحينما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، وعظمت العرب قريشاً وقالوا أهل الله قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم، وقالوا في ذلك أشعاراً يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة وما رد عن قريش من كيدهم وينسب ابن إسحاق الأبيات التالية إلى ابن الصلت بن ربيعة بن ربيعة الثقفي وينسبها كثيرون غيره لأمية بن أبي الصلت الشاعر المشهور وكان حنيفياً ومعاصر للنبي:
إن آيات ربنا ثاقبات ... لا يمارى فيهنّ إلاّ الكفورُ
خلق الليل والنّهار فكلٌّ ... مستبين حسابهُ مقدورُ
ثم يجلو النّهار رب رحيم ... بمهاةٍ شعاعها منشورُ
حبس الفيل بالمغمس حتّى ... ظلّ يحبو كأنه معقورُ
لازماً حلقة الجرَان كما قط ... طَرَ من صخر كبكب مجدورُ
حوله من ملوك كندة أبطا ... ل ملاويث في الحروب صقورُ
حلّفوه ثم أبذعروا جميعا ... كلهم عظم ساقه مكسورُ
كل دِينٍ يوم القيامة عند الل ... هِ إلاّ دين الحنيفة زور
ولقد أثارت غزوة الأحباش وهزيمتهم النعرة الوطنية في نفوس عرب الحجاز، هذه المشاعر التي لابد وأن يكون قد شاركهم فيها إلى حد بعيد البدو عامة، وظهرت روح جديدة خلال الحوادث التي تخللت الأربعين عاماً التي تلت هذا الحادث في جميع نواحي شبه الجزيرة، وينبغي أن نتذكر دائماً أن أسرة اللخميين في الحيرة قد انتهت بالنعمان الثالث الذي لقي مصرعه على يد خسرو وبرويز (602 هـ، 607 م) وكان قبل موته استودع أسلحته وبعض حاجاته عند هانئ شيخ عشيرة بني بكر وقد طلب خسرو هذه الودائع ولكن هانئاً رفض تسليمه إياها، فأرسل هذا جيشاً فارسياً عرمرماً إلى ذي قار وهو مكان قرب الكوفة يطفح بالمياه المتدفقة ولذلك كان ملجأ حصيناً لبني بكر أثناء فصل الجفاف، ونشبت هناك معركة حامية الوطيس انتهت بهزيمة الفرس هزيمة منكرة وكانت قوات العرب أكثر من قوات الفرس، وقد عد العرب هذه الموقعة فاتحة عصر جديد. من ذلك ما يروي أن(189/49)
محمداً (صلى الله عليه وسلم) قال حينما سمع بهذا (هذا أول يوم استراح فيه العرب من الفرس) أما قبائل الصحراء فقد قوى اعتقادها في نفسها وأخذت موقف المهاجم بعد أن كانت من قبل تستظل بلواء إمبراطورية آل ساسان وتخضع إلى للأسرة الحاكمة في الحيرة، وأخذت تلك القبائل تظهر الموجدة والاحتقار بهذا الشبح الذي لم يعودوا يخشون بطشه بل وطئوه بأقدامهم.
(انتهى الفصل الثاني)
محمد حسن حبشي(189/50)
شاعر الإسلام
محمد عاكف
بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام
- 3 -
مات الشاعر الكبير والساعة ثمان إلاّ ربعاً من مساء الخميس التاسع والعشرين من ديسمبر، تاركاً للأمة التركية آثاراً خالدة، آثار مثل (دفاع جناق قلعة) و (نشيد الاستقلال)
(1)
شيعت الجنازة من (عمارة مصر) في بيوغلي إلى جامع بايزيد. وهنالك أقيمت صلاة الجنازة، ثم اتصل المسير إلى قبر الشاعر الذي هُيّئ له في المقبرة التي أمام شهيدلك في (أدرنه قبو)
كان في توديع الشاعر كثير من أصدقائه وجمهور عظيم من طلبة الجامعة، فلما أديت الصلاة وأريد وضع التابوت على لسيارة أبى الطلبة إلا أن يحملوا النعش على أيديهم، واشترك مئات الشبان في حمله طوال الطريق من بايزيد إلى (أرنه قبو)
وعلى حافة القبر فتح التابوت وأخذ النحات راتب عاشر صورة الشاعر في قالب من الجص ليصنع مها تمثالاً
ولما وضع الشاعر في لحده دوّت أصوات الطلبة جميعاً بنشيد الاستقلال الذي نظمه محمد عاكف. ثم تكلم طالب كلية الآداب في حياة الشاعر وما أعقبته وفاته من أسى، وأنشدت طالبة القصيدة (جناق قلعة) وأنشدت أخرى أبياتاً كتبها الشاعر تحت صورته، وهي آخر ما نظم
ثم أقترح بعض الطلبة أن يشيد طلبة الجامعة قبر شاعرهم العظيم، فتلقاه الحاضرون بالموافقة والاستحسان، واتفقوا أن يحتفل كل عام بيوم الوفاة وأن يسمى (يوم عاكف)
ثم أنصرف الذين أودعوا الشاعر الكبير مقره الأبدي بين الحسرات والدموع
(2)
هو ابن محمد طاهر أفندي الايبكي أحد مدرسي الفاتح. وأمه تركية خالصة من بخارى(189/51)
ولد في استانبول عام 1873. وبدأ تعلمه على أبيه، ثم حصل العلوم الدينية وأتقن اللغتين العربية والفارسية
ثم التحق بالمدرسة الإعدادية في استانبول، فلما أتم دراستها التحق بمدرسة الطب البيطري إلى أن نال شهادتها من الدرجة الأولى. وقد فاق أقرانه جميعاً في الكيمياء والطبيعة، والنبات والحيوان والتشريح ووظائف الأعضاء
ثم تنقل في عمله بين سورية والرومللي والأناضول. وشرع حينئذ ينشر أشعاره
ولما وقعت حرب البلقان عمل في شعبة النشر من جماعة الدفاع الملي. ولما كانت المهادنة بعد الحرب العامة ذهب إلى الأناضول ولبث هناك محتملاً عبئه في الجهاد الوطني حتى النهاية، وكان نائباً في المجلس الكبير عن ولاية بوردور. وفي ذلك الحين نظم نشيد (نشيد الاستقلال) الذي بذ به كل المتبارين في نظم نشيد وطني
(3)
كان محمد عاكف يحب من شعراء العرب ابن الفارض، ومن الترك فضولي، ومن الفرس سعدي، ومن الفرنسيين لامرتين. ويمكن أن يقال إن شعره آثاراً من هؤلاء ظاهرة أو خافية، ولكن الذي لا ريب فيه أن عاكفاً قد رفع النظم التركي في أوزان العروض إلى درجة من السلاسة لم ينلها شاعر آخر، وقد صارت اللغة التركية بقلمه أيسر لغات الشعر وأبلغها، نشيد الاستقلال أبرع بيان لهذا اللسان الحساس النقي الذي ذلله قلم عاكف. ومنظوماته (صوت الحق) (حقك سسلري) و (الصفحات) في أجزائها السبعة تراث يغني به الأدب التركي، وإن لعاكف في تاريخ الأدب لمكانه خاصة. لقد فقدنا بموته شاعراً عظيماً
(4)
ذلكم إجمال ما كتبته الجرائد التركية عرضته على قراء (الرسالة) تمهيداً للكلام في شعر عاكف، موضوعه ومقاصده، وأسلوبه وأوزانه. وعسى أن أبين هذا في الأعداد الآتية
(للكلام بقية)
عبد الوهاب عزام(189/52)
حول المدفأة
أنا وابناي
للأستاذ محمود نعيم
وأطيبُ ساعِ الحياةِ لديَّا ... عشيَّةَ أخلو إلى وَلدَيَّا
متى الجُ البابَ يَهِتفُ باسمْي الع ... ظيمُ ويحبو الرضيعُ إليَّا
فأجلسُ هذا إلى جانبي ... وأجلس ذاك على رُكبْتيَّا
وأغزو الشتاء بموقد فحْمٍ ... وأبسُط من فوقه راحتيَّا
هنالك أنْسى متاعب يوم ... ي حتى كأني لم ألْقَ شيَّا
وأحسَبُني بين طفليَّ (شاها) ... وأحسَبُ عُشِّيَ قصراً عَليَّا
فكلُّ شرابٍ أراهُ لذيذاً ... وكل طعام أراهُ شهيَّا
وما حاجتي لغذاء وماءٍ ... بِحَسْبيَ طفلايَ زاداً وَرِيَّاً؟
هنا أستعيدُ زماناً خلا ... وأرجعُ أَطوي اللَّياليَ طيَّا
فأنسَى عِذَارِي وأنسى وَقارِي ... وأحسَبُ أنيَ عُدتُ صبيَّا
فقل لرفاق الندىِّ سلاماً ... فلستُ من اليوم أغشى النديَّا
ولن أتلَهَّى (بشاةٍ) (وفرزٍ) ... ولن ألعب النرد ما دمت حيَّا
وأيَّةُ نجوى كنجوايَ طفلي ... يقولُ: أنى فأقولُ: بُنَيَّا؟
ويا رُبَّ لغوٍ يفوهُ الصبي ... به فيكونُ حديثاً شجيَّا
وأفصحُ من ألف سحبانَ طفلٌ ... أراد الكلام فكان عَييَّا
فيا ليتَ شِعري أتمتَد بِي ... حياتي فأجنيَ غرسَ يديَّا؟
وأشهدَ طفلِيَ حين يَشِبُّ ... فتىً عاليَ النفس شهماً أبيَّا؟
أبوك أمرُؤ من رجالِ الكلامِ ... فكنْ أنت يا أبني أمرَأ عَمليَّا
فما احتقر الناسُ إلا الأديبَ ... ولا احترام الناسُ إلا الغنيَّا
أيا ابْنَيَّ أحْبِبْ بما تَكسِرانِ ... وأَهْوِنْ بما تُتلفان عَلَيَّا
يصونكما الله من حادثات الل ... يالي ويُبقيكما لي مليَّا
ويكفيكما اللهُ شرَّ البكاءِ ... ويحفظُ من وقعه أذُنيَّا(189/54)
أمن كبدي أنتما فِلْذَتا ... ن أم أنتما حَبَّتَا مقلتيَّا؟
كوم حماده
محمود غنيم(189/55)
أروع الأشياء
للدكتور عبد الوهاب عزام
أتذكرين يوم جئت حيرى ... سائلة: ما أروع الأشياء!
أتذكرين حيرتي وأنى ... طوّفت في الأرض وفي السماء
ثم انثنيت واللسان عيَّ ... يعثر بين العجز والحياء؟
أتذكرين بعد ذاك يوماً ... أسلمك الحزن إلى البكاء
ترقرت فيه الدموع تترى ... لألاءة في خدك الوضاء
هذي الدموع، لا عراك حزن ... أوحت لقلبي أصدق الإيحاء
أروع شئ في الورى دموع ... في مقلة الحزينة الحسناء
وله أيضاً:(189/56)
شباب أم أماني؟
يا زهرة في ضفاف الماء ناضرة ... يهتز فيها جمال جد مفتون
وللنسيم على أوراقها عبث ... ينشر فيه الحسن كل مكنون
تطالع الماء تبغي فيه صورتها ... تردّها الريح عنه رد مغبون
وينفذ الدهر فيها حكمه فإذا ... شتى الوُريقات بين الماء والطين
أين الشباب الذي راقت نضارته ... ورفرفت فوقه أحلام مجنون
أنضرة الزهر لم تثبت لناظرها ... أم صورة الماء بين الحين والحين(189/57)
السراج المفقود
للأستاذ أمجد الطرابلسي
لا! دعوني وسطَ الجموعِ وحيداً ... أشعلُ القلب كي أنيرَ سبيلي
عجباً أيها الورى! ما الذي تب ... صر في حالكِ الدّجى المسدول؟
أتراني ولدتُ أعمى؟ أم الكو ... ن ظلام؟ أم كلّ حَيٍّ متيلي؟
أم هُمُ الناس واهمون سكارى ... يتغنون بالسَّراب الجميل؟
رقصوا في فم الجحيم وغنَّوا ... فوقَ أشلائهم وبين الطلول!
خابت العين! ليس يُبصرُ إلا ال ... قلبُ، يا نعمةَ الخليِّ الجهول!
يا هناء الصخور في هذه الدني ... اويا شقوة الشعورِ النبيل!
يا ضلال العقول في الحانة السَّكْ ... رى ونعَمى المعربد الضّليل!
أين منى قلبي يُنيرُ سبيلي؟ ... أترى ذابَ قبل ليلى الطّويل؟
أم ترى أطفأتهُ عاديةُ الرّ ... يح جنوناً وزمجراتُ السّيول؟
ورَمَتْهُ كفّي فأهوى به السَّي ... لُ غضوباً إلى أقاصي السهُّول
وأخَبا لي! أما سمعتُ سراجي ... يَتَشَظّى؟ وما أشدَّ ذهولي!
مَزَجَتْ شِرَّةُ السّيولِ بقايا - هـ معَ الشوكِ والحصى والوحول
تلك أشلاؤه تَشعُّ على البع ... دِ وراَء الربى وخلفَ الحقول
يا سراجي المفقودَ في ثورةِ اللْي ... لِ شَهيداً، يا مشعلي ودليلي!
يا سنا مقلتيَّ في الظّلَمِ السو ... دِ ويا نورَ غَمِّيَ المَمْلول!
كنت لحني فمن يمزق صمتي؟ ... ومدامي فمن يبل غليلي؟
وأنيسي فمنْ تركتَ لأنسى؟ ... وخليلي فمنْ يكون خليلي؟
يا سراجي كلّت ذراعي فألقت ... كَ بلا رحمةٍ ودونَ عويل
فرحتْ مثلما تسِرّ بِتَرْكِ ال ... غُلِّ كفُّ المصفَّدِ المغلول
حسبت في نواكَ راحتَها الكبر ... ى ضلالاً، واخيبة المأمول!
يا سراجي! لما صرخت هشيماً ... وتبددْتَ كالدم المطلولِ
قد تصاممتُ عن أذنينِك، لا بل ... كانَ عندي كانَّه الا رغول!!(189/58)
نصبٌ آدنى فخّففتُ حملي ... بعد يأسي من حُلمَي المقتول
ما ترى الفلكَ في العواصفِ تلقي ... بخفيفٍ منِ حمْلِها وثَقيلِ. .؟
أيهذا الساري المرَوَّعُ! مهلاً ... وعزاءً عن كلّ قصد وسولِ
ما ترجى وهذه الدُّجية النكرا ... ءُ غَشَّتْ بوارِقَ التأميلِ؟
الدّجى راعبٌ تفحّ به الأشب ... احُ ظمأى إلى النّجيعِ العليل
موحش ليسَ فيهِ غير صدى الوب ... لِ وهزجِ الأمواهِ وسْطَ المسيل
وأعاصيرُهُ تلاعب خديَّ ... كَ بسيفٍ من بردها مصقولِ
والذئابُ الجياعُ ضَجَّت عواءً ... في بطونِ الهُوى وفوقَ التلول
تتحرّى فريسةً من جريحٍ ... أو طريد أو شاردٍ أو قتيل
أيهذا المسكين! أيَّ الأماني ... تتقرى؟ هُديتَ من مخبولِ!
شعَّثت رأسَكَ الرَّياح السّوافي ... وتعثَّرتَ في الكثيب المهيلِ
لا تمدَّن إلى جبيِنكَ كفُّا ... ضُرِّجتْ بالدم الزكيَّ الطليلِ!
ضرَّجَتْها الأشواك من طولِ ما تك ... بو عَياءً كالموثقِ المكبول
أَتُرَجَّى خلفَ الدَّياجي شعاعا ... من صباحٍ مُزَوَقٍ أو أصيل؟
ما وراَء الظلام إلا الظلام ... ليس فيه من ملجأ أو مَقيل!
كلُّ وادٍ وراءه ألف واد! ... كل ميلٍ وراءه ألف ميل!
خابَ من سار لاصطيادِ الأماني ... في عمايات مَهْمَةٍ مجهول
من يسر دونَ غايةٍ كيف يحظى ... بعد طول السّرى بنعمى الوصول؟
ارجعِِ القهقري فلن يطلعَ الفج ... رُ ولنْ تستقرّ بعدَ الرحيل
وتلمَّسْ بينَ الصخورِ رماماً ... من سِراجٍ محطّمٍ مشلول
وأعدْ سبكها سراجاً منيراً ... لدجاك المعبَّس المسدول
لا تقْل إنه يهدُّ ذِرَاعَيّ ... م ويدني نضارتي للأفولِ
إنه فجرُكَ الذي تتمنىَّ ... إنّه نِبعه الهَوى والميولِ
إنه فرحة الحياة وبؤسا ... ها وشهدُ المنى وسم الذحول
إنه هيكلُ الرِّضى والتأسّي ... إنّه رَفْرَفُ الجمالِ الخجولِ(189/59)
انه مهبطُ الرؤى والأماني ... والخيالاتِ والهوى المعسولِ
يا سراجي أنت العناء ولكن ... في تواريك مصرعي وأفولي
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(189/60)
الفنون
أكروبوليس أثينا
للدكتور أحمد موسى
(تابع)
وإذا أردنا أن نسجل هنا كل ما في معبد بارتنون من عجائب الفن وآياته، فإننا نحتاج إلى أعداد كاملة من (الرسالة)، ولكنا نقتصر على وصف أهم ما فيه مما يستطيع غير المشتغل بعلم الآثار أو بتاريخ الفن تفهمه وتذوقه
فالمثلثان المصوران بين السقف الجمالوني وأفريز المعبد من ولجهتيه حيث المدخل المؤدي للهيكل، اشتملا كما سبق القول على منحوتات غاية في الإبداع الفني وجمال الإنشاء المجموعي، كلها من خلق الفنان فيدياس.
وترى في (ش1) مجموعة منحوتات أحد المثالين، نقلها العلامة كاري عن الأصل بتصرف قليل أضطر إليه، وهي كما يتضح بالنظر إليها مبتورة الأجزاء، ومعظم هذه القطع موجود في المتحف البريطاني وبمتحف أثينا.
والصورة (ش2) تبين امرأتين جالستين، إحداهما قد اضطجعت مستندة إلى صدر الأخرى وواضعة يمناها على فخذها، على حين ترى ساقي الثانية كادا يلتصقان بالفخذين حتى يكون بذلك إخراجهما طبيعياً إلى أبعد حد.
والبناء العام لجسميهما مثل عال من أمثلة تناسب الأعضاء؛ وإذا رجعنا إلى أصول وقواعد النحت، نجد أن فيدياس من أقدم مؤسسي هذه الأصول والقواعد، كما يتضح هذا من منحوتاته، التي ترى الوحي فيها خارجاً عن دائرة حاجات النفس المادية، بل إنك إذا تفرغت بها للاستمتاع الذوقي ترى أنها تعرج بك إلى ملكوت الخيال السامي
ومهما وصفنا قطع فيدياس فأننا لا نزال نقصر عن وصف ما جال بخاطره عند نحتها الذي عبر به عن ثورة فنية رائعة تكاد تكون خارقة للمعقول، إذا علمنا أنها نحتت من الرخام في القرن الخامس قبل المسيح.
ولعل تمثال أثينا بارتنوس المصنوع من الرخام أيضاً (ش2) يعطينا فكرة عن تمثال أثينا(189/61)
الذي قلنا في المقال السابق إنه كان من العاج الخالص والذهب وارتفاعه ثلاثة عشر متراً، والصورة هنا ليست على جانب كبير من الدقة، إلا أنها لا تخلو من إظهار الغاية التي عمل التمثال من أجلها
والمغادر لمعبد بارتنون يرى الناحية الشمالية على بعد قليل، معبد إرشتايون (انظر صورة أكروبوليس بالمقال الأول) وهو المعبد الذي مناه ككروبس لأثينا بولياس بأحجار نحتتها الآلهة وألقت بها من السماء إلى الأرض على هذه البقعة حيث تحاربت أثينا مع بوزيدون على امتلاك البلاد، كما كانت شجرة الزيتون التي غرستها أثينا والمنبع الملحي الذي حفره بوزيدون في هذا الموضع أيضاً
حطم كسركس هذا الموضع المقدس، ولكن إقامته أعيدت بكل نشاط في عصر بركليس، إلا أنه لم يتم نهائياً إلا عند انتهاء حرب بيلويونيز. والناظر إلى المجموع الإنشائي لهذا المعبد يرى أنه مكون من ثلاثة معابد: هي معبد أثينا ومعبد بوزيدون ارشتايوس (ارشتايون) وبانوروزوس لأن الرغبة كانت متجهة إلى المحافظة على هذه المساحة المشغولة بالثلاثة المعابد معاً، لذلك كان المجموع الإنشائي على شكل غير منسجم التكوين من حيث الوضع الهندسي للبناء، ولفظ ارشتايون باللغة الإغريقية معناه الأقدم، وقد أطلق على هذا المعبد نظراً لأنه مكون من الثلاثة معابد القديمة
وصالة كرياتيد (ش5) تحمل سقفها آنسات قد وقفن وعلى رؤوسهن السقف، ولم تظهر على وجوههن علائم التعب والإجهاد، بل إن وقفتهن تمثلن كما لو كان يحملن شيئاً مألوفاً. ويعطي قوامهن فكرة كاملة عن جمال الشابات الإغريقيات اللاتي لم تمتلئ أجسامهن بعد. والواقع أن جمال الأجسام لا يرتبط بضخامتها أو نحافتها، بل بتكوينها الكلي وحسن تناسب أجزائها وانسجامها بعضها مع بعض لتكوين المجموع، وهذا نفسه ما قرره أوجستينوس (354 - 320 ب. م.) في شرح الجمال ,
وإذا لاحظنا أن الأولى من اليمين تكاد تتشابه مع الثانية من حيث طريقة الوقوف، مع فارق ضئيل في كيفية امتداد الذراع، وأن الأولى من اليسار اختلفت في شكل امتداد الساق اليسرى بدلاً من اليمنى كما كان الحال في الاثنتين الأخريين، وعلمنا أنهن يشتركن جميعاً في حمل سقف واحد؛ أمكننا أن نتصور القدرة الهائلة في الإخراج، لأن أوليات قواعد(189/62)
الهندسة تحتم أن يكن كلهن في ارتفاع واحد ليستوي السقف. فترى الفنان مع هذا القيد الهام ووجوب مراعاته استطاع أن يخرج عن ضرورة التشابه خشية الإملال كما هو الحال في عمل الأعمدة، وتصرف في طريقة إخراج السيقان والأذرع فجعلها مختلفة دون إخلال بأصول التوازن
أما التيجان البسيطة التي علت الرؤوس، وما فوقها من الإفريز (الشامل للأسنان) فكل هذه في ضبط نحتها واستوا خطوطها مثل آخر من أمثلة الدقة
وفي (ش4) نعرف موقع الصالة المقول عنها. وكذلك الشكل الكلي للمعبد. وأهم ما يلفت النظر هو التكوين الشكلي للأعمدة، فهي مخالفة في قاعدتها السفلى والعليا لأعمدة بارتنون التي قلنا إنها من الطراز الدوري. أما هذه فهي من الطراز اليوني أعني أنها اختلفت عن اليونية بوجود قاعدة صغيرة أسفل كل عمود فضلاً عن التاج الدائري الجانبين على نهاية كل منها، وعلى هذه النهاية قام السقف الجمالوني الذي ترك مثلثاه دون منحوتات بداخلهما كتلك التي رأيناها في معبد بارتنون
والشجرة المغروسة إلى جانب الصورة تمثل شجرة الزيتون السابق ذكرها بالمقال الفائت. ولا نترك أكروبوليس أثينا دون تنويه بمعبد أثينانيكا القريب من المدخل العام (بروبيلين) وها هي ذي قطعة من أفريزة (ش6) تشمل أحد المناظر التي تجلت فيها قدرة الإخراج. فإذا تأملت الأشخاص وما مثلته من حركات الهجوم والمقاومة والانتصار والانهزام، رأيت أن المثال أخرجها في قوة جديرة بالتسجيل بالنظر لما فيها من دقة العضلات وتفاصيل الجسم وحسن التمثيل
أحمد موسى(189/63)
القصص
شحاذ الأرواح
للكاتب الإيطالي جيوفاني بابيني
دفعت آخر قرش كان معي ثمناً لفنجان القهوة ثم أخذت أفكر في الجوع - الجوع للطعام والجوع للشهرة - إذ لم يكن هناك من يهمه أمري حتى صاحب المجلة التي أكتب فيها لم يكن يقبل مني قصة إلا عندما لا يجد أفضل منها، وقد اعتاد أن ينفحني خمس (ليرات) سواء كانت القصة طويلة أو قصيرة.
في ذلك المساء من شهر يناير كان الجو يدوي بالرياح القوية العاصفة وأصوات الأجراس الرتيبة العالي، فدلفت إلى أحد المقاهي الكبيرة أتفرس في الوجوه النائمة المتعبة، ثم أخذت أرتشف فنجان القهوة وأنا أفكر في مخاطرة غريبة تصلح لأن تكون موضوعاً لقصة. فأخذت أقدح زناد فكري علني أهتدي إلى فكرة لقصة أصيب منها بضع ليرات تكفيني يوماً أو يومين.
كنت مضطراً لأن أكتب قصة في تلك الليلة أقدمها لصاحب المجلة في الصباح، فينفحني مبلغاً من المال يكفي لأكلة طيبة، فأخذت أفكر أترقب أول خاطر يهفو بذاكرتي أملأ به تلك الأوراق البيضاء التي وضعتها أمامي على المنضدة.
قضيت أربع ساعات وأنا على هذه الحالة من الانتظار والحيرة ولكن رأسي كان فارغاً وخيالي ثقيلاً وذهني مكدوداً، فيأست من كتابة أي شيء في تلك الليلة فألقيت بآخر قطعة من نقودي على المائدة وانصرفت.
ولكني لم أكد أترك المقهى حتى جال بخاطري ذلك القول القديم وهو (إذا استطاع الإنسان العادي أن يدون حياته الخاصة فإنه يخرج لنا أعظم القصص) ثم أخذت أفكر في هذا ولكني لم أصل إلى شيء جديد. إلا أنه ما كدت أصل إلى منزلي حتى وقفت وقلت لنفسي (لماذا لا تحاول هذا بنفسك. لماذا لا تكتب حياة أي رجل عادي يقابلك في الطريق).
لم يكن لدي ما أقوله عن نفسي فقد أفرغت كل شيء حدث لي في قصصي، وعلى ذلك يجب أن أبحث عن رجل عادي - وإن كنت لا أعرفه - يقص عليّ قصة حياته.
لاحت هذه الفكرة غريبة وبسيطة حتى أنني عزمت على تنفيذها بأسرع وقت، فتركت(189/64)
منزلي وأخذت أطوف في الشوارع آملاً أن أصادف في تلك الساعة المتأخرة من الليل إنساناً. سرت مسرعاً أتفرس في كل الوجوه محاولاً أن أختار الشخص المناسب ولكني لم أصادف مخلوقاً فانعطفت إلى ميدان صغير ووقفت هناك كأني أحد قطاع الطرق أو أحد لصوص الليل. ثم لمحت شبحاً قادماً فلم أرد أن أفاجئه بهجومي السريع فانتظرت حتى دنا مني فإذا هو رجل عادي قد التف في عباءة طويلة وترك شعره الطويل يتموج في الفضاء فلم أرد أن أساله وتركته يمضي في طريقه، ثم تبعت آخر وكان حليق الذقن محدودب الظهر يتمتم بأغنية إسبانية قديمة لعلها كانت تذكره بأيام شبابه الماضية، فلم أكد أتفرس في وجهه حتى رأيته يغلب عليه النوم فتركته لِشأنه.
إني لا أستطيع أن أتذكر الحال التي كنت فيها في تلك الليلة، كلما فكرت في تلك الحالة فأتصور نفسي إنساناً غريباً من قطاع الطرق يترقب شخصاً لا يعرفه يسأله قصة حياته وهو يتحرق شوقاً لأن ينقض على تلك الفريسة المجهولة، وكأن القدر القاسي قد ظن عليّ بذلك الرجل الذي أنتظر، إذ أن جميع من مروا بي كانت تبدو عليهم علامات الترف والنعيم. ولكني لم أيأس من الوصول إلى بغيتي، فبقيت واقفاً تحت المصباح الذي كان يتمايل كلما هبت الريح ولكن الشوارع كانت مقفرة، ولم تكن تلك الرياح العاصفة تغري الناس على السير في تلك الليلة الباردة. ولكن لم يطل انتظاري إذ لاح على بعد شبح قد أيقض الشارع وملأه حركة بعد سكونه ثم أخذ يدنو مني شيئاً فشيئاً، ولم يكد يقترب مني حتى عرفت أنه الرجل الذي أبحث عنه. لم يكن ذلك الرجل بالجميل ولا بالقبيح. بل كان وسطاً بين الاثنين كما كان وسطاً بين الشباب والكهولة، ذا عينين هادئتين يلبس معطفاً سميكاً على أحدث طراز. فلم يكد يخطو عدة خطوات حتى أوقفته بيدي، فارتاع لمرآي ورفع يدع كمن يتأهب للدفاع عن نفسه ولكني أسرعت فطمأنته أني لا أريد به سوءاً فقلت له في صوت رقيق (لست قاتلاً ولا سفاك دماء ولا شحاذاً وإن كنت شحاذاً من نوع آخر، إني لا أطلب مالاً ولكني أطلب شيئاً واحداً لا يكلفك نفقة هو قصة حياتك) فحملق الرجل في وجهي ثم تراجع إلى الوراء، فتوقعت أنه قد ظن أني معتوه فقلت في صوت هادئ رزين (إني لست مجنوناً كما تظن وإن كنت قريباً من ذلك فأنا كاتب قصص عليّ أن أكتب قصة قبل طلوع النهار لأرد عن نفسي غائلة الجوع، ومن أجل ذلك أسألك أن تخبرني عن(189/65)
كل ما حدث لك. من أنت؟ وماذا تعمل؟ حتى يمكنني أنم أكتب قصتي عنك. إني أصارحك القول إني أحتاج إليك وإلى قصة حياتك وإلى اعترافاتك. أرجوك أن لا تخفي عني شيئاً. إني واثق أنك لا تضن بمساعدة مخلوق بائس مثلي فأنت الرجل الذي كنت أنتظره وربما كنت أستطيع أن أكتب بما تقدمه إليّ أروع القصص.
فبدا على الرجل التأثر ونظر إلي في عطف وإشفاق وقد زال عنه الخوف وقال (حسناً. إذا كنت تريد حقاً أن تسمع قصة حياتي فيمكنني أن أخبرك عنها ولا سيما أنها سهلة بسيطة. فقد ولدت منذ 35 سنة من أسرة كريمة وكنت وحيداً والدي فأرسلاني إلى المدرسة وأنا في السادسة. وفي التاسعة عشرة التحقت بالجامعة وحصلت على درجتي في الرابعة والعشرين. لم أظهر طوال دراستي شيئاً من النبوغ الخارق، أول الغباوة الفاضحة. ثم أعانني والدي على أن أشغل وظيفة في السكة الحديدية وخطب لي فتاة جملية. إني أعمل ثماني ساعات في اليوم وعملي لا يحتاج إلا إلى الصبر وذاكرة متوسطة، ويزداد مرتبي جنيهين كل ستة سنوات، وعلى ذلك فإذا عشت حتى الرابعة والستين فسأحصل على معاش قدره كذا. لقد أنجبت طفلين ولداً وبنتاً، فالولد في العاشرة الآن وسأعده لأن يكون مهندساً. وأما البنت فهي في التاسعة. وسوف تكون مدرسة. إني أحيا الآن حياة هادئة لا يشوبها نكد أو أطماع. أستيقظ في الثامنة من صباح كل يوم وفي التاسعة مساءً أذهب إلى المقهى حيث أتحدث مع بعض زملائي عن الطقس والحرب والحكومة والوظائف. والآن لقد أخبرتك بما تريد، فهل تسمح لي بالعودة بعد أن تأخرت عن موعد ذهابي إلى المنزل عشر دقائق).
ولم يكد ينتهي من كلامه حتى شعرت بشيء غريب اضطرب له جسمي إذ كيف يحيى ذلك الرجل تلك الحياة الرتيبة العادية الثابتة، فأشفقت عليه ومضيت في طريقي وأنا أقول في نفسي (حسناً، هذا هو أحسن نموذج للرجل العادي والبطل الحقيقي للحياة الحديثة. والعجلة الصغيرة في الماكينة الكبرى، واللبنة الأولى في الحائط العظيم، الرجل الذي لا يضطرب كثيراً للخيالات والتصورات، كنت أظن أن مثل هذا الرجل غير موجود ولكني قد وجدته أخيراً واقفاً بجانبي ثم أردت أن أعرف عنه كل شيء فهرولت وراءه وأنا أقول (أليس هناك شيئاً آخر في حياتك، ألم يعرض لك حادث غريب، ألم يحاول أحد أن يقتلك؟ ألم تخدعك زوجتك أو يهزمك عدو؟) فأجابني: (لا شيء من هذا. لقد كانت حياتي كلها هادئة(189/66)
منتظمة فلم أعرف الأفراح البهجة ولا الأحزان القاتلة. لم يحدث لي ما يستحق الذكر) فقاطعته قائلاً: أحقاً ما تقول؟ حاول أن تتذكر - إني لا أكاد أصدق هذا النوع من الحياة. فأجابني: (إني أكد لك أنه لم يحدث لي شيء حتى هذه الليلة، حتى فاجأتني بلقائك الغريب الذي هو أول مخاطرة - فإذا أردت أن تكتب شيئاً فعليك بهذا).
قال هذا ثم مضى مسرعاً بقيت في مكاني أنظر حولي حائراً مذهولاً.
ثم عدت إلى منزلي دون أن أكتب القصة. ومنذ ذلك المساء لم أعد أسخر من أولئك الناس العاديين ثانية.
نظمي خليل(189/67)
البريد الأدبي
كيف يكتبون عن حركتنا الأدبية
قرأنا في صحيفة (هنوفر شر كورير) الألمانية فصلاً كتبه لها مراسلها الخاص في القاهرة تحت عنوان (الشعراء المصريون وأثر الشعر في مجد مصر القومي) فرأينا أن نأتي على ترجمته ليرى قراء العربية كيف يكتب الأجانب عن حركتنا الأدبية وكيف يصورونها تصويراً يبعد أحياناً عن الحقيقة بمراحل؛ قال الكاتب: تبدو مصر بطرافة مشاعرها القومية وروعة سماءها وإقليمها وسحر ماضيها وصراعها المستمر في سبيل الحرية كأنها موطن الشعر، وتبدو وكأنها تذكي الفكر وتجذبه، بيد أن ترثها الأدنى، وبالأخص ترثها من الشعر السياسي والقومي يبدو متواضعاً جداً. ويرجع ذلك إلا أن شعب النيل منذ عهد النيل يرزح تحت صنوف الاستعباد والذلة؛ فبعد الإسكندر الأكبر جاء قياصرة روما، ثم قياصرة بيزنطية، ثم العرب، ثم الترك؛ وهكذا مزق صرح الوحدة القومية الذي لا بد منه لكل تقدم عقلي قومي؛ ومنذ عصر محمد علي أي منذ نحو قرن بدأ نماء هذا الصرح القومي وألف ختامه الظاهري أخيراً حيث استطاعت مصر أن تحقق حريتها السياسية وسيادتها القومية، بيد أنها رغم هذا الظاهر لا تزال من حيث الناحية المعنوية في المؤخرة.
وللجاليات الأجنبية التي تعيش في مصر منذ بعيد، رغم تطور مصر القومي أثر قوي في جميع مناحي الحياة؛ وقد كانت الدوائر الاجتماعية التي كان بوسعها أن تعمل على خلق نهضة ثقافية خاصة على اتصال دائم مع الأجانب، بيد أنها فيما يتعلق بشؤون الأسرة اتجهت إلى اسطنبول، لأن معظم رجال هذه الطبقة كانوا يتخذون زوجاتهم من التركيات، وهؤلاء طبعنا الحياة العائلية بطابعهن ولغتهن؛ بل لقد غلب التركية على العربية، وألقى بالعربية في الشارع حتى غدت في مستوى العامية، ولم تبقى اللغة الأدبية إلا في الدوائر الدينية، وبقى مثلها الأعلى لغة القرآن.
وتبوأ الدين زعامته إزاء الاستعباد المستمر وسحق الكرامة الوطنية، وسادت الفكرة الإسلامية كل نواحي الحياة العامة والاجتماعية؛ فحال ذلك دون نهضة الشعر القومي؛ وقامت ضد الفكرة الوطنية فكرة الجامعة الإسلامية، ولم تتخذ الفكرة السياسية لها مكاناً خاصاً بل غمرتها الفكرة الدينية فسارت في أثرها؛ وهكذا كان منحا الشعر السياسي فأنه(189/68)
سار في أثر الفكرة الدينية؛ واجتمع حول رعاية القصر في عهد أول زعيم لنهضة مصر الثقافية في العصر الحديث ألا وهو الخديوي إسماعيل؛ ومن شعراء هذا العهد علي الليثي وعبده الحمولي (كذا).
وتقدمت عملية ترقية الشعب علي يد البعثات التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا، وعاد أولئك الشبان إلى مصر يحدوهم العزم في أن يخلقوا لمصر حياتها العقلية الخاصة؛ بيد أنه كانوا دائماً متأثرين بالنفوذ الأجنبي ولا سيما النفوذ الفرنسي، وفي أثناء هذه البداية في سبيل الوحدة القومية وقعت الحوادث العرابية التي انتهت باحتلال الإنكليز لمصر؛ وهنا ظهر لأول مرة جيل فتي من الكتاب والشعراء يهتف بحريات الوطن والذود عنها، وشرد أبناءه في السجن والمنفى؛ وكان أهم أعلام هذا الجيل سامي البارودي محمد عبده.
وبث الاحتلال الأجنبي وما أصاب الوطنية الوليدة روحاً جديدة في الوحدة القومية؛ وظهر في مصر أول الزعماء الوطنين في المشرق، وأسس مصطفى كامل تلميذ جولييت آدام وبيير لوتي الحزب الوطني، وأدرك هذا الزعيم منذ البداية أهمية الشعر والكتابة في النهضة الوطنية فجمع حوله ما هنالك من كتاب وشعراء قلائل؛ بيد أن هؤلاء لم يكونوا سوى أبواق سياسية؛ ولم ينبغ من هذا الجيل سوى شاعرين اقتحما هذه الدائرة السياسية الضيقة في نظمها هما: شوقي وخليل مطران، فهذان شاعرين بلا ريب وهما يدعوا فقط إلى الوطنية، بل تجولا أيضاً في ميدان التأملات الخاصة؛ وقد ضم ذهنا هما الفكرة المصرية والفكرة الوطنية وتوثقت فيهما عدائهما رغم أن خليل مطران ليس مصرياً إلا بالموطن (وهو سوري المولد) ففي نظمهما يرى الإنسان مصر، كما يود أن يراها كل منهما؛ تلك هي مصر المصرية وللشعب المصري.
هذا ما نشرته الصحيفة الألمانية، وفيه ما يغني عن التعليق، بيد أننا نلاحظ فقط أن ما نكتبه نحن عن أدب الغرب وعن الحركات الأدبية الغربية يندر أن يعرض لمثل هذا الخلط في الوقائع والتصوير وإن لنغتبط إذ يعني القوم بالكتابة عنا كما نكبت نحن عنهم، بيد أنا نرجو أن يوفقوا في دراساتهم لشؤوننا وحركاتنا بأكثر فيما يبدو في مقال الكاتب.
الأزهر والمؤتمرات الدولية
قرر مجلس الجامع الأزهر تلبية لدعوة المكتب الدولي للتعاون الثقافي أن يشترك في شهود(189/69)
مؤتمر القانون الدولي الذي تقرر عقده في مدينة لاهاي (بهولندة) في شهر أغسطس القادم، وسيمثل الأزهر الشريف الإسلام ويقدم إلى هيئة المؤتمر بحوثاً شرعية في الوقف والمواريث والهبة وغيرها من المسائل التي تمتاز بطرافة أحكامها، وسيتألف الوفد الأزهري إلى مؤتمر من ثلاثة أعضاءهم الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم رياض مدير قضايا بنك التسليف الزراعي والأستاذ عبد الرحمن حسن القاضي الشرعي والأستاذ محمود شلتوت المدرس بكلية الشريعة وقد سبق أن اشترك الأزهر في الأعوام الأخيرة في غير مؤتمر دولي علمي أو ديني، وهذه السنة حسنة تمهد لتعاون الأزهر مع الهيئات العلمية والدولية الكبرى، وتزيد في هيبته العالمية.
تحريم جوائز نوبل في ألمانيا
سبق أن أشرنا في عدد سابق من (الرسالة) إلى الضجة التي حدثت في ألمانيا على أثر منح الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للسلم إلى الكاتب الألماني كارل فون أوسيتسكي، وإلى ما أبدته الحكومة الألمانية يومئذ من الامتعاض والتأثر لأنها ترى في الكاتب الذي أسبغت عليه لجنة نوبل هذا الشرف خائناً لوطنه، والخيانة هنا هي أن أوسيتسكي كان قبل قيام النظام الهتلري يدعو إلى السلم ونزع السلاح ومنع الحروب، وهي مبادئ تخالف الأماني العسكرية والإمبراطورية التي تتعلق بها ألمانيا النازية: وكان أوسيتسكي حينما أنعم عليه بجائزة نوبل سجيناً في المستشفى، ولكن الحكومة الألمانية سمحت له تحت ضغط الرأي العام الدولي أن يقبل الجائزة. على أنها اتخذت أخيراً في هذا الموضوع خطوة حاسمة، فقد قررت أن تحرم جوائز نوبل أياً كانت على الألمان، وأنشأت هي جائزة قومية ألمانية قدرها ثمانية آلاف جنيه، (وهو ما يساوي قيمة جائزة نوبل)، وبذلك خرجت ألمانيا من عداد الدول التي يتقدم علماؤها وكتابها لنيل الجوائز الشهيرة، وقد فاز الألمان منذ نهاية الحرب الكبرى بنحو خمس وعشرين جائزة في مختلف العلوم والفنون والآداب، ولكن ألمانيا الهتلرية تمقت كل حركة تمازجها الصفة الدولية، وكل شرف لا يطبعه الشعار القومي، وهي من جهة أخرى لا تريد أن تسمح للهيئات العلمية الأجنبية أن تكون حكماً عليها في أمر من الأمور كما حدث في مسألة كارل فون أوسيتسكي.
طوالع الأيام قديما وحديثا(189/70)
كان العرافون القدماء يحصون الحوادث السيئة والحوادث الطيبة في أيام معينة لكي يستخرجوا بعد ذلك الأيام السعيدة والأيام المنحوسة، وقد انتهوا بعد أجيال إلى القول بأن هناك أياماً بعينها تعتبر أياماً سعيدة، وأخرى تعتبر منحوسة، وكانت هذه الأيام معروفة منذ العصر الغابر، وكان يعرفها أهل بابل قبل المسيح، وكان المصريون القدماء يقولون أيضاً بمثل هذه التفرقة بين الأيام، ولهم قوائم معينة بالسعيد منها المنحوس، واستمرت هذه القوائم معروفة متداولة حتى العصور الوسطى. وعندئذ طبقها العرافون على أيام التقويم الجريجوري.
فمثلاً يمثل يوم الاثنين السلام، ويمثل الأربعاء والخميس الشجاعة والأحد يمثل الراحة والسعادة، وهذه هي الأيام السعيدة. أما الأيام المنحوسة فهي الثلاثاء وهو مارس إله الحرب، والجمعة وهو يوم فينوس، والسبت وهو يوم زحل.
أما العرب فقد خالفوا هذا الاستنتاج، واعتبروا يوم الجمعة من الأيام السعيدة، وأنه يوم القرآن.
ويرى العرافون المحدثون ألا يأخذوا في ذلك بأقوال القدماء، وأقوال عرافي العصور الوسطى، ويرون أن لكل إنسان طالعاً بظروف وحوادث معينة، وعلى هذا الطالع يتوقف مصير الإنسان مدى الحياة.
رحلات بيتر موندي
صدر أخيراً كتاب بالإنكليزية عن رحلات رحالة إنكليزي في القرن السابع عشر تعتبر في ذاتها وثيقة تاريخية هامة، والرحالة المذكورة هو بيتر موندي، وقد كان موظفاً في شركة الهند الشرقية التي بدأت استعمار الهند، وكتب عن أسفاره ومشاهداته مذكرات يومية لبثت مخطوطة حتى العصر الأخير، وعندئذ عنى بنشرها السير تمبل فنشر منها أربعة مجلدات حتى سنة 1925، وصدر أخيراً المجلد الخامس والأخير، وفيه يقص موندي رحلته الأخيرة إلى الهند، ويصف البلاد التي زارها أثناء مسيره في أوربا وآسيا ولا سيما الجزائر الأفريقية التي كانت ترسو بها السفينة مثل سنت هيلانة وأسانشيون. وقد شهد موندي حوادث الثورة الإنكليزية ولكنه حريص في سردها، يقدمها كما وقعت دون تعليق، وتتناول(189/71)
هذه الفصول وصف كثير من المدن الآسيوية ومشاهدها في هذا العصر الذي أخذ الشرق ينحدر فيه إلى سبته الطويل، وأخذ الغرب يتربص به وينقض عليه تباعاً، وقد عاش موندي بين سنتي 1208 و 1667، وصدرت رحلاته بهذا العنوان: رحلات بيتر موندي في أوربا وآسيا، ومن المحقق أن المؤرخ يجد في مذكراته كثيراً من الوقائع والحقائق التي تفيد في درس مجتمعات القرن السابع عشر.
في ميدان الاجتهاد
مسألة الاجتهاد في الدين - من المسائل الفكرية - التي تعني الرسالة بدرسها وتسجيلها - من أجل ذلك فتحت صدرها لمقالات الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي (في ميدان الاجتهاد) - المجلد السادس: 58 و 260 و 464 - والمجلد السابع: 1998 - ونشرت آراءه فيها - فكان من رأيه فيها:
1 - (أن نعتمد من رجال كل من أهل السنة والشيعة والخوارج من اعتمدوه - ونرفض منهم من رفضوه - ولا يوجد ما يمنعنا من الانتفاع بالحديث الضعيف في التشريع - والأخذ به عند الحاجة إليه، فلا نرفض من الأحاديث إلا ما ثبت أنه موضوع بيقين ولا نهتم من رجال الحديث إلا من ثبت عليه الكذب قطعاً ورب حديث ضعيف يكون هو الصحيح - ورب رجل متهم. يكون هو الرجل الثقة).
2 - (أن نحذف الإجماع من بين الأصول التي يرجع إليها في الاجتهاد - وأن نرجع مباشرة إلى النصوص التي لا بد من استناده إليها - فقد يفتح الله علينا بفهم جديد - غير ما فهموه منها)
3 - (ألا نقتصر في القياس على إلحاق الشبيه بالشبيه لأن هذه السنة قد اختلفت رواياتها اختلافاً كبيراً ولا بد من تحكيم الرأي فيها تحكيماً مطلقاً)
4 - (إن الاجتهاد جائز في الأصول وفي الفروع لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمجتهد أجرين إذا أصاب وأجراً واحًدا إذا أخطأ، ولم يفرق بين أصول وفروع - بل أطلق الأمر إطلاقاً - وفتح باب الاجتهاد في الأصول والفروع معاً)
5 - وكان الأستاذ في آرائه تلك خارجاً على العلماء الأصوليين المتأخرين - كما قال هو عن نفسه في الرسالة (118).(189/72)
6 - (ولم يدع العصمة فيما قال - بل عرض رأيه على صفحات هذه المجلة - لنشترك فيه الآراء - وتمحصه البحوث - كما قال في خاتمة مقالاته (في ميدان الاجتهاد))
فما هي آراء العلماء الأعلام - في هذه المسألة؟ أرجو أن يدلوا بها باختصار - وأنا واثق أن (الرسالة) التي أثارت البحث في هذه المسألة المهمة - ونشرت كل قال الأستاذ الصعيدي - لن تضن عليهم بنشر ما يرونه - وهذه سبيل الوصول إلى الحقيقة - التي نريدها ويريدها الأستاذ الصعيدي - والمسألة مهمة - تتصل بأصل الدين - ولا يجوز التغافل عنها.
دمشق
علي الطنطاوي
المعارض الدولية
أصبحت المعارض الدولية عنوان النهضات الاجتماعية والاقتصادية ومع أنه لم يمض على البدء بتنظيمها أكثر من ثمانين عاماً. فإنها تغدو اليوم من أعظم المظاهرات القومية والدولية في سائر نواحي التقدم، وقد أقيم أول معرض أو سوق عالمية من هذا النوع في لندن سنة 1851 في قصر البلور الذي التهمته النيران منذ أسابيع قلائل: ثم تبعه معرض باريس في سنة 1855، وفي سنة 1878 أقامت فرنسا معرضها الشهير في قصر (التروكاديرو) الذي أنشأ خصيصاً لإقامته فأحرزت بإقامته نجاحاً عظيماً وذاع صيته في أنحاء العالم وفي سنة 1889، أقامت معرضاً عظيماً آخر. هو الذي أقيم لمناسبته برج أيفل المشهور، وعرضت فيه مناظر فنية وموسيقية في جميع أنحاء العالم ومنها القاهرة، وقد كانت هذه المعارض في الواقع مراحل واضحة لما بلغته الأمة من التقدم في سائر النواحي والمرافق.
أو هي كما يقول المؤرخ (تاين) تبيان عصر، وتعبير مجتمع. ومن المحقق أن المؤرخ يجد في هذا المناظر المختلفة مجموع ما انتهى إليه مجتمع العصر من ضروب التقدم العقلي والاجتماعي، ولقد بلغ الشغف في إقامة هذه المعارض في عصرنا ذروته، وأصبحت الأمم الكبرى تتنافس في إقامتها وفي الإنفاق عليها. حتى لقد تبلغ من الضخامة والتنوع قدر(189/73)
المدينة العظيمة، وقد يقتضي الطواف بمعرض أو سوق دولية ساحات طويلة قبل أن تلم بمناظره ومحتوياته. والمنتظر أن تكون سوق باريس الذي تستعد فرنسا لإقامتها منذ أعوام. والتي ستقام في الربيع المقبل أعظم مظهر دولي لما بلغته هذه المظاهرات الاجتماعية والاقتصادية من الفخامة والتنوع والرونق والجمال.(189/74)
الكتب
إحياء النحو
تأليف الأستاذ إبراهيم مصطفى
خير ما تقدم به هذا الكتاب القيم إلى القراء أن ننشر هذه المقدمة التي صدره بها مؤلفه الفاضل فقد حدد فيها الموضوع ورسم الطريق وبين الغاية. وللرسالة بعد ذلك كلمة فيه
هذا البحث من النحو عكفت عليه سبعة سنين وأقدمه إليك في صفحات. سبع سنين من أواسط أيام العمر وأحراها بالعمل، صدقت فيها الاعتكاف إلى النحو، وإلى ما يتصل بمباحثه، وأضعت له من حق الصديق والأهل والولد والنفس جميعاً.
كان سبيل النحو موحشاً شاقاً، وكان الإيغال فيه ينقض قواي نقضاً، ويزيدني من الناس بعداً ومن التقلب في هذه الدنيا حرماناً. ولكن أملاً كان يزجيني ويحدو بي في هذه السبيل الموحشة؛ أطمع أن أغير منهج البحث النحوي للغة العربية، وأن أرفع عن المتعلمين أصر هذا النحو، وأبدلهم منه أصولاً سهلة يسيرة، تقربهم من العربية، وتهديهم إلى حفظ من الفقه بأساليبها.
كانت بارقات الأمل - خادعة وصادقة - تدفعني في سبيلي، غير راحمة ولا وانية. فليكن ما أنفق من هذا العمر ذخراً في أعمار الدارسين من بعد، ولتكن شيخوخة هذا الشيخ فدى للعربية؛ أن تقرب من طالبيها، ويمهد السبل لمتعلميها.
اتصلت بدراسة النحو في كل معاهده التي يدرس فيها بمصر، وكان اتصالاً طويلاً وثيقاً؛ ورأيت عارضة واحدة، لا يكاد يختص بها معهد دون معهد، ولا تمتاز بها دراسة عن دراسة، وهي التبرم بالنحو، والضجر بقواعده وضيق الصدر بتحصيله؛ على أن ذلك من داء النحو قديماً، ولأجله ألف (التسهيل) و (التوضيح)، و (التقريب) واصطنع النظم لحفظ ضوابطه، وتقييد شوارده.
والنحو مع هذا لا يعطيك عند المشكلة، القول البات، والحكم الفاصل. قد يهدي في سهل القول، من رفع فاعل ونصب مفعول. فإذا عرض أسلوب جديد، أو موضع دقيق، لم يسعفك النحو بالقول الفصل، واختلاف الأقوال، واضطراب الآراء وكثرة الجدل التي لا تنتهي إلى فيصل ولا حكم، كل ذلك قد أفسد النحو أو كاد، فلم يكن الميزان الصالح لتقدير(189/75)
الكلام، وتمييز صحيح القول من فاسده.
وإذا جئنا إلى مدارس الناشئين، كانت المشكلة في تعليمهم النحو أشد وأكد؛ فهو على ما تعلم من بعد تناوله، وصعوبة مباحثه، قد جعل المفتاح إلى تعلم العربية، وكتب على الناشئ أن يأخذ بنصيبه منه، منذ الخطوة الأولى في التعليم الابتدائي والثانوي، واختير له جملة من القواعد، قدر أنها تفي بما يحتاج إليه لإصلاح الكلام وتقويم اللسان، ثم كانت خصومة هادئة قاسية بين طبيعة التلميذ، وبين هذا المنهاج والقائمين عليه. أما التلميذ فقد بذل الجهد واعياً ولم يبلغ من تعلم العربية أرباً. وأما أصحاب المنهج. فقد رأوا أن يزيدوا في منهجهم، ويكملوا للتلميذ حظه من القواعد، فلا سبيل له إلى العربية غير هذا النحو؛ فزادوا في هوامش كتبهم ما يكمل القواعد ويتمم الشروط - ثم تسللت هذه الزيادات إلى جوف الكتاب فضخم، وزاد المنهاج المفروض - ولكن طبيعة التلميذ الصادقة في إباء هذه القواعد، والتململ بحفظها، لم تخف شهادتها، ولم يستطع جحدها، فكانت ثورة على المنهاج وأصحابه، وخفف منه، وانتقص من مسائله، والداء لم يبرأ، والعوارض لم تتغير، وتكررت الشكوى، وعادوا على المنهاج بالنقص، حتى كان المقرر قواعد من النحو مختلفة، كأنما هي نماذج يراد بها عرض نوع من مسائله قد كان في هذا، الشهادة الصريحة بفشل هذا النحو أن يكون السبيل إلى تعلم العربية، والمفتاح لبابها.
ولقد بذل في تهوين النحو جهود مجيدة، واصطنعت أصول التعليم اصطناعاً بارعاً، ليكون قريباً واضحاً؛ على أنه لم يتجه أحد إلى القواعد نفسها، وإلى الطريقة وضعها، فيسأل: ألا يمكن أن تكون تلك الصعوبة من ناحية وضع النحو وتدوين قواعده، وأن يكون الدواء في تبديل منهج البحث النحوي للغة العربية؟
هذا السؤال هو الذي بدا لي، وهو الذي شغلني جوابه طويلاً. ولقد تميز عندي نوعان من القواعد: نوع لا تجد في تعليمه عسراً، ولا في التزامه عناء، ولا ترى خلاف النحاة فيه كبيراً، وذلك كالعدد ورعاية أحكامه في مثل: قال رجلان، والرجلان قالا. وقال رجال والرجال قالوا. فمع دقة الحكم في رعاية العدد، واختلافه تبعاً لموضع الاسم والفعل من الجملة، لا تجد العناء في تصوره، ولا المزلة في استعماله.
ونوع آخر لا يسهل درسه ولا يؤمن الزلل فيه، وقد يكثر عنده خلاف النحاة، ويشتد جدلهم،(189/76)
كرفع الاسم أو نصبه في مواضع من الكلام.
ثم رأيت علامات العدد تصور جزءاً من المعنى يحسه المتكلم حين يتكلم، ويدركه السامع حين يسمع. أما علامات الإعراب، فقل أن ترى لاختلافها أثراً في تصوير المعنى، وقل أن يشعرنا النحاة بفرق بين أن تنصب أو ترفع؛ ولو أنه تبع هذا التبديل في الأعراب تبديل في المعنى. لكان ذلك هو الحكم بين النحاة فيما اختلفوا فيه، ولكان هو الهادئ للمتكلم أن يتبع في كلامه وجهاً من الأعراب.
فلو أن حركات الأعراب كانت دوال على شيء في الكلام، وكان لها أثر في تصوير المعنى، يحسه المتكلم ويدرك ما فيه من الإشارة ومن وجه الدلالة، لما كان الأعراب موضع هذا الخلاف بين النحاة ولا كان تعلمه بهذه المكانة من الصعوبة، وزواله بتلك المنزلة من السرعة.
ألهذه العلامات الإعرابية معان تشير إليها في القول؟ أتصور شيئاً مما في نفس المتكلم، وتؤدي به إلى ذهن السامع؟ وما هي هذه المعاني؟؟
والعربية - لغة القصد والإيجاز - أتلتزم علامات الإعراب على غير فائدة في المعنى، ولا أثر في تصويره؟
لقد أطلت تتبع الكلام، أبحث عن معاني لهذه العلامات الإعرابية، ولقد هداني الله - وله خالص الإخبات والشكر - إلى شيء أراه قريباً واضحاً، وأبادر إليك الآن بتلخيصه:
(1) إن الرفع علم الإسناد. ودليل إن الكلمة يتحدث عنها
(2) إن الجر علم الإضافة، سواء أكانت بحرف أو بغير حرف
(3) إن الفتحة ليست بعلم على إعراب، ولكنها الحركة الخفيفة المستحبة، التي يحب العرب أن يختموا بها كلماتهم ما لم يلفتهم عنها لافت؛ فهي بمنزلة السكون في لغتنا الدارجة
(4) إن علامات الأعراب في الاسم لا تخرج عن هذا إلا في بناء أو نوع من الأتباع، وقد بيناه أيضاً.
فهذا جماع أحكام الإعراب؛ ولقد تتبعت أبواب النحو باباً باباً واعتبرتها بهذا الأصل القريب اليسير، فصح أمره، وأطرد فيها حكمه.
ثم زدت في تتبع هذا الأصل، فتجاوزت حركات الإعراب، ودوست التنوين على أنه منبئ(189/77)
عن معنى في الكلام، فصح لي الحكم واستقام، وبدلت قواعد (مالا ينصرف) ووضعت للباب أصولاً أيسر وأنفذ في العربية مما رسم النحاة للباب. ولا أؤجل عنك إجمال هذه الأصول أيضاً.
(1) إن التنوين علم التنكرين
(2) لك في كل علم ألا تنونه، وإنما تلحقه التنوين إذا كان فيه حظ من التنكير
(3) لا تحرم الصفة التنوين حتى يكون لها حظ من التعريف
والبحث الذي أقدمه إليك الآن، هو شرح موجز لهذه الفكرة ودرس لها في أبواب النحو المختلفة، وبيان لما رأينا موجز لهذه الفكرة ودرس لها في أبواب النحو المختلفة، وبيان لما رأينا من الأدلة لتأييدها وكنت أريد أن أشكر لصديقي الدكتور طه حسين، وأذكر فضله في إتمام البحث وإخراج الكتاب؛ ولكنه آثر أن يقدم الكتاب، وانزلق إلى الثناء على صاحبه، فأجررت أن أتكلم.
وحق علي أن أشكر تلاميذي الذين عاونوني في شيء من المباحث، وإن لم أملك الآن أن أسميهم وأعمالهم.
وأحمد الله حمداً ملؤه التوحيد والتمجيد والشكر.
قصة الكفاح بين روما وقرطاجة
تأليف الأديب توفيق الطويل
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
ما زال الناس يستلهمون التاريخ ويستمدون منه العبرة كلما ألجأتهم ضرورة في حاضرهم إلى ذلك، فإن تجربة العصور في حاضرها لا تغني الناس إذا شاءوا التماس الحكمة أو استبانة القانون الإنساني، وذلك أن حوادث السنين لا تتصل نتائجها بمقدماتها إلا بعد مضي القرون ولا تكمل عبرتها إلا بعد توالي الأجيال. وليس في تكرار التمثل بعبر الزمان إعادة ولا في تعدد النظرات إليها إباحة لها أو ابتذال، فان الحادثة الواحدة قد تنطوي على ما لا حد له من العظات، وقد يتناولها الناس في كل عصر فيجد كل منهم فيها ناحية من المعنى مخالفة لما وجده سواه من معانيها. ولقد كان النضال بين قرطاجة ورومة أحد هذه المواقف(189/78)
التاريخية الفذة التي هزت العالم هزة قوية في أبانها، وما زالت العصور التالية ترجع وتلتفت صوبه، وكل منها يشير إلى ما يبتغي من عبرة فيه أو يتحدث عنه حديثاً يوحيه إليه موقع الضوء عليه في ناظره، وهكذا كان شأن الأستاذ (توفيق الطويل) مؤلف هذا الكتاب عندما تناول بالبحث هذا النضال.
لقد نظر المؤلف الفاضل إلى تلك الحرب التي يسميها التاريخ بالحرب اليونانية كما نظر سواه إليها ووصفها ورسم لنا منها صورة خاصة لا أظن أنها تشابه صورة أخرى رسمها أحد في لغة العروبة فهو قد استدرج الذهن من موقعه إلى موقعة ومن صورة إلى صورة حتى بلغ به النهاية فأشار إليه مومئاً إلى ما تحت قدميه، فإذا بالعبرة التي كان يرمي إليها ماثلة واضحة لا يستطيع أحد أن يخالف فيها ولقد كانت الشعوب الإنسانية منذ القدم ينافس بعضها بعضاً في كل ميادين النشاط والمطامع، فلقد كانت تتنافس في امتلاك الأراضي وفي الانتفاع بالمراعي، وكانت تتنافس في القوة والمنعة ثم هي تتنافس اليوم في كل هذه المعاني بوسائل سلمية تارة وحربية أخرى. غير أن ذلك التنافس الإنساني كانت له مظاهر عدة، فقد كان يحدث بين وحدات القبائل الصغيرة في دائرة محدودة كما كان يحدث بين الأجناس والشعوب في دوائر أوسع، فأنا لا نكاد نجد عصراً خلا من محاولة شعب من شعوب الأرض سيادة سائر الشعوب ونبوغ شعب آخر يتصدى له بالدفاع، فإذا بشعوب الأرض موزعة بين الزعيمين المتناضلين حتى ينتهي الأمر بإذعان أحدهما أو انقراضه وضياع سلطانه. وقد حاول بعض علماء التاريخ أو الاجتماع أن يخلصوا من استقراء ما حدث من ذلك النضال في كل العصور إلى أن أجناس العالم بينها طائفتان كبريان لا تفتأ تميل إلى النزاع والنضال على سيادة الأرض، فيسمون طائفة من الطائفتين شرقاً والطائفة الأخرى غرباً، ويقول هؤلاء العلماء إن النضال بين هاتين الطائفتين دائب مستمر استمرار الليل والنهار فقد يحدث أن شعبين من طائفة واحدة يثوران حيناً للنضال ثم لا يلبثان أن يستقرا على نوع من التفاهم والتجاور، في حين أن الطائفتين الكبريين لا يستقر بينهما النضال بل لا تزالان تتصاولان وتتصارعان. فإما إحداهما سيدة غالبة، والأخرى تناضل في سبيل الحياة تجاهها، وإما أن تنقلب الآية فتصبح السيدة مسودة والمستضعفة سيدة، وهؤلاء العلماء يجعلون قرطاجة وروما رمزيين لهاتين الطائفتين الكبريين في العصور(189/79)
التي سبقت الميلاد بقرنين أو ثلاثة. كما أنهم يجعلون حرب الفرس واليونان رمزاً لذلك النضال قبل ذلك، وحرب العرب والروم ثم الفرنج رمزاً له في العصور الوسطى.
ومهما يكن من أمر هذا الرأي فأنا لا نستطيع أن نغضي عما فيه من الضعف والتعسف، فالحقيقة التي لا شك فيها هي أن أمم الأرض تتنازع وتتناضل فيما بينها. وان ما بقي بعد ذلك من التحديد ناشئ من الظروف والحوادث. ولقد كان نضال قرطاجة ورومة بغير شك من أروع مواقف النزاع العالمي، ولكن لم تكن رومة لتمثل عند ذلك شيئاً اسمه الغرب، ولم تكن قرطاجنة تمثل شيئاً اسمه الشرق، فقد كانت مصر عند ذلك تحت سلطان البطالسة العظام، وما كانت قرطاجنة إلا مدينة نامية تستولي على المال وتستخدمه في سبيل بسطة سلطانها بأن تسخر الجيوش لتنتصر لها في حروبها، وما كان لمثل هذه المدينة أن تكون زعيمة الشرق أو الآخذة بزمامه في نضال السيادة العالمية، بل لقد كانت مصر أجدر منها بذلك وأحرى
ويلوح لي أن المؤلف الفاضل لا يذهب مع أصحاب الرأي المتقدم فأنه علم أن قرطاجنة لها رحم بالساميين لم يجعلها ممثلة الشرق في نزاع الأجناس، بل نظر نظرة أخرى تختلف كل الاختلاف عن تلك الوجهة التي أشرنا إليها، فهو لا يتعصب لها ولا يراها تمثل مثلاً من أمثلة الشرق العليا، بل أنه لينظر إلى المثل العليا لروما على أنها أقرب إلى تمثيل مثل الإنسانية عامة، وهو يتحدث عن حوادث نضال قرطاجنة وروما حديث من يريد أن يتغلغل دون السطح ليتخذ من بحثه عظة وتنفعنا في حاضرنا فهو يريد أن يوجه أنظارنا إلى أن قرطاجنة قد فنيت لأنها كانتا جديرة بالفناء، وأن روما قد بقيت ونمت لأنها كانت جديرة بالبقاء والنمو، ثم هو يشير لنا وهو يسير في حديثه إلى الأسرار التي أهلت كلاً من المدينتين إلى مصيرها وجعلتها جديرة بما نالها.
خلفت الأساطير قصتين عن منشأ المدينتين المتناضلتين، وما أحرى هاتين الأسطورتين أن تكونا مختصرة لتاريخهما. فروما تنشأ في العراء وتغذوها الوحوش ثم ترويها الدماء ولكنها ترفض الاستكانة إلى الدعة ويطلب أهلها العيش في ظلال المكارم، فلا تزال مثلها العليا الخشونة والقوة والقسوة. وقرطاجنة تنشأ هرباً من مطامع الطامعين لتنفرد في مأمن تتمتع في برغد العيش وذكريات السعادة ولكنها لا تلبث أن تحرق نفسها دفاعاً لمطامع جديدة(189/80)
اتجهت إليها من ناحية أخرى. وما كانت التاريخ ليحدثنا عن المدينتين إلا هكذا إذ شاء اختصار حكاية كل منهما في كلامات قليلة.
وانه لمن ألذ المطالعات أن يتتبع القارئ وصف هذا الكتاب لحوادث تلك الحقبة من الدهر، فان فيه خصالاً ثلاث تسمو به. دقة في البحث، ونفوذ في النظر، وجمال في الأسلوب.
وإني لأنتهز هذه الفرصة لتهنئته تهنئة حارة على ما أصاب من إجادة وتوفيق.
محمد فريد أبو حديد(189/81)
العدد 190 - بتاريخ: 22 - 02 - 1937(/)
على هامش الرتب والنياشين
شكر المنعم واجب
قال لي صديقي وهو أبيٌّ وفي نزيه: ألا يوحي إليك إنعام العرش وإكرام الوزارة كلمة في الرسالة؟ فأجبته جوابا أملس لا يتماسك عليه إيجاب ولا سلب؛ لأن نفسي قلما تنفعل لما يشغل الناس من ضحكات القلوب في هذه الحياة. فقال في لهجة حادة جازمة: إذا لم تكتب أنت كتبت أنا، لأن الأمر بالنسبة إليك يستغرق الفكر طويلا ويستوجب الشكر جهرة
انصرفت عن صديقي ومضيت في طريقي أقاول نفسي في اقتراحه، وأداول عقلي على رأيه. فانثالت على خاطري معانٍ لا أدري أين كانت
لا جرم أن الأمر بالإضافة إلي يستغرق كما قال صديقي الفكر طويلا ويستوجب الشكر علانية، ولا ريب أن واجب الشكر على هذا العطف السامي لا يسقط عني بتسجيله في دفتر التشريف بقصر المُلك ودار الرياسة، فإني لم ألق همي إلى هذا الأنعام، ولم أضع نفسي في طريق هذا الوسام، ولم أكن ذا منصب فأقدّم على حسب ما قضيت به من زمن أو أمضيت فيه من كفاية، ولا صاحب مال فأكرم على قدر ما أنفقت منه في مشروع الدفاع أو في سبيل الخير؛ ولست بالكاتب السياسي الذي يكافأ على عظم جهاده وكرم تضحيته، ولا بالأديب الصالوني الذي يقرب للطف مدخله وحسن مصانعته؛ وإنما أنا رجل لا أحسن بطبعي تكاليف المجتمع: أعيش في زاوية مظلمة من زوايا الحياة، وأدور في دائرة ضيقة من دوائر الوجود، لا أتعرض لأقطاب السياسة، ولا أتعلق بأصحاب النفوذ، ولا أخرج عن هذا النطاق الصوفي الذي ضربته عليّ مواهبي، وحصرت فيه رغائبي وواجبي؛ فأنا كما أجدني في شعوري هوى خالصاً من أهواء الطبيعة: أمجد الوادي لأنه الوطن، وأقدس الملك لأنه الدولة، واحب الوفد لأنه الشعب، وأوثر الخير لأنه الجمال، وأعشق الأدب لأنه الحياة. فإذا نفذت مع ذلك عين الوزارة إليّ، وبسطت جناح برها عليّ. دل ذلك على يقظة تخترق كل حجاب، وعدالة تشمل كل فرد، ونزاهة تفند كل اعتراض
ولا يمكن أن تكون الوزارة قد قصدت بهذا التكريم شخصي الضارع، وإنما قصدت به ولا ريب تكريم الأدب المستقل في جندي من جنوده، وتشجيع الجهاد الثقافي في ناحية من نواحيه. فأما عسيُّ أن أشكر هذه اللفتة الكريمة بلسان الأدب لأنها إلى الأدب، وعلى منبر(190/1)
(الرسالة) لأنها متصلة بهذا السبب
كان العهد بالسلطان المطلق أن يكون إنعامه على رأي ابن المقفع أشبه بشجرة الكرم تعلق بأقرب الشجر لا بأكرمه، فلما غلبت الديمقراطية على طبيعة الملك، وقبضت الأمم على أزمة الحكم، تهيأ لكل فرد أن ينال نصيبه المقدور من الكرامة القومية العامة، والسيادة الوطنية المشتركة، وتسنى للنبوغ المستور، والذكاء المغمور، والعبقريات الفقيرة، أن تطاول في المجد شرف الولادة، وتنافس في الجاه سلطان الثروة
وهذا الذي تفعله الحكومة من اقتراحها الألقاب المميزة والأوسمة المشرفة لأبناء الأمة، ظاهره يخالف طبيعتها الشعبية، ولكن باطنه يوافق المنطق ولا يعدو الإنصاف. فإن المساواة روح الدستور وجوهر العدالة، فإما أن تلغى هذه الألقاب فيصبح الناس سواسية أمام المجتمع، كما هم سواسية أمام القانون؛ وإما أن تبتذل هذه المميزات حتى تتدانى الطبقات ويقصر هذا الفرق المهين بين (الباشا) و (الفلاح)
لقد كانوا بالأمس يعيرون الوفد أنه حزب الرعاع وقائد السوقة، فما بالهم اليوم وقد ورث أمجاد الوطن يعيبونه أن يرفع عن حزبه أو شعبه معرة هذه الإهانة؟
زعموا أن الديموقراطية العاملة حين ثارت في فرنسا على الأرستقراطية العاطلة، أوحت إلى العمال العراة الجياع أن يقتحموا قصور السراة والنبلاء، فلبسوا وشيهم، وتقلدوا حليهم، وغرقوا في مقاعدهم المنجدة، وطعموا على موائدهم المنضدة، فشعروا في ساعة واحدة باسترداد ما فقدوه في الحقب الطوال من اللذة والعزة والكرامة والعظمة؛ فلم لا يكون ذلك من هذا؟
عفواً! لقد كدت أخرج عن موضوع الشكر وما قضيت منه لبانة وما نقعت به غلة. وليس الشكر باباً من أبواب الملق ولا ضربا من ضروب التنبيه كما يظن، ولا هو قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة كما يقال، وإنما هو للصنيعة كالاعتراف للاقتراف والتسبيح للعقيدة، يخفف عبء المنة عن الضمير ويكفكف سورة الإيمان عن القلب!
ولئن كان يخجلك في رأي نفسك من التكريم أن تسعى إليه، لقد يخجلك في رأي غيرك إلا تشكره وقد سعى إليك
على أن الأدب نفسه سجل عصره بما فيه من محاسن ومساوئ؛ فهو يضمن الذكر والشكر(190/2)
لمعضده، كما يضمن المجد والخلود لموجده. والأدب كان ولن يزال لغة التاريخ، ولسان النهضة، وقبس الروح، وومضة الإلهام، ورائد الإنسانية إلى المثل الأعلى؛ فلا يمكن أن يكون رجاله في عهد الذين اشتهرت زعامتهم به، وقامت دعايتهم عليه، أضعف ركناً واقل شأناً من رجال الأعمال وأصحاب الأموال وعبيد الأرض
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بناة المعالي كيف تبنى المكارم
أحمد حسن الزيات(190/3)
في الحب أيضا
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أرجو إلا يتوهم أحد أن هذا حديث في فلسفة الحب فإنه لا قدرة لي على الفلسفة، وقد فقدت إيماني بها مذ خذلتني وخيبت أملي وعجزت عن أن تفسر لي شيئا مما يحيرني في هذه الحياة. وقد قرأت كثيرا مما كتبه الذين ينسبون إلى الفلسفة وإلى البحث العلمي، غير أني لم اقتنع به ولم استرح إليه. ومن سوء الحظ - حظي أنا بالطبع كما لا أحتاج أن أنبه - أنه ليس لي في هذا الباب تجربه تستحق الذكر حتى كنت أعرض ما يقول الفلاسفة والعلماء على ما جربت وأرى إلى أي حد أصابوا ووفقوا. ولست أكتمكم أني عاجز عن هذا الحب. وعسى أن أكون واهما لا عاجزا. ولكني ما قرأت قط شعر العشاق وما قالوه في الصبابة والوجد وفي ما تضطرب به نفوسهم وتجيش به صدورهم من الخوالج والاحساسات في القرب والبعد، والإقبال والصد، والمواتاة والحرمان، ولا سمعت ممن اعرفهم وصف ما جربوا من ذلك إلا قلت لنفسي - حين أخلو بها - (اسمحي لي يا نفس أن أقول انك - ولا مؤاخذه - بليدة) فتسألني لماذا؟ فأقول (لأني لا أراك تحسين شينا من هذا الذي اجمع على وجوب الإحساس به الشعراء والناس قاطبة. فهل أنت بليدة أم هؤلاء كلهم كذابون أو على الأقل مبالغون؟) ولا احتاج أن أقول أني لا اخرج من هذا الحوار الذي يدور بيني وبين نفسي بشيء آنس به واستريح إليه. فإنها تصر على أن الناس مبالغون وأصر أنا على منطق (قرقوش) المشهور. فقد قالوا أن ناسا كثيرين وضعوا رجلا من الأحياء في نعش وحملوه فيه كالميت، فمر قرقوش بجنازته فصاح به الرجل مستنجدا وأكد له انه لا يزال على قيد الحياة، فاطرق قرقوش قليلا وفتل شعرات من لحيته ثم رفع رأسه ونظر إليه وإلى الناس وقال: (أتريد أن أصدقك واكذب هذا الخلق كله؟) وكذلك أنا مع نفسي - لا يعقل عندي أن تكون هي وحدها على صواب وكل هذه الملايين من النفوس مخطئه أو كاذبة، أو مبالغة.
ولا أنكر أن نفسي كانت تتحرك أحيانا فأشجعها مسرورا واستحثها فرحا بيقظتها بعد طول السبات، ولكن أقصى ما جربت حين تفتح النفس عينيها على ما حولها أن يخفق القلب خفقان تصعد به إلى حلقي من فرط شدتها، فأفهق وتعود فتهوي به إلى قريب من حذائي(190/4)
كأنما هذا ليس قلبا وإنما ركب لي الله سبحانه في مكانه لعبة من لعب (اليويو) التي شاعت في الزمان الأخير. وأحيانا اشعر بأن حولي فراغا وأحس شيئا من اللهفة وقليلا من الشوق، ولكنه شوق هادئ ولهفة محتمله لا تثقل على النفس ولا يشقى بها القلب ولا يسود من جرائها العيش. وشبيه بذلك أن يشتهي الإنسان أن يرى شريطا من أشرطة السينما سمع عنه ثناء أو أن يشتاق أن يطوف حول الأرض أو يشاهد معرضاً كبيراً في بلد ناء. ولا أضن أن هذا يعد حبا بالمعنى القديم أو الحديث
وللسامع العذر إذا تساءل: (كيف إذن كنت تقول الشعر في شبابك وتذكر فيه الحب ولواعجه وصباباته وما تزعم أنك كنت تعانيه من السهد والضنى أو تريقه من الدموع إلى آخر ذلك) والسؤال طبيعي ولكن الجواب عنه حاضر، ولولا عادة الصدق التي اكتسبتها في الأيام الأخيرة لعز الجواب. والجواب يعرفه القراء فقد سقته في فصل سابق عن الحب نشرته لي (الرسالة) وخلاصته أني أوحيت الحب إلى نفسي
ومن الجرأة أن أزعم أن الناس كلهم كذلك، ولكني أقول إن نشوة الحب تطول عند الناس بفضل الإيحاء المستفاد من تأثير الجماعة والعرف. ولو خلت الكتب مما نقرأه في وصف الحب وأثره في النفس وألف المرء أن يرى الناس يحبون حبا لا يخرج بالنفس عن الاتزان لصار الحب هادئا فاترا كالصداقة. وأحسب أن الفرق بيني وبين غيري ليس هو أني شاذ وهم طبيعيون، بل إني تأثرت بإيحاء الجماعة وإيحاء الكتب وأنا عارف بذلك مدرك له متفطن لحقيقته، وأن الأكثرين يتأثرون على هذا النحو تماما ولكنهم لا يدركون أن في الأمر إيحاء ولا يفطنون للحقيقة فيه. والحياة تقوم - كما لا أحتاج أن أبين - على الإيحاء، وكل امرئ يوحي إلى كل امرئ آخر ويستوحي منه، بل نحن نستوحي الأشياء كما نتلقى الإيحاء من الناس.
ويخيل إلي أن الحب اسمه غلط، فإنه يبدو لي أن هذه العاطفة التي نسميها الحب خالية في الحقيقة من الحب والعلاقة فيها بين الجنسين ليست علاقة مودة. وهذا كلام قد يبدو متناقضا ولكني أظنه صحيحاً. ذلك أن الحب ضرب من الجوع؛ ولا تقولوا إنه جوع معنوي فإن هذا يكون تخريفا، إذ ليس ثم فيما يتعلق بالإنسان أو الحياة شيء معنوي. والإنسان مادة وكل ما في الحياة من المادة وإلى المادة، فلندع هذه الخيالات ولنجتزئ بالحقائق فإن أرضها(190/5)
صلبة متينة لا تسوخ فيها الرجل. والمرء يجوع فيشتهي الطعام أي يطلبه، لا لأنه يحب الطعام في ذاته، ولا لأن بينه وبين ما يأكل مودة، بل ليسد الحاجة التي يشعر بها ويقضي الرغبة التي تلج به ولا يستطيع أن يهدئها بغير الأكل. وكذلك يجوع جوعا من ضرب آخر - جوعا يطلب به إرضاء الرغبة الطبيعية في النسل إطاعة لغريزة حفظ النوع، كما يطلب بالأكل إطاعة لغريزة المحافظة على الذات. وكما لا يقال إن بين المحبين مودة. إنما تكون العلاقة بينهما قائمة على الرغبة في الالتهام أو الاستحواز إطاعة للغريزة لا عن مودة. والحبيبان أشبه بالمتقاتلين المتبارزين منهما بالصديقين المتوادين، لأن مطلب كل منهما الاستيلاء والغلبة؛ وهما لا يستعملان سلاحا ولا يحدثان جراحا، ولكن الواقع أن القبل والعناق والضم وغير هذا وذاك مما يكون بين المحبين - كل ذلك ليس إلا وسائل للتليين بغية التغلب. وقد استعمل الشعراء ألفاظا كثيرة كانوا فيها صادقين من حيث لا يشعرون، فذكروا في مواقف الحب وحالاته المختلفة المتعددة السيف والجراح والأكباد القريحة والقلوب المفجوعة والنفوس الكليمة والسهام وما إلى ذلك، فأشاروا إلى حقيقة العلاقة بين الحبيبين من حيث يحسون بها بالفطرة ولا يدركونها بالعقل. والحقيقة هي أن الحب حرب واقتتال وفتك، وغايته - وهي النسل - تنطوي على تعرض للتضحية الكبرى - على الأقل من جانب المرأة - وسبيله الإخضاع، فالمرأةتحاول إخضاع الرجل ليتسنى لها بذلك أن تجيء بالنسل الذي جعلتها الطبيعة أداة له. والرجل يحاول إخضاع المرأة ليتسنى له أن يجعلها تجيئه بالنسل الذي يطلبه بغريزته. والحال بينهما دائر أبداً على الكفاح. وفي شعر صادق - قديم أو حديث - لمحات عديدة تدل على التفطن إلى هذه الحقيقة ولو من غير إدراك تام صحيح جلي لها
والحب يتخذ الصورة التي يؤدي إليها التفاعل بين عاملين: الأول هو الدافع الغريزي للإنسان، والثاني هو مقاومة الجماعة، وهي مقاومة مرجعها إلى العرف والدين وما يجري هذا المجرى. وإلى تفاعل هذين العاملين وما ينتجانه فيما بينهما من الأثر ترجع الصور الشائعة للحب بين الجماعة. وقد كان التحرج شديدا في الجيل الماضي من ذكر الحب والاعتراف أو المجاهرة به، لأن التقاليد كانت صارمة وكان لها معين من الدين لا يستهان به، وكانت الجماعة تنزع إلى الاحتشام. وكانت قاعدة الحياة من هذه الناحية المثل المشهور(190/6)
(إذا بليتم فاستتروا) فكانت معاقرة الخمر على قارعة الطريق ممنوعة لا بحكم القانون بل بقضاء العرف، وكان الشبان مثلا يستحيون أن يجلسوا في القهوات، وكان النساء يتحجبن ويحرصن على ستر زينتهن، ولم يكن اتصال شاب بفتاة من الهينات، ثم جاءت الحرب فرجت الدنيا وزلزلت قواعد الحياة فيها وانتشر التعليم وشاع الاطلاع على الآراء الحديثة في الأمور الجنسية، وهدمت الهبة القومية المصرية حواجز كثيرة وفي جملتها ما كان يفصل الجنسين ويفرق بينهما، وصار الناس - شيئا فشيئا - يلهجون بذكر الحب ويتناوله في مجالسهم وفي كتاباتهم تناولا هو أقرب ما يكون إلى البحث العلمي، ولم يعد الشبان - بسبب نشأتهم والجو الجديد المحيط بهم ينظرون إلى الحب وما يتعلق به كما كان آباؤهم يفعلون أو يرون في الأمر موجبا للحماسة أو داعيا للخجل أو باعثا على الاستحياء؛ وجاء التطور الاجتماعي ولاسيما فيما يتعلق بإمكان ضبط النسل هادما لحاجز منيع بين الرجل والمرأة. وفي الأمثال إن الشجرة تعرف من ثمارها؛ فإذا لم تكن ثم ثمرة فأين الشجرة؟ وضعف العرف وتفككت قيوده وحصل التمرد عليه في سبيل الحرية كما حصل التمرد على كل قيد آخر. ومن أخطار الحرية في بادئ الأمر أن الناس يطلبون الحقوق وينسون الواجبات التي تقابل الحقوق. والتوازن لا يعود إلا ببطء وبعد التجارب الطويلة والمعاناة المرة والدروس العلمية الأليمة. وبذلك فقد الحب الهالة التي كانت حوله وسلب القداسة القديمة، وصار على الأيام أمرا عاديا، وهوى إلى مرتبة الرقص والألعاب الرياضية، لأن وطأة العرف والتقاليد ضعفت وخفت جدا حتى ليمكن أن يقال إنها غير محسوسة في الأغلب والأعم. وفي مثل هذه الأحوال التي يعظم فيها الترخص والتسامح يندر الحب القوي العميق الطويل العمر، وقد يكون هذا الحال هو بعض السر في ركود الشعر إلى حد كبير في هذه الفترة من حياتنا الأدبية
إبراهيم عبد القادر المازني(190/7)
النفس وخلودها عند ابن سينا
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 2 -
يدرس أبن سينا النفس من نواح كثيرة، فيحاول أولاً أن يثبت وجودها ومغايرتها للبدن، ثم ينتقل بعد هذا إلى حقيقتها فيعرض لجوهريتها وروحيتها ويبرهن على خلودها ببراهين شتى ووسائل متعددة. ولن تفهم حقيقة النفس فهما كاملا إلا إذا حددت وظائفها وبين في دقة عملها. وابن سينا يتحدث طويلا عن أنواعها المختلفة من نباتية وحيوانية وإنسانية، ويسهب بوجه خاص في حديثه عن قوى النفس الإنسانية الظاهرة والباطنة، وهذا الجزء يلخص تقريباً علم النفس عنده. وواضح أن مشكلة العقل التي تعد أحد الأحجار الأساسية في بناء الفلسفة الإسلامية والتي شغلت فلاسفة القرون الوسطى على العموم، تتصل اتصالا وثيقاً بقوى النفس الباطنة، وسنتبع هنا الخطوات السابقة لندلي بفكرة كاملة عن أبحاث ابن سينا في النفس، ولكنا سنجمل القول في أقسامه وتفصيلاته الكثيرة المتصلة بأنواعها وقواها لأن هذا في أغلبه أصبح من علم النفس البائد، وسنكتفي بأن نشير منه إلى مصادره اليونانية. وأما مشكلة العقل فهي من الأهمية بحيث لا تدرس عرضاً وفي ثنايا بحث كهذا، ولابد من دراسة مستقلة سبق لنا أن حاولناها في كتابنا عن الفارابي
لم يعن مفكرو اليونان كثيراً بالبرهنة على وجود النفس، وكأنهم كانوا يعدون وجودها واضحا بحيث لا يتطلب الإثبات، ومسلماً به إلى درجة لا تقبل الشك أو المناقشة. فالماديون منهم والروحيون متفقون على وجود النفس، وخلافهم فقط في بيان ماهيتها وتحديد وظائفها. وأطباؤهم وفلاسفتهم مجمعون على أن للظواهر النفسية مصدراً وأصلا تعتمد عليه بجانب الجسم. وعلى هذا يمكننا أن نقول إن المادية المتطرفة التي ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي تنكر وجود النفس بتاتاً غير معروفة لديهم. ذلك لأن هذه المادية اثر من آثار الطب وعلم وظائف الأعضاء الحديثين، وكل همها أن تفسر الأحوال العقلية جميعها تفسيراً واقعياً تجريبياً، وفي اعتقاد أنصارها أن المخ والجهاز(190/8)
العصبي كفيلان بتوضيح كل أعمال الفكر السامية. لهذا نراهم يصرحون بأنه (لا تفكير بدون الفسفور) وأن (المخ يهضم الاحساسات بشكل ما ويفرز عصارة التفكير إفرازاً عضوياً) وما كان الطب متقدما عند اليونان تقدمه في التاريخ الحديث، ولا كانت وظائف الأعضاء واضحة وضوحها اليوم
ومن الغريب أن ابن سينا الذي تقبل كل مبادئ الطب وعلم وظائف الأعضاء اليونانيين قد عنى عناية خاصة بالبرهنة على وجود النفس وإثبات أنها تغاير البدن. ولعل ذلك راجع إلى أن بعض الماديين قد غالوا مغالاة الماديين المحدثين وتطرفوا تطرفهم، فوحدوا بين النفس والجسم أو أنكروا وجودها رأسا واعتبروا الجسم مبعث الظواهر العقلية على اختلافها. فلم ير بداً من أن يرد عليهم ويبين خطأهم، وقد أشار إليهم صراحة في إحدى رسائله. وفوق هذا فالمنهج القويم في رأيه يقتضي أن يبدأ الباحث بإثبات وجود النفس ثم ينتقل بعد هذا إلى شرح وظائفها وأعمالها. يقول: (من رام وصف شيء من الأشياء قبل أن يتقدم فيثبت أولا أنيَّته (يعني وجوده) فهو معدود عند الحكماء ممن زاغ عن محجة الإيضاح. فواجب علينا أن نتجرد أولا لإثبات وجود القوى النفسانية قبل الشروع في تحديد كل واحدة منها وإيضاح القول فيها
وهو في برهنته على هذا الوجود يسلك سبلا عدة ويستخدم وسائل متفرقة. فليلجأ تارة إلى العرف العام والاستعمالات الدارجة مستمدا منها بعض الملاحظات الدالة على أننا نؤمن بوجود حقيقة فينا تخالف الجسم. ويركن تارة أخرى إلى بعض القضايا الفلسفية المسلمة من القدامى ليستعين بها على تحقيق هذه الغاية. ويبتكر أحيانا فروضا وتعليلات دقيقة تقربه من بعض الفلاسفة وعلماء النفس المحدثين. فيلاحظ أن الإنسان إذا كان يتحدث عن شخصه أو يخاطب غيره فإنما يعني بذلك النفس لا الجسم. فحين تقول: أنا خرجت أو أنا نمت لا يخطر ببالك حركة رجليك ولا إغماض عينيك، بل ترمي إلى حقيقتك وكل شخصيتك. وقد صاغ ابن سينا هذه الملاحظة على الصورة الآتية (إن الإنسان إذا كان منهمكا في أمر من الأمور فإنه يستحضر ذاته حتى أنه يقول إني فعلت كذا أو فعلت كذا؛ وفي مثل هذه الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه. والمعلوم بالفعل غير ما هو مغفول عنه، فذات الإنسان مغايرة للبدن. وأنا لنلمح في ثنايا هذه الملاحظة فكرة الشخصية أو فكرة(190/9)
(أنا) (? التي هي مثار بحث طويل بين علماء النفس المعاصرين. فالشخصية أو (الأنا) في رأي ابن سينا لا يرجع إلى الجسم وظواهره، وإنما يراد به النفس وقواها
ومن جهة أخرى تبدو علينا آثار لا يمكن تفسيرها إلا أن سلمنا بوجود النفس، وأهم هذه الآثار الحركة والإدراك. فأما الحركة فضربان: قسرية ناتجة عن دفعة خارجية تصيب جسما ما فتحركه، وغير قسرية وهي التي تتصل بنا هنا. وغير القسرية هذه منها ما يحدث على مقتضى الطبيعية كسقوط حجر من أعلى إلى اسفل، ومنها ما يحدث ضد مقتضى الطبيعة كالإنسان يمشي على وجه الأرض مع أن ثقل جسمه كان يدعوه إلى السكون، أو كالطائر الذي يحلق في الجو بدل أن يسقط إلى مقره فوق سطح الأرض. وهذه الحركة المضادة للطبيعة تستلزم محركا خاصا زائدا على عناصر الجسم المتحرك، وهو النفس. وأما الإدراك فأمر امتازت به بعض الكائنات على بعض، وإذن لابد للكائنات المدركة من قوى زائدة على غير المدركة. هذا هو البرهان الطبيعي السيكولوجي الذي يعتمد عليه ابن سينا في إثبات وجود النفس. وهو كما لاحظ لانداور مستمد في أغلب أجزائه من كتابي (النفس) و (الطبيعة) لأرسطو. ففي الكتاب الأول يصرح الفيلسوف اليوناني بأن الكائن الحي يتميز من غيره الحي بميزتين رئيسيتين: هما الحركة والإحساس. وفي الثاني يقسم الحركة إلى أقسام عدة لم يعمل ابن سينا شيئا سوى أن رددها وبنى عليها برهنته السابقة. بيد أن هذه البرهنة، فوق أنها برهنة باللازم، غير مقنعة وخاصة في جزئها الطبيعي. فأنه لو كانت الأجسام كلها مكونة من عناصر متحدة لكان لهذه البرهنة قيمتها. فأما وهي مختلفة التكوين فلا مانع من أن الجسم الذي يضاد الطبيعة العامة بحركته متمش مع قوانين طبيعته الخاصة ومشتمل على عناصر تسمح له بالحركة. وكم من جهازات وآلات تتحرك حركات مضادة للطبيعة ولا يخطر ببال أحد الآن أنها تحتوي على نفس أو قوة خفية أخرى، وقد انقضى الزمن الذي كانت تعتبر فيه النفس أصل الحياة والتفكير في آن واحد، أو مصدر الحركة والإدراك إن شئنا أن نستعمل لغة ابن سينا، واصبح علماء الحياة يفسرون الظواهر الحيوية تفسيراً آلياً أو (ديناميكياً) بمعزل عن القوى النفسية تاركين للنفسيين توضيح النفس وظواهرها، وهؤلاء الأخيرون حتى الممعنون في الروحية منهم لا يذهبون اليوم مطلقاً إلى أن للنفس عملا فوق الظواهر العقلية ويتقبلون التفسير الآلي للحياة والحركة. ويظهر أن(190/10)
ابن سينا قد تنبه إلى ضعف برهنته بدليل أنه لم يطنب فيها إلا مرة واحدة وفي مؤلف تقوم كل الدلائل على أنه كتبه في صباه. أما في (الشفاء) و (الإشارات) وغيرهما من مؤلفات الشيخوخة: فإنه يمر بها مسرعة ويحاول أن يثبت وجود النفس معتمداً على آثارها العقلية؛ وهذه هي البراهين التي تدل على العبقرية والابتكار.
فيلاحظ أولا أن في الأحوال النفسية تناسقاً وانتظاماً يؤذن بقوة مهيمنة عليها ومشرفة على نظامها، وهي برغم تنوعها وتخالفها بل تنافرها أحياناً تدور حول مركز ثابت وتتصل بمبدأ لا يتغير، وكأنها مرتبطة برباط وثيق يضم أطرافها المتباعدة، فنسر ونحزن، ونحب ونكره، وننفي ونثبت، ونحلل ونركب، ونحن في كل هذا صادرون عن شخصية واحدة وقوة عظمى توفق بين المختلف وتوجد المؤتلف؛ ولو لم تكن هذه القوة لتضاربت الأحوال النفسية واختل نظامها وطغى بعضها على بعض. وما النفس من آثارها إلا بمنزلة الحس المشترك من المحسوسات المختلفة؛ كلاهما يلم الشعث ويبعث النظام والترتيب.
وهنا يشير ابن سينا إلى ذلك البرهان المشهور الذي كثيراً ما ردده أنصار المذهب الروحي من علماء النفس المحدثين. ويتلخص في أن وحدة الظواهر النفسية ? تستلزم أصلا تصدر عنه وأساساً تعتمد عليه. وضعف هذه الوحدة أو انعدامها معناه ضعف الحياة العقلية أو القضاء عليها
يدنو ابن سينا من المحدثين، بل ومن المعاصرين بشكل أوضح من هذا في برهان آخر يصح أن نسميه برهان الاستمرار. وملخصه أن حاضرنا يحمل في طياته ماضينا ويعد لمستقبلنا، وحياتنا الروحية هذا الصباح ترتبط بحياتنا أمس دون أن يحدث النوم أي فراغ أو انقطاع في سلسلتها، بل وترتبط بحياتنا منذ أعوام مضت. ولئن كانت هذه الحياة متحركة ومتغيرة فإنما تتحرك في اتصال وتتغير في ارتباط. وليس هذا التتابع والتسلسل إلا لأن أحوال النفس فيض معين واحد ودائرة حول نقطة جذب ثابتة. يقول ابن سينا: (تأمل أيها العاقل في أنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجوداً في جميع عمرك حتى أنك تتذكر كثيراً مما جرى من أحوالك. فأنت إذن ثابت مستمر لا شك في ذلك. وبدنك وأجزاؤه ليس ثابتاً مستمراً بل هو أبداً في التحلل والانتقاص. . . ولهذا لو حبس عن الإنسان الغذاء مدة قليلة نزل وانتقص قريب من ربع بدنه. فتعلم نفسك أن في مدة عشرين سنة لم يبق(190/11)
شيء من أجزاء بدنك، وأنت تعلم بقاء ذاتك في هذه المدة، بل جميع عمرك. فذاتك مغايرة لهذا البدن وأجزائه الظاهرة والباطنة) وفكرة استمرار الحياة العقلية واتصالها من الأفكار التي أثبتها حديثاً وليم جيمس وبرجسون وعداها من أخص خصائص الظواهر النفسية ومن اكبر الدلائل على وجود (الأنا) أو الشخصية. وفي رأيهما أن تيار الفكر لا سكون فيه ولا انقسام ولا انفصام، وهو في حركة متصلة مطردة. وما أشبه الحياة العقلية بقطعة موسيقية مكونة من نغمات مختلفة ومتميزة قد امتزجت واختلط بعضها ببعض فأنتجت لحناً منسقاً يقول جيمس: (من الصعب جداً أن نجد في شعور واقعي حالا نفسية مقصورة كل القصر على الحاضر بحيث لا نستكشف فيها أي شعاع من أشعة الماضي القريب). فابن سينا ببرهانه المتقدم يسبق عصره بعدة أجيال ويدلي بآراء يعتد بها علم النفس الحديث كل الاعتداد
(يتبع)
إبراهيم مدكور(190/12)
الصوت الخافت
للأستاذ مصطفى حمدي القوني
(مهداة إلى صديقي الكاتب السويسري جوستاف بيل)
- 1 -
ما كان يدور بخلدي قط أن يكون هذا كل نصيبي من الدنيا، لقد طالما حلمت إبان صباي وفي فجر شبابي أني سوف أدير كرة الأرض على أناملي، وأني سوف أمثل باسمي الأفواه والأسماع والقلوب. والآن وقد نقضت أيام الصبا فإذا لي دنياي أديرها في غير جهد، وإذا أفواه وأسماع وقلوب يملؤها أسمي، وإذا أيد ترتفع إلى الجباه تحييني كلما أقبلت على عملي أو أدبرت عنه. ويا ما أكثر ما يتملقني تلاميذي!
واليوم إذ خرجت في الصباح إلى المدرسة بدأت تطوف برأسي هذه الخواطر: كنت في الماضي أصور الآمال وانتظر تحقيقها في أيام مقبلة، وأقبلت هذه الأيام فإذا آمالي ليس إلى تحقيقها من سبيل، فأصابني شيء من الرضا والقناعة وطفئت حرارة الصبى وجرأته، وأصبح الصبى وآماله حطاما، وإن عاودتني أحيانا ذكراه فلا أكاد أصدق أني كنت في يوم الأيام
إني أحيا الآن ولكن. . . عاريا عن الآمال والعواطف. لقد سقطت عني عواطفي وآمالي كما تساقط عن الشجرة الذاوية أوراقها؛ وكثيراً ما أشعر أني كالغريق الملقى على ضفة اليم ينتظر النهاية.
لست آسف على الماضي ولا أؤمل في المستقبل ولا أبالي كيف يكون، ولكني اقف الآن حيث أنا فاتحا يدي للقدر يلقي فيهما ما به يجود. . .
وإني لأدخل حجرة الدراسة - وأنا لا أزال غارقا في مثل هذه الخواطر - إذ تسألني نفسي:
- أكان من الممكن أن تقنع بمثل هذا في الماضي؟
وإذا بي أسمع صوتا ساخراً يقول مجيباً:
- ولم لا؟ ألم يكن يحلم بشجرة الخلد وملك لا يبلى و. . . عرش عظيم؟(190/13)
واعتليت المنصة!
ووقف التلاميذ رافعين أيديهم بالتحية، وإذ رفعت يدي أرد تحيتهم جلسوا صامتين، وبدأت قائلا:
- واجب الدرس السابق
ففهموا بذلك أني أريد أن يقف المقصرون ويلقوا إليّ بأعذارهم عن التقصير فيما كلفتهم به؛ ووقف واحد من التلاميذ كان من أكثرهم جداً وعناية بعمله، ولكنه لم يلق إليّ بأي عذر وإنما بقى ساكناً صامتاً كأنما لا يبالي
ونزلت من على المنصة وتقدمت إليه في خطى ثابتة ورفعت يدي أريد أن ألطمه، وحينئذ انبرى زميل له يقول في صوت خافت:
- لا لا يا أستاذي! إن أباه قد مات البارحة.
ونزلت يدي إلى جانبي وعدت إلى مكاني من جديد والحجرة يخيم عليها سكون، وأنفاس التلاميذ كأنها محبوسة، ونظراتهم متعلقة بي تتبعني، ففتحت كتاباً أمامي وقلت لهم من دون أن أرفع نظري إليهم:
كتاب المحاسبة صفحة 65 التمرين الثاني. سوف أراه مع سابقه في الدرس القادم.
وفتحوا كتبهم في سكون وبدأت اذرع الغرفة جيئة وذهوباً ورأسي يدور، وقلبي كأن به بركاناً ثائراً
- 2 -
ودق الجرس فخرجت من الفصل ومن المدرسة إذ كان هذا هو درسي الوحيد في هذا اليوم، وبدأت أجوب شوارع المدينة ذاهلا عن كل ما حولي إذ بدأت أعود بالذاكرة إلى الماضي وكأنما بدأت أعيش فيه كرة أخرى:
(هذا أنا طفلا في المدرسة الابتدائية أسير إليها مع الشمس كل صباح وأعود منها كل أصيل. وهذا أنا أعود من المدرسة في أصيل يوم من الأيام فلا أجد أمي: لقد انتقلت إلى الريف تبتغي فيه شفاء من مرض ألم بها. وهذا أنا أعود في أصيل كل يوم أتنسم أخبارها، فإذا جن الليل سهرت من أجلها أدعو لها وأتمنى لها طيب الأماني. وهذا أنا أقوم إلى المدرسة ذات صباح فأجد رسولا من القرية جاء يستقدم أبي، فينقلب أملي شكا طاغياً(190/14)
جارفاً. وهذا أنا أخرج من المدرسة في أصيل هذا اليوم يائساً أشد اليأس، حزيناً أشد الحزن، أسرع الخطا ثم أبطئها، أسرع لأني أريد أن أعلم ماذا كان مصير أمي، ثم أحس كأن شيئاً يرد من خطاي ويصدني: لقد كان الشك يغمر نفسي
أذكر أن الشمس كانت جانحة إلى المغيب تلقي على طرق المدينة أشعة صفراء باهتة حزينة، وإني لازلت إلى الآن تفيض نفسي بالكآبة كلما رأيت مغرب الشمس.
وفي أول الطريق الذي ينتهي إلى بيتنا قابلني عمي ثم أجلسني إلى جانبه في دكان صغير هناك وجاء أحد الجيران يشتري بعض حاجة من الدكان، فألقى إلي نظرة ومال برأسه إلى صاحبه كأنما يسأله عن شيء، وهز صاحب الحانوت رأسه ومص الجار شدقيه راثياً، وقمت من مكاني وانفجرت باكيا وجريت إلى البيت لأسترسل في البكاء
وهناك كانت نسوة كثيرات - في ثياب سود - حاولن عبثاً أن يكفكفن من عبراتي. وهناك كانت أختي الصغيرة مدهوشة حيرى لا تدري ماذا جرى. وهناك كانت أختي التي تكبر هذه - في هدوئها وسكونها الدائمين - تسكب عبرات صامتة
وكانت ليلة. . .
- 3 -
وأصبح الصباح فإذا الشمس مشرقة كعادتها، وإذا بي أسير إلى المدرسة محني القامة خافض الهامة، أفكر فيما كان وفيما سيكون
وابتدأ الدرس الأول، وكان درس القواعد العربية، وإني لأذكر تماما الشيخ عبد الحميد رجلا قصير القامة مكور الوجه قاسيا، وأذكر أنه كان في هذا الصباح جاداً في إلقاء الدرس وشرح ما غمض منه على السبورة، ولكني لا اذكر ما هو الدرس الذي كان يلقيه، إذ أني نسيت - فيما نسيت - هذا الباب الذي من أمثلته (حضرموت وبختنصر)، ولكن ماذا يهمني من هذا، إن ما يزال عالقاً بذهني هو أني انتبهت لحظة للشيخ وللدرس، ورفعت نظري إلى السبورة أمامي فوجدت هاتين الكلمتين (حضرموت - بختنصر)
تأملت الكلمة الأولى وقرأتها هكذا (حَضَرَموْت) ثم بدأت أقول في نفسي:
- يا ما أسعد من لا تموت أمهاتهم! وهؤلاء الذين يحضرون موت أمهاتهم إنهم أسعد مني حالا، أنا الذي لم يحضر موتها ولا يدري ماذا مصيرها(190/15)
وحينئذ عن للشيخ أن يلقي إلي بسؤال - ولعله رآني عنه وعن درسه في شغل شاغل - ولكن كلمة واحدة لم تند عن شفتي جواباً لسؤاله
وكان أن تقدم إلي ولطمني لطمة قاسية. . . تقبلتها صامتاً. وماذا كانت هذه إلى جانب لطمة القدر؟
- 4 -
وحين وصلت بذكرياتي إلى هذا الحد - وكنت قد وصلت في سيري إلى شارع سليمان باشا - رفعت يدي إلى خدي كأنما أتحسس بها أثر اللطمة بعد هذه السنين الطوال. ثم تراءى لي - ويدي لا تزال على خدي - أن أعبر الشارع. وإني لأخطو أولى خطواتي إذ سمعت كأن صوتاً يناديني:
- إبراهيم! يا إبراهيم!
وكان الصوت خافتاً كأنه آت من بعيد، من أعماق هاوية، وقد خيل إلي أنه ليس غريباً عني، وأني سمعته قبل الآن، متى وأين لا أدري؟ وتلفت حولي واختل توازن خطاي وكادت سيارة تدهمني، فنظر إلي شرطي المرور كأنما يسألني ماذا بي. فقلت له في بساطة:
- إن اسمي إبراهيم!
فلم يبد على وجه الشرطي أنه فهم شيئاً
وطفت على شفتيه ابتسامة فيها سخرية وفيها رثاء.
مصطفى حمدي القوني(190/16)
في أفق السياسة الدولية
المسألة الاستعمارية والصراع على الأسلاب والغنائم
بقلم باحث دبلوماسي كبير
يظهر أن المسالة الاستعمارية ستغدو في القريب العاجل مسألة المسائل، وربما لعبت دوراً خطيراً في تطورات السياسة الدولية هذا العام، وقد كانت مسالة المستعمرات، خلال الأعوام الأخيرة تبدو في الأفق من آن لآخر، ولكنها كانت تتخذ صبغة نظرية؛ بيد أنها منذ غزو إيطاليا للحبشة واستيلائها عليها تتخذ صورة عملية واضحة؛ وكانت ألمانيا وإيطاليا هما اللتان تصران على إثارة هذه المسألة الشائكة كلما سنحت الفرص، أما ألمانيا فلأنها فقدت كل مستعمراتها السابقة في أفريقية وفيما وراء البحار نتيجة لهزيمتها في الحرب الكبرى وتنفيذاً لنصوص معاهدة الصلح، وأما إيطاليا فلأنها رغم كونها كانت في عداد الحلفاء الظافرين ورغم استيلائها على نصيبها من أسلاب الدول المهزومة، كانت ترى دائماً أنها خدعت من حلفائها، وانهم استأثروا دونها بالغنائم الكبرى وخصوصاً في مسألة المستعمرات والأراضي الجديدة، إذ بينما حصلت فرنسا وإنكلترا وبلجيكا على انتدابات وأملاك واسعة في أفريقيا وآسيا، إذا بإيطاليا تحرم من كل نصيب في هذا التراث وترغم على الاكتفاء بما منح لها من الأراضي النمسوية القليلة في أوربا؛ وقد كان هذا الغبن شعار السياسة الفاشستية في الأعوام الأخيرة، وذريعة إيطاليا في وجوب إعادة النظر في معاهدات الصلح وتعديلها تعديلا يكفل استقرار الأحوال في أوربا، وحل مسألة الانتدابات والمستعمرات بصورة ترضي الأماني الإيطالية، فلما لم توفق إيطاليا إلى إرضاء مطامعها بطريق المفاوضة والتفاهم، عمدت إلى طريق القوة، فنظمت اعتداءها المعروف على الحبشة رغم المعاهدات المعقودة، واستولت عليها، وحققت بذلك بعض مطامعها الاستعمارية
وأما ألمانيا فلم تفكر قبل قيام الحكومة النازية في أن تثير مسألة المستعمرات بصورة جدية، وإن لم تنقطع منذ معاهدة الصلح عن الشكوى من فداحة شروطها المرهقة، ولم تنقطع ألمانيا بالأخص لحظة عن السعي في سبيل التنصل من تبعة الحرب التي اتخذت ذريعة لسحقها وتصفيدها بمثل هذه الفروض والمغارم الفادحة، وكانت ألمانيا تثير مسألة(190/17)
المستعمرات من آن لآخر ولكن بصورة نظرية فقط، فلما قامت الحكومة النازية منذ أربعة أعوام كان برنامجها الواضح أن تنكر معاهدة فرساي برمتها، وأن تنكر بالأخص الأساس الذي قامت عليه وهو تبعة ألمانيا في الحرب الكبرى، وأن تحطم من نصوصها القائمة كل ما يمس السيادة الألمانية أو يغل حقوق ألمانيا وحرياتها؛ وقد فازت ألمانيا الهتلرية في هذه الأعوام القليلة بتحقيق غايتها من نقض معاهدة فرساي وتمزيقها. وفي نفس الوقت الذي كانت ألمانيا تنكر فيه تبعة الحرب وتنكر شرعية معاهدة الصلح، كانت تطالب برد مستعمراتها وتنوه بضرورة هذه المستعمرات لتقدمها الاقتصادي والاجتماعي؛ ولما نظمت إيطاليا مشروعها لغزو الحبشة كانت ألمانيا من ورائها تؤيدها بكل ما استطاعت، لأنها كانت ترى في مشروع إيطاليا دعامة لقضيتها الاستعمارية وذريعة لإثارة المسألة الاستعمارية كلها؛ ذلك أن غزو إيطاليا للحبشة لم يكن مشروعاً إيطالياً داخلياً فقط، ولكنه كان يمثل في نفس الوقت طموح الفاشستية إلى التوسع الاقتصادي. ويمثل بالأخص نزعتها العسكرية المتوثبة، وهي النزعة التي تضطرم بها ألمانيا اليوم كما تضطرم إيطاليا، وقد كان في مثل إيطاليا قدوة صالحة لألمانيا؛ وكان العام الماضي بالنسبة لألمانيا عام القضاء على معاهدة الصلح وميثاق لوكارنو، واسترداد ألمانيا لسيادتها المطلقة في مسائل التسليح، وفي منطقة الرين الحرام، أما هذا العام فسيكون بالنسبة لألمانيا عام المستعمرات والمسالة الاستعمارية، كما تدل على ذلك طوالع السياسة الألمانية الجديدة ومقدماتها
فمنذ أشهر يتحدث زعماء ألمانيا الهتلرية وتتحدث صحفها بشدة عن ضرورة استعادة ألمانيا لمستعمراتها السابقة، ويقولون إن المسالة فضلاً عن كونها مسألة كرامة قومية لأن ألمانيا هي الدولة العظمى الوحيدة التي حرمت من المستعمرات، قد أضحت في نفس الوقت بالنسبة لألمانيا ضرورة اقتصادية واجتماعية، لأن سكان ألمانيا يزيدون بسرعة وألمانيا لا تستطيع الحصول على المواد الأولية اللازمة لصناعتها إلا بالشراء واستنزاف موارد ثروتها القومية، وهي حالة تهدد كيانها الاقتصادي؛ وقد رأينا الدكتور شاخت زعيم ألمانيا الاقتصادي يهدد أوربا بالانفجار إذا لم تحقق ألمانيا أمانيها الاستعمارية، ورأينا الجنرال جيرنج رئيس الحكومة البروسية يصف اقتطاع الحلفاء للمستعمرات للألمانية بأنه سلب وسرقة صريحة؛ وقد كانت هذه كلها تمهيدات عنيفة للخطوة الرسمية التي تزمع ألمانيا أن(190/18)
تتخذها في سبيل المسالة الاستعمارية؛ وفي 30 يناير الماضي أعلن الهير هتلر زعيم الدولة الألمانية في خطابه الرسمي الذي ألقاه في مجلس الريخستاج لمناسبة الذكرى الرابعة لتولي النازي الحكم مطالب ألمانيا الصريحة في سبيل استرداد مستعمراتها وبذلك اتخذت ألمانيا في هذه المسالة موقفها الرسمي الصريح؛ ولم يمض على تصريح الهير هتلر أيام قلائل حتى كان صدى المطالب الألمانية يتردد في دوائر باريس ولندن، وحتى وقعت المقابلة الأولى بين الهير فون ريبنتروب السفير الألماني في لندن، وبين اللورد هاليفاكس القائم بأعمال وزير الخارجية البريطانية، وفيها بسط السفير الألماني وجهة نظر حكومته في مسالة المستعمرات
ويجب أن نذكر إلى جانب ذلك كله موقف ألمانيا من المسألة الإسبانية وهو موقف وثيق الصلة بمطالبها ومشاريعها الاستعمارية؛ فقد اشتركت ألمانيا مع إيطاليا والبرتغال في تدبير الثورة الإسبانية القائمة، وعاونت زعيمها الجنرال فرانكو بالرجال والذخائر، واعترفت بحكومته أي بحكومة برجوس الفاشستية، ولألمانيا عدة سفن حربية في المياه الإسبانية تعاون مشاريع الثوار؛ وقد أذيع في الأسابيع الأخيرة أن ألمانيا استطاعت أن تحصل من الجنرال فرانكو على امتيازات عظيمة لاستغلال مناجم النحاس وغيره في أنحاء كثيرة من أسبانيا؛ وقد ذهبت ألمانيا إلى ابعد من ذلك فحاولت بالتفاهم مع الجنرال فرانكو أن تحتل مراكش الإسبانية، وأنزلت فيها بعض قواتها فعلا؛ ولم يك ثمة شك في الغايات الاستعمارية المباشرة أو غير المباشرة التي تعلقها ألمانيا على هذه الحركة التي ذكرتنا بحادث أغادير في سنة 1912، وهو الحادث الذي استغلته ألمانيا يومئذ لمصالحها الاستعمارية؛ بيد أن ألمانيا اضطرت إزاء حزم فرنسا وما أبدته من الاستعدادات البحرية العظيمة في المياه الإسبانية وما همت به من اتخاذ الإجراءات العسكرية السريعة في مراكش وعلى حدود أسبانيا الشمالية أن تتراجع في مشروعها وأن تؤكد أنها لا ترمي إلى أية غاية استعمارية في مراكش الإسبانية أو في أسبانيا ذاتها
والآن ما هي الاحتمالات التي يمكن أن تسفر عنها حركة ألمانيا في سبيل المستعمرات؟ إن ألمانيا تتقدم بمطالبها إلى جميع الدول التي استولت على أملاكها السابقة في أفريقية وفيما وراء البحار، وهي إنكلترا وفرنسا وبلجيكا واليابان؛ وهي تتقدم إلى إنكلترا بصفة خاصة(190/19)
لأنها وضعت يدها على اكبر قسم من هذه التركة، ولأن موقفها من المسألة قد يغدو مفتاح الموقف كله؛ وقد كانت السياسة البريطانية تتوقع هذه الخطوة من ألمانيا منذ أشهر، ولهذا فقد بحثت المسالة، وانتهت فيها على ما يلوح إلى خطة معينة لم تتضح قواعدها بعد. بيد أنا نستطيع أن نتبين موقف السياسة البريطانية من بعض التصريحات الرسمية والتعليقات غير الرسمية؛ وقد أدلى السير صمويل هور وزير الخارجية البريطانية السابق، منذ اكثر من عام خلال مناقشات عصبة الأمم في المسألة الحبشية بأول رأي واضح لإنكلترا في المسألة الاستعمارية وهو أن إنكلترا مستعدة لأن تنظر في مسألة تنظيم توزيع المواد الأولية تنظيما يكفل توزيعها بصورة أكثر عدالة ورضاء للدول المحرومة منها؛ أما عن التخلي عن المستعمرات ذاتها أو إعادة شيء منها إلى ألمانيا، فقد صرح مستر ايدن وزير الخارجية الحالي، وكذلك مستر بلدوين رئيس الوزارة اكثر من مرة في مجلس العموم، بأن إنكلترا لا تنوي التخلي عن أية مستعمرة أو منطقة يظللها العلم البريطاني؛ بيد أنه يلوح لنا أن السياسة البريطانية قد تقدمت أخيراً خطوة أخرى في سبيل بحث المسألة الاستعمارية، وهو أنها مع عدم استعدادها لبحثها من الوجهة الشخصية، فإنها على استعداد لبحثها من الوجهة الدولية العامة، أعني من حيث ارتباطها بالسلام الأوربي، ووضع تسوية عامة للمسائل الدولية والأوربية يستقر معها السلم بصورة نهائية؛ ومن هذه مسألة تحديد السلاح، وتأمين الحدود المختلفة، وحل المشكلة الأسبانية وغيرها؛ وهذا ما تأباه ألمانيا، لأنها لا تقبل المساومة في أي مسالة تتعلق بسيادتها وحرياتها في العمل، وتصر على أن تنظر المسألة الاستعمارية في ذاتها؛ وهي تجد في إنكلترا ذاتها بعض المؤيدين لنظريتها، فقد رأينا مستر جارفن الكاتب السياسي الكبير ينصح بإعادة مستعمرات ألمانيا إليها، ويقول أن مسألة المستعمرات لا تستحق أن تكون مثارا للحرب بين الدول العظمى
ولا ريب أن المسالة لا يمكن أن تحل بمثل هذه السهولة؛ فإنكلترا لا تقبل مطلقا أن ترد لألمانيا مثلا شرق أفريقية الألماني وبذا تعيدها خصما منافسا لها في شرق أفريقيا إلى جانب إيطاليا الفاشستية، أو تعيد إليها غرب أفريقيا الألماني فتهدد بذلك سلامة إمبراطوريتها في جنوب أفريقيا وفي أواسطها، أو مستعمرة غانه الجديدة فتهدد مواصلاتها مع استراليا؛ وقد كانت هذه أهم مستعمرات ألمانيا السابقة. وليست فرنسا اقل تمسكا من(190/20)
إنكلترا بما وضعت يدها عليه من تراث ألمانيا السابق في الكمرون وفي توجلاند؛ والنظرية الفرنسية في مسألة المستعمرات معروفة، خلاصتها أن فرنسا لا تقبل مطلقا أن تعيد إلى ألمانيا أية مستعمرة أو أراض تستغلها ألمانيا في سبيل تدعيم قواتها ومشاريعها العسكرية، ولا تنظر في مسألة المستعمرات إلا إذا ارتبط البحث فيها بمسألة السلامة العامة، وأسفر عن ضمانات جديدة مؤكدة تقدمها ألمانيا في هذا السبيل
والخلاصة أن مسالة المستعمرات هي مسألة اليوم، وهي طور جديد من أطوار الصراع التي تثيره ألمانيا الهتلرية في سبيل استرداد مكانتها القديمة كاملة شاملة وفي سبيل تدعيم مشاريعها الاقتصادية والعسكرية؛ وقد يؤدي البحث فيها إلى بحث الموقف الأوربي كله، ويؤدي إلى تسوية دولية عامة؛ وقد يقف البحث فيها عند الخطوات التمهيدية إذا أصرت ألمانيا على وجهات نظرها المعروفة من رفض البحث في مسالة تحديد التسليح، والإصرار على وجوب إبعاد روسيا عن حظيرة الدول الأوربية، وعندئذ تتعقد المشكلة الأوربية، ويصعب التكهن بما قد يفضي إليه هذا التعقيد من التطورات
ويجدر بنا أن نشير أخيراً إلى أن هذه الشهوة المضطرمة التي تحدو الدول الفاشستية، وتحدو ألمانيا إلى السعي لامتلاك المستعمرات لا ترجع إلى بواعث اقتصادية واجتماعية حسبما تصورها لنا السياسة الفاشستية، فإن الإحصاءات تدل على أن المستعمرات تغدو في أحيان كثيرة، عبئاً اقتصاديا، وقد لا يهاجر إليها من البيض سوى آلاف قليلة لا تؤثر في تخفيف مشكلة السكان في البلد الأصلي، واكثر ما ترجع هذه الشهوة إلى بواعث سياسية وعسكرية فوق ما ترجع إليه من الأطماع المادية واقتصادية؛ وهي نفس البواعث التي تحمل الدول الأخرى على الاحتفاظ بتراثها الاستعماري الشاسع، وهي في الواقع معركة الغنائم والأسلاب الخالدة؛ فإذا كانت ألمانيا قد فقدت مستعمراتها في حرب كبرى هزمت فيها وسحقت، فمن الصعب أن تتوقع عودة هذه المستعمرات إليها غنيمة باردة، وعليها إما أن تبذل الثمن المناسب، وإما أن تخوض حرباً تحرز فيها النصر، وعندئذ تستطيع أن تملي شروطها، كما أملى عليها الظافرون شروطهم بالأمس، وهذا ما نستبعد وقوعه في الظروف الحاضرة
(* * *)(190/21)
2 - صعاليك الصحافة. . .
للأستاذ مصطفي صادق الرافعي
وغاب شيخنا أبو عثمان عند رئيس التحرير بعض ساعة ثم رجع تدور عيناه في جِحَاظَيْهما وقد اكفهر وجهه وعبس كأنما يجري فيه الدم الأسود لا الأحمر، وهو يكاد ينشق من الغيظ وبعضه يغلي في بعضه كالماء على النار. فما جلس حتى جاءت ذبابتان فوقعتا على كنفي أنفه تتمان كآبة وجهه المشوه، فكان منظرهما من عينيه السوداوين الجاحظتين منظر ذبابتين ولدتا من ذبابتين. . .
وتركهما الرجل لشأنهما وسكت عنهما. فقلت له: يا أبا عثمان هاتان ذبابتان ويقال إن الذباب يحمل العدوَى
فضحك ضحكة المغيظ وقال: إن الذباب هنا يخرج من المطبعة لا من الطبيعة. . . فأكثر القول في هذه الجرائد حشرات من الألفاظ: منها ما يستقذر، وما تنقلب له النفس، وما فيه العدوى، وما فيه الضرر؛ وما بد أن يعتاد الكاتب الصحافي من الصبر على بعض القول مثلما يعتاد الفقير من الصبر على بعض الحشرات في ثيابه. وقد يريده صاحب الجريدة أو رئيس التحرير على أن يكتب كلاماً لو أعفاه منه وأراده على أن يجمع القمل والبراغيث من أهدام الفقراء والصعاليك بقدر ما يملأ مقالة. . . كان أخف عليه وأهون، وكان ذلك أصرح في معنى الطلب والتكليف.
وكيفما دار الأمر فإن كثيراً من كلام الصحف لو مسخه الله شيئاً غير الحروف المطبعية، لطار كله ذباباً على وجوه القراء.
قلت: ولكنك يا أبا عثمان ذهبت مُتَطَلِّقاً إلى رئيس التحرير ورجعت متعقداً فما الذي أنكرت منه؟
قال: (لو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور لبطل النظر وما يشحذ إليه وما يدعو إليه، ولتعطلت الأرواح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها). هناك رجل من هؤلاء المعنيين بالسياسة كما هي السياسة في هذا البلد. . . يريد أن يخلق في الحوادث غير معانيها، ويربط بعضها إلى بعض بأسباب غير أسبابها، ويخرج منها نتائج غير نتائجها، ويلفق لها من المنطق رقعاً كهذه الرقع في الثوب(190/23)
المفتوق. ثم لا يرضى إلا أن تكون بذلك رداً على جماعة خصومه وهي رد عليه وعلى جماعته، ولا يرضى مع الرد إلا أن يكون كالأعاصير تدفع مثل تيار البحر في المستنقع الراكد
ثم لم يجد لها رئيس التحرير غير عمك أبي عثمان في لطافة حسه وقوة طبعه وحسن بيانه واقتداره على المعنى وضده، كأن أبا عثمان ليس عنده ممن يحاسبون أنفسهم ولا من المميزين في الرأي، ولا من المستدلين بالدليل، ولا من الناظرين بالحجة. وكأن أبا عثمان هذا رجل حرُوفي. . . كحروف المطبعة ترفع من طبقة وتوضع في طبقة وتكون على ما شئت، وأدنى حالاتها أن تمد إليها اليد فإذا هي في يدك
وأنا أمرؤ سيد في نفسي وأنا رجل صدق ولست كهؤلاء الذين لا يتأثمون ولا يتذممون؛ فإن خضت في مثل هذا انتقض طبعي وضعفت استطاعتي وتبين النقص فيما أكتب، ونزلت في الجهتين فلا يطرد لي القول على ما يرجو ولا يستوي على ما أحب. فذهبت أناقضه وارد عليه؛ فبهت ينظر إلي ويقلب عينيه في وجهي كأن الكاتب عنده خادم رأيه كخادم مطبخه وطعامه هذا من هذا
ثم قال لي: يا أبا عثمان إني لأستحي أن أعنفك. وبهذا القول لم يستح أن يعنف أبا عثمان. . . ولهممت والله أن أنشده قول عباس بن مرداس:
أكُلَيب. . . مالك كلَّ يوم ظالما ... والظلمُ أنَكدُ وجهه ملعون. . .
لولا أن ذكرت قول الآخر:
وما بين من لم يُعطِ سمعاً وطاعةً ... وبين تَميمٍ غيرُ حَزِّ الغلاصمِ
حزُ الغلاصم (وقطعُ الدراهم) من قافية واحدة. . . وقال سعيد بن أبي عروبة: (لأن يكون لي نصف وجه ونصف لسان على ما فيهما من قبح المنظر وعجز المخبر - أحب إلي من أن أكون ذا وجهين وذا لسانيين وذا قولين مختلفين). وقال أيوب السختياني. . .
وهم شيخنا أن يمر في الحفظ والرواية على طريقته فقلت: وقال رئيس التحرير. . .؟
فضحك وقال: أما رئيس التحرير فيقول: إن الخلابة والمواربة وتقليب المنطق هي كل البلاغة في الصحافة الحديثة، ولهي كقلب الأعيان في معجزات الأنبياء صلوات الله عليهم فكما انقلبت العصا حيةً تسعى، وهي عصا وهي من الخشب، فكذلك تنقلب الحادثة في(190/24)
معجزات الصحافة إذ تعاطاها الكاتب البليغ بالفطنة العجيبة والمنطق الملون والمعرفة بأساليب السياسية، فتكون للتهويل وهي في ذاتها اطمئنان، وللتهمة وهي في نفسها براءة، وللجناية وهي في معناها سلامة. ولو نفخ الصحافي الحاذق في قبضة من التراب لاستطارت منها النار وارتفع لهبها الأحمر في دخانها الأسود. قال: وإن هذا المنطق الملون في السياسة إنما هو إتقان الحيلة على أن يصدق الناس، فأن العامة وأشباه العامة لا يصدقون الصدق لنفسه ولكن للغرض الذي يساق له، إذ كان مدار الأمر فيهم على الإيمان والتقديس، فأذقهم حلاوة الإيمان بالكذب فلن يعرفوه إلا صدقاً وفوق الصدق، وهم من ذات أنفسهم يقيمون البراهين العجيبة ويساعدون بها من يكذب عليهم متى أحكم الكذب، ليحققوا لأنفسهم أنهم بحثوا ونظروا ودققوا. . .
ثم قال أبو عثمان: ومعنى هذا كله إن بعض دور الصحافة لو كتبت عبارة صريحة للإعلان لكانت العبارة هكذا: سياسة للبيع. . . .
قلت: يا شيخنا فإنك هنا عندهم لتكتب كما يكتبون، ومقالات السياسة الكاذبة كرسائل الحب الكاذب تقرأ فيها معان لا تكتب، ويكون في عبارتها حياء وفي ضمنها طلب ما يُستَحى منه. . . والحوادث عندهم على حسب الأوقات، فالأبيض اسود في الليل والأسود ابيض في النهار، ألم تر إلى فلان كيف يصنع وكيف لا يعجزه برهان وكيف يخرج المعاني؟
قال: بلا نعم الشاهد هو وأمثاله. إنهم مصدقون حتى في تاريخ حفر زمزم
قلت: وكيف ذلك؟
قال: شهد رجل عند بعض القضاة على رجل آخر، فأراد هذا أن يجرح شهادته، فقال للقاضي: أتقبل منه وهو رجل يملك عشرين ألف دينار ولم يحج إلى بيت الله؟ فقال الشاهد: بلا قد حججت. قال الخصم: فأسأله أيها القاضي عن زمزم كيف هي؟ قال الشاهد: لقد حججت قبل أن تحفر زمزم فلم أرها. . .
قال أبو عثمان: فهذه هي طريقة بعضهم فيما يزكي به نفسه؛ ينزلون إلى مثل هذا المعنى وإن ارتفعوا عن مثل هذا التعبير؛ إذ كانت الحياة السياسية جدلاً في الصحف لنفي المنفي وإثبات المثبت، لا عملا يعملونه بالنفي والإثبات. ومتى استقلت هذه الأمة وجب تغيير هذه الصحافة وإكراهها على الصدق فلا يكون الشأن حينئذ في إطلاق الكلمة الصحافية إلا من(190/25)
معناها الواقع.
والحياة المستقلة ذات قواعد وقوانين دقيقة لا يترخص فيها مادام أساسها إيجاد القوة وحياطة القوة وأعمال القوة، ومادامت طبيعتها قائمة على جعل أخلاق الشعب حاكمة لا محكومة. وقد كان العمل السياسي إلى الآن هو إيجاد الضعف وحياطة الضعف وبقاء الضعف؛ فكانت قواعدنا في الحياة مغلوطة، ومن ثم كان الخلق القوي الصحيح هو الشاذ النادر يظهر في الرجل بعد الرجل والفترة بعد الفترة؛ وذلك هو السبب في أن عندنا من الكلام المنافق أكثر من الحر، ومن الكاذب أكثر من الصادق، ومن المماري أكثر من الصريح؛ فلا جرم ارتفعت الألقاب فوق حقائقها وصارت نعوت المناصب وكلمات باشا وبك من الكلام المقدس صحافياً. . . .
يا لعباد الله! يأتيهم اسم الأديب العظيم فلا يجدون له موضعاً في (محليات الجريدة)؛ ويأتيهم أسم الباشا أو البك أو صاحب المنصب الكبير فبماذا تتشرف (المحليات) إلا به؟ وهذا طبيعي، ولكن في طبيعة النفاق، وهذا واجب ولكن حين يكون الخضوع هو الواجب. ولو أن للأديب وزناً في ميزان الأمة لكان له مثل ذلك في ميزان الصحافة، فأنت ترى أن الصحافة هنا هي صورة من عامية الشعب ليس غير. . . ومن ذا الذي يصحح معنى الشرف العامل لهذه الأمة وتاريخها - وأكثر الألقاب هي أغلاط في معنى الشرف. . .؟
ثم ضحك أبو عثمان وقال: زعموا أن ذبابة وقعت في بارجة (أميرال) إنجليزي أيام الحرب العظمى؛ فرأت القائد العظيم وقد نشر بين يديه درجاً من الورق وهو يخطط فيما رسما من رسوم الحرب. ونظرت فإذا هو يلقي النقطة بعد النقطة من المداد ويقول: هذه مدينة كذا، وهذا حصن كذا، وهذا ميدان كذا. قالوا فسخرت منه الذبابة وقالت: ما ايسر هذا العمل وما أخف وما أهون! ثم وقعت على صفحة بيضاء وجعلت تلقي وَنِيمَها هنا وهناك وتقول: هذه مدينة، وهذا حصن. . .
والتفت الجاحظ كأنما توهم الجرس يدق. . . فلما لم يسمع شيئاً قال:
لو أنني أصدرت صحيفة يومية لسميتها (الأكاذيب)، فمهما أكذب على الناس فقد صدقت في الاسم، ومهما أخطئ فلن أخطئ في وضع النفاق تحت عنوانه
قال: ثم أخط تحت أسم الجريدة ثلاثة أسطر بالخط الثلث هذا نصها:(190/26)
ما هي عزة الأذلاء؟ هي الكذب الهازل
ما هي قوة الضعفاء؟ هي الكذب المكابر
ما هي فضيلة الكذابين؟ هي استمرار الكذب
قال: ثم لا يحرر في جريدتي إلا (صعاليك الصحافة) من أمثال الجاحظ. ثم أكذب على أهل المال فأمجد الفقراء العاملين، وعلى رجال الشرف فأعظم العمال المساكين، وعلى أصحاب الألقاب فأقدم الأدباء والمؤلفين. و. . .
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .
لها بقية
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(190/27)
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي الفونس كار
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
(2)
زهرة السلوان
حذار من زهرة السلوان! إنها زهرة يصيبك بهاؤها ويقتلك عبيرها. إنها لزهرة تتشح الجمال وتتكلف الابتسام، تحدجك بلفتات ساحرة وتستهويك وتقول لك: - تعال إلي، ففيَّ الإخلاص وفيَّ العزاء.
رأيت رجلاً اقتطف زهرة السلوان من حقول الحياة بعد أن عرفته هائماً تتقد في قلبه النار التي لا تنير دون أن تحرق، فأصبح خليًّ البال يحدق فيمن كان يهواها فلا يفرح ولا يحزن، لا يلذه شيء ولا يتألم لشيء
ولكن السلوان لا يدخل وحده إلى القلب، بل يجر معه رفيقه الملازم له: يجر معه الضجر والملال. ومن اقتطف زهرة السلوان يسير حزيناً مطرقاً بالأرض لأنه لن يحب بعد. . .
من سطا السلوان عليه فهو طريد لا قرار له
من ينس مرة فلن يحب أبداً
أرى الخليَّ يقطع السهول ويتسلق الروابي فيقف متضجراً ينصت إلى تغريد الأطيار ويسرح الطرف في أزهار الخمائل وجداول المروج متسائلاً أمام الطبيعة العاشقة عما أفقده عشقه، فتجيبه الطبيعة: لأنك قطفت زهرة السلوان
ويبكي هذا الطريد زماناً كان يبكي فيه إذ كان شقياً، ولكن قلبه لم يكن ساكناً لا حرارة فيه ولا خفوق
إن من الأمراض ما يفوق ألم شفاؤها آلام استفحالها
دلني على منابت زهرة السلوان لأجتنبها، قل لي أين تنور لأحول طريقي عنها
هي زهرة صفتها أسم لها؛ تنبت في الأماكن الموحشة المقفرة وقد تنمو في المدن بين الحركة والضجيج، غير أن جرثومتها عالقة في عالم الخيال في أسرار حياة الموت وموت(190/28)
الحياة
هي زهرة الضجر والملال والعذاب، زهرة السلوان(190/29)
في الأدب المقارن
الرحلة
في الأدبين العربي والإنكليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
كان الإنسان رحالة قبل أن يكون ذا وطن: كان يهجر جماعات جماعات بقاع الأرض الشحيحة ويقصد أصقاعها الخصيبة ووديانها الكريمة، طلباً للقوت والتماساً للغنم؛ فلما استقر في الأوطان والمساكن لم يستغن في حياته عن الرحلة، بل ظل يحفزه إليها ابتغاء الرزق تارة، وحب الاستطلاع والمتعة أخرى، وشهوة الغلب والفتح طوراً، ونشدان العلم آنة، وأداء مناسك دينه حيناً، والفرار من الظلم أو الذل أحياناً؛ وامتازت عصور نهضاته خاصة باشتداد حبه للرحلة: فإذا ما مشت نسمة الحياة بين الأمة، وتنبهت فيها ثقتها بنفسها، وامتلأت روحها بحب العمل والإقبال على أسبابه، تطلعت دولتها إلى الخارج تبسط سلطانها عليه، وراح أفرادها في أثر جنودها يبتغون الرزق ويتوسمون وجوه المعرفة، ويهجمون على ظواهر الكون وخفاياه
تلك النهضة الروحية التي تهب ريحها بين الأمة، وتدفع أبناءها إلى الارتحال وطلب المغامرة والمجد والعلم، وابتغاء الجديد والطريف، تصحبها عادة نهضة أدبية تعبر عن هذا الروح الوثاب، وتنعكس فيها آثار تلك الرحلات وما تبهر به الأذهان من روعة الكون وعظمته ورحب أقطاره، وما تحدث في العقائد الدينية والعلمية من ثورة، وما توسع به آفاق التفكير من حقائق جديدة وما تدخل في الأدب من عناصر أجنبية تخالط عناصره المحلية، من قصص وأوصاف وألفاظ؛ فيفيد الأدب بذلك كله فائدة كبرى، وينبغ فيه من أعلام النظم والنثر أنداد من ينبغون من أفذاذ المغامرة والقتال والرحلة
عرف قدماء المصريين هذه النهضة المصحوبة بحب المغامرة والاستطلاع على عهد إمبراطوريتهم في آسيا، فامتلأ أدبهم إذ ذاك بقصص الهجرة والمخاطرة والتجوال؛ وإلى أدب ذلك العهد ترجع القصة التي مازالت تتشكل على توالي الأجيال، حتى انتهت إلينا في شكل حكاية علي بابا واللصوص الأربعين. ومشت بين الإغريق روح المغامرة تلك أبان(190/30)
نهضتهم قبيل الحروب الفارسية وبعدها، فكان كثير من أفذاذهم وعلماءهم أمثال لكرغ وصولون وهيرودوت وطاليس وأفلاطون رحالين جابوا مهود الحضارة الشرقية، وأخذوا عن المصريين والبابليين علومهم، وكتبوا مشاهداتهم في رحلاتهم، واصفين جغرافية تلك البلاد وتاريخها، وهبت ريح المغامرة شديدة على الممالك الأوربية في عهد إحياء العلوم، فدفعتهم إلى ارتياد العالم المعروف واكتشاف العالم المجهول، وبسط حضارتهم وثقافتهم في أطراف العالمين القديم والجديد. وكان من رادة هذه النهضة مركوبولو وداجاما وكولمبس
وقد كان أكثر العرب في جاهليتهم رحالين لا ينزلون أرضاً إلا ريثما يتحولون عنها، يطلبون الكلأ أو يبتغون القتال أو ينقلون التجارة؛ ومن ثم شغفوا حباً بإبلهم وجيادهم، وترنموا بوصفها، وكثرت في لغتهم أسماؤها وأسماء سيرها، وقدموا الحديث عنها بين يدي قصيدهم، وأدمنوا ذكر ارتحال أحبتهم، وتمدحوا بطول التنقل وإنضاء الرواحل وإباء المقام بأرض الذل. وكان بعض سادتهم يسفرون إلى ملوك الروم والفرس؛ وإلى تلك الرحلات المختلفة الأغراض يرجع الفضل في انتشار بعض أسباب الحضارة والرقي الفكري والكتابة الخطية بين العرب قبيل الإسلام. ولا ريب إن الرحلات التي قام بها الرسول الكريم كانت من أهم عوامل تكوينه الروحي والعقلي، حتى تهيأ له أن يضطلع برسالته العلوية؛ فالرحلة عادة من أهم العناصر المكونة لشخصية العظيم؛ كما أن الرحلات التي قام بها في الجاهلية أفذاذ القواد أمثال عمرو بن العاص إلى الممالك المجاورة كانت عظيمة النفع للجيوش العربية حين توجهت لغزو إمبراطوريتي الفرس والروم. ومن تمدح العرب بالرحلة عن موطن الهوان قول الشنفري:
ولولا اجتناب الذام لم يلف مشرب ... يعاش به ألا لدي ومأكل
ولكن نفساً حرة لا تقيم بي ... على الذل ألا ريثما أتحول
وقول الشاعر الإسلامي أوس بن معن:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متعزل
ونهض العرب نهضتهم الحربية العظيمة فرأوا من أقطار الأرض وصنوف الخلق ما لم يكن يخطر لهم ببال وكان لذلك كل الأثر في أذهانهم وآدابهم، والتقت تحت رايتهم شتى الحضارات والأجناس، وشدت الرحال من أقصى إمبراطوريتهم إلى أقصاها: وهدأت(190/31)
ضجة الحرب فمشى التجار حيث مشى الجنود من قبل، وسار العلماء والأدباء في شرقي الأرض ومغربها يطلبون العلم والأدب، ويلتمسون الرزق والحظوة، وأظهر العرب من حب الرحلة لشتى الأغراض ما لا تبذهم فيه أمة أخرى: هاجروا جماعات فأنشئوا الأساطيل يفتحون بها سواحل البحر وجزره، وأفراداً فبثوا الدعوات وأنشئوا الدول، وسافروا تجار فنشروا الإسلام وحضارته في الأطراف والمجاهل التي لم تبلغها سنابك خيول الفاتحين، وتجشم علماؤهم متاعب الأسفار طلباً لتحقيق العلم والمشاهدة والتثبت من صحة الأحاديث الشريفة. وحرص الكثيرون على حج بيت الله الحرام مهما بعد، وزيارة عاصمة الإسلام حيث كانت
وظهر من أعلام الرحالين الذين طافوا أنحاء الإمبراطورية الإسلامية وجاوزوها إلى الأقطار الأجنبية شغفاً منهم بحب الاستطلاع والتجوال، أو ولوعا بعلم تقويم البلدان وطلباً لغرائبه، أمثال المسعودي وابن جبير وابن بطوطة، طوف أولئك الرحالون تدفعهم الروح التي كانت تدفع هيرودوت وديودور قديماً، والتي حثت ماجلان وكوك وأضرابهما فيما بعد، وما تزال تدفع العلماء إلى قرع أبواب العلم المغلقة، وطرق سبله المجهولة، ودون أولئك الرحالون المسلمون مشاهداتهم، فنالت كتبهم الذكر والأهتمام، ودرست لا في البلاد العربية وحدها، بل في أوربا حيث ظلت زماناً من أكبر مراجع التاريخ والجغرافيا؛ ولم تكن رحلات كولمبس غرباً وداجاما شرقاً في الحق إلا إتماماً لما بدأه العرب وحذقوه من التجوال في البحار وارتياد الأقطار. وقد انتفع كلا ذينك الكاشفين وغيرهما بآثار العرب في الرحلة والجغرافية، واستفادوا بخبرة الملاحين المسلمين
كان لكل هاتيك الكتب والرحلات والأخبار أثاراها في الأذهان والآداب؛ غير أنه لما كان الأدب العربي قد نفى من حضيرته القصة وازدرى الخرافة، وزهد في كثير من منادح القول، فقد أهمل الكثير من ثمار تلك الأسفار وطرائف تلك الأخبار التي تحوي أنفس المواد لخيال الأديب وفنه، فلم تبد آثار الرحلات والمخاطرات في الأدب العربي الفصيح إلا ضئيلة متفرقة: ففي المقامات شيء منها، إذ تدور المقامة حول أفاق يذرع الأرض ويهبط كل يوم بين قوم؛ وإنما استأثر بالتحدث عن الرحلة والمخاطرة والبلاد البعيدة الأدب العامي: تجمعت أقاصيص الأمم القديمة، وأضيفت إليها أخبار الرحلات الجديدة، وذاع كل(190/32)
ذلك في العامة، ودون بعضه في قصص ألف ليلة وأشباها، وظل بعضه غير مدون يتداول شفاها
ولم يكن الأدباء أنفسهم أقل من العلماء والتجار حباً للتجوال وجوباً للأقطار، بل كانت الرحلة عندهم جزءاً من منهاج الدرس والتأدب لا غنى عنه. فكانوا يشدون الرحال إلى العواصم، ويشخصون إلى العلماء والأدباء المتقدمين ويقصدون دور الكتب التي أولع بإنشائها الأمراء، فإذا ما قضوا من ذلك وطراً التفتوا إلى طلب الحظوة والنوال، فنصوا المطايا إلى أبواب الملوك والخلفاء. فإذا تمت لهم الحظوة وأضواهم الملك تحت ظله صحبوه في قليل أو كثير من رحلاته وغزواته، كما صحب عباس بن الأحنف الرشيد وابن هانئ الأندلسي المعز. فحظ أدباء العربية عامة من الرحلة لم يكن بالضئيل حتى أبو العلاء الكفيف لم يقعده عماه عن ركوب مشاق الأسفار والشخوص إلى العواصم
وقد ضرب كبير شعراء العربية المتنبي في الرحلة بسهم وافر: قضى شطراً من شبابه في البادية، وجاب أطراف العالم العربي، وقصد الأمراء ما بين فارس ومصر، وصحب سيف الدولة في حروبه، ومات وهو على سفر، وامتلأ شعره بذكر الرحلة والشغف بها والتمدح بتعوده إياها، ووصف الخيل والإبل وذكر الليل والفلاة وتفضيل النياق على الغواني. وقد كان يحب الرحلة حباً أصيلا لا تكلف فيه ولا ادعاء للبأس والفروسية: كان دوام التأهب والنقلة يشفي من نفسه الطامحة إلى جلائل الأعمال صداها، ويستوعب نشاط جسمه المتحفز للنضال وحمل الأعباء. لم تتهيأ له الفرصة لمجالدة الأبطال وتضريب أعناق الملوك فاعتاض عن ذلك مجالدة قوارع الطبيعة ومجابهة شدائدها. ومن رصين أشعاره في ذلك قوله:
ذراني والفلاة بلا دليل ... ووجهي والهجير بلا لثام
فإني استريح بذا وهذا ... واضوي بالاناخة والمقام
وقوله:
غني عن الأوطان لا يستفزني ... إلى بلد سافرت عنه إياب
فحب الرحلة كان أمراً شائعا في الدولة العربية، يدعو إليه توطيد الملك وبسط السلطان وابتغاء الرزق، ونقل التجارة ونشدان العلم والأدب وتأدية مشاعر الدين. وقد أدلى الأدباء(190/33)
في ذلك بدلوهم، وقل منهم من لم يرحل عن وطنه ولم يتغرب في بعض الأغراض؛ واثر ذلك ملحوظ في الأدب، غير أنه ضئيل محصور في مواطن قليلة: كوصف الرحلة إلى بلد الأمير الممدوح يقدم في صدر المدحة، وكالحث على الارتحال في طلب العلم والرزق والمنفعة وصحبة الماجدين في أشعار مشهورة سار كثير منها أمثالاً: يشبه فيها المرء في وطنه بالأسد في غابة لا يصيد، والماء في مستقره يأسن، والعود في أرضه لا ينفق ولا يزكو، والشمس في دارة الحمل لا يغني عنها شرف المحل؛ ومن جيد ما قيل في ذلك قول أبي تمام:
ولكنني لم أحو وفرا مجمعا ... ففزت به إلا بوفر مبدد
ولم تعطني الأيام نوما مسكنا ... ألذ به إلا بنوم مشرد
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
وكثير مما قيل في الرحلة في هذا الباب متشابه لا يمتاز بعضه من بعض إلا في قوة الأسلوب أو ضعفه، وكثرة ما به من محسنات أو قلته، وكثير منها يتفق في تداول نفس المعاني والاستعارات، جرياً على عادة المحافظة على تقاليد المتقدمين الأدبية، التي أتبعها الأدباء في كثير من فنون القول. أما الوصف المسهب لروائع المشاهدات التي تمتع بها الأديب في سفراته، وأثرها في ذهنه وقلبه، وتحويلها لنظرته إلى الحياة والكون، وما أثارته فيه من تأمل طويل، وما نازعه من حنين عميق إلى أوطانه، وما استرعى نظره من محاسن الطبيعة، وراع نفسه من آثار الأقدمين وبدائع فنون الإنسان؛ أما الوصف المسهب المفصل لكل ذلك، وتصوير أثر الرحلة في تكوين شخصية الأديب - فهي من أم عناصر ذلك التكوين - فقلما يبدو في الأدب العربي، فهذا باب آخر من أبواب الأدب الصميمة تغاضى عنه الأدب العربي، وتركه بين أيدي كتاب التاريخ وتقويم البلدان، وتخلى للأدب العامي
فالرحلة عن الموطن في نظر الأديب المثقف ليست فقط وسيلة لابتغاء الرزق أو اصطحاب الماجد أو قصد الملوك، ولا هي وسيلة لطلب العلم والأدب المدون والمحفوظ فحسب. بل هي قبل هذا وذاك وسيلة للمشاهدة واكتشاف الجديد والاطلاع على المجهول والوصول إلى(190/34)
البعيد. فطول مقام المرء في الحي لا يبغضه إلى معارفه ولا يحرمه من الوفر المجمع فقط، بل هو يضيق أفق ذهنه ويخمد قوى نفسه ويكفكف وثبات مطامحه؛ والرحلة تثير عزيمته وتزيد نشاطه وقدرته على التفكير والإنتاج، وتطلعه على أحوال الأمم الأخرى التي تزيده بصراً بأحوال أمته ومجتمعه ونفسه، وتشهده بدائع الطبيعة التي تتجدد حلاها في كل خطوة، وتتبدل محاسنها من بقعة إلى بقعة، وتبدي من أسرار جمالها صورة في أثر صورة، وفي ذلك من متعة النفس وغذاء الخيال والفن ما فيه. كما أن الوحدة التي هي نصيب الغريب في كثير من أوقاته تعوده الوقوف عن العالم المضطرب بنجوة، وإدمان الفكرة فيما يشاهد من أمور بنيه، وبالكثير من هذا يعج الأدب الإنجليزي
كان الإنجليز كما كان العرب في أول أمرهم رحالة دائبي التجوال والهجرة والمقاتلة، بيد أنهم كانوا منصرفين إلى البحر مزاولين للملاحة، فلما استوطنوا الجزيرة جنحوا إلى حياة الاستقرار رويدا رويدا، وإن لم ينفكوا عن حبهم للبحر وركوب أثباجه، وساهموا في النهضة الأوربية فأولعوا بالرحلة والمغامرة والكشف في عهد اليزابيث وما يليه، ونبغ من رحاليهم ومغامريهم أمثال رالي ودريك من رفعوا مكانة إنجلترا في البحر وما وراءه، وتلاهم التجار ورجال الأعمال والمهاجرون اتباع المذاهب الدينية المضطهدة، وانتشر الشعب الإنجليزي شرقا وغربا، وانتشر العلماء والأدباء في اثر ذلك يكثرون معارفهم ويستقصون مباحثهم، وصار من تقاليد خريجي الجامعات أن يطوفوا في بعض أنحاء القارة الأوربية عقب إتمام دراستهم، ليعرفوا أحوال الأمم ويزوروا خاصة إيطاليا واليونان مهدي الحضارة القديمة، وفرنسا التي ظلت زعيمة الثقافة والمدنية في أوربا مدى حين
وكان لأكثر أدباء الإنجليزية ولع بالرحلة لا ينقضي، وشغف بالبعيد لا يهدأ، وغرام بالاستطلاع لا يحد، واشتغال بمظاهر الطبيعة المتجددة ومحاسنها المتعددة، وتطلع إلى أحوال الأمم قاصيها ودانيها حاضرها وماضيها، ومن ثم أولعوا بالرحلة يقضون بها مآرب أرواحهم: فطوفوا في أنحاء جزيرتهم ولاسيما منطقة البحيرات ومرتفعات اسكتلندا وجزرها، وشخصوا إلى أصقاع أوربا المشهورة كباريس وإسبانيا ورومة والبندقية وأثينا، وجول بعضهم مثل كنجليك ولين بول في الشرق، وأودعوا أوصاف رحلاتهم تلك مذكراتهم أو رسائلهم إلى أصدقائهم في الوطن أو قصصهم أو قصيدهم(190/35)
ومن أدبائهم الذين طوفوا كثيراً ديفو الأفاق صاحب روبنسون كروزو. وجولد سمث الذي ضرب في أنحاء أوربا على قدميه وهو لا يملك شروى نقير، وكان يتكسب بالعزف على مزمار، وسبنسر الذي قضى ردحا طويلا في أرلندة، وبيرون الذي جول مراراً في أواسط أوربا وسواحل البحر الأبيض، وانتهى به المطاف إلى اليونان حيث استشهد في حرب الاستقلال، وشلي الذي قصد إلى إرلندة ليقودها إلى الحرية ويحقق فيها مجتمعه الفاضل، ثم آب إلى إنجلترا ومازال في ترداد بينها وبين أوربا إلى أواخر أيامه، تركت هذه الرحلات آثارها واضحة في الأدب، فمن سفراته اتخذ بيرون مادة لقصيده ولاسيما قصيدتيه الطويلتين: (تشايلد هارولد) و (دون جوان)، وفيهما يصف مشاهداته براً وبحراً وأثرها في ذهنه. وكتب شلي وكيتس وبروننج وهاردي الكثير عن آثار رومة وفنون إيطاليا عامة. وكان تنيسون في رحلاته يدون ملاحظاته لدقائق المناظر الطبيعية كي يعود إليها وقت النظم. وهيهات أن تتتبع آثار الرحلة ومظاهر الشغف بها في الأدب الإنجليزي، فهي مبثوثة في كل موضع منه
لم يقنع أدباء الإنجليزية بتدوين أوصاف رحلاتهم في آدابهم تدويناً مسهبا نابضا بالحياة، بل عمدوا - ولاسيما من قعد بهم الجد عن القيام بالرحلات الطوال التي يحلمون بها - إلى تخيل الأقطار البعيدة والمشاهد الغريبة والأمم العجيبة والحوادث الجسيمة وأودعوا كل ذلك قصصهم وأشعارهم ليشفوا غليل نفوسهم الظامئة إلى الجدة والحركة والجمال الطبيعي، فتخيل شكسبير وقائع رواياته في شتى بقاع الأرض والبحر، وتخيل كولردج مشاهد (الملاح القديم) في جهة من المحيط نائية مملوءة بالأسرار والألغاز، وتصور ستيفنسون في قصصه الحوادث الجسيمة في أقاصي الجزر والبحور، وهي الحوادث والمناظر التي كان يقعده الداء الممض عن مباشرتها بنفسه
ولجأ الأدباء إلى تاريخ ملاحيهم وجوابيهم يقصونه، وإلى الخرافة القديمة يستعينون بها على تصوير نزوعهم إلى الرحلة والمشاهدة في شتى الطور، كما استعانوا بتلك الخرافة في الكثير من فنون الأدب. ومن أبدع آثار ذلك قصيدة تنيسون المسماة يوليسيز باسم البطل اليوناني الذي تقص الأوديسا أخبار مغامراته، وقد أصبحت قصيدة تنيسون تلك عنوانا في الإنجليزية على حب الرحلة. تبدأ القصيدة ويوليسيز ملك في جزيرة إيثاكا، يتململ من(190/36)
الإقامة، ويتذكر سالف مخاطراته ومشاهداته ووقائعه حول طروادة، ويحن إلى معاودة حياة التجوال في البر والبحر واكتساب المعارف بلا انقطاع، فيعول على ترك ابنه تليماك ملكا مكانه، ويهيب بصحبة الأقدمين الذين شيبتهم الأهوال في صحبته، أن يأخذوا مقاعدهم من السفينة، ويهووا بمجاديفها على الأمواج المصطفقة، فتنطلق بهم إلى حيث لا يعلمون، إما إلى الردى وإما إلى جزائر الفردوس حيث يلقون البطل أخيل. يصف تنيسون كل ذلك في أسلوبه الشعري الممتاز، وفي خيال معجب أخاذ، ويرصعه بوصف مطرب لمناظر الطبيعة جملا وفرادى، من سهول طروادة إلى أثباج اليم وهبوط حواشي الليل عليها، إلى تلألؤ النجوم على صخور الشواطئ البعيدة، وصعود القمر منها وئيداً.
ومن أجمل أشعار الحنين إلى الوطن ومناجاته قول جولد سميث في (القرية المهجورة): (قد كنت آمل دائماً - في جميع جولاتي في هذا العالم الرحب المملوء بالمتاعب وفي جميع أشجاني، وقد حباني الله نصيبي منها - أن أتوج ساعاتي الأخيرة بالقرار بين هذه المغاني البسيطة المتواضعة؛ وكنت آمل - إذا ما تقشعت همومي - أن أعود إلى الوطن، وفي الوطن أقضي نحبي، كما يعود الأرنب البري الذي تجد الكلاب والأبواق في أثره، إلى الجحر الذي أنطق منه أول مرة)
ومن أعذب الأشعار المترجمة عن حب الرحلة في الأدب الحديث مقطوعة الشاعر المعاصر جرالد جورلد: (الشمس طالعة في المشرق وفي المغرب البحر، وسيان أن كنت في الشرق أو في الغرب فهذا الظمأ إلى الرحلة لن يدعني أقر، بل يعصف بي كالجنون، ويحملني على توديع موطني، فالبحار تدعوني، والنجوم تدعوني، ويا شد ما تدعوني السماء! ولست أدري أين ينتهي الطريق الأبيض، أو اعلم ما تلك الجبال الزرقاء، ولكن كفى للمرء بالشمس زميلا، وبالنجم دليلا، ثم لا آخر للمطاف إذا ما هتف الصوت، إذ الأنهار تدعوني، والطريق يدعوني، ويا شد ما يدعوني الطائر! ذلك هو الأفق ممتدا، وهناك ليل نهار تعود السفن القديمة إلى أوطانها، وتنطلق السفن الصغار، وربما أعود أنا، ولكن لابد أن أذهب. فإن سألك سائل ما السبب، فالق اللوم على النجوم، والشمس، والطريق الأبيض والسماء!)
فحب الرحلة كان أمراً شائعاً في الأمتين، وقد نال أدباؤهما منها بنصيب، وظهر أثرها في(190/37)
أدبيهما؛ بيد أنها في الأدب الإنجليزي أظهر أثراً، وأدباء الإنجليز بها اشد شغفاً وأكثر تغنياً، ونظرتهم إليها أوسع أفقاً من نظرة أدباء العربية: فهؤلاء كانوا ينظرون إليها نظرتهم (الاجتماعية) إلى شتى الأمور، يرونها وسيلة من وسائل فهم المجتمع الذي يعيشون فيه ويطلبون الرزق في مضطربه، وذريعة من ذرائع استيعاب معارفه والتذرع باسبابه، على حين كانت نظرة أدباء الإنجليز إليها كنظرة الإغريق إنسانية شاملة، وفنية حرة خالصة من كل غرض خارجي: كان يريدون بها المعرفة المطلقة بشؤون الكون والإنسان، وإن لم تجدهم تلك المعرفة في معركة الحياة فتيلا، ويريدون ري غريزة الاستطلاع الكامنة في الإنسان والتي تظل متيقظة مادامت النفس مقبلة على الحياة، ويبغون إرضاء نشاط جسومهم وأرواحهم والتثبت من بقاء نشاطها وحيويتها، ويسعون لاستجلاء محاسن الطبيعة التي لا تفنى مجاليها ولا تحد آفاقها
فخري أبو سعود(190/38)
من الأدب التركي
أبناء المجرم
القاضي الشاعر:
فؤاد بك خلوصي أحد رؤساء محكمة النقض والإبرام في الجمهورية التركية الآن وهو مولود في طرابلس الشام، رجل فذ من رجال القانون وشاعر من أرق الشعراء عاطفة وأروعهم بيانا. ولهذا القاضي الشاعر ديوان باللغة التركية وقفت فيه عند قصيدة ممتعة من خالد الشعر يصف فيها تنفيذ حكم الإعدام على مجرم يترك في الحياة أرملة وأطفالا، وقد كان الشاعر أحد قضاة المحكمة العسكرية التي حكمت بإعدام المجرم في ثورة البلقان، فاخترت تعريب هذه الأبيات لما فيها من حكمة وعواطف، ولعرضها مشكلة كبرى من مشاكل العدل الإنساني تجاه سر الحياة
ف. ف
وكانت من شهر ديسمبر أواخر أيامه القارصة، وكان آخر الليل؛ سواد يربط على صقيع وديجور أربد ملفع بالجمود
في كل خطوة أوحال متحجرة بالجليد وزمهرير يسفع الوجوه فيلفحها كالسعير.
تجهم وجه السماء كجمرة تطفئ، وشرارها بقية كواكب الليل، حكمها الملال فأطبقت على أنوارها وتراجعت إلى الأفول
وساد الآفاق ارتعاش صامت، ونعق البوم مقلقلاً سكون الظلمة العميق
أمامك ووراءك حلك الظلام، وفوق رأسك سماء متألمة واجمة، فإلى أين مسيرك يا فؤاد، مضطرباً معقود اللسان؟ إلى أين تتجه في آخر هذا الليل، أيها الرجل؟
هو قاتل أنزل القضاء عليه الحكم بالرفع إلى المشنقة، وأمام قصر الجند المجلل بالرهبة بين المعاقل الحصينة ركزت يد الانتقام بل يد العدل آلة الإعدام، وهناك سينزل القصاص بمن أردى أحد الجنود شهيدا
هبوا من رقادكم أيها الشجعان وأسرعوا إلى المشهد، ذلك حكم الأمة عادلاً وهي تنتظر تنفيذه في المجرم المهين! أيتها الرقة الحديدية سارعي لإطلاق رصاصك على الجاني.(190/39)
ولكن لا، إنما رصاص بنادقك شريف يضيع في هذا الخائن. اتركوا للحبل فريسته، إن للموت المعلق قلادة القنب وقساوة الجلاد
أيها القضاة المقسمون بوجدانكم! أفما أنتم الحاكمون بالإعدام إجابة لاختيار مجرد فيكم، فعلى مَ ارتعاشكم، وما هذا السهم النافذ الآن إلا سهمكم الذي شددتم له القوس وسددتم له المرمى. .؟
لن أنسى ما حييت ما أرى
بين لجج الظلمات المطبقة على كل منظور، كان نور المشعل واحد تجهمت أشعته على صفحة الأوحال لتزيد في روعة المشهد، وكان هنالك جذعان من الأشجار مرتكزان على الأرض وفوقهما عارضة أفقية تدلى منها حبل تجسم الموت فيه وارتجف الروع برجفانه
أفما تعجب لهذا الانقلاب فيك؟ علام حزنك واضطرابك وأنت الشاجب والقاضي؟ لقد عددت هذا الجاني عدواً للإنسانية ورآه وجدانك مستحقاً للإعدام، وما يجديك افتكارك الآن شيئاً. اثبت أو تردد، اضطرب أو تجلد، لك ما تشاء، فمشيئتك عبث وقولك لن يسمع، ارجع إلى الوراء وقف إلى جانب، اهرب وتوار عن الأنظار، إن يد الجلاد هي التي تقبض الآن على زمام الأقدار
- ما أسمك وما أسم أبيك؟
- فلان وأبي فلان على قيد الحياة
سئل هل له أولاد، فترجم المترجم: إن له طفلين
وشعرت إذ ذاك أن اللجة قد فغرت فاها تحت رجلي
ارتفع الأنين من صدري فاختنق، وربط الروع بشهقة الألم على أنفاسي، وانتصبت أمامي الضحية المقربة لليتم طفلين متشحين السواد، وصرخ من فوف المشنقة: عفوك أيها الإله! وخمدت أنفاسه
وغشت عيني ظلمة خفقت من ورائها الأشياء. نفدت قولي وامتنع الاستجلاء عليّ، فتلاشى أمام ناظري القاتل والمقتول وانتصب مكانهما خيال عيالٍ باكية مصدوعة القلوب دامية الصدور
ذلك أب يبكي أرملة ويتيمين يجولون تائهين بالفقر والمسكنة في فيافي المستقبل الأدكن.(190/40)
ويلاه ما جنت هذه العيال لتقتسم الجزاء مع الجاني؟ معضلة، من يسبر غورها؟ ومسألة، من يحل عقدتها؟
لو أن هذا المشهد أحلام لبدده انفلاق الصباح وانعتق القلب من روعه وآلامه، ولكن هي الحقيقة الهائلة، ليتها كانت طيفا أو خيالا. . .
فؤاد خلوصي(190/41)
تعليق على مقال
أثر المرأة في حياة الشيخ محمد عبده
للأستاذ عثمان أمين
كتب أستاذنا الكبير الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك في مجلة (الشباب) مقالا عنوانه (أثر المرأة في حياة الشيخ محمد عبده). ونحن مع إعجابنا بما حوى هذا المقال من طرافة ودقة بحث، هما شأن أستاذنا فيما يسطر قلمه البارع، نرجو أن يسمح لنا في التعليق عليه بعض ملاحظات
ذكر أستاذنا كيف كان قصر الأميرة نازلي فاضل مجتمعاً للعظماء وقادة الرأي في مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وأشار كذلك إشارات لطيفة إلى ما اتصفت به الأميرة من صفات شخصية عالية جعلتها تميز قيم الرجال وتخص الشيخ محمد عبده بمكانة تجمع بين الحب والإجلال
ونحن من جانبنا نوافق أستاذنا مصطفى بك فيما ذهب إليه من أمر تلك المودة الصادقة التي قامت بين الشيخ محمد عبده وبين الأميرة نازلي والتي كان لها - من غير شك - أثر عميق في حياة الشيخ وفي نفسه الكبيرة الحساسة.
ولقد وقع لنا - أثناء بحثنا عن آثار الأستاذ الإمام - خطاب يشهد بوجود تلك الصداقة التي ذهب إليها حضرة صاحب المقال؛ والخطاب بالفرنسية كتبته الأميرة بخطها إلى الشيخ محمد عبده تدعوه فيه إلى القدوم لرؤيتها. وهذا نصه:
7
'
وإليك ترجمة الخطاب:(190/42)
السبت
صديقي العزيز:
أرجوك أن تحضر لرؤيتي هذا المساء بعد الساعة السابعة
أنا آسفة إذ فاتتني رؤيتك أمس
صديقتك المخلصة:
نازلي
فأمر الصداقة إذن حق. واختلاف الشيخ محمد عبده إلى قصر الأميرة أمر مقرر. ولعلنا الآن لا نبالغ إذا قلنا إن عناية الشيخ محمد عبده بإتقان اللغة الفرنسية ربما كان نفحة من نفحات الأميرة التي كانت تتكلم بالفرنسية كإحدى بنات (السين) ذوات الثقافة العالية والأدب الرفيع. ونظرة إلى مجموعة الكتب الفرنسية التي وجدت بمكتبة الأستاذ الإمام، والتي تعالج منها شؤون الأدب الفرنسي بنوع خاص، تؤيد ما ذهبنا إليه من أثر الأميرة في ميول الأستاذ الإمام واطلاعاته.
أراد أستاذنا الفاضل مصطفى بك أن يبين أثر الأميرة في حياة الشيخ محمد عبده من ناحية أخرى، فذكر في آخر مقاله أن الشيخ كان يجهر أول أمره بعداوته لإنجلترا ويكتب في ذلك فصولا ضافية، ثم قال: (أما بعد اتصاله بالأميرة نازلي التي كان هواها مع إنجلترا، وكانت صديقة للورد كرومر، فقد تلاشت عداوة إنجلترا من صدر أستاذنا (محمد عبده) وأصبح يجهر في كتاباته ودروسه أن بريطانيا العظمى أحسن الدول استعماراً).
فهل يسمح لنا فضيلة الأستاذ أن نبدي في هذه النقطة رأياً آخر؟
إذا كان الإمام محمد عبده، أول أمره، قد حمل على الإنجليز حملات شديدة، فقد كان ذلك في جريدة (العروة الوثقى) أيام اتصاله بأستاذه السيد جمال الدين الأفغاني. فكان يكتب وهو في باريس، مدفوعاً بحماسة الشباب، ومرارة المنفى بعيداً عن وطنه، ومتأثراً بآراء أستاذه الأفغاني، وقد كانت على ما يعلم الجميع - ترمي إلى الثورة سواء بتأليف الجمعيات السرية، أو الإذاعة بالقلم واللسان. أو استعمال العنف والقتل، وبالجملة القيام في وجه الظالمين المستبدين سواء أكانوا شرقيين أم غربيين. وكان محمد عبده، أول الأمر يعتنق أكثر آراء أستاذه الأفغاني، لكنه بعد عودته من باريس وحبوط الدعوة وانفصاله عن أستاذه،(190/43)
عدل آراءه الأولى، ومال إلى الأخذ بالاعتدال والتدريج متوخياً الإصلاح، لا من طريق السياسة والثورة، بل من طريق التعليم والتربية الاجتماعية والدينية، وكان الأستاذ المصلح يتحدث عن هذا فيقول:
(علينا أن نهتم الآن بالتربية والتعليم بعض سنين. وأن نحمل الحكومة على العدل بما نستطيع، وأن نبدأ بترغيبها في استشارة الأهالي في بعض مجالس خاصة بالمديريات والمحافظات، ويكون ذلك كله تمهيداً لما يراد من تقييد الحكومة. وليس من اللائق أن تفاجئ البلاد بأمر قبل أن تستعد له فيكون من قبيل تسليم المال للناشئ قبل بلوغ سن الرشد: يفسد المال ويفضي إلى التهلكة).
أما عن الإصلاح الديني فهو يقول في رده على هانوتو: (إن الغرض الذي يرمي إليه جميعه (أعني المصلحين من المسلمين) إنما هو تصحيح الاعتقاد وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع تبعها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، وتهذبت الأخلاق بالملكات السليمة. ولم يخطر ببال أحد ممن يدعو إلى الرجعة إلى الدين سواء في مصر أو غيرها، أن يثير فتنة على الأوربيين أو غيرهم من الأمم المجاورة للمسلمين.) فلما أراد محمد عبده تطبيق وجوه الإصلاح على الأزهر بإدخال العلوم الحديثة في برامجه - وكانت أولى محاولاته الإصلاحية في عهد الخديو توفيق - قام في وجهه شيوخ جامدون على ما ألفوا من تقليد، ولم يفطنوا إلى مدى إصلاحه، وبعد ذلك نظر الشيخ عبده إلى السلطات العليا يتلمس عندها التأييد، فوجد من الخديو عباس الثاني مناوأة له ومناصرة لخصومه، ولقي الإمام في ذلك من الأذى كثيراً. ولسنا اليوم بحاجة إلى بيان ما كان فيه خصومة الخديو للأستاذ الإمام من شدة، فذلك أمر مشهور. وحسبنا أن نشير إلى تلك الوثيقة التاريخية الخطيرة التي نشرها أخيراً أحمد شفيق باشا والتي أرسلها الخديو إلى شفيق باشا - وكان إذ ذاك رئيساً للديوان العالي - يؤنبه فيها على السير في جنازة الشيخ محمد عبده إزاء الدسائس المتوالية والحملات المنكرة التي كانت توجه من كل صوب إلى رجل الإصلاح، لم يكن للأستاذ الإمام بد أن يدير وجهه إلى السلطات الإنجليزية فعرف (لورد كرومر) وأقنعه بوجهته في الإصلاح، ووجد محمد عبده المفتي من العون عند كرومر ما أخطأه عند عباس الثاني وعند شيوخ الأزهر. ومن اطلع(190/44)
على التقارير السنوية التي كان يقدمها لورد كرومر إلى حكومته وجد فيها ذكراً طيباً للشيخ محمد عبده وتقديراً لأعماله. وعميد الإنجليز في مصر يذكر لنا في نفسه إن مناصرته محمدا عبده لم تكن بالأمر اليسير نظراً لما كان يلقاه الإمام المصلح من خصومة المحافظين له وكراهة الخديو إياه، بل لولا كرومر ما بقي محمد عبده في منصب الإفتاء طويلا
نرى مما تقدم أن الشيخ عبده لم يصادق الإنجليز عفواً ولا إرضاء لهواه، بل ألجأته إليه الظروف: كان يريد الإصلاح حقاً، ولم يكن بمقدوره أن يمضي في إصلاح وأهل الجمود والتقليد يقيمون في وجهه العراقيل، ويحيكون من حوله ضروب الدسائس، فكان طبيعياً إذن أن يلتمس موافقة الإنجليز. وكان لهم حينذاك النفوذ الفعلي في البلاد
على أن رضاه عن سياسة بريطانيا في مصر لم يكن ينسيه واجبه كوطني، بل كأول من حاول بث الفكرة الوطنية في نفوس المصريين. ولم تكن تفوته فرصة دون أن يطالب فيها بقيام دستور للحكم العادل في البلاد، ووضع حد للتدخل الذي كان يدعيه لأنفسهم الموظفون الإنجليز كالمستشارين وغيرهم (بحيث لا يكون الموظفون المصريون مجرد ألعوبة في أيديهم) كما كان الحال في ذلك الزمان
ونحب في ختام هذا التعليق أن ننبه إلى إننا ما قصدنا إلا أن ندلي بتعليق جديد للموقف الذي اتخذه المصلح الكبير إزاء الإنجليز؛ وما أردنا مما ذكرنا من وقائع أن نتعرض بالنقد لرأي أستاذنا الجليل مصطفى عبد الرزاق بك. فنحن أول من يعترف بفضله، ونجل فيه شدة وفاءه لأستاذه الإمام محمد عبده وعمله الدائم على إحياء ذكراه
ويخيل إلينا أن الأستاذ الإمام قد توسم علائم هذا الإخلاص في تلميذه الشيخ مصطفى فكتب إليه سنة 1904 يقول: (ولقد عرفت مني على حداثة سنك ما لم يعرفه الكبار من قومك. فلله أنت ولله أبوك)
عثمان محمد خليل
مبعوث الجامعة المصرية بباريس(190/45)
14 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
الفصل الثالث
الجاهلية: شعرها وعاداتها ودياناتها
ترجمة محمد حسن حبشي
يقول أبن رشيق القيرواني: (وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وتتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهن، وذب عن أحسابهم، وتخلد لمآثرهم، وإشادة لذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج)
وفي خلال هذا الزمن لم يكن هناك سوى أدب منطوق حفظته الرواية الشفهية، ولم يشرع في كتابته إلا بعد ذلك بزمن طويل. أما عصر الجاهلية فيشمل قرنا ونيفا من السنوات، أعني منذ سنة 500 بعد الميلاد حينما نظمت أول قصيدة وصلت إلينا حتى عام هجرة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) إلى المدينة سنة 622م تلك السنة التي تعد نقطة انتقال ومستهل عهد جديد في التاريخ العربي. وكان أثر هذه المائة والعشرين سنة كبيراً وخالداً، فقد شهدت نشأة تدهور نوع من الشعر اعتبره أغلب المسلمين الناطقين بالضاد مثالا للإبداع لا يتأتى الوصول إليه، فهو شعر قد سار مع حياة القوم جنبا إلى جنب. ووحد بينهم قبل ظهور محمد (صلى الله عليه وسلم) بزمن طويل من الناحيتين الخلقية والروحية، وقبل أن يؤلف الرسول بين أهوائهم المتشعبة وقبل أن يجعلهم أمة تسعى من أجل غاية مشتركة، وترمي إلى مقصد واحد. في هذه الأيام لم يكن الشعر من الكماليات للأقليات المثقفة بل كان الوسيط المفرد في التعبير الأدبي، وكان لكل قبيلة شعراؤها يعبرون بحرية عمّا يختلج في النفوس ويصورون أفكارهم، وكان كلامهم الشفهي هذا ينطلق في رحاب الصحراء أسرع من انطلاق السهم، ويجد آذانا صاغية وقلوبا واعية عند جميع من يستمعون إليه. وفي وسط هذا الصراع الخارجي والتفكك كان هناك مبدأ يربطهم جميعا: ذلك أن الشعر أحيا وعمم المثل الأعلى ألا وهو: (المروءة) ولو أنها كانت تقوم على عصبية الدم القبلية،(190/46)
ونرى أن روابط الدم مقدسة؛ بيد أنها غدت رباطا غير واضح تماما بين القبائل المختلفة. وأوجدت عرضا أو اتفاقا أساس اتحاد قومي في الشعور
ولقد حاولت في الصفحات التالية أن أتعقب أصول الشعر العربي، وأصف طبيعته وعناصره وخصائصه العامة، وأن ألم بأبرز شعراء الجاهلية، ومجاميع شعر هذه الفترة، ثم أنتهي من ذلك إلى عرض الوسيلة التي حفظت بها حتى وصلت إلينا
كان العرب القدماء يعدون الشاعر كما يدل عليه أسمه - ذا صلة بالغيبيات، وساحرا يؤاخي الجن والشياطين ويستمد منهم العون فيما يعرضه من مقدرة رائعة. وتتضح هذه النظرة إلى شخصيته ومكانته التي يتبوأها مما يروى عن شاب أبت حبيبته الزواج به لأنه لم يكن شاعراً أو كاهنا أو عرافا، وارتقت بعد ذلك فكرة الشعر كفن إذ كان الشاعر الوثني في الجاهلية كاهن قبيلته ومرشدها في السلم والحرب، وبطلها في معمعان القتال، تستشيره إذا ما بحثت عن مرعى جديد، ولا تضرب طنبها إلا حسب إشارته. وإذا عثر راودها المجهدون الظامئون على بئر نهلوا من مائها واغتسلوا به، وقادهم إليه رافعين جميعا عقيرتهم بالغناء كما فعل إسرائيل من قبل: (انبثق أيها الماء، ويا هؤلاء غنّوا له)
ولابد أن تكون قد وجدت في العصور الأولى ضروب أخرى من الشعر عدا أغاني الينابيع والحرب والتراتيل الدينية للأصنام - هذه الضروب كالتشبيب والرثاء، كما كانت مواهب الشاعر تستغل أيما استغلال في الهجاء الذي كان في أقدم صورة (يبعث القبيلة على طلب الثأر، ويعد باعثا من بواعث الحرب لا يقل عن الطعن والنزال) كما يعد وعيده للعدو وتهديداته إياه دليل خطب جسيم، أما منظوماته التي لا تقل عن السهام فتكا فكان أثرها أثر اللعنات الصارمة يجريها الوحي على لسان نبي أو كاهن، وكان الشعراء يتناشدون أشعارهم في حلقات خاصة ذات طقوس وأنظمة خاصة، كدهنهم أحد جانبي الرأس، وإسدالهم العباءة، وانتعالهم (خفا) واحدا من الصندل. وقد أبقى الهجاء على شيء من هذه العادات المستهجنة إلى عصر متأخر، حينما تخلى منطق الشاعر الساحر عن مكانته للهجاء والقذع الذي كان يكيل به الشاعر لخصومه السب ويسمهم بميسم العار
وإن الطلائع الأولى المبهمة للشعر العربي (التي غطت عليها حيويته الساحرة المعروفة) لم تترك وراءها أثراً في هيكل الأدب، ولكن المهمة قد تكون سهلة نسبيا حينما نواجه قوماً جدّ(190/47)
محافظين مستمسكين بالقديم كالعرب. وقد يمكن القول بأن أقدم صورة للكلام الشعري في بلاد العرب كانت السجع أو كما ينبغي تسميته (النثر المقفى) وإن وصف مناهضي محمد عليه السلام إياه بأنه شاعر لما جاء به القرآن من صور له حتى بعد معرفة الموازين الشعرية واستنباطها ليظهر لنا أن هذه النظرة كانت لا تزال حتى ذلك الحين قوية ثابتة
وتطور السجع أخيرا - كما سنرى - فأصبح حلية لفظية فقط، والميزة البارزة لكل فن من فنون البلاغة سواء في الخطابة أم في الكتابة، ولكن كان له في الأصل مرمى بعيد يتصل عن قرب بالناحية الدينية، ويختاره الشعراء والكهنة ومن على شاكلتهم ممن كانوا يعتبرون ذوي صلات بالقوى الخفية ليفسروا به للدهماء كل ما يحز بهم من مسائل عويصة لا يدرون لها تأويلاً ولا يعرفون لها حلا. وتفرع من السجع فن آخر يجري على وزن يعد أقدم موازين الشعر العربية ذلك هو الرجز، وهو بحر شاذ العروض والتفاعيل يحتوي في الغالب على تفعيلتين أو ثلاث. ومن أوضح مميزات الرجز التي تظهر صلته القوية بالسجع أن نهايات شطراته تجري على قافية واحدة، مع أنه في معظم البحور لا يحدث التصريع إلا في مطلع القصيدة. وزيادة على ما ذكرنا، نجد ميزة أخرى للرجز، هي أنه على الدوام يكون مرتجلا، فينشد الرجل الأرجوزة عند المفاجآت يفسر بها بعض مشاعر الشخصية أو عواطف أو تجارب، ومثل هذا ما ارتجله دويد بن زيد بن نهد القضاعي وهو يتهيأ للموت:
اليُوْمَ يُبْنَى لِدُوَيد بَيْتُهُ ... لَوْ كَانَ لِلدَّهْرِ بِلًى أَبْلْيَتْهُ
أوْ كانَ قِرْنِي وَاحِداً كفَيتهُ ... يَارُب نَهْبٍ صَالحٍ حَوَيْتهُ
وَرُبَّ عَبْلٍ خَشِنٍ لَوْيْتهُ
ويحسن أن نأتي في هذا المقام على ذكر بعض البحور الهامة في الشعر العربي كالكامل والوافر والطويل والبسيط والخفيف وغيرها. وإيثاراً للاختصار أحيل القارئ إلى البحث الوافي عن هذا الموضوع في مقدمة سير شارلز لييل في كتابه (ص45 - 52). وكل البحور قياسية كما هو الحال في الإغريقية واللاتينية. وقد استنبط قواعد العروض من القصائد القديمة لأول مرة ونظمها ورتبها الخليل بن أحمد اللغوي (791م) الذي يقال إن الفكرة طرأت له حينما شاهد حداداً يضرب بمطرقته على السندان(190/48)
ولابد لنا الآن من أن نبحث في نظام وموضوع هذه الأشعار التي تعد أقدم ما في التراث العربي، فبين هاته النصوص البالغة حد الإتقان والروعة وبين شواهد السجع أو الرجز التافهة بون شاسع ليس من اليسير تحديده. وأول من نعرف من الشعر هؤلاء الذين تلوح في آثارهم إجادتهم لصناعتهم وإبداعهم فيها (وإن عدد الموازين التي يستعملونها وتعقدها وقوانينهم الثابتة عن الكمية، والطريقة المألوفة التي كانوا يستهلون بها قصائدهم بالرغم من الفترة التي بين كل ناظم وآخر، هذه تحتاج إلى دراسة طويلة واندماج تام في تعرف فن التعبير للغة واتساع نطاقها وطلاقتها، وهي دراسة قل أن نجد بين أيدينا اليوم ثبتا يساعدنا عليها)
(يتبع)
محمد حسن حبشي(190/49)
إليها!
للأستاذ أمجد الطرابلسي
حبيبي! إنْ بدا الفجرُ ... ورفَّ كثغركَ الزَّهرُ
وغنَّى الطيرُ مخموراً ... لحوناً كلُّها خمرُ
فلا تأسَ على أيا ... منا الفَرحى ولا تعتبْ
هو الدّهْرُ! ومن للدَّه ... ر إن أخطأ أو أَذنبْ؟
حبيبي! إِنَّ في قلبي ... ظلاماً ما لهُ فجرُ
ولولا طيفُكَ الخَطَّا ... رُ ما شعَّ به كوكبْ!
حبيبي! بان لي الكونُ ... ولمْ أكُ مدركاً بعضْه
عرفتُ نجومهُ الحَيْرى ... عرفت زهورَه الغَضَّه
عرفت النسمةَ الفرحى ... عرفت البلبلَ الشادي
عرفت الحلمَ الزاهي ... عرفت الأمل الحادي
نشيدَ الروح! هل كنّا ... سوى طيرينٍ في روضَه؟
فمن ظلٍّ إلى ظلٍّ ... ومن وادٍ إلى وادِ. . .
أأيامَ الهوى البَرِّ ... وأمسياتهِ الحْلوَهْ!
جفَوْتِ ولم يذقْ طفلا ... كِ بعدُ لذاذة الصَّبوه
حبيبي! يا ترى هل تس ... عدُ الأيّامُ قلَبينا؟
فنأسو الجرحَ والذكرى ... ونسلو الغمَّ والبَينا. . .
ألسنا في الشّبابِ الحل ... وِ زَنْبقَتَيْنِ في ربوه؟
فما للعاصفِ المجنو ... نِ يفرِقُ بينَ غُصنينا؟
حبيبي! إن دجا اللَّيلُ ... وطافتْ بكَ أشباحُهْ
وأورى طرفك الساجي ... جوى البعدِ وأتراحه
فإنَّي بينَ أترابي ... وأصحابي وإخواني
غريب مُلْهَبُ الأجفا ... ن واري القلب كالعاني!
حبيبي! إنَّ ليل الحبَّ ... جرحُ القلب مصباحُهْ(190/50)
وهل يعبق نشر العو ... د إلا وسْطَ نيران(190/51)
من زوايا النسيان
زهرات ذابلات
لشاعر معروف
أحاذر في نجواك بث شكاتي ... فأكتم ما في القلب من حسرات
ويُضرعني وجدي فألقاك شاكيا ... ولابد للمصدور من نفثاتِ
لقد علمت أخت الملائكِ أنني ... من الهّم والآلام في غمراتِ
وأن هواها مستبدّ بمسمعي ... وفي كل حسن مالئٌ نظراتي
وملء فؤادي والأمانيِّ كلِّها ... يبرّح بي في يقظتي وسُباتي
أروم اصطبارا عن لقاك فأنثني ... إليك بملء القلب من لذعات
والتمس السلوى لديك فانثني ... بزاد من الأشواق مستعراتِ
إذا ما دجا بالغمّ قلبي أضاءه ... كواكب من ذكراكِ والخطرات
وإن جنحت للشر نفسي هديتها ... بذكرك فارتدّت إلى الحسنات
وإن أخلدت يوما إلى الأرض ردها ... هواك إلى الأفلاك في لمحات
وذكرك قد يجلو عن القلب رَينه ... فيسطع فيه النور حين صلاتي
على إنني يعتادني من تذكري ... لواعج همّ مشعَل الزفرات
هي النور وهي النار والسلم والوغى ... بقلبي، ومنها غبطَتي وشكاتي
وأمني وخوفي، وهي أنسي ووحشتي ... وظلمة أيامي وضوء حياتي
فيا قمر إن غاب عنّيَ نوره ... فقلبي ليل موحِش الظلمات
ويا شمس حسن إن تغِب فجوانحي ... بها شفق في وقده الجمرات
ويا فلكا للحسن والحب دائرا ... يبارك ربّي هذه الدوَرات
فلو كان ما بيني وبينك فرقة ... لقطع بحار أو لطيّ فلاة
ولكنه الدهر المُشتُّ يُقيمنا ... على قربنا في فرقة وشتات
تمنّيت أنا طائران بدوحة ... تظلّل نبعا ثَرَّ في الفلوات
أصوغ لك الأزمان شعر وبهجة ... وأسمع منك الخلد في نغمات
ويُمسِك هذا الدهر عن حركاته ... فلا هو بالماضي ولا هو آت(190/52)
أناظمة الأشعار أنت قصيدة ... جلَتها يد الخلاّق في قَسَمات
يطالعها قلب من الشعر مُجدب ... فينبت فيه الشعر أيّ نبات
وينشدها من قدّ في الصخر قلبه ... فيُنبِض منه الحبُّ قلبَ صَفاة
أرى وجهِكَ الوضّاء شعرا مصوَّرا ... تحاوله الأبيات في كلمات
كأن يراعا في يمينك إبرة ... تردّد ما في الوجه من نغمات
يقولون (شعر شاعر): هل عنَوا به ... بديعةَ حسن تنظم الشطرات
يُحيّي بهذا الشعر قلبيَ فاقبلي ... وإن كنت روضا، هذه الزهرات
سقتها دموعي واصطلت حرّ زفرتي ... فلا تهزئي إن لم تكن نضرات
(شاعر)(190/53)
وحي الشاطئ
أيها البحر. . .
للأديب أحمد فتحي مرسي
سهرت عَيْنُهُ مَلاَلاً وسُهْدَا ... هَدَأ اللّيْلُ مالهُ ليْسَ يَهْدَا
يرتمِي لا غِباً على بُسُطِ الشَطِّ ... م ويُولِي الرِمالَ ميلْاً وصَدَّا
وكأنَّ الأمَوَاجَ كفَّا بَخِيلٍ ... رَامَ أن يَرْفِدَ - العَشِيَّة - رِفْدَا
كلَّما مَدَّ بالعَطَاءِ يَدَيْهِ ... غَلَبَ البُخْلُ نَفسَه فاسترَدَّا
ما أحبَّ الشطآنَ تَهْدِرُ في اللَّيْ ... لِ ومَا أبْهَجَ الرِمَالَ وأنْدَى
وكأنَّ الأمْوَاجَ أوْفَتْ عَلَيها ... حَاسِب جَدَّ في الحِسَاب وكدَّا
سَطَّرَتْ كفُّهُ الرِمَالَ سُطوراً ... وصَفَا ذِهنُهُ وراقَ وجَدَّا
مفْكرِ - في السكونِ - حتَّى إذا مَا ... خَذَلَتْهُ النُهى، وأخْطأ عَدَّا
عَادَ لِلَّوْحِ حَانِقاً فَمَحَاهُ ... وأعَادَ الحِسَابَ فيهِ وأبْدَا
سَرِّحْ الطّرْفَ أيها العَاشق الحُسْ ... نَ. هنا الحُسْنُ رَائِع يَتَبَدَّى
وتَأمَّلْ في ذَلكَ الغَاضبِ الحَا ... نقِ يَطوي الفَضَا مَرَاحاً وَمغْدَى
وكأنَّ الأموَاج ترغى على الشُّطآ ... ن شَيْخ يَميلُ أيناً وَجَهْدَا
شَيَّبَتْ صَوْلة المقاديرِ فُودَي ... هـ وهُدَّتْ قوَاهُ في الدَهْرِ هَدَّا
مدْلِج طالَ في الظَلامِ سُرَاهُ ... كلمَا جَدَّ في خُطَاهُ تَرَدَّى
أيها البحرُ. . . ما لأمَوَاجِكَ الحَيْ ... رَى ترامى وترْعِدُ - اليومَ - رَعدا
فرّقتْ بَيْنَنَا المقاديرُ يا بَحْ ... رُ وَوَدَّ الزَمانُ ما لمْ يودَّا
أتُرَى أنَتَ ذَاِكرِ طِيْبَ ما وَلّى ... (م) وما غابَ في الزَمانِ وأوْدَى
يومَ كنَّا والليلُ مُرخىً علينَا ... نتساقى من أكْؤُسِ الوِدِّ شهدا
ساعة للصفاءِ مَرَّتْ من الدَهْ ... رِ، وللصفوِ ساعة لنْ تُردَّا
كم نَرَجى لو عاد ما فاتَ منها ... وَسُدىً نرتجي لما فاتَ عودا
أحمد فتحي مرسي(190/54)
3 - دعابة الجاحظ
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
ولكن ليس كل هذا ما فقدناه من أحاديث الجاحظ وآثاره في المرح والدعابة فأن له كثيراً من الطرائف والملح التي ضاعت بين سمع الأرض وبصرها، وطوتها الأحداث بين أجواء العصور الخالية، فلم يبق منها إلا معالم كأنها معالم الطود قد استبد به الزمن ومحقته العواصف القاسية. وهانحن أولاء نكتب عن دعابة الجاحظ وليس بين أيدينا من مصادر البحث إلا وشل من معين، فكل ما هنالك جملة من النوادر المبعثرة في بطون الكتب يتلمسها الباحث بشق النفس، مع أن الرجل قد جرد في ذلك كتبا ورسائل تدل أسماؤها على أنها قد ضمنت ألواناً من الدعابة والمزاح، وأترعت بفنون من النوادر والمضاحيك. وتلك الكتب على ما ذكر الجاحظ نفسه وعلى ما قال بعض الباحثين: هي كتاب الملح والطرف، وما حر من النوادر وبرد، وما عاد بارده حاراً لفرط برده حتى أمتع بأكثر من إمتاع الحار ثم كتاب المزاح والجد، وكتاب خصومة الحول والعور. وكتاب المضاحيك، ورسالة في فرط جهل الكندي يعقوب بن إسحاق أول من اشتهر في الإسلام بالعلوم الفلسفية وما إليها. والظاهر أن الجاحظ قد ساق هذه الرسالة في التندر على هذا الرجل والتهكم به كمثل صنيعه مع أحمد بن عبد الوهاب في التربيع والتدوير. . . ثم أين نحن بعد هذا كله مما كتبه الجاحظ إلى إخوانه وخلطائه (من مزح وجد، ومن إفصاح وتعريض، ومن تغافل وتوقيف، ومن ملح تضحك، ومواعظ تبكي. . .)، بل أين نحن مما أفرغه في جميع كتبه ومؤلفاته من النوادر والمعابث، وقد كانت تلك طريقته وذلك صنيعه، وهو الذي يقول في وصف الكتاب: (ومن لك بوعاء ملئ علماً، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحاً وجداً، إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه. . .)
فيا لها من ثروة كبيرة تلك التي وفرها الجاحظ في باب المزاح والدعابة. ولو أن الزمن قد أبقى لنا على كل هذه الثروة لفزنا بكثير، ولوقفنا باليقين على اتجاهات الرجل وما كان له من قدم في مسالك هذا الفن وضروبه؛ أما وقد خسرنا هذه الصفقة، فليس إلا أن نسير في البحث على قدر تلك الإثارة التي بقيت لنا من أماليح الجاحظ على الرغم من مغالبة المحن(190/56)
وقسوة الأحداث، وأن فيها ما قد يجدي في البحث، ويغني في الوقوف على مقاصد الرجل من دعاباته. ولعل أهم تلك المقاصد وأجلها إنما هو التهكم؛ ولعل الجاحظ لم يبرع في ناحية من مناحي الدعابة كما برع في تلك الناحية وتفنن، فهو عجيب في تهكمه؛ تنظر إلى إحدى غمائزه فلا تدري إلى أي جو قد نقلك الرجل، ولا ما ثم من أشتات المعاني التي قد أوردها على ذهنك وأثارها في نفسك، فهو يحاور ويداور. ويصطنع أسلوبا ملتوياً له ظهر وله بطن، وفيه لين وفيه قسوة، وبه طرافة وبه جفوة؛ وقد يقف من القارئ موقف المتسائل، ويسير معه سير المتجاهل، فكأنه يريد أن يتهكم أيضاً بالقارئ على غفلة. وليس هذا كله إلا علامة القدرة ودليل الطبع؛ وإنما كان الجاحظ موهوباً في تهكمه، ساخراً بطبعه؛ ومن ثم لم يقف في تهكمه عند حد الدعابة والعبث، بل لقد كان يتناول ذلك في كثير من نواحي فنه، فهو أداته في الهجاء والتقريع، والنقد والتعريض، والجدل والمناظرة، وما إلى ذلك من مواضع الأخذ والرد والنظر والبحث. ألا تراه وهو ينتقد الخليل بن أحمد إذ صنف في علم لم تجتمع له أداته، ولم يتوفر له شرطه فيقول: (والخليل بن أحمد من أجل إحسانه في النحو والعروض وضع كتابا في الإيقاع وتراكيب الأصوات وهو لم يعالج وتراً قط، ولا مس بيده قضيباً، ولا كثرت مشاهدته للمغنين. وكتب كتاباً في الكلام ولو جهد كل بليغ في الأرض أن يتعمد ذلك الخطأ والتعقيد لما وقع له ذلك. ولو أن ممروراً استفرغ قوى مرته في الهذيان لم يتهيأ له مثل ذلك، وما يتأتى مثل ذلك إلا بخذلان من الله الذي لا يقي منه شيء. ولولا أن أسخف الكتاب، وأهجن الرسالة، وأخرجها من حد الجد إلى حد الهزل، لحكيت صدر كتابه في التوحيد، وبعض ما وضعه في العدل!)
فهذا أسلوب من النقد الساخر الذي كان يصطنعه الجاحظ وإنه لأسلوب شديد الوطأة، وإنه بالهجاء لأشبه. فهو كما ترى يطلب (أولا) مرتبة لتصنيف الخليل هي أحط مراتب الضعف والتهافت، فيضعه دون الخطأ (يتعمده) كل (بليغ) في الأرض (جهده) ولكن هذه المرتبة الدون لا تقنع الجاحظ، فيعود (ثانيا) فيجعله عدلا (لهذيان) الممرور قد (استفرغ) كل مرته في الهذيان؛ وهذه أيضاً لا تقنع الجاحظ ولا تشبع نفسه، فنجده (أخيراً) يحكم على صنيع الرجل بأنه ضرب من الضعف لا يتأتى لطبيعة بشرية إلا (بخذلان) من الله، ثم زاد فجعله سخفاً وهجانة لو حكاه لخرج بالقارئ من حد الجد إلى باب الهزل. وهذه مداورة من(190/57)
الجاحظ فيها ما فيها من التهكم المر، والتقريع اللاذع، والتعريض الذي لا يطاق استهزاء وسخرية!!
ولقد كان هذا التهكم هو سلاح الجاحظ أيضاً وعدته في التقريع الحشويين وأهل التزيد، والذين يفترون الأخبار الغثة، ويلفقون الأحاديث الكاذبة، ويروجون القصص التافهة، ثم هم يحشرون ذلك في الدين، ويلصقونه بالأخبار النبوية الشريفة، ويسندونه في الرواية إلى الأصحاب الأخيار، والرواة الثقاة، كمثل ما زعموه عن كبد الحوت، وقرن الشيطان، وتنادم الديك والغراب، ودفن الهدهد أمه في رأسه فأنتنت ريحه، وتسبيح الضفدع، وطوق الحمامة، ودخول إبليس إلى سفينة نوح في جوف الحمار، وما أسندوه إلى ابن عباس من أن الحجر الأسود قد نزل من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج فسودته خطايا أهل الشرك، ثم ما تحدثوا به عن السيدة عائشة بشأن الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع فأكلتها داجن للحي حين شغلوا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان الجاحظ يستنكر هذه الأخبار وأشباهها، ويحكيها في سخر بالغ، وتهكم قارص. وتستطيع أن تقف على ذلك وأمثاله في كتابه (الحيوان) في كل موضع يفرغ فيه الرجل لبعض خرافات القوم ومزاعمهم. وقد تجده لا يعنى بتفنيد هذه المزاعم ولا يهتم بأدحاضها لأنها ظاهرة السخافة والبطلان، ثم هو يعقب عليها بكل تهكم واستهزاء، ويختمها بالعبارة القصيرة الموجزة تأتي عليها من القواعد. فمثلا تجده يحكي أقوال (صاحب المنطق) عن التزاوج والتلاقح بين بعض الحيوانات وبعضها، فيسترسل الجاحظ في الحكاية، ثم ينتهي إلى التعليق عليها فيقول: (وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل، وما يليق بمثله أن يخلد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الإمتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء، وما عندنا في معرفة ما ادعى إلا هذا القول!) ثم يخرج بعد ذلك إلى بعض خرافات القوم التي تتعلق بالحيوانات، ثم يتهكم بها فيقول: (ولولا أني أحببت أن تسمع نوعاً من الكلام! ومبلغ الرأي، لتحدث لله تعالى شكراً على السلامة، لما ذكرت لك شيئاً من هذا الجنس.)
فبهذا الأسلوب التهكمي اللاذع كان يتذرع الجاحظ في كثير من نواحي فنه؛ وبهذا الأسلوب التهكمي اللاذع كان يأخذ في دعابته ومزحه فيبلغ الغاية من إرضاء الفن، ويسمو إلى الذروة في إمتاع القارئ. وعجيب أمر بعض أبناء العربية الذين يشدون من الأدب إذ تراهم(190/58)
يطيرون بفن الكاتب الفرنسي (فولتير) فيبالغون في سخريته، ويمتدحونه بلذاعته، ويثنون على عبقريته في التهكم، وما أحسبهم يعرفون ذلك للجاحظ أو يعترفون به، وأنهم لو علموا لتعجبوا من جهد كاتب العربية واقتداره، ولراحوا يتلمسون تلك الناحية من فنه فيما له من كتب وآثار، وهم لاشك واجدون متاعهم ولذتهم، واقعون على أربهم ومبتغاهم، ثم هم لا جرم سيعترفون له بما يعرفون (لفولتير) وأضرابه. وسنرى الجاحظ في أحاديثهم وكتاباتهم منعوتا بالكاتب الساخر، وما يجري مجرى هذا النعت
وتعال إلى الرجل في شيء من دعاباته الساخرة. فإنك واجده على ما ذكرنا - حلوا مستساغا، قويا قادراً قد تمكنت في طبعه ملكة السخر، وتمت له موهبة التهكم، فإذا أخذ بعض الأشخاص بالتصوير (التهكمي) فهو يقدم لك صورة الدقيقة الرائعة التي تثير في نفسك كل ما يمكن من معاني الضحك والفكاهة، والسخر والتهكم، والعطف والإشفاق، والنفور والبغض. ألا تراه وهو يتندر على سهل بن هرون في بخله وشحه فيقول: (قال دعبل الشاعر: أقمنا عند سهل فلم نبرح حتى كدنا نموت جوعا. فلما اضطررناه قال: يا غلام ويلك غدنا! قال فأتانا بقصعة بها مرق فيه لحم ديك، وليس قبلها ولا بعدها غيرها، لا تحز فيه سكين ولا تؤثر فيه الأضراس، فاطلع في القصعة وقلب بصره فيها، ثم أخذ قطعة خبز يابس، فقلب جميع ما في القصعة حتى فقد الرأس من الديك، ثم رفع رأسه إلى الغلام فقال: أين الرأس؟ قال لم أضنك تأكله. قال: ولأي شيء ظننت أني لا آكله؟ فوالله إني لأمقت من يرمي برجليه، ولو لم أكره ما صنعت للطيرة والفأل لكرهته! فإن الرأس رئيس، وفيه الحواس، ومنه يصدح الديك؛ ولولا صوته ما أريد؛ وفيه قرنه الذي ينبرك به، وعينه التي يضرب بها المثل في الصفاء فيقال. شراب كعين الديك؛ ودماغه عجيب لوجع الكلية. ولم أر عظما أهش تحت الأسنان من عظم رأسه. فهلا إذ ظننت أني لا آكله ظننت أن العيال يأكلونه؟ وإن كان بلغ من نبلك أنك لا تأكله فإن عندنا من يأكله. أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح ومن الساق ومن العنق، فانظر أين هو؟ قال والله ما أدري أين رميت به. قال: لكني أدري: إنك رميت به في بطنك والله حسيبك)
وقد تكون هذه النادرة من مرويات دعبل حقاً، وقد تكون من اختراع الجاحظ وابتداعه، وإنما حمله على تلفيقها ما كان بينه وبين سهل من الشنآن، ثم عزاها لدعبل ليخلص من(190/59)
تبعتها ولتكون أبلغ في المؤاخذة. ومهما يكن من شيء فإن الرجل هو الذي عرضها هذا العرض وجلاها في هذا الثوب، فجاءت على ما ترى من السخر والتهكم والضحك والمرح، والغمز واللمز. وأنها لصورة دقيقة رائعة مهما بلغ كاتب من القدرة في التصوير فما أحسبه سيبلغ في وصف بخل سهل وتصوير شحه وإقتاره ما بلغ الجاحظ في هذه النادرة وهيهات!
(للبحث صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف(190/60)
الفنون
الفن المصري
للدكتور أحمد موسى
تمهيد
سل من شئت من المصريين عن تاريخ مصر الفني وعما في تراث الأجداد من مميزات، وعن الناحية الجميلة الممتعة فيه؛ بل سل أغلبية الناس في مصر ممن زاروا أهرام سقارة، وممن تطرف في حب المشاهدة للآثار المصرية وسافر إلى الأقصر، وشاهد معبد الكرنك وطيبة ووادي الملوك والملكات وتمثالي ممنون؛ سل كل هؤلاء عما شاهدوه وعما استفادوه، وعن ناحية الجمال فيما عاينوه، فلا تسمع إلا تخبطا يكاد لا يختلف عما تسمعه من أمي يعيش بجوار هذه الآثار طوال أيام حياته!
ثم شاهد مدينة القاهرة - على اعتبار أنها عاصمة القطر وأهم مدينة فيه - وما فيها من ضورب الخروج على أبسط مبادئ الذوق العام، وأخطر في أحسن شوارعها يستوقفك شذوذ الانسجام في مبانيها وظاهرة انحطاط الذوق في كل ما فيها؛ ثم تفلسف قليلا لمعرفة السبب في ذلك تجده دون شك ينحصر في جهل الناس معنى الجمال ومعنى الذوق ومعنى الفن. وهم في ذلك سواء، يستوي الجاهل مع العالم، والفقير مع الغني، والشيخ مع الأفندي
بيوت عالية شاهقة، وأخرى واطئة حقيرة، كلها متجاورة. وإذا صادفت عشر عمارات كبار الواحدة ملتصقة بالأخرى، ترى لكل منها شكلا ولكل منها منهجاً؛ كل هذا بجانب دكاكين كتب في أعلى مداخلها باللغة الإغريقية مرة وبالعبرية أخرى وبالأرمنية ثالثة، دكاكين كتب أعلى مداخلها بالفرنسية حينا وبالإيطالية أو الإنجليزية حينا آخر، كما تصادفك أخرى كتب عليها بالعبرية لغة الوطن، لغة البلاد!
تأمل كل هذا، ثم عرج على آثار الأقدمين تر أنها منسجمة، كلها من طراز واحد سمي الطراز المصري القديم. وإذا شاهدت المساجد جميعها رأيتها من طراز سمي (الأرابسك) فيه روح الانسجام، دون حاجة - في هذه أو تلك - إلى دقة الفحص لمعرفة عصر الآثار، وهل هي من مباني الأسرات الأولى أو المتوسطة أو الأخيرة، كما أنك لا تضطر إلى(190/61)
فحص نقوش مسجد أو كتاباته أو تفاصيل مبانيه لتعرف أن كان من الطراز الطولوني أو الفاطمي أو طراز المماليك البحرية أو الشراكسة، وما ذلك إلا لأن الأول مصري والثاني إسلامي
هذا ما سار عليه الناس أيام كانوا أميين، أما اليوم حيث كثر المتعلمون، وأصبحوا يلبسون كما يلبس الجنتلمان في أوربا، فنرى أنهم مع مزيد الأسف قد تجردوا من الذوق وبعدوا بعدا شاسعا عن المعرفة الحق، والثقافة الكاملة المؤدية إلى حسن التقدير والاستمتاع عن طريق التذوق
لعل قائلا يقول: وما ذنبنا نحن في هذا؟ الواقع أن الذنب راجع إلى مناهج التعليم المصرية، لأنها تجردت من كل المشوقات للدرس، وخلت مما يمهد لحب الفحص والنقد، فضلا عن بعدها عن كل ما ينتمي إلى الذوق العام بصلة
وفي أيامنا هذه كثر اللغط حول معارض الفن وحول التصوير والنحت وحول الموسيقى ووجوب تدريسها بالمدارس الابتدائية والثانوية، على أني أعتقد أن كل هذا لا يخرج عن معالجة الأعراض، أما الأسباب فهي عند أولي الأمر في المؤخرة
قرروا تدريس الموسيقى في المدارس، فهل قرروا إلى جانب ذلك تحسين الموسيقى وجعلها تخرج عن الوحدة الملائمة للرقص الخليع ورقص الخيل؟
وهذا نفسه ينطبق على نوع التثقيف الفني. فمنذ أن كانت لنا مدارس ابتدائية وثانوية وفن الرسم والتصوير باقيان على ما هما عليه لم يتغيرا ولم يتطورا، حتى كتب التاريخ العام لا ترى فيها أثراً لمعنى تاريخ الفن أو تاريخ الآثار تفصيلا أو إجمالا، مع أن التاريخ في جوهره يعتمد عليهما إلى أبعد حد
وهذا لم يكن سبباً كافيا لمن أولى الأمر على الاهتمام بدراسة تاريخ الفن، ليغرسوا في نفوس النشء شيئاً من التذوق والمعرفة الفنية
كان تاريخ الفن ضمن مواد الدراسة في كلية الهندسة عندما كانت مدرسة عالية، أما الآن فقد تقرر إلغاء تدريس هذه المادة للثقة التامة في عدم نفعها أو على الأقل لعدم الحاجة إليها في المستقبل العملي للمهندسين. أما كان الأجدر بكلية الطب إلغاء مادة الصوت والضوء من علم الطبيعية ومادة التشخيص الباطني لمن سيكون طبيباً للعيون. وإذا كان الأمر كذلك(190/62)
فلم يدرس طلبة كلية الحقوق القانوني الروماني؟ ولم يدرس طلبة كلية الآداب شيئاً من الأدب الإغريقي مثلا مع أنه لا ينفعهم في مستقبل حياتهم؟ (وهذا غير صحيح) الحق أننا نتخبط ولا نعرف إلى أي اتجاه نسير. فالثقافة العامة لن تكون كاملة ما لم تشمل أيضاً المعرفة بأصول الفن عن طريق دراسة تاريخه ولو إجمالا! إن الرسم والتصوير والنحت فنون ليست من شأن الرسامين والمصورين والنحاتين وحدهم، بل هي من شأن المجموع، إذا علمنا أن الفنان لا يعيش لنفسه، كما أن خلقه الفني لا يسجله هو بشخصه، بل أيضاً بعصره الذي عاش فيه، وبوطنه الذي شب على أرضه
وهذا ما يحتم علينا أن نعنى عناية خاصة بتاريخ الفن المصري والفن الإسلامي، وإذا كان مقال اليوم منصبا على الفن المصري وحده إجمالا، فأني أبدأ هنا بالتمهيد والتقديم له لأني لا أقصد بالكتابة مجرد الكتابة، ولا بنشر الصور مجرد التحلية، وإلا فما كان أهون عليّ من أن أتخير أجزل العبارات وأجمل المصورات، ولكني كما ترى أذهب بك ثمانية آلاف سنة إلى الوراء. لكي أستطيع أن أوضح في بساطة كيف نشأ الفن المصري وكيف نما وازدهر
والناظر إلى خريطة العالم يرى أن القطر المصري يتوسطها تقريبا إذا أراد أن يقسم الكرة الأرضية إلى قسمين متكافئي المساحة والتكوين، كما يرى أن وادي النيل أهم بقعة في القارة الأفريقية، ومن أهم مواقع الاتصال بين القارات جميعا.
وإذا كان هيرودوت قد قال بأن مصر هبة النيل , 4 , 351 - 355.) فلأنه كان ثاقب الفكر بعيد النظر، لتوقف حياة مصر على النيل مباشرة حيث نشأت في واديه أقدم مدينة عرفها التاريخ ولا يزال العالم أجمع يعجب بعظمتها في كل نواحيها
سارت هذه الحضارة والمدنية سيراً بطيئا طبيعياً ككل الحضارات الأخرى، مع فارق واحد هو التبكير العجيب، وإن علمنا أنها بدأت منذ خمسة آلاف سنة، فإن ثلاثة آلاف قد سبقتها لتمهد لها أعني منذ أصبحت أرض مصر الواقعة على ضفتي النيل صالحة للزراعة
هب إلى وادي النيل جماعات من تلك التي كانت تعيش في الأراضي القاحلة بصحراء ليبيا، والدارس لمقابر هؤلاء وما وجد فيها من متروكات، يستطيع أن يقف على طرق معيشتهم وأحوالهم رغما عن قلة ما تبقى منها (ش1) فيرى أنهم صنعوا العصي من سيقان(190/63)
الأشجار بمقابض من الحجر، كما زينوا أوانيهم الفخارية بأشكال متناظرة الرسم، متكررة الوضع لا تخرج عن خطوط مستقيمة متقاطعة أو منحنية أو دائرية، رسمت داخلها خطوط أخرى أقرب إلى الهاشور في أبسط مظاهره
وبمشاهدة مجموعات الأواني الفخارية يمكن ملاحظة التقدم التدريجي الذي طرأ عليها؛ فترى أنها اكتسبت شكلا تكوينياً أجمل (ش4) وزودت برسومات صغيرة مثلت شيئاً من حياتهم، فضلا عن التقدم الفني الذي نستطيع ملاحظته بمقارنة الأواني في (ش3) وفي (ش4) بعضها ببعض. والناظر إلى الآنية الوسطى من (ش4) يرى على سطحها الدائري رسوما ضعيفة، تمثل أناساً يحمل أحدهم إلى أقصى اليسار وعاء على رأسه، كما يرى على الجانب الأيمن للوعاء نفسه رسم النعام. أما الأواني الأخرى فهي أجمل شكلا وأكثر زخرفة. مما لا يزال مستعملا إلى اليوم في مصر وبشمال أفريقية ببلاد الجزائر والمغرب، وهذا يدل على وجود صلة قديمة بهؤلاء.
ووجدت ببعض المقابر أمشاط للشعر، زينوها من أعلاها بأشكال كانت غالبا تمثل رؤوس حيوانات أو طيور أو رأس إنسان.
وصنعوا أسلحتهم من الصوان (ش2)، وكانت هذه خطوة لا يستهان بها، خصوصا لصلابته وصعوبة نحته وما يتطلبه ذلك من مجهود وعناية.
ولبس المصريون النعال المصنوعة من الجلد، وجعلوا لها أربطة (ش5) من الجانبين لتثبيتها على القدم.
وأخذوا يلتفتون تدريجيا إلى الزينة، فعملوا العطور ووضعوها في أوعية صغيرة كانت بأشكال مختلفة. واستمروا في تقدمهم فراجت مصنوعاتهم وانتشرت تجارتهم. وازدادت صلتهم بالبلاد المجاورة وازداد عددهم. كما عرفوا المعادن واستخدموها في مختلف أغراضهم وأدخلوها في صناعة أدوات الزينة والتحلية، فعملوا الأساور والعقود بعضها من الذهب ومن الحديد الأزرق الجميل الذي زادها رونقا، وأعطانا فكرة صادقة عن ندرته وغلائه.
وبدأت العقيدة الدينية تدب إلى نفوسهم نتيجة شعورهم بالوجدان والاجتماع، وأخذت نظرتهم إلى الحياة تتطور، فعملوا تعاويذ لجلب الرزق ولصد العين. وكانت هذه التعاويذ(190/64)
عبارة عن طيور وحيوانات عبدها المصريون أيام تحضرهم، ورسموا بعضها في مناسبات كثيرة.
واعتقد المصريون بخلود الروح، فوضعوا في مقابرهم كثيرا من الحبوب والتمر والتحف السابقة لعصر التاريخ.
وعندما وصل المصريون إلى هذا المستوى، في وقت كان العالم فيه لا يزال في ظلمات الجهل، أخذوا يشعرون بحاجتهم إلى القانون وإلى الاتحاد لصد هجمات البلدان المجاورة، فقام فيهم الملك مينا موحدا البلاد، جاعلا من مصر السفلى والعليا مملكة واحدة ابتدأ بتأسيسها، فبدأ بذلك عصر مصر التاريخي أو عصر الأسرات.
(يتبع)
أحمد موسى(190/65)
القصص
على كف القدر
للأديب السيد محمد زيادة
الحياة لغز معقد أعجب ما فيه أن يشقى من لا يستحق الشقاء وأن يهنأ من لا يستحق الهناء؛ ولكن رحمة الله قريب. . .
التف الولدان والبنتان حول أمهم في أول الليل يسألون عن العشاء، وراحت هي تعللهم وتشاغلهم بما يلذ لهم من الحديث ليغمى على طفولتهم فيناموا. .
ثم ما لبثت صغرى البنتين أن استلقت على حجر أمها نصفها يقظان ونصفها هاجع، فحدبت عليها الأم ومالت تقبلها وتهز أعطافها برفق لتصرف عنها بقية يقظة وتسرب إليها بقية نعاس.
ثم نامت الفتاة طاوية تشيع على وجنتيها حمرة صفراء فيها معنى الطوى، وترقد بين أجفانها نظرة موهونة فيها معنى الألم، وتجول على شفتيها ابتسامة حزينة فيها معنى اليأس!!
ورأتها أمها نائمة لا يستقر على ملامحها الكرى، فحدقت في وجهها وأطالت التحديق. . . فأي حزن أبلغ من حزن أم فقيرة تنظر إلى وجه ابنتها النائمة فترى الجوع والفقر يتصالحان لتذبل في صلحهما زهرة ناضرة؟.
وسقطت من عين الأم على خد الفتاة قطرة من الدمع. . . ثم نهنهت المسكينة دمعها، ورفعت رأسها إلى أعلى وقالت: يا رب!
ونظر الولد الأصغر إلى أمه بعد إذ تنهدت وقال: هاهي ذي قد نامت فلم يبق إلا نحن الثلاثة. . . أما لديك طعام لنا؟
قال الولد الأكبر: إذا كان لديها طعام فماذا كان يمنعها أن تقدمه؟. انتظر يا مجنون حتى يعود أبونا فأنا لا نملك الطعام أو ثمن الطعام إلا بعد عودته.
قال الولد الأصغر لأمه: وهل يحضر معه ما وعدني وهو خارج في الصباح بإحضاره يا أماه؟ أم يخلف ما وعد كما فعل بالأمس وكما يفعل كل يوم؟.
قالت الأم: سيأتيك بكل ما تطلب يا ولدي والله معينه.(190/66)
قالت البنت الكبرى: إنه تأخر الليلة عن موعده يا أماه.
قال الولد الأكبر: أنا أعرف إنه تأخر ليملأ جيبه بالمال، وسوف ترون كيف يوسع علينا الليلة فتشبع بطوننا بكل ما نشتهيه.
وما هي إلا هنيهة حتى أقبل الرجل يتحامل على نفسه فيتقدم به شيء ويتأخر به شيء. . . يتقدم به الحنين إلى أولاده وتتأخر به الحسرة عليهم. . . فهو بين الماشي والواقف، يحمل على كتفه صندوقه وفيه تجارته يجوب بها الطرقات.
ورآه الأولاد مقبلاً فجنوا جنون الفرح، واستيقظت النائمة على أصواتهم، ونهضوا جميعاً يهللون ويصيحون: جاء أبونا. . جاء أبونا. . . أما هو فقد لقيهم بوجه كاسف مغبر، فكان كمن توقع مصيبة فوافته مصيبتان. وأسلم لهم يديه وجسمه يتعلقون به ويتواثبون حوله، وأبقى لنفسه رأسه بما حوى من فكر وما حمل من هم.
أما زوجته فقد علقت بصرها به فعرفت ما به، وبادلته نظرات مستصرخة بنظرات صارخة ثم تنفست وقالت: يا رب.
ووضع الرجل صندوقه وجلس إلى جوارها مكبكباً مخذولاً؛ والتأم الأولاد حولهما وقال الولد الأصغر: هل نكثت بوعدك يا أبي كعادتك؟. قال الرجل: لا يا بني. سأفي إن شاء الله
قال الولد: ومتى يشاء الله؟. كل يوم تقول هذا ولا تفعل شيئاً!!
قالت البنت الصغرى: لقد تأخرت يا أبي للآن ولم نأكل، ألم تدر أنني جائعة؟ إني سأخاصمك ولكن بعد العشاء
فضحك الرجل ضحكة باكية ثم قدم لزوجه ما في جيبه وقال: خذي هذا فهو كل ما رزقته في مطافي. . .
وما الذي كان في جيبه؟.
قرش ونصف قرش جناها الرجل من سعيه طول يومه، فهل تكفي لقوت أسره لا أدم عندها ولا خبز؟ يا رحمة الله بالمساكين! يا رحمة الله! أي فقر هذا؟
أطفال أبرياء يرهقهم الجوع وليس لديهم مما يحمله غير الصياح والتوجع، وليس حولهم مما يدفعه غير تسلية أمهم ووعودها وأم حسرى ممزقة الكبد، ترى أولادها وهم فتات قلبها نوحاً يتكلم الجوع بألسنتهم. ويتكلم ألم الجوع بعيونهم، وهي حيرى تسمع كلامهم بأذنها(190/67)
وتحس آلامهم في قلبها. ولكنها لا تملك لهم شيئاً فلا تستطيع أن تفعل شيئاً، فهي محتوم عليها أن تظل صابرة على ما تسمع وما ترى. وأن تنسى نفسها بأولادها فتحمل كربتهم على كربتها، وأن تنظر دامعة ما يفلت من بين يدي القدر إلى يدي زوجها من رزقه الحبيس.
ووالد بائس يعلم أن ورائه أربعة أطفال يمرغهم الجوع بين أحضان أمهم البرّة فلا يغنيهم حنانها عن الطعام. . . ويعلم إنهم يحيون في غير الحياة، وينتظرون عودة الحياة في عودته!! فيندلق في الطرقات ناحية فناحية يتبع شيئاً ممنوعاً، هو رزقه، ويصل شيئاً مقطوعاً هو حظه، ويقطع شيئاً موصولاً هو فقره. . .
ولكنه لا يبلغ بسعيه وجهاده غير ما يقدر له. . . وماذا يقدر للفقير غير الفقر؟ يا ويلتا!! يا ويلتا لهم!!
وجعل الرجل والمرأة يتشاوران، وراح كل من الأولاد يطلب شيئاً بينما لا يكفي القرش ونصف القرش لشراء شيء. . .
قالت البنت الصغرى: أريد أن آكل سمكاً فأنا أشتهيه من شهر وكلما طلبته تؤخرونه إلى يوم بعد كل يوم. وقد رأيت بنت الجيران تأكل منه بالأمس، ولولا إنني خفت أن تضربوني لشحذت منها؛ وكانت هي تنظر إلي مختالة ونظراتها تقول لي ما تقول. وكنت أنا أنظر إليها حزينة ونظارتي تقول لها ما تقول أيضاً
فتبللت أجفان الأم وصرخ قلبها صرخة وقالت: عزيز علي يا ابنتي - فاصبري لعل الله يرحمنا
قال الولد الأصغر: وأنا أريد أن آكل أرزاً. . .
قالت الأم: آه يا ولدي!! غداً أعمل لك الأرز
قال الولد: يا طالما تقولون غداً وما يأتي الغد بشيء. . . أريد أن آكل الآن أرزاً، وإلا فسأبكي. . .
وجهش الولد إلى أمه المسكينة، ثم بكى فبكت له وضمته إلى صدرها وعيناها مدرار تميح من قلبها الدموع
وبكت البنت الأخرى فبكى الولد الآخر. . .(190/68)
أما الرجل. فكان مطرقاً واجماً لا يطيق أن يرى موقف البكاء في منظر الفقر بين زوجه وأولاده؛ وكان تائها في دنياه يرى بخياله ماضيه الرخي الناعم فيهز رأسه، ويرى بعينه حاضره الشقي المظلم فيزفر، ويرى بفكره مستقبله الحالك المقطب فيرتعد
ثم ضاقت به نفسه فخرج على حكمة الرجولة وهوى من ثبات الإيمان إلى خور اليأس. . . وبكى. . . وبكى بكاء رجل، وما أمر بكاء الرجال!!
ثم رفع المسكين رأسه وقال: يا رب ما ذنبي وذنب صغاري؟ ماذا يطعم هؤلاء الليلة وماذا يطعمون كل ليلة؟
قالت الزوجة: خفف عنك حملك. . . إن الله لم يخلقنا لينسانا. . . إنه يرانا. . . إنه قادر رحيم. . .
ثم قالت: سأخرج الآن لأشتري بالقرش خبزاً وبالنصف قرش جبناً ليأكل هؤلاء. وغداً يفعل الله بنا ما يريد
ورضي الأولاد أن يمسكوا رمقهم بالجبن، فشيء خير من لا شيء. . وخرجوا تصحبهم أمهم لتهون عليهم في الطريق مشقة انتظار الطعام، ومشوا حولها يتناقشون. . . يقول هذا: أنا الذي أحمل الخبز، وتقول هذه: لا. . أنا التي أحمله. . . ويقول هذا: أنا الذي أصون الجبن، وتقول هذه: لا. . . أنا التي أصونه. . . ثم يقول هذا: أنا الذي أجلس إلى جنب أمي وقت الأكل، وتقول هذه: لا. . . أنا التي أجلس إلى جنبها. . .
حتى إذا كانوا على بعد خطوات من البدال كان النقاش بينهم على اشده، فعثرت أمهم بأحدهم فكادت تسقط على الأرض وسقطت النقود من يدها. .: فقفزت لترد القضاء ولكن القضاء أسبق!! حمل القرش والنصف إلى الطين ثم إلى الخفاء
يا لله!! يا لله!! ما هذه الدنيا؟ إنها لا ترحم ولا تعرف ألين في القسوة. نكبت هذه الأسرة بالفقر ثم لم يرضها هذا حتى نكبتها بفقر الفقر! يا أيها الأغنياء. . . كيف يحل لكم عيشكم الرغيد وفي الحياة مثل هذه الأسرة؟
ومدت المسكينة يدها في الطين تبحث فلم تجد شيئاً. . . وجعلت تبحث فلا تجد. . . ثم وقفت ذاهلة وعيناها تذرفان ما سال من حشاها
ثم جمعت أولادها الباكين وعادت. . . ولكن كيف عادت؟(190/69)
عادت محطومة يستغلق على إحساسها كل ما حولها. . . فلا تسمع شيئاً مما ترى، ولا ترى شيئاً مما تسمع؛ وكأنما انفضت من حولها الدنيا فلم يبق إلا هي وأولادها، وما بينها وبينهم إلا أنين وأنين. . .
وإنهم ليقتحمون ظلمة الطريق بظلمة اليأس إذ أفلت الولد الصغير من بينهم فتأخر. . .
ثم صاح وهو يجري ليلحقهم: أماه. . . لقد وجدت قرشاً!
وأخذت الأم ما في يده فإذا في يدها قطعة فضية بعشرين قرش. . . يا أرحم الراحمين. . . ودارت الأم، ودار أولادها معها ومضوا. . . ومضوا إلى السوق
طنطا
السيد محمد زيادة(190/70)
البريد الأدبي
التعاون الأدبي بين الشرق والغرب
ليس من ريب في أننا ندين بكثير من تكويننا العقلي الحديث للغرب
ولآثار الثقافة والآداب والغربية. فنحن ننقل عنها وننتفع بها منذ أجيال،
ولها أكبر حظ من قراءتنا واطلاعنا. بيد أننا نستطيع من جهة أخرى
أن نقول أن الأمم الشرقية بدأت تكوينها الأدبي الحديث، وأخذت تسير
في طريق الإنتاج المستقل وأخذ الغرب من جانبه يعنى بآدابنا كما
نعنى بآدابه وإن كانت هذه العناية لا تزال محدودة. ولقد ترجمت إلى
كثير من اللغات الأوربية بعض الآثار الشرقية الرائعة المحدثة، وكانت
الهند أوفر الأمم الشرقية حظاً من ذلك؛ فآثار تاجور مثلا تعرف في
الغرب كما تعرف آثار أعظم كتابه العالميين، وقد كانت الآداب العربية
المحدثة أقل حظاً في هذا الميدان، فلم يعن الغرب بها عناية كافية إما
لأنها لا تستحق في نظره أن يعنى بها، وإما لتقصير من جانبنا في
التعريف عنها؛ بيد أنه يلوح لنا أنه قد تتاح في المستقبل القريب فرص
جديدة للتعاون الأدبي بين الآداب العربية والغربية، فقد أثيرت مسألة
النقل والترجمة في أكثر من مؤتمر دولي في الأعوام الأخيرة، وأدلت
مصر بصوتها في هذه المؤتمرات على يد نادي القلم المصري؛ وقد
بدت أخيراً نتائج هذه الحركة بصورة عملية؛ فقد تقدمت بعض هيئات
النشر الإنكليزية إلى نادي القلم المصري تطلب معاونته في التعريف
عن بعض الآثار العربية المصرية التي تصلح للنقل إلى الإنكليزية،
وذلك لتترجم وتنشر بالإنكليزية، والمعروف أن هذه الهيئات قد وضعت(190/71)
مشروعاً كبيراً لترجمة الآثار الشرقية النموذجية إلى الإنكليزية،
وأفسحت فيها مجالاً كبيرا للآثار العربية؛ وسوف يعنى نادي القلم
المصري ببحث هذه المسألة واختيار الآثار النموذجية الصالحة؛
والمرجو أن يسفر هذا التعاون في القريب العاجل عن أثره المحمود
في التعريف عن طائفة من كتابنا وآثارنا، وأن يتسع نطاقه مع الزمن
حتى يغدو تبادلا حقيقيا بين الآداب الشرقية والغربية.
مهرجان أولمبي للآداب والفنون:
وقفنا في الصحف الفرنسية الأخيرة على نبأ مشروع طريف تبحثه اليوم بعض الدوائر الأدبية في مدينة مونبلييه، ذلك هو السعي إلى إقامة مهرجانات دولية أولمبية تمثل الحركة العقلية والفنية. ولقد قيل في ذلك إن المهرجانات الأولمبية التي تقام في عصرنا لا تمثل إلا ناحية واحدة هي الثقافة الرياضية، وهذه الناحية لا تمثل كل ما رتبه القدماء على إقامة الاحتفالات الأولمبية، فقد كانت هذه المهرجانات الشهيرة تضم عدا الرياضيين عدداً كبيراً من المفكرين والموسيقيين والفنانين يعرضون ثمرات قرائحهم إلى جانب الألعاب الرياضية ويمثلون بذلك القوة العقلية والمهارة الفنية كما تمثل الألعاب القوة البدنية والمهارة الرياضية. ويرى أصحاب هذه الفكرة أن ينظم كل أربعة أعوام مهرجان أولمبي عقلي وفني في إحدى مدن أوربا التي اشتهرت بتراثها الفني أو الثقافي مثل أوكسفورد وفلورنس وهيدلبرج ومونبلييه ورومة وأثينا وغيرها. وتختار كل أمة من الأمم المشتركة في المهرجان وفداً يضم بعض المفكرين والشعراء والموسيقيين والفنانين يعرضون في المهرجان ثمرات الحركة العقلية والفنية في بلادهم في شكل قطع شعرية أو موسيقية أو تمثيلية أو محاضرات يلقيها أو يمثلها الأخصائيون كل في ناحيته، وأن يقع الاختيار بالأخص على كل ما يصلح للعرض أو الإلقاء التمثيلي، ويختص كل وفد بيوم يعرض فيه ما لديه على ممثلي الأمم الأخرى، ويشمل البرنامج إقامة حفلات تمثيلية وموسيقية وراقصة عامة تتبارى فيها مختلف الوفود، ويقترح أصحاب الفكرة أن تكون مدينة مونبلييه مركزاً(190/72)
لأول مهرجان أولمبي عقلي إذ هي مهد قديم من مهاد الثقافة من الجنوبية. ثم يعقد المهرجان بعد ذلك كل أربع أعوام في إحدى المدن التي اشتهرت بتراثها العقلي أو الفني والتي لها طابع عالمي
نقول وهذا مشروع بديع بلا ريب، ومن المحقق أنه يلقى تأييداً من المفكرين والفنانين في أنحاء العالم، ومن المحقق أن تنفيذه يعاون في تقارب الشعوب وتعاونها معاونة لا تحققها المهرجانات الأولمبية الرياضية
أثر الفراعنة في الفن السينمائي
هل تصدق أن الأفلام الفكاهية التي تعرف باسم (مكي ماوس) والتي غدت من أشهر المناظر السينمائية في عصرنا إنما ترجع إلى أصل فرعوني؟! هذا ما يقوله العلامة الأثري البلجيكي الأستاذ جان كابار نزيل مصر الآن؛ فهو يقول لنا أنه انتهى في مباحثه إلى أن هذه المناظر والصور المحدثة قد عرفت في مصر الفرعونية قبل أربعة آلاف عام، وأنها وجدت مرسومة على القبور الفرعونية قبل أن تظهر على شعار السينما؛ ويستدل العلامة المذكور على صدق نظريته بما يأتي:
أولا - يوجد في متحف القاهرة صورة للملكة ماكيت وهي تشبه ميكي ماوس شبهاً عجيباً، وقد صورت وهي تتلقى احترام رعاياها
ثانيا - يوجد في متحف بروكسل الملكي وفي متحف التاريخ صورة لهذه الملكة ترى فيها وهي تتناول طعامها وأمامها قطة تقوم بخدمتها
ثالثا - توجد في متحف تورينو لوحة من ورق البردي صورت عليها صورة جوقة موسيقية من عدة حيوانات: حمار بيده معزف، وأسد ينفخ في مزمار، وتمساح بيده قيثارة، وقرد يقود الفرقة بحركاته وينفخ في مزماره؟ وهذه الصورة تماثل شريطاً من أشهر الأشرطة الفكاهية من نوع مكي ماوس التي عرضت أخيراً في دور السينما
ففي ذلك كله ما يدل على أن المصريين القدماء مع تمسكهم بالرسوم الدينية العميقة، وتعلقهم بالشعائر المقدسة، كانوا في نفس الوقت يمزجون فنونهم الرصينة ونقوشهم المقدسة، بنوع من الفكاهة، وعلى إنهم قد عرفوا قبل آلاف السنين أن يتخذوا من الحيوانات رموزاً لتمثيل الأفكار الفكاهية والسخرية الإنسانية على نحو ما يبدو الآن في الأفلام التي اتخذ أبطالها من(190/73)
الحيوانات وهي المعروفة بميكي ماوس
كتاب جديد عن مصر:
صدر أخيراً بالألمانية كتاب جديد عن مصر وضعه أستاذ مجري كان مديراً لمتحف فؤاد الزراعي وعنوانه: الاقتصاد الزراعي في مصر المعاصرة وفيه أبحاث مستفيضة في كل ما يتعلق بشؤون مصر الإقليمية والزراعية والصناعية، مثل تربة الأرض والنيل وطرق الري وخزان أسوان، والمواسم الزراعية، والمحاصيل، وزراعة القطن ونسجه، والقروض الزراعية والتعاونية واستغلال المصايد والملاحات وشئون الموصلات والتجارة الخارجية وغيرها مما يتصل بموضوع الاقتصاد الزراعي، ويختتم المؤلف كتابه ببحث قيم في وسائل تنمية الاقتصاد الزراعي المصري، ويبدي في بحوثه خبرة واطلاعاً واسعين، وقد تولت نشره مطبعة (شوليه) في فينا
رنيه بنجامان
قدم القاهرة منذ أيام قلائل الكاتب الفرنسي الكبير رنيه بنجامان، وقد ألقى محاضرة شائقة عن (رسائل بلزاك الغرامية) وسيلقي محاضرة أخرى في الخامس والعشرين من هذا الشهر عن (موليير وشخصيته) بقاعة يورت التذكارية. ومما يؤثر عن الكاتب الكبير إنه من أقدر المحاضرين في فرنسا، فهو يتمتع في الإلقاء بمواهب ساحرة، وأسلوبه جذاب رائع، وقد اشتهر بمحاضراته الأدبية والتاريخية الشائقة
كتاب الفصول والغايات لأبي العلاء المعري
هذا الكتاب الغريب في بابه العجيب في أسلوبه قد وضعه أبو العلاء في الوعظ وتمجيد الله فزعم بعض أعدائه إنه يعارض به القرآن. وقد فقد هذا الكتاب فيما فقد من آثار هذا الفيلسوف حتى عثر على جزئه الأول الأستاذ محب الدين الخطيب وأهداه إلى المرحوم تيمور باشا، ثم قيض الله له صديقنا الأستاذ محمود حسن زناتي أمين الخزانة الزكية سابقاً فأخذ يقدم له ويعلق عليه ويشرحه ويصححه، وسيقدمه إلى الطبع عما قليل وهي بشرى نزفها إلى أصدقاء أبي العلاء من أعيان الأدباء والعلماء(190/74)
الكتب
شعراء مصر وبيئاتهم
في الجيل الماضي
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
أحوج ما يحتاج إليه أدبنا سواء في ذلك قديمه وحديثه، معرفة مكانة الأدباء والشعراء، لا من حيث البلاغة والفحولة والمعاني الشعرية في ذاتها فحسب، بل من حيث الخاصية النفسية لكل منهم ونوع مزاجه ووشائجه الإنسانية ونظرته إلى الطبيعة وفلسفته في الحياة إن كانت له نظرة وفلسفة
وقد تناول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في كتابه الأخير شعراء الجيل الماضي يتخللهم بلحظه الناقد وطبعه القويم، فإذا الرعيل المحشود في صعيد واحد تتبين له ألوان وشيات مهما خفتت وتقاربت، وتتميز له ملامح وسمات مهما خفيت وتشابهت، وإذا بكل شاعر من شعراء ذلك الجيل مبيت في حيزه، وكل أمر من أموره مقرر في نصابه. وقد انتظم الكتاب بين دفتيه الساعاتي وعبد الله فكري وعبد الله نديم وعلي الليثي ومحمد عثمان جلال ومحمود سامي البارودي وعائشة التيمورية وحفني ناصف وإسماعيل صبري والسيد توفيق البكري ومحمد عبد المطلب وحافظ إبراهيم وشوقي ثم كلمة ختام عن مدارس الشعر بعد شوقي
والأستاذ العقاد في كلامه عن هؤلاء لا يرسل القول إرسالاً، بل يدعمه كعادته بما أحاط به تحصيله الواسع وأدركه تفكيره العميق من بحوث عالية في رسالة الأدب للحياة وموازينه الصحيحة والفروق الفاصلة بين شعر الصنعة وشعر الطبع وبين الذوق الخاص والذوق العام
(فالذوق ذوقان: فأما الشائع منهما فهو الذوق الذي يتملى الجمال ويستحسنه حين يراه معروضا عليه. وأما النادر منها فهو الذوق الذي يبدع الجمال ويضفيه على الأشياء ولا يكون قصاراه أن يتملاه حيث يلقاه أو يساق إليه.
فالذين يحبون محاسن الطبيعة كثيرون يحسبون بعشرات الألوف وكل من يخرجون إلى(190/75)
الرياض ويجلسون على الجداول ويسهرون في القمراء ويستمعون إلى شدو العصافير ويبتغون منازه الأرض في المواسم وأيام البطالة - هم محبون للطبيعة يشغفون بها كما يشغفون بالفرجة والاسترواح. وقد يشبههم في هذا بعض الأحياء التي تغرد على الشجر كلما آن الأوان أو تأوي إلى الظلال والأمواه كلما حنت إلى الراحة وبرد الهواء.
ولكن هذا هو الذوق الشائع كما قلنا، وليس هذا هو الذوق الخالق المحيي الذي يضيف من عنده شيئاً إلى شعور الناس بما يراه ويصفه ويحكيه
إنما صاحب الذوق الخالق المحيي هو الذي ينقل إليك إحساسه بالشيء القديم الموجود بين جميع الناس، فإذا بك كأنك تحسه أول مرة لما أودعه فيه من شعور وما أضفاه عليه من طرافة. فإذا وصف البحر أو السماء أو الصحراء أو الروضة فكأنما هو يجعلها بحره وسماءه وصحراءه وروضته لفرط ما مزج بينها وبين مزاجه وشعوره. وتسري إلى القارئ هذه الجدة فيرى هذه المناظر بعين غير التي كان يرى بها مألوفاته
ومن ذاك المعين الفياض نبع وصف الأقدمين للطبيعة ومحاسنها ومخاوفها فتمثلوها - لفرط شعورهم بها - عرائس وحوراً وأطيافاً وأرواحاً وبعثوها جنة وشياطين وأغوالا. لأنهم عاشوا فيها وعاشت فيهم فمزجوها بدمائهم ولم ينظروا إلى الطبيعة كأنهم ينظرون إلى (سجادة) منسقة الخيوط مزبرقة الألوان مريحة لمن يمشي فوقها أو ينام عليها كما يستريح العديد الأكبر من رواد الرياضة في منازه الخلاء
فالرياض - عند الشاعر من هؤلاء - والخمائل والجداول والأنهار والسماوات هي بعينها رياض زوار (المواسم والآحاد) وخمائلهم وجداولهم وأنهارهم وسماواتهم لا تزيد ولا تنقص. . . . وأن بيتاً واحداً كبيت البحتري الذي قاله في الربيع:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
ليساوي كل ما نظم شاعرهم في ربيعياته وريحانياته: لأن الطلاقة والاختيال والبشاشة والحسن الذي يهم بالكلام هي علامات الربيع المبثوث في النفوس. وكل كلمة من هذه الكلمات تدل على النفس الحية التي تشاهد الربيع أكثر من دلالتها على الربيع الظاهر فيما يبدو للعيان أو على (السجادة) المزخرفة بالأصباغ والنقوش والدوائر والخطوط. . . ولو لم يكن البحتري قد أحس بشاشة الطلاقة وزهو الاختيال وفرح الحياة النامية ونجوى الحسن(190/76)
المتكلم حين شهد ربيعه لما كان لزاما أن يذكر هذه الكلمات ويجمع بين هذه الصفات. ولكانت له مندوحة عنها بوصف الأحمر أو الأخضر يبحث له عن أحمر أو أخضر مثله في محفوظات المشبهين، وبوصف العطر يطلق حوله الند والبخور، وكلمة من هنا وكلمة من هناك عن الخدود والعيون والوجد والهيام على نحو ما يفعل شعراء الصنعة
وشعر الصنعة ليس على نهج واحد كله، فمنه ما هو زيف فارغ لا يمت إلى الطبيعة بواشجة ولا صلة. وليس فيه إلا لفظ ملفق وتقليد براء من الحس والذوق والبراعة. ومنه ما هو قريب إلى الطبيعة ولكنه - كما قدمنا - منقول من القسط الشائع بين الناس. فليس فيه دليل على شخصية القائل ولا على طبعه ولا تتبين فيه لمحة من الملامح ولا قسمة من القسمات التي يتميز بها إنسان بين سائر الناس
وليس هذا بشعر النفس الممتازة ولا بشعر النفس (الخاصة) إن أردنا أن نضيق معنى الامتياز. وليس هو من أجل ذلك بالشعر الذي هو رسالة حياة ونموذج من نماذج الطبيعة. وإنما ذلك ضرب من المصنوعات غلا أو رخص على هذا التسويم
والفرق بينه وبين شعر (الشخصية) إن الشخصية تعطيك الطبيعة كما تحسها هي، لا كما تنقلها بالمجاورة والسماع من أفواه الآخرين. فهذه هي الطبيعة وعليها زيادة جديد مطلوبة أبداً، لأن الحياة والفن على حد سواء موكلان بطلب (الفرد) الجديد أو النموذج الحادث، أو موكلان بطلب (الخصوص) والامتياز لتعميمه وتثبيته والوصول منه إلى خصوص بعد خصوص وامتياز بعد امتياز
واقرب ما يمثل به لذلك زارع يستنبت صنوف الثمار لينقي منها (المميز) في صفة من الصفات المطلوبة. فإذا عثر بالثمرة الواحدة التي وصل فيها إلى غرضه قومها وحدها بعشرات الأفدنة من الثمرات الشائعة عند غيره، لأنه بهذه الثمرة الواحدة ليستأثر بالطلب والإقبال ويعفي على ثمرات الشيوع والعموم
وهكذا الشخصية الممتازة في عالم الشعر أو في عالم الحياة عامة: (هي عندنا وعند الحياة التي أنشأتها أقوم من جميع المتشابهات الشائعات وإن كن جميعاً مطبوعات غير مقلدات ولا زائفات
وإنما يستحق الشعر أن يسمع ويحفظ حين يكون كهذا الشعر - وقد أورد الأستاذ أروع(190/77)
الأمثال عليه - الذي يرينا ما في الدنيا وما في نفس إنسان، ونعرف فيه الطبيعة على لون صادق ولكنه أيضاً لون بديع فريد لأنه لون القائل دون سواه، فتجتمع لنا غبطة المعرفة من طرفيها، ويتسع أمامنا أفق الفهم وأفق الشعور، إذ يتكرر الشعور الواحد باختلاف الشعراء كأنه مائة شعور، ويتكرر فهم الحقيقة الواحدة كأنها مائة حقيقة، وتلك هي الوفرة التي تتضاعف بها ثروة الحياة، ونصيب الأحياء منها)
وفي هذه الصفحات التي أدمجناها ما يجعل الإضافة والتعقيب فضولاً منا. وإن القارئ بعد هذا الذي قدمناه لاشك مؤثر أن يخلو بالكتاب ونفسه
(ص)
أحلام الصبا
للأديب إدوار حنا سعد
130 صفحة من القطع المتوسط
طبع بمطبعة مصر بالإسكندرية
قليل من أدباء الشباب في مصر من يجمع فن القصة إلى جانب الشعر، فالأديب الناشئ في طور التثقيف عادة أما أن يقتصر على قرض الشعر ويتجه إليه بكليته حتى يجعله يطغى على غيره من فنون الأدب، وإما أن يقتصر على القصة فتملك عليه زمامه وتشغله عما عداها من أغراض الأدب الأخرى، وأما أن يجمع بين الاثنين فيغلب أحدهما على الأخر ويطغى عليه
وبين يدي الآن مجموعة من الشعر والقصص أهداها إلي صديق أديب جمعها في كتاب أسماه (أحلام الصبا). وقد قدم الأستاذ فخري أبو السعود للكتاب بمقدمة قصيرة، تناول فيها شخصية المؤلف ببعض التحليل ثم تكلم عن القصص وتحدث عن استقلال الكاتب في موضوعاته ومتانة صياغته للقصة، وربط أجزائها وحسن نسجها. وختم الأستاذ مقدمته بالكلام عن الشعر مستدلاً ببعض بيوت المؤلف في معرض حديثه
ننتقل بعد ذلك إلى قسم القصص في الكتاب. . . فنرى إن قصص المؤلف وإن كانت تدور(190/78)
حول موضوعات مطروقة من قبل إلا إنها حسنة السبك متينة الصياغة، تسيغ عليها البساطة روعة الحقيقة. وأذكر منها هنا قصة (أحلام الصبا) وقصة (رقصة شيطان)
وأما الشعر فهو يشغل النصف الثاني من الكتاب، وللمؤلف نزعة شعرية وطابع خاص فهو يميل إلى الشعر الغنائي، ولذا كثيراً ما نراه يختار لذلك البحور القصيرة، وهو لا يهتم بجانب المعنى قدر اهتمامه بموسيقية الألفاظ، فكثيراً ما يخرج القارئ من بعض قصائده دون أن يلفت نظره معنى جديد. أما شعره في جملته فسهل الألفاظ، رقيق الديباجة، موسيقي التوقيع. . ومن جيد شعره قصيدة (أنت وأنا) وقصيدة (لقاء الحبيبين)
والمؤلف من أدباء الشباب الذين جمعوا بين القصة والشعر، وغلب أحدهما على الآخر، فنرى القصة غالبة عليه، وأغلب الظن إنه لو والها وصرف فيها بعض عنايته لكان له فيها مستقبل زاهر
أحمد فتحي مرسي
طلعت حرب
للأدباء: حافظ محمود. مصطفى الفلكي، محمود فتحي عمر
180 صفحة من القطع الكبير طبع بمطبعة مصر.
كثيراً ما يطالعنا كتاب الغرب وأدباؤه بدراسات تحليلية طويلة، وبحوث فائضة في حياة زعمائهم، اعترافاً بفضلهم وإشادة بذكرهم وحثاً لغيرهم على الاقتداء بهم والنسج على منوالهم
وهذه الناحية التحليلية التي نراها بين أدباء الغرب قلما نجد لها أثراً ظاهراً في الأدب الشرقي. . . . فأدباء الشرق لا يعنون بدراسة زعيم ما، مادام بين ظهرانيهم، ومادامت تجري فيه دماء الحياة، حتى إذا ضمه القبر وواره التراب، بدءوا يجمعون شتات أخباره، ونثير آراءه وأفكاره، فيما يسمونه ببحث في حياة الراحل، أو تحليل لشخصية الفقيد
وبين يدي الآن كتاب أعده منوالاً يجب النسج عليه، وثمرة فكرة طيبة يجب اقتفاء أثرها، وضعه ثلاثة جمعتهم بزعيم مصر الاقتصادي (طلعت حرب باشا) صلة وثيقة، فألموا بدقائق حياته عن قرب، ودرسوا شخصيته عن كثب، ثم كشفوا لنا في كتابهم عن صفحات(190/79)
ناصعة من حياة ذلك الرجل العظيم، ودرسوا ماضيه وحاضره، وبينوا لنا آراءه وأفكاره لا في الناحية الاقتصادية فحسب، بل في غيرها من نواحي المجتمع، مستدلين بصفحات من مؤلفاته ونبذ من خطبه
وقد وفق الأساتذة المؤلفون إلى متانة نسج الكتاب وحبك خيوطه، مما لا يجعل الملل يتسرب إلى نفس القارئ أو يدركه الضيق من طول الكتاب
(ف)
ثورة العرب الكبرى
تأليف السيد عبد الحميد راضي
120 صفحة. ورق صقيل. مطبعة الجزيرة ببغداد
من بواعث الغبطة والسرور، أن نرى تلك النهضة الأدبية التي يحمل لواءها شباب العراق، والتي تنتظم ربوع دجلة والفرات تنشط يوماً بعد يوم، فتعيد إلى الأذهان سيرة السلف الصالح وذكريات الماضي المجيد. . .
وأمامي الآن قصة شعرية طريفة وضعها أديب عراقي، وتناول بها موضوع الثورة العربية الكبرى، فبسط لنا دقائقها وصور حوادثها. وقد بدأت القصة بتمرد العرب على الأتراك، وانتهت بوفاة الملك حسين بعد أن تنازل عن العرش لولده الملك علي
وقد راقني موضوع القصة بقدر ما راقني أسلوبها، فالمؤلف في كتابه قوي الصياغة، متين النسج، غير متكلف النظم يرسل الشعر إرسالاً على سجية الشاعر المطبوع دون تصنع أو تكلف
ولا يسعني هنا إلا أن أهنئ المؤلف بكتابه الفريد كما أهنئ العراق بأدبائه النابهين وشبابه الناهض
أ. ف
كتاب الشهر
تتقدم دار الثقافة العامة، وقوامها جماعة من شباب الجامعة وخيرة رجالها، وكبار أصدقائها(190/80)
إلى قراء العربية في أقطارها بمشروعها الجديد (كتاب الشهر) وهو سلسلة من المؤلفات. يخرج كل مؤلف منها في موضوع مستقل يكتبه عالم أو مؤرخ أو أديب أو بحاثة متخصص، وتكون غاية هذه الكتب تلخيص وتيسير مباحث العلم والتاريخ والأدب والسياسة وتقريبها في أسلس أسلوب إلى أذهان قرائها، مراعية إلى جانب الدقة في اختيار المواضيع حسن العرض، ورخص الثمن حتى تكون في متناول الجميع. وقد اختيرت طائفة من فروع المعرفة العامة لتصدر بها السلاسل الأولى من كتب الشهر، وهي السياسة الدولية في أشخاص قادتها العالميين المحدثين. والتاريخ الإسلامي يمثله ستة من عظمائه لكل كتاب على حدة، وتاريخ مصر الحديث في كتب ستة، وتاريخ العقائد الشرقية القديمة يبحث تاريخ آلهتها وأنصاف آلهتها في أبديتها
وبين يدي القراء الآن، كتاب الشهر الأول عن هتلر وسيتبعه في الشهر التالي كتاب ثان عن موسوليني ثم ديفاليرا ثم مصطفى كمال ثم ستالين
فاقتناء هذه السلاسل، والحرص عليها، يكون لدى أصدقائها بعد مدة وجيزة، مكتبة نفسية لن تقل قيمة عن مكتبات كتب الجيب والست بنسات وغيرها التي عرفت في اللغات الأوربية. ولتيسير اقتناء السلاسل، وضعنا نظاماً للاشتراك فيها، وهو عشرة قروش لكل سلسلة، أي أنها تكون ثمناً لستة كتب (وتتضاعف القيمة للخارج)
ويسر دار الثقافة العامة، أن تجد لغيرتها على مستوى الفكر المصري العربي صدى يكون المكافأة الحقة لجهودها بعد أن اتضح من رخص أثمان الكتب، وقيمة الاشتراك في سلاسلها إلى جانب جودة الطبع، ما ينفي كل فكرة عن غايتنا هي مجرد الاتجار أو الكسب
محمد صبيح(190/81)
العالم المسرحي والسينمائي
روميو وجولييت لشكسبير
إخراج ايرفنج تالبرج
لناقد (الرسالة) الفني
استطاع المرحوم (ايرفنج تالبرج) أن يخلد اسمه في عالم السينما كمخرج قوي وعظيم بإخراجه رواية روميو وجولييت. وتالبرج هذا كان من كبار مخرجي شركة مترو جلدوين ماير الذين يشار إليهم. كان جريئاً مجدداً، عمد إلى اقتباس أشهر المسرحيات العالمية الحديثة وإخراجها على الشريط. وتاريخه جليل حافل ولكنه في إخراجه البديع لهذه الرواية أضاف مجداً إلى مجد، وكان هذا الفلم خير عمل يختم به مخرج حياته الحافلة.
لم يكن تالبرج أول من اقتبس أعمال شكسبير للسينما الناطقة، بل سبقه إلى هذا المخرج المسرحي والسينمائي العظيم (ماكس رينهارت) إذ أخرج رواية (حلم ليلة صيف) ' وهي أصعب روايات شكسبير في الإخراج السينمائي، ولكن ذلك الفنان العبقري استطاع أن يبرزها على الشاشة في أجمل الصور وأحبها إلى النفس، فله في هذا فضل السبق إلى جانب الروعة التي لم يدركه أو يدانه فيها أحد. على أن أهم ما يمتاز به إخراج تالبرج هو الصدق وعدم المغالاة، والدقة في إبراز حوادث الرواية والمحافظة على روحها واستعمال الحوار الشعري الذي وضعه شكسبير نفسه
يعرف القراء أن اقتباس سيناريو من رواية مسرحية عمل من الصعوبة والدقة بمكان، لأن الكاتب يعمد إلى ترجمة الحوار إلى صور، وليس كل حوار يمكن أن يترجم إلى صور، والمسرحية مقيدة بزمان ومكان، ولكن روايات شكسبير تشذ عن هذه القاعدة، فالمسرح في عهد شكسبير لم يعرف المناظر التي تتغير، لأن الستار لم يكن قد عرف بعد، وكانت الحوادث تمثل على مسرح مرتفع ويُكتَفى بإبراز لوحة صغيرة مكتوب عليها أسم المكان الذي تجري فيه الحادثة، وعلى رواد المسرح أن يتخيلوا المنظر أمامهم، ولهذا لم يتقيد المؤلف بالمكان فكثرت المناظر في الرواية الواحدة وكانت نتيجة ذلك تتابعاً مستمراً في الحوادث دون انتقال مفاجئ أو انقضاء فترات طويلة بين فصل وآخر؛ وهذا يشبه في(190/82)
نواح كثيرة القصة السينمائية. ولهذا كان الطريق أمام كاتب سيناريو هذا الفلم ممهداً فلم يلق صعوبة تذكر في عمله وجاء الفلم مطابقاً للمسرحية في كل نواحيها
ولقد أمكن المخرج ومساعديه أن يبرزوا الفلم في جمال وقوة وروعة، وللمدير الفني (جورج كيكور) فضل كبير في نجاح الفلم وظهوره في هذه الصورة الكاملة: من إتقان في المناظر والإضاءة والتصوير مما يليق برواية الحب الخالدة التي يحفظ كل شاب وفتاة حوادثها
لم تكن المناظر عظيمة ولا ضخمة ولا ذات ترف كبير وما إلى هذا مما يعمد إليه المخرج الأمريكي سيسيل دي ميل للتأثير في رواد أفلامه، فالمناظر بسيطة وفي حدود ضيقة، ولكنها تتسق مع القصة وحوادثها. ولقد أدت مهمتها في معاونة الممثلين على الوصول إلى قرارة النفوس
إن من يتتبع الفلم باهتمام لا يكاد يلمس للمخرج أو المدير الفني خطأ يحصيه عليه منذ بدء المعركة الأولى بين آل منتاجو وآل كابيوليت حتى موت روميو وجولييت وتصافح الزعيمين أمام قبرهما اللهم إلا موقفاً واحداً عندما تلتقي عينا جوليت بروميو وتنسى نفسها فالحوادث هنا تجري أسرع مما ينبغي
لعل أول ما خطر ببالي عندما سمعت بتوزيع الأدوار في الفلم أن نورما شيرر تكبر في السن عن الحد الذي يليق بجولييت وقدرت لها السقوط، ولكن الواقع كان عكس ما ظننت، فهذه الممثلة استطاعت أن تؤدي الدور على خير ما يكون وأن ترتفع به إلى أعلى درجات النجاح، فصورت الطفولة والسذاجة في جولييت الصغيرة حتى أحس رواد الفلم أن الممثلة التي أمامهم فتاة في الحلقة الثانية لا امرأة في الحلقة الرابعة، ولكنها مع هذا كانت تمثل بحذر وترقق من نبرات صوتها حتى تبدو صغيرة، فنجحت في التمثيل ولكنها لم تستطع أن تحيي الدور، وهنالك فرق كبير بين أن يحيي الممثل الدور وبن أن يجيد تمثيله
وليسلي هوارد شاب توافق سنه سن روميو وقد نجح في أداء الدور ولكن ليس إلى الحد الذي قدرناه. كانت حركاته ثقيلة وصوته خشناً أجش وإن كان يعبر وجهه تعبيراً حسناً موقفه في الفلم عكس موقف نورما شيرر فهو مع صغر سنه بدا كبير السن في الفلم
مثل جون باريمور دور (ماركيشيو) وكان بديعاً إلا أنه غالى في تصوير الشخصية، وهذه(190/83)
المغالاة تبدو لمن قرأ الرواية أو رآها على المسرح، ولكنه وهو يموت من أثر الطعنة التي أصيب بها كان بديعاً وقد وصل إلى القمة
والقسيس كان خشناً وقسمات وجهه قاسية ولم تبد منه نواحي الحنان والشفقة التي تحبب الإنسان إلى رجل الدين وتجعله يبوح له بمكنون سره، وأجاد بقية الممثلين أدوارهم ولاسيما المربية مما جعل الاتساق يسود الرواية ويجعل التمثيل في قوة الإخراج
عرضت سينما ديانا بالقاهرة ترجمة عربية للحوار ولكنها مع الأسف كانت ترجمة سخيفة، وكان ظهورها على الشاشة يتأخر دائماً، ونرجو لو تعنى إدارة السينما باللغة العربية وبرواد السينما من المصريين وعواطفهم أكثر من هذا.
يوسف تادرس(190/84)
العدد 191 - بتاريخ: 01 - 03 - 1937(/)
ثقافة مصر المستقلة
يجب أن تقوم على أسس جديدة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
مصر في مفتتح عهد جديد، لا يتناول مركزها السياسي فقط، بل يتناول أيضاً كل شيء في حياتها العامة. ذلك أن التطورات السياسية العميقة تحدث أثرها دائما في سائر نواحي الحياة الاجتماعية والفكرية لأمة من الأمم؛ وقد كان تكوين مصر الاجتماعي في العصر الحديث وليد تطورات وأحداث سياسية خاصة، تختفي اليوم من الأفق ليحل محلها عهد جديد بكل معاني الكلمة؛ وسيحدث العهد الجديد أثره في حياتنا الاجتماعية والفكرية؛ وستتوقف آثاره ونتائجه على مبلغ ما تبديه مصر ذاتها من استعداد وطموح
ومن المعروف أن العوامل المعنوية في تقدم الأمم تسبق العوامل المادية دائما؛ ومصر الآن في مستهل المرحلة الأولى من العهد الجديد أي في طور التكوين المعنوي الذي يلائم هذا العهد. ولما كانت هذه المرحلة من أدق المراحل في حياة الأمم الناهضة، فإنه يجب على مصر أن توليها أفور عناية حتى تستطيع أن تشيد خلالها تكوينها المعنوي الجديد على خير الأسس التي تمهد لها طريق التقدم والنهوض
ولا ريب أن الثقافة القومية هي أقوى دعامة يقوم عليها كيان الأمة المعنوي؛ وقد قطعت مصر بالفعل في هذا الميدان خطواتها الأولى، حتى قبل أن تحقق استقلالها السياسي؛ ولكنها مازالت في مفترق الطرق تنقصها عناصر الاستقرار في توجيه ثقافتها الجديدة. وهذا التردد طبيعي في تكوين الثقافات القومية الناشئة؛ بيد أنه يجب ألا يطول عهده، ويجب أن تحل مكانه عوامل الاستقرار المنشود بسرعة؛ وعندئذ يبدأ بناء الصرح المعنوي الذي يقوم عليه كل شيء في حياة الأمة الجديدة
ومصر تتمتع اليوم بثقافة حسنة، ولكن ينقصها كثير من العناصر القومية الحيوية. ومن الصعب أن نحدد لون هذه الثقافة أو نوعها، فهي اليوم مزيج متباين من ثقافات مختلفة يرجع تكوينه إلى ظروف مصر السياسية والاجتماعية في العصر الأخير. ولقد قيل في مناسبات كثيرة إن مصر تتمتع بنوع من الثقافة اللاتينية وإن هذا النوع من الثقافة، أعني اللاتينية، هو خير ما يلائم عقلية مصر ومشاعرها، كأمة من أمم البحر الأبيض المتوسط(191/1)
الذي تغمر هذه الثقافة ضفافه الشمالية منذ العصور الوسطى، وإن الأمر يتعلق هنا بعوامل جغرافية واجتماعية لا سبيل إلى إنكارها؛ بيد أننا نشك في صواب هذه النظرية؛ والواقع أنه إذا كانت الثقافة اللاتينية أو بعبارة أخرى الثقافة الفرنسية قد غلبت على الثقافة المصرية في القرن التاسع عشر، فإن ذلك يرجع بالأخص إلى حوادث وظروف تاريخية طارئة، أخصها مقدم الحملة الفرنسية إلى مصر، وما بذلت خلالها مقامها القصير بمصر من مجهودات علمية وثقافية محمودة، وما كان من اعتماد محمد علي بعد ذلك على نصح المستشارين والعلماء الفرنسيين في تنظيم ثقافة مصر الجديدة؛ هذه هي الظروف والعوامل الحقيقية التي نشأ فيها لون ثقافتنا اللاتيني، ولا دخل هنا للعوامل الجنسية والجغرافية في هذا التطور الثقافي الطارئ؛ والدليل على ذلك أن طابع ثقافتنا الفرنسي قد ضعف في العصر الأخير، وقوي فيها الطابع السكسوني نظراً لتغلب النفوذ الإنكليزي في شؤون التربية والتعليم، وتسرب العوامل الثقافية الجديدة إلى المجتمع المصري
والآن ومصر في مستهل عهد جديد من تاريخها يمتاز بآفاقه الحرة المستقلة، نرى أنه يجب على مصر أن تعمل، كما تعمل جميع الأمم المستقلة الناهضة على أن تطبع ثقافتها الجديدة بطابع قومي واضح؛ وأول ما يجب عليها في ذلك هو أن تجانب اصطفاء ثقافة أجنبية بعينها، وأن تنظر إلى مختلف الثقافات والحضارات نظرة واحدة تأخذ منها جميعاً ما يصلح لإنشاء ثقافتها الخاصة، وان تنسق ذلك المزيج المستخلص من الثقافات المحدثة وتدعمه بالعناصر القومية التي تسبغ عليه طابعه القومي المنشود
والمعروف أن الثقافات القومية تعتمد دائماً على أمور جوهرية منها إذكاء الروح والتقاليد الوطنية، وتقوية اللغة القومية، وتدعيم المثل الأخلاقية، والعناية بالتاريخ القومي، وتقديم الشؤون والدراسات القومية على غيرها. ولا مرية في أن ثقافتنا الحالية ضعيفة في معظم هذه النواحي، فهي بعيدة أولا عن ذينك التخصيص والاستيعاب اللذين تأخذ بهما جميع الثقافات المستقلة في الدراسات القومية، بل يلاحظ بحق إن ثقافتنا الحالية تعتمد على المعلومات والدراسات السطحية العامة، فتقتبس القليل السطحي من كل شيء، ولا تتجه إلى التخصص والإتقان في شيء؛ وهذا عيب جوهري يجب تداركه بأسرع ما يستطاع، ثم إن ثقافتنا لا تكفي بصورتها الحالية لتغذية الروح الوطني الناشئ، لأن أنظمتها وبرامجها(191/2)
الحالية وضعت في جو خانق من الريب والحجر على العواطف والأماني الوطنية، فوجب أن تبحث من جديد في ظل العهد الجديد، وأن تفسح مجالا لكل ما يعاون في تنمية الروح الوطني؛ ومن جهة أخرى فقد لبثت اللغة القومية، أعني اللغة العربية، عصراً ضحية هذه السياسة القديمة، ولولا أنها استطاعت أن تقاوم ضغط الأجنبي بكل ما فيها من حيوية، وأن تشق لنفسها طريقها المستقل خارج المعاهد الحكومية في الآفاق الحرة، لما استطاعت أن تنهض كما تنهض اليوم؛ بيد أنه لا يزال علينا أن نحررها من شوائب المؤثرات والمنافسات الأجنبية التي تعرقل نهضتها، والتي هي من بقايا عهد طويت صفحته، فاللغة العربية يجب أن تتبوأ مقامها الأول في كل معاهدنا ودراساتنا كلغة أصلية لا تنافسها في هذا المقام أية لغة، ويجب أن تكون لغة التربية والتعليم في كل مراحل الدراسة، إلا ما اقتضته مصلحة الدراسة ذاتها؛ ويجب أن يختفي من معالم حياتنا العامة ذلك المزيج المؤلم من لغات أجنبية يستعمل بلا ضرورة في كثير من دوائرنا ومصالحنا الحكومية، بل وفي بعض بيئات مجتمعنا الرفيع، فقد حان الوقت الذي يجب أن تختفي فيه هذه الآثار الأخيرة التي ترمز إلى سيادة فكرية أو اتفاقية أجنبية لا وجود لها اليوم
أما عن دراسة التاريخ القومي التي هي اليوم من دعامات الروح الوطني في جميع الأمم المستقلة، فمن الأسف أنها انتهت في العصر الراحل إلى حالة يرثى لها؛ ومازال التاريخ القومي يغمط حقه من جميع النواحي، ومازلنا نتلقى عن تاريخ الأمم والحضارات والشخصيات الأجنبية أضعاف ما نتلقى عن تاريخنا وتاريخ شخصياتنا وحضارتنا، ولم يكن ذلك غريبا في عهد السيادة الأجنبية لأنها تعرف بخبرتها في طبائع الشعوب ومشاعرها أن الأمم ذات التواريخ الحافلة المجيدة، تهتز في عصور الضعف والانحلال لذكرياتها القديمة، وتستمد منها الوحي والقوة في مغالبة الخطوب وشحذ الشعور الوطني؛ وقد كانت أساليب التربية القديمة ترمي إلى محاربة ذلك الشعور وإضعافه، وكان التاريخ القومي من العناصر الثقافية التي قضي عليها بالمسخ والمحو تقريباً؛ أما اليوم فإن الاستقلال الوليد في أشد حاجة لأن نحيطه بسياج من تاريخنا القومي، وان توطد دعائمه بما يبعثه إلى نفوسنا استعراض هذا التراث الحافل من اعتزاز وطموح إلى استئناف تاريخنا المجيد، وربط مستقبلنا بماضينا، وهذا عنصر في تغذية الشعور القومي تعرفه الأمم(191/3)
المستقلة وتعنى به اشد عناية
وأخيراً يجب ألا ننسى ما للناحية الخلقية في تكوين الثقافة القومية من أهمية خاصة. ولسنا بحاجة لأن ندلل على أن المثل الأخلاقية الرفيعة يجب أن تكون غاية الغايات في كل ثقافة عظيمة؛ فإذا كان الماضي قد طوى بسيئاته ومثالبه المعنوية فمن ألزم واجباتنا في العهد الجديد أن نعمل على إخراج جيل جديد يتمتع بالجرأة والصراحة واستقلال الرأي وسلامة التفكير والتقدير؛ فهذه القوى المعنوية والأخلاقية ضرورية لحماية الاستقلال القومي ضرورة الجيوش ذاتها
والخلاصة أن ثقافتنا الجديدة يجب أن تكون وليدة ثورة حقيقية، سواء في نظمها أو روحها أو مادتها؛ يجب إلا تكون ثقافتنا المستقبلة كما كانت في الماضي، معتركا لتنافس الثقافات والمؤثرات الأجنبية المختلفة. بل يجب أن تكون ثقافة مصرية خالصة، حرة من كل تيار غير مرغوب فيه؛ ويجب أن تكون ثقافاتنا غزيرة عميقة في نفس الوقت، تأخذ بالتخصص في جميع الدراسات والشؤون الجوهرية، ولا تخلو مع ذلك من التعميم النافع؛ وأخيراً يجب قبل كل شيء أن يتبوأ الطابع القومي مقامه الأول في صوغ ثقافتنا وفي توجيهها.
محمد عبد الله عنان(191/4)
النحو
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
النحو علم لا أعرف منه إلا اسمه. وما أكثر ما أجهل وأضأل ما أعرف! ولو كنت وجدت من يعلمنيه لتعلمت وما قصرت. وكيف بالله تنتظر مني أن أعرفه بالفطرة والإلهام. . . كان أول من قيل لنا إنه معلم نحو رجلا قاسياً سيئ الطباع سريع البادرة، وكانت له عصا قصيرة من الخيزران يدسها في كمه، حتى إذا أمن أن يراه الناظر أخرجها وسلطها على أجسامنا الصغيرة وأهوى بها على أيدينا وجنوبنا ورؤوسنا فلا يتركنا إلا بعد أن ينقطع نشيجنا وتخفت أصواتنا وتذهب عنا القدرة على الصراخ والاستنجاد، فلم يكن ابغض إلينا من درسه. ومن المضحك أن ذلك لم يكن يخيفنا منه ولا يزيدنا إلا إلحاحاً في معابثته. وكنت أنا أثقل التلاميذ عليه وأبغضهم إليه، لأني كنت - وأحسب أني مازلت - شيئاً صغيراً جداً وخفيفاً مستدقاً لا استقر في مكان. ولا أزال أنط من هنا إلى هنا ولا يكف لساني عن الدوران. فكان نصيبي من هذه العلقات النصيب الوفر وحضي هو الأجزل. وكان الناظر فيه سذاجة عجيبة لم تفتنا نحن الأطفال. وكيف كان يمكن أن يفوتنا التفطن إلى سذاجته ونحن مئات من الأطفال لنا مئات من العيون نفحصه بها، ومئات أخرى من الآذان والرؤوس تسمعه وتتدبر أمره وتجسه وتختبره. . . فكنت أذهب إليه وأقول له على سبيل الملق والدهان: (يا سعادة البك) فيلتفت بوجهه الكبير إلي ويقبل علي بابتسامته البلهاء، فقد كانت الرتبة جديدة وفرحه بها عظيما. ويسألني (مالك يا امن (بالميم فقد كان أخن) عبد القادر) فأقول له: (يا سعادة البك. الشيخ فلان يا سعادة البك معه عصا يخفيها في كم القفطان ويضربنا بها يا سعادة البك) وكنت صادقاً ولكنه لم يكن يعرف أني صادق؛ غير أنه كان يسمع (سعادة البك) تصافح أذنه مرات عديدة في نصف دقيقة فيطرب، ويصرفه الطرب عن التثبت فيقول لي - متآمراً معي - (طيب. رح إلى الفصل وعاكسه) أي والله كان يحرضني على معاكسة الشيخ المسكين ليضبطه - كما يقال - متلبساً بالجريمة، أو كان يكتفي بأن يأمرني بالعودة إلى الفصل ثم يدخل هو ويفاجئ الشيخ بانتزاع العصا من كمه ويوبخه أمامنا وينصرف. فتصيح أربعون حنجرة جديدة (هيه) فيكاد الشيخ يجن وينهال علينا ضرباً باليدين والرجلين فتنكشف سراويلاته فيعلو الصياح من جديد، ولكنه(191/5)
يكون قد تعب وأضناه الجهد وبهر أنفاسه العدو وراءنا فيقف وهو ينهج ويخرج المنديل من جيب القفطان ويمسح به العرق المتصبب ونحن جميعاً نتكلم وليس بيننا واحد يصغي إلى ما يقال
هذا كان أستاذنا في النحو. ولو أنه كان موفقاً في التعليم لكان الناظر وحده كفيلا بإفساد الأمر عليه. فقد كان يتظاهر بالعلم بكل شيء وهو لا يعرف شيئاً. فإذا تورط ولم يسعه إلا الاعتراف بجهله قال: (جاهل جاهل. لكن إداري تمام) ومن ظريف ما اذكره من نوادره أنه دخل علينا في درس ترجمة وكان المعلم غائباً. ولم يكن هو يعرف ذلك وان كان فيما يزعم إدارياً حاذقاً. ولكنه سمع ضجتنا العالية فسأل فقيل له إن هذه الفرقة ليس فيها معلم، فلم يندب غيره بل جاء هو إلينا بنفسه وبطوله وعرضه وسألنا: (ما لكم يا أولاد؟) قلنا (يا سعادة البك المعلم غائب) قال (الدرس إيه) قلنا (ترجمة يا سعادة البك) فانشرح صدره واغتبط وأيقن أنه سيظل يسمع منا ما يسره فقال: (طيب وايه يعني؟) فقلنا (يا سعادة البك لم نفهم الدرس السابق يا سعادة البك) فسأل عن هذا الدرس السابق الذي استعصى علينا فقلنا له انه كان يحاول أن يعلمنا النفي في اللغتين العربية والإنجليزية ولكنا لم نفهم عنه. فأعرب لنا بعبارات صريحة عن دهشته وتعجبه لوزارة المعارف التي تعين مدرسين لا يحسنون تفهيم لتلاميذ، وأكد لنا أنه يعطف علينا لأننا نؤدي للوزارة أجور التعليم كاملة ولا نتعلم مع ذلك شيئاً. ثم قال أن المسألة بسيطة وأن النفي سهل جداً وأن أدواته في اللغة العربية معروفة وهي (لا ولم ولن الخ) والأمثلة سهلة ومعروفة، وشرع يسوق الأمثلة. فلما بلغ (لم) قال (مثلا. . لم كتب. لم ضرب. لم ذهب) فانفجرنا ضاحكين وكان لنا العذر. وكيف لا نضحك من (لم كتب ولم ضرب) فلما سكنت العاصفة بعض السكون قال يوبخنا ويزجرنا ويعظنا: (تضحكون؟. . ابكون. . ابكون. .) فلم يبق منا طفل على مقعده من شدة الضحك. ولم يسكتنا الخوف منه وإنما أسكتنا الألم الذي صرنا نحسه في بطوننا من الضحك الطويل
هذا في التعليم الابتدائي. أما في التعليم الثانوي فقد كان أول معلم لي فيه مصابا بالربو، فكان لا ينفك يسعل ويتفل حتى توجعنا بطوننا، ولهذا كنا ننام في درسه أو نهرب منه اتقاء لوجع البطن. ثم صار لنا معلم آخر وكان سياسيا ولكنه كان في هذا نسيج وحده، فكان يغلق(191/6)
النوافذ ليأمن أن يسمع أحد ما ينوي أن يقول - أعني ما ينوي أن يفضي إلينا به من الأسرار. ثم يشرع في الحديث فيصف لنا كيف كان الحكم المصري على عهد الخديو إسماعيل ظالما، فنجادله وينقضي الدرس كله في هذا الجدل العجيب. ولست أدري لماذا كان يجشم نفسه إغلاق النوافذ. ولو أن الناظر الإنجليزي سمعه لكان حقيقا أن يسر لا أن يغضب، ولكني أحسبه كان يفعل ذلك ليكون تأثير كلامه في نفوسنا ابلغ. والعجب بعد ذلك أن تلاميذه كلهم صاروا وطنيين متطرفين في وطنيتهم لا خونة لبلادهم كما كان يشتهي هو أن يكونوا
فممن كنت أتعلم النحو بالله؟. وما الذي كان يمكن أن يغريني أن أتعلمه وحدي؟. ثم ما فائدة هذا النحو الذي لم أتعلمه ولم أحتج إليه. . وعسى من يسأل: (وكيف كنت تصنع في الامتحانات؟ فأقول إني كنت أقرأ ورقة الأسئلة واترك النحو إلى آخر الوقت ثم أتناوله وأروح أجمع طائفة من الأمثلة أستخلص منها القاعدة فأجعل هذا جوابي. ولاشك أنه كان لا يخلو من نقص ولكنه لم يكن خطأ كله. هذه كانت طريقتي وقد استغنيت بها عن حفظ ما في كتب النحو. وأراني الآن أصبحت كاتباً - وقد كنت في زماني شاعرا كذلك - وقد وسعني هذا وذاك بغير معونة من النحو. بل من غير أن أتعلم العروض. وأذكر أني وأنا في مدرسة المعلمين العليا كان الشيخ حمزة فتح الله هو الذي يتولى امتحاننا في اللغة العربية - على الأقل في إحدى السنين - وكان من أعضاء اللجنة التي هو رئيسها الشيخ عبد العزيز شاويش وفتح الله بركات بك وأستاذنا في المدرسة؛ وكنا ندخل على اللجنة واحداً واحداً كما هي العادة فأخبرني الذين سبقوني إلى أداء الامتحان أن الشيخ حمزة عليه رحمة الله يفتح كتاب النحو والصرف ويأمر الطالب أن يسمعه الباب الفلاني، وكانت هذه مبالغة ولكنا صدقناها، فأيقنت أني مخفق ووطنت نفسي على معركة. وجاء دوري فدخلت، فناولني مقدمة ابن خلدون وقال افتحها في أي موضع واقرأ، ففعلت، فأمرني أن أضع الكتاب وشرع يسألني عن كلمة (العدوان) ما فعلها الثلاثي ولماذا يقال (اعتدينا) - بفتح الدال للماضي - واعتديا (بكسرها للأمر. فلم أعرف لهذا جوابا، فقلت: (هكذا نطق العرب وعنهم أخذنا). فألح في طلب الجواب المرضٍي فقلت (إن اللغة نشأت قبل القواعد. وأنا أنطق وأكتب وأقرأ كما كان العرب يفعلون من غير أن يعرفوا قاعدة أو حكما) فساءه(191/7)
جوابي ونهرني وخشي الشيخ شاويش العاقبة فقال له: (يا مولانا. العصر وجب) فنهض الشيخ حمزة لصلاة العصر وتركني لزملائه فأسرعوا في امتحاني قبل أن يفرغ الشيخ ويعود
وأحسب أن ما وسع العرب الأولين من معرفة العربية بلا نحو لا يعجز عنه أبناء هذا الزمان. ومن الميسور فيما أعتقد أن تحل قراءة الأدب العربي محل النحو. وليس يعجز رجال العربية عن وضع مختارات صالحة لكل سن. وإذا كان لابد من النحو فليكن ذلك عرضا وأثناء القراءة وعلى سبيل الشرح وللاستعانة به على الفهم، وعلى إلا يكون ذلك درسا مستقلا يؤدى فيه امتحان. أما الطريقة التي يتعلم بها أبناؤنا العربية فإني أراها مقلوبة لأنها تبدأ بما يجب الانتهاء إليه. ومن ذا الذي يتصور أن صبياً صغيراً يستطيع أن يفهم ما الفعل وما الاسم وما الحرف. وأن هذا يكون حكمه كيت وكيت وذاك يجري عليه كذا وكذا من. . وإن هذه الفتحات والضمات والكسرات علامات إعراب أو لا أدري ماذا هي، وأن لفظا يكون مسندا ولفظا يكون مسندا إليه إلى آخر هذه الألغاز التي لا يعقل أن يدركها طفل صغير. بل إني أنا الكبير أردت منذ بضعة أيام أن أراجع شيئا في النحو ففتحت وقرأت فيه شيئا ثم وضعته يائسا من الفهم ولجأت إلى وسيلة أخرى كانت أجدى علي من هذا الكلام الذي أراه يفهم، وذلك أني كتبت الوجهين اللذين حرت بينهما واختلط علي الأمر فيهما فلم أعد أدري أيهما الصواب وأيهما الخطأ، ثم ذهبت أنظر إليهما فالذي سكنت إليه نفسي أخذت به وتبنيت بعد ذلك أن ما أخذت به كان هو الصحيح وأن عيني لم تخدعني وأن نفسي إنما اطمأنت إلى ما طال عهدها به من الصواب. أما ما لم تألفه أثناء مطالعاتي فقد رفضته. والطريقة التي أشير بها تجعل العربية سليقة على خلاف ما هو حاصل الآن فإن أبناءنا يتعلمون العربية كما يتعلمون الإنجليزية أو أية لغة أجنبية أخرى لا يشعرون بصلة بينها وبين نفوسهم. وكثيرا ما يتفق أن يخرج التلميذ وهو أعرف باللغة الأجنبية منه بالعربية. وليس بعد هذا فشل والعياذ بالله. وأسأل من شئت فلن تجد أحداً لا يقول لك إن اللغة العربية انحطت - أعني ضعف العلم بها - في هذا الجيل. ولست أعرف لهذا سببا إلا أن التلاميذ لا يتعلمون اللغة وإنما يحفظون نحوا وصرفا وبلايا كثيرة أخرى مثل البلاغة الخ لا تعلمهم اللغة وإنما تبغضها إليهم. فإذا كان التبغيض هو الغاية المنشودة فلا(191/8)
شك أن المعلمين قد وفقوا إلى ما لا مزيد عليه. أما إذا كان الغرض هو تعليم اللغة فخير الأساليب هو الأسلوب الطبيعي الذي يتعلم به الطفل الكلام
إبراهيم عبد القادر المازني(191/9)
3 - صعاليك الصحافة. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ولم يلبث أن رجع أبو عثمان في هذه المرة وكأنه لم يكن عند رئيس التحرير في عملٍ وأدائه، بل كان عند رئيس الشرطة في جنايةٍ وعقابها. فظهر منقلب السحنة انقلاباً دميماً، شوّه تشويهه وزاد فيه زيادات. . . . ورأيته ممطوط الوجه مطّاً شنيعاً، بدت عيناه الجاحظتان كأنهما غير مستقرتين في وجهه، بل معلقتان على جبهته. . .
وجعل يضرب إحدى يديه بالأخرى ويقول: هذا باب على حِدَةٍ في الامتحان والبلوى، وما فيه إلا المئونة العظيمة والمشقة الشديدة؛ والعمل في هذه الصحافة إنما هو امتحانك بالصبر على اثنين: على ضميرك، وعلى رئيس التحرير. (وسأل بعض أصحابنا أبا لقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزأ ما هو؟ فقال: الجزء الذي لا يتجزأ عليّ بن أبي طالب عليه السلام. . . فقال له أبو العيناء محمد: أفليس في الأرض جزء لا يتجزأ غيره؟ قال: بلى. حمزة جزء لا يتجزأ. . . قال: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: أبو بكر يتجزأ. . . قال: فما تقول في عثمان؟ قال: يتجزأ مرتين، والزبير يتجزأ مرتين. . . قال: فأي شيء تقول في معاوية؟ قال: لا يتجزأ
فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الأنام أجزاء لا تتجزأ إلى أي شيء ذهب؟ فلم نقع عليه إلا أن يكون أبو لقمان كان إذا سمع المتكلمين يذكرون الجزء الذي لا يتجزأ، هاله ذلك وكبر في صدره وتوهم أنه الباب الأكبر من علم الفلسفة. وأن الشيء إذا عظم خطره سموه بالجزء الذي لا يتجزأ)
قلت: ورجع بنا القول إلى رئيس التحرير. . .
فضحك حتى أسفر وجهه ثم قال: إن رئيس التحرير قد تلقى الساعة أمراً بأن الجزء الذي لا يتجزأ اليوم هو فلان؛ وأن فلانا الآخر يتجزأ مرتين. . . وأن المعنى الذي يبنى عليه رأي الصحيفة في هذا النهار هو شأن كذا في عمل كذا؛ وأن هذا الخبر يجب أن يصور في صيغة تلائم جوع الشعب فتجعله كالخبز الذي يطعمه كل الناس وتثير له شهوة في النفوس كشهوة الأكل، وطبيعةٌ كطبيعة الهضم. . . وقد رمى إليّ رئيس التحرير بجملة الخبر؛ وعليّ أنا بعد ذلك أن أضرم النار وأن أجعل التراب دقيقاً أبيض يعجن ويخبز ويؤكل(191/10)
ويسوغ في الحلق وتستمرئه المعدة ويسري في العروق
وإذا أنا كتبت في هذا احتجت من الترقيع والتمويه، ومن التدليس والتغليط، ومن الخِبّ والمكر، ومن الكذب والبهتان - إلى مثل ما يحتاج إليه الزنديق والدهريُّ والمعطل في إقامة البرهانات على صحة مذهب عرف الناس جميعا أنه فاسد بالضرورة إذ كان معلوماً من الدين بالضرورة أنه فاسد. وأين ترى إلا في تلك النّحل وفي هذه الصحافة أن ينكر المتكلم وهو عارف أنه منكر، وأن يجترئ وهو موقن أنه مجترئ، ويكابر وهو واثق أنه يكابر؟ فقد ظهر تقدير من تقدير، وعمل من عمل، ومذهب من مذهب؛ والآفة أنهم لا يستعملون في الإقناع والجدل والمغالطة إلا الحقائق المؤكدة؛ يأخذونها إذا وجدت ويصنعونها إن لم توجد، إذ كان التأثير لا يتم إلا بجعل القارئ كالحالم يملكه الفكر ولا يملك هو منه شيئاً، ويلقى إليه ولا يمتنع، ويعطى ولا يرد على من أعطاه
قلت: ولكن ما هو الخبر الذي أرادوك على أن تجعل من ترابه دقيقاً أبيض؟
قال: هو بعينه ذلك الشأن الذي كتبت فيه لهذه الصحيفة نفسها، أنقضه وأسفهه وارد عليه وكان يومئذ جزءاً يتجزأ. . . فإن صنعت اليوم بلاغتي في تأييده وتزيينه والإشادة به، ولم يكن هذا كاسراً لي، ولا حائلا بيني وبين ذات نفسي - فلا أقل من أن يكون الجاحظ تكذيباً للجاحظ. آه لو وضع الرديو في غرف رؤساء التحرير ليسمع الناس. . .
قلت: يا أبا عثمان. هذا كقولك: لو وضع الرديو في غرف قواد الجيوش أو رؤساء الحكومات
قال: ليس هذا من هذا فإن للجيش معنى غير الحذق في تدبير المعاش والتكسب وجمع المال؛ وفي أسراره أسرار قوة الأمة وعمل قوتها؛ وللحكومة دخائل سياسية لا يحركها أن فلانا ارتفع وأن فلانا انخفض، ولا تصرّفها العشرة أكثر من الخمسة؛ وفي أسرارها أسرار وجود الأمة ونظام وجودها
قال أبو عثمان: وإنما نزل بصحافتنا دون منزلها أنها لا تجد الشعب القارئ المميز الصحيح القراءة الصحيح التمييز، ثم هي لا تريد أن تذهب أموالها في إيجاده وتنشئته. وعمل الصحافة من الشعب عمل التيار من السفن في تحريكها وتيسير مجراها، غير أن المضحك أن تيارنا يذهب مع سفينة ويرجع مع سفينة. . . ولو أن الصحافة العربية وجدت(191/11)
الشعب قارئاً مدركا مميزاً معتبراً مستبصراً لما رمت بنفسها على الحكومات والأحزاب عجزاً وضعفاً وفسولة، ولا خرجت عن النسق الطبيعي الذي وضعت له، فإن الشعب تحكمه الحكومة، وإن الحكومة تحكمها الصحافة، فهي من ثم لسان الشعب؛ وإنما يقرأها القارئ ليرى كلمته مكتوبة. وشعور الفرد أن له حقاً في رقابة الحكومة وأنه جزء من حركة السياسة والاجتماع هو الذي يوجب عليه أن يبتاع كل يوم صحيفة اليوم
قال أبو عثمان: فالصحافة لا تقوى إلا حيث يكون كل إنسان قارئاً، وحيث يكون كل قارئ للصحيفة كأنه محرر فيها، فهو مشارك في الرأي لأنه واحد ممن يدور عليهم الرأي، متتبع للحوادث لأنه هو من مادتها أو هي من مادته، وهو لذلك يريد من الصحيفة حكاية الوقت وتفسير الوقت، وأن تكون له كما يكون التفكير الصحيح للمفكر، فيلزمها الصدق ويطلب منها القوة ويلتمس فيها الهداية، وتأتي إليه في مطلع كل يوم أو مغربه كما يدخل إلى داره أحد أهله الساكنين في داره
وفي قلة القراء عندنا آفتان: أما واحدة فهي القلة التي لا تغني شيئاً، وأما الأخرى فهم على قلتهم لا ترى أكبر شأنهم إلا عبادة قوم لقوم، وزراية أناس بآخرين، وتعلق نفاق بنفاق، وتصديق كذب لكذب. وآفة ثالثة تخرج من اجتماع الاثنتين: وهي أن أكثرهم لا يكونون في قراءتهم الصحيفة إلا كالنظارة اجتمعوا ليشهدوا ما يتلهون به، أو كالفراغ يلتمسون ما يقطعون به الوقت، فهم يأخذون السياسة مأخذ من لا يشارك فيها، ويتعاطون الجد تعاطي من يلهو به، ويتلقون الأعمال بروح البطالة، والعزائم بأسلوب عدم المبالاة، والمباحثة بفكرة الإهمال، والمعارضة بطبيعة الهزء والتحقير. وهم كالمصلين في المسجد؛ فمثل لنفسك نوعا من المصلين إذا اصطفوا وراء الإمام تركوه يصلي عن نفسه وعنهم وانصرفوا. . .
قال أبو عثمان: بهذا ونحوه جاءت الصحف عندنا وأكثرها لا ثبات له إلا في الموضع الذي تكون فيه منافعه ووسائل منافعه؛ ومن هذا ونحوه كان أقوى المادة عندنا أن تظهر الصحيفة مملوءة حكومة وسلطة وباشوات وبيكوات. . . وكان من الطبيعي أن محل الباشا والبك والحوادث الحكومية التفهة لا يكون من الجريدة إلا في موضع قلب الحي من الحي.
ثم استضحك شيخنا وقال: لقد كتبت ذات يوم مقالة أقترح فيها على الحكومة تصحيح هذه(191/12)
الألقاب، وذلك بوضع لقب جديد يكون هو المفسر لجميعها ويكون هو اللقب الأكبر فيها، فإذا أنعم به على إنسان كتبت الصحف هكذا: أنعمت الحكومة على فلان بلقب (ذو مال).
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .
فلم يلبث إلا يسيرا ثم عاد متهللا ضاحكا وقد طابت نفسه فليس له جحوظ العينين إلا بالقدر الطبيعي، وجلس إلي وهو يقول:
بيد أن رئيس التحرير لم ينشر ذلك المقال، ولم ير فيه استطرافاً ولا ابتكارا ولا نكتة ولا حجة صادقة، بل قال كأنك يا أبا عثمان تريد أن يأكل عدد اليوم عدد الغد، فإذا نحن زهدنا في الألقاب وأصغرنا أمرها وتهكمنا بها وقلنا إنها أفسدت معنى التقدير الإنساني وتركت من لم ينلها من ذوي الجاه والغنى، يرى نفسه إلى جانب من نالها كالمرأة المطلقة بجانب المتزوجة. . . وقلنا أنها من ذلك تكاد تكون وسيلة من وسائل الدفع إلى التملق والخضوع والنفاق لمن بيدهم الأمر، أو وسيلة إلى ما هو أحط من ذلك كما كان شأنها في عهد الدولة العثمانية البائدة حين كان الوسام كالرقعة من جلد الدولة، يرقع بها الصدر الذي شقوه وانتزعوا ضميره، إذا نحن قلنا هذه وفعلنا هذا، لم نجد الشعب الذي يحكم لنا، ووجدنا ذوي المال والجاه والمناصب الذي يحكمون علينا، فكنا كمن يتقدم في التهمة بغير محام إلى قاض ضعيف.
يا أبا عثمان إنما هي حياة ثلاثة أشياء: الصحيفة، ثم الصحيفة، ثم الحقيقة. . . فالفكرة الأولى للصحيفة والفكرة الثانية هي للصحيفة أيضاً. ومتى جاء الشعب الذي يقول: لا. بل هي الحقيقة، ثم الحقيقة، ثم الصحيفة - فيومئذ لا يقال في الصحافة ما قيل لليهود في كتاب موسى: تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا. .
قلت: أراك يا أبا عثمان لم تنكر شيئاً من رئيس التحرير في هذه المرة، فشق عليك إلا تثلبه، فغمزته بالكلام عن مرة سالفة.
قال: أما هذه المرة فأنا الرئيس لا هو، وفي مثل هذا لا يكون عمك أبو عثمان من (صعاليك الصحافة). إن الرجل اشتبه في كلمة: ما وجهها أمرفوعة أم منصوبة؟ وفي لفظة: ما هي: أعربية أم مولدة؟ وفي تعبير أعجمي: ما الذي يؤديه من العربية الصحيحة؟ وفي جملة: أهي في نسقها افصح أم يبدلها؟(191/13)
إن المعجم هنا لا يفيدهم شيئاً إلا إذا نطق. . .
ولقد ابتليت هذه الأمة في عهدها الأخير بحب السهولة مما أثر فيها الاحتلال وسياسته وتحمله الأعباء عنها واستهدافه دونها للخطر، فشبه العامية في لغة الصحف وفي أخبارها وفي طريقها إنما هو صورة من سهولة تلك الحياة، وكأنه تثبيت للضعف والخور، وأنت خبير أن كل شيء يتحول بما تحدث له طبيعته عالياً أو نازلاً، فقد تحولت السهولة من شبه العامية إلى نصف العامية في كتابة أكثر المجلات وفي رسائل طلبة المدارس، حتى لتبدو المقالة في ألفاظها ومعانيها كأنها القنفذ أراد أن يحمل مأكلة صغاره، فقرض عنقوداً من العنب، فألقاه في الأرض وأتربه وتمرغ فيه، ثم مشى يحمل كل حبة مرضوضة في عشرين إبرة من شوكه.
ثم مد أبو عثمان يده فتناول مجلة مما أمامه وقعت يده عليها اتفاقاً، ثم دفعها إلي وقال: اقرأ ولا تجاوز عنوان كل مقالة. فقرأت هذه العناوين:
(مسئولية طبيب عن فتاة عذراء)، (مودة الراقصات الصينيات)، (تخر مغشياً عليها لأنهم اكتشفوا صورة حبيبها)، (هل يعتبر قبول الهدية دليلا على الحب، وإذا كانت ملابس داخلية. . . فهل تعتبر وعدا بالزواج؟)، (هل يحق للأب أن يطالب صديق ابنته. . . بتعويض إذا كانت ابنته غير شرعية)، (بين خطيبتين لشاب واحد)، (بعد أن قص على زوجته أخبار السهرة. . . لماذا أطلقت عليه الرصاص؟)، (عروس تأخذ (شبكة) من شابين ثم تطردهما)، (زوجة الموظف أين ذهبت)، (لماذا خطفت العروس في اليوم المحدد للزفاف؟)، (في الطريق - حب بالإكراه)، (فلانون وفلانات، زواج وطلاق، وأخبار المراقص، وحوادث أماكن الدعارة الخ الخ.
فقال أبو عثمان: هذه هي حرية النشر؛ ولئن كان هذا طبيعيا في قانون الصحافة إنه لأثم كبير في قانون التربية؛ فإن الأحداث والضعفاء يجدونه عند أنفسهم كالتخيير بين الأخذ بالواجب وبين تركه، ولا يفهمون من جواز نشره إلا هذا. (وباب آخر من هذا الشكل فبكم أعظم حاجة إلى أن تعرفوه وتقفوا عنده، وهو ما يصنع الخبر ولاسيما إذا صادف من السامع قلة تجربة، فإن قرن بين قلة التجربة وقلة التحفظ - دخل ذلك الخبر إلى مستقره من القلب دخولا سهلا، وصادف موضعاً وطيئاً وطبيعة قابلة ونفساً ساكنة، ومتى صادف(191/14)
القلب كذلك رسخ رسوخاً لا حيلة في إزالته
ومتى ألقي إلى الفتيان شيء من أمور الفتيات في وقت الغرارة وعند غلبة الطبيعة وشباب الشهوة وقلة التشاغل و. .)
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .
(لها تتمة)
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(191/15)
في الأدب المقارن
موضوعات الأدب
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
يعبر الأدب عن شتى خوالج النفس وخواطر الذهن، ويصف تأثر النفس بمختلف صور الحياة وظواهر الكون وصروف الدهر، وكلها أمور لا يحد مداها ولا تحصى مذاهبها، ومن ثم لا تحد ولا تحصى أشتات الموضوعات التي يعالجها أدب أمة من الأمم في مختلف عصوره، فأدب الأمة الحي يشمل أطراف حياتها المترامية، مما يوحي به التدين والورع إلى ما يمليه التبذل والاستهتار، وما يمليه الحزن والألم إلى ما توحي به الغبطة والسرور، وما يدعو إليه التفكير والتأمل الرزين أو يحمل عليه التفكه والتندر، ومن كل ما يبعث إعجاب الإنسان ورهبته وخشوعه أو يثير احتقاره أو نفوره، ومن كل ما يوقظ حب الاستطلاع والدرس والمعرفة المركب في طبع الإنسان، ويمتد مجال الأدب حتى يختلط بشتى فروع العلم في بعض أطرافها
على أن موضوعات الأدب وإن تعذر استقصاؤها يتجمع أكبرها وأخطرها شأنا حول مواضيع رئيسية يكثر طرقها ويعزى إلى واحد منها كل أثر من آثار رجال الأدب، كالنسيب والرثاء مثلا؛ كما أن أدبا قد يختلف عن أدب في فن يحتفي به ولا يكاد يوجد في غيره، أو فنون يدمن طرقها دون غيرها، بل يختلف الأدب الواحد في عصر من عصوره عنه في عصر آخر من حيث فنون القول التي يحتفي بها ويقدمها على غيرها. فالبيئة والعصر يتركان أثرهما في فنون الأدب التي تحظى بالرواج والإقبال: ففي عصور الجهاد والصراع مثلا تسود أشعار الحماسة وتمجيد الحمى والأبطال؛ وفي عصور النزاع بين المادية والترف وبين الدين والتقاليد، تكثر آثار المجون والزيغ من جهة، وآثار الوعظ والزهد من جهة أخرى؛ وعصور البداوة تتسم آثارها بالسذاجة والعاطفة المتدفقة، وعصور الثقافة تمتلئ آدابها بآثار التأمل والأزمات النفسية؛ وكلما ارتقى المجتمع وصدق أدبه في التعبير عن حياته كثرت فنونه التي يطرقها، وطال طرقه للفنون الرئيسية التي تمت إلى(191/16)
النفس الحية والفكر المهذب بأوثق الأسباب، واختلف أدباؤه كل منهم يخص فنا أو فنونا منها باحتفائه. أما في عصور التدهور والركود فتضيق دائرة تلك الفنون ويتعلق كثير منها بالسطحي والتقليدي من الأقوال، ويتفق أكثر الأدباء في طريقة تناول تلك الفنون المحصورة
والأدبان العربي والإنجليزي قد تناولا أشتاتا من فنون القول، وعبرا عما لا يحصى من أفكار الإنسان ومشاعره، واتفقا في كثير من ذلك لاتفاق الطبيعة الإنسانية في كل مكان، واختلفا في مدى الاحتفال ببعض الفنون والأعراض عن بعضها لاختلاف بيئات الإنسان من إقليم إلى آخر، وظهرت في كل منهما على تعاقب العصور مواضيع لم تكن معروفة من قبل، وحظيت مواضيع دون أخرى بالحفاوة والصدارة؛ فالشعر الحماسي كان في العصر الجاهلي هو الفن الرئيسي، لما كانت تتطلبه الحياة القبلية من التعبير عن صفات القوة والغلب، ثم حلت الخطابة السياسية في صدر الإسلام محل الشعر، ثم احتل الصدارة في العصر الأموي النسيب والمهاجاة، وهلم جرا. وفي الأدب الإنجليزي بلغت الخطابة الدينية الوعظية شأوها في عهد المظهرين، وملكت الطبيعة جل اهتمام الشعراء في العصر الرومانسي، وفاز التحليل القصصي النفسي والاجتماعي بالصدارة في العصر الحديث
ولعل النسيب أحظى فنون الأدب باحتفال الأدباء في شتى الأمم، لما يصدر عنه من عواطف وغرائز متأصلة في النفس الإنسانية على اختلاف البيئات. وقد بلغ من احتفاء العرب به أنهم لم يقتصروا على الحديث عنه في مكانه، بل استهلوا به منذ عهد الجاهلية قصيدهم. ولم تخل من حديث الحب أكثر روايات شكسبير في القديم وقصص هاردي في العصر الحديث. فوسع الأدبان شتى الأوصاف لحالات الحب الراضية وأطواره الغاضبة. وإلى الحب يرجع الفضل في كثير من الآثار الأدبية وفي تكوين نفوس كثير من الأدباء، وحول حديثه يدور جانب عظيم من كل أدب؛ وقد غلا قوم فعدوه مصدر كل أدب وفن
والرثاء فن معدود من فنون الأدب في العربية والإنجليزية، يمتاز كثير من آثاره بالصدق وحرارة العاطفة وعمق التأمل. وذاك لأن حلول الموت ينقض الشمل وينغص المسرة ويذهب بالإلف، فيبعث في نفس الأديب ثورة، ويدفعها إلى مراجعة التأمل في الحياة، ويستخرج خير ما في النفس من صفات الوفاء والمودة وعذب الذكريات وخلجات الحنين.(191/17)
ومن غرر المراثي في العربية رثاء مهلهل لأخيه، ودالية المعري ورثاء البحتري للمتوكل ورثاء ابن الرومي لأوسط صبيته ورثاء التهامي لولده. ومن روائع المراثي في الإنجليزية مرثية ملتون المسماة ليسيداس ومرثية شلي المسماة ادونيس ومرثية تنيسون المسماة الذكرى. وقد نظم منهم قصيدته في رثاء صديق له رفيق لصباه مات معتبطا ومن بدائع المراثي الإنجليزية أيضاً خطبة مارك انطوني على جسد قيصر في رواية شكسبير الذائعة الصيت، ومرثية جراي التي نظمها في مقبرة قرية
والتدين والوعظ فن يشترك فيه الأدبان، يتمثل في العربية في خطب الرسول الكريم وكثير من خلفائه، وكثير من أشعار أبي العتاهية وأبي نواس وابن عبد القدوس وابن الفارض وأصحاب المدائح النبوية؛ وفي الإنجليزية في كثير من شعر ملتون ودن ونثر هوكروبنيان ونيومان، وأكثر ما كتب من ذلك في الإنجليزية إنما كان بأقلام رجال الدين المنتمين إلى الكنيسة. أما العربية حيث لم تكن للدين هيئة رسمية ذات نفوذ كالكنيسة فجاء أدب التدين متفرقا يستوي في معالجته رجال الدين المتفقهون فيه ورجال الدنيا غير المتوفرين عليه. ومن أنبغ رجال الدين في الأدب العربي الإمام الشافعي الذي يمتاز شعره برصانة ونقاء رائعين، ومن آثاره قوله:
ثلاث هن مهلكة الأنام ... ودعاية الصحيح إلى السقام:
دوام مدامة ودوام وطء ... وإدخال الطعام على الطعام
وقوله:
ومن لم يذق ذل التعلم ساعة ... تجرع ذل الجهل طول حياته
حياة الفتى والله بالعلم والتقى ... إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
والميل إلى الصداقة طبع في الإنسان لا يكاد يقل عن الحب تمكنا وقوة، فما يزال الإنسان في حنين إلى الأليف الروحي الذي يبادله الفهم والشعور، ويقاسمه الحزن والسرور؛ ومن ثم تشغل الرسائل والقصائد الإخوانية في الأدبين العربي والإنجليزي مكانا معدودا، بين تخاطب في شتى الأمور وبين تعارف وتقاطع، وبين تعاتب وتقريع. ومن آثار الصداقة في الإنجليزية كثير من مقطوعات شكسبير، وما كان بين بوب وكوبر وليدي منتاجيو وبعض معاصريهم من تراسل، وما كان بين جونسون وجولد سمث وبوزويل وجماعتهم من(191/18)
أحاديث دونها الأخير في كتابه عن الأول، وما كان بين جراي وشلي وبيرون وكثيرين غيرهم وبين أصدقائهم في الوطن من مراسلات، حين كان أولئك الشعراء يطوفون في ربوع أوربا. وللجاحظ والبديع والصابي وابن العميد رسائل إلى أصدقائهم بارعة تعد في صميم الأدب العربي. ولم تكن رسالة الغفران إلا رسالة بين صديقين. ومن قصائد التعاتب المشهورة لامية معن ابن اوس التي مطلعها:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول
وهمزية ابن الرومي الطويلة التي مطلعها:
يا أخي أين عهد ذاك الإخاء؟ ... أين ما كان بيننا من صفاء؟
ونقد الأدب موضوع مهم من مواضيع الأدب، تلذ قراءته كما تلذ قراءة آثار الأدب الأخرى، لما يحوي من عام النظرات وخاصها في مختلف الأدباء وعصور الأدب. ومما يزيد أكثر كتب الأدب في العربية ككتاب الصناعتين وكتاب الوساطة إمتاعاً حفولها بالكثير من بدائع المختارات والمقتبسات. وفي الإنجليزية يحتفي بعض النقاد أمثال ماكولي وماثيو أرنولد وإديسون بأسلوبهم الأدبي في نقدهم لآثار غيرهم، حتى ترى آثارهم النقدية مضاهية لما ينقدونه لذة وإمتاعاً. ويمتزج بنقد الأدب في الإنجليزية نقد الفنون الجميلة عامة، والإشارة إلى القواعد التي تشملها هي والأدب؛ ففي مقاله عن بيرون مثلا يوضح ماكولي آراءه بأمثلة من الفنون الأخرى من موضع إلى آخر.
وأحوال المجتمع وأحداث السياسة ليست مما يمر بالأديب المثقف دون أن يكرثه، بل لابد أن يترك ذلك أثره الواضح في أدبه. وقد كان شعر الجاهليين سجلا موجزاً لكبريات أحداثهم، فلما خضع العرب للملكية بعد الإسلام كفكفت تلك النزعة كثيراً؛ وقل نقد الأنظمة الاجتماعية والسياسة في الأدب والتعليق على الحوادث إلى حد كبير، إلا أن يكون في ذلك مجاراة ومظاهرة لأصحاب السلطان. وقد قتل المنصور ابن المقفع الذي رفع إليه رسالة في شؤون الحكم وإن عزي مقتله إلى سبب آخر وأحيط بالغموض. إنما أثر السياسة والحوادث في الأدب بعد الإسلام باد في الرسائل الديوانية التي كان يتأنق الوزراء الكاتبون أمثال سهل بن هرون والقاضي الفاضل وابن زيدون في كتابتها إلى عمال الأمير وأنصاره وأعدائه والخارجين عليه، كما أن في كتابات الجاحظ ومقامات البديع تصويراً واضحاً(191/19)
لكثير من أحوال مجتمعهم وأنبائه. ومن أشعار الأحداث السياسية قصيدة يزيد المهلبي في رثاء المتوكل وقصيدة ابن الرومي في ثورة الزنج التي منها يقول:
بينما أهلها بأحسن حال ... إذ رماهم عبيدهم باصطلام
صبحوهم فكابد الناس منهم ... طول يوم كأنه ألف عام
وهذا الفن أوسع محيطاً واحفل بالآثار في الإنجليزية، حيث مهدت الحكومة الديمقراطية السبيل للنظرات الحرة والنقدات الصادقة. وكان استقلال الأمة الإنجليزية عن غيرها واعتزالها سواها إلى حد بعيد داعياً إلى اشتداد الشعور القومي والإحساس بوحدة المجتمع والاهتمام لشؤونه كأنها شؤون كل فرد الخاصة. وقد قال الإمام علي: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. وما أسماه مبدأ إنسانياً ومذهباً ديمقراطياً وحكمة عمرانية؛ بيد أنه كان شعار المجتمع الإنجليزي أكثر منه شعاراً للمجتمع العربي، ومن ثم كانت لأكثر أدباء الإنجليزية نظراتهم الإصلاحية الخاصة، التي تتراوح بين الخطرات العارضة وبين الرغبة في الانقلاب الكلي، وظهرت القصة نتيجة هذا الاندماج الاجتماعي تصور المجتمع تصويراً دقيقاً لا يغادر منحى ولا مذهباً.
ولكن الحياة ليست كلها جداً مرا، ولا النفس الإنسانية تحتمل الجد المواصل، وإنما يميل الإنسان بطبعه إلى الترفيه عن نفسه بالتفكه والنظر إلى الجانب الهزلي من الحياة. والأدباء لدقة إحساسهم ونفاذ نظراتهم سريعون إلى ملاحظة مواطن التناقض ومواضع الفكاهة في أخلاق الناس وأعمالهم؛ ومن ثم يحفل الأدبان العربي والإنجليزي بصور عديدة من صور الفكاهة، تتراوح درجاتها بين العبث البريء في أيدي شكسبير وجولد سمث واديسون والجاحظ، وبين السخر المرير في أيدي سويفت وبوب وابن الرومي والمعري، ويتناول بها الأدباء منافسيهم ومعاصريهم ويفندون حماقات المجتمع
وهناك مواضيع احتفى بها الأدب العربي حفاوة بالغة تفوق ما نالته في الإنجليزية، وأولها الحكمة: فأدباء العربية كانوا منذ الجاهلية يعشقون الحكمة ويحبون نظمها والاستماع إلى أشعارها، بل كانوا كما قيل لا يعترفون لشاعر بالفحولة حتى يوفق إلى شيء منها. وظل الأعشى مزوياً عن مصاف الفحول حتى قال في مدحه سلامة ذا فائش: (والشيء حيثما جعلا)، فجمع صدق النظرة إلى إيجاز اللفظ وهما سمتا الحكمة عند العرب. ولما اطلع(191/20)
العرب على ثقافات الأمم كان أهم ما احتفوا بنقله من آدابهم الحكمة. ومن كتب الحكمة مؤلفات ابن المقفع ومقصورة ابن دريد والخطب المنسوبة إلى قس ابن ساعدة والإمام علي، والجم الغفير من أشعار المتنبي التي سارت مسير الشمس؛ وليس من محض الصدفة أن كان أكبر شعراء العربية وأسيرهم ذكراً حكيما مكثراً لصوغ الحكم وضرب الأمثال. وبالحكمة الصادقة البليغة الموجزة كان الأديب العربي يستغني عن فنون وأشكال من الأدب ازدهرت في الإنجليزية، كالقصة والرواية التمثيلية والملحمة، فالعبرة التي تنطوي عليها إحدى هذه يجمعها الشاعر العربي في بيت واحد يلقيه إليك وخلاه ذم
واقتباس الحكمة والمثل والاستشهاد بأقوال السلف أقل حدوثا في الإنجليزية منه في العربية، لأن الحكم الموجزة التي تغزر في الأخيرة قليلة في الأولى. وكثيراً ما يلجأ المقتبس في الإنجليزية إلى الأدبين الإغريقي واللاتيني، وحتى هذا يبطل تدريجياً في العصور الحديثة. واكثر أدباء الإنجليزية حظوة لدى المقتبسين والمستشهدين شكسبير، وليس ذلك لأنه كان يتعمد صوغ الحكمة أو يحرص على التكثر منها، بل لأن رواياته من جهة قد أحاطت بشتى أحوال الحياة والنفس الإنسانية، بحيث يجد فيها كل كاتب شيئاً مقاربا لما هو بصدده، ولأن مقدرته اللغوية العظيمة من جهة أخرى كانت تهديه إلى صوغ أفكاره صياغة موجزة ممتنعة؛ ويليه سيرورة أقوال بوب، زعيم الأسلوب المحكم الرصين الذي كان شعاره في الأدب التعبير (عما قيل من قبل كثيرا، ولكن لم يقل أبدا بهذا الإحكام)، فسار كثير من أبياته المحكمة الموجزة على الأقلام والأفواه
ومما يتصل بالحكمة في الأدب العربي ويمتاز هذا الأدب به التمدح بحميد الخصال كالجود والشجاعة وحمي الذمار وحسن الجوار وحفظ السر وكظم الغيظ ومداراة السفيه، إلى غير ذلك من الدساتير الخلقية التي كان كثير من أشراف العرب الأدباء يسنونها لأنفسهم، وامتداح تلك الصفات في الغير والحث عليها، وهذا من أنبل مواضيع الأدب العربي، ولحاتم الطائي ومسكين الدارمي والمقنع الكندي والشريف الرضي والإمام الشافعي آثار في ذلك، تروع برصانة أسلوبها ومتانة أسرها وعظمة خلقها؛ فلما غلب التقليد على الأدب، ودخل الشعر في طور التقهقر انقلب مثل هذا التمدح المحبوب الصادق المقرون بالفعال فخرا عاجزا أجوف، بمآثر وهمية وعزائم مزعومة، وتيها على النجوم ودلا على الزمان،(191/21)
كقول السري الرفا:
وإنك عبدي يا زمان وإنني ... على الرغم مني أن أرى لك سيدا:
والغريب أن أحد أولئك الشعراء المتشدقين بالفخر ربما قرنه في القصيدة الواحدة بشكوى سوء الحال وقعود الجدود وخيبة الآمال. والشكوى موضوع من مواضيع الأدب العربي كانت أقرب إلى متناول أدبائه منها إلى أدباء الإنجليزية؛ وقد فشت خاصة في آثار المتأخرين. والأدب العربي من جهة أخرى أحفل بوصف آثار الترف ومظاهره: من القصور والمحافل ومجالس الشراب وآلات الطرب ودواعي المجون. وللخمر خاصة منزلة في الأدب العربي لا نظير لها في الإنجليزية، وقد حظيت من جزالة أسلوب الأخطل وأبي نواس وابن الرومي بما خلد أوصافها وأعلى ذكرها، وقلما يرد ذكر الخمر في الأدب الإنجليزي إلا تظرفا وتشبها بالإغريق الأقدمين وإشارة إلى باخوس إله الخمر عندهم
وراج في الأدب العربي فنان ليسا من صميم الأدب في شيء، ومازالا يرقيان حتى احتلا مكان الصدارة من الأدب، وموضع الحفاوة من الأدباء، وهما المدح والهجاء اللذان استفحل أمرهما من عهد الأمويين فنازلا، حتى استبدا بأجزاء كبيرة من دواوين بشار وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي، وكادا يشغلان كل دواوين آخرين غير هؤلاء. وما كان ارتفاع شأنهما هكذا إلا نتيجة فساد تقاليد قديمة، كانت في الجاهلية تقاليد محمودة لا ضير فيها، ثم استمرت بعد ذهاب عصرها واندثار بيئتها بظهور الإسلام وقيام الدولة المتحضرة المركزية ففسدت تلك التقاليد وصارت بلاء على الأدب الصحيح
كان العرب الجاهليون يحرصون على حسن الأحدوثة، ويتمدحون بكريم الصفات، وينافحون خصومهم بالشعر، ويجزون من فعل ذلك عنهم، وكان ذلك كله وليد بيئتهم البدوية، فلما كان الإسلام والدولة والحضارة لم يعد لمثل ذلك التفاخر والتهاجي موضع، ولكن الشعراء استبقوا ذلك التقليد طلباً للنوال، والأمراء قبلوا منهم ذلك الأحياء المفتعل لتقليد غبر عصره طلباً للمجد الزائف. ومن العسير أن تحصى المساوئ التي جرها هذان الفنان من القول على الأدب العربي: مواضيعه ومعانيه وأساليبه
ولم يكن في الإنجليزية شيء من هذين الفنين يقاس بما كان في العربية، وحتى القليل من المدح الذي كان في بعض الفترات يستفز الأدباء الأباة إلى مثل قول بوب: (فلأعبر عن(191/22)
رأيي في الأمر في كلمة: إن وصف الرجل بأكثر مما نعلم فيه عمل بعيد عن الأمانة إذا قصد من ورائه الربح، وعمل أخرق إذا لم يقصد، وكل من نجح في مثل هذا العمل لابد أن يعتقد في قرارة نفسه أنه هو نفسه دجال لأنه فعل ذلك، وأن ممدوحه أحمق لأنه صدق ما قيل فيه)
وعلى حين احتفى شعراء العربية بهذين الفنين الزائفين من فنون القول، أهملوا إلى حد بعيد فناً هو من صميم الأدب والحياة، وهو والوصف الطبيعي: فديوان المتنبي الذي يعج بمعاني المدح والهجاء المخترعة لا يضم إلا أبياتاً معدودة منثورة في التغني بمباهج الطبيعة. أما في الإنجليزية فالطبيعة وحي ما لا يعد من قصائد بين مقطوعات ومطولات، ووصفها يتخلل أشتات المنظوم والمنثور في مختلف الأغراض، وهي المنظر الخلفي لكثير من روايات العصر الأليزابيثي وملاحم ملتون وسبنسر ومطولات تنسيون وقصص هاردي، بل بلغ من دقة دراسة تنيسون إياها أن اصبح شعره يقتبس في كتب الجيولوجيا والجغرافيا أحياناً، وبلغ من معرفة هاردي بطبيعة الإقليم الذي أجرى فيه حوادث قصصه، أن كان يخصص الصحائف الطوال لوصف المنظر الواحد في قصصه بدقة العالم لا القصصي
وهناك مواضيع أدمن أدباء الإنجليزية ورود مناهلها وغزرت آثارها في أدبهم، فكانت فيه مادة فن وإمتاع وغبطة: كالتحدث عن المغامرات وروائع القصص وعجائب الرحلات، وجسام حوادث الماضي وعظائم أبطال الأمم، وممتع خرافات الأجيال وأغنيات طبقات الشعب وأقاصيصهم، كل هاتيك وجد فيها أدباء الإنجليزية منادح للفن والخيال ومعارض لميول النفس الإنسانية وطباعها وسجاياها المرسلة؛ أما الأدب العربي فيمتاز بكفكفة غلواء الخيال والتجافي عن البعيد من الأمكنة والأزمنة والازورار عن الأمم الأخرى والترفع عن العامة وثقافتهم المتواضعة، واحتقار الخرافة وأساطير الماضين.
واتخذ الأدب الإنجليزي التاريخ الواقعي مادة لموضوعاته: منه اتخذ الأليزابثيون مواضيع بعض رواياتهم، وفيه جال جيبون وسوذي وماكولي وكارليل، يدرسون كبريات الوقائع وعظماء الرجال وإليه رجع الشعراء والقصصيون، وقد صور سكوت في قصصه حوادث التاريخ تصويراً يفوق كتب التاريخ أحياناً دقة ووضوحاً، ولم يكد يلتفت إلى التاريخ من(191/23)
أدباء العربية ويتناوله في أسلوب أدبي جزل سوى الجاحظ.
فالأدبان العربي والإنجليزي قد تناولا مواضيع مشتركة بينهما، وطرق كل منهما مواضيع لم يحتف بها الآخر. على أن الأدب الإنجليزي أغزر موضوعات وأكثر شغلا بأسباب الحياة؛ والأدب العربي لم يظل دائماً ترجماناً لكل عواطف المجتمع العربي، وكانت روح المحافظة التي سببت عدم تطور أشكاله سبباً في قلة تطور مواضيعه أيضاً، فأهمل مواضيع شتى تمت إلى الطبع الإنساني بأوثق الأسباب وتدخل في حظيرة الأدب أول داخل، وتناول غيرها لا تمت إلى الفن بسبب، ومرجع ذلك ما خالطه من نزعة تقليد جامدة، وما اعتمد عليه من رعاية الأمراء، على حين كان الأدب الإنجليزي دائماً حر النزعة حر الحركة والنمو
فخري أبو السعود(191/24)
بين تلستوي وماكس نوردو
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قرأت تلستوي قبل أن أقرأ نقد ماكس نوردو لآرائه. وكنت أشك فيما شك الناقد الألماني، ولكني عندما قرأت نقده لتلستوي لم يقنعني تعليله، أو على الأقل رأيت أنه لم يتتبع كل احتمال يمكن أن تصير إليه النفس الحائرة في بحث معضلات الحياة، ولم يقف كل موقف من الجائز أن تقفه في أثناء بحثها؛ فكان تعليله لما ينقد من الآراء بالشذوذ الجثماني في صاحب الرأي، ولم يدر أن كل إنسان شاذ وأن كل مفكر مصحوب بشيء من الشذوذ الجثماني، وأن الشذوذ الجثماني قد يكون في غير المفكر أكثر منه المفكر، وأن الإنسان حيوان شاذ. وأن الرأي الذي ينقده قد يكون قد دخل عليه الخطأ بسبب رفض صاحبه لخطأ آخر في أثناء بحثه الحياة واختيار مسالك الرأي فيها. ولو أن ماكس نوردو قد فسر سبب رفض تلستوي لنقيض ما رأى من الآراء لكان قد وصف رحلة نفس تلستوي في عالم الإحساس والوجدان، ولكان قد وصف رحلة فكره في عالم الأفكار، ولكان قد وصف من تلك المسالك ما هو كالتيه ذي الطرق المتشعبة وما يحسبه ماكس نوردو طريقا معبدا بالخرسان والقطران والإسفلت
خذ مثلا رأي تلستوي في الامتناع عن الإجرام حتى قتل المجرم للدفاع عن النفس أو عن طفل بريء، فهو يقول لك انصح المجرم وعظه والتجئ إلى الجانب الخير من نفسه وحاول أن تمنعه من ارتكاب جريمة القتل، ولكن أحذر أن يكون منعك إياه عن الجريمة بأن تأتي أنت جريمة كأن تقتله؛ فإذا رأيت مجرماً يريد أن يقتل طفلا فضع نفسك بينه وبين الطفل وعظه، ولكن لا تقتله لأنه يريد أن يقتلك أو أن يقتل إنساناً آخر حتى ولو كنت قادراً على قتله
يأخذ ماكس نوردو هذا الرأي فيفنده ويسخر به ويهزأ منه. وله أن يفنده وأن يظهر مواطن الضعف فيه، وله أن يسخر منه ما شاء أن يسخر، وله أن يقول أن هذا رأي يؤدي إلى موت الأبرار وتحكم الأشرار. إذا أخذ به بعض الناس ولن يأخذ به كل الناس إلا إذا انمحى الشر من النفس الإنسانية فلا يكون إذن للرأي معنى ولا ضرورة، وإذا مات الأبرار الأخيار بسبب أخذهم بهذا الرأي وتحكم الأشرار رجعت الحالة إلى ما كانت عليه قبل(191/25)
الشروع في تحقيق هذا الرأي وانعدم هذا الرأي من عالم الأفكار والأحياء. فإذا قال ماكس نوردو كل هذا كان مصيباً في قوله، وإن كنا لا نقطع بحدود فجاءات النفس البشرية وحدود عدوى المحاكاة كمحاكاة الانقطاع المطلق عن الشر. ولعل تلستوي قد قدر كل ما قدره ماكس نوردو من شر يعود به الانقطاع عن الشر حتى في الدفاع عن الخير أو عن النفس أو عن الأحياء، ولكن لعله كان يؤمن بالنفس البشرية أكثر من إيمان ماكس نوردو بها فقدر أيضاً ذيوع الأخذ برأيه وانتشار عدوى محاكاة الانقطاع عن الشر حتى تعم الناس قاطبة بعد ويل يكون للبادئين بالأخذ به، والبادئون دائماً ضحية في كل رأي ومذهب. ولعله قدر أيضاً أنه لو أخطأ في إيمانه بالنفس الإنسانية فإن الويل والضرر اللذين يكونان نتيجة الأخذ برأيه مقبولان في سبيل تجربة قد تعود على الإنسان بالخير الآجل إن لم يكن عاجلا؛ ولعله قدر أيضاً أن المرء قد لا يأخذ برأي الانقطاع عن الشر المطلق دائما، ولكن هذا الرأي قد يبعد به عن الشر أحياناً أو قد يقلل من غلواء شره كما قللت رواد المسيحية من قسوة من اعتنقها من التيوتون الذين غزوا الدولة الرومانية وإن لم تقض على قسوتهم كل القضاء. ولم يكن تلستوي أول من فكر هذا الفكر، فأنه فكر تلتجئ إليه النفس الإنسانية المعذبة كلما حاولت التهدي إلى وسيلة تخلصها من شرور الحياة كما فعل البوذيون قديماً عندما دهمتهم قبائل المغول والتتر والتركمان في الهند، وكما فعل المسيحيون القدماء عندما كانوا مضطهدين في الدولة الرومانية الوثنية قبل اعتناقها للمسيحية
ثم لعل تلستوي قد قدر أيضاً أن دفع الشر بالشر يؤدي إلى خلود حب الانتقام والأخذ بالثأر؛ وكثيراً ما فنيت أسر وقبائل وشعوب بسبب خلود حب الانتقام والأخذ بالثأر جيلا بعد جيل. ونحن نرى الآن كيف يهدد الخراب عالم العمران بسبب دفع الشر بالشر والمباراة فيه.
فترى أن خطأ تلستوي ليس بالخطأ الذي يتهم صاحبه من أجله بالانحطاط والجنون كما فعل ماكس نورداو الناقد الألماني، ولم يكن هناك من داع في هذه الحالة لنظرية الانحطاط التي بنى عليها ماكس نوردو كتابه (الانحطاط) ولو انه اكتفى بإبراز الحيرة الفكرية التي أدت بهروب تلستوي من نظرية دفع الشر بالشر إلى نظرية إلا يدفع الشر بالشر وأوضح خطأ هذه الحيرة لكان أقرب للتقوى(191/26)
وعرض ماكس نوردو مذهب تلستوي في العاطفة الجنسية؛ وله أن يفنده وأن يسخر منه، ولكن كان من تمام الحكمة والفلسفة والتفكير أن يعرض شرور الحلول الأخرى التي تحل بها معضلة العاطفة الجنسية لكي يفسر الحيرة التي أدت إلى هروب تلستوي منها، فإن حل معضلتها ليس طريقا ممهودا بالإسفلت والقطران كما حسب ماكس نوردو؛ وهو إن كان كذلك فهو أيضاً كثير الحفر والمهاوي، وهي التي أدت إلى ذلك الرأي الغريب الذي ارتآه تلستوي وجعله يطلب رفضها رفضاً باتا حتى في حالة الزواج؛ وهو في هذه الناحية أقل إيماناً بالنفس الإنسانية من ناقده، ولكن كان يجدر بناقده أن يبرز الشرور والآثام التي تكثر، سواء أكان حل معضلة العاطفة الجنسية بغلبة القيود والغيرة، أو بضعف القيود والغيرة أو بانعدامها كلها؛ فلعل تلستوي قد نظر طويلا إلى كل حالة من هذه الحالات؛ ولعل طول نظره في كل حالة هو الذي حيره ودعاه إلى رفض العاطفة الجنسية رفضا باتا. فالحيرة ليست دائما دليلا على كلال الذهن وقصر نظره وغموضه وانحطاطه؛ وهي تذكرني برجل جليل فاضل مفكر كان يجيد لعب الشطرنج ويفكر في كل تفكير يصح أن يفكر فيه الذي يلاعبه، فكان لا يفكر في لعبة إلا فكر في طريقة ضدها تهزمها فينتهي به الحال إلى أن يلعب أول لعبة تخطر على ذهن اللاعب وتستدعي سخر الناظرين وضحكهم
ونظر ماكس نوردو إلى موقف تلستوي من العلم، وكان ينبغي لو حاول الاتزان في النقد أن يفسر سبب الحيرة التي دفعت بتلستوي إلى رفض أكثره، وأن يميز بين حيرة الجاهل الغبي وبين حيرة الذكي التي هي أشبه بحيرة لاعب الشطرنج الذي وصفته، وأن يفرق بين خطأ الغافل الذي لا يفكر وخطأ المفكر الذي يحيره كثرة الفكر وتشعب مسالكه والتواؤها حتى يراها مثل حارات القاهرة القديمة التي ليس بها منفذ ولكنها حيرة لا تستدعي أن يتهم صاحبها بالانحطاط حتى ولو كان صاحبها مخطئاً، وإلا كان الإنسان حيوانا كثير الانحطاط، وكأن الانحطاط الذي يعنيه هو من النقص المحتوم في الطبيعة البشرية ولعل تلستوي قد قدر عواقب العلم الحديث في النظم الاقتصادية وفي النظم والمخترعات الحربية وهي عواقب أدت إلى كوارث الحرب العظمى وأهوالها، وإلى الأزمة الاقتصادية ومعضلاتها، وهي إلى الآن تهدد العالم بالخراب؛ فلا غرابة إذا أدركته الحيرة، ولا غرابة إذا أخطأ فلم يصب أحد بعد في حل تلك المعضلات. ولعل تلستوي قد فكر أيضاً فيما فكر(191/27)
فيه اللورد بالفور عند ما قال في وصف أثر العلم الحديث في تغير نظر الإنسان إلى الحياة: (إن العلم الحديث يعلم الإنسان أن الدنيا لم تخلق من أجله، وأنه ليس تاج الخليقة ولا أنه من سلالة من سكن الجنان قديماً، وأن حياته جاءت عفوا، وأن تاريخه قصة عار وحادثة لا تشرف من حوادث أحقر نجم سيار، وأنه مملوء بالأسقام والآثام والمجاعات والقتل والقسوة، وأن الإنسان بعد آلام لا تحصى قد صار له من الضمير ما يعرف به حقارة نفسه، ومن العقل ما يدرك به أنه مخلوق تافه، وأنه بعد عصور طويلة في ذاتها قصيرة بالنسبة إلى ما مضى من العصور الجيولوجية سينمحي بهاء الشمس ورونقها، ولا تسمح الأرض ببقاء ذلك المخلوق الذي أقلق هدأتها، فيفنى الإنسان وتفنى معه آراؤه وأفكاره كلها، فكأنما كان عمله وذكاؤه وإيمانه وآلامه وجهاده في عصور حياته الطويلة عبثاً ومن غير جدوى)
ثم إن العلم الحديث يقول أيضاً إنه على فرض تحقق السلم والخير الشامل، وعلى فرض انمحاء الشر، فإن هذه حالة تؤدي إلى تدهور الإنسانية، لأن الخير في مقاتلة الشر، والذكاء مستنبط من الخوف والحذر من الجوع ومن اعتداء القوي، فإذا انمحى الخوف والحذر والشر والاعتداء ضعفت الإنسانية وتدهورت وتردت في هاوية الفناء
ولعل تلستوي قد نظر أيضاً إلى ما نظر إليه ادن فلبوتس القصصي الإنجليزي في وصف أثر هذه الآراء كلها في المجرمين في أوروبا والولايات المتحدة وغيرهما. فإذا كان تلستوي بعد ذلك النظر قد رفض أكثر هذه الآراء العلمية فليس رفضه دليلا على الانحطاط كما قال ماكس نورداو بل هو من حيرة المفكر الذي يتهدى.
ولعل تلستوي في استعراضه تاريخ العاطفة الجنسية ومحتملاتها ونفاقها وأكاذيبها وآثامها ونظمها على اختلاف تلك النظم ولعله أيضاً عند استعراض تلك الآراء والنظم العلمية الحديثة قد نظر إلى قول القائلين إن العاطفة الجنسية والعلم الحديث هما كالماء الذي تضعه في الإناء القذر فيصير قذراً، وتضعه في الإناء النظيف فيكون نظيفاً، والآنية تختلف كاختلاف النفوس واصل الماء واحد سواء الذي وضع في الإناء القذر والذي وضع في الإناء النظيف.
ولكن لعل تلستوي أيضاً قد فطن إلى أن هذا تشبيه لا اقل ولا أكثر، وأنه عند امتحان(191/28)
النفوس وتطبيقه عليها يتلاشى ويتضاءل إذا أعوز الإناء النظيف من آنية النفوس البشرية
عبد الرحمن شكري(191/29)
في الصحراء
للأستاذ عبد النعم خلاف
عشقتها منذ أن عاش جسمي بين يديها أربعا وعشرين ساعة في الخريف الماضي كذرة من رمالها في وهج ظهيرتها، وأفياء آكامها، وطَفَل أصائلها، وأشباح دياجيها، ورهبوت عوالمها. . . ومنذ أن لمست يدا قوية من طبيعتها تمتد إلى قلبي فتضربه بشعلها وتعصره برهبتها، وتحمله في أجوائها مع الهبوات، وتسقيه من آلها وسرابها أمواجاً تظمئ ولا تروي، وتتلف ولا تسعف، لأنها أحلام الأرض الظامئة والأكباد الحرَّى. .
واستقبلت العودة إليها في ظرف موات استقبال المتطلع إلى عالم مسحور ناطق بالصمت محيِ بالموت، مثير بالهدوء، منظر بالشوك، مُروٍ بالجفاف مؤنس بالوحشة، يضج القلب فيه ضجيج الدنيا وإن صمت هو صمت الآخرة، ويحوم الفكر فيه حول العقدتين: الأزل والأبد، فتختلط الحواس ويتداخل فعلها فتسمع العين وترى الأذن وتلمس الأضواء والألوان!
سلام عليك أيتها الذرات المتشابهة الراقدة على مهاد الأزل حالمةً بالنقلة على جناح الرياح إلى عوالم الأنهار والأزهار والحيوان. . سأمانة من طول الرقاد على بساط الديموم، تمثلين العقم والبساطة والصورة الأولى للأجسام. . . تنظرين إلى الذرات العليا المضيئة الدائرة في فضاء ربي والراقدة أيضاً على صدر الفراغ. . تحلم بالقرار كما تحلمين أنت بالانطلاق والفرار. .
في قلبي ذرة صغيرة معربدة لذاعة وددت لو استحالت إلى جمودك! إذن لأراحت واستراحت من روح الحياة. . إنها ذرة تحلم بالرياح كما تحلمين. فهي ثائرة تريد الانطلاق من ضيق المكان. . وهي دائبة عن ذلك حتى يفنى الزيت من السراج، وتخمد الوَقْدة التي وضعت شرارتها يد الله في ذراتي الأولى!
نحن ركب مسيرون لا سائرون أيتها الذرات. . مسيرون بعواصف خفية فهي أهول، مكبوتة فهي أعنف، متنافرة فهي أسرع في تحطيمنا ونقض بنائنا. فلا إرادة ولا خيرة في النقلة وإنما هي رياح من نوع آخر، وما أكثر جنود ربي!
سألتُ: كم مضى من دهرك أيتها الديموم. . .؟ فأجابت: طفلة أنا لا أعي دورات الفلك، ولا أشيخ على الدوام. . . وإنما تقاس الأزمان وتعرف الأعمار بجفافٍ في ورقة، أو تجعيدةٍ(191/30)
على وجه. وأنا كما تراني علامة ابتداء. . .
وسألت: لمن خُلِق ليلك والنهار، وشمسك والقمر؟ ومن يسمع تناوح رياحك وعزيفها على شعاف جبالك، وصفيرها في كهوفك؟ ومن يسمر مع نجومك، ويشهد تقاتل عناصر الطبيعة على صدرك؟ لمن وشائع الغيوم على صفحات سمائك، وألوان جددك وظرابك وآكامك؟ وأين كل ما صبته الشمس والكواكب على أديمك من أضواء وألوان؟ أللعابرين فيك كالنسمات والطائرين عليك كالخطرات؟! أكل هذه الأكوان للشياه والبعران والرعيان؟! ويح الجمال من غير عيون تجتليه، والجلال من غير قلوب تستوحيه، والسطور من غير قارئ!
فأجابت: سري وسحري أن أكون آبدةً عقيماً متفردة لأني أرض الخفاء والمجهول والجن. . . الجن الذين ملأوا آفاقي بتهاويلهم كما ملأتم دياركم بالشواخص والأجرام. . . وقد خلقت لهم، وإن منهم قلوب الشعراء والمتأملين، السائرة مع الأضواء والظلمات ترقبها في الشفق والغسق، الخافقة مع الهبوات والنسمات ترصد فعلها في المدر والوبر والدوح والورق، النائمة في حضن جبل أو على ذراعي موجة أو في عين نجم، أو في عش، أو على زهرة منضورة نقطها الندى، أو في ناي راعٍ، أو في قبر مهدم متفرد!
يا أم الفطرة! أريد أن أقبض قبضة من ذراتك البسيطة التركيب، البريئة من الدنس، المطهرة من الرجس، فأحصب بها وجوه المصانع وناطحات السحاب لعل أحجارها تذكر المهد الأول فترعى ذممه، وتوشج رحمه، وتزيح عنها دخان البارود لترى السماء وتسمع خبرها. . .
يا أم الفطرة ودينها، انبهامُك ترك عقل (محمد) في حيرة غداة شب عن الطوق يرعى. ومجالي الفتنة والروعة فيك نادته إلى العزلة في شعفة من شعفات جبالك يسأل الدنيا عن سرها وأزلها وأبدها ومللها ونحلها حتى حدثته السماء خبرها، ولم ينزل خبر السماء إلا فيك أو على حَوافيك، لأنك القدس والمطهر، تسجد الطبيعة فيك بالإصباح والإمساء، والنجوم والجبال والشجر والدواب. . . وإن أهل الأرض مدينون لك بالظل الذي يجدون برده على قلوبهم وامتداده على أرواحهم؛ ولقد نشرت (كتابك) على الدنيا مرة فطبعت كلماته على الآفاق كلها؛ ولكن ركاما من الغيوم يكاد يخفيها، فأرسلي رياحك الحارة تذيب الركام وتجلو كلمات النبوة. . تريد الأرض موجة جديدة منك أيتها الصحراء، فاهتزي!(191/31)
ضَحِكَت بالقَتاد والأشواك ... ضِحكةً خِلتُها بشاشةَ باكِ
أرسلتها في الصمت هَمْساً ولكن ... رَنَّ في مسمعي صداها الحاكي
فَرْحةً بالربيع دَبَّ على الأر ... ض وليدا يثيرِها لِحراك
فرَشت في طريقه الشوكَ والحَم ... ض ووشّت رمالها بالأراك
عجزت أن تجارَي الخَصبَ بالحب (م) ... وفَرش الرُّبى ونفح الزواكي
فأنالت جُهدَ المقلِّ، وما يُطْ ... لَبُ من عاجز بلوغُ السماك
القاهرة
عبد المنعم خلاف(191/32)
2 - عمر بن الخطاب
للأستاذ علي الطنطاوي
- 6 -
كان المسلمون في مكة - فكانت الخصومة بينهم وبين الكفار من قريش - خصومة فردية، شخص يناوئ شخصاً، وجماعة تقاتل جماعة. فلما كانت الهجرة وأستقر الإسلام في (يثرب) وفتحت له صدرها، وقدمت لنصرته أبناءها وفلذات كبدها، استحالت الخصومة إلى شبه (خلاف دولي) بين القرشيين المقيمين على الشرك، العاكفين على الأصنام، المدافعين عن الباطل، وبين أهل (المدينة المنورة) بنور التوحيد - (أنصار) الإسلام وحماة الدين وجنود الله؛ واتسع الخلاف وخاب مع الكفار المنطق وتعذر الصلح ولم يبق بد من الحرب
ومهما يقل اليوم (دعاة السلام) في شناعة الحرب ويصفوا من أهوالها وينفروا منها، ومهما يألفوا في ذلك من كتب ويصنفوا من أصناف، فإن مما لا ريب فيه إن هناك (حرباً مقدسة) مشروعة فاضلة، هي الحرب التي تشب نارها دفاعاً عن الحق وذباً عن الفضيلة وتأديباً للمجرمين. . . ومن ينكر على الجند أن يحاربوا اللصوص والمجرمين ويمنعوهم أن يعيثوا في الأرض فساداً؟ ومن يمنع القاضي أن يقتل القاتل ليشتري بموته حياة أمة، ويحبس الجاني ليضمن بحبسه حرية شعب؟
كذلك كانت (معركة بدر) حرباً مقدسة، أثيرت من أجل الحق والفضيلة والسلام والإسلام. . . فمشت إلى بدر (عصابة المجرمين) من قريش، مزهوة زهو اللصوص، شامخة بآنافها شموخ القتلة، مستكبرة استكبار قطاع الطرق. . . ومشت فرق الجنود المسلمين متواضعة لله خاضعة له، لا قوة لها إلا قوة الحق، ولا سلاح إلا سلاح الإيمان، ولا غرض لها إلا تطهير الأرض من أدران الشرك واوضار الظلم ومحو الأرستقراطية السخيفة العاتية. .
والتقتا في (بدر) - فالتقى الحق بالباطل - والنور بالظلام، ووقف الجنود والحراس وجهاً لوجه. . . ووقف التاريخ على الطرق يرقب النتيجة - فإما أن ينتصر المسلمون فيمضي صعداً ويرقى في مدارج العلاء متوشحاً بوشاح الحضارة، وإما أن يندحروا فينحدر إلى الهاوية. . فلم ينجل الغبار حتى خرجت راية محمد (صلى الله عليه وسلم) خفاقة منصورة(191/33)
وخرج اللصوص بين قتيل ملقى للسباع والطير قد خسر الدنيا والآخرة، وأسير في عنقه حبل يساق إلى (المحكمة)!
وانعقدت أشرف محكمة وأعدلها - برئاسة سيد العالم - وأفضل النبيين (صلى الله عليه وسلم) وعضوية شيخي المسلمين، وخليفتي النبي الأمين - الصديق والفاروق - وكان في كرسي (النيابة العامة) شاعر الإسلام، وعلم الأنصار، البطل الشهيد: عبد الله بن رواحة. . .
وافتتحت الجلسة. . . وثبت الجرم. وكان (جرماً مشهوداً) وطلب (النائب العام) أن يعود المتهمون على حياة جهنم التي كذبوا بها، واقدموا عليها - فيكون جزاؤهم جزاء نارياً: يلقون في واد كثير الحطب - ثم يضرم عليهم ناراً
دخلت المحكمة (للمذاكرة) فسأل الرئيس الأعضاء آراءهم، فلان أبو بكر (أرحم الأمة بالأمة) ورأى أن تؤخذ منهم الفدية فتكون قوة للإسلام ولا يقتلوا لأنهم بنو العم والعشيرة والإخوان، وخالفه عمر (أشد الناس في دين الله) وطلب (إعدامهم) جميعاً: هؤلاء أئمة الكفار وصناديدهم وقادتهم؛ إنهم يعترضون سبيل الدعوة الجديدة - إنهم قطاع الطريق - فيجب أن تسلم الطريق إلى الله - يجب أن تمضي الدعوة في سبيلها آمنة مطمئنة
وسكت صلى الله عليه وسلم - ووازن بين الرأيين - ثم نطق بالحكم فكان كما رأى أبو بكر. . .
غير أن الحكم قد (استؤنف) ونزل (الاستئناف) من السماء: (ما كان لِنبيٍّ أنْ يكونَ لهُ أَسْرى حتى يُثْخِنَ في الأرْض. تريدون عَرَضَ الحياة الدنيا والله يريد الآخرَةَ والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سَبَق لمسّكم فيما أخذتم فيه عذاب عظيم)
- 7 -
وسمت منزلة عمر في الإسلام. فلم يكن فوقه إلا الصديق الأعظم. وكان عمر بطل الدعوة وفتاها وحارسها. ثبت مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في أُحد ساعة اضطراب الجيش وفداه بنفسه، واختاره صلى الله عليه ليجيب أبا سفيان باسم الإسلام، فأجابه جواب القوي الظاهر. . . حسب أبو سفيان أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) قد قتل. وقتل صاحباه، واستراحت قريش من هذه البدعة فهي ذاهبة إلى حلقاتها حول الكعبة - التي تحدق بها(191/34)
الأصنام - تتحدث حديثها وترويها أبناءها ليعتبروا بها فلا يحاولوا الخروج عما ألفوا عليه آباءهم. . . حسب أبو سفيان أن الإسلام غمامة صيف جاءت ثم انقشعت. لم يدر أن الإسلام أثبت من الأرض، وأخلد من الزمان، وأنها تزول السموات والأرض ولا يزول، فما هُبل، وما هذه الأباطيل؟ أقطعة من الحجر وفلذة من المعدن، تصنعها بيدك، وتدوسها برجلك، تسويها برب العالمين؟ ما هذا العقل يا أبا سفيان؟
كانت أحد فكان عمر عظيما ظافراً فيها. كما كان في بدر وهما لعمري سواء، ما غلب المسلمون في أحُد. وما غلب فيها المشركون. . . ذلك أنهم ما ساروا خمسمائة كيل، من مكة إلى المدينة ليصيح قائدهم: اعل هبل. . . أعل هبل. . . ثم يرجع من حيث جاء، ولكن ساروا ليفتحوا المدينة، ويقتلوا محمداً، ويجتثوا الإسلام من أصله، فكيف يدعون المدينة وما بينهم وبينها إلا مسيرة نصف ساعة، وما فيها حامية تذكر ولا يدخلونها ولا يحتلونها ولا يغيرون عليها فينهبونها؟ وكيف ينظر قائدهم العام محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه وهم قواد العدو، ويكلمهم ويحادثهم ولا يقتلهم ولا يأسرهم، وهو ظافر بهم ظاهر عليهم؟ وكيف يعد جيش المسلمين منهزماً، وقواده ثابتون، وضباطه مستقرون في أماكنهم، وقلبه باق ورايته مرفوعة؟
أما إن الحق أن جيش المسلمين، قد اضطرب بعد أن غادر الرماة أماكنهم، وأغار عليه خالد - قائد فرسان المشركين، وانهزمت بعض فرقه، مذعورة خائرة - ولكن القادة، وفرق القلب بقيت ثابتة في أماكنها. تمنع العدو من الوصول إلى المدينة حتى يئس فارتد على أعقابه من حيث جاء، ونجح الجيش الإسلامي في خطته الدفاعية نجاحا باهرا، ذلك أن الجيش الإسلامي كان مدافعا، وأكبر نصر يناله الجيش المدافع، هو أن يرد العدو وينقذ الوطن. وهذا ما قام به الجيش الإسلامي على أتمه ولكنه خسر كثيرا من الضحايا. . .
فمعركة أحد إذن نصر للإسلام، وعمر من أعلام هذه المعركة وأبطالها
- 8 -
واقرأ (السيرة) كلها، فهي سيرة عمر - وإذا لم يظهر اسمه في كل موطن - ولم يبد ذكره في كل موقع - فلأن النبي صلى الله عليه وسلم شمس تسطع في سمائها - فتكسف النجوم مهما كانت وضاءة متلألئة(191/35)
على أن عمر رضي الله عنه لقوة شخصيته ومضاء عزيمته لا يكاد يخفى، فقد كان يمثل الجانب القوي المغامر الطماح، من الجبهة الإسلامية، لا يرضى بالهوادة ولا يعرف اللين، ولا تأخذه في الله شفقة ولا ملامة
كان يأبى أن توقع معاهدة الحديبية، ويلح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمد إلى الحرب: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؛ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا
فيشتد عليه الأمر، ويضيق به صبره، فيذهب إلى أبي بكر وقد عجز الصحابة كلهم عن احتمال المحنة - إلا أبا بكر. فيقول له: يا ابن الخطاب. انه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا. . .
فلا يقنع عمر ولا يرضى، ولكنه يسمع مكرهاً ويطيع، حتى إذا مرت الأيام، ووضحت حكمة النبوة، وكان الفتح، أدرك عمر سمو رأي النبي صلى الله عليه وسلم، فمازال يتصدق ويصوم ويصلي ويعتق، مخافة كلامه يومئذ، حتى رجا أن يكون خيراً. على أن عمر لم يعارض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعصه ولكنه رأي رآه واجتهاد اجتهده؛ فكان يأمل موافقة ربه سبحانه وتعالى، كما سبق له أمثالها، وقد كانت طاعته للنبي صلى الله عليه وسلم معروفة، وكان يؤثر رضاه على رضاه، ولقد أقسم عمر - باراً - أن إسلام العباس يوم أسلم كان أحب إليه من إسلام أبيه الخطاب لو أسلم، لأن إسلام العباس أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أهله وولده، ومن نفسه التي بين جنبيه
- 9 -
أنجز الله وعده. فظهر الإسلام وغلب وعم الجزيرة، ودان له العرب كلهم، واجتمعوا في عرفات، في المؤتمر الأعظم، فأنزل الله آخر آية من القرآن، آخر مادة من الدستور الخالد: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فاحتفلوا بكمال الدين، وتمام النعمة، وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً مودعاً، وأعلن (حقوق الإنسان)(191/36)
كاملة: الحرية والعدالة والمساواة.
وعاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلم يلبث أن مرض
جزع الصحابة، وشغلهم مرضه عن أولادهم وأنفسهم، فكانوا لا يهنأون بمنام ولا يسيغون طعاماً، ولا يقبلون على عمل، ولا يرون وجه الدنيا قلقاً عليه صلى الله عليه وسلم، وكانوا يودون لو يفتدى بكل ما في الأرض من شيء ليفتدوه، وكانوا يسألون عنه في كل ساعة ولحظة، ويعلمون علمه. فلما قيل قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم طارت العقول، وخفت الأحلام، وزلزل الناس زلزالا شديداً، وأصابتهم حيرة وعراهم ذهول، فلم يدروا ما يصنعون، وكانت ساعة من يوم الحشر. ولا عجب فقد كانوا أمواتاً قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الرسول مطلع حياتهم، وأول دنياهم، فلم لا تكون وفاته خاتمة الحياة، وآخر الدنيا، وأن يكون يوم قبضه كيوم القيامة؟
وجزع عمر وهزت الرزية نفسه، وغلبه حبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستطع أن يتصور أنه قد مات، ولم يقدر أن يتخيل الحياة بدونه، فهو أساسها ومصدرها، وهو شمسها المنيرة، وهل حياة من غير شمس؟ وهو روح هذا الكون، وهل يعيش جسم بلا روح؟ ولم يطق أن يسمع أنه قد مات، فوثب مخترطا سيفه، تنطقه عاطفته، وحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمنع الناس أن يقولوا: مات رسول الله انه لم يمت ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ابن عمران وقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات!
وكان أبو بكر رضي الله عنه غائباً في منزله في السُّخ، وكان أبو بكر العقل الثابت الذي لا تقلقله الحادثات ولا تحركه النوائب، وكان عمر يومئذ القلب الحساس الذي يفيض بالعاطفة وينبثق بالشعور، فلما قدم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله ثم خرج وعمر يتكلم، فاستنصته فلم ينصت، ومضى يتكلم، لا مخالفة لأبي بكر، ولكن الحس الذي طغى على نفسه، والحب الذي غمرها لم يدع فيها سبيلا لغيره. . حتى إذا تكلم أبو بكر فقال كلمته العظيمة:
أيها الناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا(191/37)
يموت، وتلا قول الله عز وجل:
(ومَا محمد إِلاّ رَسول قَدْ خَلَتْ منْ قبلْهِ الرسلُ، أَفَإنْ ماتَ أَوْ قتلَ انْقَلَبْتمْ علَى أعقْابِكمْ، وَمَنْ ينَقْلَبْ عَلى عقِبَيهْ فَلنْ يَضُرَّ الله شيْئاً وَسَيَجْزي اللهُ الشاكِرِينَ) وسمعها عمر، أفاق كم استيقظ من حلم، فرأى أنه كان مخطئاً، وتحقق الرزية وأدرك أنه لن يرى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخارت قواه ولم تحمله رجلاه، فسقط على الأرض
دمشق:
علي الطنطاوي(191/38)
4 - دعابة الجاحظ
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
. . . ولعل أهم ما وصلنا من أساليب الجاحظ في السخر والتهكم، تلك الرسالة التي وضعها في التنادر على صاحبه أحمد بن عبد الوهاب الكاتب، وهي الرسالة المعروفة برسالة التربيع والتدوير وقد تعرف أيضاً برسالة الطول والعرض، والتوسع والتدوير، ورسالة المفاكهات، ولكنها ذاعت ونشرت بين الناس وطبعت في مصر ولندن بهذا الاسم الأول، قال الجاحظ: (وقد كان احمد بن عبد الوهاب هذا مفرط القصر ويدعي أنه مفرط الطول، وكان مربعاً وتحسبه لسعة جفرته واستفاضة خاصرته مدوراً، وكان جعد الأطراف قصير الأصابع وهو في ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأنه عتيق الوجه، أخمص البطن معتدل القامة تام العظم؛ وكان طويل الظهر قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه يدعى أنه طويل الباد، رفيع العماد، عادي القامة عظم الهامة، قد أعطي البسطة في الجسم والسعة في العلم؛ وكان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد؛ وكان ادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها، وتكلفه للإبانة عنها على قدر غباوته فيها؛ وكان كثير الاعتراض لهجاً بالمراء شديد الخلاف كلفاً بالمجاذبة متتابعاً في العنود مؤثراً للمغالبة مع إضلال الحجة والجهل بموضع الشبهة، والخطرفة عند قصر الزاد، والعجز عند التوقف، والمحاكمة مع الجهل بثمرة المراء، ومغبة فساد القلوب. . . وكان قليل السماع غمراً، وصحفيا غفلا، لا ينطق عن فكر، ويثق بأول خاطر، لا يفصل بين اعتزام الغمر واستبصار المحق، يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق فيهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلا الانتحال لأسم الأدب. . .)
فالرجل - على ما يصف الجاحظ - كان دعياً يبالغ في قدره، ويشتط على نفسه، فيجري في حلبة العتاق وهو كودن، ويطاول السماء وأسبابه لاصقة بالأرض، فكأنه الهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد، فهو يزور على الناس مخبره، ويدلس في حقيقته، ويزعم لنفسه دعوى عريضة لا يد له فيها ولا رجل. . والظاهر أنه بالغ في دعواه وأمعن. وأصر عليها وتهور، قال الجاحظ: (فلما طال اصطبارنا حتى بلغ المجهود منا، رأيت أن أكشف قناعه، وأبدي صفحته للحاضر والباد، وسكان كل ثغر وكل مصر، بأن أسأله عن مائة مسألة أهزأ(191/39)
فيها وأعرف الناس مقدار جهله، وليسأله عنها كل من كان في مكة ليكفوا عنا من غربه، وليردوه بذلك إلى ما هو أولى به. . .) ولقد استطاع الجاحظ أن يبدي صفحة الرجل حقا، وأن يهزأ به ويبلغ منه، فأخذه بأسلوب لاذع، وغمره بفيض من السخر والتهكم والتعريض، وتندر عليه في منظره ومخبره، وعلمه ومعرفته، وغروره وادعائه، وكذبه وتدليسه، وكل ما زعمه لنفسه. وقد استهل الجاحظ القول في براعة فائقة فقال يغمزه وكأنه يدعو له: (أطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك، وكرامته لك! قد علمت حفظك الله أنك لا تحسد على شيء حسدك على حسن القامة، وضخم الهامة، وعلى حور العين، وجودة القد، وعلى طيب الأحدوثة، والصنيعة المشكورة، وأن هذه الأمور هي خصائصك التي بها تكلف، ومعانيك التي بها تلهج. . . ثم أخذ الجاحظ يناقشه في طوله وقصره، وعرضه واتساعه، وتربيعه وتدويره، وقده وخرطه. . . ثم أورد عليه شيئاً من آراء الناس عنه واختلافهم فيه، وحسدهم له!! ثم ابتدأ فقال: فأنت المديد وأنت البسيط، وأنت الطويل وأنت المتقارب، فيا شعراً جمع الأعاريض، ويا شخصاً جمع الاستدارة والطول، ما يهمك من أقاويلهم. ويتعاظمك من اختلافهم؟. وهل في تمامك ريب حتى يعالج بالحجة؟ وهل رد فضلك جاحد حتى يثبت بالبينة؟ وهل لك خصم في العلم، أو ند في الفهم، أو مجار في الحكم، أو ضد في العزم؟ وهل بتبلغك الحسد أو يضرك الغبن، وتسمو إليك المنى، أو يطمع فيك طامع، أو يتعاطى شأوك باغ؟ وهل يطمع فاضل أن يفوقك، أو يأنف شريف أن يقصر دونك، أو يخشع عالم أن يأخذ عنك؟ وهل غاية الجميل إلا وصفك؟ وهل زين البليغ إلا مدحك؟ وهل يأمل الشريف إلا اصطناعك؟ وهل يقدر الملهوف إلا غباءك؟ وهل للغواني مثل غيرك، وهل للماتج رجز إلا فيك؟ وهل يحدو الحادي إلا بذكرك؟ وهل على ظهرها جميل حسيب، أو عالم أديب، إلا وظلك أكبر من شخصه؟! وظنك أكثر من علمه، واسمك افضل من معناه، وحلمك اثبت من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه؟ وهل في الأرض حليم سواك؟ وهل أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق منك؟ وهل حملت النساء أجمل منك؟ فمن يطمع في عيبك بل من يطمع في قدرك؟ وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود إلا وهي تعثر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغني بمدحك، ولا فتاة إلا وهي تشكو تباريح حبك، ولا محجوبة إلا وهي تنقب الخروق لممرك، ولا عجوز إلا وهي تدعو لك ولا غيور إلا وقد شقي بك!(191/40)
وكم من فتاة معذبة قد افرج قلبها الحزن، وأجهد عينها الكمد،. . . فأصبحت والهة مبهوتة، وهائمة مجهودة، بعد ظرف ناصع، وسن ضاحك، وغنج ساحر، وبعد أن كانت ناراً تتوقد، وشعلة تتوهج!! وليس حسنك أبقاك الله بالذي تبقى معه توبة أو تصح معه عقيدة أو يدوم معه عهد أو يثبت معه عزم، أو يمهل صاحبه التثبت، أو يتسع للتخير، أو ينهنهه زجر أو يهذبه خوف!! ولكنه شيء ينقض العادة، ويفسخ المنة، ويعجل عن الروية وننسى معه العواقب ولو أدركت ابن الخطاب لصنع بك أعظم مما صنع بنصر ابن حجاج)
ثم أمعن الجاحظ في التنادر على الرجل، وراح يتفنن في السخر من حسنه وجماله وخلقه وتركيبه، وبعد أن اقتحمه بنظرة إجمالية على نحو ما قدمنا لك أخذ ينظر إليه في كل عضو من أعضائه فقال: (وما ندري في أي الحالتين أنت أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل، إذا فرقناك أو إذا جمعنك، وإذا ذكرنا كلك، أو إذا تأملنا بعضك. فأما كفك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها! وما ندري الكأس في يدك أحسن أم القلم، أم الرمح الذي تحمله أم المخصرة، ام العنان الذي تمسكه، أو السوط الذي تعلقه؟! وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن وأيها أجمل وأشكل؟ آللمة أم مخط اللحية، أم الإكليل، أم العصابة، أم التاج، أم العمامة، أم القناع أم القلنسوة؟! وأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم، ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى أنها لم تخلق إلا لمنبر ثغر عظيم، أو ركاب طرف كريم؛ وأما فوك فهو الذي لا ندري أي الذي نتفوه به أحسن، وأي الذي يبدو منه أجمل؟ الحديث أم الشعر، أم الاجتماع أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف؛ وعلى أننا ما ندري أي ألسنتك أبلغ، وأي بيانك أشفى؟ أقلمك أم خطك، أم لفظك أم إشارتك أم عقدك؟ وهل البيان إلا لفظ أو خط أو إشارة أو عقد. . . وقد علمنا أن القمر هو الذي يضرب به الأمثال، ويشبه به أهل الجمال، وهو مع ذلك يبدو ضئيلا نضواً، ومعوجاً شختا، وأنت أبداً قمر بدر فخم غمر، ثم هو مع ذلك يحترق في السرار ويتشاءم به في المحاق، ويكون نحساً كما يكون سعداً، ويكون نفعا كما يكون ضرا، ويقرض الكتان ويشحب الألوان، ويخم فيه اللحم، وأنت أبداً دائم اليمن ظاهر السعادة، ثابت الكمال شائع النفع، تكسو من أعراه وتكن من أشحبه. . .)
وانطلق الجاحظ بعد ذلك يندد بالرجل فيما يدعيه لنفسه من طراوة الشباب ونضارة الإهاب(191/41)
على أنه كبير السن قد شابت شواته وتخدد أديمه، وسلخ من العمر غايته. وتجد الجاحظ ظريفاً طريفاً إذ يقول: (جعلت فداك ما لقي منك الذهب، وأي بلاء دخل بك على الخمر؟! كانا ينبهان بطول العمر ويبهجان ببقاء الحسن، وبأن الدهر يحدث لهما الجدة إذا أحدث لجميع الأشياء الخلوقة، فلما أربى حسنك على حسنهما، وغمر طول عمرك أعمارهما، ذلا بعد العز، وهانا بعد الكرامة. . فيا عقيد الفلك كيف أمسيت؟ ويا فوه الهيولي كيف أصبحت؟ ويا نسر لقمان كيف ظهرت؟ ويا أقدم من دوس، ويا أسن من لبد، ويا صفي المستقر، ويا صاحب المسند، حدثني كيف رأيت الطوفان؟ ومتى كان سيل العرم؟ ومنذ كم مات عوج؟ ومتى تبلبلت الأنس؟ وكم لبثتم في السفينة؟ وما حبس غراب نوح؟ هيهات! أين عاد وثمود؟ وأين طسم وجديس؟ وأين أمم ووبار؟ وأين جرهم وجاسم؟ أيام كانت الحجارة رطبة وإذ كل شيء ينطق! ومذ كم ظهرت الجبال ونضب الماء عن النجف، وأي هذه الأودية أقدم: أنهر بلخ أم النيل أم الفرات أم دجلة، أم جيحان أم سيحان أم مهران؟. . . أبقاك الله! وليس دعائي لك بطول البقاء طلباً للزيادة، ولكن على جهة التعبد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول: أطال الله بقاءك فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك فإلى هذا المعنى أذهب. وفيك أمران غريبان، وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور الزيادة والنقصان إياك، جوهرك فلكي وتركيبك أرضي، ففيك طول البقاء، ومع دليل الفناء، فأنت علة للمتضاد، وسبب للمتنافي! فإياك أن تظن أنك قديم فتكفر، وإياك أن تنكر أنك محدث فتشرك، فإن للشيطان في مثلك أطماعاً لا يصيبها في سواك، ويجد فيك عللا لا يجدها في غيرك، ولست - جعلت فداك - كإبليس وقد تقدم الخبر في بقائه إلى انقضاء أمر العالم وفنائه، ولولا الخبر لما قدمته عليك ولا ساويته بك، وأنت أحق من عذر، وأولى من ستر، ولو ظهر لي لما سألته كسؤالي إياك وإن كان في التجاذب مثلك فهو في النصيحة على خلافك، ولأنك إن منعت شيئاً فمن طريق التأديب أو التقويم، وهو إن منع منع بالغش والأرصاد، وأنت على أية حال شكل، ونحن نرجع إلى أصل ونلتقي إلى أب ويجمع بيننا دين)
ويزداد الجاحظ ظرفاً وملاحة، ويشتد تهكما وسخرية إذ يدخل على صاحبه من ناحية علمه، أو قل من ناحية جهله! فقد أورد عليه كثيراً من الخرافات والمحالات وتلقف له جملة مما(191/42)
هو شائع عند العامة من الأكاذيب والأخبار، وجعل هذا كله من باب المسائل ورؤوس المعضلات، فأخذ يعاييه بها ويسأله عنها: فسأله عن الشقناق والشيصبان، ومن قيرى ومن عيرى ومن جلندي، ومن أولاد الناس من السعالي، ومتى تخزعت خزاعة، ومتى طوت المناهل طي، وما القول في هاروت وماروت، وما عداوة ما بين الديك والغراب، وما صداقة ما بين الجن والأرضة، وما علة خلق الخنزير؛ وكيف اجتمع في الذبابة سم وشفاء، وكيف لم تقتل الأفعى سمها، وكيف لم تحرق الشمس ما عند قرصها، ومذ كم كان الناس أمة واحدة ولغاتهم متساوية، وبعد كم بطن اسود الزنجي وابيض الصقلبي، وما عنقاء مغرب، وما أبوها وما أمها؟ وهل خلقت وحدها أم من ذكر وأنثى؟ ولم جعلوها عقيما وجعلوها أنثى. إلى آخر ما تلقفه الجاحظ من الطرائف وبلغ به مائة مسألة كلها من هذا الطراز وعلى هذا النمط، ولعل من المعلوم أنه لم يكن يطمع في الإجابة من صاحبه بل إنه ليقول له: (وقد سألتك وإن كنت أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلا ولا كثيراً؛ فإن أردت أن تعرف حق هذه المسائل وباطلها وما فيها خرافة وما فيها محال، وما فيها صحيح وما فيها فاسد، فألزم نفسك قراءة كتبي ولزوم بابي وابتد بنفي التشبيه والقول بالنداء، واستبدل بالرفض الاعتزال، وان أتنكر منعك بعد التمكين والبذل وبعد التقريع والشحذ فلا يبعد الله إلا من ظلم!)
ولاشك أن الجاحظ قد ابتدع رسالته هذه ابتداعاً، وأتى بها على غير مثال سابق في الأدب العربي، ولاشك أنها قد جاءت قوية رائعة تعلن عن فن الرجل في بابها، واقتداره على أمثالها. ولقد كان الجاحظ على اعتزاز بها غاية الاعتزاز، فأشار إليها بالإكبار، وأحال عليها بالأقدار، واقتبس منها في بعض ما كتب. وقد تأثر بها بعض الكتاب فحاول الخوارزمي أن يحذو حذوها فقلدها في رسالة كتبها إلى أحد أصحابه الشعراء يعرف بالبديهي فبلغ أربا، ولكن دون ما بلغ الجاحظ بكثير. ثم جاء البديع الهمذاني فانتهج الطريق في بعض مقاماته إذ كان يهاجي بعض أصحابه ولكن يظهر أنه نظر إلى الخوارزمي أكثر مما نظر إلى أبي عثمان فسلبه كثيراً من تعبيراته، وخرج من التعريض إلى الشتم، ونزع عن التهكم إلى السب، وبدل التلميح بالتصريح، والمرح بالتجهم، وهذا كله غير ذلك كله، فتعرف الصنفين، وافرق بين الطريقين. . . .(191/43)
(للكلام صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف(191/44)
شقية
للسيد عمر أبو ريشة
حثثت خطاي الحمر عن هيكل القدس ... وفي حمأة الأرجاس كفرت عن رجسي
وما استعذبت نفسي الشقاء وإنما ... وجدت عزاء النفس أقتل للنفس
دعوني أعب السم من أكؤس الملا ... وأقضي على تلك البقية من حسي
كفاني نفضت الكفَّ من يانع المنى ... وبعت صباي الغض بالثمن البخس!!
وما من ضحايا النار، حسناء كاعب ... عليها جلال الحسن في العري واللبس
تمشت ونفحات المحاجر حولها ... ومن خلفها الكهَّان خافتة الجرس
ولما ذكت في المذبح النار تمتمت ... مصليَّة والضرس يقرع بالضرس
وزجَّت بها عريانة فتفجرت ... جراح وقطرات الدما صبغة النفس
وفي كل جرح فوهة من جهنم ... تولول كالريح المؤججة البأس
بأهلك مني عند فضٍ مآزري ... على المذبح الشهوات للمصبح الممسي!!
يؤرقني الماضي فأنشر طرسه ... وألسنة الآلام تقرأ في الطرس
وأهجس والأشباح تعتام ناظري ... فيرتد إشفاقاً فأقصر من هجسي
وأزجر دمعي أن يثور وزفرتي ... فلا دمعتي تسلي، ولا زفرتي تنسي
تغرُّ ابتساماتي عيون أخي الهوى ... وخلف ابتساماتي جراح من البؤس
طلعت على الأيام والطهر حارسي ... يحيك على عطفيَّ جلبابَه القدسي
تشيعني الأبصار أين توجهت ... خطاي فأمشي مشية الرجل النكس
وضج بأعطافي الغرور فلم ألِنْ ... لصرخة ولهان تَمخضُ باليأس
كنرجسة في الحقل تلثم ساقَها ... ثغور من الأزهار طيبة الغرس
ولكنها. . . والكبرياء تهزها ... أبت أن ترى في غيرها رفعة الجنس
حنت رأسها كيما تقبل ظلها ... غرورا فماتت وهي محنيَّة الرأس!!
ولما رأيت الفقر أزبد فكه ... وكشَّر عن أنياب منهرت طلَس
صحوت فلم ابصر حواليَّ راحما ... يخفف من بؤسي ويطرد من تعسي
وألقتني الأقدار في كف أرعن ... كما قبضت كف البخيل على الفلس(191/45)
يبثُّ لي النجوى فيطربني بها ... فأبني من الآمال أساً على أس
فكنت كشاة ألفت العيش زاهرا ... تروح على أنس وتغدو على أنس
يهش لها الراعي فترقص حوله ... فيلقمها الأعشاب بالأنمل الخمس
يسمنها. . . للذبح وهي تظنه ... رحيما يقيها صكة الناب والضرس
فولَّت أمانيَّ العذابُ تلاشياً ... كما يتلاشى الثلج من قُبلة الشمس
وضاقت بي الدنيا فهمتُ طريدة ... أفتش عن سعدي فيلطمني نحسي!
فما لاح لي إلا دم متلاطم ... ففي لجه أغدو وفي لجه أمسي
أرى عنده للانتقام من الورى ... مناهل تنسي ما أجرَّع من بؤس
فرب فتى ما دنَّس الخزي قلبه ... نصبت له سهم الإساءة في القوس
تمطيت لاستغوائه فتثاءبت ... بعينيَّ أفواه الدعارة والرجس!
وما خفَّ للَّذَّات حتى تركته ... يصارع داءً قد تحفَّز للغرس
إذا أنّ هزَّت رعشة الأنس أضلعي ... وأفرحني إن لاح في صفرة الوَرْس
فصرت إذا ما اشتدَّ دائي تركته ... ليعدي وإن أبصرت من خلفه رمسي!
كما النحلة الغضبى لدى وخز خصمها ... تموت. . . ولكن وهي مرتاحة النفس!!
(حلب)
عمر أبو ريشة(191/46)
أترانا فراشتين؟
للأستاذ خليل هنداوي
أتراها فراشةً سبحت في ... مائج الكونِ، والخيالُ الجناح؟
دأَبها أن تهيم فوق الروابي ... يلتقيها منها الشذا الفواح
عيشها بسمة تشع، وفيض ... من سنا اللهوِ ساطع وضَّاح
الصباحُ النديُّ يحنو عليها ... كل ما حولها ندى وأَقاح!
ليلها دفقة من النور تمشي ... والليالي - مع الغرام - صباح
وتراني فراشةً حثها الشو ... ق وهمت فلم يطعها جناح
فترامت. .! ولا تسل إذ ترامت! ... كان أدري بحالها المصباح
خليل هنداوي(191/47)
النفس وخلودها عند ابن سينا
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 3 -
لم يقف ابن سينا عندما تقدم في إثبات وجود النفس ومغايرتها للبدن، بل افترض فرضاً آخر هو من أبدع حججه وأكثرها ذيوعاً، ونعني به فرض الرجل المعلق في الفضاء. فلو تصورنا أن شخصاً ولد مكتمل القوى العقلية والجسمية، ثم غطى وجهه بحيث لا يرى شيئاً مما حوله، وعلق في الهواء أو بالأولى في الخلاء كي لا يحس بأي احتكاك أو اصطدام أو مقاومة، ووضعت أعضاؤه وضعاً يحول دون تماسها أو تلاقيها، فإنه لا يشك بالرغم من كل هذا في أنه موجود وأنه كان يعز عليه إثبات وجود أي جزء من أجزاء جسمه، بل قد لا تكون لديه فكرة ما عن الجسم والوجود الذي تصوره مجردا عن المكان والطول والعرض والعمق، وإذا فرض أنه تخيل في هذه اللحظة يداً أو رجلا فلا يضنها يده ولا رجله، وعلى هذا إثباته أنه موجود لم ينتج قط عن الحواس ولا عن طريق الجسم بأسره؛ ولابد له من مصدر آخر مغاير للجسم تمام المغايرة وهو النفس. يقول ابن سينا: (يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملا، ولكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخلق يهوى في هواء أو خلاء هوياً لا يصدمه فيه قوام الهواء صدما ما يحوج إلى أن يحس، وفرق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته فلا يشك في إثباته لذاته موجوداً، ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه ولا باطنا من أحشائه ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من الأشياء من خارج، بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا. ولو أنه أمكنه في تلك الحال أن يتخيل يداً أو عضواً آخر لم يتخيله جزءاً من ذاته ولا شرطا في ذاته؛ وأنت تعلم أن المثبت غير الذي لم يثبت، والمقر به غير الذي لم يقر به، فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية لها على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم يثبت)، وواضح أن هذه البرهنة قائمة على أن الإدراكات المتميزة تستلزم حقائق متميزة تصدرعنها، وان الإنسان قد يستطيع أن يتجرد من كل شيء اللهم إلا(191/48)
نفسه التي هي عماد شخصيته وأساس ذاته وماهيته. وإذا كانت الحقائق الكونية كلها تصل إلينا بالواسطة فهناك حقيقة واحدة ندركها إدراكا مباشراً ولا نستطيع أن نشك فيها لحظة، لأن عملها يشهد دائما بوجودها. وما أصدق سقراط حين قال: اعرف نفسك بنفسك. ولئن كنا نستدل على وجود جسم ما بالحيز الذي يشغله فالتفكير الذي هو خاصة النفس الملازمة لها دليل قاطع على وجودها
وقد سبق إلى هذا المعنى أغسطين فيلسوف المسيحية في القرن الخامس الميلادي وسلك في البرهنة على وجود النفس سبيلا تشبه من بعض الوجوه السبيل الآنفة الذكر، فذهب إلى أن الجسم والنفس حقيقتان متميزتان تمام التميز، ففي حين أن الأول يشغل حيزاً وله طول وعرض وعمق لا حيز للثانية مطلقا، وخاصيتها الوحيدة هي التفكير؛ ومن أجل هذا كان شعورنا بها وإدراكنا لها إدراكا مباشراً، فإن الفكر لا يحتاج إلى واسطة في فهم ذاته، ومادامت النفس تفكر فهي موجودة، لأن تفكيرها يساوي وجودها تمام المساواة. وقد يستطيع الإنسان أن يتجرد عن جسمه وعن العالم الخارجي في كل مظاهره، وأن ينكر الحقائق على اختلافها وأن يشك في كل شيء إلا نفسه التي هي مصدر شكه ومبعث تفكيره فإنه لا يجد إلى الشك فيها سبيلا
وهنا نتساءل: هل تأثر ابن سينا بأغسطين أم الأمر مجرد توافق خواطر؟ لم يثبت مطلقا أن مؤلفات الأخير نقلت إلى العربية، ولا نجد أية وسيلة سمحت لابن سينا بالأخذ عنه، ويرجح الأستاذ جلسن أنهما معا صدرا عن أصل إسكندري ولاسيما وهما شديدا التعلق بأفلوطين وتعاليمه، بيد أنا لم نقف على شيء مما وصل إلينا يشهد بأن رجال مدرسة الإسكندرية حاولوا البرهنة على وجود النفس على النحو السابق. ولسنا ندري ما المانع أن يكون برهان الرجل المعلق في الفضاء من ابتكار ابن سينا واختراعه، خصوصا وهو قد عودنا صوراً فرضية أخرى كثيرة كحديث حي بن يقظان ورسالة الطير التي تدل على خيال خصب ومهارة في التصوير. وعلى فرض أنه عالة على من قبله في بعض عناصر برهانه، فليس هناك شك في أن الصورة الجذابة التي صوره بها من بنات فكره وإنتاجه الشخصي، ويخيل إلينا أنه كان مغتبطا بفنه معجبا بتصويره، ولا أدل على هذا من أنه أبرزه مرتين في كتاب الشفاء وعاد إليه مرة ثالثة في إشاراته(191/49)
وهذا التصوير هو الذي ميز برهنته من برهنة أغسطين وان كانتا تلتقيان في الغاية والمرمى. وهو الذي استلفت أنظار فلاسفة القرون الوسطى المسيحيين واستولى على نفوسهم، فأعاده الكثيرون منهم بنصه أحياناً، وخاصة أتباع أغسطين مثل غليوم الأقرني وحنا الروشيني، وكأن هؤلاء ازدادوا تعلقاً بالفيلسوف العربي حين رأوه يقترب من أستاذهم اللاتيني.
ولا نظننا في حاجة إلى أن نشير إلى أن كتاب الشفاء ترجم إلى اللاتينية. وكان للجزء المتعلق بالنفس منه أكبر الأثر في رجال الفلسفة المسيحية، ولم يكد دومينقوس جندسالينوس يترجمه في القرن الثاني عشر الميلادي حتى اقبلوا عليه يتدارسونه ويأخذون عنه مختلف الآراء، ولا يرون على أنفسهم غضاضة في أن يعزوا البرهان الذي نتحدث عنه إلى صاحبه ومبتكره ابن سينا
ويظهر أنهم استمروا يرددونه فيما بينهم إلى عصر النهضة وإلى أن جاء ديكارت فنادى بمبدئه المشهور الذي ينطوي على أفكار أغسطين وسينويه، ففي بحثه عن الحقيقة عاهد نفسه على أن يرفض كل ما يتطرق له الشك، لأن حواسنا في حال اليقظة تخدعنا وتنقل إلينا العالم الخارجي نقلا مشوها، ومخيلتنا أثناء النوم تغدق علينا صوراً وأوهاماً لا أساس لها. وأخذ يشك في كل شيء إلى أن انتهى به شكه إلى حقيقة ثابتة هي أنه يفكر؛ ومادام يفكر فهو موجود، وفي مقدور الشكاك واللاأدريين أن يهدموا الحقائق على اختلافها إلا هذه الحقيقة التي تحمل معها برهانها.
يقول ديكارت: (قد أستطيع أن أفترض أن لا جسم لي وأن لا عالم ولا مكان أحل فيه، ولكني لا أستطيع لهذا أن أفترض أني غير موجود، بل على العكس ينتج قطعاً وفي وضوح من شكي في حقيقة الأشياء أني موجود. . . فقد عرفت إذن أني جوهر ذاته وطبيعته التفكير، ولا يحتاج في وجوده إلى مكان ولا يخضع لشيء مادي، وعلى هذه الصورة الأنا أو النفس التي هي أساس ما أنا عليه متميزة تمام التميز من الجسم، بل هي أيسر معرفة منه، حتى في حال انعدامه لا تنقطع هي عن أن توجد مع كل خصائصها).
هذا هو الكوجيتو الديكارتي القائل: (أنا أفكر فأنا إذن موجود). وهذه هي البرهنة عليه. ولا يجد القارئ صعوبة في إدراك وجوه الشبه بين هذه البرهنة والبرهنتين السابقتين(191/50)
الأغسطينية والسينوية، وقديماً لاحظ أرنولد أن ديكارت يحاكي أغسطين تمام المحاكاة في إثباته وجود النفس وتميزها من البدن ولم يبق مجال للشك في أن أبا الفلسفة الحديثة قرأ مؤلفات أغسطين وخاصة ما اتصل منها بالنفس وخلودها وحديثاً استطاع المسيو ليون بلنشيه أن يبين في سعة وتفصيل جديرين بالإطراء الأفكار التي سبقت الكوجيتو الديكارتي ومهدت له، غير أنه فاته أن يشير إلى الصلة بينه وبين برهان الرجل المعلق في الفضاء. وقد حاول أخيراً المستشرق الإيطالي فورلاني أن يتلافى هذا النقص، فكتب في مجلة فصلا عنوانه (ابن سينا والكوجيتو الديكارتي). وفيه يعرض برهان الفيلسوف العربي وترجمته اللاتينية القديمة، ثم يقارنه بما جاء به ديكارت موجها عنايته الكبيرة إلى بيان أثر الحواس والمخيلة لديهما، وينتهي بعد كل هذا إلى النتيجة الآتية: وهي أنه يستبعد أن يكون ديكارت قرأ ابن سينا رأسا لقلة المطبوعات وعدم تداول مؤلفاته في الأيدي، ويرجح أن يكون قرأه عن طريق غليوم الأقرني
ولكنا نلاحظ أن ترجمة كتاب الشفاء اللاتينية، أعيد طبعها في فينيس ثلاث مرات بين سنة 1496 وسنة 1546. فتكون آخر طبعة منها ظهرت قبل ميلاد ديكارت بخمسين سنة فقط. ونحنن نعلم كيف أثيرت مشكلة النفس وخلودها لعهده، فمن المحتمل أن يكون الباحثون قد لجأوا إلى كل المصادر الممكنة لحلها. وابن سينا من أطول الناس حديثا فيها وأكثرهم غراما بها. وقد أبان رينان من قبل مقدار تعلق السربونيين ورجال الدين في باريس بالفلسفة الإسلامية بوجه عام ومناقشتهم لها وردهم عليها وبحثهم عن أصولها ومصادرها، فلا يمكن أن تكون قد فاتتهم مطبوعات فينيس المتقدمة وفي مكتبة باريس الأهلية أكثر من نسخة من هذه المطبوعات، ويغلب على الظن أنها وصلت السربون منذ ذلك التاريخ: وإذا كان أرنولد قد أشار إلى أغسطين فقط ليبين أن ديكارت عالة على من قبله. فلعل ذلك راجع إلى أنه تخير شخصية معروفة من العالم المسيحي المحيط به
على أن ديكارت لم ينتبه إلى ابن سينا بواسطة غيوم الأقرني فقط، بل يغلب على ظننا أنه اهتدى إليه أيضاً في ثنايا مؤلفات روجير بيكون التي قرأها وتأثر بها في نواح مختلفة. ومهما يكن فسواء أقرأ ديكارت ابن سينا مباشرة أم عن طريق غير مباشر فكل الدلائل قائمة على أن برهان الرجل المعلق في الفضاء جدير بأن يعد بين الأفكار التي سبقت(191/51)
الكوجيتو الديكارتي ومهدت له. وإذا كان ديكارت مديناً لأغسطين بشيء في صوغه وتصويره فهو مدين بدرجة لا تقل عن هذا لابن سينا كذلك، خصوصاً وإلى الأخير يرجع الفضل في بعث أفكار أغسطين من مرقدها وتوجيه اللاتينيين من جديد نحوها توجيهاً نشيطاً في الأربعة قرون السابقة لديكارت. وهو مع زميله ابن رشد قد أثارا في العالم الغربي منذ القرن الثاني عشر مشكلة العقل والنفس ونظرية المعرفة بوجه عام إثارة امتد صداها إلى عصر النهضة.
وغني عن البيان أنه لا يعيب الكوجيتو مطلقاً أن يكون بعض الباحثين قد اهتدى إليه من قبل عن طريق آخر، فإن اتفاق الآراء على أمر من الأمور يزيده قوة فوق قوته ويقيناً إلى يقينه. وليس ثمة داع لأن نجهد أنفسنا، كما صنع هملان وغيره في أن نثبت بأي ثمن أن ديكارت مبدعه الأول، فإن هذه محاولة فاشلة ولا تتفق مع روح البحث العلمي الحديث. ولا يعيب ديكارت نفسه أن يكون قد سبق إليه في صورة غير الصورة التي أظهره فيها، وثوب غير الثوب الذي البسه إياه، فإن الفكرة الواحدة تتشكل بأشكال مختلفة تبعاً للمذاهب الفلسفية التي تبدو فيها
يتبع
إبراهيم مدكور(191/52)
15 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة حسن محمد حبشي
ومن المحتمل أن يكون فجر العصر الذهبي للشعر العربي هو هذه السنوات العشر الأولى من القرن السادس بعد الميلاد. فحوالي هذا الوقت كان قد اشتد ضرام حرب البسوس التي سجلت سنيها عاما فعاماً أشعار معاصريها إبان ذلك الوقت، كما أن أول قصيدة عربية أنشئت - كما تذكر أخبارهم - قصيدة نسج بردتها المهلهل بن ربيعة التغلبي في رثاء أخيه كليب الذي كان مصرعه سببا في إشعال نار الوغى واشتجار رماح قبيلتي بكر وتغلب. وعلى كل حال ففي خلال القرن التالي لهذه الحادثة يجد كثيرا من المنشدين في جميع أصقاع شبه الجزيرة العربية ظلوا مقتفين لهجة شعرية واحدة في معانٍ مشتركة ضلّت محترمة لم تمسسها يد التغيير والتبديل حتى نهاية العصر الأموي (750م) ومع ذلك فقد سادت الأدب أيام الخلافة العباسية روح جديدة سرعان ما ثبتت قوائم سلطانها الذي ظل على قوته حتى اليوم تقريبا، وكان هذا النمط يتمركز في القصيدة التي تعد الصورة - أو بتعبير أدق - المثل الأعلى لما يمكن تسميته بالعصر الرائع للأدب العربي. وتختلف القصيدة في عدد الأبيات لتي تتألف منها، لكنها قلما تقل عن خمسة وعشرين أو تربو على المائة، ولا يكون التصريع إلا في المطلع، ثم تجري القافية على روي واحد حتى نهاية القصيدة. أما الشعر المرسل فغريب عن العرب الذين لا يرون الإيقاع حلية وتنميقا أو تقييدا منهكا بل يعدونه روح القصيدة وجوهرها. وأغلب ما تكون القوافي رقيقة فيها أنوثة كقولهم سخينا، تلينا، مهينا، مخلدي، يدي، عوّدي، رجامها، سلامها، حرامها. وإنّ تذليل عقبات القافية الواحدة ليتطلب مهارة فنية كبرى حتى في لغة يكون من أشد خصائص تكوينها تعدد القوافي وكثرتها، وأن أطول المعلقات لأقصر من مرثية جراي، أما من ناحية الوزن فللشاعر الحرية في اختيار أي بحر إلا الرجز الذي يعد أتفه من أن يستعمل في القصيدة. بيد أن حريته لا تصل إلى اختيار الموضوعات أو إلى طريقة استغلالها بل نرى عكس ذلك، إذ أن مجرى أفكاره مقيد بشروط قاسية لا يستطيع الفكاك منها، وفي ذلك يقول ابن قتيبة: (وسمعت بعض أهل العلم يقول أن مقصد القصيد إنما ابتدئ فيها بذكر الديار(191/53)
والدمن والآثار، فشكى وبكى وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها إذ كان نازل العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه المدر لانتجاعهم الكلأ، ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الشوق وألم الوجد والفراق وفرط الصبابة ليميل نحوه القلوب لأن النسيب قريب من النفوس لما جعله الله في تركيب العباد من محبة للغزل وألف للنساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقا منه بسبب، فإذا علم أنه استوثق من الإصغاء إليه عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النصب والسهر وسرى الليل وانضاء الراحلة، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه على السماح وفضله على الأشباه)
وهناك مئات من القصائد لا تخرج عن هذا الوصف الذي لا يجب على كل حال أن يعتبر النموذج الثابت على الدوام إذ يتجاوز الشاعر في بعض الأحيان عن المقدمة الغزلية وخاصة في المراثي، وإذا لم تقده على الفور إلى الغرض المنشود تلاها وصف دقيق صادق لبعير الشاعر أو حصانه الذي يحمله خلال القفار في سرعة الظبي النافر أو الحمار الوحشي أو الظليم. وشعر البدو يفيض بالدراسة الجميلة لحياة الحيوان ووصفها؛ ولاشك أنهم كانوا يولون المديح همهم وعنايتهم، كما كان أحب شيء إلى نفوسهم. وقد استطاع الشاعر أيام الجاهلية أن يرضى نفسه فلم تكن القصيدة وحدة قائمة بذاتها، ولكنها أشبه ما تكون بمجموعه صور رسمتها يد واحدة أو كما يقول الشرقيون مكونة من لآلئ مختلفة الحجم والقيمة، ثم ألف منها عقد
قد يمكن وصف الشعر العربي القديم بأنه نقد تصويري للحياة الجاهلية وأفكارها، إذ نجد الشاعر في هذه البيئة بعيداً عن التكلف والميوعة والبهرجة. وليست تسمية مجموعة أبي تمام (بالحماسة) من قبيل الصدف. أو لأن ذلك عنوان من عناوين الكتاب أو فصل من فصوله يشغل قرابة نصفه. بل لأن الحماسة تشير إلى أجل فضيلة عظمها العربي، فقد امتدح البسالة في القتال والصبر عند اشتداد البلاء، والجد في طلب الثأر، وحماية الضعيف والازدراء بالأهوال، أو كما قال تنيسون (كافح واطلب تجد ولا تخضع)
ومن صور المثل الأعلى للبطل العربي الشنفري الأزدي، وقرينه في الغزو والسلب (تأبط شراً) فقد كانا قاطعي طريق طريدين، كما كانا شاعرين مبدعين، أما عن الأول فيروى أن(191/54)
بني سلامان اختطفوه طفلا وربوه فيهم، ولم يعرف اصله حتى نما عوده فاقسم لينتقمن من خاطفيه وعاد إلى قبيلته الأولى، ونذر أن يفتك بمائة رجل من بني سلامان فمثل بثمانية وتسعين ثم نجح مطاردوه في أسره، وبتر إحدى ذراعيه في دفاعه عن نفسه فشد على أعدائه بيده الأخرى وقتل واحدا منهم ولكنهم تكأكأوا عليه فغلب على أمره وقتل وقد بقى على إيفاءه نذره رجل واحد، وبينما كانت أقحوفته ملقاة على الأرض مر بجوارها رجل من أعدائه فركلها بقدمه فدخلت فيها شظية من جمجمته ونغل الجرح ومات الرجل، ومن ثم قتل المائة، وفي قصيدته الموسومة بلامية العرب يذكر طرفاً من صور بطولته وبسالته وعناء حياة السلب:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لِمَن خاف القِلى متحوَّلُ
لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضِيق على امرْئ ... سَرَى رَاغباً أو راهِباً وَهْوَ يعْقِلُ
ولي دونكم أهلْون سيد عَملَّس ... وأرْقط زُهْلول وعرفاءٍ جَيْألُ
هُمُ الأهْلُ لا مُسْتَوْدَعُ السِّر ذائعِ ... لذّيهمْ وَلا الجَاني بما جَرَّ يخْذَلُ
وكلّ أبيّ باسِل غيرَ أنَّنيِ ... إذا عَرَضَتْ أولَى الطّرَائِدِ أبْسلُ
وإنْ مُدَّت الأيدْيِ إلى الزَّادِ لم أكن ... بأعْجلِهِمْ إذْ أجْشَعُ القَوْمِ أعْجلُ
وما ذاك إلا بسطة عن تفضل ... عليهم وكان الأفضل المتفضلِّ
وإني كفاني فقدُ من لستَ جازياً ... بحسنَى ولا في قربة متعلّل
ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيع، ... وأبيض إصليت، وصفراء عَيطلُ
هتوف من الملس المتون يزينها ... رَصائع قد نيطت إليها ومحمل
إذا زال عنها السهم حنَّت كأنها ... مرزّأة ثكُلى ترِن وتعوْلُ
ثم يأخذ في الكلام عن قبيلته التي تلفظه لفظ النواة وتتركه هائما على وجهه حينما يتكالب عليها الأعداء مطالبيها بثأر تلك الدماء المهراقة ويقول:
فلا تقبروني إنّ قَبري مُحَرَّمُ ... عليكم ولكن أبْشِري أمَّ عامرٍ
إذا احتملوا رَأسِي ففي الرَّأسِ أكثْرِي ... وَغودِرَ عنْدَ الملتْقَى ثَمَّ سَايري
هنالك لا أرْجُو حيَاة تسرُنِي ... سَجِيسَ الليالي مُبسْلاً بالحرايرِ
أما ثابت بن جابر بن سفيان فهو من قبيلة (فهم) ويسمى تأبط شراً، وسبب ذلك أن أمه(191/55)
أبصرته ذات يوم خارجا من الخباء إلى الخلاء متأبطاً سيفاً فسألها أحدهم (أين ثابت؟) فقالت: (لست أدري، لقد تأبط شرا وخرج) وهناك قول آخر بأنه قد خرج في بعض أموره فالتقى بغولٍ فشدّ عليه وجزّ رأسه ثم حمله إلى بيته على هذه الحال، فقيل له تأبط شرا. وإن الأبيات التالية التي يصور بها خاله شمس بن مالك لكفيلة بتصوير طبيعة الشاعر ونفسه تماما وهي انعكاس لعاداته:
قليلُ التَّشكي لِلْمهم يصيبُهُ ... كثيرُ الهوى شتى النَوَى والمسالك
يّظل بِمَوْمَاة ويمسي بغَيرها ... جَحيِشاً ويَعْرَوْرى ظُهور المهالِك
ويَسبْق وقْدَ الرِّيح من حيث ينتحي ... بمنْخَرقٍ مِنْ شده المتَدَارِك
إذا حاصَ عَيْنيِه الكرى النَّوْم لم يزل ... له كالئٍ مِنْ قلب شيَحْان فاتك
ويجعلُ عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلةٍ من حدِّ أخلق صائِك
إذا هَزَّه في وجه قِرن تَهللتْ ... نوَاجذِ أفوَاهِ المنايا الضَّوَاحِكِ
يَرَى الوَحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أمُّ النجوم الشوائك
وهذه الأبيات السالفة تصف في دقة وتلم كل الإلمام بالفضائل الأولية العربية من شجاعة وخشونة وبأس. وهنا نرى لزاما علينا أن ننتقل بالقارئ إلى ناحية بعيدة بعض الشيء عن الناحية الأدبية، تلك هي الناحية الخلقية التي تعد من الأسس المهمة التي قام عليها كيان المجتمع الوثني الذي ليس لدينا من مرجع عنه سوى الشعر الجاهلي. لم يكن للعرب قانون مكتوب أو مرجع ديني أو أي شيء من هذا القبيل، بل كان هناك ثمة قوة أجل من هذه وأعلى شأنا وأنفذ تأثيراً في نفوسهم، تلك هي (الشرف)، ولكن ما هي خصائص الشرف البارزة وميزاته الواضحة التي تنطوي عليها فضيلة المروءة كما كان يفهمها عرب الجاهلية؟ لقد أشرنا إلى أن شجاعة العرب تشبه تمام الشبه شجاعة الإغريق (يولدها ثوران النفس ولكنها تتلاشى إزاء الإبطاء أو التراخي ومن ثم كان البطل العربي رجل جلاد يقتحم الأهوال، ويزدري الأخطار، كثير الفخر كما يظهر لنا ذلك من معلقة عمرو بن كلثوم، وإذا رأى أن ليس لما يفوته بالهرب خطر عظيم أسرع غير مليم، ولكنه يحارب ويناضل حتى آخر رمق فيه ذابّا عن نسائه اللائي كنّ إذا جد الجد واشتبكت الرماح، صحبن القبيلة ووقفن خلف صفوف القتال:(191/56)
لما رأيْتُ نِسَاءنا ... يفْحَصن بالمغراءِ شدَّا
وبَدَتْ لميسُ كأنَّها ... بَدْرُ السماء إذا تَبَدَّى
وبَدَتْ محَاسنُها التي ... تخفَى وكان الأمْرُ جَدَّا
نَازلْتُ كبْشَهُمو ولمْ ... أرَ مِنْ نِزَال الكبش بدَّا
وكانت الديمقراطية دستور القبيلة يتولى الإشراف على تطبيقه شيوخها الذين استحقوا السيادة بما لهم من شرف النسب، ونبل الأخلاق، وسعة الثروة، وحكمة الرأي، وكمال التجربة كما أشار إلى ذلك شاعر بدوي بقوله:
لا يَصلْح الناس فوْضى لا سراة لهم ... وَلا سَرَاة إذا جَهَّالهم سادوا
والبَيْتُ لا يبتَنى إلا لهُ عمدُ ... ولا عِمَاد إذا لمْ ترْسَ أوتادُ
وإن تجمع أوتادٌ وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
(يتبع)
حسن حبشي(191/57)
الفنون
الفن المصري
العقيدة الدينية أصل الباعث على الفن
للدكتور أحمد موسى
انظر إلى خريطة وادي النيل الطبيعية، تجد أن مصر واد جميل منبسط، لا تتخلله ارتفاعات ولا انخفاضات خصوصاً في المناطق المأهولة بالسكان، أما الأمطار فهي نادرة فيه، فضلا عن أن الشمس تسطع عليه طوال أيام السنة
وتفكير الناس وتكوين إحساسهم وليد البيئة التي يعيشون فيها. ولما كان الفن وليد دقة الإحساس وسمو التفكير، وجب أن يكون الفن المصري بسيطا سهلا، نظراً لبساطة الخيال المصري ولين شاعريته، على عكس الخيال الإغريقي مثلا
وكان المصري ولا يزال قليل الاستمتاع بجمال الطبيعة لندرة تغيرها، على حين نرى الإغريقي عظيم الإحساس بالجمال والاستمتاع به سريع التأثر بمظاهر الطبيعة المتقلبة، كثير السعي والبحث وراء ما فيها من جمال وفن. كل هذا راجع إلى اختلاف الطبيعي بين مصر وهي البلاد المنبسطة المكونة من قطعة واحدة غير منفصلة، وبين اليونان وهي جزائر سواحلها كلها تضاريس، فضلا عن كثرة الارتفاعات والانخفاضات في سطحها
وقد أوضحت شيئا يسيراً عن الفن المصري قبل التاريخ، وقلت إن الالتفات إلى الدين كان قبيل عهد الأسرات، وأن هذا الالتفات نما وأزداد حتى عصر مينا، الذي وحد بين الوجهين البحري والقبلي مكونا مملكة واحدة
وإذا استطعنا أن نفهم شيئا عن تطور العقيدة الدينية، فإنه يمكننا أن ندرك الفن المصري إلى حد الاستمتاع
أنعم المصريون النظر في الموجودات والمرئيات، واتجهوا بنظرهم إلى السماء، فتصور بعضهم أن القبة السماوية شيء أشبه ببقرة كبيرة رأسها متجه نحو الغرب، وأن بلادهم بين أرجلها، كما تخيلوا أن النجوم لا تخرج عن كونها زينة تتحلى بها
وتصور غيرهم أن السماء على هيئات امرأة انحنت متجهة بيديها ورأسها نحو الغرب،(191/58)
وبأرجلها نحو الشرق، وأن النجوم حلى منثورة على بطنها وصدرها
وإذا فكرنا قليلا نجد التشابه في الفكرة عظيما، ولاسيما وأن الذين تخيلوا السماء على هيئة بقرة ظنوا أن الشمس تولد (تشرق) على هيئة عجلة صغيرة؛ وأما الآخرون الذين تخيلوها على شكل امرأة فقد ظنوا أنها تشرق على هيئة طفلة تسير من الشرق إلى الغرب، فلا تلبث أن تصير عجوزاً عند غروبها
ظل الحال كذلك حتى اتصل أهل مصر العليا بأهل مصر السفلى وتم التعارف بينهم، وتبادلوا التجارة وتفاهموا في شؤون الحياة وفي شؤون الدين
وكانت نتيجة هذا التعارف والتفاهم أن وجدنا أن هناك من رأوا الصقر يطير بسرعة، فتخيلوا الشمس مثله، تطير بجناحين من الشرق إلى الغرب. وكان أثر هذا الخيال عميقاً في الفن المصري، فترى الشمس قد رسمت بجناحين في مناسبات مختلفة
ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل نظر المصري إلى الماديات وأولها وادي النيل، فتخيله رجلا منبسطاً على الأرض، ظهره إلى السماء وعليه نمت النباتات، وعاش الإنسان والحيوان مستمدين الحياة من الشمس. وظنوا أن الدنيا تبدأ حيث بدأ النيل من ذلك المحيط اللانهائي جنوباً، وتنتهي حيث يصب شمالا
واعتقدوا أن هناك آلهة للماء وللأرض وللهواء، وتوسعوا في تصوراتهم فجعلوا للحياة إلها وللموت آخر، وللمسرات والحب غيرها وهكذا
وكانت عبادتهم للشمس قوية باعتبارها مصدر الحياة والنور، فاختاروا لها مدينة خاصة أسموها عين شمس (هليوبوليس) كما أسموا الشمس (رع) عند الشروق و (اتوم) عند الغروب.
ونظراً لدقة ملاحظتهم للقمر وإعجابهم بانتظام سيره الزمني، جعلوا منه منظما لزرعهم واعتبروه إلها للعلوم والآداب، واتخذوا بلدة الأشمونين (قريبة من المنيا) مقراً لعبادته
ورمزوا للسماء ببقرة رسموها في معبد درندرة (بالقرب من قنا) وبقطة في صا الحجر (بالقرب من كفر الزيات) وبلبؤة في ممفيس (بالقرب من البدرشين)
وكانت مصوراتهم التي رمزوا بها للآلهة بسيطة في أول الأمر، مما يدل على بساطة معيشتهم في ذلك الحين، كما أن رسوماتهم لها لا تدل على انهم أحبوا حيواناتهم حباً عظيماً(191/59)
جعلهم يصورون رؤوس هذه الآلهة بصور تلك الحيوانات نفسها عند تدهور المدنية المصرية
وإذا دهشنا للعقلية المصرية من ناحية العقيدة الدينية، فإننا لا نندهش عندما نجد الكهنة يتركونهم مسترسلين في عقائدهم حتى بذلك يدوم لهم السلطان
وكانت هذه العقيدة، رغماً عن عدم انسجامها مع العقلية المصرية خير دافع للفن المصري بل وإلى الحضارة المصرية إجمالا، فكل ما وصل إليه المصريون من أبهة وعظمة كان عن طريق هذه العقيدة، وكل ما تركوه من آثارها لا يخرج عما شيدوه للدين
فإنشاؤهم المقابر والأهرام والمعابد، كل هذا لم يكن إلا لرسوخ العقيدة الدينية في أنفسهم. ولا يعنينا الآن وصف شيء من مقابرهم أو أهراماتهم؛ أما معابدهم فكانت إجمالا عبارة عن حوش محدود بحوائط تنتهي بصالة مستطيلة ذات أعمدة، وعلى يمينها ويسارها غرف لحفظ الأثاث والأدوات والهدايا، وضمن هذه الغرف مساكن الخدم
وخصصوا غرفة وضعوا في وسطها حجراً من الجرانيت المنحوت جيدا، جعلوه قاعدة لتمثال المعبود الذي كان أحيانا من الخشب المطعم بالذهب والفضة والأحجار الكريمة، وبارتفاع يتراوح بين نصف متر ومترين
وكانت احتفالاتهم الدينية في أول الأمر بسيطة، ولكنها أخذت شكلا عظيما فيما بعد، فبدأوا يقيمون حفلاتهم الدينية التي كانت تتخللها الموسيقى والغناء والرقص
وقام الكل بتموين هذه المعابد بالمأكل والمشرب، ووصل بهم الحال إلى جعل الاشتراك في هذه الاحتفالات إجباريا فاشتركت البلاد من أقصاها إلى أدناها، وقدموا هداياهم إرضاء للمعبود لينالوا بذلك سعادة الدنيا والآخرة. وكان فرعون، وهو الحاكم المطلق للبلاد يقوم علاوة على مهمته المدنية بمهمة الكاهن الأكبر، وقد عين لنفسه نائبا في كل معبد، يقوم بتقديم القربان للمعبود: وبرئاسة المصلين الذين يدعون لفرعون بدوام الملك والأبهة. وكان من شأن الكاهن أن يقوم بالمحافظة على المعبد بمشتملاته وبمراقبة حساباته من إيراد ومصروفات
من كل هذا نرى أن الدين المصري دفع المصريين في إخلاصهم المتناهي له، إلى بناء المعابد والاهتمام بشأنها وتنميتها وزخرفتها. وكل هذا لا يخرج عن كونه الفن المصري(191/60)
إجمالا، لأننا إذا ألقينا النظر على وادي النيل كله، وتأملنا ما تركه المصريون قديما، لا نجد إلا أهراما ومعابد ومدافن، وما بداخلها لا يخرج أيضاً عن متروكات ارتبطت بحياة الناس أو بموتهم
ويتلخص تاريخ الفن المصري كدراسة خاصة، في التوسع في وصف هذه الآثار ووضع قواعد لنماذجها وتطوراتها ورقيها وانحطاطها، وعلاقة ذلك بالحياة الاجتماعية في ذلك الحين، مع الاستعانة بما وجد على الجدران والسقف من كتابات ونقوش وزخارف، وما وجد من تماثيل وتحف ومحفوظات دلت بدرسها على ما وصلت إليه المدنية المصرية من مستوى يجعلها وحيدة فريدة بذاتها بين أمم العالم
ولاعتقاد المصريين في عودة الحياة إلى الجسم بعد الموت (البعث) فضل عظيم في إيجاد التقدير الهائل نحو الموتى الذين تمتعوا أثناء حياتهم بمشاهدة مقابرهم التي سيدفنون بها بعد موتهم
وفكرة شروق الشمس واعتقادهم بأنها تأتي معها بالحياة، وفكرة غروبها واعتقادهم بأنها تذهب ومعها الحياة، جعلتهم يدفنون موتاهم على الضفة الغربية للنيل في معظم الأحيان، ليمثلوا بذلك الموت في اظهر معانيه
وكانت هناك عقائد خاصة بحال الروح بعد الموت؛ فمن المصريين من اعتقد أنها تسكن عالماً آخر اسفل هذه الدنيا؛ ومنهم من ظنها تتحول إلى طير يطير بعد مفارقة الجسم إلى قرص الشمس ليعيش بجواره
وحرصهم على جثث موتاهم التي ستعود إليها الروح في وقت ما، جعلهم يمهرون في فن التحنيط، كما تفننوا في طريقة المحافظة على الموميات، فتراهم دفنوها دفناً منيعاً، بعد وضعها في تابوت من الخشب وضع في تابوت آخر من الصوان أو الحجر الجيري. وكانت مدافنهم على شكل الأهرام أو على المصاطب أو في جبانات عملت خصيصا
وكان الغرض من التحصين الحيلولة بين اللصوص وبين العبث بالجثث، وبما دفنوه معها من أدوات وجواهر وتماثيل الخ.
واشتملت حوائط غرف الأهرام والمصاطب والمقابر على كتابات ونقوش، كما اشتملت على رسومات تبين صاحب القبر يراقب الخدم أثناء اشتغالهم بخدمته والمحافظة على(191/61)
راحته بعد موته.
وكانت العناية ببناء المقابر فائقة في كل أجزائها التكوينية والشكلية، وسهر نفر معين من الناس للمحافظة عليها نظير أجر معلوم حصلوا عليه من أصحابها.
أحمد موسى(191/62)
من هنا ومن هناك
أونجين
لعل هذه التحفة النادرة هي أبدع ما نظم بوشكين الشاعر الروسي طول
حياته، وقد بدأها سنة 1823 وأتمها سنة 1831. وهي خيال طريف
لقصيدة بيرون ببو وإن تكن في صدقها وروعة فنها خيراً من ببو
ومن كل ما نظم بيرون على الإطلاق. ونلخص اليوم تحفته أونجين
التي تبذ كل ما كتب الأدباء الروس فنقول:
(بوجين أونجين أحد أبناء الطبقة المتوسطة من سكان بطرسبرج، حسن البزة، منسق الهندام، عنى أبوه بتربيته تربية رفيعة، وتوجيهه في الحياة وجهة خاصة، إذ وصله بالأستاذ لابيه فتفقه في الفرنسية حتى ثقفها وأصبح يتكلمها كواحد من أهلها. وكان مشغوفاً في ملبسه بالطراز الإنجليزي من نسق لندن. وأجاد بضع رقصات كان أحبها إليه (المازورقا) - وكان متأنقاً في عبارته، يتخير اللفظة الرنانة، ويصقل الحروف صقلا أرستقراطياً يزيد في فخامتها، ويضاعف موسيقاها. وطالما كان ينثر في حديثه أبياتاً من الأنييد (فرجيل) أو يستشهد بالحكمة اليونانية، والمثل اللاتيني، كأنما يريد أن يلفت السامع إلى تبحره في الأدب، ورسوخ قدمه في التاريخ، وإلمامه بعلوم الأولين. . . . . . والآخرين! وفي مشيته، بل في طعامه، بل في جلسته، بل في الإيماءة الصغيرة بطرفه، كان يتعمل تعملا ملحوظاً، وكأنما أورثه تعمله هذا رذيلة الاضطغان، والتبرم بجميع المخلوقات!. . . وكان أبوه رجلا متلافاً مبذراً، لا يكفي دخله المتوسط للمظهر الذي كان يبدو به بين الناس، وكان لذلك الاستدانة قليل السداد. . . يقيم في داره المراقص والمراقص. . . وهو في إفلاس وضيق ليس وراءهما إفلاس وضيق. فلما مات خلف تركة ثقيلة من الديون الفادحة، أتت على أخضره ويابسه
واشتد الضيق على أونجين فارتحل إلى عمه في الريف فوجده قد انتقل إلى الآخرة هو الآخر. وثمة تعرف إلى شاب ألماني حَدَث، واسع أفق الفكر، متشعب المعرفة، درس كانت وشيللر وهجل وأدباء الألمان، حتى ما يكاد ينطق إلا بكلامهم ولا يفيض إلا عنهم. ويقدمه(191/63)
هذا الشاب (لنسكي) إلى عائلة مجاورة قوامها أرمل وابنتان، صغراهما أولجا، فتاة يافعة ممشوقة ساحرة اللفتات، رشيقة الحركات، علقها لنسكي من كل قلبه، وشغفه حبها حتى ما يفكر إلا فيها. والكبرى، تاتيانا، أقل جمالا من أولجا، وإن تكن أرجح عقلا، وأثبت جناناً، وأكمل أنوثة. ترى أونجين فتحس بزائر جديد يحتل قلبها دون أن يستأذن، وتشعر بانعطاف إليه يقرب أن يكون ولوعاً. وتكتب إليه بعد أن يكون التعارف قد اشتدت أواصره، وتعترف له بما تحس نحوه في أعماقها، في أسلوب صارخ، وعبارة مجلوة منتقاة، وكلمات تكاد تتوهج وتلتهب. وليس في أشعار العالم شيء يشبه ما نظمه بوشكين في رسالة تاتيانا هذه، بل ليس في فلسفة الحب صورة هي أروع ولا أصدق مما جاء في خطابها إلى أونجين. لقد كان قلبها يتكلم ويتضرم، وكانت نفسها الملتاعة الوامقة تسيل دماً على شباة القلم. ولقد قرأنا درة شللي (أبييسيكيديون) في الحب، ولكنا لم نلمس هذه الروح التي هبطت من وحي بوشكين في رسالة تاتيانا، ولم نلمح هذا القبس المقدس الذي أججه بوشكين العظيم في شعره العظيم. . .
ويرد أونجين على هذه الرسالة العلوية بخطاب فاتر بارد فيدعي فيه أنه لم يخلق للحب، ولا يفكر في الزواج. وأنه غير جدير بها، لأنه لم يشعر نحوها إلا بما يشعر به الأخ نحو أخته.
وإنهم جميعاً لفي مرقص، فتدعو أولجا الصديق أونجين إلى رقصة اختارتها، فينهض ملبياً طلبها، وما تنتهي الموسيقى إلا وقد جن جنون لنسكي من الغيرة، فينهض إلى أونجين وينتهره، ويتحداه تحدياً يهيجه، فتكون بينهما مبارزة هائلة يقتل فيها لنسكي - وتسود الدنيا في عيني أونجين، فيرحل عن هذا البلد ويتنقل في أطراف البلاد. . وتنتقل الأرمل بابنتيها إلى العاصمة حيث يتفتتن أحد أغنيها بتاتيانا، فيخطبها إلى أمها، وسرعان ما يصبحان زوجين سعيدين
ويلتقي بها أونجين فجأة في إحدى حدائق بطرسبرج، فتثور في نفسه الذكريات القديمة، ويهيج به ميله الماضي، فيبثها حبه ولكن. . ولكن. . الفتاة تدمع قليلا. ثم تصارح الفتى قائلة:
(أونجين! لقد أحببتك من صميمي، ولكنك استكبرت ورفضت حبي. . . وهأنا الآن زوجة.(191/64)
وعلي واجبات. . . ولزوجي شرف، وله كرامة. . . وهو بحبه لي خير منك بعبثك عليَّ. . . أونجين. . . وداعاً!)
هذا ملخص مقتضب لهذه القصة الرائعة التي يخطئ مؤرخو الآداب فيقرنونها بدون جوان لبيرون
فن راسين (1639 - 1699)
يعتز الفرنسيون براسين اعتزاز الإنجليز بشاكسبير. ولكل من راسين وشكسبير ميزة يفضل بها أخاه، فراسين يحكم العقل في العاطفة ويسخرها له وبعكسه شاكسبير الذي يجعل العاطفة مسيطرة على العقل سيطرة تامة ويترك لها القياد فوق المسرح فتنتقل بالنظارة في آفاق شعرية جميلة صاخبة لا وجود لها في عالم الحقيقة. ولا يدري أحد أيهما يفضل أخاه ولا يستطيع أحد أن يحكم لأحدهما على الآخر
والذي يلفت النظر في فن راسين أنه مشيد على دعائم يونانية من فن سوفوكليس ويوريبيدز في حين تفيض فيه روح مسيحية عليها طابع قوي من جماعة الـ (أو الطهريين الفرنسيين) ثم يزين ذلك كله رواء من أبهة لويس الرابع عشر وفخامته.
ولكن يوريبيدز أقوى أثراً في راسين من كل شيء آخر. ولا غرو، فقد كان راسين يسير على درب الأديب البوناني الكبير ويمشي على منهاجه فلا يحيد قيد أنملة، اللهم إلا فيما يجعل دراماته ملائمة لعصر لويس العظيم. ففي (أندروماك) و (إفجنيا) و (فيدر) نلمس يوريبيدز في الأدب الفرنسي وتكاد المقارنة بينهما، وإن كان راسين قد لون فن أستاذه بمثل الألوان التي كان رافائيل يضيفها على صور لداته فيخلقها خلقاً آخر.
وليس شك في أن (أندروماك) خير درامات راسين جميعا. ولا نبالغ إذا قلنا إن أية درامة أخرى لم تجمع أشخاصاً ذوي عواطف شتى وأحاسيس متناقضة كما جمعت أندروماك. ولا نستطيع أن نعلل الأسباب التي إليها يرجع عدم نجاح هذه الدرامة العنيفة على المسرح المصري، إلا أنها قطعة كلاسيكية لم يعتدها الذوق المصري بعد. وهذا ما يؤسف له! وإذا كانت أندروماك قد جمعت كل هذه الشخصيات المتناقضة فبعكسها (فيدر) التي ازدحمت في قلب بطلتها متناقضات من عواطف غريبة ما برحت تتنقل وترتفع وتنخفض وتخبو وتشتعل حتى ختام المأساة. فقد أحبت فيدر ابن زوجها حبا شهوانيا اختلط بلحمها وخامر(191/65)
قلبها، ثم جعلت تتلطف إليه، ثم أعلنت إليه أنها تحبه، وطفقت تراوده، ولكن الفتى أبى أن يخون أباه أو يغمس شرفه في الوحل، فتضرعت إليه، وانقلبت الضراعة فأصبحت مذلة وهواناً، فلما اشتط الفتى في تمنعه انقلبت المذلة فصارت حقدا وغيظا، ثم اضطرم الغيظ فصار شرا تضمره فيدر ويمزق فؤادها. . . ثم اتهمت الفتى لدى أبيه أنه يراودها عن نفسها. . . فوقعت المأساة! فأنت ترى - إن كنت قد قرأت أندروماك أو شهدتها على المسرح - أن العواطف المتناقضة التي توزعت على أبطال أندروماك قد اكتظت كلها في نفس فيدر؛ وهذا عمل فتي خالد لم يتح لكاتب مثل راسين.
كذلك قد قلد راسين الشاعر الكوميدي اليوناني أرسطوفان في ملهاته التي احتذى فيها الكوميدية اليونانية (الزنابير!) والتي أضحكت لويس الرابع عشر حتى ذهبت بوقاره المعروف عنه!(191/66)
البريد الأدبي
وثيقة فرعونية عن المعاملات الشخصية
اقتنى متحف شيكاجو أخيراً وثيقة مصرية قديمة يرجع عهدها إلى ما قبل الميلاد بنحو مائة عام، أعني إلى أواخر عهد البطالسة تدل على أن المصريين القدماء كانوا يجرون في القروض الشخصية على قواعد وأوضاع اقتصادية صارمة. وإليك خلاصة ما نصحت عليه الوثيقة المذكورة التي حل رموزها الدكتور ناتانيل ريش العلامة الأثري، على لسان المقترض:
(أنا العبد انسناكومني التابع لمقبرة زيمي، قد اقترضت من المرأة نخوتسي 22. 5 إردباً من القمح. وأتعهد برد هذا القرض مع أداء مثله بصفة ربح ليكون المجموع 45 إردباً.
(وأن يكون الأداء من قمح حسن لا غش فيه، ويكال بنفس الكيل الذي استعمل في القرض، كما أتعهد بأن أحمل القمح المذكور إلى منزل المرأة نخوتسي متحملا نفقات الإرسال، وذلك في آخر يوم من الشهر التاسع من السنة التاسعة دون طلب امتداد الميعاد، فإذا لم استطع أن أؤدي القمح في الميعاد المذكور فأتعهد بأن أدفع في الشهر التالي عن كل إردب ستين قطعة من الفضة
(ولا حق لي مادام هذا الإيصال في يد نخوتسي أن أدعي الوفاء كله أو بعضه، هذا مع إقراري بأن كل ما أملكه الآن أو أملكه في المستقبل يكون رهناً لذمة نخوتسي حتى أؤدي الدين كاملا، فإذا اضطرت نخوتسي إلى مقاضاتي من أجل الوفاء فإني أتحمل كل ما يترتب على ذلك من التعويضات، هذا مع اعترافي باتباع كل ما يأمر به وكيل نخوتسي في كل وقت بلا معارضة ولا ممانعة).
نقول: فهل يستطيع رجل القانون المعاصر أن يكبل المدين لمصلحة الدائن بأوثق من هذه القيود؟
ذكرى بوشكين عميد الشعر الروسي
احتفلت حكومة جمهورية اتحاد السوفيت، وروسيا كلها، في اليوم الحادي عشر من فبراير بالذكرى المئوية لوفاة الشاعر بوشكين أعظم شعراء روسيا الحديثة، وأطلق اسم الشاعر بهذه المناسبة على متحف الفنون الجميلة في موسكو، وعلى مسرح لننجراد كما أطلق اسمه(191/67)
على عدة من الشوارع الهامة في العاصمتين، وأطلق أيضاً على مدينة (دتسيكو زيلو) التي نشأ فيها الشاعر وتلقى تربيته. ويعتبر اسكندر سرجيفتش بوشكين في الواقع شاعر روسيا القومي كما يعتبر شكسبير شاعر إنجلترا، وجيته شاعر ألمانيا. وكان مولد الشاعر سنة 1799 في موسكو، ولما انتهى من دراسته القانونية في عين وظيفة بوزارة الخارجية، وفي سنة 1822، ذهب إلى جنوب روسيا وزار القوقاز، وألهمته هذه الزيادة موضوع روايته الشعرية الشهيرة (سجين القوقاز)، ثم أخرج قصيدته الرائعة (ثناء نابليون) وكتاباً شائقاً في حياة النور. واتهم بوشكين في تلك الآونة في عدة مؤامرات سياسية، ولكنه استطاع أن يفلت من العقاب نظراً لمكانة أسرته. وفي سنة 1824 استقال من وظيفته لخلاف بينه وبين رؤسائه وتفرغ للكتابة والنظم. وأخرج في العام التالي مأساته الشهيرة (بوريس جودونوف) وهي القطعة الخالدة التي حررت المسرح الروسي من نفوذ المسرح الفرنسي، ودفعت التأليف المسرحي في روسيا إلى وجهة قومية جديدة، وفي سنة 1828، ظهرت (بولتاوا) وهي قصة شعرية عن أيام بطرس الأكبر، ثم وصف شائق لرحلته الثانية في القوقاز، وعاد بوشكين إلى سلك الوظائف سنة 1831، وكتب تاريخاً للثورة القوقازية التي وقعت يومئذ، ثم أخرج بعد ذلك قصته الرائعة (ابنه الكبتين)، ثم قصيدة (أوجين أونجين) وهي في نظر النقدة أبدع ما نظم. وهي مزيج من الفكاهة والتهكم والقصص، يبدو فيها أثر اللورد بيرون واضحاً جلياً، وهو أثر يبدو في كثير من قصائد بوشكين الأخيرة. وفي فبراير سنة 1837 وقعت بين بوشكين وبين البارون ذايتس الذي اقترن بأخت زوجته تاتاليا جورشاروف مبارزة جرح فيها بوشكين جرحاً أودى بحياته، وبذلك انتهت حياته القصيرة الباهرة.
حول التاريخ الألفي للأزهر
كتب كاتب في جريدة الجهاد الغراء مقالا يستعرض فيه قصة اللجنة التي أنشئت منذ ثلاثة أعوام لكتابة تاريخ شامل للجامع الأزهر لمناسبة عيده الألفي الذي تقرر الاحتفال به عند حلوله في أوائل سنة 1359هـ؛ وذكر الكاتب أن اللجنة المذكورة قد عقدت بضعة اجتماعات، وأن لجنة فرعية من بعض الأعضاء ألفت لوضع برنامج لتاريخ الأزهر، ثم لم يسمع بعد ذلك شيء عن اللجنة ولا عن أعمالها(191/68)
وما ذكره الكاتب عن اللجنة صحيح في مجموعه، بيد أن هنالك بعض حقائق غابت عنه ولا بأس من ذكرها بهذه المناسبة، ذلك أن إنشاء هذه اللجنة كان نتيجة للقرار الذي اتخذته مشيخة الأزهر في عهد شيخه السالف بالاحتفال بالعيد الألفي للأزهر؛ فلما تغيرت المشيخة بعد ذلك بقليل، رأى فضيلة الشيخ الحالي أن يرجئ جميع الأعمال الخاصة بالعيد الألفي لأنه في رأيه لا يزال ثمة فسحة كبيرة من الأجل، وبذا تعطل عمل اللجنة دون حلها، هذا في حين أن اللجنة كانت قد قطعت بالفعل مرحلة تذكر في سبيل إنجاز برنامجها، وكانت اللجنة الفرعية التي ألفت لوضع برنامج العصر الفاطمي قد وافقت على البرنامج الذي وضعه أحد أعضائها الأستاذ محمد عبد الله عنان، ووزعت مواده بالفعل على بعض أعضاء اللجنة العامة، وأنجز بعض الأعضاء ما عهد إليهم بكتابته وفي مقدمتهم الدكتور حسن إبراهيم حسن، والأستاذ عنان، ثم وقفت اجتماعات اللجنة واجتماعاتها عند هذا الحد
وقد ظهرت أثناء مباحث اللجنة ومناقشاتها حقائق تلفت النظر؛ من ذلك أن أقطاب المشيخة قد لمحوا أكثر من مرة إلى أن التاريخ المراد وضعه للأزهر يجب أن يكون في مجموعه وفي روحه نوعاً من التاريخ الرسمي، وأنه يراد أن تخص منه عصور معينة دون غيرها، وأن العناصر السياسية أو المذهبية التي يحفل بها تاريخ الأزهر يجب إلا تمثل فيه، وكانت هذه التلميحات والرغبات داعية دهشة أعضاء اللجنة (المدنيين) ولاسيما المتخصصين منهم في التاريخ، وقد علقوا عليها بأكثر من مرة بأنه يجب إذا أريد أن يوضع تاريخ ألفي للأزهر فيجب أن يكون تاريخاً بالمعنى الصحيح، وعلى هذا سارت اللجنة الفرعية في عملها
وثمة حقيقة أخرى كانت موضع النضال، وهي أنه ظهر خلال المناقشة أن المشيخة تريد أن تنتفع بجهود العلماء المتخصصين في التاريخ، لينسب المؤلف فيما بعد في مجموعة إلى (مشيخة الأزهر)؛ ولكن هذه النقطة كانت موضع الاعتراض الشديد إذ أصر الأعضاء المدنيون على أن ينسب كل فصل إلى صاحبه على طريقة المؤلفات العلمية الأخرى
هذه بعض حقائق عن لجنة التاريخ الألفي للأزهر تجدر إذاعتها؛ وإذا كان لنا أن نعلق على هذا الموضوع بشيء، فهو أن تأليف اللجان الحاشدة ليس وسيلة لكتابة التاريخ، وأن كتابة التاريخ الصحيح قد أصبحت في عصرنا علماً حقيقيا لا يستطيع أن يضطلع به إلا(191/69)
المتخصصون فيه
هذا وإنا لنأمل أن يكون لمشيخة الأزهر في عهدها الجديد في هذا الموضوع نظرة أوسع آفاقاً، وأوفر سداداً وتوفيقاً
الذكرى السنوية الأولى للزهاوي
ستقيم وزارة المعارف العراقية حفلة تأبينية للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي ببغداد يوم الجمعة 12 مارس سنة 1937، دعت إليها نفراً من كبار الأدباء في البلاد العربية، ثم أرسلت لجنة التأبين إلى جمهرة أخرى من الكتاب هذا الكتاب:
وبعد فإني أتشرف بإخباركم بأن حفلة تأبينية كبرى ستقام في بغداد يوم الجمعة المصادف 12 مارس1937 إحياء للذكرى السنوية الأولى لوفاة شاعر العرب الكبير الفيلسوف الحكيم السيد جميل صدقي الزهاوي الذي خدم الأدب العربي مدة نصف قرن
ولما كنا نعتقد بأن حضرتكم ترغبون في الاشتراك في رثاء الفقيد الطيب الذكر نرجو أن تتكرموا بما تجود به قريحتكم في هذا الشأن ليتلى في الحفلة التأبينية أو يثبت في الكتاب المزمع نشره تخليداً لذكرى الراحل الكبير. . .
تأبين الزهاوي في وزارة المعارف ببغداد(191/70)
الكتب
المتنبي مع طه حسين
للدكتور محمد عوض محمد
إن الذين يطالعون الكتاب الذي بين أيدينا على أنه كتاب لطه حسين في المتنبي سيخطئون القصد ويفوتون على أنفسهم اللذة الحقيقية والمتعة العظيمة التي يستطيعون أن ينالوها من مطالعة هذا الكتاب على الوجه الصحيح: أي على أنه كتاب أدبي أو قصة أدبية شائقة لها بطلان المتنبي وطه حسين معاً. فليس الكتاب بحثاً تاريخياً جافا، أو نقداً موضوعياً، بل قصة ممتعة تشترك فيها شخصية المؤلف الأديب وشخصية المتنبي المدهشة. . . ولهذا يجمل بنا أن ندعو الكتاب طه حسين مع المتنبي، أو المتنبي مع طه حسين؛ كما ينادون في بعض المطاعم على الأصناف اللذيذة بأن يقولوا فراخ مع الأرز، أو كوارع مع الفتة. . .
فالكتاب الذي نحن في حديثه الآن اسمه الصحيح إذن هو المتنبي مع طه حسين. . . .
والمتنبي مع طه حسين مظلوم!. . فقد كان طه حسين معرضاً عنه إعراضاً تاماً؛ وظل معرضاً عنه زمناً كدنا إلا نعرف له آخر. . وقد قرر طه حسين أن يعرض عن المتنبي كل هذا الأعراض، منذ أن كان يطلب العلم في الأزهر الشريف. ثم لم يزل معرضاً عنه ممعنا في الإعراض. لا يستمع لصوته القوي، ولا يستجيب لندائه العذب. وهو يستعين على هذا الإعراض بضروب من الوسائل؛ فجعل يضع القطن الغليظ في أذنيه، ويقيم الحجب والجدران بينه وبينه، ويقول له: ابعد عني! لا أريد أن أصغي إليك. . .
وهكذا ظل المتنبي يهيب بالأديب الكبير، والأديب الكبير ليس له - كما تقول العامة - سوى أذن من طين وإذن من عجين
ولكن لم كل هذا الإعراض، أو التجني، أو التمتع؟
سيقول لك خلطاؤه الذين لا ينظرون إلا إلى ظاهر الأمور إن إعراض طه حسين يرجع إلى الخصومات التي تنشأ بين الطلبة، وتذهب بهم في التشيع الأدبي مذاهب مدهشة، فكان يكفي أن ينادي زيد بأن الطائي شاعر كبير، لكي يخاصمه في ذلك عمرو وبكر وخالد؛ وكان يكفي أن يشتد إعجاب بكر بشعر المتنبي ويسرف في مدحه، حتى يتألف عليه الآخرون، ويقاطعوا المتنبي المسكين من غير جريرة ولا ذنب(191/71)
أقول إن هذا ما يزعمه الزاعمون. وقد يكون هذا ما يزعم طه حسين نفسه إذا سألته عن سبب إعراضه الطويل. ولكن الحقيقة أعمق وأبعد غوراً من هذا كله: وقد خفيت حتى على المؤلف نفسه. ذلك أن طه حسين كان يحس - إحساساً مبعثه الإلهام الذي لا حول له فيه ولا قوة - أن شعر المتنبي متعة هائلة أولى به أن يدخرها، وأن يؤجل التمتع بها كما يترك المرء أطيب الثمار إلى آخر الوجبة، بادئاً بالفج الثقيل منها. قال لي بعض الناس مرة: هل رأيت إيقوسيا؟ قلت: لا! قال فإني أحسدك على هذا اشد الحسد. إني لأعطي كل ما عندي لكي أرى إيقوسيا للمرة الأولى!
ومن هذا الجامد البخيل الذي لا يعطي كل ما عنده لكي يدرس شعر المتنبي للمرة الأولى؟
ذلك هو السبب الحقيقي لهذا الإعراض الطويل؛ وكان لابد لصاحبه إذا سأله لماذا لا تعنى بدراسة المتنبي أن يجيبك بأعذار ينتحلها انتحالا، وإذا هو يصطنع خصومة بينه وبينه، وقد ينتهي به الأمر إلى تصديق هذه الأعذار والإيمان بأن تلك الخصومة المفتعلة تقوم على أساس أو شبه أساس.
إلى أن جاء الوقت، واستطاع المتنبي أن يرغم طه حسين على أن يسهر مع الساهرين من اجل شوارد شعره التي كان ينام عنها هو ملء جفنه. وأن يكب على دراسة المتنبي انكبابا عجيبا، وأن يقيم للمتنبي أسبوعا كان من أجل وأروع أسابيع الجامعة المصرية، وأن يصطحب المتنبي معه إلى أوربا، وأن ينزله معه في الباخرة وفي القطارات وفي مختلف الفنادق والديار!!
وهكذا اضطر طه حسين إلى أن يرى نفسه - على كره منه كما يقول - منصرفا إلى دراسة المتنبي، وأن يبادر إلى المتعة التي ادخرها لنفسه هذا الدهر الطويل، وأن يسلط على هذه الدراسة ما وهبه الله من ذكاء خصب، واطلاع واسع، وملاحظة دقيقة، وقدرة على استنباط الحقائق من ايسر المعلومات التي يمر بها الناس مرا دون أن يروها. . ثم استطاع بعد ذلك أن يصور لنا المتنبي، فإذا نحن نحسه وإذا نحن نلمسه، وإذا نحن نراه ماثلا أمامنا، وإذا نحن نسير وإياه جنبا إلى جنب، وإذا شخصية المتنبي تبرز لنا من وسط هذه الصفحات بروزا غير محاط بلبس ولا إبهام
وطه حسين الذي أبدع هذه الصورة يقول لنا مع إنه ليس من المعجبين بالمتنبي،(191/72)
المشغوفين بشخصه وفنه، ولكنه لحسن الحظ لا يطلب منا أن نصدق كلامه هذا بل يقول لنا إننا مخيرون في أن نرى أن هذا الكلام يصدر عن تفكير أو هذيان أو شذوذ وجموح (ص70). . وأنا أفضل الرأي الأخير. . ومن الممكن للمصور البارع الذي أبدع الصورة وجلاها للناظرين أن يزعم أنه لا يحب صاحب هذه الصورة ولكنه لم يجد بين الناس من يصدقه
ليقل طه حسين إذن في علاقته الشخصية بالمتنبي ما يشاء. فإن القراء قد ظفروا منه على كل حال بكتاب ممتلئ حياة وقوة. ليس المتنبي فيه اسما يذكر وأشعارا تتلى وجدالا يسرد، بل شخصا حيا يسعى ويعمل، ويحس ويشعر، ونحن نشاركه كل هذه الحياة. واستطعنا بسبب هذا كله أن نزداد حبا للمتنبي وعطفا عليه. وهي نتيجة لم يكن المؤلف يريدها أو يفكر فيها. كذلك استطعنا أن نعجب بالمؤلف حين ينصف المتنبي، ويبرز الخفي من أركان هذه الحياة الثائرة العجيبة. واستطعنا أيضاً أن ننظر شزرا حين نرى المؤلف يحمل على المتنبي حملات أقل ما يقال عنها إنها لا تتفق مع ما يذكره المؤلف نفسه عن المتنبي حين يتناسى ما بينهما من الحزازات القديمة
ليس من الممكن هنا أن نعدد محاسن هذا الكتاب الذي قلما خدم شاعر في العربية كما خدم به أبو الطيب. وسيرى القارئ من غير مشقة كيف استطاع المؤلف أن يزيد لذتنا ومتعتنا بأشعار المتنبي أضعافا مضاعفة، فقصيدة مثل (وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه) ونحوها. أصبحنا بعد أن صورت لنا حياة المتنبي والظروف المعقدة التي أنشدت فيها تلك القصائد - نرى فيها حياة وقوة وعمقا لم نكن نحس له وجودا
ومع هذا - وبعد هذا كله - فالمتنبي مع طه حسين مظلوم. لأن طه حسين لم يستطع دائما أن ينسى ما بينه وبين المتنبي من خصام، بل يتذكر هذا الخصام أحيانا فيعود إلى ظلم المتنبي، ويمعن في التشنيع عليه. أنظر إليه حين يريد أن يوهمنا بأن المتنبي مداح كسائر المداحين وأنه ينكر نفسه كلما اقتضت منه المنفعة العاجلة إنكارها. ويريد منا أن نصدق هذا، وهو نفسه الذي يرينا في صراحة وجلاء كيف أعرض المتنبي عن مدح اسحق بن كيغلغ ولم يعبأ بتهديده ووعيده. مع أن المنفعة العاجلة كانت تقضي من غير شك بإنكار النفس وبذل المدح(191/73)
ونحن نرى المتنبي لا يكتفي بهذا بل يهجوه هجاء مراً، ذلك لأن المتنبي كان غاضباً من هذا الرجل الذي أبى أن يقبل منه المدح فيما مضى، فجازاه المتنبي على إعراضه بأن أعرض عنه يوم أضحى شاعرا مشهوراً.
هذا كله لا يمكن أن يذكر للمتنبي إلا بالخير. فانظر كيف يصور لنا المؤلف هذا الحادث: (فلا تسل عن كبرياء الشاعر وما امتلأت به نفسه من الزهو والغرور، وإذا هو يمتنع على الأمير ويأبى أن يجيبه إلى المدح الذي رغبه فيه، ويحتال الأمير في ذلك فلا يوفق. وتشق عليه هذه الإهانة فيمسك الشاعر في طرابلس، ولا يخلي بينه وبين السفر، وإنما يمسكه سجيناً كالطليق، وطليقا كالسجين)
والمنطق السليم يقضي بأن مسلك أبي الطيب هذا ينطوي على كثير من العزة والشمم، ولا يدل مطلقاً على أنه يطلب العاجلة، فينكر نفسه. ولابد للمنصف أن يرى أن عبارة المؤلف في وصف ذلك الحادث قاصرة لم يمهلها الإنصاف، بل أن للحزازات القديمة أثراً فيها
وفي حياة أبي الطيب أمثلة من الوفاء والإخلاص، استطاع المؤلف أن يحولها إلى أمثلة من التزلف والخوف. انظر مثلا إلى الحادث الشهير يوم أن غضب أبو العشائر على أبي الطيب وأرسل غلمانه وراءه فرماه أحدهم بسهم وقال خذها وأنا غلام أبي العشائر. فأنشد أبو الطيب هذه الأبيات العجيبة الساحرة:
ومنتسب عندي إلى من أحبه ... وللنبل حولي من يديه حفيف
فهيج من شوقي وما من مذلة ... حننت ولكن الكريم ألوف
وكل وداد لا يدوم على الأذى ... دوام ودادي للحسين ضعيف
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن ألوف
ونفسي له - نفسي الفداء لنفسه، ... ولكن بعض المالكين عنيف
فإن كان يبغي قتلها يك قاتلا ... بكفيه فالقتل الشريف شريف
وليس هنا مجال لسرد الحادث كله، ولكن العجيب أن سرد المؤلف له يضع الذنب كله على المتنبي، لأنه أهمل مدح أبي العشائر وكأنه يلتمس العذر لهذا الرجل في غدره بأبي الطيب
لقد قرر المؤلف في نوبة من نوبات الظلم التي كانت تعاوده وهو يملي كتابه هذا: أن المتنبي (عبد للطمع والمال، لا للجمال والفن.) ولم يجد من الحوادث والأشعار مساعداً له(191/74)
على تأييد هذا الرأي، فاضطر إلى أن يصبغ الحوادث بالصبغة التي تتفق مع هذا الظلم، وأن يلتمس للشعر الخالص البريء أسباباً غير خالصة ولا بريئة
وقد وجد الأستاذ المؤلف نفسه في مأزق حرج أمام قصيد المتنبي (وا حر قلباه ممن قلبه شبم) فقد رأى المؤلف إنها قصيدة لا يمكن أن تصدر عن رجل خلقه الأساسي أنه عبد للطمع والمال لا للجمال والفن. فماذا يفعل بهذه القصيدة التي إن دلت على شيء فإنها تدل على أن المتنبي رجل خلقه الأساسي الشمم والأباء. لم يكن للمؤلف بد من أن يمر بهذه القصيدة مراً، وأن يختصر الكلام عنها، وعن الحادث الذي تدل عليه اختصاراً. وأن يعتذر عن ذلك بأن الناس قالوا فيها فأكثروا. . أما ما اشتملت عليه القصيدة من الفن الهائل فأنه لا يظفر من المؤلف إلا بالعبارة الآتية: نلاحظ مسرعين أن المتنبي قد وفق فيها إلى حظ لا باس به (كذا) من الإجادة الفنية. . سلك طريق ابن الرومي فألح في العتاب حتى كاد يبلغ الهجاء. وأسرف في المدح ليصلح ما أفسده بالعتاب.)
هذا كل ما يقوله عن هذه القصيدة هذا المؤلف العجيب الذي يخصص ست صفحات من كتابه لقصيدة (كفرندى فرند سيفي الجراز)
ونحن نلاحظ هنا أمراً مدهشاً قد ساق المؤلف إليه إصراره على تجاهل هذه القصيدة. .
ولنمر أولا - مر الكرام، على قوله أن بها حظا لا باس به من الإجادة الفنية، ولكننا نقف قليلا عند قوله إن المتنبي أسرف في المدح ليصلح ما أفسده بالعتاب)
إن أقل إلمام بهذه القصيدة يرينا أن ما اشتملت عليه من المدح ليس من النوع الذي يوصف بالإسراف. ومهما يكن من شيء فإن هذا المدح مقدم في أول القصيدة، لا لإصلاح ما أفسده العتاب، بل توطئة للعتاب القاسي واللوم المر؛ والقصيدة تزداد شدة وعنفا كلما اقتربنا من النهاية؛ حتى تنتهي فعلا بتهديد سيف الدولة بالانصراف عنه والرحيل من دياره
وهذه القصيدة تدل على براعة فنية هائلة، وعلى خلق متين وعر. ولذلك لا نتفق مع الدعوى بأن المتنبي عبد للطمع والمال، ذليل للملك والسلطان، ولذلك تجاهلها المؤلف ومر بها مرا سريعاً. . .
وبعد فليست بي حاجة لأن أدلي بأمثلة أخرى يظهر فيها ما بين المؤلف والمتنبي من خصومة قديمة. . ففيما ذكرناه كفاية لأن يرى القارئ أن المتنبي مع طه حسين مظلوم.(191/75)
ولكن من العدل أن نقرر أن طه حسين كثيراً ما كان ينسى هذه الخصومة. والكتاب ممتلئ بقطع عديدة، استطاع المتنبي أن يثأر بها لنفسه، وأن ينال من المؤلف كل إنصاف وتقدير بالرغم منه
والمواقف الظالمة التي وقفها المؤلف من الشاعر هي من الوضوح والظهور بحيث لن يخطئها القارئ؛ ونحن لا نشك في أنها البقية الباقية من أيام العهد القديم حين كان بعضنا يتعصب للمتنبي وبعضنا يتعصب عليه، وكان طه حسين دائما من الفريق الثاني. .
ولكننا برغم هذا التحامل - بل لسبب هذا التحامل - سنجد في مطالعة هذه الفصول متعة شائقة، بحيث لا يمكن أن نتناول الكتاب ثم نلقيه قبل أن نفرغ منه
يجب أن نطالع هذا الكتاب لا على أنه تاريخ أو نقد، بل على أنه قطعة أدبية فنية، تمثل صورة وتقص قصة. ولك أن تطالعه إذا شئت على أنه كتاب لطه حسين عن المتنبي. ولكنك بهذا ستضيع على نفسك لذة عظيمة ومتعة فائقة. فالوجه الصحيح للتمتع بهذا الكتاب هو أن تقرأه على حقيقته التي كشفت لك عنها في أول هذا المقال. فالموضوع الصحيح هو المتنبي مع طه حسين. أو إذا شئت اصطلاحا حسابيا فقل: (المتنبي مضروبا في طه حسين) فالكتاب هو حاصل هذا الضرب
وبهذا الاعتبار أو ذاك ستجد في مطالعة الكتاب لذة جديدة لم تكن تتاح لك من قبل. ولو كان في هذا الزمان إنصاف لشكرني الناس على الكشف الذي كشفت والهدي الذي هديت، ولكنا في زمن كما يقول صاحبنا:
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
والآن فبالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن عشاق المتنبي أسجل هنا ما أحرزناه من النصر بانضمام عدو عنيد إلى صفوفنا.
محمد عوض محمد(191/76)
العالم المسرحي والسينمائي
على مسرح الأوبرا
موسم الدرامة الإنجليزي
لناقد (الرسالة) الفني
كان للمظهر الفني البديع الذي ظهرت فيه فرقة (دبلن جيت) الأيرلندية في العام الماضي ما جعل وزارة المعارف العمومية تستقدمها في هذا العام أيضاً لتحي موسم الدرامة الإنجليزي على مسرح الأوبرا الملكي
ويذكر قراء الرسالة أنه سبق لنا الحديث عن هذه الفرقة وعن مقدرة مخرجها المستر (هلتن ادواردز) الذي يعمد في إخراج رواياته إلى الطريقة الإيمائية إذ يراها وسيلة لأشغال بال رواد المسرح وتفكيرهم فيكونون بذلك عنصرا من عناصر الرواية والتمثيل. وعنده أن من يقصد المسرح يجب أن يجلس منتبه الحواس لكل كلمة وكل حركة أو إشارة تبدو من الممثلين في حين أن من يقصد السينما يجلس في مكانه هادئ البال مرتاح الفكر يرى الأشياء تعرض أمامه عرضا سهلا لا يكلفه عناء لأن المدير الفني يجعل عدسة التصوير تحصر أمامه ما يريد أن يوجه الأنظار إليه.
وليس من شك في أن طلبة البكالوريا هذا العام سيقصدون دار الأوبرا لمشاهدة رواية (لابورنم جروف) المقررة عليهم فنرجو أن ينتبهوا إلى طريقة المخرج وفكرته في الإخراج: من استعمال المنظر الواحد لتمثيل مشاهد ومناظر متعددة مستعينا بالإضاءة وبالنظارة في تخيل المنظر المتجدد وما إلى هذا من الطرق التي لم يألفوها في المسرح المصري؛ فعليهم إلا يضيقوا بما يرون وأن يحاولوا إدراك مرامي هذا المخرج وأن يتتبعوا الممثلين فيستمتعوا بالقصة والتمثيل
وممثلو الفرقة ليسوا في حاجة إلى أن أتحدث عنهم، فهم على جانب عظيم من النبوغ والمقدرة لاسيما الممثل الأول المستر ميكائيل ماك ليمور الذي نال إعجاب النقاد ورواد المسرح في العام الماضي عندما مثل هملت وروميو في روايتي شكسبير وكذلك المستر(191/77)
هلتن ادواردز الذي أبدا مهارة فائقة في أداء دور الملك في روايات هملت والكابتن شاتوفا في رواية (بيت القلوب المحطمة) لبرناردشو.
وقد ضمت الفرقة إلى مجموعتها السابقة ممثلا كبيرا هو المستر (آنيوماك ماستر) الذي يزور مصر للمرة الأولى وقد اشتغل في أكبر مسارح الوست اند بلندن وقام بتمثيل كثير من الأدوار الرئيسية منها عطيل في رواية شكسبير
هذا وستمثل الفرقة مجموعة طيبة من الروايات التمثيلية لأكبر الكتاب الأيرلنديين والإنجليز والإيطاليين منها: (مدرسة النميمة) لشريدان، (أهمية انتحال اسم إرنست) لأوسكار وايلد (صورة في الرخام) لهازل إليس، (عطيل)، (الليلة الثانية عشرة) لشكسبير، (لابورنم جروف) لبريستلي، (ملاك الموت في إجازة) لالبرتوكاسللي وغيرها.
ملاك الموت في إجازة
هي مهزلة خرافية ألفها الكاتب الإيطالي (البرتوكاسللي) ونقلها إلى الإنجليزية (والتر فريس) فكرته عجيبة وطريفة حببت رجال السينما إلى إخراجها على الشريط وقد عرضت في موسم القاهرة الماضي.
لاحظ ملاك الموت أن الناس يخشونه ويفزعون منه فأراد أن يعرف سر هذا الفزع وسر بغض الناس له وأن يدرك بنفسه ما يحبب الناس في الحياة والخلود.
نزل إلى الأرض كظل أو طيف يرى، وبينما هو يطوف إذ يشاهد قصرا للدوق (لامبرتو) عامرا بالضيوف فيمر بالحديقة ويلتقي بفتاة جميلة تدعى (جرازيا) من اللواتي يعشقن الخيال والجمال والشعر فتفزع منه
ويظهر الموت لرب الأسرة ويفصح له عن حقيقته وأنه سوف يتجسد في صورة إنسان ويأتي إلى القصر باسم الأمير (ساركي) حتى يستطيع في معاشرته للضيوف أن يلمس السر الذي أتعبه وأقلقه كثيرا ويطلب إلى الدوق أن يكتم السر خلال أيام ثلاثة يقضيها بينهم عاطلا لا يموت فيها إنسان ولا تسقط ورقة من شجرة أو تذبل زهرة.
اختلط الأمير ساركي بين الضيوف فأحسوا بشيء من التغيير في حياتهم، فهذا شيخ عجوز أحس بدم الشباب يجري في عروقه وعاد له النشاط والمرح وتذكر الحب، وهذه فتاة تحب الأمير وتختلي به، فلما يحدق فيها وتحدق فيه ترى في عينيه عمقا يفزعها وتكاد تلمس(191/78)
سره فتصرخ خائفة، فيقول لها إنها لم تحبه وأن كل ما تحس به هي (عاطفة الساعة) وأحب ملاك الموت (جرازيا الصغيرة) وأحبته هي ورأى أنها تختلف عن الفتاة الأخرى تماما. ولما أخبرها أنه سيرحل بعيدا عن هذه البلاد طلبت إليه أن يأخذها معه، فلما بين لها صعوبة ذلك عليه وعليها قالت له إن الحياة بدون الحب لا تساوي شيئا.
ويعرف رب القصر بحبهما ويضطر أن يصرح لضيوفه بالسر الرهيب فيتبدل مظهرهم ويفزعون، وهذا الشيخ المرح قد عادت إليه الكآبة وثقل السنين، وهذه الزهور تذبل، ولكن أم الفتاة والدوق يخشيان أن تذهب الفتاة الصغيرة مع ملاك الموت دون أن تدري حقيقة أمره فيطالبونه أن يصرح لها بالحقيقة كاملة، ولكنه يخشى أن يفقدها إذا هي عرفت ولكن أمام الواجب يفهمها رويدا رويدا ومع ذلك لا تفزع. فيتغير من إنسان إلى طيف فلا ترى فيه هذا التغير وترجوه أن يأخذها معه حتى إلى الفناء وتسير إليه فيفتح لها ذراعيه وتسقط أوراق الأشجار ويستأنف الموت مهمته في الحياة). وهكذا أراد الموت أن يهزأ من الناس فهزأ الناس منه)
استطاع المخرج أن يصور الطيف والظلال التي تسقط على الحجرات في صورة بديعة كان لها الأثر المطلوب في نفوس النظارة، وكانت الإضاءة غاية في السرعة، وقام المستر ميكائيل ماك ليمور بدور ملك الموت فكان بديعا كما أجادت الآنسة شبيلا ماي أداء دور جرازيا في سذاجتها وروحها الشعرية
عطيل
هي تراجيدية شكسبير المشهورة التي نقلها إلى العربية الأستاذ خليل مطران ومثل عطيل الأستاذ جورج أبيض ومثل ياجو أمامه عدد من كبار الممثلين منهم منسي فهمي وزكي طليمات ويوسف وهبي
والرواية تصور لنا كيف أحب البطل المغربي (عطيل) الفتاة النبيلة (ديدمونه) وكيف استطاع ياجو أن يدوي في أذني عطيل بأن امرأته تخونه ويحيك خطة جهنمية تساعده على الوصول إلى أغراضه فيثور المغربي ويصرخ ويصل في ثورته إلى حد الجنون والقتل
يقتل ديدمونة التي أحبها والتي أحبته وفضلته على كل النبلاء من أهل جنسها وتزوجت(191/79)
منه برغم والدها، وأخيرا وبعد فوات الفرصة يعرف أنها كانت بريئة فيطعن ياجو ويغمد خنجره في صدره ويجود بأنفاسه على قبلة من فم من أحبها)
عمد المخرج إلى طريقته المعروفة في الاعتماد على المنظر الواحد مستعيناً بالإضاءة بين فصل وآخر، وكان موفقا إذ اختار ستارا خلفيا يمثل السماء كان له أثر كبير في توضيح حركات الممثلين كلما كان الضوء خافتا في مقدمة المسرح.
مثل المستر (آنيوماك ماستر دور عطيل فأعطى صورة قوية لهذه الشخصية. كان متطرفا في البدء كعادة المحب ولكنه انقلب في الفصل الثاني إلى رجل هائل ثائر.
كان بديعا في إلقائه في حركاته التي تعبر عما يضطرم في نفسه عند كل كلمة يلفظها ياجو، وكان عظيما في ثورته في الفصل الثاني وفي الفصل الأخير بعد ما قتل ديدمونة وأحس أنه فقدها.
ومثل المستر ادوارد دور ياجو فأعطى صورة طبيعية من الشخصية ولم يلجأ إلى المغالاة، وكانت الممثلة (آن كلارك) بديعة في دور ديدمونة
يوسف تادرس(191/80)
العدد 192 - بتاريخ: 08 - 03 - 1937(/)
جميل صدقي الزهاوي
بمناسبة ذكراه الأولى
من حق الزهاوي على (الرسالة) وهي ديوان العرب وسجل الأدب أن تقف على ذكراه العظيمة الأليمة وقفة الذاكر بالجميل تحي بنثير الورد خلود مجده، وتحي بنثير الدمع مصاب فقده: فلقد ساعد على إنهاض العرب بوثوب فكره. وعلى إحياء الأدب بوميض روحه، وعلى إنعاش (الرسالة) بعيون شعره. ومن حق الزهاوي على صاحب الرسالة أن يقوم في هذه المناسبة فيفرغ في سمع الزمان الواعي هذا الحديث الذي يتسم على ما اضن بخبرة الصديق وثقة المطلع ونزاهة المؤرخ؛ فإني ما ذكرت العراق ألا ذكرت في أول أشيائه فندق (كارلتون)، وفي أول أشخاصه شخص الزهاوي؛ ذلك أن أول مكان لقيت فيه العراق هو هذا الفندق، وأول إنسان سمعت منه العراق هو هذا الرجل!
كنت جالساً في بهو هذا الفندق صباح اليوم الثاني لقدومي بغداد، أروض قلبي على روعة الفراق، وأذني على لهجة العراق، وعيني على غرابة الصور، وإذا بأحد الندل يلقي إلي بطاقة كتب عليها (جميل صدقي الزهاوي)، ولم تكد تلوح في مخيلتي صورة الشاعر التي صورها السماع والقراءة، حتى رأيت على باب البهو شيخاً في حدود الثمانين قد انخرع متنه وثقلت رجله ورعشت يده فلا يحمل بعضه بعضاً إلا بجهد
اقبل علي يتخلج على ذراع غلامه وقد انبسطت أسارير جبينه العريض وانفرجت شفتاه الذابلتان عن ابتسامه نضرة عذبة، ثم سلم علي تسليم البشاشة بيد مرتجفة، ورحب بي ترحيب الكرم بصوت متهدج، ثم انطلق يشكو جحود الأمة وإغفال الدولة وكيد الخصوم وإلحاح المرض، وتطرق إلى خصومته عامئذ مع الأستاذ العقاد فذكر - والأسف المر يكسبه لهجة المظلوم وهيئة الشهيد - كيف استغلها من سدد خطاه في الشعر، وارجف بها من تولاه بالرعاية؛ وحمد الله على أني جئت بدله فقد كان وجوده كما كان يظن تأليباً متصلاً على فضله، وإزعاجاً مستمراً لسكنته
لم يدع لي الزائر الكريم فرجة بين كلامه الدافق ادخل عليه منها بالتخفيف والتسرية، فان الزهاوي - كما علمت بعد - ديدنه أن يتكلم، كالبلبل خاصته أن يغرد، والزهر طبيعته أن يفوح؛ فهو في مجلس الصداقة شاك أو شاكر. وفي مجلس الأدب محاضر أو شاعر، وفي(192/1)
مجلس الأنس مفاكه أو محدث.
كان الشيخ يتكلم أو ينشد ونبراته المؤثرة، وقسماته المعبرة، ولحيته الخفيفة المرسلة، ووجهه المسنون الأعجف، وشاربه النائم على فمه الأهرت، وعينيه البراقة ترأرئ من خلف المنظار، وشعره اشمط يتهدل على نتوء الصدغ، تخيل إلي أن طيفاً من أطياف الجدود، أو نبياً من أنبياء اليهود، قد انشق عنه حجاب الزمن فجأة في هذا المكان الصامت والنور القاتم والجو الغريب؛ ولكن الحيوية التي تنبض في حركاته، والشبيبة التي تفيض في كلماته، والعزيمة التي تضطرم في نظراته، كانت تطرد هذا الخيال وتجعلني وجهاً لوجه أمام (كتلة) من الأعصاب القوية المشدودة تتكلم وتتألم، وتثور وتهدأ، وتسخط وترضى، وموضوع مقالها وانفعالها لا يخرج أبداً (الأنا) إذا صح هذا التعبير
دأبت (عربانة) الشيخ بعد ذلك على أن تقف أمام منزلي صباح يوم الجمعة من كل أسبوع. فكنت استقبله استقبال العابد المتحنث للكاهن الملهم، ثم نقضي ضحوة النهار معاً يحدثني فاعجب أو ينشدني فاطرب؛ وقد تكون أذني إلى فمه وليس معنا ثالث ولكنه يجاهر بالإلقاء، ويصور المعنى بالصوت والإيماء، حتى يدهش المنزل وينصت الشارع. وهو بين الفترة والفترة يعود إلى شكاته وشكواه، وأظل أنا أمام هذا الجيشان الروحي ساهماً حالماً أفكر في الذهن الذي لا يكل. واللسان الذي لا يفتر. والزهو الذي لا يتطامن، والطموح الذي لا يتقاصر، والقلق الذي لا يسكن، والتمرد الذي لا يهن، والشباب الذي يلبس رداء الشيخوخة. والحياة التي تتخذ هيئة الموت
كنت ألقاه في خلال الأسبوع مع الناس في منتداه بشارع الرشيد. أو على ضفة دجلة جالسا على الدكة الخشبية ينشد الأبيات الرائعة، أو يرسل النكتة البارعة، أو يروي الخبر الطريف، في بشاشة جذابة، وقهقهة ساذجة، ويده المرتعشة لا تنفك تعبث بمسبحته الصغيرة، أو تصعد وتهبط بسيكارته العراقية، أو تمتد (بالآنة) إلى نادل القهوة كلما طلب الشاي إلى
صديق وكنت أزوره في مثواه (بالصابونجية) فأراه في مباذله قاعداً يشكو الوسط لأنه قضى الليل ساهداً يقرأ، أو ذاهلاً ينظم، فالقصص والمجلات منتثرة على سريره وعلى مقعده، والمسودات مدسوسة تحت مخدته أو في ثيابه، فلا يتمالك حين يراني ان يصيح:(192/2)
انظر كيف أذيب عمري في شعري والأمة تقذفني بالبهتان، والحكومة تخرجني من مجلس الأعيان، والملك يستكثر على أن أكون شاعر البلاط! (إني سأذهب، وستبقى أشعاري معبرة عن شعوري وناطقة بآلامي، فهي دموع ذرفتها على الطرس، وهي خليقة أن تبعث من عيون قارئها دمعة هي كل جزائي من نظمها)
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات(192/3)
الطين الضعيف
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
سألني صديق عن شيء لماذا افعله أو اتركه - فقد نسيت - فكان مما اذكر أني قلته له أني أعيش الآن كما احب لا كما يجب، فقد جاوزت الأربعين، والذي بقي لي من العمر ستفسده الشيخوخة المتهدمة لا محالة حين ترتفع بي السن فلا يبقى لي حينئذ من لذة الحياة إلا الوجود بمجرده لو إن هذا يفيد متعة، فمن حقي في هذه الفترة - التي أرجو أن تطول قبل أن يدركني الذوى والذبول - أن اعتصر من الحياة كل ما يدخل في الطوق اعتصاره من المتع واللذاذات، فأنا أقرأ ما اشتهي، وأذهب إلى حيث أريد، وأجالس من آنس به، ولا أبالي من غضب ممن رضى، فما في الحياة صحة لمبالاة ذلك؛ وأطلق نفسي على السجية كلما وسعني ذلك، وليس للناس على اكثر من أن أؤدي واجباتي فيما عدا هذا
ودخل علي وأنا أقول هذا لصديقي شاب مهذب فحيا وقال انه يقرأ الآن ديواني، ففزعت ولكني ابتسمت له وقلت (كان الله في عونك. ومن الذي ابتلاك به. .)
فأهمل السؤال وجوابه واقبل علي يسألني: (انك تكتب بسرعة) فقلت (إن الذي اعرفه أني اكتب في غرفة تحيط بها جدران من الحجارة لا تنفذ العين منها على خلاف ما كان يصنع ديماس الذي كان يكتب على ما يقال في دكان فيجيء الناس وينظرون إليه من وراء الزجاج. . أريد أن اعرف يا صاحبي ماذا تعني بالسرعة)
قال (اعني انك تكتب إلى مجلات كذا وكذا وكذا. . وتكتب في صحيفة يومية أيضاً. . هذا كثير. . فمتى تستطيع أن تكتب كل ذلك. . انه نشاط عجيب. .)
فقلت (جواب السؤال أني اكتب وأنا نائم، فالذي تقرأه لي هو أضغاث أحلامي. . وأما النشاط يا صاحبي فذاك أني مازلت في شبابي)
فتركني وهو يقول انه يدرس ما اكتب وانه ينوي أن ينشر بحثاً، فاستعذت بالله وحاولت أن اصرفه عن هذا العناء الباطل فما أفلحت، فتوجهت إلى الله عسى أن يصرف عني هذا السوء بطريقة ما. . وهل كثير على الله أن يشاء أن تشب النار في كتبي التي عند هذا الشاب، أو تنقلب الدواة كلما هم بالكتابة، أو تجمد أصابعه أو يحدث له غير ذلك من أسباب التعويق والتعطيل.؟(192/4)
وانفض هذا المجلس، ولكن خاطراً ثقيلاً ألح علي وظل يدور في نفسي، ذلك أن كل من ألقاهم من إخواني يذكرون هذا النشاط. ولا يكتمون تعجبهم. فلم يسعني إلا أن أتعجب مثلهم وإلا أن أسائل نفسي: (أكان هذا يبدو لهم مني مستغرباً لو انهم كانوا يرونني شاباً في العشرين من عمري مثلاً؟ أتراهم يستغربون لأني في ظنهم خلفت شبابي ورائي فالمنتظر من مثلي في اعتقادهم هو الفتور. .) ولم يعجبني هذا التأويل فانه ثقيل على النفس، وآثرت أن أقول انهم هم معدومو النشاط ولذلك يتعجبون لي. ثم أني لا أحس إلا أنى مازلت شاباً. والعبرة بالإحساس لا بهذه الشعرات البيضاء التي يقول عنها ابن الرومي أنها تزيد ولا تبيد فهي مثل نار الحريق. . وما قيمة هذه الشعرات. . لقد ابيضت وأنا في العشرين من عمري، وكنت يومئذ بها فرحاً مزهواً، وكنت أعدها مظهراً للرجولة ومدعاة للاحترام، فماذا حدث حتى صرت حتى ابغضها. . أو لا ابغضها وإنما انظر إليها في المرآة فأزوم، وتقول شفتاي (هممممم). . ثم أني أراني اجلد من أبناء العشرين، واصبر على العناء والجهد، واقدر على العمل والحركة، واحسن تلقياً للحياة، وأسرع استجابة لدواعيها، فما قيمة هذا الذي تطالعني به المرايا؟. وما حاجتي أنا إلى المرايا؟. ومتى كنت انظر فيها حتى انظر فيها اليوم؟. كلا. . إن أمامي بإذن الله حياة طويلة، وليست الحياة أن أظل باقياً في الدنيا والسلام، وإنما هي أن أظل قادراً على العمل وكفؤاً للأعباء، وهذا ما اعتقد انه سيكون شأني فما اشعر بدبيب الفتور ولا أرى أية علامة على ابتداء النضوب.
وضحكت وأنا أقول ذلك فقد تذكرت أني قلت مرة لصاحب كان يحدثني في هذا الموضوع أو يسألني على الأصح (هل تعرف حكاية الذي أراد أن يتزوج بنت السلطان. . لقد زعموا أن رجلاً من الغوغاء زعم انه سيتزوج بنت السلطان، فلما سألوه كيف يتسنى له ذلك، قال أن المسألة بسيطة، فقد رضيت أنا بزواجها ولم يبق إلا أن يرضى السلطان. وكذلك أنا فقد عزمت أن أعيش إلى التسعين والمائة أيضاً وأنا موافق على ذلك وراض بهذه القسمة وليس باقياً إلا أن يمالئني الحظ ويساعفني القدر. . .)
ويتفق لي كثيراً أن أقف بالسيارة حيث يطيب لي الوقوف. ويسرني حين أفعل ذلك أن أنظر إلى الناس وهم يروحون ويغدون وأن أتأمل ما يكون مهم وكيف يمشون وكيف يتحدثون ويميل بعضهم على بعض وكيف يذهلون عما يكون أمامهم لأن ما هم فيه من(192/5)
الحديث يستغرقهم فيصطدمون أو يحدث غير ذلك مما يضحك ويشرح صدر المتفرج. وأنظر أيضاً إلى الفتيات الناهدات وهن يمشين متخلعات متثنيات متقصعات وعيونهن دائرات في الرجال فإذا نظروا إليهن أغضين كأنما كن ينظرن عفواً. إلى آخر ما لا يسع المرء إلا أن يراه في الطريق. فحدث يوماً أني اشتريت شيئاً من دكان ثم دخلت السيارة وقعدت فيها وشرعت أدخن وأجيل عيني في الناس فكان الرجال يمضون ويمرون بي ولا يعيرونني الفاتاً؛ أما الشبان فكانت عيونهم ترمقني خلسة. وأما الفتيات فكن يحدقن في وجهي صراحة، فكنت ابتسم مسروراً بهذه المناظر. فمرت بي فتاتان بارعتا الجمال فلما بلغتا حيث كنت وافقاً مالت إحداهما على الأخرى جداً وهمست وهي تنظر إلي: ده عجوز، ومن الغريب أني سمعت الهمسة الخافتة على بعد مترين، وأحسب أني ما كنت لأسمع ما تقول لو أنها صاحت بأعلى صوت (ما أحلاه وأجمله وأبرع شبابه) وأكبر الظن أن الترام كان يمر حينئذ فيغرق هذا الثناء بضجته فيفوتني ما يسرني. أو تسقط عمارة فيفزع الناس ويذهلون ويشغل الخلف بذلك وأنا في جملتهم. . . وأنا أتكلم أولاً ثم أفكر بعد ذلك؛ والأولى العكس، ولكن هذا ما أصنع غير عامد. فلما سمعت الهمسة الثقيلة رأيتني أصيح بالفتاتين (فشرتِ. فشرتما. فشرتن) فضحكتا وتثنتا وذهبتا تعدوان
ولم يسؤني قول الفتاة إني (عجوز) فما كانت سنها تزيد على الرابعة عشرة وأنا فوق الأربعين بسنوات فهي طفلة بالقياس إلي وليس في وسعها إلا أن تحس هذا الفرق. وغير منتظر أن تدرك أن صباها صبى جسم لا أكثر. وان شبابها الذي تزهى به طراوة ولين ملاسة ونعومة. وعزيت نفسي بلهجة المتشفي به بأنها ستفقد ذلك كله حين تناهز الأربعين وأنها لن تجد يومئذ عوضاً عما فاتها وأن نفسها ستسبق جسمها إلى الذوى. على حين أظل أنا فيما أرجو شاب النفس لا يضيرني أن الزمن يكون قد حفر على وجهي وجلدي أخاديد عميقة. ومن العدل أن تباهي الفتاة وتزهى بما لا عوض عنه وليس من الإنصاف أن أنكر عليها ذلك أو أكرهه منها
ثم رجعت أقول لنفسي ولكن ما قيمة شباب النفس وحده. .؟ ما جدواه إذا فقد الجسم شبابه. .؟ وتذكرت أبياتاً من قصيدة طولية كنت قلتها منذ عشرين عاماً ولم أنشرها - بل نشرت بضع مئات منها في صحيفة أسبوعية -(192/6)
أيها الطينُ ما ترى بك أبغي ... لستَ - فيما أرى - لشيء كفاء
إن طلبتُ السماء قلت ليَ الأر ... ض - أو الأرض كنتَ لي عصَّاء
إلى آخر هذا الهراء. . . ولم يكن هذا الطين يستعصي عليه شيء يومئذ. وما قلت ذلك إلا في ساعة فتور شديد جعلني كاليائس أو انسياقاً مع المعاني التي ولدتها روح القصيدة وأنا انظمها. ولم يكن يخطر لي أني سأذكر هذه الأبيات التي رميتها وأهملتها حتى مرت الفتاتان بعد عشرين عاماً ونظرت إحداهما - وأحلاهما - إلى الشيب في فودي وقالت وهي تميل على صاحبتها (ده عجوز)
إيه يا فتاتي الصغيرة أما والله إني لأشتهي أن أفتح ذراعي وأضم كل فتاة خود مثلك - أضم ملايينكن دفعة واحدة في عناق مفرد كما أراد من نسيت اسمه - نيرون إذا كانت الذاكرة لم تخني - أن يضرب أعناقكن جميعاً بضربة سيف واحدة. . ولعله استسهل هذا واستخف مئونته واستضأل كلفته. وإني لأرفق بكن منه - أو لعلي أقسى فما أدري - ولكنكن ملايين والطين ضعيف واه. . وإني لأراني كما يقول ابن الرومي:
ضعيفاً جباناً - اشتهي ثم أنتهي ... بلحظي جنابَ الرزق لحظَ المجانب
وإني لأحس الحياة ثقيلة الوطأة على كاهل الصبر. . وإني لعود في الليل إلى داري فتقول لي زوجتي ألا تستريح؟ فأقول كلا. . لا راحة لحي. . وأمضي إلى مكتبي وأجلس إليه وأهم بالكتابة فأرى النعاس يثني رأسي على صدري، فأنهض متبرماً، ساخطاً على هذه البلادة، وأقول لنفسي وأنا أرتمي على الفراش أترى لو كنت في مجلس لهو وطرب أكنت أفتر هذا الفتور؟ ويغلبني النوم قبل أن أسمع جواب النفس. . وإني ليكون أمامي الطعام الجيد المشتهى فأمد إليه يدي محاذراً وأتناول منه مترفقاً وعلى قدر مخافة الكظة أو الانتفاخ، ولم أكن أبالي ذلك قبل سنوات. . وإني لأهم بزيارة الصديق فيصدني أن درجات سلمه كثيرة فأرتد وألعن أصحاب العمائر الذي لا يتخذون المصاعد. .
ولم يرضني هذا السخط على نفسي فقلت وأين هذا الفتور؟ ومن ذا الذي لا يكل أحياناً؟. إني أعمل كالحمار بالليل والنهار وأكتب في اليوم الواحد فصولاً ثلاثة أو أربعة لأكثر من صحيفة واحدة. وأقطع بالسيارة أكثر من خمسين كيلو في نهاري، واسهر إلى منتصف الليل، ثم أقوم في الفجر مع الديكة والعصافير وأقصد إلى مكتبي وأروح أدق على آلة(192/7)
الكتابة حتى لقد غير جاري غرفة نومه لكثرة ما أزعجه وأطير النوم عنه في الصباح الباكر. وأنا أجالس الناس وأحادثهم وأفعل ما يفعله المرء بشبابه ولا أراني أكل أو أهي أو أمل أو أفتر. . وإن رأسي لدائب لا يكف عن العمل في يقظة أو نوم؛ ولو كنت أقيد ما يدور في نفسي لوسعني أن أملأ الدنيا كلاماً، ولكن المصيبة أني لا أقيد شيئاً وأني أنسى، فالذي يبقى لي لا يعدل جزءاً من مائة مما يخطر لي، وإذا كانت لي شكاة فتلك أني لا أفتر ولا أراني أقنع بما أستطيع وما يدخل في وسعي. ولقد قال لي مرة طبيب حاذق شكوت إليه أني لا أهدأ - إن بنائي كله من الأعصاب، وأن جسمي ليس أكثر من شبكة أعصاب ركبت لها العظام لتمسكها ووضع لي هنا قلب وهناك معدة إلى آخر ذلك، ثم كسي هذا كله جلداً رقيقاً ليمكن أن يقال إن هذا جسم إنسان، ولكن المهم هو هذه الأعصاب؛ فإذا كنت أشكو شيئاً في بعض الأحيان فيحسن بي أن أعرف أنه من الأعصاب ليس إلا (فأرحها حين تتعب تعد كما كانت فإنها متينة. وأكبر الظن أن هذه ليست أعصاباً وإنما هي (جنازير من الحديد) ويكفي أنها تتحملك) كذلك قال. ودليل صدقه أني لم أشك شيئاً قط مذ سمعت منه هذا؛ ولو كان بي شيء غير هذه الأعصاب لما نفعني كلامه. ولقد خرجت من عنده إلى صيدلة فيها ميزان فوقفت عليه فإذا بي - بثيابي الشتوية لا أزن أكثر من سبعة وأربعين كيلو، فضحكت وقلت: (كم ترى يكون وزني في الحمام. . بغير هذه الثياب. . أو في الصيف الذي يستدعي التخفيف. . صدق الطبيب الحاذق فما هذا بجسم إلا على المجاز. . ولكن هذا البناء الواهي يحتمل النوم على الرمال وتوسد الحجارة. نعم فإني كثيراً ما أخرج إلى الصحراء فأرتمي على رمالها ساعة وساعتين وتحت رأسي حجر صلد كبير. وفي بيتي أترك الفراش الوثير إلى الكراسي الخشنة التي لا راحة لمخلوق عليها. . وأفتح النوافذ واقعد أو أنام بين تيارات الهواء ولا أرى ذلك يضيرني. وأحسب هذا وراثة فقد كانت أمي رحمها الله تنام وأنفها إلى النافذة المفتوحة - صيفاً وشتاء. نعم أزكم أحياناً ولكن الفيل يزكم. . وساقي مهيضة ولكني لا أتعب من المشي وإنما أتعب من الوقوف. . ولم أتخذ المدافئ قط، فإذا أوقدوا في بيتنا ناراً تركت لهم الغرفة إلى أخرى لا نار فيها. . وما لبست معطفاً إلا في أعقاب مرض وعلى سبيل الوقاية إلى حين. وإني لأرى مناعة جسمي تزداد عاماً فعاماً وأراني كلما علت سني أحس إني صرت أقوى واصح بدناً واقدر(192/8)
على العمل والحركة والجهد. . فلست بعجوز يا فتاتي الصغيرة وإني وحياتك لأصبى من ابني. وان الذي في عروقي لنار سائلة لا دماء جارية، وقد أحسنت بالانصراف بعد تلك الضحكة الفضية التي ستظل في مسمعي تذكرني بك وتصيبني إلى أترابك والسلام عليك والشكر لك. والى الملتقى (وأين مني يهرب الهارب؟). . .
إبراهيم عبد القادر المازني(192/9)
4 - صعاليك الصحافة. . .
تتمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وجاء أبو عثمان وفي بروز عينيه ما يجعلهما في وجهه شيئاً كعلامتي تعجب ألقتهما الطبيعة في هذا الوجه. وقد كانوا يلقبونه (الحدقي) فوق تلقيبه بالجاحظ، كأن لقباً واحداً لا يبين عن قبح هذا النتوء في عينيه إلا بمرادف ومساعد من اللغة. . . . وما تذكرت اللقبين إلا حين رأيت عينيه هذه المرة.
وانحط في مجلسه كأن بعضه يرمي بعضه من سخط وغيظ، أو كأن من جسمه ما لا يريد أن يكون من هذا الخلق المشوه، ثم نصب وجهه يتأمل، فبدت عيناه في خروجهما كأنما تهمان بالفرار من هذا الوجه الذي تحيا الكآبة فيه كما يحيا الهم في القلب؛ ثم سكت عن الكلام لأن أفكاره كانت تكلمه.
فقطعت عليه الصمت وقلت: يا أبا عثمان رجعت من عند رئيس التحرير زائداً شيئاً أو ناقصاً شيئاً فما هو يرحمك الله؟
قال: رجعت زائداً أني ناقص، وههنا شيء لا أقوله، ولو أن في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين. لوقفوا على عمك وأمثال عمك من كتاب الصحف يتعجبون لهذا النوع الجديد من الشهداء
وقال ابن يحيى النديم: دعاني المتوكل ذات يوم وهو مخمور فقال: أنشدني قول عمارة في أهل بغداد. فأنشدته:
ومن يشتري من ملوك مُخَرّم ... أبعْ (حَسنَاً وابني هِشامٍ) بدِرْهم
وأعطي (رجاَء) بعد ذاك زيادة ... وأمنحُ (ديناراً) بغير تندُّم
قال أبو عثمان:
فإن طلبوا مني الزيادة زدتُهم ... (أبا دُلفٍ والمستطيلَ بنَ أكثم
ويلي على هذا الشاعر. اثنان بدرهم، واثنان زيادة فوقهما العظم الدرهم، واثنان زيادة على الزيادة لجلالة الدرهم؛ كأنه رئيس تحرير جريدة يرى الدنيا قد ملئت كتاباً. ولكن ههنا شيئاً لا أقوله(192/10)
وزعموا أن كسرى أبرويز كان في منزل امرأته شيرين، فأتاه صياد بسمكة عظيمة فأعجب بها وأمر له بأربعة آلاف درهم فقالت له شيرين: أمرت الصياد بأربعة آلاف درهم، فإن أمرت بها لرجل من الوجوه، قال: إنما أمر لي بمثل ما أمر للصياد. فقال كسرى: كيف أصنع وقد أمرت له؟
قالت: إذا أتاك فقل له: اخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى؟ فإن قال أنثى. فقل له: لا تقع عيني عليك حتى تأتيني بقرينها، وإن قال غير ذلك فقل له مثل ذلك.
فلما غدا الصياد على الملك قال له: أخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى؟ قال: بل أنثى. قال الملك: فأتني بقرينها. فقال الصاد عمر الله الملك، إنها كانت بكراً لم تتزوج بعد. . .
قلت: يا أبا عثمان فهل وقعت في مثل هذه المعضلة مع رئيس التحرير؟
قال: لم ينفع عمك أن سمكته كانت بكراً، فإنما يريدون إخراجه من الجريدة وما بلاغة أبي عثمان الجاحظ بجانب بلاغة التلغراف وبلاغة الخبر وبلاغة الأرقام وبلاغة الأصفر وبلاغة الأبيض. . . ولكن ههنا شيئاً لا أريد أن أقوله.
وسمكتي هذه كانت مقالة جودتها وأحكمتها وبلغت بألفاظها ومعانيها أعلى منازل الشرف وأسنى رتب البيان وجعلتها في البلاغة طبقة وحدها. وقبل أن يقول الأوربيون (صاحبة الجلالة الصحافة) قال المأمون: (الكتاب ملوك على الناس). فأراد عمك أبو عثمان أن يجعل نفسه ملكاً بتلك المقالة فإذا هو بها من (صعاليك الصحافة).
لقد كانت كالعروس في زينتها ليلة الجلوة على محبها، ما هي إلا الشمس الضحاية، وما هي إلا أشواق ولذات، وما هي إلا اكتشاف أسرار الحب، وما هي إلا هي. فإذا العروس عند رئيس التحرير هي المطلقة، وإذا المعجب هو المضحك، ويقول الرجل: أما نظرياً فنعم، وأما عملياً فلا، وهذا عصر خفيف يريد الخفيف، وزمن عامي يريد العامي، وجمهور سهل يريد السهل، والفصاحة هي إعراب الكلام لا سياسته بقوي البيان والفكر واللغة، فهي اليوم قد خرجت من فنونها واستقرت في علم النحو وحسبك من الفرق بينك وبين القارئ العامي: إنك أنت لا تلحن وهو يلحن
قال أبو عثمان؛ وهذه أكرمك الله منزلة يقل فيها الخاصي ويكثر العامي فيوشك ألا يكون بعدها إلا غلبة العامية، ويرجع الكلام الصحافي كله سوقياً بلدياً (حنشصياً). وينقلب النحو(192/11)
نفسه وما هو إلا التكلف والتوعر والتقعر كما يرون الآن في الفصاحة، والقليل من الواجبات ينتهي إلى الأقل، والأقل ينتهي إلى العدم، والانحدار سريع يبدأ بالخطوة الواحدة ثم لا تملك بعدها الخطى الكثيرة
لا جرم فسد الذوق وفسد الأدب وفسدت أشياء كثيرة كانت كلها صالحة، وجاءت فنون من الكتابة ما هي إلا طبائع كتابها تعمل فيمن يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها. ولو كان في قانون الدولة تهمة إفساد الأدب أو إفساد اللغة، لقبض على كثيرين لا يكتبون إلا صناعة لهو ومسلاة فراغ وفساداً وإفساداً. والمصيبة في هؤلاء ما يزعمون لك من أنهم يستنشطون القراء ويلهونهم. ونحن إنما نعمل في هذه النهضة لمعالجة اللهو الذي جعل نصف وجودنا السياسي عدماً؛ ثم لملء الفراغ الذي جعل نصف حياتنا الاجتماعية بطالة. وهذا أيضاً مما جعل عمك أبا عثمان في هذه الصحافة من (صعاليك الصحافة) وتركه في المقابلة بينه وبين بعض الكتاب كأنه في أمس وكأنهم في غد.
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .
فما شككت أنهم سيطردونه فإن الله لم يرزقه لساناً مطبعياً ثرثاراً يكون كالمتصل من دماغه بصندوق حروف. . . ولم يجعله كهؤلاء السياسيين الذي يتم بهم النفاق ويتلون، ولا كهؤلاء الأدباء الذي يتم بهم التضليل ويتشكل.
ورجع شيخنا كالمخنوق أرخي عنه وهو يقول: ويلي على الرجل. ويلي من الكلام الظريف الذي يقال في الوجه ليدفع في الفقا. . . كان ينبغي ألا يملك هذه الصحافة اليومية إلا مجالس الأمة، فذلك هو إصلاح الأمة والصحافة والكتاب جميعاً. أما في هذه الصحف فالكاتب يخبز عيشه على نار تأكل منه قدر ما يأكل من عيشه، ولو أن عمك في خفض ورفاهية وسعة، لكان في استغنائه عنهم حاجتهم اليه، ولكن السيف الذي لا يجد عملاً للبطل، تفضله الإبرة التي تعمل للخياط. وماذا يملك عمك أبو عثمان؟ يملك مالاً ينزل عنه بدول الملوك، ولا بالدنيا كلها، ولا بالشمس والقمر، إذ يملك عقله وبيانه. على أنه مستأجر هنا بعقله وبيانه يعقل ما شاءوا ويكتب ما شاءوا
لك الله أن أصدقك القول في هذه الحرفة اليومية. إن الكاتب حين يخرج من صحيفة إلى صحيفة، تخرج كتابته من دين إلى دين. . .(192/12)
ورأيت شيخنا كأنما وضع له رئيس التحرير مثل البارود في دماغه ثم أشعله. فأردت أن أمازحه وأسري عنه، فقلت: اسمع يا أبا عثمان. جاءتني بالأمس قضية يرفعها صاحبها إلى المحكمة، وقد كتب في عرض دعواه: إن جار بيته غصبه قطعة من أرض فنائه الذي تركه حول البيت، وبنى في هذه الرقعة داراً، وفتح لهذه الدار نافذات، فهو يريد من القاضي أن يحكم برد الأرض المغصوبة، وهدم هذه الدار المبنية فوقها، و. . و. . وسد نافذاتها المفتوحة. . .!
فضحك الجاحظ حتى أمسك بطنه بيده وقال: هذا أديب عظيم كبعض الذين يكتبون الأدب في الصحافة؛ كثرت ألفاظه ونقص عقله. (وسئل بعض الحكماء: متى يكون الأدب شراً من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب ونقصت القريحة. وقد قال بعض الأولين: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه؛ كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه؛ وهذا كله قريب بعضه من بعض
والأدب وحده هو المتروك في هذه الصحافة لمن يتولاه كيف يتولاه إذ كان أرخص ما فيها، وإنما هو أدب لأن الأمم الحية لا بد أن يكون لها أدب. ثم هو من بعد هذا الاسم العظيم ملء فراغ لا بد أن يملأ. وصفحة الأدب وحدها هي التي تظهر في الجريدة اليومية كبقعة الصدأ على الحديد تأكل منه ولا تعطيه شيئاً.
ثم يأبى من تترك له هذه الصفحة إلا أن يجعل نفسه (رئيس تحرير) على الأدباء، فما يدع صفة من صفات النبوغ ولا نعتاً من نعوت العبقرية إلا نحله نفسه ووضعه تحت ثيابه؛ وما أيسر العظمة وما أسهل منالها إذا كانت لا تكلفك إلا الجراءة والدعوى والزعم، وتلفيق الكلام من أعراض الكتب وحواشي الأخبار
وقد يكون الرجل في كتابته كالعامة، فإذا عبته بالركاكة والسخف والابتذال وفراغ ما يكتب؛ قال: هذا ما يلائم القراء. وقد يكون من أكذب الناس فيما يدعي لنفسه وما يهول به لتقوية شأنه وإصغار من عداه، فإذا كذبه من يعرفه قال: هذا ما يلائمني. وهو واثق أنه في نوع من القراء ليس عليه إلا أن يملأهم بهذه الدعاوى كما تملأ الساعة، فإذا هم جميعاً يقولون: تك تك. . تك تك. . . . .
فمن زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل؛ جعل الفصاحة واللكنة والخطأ(192/13)
والصواب والإغلاق والإبانة والملحون والمعرب، كله سواء وكله بياناً (وكان المكي طيب الحجج، ظريف الحيل، عجيب العلل. وكان يدعي كل شيء على غاية الإحكام ولم يحكم شيئاً قط من الجليل ولا من الدقيق. وإذ قد جرى ذكره فسأحدثك ببعض أحاديثه. قلت له مرة: أعلمت أن الشاري حدثني أن المخلوع (أي الأمين) بعث إلى المأمون بجراب فيه سمسم، كأن مخبره أن عنده من الجند بعدد ذلك، وأن المأمون بعث له بديك أعور، يريد أن طاهر بن الحسين يقتل هؤلاء كلهم كما يلقط الديك الحب؟
قال: فإن هذا الحديث أنا ولدته، ولكن انظر كيف سار في الآفاق. . .
ثم قال أبو عثمان: وقد زعم أحد أدبائكم أنه اكتشف في تاريخ الأدب اكتشافاً أهمله المتقدمون وغفل عنه المتأخرون، فنظر عمك في هذا الذي ادعاه، فإذا الرجل على التحقيق، كالذي يزعم أنه اكتشف أمريكا في كتاب من كتب الجغرافيا. . . .
وما يزال البلهاء يصدقون الكلام المنشور في الصحف لا بأنه صدق ولكن بأنه (مكتوب في الجريدة). . . . فلا عجب أن يظن كاتب صفحة الأدب - متى كان مغروراً - أنه إذا تهدد إنساناً فما هدده بصفحته بل بحكومته. . . .
نعم أيها الرجل إنها حكومة ودولة؛ ولكن ويحك: إن ثلاث ذبابات ليست ثلاث قطع من أسطول إنجلترا. . . . . .!
وضحك أبو عثمان وضحكت فاستيقظت
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(192/14)
من التاريخ
المهديون المنتظرون
لأستاذ كبير
قال الأستاذ محمد عبد الله عنان في مبحثه البارع (ضوء جديد على مأساة شهيرة) في الجزء (188) من هذه المجلة: إن رجعة الحاكم قد بنيت على المقالة المهدوية، وذكر ثلاثة من الجماعة المنتظرة. وقد رأيت أن أطرف قراء (الرسالة) أقوالاً موجزة في (المهديين المنتظرين) مما خطه مؤرخو النحل الإسلامية ونقله رجال الأثر. وأنا في ذلك راوٍ لا ينقد مقالة فرقة، ولا يجادل جماعة مذهب، ولا يضيف شيئاً من عنده إلى نقله. وروايتي هي عن هذه الكتب: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للأشعري، الفرق بين الفرق للبغدادي، الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، الملل والنحل للشهرستاني، فرق الشيعة للنوبختي، سنن أبي داود، صحيح الترمذي، المحصل للرازي، شرح مواقف الأيجي للجرجاني. شرح الدرة المضية للسفاريني.
1 - علي بن أبي طالب
قالت السبئية: (إن علياً لم يقتل، ولم يمت، ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه. ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وهو المهدي المنتظر دون غيره)
2 - ابن الحنفية (محمد بن علي)
قالت الكربية الكيسانية: (إن محمد بن الحنفية حي لم يمت، وإنه في جبل رضوي، وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل، يأتيه رزقه غدوة وعشية، وعن يمينه أسد، وعن يساره نمر، يحفظانه من أعدائه؛ وهو المهدي المنتظر)
3 - عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
(زعمت الجناحية (فرقة من الكيسانية) أن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حي بجبال أصبهان لم يمت ولا يموت، ولا بد أن يظهر حتى يلي أمور الناس، وهو المهدي الذي بشر به النبي)
4 - محمد بن علي (الباقر)
(قالت الباقرية: إن محمد بن علي (الباقر) هو المهدي المنتظر بما روي أن النبي قال لجابر(192/15)
بن عبد الله الأنصاري: (إنك تلقاه فأقرأه مني السلام) وكان جابر آخر من مات بالمدينة من الصحابة، وكان قد عمي في آخر عمره؛ وكان يمشي في المدينة ويقول: يا باقر، يا باقر، متى ألقاك؟)
5 - محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب
(قالت طائفة من الجارودية الزيدية: إن محمد بن عبد الله حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وهو مقيم بجبال ناحية الحاجر، وهو المهدي بالحديث الذي يقول فيه: يوافق اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي)
6 - جعفر بن محمد (الصادق)
(قالت الناووسية: إن (الصادق) حي لم يمت ولا يموت حتى يظهره أمره، وهو القائم المهدي. رووا عنه أنه قال: لو رأيتم رأسي يدهده عليكم من الجبل فلا تصدقوا فإني صاحبكم صاحب السيف)
7 - إسماعيل بن جعفر الصادق
(قالت فرقة من الإسماعيلية الواقفية والناووسية: إن إسماعيل بن جعفر لم يمت إلا أنهم أظهروا موته تقية، وعقد محضر وأشهد عليه عامل المنصور بالمدينة، فهو حي لم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. فالجماعة منتظرة لإسماعيل بن جعفر)
8 - محمد بن اسمعيل بن جعفر
(قالت القرامطة: إن محمد بن اسمعيل لم يمت ولا يموت حتى يملك الارض، وإنه هو المهدي الذي تقدمت البشارة به، وهو في بلاد الروم وهو القائم المهدي؛ ومعنى القائم عندهم أنه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد، واعتلوا في نسخ الشريعة (شريعة محمد) أنه قال: لو قام قائمنا علمتم القران جديداً)
9 - موسى بن جعفر (موسى الكاظم)
(قالت الواقفة (الموسوية، المفضلية، الممطورة): إن موسى ابن جعفر لم يمت ولا يموت حتى يملك شرق الأرض وغربها، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وهو المهدي المنتظر)
10 - جعفر بن علي الهادي(192/16)
(غلت النفيسية في جعفر بن علي الهادي وفضلته على علي بن أبي طالب، واعتقدت أنه أفضل الخلق بعد رسول الله، وادعت أنه القائم)
11 - محمد بن القاسم
(قالت طائفة من الجارودية إن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين (القائم بالطالقان أيام المعتصم) حي لم يمت ولا قتل، ولا يموت ولا يقتل حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً)
12 - يحيى بن عمر
(قالت طائفة من الجارودية: إن يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (القائم بالكوفة أيام المستعين) حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً)
13 - الحسن العسكري بن علي الهادي
(قالت فرقة: ان الحسن لم يمت وهو القائم، ولا يجوز أن يموت ولا ولد له ظاهر. وقد ثبت عندنا أن القائم له غيبتان، وهذه إحدى الغيبتين، وسيظهر ويعرف ثم يغيب غيبة أخرى
وقالت فرقة ثانية: إن الحسن مات لكن سيجيء وهو المعنى بكونه قائماً أي يقوم بعده (بعد الموت))
14 - محمد بن الحسن العسكري
(قالت الفرقة الثانية عشرة وهي الإمامية: لله في الأرض حجة من ولد الحسن بن علي، وأمر الله بالغ، وهو وصي لأبيه. ولا يجوز أن تخلو الأرض من حجة؛ ولو خلت ساعة لساخت الأرض ومن عليها. فنحن مقرون بوفاة الحسن وأن خلفه هو الإمام من بعده حتى يظهر ويعلن أمره. والإمام (عليه السلام) أعرف بنفسه وزمانه منا)
(لقبه المهدي والمنتظر ... والقائم المكرم المطهر
أكثر من سبعين شخصاً شاهدوا ... جماله ولاحت الشواهد
وغاب غيبتين (صغرى) امتدت ... وكانت الشدة فيها اشتدت
قريب سبعين من الأعوام ... كان اختفى عن أكثر الأنام(192/17)
كان له من الموالي سفراً ... إذ غاب واختفى ورام السفرا
وغيبة أخرى إلى ذا الآن ... وأنه لصاحب الزمان
لكنه لابد من أن يخرجا ... وبعد شدة نلاقي الفرجا)
15 - محمد بن عبد الله. محمد المهدي، الفاطمي
روى الترمذي وأبو داود (عن ابن مسعود أن رسول الله قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني، أو قال من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً)
ومن الفرق التي تنتظر رجعة زعيمها فرقة الخلفية من الخوارج. فهم ينتظرون قيس بن مسعود وقد غرق في واد منهزماً من الخوارج الحمزية
وممن - كانوا - ينتظرون منجدين ومغيثين - وإن لم يسموا بالمهديين - القحطاني والسفياني. ومصدقو المقالة المهدوية يرتقبون هذين الرجلين وغيرهما (قبل الفاطمي) مفسدين في الأرض وعائثين لا مغيثين
(ومن أقوى علامات خروج المهدي خروج من يتقدمه من الخوارج: السفياني والأبقع والأصهب والأعرج والكندي. أما السفياني فاسمه عروة واسم أبيه محمد، وكنيته أبو عنبة. قال الشيخ مرعي في فوائد الفكر، وفي عقد الدر: إن السفياني من ولد خالد بن يزيد بن أبي سفيان، ملعون في السماء والأرض، وهو أكثر خلق الله ظلماً. قال علي: السفياني رجل ضخم الهامة بوجهه أثر جدري، بعينه نكتة بياض، يخرج من ناحية دمشق، وعامة من يتبعه من كلب فيقتل حتى يبقر بطون النساء، ويقتل الصبيان، ويخرج إليه رجل من أهل بيتي في الحرم فيبعث إليه جنداً من جنده فيهزمهم، فيسير إليه السفياني بمن معه حتى إذا جاز بيداء من الأرض خسف بهم فلا ينجو إلا المخبر عنهم. أخرجه الحاكم في مستدركه وقال هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه. والأبقع يخرج من مصر، والأصهب يخرج من بلاد الجزيرة، ثم يخرج الجرهمي من الشام، ويخرج القحطاني من بلاد اليمن. قال كعب الأحبار: فبينما هؤلاء الثلاثة قد تغلبوا على مواضعهم إذ قد خرج السفياني من دمشق من واد يقال له: وادي اليابس.
وفي الحديث: لا تحشر أمتي حتى يخرج المهدي يمده الله بثلاثة آلاف من الملائكة،(192/18)
ويخرج إليه الأبدال من الشام، والنجباء من مصر، وعصائب أهل الشرق حتى يأتوا مكة فيبايع له بين الركن والمقام، ثم يتوجه إلى الشام وجبريل على مقدمته وميكائيل على يساره، ومعه أهل الكهف. فيفرح به أهل السماء والأرض والطير والوحوش والحيتان في البحر، وتزيد المياه في دولته، وتمتد الأنهار، وتضعف الأرض أكلها فيقدم إلى الشام فيأخذ السفياني فيذبح تحت الشجرة التي أغصانها إلى بحيرة طبرية)
وهناك فرقة تنتظر نبياً (لا مهدياً فقط) عجمياً (لا عربياً) وهي اليزيدية من الخوارج أصحاب يزيد بن أنيسة (قالوا: سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب في السماء وينزل عليه جملة واحدة، ويترك شريعة محمد إلى ملة الصابئة المذكورة في القران)
أحد القراء(192/19)
داعي الدعاة ونظم الدعوة عند الفاطميين
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت الدعاية من اعظم العوامل التي عاونت على ظفر الحلفاء في الحرب الكبرى؛ وللدعاية في عصرنا أعظم شأن في تكوين الرأي العام. وفي توجيهه إلى النواحي والغايات التي يراد توجيهه إليها، ولا يخفى ما للرأي العام اليوم من القوة والنفوذ حيثما تتاح له فرص الظهور والإعراب؛ ففي الأمم الديمقراطية التي مازالت الحريات العامة فيها قائمة مكفولة يتمتع الرأي العام بكل قوته ونفوذه، ويحسب حسابه، ويحدث أثره في توجيه الحوادث والشؤون؛ وحتى في الأمم التي تسودها النظم الطاغية، وتسحق الحريات العامة، ويسلب الرأي العام والخاص كل حرية في القول والإعراب، تتبوأ الدعاية أهميتها كوسيلة قوية لتكوين رأي الكافة، ومحاولة التأثير على الخاصة والمستنيرين، وإخفاء ما يراد إخفاؤه من عيوب النظم الطاغية والإشادة بما تدعيه من الفضائل والمزايا وتحقيق الإصلاح والخير العام؛ وفي سبيل هذه الغاية تعتمد النظم الطاغية على هيئات قوية محكمة للدعاية الشاملة تسيطر على جميع وسائل الدعوة كالصحافة والأدب والراديو والتمثيل والسينما وغيرها مما تلمس أثره في تكوين الرأي العام وتوجيهه وتثقيفه
وتبدو هذه الهيئات المحدثة للدعاية كأنها بدعة في النظم الجديدة، وكأنها ابتكار لم يسبق مثوله في غيرها، وقد بلغت في بعض الدول مرتبة الوزارة الخاصة، وأضحت من دعامات الحكم الجديد التي يحسب حسابها في حشد الرأي العام وفي توجيه حيثما شاءت السياسة العليا. بيد أنا سنرى في هذا الفصل أن تنظيم الدعاية الرسمية على هذا النحو ليس ابتكاراً جديداً، ولم تنفرد به تلك الدول والنظم التي تفاخر به وتعتمد عليه، وأنه قد عرف في الدول الإسلامية قبل ألف عام، واتخذ كما يتخذ اليوم أداة قوية لغزو الأذهان وتوجيه رأي الكافة، وكان دعامة من دعائم الحكم والخلافة
أجل عرفت الدولة الإسلامية قيمة الدعاية ولجأت في مختلف الظروف والحوادث لتحقيق غايات الدين والسياسة: بيد أنها لم تدمج في هيئة خاصة، ولم تنظم أصولها ووسائلها بصورة رسمية إلا في الدولة الفاطمية. ففي ظل هذه الدولة القوية المدهشة نجد الدعوة تتخذ وسيلة من أنفذ الوسائل لحشد الأولياء والكافة وتوضع لها نظم هي آية الطرافة والبراعة،(192/20)
ونجد هذه الهيئة الرسمية التي تضطلع بهذه المهمة الخطيرة ترتفع إلى مرتبة الوزارة، فتجعل الخلافة الفاطمية منها سياجاً منيعاً لإمامتها وزعامتها الدينية
لما استقر الفاطميون بمصر وغدت مصر منزلهم ومثوى ملكهم ودولتهم شعرت الخلافة الفاطمية بالحاجة إلى مضاعفة جهودها المذهبية، ذلك أنها لم تجد في مصر كما وجدت في قفار المغرب الساذجة مهداً خصباً لدعوتها، بل ألفت في مصر مجتمعاً متمدناً عركته الأحداث الدينية والسياسية والفكرية؛ ولم يكن اعتماد الخلافة الفاطمية في بث دعوتها على سلاح التشريع قدر اعتمادها على الدعاية السرية، وغزو الأذهان بطريقة منظمة، لأنه إذا كان التشريع وسيلة لسيادة الكافة وتحقيق الطاعة الظاهرة فإن الدعاية المنظمة هي خير الوسائل لغزو الأذهان المستنيرة وحشدها لتأييد الدعوة المنشودة. وقد كانت الدعوة السرية أنفذ وسائل الفاطميين إلى تبوء الملك، فلما جنوا ثمار ظفرهم الأولى، كانت الدعوة السرية وسيلتهم إلى حمايتها وتدعيمها، فكان لهم دعاة في سائر الأقطار الاسلامية؛ وكانت مصر منزل ملكهم وخلافتهم منبر هذه الدعوة ومركزها ومجمعها، تنساب منه إلى جنبات الإمبراطورية الفاطمية الشاسعة والى سائر الأقطار الإسلامية الأخرى
وكانت هذه الدعوة المذهبية تتخذ منذ البداية صبغة رسمية، ومذ قامت الخلافة الفاطمية بالقاهرة، نراها تنتظم في القصر الفاطمي وتتخذ صورة الدعوة إلى قراءة علوم آل البيت (علوم الشيعة) والتفقه فيها، وكان يقوم بإلقاء هذه الدروس قاضي القضاة وغيره من أكابر العلماء المتضلعين في فقه الشيعة، وكانت تلقى أحياناً في القصر وأحياناً في الجامع الأزهر؛ وينوه المسبحي مؤرخ الدولة الفاطمية بإقبال الكافة على الاستماع لهذه الدروس والجلسات المذهبية فيقول لنا إنه في ربيع الأول سنة 385هـ جلس القاضي محمد بن النعمان بالقصر لقراءة علوم آل البيت على الرسم المعتاد فمات في الزحام أحد عشر رجلاً، فكفنهم العزيز بالله. بيد أن هذه الدعاية المذهبية الظاهرة التي بدأت في صورة الدروس الفقهية المذهبية، وهي دروس كان يطلق عليها مجالس الحكمة، كانت ستاراً لدعوة أخرى بعيدة المدى، كانت تحاط بنوع من التحفظ والتكتم) هي الدعوة الفاطمية السرية التي كانت الخلافة الفاطمية تجد في بثها وسيلة لغزو الأذهان المستنيرة وحشدها في حظيرتها المذهبية، الدينية والسياسية؛ وكان من عناية الخلافة الفاطمية بتنظيم هذه الدعوة وبثها أن(192/21)
أنشأت لها خطة دينية تضارع في المرتبة والأهمية خطة الوزارة ذاتها؛ وكان هذا المنصب الخطير من أغرب الخطط الدينية التي أنشأتها الدولة الفاطمية وانفردت بها؛ وكان متوليه ينعت بداعي الدعاة وهو أيضاً من أغرب الشخصيات الرسمية التي خلقتها الدولة الفاطمية؛ وكان داعي الدعاة يلي قاضي القضاة في الرتبة ويتزيا بزيه ويتمتع بمثل امتيازاته، وينتخب من بين أكابر فقهاء الشيعة المتضلعين في العلوم الدينية وفي أسرار الدعوة ويعاونه في مهمته اثنا عشر نقيباً وعدة كبيرة من النواب يمثلون في سائر النواحي؛ وكانت هذه الدروس والمحاضرات الخاصة التي يشرف عليها داعي الدعاة، تلقى بعد مراجعة الخليفة وموافقته في إيوان القصر الكبير؛ وتعقد للنساء مجالس خاصة بمركز الداعي بالقصر، وهو المسمى (بالمحول)، وكان من أعظم الأبنية وأوسعها فإذا انتهت القراءة أقبل الأولياء والمؤمنون على الداعي فيمسح على رؤوسهم بعلامة الخليفة ويأخذ العهد على الراغبين في دخول المذهب، ويؤدي له النجوى من استطاع، وهي رسم اختياري صغير يجبى من المؤمنين للإنفاق على الدعوة والدعاة، وكانت ثمة مجالس أخرى تعقد بالقصر أيضاً لبعض الهيئات والطبقات الممتازة من أولياء المذهب - ورجال الدولة والقصر - ونساء الحرم والخاص، ويسودها التحفظ والتكتم، ويحظر شهودها على الكافة؛ وتعرض فيها الدعوة الفاطمية على يد دعاة تفقهوا في درسها وعرضها؛ وكان تلقين هذه الدعوة، هو أخطر مهمة يقوم بها الدعاة، بل كان في الواقع أهم غاية يراد تحقيقها؛ وكان للكافة أيضاً نصيب من تلك المجالس الشهيرة، فيعقد للرجال مجلس بالقصر، ويعقد للنساء مجلس بالجامع الأزهر ويعقد مجلس للأجانب الراغبين في تلقي الدعوة؛ وكان الداعي يشرف على هذه المجالس جميعاً إما بنفسه أو بواسطة نقبائه ونوابه، وكانت الدعوة تنظم وترتب طبقاً لمستوى الطبقات والأذهان فلا يتلقى الكافة منها سوى مبادئها وأصولها العامة، ويرتفع الدعاة بالخاصة والمستنيرين إلى مراتبها وأسرارها العليا
وقد انتهت إلينا وثيقة رسمية هامة هي سجل فاطمي بإقامة داعي الدعاة، وبيان مهمته واختصاصاته وما يجب عليه اتباعه لإذاعة الدعوة، وقد جاء فيه بعد الديباجة شرحاً لمقاصد الدعوة ما يأتي: (وإن أمير المؤمنين بما منحه الله تعالى من شرف الحكمة، وأورثه من منصب الإمامة والأئمة، وفوض إليه من التوقيف على حدود الدين وتبصير من اعتصم(192/22)
بحبله من المؤمنين، وتنوير بصائر من استمسك بعروته من المستجيبين، يعلن بإقامة الدعوة الهادية بين أوليائه، وسبوغ ظلها على أشياعه وخلصائه، وتغذية أفهامهم بلبانها، وإرهاف عقولهم ببيانها، وتهذيب أفكارهم بلطائفها، وإنقاذهم من حيرة الشكوك بمعارفها، وتوفيقهم من علومها على ما يلحب لهم سبل الرضوان، ويفضي بهم روح الجنان وريح الحنان، والخلود السرمدي في جوار الجواد المنان. . .)
ومنها في شرح واجبات الداعي وطرق تلقين الدعوة: (وخذ العهد على كل مستجيب راغب، وشد العقد على كل منقاد ظاهر، ممن يظهر لك إخلاصه ويقينه، ويصح عندك عفافه ودينه، وحضهم على الوفاء بما تعاهدهم عليه. . . ولا تكره أحداً على متابعتك والدخول في بيعتك. . . ولا تلق الوديعة إلا لحفاظ الودائع. ولا تلقي الحب إلا في مزرعة لا تكدي على الزارع، وتوخ لغرسك أجل المغارس، وتوردهم مشارع ماء الحياة المعين، وتقربهم بقربان المخلصين، وتخرجهم من ظلم الشكوك والشبهات إلى نور البراهين والآيات؛ واتل مجالس الحكم التي تخرج إليك في الحضرة على المؤمنين والمؤمنات، والمستجيبين والمستجيبات، في قصور الخلافة الزاهرة، والمسجد الجامع بالمعزية القاهرة، وصن أسرار الحكم إلا عن أهلها، ولا تبذلها إلا لمستحقها، ولا تكشف للمستضعفين ما يعجزون عن تحمله ولا تستقل أفهامه بتقبله، واجمع من التبصر بين أدلة الشرائع والعقول، ودل على اتصال الممثل بالممنون؛ فإن الظواهر أجسام، والبواطن أشباحها، والبواطن أنفس. والظواهر أرواحها. . .)
وفي هذه العبارات ما يلقي الضياء على غايات السياسة الفاطمية الدينية والمعنوية وعلى وسائلها في غزو الأذهان وحشدها من حولها؛ ومن المعروف أن الخلافة الفاطمية كانت تتخذ الإمامة الدينية شعارها، ومرجع زعامتها الدينية في العالم الإسلامي، وشرعية ملكها السياسي، فالدعوة الفاطمية التي كانت تلقى في مجالس الحكمة إلى الكافة والى الخاصة متدرجة في مراتب من السرية والتحفظ طبقاً لمكانة الأشخاص وأحوالهم الفكرية والاجتماعية، كانت رغم صفتها الدينية، ترمي في النهاية إلى أغراض سياسية؛ ذلك أن الخلافة الفاطمية كانت ترى أن تحشد جمهور أوليائها ومؤيديها عن طريق الدين، ومتى اجتمعوا في ظل الإمامة وتحت لوائها، استطاعت أن تحركهم وأن توجههم وفق مصالحها(192/23)
وغاياتها، وأن تعتمد على تأييدهم ونصرتهم كلما اقتضت الظروف والأحوال
والدول المحدثة التي تعتمد في عصرنا على سلاح الدعاية ترمي إلى مثل هذه الغاية؛ فهي تتوسل بما لديها من أسلحة حديثة لغزو العقول والأذهان كالصحافة والراديو والسينما وغيرها لفرض مذاهبها السياسية والاجتماعية والدينية أحياناً على جمهور الشعب والحصول على تأييده ونصرته. ولم تكن الخلافة الفاطمية، وهي من دول العصور الوسطى، تتمتع بشيء من هذه الوسائل القوية المحدثة، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تنظم دعوتها بأساليب ووسائل مدهشة، وأن تجني كثيراً من الثمرات المادية والمعنوية، بل لقد كان قيام الدولة الفاطمية ذاته نتيجة من نتائج الدعوة الفاطمية. وذيوع هذه الدعوة في قبائل إفريقية البربرية هو الذي جمع كلمة القبائل حول عبيد الله المهدي، وهو الذي مهد لقيام الدولة الجديدة
والخلاصة أن فكرة الدعاية التي تتبوأ في النظم السياسية والاجتماعية الحديثة، ولا سيما نظم الطغيان الفاشستية، مكانة خاصة، وتعتبر من أقوى أسلحة الطغيان في عصرنا، ليست جديدة في ذاتها أو غاياتها، وإن كانت جديدة في وسائلها، وقد عرفتها الدول الإسلامية قبل ألف عام، واتخذت على يد الخلافة الفاطمية أذكى وأبرع وأنفذ أساليبها
محمد عبد الله عنان(192/24)
في الأدب المقارن
الرومانسية والكلاسية في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
ينشأ أدب الأمة المتبدية ساذجاً بسيطاً صريح التعبير قريب المتناول، مطلق السجية في الإعراب عن الشعور الإنساني، وتظل له هذه السمة حيناً، حتى تتحضر الأمة وينتقل الأدب من جو الطبيعة الطلق إلى حياة المدينة. بما تشمل من وسائل الحضارة المادية وأسباب الثقافة الذهنية، فيرتقي الأدب لذلك كله وتتسع جوانبه وتبعد أغواه، بيد أن الحضارة المادية التي توفرها المدينة لساكنيها ولا توفرها الطبيعة للمتبدين، ربما طغت فأفسدت على القوم حياتهم؛ وكذلك الثقافة العقلية التي في ظلها يرتقي الأدب رقياً عظيماً ربما زيفت على الإنسان شعوره، وتعاونت مع تلك الحضارة المادية على إفساد الأدب بتغليب الصنعة والتكلف فيه على الحساس الصادق، وتكبيله بالتقاليد والأوضاع، وتضييق حدوده وسد آفاقه، وإيلاء الألفاظ فيه المكانة الأولى دون المعاني
إذا بلغ الأدب هذا الطور الصناعي التقليدي انحط ولم يعد يسير إلا من تدهور إلى تدهور. وصار الأدب المتبدي على سذاجته أرقى منه واصدق، ولم يعد للأدب الذي غلبت عليه الصناعة من سبيل للنهوض، إلا الرجوع إلى الطبيعة والاقتباس من الأدب البدوي المرسل الطبع. والاطلاع على آداب الأمم الأخرى التي لم يرهقها التكلف ولم تفسدها الصنعة، بهذا وحده يتأتى له معاودة الحياة وأن يعود ترجماناً صادقاً مبيناً لها، وبغير تلك العوامل الخارجية هيهات أن ينهض الأدب العاثر من سقطته، وإنما يزداد إمعاناً في التكلف السمج جيلاً بعد جيل، وإغراقاً في اختراع كاذب الأخيلة والأحاسيس ومزجها بألاعيب الألفاظ، والخروج بكل ذلك عن كل ما يسيغه ذوق أو بقبله عقل
فحياة الطبيعة المطلقة في أعنتها، وحياة المدينة ذات الحضارة والثقافة، تتنازعان الأدب وتؤثر كل منهما فيه تأثيراً خاصاً، ولكل منهما مزايا هي قادرة على إيداعها الأدب: تمنحه الطبيعة شتى مناظر جمالها وصدق شعورها وبعيد آفاقها ورائع أسرارها ومخاوفها، وتمنحه المدينة وسائل التفكير العميق والنظر الثاقب والطموح إلى المثل العليا، وأسباب الإنشاء الأدبي الفني والجهد الأدبي المتصل، والتفنن في ابتكار صور الأدب وأوضاعه،(192/25)
والخير كل الخير أن يأخذ الأدب من كلتا الناحيتين بنصيب، والأدب الذي اجتمع له رحب الطبيعة وحرارة شعورها وجمالها، إلى ثقافة المدينة ووسائل التوفر الأدبي فيها، أدب لا شك بالغ من الرقي غاياته؛ أما الدب المتبدي فيظل على صدقه وجماله قاصراً ساذجاً، وأما أدب المدينة الذي بلغ في الانغمار في جوها وأهمل جانب الطبيعة، فسائر إلى الفساد والانحلال لا محالة
والرومانسية هي الصفة التي ينعت بها عادة الأدب الذي يؤثر جانب الطبيعة، ويحفل بمظاهر عبادتها والتأمل في ظواهرها ووصف مشاهدها والسبح في آفاقها، يؤثر كل ذلك على اللفظ فلا يهتم بهذا إلا بقدر ما يستخرجه في إيضاح أغراضه. وعلى حياة المدينة فلا تستغرق شؤون السياسة وعلاقة رجاله برجالها ورجال البلاط والحرب كل جهده والتفاته، ولا يصرفه الحاضر عن الولوع بالماضي والتأمل فيه وفي المستقبل، ولا ريب إن ذلك لا يعني إهماله لجانب الحضارة والثقافة، بل هو بهما شديد الولوع ويدرس ماضيهما ومستقبلهما شديد الشغف؛ والكلاسية هي النعت الذي يطلق على الأدب الذي استغرقته حياة المدينة وشغل بها عن جانب الطبيعة وانغمر فيها رجاله، في مجتمعها ومندياتها ومعاركها السياسية والحزبية والشخصية، وآثر التألق في اللفظ والشكل الأدبي وكفكف العاطفة فحل محلها الذكاء والبراعة واللباقة، وضيق مجالات القول وحدد أغراضه، وكل هاتيك صفات ولوازم تعلق بالمجتمع المترف وتنعكس عنه في الأدب
وقد كانت الصبغة الرومانسية هي الغالبة على الأدب الإغريقي في عهد عظمته، لأنه ترعرع في مجتمع قريب من البداوة، وفي حياة شديدة النشاط مطردة الحركة، تجيش بالمغامرة والجلاد، وفي حرية في الفكر والسياسة. أما الأدب اللاتيني فكان اكثر اصطباغاً بالكلاسية لأنه لم يبلغ ذروته إلا في ظل الملكية المطلقة والإمبراطورية الموطدة المستقرة. فكان أدب مدينة وثقافة متانقة، واشتهر أعلامه كفرجيل بإحكام الأسلوب والتشبث بمبادئ وتقاليد أدبية خاصة، وما زالت إلياذة هومير وأنياد فرجيل موضوع مقابلة من هذه الناحية. وكان أدباء الإنكليزية اكثر احتفالاً باللانينيير وإقتداء بهم في العصر الكلاسي في الأدب الإنكليزي، كما كانوا في عهده الرومانسي أميل إلى اليونان واكثر تغنياً بآثارهم، وبعدم اطلاع الأدب العربي على الأدب اليوناني فقد هذا العصر الرومانسي الذي اصبح في حاجة(192/26)
إليه، حين انتقل إلى المدينة وشغل بآثار الحضارة والثقافة
وقد كانت الرومانسية هي الصفة الغالبة على الأدب الإنكليزي في العصر الإليزابيثي؛ ففي ذلك العهد كانت البساطة والخشونة تسودان المجتمع والبلاط؛ والحركة والنشاط والتطلع تتجلى في شتى نواحي الحياة: في العلم والأدب والكشف والمخاطرة والحرب. كان عهد نهضة تتحفز وتستشرف إلى الجديد وترمي إلى التوسع، لا تقنع بالقليل الحاضر ولا تقبل القيود والحدود؛ وزمن شباب يولع بالقوة والجلاد ويبرم بالأنيار والأقياد، فهو لا يرضاها في الأدب؛ ومن ثم جاء أدب ذلك العصر غزير المادة متلاطم العباب مترامي الأفاق، جياشاً بشتى العواطف والمعاني، حافلاً بمختلف الأوضاع الأدبية والمذاهب الفنية، لم يتقيد رجاله بتقاليد فنية غير معقولة: فعلى حين تقيد أدباء الفرنسية بالوحدات الثلاث التي أثرت عن الدرامة الإغريقية، انتفع الأدب الإنكليزي بخير ما في تلك الدرامة وضرب بتلك الوحدات عرض الحائط؛ ولم يتقيد بألفاظ خاصة في الشعر، مما اصبح فيما بعد يسمى (الألفاظ الشعرية) بل زاد على استعمال كل ما في لغة الكتب أن اقتبس من لغة العامة واصطنع بعض ألفاظ اللغات الأجنبية، واشتق ما راقه من ألفاظ. واخرج هذا العصر الحافل كبير شعراء الإنكليزية شكسبير، وانجب بجانبه أحد كبراء شعرائها سبنسر، وامتد هذا العصر حتى انتهى بظهور علم ثالث من أعلامها هو ملتون
تصرم ذلك العهد المملوء بالحرية والنشاط والجرأة والفتوة، وتلاه عصر كلاسي طويل، بين أواخر القرن السابع عشر وأواخر القرن الذي يليه، خمدت فيه روح المغامرة والتطلع التي كانت متنبهة في عصر إليزابيث، واستراح الناس إلى حياة المدينة ومنتدياتها، وانغمر الأدباء في المعارك الأدبية فيما بينهم، فكان نزاع بين كل من دريدن وأديسون وستيل وديفو وسويفت ومعاصريهم، محتدم حيناً ومترفق حيناً، ومعلن تارة ومستتر أخرى؛ وانغمروا كذلك في المشادات السياسية وانضووا تحت ألوية الأحزاب، وشجعهم رجال تلك الأحزاب على الانخراط في سلوكهم والذود عن مبادئهم بأقلامهم، فكان سويفت في صف المحافظين، وادسون في جانب الأحرار، وكان ستيل يختلف من هؤلاء إلى أولئك. وخلا أدب ذلك العصر أو كاد من ذكر الطبيعة ومجاليها، وحتى أولئك الأدباء الذين كانوا يرحلون إلى الأقطار الأجنبية، لم تكن تحرك نفوسهم مناظرها الجديدة، فكانوا يتناولون في رسائلهم إلى(192/27)
أصدقائهم في الوطن شتى المواضيع ماعداها. واهتم أدباء ذلك العهد باللفظ كل اهتمام وقدموه صراحة على المعنى، وجعلوا للشعر ألفاظاً لا يتعداها ومواضيع لا يتخطاها، واتخذوا للشعر وزناً واحداً مزدوج القافية لم يكد أحد ينظم في سواه، وقلدوا الأقدمين من أدباء الإغريقية واللاتينية ونقادهما. وانصاعوا لمبادئهم انصياعاً أعمى؛ وبهذا كله ضاقت حدود الأدب ضيقاً شديداً، وأرهقه التكلف وفدحته القيود، فسار إلى الانحلال
وزعيم هذا المذهب الكلاسي الذي بلغ اوجه على يديه هو بوب الذي نال الغاية من إحكام اللفظ، وقد قال عنه بعض مترجميه إن شعره ليس إلا نثراً جيد النظم، وذلك حق: فهو يتناول في شعره مواضيع هي أقرب إلى النثر وأبعد عن الخيال والشاعرية؛ وكان يسمي بعض قصائده (مقالات) ومنها مقالته في النقد التي نظم فيها مبادئ المذهب الكلاسي في الأدب ونقده، فظلت مرجعاً لمن تلاه من شعراء المذهب، ومنها يقول: (تعلم إذن التقدير الحق لمبادئ الأقدمين، فمحاكاتها هي محاكاة للطبيعة، فتلك المبادئ القديمة - التي إنما اكتشفت ولم تخترع - إن هي إلا الطبيعة؛ غير أنها الطبيعة منظمة مهذبة)، وقد ترجم بوب إلياذة هوميروس ترجمة قدسها معاصروه، ولكنها قلما تذكر الآن أو يعتمد عليها أو تعد صورة صحيحة لشعر هوميروس، إذ كان من المستحيل على أديب مشبع بالروح الكلاسي أن يخلص إلى روح الشاعر الإغريقي الرومانسي؛ ثم دبت في المجتمع الإنجليزي روح جديدة، وانتعش الأدب الإنجليزي من خموله باطلاعه على آداب الأمم الأخرى الناهضة كالأدب الألماني، والعودة إلى صدر الطبيعة الرحب الحافل بالأسرار والحياة والوحي. تمخض كل ذلك في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل الذي يليه عن نهضة رومانسية جديدة فكت الأدب من عقاله ونبهت الشعر من غفوته، ورحبت آفاقه وبسطت جوانبه، وسبحت به في آماد الكون والطبيعة والإنسانية، وأنجبت هذه النهضة جمهرة أخرى من أفذاذ الأدب الإنجليزي؛ أنجبت وردزورث وبليك وكولردج، ثم بيرون وشلي وكيتس، ثم تنيسوت وبراوننج، عدا من أخرجت من أفذاذ النثر الذين جاء نثرهم حافلاً بمظاهر النهضة الجديدة؛ ولا غرو: ففي العهود الرومانسية يتجلى الروح الشعري حتى في النثر، وفي العصور الكلاسية يفيض الروح الشعري حتى في النظم؛ وما تزال تلك النزعة الرومانسية ملحوظة في الأدب الإنجليزي، على ما داخله من نزعة واقعية. وإقبال على(192/28)
درس مسائل المجتمع كافة
والعصر الرومانسي في الأدب العربي هو ولا شك عصر الجاهلية والعهد الراشدي وصدر العصر الأموي: في تلك العهود وكان المجتمع العربي أدنى إلى البساطة والتبدي، وكان الأدب مرسل السجية صادق التعبير عن خلجات النفوس: من حزن وطرب ولذة وألم، وحب وبغض وحماسة ووصف، خالياً في أكثر نواحيه من مظاهر التكلف اللفظي أو التعمل في المعنى أو التصنع في الموضوع. وما تزال لحكم بعض الأعراب والأعرابيات ومراثيهم، وحماسيات قطري بن الفجاءة وغزليات جميل وقيس، روعة في النفوس وغبطة شاملة، لصدورها عن طبع سليم وشعور صميم؛ هذا على رغم بساطة ذلك الأدب وخلوه من مظاهر التثقف والتعمق في التفكير
تجرم ذلك العصر بطول عهد العرب بالحضارة والثقافة، ومهدت حضارة المدينة وثقافتها من أسباب القول ودواعي النظم ووسائل التفنن الأدبي ما لم يتوفر في البادية، فنشأ من ذلك أدب جديد يفوق أدب العصر السالف تعدد مواضع وعمق نظرة ووفرة محصول، وتجلى ذلك في خير آثار ابن الرومي والطائي والمتنبي والمعري، والجاحظ والبديع والجرجاني وأضرابهم. على أن الأدب في طوره هذا انغمر في جو المدينة انغماراً تاماً، فكان هذا عهداً كلاسياً صميماً: فيه تزايد ولوع الأدباء تدريجاً باللفظ. واحتفاؤهم به، ثم استعبادهم أنفسهم له وللأوضاع والمبادئ الموروثة عن المتقدمين. وضاقت مواضيع القول رويداً رويداً وكبلها التكلف والإغراب، وتجمع الأدباء حول موائد الأمراء ورجال السياسة والحكم والحرب، وخاضوا غمار مشاحناتهم، وتشاحنوا هم أنفسهم فيما بينهم، وهي مشاحنات تذكرنا بحملات سويفت ودريدن على الوزراء والقواد في عصرهما، وحملاتهما على غيرهما من الأدباء، فمن هجاء الوزراء قول دعبل في وزير المأمون:
أولي الأمور بضيعة وفساد ... أمر يدبره أبو عباد
يسطو على جلاسه بدواته ... فمضمخ بدم ونضح مداد
ومن تهاجي الشعراء قول ابن الرومي في البحتري:
أف لأشياء يأتي البحتري بها ... من شعره الغث بعد الكد والتعب
البحتري ذنوب الوجه نعرفه ... وما عهدنا ذنوب الوجه ذا أدب(192/29)
وقول المتنبي في معاصريه:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ... ضعيف يقاويني، قصير يطاول؟
وكم جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل
وفي ذلك العصر الكلاسي الطويل أعرض الشعراء إعراضاً يكاد يكون تاماً عن الطبيعة وحديثها ومجاليها، وأقبلوا على حياة المدينة أي إقبال. وما منهم من له عمل أبعد من أن ينال النجاح فيما تهيئه لأبنائها من أسباب اللذة والمتعة والشهرة، فكان منهم طامح إلى الملك كالمتنبي والشريف الرضي، وحريص على الوزارة كالصاحب وابن العميد، وراغب في الولاية حظي بها كالطائي وقصر عنها كابن الرومي، ومغتبط بالحظرة والمنادمة كأبي العتاهية والبحتري، وغير هؤلاء وأولئك ممن سعوا سعيهم ولم ينالوا مثل شهرتهم؛ وممن طمحوا فيما هو دون ذلك من متعات الحياة. ونظير ذلك كله تراه في العصر الكلاسي الإنجليزي سالف الذكر: فقد تقلب دريدن بين الأحزاب وحرص على الحظوة في البلاط. وتدرج أديسون في المناصب حتى صار وزيراً للخارجية، ولم يقنع سويفت بما تولى من مناصب في الكنسية، وكان إخفاقه في مطامعه البعيدة أحد أسباب نقمته وتشاؤمه
وتجلت هذه الصفة الكلاسية في الأدب ذاته: حددت مواضيعه وقصرت على ما اتصل بالحاضر القريب من شؤون الحياة في المدينة، وأهملت المواضع الرومانسية الصبغة، كالالتفات إلى الماضي واستعراض حوادثه الطريفة واتخاذها مادة للنظم والنثر، ومعالجة خرافاته واستلهامها ما بها من معاني الجمال والعظمة والبطولة، وأهملت أحاديث الرحلات وأوصاف البلاد البعيدة والأصقاع المجهولة، ما وجد منها في الحقيقة وما يتخيله الشاعر، وكفكف الخيال ونبذت آثاره من عالم الأدب.
خلا الأدب العربي في ذلك العهد من كل هذه المواضيع، وهي من صميم الشعر ولباب الفن وجوهر الأدب إذا ما تحضر أهلوه وانتفعوا بالثقافة، وإنما تركت هذه المواضيع الجليلة للأدب العامي، فظل الأدب الفصيح أدباً كلاسياً وصار الأدب العامي هو الممثل للرومانسية
دام ذلك العصر الكلاسي الطويل في الأدب العربي طوال عهد ارتقاء الأدب، أي زهاء ثلاثة قرون، ثم طوال عهد انحطاطه أي إلى العصر الحديث، لم تعقبه خلال تلك الأجيال المتوالية نهضة رومانسية تخفف من غلوائه وتصلح من فساده، وتقيم ما اعوج من مبادئه(192/30)
الأدبية، وتعود به إلى الطبيعة التي هجرها واستغرق في النوم في أحضان المدينة: لم تنبعث فيه تلك النهضة التي انبعثت في الأدب الإنجليزي في أعقاب القرن الثامن عشر، حين بلغ العهد الكلاسي مداه من التحكم في أساليب الأدب. وبلغ الأدب الدرك من الإسفاف والأمحال؛ ذلك لأن الأدب العربي كانت تعوزه تلك العوامل التي تساعد على النهضة وتعاون على الرجوع إلى الطبيعة وتنبت الميل الرومانسي، فكان استمرار النزعة الكلاسية المحتدمة في الأدب اكبر أسباب تدهوره الطويل.
فالأدب العربي لم يكن على اتصال بآداب أجنبية فيأخذ عنها حب الطبيعة وإيثار البساطة، ويلتفت باطلاعه عليها إلى حقائق الحياة الكثيرة التي أهملها، وهو لم يكن يتنازل فيتصل بآداب العامة وأقاصيص الزراع والرعاة، التي تنسم فيها نسائم الطبيعة والبساطة والشعور الصميم، وهو لم يكن يرجع إلى ماضيه الرومانسي الذي سبقت الإشارة إليه، فينظر فيه نظرة حرة مميزة، تستخلص اللباب وتنظر من خلاله إلى حقائق الحياة، إنما يرجع إليه طلباً للأسلوب واللفظ، دون المعنى والموضوع، كان يعده كنز لغة فصيحة الأساليب والألفاظ لا كنز حقائق منتزعة من الحياة الصميمة. فإذا نظر إلى المعاني حاول حكايتها وتقليدها تقليداً كاملاً على ما هي عليه، أي حاول الأديب أن يحيا في أدبه حياة البدو ويشعرهم بشعورهم كله، وكان الأجدر أن ينبذ ذلك جميعاً، ولا يهتم إلا بصدق تعبير أولئك المتقدمين عن شعورهم، ووجوب صدقه في تعبيره عن شعوره الصحيح، في عصره وحياته المخالفين لما كان قبله
ظل هذا المذهب الكلاسي التقليدي سائداً الأدب العربي، يقلد المتأخر المتقدم ويزيد عليه تقييداً وتضييقاً في مجالات القول وأوضاعه، مادام الأدب محجوباً عن غيره من الآداب بعيداً عما جهله أو تجاهله من حقائق الحياة والأدب، حتى أتيح له الاتصال بالآداب الغربية في العصر الحديث، فصحا من غفوته ونفض عنه تدريجاً غبار التقليد والتقييد اللفظي والمعنوي، وفتن بحقائق الكون ومحاسن الطبيعة التي كان عنها في شغل، وتناول شتى المواضيع التي كان حرمها على نفسه، وبالجملة تقشع عنه عصره الكلاسي الطويل، وأشرق عليه فجر نهضة رومانسية جديدة
فخري أبو السعود(192/31)
فوائد قياس الذكاء في التربية
للأستاذ علي محمد فهمي
مدرس التربية التجريبية المساعد بمعهد التربية
تقدم قياس الذكاء منذ الحرب العظمى فذاع استعمال المقاييس في المدارس حتى أصبحت ضرورية لكل مدرسة تعنى بجعل التعليم ملائماً للأطفال. وهذه هي أهم فوائد مقاييس الذكاء والتي لها أثر في تعليم الأطفال وإرشادهم: -
أولاً - قياس الذكاء والتعليم المدرسي
تعالج عيوب الامتحانات القديمة بجعلها موضوعية بواسطة المقاييس الدراسية التي تعتبر أحسن وسيلة لقياس معلومات الطلبة وما يحصلونه من العلم والمعرفة. ومقدار التحصيل المدرسي هذا يتوقف إلى حد كبير على الذكاء، يدلنا على ذلك التجربة التي أجراها الأستاذ سيرل برت على 689 طالباً تتراوح أعمارهم بين السابعة والرابعة عشرة لإثبات العلاقة بين الذكاء والتحصيل المدرسي فوجد أن معامل الارتباط بينهما 74 في المائة؛ وهذا معامل عال جداً يدل على شدة الاتصال بين الذكاء والتحصيل. ومن هذا كانت معرفة ذكاء التلميذ من الأمور التي تساعد المختبر على تفهم أسباب تقدمه وتأخره. فإذا فرضنا أن تلميذاً ضعيفاً في دروسه فإن قياس ذكائه يبين لنا إذا كان ضعفه نتيجة غباوة طبيعية أو نتيجة عوامل أخرى كإهمال التلميذ أو عدم ميله للدروس أو عدم ملاءمة البيئة المنزلية للدراسة. الخ
ولأهمية مقاييس الذكاء وضرورتها تستعمل بدل الامتحانات القديمة في بعض الأحيان وتساعد الامتحانات الجديدة في بعض الأحيان الأخرى، وعلى هذا نجد أن مقاييس الذكاء والمقاييس الدراسية يكمل كل منهما الآخر. من أجل ذلك يتحتم على من يريد قياس التلميذ قياساً مضبوطاً ألا يكتفي بقياسه بالاختبار الدراسي فقط بل يقيسه أيضاً باختبار الذكاء ويبني حكمه على نتيجة هذين الاختبارين فيتعرف أولاً ميول الطفل الطبيعية ثم يقيس ثانياً ما اكتسبه هذا الطفل عن طريق هذه المواهب
على أنه ليس من الضروري أن نقيس ذكاء الطفل في كل مرة نقيس فيها تحصيله(192/33)
الدراسي، بل يكفي أن نقيسه عند أول عهده بكل مدرسة يلتحق بها فتساعدنا هذه المعرفة على الحكم عليه.
ولقد استعاضت بعض كليات الجامعات عن امتحانات القبول باختبارات الذكاء فتستعمل الآن كلية كولومبيا اختبار ثورنديك بدل امتحان القبول الذي كانت تعقده في أول كل عام دراسي للطلبة الذين يرغبون الالتحاق بالكلية. ولقد نجحت هذه الطريقة نجاحاً كبيراً يدل على ذلك ما قاله الأستاذ هوكس عميد الكلية من أن الطريقة الجديدة (تبين بوضوح ودقة أعظم مما عهدناه في أية طريقة أخرى ما إذا كان الطالب سينجح في جامعة كولومبيا أم لا)
ثانياً - التوجيه التعليمي
يرجع ازدياد نسبة فشل الطلبة في الامتحانات لعدة أسباب منها عدم ملاءمة الدراسة لكل الأفراد، إذ أن ما يلائم شخصاً لا يلائم الآخر، ولقد دعت نفس هذه الفكرة في البلاد الأوروبية والأمريكية إلى امتحانات التحصيل المقننة واختبارات الذكاء إذ يمكن من نتائج هذه الاختبارات الحكم على ملاءمة الدراسة للتلميذ أو تغييرها ثم إدماجه في دراسة أخرى أكثر موافقة لمواهبه الطبيعية
وليس هناك شك كما قلنا في أنه يوجد ارتباط وثيق بين مقدار تحصيل الطفل الدراسي وذكائه، فالطفل الذكي هو الذي يستمر في دراسته بنجاح مطرد، بينما الطفل الغبي هو الذي يفشل فيها، ويرجع هذا الارتباط إلى أن الدراسة في الفرق العليا تحتاج لدرجة ذكاء عالية، وهذا مما يجعل الأغبياء في الغالب يقفون عند حد لا يتعدونه مهما حاولوا التغلب وبذلوا من جهد. ولقد قدر الأستاذ ترمان بأن الذين يقل مستوى ذكائهم عن 80 في المائة لا يتمكنون من أن يدرسوا بعد الدراسة الابتدائية، فإذا ما انتقلت هذه الفئة إلى دراسة تحتاج لمستوى ذكاء اكبر من هذا المستوى تكرر فشلهم، وعلى هذا يجب أن يوجهوا إلى دراسات أخرى، وهذا هو السر في بعض حالات لا يتيسر لسوى المشتغلين بالذكاء أن يكشفوها. فكم من طالب مثلاً كان في دراسته الابتدائية ناجحاً لا يفشل في سنة من سنيه الدراسية حتى يعتقد والداه والمتصلون به أنه ذكي، ومثل هذا الصنف من الطلبة إذا ذهب إلى المدارس الثانوية وجد صعوبات كثيرة في الدراسة خصوصاً الدروس المجردة والتي تحتاج إلى تفكير عميق كالجبر والرياضة. الخ إذ في الغالب تتطلب هذه المواد ذكاء اكبر من(192/34)
ذكائه فيتكرر رسوبه ووالداه من ذلك في دهشة، ولكن الاختبارات كفيلة ببيان السر في ذلك
وقد أجرى الأستاذ ترمان اختباراته الكثيرة لتعيين المستويات التي تتطلبها الدراسات المختلفة فوجد أن الدراسة الثانوية تحتاج لنسبة ذكاء لا تقل عن 90 في المائة أما لدراسة العليا فتحتاج إلى نسبة ذكاء لا قل عن 100 % وهناك تقسيم أدق من هذا للأستاذ إسماعيل القباني؛ فمن تتراوح نسبة ذكائهم بين 70 و80 يتأخرون في دراسة التعليم الابتدائي ولا يمكنهم إتمام الدراسة الثانوية، وما بين 80، 90 يمرون في الدراسة الابتدائية في مدة أقل من الفريق الأول ويرجح ألا يمروا في الدراسة الثانوية، وما بين 90 و110 عاديون يتممون الدراسة الابتدائية بسهولة ويستطيعون أن يمروا في الثانوي بصعوبة، وما بين 110 - 120 يمرون في الدراسة الثانوية بسهولة، ومن 120 فأكثر يسهل عليهم الدراسة العليا.
ثالثاً - التوجيه المهني
يجب أن نميز بين الاختبار المهني والتوجيه المهني، فالأول هو اختبار الشخص المناسب لمهنة ما والتوجيه المهني هو اختبار المهنة المناسبة لشخص ما أو هو تسيير الشباب بنين وبنات نحو المهنة التي تتفق أكثر ما يكون ومؤهلاتهم الفطرية، وأهمية هذا التوجيه في تقدم البلاد وإسعادها لا تنكر. وليس معنى التوجيه في المهنة أنه يبدأ عند انتهاء التلاميذ من دراستهم، إذ أن الإرشاد التعليمي هو أول خطوة للتوجيه المهني كما أن ما ينادي به علماء العصر الحاضر هو تدريب الطالب على المهنة التي سيزاولها في المستقبل أثناء مدة الدراسة
قيمة التوجيه المهني والفائدة من وضع الفرد في العمل الذي يليق به وبمواهبه الطبيعية لا تقتصر على الفرد نفسه بل تعود عليه وعلى الأمة بالنفع الجزيل، وإن الحاجة للتوجيه المهني أصبحت حاجة العصر الحديث بعد الاختراعات الحديثة وانتشار الصناعة التي تتطلب الآن صفات خاصة
كيف نقوم بالتوجيه المهني: تختلف المهن من حيث ما تتطلبه من ذكاء كما دلت على ذلك الأبحاث الحديثة فيقسمها الأستاذ ترمان إلى ثلاثة أقسام: (1) مهن تحتاج لمقدار كبير من الذكاء (2) مهن تحتاج لذكاء متوسط (3) مهن لا تحتاج لذكاء. ومن الأبحاث القيمة التي(192/35)
تهمنا في هذا الموضوع بحث فقد أوجد العلاقة بين مراتب الذكاء المختلفة والمهن المتعددة وقال إن النجاح في مهنة ما لا يتيسر لكل شخص إذا كان الذكاء دون المستوى المعين. ومن هذا يتبين قيمة التوجيه المهني وكيف أنه يعمل لمصلحة الفرد والمجتمع في آن واحد. ولقد اهتم بإيجاد مستويات الذكاء للمهن المختلفة كثير من العلماء. ولقد ذكر الأستاذ ترمان أنه يجب ألا يشجع أي شخص إذا كانت درجة ذكائه أقل من 100 لأن يمتهن مهنة من المهن الراقية التي ذكرها وهي تشمل الأطباء وقادة الرأي والمربين والمهندسين وأصحاب المشروعات والكتاب. فالنجاح في مثل هذه المهن لا يمكن أن يحصل عليه إلا من كانت درجة ذكائهم أعلى من 115 - 125 ولقد أجرى الأستاذ فلاندر عدة تجارب استخلص منها أن من كان ذكاؤهم يتراوح بين 70 و80 يمكنهم أن يتخذوا الأعمال الآلية مهنة لهم؛ فعلاقة الذكاء بالتوجيه المهني حينئذ تقع في تحديد مستوى الذكاء المهني الذي يمكن الفرد من النجاح. وهكذا نجد أن اختبارات الذكاء تفيد في تحديد العمل الذي يمكن أن يؤديه الشخص على أحسن ما يمكن. على أن هناك أشياء أخرى يجب دراستها لتوجيه الفرد توجيهاً مهنياً وهي: (1) القدرات الخاصة (2) التحصيل المدرسي (3) البيئة المنزلية (4) الميول والمزاج (5) الصحة والقدرات الجسمية (من حيث القوة والسرعة والدقة)
رابعاً - تقسيم التلاميذ إلى فرق وفصول
يقسم بعض نظار المدارس في مصر التلاميذ إلى فصول مراعياً ترتيب أسمائهم حسب ترتيب الحروف الأبجدية، ويراعي البعض الآخر أجسام التلاميذ ويرتبهم حسب أطوالهم فيضع الصغار في فصول والكبار في أخرى، ويقسمهم البعض الآخر حسب ترتيب أعمارهم الزمنية. وقد ظهر فساد هذه الطرق بعد أن قسنا ذكاء عدد كبير من التلاميذ وتبين لنا أن القوة العقلية لبعض التلاميذ في فصل من فصول السنة الثانية الابتدائية كانت تعادل قوة التلميذ المتوسط الذي عمره 13 سنة في حين أن القوة العقلية لتلاميذ آخرين أقل من قوة الطفل الذي عمره 7 سنين. وفي فصل من فصول السنة الثالثة بمدرسة أخرى وجدنا تلاميذ تعادل قوتهم قوة الطفل المتوسط من سن 8 سنوات وآخرين قوتهم العقلية تزيد على قوة التلميذ المتوسط من سن 14 سنة وهكذا في سائر الفصول
ولا يخفى ما في هذا من الأثر السيئ على كل من التلاميذ الأذكياء والأغبياء الذين(192/36)
يضطرهم اجتماعهم في فصل واحد إلى السير إما حسب سرعة الأول ومقدرته فيعجز الأغبياء عن متابعتهم، وإن أجهدوا أنفسهم فلن يستمروا في ذلك طويلاً حتى يضنيهم الإجهاد فتثبط هممهم؛ وإما حسب سرعة الآخرين ومقدرتهم فلا يجد الأذكياء ما يستعملون فيه قواهم العقلية فتثبط هممهم أيضاً، والنزعة الحديثة في التربية تميل إلى جعل المدرسة ملائمة لعقول التلاميذ وكفايتهم فلا يصح أن يجمع في الفصل الواحد تلاميذ أقوياء ومتوسطون وضعاف إذ يلزم أن يكون تلاميذ الفرقة متجانسين حتى يمكنهم أن يقوموا بعمل مجد. وعلى ذلك فخير طريقة لتقسيم التلاميذ إلى فصول أن نقسمهم حسب نسبة ذكائهم: فنقسم التلاميذ إلى قسمين أو أكثر حسب العمر الزمني ثم نقسم كل قسم إلى فصول حسب العمر العقلي، فمن كان عمرهم العقلي متقارباً وضعوا في فرقة واحدة. فإذا عملنا بهذا نقصت نسبة الرسوب في الامتحانات إلى أدنى حد، وبذلك نقضي على أهم عوامل الشكوى. هذا ولنلاحظ أن تقسيم الطلبة إلى فصول مهم جداً في القسم الابتدائي، وتقل أهميته في الثانوية، وهو غير مهم في القسم العالي، وإن كانت نسبة الذكاء شرطاً هاماً في الدخول. ويتخذ التقسيم في القسم العالي حسب الملكات الخاصة.
خامساً - انتقاء ضعفاء العقول
واضح من الأبحاث السيكولوجية أنه إذا اختبرنا ذكاء عدد من الأشخاص نجد ثلاثة أرباع هذا العدد يقع تقريباً في وسط المنحنى العادي ويتوزع الباقي على الجانبين، فالذين على الجانب الأيسر من المنحنى هم ضعفاء العقول والذين على الجانب الأيمن هم الأذكياء.
وضعف العقل يقسم إلى ثلاثة أقسام: (1) عته: وعقلية المعتوه عبارة عن عقلية طفل عادي لا تزيد سنه على ثلاث سنوات (2) بله: والأبله عبارة عن شخص وقف نمو نوعه عند سن 7 سنوات (3) موروث: وهم الأفراد الذين وقف نمو مخهم عند سن 12
ويرجع ضعف العقل إلى: (1) عوامل وراثية (2) وعوامل مكتسبة (3) وعوامل خارجية. والوراثة هي أهم العوامل المسببة لضعف العقل. فمثلاً إذا كان الأب أو الأم مجنوناً فليس من الضروري أن يرث الشخص الجنون، بل يجوز أن يرث رذيلة من الرذائل أو ضعف العقل - ولقد استقصى بعض الأخصائيين ما للوراثة من تأثير في أبناء الأسرة الواحدة، فبذل الأستاذ جودار جهداً كبيراً في تتبع حياة أفراد أسرة واحدة هي أسرة كاليكاك. وقد كان(192/37)
مارتن كاليكاك شاباً سليم العقل من أسرة كبيرة تطوع في الحرب الأهلية الأمريكية، وكان يتردد على حانة تختلف إليها فتاة ضعيفة العقل توددت إليه فحملت منه سفاحاً وولدت له ولداً ضعيف العقل. وفي سنة 1912 استطاع الأستاذ جودار أن ينتهي من عمله فأحصى أفراد هذه الأسرة فبلغ عددهم 480 فرداً جاءوا من ذلك الزواج غير الشرعي. وتتبع أحوالهم فوجد أن معظمهم (99 % منهم) عاهر أو فاسق أو سكير أو لص. على أن تلك الحرب لم تكد تنتهي حتى تزوج مارتن بفتاة أخرى سليمة العقل شريفة النسب، وتتبع الأستاذ جودار 496 شخصاً من أفراد هذه الأسرة فلم يعثر فيها على شخص ضعيف العقل وإنما وجد أن الأسرة كلها مكونة من أطباء ومحامين ومدرسين ومهندسين وتجار وغيرهم ممن لهم يد عاملة في الحياة.
وضعاف العقول هؤلاء يربكون نظام التدريس في المدرسة ويعطلون سير الدراسة، وذلك لأنهم يختلطون في الفرق المختلفة مع العاديين والأذكياء. أما في المجتمع فقد اتضح لنا من نتائج الأبحاث التي قام بها الأستاذ جودار في إصلاحية الأحداث في الولايات المتحدة بأن سبب سلوكهم الشاذ هو كونهم ضعاف العقول. ومن هنا نجد أن ضعاف العقول يهددون كيان المجتمع، ولذلك يجب أن نهتم بأمر تربيتهم حتى تخف وطأتهم؛ وبقياس الذكاء يمكننا فصل هؤلاء في فصول خاصة وتعليمهم تعليماً يتلاءم مع درجة ذكائهم
ونسبة الذكاء هي الأساس السيكولوجي الذي يبني عليه المربي تعليمه لضعفاء العقول، ويجد على المربي الذي يقوم بأمر تربيتهم أن يعين ذكاء كل واحد حتى يستطيع وضع طريقة تتفق مع قدرة كل منهم العقلية، ويستطيع أن يعين الموضوعات التي يمكن أن يتعلمها ضعيف العقل في هذا العمر المعين
ولا يمكن أن يعلم هؤلاء الضعفاء أي عمل يحتاج إلى درجة من الذكاء أعلى من مستواهم. وقد حاول كثير من المدرسين ذلك فلم يستطيعوا. وكذلك فكرة تعليم هؤلاء الضعفاء حتى ترتقي عقليتهم إلى المستوى العادي فكرة خاطئة، ولكن توصل بعض الأطباء إلى إعادة بعض ضعفاء العقول إلى المستوى العادي، وذلك في الحالات التي لا تنتمي إلى ضعف عقلي وراثي، وإنما ترجع إلى وقوف النمو عندهم بعامل من العوامل الخارجية. ومع كل فإن هذه الحالات نادرة جداً، كما أنه لا يمكن للمربي أن يضيف شيئاً إلى نسبة ذكاء(192/38)
ضعيف العقل وإنما كل ما يستطيعه المربي من تعليم ضعيف العقل هو تكوين عادات خاصة حتى لا يكون شراً ووبالاً على المجتمع؛ وهنا نجد ضرورة تحديد نسبة الذكاء اللازمة لكل عمل أو موضوع يضعه المربي ليتأكد من أن استعداد ضعيف العقل يتمشى مع طبيعة هذا العمل الموضوع له؛ وقد توصل بعض العلماء أخيراً إلى ذلك. وعلى العموم يجب أن يكون نظام الدراسة في مدارس ضعاف العقول قائماً على اختيار المواد العملية النافعة والتعليم الحسن، أما العلوم التي تستدعي التفكير المجرد النظري، وفهم الرموز فلا فائدة ترجى لهم منها
سادساً - انتقاء التلاميذ الموهوبين
من النوابغ من إذا وضع في فصول عادية نجدهم متأخرين في عملهم الدراسي؛ ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة: منها الكسل مثلاً، أو عدم الاهتمام بالدروس لسهولة المادة وطول الشرح. والواجب يقضي علينا أن نبحث عن هؤلاء النوابغ وندرسهم درساً وافياً حتى يتسنى لنا تربيتهم بطرق تناسب قواهم العقلية وتهيئة الظروف لهم لإيقاظ نواحي النبوغ فيهم وذلك لأنهم هم الأسس التي تبني الأمة عليها مدنيتها، فمن بين الأطفال النوابغ توجد الأرواح الحية الفعالة التي تتولى زمام المدنية وقيادتها فيما بعد، وعلى ذلك فتربية الطفل النابغة يجب أن تفصل عن غيره حتى نتمكن من توجيهه إلى ما فيه خيره وخير المجتمع الذي سيعيش فيه.
ومقاييس الذكاء هي من الاختبارات التي تكشف لنا عن هذه الفئة فلا يختار لفصول الأطفال النوابغ من كان أقل من 140. ويقول الأستاذ هورن إن التلاميذ النوابغ يحنون كثيراً إذا ما ساروا في كل المواضيع إلى مستوى أعمق وبطرق مفصلة أكثر من التلاميذ المتوسطين، فالنابغة لا يقبل الحقائق والمعلومات كما هي وإنما يحاول أن يرجعها إلى أصولها ومسبباتها والى النتائج المشتقة منها كما أنهم يميلون أكثر إلى المواد المعنوية.
وقد كان الرأي السائد أن الموهوب يكون عادة ضعيف الجسم أو عصبي المزاج أو يمتاز بشذوذ في الناحية الخلقية أو العقلية، ولكن الأستاذ ترمان كان أول من خطأ هذا الرأي بإظهاره أن الأطفال الموهوبين لا يقلون عن إخوانهم العاديين سواء أكان في الصحة أم في الحالة العصبية.(192/39)
علي محمد فهمي(192/40)
16 - تاريخ الأدب العربي
للأستاذ رينولد نيكلسون
الجاهلية: شعرها وعاداتها ودياناتها
ترجمة حسن حبشي
ومع ذلك فلا يجرؤ شيوخ العشيرة على فرض أوامرهم فرضاً، أو إنزال العقوبات برجالها، إذ كان كل منهم ولي نفسه وسيدها. وله الحق أن يقتص ممن يناله بسوء:
فإن كنْتَ سَيِّدَنَا سُدتنَا ... وإنْ كنْتَ للخَالِ فاذْهَبْ فَخَلْ
ولم يكن معنى الوفاء عند العربي الوثني الخضوع لرؤسائه، ولكن المساعدة الصادقة لمساويه وأنداده، وكان قوي الصلة بفكرة القرابة، وإن القبيلة أو العائلة التي تشتمل على غرباء عاشوا في ظلها، واستظلوا بحمايتها، فإن الذب عن هؤلاء أفراداً أو جماعات من أقدس الواجبات اللازم احترامها. كما كان الشرف يقضي على الرجل منهم أن يقف بجانب قومه فيما جل من أمرها أو حقر
وَهَلْ أنَا إلا مِنْ غزَيَّة إن غوَت ... غَوِيتُ وَإنْ تَرْشُدْ غزَيَّةُ أرْشُدِ؟
كما يقول دريد بن الصمة الذي تابع عشيرته بالرغم من رأيه المصيب في غزوة كلفته رأس أخيه (عبد الله) وإذا نشد رجال القبيلة العون من أقاربهم فسرعان ما يلبى نداؤهم دون اهتمام بقيمة الأمر الذي يقدّمون من أجله المعونة، فإذا أسيء التصرف فيها تحملوا مغبة ذلك طويلاً قبل أن يعودوا إلى مكانتهم السالفة وإن انتفاعهم بالصداقة ليتضح بجلاء من هذه الأبيات التالية:
فَآخِ لِحَالِ السَّلْمِ مَنْ شِئْتَ وَاعْلَمَنْ ... بأنَّ سِوَى مَوْلاكَ في الحرْبِ أجْنَبُ
وَمَوْلاكَ مَوْلاكَ الذِي إن دعوْته ... أجَابَكَ طَوْعاً وَالدِّمَاءُ تَصَبَّبُ
فلاَ تخذُلِ المَوْلى وإنْ كانَ ظالِماً ... فَإنَّ بِهِ تُثأى الأمورُ وترْأبُ
وبالرغم من ذوقهم الجاف، فليس ثمت ما هو أخص في العرب الجاهليين والمسلمين على السواء من روح الفروسية والتضحية بالنفس لنجدة الصديق حتى ولو لم تكن هناك أية فائدة شخصية من وراء هذه التضحية. ويقدم لنا الشعر القديم البراهين الجمة على أنهم(192/41)
كانوا يمقتون نكث العهد الذي اتفق عليه بين التاجر وعميله. أو الضيف ومضيفه، وأدب العرب زاخر بالشواهد الجمة على صدق هذا الفضل. وأقرب مثال إلى ذلك قصة السموأل الذي يضرب به المثل في الوفاء فيقال هو (أوفى من السموأل) أو (وفاء كوفاء السموأل) ويقال إنه كان صاحب الحصن المعروف بالأبلق، واحتفر فيه بئراً عذبة، وكانت العرب تنزل به فيضيفها، وتمتار من حصنه. ويقال إن امرأ القيس لما سار إلى الشام يريد قيصر نزل على السموأل ومعه أدراع كانت لأبيه ورحل إلى الشام فوجه ملك الحيرة جيشاً تحت إمرة الحرث بن ظالم ثم قال للسموأل (أتعرف هذا؟) قال نعم هذا بني. قال: (أفتسلم ما قبلك أم أقتله؟) قال: (شأنك. فلست أخفر ذمتي ولا أسلم مال جاري) فضرب الحرث وسط الغلام، فقطعه قطعتين، وانصرف عنه فقال السموأل:
وَفيتُ بأدرع الكندِي إني ... إذا ما ذُمَّ أقوام وَفيت
وأوصي عادياً يوماً بألا ... تهدُم يا سَموأل ما بَنيت
بنى لي عادياً حِصناً حصيناً ... وماء كلما شِئت استقيتُ
كما أن المثل البدوي الأعلى للكرم والسخاء هو حاتم طيء، الذي يروى عنه كثير من الأقاصيص المستطرفة، ويمكننا أن نعرف نظرة البدوي إلى هذا الموضوع مما ذكره الأغاني من أن أم حاتم وهي حبلى رأت في المنام من يقول لها: أغلام سمح يقال له حاتم أحب إليك أم عشرة أغلمة كالناس، ليوث ساعة البأس، ليسوا بأوغال ولا أنكاس؟ فقالت حاتم، فولدت حاتماً، فلما ترعرع جعل يخرج طعامه فإن وجد من يأكله معه أكله، وإن لم يجد طرحه، فلما رأى أبوه أنه يهلك طعامه قال له: إلحق بالإبل، ووهب له جارية وفرساً وفلوهاً، فلما أتى الإبل طفق يبغي الناس فلا يجدهم. ويأتي الطريق فلا يجد عليه أحداً، فبينا هو كذلك إذ بصر بركب على الطريق فأتاهم فقالوا: يا فتى هل من قرى؟ فقال تسألونني عن القرى وقد ترون الإبل؟ وكان الذين بهم عبيد بن الأبرص وبشر بن حازم والنابغة الذبياني، وكانوا يريدون النعمان فنحر لهم ثلاثة من الإبل فقال عبيد: (إنما أردنا بالقرى اللبن، وكانت تكفينا بكرة إذا كنت لابد متكلفاً لنا شيئاً) فقال حاتم (قد عرفت ولكنني رأيت وجوهاً مختلفة وألواناً متفرقة، فظننت أن البلدان غير واحدة، فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه) فقالوا فيه أشعاراً امتدحوه بها وذكروا فضله فقال حاتم:(192/42)
(أردت أن أحسن إليكم فكان لكم علي الفضل، وأنا أعاهد الله أن أضرب عراقيب الإبل عن آخرها أو تقسموها) ففعلوا، فأصاب الرجل تسعة وتسعين بعيراً ومضوا على سفرهم إلى النعمان. وأن أبا حاتم سمع بما فعل فأتاه فقال له: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجد الدهر
كما نسمع أن ابنة حاتم قد اقتيدت أسيرة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت له: (يا محمد هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي؛ كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضعيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط: أنا بنت حاتم طي) فأجابها الرسول (يا جارية هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عنه. خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق)
وكان حاتم شاعراً معروفاً، وفي أبياته التالية يخاطب زوجه ماوية:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالتَمِسي لَه ... أكِيلاً فَإنِّي لَسْتُ آكلُهُ وَحْدِي
أخاً طارقاً أوْ جارَ بيت فإنني ... أخافُ مذَمَّات الأحاديث من بعدي
وإني لَعَبد الضيف ما دام نازلاً ... وما فيَّ إلا تلك مِن شِيمة العبدِ
(يتبع)
حسن حبشي(192/43)
شخصية الزهاوي
بمناسبة مرور عام على وفاته
بقلم السيد احمد المغربي
لسنا نقرر شيئاً جديداً إذا قلنا بأن الزهاوي كان شخصية فذة متعددة النواحي، تشهد على مدى نبوغه وعبقريته، ذلك لان الزهاوي لم يكن شاعراً مجدداً، دقيق الحس مفتوح القلب مرهف السمع، متقد العاطفة، ثائر القلب فحسب، بل كان إلى هذا كله فيلسوفاً تعمق في دراسة الفلسفة ونفذ إلى ما وراء المادة والطبيعة، فخبر أحوالها وتفهم ما دق من أسرارها وخفاياها. وكان في فلسفته متأثراً بأبي العلاء المعري، مترسماً خطاه، متبعاً أساليبه؛ ونظرة في ملحمته (ثورة في الجحيم) ومعارضتها برسالة الغفران، تؤيد ما نذهب إليه. ولا غرو فإن كلاً من الشاعرين الفيلسوفين كان يسخر من التقاليد الموروثة؛ ولماذا نذهب بعيداً والزهاوي نفسه يعترف بتلمذته عليه وإعجابه به وهو يشكو إليه ما أصابه من ظلم وحيف:
وإن أكبرَ شيء فيك يُعجبني ... سُخرية بتقاليد وعصيانُ
وأنكروا فيك إلحاداً وزندقة ... وعلَّ ما أنكروه فيك بُهتانُ
إني تتلمذتُ في بيتي عليك وإن ... أبلَتْ عظامَك أزمان وأزمانُ
أصابني في زماني ما أصابك من ... حيفٍ فما رد هذا الحيفَ إنسانُ
أما شعره فحر طليق، لا يتقيد بالسلاسل والأغلال، ينزع فيه نحو الطبيعة المطلقة، مخترقاً التقاليد التي ورثها الأبناء عن الآباء، خالياً من الصناعات اللفظية والخيالات الوهمية، نزَّاعاً إلى التجدد، ثائراً على النظام، متمرداً على الأوهام
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه ... فليس خليقاً أن يقال له شعر
ما الشعر إلا شعوري جئت أعرضه ... فانقده نقداً شريفاً غير ذي خللِ
الشعرُ ما عاش دهراً بعد قائله ... وسار يجري على الأفواه كالمثلِ
والشعرُ ما اهتز منه روحُ سامعه ... كمن تكهرب من سلك على غَفَلِ
فيه إلى اليوم ما قلدتُ من أحد ... وما على غير نفسي فيه متكلي
أفعمته حكماً تعلو، وأمثلة ... تحلو، فسُرَّ به شعب وصفَّق لي
وقد أعود به إبان أنظمُه=إذا تذكرت أيامي إلى الغزل(192/44)
فالزهاوي كان كالبحتري شديد الزهو والإعجاب بشعره لأنه مرآة حقيقية تنعكس عليه نفسه الشفافة وقلبه الطيب:
إنني إن بكيت أبكي بشعري ... ولقد أهديه إلى الأحقابِ
كل بيت منه إذا عصروه ... دمعة ثرَّة على الآدابِ
بين شعري، وما يجيش بصدري ... من شعور وشائج الأنسابِ
أنا عنه محدث وهو عني ... وكلانا في القول غيرُ محابِ
أما قريضي هذا ... فإنه نفاثُ
شعر له من شعوري ... والصدقِ مستنداتُ
وإنما صقلته ... الخطوبُ والنكباتُ
والزهاوي، بالرغم من إعجابه بشعره وأيمانه بأنه شاعر الأجيال وأن شعره خالد لا يموت يعترف بأنه لم يكن دائم التحليق، بل أنه كثيراً ما كان يُسِف تبعاً لحالته النفسية. . .
يا شعرُ أنت سماءٌ ... أطير فيها بفكري
طوراً أسِف وطوراً ... أعلو كتحليق نسرِ
إن لم تصور شعوري ... فلست يا شعر شعري
من بعد موتي بحين ... سيعلم القومُ قدري
فقد وقفت حياتي ... لهم وأفنيتُ عمري
ويكاد يخلو شعر الزهاوي من الغزل التشبيب، والتغني بمحاسن الحبيب، وتبيان ما يقاسيه المحبون من ضروب الآلام والأسقام، ووصف ما يتكبدونه من عذاب الهجر، وألم الحرمان ولوعة الأسى وحلاوة الوصل، وأكبر الظن أنه لم يتح له أن يدخل في شبابه في زمرة المحبين، لانشغاله في نشر رسالته، وأما ما نقرؤه في هذا السبيل فقلما يثير إعجابنا أو يستدر عطفنا ورحمتنا، وإذا ما تغزل بغادته (ليلى) فإنما كان يتغزل بوطنه
ولعل خير قصائده الغرامية هي القصيدة التي يصف فيها الحب. . .
أولُ الحب في القلوب شرَاره ... تختفي تارة وتظهرُ تاره
ثم يرقى، حتى يكون سِراجاً ... لذويه، فيه هدى وإناره
ثم يرقى، حتى يكون مع الأي ... ام ناراً حمراء ذاتَ حراره(192/45)
ثم يرقى، حتى يكون أتوناً، ... بحراراته تذوبُ الحجاره
ثم يرقى، حتى يكون حريقاً ... فيه هَلكْ لأهله وخساره
ثم يرقى، حتى يمثل بركا ... ناً يرى الناس من بعيد نارَه
ثم يرقى، حتى يكون جحيماً، ... عن تفاصيلها تضيق العباره
فأنت تلاحظ أن هذه القصيدة نفسها تغلب عليها روح التحليل العلمي الفلسفي، وما الحب إلا عاطفة هوجاء صاخبة عاصفة، تتبرأ من العلم، وتتهرب من الفلسفة!!
الزهاوي العالم
وناحية أخرى من شخصية الزهاوي تحتاج إلى عنايتنا واهتمامنا هي الناحية العلمية، فالزهاوي كان عالماً عبقرياً شُغِفَ بالأبحاث العلمية، ولاسيما فيما يتعلق بالجاذبية. وله في هذا الصدد نظريات وآراء، إن لم تحُز موافقة العلماء المحدثين، فهي على الأقل تشهد على سعة اطلاعه ومدى نبوغه، ذلك لأن الزهاوي لم ينشأ في بيئة علمية، ولم يتلق العلم في جامعات معروفة بل أن ما توصل إليه، كان نتيجة بحثه وتفكيره. . .
وفي وسعنا أن نوجز رأي الزهاوي في الجاذبية، بأن المادة لا تجذب المادة، بل إن المادة تدفع المادة. وعلى هذا فإن الحجر الذي يسقط على الأرض، لا يسقط لجذب الأرض إياه، بل لدفع الموادِ في السماء إلى الأرض.
وهو يعلل أنواع الجاذبيات بناموس واحد، وهو دفع المادة للمادة بسبب ألكتروناتها التي تشعها بكثرة. وهو يفسر بأن الحرارة والنور في الشموس يتولدان من الأثير المنعكس عن مراكزها، بعد جريانها إليها، حفظاً للموازنة التي لا تزال تختل بطرد الإلكترونات له من بين الجواهر في كل جسم، مبيناً أن هذا الأثير الجاري إلى الأجرام هو الذي يدفع الأجسام إليها: فيزعم العلماء هذا الدفع الخارجي جذباً داخلياً.
ثم يشرح الزهاوي بمبدئه سبب حدوث الزلازل، وحالات ذوات الأذناب فيميط اللثام عن توجه أذنابها إلى خلاف جهة الشمس وعن سبب ابتعادها عن الشمس بعد أن تدور حولها دورة ناقصة، وعن بقاء القوة، وعن حقيقة الشمس وهو ينكر انحلال الشموس إلى السدم منكراً تولدها منها.
فلسفة الزهاوي - تحليل (ثورة في الجحيم)(192/46)
لعل فلسفة فقيدنا الكبير أظهر ما تكون في ملحمته الشهيرة (ثورة في الجحيم)، وهي تحفة فنية خالدة أثبت فيها آراءه الفلسفية ومعتقداته الدينية ونزعاته الإصلاحية، ولسنا نغالي إذ نقرر بأنها صورة حية صادقة للمبادئ السامية والمثل العليا التي وقف الزهاوي حياته على تحقيقها غير مكترث لما يعترض سبيله من العقبات، بل إن هذه العقبات ما كانت إلا لتزيد عزيمته مضاء وإيمانه إيماناُ بتلكم الرسالة المقدسة التي عمل على نشرها بين قومه.
وتتلخص هذه الرسالة في التحرر من التقاليد البالية والعادات الموروثة التي وقفت سداً منيعاً دون تقدم الشرق العربي فجعلته يرسف في أغلال من الأوهام وقيود من الأحلام، هي ثورة على القديم، وانتصار للجديد في مختلف نواحي الحياة. . . والثورة تتطلب الهدم. . والزهاوي كان ثائراً هداماً
ثورة الزهاوي في الجحيم: -
يتخيل شاعرنا نفسه ميتاً قد احتواه القبر وإذا بمنكر ونكير يوقظانه من رقاده البدي فيعود إليه شعوره ويشاهد أمامه نسرين هائلين تتطاير النار من عيونهما وتبدو ملامح الشرَّة على وجهيهما. لكل منهما أنف غليظ وفم واسع وبأيديهما أفاع غلاظ تتلوى وتدور
فيخور عزمه وتهن قواه ثم ما يلبث أن يستعيد جرأته، ويتمالك جأشه ويجيب على الأسئلة التي كان يوجهها إليه الملكان، فيعترف بأنه لم يأت في حياته أمراً خطيراً فقد مارس الشعر دفاعاً عن الحق وهو يفتخر بأنه كان يخالف جمهرة الناس في الرأي والمعتقد فيثير عليه نقمتهم فيمعنون في ازدرائه واضطهاده حتى إنهم ليهمون مرة بقتله. مع أنه كان يعتقد بالوحي، ويؤمن بالأنبياء والمرسلين ويقوم بما يعرضه الإسلام على المؤمنين من صلاة وصوم وزكاة وحج وجهاد
ثم يسأله أحد الملكين عن الحشر والميزان والحساب والصراط والجنان والجحيم، فيجيبه الزهاوي بأنه كان في شبابه مؤمناً كل الإيمان فإذا بالشكوك تهب تلاحيه فيتعمق في العقائد إلا نفسه لا تزال مضطربة حائرة، فهو تارة مؤمن، وهو تارة ملحد، وهو يخشى الجحيم ولجج النار، ويرجو من الله أن يرفق بعباده فإنهم ضعاف لا حول لهم ولا صبر على العذاب.
وهو يبدي ارتيابه في كل ما عجز العقل عن تأويله إلا أنه لا يشك مطلقاً بوجود الله فهو(192/47)
في الجبال والوديان، في البر والبحر، وهو واجبُ الوجود وواهب الوجود قد استوى على عرشه في السماء إن أراد شيئاً قال له كن فيكون
فيتهمه الملكان بالإلحاد ويمضانه بالمقامع ضرباً وهو يستعطفهما فلا يعطفان عليه. وهو يسترحمهما فلا يرحمان دمعه الغزير وجسده الدامي بل يصبان فوق رأسه قطراناً فائراً شوى رأسه ووجهه ويطيلان عذابه حتى يغيب وعيه فإذا ما عاد إليه صوابه ألفى نفسه موثق اليدين بحبال مفتولة لا يستطيع حراكاً فيحمله الملكان ويطيران به في الفضاء إلى الجنة حتى يزداد عذاب ضميره من حرمانه إياها، ويبيح لهما رضوانُ دخول الجنة. وهنا تتجلى روعة الزهاوي الشعرية في الوصف الدقيق الجذاب فيحلق في سماء الفن ما شاء له التحليق، ويسمو في عالم الخيال الرفيع سمواً ليس بعده من سمو: -
كلُّ ما يرغبونَ فيه مُباح ... كلُّ ما يشتهونه ميسورُ
وعلى تلكم الأسرة حور ... في حُلى لها ونعمَ الحورُ
ليس يخشين في المجانة عاراً ... وإن اهتز تحتهن السرير
وكأن الولدان حين يطوفو ... ن على القوم لؤلؤ منثور
إئت ما شئته ولا تخش بأساً ... لا حرام فيها ولا محظور
فإذا ما اشتهيت طيراً هوى من ... غصنه مشوياً وجاء يزور
وإذا ما رمت أن يحول لك التين ... دَجَاجاً أتى إليك يطير
ليس فيها موت ولا موبقات ... ليس فيها شمس ولا زمهرير
لا شتاء ولا خريف وصيف ... أترى أن الأرض ليست تدور
ولقد رمتُ شربة من نمير ... فتيممته ففرَّ النميرُ
وكأن الماء الذي شئت أن أش ... ربه بابتعاده مأمور
ويتذكر بأنه مطرود ملعون، لا يحق له أن يتمتع بما وُعد به المؤمنون المتقون، فيرجو من الملكين أن يعودا به من حيث أتيا لأن ما يشاهده من النعيم يثير أشجانه ويهيج أحزانه فيخرجانه من الجنة ويشدان وثاقه ويقذفان به في جوف الجحيم
وكأنَ الجحيم حفرة بركا ... ن عظيم له فم مفغور
تدلعُ النارُ منه حمراءُ تلقِي ... حمماً راح كالشواظ يطيرُ(192/48)
وأشدُّ العذاب ما كان في الها ... وية السفلى حيث يطغى السعيرُ
الطعامُ الزقومُ في كل يوم ... والشراب اليحمومُ واليحمورُ
ولهم فيها كلَّ يوم عذابٌ ... ولهم فيها كل يوم ثَبورُ
ثم فيها عقاربٌ وأفاعٍ ... ثم فيها. ضراغمٌ ونمورُ
وقدت نارُها تئزُ فتغلِي ... أنفس فوق جمرها وتخورُ
ولقد كانت الوجوهُ من الصا ... لين سوداً كأنهن القيرُ
ولقد كانت الملامحُ تخفى ... ولقد كانت العيونُ تغورُ
لستُ أنسى نيرانها مائجاتٍ ... تتلظى كأنهُن بحورُ
ولقد صاح الخاطئون يريدو ... ن نصيراً لهم وعز النصيرً
وتساوى أشرافهم والأداني ... وتساوى غنيهم والفقيرً
ثم يعدد لنا الزهاوي العلماء والشعراء والأدباء والفلاسفة الذين رآهم في الجحيم، فيذكر لنا الفرزدق وجرير والأخطل والمتنبي والمعري وبشاراً وأبا نواس والخيام ودنتي وشكسبير وامرئ القيس.
أما بشار فكان حانقاً ثائراً مهتاجاً وأما أبو نواس فكان كئيباً حزيناً، على أن الخيام لم يشغله عذاب الجحيم عن التغني بالخمرة بصوت شجي يطرب له أهل الجحيم
حبذا خمرة تعين على الني ... ران حتى إذا ذكتْ لا تضيرُ
اسقني خمرة لعلي بها أر ... جع شيئاً مما سبتني السعير
أنت لو كنت في الجحيم بجنبي ... لم ترعني نار ولا زمهرير
وكان سقراط أثبت القوم جأشاً يلقي خطبه على أصحابه وأخدانه وعلى مقربة منه أفلاطون وأرسطو وكوبرنيك الذي أثبت بأن الأرض تدور حول الشمس، ودروين صاحب نظرية النشوء والارتقاء، وهيكل وبجنر وسبنسر ورنان وروسو وفولتير وزرادشت ومزدك والكندي وابن سينا وابن رشد والحلاج وغيرهم كثيرون
لم أشاهد بعد التلفت فيها ... جاهلاً ليس عنده تفكير
إنما مثوى الجاهلين جنان ... شاهقات القصور فيها الحور
وكأن أهل الجحيم قد شعروا أخيراً بما يحيق بهم من العسف والحيف فعقدوا النية على(192/49)
الثورة لتقويض دعائم الاستبداد، فاخترعوا الآلات المدمرة والأدوات الهدامة واخترق صفوف الملايين أحد الشباب ووقف فيهم خطيباً يبين لهم بصوت جهوري زعزع عاصف ما يقاسونه من الآلام، ويدعوهم إلى مقاومة القوة الغاشمة بالقوة الغاشمة دفاعاً عن حقوقهم المهضومة وذوداً عن كرامتهم المثلومة. فهاج أهل الجحيم وماجوا وعلا منهم الضجيج. فأطفئوا جمرة الجحيم وزحفوا ثائرين هائجين ونشبت حرب ضروس بينهم وبين زبانية النار عاضد فيها الشياطين أهل الجحيم وأنجدت الملائكة زبانية جهنم ورموا بالصواعق والرياح والإعصار، والبروق والرعد، والبحار والجبال والبراكين. وكانت الحرب بادئ ذي بدء سجالاً، إلا أنها أسفرت في النهاية عن انتصار أهل الجحيم، فطاروا على ظهور الشياطين يطلبون الجنان، فاحتلوها وطردوا منها البله المساكين
ومن الإنصاف للعلم والحقيقة قبل الإنصاف للزهاوي أن نقرر هنا بأن الزهاوي لم يقصد من ثورته في الجحيم الشك بوجود الله عز وجل كما ظن السواد الأعظم من بني قومه وإنما كان مسلماً قوي الإيمان إلى أقصى حدود الإيمان والأمثلة على صحة ما نذهب إليه وافرة نورد منها ما يتسع له النطاق الذي حددناه لهذه الكلمة:
قال ما دينك الذي كنت في الدنيا ... عليه وأنت شيخ كبير
قلت: كان الإسلام ديني فيها ... وهو دين بالاحترام جدير
قال من ذا الذي عبدتَ فقلت ... الله ربي وهو السميع البصير
مذهبي وحدة الوجود فلا كا ... ئن غير الله القديم القدير
أنا هذا، فلا أبالي إذا ما ... أجمعت ثلة على تكفيري
أهل عصري لا يفقهون حديثي ... حبذا لو أتيت بعد عصور
أنا ما كفرت بكل عم ... ري بالكتاب المنزل
أنا لم أزل أشدو بنع ... تِ للنبي المرسل
يسائلني عن مذهبي وعقيدتي ... فريق من الأشياخ ما أنا منهم
فقلت لهم أما السؤال فبارد ... وأما جوابي فهو أني مسلم
ولكنني ما كنت يوماً مقلداً ... يرى أن حكم العقل في الدين مأثم
فما القلب مني بالسخافات مولع ... ولا الرأس مني بالخرافات مفعم(192/50)
لا دَرَّ دَر الجاهلين فإنهم ... يرمون بالإلحاد من لا يلحد
إن كان من يبدي الحقيقة ملحداً ... فليشهد الثقلان أنيَ ملحد
أحمد الباري الذي يتساوى ... عنده إيماني به وجحودي
كلنا مؤمن يسبح للرحم ... ن في ظل عرشه الممدود
إنني ما سجدت يوماً لغير الله ... فالله وحده معبودي
(البقية في العدد القادم)
احمد المغربي(192/51)
5 - دعابة الجاحظ
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
. . . والآن فلننظر إلى الجاحظ في ضحكه، ولقد كان الجاحظ ضحوكاً طلقاً تستخفه النادرة فيقهقه ملء شدقيه، ويقصد إلى الإضحاك فيبلغ من ذلك غايته. وإنك لتجده في ضحكه وإضحاكه - كما كان في تهكمه وسخره - مطبوعاً موهوباً خفيف الروح. لطيف الإشارة، ظريف الأداء، طريف المقصد، فهو في إضحاكه يسلك السبيل اللاحب إلى القلب، ويصل إلى قرارة النفس في ملاطفة وسهولة. وخفة وبراعة، وإنه ليهز المشاعر بالنادرة يبتدعها، ويشفي القلب بالملحة يرسلها، ولقد تصرمت السنون وخلت القرون وما زالت نوادر الرجل ومضاحيكه في بطون الكتب إذا ما وقع عليها القارئ فلا يستطيع الإمساك مهما كان في وقاره، ومهما اعتورها بالنظر ورددها في اللسان. وعلى أن النادرة لا يكون لها في الإضحاك مكتوبة كمثل ما يكون لها إذا ما جرت تحت المعاينة، فإن المكتوب لا يصور لك كل شيء. ولا يأتي لك على كنهه وعلى حدوده وحقائقه. وأما إذا ما أخذ الرجل في الضحك فإنه ينطلق في غير احتشام، ويجري في الشوط إلى أبعد غاية. حدث عن نفسه قال: صحبني محفوظ النفاش من مسجد الجامع ليلاً، فلما صرت قرب منزله وكان أقرب إلى المسجد من منزلي، سألني أن أبيت عنده، وقال أين تذهب في هذا المطر والبرد، ومنزلي منزلك، وأنت في ظلمة وليس معك نار، وعندي لبأ لم ير الناس مثله، وتمر ناهيك به جودة، فلمت معه فأبطأ ساعة ثم جاءني بجام لبأ وطبق تمر، فلما مددت قال يا أبا عثمان: إنه لبأ وبه غلظة، وهو الليل وركوده، ثم ليلة مطر ورطوبة، وأنت رجل قد طعنت في السن، ولم تزل تشكو من الفالج طرفاً، وما زال الغليل يسرع إليك، وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء، فإن أكلت اللبأ ولم تبالغ، كنت لا آكلاً ولا تاركاً وحرشت طباعك، ثم قطعت الأكل أشهى ما كان إليك، وإن بالغت بتنا في ليلة سوء من الاهتمام بأمرك، ولفم نعد لك نبيذاً ولا عسلاً، وإنما قلت هذا الكلام لئلا تقول غداً كان وكان، والله قد وقعت بين نابي الأسد، لأني لو لم أجئك به وقد ذكرته لك، قلت: بخل به وبدا له فيه، وإن جئت به ولم أحذرك منه ولم أذكرك كل ما عليك فيه قلت لم يشفق علي ولم ينصح، فقد برئت إليك من الأمرين جميعاً، وإن شئت فأكلة وموتة! وإن شئت فبعض الاحتمال ونوم على سلامة!! فما(192/52)
ضحكت قط كضحكي تلك الليلة، ولقد أكلته جميعاً فما هضمه إلا الضحك والنشاط والسرور فما أظن، ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلم به لأتى على الضحك أو لقضي علي ولكن ضحك من كان وحده لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب
فانظر يا رعاك الله إلى أي حد كان يغرق الجاحظ في الضحك والمرح، والى أي حد كانت النادرة تستخف وقاره، وتهيج نشاطه، وتجلب له كل هذا من البشر والسرور. وماذا تقول في رجل لو وجد من يساجله الضحك ويجاذبه السرور لما أمن على نفسه الموت سروراً وضحكاً؟! على أن ما قاله صاحبه لمن يكن ليحمل على كل هذا ولا يدعو إليه، فيا ليت شعري أكان الجاحظ يعيش في الحياة بقلب فارغ من الهموم والمشاغل، بعيد من الأحداث والأوصاب؟ أم كان ذلك الرجل يضحك عن فلسفة وراي، فهو يعتقد أن هذه الحياة الفاجرة أحقر وأهون من أن يسفح الدمع في الحرص عليها، وأن يسجن القلب في سبيل الودادة إليها، وأن يتكلف لها ما يتكلفه بعض الناس من التزمت والوقار، وكزازة النفس، وضيق العطن، أولئك الذين ابتعدوا من المرح لأنهم زعموه ينافي المروءة، وحرموا أنفسهم نعمة الضحك لأنهم استقبحوه بالوقار!! قال الجاحظ ولو كان الضحك قبيحاً من الضاحك وقبيحاً من المضحك، لما قيل للزهرة والحبرة والحلي والقصر المبني كأنه يضحك ضحكاً وقد قال الله جل ذكره: وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا، فوضع الضحك بحذاء الحياة، ووضع البكاء بحذاء الموت، والله تعالى لا يضيف إلى نفسه القبيح، ولا يمن على خلقه بالنقص، وكيف لا يكون موقعه من سرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في أصل الطباع وفي أساس التركيب، لأن الضحك أول خير يظهر من الصبي وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه ويكثر دمه الذي هو علة سروره ومادة قوته. ولفضل خصال الضحك عند العرب تسمي أولادها بالضحاك وببسام، وبطلق وبطليق. وقد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وفرح. وضحك الصالحون وفرحوا؛ وإذا مدحوا قالوا هو ضحوك السن، بسام العشيات وذو أريحية واهتزاز؛ وإذا ذموا قالوا هو عبوس وهو كالح، وهو قطوب، وهو شتيم المحيا. وهو مكفهر أبداً وهو كريه وبغيض الوجه، وكأنما وجهه بالخل منضوح
فالجاحظ إنما كان يقصد إلى الضحك والإضحاك: لأنه ذلك في رأيه (يكون موقعه من(192/53)
سرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في اصل الطباع وفي أساس التركيب، وهو أول خير يظهر من الصبي)، وإذن فليأخذ الجاحظ في الضحك والإضحاك ما استطاع حتى يغتنم هذا الخير فيسر نفسه ويصلح طباعه، وما أحوجه إلى ذلك. ومن ذا الذي لا يضحك على هذا الشرط. ويسبق إلى الإضحاك إذا ما صح عنده هذا الاعتقاد الذي كان يعتقده الجاحظ؟ وكأن الله قد أراد أن يسعد الرجل في هذه الغمرة، وأن يعده لأداء هذه المهمة، فبرأه مرح النفس أو على حد تعبيره - ذو أريحية واهتزاز كما برأه في منظر جهم، وشكل هو المثل السائر في القبح والدمامة، فكان الرجل لا يتورع ولا يتحرج من أن يجعل من ذلك مصدر ضحك وإضحاك، فيتفكه بقبحه ودمامته، ويتندر بما فيه من شذوذ الوضع وجهامة الشكل، بل لقد كان يحلو له ذلك ويتعمده ويسوقه إلى الناس وهو قرير العين، طيب الخاطر، حتى لتحسبه في تلك الناحية ممثلاً هزلياً وقف على الخشبة ليضحك الجمهور، ويدلهم على مواضع الدمامة في شكله، والنقص في خلقته وماذا ترى في رجل يحدث عن نفسه بهذه الصراحة فيقول: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده. فلما رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني!!
وقال فيما قال عن نفسه: ما غلبني أحد قط إلا رجل وامرأة فأما الرجل فإني كنت مجتازاً في بعض الطريق، فإذا برجل قصير بطين كبير الهامة طويل اللحية مؤتزر بمئزر وبيده مشط يمشطها، فقلت في نفسي: رجل قصير بطين ألحى! فاستزريته فقلت: أيها الشيخ: لقد قلت فيك شعراً!! فترك المشط من يده وقال: قل فقلت:
كأنك صعوة في أصل حش ... أصاب الحس طش بعد رش
فقال اسمع جواب ما قلت، فقلت هات! فقال:
كأنك جندب في ذيل كبش ... تدلدل هكذا والكبش يمشي
وأما المرأة فإني كنت مجتازاً في بعض الطريق، فإذا أنا بامرأتين رأيت إحداهما في العسكر وكانت طويلة القامة، وكنت على طعام فأردت أن أمازحها فقلت لها: انزلي كلي معنا! فقالت: اصعد أنت حتى ترى الدنيا!! فهو يعرض بطولها وهي تعرض بقصره
وأما الأخرى فإنها أتتني وأنا على باب داري فقالت: لي إليك حاجة وأريد أن تمشي معي! فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي وقالت له: مثل هذا!! ثم تركتني وانصرفت،(192/54)
فسألت الصائغ عن قولها فقال: إنها أتت ألي بفص وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان! فقلت لها ما رأيت الشيطان حتى يمكن أن أصوره، فأتت بك وقالت ما سمعت!!
وقد لا يخجل من أن يتندر على نفسه بالبلاهة وبالغفلة، ومن ذلك ما ذكره عن نفسه إذ قال: جلست إلى المرآة وقد أمسكت بالمقراض أريد أن أقرض من لحيتي ما زاد على القبضة من تحت ولكني نسيت فقرضت ما فوق القبضة، وتلك من اختراعات الجاحظ وتلفيقاته. وللرجل من أمثال هذه كثير، وكلها من هذا الطراز الذي يطل منه الجاحظ صريحاً في الضحك على نفسه، جريئاً في الإضحاك بما يمسه في سمته، فلا يخجله أن يتحدث عن بشاعة منظره الذي أفزع المتوكل فصرفه عن تأديب أولاده، وجعل المرأة تقدمه إلى الصائغ على أنه شيطان، والأخرى تعرض بقصره، والثالثة تخجله بالنادرة، والشيخ يمثله بالجندب في ذيل الكبش. . . فأما إذا ما أخذ الرجل في الضحك على غيره من الإخوان والأصدقاء، والحمقى والنوكى والموسومين والمدخولين، وأهل العي والحصر والنجلاء والأطلة، والمكدين وأصحاب التطفيل، فإنه يكون أصرح وأجرأ، وأحلى، وأملح، وقد عني الرجل بأخبارهم واهتم بالحديث عنهم، وما أعرف له كتاباً يخلو من ذكرهم، وإذا كان من الإطالة أن نسرد ما للرجل في كل ذلك فلا بأس من أن نسرد بعض ما له في مقال آت
(له تابع)
محمد فهمي عبد اللطيف(192/55)
إلى شباب العرب
للشاعر القروي
ثبْ يا شباب العُرب ثب ... مشت الشعوب وأنت نائم
ثبْ فالعلى نار تأجج ... في العروق وفي العزائم
ورِد المجرَّة بالضر ... اغم تحت أجنحة القشاعم
وأردد مجاهل هذه ال ... أكوان واضحة المعالم
حطمت قيدك فانطلق ... في حلبة العمل العظيم
واستغن بالعز الطر ... يف عن التغني بالقديم
إن لم تجلَّ عن الرميم ... بنهضة تحيي الرميم
ما أنتَ بالخلف الكريم ... لذلك السلف الكريم
اليوم تجني ما سقي ... ت بذروه العلق الثمينا
فاحرص على ما قد وجد ... ت بمن فقد بميسلونا
حاشاك بعد بزوغ مج ... دك أن تخون وأن تهونا
ما نلت الاستقلال إلا ... بعد أن ذقتَ المنونا
الناس حولك للوثو ... ب إذا غفت عين انتباهك
يتراقصون على أنينك ... شاربين كؤوس آهك
لم تغنك الصلوات إن ... سطت الذئاب على شياهك
الحرب من سنن الحيا ... ةِ أأنت أحكم من إلهك
ليس الفتى العربي بالذ ... ئب الخطوف ولا الخروف
لكنه البطلُ الشري ... ف القادر البطلَ الشريف
نحن الأولى فخروا الأنا ... م بكل جبَّار لطيف
لا يستبد بغير طا ... غٍ مستبدٍّ بالضعيف
مازلت في بدء الجها ... د فلا تقل بطلَ الجهاد
اليوم يومك للسبا ... ق اليوم يومك يا جواد
فانهد إلى حوماته ... لا بالمهندة الحداد(192/56)
بل بالتساهل والمحبَّ ... ة والوئام والاتحاد
عش للعروبة هاتفاً ... بحياتها ودوامها
وامدده يمين الحب با ... لبنانها لشآمها
أنظر إلى آثارها ... تنبئك عن أيامها
هذا التراث يمتُّ مع ... ظمه إلى إسلامها
ما لي أراك برئت من ... دمها ومن أوطانها
أنسيت أنك ليث نه ... ضتها ونسر بيانها
أتقول لست من الشآ ... م وأنت في أحضانها
أتهد ناطحة النجو ... مِ وأنت من أركانها
إن فاتك الرأي السدي ... د فخذ برأي ذوي العقول
ودعِ الغبيَّ يقول ما ... شاء التعصب أن يقول
الحق بشاعرك الأبي ... وفيلسوفك يا جهول
من سار خلف (الديك) يع ... لم أين آخرة الوصول
هلا ذكرت فتوحهم ... بالمشرفيَّة والقلم
أيام هزوا للعلى ... والعلم في الغرب العلم
جمعوا الذكاء إلى الوفا ... ء إلى الإباء إلى الشمم
قهروا العدى نشروا الهدى ... رضعوا الندى بدعوا الكرم
قل لي بربك هل ربح ... ت من الغريب سوى المحن
وفروغ جيبك واليدين ... وقتل روحك والبدن
كانت تدر الشهد أر ... ضك والسلافة واللبن
فغدا الوقوف على ربو ... عك كالوقوف على الدمن
سيجرّ عزرائيل فو ... ق ربوعهم ذيل العفاء
ويطير الشيطان ما اخ ... ترعوا بما اخترعوا هباء
ويطهر الأجواء من ... عقبانهم نسر القضاء
من كان يأباه الجح ... يم فكيف ترضاه السماء(192/57)
شيد على أنقاضها ... مدنيَّة الخلق المتين
فلأنت بالتمدين دو ... ن الناس أجمعهم قمين
مثل المهند أن يهز ... فإن يهزَّ بك الحنين
فالغصن، فالنسمات، فال ... ورقاء، فالماء المعين
وآهاً على عهد السذا ... جة والحماقات العذابِ
ما ضرَّ لو غادرتهن ... وطرت وحدك يا شبابي
خير الصحاب تركتني ... وتركت لي شر الصحاب
بعد الأماني العذا ... ب أمر ألوان العذاب
عش للتفاؤل يا شبا ... ب وللبشاشة والخلابه
عش للخيال وللجما ... ل وللغرام وللصبابه
عش للطموح وللجها ... د وللمناعة وللصلابه
قيل المهابة للشيو ... خ وأنت أجدر بالمهابة
سر في فتوح الخالدين ... وطرْ إلى أقصى مطارك
الكهرباء على يمي ... نك والبخار على يسارك
طرْ لابساً إكليل غا ... رك رافعاً علم انتصارك
رحب الفضاء فناء دا ... رك والعوالم باب دارك
الشاعر القروي
من العصبة الأندلسية(192/58)
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي ألفونس كار
- 3 -
زهرة التذكار
وسقطت زهرة من طرتها، فانحنى ليرفعها عن الأرض. استوقفته بنغمة من صوتها الشجي قائلة: - دعها، دع الزهرة التي صدمها الهواء، وخذ هذه، بدلاً عنها.
أخرجتني من بين نهديها وأهدتني لحبيبها.
سمعته ينشد وهو يضمني إلى صدره: أيتها الزهرة المحبوبة
ابقي معي إلى الأبد، أنت زهرة التذكار.
وذهب بي إلى غرفته المنفردة، حيث بللت فمي بكأس البلور.
كان ينظر إلي، فيراها. ويهمس في وريقاتي قائلاً: -
يا زهرة محبوبتي، ما أقوى عبيرك وما أشد فعله في قلبي!
لقد لمستك بيدها وتركت أنفساها تهب على وريقاتك، لو فقدتك بين آلاف الأزهار لما ضل عنك تذكاري.
شربت كثيراً من الكأس البلورية فلم أرتو، ذبلت ككل شيء ينفصل عن أصله، علا الاصفرار تويجي فانحنيت على نفسي، رأيته يتقدم إلي والدمعة في عينيه، يحدجني بنظراته الرائعة، ثم قال: - ما أوجع احتضارك على مشهد مني يا زهرة التذكار! سيسطو عليك ملك الموت ولكنه لن يدنو من روحك الخالدة روح التذكار الدائم. تعالي لأدفنك في القبر المقدس حيث دفنت آمالي فيضمك وحياتي كفن واحد.
أخذني إلى خزانته وألقاني بهدوء بين أكفان الطروس، بين رسائل من يهوى.
وكان مقري بين النار الكامنة في الكلمات، والكلمات صامتة في الحروف السوداء
لقد زارني مراراً في قبري، فكنت عاكساً أميناً لخياله، تنطبع نضارة تذكراه على اصفرار وريقاتي، ويهب عبير غرامه من جفاف عروقي، فيراني صبية رائعة الشباب تنفخ الفتوة في كهولة قلبه.(192/59)
وما عدت أراه إلا من حين إلى حين.
ومنذ أيام أخذ كفني دون أن يلقي علي كلماته نظرة واحدة ودفع به إلى اللهيب. ثم لحت لعينيه جافة صفراء فحدجني ملياً كأنه يفتش على ذكر لا يهتدي إليه.
أمسكني بأطراف أنامله وتقدم ببطء إلى النافذة.
شعرت بمصادمة الهواء لوريقاتي النحيلة فارتجفت.
أنكر جميلي وأي إنسان ليس جاحداً؟
أنا الزهرة المأخوذة من بين نهديكن، أنا زهرة التذكار؛ لفح الهواء وريقاتي الجافة فتبددت في الفضاء.
(ف. ف.)(192/60)
أقصوصة
الخداع
مترجمة عن الفرنسية
بقلم الأستاذ فليكس فارس
بين الوهاد والجبال أمام روعة الطبيعة لم تدنسها يد الإنسان كانت العساكر الفرنسية والإنكليزية تتحين الفرصة للهجوم، وكل منها يتوقع الفوز بوفرة عدده وضخامة عدده. وكان قائد الجملة الفرنسوية شيخاً بلته الأيام فما زادته إلا صلابة وعزماً. وقد ملئ تذكاره بالوقائع الكبرى وعقد له النصر ألوية وسجل له التاريخ صفحات المجد خالدة.
حمي وطيس الحرب فتوالت الهجمات وتفجرت الدماء على تلك الأرض الجرداء مثمرة الترمل والثكل واليتم. وما لبث أن أحاط الإنكليز بأعدائهم إحاطة السوار بالمعصم فكادت تدور على هؤلاء الدائرة لو لم يتدارك القائد الشيخ خطورة الموقف بعزمه وإقدامه
وكان هذا القائد ممتطياً صهوة جواده يفكر في إيجاد وسيلة تمكنه من اختراق صفوف الأعداء. فشاهد أحد أتباعه يتقدم إليه بخطوات ثابتة. وعندما وصل القادم إلى مقربة منه عرف أنه هنري الذي تبناه بعد أن سقط والده قتيلاً في موقعة كان هو قائدها أيام الصبا. وحاط القائد هذا الطفل بكل رعايته حتى بلغ أشده فاتخذه معيناً له، وكان يستصحبه في جميع معاركه وكان هذا الفتى الجميل قد عاد مرات من الحروب مثخناً بالجراح فضمدتها يد قرينة القائد الشيخ وهي فتاة في ريعان الصبا كانت تزوجته بالرغم من تقدمه في السن وبالرغم من أقوال الناس وتكهناتهم
وحدق القائد بفتاه معجباً بجمال طلعته وبسالته وقال له: - لا خلاص لنا من هذا المأزق إذا نحن لم نخترق دائرة الأعداء المحيطة بنا، فعليك أن تقوم بهذا العمل، اختر من تشاء من الشجعان وسر في مقدمتهم. فالواجب يدعوك إلى التضحية من أجل الوطن والمليك
وانتضى الفتى سيفه ونادى: ليحيى الملك
فرددت نداءه فرقة من الجند لمعت سيوفهم في الفضاء وتقدموا منضمين إلى قائدهم الجديد منتظرين إشارة الهجوم(192/61)
وارتمى هنري بين يدي مربيه يضمه إلى صدره قبل أن يقتحم المخاطرة الكبرى، فتمازج دمعا الفتى والشيخ وكل منهما موقن بأن لا لقاء بعد هذا الوداع
وفي تلك اللحظة شق الصفوف فارس آت من باريس، ترجل عن فرسه وقد علاه الغبار وأضناه التعب وتقدم إلى القائد الشيخ مقدماً له رزمة رسائل مختومة بالشمع الأحمر حاملة عنوان هنري بأحرف منمقة، ولم يكد يفض القائد الختم ووقعت أبصاره على السطور حتى جمد الدم في عروقه وارتسمت على وجهه أمارات حزن عميق وحدق في ربيبه ملياً وقد جفت دموعه فجأة بين جفنيه
وكانت الرسائل من عقيلة القائد الشيخ موجهة إلى هنري. في كل كلمة منها شرارة شوق وفي كل سطر شعلة غرام وجنون
وأدار الشيخ وجهه عن ربيبه وسرح أبصاره على ميدان المعركة كأنه يفتش عن هاوية تنفتح فيه فيذهب إليها ببقية حنان كانت تختلج في قلبه لربيبه وبشبح غرام نورت أزهاره على غصن هرم ففاحت منا رائحة القبور
مزق الرسائل الواحدة تلو الأخرى على مهل وهو مصغ من أعماق روحه إلى هتفة ما كان يعلم أمنها أم من روح الوجود مصدرها: - ويل للعقوق، ويل للخائنة
وانتبه الشيخ كمن يستفيق من حلم وقال لهنري: - ابق هنا وقم مقامي، فلسوف أقود مخترقي الصفوف بنفسي
فصاح الفتى: - ولم تريد حرماني هذا الشرف، يا أبي؟
فأدار القائد رأسه ليخفي ما ارتسم عليه من الحنق والألم وقال بهدوء: - ذلك أمر تلقيته الآن
واختنق صوته، فاندفع نحو الخطوط وتبعته فرقة المستبسلين
وعلا دخان البارود وملأ الفضاء أزيز الرصاص، فلم يسمع أحد ما هتف به القائد الشيخ وهو يرتمي قتيلاً عن صهوة جواده.(192/62)
الفنون
الفن المصري
1 - العمارة
للدكتور احمد موسى
دفع الدين والإخلاص له إلى الفن الذي بدأ به المصريون مبكرين. نظروا إلى السماء فقدسوها والى الشمس فعبدوها، والى النيل فعرفوا أنه مصدر حياتهم فجعلوا منه إلهاً للخير، ورأينا فيما سبق كيف كانت عبادة المصريين لمعبوداتهم، وكيف دفع بهم الدين إلى حضارة هي مثار الإعجاب للدارس الباحث على مر القرون
وإذا كانت قواعد تاريخ الفن تشير بتقسيم التراث المجيد إلى أقسام معينة؛ فذلك لكي نحسن الفهم فيتم التقدير الذي يؤدي بنا إلى الاستمتاع بجمال الوجود، فضلاً عما نستطيع وضعه من أصول نتمكن بها من ربط نهضتنا الحالية بالحضارة القديمة، في انسجام وبغير خروج على الذوق العام.
بنى المصريون المقابر والأهرامات لثقتهم بعودة الحياة إلى الجسد بعد الموت، وبعد حساب عسير، ولن تتمتع بقسط من النعيم إلا بقدر ما قدمت من عبادة وتقديس للآلهة، فدفعهم هذا إلى تشييد المعابد التي لم يكن مستطاعاً لهم في غيرها القيام بالواجب الأسمى
فكان بناء المقابر والمعابد أول أقسام الفن، وأجدرها بالدرس لمن يريد معرفة الفن المصري من بناء ونحت وتصوير، والوقوف على ما فيها جميعاً من جمال أدى إليه الشعور بالوجدان وسمو المشاعر ونبل العاطفة
استغرق تاريخ مصر عدة آلاف من السنين، وشمل أسرات بلغت الإحدى وثلاثين، ولذلك ينبغي بتقسيم عصر البناء (والفن من نحت وتصوير) إلى أقسام أولها عصر المملكة القديمة، حيث تم تشييد الأهرامات بالجيزة وغيرها. ثم عصر المملكة الوسطى وبعدها المملكة الحديثة
ويرى الدارس للأهرام سر العظمة البنائية متجلياً فيها، كما يلاحظ الأبهة في إخراجها والدقة المتناهية في تكوينها العام، بجانب ما يستطيع الوصول إليه بالفحص والتحليل من(192/63)
معرفة بعض ما بلغه المصريون في علمي الهندسة والرياضيات، ولا غرابة إذا اعتبر العلماء المعاصرون، الأهرام أعظم نموذج عملي لعلم الهندسة المعمارية إطلاقاً
ولم تدم مرحلة بناء الأهرام طويلاً، بل إنها لم تكن إلا في عهد الأسرات الأولى فقط، أما المعابد فإنها بدأت معها ولكنها ظلت تشيد طوال عصور الحضارة المصرية القديمة
وأهم الأهرام ثلاثة، أولها وأعظمها هرم خوفو البالغ ارتفاعه حالاً 137 متراً وطول ضلع قاعدته 227 متراً، كله من الأحجار الضخمة التي استحضرت من محاجر طرة والمقطم ومن محاجر أسوان أيضاً. وبلغ حجمه الهائل حوالي مليونين وثلث مليون من الأمتار المكعبة، له مسالك للسير في داخله والوصول إلى حجرات الدفن، كما أن له منافذ للهواء
أما هرما خفرع ومنقرع فهما أصغر قياساً وحجماً، كما أنهما نسبياً أقل أهمية من الهرم الأكبر. وتوجد بمصر أهرامات كثيرة في أبي رواش وأبي صير وسقارة ودهشور وميدوم وغير ذلك، لبعضها مميزات واضحة منها التدرج (كهرم سقارة المدرج) ومنها عدم استقامة أضلاع الزوايا (كهرم ميدوم) الذي كان في الأصل مكوناً من سبع طبقات بعضها فوق بعض لم يبق منها إلى الآن سوى ثلاث. كل هذه الأهرام كانت مقابر للملوك. ولعل ما تشعر به النفس من رهبة أثناء دخول الهرم الأكبر خير دليل على مبالغة الملوك في الحرص على أجسادهم بعد موتهم الذي نظروا إليه بكل اعتبار وبكل تقدير
أما المعابد فقد اختلفت عن الأهرام اختلافاً ظاهراً واختلافاً معنوياً، فبينما كانت الأهرام مقابر للملوك. كانت المعابد أماكن للعبادة. فضلاً عن اختلاف الوضع والتصميم
والناظر إلى المعابد المصرية إجمالاً يرى أنها تنقسم من ناحية طراز أعمدتها التي هي أبرز ما يلفت نظر الزائر لها إلى قسمين: أولهما المعابد ذات الأعمدة الشاملة لقنوات سارت مع طولها، من قاعدتها إلى نهايتها، حيث تحمل السقف مع تجردها من التيجان. وثانيهما ذات أعمدة لها حيناً قنوات وحيناً آخر خالية منها، علاوة على وجود التيجان في أعلاها. أما التيجان نفسها فكانت على هيئة زهرة اللوتس أو زهرة البردي أو على شكل نهاية النخل (العمود النخلي) أو كانت أحياناً عبارة عن مكعب على نهاية العمود الأسطواني حفرت على كل وجه من أوجهه الأربعة رؤوس نساء (ش 6) وبمقارنة المعابد المصرية المهمة بعضها ببعض، يمكن أن نعرف أن عصر نهضة فن بنائها انحصر في عهد المملكة(192/64)
الحديثة (1555 - 712 ق. م.) وأثناء حكم البطالسة وقياصرة الرومان (332 ق م. وما بعدها)
والدارس لتصميماتها يرى أنها شابهت إلى حد بعيد قصور الملوك والمساكن الخاصة؛ فالمدخل العام للمعبد أنشئ بحيث يؤدي دائماً إلى فناء فسيح غير مسقوف، وجوار ثلاثة جوانب منه وضعت أعمدة تشترك مع الجوانب في حمل السقف، الذي كان بعرض كاف لتظليل الممر أسفله. أما الهيكل حيث اجتمع المصلون حوله لتقديم قربانهم، فقد توسط المعبد. وكان الفناء ينتهي عادة بردهة ذات أعمدة وضعت بنظام يقسمها ثلاثة أقسام، الأيمن والأيسر متشابهين من حيث مساحة الفراغ المحصور بين الحائط والأعمدة، وأما الأوسط فكان عرضه مساوياً لفراغ الاثنين معاً نظراً لأنه طريق المرور. وفي النهاية ثلاث غرف، الوسطى منها خصصت للإله المعبود، وأما اليمنى واليسرى فكانت لزوجة الإله ولأولاده أحياناً. وكانت هناك غرفة لحفظ أدوات التقديس والأطعمة وما إليها
وأقام المصريون أمام المدخل العام لمعابدهم أعمدة شاهقة ذات أوضاع متناظرة، والى جوارها مسلات وتماثيل، ووضعوا على جانبي الطريق العمومي المؤدي إلى المدخل تماثيل لأبي الهول رابضاً أو تماثيل للكباش
وكثيراً ما أدخل الملوك المتعاقبون تحسينات أو تغييرات كثيرة على مباني المعابد التي شيدها من قبلهم. ولعل خير مثل لهذا معبد الكرنك، فأول من أمر ببنائه سيزوستريس الأول، أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة، حوالي عام 1950 ق. م، خصيصاً لآمون إله طيبة، وكانت مساحته عندئذ ضئيلة، ولم يشمل سوى بعض ردهات وستة أعمدة، كانت خالية من الزخرفة، إلى أن جاء توتموزيس أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة فبنى غرفاً عدة أمام هذا المعبد. وحذا ملوك هذه الأسرة (1545 - 1350 ق. م.) حذوه فأدخلوا على معابد كثيرة شيئاً من التوسع جديراً بالذكر
ونهجت الأسرة التاسعة عشرة على منوال أدق (1350 - 1200 ق. م.)، فأضافت إلى معبد الكرنك الصالة الرائعة، التي بلغت مساحتها مائة متر في خمسين متراً، بأعمدة ارتفاعها اثني عشر متراً وربعاً، علاوة على بناء غرفتين صغيرتين، وفي عهد الأسرة الثانية والعشرين (945 - 745 ق. م) ثم عمل السور العظيم حول هذا المعبد الفذ(192/65)
وأهم وأجمل المعابد المصرية راجع إلى المملكة الحديثة (1580 - 1090 ق. م) تحت إشراف ملوك عظام، لا يزال التاريخ يذكرهم أمثال توتموزيس الثالث والرابع، وأمينوفيس الثاني والثالث والرابع ورمسيس الأول والثاني والثالث، وسيتي الأول. ممن شيدوا القصور والمعابد التي لا يزال بعضها رمزاً لأعظم حضارة وأقدمها.
فمعابد الكرنك ش 2 و3، وأبي دوس، والأقصر ش 4، والقرنة، ومدينة جالو، والدير البحري ش 5، وأبو سنبل ش 6، وفيلا ش 7، ودندرة ش 8، وجرف حسين، كل هذه مشيدات لم تغالب الدهر فحسب، بل تحدث كل ما جاء بعدها عن مظاهر الأبهة والمدنية، ولا تزال إلى اليوم رمزاً خالداً يوحي بالعظمة الجلال. لو كان لشعب غير الشعب المصري لواصل الليل بالنهار للعود بالمجد التالد إلى عالم الوجود
ومهما يكن من شيء، فأني لم أف الموضوع حقه من العناية في سطور ضئيلة قد لا تكفي إلا لإعطاء فكرة شاملة عن المعابد المصرية إجمالاً، غير أن هذا لا يمنع من التنويه بوجوب معرفتنا لآثار بلادنا، تمهيداً لإيصال الحاضر بالماضي، حتى نكون قد أدينا رسالتنا نحو أنفسنا ونحو الوطن، ونكون قد لمسنا بعض ما ببلادنا من نواحي ووجوه للتثقيف والاستمتاع، التفت إليها الأجانب قبل أبناء مصر
احمد موسى(192/66)
البريد الأدبيّ
الصحافة المصرية في معرض باريس
أذاع مندوب مصر العام في معرض باريس بياناً قال فيه (إنه لما كانت مصر ستشترك هذا العام في معرض باريس الدولي. ولما كان يحرص على أن يكون تمثيل مصر كاملاً من جميع الوجوه، فأنه لم ينس مكانة الصحافة المصرية كدعامة كبرى من دعائم رقي مصر الحديث، ولهذا فقد احتفظ لها بمكان في القسم العام المخصص لمعرض الصحافة وإذا كان لنا أن نلاحظ على هذا البيان بشيء فهو أنه جاء متأخراً، وقد كان يحسن التفكير في أمر الصحافة قبل ذلك كي تستطيع من جانبها أن تستعد للمثول في المعرض بالصورة اللائقة بها. بيد أن الفرصة ما زالت قائمة على أي حال، ولا يزال بيننا وبين افتتاح المعرض زهاء شهرين؛ وهذه فرصة حسنة لتعريف أمم العالم بالخطوات الباهرة التي استطاعت الصحافة المصرية الفتية أن تخطوها في العهد الأخير، خصوصاً وأن التبادل الصحفي بيننا وبين الأمم الغربية يكاد يكون معدوماً من الناحية المصرية، لأن اللغة العربية ليست من اللغات التي يعنى بها في مكاتب الصحافة الأوربية، وبينما تبذل صحافتنا جهوداً متواصلة لتقف قراءها على سير التطورات والحوادث الأوربية، وعلى أقوال الصحف الخارجية بصورة سخية واضحة إذا بالصحافة الأوربية لا تكاد تذكر عن مصر وأحوالها شيئاً مستقى من مصادره الأصلية اللهم إلا ما يبعث به إليها مراسلوها من وقت لآخر: فعلى صحافتنا أن تستعد لانتهاز هذه الفرصة للمثول إلى جانب الصحافات الغربية الكبرى. والتعريف عن نفسها وعن مكانتها. ويجب عليها أن تنتهز الفرصة لتوثق روابطها مع دوائر الصحافة الغربية بصورة تلفت النظر إليها، وفي أهميتها باعتبارها مصدراً لأخبار مصر والأمم الشرقية ومرآة صادقة لتطوراتها وأحوالها يحسن الاعتماد عليها من جانب الصحافة الغربية والانتفاع بمعاونتها وجهودها
كتاب ألماني جديد عن مصر الفرعونية
ما زالت حضارة مصر القديمة تثير دهشة العالم وطلعته وتحفز العلماء والمنقبين إلى مضاعفة الجهود في سبيل الكشف عن حقائق تلك الحضارة العجيبة وأسرارها. ولعل حضارة من الحضارات العالمية الخالدة لم تظفر بمثل ما ظفرت به حضارة الفراعنة من(192/67)
البحوث والتآليف الجليلة، ففي كل عام تصدر عنها سلسلة حافلة من الكتب في مختلف أقطار الأرض. وقد صدر منذ أسابيع قلائل كتاب جديد بالألمانية عن حضارة مصر القديمة عنوانه (العالم من وادي النيل صور من مصر القديمة)
بقلم أدولف ايرمان والدكتور ايرمان من أشهر علماء ألمانيا الأثريين، وهو اليوم في الثمانين من عمره وقد أنفق معظم حياته في المباحث المصرية القديمة ولا سيما قراءة أوراق البردي وحل رموزها وأودع كتابه الجديد الذي وضعه في مغرب حياته خلاصة جهود علمية وفنية شاقة. ويقدم إلينا ايرمان في كتابه عرضاً وافياً لأحوال مصر الفرعونية الجغرافية والتاريخية والثقافية؛ ويبدي دهشته من أن هذه الأرض الفياضة بكنوز الفن القديم والمدنية القديمة لبثت منسية حتى نهاية القرن الثامن عشر؛ ولولا نابليون وحملته لبقيت عصراً آخر في غمارها المجهولة، ويستعرض ايرمان جهود العلماء الأثريين خلال القرن التاسع عشر وما كشفت مباحثهم من الحقائق الجليلة عن حضارة مصر الفرعونية وعن تاريخها المجيد، وعن آثارها وكنوزها المدهشة، ويعني ايرمان بنوع خاص بالنواحي العقلية والاجتماعية لمجتمعات مصر الفرعونية، ويحاول أن يصور لنا هذه المجتمعات في حياتها المنزلية والاجتماعية والدينية، وفي طقوسها ورسومها وتفكيرها، وفي سائر نواحي حياتها المادية والروحية كما يصور لنا الملوكية المصرية القديمة في مواكبها وفي روعتها، في عصور الحرية. وفي عصور السلام
ويعتبر كتاب ايرمان من الوجهة العلمية ثروة جديدة في تراث المكتبة المصرية الفرعونية
مجموعة ثمينة من رسائل جيته
تحتفظ مدينة فيجساك الألمانية الواقعة على نهر ويزر بمجموعة ثمينة. من رسائل الشاعر الألماني الأكبر جيته كتبها بخطه، وأرسلها جميعاً إلى صديقه نيقولا مايير من أهل مدينة بريمن، وكان مايير قد زار في شبابه مدينة - فينا ودرس في جامعتها، وزار الشاعر مراراً في مقامه في فيمار، وعقدت بينهما أواصر صداقة متينة استطالت زهاء ثلاثين عاماً. واستمرت مراسلاتهما بانتظام إلى ما قبل وفاة الشاعر بنحو عامين فقط، وهذه المجموعة مما كتب جيته إلى صديقه تبلغ وحدها خمسين رسالة، تحتفظ بها مدينة فيجساك في متحفها(192/68)
الصغير، وهناك مجموعة أخرى من الرسائل أرسلها مايير إلى زوجه وولده. وكانت هذه الرسائل تحفظ منذ مدة طويلة في مكتبة شتراسبورج، ولما كان يهم ألمانيا أن تجمع هذه المراسلات كلها في مجموعة واحدة، فقد بذلت على يد سفيرها لدى الحكومة الفرنسية السعي اللازم لاستعارة رسائل مايير من شتراسبورج وكلل سعيها بالنجاح أخيراً، وحملت الرسائل إلى متحف فيجساك
معرض لتاريخ الدخان
مذ عرفت شجرة الدخان في سنة 1550 على يد طبيب ومكتشف أسباني يدعى ريكاردو ديلافونتي، حمله إلى أسبانيا مع النارجيلة التي كان يدخنه فيها الهنود يومئذ، وأمم العالم كلها مقبلة على تدخينه، واليوم يدخنه الشرق والغرب والشمال والجنوب والشبان والشيب، والرجال والنساء، ويرون فيه جميعاً وسيلة للترويح عن النفس ومطاردة الهموم. وقد أقيم أخيراً في باريس معرض شرح فيه تاريخ الدخان منذ اكتشافه إلى يومنا، وهو معرض (جالييرا) ويضم المعرض المذكور في واجهاته الزجاجية طائفة كبيرة من الغلايين المصنوعة من مختلف المواد في مختلف العصور، وبعضها محلى بالذهب، مما كان يملكه بعض الملوك، ومشاهير السادة، وكذلك مجموعة مختلفة من العلب التي يوضع فيها الدخان، وتشكيلة عظيمة من مختلف السجائر في مختلف أنحاء العالم.
جيل نموذجي في ألمانيا الهتلرية
إن فكرة النسل المختار التي يدعيها ويدعو إليها زعماء ألمانيا النازية لم تعد فقط فكرة نظرية، بل خرجت إلى طور التطبيق العملي، فقد رأت ألمانيا الهتلرية أن تنشئ بالفعل جيلاً نموذجياً من الناس، وتحقيقاً لهذه الغاية أنشأت في مدينة يوناس دورف من أعمال باوتسن في سكسونيا مستعمرة خاصة بالشبان الراغبين في الزواج من أعضاء فرق الحرس الأسود، ومن المعروف أن هذه الفرق تضم الشبان الأقوياء الذين يمتازون ببسطة الجسم وحسن التكوين والملامح، ومن الجهة الأخرى فقد رئي أن ينشأ في نفس الوقت معسكر للبنات النموذجيات اللائي يصلحن ليكن زوجات لهؤلاء الشبان فأنشئ في يوناس دورف مستعمرة من مائتين وخمسين فتاة يشترط فيمن تنتظم فيها أن تكون من الآريات(192/69)
الخلص وأن تثبت أن الدم اليهودي لم يتسلل إلى أسرتها حتى سنة 1800، ويوقع على الراغبات خمسة كشوف طبية متعاقبة للتحقق من سلامتهن وصلاحيتهن للنسل السليم. كذلك يمتحن كل من الفريقين في مبادئ الحزب الفكري ومراميه السياسية والاجتماعية. ويزول أولئك الشابات والألعاب الرياضية المهجدة ويدربن على الأعمال المنزلية وشؤون الأمومة تدريباً حسناً، ويراعى في اختيارهن التناسب في الجسم بينهن وبين الشبان الذين يتقدمون لخطبتهن. والمفهوم أن ولاة الأمر في ألمانيا الهتلرية يفكرون في مضاعفة هذه المستعمرات تدريجياً، تحقيقاً لمشروعهم في ترقية النسل والجيل
إحياء ذكرى حافظ إبراهيم في دار الأوبرا
الآن والرسالة تتهيأ للصدور تقيم لجنة إحياء ذكرى حافظ إبراهيم حفلتها الأولى بدار الأوبرا الملكية في الساعة الثالثة والدقيقة 45 بعد ظهر يوم السبت 6 مارس سنة 1937 تحت رعاية صاحب الجلالة الملك ورياسة صاحب المعالي وزير المعارف وهذا برنامج الحفلة
قرآن كريم الشيخ محمد الصيفي
كلمة الافتتاح لحضرة صاحب المعالي وزير المعارف
1 - حياة حافظ: للأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه
2 - قصيدة: للأستاذ أحمد الزين
3 - الاجتماعيات في شعر حافظ: للأستاذ أحمد أمين
4 - قصيدة: للأستاذ أحمد الكاشف
5 - أثر حافظ في القومية: للأستاذ أمين الغريب
6 - قصيدة: للأستاذ حسين شفيق المصري
7 - الغزل والنسيب في شعر حافظ: للأستاذ السباعي بيومي
8 - قصيدة: للأستاذ حليم دموس الشاعر اللبناني
9 - شكوى الزمان: للأستاذ حفني بك محمود
10 - قصيدة: للأستاذ خليل مطران بك
11 - حافظ والنقد: للدكتور زكي مبارك(192/70)
12 - قصيدة: للشاعر علي محمود طه المهندس
13 - حافظ الكاتب: للأستاذ عباس محمود العقاد
14 - قصيدة: للأستاذ محمد الأسمر
15 - حافظ في السودان: للدكتور سعيد كنعان
16 - ذكريات شخصية: للأستاذ السيد محمد كرد علي بك
17 - قصيدة للأستاذ محمد الهراوي
18 - الوصف في شعر حافظ: للدكتور عبد الوهاب عزام
19 - حافظ العروبة: للدكتور عبد الرحمن شهبندر
20 - قصيدة للأديب محمود حسن إسماعيل
21 - السياسات في شعر حافظ: للأستاذ عبد المجيد نافع
الحفلة الثانية
وهذا برنامج الحفلة الثانية التي تقام في الساعة 3: 45 بعد ظهر يوم الأحد 7 مارس في دار الأوبرا الملكية.
قرآن كريم الشيخ محمد الصيفي
1 - حافظ واللغة: للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
2 - قصيدة: للدكتور إبراهيم ناجي
3 - الوطنيات: للدكتور محمد حسين هيكل بك
4 - قصيدة: للأستاذ أحمد محرم يلقيها عبد القادر المسيري
5 - شخصية حافظ وفكاهاته: للأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري
6 - قصيدة: للأستاذ بشارة الخوري شاعر لبنان
7 - لمحة عن حافظ الشاعر: للأستاذ فؤاد صروف
8 - قصيدة: للأستاذ أمين ناصر الدين الشاعر اللبناني
9 - مزايا شعر حافظ: للأستاذ عيسى إسكندر المعلوف
10 - قصيدة: للأستاذ أبي الإقبال اليعقوبي الشاعر الفلسطيني
11 - حافظ الراوية: للأستاذ محمد هاشم عطيه(192/71)
12 - المديح والرثاء والتهاني: للأستاذ محمود البشبيشي
13 - قصيدة: للأستاذ فليكس فارس
14 - قصيدة: للأستاذ عبد اللطيف النشار
15 - حافظ القصصي: للأستاذ محمود تيمور
16 - قصيدة: للأستاذ احمد الغزاوي شاعر الحجاز
17 - حافظ الصديق الوفي: للأستاذ محمد فريد وجدي
18 - قصيدة: للأستاذ عزيز بشاي
19 - قصيدة: للأستاذ محمد الشريقي شاعر شرق الأردن
20 - حافظ شاعر الشرق: للأستاذ قدري حافظ طوقان
21 - قصيدة: للأستاذ محمد سعيد العباسي الشاعر السوداني
22 - مختارات لبعض الكتاب والشعراء في مصر والشرق يلقيها الأستاذ ضياء الدين الريس.(192/72)
الكتب
سبأ ومأرب
رحلة في بلاد العربية السعيدة
تأليف الأستاذ السيد نزيه المؤيد العظم
للدكتور عبد الرحمن شهبندر
لقد قصر الأواخر عن الأوائل تقصيراً معيباً في وضع المدونات الجغرافية ووصف المسالك والممالك وصفاً علمياً مبنياً على ملاحظاتهم الخاصة وقائماً على وجهة نظرهم ولا سيما وصف الأقطار التي يهمنا شأنها ولنا ارتباط بها خاص؛ ومن هذه الأقطار التي تكاد تكون غفلاً من الذكر في مدوناتنا الحديثة القطر اليماني أو العربية السعيدة حتى صرنا إذا أردنا أن نلم بشيء من أخبارها وشؤونها اضطررنا إلى مراجعة ما دونه السياح الغربيون عنها أو إلى مؤلفات كتابنا من أهل القرون الوسطى. لذلك يعد هذا السفر الذي وضعه الرحالة الأستاذ نزيه المؤيد العظم تحفة ثمينة قد سدت ثغرة عظيمة في تاريخ نهضتنا الأدبية السياسية العلمية
والكتاب مكتوب بطريقة قصصية سهلة وبأسلوب سلس خال من التعقيد والتكلف يكاد من يقرأه يظن أن مؤلفه يحادثه وجهاً إلى وجه ولاسيما من عرف المؤلف معرفة شخصية وتعود سماع حديثه والطريقة التي يدلي حججه بها. وهو لم يبسط فيه أحوال اليمن بسطاً حيادياً مجرداً بل يتحين الفرص ليدلي بآرائه الشخصية ونظرياته الدينية والاجتماعية ويشير من حين إلى آخر إلى أغراض الدول المستعمرة في تلك الأرجاء
ومما استوقف نظري كثيراً ملاحظة منه سبق لي أن تجرعت منها الصاب وأنا واقف على أسكلة عدن في أوائل سنة 1916، فقد حدث يومئذ أنني كنت قادماً من الهند إلى مصر وكانت معنا في الباخرة سيدة إنكليزية أرلندية ملمة ببعض الشئون السياسية فذكرت لها النهضة العربية وكيف أن العرب يعملون لإعادة مجدهم الغابر واستقلالهم المنشود، فلما رست باخرتنا على عدن رأيت خليطاً من الغوغاء بألبسة قذرة وأصوات منكرة وحركات همجية مزرية يتقدمون إلينا على زوارق كبيرة لنقل البضائع. فصاح بعض الإنجليز من(192/73)
على ظهر السفينة (عرب عرب) فجاءتني السيدة الإنكليزية مستفسرة بشيء من التعجب: (هل هؤلاء هم العرب الذين يغارون على مجدهم السابق واستقلالهم المنشود)؟ فبينت لها خطأ التسمية من إطلاق اسم جزء خاص على كل عام وأن حفاة أرلندة - وكانت أرلندة يومئذ تتحفز للثورة - ليسوا كل الأرلنديين. قال الأستاذ نزيه في ملاحظته (ومما يؤسف له أن أكثرية الوطنيين العرب - في عدن - أصبحوا خداماً للأجانب فلا يتعاطون من الأشغال إلا الدنيئة كالخدمة في المنازل وصيد السمك والحماقة ومسح الأحذية ونقل البضائع وخصوصاً الفحم والغاز من السفن التجارية إلى البر؛ وكذلك في مصر من الفرنجة والمتفرنجين من يطلق كلمة (عرب) على هذه الطبقة من الناس
وفي الكتاب ملاحظات قيمة عن الزراعة في البلاد وخصب الأرض وخدمتها والطرق الابتدائية المستعملة في استنباتها وهو يقول أن محصولات اليمن تشمل البن والتنباك والقطن، وذكر لي أن جلالة الإمام استحضر من مصر بزر (السكالاريدس) فنجح هناك نجاحاً ظاهراً ومن أغرب ما جاء في هذا الكتاب مما يخالف المألوف ولا ندري له سبباً أن تضع الحكومة المتوكلية مكساً أو رسماً جمركياً اثنين ونصفاً في المائة على الصادرات ولا تضع شيئاً على الواردات (ص 27)
وأن تعجب فعجب أن تكون اليمن وهي موطن أفخر بن لا تشرب القهوة المعمولة من ثمره وإنما تشرب مغلي قشره مما يذكرني ببلاد النمسا فهي تصنع أفخر الطرابيش لا ليلبسها النمسويون بل لتصديرها إلى بلاد الشرق. واليمنيون إذا أرادوا إكرام ضيوفهم بهذا المغلي سألوهم أتتقشرون أي أتريدون أن تشربوا القشر على قول أتتفكهون
وقد عرفنا قديماً أن نساء اليمن في الأرياف يلبسن القبعات القش ولكن المؤلف رآهن في حفلة عرس سافرات (وبعضهن كن عاريات إلا من مئزر بسيط، وبعضهن كن لابسات أكماماً قصيرة - ديكولتيه - وبعضهن وضعن على رؤوسهن حجاباً أسود، وبعضهن وضعن فوق هذا الحجاب قبعة مصنوعة من قش القمح أو الشعير ذات حجم كبير لترد أشعة شمس تهامة المحرقة وهي من صنعهن، وقد علمتهن الحاجة التي هي أم الاختراع ألا يتقيدن بعادة وقانون بل يلبسن ما يوافق محيطهن واحتياجهن)
ويخيل إلى من يقرأ هذا الكتاب أن البلاد تحت نوع من الأحكام العرفية أو أن أهاليها في(192/74)
مدرسة ليلية أو في سجن إصلاحي لأن السير في طرقاتها من بعد ساعة معينة من الليل محظور، فقد جاء في الصفحة 49 (وفي هذه الساعة الرهيبة - يعني بعد تناول العشاء - لا يسمع المرء في بلاد اليمن من أقصاها إلى أقصاها إلا نداء الجنود في ثكناتهم وقلاعهم وحصونهم (وامتوكلاه) - على طريقة بادشاهم جوق باشا في الدولة العثمانية - وبعدئذ يضرب بوق النوم فيذهب جميع أهل المدن إلى النوم ويصبح الخروج من المنازل إلى الأزقة والشوارع محظوراً على الجميع عدا الجند)
وأعجبني جد إعجاب إلغاء الرق في بلاد اليمن ومنع الأتجار بالعبيد فلم يجد المؤلف لهذا الوضع أثراً في تلك الأنحاء بل قال في الصفحة 50 (إن الإمام حفظه الله منع هذه التجارة منذ تولى الحكم، وكان عنده عبد يدعى صمصام فأعتقه لوجه الله وزوجه من فتاة كانت في خدمته ووظفه في إحدى الوظائف)
وكل كتاب عن اليمن لا يذكر النبات المخدر الذي يدعى (قاتاً) لا يكون مستوفياً للشروط، فالقات عند اليمنيين لا يقل شأناً عن الوسكي عند الإنكليز والبوزه عند السودانيين، وهو له مجالس خاصة ينهمك المجتمعون فيها بمضغه، وأمام كل واحد منهم رزمة كبيرة منه والى جانبها إبريق من فخار ومبصقة من فضة؛ أما الإبريق فيستعملونه لغرغرة أفواههم من حين إلى آخر، وأما المبصقة فلطرح أوراق القات بعد مضغه. ويدوم هذا المجلس من بعد الغداء حتى المساء، ويسمى هذا النبات بالإنكليزية (كانا أديوس) وفيه مادة مخدرة تؤثر في الأعصاب فيشعر من يمضغه براحة وبسط وانشراح
ثم ذكر الأستاذ نزيه أضراره فقال (أنه يقلل من شهية الإنسان للطعام ويزيد فيه الميل إلى شرب الماء ويضر بالأسنان ويسودها، وبالمعدة فيقلل من عصيرها وبالنسل فيضعفه. وبالرغم من جميع هذه المضار وبالرغم من علم أهل اليمن بها فهم يمتدحونه وينشدون القصائد في مزاياه ويستعملونه بأجمعهم ماعدا صاحب الجلالة الإمام يحيى فقد منعه طبيبه الخاص من استعماله منذ عدة سنوات ولا يزال جلالته ممتنعاً عنه إلى اليوم)
ومن دواعي الأسف أن يضيع اليمنيون ثروتهم وصحتهم في هذا المخدر الضار حتى أن الذي يشتغل منهم في نهاره كله بفرنك واحد يصرف معظمه على القات. ويغرس شجره كما يغرس البن في الأودية المرتفعة التي لا تتعرض لحرارة الشمس الحادة إلا بضع(192/75)
ساعات في اليوم، وهو أثمن نبات في اليمن على الإطلاق؛ وتساوي الرزمة الصغيرة من أغصانه نحو ثلاثة فرنكات
ولا يفوتها أن نذكر هنا ما لحظناه من وجود إيطاليين موظفين في الحكومة المتوكلية من أطباء وغيرهم فالأطباء الموجودون هناك الآن من الطليان وقد أتوا إلى اليمن عقب زيارة والى أسمرة السنيور غاسبريني إليها وعقد المعاهدة مع الإمام وهم يتناولون رواتب تبلغ ستين جنيهاً شهرياً للواحد منهم وبيدهم مستشفى الحديدة ومستشفى صنعاء وكذلك التلغراف اللاسلكي في صنعاء فهو بيدهم ومن تأسيسهم بأمر الإمام منذ بضعة أعوام.
وذكر حاخام اليهود الأكبر في صنعاء واسمه يحيى اسحق للمؤلف أنه كان لليهود مملكة عظيمة في اليمن إلى الشرق من صنعاء أسسها سليمان بن داود وربما كانت هذه المملكة في نجران وأن اليهود في صنعاء ذكوراً وإناثاً يبلغون زهاء عشرين ألف نسمة لهم 15 مدرسة و19 كنيساً وهم يمارسون شعائرهم الدينية كما يشتهون ويطبقون شريعتهم الموسوية كما يرغبون ويعلمون أبناءهم العبرية دون العربية. وعرف المؤلف أن للصهيونيين مخابرات طويلة عريضة مع صنعاء وأن لهم صناديق للإعانة في كل دار من دور اليهود في معظم مدن اليمن والإسرائيلي الذي يريد أن يتصدق بشيء مهما كان زهيداً يضعه في هذا الصندوق، ورب الدار ليس مأذونا بفتحه بل يفتحه وكيل الجمعية في كل شهر ويخرج ما فيه ويرسله إلى صندوق الجمعية الصهيونية في القدس واسمه صندوق الأمة، قال المؤلف: (حبذا لو كان زعماء الحركة الوطنية في الشرق يقتدون باليهود ويأخذون هذا الدرس عنهم.)
هذه لمحة مستعجلة عن الجزء الأول من هذه الرحلة المباركة ولكن العمل الخطير والاكتشاف الأثري العظيم هو في الجزء الثاني حيث يدون المؤلف رحلته إلى بلاد سبأ وسد مأرب فيذكر كيف حصل على الإذن من جلالة الإمام بالسفر إلى تلك الأنحاء المحفوفة بالمهالك والمخاطر ويذكر الجنود الذين ساروا لحمايته من التعدي مما لم يسبق له مثيل ولم يحصل عليه أحد قبله. وكانت بداءة هذه الرحلة إلى مأرب في اليوم السادس والعشرين من يناير سنة 1936 إذ ترك صنعاء وسار مشرقاً فدخل في واد يدعى (وادي السر) ومنه سار إلى قرية (القمعة) فقرية (آل الوزير) فوادي (حريب) فصرواح فقرية تدعى محترجة وهي(192/76)
آخر قرية يسكنها اليهود في شرق صنعاء وهكذا حتى وصل سد مأرب، ووصف ما رأى في طريقه من آثار ومعادن ونباتات وأشجار فقال عن المعادن مثلاً والحديد من جملتها أنها كثيرة ومتنوعة، ونقل الكتابة الحجرية الموجودة حول جدران قصر (صرواح) بخط يده وعرضها على من ترجمها له من المستشرقين الألمان ومن الأخصائيين المصريين في القاهرة وكان وصوله إلى مأرب في اليوم التاسع والعشرين من يناير سنة 1937 بعد الظهر أي بقي على الطريق نحو أربعة أيام كأن المسافة كلها بين صنعاء ومأرب 120 كيلو متراً، ولما وصل إلى مدينة مأرب هو وعامل الإمام يحيى والجنود استقبلهم الأهلون بالطبول والأناشيد. وبعد ذلك نرى في الكتب صوراً ثمينة للسد وجدرانه القائمة وأبوابه الواسعة والخطوط الموجودة على أحجاره وصفاً دقيقاً لمجاري المياه وكيف تتجمع وتتوزع ومن أين تأتي، والجنتان اللتان كانتا تشربان منه والأشجار الباقية من خمط وسدر وائل مما ينطبق كل الانطباق على ما ورد في القران الكريم
وقصارى القول أن هذه الجولة الأثرية في بلاد مجهولة عندنا هي ذات قيمة علمية من الطراز الأول يهنأ عليها الأستاذ نزيه المؤيد العظم ولا سيما أن بعض الأوربيين الذين وصلوا إلى تلك الأرجاء لم يتمكنوا من رؤية جزء صغير مما رآه سائحنا العربي بالنظر إلى المخاوف التي كانوا معرضين لها؛ ونعد عمله بادرة من بوادر نهضتنا العلمية العملية المباركة
عبد الرحمن شهبندر(192/77)
العالم المسرحي والسينمائي
على مسرح الأوبرا الملكي
صورة في الرخام
لناقد (الرسالة) الفني
هي باكورة أعمال الآنسة (هلزل اليس) الممثلة الإيرلندية تنبئ عن مستقبل باهر واستعداد طيب للنبوغ وليست القصة في المستوى العالي من التأليف ولكن حوارها قوي بديع يدل على أن الكاتبة تلم بأمور المسرح إلماماً تاماً وإن كانت بعض الشخصيات غير كاملة التصوير لأن الكاتبة لم تترك إلى جانب شخصية اللورد بيرون فراغاً تكتمل فيه الشخصيات الأخرى
والقصة التمثيلية تصور حياة اللورد بيرون الشاعر الإنجليزي العظيم بين النساء وتشرح بعض نزواته وأخلاقه ونظرته في الحياة وما أحاط باسمه من إشاعات لم يكن يبالي بدفعها عنه بل يترك الأمور تتفاقم حتى يجري اسمه على كل لسان؛ كما تصور حبه لبلاد اليونان التي مات محموماً أثناء الدفاع عن حريتها
موجز القصة
اللورد بيرون ثائر ساخط متبرم بكل شيء لا يعبأ بأحد وأصدقاؤه في بيته يتحدثون عن تصرفاته مع العظماء، فهذا رئيس مجلس اللوردات يأتيه راجياً أن يكتب فيه بيتين من الشعر في عمل مجيد أداه فيرده خائباً لأنه يرى أن الإنسان لا يستحق المديح على واجب أتاه. ويدخل بيرون ويتحدث عن حياته ويقول إنه سوف يجعل اسمه يجري على كل لسان ويحدث أصدقاءه عن بلاد اليونان وعن حبه لها وألمه لأنها لا تتمتع بحريتها. وما يكاد يتم أقواله حتى تأتيه رسالة بموت أحب أصدقائه إلى نفسه فيصدم وينفجر مقهقهاً
فإذا كان المنظر الثاني رأينا حفلة راقصة يغشاها أشهر النساء وأجملهن ويجيء بيرون متأخراً قليلاً ويعتذر، وإذ يقف بعيداً إلى جانب الباب تقدم ربة الدار ضيوفها إليه فيذهب(192/78)
النساء إليه في مكانه كأنه ملك. هذا التصرف يغيظ السيدة (كارولين لامب) التي ما تكاد تتقدم إليه حتى ترتد راجعة فيفهم بيرون كبرياءها ويهمس في أذن إحدى صديقاته بأن سيجعل هذه السيدة تركع عند قدميه قبل انقضاء يوم واحد
ويدخل الجميع يستمتعون بالرقص عدا الليدي كارولين ويعود بيرون إلى لقاعة وتدور مناقشة حادة بين الاثنين؛ وهنا تبرز قوة الكاتبة موهبتها في الحوار وتنتقل من موضوع إلى موضوع، وفجأة يطوقها بيرون بذراعيه ويقبلها فلا تمانع وهكذا يبدأ حب هذه السيدة لبيرون وهو في الحقيقة لا يحفل بها!!
فإذا كان الفصل الثاني رأينا أصدقاء بيرون في بيته يتحدثون عن سلوكه غير المرضي فهو جعل السيدة (كارولين لامب) تجن به حباً وتجري وراءه، ويرى أحدهم أن الذنب ليس ذنبه فهو قد قطع كل علاقة بها ولكنها تلاحقه في الطرقات. ويجيء بيرون فيحدثونه في أمر هذه السيدة فيقول إنه أرسل إليها خطاباً يقطع كل علاقة له بها ويخبرهم أنه نوى الزواج بالآنسة (أنا بل ميلبانك) فيسأله صديق عما إذا كان يحبها فيقول: (ليس حباً عميقاً)
ويجيء الخادم يعلن أن سيدة تصر على مقابلة اللورد فيرفض أن يستقبلها ولكن أمام الإلحاح يخرج إليها ويعود بعد لحظة يرجو أصدقاءه أن ينتظروه في غرفة مجاورة حتى يفرغ من حديثه مع هذه السيدة. وتدخل كارولين لامب وتحاول أن تعيده إليها فيرفض ويصرح لها بأنه ينوي أن يتزوج من الآنسة (ميلبانك) ويطلب إليها أن تذهب إلى بيتها فلا تتحرك وإذ هو يستدعي الخادم ليحضر لها عربة تهجم عليه تريد أن تطعنه بخنجر ولكنه يتمكن من أن يمسك يدها ويثور فيقدم الخادم والأصدقاء
وفي المنظر الثاني نرى زوجة بيرون تشكو إلى صديقة لها سلوك زوجها وأنها تنوي الانفصال عنه فتنصحها هذه بالتريث من أجل ابنتها وأن عملاً كهذا يهدم حياة الشاعر العظيم ويقضي عليه، وتصرح الزوجة بأنها سمعت إشاعة مخزية عن علاقة اللورد بيرون بأخته (أوجستا) ولكن الصديقة تتمكن من تبديد شكوك الزوجة ويدخل بيرون، وسرعان ما يقوم الشجار بينه وبين زوجه، فتراها تبكي وتنتحب فيتأثر ويتقدم إليها مدللاً وبعد قليل يراجع البريد وتستوقفه رسالة من شقيقته ويخبر زوجه أنها تنوي القدوم إليهما لقضاء بضعة أسابيع فتثور الغيرة في نفس الزوجة وتطلب منه أن يرفض قبولها في بيته فيحاول(192/79)
أن يعرف السبب فتمتنع أولاً ولكنها تشير في النهاية إلى الإشاعة التي ترد على الألسنة وتطلب إليه أن يكذب هذه الإشاعة فتصدقه. وكعادته يرفض ويجيب بأنه ليس في حاجة إلى تصديقها فتريد الاطلاع على الخطاب فيرفض فتحاول أن تختطفه فيصرخ في وجهها ويحرق الخطاب ويلقيه في المدفأة.
فإذا كان الفصل الثالث رأينا بيرون واقفاً إلى جانب النافذة يرى الجماهير محتشدة أمام بيته ثائرة ويشير عليه أحد أصدقائه بالابتعاد عن النافذة حتى لا تصيبه أحجار الغوغاء ويبدي بيرون عجبه من الشعب فهو لم يؤذه ولم يسئ إليه ومع ذلك يريد هذا الشعب أن يفتك به. ويطلب بيرون إلى الخادم أن يحمل رسالة إلى زوجته في بيت والدها ويذهب الخادم ويجيء أصدقاء بيرون ويقولون أنهم شقوا طريقهم وسط كتل بشرية ويحدثهم بيرون بأن بلاده هي اليونان ويتحدث عن جمالها وعن آماله في أن تثور وتحطم القيود التي تغلها. ويجيء الخادم يقول أن الزوجة رفضت أن تجيب على الرسالة وأنها تطلب من بيرون ألا يحاول مقابلتها أو الكتابة إليها فيصدم بيرون وتسمع بعد قليل أصوات باعة الصحف ويعرف بيرون من خادمه أن اليونان ثارت على تركيا مطالبة بحريتها.
وفي المنظر الثاني من الفصل الثالث نرى بيرون في بيته يستعد للرحيل ويأتي أصدقاءه فيخبرهم بأنه سيسافر إلى اليونان متطوعاً ليحارب في صفوفهم ويتركهم إلى تلك البلاد التي أحبها والتي قضى نحبه محموماً أثناء الدفاع عن حريتها.
الإخراج والتمثيل
لم يعمد المخرج في هذه الرواية إلى الطريقة الإيحائية التي ألفناها منه بل عمد إلى تركيز إخراجه في منظر واحد وجعل أجزاء من حوائط هذا المنظر تتبدل فيتبدل المنظر بها، وهكذا استطاع أن يخلق من المنظر الواحد مناظر متعددة. والإضاءة كانت غاية في الدقة والروعة ولون المنظر أزرق داكن يلتئم مع جو الرواية
مثل المستر ميكائيل ماك ليمور اللورد بيرون فسما به وكان بديعاً جداً، وإنني أعد هذا الدور من خير أدواره التي رأيتها خلال هذا الموسم والموسم الماضي ولقد شاهدت كثيراً من الإنجليز يهنئون الممثل على إجادته، وبين هؤلاء المستر سكيف الأستاذ بالجامعة المصرية فقد كان إعجابه بالتمثيل أكثر من إعجابه بالرواية نفسها. ومثلت الآنسة (ميريل(192/80)
مور) السيدة كارولين لامب فأدته بنجاح، ووفق بقية الممثلين في تأدية أدوارهم وهكذا رفع التمثيل والإخراج هذه الرواية.
مدرسة الفضائح
ريتشرد برينسلي شريدان وأوليفر جولد سمث من أعلام الكوميدي الإنجليزي القديم وقد رأت فرقة دبلن جيت أن تخرج هذه الرواية لأن مؤلفها إيرلندي ولأنها من أحب الروايات إلى شعب الإمبراطورية. فهي تصور ناحية من نواحي المجتمع الإنجليزي في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وكيف كانت المجتمعات بؤراً تفرخ فيها الإشاعات وتنتشر على الألسنة وكيف كانت المخازي والفضائح تدبر وكيف كان الناس يخدعون بالظواهر فالرجل الذي يرون في سلوكه ما لا يرضيهم يعد شقياً سيئ السلوك في حين أن من يأتي النقائص في الخفاء يكون موضع التجلة والإكبار، فالشعب كان يخدع ويحكم على الأمور بظواهرها
والرواية ليست جديدة على المصريين إذ سبق للمسرح المصري أن أخرجها باسم (مدرسة النميمة) في مستهل النهضة المسرحية فلاقت نجاحاً كبيراً. وأعتقد أن مثل هذه الرواية التي تقوم على المفاجئات والمواقف الكوميدية يفسدها التلخيص ويمسخها
أخرج الرواية المستر إدواردز وقام بدور بيتر تيزل فكان خفيف الظل عذب الروح مما جعل رواد المسرح يضجون بالضحك؛ ومثل المستر ماك ماستر دور شارلز سيرفيس فملأ الشخصية حياة وكان بديعاً في أكثر مواقفه كما أجادت الآنسة (آن كلارك) دور لادي تيزل.
يوسف تادرس(192/81)
العدد 193 - بتاريخ: 15 - 03 - 1937(/)
جميل صدقي الزهاوي
بمناسبة ذكراه الأولى
(2)
ولد الزهاوي في يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر يونيو سنة 1863 ببغداد لأبوين كرديين كريمين تميزت أسرتهما بالدين والفقه والأدب، فقد كان أبوه محمد فيضي الزهاوي مفتياً لدار السلام وأخوه فقيها من فقهائها، فنشأ بين أبيه وأخيه يرتاض عقله ليتثقف، ويرتاش خياله ليطير؛ ولكن أخاه كما حدثني جميل، كان حثر اللسان لا يتذوق الأدب؛ فكان يذوده عن رواية الشعر، ويصده عن دراسة اللغة، ويأبى عناده هو وتسامح أبيه إلا أن يديم النظر في الأدب، ويروض القريحة على القريض. كان هم أخيه وأمل أبيه أن يستقيم على عمود أسرته فيكون صاحب قضاء وفقه، ولكنه استقام على محتوم طريقته فكان صاحب دعوة وفلسفة. والاستعداد الموهوب في الطبع هو مشيئة الخالق في الخلق، جعل من الزهاوي أبا العلاء فقد كان أهله يريدونه أبا حنيفة؛ وجعل من الرصافي أبا نواس وألالوسي رحمه يريد أن يبعث في معروف الرصافة معروف الكرخ!
كان العراق أيام نشأ الزهاوي تركي السلطان سني الحكومة، فالتعليم المدني فيه كان تابعا في لغته وطريقته وغايته لسياسة الأجنبي وهواه، فلم يخرج إلا رجال جيش يخضعون للنظام، أو رجال إدارة يذعنون للحكم. أما التعليم الديني فقد ظل في صحون الجوامع على ما عهده الناس، عربي اللسان حر النزعة طريق الفكرة مستقل الغاية. وطبيعة هذا النوع من التعليم الجدلي المطلق أن يخلق المجاهل لشعور البليد فيظل، ويكشف الآفاق للفكر النافذ فيبلغ، ويساعد الجبلة في الإنسان على حسب الاستعداد فتعلوا أو تهبط؛ فهو يساعد الهمة القاعدة على السقوط، والنفس القانعة على القنوط، والذهن المبطئ على التخلف، كما يساعد العقل الحائر على التزندق، والطبع القلق على التمرد، والإدارة المستقلة على الزعامة. ورجال الثورة والإصلاح في تاريخنا الحديث كانوا جميعا من أهل هذه الثقافة، كالأفغاني، وعرابي، ونديم، ومحمد عبده، وسعد زغلول، والكواكبي، والزهراوي، والزهاوي، ومن إليهم. والنابهون من أهل هذه الثقافة لا ينفكون دائبين على القراءة والتتبع والمشاركة ليدفعوا عن أنفسهم معرة القدم. وهم عسيون إذا جددوا أن يفسروا في التجديد(193/1)
كذا العاهة يدفعه النفور من ذلة الضعف إلى الإفراط في العسف والتجبر.
فالزهاوي الجريء بطبعه، الطموح باستعداده، تثقف بهذه الثقافة، ثم تنفست على أعصابه الشاعرة أمواج العروبة ترسلها على بغداد الصحارى الملهمة؛ ثم نزعه عرق العم والخال من الكردية فجاهد وجالد وغامر؛ والكرد كالعرب إن لم يكونوا من العرب؛ ثم ابتلى وهو في الخامسة والعشرين من عمره بداء في النخاع الشوكي لازمه بقية حياته، ورما بعد ذلك بالشلل في رجله فبرم واكتأب وتشاءم؛ ثم مني من عصره بفساد السلطان واستطالة الجهل وانحلال الخلق، فدفعته هذه العوامل كلها إلى موقف المصلحين من الإنذار والتضحية.
رأى وهو في الأستانة عبد الحميد يلقي الأحرار مغلولين في غيابة السجن أو في قاع البحر فأرسل إليه مع رسبوتينة أبي الهدى قصيدة منها:
أيأمر ظل الله في أرضه بما ... نهى الله عنه والرسول المبجل
فيفقر ذا مال وينفى مبرأ ... ويسجن مظلوماً ويسبى ويقتل
تمهل قليلا لا تغظ أمة إذا ... تحرك فيها الغيضل لا تتمهل
وأيديك إن طالت فلا تختر بها=فإن يد الأيام منها أطول
فسجنه حيناً ثم نفاه.
وسمع وهو عضو في (مجلس المبعوثان) عن بغداد مقرر الميزانية يذكر في وزارة الحربية مبلغاً جسيما من المال جعلوه لقراءة البخاري في الأسطول. فقال: أنا أفهم أن يكون هذا المبلغ في ميزانية الاوقاف، أما في الحربية فالمفهوم أن الأسطول يمشي بالبخار لا بالبخاري. فثار عليه المجلس وشغب عليه العامة.
ورأى ما تعانيه المرأة من عنت الاستعباد والاستبداد والجهل، فهب لإيقاظها ونصرتها، حتى كتب في (المؤيد) مقاله المشهور: (المرأة والدفاع عنها) فزلزل الناس في بغداد وفي غير بغداد، فسعوا به إلى ولاة الأمر ليعزلوه، وحرشوا عليه دهماء الشعب ليقتلوه، فاضطر إلى لزوم داره.
ونظم في أعقاب عمره (ثورة في الجحيم) ففزع المتزمتون من شرها إلى الملك فيصل؛ فلما كلمه في ذلك قال: ماذا اصنع يا مولاي؟ عجزت عن إضرام الثورة في الأرض فأضرمتها في السماء!(193/2)
لم يخلد الزهاوي إلى التبطل، ولم يعش على مروءات الناس كأكثر أهل الشعر، وإنما غامر في خطير الأمور، وطمح إلى بعيد المدارك، فملأ حياته بالأمل الدافع والعمل المثمر: عيين في بغداد عضواً في مجلس المعارف، ثم مديراً لمطبعة الحكومة، ثم محرراً للجريد الرسمية، ثم انتخب عضوا في محكمة الاستئناف. ودعاه الخليفة حين نبه ذكره إلى الأستانة فحرك فيها لسان النقد، واقض بها مضاجع الجاسوسية، فانتقض أمره وساء مقامه. فلما أعلن الدستور عين أستاذاً للفلسفة الإسلامية في (المكتب الملكي)، ثم مدرساً للآداب العربية في (دار الفنون)؛ ثم عاد إلى بغداد فعين أستاذاً للشريعة في مدرسة الحقوق، ثم انتخب نائباً عن العراق في مجلس المبعوثان؛ وهو في خلال ذلك كله حركة ذهنية دائرة، وجملة عصبية ثائرة، لا يفتر ليله عن الشعر أو القراءة، ولا يكل نهاره عن الحديث أو الكتابة، حتى غُلب الترك وأديل منهم في بغداد للعرب، فكان الشأن لأصحاب الجيش وأقطاب السياسة؛ أما الزهاوي وأمثاله من رجال الفكر والشعر فاتخذوا طريقهم على الهامش. وكان الشاعر قد ألقى للمجد معاذيره من السراق القوى واستحكام العلل، فبات يرسل الأقباس والأضواء من جسمه المتهدم وقلبه المتضرم حتى خمد.
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(193/3)
أبو حنيفة
ولكن يغير فقه
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قد انتهينا في الأدب إلى نهاية صحافية عجيبة، فأصبح كل من يكتب ينشر له، وكل من ينشر له يعد نفسه أديبا، وكل من عد نفسه أديبا جاز له أن يكون صاب مذهب وأن يقول في مذهبه ويرد على مذهب غيره
فعندنا اليوم كلمات ضخمة تدور في الصحف بين الأدباء كما تدور أسماء المستعمرات بين السياسيين المتنازعين عليها، يتعلق بها الطمع وتنبعث لها الفتنة وتكون فيها الخصومة والعداوة، منها قولهم: أدب الشيوخ وأدب الشباب؛ ودكتاتورية الأدب وديمقراطية الأدب، وأدب الألفاظ وأدب الحياة، والجمود والتحول، والقديم والجديد. ثم ماذا وراء ذلك من أصحاب هذه المذاهب؟
وراء ذلك أن منهم أبا حنيفة ولكن بغير فقه، والشافعي ولكن بغير اجتهاد، ومالك ولكن بغير رواية، وابن حنبل ولكن بغير حديث. أسماء بينها وبين العمل أنها كذب عليه وأنه رد عليها. وليس يكون الأدب أدباً إلا إذا ذهب يستحدث ويخترع على ما يصرفه النوابغ من أهله حتى يؤرخ بهم فيقال أدب فلان وطريقة فلان ومذهب فلان، إذ لا يجري الأمر فيما علا وتوسط ونزل إلا على إبداع غير تقليد، وتقليد غير اتباع، واتباع غير تسليم؛ فلا بد من الرأي ونبوغ الرأي واستقلال الرأي حتى يكون في الكتابة إنسان جالس هو كاتبها، كما أن الحيَّ الجالس في كل حي هو مجموعه العصبي، فيخرج ضرب من الآداب كأنه نوع من التحول في الوجود الإنساني يرجع بالحياة إلى ذرات معانيها، ثم يرسم من هذه المعاني مثل ما أبدعت ذرَّاتُ الخليقة في تركيب من تركيب، فلا يكون للأديب تعريف إلا أنه المقلد الإلهي.
وإذا اعتبرنا هذا الأصل فهل يبدأ الأدب العربي في عصرنا أو ينتهي؛ وهل تراه يعلو أو ينزل؛ وهل يستجمع أو ينفض؛ وهل هو من قديمه الصريح بعيد من بعيد أو قريب من قريب أو هو في مكان بينهما؟
هذه معان لو ذهبتُ أفصلها لاقتحمت تاريخاً طويلا أمر فيه بعظام مبعثرة في ثيابها لا في(193/4)
قبورها. . . ولكن موجز مقتصر على معنى هو جمهور هذه الأطراف كلها، وإليه وحده يرجع ما نحن فيه من التعادي بين الأذواق والإسفاف بمَنَازع الرأي والخلط والاضطراب في كل ذلك؛ حتى أصبح أمر الأدب على أقبحه، وهم يورنه على أحسنه، وحتى قيل في الأسلوب أسلوب تلغرافي، وفي الفصاحة فصاحة عامية، وفي اللغة لغة الجرائد، وفي الشعر شعر المقالة، ونجمت الناجمة من كل علة، ويُزَيَّن لهم أنها القوة قد استحصفت واشتدت، ونازع الأدب العربي إلى سخرية التقليد وإلى أن يكون لصيقاً دَعياً في آداب الأمم، واستهلكه التضييعُ وسوء النظر له على حين يؤتى لهم أن كل ذلك من حفظه وصيانته وحسن الصنيع فيه ومن توفير المادة عليه
أين تصيب العلة إذا التمستها؟ أفي الأدب من لغته وأساليب لغته، ومعانيه وأغراض معانيه؟ أم في القائمين عليه في مذاهبهم ومناحيهم وما يتفق من أسبابهم وجواذبهم؟
إن تقل إنها في اللغة والأساليب والمعاني والأغراض، فهذه كلها تصير إلى حيث يراد بها، وتتقلد البليَّة من كل من يعمل فيها؛ وقد استوعبت واتسعت ومادَّت العصور الكثيرة إلى عهدنا فلم تؤت من ضيق ولا جمود ولا ضعف. ثم هي مادة ولا عليها ممن لا يحسن أن يضع يده منها حيث يملأ كفهُ أو حيث تقع يده على حاجته
وإن قلت إن العلة في الأدباء ومذاهبهم ومناحيهم ودواعيهم وأسبابهم، سألناك: ولمَ قصروا عن الغاية، ولم وقعوا بالخلاف، وكيف ذهبوا عن المصلحة، وكيف اعتقمت الخواطر وفسدت الأذواق مع قيام الأدب الصحيح في كسبه مقام أمة من أهله أعراباً وفصحاء وكتَّاباً وشعراء؛ ومع انفساح الأفق العقلي في هذا الدهر واجتماعه من أطرافه لمن شاء؛ حتى لتجد عقول نوابغ القارات الخمس تحتقب في حقيبة من الكتب، أو تُصَندَقُ في صندوق من الأسفار
كيف ذهب الأدباء في هذه العربية نشراً متبددين تعلو بهم الدائرة وتهبط، فكل أعلى وكل اسفل. هذا فلان شاعر قد أحاط بالشعر عربيه وغربيه وهو ينظمه ويفتن في أغراضه ويولد ويسرق وينسخ ويمسخ، وهو عند نفسه الشاعر الذي فقدته كل أمة من تاريخها، ووقع في تاريخ العربية وحدها ابتلاء ومحنة؛ وهو ككل هؤلاء، المغرورين يحسبون أنهم لو كانوا في لغات غير العربية لظهروا نجوما، ولكن العربية جعلت كلا منهم حصاة بين(193/5)
الحصى. وتقرأ شعره فإذا هو شعر تتوهم من قراءته تقطيع ثيابك، إذ تجاذب نفسك لتفر منه فراراً.
وهذا فلان الكاتب الذي والذي. . . والذي يرتفع إلى أقصى السموات على جناحي ذبابة.
وهذا فرعون الأدب الذي يقول: أنا ربكم الأعلى. وهذا فلان وهذا فلان.
أين يكون الزمام على هؤلاء وأمثالهم ليعرفوا ما هم فيه كما هم فيه، وليضبطوا آراءهم وهواجسهم، وليعلموا إن حسابهم عند الناس لا عند أنفسهم، فالواحدة منهم واحدة وإن توهموها مائة وتوهمها بعضهم ألفاً أو ألفين. ومتى قال الناس: غلطوا فقد غلطوا، ومتى قالوا: سخفاء فهم سخفاء.
وأين الزمام عليهم وقد انطلقوا كأنهم مسخرون بالجبر على قانون من التدمير والتخريب، فليس فيهم إلا طبيعة مكابرة لا إقرار منها، باغية لا إنصاف معها. نافرة لا مساغ إليها. متهمة لائقة بها، طبيعة يتحول كل شئ فيها إلى أثر منها كما يتحول ماء الشجر في العود الرطب المشتعل إلى دخان أسود.
يرجع هذا الخلط في رأيي إلى سبب واحد: هو خلط العصر من إمام بالمعنى الحقيقي يلتقي عليه الإجماع ويكون ملء الدهر في حكمته وعقله ورأيه ولسانه ومناقبه وشمائله، فان مثل هذا الإمام يُخَصُّ دائما بالإرادة التي ليس لها إلا النصر والغلبة، والتي تعطي القوة على قتل الصغائر والسفاسف؛ وهو إذا ألقى في الميزان عند اختلاف الرأي، وُضع فيه بالجمهور الكبير من أنصاره والمعجبين بآدابه، وبالسواد الغالب من كل الفاعليات المحيطة به والمنجذبة إليه؛ ومن ثم تتهيأ قوة الترجيح ويتعيَّن اليقين والشكر. والميزان اليوم فارغ من هذه القوة فلا يرجح ولا يعيَّن
ومكانة هذا الإمام تحدُّ الأمكنة، ومقداره يزن المقادير، فيكون هو المنطق الإنساني في اكثر الخلاف الإنساني: تقوم به الحجة فتلزم وإن أنكرها المنكر، وتمضي وإن عاند فيها المعاند، ويؤخذ بها وإن أصر المصر على غيرها. لن بالإجماع على القياس يَبين التطرف في الزيادة أو التقصير؛ والإجماع إذا ضرب ضرب المعصية بالطاعة، والزيغ بالاستقامة، والعناد بالتسليم؛ فيخرج من يخرج وعليه وَسمُهُ، ويزيغ من يزيغ وفيه صفتُه، ويصرُّ المكابر واسمه المكابر ليس غير وإن هو تكذَّبَ وتأولَّ، وإن زعم ما هو زاعم(193/6)
ولكل القواعد شواذّ ولكن القاعدة هي إمام بابها؛ فما من شاذٍّ يحسب نفسه منطلقاً مخلّى، إلا هو محدود بها مردود اليها، متصّل من أوسع جهاته بأضيق جهاتها؛ حتى ما يعرف إنه شاذ إلا بما تعرف به أنها قاعدة؛ فيكون شأنه في نفسه بما تعّين هي له على مكرهته ومحبته
والإمام ينبث في آداب عصره فكراً ورأياً، ويزيد فيها قوة وإبداعاً، ويزين ماضيها بأنه في نهايته، ومستقبلها بأنه في بدايته، فيكون كالتعديل بين الأزمنة من جهة، والانتقال فيها من جهة أخرى؛ لأن هذا الإمام إنما يختار لإظهار قوة الوجود الإنساني من بعض وجوهها ولإثبات شمولها وأحاطتها كأنه آية من آيات الجنس يأنسُ الجنس فيها إلى كماله البعيد، ويتلقى منه حكم التمام على النقص، وحكم القوة على الضعف، وحكم المأمول على الواقع، ويجد فيه قومه كما يجدون في الحقيقة التي لا يكابر عندها متنطع بتأويل، وفي القوة التي لا يخالف عندها مبطل بعناد، وفي الشريعة التي لا يروغ منها متعسف بحيلة. ولن يضل الناس في حق عرفوا حده، فان ما وراء الحد هو التعدي؛ ولن يخطّوا في حكم أصابوا وجهه، فإن ما عدا الوجه هو الخلاف والمراء.
وقد طبع الناس في باب القدوة على غريزة لا تتحول، فمن انفرد بالكمال كان هو القدوة، ومن غلب كان هو السمت، ولابد لهم ممن يقتاسون به ويتوازنون فيه حتى يستقيموا على مراشدهم ومصالحهم، فالإمام كأنه ميزان من عقل، فهو يتسلط في الحكم على الناقص والوافي من كل ما هو بسبيله، ثم لا خلاف عليه إذ كانت فيه أوزان القوى وزناً بعد وزن، وكانت فيه منازل أحوالها منزلة بعد منزلة.
هو إنسان تتخير بعض المعاني السامية لتظهر فيه بأسلوب عملي، فيكون في قومه ضرباً من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها مشروحة بهذا المثال نفسه، فإليه يرد الأمور في ذلك وبتلوه يتلى وعلى سبيله ينهج، فما من شئ يتصل بالفن الذي هو إمام فيه، إلا كان فيه شئ منه؛ وهو في ذلك متصل بقوى النفوس كأنه هداية فيها لأنه بفنه حكم عليها. فيكون قوة وتنبيهاً وتسهيلا وإيضاحاً، وإبلاغاً وهداية، ويكون رجلا وإنه لمعان كثيرة، ويكون في نفسه وإنه لفي الأنفس كلها. ويعطى من إجلال الناس ما يكون به أسمه كأنه خلقَ من الحب طريقهُ على العقل لا على القلب.
ولعل ذلك من حكمة إقامة الخليفة في الإسلام ووجوب ذلك على المسلمين، فلا بد على هذه(193/7)
الأرض من ضوء في لحم ودم، وبعض معاني الخليفة في تنصيبه كبعض معاني (الشهيد المجهول) في الأمم المحاربة المنتصرة المتمدنة: رمز التقديس، ومعنى المفاداة، وصمت يتكلم، ومكان يوحى، وقوة تستمد، وانفراد يجمع، وحكم الوطنية على أهلها بأحكام كثيرة في شرف الحياة والموت بل الحرب مخبوءة في حفرة، والنصر مغطى بقبر، بل المجهول الذي فيه كل ما ينبغي أن يعلم.
فعصرنا هذا مضطرب مختل إذ لا إمام فيه يجتمع الناس عليه، وإذ كل من يزعم نفسه إماما هو من بعض جهاته كأنه أبو حنيفة ولكن بغير فقه.
ولعمري ما نشأ قولهم (الجديد والقديم) إلا لأن ههنا موضعا خاليا يظهر خلاؤه مكان الفصل بين الناحيتين ويجعل جهة تنحاز من جهة، فمنذ مات الإمام الكبير الشيخ محمد عبده رحمه الله جرت أحداث، ونتأت رؤوس، وزاغت طبائع. وكأنه لم يمت رجل بل رفع قرآن.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(193/8)
جيلان
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(ألا تعرفني ما هذا الجديد؟)
ولم يكن كلامنا في الأدب أو الفنون وإنما كانت المساكن والأحياء هي مدار الحديث. وكان الرجل يناهز الستين ولكنه في نشاط ابن العشرين، وأنا آنس به وأسكن إليه، ويسرني أن أجلس بين يديه وأصغي - أو لعل الأصح أن أقول أنظر - إلى عباب حديثه المتحدر فقد كان يذكرني بالبحر ويروعني مثله بمثل فيضه الزاخر
فقلت له (يا سيدي، العارف لا يعرف. . ولكني أستأذنك في أن أقول لك إنكما جيلان - أنت وبنوك - ومن حقك أن تتبرم بهم وتسخط على نزعتهم في الحياة وتستخف مطالبهم فيها وغاياتهم منها. . أنت حر في ذلك ولكن من حقهم أيضا أن يضجروا منك لأنهم ينزعون غير نزعتك وأن يطلبوا من الحياة غير ما تطلب، لأن وجوهها اختلفت. وأظن أن هذا عدل،
فصاح بي: (عدل؟. كيف تقول؟. عدل أن يخرجوني من بيتي ويحملوني إلى حي أنا فيه غريب لا أشعر إلا بالوحشة؟. ويقصوني عن أحبابي وأصحابي وعشراء الصبى وأخدان العمر كله؟. ما عيب بيتنا بالله؟. إني لست متعنتا. . أنت تعرف بيتنا فهل تعرف فيه عيباً؟.)
قلت (كلا. . وأشهد أن لا عيب فيه. . واسع وصحي وأسباب الراحة فيه موفورة. . نعم لا عيب فيه ولكنى أعترف بأني لو كنت ابنك لما فعلت إلا ما فعل بنوك. . أي لخرجت منه)
فقال (أنت كنت تفعل ذلك؟. حاشا. . لله إنك عاقل.)
قلت: (المسألة ليست مسألة عقل. . وإنما هي مسألة حياة تغيرت وجوهها وزمن اختلفت المطالب فيه)
قال: (إني أجادلهم كل يوم. . الكلام في هذا لا ينتهي بيننا)
قلت (وهذا حسن. . وجدتم على الأقل موضوعاً للكلام لا تخشون أن ينضب معينه)
قال: (اسمع. إني رجل كبير وقد أديت واجبي وربيت أبنائي وهم الآن رجال يعتمدون على أنفسهم ولا يحتاجون إلي. . فرغت من هذا الأمر. . وأحب أن أقضي ما بقي من عمري(193/9)
في بيتي. . بيتي أنا. . البيت الذي ورثته عن أبي وقضيت فيه خير عمري. . بل عمري كله. . وحولي جيراني. . أعرفهم ويعرفونني وأستطيع أن أجدهم عند الحاجة. . لقد رفسني مرة حمار في الطريق فأغمى علي فلما أفقت ألفيتني في بيتي على سريري. . هل تعرف من حملني؟. جيراني. . عرفني أهل الحي فحملوني إلى بيتي. لو وقع لي هذا في الحي الجديد الذي نقيم فيه الآن لجاء الإسعاف وحملني إلى مستشفى. .)
قلت (معقول. . أنت تفضل أن يحملك جيرانك وأهل حيك إلى بيتك في مثل هذه الحالة ولكن بنيك يفضلون في مثل هذه الحالة أن يحمل المرء إلى المستشفى. . زمنك لم يكن يعرف المستشفيات فأنت تنكرها وتشفق من أن تحمل إليها ولعللك تتطير من دخول المستشفى، وعسى أن يكون أسم المستشفى مقروناً في ذهنك بفكرة الموت. ولكن الزمن تغير. والرأي في المستشفيات اختلف، وأبناء هذا الزمن الجديد يؤثرون العلاج في دوره المجعولة له على العلاج في البيوت؛ فالذي تعده أنت مزية يرونه هم نقصاً، والذي تراه أنت شراً يعتقدون هم أنه خير. . وهذا بعض الفرق بين الزمنين)
قال: (ولكني كبرت يا سيدي. . ماذا يضرهم لو تركوني أقضي الأيام الباقية لي كما أحب؟)
قلت: (إنه لا يضرهم. وثق إنهم لا يأبون عليك ولا يكرهون لك أن تحيا حياتك على هواك ولكن تيار الزمن حملهم - وحملك معهم - إلى حيث لا تشعر إلا بالقلق وعدم الرضى؛ والذنب للزمن لا لهم)
قال: (إنهم يضحكون مني حين أقول لهم إن بيتنا قريب من المساجد فأنا أستطيع بلا عناء أن أزور السيدة نفيسة أو السيدة زينب وأن أصلي المغرب في سيدنا الحسين ثم أشرب الشاي المغربي البديع هناك في قهوة من القهوات القديمة. وأنتظر حتى أصلي العشاء ثم أعود إلى البيت. . يضحكون يا سيدي ويجعلون هذا موضوعاً لفكاهتهم. . لا يعجبهم إلا جروبي وشارع عماد الدين والسينما. .)
قلت: (أنت محق وهم غير مخطئين. . لقد فرغت من حياتك أو من واجبك فيها، فأنت تريد أن تفرغ لربك. ولكنهم هم في بداية الأمر وأول مراحل الحياة، ولكل حياة بداية ونهاية؛ ومن العنت أن تفرض عليهم في البداية الحالات النفسية التي لا تكون إلا في(193/10)
النهاية. وأنت لا تشعر بالحاجة إلى السينما مثلا لأنك لم تعتدها إذ لم يكن لها في زمنك وجود، وقد عشت بغيرها أكثر عمرك ففي وسعك بسهولة أن تعيش بقية العمر من غير أن يخطر لك أن السينما لازمة أو أنها ملهاة مستحبة، ولكنهم هم نشأوا في ظلها فصارت من وجوه حياتهم المألوفة، وأحسبهم حين تعلو بهم السن ويفرغون من أمور الدنيا سيظلون يذهبون إلى السينما كما تذهب أنت الآن إلى المساجد للعبادة، ولن يكونوا حينئذ أقل منك زهداً في الدنيا أو انصرافاً عن باطلها أو ابتغاء لرضى الله. ومن يدري؟. . عسى أن تكون هناك يومئذ أشياء جديدة غير السينما يرتادها أبناؤكم فينكر أبناؤك على أحفادك هذا الشغف بالجديد الذي جاء به الزمن كما تنكر أنت اليوم على بنيك كلفهم بالسينما. لكل زمن يا سيدي حكمه، ولكل جيل روحه. . ويحسن بالمرء أن يوطن نفسه على ذلك)
قال: (نعم نعم. . إني لست جامداً ولا متعنتاً بل أنا أدرك ذلك كله)
قلت: (إن الإدراك وحده لايكفي، والمعول في مثل هذه الأمور على العادة لا على الإدراك)
قال: (صحيح. . ولكني مظلوم. . تصور أني لا أشعر برمضان في هذا الحي. . لا نسمع المدفع، ولا يدق الباب علينا أحد ليوقظنا للسحور. . ولا نسمع الطبلة القديمة. . ولا المؤذن. . لا. . لا شيء من ذلك. وقد احتجنا إلى المنبه لنستيقظ على صوته حتى لا يفوتنا السحور. . تصور هذا. . الحق أقول لك إني كنت لا أشعر أن هذا هو رمضان، ولا أكاد أصدق أن صيامي مقبول. . أهذا هو رمضان. .؟ من يقول هذا؟. . أين الأولاد الذين يطوفون بالمصابيح فيها الشموع الموقدة. . أين صيحات فرحهم وسرورهم بليالي رمضان. . أين السهرات اللذيذة. . سهرات الإخوان في البيوت. . إني أحس في هذه الشقة الضيقة التي نسكنها أني يتيم. . صحيح)
قلت: (أو لست يتيما. .)
قال (أعني أني أشعر بوحشة. . والباقي من عمري قليل، وكنت أرجو أن يتركوني أقضيه في بيتي وبعد أن أموت يمكنهم أن يصنعوا ما شاءوا. . وأظن أن هذا عدل)
قلت (عدل؟. . من يدري؟. . هل من العدل أن تفرض على ثلاثة أو أربعة ضربا من الحياة لا يوافق إلا واحد هو أنت؟. . ربما كان العدل أن تحتمل أنت ما يوافق الأربعة. . على الأقل هذا أقرب إلى العدل أو أشبه به. . العدل؟. . من يدري يا سيدي. .)(193/11)
قال (إني أنظر إلى فائدتهم. . نحن الآن نخسر خمسة جنيهات كل شهر أجر للسكنى، ولو كنا في بيتنا لاستطعنا أن نقتصد هذا المبلغ أو أن ننفقه فيما هو أولى وألزم. . ألست توافقني؟)
قلت (تسألني الآن فجوابي نعم، ولو سألتني قبل عشرين سنة لكان جوابي لا. . الشباب يفعل ما يعجبه لاما ينفعه. . ينفق بلا حساب لأنه يشعر بفيض من الحيوية ولا يشعر بالحاجة إلى التدبير والاقتصاد. . مليونير. . كيف يبالي بالقروش والملاليم؟؟)
قال (ولكن ألا ينبغي أن يفكروا في المستقبل ويعدوا العدة للضعف؟.)
قلت (إن هذا يكون أحجى ولكن الشباب رأسه مثل التليفون. . أعني أنه يستطيع أن يقصي السماعة عن أذنه ويضعها فلا يسمع إذا هم صوت النذير بالكلام الثقيل. .)
قال: (يا شيخ لا تقل هذا. . إنه جنون)
قلت (صدقت. . إنه جنون. . ولكنه جنون القوة. . والشباب ينفض عن نفسه الهموم كما تنفض عن ثيابك التراب بإصبعك. . بلا عناء ولا اكتراث. . في وسعه ذلك لأنه عباب القوة زاخر. . والعقل يجئ. . مع الضعف. . والحساب له وقته. . أوانه، عندما يحس المرء بأنه بدأ ينفق من رأس ماله. . يا سيدي هل تعرف مهندسا استطاع أن يوصد بوابات الخزان في إبان الفيضان. . إنما يكون الخزن ويتيسر التدبير عندما تفتر قوة الماء الدافق ويؤمن شر اندفاعه على كيان الخزان. . كذلك الإنسان. . هل كنت تنفق بحساب دقيق في شبابك؟. .)
فأطرق، فقلت (إنك تنسى أنك كنت كذلك. . لو استطاع الكهول أن يذكروا كيف كانوا في شبابهم ولم يستغرقهم الإحساس بالحاضر وحده. . لعذروا. .)
قال (يعني انك موافق على ظلمي)
قلت (أسمع. . لو كان أبي حيا لما صبرت على معاشرته ولا أطقت الحياة معه في بيت واحد وتحت سقف واحد. . فأبناؤك خير مني ألف مرة)
قال (إن لك أبناء؟)
قلت (نعم ولا أسف ولا سرور. . وسأعنى بأن أدعهم يحيون حياتهم وحدهم وعلى هواهم حين يستغنون عن هذه التكأة التي هي أنا. .)(193/12)
قال (إني لا أضيق على أبنائي. . أنا معهم كأخيهم)
قلت (ليس في وسعك أن تضيق عليهم. وحسبك أنهم أكرم من أن يضيقوا عليك. . المثل يقول: إنك لا تستطيع أن تأخذ زمانك وزمان غيرك. . ولو استطاع الإنسان ذلك لما كان عدلاً)
قال (صحيح. . بس مشوار من العباسية إلى السيدة)
قلت (ألا تعلم أن الله خلق الترام)
قال (ولكني أحب المشي. . مفيد)
قلت (في وسعك بفضل أبنائك أن تستفيد الآن جداً من المشي)
إبراهيم عبد القادر المازني(193/13)
البزيع
أعوذ بالله!
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
كانت الصحف قد ذكرت أن أحد أعضاء (مجمع اللغة العربي الملكي) أختار (البزيع) لفظة عربية (للجنتلمان) وروت (البزيع) بالذال لا بالزاي - فأمليت هذا القول:
في (قاموس المحيط): (البذع الفزع، والمبذوع المذعور المفزع، وصبح بن بذيع محدث خراساني)
والخراساني (والله) مخيف، وما سمي (بذيع) بذيعاً إلا لأنه كان يبذع الناس، أو جاء يوم قبلته القابلة مشيَّئاً هولة
فهل غزا (عضو مجمع اللغة العربية الملكي) هذه الكلمة المبذعة أم أراد (البزيع) بالزاي وهو الغلام الظريف الذي يتكلم ولا يستحي؟ ففي (اللسان): (بزُع الغلام بزاعة فهو بزيع وبزاُع: ظرف وملح، والبزيع الظريف، قال أبو الغوث: غلام بزيع: أي متكلم لا يستحي، وغلام بزيع وجارية بزيعة ولا يقال إلا للأحداث)
فبزيع ليست لجنتلمان، وإن كان هؤلاء (الجنتلمنات) الإنكليز قد عادوا يقولون ويفعلون ولا يستحون!
أجل، قد جاء في (اللسان) أيضاً: (والبزيع السيد الشريف) لكن ليس من (أدب النفس) أن تسوء الرجل (السرى) أو الكامل أو الفتى المهذب أو السيد الشريف بصفة شركه فيها الغلام الحدث
وفي (تهذيب الألفاظ) لابن السكيت: (البزيع الظريف الحلو المجزئ، والحلو الذي يستخفه الناس يكون خفيفا على أفئدتهم)
وتعريف (التهذيب) - وإن لم يكن فيه قلة حياء - فيه الخفة، ووصف (السرى) - بأنه حلو خفيف - مؤلم مر ثقيل عليه
وما أرى هذه الكلمة البزيعة الباذعة إلا من طغام الكلام ولن يحسبها الأدباء العربيون في قبيل (اللسان المبين) والجزيرة أقاليم، والعربية لغات، والعرب أمم
وبزيع الجماعة يذكرنا بقصة (بوزع) وهي فوعل من البزيع، وقد رواها أبو الفرج في(193/14)
كتابه، والبغدادي في خزانته، وهذا بعضها وهو المهم المقصود في الحكاية:
(قال جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكردية لحماد الراوية:
أنشدني لجرير، فأنشده:
بان الخليط برامتين فودعوا ... أو كلما اعتزموا لبين تجزع؟
واندفع ينشده إياها حتى انتهى إلى قوله:
وتقول بوزع:
قد دببت على العصا ... هلا هزئت بغيرنا يا بوزع؟
قال حماد: فقال لي جعفر: أعد هذا البيت، فأعدته، فقال: بوزع إيش هو؟ قلت: اسم امرأة.
فقال: امرأة اسمها بوزع؟ هو برئ من الله ورسوله ونفي من العباس بن عبد المطلب أن كانت بوزع الأغوالا من الغيلان. تركتني (والله) يا هذا لا أنام الليل من فزع بوزع. . يا غلمان، قفاه. .)
وإني لو سمعت أعضاء (مجمع اللغة العربية الملكي) يتجادلون في (ديوانهم) في (بزيع وجنتلمان) لصحت: يا قوم، انبذوا (البزيع) وخذوا (الجنتلمان) فما (فلان) وإضراب (فلان) بأقرب إلى مصر والعربية من (جورج لويد) و (برسي لورين)!
محمد اسعاف النشاشيبي(193/15)
في أفق السياسة الدولية
السلام المسلح
بقلم باحث دبلوماسي كبير
السلام المسلح هو بلا ريب شعار السياسة الدولية هذا العام فالدول العظمى تتسابق كلها في ميدان التسليح بحماسة لم يسمع بها في التاريخ، ومع ذلك فالدول تؤكد نياتها السلمية، وتدعي جميعاً أنها تقوي أهباتها الدفاعية دفعاً للاعتداء وتقريراً للسلم؛ وقد كانت إنكلترا إلى ما قبل أشهر قلائل أقل الدول العظمى تأثرا بهذه الحمى في سبيل التسليح، ولكنها اليوم تنزل إلى نفس الميدان ببرنامج للتسليح يفوق بضخامته كل ما عرف حتى اليوم، وترصد لهذا البرنامج اعتماداً يبلغ ألفاً وخمسمائة مليون من الجنيهات، وهو إسراف لم يسبق أن عرفته الإمبراطورية البريطانية في تاريخها الحافل رغم اهتمامها دائماً بشؤون التسليح والدفاع، وفي نفس الوقت الذي تتقدم فيه السياسة البريطانية بهذا البرنامج العسكري الهائل تتقدم إلى العالم بنفس التأكيدات السلمية التي لم تنقطع عن ترديدها طيلة الأعوام الأخيرة، وتعلن أنها لا تتسلح إلا دفاعاً عن نفسها وحفظاً لكيانها ومصالحها، وتأييداً للسلام العالمي الذي كانت قوة بريطانيا العظمى دائماً عاملا كبيرا في تعزيزيه وتأييده
والسياسة البريطانية لا تخفي أنها كانت مسرفة في حسن الظن بالعهود والمواثيق الدولية، وفي الاعتماد على مبادئ السلم وحسن التفاهم بين الأمم، وأنها كانت مقصرة في مجاراة الأمم الأخرى في التسليح بالدرجة التي يقتضيها مركزها الدولي، ومصالحها الإمبراطورية العظيمة، فهي الآن تجري على نفس سياسة السلم المسلح التي جرت عليها الدول الأخرى، بعد أن أيقنت أن التخلف في هذا المضمار يعتبر خطراً على هيبتها الدولية وعلى سلامتها وسلامة إمبراطوريتها المترامية الأطراف، وبعد أن لمست عن قرب هذا الخطر جاثماً يتربص بها ويحاول أن يجد فرصة في نقص أهباتها الدفاعية، وهي تعود اليوم فترى أن الوسيلة العملية الوحيد لاسترداد مكانتها الدولية، وتأييد كلمتها وإرادتها وحفظ سلامتها وطمأنينتها، هي أن تضاعف أهباتها في التسليح حتى تستطيع أن تسحق أية قوة في العالم تفكر في مناوأتها والاعتداء عليها
وليس من العسير أن نستشف بواعث هذا التطور الحاسم في السياسة البريطانية الحالية(193/16)
وتحولها إلى خطة السلام المسلح، بعد أن كانت تعتمد على المواثيق الدولية والسلامة المشتركة والجهود السياسية، ففي حوادث العام الماضي تفسير شاف لهذه البواعث، وأولها وأهمها بالطبع هي المسألة الحبشية التي فتحت عيون السياسة البريطانية إلى حقائق لم تحسن تقديرها، فقد دبرت إيطاليا اعتداءها على الحبشة عامدة متعمدة، وغزتها واستولت عليها بوسائل عنيفة وحشية هي أدنى إلى القرصنة منها إلى الحرب الحقيقية، ولم تعبأ بالمعاهدات المعقودة والمواثيق المقطوعة ولا بكون الحبشية من أعضاء عصبة الأمم؛ وحاولت السياسة البريطانية أن تحشد دول العصبة ضد إيطاليا في جبهة أدبية اقتصادية تقاومها بالاستنكار والمقاطعة، فلم تحفل إيطاليا بهذا السلاح السلبي وسخرت منه كما سخرت من السياسة البريطانية ومحاولتها، وانتهى الأمر باستيلائها على الحبشة، ووطدت بذلك سلطانها الاستعماري في شرق أفريقية بجوار السودان ومنابع النيل وكنيا وشرق أفريقية البريطاني، ولم يكن موقف السياسة البريطانية يومئذ دفاعاً عن الحبشة ذاتها، وإنما كان وسيلة للدفاع عن مصالح الإمبراطورية، لأن قيام العسكرية الفاشستية في الحبشة على هذه الصورة المتحفزة يهدد سلامة الأملاك البريطانية ويهدد مواصلات الإمبراطورية في البحر الآحمر، وتوطد سلطة إيطاليا الاستعمارية يهدد سياسة بريطانيا البحرية في البحر الأبيض المتوسط، ولم تستطع بريطانيا العظمى يومئذ أن تلجأ إلى سلاح العنف لمقاومة المشروع الإيطالي. ولم تحاول أن تغلق قناة السويس في وجه القوات الإيطالية لأنها أدركت يومئذ أنها ليست مستعدة للطوارئ تمام الاستعداد، وأن من الخطر أن تدخل مع العسكرية الفاشستية المتوثبة في معركة لا تؤمن عواقبها لهذا كله اكتفت بمراقبة الحوادث، وشهدت على كره منها ومضض ظفر الفاشستية بغزو الحبشة وقيام الإمبراطورية الإيطالية الاستعمارية، وشهدت انهيار سياستها القائمة على تحريك العصبة؛ ولم يخف على السياسة البريطانية ما أحدثه ذلك الفشل من صدع لهيبتها ونفوذها الدولي، ولم يخف عليها أنها كانت قصيرة النظر حينما اعتمدت على فكرة السلامة المشتركة، وتخلفت في مضمار التسليح حتى تفوقت عليها فيه أمم أخرى أصبحت تناوئها الآن وتشاكسها
وفي نفس الوقت الذي نفذت فيه إيطاليا اعتداءها على الحبشة على هذا النحو المثير، أعلنت ألمانيا نقضها لميثاق لوكارنو الذي يكفل سلامة حدود الرين، كما أعلنت نقضها(193/17)
لآخر النصوص العسكرية في معاهدة الصلح المتعلقة بتحريم التسليح في منطقة الرين. وإنكلترا من الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو. ومع أنها لم تتأثر بتصرف ألمانيا قدر ما تأثرت فرنسا فإنها رأت في انهيار هذا الميثاق الذي كان يعد ضماناً قوياً للسلام في غرب أوروبا نذيراً سيئاً بانهيار فكرة السلام المشتركة وتقويض صرح السلام الأوربي، ورأت فيه بالأخص ضربة أليمة لشرعية العهود والمواثيق تنذر بانهيار سلطان القانون الدولي، وتبعث إلى الريب في قيمة العهود الدولية، وتحمل على عدم الاطمئنان إليها، ما لم تكن من ورائها القوة الكافية لتأييدها وضمان تنفيذها
ثم كانت المشكلة الأسبانية، وتدخل ألمانيا وإيطاليا فيها إلى جانب الثوار الأسبانيين لإقامة حكومة عسكرية فاشستية في اسبانيا؛ وقد لمحت إنكلترا منذ البداية شبح الخطر الذي يجثم من وراء هذا التدخل، وأدركت في الحال أن قيام حكومة فاشستية في أسبانيا تؤيدها إيطاليا وألمانيا، وكلتاهما تضطرم طموحا إلى الفتوح الاستعمارية. مما يهدد سيادتها في غرب البحر الأبيض المتوسط، وهي سيادة تحرص عليها بالسهر على مدخل هذا البحر من مضيق جبل طارق، وهو توجس لم تلبث أن حققته تطورات الحرب الأسبانية، وتدفق الجنود الإيطالية والألمانية إلى أسبانيا. وما قامت به الدولتان من المناورات الاستعمارية المزعجة في جزر البليار ومراكش الأسبانية
إزاء ذلك كله شعرت إنكلترا بحقيقتين بارزتين، الأولى أن هناك خطرا حقيقيا على سيادتها في البحر الأبيض يتفاقم يوما بعد يوم، وان إيطاليا الفاشستية تبذل جهودا جبارة لتحطيم هذه السيادة؛ والثانية أن سلام أوروبا لم يعد مكفولا، وأن ألمانيا وإيطاليا المدججتين بالسلاح أصبحتا بما لهما من القوة العسكرية تتحكمان في سلام القارة، وتهددانه في كل لحظة بنزاعاتهما وأطماعهما العنيفة، وأنه أضحى من العبث أن تعتمد السياسة البريطانية على سياسة العهود والمواثيق والسلامة الاجتماعية، وأنه لابد من اعتمادها على القوة للدفاع عن سلامتها ومصالحها الإمبراطورية الواسعة؛ ومع أن إنكلترا عقدت في يناير الماضي مع إيطاليا اتفاقا باحترام الحالة القائمة في البحر الأبيض، والاعتراف بالمصالح المتبادلة وهو ما يسمونه باتفاق (الجنتلمان) فان السياسة البريطانية لم تكن ترى فيه على ما يظهر أكثر من وسيلة لتهدئة الحالة وتسكين الأعصاب المضطربة واكتساب الوقت؛ بل يلوح لنا أن(193/18)
هذا الاتفاق الذي علقت عليه يوم عقدت آمال كبيرة، ينهار اليوم من أساسه، لأن إيطاليا رأت في برنامج التسليح البريطاني، وفي دعوة الحكومة البريطانية للنجاشي إلى حفلات التتويج، ما يسوغ لها الارتياب في موقف السياسة البريطانية، والسير في سياستها العسكرية المطلقة دون تردد أو تقيد
وقد كان لهذا التحول في السياسة البريطانية، والتجاء بريطانيا إلى سياسة التسليح الشامل وقع عميق في ألمانيا وإيطاليا؛ ومما يلاحظ أنه وقع على أثر إثارة ألمانيا لمسألة المستعمرات ومطالبتها بمستعمراتها القديمة بصورة رسمية، ورد إنكلترا على مطالبها بالرفض المطلق؛ وقد أكد مستر ايدن وزير الخارجية البريطانية في عرضه لسياسة بريطانيا الخارجية، إن بريطانيا لا ترمي بالتسلح إلى أية غاية أعتدائية، ولاتفكر مطلقا في تعكير السلم، وكل ما ترمي إليه هو الدفاع عن سلامتها وسلامة أملاكها ومصالحها الإمبراطورية، ولم يخف الوزير أن ما شعرت به بريطانيا من خيبة الأمل في قيمة العهود والمواثيق الدولية وقيمة السلامة المشتركة كان من أعظم بواعث هذه السياسة، ولم يخف إن إخفاق العصبة في المسألة الحبشية كان صدمة أليمة للعصبة ولجميع الدول التي تؤمن بمبادئها، بيد أن السياسة البريطانية ما زالت تؤمل في مستقبل العصبة ومستقبل مبادئها السلمية الحرة. على أن هذه التصريحات الملطفة لم تخف الحقيقة البارزة في تسليح بريطانيا، وهي أنه رد عملي على تسليح ألمانيا وإيطاليا، ورد القوة على القوة، واعتزام التذرع بالعنف لرد العنف. ولم يستطيع منصف أن يلوم السياسة البريطانية على هذا التحول الذي اضطرت إليه لمثل هذه البواعث الحيوية القاهرة، ولكن برلين ورومة لا تريان هذا الرأي، أما برلين فلا تؤمن بما تقوله السياسة البريطانية في تبرير هذا التسلح، بل ترى فيه تحديا وتهديدا خفيا لها لتأيد السياسة التي ترمي إلى حرمانها من مستعمراتها ومطامعها الاستعمارية والاقتصادية المشروعة، وأما رومة فلا تشك أنه موجه إليها توجيها مباشرا لحرمانها من ثمرات تفوقها العسكري وانتصارها في الحبشة وتهديد سلامة إمبراطوريتها الاستعمارية التي كسبتها بسيفها، ولذلك رأينا المجلس الفاشستي الأعلى يجتمع بسرعة ويقرر مواصلة تسلح دون هدنة أو توقف، وأن يترك فكرة الاتفاق على تحديد التسليح نهائيا، وسيقترن هذا القرار بإجراء مناورات بحرية وجوية كبرى في مياه(193/19)
المضيق الواقعة بين طرابلس وصقلية، وهو المضيق الذي قد تفكر إيطاليا في إغلاقه في حالة الحرب لتقطع المواصلات البريطانية في البحر الأبيض المتوسط
وهكذا نرى معركة تسليح تضطرم بين الدول الكبرى. ولا ننس أن فرنسا قد أقرت كذلك برنامجا هائلا للتسليح، وأن روسيا السوفيتية قد دججت سلاحا وأضحت أقوى دول القارة. بيد انه مما لا ريب فيه أن للتسليح البريطاني آثارا يغتبط لها أنصار السلام، ذلك أن بريطانيا لا تطلب مزيداً في السلطان والملك، ولا تفكر في فتوحات أو غزوات استعمارية جديدة، وإنما تريد الدفاع عن إمبراطوريتها القائمة، ومقاصدها الدفاعية ظاهرة لا ريب فيها، وفي وسع بريطانيا متى أتمت تسليحها واستكملت قوتها أن تغدوا بما لها من الكلمة النافذة والقوة المرهوبة عاملا حاسما في استتباب السلم العالمي
(* * *)(193/20)
في الأدب المقارن
الحرب
في الأدبين العربي والإنكليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
حب الحياة والإقبال على متعاتها والرغبة في التكثر من خيراتها مركب في طبائع الأحياء. وليس لحاجات الحي ورغباته ومطامحه نهاية، بل تبقى له حاجة ما بقى كما قال الشاعر؛ والنزاع بين الأحياء على خيرات الحياة من اجل ذلك متصل لا يفتر، وهيهات يفتر وحب الخلاف والنزاع والجلاد ذاته بعض طبائع الأحياء، والشغف بالقلب والتخايل بالقوة والزهو بالسيادة من اكبر مطامع الأحياء والإنسان خاصة ومن ثم عرف الإنسان الحرب من أول عصوره واشتغل منذ همجيته بمكافحة الأحياء من الوحوش ومن أبناء جنسه، وتم له النصر من قديم على أمة الوحوش، وما تزال معارك الإنسان مع أخيه - أو عدوه - الإنسان متصلة تشب بين حين وحين
وقد كابد الإنسان في شتى العصور أهوال الحروب وعلم علم اليقين عواقبها الوخيمة؛ بيد أنه لم يستطع بعد أن ينبذها، لقيامها على غرائز في طبعه راسخة متأصلة، ولما تليح به أمام عينه من مزايا النصر ومغانمه ومجده ولألائه، ومن ثم كانت مهمة دعاة السلم من أشق المهام ومطالبهم من أبعد المطالب، وقد هبوا في الفترة بعد الفترة ينددون بالحرب وبلاياها ومغباتها. فكانت صيحاتهم تترك صداها في نفوس الكثيرين، ولاسيما في أعقاب الحروب الطاحنة التي أهلكت الحرث والنسل، ثم لا تلبث غرائز الإنسان الفطرية أن تعاوده على أشدها، وتبدأ الأمم سيرتها الأولى من الطمع والتفاني وتحكم القوة التي لا يفصل سواها بين المطامع المتضاربة
وللحرب آثارها المشهودة في أدب كل أمة بلا استثناء. ولتلك الآثار ثلاث نواح: فالحرب أولا من أهم وسائل اتصال الأمم واختلاط الأفكار وتلاقح الثقافات؛ وهي ثانياً وحي الجم الغفير من نظم الشعراء ونثر الكتاب الواصفين لوقائعها وسلاحها ورجالها، الممجدين لأبطالها وانتصاراتهم، المفاخرين بما كان دحر الأعداء وحماية الدمار وسلامة الشرف(193/21)
الرفيع من الاذى؛ والحرب من جهة ثالثة أوحت بآثار أدبية شتى في تبغيض القتال، وتسفيه اعتداء الإنسان على الإنسان، والحض على السلم والدعوة إلى الإخاء والصفاء وأن كان أثر هذه الدعوة في الأدب اقل كثيراً مما فيه من الترنم بمجد الانتصار والتغني بالعز والغلب، ولم تكثر آثار تلك الدعوة في الأدب إلا في العصر الحديث
وكل هاتيك الآثار بينة في الأدبين العربي والإنجليزي، فقد خبت الأمتان وأوضعتا في مجال الحروب. وكان بين كل منهما وبين جيرانها وأعدائها ملاحم ومواقع جسام، وشهد أدبها قيام نهضة حربية عظيمة وتشييد إمبراطورية واسعة، وأنجبت كل منهما عظماء القادة وحازت مشهود الانتصارات، وأذاقت أحيانا مرارة الهزيمة، ووقفت مراراً حيال الأخطار الجائحة التي تهدد كيانها وحريتها وتقاليدها، وشهدت الكثير من أمثال هذا كله يجري بين الدولة المجاورة والأمم المعاصرة لها، وعلى كثرت ما يحتويه الأدب العربي من اكثر، وذلك لأسباب عديدة:
فأولى ارتقى الأدب العربي وتوطد والأمة العربية ما تزال منشقة متناضلة، تتفاخر قبائلها بأيامها وانتصارتها، أما الأدب الإنجليزي فلم يبلغ عظمته إلا في ظل القومية الموحدة، ولم تنشق الأمة على نفسها ويمتشق بعضها الحسام لقتال البعض إلا مرة واحدة في عهد الصراع بين الملكية المطلقة والنظام الدستوري، وهي الفترة التي أنجبت القائد العظيم كرومل، وفيما عدا ذلك يمتاز التاريخ الإنجليزي بحروبه من الحروب الأهلية
وثانيا كانت الحروب اكثر طروءاً في تاريخ العرب منها في تاريخ الإنجليز حتى بعد توطيد الإمبراطورية: فان تلك الإمبراطورية ظلت - مادامت لها قوتها - تجالد أعدائها في الدين من روم ووثنيين، حتى إذا ما وهنت قوتها انقسمت على نفسها، وكثرت في داخلها الدويلات والحروب
وثالثا لأن كثيراً من أعلام الأدب العربي كعنترة وقطري بن الفجاءة والمتنبي وأبي فراس، كانوا جنوداً يشهدون الوغى ويمتدحون بمآثرهم فيها، وقلة من أدباء الإنجليزية من كان كذلك، بل لقد ذكر أن المقاتلة في عهد التلاحم بين علي ومعاوية والخوارج كانوا إذا تهادنوا ليلا تقابلوا تقابل الأصفياء يتناشدون الأشعار
ورابعاً كان جل شعراء العربية المتأخرين متصلين بالأمراء والقواد فلم يكن لهم ندحة عن(193/22)
وصف أعمال ممدوحيهم الحربية
كان العرب في الجاهلية في قتال لا يكاد يهدأ، وكانت بين قبائلهم وأشرافهم ثارات وعداوات لا تكاد تنتهي حتى اضطروا أن يتخذوا لهم موضعاً حراما ووقتاً حراماً ما تهدأ فيه الخصومات وتغمد الصوارم وتتصل أسباب الحياة والتعاون، وبالتمدح بالنصر في تلك الحروب والتفاخر بأيامها والتوعد والتربص، كان أكثر ما قيل من شعر في الجاهلية. وظلت لهذا الباب من الشعر المسمى بالحماسة مكانته بعد انقضاء عهد الجاهلية بطويل، وبه بدأ أبو تمام مختاراته الشعرية وبه سماها، وكثر في الشعر الجاهلي ذكر السيوف والرماح والخيول وغيرها من وسائل الحرب، وكثرت في العربية أسماؤها وأوصافها، وارتقى بين العرب البصر بالحروب وتأصلت فيهم ملكاتها، حتى أخرجت الجزيرة صناديد الإسلام الذين اصطلموا كتائب قيصر وآل ساسان، ومن الشعر الذي يعرض صور حروب ذلك العهد ومعلقة عمرو بن كلثوم الذي يقول منها:
على آثارنا بيض حسان ... نحاذر أن تقسم أو تهونا
وكنا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا
وكانت الرسالة النبوية، وكان صاحبها يجمع إلى عبقرياته العظيمة المتعددة التي لم تجتمع لإنسان، البصر بالحرب والبلاء فيها فتخلف من أشعار ذلك العهد ولاسيما شعر حسان أثر ما كان بين المسلمين والكفار من كفاح؛ حتى إذا ما وحد الإسلام قلوب العرب انصرفوا إلى جهاد أعداء الدين، ومن عجب أن عصر الفتوح الباهر الذي تلا ذلك لم يترك في الأدب العربي إلا أثراً ضئيلا. وليس امتلاء النفوس برهبة الدين هو كل السبب في ذلك، بل يرجع ذلك أيضاً إلى جدة الحالة التي وجد العرب بها أنفسهم: من قتال أمم مخالفة لهم في الجنس واللسان والمسكن ووسائل القتال، ولعلهم لم يجدوا من اللذة والغبطة ودواعي الفخار في اجتياح تلك الجيوش المرتبة، ما كانوا يجدونه في مصاولاتهم البدوية المملوءة بالكر والفر والمساجلات الفردية.
وأهم من هذا وذاك أنهم لم يتعدوا الفخر بالأعمال القومية، التي يشترك في فخارها المضرى والبكري والتغلبي، ولم يتعودوا أن ينضموا القصيد في الفخر على أعجمي، وإنما هم كانوا يترفعون على الأعجمي ترفعاً بديهياً بسيطاً لا يتكلفون له عناء النظم، ولا يحتفون(193/23)
بالقول، وآية ذلك حكاية الأعرابي الذي سئل: أتحب أن تكون ابن أعجمية ولك قصر في الجنة؟ فقال: لا أحب اللؤم بشيء. قيل: فإن أمير المؤمنين ابن أمة، قال: أخزى الله من أطاعه!
إنما كان الفخر كل الفخر عند العربي في الظفر بعربي مثله، من قبيلة معادية لقبيلته، قد توارثت قبيلتهما العداوة والتراث جيلا بعد جيل. وما هي إلا أن دبت الفتنة من جديد بين العرب حتى ظهر أثرها في الشعر: فمهدد لمعاوية وحزبه، ومناصر لبني هاشم أو مناصب لهم. ومفاخر بكلب أو بتغلب أو معير لهذه أو لتلك، إلى عهد بشار الذي يتمدح - على كونه من الموالي - بل غضب المضرية التي تهتك حجاب الشمس؛ وظل الشعراء الذين يمتدحون الخلفاء والأمراء والقواد ويمدحون بلائهم في الحروب، لا ينسون أن يذكروا مفاخر قبائلهم من قبل وبلائهم في الوغى، فإذا ما مدح الشاعر الحجاج ذكر ثقيفاً أو عبد الملك ذكر أمية، وظل الشعر العربي دائماً يردد ذكر بني مظر وبني شيبان وبني تنوخ وبلاء كل أولئك في الحروب، وكان التساجل بين الشعوبيين وأنصار العربية فلم يكد يترك أثراً في الشعر العربي، وحتى المتنبي يحفل شعره بذكر قبائل من مدحهم على التوالي، رغبة تعصبه للعربية، وطول تألمه من أن يرى عرباً ملوكها عجم
بجانب تلك العاطفة القبلية تمت تدريجا عاطفة أخرى هي الرابطة الإسلامية، إذ تمكن الإسلام من نفوس معتنقيه ومجتمعهم تمكنا احله محل القومية، وترددت تلك العاطفة في أشعار الشعراء الممجدين لبلاء الخلائف والأمراء في دفاع أعداء الملة، وكان للإسلام في أول ظهوره عدوان كبيران: الوثنية وزعيمتها فارس، وقد فرغ من شانها عاجلا، والنصرانية وممثلتها الدولة الرومانية، وقد ظل جهادها دائما من أول مهمات الخلفاء وولاة الثغور، وظلت حربها مكن أهم ما يشغل بال المسلمين ويغذي عاطفتهم المشتركة وشعورهم القومي؛ ويتجلى اثر تلك الحروب بين الدولتين، أو بين الديانتين، في أشعار أبي تمام والبحتري والمتنبي؛ ولما أعيت الدولة الرومانية الحيل استنجدت بغيرها من أمم النصرانية، فكانت الحروب الصليبية، التي ظهر أثرها في شعر شعراء مصر والشام، ومن ذلك قول البهاء في السلطان الأيوبي:
فابلغ رسول الله أن سميه ... حمى بيضة الإسلام من نوب الكفر(193/24)
وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى ... فلا حلمت إلا بإعلامه الصفر
وبلغ المسلمون المبالغ في الحرب البرية والبحرية وعنهم اخذ الصليبيون، ومن لغتهم نقل الغربيون كلمة الأميرال أو أمير البحر وغيرها من مصطلحات القتال، وحفل شعرهم بوصف المعارك والجيوش وما توقعه بأرض العدو من دمار، كوصف أبي تمام لتخريب عمورية؛ ووصف الاساطيل؛ والمتنبي هو اصدق وصافي الحرب في المتأخرين وأروعهم لأنه كان يصف ما يميل إليه بطبعه وما يمارسه ويشاهده بنفسه، ولا تكاد ترتوي منه لهفته، ومن ثم لا تقل أشعاره الحربية عن أشعار الجاهليين والإسلاميين صدقا وفطانة وتفوق بعضها جزالة وتجويدا، ومن جيدها وصفه لخيل سيف الدولة الذي منه:
رمى الدرب بالجرد الجياد إلى العدا ... وما علموا أن السهام خيول
شوائل تشوال العقارب بالقنا ... لها مرح من تحته وصهيل
كتائب يمطرن الحديد عليهم ... فكل مكان بالسيوف يسيل
ومن جيد وصف الأساطير قول ابن هانئ الأندلسي:
أنافت بها آطامها وسمالها ... بناء على غير العراء مشيد
وليس بأعلى كبكب وهو شاهق ... وليس من الصفاح وهو صلود
إذا فرت غيظا قد ترامت بماوج ... كما شب من نار الجحيم وقود
ولم يقتصر ذكر الحرب على مواضعها الخاصة بها، ومناسباتها بين الحين والحين، بل كان أمرها من الشمول والاتصال والحضور في أذهان الناس بحيث تسرب ذكرها في شتى أبواب الأدب، واستعيرت صفائها وأحوالها لمختلف الأغراض: ففي النسيب استعيرت السيوف والسهام للجفون واللواحظ، والقتل لشدة التتيم، وبالسيف شبه الممدوح صقلا ومضاء وبه جرت الأمثال فقيل: سبق السيف العذل، وشبه المتنبي المنون بعدو لا تجدي المشرفية والعوالي في قتاله، ولا تجني السوابق المقربات من خببه، وقرن التمدح بالبلاء في الحرب بالتشبيب، كما يفعل عنترة، وكما قال أبو عطاء السندي وهو البيت الذي تمثل به صلاح الدين الأيوبي في بعض رسائله:
ذكرتك والخطى يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر
وفي الأدب الإنجليزي أوصاف رائعة للحروب، وتمجيد شائق لأبطالها، وتفاخر(193/25)
بانتصاراتها وما كسبته الأمة من اعتزاز وهيبة، ولملتون ومارفيل وكامبيل وتينيسون وكبلنج في ذلك أشعار مأثورة. وقد كان مجال القول أمام أمثال أولئك الشعراء ذا سعة: فتاريخ الإمبراطورية حافل بعظائم جنودها. نعم كانت سياسة بناتها دائماً سلمية لا تلجأ إلى الحرب إلا في الحالة القصوى. ولا تندفع إلى ميدان القتال لمجرد الرغبة في الظفر والافتخار. ولكن الدولة دائماً عزيزة في وطنية أبناءها. وقوة اسطولها، وقد كسب لها جيشها وأسطولها انتصارات باهرة خالدة، ودوخ أبطالها أمثال كرومويل وملبرا ونلسن وولنجتون الأمم، واعلوا كلمتها فوق كل كلمة.
ولا يستأثر الشعر دون النبر بحديث الحرب ووقائعها وأبطالها بل هناك كتاب سوذي عن نلسن ومقالات ماكولي عن كليف وهستنجر وفردريك الأكبر، وتاريخه وتاريخ جيبون، كل هاتيك حافلة بالوصف الدقيق البليغ لشتى المواقع والحروب، هذا إلى ما في مختلف القصص من ذلك، ولا يكاد يكون في العربية من مثل ذلك سوى بعض خطب الإمام علي بن أبي طالب، ورسائل في بعض الخلفاء إلى ولاتهم ينهوهم أن يؤذوا المسالمين أو يعيثوا في الحرث والنسل وخطب بعض القواد كتلك المنسوبة إلى طارق بن زياد والتي تفيض بلاغة وشجاعة. ولا غرو فقد كان للشعر دائماً التقديم على النثر، وقد ظل طويلا يستأثر دونه بالحفاوة
ولم يقتصر شعراء الإنجليزية على نظم القصيد في تمجيد انتصارات وطنهم وعظائم أبناءه، بل التفوا - كدأبهم في كل فنون القول - إلى الماضي وإلى الخارج، ونظموا في المواقع التاريخية والخرافية، إرضاء للفن وتسريحاً للخيال وتنشيطا للفكر، فوصف تينيسون آخر معارك الملك آرثر وصفا اصبح من ذخائر الأدب المعدودة وآثاره السائرة، أودعه كل مقدرته على تجسيم الوصف وخلق المنظر الكامل بدقائقه وألوانه وأصواته، ونظم هاردي قصائد شتى في حروب نابليون والثورة الفرنسية، وكان له بحروب نابليون غرام كبير لقرب عهدها منه واشتراك بعض أقربائه فيها، وفي تلك الحروب نظم ملحمته الكبيرة التي تعد اكبر آثار الشعر الإنجليزي الحديث، وفيها ينتقل بين شتى المناظر والأوصاف والنظرات والتأملات
ولم يخل الأدب العربي من ذم للحرب ودعوة إلى الإخاء، ومن آثار ذلك أبيات زهير بن(193/26)
أبي سلمى المعروفة، ومن معلقته حيث يمدح السيدين اللذين اصلحا بين عبس وذبيان بعد ما تفانوا، ويستطرد إلى قوله: (وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم)، غير أن ذلك قليل نادر. وقد كان الجهاد دائماً شعار الدولة الإسلامية، وكان النزاع والغلاب دأب أمرائها، وبذلك تفاخر فرسانها وبه امتدحهم مادحوهم من الشعراء، وظل السيف والرمح والبنود والخيول في شعر الشعراء العربية مرادفات للعز والمجد والغلب والسيادة، ولم يخل الأدب الإنجليزي من محبذين للحرب متغاضين عن مغاباتها كتنيسون الذي كان يرى الحرب وسيلة لا غنى عنها من وسائل العمران وتطهير النفوس من شوائب المادية والترف والأنانية، غير أن الأدب الإنجليزي أغنى بآثار النظرة الإنسانية، التي تغض الحرب وتصور بشاعتها وبلاياها.
ففي قصيدته (البطولة) يقول كوبر معرضاً بملوك فرنسا: (أيها الملوك الذين يستهويكم المجد وتؤيدون بالدم دعواكم، وتهوون بالضربة ثم تبررونها بالدفاع عن النفس، المجد بغيتكم والحق ذريعتكم، تسكن عبر النهر الذي يحد ملككم الحق، ويريكم مدى ما يجوز لكم أن تنشروا عليه حكمكم، أمة لا مطمع لها في تاجكم، حريصة على السلام، سلام جيرانها وسلامها، ولكن يا لشؤم طالع تلك الأمة! ويا شد ما تتقاضاها جريرتها الوحيدة، جريرة مجاورتها إياكم، أما هي إلا أن تنطلق الأبواق حتى تزحف كتائبكم إلى الخارج شاقة طريقها وسط المحصول الناضج، يطئون في كل خطوة حياة جماهير وخبز أمة، فالأرض أمامهم جنة يانعة، وهي خلفهم يباب بلقع)
وفي قصيدته عن موقعة بلنهايم التي كسبها القائد النابغة ملبرا يصف سوذي شيخاً المانيا جالسا ذات مساء أمام كوخه في أرباض البلدة التي دارت حولها رحى المعركة، بعد جيل من حدوثها وحفيداه يلعبان حوله، فإذا الطفلة ترى أخاها يدحرج شيئا مستديرا قد عثر به بجانب الجدول، فتناول الشيخ ذلك الشيء والطفلان مشرئبان إليه يريدان أن يعلما ما هو، حتى هز الجد رأسه قائلا هذه جمجمة مسكين سقط يوم النصر العظيم، وكثيرا ما أعثر بهذه الجماجم في الحديقة) وحين أحرث الحقل كثيرا ما يثيرها المحراث من التربة، ولا غرو فقد سقط آلاف مؤلفة في ذلك النصر العظيم، فيتساءل الطفلان بفارغ الصبر عن تلك الحرب وسبب تناحر الفريقين، فيقول جدهما: شتت الإنجليز صفوف الفرنسيين، أما سبب(193/27)
ذلك فلا أعلمه، بيد أن الجميع يقولون أنه كان نصراً عظيما، ويمضي واصفا كيف أحرقت مزرعة أبيه وألجئ إلى الفرار وكيف هلكت الحبالى والرضع، ثم يردف قائلا: ولكن مثل هذه الأشياء يا ابني تحدث في كل نصر عظيم، فالمجد لدوق ملبرا ولأميرنا الطيب بوجين، فتصيح الطفلة: كيف؟ لقد كان ذلك أمراً إداً! فيراجعها الشيخ. كلا يا بنيتي بل كان نصرا عظيما. وكل إنسان أطرى الدوق الذي كسب تلك الموقعة، فيصيح الطفل: وماذا كانت فائدة كل ذلك؟ فيسلم الشيخ تسليم العاجز قائلا: أما ذاك فلا علم لي به، بيد أنه كان نصراً عظيما.
فآثار الحرب وأحاديثها على مختلف ضروبها ظاهرة محسوسة في جوانب الأدبين، ولا ندحة من أن تكون ظاهرة محسوسة فالحرب ناحية من نواحي حياة المجتمع الإنساني جليلة الخطر حاضرة الأهمية دائما، تتصل برفاهية الأفراد ومستقبل الجماعات ومصائر الدول والمدنيات، وبالحرب تتعلق كل معاني القوة والحرية والذود عن الحقيقة، وقد كانت الحرب أحيانا ممهدة لانتشار الحضارة وازدهار الثقافة، كما كانت إذا استفحلت وبالا على العمران وبلاء على الإنسان بيد أنها قد تركت في الآداب تلك الأوصاف الممتعة لملابسات الحروب ومشاهدها وأعقابها، وقد خلدت هذه الآثار الأدبية الرائقة عبرة ومتاعا للألباب، بعد أن غبرت تلك الحروب وهدأت تلك المطامع والثارات، وذهب مسعروها ومن اصطلوا بها واستوى في الترب القاهر منهم والمقهور.
فخري أبو السعود(193/28)
إسكندر بوشكين
أمير الشعراء الروس
ترجمة الأستاذ عبد الكريم الناصري
في يوم 10 فبراير احتفل الروس في بلادهم وفي خارجها بمرور مائة عام على وفاة شاعرهم الأكبر إسكندر بوشكين
وقبل خاتمته الفاجعة ببضعة شهور كتب يقول: (لقد أقيم لذكرايَ نُصبٌ لم تصنعِهُ يد. . . ولسوف يذاع اسمي في كلِّ أرجاء روسيا، ولسوف يجري ذكري على كلِّ لسان، ولسوف يتغنَّى بشهرتي كلُّ روسيّ. . .)
وقد أدهشت هذه النبوءة مريديه والمعجبين به، فما عرفوهُ قطُّ من قبل يتحدث عن نفسه على هذا النحو، وإنما عرفوه حيياً متواضعاً على ما أصاب من شهرةٍ ومجد. بَيدْ أنه كان مصيباً في قوله، فإن شعره الآن جزء لا يتجزأ من العقلية الروسية، وشهرته قد تجاوزت حدود بلاده، حتى أن بعض البلدان، ٍكصربيا، وتشيكوسلفاكيا، وفارس، احتفلت رسميا بذكراه المئوية، هذا فضلا عن الاحتفالات التي أقامتها شتى أقطار الأرض. ومع ذلك لم يصب بوشكين في خارج روسيا ما هو حقيق به من الشهرة والتقدير، ولم ينل منهما في إنجلترا ما ناله في فرنسا وألمانيا، بالرغم من أن المجلات الأدبية الإنجليزية ذكرته سنة 1822، ووصلته بقرائها، وبالرغم من أن جماعةً من الشعراء والأدباء، ومنهم جورج بورو، تصدوا لترجمة قصائده
وقد كتب الشاعر الإنجليزي المعاصر (موريس بيرنج) فصولا في تقويم أدبه، وتقدير شعره، تعد من أحسن ما كتب عنه في أية لغة من اللغات بما فيها الروسية، كما أنه ترجم بعض قصائده الوجدانية ترجمة تدعو إلى الإعجاب على الرغم من قوله: (إن التصدٍّي لترجمة أشعار بوشكين محاولة فاشلة، وعمل يائس، يشبه تصديك لتمثيل ألحان موزار بالرسوم والتماثيل، وتحويلها إلى الألوان والأحجار.)
ولد (الكساندر بوشكين) في موسكو، في الثامن من يونيو سنة 1799، وتوفي في(193/29)
بطرسبورج، في العاشر من فبراير سنة 1837، وهو سليل أسرة من الأشراف، كان من شأنها الإعجاب بكل ما يتصل بفرنسا والفرنسيين ولا سيما آدابهم.
وكان الفتى إسكندر يحفظ عن ظهر قلب كثيراً من بدائع موليير وفولتير، ولم يكن الحفظ عسيراً عليه، لما أوتيه من ذاكرة قوية ممتازة، وقد ظل طوال حياته قارئاً نهماً، حتى روي أنه لما حضره الموت شخص ببصره إلى الكتب المرصوفة على الرفوف وقال: (وداعا يا رفاقي الأعزاء).
وأجداد بوشكين من جهة أمه أفريقيون، ويحتمل أنهم أحباش، وقد جُلب جده (أبرام هانيبال) إلى بطرسبورج - من القسطنطينية - هدية إلى البطرس الكبير، ثم صار سكرتيره الخاص، وكان بوشكين يفتخر بجده الأسود، وكان متأثراً بدمه الافريقي، ولعل في هذا الدم يداً في نُضجه المبكر، وفي هذه الحرارة التي تفيض بها أغانيه، على أن هذا التأثير لم يبلغ من الشدة بحيث يظن كثيرا من الناس
وفي سنة 1811 دخل الليسيه في تسارسكوي سيلو، وهي مدرسة داخلية أسسها القيصر المتحرر الفكر إسكندر الأول، وشيد بنايتها في جانب من بلاطه؛ وهناك أنفق بوشكين ست سنوات سعيدات، طبعت أثناءها أولى قصائده، وكان عمره عندئذ أربعة عشر عاماً
ولما ترك المدرسة التحق بوزارة الخارجية، ولكنه لم يحبر قط بلاغا رسميا، وما كان ينتظر منه لك، وما بلغ الثامنة عشرة حتى كان باعتراف شيوخ الأدب، من أمثال كارامازين وجوكوفسكي، زعيما لشعراء عصره، وحتى كان شعره بغية الشبان يدرسونه ويحفظونه
وقد لعبت السياسة دوراً مهما في حياته، فمع أنه لم يكن عضواً في الجمعية السرية التي تشكلت سنة 1818، ثم سحقها الجيش في فتنته التي شبَّ أوارها سنة 1825، فانه عبر في قصائده عن أغراضها - وخلاصتها تأليف حكومة دستورية وتحرير الفلاحين - تعبيراً أقوى وأشد إقناعا من برامجها الطويلة ولكن ما لبث الرأي العام أن اشتد في مطالبته بالإصلاح والتحرير فقلَّ تسامح القيصر وفترت همته الإصلاحية، وكان بوشكين أول من نزلت به عاقبة هذا الخلاف بين الإمبراطور ورعيته وذلك أنه نشر في ذلك الوقت قصيدته الموسومة (بالحرية)، وقصيدتين أخريين في هجو أرا كتشيف فنفي على أثرها إلى جنوب(193/30)
روسيا
وقد هيأ له منفاهُ - الذي لم يك قاسياً جداً - فرصة لمشاهدة بلاد القوقاس والقرم وبراري صربيا، حيث عاش تلك العيشة التي التمستها بيرون ثم ظفر بها في ألبانيا، وكان بوشكين مسحورا ببيرون، وما سحره منه أسلوبه الشعري، بل بساطته وإخلاصه وعنف عواطفه. وفي سنة 1819، دخلت الترجمة الفرنسية لكتاب بيرون روسيا، فرحب بها هو وطائفة من أصدقائه الأدباء ترحيبا حماسيا، بالرغم من سقمها وركاكتها، وبلغ من إعجاب الشاعر الروسي العظيم بالشاعر الإنجليزي أنه أخذ نفسه بتعليم الإنجليزية ليقرأه بلغته الأصلية، ولكن أسرار النطق الإنجليزي كانت تحيره وتربكه، حتى أن أصدقاءه الذين تعلموا الإنجليزية منذ طفولتهم كانوا إذا سمعوه يقرأ عليهم شكسبير لا يملكون أنفسهم من الإغراق في الضحك لأنه ينطق بالألفاظ الإنجليزية كأنها لاتينية!
تأثر بوشكين ببيرون ولم يقلده - فما كان مقلداً وإنما كان مستعدا على الدوام لأن يتعلم ليس غير - وظهر هذا التأثير في قصيدتيه (سجين القوقاس) و (نافورة باختشيساراي). على أن التشابه قليل والفرق واضح بين الشاعرين: فبوشكين أرق وأودع، وفكاهته النادرة أعمق، في غير إيلام، وفهمه لطبائع الشعوب وخصائص البلدان أوسع وأبعد مدى.
بيد أن تأثير بيرون زايل شاعرنا بالتدرج حتى إذا بدأ بتأليف قصته الشعرية (إفجيني أونيجن) لم يكن بقي منه شئ. وتعد هذه القصيدة أول ما ألف من القصص الروسي الجيد، وكان ترجنيفا يقول إن أربعة أبيات من مقدمتها تفضل آثاره جميعاً، وكان يجد لينين في صفحاتها مريحاً من عناء العمل، وقد سمى القيصر نقولا الثاني ابنتيه الكبريين - تاتيانا وأولغا باسمي الأختين في الرواية
ومع ذلك كان بوشكين يفضل عليها قصيدته (بوريس جودونوف) (1825). و (بولتافا) (1828)، والأخيرة قصيدة تاريخية تصور النزاع بين بطرس الكبير وتشارلس الثاني عشر ملك السويد
أما الأولى فقد نظمها في (ميخيلو فسكوى) وهي بيعة لأبيه، كان الشاعر نفي إليها بعد عودته من منفاه الأول لوقوع السلطات على رسالة له فيها ما يكرهون. وفي هذه الأعوام اشتد تركيز ذهنه وتمت له السيطرة على صناعته، وقوى فيه الشعور بقيمة اللفظ في(193/31)
الشعر، حتى كان لا ينشر القصيدة إلا بعد أن ينحى عليها بالتصحيح والتنقيح أعواما
كان بوشكين حين نظم (جودونوف) تحت تأثير شكسبير. وهو من أوائل الروس الذين عرفوا شكسبير وقدروه حق قدره. قال في رسالة إلى بعض أصدقائه: (أي رجل شكسبير هذا!! وما أصغر بيرون، كتراجيدي، بالقياس إليه. . إن بيرون لا يقدر أن يصف إلا شخصية واحدة، هي شخصيته. فهو يعطي لهذه كبرياءهُ، ولتلك بغضه، ولأخرى مزاجه السوداوي؛ وهكذا ينتزع من شخصيته القوية النشيطة شخصيات كثيرة لا قيمة لها، وليس هذا من الفن التراجيدي في شئ)
وقد خلصه النفي من الاشتراك في الثورة التي قام بها أصحابه المعروفون بال ولما أذن له القيصر نقولا الأول في العودة من المنفى سنة 1826، واستدعاه إلى موسكو، سأله (ماذا يكون موقفك في يوم 14 ديسمبر في موسكو.) فأجابه بوشكين: (كنت أشترك مع إخواني العصاة)
وكان اجتماع القيصر بالشاعر خطة مدبرة أريد بها التأثير فيه وفي جمعيته التي استثار غضبها إعدام خمسة من الثوار. ولم يكن بوشكين - على قوته العقلية العظيمة - ليختلف عن الطفل في سذاجته وسرعة تصديقه وانقياده، ولذلك لم يجد القيصر صعوبة في اختلابه واجتذابه وإقناعه بأن الهدنة قد عقدت أخيراً بينه وبين الحكومة. ولم يكتشف كيف عبث به القيصر بمساعدة رئيس البوليس - كونت بنكيندورف - إلا بعد سنين
لم يكن بوشكين يتصور وهو في منفاه مدى الشهرة التي نالها بين قومه. فلما عاد إلى الاشتراك في الحياة الاجتماعية أذهلته مقابلتهم له. فقد كتب بعض الكتاب يقول: (موسكو السعيدة تحتفل اليوم بتتويجين: تتويج القيصر وتتويج الشاعر)
وفي الثلاثين من عمره تزوج من فتاة جميلة في الثامنة عشرة تدعى (نتالي جونخاروفا) ولم يجلب عليه هذا الزواج سعادة بل ولا هدوءاً، وما كان بيت الزوجية أكثر من خان باهظ النفقات. كان الشعر آخر شئ تحفل له الزوجة الشابة، على أنها نجحت في المجتمع نجاحاً كبيراً. وفي هذه الفترة من حياة بوشكين ساءت أحواله. فقد تراكمت عليه الديون، وتغير ذوق الجمهور فلم يعد يتحمس ذلك الحماس لروائع آثاره، وتزايد حقد بعض فرق الأرستقراطية عليه، فعزم على الخروج بزوجه وأطفاله الأربعة إلى إحدى ممتلكات والده،(193/32)
حتى يتفرغ لمشاريعه الأدبية الكثيرة، ولكن القيصر عارض الفكرة. فاضطر إلى البقاء، واستمر في الكتابة فاتر الهمة مكتئب النفس: وحدث أن شاباً فرنسياً جميلا يقال له البارون دانت ' تعرف بزوجته وأخذ يتودد إليها في إلحاح شديد، فدعاه بوشكين إلى المبارزة، فبارزه وجرحه جرحاً بليغاً، أودي بحياته بعد يومين. وبموته تمت نبوءة عراف قال له سنة 1819. إنه سيصير معبود قومه، وينفى مرتين، وبأن عليه أن يحذر رجلا جميلا قد يقتله حين يبلغ السابعة والثلاثين
اعتبر الشعب موت بوشكين رزية وطنية، واشتد حزنه عليه حتى خشيت الحكومة أن يؤدى إلى قيام مظاهرات عدائية فأمرت بنقل الجثمان سرا إلى مقبرة (سفياتيجيورسكي) - القريبة من ميخيلوفسكوي - وهناك دفن
في أول ترجمة ظهرت بالإنجليزية لحياة بوشكين - وهي ترجمة رائعة نشرتها مجلة (بلاكوود مجازين) سنة 1845 - كتب صاحبها توماس أستاذ الإنجليزية في كلية (ليسيه) تسارسكوى سيلو، يقول: (يمكن أن يقال أن قصيدة (إفجيني أونجين) أصبحت جزءاً من لغة الشعب الروسي) ولا يزال هذا القول - وقد تقضت مائة عام - صحيحاً ملموساً
إن أسم (بوشكين) يرن في أسماع الروس رنين الأغاني والأغاريد. وقد تأصلت شخصيته في أعماق العقلية الروسية؛ وإن الروسي ليعجز، إن سألته، عن تفسير حبه لبوشكين، عجزه هن تفسير حبه للبحر أو لنور الشمس وقد يكون جوابه ابتسامة سعيدة يشرق بها وجهه
(بغداد)
عبد الكريم الناصري(193/33)
جولات في الأدب الفرنسي الحديث
تطور الحركة الأدبية
في فرنسا الحديثة
العلم في القصة - القصة التحليلية العلمية
بول بورجيه 1852 - 1935
التحليل العلمي عند بورجيه، التحليل الحي، المثالية الرواية
التقليدية أو آثار بورجيه الأخيرة
تختلف بيئات الأشخاص - عند بول بورجيه - عن بيئات المدرسة الواقعية، فأرواح أشخاص تكاد تحيا منعزلة عن أجسادها، وهي ليست مختارة من الأشخاص المرضى أو المنحطين. وبالإجمال لا يحيا أشخاصه في بيئة تلك المدرسة. وليس أشخاصه من سواد الناس ولا بموسرين سئموا الحياة، وان منهم النساء الكبيرات والعاطلين، مفكرين أو فنانين. وقد عد أرباب المدرسة الواقعية رواياته من نوع (السنوبينم) لأنها في أجزائها الأولى قد تجسدت من ذلك الأيمان بالعلم الذي كان مذهب زولا
وقد علم بورجيه أن أبرز صفة للشباب الحديث هي صفة (القلق العلمي). وهذا القلق هو الذي كان يهيمن عليه يوم كتب رواياته، وكان معلموه منهم (ستندال) الذي قرن فعل الخيال إلى الدراسة النفسية، و (تين) الذي ابتكر علم النفس، والذي بين أن في النفوس بعض أسباب وعلل تجر بالضرورة إلى بعض أفعال، وهذا علم النفس هو الذي وضع لرجال التشريح النفسي مبادئ وقوانين خارقة، وهكذا لم تعد القصة وضعاً ولا تحليلا وإنما أصبحت إيضاحاً
إن الدرس العلمي في إمكانه أن يولد تحليلا جذابا وجدلا عميقا يجعل من صاحبنا مؤلف (تجاريب نفسية حديثة) نقاداً واجتماعيا أكثر مما يجعل منه قصصيا، لان القصة ما هي إلا التعبير عن الحياة، والحياة لا تكون حياة إلا إذا ظلت محافظة على ظواهرها في حريتها واختيارها، أما التحليل العلمي فقد لا يكون إلا ضربا من التشريح، وكما يعلم بورجيه (أن(193/34)
كل ما يشرح هالك) على أن من حسنات عبقريته أنه وجد في (ستندال) وفي (تين) وفي عبقريته الشخصية شيئا لم يقف عند التنقيب عن الأسباب والأعمال فانه تعلم - من وراء ذلك - حال تركيب العلل والاسباب، وهو القائل (إن العقل المدرسي الذي يجدي في المخاصمة الخطابية يجدب حين يريد أن يخضع لقوانين قوة النمو - المخنوقة والمتبدلة - في الحياة، والدرس العلمي ينبغي له ألا يقنع بتوضيح هذه القوات المشوشة، وإنما ينبغي له أن يعمل على إظهار التبدل فيها، والدوافع والحياة، ومن هذه الناحية وحدها تصبح آثار بورجيه روايات - لا مناقشات - كل شخص فيها عالم مستقل بذاته - عالم لا قانون - هذه خلاصة قصته (قلب امرأة) - وهي خير ما سطره يراعه، لا تقف رواياته على التحليل المنطقي فحسب، وإنما هي توليد وإحضار وبعث للنفوس.
أما المثالية العلمية عند بورجيه فقد اختلفت جد اختلاف عن مثالية (تين) فهو لا يجحد المذاهب العلمية، حتى إذا حاول أن يذود مثلا عن مذاهب سياسية تراه يجرب أن يجعلها قواعد تجريبية ترتكز على أعمال في المجتمع وأعمال في التاريخ ولكنه - في عالم الإيمان - نراه اخذ يتحرى عن شجرة غير شجرة العلم، وعنه يقول النقادة (جول ليمتر): إن رجل اليوم هو عقلية مزيجة من العقل العلمي، والشعور الرقيق الكئيب، والقلق الخلقي، والرقة العطف، والتصوف. الروح العلمية - عنده - لم تنجح إلى عمارة الدين والأخلاق ولكنها تركتهما قليلا قليلا يعملان على فرض قواعد الحياة، وقبل أن يغدوا بورجيه رسول دين وسياسة تحول عن حلقة العلم الضيقة.
وهو القائل: إن إنسان الرغبة والأنانية، الذي لا يحيا إلا ليحلل نفسه، ولو كان من جزاء ذلك تعاسة الآخرين، هذا الإنسان قد مات بنفسه) وهو القائل: (بألا حياة حقيقية إلا في مثل أعلى للإخلاص والتزهد، مثل أعلى في الدين، إذ لا تمكن الحياة مطلقة تحت رحمة الأهواء وتقلباتها المستمرة.
هنالك فئة من الأدباء حاربت أدب الديمقراطية والاشتراكية حربا عنيفة. ولقد عالج بورجيه في روايته (التلميذ) المذهب المادي، وتطرق إلى قواعد تين وبرتلووريبو. والقصة ترى أن المذهب المادي خطأ، ولا يمكن في كل الأطوار البرهنة على أنه مذهب حق. على أنه إذا كان حقا فلا يمكن نشر ذلك والجهر به، إذ أن هذا التعليم يمكن أن يخلق تلاميذ كهذا(193/35)
(التلميذ) يرتكب جرائم خلقية ثابتة، يكون المعلم فيها هو الضامن الكفيل. فرجل الآداب والمفكر لا يحق لهما أن يكتبا كل شيء، ولكن واجبهما أن يكونا نافعين. وهكذا تعلم قصص بورجيه أن الفرد ورضا الفرد وإرجاع العدل إلى الفرد كلمات فارغة. إذ يرى أن المجتمعات هي أعضاء منظمة مرتبة، ملاجئها الحية هي الأسرة، فكل ما يضر ببقاء الأسرة وخصبها وتنظيمها يفنيها كما هو الحال في الجرائم التي تودي بالكائن الحي. ومنها الطلاق والانهماك في الفسق والزنى، وهجر الأولاد قبل البلوغ. والمجتمعات حالها كحال الأعضاء في استطاعتها أن تتحرك ولكنها لا تستطيع ذلك إلا ببطء. وكل تبديل فجائي يجر معه المرض والموت. وهذه الأخيلة الباطلة التي تبشر بها المساواة والديمقراطية تؤول إلى هذه التغيرات والفساد، فان الطبقات الاجتماعية لا تجوز (مرحلتها) إلا على مهل، خارجة من الحياة العالمة إلى اكتساب الثقافة العقلية وحسن استعمال الثروة ومعنى السلطة. ومن اجل هذا ينبغي إجلال (سياسة محافظة أرستقراطية) وديانة توحي إلى الإنسان احترام الأسرة واحترام نظامها. وهكذا تبدل بورجيه في نهاية ايامه، واصبح رجل وغظ في السياسة والدين.
فشل العلم
نقد الفلاسفة
كان لبورجيه كما كان لبرتلوتين وغيرهما، إيمان لا يتزعزع بالعلم. . . والعلم وحدة لا يكذب أصحابه، وهو ينطوي على اسمي الآمال، ولكن بورجيه لم يكن وحده حين هجر نبوءته، وهجر الآمال الخادعة التي يذيعها فإن الفلاسفة قبله قالوا: ليس للعلم مستقبل فيما وراء الطبيعة، إذ انه لا يقدر أن يعطي إلا يقيناً علمياً عملياً اصطلاحياً، ولا يقدر أن يعطي اليقين ذاته. وقد قال: (اميل بوتروس) في إحدى مقالاته المنطقية: (إن المذاهب العلمية لا تأتينا واضحة إلا لأن مقاييسنا غير واضحة. ولا توضح الحوادث إلا بحوادث اصطلاحية قد لا تكون صميم الأشياء ولكنها - صك تحكيم - بين العقل والأشياء) على أن هنالك عدداً من الفلاسفة الذين درسوا العلم وقالوا بأنه لا يعطي الحقيقة المطلقة. وهذا (هاملان) دون أن يجحد تأثير العقل قال: بأنه لا يستطيع أن يفهم الحقيقة العميقة إلا إذا أولها وفسرها،(193/36)
وأخيرا جاءت فلسفة هنري برجسون جاحدة بالفلاسفة والعلم الذي آمن به (تين وبرتلو) من قبل
هنري برجسون
نقد العقل
ولد سنة 1859 واشهر تصانيفه (معلومات الشعور المباشرة، مادة وذاكرة، والقوة المبدعة) ويذهب برجسون في (كتابه الأول إلى القول بأن الشعور المنطلق عن العقل، الشعور الفطري فيه لا يتلاءم أبداً مع ما استخرجه العلماء من العقل المتحول المتبدل - كما أراده وسهلوه -. فالعلماء هم في حاجة إلى قياس الفضاء وهو سهل عندهم، وإلى قياس الزمان وهذا أقل سهولة. لأن قياس الزمان معناه الافتراض بأن الزمان تتألف أجزائه من طبيعة واحدة وأن اللحظات المتتالية على حادث قد تكون من بعض وجوه متشابهة متطابقة، تطابق طول متر مع طول متر آخر. ولكن هذا ما هو إلا افتراض، إذ حين نتأمل نرى أن زمان هؤلاء العلماء هو زمان مجرد أو هو التجريد. أما الذي يوجد فهو الدوام، والشيء الذي يدوم يختلف - في لحظة ملحوظة - عما كان عليه قبل اللحظة السابقة، ولهذا ينطوي هذا الشيء على شئ هو (دوامه). فالدوام هو متألف من أجزاء مختلفة طبيعتها. تختلف عن ذاتها بدون نهاية ولكي ننكر صفة (الدوام) التي قال بها زينون ولم ينكرها عليه أحد، نرى أن الشيء يمكن أن يكون ساكناً ومتحركا في وقت واحد، وأن (أشيل) العادي وراء سلحفاة لا يستطيع - عقلياً - إدراكها. وهكذا نرى العلم المبني على الاصطلاح لا يمكن أن يكون إلا اصطلاحياً
وقد أتم برجسون في كتابه (مادة وذاكرة) برهانه هذا، فالإنسان - بوهم عميق الجذور فيه - آمن بأن عقله يبسط له الحقيقة، إن عين الحيوانات ليست موضوعة لتعرف أصحابها بحقائق الأشياء، وإنما وظيفتها وظيفة عملية تهدي أصحابها إلى الانتظام بين الأشياء. فلو عاشت هذه الحيوانات على غير الأرض لاختفت لأنها تصبح عديمة النفع. وكذلك لكي نستطيع أن نحيا بين الحوادث، قادرين على استخدامها على وجهها الأحسن المستطاع، نجد هذا لا يطلب إلينا أن نعرفها بحقيقتها كما هي. وإنما يطلب إلينا أن نختار - بصورة عملية(193/37)
- الوجه الأحسن استعمالا وفائدة لنا، لأن عقلنا لا يلمح إلا هذه الناحية العملية. إذ ليس هنالك عقل أو عقل شاعر إلا حيث يمكننا أن نمسك جزءاً من الشيء الذي نفكر فيه. والعقل والفكر الشاعر ليسا بوسيلتين للمعرفة وإنما هما وسيلتنا للعمل. والعلم الذي أوجداه وشيدا أركانه ما هو إلا نظام جديد لوسائل العمل. وفن مستقيم لاستخدام الحقيقة في سبيل حاجاتنا. فهو لا يعلمنا الحقيقة ولا يكشف لنا أسرار الوجود كما هو الحال في أن الأرنب لا يكشف لنا طبيعة السرعة والخفة.
نقد العلماء
وأما العلماء أنفسهم فقد قلبوا وجوه العلم ودققوا مسائله. فانتهوا إلى القول بان العلم إنما هو مذهب ووسيلة إلى استخدام الاشياء، والعلم لن يصل أبداً إلى (المطلق) وقد عملت بعض مدارس الطبيعيين على رد علوم الطبيعة إلى مذهب رياضي صرف غايته الأرقام التي تأتي نتائجها صحيحة. وخلاصة هذا النقد توجز في أبحاث الرياضي الكبير (هنري بوانكاريه) فهو في كل ما كتبه أعطى الأدلة القاطعة على بيان فضل العلم. ودافع عن نفسه بأنه رجل شاك. وهو يرى أن التمحيص العلمي ليس عملا عبثاً. بل إنه عمل اقل عبثاً من غيره من أعمال الإنسان. وهو في الغالب يكون مذهباً مطلقاً. وكل العلوم - مثلا - هي علوم الحركة، على أن من المحال أن نثبت حركة مطلقة، وأن نبرهن - بقياس منطقي - على حركة الأرض
وهكذا نجد الفلاسفة والعلماء ينضم بعضهم إلى بعض للاتفاق على هذه الخلاصة، وهي أن هنالك حقيقة مركبة متحركة بدون انتهاء، وعقلا وعملا - من اجل إدراكها واستخدامها - على فرض بساطتها واتحاد فكرتها وقوانينها ولكنه بعمله هذا غير الثوب وأفسد الحقيقة.
الفلسفة الشاكة والنقد الشاك!
رينان في عهده الأخير
جمع رينان عام 1890 كتابه (مستقبل العلم) وأنجز تاريخه في أصل المسيحية. وقد كان ذلك المعلم الذي يعلم (بألا تقبل الحقيقة في التاريخ الإنساني والعلوم أيضا إلا ما شهد العقل عليه مرفوقا بالأعمال على انه حقيقة) أما آثاره الأخيرة فقد جاءت تعلمه بان ليس في(193/38)
القدرة التثبت من أية حقيقة. وان هذا العجز قد يكون ضروريا في بعض الأحيان. إن محاوراته الفلسفية تعلمنا أن الحقائق المطلقة، الحقائق الفلسفية، لا يمكنها أن تكون هدف البراهين! وقد يكون هذا خيراً. إذ من يعلم أن الحقيقة ليست بدافعة إلى الحزن؟ من يعلم أن الأخطاء والأوهام ليست بنافعة أو ضرورية؟ لقد كان الشعب حيوانا ضارياً مولعا بالاعتقادات الباطلة. فذللت صرامته ومشادته باعتقادات باطلة مثلها. ما عسى يغدو الإنسان إذا أصبح واقعيا؟ إنه يصبح سيداً صارما أحمق! من يعلم بأن حكمة سليمان لم تكن على حق، تلك الحكمة القائلة: (كل شئ باطل، باطل الأباطيل، وكل شئ باطل تحت الشمس) وإذا لم يكن كل شئ باطلا فان الفلسفة الحقيقية قد تكون فلسفة الصراصير والقبرات التي لم تشك أبدأ في أن نور الشمس ليس جميلا، وأن الحياة ليست هبة سنية، والأرض ليست معقلا حسناً للأحياء. إن خير ما نصنعه على هذه الأرض هو إلا نستغرق في تعليل الأشياء والتحقيق فيها. وإنما نعمل على محبتها. فان سر الحياة لا يقف على العلم ولكن على الحب، وبهذا عمل رينان على تهذيب شكه وتشذيبه، وشهد على أن اكثر الأشياء ضمانا وجداً، مهما ذهب الظن، هو العلم، وهنالك فئة كبيرة ذهلت من شك رينان الذي غمرها، وكان ذلك لعمر قصير، ولكن عادت هذه الفئة إلى التأثر بمؤثرات جديدة أخرى
النقد المنفعل
(جول ليمتر) 1853 - 1914
إن رينان قد أكمل دورة العلم قبل أن يناقشه ويحاكمه. وجول ليمتر لم يذهب إلى أبعد من ذلك. إنه أكمل دورة النقد وحده. وقد لقي في المنابر والنوادي والصحف الكبيرة نقداً له فذهب من مزاعمه انه يهذب الرأي باسم الذوق السليم والعقل. فسانت بوف - برغم عبقريته - لم يترك في النقد مدرسته، وتين لم يأخذ عنه النقد إلا دساتيره، وقد ألفى جول ليمتر أن هذا النقد عمله أن يحكم على بولدير وفلوبير وفرلين وهنري بيك وسواهم. ووجد فيه ما يبعث على السأم فشهد على أنه نقد فيه غش ومداهنة لأنه مبني على أصول ومذاهب، ولكي يتم اليقين بهذه المذاهب ينبغي أن تبدل بمذاهب غيرها. وغيرها أيضا إلى ما لا انتهاء. لأن هذه المذاهب ما بين جيل وجيل إما أن ينقض بعضها بعضا، وإما أن(193/39)
تتلاشى، إذ ليس هنالك في الحقيقة إلا ارتياح أو ضجر، إلا انفعالات وتأثير. وقال أناطول فرانس في كتابه (الحياة الأدبية): الحقيقة هي ما لا تخرج عن نفسها أبدا وفي هذا أكبر بلائنا. فلنتحمل إذن بخلوص نية هذا البلاء، ولا نصدر أحكامنا على الآثار، ولنصدر انفعالاتنا!
لقد كان جول ليمتر صادقا ولكنه كان اقل اهتداء مما راح يزعم، فلقد انتمى في أواخر أيامه إلى مذاهب سياسية، وكان زعيم الحزب الوطني، وهو - في فترات راحته - لا تشعر منه بذلك الرجل الذي يتحدث للتحدث وحده، ولكن تحس ذلك القاضي الذي يحكم ويدين، على انه يبقى رجلا عالمياً ببعض آثاره العالية، ومذهبه الانفعالي قد ترك له مجال الخوض واسعاً. فهو يستطيع أن يخوض حقولا مختلفة في الأدب والفن لا يصرفه عن ذلك شيء، وقد عمل على تجديد الأدب القديم وكانت له فيه محاولات لاستنقاذه من قيود الفصاحة التقليدية المدرسية لكي يندمج مع الحياة الراهنة. وإذا كان النقد الانفعالي لم يجعل همه التحقيق والإقناع فهمه إذن أن يسر، وهكذا أراد جول ليمتر أن يسر! ولقد كان هذا الناقد ممن أوتي روحاً وخفة وفناً ومتزناً مستقيما، فكان تأثيره عظيما وأعظم آثاره (المعاصرون)
ريمي دي كورمون 1858 - 1915
لا يمكن الخوض كثيراً في الحديث عن (ريمي دي كورمون) فلقد كان له قراء أمناء، لكن عددهم قليل. إذ كان يمقت الفوز والجماعات والمجد المدرسي، على أنه كان معلماً، معلم صفوة مختارة من القراء، اتبعت تعاليمه ومذاهبه. وكانت تجد فيها فكرة رائعة متنوعة، لا تقف على الأدب وحده، لقد كان يفتش في الآداب خاصة عن ترجمة صادقة للحياة، وكان يرى أن ليس في الإمكان تفهم الحياة بغير العلماء والفلاسفة، ولذا تناول في بحوثه شخصيات مختلفة، أرباب علم وأدب وطبيعة وطب وأرض واجتماع، وتحدث عنها كما يتحدث عن شعراء وروائيين، ولكنه لم يحمل في كل هذا علم اليقين. إذ لا يقين - عنده - في العقل الذي لم يبلغ إلا ذرة من الحقائق الظاهرة! إلا ذرة واحدة! ولا في القلب الذي لا يمثل لنا إلا فصولا مختلفة، لا هم له منها إلا إلقاء السدول على العقل، ولا في نظريات (ما وراء الطبيعة) ولا في الأديان التي تطفح بعوامل التعصب.! نراه يجنح إلى الشك. لاشك التشاؤم: هنالك فلسفة السعادة. . . ينبغي أن تحيا سعيداً! وأن تكون فوق كل شئ وأن(193/40)
تحتقر كل شئ وأن تحب كل شئ. وأن تدرك بأنه لا يوجد شئ، وإن هذا اللاشيء في الإمكان أن يكون كل شئ، والحياة بعد هذا كله - مشهد، يكفر ما فيها من اللذة عما فيها من عناء وشقاء، وأن في الجهود المصروفة إلى تعرفها وتفهمها معنى قد يرفع العقل إلى ما فوق حدود الفناء.
وقد وضع في حياته الأدبية سلسلة أفكار قيمة، وقد ظل يؤمن بأن هنالك كتابا صعاليك وهم من يدعون (بالمدرسين)، وكتابا لبقين دأبهم أن يتحروا عن الأساليب الجديدة والتعابير الحية في الفن، وقد حارب بشدة في سبيل المدرسة الرمزية وناوأ خصومها أشد مناوأة.
خليل هنداوي(193/41)
شخصية الزهاوي
بمناسبة مرور عام على وفاته
بقلم السيد أحمد المغربي
بقية ما نشر في العدد الماضي
الزهاوي والمرأة
الحديث عن المرأة، مهما اختلفت نواحيه وتباينت مناحيه حديث لذيذ يسترعي الأسماع، ويستلفت الأنظار، ويستهوي الأفئدة، وهو حديث، لا نكون بعيدين عن الصواب إذا ما قررنا بأنه يلذ للمرأة اكثر مما يلذ للرجل، ولاسيما إذا كان صادراً عن الرجل نفسه، فهي تتلهف شوقاً إلى الاطلاع على ما يضمره فؤاده وما يكنه ضميره، وهي تبذل ما ملكت يمينها وما لا تملكه يمينها لاستماع حديثه عنها، سواء أكان هذا الحديث مدحاً أم قدحاً، ثناء أم ذماً؛ بل ربما كانت إلى استماع حديث الذم والقدح اشد شوقاً وأقوى رغبة منها إلى حديث الثناء والمدح!
ذلك لأن المرأة كانت ولا تزال، وستبقى ما بقيت المرأة، سراً غامضاً كلما خيل للرجل أنه توصل إلى سبر غوره، واجتلاء حقيقته، أسلمه هذا السر إلى سر آخر، وهكذا حتى يقف مكتوف اليدين، مطأطئ الرأس معترفاً بعجزه مقراً بضعفه.
ومن اجل هذا كان التضارب بين آراء الفلاسفة، والأدباء والشعراء، كل يصفها كما عرفها بنفسه؛ ففريق يقول بأنها ملاك تذيع السلام وتنشر الوئام، وفريق آخر يقول بأنها شيطان تسبب الأحزان والأسقام، وتثير الأضغان والخصام، فينهض الفريق الثالث، فيعارض الاثنين بقوله، إنها بين بين!.
ولقد كان فقيدنا الكبير يعتقد بسمو منزلة المرأة ويؤمن بإخلاصها إخلاصا تاماً يحملك على الإيمان بالسعادة الزوجية التي كانت تهيمن في جو بيته، حتى انه ليؤثر أن يبقى بدون ذرية على أن يجرح عاطفة زوجه بالبناء على غيرها.
والمرأة في اعتقاده، لا تقل عن الرجل ذكاء وفهماً وإدراكا، فهي أهل للحفاوة والتكريم، جديرة بالاحترام والتعظيم.(193/42)
وهي تجلو بابتسامها الحلو وحديثها العذب، الكآبة والملل عن نفس الرجل، وتخفف عنه آلام الحياة ومتاعبها، وتبث فيه روح الجرأة والإقدام، فيقتحم في سبيلها الاهوال، ويستقبل الأرزاء بوجه باسم ونفس مطمئنة.
ويمثل لك الزهاوي مدى وفاء المرأة في فتاة شاهدها بين أهل الجحيم قد اخضلت عيناها من شدة الأسى ولوعة الجفاء ومرارة النوى، بشعر هو السحر الحلال: -
قلت ماذا يبكي الجميلة قالت ... أنا لا يبكيني اللظى والسعير
إنما يبكيني فراق حبيبي ... وفراق الحبيب خطب كبير
هو عني ناء كما أنا عنه ... فكلانا عمن أحبَّ شطير
فرقوا بيننا فما أن أرى اليو ... م سميراً ولا يراني سمير
ولو أنا كنا جميعاً لخف الخط ... ب في قربه وهان العسير
لا أبالي ناراً وعندي حبيبي ... كل خطب دون الفراق يسير
ولقد وقف الزهاوي حياته على الدفاع عن حقوق المرأة المشروعة والذود عن كرامتها الضائعة، وكان يقصد من مناصرته المرأة، المرأة المسلمة، فصور لنا ما تلاقيه من ضروب الذل والهوان، في بيت أهلها الذي وصفه بالسجن والقبر محرومة من رؤية النور، وبين لنا ما للحجاب من مساوئ فادحة وأضرار بالغة حالت دون تقدم الشرق العربي ودعا إلى السفور حتى يتاح للمرأة أن تعاضد الرجل في تحقيق الأماني والآمال التي تختلج في نفسه.
قال هل في السفور نفع يُرَجَّى ... قلتُ خير من الحجاب السفورُ
إنما في الحجاب شلُّ لشعب ... وخفاء وفي السفور ظهور
كيف يسمو إلى الحضارة شعب ... منه نِصفٌ عن نصفهِ مستور
ليس يأتي شعب جلائل ما لم ... تتقدم إناثه والذكور
قد عزوْتم إلى السفور غروراً ... طائشاً قد يفضي إلى الهفوات
هل يحول الحجاب بين التي لم ... تتثقف والطيش في الرغبات
بل أرى في الحجاب تسهيل ما تخ ... شونه من نُكْرٍ على الفتيات
وقد تحمل الزهاوي، في سبيل المرأة الأذى والهوان، وعرض حياته لخطر الاغتيال، وذلك(193/43)
أن قصائده أثارت عاصفة من الاستياء الشديد في العالم الإسلامي، فهاج الناس لها في بغداد واتهموه بتحامله على الشريعة الإسلامية الغراء وطلبوا من وإلى بغداد، ناظم باشا في عام 1326هـ أن يقيله من منصبه، وازدادت نقمة الناس عليه حتى اضطر إلى ملازمة داره. . .
الزهاوي الوطني
لئن عُدَّ احمد شوقي شاعر الإسلام فإن الزهاوي كان، بلا جدال، شاعر العرب. فهو ينزع في شعره نزعة عربية، فيفتخر ببني قومه العرب ويتغنى بذكرهم، ويشيد بمحاسنهم
وهو يدعو إلى نبذ التعصب الديني فهو مدعاة إلى التفرقة، والتفرقة تستتبع الضعف، وهذا العصرُ هو عصرُ القوة، هو عصرُ التنازع على البقاء؛ الضعيفُ فيه مقضيٌّ عليه بالموت
أصلُ العروبةِ قد رسا ... كالطودِ في البلد الحرام
والفرعُ منها في العرا ... قِ ومصرَ يسمو والشآم
بغدادُ منذ تأسستْ ... عُرِفَتْ بعاصمة السلام
عاش النصارى واليهو ... دُ ومسلموها في وئام
في وَحْدَةٍ عربيةٍ ... ليست تُهَدّدُ بانفصام
تبني سعادتها الشعو ... بُ على اتحاد وانضمام
لا خير في شعب يعي ... شُ من التعاسةِ في انقسام
كونوا جميعاً سادةً لنفوسكم ... فالعصرُ هذا سيدُ الأعصارِ
أما تهاونكم فيجرح أمرهُ ... في القبرِ عِزةَ يعرُبٍ ونزارِ
ليس الحياةُ سوى نزاعٍ دائمٍ ... يا للضعيفِ به من الجبار
الفوزُ للجَلَدِ الجريء فؤادُه ... والويلُ كلُ الويلِ للخوَّار
ولقد رافق الزهاوي سير القضية العربية في جميع أدوارها وجاهد في سبيلها جهاد الأبطال البواسل، وكان هذا الجهاد يحذُر العرب من عاقبةِ التهاون والتكاسل، ويبث في نفوسهم روح الجرأةِ والإقدام، ليعيدوا مجد أجدادهم شم الأنوف، أباةِ الضيم: -
والدهر للرجل القوى ... على صلابته ظهيرُ
والدهر يخذل من يني ... والدهر يصفع من يخورُ(193/44)
إن هدَّمَ العربي حوضَ حدوده ... سخطت عليه يعربُ ونزارُ
لا يرفع الوْطنَ العزيز سوى امرئ ... حرٍ على الوطن العزيز يغارُ
لقد صح أن الضعف ذل لأهله ... وأن على الأرض القوىَّ المسيطرُ
وأن اقتحامَ الهولِ أقصر مسلكٍ ... إلى المجدِ إلا أنه متوعرُ
يا قوم إن أذعنتم ... للذل أغضبتم نزارا
أنتم أحق الناس إن ... ترعوا لأنفسكم ذمارا
هل تقبلون لنفسكم ... عاراً وللأعقاب عارا
والاستقلال، في نظر الزهاوي، يؤخذ بالقوة، ولا يعطى. . فعلى العرب، إذن، أن يريقوا دماءهم الزكية ويتقدموا للموت بقلوب لا تهاب الموت، أما اعتمادهم على الوعود والعهود فلن يحقق لهم استقلالهم المنشود!
ذكت دماء لأجل الحق سائبة ... فإنها وحدها للمجد أثمان
وكل شعب على الأوعاد معتمد ... فحظه في عراك الدهرِ خذلان
إن لم تكن قوة للمرء بالغة ... فكل حق به قد لاذَ بُطْلانُ
وهو يدعو الأمة العربي إلى خدمة العلم، إلى رمز الحرية والاستقلال، فهو السياج الوحيد الذي يدرأ عنها الأخطار
وعلى الجند إنه ... كسياج يقي الحرم
وبه يُستقلُ بالرغ ... م من عصبة الأمم
لا يجوسُ العدوُ مم ... لكةً جيشها انتظم
نم قرير العين، يا جميل، فإن في بلادك نفوساً أبية، وأنوفاً شماء، تكره الذل وتأبى الاضطهاد!.
نم هادئ البال، يا جميل، فإن الشباب، يتقد حماساً، وإنه في حماسه ليغلى، ليثور ثورة البراكين. . . أنظره. . . ها هو ذا قد أجاب داعي الوطن، اسمعه. ها هو ذا قد أصاخ لصوت الله. إن المدرسة ومتاعب المدرسة لم تثنه عن خدمة علمه المفدى. أتعلم أين هم الآن. إنهم يتدربون. إنهم يحملون البنادق.
نم قرير العين، يا جميل، فأن في البلاد مليكا، هو رمز الشباب وأمل الشباب، إنه غازي،(193/45)
غازي القلوب، ابن فيصل، ابن الحسين!.
أحمد المغربي(193/46)
الزهاوي
للأستاذ أكرم زعيتر
كنت في عداد اللذين احتشدوا لتأبين الكاظمي الشاعر في بغداد وأرهفوا آذانهم يستمعون إلى الزهاوي الشاعر المتفجع المتوجع.
جاء الزهاوي يومئذ يتوكأ على عصاه في جسم متهدم يصارع العلل ويناجز الأدواء وصعد إلى مرزح الخطابة وجلس على كرسي ووقف خلفه شابان حرصا حين شرع يلقي قصيدته على أن يمسكا بذراعيه إمساك الشفيق الذي يحذر أن تجمح العاطفة بالشاعر فيثور وينهض من مقعده وهو لا يقوى على الوقوف فيصيب الجسم الذي يحذر أن تجمح العاطفة بالشاعر فيثور وينهض من مقعده وهو لا يقوى على الوقوف فيصيب الجسم الذي ترادفت عليه الأسقام أذى شديد
راح الزهاوى يلقي قصيدته بصوته المتهدج، ونغمته التي انفرد بها، واضطرابه الجسماني حتى وصل إلى قوله:
الكاظمي قد اعتني ببلاده ... وبلاده بحياته لم تعتن
فنهض، وهاج، وتلظى قلبه الفتي يوشك أن يودي بجسمه المتهدم لولا حذر الشابين. ثم أنهى الزهاوي نشيده:
يا بلبل الشعراء مالك صامتا ... من بعد تغريد بشعرك مشجن
قد سرت قبلي للردى متعجلا ... ولعلني بك لاحق ولعلني!
وردد الشطر الأخير نشيجاً مؤثراً: ولعلني بك لاحق ولعلني! التفت إلى صديق يجلس بجانبي فإذا بدمعه يترقرق وقلت: أرأيت يا صديقي؟ إن الزهاوي يرثي نفسه في قصيدته، إن هواجسه تنم عن دنو أجله!! قال: صدقت ولكن شعره اليوم فيه فتوة وفيه حياة! قلت: إنها خفقة الذبالة الأخيرة كمنذر بانطفاء السراج؛ أنني مزمع على مغادرة بغداد قريبا وأحس برغبة ملحة تهيب بي إلى زيارته غداً زيرة الوداع الذي لا لقاء بعده. فماذا تقول؟ قال: ذلك ما أبغي
وانطلقنا في اليوم التالي إلى بيت الشاعر، ودخلنا عليه فإذا به جالس على فراش يتكئ على وسادتين، فرحب بنا وسر بزيارتنا؛ وكان أول ما حادثنا سألنا عن وقع قصيدته في(193/47)
رثاء الكاظمي، فاعربت له عن أثرها فينا وقلت: إنني عائد إلى فلسطين وأود أن أدون في مفكرتي ما يدور في هذه الزيارة من حديث! قال الزهاوي: حسن وهل اطلعت على (الأوشال)؟ كنت أظن أن عظمي رق وان زمني لن يمتد بي كثيراً فسميت مجموعة قصائدي (الأوشال) ولكنني نظمت بعدئذ بعض القصائد وهي آخر ما أنظم، وجمعتها في ديوان صغير سميته (الثمالة)، والثمالة آخر ما أنضم في هذه الدنيا التي أراني تاركها قريبا. قلت: وهل غير الثمالة للأستاذ شعر لم يطبع؟ قال: أجل إنه ديوان في. . . وأحسب أنه لن ينشر في القرن العشرين؟ قلت وما عمر الأستاذ؟ قال: أنا في السنة الثانية والسبعين بالحساب الشمسي وفوق الأربعة والسبعين بالحساب القمري!
وهنا أحس الشعر بالألم وأخذ يئن، فوجمنا، ولكنه قطع وجومنا بقوله: لكل جريح أنة، وصمت قليلا ثم قال: نظمت قصيدة لتتلى في تكريم الدكتور حسين هيكل لمناسبة تأليفه (حياة محمد)، ونادى خادمه فناوله كيساً انتزع منه القصيدة وتلاها علينا ثم أستأنف الحديث: وطالما كنت أنشر قصائدي في السياسة الأسبوعية وحدثني طالب أن مئات النسخ من السياسة كانت تباع في دار العلوم بمصر حين تنشر لي فيها قصيدة؛ وطالما احتدم الجدل وتعارك الطلاب (وتباسطوا) بسبب انقسامهم إلى فئتين: واحدة تؤثر شوقي عليّ، والأخرى تؤثرني على شوقي! قلت:
وتطرق الزهاوي في حديثه إلى بعض أدباء بغداد الذين يحاولون انتقاصه فندد بهم وحمل عليهم حملة شعواء، ثم تحدث عن صفات الشاعر التي هي في نظره استعداد ذاتي ومادة تتألف من ثقافة ولغة ثم طول ممارسة. وسألته عن خير قصائده فقال: أكو (يوجد) أكثر من أربعين قصيدة كلها (زينات)؛ خذ مثلا قصيدتي (هواي) ومطلعها: أذكرى إذ كنا صغيرين نلعب! وخذ قصيدتي في الغروب وقصيدتي في الطلوع إنهما عصريتان جديدتان، أما التصوير المؤثر الجميل ففي قصيدتي:
ومتى تخر أم لا؟ ومطلعها:
يا ابنة الهم إن عرفتك القل ... ب فلا تخرجي إلى الأبواب
إن هذه القصيدة بديعة، بديعة!
وحدثنا عن رأيه في بعض الشعراء، فإيليا أبو ماضي يحلق أحياناً في السماء عالياً ويهبط(193/48)
اخرى، أما أحمد محرم فيمتاز شعره بجزالته ولكنه مشوب بالتقاليد، وأما الصافي فحبذا لو أتسع اطلاعه اللغوي وارتقت ثقافته. قلت له: وفي العراق؟ قال: الرصافي ماضيه خير من حاضره بكثير، بكثير؛ والشيخ رضا الشبيبي قل أن يحلق، والجواهري عربيته ضعيفة، ولقد لازمني سنتين أو ثلاثا وكان في أثناءها. . . سامحه الله! ولكن أملا قد يعقد على حسين الظريفي وابن أخي إبراهيم الزهاوي
وسألته عن قصيدته في رثاء الكاظمي فقال: تقرؤها في (الرسالة) ثم تحدث عن صاحبها وقال: والزيات هو الكاتب الذي تقرأ أخلاقه فيما يكتب
ودار الحديث حول المجمع الملكي اللغوي الذي تأسس في مصر فأبدى تشاؤمه منه: وقال إنه لن يدوم اكثر من سنوات لجموده!
وحدثنا عن المرحوم الملك فيصل وإعجابه بشعر الزهاوي ومما قال: ورأى فيصل رسمي وأنا نائم فاعجب به وأمر بتكبيره، فنظمت بيتين كتبا تحت الرسم، وانشدهما الزهاوي، واذكر أن شطرهما الأخير هو: ولكني عن مدحك لا أنام، وودعت الزهاوي وأنا موقن انه الوداع الأخير
(نابلس)
أكرم زعيتر(193/49)
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي ألفونسو كار
- 4 -
بين القهوة والشاي
خطر يوماً لزهرة البن أن تجتاز الجبال والبحار من سهول الحجاز إلى الصين لتزور أختها زهرة الشاي، فاستقبلت هذه زائرتها بكل ترحاب إلا أنها كانت مغرورة بنفسها تتكلف الود تكلفاً ككل مخلوق لا يعترف بفضل أحد
وكانت ابنة الصين تباهي بحضارة بلادها القديمة وتحسب ابنة الحجاز حديثة نعمة خرجت من قفار لا مدنية فيها ولا مجد
وما كانت ابنة العرب لتخدع بغرور صديقتها فثارت العزة العربية في نفسها فقالت لزهرة الشاي: - أراك مغترة بنفسك يا ابنة الصين وما أنا ممن يتقلد المنة من أحد. جئتك زائرة لا مستجدية فلست اعرق مني نسباً ولا ارفع حسباً
وهزت زهرة الشاي رأسها باحتقار وقالت: - إن حسبي عريق يتصل بمن أسسوا مملكة الصين منذ ستين قرناً
- وما تقصدين بهذا؟
- أقصد تذكيرك بما يجب عليك من احترامي
وكانت الزهرتان تتحدثان وهما جالستان إلى مائدة صفت عليها أواني القهوة والشاي، وكل زهرة تتناول من خلاصتها لتنبه قواها؛ فقالت زهرة البن: - أنت كريهة الطعم، ولو لم تكوني كذلك لما هجرك الصينيون لاجئين إلى الأفيون، فما أنت بالمخدر يفتح أبواب الأحلام الجميلة
فانتفضت زهرة الشاي وقالت: - لقد غزوت الشعب الذي تغلب على الصين فأنا سيدة بلاد الإنجليز
- وأنا أسود بلاد الفرنسيس
- لقد أنزلت الوحي على ولتر سكوت وبيرون(193/50)
- وأنا بعد أن ألهمت وطني أروع الأفكار ألهمت مولير وفولتير
- أنت سم بطئ قتال
- أنا دواء للهضم
وساد السكوت لحظة، فقالت زهرة الشاي: - أنك لتسمعين من غليان مائي ما يشبه حفيف أجنحة الارواح، وما ظفائر الفاتنات بأجمل من أوراقي، أنا شعر الشمال يتدفق حزناً وحناناً
فقالت زهرة البن: - لي سمرة بنات الصحراء، ولي لفتات عيونهن السوداء، فأنا اخترق الأعصاب باللهب الخفي. أنا سحر الشرق وأنا غرامه
- أنت تحرقين، أما أنا فأستنزل العزاء على قلوب الموجعين
- أنا أعطي القوة، أما أنت فتنزلين الضعف بالجسوم
فقالت زهرة الشاي: - لي القلب
فقالت زهرة البن: - أما أنا فلي الرأس
واحتدم الجدال بينهما دون أن تذعن إحداهن للأخرى، فقررت الزهرتان أخيراً أن تلجآ إلى مجلس محكمين يألفه شاربو القهوة وشاربو الشاي.
قدمت القضية لهذا المجلس ومرت الأجيال والخلاف قائم بين أعضاءه وهو لم يصدر حكمه حتى اليوم
(ف. ف)(193/51)
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
الجاهلية، شعرها، وعاداتها، ودياناتها
ترجمة حسن حبشي
ولندع هذه الناحية برهة قصيرة لنلقي نظرة عابرة نلم فيها بمكانة المرأة ونلتمس أثرها في المجتمع ليرى القارئ كيف كانوا ينظرون إليها في المجتمع الجاهلي، وذلك إنهن كن في مرتبة سامية ذوات أثر ملموس، يخترن أزواجهن بأنفسهن، ويرجعن إلى منازلهن الأولى إذا سيئتْ معاملتهن أو لم يجدن الراحة المنشودة في حياتهن الجديدة، وكن في بعض الأحيان هن اللائي يطلبن الزواج وفي أيديهن العصمة، وما كن جواري أو متاعا بل كن مساويات لأزواجهن يلهمن الشاعر القصيدة، ويثرن نخوة المحارب في القتال، ويبعثنه على الاستماتة والقوة، ولعل اصل فروسية القرون الوسطى يرجع إلى بلاد العرب الوثنية، وإن الفروسية وامتطاء متن الصافنات حبا في المخاطر وتخليص الأخيذات وإغاثة الملهوف والنساء اللواتي أحاقت بهن المصائب، كل هذه الأمور هي من الطبائع الجوهرية للعربي الصحيح؛ وان لفظ (الفروسية) ليشير إلى راكب الحصان ذو الطبع الشريف، كما أنه لا ينال لقب (فارس) إلا من كانت تجري في عروقه دماء النبل. ولكن نبل النساء لا يظهر أثره من احترام الرجال إياهن وبطولتهم من أجلهن فحسب، بل تنعكس صوره أيضاً في الأغاني والأقاصيص وفي التاريخ؛ من ذلك أن فاطمة بنت الخرشب كانت إحدى ثلاث عرفن يالمنجبات، وكان لها سبعة أبناء، ثلاثة منهن يسمون (بالكلمة) وهم ربيع وعمارة وأنس. وفي ذات يوم أغار حمل بن بدر الفزاري على بني عبس وهي القبيلة التي تنتمي إليها فاطمة، ثم أسرها، ولما أخذ بخطام البعير وابتعد بها عن الحي وأهله صاحت به: (أي رجل ظل حلمك، والله لئن أخذتني فصارت هذه الأكمة التي أمامنا بي وبك - وراءنا لا يكون بينك وبين بني زياد صلح أبداً، لأن الناس يقولون في هذه الحالة ما شاءوا. وحسبك من شر سماعه) قال: (إني أذهب بك حتى ترعي إبلي) فلما أيقنت انه ذاهب بها رمت بنفسها على رأسها من البعير، فماتت خوف أن يلحق ببنيها عار فيها. ومن بين الأسماء(193/52)
التي غدت مضرب المثل في الوفاء بين النساء فكيهة وأم جميل، أما عن فكيهة فيروى أن السليك بن السلكة أغار على بني عوار (بطن من بطون مالك) فلم يظفر منهم بفائدة، وأرادوا مساورته فقال شيخ منهم (إذا عدا لم يتعلق به شئ، فدعوه حتى يرد الماء فإذا شرب ثقل ولم يستطع العدو وظفرتم به) فأمهلوه حتى شرب ثم بادروه، فلما علم أنه مأخوذ جاملهم وقصد لأدنى بيوتهم حتى ولج على امرأة منهم وهي فكيهة فاستجار بها فمنعته وجعلته تحت درعها واخترطت السيف وقامت دونه، فكاثروها فكشفت خمارها عن شعرها وصاحت بأخواتها فجاءوا ودافعوا عنها حتى نجى من القتل ولولا ضيق المقام لكان من أمتع البحوث أن نسرد تفاصيل أوفى عن القصص التي وردت في ذكر نبيلات النساء في الجاهلية، ولقد صورت شعورهن المرهف بالشرف والوفاء، ولكن لعليّ أكون قد وفقت في اختيار أمثلة تصور الشرف العريق والذكاء الحاد والعاطفة العنيفة. وكان الكثيرات منهن ينظمن الشعر الذي ينشد في المآتم ويصغنه قلائد في رثاء موتاهن، ومن أسطع البراهين على سمو أخلاق المرأة في الجاهلية ورفعة نفسها أن ترى أم البطل وأخواته يقضين على أنفسهن بملازمة الحزن عليه والإشادة بمحامده.
أما مدح العاشق لمحبوبته فكانت له لهجة أخرى، وذلك أن القصيدة لا تدع ناحية من نواحي المحاسن الجثمانية إلا وتصفها وصفا شاملا، وقل أن نجد اهتمام أو تقديراً للجمال الخُلقي، ولا يشذ عن هذا سوى مطلع قصيدة للشنفري، أما سير شارلز ليبل الذي يهم كل مشتغل بالأدب العربي التعرف إلى رأيه لعطفه على الشعر العربي القديم ودقته في نقل صوره، فيقول عنها (إن هذه القصيدة أمتع صورة ترسم لنا الأنوثة التي خلفتها لنا الوثنية العربية، وقد رسمتها نفس اليد التي خطت اللامية المنقطعة النظير، وأدت خلالها المثل الأعلى لقوة الرجولة وصلابة البطولة)
لقد أعجَبَتني لا سَقوطاً قِناعُها ... إذا ما مشَت ولا بِذاتِ تَلَفُّتِ
تبِيتُ بُعَيدَ النومْ تهدِي غَبوقَها ... لِجارتِها إذا الهَدِيَّة قَلَّتِ
يَحُل بِمَنجَاةِ منَ اللوم بَيتُها ... إذا ما بُيُوت بالمَذمّةِ حَلَّتِ
أمَيْمَة لا يُجزى نَثاها حَليلها ... إذا ذكرَ النِّسوانْ عَفَّتْ وَجَلَّتِ
إذا هُوَ أمسى آبَ قُرَّة عَينه ... مَآبِ السَّعيد لم يَسل أينَ ظلتِ(193/53)
فدقت وِحلَّتْ واسبكرَّت وأكملتْ ... فَلَو جُن إنسَان من الحُسنِ جُنَّتِ
وإن مثل هذا الخلق لا يمكن أن ينضج إلا في جو طليق حر بعيد عن التكلف والقيود المعدوم أثرها في الصحراء. وإذا نظرنا إلى هذه الأبيات وما توحيه من المعاني تجد أنها كافية في الرد على أولئك الذين يزعمون أن الإسلام قد رفع منزلة المرأة الاجتماعية، وإن يكن من بعض الوجوه قد رفع مستواها الأدبي في الحضارة إلى حد عظيم ولكن يوجد بجانب هذا أمر آخر ذلك أنه في بلاد كهذه حيث القوة هي الحق، وحيث نرى أسلوب الحياة الأولى يحيز للأيد امتلاك ما يريد، ومن استطاع مقاومته احتفظ بنفسه، في مثل هذه البلاد كان عجيباً ألا يندثر الجنس الضعيف (النساء)
أما عادة الجاهلية في وأد البنات أحياء فترجع - كما يظهر لنا - إلى المجاعات الجمة التي كثيراً ما تمنى بها بلاد العرب نظراً لقلة سقوط الأمطار، وكذلك إلى محافظة موهومة على الشرف، وكان الآباء يظنون أن يطعموا أفواهاً ليس لها من قيمة الحياة كما كانوا يخشون أن يجلبن لهم العار إذا سُبين في حرب، ومن ثم كانوا يعدون ولادة الأنثى خطباً كما نتبين ذلك مما ورد في القرآن (ويَجعَلونَ لله البنات سُبحانهُ ولهُم ما يشتَهوُن، وإذا بُشِّرَ أحدُهُم بالأنثى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَداً وهوَ كظيم، يتَوارى منَ القومِ مِن سُوء ما بُشِّرَ بِه، أيُمسكه عَلى هُونٍ أم يَدُسهُ في التَراب، ألا ساءَ ما يَحكمون)
ويقال في أمثالهم (تقديم الحرم من النعم) وقولهم (دفن البنات من المكرمات)
(يتبع)
حسن حبشي(193/54)
ذكرى حافظ إبراهيم
للعالم الشاعر الرواية الأستاذ أحمد الزين
أفي كل حين وقفة إثر ذاهبِ ... وصوغ دم أقضي به حقَّ صاحِب
أودِّعِ صحبي واحداً بعد واحد ... فأفقد قلبي جانباً بعد جانب
تَساقط نفسي كلّ يوم فبعضُها ... بحوف الثرى والبعض رهنُ النوائب
فيادهر دع لي من فؤادي بقية ... لوصل ودود أو تذكر غائبِ
ودع لي من ماء الجفون صُبابة ... أجيب بها في البين صيحة ناعب
وهل صيغ قلبي أو ذخرتُ مدامعي ... لغير وفاء أو قضاء لواجب
فقارب أخاك الدهر والعيش مسعف ... فسوف تُرَى بالموت غير مقارب
حياة الفتى بعد الأخلاء زفرة ... تَرَدَّدُ ما بين الحشا والترائب
رعى الله فتياناً وفوا حق شاعر ... وفيٍّ على مَض الخطوب الحوازب
وفيّ لمصر لم يدنس قريضه ... بحمد خؤون أو بإطراء كاذب
وفيّ وفاء الرسل بين معاشر ... نصيب الحمى منهم وفاء الثعالب
يدورون بالأمداح يبغون مأرباً ... فياضيعة الأوطان بين المآرب
فبينا ترى حمداً ترى الذم بعده ... يريك فصول العام شِعرَ الأكاذب
فدع عنك شعر الحمد والذم إنني ... نصحت بما قد أقنعتني تجاربي
وكن أمّة لم تُعنَ إلا بأمَّة ... فنفسك لم تخلق لسخر الألاعب
متى تخلص الأقلام للنيل وحدهُ ... فمن شاعر عالي الشعور وكاتب
إذا الشعب بالنواب عز مكانُه ... فشعرك إن تنصفه أبلغ نائب
وهل نائب زكيتموه كنائب ... يزكيه صوت الله أعدل ناخب
وشتّان بين اثنين نائب أمة ... ونائب إنسانية في المصاعب
فهذا إلى وقت من الدهر ينقضي ... وذاك عن الأجيال آت وذاهب
لقد فقدت مصر بفقدان حافظ ... لسانا كوقع المرهفات القواضب
فسل عنه في الموتى (كرومر) إنه ... سقاه بكأس الشعر سمّ العقارب
ألم يرمه في دنشواي بضربة ... سرى وقعها في شرقها والمغارب(193/55)
أطار صواب اللورد صاعق هولها ... فولى على أعقابه غير آئب
وشد على قصر الدبارة شدة ... تبين منها اللورد سوء العواقب
تداعت بها أركانه وتجاوبت ... مقاصيره تبكي بكاء النوادب
وكاد يقول القصر للورد: أخلِني ... فلو دام هذا القذف لاندك جانبي
ظلمت فما ذنبي تعرِّض ساحتي ... عناد الليث مرهف الناب غاضب
فلو كان لي في ساكني متخيَّرُ ... لأغلقت بابي دون إيواء غاصبي
وسل بعده غورست ما فعلت به ... بَواتِر أمضى من نصال المضارب
بَواتر صاغتها قريحة شاعر ... من اللفظ لم تحفَل بحشد الكتائب
تمزق من أعراضهم لا جسومهم ... فما القتل أن تعني بحشو الجلابب
وما قتل الأحرار كالهجو إنهم ... يرون أليم الطعن طعن المناقب
ولم أر سيفا كاللسان قرابه ... فم وشباه من قواف صوائب
يُرى شِعرُه بين الصفوف محارباً ... وصاحبه في الناس غير محارب
وسل مجلس الشورى تجبك من البلى ... مواقف صرعى الجاه صرعى المناصب
رآهم لأغراض العميد مطية ... وأن الحي الأشياخ لعبة لاعب
فأوتر قوس النقد غير مصانع ... وسوّد مبيّض اللحي غير هائب
فذاك جلال الشعر لا شعر عصبة ... يطالعنا تجديدهم بالحواصب
هُم جدري الشعر آذوا جماله ... بما ألصقوا في حسنه من معايب
عناوين كالألغاز حيرت النهى ... ومما تحتها معنى يلذ لطالب
دواوين حسن الطبع موّه قبحها ... وهل يخدع النقاد نقش الخرائب
فيا ضيعة الأوراق في غير طائل ... ويا طول ما تشكو رفوف المكاتب
وكم دافعوا عن مذهب العجز جهدهم ... فما غسلوا أسواء تلك المذاهب
وكم ملأوا بالزهر والنهر شعرهم ... بلا طيب مستاف ولا ريّ شارب
وكم يذكرون الأيك والطير صدحا ... عليها فلم نسمع سوى صوت ناعب
وكم لهجوا بالشمس حتى تبرمت ... بهم وتمنت محوها في الغياهب
وكم أقلقوا بدر الدجى في سكونه ... وكم أغرقوا سماعهم بالسحائب(193/56)
وكم هاتف بالخلد منهم وشعره ... تُوفِّىَ سقطا قبل عقد العصائب
وشاك أذاة الحب أطفأ جمره ... بشعر كبرد الثلج جم المثالب
فأقسم لو يبغي وصالا بشعره ... لَجانبه من لم يكن بمجانب
إذا ما احتفى بعض ببعض فإنهم ... نواضب علم تحتفي بنواضب
أكل متاع كاسد عند غيركم ... يروج لديكم يا بلاد العجائب؟
وكل أخي زيف نفاه سواكمُ ... يرى فيه من أخياركم ألف راغب
لقد راج دجل الشعر عند رجالكم ... كما راج دجل السحر عند الكواعب
تواصت بغبن شيبكم وشبابكم ... وفوضى الهوى ساوت مجداً بلاعب
فأحجم عن ميدانها كل سابق ... جوادٍ وجلى فيه تهريج صاخب
وأمسى زمام الفكر في يد عصبة ... هم المثل الأعلى لسخف المواهب
علام يجيد الفن في مصر متقن ... إذا كان بالتهريج نيل المراتب
فيا جهل واصلنا ويا علم فابتعد ... ويا حمق لازمنا ويا عقل جانب
أرى الجهل نورا في بلاد رجالهم ... خفافيش يعيشها ضياء الكواكب
إذا الشعب بالإهمال أرسب عاليا ... فلا بدع لو يعلو كل راسب
أحمد الزين(193/57)
حافظ
للأستاذ فليكس فارس
لعمرك ما في الدهر ظلم ولا غدر ... ولكن هي الدنيا مراحلها غمر
يرى المرء ما في يومه وهو لا يرى ... غدا، وغد سر سيتبعه سر
مسالكنا في الأرض خطت سطورها ... إذا ما تلونا السطر لاح لنا سطر
ومعنى الذي نتلو كمين بما تلا ... فما يدرك المعنى ولو ختم السفر
هنا كلمات إن نهجأ حروفها ... ففي العالم المستور آياتها الغر
وإن تهتك الغيب الضمائر ترتضي ... بواقعها فالحق يحجبه الستر
وكم نال منا الأمس حتى إذا انقضى ... تبين منه الخير وانقشع الشر
أحافظ، هل تشجيك في ذلك العلا ... هواتف آلام يرددها الذكر
أتشجيك حرب في الحياة بلوتها ... ويوجعك العزم المكابر والقهر
أتأسف للأيام عجلى ثقيلة ... ولليل عن صبح المكاره يفتر
وللأمل المغرور في مهيع الصبا ... وللحب لا جنى إذا انتثر الزهر
وللعلم مجهولا وللفضل مغفلا ... وللود والإخلاص سادهما الغدر
وللنار تبكي فيك قلبا مولها ... بمصر وقد ذلت بأغلالها مصر
أتبكيك هاتيك الدموع ذرفتها ... قصائد من سوائدها انفلق الفجر
أحافظ، قل، هل كان دهرك ظالما ... وفي ظلمه المكذوب قد كمن النصر
أما نفذت في الخلد روحك روحها ... فلاح بها مما ادَّخرت لها الذخر
وقد ظهرت منك السريرة درة ... على شاطئ الأزمان ألقى بها العمر
فحظك في دنياك أنت أردته ... ومن نفذ المقدور نفسك لا الدهر
بنو الشعر الرسل في الحياة سبيلهم ... إلى الله آلام يمهدها الصبر
فصحتهم سقم وراحتهم عنا ... وعزتهم وهم وإثراؤهم فقر
وسيان فيهم ذو يسار ومعسر ... فذا سجنه كوخ وذا سجنه قصر
مشيت وشوقي واحد صنو واحد ... فخلناكما شفعا وروحكما وتر
وقد كان شوقي حافظا في شقائه ... وحافظ شوقي أمره للعلا أمر(193/58)
فالمجد والعلياء ما قد نظمتما ... وللخلد في دنيا كما هذه الخمر
ترنح منها الثائرون كأنها ... ألم بهم من كأس شعركما السكر
أحافظ كم نادى بما قلت شاعر ... ولكن ما أطلقته الصرخة البكر
وما سمعت أقطار يعرب قبلها ... هتافا تنادي في مقاطعه القطر
قصائد من وحي الشعوب أنينها ... فناضمها فرد وملهمها كثر
أتيت بها والروع مرخ سدوله ... على كل فج ضاق في رحبه الصدر
تسير بها الأقوام حيرى وليس في ... مطالعها بدر ينير ولا زهر
فأوقدت للسارين قلبك مشعلا ... تفجر من أشعاعه المجد والكبر
رأى القوم أن النور في القلب فاهتدوا ... إلى قلبهم يجري بأعشاره الفخر
وهل في قلوب العرب إلا مشاعل ... من القبس الهادي أضاء به الذكر
خبا نورها حينا فضلت عن الهدى ... ولولا انطفاء القلب ما اظلم الفكر
أحافظ، قد أديت فينا رسالة ... ختمنا بها عصرا فلاح لنا عصر
وحملك الماضي فجيع احتضاره ... فيالك حر نال من روحه الأسر
تحملت لا يرميك بالعجز فاضل ... وناضلت لا يرميك بالسفه الغر
وقد كنت مصريا صميما بلاده ... وأوطانه قلب العروبة والنحر
وما عاش قلب دون جسم يضمَّه ... وما عاش جسم قلبه عنه يزور
ألا رحم الله الذي مد كفه ... على صفحات البحر فانفلق البحر
وسارت على أمن تصافح يعربا ... فصافحها المعمور والمهمه القفر
أشاعرنا، هذي قوافيك ألهبت ... دم الأسد الباكي ففي دمه جمر
وكم من شهيد لو نثرت دماءه ... لفاح على الدنيا به ذلك الشعر
يقولون لو لم يحكم الصمت حافظاً ... ويطوي على غل قوادمه الصقر
لحلَّق فوق النيرين جناحه ... وفاض على الشرقيين من روحه السحر
أما والذي أخفى عن النفس كنهها ... فأدرج في أسرارها الجهد والأجر
لكل من الأرواح قسط مقرر ... لها وعليها لا كثير ولا نزر
إذا البلبل الصداح أكمل شدوه ... وبلغ ما ألقى على روعه النشر(193/59)
إذا الزهرة الملداء نَوَّر تاجها ... وفاح على الأرجاء من نفحها العطر
فقد جاد كل منهما بحياته ... فما تطلب الدنيا وقد نفذ العمر
أحافظ، أي الشعر أنشدت في العلا ... لسعد فمال الحور وارتعش السدر
تردده السبع الطباق مذيعة ... لبشراك أن الشرق في حقه حر
وما كان قبل العهد في أرض يعرب ... سوى صفحات كل عهد بها حبر
وهل يطلق النسر الأسير جناحه ... إذا لم يحرر رأسه ذلك النسر
تنبه هذا الشرق والأفق مظلم ... وقد سادت الدنيا المطامع والكفر
فما يؤمن الإنسان إلا بنفسه ... وقد محيت من لوحه الكلم العشر
جهاداً بني قومي وسيراً على الهدى ... فما بسوى آفاقنا للسرى بدر
وهل للورى نور وسوى نور ربهم ... وفي آيه الأسعاد والمجد والبشر
أحافظ، هذا اليوم يومك إنما ... جدير بذكر الحر موطنه الحر
وفي الأمس كان المجد مجدك أن نرى ... وجوماً فلا إحياء ذكر ولا قبر
كتمنا القوافي ناحبات ذليلة ... إلى أن أطل الفجر وابتسم الثغر
فأطلقت الذكرى لروحك حرة ... وقد غادر في النسيان تذكارك المر
تحييك كف المصطفى في جهاده ... وقد أورقت في الأفق أعلامه الخضر
يحييك من عرش الكنانة عاهل ... تبسم للآفاق فانفلق الفجر
فليكس فارس(193/60)
الفنون
الفن المصري
2 - النحت
للدكتور أحمد موسى
يكاد لا يختلف اثنان في تقدير الفن المصري القديم وخلود عظمته. بل والتأكيد بأنه أصل الفنون جميعاً؛ ذلك الذي حدا بكثير من علماء الفن والآثار إلى الاشتغال بتحديد الصلة بين الفن المصري وبين ما جاء بعده من فنون الإغريق وغيرهم، والقول بأن الإغريق أول من اقتبس عن المصريين، ويدللون على ذلك بمقارنات قياسية بين تصميم المعابد المصرية، ونظيرها عند الإغريق كما يقارنون بين منحوتات المصريين وبين منحوتاتهم في أول عهدهم، ويحاولون إيجاد الشبه والمخالفة بين الاثنين، ثم تراهم يعرجون بعدئذ على قواعد غاية في الدقة تؤكد صدق قولهم، منها تناسب الأعضاء، وتشابه المجموع الكلي وتناظر الإنشاء الشكلي
كل هذا قد يكون صحيحاً إلى حد كبير، ولكن أهم ما يجب علينا أن نعرفه، هو أن الفن المصري بدأ ونما وازدهر، ثم انحط وانتهى دون أن يصل في مرحلة من مراحله إلى المثل الأعلى بمعناه الفني، لأنه لم يمثل الحقيقة تمثيلا يدل على سمو الخيال وروعة التصور وكان هذا ولا يزال معدودا من القصور الحتمي الذي لم يمكن للتخلص منه بد، لأنه نجم عن طبيعة أرض مصر، ونفسية أهلها، وصفاء سماء بلادهم، وسهولة العيش دون الكفاح الكثير، وبالرغم من أن مرحلة الحضارة المصرية استغرقت حوالي ثمانية أضعاف الوقت الذي استغرقته حضارة الإغريق، فإنه للأسباب الطبيعية المذكورة لم يصل الفن المصري إلى ما وصل إليه الإغريق.
وإذا كنا لا نزال نذكر ما قلته عن بعض منحوتات اكروبوليس أثينا ومعبد بارنتون. وما يحتويه من تلك القطع الرائعة التي مثلت الحياة خير تمثيل، وفي قوة وصلت إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه الفن إطلاقا. أمكننا أن نعرف بالمقارنة مدى ما وصل إليه المصريون في هذا النوع من الفن، معرفة أقرب إلى الحقيقة العلمية منها إلى حشو القول!(193/61)
لون المصريون كل ما تركوه بمقابرهم وأهرامهم ومعابدهم بألوان صناعية اتخذوا بعضها من الأرض. هذا عندما كانت من الحجر الجيري أو الرملي، أما في الحالات الأخرى حيث كانت من حجر الجرانيت الوردي أو الأسمر. أو حجر البازلت أو الديوريت أو السربنتين، فإنها تركت بدون تلوين اكتفاء بلونها الطبيعي. على أنه من المناسب أن اذكر شيئا عن الألوان الصناعية وكيفية عملها، فاللون الأبيض كان من الجبس المخلوط ببياض البيض أو العسل، والأصفر من الصنوبر أو الطفل، والأزرق من مسحوق حجر الزبرجد أو من سلفات النحاس، أما الأسود فكان من مسحوق العظام المحروقة.
وإذا وجدت تماثيل خشبية أو حجرية من التي تقبل امتصاص الألوان وكانت غير ملونة؛ فان هذا راجع في الغالب إلى زوال الألوان بمرور القرون، أو لأنها تركت قبل إتمامها لطارئ لم يكن في الحسبان.
من هذا ترى أن الصلة بين النحات أو المثال وبين المصور أو بين المنمق كانت قوية وضرورية لإكمال الإنتاج الفني، وكان هذا من أهم العوامل التي مهدت السبيل إلى وجود شبه عظيم في تكوين كل من التماثيل والمصورات، بل إنك لترى ما هو اكثر من ذلك، إذا قارنت التماثيل بالمصورات من حيث الفكرة والإنشاء، فتقف حينئذ على مدى ارتباط كليهما بالآخر من حيث الناحية الفنية، والمنهجية، نعم كانت المنحوتات والتماثيل مجسمة، على حين كانت المصورات نصف بارزة أو محفورة أو مسطحة، فكان هذا دافعا إلى تصويرها من الجانب، ولعله من الضروري أن أشير هنا إلى حالة شملها النحت النصف البارز والمحفور كما شملها التصوير، ولم تكن تعرف ولم تشاهد إلا في الفن المصري وحده. هذه الحالة التي تعد طابعا مميزاً تتلخص في أن المصور جعل تصويره للإنسان كما لو كان ناظراً إليه من الجانب لمجموع الرأس والساقين والقدمين، وكما لو كان مشاهداً إياه من الأمام للعينين والصدر واليدين، فهذا رغما عن أنه خطأ، إلا أنه استمر طوال أيام الفن المصري كله منذ بدأه حتى نموه وازدهاره الذي أعقبه الانحطاط والانحلال، إلا في بعض الأحيان التي لا يمكن اعتبارها قاعدة للفن من ناحيته العامة، ولم يعرف للآن شيء عن الدافع لهذا اللهم إلا إذا كانت العينان والصدر واليدان أهم ما في جسم الإنسان من أعضاء في اعتبار المصريين إجمالا أو في نظر الفنانين على وجه الخصوص.(193/62)
أما تاريخ النحت الكامل والنصف بارز فهو وصف شامل لمراحلهما منذ عصر المملكة القديمة، خصوصا في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة إلى آخر أيام النهضة المصرية، ولما كان المجال لا يسمح بدرس هذا التاريخ تفصيلا، فإننا هنا نعالج تطور هذين الفنين المرتبطين معالجة اقرب إلى الإجمال منها إلى التفصيل، متخذين من بعض التماثيل نماذج كافية بعض الشيء للتطور والتقدم.
كانت عناية المثال والنحات في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة (2720 - 2560، 2560 - 2420 ق. م.) منصرفة إلى الاهتمام بإخراج ملامح الوجه دقيقة التفاصيل صادقة التناسب، أما بقية الجسم فكانت في المرتبة الثانية من حيث الدقة وصدق المحاكاة، بل إن هذه البقية كانت أحيانا كانت رمزية اكثر منها حقيقية.
وأهم تماثيل هذه المرحلة - التي تعد من أهم مراحل النحت المصري مما يناسب المقام هنا، تمثال الكاتب المحفوظ بمتحف اللوفر وبمحتف القاهرة أيضاً.
والمشاهد للثاني منهما، يراه جالسا على الأرض جلسة أقرب إلى تلك التي يجلسها الشيوخ القارئون (ش1)، واضعا قرطاسا على فخذيه، ممسكا بالقلم بيمينه (المفروض هو أن يكون التمثال هكذا) شاخص العينين، تدل ملامح وجهه على سحنة مصرية
وتمثال شيخ البلد تجده واقفا في شيء من اليقظة وضخامة الجسم التي يجب أن تتوفر في من يقوم بالشياخة. كما ترى بالجزء الظاهر من هذا التمثال الخشبي (ش2) تناسب أعضاء الوجه وحسن إخراجها إلى حد بعيد، أما ملامح الخلقة فتعطيك فكرة صادقة لمهمة هذا الرجل، فهو بها اقرب إلى الآمر منه إلى المأمور. وتمثاله الكامل (بمتحف القاهرة) واقف وبيسراه عصا طويلة وصل ارتفاعها إلى الكتف، متناسبة من حيث غلظتها مع طولها والطول الكلي للتمثال.
والصورة الثالث تبين تمثالين، الأيمن منها للأميرة نوفرت، والايسر للأمير راحوتب (بالمتحف المصري) من أمراء الأسرة الرابعة. جلسا جلسة متناظرة تكاد تكون متشابه على مقعدين متساويين في الارتفاع، وترى على كلا المسندين على يمين ويسار الرأس كل من الأمير والأميرة كتابة هيروغليفية دلت على شخصيتهما.
انظر إلى الأميرة. وتأمل إلى أي حد بلغت قدرة الفنان المصري في ذلك الحين، فاستطاع(193/63)
أن يصور لك الاحتشام والجمال بكل معانيها. ولاحظ اختفاء الذراع اليسرى واليمنى. إلا اليد فهي مبسوطة اسفل الثدي. ولم يخرج بروز الثديين عن حدود أصول الجمال والذوق والتناسب مع الشكل العام. تجلس الأميرة شاخصة إلى المثال وقد تحلى عنقها وأعلى صدرها وحول الرأس بجواهر سبق المصريون فيها كل من عاصرهم أو جاء بعدهم. وعناية الأميرة بشعرها كما يتضح من مظهره، كانت بلا شك فائقة. فتراه قد استرسل على الآذنين وغطى جزءاً من الجبين، أحاطته من أعلى الرأس بطوق بديع الصنع ساعد على حفظ تصفيف الشعر كما زاد في تجميل الرأس دون ازدحام. والوجه جميعه دقيق الإخراج، جميل الوضع، رائع التناسب. أما جلستها مع ضم الساقين بعضهما إلى بعض فهي وإن كانت من القيود التي أبعدت الحياة عن مجوع التمثال، إلا أنها تدل إلى حد كبير على نبل الجالسة وسمو شخصيتها.
وجلس الأمير راحوتب في وضع متشابه مع الأميرة، ترى لأول وهلة أنه خالفها لوناً ومظهراً. فهو لم يغط من جسمه إلا الجزء الأوسط فضلا عن لونه الأسمر على نقيض الأميرة. ارتفعت الذراع اليمنى عن الصدر قليلا واليد مقبوضة الأصابع. كما تمتد الذراع اليسرى حتى تتمكن اليد من لاستناد على الركبة وهي مقبوضة الأصابع بشكل يتناسب وتوفر الإرادة في صاحبتها. والتمثال في مجموعه يعطيك فكرة واضحة لحسن انتباه الفنان حيث ترى البساطة في الملامح والمجموع الكلي.
وإذا انتقلنا إلى الأسرة الثانية عشر فجأة، فذلك لإمكان إدراك الفوارق بوضوح، فالتمثال (ش4) يمثل أحد رجال الدولة جالساً بلباس ربما كان مخصصاً لأمثاله في ذلك الحين، وبالنظر إليه إجمالا تجد الجسم مغطى من أعلى القدمين إلى اسفل الثديين، كما نرى الرجل قد ترك الشعر مسدلا على الكتفين وقد اكتسب الوجه، علاوة على دقة تفاصيله شيئاً من الحياة، لاحظ تلك الابتسامة الضئيلة التي ارتسمت على محياه ثم تأمل في الإنشاء المجموعي ولاحظ مع هذا أن التمثال مصنوع من الجرانيت. أما طريقة وضع متجاورين، واليدين أعلى الفخذين: فهذه هي نفسها الحالة التي شاهدناها بالتماثيل السابقة مع الفارق الزمني الفسيح.
ولعل تمثال أمينحوتب (ش5) أشبه بتمثال الكاتب (ش1) من حيث الجلسة، أما اهتمام(193/64)
الفنان بتقليل طبيعة الجسم البشري من حيث الاجتهاد في إظهار الثنايا اسفل الثديين وأعلى البطن فهو جدير بالنظر. تأمل ما طرأ على مظهر الرأس وملامح الوجه من علائم التفكير، والكيفية التي استطاع الفنان بها إظهار العينين والحاجبين. ثم الشعر وما فيه من تجاعيد زادت في حسنه، كل هذا دليل التطور والتقدم.
وكانت الأسرة الثامنة عشرة غنية بتماثيلها (1555 - 1350 ق. م.) وبالنظر إلى إحداها (ش6) ترى أن الشكل العام للتمثال اصدق محاكاة، واجمل تناسباً في الأعضاء مما سبق مشاهدته، والشيء الجديد الذي نلاحظه هنا هو تحلية الرأس بالأفعى المقدسة، فضلا عن ظهور الجسم على جانب كبير من جمال التكوين، وربما كانت الإذنان من احسن الأجزاء التي يمكن مقارنتها مع ما شاهدناه في أحد رجال الدولة (ش4) وشيخ البلد (ش2) إذ تتضح بذلك العناية بمختلفة أجزاء الجسم مما يدل على إدراك أصول الجمال العام كنتيجة للتقدم العظيم في عهد المملكة الحديثة.
وفي تمثال رمسيس الثاني (ش7) مع ضآلة ما هو ظاهر منه ترى تفاصيل الوجه من جانبه دقيقة كما يبدو الجسم متناسب الأعضاء أما القدرة التي تجلت في تكوين القدمين والأصابع فهي جديرة بالاعتبار. والزائر لمتحف القاهرة يستطيع بزيارة الصالات التي روعي في ترتيب محتوياتها تدرج تاريخي، أن يأخذ فكرة شاملة لفن رائع جمع إلى القدم، جمالا خاصا ميزه على سار منحوتات غيره من الشعوب.
(لها بقية)
أحمد موسى(193/65)
البريد الأدبي
مؤتمر دولي للآثار
يعقد الآن بمدينة القاهرة بدار الجمعية الملكية الجغرافية مؤتمر دولي للآثار والمتاحف. وقد افتتحه وزير المعارف المصرية بخطاب نوه فيه بما لمصر من مركز خاص في عالم الحفريات الأثرية، وبما بذله العلماء الأجانب لاستكشاف كنوزها الأثرية، وبما تبذله مصر لصون تراثها الاثري؛ وتمنى في خطابه أن تعمل الحكومات المختلفة على حضر إخراج الآثار القومية من وطنها، وأن تحل هذه المسالة الشائكة بما يرضي الفن والأماني القومية.
وبعقد مؤتمر الآثار والمتاحف الآن دورته الرابعة؛ وقد عقد من قبل ثلاث دورات: الأولى في رومة، والثانية في أثينا، والثالثة في مدريد؛ وهو يعنى بالبحث في كل ما يتعلق بالآثار والحفريات الأثرية وصيانة الآثار، والمتاحف وتنظيمها؛ وقد شهدت الدورة الحاضرة زهاء خمسين مندوبا يمثلون عدة من الأمم الغنية بكنوزها الأثرية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإنكلترا وأمريكا وتركيا والعراق ومصر وغيرها.
ولعقد هذا المؤتمر الأثرى بالقاهرة أهمية خاصة، لأن مصر تشكو منذ حين تبدد تراثها الأثري على يد بعض العلماء الذين لا يراعون حرمة العلم وبعض التجار ومهربي الآثار الذي يعملون بلا انقطاع على اختلاس كنوزها الأثرية وتفريقها في مختلف الاقطار؛ والذين زاروا المتاحف الأوربية من المصريين يعرفون كم تضم الأقسام المصرية في المتاحف الأجنبية من آثارنا المفقودة، وكم تضم منها المتاحف والمجموعات الخاصة في مختلف أنحاء العالم. وقد شعرت مصر أخيراً بوجوب التحوط لهذا الاعتداء المتكرر على تراثها الفني؛ وربما كان في مجاهرتها بالشكوى أمام هذا الحفل الكبير من علماء الآثار وممثلي الدول أثره في تحقيق أمنيتها وتقريب وسائل العمل على صون تراثها الأثري.
مجمع اللغة العربية الملكي
اختتم مجمع اللغة العربية الملكي دورته الرابعة في الأسبوع الماضي، وانفرط عقد أعضائه الشرقيين والغربيين، وقفل عدة منهم راجعين إلى بلادهم، وقد امتازت هذه الدورة من المجمع بظاهرتين: الأولى ظاهرة القلق والتكهن حول مستقبله ونظامه الجديد الذي تعنى وزارة المعارف بوضعه منذ حين؛ والثانية ظاهرة النشاط ولا سيما في ميدان الاستنباط(193/66)
والمصطلحات والألفاظ الجديدة. وقد أثار المجمع ونظامه في هذه الدور كثيرا من الجدل، ووجهت إليه إلى جهوده حملات كثيرة، واضطر المجمع نفسه إلى أن يخوض معركة الجدل للذود عن كيانه وعن جهوده؛ والواقع أن المجمع قد بدأ في هذه الدورة لأول مرة يدرك خطورة مهمته، ويشعر بسهام النقد التي توجه إليه، ومعاول الهدم التي تشهر عليه؛ بيد أن من الإنصاف أن نقول إن المجمع قد أبدى في هذه الدورة نشاطاً يحمد، وإنه إذا كان في تكوينه الحاضر بعض الشذوذ والاضطراب، فليس الذنب في ذلك عليه، وإنما على الذين تأثروا في تأليفه على هذا النحو باعتبارات لا علاقة لها بمهمته الأصلية ورجاؤنا أن يوفق ولاة الأمر إلى إصلاح المجمع وتنظيمه بصورة جديدة تبدو فيها مصريته قوية واضحة، وتمثل فيه الكفايات المصرية التي أهملتها البواعث والأهواء الشخصية، وتحدد مهماته اللغوية والعلمية والأدبية تحديدا واضحا بحيث يغدو بهذا الإصلاح من القوة والهيبة الأدبية في مصاف المجامع اللغوية العريقة.
إحياء ذكرى حافظ إبراهيم
كان يوما السبت والأحد 6و7 مارس الحالي موعداً للاحتفال بإحياء ذكرى حافظ إبراهيم، ففي مساء يوم السبت قصد إلى دار الأوبرا جمهور يبلغ الألفين، وحضر الحفلة صاحب العزة محمد حسين بك مندوب جلالة الملك ومجلس الوصاية، كما حضرها بعض الكبراء.
وافتتح الحفلة بالقرآن الكريم، ثم ألقى صاحب المعالي على زكي العرابي باشا وزير المعارف كلمة الافتتاح، وتلاه الخطباء والشعراء طبقاً للبرنامج الذي نشرناه في العدد الماضي، وكذلك كان في اليوم الثاني.
وقد كانت الحفلتان مظهراً رائعاً للوفاء لحافظ، غير أننا نلاحظ أن كثيراً مما قيل فيها لم يكن معداً لهذه المناسبة، بل كان عهده قبل ذلك، كذلك التضييق في الوقت على الخطباء والشعراء كاد يؤدي إلى الإخلال بالغرض منه، فان عدم إتمام الخطب والقصائد انصياعا لقانون الإذاعة لم يساعد على إيضاح النواحي المختلفة للشاعر المحتفل بإحياء ذكراه - التي يتناولها الخطباء الشعراء، وقد كان أحرى بلجنة الاحتفال أن تختزل الخطباء والشعراء، وأن تقدر لكل خطيب وكل شاعر من الوقت ما يتسع لإلقاء كلمته
ولعل لنا عودة إلى الكتابة عن الحفلة وما قيل فيها وتناوله بما يعن لنا من النقد(193/67)
أسبوع الجاحظ في الجامعة المصرية
ستحتفل كلية الآداب بالجامعة المصرية بإقامة أسبوع للجاحظ بمناسبة مرور أحد عشر قرنا على وفاته ابتداء من يوم 25 مارس، وهذه هي موضوعات المحاضرات وأسماء المحاضرين موزعة على أيام الأسبوع:
كلمة الافتتاح:
حياة الجاحظ: للأستاذ عبد الوهاب عزاماليوم الأول
ثقافة الجاحظ: للأستاذ احمد أمين
منهج تفكير الجاحظ: للأستاذ أمين الخولياليوم الثاني
أسلوب الجاحظ: للأستاذ عبد الوهاب حموده
الجاحظ بين النقد والبلاغة: للأستاذ شوقي ضيفاليوم الثالث
الجاحظ المعتزلي: للأستاذ عبد اللطيف حمزة
كتاب الحيوان: للأستاذ كراوساليوم الرابع
البيان والتبيين: للأستاذ السقا
دعابة الجاحظ: للأستاذ إبراهيم مصطفىاليوم الخامس
مآخذ الجاحظ: للأستاذ احمد الشايب
فكاهة الجاحظ: الدكتور طه حسين بك اليوم السادس
مستقبل الكتاب
هذا موضوع يثير اليوم كثيراً من الجدل. ويتساءل أقطاب التفكير الرفيع اليوم هل سيقضي على الكتاب في المستقبل القريب؟ لقد تناقض قراء الكتب القيمة إلى درجة تثير الجزع في جميع الدوائر الأدبية، والإجماع على أن ذلك يرجع بنوع خاص إلى تأثير السينما والراديو والمجلات المصورة، والمجلات الأسبوعية، وذيوع الأدب الغث من القصص البوليسية وغيرها ذيوعا هائلا؛ بيد أنا قرأنا أخيراً فصلا لكاتب فرنسي كبير يذهب فيه في تعليل هذه الأزمة الأدبية مذهباً آخر؛ فهو يسلم بما للسينما والراديو من أثر في إحداثها، ولكنه يقول إن هناك سببا آخر أثرا، وهو أن أقطاب الكتابة في عصرنا لم يفلحوا في الوصول(193/68)
إلى العاطفة الشعبية، ففي القرن الماضي مثلا كان كتاب مثل بلزاك وفيتكور هوجو وأميل زولا وفرانسو كوبيه، وغيرهم يصلون بسرعة إلى أعماق قلوب الشعب، ولكن هذه الطبقات الشعبية تكتفي اليوم بقراءة الرواية البوليسية أو مشاهدة السينما؛ وكيف لا يكون ذلك وأكابر كتاب العصر، مثل جيد وبروست وفاليري وغيرهم يقصدون بما يكتبون طبقة أو طبقات معينة من الخاصة؟ فالشعب يقرأ في الواقع ما يكتب له، فإذا نأى عنه عظماء المفكرين فهو بدوره ينأى عنهم.
وهكذا يغدو الميدان حرا لرواج الأدب الغث الرخيص، ويفقد الجمهور شيئا فشيئا الرغبة في تذوق الأدب القيم، ولا يطلب إلا نوعا للتسلية وتمضية أوقات الفراغ في المكتب أو المصنع أو قبيل النوم، ويقضي على كل مجهود يبذل لترويج الكتاب القيم بالفشل لأنه لا يلائم ذوق الجمهور ولا يرضي عواطفه.
ونحن نوافق الكاتب في أهمية هذا التعليل النفسي الذي يقدمه شرحا لازمة الكتاب؛ بيد إننا لا نعتقد أنه بتعليل حاسم، وهناك بلا ريب عوامل كثيرة أخرى لها قيمتها؛ ومن المحقق أن الكتاب فقد كثيرا من نفوذه وسحره القديم بفعل التطورات الفكرية والاجتماعية المعاصرة.
الأستاذ لامبير
وفد على مصر في الأسبوع الماضي العلامة المشترع الفرنسي الكبير المسيو ادوار لامبير عميد معهد القانون المقارن بجامعة ليون، بدعوة من كلية الحقوق المصرية ليلقي سلسلة من المحاضرات القانونية، وقد بدأ الأستاذ فألقى بالفعل محاضرته الأولى. وللأستاذ لامبير روابط علمية قديمة بمصر. فقد كان ناظرا لمدرسة الحقوق الخديوية سنة 1906؛ ومع أنه لم يقم اكثر من عام فانه ترك بها أحسن الأثر، ولما عاد إلى جامعة ليون ألتف حوله هنالك في كلية الحقوق جمهرة من الطلبة المصريين الذين تلقوا دراستهم القانونية تحت إشرافه؛ وهو اليوم جمع حافل، بعض أكابر فقهائنا، ومنهم كثير ممن يشغلون أسمى المناصب. واستمرت العلائق العلمية والودية بين الأستاذ لامبير وبين تلاميذه المصريين من ذلك الحين إلى يومنا؛ وهو يزور مصر لآن بعد ثلاثين عاما، وهو في ذروة نضجه العلمي؛ وقد استقبل الأستاذ من جميع تلاميذه القدماء بالتجلة والتكريم؛ وسيواظب على إلقاء محاضراته (القانون المقارن) وكل ما يمت إليه من المسائل الفقهية والاجتماعية.(193/69)
مسرحية جديدة لشيلر
المعروف أن الشاعر الألماني الكبير شيلر قد ترك حين وفاته مسرحية لم تكمل، عنوانها (ديمتريوس)؛ وقد لبثت هذه القطعة على نقصها منذ وفاة الشاعر إلى يومنا. وأخيرا عنى الدكتور فيلهلم.
بإتمامها تمشياً مع فكرة الساعة التي ظهرت من جزئها المكتوب. وقد مثلت فعلا لأول مرة بمسرح مايننجن، والمنظور أنها تمثل بعد ذلك في جميع مسارح ألمانيا ثم تنقل إلى مختلف اللغات وتمثل في جميع المسارح الأخرى.
المتاحف المتنقلة
وضعت إدارة متحف السويد القومي مشروعا جديدا للثقافة الفنية القومية خلاصته أن تنظم عرض بعض الآثار والتحف الهامة بصورة دورية وأن تتخذ لعرضها عربة من عربات السكة الحديدية، تصنع بشكل بهو فني، ويمكن تسييرها إلى مختلف المدن؛ وتقوم إدارة السكة الحديدة الآن بصنع هذه العربة الجديدة التي سيطلق عليها (عربة الفن) وستغطى نوافذ هذه العربة بألواح ضوئية لكي تعكس اكبر مقدار من الضوء على الداخل؛ وتضاء بعد الغروب بجهاز كهربائي قوي؛ وستجهز العربة أيضاً بجناح خاص لإلقاء المحاضرات الفنية على الزائرين؛ وسيطوف هذا المتحف المتنقل بالمدن والقرى الواقعة على السكة الحديدية والقريبة منها، ويمكث أياماً في كل منها؛ وتعضد الحكومة هذا المشروع وترى فيه وسيلة حسنة لتعريف الطبقات التي لا تسمح ظروفها بزيارة العاصمة بالكنوز القومية الفنية؛ وترقية ثقافتها الفنية.
لونس كارولين راينر إحدى الفنانات البارزات
من الظواهر الفذة في العصر الحاضر اشتغال كثير من السيدات بالفن وبرز بعضهن فيه - والسيدة لوتسي راينر إحدى هؤلاء البارزات جاءت إلى مصر لأول مرة سنة 1929 وظلت دائبة المشاهدة والبحث وراء المناظر الشرقية الرائعة مسجلة إياها على لوحاتها آنا بزيت وحيناً بالباستيل ومرة بالطبع من لوحات اللينو ليوم التي حفرتها بنفسها لمختلف الألوان.(193/70)
ولعل من الغريب أن تكون السيدة راينر من فنانات الوقت الحالي، ومع هذا لا تتجه بروحها إلى الفن الحديث الذي يعنى بالموضوعات من حيث معناها قبل العناية بتصويرها دقيقة التفاصيل. لأنك تراها محافظة على تعاليم المدرسة النموذجية (كلاسيك) في معظم لوحاتها.
زرت معرضها بصالة نستري، وشاهدته بعض لوحاتها التي دلت على ما لهذه السيدة مقدرة فائقة في صدق المحاكاة وصدق الاختيار. جمال الإخراج وانسجام الألوان.
فأنت تنتقل من منظر لقهوة بلدية إلى منظر يمثل لك جامع الأزهر في الغروب فتقف أمامه مأخوذاً بقوة ألوانه وانسجام تفاصيله وحسن بيانه، ثم إلى لوحة بشارع الحمزاوي وإلى أخرى ببٍاب المتولي فترى أنك أمام مجهود رائع جدير بالتسجيل والإعجاب.
أما لوحاتها للمناظر الشخصية فكانت مع قلتها نسبياً دليل المقدرة والتفوق، ولا نزال نذكر صورتيها الرائعتين للسيدة مدام الدكتور م ومدام ب.
فبالأولى رأينا كيف استطاعت الفنانة أن تجمع في صورة هذه السيدة بين الرقة والجمال وبين حسن التكوين الإنشائي واختيار الألوان. أما القوة التي انبعثت من عيني السيدة المذكورة فإنها حقيقة جديرة بالإعجاب في أدق معانيه، كما لاحظنا في الصورة الأخرى رقة وعذوبة لا يسهل إخراجها بهذه العناية إلا لمن تمكن من الفن.
ولما كانت هذه السيدة النمسوية الأصل ستعرض لوحاتها في معرض الفن الحديث الذي سيفتح قريبا، فإنا نرجو أن يقبل القراء على مشاهدة هذه المجموعة الرائعة إلى جانب ما سيعرض به من أعمال الفنانين الآخرين
الدكتور أحمد موسى
مجمع علمي في ألمانيا يجمع نوادر المخطوطات عن علوم
القرآن
يقوم المجمع العلمي في بافاريا منذ سنوات عديدة بجمع الكتب والنوادر المخطوطة باللغة العربية والمؤلفات الخاصة بالقرآن الكريم وعلومه والقراءات وتاريخ القرآن. وقد اقتنى من ذلك مجموعات كبيرة بعضها امتلك أصوله الخطية وبعضها استنسخ منه لوحات(193/71)
فوتوغرافية كاملة. وأسس بهذه المجموعات كلها متحفاً خاصا كبير القيمة. وشرع بعد ذلك يطبع على نفقته بعض الكتب ذوات القيمة منها
وقد فكر المجمع بعد ذلك في أن تقوم جهة من الجهات التي يعنيها أمر هذه العلوم بطبع ما بقي من هذه الكتب وهو كثير. ورأى أن أولى الجهات بتقدير مثل هذه المجموعة هي الأزهر الشريف والحكومة المصرية. فأوفد أحد أعضائه وهو الدكتور برتزل إلى مصر للتفاهم في هذا الأمر.
وقد قدم الأستاذ برتزل إلى رياسة الأزهر مذكرة تفصيلية بما قام به المجمع العلمي في بافاريا في هذا الشأن والقيمة العلمية والأدبية والتاريخية التي تقدر بها مجموعات الكتب التي حصل عليها أو على لوحاتها الفوتوغرافية منها. وشرح لرياسة الأزهر فكرة المجمع في طبعها تحت إشراف الأزهر وعلى نفقته. وما يكون لذلك من الأثر في نشرها وتقديرها وإخراجها في عناية وضبط وإتقان. وشفع مذكرته بقائمة بأسماء الكتب التي حصل عليها المجمع والكتب التي قام بطبعها في ألمانيا.
وقد أحالت مشيخة الأزهر هذه المقترحات والمذكرة الملحقة بها إلى الأستاذ محمد فريد وجدي مدير مجلة الأزهر لدرسها وإبداء الرأي فيها وانتهى الأستاذ وجدي من درسها وأبدى رأيه إلى رياسة الأزهر
وقد قابل الدكتور برتزل أمس صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في مكتبه قبل ظهر أمس وتباحثا في هذا الموضوع.
وقد أعرب المجمع عن استعداده أن يقدم إلى مشيخة الأزهر بعض الألواح الفوتوغرافية لهذه الكتب ليمكن رياسته أن تحكم على قيمة هذه المؤلفات وأصحابها قبل إقرار طبعها تحت إشراف الأزهر وتحمله نفقاتها. ولذلك أعرب المجمع عن استعداده لان يرسل إليه الأزهر أحد رجاله لبحث هذه المخطوطات أو تصويرها في لوحات خاصة لمشيخة الأزهر لتتمكن بمعرفة الأخصائيين من رجالها من تقرير المجموعة التي يريد المجمع طبعها والتنازل في نظير نشرها عن جميع الحقوق والنفقات التي تكبدها في سبيل الحصول عليها في سنين طويلة.
إلى صاحب رسالة المنبر الأستاذ فليكس فارس(193/72)
قرأت كتابك (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) فما احسن ما أبدعت وما أبدع ما أحسنت، لكأن الشرق هو ألقى حكمته في فمك وأرسل كلمته من قلمك، ثم نصب لك منبره العالي وقال لك - قم فتكلم.
لم أرك انحرفت عن الحقيقة ولا ملت عن وجه الرأي ولا نزعت إلى تقليد ولا جنحت إلى متابعة ولا غرك اسم فيلسوف ولا خدعك اسم كاذب، بل كنت كالسيف لا يعمل إلا عمل حده القاطع ضاربا في كل مرة ضربته في كل مرة.
وفي كتابك أنات هي رعد قلبك الحر، وفي بيانك إشراق هو نور نفسك القوية، فلا جرم كان ما كتبته من الكلام الروحي البليغ الذي يقرأ بالعين ويسمع في النفس في وقت واحد
ولقد أدركت بفطرتك السليمة وروحك الملهمة ما في دين الفطرة من الحكمة الإسلامية البالغة وجئت من ذلك بأشياء كأنها من نبع الوحي، فكنت بعقلك وذكائك وإحساسك النبيل صورة أخرى لحكيم الألمان وشاعرهم (جيته) حين قال: - إذا كان هذا هو الإسلام فكلنا مسلمون.
حياك الله وأدام النفع بك وأمتع بأدبك والسلام!
من المخلص
مصطفى صادق الرافعي
مؤتمر اللاسلكي الدولي
في شهر فبراير سنة 1938 يعقد في القاهرة المؤتمر الدولي اللاسلكي وقد وجهت وزارة الخارجية الدعوات إلى الدول التي تشترك في أعمال هذا المؤتمر كما وجهتها إلى اللجنة المختصة بجمعية الأمم.
وبهذه المناسبة نذكر أن لمصر مطالب هامة ستعرضها على هذا المؤتمر وأهمها أن يكون لها موجة دولية خاصة بها. وقد سبق أن طلبت مصر هذا الطلب في المؤتمر الذي عقد في لوسرن ولكنها لم تفز إلا بالموجة الحالية التي تشاركها فيها محطة بروكسل ببلجيكا. وقد عدل هذا الطلب أخيراً وجعل بموجتين بدلا من موجة واحدة
وهاتان الموجتان المطلوبتان من الموجات القصيرة حتى يمكن أن تنقل الإذاعة اللاسلكية(193/73)
المصرية بجلاء إلى كثير من الأقطار التي ترغب في الاستماع إلى الإذاعات المصرية وفي مقدمتها القرآن الكريم
وإذا رخص لمصر بهاتين الموجتين أمكن عندئذ إنشاء محطتين للإذاعة بطريق هاتين الموجتين قوة كل محطة من 15 إلى 20 كيلوات بينما المحطة المصرية الحالية وقوتها 20 كيلوات لا تسمع بجلاء تام في بعض الأقطار الخارجية
على أن في النية تقوية المحطة الحالية حتى تبلغ قوتها 100 كيلوات أي خمسة أضعاف القوة الحالية وستخصص للبرنامج العربي، أما المحطة أو المحطتان الأخريان المراد إنشاؤهما فسيخصصان للإذاعات الأخرى
البعثات العلمية
أدرج في الميزانية الجديدة للبعثات العلمية 100. 000 جنيه منها 27800 جنيه لبعثة وزارة المعارف و 39600 جنيه لبعثة الجامعة المصرية و 4200 جنيه لبعثة وزارة الزراعة و 5000 جنيه لبعثة وزارة الصحة و 5400 جنيه لبعثة وزارة المالية و 3300 جنيه لبعثة وزارة الأشغال و 3000 جنيه لبعثة وزارة المواصلات و 900 جنيه لبعثة وزارة التجارة والصناعة و400 جنيه لبعثة وزارة الحقانية و 7300 جنيه للامتدادات و 3000 جنيه للبعثات الصيفية القصيرة المدى و 1500 جنيه نفقة زوجات الأعضاء في الخارج و 3000 جنيه لإسعاف الطلبة الذين يدرسون في الخارج على نفقتهم فيكون المجموع 104400 ولكن المنتظر عدم صرف مبلغ 4400 جنيه فيكون الاعتماد المقرر هو مائة ألف جنيه فقط
أما عدد أعضاء البعثات فيبلغ 290 عضوا منهم 75 عضوا ببعثة وزارة المعارف و144 عضوا ببعثة الجامعة و12 عضوا موفدون من الزراعة و9 أعضاء موفدون من الصحة و15 عضوا موفدون من المالية و 8 أعضاء موفودون من الأشغال و 4 أعضاء موفودون من المواصلات وعضوان موفدان من التجارة وعضو واحد من الحقانية(193/74)
الكتب
البدائع
تأليف الدكتور زكي مبارك
للأستاذ يوسف محمد
كل كتاب بعنوان خلاب لم يخدعني فحواه ولم يغرني مرماه ولم يخلف ظني واضعه (كأطباق الذهب) و (نسيم الصبا) بل لما ألقى كتابا عنوانه أخاذ لم يخيب وهمي إلا هذا الكتاب الممتع الذي أنا بصدده، ففي هذه المرة فقط قد طابق عنوان الكتاب الواقع، وطابق باطنه ظاهره فهو على الحقيقة سلسلة نفيسة من الروائع والبدائع خليقة أن تخلد في مجلد
حسبك أن تقلبه حتى توقفك فصوله لطرافتها، وحتى تنفرج لك صفحاته عن معرض. وعن أمتع الأشياء، أو عن حديقة غناء فيها ما فيها من بهيج الأزهار ويانع الثمار حتى لتحار أيها تقطف وأيها تجني لفرط البهر إذ كلها بهي نهى، كأنك صبي فتنته معروضات اللعب المتباينة الأشكال أو شره إزاء لذائذ الصحاف والألوان
الكتاب في جملته أشبه شيء بموسوعة موجزة، دال على ذهن خصب وعقل رصين وقريحة طلقة وسعة اطلاع لا تغيب عنها لا صغيرة ولا كبيرة، أحاط صاحبها بالغابر والحاضر والآجل، فبينا هو يذكرك بماضيك لأنك لا تفهم حاضرك إلا به إذا هو يتابع عصره ويساير النهضة ويساهم فيها ثم يفكر في المصير لأن الأمس واليوم يهيئان الغد
فإذا ما تصفحت الكتاب فكأنك تقوم برحلة شائقة تتفتح فيها لذهنك آفاق جديدة وأبواب مغلقة وتنثال عليك آراء لم تكن في حسبانك، فتحس تجدداً في الفكر والشعور كمن استفاق من نوم عميق معافا مستجما، يخرج بك من حديث أدبي معجب إلى موضوع غزل مطرب، وينتقل بك من نقد رفيق لاذع إلى حديث عن سيرة عظيم بارع، ثم يستدرجك من هذا إلى تفطينك إلى رائع الشعر الدفين ودقيق المعنى الكمين، ثم يتجاوز معك إلى النظر في بعض وجوه الأخلاق والاجتماع وكشف الغطاء عن طلاء بعض الطباع وبعد هذا المطاف يرجع بك إلى الوراء، إلى الماضي البعيد أو القريب فيريك من آياته عجبا، ولعلك تزعم أن هذه الفصول أشتات وتفاريق تعوزها الوحدة المنسجمة، ولكن مهلا: روح الكاتب السارية فيها(193/75)
جميعا سريان الماء في الأعواد كفيلة بالوصال الوثيق
ومن خصائص هذا الكاتب أنه يملك ناصيته الحاسة الأدبية فيما يكتب، ولو أنه قليل الاستعارات والمحسنات، فإنه يرى الأشياء في دقائقها وجملتها كالمتفنن متأثرا بمفاتنها، مستغنياً عن التصريح بالتلميح وعن العبارة بالإشارة حتى يوحي إليك بالمعاني إيحاء، يصف لك ما رأى وما سمع ولكن لا يريد الوصف للوصف وإنما لإماطة اللثام عن جانب من جوانب نفسية الناس أو يبن خبيثة من خبايا الجماعة لأن الإنسان لا يعنيه إلا الإنسان، وإن غضب أو رضى استرسل في الأسلوب الخطابي الفياض وتدفقت لعناته ومسراته كنهر زخار، أقرأ مثلا (عيد الحرية في باريس) و (أخلاق الناس) و (بين العقل والهوى) تر صدق ما أقول واكثر ما تتجلى فيه هذه الروح الأدبية حين يتناول الشعر بالتحليل والتعليل فإذا تحدث عنه ذوقك إياه تذويق الخبير، وبصرك بروعته تبصير العارف البصير، كأنما تلبس نفس الشاعر ثم عرفك بالصحيح منه والمزيوف كالصيرف الماهر، اقرأ في الكتاب (نقد ديوان شوقي) ثم قصائد المديح في الأدب العربي توقن بما قدمت إيقانا تاما فلا أحد حبذ إليّ الشعر العربي وقد كنت منه نافرا إلا هذا النقاد الحاذق.
ثم يمتاز هذا الكاتب بالصدق والصراحة حيث تمثله كتاباته كل التمثيل وتشف عن عقيلته كما يشف الثوب الرقيق عن الجسم الرشيق، تنم سطوره عن نزوعه إلى القديم القويم الجدير بالرعاية وتشى بمسايرته لعصره، ويشيع فيها الروح الديني الصوفي فهو حين يصور لك سحر باريس وفتنة باريس يصورها في لهف وشوق كمتعبد ربي على الحشمة والوقار وكبت النفس الأمارة بالسوء ثم إذا هو قد لان ووهن وبروعة الجمال افتتن فذهب عقله شعاعا وانتفى وقاره ضياعا، ولعل ما تميز به من وضوح الأسلوب والجلاء ناشئ من الصراحة المتناهية لأن من أسباب الغموض والاستغلاق ميل الكاتب إلى المداراة والتعمية والتنكر، ومن هنا كانت شخصيته قوية عصية على التقليد والفناء في غيرها، فهو لم يتأثر بأحد ممن لازمهم وأخذ عنهم لا في نمط التفكير ولا في طراز التعبير.
ربما ساءلت نفسك مرة أن عددت الجهل مزريا بك: لماذا اقرأ؟ فأنت تقرأ للهو والتسلية ونفي الملال إن كنت من أهل الفراغ ثم لتسر من مصادفتك لما يشبه ما يجول في خاطرك من المعاني ومن لقائك من يشاطرك في مشاعرك ثم لتصلح ما اعوج وفسد من أفكارك(193/76)
بالقياس إلى أفكار سواك إذ لابد من تصحيح التجارب الشخصية وتوطيدها بالقراءة، ثم لتضيف إلى ما تعلم ما لا تعلم فتزداد ثروة على ثروة ثم لتستوضح على ضوء القراءة ما يقوم بذهنك من المعاني العائمة القلقة الدائرة في شبه الظل ثم لتمرن فكرك وتروضه على التأمل المستمر حتى لا يعلوه الصدأ وتذهب عنه مرونته ومتانته وحتى لا يصيبه الخمود والجمود والركود لأن القراءة ضرب من التفكير إذ فيها محاولة لمتابعة الكاتب في سير تفكيره وإلا استدق عليك واستغلق ثم لترهف ذوقك لأن الذوق الرفيع لا يكتسب إلا بطول القراءة واستدامة الموازنة بين الجيد والرديء والغث والثمين ثم لننبه ما غفا من عقلك وخمد من قبلك فكل هذه تكتسب من كتاب (البدائع) فعليك به تجد فيه المسلاة والمأساة والنور.
منذ انتشار الصحافة واتساع دائرتها ازدهر أول ما ازدهر عندنا من ألوان الأدب ما يسمونه بأدب المقال حيث يسع هذا النوع بوجه عام جميع فنون القول والأغراض والبحوث في فصول ورسائل تطول أو تقصر بحسب ما يقتضي المقام، فيصاغ في هذا القالب من الأدب فصول في النقد ونبذ في التاريخ وأبحاث في الأخلاق والاجتماع وتصب فيه النظرات والخطرات والمشاهدات حتى الأقاصيص الموجزة الصغيرة وقد كان هذا النوع من الكتابة عاملا مهما في ترقية النثر إلى حد كبير وقد ساهم صاحب كتاب (البدائع) بفصوله في إعلاء شأن أدب المقال كما ساهم في هذا المجهود الجليل غيره من الأدباء الأجلاء أمثال الأساتذة الجهابذة أحمد أمين ومصطفى صادق الرافعي والزيات والمازني وعبد الوهاب عزام سواهم من أئمة الأدب وأساطينه.
إلا أننا نؤاخذ صاحب (البدائع) ونعتب عليه وننكر كل الإنكار ما أدرجه في الكتاب عن طيش ونزق من بعض فصول في الخصومة بينه وبين أحد أعلام الأدب والبيان وكان لزاماً عليه أن يتناساها لا أن يحييها بوضعها في الكتاب فان هذه الفصول الشائنة بين سائرها لهي كالنقط السوداء في الصفحة البيضاء يعافها الذوق واللياقة والكياسة.
يوسف محمد
1(193/77)
العدد 194 - بتاريخ: 22 - 03 - 1937(/)
جميل صدقي الزهاوي بمناسبة ذكراه الأولى
(3)
كأنما تفتح عقل الزهاوي قبل أن يتيقظ هواه، وحلق فكره قبل أن ينهض خياله، وأدرك علمه قبل أن يولد شعره! فلقد كان يهدف للثلاثين من عمره وليس له من أولمب الشعر وحي، ولا في بَرْناس الشعراء محل؛ إنما كان في صدر شبابه ينظر في العلوم الفلسفية والطبيعية؛ وسبيله إلى ذلك ما تُرجم من المقالات في الكتب والمجلات، لأنه لم يعرف من اللغات غير العربية والفارسية والتركية والكردية، وكلها لا تصل فكر الإنسان بالتطور، ولا تنقع غلة الظمآن إلى المعرفة. ومع ذلك استبطن الزهاوي دخائل هذه العلوم بعقله النافذ حتى ألف كتاب (الكائنات) في الفلسفة، وكتاب (الجاذبية وتعليلها) في الطبيعة، ذهب فيهما مذهباً خالف به أقطاب العلم وجهابذة النظر، كقوله: إن علة الجاذبية ليست جذب المادة للمادة، وإنما هي دفعها لها بسبب ما تشعه من الإلكترونات. وسواء أنهض دليله أم دحض فإنه يدل على النظر الثاقب والفكر المستقل. ورجاحة عقله هي التي حملته وهو في ربيع العمر على أن يشرف على ظواهر الكون وحقائق الوجود من سماء فكره لا من سماء خياله؛ والمعهود في عامة الشعراء أن يكونوا على النقيض من ذلك. فلما هيأته الأقدار الجميلة لرسالة الشعر كان فكره أقوى من خياله وأسمى من عاطفته؛ والفكر والخيال والعاطفة هن ملكات النفس الأدبية الثلاث، يصدر عنهن فيض القريحة، ويَرِد إليهن إلهام العبقرية؛ ولكن الشعر لا يهيمن عليه إلا الخيال والعاطفة؛ أما حاجته إلى الفكر فمحدودة بمقدار ما يضيء لهما الطريق حتى يأمنا الضلالة. فالفكر للعبقرية بمثابة العين، والخيال والعاطفة لها بمثابة الجناحين. فإذا تغلبا عليه كان الشرود والزيغ، وإن تغلب عليهما كان الجفاف والعقم؛ ومن هنا جردوا أكثر ما قال أبو العلاء وأقل ما نظم أبو الطيب من الشاعرية. والزهاوي شاعر من شعراء الفكرة، له البصيرة الناقدة والفطنة النافذة، وليس له الأذن التي (تموسق) ولا القريحة التي تصنع. فاللفظ قد لا يختار، والوزن قد لا يتسق، والأسلوب قد لا ينسجم، ولكن الفكرة الحية الجريئة تعج بين الأبيات المتخاذلة عجيج الأمواج المزبدة بين الشواطئ المنهارة.
الزهاوي عقلية أفاقة وحيوية دفاقة وطبيعة ساحرة؛ وهذا التوثب الحماسي فيه هو الذي(194/1)
جعله يؤثر النظم في تقييد خواطره. وهذه الحماسة قد تنفك أحياناً عن الفكرة لكلالها أو ابتذالها، فيذهب الشاعر، ولا يبقى الفيلسوف، ويكون الزهاوي معك كالآلة تدور مليئة متزنة ما دامت على شيء، فإذا نفذت مادتها على فجأة انطلقت تدور على الفارغ سريعة مضطربة، ذلك لأن الفكرة الفلسفية هي المادة الأصيلة في شعر الزهاوي. وليس الشعر كله فكرة. وإنما هو فضلاً عنها صورة يرسمها الخيال، وشعور تبعثه العاطفة. على أن فكرة الفيلسوف واضحة، وجمالها في هذا الوضوح وفكرة الشاعر خفية، وسحرها في هذا الخفاء. فإما أن تدرس الطبيعة لتعرفها وتشرحها فتكون صاحب فلسفة، وإما أن تدرسها لتقلدها وتصورها فتكون صاحب شعر. أما الخلط بين الفلسفة والشعر لأن الشاعر يدرس ظواهر الكون، فكالخلط بين التصوير والتشريح لأن المصور يدرس بواطن الجسم.
كان الزهاوي كشوقي حريصاً على متابعة العصر ومسايرة التطور؛ ومنشأ هذا الحرص فيهما طبع مرن يطلب التجدد، وحس مرهف يأنف التخلف. ويزيد الزهاوي أن الفخر يزهاه، والتيه يذهب به، فيحب الثناء ويبغض النقد. فهو لفَرَقه من صفة القدم يسبق الشباب إلى التجديد، ولنفوره من معرة الجمود يذهب بالرأي إلى التطرف، ولطمعه في نباهة الذكر يجاري ميول الخاصة ويعارض هوى العامة. ومن ثم كان أكثر شعره تشنيعاً على الاستبداد بمهاجمة أهل الحكم، وزراية على الجمود بمحاربة أهل الدين، وتحقيراً للتأخر بمصادمة مألوف الأمة.
والزهاوي بعد هذا وفوق هذا كان رسولا من رسل الفكرة الإنسانية، وبطلاً من أبطال النهضة العربية. كان يهزج بأغاريد الفجر على ضفاف دجلة فتتردد أصداؤها الموقظة على ربوات بَرَدى، وخمائل النيل، وسواحل المغرب. وأدب الزهاوي وأمثاله هو الذي وصل القلوب العربية في مجاهل القرون السود بخيوط إلهية غير منظورة، حتى استطاعت اليوم أن تتعارف وتتآلف وتتحالف؛ ثم تسعى لتعود أمة كما كانت، وتقوى لتصبح دولة كما يجب أن تكون.
أحمد حسن الزيات
-(194/2)
حديث المال
بقلم إبراهيم عبد القادر المازني
جلسنا ثلاثة من الأخوان نتحدث عن المال وكيف ينال - فقد مات زخاروف رجل الأسرار أو الظلام كما يسمونه وصار ذكره على كل لسان ولهجت الصحف بملايينه وأعماله الصحيحة أو الموهومة وأخذ عنها الناس وراحوا يلغطون. وأحسب أن لو كان زخاروف حياً واستطاع أن يسمع ما يروى عنه ويعزى إليه لأذهله ذلك ويكفي أنه ما من ثورة أو حرب شبت في الخمسين سنة الأخيرة إلا وهو فيما يقال مضرم نارها.
وقلت لصديقي: (أما أنا فلست أعرف وسيلة للغنى إلا هذه - أفتح عيني في الصباح وأدس يدي تحت الوسادة لأتناول الساعة وأنظر إلى وجهها فأجد مكانها كوما عالياً من الأوراق المالية الكبيرة. وعلى ذكر هذه الأوراق الكبيرة أقول - ولا فخر - أني ما رأيت ورقة بمائة جنيه إلا مرة واحدة في حياتي. . أم تراها كانت بخمسين فقط. . والله ما أدري. . الحاصل. . أُعطيتُها لأبدلها وآخذ منها قدرا معينا وأرد الباقي فوضعتها في جيب البنطلون وأبقيت كفي عليها خوفاً من النشل وذهبت إلى البنك - المصرف كما لا يسمى - ولا أطيل. وحسبي أن أقول أن الرجل كان ينظر إلي نظرة من تحدثه نفسه بأنه يحسن حجزي حتى تجيء (النيابة). . وصار معي عدد كبير من الورق فوضعت حقي في جيب والباقي في جيب آخر اتقاءً للاختلاط والحاجة إلى إعادة العد والحساب. وقد تعلمان كرهي لهذا الحساب أو جهلي به على الأصح. وجاء الليل - وكنت أعمل في ذلك الوقت في جريدة صباحية، فأنا اعمل بالليل وأنام بالنهار - وتذكرت أني على موعد مع صديق في الساعة الحادية عشرة وكنت جائعاً فقلت أذهب إلى محل جديد في شارع عماد الدين وآكل لقمة أو اثنتين من (السندويتش) ثم أذهب إلى موعدي. وكنت قد وضعت الأوراق في المحفظة - على خلاف عادتي - ولم يكن معي من النقود الصغيرة غير قرش واحد. وحدثتني نفسي وأنا آكل أنه يحسن أن أشتري شيئاً من هذه الفاكهة فإن منظرها مغر، فأخرجت جنيهاً ولكن الزحام كان شديداً فكادت روحي تزهق ورأيت أن الأمر سيطول فدسست الجنيه في جيبي وانصرفت ولقيت صاحبي على (القهوة) وعدت إلى البيت فأحسست وأنا أخلع ثيابي أن (الجاكته) خفيفة فنظرت فيها فإذا المحفظة قد طارت. أي والله. قطع النشال الجيب(194/3)
بسكين أو موسى أو لا أدري ماذا وأخذ المحفظة. .)
وعدنا بعد هذه الذكرى الأليمة إلى زخاروف والملايين فقال أحد الصديقين: (لماذا لا نرى في الشرق ناساً يصبحون أصحاب ملايين كما يحدث في الغرب كثيراً. .)
فقال ثالثنا: (إن الغنى العريض الواسع يستفاد من الصناعة والتجارة لا من الزراعة فإنها محدودة وكل عمل لا يقبل التوسيع والنماء المطردين لا يمكن أن تجيء منه ملايين ولا ما يقرب منها)
فقلت: (ولا تنس يا صاحبي أن الخِطار في حكم المعدوم في الشرق. ولا بد من المغامرة لطالب الثروة الكبيرة السريعة. ولعل إخواننا العرب أعظم منا جرأةً وإقداما وأكثر استعداداً للمغامرة. والمحقق أن المصريين أطلب للراحة والدعة والاطمئنان على الرزق. وهم يرضون بالقليل إذا كفل لهم الاطمئنان وقد كانوا إلى بضع سنوات يعدون صاحب التجارة أحط مقاماً من صاحب الزراعة وأحسب أن هذا لأن رزق الزارع مكفول ولكن الرزق من التجارة على كف عفريت. واسمعوا هذه الحكاية: لما عدت في العام الماضي من العراق جاءني صديق حميم وذكر لي أن له صاحبا يشتغل بصناعة الجلود وأنه يرجو مني المعونة ليحتكر جلود الأضاحي في موسم الحج في الحجاز فقلت له: إني أعرف أن الحكومة العربية تكره الاحتكارات ولا ترضى أن تظلم رعاياها على نحو ما يبغي صاحبك ثم أني لا أستطيع أن استغل علاقتي بهؤلاء القوم، ولكني أشير بما هو خير من ذلك واجدي على صاحبك إذا كان عاقلاً. . واقترحت عليه أن يؤلف صاحبه شركة مصرية عراقية لإنشاء مصنع للجلود ومدبغة في بغداد وقلت له: إني أستطيع بمساعدة إخواني في مصر والعراق أن أُقنع جماعة من العراقيين بالدخول في هذه الشركة. ولصاحبك أن يدخل فيها بالقدر الذي هو في طوقه. والجلود في العراق وفيرة ورخيصة، وجلبها من البلاد العربية إلى بغداد أسهل وأقل كلفة من جلبها إلى مصر، أما الأسواق فعديدة. فهناك أسواق العراق نفسها - والقوم هناك وطنيون عمليون يؤثرون صناعات بلادهم، والحكومة عظيمة التشجيع لها ولا أعتقد أنها تتردد في أخذ حاجة جيشها من هذا المصنع إذا أُنشئ ثم أن هناك أسواق جزيرة العرب وأسواق فلسطين وأسواق الشام وفي هذه البلاد كلها يفضل الرجل مصنوعات بلاده فالمشروع ولا شك في حسن عائدته ولا خوف من الخسارة فيه وأنا(194/4)
مستعد أن أطلق الصحافة والأدب وأعمل معه وأقوم له بكل ما يستدعيه الحصول على رأس المال أولا واستيراد الجلود من الجهات المختلفة وتصريف المصنوعات في أسواق الجزيرة والعراق وفلسطين وسوريا، فاقترح هذا على صاحبك وانظر ماذا يرى. . ووقف الأمر عند هذا الحد لأن في المشروع مخاطرة بالمال!!. ولست أدري أين المخاطرة ولكن هذا ما كان. وهكذا ضاعت عليَّ فرصة حسنة للتحرر من رق الصحافة والأدب.)
فسألني أحدهما: (أو تكره الصحافة والأدب؟)
(قلت: لا أكرههما ولكن أعمل فيهما كالحمار ولا أفيد منهما إلا العناء. وإذا وسعني أن أهجرهما إلا ما هو خير وأجدى فلماذا لا أفعل؟ وصدقني حين أقول لك إني لا أكف عن التفكير في وسيلة للنجاة منهما. وقد خطر لي أن أتخذ جراجاً (ولكن الجراج) لا يكون إلا محدوداً وأنا أريد عملاً يحتمل التوسيع على الأيام. وخطر لي أن أتخذ مطبعة ولكني رأيت أن المنافسة الشديدة بين أصحاب المطابع توشك أن تؤدي إلى خرابهم جميعاً. وخطر لي أن أكون بائع (طعميه) وهذا لا يتطلب رأس مال يستحق الذكر، واقتنعت بأن هذا خير ما يمكن أن أصنع وأنه أحسن وجه للخلاص من الصحافة، فذهبت أبحث عن محل صالح ولكني كنت كلما عثرت على واحد واهتديت إلى مكان يمكن أن تروج فيه هذه البضاعة أجد أن غيري قد سبقني. . ولكني لم أقنط من رحمة الله. . وما زلت أرجو أن أوفق إلى عمل صالح غير هذا الأدب الذي لا فائدة منه لأحد)
فسألني ثانيهما: (هل تتكلم جاداً؟)
قلت: (أي والله. . لقد قرأت كل ما وسعني أن أقرأ وكتبت كل ما دخل في طوقي أن أكتب، فهل أفدت إلا الغرور والنفخة الكذابة والصيت الفارغ: وإلا العداوات والخصومات التي لا داعي لها. . لا يا سيدي. . وإني لمستعد أن أنزل لك عن نبوغي وعبقريتي وخيالي الخصب ونشاطي الجم ولا أطلب إلا دكاناً صغيرا أقلي فيه (الطعمية) في سيدنا الحسين أو السيدة زينب أو في بولاق. . أقف فيه وأمامي المقلاة وإلى جانبي الزيت - زيت الزيتون من فضلك - والفول المدقوق وعليَّ ثوب أبيض نظيف وورائي الموائد مصفوفة وعليها الأباريق والأكواب. وأُصص الزهر هنا وهناك. والأرض مفروشة بالرمل الأصفر، فإني أريد أن أُرقي صناعة (الطعمية) وأجعل منها فناً. . نعم، خذ أدبي كله(194/5)
وخلودي أيضاً إذا كانا يستحقان شيئاً واعطني هذا الدكان الصغير وزرني بعد ذلك وشرفني بالأكل عندي وعلى موائدي الأنيقة الجميلة واحسدني يومئذ)
وقمنا صامتين لأن كلامي لم يعجبهما. . ولو أعجبهما لرجوت أن أقنعهما بهذه المبادلة. . ولكن لا بأس. . لا بأس. . ولا بأس أيضاً فلن أعدم صناعة أخرى أهتدي إليها في يوم من الأيام. والعمر الطويل يبلغ الأمل كما تقول العامة في أمثالها الحكيمة التي هي عصارة التجارب الإنسانية على الدهور
إبراهيم عبد القادر المازني(194/6)
قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
حياكم الله يا شباب الجامعة المصرية، لقد كتبتم الكلمات التي تصرخ منها الشياطين. . .
- كلمات لو انتسبن لانتسبت كل واحدة منهن إلى آية مما نزل به الوحي في كتاب الله.
- فطلب تعليم الدين لشباب الجامعة ينتمي إلى هذه الآية: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرِّجس).
- وطلب الفصل بين الشبان والفتيات يرجع إلى هذه الآية: (ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن)
- وطلب إيجاد المثل الأخلاقي لهذه الأمة من شبابها المتعلم هو معنى الآية: (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة)
- قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق. إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا
حياكم الله يا شباب الجامعة؛ لقد كتبتم الكلمات التي يصفق لها العالم الإسلاميُّ كله
كلمات ليس فيها شيء جديد على الإسلام، ولكن كل جديد على المسلمين لا يوجد إلا فيها.
كلمات القوة الروحية التي تريد أن تقود التاريخ مرة أخرى بقوى النصر لا بعوامل الهزيمة
كلمات الشباب الطاهر الذي هو حركة الرقيّ في الأمة كلها، فسيكون منها المحرك للأمة كلها
كلمات ليست قوانين، ولكنها ستكون هي السبب في إصلاح القوانين.
قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق. إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا.
يريد الشباب مع حقيقة العلم حقيقة الدين، فإن العلم لا يعلّم الصبر ولا الصدق ولا الذمة.
يريدون قوة النفس مع قوة العقل، فإن القانون الأدبي في الشعب لا يضعه العقل وحده ولا ينفذه وحده.
- يريدون قوة العقيدة حتى إذا لم ينفعهم في بعض شدائد الحياة ما تعلموه، نفعهم ما اعتقدوه.
يريدون السمو الديني، لأن فكرة إدراك الشهوات بمعناها هي فكرة إدراك الواجبات بغير معناها.
يريدون الشباب السامي الطاهر من الجنسين، كي تولد الأمة الجديدة سامية طاهرة(194/7)
قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق. إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا
أحس الشباب أنهم يفقدون من قوة المناعة الروحية بقدر ما أهملوا من الدين
وما هي الفضائل إلا قوة المناعة من أضدادها؟ فالصدق مناعة من الكذب والشرف مناعة من الخسة.
والشباب المثقل بفروض القوة هو القوة نفسها. وهل الدين إلا فروض القوة على النفس؟
وشباب الشهوات شباب مفلس من رأس ماله الاجتماعي ينفق دائما ولا يكسب أبدا.
والمدارس تخرج شبانها إلى الحياة، فتسألهم الحياة: ماذا تعوّدتم لا ماذا تعلمتم؟
قوة الأخلاق يا شباب؛ قوة الأخلاق. إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا.
وَأَحَسَّ الشبابُ معنى كثرة الفتيات في الجامعة، وأدركوا معنى هذه الرقة التي خلقتها الحكمة خالقة.
والمرأة أداة استمالة بالطبيعة، تعمل بغير إرادة ما تعمله بالإرادة لأن رؤيتها أول عملها
نعم إن المغناطيس لا يتحرك حين يجذب، ولكن الحديد يتحرك له حين ينجذب.
ومتى فهم أحدُ الجنسين الجنسَ الآخر، فهمه بإِدراكين لا بإدراك واحد.
وجمالُ المرأة إذا انتهى إلى قلب الرجل، وجمال الرجل إذا استقر في قلب المرأة.
هما حينئذ معنيان، ولكنهما على رغم انف العلم معنيان متزوجان. . . .
لا، لا؛ يا رجال. إنْ كان هناك شيء اسمه حرية الفكر فليس هناك شيء اسمه حرية الأخلاق.
وتقولون: أوربا وتقليد أوربا. ونحن نريد الشباب الذين يعملون لاستقلالنا لا لخضوعنا لأوربا.
وتقولون: إن الجامعات ليست محل الدين. ومن الذي يجهل أنها بهذا صارت محلاً لفوضى الأخلاق؟
وتزعمون أن الشباب تعلموا ما يكفي من الدين في المدارس الابتدائية والثانوية فلا حاجة إليه في الجامعة
أفترون الإسلام دروساً ابتدائية وثانوية فقط؛ أم تريدونه شجرة تغرس هناك لتُقلَع عندكم. . .؟(194/8)
لا، لا؛ يا رجال الجامعة. إن قنبلة الشباب المجاهد تملأ بالبارود لا بالماء المقطر. . . .
أن الشباب مخلوقون لغير زمنكم، فلا تفسدوا عليهم الحاسة الاجتماعية التي يحسّون بها زمنهم
لا تجعلوهم عبيدَ آرائكم وهم شبابُ الاستقلال إنهم تلاميذكم ولكنهم أيضاً أساتذة الأمة.
لقد تكلم بلسانكم هذا البناء الصغير الذي يسمى الجامعة. وتكلم بألسنتهم هذا البناء الكبير الذي يسمى الوطن.
أما بناؤكم فمحدود بالآراء والأحلام والأفكار؛ وأما الوطن فمحدود بالمطامع والحوادث والحقائق.
لا لا. إن المسلمين الذين هَدَوا العالم، قد هدوه بالروح الدينية التي كانوا يعملون بها بأحلام الفلاسفة
لا لا. إن الفضيلة فطرة لا علم، وطبيعة لا قانون، وعقيدة لا فكرة؛ وأساسها أخلاقُ الدين لا آراء الكتب
من هذا المتكلم يقول للأمة: (الجامعيون لن يقبلوا أن يدخل أحد في شئونهم مهما يكن أمره).
أهذا صوت جرس المدرسة لأطفال المدرسة؟: تِرِن تِرِنْ. . . . فيجتمعون وينصاعون؟
كلا يا رجل، ليس في الجامعة قالب يصَب فيه المسلمون على قياسك الذي تريد.
أن التعليم في الجامعة بغير دين يعصم الشخصية، هو تعليم الرذيلة تعليمَها العالي
(ويستنبئونك أحق هو إي وربي إنه لَحق وما أنتم بمعجزين).
قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق. إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(194/9)
حمَّام فرعون
للأستاذ حسن جلال
علمت وأنا في مدينة الإسماعيلية بأن جماعة من رواد الجبال سبق لهم القيام برحلة إلى عين كبريتية في جبل من الجبال التي في جنوب مدينة السويس، وأنهم يعاودون التفكير في تكرار هذه الرحلة ويتهيئون لها، فهفت نفسي إلى الاشتراك معهم لهوى قديم بيني وبين تلك الجهات كان يدفعني منذ سنين إلى أن أقضي سحابة يوم الجمعة من كل أسبوع متقلباً بين ربوع جبال القاهرة وضواحيها.
وكانت تلك الجماعة تتألف من:
1 - أحد أعضاء مجلس النواب وشيخين من أقاربه.
2 - ومن تاجر من كبار تجار الإسماعيلية
3 - ومن تاجر آخر من عيون تجار القاهرة
4 - ثم من رجل أجنبي من رجال الأعمال إيطالي الجنسية له مزارع واسعة في حدود مدينة الإسماعيلية.
فأما عضو النواب وقريباه فكانوا يشكون الروماتزم، وكان هذا هو الذي يحفزهم إلى ارتياد تلك العين، فأن لها على ما يقول الناس خواص سحرية في شفاء الأمراض.
وأما تاجر القاهرة فقد سمع بحديث تلك العين من النائب فأغراه ذلك على أن يجرب سحرها في أوصاله.
وأما تاجر الإسماعيلية فكان على ما فهمت رجلاً لا يحتاج إلى الاستشفاء لا بالحار ولا بالبارد، وكل همه في الحياة أن يجلس في آخر النهار في بعض المقاهي ونرجيلته بين ركبتيه يمصها فتقهقه له حتى تنقطع أنفاسها فيخليها لصاحبها ويعود إلى داره راضياً مرضياً، وكانت الأسباب كلها منقطعة بينه وبين تلك الرحلة لولا أن له سيارة جميلة أحب صاحبنا النائب أن يضمها إلى القافلة فدعاه للاشتراك فلبى الدعوة.
وأما التاجر الإيطالي فكان هو عماد الرحلة وبطلها لأنه كان قائدها الذي يدلها على الطريق في وسط الأودية المهجورة والجبال المتشابهة، يعاونه على ذلك دليل بدوي ممن يعملون في مزارعه، ولم يكن له من حافز ظاهر إلى الاشتراك في الرحلة غير ميله إلى الرياضة، أما(194/10)
أن أمثال هذه الرحلة قد تساعده على تنمية معلوماته عن الصحاري المصرية وطرقاتها فهذا حديث آخر لا محل للخوض فيه الآن، وللقارئ أن يستنتج لنفسه ما يشاء. . .
هؤلاء هم أشخاص الجماعة
أما النبع نفسه فقد سمعت أنه نبع حار يخرج من الصخر، ويصب في مياه البحر الأحمر. وأنه نبع (مكبرت) كالنبع الذي في حلوان والفرق بين الاثنين أن هذا بارد. أما (حمام فرعون) فهو يخرج من بطن الجبل شديد الحرارة حتى لتلقى السمكة في مائه الدافق فتنضج في دقائق معدودات. وعلمت أيضاً أن كهفاً يقوم إلى جانب النبع. إذا دخله الإنسان فإنه لا يطيق البقاء فيه أكثر من ربع ساعة لفرط حرارته وشدة ما يعاني الإنسان وهو بداخله من الوهج الذي يتفصد له الجسم عرقاً. وقيل لي إن من دخل هذا الكهف وهو يشكو (الرطوبة) فإنه لا يلبث أن يخرج منه كما ولدته أُمه صحة وعافية. أما العين فإنها وإن خرجت من ينبوعها حارة شديدة الحرارة ألا أنها تجري على شاطئ البحر مسافة طويلة قبل أن تصب فيه. وأنها في مجراها هذا تتفاوت حرارتها. فهي تبدأ حارة لا تطاق ثم تتناقص حرارتها كلما ابتعدت عن أصل النبع، حتى إذا جاءت ماء البحر وصلت وهي فاترة يطيقها كل إنسان. وقال لي من كان يحدثني عنها: وإذا كانت مياه حلوان قد بلغت ما بلغت من الشهرة العالمية وهي باردة يرفعون حرارتها بأنابيب البخار، فلك أن تصور لنفسك مبلغ ما تمتاز به هذه العين وهي تخرج من بطن الأرض حارة حرارة طبيعية لم تتدخل فيها يد الإنسان. وناهيك بحمام من مائها تعقبه خلوة قصيرة في ذلك الكهف الذي يليها. . . إن الإنسان ليدخلها ثم يخرج من الكهف بعدها كما يدخل المنديل القذر في يد (الغسالة) ثم يخرج جافاً ناصعاً من عند (الكواء)!
وكان لي صاحب من ضباط البوليس أرتاح إلى صحبته فعرضت عليه رغبتي في الاشتراك في تلك الرحلة فتولى عني مفاوضة الجماعة في أمر انضمامنا إليهم. وعاد يبشرني بأنهم يرحبون بنا على شرط أن نكون ضيوفهم في الحل والترحال؛ وتذللت بذلك آخر عقبة كنت أتوهم أنها تعترضني في سبيل تحقيق رغبتي لأني لم تكن لي سيارة خاصة. وليست أمثال هذه الرحلة مما يهون فيه الحصول على سيارة بالأجرة. وتحدد موعد القيام بعد يومين من إبرام هذا الاتفاق على أن نجعل قيامنا بعد الفجر بقليل في اليوم(194/11)
المحدد. ولم يبق أمامي إلا أن أتولى إعداد توافه الأمور التي تركها لي مضيفي كالمناشف التي تلزم لتجفيف عرقي وأنا في داخل الكهف. والغطاء الذي أتدثر به عند مبيتي معهم على شاطئ البحر في العراء. على أني أبيت إلا أن أستصحب معي سراً بعض المرفهات التي أعلم أنها لم تكن لتخطر لزملائي على بال. فدسستها في حقيبتي بغية أن أفاجئهم بها هناك وسط الصخور والجبال. وكانت عندي (ترامس) ثلاثة يسع كل واحد منها لتراً من الماء. فملأتها جميعاً بالماء المثلوج - ونسيت أن أقول إن الوقت كان في بداية الصيف - وعطرتها بماء الزهر وأخفيتها في الحقيبة كما أخفيت معها آلة تصوير لألتقط بها بعض المناظر التي تخلد هذه الرحلة. وقد دلت كل الدلائل على أنها ستكون رحلة عامرة بالذكريات التي تستحق التخليد. ولست أحتاج أن أقول إن زملاءنا كانوا قد صارحونا بأنهم سيحملون عنا مئونة تزويدنا بالماء والطعام. فلما سألتهم عما إذا كانوا سيحملون هذا الزاد من الإسماعيلية أم من السويس قيل لي إن العرب الذين سنصادفهم في الوديان خلال الجبال كلهم رعاة أغنام. ونستطيع أن نحصل منهم على ما نشاء من ضأن وماعز. كما أن البحر هناك مرعى بكر يزخر بألوان السمك. والوديان لا ينقطع منها الماء الجاري. ورجال البدو لا يلبثوا أن يحتاطوا بنا ويتنافسون في خدمتنا. فكنت أستمع لهذا الحديث وأرسل أحلامي على سجيتها لتتم بألوانها الساحرة بقية تلك الصورة الخلابة التي لبثت يومين كاملين وأنا أسعد بالتقلب بين أعطاف خيالاتها!
وأخيراً حل اليوم الموعود، وكنت على أتم أهبة للرحيل قبل بزوغ الشمس، وأقبلت السيارات تناديني بأبواقها، فنزلت فإذا سرب طويل منها يضم الصحاب جميعاً، فاستقللناها قاصدين إلى السويس؛ والطريق ما بين الإسماعيلية والسويس طريق جميل ممهد أعدته في السنوات الأخيرة شركة قنال السويس ليكون متمماً للطريق القديم الذي يوصل ما بين الإسماعيلية وبور سعيد؛ وهذا الطريق يسير إلى جانب القناة ويتمتع السائر فيه بمناظر بحيرة التمساح والبحيرات المرة الكبرى والصغرى التي تمتد على يساره، بينما تقوم الحقول الخضراء على يمينه وهي حافلة بالأكواخ الصغيرة الساذجة، وبألوان شتى من المواشي والأغنام، وكلها دائبة في رعي تلك المروج الناضرة البهيجة. ووصل الركب محطة (الكوبري) حوالي الساعة السابعة صباحاً. وهذه المحطة تقع في شمال السويس،(194/12)
وعلى بعد ثمانية كيلومترات منها. وعندها تقع (المعدية) التي ينتقل عليها المسافر من شاطئ القنال الغربي، إلى شاطئه الشرقي - أو من شاطئه الإفريقي إلى قرى شاطئه الآسيوي كما يقولون - فاضطررنا إلى الوقوف هنا ريثما يقوم عامل (الجمرك) بتفتيش أمتعتنا. وقد عجبت لهذا العمل ونحن إنما ننتقل من أرض مصرية إلى أرض مصرية. فلما استفسرت عن السبب علمت أن المنطقة التي نريد أن ندخلها خاضعة لمصلحة الحدود. والنظام الإداري في تلك المصلحة يكاد يكون مستقلاً عن إدارة الحكومة المصرية. وأنه محظور على من يريد دخول الصحراء في تلك الجهة أن يكون معه سلاح ناري تنفيذاً لأمر المصلحة الذي يقضي بعدم صيد الغزال مثلاً في تلك المنطقة. كما أنه من المحظور أيضاً أن يحمل المسافر معه آلة تصوير حتى لا يسجل بها مناظر ترى المصلحة أنه من الواجب المحافظه على سريتها. وكانت النتيجة الأولى لوقفتنا هذه في محطة الكوبري، أني خسرت آلة تصويري، لأني اضطررت إلى تسليمها من تلقاء نفسي، وبذلك ضاعت علي فرصة إحدى المفاجآت التي كنت دبرتها للإخوان. على أن هذه لم تكن خسارتي الوحيدة. فقد بدأ لبعضنا أن يتناول وجبة خفيفة في ذلك المكان تكون بمثابة الفطور لمن فاته الإفطار في منزله. وكنت أنا من هؤلاء. فأردت بعد لقيمات ازدردتها أن آخذ جرعة من الماء فهممت بتناول واحد من (ترامسي) ولكن سبقتني إليه يد أحد الزملاء الكرام يريد أن يبالغ في الحفاوة بي فلا يدعني أقوم بهذه الخدمة الهينة لنفسي فما راعني إلا أن أراه يملأ كوب الترموس من ماءه المعطر المثلوج ثم يهزه في يده هزات يريقه من بعدها على الأرض كما لو كنا نستقي من (زير) بجوار سوق في إحدى قرى الريف، فهو يريد أن يكفل نظافة (الكوز) مما يكون قد علقه به من الغبار! وأردت أن أعوض ما شربته الأرض من مائي العزيز فاقتصدت في الجرعة التي شربتها واكتفيت منها بمصتين لأني كنت أقدر ما نحن مقبلون عليه من الجفاف والجدب. ولكن حلا لبقية الصحب أن يستقوا فأدار الساقي عليهم من أكوابي، ودخلت الصحراء بنصف ما كنت تزودت لها به من الماء. وكانت هذه خسارتي الثانية في مستهل الطريق.
وحملتنا (المعدية) بسياراتنا فنقلتنا إلى الشاطئ الشرقي. وبدأنا عقب ذلك رحلتنا الشاقة في وسط الصحراء حيث لا شيء إلا الحصى والرمال في طريق متشابهة لا أثر فيها لأي نوع(194/13)
من أنواع الحياة. ولبثنا نضرب في تلك البيداء حتى أدركنا الظهر - ولكنا على كل حال كنا نسمر بمختلف الأحاديث - وكان الذين سبقونا إلى ارتياد هذا الطريق لا يضنون علينا بشرح ما يعرفونه من معالم، وأحياناً أيضاً بشرح ما لا يعرفون استجابة منهم لنداء تلك الغريزة العجيبة التي ركبت في كل نفس والتي تجعل صاحبها يلتذ أن يتظاهر بالعلم أمام من لا يعلم!
وكانت سيارة الإيطالي في مقدمة الركب. وقد قبع الدليل البدوي على مقدمها ليلجأ إليه صاحبه كلما أعوزته المشورة في أمر الطريق. وفي النهاية لاحت لنا أشجار (الطرفاء) التي تزين (وادي الغَرَنْدَل) وهو واد واسع يكثر فيه النخيل ولا ينقطع منه الماء طول العام. وبدأنا نرى الناس من جديد بعد أن كنا نظن أننا انقطعنا عن العالم - ولكن يا لهم من ناس!. . . لقد كانوا أشباحاً في أثمال. . . أجسام رقيقة مديدة ضمرها الجوع. وعيون فاترة غائرة أطفأها الفقر والجدب. كانوا يحيطون بنا ويعدون إلى جانبنا ويلاحقوننا كما كانت تفعل جنادب الوادي الذي يعيشون فيه. أما سياراتنا فكانت عند اجتيازها لهذا الوادي تجري فوق مياهه. إذ لم يكن أمامنا طريق أخرى غير بطنه، فكانت أشبه بالزوارق البخارية منها بالسيارات. ولقد عانينا كثيراً ونحن نجتاز هذه المرحلة من طريقنا لأن الماء كان يتسرب إلى داخل آلات السيارة كلما أدركنا مخاضة بعيدة الغور نوعاً ما. وكان الويل للسيارة التي يصيبها ذلك، لأن الركب ما كان ليقف لأمثال تلك الأحداث، فكانت السيارة المتخلفة تقاسي كثيراً قبل أن تلحق بالقافلة وتمسك معها بطرف الطريق. وتكررت حوادث فقد الطريق ونحن بالوادي، ذلك لأن الطرق فيه متشعبة فكان المتخلف عرضة لأن يتبع آثار عجلات غير عجلات سياراتنا كلما غابت عن نظره بقية القافلة. وكم وقفنا وأطلقنا أبواقنا ليهتدي على صوتها من نفتقده من الزملاء. وكم كررنا نحن راجعين في مسلك وعر كنا قد تشهدنا عندما اجتزناه، فلما فرغنا منه وجدنا أننا قد ضللنا الطريق.
وأخيراً خرجنا من هذا الوادي وعدنا إلى الصحراء من جديد ولكنها كانت في هذه المرة صحراء نافرة صخرية يكتنفها جبل عظيم أبيض اللون ناصعه تجوس في سفحه عربات صغيرة وتدب معها نمال بشرية تتراءى من بعيد كأنها بعض هوام الجبل أو زواحفه. وسألت فعلمت أن شركة إيطالية قد حصلت من الحكومة على امتياز لاستغلال هذا الجبل(194/14)
وأنها تحصل منه على نوع من الرخام النادر تصدر معظمه إلى باريس بالذات دون بلاد العالم لكثرة الحاجة إليه في مبانيها الأنيقة الحديثة. وأن هذه الشركة قد أثرت من وراء هذا العمل ثراءً طائلاً. فأحببت أن نقف قليلاً لنصل بعمال هذا الحجر ونتحدث إليهم فنسري عن أنفسنا ونسري عنهم. وفي أمثال تلك البقاع النائية يصدق قول القائل: وكل غريب للغريب نسيب!
وكانت حالة السيارات تقتضي هذه الوقفة أيضاً، فإنها كانت قد شربت كل ما معنا من الماء وكانت في حاجة أيضاً إلى الماء. فترجلنا لنملأ صهاريجها، واتجهت وبعض من معي إلى أولئك العمال فإذا هم جميعاً من أهل الصعيد - تلك الطائفة النبيلة التي شيد أجدادها مجد الفراعنة وخلدوا آثارهم في وادي الملوك وغير وادي الملوك، وها هو ذا الخلف اليوم لا يجد من يستنجد بكتفه وذراعه غير الأجنبي فيلبي دعوة القوت وسط تلك الأصقاع السحيقة القاحلة يقضي عمره ويفني حياته في قطع الرخام وحمله ليجد هو في آخر النهار ما يسد به رمقه. ولينعم حسان باريس بالرونق البهي والرواء الحسن. وليقف المقاول الإيطالي بين الطرفين يستغل جهد المصري وثراء الباريسي في آن واحد.
وأردت أن أعرف من أين يحصل هؤلاء العمال على الزاد والماء - ولعل الباعث الخفي لسؤالي كان حرصي على الاطمئنان على نفسي ومصيرها في هذا القفر قبل أن يكون إشباع حب الاستطلاع فيها عن حالة هؤلاء المساكين - فقيل لي بأن باخرة تقدم من السويس كل شهر تقريباً فتحمل إليهم الزاد والماء الذي يكفيهم حتى موعد الزورة التالية، فبدت عليَّ أنا وزملائي علائم الإشفاق والرثاء. ولكن جرنا الحديث إلى ذكر المنائر التي تقع على شاطئ البحر الأحمر والتي تضم كل واحدة منها ثلاثة من الموظفين المصريين في حالة عزلة تامة عن العالم لمدة تسعة شهور، إذ أن كل منارة من هذه المنائر يديرها أربعة من الموظفين يعمل كل واحد منهم تسعة شهور متتالية في العام ويحصل على إجازة سنوية تستغرق الثلاثة شهور الأخرى. ولذلك فإن ثلاثة منهم فقط يجتمعون في العمل ويكون الرابع في إجازته، حتى إذا عاد هو قام من يكون عليه الدور وهكذا. وأن الواحد من هؤلاء الموظفين متى استلم عمله في فنارة فإنه ينقطع عن العالم وأخباره حتى يحل موعد وصول الباخرة التي تأتيهم بالطعام والماء مرة في كل شهر. وهم من خلال هذا(194/15)
الشهر لا يقرءون الصحف ولا سبيل لهم إلى معرفة ما يكون قد مر على العالم من أحداث، وما يكون قد طرأ عليه من حروب. وعجبت من شأن الحكومة مع هؤلاء الناس ومن شأنهم هم مع أنفسهم، فإننا أصبحنا اليوم نسمع الراديو في السيارات الخاصة وهي تسير وسط الطرقات العامرة الزاخرة، ثم ها نحن أولاء نسمع من أمثال هذه المنائر التي تترك بغير جهاز ولا صفير من هذه الأجهزة الكفيلة بأن تنقل أهلها من عزلتهم فتضعهم في وسط العمران والحياة.
كان بيننا وبين (حمام فرعون) ونحن في ذلك المحجر بضع كيلومترات قد لا تزيد على خمسة أو ستة، ولكن ما كابدناه في قطع هذه المرحلة القصيرة فاق كل ما لاقيناه في طول الرحلة منذ بدايتها، ذلك بأن الطريق كان قد انقطع عند المحجر، وأصبح علينا بعد ذلك أن نسير في أرض بكر لا تطرقها السيارات إلا كلما حلا لأمثالنا أن يزور ذلك المكان، وهو نادر قليل، وكانت طبيعة الأرض في تلك الجهة جامحة نافرة، فبينا هي صلبة في بعض نواحيها إذا هي رخوة تغوص القدم في رمالها في نواحيها الأخرى وكان في انتقال السيارة من الصلب إلى الرخو ثم من الرخو إلى الصلب ما فيه من إجهاد للسائق وللراكب وللآلات نفسها، وذلك لما تستدعيه طبيعة كل ناحية من تغيير درجات السرعة وتحريك رافعات السيارة واحدة بعد أخرى بما يناسب حالة الطريق وقد حدث أننا خسرنا فعلاً إحدى سياراتنا فقد انكسرت بعض آلاتها في هذه التنقلات السريعة المفاجئة، واضطررنا إلى التخلي عنها وسط الطريق بعد أن توزعت حمولتها على بقية السيارات فزادت في عسر حركتها وتعريضها هي الأخرى للتلف، وليس يفوتني أن أقول هنا أن هذه السيارة بالذات كانت سيارة تاجر الإسماعيلية الذي لم يكن من سبب لإشراكه في هذه الرحلة غير سيارته، ولكن هكذا قدر الله في لوحه أن يأتي أجل هذه السيارة في تلك البقعة الموحشة. وصدق الله العظيم و (ما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت) وقديماً قيل:
إذا ما حِمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير
وقبل العصر بقليل ألقت القافلة عصاها في سفح جبل عال كان يواجهنا، وقيل لنا انزلوا: فهذا هو (حمام فرعون)
وثبتُ من سيارتي فرحاً وقد نسيت أمام بلوغ الهدف كل ما لاقيته خلال الرحلة من مشقة.(194/16)
ولم أنتظر حتى يتقدمني من له علم بالمكان. لأني لم أكن رأيت في حياتي قط عينا حارة - ولكني كما هو الحال دائماً في أمثال هذه الشئون كنت قد صورتها لنفسي بعين خيالي. وكنت شديد الشغف الآن بأن أقابل بين الحقيقة وبين الخيال. فما كان أشد الفرق بين الصورتين!
كنت أتصور النبع على صورة (الفسقية) ينبثق من وسطها خرطوم عال من الماء له رشاش من حوله ثم يتجمع الماء في حوض حول العين ثم لا يلبث أن يفيض من الحوض إلى ذلك المجرى الطويل الذي حدثونا عنه. وكنت أتخيل هذا المجرى في صورة قناة جميلة وسط صخور صلدة ينساب الماء فيها رائقاً صافياً كتلك القناة الجميلة البيضاء التي ما تزال آثارها باقية في (وادي حوف) بحلوان والتي كنا نتناول فيها غداءنا كلما رحلنا إلى تلك الجهة. فأدرت عيني بسرعة فيما يحيط بي أبحث عن تلك الفسقية أو عن هذه القناة فلم أجد لإحداهما أثراً، فخاب ظني لأول وهلة وأحسست بقلبي يتراجع قليلاً في صدري شأن من يفاجأ بأمر لم يكن يتوقعه. ولكن سرعان ما استغرق بصري ذلك الجبل العظيم الذي كنا نقف في كنفه. فصوبت عيني فيه وصعدتها فأخذتني عظمته. ولمحت في صفحته ثغرة سوداء قريبة من سطح الأرض، فأدركت أنها لابد أن تكون مدخل الكهف الموعود. وكان هذا الجبل يقوم على شاطئ البحر ليس بينه وبين الماء في البقعة التي وقفنا فيها أكثر من خمسين متراً، ثم هو يمتد محاذياً للشاطئ مسافة مائتي متر أو ثلاثمائة متر، وبعد ذلك يتصل بالماء رأساً فيرتطم موج البحر بقدميه ويتحطم على صخوره السوداء. ولفت نظري في ذلك المثلث الرملي الضيق الذي كنا نقف على قاعدته أن قناة ضحلة تجري وسطه فتتبعتها ببصري مسرعاً فرأيتها تبدأ عند قاعدة الجبل ولكن لم أتبين من أين ينبثق ماؤها. فدلفت إليها حتى جئت المكان الذي ينبعث منه الماء فإذا هو ثلمة ضيقة بين صخرين يسيل منها الماء كما يسيل من صنبور متوسط الحجم فيجري على الصخور المجاورة حتى تتسلمه رمال الساحل فتبلع منه ما تبلعه وتترك الباقي ينداح على صدرها حتى يصب في البحر. وكانت رائحة الكبريت ساطعة تملأ الجو، ولكن الماء كان يجري كالبلور المذاب لا يعلوه بخار ولا يبدو عليه أنه حار. فأغراني ذلك بأن أمدّ إليه إصبعي ولكني ما كدت أفعل حتى سحبتها صارخاً كأنما اندق فيها مسمار. فأثلجت هذه اللسعة صدري. ومنيت نفسي(194/17)
بالحمام الساخن الذي قطعت من أجله كل تلك القفار، فلست أعرف في متع هذه الحياة ما هو أحب إلى نفسي من الحمام الساخن!
وكان إخواني قد أدركوني وحف بعضهم بالنبع وانطلق بعضهم يساير القناة. أما الإيطالي فإنه اشتغل بنصب الخيام.
وشاءت المصادفات أن يكون الهواء في ذلك اليوم قوياً ثقيلاً فكان يسفي علينا التراب ونحن لا نجد ما نحتمي فيه حتى قامت خيام الإيطالي فآوينا إليها وقد نال منا الجوع، ونشر الخادم بين يدينا علبه ولفائفه وأدار علينا الخبز فالتهمناه بما أصابت أيدينا من جبن وزيتون وقديد وما إلى ذلك مما كان قد أعد لتتبيل أغنام الرعاة المنتظرة وسمك الصيادين الموعود، فأبت علينا المقادير إلا أن نأكله هو متبلاً بالتراب ومحشواً بصغار الحصا، ومع ذلك فقد كنا نتخاطفه ونتنافس في التطويح بما نصيبه منه إلى أفواهنا قيل أن ننفخ فيه ونذروا عنه ما علق به من الرمال، فيا سبحان الله! أهكذا يحلو المر أحياناً في هذه الحياة! وماذا بقي لنا من الحقائق المطلقة في دنيانا وكل شيء فيها اعتباري كما نرى؟ إلا أن الحسن إنما يكون حسناً في ظل رضا النفس، والقبيح إنما يقبح بزوال هذه الحالة عن النفس! والسعادة مهما اختلف الناس في أسبابها فهي من الكثير الغالب من صنع أيدينا وفي القليل النادر من صنع المقادير.
ولم نهجع عقب الطعام بل انتشرنا في المكان نرتاده ونتسلق الجبل وندخل الغار بأطراف رءوسنا ثم نخرجها سراعاً لكثرة ما ألقى في روعنا من أنه شديد الحرارة يذيب نخاع الرءوس. وقضينا على ذلك ساعة وبعض ساعة حتى أوشك النهار أن ينقضي فتأهبنا لأخذ الحمام المرتجى، وانصرف كل واحد منا إلى صخرة توارى خلفها فخلع ملابسه. وارتدى قميص البحر، ولم تكن إلا هنيهة حتى استحال المكان إلى (بلاج) أنيق صغير بأولئك الفراعنة الصغار الذين جاءوا من أقصى الأرض ليحققوا للمكان اسمه ويؤيدوا له لقبه. وكان الأعرابي الذي مع الإيطالي قد احتمل فأساً وقصد إلى أوسع مكان في القناة فعمقه وأبعد غوره كما يتسع لأجسامنا ويصلح للاضطجاع. فنزلناه واحداً بعد واحد وساعدنا ذلك على رفع مستوى الماء قليلاً فما زلنا نتقلب فيه ونتلبط. وهواء المساء البارد يصفع أجسادنا الحارة ونحن نصر على أن نوهم أنفسنا بأننا نأخذ حماماً ساخناً حتى أدركنا أن(194/18)
إصرارنا سيكون وخيم العاقبة إذا نحن تمادينا في تحدي الطبيعة إلى أبعد من هذا الحد، فخرجنا نتواثب من حفرتنا كجماعة الضفدع دهمها داهم وهي ترتل في مخابئها أناشيد المساء!
ولما نزل بنا الليل كان الهواء الثائر قد سكن، والتراب السافي قد استقر، ولاحت النجوم في السماء زاهية زاهرة. وأشهد أني لم أر السماء طول حياتي كما رأيتها في تلك الليلة. فلقد اعتدنا أن نراها ونحن في المدن من خلال المباني الضاربة في الفضاء، ومن خلال النوافذ الضيقة، فكنا لا نرى إلا قطعاً منها تذهب التجزئة فيها بجمال المجموع. أما في تلك الليلة فقد راقنا أن ننام في العراء فبسطنا فراشنا فوق الرمل وألقينا عليه وسائدنا ثم انطرحنا على ظهرنا واتجهنا بأبصارنا في السماء فراعتنا، وبدت لنا النجوم كما لو كنا لم نرها قط قبل تلك اللحظة. وإني لأذكر الآن كيف أننا جميعاً أصابنا وجوم مشترك أمام عظمة هذا المشهد حتى لقد بقينا فترة لم ينبس فيها واحد منا بحرف. فلما نطق أول متكلم فينا وتحدث بما راعه من منظر السماء اندفعنا جميعاً نكرر معنى واحداً في عبارات مختلفة، وأدركنا أننا في سكوننا كنا تحت تأثير واحد، وأن أحداً منا لم يستطع أن يفلت من جاذبيته!
وفي غداة اليوم التالي تنفسنا مع الصبح جميعاً. ومنا من كانت قد انقضت عليه أعوام وأعوام وهو لا يرى الشمس كل صبح إلا بعد أن ترقى حدود الأفق بزمان طويل. وهببنا من مضاجعنا خفافاً تفيض حركاتنا بالقوة والنشاط، وكانت مفاجأة الصباح التي أعدتها لنا طبيعة المكان أننا أردنا أن نحلق لحانا فامتنعت عن الصابون مياه النبع؛ وعبثاً حاولنا إحداث الرغوة المطلوبة على الرغم من إسرافنا في الدعك والفرك؛ ولم نشأ أن نضحي ببقية مائنا العذب في شؤون زينتنا، فطال ركوعنا على حافة القناة حيث اجتمعنا في شبه (صالون) خشن حقير! وكنا قد أحسسنا في المساء أن ذخيرتنا من الماء كادت أن تنفد، فاحتلنا في الحصول على مدد فلم نجد إلا صفيحتين فارغتين من صفائح البنزين فبعثنا بهما مع خادم ليملأهما من ماء الوادي فعاد بهما إلينا ونحن نتناول طعام الفطور، فكرعنا من مائهما ما كنا في حاجة إليه، فإذا هو في مذاقه أشد نكراً من ماء النبع فهذا فيه طعم الكبريت. أما ذاك فإنه عبق برائحة البنزين والبترول.
وكنت أزمع العودة مع بعض الصحاب في ظهر ذلك اليوم فرأينا أن نقضي الساعة التي(194/19)
بقيت لنا في جوف الكهف حتى لا يكون قد فاتنا شيء من (متع) المكان قبل أن نبرحه. فعدنا إلى قمصان البحر فارتديناها ونشرنا شيئاً من الفراش في أرض الغار ثم دخلنا فرقدنا فوقها ولكنا لم نلبث أن اعتدنا حرارة المكان الذي استلقينا فيه، فأوغلنا قليلاً فوجدنا فارقاً محسوساً في الحرارة فسرنا ذلك، وبقينا فيه أيضاً حتى ألفناه ثم أوغلنا ثانية، وهكذا حتى أصبحنا في قرار الكهف حيث الظلام الشامل. فما كان أروع منظرنا ونحن نزحف في نواحي المكان كالخفافيش والعالم من خلفنا على باب الكهف ساطع بهيج! وكنا قد احتملنا معنا مناشفنا فلم تكن ترى فينا إلا شبحاً يستوي قاعداً فيأخذ في تدليك جسمه بمناشفه حتى يجفف عرقه فلا يكاد يرقد حتى يقوم إلى جانبه شبح آخر يظل يهزج ويحك ذراعه بذراعه فلا ينتهي حتى يسلم هذه المهمة لسواه، وهكذا حتى أحسسنا بحلوقنا آخر الأمر تكاد تجف من فرط ما عرقنا وأفرزنا من ماء جسومنا فعولنا على الانسحاب. وكان حتماً علينا أن ننسحب متدرجين كما أوغلنا متدرجين حتى لا تقتلنا الطفرة أو يؤذينا الانتقال السريع. فقضينا في هذا الانسحاب زمناً ليس بالقليل ولم نستطع أن نركب سياراتنا إلا بعد أن انتصف النهار. ونسيت أن أقول إننا أتينا بعد خروجنا على ماء الصفيحتين فشربناه وظللنا من بعده يومين ونحن نتجشأ بنزيناً قويا يكاد ريحه يضيء ولو لم تمسسه نار!
انقضت بعد عودتنا أيام رأيت في خلالها بعض الصحاب فكان حديثهم ترديداً لما لاقيناه من وعثاء الطريق، وما قاسينا من سعار الكهف. ثم قابلت صاحبنا الإيطالي فكان حديثه أنه يفكر في الحصول من الحكومة على امتياز لاستغلال النبع وإقامة فندق صغير بجواره وتهيئة بواخر خفيفة تصل بينه وبين السويس حتى تنقلب الرحلة إلى متعة ينعم بها المستشفي بدل أن تبقى كما هي الآن مشقة ينوء بها الرياضي. فهتف في نفسي هاتف: (يعيش الدوتشي!) وقلت لمحدثي: لمثل هذا فليعمل العاملون.
حسن جلال(194/20)
الألفاظ العربية
الإسلامية، المولدة، المعربة، العربية، العبرانية، السريانية
استعمال لفظة في محلها: (سد بوزك)
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
الألفاظ في العربية أقسام:
قسم عربي بحت، وهو الذي وضعته اللغة في (الجزيرة) أو جاء من عند غيرها وخالط ألفاظها فعد كأنه منها، وهو أعجمي تعرب، والعربية عربية قوية، فكان مثل (الهرمزان الذي أسلم وبدَّل ثيابه، وتسمى بعرفطة. .) كما جاء في (الطبقات) لابن سعد.
وقسم إسلامي أظهره الإسلام، وما كان في الجاهلية يعرف، أو كان له معنى فيها غير الذي استجد، وهو مثل: المؤمن، المسلم، الكافر، المنافق، المخضرم، الجاهلية، الدجاجلة، الفاسق؛ قال ابن الأعرابي: (لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم (فاسق) قال: وهذا عجيب وهو كلام عربي، ولم يأت في شعر جاهلي. وفي الصحاح نحوه).
وقسم مولّد محدَث، ولد في غير (الجزيرة) مثل الطنز (أعني السخرية) والكابوس الذي يقع على النائم - وفي هذا الزمان يقع على النائم واليقظان - والمطرمذ وهو الكذاب الذي له كلام وليس له فعل، وما أكثر الطرمذة في الناس! والفشار - وهو الهذيان - وجُلّ الناس أو كلهم - كما يقول بعضهم - فشارون. .
ومن المولد الطرش والتشويش والمخرقة والقازوزة والبحران ومنه (ستي) في قولهم: يا روحي، يا ستي! بمعنى يا سيدتي
وقسم معرب وتعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها تقول: عربته العرب وأعربته
في (الصحاح): المهندز الذي يقدر مجاري القني والأبنية، معرب. وصيروا زايه سينا فقالوا: مهندس لأنه ليس في كلام العرب زاي قبلها دال
ومن المعرب (قالون) قال الثعالبي في فقه اللغة: (سأل علي شريحاً مسئلة فأجابه؛ فقال له: قالون: أي أصبت بالرومية) وفي (الفائق) للزمخشري (أو هذا جواب جيد صالح. ومنه(194/21)
حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) أنه عشق جارية له (رومية) وكان يجد بها وجداً شديداَ، فوقعت يوماً عن بغلة كانت عليها، فجعل يمسح التراب عن وجهها ويفديها، وكانت تقول له: أنت قالون (أي رجل صالح) فهربت منه بعد ذلك فقال:
قد كنت احسبني (قالون) فانطلقت ... فاليوم أعلم أني غير (قالون)
ومن المعرب الشُشقلة وهي أن تزن الدينار بازاء الدينار لتنظر أيهما أثقل، قيل ليونس: بم تعرف الشعر الجيد؟ قال: بالششقلة
ومنه (البوس) بمعنى التقبيل. ومن المعرب (خوداي) أي واجب الوجود وهو الله. وفي كتاب (المدهش) لابن الجوزي: (وقف أعجمي عند الكعبة والناس يدعون وهو ساكت، ثم أخذ بلحيته فرفعها وقال: يا خوداي، شيخ كبير!!!)
ومن المعرب (الخز والديباج) وكون هذين معربين - شيء محقق
ومنه الفالوذج واللوزينج والجوزينج ومن يقدر أن يماري في تعريب ذلك؟؟
ومنه (الدهدر) أي الباطل وهو تعريب (دَهْ دُلِه) أي صاحب عشرة قلوب، والمراد به الرجل المتقلب. (قلت): والرجل المتقلب ذو مائة قلب ومائة وجه
ومنه البشم: التخمة، ولا ريب في أنها معربة فما يجيء البشم إلا من الإفراط في الأكل، ومتى كان الشبع في الجاهلية حتى يكون البشم؟!
وكمه أيضاً: (أيضا) فارسيتها أيدي كما يقول كتاب الألفاظ الفارسية المعربة
ومن المعرب: (شاقرد) أو شاجرد ومعناه متعلم، تلميذ تعريب شاكرد قال الأعشى:
وما كنت (شاجردا) ولكن حسبتني ... - إذا (مسحل) سدّي لي القول - أنطلق
وقال موسى بن عبد الله البختكان:
قد كنت شاكردي فيما مضى ... فصرت أستاذي ولا ترضى
ومن المعرب: التوت أو التوث وهو الفرصاد في العربية الأولى. قال محبوب بن أبي العشنط:
لروضة من رياض الحزن أو طرف ... من القُرَيّة جرد غير محروث
للنوْر فيه إذا مج الندى أرَج ... يشفي الصداع وينقي كل ممغوث
أحلى وأَشهى لعيني إن مررت به ... من كرخ بغداد ذي الرمان والتوث(194/22)
وفي تذكرة الشيخ تاج الدين بن مكتوم بخطه: (قال نصر بن محمد بن أبي الفنون في كتاب أوزان الثلاثي: سين العربية شين في العبرية، فالسلام شلام، واللسان لشان، والاسم اشم)
وقول ابن أبي الفنون يذكرنا بكلام لابن حزم في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) وهو:
(إن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير - واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام لغة أهل الأندلس، ومن الخراساني إذا رام نغمتهما
ونحن نجد من سمع لغة أهل (فحص البلوط) وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة. وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة لأمة أخرى تتبدل لغتها تبدلاً لا يخفى على من تأمله، ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلاً، وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى، ولا فرق، فنجدهم يقولون في العنب: (العينب) وفي السوط (أسطوط) وفي ثلاثة دنانير (ثلثدا). وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال (السجرة)؛ وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول (مهمداً) إذا أراد أن يقول (محمداً) ومثل هذا كثير. فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وإنها لغة واحدة في الأصل
ومن الألفاظ المولدة في العربية لفظة (البوز) التي استعملها الجمهور في مدينة يافا من أعمال فلسطين منذ أربع سنين حينما كان الوطنيون في دار القضاء (المحكمة) يحاكمون، فقد قال عامل عربي من عمال الشحنة أو الشرطة - البوليس أو البلوص كما يقال في بعض الجهات - فإنه قال كلمة منكرة فاحشة أنكرها الجمع العربي حتى أن النيابة وهي كلمة إنكليزية أنكرتها وقسرته على أن يرجعها فرجعها؛ فلما قالها صاح الناس هناك: (سد بوزك)
وقد ظن بعضهم أن هذه اللفظة عامية والصحيح أنها معربة أو مولودة وهي - إن لم تكن نوحية - ألفية عمرها ألف سنة، وقد استعملها كبار الأدباء، وهذه حكاية أوردها ياقوت في كتاب (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وقد جاءت فيها اللفظة المذكورة:(194/23)
(حدث غرس النعمة محمد بن هلال قال: حضر يوماً (ابن جني) - الإمام اللغوي - في الديوان يتحدث مع أبي اسحق الصابي، وكان له عادة في حديثه بأن يميل شفتيه ويشير بيديه، فبقى أبو الحسين القمي شاخصاً بصره يتعجب منه فقال له ابن جني: ما بك يا أبا الحسين، تحدق إلي النظر وتكثر مني التعجب؟
قال: شيء ظريف!
قال: ما هو؟
قال: شبهت مولاي الشيخ وهو يتحدث ويقول ببوزه كذا ويده كذا بقرد رأيته اليوم عند صعودي إلى دار المملكة وهو على شاطئ دجلة يفعل مثلما يفعل مولاي الشيخ
فامتعض أبو الفتح بن جني وقال: ما هذا القول يا أبا الحسين (أعزك الله)؟ ومتى رأيتني أمزح فتمزح معي، أو أمجن فتمجن بي؟
فلما رآه أبو الحسين قد غضب قال: المعذرة أيها الشيخ إليك والى الله (تعالى) أن أشبهك بالقرد، وإنما شبهت القرد بك
فضحك ابن جني وقال: ما أحسن ما اعتذرت! وعلم أنها نادرة تشيع فكان يتحدث هو بها دائماً)
ويستعمل بعضهم (البوز) لبرطيل الكلب. فيقول: بوز فلان مثل بوز الكلب
وإذا كانت اللغة خصت بها هذا الحيوان فيكون استعمالها لنوع من بني الإنسان مجازياً، والمجاز باب واسع. . .
فقول الجمهور لذلك (الشُّرْطي) حين خرج الذي خرج من فيه، من فمه، من بوزه: (سد بوزك) - استعمال من جهة اللغة في محله. . .
محمد اسعاف النشاشيبي(194/24)
الروايات الكنسية والنصرانية وقيمتها كمصادر
للتاريخ الإسلامي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وفقت دار الآثار المصرية أخيراً للحصول عل نسخة مصورة من أثر كنسي هام له قيمته في تاريخ مصر الإسلامية، هو مجموعة سير بطاركة الكنيسة القبطية منذ نشأتها حتى منتصف القرن السابع الهجري. وقد كان للمجتمع القبطي دائماً شأن في تاريخ مصر الإسلامية، وكان للكنيسة القبطية دائماً علائقها الرسمية مع الحكومات الإسلامية، ومع ذلك فإن الرواية الإسلامية لم تفسح مجالاً كبيراً لبحث هذه العلائق وتمحيصها، ولم تعن بالأخص بأن تشرح لنا وجهة النظر الكنسية في مختلف العصور شرحاً وافياً، ولم تفطن دائماً إلى الاستفادة من الآثار والمصادر النصرانية في تفهم أحوال المجتمع النصراني وزعامته الروحية.
ومن ثم ٍكانت أهمية الآثار النصرانية التي تعنى بعصور من تواريخ الأمم الإسلامية، ففي هذه الآثار نستطيع أن نفهم بوضوح موقف الكنيسة وموقف أوليائها حسبما يصوره لنا كتابها ودعاتها، ونستطيع بمراجعة أقوالهم وتعليقاتهم أن نقف على كثير من الحقائق التي لم تعن الرواية الإسلامية بشرحها واستيعابها، وكتاب سير البطاركة الذي أشرنا إليه من تلك الآثار التي تلقي ضوءاً على موقف الكنيسة القبطية، وموقف الشعب القبطي وأحواله في مصر خلال العصور الوسطى، وهي ناحية لها بلا ريب قيمتها وأهميتها في تاريخنا القومي، وتنقسم النسخة المصورة التي حصلت عليها دار الكتب من الأثر الذي أشرنا إليه والتي نقلتها عن مخطوط باريس إلى قسمين: أولهما كتاب سير الآباء البطاركة الذي وضعه الأنبا سويرس بن المقفع أسقف الأشمونين في عهد المعز لدين الله الفاطمي في تاريخ بطاركة الإسكندرية، وهذا الأثر معروف ومتداول لأنه طبع منذ أكثر من ثلاثين عاما بعناية الآباء اليسوعيين، وقد عرفته الرواية الإسلامية منذ عصور وانتفعت به أحيانا فيما نقلته من أنباء الكنيسة والبطاركة. وقد كان الأسقف سويرس من أكابر الأحبار والمفكرين أيام الدولة الأخشيدية وأيام المعز لدين الله، وكان أسقفا لمدينة الأشمونين التي كانت من مدائن الصعيد الزاهرة يومئذ، وتشيد الرواية الكنسية بعلمه وأدبه ومكانته الروحية(194/25)
والاجتماعية، وتحدثنا عن صلاته بالمعز لدين الله ومحاوراته الدينية والكلامية معه، وتعدد لنا كتبه وآثاره الأدبية والتاريخية. ويتناول سويرس في كتابه سير بطاركة الإسكندرية منذ القديس مرقص منشئ هذا الكرسي حتى البطريرك افراهام بن زرعة السرياني الذي رسم بطريركا لليعاقبة سنة 365هـ (975م) في أوائل عصر العزيز بالله. وقد ورد في مقدمة هذا القسم إشارة إلى وضع هذا الأثر وتأليفه نصها: (هذه السيرة جمعها واهتم بها من كل مكان الأب الجليل أنبا سويرس بن المقفع أسقف مدينة الأشمونين، ذكر أنه جمعها من دير أبو مقار ودير نهيا، وغيرهما من الديارات وما وجده في أيدي النصارى منها أجزاء مفرقة أنفق فيها أعواما طويلة حتى بلغ عمره الثمانين)
على أن هذا القسم المتداول ليس هو المقصود بالذات في هذا التعريف والتعليق، وإنما نقصد بالأخص إلى التعريف بالقسم الثاني من الأثر الكنسي، وهو الذي يشغل المجلدين الثالث والرابع من مخطوط باريس الذي نقلت عنه نسخة دار الكتب المصورة، فهذا القسم الذي لم ير الضياء بعد يحتوي على سير البطاركة المصريين منذ أوائل الدولة الفاطمية إلى سنة 635هـ أعني إلى نهاية عصر الملك الكامل. وقد نسب هذا الأثر بجملته في فهرس مكتبة باريس الوطنية إلى سويرس بن المقفع، وهي نسبة ظاهرة الخطأ لأن سويرس توفي في أوائل عهد العزيز حوالي سنة 370هـ، فليس من المعقول إذن أن ينسب إليه ما تضمنه الأثر الكنسي بعد هذا التاريخ: وظهر أثر هذه النسبة الخاطئة جليا فيما كتبه العلامة المستشرق سلفستر دي ساسي، عن الحاكم بأمر الله في كتابه عن الدروز، إذ ينقل كثيرا مما ورد عن عصر المستنصر بالله ولد الظاهر، منسوبا إلى سويرس بن المقفع.
وقد أتيحت لنا فرصة لبحث هذا الأثر الكنسي واستقصاء مصادره ومساق واضعيه، فانتهينا إلى هذه الحقيقة وهي أن الجزأين الثالث والرابع من المخطوط ليس لهما علاقة بمؤلف أسقف الأشمونين، بل هما أثر مستقل بذاته، ذيل بهما الأثر الأصلي لأنهما في نفس موضوعه وهو استئناف سير البطاركة من حيث وقف سويرس؛ ويسمى هذا الأثر الملحق باسم آخر هو (سير البيعة المقدسة). ولم يقم بتأليفه أو وضعه مؤلف واحد بل تعاقب في وضعه وكتابته عدة من الأحبار المتعاقبين، فتولى كتابة القسم الخاص بعصري العزيز(194/26)
والحاكم مثلا قس معاصر يدعى الأب ميخائيل (كاتب السنوديقا بكرسي مار مرقص) (البطريركية) كما يقول لنا ذلك خلال الكتاب؛ وكتب سيرة الأنبا فيلاتاوس البطريرك الثالث والستين وهو معاصر العزيز ثم الأنبا زخاريا البطريرك الرابع والستين وهو معاصر الحاكم بأمر الله، وأورد الكتاب خلال حديثه كثيرا من الأقوال والروايات الهامة عن الحاكم وحياته العامة والخاصة، وعن حوادث العصر المدهشة. وكتب سير البيعة المقدسة أيام الظاهر والمستنصر قس يدعى (موهوب بن منصور بن مفرج الإسكندراني الشماس) ويقول لنا (إنه جمع سيرهم وكتبها واستخرجها من دير أبو مقار بوادي هبيب وذلك سنة 806 للشهداء الموافقة لسنة 480هـ). وكتب في أيام المستنصر وبعده قس آخر يدعى يوحنا ابن صاعد بن يحيى المعروف بالقلزمي وهكذا حتى أواخر الدولة الفاطمية؛ وهنا يقول لنا كاتب هذا القسم إنه سيتم سير الآباء، وإنه بدأ بما شاهده في عصره وخصوصا أيام زوال الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية، وهنا يميل الكاتب إلى التبسط في سرد أحداث العصر، ولا يتقيد بالناحية الكنسية بل يفيض في سرد الحوادث جملة؛ ويتحدث عن السلطنة وعن سيرها وأعمالها، ويسير في ذلك على ترتيب السنين القبطية أو سني الشهداء، حتى سنة 635هـ، أو نحو سنة 950 للشهداء، حتى نهاية عصر الملك الكامل ناصر الدين
ولقد نوهنا في بداية هذا الفصل بأهمية أمثال هذه الآثار الكنسية في شرح موقف الكنيسة من الخلافة أو السلطنة، وشرح وجهات نظرها فيما يتصل بها من الحوادث والشؤون، وتبدو أهمية الرواية الكنسية بنوع خاص في العصور التي تضطرم فيها فورات اضطهاد ضد الكنيسة والمجتمع النصراني أو تتجه السياسة الإسلامية إلى الضغط عليهما لظروف وعوامل خاصة، كما حدث في مصر في عصر المأمون، وفي عصر الحاكم بأمر الله وأيام الحروب الصليبية؛ فهنا تبدو الرواية الكنسية متنفساً حقيقياً للتعبير عما يخالج الكنيسة ورعاياها من العواطف والآراء نحو المجتمع الإسلامي؛ وقد تحمل الرواية الكنسية في هذه المواقف على المبالغة والإغراق في أحيان كثيرة، ولكنها تحتفظ مع ذلك بقيمتها وأهميتها في إيضاح كثير من النقط والمواقف التي تغضي عنها الرواية الإسلامية أو ترى فيها آراء أخرى.(194/27)
ولا تقف أهمية الرواية الكنسية عند ذلك الحد؛ ففي بعض الأحيان، وفي عصور السكينة والسلام، تغدو الرواية الكنسية مصدراً قيماً لاستعراض الحوادث التي تعنى بها. وفي القسم الأخير من مجموعة (سير البيعة المقدسة) يبدو الكاتب مؤرخاً لا غبار عليه، ويتبسط في شرح الحوادث والشؤون العامة في أواخر الدولة الأيوبية، ويقدم إلينا عنها رواية لا بأس بها
ونرى أن نشير بهذه المناسبة إلى أنه توجد إلى جانب هذه الروايات الكنسية التي تعنى بناحية خاصة من تاريخ مصر الإسلامية لم تعطها الرواية الإسلامية دائما حقها من العناية، طائفة من الروايات النصرانية، التي تتبوأ مكانها الحق بين مصادر التاريخ الإسلامي؛ فلدينا مثلاً تاريخ سعيد بن بطريق - بطريرك الإسكندرية الذي يصل في كتابته حتى سنة 326هـ، وتاريخ يحيى بن سعيد الانطاكي الطبيب والمؤرخ، وقد كتبه ذيلا على تاريخ ابن بطريق، ووصل في كتابته حتى أواخر عهد الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي، وعنى فيه عناية خاصة بأخبار الحاكم وشخصه وحوادث عصره، وتاريخ المكين ابن العميد المسمى بتاريخ المسلمين الذي يستعرض فيه أخبار الخلافة والسلطنة حتى أواخر القرن السادس الهجري؛ وتاريخ ابن العبري المسمى بمختصر تاريخ الدول الذي يصل فيه برواية حتى أواخر عصره أعني إلى أواخر القرن السابع، فهذه الآثار التي كتبها كتاب ومؤرخون من النصارى، وإن كانت تميل في معظم الأحيان إلى أن تخص أخبار الكنيسة والمجتمع انصراني بأعظم قسط من عنايتها، تحتفظ دائما بقيمتها كمصادر لتواريخ العصور التي عنيت بها. وتمتاز هذه الآثار بميزة خاصة، هي أنها تعنى عناية فائقة بتاريخ الدولة البيزنطية باعتبارها حامية الكنيسة الشرقية، وتفيض في تتبع أخبارها وعلائقها بالأمم الإسلامية إفاضة دقيقة ممتعة، وهذه ناحية لم تخصها الرواية الإسلامية دائما بما يجب من عناية، بل هي تعتمد غالبا في تناولها على هذه الروايات النصرانية، مثال ذلك أن ابن خلدون يعتمد على ابن العميد في معظم ما كتبه عن أخبار الدولة الرومانية والدولة الشرقية (البيزنطية)، ويرجع السر في ذلك إلى أن أغلب الكتاب النصارى كانوا يعرفون السريانية واليونانية واللاتينية أحياناً، ومن ثم كان اتصالهم بالمراجع الأجنبية وانتفاعهم بها.(194/28)
وهكذا نرى أن الروايات الكنسية والنصرانية العربية بوجه عام فضلا عن قيمتها وأهميتها الخاصة في سرد أخبار الكنيسة والمجتمع النصراني، وشرح مواقفهما في مختلف العصور والمناسبات، حقيقة بالدرس والمراجعة كمصادر قيمة لعصور معينة من التاريخ الإسلامي، تلقي ضوءاً على كثير من نواحي الصلة والعلائق بين الشرق والغرب، والنصرانية والإسلام
محمد عبد الله عنان(194/29)
في الأدب المقارن
الطير والحيوان في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
وحدة الأشياء واشتراكهم في صفات ترفعهم جميعاً عن الجماد وتميزهم بالشعور بالغبطة والألم. كل هاتيك حقائق من الموضوع بحيث اهتدى إليها الأولون قبل أن يحققها العلم الحديث ويفصل دقائقها وخوافيها؛ وتنازع الأحياء البقاء، وعدوان أقواها على أضعفها وفوز القوي بالغلب والبقاء، هذه كذلك أمور واضحة رأى المتقدمون مظاهرها وظهرت لمحاتها في آدابهم؛ وقد كان موقف الإنسان منذ عصوره البدائية من الحيوان غريباً لا يخلو من تناقض وطرافة: كان في أول أمره ينازع السباع البقاء ويفترسها ليتغذى بها، ثم استأنس بعضها وسخره في أعماله تسخير العبيد، وأتخذ بعضها للزينة والمسرة ثم عاد فقدس بعض عبيده أولئك ورفعهم إلى مصاف الآلهة، لأنهم يدرّون على حياته خيراً وبركة، بينما ظل يتلهى باقتناص أوابد الوحش. ويجرب بأسه وفروسيته باصماء حشاشاتها، والتفريق بين الأمهات منها وبين الصغار
واخترع خيال الإنسان في تلك العهود البعيدة عجائب الحيوان وغرائب الأطيار ومخيف الكائنات، كما توهم البابليون وحشاً هائلا يقذف الماء من فيه فيغمر السهل والجبل، وكما تخيل الإغريق الجياد الطائرة والسباع ذوات الرؤوس المتعددة وخلائق شعور رؤوسها أفاع باغية، وتوهموا الأبطال المغامرين منطلقين لقتال تلك السباع والأفاعي، وكما تصور العرب الغول والعنقاء، وزعم السندباد انه سافر على جناح طائر ميمون يدعى الرخ، وكما توهم أوائل الإنجليز سبعاً ضارياً قد ألقى الرعب في مملكة بأسرها، حتى صارعه فصرعه الأمير بيولف في الملحمة المسماة باسمه؛ ولم تكن كل هذه السباع الوهمية التي هذى بذكرها الإنسان في عهوده الأولى، إلا صدى لذكريات الوحوش الهائلة التي كانت تقطن البر والبحر في غابر الأزمان، وكان الإنسان المتوحش على فزع منها وحذر دائبين
فلما بلغ الإنسان طوراً من الحضارة أرقى، أنزل تلك العجماوات التي كان ألهها من محاريب عبادته، ونبذ تلك الخرافات وما بها من سباع وهمية، وعلم العرب أن الغول والعنقاء مستحيلان استحالة الخل الوفي، وظهر من المثقفين ذوي النفوس الرقيقة من انتهوا(194/30)
ونهوا عن قتل الحيوان والتغذي بلحمه والتلهي بصيده وتعذيبه وسجنه كأبي العلاء الحكيم العربي. وكل المصور الإيطالي ليوناردو دافنسي، الذي كان يبتاع الطيور الحبيسة ليطلقها ويشفي نفسه المتألمة برؤيتها تضرب أجنحتها ذاهبة إلى الفضاء؛ وظهرت آثار تلك العلاقات المختلفة بين الإنسان والحيوان في الآداب: الإغريقي وصف لمغامرات حملة الارغونوت التي خرجت لاستخلاص فراء ثمين يحميه غول فظيع، وفيه وصف لجماعة السيكلوب أو المردة ذوي العيون المفردة، وما كان بين كبيرهم وبين يوليسيز من كفاح، وفي الأدب الفرنسي قطعتان بديعتان تفيضان رحمة وجمالا. تصور إحداهما مصرع غزال والأخرى مصرع ذئب على أيدي الصيادين
والأدب العربي حافل بذكر أنواع الطير والحيوان التي عرفها العرب في باديتهم، كالجمل والحصان والأسد والقطاة والحمامة، وكان من عاداتهم أن يمنحوا بعضاً منها كنايات: فأبو قيس للقرد وأبو خالد للأسد، وكان لبعضهم أسماء في لغتهم عديدة، وبها ضربوا الأمثال فقالوا: أهدى من قطاة وأحذر من غراب وأعدى من ظليم، وسيروا الكنى فقالوا: جبان الكلب ومهذول الفصيل للجواد المضياف، واستعاروا أوصافها للإنسان فقالوا: جيد كجيد الغزال وعيون كعيون الجآذر وشبهوا خوذات المقاتلين ببيض النعام، وتشاءموا بأصوات بعض الحيوانات كالغراب والبومة، وزجروا الطير يتفاءلون بالسارح منها ويتشاءمون بالبارح، وأجروا الأمثال على ألسنتها كقصة الثيران الثلاثة المنسوبة إلى الإمام علي، وكالقصص التي أنطق فيها الحيوان أبن المقفع، والمحاورات التي نحلها إياها إخوان الصفا، واسترعت أحوال الحيوان ومسعاته انتباههم فتدبروها مليا كما في تلك الرسالة البليغة عن النمل المنسوبة إلى الإمام علي أيضاً، وفي التدبر في أحوال كثير من الطير والحيوان والهوام أفاض القرآن الكريم في شتى المواضع، ودعا الإنسان إلى التفكير فيها، وألف الجاحظ كتابه المعروف جامعاً بين العلم والأدب
وقد أطنب أدباء العربية خاصة في ذكر الإبل ووصفها في أشعارهم، ووصف سيرها وحنينها إلى أعطافها استحثاثها ومناجاتها، ولا غرو فقد كانت قوام حياة العربي في حله وترحاله، بل كان لها أثر جليل في تطور الشعر العربي ذاته، إذا صح ما قيل من أن أوزان الشعر اشتقت من مشياتها وتدفعها، وهو قول وجيه؛ وقل شأن الإبل قليلاً حين(194/31)
تحضر العرب، ولكن ظلت لها أهمية عظيمة، وظلت من أهم وسائل الانتقال وحمل المتاجر برا، وحافظ أدباء العربية على تقاليد الجاهليين من الإطناب في ذكر الإبل وتقديمه بين أيدي المديح حتى استقلت الإبل بجانب عظيم من الشعر العربي، ومن خير أوصافها قول طرفة في معلقته:
وإني لأقضي الهم عند احتضاره ... بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
تباري عتاقا ناجيات واتبعت ... وظيفا وظيفا فوق هور معبد
وأطنب أدباء العربية أيضاً في ذكر الخيل ووصفها في أشعار الحماسة، وما ذاك إلا لأنهم في جاهليتهم وإسلامهم كانوا أمة جلاد وكفاح، الخيل أول عدتهم في القتال والذود عن حقيقتهم، فكان أعز مكان في الدنى لديهم ظهر سابح كما قال المتنبي، وطالت صحبتهم الخيل واطردت ملازمة الخيل لهم، فكأنما ولدت قياماً تحتهم ما قال المتنبي أيضاً، وكأنما ولدوا على صهواتها، ووصفوا مواقفهم في الحروب ومواقف جيادهم، كما فعل عنترة في معلقته، حيث يذكر كيف ازور حصانه من وقع القنا بلبانه، وكيف شكا إليه آلامه بعبرة وتحمحم، وصار لكلمة الخيل أو كلمتي الخيل والرجل مغزى خاص بالحرب، بعد أن استعملها القرآن الكريم في تلك الآية البليغة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)، وتأنق أبو تمام والمتنبي في وصف الخيل وسماتها وأخلاقها وزحوفها، ومن بديع أوصافها في العربية قول الفرزدق في جواد أغر محجل:
فكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أجشائه
وأبيات أبي تمام التي يقول منها:
وأولق تحت العجاج وإنما ... من صحة إفراط ذاك الأولق
وقول أبي الطيب في وصفه للمعركة التي دارت على ربى حصن الحدث:
إذا زلقت مشيتها ببطونها ... كما تتمشى في الصعيد الأرقم
وفاز الأسد والذئاب باهتمام أدباء العربية، وتركا في الشعر العربي أوصافاً شائقة وقصصاً ممتعا، من ذلك وصف بعض المقاتلة أمام أمير المؤمنين عثمان بن عفان طلوع أحد الليوث عليهم في جلجلة ورهبة زلزلت الأرض وخلعت قلوب الفرسان وجيادهم؛ ومنه أيضاً وصف الفرزدق الأطلس العسال الذي رأى ناره موهنا فأتاه، فقاسمه عشاءه، حتى امتلأ(194/32)
الذئب فتكشر ضاحكا، ولكن الفررزدق حين رأى نيوب الذئب بارزة لم يظن أن الذئب يبتسم، بل جعل قائم سيفه في يده بمكان؛ وتاه على الذئب بما أنا له من قرى بدل أن يرشقه بشباة سنان؛ أما البحتري فلم يكن بهذا المكان من الجود، بل كان يحدث نفسه بصاحبه الذئب، كما كان الذئب يحدث نفسه بصاحبه البحتري، فرمى الإنسان الوحش فأصماه، ونال من لحمه قليلا؛ كذلك يصف المتنبي في أبيات هي غرر الشعر العربي ملاقاة بعض ممدوحيه للأسد، وتعفيره إياه بالسوط؛ وهناك كذلك وصف للبديع في بعض مقاماته لمثل هذا اللقاء الرائع بين فارس مقدام وبين ملك الحيوان، ومنه قوله على لسان الفارس:
وقلت له: يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدا وقسرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك، فلم أطق يا لليث صبرا
تحاول أن تعلمني فرارا، ... لعمر أبيك قد حاولت نكرا
ولما تحضر العرب وانتشر في عليتهم الترف، تأنقوا في اتخاذ الحيوان للزينة والمتعة، وكان الخروج للقنص من وسائل لهوهم وترويحهم عن النفس، وكثر في الشعر وصف تلك الأفيال التي كان الخلفاء الفاطميون يسيرونها في مواكبهم، والمها التي كانوا وكان غيرهم يزينون بها حظائرهم وقصورهم، ووصف الخروج للقنص وكلاب الصيد، وقد وصف أبو نواس في أبيات مشهورة كأساً له قد صورت عليها مها تدريها بالقسي الفوارس، ووصف المتنبي لبؤة مقتولة وأشبالها حولها جاثمة، وكان قد هيئ ذلك المنظر في حفل استقبل فيه سيف الدولة سفراء قيصر، ولأبن الرومي عينية بارعة في وصف يوم طرد تمتع به في رفقة له، ومن نوادر أبي دلامة أنه خرج مع الخليفة الهدي وعلي بن سليمان للصيد، فأخطأ علي الرمية وأصاب أحد كلاب الصيد فقال أبو دلامة:
قد رمى الهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما: كل ... امرئ يأكل زاده
وكان من عادة أدباء العربية أن يمثلوا لأحوالهم بأحوال الحيوان، ويستعيروا صفاته لما هم بسبيل وصفه، فيمثلون لحنينهم بحنين الإبل إلى أعطافها، ولوجدهم بوجد الظبية على خشفها قد صرعته نبال الصائد، أو مزقته براثن السبع الضاري، يصفون مصرع طفلها(194/33)
وافتقادها إياه وجزعها وتلددها لهلاكه، في أبيات كثيرة يبدءونها بقولهم: (وما ظبية. . .) أو نحو ذلك، ويعقبون عليها بقولهم: (بأوجع مني يوم بانوا. . .) أو ما إليه؛ كما كان من التقاليد المتعبة في أشعار النسيب والوجد مناجاة الحمائم وسؤالها عما يشجيها، ومقابلة شجوها بشجو الشاعر، ووصف تهييجها لذكرياته تجديدها لآلامه ومن محاسن ما قيل في الحمائم قول أعرابي:
وقبلي أبكي كل من كان ذا هوى ... هتوف البواكي والديار البلاقع
وهن على الأطلال من كل جانب ... نوائح ما تخضل منها المدامع
مزبرجة الأعناق غر ظهورها ... محطمة بالدر خضر روائع
ترى طرراً بين الخوافي كأنها ... حواشي برد زينتها الوشائع
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحناء منها الأصابع
أما أشد شعراء العربية شغلا بأمر الأحياء وتأملا في أحوالها وذكراً لها في شعره فهو المعري الذي بلغ من نفاذ البصر في شؤون الحيوان وشدة الرحمة له حينا، والإنكار للؤم طباعه حينا، وطوال التأمل فيها تأملا موضوعياً لا ذاتيا، ما لم يبلغه غيره من شعراء العربية فهو تارة ينعى على الضرغام مغادرته غابه لينازع ظبي رمل في كناس، وتارة يسمح للذئب بالشاة علماً بما بالذئب من داء السغب، وتارة يبكي للحمامة البريئة يعاجلها الصقر عن نقرها وهديلها، وطوراً يرميها بمماثلة غيرها من الحيوان في الجور والعدوان، وهو ينهى عن فجيعة النحل في شهدها أو الناقة في فصيلها في حائيته الرصينة من لزوم ما لا يلزم
لا يكاد يوجد في الأدب الإنجليزي شيء من ذكر تلك الأنواع من الحيوان سالفة الذكر، التي احتفى بها أدباء العربية أي احتفاء، وحفل بذكرها الشعر العربي في شتى عصوره، فلا الجمل ولا الحصان ولا الأسد والذئب، ولا الحمائم والظباء، تمثل ذلك المكان الظاهر من موضوعات الأدب وتشبيهاته وكناياته وأمثاله؛ وذلك لاختلاف البيئة الإقليمية والاجتماعية، فتلك ضروب من الحيوان لا تكثر في إنجلترا كثرتها في بلاد العرب، بل لا يوجد بعضها أصلا، والإنجليز كانوا جوابي بحار لا رحالي صحار، ومقاتلة على الماء أكثر منهم على البر، فلا غرو ألا يمروا بتلك الأنواع إلا عرضا، وأن يمتلئ أدبهم بوصف(194/34)
ضروب أخرى من الأحياء غير هذه
إنما يحفل الأدب الإنجليزي بذكر الطيور الجميلة المغردة، ووصفها ومناجاتها، ووصف أغاريدها والاسترسال معها إلى آماد الخيال البعيدة والطيران معها على أجنحة الشعر؛ فالأدب الإنجليزي غني بالشعر الطبيعي الذي قصد به الوصف الطبيعي وحده، وهذا الوصف حافل بوصف الأطيار، والأدب الإنجليزي غني أيضا الوصف الطبيعي لم يقصد لذاته، وإنما يتخلل شتى أغراض القول؛ وهذا مملوه بذكر الطير أيضاً، والشعر الإنجليزي غني فوق ذلك بالقصائد التي كتبت خاصة في مناجاة الطيور وعبادة أصواتها المطربة، ولم يخل الأدب العربي من شيء من ذلك، ومن محاسن ما فيه منه وصف الصابيء للبغاء، وهو من غرر الشعر العربي ومنه يقول:
عدت من الأطيار، واللسان ... يوهمني بأنها إنسان
تنظر من عينين كالغصين ... في النور والظلمة بصاصين
تميس في حلتها الخضراء ... مثل الفتاة الغادة العذراء
بيد أن الشعر الإنجليزي أغزر وأحفل بتلك الآثار. ولكل من وردزورث وكيتس وشلي وتنيسون وسوينبرن قصائد في ذلك بالغة غاية السمو العاطفي والكمال الفني؛ ولم يكتف الشعراء بمناجاة أطيار جزيرتهم الغريدة الكثيرة، فلجأوا على عادتهم إلى الخرافة، وتصور كولردج طائراً عجيبا سماه الألباتروس جلب اليمن والبركة لأصحاب الملاح القديم، ثم جزاه هذا الأخير جزاء سنمار فقتله، فكان ذلك سبب ضلاله وهلاك أصحابه
ومن غرر تلك الأشعار في الإنجليزية قول وردزورث: (أيها القادم السعيد، هاأنذا أسمعك فأطرب، أأسميك طائر أم صوتا ملحقا؟ أنا أسمع هتافاتك المرددة وأنا مضطجع على العشب، ويخيل إليّ أنها تمر من ربوة إلى ربوة، قريبة بعيدة في آن واحد: ترسل أغاريدك في الوادي المكسو بالأزهار وضياء الشمس، فتثير في نفسي رؤى بعيدة، مرحبا بك يا رسول الربيع! يا من كنت إليه استمع إذ أنا صبي بالمكتب. وطال ما جعلني هتافك هذا أتلفت في كل ناحية بحثاً في الشجيرات والأدواح والسماء، وطالما ضربت في الغابات والأعشاب في نشدانك، وضللت أنت دائماً أملا أو حبا يطول التشوق إليه ولا يرى أبداً، وما أزال أستطيع الاستماع إليك والانبطاح في السهل مصيخا إليك، حتى استعيد في(194/35)
مخيلتي ذلك العهد الذهبي)
ولجون لوجان من شعراء القرن الماضي مقطوعة عذبة في مناجاة الطائر عينه، قد وقع فيها على بعض معاني وردزورث وتعبيراته، وإن لم يقل عنه جمالا وابتكار، قال: (مرحبا يا غريب الأراكة الجميل، يا رسول الربيع، هاهي ذي السماء تعد لك مقعدك من الريف، ويردد الغاب صدى الترحيب بك؛ إذا ما رقش الأقحوان العشب أيقنا أن سنسمع صوتك من جديد، فهل لك نجم يهديك السبيل أو يوقت لك دورة العام؟ أيها الزائر المطرب، إني معك أرحب بأوان الأزهار وأسمع الموسيقى العذبة التي ترددها الأطيار في حواشي الخمائل؛ ويسمع صبي المكتب صوتك المنبئ بالربيع الجديد، وهو يطوف في الغاب يقطف آخر زهيرات الشتاء، فيتوقف منصتا ويقلد تغريدك؛ أيها الطائر المطرب: إن خميلك خضراء أبدا، وسماءك أبدا صافية، وليس في أغاريدك شجن ولا في عامك شتاء، فيا ليتني أستطيع الطيران فأحف معك على جناح الحبور، نطوف طوفتنا السنوية حول الأرض، رفيقي ربيع مستمر)
بأمثال هذه الأوصاف الطبيعية الشائقة، والمناجاة الحارة الصادقة يحفل الشعر الإنجليزي، ومثل هذا الولع بالطيور والشغف بمناجاتها ووقف القصائد والمقطوعات على الترنيم بحبها غير شائع في الأدب العربي؛ فالشعر العربي أحفل بذكر الحيوان ولا سيما الضروب سالفة الذكر، والشعر الإنجليزي قليل الاحتفال بها عظيم الحفاوة بالطير؛ ولا غرو: فقد كان العرب رجال مجتمع مقبلين على أسبابه ووسائله، يحمدون الإبل التي هي قوام حياتهم والخيل التي هي عمادهم في معركة الحياة، ويتمدحون بالبأس والشجاعة فيذكرون قتال الأسود وجندلة الذئاب، وفيما عدا ذلك لم يكن لهم كبير التفات إلى الطبيعة، ولا شديد عطف على أبنائها، وأشعارهم في هذا الباب لا تنم عن حب للحيوان أو شغف بحياته؛ وكان حب الطبيعة والهيام بجمالها من أكبر مميزات الأدب الإنجليزي، والطيور أكثر تمثيلا لجمالها وحبورها من الأسود والذئاب، فكثر في الأدب الإنجليزي وصف الطيور كما كثر وصف الأزهار والآجام والأنهار؛ وفي شغف الأدب الإنجليزي بهذه واحتفاء الأدب العربي بتلك رمز وبيان للصبغة الاجتماعية التي ترين على الأدب العربي، والنزعة الطبيعية التي تتجلى في الأدب الإنجليزي(194/36)
فخري أبو السعود(194/37)
النفس وخلودها عند ابن سينا
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 4 -
لا نظن بعد الذي تقدم أن الرئيس ابن سينا قد ادخر وسعا في إثبات حقيقة مغايرة للجسم ومتميزة عنه كل التميز، وأن في الكائن الحي شيئا غير لحمه ودمه هو مصدر حركته وحسه وتفكيره. وسواء أكان موفقا في برهنته دائماً أم لا فالمهم أنه أعتمد - كما اعتمد أنصار المذهب الروحي قديما وحديثا - على بعض الظواهر التي لا يمكن تفسيرها ماديا، وأرى أنها تستلزم قوة كامنة ومبدأ خفيا هو النفس. وهذه الظواهر قسمان: جسمية وعقلية؛ ومن الأولى يتطرق الخلل والوهن غالبا إلى برهنته. ففي اللحظة التي يتحدث فيها عن الإحساس أو الحركة زاعما أنها لا تفهم إلا إن سلمنا بقوة روحية تشرف عليها وتنظمها نراه يبعد عن الآراء الحديثة كل البعد؛ أما حين يعرض للشخصية والتفكير والظواهر النفسية في وحدتها واتصالها ويقرر أنها تستدعي أصلا غير الجسم وأمرا مخالفا للبدن فانه يدلي بأفكار تقربه من المحدثين بقدر ما تبعده عن زملائه ومعاصريه. وهذا هو الجزء الذي بقى للخلف من برهنته، والذي يجدر بنا أن ندخره ونحتفظ به. ولسنا ندعي مطلقا أنه أثبت وجود النفس بأدلة هي اليقين وحجج لا تقبل النقض؛ فتلك كانت ولا تزال مشكلة المشاكل وموضوع الخلاف بين الماديين والروحيين. والمهم أنه اهتدى في هذا الباب إلى أكثر البراهين إقناعا وأعظمها وضوحا.
والآن وقد فرغ من إثبات وجود تلك الحقيقة المخالفة للجسم فلا بد له من أن يحددها ويبين ماهيتها ويعين خواصها ومميزاتها. وليس تحديد النفس من الأمور الهينة؛ فقد كان مثار اختلافات كثير بين الفلاسفة الأقدمين، ومبعث أخذ ورد طويلين بين أفلاطون وأرسطو بوجه خاص. ولم يكن ابن سينا بعيدا عن هذه الآراء المتباينة والمذاهب المتفرقة، فإن الباب الأول من كتاب النفس لأرسطو، الذي يعد حجته الأولى ومصدره الرئيسي، موقوف في جملته عليها وخاص بعرضها ومناقشتها. وسيراً على سننه يعقد في كتابه الشفاء فصلا(194/38)
(في ذكر ما قاله القدماء في النفس وجوهرها ونقضه) وفيه يلخص كل ما جاء في الباب الآنف الذكر. ليبين مذاهب الفلاسفة السابقين، ويناقشها على نحو يشبه كثيراً ما صنعه أرسطو. واختلاف هؤلاء الفلاسفة في رأيه راجع إلى أن للنفس أثرين ظاهرين هما الحياة والحركة من جانب والإدراك من جانب أخر، ففريق بهره الأثر الأول وحاول تجريد النفس بواسطته فقط، وفريق آخر لم يفهم في طبيعتها إلا الإدراك، وفريق ثالث رأى أن يجمع بين هذين الجانبين. ويراد بالفريق الأول كل أولئك الذين عدوا النفس مصدر الحياة والحركة الذاتية، فخلطوا بينها وبين الدم الذي إن سفح كان الموت، أو بينها وبين الجواهر الفردة - أو الهباء كما يسميه ابن سينا - التي كان يظن أنها متحركة دائماً. وأما الفريق الثاني فيعتقد أن الشيء لا يدرك سواه إلا إذا كان مبدأ له ومتقدما عليه؛ ولذلك عدوا النفس واحداً أو جملة من المبادئ التي يختلف نوعها وعددها تبعا للفلاسفة فظنوا أنها نار أو هواء أو أرض أو ماء أو بحار؛ أو جعلوها مركبة من العناصر الأربعة كما ذهب إلى ذلك أبناء دقليس زعما منه أن الشبيه هو الذي يدرك الشبيه، فلا بد أن يكون في النفس جزء من الأشياء التي تدركها وأما الفريق الأخير فيرد النفس إلى العدد لأن الأعداد مبدأ الوجود والحركة والإدراك
واضح أن ابن سينا يشير في كل هذا إلى آراء الفلاسفة السابقين لسقراط في النفس، أمثال طاليس وديمقريط وفيثاغورس وإن كان لم يصرح بأسمائهم. ولم يقنع بتخليص هذه الآراء، بل ناقشها مناقشات طويلة عنيفة نكتفي بأن نسرد أمثلة منها. فيعترض على الفريق الأول أنه لم يفسر السكون، ذلك لأن النفس أن كانت متحركة بذاتها فكيف تسكن. على أنه ليس من السهل على هذا الفريق أن يحدد نوع الحركة الذي تقوم به النفس. ويرفض المذهب الذري الذي أثبت بطلانها في نواح أخرى. ولا يخفى تهكمه بأولئك الذين يزعمون أن الكائن لا يدرك إلا ما صدر عنه ملاحظا أن الإنسان يعلم أشياء كثيرة لم يقل أحد إنه أصل لها. وليس بصحيح مطلقا أن الشبيه فقط هو الذي يدرك الشبيه، لأنه لو سلم هذا كان معناه أن العالم العلوي لا يعرف من أمر العالم السفلي شيئا
ليس هناك شك في أن وقوف ابن سينا على هذه الآراء ومناقشته لها قد هيأت له الفرصة لتخير أحسن تعريف يلتئم مع طبيعة النفس ووظائفها. إلا أن هناك عاملين قويين يقتسمانه.(194/39)
وصوتين عظيمين يتجاذبانه، وهو بينهما في حيرة واضحة وتردد ظاهر أو تناقض مكشوف أحيانا. فحين يقرأ عبارات أرسطو الأخاذة وتحليلاته المنظمة واعتراضاته المفحمة لا يلبث أن يرددها ويسير وراءها. وحين يسمع أفلاطون ينادي بجوهرية النفس وتميزها التام عن البدن يستولي عليه هذا النداء ويصادف هوى في نفسه وإن كان لا يتفق مع آراء أرسطو. وقد يقف موقفا وسطا بين هذين الطرفين المتقابلين محاولا الجمع والتوفيق.
يبدأ ابن سينا فيلاحظ أن الأجسام الطبيعية مكونة من هيولي وصورة. فأما الهيولي فهي تلك المادة التي يتكون منها الجسم كالخشب الذي يصنع منه الكرسي أو كالحديد الذي يعمل منه السيف. وأما الصورة فهي ما به تتميز الأجسام بعضها عن بعض وتتحدد ماهيتها وتقوم بوظائفها. فالأرض لا تفترق عن الماء بمادتها بل بصورتها، والإنسان إنسان بصورته لا بمادته المكونة من العناصر الأربعة، والسيف لا يقطع بحديده بل بحدته. وبما أن الكائن الحي جسم طبيعي فهو من مركب هيولي وصورة، والأخيرة هي التي تميزه من الكائنات غير الحية إذ أنها مصدر حياته وحسه وحركته. فالنفس إذا صورة الجسم. والصور كمالات كلها وكمالات أولية، لأن وجود الأشياء المختلفة لا يكتمل إلا بها. وليست النفس كمالا أوليا لجميع الأجسام، بل للأجسام الطبيعية فقط التي تمتاز بالحياة عن الأجسام الصناعية وتشتمل على آلات وأعضاء تقوم بوظائف متباينة. فهي كمال أولي لجسم طبيعي آلي
يخيل إلينا أن القارئ سيدرك على الفور المصدر الذي أخذت عنه هذه الأفكار. فإن ابن سينا لم يصنع شيئاً أكثر من أنه لخص الفصلين الأول والثاني من الباب الثاني من كتاب النفس لأرسطو ولم يكتف بأن يعتنق آراء الفيلسوف اليوناني، بل أبى إلا أن يردد بعض ألفاظه وتعبيراته. فلفظ (كمال) الذي يتشبث به ويبني عليه تعريفه ترجمة صحيحة لكلمة (أنتليشيا) اليونانية، وقوله أن (النفس صورة الجسم) ترجمة أخرى لتعبير أرسطي مشهور فإذا كان التعريف السابق ناقصاً أو معيباً من بعض نواحيه فالذنب في هذا لا يرجع إلى الفيلسوف العربي وحده، وإنما يشاركه فيه أستاذه اليوناني صاحب الفكرة الأولى. وإذا تركنا جانبا لفظة (كمال) أو (أنتليشيا) وما فيها من غموض فإنا لا نلبث أن نصطدم بهذه(194/40)
الجملة: (النفس صورة الجسم). تعبير رائع أخاذ من غير شك، لكنه لا يقدم كثيراً في تفهم حقيقة النفس وتحديد ماهيتها. وكم عودنا أرسطو هذه التعبيرات الحلوة التي يدمج فيها بعض المشاكل دون أن يحلها وفكرة الصورة من الأفكار الجوهرية في مذهبه إلا أنها في الوقت نفسه من أدق نقطة وأصعبها تلاؤما مع نزعة الواقعية. فان من يقول بالصورة يدنو من المالية الأفلاطونية وإن تحامل عليها. والواقع أن أرسطو لم يأل جهدا في نقد مثالية أفلاطون التي تقول إن النفس حقيقة متميزة من الجسم. ويصرح بأن ما ذهب إليه الأفلاطونيون والفيثاغوريون من أن النفس جوهر روحي أشبه بالخيال منه بالحقيقة؛ ولا يستطيع أن يتصور أن نفسا ما تأتي من الخارج وتحل في جسم ما. وكيف نقبل هذا ومؤداه أن النفس تدخل الجسم كما يوضع مظروف في ظرف خاص؛ ومن المقرر أن المادة غير قابلة للعزل عن صورتها ومع هذا فإن أرسطو يفسر النفس تفسيرا أدخل في باب المثالية من فرض أستاذه؛ فإنه يعتبرها صورة، وليست الصورة شيئا أو مادة بأي شكل من الأشكال. تناقض واضح ومنتظر من كل فيلسوف واقعي لا يزال يحتفظ بقدر من المثالية.
وكأن ابن سينا قد أدرك ما في التعريف السابق من نقص بدليل ما لاحظه من أنه لا يفسر النفس من حيث هي وإنما يعرفها من ناحية صلتها بالجسم فقط. لهذا أخذ على عاتقه أن يتلافى هذا النقص وأن يوضح ذات النفس مميزا إياها بخاصتين رئيسيتين هما الجوهرية والروحية. وفي حديثه عن هاتين الخاصتين يعرب لنا عن جدلي ماهر ومحلل دقيق وباحث عميق. ونحن نعلم أن الجوهر والعرض متقابلان بل ومتناقضان وإن كان تناقضهما غير صحيح، فأن كل ما ليس بجوهر عرض. فإذا استطعنا أن نثبت أن النفس ليست واحدا من الأعراض لزم من هذا أنها جوهر قائم بذاته. ولعل أول شيء ينفي عنها العرضية هو أنها مستقلة كل الاستقلال عن الجسم؛ وهذا الأخير محتاج إليها تماما الاحتياج في حين أنها لا تحتاج إليه في شيء. ولن يتعين جسم ما ويتحدد إلا إذا اتصلت به نفس معينة. وعلى عكس هذا النفس هي هي سواء اتصلت بالجسم أم لم تتصل به. ولا يمكن أن يوجد جسم بدون النفس مع أن هذه تستطيع أن تعيش بمعزل عنه؛ وما دامت هي مصدر حياته وحركته فلا وجود له بدونها. ولا أدل على هذا من أنه يتغير ويصبح شبحا من الأشباح إذا ما انفصلت عنه. فالنفس إذن جوهر قائم بذاته لا عرض من أعراض الجسم.(194/41)
وهنا يبتعد ابن سينا عن أرسطو بعدا واضحا؛ فإن من المبادئ المسلمة لدى الأخير أن ليس ثمة وجود مستقل للصورة بمعزل عن مادتها.
وليس القول بجوهرية النفس من الآراء التي أبتكرها ابن سينا؛ فقد سبقه إلى هذا أفلاطون وتوسع فيه رجال مدرسة الإسكندرية. غير أن هناك فارقاً بينه بينهم، فبينما هؤلاء يعدون النفس جوهر لا غير يقرر هو أنها جوهر وصورة للجسم في آن واحد، وفي هذا من التعارض ما فيه وإن كان يفسره بأنه جوهر في ذاتها وصورة من ناحية صلتها بالجسم. والسر في هذا التعارض الذي وقع فيه الفارابي من قبل أن الفيلسوفين العربيين متأثران بمصدرين مختلفين؛ فقد أخذ فكرة الصورة عن أرسطو كما أخذ فكرة الجوهر عن أفلاطون؛ ولم يريا أية غضاضة في أن يطلقا هاتين على النفس، خصوصاً وقد ذلل لهما أرسطو ذلك؛ فانه لم يستعمل كلمة (جوهر) في معنى محدود فيطلقها على المادة تارة الصورة أخرى وعليهما معا مرة ثالثة. ومن الغريب أن صاحب كتاب الربوبية الحزاني يفسر عبارة أرسطو المشهورة: (النفس صورة الجسم) تفسيرا يشبه كل الشبه ما جاء به فلاسفة الإسلام؛ ولعل هؤلاء تأثروا به وخلطوا على نحو ما صنع الأرسطية والأفلاطونية ولكنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن ابن سينا كلما بعد عن جو الآراء الأرسطية وخلص إلى نفسه عد الروح جوهرا فحسب ولم يشر قط إلى صورتها. فإذا كان يعرفها في الشفاء والنجاة الذين يحاكي فيهما جماعة المشاثين أنها كمال وصورة للجسم فإنه لا يتحدث عنها في كتاب الإشارات الذي يبدو فيه استقلاله وشخصيته إلا باسم الجوهر الروحي القائم بذاته. وفي هذا ما يبين لنا كيف غلبت أفلاطونيته على انتسابه لأرسطو في هذا الموقف.
(يتبع)
إبراهيم مدكور(194/42)
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي ألفونس كار
- 5 -
قالت الزهرة المائتة للزهرة الخالدة:
- لقد تمتعنا بالحياة معاً على مرج واحد، وغداً تلفحنا نسمات الربيع المودع فتذوي وريقاتي وأموت؛ وتبقين أنت خالدة في الحياة
ستقبلك الشمس مشرقة ومغربة فتشرب من وجنتيك دموع الصباح وأنت مصغية إلى أناشيد الأطيار
ما أحلى الحياة وما أجمل البقاء! ويلاه من قضاء أبرم على حكم الفناء!
فأجابت الزهرة الخالدة: - كل شيء يتغير ويتطور وأنا وحدي أشهد في جمودي نشوء الطبيعة وتحولها
تمر بي لفحات القرّ وتداعبني نفحات الصيف فلا الشتاء يميتني، ولا الربيع يحيني، وأنا أحمل تاجي الأصفر الدائم فلا أخاف الموت ولا أشعر بالحياة
تمر بي أسراب النحل فلا أسمع لها طنيناً، ويجانبني الفراش المتطاير فلا تلمسني جناحاه
يهب النسيم فيمر بي سراعاً دون أن يستوقفه مني أريج يتضمخ به، وتقترب الغادة مني ثم تبتعد وهي تحدجني بلفتات الاحتقار
من يقطف زهرة القبور، زهرة الخلود الصفراء الدائمة الذبول؟
تمايلي على ساقك النظير يا زهرة الربيع، وارفعي أبصارك إلى السماء شاكرة، سقياً لك! فأنك ستحلين رموز الموت بعد أن عرفت أسرار الحياة
أما أنا الضحية البريئة، فلسوف أبقى عرضة لحر النهار وبرد الليل، تضربني شمس يوليه وتعانقني ثلوج يناير، سوف أبقى في الحياة لأسمع في الليل أنين العظام البالية في القبور
ستموتين يا زهرة الربيع فترفع روحك مع زكي عبيرك إلى السماء
اذهبي بسلام واحملي توسلي إلى العلي، قولي للذي خلقنا: إن دوام البقاء على الأرض ضربة لا عطية، توسلي إليه ليدعوني إلى مصدر كل سعادة وكل حياة
(ف. ف)(194/43)
13 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشة
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
لسعة الأفعى
واستسلم زارا للكرى يوما تحت شجرة التين، وكان الحر شديداً فستر وجهه بساعده فأتت أفعى ولسعته في عنقه فصرخ متألماً وانتفض محدقاً بالأفعى فعرفت عينيه تململت لتنصرف، فقال لها زارا: - (لا تذهبي قبل أن أقدم لك شكري، لأنك نبهتني في الزمن المناسب لأقوم بسفر بعيد)
فأجابت الأفعى وفي صوتها غنة الأسى: - بل سفرك قريب فزعافي قاتل
وابتسم زارا وقال: وهل لزعاف الأفعى أن يقتل تنيناً؟ خذي سمك، إنني أعيده إليك فلست من الغنى على ما يسمح لك بتقديمه هدية لي.
وسارعت الأفعى إلى الالتفاف حول عنق زارا تلحس جرحه.
وقص زارا هذه الحادثة يوماً على أتباعه فقالوا له: وما هو المغزى الأدبي لهذه القصة، فأجاب: - إن أهل الصلاح والعدل يدعونني هداما للمبادئ الأدبية فقصتي لا تتفق وهذه المبادئ.
إذا كان لكم عدو فلا تقابلوا شره بالخير لأنه يستصغر بذلك نفسه، بل أكدوا له أنه أحسن بعمله إليكم، والأجدر بكم ألا تحتقروا أحدا، تظاهروا بالغضب. وإذا وجهت اللعنة إليكم، فلا يسرني أن تمنحوا البركة، إن ما يسرني هو ألا تأبوا اللعن أنتم أيضا، وإذا ما أنزلت بكم مظلمة كبيرة فبادلوا المعتدي مثلها وأرفقوها بخمس مظالم صغرى، لأنه ما من مشهد أشد قبحا من مشهد من لا يخضع إلا للظلم.
إن اقتسام المظالم بالتساوي إنما هو مساواة بالحق، فهل كنتم تعرفون هذا من قبل؟ من يقدر على إرهاق الناس بظلمه فعليه أن يحتمل هو الظلم أيضا.
لئن ينتقم الإنسان قليلا، فذلك أدنى إلى المعروف وليس من الإنسانية أن يترفع المظلوم عن الانتقام. إنني لأنفر من اقتصاصكم إذا لم يكن عبارة عن حق تؤدونه للمعتدي، وإن من(194/45)
يسند الخطأ إلى نفسه لأنبل ممن يعلنون في كل آن أن الحق في جانبهم، وأخص من هؤلاء من كانوا حقيقة على صواب. إن أغنياء الروح لا يفعلون هذا.
أنني أكره عدالتكم الباردة، فان في عيون قضاتكم ازورار الجلاد ولمعان سيفه. فأين العدالة تلمح في عينيها الصفاء. أوجدوا لي الحب الذي لا يكتفي بحمل كل أنواع العقاب، بل يحمل أيضا جميع الخطايا.
أوجدوا لي العدل الذي يبرئ الجميع ليحكم على الإنسان الذي يدين.
أتريدون أن أذهب إلى أبعد مما قلت فأعلن لكم أن الكذب نفسه يصبح محبة للإنسانية في نفس من يتوق إلى إقامة العدل.
ولكن هل بوسعي أن أقيم العدل بكل إخلاص. وكيف يمكنني أن أتوصل إلى إعطاء كل ذي حق حقه. أذن، لاكتفين بأن أعطي أصحاب الحق حقي الخاص.
وأخيراً، حاذروا ظلم المنفرد، إذ ليس بوسعه أن ينسى وأن يبادل الظالمين ظلما، وما المنفرد إلا بئر عميقة يسهل على من يشاء أن يلقي فيه حجراً. ولكن من يقدر أن يستخرج هذا الحجر إذا بلغ قعر البئر السحيق؟
احترسوا من إهانة الفرد، وإذا أنتم حقرتموه فأجهزوا عليه بقتله.
هكذا تكلم زارا. . .
الفصل الثاني
الطفل حامل المرآة
ورجع زارا إلى الجبال، إلى عزلة كهفه ليحتجب عن الناس كالزراع ألقى بذوره في أثلام أرضه وبات يتوقع نبتها، ولكنه ما لبث أن حنْت جوارحه إلى أحبابه إذ كان عليه أن يمنحهم بعد كثيرا من الهبات وأصعب ما يلقى الحب اضطراره إلى قبض يده إجابة لداعي محبته وتفاديا للمنة في عطائه.
ومرت على المنفرد الشهور والأعوام وحكمته تزداد نموا فتزيده ألما باتساع آفاقها.
وأفاق يوماً (من نومه قبل انفلاق الفجر واستغرق في تفكيره وهو ممدد على فراشه وتساءل قائلا:(194/46)
- لماذا أرعبني هذا الحلم الذي استفقت منه مذعوراً؟ رأيت كأن ولدا (يحمل مرآة) اقترب مني وهو يقول:
- أنظر في هذه المرآة يا زارا
وما نظرت إلى المرآة حتى صرخت وخفق قلبي خفوقا (شديدا). لأن ما أنعكس لي في المرآة لم يكن وجهي بل وجها تقطبت أساريره بضحكة شيطان ساخر
والحق ما يفوتني تعبير هذا الحلم وإدراك ما نبهت إليه فان تعاليمي مشرفة على خطر، والزوان يريد أن ينتحل صفات الحنطة. لقد استأسد أعدائي فشوهوا تعاليمي حتى أصبح أتباعي يخجلون مما وهبتهم.
لقد فقدت صحبي وآن لي أن أفتش عمن فقدت
وانتفض زارا لا كمن استولى الذعر عليه بل كمأخوذ برؤى وكشاعر هزه شيطانه. فوجم نسره وأفعاه وحدقا بوجهه وقد لاحت بوادر السعادة عليه كتباشير الفجر. فقال لهما:
- ماذا حدث لي؟ أفما تريان إنني تغيرت؟ أفما تحسان أن الغبطة قد نزلت عليَّ كأنها عصفات الرياح؟
لقد جنَّ شعوري بهذه السعادة فلن يسلم بياني من اختلال هذا الشعور، إن سعادتي لم تزل في حداثتها فتذرعا بالصبر معي عليها
لقد أوجعتني سعادتي فليكن سعادتي كل من أرهقتهم الأوجاع
إن في وسعي الآن أن أنحدر إلى مقر صحبي والى مقر أعدائي فقد أصبح زارا قادراً على استطراد القول والإحسان إلى من يحب
لقد آن لحبي أن يتدفق كالذي يندفع من الأعالي إلى الأعماق، ويتجه من الشرق إلى المغرب.
إن نفسي تندفع مرغية مزبدة في الوديان متملصة من الجبال الصامتة تصخب فوقها عواصف الآلام. ولطالما تعللت بالصبر وعلقت أبصاري على بعيد الآفاق، لقد أرهقتني العزلة فما أطيق السكوت بعد
أصبحت وكأنني باجمعي فمٌ أو هدير جدول يتحدر من شامخات الصخور. أريد أن أقذف بكلماتي إلى الأغوار. فيجري نهر حبي في المفاوز البعيدة، ولن يضل هذا النهر سبيله إلى(194/47)
مصبه في البحار
إن في داخلي بحيرة وحيدة قانعة بنفسها، غير أن نهر محبتي يجتذبها في مسيره ليقطع معها السيول ويترامى وإياها في لجة البحر
إنني أتبع مسالك لم أعرفها من قبل وألهمت بيانا (جديدا) بعد أن أتعبتني اللهجات القديمة التي ترهق كل المبدعين وقد امتنع على فكري أن يقتفي رواشم النعال المقطعة
ما من لغة إلا وأراها بطيئة تقصر عن مجاراة بياني
سأقفز إلى صهوتك أيتها العاصفة فألهبك أنت أيضاً بسوط سخريتي
أريد أن أقطع أجواء البحار كهتفة مسرة وحبور إلى أن أستقر على الجزائر السعيدة حيث يقيم أحبائي، وبينهم أعدائي أيضاً، لشد ما أحب الآن جميع من يتسنى لي أن اوجه إليهم الكلام. وسيكون لهؤلاء الأعداء أيضاً قسطهم في إيجاد غبطتي
عندما أتحفز لاعتلاء أشد جيادي جموحاً لا أجد لي معيناً أصدق من رمحي متكأً أرتفع عليه
هو رمحي أهدد به أعدائي، ولكم يستحقون ثنائي إذا ما تمكنت من طرح هذا الرمح من يدي:
لقد طال اصطبار غيومي بين قهقهة الرعود ٍوقد آن لي أن أرشق الأعماق بقذائف برَدَى.
إن صدري سيتعاظم بانتفاخه حتى يزفر بالعاصفة الهائلة على الشامخات وهكذا سأفرَّج عنه
فان سعادتي وحريتي سيندفعان اندفاع العواصف ولكنني أتمنى لو يحسب أعدائي أن ما يزمجر فوق رؤوسهم إنما هو الشر لا روح سعادة وحرية
وأنتم أيضاً أيها الصحاب سيتولاكم الرعب عندما تنزل عليكم حكمتي الكاسرة ولعلكم تولون هاربين منها كما يهرب الأعداء
ليت لي أن أستدعيكم إليَّ بحنين شبّابة الرعاة، وليت تتعلم لبؤة حكمتي أن تزأر بنبرات العطف والحنان، فلطالما وردنا سويا من مناهل العرفان. ولكن حكمتي الوحشية تمخضة بآخر صغارها في الجبال السحيقة بين الجلامد الجرداء، وهي الآن تطوف بجنونها الصحاري القاحلة مفتشة على المروج الناضرة
إنها لشيخة وحشية هذه الحكمة التي تقصد إنزال أعز ما لديها في مروج قلوبكم الناضرة
هكذا تكلم زارا.(194/48)
(يتبع)
فليكس فارس(194/49)
إِحياء النحو
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لا شك في أن نحونا العربي أصبح علماً جافاً يورث النظر فيه السأم والملل. ولا يسعني مع هذا أن أنكر تلك الجهود الموفقة التي بذلها الأستاذ الجليل علي الجارم في تسهيل النحو وتجميله في كتاب (النحو الواضح) فصارت به دروس النحو الأولى سهلة مقبولة لدى الناشئين، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وتقرن العلم بالعمل قرنا موفقاً، ولكن نحونا العالي لا يزال في الحالة السيئة التي وصل إليها من يوم أن أخذ من أحضان علم الأدب الذي نشأ النحو في ظله، وترعرع في أرضه الخصبة.
وكان الإمام علي بن عيسى الرماني أول من انتزع النحو من حضنه بين الأدب وعلومه؛ وقد ولد الرماني سنة 276 هـ وأخذ عن الزجاج، وابن السراج، وابن دريد، ثم برع في علم النحو حتى قال أبو حيان التوحيدي: لم ير مثله قط علما بالنحو، وغزارة بالكلام، وبصراً بالمقالات، واستخرجاً للعويص، وإيضاحا للمشكل، مع تأله وتنزه. ودين وفصاحة، وعفاف ونظافة، وكان يمزج النحو بالمنطق، حتى قال الفارسي إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله نحن معه نحن فليس معه منه شيء - قلت: النحو ما يقوله الفارسي، ومتى عهد الناس أن النحو يمزج بالمنطق، وهذه مؤلفات الخليل وسيبويه ومعاصريهما ومن بعدهما بدهر، لم يعهد فيها شيء من ذلك
على أن النحو لم يزل يبعد عن الأدب بعد الرماني شيئا فشيئا، حتى أصبح العالم بالنحو لا يدري شيئا من الأدب، ولا يستطيع أن يقوم لسانه أو قلمه إذا نطق أو كتب، وحتى أصبحت بعض الشواهد النحوية تروى مغلوطة وتمضي عليها أزمان طويلة فلا يتنبه إلى غلطها، ولا يعرف مع هذا قائلها، وليس هذا إلا من فصل النحو عن الأدب، والعناية بحفظ قواعده ونكاتها الفلسفية، وإهمال صبغته الأدبية التي كانت تراعي في عهد ازدهاره.
وإني أسوق من ذلك هذا الشاهد الذي يذكر في باب التوكيد
لكنه شاقهُ أن قيل ذا رجَبٌ ... يا ليت عِدَّةَ حولٍ كلِّهِ رَجَبُ
برفع كلمة (رجب) في آخر البيت، فهذا الشاهد لا يعرفون قائله إلى الآن، وهم مخطئون في رفع كلمة (رجب) في آخر البيت لأنها من قصيدة رويها على النصب لا على الرفع.(194/50)
وقد جاء في كتاب الكامل للمبرد وشرحه رغبة الآمل للشيخ المرصفي (ص 214 ج 7) أن عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي كان يؤم بالناس في مسجد الأحزاب بالمدينة، فلما وليها الحسن بن زيد منعه أن يؤم الناس في هذا المسجد، فقال له: أصلح الله الأمير، لم منعتني مقامي ومقام آبائي وأجدادي من قبلي؟ قال: ما منعك منه إلا يوم الأربعاء، يريد قوله:
يا لَلرجال ليوم الأربعاءِ أمَا ... ينفكُّ يحدث لي بعد النُّهَى طَرَبَا
إذ لا يزالُ غزال فيه يفتنني ... يأتي إلى مسجد الأحزاب مُنتْقِبَا
يُخَبِّرُ الناسَ أن الأجرِ همَّتُهُ ... وما أتى طالباً للأجر محتسبا
لو كان يطلب أجراً ما أتى ظُهُراً ... مُضَمَّخاً بفَتيت المسك مختضباً
لكنه شاقه أن قيلَ ذا رجب ... يا ليت عِدَّة حولٍ كلِّهِ رجَبَا
فإن فيه لمن يَبغي فواضِلهُ ... فضلا وللطالب المرتاد ما طلبا
كم حُرَّةٍ دُرَّةٍ قد كنْتُ آلفَهُا ... تسد من دونها الأبوابَ والحجبا
قد ساغ فيه لها مَشْىُ النهار كما ... ساغ الشرابُ لعطشان إذا شربا
يقال شهر عظيمُ الحقّ في سَنَةٍ ... يهوى له كلُّ مكروب إذا كربا
فاخرجنَ فيه ولا ترهَبْنَ ذا كذبٍ ... قد أبطل الله فيه قول من كذبا
وكانت ولاية الحسن بن زيد بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب المدينة سنة 160 هـ في عهد أبي جعفر المنصور ثاني ملوك العباسيين
فإحياء النحو عندي بأن تعاد له صبغته الأدبية التي كانت له وليس إحياؤه بتطويل الكلام في أن الفتحة ليست علامة إعراب كما قرأته في بعض الكتب الحديثة، فإن هذا مما يزيد فيه الطين بلة، ولا يؤدي بنا إلى الإصلاح المنشود له
عبد المتعال الصعيدي(194/51)
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
الجاهلية: شعرها وعاداتها ودياناتها
ترجمة حسن حبشي
وقد وضع الإسلام حداً لهذه الوحشية واستهجنها القرآن ونهى عنها قوله (ولاَ تَقْتُلوا أولاَدَكُمْ خشيْة إمْلاَقٍ نحْنُ نَرْزُقهُمْ وإيَّاكم إنَّ قتْلَهُمْ كان خِطأً كبيراً) وربما كانت الأبيات التالية تفصح عن هذا تمام الإفصاح، وفيها نرى صراعا عنيفاً بين رجل وبين الفاقة، ويحمد الله أن كان مصرع ابنته قبل مصرعه حتى لا تكون تحت رحمة أقاربها:
لولا أُمَيْمَةُ لمْ أجزَع منَ الْعَدَمِ ... ولم أُقاسِ الدُّجَى في حِنْدِسِ الظلم
وَزَادَنِي رَغبْةً في الْعَيْشِ معْرِفتِي ... ذُلَّ اليتَيمةِ يَجفْوهَا ذَوُو الرَّحِم
أحاذِرُ الفَقْرَ يَوْماً أنْ يلمَّ بِهَا ... فيَهْتِكُ السِّتْرَ عن لَحْمٍ على وَضمِ
يهْوَى حَياتي وَأهوى مَوْتَها شغفاً ... والموتُ أكرمُ نزّالٍ على الحُرُمِ
أحشى فظَاظَةَ عَمٍّ أو جفاءٍ أخِ ... وكنتُ أُبقي عليها من أذى الكلِم
ويقول آخر في هذا الموضوع:
لولا بُنيَّاتٌ كزُغب القَطا ... رُدِدنَ منْ بَعضٍ إلى بَعضِ
لكانَ لي مضطرب واسعٌ ... في الأرض ذاتِ الطولِ والعرَضِ
وإنِّمَا أولادُنا بينَنَا ... أكبادُنا تمشي على الأرض
لو هبَّتِ الرِّيحُ على بعضِهِم ... لامتنَعَتْ عينِي مِنَ الغْمْضِ
الحب والبغض هاتان الكلمتان هما جماع الآداب البدوية؛ لأنه إذا كان العربي - كما رأينا - صديقاً حميما لخلانّه، فانه عدو لدود لا يهدأ له بال إذا عادى؛ تضطرم نفسه وتتأجج بنيران الحقد والبغضاء، وكانوا يعدون من لا يرد اللطمة التي أصابته جباناً، ويستحيل على الرجل الكريم المحتد منهم أن ينسى ضرراً لحقه حتى يثأر لنفسه وينتقم لها، وأنشد بعض الأعراب، - وقد آلمه أن يغتصب المغير إبله - أبياتاً يقول فيها عن عشيرته التي لم تساعده في استرجاعها:(194/52)
لكنَّ قومي وإن كانوا ذوِي عدَدٍ ... ليسُوا من الشَّرِّ في شيءٍ وإنْ هانا
يَجزونَ من ظُلِمِ أهلِ الظلمِ مَغفرِةَ ... ومن إساءةِ أهل السوُّء إحسانا
والبيت الثاني الذي قد يسرف في مدح من يتصف به الأخلاقيون المسيحيون والمسلمون ألحق بمن فيهم عاراً لا تمحي آثاره، وإن المنهج البَّين في معاملة الأعداء ليتضح على أتمه من الأبيات التالية:
إذا المرءُ أولاكَ الهوانَ فأولِهِ ... هوَاناً وإن كانتْ قَرِيباً أواصِرهُ
فانْ أنتَ لمْ تَقْدِرْ على أن تهينَهُ ... فَذرْهُ إلى اليَوْم الذي أنْتَ قادِرُه
وقارِبْ إذا مَا لمْ تَكنْ لكَ حِيلة ... وصَمِّمْ إذا أيقنْتَ أنَّك عَاقِرُهْ
وفوق كل هذا فان الدم يدعو الدم، وهذا الارغام يظل يلاحق ضمير العربي الوثني؛ وكان الانتقام عندهم ضرورة طبيعية إذا لم تجب حرمتهم النوم والشهية والصحة، كما كان ظمأ محرقاً لا يطفئ أواره أو يبل لهيبه سوى الدم، ومرضاً من أمراض الشرف يمكن تسميته بالجنون، وإن كان قليلا ما يمنع الرجل من أداء عمله في هدوء وتبصر. وكانوا يثأرون من القاتل إن أمكن أو أحد أقاربه وأبناء عشيرته. وإذا ذاك تستقر الأمور في نصابها ويندمل الجرح، إلا أن هناك حالات كان الانتقام فيها فاتحة قتال دموي دائم، تشتبك فيه القبيلة بأجمعها صغيرها وكبيرها، كما حدث ذلك في مقتل كليب الذي أدى إلى حرب زبون ظلت الرماح فيها مشتجرة زهاء أربعين عاما بين قبيلتي بكر وتغلب، ويقبل أقرب أقرباء القتيل الدية كفدية له وتدفع عادة جمالا وهي تعد مسكوكات الإقليم، وان قبولهم ذلك ليوحي إليهم دائماً أنهم فضلوا اللبن (النياق) وأثروه على الدم، وإن الشعور العربي الحق ليشرئب من خلال هذا البيت الذي يقول فيه الشاعر:
سأغسل عني العار بالسيف جالباً ... على قضاء الله ما كان جالبا
وكانوا يعتقدون أن روح القتيل تظل شاخصة على قبره وتسمى (الهامة) أو الصدى، تصيح: (اسقوني، اسقوني) حتى يؤخذ لها بالثأر ممن اعتدى على صاحبها، ولكن الأفكار الوثنية عن الانتقام كانت مرتبطة بالماضي أكثر من ارتباطها بالمستقبل ولم يكونوا يحسبون للحياة الأخرى قيمة كبرى أو لم يكونوا يعلقون عليها أية أهمية بجانب الذكريات المتأصلة عن الحب الأبوي، والشفقة البنوية وأخوة السلاح.(194/53)
ومع أن النفس تستهجن هذه الطريقة المتعبة في الانتقام والأخذ بالثأر إلا أن مغبتها إيجابية في صد أولئك العابثين الذين لولا تلك الخطة - لأطلقوا لغرائزهم المجرمة العنان، ولم يكبحوا لها جماحا، إذ لا يخشون إذ ذاك رادعاً أو إلا، ولا يصدهم إرهاب، أما من وجهة نظرنا نحن فان قيمة هذا الأمر لا تهمنا من حيث هو أحد الأسس الأولية في إقامة دعائم صرح المجتمع العربي بقدر ما تهمنا من أنه يكون عنصرا من عناصر الحياة العربية والأدب العربي، ولذلك فقد اخترت من كتاب الأغاني قصة تنعكس فيها هذه الصور بأكملها، تلك هي قصة قيس بن الخطيم وكيف انتقم ممن اغتالوا أباه وجده.
والقصائد التي يرد فيها ذكر الانتقام والأخذ بالثأر للدم المهراق تكشف القناع عن كل ما هو مستحسن ومستهجن في العربي الوثني، منجده من ناحية يصور لنا شجاعته وعزمه واحتقاره للموت وخوفه من العار وتبجيله الموتى واحترامه إياهم وعطفه الجدّي على ذوي قرباه ومن كانوا من لحمه ودمه، ومن ناحية أخرى نجده يصور نفسه المضطغنة، وقسوته وغدره، وضراوته في تعقب القتلة، وإن القصيدة التي تجسم لنا هذه الصفات كلها هي القصيدة المنسوبة إلى (تأبط شرّاً) وإن كان البعض يزعم أن صاحبها (خلف الأحمر) المنشئ المعروف لقطعة الشنفري، والمقلد البارع الباهر للشعراء القدامى
(يتبع)
حسن حبشي(194/54)
شاعر الإسلام محمد عاكف
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 4 -
نشر محمد عاكف شعره في سبعة أجزاء صغار كلها تحمل اسم (صفحات) ولكل جزء عنوان خاص ما عدا الجزء الأول وهي: -
1 - الجزء الأول وقد وضع عليه بعد العنوان العام: (صفحات) هذا الاسم (برنجي كتاب) أي الكتاب الأول. وفي هذا الجزء أربع وثلاثون منظومة في موضوعات شتى. ويتبين فيها كلف الشاعر بالتخلل في طبقات الأمة، ووصف المعيشة العادية، والواقعات المألوفة يكشفها عما وراءها من عظات، وينطقها بما استسر على الناس من عبر. وحسب القارئ أن يرجع إلى المنظومات: قفة وحصير، والحانة، وقهوة المحلة، ليرى قدرة الشاعر على تصوير الحياة وجلائلها ودقائقها في بيان يجمع يسر النثر إلى جمال الشعر.
وقد عرف قراء الرسالة من منظومات هذا الجزء اثنتين: سيفي بابا، والزامر الأعمى.
2 - والجزء الثاني سماه الشاعر: (في كرسي السليمانية) (سليمانية كرسيسنده). وهو منظومة مزدوجة فيها زهاء ألف بيت يصف فيها جامع السلطان سليمان القانوني أعظم مساجد استنبول، ويتحدث على لسان واعظ سياح اعتلى كرسي الوعظ في هذا المسجد واصفاً ما شهده في سياحته من أحوال المسلمين ويبين أدواءهم وأدويتهم. وقد أختار لهذا الحديث السائح المعروف عبد الرشيد إبراهيم الذي يطوف في أرجاء العالم منذ ستين سنة أو أكثر، والذي قدم مصر مرات آخرها قدومه قبل سنتين في طريقه إلى اليابان؛ وهو اليوم نزيل طوكيو، فعليه منا تحية وسلام.
3 - والجزء الثالث أصوات الحق (حقك سسلري) وهو منظومات في معاني آيات قرآنية مثل قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء الخ. تلك بيوتهم خاوية بما ظلموا. كنتم خير أمة أخرجت للناس.
4 - والجزء الرابع في كرسي الفاتح (فاتح كرسيسنده)، منظومة في نحو ثمانمائة بيت يبدؤها الشاعر بوصف مسجد الفاتح وصفا يذكر القارئ بالشاعر الفرنسي فكتور هيجو في رواية ثم تكلم على لسان واعظ في عقائد المسلمين وأعمالهم كلاما يتجلى فيه سمو(194/55)
الفكر، وصفاء القلب، والبصر بأسرار الدين، والحزن لما أصاب المسلمين.
5 - والخامس (خاطرات) (خاطره لر). وفيه منظومات في معاني آيات القرآن، وأخرى في موضوعات مختلفة، كقصيدته في وصف آثار الأقصر التي أهداها إلى الأمير عباس حليم باشا رحمة الله، ومنظومة (خواطر برلين) وهي طويلة تنتظم زهاء أربعمائة بيت. ويعرف قراء الرسالة من هذا الجزء القصيدة الخالدة (من نجد إلى المدينة)
6 - عاصم: قصة طويلة منظومة في نحو ألف ومائتي بيت بطلها شاب من الذين جاهدوا في الحرب الكبرى، اسمه عاصم. وهو ابن كوسه إمام تلميذ طاهر أفندي والد الشاعر. وقد أبان فيها عن حال تركيا القديمة والحديثة، ووصف كثيرا من الأمور الأخلاقية الاجتماعية وصفا بليغا دقيقا يتناول أشد الموضوعات استعصاء على النظم فيعرضها في أسلوب مطبوع بيّن لا أثر فيه للتكلف والجهد. وكان الشاعر يوصي بقراءة هذه القصة لما ضمنته من عبر ولما قاربت لغتها، اللغة العامية في تركيا
7 - الظلال (كوركه لر) هي الجزء الأخير الذي نشره الشاعر قبل وفاته بعامين، وقد نظم بعض منظوماته في استنبول وبعضها في أنقرة ومعضمها في حلوان. ومنها قصيدة في الآثار المصرية سماها (مع فرعون وجها لوجه) وأهدها إلى الأميرة خديجة حليم. ومنها قصيدة نشرت ترجمتها في الرسالة بعنوان الفنان يصف فيها صديقه الشريف محيي الدين أكبر الموسيقيين المسلمين ومفخرة العرب في الموسيقى وهو نزيل بغداد اليوم
وقد أهدى الشاعر الجزء الأول من الصفحات إلى أحد تلاميذه (محمد علي)، والثاني إلى صديقه فطين خوجه، والرابع إلى صديقه الشاعر مدحت جمال، والسادس إلى صديقه فؤاد شمس، والآخر إلى الشريف محيي الدين
وقد صدّر الشاعر الجزء الأول من صفحاته بخمسة أبيات لا عنوان لها، وافتتح الجزء الأخير بستة أبيات عنوانها خسران. ويرى القارئ في ترجمة هاتين القطعتين كيف كان فكر الشاعر في أول شعره وآخره:
- 1 -
سلني أيها القارئ الحبيب أنبئك. سلني ما هذه الأشعار المائلة أمامك؟ إنها أكداس من الكلم لا براعة فيها إلا الإخلاص. لست أعرف التصنع لأني لست صانعا. يقال أن الشعر دمع(194/56)
العين. لا علم لي بهذا، ولكني أرى أن كل ما أسطر هو بكاء العجز. أنا أبكي فلا أستطيع أن أبكي، وأشعر فلا أستطيع أن أبين. وان الشقاء أن يحرم القلب الشاعر لسانا: أقرأ إن كنت تنشد قلبا حساسا - أقرأ فما كتبت كلمتين إلا سطرت هذا القلب
- 2 -
وكتب على الجز الأخير الذي نشره قبل وفاته بعامين أبياتا نظمها في استنبول قبل قدومه إلى مصر:
ما كنت لأقف معقول اللسان أقلّب الطرف فيما حولي. لم يكن لي بد أن أنوح لأوقظ الإسلام. إنما أريد أن تفور القلوب المرهفة الحس، الراسخة الإيمان؛ وأما التفكير الطويل فقد هجرته منذ أمد بعيد. إني أنوح ولكن لمن؟ أين أهل الدار؟ أقلب طرفي فلا أظفر إلا بأمم نائمة
لقد خنقت صرخاتي وحملت نعشها ثم مزقتها تمزيقا ودفنتها في شعري وتركتها
وهأنذا أسيل أنيني الذي هم بأن يعم الأودية كالسيل المنهمر، أسيله في غير هدير كالدموع الخفية. لا أجد في هذه القبة الصماء لآلامي أثرا فليئن الخسران الذي في (صفحاتي) دون حس ولا ركز.
عبد الوهاب عزام(194/57)
في حفلة تأبين الزهاوي
مضى الطائر الصداح
للأستاذ علي الجارم بك
مندوب مصر في حفلة تأبين الزهاوي ببغداد
جفا الروض مغبر الأسارير ماطره ... وغادره قفر الخمائل طائره
ذوى نبيه بعد البشاشة وارتمت ... مصوحة أثمار وأزاهره
تلفت: أين الروض، أين مكانه ... وأين مجاليه، وأين بواكره
وأين الذي لم يطرق الأذان مثله ... إذا صدحت فوق الغصون مزاهره
حمائم ألهاها النعيم عن البكا ... وأذهلها عن عابس العيش ناضره
إذا أرسلت ألحانها في خميلة ... توثب زهر الروض واهتز عاطره
لها صوت داود وحسن رنينه ... إذا ما علت متن النسيم مزامره
إذا بدأت أشجاك أول صوتها ... وأن سكتت أعيا بيانك آخره
وأن هتفت في الدوح مال كأنما ... يسايرها في لحنها وتسايره
تحدت فنون الموصلي وطوحت ... بأنفس ما ضمت عليه بناصره
أولئك أوتار الإله وصنعه ... إذا عزفت فليسكت العود وآتره
ألمت بأسرار النفوس فترجمت ... كما فسر الحلم المحجب عابره
يصيخ إليها أسود الليل باسما ... فتفترعن زهر النجوم مشافره
يود لو أن الغيد ضمت شعورها ... إلى شعره الداجي فطالت غدائره
ويرجو لو أن الفجر عوق خطوه ... وطاش به نائي الطريق وجائره
وزلت بشطآن المجرة رجله ... فطوحه في غمرة اليم زاخره
سل الروض أن أصغت إليك رسومه ... متى روعت أطلاؤه وجآذره
وأين الغدير العذب طاب وروده ... لذي الغلة الصادي وطابت مصادره
إذا فاض بين الزهر تحسب أنه ... يماني برد أذهل التجر ناشره
تأزر من أثوابه الروض واكتسى ... فرقت حواشيه وطالت مآزره(194/58)
تدور به جم البلابل مطرقا ... ولم تدر أن الدهر دارت دوائره
وتصغي فلا يجتاز سمعك نغمة ... سوى أنة يلهي بها الحزن قاهره
وتدعو فلا تلقى مجيبا سوى النوى ... تطارح مطوي الأسى وتحاوره
وقفت به والقلب يحبس وجده ... فيطغى ودمع العين ينهل بادره
وما وقفتي بين الرياض وقد عفت ... سوى حاجة يقضى بها الحق ناذره
أرى ما أرى إلا غبارا أثاره ... خميس الليالي حينما ثار ثائره
مضى الطائر الصداح فالأفق موحش ... حزين النواحي عابس الوجه بأسره
وأودى (الزهاوي) فانتهى ملعب النهى ... وأطفئت الأنوار وانفض سامره
أقام على رغم النبوغ بحفرة ... وسارت على رغم المنون وسوائره
وغادر عرش اللوذعية ربه ... وخلى ندى العبقرية شاعره
دعوا ذكر إعجاز البيان وسره ... فقد غاب عنه طيلة الدهر ساحره
له خاطر لو سابق البرق في الدجى ... لجلى على برق السموات خاطره
تملك حر الشعر سن يراعه ... فيا عجبا إن حرر الشعر آسره
تمنى العذارى لو تقلدن دره ... ورفت على أجيادهن جواهره
ويزهي العيون الدعج إن سوادها ... شبيه بما ضمت عليه محابره
وما جاشت الصهباء إلا لأنها ... وقد صفقوا مشمولها لا تناظره
تمر به مرا فيسبيك بعضه ... وتقرؤه أخرى فيسبيك سائره
ترى فيه هذا الكون صورة حاذق ... أحاطت بأسرار الحياة بصائره
وتلمح فيه الرأي في بعد غوره ... كما غاص تحت الماء للدر ذاخره
وتلقى به الأذى في ثورانه ... إذا عقله الجبار مارت موائره
له قلم لو لامس الطرس مرة ... تداني له صعب القريض ونافره
لقد كان منظار النفوس فلم يجل ... بنفس هوى إلا وطرفك ناظره
يلوح بعيد الرأي خلف زجاجه ... وحاضر تاريخ الحياة وغابره
براه إله الخلق عزما وجرأة ... تهاب الرواسي حده وتحاذره
وصوره عضا تفر لهوله ... ذئاب الدنايا شرداً وهو شاهره(194/59)
كأن عصا موسى أعيدت بكفه ... يصاول من يرمي بها ويغاوره
يقول جريئا ما يريد وربما ... يقول الفتى ما لم ترده سرائره
وكم من فتى يقضي بنفسين عيشه ... مظاهره نفس، ونفس مخابره
تراه من النساك في خلواتهم ... وفي الحان قد نمت عليه ستائره
لسان كما طال الجرير مسبح ... رياء ومن خلف اللسان جرائره
إذا لم يكن في الحرب قلبك باترا ... فماذا يفيد المرء في الحرب باتره
حنانا له كيف استقرت به النوى ... وكيف ثوى بعد التلفت حائره
وهل بعد ليل في الحياة مؤرق ... كثير التظني أبصر الصبح ساهره
شققت إليك الطرق والقلب خافق ... تراوحه آلامه وتباكره
تذكر آلافا ألموا فودعوا ... كطيف خيال أرق الصب زائره
ونحن حياة والحياة إلى مدى ... ولولا المنى لم يبذر الحب باذره
وأن المهود الزهر - لو علم الفتى ... وفكر في غايتهن - مقابره
سموت إلى بغداد والشوق نحوها ... يساورني حينا وحينا أساوره
كلانا نأى عن أهله وعشيره ... ليلقاه فيها أهله وعشائره
حبيب إلى نفسي العراق وأهله ... وسالفه الزاهي المجيد وحاضره
ديار بها الإسلام أرسل ضوءه ... فسار مسير الشمس في الأفق سائره
ومدت بها الآداب ظلا على الورى ... تساوت به آصاله وهواجره
تجلى بها عهد الرشيد وعزه ... وزاهر ملك الفاتحين وباهره
إذا شئت مجد العرب في عنفوانه ... فهذي مغانيه، وهذى منائره
أطلت على الدنيا فأبصرت الهدى ... كما لمعت في جنح ليل زواهر
تفاخر بالغازي الذي سار ذكره ... ودوّت بآفاق البلاد مفاخره
هو الملك أمضى من شبا السيف عزمه ... وأغزر من ماء السحائب هامره
نماه بناة المجد من آل هاشم ... فجلت مراميه وطابت عناصره
أعاد إلى عهد البيان شبابه ... فهب فتيا ينفض الترب داثره
يريك به المنصور مأثور حزمه ... وتذكرك المهدي فيه مآثره(194/60)
ذكرنا اسمه طول الطريق فذللت ... مصاعب متنيه وضاءت دياجره
جميل! نداء من أخ يقدر النهى ... وإن لم يمتع باجتلائك ناظره
عرفتك في آثارك الغر مثلما ... تنبئ عن وجه الصباح بشائره
عرفت (جميلا) في جميل بيانه ... يشاطرني وجدانه وأشاطره
تجاورني في دوحة النيل روحه ... وروحي بأدواح العراق تجاوره
إذا اجتمع القلبان فالكون كله ... مكان، وإن شقت وطالت معابره
لنا نسب في المجد يجمع بيننا ... تعالت أواسيه وشدت أواصره
ألسنا حماة القول في كل محفل ... تتيه بنا في كل أرض منابره
صببت عليك الدمع سحا ومدمعي ... عزيز ولكن أجود الدر نادره
وأرسلت فيك الشعر لوعة موجع ... تئن قوافيه وتبكي صدائره
عليك سلام الله نورا ورحمة ... وغادتك من سيب الإله مواطره
علي الجارم(194/61)
لبيك نابغة العراق
للأستاذ بشاره الخوري
مندوب لبنان في حفلة التأبين
قولي لشمسك لا تغيبي ... وتكبدي فلك القلوب
بغداد يا وطن الج ... هاد وموضع الأدب الخصيب
غناك دجلة والفرا ... ت قصائد الزمن العجيب
رقصت قوافيها على ... نغم البشائر والحروب
أعراس دارا من مقا ... طعها وخيبة سنحريب
حتى إذا طلع الرشي ... د وماج في الأفق الرحيب
صهر القرون وصاغها ... ناجا لمفرقك الحبيب
بغداد يا شغف الجمال ... وملعب الغزل الطروب
بنت المكارم للعرو ... بة فيك جامعة القلوب
بيت من الأخلاق ضا ... قت عنه أخلاق الشعوب
وسع الديانات السما ... ح وضم أشتات الندوب
زفرات أحمد في رس ... الته وآلام الصليب
بغداد ما حمل السرى ... مني سوى شبح مريب
جفلت له الصحراء وال ... تفت الكثيب إلى الكثيب
وتنصتت زمر الجناد ... ب من فويهات الثقوب
يتساءلون وقد رأوا ... قيس الملوح في شحوبي
والتمتمات على الشفا ... هـ مضرجات بالنسيب
تبكي لها قبل الصبا ... ويذوب فيها كل طيب
يتساءلون من الفتى ال ... عربي في الزي الغريب
صحراء يا بنت السماء ... البكر والوحي الخصيب
أنا لو ذكرت ذكرت أح ... لامي وأنغامي وكوبي
إحدى الشموع الذائبا ... ت أمام هيكلك الرهيب(194/62)
أنا دمعة الأدب الحزين ... رسالة الألم المذيب
من قلب لبنان الكئيب ... لقلب بغداد الكئيب
لبيك يا نابغة العرا ... ق وحجة الشرق القريب
لبيك معجزة البيا ... ن الحر والقلم الخضيب
حجاج روحك وهي ملء ... الكون تقذف باللهيب
تخبو الشموس وتنطفئ ... وتظل نامية الشوب
حلم سفكت دم الشباب ... فدى لمبسمه الشنيب
حب الخلود وكم أري ... ق عليه من جفن سكيب
لولاه لم تلد الطروس ... الحمر إكليل الأديب
آليت اقتحم الجح ... يم على جواد من ذنوبي
فأغوص في الأبدية الخر ... ساء والأزل القطوب
أتلمس الأشباح والأر ... واح من خلل الحقوب
حتى إذا انكشف الجح ... يم يئز بالضرم الصخوب
سكنت ثائرة الضلو ... ع وكاد يصرعني وجيبي
وسألت عن (دانتي) وعن ... شيخ المعرة ذي الريوب
أحقيقة عرفا لظى ... أم وصف مبتدع نجيب
(لجميل ليلى) فيه ما ... شاء التفنن من ضروب
صور ملونة الجنا ... ح على مخيلة خلوب
آليت اقتحم الجح ... يم على جواد من ذنوبي
آليت. . . لكني أرعويت ... وقلت يا نفسي إهدائي بي
مهما سما عقل الحكيم ... يزل عن حجب الغيوب
يا فيلسوف العرب ... والأيام كالحة النيوب
هلا ذكرت لنا العراق ومج ... د غابره الذهيب
فلك ترصع بالحك ... يم وبالأديب وبالطبيب
يفتر عن مثل ابن سين ... اوالنواسي الأريب(194/63)
إرث وهبت له الصبا ... وسقيته دمع المشيب
ونشرت أنجمه على بغ ... داد من كفن المغيب
شيخ القريض أبا الرص ... ين الجزل والمرح اللعوب
ما زلت ألمحها على لب ... نان طافرة الوثوب
من معصم النبع الدفي ... ق لمعطف الغصن الرطيب
وأخو الوفا لبنان ير ... فل منه في الثوب القشيب
هو والعراق الحر مه ... د هوى وأيكة عندليب
فجران من مزن السما ... ء ووردتان على قضيب
أسد العراق وما الرياح ... الهوج طاغية الهبوب
أمضى وأنفذ منك إذ ... تثبين للأمر العصيب
قلمت أظفار الزما ... ن ورعت داهية الخطوب
وبنيت بالقلم الحليم ... وبالمهندة الغضوب
ونشدت للعرش المف ... دى آية الفتح القريب
عرش (لغازي) المكرما ... ت لمنتهى حسب الحسيب
نسب تنقل في العُلى ... بين الأشعة والطيوب
عرش الملوك من السلا ... ح وعرشه فلذ القلوب
بشارة الخوري(194/64)
الفنون
الفن المصري
3 - التصوير والحفر
للدكتور أحمد موسى
يلاحظ الدارس للفن، المحيط بأسراره بعض الإحاطة، أن الفنان المصري عمل مصوراته ومحفوراته البارزة والمنخفضة، مقيدة بقيود ظلت طوال أيام الحضارة المصرية كلها، تلخصت في نظرته للأجسام، لا بحسب مظهرها الطبيعي أمامه؛ بل بحسب وضعها الأصم الذي ظن أنه يجب أن تظهر به في تصويره وعلى لوحاته، وقد ظن بعض الناس أن هذا متعمد بقصد خلق روح فنية معينة، وظن غيرهم أن هذا نوع من التشويه الفني كما أسموه. وهذا فضلا عن كونه محض افتراء، فانه بعيد عن الواقع وعن التقدير العلمي بعداً شاسعاً. فالفنان المصري لم يتعمد شيئاً معيناً وإنما كان مقيداً بقيود طبيعية. دفعته إلى هذا الوضع وإلى هذا المنهج دفعاً لم يكن له فيه أي قصد، بل ولم يكن ليتخلص منه بأي وسيلة. ولذلك كان إذا صور جماعة من الناس أو الحيوان أو المواد أو منها جميعاً تصويراً إنشائياً، تراه يضعها بحيث يكون بعضها خلف بعض أو إلى جانبه، من غير مراعاة الوضع الطبيعي لها، الذي كانت تظهر به أمام عينيه، وكان هذا هو الحال أيضاً عند ما أراد التصرف بعض الشيء - مثلا - في تصوير مائدة عليها أدوات أو مواد. فتراه يصورها قطعة قطعة، كما لو كانت متفرقة غير مجتمعة على مائدة واحدة، ذلك لأنه لم يكن يعرف بعد أصول تصوير المجسمات. وعلاقة الحجم والبعد بالتصوير المنظور وكان هذا سبباً جوهرياً في ظهور مختلف المصورات التي مثلت شئون حياته الزراعية والصناعية والدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها. كما لو كانت متجاورة بالرغم من أن بعضها كان يجب أن يخفي البعض الآخر بحسب وضعه وراءها
نعم: شاهدنا في بعض المصورات قوة ملاحظة الفنان بجعله الشيء الموضوع خلف شيء آخر غير ظاهر، ولكن هذا كان نادر الحصول بحيث لا يمكننا الأخذ به كقاعدة عامة لروح الفن المصري في التصوير والحفر(194/65)
والجدير بالملاحظة والمعرفة، هو أن نعلم أن نظرة الفنان لجماعة من الناس بينها شخصية بارزة، دفعته حيناً إلى إظهار هذه الشخصية بمقياس أكبر من المقياس الذي تقيده بتنفيذه في مصوراته، غير ناظر إلى موقع هذه الشخصية من حيث البعد أو القرب منه، أو لوضعها بالنسبة لمجاوريها، فضلا عن نظرته إلى جسم الإنسان على وجه الخصوص، كما لو كان شيئاً ينظر إليه من وضعين مختلفين، فتراه - كما سبق التنويه بذلك في المقال السابق - نظر إلى الرأس والبطن والساقين والقدمين من الجانب على حين نظر إلى العينين والكتفين والبطن من الأمام.
ويرى الزائر للمتحف المصري أنموذجاً صادقاً لهذه الحالة إذا نظر إلى الصورة المحفورة على الخشب. التي تمثل الطحان واقفاً وجالساً، (قطعة رقم 88 - دولاب ب - الصالة أ - بالدور الأرضي)، والتي تبين بوضوح الدقة العظيمة في تصوير الوجه من الجانب
بدأ المصريون بهذه الدقة منذ عهد الأسرة الخامسة. واستمر التقدم حتى بلغ الغاية في منتصف عهد الأسرة الثامنة عشرة (حوالي 1450 ق. م.) وأعقب ذلك التدهور والانحطاط
وإذا قُدر للقارئ المصري أن يعنى بتراث حضارته القديمة واحتمل مشقة السفر إلى الوجه القبلي بضع ساعات حتى يصل إلى الشيخ عبد القرنة (بطيبة بحري راميسيوم). وإلى تل العمارنة القريبة من دير مواس، فانه يستطيع أن يرى أروع تصوير وأدق تمثيل، فيشاهد الحيوانات مرسومة من الجانب بمنتهى ما يمكن من الدقة، فالتناسب بالغ منتهاه، والحياة نابضة فيه، حتى ليخيل إليك أنها صور فوتوغرافية لشدة صدق محاكاتها
أما الإنشاء الكلي لفن التصوير، فقد كان ثابتا على مر القرون، إلا في بعض أحوال معينة، فترى معظم المصورات في عهد المملكة القديمة (3200 - 2270 ق. م.) تمثل ممارسة الناس لإعمالهم اليومية في الحقل والبيت بشكل رائع جميل، فضلا عما يمكن استفادته من هذه المصورات في مختلف إنشائها وأزمانها لمعرفة مدى دقة ملاحظتهم وحضارتهم
وتغير الإنشاء الموضوعي بتغير العصر؛ فترى في عهد المملكة الوسطى (2190 - 1700 ق. م.) أن المصورات شملت مشاهدات في قصور الملوك والأمراء، كما أظهرت لنا طرائف أوضحت كيفية دفن الموتى وما إليها، على أن هذا الاتجاه الاجتماعي الجديد نما وازدهر على وجه الخصوص في عهد الأسرة الثامنة عشرة (1555 - 1350 ق. م.)،(194/66)
عندما بلغت مصر شأواً عظيماً وفتحت بلداناً مجاورة، الأمر الذي ترتب عليه اتساع الأفق الفني أمام الفنان المصري، وشعر الملوك والأمراء بأهمية الفن حتى لتراهم في عهد أمينوفيس الرابع (1375 - 1358) قد اتصل الفنانون بهم، واستطاع الفنان تصوير الحياة الخاصة للعائلة المالكة وللحاشية، وهذا شيء جديد في ذاته، إذ أن اتصال مصور بالعائلة المالكة إلى هذا الحد لم يكن معروفاً طوال أيام الملوك السابقين، لأننا لم نعثر ولا ينتظر أن نعثر على مصورات تؤيد غير ذلك
أما في عصر الأسرة التاسعة عشرة (1350 - 1200 ق. م.)، وكذلك في عهد رمسيس الثالث (1198 - 1167) من الأسرة العشرين، فقد كلف الفنانون بتصوير المناظر الحربية، وتسجيل انتصارات المصريين تصويرا دقيقاً، إذ بهذا يمكن إيقاظ روح الشعب للتعلق بحب الوطن والتفاني في الإخلاص له، كما يسجل المواقع والمذابح الحربية التي بدئ بها في عصر الأسرة الثامنة عشرة، والتي لا تزال شعوب الأرض المتحضرة في أيامنا هذه ناسجة على منوالها. وفي المتحف المصري قطعة مقلدة من الأصل المحفوظ بمتحف فلورنسا، تعد من أروع ما يستطيع الإنسان أن يشاهده لمثل هذه الحالة، تمثل عربة توتموزيس (1420 - 1411) يجدها الزائر تحت رقم 3000 داخل الصندوق حرف ط بالجناح الشرقي بالدور الأعلى
وبدأ فن التصوير ينحط عند انتهاء عصر المملكة الحديثة، فتراه قد عاد من حيث الضعف الفني إلى عهد الأسر الأولى، بحيث أصبح كل ما صور بعد هذا العصر. لا يخرج عن تقليد ضعيف لما سبق تصويره
أما النحت التصويري فكانت أزهى عصوره عند الأسرة الخامسة في المملكة القديمة، وهذا يتفق مع عصر النحت الكامل، وأحسن نماذجه وأروعها يمكن مشاهدتها بسقارة خصوصاً بمصطبة تي وبتاحوتب وكذلك بمعابد الملوك للموتى
على أنه يجب التنويه بأن الفن قد انحط في عهد المملكة الوسطى، وظل كذلك حتى عهد الأسرة الثامنة عشرة، حيث ترى في معابد الأقصر والدير البحري ومقابر الشيخ عبد القرنة دلائل التقدم
أما في عهد البطالسة (332 وما بعدها) فقد تقهقر الفن، وأصبح التناسب ضعيفاً بين(194/67)
المسافات التي كانت تخصص للحفر والتصوير وبين المسافات التي تركت بدونه، كما أصبح توزيع المصورات على المساحات رديئاً، وخلت هي نفسها من كل جمال وانسجام، وطغى عليها ازدحام أبعدها عن الذوق الفني. والمشاهد لتراث هذا العهد يلاحظ التضخم بادياً على المنحوتات الممثلة لجسم الإنسان
ولعلنا بمشاهدة بعض المصورات التي أمكن الحصول عليها لتناسب المقال هنا، يمكننا أن نفهم جيداً المدى الذي وصل إليه المصريون في فن التصوير والنحت والتصويري: فترى في الصورة - 1 - المنقولة عن حائط بمقابر بني حسن، منظراً رائعاً لجماعة من الآشوريين (الساميين) وهم سائرون وراء اثنين من المصريين. ومتجهون جميعاً في طريقهم إلى مصر. فترى على اليمين أحد الموظفين المصريين (باللون الأحمر في الأصل) يرفع بيمينه لوحة أوضحت الغرض من قدوم هؤلاء الأجانب وهو تقديم الولاء لملك مصر (سيزوستريس الثاني - الأسرة الثانية عشرة)، ويعقبه مصري آخر يسير وراءه كمن يرشد الجماعة إلى خط السير؛ ثم ترى الثالث وهو يسير ممسكاً عنزاً من أحد قرنيها بيده اليسرى، والرابع ممسكا غزالا أحاط عنقه بحبل قبض عليه بيسراه، على حين قبض على القرن بيمناه، أحضرهما كعينة لحيوانات بلادهم؛ وبعدئذ نرى أربعة رجال يسيرون في نفس الاتجاه، والأخير منهم يتجه برأسه إلى الوراء كما لو كان يتحدث إلى من خلفه، يحمل كل منهم السهم والقوس أما الاثنان وراءهما، فأحدهما ينظر إليه والآخر يلاحظ الطفلين اللذين ركبا حماراً وقد قعدا داخل مخلاة أشبه بحاجز يقيهما شر السقوط. وخلف الحمار ولد تعقبه أربعة نساء تركن الشعر منسدلا إلى الكتفين، وخلفهن حمار آخر محمل بالهدايا، ووراءه رجل يعزف على آلة موسيقية آشورية ذات خمسة أوتار، وآخر يحمل نشاباً بيسراه وعصا بيمناه استعداً للطوارئ. وسار المصريون حفاة الأقدام، على حين كان الآشوريون تلبس نسائهم أحذية من الجلد، ورجالهم يحتذون نوعا من الصنادل فضلا عن إمكان تمييزهم بذقونهم الطويلة.
والصورة - 2 - تشمل منظرين وجدا بأبي سنبل (القريبة من الدر) الأيمن منهما يمثل رمسيس الثاني على مركبته الحربية التي انتصر بها في حروبه الأفريقية، وهي في شكلها الكلي واضحة التفاصيل، قوية الإحراج، تسجل الناحية الجديدة في الاتجاه الفني لإثبات(194/68)
الانتصارات ومظاهر الأبهة والعظمة كما سبق التنويه.
أنظر إلى رمسيس في مركبته الرائعة يجرها حصانان وقد اختفى أحدهما لظهور الآخر من الجانب، وتأمل كيف استطاع الفنان أن يبينه في بساطة، وذلك برسمه خطاً رفيعا موازيا للحصان الظاهر. والمتأمل في صدر رمسيس يلاحظ الكتفين وقد ظهرا من تحت الملبس، مما يدل على أنه كان من قماش رفيع شفاف، كما يراه قابضا على القوس وعلى جزء من لجام الحصان بيده اليسرى، وعلى سهم وسكين باليمنى، أما الحصان فظهر رائعا كامل الزينة مغطى بغطاء جميل الزخرف، وأسفل الحصان ترى أسداً سائراً مع اتجاه العربة الملكية، نقش جلده ببقع أشبه بتلك التي تراها على جلد النمر، قصد به الرمز للعظمة والقوة. يقول ديودور أحد مؤرخي القرن الأول قبل المسيح إن فرعون كان يركب عربته حافي القدمين، ولذلك ترى على الكتف اليسرى لخادمه السائر أمام الحصانين وعلى يسارهما كيسا خصص لوضع حذائه داخله حتى يستطيع بذلك لبس الحذاء بمجرد مغادرة العربة.
والمنظر الايسر مأخوذ عن نظيره بمعبد سيتي الأول (ميمنونيوم) بأبي دوس (بالقرب من البلينا) يبين رمسيس الثاني (تولى الملك بعد سيتي الأول وأكمل بناء معبده) جالساً على العرش في ظل شجرة، والى اليمين ترى إله الكتابة والتحرير يسجل اسم رمسيس بقلمه على ثمار الشجرة، والإله توت كاتب السماء، وإلهة الليل آتمو التي تسجل حظ الفرعون من الخير والمتعة
والصورة - 3 - توضح الكيفية التي تم بها صيد الطيور (وجدت بطيبة). فترى إلى أقصى اليسار رجالا ثلاثا، يجذبون حبلا ربط إلى مجموعة من الشباك، أحاطت بالطيور المصادة بها. أنظر إلى الساقين الأوليين على يمين وعلى يسار شجرة اللوتس ترى على زهرة الأولى منهما طيوراً صغيرة وعلى الأخرى بيضاً. وأما بقية التفاصيل فهي متروكة لدقة ملاحظة القارئ
والصورة - 4 - هي لثلاث لوحات، أولاها إلى اليمين تبين كيفية عصر العنب للحصول على النبيذ - والوسطى لطريقة حلب البقرة، فترى القائم لعملية الحلب ومساعده الذي يحرص على منعها من التحرك - أما اليسرى فهي تريك منظراً جميلا، استطاع الفنان أن(194/69)
يخرجه إخراجاُ قوياً. انظر إلى البقرة تثني عنقها لمداعبة ابنتها العجلة الصغيرة يشاركها في الرضاعة ولد صغير
والصورة - 5 - ذات موضوع خلاب يهم المشتغلين بتاريخ القضاء، فهي تمثل قاضياُ جلس إلى منصة الحكم، وأمامه رجل يقص حادث سرقة ووراءه آخر انتهى من تأدية شهادته. بعدئذ ترى أحد رجال الأمن قابضاً على عنق لص وعلى يده، ثم ترى آخر وقد كبل رجل من يساره بالحديد. وخلف الجميع رجل يجر الماعز المسروقة لإثبات الحادث
والى يسارها صورة تبين كيفية توقيع العقوبة بالجلد، وذلك بطرح المجرم أرضاُ، وضربه على الظهر بعصا، وإذا نظرت إلى أقصى اليسار ترى رجل ممسكاً بقدمي الجاني، أما يداه فقد أمسكهما رجلان قعدا عند رأسه
والصورة - 6 - وجدت ببني حسن، وهي أيضاً طريفة الموضوع، تهم المؤرخ الفني، فهي توضح في جلاء الطريقة التي اتبعها الفنانون في التصوير، فترى الفنان وقد جلس متوسطاً الصورة ممسكاً ريشته بيمناه، وكأس الألوان بيسراه، مستمراً في تكميل تصويره لعجل صغير بعد أن أتم تصوير البقرة. وأمامه جلس مساعده ممسكاً لوحة التصوير
ووراء هؤلاء تشاهد فنانا آخر يلون تمثالا من الخشب أو الحجر، كما كانت عادة المصريين دائماً، وكما سبق التنويه بذلك المثال في الفائت
ومن هذه الصور الست، التي لا تعد شيئاً بجانب المئات التي تركها المصريون على حوائط معابدهم ومقابرهم، يمكننا أن نستخلص أن الفن لا يكون إلا حيث توجد الحضارة. وإن مصر عرفة قيمته وعملت على ترقيته في القرن العشرين قبل الميلاد، ولكنها مع مزيد الأسف لا تعرفه، ولا تعترف بوجوده، ولا تفهم حتى مدى نفعه أو ضرورته في القرن العشرين بعده؛ ولا أبلغ مما قاله شاعرنا احمد الزين تسجيلاً لهذه الحالة:
علام يجيد الفن في مصر متقن ... إذا كان بالتهريج نيل المراتب
فيا جهل واصلنا ويا علم فابتعد ... ويا حمق لازمنا ويا عقل جانب
أرى الجهل نوراً في بلاد رجالها ... خفافيش يعشيها ضياء الكواكب
إذا الشعب بالإهمال أرسب عاليا ... فلا عجب لو يعلو به كل راسب
احمد موسى(194/70)
البريد الأدبي
العيد المئوي لوزارة المعارف
تحتفل وزارة المعارف العمومية في التاسع والعشرين من مارس الجاري بمرور مائة عام على إنشائها، وستنظم بهذه المناسبة حفلات رياضية وتمثيلية، ويقام معرض للتعليم والتربية تستعرض فيه مراحل التعليم وتطوراته في مصر مدى قرن، ويوضع كتاب ذهبي يتضمن تاريخ التربية والتعليم في هذا القرن إلى غير ذلك مما ترى وزارة المعارف أن تتخذه للاحتفاء بعيدها المئوي. والواقع أن المناسبات والاحتفالات المئوية في تاريخ مصر الحديث قليلة، ومن الواجب أن يعتني بشأنها وأن يحتفي بها كلما سنحت، تجديداً للذكريات القومية، وشحذاً للهمم، وتوطيداً لبناء المستقبل.
وقد مضت مائة عام كاملة منذ أنشئ (ديوان المدارس) في سنة 1837) أنشأه مصلح مصر الكبير محمد علي، بعد أن أنشأ من قبله عدة من المدارس العالية والخصوصية، وأوفد عدة بعوث علمية إلى أوربا، وبدأت ثمار هذه السياسة المستنيرة تتفتح، ويتسع نطاق التعليم والتربية. وكان ثمة قبل إنشاء ديوان المدارس هيئة تشرف على التعليم تسمي بمجلس شورى، فرؤى أن ينظم مكانه (ديوان المدارس) الذي اصبح فيما بعد وزارة المعارف، واشترك في تنظيم الديوان المذكور عدة من رجال مصر المثقفين الذين تلقوا العلم في أوربا، وانتخب لرآسته مصطفى مختار بك أحد خريجي البعثات فكان أول رئيس أو وزير لديوان المعارف المصرية؛ وشكل للإشراف على أعمال الديوان مجلس مؤلف من عدة من النوابغ الذين يرجع إلى رأيهم في شؤون التربية مثل رفاعة بك الطهطاوي، وكلوت بك وغيرهما؛ وقام المجلس المذكور بوضع لائحة لنظم التعليم، وقرر إقامة عدد كبير من المدارس في مختلف أنحاء القطر، منها عشرات من المدارس الابتدائية الأميرية، في معظم المراكز ومئات المدارس الأولية أو الكتاتيب، وبذا وضعت أسس النهضة التعليمية في مصر الحديثة
ومما يؤثر بالفخر أن التعليم كان يومئذ في جميع المدارس على اختلاف درجاتها وأنواعها مجانيا، وكانت الحكومة تتولى الإنفاق على التلاميذ، وتعنى بإطعامهم وكسوتهم، وتجري عليهم بعض الرواتب المالية، وكان عدد تلاميذ المدارس الأميرية يومئذ يبلغ نحو العشرة(194/72)
آلاف
وتقلب في الديوان المعارف عدة من رجالات مصر الأفذاذ مثل علي باشا مبارك، تولى سنة 1888، وبذل في تنظيم التعليم جهداً عظيما، ولا تزال آثار هذه الغرس زاهرة إلى يومنا
ووقعت وزارة المعارف مدى حين تحت سيطرة الاحتلال، وأخمدت روحها الإصلاحية أيام دانلوب ومعاونيه؛ ولكنها بدأت تتنفس في عهد الاستقلال؛ ولكنها وا أسفاه ما زالت مضطربة الأوضاع والنظم، ولم توفق إلى أن ترسم لها حتى اليوم سياسة ثابتة للتعلم
الصور الهزلية في الفن المصري القديم
أصبحت الصور الهزلية من أبرز نواحي الفن المعاصر، تتخذ أداة للتعبير اللاذع عن وقائع الحياة العامة، وأحوال الأشخاص وتصرفاتهم، وأضحت سلوة الألوف من القراء تثير ابتسامتهم ومرحهم. وقد عرف المصريون القدماء فن الصور الهزلية، وألفوا فيه متنفساً للنقد اللاذع والسخرية العميقة. وتوجد لدينا نقوش وصور هزلية تدل على مبلغ ما انتهى إليه الفراعنة من الافتنان في هذا الباب. فمثلا توجد نقوش على البردي ترجع إلى إلفي عام قبل الميلاد، سطرت بها قصص عجيبة كقصص ألف ليلة وليلة من مناظر سحرية وشياطين وحيوانات تلعب أدوار مدهشة، وتوجد صور هزلية مسلية في كثير من أوراق البردي المحفوظة في تورينو ولندن، ويبدو فيها شغف المصريين بهذا النوع من تصوير الحياة العامة؛ فالأمراء والوزراء وأكابر الزعماء يمثلون في صور حيوانات مختلفة ترمز إلى معان هزلية. مثال ذلك صورة رسمت بها قطة تسير مضمومة الذراعين إلى جانب ثور مبجل (يمثل كبير البلاط)، وهما يسيران معا للمثول في حضرة خصي قد صور في صورة حمار؛ أو صورة لفرقة الموسيقى الملكية مؤلفة من تمساح يبكي تأثرا، وحمار يعزف على القيثارة، وأسد يعزف على العود؛ أو أسد (يمثل فرعون) وحمار (يمثل وزيره) يلعبان الشطرنج معا؛ وهكذا. وكان للفنانين المصريين شغف بتمثيل مناظر الحياة العامة في صور مضحكة لاذعة، فمن ذلك صورة ذئب يقود الغنم، وهرة تحرس الطير، وكلاهما رمز لفساد الحياة العامة؛ وهذه الصورة التي ترجع إلى بضعة آلاف من السنين تدل على مبلغ ما وصل إليه فن التصوير الهزلي لدى الفراعنة في القوة والروعة. وعلى أن(194/73)
الفراعنة كانوا أيضا في هذا الميدان أول الأساتذة والمبتكرين
كتاب جديد عن الاشتراكية الوطنية
ما زالت الاشتراكية الوطنية أو النظم التي تعيش في ظلها ألمانيا الحاضرة مثار كثير من الجدل، وقد ظهرت إلى اليوم عنها تصانيف كثيرة بين الخصومة والتأييد، ولكن روحها وغاياتها الحقيقية ما زالت موضع الغموض والحدس
وقد ظهر أخيراً بالفرنسية كتاب جامع عن الاشتراكية الوطنية ربما كان أقوى وأوفى مؤلف ظهر من نوعه؛ وعنوانه: (طغيان الفاشستية الألمانية) بقلم الآنسة جريته شتوفل ويمتاز الكتاب، بالوضوح والترتيب، وينم عن دراسة عميقة وفهم شامل للنظم التي تعيش في ظلها ألمانيا الحاضرة. وقد استهلته المؤلفة بمقدمة تاريخية، ثم تناولت سلطات الدولة الأساسية بالتعيين والشرح، ففي شخص (الزعيم) (هتلر) تجتمع كل السلطات، فهو رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وهو المتصرف المطلق في جميع نواحيها الإدارية والقضائية والعسكرية، وهو المشرع الأعلى؛ وهو يفوض سلطانه إلى وزراء، ليسوا إزاءه سوى موظفين أصاغر، وأما الريخستاج (البرلمان) فهو أسم على غير مسمى، فهو لاحق له أن يقترح أو يعارض، وليس عليه إلا أن يوافق ويؤيد، والحزب (حزب النازي) يندمج في الدولة، وهو مجمع الشعب، ولا يقوم نظامه حسب قول هتلر الأعلى (السلطة والنظام والمسئولية والخضوع)؛ ومن أدلة هذا الاندماج أن نفس الرجال يديرون الحكومة والحزب معا، ورجال الحزب هم الذين يستولون على الوظائف، وشعار الاثنين واحد وهو (هايل هتلر). بيد أن الحزب لم ينجح في كسب الجيش، ولكن الجيش في يد (الزعيم)
وقد قضت الاشتراكية الوطنية على نظام ألمانيا الاتحادية واستأثرت الحكومة المركزية بكل السلطات، أما النظام النقابي، فيقوم على حشد العمال في جبهة الاشتراكية الوطنية، وتنظيم جميع المهن والحرف في طوائف تحشد في نفس الجبهة. تحدثت المؤلفة بعد ذلك عن الخلاف بين الكنيسة والدولة وعن النظرية الآرية ومراميها الحقيقة، وعن سياسة الاضطهاد الديني والجنسي التي تضطرم بها الآن ألمانيا الهتلرية. وهذا الطغيان الهتلري لا يقوم إلا على الإرهاب والعنف، والقضاء خاضع لخدمة الدولة، والتشريع الجنائي ليس إلا أداة للكفاح لا تعرف الرافة أو العدالة، وتقضي محاكم الشعب دون تحقيق، وتسير في قضائها(194/74)
تحقيقا لأهواء الحزب والزعماء. والخلاصة أن القضاء والبوليس والجيش والهيئات الحزبية تعمل كلها لسحق أعداء النظام وخصومه. ومع أن كل الحريات قد سحقت، فإنه توجد معارضة كامنة. والدولة النازية هي أتم وأوفى أداة للطغيان في عصرنا؛ بيد أنها بوسائلها العنيفة في الكفاح والقمع تنافي كل المبادئ والاعتبارات الأخلاقية والإنسانية
هذه هي الصورة التي تقدمها إلينا المؤلفة عن النظام الهتلري، وهي تقدمها إلينا في عرض بديع حقا مدعم بالأدلة والوثائق والإحصاءات. ويرى النقدة أن كتابها هو أقوى وأوضح بحث من نوعه ظهر حتى اليوم
حرب نيكوبوليس الصليبية
لعل أكبر الحوادث في تاريخ الشرق والغرب هو تلك الحروب التي اصطلح المؤرخون على تسميتها بالصليبية ودامت عدة قرون، تجلى فيها كثير من ضروب الفروسية والشجاعة مما يرى فيهما القصصيون مادة خصبة لهم. وقد كانت هذه الحروب ولا زالت ميداناً لكبار البحاث المؤرخين، ولكنها مع ذلك لا تزال بحاجة للدرس والتمحيص. ومن الوقائع الشهيرة في تاريخ العالم الإسلامي موقعة (نيكوبوليس) التي وصل فيها الأتراك إلى قلب أوربا، وأصبحوا على أبواب المجر، وهي مع مالها من أهمية قصوى لم يؤلف فيها أحد المتخصصين في تاريخ العصور الوسطى كتاباً قائماً بذاته، حتى قام بذلك أحد الشبان المصريين الذي اختارته جامعات لندن وليفر بول بإنجلترا، وبون بألمانيا أستاذاً بها، ذلك هو الدكتور عزيز سوريال عطية، فقد أفرد لها كتاباً خاصاً ألم فيه بما مهد لهذه الحرب. ويذهب المؤلف إلى أن الحروب الصليبية لم يكن بدء قيامها أو ختامها ما تآلفنا عليه، بل هناك عدة حروب قبلها وبعدها كان الدافع لأوربا فيها على امتشاق الحسام عصبيتها الدينية ضد الإسلام. ولقد أصدرت إحدى دور النشر الكبرى بإنجلترا هذا الكتاب القيم للدكتور سوريال. وبلغ من أهميته أن قرظه أعلام التاريخ في إنجلترا وفرنسا وألمانيا والمجر وأثنوا على صاحبه الثناء الجم، فقالت جريدة التيمس في ملحقها الأدبي: (إن هذا الكتاب دراسة رائعة عن الظروف السياسية والمالية في نهاية عصر الفروسية في أوربا) وختمت الديلي بوست تقريظها له بقولها: (إن مثل هذا الكتاب يكتبه أحد أبناء مصر لشيء يفخر به جميع المصريين. . . إن نهضة مصر في طريقها) وقالت مجلة معهد الدراسات الشرقية(194/75)
بلندن: (إن هذه الإضافة العظيمة الرائعة للتاريخ هي من غير شك نتيجة بحث عميق وميل قوي للموضوع. . وإنه لينبغي لكل مؤرخ أو باحث لهذه الفترة أن تكون لديه نسخة منه)
وقالت جريدة الجارديان: (. . . تقرير شامل يعتمد على المقارنة الدقيقة لمراجع كثيرة) ووصفه الأستاذ وليم ميللر في مجلة التاريخ الإنجليزي بأنه (كتاب دسم) كما أثنى على مؤلفه وموضوعه كثير من المجلات الأخرى كجريدة الحربية، والجيش الجريدة الأسيوية. وقالت مجلة الثقافة الإسلامية الإنجليزية بالهند: (أن تعمق الدكتور عطية في هذا الكتاب لا يوفيه المديح حقه، وإن التعاليق التي كتبها وإضافته لهي بحث جديد يضاف إلى دراسته النقدية لهذه الفترة) وقالت مجلة (إن الدكتور عطية ملم بكل نواحي الحروب الصليبية، وكتابه قائم على المصادر والمعاصرة لها بل والنادرة أحياناً. . . وإنا لننتظر منه الكتاب الشامل الأكبر في المستقبل) كما امتدحته مجلة (بلغاري) ومجلة الدراسات الشرقية الألمانية فقالت: (إن هذا الكتاب أوفى ما كتب عن هذه الناحية، وأن مؤلفه ليعد حجة في هذا الموضوع) ومع أهمية هذا الكتاب، وتقدير أقطاب التاريخ له ومصرية مؤلفه فأنه لم يترجم بعد.
تمثال شيخ البلد
قرأت بعدد الرسالة الأخير مقال الدكتور الفاضل أحمد موسى في الفن المصري القديم فاستوقفتني تلك العبارة من كلامه عن تمثال (شيخ البلد) المعروف بالمتحف المصري:
(وتمثال شيخ البلد تجده واقفًا في شيء من اليقظة وضخامة الجسم التي يجب أن تتوفر فيمن يقوم بالشياخة الخ)
وقفت متسائل: هل عرف النظام الإداري القديم شيخ البلد كما تعرفه مصر الآن من أقصاها إلى أقصاها؟ وبالتالي هل عرفت هوية صاحب هذا التمثال وعرف عمله في الدولة؟ أم أن الحقيقة هي ما قرأناه في كتب التاريخ من أن عمال الحفر لما أخرجوا هذا التمثال من مكانه راعهم ما وجدوا من شبه قوى بينه وبين شيخ بلدهم فأطلقوا على التمثال (شيخ البلد) ثم لزمته التسمية ولم يغيرها علماء الآثار لما لم يعرفوا حقيقة صاحبه ولم يجدوا به من النقوش أو الكتابات ما يبوح بسره وينم عن جلية أمره؟
وهل الدكتور الفاضل أن يميط اللثام عن حقيقة التمثال المذكور خدمة للعلم والتاريخ فنكون(194/76)
له شاكرين؟
(م. ح بأسيوط)(194/77)
الكتب
ملحمة عبقر
للشاعر المطبوع شفيق معلوف
رمى الكثيرون الشعر العربي بالعجز والقصور عن متابعة الشعر الغربي في القصة والملحمة والرواية التمثيلية؛ ولكن ناظم عبقر ضرب لهؤلاء المثل الحي على العيب واقع على عاتق الشعراء أنفسهم لا على اللغة ولا الشعر. ولقد ظلت عبقر مدى العصور تتردد في ألفاظ كثير من الشعراء ولكن لم يفكر واحد منهم في أن يخرج لقراء الضاد قصيدة عنها بقدر ما توحي إليه من خيال؛ كأنها أبت أن تكشف سترها وتميط اللثام عن حقيقتها إلا لهذا الشاعر المحلق في سماء الجمال، فحمله شيطانه إلى عبقر، وأوديتها السحرية؛ وهناك كشف له سر الحياة، فوقف على المجهول من أمرها، حتى إذا عاد إلى دنياه صوره بلغة الأرض؛ فأبدع في ذلك ما شاء له الإبداع، ورسم هذه العوالم الدفاقة بالسحر والخيال وقربها إلى قارئيها فإذا هم يعيشون ويتحركون ويتنفسون فيها، وإذا هم يحيون في مهابط الجن، ويقضون مع حورها لحظات لا يحسون فيها لغب الواقع، ولا تعب الحياة وأوضارها، ولست أدري أيهما خلد الأخر: هل خلق شفيق عبقر، أم هي التي خلقته؟
حمله شيطانه إلى عبقر ذلك الشيطان الذي:
في فمه من سقر جذوة ... يطير منها الشرر الثائر
ووجهه جمجمة راعه ... أنيابها والمحجر الغائر
كأنما محجرها كوة ... يطل منها الزمن الغابر
ويمضي الشيطان بصاحبه إلى عبقر ليريه (جنا من النور جلابيبها) وإذ يهبط الاثنان عبقر، يرى الشاعر (الغمائم الزرق) وفي أبراج المنازل (تثور ضجة بها يضيق الأفق الأوسع) ثم يحيط به الشيطان عند عراقة عبقر فإذا بها عجوز شمطاء طواها الكبر، ولقد أبدع الشاعر أيما إبداع في وصفها بقوله:
تلف ثعبانا على وسطها ... يكمن في نابه كيد القدر
مجامر الصندل من حولها ... تألب الجن عليها زمر
ينبعث الدخان من شعرها ... ويلتظى في مقلتيها الشرر(194/78)
كأنما الله لدى بعثها ... زودها بكل ما في سقر
وفي حديث العرافة له نرى الوصف المر الأليم للإنسان، وما انطوت عليه نفسه من مكر وخديعة، وترى روح التهكم تنبعث على لسان العرافة ساخرة بكبرياء ابن آدم وقد خال (نفسه أعلى من ربه، وحسب عيبه فضلا) وأية سخرية أشد وقعا مما انطلق به لسانها من أنها:
تخشى على الثعبان ... من شره
في نابه السم كان ... وصار في صدره
وينطلق به شيطانه إلى امرأة قد كورت من حلقات النور أضلاعها تلك هي (الشهوة) وإن وصفه الرائع لها، ليجعل القارئ يخال الشهوة قد جسمت امرأة وهي تضج:
من لي بحب نوره ينبلج ... من شرر محتدم في المقل
من لي بثغر لاهب تنفرج ... ثغرته عن شعلات القبل
يا حامل الجسم ألا أعطنيه ... وخذ إذا شئت خلودي ثمن
وشاحي الناري من يشتريه ... فإنني أبيعه بالكفن.
ويمضي به الشيطان إلى الكاهن سطيح الذي يرى أن الله خلصه برحمته حين استل منه العظام (وملأ الفراغ من حكمته) أما الكاهن شق فقانع بنصفه، وما ضره أن حباه الله بيد واحدة إذ:
هل تنفع اليدان والواحدة ... تهدم ما تشيده الثانية
ويخلص القارئ من مغزى هذه الحكمة أن في النقص كمالا، ولكن الشاعر يهوى به الأسلوب في قوله (والله يهديني سواء السبيل) فهي نابية في موضعها لا تلائم الذوق الشعري، وإنك لتلمح رثاءه للبغايا وألمه لهن خلال وصفه الشعري الجميل لهن فهن:
دسن من الحديد محمره ... ورحن يقحمن البراكينا
يلغن في الجمر ويغببنه ... غبا ويرشقن الشياطينا
زج بهن الله في عبقر ... يبلو بهن العبقريينا
وينتهي بالشاعر المطاف عند رفات العبقريين من الشعراء والأدباء، وفي نشيد جماجم هؤلاء العباقرة تلمح تقديس الشاعر لهم، فهؤلاء أرواحهم تبني قباب الخلود (بغير أحجار(194/79)
الورى) وهم في موتهم يعيشون على. . الحب الذي:
إن كانت الأرض جحيما له ... وكان فيها تهنأ الأرض
هذه جولة في عبقر المعلوف، فإذا كان فوزي قد حلق على (بساط الريح) فإن أخاه في عبقر قد تغلغل في ثناياها مع حورها وكهانها وعرافاتها وشيطانها
وإن خيال شفيق لمنسجم مع تفكيره، وهذا سر إبداعه، فلا جرم إذا حلق خياله من شاهق ولم يسف في شعره. ولا عجب إذا طالعنا ذلك الشاعر بنفحات من الشعر الخالد في لفظ متسق، وجمال مطبوع، وبيان عذب فصيح، وخيال لو قيل له اختر صاحبنا لما اختار غير شفيق.
حسن حبشي(194/80)
العدد 195 - بتاريخ: 29 - 03 - 1937(/)
وزارة المعارف
بمناسبة عيدها المئوي
في الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم تحتفل وزارة المعارف بانقضاء مائة عام على مولدها السعيد. ووزارة المعارف لا تزال ناشئة وإن أدركت المائة؛ ولعلها لم تبلغ الرشد إلا منذ أعوام قلائل، فإن القرن في عمر الأمة كالعقد في عمر الفرد، والشباب المهمل وإن طال بلاهة وغفلة - كان يومها الذي أبصرت فيه الوجود من الأيام الغر الوضاء في عهد الأمي العبقري الطموح محمد علي باشا. رأى بعينه الكلوء أن ما بالغرب من حضارة وعمارة وقوة إنما أساسه الجيش والعلم وأدرك بفؤاده اليقظ أن الجنود الألبانية لا تؤمن الخوف ولا تحقق المطامع، وأن الجامعة الأزهرية لا تعلم علوم الدنيا ولا تدرس فنون الحرب؛ وأكبر ما ترك نابليون بمصر من الآثار الصالحة على قصر احتلاله واضطراب حاله، فحصر هذا الرجل النظور همه وعزمه في إنشاء مصر الجديدة على الوضع الذي استقر عليه الزمان الحاضر والإنسان الحديث؛ فأقام المدارس للحرب وما يتصل بها من الطب والصيدلة والبيطرة والهندسة والكيمياء والعلوم والألسن؛ ثم ربط هذه المعاهد المختلفة الدرجات والغايات بإدارة واحدة سماها (ديوان المدارس) وجعل أعضاءه عشرة من المصريين الذي أوفدهم إلى أوربا، والأوربيين الذي أقدمهم إلى مصر، وجعل عليهم الأستاذ مختار الدويدار
كان من ذلك الديوان الصغير ذلك الصور الذي انبعثت على صوته مصر، والنسم الذي تنبهت من نفحته العروبة، والقبس الذي استضاء بنوره الشرق. وكان من الطبيعي يومئذ أن يكون التعليم للحكومة لا للشعب، وللبنين لا للبنات، وللمادة لا للأدب، فكانت الحركة الثقافية تتسع وتضيق تبعاً لحاجة الجيش والإدارة. فلما فترت الوثبة العلوية في عهد عباس وعهد سعيد زاد عرض هذه المصانع العلمية، على طلب الدواوين الرسمية، فوقفت البعوث، وأغلقت المدارس، وكانت ثلاثاً وستين مدرسة ابتدائية، ومدرستين تجهيزيتين، وإحدى عشرة مدرسة عالية، فلم يبق منها إلا ثلاث للحربية والطب والصيدلة
أما إسماعيل فكان رجلاً آخر، لم يكن سياسياً طامعاً كجده، ولا عسكرياً فاتحاً كأبيه، وإنما كان مدنياً باريسياً له ذوق، وبه ترفع، وفيه زهو، فجعل التعليم للتمدين والتثقيف، لا(195/1)
للتجنيد والتوظيف، وطمح إلى أن تكون مصر جزءاً من أوربا، في مبانيها ومعانيها، ورفاهتها وأنظمتها، ففتح ما أغلق من المدارس وزاد عليها، وأعاد البعوث إلى أوربا، وأقام نظارة المعارف على هذا الوضع المعروف وأنشأ لتغذيتها دار المعلمين، وابتغى الأسباب لتقليل الأمية، وتلمس الوسائل لتعميم الثقافة؛ وسار الأمر على هذا الطريق الواضح حتى دهانا الاحتلال الإنجليزي وكل شيء كان يتحفز للنهوض ويتوثب للرقي، فكأنما صببت ماء في نار، أو أقمت سداً في تيار!
كان التعليم في أواخر عهد إسماعيل واسع النطاق متعدد المناحي شعبي الغرض؛ فالمدارس موفورة العدد، واللغة العربية لسان المعلم ولغة الكتاب؛ فأخذ الإنجليز منذ اغتصبوا السلطان يقطعون أسباب هذه النهضة، ويسيرون بالتعليم إلى وجهة أخرى، فأغفلوا البعوث، وأغلقوا مدرسة الألسن، وأبطلوا المجانية، وأهملوا اللغة العربية، وجعلوا التعليم كله بالإنجليزية، وقصروه كما كان قبل إسماعيل على تخريج عمال للحكومة لا إعداد رجال للشعب؛ وصار اسم (دنلوب) علماً على نوع من التدريب الاستعماري الآلي تروض به النفوس المتمردة على الضراعة، والألسنة الآمرة على الطاعة، والعقول المستقلة على التبعية. فكان من عواقب هذه السياسة السفيهة أن اتسع التعليم وضاقت التربية، وكثر المتعلمون وقل العلم؛ فتبجحت الجهالة، وانتشرت البطالة، وفسد الأمر في الحكومة، وساء الحال في الأمة. ثم اشتعلت الحرب الكبرى في أنظمة دنلوب وأمثالها في كل دولة فأكلتها أكلاً ذريعاً، ثم خمدت فإذا بقاياها في كل مكان عصيان وطغيان وثورة، وإذا مصر تفلت من ربقة (جون بول) فتطلب الاستقلال، وإذا المعارف تخرج من وصاية (دنلوب) فتبلغ الرشد! ولكن الراشد لا يزال قريب عهد بالقصور، فهو يختلج ليستقيم، ويتذبذب ليعتدل، ويتجمع ليثب. فإذا احتفلنا اليوم بمرور هذا القرن على وزارة المعارف، فإنما نحتفل بعهدها السعيد الذي أقبل، وتطورها الجديد الذي لاح، ومستقبلها الواعد الذي أشرق.
أحمد حسن الزيات(195/2)
في المرقص
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
جلست في ركن أرى منه الناس جميعاً وذهبت أنتظر صديقي. والانتظار ثقيل ولكنه هنا مما يهون أمره، فقد كان اليوم يوم أحد، وكان المكان غاصاً بالفتيات الجميلات، وكانت الموسيقى لا تكف عن العزف، فالرقص لا ينقطع وحركته لا تفتر، ولا يزال الشبان ينهضون ويتقدمون من الفتيات وينحنون لهن باسمين فترفع الواحدة منهن حاجبيها الدقيقين اللذين يبدوان كأنهما مرسومان وتبتسم وتنهض ويداها على ثوبها لتصلح منه ما أفسده الجلوس. وكان يخيل إلي أن كل إنسان هنا يعرف كل إنسان آخر إلا العبد لله، فما كنت أرى وجه من أعرف. وصفقت فجاء خادم سمين أسود الوجه غليظه فقلت: اسقني شيئاً مما عندك، وكان صوتي خافتاً وقد زادت الضجة خفوته، فمال الرجل علي وهز وجهه الكبير فقلت: (هات أي شيء بارد. . أي شيء. . اذهب)
فقد كان يحجب عني الدنيا
وأدرت عيني في المرقص فسرتني المناظر. آه!. . هذه البيضاء ذات الثوب الأرجواني ما أحلاها. . شعرها ذهبي وخصله الجميلة تهتز تبعاً لحركة الرقص وكف زميلها على ظهرها تجعل هيف خصرها واستواء ردفيها أوضح وأوقع في النفس وأسحر للعين، وقد دارا الآن فأنا أرى كيف تمنح صاحبها صدرها. . إن صدرها ليس على صدره. . كلا. . ثديها الأيسر وحده هو الذي أراه على صدره. . ما أحلى هذا!. ليتني كنت مكانه! وأحلى ما فيها إشراق وجهها النضر. . إنها مسرورة تضحك وتثني رأسها راضية مغتبطة، فليت شعري ماذا يقول لها هذا الشاب الحاذق؟. .
واختفيا عن عيني وحجبهما غيرهما من الراقصين والراقصات. آه. . هذه أيضاً حسناء ولا شك. . ثوبها فيما يبدو لي قديم. . ووجها باهت اللون. . والأبيض كثير. . ولكن معارفها حسنة وعينها واسعة حوراء. . أم ترى هذا فعل الكحل؟. . لا أظن. ولكن صاحبها لا يدنيها من صدره وإني لأرى بينهما مقدار شبر. . ولا يحادثها ولا يهمس في أذنها بكلمة. . فهما يدوران في صمت. . خسارة. . كنت أحب أن أرى وجهها وهي مسرورة تضحك. . ذهبت الآن على كل حال. . فلننظر إلى غيرها. .(195/3)
وراقني فرق ما بين الفتيات وهن يرقصن. . هذه واحدة تقف من صاحبها كالسيف. . خط جسمها مستقيم تماماً. . وتلك التي تلبس هذا الثوب الأخضر تنأى بساقيها عنه وتلقي بصدرها على الفتى، فلو تخلى عنها لكان الأرجح أن تقع على الأرض مكبوبة على وجهها الجميل. . أم ترى هذا ليس إلا وهما؟ ومن يدري؟. . لعلها تتقي أن يغلط مراقصها فيدوس أصابعها الصغيرة فهي لهذا تبعد بساقيها عنه. . ومن يدري أيضاً؟. . فعسى أن تكون غايتها أن تريح صدرها جداً عليه. . وهذه السمينة التي تحرك جسمها الثقيل ببطء. . صاحبها أسمن منها فهما مسكينان. . ألا ترى كيف يمسح عرقه. . ولكن الغريب أني لا أراها تعرق مثله. . وأحسب أن هذا من فضل الله فلو تصبب عرقها لَثَرَّ على المسحوق ورسم خطوطاً تجعل وجهها كأن فيه أخاديد. . ولكن لماذا وكيف لا تعرق؟. .
وسكتت الآلات وكانت الأرجوانية من جيراني ولكن وجهي كان إلى غير جهتها فلم أستطع أن أديره إليها. . قاتل الله الشعور بالذات. . لماذا لا أنظر إليها؟. . لن أخطفها أو آكلها. . ولا أظن أن نظري إليها يسوءها كما يسوءها الانصراف عنها كأنما هي لا تستحق نظرة. . وإنها والله لآية. . ولمحت شيئاً عظيماً إلى يميني في مدخل النافذة فالتفت فإذا الخادم الأسود الضخم الجثة فضحكت - في سري فما أستطيع أن أقهقه وأنا وحدي في هذا الحشد - وحدثت نفسي أن الله اختار لي أن يكون هذا الزنجي العظيم زميلي في ليلتي هذه وأنيسي في وحدتي. . وحولت وجهي عه مستعيذاً بالله، ونظرت في الساعة ورجوت أن يحضر صاحبي فيزيل هذه الوحشة وينحى عني هذه العمة الحالكة السواد. . ولكن صاحبي لم يجئ فلا بد أن اعتمد على نفسي فالتفت إليه وطلبت شيئاً لأصرفه عن مكانه فذهب ووسعني أن أجيل عيني مرة أخرى في الجلوس فرأيت فتاة في ثوب داكن الحمرة ذي شقين وفي أذنها قرط هو حبة كبيرة من اللؤلؤ. . المزيف بالطبع. . وهي سمراء فلعلها مصرية. . أعني لا عبرانية ولا أوروبية. . وشغلني من أمرها أني لا أستطيع أن أتبين أهي بدينة أم نحيفة. . وتعجبت لهذا. . ولكن المائدة أمامها وهي متكئة عليها بذراعيها فالبادي منها هو صدرها مضموماً. . ووددت أن تقف. . أعني أن يدعوها أحد إلى الرقص. . ولكني لاحظت أنها لا ترقص أبداً. . ولم أر واحداً من هؤلاء الشبان دنا منها وانحنى لها أو ابتسم أو أشار أو فعل غير ذلك مما تدعى به الفتاة إلى الرقص. . فهل هم(195/4)
يعرفون أنها لا ترقص؟. هي مثلي إذاً. . ولكني مهيض الساق فهل تراها. .؟ لا لا. . إني رجل، فلا بأس ولا ضير علي من كسر يصيب ساقي ولكنها تكون مسكينة حقاً إذا كان الله قد امتحنها بمثل ما امتحنني به. . أعوذ بالله. . كلا. . لا أظن. . وشاء حسن الحظ أن تقوم الفتاة في تلك اللحظة وأن تقبل على جيراني فإذا قدها سخيف جداً فانصرفت عنها وحمدت الله الذي أبى أن يشغلني بها عن الجميلات. .
وأطفئت الأنوار وبقيت بضعة مصابيح حمراء وخضراء وعزفت الموسيقى لرقصة التانجو فقلت هذا أحسن وأمتع. . وإذا بشاب أسود وعلى عينيه نظارة يقترب من الفتاة الهيفاء ذات الثوب الأرجواني ويهز لها رأسه فتنهض مرتاحة مسرورة يا أخي!. . أما أن هذا لغريب!. . من أين عرفها؟. . بل من أين جاء؟ فقد درت بعيني في المكان كله ولم أدع ركناً أو زاوية إلا حدقت فيها؛ ولست أعمى ولا قصير النظر وإن كنت أحمق قليل العقل. . وهززت رأسي مستغرباً. . وقلت لنفسي لولا إن الله ابتلاني بساق لا خير فيها أما كنت أنهض أنا أيضاُ لأراقص هذه البنت الجميلة؟. . وزاد عجبي أني رأيته يحسن الرقص وأنها فرحة به ومقبلة عليه. ورنت ضحكتها الفضية فقلت لنفسي يا ملعون!. وظريف أيضاً؟. . إذن أنت تستحق هذه النعمة التي كنت أظنك غير جدير بها. وقد وهبتكها فليس أحق بها منك!. .
وكانت أصابعي تعبث بعلبة الكبريت وتحركها على صوت الموسيقى أراعي الراقصين ولا يفوتني أن أنقد حركاتهم إذا كان قد فاتني أن أشاركهم فجعلت أقول لنفسي. . لا. . هذه الميلة ليست حسنة ولا رشيقة. . كان ينبغي أن يكون الانحراف فيها أقل. . هذا الأحمق يجب أن ينزل بكفه الغليظة إلى الخصر. . ماذا يظن أنه يصنع؟. . ألا يرى أن الفتاة تميل إلى الوراء فكيف يبقي كفه على طرف الكتف؟. أما إنه لمجنون. . وهذا الأبكم ألا يجد كلاماً يقوله لصاحبته فيشيع البشر في محياها؟. . لماذا يدعها كأنما صب وجهها في قالب؟. . في أي شيء غيرها يفكر هذا الأبله؟. . أما لو كنت أنا مكانه؟. . إذن لأريته. . ولكني مع الأسف قاعد أنظر ولا أرقص. وقد خدرت ساقي من طول ما تركتها على أختها فلأرحها قليلاً
وأنزلت ساقي والتفت وأنا أعتدل في مجلسي فإذا الزنجي الضخم واقف إلى جانبي، فقلت(195/5)
يا لها من ليلة سوداء!. ما له لا يتحول عن هذه النافذة؟. . وخطر لي أنه يتوهم أني قد أهرب منها فإنها تؤدي إلى شرفة تنتهي من آخرها إلى السلم، فقلت أعطيه القروش التي لا يستحقها وأريحه وأستريح فقد طلبت شيئاً بارداً فجاءني بشاي سخن. وأحسب أنه لم يسمع أو لعله ظن الشيء شاياً. فما أذكاه!. . وبدا لي أني أظلمه فليس ذنبه أنه أسود وإن جثته ضخمة وإن شكله بغيض، ثم أن له حقاً في الوقوف حيث يشاء مادام لا يزحم المكان؛ وأين بالله يقف إلا في مدخل باب أو نافذة استعداداً لتلبية الطلبات؟ فلندعه على كل حال.
وأردت أن أنهض وأنصرف فقد تأخر صديقي جداً ولم يعد من المنتظر أن يحضر، ولكني استحييت أن أمشي أمام هؤلاء الفتيات الجميلات وضننت بهن أن أعكر عليهن صفوهن برؤية رجل أعرج يظلع أمامهن، وقلت أنتظر حتى يستأنفن الرقص ويشغلن به عني. ولست أستحي من العرج الذي منيت به فما فيه ما يدعو إلى الخجل، لكني أكره الفضول وأستثقل من الناس أن يديموا النظر إلى رجلي كأنها شيء غريب جداً. وما ركبت الترام قط إلا ضايقني الناس بهذا الفضول. وما أكثر ما رأيتهم يتحدثون ويشيرون إلى ساقي غير عابئين بشعوري. ولهذا رأيت أن اتخذ سيارة لأريح نفسي من هذا الفضول
وودعت الخادم الغليظ وتحريت أن أرضيه فقد ظلمته وإن كان هو لا يدري ولا يعرف ما كان يدور في نفسي كلما وقف إلى جانبي. وخرجت مترنحاً - لا من السكر فما شربت إلا ماء فقد تركت الشاي - وإنما كنت أترنح لأن رأسي كان يدور. ولي العذر فقد يحتمل المرء واحدة جميلة ولكن من العسير أن يحتمل فتنة كل هذا الجمال الراقص
إبراهيم عبد القادر المازني(195/6)
حافظ إبراهيم شاعر الفخامة
للأستاذ كرم ملحم كرم
حافظ العسكري اقتدى بالبارودي العسكري فجاء شعره قوياً
كالأمر دقيقاً كالنظام
ظهر الشعر ضعيفاً في مطلع عهد الانبعاث. فكأنه ليس بالشعر، إن هو إلا كلمات مرصوفة بعجز، لا تدل على معنى سام ولا تزخر بالقوة. وكأن أولئك النظامين يجهلون حسن الصياغة، فنفحونا بشعر مائع في معناه ومبناه، وكل ما رموا فيه إلى الاقتداء بالأقدمين. لا في سبكهم الشعر بل في مواقعهم من ولاة الأمر. فعلموا أن الأخطل كان يمدح معاوية ويزيد ويتمتع برحابة عبد الملك، وأن أبا نواس مدح الرشيد والأمين، وأن المتنبي تغنى بمآثر سيف الدولة، إذاً عليهم أن يمتدحوا الحكام والولاة. عرفوا أن الشعر يبدأ بالغزل وينتهي إلى المدح، فنهجوا هذا النهج اندفاعاً وراء البحتري والمتنبي ومهيار الديلمي ومن جرى مجراهم من شعراء العصر العباسي الأخير
وطالعوا في صفي الدين الحلي الطباق والجناس وتسخير المعنى للألفاظ، فقلدوا صفي الدين فيما أنشدوا من شعر، وما نظموا من قصائد خالية في معظمها من روعة البيان والابتكار
بلى، لقد حاول الشيخ ناصيف اليازجي الخروج عن هذه الدائرة، إلا أنه لم يكن ابن نفسه في معظم ما أنشد. فهو مدين للمتنبي في أكثر قصائده مع كونه شاعراً، على أن الشاعرية لا تنفي التقليد
وأول من برز من الشعراء الأقحاح بعد الشيخ ناصيف اليازجي هو محمود سامي البارودي، فجمع بين حسن الصياغة والمعنى. وإن يكن هذا المعنى غير مبسوط أحياناً ينحصر في نطاق معلوم، فهو خير ما جاد به علينا مطلع عصر الانبعاث. وتكفي تلك الصياغة المشرقة التي اهتدى إليها البارودي ونبذ بها الركاكة الشائعة يومذاك ليكون لهذا الشاعر فضل عميم على القريض. فالشعر العربي نهض بالاستناد إلى البارودي نهضة نشاهد آثارها في شعراء اليوم. وقد تكون نهضته نهضة ألفاظ أكثر منها نهضة معان. على(195/7)
أن نهضة الألفاظ هذه صقلت الشعر، ونفت عنه الاضطراب، وقادته في طريق سوي انتهى به إلى شعر المعاني الأنيق، البراق الظاهر، الخالي من كل وهن وعيب سواء في لغته أو تركيبه
وحافظ إبراهيم اقتدى بالبارودي في حسن صياغته. فعمد إلى الشعر العالي النفس، المتين القالب، يشد به نفثاته. وكأنما ونحن نقرأه نسمع الفرزدق أو بشاراً، على أن هذا الشعر لم يكن موفقاً في معظم الأحيان بمعانيه مثله بألفاظه
فهناك ألفاظ مختارة تعيد إلى الأذهان عصر الجاهلية وما تلاه من أعصر أشرق فيها الأدب العربي وأزهر. ولا نكير أن الشعر في الجاهلية وصدر الإسلام والأعصر العباسية كان اشد خصباً في المعاني من شعر الانبعاث في مستهله، بيد أن النهضة لا تعتمد على الطفرة في مسيرها بل تمشي وئيداً إلى هدفها الأعلى. ولابد في مطلع كل نهضة أدبية من هزة لفظية تجتاح القوالب الرثة لتقيم الأدب الجديد على ركن لغوي سليم
والهزة اللفظية بدأها اليازجي الكبير والشدياق ونقلها إلى مصر اليازجي الأمين؛ فلا عجب إذا اعتمدها البارودي في بيانه وتلاه حافظ إبراهيم. وحافظ تأثر بالبارودي في شعره ومسلكه، وطمع في أن يرتقي يوما إلى مستوى هذا الشاعر العسكري. فالبارودي تربع في مقعد الوزارة، وحافظ شاقه أن يجلس يوماً في هذا المقعد وان يبلغ شأن زميله. وهو لما كان يرتدي ثوب ضابط في السودان ما انفك عن التودد إلى الشيخ محمد عبده. وكل قصده أن يمهد الشيخ له السبيل إلى الوزارة أو إلى منصب سام في الجيش. بيد أنه لم يقع منه على ضالته. فالشيخ كان يتناول رسائل حافظ ويطويها دون أن يكترث كل الاكتراث لهذا الضابط الوافر الآمال، العاقد عليه رجاءه. فيئس حافظ أو كاد، ودعا إخوانه إلى التمرد على الأوامر العليا، ومال عن الجيش إلى الاشتغال بالأدب في مصر. ومع كل ما لقي من فتور الشيخ محمد عبده ظل له على وفاء وولاء. وانتابته الفاقة وهو يرقب إنصاف الشيخ له وما تولى عمن تولى عنه.
وكان ميدان الأدب يضيق بالفرسان. فهناك شوقي ومطران وولي الدين وأحمد محرم والمنفلوطي. وظهر شوقي في القمة يزاحمه عليه خليل مطران. على أن حافظاً لم يدركه اليأس. فدفع في الحلبة جواده يبغي الوصول إلى القمة شأن شوقي نفسه. على أن ما توفر(195/8)
لشوقي لم يتوفر له. فقد ملك شوقي المال والثقافة معاً. فكان واسع الاطلاع، ناعم البال، يعلم حق العلم أن عيشه مضمون في حاضره وفي غده. على حين أن حافظاً فقد أمله في الحاضر والمستقبل. فكافح الشقاء، غير أن الشقاء أقوى منه. ونظر إلى آتيه وإذا الآتي يبدو مبهماً إن لم يبد فاحماً أسود
في هذه البيئة المضطربة عاش حافظ بين الإفلاس والشقاء والأمل الطعين. فلا يسعفه من اعتمد عليهم ولا ينجده دهره. ولم يبق لديه سوى بيانه. على أن البيان لم يوفر له العيش الرغيد مع كل ما فطر عليه من حسن المخالقة وجلو الحديث ونبل النفس؛ فلم يكن حافظ ممن يتسفلون إلى استجداء اللقمة، بل كان يجتهد ما استطاع في صون كرامته وهو الرجل العسكري الشديد الحرص على شرفه وواجبه
ولمعت قصائد حافظ الأولى. وقام الناس يقارنون بينه وبين شوقي. فأدرك حافظ أنه بلغ القمة التي يصبو إليها، وأن الحجر العثرة في الطريق هو شوقي دون سواه، فإن هو ذلل هذه العقبة هان عليه كل عسير ونال المشتهى. فليس أمامه غير هذا الخصم وعليه ألا ينام عنه، ومما كان يؤلمه أن يلمع شوقي لدى الخديو عباس وأن يؤثره عزيز مصر على الأدباء أجمعين، فلماذا يكون شوقي في تلك المرتبة السامية ولا يترقى هو (حافظ) إلى المكانة نفسها!. . ولقد كان يطمع في مكانة أسمى، فشاء أن يكون شاعر الخليفة العثماني وأن يتفوق على شوقي في أدبه ومنزلته إلا أن الأقدار لم تضمن له ما يرجو.
فنقم على دهره وأبى أن يناصر مذهب شوقي السياسي فدرج على خطى محمد عبده خصم الخديو، ونفخ في بوق الوطنية فكانت قصائده تلهب الحماسة في النفوس فيصفق لها العرب بأجمعهم لكون القوة تتجلى فيها، وغار منه شوقي فنسج على منواله في رثاء مصطفى كامل وفي سقوط أدرنه وفي سقوط عبد الحميد. فكل مأثرة وطنية كانت تجد لها صدى في قريحة الشاعرين، إلا أن صداها في منظوم حافظ أكثر صدقاً منه في منظوم شوقي. فلم يكن منى شوقي إلا أن يتغلب على هذا المزاحم الوثاب. وكيف يزاحمه بسوى إطلاق بلاغته وبيانه؟
والزحام كان جليل الفائدة، فالشاعران جالا فيه على ما يتسع لهما المدى، فبذلا كل ما يملكان من موهبة. وكان حافظ يتفوق حيناً وحيناً شوقي. وأحياناً كانا يتساويان، إلا أن ثقافة(195/9)
شوقي ساعدته في استنزال المعاني أكثر مما توفر الأمر لحافظ. ولسنا ننفي عن حافظ اصطياد هذه المعاني المبتكرة، إلا أنه لم يكن موفور التوليد فيها. فاللفظ وحسن الصياغة كانا يشغلانه عن المعنى. وهو لو كان يجيد لغة أجنبية، لو اطلع على أدب الغرب مثله على أدب العرب لبات أوسع خيالاً وأشد عمقاً في منظومه، إلا أن جهله اللغات الأجنبية وقف به عند الأدب العربي، فما تفتحت عيناه على آفاق بعيدة يخلو منها أدبنا القديم. فكان يجتهد في الاقتداء ببشار وبالمتنبي في صياغتهما. ويميل عن كل إسفاف في المبني، وهذا المجهود من حافظ في إنقاذ آثاره من الضعف اللغوي أهاب بشوقي إلى الانعكاف على درس اللغة ليدفع عن قصائده هذا الشين
وإن يكن لابد من المقارنة بين شاعرين عاشا في عصر واحد واندفعا في طريق يكاد يكون واحداً في ما نظما وأطلقا من خراطرهما قلنا إن شوقي يتقدم حافظاً في معانيه وموسيقى ألفاظه، فيحلق في جو أسمى من جو حافظ، فكأنه يملك جناحين أوفى انبساطاً، وأشد عزماً، كأنه كتلة من أعصاب تأبى إلا أن تندفع إلى الأعالي تقع فيها على كل جديد، فترى وتلمس ما لا يتفق لسوى من ملك قوتها في اقتحام مسبح الفلك. وحسب شوقي أن يرصع صدر الملعب العربي بتلك الروايات التمثيلية. فشاء بها أن يضارع كبار شعراء العالم أمثال شكسبير وكورناي وراسين وفولتير وفكتور هيغو، فما (مجنون ليلى) غير (روميو وجوليت) لشكسبير، وما (كليوباترة) غير (أندروماك) لراسين
وحافظ لم يخترق هذا الجو، فاكتفى بالديباجة الفخمة، بعظمة الجند، بالشارات العسكرية البراقة، فأنت تحس وأنت تقرأه بأنك أمام شاعر يتقلد سيفاً ويعلن أمراً. فلا محاباة ولا مصانعة، بل قوة جياشة تدعوك إلى الاصغاء بكلام طنان ثابت في مواضعه كأنه صب فيها صباً. والأوامر العسكرية معروفة لا زخرف فيها ولا طلاء بل فخامة وقوة. وهذه الأوامر غلبت على شعر حافظ كما غلبت على شعر البارودي فمالت بهما عن التغريد المتعالي من شعر شوقي والخيال المغلف به منظوم شاعر الأمير
إذاً شوقي هو المتفوق. وشوقي روح عصر الانبعاث في مطلع القرن العشرين. فهو مرآة الشعر في هذا الزمن. ومن ينظر في نتاج قرائح شعراء اليوم يقبل على شوقي في الطليعة ومن المحال أن ننسى خليل مطران. على أن المفاضلة تتناول في مبحثنا حافظاً وشوقي(195/10)
دون سواهما. وحافظ لم يكن خصباً كشوقي ولا متفنناً مثله. وإذا قيل إن شوقي أغار على الأقدمين فليس ينجو حافظ من التهمة. هذا عارض من سبقوه وذاك عارض من سبقوه، إلا أن أبواب الغزو لدى شوقي المطلع على الأدب العربي والغربي معاً أكثر منها لدى شاعر النيل. وهذا سر من أسرار تفوق الأول ووقوف الآخر دونه في الطريق
ومما نشاهد أن عطف الناس على حافظ أقوى منه على شوقي. فإن لحافظ في القلوب منزلة لم يبلغها شاعر الأمير، فكل من وقف على بؤس حافظ وإخفاقه في أمانيه وعزة نفسه مال إليه متأثراً وتألم لألمه. والبائس يجد حوله ذوي الرفق، على حين أن القرير العين يصطدم أبداً بالناقمين الكارهين. وهذا هو موقف الشاعرين من أبناء اللغة العربية. أحبوا حافظاً لبؤسه وخفتت في صدورهم محبة شوقي لغناه، على أنهم إذا جاءوا يفاضلون بين الشاعرين آثروا شوقي على حافظ دون ما تردد. وتلك العاطفة الروحية لابد لها أن تتلاشى على ممر الأيام، يوم يفنى هذا الجيل ويبيت أبناء الغد حيال أدب شاعرين يعتمدون في تحليل آثارهما على نور الحقيقة لا على نبضات القلوب
وهذا الإيثار لا يحط من قدر حافظ. فهو من أقطاب الشعر في هذا العصر. وإذا استثنينا شوقي ومطران قلنا إن البلاد العربية لم تنجب حتى الآن من أمثاله. ويسرنا أن تدرك أخيراً مصر قدره وتقيم له المهرجان تلو المهرجان. وكنا نود أن يلقى هذا التكريم وهو في قيد الحياة. فكان بحاجة إلى التقدير بعد كل ما عانى من بؤس وخيبة.
والتقدير لا يكفي إذا تهاون المصريون في أمر ضريح الشاعر، فإن لرفات هذا الشاعر الجندي المتوقد القريحة شأناً تاريخياً من حق مصر أن تعتز به، فلن يقوم في كل يوم فيها شاعر كحافظ إبراهيم.
ولقد أثبتت الأقطار العربية الأخرى أنها تحترم حافظاً وتنحني أمام أدبه العالي. فأوفدت ممثليها للاحتفال بذكراه والتغني بمحامده، ولا ريب أن الملوك أنفسهم يشتهون أن ينالوا ما يتمتع به الشعراء بعد موتهم من خلود وتكريم. فالمتنبي والفردوسي لقيا من يحتفل بمرور ألف عام على موتهما. مع أن هذا التقدير العالي لم ينل مثله كسرى ولا هرون الرشيد. وأين الفردوسي والمتنبي من كسرى وهرون الرشيد في إبان حياتهما!. ولكن الأدب أبقى من العروش، والشاعر أبعد خلوداً من الملوك، وحافظ من هؤلاء الخالدين. ومن الراهن أن(195/11)
مصر تنسى المئات من أرباب التيجان الذين توالوا ويتوالون عليها، ولا تنسى حافظاً وشوقي والبارودي وصبري وولي الدين، وفي ذلك الدليل كل الدليل على أن الأدب وهو وليد النفوس، أوطد أثراً في قلب الدهر من التيجان والصوالجة، وأن الأديب الأديب يرسخ في أذهان الأجيال المقبلة رسوخاً لا يحلم به غير من دوخوا الأرض من أمثال الاسكندر، ويوليوس قيصر، وعمرو بن العاص، ونابليون العظيم. . .!
(بيروت)
كرم ملحم كرم
صاحب جريدة (العاصفة)(195/12)
من أدب التاريخ
قصة غرام فاطمية
موضوع مسرحية بديعة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تقدم إلينا صحف القصور الإسلامية طائفة من القصص الغرامية الشائقة التي امتزجت بسير الخلفاء أو السلاطين؛ بيد أن هذه القصص المشرقية بالرغم من ألوانها المشجية المؤسية أحياناً لا تحمل دائماً ذلك الطابع الروائي العنيف الذي يبدو في قصص الحب في القصور الغربية؛ ويرجع ذلك أولاً إلى روح العصور، وثانياً إلى تباين الخلال والنظم الاجتماعية؛ ففي القصور الإسلامية كان يغلب دائماً ذلك التحفظ الذي يسبغ ستار الصمت والكتمان على حوادث وسير لا تحمد إذاعتها وتتقى آثارها بين الكافة؛ وكان نظام التسري الذي يعمر قصور الخلفاء والسلاطين بأسراب الجواري الحسان من مختلف الأمم والأجناس يحول دون اضطرام هذه العواطف والنزعات العنيفة التي كثيراً ما تضطرم في قصور الغرب، وتحمل في طريقها عروشاً أو تؤثر في مصاير أمم ومجتمعات؛ ومن النادر أن نرى في التاريخ الإسلامي جارية أو خليلة، حظية خليفة أو سلطان، تسيطر على أقدار الدولة ومصايرها بمثل ما كانت تسيطر غانية مثل بومبادور أو دوباري على أقدار فرنسا في عهد لويس الخامس عشر، أو نرى ملكاً وإمبراطوراً عظيماً كإدوارد الثامن يهجر أعظم عروش الأرض وأجلها قدراً في سبيل حب ليس فيه من الروعة والجمال ما يتناسب مع روعة التضحية التي أقدم عليها
بيد أننا نظفر في صحف القصور الإسلامية مع ذلك ببعض السير الغرامية العجيبة التي تطبعها ألوان روائية تذكي الخيال إلى الذروة. ولولا أن الرواية الإسلامية تحجم في كثير من الأحيان عن الإفاضة في تلك السير الشائقة، وتكتفي بإيراد الروايات الموجزة عنها لكان منها تراث روائي ساحر لا يقل في روعته وجماله وتباينه عما تقدمه إلينا قصص الحب الغربية الشائقة
مثال ذلك قصة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله وحبيبته البدوية فهي في الواقع نموذج(195/13)
ساحر من ذلك القصص الغرامي الذي يصلح بموضوعه ومناظره وألوانه موضوعاً لمسرحيات من الطراز الأول في سحرها وروعتها
ولي الآمر بأحكام الله الخلافة وهو طفل في نحو السادسة من عمره سنة 495هـ (1102م) رفعه إليها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه وزير أبيه الخليفة المستعلى، وجده المستنصر من قبل، والمتغلب على الدولة، والمستأثر بسلطانها؛ ونشأ الآمر في كنف هذا الوزير الطاغية، كما ينشأ جميع الأمراء الذين ليس لهم من الملك غير رسومه ومظاهره، محجوباً في قصره، مغموراً بأنواع الملاهي والمسرات؛ بيد أنه نشأ مع ذلك طموحاً ينزع إلى السلطان والبطش فلما بلغ أشده، وشعر بوطأة المتغلب عليه أخذ يتربص به حتى استطاع أن يدبر مصرعه، وقتل الأفضل سنة 515هـ؛ وتولى مكانه المأمون البطائحي؛ وقبض مثل سلفه على السلطة بقوة وحزم، فلم يلبث أن لقي نفس مصيره، فقتل في سنة 519هـ، واستأثر الآمر عندئذ بكل سلطة، وأطلق العنان لأهوائه وإسرافه وبذخه؛ وكان الآمر أميراً مرحاً، مضطرم النفس والأهواء، مشغوفاً بحياة اللهو والطرب، وافر السخاء والبذل، يعشق البذخ الطائل؛ وكان يهيم بالجواري والحسان، لا يطيق الحياة دون حب وهوى، وكان يشغف بفتيات البادية بنوع خاص، وله مع إحداهن قصة غرام مؤثرة، تنقلها إلينا الرواية في ألوان ساحرة، فكأنما تقرأ فيها كما تذكر الرواية ذاتها فصلاً من فصول ألف ليلة وليلة، أو ما يشابهها من القصص العجيب المغرق
كان الآمر يهيم كما قلنا بفتيات البادية، ويرسل في أثرهن رسله وعيونه، يجوبون البوادي والنجوع، ويبحثون عن روائع الجمال الساذج في ثنايا الخيام وفي مهاد البداوة النقية؛ فنقل إليه بعضهم أنه عثر ببعض أحياء الصعيد بجارية عربية هي مثال رائع للجمال العربي آية في الحسن والرشاقة والظرف، أديبة شاعرة، وافرة الذكاء والسحر؛ والى هنا تبقى القصة عادية ليس فيها ما يثير الدهشة؛ بيد أن الرواية تجنح بعدئذ إلى نوع من القصص الرائع، فتقول لنا أن الخليفة الآمر لما سمع بخبر هذه الفتاة البارعة في الحسن وفي الجمال، أراد أن يراها بنفسه قبل أن يتخذ في شأنها أي إجراء، فتزيا بزي الأعراب وغادر قصره بالقاهرة، وسار إلى الصعيد، وأخذ يتجول بين الأحياء حتى وقف على حيها واستطاع أن يتصل بأهلها دون أن يعرفوه وأن يظفر برؤيتها وتأمل محاسنها؛ فما أن رآها(195/14)
حتى اضطرمت جوانحه بحبها، وأسرع بالعودة إلى القاهرة وقرر في الحال أن يخطب هذه الفتاة التي تيمته حباً، وأن يتزوج بها؛ وبعث الآمر إلى أهل الفتاة برغبته، فبادروا إلى تحقيقها فرحين مغتبطين، وأرسلوا بالفتاة إلى القاهرة، حيث حملت إلى القصر، وغدت في الحال زوجة للخليفة، وسيدة البلاط الفاطمي
والى هنا ينتهي أول فصل في القصة، وهو تفصل لا تنقصه عناصر الخيال الممتع؛ ثم إن فتاة البادية العالية - وكان هذا اسمها - بعد أن سكنت إلى حياة القصر الباذخة حيناً، وأفاقت من دهشتها الأولى، أخذت تشعر بثقل هذه الحياة الناعمة على ما فيها من متاع ونعماء وترف مستمرة، وتبدو لها جدران القصر العالية، وأبهاؤه الفخمة كأنها ظلام السجن، وأخت تحن إلى فضاء القفر الشاسع وهوائه النقي الساذج كما تحن الطيور في أقفاصها إلى فضاء السماء، أو كما تحن الأسود المعتقلة إلى أحراجها وأدغالها، رغم ما تتمتع به في سجنها من وافر العناية؛ فلما رأى الخليفة الآمر ما أصاب حبيبته من الاكتئاب والوحشة، دفعه الخيال إلى أن يلتمس لها متعة الفضاء التي تنشد على طريقته الملوكية، فأمر أن تقام لها على النيل في جزيرة الفسطاط (الروضة) متنزهاً عظيماً يضم بستاناً ساحراً وأجنحة ملوكية بديعة، وسمي هذا المتنزه الرائع الذي لبث مدى حين من محاسن الدولة الفاطمية (بالهودج) فكان للتسمية مغزاها في التشبيه بالهودج الذي هو خباء السفر في البادية؛ وأنس روح البدوية الهائم مدى حين إلى الرياضة في (الهودج) والتمتع بمناظره الرائعة ونسماته العليلة بيد أنها لم تنس قط وهج القفر وسحر الفلاة
واليك فصلاً ممتعاً آخر من تلك القصة الغرامية الرفيعة. لقد ظفرت (العالية) بغزو قلب صاحب الخلافة والعرش، وغدت سيدة القصر والبلاط، ولكن ذلك لم يكن منتهى آمالها وسعادتها؛ ذلك لأن قلبها البدوي المضطرم كان يخفق منذ أيام البادية بهوى فتى من بني عمومتها يدعى ابن مياح، ربيت معه في الحي منذ الطفولة، وكان فتى رقيق الخلال وافر السحر، فلما حملت إلى قصر الخليفة لم تخمد في قلبها جذوة حبه، ولبثت في قصرها تتجه بخيالها إليه؛ وفي ذات يوم هزها الشوق إليه، فبعثت إليه من قصر الخليفة بهذه الأبيات
يا ابن مياح إليك المشتكى ... مالِكٌ من بعدكم قد مُلكا
كنت في حبي مطاعاً آمرا ... نائلاً ما شئت منكم مدركا(195/15)
فأنا الآن بقصر موصد ... لا أرى إلا حبيباً ممسكا
كم تثنينا بأغصان اللوا ... حيث لا نخشى علينا دركا
وتلاعبنا برملات الحمى ... حيثما شاء طليق سلكا
تقول الرواية، فأجابها ابن مياح بهذه الأبيات
بنت عمي والتي غذيتها ... بالهوى حتى علا واحتبكا
بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع فيها المشتكى
مالك الأمر إليه يشتكى ... هالك وهو الذي قد هلكا
شأن داود غدا في عصرنا ... مبدياً بالتيه ما قد ملكا
ثم تقول الرواية: ووقف الخليفة الآمر على سر هذه المراسلة وقرأ أبيات ابن مياح، فقال لو أنه لم يسئ إليه في البيت الرابع لرد الجارية إلى حبه وزوجها منه
وأثارت هذه القصة نفس شاعر معاصر من بني طيء يدعى طراد بن مهلهل، فنظم أبياتاً ينحى فيها على الآمر باللائمة ويخاطبه بما يأتي:
ألا بلغوا الآمر المصطفى ... مقال طراد ونعم المقال
قطعت الأليفين عن ألفة ... بها سحر الحي بين الرجال
كذا كان آباؤك الأقدمون؟ ... سألت فقل لي جواب السؤال
فغضب الآمر حينما وقف على هذا الشعر، وقال جواب السائل قطع لسانه على فضوله، وبعث في طلب طراد في أحياء العرب، ففر منه واختفى
ولبث الآمر بعد ذلك أعواماً؛ يطلق العنان لأهوائه، وينعم إلى جانب حبيبته العالية، ويتردد معها إلى متنزه الهودج. وكان الآمر يثير سخط فريق من الزعماء ورجال الدولة بما جنح إليه من تمكين النصارى من مناصب الثقة والنفوذ، وما كان يمعن فيه من اللهو والبذخ والاستهتار بالرسوم والتقاليد، ففي ذات يوم من أيام ذي القعدة سنة 524هـ (1130م) ركب من القصر كعادته إلى الهودج للتنزه، فلما وصل إلى رأس الجسر الموصل إلى الهودج وثب عليه قوم قد كمنوا له. وأثخنوه طعناً بخناجرهم، فحمل جريحاً إلى قصر اللؤلؤة على مقربة من مكان الجريمة، ولكنه لم يلبث أن توفي، ولم يجاوز الخامسة والثلاثين(195/16)
وكان الآمر بأحكام الله شاعراً مجيداً، وله نظم قوي مؤثر فمن نظمه قوله:
دع اللوم عني لست مني بموثق ... فلابد لي من صدمة المتحقق
وأسقي جيادي من فرات ودجلة ... وأجمع شمل الدين بعد التفرق
تلك هي قصة الآمر بأحكام الله مع حبيبته العالية، وهي قصة تجمع بين حقائق التاريخ ومتاع القصة؛ ولا ريب أن الرواية قد أسبغت عليها حواشي وألواناً خلابة مصدرها الخيال الشائق، بيد أنها تحتفظ مع ذلك بطابعها التاريخي. ولقد عرج كثير من كتاب المسرح عندنا على بعض الوقائع والمآسي التاريخية واتخذوها موضوعاً لمسرحياتهم، بيد أنها قلما تتمتع بذلك الطابع الروائي الخلاب الذي تتمتع به قصة الآمر بأحكام الله مع حبيبته العالية، ألم يقف أحدهم بتلك القصة الفاطمية الشائقة التي وقعت بمصر في ظل خلافة تنثر من حولها آيات الفخامة والبذخ الرائع؟ إن صحف التاريخ الإسلامي تقدم إلينا كثيراً من هذا القصص الرقيق المؤثر، فهلا فكر كتاب المسرح في ورود هذا المنهل الغزير والاقتباس من طرائفه؛ وإن المسرح المصري ليبدو أروع وأبدع، وأوفر سحراً وفتنة إذا استطاع كتابنا أن يتحفوه ببعض هذه المناظر القومية الشائقة التي تبد في ألوانها، وفي روعتها وبهائها كثيراً مما ينقلون إلينا من تراث المسرح الغربي
محمد عبد الله عنان(195/17)
حول مجمع اللغة العربية الملكي
هل لمجمع اللغة العربية وضع المصطلحات العلمية؟
للأديب مصطفى زيور
نشرت الأهرام في عددها الصادر في السادس من شهر مارس سنة 1937 كلمة للكاتب الفاضل إسماعيل مظهر يناقش فيها حديثاً مع مندوب الأهرام لعميد كلية الآداب الدكتور طه حسين بك بشأن مجمع اللغة العربية ومهمته التي يجب (في رأي الأستاذ العميد) ألا يكون منها وضع المصطلحات العلمية. وما كنت لأزج بنفسي في هذه المناقشات - فلست من المضطلعين بعلم اللغة - لولا ما تبينته في كلمة الكاتب الفاضل إسماعيل مظهر من إغفال حقيقة أولية أخشى أن تكون فاتت أعضاء المجمع المحترمين، بل اليقين إنها فاتتهم لأن موقف المجمع منها يدل على ذلك، فكان في ذلك الخطر وكان في ذلك ما دفعني إلى كتابة هذا.
ساق الكاتب الفاضل إسماعيل مظهر في كلمته رداً على رأي الأستاذ العميد الحجة الآتية التي يستهلها بقوله: (إن حضرة الأستاذ العميد يحاول أن يثبت أن لمجامع اللغة طبيعة واحدة لا تختلف باختلاف الشعوب واللغات وظروف الأحوال فمضى يطبق القواعد التي يجري عليها مجمع اللغة الفرنسي. . . كأن الطبيعة والتاريخ لا حساب لهما في قياس الفارق بين اللغتين وحال الشعبين. . .) إذن ففي رأي الفاضل إسماعيل مظهر أن الظروف الملابسة لمجمع اللغة العربية تختلف عن ظروف المجمع الفرنسي بحيث تجعل مجمع اللغة العربية في حل من أن يتقيد بمسلك المجمع الفرنسي في الإحجام عن معالجة وضع المصطلحات العلمية. أما هذا الفارق في الملابسات فيتلخص في رأي الكاتب الفاضل في أنه إذا كان للفرنسي المشتغل بالعمل أن يضع الاصطلاح العلمي دون أن يكون لمجمع اللغة في بلده إلا أن يسجل الاصطلاح فذلك لأنه ينشأ في مهده يسمع اللغة الفرنسية الصحيحة ثم هو يدرس بعد ذلك اللغتين اللاتينية واليونانية، فهو إذن قادر على الاشتقاق والنحت واغلب الظن أن المصطلح الذي يضعه لا غبار عليه، هذا بينما نحن في مصر لا نسمع في طفولتنا إلا العامية ولا نحصل من اللغة الفصيحة بعد ذلك في المعاهد إلا قدراً لا يغني ولا يمكن المشتغل بالعلم أن يقوم بذلك العمل الفقهي دون مساعدة المجمع. والنتيجة(195/18)
المنطقية من هذا كله في رأي الكاتب الفاضل كما يقول في مكان آخر من كلمته (إن طبيعة لغتنا والظرف القائم فينا يجعل من أوليات المهام التي يجب أن يباشرها مجمع اللغة العربية النظر في وضع المصطلحات العربية الصحيحة).
ولست أريد أن أناقش هنا هذه الحجة والنتيجة المستخلصة منها، لأنه من الواضح أن هذا القياس كله يقوم على زعم اقتنع به الكاتب الفاضل: وهو أنه إذا اجتمع لمجمع لغة ظروف بعينها فعليه أن يقوم بوضع المصطلحات العلمية، وهذا هو ما أنكره
أنكر أن يقوم مجمع لغة مهما يكن وفي أي بلد يكون ومهما تكن الظروف بوضع اصطلاح علمي. ومع احترامي الشديد لأعضاء مجمعنا الموقرين - ومنهم من كان لي أستاذاً بل ومنهم من تربطني به صلات هي أوثق من صلة التلميذ بأستاذه - فإنني لا أخفي أن في إنكاري هذا إنكاراً لمجموع مجهودهم إزاء المصطلحات العلمية؛ فإن ثمة حقيقة أولية هي من الخطر بحيث لا ينبغي السكوت عليها: لا يختلف اثنان في أن مهمة مجمع اللغة العربية هي العناية باللغة العربية - بصرف النظر الآن عن الطريق التي يسلكها إلى ذلك - كما أن مهمة مجمع اللغة الفرنسية هي العناية باللغة الفرنسية، وليس لأحدهما أن يعنى بلغة غير اللغة المنوط به أمرها. فإذا كان الأمر كذلك فإن هناك حقيقة أولية هي أن لغة العلم لغة دولية مستقلة لا شأن لها باللغة العربية ولا شأن لها بغيرها من اللغات، هذا هو موضوع كلمتي هذه.
تصفح معجماً فرنسياً متداولاً مثل (لاروس) ثم تصفح معجما إنجليزياً متداولاً مثل (تشيمبرسز) ثم تصفح معجماً ألمانياً متداولاً مثل (سكس فيلات) فلن تجد كلمة (كروموسوم) التي تجنى الكاتب الفاضل إسماعيل مظهر على أساتذة كلية العلوم المصرية بأن المجمع أوجد لها لفظاً عربياً، فإذا أردت الآن أن تتصفح معجماً علمياً مطبوعاً في فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا أو غيرها من البلاد وجدت كلمة (كرومسوم) هي هي يستعملها العالم الفرنسي والإنجليزي والألماني على السواء. هل يريدني الكاتب الفاضل أن أعلق على هذه الحقيقة؟ كروموسوم التي ترجمها مجمع اللغة العربية بكلمة (صبغي) ليست فرنسية ولا ألمانية ولا إنجليزية بل ولا يونانية؛ نعم لا أرسطو ولا معاصروه يعرفونها، ولا سكان اليونان الحاليون من غير المشتغلين بالعلم يعرفونها، هي ربط تحكمي بين(195/19)
أصلين يونانيين قديميين أي لون وأي جسم، ربط
لم يكن الداعي إليه كما زعم الكاتب الفاضل عجز لغة واضع الاصطلاح عن إسعافه بلفظ يؤدي المراد. وإلا فقل لي يا سيدي هل عجزت إحدى هذه اللغات الأوربية عن لفظة تقابل لفظة صبغي؟
يخيل إلي أن القاعدة الأساسية التي قامت عليها حركة اشتقاق المصطلحات العلمية من اليونانية القديمة واللاتينية هي التي فاتنا فهمها في مصر. لم يكن عجز اللغات الأوروبية الحديثة ولكن إرادة التخصيص والتمييز لمعان جديدة بينها وبين الألفاظ المتداولة بعض الصلات هو الدافع إلى خلق ألفاظ إذا كانت أعجمية بالنسبة إلى اللغة العربية فهي كذلك أعجمية بالنسبة لغيرها من اللغات الحية، لقد فهم هذا اليابان والروس فاتخذ علماؤهم هذه الألفاظ العلمية التي لا صلة للغاتهم بأصولها اليونانية أو اللاتينية واستعملوها كغيرهم من العلماء. إذن فليس في انحدار اللغة الفرنسية أو الإنجليزية من اليونانية واللاتينية، وليس تلقي الطالب الفرنسي هذه اللغات القديمة في المعاهد ما يفسر تعميم استعمال هذه المصطلحات في أوروبا، فإن شعوب الأرض قاطبة من المغول إلى الصقالبة إلى الجرمان إلى الانجلوسكسون إلى اللاتين جميعها تقول كروموسوم. فهل يراد بعلماء مصر أن ينفردوا عن سكان الأرض طراً ويقولوا صبغي؟ ألا يفسر لك هذا يا سيدي أن كثيرين من أهل الذكر من العلماء في مصر - كما قلت في كلمتك - لم يكونوا على استعداد للتضحية في سبيل اللغة فضنوا بمجهودهم على المجمع. ألا ترى أنهم تبينوا أنه تطلب منهم التضحية من حيث لا محل للتضحية لا للغة ولا لغير اللغة.
قلت لابد أن هذه الحقيقة الأولية حقيقة وحدة لغة العلم قد فاتت أعضاء مجمع اللغة العربية المحترمين، فذهبوا يترجمون لا من الفرنسية ولا الإنجليزية بل من لغة العلم إلى العربية! فإذا كان الباعث الرئيسي الذي دفعهم إلى ذلك هو إرادة استبعاد ما سموه بالألفاظ الأعجمية واستبدلها بألفاظ تسيغها عبقرية اللغة العربية فهم لا شك لن يستثنوا من عملية (التطهير) هذه لفظاً دون غيره.
فإذا كان الأمر كذلك وقد ترجموا كروموسوم بصبغي فقد بقي لدينا عدة مصطلحات أخرى كلها مشتقة من الأصل اليوناني فلدينا مثلاً (كروماتين) وهي كما يعرف الكاتب الفاضل(195/20)
إسماعيل مظهر تلك المادة ذات التلوين القاعدي غالباً الموجود داخل نواة الخلية؛ ثم لدينا (كروم) وهو المعدن المعروف بباهر لون مركباته، ثم لدينا (كروما) وهي وحدة إدراك الألوان في البصريات لا أجهل أن عبقرية أعضاء المجمع المحترمين لن يعوزها ترجمة كروماتين ولكن ما القول في الكروم. أيترجم هذا أيضاً وهو اسم علم لمعدن لم يعرفه العرب؟ إذن يجب ترجمة البلاتين ثم الراديوم والمزوتوريوم إلى آخر سلسلة المعادن ذات الإشعاع، وكذلك الكلور والبروم واليود والبور الخ. ولكن هذه الكيمياء اللعينة لها مشكلة أدهى وأمر: هي المركبات العضوية التي يتألف اسم الواحدة منها من خمسة أصول يونانية أو أكثر كل منها يدل على وظيفة كيميائية يجب ذكرها، ولكني أترك الكيمياء لحظة حتى ننتهي من هذا الحوار حول ترجمة المصطلحات المختلفة المشتقة من الأصل اليوناني ذكرت لك أن وحدة الألوان هي كروما، فهل ينبغي تمشياً مع عملية التطهير ترجمة هذه الوحدة أيضاً كما ترجم بعض أعضاء المجمع المتر والياردة؟! وإذا كان الأمر كذلك فإنه ينبغي أن نترجم الوحدات الفيزيقية الأخرى مثل (دين) و (ديوبتري) ثم (فلت) و (أمبير) و (وات) الخ، ولكن مهلاً! إنك تعرف يا سيدي أن هذه الوحدات الأخيرة هي أسماء لعلماء كانت حياتهم وقفاً على خير الإنسانية، فأراد القوم أن يخلدوهم بتسجيل أسمائهم وحدات عالمية. ولا أخالك تجهل أن أحداً من المشتغلين بالعلم والعارفين فضل هؤلاء العلماء لن يقبل أن يسمع حتى الجدال حول ترجمة هذه الوحدات، بل أثق ولا أشك أنك تثق معي أنه مهما شرع المجمع ومهما صدرت القوانين الصارمة بتحريم استعمال هذه الألفاظ (الأعجمية) فسيكون موقف العلماء في مصر كموقف جاليلي حينما أرغم على القول بأن الأرض ساكنة ثم لم يلبث أن قال (ورغماً عن ذلك فإنها تدور) ,
إذن فلابد لنا - ورغماً عن أنفنا - من ألفاظ أعجمية. ولكن ماذا؟ أيذهب بنا الطهر اللغوي أن نكون ملكيين أكثر من الملك فننسى أن العرب أنفسهم لم يأنفوا من هذه الألفاظ الأعجمية! وإلا فما قولك في مصطلحات مثل فلسفة وكيمياء وقاطيغورياس وكلها يونانية محضة؟ وما قولك في هذا المجمع الفرنسي الذي يقبل ويسجل , , وكلها عربية محضة؟ ثم ما قولك في هؤلاء العلماء الغربيين الذين يقبلون ويستعملون اسم هذا الدواء الذي حضره الأستاذ الدكتور خليل عبد الخالق وسماه فؤادين تيمناً باسم المغفور له فؤاد الأول(195/21)
وهو اسم أعجمي بالنسبة لهم ولا تزكيه دلالة علمية؟ ثم هذه المصطلحات الألمانية المحضة مثل (ماستزلن) وغيرها المستعملة في علم الأنسجة في فرنسا وإنجلترا. وهذه المصطلحات التي تسمها سمة يابانية و. . . وبعد فإنه مهما يكن من الأصل الذي اشتق منه الاصطلاح العلمي فإنه إذا كتب له البقاء - وليس هذا متوقفاً على صحته من الوجهة الفقهية فهذه كلمة (بكتيريا) ومعناها في اليونانية عصا أي جسم مستطيل ومع هذا فإنهم يقولون بكتيريا مستديرة مثل (ستافيلوكوكاس) وهذه هي وهي مزج يتعارض مع أبسط قواعد الفقه اللغوي بين اصل يوناني أي دم واصل لاتيني أي زراعة - أقول إذا كتب لمصطلح البقاء فإنه يأخذ مكانه في لغة العلم (بوضع اليد) ويفرض نفسه على الاستعمال مهما كان فيه من خطأ فقهي لأنه نشأ عن مبدأ انفردت به لغة العلم وهو التخصيص والتمييز كما قلت آنفاً لمعنى جديد يشترك في بعض صفاته مع معان متداولة، فهم عندما قالوا (أنابولزم) لم تعوزهم كلمة في اللفات الحية تقابل (البناء) التي وضعها مجمع اللغة العربية ترجمة لأنابولزم، ولكنهم لاحظوا أنهم لو قالوا في الفرنسية أو في الإنجليزية مثلاً فإنه يختلط الفهم بين هذه الألفاظ العامة وبين المعنى الجديد المراد تحديده. بل إن في المصطلحات العلمية معاني تشترك في بعض صفاتها مع مصطلحات أخرى، فهذه (فوتون) ذرة الضوء، وهذه كروما وحدة إدراك الألوان، وهذه ديوبتري وحدة الانكسار في البصريات، لا يخفى ما بينها من العلاقة، ثم ما بين الأولى وبين الذرات الأخرى (إلكترون) و (بوزيترون) الخ، فوجب التمييز والتحديد بالرجوع إلى أصول تجهلها اللغات القائمة.
وليس هذا كل شيء، فهناك أيضاً إرادة مزج معنيين أو أكثر في لفظة واحدة على أن تكون هذه المعاني واضحة تذكرها جميعاً إذا ما ذكر الاصطلاح. ويبدو هذا واضحاً في الكيمياء العضوية وليكن على سبيل المثال المركب وهي (البيراميدون) المستعملة في علم الأقرباذين ضد الحمى؛ فأنت ترى أن هناك خمسة وظائف كيميائية يجب ذكرها جميعاً عند التعبير كيميائياً. وليسمح لي الكاتب الفاضل بشيء من الفضول لأسأله كيف السبيل إلى ترجمة مثل هذه العبارات الفنية إذا بقي لدينا شيء من الإخلاص للعلم. وهلا يضن أن مثل هذه العبارات ليست أعجمية بالنسبة للغات الأوربية. ولكننا لم نسمع أن مجمعاً من مجامع اللغة في أوروبا أو في غيرها شن الغارة عليها بدعوى أن هناك غزوة ألفاضه أعجمية ضد(195/22)
اللغات الحية لأنه لم يقل أحد أن هذه المصطلحات لها شأن ما بلغة من اللغات.
وأخيراً فأنا لا أجهل أن لغة العلم لم تصل بعد إلى الوحدة المنشودة لها من العلماء فمازال كثير من المصطلحات يختلف باختلاف اللغات، ولكن أغلب المصطلحات التي من هذا النوع والمستعارة من اللغات الحية رأساً قديم قليل التوفيق يترجم إما عن حركة علمية موضعية وإما عن اختلاف في الرأي العلمي نفسه أو على الأقل عن وجهة نظر مختلفة؛ فهذا شلل الطفولة الفقري يدعى حياناً (تفروميليت) وأحياناً (بوليوميليت) وأحياناً أخرى (مرض هاين مدن) الخ. على أن هناك مجهوداً متصلاً في استبعاد هذه الألفاظ (الأعجمية) عن لغة العلم، ومن أجل هذا تنعقد المؤتمرات الدولية بين العلماء المختصين من البلاد المختلفة؛ وفي هذه المؤتمرات - وفيها وحدها لا في مجامع اللغة - يقترح اصطلاح جديد دولي يحل محل المصطلحات المتعددة بتعدد اللغات، ولا يخفى أن نجاح هذه المصطلحات الجديد متوقف على التقدم العلمي الذي يوحد بين الآراء؛ فهذا هو مؤتمر الكيمياء العضوية قد أقر مثلاً لفظة (جلوسيد) لتحل محل هدرات الكربون ومرادفاتها: المواد النشوية والمواد السكرية، وذلك بعد أن تبين أن جميع هذه المصطلحات التي كانت تختلف باختلاف اللغة قليلة التوفيق بل تعبر عن خطأ علمي، وبالمثل في (ليبيد) التي حلت محل الإنجليزية والفرنسية، ثم (بروتيد) التي حلت محل المواد الزلالية وزميلتها المواد البروتينية الخ. وهكذا فقد أصبحت لغة الكيمياء موحدة في جميع بلاد العالم. وقد تم مثل ذلك التوحيد في لغة العلم في كثير من فروع التاريخ الطبيعي. ثم هذه هي المؤتمرات الدولية يعقدها الفلاسفة وعلماء وظائف الأعضاء لهذا الغرض. ثم المعاجم الدولية في فروع الطب يشترك في تحريرها علماء من البلاد المختلفة للتقريب بين المصطلحات تمهيداً لتوحيدها.
والآن إذا كانت الحاجة ماسة، والرغبة تفي ترجمة الكتب العلمية الأجنبية إلى اللغة العربية ملحة، فلا بأس من ترجمة الألفاظ التي لا زالت تختلف باختلاف اللغات. ولنضرب مثلاً لذلك بالجهاز الذي يحول الشعاع الضوئي إلى تيار كهربائي والمسمى بالفرنسية - وبالإنجليزية - وبالألمانية فأنت ترى أن الكلمة التي تختلف هي , , فيمكننا أن نقول في مصر خلية فوتو ألكتريك؛ ولكن حتى ترجمة مثل هذه الكلمة ليس من شأن مجمع اللغة بل هذا من شأن المشتغلين بالعلم. ولست في ذلك متعنتاً لأن هذه الترجمة تتطلب(195/23)
مجهوداً علمياً شاقاً إذ أن هذه الكلمات التي تختلف باختلاف اللغات تدل في كثير من الأحيان على اضطراب علمي وانقسام في الرأي بين المدارس المختلفة. وقد رأينا مجمع اللغة العربية يختصر طريقه في ذلك فاعتمد في ترجمته على الكلمات الإنجليزية - ومنها ما بطل استعماله - كما لو لم تكن هناك حركات علمية في غير إنجلترا
أما قول الكاتب الفاضل إنه يذهب (إلى أن من الواجب ألا تجيز وزارة المعارف كتاباً ليدرس في المدارس وعلى الأخص كتب العلم، من غير أن يجيزه المجمع من حيث اللغة ومن حيث المصطلحات فليس فيه قلب للأوضاع فحسب، بل هو مؤد إذا أخذ بمثل هذا الرأي الذي يفوح برجعية القرون الوسطى - وليعذرني الكاتب الفاضل فقد جاوز قوله هذا كل حد - إلى حالة من الركود والشلل، فسيقفل باب الاجتهاد في وجه العلماء الذين يعرفون مادتهم دون غيرهم أو على الأقل خيراً من غيرهم، وسيرى كل مؤلف نفسه مقيداً بأوضاع من التعبير جامدة هي ما شرع المجمع، عليه أن يصب مادته فيها إذا أراد أن ينال حظوة محكمة المجمع مهما كان في ذلك تشويه لفكره
وبعد هذا نعجب كيف يتقدم القوم في أوربا بخطى المارد في سبيل الثقافة والمدنية بينما نحن نتخبط، نتقدم خطوة ونرجع القهقرى خطوات! كلا يا سيدي، ما بهذا يمكن إحياء اللغة والعناية بصفائها، وليس يجيز لك حرصك على ألا تقتل الأعجمية المزعومة ما سميته بأدب العلم أن تلوح بهذه القيود الرجعية، بل أنا زعم أن جريمة القتل هي أن تشرع مثل هذه القيود، وجريمة القتل أن تستبعد لغة العلم من مصر ويستبدل بها ألفاظ لا خير فيها. لست أجهل أن الحرية المطلقة هي نوع من الفوضى ولكني موقن من جهة أخرى أن البقاء للصالح؛ فكل مؤلف وكل وضع من أوضاع التعبير الجديد يحمل في طياته الحكم عليه بالبقاء أو الزوال
فإذا كان الأديب الفاضل إسماعيل مظهر يرى أن المشتغلين بالعلم في مصر غير قادرين على الاجتهاد، لا يصلحون للتأليف، ومهما يكن من حقيقة حكمه هذا، فإن ذلك لا يخول لمجمع اللغة أن ينسى تلك الحقيقة الأولية التي أشرت إليها آنفاً والتي عبر عنها بعض الناس بأن العلم مجموعة من مصطلحات خاصة أشبه بالرموز تكون لغة مستقلة قائمة بذاتها إذا تفهمتها فقد تفهمت العلم. حسن أن يبدو من مجمع اللغة حرصه على تقدمك العلم(195/24)
في مصر، ولكن الطريق التي يسلكها إلى ذلك هي التي أنكرها عليه، لأن إشفاقه من غزوة الأعجمية المزعومة للغة الضاد إشفاق وهمي، فلن يضيرها أن يكتب مؤلف (سيتوبلازما) بدلاً من حشوة التي وضعها المجمع فيتكلف الناس من المشتغلين بالعلم في مصر استضهار معجم من الألفاظ العربية إلى جانب المعجم الدولي الذي لا يمكن الاستغناء عنه إذا اردنا تتبع العلم في تطوره. وقد درجنا ودرجت من قبلنا ومن بعدنا عشرات الأجيال من الطلبة والأساتذة في المعاهد المصرية على استعمال مصطلحات (ستاتيكا) ودنيابيكا) و (كلور) و (مثيلين) و (بروتوبلازما) وغيرها من المصطلحات الدولية، فكنا نعالج استعمالها في غير شعور بما يسمى بالأعجمية، كما كنا نستعمل ألفاظاً مثل تشيكوسلوفاكيا واستكهلم ومترنيخ سواء بسواء، بل ما كنا نجد في كل هذا من الغرابة ما كنا نجد في تلك الألفاظ التي كانوا يضعونها في حافظاتنا مثل افرنقع وغضنفر واسحنفر وغيرها من الألفاظ التي كنا نستعيذ بالله من وحشيتها. قل ما شئت في قيمة الثقافة اللغوية لخريجي المعاهد المصرية فالعبرة بعد كل شيء في الحكم على صلاحية لفظ أو عبارة بحظها لدى ذوق الجمهور من الخاصة أو من العامة، فهذه مسرة وبرق يعرفهما كل الناس ولا يستعملهما أحد، فتقرأ في أكبر الصحف العربية تلغرافات كذا الخصوصية، وتليفون رقم كذا؛ أقول ذلك لأني لا أومن بأن اللغة غاية في ذاتها بل هي أداة، وهي باعتبارها كذلك لا يمكن أن يكون المرجع فيها إلى مجلس يشرع بل إلى ذوق جمهور يستسيغ أو يعرض
وفي النهاية إذا كان لابد لمجمع اللغة أن يساهم في النهضة العلمية في مصر فليكن ذلك عن طريق ما أنشئ له أو ما كان يجب أن ينشأ من أجله، وأقصد العناية باللغة من حيث هي، ففي كتب العلم شيء آخر غير المصطلحات. هناك العبارة اللغوية والأسلوب، ومهما كانت الأسباب فنهاك حقيقة يعرفها ويتألم لها كثير من المشتغلين بالعلم في مصر، وهي أن العبارة من اللغة الأجنبية التي لم يدرسوها إلا سنوات محدودة بالنسبة للغة العربية تواتيهم في سهولة توئسهم في لغتهم، فليكن سبيل المجمع إلى إصلاح هذا الحال: حال ضعف اللغة العربية عند أهلها. ليكن نشاطه في البحث عما يقوم لسان الكتاب والمؤلفين إذا تكلموا أو كتبوا عن طريق عملي يجعل من اللغة العربية لغة سهلة التناول في مستوى اللغات الحية الأخرى. أما المصطلحات العلمية، وأما لغة العلم فهذه شأنها إلى العلماء(195/25)
باريس 13 مارس 1937
مصطفى زبور(195/26)
في الأدب المقارن
الذاتي والموضوعي في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
تتأثر النفس الإنسانية بكل ما تحس من مظاهر الحياة، فإذا ما عبر المرء عن تأثره ذاك نثراً أو نظماً في لفظ نقي، كان تعبيره ذاك أدباً، فالأدب نتاج عاملين: مؤثر هو مظاهر الحياة التي تحفز الأديب إلى الإنشاء، ويتخذها موضوعاً لإنشائه، ومتأثر هو ذات الأديب التي يترجم القول المنظوم أو المنثور عن خوالجها، وليس يخلو عمل أدبي من آثار هذين العاملين ممتزجين، فكل عمل أدبي هو ذاتي وهو موضوعي، غير أن الأعمال الأدبية تتفاوت حظاً من هذا ونصيباً من ذاك، فإذا استرسل الأديب في وصف ما هو بازائه من مظاهر الحياة وشرح أحوالها على علاتها، مكفكفاً من عنان عواطفه محكماً دونها الفكر، كان العمل الأدبي موضوعياً، وإن أرخى الأديب العنان لعواطفه ملماً بالموقف الذي هو حياله إلماماً خفيفاً، كان عمله الأدبي ذاتياً.
فمظاهر الحياة المختلفة هي مادة الأدب لأنها مادة الإحساس والتفكير، وبدونها لا يتصور تفكير ولا شعور، ولا تكون النفس إلا خواء تاماً ولا الفكر إلا فضاء مطلقاً؛ والنفس الإنسانية هي العامل الفعال الذي يعكس صور مظاهر الحياة تلك، ويمنحها من الصفات ما يروق المرء حيناً ويطربه ويحببه فيها، وما يسوؤه حيناً ويؤلمه ويبغضه في بعض تلك المظاهر، والأديب مهما توفر على موضوعه الذي هو بصدده، ومهما كان موضوعه ذاك بعيداً عن نفسه وعن محيطه وزمنه، ومهما حكم فيه الفكر السليم والرأي المنزه، لا يخلو من أن يكون معبراً في عمله الأدبي عن ذاته، مصدراً عن طبيعته، وهي طبيعة يتفق فيها مع الآخرين إلى مدى، ويختلف عنهم في بعض نواحيها.
بل لا يعدو الحق من يقول إن الأديب لا يزيد مدى حياته على أن يعرض نفسه على قرائه، مهما تباينت موضوعاته وتعددت أشكال أدبه، فسواء راح مادحاً أو ذاماً أو واصفاً أو قاصاً، أو ملاحظاً لأحوال الناس أو متأملاً في ماضيهم ومستقبلهم، فهو لا يعدو محيط نفسه وتجاربه وعواطفه؛ بل إن بعض كبار الأدباء إنما بلغوا أوج نجاحهم الأدبي في العمل الأدبي الذي يصف كل منهم فيه قصة حياته، أو أهم تجربة من تجاربه، أو أزمة نفسية(195/27)
عبرت به، كما قص لامرتين قصة حبه في (رفائيل)، وكما وصف كل من شاتوبريان وأناتول فرانس نشأته في آثاره الأدبية، وكما وصف تشارلز دكنز قصة طفولته في (دافيد كوبر فيلد)؛ وبلغ القصصيون ذروة نجاحهم في قصصهم التي كان أبطالها صوراً من أنفسهم أو من بعض حالاتهم النفسية، كما كان جيته فاوست، وكما كان أناتول فرانس بعض أشخاص كل رواياته
وأناتول فرانس نفسه يقول إننا لا نكتب إلا عن أنفسنا، ويزيد فيقول إننا لا نقرأ حين نقرأ إلا أنفسنا. ولا غرو فالمرء لا يدمن إلا قراءة الضرب الذي يعجبه من القول ويصادف هوى في فؤاده، ولا يصطفي من الكتاب إلا من يشاكله نفساً، وهو حتى حين يقرأ موضوعاته الأثيرة من آثار أدبائه المختارين يصبغ كل ما يقرأ بصبغة نفسه ويؤوله على حسب إدراكه وطبعه، ويستخلص منه ما قد لا يستخلصه غيره، وما لعل المنشئ نفسه لم يقصده، والناس إنما يقرأون الشاعر أو الكاتب وهو يتحدث عن نفسه لأنهم يرون في نفسه صورة من أنفسهم، وفي ذاته صدى من ذواتهم، فإذا ألفوه قد أغرب وباعد بين ما يصف وما يحسون نبذوه واستهجنوه، ولم يعنهم مما يصف من أحوال ذاته التي لا يحسونها في ذواتهم، أكثر مما يعنيهم من أحوال معيشته الخاصة ومطعمه وملبسه
والذاتي في أدب اللغة أسبق ظهوراً من الموضوعي: يبدأ الأدب في عهده الأول بتعبير الإنسان عن خواطره العاجلة وأحاسيسه السانحة وتجاريبه الحاضرة، يرسل ذلك على سجيته وبديهته قولاً سائراً أو أبياتاً شاردة، لم يعد لها العدة ولا تكلف فيها عناء طويلاً، ويرقى الأدب رقياً كبيراً وما تزال الصبغة الذاتية هي السائدة فيه، وتظل له هذه الصبغة مادام قريباً من البداوة غير آخذ أهله بشيء من الثقافة أو مقيدين لآدابهم بالكتابة؛ فإذا ما انتفع الأدب بالثقافة والتدوين ظهر فيه الضرب الموضوعي، إذ تتسع أفكار الأدباء ويمتد أفق نظراتهم ويقصدون التأمل في شؤون الحياة قصداً، غير منتظرين التجارب التي تسنح عرضاً، ويطلبون من مناحي الحياة ومذاهب التفكير الأبعد فالأبعد، فتزاحم الصفة الموضوعية الصفة الذاتية
فغزارة الضرب الموضوعي في الأدب من لوازم رقيه ووصوله إلى الطور الفني، بيد أن العنصر الذاتي لا يمحى ببلوغ الأدب هذا الطور، بل يبقى ويزداد رقياً وحرارة وعمقاً،(195/28)
ويظل صدقه وعمقه وحرارته خير مقياس لصدق الأدب ورقيه، ويقترن ضعفه وتلاشيه بضعف الأدب وفتور العاطفة فيه وتغلب اللفظ على الشعور الصحيح؛ ففي عصور تدهور الأدب يسود الضرب الموضوعي، وتنفق موضوعات بذاتها يصطلح الأدباء على طرقها على أساليب مخصوصة لا يعدلون عنها، ويكفكفون عواطفهم الذاتية، فلا يكاد يتميز واحد منهم عن الآخر في السمات والميول؛ فالضرب الموضوعي يظهر متأخراً عن الضرب الذاتي في الآداب، ثم يبقى متخلفاً عنه عند اضمحلال الأدب، يبقى على حال من الضعف والتكلف والإبهام
ولما كان الضرب الذاتي من الأدب أسبق إلى الظهور في تاريخ الأدب، كان مقترناً بالشعر الذي هو أسبق إلى الظهور من النثر الفني فالأدب في عهوده لا يكاد يزد على أن يكون شعراً ذاتياً، فإذا دخل الأدب طوره المتحضر الفني ظهر فيه النثر وظهر الضرب الموضوعي في الشعر والنثر معاً، بيد أن الشعر يظل دائماً متعلقاً بالضرب الذاتي، بينما يستأثر النثر منذ نشأته بالجانب الأكبر من الأدب الموضوعي؛ فالشعر لما له من مزايا الموسيقى والخيال أقدر على التعبير عن الوجدانيات، والنثر لما له من مزايا الرحب والدقة والتحرر من قيود الوزن والقافية أقدر على تتبع الوصف لموضوع الإنشاء، والإسهاب في شرح دقيقه وجليله؛ فإذا جمع أديب بين الصناعتين رأيته يندفع اندفاعاً تلقائياً إلى النظم، إذا حفزته ثورة نفسية متدفقة، وينساق بداهة إلى النثر إذا أراد التأمل الهادئ والتوسع في الشرح والاستقصاء؛ على أن هذا ليس بمانع أن يحتوي النثر أحياناً على بدائع من آثار الضرب الذاتي، وأن يشتمل الشعر على لطائف من آثار الضرب الموضوعي
ولما كان الشعر أشبه بالضرب الذاتي من الأدب، والنثر أقرب إلى الموضوعي، كان الشعراء بطبيعتهم أدباء ذاتيين أو أنانيين كما قد يلقبهم بعض المنكرين عليهم، وكان الكتاب أدباء موضوعيين، يتناولون من مجالات القول ما لا يمس أنفسهم وشخصياتهم إلا قليلاً، بينما لا يكاد بعض الشعراء يخوض في غير شؤون نفسه، من طرب وشجن وغضب ورضى وحب وبغض، حتى تلوح دواوين بعضهم كأنها صخب مستمر مزعج، أو بكاء طفل مدلل وضحكه يتتابعان بلا انقطاع، والبكاء أظهرهما جلبة والسخط والنقمة والشكوى أبين أثراً، فإذا فرغ الشاعر من صخبه وثورانه جاء الكاتب من بعده هادئاً وقوراً، بصرف(195/29)
في شعره نظر الحكيم الخبير، ويحكم على شعره وخلقه وحياته وفهمه للدنيا حكم القاضي المتمكن، فلا يزال الشعراء يلوحون كأنهم فريق من المتهورين الأغرار، ولا يزال النقاد يظهرون في مسرح الراشدين الأكبر منهم سناً وخبرة بالأمور.
ولا يقتصر التفريق على الشعر والنثر في هذا الصدد، بل هناك أشكال من الأدب هي أصلح للذاتي وأخرى هي أوفق للموضوعي: فالقصة والترجمة والتاريخ والملحمة كلها ضروب موضوعية يتحدث فيها المنشئ عن غيره من رجال الحقيقة أو الخيال، ومن أبناء الحاضر أو الماضي، ويدرس حوادث لم يساهم فيها ولم يختص بها، وإن تكن لذاته في كل ذلك آثار تقل أو تكثر، والرسائل الإخوانية والمذكرات، والتراجم الشخصية والاعترافات وما جرى مجراها، كلها أشكال من الأدب ذاتية يخصصها الأديب لتحليل ذاته وعرض صور من حياته، وإن خالط ذلك شتى النظرات الموضوعية، أما المقالة فيتراوح حظها من كل من الضربين.
وكما تفترق أشكال الأدب وتتميز في هذا الصدد، كذلك تفترق وتتميز موضوعاته: فالوصف والمدح والهجاء والحكمة أقرب إلى الضرب الموضوعي من الفخر والحماسة والنسيب والشكوى، أما الرثاء فيجمع إلى وصف خلال المرثي وهو أمر موضوعي، وصف مشاعر الراثي وهي أشياء ذاتية؛ على أن مواضوعات الأدب هذه قلما ترد في أثر الأديب خالصة مستقلاً ذاتيها عن موضوعيها، بل يتمازج الضربان كما أن الأشكال الأدبية كثيراً ما تختلط، فيتصل بالأثر الأدبي الواحد الترجمة بالقصص مثلاً، ويمتزج الوصف بالنسيب، وتبدأ القصة أو القصيدة بوصف منظر وتنتهي بخواطر وجدانية، ومن ثم تمتزج الذاتية والموضوعية في أكثر الآثار الأدبية.
ومن التعسف تفضيل ضرب من الاثنين على الآخر: فللذاتي من آثار الأدب محاسنه، وللموضوعي مزاياه، كما أن الشعر لا يفضل النثر ولا الأخير يرجح الأول، بل لكل فضائله ومواقفه ودواعيه؛ فالعمل الأدبي الذي ترين عليه مسحة الذاتية يروع بحرارته وإخلاصه وصراحته، ويشوق بكشفه عن نفس صاحبه وتحديده لشخصيته، كما تحد خطوط المصور شكل الصورة وجوانبها، ويروع بقدرة صاحبه على التأمل في نفسه وتوضيح خلجاتها، والضرب الموضوعي يسر إذ يعكس في صفحة الفن ما نشهد ونحس في عالم(195/30)
المشاهدة والخبرة ويروع بقدرة الأديب المنشئ على الملاحظة والتقصي والتجرد من أهواء نفسه والتوفر على ما هو بصدده، لكل من الضربين مكانته وروعته ما اتفقت له صفتان: الصدق والعمق.
وكل من الأدبين العربي والإنجليزي حافل بآثار الذاتية والموضوعية في مختلف نواحيه) ترين هذه أو تلك على بعض آثاره أو تغلب على أدبائه، أو تظهر في بعض عصوره، أو تتجلى في أشكال منه وموضوعات دون أخرى، بيد أنه لاختلاف تاريخي الأمتين واختلاف ظهورهما في عصر الحضارة والثقافة، يحتل الطور الذي كان الأدب فيه ذاتياً عهداً مهماً من عهود تاريخ الأدب العربي قبل أن يظهر الضرب الموضوعي ويشيع في الأدب، على حين لم يتخلف في الأدب الإنجليزي من ذلك العهد شيء ذو بال، وإنما يبدأ تاريخ الأدب الإنجليزي الحديث من عهد اليزابث، والضربان الذاتي والموضوعي فرسا رهان في حلبته، بل كاد الضرب الموضوعي أن يستأثر بالصدارة في ذلك العصر.
ففي عهد الجاهلية وحقبة من الإسلام كان الأدب العربي - إذا استثني القرآن الكريم والحديث الشريف - أغلبه ذاتي الصبغة، وكان للشعر فيه المكانة العليا، وكان الشعراء دائبين يبدأون القول ويعيدونه فيما خالج أنفسهم من خواطر، أو مس حياتهم من قريب من حوادث، فامتلأ قصيدهم بالحماسة والنسيب والمنافرة والمهاجاة والفخر والتمدح بكريم السجايا، فلما توطدت الحضارة وشاعت الثقافة اتسعت جوانب الشعر وتعددت مجالاته، وظهر بجانبه النثر الفني، وتناول كلاهما موضوعي الشؤون بجانب ذاتيها، فكان من الفنون التي جدت في الشعر أو توسعت فيه الوصف المسهب والمدح المطنب، وتناول النثر رسائل الأمراء، كما جال الجاحظ والبديع وغيرهما في نواحي الحياة ومذاهب التفكير وأحوال الماضي وخصائص الأحياء وأخبار الأمم ووجوه النقد الأدبي، فغزرت في الأدب العربي منظومه ومنثوره في هذا الطور آثار الذاتية والموضوعية. يتحدث المتنبي مثلاً عن عظمته وفتوته ومطامحه وأشجانه، فيجيء شعره ذاتياً صادقاً رائعاً، ويمدح سيف الدولة أو سواه ويصف مآثره ومواقعه فيميل إلى الموضوعية؛ والأرجح أن الموضوعية كانت أظهر في هذا العصر، لرواج ضربين من القول موضوعيين عج بهما الأدب: عج الشعر بمدح الأمراء، وعج النثر برسائل الدواوين.(195/31)
ذانك هما الطوران الأولان من أطوار الأدب العربي من جهة الذاتية والموضوعية: الطور الأول هو عهد نشأة الأدب الذي كانت الذاتية فيه غالبة، والثاني طور نضج الأدب الذي فيه اجتمع الضربان؛ أما الطور الثالث هو عهد اضمحلال الأدب تدريجاً، وهو طور تغلب الضرب الموضوعي وتلاشى الضرب الذاتي تدريجاً: جمد الأدب على موضوعات خاصة اصطفاها الأدباء، في مقدمتها المدح والهجاء - وعدوها وحدها مجال الأدب وشغل الأديب، وطرقوها على أساليب خاصة يتنازعهم في ممارستها عاملان الحرص على تقليد الأقدمين، والرغبة في إظهار البراعة بالتلاعب بالألفاظ والمعاني، أما المشاعر الذاتية الصادقة، والخصائص النفسية المميزة، فاختفت من الأدب، وحتى في شرح عواطفه كان أديب ذلك الطور مقلداً، لا يشرح عواطفه إلا على نحو خاص قد جرى به العرف، وحض عليه النقاد، وبذلك جاءت الآثار الذاتية نفسها موضوعية عامة مبهمة
ومن أحسن أمثلة الضرب الذاتي الصريح في الطور الأول قول عنترة:
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل ... مر مذاقته كطعم العلقم
وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي، وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
ومن أمثلة أشعار الطور الثاني التي يمتزج فيها الذاتي والموضوعي قصيدة المتنبي التي يعاتب بها سيف الدولة) ومنها قوله:
مالي أكتم حباً قد برى جسدي ... وتدعي حب سيف الدولة الأمم
فوت العدو الذي يممته ظفر ... في طيه أسف في طيه نعم
صحبت في الفلوات الوحش منفرداً ... حتى تعجب مني القور والأكم
ومن أمثلة أدب الطور الثالث الذي طغت فيه الموضوعات المأثورة وطمست الشخصية الذاتية قول القائل:
وقفت بأطلال الأحبة سائلاً ... ودمعي يسقي ثم عهداً ومعهداً
ومن عجب أني أروي ديارهم ... وحظي منها حين أسألها الصدى
وكان للشعر المكانة الأولى في الأدب الإنجليزي في العصر الاليزابثي، وكان يتناول الضربين الذاتي والموضوعي من النظم، تختص بالأخير الروايات التمثيلية التي ازدهرت(195/32)
إذ ذاك ازدهاراً عظيماً، وتختص بالأول القصائد المرسلة طويلها وقصيرها؛ وفي القرن الثامن عشر هبط فاضمحلت فيه النزعة الذاتية، وأصبح أكثره موضوعياً مبهماً، واحتل مكانه النثر وشمل شتى النواحي الذاتية والموضوعية، ففي الأولى كتب كاولي وأديسون وستميل كثيراً من مقالاتهم، وفي الثانية كتب جيبون وبوزويل ورتشاردسون وديفو وآخرون لا يحصون كتبهم في التاريخ والترجمة والقصص والمغامرات. فلما كانت النهضة الرومانسية عادت للشعر أفضليته، وحفل بشتى الآثار الذاتية والموضوعية، بين وصف الطبيعة وسرد الخرافات الشائقة، ووصف تأثر النفس بهذه وتلك، وتمجيد الجمال وشرح أطوار الحب، ولم يزل الشعر والنثر منذ ذلك العهد فرسي رهان، يطرقان شتى المناحي بين ذاتيها وموضوعيها
بيد أن الذاتية مازالت منذ عهد شكسبير إلى العصر الحاضر تطغى على الموضوعية رويداً، وتستأثر شيئاً فشيئاً بالتفات الأدباء وتفوز بأشكال أدبية جديدة. ففي عهد شكسبير كان الروائي يحرك روايته حول أشخاص تاريخيين أو خرافيين بعيدين عنه بعداً كبيراً وفي القرن الثامن عشر عهد النثر الذهبي كان الأدباء يكتبون القصص يضمنونها من طرف خفي صوراً من حياتهم وجوانب من أنفسهم، فيكتب سمولت الأفاق قصة كونت فاثوم المغامر، ويكتب جولد سمث ابن القسيس قصة قس ويكفيلد التي ليست إلا حكاية عهد نشأته في أسرته، ثم يكتب تشارلز دكنز في القرن التالي قصة صباه في كتابه دافيد كوبر فيلد؛ ثم تزداد الذاتية بروزاً ويرفع الأدباء حجاب التخفي وينبذون الأسماء المستعارة، فيكتبون قصص نشأتهم ومذكرات رجولتهم وينشرونه رسائلهم وتراجمهم الشخصية، والأدب الإنجليزي المعاصر حافل بآثار هذه الذاتية السافرة
وقد امتازت بالذاتية الواضحة، أو الأنانية الأدبية، كثير من الأدباء الإنجليز، كانوا لا يملون التأمل في نفوسهم والتحدث عن ذواتهم صراحة أو تحت غشاء شفاف: فملتون يعرض لكوارثه وعماه ومبادئه السياسية والدينية والاجتماعية في ملاحمه الثلاث، ووردزورث يؤلف المطولات الشعرية في تصوير صباه وخواطره من طفولته إلى كهولته، وبيرون ينظم القصيدة تلو القصيدة ويصور البطل تلو البطل، ولا يزيد أن يتحدث عن نفسه وميوله وآرائه، وشلي يسمي نفسه (ارييل) باسم إله إغريقي، ويكتب عن نفسه تحت ذلك العنوان(195/33)
أشعاراً، وكل من هازلت ولام يصور تصويراً دقيقاً أميناً ما يحس عند خروجه للرياضة على الأقدام أو حين سماعه النواقيس تتجاوب مؤذنة بانتهاء العام أو نحو ذلك
ومن جهة أخرى نرى أدباء من أمثال جراي وكولردج ورسكن يستترون وراء حجاب من الوقار والتفكير الهادئ الشامل ويتحدثون مصورين أو قاصين أو ناقدين، عن غيرهم من رجال التاريخ والأساطير وأعلام الفن والأدب، فأكثر آثار هؤلاء موضوعية، وأكثر مؤلفات الأولين ذاتية؛ كما كان من الأدباء من أخذوا من كلا الضربين بنصيب وافر، ومن برزوا في مجالي الشعر والنثر، ومن أنهوا حياتهم الأدبية بإصدار تراجمهم الشخصية، ومن خلفوا في النقد آثاراً تباري آثارهم في النظم والإنشاء، أو تفوقها، مثل دريدن وماكولي وماثيو ارنولد
ويعد بعض المغالين تزايد هذه النزعة الذاتية في الأدب الإنجليزي علامة ضعف وانحلال، ولا شك أن غلبة أحد العنصرين الذاتي أو الموضوعي على الأدب من دلائل نقصه، وإنما يكون رقيه مقترناً برقي العنصرين فيه معاً. يدل ما فيه من آثار الذاتية على صدق الشعور وعمق التأمل وتميز الشخصيات. ويدل ما فيه من آثار الموضوعية على شمول النظرة واتساع أفق التفكير وتناول الأدب لمختلف نواحي الحياة؟
فخري أبو السعود(195/34)
من مشاكلنا الحاضرة
سؤال. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
كنت أسمع من أبي والأشياخ من أهلي أه كان في بلدنا - فيما كان فيها من أوقاف كثيرة - وقف على المشتغلين بالعلم والمنقطعين إليه، يفتحون لهم بريعه المدارس الواسعة، ويعدون لهم الغرف المفروشة، ويهيئون لهم فيها المكتبات القيمة، ويقيمون لهم الخدم ويقدمون إليهم كل ما يحتاجون إليه من طعام وشراب وحلية ومتاع، ويفرغون قلوبهم من كل هم إلا هم الدرس والبحث، فكان الناس يرغبون في العلم، ويقبلون عليه ويبرزون فيه. .
. . . ثم ذهب ذلك كله بذهاب أهله، وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الأوقاف، وأكلوا أموالها، فتهدمت هذه المدارس، وأمست خرائب وأطلالاً، ثم سرقها الناس فحولوها بيوتاً، وطمسوا آثارها. . .
فأعرض الناس عن العلم وزهدوا فيه، فقلنا: لا بأس، إنها قد تتحول تلك الدارس إلى دور عجزة، وقد تصير أحياناً ملجأ كسالى، ومأوى عاطلين، وعندنا المدارس الجديدة، تسير على منهج مقرر، ونظام معروف، وطريق واضح، فما نحن إلا كمن أضاع درهماً ووجد ديناراً. وأقبلنا على هذه المدارس، إقبال العطاشى على المنهل الصافي. ومنينا أنفسنا بكل جليل وجميل ولكنا لم نلبث أن خرجنا منها. وواجهنا الحياة حتى علمنا بأنها لم تقم بما كان يرجى منها ويجب عليها. . . ووجدنا أننا لا نصلح في هذه الحياة إلا لشيء واحد، هو (الوظيفة)؛ أما العمل الحر، والمغامرة في الحياة فنحن أبعد ما يكون امرؤ عنه؛ ووجدنا سبيل الوظيفة مسدوداً وكراسيها مملوءة؛ وكيف لا تكون كذلك وكل الناس يسعى إليها ويريدها؟ هل يكون أبناء الشعب كلهم موظفين؟ فكنا واحداً من رجلين: إما الغني الموسر فعاش بمال أبيه. وأقام منه سوراً حوله. فلا يرى الحياة، ولا تصل إليه بآلامها ومصائبها. وأما الفقير فيتخبط في لجة اليم: يم الحياة تضربه بأمواجها، فلا ينجو من لطمة إلا إلى لطمة، ولا يخلص من شقاء إلا إلى شقاء
وقد يكون في هؤلاء الفقراء موهوبين، وقد يكون فيهم ذوو الملكات، وفيهم من إذا استراح من هم العيش واشتغل بالعلم برز فيه وبرع، ونفع أمته ووطنه وخلف للأجيال الآتية تراثاً(195/35)
علمياً فخماً كالذي خلفه لنا الأجداد. . . فماذا يعمل هؤلاء؟ ومن أين لهم العقل الذي يدرسون به، والهمة التي يؤلفون بها، وعقولهم ضائعة في البحث عما يملأ معدهم الجائعة، ويستر أجسادهم العارية، وهممهم مصروفة إلى ضمان الكفاف، والحصول على ما يتبلغون به؟
لقد قال الشافعي رحمه الله منذ الزمن الأطول: لو كلفت شراء بصلة، ما تعلمت مسألة. . . فكيف يتعلم ويدرس ويؤلف من يكلف شراء الرغيف، وشراء ثمن الرغيف؟
إني أعرف كثيرين ممن يؤمل لهم أن يبرعوا في الأدب، ويتفوفوا في العلم. قدر الله عليهم الفقر والإفلاس، وعلق بأعناقهم أسراً عليهم إعالتها، والسعي في إعاشتها، فألقوا القلم والقرطاس، ورموا الدفتر والكتاب، وخرجوا يفتشون عن عمل. . . يطلبون وظيفة؛ غير ان الطريق إلى الوظيفة وعر ملتو طويل، لا يقدر على سلوكه، ولا يبلغ غايته، إلا من حمل معه تميمة من ورق (البنكنوت) يحرقها أمام أبواب الرؤساء لتخرج شياطينها فتفتح له الباب. أو صحب معه (الشفيع العريان) وأين من هذين الشاب النابغ المفلس الشريف؟ ثم إنه إذا بلغ الوظيفة وجدها لا تصلح له ولا يصلح لها، وضاقت به وضاق بها!
أعرف كثيرين من هؤلاء يظهرون فجأة كتاباً مجددين، وشعراء محسنين، وعلماء باحثين. فما هي إلا أن تنزل بهم الحاجة وتنيخ عليهم (هموم الخبز) حتى تقطعهم عما هم فيه، ثم تذوي ملكاتهم وتجفف قرائحهم وتتركهم يموتون على مهل، ويموت بموتهم النبوغ، وأرباب الأقلام وأصحاب الصحف يشهدون مصارعهم في صمت وإعراض، لا يهتمون بهم، ولا يظنون أن عليهم واجباً تلقاءهم، حتى إذا قضوا قاموا يطنطنون بذكرهم ويشيدون بمواهبهم، ويركبون على قبورهم ليقولوا للناس: انظروا إلينا. . .
هذه هي علة الشرق.
إني عهدتك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي
ورحم الله القاضي عبد الوهاب المالكي، خرج من بغداد فخرج لوداعه عشرون ألفاً، يبكون وينتحبون فقال لهم: يا أهل بغداد، والله ما فارقتكم عن قلى ووالله لو وجدت عندكم عشاء ليلة ما فارقتكم، وهم يبكون وينتحبون ويصرخون: إنه يعز علينا فراقك، إننا نفديك بأرواحنا، يا شوقنا إليك! يا مصيبتنا بفقدك. . .!(195/36)
هذه هي المسألة. . . أفليس هناك طريقة لإنقاذ الدماغ من المعدة؟ لإنصاف العلم من المال، لحماية النبوغ من الضياع؟
من يشتغل بالعلم والدرس والكتابة والتأليف إذا كان لفقراء لا يطيقونه، والأغنياء لا يحسونه أكان لزاماً على من يشتغل بذلك أن يموت من الجوع؟ ألا يستحق هذا المسكين بطريقة من الطرق، بقانون من القوانين، عشرين ديناراً، يأخذها موظف جاهل خامل بليد. لا يحسن شيئاً إلا النفاق والالتماسات والوساطات، ولا ينفع الأمة معشار ما ينفعها هذا الذي يذيب دماغه، ويحرق نفسه، ويعمي بصره، وينفق حياته في النظر في الكتب، والخط بالقلم؟
أما في ميزانية الدولة، أما في صندوق الجمعية، أما في مال الجريدة، ما تشترى به آثار هذا الكاتب، وأشعار هذا الشاعر، وبحوث هذا العالم، بالثمن الذي يعدل ما بذل فيها، ليعيش فيصنع غيرها
هذه هي المسألة!
هل يجب أن يموت النابغ لأنه نابغ، ويعيش الأغبياء والجاهلون؟ أم يجب عليه أن يميت نبوغه ليعيش، ويبيع عقله وذكاءه برغيف من الخبز؟
(بغداد)
علي الطنطاوي(195/37)
الأقلام العربية في المهاجر الأمريكية
للأستاذ يوسف البعيني
لا يجهل أحد في مصر وسائر الأقطار العربية تلك النهضة الفكرية الأدبية التي يقوم بها فريق من خيرة كتابنا وراء البحار، فهنالك خطباء وشعراء وكتاب من الطراز الأول يعززون القومية العربية، ويغذون الجاليات بثقافتها وتاريخها وآدابها.
ولدي رسائل عدة من صفوة الكتاب هنالك يحمدون فيها (للرسالة) دعوتها، ويباهون بنهضتها، ويرونها بحق كتاب الشرق الجديد وديوان العرب المشترك.
ومن هؤلاء الكتاب المعجبين بالرسالة عبقري مجدد ملك آداب الفرنجة فاجتذبها إلى بيانه العربي في حين تخطف هذه الآداب عدداً كبيراً من الناشئة حتى في عقر دارنا.
وهذا العبقري هو الأستاذ يوسف البعيني الذي لا تخلو جريدة أو مجلة عربية في شمالي أميركا وجنوبها من بدائعه، وقد رأى أن يرسل إلي القطعة الآتية لتنشر في الرسالة فاتحة لما سيتبعها من رسائل لإخوان لنا وراء البحار من حقهم أن تخصص لهم صفحة في ديوان العرب المشترك.
والى القراء هذه القطعة الرائعة
ف. ف.
حب وغرام
في كتب الحب وقصص الغرام مقاطع مشربة بالعهود، وصفحات مبطنة بالوفاء. فعندما يصغي الشاعر الحساس إلى رنين ألفاظها وهمس معانيها تطفو عليه موجة مترعة باليأس والحنين. وكثيراً ما يشاهد في قرارتها أحلامه المبعثرة بين فجر الماضي ومسائه
ومن يتفهم مرامي تلك الصفحات الغرامية يعلم أن كاتبيها وضعوها لتكون رمزاً إلى العهود على مدى الليالي والأيام. . . وأروع ما في الحياة عندي هي العهود. . أجل العهود التي تعطينا صوراً جلية عن أسرار القلوب وخفايا الأرواح
فإن أكثر الحفارين عندما أرادوا أن يرسموا المثل الأعلى في الحب لم يجدوه إلا في العهود. . . وهكذا أدرك الشعراء أيضاً أن أجمل ما في الشعر صفحة غرامية تعبر عن(195/38)
الوفاء. . . ومتاحف العالم اليوم طافحة بدمى الحفارين. كما أن قصص الشعراء زاخرة بأخبار الحب والغرام. وفي اعتقادي أن الشاعر في صفحاته، والحفار في دماه، إنما كانت بغيتهما تخليد العهود!!
ولكن هل في الحياة حب مغموس بالوفاء، وغرام منحوت من العهود؟ أم هما موجودان فحسب في أحلام الشعراء ودمى الحفارين؟ من يدري. . . وكل ما أعمله هو شاذ عن أفهام الناس وعن أذواقهم
أنا لا أريد أن أبحث عن صحة تلك الأحلام وعن خطأها، ولا أبتغي البحث عن جمال تلك الدمى وعن عللها؛ وإنما أريد أن أتحدث عما فيها من حب وغرام. وهما أقرب إلى العهود منهما إلى شيء آخر
فلقد قرأت في الكتاب الشعري الأنيق - تهاليل الفجر - الذي أخرجه الكاتب المجدد (بيير لويس) موضوعاً شيقاً عن رسائل الراقصة الروسية الساحرة - إيذادورا دونكان - التي كانت ترسلها إلى حبيبها التعس (إيفان بارشوف) عندما بلغها خبر مرضه وأنه يلهج باسمها فوق سرير آلامه. وإني لمورد في ما يلي هاتين الرسالتين المشبعتين بغرام الراقصة الجميلة وحبها المفعم بالوفاء
- 1 -
أيها الحبيب!
إن زهرة مخدعي التي أبقيت على أوراقها ذكراً يهولني مرآها الشاحب الحزين. . . والسراج الأحمر الذي كنت ألمح في نظراته بهجة وإغراء فيما مضى يروعني الآن منه نوره الواجم الضئيل. . . والبلبل الغريد الذي كان ينبّهني إلى اجتناء اللذات يشجوني نفوره المبهم، وصمته العميق!!
إن روحي تريد أن تستهدي إلى قرارها في ليل شوقها وحنينها فيصدها العذاب. . . عذاب فراقك الطويل الذي أورثني ملة خرساء كسكينة القبور
لقد علمت أنك تقاسي من أجلي آلاماً مبرحة. . . فهل عرفت أيها الحبيب أن في قلبي المعذب شجواً محنظلاً أمر من الموت؟
أحياناً. . . تهفو على مخيلتي أحلام ملولة مزعجة. . . أحلام سوداء مخيفة! فأحجب وجهي(195/39)
بكلتا يدي وأغيب في غمرة موجعة متمنية بعدها المنية لأنه لا قدرة لي على استماع أناتك وشكاواك!
أضرع إلى الله أن يرحمني بشفائك. وثق أني سأبقى سجينة مخدعي بعيدة عن خلوات أحلامي متجردة من سروري وابتسامي، هاجرة شعاع القمر الشاهد على أويقات حبنا وغرامنا حتى تعود إلى ذراعي حبيبتك
(إذادورا)
- 2 -
يا معبودي الجميل!
الآن وقد أرخى الليل سدوله على البسيطة مغلقاً بأنامله الناعمة أجفان النيام، تمر بي أشباح خفية هامسة في مسامعي اسم ذلك الحبيب الذي أجرى في أودية قلبي جدولاً لا ينقطع خريره، وغرس في حديقة روحي زهرة معطرة لا تموت.
وعلى هذا النغم الشجي المؤثر الذي تلحنه الظلمة فيردده الدجى باكياً ملتاعاً، أسمع نعيباً منذراً بمأساة مرعبة فأمسي كورقة تهب عليها الرياح السافيات.
لقد مات بيننا الحبيب صباح اليوم! مات ضمن قفصه وهو ينظر إلى الأعالي كأنه يرى بين الغيوم خيالاً عجيباً. فبكيته طويلاً وقلت في نفسي هل مات حبنا المقدس بموت هذا الطائر الصغير!
إن نفسي تنفحها الآن نار متلظية، نار محرقة تضرمها أيد مجهولة؛ فمتى تتحول هذه النفس إلى رماد هامد لا يحس؟ إن النفس التي تحس لهي شقية، إذ تحيا هائمة وراء أحلامها الشاردة. ولن أشعر بالراحة إلا عندما تغمرني بقبلاتك الطائشة
(إيذادورا)
وأذكر أنن عندما قرأت هذه الرسائل - وكلها مطلية بالحب والغرام - استولت علي كآبة خرساء بلا معنى، وأية روح مهما بلغ فهمها لفلسفة الحب لا تشعر بسلطان خفي مجنح يستأثر بها ويحملها إلى أمكنة نائية لا تنطق فيها إلا العهود، ولا يتمايل في أجوائها غير الوفاء(195/40)
إن هذه القبلة الطافية فوق ألفاظ العاشقة الوالهة، وهذا التوق الملح النابض بأسرار قلبها، وهذا الإيمان الثابت القاطن أعشاش صدرها. . . إن كل ذلك هل تحافظ عليه دون خداع في الحب؛ ولنفرض أن حبيبها حجبه الموت بعد حين فهل تبقى وفية له طول أيامها؟
لقد مات - إيفان بارشوف - بعد كتالة هذه الرسائل بثلاثة أسابيع. فلا أذكر إذا كانت الراقصة المغرمة قد تفجعت عليه تفجعها في رسائلها إليه. ولكني أعلم أنها نسيته سريعاً
فإنها لم تبكه بدمعة
ولم تنثر على ضريحه زهرة ولم تذكره بكلمة. . .
ولم تتلهف على أيامه الماضية
بل كانت، بل أن يجف قبره، تعانق حبيباً جديداً لتنسى في دعابه ومزاحه ذلك العاشق المسكين الذي أسكنه الدهر تلك الحفرة الضيقة الباردة ليقضي فيها زمناً مجهولاً غير عالم بما يجري في هذا الوجود
فالوفاء والعهود كلمتان نجدهما في كتب الشعراء وتماثيل الحفارين. أما في هذا العالم فلسنا نجد إلا حباً كاذباً وغراماً سريع الزوال يعقبه دائماً نسيان أبدي على أثر محو القبلة التي تتبادلها الشفاه!
وهناك حب سريع الزوال، فهو وإن مازجته الدموع وأفعمته التنهدات، تمحوه الحياة كما يمحو شعاع الشمس لهاث الطفل العالق على لوح من زجاج
في أواسط الجيل الماضي تحدث الناس عاماً كاملاً عن قصة غرامية جرت حوادثها بين الغادة الحسناء (المدموازيل إلسيت) وبين الشاعر الجميل - شارل هيكو. والذي عجب له الناس كثيراً هو هيام الحسناء بالشاعر الصغير وتفضيلها إياه على كبار رجال باريس الذين غمروها بالذهب والحلي وأحاطوها بكل أسباب الترف والأبهة والكبرياء
وقد أبقى العاشقان رواية يطرب استماعها، ويشوق موضوعها. فإن الحسناء كانت كلفة كثيراً بالشاعر إلى درجة أنها لم تكن تقوى فيها على فراقه ساعة واحدة وفي ذات يوم كحم على العاشق الفتى أن يبرح باريس شهراً على الأقل فلما عاد إلى ذراعيها صدته عنها بحجة أن قبعته المعجب بها ليست ظريفة. وإن الأشعار التي ينشدها إياها مختلسة من دفتر صغير أسود الغلاف يقبع دائماً تحت وسادة والده الشاعر الكبير فيكتور هيكو(195/41)
وهذه الحجة الساخرة بما فيها من ضراوة المرأة المستهترة كثيراً ما تتمثل في الحياة. ولا أشك في أن القراء يجهلون تلك القصة الدامية التي تركها الشاعر الإلهي الساحر - دي موسيه - مع جورج ساند وكيف عبثت بقلبه الرقيق لتتعلق بطبيب إيطالي لأنه لا يهمهم في الظلمة. . . ولا يحب الخمرة. . . مثل موسيه!
لقد يطول بي الحديث إذا أنا مررت بكل ما هنالك من شؤون وعبر. ولكنني مكتف الآن بإيراد لمحة وجيزة عن غرام الشاعر المشهور - شارل بودلير - مع حبيبته المعبودة - جان ديفال - التي ألهمته أشجى أشعار الحب والجمال في كتابه الخالد (أزاهير الشر) وهذه الحبيبة التي عشقها طول حياته كانت سوداء!!
وأعتقد أن الشعراء الساخرين ليضحكون من هيام الشاعر اللطيف بامرأة سوداء. نعم قد يضحكون. . ولكنه الغرام. . . الغرام القاهر الذي يستحوذ على القلب الضعيف فيقيده بالسلاسل ويغله بالأصفاد
وعلى الرغم من شغف الشاعر، ولهفة روحه، وثابت وفائه، فقد خدعته حبيبته الماكرة بعد أن نحت لها من غرامه تمثالاً ومن حبه محراباً للعبادة. ولكن هذا الخداع في الغرام. وهذه الخيانة في الحب أغنيا الأدب الفرنسي لأنهما أفاضا دموع الشاعر وأوقدا نار وجده وحنينه!
أنا لا أريد أن أشجب الحب، وأن أهجو الغرام. كلا ما إلى هذا أذهب. . بل أريد إثبات أنهما موجودان وحسب في كتب الشعراء وتماثيل الحفارين. والشاعر والحفار لا يصوران غالباً إلا كل ما سما في فضاء الأحلام وما تمدد على سرير الشعور والإحساس
الرجل الذي يعتقد خلود الغرام ووفاء الحب هو رجل مسكين يستحق الشفقة. . . إذ لا قبلة يبقى طعمها على الشفاه، ولا وعود تظل محفوظة، ولا ذكرى تحيا في القلوب
وجل ما هنالك حب كاذب وغرام خادع شبيهان بالخطوط التي ترسمها الأمواج على رمال الشاطئ فإذا لم تمحها العاصفة لا تلبث الأمواج أن تمحوها. فالحب الذي لا تبدده الحياة يبدد نفسه بنفسه، والغرام الذي لا يبعثره الموت يبعثر ذاته بذاته
هما حلم يراود الروح في المنام، ولكن اليقظة تشتته ولا تترك منه إلا أثراً دامياً يحنظل الأماني، ويشقي الآمال(195/42)
(البرازيل)
يوسف البعيني(195/43)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
في الجزر السعيدة
ها إن التين يتساقط عن أشجاره عطر النكهة حلو المذاق وقشوره الحمراء تتشقق بسقوطها، وأنا هو ريح الشمال يهب على هذه الأثمار الناضجة. إن تعاليمي تتساقط إليكم أيها الصحاب كمثل هذه الأثمار فتذوقوها الآن عند ظهيرة من أيام الخريف وقد صفت فوقكم السماء.
سرحوا أبصاركم فيما حولكم من خيرات الأرض ثم مدوا بها إلى آفاق البحر البعيد فليس أجمل لمن فاض رزقه من أن يتطلع إلى الأبعاد
لقد كان الناس يتلفظون باسم الله عندما كانوا يسرحون أبصارهم على شاسعات البحار، أما الآن فقد تعلمتم الهتاف باسم الإنسان الكامل
إن الله افتراض وأنا أريد ألا يذهب بكم الافتراض إلى أبعد مما تفترض إرادتكم المبدعة
أفتستطيعون أن تخلقوا إلهاً؟ إذن أقلعوا عن ذكر الآلهة جميعاً، فليس لكم إلا إيجاد الإنسان الكامل
ولعلكم لن تكونوا بنفسكم هذا الإنسان الكامل ولكن في وسعكم أن تصبحوا آباء وأجداداً له. فليكن هذا التحول خير ما تعملون
إن الله افتراض وأنا أريد ألا يتجاوز بكم الافتراض حدود التصور، فهل تستطيعون أن تتصوروا إلهاً؟ فاعرفوا من هذا أن واجبكم هو طلب الحقيقة فلا تطمحوا إلى ما يبلغه تصور الإنسان وبصره وحسه، فأمسكوا بتصوركم كيلا يتجاوز حدود حواسكم
يتحتم عليكم أن تبدأوا بخلق ما كنتم تسمونه عالماً من قبل فيتكون عالمكم من تفكيركم وتصوركم وإرادتكم ومحبتكم وعندئذ تبلغون السعادة يا من تطلبون المعرفة. وكيف تطيقون الحياة إذا لم يكن لكم هذا الرجاء؟
على من يطلب المعرفة ألا يتورط في ما يرده العقل من المعميات(195/44)
لسوف أفتح لكم قلبي فلا تخفى عنكم خافية فيه، فأقول لكم: لو كان هنالك أرباب أكنت أتحمل ألا أكون رباً؟ إذن ليس في الكون أرباب
لقد استخرجت لذاتي هذه النتيجة، وها هي تستخرجني الآن
إن الله افتراض ولكن من له بتحمل كل ما يضمر هذا الافتراض من اضطراب دون أن يلاقي الفناء؟ أتريدون أن تأخذوا من الخالق إيمانه ومن النسر تحليقه في أجواز الفضاء؟
إن الله عبارة عن إيمان ينكسر به كل خط مستقيم ويميد عنده كل قائم، فالزمان لدى المؤمن وهم، وكل فان في عينيه بطل وخداع، فهل مثل هذه الأفكار إلا أعاصير تتطاير فيها عظام البشر وتورث الدوار لشاهدها؟ تلك افتراضات يدور المبتلى بها على نفسه كالرحى حتى يموت
أفليس من الشر والافتيات على الإنسانية كل هذه التعاليم تقيم الواحد المطلق الذي لا يناله تحول ولا تغيير؟
إن الرموز وحدها لا تتغير، وطالما كذب الشعراء، غير أن خير ما يضرب من الأمثال ما يصور الحاضر وآتي الزمان فتأتي حجة لكل زائل لا نقضاً له
ليس في غير الإبداع ما ينقذ من الأوجاع ويخفف أثقال الحياة، غير أن ولادة المبدع تستدعي تحولات كثيرة وتستلزم كثيراً من الآلام
أيها المبدعون ستكون حياتكم مليئة بمرير الميتات لتصبحوا مدافعين عن جميع ما يزول
على المبدع إذا شاء أن يكون هو بنفسه طفل الولادة الجديدة أن يتذرع بعزم المرأة التي تلد فيتحمل أوجاع مخاضها
لقد اخترقت لي طريقاً في ميتات النفوس والأسرة وأوجاع المخاض غير أنني كثيراً ما نكصت على أعقابي لأنني أعرف ما تقطع الساعات الأخيرة من نياط القلوب.
ولكن ذلك ما تطمح إرادتي المبدعة إليه، وبتعبير أشد صراحة ذلك هو المقصد الذي تريده إرادتي
إن جميع ما في من شعور يتألم مقيداً سجيناً وليس غير إرادتي من بشير يؤذن بالمسرة، ويأتي بالإفراج عن الشعور
إن الإرادة وحدها تتحرر، وما بغير هذه الآية من شرعة صحيحة للإرادة وللحرية، على(195/45)
هذا تقوم تعاليم زارا
بعداً وسحقاً لكل وهن وملال يشل الإرادة ويوقف كل تقدير وإبداع
إن طالب المعرفة يشعر بلذة الإرادة والإيجاد وبلذة استحالة الذات إلى ما تحس به في أعماقها، فإذا انطوى ضميري على الصفاء فما ذلك إلا لاستقرار إرادة الإيجاد فيه. وهذه الإرادة هي ما أهاب بي للابتعاد عن الله وعن الآلهة، إذ لو كان هنالك آلهة لما بقي شيء يمكن خلقه
إن طموح إرادتي إلى الإيجاد يدفعني أبداً نحو الناس اندفاع المطرقة فوق الحجر
أيها الناس إنني ألمح في الحجر تمثالاً كامناً هو مثال الأمثلة أفيجدر أن يبقى ثاوياً في أشد الصخور صلابة وقبحاً
إن مطرقتي تهوي بضرباتها القاسية على هذا السجن فأرى حجره يتناثر
أريد أن أكمل هذا التمثال، إن طيفاً زارني وألطف الكائنات وأعمقها سكوتاً قد اقتربت مني
لقد تجلى بهاء الإنسان الكامل لعيني في هذا الخيال الطارق فما لي وللآلهة بعد:
هكذا تكلم زارا
الرحماء
لقد، بلغني، أيها الصاحب قول الناس: (أفما ترون زارا يمر بنا كأنه يمر بين قطيع من الحيوانات)
وكأن أولى بهم أن يقولوا: إن من يطلب المعرفة يمر بالناس مروره بالحيوانات
إن طالب المعرفة يرى الإنسان حيواناً له وجنتان حمراوان ولم يراه هكذا؟ أفليس لأنه كثيراً ما علته حمرة الخجل؟
هذا ما يقوله طالب المعرفة أيها الصحاب: - إن تاريخ الإنسان عار في عار
ولذلك يفرض الرجل النبيل على نفسه ألا يلحق إهانة بأحد لأنه يستحي جميع المتألمين
إنني والحق أكره الرحماء الذين يطلبون الغبطة في رحمتهم، فإذا ما قضي علي بأن أرحم تمنيت أن تجهل رحمتي وألا أبذلها إلا عن كثب. أحب أن أستر وجهي حين إشفاقي وأن أسارع إلى الهرب دون أن أعرف. فتمثلوا بي أيها الصحاب
ليت حظي يسوقني أبداً حيث ألتقي بأمثالكم رجال لا يتألمون وفي طاقتهم أن يشاركوني(195/46)
آمالي وولائمي وملذاتي
لقد قمت بأعمال كثيرة في سبيل المتألمين ولكن كنت أرى أن الأفضل من هذا زيادة معرفتي في تمتعي بسروري. فإن الإنسان لم يسر إلا قليلاً منذ وجوده وما من خطيئة حقيقية إلا هذه الخطيئة
إذا نحن تعلمنا كيف نزيد في مسرتنا فإننا نفقد معرفتنا بالإساءة إلى سوانا وباختراع ما يسبب الآلام
ذلك ما يدعوني إلى غسل يدي إذا أنا مددتها لمتألم، بل وإلى تطهير روحي أيضاً، لأنني أخجل لخجله وتؤلمني مشاهدتي لآلامه ولأنني جرحت معزة نفسه بلا رحمة عندما مددت له يدي
إن عظيم الإحسان لا يولد الامتنان بل يدعو إلى إخماد الحقد، وإذا تغلب تافه الإحسان على النسيان فإنه يصبح دوداً ناهشاً
لا تقبلوا شيئاً دون احتراس، وحكموا تمييزكم عندما تأخذون ذلك ما أشير به على من ليس لهم ما يبذلونه للناس
أما أنا فممن يبذلون العطاء وأحب أن أعطي الأصدقاء كصديق؛ أما الأبعدون فليتقدموا من أنفسهم لاقتطاف الأثمار من دوحتي فليس في إقدامهم على الأخذ ما في قبولهم العطاء من مهانة لكرامتهم
غير أنه من اللازب أن يقطع دابر المتسولين لأن في الجود عليهم من الكدر ما يوازي كدر انتهارهم وحرمانهم
وكذلك هو حال الخطاة وأهل الضمائر المضللة فإن تبكيت الضمير يحفز الإنسان إلى النهش وإيقاع الأذى
وشر من كل هذا الأفكار الحقيرة وخير للإنسان أن يسيء عملاً من أن تستولي المسكنة على تفكيره
إنكم تقولون (إن في التفكير الملتوي كثيراً من الاقتصاد في شر الأعمال) وما يستحسن الاقتصاد في مثل هذا
إن لشر العمل أكلاناً والتهاباً وطفحاً كالقروح، فهو حر وصريح لأنه يعلن نفسه داء كما(195/47)
تعلن القروح، في حين أن الفكرة الدنيئة تختفي كالنواحي الفطر وتظل منتشرة حتى تودي بالجسم كله، ومع هذا فإنني أسر في أذن من تملكه الوسواس الخناس: (إن من الخير أن تدع الوسواس يتعاظم فيك لأن أمامك أنت أيضاً سبيلاً يوصلك إلى الاعتلاء)
مما يؤسف له أن يكون جهل بعض الشيء خيراً من إدراك كله؛ غير أن من الناس من يشف حتى تبدو بواطنه، ولكن ذلك لا يبرر طموحنا إلى استكناه مقاصده. ومن الصعب أن نعيش مع الناس مادمنا نستصعب السكوت
إن ظلمنا لا ينزل بمن تنفر منه أذواقنا بل يسقط على من لا يعنينا أمره.
وبالرغم من هذا، إذا كان لك صديق يتألم فكن ملجأ لآلامه ولكن لا تبسط له فراشاً وثيراً بل فراشاً خشناً كالذي يتوسده المحاربون وإلا فما أنت مجديه نفعاً
وإذا أساء إليك صديق فقل له: إنني اغتفر لك جنايتك علي ولكن هل يسعني أن أغفر لك ما جنيته على نفسك بما فعلت؟
هكذا يتكلم عظيم الحب، لأنه يتعالى حتى عن المغفرة والإشفاق علينا أن نكبح جماح قلوبنا كيلا تجر عقولنا معها إلى الضلال.
أين تجلى الجنون في الأرض بأشد مما تجلى بين المشفقين؟ بل أي ضرر لحق بالناس أشد من الضرر الناشئ عن جنون الرحماء؟
ويل لكل محب ليس في محبته ربوة لا يبلغها إشفاقهم قال لي الشيطان يوماً: إن للرب جحيماً هو جحيم محبته للناس
وقد سمعت هذا الشيطان يقول أخيراً: لقد مات الإله وما أماته غير رحمته
احترسوا من الرحمة لأنها لن تلبث حتى تعقد فوق الإنسان غماماً متلبداً: وما أنا بجاهل ما تنذر به الأيام
احفظوا هذه الكلمة أيضاً: - إن المحبة العظمى تتعامى عن رحمتها فإن لها هدفها الأسمى وهو خلق من تحب
- إنني أقف نفسي على حبي، وكذلك يفعل أمثالي: هذا ما يقوله كل مبدع، والمبدعون قساة القلوب.
هكذا تكلم زارا. . .(195/48)
فليكس فارس(195/49)
في طريق الوحدة
(محرم) بين السنة والشيعة. . .
للأستاذ حسين مروة
أما أن اليقظة الإسلامية قد غمرت دنيا المسلمين على رحبها - فهو مما لا ريب فيه، وأما أن المصلحين من مختلف الأقوام الإسلامية قد خطوا هذا العام المنصرم إلى الوحدة والتقريب بين القلوب خطوة واسعة مباركة - فهو مما لا يخامرنا فيه أدنى هاجس من الشك، ولسنا اليوم بصدد التدليل على هذا كله، ولسنا كذلك نحاول أن نذهب في تصوير الأمر مذهباً يغشى على الحقيقة فنجني الجناية الكبرى على هذا الأمل المشرق الذي نمشي على هداه إلى المثل الكريم الأعلى الذي ننشده
لقد عمل المصلحون في الآونة الأخيرة كثيراً، واستطاعوا أن ينشئوا خلقاً جديداً في المسلمين، خلقاً يقول، إن حوادث التاريخ إذا استحال أن يتغير مجراها فتنقلب عما وقعت عليه فليس من المستحيل أن نغير نحن مجرى أهوائنا المتدافعة، ونقلب هذه الأفكار السائدة علاقات أهل القران رأساً على عقب أو نستبدل بها خيراً منها، فإذا نحن أمة متكتلة تظلها راية الله العليا، تلك راية الإسلام الحنيف، ولكن هنالك خلفاً آخر في المسلمين لما يزل من خلق الأيام الغابرة السوداء، الأيام التي أخذ الناس فيها بالجانب البغيض من صفحتي التاريخ الإسلامي، وأعرضوا عن الجانب الحبيب الأغر اللامع، وهذا الخلق في المسلمين - وهو كثير وآ أسفاه - يجب على المصلحين أن يرحموه، أن يشفقوا على ذهنيته الضيقة الساذجة فلا يوقرونها بما لا تطيق احتماله وهي على هذا الضيق بفهم الأمور، وأن يأخذوا بيده إلى مشارق النور بهوادة ورفق حتى يلمس الحق هو بنفسه، وأن يتملقوا أحاسيسه المختولة المخمورة بأغنيات التعصب - وناهيك بالتعصب ضارباً على وتر الأحاسيس الواهنة - ولا يحسبن القارئ الكريم أنني أدعو إلى اتباع العامة ومجاراة أهواء الدهماء ونزعاتها الهوجاء، فأنا - شهد الله - من أشد الناس نقمة على جماعة العلماء الذين يتملقون السواد، ويهابون اندفاعات الجماهير، ويسترون - من أجل ذلك - الحق خشية من غضب هؤلاء عليهم، فيقطعون معايشهم ويحطمون عروش أمجادهم، ويؤثرون عرض الحياة الدنيا على أن ينطقوا بكلمة الصدق ويقيموا شعائر الحق. غير أني - على ذلك - أخشى هذا(195/50)
الفريق من رجال السوء الذين يستغلون ذهنية الجماهير لأنفسهم ويسخرونها لأهوائهم، فإذا ما تناسى المصلحون شأن الدهماء، وإذا ما أغمضوا أعينهم عما في نفوسها من حقير العواطف وفي عقولها من ساذج الإدراك، فقد يقوم هذا النفر المستغل يدعو بالويل والثبور، ويرفع عقيرته البغيضة نافخاً في الجماهير روح الفرقة، عاملاً على صدع الصف، ضارباً بآمال المصلحين عرض الأفق فتصبح الآمال الحية أشلاء أباديد، فيجب على القائمين اليوم بأمر الإصلاح - والحال هذه - أن يقيموا الأوزان للجواهر قبل الاعراض، وأن يحفلوا باللباب دون القشور، وأما الأعراض وأما القشور فليس من ضير علينا أن ندع للذين يحفلون بهما أمر ما يحفلون به حتى يتبين لهم أن العرض عرض فينبذونه، وأن القشر قشر فيطرحونه؛ وليس من ضير علينا أن نستكفف شر ذلك النفر العائش على تمليق العامة بأن نحسم بعض القضايا التي يتخذها القوم هؤلاء مطية للغرض الأدنى، ووسيلة لإثارة النعرات المفرقة، وهيج العواطف الحانقة.
وفي طليعة هذه القضايا التي يطل رأسها اليوم - ورجالنا المصلحون يجهدون بجمع الشمل ورأب الصدع - قضية تقف بطائفتي المسلمين. السنة والشيعة على مفترق الطريق - والعياذ بالله - بعد أن كان يغمرنا موج من الفرح لهذه الظاهرات المباركة الطالعة علينا هنا وهناك ببشائر الوحدة الإسلامية المنشودة، ذلك أننا اليوم - حين نكتب هذه الكلمة - نعيش في شهر من الشهور التي تحمل إلينا من ذكريات الماضي البعيد صوراً ذات ألوان مختلفة. وأشكال متباينة في ظاهر الأمر، وإن هي كانت في الجوهر والروح، وفي نظر الذين يزنون الإسلام بميزانه الصحيح متسقة أحسن الاتساق، منسجمة أكمل الانسجام. إننا اليوم في شهر محرم الحرام، وشهر المحرم هذا ذو صفحتين من الذكرى كلتاهما ذات خطر عظيم، وكلتاهما ذات شأن كبير في نفوس المسلمين؛ ففي إحدى صفحتيه يحمل ذكرى هجرة المنقذ الأعظم، رسول الله، محمد بن عبد الله، عليه صلوات من ربه وبركات، ذكرى هجرته إلى يثرب حيث قامت سوق الإسلام وعمرت، وحيث استفاضت أنوار الشريعة الغراء لألآءة الرواء، ضافية البهاء، ثرة الأضواء؛ ويحمل في صفحته الأخرى ذكرى عاشوراء، ذكرى حادثة الطف الدامية حيث استشهد ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسين بن علي مجاهداً في سبيل الحق، وحيث نجم - لأول مرة - قرن الانقلابات(195/51)
الخطيرة، والثورات الداخلية الجياشة.
هاتان صفحتان من الذكريات الإسلامية ذات الشأن يحملهما شهر المحرم، ويطلع بهما على المسلمين، فتستقبله طائفة من ناحيته الأولى فتجعل يوم مطلعه عيداً ميمون النقيبة، محمود الأثر، أغر الجبين، وتستقبله طائفة من ناحيته الثانية فتجعل يوم استهلاله مأتماً قاتم اللون، أغبر الوجه، دامي القلب؛ وتنظر - من بعد - كل طائفة إلى أختها النظر الشزر، وتتباعد وجهة النظر، وتتسع شقة البين، ويطل النفر المستغل برأسه وينفخ في بوقه؟ وهذا هو الشر المستطير الذي نريد أن نكفكف من عاديته في وجه الحركة الإصلاحية القائمة اليوم، وهذا هو الأمر الجلل الذي نحاول أن يخفف المصلحون من سورته، وهأنذا أضع - في ختام هذه الكلمة - اقتراحاً على رجالنا العاملين في حقل الوحدة الإسلامية، أرجو أن يجدوا فيه حلاً حاسماً لهذه القضية التي يرى القارئ خطورتها. وأرجو إلى إخواننا علماء الأزهر المصلحين أن يقولوا كلمتهم في (الرسالة) الكريمة حول هذا الباب ليرى العالم الإسلامي رأيهم المحترم المرموق بالتقدير:
يجمع المؤرخون - يا سادتي - على أن مقدم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة كان في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، أي بعد أول المحرم بشهرين واثني عشر يوماً، كما جاء في تاريخ الطبري ج2 ص253 باب (ذكر الوقت الذي عمل فيه التاريخ)، وفي مروج الذهب للمسعودي ج1 ص401، وفي غيرهما من مصادر التاريخ الإسلامي الموثوق بروايتها؛ وتدل الروايات في هذا الباب على أن أول من أمر بالتاريخ في الدولية الإسلامية هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وأنه هو اختار هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ للتاريخ الإسلامي، وقال يومئذ كلمته الصادقة الحكيمة حيث جمع الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ لمبعث رسول الله، وقال بعضهم: أرخ لمهاجر رسول الله، فقال: (لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل)، وتدل هذه الروايات نفسها كذلك أنه هو - عمر - اختار شهر المحرم مبدأ لشهور السنة الهجرية قائلاً أيضاً نبدأ بالمحرم (فهو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام) والحق فيما قال من هذه الناحية، غير أنني أقول الآن:
مادام قد وقع الاختيار على بدء السنة الهجرية بشهر المحرم لهذا الغرض الذي جاء في(195/52)
كلام الخليفة الثاني الكريم، وجرت على ذلك السيرة في عصور الإسلام جمعاء، فلتبق هذه السيرة مستمرة ولا ضير، ولا نريد أن نبدع بدعاً في هذا، أما ذكرى الهجرة نفسها، الذكرى التي هي لا غير مبعث تقديس المسلمين لرأس السنة الهجرية، وهي التي يحتفلون بها، ويجعلون يومها عيداً كريماً مباركاً - أقول: أما هذه الذكرى نفسها، فليس من غضاضة في أن يكون الاحتفال بها، وأن يكون عيدها الميمون في يومها الذي وقعت فيه الهجرة النبوية الشريفة على التحقيق، في يومها التاريخي الصحيح حيث يكون عيداً للمسلمين كافة: يشتركون بأفراحه، ويتبادلون مظاهر السرور، ومجالي الاغتباط. وإذا ما جاء شهر المحرم - من بعد - اشتركوا جميعاً كذلك في مشاعر الألم، وهواجس الحزن للمأساة الإسلامية الرائعة التي تمثلت في طف كربلاء، وكرموا نبيهم صلى الله عليه وسلم بالتأسي به إذ جاء في الأسانيد الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان يستشعر الحزن في هذا الشهر: شهر المحرم، فنكون بذلك قد وضعنا حجر الزاوية في بناء الوحدة الإسلامية المرجوة، ولا نكون قد فرطنا في شيء من ما جريات التاريخ، ولا نقضنا شعيرة من شعائر السلف أو حرمة من حرمات الإسلام.
فما قولكم يا سادتي؟؟
النجف
حسين مروة(195/53)
الزهاوي في أوائل أيامه وأواخرها
للسيد صلاح الدين عبد اللطيف الناهي
كنت في السابعة أو الثامنة من عمري يوم كان يستلفت نظري شيخ هزيل نحيف، مرسل الشعر على الأكتاف، يمتطي صهوة حمار حساوي أبيض ويمشي في ركابه خادم لا يتغير، وكانت سيماء الشيخ ومطيته تدلان على أنه من أعيان بغداد فقد كان الحمار مطية لا تزري براكبها قبل أن تديل دولة (الميكانيك) من دولة الحيوان
ومرت فترة من الزمن فهجر الشيخ حماره واتخذ له (عربانة) تقطع به عرض الشارع العام (شارع الرشيد) وهو يطل منها على الناس أو يراقب الطير حائماً فوق مآذن بغداد الشامخة وقبابها الزرق، أو يحرك شفتيه بشعر
وسألت ذات يوم: من يكون هذا الشيخ وما له يهدل خصائل شعره شأن أحبار اليهود؟ فقيل لي إنه فيلسوف. فلم أفهم ما يريدون ولكن كتمتها في نفسي كمن اقتنع بالجواب
ثم قل اهتمامي به لكثرة ما اعتدت رؤيته بعد ذلك، ولم أكن أقدر أن اعتنائي به سيزداد يوماً من الأيام. ولكن العمر تقدم بي قليلاً فعرفت قدر الشيخ الفيلسوف ورضت نفسي على قراءة ما وقع في يدي من آثاره فبدا لي من أمره ما كنت أجهل
وكان الناس يومئذ فريقان فريق يدعو له ويكبر شأنه، وفريق ينكر أمره ويتبرم به ويرميه بالزندقة والإلحاد. وكان هو محور هذا التطاحن العنيف بين هذين الفريقين. وأنك لتلمس في شعره هذا التطاحن إذا قرأته وتلمس تبرمه بجمود الجمهور وجهالة الجمهور، ولكنه لم ييأس ولم يتمثل بقول القائل:
غزلت لهم غزلاً رفيعاً فلم أجد ... لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي
بل التزم دائماً سبيل الجهر بآرائه والدعوة لها وأنك لتعجب من بسالة هذا الشيخ المتهدم يوم كان يدعو إلى التحرر والى التجدد ويجاهر برأيه في المرأة:
يرفع الشعب فريقا ... ن إناث وذكور
وهل الطائر إلا ... بجناحيه يطير
ليس يأتي شعب جلائل ما لم ... تتقدم إناثه والذكور
مزقي يا ابنة العراق الحجابا ... واسفري فالحياة تبغي انقلابا(195/54)
ويجاهر برأيه في الدين:
تحيرت لا أدري أمام الحقائق ... أأني خلقت الله أم هو خالقي
فتضج الناس بالشكوى وتتبرم ويضيق به الأمر فيلزم داره أو يهجر بلده ويودع ليلاه لائذاً بمصر من غضب الناس نادباً لياليه في بغداد ولكنه لم يلبث أن يجهر برأيه هنا وينشد القوم:
وسائلتي هل بعد أن يعبث البلى ... بأجسادنا نحيا طويلاً ونرزق
وهيهات لا ترجى حياة لميت ... إليه البلى في قبره يتطرق
تقولين يفنى الجسم والروح خالد ... فهل بخلود الروح عندك موثق
فتتنزى الشيوخ من الغيظ ويثور الجمهور فإذا بالناس فريقان فريق له وفريق عليه حتى يضيق به الأمر فيعود إلى بلده وقد سكن روع الناس وعز عليهم أن يلجئوا الشيخ إلى الفرار فيناله المكروه في سبيل ذلك وهو الشاعر الذي ينطق بآمالهم وآلامهم ويحفزهم إلى المجد، غير مبال بعوده الذابل وجسمه الذاوي، حتى ألف الناس منه هذه البسالة والجرأة والتف حوله الشباب وهو يدفع بهم إلى الثورة ويلوح لهم بكل جديد في الرأي وطريف في الفكر تلويحاً يدفع به أحياناً إلى تحميل الشعر والأدب ما لا طاقة لهما به فيزج العلم في ساحة الشعر فيمهد بذلك السبيل لخصومه ومنكري شاعريته فيحتجون عليه بمثل قوله:
ليست الشمس من الشر ... ق إلى الغرب تدور
إنما الأرض من الغر ... ب إلى الشرق تسير
وما كان بالعلم من حاجة إلا من ينظمه لنا شعراً إلا حاجة في نفس الشيخ قضاها
ولقد كنا نقرا له القصيدة فنلمس وجدان الشاعر الموهوب في ألفاظ الشاعر المطبوع وأفكار الشاعر الفيلسوف فنطرب لها، ثم نقرأ له القصيدة وقد أقحم فيها العلم إقحاماً فنقف ننافح الخصوم عما فيها من نظريات وآراء تلهيهم بذلك عن زلة الشاعر ونخرج بهم من نقد هذه الزلة إلى تأييد الفكرة والبرهان وننعى عليهم جموداً في الرأي وضيقاً في الصدر ولولا تجاوزهم حدود النقد إلى التحامل لما تجاوزنا حدود الدفاع إلى المكر.
وإذا كان في اختيار الألفاظ الجزلة للمعاني السامية ما يدل على صفاء نفس الشاعر وطول باعه ودقة إحساسه وتمييزه وقع الألفاظ وموسيقاها فقد كان شاعرنا في اختيار الألفاظ(195/55)
والنواسي فرسي رهان. وهو الذي يشير إلى ذلك بقوله:
إذا هلكت فخطوا ... جنب النواسي قبري
إني أمت إليه ... وإن تأخر عصري
على أنه يختلف بعد ذلك عن أبي نواس في ميله من الدعابة والعبث إلى الفلسفة والحكمة، فهو يغوص وراءها في كل لجة ويأتي بها بكراً لم تقع العين على مثلها، وهو بذلك يقتفي خطى المعري، وبذلك يقول:
إني تتلمذت في بيتي عليك وإن ... أبلت عظامك أزمان وأزمان
وهو يقتفي أيضاً خطى الشاعر الخيمي لا في مجونه وإنما في حكمته وشكه ويقينه، وحسبك أنه عمد إلى رباعياته فترجمها إلى العربية نظماً
واشتقت مرة أن أحادث الشيخ الفيلسوف وأتعرف به قبل أن تختطفه المنون فلما اجتمعت به أبصرت أمامي هيكلاً من الأعصاب الثائرة يكسوها جلد مجعد، ورأيته يرجحن فوق ساقين هزيلتين ما تنفكان تضطربان من الشلل
وقد أحاول أن أسعي فتمنعني ... رجل رمتها يد الأقدار بالشلل
فهو ينتفض بين الآونة والآونة فيتجهم وجهه ثم تنبسط أساريره ويتمتم قائلاً: أعصابي! ثم ينصرف إلى محدثه فيما كان فيه، وأذكر أنني ما كدت بدأه بالتحية حتى قال لي:
(يا بني تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)
ثم لم يلبث أن قرأ لنا قصيدته (إحساساتي) فاجتمعت حوله حلقة كبيرة من مريديه والمعجبين به وقفى ذلك بنكات بارعة وروى لنا أنه قرأ بين يدي جلالة الملك الراحل (ثورته في الجحيم) ومازال بين نكتة وارتجاجة حتى انتصف النهار فودعنا وامتطى (عربانته) إلى داره. ومرت أيام فنعي إلينا الشيخ ووقع ما كنا نخشاه.
مات الشيخ ولكن السبيل الذي كان يدعو إليه هانت صعابه وتطامنت وهاده
وبالرغم مما كانوا يتهمونه به من مروق في الدين فقد قال:
عبدتك لا أدري ولا أحد درى ... أسرك أم صدر الطبيعة أوسع
عبدت اسمك المحمود في الليل والضحى ... إذا الشمس تستخفي إذا الشمس تطلع
فأيقنت أن الكون بالله قائم ... وأنك نور والحقيقة برقع(195/56)
وقال:
أنا هذا فلا أبالي إذا ما ... أجمعت ثلة على تكفيري
أهل عصري لا يفقهون حديثي ... حبذا لو أتيت بعد عصور
وشيخنا في تقلبه بين الشك واليقين إنما ينحو منحى بعض الفلاسفة الذين مروا في تفكيرهم بأزمات فأنكروا وآمنوا وهو في كل مرحلة إنما سجل ما جاش بنفسه فجاء شعره صدى أطواره في هذه الأزمات.
والمرء يخلق طوراً بعد أطوار
وبعد فإن الصدق في الرواية يحتم علي أن أقول إن ما أثبته هنا من أبيات لم أرجع فيها إلى دواوين الشيخ فقد خلفتها في بغداد، وإنما هي مما علق بالذاكرة، وما أكثر ما تخونني الذاكرة، فأضع كلمة مكان كلمة متى استقام لها المعنى ولو كنت في زمن الرواية والحديث لما أبحت لنفسي أن أوري حديثاً فلتغفر لي روح الفقيد ما أكون قد وقعت فيه وتغمد الله روحه برحمته
صلاح الدين عبد اللطيف الناهي(195/57)
6 - دعابة الجاحظ
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
. . . وإني لأعجب للجاحظ كيف اتسع وقته واتسع قلبه لكل هذا الضحك والإضحاك من الناس، فكأنه كان رقيباً يرقبهم في كل ناحية من نواحي نقصهم، ليعود من وراء ذلك بالنادرة الطيبة، ويفوز بالفكاهة الضاحكة، وينثني بالملحة البارعة، فهو يتسقط جهد طاقته - حيلة المتطفل، وحجة البخيل، ونحلة الأكول، وخفة الأبله، وسخافة الغبي، وغباوة الأحمق، ووقاحة الدعي، وتقعر المتعالم، وعنجهية الأعرابي، وملحة الأديب، وظرف النديم، فإذا ما أجرى ذلك وأشباهه على لسانه، أو تناوله بقلمه، وأخرجه على طريقته، وطبعه بأسلوبه، وافرغ عليه من روحه وقلبه، فإنه لا شك يستولي على لبك، ويهيج نشاطك، ويدفعك إلى الضحك دفعاً، وينتقل بك إلى روضة أريضة بالبشر والطلاقة، والشواهد لذلك كثيرة في كتب الرجل وفيما تلقفه عنه الأدباء وأهل الرواية. حدث فيما حدث به عن بخل محمد بن أبي المؤمل وشدة حرصه وإقتاره فقال: واشترى - أي ابن أبي المؤمل - مرة شبوطة وهو ببغداد، وأخذها فائقة عظيمة وغالى بها وارتفع في ثمنها، وكان قد بعد عهده بأكل السمك وهو بصري لا يصبر عنه، فكان قد أكبر أمر هذه السمكة لكثرة ثمنها ولسمنها وعظمها، ولشدة شهوته لها، فحين ظن عند نفسه أنه قد خلا بها، وتفرد بأطايبها، وحسر عن ذراعيه، وصمد صمدها، هجمت عليه ومعي السدري، فلما رآه رأى الموت الأحمر والطاعون الجارف، ورأى الحتم المقضي، ورأى قاصمة الظهر وأيقن بالشر، وعلم أنه قد ابتلى بالتنين، فلم يلبثه السدري حتى فور السرة بالمبال، فأقبل علي فقال لي يا أبا عثمان: السدري يعجبه السدر! فما فصلت الكلمة من فيه حتى قبض على القفا فاتنزع الجانبين جميعاً، فأقبل علي فقال: والسدري يعجبه الأقفاء، فما فرغ من كلامه إلا والسدري قد اجترف المتن كله! فقال يا أبا عثمان: والسدري يعجبه المتون ولم يظن أن السدري يعرف فضيلة ذنب الشبوط وعذوبة لحمه وظن أنه سيسلم له، وظن معرفة ذلك من الغامض، فلم ير إلا والسدري قد اكتسح ما على الوجهين جميعاً!! ولولا أن السدري أبطره وأثقله وأكمده وملأ صدره غيظاً لقد كان أدرك معه طرفاً لأنه كان من الأكلة، ولكن الغيظ كان من أعوان السدري عليه، فلما أكل السدري جيع أطايبها وبقي هو في النظارة، ولم يبق(195/58)
في يده مما كان يؤمله في تلك السمكة إلا الغيظ الشديد والغرم الثقيل ظن أن في سائر السمكة ما يشبعه ويشفي من قرمه، فبذلك كان عزاؤه وذلك هو الذي كان يمسك بأرماقه وحشاشات نفسه؛ فلما رأى السدري يضرب القرى ويلتهم التهاماً قال: يا أبا عثمان السدري يعجبه كل شيء، فتولد الغيظ في جوفه، وأقلته الرعدة فخبثت نفسه، فمازال يقيء ويسلح ثم ركنه الحمى وصحت توبته وتم عزمه في ألا يؤاكل رغيباً أبداً ولا زهيدا، ولا يشتري سمكة أبداً رخيصة ولا غالية، وإن أهدوها إليه لا يقبلها، وإن وجدها مطروحة لا يمسها
فالجاحظ في هذه النادرة البارعة يحاول أن يدخل على نفسك من كل جهة، وأن يهز قلبك بالضحك في تهويله وإغراقه، فهو يبسط لك في العبارة، ويرادف الجمل على المعنى الواحد فإذا به يبهرك بصور معروضة لا بألفاظ مسرودة وخذ بالنظر إلى هذه النادرة التي بين أيدينا، فأنت في ضحك بالغ من إغراق الجاحظ في تصوير بخل ابن أبي المؤمل حتى أنه رأى السدري (رأى الموت الأحمر والطاعون الجارف! ورأى الحتم المقضي! ورأى قاصمة الظهر! وأيقن بالشر! وعلم أنه قد ابتلي بالتنين!! وأنت أيضاً في ضحك بالغ من نهاية هذا الرجل تلك النهاية الأليمة: إذ (تولد الغيظ في جوفه، وأقلته الرعدة فخبثت نفسه فمازال يقيء ويسلح!! ثم ركبته الحمى!! وصحت نوبته وتم عزمه في أن لا يؤاكل رغيباً ولا زهيداً، ولا يشتري سمكة أبداً رخيصة ولا غالية، وإن أهدوها إليه لا يقبلها، وإن وجدها مطروحة لا يمسها!!)، ثم أنت في ضحك من صنيع السدري وهو يقور السرة، ويقبض على الفقا، ويجترف المتن، ويكتسح ما على الوجهين جميعاً، ثم وهو يفري القرى ويلتهم التهاماً!! ولقد كان السدري من الأكلة، وهو من الأشخاص الذين أولع الجاحظ بالتنادر عليهم، وأغرق في الضحك منهم، ومع ذلك فكان يجالسه ويحادثه ويجاذبه الرأي والفكاهة، فقال له يوماً: إذا كانت المرأة عاقلة ظريفة كاملة كانت قحبة! فقال السدري: وكيف؟ قال: لأنها تأخذ الدراهم، وتتمتع باللباس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت! فقال السدري: فكيف عقل العجوز؟ قال: هي أحمق الناس وأقلهم عقلاً!!
على أن السدري وهو على ما رأيت من الشره والجشع لم يكن في الأكلة بسباق الحلبة ولا هو بكبش الكتيبة في رأي الجاحظ وتقديره، وإنما كان يقدم في ذلك قاسماً التمار، وكان(195/59)
قاسم هذا - كما يقول الجاحظ - شديد الأكل شديد الخبط قذر المؤاكلة، وكان أسخى الناس على طعام غيره وابخل الناس على طعام نفسه؛ وكان في مؤاكلته يعمل عمل رجل لم يسمع بالحشمة ولا بالتجمل قط. وكان يجلس على طعام ثمامة بن أشرس فكان لا يرضى بسوء أدبه حتى يجر معه ابنه إبراهيم، وكان بينه وبين ابنه في القذر بقدر ما بينه وبين جميع العالمين، فكانا إذا تقابلا على خوان ثمامة لم يكن لأحد على أيمانهما وشمائلهما حظ في الطيبات، وكان قاسم إلى جانب ذلك سخيفاً مغفلاً غبياً، وقد حفل الجاحظ بأخباره ونوادره فأورد بعضاً من حوادثه في الهجوم على خوان ثمامة وفتكه به في كتاب البخلاء، كما أورد طرفاً من سخافاته وحماقاته في البيان والتبيين وما أطيبه وهو يضحك من جهله إذ يقول في باب اللحن: وقال بشر المريسي: قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهنؤها! فقال قاسم التمار: هذا على حد قوله:
إن سليمي والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها
قال الجاحظ: فصار احتجاج قاسم أطيب وأضحك من لحن بشر!!، ولولا التحرج لأوردنا شيئاً من نوادر الرجل ومضاحيكه التي أحصاها الجاحظ عنه، فإن فيها ما يعف القلم عن ذكره، ولا يصح أن ينشر مطويه في مجلة سائرة! على أنها طيبة تفيض بالضحك وتحمل عليه!!
والجاحظ ولوع ببعض الأشخاص يتعقب أخبارهم في الضحك والعبث، ويذكرهم بأوصافهم في كل مناسبة داعية، فكما أنه يتندر على الكندي وابن أبي المؤمل وسهل في البخلاء، والسدري وقاسم التمار في الأكلة، فهو يذكر كثيراً كيسان مستملي بي عبيدة في أهل البلادة، ولقمان الممرور في أصحاب الغباوة، وريسموس اليوناني في الموسوسين، وأبو حية النميري في المجانين، وريطة بنت كعب في الخرق، ومالك بن زيد مناة في النوكى، وابن فنان في المدخولين. وإنه ليطربك ويضحكك وهو يضحك من مستملي أبي عبيدة في غفلته وبلادته. قال الجاحظ: فكان يكتب غير ما يسمع، ويقول غير ما يكتب، ويستملي غير ما يقرأ، ويملي غير ما يستملى. أمليت عليه يوماً:
قلت لمعشر عدلوا ... بمعتمر أبا عمرو!
فكتب أبا بشر، وقرأ أبا حفص، واستملى أبا زيد، وأملى أبا نصر! قلت وإذا كان في هذا(195/60)
الوصف ما يحمل على الضحك، فليس ببالغ من ذلك ما يبلغه وصف الجاحظ أيضاً لغباوة أبي لقمان الممرور إذ يقول: وسأل بعض أصحابنا أبا لقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزأ ما هو؟ فقال: الجزء الذي لا يتجزأ علي ابن أبي طالب عليه السلام، فقال له أبو العيناء: أفليس في الأرض جزء لا يتجزأ غيره؟ قال: بلى! حمزة جزء لا يتجزأ! قال فما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال أبو بكر يتجزأ! قال: فما تقول في عثمان؟ قال: يتجزأ مرتين، والزبير يتجزأ مرتين، (قال: فأي شيء تقول في معاوية؟ قال: لا يتجزأ!! قال الجاحظ: فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الأنام أجزاء لا تتجزأ إلى أي شيء ذهب؟ فلم نقع عليه إلا أن يكون أبو لقمان كان إذا سمع المتكلمين يذكرون الجزء الذي لا يتجزأ هاله ذلك وكبر في صدره وتوهم أنه الباب الأكبر من علم الفلسفة!! وان الشيء إذا عظم خطره سموه بالجزء الذي لا يتجزأ!!)
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر كما يقولون، فما أشبه أبا لقمان في غفلته وجهله بعبيد الكلابي وقد سأله الجاحظ: أيسرك أن تكون هجيناً ولك ألف دينار؟ فقال: لا أحب اللؤم بشيء! قال الجاحظ: فقلت له: إن أمير المؤمنين ابن أمة! فقال، أخزى الله من أطاعه، فقلت: نبي الله إسماعيل ابن أمة! فقال: لا يقول هذا إلا قدري! فقلت: وما القدري؟ فقال: لا أدري إلا أنه رجل سوء!!
وللجاحظ كثير من المضاحيك السائرة والنوادر الذائعة التي نقلها عنه الرواة؛ فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن إسحاق قال: قال لي إبراهيم بن محمود ونحن ببغداد: ألا تدخل على الجاحظ؟ فقلت ما لي وله! فقال: إنك إذا انصرفت إلى خراسان سألوك عنه فلو دخلت إليه وسمعت كلامه؟ فدخلت عليه فقدم لنا طبقاً من الرطب فتناولت منه ثلاث رطبات وأمسكت، ومر فيه إبراهيم فأشرت إليه أن يمسك! فرمقني الجاحظ فقال لي: دعه يا فتى فقد كان عندي بعض إخواني فقدمت إليه الرطب فامتنع فحلفت عليه فأبى إلا أن يبر قسمي بثلثمائة رطبة!!
وقال أبو العيناء: كان الجاحظ يأكل مع محمد بن عبد الملك الزيات فجاؤا بفالوذجة فتولع محمد بالجاحظ وأمر أن يجعل من جهته مارق من الجام، فأسرع في الأكل فننظف ما بين يديه!! فقال ابن الزيات: تقشعت سماؤك قبل سماء الناس يا أبا عثمان؟ فقال الجاحظ: لأن(195/61)
غيمها كان رقيقاً!!
وادعى إلى الضحك من هذا ما حدث به الجاحظ فقال: كان يحضر إلي رجل فصيح من العجم فقلت له: هذه الفصاحة وهذا البيان لو ادعيت في قبيلة من العرب لكنت لا تنازع فيها، فأجابني إلى ذلك! فجعلت أحفظه نسباً حتى حفظه وهذَّه هذَّاً، فقلت له: الآن لا تته علينا! فقال: سبحان الله إن فعلت ذلك فأنا إذاً دعي!!
وشبيه بهذا الأعجمي المتفاصح ذلك القاص المتعالم الذي أشار إليه الجاحظ فقال: وكان عندنا قاص أعمى ليس يحفظ من الدنيا إلا حديث جرجيس، فلما أخذ فيه بكى واحد من النظارة فقال القاص: أنتم بأي شيء تبكون؟! إنما البلاء علينا معاشر العلماء!!
فالجاحظ لا شك كان رجلاً ضُحَكة ضُحْكة، ومضاحيكه كما قلنا - تمتلك اللب، وتهتاج النشاط، وتدفع إلى الضحك دفعاً. . .
(له بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف(195/62)
حديث الأزهار
للكاتب الفرنسي ألفونس كار
ترجمة ف. ف.
زهرة مقصوفة
ترطبت أهدابي بدموع الفجر، ففتحت عيني لأوائل أشعة الشمس
مرت بي عند الصباح غادة استوفقها جمالي فحدجتني بنظرات الإعجاب فابتسمت لها
وأمرت الغادة يدها الناعمة على وريقاتي فارتعشت، وأسكرتني اللذة، لكنها لم تطل حتى شعرت بعدها بألم هائل اخترق أحشائي، فأحنيت الرأس ذليلة على غصني المقصوف
لم لم تقطفي تويجي، أيتها الغادة، لماذا قصفت غصني فتركتني بين الحياة والموت، وقد كان في إمكانك أن توسديني نهدك فأرقد عليه بسلام.
إن دمي يسيل ببطء من جرحي المفتوح، وصقيع الموت يلوح وريقاتي بالاصفرار. وقد انطبق تويجي منقبضاً على أوجاعه
أتوقف النسيم عن مداعبة الأغصان؟ إنني لم أعد أسمع لأجنحته عليها حفيفاً. وهل صمتت الأطيار؟ فقد انقطع عن مسمعي تغريدها.
أين شعاع الشمس؟ إنني لم أعد أراه. ويلاه! أخبرنني، أيتها الرفيقات، هل تلاشى النور وساد الظلام؟
لا، إن الليل لم ينشر أجنحته بعد، ولكنها أشباح الموت السوداء تنطبق علي، فسوف لا أرى لمعان النجوم في قبة الفضاء ولا أفتح وريقاتي لاقتبال ندى الفجر
ستتساقط بقاياي مبددة على التراب وترتفع روحي إلى الأعالي تاركة أريجي عالقاً بالأثير.
سوف ينتصب شبحي المتألم بوجهك، أيتها الغادة، سوف يثأر لي ضميرك منك فتتألمين لقسوتك علي وإهمالك للضحية البريئة.
غفر الله لك، ووقاك من يد تغشاك بالأمل لتتركك فريسة الإهمال. أبعد الله عنك آلام الزهرة المقصوفة! أيتها الفتاة!(195/63)
بين حب جديد وسلوة عن قديم
للعالم الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين
فرغ القلب من عسى ولعلاَّ ... فسلامٌ على غرامٍ توَلَّى
وخلا للهوى الجديد فؤادي ... مرحباً بالهوى الجديد وأهلا
ليت شعري هل المُنَى فيه تدنو ... فكفاني ما ذقتُ في الحبّ قبلا
بالقلب ما قَرَّ حتى تداعى ... ولدمعٍ ما غاضَ حتى استَهَلا
فدعي يا حبيبةَ الأمس قلبي ... لوَصُولٍ تجزي المودَّةَ مِثْلا
تعرف الصبّ كيف يقتله الح ... ب فرقّت ولم تَزِدْ فيه قَتْلا
لم تُطِعْ فيه عاذِلاً وإذا ما ... صدق الحب لم يُطع فيه عَذلا
وإذا ما بذلت غالٍيَ حُبٍ ... بذلت من فؤادها الحبَّ أغلى
وإذا ما نما هواها بقلب ... لم تُمتهُ بالصّدّ تيهاً ودَلا
لا كتلك التي إذا نَبَتَ الح ... ب بقلب أذْوَتْه ضَنَّاً وبُخلا
تحب الصّدّ والجفاء يزيدا ... ن فؤادي بها غراماً وشُغلا
ما دَرَتْ أنّ صَدَّها وَطَّنَ القل ... بَ على طول بُعدِها فتَسَلى
فاطربا ذكر ذلك العهد عني ... نَهِلَ القلبُ بالسّلُوِّ وعَلاَّ
إيه يا جَفنُ كم تساهِدُ نجمَ اللي ... لِ حتى مَلِلْتَ والنجمُ ملاَّ
إيه يا ليلُ كم حَملتَ من الشكو ... ى وبَثِّ الشجونِ ما شقَّ حملا
فأطلتَ المقامَ ترثي لحزني ... وحشدتَ النجومَ حَوْليَ أهلا
كم تواسي المحزونَ بالدّمع حتى ... تدع الزهر بالنِّدَى مُخْضَلا
فكلانا راثٍ لبَثِّ أخيه ... وكلانا عن عهده ما تَخَلّى
إيه يا دمعُ كم تفيضُ لذكرى ... لمحةٍ لن ترى لها الدهرَ ظلاّ
ذهبتْ كالحباب أو مثلما جفّف ح ... ر الشعاعِ في الرَّوض طَلاّ
ومضت كالخيال في غفوة العُم ... ر فَهلاِّ عَزيتَ قلبَك هَلا
إيه قلبي كم فرقةٍ ذقتَ حتى ... كدت تسلو الهوى فراقاً ووَصلا
غير أن الهوى حياةٌ لقلب ... غُرسَ الحب فيه مذ كان طِفلا(195/64)
إنّ قلباً لم يُحيه الحب مَيْتٌ ... لا ترى فيه للحياة محلاّ
وإذا الشعر لم يُفِضْه غرامٌ ... يَصْهَر النفسَ بالجوى كان هزلا
فأعزِّي بصادق الحبِّ شعري ... كم أهنت القريض في حب من لا. .
وأفيضي عليَّ صفواً من الح ... بِّ أُفِضه صفواً من الشعرِ جَزلا
أحمد الزين(195/65)
نحن والماضي
للأديب عبد اللطيف النشار
قضت أم أوفى، بلل الغيث قبرها ... فعدِّ عن الدراج فالمتثلم
واخلى الفراعين الكرام مقامهم ... لأشبه منهم بالحياة وأعظم
أمن نسل مينا أنت أم نسل جرهم ... إلى أي فرعي دوجة المجد تنتمي؟
يقول حصيف الرأي من نسل آدم ... له صبر مصري وإيمان مسلم
أفخراً بأن راضوا قوياً منعماً ... ولا فخر في إحياء شلو محطم
عفاء على الدنيا إذا كان ما مضى ... نهاية شعب تائق متوسم
مضى ما مضى، الإسلام ورحمة ... سلام وفاء لا نفجع أيم
ولسنا من الماضين أدنى مكانة ... ولا كان أوفى الفضل للمتقدم
ورثت زهيراً شعره ومكانه ... وما مال نسل وارث بمحرم
فما وقف الماضون مجداً ليحبسوا ... على غير أحفاد لهم كل مغنم
ولكن مجدنا ملكهم فهو مجدنا ... ولم يبق منهم غير ذكرى وأعظم
ألا أيها الجاثي على قبر هالك ... تعز فان الدمع أغلى من الدم
تعز يعش ما بين جنبيك قلبه ... فما مات ذو نسل عزيز مكرم
ولا عاش من لا ينطوي في ضلوعه ... سوى زفرات الآسف المتندم
ومن كان ماضيه نهاية جاهه ... يعش في سديم من دجى الهم مظلم
بداية عمر المرء إشراق شمسه ... وكم من شموس ليس يدركها العمي
فخرت برمسيس ورمسيس جثة ... فخارك أن تحيا بعزم مصمم
يفاخر بالأحياء حي ويزدهي ... بمن مات ذو قلب كسير مهضم
لعمري لقد جفت سنابل يوسف ... وحامت على أبقاره أم قشعم
لقد أنقذ الأحرار من رق يوسف ... بما أنشأوا في كل أرض وعيلم
وأسراب طير من حديد محدم ... وغائصة في غائر القاع مظلم
وما الحرب إلا عزة واستطالة ... فلا تنقضوا حكم القضاء المحتم
ولا تحسبوا في السلم غنماً لحالم ... ألا ضل رأي الآمل المتوهم(195/66)
يراد أخاء دائم وسلامة ... ومن يرج معسولاً من العيش يحرم
بلادي عداك الذم لست بخيلة ... فجودي فإلا تفعلي اليوم تندمي
أنترك للأحلاف أن يدفعوا العدا ... إذا غزيت مصر بجيش عرمرم
معاذ العلا أن يحمي النيل في الوغى ... سوى كل مصري على الموت مقدم
هو العهد عهد الحرب لا كلفاً بها ... ولكن من لا يتق الظلم يظلم
رجال غد لا تطلبوا المال مطلباً ... فما العيش عيش الوادع المتنعم
ولكنما يحيا الذي يرهق العدا ... ومن عاش في أمن من الناس يسأم
ولا تحسبوا الماضي أعز مكانة ... ألا تلك دعوى الخائب المتلوم
يمهد عذراً للهوان بذمه ... بني عصره في كل قول مرجم
بني وطني كونوا قلوباً تكن لكم ... مناعتها من كل عار ومأثم
فما تسلك الأوزار في الناس مسلكاً ... إلى القلب لولا ثغرتا الجيب والفم
أحب الذي أعطيت نسيان موضعي ... لدى كل نهب في الحياة مقسم
عبد اللطيف النشار(195/67)
الفنون
الفن البابلي الآشوري
للدكتور أحمد موسى
إذا كنا قد عرفنا شيئاً عن الفن المصري من عمارة ونحت وتصوير وفهمنا كيف أن هذا الفن كان إلى حد ما أساساً للفن الإغريقي، وعلمنا أن الحضارات تقاس بالفن، أمكننا أن ننتقل اليوم إلى حضارة فنية أخرى هي حضارة بابل القديمة (3800 - 625 ق. م.) والجديدة (خالديا 625 - 538 ق. م.) وآشور (2250 - 606 ق. م) التي لم تبلغ في مجموعها مستوى عظمة الحضارة المصرية فنياً؛ فضلاً عن أنها لم تكن أساساً اتخذه الإغريق لحضارتهم الفنية، رغماً عن وجود بعض الشبه الضئيل بين النحت البابلي الآشوري وبين الإغريقي، من حيث عدم الاكتفاء بالخطر المحدد للمنحوتات النصف البارزة والمصورات (كما رأينا في الفن المصري)، وإخراجها شاملة بعض تفاصيل أعطت شيئاً من الحياة قربها من النحت الإغريقي.
ويحسن قبل التكلم عن الفن البابلي الآشوري وعن مميزاته أن نعرف شيئاً عن نشأة بابل وآشور اللتين كانتا مصدر حضارة غرب آسيا. ففي الجزيرة المحصورة بين نهري دجلة والفرات التي تعد من أخصب البقاع الصالحة للزراعة، نشأت بابيلونيا من الجنوب وآشور على نهر دجلة من الشمال
وإذا رجعنا إلى التاريخ الذي اعتمد واضعوه على الآثار والدراسات الفنية، فإننا نرى أن الحفريات التي أجريت في مناطق كثيرة من هذه البلاد، دلت على أن أول آثار الإنسان المتحضر نوعاً رجعت إلى حوالي عام 4000 ق. م.
على أنه لا يهمنا هنا أن نعرف إن كان أصل هؤلاء الناس من الآريين أو من الساميين، كما أنه لا يعنينا أن نبحث لتحديد نوعهم، ولكن المهم أن نعلم أن بابل نفسها انقسمت مملكتين شمالية وجنوبية، ثم اندمجتا معاً حوالي عام 2300 (2000؟ ق. م.) في عصر ايري أكو - وكانت مدينة بابل على نهر الفرات (على خط عرض يافا تقريباً) عاصمة لها
أما آشور فهي أقدم كثيراً من هذه، إذ قامت الحضارة فيها عام 2250 ق. م. على أساس(195/68)
حضارة بابل. وكانت مدينة نينوى لعهد طويل عاصمة لها، وهي واقعة على الضفة الشرقية لنهر دجلة أمام مدينة الموصل الحالية، وفيها ظهر الفن الآشوري الرائع في المرحلة الزمنية المحصورة بين القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، واستمر التقدم في هذه الفترة حتى تأسيس مملكة آشور، وازدهار الفن في عصر ساراجون (722 - 705) وسانهريب (705 - 681) وأسور بانيبال (668 - 626 ق. م.) ولم يتدهور الفن إلا في عصر نابوبولاسر واتجه بعد ذلك اتجاهاً آخر عندما حكمها كيروس بن قمبيز سنة 539 ق. م. وضمها إلى مملكة الفرس
هذا سرد تاريخي بسيط اقتصرت فيه على ما لا استغناء عنه لمن يود الوقوف بشكل إجمالي على الحالة التي نشأ خلالها الفن البابلي الآشوري، الذي ينقسم إلى عمارة ونحت وتصوير كالفن المصري والإغريقي وغيرهما
ونظراً لقلة الأحجار في هذه البلاد، تجد أن العمارة لم تكن رائعة، فضلاً عن تهدمها جميعها لضعف اللبن الذي استخدم في معظم مبانيها إلى جانب الآجر
وبالدراسة الإجمالية لبقايا العمارة البابلية الآشورية، يمكننا أن نعرف أنها خلت من الأعمدة التي كانت من أهم مميزات الفن المصري والإغريقي، ولذلك تجد أن الحوائط كانت سميكة إلى حد بعيد، فضلاً عن إقامة أكتاف لها من البناء لتساعد على تقوية الحوائط المرتفعة.
إلا أن لبابل وآشور ميزة قد تعادل النقص الناشئ عن عدم إنشاء الأعمدة، وهي القباب التي بنيت على هيئة نصف كرة والقبوات التي أقيمت على شكل عقود نصف دائرية أو نصف بيضاوية، بجانب السقف المسطحة التي كانت فوق أعمدة ارتكزت على أكتاف الحوائط
ودفع التحضر أهل بابل وآشور إلى وجوب زخرفة مبانيهم، فتراهم أحرقوا الطوب وصقلوا سطحه بالحرارة حتى أصبح لامعاً كالصيني، فأعطى لهذه المباني شيئاً من الجمال والبهجة علاوة على الرسوم والتصاوير التي عملت عليها، والتي مكنتنا من تحديد درجة تحضرهم.
وإذا قارنا معابد بابل وآشور بالمعابد المصرية، نرى أنها أقل فناً منها، ذلك من حيث هندسة البناء، والإنشاء الكلي وجمال الطراز(195/69)
أقيمت هذه المعابد عادة على مرتفع من الأرض، تعلوه مصطبة بلغ ارتفاعها أحياناً ثلاثة عشر متراً، أو مصاطب بعضها فوق بعض (كهر سقارة المدرج) انتهت بقبة مزخرفة علت الهيكل المقدس وتماثيل وصور الآلهة
هذا بجانب مبانيهم التذكارية كبرج بابل (2300؟) الذي ذكر هيرودوت أنه كان مكوناً من سبع مصاطب , 1: 178 & 3: 158)، والبناء التذكاري المسمى معبد بورسيبا في الجنوب الغربي من بابل أنشأه نيبختنصر (605 - 562) وبيرس نمرود بالقرب من هيلا جنوب بابل.
كل هذا قد تهدم، وبعضه لا يعرف له أثر، كما تهدمت كل المباني العادية إلى حد يصعب معه التعرف على حالتها بدقة، ولكننا إذا نظرنا إلى نتائج أعمال الحفر وبقايا الخرائب نستطيع أن نصل إلى تكوين فكرة تكاد تكون صحيحة عن تصميمات المباني، فالقصور والبيوت كانت مربعة الشكل توسطها صحن يعلوه سقف مفتوح الوسط (كحوش قصر حفر رزباد) أو بدون سقف، تفرعت منه غرف السكن التي كانت سقوفها على هيئة قباب أو عقود نصف دائرية أو نصف بيضاوية كما سبق القول.
أما العصور على وجه الخصوص فكانت في بابل وآشور متشابهة تشابهاً قوياً، فهي مع بساطة تكوينها الإنشائي كانت كثيرة التحلية والتصاوير والمناظر التي كانت بألوان بلغت الستة أحياناً، وكانت الردهات والصالات كثيرة بلغ بعضها من 28 إلى 52 متراً على حين كان العرض من 10 إلى 20 متراً فقط.
وكانت النوافذ غريبة الوضع، فكانت عبارة عن فتحات تركت في أعلى الحوائط وأسفل السقف مباشرة.
من هذا نرى أن العمارة لم تكن عظيمة في بابل وآشور إلى حد يسمح لنا أن نقول لولا المنحوتات والتحليات والزخارف والرسومات النصف بارزة والمحفورة لما سجل تاريخ الفن شيئاً كثيراً لهذه البلاد.
ومجمل التعريف أن المشاهد لبقايا المنحوتات والزخارف والتصاوير الخ، يرى أنها مليئة بالحياة، كما يلاحظ قدرة الفنان وثبات يده في العمل. وقد وجدت رسومات نصف بارزة على لوحات من حجر الباستر المعروف شملت مناظر الآلهة والإنسان والحيوان كما شملت(195/70)
كثيراً من طراز الملابس التي اعتني بإخراجها عناية شديدة
ولعلنا بمشاهدة بعض الصور هنا نلاحظ الدقة التي وجهت إلى إظهار تموجات الشعر والإكثار من الظل والنور.
ومما تجب ملاحظته أن هناك وجه شبه إلى حد ما، بين ما رأيناه من منحوتات المصريين ومصوراتهم وبين ما نراه الآن من مخلفات بابل وآشور، وذلك بإظهار الأجسام كاملة التكوين والتصوير بحسب ما يجب أن تظهر به أمام المصور في حالة من الجفاف والصمت، ولكنها تميزت باشتمال الأجسام على شيء من خطوط التحديد الذي أظهر تفاصيل العضلات، إلى جانب هذا كان النحت والتصوير الآشوري على وجه الخصوص متقدماً إلى حد يقربه من روح النحت والتصوير الإغريقي.
وما وقع فيه الفنان المصري من الخطأ في تصوير الحمامات؛ وقع فيه الفنان البابلي الآشوري أيضاً، فترى تصويره لها كان كما لو كانت كل قطعة منها قائمة بنفسها لا تتصل بمجاوراتها
ومن ضمن المميزات الفنية ظهور الأسد أحياناً برأس إنسان في معظم المصورات البارزة والمسطحة ظهوراً مستمراً، إلى جانب الأجنحة التي نحتوها أو صوروها عندما مثلوا آلهتهم
وفي المتحف البريطاني ومتحف اللوفر وغيرهما مجموعات كبيرة مما وجده الأثريون من بقايا النقوش والزخارف والتماثيل، وعدد هائل من اللوحات التي قيل إنها تكون مكتبة آسور بانيبال. والفضل في ذلك راجع إلى شخصيات بارزة أمثال أميل بوتا وهنري ليارد وهرمز رسام وجورج سميث وغيرهم، استغل كل منهم في منطقة معينة لا يتسع المجال لإيضاحها وإيضاح نتائجها
ولعلنا بالنظر إلى المصورات التي تشملها هذه المقالة، نأخذ فكرة عامة عن الفن البابلي الآشوري كما أنه يمكننا بالمقارنة أن نعرف إلى أي مدى وصل هذا الفن نسبياً إلى الفن المصري
أنظر إلى الصورة الأخيرة (ش 6) تر أروع ما يستطيع فنان إخراجه، فهي مليئة بالحياة وصدق المحاكاة، إلى جانب دقة التناسب وعظمة الإخراج(195/71)
فعندما أصيبت اللبؤة بسهمين في نصفها الخلقي انهزمت بهذا النصف، ونلاحظ أن النصف الأمامي لا يزال حياً برغم اختراق السهم الثالث للقلب أو لما يجاوره. أنظر إلى بروز المخلبين الأماميين والى اختفاء نظيريهما من الخلف، ولاحظ ما ظهر على ملامح الوجه من علائم الألم التي تمثلت في التجاعيد الواضحة على الأنف. أما الفم فهو يمثل الاستغاثة بكل معانيها
فهذه إلى جانب غيرها من الأمثلة الصادقة لفن إن لم يكن في مقدمة الفنون القديمة، دليل على أنه من الفنون التي لا يمكن للراغب في فهم الجمال الفني الاستغناء عن معرفتها.
(أحمد موسى)(195/72)
القصص
الوالد
للكاتب القصصي جي دو موباسان
جان دوفالنوا صاحب لي لا أفتأ أزوره الفينة بعد الفينة. وهو يقيم في قصر له على ضفة جدول في بعض الغياض، وقد لاذ بهذا الكن بعد أن قصف وترف في باريس خمسة عشر عاماً سوية. وقد عرته بغتة ملالة من كل ما في هذه المدينة من مناعم ومآدب ورجال ونساء وملاعب، وجاء يعتزل في هذه الدار التي فيها ولد وفيها نشأ.
ونمضي إليه اثنين أو ثلاثة من الصحب نقضي معه أسابيع معدودات، ولقد كان سروره بنا إذ يلقانا بعد نأي، بالغاً شديداً، وابتهاجه باسترجاع ما أفلت منه من حبور بعزلته إذ نتولى عنه جماً وفيراً.
ولقد وفدت عليه في الأسبوع الماضي فهش وبش. وكنا نقطع الساعات تارة جميعاً وتارة منفردين، والعادة أن يقرأ هو واشتغل أنا بالنهار، وحين تأخذ عين الشمس في الإغتماض نقبل على السمر إلى أنصاف الليل.
وكنا في يوم الثلاثاء الماضي، وكان يوماً حروراً متلظياً، قد جلسنا في جنح ليله نتأمل جريان الماء في الجدول تحت أقدامنا، وكنا نتساجل ما يتوارد علينا من أفكار شديدة الغموض عن النجوم الخائضة في الماء وكأنها بين أيدينا تمرح سبحاً. كنا نتناقل ما تتمخض به أذهاننا من خواطر كثر غموضها واشتد اختلاطها وأفحش إيجازها، ذلك أن عقولنا شديد قصورها، مستفحل ضعفها. بالغ عجزها. أما أنا فقد كنت مشفقاً على الشمس المتوارية في الحجب لدى الطفل، كنا نفكر في هذه الكائنات المبثوثة في هذه العوالم، ومختلف أشكالها العجيبة التي يتقاصر دونها وهم الإنسان، وخواصها التي لا تدرك كنهها الفطن، وأعضائها الخفية المحجوبة. والحيوان والنبات وكافة الأجناس وسائر الجواهر وشتى المواد، مما لا تكاد ترتفع إليه أذهان الإنسان.
وبينما نحن كذلك إذا بصوت على بعد يصيح:
- سيدي، سيدي:
فقال جان:(195/73)
هلم يا يا تيست
فلما اهتدى إلينا الخادم قال:
- الغجرية يا سيدي
فجعل صاحبي يضحك كمن به مس، وما عهدته يضحك كذلك إلا نادراً، ثم قال:
إنا إذن في 19 يوليو؟
- نعم يا سيدي
- إذن قل لها تنتظر وأعد لها الطعام فإني عائد بعد عشر دقائق.
ولما انصرف الخادم أخذ صاحبي بذراعي وقال:
- فلنمش على مهل، إني قاص عليك قصة هذه المرأة.
منذ سبع سنين أي في السنة التي حللت بها هنا: خرجت في أصيل يوم أطوف في الغابة. وكان يوماً طلقاً صافياً كيومنا هذا وجعلت أسير متئداً تحت أفنان الدوح أتأمل نجوم السماء من خلل أوراقها، مستجلباً لرئتي بليل نسمات الليل وطيب زهر الغابة.
وكنت قريب عهد بهجري باريس. إذ تملكني سأم شديد وعافت نفسي كل ما رأت عيني وأخذت منه بنصيب من كل سخيف وزري وذميم مدة خمسة عشر عاماً.
وأمعنت في السير وتوغلت في مسالك هذه الغابة ومضيت في فج مها عميق يؤدي إلى قرية جروزي على مدى غلوة من هنا، وإذا بكلبي قد وقف فجأة ونبح، فظننت أنه رأى ذئباً أو وحشاً ضارياً فدلفت متسللاً كظيم الخطو ولكني سمعت بغتة صراخاً علا، صراخ إنسان يستغيث مختنقاً تتمزق له نياط القلوب من رحمة. فما شككت أنه رجل يغتاله مغتال في خميلة فعدوت لنجدته وبيميني هراوة غليظة ضربتها مردية
دنوت ن هذا الصراخ الذي كان ينجلي كلما قاربته ولكنه خفيض مع ذلك مكظوم، كأنه صادر من بيت، وربما من خص حطاب، وكان كلبي بوك يتقدمني على قيد خطوات تارة يعدو، وتارة يقف، ثم ينطلق انطلاق السهم هائجاً حنقاً مسترسل الهرير ولم نلبث أن برز لنا كلب آخر أسود عظيم الهيكل كأن عينيه جمرتان قد كشر عن أنياب عصل يلمع بين شدقيه بياضها
فهممت أن أهوي عليه بهرواتي ولكن بوك سبقني إليه فتلاحما وتصارعا وتجاولا،(195/74)
ومضيت أنا قدماً، وإذا بي أكاد أتعثر بجواد متطرح في الطريق، وإذ وقفت مبهوتاً أتأمل هذه الدابة لمحت عربة أمامي، بل بيتا طائفاً، أحد مساكن هؤلاء الباعة المتجولين
ومن ههنا كان مصدر هذا الصراخ الفظيع المتلاحق. ولما كان الباب من الناحية الأخرى، فقد درت بهذه العربة واندفعت أرقى الدرجات الثلاث الخشبية وأنا أهم بأن أصرع المعتدي بهراوتي
ولكني شاهدت عجباً، والتبس علي الأمر فلم أفقه لأول وهلة شيئاً: هذا رجل قد جثا على الأرض كأنه يصلي، وعلى الفراش الذي استوى في جوف هذه العربة شيء قد جثم لا سبيل إلى تمييزه: بشر نصف عار قد انطوى على نفسه وهو يتلوى كالثعبان لا أرى وجهه، يميد ويضطرب وكأن صراخه خوار ثور
فإذا هي امرأة تعاني آلام الوضع
فما إن أدركت كنه الأمر وتبين لي ما غمض من حقيقة هذا الحادث الذي كان عنه هذا الصراخ حتى أذنتهما بوجودي، فجعل الرجل وهو يشبه أهالي مارسيليا يسألني ملحاً ذاهب اللب أن أغيثه وأغيثها وهو يواثقني بكلام لا آخر له على الوفاء والذكر لجميل، بما أقضي منه عجباً. ولم أك قد رأيت ولادة قط، ولا أسعفت أنثى قط في مثل هذه الأحوال، وذكرت له ذلك في بساطة، وأنا أنظر ذاهلاً إلى هذه التي تصم الآذان جلجلة صراخها في هذا الفراش
ثم سألت الرجل الواهن الحسير وقد استرددت جأشي: ما بالك لا تذهب إلى القرية القريبة؟ فقال إن جواده هوى في حفير فانكسرت ساقه فهو رازح لا يريم
- فقلت له: يا هذا لا بأس عليك. الآن نحن اثنان. إنا سنتعاون في جر العربة بامرأتك إلى بيتي.
ولكنا لم يسعنا إلا الخروج إلى الكلبين. إذ علا هريرهما وما فصلناهما إلا بضرب بالهراوة شديد كاد يخمد أنفاسهما، ثم خطر لي أن أشدهما بين أقدامنا إلى العربة استعانة بهما، هذا يمنة وذاك يسرة وما انقضت عشر دقائق حتى كنا على تمام الأهبة. وأخذت العربة تسير الهوينا، فترج - باهتزاز عجلاتها فيما تخط في الأرض ممعنة من أخاديد - تلك المرأة المسكينة الممزقة الأحشاء(195/75)
ويالها من طريق! كنا نسير لاهثين لنا زفير مرتفع، وعرق ناضح، نزلق حيناً، وحيناً نقع، بينما الكلبان المسكينان يزفران بين أرجلنا كزفير النار
وقضينا ثلاث ساعات حتى بلغنا القصر، وإذ دنونا من الباب انقطع الصراخ داخل العربة. وإذا الأم والمولود في أحسن حال، وأرقدنا الأم وطفلها في فراش وثير. ثم ركبت عربتي لأستحضر الطبيب بينما كان صاحبنا المارسيلي وقد اطمأنت نفسه، يلتهم الطعام في شراهة ويحتسي حتى لا يعي من سكر ابتهاجاً بهذه الولادة السعيدة وكانت بنتاً
وأقام عندي هؤلاء النفر ثمانية أيام، والوالدة وهي السيدة ألمير لها بصر بالغيب عجيب، وقد بشرتني بحياة مديدة ومناعم عديدة
وفي العام الذي بعده وفي مثل هذا اليوم لدى الغسق جاء الخادم الذي حضر من هنيهة يدعونا، وكنت في حجرة التدخين بعد طعام العشاء، يقول: (غجرية العام الماضي جاءت تشكر سيدي)
فأمرت بدخولها، وعرتني دهشة إذ رأيت بجانبها غلاماً بالغاً أشده، ممتلئاً شحماً ولحماً، أشقر اللون من أهالي الشمال، فسلم علي ثم جعل يقول كزعيم لطائفته إنه علم ما كان من إكرامي للسيدة إلمير، وأراد أن لا تمر هذه الذكرى دون أن يفدا للشكر والاعتراف بيدي عليهما
وقد أكرمت مثواهما وأمرت بإحضار الطعام لهما في المطبخ وأوفرت قراهما ليلتهما، واحتملا في الغد
وهكذا في كل عام في نفس اليوم تفد هذه المرأة مع مولودها ذاك، وهي طفلة رائعة الحسن، وفي كل مرة مع. . . رجل جديد. إلا واحداً منهم فقط هو من أهالي أوفرنيا وقد بالغ في شكري وأجزل لي الثناء، حضر معها حولين متتاليين، والصبية تدعوهم جميعاً (بابا) كما نقول (سيدي) عندنا
وكنا بلغنا القصر فلمحنا أما السلم ثلاثة أشخاص في انتظارنا وخطا أطولهم نحونا بضع خطوات وحيانا أحسن تحية ثم قال:
- سيدي الكونت إنما حضرنا اليوم لنبدي لك آيات الشكر. . . أما هذا الرجل فكان بلجيكياً
ثم تكلمت بعده أصغر الثلاثة بتلك اللهجة المدربة المتكلفة في الأطفال إذ يلقون عليك تهنئة(195/76)
أو ثناء
أما أنا فقد أبديت البساطة وانتحيت بالسيدة إلمير ناحية وبعد حديث قصير قلت لها:
- أهذا أبو طفلتك؟
- كلا يا سيدي
- أمات أبوها؟
- كلا يا سيدي. ما نبرح يلقاني وألقاه أحياناً. وهو من رجال العسس
- عجباً! أليس هو إذاً ذاك المارسيلي الأول صاحب يوم الولادة؟
- كلا يا سيدي، ما كان ذاك إلا وغداً زنيماً سلبني مدخر مالي
- ورجل الدرك والد ابنتك الحقيقي أيعرف ابنته؟
- نعم يا سيدي، بل هو شديد الحب لها، ولكنه لا يستطيع تعهدها، إذ له من امرأته أولاد غيرها
أحمد أبو الخضر منسي(195/77)
البريد الأدبي
حول تقرير مسيو فابر عن المسرح المصري
أتم المسيو أميل فابر الخبير المسرحي الذي انتدبته الحكومة المصرية لدراسة المسرح المصري والوسائل اللازمة لترقيته - مهمته أخيراً ووضع عنها تقريراً موجزاً أذاعته الصحف، وخلاصة تقرير المسيو فابر، هو أن توجد بمصر نواة صالحة للمسرح ولإنشاء فرقة قومية، وأن توجد بالأخص عناصر قوية للتمثيل الهزلي (الكوميديا) تضارع نظائرها في الأمم الراقية، وأن مصر تنقصها المسارح الحديثة، وأن الاختراع لا يزال متأخراً؛ بيد أن المسيو فابر لم يستطع أن يبدي رأيه في شأن التأليف المسرحي بمصر ولا في شأن اللغة المسرحية التي يحسن اتباعها، وإنما ذكر في ذلك ملاحظات قال انه سمعها من أصدقائه المصريين، وقد سبق أن لاحظنا حينما انتدبت الحكومة المصرية المسيو فابر ليقوم بهذه المهمة أن في هذا الانتداب شيئاً من الشذوذ، وأن مصر قد ذهبت بعيداً في سياسة الاستعانة بالخبراء الأجانب. ذلك أن المسيو فابر رغم مواهبه الفنية البارعة ورغم خبرته المسرحية الفائقة التي جعلته مدى ثلاثين عاماً مديراً لمسرح الكوميدي فرانسيز، هو أبعد الناس عن روح المسرح المصري والظروف الاجتماعية التي تحيط به والخلال الشرقية التي تتصل بمهمته، وقد جاء تقرير المسيو فابر مؤيداً لما لا حظنا، فهو لم يستطع أن يقوم بدراسة عميقة لشئون المسرح المصري لأن هذا المسرح مغلق بطبيعته عليه. وإنما اكتفى بدراسة مظاهره المادية، وقد كان خيراً لو أن الحكومة بدلاً من انتداب خبير أجنبي فكرت في أن توفد مندوباً مصرياً أو اكثر لدراسة المسرح الحديث في عواصم أوربا دراسة عميقة. والتوفر بعد ذلك على تنظيم المسرح المصري بما أفاد من خبرة ومقارنة، هذا هو الوضع الطبيعي للمسألة، أما انتداب خبير أجنبي لدراسة موضوع شرقي عربي فهو من تناقضات سياسة الاستعانة بالخبراء الأجانب في كل شيء وهي سياسة قد عفت اليوم.
حول العيد المئوي لوزارة المعارف
أشارت وزارة المعارف في بعض بياناتها عن احتفالها بعيدها المئوي إنها اضطرت إلى الاختصار في الإجراءات والحفلات نظراً لأنها لم تبدأ استعدادها لإحياء هذا العيد القومي(195/78)
في الوقت المناسب؛ وهذا اعتراف يؤسف له، والواقع أننا لم نوفق بعد إلى تنظيم الأعياد والذكريات القومية تنظيماً مرضياً، وفي كل مرة تعرض فيها إحدى هذه المناسبات، نفكر في الاحتفاء بها بعد فوات الوقت. وأحياناً تعرض ذكرى العيد المعين قبل وقوعه بأعوام فيتحمس لها البعض، وتقوم حولها دعاية صحفية واسعة، ولكن الجهات الرسمية تبدي فتوراً مدهشاً. مثال ذلك ما حدث في مسألة الاحتفاء بالعيد الألفي للجامع الأزهر؛ فقد نوه بأهميته واقترابه منذ أعوام، ووضعت مشيخة الأزهر برنامجاً للاحتفاء بهذا العيد؛ ثم حدث تغيير في المشيخة فانهارت كل التدابير السابقة، وجدت كل حركة في هذا السبيل بحجة أن الوقت لا يزال فسيحاً، مع أن الاحتفاء بهذا العيد القومي الجليل يقع في جمادى الأولى سنة 1359 هـ أعني بعد ثلاثة أعوام فقط؛ ولم تتخذ مشيخة الأزهر بعد أي إجراء جدي في هذا السبيل. فمتى تغدو لنا همم وتقاليد صالحة للاحتفاء بأعيادنا وذكرياتنا القومية؟
إبرس أول مكتشف لأسرار الفراعنة
احتفل أخيراً في ألمانيا بمرور مائة عام على مولد القصصي والعلامة الأثري الألماني جورج إبرس ويرتبط اسم جورج إبرس بمصر والفراعنة ارتباطاً وثيقاً، فقد كان هذا العلامة هو أول من وقع على أول ورقة من أوراق البردي المصرية، وأول من استطاع ان يصف أحوال الفراعنة في أسلوب قصصي ممتع. وقد ولد إبرس في برلين سنة 1837، وجالت بذهنه منذ الحداثة أمنية عزيزة هي أن يزور بلاد الفراعنة وما وراءها من البلاد التي تخلب سيرها لبه. وعني بدراسة تاريخ مصر القديم دراسة خاصة، وعين في سنة 1865، مدرساً للتاريخ المصري القديم في جامعة فينا، ثم عين أستاذاً له في جامعة لايبزج سنة 1870؛ وهنا فكر إبرس في تحقيق منيته فسافر إلى مصر والنوبة، وعثر أثناء تجواله بمصر على ورقة البردي الشهيرة التي عرفت باسمه، وهي ترجع إلى نحو ألف وستمائة عام قبل الميلاد وبها معلومات طبية فرعونية، فحملها معه إلى ألمانيا، وأذيعت محتوياتها، فأثارت في الدوائر الأثرية أعظم اهتمام، ونال إبرس شهرة عظيمة، وكان ذلك سنة 1874؛ وعاد إبرس وذهنه يفيض بسحر مصر القديمة، ويتوق إلى التجوال في هذه السير العجيبة ووصفها، وكان قد أصدر منذ سنة 1868 كتاباً عنوانه (مصر وكتب موسى) وكتاباً آخر عنوانه (مصر بالقول والوصف) فرأى عندئذ أن يبدأ كتابة سلسلة كبيرة من(195/79)
القصص الفرعونية؛ فاستقال من منصبه الجامعي، وعكف على التأليف والكتابة، وأخرج قصته الأولى (ابنة ملك مصري) وهي قصة فرعونية وقعت حوادثها في عهد الملك ابسماتيك، وفيها وصف لنضاله ضد الفرس. ثم أتبعها برواية (وردة) (سنة 1877) ثم رواية (القيصر) (سنة 1881) ثم يسرابيس (سنة 1885) ثم (الأختين) ثم (كليوباترا) (سنة 1894)؛ وقد اشتهرت قصص إبرس الفرعونية وذاعت ذيوعاً عظيماً. وطبعت مؤلفاته مجتمعة في 25 مجلداً سنة 1895، وترجمت إلى معظم اللغات الأوربية. وتوفي إبرس في سنة 1898، بعد أن حقق باكتشافاته وكتاباته في تاريخ الفراعنة فتحاً عظيماً
التسليحات. السباق والأزمة:
صدر أخيراً في إنكلترا كتاب سياسي خطير عنوانه: (التسليحات السباق والأزمة) بقلم كاتب سياسي كبير هو فرنسيس هرست، ومسألة التسليح، والتنافس فيها هي مسألة اليوم في أوربا، وقد بلغت اليوم ذروة التنافس والاضطرام، ويمهد المستر هرست لكتابه بمقدمة تاريخية يقول فيها إن التسابق في التسليح في القرن التاسع عشر يرجع إلى بواعث وهمية والى مخاوف لا أساس لها. وأما الخصومة فيما قبل الحرب بين إنكلترا وألمانيا فترجع إلى أن اللورد جراي قد تدخل في سلسلة المحالفات الأوربية.
ويستعرض الكاتب بعد ذلك مسابقة التسليح التي تجري منذ سنة 1933، ويقدم عنها بيانات وأرقاماً واضحة، ومن رأيه أن حمى التسليح الحاضرة في أوربا ترجع إلى السياسة الفرنسية فيما بعد الحرب، وهي سياسة زادها الميثاق الفرنسي السوفيتي تعقيداً وخطراً، وإن هذا الميثاق يرمي إلى تفويق ألمانيا. ثم يقول أن نفقات ألمانيا في الأعوام الخمسة الأخيرة على التسليح هي بلا ريب أدنى من نفقات فرنسا، وأدنى من نفقات روسيا، وربما كانت مساوية لنفقات بريطانيا؛ ورخاء ألمانيا الحاضر دليل على أنها تنفق على التسليح أقل مما يذاع. ثم أن ما تعانيه ألمانيا الآن من نقص في المواد الأولية ينذر بأنها لن تستطيع المضي في الإنفاق على التسليح بهذه الصورة. ويبدي مستر هرست على العموم تأييداً لوجهة النظر الألمانية ويقول مثل ما تقول ألمانيا إن تشيكوسلوفاكيا تسودها روسيا السوفيتية، وأن روسيا تنفق على التسليح أكثر مما تعلن أرقامها
ويصور مستر هرست ألمانيا ضحية بريئة لهذا التسابق؛ وهو رأي لا يقره عليه كثيرون؛(195/80)
وقد كان مستر هرست قبل الحرب من خصوم السياسة البريطانية التي تميل إلى مخاصمة ألمانيا؛ ومن رأيه أن التسليحات الكبرى ليست ضماناً للسلام كما يرى البعض، وأن الحرب لا تتقى بهذه الصورة بل لابد لاتقائها أن تبحث أسباب الخلاف والخصومة ثم تعالج بما يزيلها ويمسحها
في معرض باريس
من العجائب التي سيشهدها زوار معرض باريس الدولي رجل من زجاج من مقتنيات المتحف الصحي الألماني؛ وهو أعجوبة من أعاجيب الصناعة الفنية، وهذا الرجل الزجاجي يعطي بالألمانية كل الإيضاحات اللازمة عن تركيبه وعن أجزائه؛ بيد أنه يراد أن يكون هذا البيان بالفرنسية، ولذلك سيجهز الرجل الزجاجي بالآلات والأجهزة اللازمة التي تجعله ينطق بالفرنسية
كذلك سترسل ألمانيا إلى المعرض مجهر (سايس) الشهير، وسيوضع في مكان خاص به تمكن منه تجربة في رصد الكواكب
تمثال شيخ البلد
يشمل سؤال حضرة م. ح. بأسيوط الفقرات الآتية:
1 - هل عرف النظام الإداري القديم (شيخ البلد) كما تعرفه مصر الآن من أقصاها إلى أقصاها؟
2 - هل عرفت هوية هذا التمثال وعرف عمله في الدولة؟
3 - هل الحقيقة هي ما قرأناه في كتب التاريخ من أن عمال الحفر لما أخرجوا هذا التمثال من مكانه، راعهم ما وجدوا من شبه بينه وبين شيخ البلد، فأطلقوا على التمثال (شيخ البلد)؟
4 - . . . لزمته هذه التسمية، ولم يغيرها علماء الآثار؛ لما لم يعرفوا صاحبه. ولم يجدوا من النقوش والكتابات ما يبوح بسره وينم عن جلية أمره.
5 - هل للدكتور أن يميط اللثام عن حقيقة التمثال المذكور خدمة للعلم والتاريخ؟
إني أشكر حضرة الأستاذ الفاضل لاهتمامه بهذه النقطة، كما أبدي مزيد سروري للصلة(195/81)
الأدبية التي أوجدها حضرته بيني وبينه
فعن الفقرة 1 - أقول نعم عرف النظام الإداري القديم (شيخ البلد) لا من الناحية اللفظية؛ بل من الناحية المعنوية والعملية، أعني أن الذين قاموا بمراقبة تنفيذ أوامر الملوك والأمراء والكهنة، وتقديم المخالفين للمعاقبة أو المحاكمة، كانوا من هذه الناحية أشبه شيء بشيوخ البلدان، كما أن الذين قاموا بملاحظة عمليات بناء الأهرام والمعابد والمقابر والقصور كانت مهمتهم إلى حد ما، مهمة الرئاسة والإشراف وحصر المسئولية التي يمكن اعتبارها - إذا سمح الأستاذ - مهمة شياخة! كما كان الذين جمعوا الأموال والضرائب أشبه شيء برجال الإدارة.
ويمكن لحضرة الأستاذ إذا رغب التوسع الرجوع إلى:
(1) 1925 79 80 ,
(2) , 1923 96 , 97 98 ,
2 - لم تعرف شخصية صاحب التمثال بالضبط، ولكن يجب ألا ننسى أن العلامة ماريت والرئيس روبي - الذي حضر اكتشاف التمثال الخشبي الذين كان ناقص الساقين وقت اكتشافه، وقد أكملا من خشب باللون الطبيعي - ما كانا ليوافقا على هذه التسمية على رغم مشابهة ملامح التمثال لشيخ بلدة سقارة في ذلك الحين، لو أنهما وجداه ممسكاً بمقيض فأس أو قيثارة مثلاً! (راجع وصف التمثال: بدليل التحف المصرية الفاخرة لمدينة القاهرة، تأليف جاستون ماسبرو وترجمة أحمد كمال، الطبعة الأولى سنة 1903 صفحتي 69، 70)
3، 4 - تندمجان في الفقرة السابقة.
5 - إذا كان حضرة الأستاذ الفاضل قد عني بقراءة كتب التاريخ التي استنتج منها عدم وجود نقوش وكتابات تبوح بسر التمثال، فإني أرى أنه بتكليفي كشف اللثام عن حقيقته - ميال إلى المداعبة، وأعترف له بأني عاجز عن إماطة اللثام عن حقيقة لنفس الأسباب التي صادفت أساتذتنا من علماء التاريخ والاجيبتولوجي الذين لا أعتبر نفسي شيئاً مذكوراً إلى جانبهم والسلام.
الدكتور أحمد موسى
أسبوع الجاحظ في الجامعة المصرية(195/82)