نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 6 -
للباحثين في تاريخ الفلسفة مذاهب كثيرة وطرائق مختلفة. فجماعة يرون إن واجب المؤرخ ينحصر في دراسة الأشخاص وتفصيل القول في حياتهم وبيان الظروف المحيطة بهم والعوامل الداخلية والخارجية التي أثرت فيهم. ولا يعنون عناية كبيرة بأفكارهم في نشأتها وتكونها وارتباطها بالآراء والنظريات السابقة واللاحقة. على أنهم إن تعرضوا لهذه الأفكار نظروا إليها منعزلة عما حولها، وبدت في أيديهم كأنها وحدة مستقلة وحلقة منفصلة عن سلسلة التفكير الإنساني. وهناك طائفة أخرى تؤمن بأن الفلسفة دائمة وأن الأفكار الفلسفية في مختلف العصور متصلة الحلقات مرتبط بعضها ببعض. فيجب على الباحث إذن أن يبين مقدار تأثر الخلف بالسلف وما زاد التلميذ على الأستاذ. وليس بكاف أن يقال إن فيلسوفاً ما جاء بفكرة معينة، بل لا بد من البحث عن أمهات هذه الفكرة وجداتها القريبات أو البعيدات، وعن بناتها وبنات بناتها إن صح أنها أعقبت في الأجيال التالية؛ والأفكار كالأشخاص ذات تاريخ يطول ويقصر وحياة متنوعة الألوان والأشكال، ففي حين أنه يقدر لبعضها الخلود قد يقضى على بعضها الآخر بالإهمال والنسيان.
وفي رأينا أن الدراسة التاريخية الكاملة تستلزم الجمع بين هاتين الطريقتين؛ وكي تفهم الأفكار فهماً صحيحاً يجب أن تدرس على ضوء حياة أصحابها والبيئة التي تكونت فيها، ولا يمكننا أن نقدر الفلاسفة والمفكرين حق قدرهم وننزلهم في المنزلة اللائقة بهم إلا أن تتبعنا أفكارهم في مختلف أدوارها وأثبتنا ما أنتجت من آثار. وكثيراً ما أعانت الأفكار على توضيح نواح غامضة في حياة مبتكريها أو القائلين بها.
وسيراً على هذه السنة قد بدأنا فعرضنا نظرية النبوة كما تصورها الفارابي، وحاولنا أن نبين الأسباب الاجتماعية والدينية التي دفعته إليها، والمناقشات اليومية والأبحاث النظرية التي ولدتها، ثم صعدنا إلى أصولها التاريخية ووضحنا العلاقة بينها وبين بعض الآراء(179/27)
القديمة، وناقشناها أخيراً مبينين ما إذا كانت تلتئم مع التعاليم الإسلامية وتقتصر شقة الخلاف بين الفلسفة والدين؛ ونرى اليوم واجباً علينا أن نبين ما لهذه النظرية من أثر فيمن جاء بعد الفارابي من فلاسفة ومفكرين، وسنتتبع تاريخها في المدارس الإسلامية على اختلافها محاولين أن نبين كذلك مقدار نفوذها لدى اليهود والمسيحيين في القرون الوسطى والتاريخ الحديث.
وقد يكون أول سؤال يسأله الباحث هو: هل أخذ فلاسفة الإسلام الآخرون بهذه النظرية؟ والجواب على هذا أن ابن سينا أولاً اعتنقها في إخلاص، وعرضها على صورة تشبه تمام الشبه ما قال به الفارابي من قبل، وقد خلف لنا رسالة عنوانها: (في إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم)، وفيها يفسر النبوة تفسيراً نفسياً سيكلوجياً، ويؤول بعض النصوص الدينية تأويلاً يتفق مع نظرياته الفلسفية. ويبدأ كالفارابي، فيوضح الأحلام توضيحاً عليماً؛ فإذا ما حل مشكلتها جاوزها إلى موضوع النبوة. وفي رأيه أن التجربة والبرهان يشهدان بأن النفس الإنسانية تستطيع الوقوف على المجهول أثناء النوم؛ فليس ببعيد عليها أن تستكشفه في حال اليقظة. فأما التجربة والسماع فيقرران أن أشخاصاً كثيرين تنبئوا بالمستقبل بواسطة أحلامهم. وأما عقلاً فنحن نسلم بأن الأحداث الماضية والحاضرة والمستقبلة مثبتة في العالم العلوي ومقيدة في لوح محفوظ، فإذا استطاعت النفوس البشرية الصعود إلى هذا العالم والوقوف على هذا اللوح عرفت ما فيه وتنبأت بالغيب، وهناك أشخاص يدركون هذا أثناء النوم عن طريق مخيلتهم فيحلمون بأشياء كأنها حقائق ملموسة، وآخرون عظمت نفوسهم وقويت مخيلتهم، فأدركوا ما في عالم الغيب في حال اليقظة كما يدركونه أثناء النوم. وهؤلاء هم الأنبياء الواصلون إلى مرتبة النور والعرفان. يقول ابن سينا (التجربة والقياس متطابقان على أن للنفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما في حال المنام. فلا مانع من أن يقع مثل ذلك النيل في حال اليقظة إلا ما كان إلى زواله سبيل ولارتفاعه إمكان. إما التجربة فالتسامع والتعارف يشهدان به، وليس أحد من الناس إلا وقد جرب ذلك في نفسه تجارب ألهمته التصديق، اللهم إلا أن يكون أحدهم فاسد المزاج نائم قوي التخيل والتذكر. وأما القياس فاستبصر فيه من تنبيهات:
تنبيه: قد علمت فيما سلف إن الجزئيات منقوشة في العالم العقلي نقشاً على وجه كلي، ثم قد(179/28)
نبهت لأن الأجرام السماوية لها نفوس ذوات إدراكات جزئية وإرادات جزئية تصدر عن رأي جزئي. ولا مانع لها عن تصور اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري.
إشارة: ولنفسك أن تنتقش بنقش ذلك العالم بحسب الاستعداد وزوال الحائل. قد علمت ذلك فلا تستنكرن أن يكون بعض الغيب ينتقش فيها من عالمه) فالحقائق منقوشة في العالم العلوي وكل من اتصل به أدركها. والمهم فقط هو شرح كيفية هذا الاتصال. وابن سينا يوضح هذا توضيحاً يحاكي فيه الفارابي حذوك القذة بالقذة. فيلاحظ أن بعض المرضى والممر ورين يشاهدون صوراً ظاهرة حاضرة دون أن يكون لها أية صلة باحساساتهم الخارجة؛ ولابد لهذه الصور من سبب باطني ومؤثر داخلي. وإذا بحثنا في قوى النفس المختلفة وجدنا أن المخيلة مصدر الصور الباطنية المختلفة بيد أنه قد يصرفها عن عملها شوا غل حسية وأخرى باطنية. فإذا انقطعت هذه الشواغل أو قلت أثناء النوم لم يبعد أن تكون للنفس فلتات تخلص بها إلى جانب القدس فينتقش فيها نقش من الغيب. وإذا كانت النفس قوية الجواهر تسع الجوانب المتجاذبة، وتستطيع الاستيلاء على الشواغل المختلفة، لم يبعد أن يقع لها هذا الخلس والانتهاز في حال اليقظة. وهذه القوة ربما كانت للنفس بحسب المزاج الأصلي؛ وقد تحصل بضرب من الكسب يجعل النفس كالمجرد لشدة الذكاء كما تحصل لأولياء الله الأبرار. والذي يقع له هذا في جبلة النفس ثم يكون خيراً رشيداً مزكياً لنفسه، فهو ذو معجزة من الأنبياء، أو كرامة من الأولياء. وتزيده تزكيته لنفسه في هذا المعنى زيادة على مقتضى جبلته فيبلغ المبلغ الأقصى.
فالنبوة إذن فطرية لا مكتسبة، وكل ما للكسب فيها من يد أنه يزيد النبي كمالاً على كماله، ورفعة فوق رفعته. وإذا ما حظي شخص بالاتصال بالعالم العلوي تمت على يديه أمور خارقة للعادة من معجزات وكرامات. وهذه الأمور وإن غاب عنا سرها يمكن أن تفسر من هذه الطريق النفسي الروحاني. يقول ابن سينا: (لعلك قد تبلغك عن العارفين أخبار تكاد تأتي بقلب العادة فتبادر إلى التكذيب. وذلك مثل ما يقال إن عارفاً استسقى للناس فسقوا، أو استشفى لهم فشفوا، أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر، أو دعا لهم فصرف عنهم الوباء والموتان، أو السعير والطوفان، أو خشع لبعضهم سبع، أو لم ينفر(179/29)
عنه طير، أو مثل ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح، فتوقف ولا تتعجل، فان لأمثال هذه أسباباً في أسرار الطبيعة، وربما يتأتى لي أن أقص بعضها عليك). وهذه الأسباب، في رأي ابن سينا، ليست شيئاً آخر سوى ان النفوس السامية وقد تجردت عن المادة وصعدت إلى سماء الأرواح تستطيع التأثير في العالم الخارجي مثل نفوس الأفلاك وعقولها. وأثرها هذا خاضع في الواقع للإرادة الإلهية وفيض من العناية الربانية. فالمعجزة وإن خرجت على المألوف في ظاهرها هي أثر من آثار القوى المتصرفة في الكون. وكأن ابن سينا أحس بأن هناك أشخاصاً سيتمادون في طريق الفروض العقلية ويرفضون هذه التفسيرات الروحانية، فعاد في آخر بحثه ودعاهم إلى التأني والتدبر والبحث والتمحيص قبل الإنكار والقطع بالاستحالة، وختم إشاراته بتلك النصيحة الذهبية الغالية التي يجب أن يضعها كل باحث وكل مفكر دائماً نصب عينيه. يقول: (إياك أن يكون تلبسك وتبرؤك عن العامة هو أن تنبري منكراً لكل شيء فذلك طيش وعجز، وليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبن لك بعد جليته دون الخرق في تصديقك ما لم تقم بين يديك بينته. بل عليك الاعتصام بحبل التوقف، وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك ما دامت استحالته لم تبرهن لك. والصواب لك أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان، ما لم يذدك عنها قائم البرهان، واعلم أن في الطبيعة عجائب، وللقوى العالية الفعالة والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات على غرائب)
درس ابن سينا نظرية النبوة في البحث الأخير من الإشارات فجاءت درة العقد وإكليل الكتاب، وأفاض عليها من فصيح بيانه وقوة برهانه ما منحها سلطاناً فوق سلطانها وقوة إلى جانب قوتها، ويغلب على ظننا أن كل فلاسفة الإسلام اخذوا بها. ومما يؤسف له أنه لم يصلنا شيء عن ابن باجة وابن طفيل يوضح موقفهما إزاءها، إلا أن نزعتهما التصوفية ورغبتهما الأكيدة في التوفيق بين الفلسفة والدين تدفعنا إلى القول بأنهما كانا يسلمان بها ويدعوان إليها، أما ابن رشد فقد عرض لها في تهافت التهافت مفنداً لاعتراضات الغزالي ومدافعاً عن الفلاسفة القدامى والمحدثين، وهو يرى أن هذه النظرية وإن تكن من صنع فلاسفة الإسلام وحدهم مقبولة في جملتها، ولا وجه للغزالي في الاعتراض عليها، وما دمنا نسلم أن الكمال الروحي لا يتم إلا باتصال العبد بربه فلا غرابة في أن تفسر النبوة بضرب(179/30)
من هذا الاتصال. غير أن هذه التفسيرات العلمية يجب أن تبقى وقفاً على الفلاسفة والعلماء، فأن عامة الناس لا يدركون كنهها ولا يستطيعون الوقوف على حقيقتها، وجدير بنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، ونقدم لكل طائفة ما يناسبها من غذاء.
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور(179/31)
الشفاء
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . كان مصاباً بالسل، ولكنه سل غريب قاتل، لم يكن في الرئة ولا في الأمعاء، بل كان في النفس، في الفكر، فكان يعطل شعوره وتفكيره، ويخنق حياته، ويهد كيانه. . . كان مصاباً (بداء الحب).
خمدت جذوة قريحته، وتعطلت ملكاته كلها، وضاع ذكاؤه وبادت فطنته، وضاق كل شيء في نظره، فأصبح يراه مقتضباً مختصراً: فالمسرات كلها اختصرت في لقاء من يحب، والآلام في فراقه، والواجبات كلها في إرضائه، والمحرمات كلها في أغضابه، واختصر كتاب حياته، وطمس اسمه وعنوانه، فكان حاشية صغيرة على هامش الحياة التي يحبها، واختصرت الدنيا الطويلة العريضة المليئة بالفضائل والأمجاد، الفياضة بالجمال والحقيقة والخير، فكانت كلها هذه المرأة. . .
وأقهم عن الطعام واجتواه، وأصبح خالفاً لا يشتهيه ولا يميل إليه؛ وإذا اضطر أكل أكل من قزت نفسه واكتفى بلقيمات ما يقمن صلبه، كأن هذا المرض لا يرضيه ما يفسد من النفس، حتى يحطم الجسم؛ وأصابه الأرق، فأمسى يبيت ليله سهران مسهداً، وإذا رنق النوم في عينيه، وغلبته حاجة جسمه خفق خفقة، ثم أفاق فزعاً، يفكر في هذا الإنسان، يخاف أن يطير مع الأنفاس، أو يسيل مع الدمع، أو يغرق في بحر عينيه!. . .
فهزل جسمه وخارت قواه، وتراخت مفاصله، وشحب وجهه، وآض ساهماً رازماً، ضعيفاً مخبخبأ، ولم يعد يعيش إلا على المجاز، يعيش بذكرى أيامه الماضية قبل أن يصيبه هذا السل، أيام كان ذا جسم قوي، وفكر ثاقب، وقلت شاعر. . . ولم يعد ينتفع بنفسه، أو ينتفع بها الناس بشيء، لأنه أصبح لا لنفسه ولا للناس ولا للحياة، ولكن لإنسان واحد يحبه. . .
وهكذا الحب أبداً: مرض في الجسم، وضيق في الفكر، وفرار من حومة الحياة!
وكان أمس، وكان يوماً هجهاجاً من أيام الخريف في بغداد، هبت فيه الرياح خرقاء هوجاء معصفة، تذعذع الأشجار، وتثير الأوراق، وتكسر الأغصان، وتمتد إلى كل شيء في الطبيعة، فتعيث فيه وتعبث به، وتدفعه من ههنا، وههنا. . . معتكرة تسفي التراب. وتحمل هذا الغبار الناعم الدقيق الذي يملأ الجو ويخالط كل ذرة من ذرات الهواء، وينتشر في(179/32)
السماء كمثل السحاب، يمنع الشمس، ويحجب المرئيات، ولا يمنع منه شيء، فهو يدخل الغرف مهما أحكمت إغلاق الباب وضبطت النوافذ، وينفذ من خلال الثياب مهما كانت حصيفة محكمة، ويخش في العيون والمناخر والآذان، وفي أصول الشعر، ويمر إلى أجواف الصناديق، وبطون الخزائن، وقلوب الساعات. . . بل إنه لدقته وخفته وسرعته ليكاد يدخل في نفسه. . .
وكان على صاحبنا أن يغدو إلى عمله في بغداد، وكان ينزل ضاحية من ضواحيها، فتردد ثم لم يجد من الأمر بداً، فتحزم وتدثر، وتعطف بمعطفه الثخين، والتحف فوقه بالممطر (المشمع) يتقى به المطر، ولف شملة على عنقه، ولبس قفازيه، وأخذ عصاه فتوكأ عليها؛ وسار الهويني، لا يطيق حراكاً، لكثرة ما يحمل من ثياب، ولطول الطريق، وشدة الرياح، وما به من الضعف والإعياء.
وكان وحده في طريق (الصليخ)، لم يجد سيارة يركبها، ولا قوماً يصحبهم، فنزل ماشياً، وكان الطريق طويلاً على طرفيه النخيل، تعبث به الرياح فتميل بجذوعه وتحرك أغصانه. فتفرقها ثم تجمعها، فتبدو كأنما هي مراوح ضخمة، تحركها يد لا ترى، فتروح بها على وجه الدنيا، وكانت تظهر أوائلها، وتغيب أواخرها في هذا السحاب الترابي الذي يغطى على كل شيء، ويصل الأرض بالسماء، فترى الطريق كأنه صاعد إليها، أو تراها كأنها هابطة إليه؛ وكانت الرياح زعزعاً شديدة، تميل بالأشجار وتعصف بالغصون، ولم يكن ثابتاً وسط الرياح إلا صاحبنا بعصاه وضعفه وأحماله. . . ولحظ ذلك من نفسه، وأعجبه أن يلحظه ويفكر فيه، وعراه شيء من الاعتداد بالنفس، وازداد حتى ملأه الشعور بقوته، فجعل ينظر في عطفيه زهواً وتيهاً، وجعل يتأمل دخيلته، ويفكر في نفسه؛ من هو؟ وما هذه الحياة التي يحياها؟. . .
واشتدت الرياح وعزفت، ثم صفرت صفيراً، فلم يبال بها ولم يحفلها، لأن زوبعة أخرى أشد هولاً قد هبت في نفسه. . . تنطح هذا الحب وتريد أن تنسفه. . . فوقف يفكر: لماذا يضيق حياته بيده؟ لماذا يعطل فكره وملكاته؟ أكل ذلك لأنه وجد إنساناً جميلاً ظن أنه يحبه؟
لتكن جميلة أو قبيحة، ما شأنه هو بها؟ ومن قال إنه لا يعيش إلا بها؟ ماذا كان يصنع قبل(179/33)
ان يعرفها؟ ألم يكن يعيش؟ ألم تكن حياته أجمل وأحفل بالعظائم، وأملأ بالفضائل؟ هل كان هذا الحب إلا مرضاً عضالاً هد جسمه ومحا مواهبه، وفل عزيمته، وأقام بينه وبين الحياة سداً من لحم ودم؟
يا للسخف! أيحكم على نفسه بالألم الدائم، والقلق المستمر ليحظى ذلك الإنسان بالسرور والاطمئنان؟
أيوجب على نفسه الشحوب لأنها موردة الوجنتين؟ أيختار المرض والهزال لمجرد أنها صحيحة بضة؟. . .
يا للخجل! ألا يرى الدنيا إلا في عيني هذا الإنسان؟ أيقنع من السعادة والمجد والعلم والبطولة والدفء والنور والحياة بابتسامة واحدة؟
وبدا له الحب كأسخف شيء يكون. . .
وكانت الدنيا قد استطير لبها، وجن جنونها، وهطلت الأمطار سريعة قوية، تضرب وجهه. . . فأحس بالقوة والنشاط، وجعل ينشق ملء رئتيه، وتبرق عيناه بريق العزم، ثم ألقى عصاه وشملته، ونزع عنه هذه الأحمال من الثياب. . . وانتفض وضرب الفضاء بقبضيته، وصاح صحية الفرح: قد شفيت!
ثم انطلق نحو الدنيا الواسعة. لم تعد محرمة عليه، لأنه لم يعد يحب!
(بغداد)
علي الطنطاوي(179/34)
ما قول علمائنا؟
الوحدة الإسلامية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
الأستاذ بكلية اللغة العربية بالأزهر
سمعت المحاضرة التي ألقاها بدار جمعية الشبان المسلمين صاحب السماحة الشيخ عبد الكريم الزنجاني كبير مجتهدي الشيعة ورئيس مجلسهم الأعلى، وكانت المحاضرة في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، فرأيت فيه عالماً كبيراً، وإماماً مصلحاً، يندر وجود مثله بين علماء المسلمين في هذا العصر. ولا غرو أن تنجب بلاد إيران مثله، فقد أنجبت قبله في هذا العصر ذلك الحكيم العظيم، (جمال الدين الأفغاني) موقظ المسلمين من غفلتهم، وباعث الدعوة الإصلاحية القائمة الآن فيهم؛ وكأن الله أتى بالأستاذ الزنجاني ليكمل ما بناه قبله الحكيم الأفغاني، فليسر الأستاذ في سبيله، ولينسج على منواله، فالطريق ممهدة والغاية مرجوة، والأمل كبير في النجاح بعون الله تعالى.
ولكن كيف تتم الوحدة الإسلامية التي يدعو الأستاذ الزنجاني إليها؟ وما هو الطريق الموصل إليها حقيقة لا خيالاً؟ هنا أخالف الأستاذ الزنجاني فيما يراه من قيام هذه الوحدة على إزالة الفوارق بين الطوائف الإسلامية في الأصول الدينية على الأقل، وتقريب شقة الخلاف بين هذه الطوائف حتى تنحصر في الفروع وحدها.
فأني أرى ان هذا طريق شائك لا يوصلنا إلى الغاية المطلوبة من هذه الوحدة، لأن هناك خلافات حقيقية وكبيرة بين هذه الطوائف، ولا يمكن التقريب بينها فيها ولو بذلنا في ذلك ما بذلنا؛ فلا بد من طريق آخر يوصلنا إلى هذه الوحدة غير هذا الطريق ويقوم فيه بناؤها مع قيام هذه الفروق، وبقاء تلك الخلافات في الأصول والفروع.
فالخلاف بين أهل السنة والشيعة في عصمة الأئمة خلاف حقيقي، وهو خلاف في أصل من أصول الاعتقاد لا في حكم من الأحكام الفرعية؛ وأهل السنة يرون أن العصمة صفة خاصة بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أما الشيعة فلا يرون العصمة صفة خاصة بهم ويعتقدون العصمة في الأئمة من أهل البيت أيضاً، ولكنهم لا يقولون بأنهم أنبياء أو(179/35)
رسل. وقد تكلف الأستاذ الزنجاني إزالة الفرق بين أهل السنة والشيعة في هذا الاعتقاد، فقال ما مؤداه إن عصمة النبيين تختلف عن عصمة الأئمة عند الشيعة، وأنها في الأئمة معناها العدل والثقة، ونحن إذا وثقنا من رجل في علمه ودينه وعمله استبعدنا أن يقع منه خطأ أو مالت نفوسنا إلى استبعاد وقوع هذا الخطأ منه؛ أما عصمة الأنبياء فلها معناها الحقيقي، فهم معصومون عن كل خطأ، والفرق ظاهر في التقديرين وفي الحكمين. وإني أرى أنه لو كان هذا هو المراد من عصمة الأئمة لما كان هناك معنى في تسميتها عصمة، ولكان شأن الناس فيها كشأن الأئمة من أهل البيت وهو ما لا يقول به الشيعة.
وكذلك الخلاف بين أهل السنة والشيعة في خلافة الشيخين (أبي بكر وعمر) خلاف حقيقي، وله قيمته عند الفريقين.
ويضاف إلى هذا وذاك أن الشيعة في أصول الاعتقاد يتفقون في كثير منها مع أئمة المعتزلة، ويخالفون أهل السنة، كمسألة نفي الصفات وغيرها من مسائل علم الكلام، وهذه كلها خلافات يصعب إزالتها، فلا يصح أن نطمع في بناء الوحدة الإسلامية على محوها
وإنما الواجب في ذلك أن نقبل هذه الخلافات في ديننا، وأن تتسع لها صدورنا، وأن نجعل الخلاف في مثل هذه الأصول مثل الخلاف الذي نقبله في الفروع، فإذا قال الشيعة بعصمة الأئمة فلهم في هذا رأيهم، ما داموا يقولون إنهم أئمة معصومون، وليسوا بأنبياء ولا برسل؛ وإذا قال الشيعة إن علياً رضي الله عنه كان أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأنكروا خلافتهما فلهم في هذا أيضاً رأيهم، ولنا رأينا في أن خلافتهما خلافة صحيحة.
وليقم الجدال في هذا وأمثاله بين الطوائف الإسلامية على الإقناع بالحجة النقلية أو العقلية، ولنبعد فيه عن التغالي في التعصب للرأي، والطعن في الدين والعقيدة، والرمي بالإلحاد والكفر، ولنجعل الخلاف في الرأي أداة تواصل وتعارف، لا أداة تقاطع وتجاهل، وليقم الخلاف بيننا على أنه خلاف بين أخوين في الدين، تجمعهما كلمة الإسلام، وتظلهما راية التوحيد، وقد امتاز الإسلام على غيره من الأديان بما سنه من سنة الخلاف في الرأي، فقال الله تعالى في سورة هود (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) وجعل(179/36)
الرسول صلى الله عليه وسلم للمجتهد إذا أخطأ أجراً واحداً، فإذا أصاب فله أجران، ولم يفرق في هذا بين أصول وفروع، بل أطلق الأمر إطلاقاً، وفتح باب الاجتهاد في الأصول والفروع معاً.
وهذا هو الأساس الصحيح الذي لا يمكن أن تقوم على غيره تلك الوحدة المطلوبة، أما ذلك الأساس الذي يراد بناؤها عليه فلا يمكن تحقيقه أبداً، لأن الخلاف في الرأي سنة طبيعية في الإنسان، وعلى هذا مضى أمره منذ الخليفة، وسيمكث عليه إلى ما يشاء الله تعالى.
ولابد أن أشير في هذه الكلمة إلى أنه لا بد في تحقيق تلك الوحدة من قبر ذلك الماضي القائم على التدابر والتقاطع، ولا يمكن قبر هذا الماضي إلا بقبر هذه الكتب المتدابرة المتقاطعة، وهي الكتب التي يدرسها أهل السنة في الجامع الأزهر بمصر، والكتب التي يدرسها الشيعة في معهد النجف الأعلى بالعراق؛ وقد أخذت النفوس في الأزهر هذه السنة تحن إليها، وتعمل على إعادة كثير منها، وتمدح مماحكاتها اللفظية الساقطة، وتنسى ما جلبت من الشقاء على الإسلام والمسلمين، وأنه بينما كانت كل قوانا الفكرية مصروفة إلى ألفاظها، كانت قوى غيرنا مصروفة إلى حقائق الأشياء ومعانيها، فنجحوا في علومهم دوننا، وتقدموا وتقهقرنا، ولم تنفعنا هذه المماحكات اللفظية التي برعنا فيها. ولا بد أن أشير أيضاً إلى أنه لا يكفي في تحقيق تلك الوحدة أن يزور الأستاذ الزنجاني الأزهر والكليات التابعة له، ثم نبادله في معهد النجف الأعلى زيارة بزيارة، بل لا بد من الاعتراف في الأزهر بفقه الشيعة ودراسته فيه كما يدرس فقه أهل السنة، ويكون هذا بندب أستاذ لدراسته في الأزهر من أساتذة معهد النجف الأعلى، كما يجب أن يعترف الشيعة بفقه أهل السنة، ويدرسوه في معهدهم كما ندرس فقههم في أزهرنا، ويكون هذا بندب أستاذ من أساتذة الأزهر لدراسة فقهنا عندهم، فيتم بهذا التعارف بيننا وتزول تلك الجفوة الممقوتة، وتتحقق تلك الوحدة المطلوبة.
عبد المتعال الصعيدي(179/37)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
- 3 -
إن العلم يجب أن يكون حراً طليقاً يبحث في العالم المجهول حيث شاء وأين يقع. هكذا تقول أنت، وهكذا كنت أقول يا سيدي، ومن أجل جهري بهذا الرأي وإعلاني إياه بصوت غير خافت ساء ما بيني وبين قوم ذوي نباهة وسلطان. كلانا مخطئ يا صحابي في زعمه! وشاهدنا إسميث الذي نحن بصدده. بدأ عمله مستمتعاً بحرية لا تزيد إلا قليلاً على حرية كاتب حكومي صغير، ووجب عليه ألا يبحث إلا في أشياء يمليها عليه الدكتور سلمون، وهذا بدوره إنما استخدم ليوجه إسميث إلى حل معضلات أعجزت المزارعين وأرباب المواشي. فالثلاثة جميعهم - سلمون وكلبورن وإسميث، وكذلك إسكندر، وليس بنا عنه غنى - كل هؤلاء دفعت السلطات إليهم أجورهم كما تدفعها إلى فرقة المطافئ، وانتظرت منهم مثل الذي تنتظره من فرقة المطافئ: أن ينهضوا كرجال الحريق كلما اشتعلت عدوى المرض في الخنازير والعجول والثيران والخرفان فيوجه إليها خراطيمهم فيندفع منها العلم اندفاعاً حتى تنطفئ فيعود البرء والسلام إليها. وكان أصحاب الماشية في هذا الوقت قلقين قلقاً شديداً من جراء مرض غريب يدعى بحمى تكساس.
كانت الأقطار الجنوبية تستورد أبقاراً من الشمال، فتساق هذه الأبقار السليمة من القطر الحديدية إلى المراعي فتنساب فيها فتختلط بأبقار الجنوب وهي جد سليمة، فيمضى الشهر أو الشهران على خير، ثم فجأة تظهر الوافدة الخبيثة في هذه الأبقار الشمالية الجميلة فلا تلبث أن تعاف الطعام، ويصيبها الهزال فتفقد في اليوم الواحد أرطالاً من وزنها، ويجري بولها أحمر غريباً، وتقف حائرة متقوسة الظهر حزينة العين، ثم لا تمضي أيام قليلة حتى تكون كل بقرة قد سقطت سقطة الإعياء، ثم ترقد على الأرض رقدة الموت، وقد تصلبت أرجلها، واستترت بجسومها الباردة المديدة أرض الحقول. وحدثت هذه المأساة عينها عندما(179/38)
استورد أهل الشمال من الجنوب عجولاً، فلما رعت هذه العجول في الحقول ونزحت عنها، وحل محلها قطعان من بقر شمالي، لم يمض على هذا البقر ثلاثون يوماً أو نحوها حتى أخذ يموت، ولم تمض عشرة بعد أيام ذلك حتى عمه الموت.
أي موت غريب هذا الذي حملته الأبقار الجنوبية إلى الحقول الشمالية دون أن تصاب هي به، فاختبأ بعد ذلك في مخابئ الأرض يتربص لأبقار الشمال ليذيقها عذاب الموت ألواناً؟ وما السر في أنها إذا طلعت على هذا الموت المخبوء لا يبادرها بالهلاك بل يتمهل شهراً أو يزيد؟ وما السر في أن هذا الهلاك لا يحيق بها إلا في أشهر الصيف الحرار.
وثارت ثائرة الأمة كلها من أجل هذا، وساءت العلاقة بين أصحاب البقر في الشمال وأصحاب البقر في الجنوب. وهاجت مدينة نيويورك وارتاع أهلها لما جاءت الأنباء بموت مئات من الأبقار في القطر التي كانت تحملها من الغرب إليها لتغتذي من لحومها. وتحرج الموقف، وصار لا بد من عمل شيء، فنهض الأطباء الفخام في مصلحة الصحة للمدينة العظيمة وأخذوا في البحث عن المكروب الذي سبب هذا الداء. . .
وكان في الغرب طائفة من البقارين كسبوا الحكمة من طول تربيتهم للبقر، فخالوا لهذا الداء علة أوحيت إليهم إيحاء من خلل الدخان المتصاعد من نراجيلهم وهم يتأسون بتدخينها فوق الجثث المركومة التي أضاعوها بسبب هذا الداء. خالوا في شيء من الإبهام أن هذه الحمى التكساسية تسببها حشرة تعيش على جلد البهيمة وتمتص دمها، وأسموا هذه الحشرة القرادة
وضحك الأطباء العلماء في مصلحة الصحة بالمدينة العظيمة، وضحك معهم كل بيطري ممتاز في المحطات التجريبية الحكومية.
قرادة تقدح حمى! حشرة تخلق داء، من ذا الذي سمع بهذا أبداً! وأي علم يرضاه؟ إنها حماقة بالغة! وقال الدكتور جامجي وهو عمدة في الموضوع معروف: إن تفكيراً يسيراً قصيراً يقنع كل أحد بسخافة الفكرة. وكان قائماً قاعداً في بحث حمى تكساس، ولكن لفظة القراد لم تخرج من فيه أبداً. وكان العلماء في كل نواحي القطر قائمين في تقطيع أجسام الأبقار النافقة وكانوا يجدون البشلات في بطونها، ولكنهم لم يستخرجوا منها قرادة واحدة! قال أحدهم: إن روث البهائم ينشر بينها الحمى، فقال الآخر: إنك مخطئ، بل إن اللعاب ينقلها. وهكذا تعددت النظريات بتعدد الباحثين، وظلت الأبقار تموت وهم يختلفون.(179/39)
- 4 -
وفي عام 1888 كلف الدكتور سلمون رجاله الثلاثة أن يتوفروا على بحث الحمى التكساسية، فوضع اسميث في القيادة يعاونه كلبورن، ثم اسكندر ينظف من ورائهما. وطلب إليهم (أن يكتشفوا الجرثومة)، ولم يذكر لهم شيئاً عن القراد. ولم يأتهم في هذا العام من البقر غير أربع من الأكبدة ومثلها من الأطحلة، جاءتهم في الثلج في جرادل من فرجينيا وماريلاند إلى غرفتهم في ذروة البناء وهي كالفرن في حرارتها.
وكان لدى اسميث حس لم يكن لدى سائر البحاث، فحرر مكرسكوبه على قطع من الطحال الأول فرأى فيه مكروبات كثيرة عديدة الأنواع. واقترب بأنفه منها فتجعد من سوء ما أحس من رائحتها. فقد كانت فاسدة.
عندئذ قام يرسل الرسائل فوراً إلى البقارين أن ينتزعوا أحشاء البقر عقب موته بلا تريث، وأن يرسلوها إليه في الثلج، وأن يعملوا على تقصير ما تستغرق من الوقت في سفرها. وأنفذوا ما أراد. ونظر في الأطحلة لما جاءته فلم يجد بها مكروبة واحدة، ولكنه وجد بها عدداً كبيراً من خلال الدم الحمراء قد انفقع لغير سبب ظاهر، قال: (إن هذه الخلايا انفقعت فتحطمت بفعل فاعل)، ولكنه لم يجد مكروباً، وكان لا يزال حدثاً، وكانت به سخرية الشباب، وكانت به قلة اصطبار واحتمال للبحاث الذين لا يقدرون على التفكير العميق والتركز الشديد.
وكان رجل يدعى بيليجنس ادعى في سخافة أنه رأى بشلة عادية في كل جزء من جثة كل بقرة فحصها، وفي كل ركن من أركان الزريبة، حتى في أكوام روثها، ونسب إلى هذه البشلة حمى تكساس، ونشر عن ذلك مقالاً قال يفتخر فيه: (إن شمس البحوث الأصيلة في الأدواء تحول مطلعها من الشرق إلى الغرب).
قرأ إسميث هذا المقال فقال: (تلك لعمري طنطنة الفخور الغالي). وعقب على هذا ببضع جمل قصيرات قاسيات نال بها شر منال من هذا العبث الذي يدعى علماً. واستيقن أن لا فائدة من الجلوس في معمل مهما كثرت خنازيره الغينية، وترصصت زاهيةً بارقةً محاقنه، ما دام أن البحث لا يصنع فيها إلا التحديق في أكبدة وأطحلة من جثث بقر نالها الفساد إن قليلاً وإن كثيراً، وأراد أن يسلك السبيل السوي، سبيل التجريب الصادق؛ أراد أن يدرس(179/40)
الداء في البهائم الحية، أراد أن يدرسه فيها وهي تلفظ آخر أنفاسها، أراد أن يتتبع الطبيعة في خطواتها. وجاء صيف عام 1889 فأخذ يتجهز له. وذات يوم أخبره كلبورن بخبر تلك النظرية الخرقاء التي يتحدث بها البقارون، تلك النظرية التي تعزو الداء إلى قراد البقر.
عندئذ أرهف إسميث آذان عقله، لو أن للعقل آذاناً: (إن البقارين الذين يعيشون مع البقر، ويخسرون البقر إذا مات، ويرون من هذه الحمى الخبيثة أكثر مما يرى الباحث، هؤلاء البقارون هم الذين يقولون بهذه النظرية!).
ولد اسميث في المدينة، فهو ابن المدينة لا ابن الريف، ومع هذا فقد كانت تستهويه نفحات الحشيش وهو يحش، وأخاديد الحقل الدكناء وهو يفلح. وكان يؤمن بتلك الجمل القصيرة المقلمة التي ينطق بها الفلاحون عن الجو وعما تنبت الأرض، وكان يرى الحكمة فيها وأنها الحق أو أقرب ما تكونه. كان إسميث ضليعاً في الرياضيات عارفاً باختزالاتها البديعة، وهي علوم يجهلها كل الجهل هؤلاء الرجال الذين اصطنعوا الأرض واحترفوا فلاحتها. وكان كذلك ضليعاً خبيراً في كل تلك العلوم التي تتمثل في المجاهر والأنابيب والخرائط وبريق المعامل، ملماً بكثير من فنون العرفان الدنيوي الصناعي المزوق الذي درج على احتقار الحكمة تجري على ألسن العامة، والسخرية بسذاجة الفلاح وبساطة حاله. ولكنه مع كل هذه الدراسات الواسعة لم يأذن للأبنية الفخمة والمعامل البديعة وأجهزتها المعقدة أن تعكر عليه فكره الرائق، أو تتنفس على مرآة ذهنه الصقيلة، وهذا فيمن نشأ نشأته غريب نادر. وكان دائم الشك لكل ما يحصله من الكتب، دائم الريبة في كل ما تريه الأنابيب. . . ونظر إلى أشد الفلاحين جلفاً واخشيشاناً، وأحصرهم وأعقدهم لساناً؛ حتى إذا أمسك ببيبته - وهي من قلاح الذرة - فأخرجها من قبضة أسنانه - وقد تكون صفراء قلحة قذرة - فهمهم كالرعد بالمثل الريفي المشهور: (شآبيب ابريل تنبت زهور مايو)، سقط هذا القول من فم هذا الفلاح إلى قلب صاحبنا كأنما سقط من شفة حكيم أريب.
واستمع إسميث إلى كلبورن وهو يتحدث حديث النظرية السخيفة، وأكد له كلبورن أن البقارين في الغرب يكادون يجمعون على أن القراد أصل البلاء؛ ثم أخذ يفكر ملياً: (رؤوس هؤلاء البقارين خالصة من زخارف المنطق ومفسدات الفكر، وإن أجسامهم لتتفاوح منها(179/41)
روائح الثيران والعجول كأنهم بعضها، وهم هم الذين سهروا الليالي وقد تركزت فكرتهم على الداء وهو يجري بالفناء في عروق بهائمهم فيحيل دمها الثخين ماء رقيقاً، وينتزع لقمة الرزق من أفواه أبنائهم وعيالهم، وهم هم هؤلاء الذين قاموا على دفن هذه البهائم الضائعة بعد موتها. فهؤلاء الفلاحون هم الذين يقولون في نفس واحد: (لا حمى حيث لا قراد).
فارتأى إسميث ان يتبع الزراعين، وأن يراقب الداء عن كثب مراقبة البقارين، وتلك طريقة مستجدة في صيادة المكروب: اتباع الطبيعة والتدخل فيها بالحيلة الهينة القليلة.
وجاء صيف عام 1889 واشتد حره، فذكر الناس خسائرهم الماضية، وذكروا شكاواهم المرة التي كانت، فكان لا بد من عمل شيء. وأحست الحكومة كذلك بالحاجة إلى عمل حاسم، فاعتمدت الوزارة للبحث مبلغاً طيباً من المال، وقام الدكتور سلمون بإدارة البحث المطلوب. ومن حسن الحظ أنه لم يعرف إلا القليل عن التجارب والتجريب فلم تقم إدارته عقبة في سبيل إسميث أبداً.
- 5 -
وفي منطقة منعزلة بعيدة أقام إسميث معمله، وأعانه كلبورن في إقامته. وما بالمعمل المعهود كان، فلم يحده سقف وأربعة أركان، بل كان سقفه السماء الحارة، وكان حجراته خمسة أو ستة من الحقول تسورت عن بقية الأرض بسور. وفي يوم 27 يونيو سنة 1889 جاءت سفينة فخرجت منها إلى المعمل سبع بقرات نحيفة بعض النحافة ولكنها صحيحة سليمة. وجاءت هذه البقرات من كرلينة الشمالية وهي بؤرة الحمى التكساسية ومقبرة كل بقرة تدخلها من الأقطار الشمالية. وكان على ظهور هذه البقرات بضعة ألوف من القراد، منها الصغير الذي لا تراه إلا بالمجهر، ومنها أنثيات عظيمة تبلغ نصف بوصة طولاً، وقد انتفخت مما امتلأت بالدم الذي شربته من الجسم المعذب المنكود الذي أضافها غير مختار.
فساق إسميث وصاحبه كلبورن إلى الحقل الأول أربع بقرات من هذه، وأدخلوا معها ست بقرات شمالية سليمة. قال إسميث: (والآن فلن يلبث القراد أن ينتقل إلى هذه البقرات الشمالية، وهي لم تعرف قط ما الحمى التكساسية، فهي لا تعرف ما الحصانة منها. . .) ثم(179/42)
قال: (والآن فلننهض إلى حيلة يسيرة لنعرف أحقاً هذا القراد سبب الحمى)
وأنفذ حيلته الأولى - أو إن شئت فأسمها تجربته الأولى - وما كانت إلا تجربة قليلة، كان في استطاعة أي بقار ذكي أن يبتدعها لو أنه فرغ من عمله الكثير للتفكير. أما سائر العلماء الأمريكيين فعدوا هذا التجربة من السخف بحيث لا تستأهل محاولة. وبالرغم من هذا قام إسميث وكلبورن فأجرياها، فأخذا يلتقطان بأيديهما ما على ثلاث البقرات الجنوبية الباقية من قراد فلا يفلتان منه واحدة، وأخذ البقر يرفص ويضرب في وجههما بذيله، واحتر الجو فعلت درجته على السابعة والثلاثين، وارتفع تراب الأرض برفص البهائم فانعقد سحباً فوق الرجلين وحولهما، وامتزج بالعرق على جبهتيهما فتعجن وتلصق. واحتل القراد من جلود البقر موضعاً تحت شعورها المتلبدة، وخرج صغاره من اللبد فما أحس بأنامل اللاقطين وهي مجهودة تتحسس حتى انكفأ راجعاً يجد له في مسارب الشعر مهرباً. وتلك القرادات الكبيرة، تلك الأنثيات التي جرعت من الدم حتى انتفخت، كانت لا ترضى أن تنتزع فتتعلق بجلد البقر، فإذا شدت عليها أنامل اللقاط انفقعت فتبجس دمها ولوث.
ولم ينقض النهار حتى خلصت البقرات الثلاث من القراد جميعه، فلم تكن لتجد على جلدها قرادة واحدة، فوضعاها في الحقل الثاني، ووضعا معها أربع بقرات شمالية صحيحة؛ ثم قال: (هذا البقر الشمالي على تمام الاستعداد لأخذ الحمى والموت بها لو تهيأت إليه أسبابها؛ وقد وضعناه الآن مع هذا البقر الجنوبي على أرض واحدة، فسيأكل الجميع حشيشاً واحداً، ويشرب الجميع ماء واحداً. وهذا البقر الجنوبي سيحك أنوفه في أنوف الشمالي، وسيتشمم روثه، ولكنه لن يستطيع أخذ قرادة واحدة منه. إذن فلنصبر لنرى ما شأن القراد والحمى!)
وصبرا على القلق والحر شهرين: يوليو وأغسطس، تسلى فيهما إسميث بدراسة القراد دراسة واسعة، أعانه فيها خبير في الحشر حكومي يدعى كوبر كرتيس فدرسا معاً حياة القراد وأعماله وأحواله، فاكتشفا كيف يتسلق طفل القراد وله ست أرجل ظهر البقرة، وكيف يرتبط بجلدها، فلا يقع من على ظهرها، وكيف هو يمص من دمها بعد ذلك، وكيف ينسلخ من جلده ثم يزيد في أبهة إلى أرجله الست رجلين فتصير ثمانية، ثم هو ينسلخ من جلده مرة أخرى، واكتشفا كيف أن الأنثى من بعد ذلك تتخذ لها زوجاً صغير تتزوجه على ظهر البقر، ثم كيف تجرع بعد ذلك من دم البقر جرعات عظيمات كأنها وليمة العرس، فإذا(179/43)
هي استكملت أنوثتها سقطت إلى الأرض لتبيض فيها ألفي بيضة أو تزيد؛ وعندئذ، وبعد ما لا يزيد على عشرين يوماً من تسلقها رجل البقرة في أول مرة، تكون قد أدت رسالتها في هذه الحياة الدنيا فتأخذ تنضمر ثم هي تموت. أما الألفان من البيض فتبدأ فيها سير وأحداث غريبة أخرى
وكان إسميث لا يفوتها السفر إلى معمله في العراء البعيد يوماً واحداً، وكان يجد روحه في الخروج من المدينة وترك معمله المعهود في تلك الحجرة الكابسة الحابسة هرباً من صراصيرها ولو إلى تلك الحقول وهي تكاد من الحر تتقد ناراً، وكان كلبورن قواماً على معامل الحقل، وهو الذي طلب الرزق بعد ذلك من تجارة الصيني والفخار. وكان إسميث يدخل في الحقل الأول ليرى هل ظهر القراد على أي من البقرات الشمالية، وليرى هل زادت حرارتها وأخذت رقابها تميل. ثم هو يخطو من بعد ذلك إلى الحقل الثاني ليلتقط من على ظهور البقرات الجنوبية التي فيه بضع قرادات ظهرت عليها، وما كان أفلتها في لقطه الأول، ولكنها كانت عندئذ صغيرة لا ترى. وما كان تنظيف البقر من القراد والتيقن منه إلا عملاً ثقيل مجهداً. والحق أن تلك الأيام التي صبراها على الحر والعرق لم يكن فيها إلا السأم امتد واتصل، حتى جاء يوم بعد منتصف أغسطس بدأت تطلع البشائر فيه. ففي هذا اليوم ظهر القراد على بقر من البقر الشمالي في الحقل الأول، ولم يمض طويل حتى تقوس ظهرها وعافت الطعام. ثم ظهر القراد على كل أخواتها، واتقدت الحمى فيها جميعاً، وخف دمها فصار كالماء، وشفت أضلاعها وبرزت في الجوانب عظامها. والقراد؟ رحماك فقد كان يموج عليها موجاً.
هذا هو الحقل الأول. أما الحقل الثاني حيث لا قراد، فقط ظلت البقرات الشمالية فيه صحيح سليمة كصاحباتها الجنوبية التي اختلطت بها.
(يتبع)
أحمد زكي(179/44)
بحث لغوي
كلمة (قرآن)
بقلم محمد طه الحاجري
للقراء في أداء كلمة قرآن طريقان: تحقيق الهمزة فيها، وإهمالها منها؛ فبعضهم يقرؤها (القران) وبعضهم (القرآن) والقراءة غير المهموزة تنسب إلى إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين قارئ أهل مكة في زمانه، وآخر أصحاب ابن كثير زماناً، كما يقول عنه الذهبي في كتابه (طبقات القراء المشهورين) وقد روي عن أبي عبد الله الشافعي قوله في هذا الصدد، قال: (قرأت على إسماعيل وكان يقول القرآن اسم وليس بمهموز، ولو كان من قرأت كان كل ما قريء قرآناً، ولكنه اسم للقرآن مثل التوراة والانجيل، تهمز قرأت ولا تهمز القرآن) وكذلك روى صاحب اللسان مثل هذه الرواية، وزاد عليها تزكية لها وإعلاء لسندها النسب الذي يصل قراءة إسماعيل بالقراءة الأولى على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (قال إسماعيل قرأت على شبل، وأخبر شبل أنه قرأت على عبد الله بن كثير، وأخبر عبد الله أنه قرأ على مجاهد، وأخبر مجهد أنه قرأ على ابن عباس رضى الله عنه، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبي، وقرأ أبي على النبي صلى الله عليه وسلم)، وبعد أن أورد ابن منظور هذا القول روى عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال: (كان أبو عمرو بن العلاء لا يهمز القرآن، وكان يقرؤه كما روى عن ابن كثير) فهذه إذن قراءة معتبرة لا شك في صحتها وقوة سندها.
ولكن عبارة القسط ينظر إليها من ناحيتين: ناحية الرواية وناحية الدراية أو التعليل، أما الأولى فلا كلام لنا فيها، وأما الناحية الثانية فقد نازعه فيها كثير من العلماء الذين أورد الفخر الرازي أقوالهم، فقد قال الزجاج عن قول إسماعيل هذا إنه سهو والصحيح أن ترك الهمزة من باب التخفيف، ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، فكأنه يرى أنها مشتقة من مادة قرأ، وأنها تساوي كلمة قرآن المهموزة، إلا ما كان من هذا التخفيف الذي تجيزه اللغة وتخضع له، ولا يغير شيئاً من أصول الكلمات فيها
على أن هذا التخفيف كثير شائع مطرد في كثير من القراءات التي ترجع إلى أهل الحجاز لما في طبيعة نطقهم وميلهم اللغوي، وهاك ما يقوله ابن الجزري في كتابه: (النشر في(179/45)
القراءات العشر): (ولما كان الهمز أثقل الحروف نطقاً وأبعدها مخرجاً، تنوع العرب في تخفيفه بأنواع التخفيف كالنقل والبدل وبين بين والإدغام وغير ذلك، وكانت قريش وأهل الحجاز أكثرهم له تخفيفاً، ولذلك اكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم كابن كثير من رواية ابن فليح، وكنافع من رواية ورش وغيره، وكأبي جعفر من أكثر رواياته، وكابن محيصن قارئ أهل مكة مع ابن كثير وبعده، وكأبي عمرو فأن مادة قراءه عن أهل الحجاز)
وهذا صريح جلي في بيان قول الزجاج وصحة مذهبه، وأن إسماعيل بن قسطنطين قد غاب عنه المنحى العربي اللغوي في مثل هذا، فذهب يلتمس التعليل المنطقي ويقول: (لو كان من قرأت كان كل ما قرء قرآناً) كما غاب عنه أيضاً أن الاصطلاح من طبيعته أن يحد من مدلول الكلمة المصطلح عليها.
وذهب آخرون إلى تلمس اشتقاق لها في مادة (قرن) باعتبار أن الكلمة على أصلها لم تعان شيئاً من الإبدال والإعلال: فقال قوم إنها مشتقة من قرنت الشيء بالشي إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، وسمى به لقران السور والآيات والحروف فيه، ونسب إلى الفراء القول بأنها مشتقة من القرائن لأن الآيات يصدق بعضها بعضاً ويشابهه.
هذا مجمل الآراء في تعليل كلمة قران بغير همز. أما القراءة الأخرى المهموزة فاختلف كذلك في اشتقاقها على قولين أو ثلاثة
فابن جرير الطبري يروي رأيين في هذا، أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن قتادة، أما الأول فيذهب إلى أن القرآن مصدر من قول القائل: (قرأت) كقولك الخسران من خسرت والغفران من غفر الله لك، والكفران من كفرتك، والفرقان من فرق الله بين الحق والباطل - ولم يتعرض الطبري لرواية قراءة ابن عباس لها، وإن كان مساق القول في المهموزة، لكن ذلك لا يعتبر نصاً؛ وإنما تعرض لاشتقاقها. وقد رأينا من كلام إسماعيل بن قسطنطين أن سند قراءاته يتصل بابن عباس؛ فكأن ابن عباس كان يقرؤها مخففة، ويعلم أنها مخففة عن تحقيق، كما رأى ذلك الزجاج فيما سبق بيانه.
أما رأي قتادة فهو أنها مصدر من قول القائل: (قرأت الشيء) إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض، كقولك ما قرأت هذه الناقة سلى قط، أي لم تضمم رحماً على ولد قط. كقول عمرو بن كلثوم:(179/46)
ذراعي عيطل أد ماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا
أما الرأي الثالث فيرويه السيوطي في كتاب الإتقان عن الزجاج. فهو يرى أنه مشتق من القرء بمعنى الجمع. ثم هو لا يعتبره مصدراً - كما يروى عن ابن عباس وقتادة - وقد سمى به الكتاب المقروء، وإنما يعده وصفاً على فعلان.
وقد وقف الطبري بين رأيي ابن عباس وقتادة، ثم أخذ يرجح الأول على الثاني بأنه يتمشى مع تأويل قوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) على الأصل الثابت المقرر في الدين، إذ لو كان القرآن هنا بمعنى الجمع والتأليف لما لزم الرسول صلى الله عليه وسلم فرض (اقرأ باسم ربك) ولا فرض (يا أيها المزمل) ولا غيرهما من آي القرآن الكريم قبل أن يؤلف إلى ذلك غيره من القرآن.
وهذا توجيه وجيه استطاع ابن جرير أن يملك به على خصمه الحجة في أسلوب منطقي حاسم.
ونحن إذا أجزنا لأنفسنا أن ندخل في هذا النزاع، وندلي برأينا فيه، اتخذنا لأنفسنا مسلكاً غير ذلك المسلك؛ فقد نستطيع أن ننظر إلى المسألة من ناحية فنية محضة، نلتمسها في القرآن نفسه؛ وحينئذ نلاحظ أن كلمتي القرآن والقراءة تزدوجان في كثير من آي الكتاب الكريم، فأولى أن تكون كلمة (القرآن) مشتقة من القراءة لا من القرء، قال تعالى:
(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً). (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم). (إن علينا جمعه وقرآنه) (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) (فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)
وقد تقترن بكلمة القرآن كلمة التلاوة في نحو قوله تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن). (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله).
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تشير إلى أصل كلمة قرآن إشارة نحسبها كافية في مثل هذا المجال.
ثم إن تسمية القرآن بالذكر وبالكتاب تشير إشارة ما إلى هذا الأصل أيضاً، وحسبنا هذا.(179/47)
فإذا انتقلنا من مادة قرآن إلى صيغتها رأينا المتقدمين يختلفن فيها: هل هي مصدر أو وصف على فعلان. وأيا كان الوجه فلا شك أنها قد تركت المصدرية أو الوصفية وتمحضت للاسمية المحدودة، علماً على ذلك الكتاب المقدس.
ولكن بعض المستشرقين مثل شفللي وفلهوزن يعارض في عربية كلمة (قرآن)، ويرى فيها كلمة (قرياني) السريانية، وهي بمعنى القراءة أو المقرء، ويقوي هذا الفرض لديهم مقاربة الكلمة السريانية للكلمة العربية في الصبغة ولكن هذا المقاربة أو المشابهة لا قيمة لها، لأن في العربية كثيراً من المصادر على وزن فعلان مثل رجحان ونقصان وغفران وكفران وخسران وغير ذلك مما هو عربي صريح مادة وصيغة، فأي شيء يلجئنا إلى مثل هذا الفرض؛ ألأن السريانية لغة الإنجيل. . .؟
قد لا نمنع أن يكون الكتاب الكريم قد استحدث كلمة (قرآن) استحداثاً، وليس هذا الاستحداث بالأمر الغريب في اللغة. بل ربما لم نجد بداً من فرض ابتداع القرآن الكريم لهذه الكلمة، ما دامت نصوص اللغة الجاهلية الصريحة النسبة إلى ما قبل الإسلام قليلة نزرة لا تمدنا بالدلائل العلمية الكافية القاطعة. ولكن إذا كان كتاب الله قد استحدثها فذلك من أصل عربي وعلى نحو عربي. وقد لا يكون ذلك النحو شائعاً في اللغة كثير السريان فيها كغيره من الصيغ، ولكنه في حقيقة الأمر موسيقى مرنان ليس أجدر منه أن يكون اسماً وعنواناً لذلك الكتاب الخالد. وقد قصد إلى تقرير ذلك الإسلام في الأذهان إذا كان ذلك من الأمور الخطيرة في الدعوة، ولذلك كرره أكثر من ستين مرة على أساليب متنوعة، وفي مواضع مختلفة، ومناسبات شتى.
لقد كان أساس الدعوة إلى الدين الجديد هو القرآن، ولاسيما في العهد الملكي، فلا جرم كان تقرير اسمه أمراً جديراً بالعناية فكان كثير التكرار كما قلنا، وهذه الكثرة واضحة وضوحاً تاماً في العهد المكي، دون المدني الذي لا نكاد نقرأ فيه كلمة (القرآن) في أكثر من خمسة مواضع، وقد كان المقتضى لذكرها في بعض هذه المواضع مجرد السياق الذي لا بد منه كما في آية سورة التوبة: (. . . وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن) أو سبب النزول كما في آية سورة المائدة: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) - على حين نرى في إحدى السور(179/48)
المكية الظاهر فيها أسلوب الدعوة الحارة المفتنة، والجدل القوى الغلاب، وهي سورة الإسراء، إن كلمة القرآن تكررت فيها نحو ثمان مرات. والفرق بين العهدين ظاهر، ففي العهد المدني كان اسم (القرآن) قد ثبت وتقرر وأخذ ذلك المعنى المحدود فلم تعد الحاجة ماسة إلى تكراره وإشاعته، كما في العهد المكي
إن قول المستشرق في إنكار كلمة (القرآن) يرجع - فيما أحسب - إلى أصلين: أحدهما قولهم في القرآن إنه يصدر عن أصول أجنبية كالتوراة والانجيل، فمن هنا لا يرون بأساً في أن يكون القرآن قد استعار عنوانه من هذه المصادر أو من اللغة التي كتبت بها، ولاسيما إذا عزز هذا الأصل الثاني المقرر لديهم وهو عدم ورود كلمة قرآن في نص جاهلي، وبعد الذي تقرر من صيغة فعلان صيغة عربية صريحة لا يكون لهم إلا إنكار مادة قرأ بمعنى القراءة في اللغة العربية الخالصة ' وقد يكون لهم عذرهم في هذا، فأن من العسير حقاً أن نعثر فيما بين يدينا من النصوص الجاهلية على مادة القراءة، وإني أقطع بأن هذه المادة لم تجيء في المعلقات العشر، وإنما وردت كلمة (تقرأ) في بيت عمرو بن كلثوم على رواية أبي عبيدة، ولكن هذا من واد آخر
ولكن هبه صحيحاً أن مادة القراءة لم ترد في نص جاهلي آخر، فهل يدل هذا دلالة قاطعة على عدم وجود الكلمة في اللغة؟ إنما يكون هذا لو أن الأدلة انحصرت في النص وحده، وليس النص هو كل شيء، فالوقوف عنده يؤدي بنا من غير شك إلى الخطأ في الاستنتاج.
لم تكن العرب قبل الإسلام أمة كتلك الأمم التي تعيش في حالة أولية، وإنما كانت أمة تجارة تتعامل بتجارتها مع أمتي التاريخ الكبريين: الفرس والروم على معرفة وبصيرة، وكانت مكة بصفة خاصة مركزاً من المراكز الكبرى لهذه التجارة الواسعة النطاق، وكانت المظاهر التجارية فيها بارزة في حياتها بروزاً كبيراً مما دعا الأب لامنس إلى تلقيبها في كتابه عنها بالجمهورية التجارية. وهذه الحياة التجارية تعتمد إلى حد كبير على الكتابة - ولن تكون كتابة بغير قراءة - فمن الغريب جداً الحكم بأن لغة العرب لا تحتوي على ما يدل على هذا المعنى. وإن النصوص الجاهلية نفسها تدل على أن العرب قد اتخذوا الكتابة، لا في الوثائق التجارية فقط، بل في عقد المحالفات بين القبائل المختلفة، وحسبنا ما قاله الحارث بن حلزة في شأن بكر وتغلب:(179/49)
واذكروا حلف ذي المجاز وما ... قدم فيه العهود والكفلاء
حذر الجور والتعدي وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء
ونحن نعرف في السيرة مظهراً من مظاهر هذه العهود في (عهد الحديبية) وكان مندوب قريش في كتابته عمرو بن سهيل، وهو يقدم إلينا صورة من صور الحصافة والدقة في كتابة العهود والاتفاقات، فلم تكن قريش حديثة عهد بمثل هذا وانظر هذه الصورة التي يقدمها لبيد في معلقته:
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زُبُر تجد متونَها أقلاُمها
ومثل هذه الصورة شائع في الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا، وكلها تثبت أن العرب لم يكونوا غرباء عن الكتابة والقراءة وإذن فافترض أن القرآن استعار مادة القراءة من بعض اللغات السامية الأخرى لعدم العثور على هذه المادة في النصوص الجاهلية التي بين أيدينا افتراض فيه شيء كثير من المجازفة.
محمد طه الحاجري(179/50)
5 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فرديك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
المأخوذون بالعالم الثاني
وترامي زارا يوماً بخياله إلى ما وراء الإنسانية، فتراءى هذا العالم لديه كما يراه جميع المأخوذين بالعالم الثاني خليقة رب متألم مضطرب، فقال:
رأيت الدنيا كأنها أحلام نائم أبدعت أبخرة حوالة متلونة ترتد عنها ألوهية النفس على غير رضى. وقد لاح لي الخير والشر والأفراح والأحزان وذاتي وذات الآخرين كما تلوح الأبخرة الملونة لعين المبدع، ولعل المبدع أراد أن يتحول ببصيرته عن ذاته فأوجد العالم.
لا ينتشي المتألم بمسرة أشد من مسرته حينما يعرض عن آلامه وينسى نفسه. هكذا تكشف لي العالم يوماً فرأيت مسرته ثملاً ونسياناً وهو يتقلب أبداً في نقائصه معكساً للتناقض الأبدي
نظرت إلى العالم يوماً فلاح لي مسرةً مسكرة يتمتع بها مبدع غير كامل خلقته أنا، فجاء ككل أعمال البشر جنةً بشرية.
ما كان هذا الإله إلا إنساناً، بل جزءاً من شخصية إنسان، لأنه نشأ من ترابي ومن لهبي. إنه لشبح من هذا العالم لا من وراء هذا العالم.
شهدت ذلك، أيها الأخوة، فتفوقت على ذاتي بآلامي، وحملت ترابي إلى الجبل حيث أوقدت ناراً تشع نوراً فإذا بالشبح يتوارى مبتعداً عني.
فإذا ما آمنت الآن بمثل هذا الشبح، فلا يكون إيماني إلا توجعاً وصغاراً، ذلك ما أقوله للمأخوذين بالعالم الثاني.
ما أوجدت العوالم الأخرى في هذا العالم سوى الآلام والشعور بالعجز، ذلك ما أوجدته تلك العوالم فأوجدت معه هذا الجنون السريع الزوال بسعادةٍ ما ذاقا من الناس إلا أشدهم آلاماً
إن المتعب الذي يطمح إلى اجتياز أبعد مدى بطفرة واحدة بطفرة قاتلة، وقد بلغت به مسكنته وجهالته حداً لا يستطيع عنده أن يريد، إنما هو نفسه مبدع جميع الآلهة وجميع(179/51)
العوالم الأخرى.
صدقوني، أيها الأخوة، إن الجسد قد قطع رجاءه من الجسد، فغدا يجس بأنامله مواضع الروح المضللة، وذهب يتلمسها من وراء الحواجز القائمة على مسافة بعيدة.
صدقوني، أيها الأخوة، إن الجسد قد تملكه اليأس من الأرض فسمع صوتاً يناديه من قلب الوجود، فأراد أن يخترق برأسه أطراف الحواجز، بل حاول العبور منها إلى العالم الثاني، غير أن العالم الثاني جد خفي عن الناس لأنه بتخنثه وابتعاده عن كل صفة إنسانية ليس إلا سماء من العدم. إن قلب الوجود لا يخاطب الناس إذا لم يكلمهم كإنسان.
والحق إنه ليصعب علينا إثبات الوجود واستنطاقه. أجيبوا أيها الأخوة، أفما يلوح لكم أن أغرب الأمور أثبتها دليلاً؟. . .
أجل! إن هذه الذات على ما فيها من تناقض واختلال تثبت بكل جلاء وجودها فتبتدع وتعلن إرادتها لتضع المقاييس وتعين قيم الأشياء، وما تطلب هذه الذات في إخلاصها إلا الجسد حتى في حالة استغراقه في أحلامه وتحفزه للطيران بأجنحته المحطمة
إن هذه الذات تتدرب على الإفصاح عن رغباتها باخلاص، وكلما ازدادت تدرباً ألهمت البيان للإشادة بالجسد وبالأرض.
لقد علمتني ذاتي عزة جديدة أعلمها الآن للناس: علمتني ألا أخفي رأسي بعد الآن في رمال الأشياء السماوية، بل أرفعها رأساً عزيزة ترابية تبتدع معنى الأرض.
إنني أعلم الناس إرادة جدية يتخيرون بها السير على الطريق التي اجتازها الناس عن غباوة من قبلهم؛ أعلمهم أن يطمئنوا إلى هذه الطريق فلا تنزلق أرجلهم عنها كما انزلقت أرجل الاعلاء المتهكمين، وما هؤلاء إلا من ابتدعوا الأشياء السماوية واخترعوا قطرات الدماء المراقة لافتداء البشر. على أن هذه السموم التي أخذوا بلذتها ورهبتها لم يستخرجوها إلا من الجسد ومن الأرض.
لقد شاءوا الفرار من الشقاء وتراءت لهم الكواكب بعيدة صعبة المنال فوجموا يدفعون بالزفرات قائلين: وا أسفاه! لم لا تنفتح أمامنا سبل في السماء ننسحب عليها إلى وجود آخر وسعادة أخرى.
في ذلك الحين اخترعوا أوهامهم وكؤوسهم الصغيرة المترعة بالدماء. . . وحسب هؤلاء(179/52)
الناس في عقوقهم أنهم فازوا بالنعيم بعيداً عن جسدهم وعن الأرض؛ وتناسوا أن تنعمهم ورعشة ملذتهم إنما نشأت من جسدهم ومن هذه الأرض.
إن زارا ليشفق على الإعلاء فلا يغضب لما أوجدوه من وسائل السلوان ولا يتمرمر لأنهم عقوا جسدهم وأرضهم، بل هو يرجو لهم الشفاء والتغلب على أنفسهم ليوجدوا لهم أجساداً أرقى من أجسادهم.
إن زارا لا يغضب أيضاً على الناقه الذي يحن إلى وهمه فيذهب في منتصف الليل ليطوف بقبر إلهه، ولكنه لا يرى في دموع هذا الناقه إلا أثر المرض والجسم المريض.
لقد وجد في كل زمان كثير من المرضى المستغرقين المتشوقين فهم يكرهون إلى حد الهوس كل من يطلب المعرفة، ويكرهون أبسط الفضائل وهي فضيلة الإخلاص.
إنهم يلتفتون دائماً إلى الوراء، إلى الأزمنة المظلمة، إذ كان للجنون وللإيمان حلتهما الخاصة؛ فكان الإله يتجلى في هوس العقل، وكانت كل ريبة خطيئة.
لقد عرفتهم جد المعرفة، أولئك المتجلين على صورة الله ومثاله، فتيقنت أن جميع رغباتهم تتجه إلى أن يؤمن الناس بهم وأن يصبح كل شك فيهم خطيئة، وما فات مداركي ذلك الإيمان الذي يدعون رسوخه فيهم. فانهم لا يؤمنون لا بالعوالم الأخرى ولا بقطرات الدماء تفتدى العالم، بل هم كسائر الناس يعتقدون بالجسد، ويرون أن أجسادهم نفسها هي الكائن الواجب الوجود
غير أن هؤلاء الناس يرون الجسد كائناً معتلا، فيودون أن يبار حوا جلودهم وذلك ما يدفعهم إلى الإصغاء للمبشرين بالموت وما يهيب بهم إلى التبشير بالعوالم الأخرى.
أما أنتم، يا إخوتي، فأصغوا إلى صوت الجسد الذي أبل من دائه لأن هذا الجسد يخاطبكم بصوت أنقى وأخلص من تلك الأصوات.
ان الجسد السليم يتكلم بكل إخلاص وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم وليس بيانه إلا إفصاحاً عن معنى الأرض.
هكذا تكلم زارا.
المستهزئون بالجسد
لأقولن للمستهزئين بالجسد كلمتي فيهم: إن واجبهم ألا يغيروا طرائق تعاليمهم، ولكن عليهم(179/53)
أيضاً أن يودعوا أجسادهم فيستولي على ألسنتهم الخرس.
يقول الطفل: أنا جسد وروح. فلماذا لا يتكلم هؤلاء الناس كالأطفال؟ أما الإنسان الذي انتبه وأدرك ذاته فيقول: إنني بأسري جسد لا غير، وما الروح إلا كلمة أطلقت لتعيين جزء من هذا الجسد.
ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل، ومظاهر متعددة لمعنى واحد. إن هو إلا ميدان حرب وسلام، فهو القطيع وهو الراعي.
إن آلة جسدك إنما هي أداة عقلك الذي تدعوه روحاً، أيها الأخ، إن هو إلا أداة صغيرة وألعوبة صغيرة لعقلك العظيم.
إنك تقول: (أنا)، وتنتفخ غروراً بهذه الكلمة، غير أن هنالك ما هو أعظم منها، أشئت أن تصدق أم لم تشأ، وهو جسدك وأداة تفكيره العظمى؛ وهذا الجسد لا يتبجح بكلمة أنا، لأنه هو (أنا)، هو مضمر الشخصية الظاهرة.
إن ما تتأثر الحواس به وما يدركه العقل لا نهاية له في ذاته، غير أن الحس والعقل يحاولان إقناعك بأن فيهما نهاية الأشياء جميعها، فما أشد غرورهما!
ما الحس والعقل إلا أدوات وألعوبة؛ والذات الحقيقة كامنة وراءهما مفتشة بعيون الحس ومصغية بآذان العقل.
إن الذات ما تبرح مفتشة مصغية، فهي تقابل وتستنتج ثم تهدم متحكمة في الشخصية سائدة عليها، فأن وراء إحساسك وتفكيرك، يا أخي، يكمن سيد أعظم منها سلطاناً، لأنه الحكيم المجهول، وهذا الحكيم إنما هو الذات بعينها المستقرة في جسدك وهي جسدك بعينه أيضاً.
إن في جسدك من العقل ما يفوق خير حكمة فيك، ومن له أن يعلم السبب الذي يجعل جسدك بحاجة إلى خير ما فيك من حكمة
ان ذاتك تهزأ بشخصيتك وبألعابها قائلة: - ما هي خطرات الفكر وتساميه إن لم تكن جنوحاً إلى هدفي، أفلست أنا رائدة الشخصية وملهمة أفكارها؟
تقول الذات للشخصية - اشعري بألم، فتتألم وتفتكر بالتخلص من هذا الألم وقد تحتم عليها أن تتجه إلى هذه الغاية.
وتقول الذات للشخصية - اشعري بالسرور، فتسر وتفتكر بإطالة أمد هذا السرور؛ وقد(179/54)
تحتم عليها أن تتجه إلى هذه الغاية
لي كلمة أقولها للمستهزئين بالجسد، وهي أن احتقارهم إنما هو في الحقيقة حرمة واعتبار، إذ من هو يا ترى موجد الاحترام والاحتقار والتقدير والإرادة؟
إن الذات المبدعة أوجدت لنفسها الاحترام والاحتقار كما أوجدت اللذات والألم، إن الجسم المبدع أوجد العقل لخدمته كساعد يتحرك بإرادته.
إنكم لتخدمون الذات الكامنة فيكم حتى في جنونكم وفي احتقاركم. وأنا أقول لكم أيها المستهزئون بالجسد إن ذاتكم نفسها تريد أن تموت، وقد تحولت عن الحياة لأنها عجزت عن القيام بما كانت تطمح اليه، وما أقصى رغباتها إلا إبداع من يتفوق عليها، ولقد مضى زمن تحقيق هذه الرغبة، لذلك تطمح ذاتكم إلى الزوال أيها المستهزئون بالأجساد.
إن ذاتكم أصبحت تتوق إلى الزوال، وهذا ما يدفع بكم إلى الاستهزاء بالأجساد إذ قد امتنع عليكم أن تخلقوا من هو أفضل منكم.
إن هذا العجز قد ولد فيكم النقمة على الحياة والأرض. وها هي ذي تتجلى شهوة في لحظاتكم المنحرفة دون أن تعلموا
إنني لا أسير على طريقكم أيها المستهزئون بالأجساد، لأنني لا أرى فيكم المعبر الذي يؤدي إلى مطلع الإنسان الكامل
(يتبع)
فليكس فارس(179/55)
الربيع الناطق!
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
يا مَن تفتَّح كالربيع لناظري ... فلمحت فيه شقائقاً وبهارا
والفُلَّ يشرق بالضياء وبالشَّذا ... والنرجسَ النعسان والنوَّار
والوردَ فخوراً يتمتم: (ويحكم ... هيا أغنموا مُتع الحياة قصارا)
متباين الألوان ألّف بينها ... ذوق يبلبل سرُّه الأفكارا
تلك المفاتنُ ينتهين لغايةٍ ... ولقد يريبك أنها تتبارى!
أمثولةُ الحسن البديع مرامُها ... تطوى لها المضمار فالمضمارا
فكأنها أحزاب شَعب راشدٍ، ... كلٌّ يجمّع حوله الأنصارا
يتنافسون، وإنما مرماهم ... تحقيق آمال البلاد كبارا
ما للجمال وللسياسة؟ إنه ... أهدى إلى قصدِ السبيل منارا
هو عالم ننساب في أطيافه ... ونعانق الأنداء والأنوارا!
من ضلّ في ساحاته كمن اهتدى ... وكمن صحا من لا يفيق خُمارا
يا من تفتَّج كالرّبيع لناظري! ... أضرمت ما بين الجوانح نارا
أسكرتَ روحي بالسَّنا فذهلتُ عن ... نفسي، وخلت العالمين سكارى!
وسهوتُ عن زمني فلست بمثبتٍ ... أسكرتُ ليلاً أم سكرت نهارا؟
رمتُ الكلامَ، فحار في شفتِي كما ... تاه الجمالُ بناظريك وحارا!
ماذا أقول وكل لفظٍ شاردٌ؛ ... عيناك أعظم أن تُطيقَ حوارا
عيناك أقوى بالحياة وفيضها ... زخراً، وأعمق في الحياة قرارا!
لَبَصُرْتُ بالُّتفاح يلعن نفسه ... لما أبيتَ مساسه استكبارا!
كم ودّ لو يلقى الشهادة في فمٍ ... يهبُ الخلود وينهب الأعمارا!
ما كان ضرّك لو مسحت جبينه ... فأحاله لَهبُ الحياة نُضارا!
أو لو قبلت فداءه فجعلَته ... معنى يحيط به الجمال إطارا
أم غرت منه؟ فيا لقلبك قاسياَ! ... ماذا تركت لحسنه فتغارا؟
يكفيه في زيناته أن يكتسي ... شَفقاً له منن وجنتيك مُعارا(179/56)
ما كان إلا خادماً لك طائعاً ... يقفو خُطاك يُقبّل الآثارا!
راجع فؤادك في أحقِّ مُورَّد ... برضًى وأكرمِ مُشبهيكِ نِجاَرا
تغفو وتصحو، وهو في صلواته ... لخدودك الآصالَ والأسحارا!
أما نثار الورد إذ بدّدته ... فلو استطاع من السرور لطارا
أَلأَنّه يحكي القلوب بشكله ... عبثت يداك بشمله استهتارا؟
إهنأْ بظلُمك؛ فالقلوب تودّ لو ... تُلقى لديك على البساط نثارا!
ويح القلوب! غلوت في بغضائها ... فمَقتَّ من جرَّائها الأشعارا
أتلوم أرضا ً - يا غمام - بخيرها ... حفلت، وأنت فجرَتها أنهارا؟
أهبطت (شاكسبير) من عليائه ... وأزحْتَ عن كرسيّه (مهيارا)
ووقفت في وجهِ (الخلود)؛ فهل تُرى ... تطوى الخلود وقد طوى الأدهارا؟
لن تستطيع! فمن جمالك دونه ... سدٌّ يقيه سطوك الجبارا!!
رفقاً بحبّات القلوب تسومُها ... سوء العذاب وما جنت أوزارا
ألاِنها تهفو لحسنك كلما ... لمحته أو هجست به تذكارا!
يا لائم الأوتار في إرنانها ... مهلاً! بنانك تضرب الأوتارا!
يا طاوي الأقدار تحت جفونه! ... حتَّى لنَخْشاهنَّ لا الأقدارا
لما أبيتَ على مشاعرنا الهوى ... هلا مسخت قلوبنا أحجارا!!
علي أحمد باكثير(179/57)
خاطرة!
قلبي يعاطف هذا الكون أجمعه ... لكنه لم يجد قلباً يعاطفُه!
يا ليت لي في الورى قلباً يلوذ به ... قلبي فتبيضّ من حُبٍّ صحائفُه
أقول شعري فهل قلب يصيخ له ... وتستبيه كما أهوى طرائفُه!؟
العوضي الوكيل(179/58)
قسوة الطفولة
للأستاذ أمجد الطرابلسي
عُدْ به للوطن الغا ... لي وِللامِّ الرؤومِ
عد به للموْكن البا ... كي وللصّحب الوُجومِ
عد به للِفْنَنِ الذا ... وي وللزَّهر الكليم
وارحَم اليُتْمَ فمن أص ... عبَ عيشاً مِن يتيم
زهرةٌ فواحةٌ مَط ... روحَةٌ فوقَ الأَديم
وُئدَتْ في عُنفُوان ال ... حُسْنِ ما بيْنَ الرّجوم
تَطأُ الأقدامُ خَدَّي ... ها على التربِ الوَخيم
أيّها الطفلُ - وهَلْ أَر ... هَبُ من طِفْلٍ غَشوم -
ما جنى ترْبُكَ حَتَّى ... سِمَ أَلوانَ الهُموم؟
هُوَ يا طفلُ حزينٌ ... جائعٌ غيرُ فَطيم
صامتٌ يجهلُ بَثَّ ال ... حزِن والكربِ العَظيم
أَيُّ مسكينٍ غريبٍ! ... أيُّ مظلومٍ مَضيم!
جسْمُهُ الأَزْغَبُ لايَنْ ... هَضُ بالخَطْبِ الجَسيم
يَتَنَزّى فَرَقاً كالزّ ... هرِ في مَسْرى النَّسيم
أَوْ كَغُضْنٍ مُرْعَشٍ ما ... بينَ عَصْفٍ وَهَزيم
أُمُّهُ يا طفلُ تَبكي ... في دُجى اللَّيْلِ البَهيم
تَتَمَشَّى فَوْقَ أغصا ... نِ الرّبى مَشْىَ السَّقيم
تَسْأَلُ الأَزْهارَ عَنْهُ ... وَعناقِيدَ الكُروم
والنسَيمْاتِ اللّواهى، ... ونُثاراتِ الغُيوم
لم تذُقْ طَعْمَ الكرى في ... وَكْرِها الداجي الوَجوم
أكَرىً والدَّمْعُ ما بَي ... ن نَثيرٍ وَنَظيم؟
والجوى يَعْصِفُ بالأَضْ ... لاعِ والقَلْبِ الهَشيم
أكَرىً بَعْدَ فِراقِ الأَ ... هلِ أَوْ فَقْدِ النَّديم(179/59)
غَابَ لا تدْري أَحَيٌّ ... هُوَ أَمْ بَعْضُ الرَّميم
أَسَجينُ القَفَصِ الخا ... نِقِ أَمْ فَرْسَةُ بُوم
أنا يا عُصفورُ منْ ير ... أَفُ بالغَمِّ الكَظيم
ما بأَشْجانِكَ يا مِسْ ... كينُ مِثلي من عَليم
هِجْتَ في قَلْبيَ جرحاً ... غافياً جِدَّ قَديم
هو عطفُ الأُمِّ، ما أَن ... دْاهُ في القَلْبِ الكليم!
لم أَذُقْهُ؛ ليتَ لي منْ ... قدْسِهِ بَعْضَ رسوم
إيهِ يا عُصْفورُ هذي ... سُنَّةُ البَغْيِ الذميم!
هكذا الناسُ! فمنْ عا ... دٍ وَمٍنْ نَهْبٍ هَضيم
ظالم يَقْسوا عَلى ال ... حقِّ انتصاراً لظلوم
وجريح مُؤْلم يح ... نو على الجرحِ الأَليم
القصورُ الشمُّ نَشوى ... الراح واللَّحْنِ الرّخيم
والدموعُ الحُمْرُ تَنْ ... هَلُّ منَ الكوخِ الهَديم
ساكِنُ الفِرْدَوسِ لا يُد ... ركُ وَيلاتِ الجحيم
وهو في الأحلامِ واللّ ... ذاتِ والعِزِّ المقيم
أينَ طعمُ العَسَلِ الدفّ ... اقِ منْ لذَعِ الحميم!
أينَ مَرُّ النسمة الحُل ... وةِ من لَفْحِ السَّموم!
أينَ أَصْداءُ الأغاري ... دِ وَهَمْساتُ النُّجوم
من عويلِ الأَكْبدِ الحَرَّ ... ى وأَناتِ الجُسوم!
عدْ بهِ للوطَنِ الغ ... الي وللامِّ الرَّؤوم
وارحَمِ الضَّعْفَ فما يَسْ ... حَقُهُ غيرُ لئيم
سافِكٍ لا يَعْرِفُ الرَّأْ ... فَةَ أَوْ أَسْوَ الكُلوم
يَتَلَهَّى بالدَّم المُهْ ... راقِ والدَّمْعِ السَّجيم
كيفَ تَصْفو عِيشَةُ الحُ ... رِّ وَأَفراحُ الكَريم
وعَلى الأَرضِ شَقُّى ... واحِدٌ نِضْوُ غُموم(179/60)
كُنْ رَحيماً إنما الإِنْ ... سانُ ذو القَلْبِ الرّحيمِ
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(179/61)
7 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة حسن حبشي
الفصل الأول
أما القصيدة الموجهة إلى ولده وخليفته حسّان والتي اقتضت التقاليد والعرف أن يقولها فلا تعدو نصيحة الوداع وقد استنفد جزءاً كبيراً منها في تعداد غزواته والفخر بأسرته وبنفسه وكل ما نجده فيها من الأمثال والنصائح لا يعدو قوله:
حضرتْ وفاة أبيك يا حسّان ... فانظر لنفسك فالزمان زمان
فلربّما ذل العزيز وربّما ... عزّ الذليل وهكذا الإنسان
قولوا الحمير يقبروني واقفاً ... وتكن معي الخيلان والرّقان
وانظر لكاهنتي فان كلامها ... علم وأن بصوتها غيمان
وعلى ذكر غيمان فيمكن إضافة بضع كلمات قلائل حول قلاع اليمن التي تجثم بقاياها الخربة وتتراءى للمسافر المار بها في وحدتها متجهمة ساخرة؛ ومنذ ألفي عام، وربما قبل ذلك بكثير كان يسكن هذه القلاع والحصون أمراء أقوياء الشكيمة مستقلون أو شبه مستقلين يولون ملوكهم ويعزلونهم أحياناً حينما أخذت دعائم الإمبراطورية الحميرية تتداعى. ولقد أسهب الهمداني الجغرافي في وصف هذه القلاع في المجلد الثمن من مؤلفه العظيم (الإكليل) الذي تناول فيه تاريخ اليمن وذكر عادياتها وآثارها، وإن أقدم هاتيك الحصون وأشهرها لهو المسمى (غمدان) قلعة صنعاء، ويصفونه بأنه صرح هائل ذو عشرين طابقاً ارتفاع كل طابق عشر أذرع؛ وقد شيدت أوجهه الأربعة من حجارة متباينة الألوان: بيضاء وسوداء وخضراء وحمراء، وعلى قمة الصرح غرفة ذات نوافذ رخامية محلاة بالأبنوس والخشب المصقول، وفي وسطها لوحة مرمرية فإذا ما اضطجع صاحب غمدان على سريره، شاهد الطيور محلقة فوق رأسه، واستطاع أن يميز الحدأة من الغراب؛ وفي كل ركن من أركان الغرفة قد نصب تمثال أسد من البرنز، فإذا ما هبت الريح تغلغلت في ثناياها، فيخرج منها إذ ذاك صوت أشبه بزمجرة الليوث.(179/62)
وإن مخاطرات (أسعد كامل) مع الساحرات الثلاث تذكر القارئ ببعض مناظر خاصة في رواية ماكبث. وإن العجيب في تاريخ ابنه حسان، تلك الحادثة التي تؤلف منظراً أشبه بمنظر مسير غابة برنام. وهنا نشير إلى قبيلتي طسم وجديس، ولما أحدثت جديس المجزرة التي فتكت فيها بطسم استطاع أحد أفراد القبيلة الثانية الهروب وهو (رباح بن مرة) فاحتمى بتبع حسان، واستطاع أن يؤثر فيه حتى أرسل معه جيشاً ليقتص به من القتلة. وكانت أخت رباح وتدعى (زرقاء اليمامة) قد بنت بأحد رجالات جديس، وكانت حادة البصر حتى لقد كان في استطاعتها أن ترى الجيش على بعد ثلاثين ميلاً، ولما كان رباح يعرف ذلك في أخته فقد نادى في الجيش أن يقتلع كل رجل شجرة ويحملها أمامه. وإذ جن المساء وأصبحوا على مسيرة يوم من جديس قالت زرقاء اليمامة لقومها: (إني أرى غابة تسير إليكم) فلم يصدقها أحد وسخروا بها حتى إذا كان الصباح أغار حسان عليهم وأعمل السيف في رقابهم.
ولقد أحس زعماء حمير أن الحملات الحربية - التي شجعها حسان - إنما هي عبء ثقيل عليهم، فدبروا مؤامرة لذبحه وتولية أخيه عمرو مكانه، فقالوا له: (اقتل أخاك حساناً وتملك علينا وترجع بنا إلى بلادنا) فامتنع بادئ ذي بدء وأبى الخضوع لما أشاروا به، غير أنهم استطاعوا التغلب عليه فطعن بيده تبع؛ بيد أن الجرم أقض مضجعه، ولم يذق جفناه الكرى فصمم على أن يقتل كل من وسوس إليه بذلك؛ وكان هنا زعيم يدعى (ذا رعين) حاول جهده إنقاذ عمرو مما هو مقدم عليه فما استطاع، ولما وجد أن محاولاته ذهبت عبثاً كتب رقعة رفعها إليه وختمها وقال له: (ضع لي هذا الكتاب عندك حتى أطلبه) فلما مثل ذو رعين أمام عمرو سأله عن الرقعة فأخرجها:
ألا من يشتري سهراً بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين
فأما حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعْين
فلما قرأها عمرو أيقن الإخلاص في قوله ثم أطلق سراحه وقد انتهى عهد التبابعة بعمرو هذا. أما الملوك الذين خلفوهم فقد كان يختارهم ثمانية أقيال أقوياء، كانوا في الحقيقة أمراء مستقلين، يحكم كل منهم في حصنه القوي. وفي أثناء هذه الفترة غزا الأحباش بعض أجزاء المملكة، وأرسل النجاشي ولاته المسيحيين ليحكموها باسمه، حتى قام أخيراً ذو(179/63)
نواس - وهو من ذرية تبع أسعد كامل - وطرد الأشراف الثائرين، وجعل نفسه حاكماً لليمن غير مسئول، وكان يهودياً متعصباً، فجمع العزم على أن يستأصل شأفة المسيحية من نجران التي يقال إن النصرانية دخلتها على يد رجل مبارك يدعى فيميون، ودخل الحميريون في دينه أفواجاً يدفعهم إلى ذلك كرههم لاستبداد الأحباش أكثر من احترامهم للدين. وحدث إذ ذاك أن قتل طفلان يهوديان فأتاح هذا الحادث لذي نواس فرصة ليصب نقمته عليهم، فسار إلى نجران على رأس قوة جرارة، ودخل المدينة وخير أهلها بين اليهودية أو القتل، فرفضوا دينه، فحكم السيف في أعناق الكثيرين، وألقى بالآخرين في أخدود أمر بحفره وأشعل النار فيهم؛ وبعد مائة عامة تقريباً من هذا الحادث حين لقي محمد (ص) أشد ضروب الاضطهاد من قومه أخذ يضرب لأتباعه المثل بنصارى نجران وكفاحهم: (قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود؛ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) وقد دفع ذو نواس ثمن هذا النصر غالياً، فان دوس ذا ثعلبان كان قد نجا من القتل ففر إلى إمبراطور الروم مستنصراً إياه باعتباره كبير المسيحيين ليساعدهم على أخذ ثأرهم، فكتب يوستنيانوس رسالة إلى النجاشي طالباً إليه أن ينوب عنه في تنفيذ هذه المهمة؛ وسرعان ما حشد النجاشي سبعين ألفاً من الأحباش الأيدين، وجعل عليهم أرياط قائداً فغزا اليمن. ولم يستطع ذو نواس الاعتماد على إخلاص أشراف حمير، وتفرقت قواته (فلما رأى ما نزل بقومه وبه وجه فرسه إلى البحر ثم ضربه فدخل فيه، فخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى إلى غرق فاقتحمه فيه فكان آخر العهد به) وبهذا انتهت سلسلة الملوك الحميريين.
وعلى كل فان اليمن تظهر في تاريخ ما قبل الإسلام، كإمارة حبشية أو ولاية خاضعة للفرس، وأما القصص التي تروى بعد ذلك فتعتبر تمهيداً لرواية جديدة يمثل على مسرحها عرب الجنوب دوراً تافهاً لا يعتد به.
(يتبع)
حسن حبشي(179/64)
البريد الأدبي
بين الأدب والسياسية - فون أوسيتسكي حاصل جائزة نوبل
قررت اللجنة المختصة بجامعة استوكهلم أن تمنح جائزة نوبل للسلام عن سنة 1935 للكاتب الألماني كارل فون أوسيتسكي، وعن سنة 1936 للدكتور سافدرا لاماس سفير جمهورية الأرجنتين في لندن، وذلك لما أبداه كل منهما في سبيل قضية السلام من خدمات وجهود.
وليس في قرار جامعة استوكهلم ما يثير الدهشة، لأن جائزة نوبل للسلام تمنح كل عام كباقي جوائز نوبل الأخرى عن العلوم والآداب والفنون، وقد منحت في الأعوام السابقة لكثير من الكتاب والساسة مثل مسيو بريان رئيس وزارة فرنسا السابق، والسير نورمان انجل الكاتب الإنجليزي المعروف.
وقد منحت جائزة نوبل للهرفون أوسيتسكي تطبيقاً لدستور نوبل الذي يقضى بأن تمنح هذه الجائزة (لكل من قام بأكبر جهد وبأفضل جهد في سبيل توثيق روابط الأخوة بين الشعوب، أو في سبيل تخفيض السلاح، أو نشر الدعوة إلى السلام)، وقد لبث فون أوسيتسكي مدى أعوام يبث بقلمه الدعوة إلى السلام من منبر الصحافة، ولاسيما في صحيفة (الفلت بينه) (مسرح العالم) التي كان يحررها مع صديقه وزميله في الدعوة إلى السلام الكونت فون جيرلاخ الكاتب السياسي الكبير الذي توفى منذ أشهر في منفاه في باريس.
ولكن حكومة برلين النازية ترى في منح جائزة السلام لهذا الكاتب الألماني إهانة لها، وتحتج على ذلك رسمياً لدى حكومة السويد، ولماذا؟ لأن كارل فون أوسيتسكي يعتبر في نظرها خائناً لوطنه، فتكريمه بهذه الصورة من هيئة عالمية يعتبر مناقضاً لواجب المعاملة الدولية، بل يعتبر استفزازاً لألمانيا.
واليك قصة كارل فون أوسيتسكي المحزنة، ولماذا تعتبره ألمانيا الهتلرية خائناً لوطنه: كان فون أوسيتسكي من دعاة السلم كما قدمنا، وكان كاتباً مستقلاً لا ينتمي لأي حزب سياسي، وإنما يبث دعوته السلمية بالكتابة الملتهبة، ويدعو إلى تفاهم الشعوب ونزع السلاح بكل قواه، ويحمل على السياسة العسكرية لأنها خطر على السلام والمدنية؛ ولم تكن هذه الدعاية مما يتفق مع مبادئ الوطنية الاشتراكية ونزعتها العسكرية؛ فلما قبض الوطنيون(179/65)
الاشتراكيون (النازي) على زمام الحكم في سنة 1933، كان فون أوسيتسكي ممن قبض عليهم من الكتاب المعارضين للمبادئ الهتلرية؛ فزج من ذلك الحين في أحد معسكرات الاعتقال المشهورة دون محاكمة أو تهمة معينة، وعانى في الاعتقال ضروباً مرهقة من الحرمان والتعذيب؛ والتمس كثير من الهيئات الأدبية والكتاب في مختلف الأمم من الحكومة الألمانية أن تطلق سراحه فأبت حتى أشرف الكاتب المعتقل على الموت، وعندئذ فقط سمحت بأن يغادر معسكر الاعتقال إلى أحد المستشفيات، حيث هو الآن تحت الحجر والاعتقال.
ورأت الهيئات الأدبية المختلفة وأكابر الكتاب في أنحاء العالم أن يلفتوا نظر جامعة السويد إلى قصة هذا الكاتب الشهيد لكي تمنحه جائزة نوبل للسلام، واشترك في تقديم هذا الطلب رومان رولان، وابتون سنكلير، وهنريش مان، والفيلسوف ليفي بريل، وأميل لودفيج، وجيللمو فيريرو وغيرهم، تقديراً لخدماته وكتاباته الكثيرة في سبيل قضية السلام؛ وكان أن شاطرت اللجنة المختصة تقدير الرأي العالمي ومنحت كارل فون أوسيتسكي هذا الشرف العظيم.
والآن يحتضر فون أوسيتسكي على سرير موته، وقد يموت بعد أيام أو أسابيع قلائل دون أن يعرف شيئاً عن الشرف العظيم الذي أسبغ عليه.
أما اعتبار الحكومة الألمانية مواطنها خائناً، فلأنه كان قبل تبوئها الحكم بأعوام، يكافح بالقلم في سبيل السلام.
كتاب عن نابليون لاوكتاف أوبري
أوكتاف أوبري كاتب ومؤرخ من أشهر كتاب فرنسا الحاليين؛ وهو مؤرخ قبل كل شيء يمتاز بأسلوبه الشائق وبيانه الساحر في عرض الوقائع وتصنيفها؛ وقد اتخذ في الأعوام الأخيرة عصر نابليون بونابرت ميداناً لمباحثه، وأصدر عن نابليون وعن العصر وأبطاله عدة كتب: وآخرها كتاب (نابليون وعصره وفي هذا الكتاب يعني أوكتاف أوبري بالنواحي الشخصية والاجتماعية أكثر مما يعني بالنواحي السياسية والعسكرية؛ فلست تقرأ في كتابه استعراضاً تاريخياً جامداً، وإنما تقرأ قصة ممتعة عن الإمبراطور، وأطوار حياته الشخصية، وعن خاصته وصحبه من الرجال والنساء، وعن حوادثه الغرامية؛ وتقرأ عن(179/66)
جوزفين وعن منافساتها فصولاً شائقة؛ ثم تقرأ تفاصيل المأساة الأخيرة: نفى الإمبراطور، واعتقاله في سنت هيلانة، وما قاساه من الآلام المادية والمعنوية، وتعرف الكثير عن بطانته التي صحبته في الاعتقال من رجال ونساء إلى أن تصل إلى ختام المأساة في جو يفيض سحراً وتأثراً. ويفرد أوكتاف أوبري للإمبراطورة ماري لويز بحثاً شائقاً يحلل فيه شخصية هذه الأميرة التي ألقتها أقدار الحرب والسياسة في طريق الإمبراطور، وأنجبت منه ولده (ملك رومة) أو النسر الصغير أو الدوق فون ريخشتاث، كما يسميه آل هبسبورج.
هذه محتويات كتاب أوبري تغري بالقراءة، ويحطيها جميعاً جو من السحر المؤثر.
بين العلم والعاطفة
كثر الجدل منذ حين في إنكلترا حول مسألة اجتماعية وإنسانية دقيقة، وهي هل يحق للإنسان أن يعاون على الموت شخصاً عزيزاً عليه أصابه المرض وعز شفاؤه؛ وقد ثارت هذه المسألة أخيراً في ألمانيا على اثر ظهور رواية للكاتب الوطني الاشتراكي الدكتور هلموث عنوانها (الرسالة والضمير) ويطلبها طبيب يعالج هذا السؤال: هل يحق لي أن أعجل الموت لمريض استعصى شفاؤه، أم يجب علي الانتظار حتى يوافيه الموت؛ وقد عنى ببحث هذه المسألة عدة من أكابر الأطباء الألمان، وأذاعوا آراءهم في الصحف؛ فيرى الأستاذ زاوربروخ الجراح الأشهر، أن هذه مسألة ضمير لا يمكن حلها على هذا الوجه، وأنه لا يمكن أن توضع لها قاعدة ولا أن يشرع لها قانون، وهي تبعة عظمى لا يمكن أن يحتملها الطبيب بسهولة. ويقول الدكتور كلاري الأخصائي الكبير في مباحث السل؛ إنها مسألة لا يمكن التسليم بها، ولا معنى مطلقاً لأن تثار مسألة اليأس من الشفاء لأن العلم يتقدم ويأتي كل يوم بالعجائب، فمن يدرينا أنه لن يكتشف بين اليوم والغد علاج للسرطان مثلاً؟ إنه من الاستهانة الكبرى أن تعامل الحياة بمثل هذه الرعونة بحجة الإشفاق على مريض عزيز؛ ويؤيده الدكتور أونفرخت في ذلك ويقول إن مهمة الطب هي أن تعاون على صون الحياة وإطالتها، لا على تحطيمها والتعجيل بسحقها؛ وهذا هو رأي معظم أعلام الطب في ألمانيا في هذه المسألة الدقيقة.
ديوان حافظ(179/67)
رفع الأستاذ أحمد أمين إلى صاحب المعالي وزير المعارف ديوان المرحوم حافظ بك إبراهيم بعد أن تم جمعه وشرحه وتبويبه وقد بدأت مطبعة دار الكتب في طبعه.
ولم يعثر الأستاذ في جميع المجلات والصحف المتداولة على قصيدتين من خير قصائده وهما قصيدته في رثاء البابلي ومطلعها:
بدأ الممات يدب في أترابي ... وبدأت أعرف وحشة الأحباب
والثانية قصيدة في وصف الحالة في مصر قبيل وفاته ومطلعها:
قد مر عام يا سعاد وعام ... وابن الكنانة في حماه يضام
وهو يرجو ممن لديه القصيدتان أو أحدهما أو شيء منهما أن يتفضل فيبعث بذلك إليه في لجنة التأليف والترجمة والنشر في شارع الكرداسي رقم 9 بعابدين وله الشكر.
واجبنا بعد المعاهدة
فرغت لجنة أسبوع المعاهدة من تنظيم محاضراتها التي تبحث فيما يجب أن يتجه إليه المجتمع المصري في عهده الجديد على البيان التالي:
يوم السبت 5 ديسمبر (واجب الشباب بعد المعاهدة) لسعادة أحمد نجيب الهلالي بك.
يوم الاثنين 7 ديسمبر (فكرة عامة عن منشأ الحروب وواجبنا الحربي بعد المعاهدة) لسعادة اللواء عزيز المصري باشا
يوم الخميس 11 ديسمبر (واجبنا الاجتماعي بعد المعاهدة) لسعادة حسن نشأت باشا
السبت 19 ديسمبر (واجبنا الأدبي بعد المعاهدة) للدكتور طه حسين بك
الاثنين 21ديسمبر (واجبنا نحو التعليم بعد المعاهدة) للدكتور علي مصطفى مشرفة
الخميس 24 ديسمبر (واجبنا الصحي بعد المعاهدة) للدكتور حامد محمود (واجبنا الزراعي بعد المعاهدة) لحسين عنان بك
الاثنين 28 ديسمبر (واجبنا الرياضي بعد المعاهدة) لصاحب السعادة محمد طاهر باشا
الخميس 31 ديسمبر (واجبنا القانوني بعد المعاهدة) للدكتور عبد الرزاق السنهوري
الاثنين 4 يناير سنة 1937 (واجبنا القومي بعد المعاهدة) للأستاذ محمد توفيق دياب
الخميس 7 يناير (واجب الطلبة بعد المعاهدة) للأديب فريد زعلوك(179/68)
الاثنين 11 يناير (واجبنا الصحفي بعد المعاهدة) لأنطون الجميل بك (واجبنا نحو الفلاح بعد المعاهدة) للآنسة ابنة الشاطئ
الخميس 14 يناير (واجب المرأة بعد المعاهدة) للسيدة استر فهمي ويصا.
وستلقى هذه المحاضرات في قاعة يورت التذكارية وقد أعدت اللجنة بطاقات تبيح لحاملها الدخول في جميع المحاضرات أو بعضها مجاناً لمن يطلبها من سكرتير اللجنة بكلية الحقوق أو بنادي الجامعة.
وثائق الحملة الفرنسوية
اعتزمت الجامعة المصري شراء طائفة من الوثائق والمستندات التاريخية الخاصة بعهد نابليون بونابرت في مصر، وقد طلبت إلى وزارة المالية الموافقة على الاعتماد الذي قدرته لهذا المشروع؛ وفي انتظار تلك الموافقة وكلت إلى صاحب العزة عميد كلية الآداب أن يتصل بالمفوضية المصرية في باريس ويطلب إليها موافاة الجامعة بالبيانات والمعلومات الخاصة بهذه المجموعة، فتلقى الأستاذ العميد من معالي وزير مصر المفوض برقية يقول فيها إن هذه المجموعة ملك لأحد الفرنسيين، وأنه قد عرضها للبيع بالمزايدة العلنية خلال هذا الشهر. أما ثمنها الأساسي فيقدر بنحو ألفي جنيه. ثم عرض معاليه على الجامعة استعداده لشراء هذه المجموعة إذا هي رغبت في ذلك.(179/69)
الكتب
نفح الطيب في طبعته الجديدة
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
همة مشكورة تلك التي يبذلها الدكتور أحمد فريد رفاعي في الحرص على تراثنا الأدبي الحافل، بإحياء عناصره، ونشر مصادره. وإذا كنا قد عرفنا هذه الهمة في نفس الأستاذ من قبل - رغبة وأملا - فأننا الآن نلمسها منه عملاً جليلاً وجهداً كبيراً يؤديه في نشر كتابي، معجم الأدباء، ونفح الطيب، في طبع متقن، وضبط كامل، وتقسيم واضح، وتصحيح دقيق، تقوم وزارة المعارف بمراجعة أصوله النهائية مبالغة في إجادته وحرصاً على إتقانه.
ولقد وقع لي (القسم) الأول من نفح الطيب، فرأيته كالعروس المجلوة تخطر في الثوب القشيب، فهو يغري بالقراءة إغراء، ويستحث على المضي في استجلائه وتأمله، فعاودت الكتاب بالنظر والتصفح، إذ كنت قد قرأته من قبل في طبعته الأولى، فقدرت عمل الدكتور النافع، وتملكني الإعجاب بذلك المجهود الذي بذله في إخراج هذا الكتاب الجليل، ولكن نشوة الإعجاب بالدكتور لا تمنعي من أن أنبه على بعض هنوات ما تحسبها إلا قد ندت عن الخاطر اليقظ، وخرجت عن الدقة البالغة.
فمن ذلك أنه وضع اسم الكتاب على الغلاف ناقصاً، فسماه نفح الطيب فحسب، والمؤلف قد سماه (نفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب) وهذا الاسم هو الذي وضع على الطبعات السابقة، فكان على الأستاذ أن يثبته كاملاً للمحافظة على وضع المؤلف، ولأن ذكر لسان الدين هو الفكرة الداعية لتأليف الكتاب كما أوضح ذلك المقري في مقدمته.
ثم إن الأستاذ رأى أن يخرج الكتاب أقساماً تبلغ العشرين وأسمى القسم الأول منها بالجزء الأول، ومن المعلوم أن المؤلف قسم كتابه عند التأليف إلى أربعة أجزأء، ومسألة التقسيم مسألة اعتبارية، والدقة تقضي بالمحافظة على اعتبار المؤلف الذي أخرج الكتاب عليه؛ فكان الأنسب أن يقسم الناشر كل جزء إلى أقسام، فيقول مثلاً: القسم الأول من الجزء الأول، والقسم الثاني من الجزء الأول. . . وهكذا حتى ينتهي الجزء الأول، فيبتدئ تقسيماً جديداً للجزء الثاني.(179/70)
ونتجاوز هذا إلى صميم الكتاب، فنقف مع الأستاذ في تلك المقدمة التي دبجها في التعريف بمؤلف الكتاب، فنجده قد جاء بأشياء ذكرها المقري نفسه في المقدمة التي كتبها عن سفراته ورحلاته، والباعث له على تأليف الكتاب. ومن العجيب أن يقول الأستاذ وهو يسرد مؤلفات المقري: ومن مؤلفاته الشائقة عرف الطيب في أخبار ابن الخطيب، ثم يقول في الهامش: ذكر في كشف الظنون أنه سماه بعد ذلك نفح الطيب، وهذا لف لا حاجة إليه، فإن المؤلف قد شرح مسألة التسمية في المقدمة فقال: (وقد كنت أولاً سميته بعرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب، ثم وسمته حين ألحقت به أخبار الأندلس بنفح الطيب. . .) فكان سبيل الكلام أن يقول الأستاذ: ومن مؤلفاته نفح الطيب. . . ولا يثبت اسماً قد ألغاه صاحبه، ولا ينتدب كشف الظنون لمهمة قد أداها المؤلف عن نفسه؛ على أنه بعد ذلك قد ذكر الاسم الأول محرفاً كما يتبين ذلك من مقابلته بعبارة المؤلف.
وفي (ص52) قال المقري من قصيدة طويلة:
أين الذي الهرمان من ... بنيانه الحاكي اعتزامه
فعلق عليه الشارح بقوله: كشف من الأهرام حتى الآن أربعة!! إلا أن شعراء الماضي يذكرون الهرمين: هرم خوفو وهرم خفرع، ثم استشهد لذلك بقول أبي الطيب:
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع!
نقول: وشعراء الماضي يذكرون الأهرام بلفظ الجمع وهو كثير في أشعارهم، ومن ذلك قول ابن جبارة:
لله أي غريبة وعجيبة ... في صنعة الأهرام للألباب
أخفت عن الأسماع قصة أهلها ... ونضت عن الإبداع كل نقاب
وفي (ص 61) قال المقري: (وقد زمت للرحيل القلص الرواسم) فقال الشارح: الرواسم هي الإبل السائر رسيما قال الشاعر:
متى تقول القلص الرواسما ... يدنين أم قاسم وقاسما
وهذا تفسير ناقص فكان عليه أن يبين مرتبة هذا الرسيم من السير، أهو إلى السرعة أم إلى الريث، وإنما نبهنا على هذه لأن أمثالها في الكتاب كثير. ألا تراه يعلق على كلمة - نيسان - بالشرح فيقول. هو شهر رومي؟(179/71)
وفي (ص 79) قرأت قول القائل:
رحلنا فشرقنا وراحوا فغربوا ... ففاضت لروعات الفراق عيون
وقد رأيت كلمة فشرفنا بالفاء، ولعل من الواضح أنها بالقاف لتكون في مقابلة (فغربوا) وأحسب هذا الخطأ من تحريف الطابع.
وفي (ص 98) قال المقري: (فكم جبنا من مهامه فيحا، ومسحنا بالخطأ منها أثيراً وصفيحاً. . .) فقال الأستاذ الشارح: الأثير عند الأقدمين الفلك التاسع، فهو على تشبيه المهامه بالفلك في اتساعه، أو الأثير من أثر السيف وهو فرنده ورونقه وديباجته ولعل هذا أنسب. نقول: أما المعنى على التفسير الأول فخطأ لا يصح، وأما التفسير الثاني ففيه نظر؛ تقول اللغة: أثر السيف بوزن الأمر فرنده؛ وتقول اللغة أيضاً: الصفيح العريض من كل شيء، فالمقري يريد أن يقول: إننا جبنا هذه المهامه وسرنا بالعريض منها والدقيق. ومن هنا ترى أن صحة العبارة (ومسحنا بالخطأ منها أثراً وصفيحاً. . .)
وفي (ص 139) قال المقري وهو يتكلم عن دمشق: (وهي المدينة المعمورة البقاع، بالفضل والرباع) فلم يطمئن الشارح لكلمة الرباع بالباء الموحدة، وقال: لعلها الرياع بالياء المثناة أي الريع والنماء والزيادة. نقول. واللغة لا تقول الرياع وإنما تقول الريع، ثم لاشك أنها الرباع بالباء الموحدة جمع ربع بمعنى القوم كما هو إطلاقهم على الحجاز، فكأن المقري يريد أن يقول: إنها عامرة بالفضل وبالأقوام، وهو كما يقولون في التعبير الحديث (آهلة بالسكان).
وفي (ص 152) قول القائل في وصف دمشق أيضاً:
إن تكن الجنة الخلود بأرض ... فدمشق لا يكون سواها (؟)
أو تكن في السماء فهي عليها ... قد (أمدت) هواءها وهواها
فقال الشارح: لعلها أمرت!! نقول ومعنى أمرت أذهبت ولا يصح المعنى على هذا الحدس، فهي أمدت كما في الأصل لأن الشاعر يريد أن يقول: إن تكن الجنة بالأرض فهي دمشق، وإن كانت بالسماء فموضعها فوق دمشق وإنها أمدتها بهوائها وهواها. . .
وفي (ص 162) قال الشاعر:
رونق كالحباب يعلو على الما ... ء ولكن تحت الحباب الحباب(179/72)
والشارح قد قيد الحباب جميعها في البيت بالضم، وإنما هي في الأولى والثانية بالفتح بمعنى الفقاعات التي تعلو سطح الماء، وقد فطن إلى هذا الخطأ فقيد الكلمة مصححة بالفتح فيما بعد.
وفي (ص 164) قال المقري: (ولو كان بين الصفا والحجون) وقد رأيت الصفا مضبوطة بكسر الصاد، وإنما هي بالفتح كما جاءت في القرآن الكريم.
وفي (ص 181) البيتان:
تمتع بالرقاد على (شِمال) ... فسوف يطول نومك باليمين
ومتع من يحبك باجتماع ... فأنت من الفراق على يقين
فقال الشارح: يجوز أن تكون (شمال) جمع شملة وهي كساء يشتمل به. . . وفي حديث على (!؟) قال للأشعث بن قيس: إن أبا هذا كان ينسج الشمال بيمينه؛ وهي من أحسن الألفاظ وألطفها بلاغة!! وهذا كله شرح فاسد، فأن المراد بالشمال مقابل اليمين، إذ المعنى: تمتع بالنوم على جنبك الشمال في الحياة قبل أن يستمر نومك باليمين في الموت. ولعل من المعروف أن الأفضل في دفن الميت أن يوضع على جنبه الأيمن:
وفي (ص 201) قال الشاعر:
أين أيامنا اللواتي تقضت ... إذ زجرنا للوصل أيمن طير
فقال الأستاذ في الشرح: زجر الطير من العيافة ثم قال: والعيافة باطلة، واحتج لذلك بقول الشاعر:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصا ... ولا (زجرت) الطير ما الله صانع
وهذا فضول في الشرح ومثله في الكتاب كثير، ثم في كلمة زجرات تحريف وإنما هي زاجرات.
وفي (ص 203) قرأت قول ابن الخياط:
فلم أر الطرة حتى جرت ... دموع عيني (بالمربزيب)
وأنا أحفظها كالمربزيب وهي أصح وأبين. . .
وفي (ص 220) أثبت المقري قصيدة للمولي الشاهيني جاء فيها:
وهاكها سيارة أعتقت ... على جواد كان للبحتري(179/73)
ورثته منه ولكنما ... من شاعر وافى إلى أشعر
ما للفتى الطائي شواط امرئ ... يصطاد نسر الجو بالمنسر
وقد علق الأستاذ على البيت الأخير فقال: أظنه يريد بالفتى الطائي أبا تمام وبامرئ امرأ القيس فانظر - وقد نظرنا فرأينا أنه يعني بالفتى الطائي البحتري الذي ذكره في البيت الأول، وأنه يريد بامرئ: نفسه على جهة التشبيه بامرئ القيس وهذا هو الذي يقتضيه السياق، ويتطلبه المعنى.
وفي ص (257) قال المقري في تحديد الأندلس: (وهذه المدينة - يعني مدينة أربونة - تقابلها مدينة برديل. . .) فقال الأستاذ: لم نعثر في المعاجم على اسم هذه المدينة، وقد تكون محرفة عن (برديش) وهي من مدن قرمونية بالأندلس. وليس ثمة تحريف، فأن برديل هي بردو الآن، وتقع حيث يقترب البحر المحيط من البحر الشامي، وهي في مقابل أربونة؛ وقد كان القدماء يقسمون الأندلس إلى ثلاثة أركان، ويقولون إن ركنها الثاني يقع بالشرق بين أربونة وبرديل.
وفي (279) قال وهو يتكلم عن المعادن والأفاويه بالأندلس: (وقد سبق منه - أي العود الهندي - إلى خيران الصقلي صاحب المرية) والمقري قد نقل العبارة بنصها عن الإحاطة للسان الدين، وقد جاء في الإحاطة اسم صاحب المرية (حيزوان)
ذلك ما أحصيناه في هذا القسم من الكتاب في نظرة عجلى، وربما لو عدنا إليه بالنظرة الفاحصة لعثرنا على ما هو أهم وأجل، ولعل الله ييسر لنا النظر في جميع أقسام الكتاب.
محمد فهمي عبد اللطيف(179/74)
العالم المسرحي والسينمائي
بعوث التمثيل وسياسة أعداد المخرجين
لناقد (الرسالة) الفني
لقد ترك الأستاذ زكي طليمات باعتزاله العمل في الفرقة القومية مكاناً شاغراً وإنه ليصعب على فرقة تضم هذا العدد الكبير من الممثلين أن تسير بمخرج مسرحي واحد، ونحن إذا طالبنا الأستاذ عزيز عيد أن يخرج جميع روايات الموسم فإنما نطلب ما ليس في الاستطاعة وما يخرج عن القدرة؛ وهو إن قبل هذه المهمة فإنما يظلم نفسه، وتكون النتيجة تعطيل عدد كبير من الممثلين انتظاراً لإعداد رواية بعد أخرى كما هو حاصل اليوم. ثم إن قيام مخرج واحد بهذه المهمة يجعل دراسة الروايات سطحية لكثرة العمل وضيق الوقت؛ وقد يضطر المخرج إلى تأجيل موعد التمثيل في إحدى الروايات حتى يتسع له الوقت لتدريب الممثلين كما حدث في رواية (سافو) في الأسبوع الماضي.
ونحن نناشد مدير الفرقة أن ينظر إلى هذه الحالة جيداً وأن يقدر الموقف لعله يستطيع أن يوفق إلى مخرج. أما نحن فنرى أن من الخير للممثلين أنفسهم وللجمهور وللفرقة أن يعهد صاحب العزة مديرها إلى أحد كبار الممثلين الذين لهم من الثقافة وسعة الاطلاع ما يؤهلهم للقيام بمهمة الإخراج ببعض الروايات لإخراجها، وأنا على ثقة من أن في الفرقة من سبق له أن أخرج عشرات الروايات لطلبة المدارس الثانوية الأميرية وغير الأميرية. فهل تحقيق الفرقة هذا الرجاء حتى يعود إليها من الخارج من توفدهم من البعوث لدراسة الفن في أوربا!!
وعلى ذكرى البعوث نقول إن خير عمل قامت به لجنة ترقية التمثيل العربي منذ إنشاء الفرقة القومية في العام الماضي، هو قرار لجنتها التي عقدت في مساء يوم الخميس الماضي، القاضي بإرسال أربعة من الشبان المصريين إلى أوربا لدارسة فن الإخراج والتمثيل: اثنين من الممثلين المعروف، واثنين من الشبان المتعلمين الحائزين على درجات علمية محترمة. وهذه السياسة التي تسير عليها اللجنة جديرة بأن تقابل من كل محب للمسرح بالشكر إذ تهيئ لنا شباناً مثقفين ثقافة مسرحية شاملة، وسوف يدخلون على المسرح المصري كل جديد طريف ويسيرون به إلى الإمام خطوات واسعة، وسوف يجد(179/75)
فيهم صغار الممثلين أساتذة وإخواناً يستفيدون منهم كل ما تغيب عنهم معرفته.
إن أهم ما يشكو منه المسرح هو عدم وجود المخرج الفنان، فعلى أعضاء البعثة أن يعنوا بدراسة الإخراج أكبر العناية، وأن يخصصوا له الجانب الأكبر من جهودهم فيتفهموا وسائله ونظرياته ويدرسوا الضوء، فمن المحزن أن نبقى حتى اليوم ونحن لا نكاد نفهم ما هو الضوء، وكيف نستخدمه ونستفيد منه، وكيف نستعين به في معاونة الممثلين على التعبير وإبراز عوامل الجمال في الرواية.
رواية سافو
كانت الفرقة القومية المصرية قد أعلنت عن تمثيل رواية سافو ابتداء من 2 ديسمبر الماضي، ولكن اضطرت الفرقة لظروف خاصة إلى تأجيل هذا الموعد إلى يوم الثلاثاء القادم الموافق 8 ديسمبر، ونحن نرجو أن يقبل الجمهور على هذه الرواية فهي من روائع الأدب المسرحي الفرنسي.
فيلم جديد لاستديو مصر: الشيخ شريب الشاي
جرت العادة أن تدعو الشركات الأجنبية ممثلي الصحافة إلى حفلة عرض خاصة لكل فلم جديد تنتجه، وقد اقتدى استديو مصر بهذه الشركات فدعا النقاد السينمائيين إلى شهود آخر منتجاته (الشيخ شريب الشاي) الذي قام بإخراجه لحساب جمعية الشاي الدولية.
فالفلم للدعاية وأصحابه هم أصحاب فكرته، ولكن الاستديو هو الذي قام بإعداده وإدارته فنياً؛ وموضوعه تحبيذ للشاي الجيد، وحض للناس على تفضيل هذا النوع من الشاي. وبطل الفلم شيخ من الفلاحين له مكانته في قريته يستيقظ في الفجر هو وأولاده يطلبون الشاي ويلقون الأغاني في طلبه، ونرى الأم تقوم بإعداده على الطريقة الصحية. وهنالك مواقف كثيرة فيها تتجلى مضار الشاي الأسود، ومحاسن الشاي الجيد المصنوع على الطريقة الصحية وأثر هذا الشاي في الصحة. وقد وفق الأستاذ نيازي مصطفى في إدارة الفلم فنياً كما وفق يوسف بهجت في تصميم مناظره، وكذلك وفق حلمي رفلة في عمليات التنكر وإبراز الشخصيات مما يتفق وأدوارها في الفلم، وأذكر له شخصية الشيخ، وشخصية الخفير الأبله الذي تدل سحنته على البلاهة حقاً كما كانت سحنة بائع الشاي(179/76)
(المغشوش) بغيضة أيضاً. وإلى مجهود هؤلاء الشبان يعود الأثر الأكبر في متابعة النقاد لمشاهدة الفلم برضاء وسرور مع أنه كما قلنا فلم دعابة فيه كثير من الترديد والإعادة والتحبيذ للشاي الصحي وشربه، وفي هذا ما قد يبعث الملل إلى النفس.
ويمكنني أن أقول إن نيازي أثبت في هذا الفلم أنه مدير فني متمكن من فنه، فعمله يفوق أي فلم مصر آخر مما تخرجه الشركات وتستغل به طيبة المصريين.
والتمثيل لا بأس به، وفي مقدمة الجميع كان محمد كامل الذي قام بدور البربري فله مواقف طريفة، وإبراهيم عمارة في دور الشيخ شريب الشاي أعطى جوانب طيبة من الشخصية، ولكنه أهمل جوانب أخرى واهتم بالإلقاء أكثر مما اهتم بالتمثيل ولهذا لم يبرز روح الفلاح كاملة. أما الموسيقى فكانت تتنافر وجو الفلم، وكان من الأفضل أن يميل الملحن فريد غصن إلى الموسيقى البلدية في أغاني القرية حتى ولو كانت عن الشاي.
والفلم في مجموعه مجهود موفق، فنرجو للاستديو التوفيق المستمر.
التصوير أم الإضاءة
رأي المدير الفني لفيلم نشيد الأمل
يعلم رجال شركة فلم الشرق بهمة كبير لإخراج فلم نشيد الأمل الذي تقوم بالدور الأول فيه الآنسة أم كلثوم، ويبذل كل من المخرج والمدير الفني مجهوداً مضنياً، حتى ينتهي إعداد الفلم قبل يوم 10 يناير وهو الموعد المحدد لعرضه في سينما رويال.
جمعني مجلس بالأستاذ أحمد بدرخان فتحدثنا عن فلم نشيد الأمل وعن الجهود التي يبذلها الجميع لإخراجه في هيئة تنال رضاء الشعب، وانتقل بنا الحديث إلى التصوير فقلت له: إن الذين شاهدوا فلم (وداد) لاحظوا أن الآنسة أم كلثوم في الصور المأخوذة عن قرب تبدو غير جميلة، وتضعف شخصيتها كثيراً عما نعرفه عنها، وتمنيت أن يكون قد عمل على تلافي هذه الغلطة في فيلم نشيد الأمل. وسألته عما إذا كان قد فكر في إظهار الآنسة أم كلثوم في الصور القريب غير واضحة التفاصيل حتى يمكن تلافي أي عيب. وقد أجاب الأستاذ بدرخان بأنه لو كان قد أشرف على الإدارة الفنية في (وداد) لما ظهرت أمثال هذه الصور التي لفتت الأنظار، لأنه يعرف كيف يلافي أمثال هذه الأخطاء، وأنه شخصياً يرى(179/77)
أن الصور غير الواضحة التفاصيل تظهر الوجه بديناً إلى حد ما وإن أدت إلى الغرض المقصود، وهذه الصور تلائم الممثل النحيف كالأستاذ محمد عبد الوهاب ولكنها لا تلائم الآنسة أم كلثوم؛ ولهذا يرى أن الإضاءة الفنية تحقق هذه الغاية.
وسوف يرى النقاد ورواد فلم نشيد الأمل كيف تظهر الآنسة أم كلثوم هذه المرة، وسوف يحكمون على إدارة المصريين للأفلام ويقارنون بين ما ينتجون وبين ما أنتج الأجانب الذين استقدمناهم لإدارة أفلامنا الشرقية والمصرية.
(يوسف)
تصويب
جاء في مقال المسرح المنشور بالعدد الماضي صفحة 1979 في السطر الثاني عشر من العمود الأول: (ذلك الكاتب الألماني العظيم) والصواب (الكاتب الإنساني).(179/78)
العدد 180 - بتاريخ: 14 - 12 - 1936(/)
عرس وسرير
بين سلطان وسلطان
يا كافرين بالشعر والأحلام والحب! أتريدون بعد حادث اليوم معجزة؟
هذا ملك المغرب، وإمبراطور المشرق، وإله البحر، وصاحب العرش المحمول على أعناق الشعوب، ووارث التاج المتألق على جباه القرون، وخليفة المجد المحفوف بالجلال الباهر والسؤدد العريق والسنَّة المقدسة، وسليل الدم السَّرى الذي يتدفق بالحياة في هدوء ويجيش بالنشاط في ثبات، وربيب البيئة التي تعظم القوانين وتقدس التقاليد وتعبد الإمبراطورية؛ هذا هو ينزل عن العرش، ويلقي التاج، وينبذ اللقب، ويهجر الوطن، ويلحق بحبيبته أميراً لا يميزه شعار، وإنساناً لا تحدوه أبَّهة، وفرداً لا تصحبه حاشية!
يا جاحدين لسلام الروح وراحة القلب ورضى العاطفة، أتمارون بعد اليوم في هذه الآية؟
زعمتم أن الأرض بدلِّت غير الأرض، والدنيا أصبحت غير الدنيا، فقدَّرتم سعادة الحياة بالوزن والكيل والمساحة، وقلتم أودى منطق العقل بإلهام القلب، وأزرت مادية العلم بروحية الأدب، وغلبت أثرة المنفعة على إيثار التضحية؛ ورحتم تتجهزون بما صنع العلم من صواعق وزلازل وبراكين، لتنسفوا ما قام من المدينة، وتقتلوا ما بقي من الإنسانية، وتقرُّوا في ملكوت الله نظاماً لا يعيش فيه جمال ولا خير ولا حق؛ فقام أكبر ملك في العالم، على أظهر مكان في الأرض، يعلن أن عظمة الملك لا تضمن سعادة النفس، وسلطان العرش لا يعوض حرية الإرادة، وجواهر التاج لا تساوي بسمة الحبيب!
سبحانك يا بديع الحياة والحي! ما هذا الذي تضعه في العيون فنسميه سحراً، وتجريه على الشفاه فندعوه جاذبية، وترسله في الأعضاء فيكون رشاقة؟ ما هذا الذي تودعه هذا الجسم الرقيق الناعم فيقهر سطوة الجبار، ويسوِّي أخدع المتكبر، ويطأطأ أشراف الملك؟ أهو إعجاز القدرة التي تغلب بالأضعف؟ أم سر الحكمة التي تمكر بالأقوى؟ أم روح القدس الذي ينفّذ قانون الحياة في هذا الكوكب؟
بين سورة الملك وأمانة التاج، وبين فتنة الجمال ومحنة الهوى، وقف العاهل ادوار الثامن يتحسس في مطاوي الغيب مشيئة القدر: أيعيش في نفسه ولنفس، أم يعيش في جنسه وللناس؟ أيظل رمزاً لأمته يخفق فوق رءوسها كالعلم، ويتغلغل في قلوبها كالأيمان، ويتردد(180/1)
على ألسنتها كالصلاة، ثم لا يكون له ما للعامل الفقير من وجود مستقل وإرادة مختارة؛ أم يرتد إلى طبيعة الإنسان فيضرب بنفسه في الزحام، ويبحث عن نصيبه في الرغام، ويضطلع بعبئه ككل فرد؟؟ أيبقى أسير التقاليد التي نسجتها عناكب الماضي البعيد على نوافذ البلاط والبرلمان، فلا يفكر إلا بإيحاء، ولا يتحرك إلا بميقات، ولا يتكلم إلا بمقدار، ولا يعمل إلا بإشارة؛ أم يتمرد تمرد الحي المريد، فيدفع من أمامه ذلك الحاجز الصفيق الثقيل، ويجذّ من ورائه ذلك الذيل العتيق الطويل، ثم ينطلق في أجواء الله انطلاق الطائر المرح، يقع في كل روضة، ويهبط على كل غدير، ويتملى أليفه فوق عروش الورود، وعلى بسط المروج، وبين أفنان الخمائل؟؟
كانت هذه الآراء الحائرة تعصف نكباء في رأس الملك، بينما كان في (لندن) الواجب المرير الخشن يتمثل في وجه (بلدوين) الحازم الجبار، ومن خلفه برلمان متحد يؤيد دستوره، وملكوت واسع يريد إمبراطوره، وشعب مخلص يحب ملكه؛ وفي (كان) حب عنيف ملح يشرق في قسمات (مسز سمبسون) الفاتنة، ومن ورائه إنسان يطلب حريته، وقلب ينشد سعادته، وحي يتغنى حظه من الحياة
وهنا يتدخل القدر الذي يحكم وحده على الملوك، فيحل عقدة الرواية التي يشهدها العالم كله، على غير ما يحلها به الروائيون الخياليون، فينصر تجديد الطبيعة على تقليد العرف، ويغلّب سلطان الحب على سلطانالواجب، ويرفع سرير الأسرة على عرش الأمة!
يا كافرين بالشعر والأحلام والحب! أتريدون بعد حادث اليوم معجزة؟
أيها الناسون ما صنعت حواء بأبيكم آدم! لا تحسبوا أن الماسونية والجاسوسية والشيوعية والصهيونية والفاشية والنازية هي التي في تقلب في السر أو في العلن أوضاع المجتمع.
فتشوا في زوايا كل أولئكم عن المرأة! وإذا كانت مأساة البرنس ادوار تذكرنا بمأساة البطل أنطوان، فليست كليوبطرة أول النساء، ولا مسز سمبسون آخرهن؛ وسيظل هذا الجنس القوي الخفي الغامض سلطان الكون المطلق؛ فهو محور الطموح والمنافسة، ومصدر الخير والشر، ومنبع السرور والألم، ولئن خضع له اليوم أدوار، فمن قبلهخضع نابليون، ومن قبل نابليون خضع الرشيد وقال فيما حدَّث الرواة:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان(180/2)
مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... - وبه قوين - أعزُّ من سلطاني
احمد حسن الزيات(180/3)
6 - القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أما صاحب القلب المسكين فقام ليخرج، وقد تفارطته الهموم وتسابقت إليه فانكسر وتفتّر؛ وكأنما هو قد فارق صاحبته باكياً وباكيةً من حيث لا يرى بكاءه غيرها ولا يرى بكاءها غيره
ورأيته ينظر إلى ما حوله كأنما تغشَّى الدنيا لون نفسه الحزينة إذ كانت نفسه ألفت ظلَّها على كل شيء يراه؛ وجعل يدلف ولا يمشي كأنه مثقلٌ بحمل يحمله على قلبه
إنه ليس أخفُّ وزناً من الدمع، ولكن النفوس المتألمة لا تحمل أثقل منه، حتى لينتثر على النفس أحياناً وكأنه وكأنها بناءٌ قائم يتهدَّم على جسم. وبعض التنهدات - على رقتها وخفتها - قد تشعر بها النفس في بعض همها كأنها جبل من الأحزان أخذته الرجفة فمادت به، فتقلقل، فهو يتفلّق ويتهاوى عليها
آه حين يتغير القلب فيتغير كل شيء في رأي العين. لقد كان صاحبنا منذ قليل وكأن كل سرور في الدنيا يقول له: أنا لك؛ فعاد الآن وما يقول لك أنا لك إلا الهم؛ والتقى هو والظلام والعالم الصامت
جعل يدلف ولا يمشي كأنه مثقل بحمل يحمله على قلبه. ومتى وقع الطائر من الجو مكسور الجناح انقلبت النواميس كلّها معطلة فيه، وظهر الجو نفسه مكسوراً في عين الطائر المسكين، وتنفصل روحه عن السماء وأنوارها حتى لو غمره النور وهو ملقىً في التراب لأحسَّه على التراب وحده لا على جسمه
ثم خرجنا فانتبه صاحبنا مما كان فيه؛ وبهذه الانتباهة المؤلمة أدرك ما كان فيه على وجه آخر فتعذَّب به عذابين: أما واحد فلأنه كان ولم يدم؛ وأما الآخر فلأنه زال ولم يعد. والسرور في الحب شيء غير السرور الذي يعرفه الناس، إذ هو في الأول روحٌ تتضاعف به الروح؛ فكل ما سرك وانتهى شعرت أنه انتهى؛ ولكن ما ينتهي من سرور العاشق المستهام يشعره انه مات، فله في نفسه حزن الموت وهمُّ الثكل؛ وله في نفسه همُّ الثكل وحزن الموت.
وينظر صاحب القلب المسكين فإذا الأنوار قد انطفأت في الحديقة، وإذا القمر أيضاً كأنما(180/4)
كان فيه مسرح وأخذوا يطفئون أنواره.
كان وجه القمر في مثل حزن وجه العاشق المبتعد عن حبيبته إلى أطراف الدنيا. فكان أبيض أصفر مكمدا، تتخاذل فيه معاني الدموع التي يمسكها التجلد أن تتساقط.
كان في وجه القمر وفي وجه صاحبنا معاً مظهر تأثير القدر المفاجئ بالنكبة
وبدت لنا الحياة تحت الظلمة مقفرة خاوية على إطلالها فارغة كفراغ نصف الليل من كل ما كان مشرقاً في نصف النهار. يا لك من ساحر أيها الحبُّ! إذ تجعل في ليل العاشق ونهاره ظلاماً وضوءاً ليسا في الأيام والليالي.
أما الحديقة فلبسها معنى الفراق؛ وما أسرع ما ظهرت كأنما يبست كلها لتوّها وساعتها، وأنكرها النسيم فهرب منها فهي ساكنة؛ وتحولت روحها خشبيّة جافة، فلا نضرة فيها على النفس؛ وبدت أشجارها في الظلام قائمة في سوادها كالنائحات يلطمن ويولولن، وتنكر فيها مشهد الطبيعة كما يقع دائماً حين تنبت الصلة بين المكان ونفس الكائن فيه.
ماذا حدث؟
لا شيء إلا ما حدث في النفس؛ فقد تغيرت طريقة الفهم، وكان للحديقة معنى من نفسه فسلب المعنى، وكان لها فيض من قلبه فانحبس عنها الفيض، وبهذا وهذا بدت في السلب والعدم والتنكر، فلم يبق إيداعٌ في شيء مبدع، ولا جمال في منظر جميل.
أكذا يفعل الحب حين يضع في النفس العاشقة معنى ضئيلاً من معاني الفناء كهذا الفراق؟
أكذا يترك الروح إذا فقدت شيئاً محبوباً، تتوهم كأنها ماتت بمقدار هذا الشيء؟
مسكين أنت أيها القلب العاشق، مسكين أنت!
ومضينا فملنا إلى ندى نجلس فيه، وأردت معابثة صاحبنا المتألم بالحب، والمتألم بأنه متألم، فقلت له: ما أراك إلا كأنك تزوجتها وطلقتها فتبعتها نفسك
قال: آه. من أنا الآن؟ وما بال ذلك الخيال الذي نسّق لي الدنيا في أجمل أشكالها قد عاد فبعثرها؟ أتدري أن العالم كان في ثم أخذ مني فأنا الآن فضاء فضاء
قلت: أعرف أن كل حبيب هو العالم الشخصي لمحبه
قال: ولذلك يعيش المحب المهجور، أو المفارق، أو المنتظر وكأنه في أيام خلت؛ وتراه كأنما يجيء إلى الدنيا كل يوم ويرجع(180/5)
قلت: إن من بعض ما يكون به الجمال جمالاً انه ظالم قاهر عنيف كالملك يستبد ليتحقق من نفاذ امره؛ وكأن الجميل لا يتم جماله إلا إذا كان أحياناً غير جميل في المعاملة.
قال: ولكن الأمر مع هذه الحبيبة بالخلاف؛ فهي تطلبني واتنكبها، وهي مقبلة لكنها مقبلة على امتناعي؛ وكأنها طالب يعدو وراء مطلوب يفرّ، فلا هذا يقف ولا ذلك يدرك
قلت: فإن هذه المشكلة، ومتى كانت الحبيبة مثلها، وكان المحب مثلك، فقد جاءت العقدة بينهما معقودة من تلقاء نفسها فلا حل لها
قال: كذلك هو، فهل تعرف في البؤس والهم كبؤس العاشق الذي لا يتدبر كيف يأخذ حبيبته، ولكن كيف يتركها؟ ما هي المسافة بيني وبينها؟ خطوة، خطوتان؟ كلا، كلا؛ بل فضائل وفضائل تملأ الدنيا كلها. إن مسافة ما بين الحلال والحرام متراخية ممتدة ذاهبة إلى غير نهاية. وإذا كان الحب الفاسد لا يقبل من الحبيب إلا (نعم) بلا شرط ولا قيد لأنه فاسد، فالحب الطاهر يقبل (لا) لأنه طاهر؛ ثم هو لا يرضى (نعم) إلا بشرطها وقيدها من الأدب والشريعة وكرامة الإنسانية في المرأة والرجل
وإذا لم ينته الحب بالإثم والرذيلة، فقد أثبت أنه حب؛ وشرفه حينئذ هو سرُّ قوته وعنصر دوامه
أتعرف أن بعض عشاق العرب تمنى لو كان جملاً وكانت حبيبته ناقة. . . .؟ إنه بهذا يود ألا يكون بينهما العقل والقانون وهذا الحرمان الذي يسمى الشرف، وألا يكون بينهما ألا قيد غريزتها الذي ينحلُّ من تلقاء نفسه في لحظة ما، وأن يترك لقوته وتترك هي لضعفها؛ والقوة والضعف في القانون الطبيعة هما ملك وتمليك واغتصابٌ وتسليم
قلت: وهذا ما يفعله كل عاشق لمثل هذه الراقصة إذا لم يكن فيه إلا الحيوان، فان بينهما قوة وضعفاً من نوع آخر، فمعه الثمن وبها الحاجة، وهما في قانون الضرورة ملك وتمليك
قال: وهذا مما يقطّع في قلبي، فلو أن للأمة ديناً وشرفاً لما بقي موضع الزوجة فارغاً من رجل، وإن هذه وأمثالها إنما ينزلن في تلك المواضع الخالية أول ما ينزلن، فكل بغيّ هي في المعنى دينٌ متروك وشرف مبتذل في الأمة
قلت: فحدثني عنك ما هذا الوجد بها وما هذا الاحتراق فيها، وأنت قد كنت بين يديها خالياً محصناً كأنما جمعتها في حواسك فأخذتها وتركتها في وقت معاً. وحواسك هذه لا تزال كما(180/6)
هي قد زادت حدة، فكما صنعت لك من قرب تصنع لك من بعد
قال: أنا في محضرها أحبها كما رأيت بالقدر الذي تقول هي فيه إنك لا تحبني، إذ كان بيننا آخر اسمه الخلق؛ ولكني في غيابها أفقد هذا الميزان الذي يزن المقدار ويحدده. وإذا كنت لم تعلم كيف يصنع العاشق في غيبة المعشوق، فأعلم أن كبرياءه حينئذ لا ترى بازائها ما تقاومه فتتخلى عنه وتخذله، وفضيلته لا تجد تستعلن فيه فتتواري وتدعه، وشخصيته لا تجد ما تبرز له فتختفي وتهمله؛ فما يكون من كل ذلك إلا أن يظهر المسكين وحده بكل ما فيه من الوهن والنقص وحدَّة الشوق، وهنا ينتقم الحب مما زوّرت عليه الكبرياء والفضيلة والشخصية فيضرب بحقائقه ضرباتٍ مؤلمةً لا تقوم لها القوة، ويجعل غياب الحبيب كأنه حضوره مستخفياً لرؤية الحقيقة التي كتمت عنه. وكم من عاشقة متكبرة على من تهواه تصدُّه وتباعده، وهي في خلوتها ساجدة على أقدام خياله تمرغ وجهها هنا وهنا على هذه القدم وعلى هذه القدم
ألا إنه لا بد في الحب من تمثيل رواية الامتناع أو الصد أو التهاون أو أي الروايات من مثلها؛ ولكن ثياب المسرح هي دائماً ثياب الاستعارة ما دام لابسها في دوره من القصة
ثم وضع المسكين يده على قلبه وقال: آه. إن هذا القلب يغاضب الحياة كلها متى أراد أن يشعر صاحبه انه غضبان
مَن مِن الناس لا يعرف أحزانه، ولكن من منهم الذي يعرف أسرار أحزانه وحكمتها؟ أما إنه لو كُشف السر لرأينا الأفراح والأحزان عملاً في النفس من أعمال تنازع البقاء؛ فهذا الناموس يعمل في إيجاد الأصلح والأقوى، ثم يعمل كذلك لإيجاد الأفضل والأرقّ. ومن ثم كانت آلام الحب قويةً قويةً حتى لكأنها في الرجل والمرأة، تهيئ أحد القلبين ليستحق القلب الآخر
آه من هذه اللواعج! إنها ما تكاد تضطرم حتى ترجع النفس وكأنها موقد يشتعل بالجمر، وبذلك يُصْهرُ المعدن الإنساني ويصنع صنعة جديدة؛ وإلى أن ينصهر ويتصفى ويُصنع، ماذا يكون للإنسان في كل شيء من حبيبه؟
يكون له في كل شيء روحه الناري
قلت: بخ بخ. هكذا فليكن الحب. إنها حين تهيج في نفسك الحنين إليها تعطيك ما هو أجمل(180/7)
من جمالها وما هو أبدع من جسمها، إذ تعطيك أقوى الشعر وأحسن الحكمة.
قال: وأقوى الألم وأشدَّ اللوعة. يا عجبا! كأن الحياة لا تقدم في عشق المحبوب إلا عشقها هي، فإذا وقعت الجفوة، أو حُمَّ البين، أو اعترى اليأس - قدَّم الموت نفسه فكل ذلك شبه الموت
إن الحزن الذي يجيء من قبل العدو يجيء معه بقوة تحمله وتتجلد له وتكابر فيه، ولكن أين ذلك في حزن مبعثُه الحبيب؟ ومن أين القوة إذا ضعف القلب؟
قلت: لا يصنع الله بك إلا خيراً. فإذا كان غدٌ وأنسلخ النهار من الليل، جئنا إليها فرأيناها في المسرح، ولعل الأمر يصدر مصدراً آخر. قال: أرجو
ولم يكد ينطق بهذه الرجيَّة حتى مرَّ بنا سبعة رجال يقهقهون، ثم تلاقينا وجئنا؛ ويا ويلتنا على المسكين حين علم أنها رحلت؛ لقد أدرك أن الشيطان كان يضحك بسبعة أفواه. . .
من قوله: أرجو
ولماذا رحلت؟ لماذا. . .؟
وأما هو؟
(يتبع - طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(180/8)
سالزبورج
مدينة المطر والموسيقى
بقلم سائح متجول
لم يطل بنا المكث في ربوع سويسرا الجميلة فغادرنا (تسيريخ) (زيورخ) إلى ألمانيا عن طريق شافهاوزن، وقصدنا (منشن) (ميونيخ) عاصمة بافاريا عن طريق أوجسبورج واولم؛ وفي أثناء الزيارة الجمركية عند الحدود الألمانية، أحصى الموظف المختص ما معنا من صنوف النقد الأجنبي وقيمه وأثبتها بعد الاطلاع عليها في شهادة خاصة؛ وهذا إجراء لا بد منه لكي يستطيع السائح أن يخرج من ألمانيا بما يحمل من صنوف النقد الأجنبي، ووصلنا إلى (منشن) عصراً بعد رحلة ممتعة خلال سهولة بافاريا الغنية، فألفينا المدينة تموج بالوافدين عليها من السياج من مختلف الأقطار، وألفينا الفنادق غاصة بالزائرين، وقد رفعت أجورها جميعاً عن الأسعار الرسمية المدونة في سجل الفنادق الألمانية؛ وقد كانت دورة الألعاب الأولمبية قد بدأت في برلين قبل ذلك بأيام، فلم نرغب في الذهاب إليها اجتناباً لضجيجها وحياتها الصاخبة، وآثرنا البقاء في منشن وبافاريا فلم نجد ما كنا ننشد من الراحة والهدوء
وقد تحدثنا في فصل سابق عن (منشن) ومناظرها وعن أبهاء البيرة الضخمة التي اشتهرت بها، فلا نعود إلى ذلك. وإنما نلاحظ هنا فقط أن الفنادق الألمانية لا ترضى بالأسعار الرسمية التي تقيدت بقبولها والتي يعول عليها السائح، وهي مدونة في دليل الفنادق الرسمي الذي يقدم إليك؛ وإن السائح يتكبد في صرف تحاويل السياحة (رجستر مارك) خسائر لا مبرر لها، فكل تحويل بخمسين ماركا أو أقل يؤخذ عنه (مارك) ويؤخذ عن المائة مارك ونصف مارك، وهكذا فإذا ذكرت أنه يؤخذ مثل هذه النسبة أو أكثر عند شراء التحويل، فإن (العمولة) قد تصل بذلك إلى أربعة أو خمسة في المائة، هذا والسائح الذي يريد أن يحول ما تبقى لديه من النقد الألماني بعد انتهاء زيارته يتكبد في تحويله خسارة لا تقل عن عشرين أو خمسة وعشرين في المائة، وهذه نسبة غير معقولة.
أضف إلى ذلك أن نفقات المعيشة في ألمانيا ليست من الرخص كما يقال، وهذا بالرغم مما وضعته ألمانيا من تسهيل في مسألة النقد بتقرير (الرجستر مارك) للسياج؛ وتمنح ألمانيا(180/9)
على سككها الحديدية تخفيضاً قدره ستون في المائة، ولكنها تشترط في مقابل ذلك أن يقيم في أرضها سبعة أيام كاملة على الأقل، وهذا شرط مرهق بلا ريب؛ لأن إيطاليا تمنح للأجانب تخفيضاً قدره خمسون في المائة أو أكثر على سككها الحديدية دون اشتراط الإقامة مطلقاً، وكل ما هناك أنك تزور معرضاً في إحدى المدن الإيطالية التي تمر بها وقد لا يستغرق ذلك أكثر من ساعتين
غادرنا (منشن) بقطار الساعة الثانية مساء إلى مدينة سالزبورج، فوصلنا إليها بعد رحلة قصيرة وتمت الإجراءات الجمركية بسرعة في الجانب النمسوي من المحطة؛ ثم جزنا إلى خارج المحطة، ولشد ما كان سرورنا ودهشتنا إذ التقينا في فنائها بصديقنا القديم الصحفي النابه الأستاذ محمود أبو الفتح، فبادلناه تحية حارة، وتواعدنا على التزاور واللقاء، ولكن الظروف لم تسمح للأسف بتلاقينا بعد ذلك؛ وقد علمنا فيما بعد من صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم أنه كان في نفس الوقت الذي زرنا فيه سالزبورج يقبع في فندق (شتات ميران) الذي نزلنا فيه؛ ومع أننا كنا نجوس خلال المدينة في كل وقت بالنهار وبالليل ونغشى جميع المقاهي والمنتديات التي ذكر لنا الصديق أنه كان يغشاها أيضاً؛ فأننا لم نعرف بوجوده ولم نقع له على خبر أو أثر؛ ولعله كان يؤثر الاعتكاف والاحتجاب ليستجم كل تفكيره وخياله ثم يطالعنا بكتابه الذي اعتاد أن يخرجه كل موسم؛ وعلى أي حال فقد كان المطر ينهمر باستمرار في سالزبورج، ويحمل ذوي الأمزجة الرقيقة على الاحتجاب والاعتكاف. أما نحن فقد كنا نجد في هذا الغيث المنهمر الذي اشتهرت به سالزبورج ظاهرة بديعة من ظواهر الطبيعة، وكنا نستقبله باسمين مرحين رغم انه كان يغمرنا بالبلل ليل نهار. والواقع أن المطر يغمر هذه المدينة الرشيقة بنوع من الصباحة المنعشة، كما تغمرها الشمس أيام الصحو وبضوئها المنعش؛ وحينما يسقط المطر تقدم إليك تلك المدينة منظراً بديعاً، فالمظلات تنتشر فوق الرؤوس، ويرتدي الناس معاطف المطر الجلدية؛ وترى المطر يقطر من المارة، ولكن حركة المدينة تبقى على حالها؛ ومما يلفت النظر بنوع خاص من السيدات وهن يرتدين المعاطف الجلدية أو معاطف صنعت من ورق خاص يسيل عليها المطر وتحمي من البلل؛ وإذا كانت سالزبورج وقتئذ تموج بالوافدين لحضور حفلاتها الموسيقية الشهيرة، فقد كنا نرى أسراب الحسان يرتدين هذه المعاطف الورقية(180/10)
المختلفة الألوان فوق ثياب السهرة، وينساب الماء فوق معاطفهن، كما ينساب السحر من زينتهن وعطرهن، وهن ضاحكات مرحات لا يزعجهن البلل
وإذا كانت سالزبورج تشتهر بمطرها الذي لا ينقطع حتى في أشد أيام الصيف، والذي يغمرها دائماً بالبلل المنعش، فإنها تشتهر أيضاً بصفة أخرى، هي أنها مدينة الموسيقى؛ وشهرتها عالية تدعو إليها الزائر من أقصى العالم؛ ولا غرو فهي مسقط رأس موتسارت، وفيها بزغ مجده؛ وما زال المنزل الذي ولد فيه موتسارت قائماً في سالزبورج، وفيه الجناح الذي قضى فيه طفولته؛ وقد حول هذا الجناح اليوم إلى متحف يحج إليه المعجبون بذكرى الموسيقي الكبير، ويتأملون فيه ذكرياته وآثاره؛ وإنك لتشعر حين ترى هذا المنزل المتواضع الذي حرص أولوا الأمر على استبقائه بشكله القديم؛ وحين تطوف بغرفه الضيقة ذات الأسقف الخفيضة، بنوع من التأثر يمازجه الخشوع؛ ذلك أنك ترى في كل زاوية من المكان أثراً حياً لذلك الذي بهر العالم وسحره منذ طفولته برائع أنغامه ورائع مقطوعاته؛ فهنالك مسودات لكثير من قطع موتسارت كتبت بخطه، وهنالك رسائل كثيرة، وصور عديدة تمثله في مناسبات وحفلات مختلفة؛ وهنالك جمجمة الموسيقى الكبير ذاتها، لا نجد لوضعها معنى بين هذه القطع والآثار الفنية؛ ثم هنالك مناظر سحرية تمثل كثيراً من القطع التمثيلية التي وضع موتسارت مقطوعاتها الموسيقية واشترك في إحيائها مثل (الدون جوان) و (زواج فيجارو) و (المزمار المسحور) و (كوزي فان توتي) و (اختطاف الحريم) وغيرها؛ وهذه المناظر آية في الدقة والإبداع لأنها تمثل المناظر والأشخاص والألوان مجسمة واضحة، وتدل على مبلغ ما انتهى إليه المسرح في عصر موتسارت أعنى في أواخر القرن الثامن عشر من التقدم؛ ولفت نظرنا بنوع خاص من بين هذه الذكريات عدة إعلانات مسرحية ترجع إلى سنة 1780 و 1781، عن روايات يشترك في إحيائها موتسارت وقد ذكر فيها أنه يتولى قيادة الموسيقى، وأن الأثمان عادية أو مخفضة! وما زلنا نرى هذه الأوضاع ونقرأ هذه العبارات التي كان يتخذها المسرح منذ قرن ونصف للإعلان عن نفسه، فيما يصدره اليوم من الإعلانات والبرامج! وإنك لتكاد تقرأ في هذه الغرف المتواضعة، وفي هذه الذكريات المؤثرة طرفاً من حياة ذلك الذي لم تغنه عبقريته الرائعة شر الحاجة؛ ذلك أن موتسارت قد بهر مجتمعات عصره يسمو فنه وافتنانه، ونهل من منهل(180/11)
المجد ما شاء، ولكنه لبث طول حياته يتخبط بين غمار الفاقة، وتوفي مثقلاً بالبأساء والدين
وقد اسبغ تراث موتسارت وذكرياته على سالزبورج شهرة موسيقية عالمية ما زالت تحتفظ بها حتى اليوم. ولسالزبورج موسم موسيقى مشهور تقيمه في كل صيف في يوليه وأغسطس، ويشترك في إحيائه أقطاب الموسيقى العالميون مثل برنو فالتر، فليكس فينجارتنز، وأرتورو توسكانيني؛ وتمثل في هذا الموسم عدة من القطع المسرحية الخالدة التي وضع موسيقاها موتسارت وبيتهوفن وشوبرت وغيرهم من أقطاب الفن، وتنظم حفلات موسيقية رائعة تعرض فيها قطع وأناشيد من وضعهم، وتقوم بتنفيذها فرقة موسيقية رائعة على رأسها أحد أقطاب العصر ممن ذكرنا؛ وتقام إلى جانب هذه الحفلات حفلات موسيقية منوعة، كلاسيكية أو عصرية أو كنسية؛ وقد أعدت بلدية سالزبورج لإحياء هذه الحفلات الشهيرة مسرحاً شاسعاً يمتاز بسذاجة وفخامته معاً؛ وكنا في سالزبورج والموسم على اشده، والمدينة تموج بالوافدين عليها من سائر الأقطار؛ تغص بهم فنادقها ومقاهيها وطرقاتها، ولم نستطع أن نشهد من هذه الحفلات الرائعة أكثر من حفلين لاستحالة الحصول على التذاكر ولأنه يجب للحصول عليها أن نشتري قبل الموعد بأيام إن لم يكن بأسابيع، وكان مما شهدنا حفلاً موسيقياً رائعاً برآسة أرتورو توسكانيني، ونظم في ضحى يوم ماطر كثير البلل، ومع ذلك فلم نتمكن من شهوده إلا بعد جهد جهيد
وتتخذ مدينة سالزبورج وسكانها خلال الموسم استعدادات خاصة لاستقبال آلاف الزوار الوافدين عليها، وتنظيم معدات الاقامة، وتيسير حركة النقل والتنزه، ويرابط في الطرق المؤدية إلى المسرح كثير من رجال البوليس لتنظيم حركة المرور الهائلة التي تجري حوله، وتغص الشوارع المجاورة والمقاهي القريبة بالجماعات الأنيقة وأسراب الحسان من كل جنس وأمة، وتسمع مختلف اللغات في كل مكان
وتقع سالزبورج في بسيط ساحر تحيط به الجبال الشاهقة؛ ومن أشهر بقاعها ونزهها ضاحية (هيلبرون) وقصرها الشهير، وتقع هيلبرون على مسيرة نصف ساعة من سالزبورج، ويربطها بها ترام خاص، يخترق طائفة من الربوع والمحلات المزهرة؛ وقد قصدنا إليها ذات صباح ماطر، وزرنا قصرها وبساتينها الشهيرة، ورأينا في قصر هيلبرون مناظر عجيبة لم نرها في أي أثر آخر؛ ذلك أنه قد نظمت في هذا القصر الغريب(180/12)
مغارات ومجالس جهزت كلها بنوافير من المياه تنبثق من كل نواحيها في أشكال وأوضاع ساحرة؛ ورتبت هذه النوافير والمنابع الخفية في حديقة القصر حول المماشي والأحراج بنفس البراعة والدقة، فكنا نتصور حين تطلق المياه من منابعها الخفية أننا أمام سحر ساحر؛ وفي المغارات والمجالس تماثيل بارزة وصور من الفسيفساء صنعت على مثل صور كنيسة القديس مرقص بالبندقية. وأما القصر ذاته فهو صرح فخم من صروح القرن السابع عشر، وقد زينت غرفة وأبهاؤه بطائفة من الصور الثمينة ومجموعات من الأثاث القديم الذي يرجع إلى عصر إنشائه، وزينت سقفه بالأخص بصور ونقوش بديعة تأخذ الألباب بدقتها وروعتها.
وقد فهمنا من دليل القصر، أن الذي أنشأ هذا الصرح الفخم أسقف سالزبورج في ذلك العصر، وأنه هو الذي أشرف على زخرفته وتنسيقه على هذا النحو المدهش؛ ويقع القصر وسط بستان شاسع نظمت في إحدى جوانبه حظيرة ترتع الغزلان في جنباتها، ويؤمها زوار القصر للتفرج ومداعبة الغزلان
وعلى الجملة فإن هذه المدينة الصغيرة - لأن سالزبورج مدينة صغيرة لا يتجاوز سكانها أربعون ألفاً - تبدو بفنادقها الأنيقة، وطرقها وميادينها المنسقة في ثوب خاص من الحسن والرشاقة، ينم عن حسن ذوق أهلها وسلطاتها البلدية، ويزيد في سحر سالزبورج ومتاع الإقامة فيها، فضلاً عن روحها الموسيقي، ما فطر عليه أهلها من الأدب الجم والشمائل الرقيقة. وهذه في الغالب أخلاق أهل المدن السياحية؛ بيد أنك تشعر في سالزبورج أن هذه الخلال الحسنة ترجع إلى الفطرة أكثر منها إلى مقتضيات المعاملة، وتشعر أنها بعيدة عن الرياء المعسول الذي تأنسه في المجتمعات السياحية الأخرى
وغادرنا سالزبورج لأيام قلائل، وقد ترك بللها المنعش، وموسيقاها الساحرة، وذكرياتها السريعة الممتعة في النفس أجمل الأثر(180/13)
حبُّها. . .
للأستاذ السيد محمد زيارة
عرفتها شاعرة في عينها الشعر؛ وكأنما خلقها الله بهاتين العينين ليودع فيهما من أسرار الغيب، ويصور بهما من معاني الخلود معنى الفن. . . فجاءتا هكذا ساحرتين لا يُفهم من أي نوع سحرهما، ولا يدرك إلى أي حد تأثيرهما؛ وغاية ما يفهم أو يدرك منها انهما حين تلمحان تجرحان، وحيث تنظران تأسران. . .
ويبدو فمها كأنه جمرة صغيرة. . . .
ويُرى خداها كأن على كل منهما وردة في لهب. . .
وعرفتها في كل هذا وبكل هذا. . . عرفتها في قصة حب أولها معروف وآخرها مجهول
كانت تغني، ووقع بصري عليها لأول مرة فلا أدري ما الذي نزل منها على نفسي فجال فيها ثم استقرَّ فيها فما ذهب عنها وما هو ذاهب أبداً!! إلا أنني أذكر. . . أذكر جيداً أنها كانت ترسل الأغاني من فمها ومن عينيها، وأنني كنت أسمع الأغاني بأذني وبقلبي
والله ما أحلاها وقد بدت في ثوبها الأسود الهفاف، فلا يظهر منها إلا وجه كأنه حلم بالوصل في منام عاشق محروم، ويدان كأنهما زهرتان غضّتان أسفرتا من جنة محجوبة
وقد أبى صدرها إلا أن يتيه ويشمخ، وعز عليه أن يحد الرداء من كبريائه فنهض يتحرر، وبدا كأن بينه وبين الرداء معركة. . .
وظهر جيدها فوق صدرها كشعاع الصبح يشرق من أعلى جبل. . .
ونظرت إليها فرأيتها كلها فناً منفرداً في كل جزء منه فن منفرد؛ ثم نظرت إليها فرأيتها نوراً تتشعب منه أنوار، ثم هممت أنظر إليها فريع البصر ورُدّت النظرة إلى الفؤاد سهماً
ثم تنفشت كالبلبل المتندي، ثم نظرت إلى الحشد ثلاث نظرات وقعت إحداها عليّ فملت أتحاشاها؛ ولكنها سبقت إلى القلب فإذا القلب عاصفة في وسط عاصفة؛ ثم راحت تغني فأرسلت من بين شفتيها صوتاً فيه شذىً جعلني أعتقد أن للورد تغريداً وأن هذا هو تغريد الورد، وأعتقد أن سراباً من البلابل لو أجتمع على أن يأتي بمثل سحرها لما أتى إلا بما يثبت أنها ساحرة معجزة
وأحسست أنها كلما زادت في غنائها آهة أو لفظة ربطت بين روحي وبينها آصرة، وأنها(180/14)
كلما أصابتني بنظرة مدت بين قلبي وبينها جسراً. . . ثم أحسست أنها قربت مني حتى صارت جزءاً مني فيه روحي وقلبي وعقلي؛ ولكني بعد ذلك لم أحسب إلا أنني خبلت، ولم أدرك أن هذا هو حبها يدخل من عيني ومن أذني. . .
وانتهيت من ساعتها ثملاً لأتم ليلتها أرقاً وبي من الجنون مس في القلب يكاد يبلغ إلى مس في العقل. . . هو الحب. . .
هو الحب الوليد الجبار ولد ثم أيفع وشب شبابه في ساعة. . .
هو الحب خلق في عينيها ليعيش في قلبي. . .
هو الحب جاء يعلن أنه الحب بعذابه وسهره، وأنه سيكون عقدة بعد عقدة، ثم لا يكون إلا عقدة بعد عقدة. . .
هو سهمها جاء قاسياً ليقتل ثم اشتدت قسوته فلم يقتل؛ وإنما جرح وأدمى ليظل الجرح جرحاً ويظل الألم ألماً. . . يا ليته قتل. . .
ومرّ عام في ليلة، وآه منها ليلة قاسية وسعت كل دقيقة من دقائقها هاجساً من هواجسي فبتُّ أصبو بصبوة قلبي، ثم أحار بنزاع عقلي، ثم أغفي بعين أحلامي، واقطع مدى الليل بين الصبوة في جهلها وغرورها، والحيرة في شدتها وعسرها، والأحلام في جلوتها وروائها؛ وما أستطيع أن أخرج من هذا كله إلا باليأس منها حبيبة محبة ولو بعد حين. . .
ما كان لي أن أحبها وهي ذات جاه، ولها سلطان وحاشية، ويسعى إلى مجلسها من علية القوم فئة يبتغون الأنس والسمر، وهي تدلّ عليهم دلال حسنها ودلال عفتها، ثم تتدلى إليهم زهرة محصنة يستنشي أرجها ولا تقطف ولا تمس.
وما كان سهلاً على أن أيأس من حبها في أول حبها ما دامت في باطني عين لا تنظر إلا إلى أعلى فلا تبصر إلا ما هو أعلى، ولا مستحيل عندها ولا صعب. ما كان سهلاً علي أن أيأس من حبها وعين خيالي كالمنظار تقرّب لعيني رأسي بعيدها وتهوّن مسافتها.
وطلع الفجر يتثاقل كأنه لا يريد أن يطلع. . . طلع وأنا بين شيطانين شيطانها الفاتن وشيطاني المفتون، كلاهما يدعوني إليها بينا أتخوفها على نفسي ولا أبتغي إليها الوسيلة؛ فمثل هذه التي ألفت تهافت العشاق، وتغنَّت بآلام المدنفين، لا يقع في قلبها الحب إلا بمعجزة. . .(180/15)
ومضى الليل إلا قليلاً وأنا كما أنا، آخذ بقلبي وأرد بعقلي! ولبثت يتقاذفني تحذير اليأس وإغراء الأمل حتى يئست ونمت.
ورأيت في الرؤيا أني أزورها وأنها ترحب بي؛ وما أحسب إلا أن لقاءنا كان في فردوس، فقد رأيتها ترفل في الخز حول قامتها قوس من نور يتهادى على أفق من شفق، وتحت قدميها ورد منثور كأنه طبقة من الأرض، وهي تتخفف في خطوها كأنها تسير على الماء.
وسرت إليها أترفق بالورد، ورأتني أحييها بتحية قلبي فتبسمت فتبسم في ثغرها الأمل، ثم تأودت فكأنها بانة عطفتها نسمة، ثم قالت: تعال. . .
ثم. . . ثم قالت: أهلاً. . . تعال. . .
ووثب قلبي إليها ووثبت أدركه بين يديها فصحوت. . .
وما تم الليل بانفلاق صبحه حتى تم في قلبي الحب بانتصار أمله على يأسه، فشعرت بها تغني في قلبي، وتتجلى في عقلي، وتميس في خيالي؛ ثم شعرت بها توحي إليّ وحي فتنتها لتؤدي به رسالة الجمال إلى الفن، وتثبت فيه ارتباط الفن بالجمال.
وعشت أستوحيها حيناً من الدهر طال ما طال ولم يكن فيه إلا اكتفائي من حبها بالوحي: أتنسم حنان صوتها، وأتفيأ ظلال مفاتنها، وأعيش في جوها وأناجيها وأستلهمها. . . كل هذا وأنا بعيد أتباعد لأن قلبي جعل لها سلطاناً عليه وتهيّبها وبذلك سد على منافذي إليها.
ولكن الحب أقوى وأشد. . . فما زال بي حتى طغى علي فرحت أطلب زيارتها؛ وهي كانت تعرف وحيها في كلامي ولا تعرفني، فعرّفت نفسي إليها بكتاب، ثم ذهبت أزورها في موعد حددته. . .
وكان موعدها في ضحوة النهار من يوم مخلد؛ قمت ليله أتطير بالشوق بين الفرح والرهبة، ولا يتحول بصري عن الساعة في يدي وهي تبطئ كأنها نائمة؛ وكلما غبرت من الليل، فترة ودعتها من الفؤاد زفرة، حتى أحسست في نهاية الليل أن دمي قد احترق بنيران فكري، وأنني لم يبق مني إلا هيكل كل ما فيه أنه هيكل.
وجاء الموعد الذي كنت احسبني لن أبلغه. . . جاء الموقف الذي كان وراء العقل. . . جاءت الساعة، ولقيتها. . . ولقيتها وأنا حي!!
ماذا كنت في تلك اللحظة؟. . . إني كنت بركاناً وكنت زلزالاً وكنت ريحاً عاصفاً. . .(180/16)
وجلست هكذا في قاعة الاستقبال بدارها، ورأيت الأثاث فيها كأنه يهتز لينقلب على رأسي.
أكان هذا حباً؟. . . أكان هذا شوقاً؟. . . لا والله إنه كان هذياناً، ثم ظهرت فيه حكمة الحب عندما لاحت الفتانة بالباب تتقدم إليّ؛ وحكمة الحب لا تظهر إلا حين يريد هو أن تظهر. . .
جاءت تتيه في مشيتها كأنها سكرى، وكأن خطواتها همسات قلب متيم إلى صاحبه، وكانت قد بارحت فراشها من لحظة، فدخلت علي صاحيةً بكل جسمها إلا عينيها، فقد كانتا ذابلتين كأنهما ما تزالان في نعاسهما.
أما وجهها فكان بمسحة النوم عليه كأنه الفجر مائلاً بسناه يقبل باقة من الورد. . .
أما شعرها فكان ثائراً كأنه ليل عاشق مؤرَّق، وكأنها استيقظت وما يزال رأسها نائماً في ليله. . .
أما قوامها فكان سكباُ من البان في سكب من الحرير. . .
أما هي - أما هي فكانت سحراً يمشي ويتبختر، وكانت حسناً متكبراً بتواضع. . .
وجاءت تلوح لعيني متصوفة سكرى وقالت: أهلاً بمن سبقه إلينا شيطانه!!
ثم صافحتني بيد أنضر من الزهر، واتخذت مجلسها، ثم نظرت إلي تتأملني فقلت: وكيف عرفت شيطاني؟. . .
قالت: أما شعر لي وتغنى بي وكتب عني؟. . .
قلت: يا له حظاً سعيداً. . . ما كنت أحسب شيطاني موفقاً هذا التوفيق!! أو تقرئين ما يكتب؟!
قالت: بلى. . . وما أحبَّ شياطين الشعراء إلى نفوسنا نحن المغنيات. إن للمغنية في كل شاعر تستميله مرآة ترى فيها نفسها؛ والشاعر والمغنية كلاهما تمام الآخر فيما خلقا له.
فتنهدت وقلت. إنك الآن توقدين رأسي
قالت: وكيف ذلك؟
ثم انبسطت على شفتيها ابتسامة صغيرة بان فيها أنها داهية تمكر؛ إلا أن مكرها في ابتسامتها كان مكراً أحمر ملتهباً في فتنة حمراء ملهبة؛ فنظرت إليها أستزيده ثم قلت: كلامك هذا فيه نار أشعر بأجيجها في رأسي.(180/17)
فقالت وهي تمكر مكراً أشد وأحلى: إذن لا يعجبك كلامي
قلت: كلا كلا. . . وهل يخرج مثل هذا الفم إلا ما يُحب؟ إن النار التي في كلامك نار لذيذة كنار الحب في قلب المحب.
لقد قلتِ إن الشاعر والمغنية كلاهما تمام الآخر، فهل بعد هذا من سحر على لسان؟ وهل بعد هذا من نار محبوبة في كلام؟.
إنك توقدين رأسي بهذه النار من هذا السحر في هذا المعنى. . .
إنك لو اطلعت الآن على أحشائي لعلمت أن الحسن يجني ولا يشفق في جنايته.
فخفرت وكسرت في عينيها لمحة وتهدل شعرها على وجهها ليستر روعة الخفر، ثم فتحت بيديها بين نوائبها منفذاً لقولها
وقالت: هذا كلام شيطانك
قلت: بل هذا كلام قلبي. . .
فرفعت بقية شعرها عن وجهها بيديها ورشقتني بنظرة داوية سمعت لها رعداً في صدري وقالت: أنت إذن. .
ووقف لسانها ببقية الكلمة، وقالت لي عينيها بنظرة أخرى حنون: أتممها. .
فقلت: أنا إذن. . أحب. .
فأطرقت فخبّأت وجهها يبن شعرها ثم هزت رأسها تنفض الشعر فرأيت وجهاً جديداً مشرقاً في معنى الحب.
يا عجباً!! يا عجبا! إن كلمة الحب تسمعها غادة جميلة من محب هائم تجعل في محياها المشرق قسمات جديدة.
ونضح الحياء على جبينها قطرات كأنها قطرات الندى على أوراق وردة بيضاء، فمسحتها بمنديلها وشخصت إلي فقلت: وجهك الآن مؤمن. . .
قالت: وهل كان من قبل كافراً؟ وكيف يكون إيمان الوجوه وكفرها؟
قلت: الوجوه تؤمن وتكفر إيمان القلوب وكفرها! وقد رأيت وجهك الآن مؤمناً إيمان قلبك. . لكأنه كان يقول لي: إني شاعر بك وشاعر بما بك، لأني أفهم حبك فهو وحي جمالي إليك، وأعذر قلبك لأنه صيد عيني منك. . .(180/18)
أما سمعت وجهك يقول هذا؟
فضحكت وقالت: وجهي لم يقل شيئاً، وأنا لم أسمع منه شيئاً. . كيف يتكلم الوجه إلا بالفم؟. . ولكن فمي لم يقل هذا فمن أين جئت به؟.
وضحكت ضحكة أخرى وهي تنتظر جوابي فقلت: لا يتكلم من الوجوه إلا الوجه الجذاب، فتكون في كل لمحة من لمحات عينيه عبارة، وفي كل وقدة من وقدات وجنتيه همسة، وفي كل ومضة من ومضات جبينه إشارة.
أما رأيتني أصغي إلى كلام وجهك بشغف؟.
فضحكت مرة ثالثة ثم سكنت وجهها كأنها تتذكر، ثم قالت: لا. . . لم أر. . ولم أعقل ما تقول. .
قلت: آه!! ها هو ذا وجهك عاد يستهتر بإيمانه. . . ها هو ذا يدل ويتجنى.
وسكتت هي تداعب يداً بيد وطرفها يختلس ما يختلس، وسكت أنا ألتهمها بعيني في سكونها الساحر المترنم. . ثم فاجأتني بطرفها ينظر إلى كل أجزائي بكل ألحاظه وقالت: إنك لتنظر إلي بعين الشاعر المليئة بالحب فترى في كل شئ مني شيئين متناقضين.
قلت: وأنظر إليك بهذه العين من ناحية القلب فأراك نشوة للقلب تأخذه بقوتها؛ وأنظر إليك من ناحية العقل فأرى فيك غذاء للعقل ما أحوج العقل إليه!. ثم أنظر إليك بالعين المجردة من الشعر والحب فأراك في أقل درجاتك جميلة عزيزة الجمال.
فرأيتها كأنها تنظر إلي من خلال منظار لتتبين في كلامي حقيقة. . ثم كأنها تقتنع. . ثم رأيتها تفكر. فحدقت فيها ملياً ثم قلت: أنت شاعرة. .
قالت: وهي تمسك وراء شفتيها ابتسامة: وعلى هذا تكون أنت مغنياً. .
فانتفضت في مكاني وقلت: إذن أنت تعتقدين إنني جزء منك يكملك في أي أحوالك - إذن قد تحقق الحلم يا آنستي.
فتأجج خداها وأطرقت، وعجز قلبي عن مقاومة ما فيه منها، وحسبت أنه قضي.
ثم إنّا تفرقنا عاماً لا نملك أن نلتقي، وكان هذا العام مثار الوحي ومجال القلم.
ثم تلاقينا في قصر جميل شيد على جناح النيل بين الخضرة والماء.
وجلست في بهو القصر أضم جوانحي على الأشواق والهموم، وينبعث دخان التبغ من فمي(180/19)
مختلطاً بدخان كبدي المحترقة.
ومضت أفكاري تصور لي ما سيكون في لقاء ساعة بعد فراق سنة. . . وإني لمضطرب أجر نفسي جراً بين أول دقيقة الانتظار وآخرها، إذ سمعت على الدرج المرمري وقع حذاء الحسناء تتوثب في نزولها كالظبية تتنقل في واديها بين الربى والسهول.
وتلفت فإذا هي مقبلة تتمايد في وشاح فضفاض من حسنها، وأمامها في الهواء نهدان خلقاً ليسبقاها أينما مشت.
وكان وجهها يتلألأ بين ضوء الجبين ووهج الوجنتين حتى حسبته قمراً كحلت عيناه في ليلة التمام.
ووقفت يفصل بيني وبينها بعد خطوتين، وفي عينيها نظرة عتاب كأنها طعنة خنجر، ووقفت أنا وفي عينيّ نظرة اعتذار كأنها دمعة قلب. . . والتقت النظرة بالنظرة فإذا هما في الهواء قطعة من (المغنيزيوم) تشتعل، وإذا هما في كبدي شعلة من الوجد تضطرم.
ثم تقدمت الحسناء وقالت: أهلاً بذاكرنا أهلاً بناسينا
فقلت: وكيف أنساك وأنا ناس بك كل ما عداك؟. .
قالت: ما رأيت من تذكرك إلا ما قرأت من رسائلك؛ فهل كل ما عندك أن ترسل الرسائل؟! كأني بك لا تحب إلا أن تتخيل لتعيش في خيالك
قلت: وكثيراً ما أهرب من لقاء الحقيقة لأظل مفتوناً بالخيال ناعماً بمتعته؛ ولولا أنك فوق تصوره لما بحثت عنك إلا في خيالي بين أحلامي وأوهامي.
قالت: أنت إنسان عجيب. . .
وبدا محياها كأنه مبلول بالخمر، وعربد قلبي كأنه سكير، وصمتنا؛ ثم تنفست وقلت: ويحي. . . ويحي. . . إنك حقاً فوق تصوري وبعد خيالي، فإني لأحس الآن أن كل قطرة من دمي تناجيك وتسبّح لك، وأحسب إن الله تعالى قد خلقك خلقة ممتازة.
فضحكت ضروباً، وانعطفت في ناحية الكبرياء من جمالها وقالت: هكذا أنتم أيها الشعراء كثيراً ما تكفرون. . .
قلت: آه لو كنت رجلاً مثلي وعشقت فتاة مثلك!! إذن لصدقت أنك من خلقة ممتازة.
قالت: أما يزال شيطانك يكفر؟. . إنكم أيها الشعراء لقادرون؛. إنكم تستطيعون أن تصنعوا(180/20)
من القبح جمالاً، ومن الجمال فنَّ جمال، ومن فن الجمال عالماً من الفنون. فكم تصورون من مشاهد الكون وتبالغون في التصوير فيظن الناس أن الطبيعة هي التي أبدعت ما صنعت فنقلتم عنها الحقائق.
ثم سكتت ثم قالت: هأنت تقول عني ما ليس فيَّ فأكاد أصدق أن فيَّ ما تقول. . .
فقلت: مهٍ مه. . . يا فاتنة. . . إنك تتكبرين في تواضع، وتتواضعين في تكبر؛ والله ما رأيت مثلك غادة جميلة تنكر أنها جميلة. . . ألا إن هذا وحده يقوم دليلاً على أنك مطمئنة إلى نبوغ جمالك وعبقريته.
فرمقتني بنظرة تائهة في فرح عينيها وقالت: إنك تغزوني. . .
قلت: أرأيت القاتل يقتل ويتهم المقتول؟. . . هذه أنت تتهميني بأنني أغزوك وأنت فاتحة قلبي.
قالت: لسانك وقلمك قد تآمرا عليّ. . .
وحزن جمالها فصوَّر في حزنه أجمل معاني الحزن، وترقرقت عيناي إلا أنني أمسكت العبرة بين أجفاني فتغشى بها بصري لحظة. . . ولما نظرت بعد ذلك رأيتها مطرقة تشد منديلها بين يديها وكأنها تغالب في باطنها قوة تمردت عليها. . . وكأن وحهها يفكر، وكأن لحظها يحلم. . .
قلت: إنك تخبأين شيئاً ويريد الشيء أن يظهر
فرنت إلي بطرفها مبللاً بالحنين، فانطبقت أجفاني تتنهد، ودارت بي الأرض دورة. . . ثم فتحت عينيّ فرأيت منديلها يسقط من يدها. . .
الله أكبر!! ما هذا السحر الذي كان يشع من فتنتها وهي تنهزم؟. . . كانت ساكنة سكون ثورة، وكان قلبها ينبض فلا يحتمل بدنها الرقيق نبضه فيتموّج، وانعكس قلبي على وجنتيها فرأيتهما تلتهبان بالحب، وكانت عيناها تتألم، وكانت نظراتها تئن!!
وزفر قلبها زفرة، وزفرت عيناها زفرة أخرى، ثم قالت وهي تجاهد نظرها إلي: أتحبني؟
ثم ماذا. . . ثم ماذا أيها العشاق؟
(طنطنا)
السيد محمد زيادة(180/21)
وحي المعرفة
للأستاذ إسماعيل مظهر
لا أقصد به الوحي الذي ينزله الله وتعالى على المختارين من عباده، أو المصطفين من خلائقه، فإن ذلك الوحي بعيد عن أن تدرك العقول من ماهيته شيئاً، بل أعتقد أن جل ما تدرك منه إنما يتعلق بأعراضه وظواهره دون حقيقته وجوهره.
ولا أقصد به الوحي الذي يقول به الروحانيون، أولئك الذين يحاولون إثبات العلاقات بين الجواهر اللطيفة الروحانية، وبين المواد الغليظة الجسمانية، حتى بعد أن تفارق الأرواح الأبدان، وتنفصم تلك العروة التي تربط بين المبدأ العلوي الحال في الأجسام السفلية.
ولا أقصد به ذلك الوحي الذي حاول أوائلنا من السلف الصالح عليهم رحمة الله أن يثبتوا إن له بالأحلام وأضغاث الأحلام صلة ورابطة؛ ولا الوحي الذي يقول به بعض المحدثين من أنصار العلامة فرويد، أولئك الذين قلبوا آية الأحلام فجعلوا عالم الشهادة سبباً في الرؤى، بعد أن كانت الرؤى عند الأقدمين نذيراً بما سوف يقع في عالم الشهادة.
لا أقصد شيئاً من هذا ولا من غيره من الأشياء التي تجعل بين ما بعد الطبيعة والطبيعة رابطة، قد يدركها التصور، وقد ينفيها الإدراك الحسي، وإنما أقصد الوحي المادي، وحي المعرفة تلك التي تشعر ونعتقد أن لها بكياننا المادي علاقة السبب والمسبب، ورابطة العلة والمعلول. ذلك بأني أعتقد أن بعض العقول الممتازة، ولا أعلم كيف هي ممتازة، قد خصت بكفايات الوحي، مستمداً من المعرفة التي تستوعبها. وكذلك أعتقد أن لبعض العقول ميولاً أشبه بميولنا النفسية، وأن لبعضها دون بعض رباطاً بناحية معينة من نواحي المعرفة. فلبعضها رابطة بالعلم، ولبعضها رابطة بالأدب والفلسفة، ولبعضها رابطة بالفن، ولبعضها رابطة بالدين. تلك صدور من المعرفة، أو بالأحرى أشكال من المعرفة، لكل منها حدودها التي يعينها العقل تعييناً قد يبلغ بعض الأحيان مبلغ اليقين، وقد ينزل بعض الأحيان منزلة الشك؛ ولكنها على قدر ما نعلم من اختصاص العقول بالتبريز في ناحية من نواحيها لها حدودها المتفق عليها عند من يعنون بوضع الحدود والفروق بين كفايات العقل الإنساني.
أما وقد نعلم من طريق اختصاص العقول بالتبريز في نواح معينة من المعرفة أن لصور المعرفة من علم وأدب وفلسفة وفن ودين حدوداً معينة وتخوماً مقررة في شريعة العقل، فما(180/23)
نشك بجانب هذا في أن لكل عقل من العقول اختصاصاً في ناحية من نواحي المعرفة. نضيف إلى ذلك ظاهرة أخرى؛ هي أن لبعض العقول فوق اختصاصها في التبريز في ناحية معينة من نواحي المعرفة، قد خلقت وفيها موهبة خاصة تجعلها أكثر من غيرها استعداداً لتلقي نوع من أنواع الوحي، تظهر آثاره باستيعاب قدر خاص من المعلومات قلّ أم كثر، وهذه الآثار التي تتجلى في إدراك بعض العقول لحقائق أو نظريات، قد تظهر عند درسها أنها قد لا تكون نتاجاً لدرس عميق، ولا لأكباب على التفكير، ولا تعمل أو تمحل في إدراك حقائق الأشياء؛ بل غالباً ما تكون أشبه بالومضة السارية في الظلام أو الشعاع المنير يفلق بنوره غياهب الشك ويقضي على الجهالات.
أي سر هذا؟ عقول تدرك بالومض كأنها اللوح الحساس وعقول تعجز عن إدراك ما تدرك تلك! عقول تنفذ إلى صميم الأشياء بلمحة سانحة، فتستخلص الحقائق الأولية وتنتزعها من تلك الأضغاث التي تراكمت حولها من فتنة الفكر وتحف الخيال، وأخرى تستوعب ما تستوعب من مبادئ العلم وصور الأدب ونظريات الفلسفة وتأريخ الفن وشرائع الدين، وتظل في جمودها تنظر إلى تلك الومضات التي تفيض بها الأولى مأخوذة بأن ما أدركت الأولى قريب مما استوعبت، ولكنه بعيد عن أحلامها قصي عن إدراكها!
يصعب على العلم أن يعلل هذا تعليلاً يصل به إلى حقيقة الأمر منه. بل ولا شك في أن الخيال والتصور يقفان أمام هذه الظاهرة وقفة العلم من حيث العجز عن إدراك السر فيه. وليس لنا أن نستوحي العلم أو نذهب مع الخيال نعلل حقيقة هذه الظاهرة. وإنما نريد أن نحصر بحثنا في بعض الظواهر التي ترجع إلى ما ندعوه وحي المعرفة.
إذا مثلت لتأريخ الفكر البشري بشريط طويل من اللون الأسود، وأردت أن تضع على مسافات معينة من هذا الشريط دوائر بيضاء، تمثل بها لتلك الومضات الوحيية التي جادت بها عقول ممتازة، وكان لها الأثر الدافع إلى غايات طلبها الإنسان وضرب في سبيل الوصول إليها، لرأيت أن الفراغات السود بين الدوائر البيض قد تطول حدودها حتى يخيل إليك أن الإنسانية منذ أبعد عصورها لم تستهد بغير عدد قليل من العقول التي وهبتها الطبيعة تلك الهبة السامية، هبة الوحي تستنزله المعرفة. ولا شك في أنك تقف عند فكرة التوحيد في عقل إخناتون، وفكرة الإنسان الكامل في عقل سقراط، وفكرة المنطق عند(180/24)
أرسطو طاليس، وفكرة دوران الأرض والسببية الطبيعة في عقل غليليو، وفكرة الأسلوب والشك في عقل ديكارت، وفكرة المثاليات في عقل اسبينوزا و (كانت)، وفكرة التطور في عقل دورين.
قد نجعل لمثل هذه العقول منزلة وحدها ونرفعها إلى مكانة من الفضل مفردة. فإذا نزلنا عن هذه الدرجة أمكننا أن نسرد من العقول الممتازة عدداً إن خص بهذه الموهبة فإن اختصاصها بالفن يرفعها إلى درجة الأولى، بل تلوح لنا كأنها التابع حيال المتبوع، أو الصورة الواضحة في المرآة الصافية. ثم تنزل من هذه درجة ثم إلى أخرى، حتى نبلغ حداً لا نميز فيه بين العقول، وحيث نأنس أن العلم بالأشياء وحفظ المتون ظهر الغيب ليس له من أثر في الابتكار، كأنما تلك العقول ليست أكثر من نسخة مكررة في كتاب واحد.
أكثر أولئك الذين نسميهم علماء أو ننعتهم أدباء أو مفكرون، هم من طبقة الذين نطلق عليهم طبقة (النسخة المكررة من الكتاب الواحد). يعيشون في حدود ما قرءوا؛ وقد يجيدون حفظ الكتاب إجادة تبلغ الكمال، ويفكرون على الأسلوب الذي رسمه الكتاب، بل قلما يجيدون التفكير على ذلك الأسلوب فيفسدون ما قرءوا في الكتاب وينزلون به درجة بعد درجة حتى تمسخ عقولهم ما قرءوا وما حفظوا، فيصبحون بذلك نسخة مبدلة من كتاب قرءوه، أو فرض عليهم أن يقرءوه ليؤدوا بقراءته غرضاً لا يعترف به العلم، ولا هو من شريعة الفهم في شئ.
قد يكون السبب في ذلك راجعاً إلى أن عقول هؤلاء قد صرفت مقسورة عن تنمية الموهبة التي أعدتها الطبيعة فيها؛ وقد يكون للنشأة في ذلك أثرها وللبيئة طابعها الثابت؛ وقد يكون لنظرة ما ينظر من ناحيتها في الحياة أثر في العقل ينتج ذلك الجمود العلمي والتحجر العقلي؛ قد يكون للخلق وللشهوات عوامل خفية تؤثر في اتجاه العقول.
قد يكون ذلك وقد يكون أكثر منه. والحق أن من يفكر في مثل هذا الأمر يشعر بالعجز عن بلوغ الغاية في تعليله تعليلاً علمياً يقبله العقل، ولكن لنا أن نقول إن للوارثات المختلفة وحالات الحياة الأثر الأول في حدوث هذه الظواهر العجيبة.
على أننا إلى جانب هذا لا نستطيع أن ننكر أن هذه الملكة، ملكة الوصول إلى غايات من العلم والأدب والفن تكاد تظهر كأنها الوحي، هي من الملكات التي يمكن أن تنميها التربية،(180/25)
وتصححها النشأة، وتقويها طرق التعليم. ذلك بأن العقل الإنساني في ذاته يكاد يكون في أشياء الطبيعة بمثابة الوحي في جمود الحيوانية وموت الجمادات. قسه مثلاً على غرائز الحيوان أو تفاعل الجمادات الكيميائي، وأنت واجد أنه في ظواهر الطبيعة نسيج وحده وطابع لا يتكرر. وهذا العقل بكفاياته وملكاته، تصبه البيئة والتعاليم والنشأة في قوالب تظهر بها مرونته وقدرته على التشكل في أشغال كثيرة، واستعداده إلى قبول حالات جديدة ليست له من قبل. وما تلك الأشكال وهذه الحالات إلا آثار مختلفة يخلقها ما يحيط بالعقل من عوامل التدرج نحو بلوغ الغايات العليا من المعرفة؛ تلك الغايات التي تنتهي إلى تلك الومضات الوحيية التي جادت بها على البشرية عقول ننعتها بأنها فذة وأنها بلغت من سمو الإدراك.
لما كان للتربية والبيئة خاصة التأثير في تكوين العقول، ولما كان لهما ذلك الأثر البالغ، كان علينا ألا ننكر إن همَّ المصلحين يجب أن يتجه أولاً إلى وضع التربية والتنشئة الأولى في موضع من الاعتبار يجعل لها القيمة العليا في أشياء الجمعيات الإنسانية كما يجب عليهم أن ينظروا في تأثير البيئات التي تكتنف النشء، وأن يسيطروا عليها إلى الحد الذي يباح فيه إلى للحكومات أن تحد في بعض النظم والمعاهد اتقاء لما تنشئ من بيئات مصطنعة بعيدة عما تتطلبه التربية السامية وقواعدها المقررة وأصولها المعروفة.
ففي البيت وفي المدرسة وفي الحياة العامة، ينبغي أن تقوم تلك البيئات التي تساعد على تنشئة العقل وتدريبه على النظر في الأشياء نظرات تنفذ إلى صميمها، وأول خطوة في هذه السبيل يجب أن تقوم على هدم الأوهام ومحو الأضاليل، وما محو الأوهام وهدم الأضاليل، إلا نتيجة أولية لتحرير العقل.
إسماعيل مظهر(180/26)
قصة المكروب كيف كشف رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
وسطاء شر أبرياء
وصل الفائت:
بدأ اسميث ببحث علة الحمى التكساسية التي تنتقل من أبقار الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة إلى أبقار الولايات الشمالية فيها. فجهز حقلين: ووضع في الحقل الأول بقرات شمالية مع بقرات جنوبية ولم ينتزع من هذه الأخيرة القراد الذي عليها، ووضع في الحقل الثاني مثل ذلك بعد أن نظف البقرات الجنوبية من قرادها، وتركها جميعاً، فأصابت الحمى البقرات الشمالية في الحقل الأول، ولم تصبها في الحقل الثاني.
وزادت الحمى في الحقل الأول اتقاداً، ثم أخذت بقراته تموت واحدة بعد أخرى. وشقَّت بطون الجثث للفحص فجرى دمها أحمر صبيباً. واختلفوا بين حقول الريف ومكرسكوبات المعمل بالمدينة في امتحان الدماء. وانتقلت عدوى العمل إلى اسكندر الكسول لمّا أحس بأن في الجو أمراً جللاً، فنفض غبار كسله المأثور وأخذ نصيبه من الحركة. ونظر إسميث إلى دم البقر الخفيف وأخذ يتأمله، ثم قال: (إن المكروب الخفي لهذه الحمى التكساسية إنما يهجم على كريّات الدم الحمراء فيفقؤها. ففي بطون هذه كريّات يجب أن أبحث عن المكروب)
كان لا يثق بالتقارير التي يكتبها المكرسكوبيون المختصون، أو الذين يدعون بالمختصين، ومع ذلك فقد كان له بالمكرسكوب خبرة لا تبارى. وحرّر أقوى مكرسكوب لديه على دم البقرة التي ماتت أولاً، فأخذ الحظُّ بعينه، فارتأى لأول وهلة في الكريّة الدموية الحمراء، وهي في المعروف متصلة الجوف صماء، رأى فراغات صغيرة تعنقدت معاً فاتخذ مجموعها شكل الكمثرى؛ وتراءت له في أول الأمر كأنها ثقوب في قرص الكرة الدموية ليس إلا، ولكنه أخذ يبعد عدسة المجهر ويقرّبها فأحكم بوْأرتها، وأخذ يكثّر عدد العينات التي يمتحنها، فأخذت هذه الفراغات والثقوب تنبض في بصره بالحياة فتتمثل له على حقيقتها أحياء لها شكل الكمثرى. ورآها في دم كل بقرة ماتت بالحمى التكساسية، ورآها(180/27)
دائماً في جوف كرات الدم الحمراء تفسد فيه وتُخفّه فيصبح مرهفاً كالماء.
ولم يرها قط في دم بقرة شمالية صحيحة، فأسرّ لنفسه: (لعل هذا مكروب الحمى). وكان له اتئاد الفلاح فلم يتعجل في الحكم، واعتزم قبل أن يقضي على أن يفحص دماً من مائة بقرة مريضة وسليمة، وأن يمتحن الملايين من الكرات الحمراء.
وكان الحرّ قد مضى وحلّ شهر سبتمبر، وكان في الحقل الثاني أربع بقرات من البقر الشمالي كلها سليمة ترعى الحشيش وتزداد سمناً - ولم يكن عليها قراد أصلاً. فقال إسميث وهو ينظر إليها: (إن من الميسور أن نحقق التهمة المعزوّة إلى القراد من تسبيب الحمى). وقام فساق اثنتين من هذه البقرات السليمة الأربع إلى الحقل الأول الذي مات به البقر المريض، ففي أسبوع رأى قراداً أحمر أغبر صغيراً على فخذ البقرتين. ومضى أسبوعان أو يزيدان قليلاً فماتت إحداهما، أما الأخرى فغادرها تعاني من الحمى ما تعانيه.
ولم يقتنع إسميث بكل هذا فطلب المزيد - المزيد الذي لا يطلب مثله في العلماء سواه. وكانت لا تزال هناك حيلة لا بد من احتيالها، أو إن شئت فقل تجربة لا بد من إجرائها. فقد كان جاء من كرلينة الشمالية صفائح ملأى بالحشيش تجري عليه جماعات القراد تسعى عطشى إلى دم تستقيه. فأخذ إسميث هذه الصفائح إلى حقل ثالث لم تطأ أرضه بقرة واحدة من بقر الجنوب أو قرادة قط من قراداته. وأخذ يذهب فيه ويجيء، يفرغ حشيش الصفيحات وينثره بقراده على أرضه فلعل فيه الموت، ثم اقتاد أربع بقرات سليمة إلى هذا الحقل، فمضت بضعة أسابيع انحل فيها دم البقر كله. وماتت منه بقرة، أما الثلاث الأخريات فنالتها نوبات شديدة من الحمى ولكنها اشتفت أخيراً.
وعلى هذا فقد نجح إسميث أول ناجح في تتبع أثر مكروب قاتل، والكشف عن السبيل الذي يسلكه إلى حيوان بركوبه على ظهر آخر. ففي الحقل حيث كان بقرٌ جنوبيّ، وكان قرادٌ مات البقر الشماليّ. وفي الحقل حيث كان بقرٌ جنوبي، ولكن لم يكن قراد، زاد البقر الشمالي سمناً وهنئ عيشاً. وفي الحقل الذي لم يكن به بقرٌ جنوبي ولكن كان قرادٌ، أصيبت البقرات الشمالية بالحمى التكساسية.
إذن فالقراد أصل البلاء.
وإذن فقد أثبت إسميث بذلك المنطق البسيط، وبهذا العدد العديد من التجارب أن البقّارين(180/28)
في غرب أمريكا إنما قالوا حقاً ورأوا صدقاً، واستبانوا حقيقة جديدة من اكبر حقائق الطبيعة عندما اتهموا القراد. واستخلص إسميث هذه الحقيقة الكونية الكبرى من ذكاء الشعب ومما جرت به ألسنة الخلق فكان مثل هذا الكشف الخطير مثل العجلة يرد اختراعها إلى الناس، إلى قوة ابتكار الدهماء حتى تبوأت مكانها من المحركات الكهربائية العظيمة الدوّارة الطنّانة.
ولعلك حاسب بعد ذلك من وضوح تجاربه وثبوت نتائجه ثبوتاً قاطعاً أنه اكتفى بها، ولعلك حاسبٌ أنه نصح حكومته بعد ذلك بإشهار حرب طاحنة على القراد. ما كان هذا طبع إسميث، ولم تكن تلك سبيله، فبدل ذلك اصطبر إلى صيف العام المقبل علم 1890، فلما جاء حرّه أجرى تلك التجارب مرة أخرى وزاد عليها، وكلها تجارب بسيطة ولكنه إذ أتهم لم يرد أن يكون اتهامه إلا عن يقين. فتساءل: (كيف ينقل القراد الداء من بقرة جنوبية إلى بقرة شمالية، ونحن نعلم أن القرادة تقضي حياتها كلها على ظهر بقرة واحدة، وهي لا تطير كالذباب من بقرة إلى أخرى؟. .) وهذا سؤال لا شك عويص، أعوص من أن يحله البقارون بمعارفهم الساذجة. فنصب إسميث نفسه ليردَّ عليه.
فتفكر ثم قال: (لا بد أن القراد يمتص من الدم ثم يمتص حتى إذا امتلأ وبلغ واستوى، سقط فانهرس على الأرض، فخلّف على الحشيش المكروب الكمثريّ الشكل الذي كان بالدم الذي استقاه، فجاء البقر الشمالي فأكل الحشيش ومكروبه)
وعلى ذلك أخذ آلافاً من القراد الذي جاء في الصفائح من الجنوب، وخلطها بحشيش جاف، وأطعمها بقرة شمالية لا تقوى على دفع الحمى، كان أسكنها حظيرة وحدها، واعتنى عناية مختارة بها؛ وانتظر أن يأتيها الداء فلم يأت. وأخذت البقرة تجتر طعامها الجديد هانئة مستمتعة، وازدادت عليه شحماً. وأشرب بقرةً أخرى حساء صنعه من قراد مدهوك، ثم عاد فأشربها ثم أشربها فكأنما أراد أن يغرقها في الحساء إغراقاً. ولكن هذه البقرة أيضاً خُيِّل أنها تستمرئُ شرابها الغريب وحسنت عليه حالها.
فسدت التجربة فأُرتج عليه، إذن فالبقر على ما يظهر لا يأتيه المكروب من أكل القراد. وفي الليل توالت عليه الأسئلة يلقيها على نفسه تباعاً في سلسلة لا تنتهي. وتساءل فيما تساءل: (إن البقر الجنوبي ذا القراد ينزل في الحقل فلا يكون هذا الحقل وبيئاً إلا بعد(180/29)
ثلاثين يوماً من نزول البقر فيه. فلم هذا؟) وعرف البقارون هذه الحقيقة أيضاً، وعرفوا أنهم يستطيعون خلط بقر شمالي بجنوبي عشرين يوماً أو نحوها، ثم يفصلون بينها فلا ينال المرض البقر الشمالي أبداً. أما إذا هم تركوها على اختلاط فوق هذا القدر من الأيام، أو حتى إذا هم أبقوا البقر الشمالي وحده حيث هو من الحقل فوق العشرين يوماً بأيام قليلة، فلا يلبث أن يفجأه الداء فكأنما انقض عليه من السماء. فتلك أحجيةٌ أي أحجية
وذات يوم من هذا الصيف صيف علم 1890 تفسرت الأحجية بغتة واتصلت قطع الصورة المتكسرة المتفرقة فُجاءةً فاتضحت في عينيه على حين غرّة فشدهته، فوقف أمامها ذاهلاً مبهوتاً. وكان إذ ذاك في شغل من أمور عديدة أخرى وإجراء تجارب من ألوان شتى: كان يفصد البقر الشمالي ويسكب من دمه جالونات ليفقر دمه، فقد كان خال أن المكروب الكمَّثريَّ الذي رآه في كرات الدم ربما كان فقراً في الدم لا مكروباً. وكان يتعلم كيف يفقّص قراداً صغيراً نظيفاً في معمله. وكان لا يزال يلقط القراد من على ظهر أبقار جنوبية ليثبت أنها من غير قراد لا تضر الأبقار الشمالية، وقد يفوته أن يلتقطه كله فتأتي نتيجة التجربة بغير الذي أراد. وكان قائماً في سبيل استكشاف حقيقة باهرة؛ أن العجول الشمالية لا تصيبها إلا حمى هينة لا تميت في الحقول التي تقضي على أمهاتها. كان همه أن يجد كل أثر أياً كان نوعه للقراد في البقر الشمالي - فلعلها تسبب لها أسواء أخرى غير الحمى التكساسية.
ففي أثناء كل هذا تفسرت الأحجية. ذلك أنه سأل نفسه أتُرى أني بدأت ببويضات القراد في صحن من الزجاج فأخرجت منها في حجرتي قرادات نظيفة لم تر حقلاً أو بقرة وبيئة، ثم لو أني وضعتها بعد ذلك على بقرة شمالية وتركتها تمتص من دمها ملئها، أفتستطيع أن تمتص ما يكفي لإفقار دم بقرة؟ سؤال غريب يتراءى لي أنه كان لغير غاية، ولكنه يدل على أن فكرته كانت أبعد ما تكون من الحمى التكساسية.
ومع هذا حاول أن يحصل على جواب سؤاله، فأني بعجلة سمينة بنت عام ووضعها في زريبة مقفلة، وأخذ يهيل عليها يوماً فيوماً مئات من قرادات صغيرات من تفقيسه، ويمسك بها حتى يغوص القراد بعيداً تحت شعرها ويتمسك بجلدها. وأخذ يوماً فيوماً يشق جلدها ليأخذ قطرات من دمها ليستوثق من فقره. وذات يوم جاء إلى الزريبة ليجري عليها ما(180/30)
اعتاده، فلما وضع يده عليها أخذته الدهشة مما أحسّ. فقد أحسها حارّة، شديدة الحرارة شدة جعلته يتهم حالها. ونظر إليها فوجد رقبتها تميل. وامتنعت عن الطعام، ودمها الذي كان يخرج من شقوق جلدها أحمر ثخيناً أصبح يجري رهيفاً داكناً. فجرى إلى حجرته بقطرات من هذا الدم على قطع من الزجاج، ووضعها تحت المجهر ورأى، ويا صدق ما خال. ورأى كرات الدم الحمراء قد التوت وتثلمت وتحطّمت وقد كان عهده بها قوراء ناعمة كالدرهم المسيح. وفي هذه الكرات الحطيمة وجد المكروب. . . فهاك غريبةٌ من الغرائب التي قد لا تجود بها الأحلام: فهذه المكروبات لا بد أنها جاءت من جنوب أمريكا في القراد البالغ، فلما باض وجد المكروب سبيله إلى البيض فاستكنّ فيه، فلما انفقس البيض في صحون الزجاج عن قرادات صغيرة حملت هذه المكروب معها، فلما وقعت على ظهر العجلة مصت دمها فانساب المكروب أكثر ما يكون تهيؤاً للفتك بالعجلة المسكينة التي وقعت فريسة القدر على غير قصد وبغير ذنب.
في سرعة البرق اتضح كل هذا لعين إسميث.
ليست القرادات العجائز التي امتلأت بالدم وارتوت هي التي تهيئ سبيل المكروب إلى البقر الشمالي، بل صغارها من ذات خمسة الأيام إلى العشرة هي التي حملت القتلة الأشرار إلى ضحاياها.
وعندئذ فقه السبب الذي من أجله تأخر الحقل أن يكون خطيراً، فان الأمهات من القراد كان لا بد لها من السقوط عن ظهر البقر الجنوبي الحصين أولاً، ثم لا بد لها على الأرض من أيام تبيض فيها، ثم لا بد للبيض من عشرين يوماً أو تزيد لإنفقاسه، ثم لا بد للصغار الخارجة من البيض من زمن تزحف فيه إلى أرجل البقر الشمالي فإلى أفخاذه - وهذه الأحداث تستغرق أياماً كثيرة، تستغرق الأسابيع. فهل وجدت جواباً أيسر من هذا لسؤال أعسر من هذا، لولا المصادفة البحتة ما تيسر بداً؟
وما لبث أن استخرج بالتفقيس في صحون دافئة من الزجاج آلافاً من القراد، وأخذ في زيادة إثبات اكتشافه الكبير حتى ثبت ثبوتاً قاطعاً. فكان كلما ركم قرادة على ظهر بقرة شمالية أصابتها الحمى؛ ولم تكن تكفيه الكفاية من البراهين. وأخذ صيف عام 1890 في الأدبار وأخذ البرد في الإقبال، فإذا به يسخّن الحظائر بمواقد الفحم، ويفقس القراد في مكان(180/31)
دافئ، ثم يضعه على جلد البقرة فيقوم نار الحظيرة مقام الشمس في إكمال نموه، فإذا به يصنع على ظهر البقرة صنيعه المعهود، وإذا بها تجيئها الحمى في الشتاء وهي لم تكن جاءت شتاءً في الطبيعة أبداً.
وقضى إسميث وكلبورن صيفين آخرين يضربان في الحقل ليستكملان بحثهما، ويسدّان خروق السفينة بالقار والكتان، ويتساءلان كل سؤال يخطر بالبال، ويجيبان بتجارب غاية في البساطة غاية في الإفحام على كل اعتراض يحتمل أن يثيره العلماء البيطريون، وذلك قبل أن تعطي الفرصة لهم ليعترضوا. واكتشفنا ثناء ذلك حقائق غريبة في الحصانة، إذ وجدوا أن العجول الشمالية تصيبها الحمى التكساسية إصابتين خفيفتين أو ثلاثا ًفي الصيف، فإذا دار العام وكبرت أخذت ترعى في الحقول الوبيئة القاضية على كل بقرة شمالية فلا تحس وباءها أصلاً. . . لا يفسران حصانة البقر الجنوبي: إن هذه الحمى الخبيثة توجد في الجنوب حيثما وجد القراد. والجنوب كله قراد. فهذا القراد لا يفتأ يصب مكروبه في دماء الأبقار الجنوبية في كل آن ومكان، وهذه الأبقار الجنوبية تحمل المكروب في دمها ليل نهار، ولكنها لا تحفل به، لأنها أصيبت به وهي عجول فاحتملته فتحصنت منه نم بعد ذلك.
وأخيراً، وبعد أربعة أصياف شديدة الحر كثيرة الإنتاج مجيدة، جلس إسميث جلسة طويلة يصف الحمى التكساسية فلا يدع فيها سؤالاً لسائل، ويصف كذلك كيف يمحي الداء محواً. وكان ذلك في عام 1893، وكان بستور الذي تنبأ بإمحاء الأدواء جميعاً على نحو هذا المثال يتهيأ عندئذ للكفن والقبر.
كتب إسميث ما كتب عن هذه الحمى فأتى بقطعة رائعة من قطع الفن لم أجد أبسط منها ولا أوضح في حل لغز من ألغاز الطبيعة، أقول هذا وأنا لست بناس روائع لوفنهوك ولا بدائع كوخ أو أي رجل من رجال المكروب؛ قطعة رائعة يفهمها الصبيّ الذكيّ لبساطتها، ويرفع لها نيوتن العظيم قبعته احتراماً لعظمتها. كان إسميث وهو صغير يحب بيتهوفن وموسيقاه، وإني لأجد في قطعة إسميث هذه التي أسماها (بحثاً في طبيعة الحمى التكساسية أو حمى الأبقار الجنوبية، وفي أسبابها، وفي منعها) إني لأجد فيها من الروعة ما في السمفونية الثامنة لبتهوفن، تلك التي أنشأها في أواخر أيامه المريرة. كلتا القطعتين بسيط موضوعهما(180/32)
بساطة بلغت حد السخف، ولكن موضوعهما هذا البسيط نُوِّع وركّب تنويعاً لا يستطيعه إنسي، فكانتا على مثال الطبيعة ذاتها، غاية في البساطة غاية في التركيب والتعقد.
فبهذا التقرير فتح إسميث للإنسانية فتحاً جديداً، فأرى الناس سبيلاً جديدة يسلكها المكروب بالداء إلى ضحيته: محمولاً على حشرة. وبدون هذه الحشرة لا يستطيع الوصول. أعدموا هذه الحشرة، غطّسوا كل مواشيكم في سائل ليقتل قرادها، أعيشوا البقر الشمالي في أرض لا قراد فيها. افعلوا كل هذا تختف الحمى التكساسية من على ظهر البسيطة. واليوم تقوم عدة ولايات كاملة بتطهير مواشيها بالتغطيس في المطهِّرات، واليوم لا تجد أحداً يرتاع أقل ارتياع لهذه الحمى التي أنذرت بالفناء الألوف المؤلفة من قطعان أمريكا.
وليس هذا كلَّ الخير الذي جاء من هذا التقرير البسيط الذي لا زركشة فيه ولا تزويق، هذا التقرير الخالد الذي لم ينل ما يستحق من التقدير حتى لا تجد منه في السوق نسخة واحدة. فأنه لم يلبث إن شاع حتى حدثت من جرائه أحداث عظيمة في جنوب أفريقيا وفي الهند وإيطاليا. ففي أفريقيا الجنوبية في أدغالها الخطيرة عضت ذبابة رئيس الأطباء في كتيبة من كتائب الجيش، وكان اسكتلنديا جسيماً، فسب من عضتها ولعن، ثم خطر له الخاطر فأخذ يفكر فيما عسى أن تصنع هذه الذبابة من الضر بالإنسان غير عضتها المقلقة. وبعد هذا بقليل حدث أن رجلاً إنجليزياً في الهند، وآخر إيطالياً في إيطاليا، فتح كلاهما آذانهما وسعهما ينصتان لجماعات البعوض ترسل بطنينها المديد الشاكي، ثم فتحا أذهانهما وأعملا خيالهما وأطلقا الأعنة للأحلام فاختطا خططاً عجيبة لتجارب غريبة. . .
على أن هذه قصص سترويها الفصول القادمة. قصص تحكي لنا عن أوبئة قديمة معجزة جامحة أعجزها الإنسان وألجمها، فأسلمت له المقادة؛ قصص تحكي عن وباء أصفر فتّاك، أمحى الآن من الوجود أو كاد، قصص تحكي لنا عن رجال ذوي آمال صوّروا الحياة البشرية تزداد بتناقص الأدواء، وتنشط ويمتد عبابها الزاخر حتى يغمر أدغالاً لا تسكنها الآن غير الزواحف والضواري، فتزدهر عن مدائن ذات أنوار وأبراج؛ فهذه القصص كلها مهَّد لها إسميث بما قام به في صيادة المكروب من بحوث جديدة عفّي عليها الآن النسيان أو كاد، بحوث هي الأولى التي سوغت لبني الناس أن يحملوا الأحلام الجميلة عن دنيا لهم مقبلة جميلة تختلف اختلافاً بيناً عن دنياهم الحاضرة.(180/33)
أحمد زكي(180/34)
الفتح الإسلامي
للأستاذ علي الطنطاوي
(الفتح الإسلامي) أكبر لغز من ألغاز العبقرية، وأروع أحجيًّة من أحاجي النبوغ، وأجل مظهر من مظاهر العظمة في تاريخ البشر. ولقد مرت عليه إلى اليوم قرون طويلة، وأعصار مديدة، ارتقى فيها فن الحرب، وتقدم فيها البشر أشواطاً في كل ميدان من ميادين الحضارة، وغاص المؤرخون في أعماق الحوادث التاريخية، فكشفوا أسرارها وعرفوا أسبابها، فبدت لهم هينة ضئيلة، بعد إن كانوا يرونها لغزاً لا يحل، ولكنهم لم يستطيعوا أن يكشفوا سر الفتوحات الإسلامية - ولم يدركوا كنهها. وستمر قرون أخرى وأعصار - قبل أن يكشف ذلك السر، وقبل أن يرى تأريخ البشر حادثاً أعجب وأعظم من (الفتح الإسلامي).
إن الحوادث العظيمة في التاريخ على اختلاف مظاهرها وتنوع أشكالها، لا تعدو أن تكون واحدة من ثلاث: إما أن تكون عظمتها فيما أورثت الإنسانية من حضارة وعمران، وما رفهت من عيش الناس، وما أفادتهم من رغد ونعمة وترف، وإما أن تكون هذه العظمة فيما خدمت به العقل البشري، وأمدته بأسباب القوة والنضوج، ورفعت من تفكير الناس، وأدنتهم من المثل العليا التي يطمحون إليها، بما فتحت عليهم من أبواب الثقافة وسبل المعرفة، وإما أن تكون عظمة الحادث التاريخي في ذاته، وفيما ينطوي عليه من بطولة نادرة، وقدرة عجيبة، وجلال لا يعرفه التاريخ إلا قليلاً؛ أي أن العظمة إما أن تكون عظمة حضارة وعمران، أو علم وفكر، أو بطولة وحرب.
(والفتح الإسلامي) أعظم الحوادث التاريخية كلها، في أبواب العظمة كلها، لا يدانيه في ذلك حادث في تأريخ الشرق والغرب، القديم منه والحديث.
أما في الحروب فإن التاريخ يعرف كثيراً من الفاتحين، منذ عهد الإسكندر ومن قبل الإسكندر، إلى عهد نابليون ومن بعد نابليون، ولكنه لم يعرف فتحاً أوسع ولا أسرع من (الفتح الإسلامي) الذي امتد في أثنى عشر عاماً فقط من طرابلس الغرب إلى آخر بلاد العجم، وحاز مصر وسورية وفارس كلها. . على أن ميزة الفتح الإسلامي ليست في السعة والسرعة وحدهما، ولكن ميزته الكبرى أنه فتح أبدى، فلم يعرف عن المسلمين أنهم دخلوا(180/35)
بلاداً وخرجوا منها؛ ذلك أنهم لا يفتحون البلاد بسيوفهم شأن كل الفاتحين، ولكنهم يفتحون القلوب والعقول، بعدلهم وعلمهم، فلا تلبث البلاد المفتوحة أن تندمج بالمسلمين، وتصبح أغير على الإسلام من المسلمين الفاتحين، بينما ترى البلاد التي فتحها غيرهم تبقى خاضعة لهم ما بقى السيف مصلتاً فوق رؤوس أهلها، فإذا أحسوا من الفاتحين غرّة، وآنسوا منهم ضعفاً وثبوا عليهم فطردوهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه، حتى أن أمريكا على رغم أنها كانت خالية إلا من قبائل لا شان لها، وليس فيها دين يناوئ ديناً، أو عادات تصادم عادات، وعلى رغم أن أهلها الذين استعمروها إنكليز كالإنجليز الحاكمين، فأنهم وثبوا عليهم وحاربوهم حتى نالوا استقلالهم؛ ولا تجد اليوم أمريكياً واحداً يريد الانضمام إلى إنكلترا (الأم الكبرى)، بينما تجد كل مسلم في الصين أو الهند أو جاوا أو القسطنطينية كل مسلم صحيح، يتحسر على الوحدة الإسلامية - ويسعى إليها - ولا يقبل بها بديلاً، على رغم ما أحدثوا لهم من كذبة القوميات وبدعة الوطنيات، وما أقاموا يبن الإخوان من سدود، وما فصلوا به بينهم من حدود، وما مر على هذه التفرقة من سنين وأعوام. ذلك لأن (الفتح الإسلامي) فتح أبدىّ، مستقر في القلوب، لا تقوى فيه بشرية على انتزاعه، وهذه هي ميزته التي امتاز بها على كل فتح في التاريخ.
أما في العلم والثقافة؛ فقد كان (الفتح الإسلامي) أكبر حادث علمي، لأنه حمل إلى البلاد التي فتحها علم السماء والأرض، فحرر عقولها بالتوحيد، واعتقها من عبودية الأحجار والأشجار، واليزان والأخشاب، والقس والأشراف. ثم وضع في أيديهما القرآن الذي يأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض، ويحفز إلى البحث والنظر والاستدلال، والسنّة التي ترغب في العلم وتدعو إليه، وتجعل طلبه فريضة على كل مسلم؛ وكان الفاتحون أنفسهم علماء، فما هي إلا أن فرغوا من الحروب حتى وضعوا السيف وحملوا القلم، وألقوا الدروع وأخذوا الكتب، وجلسوا في المساجد (والمساجد برلمانات المسلمين وجامعاتهم العلمية) يدرسون ويقرئون ويبحثون، فكان من تلاميذهم المفسرون والمحدّثون، والفقهاء، والأصوليون، والأدباء والنحويون، والقصاص المؤرخون، والفلاسفة والباحثون، والأطباء والفلكيون، أولئك الذين تصدّروا بعدُ للتدريس في جامعات الشرق، وجامعات الأندلس، فجلس بين أيديهم الباباوات، والملوك ملوك أوربا، وكانوا أساتذة العالم الحديث.(180/36)
فكان من ثمرة الفتح أن هذه البلاد الأعجمية - التي كانت تئن في ظلام الجهل والظلم - لم تلبث أن ظهر منها علماء فحول، كان لهم الفضل على العقل البشري، ولا تزال أسماؤها خالدة، تضيء في جبين الدهر.
ومن لعمري ينسى البخاريّ والطبريّ والأصبهاني والهمذانيّ والشيرازيّ والسَّرخسي والمروزي والرازيّ والخوارزمي والنيسابوري والقزويني والدِّينوري والسّيرافي والجرجاني والنّسائي وغيرهم وغيرهم ممن لا يحصيهم عدّ؟ ألا يشعر كل مسلم بأن هؤلاء وأمثالهم هم علماء الملة وأعلامها؟ ألا نحلّ كتاب البخاري أسمى محل من نفوسنا، ونتخذه حجة بيننا وبين الله؟ ألا يؤلف هؤلاء العلماء صلة من أوثق الصلات بيننا وبين فارس لا يستطيع أن يفصم عراها مائة حكومة من مثل الحكومة الحاضرة، التي تستن في فارس سنة (هذا الآخر. . .) في تركيا.
هذا هو فضل الفتح علينا وعلى الأجيال الآتية - أما فضله على العقل البشري - فحسبك أن تعلم أنه لولا الفتح الإسلامي، ولولا علماء المسلمين وفلاسفتهم لم يكن عقل القرن العشرين.
أما في الحضارة والعمران؛ فللفتح الإسلامي أكبر الأثر في نشر الحضارة وتوطيد العمران، والعمران طبيعة في العربي المسلم، فلم يمض على فتح المسلمين بلاد العراق إلا سنوات حتى أسسوا مدينتين كبيرتين كان لهما الفضل والمنة على الحركة العلمية والأدبية في العالم كله. فضلاً عن أنهما كانتا قاعدتين حربيتين من أكبر القواعد الحربية؛ وما استقرت أقدامهم في البلاد حتى شرعوا في بناء المدن الكبيرة، والقصور العظيمة، وإنشاء أروع آثار البناء، حتى كانت بغداد وسرَّ من رأى، وكانت دمشق من قبل، والقاهرة ومدن الأندلس من بعد، أعجوبة في فن العمران، وها إن أثراً صغيراً من آثار العرب - ليس بأعظمها ولا أكبرها - لا يزال إلى اليوم محطّ ركاب الرحال من أهل العلم ورجال الأدب، ولا يزال مصدراً مالياً لحكومة من كبار حكومات أوربة تعيش إلى اليوم بفضل العرب، هي حكومة أسبانيا. ولقد حاول الإنكليز على قوتهم وغناهم - في هذا العصر الذي تيسرت فيه أسباب كل شيء - أن ينشئوا مثل (الحمراء) فأنشئوا قصراً في سيدنهام يعدّ من أعظم المباني العصرية وأجملها، ولا يزال دون الأصل بمراحل فكيف بمن بنى الأصل في ذلك العصر(180/37)
الغابر؟
وكيف لو بقيت (الزهراء) التي حيّرت رسل الإفرنج، أو بقى (التاج) في بغداد، أو (دار الشجرة) التي أدهشت وفود الروم؟
إنه ما من شك لدى المنصفين من المؤرخين، أنه لولا قيام الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى وازدهارها في الشرق حين كانت أمم الغرب في ظلمات بعضها فوق بعض، لم تقم الحضارة الحاضرة، ولم يتمتع البشر اليوم بثمراتها.
فالفتح الإسلامي إذن أعظم حادث في البطولة والفكر والعمران. وهو لغز غامض حيّر نابليون (نابغة العصر الحديث في فن الحرب) وحير المؤرخين كلهم. ذلك أن العرب على ما امتازوا به من الكرم والشجاعة والوفاء والعزة والإباء، كانوا في جاهليتهم بداة متفرقين، وجاهليين وثنيين، منقسمين على أنفسهم، مختلفين فيما بينهم، لا يعرفون إلا جامعة القبيلة، ووحدة العشيرة، فإذا فخروا فبها يفخرون، وإن دافعوا فعنها يدافعون. . . إذا وجد العربي من القبيلة قافلةً من غير قبيلته، كان في حل من انتهاب مالها، وقتل رجالها، لا حكومة تنظم أمورهم، ولا دين يردعهم، إلا ديناً مضحكاً سخيفاً، دين من يتخذ رباً من التمر، فإذا جاع أكله، كما (أكلت حنيفة ربها. . .)، أو من ينحت من الصخر صنماً، ثم يعكف عليه عابداً داعياً، أو من يعبد الشجر والحجر. وكانوا يخشون كسرى، ويرهبون قيصر؛ وكان ملوكهم في الحيرة والشام تبعاً للفرس والروم وجنداً لهما، يضربون بعضهم ببعض، ليذهبوا هم بالغنم ويعود العرب بالغرم؛ وكان اتحاد قبيلتين اثنتين كبكر وتغلب في طاعة كليب، أو قيس والسَّكون في جيش قيس بن معدي كرب حادثاً عجيباً يكسب صاحبه فخر الأبد، وأمراً نادراً يلبث حديث الناس أياماً وليالي. . . فكيف يتحد العرب كلهم، عدنانيّهم وقحطانيّهم، ويسيرون في صف واحد، يقدمهم رجل واحد، حتى يواجهوا جيوش كسرى وقيصر التي يهابونها ويرهبونها، ثم يضربونها الضربة القاصمة للظهر، فإذا انجلى غبار المعركة نظرت فإذا المعجزة قد ظهرت على أتمها، وإذا الأرض قد بدلت غير الأرض، وإذا فارس الوثنية، وسورية النصرانية، ومصر الرومانية، قد محيت كلها محواً، وقامت مكانهم أمم إسلامية في فارس وسورية ومصر، كأنما هي لإخلاصها للعربية والإسلام لم تكن يوماً من الأيام على غير الإسلام؟(180/38)
أكان هذا الانقلاب ما بين ليلة وضحاها. . . أكان هذا التبديل الذي تغلغل في صميم الأمة العربية فغير كل شيء فيها وأنشأها إنشاء جديداً لأن رجلاً قام في مكة، يتلو كتاباً جاء به؟ أيقوى رجل مهما كان شأنه على مثل هذا العمل ويكون له في تأريخ العالم ومستقبل البشرية هذا التأثير؟
هذا هو اللغز الذي حير المؤرخين من الغربيين، ولم يعرفوا له حلاًّ معقولاً!
على حين أن الأمر واضح والسبب ظاهر، ذلك أن هذا الأمر لم يكن عمل رجل عظيم من عظماء الناس، ولكنه عمل الله جلّت قدرته، أظهره على يد سيّد أنبيائه، وخاتم رسله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ذلك أن (الفتح الإسلامي) معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
هذا وإن من الخطأ أن نعدّ الفتح الإسلامي، مثل ما نعرف من فتوح الأمم المختلفة في الأعصار المتباينة، لأن للفتح الإسلامي طبيعة خاصة به تجعله ممتازاً عن سائر الفتوح، وتنشئ له في التاريخ باباً خاصاً، ذلك أن كافة الفتوح إنما كانت الغاية منها ضمّ البلاد المفتوحة إلى أملاك الفاتحين، والانتفاع بخيراتها ومواردها، لا نعرف فتحاً يخرج عن هذا المبدأ إلا الفتح الإسلامي، فلم تكن الغاية منه ضمَّ البلدان إلى الوطن الإسلامي. وامتصاصا دماء أهلها وأموالهم، واستغلال مواردهم الطبيعية وخيراتها، ولكن غايته نشر الدين الإسلامي، والسعي لإعلاء كلمة الله، وإذاعة هدى القرآن في الأرض كلها؛ فكانوا كلما وطئوا أرضاً عرضوا على حكومتها وشعبها الإسلام، فأن قبلوا به واتبعوه ونطقوا بكلمة الشهادة انصرفوا عنهم وعدوهم إخوانهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا فرق بين أمير المؤمنين وآخر مسلم في أقصى الأرض؛ كلهم سواء في الحقوق والواجبات، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وإن لم يقبلوا بالإسلام عرضوا عليهم الجزية، وهي أقل بكثير مما كانوا يدفعونه إلى ملوكهم وأمرائهم، وسموهم ذميين لهم ذمّة المسلمين، وأعطوهم الحرية في أمور دينهم ودنياهم، وتعهدوا لهم بالأمن الداخلي والخارجي. وإن أبوا أن يعطوا الجزية حاربوهم. . . ثم لم يكرهوا أحد على الإسلام، لأن صحة الإسلام وفوائده في الدنيا والآخرة ما يغني في الدعوة إليه عن السيف. وما (دين محمد ودين السيف) كما يهتف العامة والجاهلون، ولكنه دين العقل والمنطق والعلم، والمسلمون عامة دعاة مرشدون،(180/39)
ولكنهم دعاة أقوياء، يحملون القرآن بيد، والسيف بالأخرى، فمن قبل فما كانوا ليحاربوه، ومن أبى وحاربهم أدّبوه حتى يرجع إلى الحق، ويجنح إلى السلم.
ثم إن معاملة المسلمين للذميين، ووفائهم بعهودهم، وصدق وعودهم وكرمهم وتسامحهم الذي شهد به الأصدقاء والأعداء؛ وصار أشهر من أن يذكر ما يؤكد طبيعة (الفتح الإسلامي) ويرفعه عن أن يقاس به فتح آخر!
وهذه هي التواريخ فاستقروها واحكموا!
(بغداد)
علي الطنطاوي(180/40)
كتاب أنساب الأشراف للبلاذري
للدكتور إسرائيل ولفنسون
أستاذ اللغات السياسية بدار العلوم
يعلم كل من تتبع حركة النشر والطبع في الأقطار الشرقية في العصر الحديث أن كثيراً من المصنفات العربية العظيمة الشأن إنما نشرت بوساطة العلماء المستشرقين؛ ومما لا شك فيه أن هذه العناية المفرطة إنما كانت من الأسباب المباشرة التي ساعدت على نمو النهضة العلمية في الديار العربية.
كلنا نعلم أن كتاب السيرة النبوية لمحمد بن أسحق من رواية عبد الملك بن هشام طبع للمرة الأولى سنة 1859 - 1860 بوساطة العالم ويستنفلد، وكذلك تولى العلامة دي غويه بمعونة علماء آخرين طبع كتاب تأريخ الأمم والسلوك لأبي جعفر محمد أبن جرير الطبري في ليدن من سنة 1876، وكذلك طبع نخبة من المستشرقين كتاب الطبقات الكبرى لأبن سعد من سنة 1905 - 1921.
وكذلك طبع كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) لمصطفى بن عبد الله المشهور باسم حاجي خليفة من سنة 1835 - 1858 بمدينتي ليدن وليبسيك، وكان ذلك تحت إشراف العالم فليجل، وهو الذي تولى طبع كتاب فهرس أبن النديم من سنة 1870 - 1871.
وليس هذا المقام مقام إحصاء كل ما طبع العلماء من المستشرقون، وإنما سردت بعض الكتب القيمة العظيمة القدر التي لا نتصور حركاتنا العلمية ونهضتنا الأدبية دون الرجوع إلى هذه المصادر الهامة.
وهناك أمر آخر له خطره في أمر نشر المصنفات العربية بوساطة المستشرقين وهو أنهم أساتذة لنا، معشر الشرقيين، في إخراج المطبوعات على الطريقة العلمية المجدية، إذ هم ليسوا طابعين وناشرين فحسب كما اعتدنا أن نرى من الناشرين للمؤلفات عندنا، بل هم يميلون إلى المراجعة بعناية، والمقابلة بما ورد في الكتاب الذي أمامهم بالمصادر والمراجع الأخرى، ويذيلون مطبوعاتهم بحواش هي غاية في الدقة والخطورة في أغلب الأحوال.
وقد لاحظنا أن بعض الناشرين عندنا عمدوا إلى إعادة طبع ما طبعه المستشرقون في(180/41)
أوروبا، ولكن مع الأسف الشديد جاء عملهم ماسخاً لما عمله المستشرقون مشوهاً له؛ إذ كانت الطبعة الثانية غير مضبوطة، كثيرة الأغلاط، فاحشة الأخطاء.
على أن بعض الأفراد ممن تثقف في أوروبا، وممن أتصل بالحركة العلمية الأوروبية قد بدأ ينشر بعض المصنفات العربية على الطريقة المألوفة عند الأفرنج، وخصوصاً ما ظهر من الهمة والعزيمة في نشر الكتب تحت إشراف دار الكتب المصرية، فلا شك أن عمل دار الكتب يعد صفحة بيضاء جديدة في تأريخ نشر الكتب والعرفان في الشرق. على أننا نريد أن نقول لدار الكتب كلمة صريحة نؤجلها إلى فرصة أخرى إن شاء الله.
ذكرت ذلك بمناسبة تولي المعهد الشرقي بالجامعة العبرية بالقدس نشر كتاب أنساب الأشراف للبلاذري الذي ظهر منه في الآونة الأخيرة الجزء الخامس.
ذاع صيت أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في العصور الأخيرة بوساطة كتابه الصغير فتوح البلدان الذي أقدم العالم دي غويه على طبعه سنة 1866 بمدينة ليدن. أما مصنفه العظيم المذكور في معجم ياقوت الحموي باسم أنساب الأشراف (معجم الأدباء ج2 - ص131) أو كما سماه ابن النديم بكتاب الأخبار والأنساب (فهرس ص114) أو كما يقول الشريف المرتضى (الشافي ص260، 688) كتاب البلاذري، أو كما يشير أبن عساكر إلى البلاذري ويصفه بصاحب التأريخ (تأريخ دمشق ص131).
وهو الكتاب الذي ارتشف من منهله المتقدمون والمتأخرون ممن جاءوا بعد البلاذري من كبار الأدباء والمؤرخين والجغرافيين مثل الشريف المرتضى الذي توفي سنة 436، وابن عساكر الذي توفي سنة 571، وياقوت الحموي الرومي الذي توفي سنة 626، والنويري الذي توفي سنة 632، وأبن خلكان الذي توفي سنة 681، وأبن حجر الغسقلاني الذي توفي سنة 852، وأبن تغرى بردى الذي توفي سنة 874. أما هذا الكتاب فقد توارى عن العيون في العصور الأخيرة ومر عليه العلماء مر الكرام حتى أصبح نسياً منسياً إلى أن جاء العالم أهلوارت في سنة 1883 وأخرج جزءاً منه كان يشك في بعض العلماء في صحة نسبه إلى البلاذري. ثم حدث أن أعلن الأستاذ بيكر في مؤتمر المستشرقين الثالث عشر أنه عثر على نسخة كاملة من كتاب أنساب الأشراف في الآستانة ولم يحفظ الدهر لهذا الكتاب نسخة كاملة غيرها؛ وكان قد عقد النية على نشر الكتاب ولكن كبر حجمه من ناحية(180/42)
ومشاغل الأستاذ بيكر من ناحية أخرى عاقته عن المضي في تحقيق هذا المشروع إلى أن أقترح عليه الأستاذ جوتهلد الذي كان مديراً للقسم الشرقي من مكتبة برلين الكبرى على العلامة بيكر أن يعرض مشروع طبع أنساب الأشراف على هيئة تدريس اللغة العربية في الجامعة العبرية بالقدس ففعل.
أما المخطوط من هذا الكتاب فيشتمل على 1228 صفحة، وهو أكبر حجما من الطبقات الكبرى لأبن سعد أو أقل قليلاً من كتاب التأريخ لأبن جرير الطبري؛ وهو بحث مفصل في أنساب العرب يبدأ دراسته بالتأريخ القديم من عهد نوح وذريته إلى سيدنا إبراهيم خليل الله وأعياصه، ثم ينتقل إلى قريش وبني هاشم ويبحث في أصلهم وفصله من ثم يقص سيرة الرسول وأخبار علي بن أبي طالب وما جرى في عهد الخلفاء الراشدين، ويفصل تفصيلاً كثيراً مطولاً تأريخ بني أمية حتى تشتمل أخبارهم على ثلث الكتاب بأجمعه. ومع أنه كان من الموالين لبني العباس وكان يشغل منصباً رفيعاً عند خلفائهم فان ما ورد بشأنهم من الحوادث والأخبار لا يتجاوز سبعين صفحة من المخطوط الكبير.
وكذلك يوجه عناية شديدة إلى قبائل مضر الآخرين فيتعرض لأنساب كنانة وأسد وهذيل وعبد مناة ومزينة وتميم وقيس وذبيان وفزارة وعبس وهوازن وسليم وثقيف.
ولم يذكر قبائل ربيعة واليمن لأن المنية عاجلته عن إتمام كتابه إذ لقي حتفه في أوائل عهد الخليفة المعتضد سنة 279 (كشف الظنون جـ1 ص 274).
ومع أن هناك مصنفات في أنساب العرب قبل البلاذري إذ كان محمد بن هشام الكلبي الذي توفي سنة 204 قد وضع كتابه جمهرة الأنساب والهيثم بن عدي ألَّف مصنفاً في تأريخ الأشراف وهو ممن توفي في أوائل القرن الثالث فان كتاب أنساب الأشراف للبلاذري يعد من الذروة مما وصل إليه الأدب التاريخي عند العرب في الأنساب.
والبلاذري لم يكتف بجمع الأخبار من مصنفات من سبقه بل جمع كثيراً من الأخبار من المسجلات الرسمية التي كانت في خزائن الدولة؛ وهو على ميله إلى العباسيين لا يظلم بني أمية بل يقص عنهم أخباراً كثيرة تدل على أن حنكة المؤرخ الذي يتغلب على شعوره ويتجرد عن أهوائه، وذلك أمر لا بد للمؤرخ المنصف منه.
والكتاب الذي طبع الآن ليس الجزء الأول بل الخامس منه، إذ وزعت صفحات المخطوط(180/43)
على جملة من العلماء لم يتمكنوا إلى الآن من إتمام العمل الذي كلفوا أن يقوموا به.
وكان الجزء الخامس قد وكل أمر العناية به إلى الأستاذ س. د. جويتاين وهو الآن في العقد الرابع من العمر تخرج من جامعة فرنكفورت بألمانيا وكان من خيرة تلاميذ الأستاذ المرحوم يوسف هورفيتس واختاره للتدريس بالجامعة العبرية بالقدس.
وقد بذل الأستاذ جوبتاين جهده مدة سنين كثيرة في مراجعة صفحات المخطوط وأخرجه بعد عناء ومشقة على النسق المألوف عند كبار المؤلفين من المستشرقين مع مقدمة علمية بحث فيها الناشر في أصل تسمية الكتاب وما يحتوي عليه مع مقارنة بين من سبقه وبين من أتى بعده من المؤرخين وبيّن ما أخذه ممن كان قبله ومن أخذ عنه ممن جاء بعده.
ومما يؤسف له أن هذه المقدمة النفيسة قد وضعت بالعبرية من ناحية، وبالترجمة الإنجليزية من ناحية أخرى، وقد أكتفي الناشر بكلمة موجزة بالعربية. كان من الواجب أن يصدر بالمقدمة العربية قبل كل شيء، لأن الكتاب عربي موجه إلى الناطقين بالضاد قبل غيرهم، وإذا كان جمهرة من العلماء الإفرنج يدرسون كتاب أنساب الأشراف فهم يستطيعون أن يدرسوا المقدمة بالعربية أيضاً.
وكذلك أقول عن الذيل الذي وضع بالإنجليزية كأن الكتاب إنما كان موجهاً إلى الغربيين لا للأندية المثقفة من أبناء الشرق أيضاً.
وإني أوجه أنظار الأساتذة العاملين على إخراج بقية أجزاء الكتاب ألا يتورطوا فيما تورط الأستاذ جويتاين من مسألة المقدمة والذيل التي أغفل فيهما العربية إغفالاً يكاد يكون تاماً
والذي نتمناه من صميم الفؤاد أن يبادر بقية العلماء القائمين بمراجعة الكتاب بإخراج الأجزاء الأخرى حتى يستفيد العالم العربي عاجلاً من كتاب أنساب الأشراف الذي يعد بحق من أمهات المصادر لكل من يبحث في عصر ظهور الإسلام وفجره وضحاه
إسرائيل ولفنسون (أبو ذؤيب)(180/44)
8 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة حسن محمد حبشي
الفصل الأول
وقد استمر إرياط يتوغل في اليمن بعد موت ذي نواس الحميري (فقتل ثلث رجالها وخرب ثلث بلادها، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها، ثم أقام بها فضبطها وأذلها، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبش، وكان في جنده حتى تفرقت الحبشة عليهما، فأنحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم؛ ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى إرياط (إنك لن تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئاً، فابرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده) فقيل أبرهة، وكان رجلاً قصيراً لحيماً حادراً وكان ذا دين في النصرانية؛ وخرج إليه إرياط وكان رجلاً عظيماً طويلاً وسيماً، فرفع إرياط الحربة فضرب بها على رأس أبرهة يريد يفوخه، فوقعت على جبهة أبرهة فشرمت حاجبيه وعينه وأنفه وشفته، فسمى أبرهة الأشرم، وحمل غلام أبرهة عتورة على إرياط فقتله، فملك أبرهة، ثم كتب إلى النجاشي: (أيها الملك إنما كان إرياط عبدك وأنا عبدك فاختلفنا في أمرك، وكلٌّ طاعته لك، إلا أني كنت أقوى منه على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب من تراب أرض اليمن ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه) فثبته النجاشي. ثم إن أبرهة بنى (العكيس) بصنعاء لم ير مثلها في زمانها، ثم كتب إلى النجاشي: (إني قد بنيت لك كنيسة ولست بمنته حتى أصرف إليها حاجّ العرب) فلاكت الألسن ذلك فقام رجل من بني فقيم: فخرج إلى العكيس فقعد فيها، ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر بذلك أبرهة فحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه) ولكن الفشل الذريع الذي منيت به هذه الحملة التي وقعت عام الفيل (سنة 570م) لم يحرر بلاد اليمن في الحال من نير الأحباش، إذ أن ولدي أبرهة يكسوم ومسروق كانا عبئاً ثقيلاً على العرب ضجوا منه. وقام في ذلك الحين أحد أشراف حمير واسمه (سيف بن ذي يزن) مستحثاً الهمم، ولكن ضاعت دعوته إياهم أدراج الرياح.(180/45)
ولما لم ير مساعدة من قومه وجه وجهه شطر الاستعانة بغوث أجنبي، وتردّد بين قيصر الروم وكسرى فارس، فمضى أولاً إلى القسطنطينية فردّه القيصر خائباً، فطلب من والي الحيرة العربي الذي كان خاضعاً لفارس أن يقدّمه إلى بلاط المدائن؛ ولكن كيف استطاع أن يكسب عطف الملك الساساني أنو شروان الملقب بالعادل حتى أرسل معه ثمانمائة مقاتل من نزيلي السجون ممن أطلق سراحهم؟ وكيف أبحروا معه إلى اليمن وعلى رأسهم قائد طاعن في السن؟ وكيف أحرقوا مراكبهم واستمدوا من اليأس قوّة، وكيف هزموا الأحباش هزيمة منكرة وطردوهم واستردوا اليمن وجعلوها ولاية فارسية. . . كل هذا يسوقنا إلى سرد قصة آثرت تخطيها وإغفالها في مثل هذا المجال، لأنها تتصل بتاريخ الفرس أكثر من اتصالها بتاريخ الأدب العربي، تلك الأمور التي قامت - كما رجّح نلدكه - على أخبار لقنها الغزاة الفرس الذين استوطنوا اليمن لأبنائهم الأشراف، الذين يسميهم العرب الأبناء أو بني الأحرار.
وإنا لنترك الآن مملكة اليمن وقد تهاوت دعائم قوتها ودالت دولتها وسقطت من علياء مكانتها إلى الأبد، ونعود من ناحية الشمال في دراسة التاريخ العربي:
الفصل الثاني
تأريخ العرب الوثنيين وأساطيرهم
يسمى المسلمون الفترة الواقعة منذ فجر التاريخ العربي حتى ظهور الإسلام بالجاهلية، وقد ورد هذا اللفظ في أربع فقرات في القرآن، ويقصد به عادة (الجهل)، وإن كان جولدزيهر قد أوضح أن المدلول الذاتي لكلمة (جهل) (الذي اشتقت منه الجاهلية) عند شعراء ما قبل الإسلام لا يقصد به (عدم المعرفة) أو (الوحشية) و (الهمجية)، وليس المعنى المضاد لكلمة (علم)، ولكنه عكس معنى حلم المعبّر عن التهذيب الأدبي عند الرجل المثقف. (وحينما يقول المسلمون إن الإسلام قضى على طبائع وعادات الجاهلية فانهم يقصدون بذلك العادات المستقبحة، وهذا الخلق الهمجي الذي تفترق به الوثنية عن الإسلام، وبالمستهجن من الطباع التي جدّ محمد (ص) في استئصالها من نفوس قومه: كحمية الجاهلية، والعصبية القبلية، والجد في طلب الثأر، والحقد، وغير هذا من طبائع الوثنية المستهجنة التي قضى(180/46)
عليها الإسلام)
وإن المصادر التي نستمد منها صورة حياة هذه الفترة لتندرج تحت أربعة أبواب كما يلي:
(1) القصائد والمقطعات الشعرية التي وإن لم تكن قد دونت في ذلك الحين إلا أنها ظلت محفوظة بالرواية الشفهية، ثم كتب معظمها بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة قرون، وهي في الحقيقة الأثر الوحيد الذي بين أيدينا عن تأريخ العصر السابق للإسلام، وتتضح أهميتها من القول المأثور (إن الشعر ديوان العرب وجامع شتات المحاسن التي سلفت لهم) وسيرى القارئ في الفصل التالي بعضاً من الشعر العربي في تلك الفترة
(2) الأمثال وهذه أقل قيمة من الشعر، إذ قلما تفسر نفسها بينما يكون الشرح المرفق بها من عمل الأدباء الذين يدأبون على تفسيرها، ولو أنه في حالات عدة يؤتى بمعانيها ومقصودها على سبيل الحدس، كما نسيت الظروف التي بعثتهم على إرسالها، وبالرغم من هذا فقد كنا نخسر شيئاً جسيماً لو لم تكن بين أيدينا المجاميع الشهيرة للمفضل بن سلمة (المتوفى حوالي 900 م) والميداني (1124م) التي تضمنت إشارات عجيبة وأخباراً تلقي بصيصاً من النور على كل جوانب الحياة التي سبقت ظهور الإسلام.
(3) الأخبار والأقاصيص: لما لم يكن للعرب الوثنيين - على العموم - معرفة بفن الكتابة الخطية واستعمالها فقد كان من المستحيل أن تقوم للنثر - باعتباره فناً أدبياً - قائمة فيهم، ومع ذلك فان بذور النثر الأدبي يمكن إرجاعها إلى عصر الجاهلية، وعدا المثل والخطبة نجد عناصر التاريخ والقصة في القصص النثري الذي كان يقدمه الحفاظ والرواة لتوضيح موضوع أغانيهم، وفي القصص التي تعدّد مآثر القبائل وأبنائها. وإن العدد الوفير من هذه القصص (التي يرجع بعضها إلى أصل حقيقي والآخر يحمل طابع الخرافة) لمثبوت في ثنايا المؤلفات الأدبية والتاريخية والجغرافية التي وضعت أيام الدولة العباسية وخاصة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (967م) وهو مجموعة ثمينة قامت على دراسة الشخصيات الأدبية الكبيرة في القرنين الثاني والثالث للهجرة. وقد ضاعت الكتابات الأولى لهؤلاء الأدباء والنقاد دون استثناء، ولولا اقتباسات الأغاني الكثيرة لما كان في متناول أيدينا نماذج من آثارهم. ويقول أبن خلدون عن هذا السفر: (إن أبا الفرج جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي(180/47)
اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلم وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها.
ولن أحاول في الصفحات التالية أن أضع في ترتيب واتصال هذه الأشعار والقصص المضطربة التي رسخت في الأذهان واندس بين ثناياها جميع ما نعرفه عن بلاد العرب في العصر السابق للإسلام؛ إذ أنجز هذا خير إنجاز وفي دقة عجيبة كوزان دي برسيفال في كتابه ' ' وليس هناك ثمة جدوى مطلقاً من أن أسوق للقارئ موجزاً مقتضباً لهذا العمل القيم، والأجدى - كما يتراءى - أن أسوق للقارئ بضع ظواهر واضحة بينة تمثل هذه الفترة كما وضعها العرب أنفسهم. وإذا كانت الأحاديث العربية يعوزها الدقة التاريخية فإنها في مجموعها تكشف القناع عن الروح السائدة في العصر المظلم الذي تستحضره في غياهب الزمن السحيق وتبرزه أمامنا.
وفي حوالي منتصف القرن الثالث المسيحي كانت تتاخم بلاد العرب من الشمال والشمال الشرقي إمبراطوريتان تتنافسان في الزعامة هما دولة الروم ودولة الفرس اللتان تفصلهما صحراء الشام عن بعض؛ ولما رأى الفرس أنهم عرضة لغزوات البدو الذين كانوا يشنون الغارات بين حين وآخر على الحدود، ويستولون على ما يصل أيديهم من الغنائم، ثم يختفون بنفس السرعة التي اتسمت بها اغاراتهم، لما رأوا ذلك وجدوا الضرورة تدعوهم إلى إيجاد حامية على طول حدود هذه الصحراء، وبهذا أمكن صد غزوات القبائل البدوية وغاراتها، ولكن تبيّن أن القوة علاج غير ناجح تماماً، فضلاً عما تكلفه الدولة، وعملاً بالمثل القائل: (فرّق تسد فقد ارتُؤي إدخال بعض القبائل المغيرة في خدمة الإمبراطورية. ومما أدّى إلى عدم قيام البدو بأي اضطراب دفع شيء من المال لهم بانتظام، واستعدادهم على الدوام للغزو الفجائي إذ كان الروم والفرس في هذه الأيام في حروب لا يخمد أوارها ولا يخبو ضرامها، ومن ثم فقد حاربوا كمحالفين أحراراً تحت لواء أمرائهم أو شيوخهم. وبهذه الوسيلة ظهرت أسرتان عربيتان هما دولة الغساسنة في سورية واللخميين في الحيرة غرب الفرات، وكانتا في نزاع دائم واصطدام ونزال، حتى ولو لم تكن تدفعهما من الخلف قوة الإمبراطوريتين، وسرعان ما ظهرت كفاية العرب الحربية ومهارتهم حينما درّبوا على الأسلحة. وفي أثناء حرب فاليران مع كسرى سابور الأول(180/48)
خرج شيخ عشيرة عربي في (تدمر) ويدعى أذينة وسار على رأس قوة كبيرة ضد المغير ونازله وفرّق شمله وطرده من سورية واقتفى آثاره حتى رده إلى أبواب المدائن عاصمة فارس سنة 265م ولقد قدر الإمبراطور جاليانوس صنيعه الباهر فأنعم عليه بلقب العظيم)، ولقد كان في الحقيقة السيد المطاع في الكتائب الرومانية في الشرق، ولكنه قتل غيلة في العام التالي وكان في زوجته زينوبيا (الزباء) خير خاف، فأخذت على عاتقها تشييد إمبراطورية شرقية ضخمة، ولم يكن نجاحها أعظم من نجاح كليوباترا في مثل هذه المحاولة، ولكن حدث ما ليس في حسبانها إذ أنتصر أرليان واقتيدت (ملكة الشرق) المتكبرة أسيرة أمام عربته في شوارع رومة عام 274م
(يتبع)
حسن محمد حبشي(180/49)
مرثية توماس جراي
نشر الأستاذ علي الطنطاوي في (الرسالة) عدد 178 بتاريخ 30 نوفمبر سنة 1932 ترجمة لمرثية جراي الشاعر الإنجليزي الشهير نقلاً عن قراءة صديقه الأستاذ حيدر الركاني، والأستاذ الطنطاوي أديب فنان لا يشق له غبار في كل ما يكتب، ومن الأفذاذ الذين رفعوا رأس الأدب العربي الحديث عالياً، ومن الملهمين الذين أراد الله لهم ولأدبهم الخلود ليؤدوا رسالة الأديب الفنان للمجتمع الذي يعيش فيه. ومما لا شك فيه أن الأستاذ الطنطاوي يؤلمه أن يقوم إنسان فيغير على آثاره الأدبية يترجمها ويقول على لسانه شيئاً لم يقله، أو يشوه أفكاراً وتعابير خالدة في فنه. ومما لا شك فيه أيضاً أن المترجم يحمل أمانة في عنقه لمن يترجم عنه، وعليه أن يؤديها غير منقوصة، وألا ينقل إلا الواقع وإلا ما أراده ذلك المترجم عنه. وعندي أن الأستاذ لو ترجم المرثية عن أصلها لبان له من روحه الفنانة وإخلاصه ما يجعل ترجمته في دقتها تقف في صف واحد مع ترجمة جرالد للرباعيات الخيامية المشهورة. ولو كانت صفحات الرسالة تتسع لأكثر من هذا المقدار لقدمت أمثلة على عدم دقة النقل؛ والذي يراجع الأصل لا يجد صعوبة في اكتشاف ذلك وهو كثير. على أن الواقع يدفعني إلى تقديم الشكر للأستاذ الطنطاوي على الإجادة التي لا تجارى في ترجمته التي كادت أن تقرب من الكمال. وإنا لنرجو أن يتبارى الشعراء في نقل هذه القطعة الخالدة إلى الأدب العربي شعراً بالرجوع إلى الأصل مع الاستعانة بترجمة الأستاذ المذكورة.
وزيادة لفائدة القراء رأيت أن أذكر مختصراً لحياة الشاعر توماس جراي وعن الظروف التي رافقت نظم تلك المرثية.
توماس جراي
ولد في السادس والعشرين من ديسمبر 1716 في كورن هل حيث كانت والدته وشقيقها يتجران بقبعات السيدات، وكان والده فيليب جراي كاتب عقود رسمية، وكان هو الوحيد الذي عاش من أسرة عدد أفرادها اثنا عشر شخصاً.
وفي سنة 1727 التحق بكلية إيتون حيث كان عمه مدرساً مساعداً في تلك الكلية، وهناك نشأت صداقته المتينة مع ريتشارد وست، وهراس ولبول، وتوماس اشتون.(180/50)
وترك كمبردج في السنة التالية دون أن ينال إجازة علمية؛ ورحل في عام 1729 إلى القارة مع صديقه الحميم هراس ولبول في رحلة استغرقت ما يقرب من التسعة أشهر، وعاد بعدها إلى لندن. وفي سنة 1741 توفي والده فانتقلت والدته وشقيقتها إلى المعيشة مع أخت ثالثة اسمها ماري في مقاطعة بكنجهام شير وهناك نظم أول قصيدة عنوانها اجربينا وفي عام 1742 مات صديقه ريتشارد وست، فرثاه رثاء مؤثراً. وفي هذه السنة عاد إلى كمبردج وبقى مدة سنتين حصل في نهايتهما على درجة بكلوريوس في الحقوق.
وبعد ذلك بخمس سنوات توفيت خالته ماري وأحرق منزله في كورن هل.
وفي عام 1750 أكمل مرثيته التي نحن بصددها، وبعد ذلك بثلاث سنوات توفيت والدته. وفي سنة 1757 عرض عليه أن يكون شاعر العرش البريطاني الذي خلا بموت كولي سيبر فرفض ذلك. وبعد ذلك بخمس سنوات عرض نفسه ليكون مدرساً للتاريخ بدلاً من الدكتور ترنر المتوفى في تلك السنة، ولكن اللورد بيوت حال بينه وبين هذه الأمنية التي نالها بعد ثماني سنوات.
وفي سنة 1765 زار اسكتلندا وهنا عرضت عليه جامعة أبردين أن تمنحه لقب دكتور في الحقوق فرفض ذلك مستنداً إلى أن دراسته في كمبردج لا تؤهله لقبول مثل هذا اللقب. وبعد ذلك بأربع سنوات نظم نشيده المشهور الذي مثل عند تولية دوق جرافتون رئاسة الجامعة التي كان يدرس فيها التاريخ الحديث، وزار في تلك السنة منطقة البحيرات.
وفي سنة 1771 توفى فجأة بينما كان يتناول طعام الغداء، إلى جانب والدته في ساحة الكنيسة في في مقاطعة بكنجهام شير.
هذا مختصر لحياة هذا الشاعر. وفيما يلي وصف لظروف المرثية:
ابتدأ في نظم هذه المرثية في عام 1742 ولكن القسم الأعظم منها كتبه بين السنوات 1746 - 1750، وقد أتمها في اليوم الثاني عشر من شهر يونيه سنة 1750، وفي العاشر من فبراير أرسل إليه رئيس تحرير مجلة المجلات الإنجليزية يستأذنه في نشرها في مجلته فرفض طلبه. وعند ذلك أسرع وطلب إلى صديقه هراس ولبول أن ينشرها على الناس دون إمضاء. وفي السادس عشر من نفس الشهر طبعت في كراسة بعنوان (مرثية(180/51)
كتبت في ساحة كنيسة قرية) مع المقدمة التالية من ولبول: (لقد وقعت القصيدة التالية في يدي مصادفة، إذ جاز أن يدعي انتشار هذه القطعة وذيوعها بين الناس عرضاً. إن الاستحسان الذي صادفته هذه القصيدة سيجعل اعتذاري لمؤلفها في غير محله، لأنه ولا شك يشعر باغتباط شديد لإعجاب الناس وسرورهم بها فيما مضى. ومما لا شك فيه أيضاً أنه سيغفر لي جرأتي على النشر، لأشاركه تقديم المسرات لعدد آخر غير قليل).
وهناك ثلاث نسخ بخط الشاعر جراي نفسه محفوظة حتى اليوم. فالأولى كانت سابقاً ملكاً للسير وهي الآن في كلية ايتون، ومن المحتمل أن تكون النسخة الأصلية. والثانية تخص ورتون وهي موجودة في المتحف البريطاني تحت الرقم (2400). والثالثة في كلية بيمبروك وفي آخر هذه النسخة كتب جراي بخطه أيضاً ما يأتي: (نشرت في فبراير سنة 1751 بواسطة دوزلي وأعيد طبعها أربع مرات شهرين، وبعد ذلك طبعت الطبعة الخامسة حتى الحادية عشرة. وأعيد طبعها في 1753 بواسطة مستر بنتلي ثم ترجمت إلى اللاتينية وطبعت في عام 1762).
(نابلس)
ف. . . . .(180/52)
الثقافة والإنتاج العلمي في فلسطين
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لا يختلف اثنان في أن الوضع الحاضر في فلسطين شاذ وغير طبيعي وهو غيره في الأقطار الشقيقة المجاورة، فالكل يقاسي آلاماً مبرحة من الاستعمار والمستعمرين، والكل واقع تحت نير الاستعباد والعبودية؛ ولست واجداً أحداً يرضى عن السياسة المتبعة في بلاده وعما يجري حوله، إلا أن هناك فرقاً بين فلسطين وغيرها من البلاد المجاورة، ففي هذه جبروت واحد وطاغية واحد، وهنا جبروتان وطاغيتان قد تسلحا بالخبث والمكر والقوة والدهاء، وعلى هذا فالمصيبة هنا أعظم والبلاء هنا أعم والخطر محقق والفناء يتهدد.
ومن الطبيعي أن بلاداً هذه حالها لا تكون صالحة للإنتاج العلمي ولا لازدهار الثقافة والأدب بالمعنى الواسع. ومن الطبيعي أن تؤثر هذه الأوضاع على الشباب المثقف وعلى الأدباء والعلماء فتأخذ قسماً من أوقاتهم ومجهوداتهم وتفكيرهم يصرفونها في مبادئ السياسة لدرء الأخطار المحدقة، ولتخفيف المصائب علينا انصباباً من كل جانب. وكيف يمكن لثقافة أن تنمو، ولقريحة أن تنتج وتبتدع إذا لم تكن تلك القريحة في جو من الحرية، وفي محيط خال من القيود والغلال ليس فيه من يسخرك لمنافعه ومصالحه، وليس فيه من يسعى للقضاء على معنوياتك، وعلى قتل الطموح فيك؟
وكيف يمكن لشاب أن يعكف على العلم بقصد الاستزادة والاكتشاف والبحث والاستقصاء إذا لم يكن هناك من يساعده ويشجعه ويأخذ بيده؟ فكيف به إذا وجد في محيطه كله تثبيط للهمم، وكله إحباط للعزائم؟ وإذا تتبعنا الطرق التي تسير عليها الحكومات المستعمرة في مختلف دوائرها، ولا سيما المعارف منها نجد أنها ترمي إلى القضاء على روح الطموح، على روح البحث وحب الاستزادة من العلوم والفنون؛ ترمي إلى خلق روح الاعتماد في الناشئة على الغير، إلى إماتة روح الوطنية، وبث روح الاستهتار بالتراث العربي والإسلامي وانتقاصهما بشتى الوسائل، وفوق ذلك نجدهم (المستعمرين) يشغلون أوقات الناس والموظفين في أمور ليس فيها متاع، وليس فيها ما يعود على البلاد بخير أو انتفاع. فمن الطبيعي إذن - هنا وفي البلاد المرزوءة بالاستعمار - أن الحكومات فيها لا تشجع العلم ولا تحث على متابعته، ولا على إيجاد رغبة صادقة في التأليف والبحث على الرغم(180/53)
من حاجة الأمة إلى كل ذلك. وإذن فلا محال لغرابة الكثيرين في موقف الحكومة تجاه المؤلفين وتجاه الذين يلاحقون فروعهم في العلم والفن، بل الغرابة كل الغرابة في حسن ظن هؤلاء الكثيرين بالحكومات المنتدبة والاعتماد عليها في تشجيع الناس في التنوير والتقدم وقد جهلوا أو تناسوا أن هذه الحكومات تسير على برنامج استعماري خاص من شأنه أن يقضي على كل ما من شأنه رفع مستوى الأمة ورقيها. لهذا وجب على العلماء العرب أن يلتفتوا إلى هذه الناحية، وأن يعيروها بعض اهتمامهم، وأن يعتمدوا على أنفسهم قبل كل شيء، وأن يأخذوا من موقف الحكومات قوى تحفزهم إلى توسيع الحركة الثقافية في فلسطين وغيرها، ونشر روح البحث والاستقصاء بين المثقفين، ويقضي الواجب الوطني على الشباب العامل والأساتذة أن ينحوا في تعليم الناشئة وتثقيفها ناحية قومية وطنية، وقد يجدون في هذا صعوبة، وقد يصادفون أمامهم عقبات، ولكن عليهم أن يجاهدوا ويصرفوا بعضاً من مجهوداتهم في التغلب على ذلك، وفي توجيه التعليم والثقافة توجيهاً يخلق في النشء روح الاعتزاز بالقومية وروح الاعتقاد بالقابلية، يخلق في الناشئ شخصية قوية وكياناً مستقلاً ورجولة مستعدة لتلبية نداء الوطن قادرة على المساهمة في خدمة الحضارة. ويقضي الواجب الوطني على الباحثين أن ينحوا ببحوثهم الناحية القومية، وأن يبينوا للناشئة فضل العرب الكبير على المدينة، وقد تبوءوا مركزاً سامياً لم يتبوأه غيرهم أيام كانوا سائرين على النهج القديم الذي وضعه الرسول وصحبه وخلفاؤه، أيام كان الاهتمام باللباب دون القشور؛ بهذا وحده يمكن أن تنشئ الأمة شباباً مؤمنين عاملين على رفع مستوى البلاد، شباباً مثقفين ثقافة قومية وطنية يعرفون كيف يخدمون الوطن. وهذا هو أقوى سلاح يمكن أن تمد به الأمة الناهضة ليساعدها على خوض غمار هذه الحياة عالية الرأس موفورة الكرامة، وعلى نيل ما تبغي من عز وسؤدد.
وقد يسر القراء الكرام أن يعلموا أن هناك مساعي جدية للشروع في أعمال مشتركة تقوم بها جماعات مثقفة تأخذ على عاتقها الأشغال في ناحية خدمة الأمة عن طريق بعث الثقافة والتعليم القومي، عن طريق بعث الثقافة العربية والإسلامية، عن طريق تشجيع ذوي العقول النيرة والقرائح الخصبة في توجيه بحوثهم ونتاجهم في العلم والفن إلى ناحية قومية وطنية. وقد قام جماعة في نابلس من الشباب المثقف بإنشاء ناد ثقافي أطلقوا عليه أسم(180/54)
(النادي الثقافي) غايته هي: (إيجاد روابط وصلات بين المتعلمين، والعمل على تأليف قلوبهم وتوحيد جهودهم العلمية والأدبية وتوجيهها توجيهاً قومياً، ورفع مستوى البلد الثقافي والأدبي بطرق مختلفة عملية أهمها المحاضرات والحلقات العلمية وإيجاد مكتبة حافلة بالكتب القيمة. .) وسيجد الناس في هذا النادي وطنية عملية ستعود على البلاد بفوائد جليلة. وكذلك هناك جماعات في نابلس والقدس ويافا وحيفا وبقية البلاد تفكر في مشروع إنشاء لجنة ترجمة وتأليف ونشر على غرار لجنة مصر. والذي نرجوه أن توفق هذه الجماعات في مشاريعها الثقافية، وأن تأخذ بيد الأمة إلى حيث التقدم والمجد ومعارج القوة والعظمة.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(180/55)
كبرياء الألم
وراحة النفس في الشكوى ولذتها ... لو أمكنت، لا تساوي ذلة الشاكي
(أسامة بن منقذ)
للأستاذ أمجد الطرابلسي
أتظلُّ تخفق في الأضالع واهياً ... يا قلب حسبك! لن تراني شاكيا
يا ذلة الباكي! إذا أعداؤُه ... شمتوا به، والخِل أصبح راثيا
يا ذلة الباكي! لجرحي لاهباً ... أرضى لنفسيَ يا خفوق ونارِيا
أكتم لهيبك ما تقسمك الأسى ... لا يرخصن بكاك جرحاً غاليا
واشمخ بأنفك في الخطوب ولا يكن ... غلف القلوب أشد منك تعاليا
ولْتكرم الألم المخلِّد، ولتكن ... بلظى تكتمه الضلوع مباهيا
فالكون تضحكه الدموع إذا جرت! ... أتظل تضحك ذا الزمانَ اللاهيا؟
والمجد للألم الدفين على المدى ... لا للذي يؤذي المسامع باكيا
والوجد أنبله كمينٌ صامت ... وأجله ما كان جُرحاً خافيا
كنز من الإلهام لا تلقى له ... بين الكنوز مشابهاً ومساوياً
يهب الجلال لمن يطيق صيانه ... والعبقرية والثناَء الباقيا
يا أصدقائي النائحين تجملوا! ... لا تصبحوا بين الأنام ألاهيا
تبّاً لقلب لم يذق مجد الأسى ... وبِلىً لقلب لا يملّ تشاكيا
أغلوا الجراح فلن تروا مثل الجوى ... للعبقرية مُنضجاً ومواتيا
إِن القريض أعز مجداً من فتى ... يمسي ويُصبح ضارعاً متباكيا
لا يستحق الخلد شِعر ناحب ... تتقاطر العبرات منه جواريا
يا أيها الشاكي! إلى من تشتكي؟ ... أفأنت مُلْفٍ في الأنام مواسيا؟
وإذا لقيت فإِن في إشفاقه=ورثائه ذلاًّ لنفسك كافيا
أم الطبيعة ما تبث وأُذنها ... موقورة ما إن تجيب مناديا
تشكو فتعتنق الطيور على الرُّبى ... بين الغصون ضواحكاً ولواهيا
وتنوح الأزهار وتضحك خلسة ... والجدول المِطرب يسخر جاريا(180/56)
هل أسكنت يوماً لشاكي علة ... طيراً على عرش الأزاهر شاديا
أو حطمت أغصانها لفجيعة ... أو مزقت حُللاً ترف زواهيا
أوَلم تجيء هذي الطبيعة مرة ... ولهان تفتقد الحبيب النائيا
كم جئتماها قبلُ كنف الهوى ... وقضيتما فيها ضحى وأماسيا
الزهر حولكما يرفُّ مهنئاً ... والطير فوقكما تحوم شواديا
والغصن مخمور يصفق ناثراً ... قُبَلاً على عطفيكما ولآليا
أودعتماها الذكريات حبيبة ... تحكي أزاهرها اللطافُ، غواليا
وكتبتما فوق الجذوع مواثقاً ... ونقشتما فوق الصخور أساميا
واليوم. . .! تأتيها وحيداً شارداً ... ترجو بمغناها لجرحك آسيا
فانظر إليها! هل رعت ذمم الهوى ... أو خلدت ذكراً حلَوْن خواليا
سائل! فلست ترى لعهدك ذاكراً ... وابحث فلست ترى لحبك راعيا
واجزع! فلن تلقى لخطبك جازعا ... واندب! فلن يلقى بكاك مباليا!
ما بالها تلهو وأنت مكلّم ... تتلمس الذكرى وعهداً خاليا
إن الطبيعة غادة فتانة ... لا تعرف القلب الوفي الحانيا!
أحبيبي الغالي، وأنت مخاطبي -! ... هيا استشفَّ من القصائد ما بيا
هذا القريض يشف عما تحته. ... أتظن قلبي بعد ذلك ساليا؟
ألهو وأضحك ليس يبصر ناظري ... ماذا تكنُّ أضالعي وفؤاديا
أتقول: لا يذكي الهيامُ قصائدي! ... لولا لحاظك ما زكتْ أشعاريا
أقصائد يحملن آلام الهوى!؟ ... يا هونَهن! ولو يكنَّ دراريا
وانا قصيدتك البديعة صغتُها ... من فيض سِحرك أبحراً وقوافيا
وبخافقي ما لو تقسمه الورى ... وسع القلوبَ على الزمان خواليا
لكنني أغلى فؤادي أن يرى ... بين الأنامِ - وأنت فيه - داميا
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(180/57)
ذكرى 17 رمضان:
ثورة بدر
بقلم محمود حسن إسماعيل
مقتطفات منها
خَفَق العرشُ بالنشيدِ المطهرْ ... فدع الشعرَ والأغاني. . وكبِّرْ!
رجفتْ في الجنانِ كالزعزع القصَّ ... افِ تدوي بجانبيَّ وتزأرْ
من فجاجِ الغيوبِ هاجت صباحا ... ثورةٌ في الرمالِ هبّت تُزَمْجِرْ
أقبلت كالعجاجِ في هبوة الحرْ ... بِ (قُرَيْشٌ) على الحياض تُنَفِّرْ
حَشَدوا موكبَ المنايا وخفوا ... لِضياء الإلهِ غاوين فّجّرْ
يتراءوْنَ كالصواعِقِِ في الرم ... ل ووجهُ الضحى من الروعِ أغبر
كالشياطين جلجلت في دجى اللي ... ل وهاجت في البيد تعوى وتصفر
أرزمت فوقهم سيوفهم، وريعت ... من تناديهمُ أضاءةٌ وِمغْفر
زلزلوا راسي الفيافي، وراحت ... منهم البيدُ تقشعر وتذْعَر
ومضى الشرك بينهم مزعج الهي ... جة طيشانَ كاللظى المتسعِّر
جمَّع الهول كله في يديه ... ومضى بالحمام في الهول يزفر
إن يكن كبرهُ أجَنَّ البلايا ... لنبيِّ الإسلام. . . فالله أكبر
وعلى التلِّ خاشع في عريش ... قُدسيِّ الظلال زاكٍ مُنوِّر
كاد من طيب الجريدُ المحنَّى ... من ذُبول البلى يميس ويُزهر
هالة تسكُبُ الجلال، وتندى ... بوميض الهدى يُفيق ويسحر
لو رميت كاسف البصيرة أعمى ... عاد منها مُبلّج القلب أحور
باسطٌ كفّه إِلى الله يدعو: ... رَب حُمّ القضا لدينكَ فانْصر
إن أجناديَ البواسل قُل ... وخميس العدو كالموج يَزخَرْ
خفقة من كرى تجلّتْ عليه ... مال من طهرها الرِّداء المحبَّرْ
وإذا الوحي بارقٌ مستهلٌّ ... من سماء الغيوب هَنَّا وبَشّرْ(180/59)
فانتضى سيْفه وهبَّ على الفا ... رةِ بالسَّرْمد القويِّ مؤَزّرْ
ينفح القوم بالحصا فتدوِّى ... أَسلاتُ الإسلام في كل مِنجر
وجنود السماء من كل فَجٍّ ... غُيّب للعيان في القلب حُضّر
تشعل النار في قلوب المذَاكي ... وتَؤُج الرجال ناراً تَسعَّر
قوَّةٌ من جوانب العرش هبَّت ... ذاب من بأسها الحسام المشهّر
و (بلال) يلقى (أُميّة) غضبا ... ن فيشفى الغليل منه ويثأر
أمس كم حمل الصخور الذَواكي ... بلهيب الرمضاء تغلي وتسعر
وهو اليوم قاذف صخرَة المو ... ت. . . عليه تهوى فتردى وتقبر
وأبو جهل جندلته قناة ... فهوى تحت جندل البيد يزحر
وقف الكفر فوقه يندب الكف ... ر ويهذي على الرُّفات وَيهذر
لكأني بعظمك الآن يصطكُّ ... وَيغلي من الأسى وَالتحسُّر
وَشظايا اللسان ندمانة كا ... دت لنور الهدى حنيناً تكبِّر!
تمرات في كف أعزل جوعا ... ن هضيم بين الوغى متعثِّرْ
عربيٍّ من شيعة الله وانٍ ... عن صراع الهيجاء قهراً تأخر
حينما شاهد النبيَّ تلظّت ... جمرة النصر في حشاه المفتّر
هاج كالعاصف المدمِّر في الجي ... ش وَأهوى كالموت يبلى ويدحر
سلَّ من روحه حُساماً وَمن إس ... لامه في مسابح الروع خِنجر
هكَذا نجدة السماء أحالت ... واهِن الجسم كالعتيِّ المدمر
فإذا النصر صيحة هزت الدني ... اوراعت بروج كسرى وقيصر
وإِذا (بدر) خفقة في لسان الش ... رق يزهى على صداها ويفخر
محمود حسن إسماعيل(180/60)
القصص
قصة واقعية
الغريب. . .
(نالت هذه القصة جائزة قدرها 100 جنيه في مسابقة للقصص
الواقعية في مجلة الإنجليزية)
نقلها عن الإنجليزية
أحمد فتحي مرسي
لا أعلم ما الذي جعلني أشعر بالخوف والوحدة بعد أن امتطى فرانك صهوة جواده ومضى في سبيله ظهر أحد أيام الأحد. . . لقد كان عليّ أن أمكث مع طفلي العزيزين أياماً وأياماً وحيدين في مزرعتنا بين تلك المروج الواسعة، لم يساورني خلالها مثل ما ساورني ذلك اليوم. . ربما كانت الوحدة تخيف بعض النساء؛ بيد أنني قضيت في هذه الجهة ما يقرب من عامين بعيدة عن العالم منفردة عن المجتمع، فضلاً عن إنني نلت قسطاً من التعليم جعلني أنبذ ما تدعيه النساء من خرافات وأباطيل. . . كان هناك ما يقرب من العشرين ميلاً بيننا وبين أقرب جار لنا؛ ولقد كان في تناثر المزارع على هذا الشكل مغنم للصوص ورجال العصابات، فكان الإنسان يقضي أياماً طوالاً دون أن يرى في هذه الناحية وجهاً لإنسان، اللهم إلا أحد رعاة البقر يبحث عن قطيعه الممزق ويجمع أشتات ماشيته المتفرقة، ولكني كثيراً ما قضيت مع فرانك الشهور الطويلة دون أن يقع بصرنا على إنسان ما.
ولقد كانت مصاحبة طفلي العزيزين تجعلني سعيدة قريرة العين. وكان أكبرهما في الثانية من عمره ويدعى بوبي؛ وأما فيل الصغير فقد كان عمره لا يزيد على بضعة أشهر، ولكنه برغم ذلك كان طفلاً هادئاً مريحاً.
ولقد يتساءل البعض: لماذا اخترنا هذه البقعة الموحشة لنقضي فيها ميعة صبانا وزهرة شبابنا؟ فأجيب: منذ حوالي أربع سنوات عندما تزوجت من فرانك، كان يشغل منصباً في أحد البنوك في مدينة ولتون فيل على مسير خمسة وثلاثين ميلاً من مزرعتنا؛ وكان قد(180/61)
اقتصد قليلا من المال مدة اشتغاله في المصرف. ولم يلبث فرانك طويلاً في المصرف بعد زواجنا؛ فقد أصبح المصرف في غنى عن عمله لضيق أعماله، فأخذ يبحث عن عمل ولكن دون جدوى. . . وأخيراً وجدنا أنفسنا وليس معنا إلا قليل مما اقتصدناه. وكان فرانك قد درس هذه المنطقة ملياً مدة اشتغاله في المصرف، وكانت تحوي الكثير من المزارع التي تصلح لتربية الماشية وزراعة بعض الحاصلات الصيفية.
وفي ركن قصيّ من تلك الأصقاع كانت تقع مزرعة جميلة فيها منزل ريفي بديع الموقع بسيط التأثيث، وبها بئر طيبة المورد عذبة الماء، وحول المنزل قطعة مسورة من الأرض يخيل إليّ أنها كانت حديقة فيما مضى. وأخذنا الفرح بهذه المزرعة، فاشتريناها وبدأنا عملنا فيها.
وكان كلانا في ضحوة شبابه وربيع حياته يتمتع بصحة جيدة وبنية قوية. وكان فرانك لا يعرف الكثير من أحوال المزارع وإدارتها فلازمنا الفشل في أول الأمر - شأن كل من يبدأ عملاً لم يمارسه من قبل - ولكن أدركتنا عناية الله فذللنا كل ما قابلنا من العقبات.
ولد لنا (بوبي) في مدينة ولتون فيل، وأما (فيل) فقد ولد في مزرعة مري وذر على بعد عشرين ميلاً منا. ولقد كانت السيدة مري وذر نعم الأم الحنون البرة مدة إقامتي عندها.
ومضت الأيام تتبع الأيام والشهور تقفو أثر الشهور، ونحن سعيدان بهذه الحياة الهادئة على رغم بعدنا عن العالم وانفرادنا عن المجتمع، إلى أن كان يوم زارنا فيه جار لنا يدعى جيبون، يطلب مساعدة فرانك في إصلاح قطعة من الأرض اشتراها أخيراً. فلما اعتذر له فرانك بأنه ليس لديه جواد، فضلا عن أنه لديه من الأعمال ما يشغله عن ممارسة غيرها، قال غاضباً:
- هذا شيء لا يحتمل! من أين لي أن أجد رجلا آخر في هذه الناحية المقفرة؟ سأعطيك كل ما تطلب من الأجر نظير ترك أعمالك، فضلاً عن أني سأعوضك جواداً خيرا من جوادك.
وبعد نقاش طويل قبل فرانك ما عرضه عليه الجار على أن يدعه يعود إلى المزرعة في أيام السبت والأحد لإنجاز أعماله الهامة. وعلى هذا أصبحت أقضي جل الأسبوع وحيدة إلا من طفلين لا يستطيع أكبرهما أن ينطق. ولكني كنت أعزي نفسي بأن العمل يستغرق(180/62)
أسابيع يعود بعدها فرانك ومعه المال والجواد.
ولا أكون مبالغة إذا قلت إننا نشعر في حياتنا بسرور قدر ما شعرنا به تلك الليلة عندما عاد فرانك للمرة الأولى يحمل أجرة الأسبوع الأول، فقد خيل إلينا أننا في حلم عندما نثر النقود على المائدة؛ وليس هذا عجيباً، فقد كان كلانا لم ير النقود من زمن غير قليل. قال فرانك:
- أظن أنه ليس في الإمكان السفر إلى ولتون فيل لإيداعها في المصرف قبل أن أنتهي من مساعدة جيبون، وستكون هنا في مأمن. فقلت:
- إذن دعنا نخبئها في مكان ما.
- حسن! ثم وضع النقود في كيس صغير وأعطاها إياي قائلاً:
- ضعيها تحت وعاء الدقيق يا عزيزتي. . . فإذا داخلك الشك يوماً في أحد يحوم حول هذا المكان فاحفري لها في الأرض.
وفي مساء الجمعة التالية زاد قدر ما عندنا من النقود بما أضافه إليها فرانك من أجره الثاني.
وفي صبيحة السبت نهض فرانك مبكراً وأخذ يعمل في المزرعة بجد ونشاط - كعادته في سائر أيام السبت والأحد - حتى إذا كان ظهر الأحد خرج ليسرج جواده ويمضي إلى عمله عند جيبون. . . ولسبب ما داخلني شعور غريب هذه المرة، فقد كنت أريد من أعماق نفسي ألا يذهب وألا يتركني هذه المرة. ولما ضمني ليودعني لم أجد ما أقوله غير هذه الكلمات:
(لا تذهب يا فرانك. . . لا تتركني هذه المرة يا عزيزي) والحقيقة أنني كنت أشعر بشعور خفي، وبدافع من صميم قلبي يدفعني إلى استبقائه بجانبي. لكنه ابتسم قائلاً:
- تشجعي يا عزيزتي. . . سأعود قريباً
ثم انطلق الجواد كالسهم وأنا واقفة أتابعه بنظري وهو يختفي في ظلام من الغبار.
استيقظت في الرابعة من فجر اليوم التالي، لأنه كان يروق لي أن أنجز أعمالي في الصباح الباكر قبل أن يشتد وهج الشمس في سماء الصيف الصافية ويحمرُّ قيظها، فأخرجت الماشية من حظائرها وأوقدت النيران في الموقد، ثم عدت إلى المنزل لأغذي الأطفال، وألقيت وأنا أصعد الدرج نظرة خاطفة على الطريق الذي مضى فيه فرانك أمس. ولشد ما(180/63)
كانت دهشتي عندما أبصرت من بعيد شبحاً سائراً على قدميه يقترب رويداً رويداً من المزرعة؛ وقد عجبت من ذلك أشد العجب، فهذه أول مرة أرى فيها شخصاً يجوب هذي السهول المترامية سيراً على الأقدام. أسرعت إلى المنزل ووقفت في النافذة وأنا أفكر فيمن يكون ذلك الشخص وما مأربه؟ أهو صاحب مزرعة من اللواتي حولنا يطلب مساعدة؟ ولكن هذا لا يمكن، فكل منهم يملك جواداً على الأقل إن لم يكن يملك مركبة. إذن فهذا الرجل غريب عن الناحية.
ولكن لماذا يأتي الغريب إلى هنا؟ ربما ضل الطريق وأخطأ الجهة التي يقصدها! ولكنه لا يمكن أن يصل إلى هذه الجهة المنفردة دون أن يدرك أنه أخطأ الطريق. . . كل هذه الأفكار كانت تساورني وأنا واقفة في النافذة أرقب الرجل وهو يقترب:
- ترى ماذا يفعل ذلك الرجل لو علم أني وحيدة في ذلك المنزل؟ وماذا يفعل لو عرف شيئاً عن النقود؟
وأخيراً قلت لنفسي: (حسن. ما دام فرانك أخذ دوره وعمل بجد حتى حصل على هذه النقود، يجب أن أخذ دوري في الدفاع عنها) وأسرعت إلى (مسدسي) وكان محشواً، وأيقظت الأطفال حتى لا يزعجهم إطلاق النار. وكان الرجل قد وقف على بعد خمسين خطوة من المنزل يقلب الطرف في الحديقة والدار؛ وبدا لي وجهه مخيفاً مرعباً وملابسه قديمة رثة. على أنه لم يدهشني قط عندما أخرج مسدسه من جيبه ومشى صوب الباب لأني كنت أتوقع ذلك بين لحظة وأخرى. . . . انتظرت حتى أصبح على بعد خطوات من الباب ثم دفعت الباب بقدمي فأصبحت أمامه وجهاً لوجه.
- مكانك وإلا لهبت رأسك!
فوقف الرجل مبهوتاً، ثم أردفت على عجل:
- والآن ماذا تريد؟
- سيدتي! ما أنا إلا رجل فقير جائع؛ أريد قطعة من الخبز أسد بها رمقي، أو أي عمل عندكم أعيش منه. . . ثم تابع كلامه وقد رأى الشك في عيني:
- أنني أمين يا سيدتي؛ لا تسيئي بي الظن
- شكراً لك! إن زوجي قد قام بكل الأعمال، وليس لدي ما أعطيك إياه(180/64)
- لقد قضيت يا سيدتي يومين سائراً. يعلم الله أني لم أذق في خلالهما شيئاً قط. . . .
وأيقنت من نبراته أنه صادق في كلامه برغم ما داخلني فيه من شك. وقد رأيت أن من الغباء أن أدعه يعمل عندنا ونحن لا نعرف أصله، ولكني لم أعدم شيئاً من العطف على رجل لم يذق الطعام من يومين؛ فقلت له وأنا ما أزال قابضة على المسدس:
- إن ورائي على المائدة وعاء من اللبن وقطعتين من الخبز خذهما وأمض في سبيلك. . فنظر لحظة إلى المسدس قبل أن يجد في نفسه الجراءة الكافية على الدخول، ثم جمع أشتات نفسه ودخل وحمل الطعام ثم خرج متمتماً بكلمات الشكر.
ومضيت في عملي فنسيت ذلك الحادث. وكانت الشمس قد ارتفعت في السماء. فجلست مع بوبي لنتناول الفطور في هدوء وصمت. وفجأة تذكرت أنني لم أجمع بيض الدجاج هذا الصباح، وكانت عادتي أن أجمعه في الصباح الباكر قبل أن تعبث به زواحف القفر. فلما بلغت آخر مجاثم الدجاج طرق سمعي فحيح حاد صادر من الحطب الهشيم الملقى على جوانب المجثم، فعرفت الصوت لساعته وإن كنت لم أسمعه في هذه الجهة من قبل، فهلع قلبي وأسرعت بالعودة، إلا أنني لم أكد أدير وجهي حتى شعرت باللدغة في قدمي اليمنى.
لقد كانت عضة أفعى سوداء كبيرة. وقد جمدت في مكاني لمجرد ذكراها قبل أن تلمحها عيناي المضطربتان وهي تزحف بين الهشيم وأخيراً بلغت المنزل أجر قدمي ورائي وأنا ألهث من التعب، ومزقت الحذاء سريعاً فبدا أثر النابين عميقاً ظاهراً، وكنت أجهل تماماً ما سأفعل وأنا على قاب قوسين من الموت. . . فجعلت أجهد ذاكرتي حتى أصل إلى ما قاله لي فرانك عن علاج مثل هذه الحالة. وأخيراً وجدت ضالتي المنشودة. لقد قال لي: يجب أن تربط الرجل من فوق اللدغة بقليل حتى لا يسري السم مع الدماء، ثم تعالج الإصابة (ببرمنجانات البوتاس). . . وسرعان ما مزقت قطعة من القماش من غطاء المائدة وربطت بها الرجل من فوق اللدغة بقليل ثم قمت أبحث عن الدواء
ولكني تذكرت فجأة أنه لم يبق عندنا منه شيء، فقد استنفذته عن آخره في تطبيب الدجاج في الربيع الماضي ونسيت أن أطلب من فرانك أن يشتري بدله.
عدت إلى المقعد في ذهول وأغمضت عيني وجعلت أفكر وأفكر ولكن دون جدوى. . . . كل ذلك والسم آخذ طريقه في قدمي حتى تصلبت عضلاتها. . . . ماذا افعل وأنا وحيدة مع(180/65)
طفلين وهناك عشرات الأميال بيني وبين أقرب نجدة؟ وإذا قدر لي الموت فما مصير الطفلين البريئين؟ كانت قدمي تؤلمني ألماً مبرحاً ولا أعلم إن كان ذلك من السم أم من شدة الرباط؟
لم يكن أمامي ثمة شيء ينقذ حياتي وحياة الأطفال إلا أن أحاول أن أذهب معهم إلى (مري وذر). فربما أتمكن من إدراكها قبل فوات الوقت إذا تركت للجواد العنان. . . فقمت أتحامل على نفسي وعلى الحائط؛ ولكن قبل أن أدرك الباب تذكرت شيئاً آخر جعلني أكاد أسقط على الأرض. . . لقد أخذ فرانك الجواد ولسنا نملك غيره. شعرت بأن الدم يكاد يفيض من وجهي، وأنا أعود إلى المقعد في ذهول. . . أأصحب الطفلين وأمضي سائرة على الأقدام؟ ولكن هذا معناه ساعات وساعات دون أن نصل إلى وجهتنا. . . قمت ثانية لأحمل (فيل) ولكني عدت فتذكرت أن قدمي بوبي الصغيرتين لا تحتملان السير أكثر من ميل أو ميل ونصف. . . إذن سأضطر إلى حمل الطفلين في الطريق، وسأبذل من الجهد ما يجعل الدم ينشط والسم يسري فتكون النهاية المحتمة الأليمة: طفلان في القفر في يد القدر بجانب أم ميتة.
يا ألهي! ماذا أفعل وهذا الموت المحقق يسير في عروقي، وعن قريب أصير في عداد الأموات. . . ولكن الطفلان ما مصيرهما؟ الموت دون شك. . وإذا كان لابد من الموت فلم لا أسرع حتى أخلص من عذاب النفس الممض وعذاب الجسم المبرح؟. . . لم لا أسرع بالقضاء على نفسي وعلى الطفلين حتى نستريح جميعاً؟. . . خففت قليلاً من وطأة الرباط فلم تعد ترجى منه فائدة، وتناولت قلماً وورقة من المكتب ثم جلست أكتب لفرانك ظهر الاثنين:
عزيزي فرانك:
لقد لدغتني أفعى سامة كبيرة. ولم أجد لها علاجاً ناجعاً ولا يمكنني أن أعيش أكثر من بضع ساعات. أما الطفلان فلا أظنهما يلبثان على قيد الحياة إلى حين حضورك. لذلك سأفعل الأمر الوحيد الذي يمكنني أن أفعله في هذه الحالة فأريح نفسي والطفلين من العذاب الأليم. وأتمنى لك حياة طويلة سعيدة.
عزيزتك(180/66)
روز ماري
ووضعت الورقة على المائدة ثم تناولت المسدس، واقتربت من طفلي فيل وكان مستغرقاً في نومه فركعت بجانبه ثم طبعت على جبينه قبلة حارة وصوبت (المسدس) إلى رأسه بيد مرتعشة، ثم أغمضت عيني لأطلق النار. . .
- بحق السماء ماذا تفعلين يا سيدتي. . .؟
اضطرب (المسدس) في يدي وتلفت إلى مصدر الصوت في جزع فإذا الرجل الغريب الذي رأيته في الصباح واقفاً بالباب ينظر إلي تارة والى المسدس أخرى. . ثم تقدم أخيراً فقبض على المسدس من يدي وألقاه على المائدة، ثم تابع كلامه قائلاً - أتقدمين على قتل هذا الطفل البريء؟
- نعم أقدم على ذلك
- أمجنونة أنت؟
- كلا. . . لقد لدغتني أفعى سوداء سامة وأدركت أن الموت من نصيبي وأيقنت أن الطفل سيموت جوعاً ففضلت أن نموت سوياً
- أفعى سوداء! قالها وتقدم إلي في سرعة فرفعني من مكاني وأضجعني على المقعد ثم أخرج من جيبه سكيناً حاداً رسم بها دائرة حول أثر النابين، ثم أخذ يضغط الجرح بشدة حتى سالت الدماء وفاضت على جوانبه. . . ثم نهض مسرعاً وجذب قضيباً من الحديد كان ملقى على المائدة، ثم سأل:
- أين الموقد؟
- وراءك إلى اليمين. فأسرع إليه ووضع القضيب في النار إلى أن أحمر طرفه ثم عاد إلي قائلاً:
- يعز علي أن أفعل ما أنا مقدم عليه، ولكن هذا هو العلاج الوحيد. ولما انتهى من كي الجرح أحضر لي جرعة من الماء. ثم تبع ذلك صمت طويل قطعه أخيراً بقوله:
- لقد توسمت فيك الشجاعة هذا الصباح يا سيدتي. وقد رأيتها الآن رأي العين؛ وأظن أنك ستشعرين بألم مبرح بضعة أيام يزول بعدها كل شئ. ورانت على الغرفة فترة أخرى من الصمت ثم قال أخيراً في هدوء وتؤدة:(180/67)
- لا يمكنني على ما أظن أن أمضي وأتركك على ما أنت عليه. . . ثم أردف باسماً:
- إنه ليبدو عجباً أن أحضر إلى هنا رغبة في الاستيلاء على أموال زوجك وقتلك إذا دعت الحال، فإذا بي أساعدك وأسهر عليك وأعني بمرضك كما لو كنت صديقاً حميماً!
وأظن أن آخر شئ يمكنني أن أذكره قبل أن يأخذني الإغماء هو صورة الغريب في يده وعاء اللبن وهو ذاهب لحلب البقرة وبوبي يقفز حوله في سرور. أما فيل فقد كان مستغرقاً في سباته، وكانت الشمس قد آذنت بالغروب. . . ثم أظلم المكان في عينيّ ولم أشعر بما يجري حولي، اللهم إلا أشباحاً تتراقص، وأيدياً تلوّح، وأصواتاً تدوي. . .
حينما أفقت من الإغماء كان الوقت ظهراً والسجُف مرخاة على النوافذ والغرفة خالية إلا مني ومن بوبي الذي كان جالساً يأكل في أحد الأركان في سرور جعلني أشعر بمثله.
- أظنك تشعرين الآن ببعض التحسن يا سيدتي. . . كان ذلك صوت الرجل الغريب، فتلفت فإذا به واقف بجانب السرير ينظر إلي في حنان وعطف. فسألته:
- في أي يوم نحن الآن؟
- الأربعاء يا سيدتي
وفي مساء الجمعة وكان قد ثاب إلي بعض صحتي ونشاطي؛ وكان بوبي وفيل قد أخذتهما سنة من النوم، قال لي الغريب:
- في أي وقت تتوقعين حضور زوجك يا سيدتي؟
- إنه يصل عادة بعد التاسعة بقليل
- إذن يجب عليّ أن أذهب، ولكن لن أتركك حتى أسمع وقع حوافر جواده
- ولكن لماذا؟ قد يرغب فرانك في رؤيتك ليقول لك شيئاً
- شكراً، أني أعلم ما سيقوله لي
- إذن دعني أمنحك قليلاً من المال، أنه لشيء تافه بجانب ما تكبدته لإنقاذي وإنقاذ الطفلين. . ثم قمت لأحضر النقود، ولكنه أعترض سبيلي قائلاً:
- أرجوك الجلوس يا سيدتي - لقد كانت النقود في متناول يدي طول أيام الأسبوع، ولكني لم ألمسها ولن أمسها. . .! ثم خيم على الغرفة صمت طويل قطعه أخيراً وقع حوافر جواد قادم في الطريق، فقام الرجل وسار نحو الباب في خطوات متزنة ثم اختفى بين طيات(180/68)
الظلام.
قصصت على فرانك القصة فما انتهيت منها حتى أبتدر الباب باحثاً عن الرجل، ولكني استوقفته وأخبرته أن من العسير أن يعثر عليه في هذا الظلام الحالك، فرجع آسفاً. ومنذ ذلك الحين ونحن نتمنى لو تتاح لنا فرصة نشكر فيها ذلك الغريب ونوليه أضعاف جميله؟
أحمد فتحي مرسي(180/69)
البريد الأدبي
قانون جديد للصحافة في فرنسا
صدر أخيراً قانون جديد للصحافة في فرنسا يرمي إلى وضع حد لذلك الإغراق التي انتهت إليه بعض الصحف المتطرفة في شأن الأنباء الكاذبة والمقالات القاذفة؛ وكان صدوره على أثر انتحار المسيو سالنجر وزير الداخلية الذي لبث مدى أشهر هدفاً لحملات بعض الصحف المتطرفة مثل (جرينجوار) و (لاكسيون فرانسيز)، فقد استمرت هذه الصحف تنشر عنه وعن ماضيه كثيراً من الأخبار والمطاعن المثيرة، وتطعن في وطنيته ونزاهته وإخلاصه لوطنه. ومع أن اللجنة الخاصة التي ألفت لبحث ماضي المسيو سالنجرو قد انتهت بتقرير بطلان هذه التهم جميعاً، ومع أن البرلمان ذاته قد انتهى بتبرئته وإعلان تقديره لوطنيته، فأن هذه الصحف القاذفة لم تنقطع عن مطاردته حتى سقط صريعاً في الميدان. فبادرت الحكومة باستصدار القانون الجديد، وهو يرمي إلى أغراض ثلاثة: الأول قمع الأخبار الكاذبة؛ والثاني منع المطاعن والحملات القاذفة؛ والثالث وضع رقابة فعلية على المصادر المالية للصحف، نظراً لما ثبت من أن كثيراً من الصحف تندفع بتأثير ما تتناوله من الإعانات المالية إلى إثارة الخصومات السياسية والمطاعن الشخصية دون اكتراث للنتائج والشخصيات. وبناء عليه يجب أن تقوم الصحف من الآن فصاعداً في شكل شركات مساهمة، وأن يعتبر مديروها كما يعتبر محرروها مسؤولين عما يظهر في الجريدة.
وقد كانت الحملات الصحفية القاذفة تعرقل كثيراً من أعمال الحكومات، وكانت الحكومات المختلفة تفكر في إصدار مثل هذا القانون منذ زمن طويل، ولكنها تتراجع دائماً، حتى جاءت الحكومة الاشتراكية ووقعت حادثة مسيو سالنجو. ومن الغريب أن تكون الحكومة الاشتراكية هي التي اضطلعت بإصدار مثل هذا القانون المقيد للحرية، ولكنها في الواقع أصدرته لحاجة ماسة. ذلك أن الإسراف في نشر الأنباء الكاذبة والحملات القاذفة قد وصل إلى حدود لا يمكن احتمالها، وكثرت الصحف القاذفة التي تعيش من الطعن في الأشخاص والجماعات؛ والقذف معاقب عليه في القانون الفرنسي دائماً، ولكن القانون الجديد يعتبر القذف واقعاً في جميع الأحوال إذا كان يمس الهيئات الرسمية أو الأشخاص الذين تشير(180/70)
إليهم المادة 35 من قانون سنة 1881؛ وقد نص في القانون الجديد على تقصير الإجراءات حتى يقع العقاب المنشود بالقاذفين بسرعة، ونص فيه على عقوبات مالية فادحة إلى جانب العقوبات المقيدة للحرية وما نص عليه من تعطيل الصحيفة. وقد أثيرت حول القانون الجديد اعتراضات كثيرة أهمها أنه لا يمكن إجراء الرقابة المالية المنشودة دون الإضرار بكثير من الصحف النزيهة المخلصة وعرقلة تقدمها، وإنه يخشى أن تعمد الهيئات التي تستتر وراء الصحف القاذفة إلى تزويدها برجال من قش يحكم عليهم دون أن ينال هذه الهيئات شيئاً ودون أن تقطع معونتها على الصحيفة المحكوم عليها. ثم إنهم يخشون جداً من عدم استقلال القضاء الفرنسي وميله مع الاتجاهات السياسية. بيد أن الحكومة الاشتراكية تتمتع في إصدار هذا القانون بكثرة من كل أولئك الذين يقدرون قيمة النزاهة والإخلاص والتعفف عن المطاعن القاذفة في صناعة القلم التي يجب أن ترتفع عن الاستغلال في الخصومات الدنيئة.
كارل فون أوستيسكي أيضاً
بسطنا في العدد الماضي كارل فون أوستيسكي الكاتب الألماني الكبير الذي فاز بجائزة نوبل للسلام عن سنة 1935، والذي اعتبرت الحكومة الألمانية فوزه بهذا الشرف تحدياً لها لأنها تعتبره خائناً، لما كان يكتبه من مقالات في الدعوة إلى السلام ونزع السلاح؛ وقد أرادت أن تعتقله منذ سنة 1933، ولكنها اضطرت إزاء اشتداد العطف الدولي عليه أن تطلق سراحه، فغادر المستشفى مريضاً منهوكاً حيث يعالج الآن. وقد اطلعنا أخيراً في جريدة (بازلر ناخرختن) السويسرية على حديث جرى لمكاتبها البرليني مع هذا الكاتب الشهير بإذن السلطات الألمانية، خلاصته أن فون أوستيسكي حينما نقل إليه خبر فوزه أبرق إلى الأكاديمية السويدية بقبول الجائزة، وبأنه سيأتي بنفسه إلى استوكهلم ليلقي خطبة القبول؛ بيد أنه سيحاول جهد استطاعته أن يكون واسطة لتحسين العلائق بين ألمانيا والسويد. ويصرح فون أوستيسكي بأنه ما زال على عقيدته السلمية يدعو إلى تفاهم المم، وأن الدعوة إلى السلم إنما هي في مصلحة وطنه، وأنها تتجه إلى جميع الأمم التي تبالغ في التسليح مثل روسيا السوفيتية؛ وأنه حين يغادر ألمانيا لن يعود إليها بعد. على أنه لا يريد قط أن يكون فوزه بجائزة السلام مدعاة لمظاهر سياسية؛ وأنه يأسف كل الأسف إذ كان(180/71)
فوزه بهذه الجائزة مثاراً للمناقشين بين السويد وألمانيا. ويأسف بنوع خاص لأنه كان موضع حملة من الشاعر النرويجي الكبير كنود هامبسون.
والظاهر أن الحكومة الألمانية قد اقتنعت أخيراً بإطلاق سراح الكاتب الكبير نهائياً، ورأت أن ليس في صالحها أن يطول أمد اعتقاله؛ وقد كان الكاتب عند وطنيته وإخلاصه لوطنه على رغم ما لحقه من صنوف الأذى طيلة هذه الأعوام.
نقل الآداب الأوربية إلى الأدب العربي
ذكرنا من قبل في إحدى افتتاحيات (الرسالة) أن لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أعدت مشروعاً لنقل الآداب الغربية إلى الأدب العربي؛ ويسرنا أن نذكر اليوم أن وزارة المعارف العمومية قابلت هذا المشروع بما يستحقه من التقدير والعناية، فقررت أن تساعد اللجنة على تحقيقه بخمسمائة جنيه في ميزانية هذا العام، تزيدها إلى ألف جنيه في ميزانية العام المقبل (على أن يشرف على هذا المشروع لجنة من حضرات الأساتذة الدكتور طه حسين ومصطفى عبد الرزاق وأحمد أمين مع الاستعانة بالعناصر الأجنبية للإرشاد عن خير المنتجات الأوربية في اللغات الثلاث: الإنجليزية والفرنسية والألمانية). وبعد عطلة العيد ستجتمع اللجنة لتنتخب الأساتذة الذين يناط بهم تنفيذ هذا العمل الخطير تمهيداً للسير فيه.
وفاة لويجي بيراندللو
توفى في صباح يوم الخميس الماضي الكاتب الإيطالي لويجي بيراندللو على أثر إصابته بالتهاب الرئة. وهو زعيم الأدب المسرحي في إيطاليا من غير منازع، وصاحب المذهب الفني المعروف بمذهب الفكاهة أو نسبة إليه. وقد ولد في أجريجانتي بجزيرة صقلية في سنة 1867 ودرس الأدب في روما ثم سافر إلى ألمانيا فحصل على الدكتوراه في الآداب من جامعة (بُن). ولما رجع إلى بلاده عين أستاذاً في المدرسة العليا للبنات فظل فيها من عام 1897 إلى عام 1921، وكان في خلال ذلك يؤلف القصص والروايات وينشرها حتى بلغ إنتاجه أربعمائة أقصوصة وثلاثين رواية. وفي سنة 1934 نال جائزة نوبل للآداب، وبهذه المناسبة نشرت (الرسالة) عنه فصلاً تحليلياً إضافياً في عددها الرابع والسبعين فارجع إليه إن شئت المزيد.(180/72)
كلمة حول زارا وتحقيق نسبته
كتاب (زاراتسترا) للفيلسوف الشاعر الألماني (فردريك نيتشه) الذي تنشر ترجمته (الرسالة) من مؤلفات الذائعة الصيت في عالم الثقافة الغربية، ويعدُّ هذا الكتاب بل (الديوان) أعظم أثر شعري في العصر الحديث. وقد قيل فيه إنه لم ينتج شاعر في العصر الحديث أثراً يضارع ما حوته دفتا هذا الكتاب! وحسبك أن تعلم أن الموسيقي الألماني الشهير (ريشارد شتراوس) قد لحنه موسيقياً.
وبلغ من تأثير هذا الكتاب أن عُدَّ مسؤولاً إلى حد كبير عن إذكاء تلك الروح التي حفزت الشباب الألماني ودفعته إلى خوض غمار الحرب الكبرى، ولم يقتصر أثر هذا الكتاب على كثير من عقول مفكري الغرب، بل تناول كثيرين من مفكري الشرق. فالشاعر الهندي الفيلسوف محمد إقبال قد تأثر به إلى حد كبير تحسه في كتبه (أسرار الذاتية) و (أسرار اللاذاتية). . . وما دعوة الجهاد الإسلامي التي يريد إحياءها (إقبال) ولا يفتأ يرددها ويدعو إليها إلا أثر من آراء نيتشه وفلسفته في تمجيد القوة والدعوة إلى (السوبرمان).
وجبران خليل جبران الشاعر اللبناني ينهج في كتابه (النبي) نهجاً يشابه طريقه الفيلسوف الألماني، وهو إن خالفه في الروح والمبادئ فانه يشابهه في الأسلوب وطريقة الأداء التي يتميز بها كتاب (زاراتسترا)، وقد تبوّأ هذا الكتاب مكانه في التفكير الغربي كإنجيل جديد يبشر بمذهب جديد في الحياة وغايتهم على الأرض، مذهب هو أقرب إلى الدعوات الدينية منه إلى المذاهب الفكرية الفلسفية.
وقد دعاني إلى كتابة هذه الكلمات ما رأيته من خلاف في نسبة (زارا). على أن كل المصادر مجمعة على نسبته إلى ولكن الخلاف هو في تفسير هذا؛ فالمستر في مقدمة الترجمة الإنجليزية طبعة ' يشير إلى أنه زرادشت صاحب الديانة الفارسية القديمة، وهكذا أيضاً تفسره دائرة المعارف الفرنسية وأما دائرة المعارف البريطانية فلم أجد بها ما يفسره.
على أنه توجد طبعة لترجمة إنجليزية أخرى بدار الكتب المصرية بالقاهرة تفسر هذا الاسم بأنه لأحد آلهة الإغريق القدماء يدعى ولست أدري المصدر الذي استقى منه محرر مقدمة هذه الطبعة. على أن هذا الرأي كفيل أن يسترعي منا كل عناية واعتبار، لأنه من المعلوم(180/73)
أن نيتشه كان متضلِّعاً في الثقافة الإغريقية؛ ثم إنه يدين للإغريق بكثير من إنتاجه وفلسفته؛ وتأثره بآلهة الإغريق عميق ولا سيما الإله ديونيزوس إله الخمر، وقد أسهب في هذه النقطة البروفسور ليشتنبرجر في كتابه عن نيتشه المسمى (إنجيل السوبرمان)
فلا نستبعد أن يكون نيتشه قد نسب بطل كتابه إلى هذا الإله الإغريقي القديم اعترافاً منه بفضل الثقافة الإغريقية وتمجيداً لها. وهذا موضوع من الفائدة بمكان لو تبارت فيه عقول المحققين لتجلو غامضة وتظهر حقيقته؛ وإنه لخليق بمجلة البحث والفكر (الرسالة) الغراء.
(المنصورة)
محمد فهمي(180/74)
الكتب
كتاب باب القمر
تأليف الأستاذ إبراهيم رمزي
بقلم الأستاذ محمد فريد أبو حديد
ماذا أسميه؟ أأسميه قصة؟ إنني إن فعلت فلن أعدو الحقيقة إذ هو في الواقع قصة فيها ما في القصص عادة من مداخل الخيال وطلاوته. ففيها لمياء ابنة الحارث بن كلدة، تلك الصورة الحية الناطقة التي لا يسع قارئ القصة إلا أن يتمثلها ويحس ما تحسه من أشجان. فتاة عربية رومية تجمع ثقافة الإغريق وصفاء نفس العرب، وتتمثل فيها فضائل المدنية وفضائل البداوة جنباً إلى جنب. وفيها ورقة ابن العفيفة، ذلك الفتى العربي النبيل الذي يتقلب في بلاد العرب وفيما حولها حتى ينتهي به التجوال إلى الإسكندرية فيصبح فيها أمين الحاكم وكبير حراسه. وهذان هما الشخصان اللذان قد حيكت حولهما حوادث القصة على ما ألف الناس في القصص من دوافع العواطف الشريفة وخوالج النفوس المضطرمة؛ على أنني لا أملك إلا أن أعقب على هذا القول لأحدد منه. فان هذا الكتاب ليس على ما يفهم من القصة المحض، فان المؤلف قد جعل إلى سداه القصصي لحمة من التاريخ المصفى الذي لا يخطئ القارئ إذا اعتمد عليه ووثق من حقائقه، فهو يصور حال بلاد العرب في أول أيام البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، فابتدأ في نجران وصور ما كانت عليه حال تلك المدينة القديمة ومكان الأسقف المسيحي منها؛ ثم هبط اليمن مع قوافل التجار التي تيمم الشمال في رحلاتها المنتظمة حتى بلغ معها بلاد الحجاز فصور مكان النبي عليه الصلاة والسلام في أوائل سني البعثة وصور صحابته تصويراً لا أظن ريشة المصور تبدع خيراً منه، كما صور أعداءه وشتى وسائل عداوتهم له إلى حصارهم إياه في الشِّعب على ما هو معروف في كتب السيرة؛ وعبر بعد ذلك إلى الشام فعرض صورة لدولة الروم وهي تناضل الفرس ذلك النضال الهائل الذي غلبت فيه في أدنى الأرض، وعرض بعدها صورة ثانية لمصر والإسكندرية وبين ما كان فيها من اضطراب وأحزاب إلى أن دخلتها جيوش فارس بتدبير بعض الخونة مثل بطرس(180/75)
البحريني المنافق.
فصور القصة قد تدخلت فيها صور التاريخ تدخلاً عجيباً كان من أثره أن جليت للعصر صفحة واضحة يكاد قارئها يحس أنه يحيا بين أهله ويتنفس في جوهم.
ولست بمستطيع في هذه الكلمة الموجزة أن أذكر كل من جلاهم ذلك الكتاب القيم من شخصيات التاريخ، فانك لا تكاد تجد اسماً من الأسماء المعروفة في هذه الفترة لم يبرزه في ناحية منه ويصور له صورة حية؛ ولكن شخصيتين من هذه الشخصيات كانتا مثالاً عالياً في التصوير الأدبي؛ ولعل المؤلف النابه قد قصد منهما أن يكونا رمزين للحزبين المتناضلين: حزب الرسول وحزب قريش، ألا وهما حمزة بن عبد المطلب رمز المسلمين، والنضر بن الحارث الطبيب رمز المكذبين من قريش. وأما أشخاص غير العرب فقد أبدع في تصوير بعضهم إبداعاً عظيماً، ومن هؤلاء بطرس البحريني الذي قيل إنه كان آلة الفرس في فتح الإسكندرية بالخديعة والخيانة.
وإذا كان المؤلف الفاضل قد جمع يبن القصة والتاريخ هذا الجمع فانه لم يقع في خطأ وقع فيه كثير من القصصيين، وذلك هو الخلط بين الخيال والحقيقة وما يترتب على ذلك من تشويه لكليهما، فانه حرص على أن تكون وقائع التاريخ كلها صحيحة، وبالغ في ذلك فجعل في هامش القصة ذكر بعض المراجع وبعض فقرات الإيضاح، واحتاط عند ذكر ما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام، فما وقع منه فعلاً نسبه كما جاء في كتب السيرة، وأما ما كان فيه مدخل للخيال فقد قاتل فيه: (واخاله قد فعل). فهذا الكتاب حلقة مجيدة ظهرت في الأيام الأخيرة لبعض أعلام الأدب الحديث.
وإنا إذا رأينا هذه النهضة المحمودة في إيراد حوادث التاريخ على هذا الأسلوب كان علينا أن نبتهج ونغتبط وأن نشكر هؤلاء الأدباء الأعلام الذين يمهدون لجمهور القراء مثل هذا الغذاء العقلي السليم. ولا أظن إن في استطاعة أحد أن يكافئ هؤلاء الأفاضل على ذلك المجهود الكبير، اللهم إلا أن يكون رضاؤهم عن أنفسهم وشعورهم بأنه قد أدوا للناس خدمة أدبية تفيد لغتهم الشريفة، وتعمل على إعلاء نهضتهم المباركة. (فعلى هامش السيرة) للأستاذ الكبير الدكتور طه حسين و (محمد) للأديب الكبير توفيق الحكيم و (باب القمر) للأديب الكبير إبراهيم رمزي ثلاثة أعوام يجدر بالعصر الحديث أن يفاخر بها.(180/76)
ولقد حاولت في قراءتي لهذه القصة التاريخية أن أجد مأخذاً أدخله إلى مقالي حتى لا يكون كله صورة من الإعجاب الذي ملك على نفسي فلن أظفر من ذلك إلا برأي أظنه جديراً بأن يعرض، وهو أن الاستطراد الكثير في سياق القصة كان كثيراً ما يضيع شيئاً من تماسكها.
وأمر آخر لمحته في بعض المواضع وهو أن بعض القول كان على غير ما يمليه الطبع. ومن ذلك أن سيدة كانت في موقف حزن عميق إذ فقدت زوجها وولدها (فخنقتها العبرات وتحدرت الدموع على خديها متداركة كقطرات السقاء المخلخل، ولم يستطع ورقة (الذي كان في موقف الصديق) أن يحبس دمعه لدن هذا المنظر المؤلم فبكى لبكائها ثم تملك نفسه يقول: هوني عليك يا سيدتي. لا تضعفي نفسك بهذا الوجد، أنت شابة وسرية كما أرى، وستشرق عليك شمس حياة طيبة جديدة يوم تعودين إلى الإسكندرية، وسيكون لك أولاداً وزوج تحبينه. إن الله واسع الرحمة. ما أرجو منك إلا أن تضعي أمور الدنيا أمامك كما تضعين الكتاب، وتقرئي فستجدين في هذا الكتاب مخطوطاً بقلم عريض كبير: لا تنظري إلى الوراء: انظري إلى الأمام. إذا ورد عليك فكر مؤلم فرديه بيدك وسيري إلى الأمام لتبلغي ما تعده الدنيا لشبابك وجمالك من النعمة والمتعة التي تنسين بها كل ما مضى الخ). وإنني لأظن إن هذا القول ما كان يلائم أن يقال في مثل هذا الموقف ولا سيما من قائله (ورقة). على أنني أرى مع ذلك إن مثل هذا النقد ناشئ من اختلاف في النظر والتفكير، وما ينبغي أن يتفق الناس في مثل هذه الأمور كل الاتفاق.
وأما لغة الكاتب فأنها اللغة الجديرة بكاتب مجيد كإبراهيم رمزي جمع إلى لباقة الفنان الأديب. فمرحباً بذلك الفتح الجديد في الأدب العربي. وما أحرانا أن نهنئ الأديب الكبير بنجاحه الباهر في قصته، وأن نستنجزه الوعد الذي وعد به في آخرها أن يتحفنا بباب الشمس بعد أن أمتعنا بباب القمر.(180/77)
في المسرح المصري
الفرقة القومية المصرية
وسياسة إعداد المخرجين
لناقد الرسالة الفني
تحدثنا في العدد الماضي عن بعثات التمثيل إلى أوربا وانتخاب اللجنة لأربعة من الأعضاء؛ اثنين من الممثلين واثنين من غيرهم. ونزيد اليوم إن أسماء هؤلاء الأعضاء قد أذيعت، وقد استولت الدهشة على كل المتصلين بالمسرح والذين يعنون بشؤونه، لأن اللجنة ترسل واحداً إلى إنجلترا لدراسة المناظر المسرحية وتصميمها، وبقية الأعضاء إلى ألمانيا وفرنسا لدراسة فن الإخراج والتمثيل ولم ترسل أحداً إلى إنجلترا في حين أنها في مستهل الموسم أذاعت على الممثلين إنها ترى أن ينهجوا على الطريقة الإنجليزية في أداء الأدوار لأنها أجدى على الفن؛ وهذا اعتراف صريح بما للمسرح الإنجليزي من مكانة تفوق مكانة المسارح الأخرى.
والثقافة الإنجليزية هي الثقافة الغالبة والسائدة الآن ولا سيما بين الشبان منذ أصبحت الإنجليزية اللغة الأوربية الأولى في المدارس المصرية. والأدب المسرحي الإنجليزي لا يقوم على العواطف والحب والصلات غير الشريفة كالأدب المسرحي الفرنسي، بل هو يعالج الشؤون الاجتماعية والدراسات النفسية والآراء الإصلاحية، ولذلك يحتاج إلى وسائل خاصة في إخراج رواياته.
ولست في حاجة إلى القول بان المسرح الإنجليزي يقوم على البساطة في وسائله وطرق إخراجه، فقد رأينا فيما تعرضه الفرق الإنجليزية على مسرح الأوبرا الملكية بالقاهرة شواهد عدة وهو في هذا عكس المسرح الفرنسي الذي يقوم على الصناعة والمغالاة والتعقيد في الإخراج. هذا إلى إن الإضاءة المسرحية في إنجلترا قد تقدمت حتى بزت جميع المسارح الأوربية. فإزاء هذا نرى من واجب اللجنة أن تبعث بأحد الممثلين الذين يجيدون الإنجليزية إلى لندن ليدرس الفن هناك.
وإنما طالبت بأن يكون المبعوث ممثلاً لا متعلماً أياً كان لإن الممثل أقدر من غير على تفهم(180/78)
وسائل الإخراج والقيام بهذه المهمة فيما بعد، فان من الصعب على غير الممثل وهو يخرج رواية أن يرشد الممثلين إلى أداء الأدوار أداء صحيحاً أو رد أي ممثل إلى حدوده الشخصية إذا ما خرج أو شذ عنها.
ولقد أزددنا دهشة حين لم نجد اسم الممثل الأستاذ أحمد علام بين أعضاء البعثة، ففي تخطي اللجنة له إلى غيره من الممثلين وغير الممثلين قسوة وإنكار لجهوده الطويلة ومواهبه العظيمة؛ فأعضاء اللجنة المحترمون أكثر من غيرهم معرفة بمكانته الدبية وثقافته الإنجليزية واطلاعه الواسع على فنون المسرح، ومكتبته عامرة بكتب الفن الإنجليزية التي ازدحمت هوامشها بالملاحظات الجديرة بالتقدير، كما تعلم إن وزارة المعارف قد عهدت إليه بتدريس الفن المسرحي في مدارسها الأميرية، فقام بالمهمة خير قيام، وهو كممثل من أقدر الممثلين، فأدواره في رمسيس منذ عام 1926 تشهد بنبوغه، فلا يستطيع إنسان أن ينكر أدواره في روايات: اللهب، والذئاب، والإغراء، وتوسكا، والشرف، وغرام الوحش؛ ولنجاحه المنقطع النظير في فرقة السيدة فاطمة رشدي في روايات: الحب المحرم، والبعث، ويوسف الصديق، ومجنون ليلى.
ولقد أرسلته وزارة المعارف عام 1931 في بعثة صيفية إلى إنجلترا، فمن الواجب أن تعاونه اللجنة على إتمام دراسته، ولا أظن إن هنالك مجالاً للاعتذار لأن بقائه تعزيزاً لقوة الفرقة القومية، فالواقع يؤيد أنها لا تنتفع به كما يجب فهو حتى اليوم لم يظهر على المسرح ولا ينتظر ظهوره حتى الرواية الرابعة، وعلى اللجنة ألا تنظر إلى المنفعة القريبة بل تنظر للمستقبل، وتعمل للبناء حتى يمكنها أن تجني ثمار جهودها الكبيرة.
هذه كلمة دفعنا إليها حبنا للمسرح نرجو أن يكون لها أثرها.
يوسف(180/79)
العدد 181 - بتاريخ: 21 - 12 - 1936(/)
اللسان المرقع. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وقال صاحب سر (م) باشا: جاء (حضرة صاحب السعادة) فلان لزيارة الباشا؛ وهو رجل مصري ولد في بعض القُرى، ما نعلم أن الله تعالى ميزه بجوهر غير الجوهر، ولا طبع غير الطبع، ولا تركيب غير التركيب، ولا زاد في دمه نقطة زهوٍ ولا وضعه موضع الوسط بين فَنَّين من الخليقة. غير أنه زار فرنسا، وطاف بإنجلترا، وساح في إيطاليا، وعاج على ألمانيا، ولون نفسه ألواناً، فهو مصري ملون. ومن ثم كان لا يرى في بلاده وقومه إلا الفروق بين ما هنا وبين ما هناك، فما يظهر له دين قومه إلا مقابلاً لشهوات أحبها وغامر فيها، ولا لغة قومه إلا مقرونة بلغة أخرى ودَّ لو كان من أهلها، ولا تاريخُ قومه إلا مغمى عليه. . . كالميت بين تواريخ الأمم
هو كغيره من هؤلاء المترفين المنعَّمين: مصري المال فقط، إذ كانت أسبابهم ومستغلاتهم في مصر؛ عربيُّ الاسم لا غير، إذ كانت أسماؤهم من جناية أهلهم بالطبيعة؛ مُسلُم ما مضى دون ما هو حاضر، إذ كان لا حيلة في أنسابهم التي انحدروا منها
هو كغيره من هؤلاء المترفين المنعِّمين المفتونين بالمدنية، لكل منهم جنسه المصريَُ ولفكره جنس آخر
قال: وكان حضرة صاحب السعادة يكلم الباشا بالعربية التي تلعنها العربية، مرتفعاً بها عن لغة الفصيح ارتفاعاً منحطاً. . . نازلاً بها عن لغة السوقة نزولاً عالياً. . . فكان يرتضخ لكنة أعجميةً بينا هي في بعض الألفاظ جرسٌ عال يطن، إذا هي في لفظ آخر صوت مريض يئنّ، إذا هي في كلمة ثالثة نغم موسيقي يرن. ورأيته يتكلف نسيان بعض الجمل العربية ليلوي لسانه بغيرها من الفرنسية، لا تظرفاً ولا تملحاً ولا إظهاراً لقدرة أو علم، ولكن استجابة للشعور الأجنبي الخفي المتمكن في نفسه. فكانت وطنية عقله تأبى إلا أن تكذِّب وطنية لسانه، وهو بإحداهما زائفٌ على قومه، وبالأخرى زائف على غير قومه.
فلما انصرف الرجل قال الباشا: أفٍّ لهذا وأمثال هذا! أفٍ لهم ولما يصنعون! إن هذا الكبير يلقبونه (حضرة صاحب السعادة)، ولأشرفُ منه والله رجلٌ قرويُ ساذج يكون لقبه (حضرة صاحب الجاموسة). . . . نعم إن الفلاح عندنا جاهل علم، ولكن هذا أقبح منه جهلاً فانه(181/1)
جاهلُ وطنية
ثم إن الجاموسة وصاحبها عاملان دائبان مخلصان للوطن؛ فما هو عمل حضرة (صاحب اللسان المرقع) هذا؟ إن عمله أن يعلن برطانته الأجنبية أن لغة وطنه ذليلة مهبنة، وأنه متجرد من الروح السياسي للغة قومه إذ لا يظهر الروح السياسي للغةٍ ما إلا في الحرص عليها وتقديمها على سواها
كان الواجبُ على مثل هذا ألا يتكلم في بلاده إلا بلغته، وكان الذي هو أوجبُ أن يتعصب لها على كل لغة تزاحمها في أرضها، فترك هذا وهذا وكان هو المزاحم بنفسه؛ فهو على أنه (حضرة صاحب سعادة) لا يُنزل نفسه من اللغة القومية إلا منزلة خادم أجنبي في حانة
أتدري ما هو سر هؤلاء الكبراء وهؤلاء السَّراة الذين يطمطمون إذا تكلموا فيما بينهم؟ إنهم عندنا طبقات:
أما واحدة فأنهم يصنعون هذا الصنيع منجذبين إلى أصل راسخ في طباعهم مما تركه الظلم والاستبداد والحمق في زمن الحكم التركي. فهم يُبدون جوهرَ نفوسهم لأعينهم وأعين الناس، كأن اللغة الأجنبية فيما بينهم علامة الحكم والسلطة واحتقار الشعب واستمرار ذلك الحمق في الدم. . . وهم بها يتنبَّلون
وأما طبقة فإنهم يتكلفون هذا مما في نفوسهم من طباع أحدثها النفاقُ والخضوع والذلُّ السياسي في عهد الاحتلال الإنجليزي؛ فاللغة الأجنبية بينهم تشريف واعتبار، كأنهم بها من غير الشعب المحكوم الذي فقد السلطة وهم بها يتمجدون
وأما جماعة فأنهم يتعمدون هذا يريدون به عيب اللغة العربية وتهجينها إذ اتخذوا من عداوة هذه اللغة طريقة انتحلوها ومذهباً انتسبوا إليه؛ وفيهم العالم بعلوم أوربا والأديب بأدب أوربا؛ وذلك من عداوتهم للدين الإسلامي إذ جعل هذه اللغةَ حكومةً باقيةً في بلادهم مع كل حكومة وفوق كل حكومة؛ وهم يزدرون هذا الدين ويُسقطون عن أنفسهم كلَّ واجباته.
وهؤلاء قد خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً إذ يغلون في مصريتهم غلواً قبيحاً ينتهي بهم إلى سفه الآراء وخفة الأحلام وطيش النزعات فيما يتصل بالدين الإسلامي وآدابه ولغته. وما أرى الواحد منهم إلا قد غطى وصفُه من حيث هو رقيعٌ، على وصفه من حيث هو عالم أو أديب أو ما شاء. إن هذا لمقتٌ (كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا)(181/2)
ومن أثر تلك الفئات الثلاث نشأت فئةٌ رابعة تحوَّل فيهم ذلك الخلط من الكلام إلى طريقة نفسية في النفس، فهم يُقحمون في كتابتهم وحديثهم الكلمات الأجنبية ويحسبون عملهم هذا تظرفاً ومعابثةَ ومجوناً، على أنه هو الذي يُظهِرُ لعين البصير مواضع القطع التاريخي في نفوسهم، وأماكن الفساد القومي في طبيعتهم، وجهات التحلل الديني في اعتقادهم. هؤلاء يكتب أحدهم (النرفزة) وهو قادر أن يقول الغضب، (والفلير) وهو مستطيع أن يجعل في مكانها المغازلة، (وسكالنس) وهو يعرف لفظة أنواع وألوان، وهكذا وهكذا: ولا والله أن تكون المسافةُ بين اللفظين إلا المسافة بعينها بين قلوبهم ورشد قلوبهم
وما برح التقليدُ السخيف لا يعرف له باباً يلج منه إلى السخفاء إلا باب التهاون والتسامح؛ ونحن قومٌ ابتُلينا بتزوير العيوب على أنفسنا وعدِّها في المحاسن والفضائل، من قلة ما فينا من الفضائل والمحاسن. وبهذه الطبيعة المعكوسة نحاول أن نقتبس من مزايا الأوربيين فلا نأخذ أكثر ما نأخذ إلا عيوبهم إذ كانت هي الأسهلَ علينا، وهي الأشكلُ بطبعنا الضعيف المتسامح المتهاون
ومن هذا تجد مشاكلنا الاجتماعية على أنها أهونُ وأيسرُ من مشاكل الأوربيين، وعلى أن في ديننا وآدابنا لكل مشكلة حلها - تجدها هي علينا أصعبَ وأشدَّ لأننا ضعفاء ومتخاذلون ومقلدون ومفتونون، وكل ذلك من شيء واحد: وهو أن أكثر كبرائنا هم أكبر بلائنا
قال صاحب السر: ثم ضحك الباشا ضحكته الساخرة وقال: كيف تصنع أمة يكون أكثر العاملين هم أكبر العاطلين، إذ يعملون ولكن بروح غيرِ عاملة. . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(181/3)
طور جديد في تاريخ أوربا السياسي
بقلم باحث دبلوماسي كبير
تجوز أوربا اليوم مرحلة فاصلة في تاريخها القومي والسياسي. وقد ظهرت الأعراض الأولى لهذه المرحلة الجديدة في التاريخ الأوربي عقب الحرب الكبرى، إذ قامت عصبة الأمم لتحقق أمنية عالمية، ولتؤيد مبادئ السلام والتفاهم بين الأمم، ولتحاول القضاء على الحرب كأداة للسياسة القومية؛ وقد كان قيام العصبة وما تحمل من مبادئ ومثل جديدة في السياسة الدولية، وفي علائق الأمم ظاهرة جديدة في تاريخ أوربا السياسي؛ فقد كانت أوربا حتى الحرب الكبرى تمثل من الناحية العامة كتلة معنوية موحدة، وكانت تأخذ بزعامة العالم القديم، وتحاول دائماً أن تفرض عليه حضارتها وسلطانها السياسي؛ وكانت أوربا تحتفظ باستقلالها المعنوي وسيادتها القديمة بين الشرق القديم وأممه من ناحية وبين العالم الجديد (أمريكا) وأممه من ناحية أخرى؛ ولكن الحرب الكبرى أسفرت عن ظاهرة جديدة هي تراجع أوربا عن دعواها القديمة في الاستئثار بزعامة العالم القديم، وإفساحها المجال لزعامة أمة عظيمة ناهضة هي اليابان التي استطاعت في الأعوام العشرة الأخيرة أن تقوض أسس النفوذ الأوربي في الشرق الأقصى، وشهدت أوربا لأول مرة تدخل العالم الجديد في شؤونها الحيوية؛ وقامت عصبة الأمم لتجمع أمم الشرق وكثيراً من أمم العالم الجديد مع أوربا في صعيد واحد؛ وبذلك نزلت أوربا أمام تطور الظروف والحوادث العالمية عن زعامتها القديمة واستئثارها القديم بالقيادة السياسية والمعنوية في شؤون العالم
وهذا التطور في موقف أوربا يرجع إلى الثغرة العميقة التي أحدثتها الحرب الكبرى في القومية الأوربية؛ فقد خرجت أوربا من الحرب محطمة ناضبة الموارد، وانقسمت إلى معسكرين كبيرين هما معسكر الغالبين ومعسكر المغلوبين؛ واستأثر الفريق الظافر مدى حين بالزعامة في توجيه الشؤون، فأملى على المغلوب شروطه المرهقة، وعمل على تمزيق الوحدات السياسية القديمة، وإحياء قوميات ناشئة ليحقق بقيامها أغراضاً عسكرية وسياسية؛ وبذلك مزقت أوربا نفسها، واضطرمت الأحقاد القومية القديمة أضعاف ما كانت قبل الحرب؛ وكان اضطرامها أشد في الجبهة المغلوبة أو المغبونة؛ ولم يلبث أن أسفر هذا الاضطرام عن النتيجة المحتومة، أعني الانفجار؛ فقامت الفاشية في إيطاليا ساخطة على(181/4)
هذه الزعامة وهذا الاستئثار في استخلاص المغانم والأسلاب وفي توجيه الشؤون، وأخذت تعمل على إنشاء قومية إيطالية حديثة، تضطرم بمختلف الأطماع المشروعة وغير المشروعة، وتسرف في الحقد، وفي الوعيد والتحدي، وتمعن في انتهاك النظريات والمبادئ القديمة المتعلقة بالحقوق والحريات الشعبية، وتسخر من دعوة السلام ومن مبادئ العدالة الدولية. وقامت الاشتراكية الوطنية بعد ذلك في ألمانيا، وشعارها الانتصاف لألمانيا مما نزل بها من فروض مرهقة، وتحريرها من الأغلال التي طوق بها الغالب عنقها، والارتفاع بها إلى مكانتها القديمة في معترك الحرب والسياسة؛ ولكن الاشتراكية الوطنية، عملت من ناحية أخرى على إذكاء الأحقاد القومية والجنسية، بصورة لم يسمع بها، وقد فاقت الفاشية في عنف أساليبها، وفي نزعاتها العسكرية والاعتدائية، وفي سحق الحقوق والحريات الفردية، وإنكار الحقوق العامة، وفي تحدي كل مبادئ العدالة الدولية، وعادت النظرية الألمانية القديمة (الحق هو القوة) في أخطر صورها؛ ولم تشهد أوربا منذ حرب الثلاثين، والحروب الدينية موجة في الأحقاد والمنافسات القومية والجنسية أشد من تلك التي تثيرها اليوم الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية
تلك هي الظاهرة الأولى في انحلال القومية الأوربية. وأما الظاهرة الثانية فهي معركة المبادئ التي تضطرم اليوم في أوربا بصورة لم تشهدها منذ الثورة الفرنسية؛ ولقد بدأت هذه المعركة قبل نهاية الحرب الكبرى، حينما ظفرت البلشفية بتحطيم دولة القياصرة في روسيا، وأقامت مكانها جمهورية شيوعية تمثل سيادة الكتلة العاملة؛ وكانت المعركة يومئذ واضحة محدودة المدى؛ فقد كانت البلشفية في ناحية، وكانت أوربا كلها في الناحية الأخرى تناضلها وترد غزوها؛ بيد أن هذا النضال بين البلشفية والرأسمالية يغدو اليوم في المحل الثاني بالنسبة لمعركة أشد وأبعد مدى تضطرم بها أرجاء القارة الأوربية، تلك هي معركة الفاشية والديموقراطية؛ فالفاشية أو بعبارة أخرى نظم الطغيان العنيف التي تحمل لواءها إيطاليا وألمانيا، تحاول أن تغزو الديموقراطية الأوربية وأن تصرعها؛ والديموقراطية الأوربية تناضل عن كيانها بكل ما وسعت. وما زال حصن الديموقراطية في غرب أوربا: في فرنسا وإنكلترا؛ بيد أنه يمكن أن يقال أيضاً إن روسيا البلشفية تنحاز في هذا الصراع إلى جانب الديموقراطية؛ وليس أدل على خطورة هذا الصراع، مما نرى في الحرب(181/5)
الأهلية الأسبانية من انتظام القوى الفاشستية والقوى الديموقراطية وجهاً لوجه، واعتماد الأولى على معاونة إيطاليا وألمانيا، واعتماد الثانية على معاونة روسيا وفرنسا، وظهور الحرب الأسبانية كلها بمظهر الصراع بين هاتين الجبهتين الخصيمتين. فهذا الصراع المذهبي الذي يخرج اليوم من طور الجدل والنقاش، إلى طور النضال المادي، يهز أسس القوميات الأوربية ويهددها بأروع الأخطار التي يمكن تصورها
وهنالك ظاهرة عامة ليست أقل خطورة وأثراً من تطور تاريخ أوربا السياسي، تلك هي انهيار المبادئ العامة التي يقوم عليها القانون الدولي، وانهيار الضمانات القومية والدولية التي كانت تكفل احترامه وتطبيقه. ففي الأعوام الأخيرة رأينا بعض الدول الكبرى، مثل اليابان وإيطاليا وألمانيا، تعمل على انتهاك المعاهدات والحقوق القومية والدولية بجرأة ترجع بالسياسة الدولية إلى فوضى العصور الوسطى؛ فاليابان تعتدي على منشوريا الصينية وتفتحها بالقوة المسلحة أمام سمع العالم وبصره، وتتحدى عصبة الأمم، ثم تغادرها لكي تطلق العنان لمشاريعها الاستعمارية دون أي تدخل أو وازع، وما زالت تتابع اعتداءها على الأراضي الصينية طبقاً لخطة منظمة ترمى إلى بسط حمايتها المسلحة على هذه الإمبراطورية الشاسعة؛ وإيطاليا تحذو حذو اليابان، فتنظم اعتداءها على الحبشة، وتجرد أقوى وأحدث وحداتها على الشعب الحبشي الضعيف، وتمطره وابلاً من القنابل الجوية والغازات الخانقة، ثم تنتزع منه أرضه قسراً، وتضمها إلى إيطاليا؛ وذلك على رغم كل العهود والمواثيق الدولية التي قطعتها على نفسها باحترام استقلال الحبشة ووحدتها الجغرافية، وبرغم ما اتخذته عصبة الأمم في هذا الظرف من تقرير العقوبات الاقتصادية على إيطاليا؛ وها هي ذي الفاشية تباهي اليوم بظفرها، وتسخر جهاراً من عصبة الأمم ومن كل المعاهدات والمواثيق الدولية، وهي على أهبة لتمزيق أي ميثاق وأية معاهدة لا تتفق مع أطماعها العسكرية والاستعمارية. وأما ألمانيا الهتلرية، فقد خصت بضرباتها أعظم دستور دولي وضع لأوربا منذ معاهدة فينا، ونعني معاهدة الصلح أو معاهدة فرساي، فنقضت جميع نصوصها العسكرية التي كانت تقيد حريتها في التسليح، والتي تتعلق بتحريم منطقة الرين، ونقضت أخيراً نصوصها الخاصة بنظام الملاحة الدولية في بعض الأنهار الألمانية؛ ونقضت وثيقة دولية هامة أخرى هي ميثاق لوكارنو الذي عقد لتدعيم معاهدة(181/6)
فرساي وتأمين السلام في الحدود الفرنسية الألمانية؛ وحطمت ألمانيا بذلك آخر القيود العسكرية والسياسية التي فرضت عليها في معاهدة الصلح. ومهما قيل في تبرير هذا النكث من جانب ألمانيا وكونها حملت عليه مضطرة لتقضي بذلك على الأغلال الظالمة التي فرضتها عليها معاهدة الصلح، والانتصاف لسياستها القومية، وكرامتها كدولة عظمى، فإنها بلا ريب قد عملت أكثر من أي دولة أخرى لتمزيق العهود والمواثيق الدولية، ولتقويض أسس الثقة بين الأمم وإضعاف هيبة القانون الدولي؛ ولا ريب أنها قد أعادت للعالم ذكرى اعتدائها على البلجيك في سنة 1914 وذكرى نظريتها الشهيرة في المعاهدات الدولية بأنها (قصاصات ورق) لا يعتد بها
فهذه الظواهر والظروف الخطيرة تهز اليوم أسس الدستور الدولي الذي عاشت القارة الأوربية في ظله منذ معاهدة فينا، - أعني منذ قرن وربع - وتدفع بها إلى طريق جديد لم تتضح طوالعه بعد. بيد أن هنالك ما يدل على أن هذا المصير الذي تتهيأ أوربا لاستقباله سيكون هائلاً مروعاً؛ فالدول العظمى تستعد كلها لخوض أعظم معارك عرفها التاريخ؛ والدول الصغرى ترتجف كلها فرقاً من المستقبل، وتحسب لاعتداء القوة المسلحة أعظم حساب؛ وهي لا تستطيع أن تعتمد على قوة المواثيق والضمانات الدولية كما كانت في الماضي بعد الذي رأته من عبث بعض الدول العظمى بكل هذه المواثيق والضمانات، ولكنها تزمع في جميع الأحوال ألا تسقط دون دفاع: فالبلجيك وهولندة وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وسويسرة وغيرها من الدول الصغيرة تجد في تسليح نفسها بكل ما وسعت، وبعضها مثل البلجيك وهولندة ينظر بمنتهى الجزع إلى مصير أملاكه الاستعمارية الواسعة؛ على أن هذه الدول تندمج غالباً في إحدى الجبهتين الأوربيتين اللتين تستعدان لخوض المعركة القادمة، ومصيرها يتوقف على مصا ير المعركة ذاتها.
وقد فقدت أوربا القديمة زعامتها العالمية، وفقدت حتى زمام سياستها الخاصة؛ فاليوم نجد دولة أوربية عظمى هي ألمانيا تحالف دولة أسيوية عظمى هي اليابان ضد روسيا وضد الجبهة الأوربية التي تندمج فيها. وهذا تطور خطير في سياسة أوربا التقليدية التي حرصت دائماً أن تواجه الشرق متحدة؛ وهذه ظاهرة تعود بنا إلى القرن السادس عشر والسابع عشر حينما كانت فرنسا تستعين بمحالفة الدولة العثمانية على قتال خصومها(181/7)
الأوربيين ولا سيما أسبانيا؛ وقد استطاعت أوربا أن تقضي على هذه الظاهرة، وأن تقف طوال القرن التاسع عشر متحدة ضد الدولة العثمانية حتى انتهت بتمزيقها؛ وفي الحرب الروسية اليابانية كانت أوربا كلها تتوجس شراً من انتصار اليابان، ولو أن دولا أوربية كانت تتمنى ألا تنتصر روسيا انتصاراً يؤدي إلى تقوية سلطانها في القارة؛ ولما انتصرت اليابان ارتاعت أوربا، وذاعت من ذلك الحين صيحة الخطر الأصفر، واجتمعت أوربا على مقاومة الاستعمار الياباني حتى كانت الحرب الكبرى فانضمت اليابان إلى الحلفاء ضد ألمانيا، واستولت على أسلابها الاستعمارية في الصين. أما اليوم فان ألمانيا تحالف اليابان ضد أوربا، وتحدث بذلك ثغرة عميقة في إجماع أوربا القديم، وتجمع الشهوات العسكرية والاستعمارية بين الجنس الأصفر الذي اعتبر فيما مضى خطراً على أوربا، وبين الجنس (الآري) الذي تزعم ألمانيا الهتلرية أنه أفضل أجناس العالم
وأخيراً نجد العالم الجديد (أمريكا) يتأهب للأخذ بنصيبه في توجيه سياسة القارة القديمة؛ وقد دخلت أمريكا الحرب إلى جانب الحلفاء، وعاونت على ظفرهم في المعركة الحاسمة، واشتركت في شؤون أوربا مدى حين، ولكنها انسحبت منها حينما تفاقمت الفوضى الدولية في أوربا، وعادت إلى سياستها التقليدية من اعتزال الشؤون الأوربية، بيد أنه يلوح لنا أن التحالف الياباني الألماني قد يحملها على العود إلى الاشتراك في السياسة الأوربية مرة أخرى، والى محالفة الدول الغربية على العمل لمصالحها المشتركة في الشرق الأقصى، وهذا عامل خطير أيضاً في إضعاف الطابع الأوربي للسياسة الدولية العامة
والخلاصة أن أوربا فقدت زعامتها السياسية والاجتماعية القديمة، وأخذت تندمج شيئاً فشيئاً في الوحدة العالمية الكبرى؛ وقد فقدت فكرة الحضارة الأوربية، وخصومة الشرق والغرب، والتضامن الأوربي في الشؤون الاستعمارية كثيراً من معانيها وأوضاعها القديمة التي كانت تسبغ على أوربا مكانة الزعامة والوحي والإرشاد
(* * *)(181/8)
سوء تفاهم
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كانت الساعة العاشرة حين خرجت السيارتان إلى الطريق العام - أو صعدتا إليه إذا أردت الدقة فان الأرض هناك، في لبنان، قلما تكون مستوية - وكنت أقود إحداهما ومعي فيها زوجتي وأبنائي، وفي الثانية أقارب لنا يقضون الصيف في (ضهور الشوير) وقد مروا بنا في بكفيا - حيث كنا نقضي الصيف - ليرافقونا إلى (الشاغور) حيث دعينا إلى الغداء عند أسرة صديقة لنا من يافا. وتوكلنا على الله وأخذنا الطريق إلى بيروت وكله من بكفيا انحدار وبعضه أوعر من بعض، ولكني كنت قد ألفته وزايلني الخوف من التواءاته وتعاريجه الحادة التي يثب عندها القلب إلى الحلق. وكان اليوم مشرقاً والمناظر على الجانبين مما ترتاح العين إليه وينشرح الصدر له، والطريق أحسن ما يكون نعومة وملاسة وإن كان مما يدير الرأس أحياناً أن يصوب المرء عينه عن الجبل الأخضر من ناحية إلى الوادي العميق من الناحية الأخرى؛ وكان لا بد من العناية والحذر في السير لشدة الانحدار وكثرة المنعرجات وازدحام الطريق بالصاعدين والنازلين فيه بالسيارات الخفيفة والثقيلة والضخمة والصغيرة، فكان البطء الذي اضطرنا إليه الحذار من أسباب المتعة، فاستطعنا أن نتملى بالمناظر التي حولنا وأن نتحدث كما نشاء ونجنب الصمت الذي تدعو إليه السرعة والذي لا يكون إلا ثقيلاً على المسافرين
واحتجنا أن نتزود من (البنزين) ولم يكن معنا إلا ورق مصري، فقالت زوجتي وأنا أناول الرجل ورقة مصرية بجنيه وآخذ الباقي: (ماذا أعطاك؟)
ففتحت لها كفي على ما فيه فأخذته وعدَّته، ثم سألتني: (كم أعطوك؟. . إني لا أفهم!)
قلت: (الجنيه المصري يساوي 394 قرشاً سورياً، وقد أخذوا حقهم وأعطوني حقي وهو معك)
فقالت زوجتي والتفتت لأقاربنا (لست أفهم. . . لقد كان الجنيه يساوي 397 قرشاً)
فقلت: (ولكن الفرنك ارتفع وارتفعت تبعاً له العملة السورية)
فقالت مستغربة: (ولكن لماذا أهملت أن تستبدل النقود المصرية قبل أن يهبط)
قلت وأنا أبتسم: (إنه لم يهبط بل ارتفع)(181/9)
فقالت وهي تخلط: (كيف يكون ارتفع وهو قد هبط. . ألسنا نأخذ أقل)
فقالت قريبتنا: (تمام. . 394 أقل من 397)
فقلت: (دعيني أشرح لك الأمر. . تصوري أن الفرنكات التي في الدنيا كلها انقلبت تفاحاً)
فقالت زوجتي: (نعم)
قلت: (وتذهبين إلى السوق وتجدين التفاح كثيراً فتشترين الأقة بخمسة قروش)
قالت: (نعم)
قلت: (وفي أثناء الليل يرتفع التفاح)
فقالت قريبتنا: (كيف يرتفع)
قلت: (يقل. . هه. . يتعفن. . يسرق. . تصيبه آفة. . . يقل والسلام؛ فإذا ذهبت تشترين أخذت بالقروش الخمسة أقل من أقة)
فقالت قريبتنا: (يعني أنه يهبط)
قلت: (يصعد)
قالت: (كيف يصعد وهو أقل؟)
فقال زوجها: (اسمعي. . أنا أفهمك المسألة. . . تعرفين مقياس الحرارة)
قالت: (بالطبع. . ما له؟)
قال (لا شيء. . تنظرين إليه يوماً فتجدين أن الرقم الذي يشير إليه ثلاثون؟)
قالت: (نعم)
قال (وفي اليوم الثاني تنظرين إليه فإذا الرقم قد صار 28. . . ومعنى هذا أنها هبطت
قالت: (نعم)
قال: (أما الفرنك فان المعنى يكون العكس)
قالت: (نعم)
قال: (هذا كل ما هنالك)
فنظرت إليه كالمذهولة وكنا نحن نضحك؛ فقالت زوجتي وهي تجرها: اسمعي. . . إنهم يضحكون منا ويخيل إلي أن أسلم طريقة أن نقول إن الفرنك صعد كلما فهمنا أنه هبط)
واستأنفنا السير وكنا قد ملنا عن طريق بيروت إلى طريق (عالية) وفرغنا من الانحدار(181/10)
وبدأ الصعود والطريق في هذا الجبل أوسع وأرحب والتواؤه أقل حدة، فأطلقنا للسيارتين العنان، ولم تمنع السرعة زوجتي أن تتكلم فقالت: (إني أشعر أننا لن نجد زينب) تعني الصديقة التي دعتنا إلى الغداء. ففزعت وكادت عجلة القيادة تضطرب في يدي وقلت لها بصوت تشي لهجته بالقلق: (لماذا؟)
فلم تجب بل سألتني: (ماذا قلت لها بالتليفون. . بالضبط؟)
قلت: (قلنا كلاماً كثيراً. . وألححت عليها أن تجيء لتتغدى معنا في بكفيا ولكنها أصرت إصراراً شديداً على أن نذهب إلى الشاغور. . وأذكر تماماً وبغاية الوضوح أنها وصفت لي عين الماء التي هناك)
فأشارت إلي بكفها أن اسكت وقالت: (ماذا قلت لها بالضبط. هذا ما أريد أن أعرفه فلا تغرقه في طوفان من الوصف الذي لا يفيد شيئاً. . . وإذا كنت تريد أن تصف الشاغور فانتظر حتى تراه)
قلت: (ماذا قلت بالضبط. .؟ ياله من سؤال. . اتفقنا على اليوم. . وأؤكد لك أني لم اترك عندها أي شك فيه. . صرخت حتى بح صوتي. . قلته بالعربية. . وقلته بالفرنسية
فصاحت زوجتي
قالت: (بأعلى من هذا الصوت)
قالت: (هل قلت. هذا معناه السبت لا الأحد)
فتداركت الخطأ وقلت وأنا مضطرب (لا لا لا لا بل قلت
وجرى ببالي أني لا أزال أغلط في أسماء الأيام باللغة الفرنسية ولكني كافحت هذا الخاطر حتى نفيته وطردته وقلت لها: (وهبيني أخطأت فقد قلت لها بالإنجليزية ولا يمكن أن أغلط في هذا)
قالت: (سنرى)
فقلت وأنا محنق: (سنرى. . ألا يمكن أن أتكلم بالتليفون من غير أن تتهميني بالتخليط. . . هل هذا التليفون معجز. .؟ سبحان الله العظيم!)
قالت: (طيب اسكت بقى)
فسكت. ووصلنا الشاغور ودخلنا الفندق وسألنا عن السيدة وزوجها فقيل لنا إنها خرجت(181/11)
معه في الصباح الباكر وإنهما قالا إنهما سيرجعان بعد المغرب؛ فنظرت إليَّ زوجتي نظرة ذات معنى، ولم تكفها النظرة بل راحت تقص الحكاية على أقاربنا بأسلوب وكلام لا يدعان أي شك في أني حمار من أطول الحمير آذاناً وأنا ساكت، لأن كل شيء كان يثبت أنها هي الصادقة وأنا الكاذب أو على الأقل المخطئ. ولا أحتاج أن أقول إني اضطررت أن أطعم كل هذا الجيش على حسابي. ولكن اليوم كان على الرغم من هذه الخسارة الفادحة ممتعاً وكان أحلى ما فيه أننا نمنا على الأرض بعد الغداء الباهظ التكاليف بجانب الماء الذي يتدفق كالشلال من العين وهو يرغي ويزبد ثم يتحدر في أقنية ضيقة محفورة له تتخلل الحديقة الواسعة
ولما آن أن نعود تركت هذه الرقعة لصديقنا وزوجته:
(لا شك أن النسيان أرخص. ولكنه كلفني ما أخشى أن أحسبه، فقد جئنا إليكما من غير أن نفطر فنجوتما أنتما ووقعت أنا في الفخ؛ وصدق مرة أخرى أن من حفر بئراً لأخيه وقع فيها. على أن هذا هين وإنما الذي يضيق صدري به ولا أكاد أقوى على احتماله أن زوجتي تحملني التبعة عن هربكم، وإذا كنت لا أطمع في أن تردوا إلي ما أنفقته على إشباع هذه البطون الجائعة كلها، فأني أطمع أن تردوا ثقة الزوجة بي وذلك بأن تعترفوا بأنكم هربتم)
ولم نكد نبلغ بيتنا حتى وقفت الصانعة - كما يسمون الخادمة في لبنان - وقالت لنا: إن السيدة زينب وزوجها كانا هنا ودفعت إلي ورقة فيها هذه العبارة الوجيزة:
(لا بأس! لعلكم نسيتم. والآن يجب أن تجيئوا أنتم إلينا. ولن نهرب منكم كما هربتم منا)
قرأتها وهممت أن أدسها في جيبي ولكن زوجتي سألتني ماذا فيها؟ فقلت إنهما يعترفان بخطئهما، ودفعت إليها الرقعة وذهبت أعدو. . وكيف أقنعها بأن الذي وقع خطأ غير مقصود. . كلا.
لا فائدة. والهرب أحجى وأرشد. . . حتى تهدأ الفورة
إبراهيم عبد القادر المازني(181/12)
في الأدب المقارن
غرض الأدب في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
التعبير عن خوالج النفس الإنسانية وتأثراتها بمظاهر الكون المحيطة بها هو غرض الفنون جميعاً ومن بينها الأدب. ولا يرقى الأدب إلى مرتبة الفن السامي حتى يكون ذلك التعبير عن المشاعر النفسية غرضه الوحيد، منزهاً عن كل غرض خارجي أو مطلب مادي؛ فإذا خالطه شيء من ذلك هبط إلى مرتبة الصناعة، ولم يعد له في النفوس ذلك الوقع المطرب الذي تتركه فيها الفنون الجميلة
وقد ظل التعبير الحر الصادق عن نوازع النفس غرض الأدب الإنجليزي الوحيد في أغلب عصوره، فلم يكن غرض الكاتب أو الشاعر مما ينشئ إلا الإفصاح عما يشعر به أو يفكر فيه؛ فزخر الأدب في عصوره المتوالية بألوان الشعور وأشتات الأفكار في مختلف مشاعب الحياة ومتباين حالات النفوس؛ وتناول بالتصوير والتحليل دخائل النفوس وأغوار الطباع وأطوار الأفراد والمجتمعات، ولم يدع فحوله شاردة ولا واردة من نوازعهم وبوادرهم ومشاهداتهم وتأملاتهم إلا أثبتوها في منشآتهم وأبرزوها في روائع الصور
وكذلك كان التعبير الصادق المنزه عن الغرض الخارجي غاية الكثير مما نظمه الشعراء وسطره الكتاب في العربية، وحفل الأدب العربي بالرائع من الحكم والأمثال والدقيق من أوصاف النفس وغرائزها وميولها؛ وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى أو يشار إليها، وإنما نذكر منها الوصايا المنسوبة إلى بعض فحول العربية، كذي الإصبع العدواني وعلي بن أبي طالب، ومنها وصية ابن هراسة لابنه حيث يقول: (إن من الناس ناساً ينقصونك إذا زدتهم، وتهون عليهم إذا أكرمتهم. ليس لرضاهم موضع فتقصده، ولا لسخطهم موقع فتحذره. فإذا عرفت أولئك بأعيانهم، فأبد لهم وجه المودة، وامنعهم موضع الخاصة، ليكون ما أبديت لهم من وجه المودة حاجزاً دون شرهم، وما منعتهم من موضع الخاصة قاطعاً بحرمتهم)
غير أن في الأدب العربي بجانب ذلك آثاراً كثيرة لم يكن التعبير عن خوالج النفس غرضها، ولا الصدق شعارها، فهي لذلك لا ترقى إلى مرتبة الفن الجميل، ولا تؤثر في(181/13)
النفس تأثيره، وإنما هي أدنى إلى الصناعة؛ لها كالصناعة غرض مادي تؤديه وغاية خارجية تخدمها. ولا غرو كان العرب يسمون النظم والنثر بالصناعتين، ويعدون الأدب (صناعة) أو (آلة) (يتعاطاها) صاحبها، ولم يكن لكلمة (الفن) لديهم ما لها اليوم من المعنى السامي
بلغ الأدب العربي مرتبة الفن السامي في عصر الجاهلية، حين كان أشراف القبائل وحكماؤها يودعون الشعر حكمتهم وإطرابهم وأحزانهم؛ فلما قامت الدولة العربية صحبتها عوامل لم تكن لتساعد على اطراد رقي الأدب في وجهته الصحيحة، بل عملت في غير ناحية على تقهقره وفقدانه ما كان له من الجاهلية من قوة وصدق وسمو، وهي سمات الفن الصحيح، حتى أصبح من السهل تقسيم الآثار الأدبية، بل تقسيم أثار كل أديب مفرد، إلى قسمين: قسم صادق يصدر عن شعور صحيح ويدخل في دائرة الفن السليم، وقسم كاذب مملوء بالمفارقات والمبالغات يمت إلى الصناعة ولا يمت إلى الفن
وأول تلك العوامل ذيوع التكسب بالشعر، فأنه جعل للشعر غرضاً سوى التعبير عن خوالج النفس الذي هو غرض الفنون جميعاً، وصير له غاية مادية هي صلة الممدوح التي قامت مقام الحافز النفسي والشعور الصادق، فسارع إلى الشعر الكذبُ والمبالغة، وهبط عن مرتبة الفن السامي وصار صناعة تمارس ويبرّز فيها ذوو اللباقة والمهارة، لا أصحاب العبقرية والنفوس الكبيرة؛ وداخل النثر من هذه السمات ما داخل الشعر، لأنه مثله سخر نفسه لخدمة الحاكمين
وثاني العوامل هو نزعة المحافظة والتقليد، التي سرعان ما تمكنت من الأدب العربي، حين أشفق العرب على أدبهم ولغتهم ودمائهم مما اجتاحها من هجنة الأعاجم الداخلين في دينهم ولسانهم ومجتمعهم؛ أدى ذلك إلى الضن الشديد بآثار المتقدمين والتبجيل العظيم لأشكال الأدب وصوره في عهدهم، والإعجاب المطلق بأشعارهم وخطبهم ذات اللغة الفصيحة السليمة؛ وتمادى الشعراء فقلدوهم في وعورة الألفاظ أحياناً، وفي المعاني وضرب الأمثال والاستهلال بالنسيب، وتمادى الكتاب فأنحوا على آثار المتقدمين محاكاة واقتباساً وتضميناً؛ وفي مثل هذا الجو من المحافظة والتقليد يخمد الفن الصحيح الذي يصدر عن صادق الشعور، ولا يسود إلا الصناعة التي تتكلف الألفاظ وتتعمل المعاني(181/14)
وثالث تلك العوامل اعتزال الأدب العربي غيره من الآداب، فهو قد أهمل الأدب اليوناني ولم يتأثر بالأدب الفارسي، إلا قليلاً عن غير قصد، واتصال الأدب بغيره من آداب الأمم شرط أساسي لدوام رقيه في معارج الفن السليم، لأن ذلك الاتصال يدخل في الأدب صادق النظرات والأفكار، التي تشترك فيها الإنسانية جمعاء على اختلاف المشارب واللغات، دون التفات إلى زخارف الألفاظ وتلفيقات المعاني، التي لا تمت إلى الطبع السليم بصلة، ولا تتعلق من الفن الصحيح بسبب. واعتزل الأدب غيره ينحرف به شيئاً فشيئاً عن وجهة الفن القويمة، ويميل به إلى ناحية التكلف والتعمل والتقليد والجمود والصناعة.
ولما كان الكاتب يكتب والشاعر ينظم ونصب أعينهما غايتان: إرضاء صاحب السلطان الذي تسخر له الأقلام، وإرضاء النقاد الذين لا يريدون عن مناهج الأولين حولاً، لم يسعهما إلا الإقلاع عن محاولة التعبير عن شعورهما الصادق، واللجوء إلى محاولة إظهار البراعة ليرضيا الفريقين، فصارت البراعة - لا صدق التعبير عن الشعور - هي غاية الأديب. فالبحتري وابن المعتز والبديع وابن العميد والحريري وأضرابهم، قلما نظموا أو نثروا بغية التعبير الصادق البسيط عن مشاعر حارة تعتلج في نفوسهم ولا يستطيعون لها حبساً، وإنما كان إبداء البراعة وطلب الإعجاب وتحري الأغراب ديدنهم في معظم ما أنشئوا، وكتاباتهم لذلك - حتى حين يجيدون - فاترة الشعور باردة الوقع لا تنفذ إلى القلب ولا تهز النفس، ربما أوحت إلى المطالع أن أصحابها بارعون، ولكن قلما توحي إليه أنهم نوابغ عظماء ذوو نفوس كبيرة ونظرات بعيدة
ولما جهد الأدباء في تقليد معاني الأقدمين ومناحيهم، واختراع أوصاف الممدوحين ومحامدهم، حتى لم يَعُدْ في مجال المعاني متسع لتكلف، التفتوا إلى الألفاظ يطلبون في مجالها السبق والبراعة، ففشت المحسنات اللفظية، فكانت انحرافاً جديداً للأدب عن جادة الفن القديم؛ وشغل الأدباء بالسجع والجناس والمقابلة وحسن التعليل عن صدق الشعور وصدق التعبير، وركبت الصناعة الأدب من ناحيتيه: ناحيتي المعنى واللفظ
وطلب الأدباء البراعة من طريق آخر: فأقحموا في الأدب ما ثقفوه من مصطلحات العلوم ومسائلها، كعلوم النجوم والكلام والنحو والمنطق، فتجلت البراعة فيما أنشئوه من ذلك ولكنه فقد دبيب الحياة، فمن تقليد قضايا المنطق قول المتنبي:(181/15)
تقولين ما في الناس مثلك عاشق ... جِدِي مثل من أحببته تجدي مثلي
وقول الشاب الظريف:
رمى فأصاب قلبي باجتهاد ... صدقتم: كل مجتهد مصيب
ومن استخدم مصطلحات النحو قوله:
لأي شيء كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان؟
ووقر في نفوس كثير من الأدباء أن الأدب مجال للصناعة والبراعة، وليس مظهراً لأحاسيس النفس ولا مستودعاً لخوالجها. فإذا أعوزهم ممدوح يثنون عليه بما هو ليس أهله من المبالغات، طلبوا البراعة واصطنعوا التظرف بوصف أمر تافه، كحَمل هزيل أو قدح خمر أو محبرة أو يراع، إلى غير ذلك مما لا خطر له في ذاته، ولكنه يمنح الفرصة لطلاب البراعة ليُظهروا لطافة بديهتهم وحسن محاضرتهم ووفرة محصولهم اللغوي. وكثيراً ما كانوا يتبادلون ذلك في الرسائل الإخوانية، والكتب التي يستهدون فيها الخمور والأقداح والمزاهر والقيان
ولإصدار الأدباء في كتاباتهم عن أغراض مصطنعة بعيدة عن غرض الفن الصحيح نجد الكثيرين منهم يقفون مواقف متناقضة: فيمدح أحدهم الرجل أرفع المدح ثم يذمه أقبح الذم، فأن خاف بطشه عاد مستغفراً متزلفا يقول كما قال الأعشى:
سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادق ... كتاب هجاء سار إذ أنا كاذب
ويطلب أحدهم البراعة بتحسين القبيح وتقبيح الحسن، أو بمدح الشيء الواحد وتحسينه ثم ذمه وتقبيحه، كما فعل الحريري حيث جعل أبا زيد يمدح الدينار بمقطوعة من الشعر، ثم يذمه بأخرى حين اقترح عليه بعض الحضور أن (يذمه ثم يضمه)، ويدّعى المتنبي الغرام والصبابة والنحول في مطالع أماديحه، فإذا أفصح عن صادق شعوره وميوله قال إن المجد ليس زقا وقينة، وأن للخود منه ساعة ثم بينهما فلاة، وأنه يرى جسمه يكسى شفوفاً تَرُّبه، وقال:
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياء في بواطنه ظلام
وجاء النقاد فأقروا الشعراء على هذا التناقض، وأباحوهم ضروب اللغو والهذر، وأخذوا تلفيقاتهم في قصائد المديح مأخذ الجد، وأضاعوا وقتهم ومنطقهم وحججهم في الموازنة(181/16)
والمفاضلة بينها، وفضلوا شاعرا على شاعر، لا لصدق شاعر يته وصدق فهمه للحياة، ولكن لبراعته في احتيال الحيل اللفظية والمعنوية لتفخيم شأن ممدوحه. فقدامة بن جعفر مثلا يقدم الأعشى في قوله في ممدوحه:
وإذا تجيء كتيبة ملمومة ... شهباء يخشى الراهدون نهالها
كنت المقدم غير لابس جُنة ... بالسيف تضرب مُعْلَما أبطالها
على كثير لقوله في ممدوحه:
على ابن أبي العاصي دِلاص حصينة ... أجاد المُرَئ نسجها وأذالها
يود ضعيف القوم حمل قتيرها ... ويستظلع القرم الأشم احتمالها
لأن الأول جعل صاحبه يغشى الوغى غير مدرع، والثاني وصف صاحبه بالتحصن وراء الدروع الثقيلة، يفاضل قدامة بينهما بصرف النظر صرفا تاماً عما إذا كان المعنى المذكور في كل حالة صحيحاً، فالمسألة لا تتعلق لديه بالتزام الصدق، بل البراعة في الاختراع والمبالغة وتهويل أمر الممدوح ووصفه بكل عظيمة صحيحة أو مزعومة، ممكنة أو مستحيلة
وبهذا المقياس المجحف الذي لا يقيم اعتباراً لصدق الشعور والتعبير، بل يجعل الاعتبار كل الاعتبار للبراعة واللباقة والخفة والاحتيال، قاس كثير من النقاد آثار الأدباء وفاضلوا بينهم. بل إن النقاد صرفوا جل اهتمامهم إلى ذلك الضرب الصناعي من الأدب الذي قوامه التعمل والاختراع، وعماده الأقيسة المنطقية، بل المغالطات المنطقية، وأهملوا الضرب الصادق الذي يُترجم عن شعور الأدب الصحيح. فإذا رأوا أثراً من هذا القبيل مروا به كراماً ولم يروه أهلا للنقد والتحليل، لأنهم يرونه بسيطاً عادياً غير محتو على براعة لفظية أو معنوية. والأدب كان في نظر كثير منهم صناعة لا فناً. وقد سمى أحدهم وهو أبو هلال العسكري كتابه في أصول الشعر والنثر: (كتاب الصناعتين)
والحق أن أكثر ما يعرف اليوم بالفنون الجميلة كان لدى العرب صناعات؛ فالأدب والموسيقى والعمارة والنحت والتصوير كل هذه كانت أشبه بالصناعات، لأنها كانت في أكثر الأحيان تخدم أغراضاً مادية خارج ذاتها، وكانت تنتج نتاجها في ظلال الملوك والكبراء الذين يسخرونها لأبهتهم ومتعتهم، ولم تنل من الاستقلال الفني والغرض الذاتي ما(181/17)
لها اليوم. ومن ثم ظل الفنانِ الأخيران دائماً في حالة بدائية لم يتعدياها إلى أطوار الفن السامية
ولقد تترعرع الفنون الأخرى كالعمارة والنحت والتصوير في ظلال الرعاية والمنحة من جانب الأمراء، كما حدث في عهد النهضة الإيطالية التي أنجبت رافائيل وميكلانجو ودافنسي وعشرات من أمثالهم، أما الأدب فهو أشد احتياجاً إلى الحرية وأسرع انحطاطاً وركوداً في ظلال الاستبداد، فأن الملكية المسّتبدة إذا سخرته لأغراضها وسيرته في ركابها حَمَلَتْه على إخفات الحق وإغفال الصدق ونسيان رسالته؛ ولهذا ازدهر الأدب في إنجلترا أكثر من ازدهار غيره من الفنون التي اقتبسها الإنجليز عن أهل القارة، حتى بارى الإنجليز غيرهم في الآداب وبذوهم؛ فقد ألفى الأدب في إنجلترا من حرية الفكر والتعبير أكثر مما ألفى في غيرها. ولنفس السبب ازدهر الأدب في المدن الإغريقية، على حين كان رقيه في روما الملكية قصير العمر
لم يُسخِّر الأدب الإنجليزي نفسه لتمليق الأمراء والكبراء، كما سخَّر الأدب العربي نفسه، ولم يصرفه طلب رضاهم عن طلب رضى الفن الصحيح، وإن كان بعض رجاله - منذ عهد شكسبير - قد تزلفوا إلى سلطان آخر غير سلطان الحاكمين، فطلبوا رضى الجمهور من رادة المسارح وقراء الكتب، ولو بتضحية رضى الفن أحياناً. على أن ذك قلما كان؛ وأكثر الأدباء احتفظوا بسمو الأدب وأرستقراطيته، ولم يلبث انتشار التعليم أن وسع دائرة القراء الذين يقدرون الفن الصحيح ويتسامون عن الفضول؛ وانقسم الكتاب إلى فريق محافظ على سمو الأدب، فهم عماد الأدب السامي، وفريق ينشد إقبال العامة باللغو والهراء. ولم يحدث أن هبط الأدب جملة عن مرتبة الفن الصحيح المنزه الغرض
كذلك ربأ بالأدب الإنجليزي أن تركبه الصناعة وتغلبه على غرضه الصحيح، دوام تبصر رجاله في الآداب الكلاسية والأوربية المعاصرة، فكان معين تلك الآداب يجري في شرايينه من آن لآخر، فيجرد ما فَتَرَ فيها من دفعة الحياة، فكلما مر الأدب بطور ركود تغلب فيه الصناعة الفن الصحيح - كذلك الذي مر به في بعض القرن الثامن عشر - شعر الأدباء بعظيم الفرق بينه وبين الآداب الأخرى، فانتشلوه من وهدته
ومما ساعد على احتفاظ الأدب الإنجليزي بصبغته الفنية، وحماه الهبوط إلى درك الصناعة(181/18)
الرخيصة، إطلاع فحوله على آثار الفنون الأخرى الراقية، من تصوير ونحت، تلك التي تشترك جميعاً في غرضها الذي ذكر في أول هذه الكلمة، وهو التعبير الصادق عن الشعور الصحيح، فكان للأدب دائماً من تلك الفنون أسوة، تهيب به أن يحيد عن جادته أو ينحرف عن غايته، أو يضل في تيه التلفيقات المعنوية والزخارف اللفظية
وقد راج في الأدب الإنجليزي ضروب من القول قد يتبادر إلى الظن لأول وهلة أن الأديب يتجرد عندها من نوازعه الشخصية وشعوره الصحيح ويطلق العنان للخيال والصناعة، كالرواية التمثيلية والقصة والملحمة التي يتحدث مؤلفها عن أشخاص بعيدين عنه ويصف عواطف غيره وتصرفاتهم، ولكن الواقع أن المؤلف فيها لا يقل صدقاً ووفاء للحياة وحقائقها عن المؤلف في غيرها، ولا هو يتجرد من ميوله، بل يخلع تلك الميول على أبطاله، وينطق أفكاره ومشاهداته على ألسنتهم؛ فكل بطل من أبطال شكسبير، كهملت وعطيل ولير، يمثل حالة من حالات نفسه وفكرة أو فكرات من أفكاره؛ والقصصي الإنجليزي الذي يتحدث عن الآخرين في كتاباته أصدق وأكثر إفصاحاً عن ذات نفسه من الشاعر العربي الذي يشبب بليلى ودعد ويصف ممدوحه بغير ما يعلم فيه
ففي كلا الأدبين العربي والإنجليزي ترى في آثار الفحول دلائل الطبع الجزل والشعور الصادق والفن الصحيح، ولكن نظراً لتلك العوامل التي صاحبت الأدب العربي فأفشت الصناعة في كثير منه، وهذه العوامل التي لازمت الأدب الإنجليزي فساعدته على الاحتفاظ بسمات الفن، جاء الأدب الإنجليزي أحفل بصادق الشعور وجاد الأفكار من الأدب العربي، وكان التعبير الصادق عن النفس الإنسانية غرضه دائماً، على حين زاحمت هذا الغرض في الأدب العربي أغراض أخرى: كالصناعة وطلب البراعة والأغراب والتظرف ومحاكاة الأقدمين.
فخري أبو السعود(181/19)
صخرة النجوى
لالفرد دي ميسيه
(الحياة عذبة سائغة ولكن عند من لا يعرفونها. . .)
بقلم الأستاذ أحمد المحمود
وكان الليل جميلاً رائعاً، والقمر يصَّاعد متئداً على شمالي، وقد اجتذب إليه نظر (بريجيت) طويلاً وهو يخرج متسللاً من الأسنان السوداء التي كانت الهضبات الحرجَة ترسمها على رقيع الأفق. ورقت أغنية (بريجيت) المشجية حينما أخذ القمر يتخلص من أسوجة الغابة الكثيفة وتتسذرَّي أضواؤه في الفضاء وعلى الجلَد، فانحنت علي تطوق رقبتي بذراعيها قائلة:
(لا تظنن أنني لا أعلم قلبك، وأنني أنتسب لك لايلامك إياي؛ وليست الخطيئة خطيئتك إذا ضقت ذرعاً يا صديقي العزيز بنسيان حياتك الماضية. ولقد أحببتني وكنت مؤمناً بهذا الحب ولن أتأسف - إذا ما أسكت هواك نأمتي - على هذا اليوم الذي استسلمت لك فيه. واعتقدت أنك بُعثت إلي الحياة ثانية وأنك ستنسى - بين ذراعي - ذكريات اللواتي أضعنَك.
وا حسرتاه يا أكتاف! لقد تبسمت فيما مضى من هذه التجاريب الباكرة التي كانت لك في حياتك والتي كنت تدل بها عليَّ كالأطفال الذين لا يدرون من أمور الحياة شيئاً، وحسبت أن ليس لي إلا أن أشاء، وأن قد سيطفرُ كل ما في قبلك من صلاح وخير على شفتيك للقبلة الأولى التي منحتك إياها، وقد كنت أنتَ تحسبُ ذاك أيضاً ولكن كنا مخدوعين. أيها الطفل!. . . إنك تحمل في قلبك جرحاً لا يندمل، ويجب أن تكون قد أحببت هذه المرأة الخادعة الهاجرة حباً جماً؟ أجل. . . وأكثر مما أحببتني وإلي أبعد الحدود وا حسرتاه!. . . لأنني لم أستطع - مع حبي الشديد البائس - أن أمحو من مخيلتك صورتها! ويجب أن تكون خديعتها لك قاسية لأن أمانتي تبذل لك عبثاً؟ والأخريات الشقيات ماذا فعلن لتسميم شبابك؟ وهل كانت الملذات التي بعنها منك حادة ورهيبة لتطلب إليَّ أن أماثلهن وأتأثرهن!. . . وتذكرهن وأنت بجانبي؟ ما أقساك أيها الطفل!. . . ولأحبُّ للنفس وأثلج(181/20)
للفؤاد أن أراك ظالماً مغضباً، وأن تنسب إلى الجرائم الوهمية وأن تثأر مني للأذى الذي لحق بك من خليلتك الأولى من أن تطفر في وجهك هذه المسرة الرهيبة وهذا المظهر الخليع الذي ينتصب حجاباً من الصلد الأصمّ بين شفتي وشفتيك. قل لي أكتاف، لم هذا الصقيعُ في شفاهك؟ ولم هذا التهكم والاحتقار يبينُ في حركاتك وسكناتك؟ وإنك لتسخر - بحزن شديد - حتى من أعذب صباباتنا، وكيف استحوذت على أعصابك المهيجة هذه الحياة الماضية الرهيبة حتى تنثال من فمك مثل هذه الشتائم بالرغم منك؟ أجل بالرغم منك لأن لك قلباً نبيلاً وتصطبغ خجلاً مما تفعل. أنت تحبني كثيراً ويجب أن يُسعدك هذا الحبُّ لأنني آلم منه كما ترى. آه! أعرفك الآن!. . وعندما وقع بصري عليك لأول مرة وأنت على حالك هذه عراني هول شديد لا شيء يعطيك صورة عنه. ولقد حسبتك ماجناً في توددك إليَّ، وأنك تحاول خدعي بسيماء هذا الحب الذي لم تكن لتحس به، وإني أرى حقيقة نفسك كما بدت لي لأول وهلة. أواه يا صديقي! لقد فكرت في الموت وأية ليلة نكراء قضيت! أنت لا تعلم حياتي ولا تدري أنني - أنا التي أخاطبك - قد خلصتُ من هذه الحياة بتجربة هي أعذبُ من تجربتك وأحلى. وا أسفاه! الحياة عذبة سائغة ولكن عند من لا يعرفونها
أي عزيزي أكتاف! لست بالرجل الأول الذي أحب. إن في أعماق هذا القلب ذكرى مشئومة راقدة أحب أن أطلعك عليها
أعدَّني والدي منذ بكوري في الحياة إلى ابن صديقه الأوحد، وكانا جارين في الدار والأرزاق؛ وعاشت العائلتان على هذا النمط من الاختلاط والوحدة. مات أبي وتصرّم زمن طويل على فقدان أمي فانتقلت إلى وصاية خالتي التي تعرفها، وأزمعت خالتي سفراً فأسلمتني إلى حمِىِّ الذي عشت في كنفه برهة من الزمن، وكان يدعوني بابنته، وكان الجيران يعرفون خطوبتي من ابنه، فيتركون لنا الحرية التامة
تظاهر دوماً هذا الشاب الذي لا أدري حاجة إلى ذكره بمحبتي، فقد كان صداقة ساذجة من أيام الطفولة تحولت إلى حب وهيام مع الزمن. وكان يقص عليَّ عندما نخلو، أو نكتَنُّ في زاوية من البيت عن السعادة التي تنتظرنا وذهوب صبره، وكان يكبرني بسنة واحدة، ولكنه تعرف إلى رجل من الجيران سيئ العيش محتكر للصناعة فوسوس له وأغواه،(181/21)
وبينما كنت أستسلم إلى مداعباته بوداعة الطفل إذا به يغدر بوالده ويتركني بعد أن أضاعني
أتى بنا والده إلى غرفته وأبلغنا موعد الزواج فلقيني في مساء اليوم نفسه في الحديقة، وباح لي بقوة عما يكنه لي من الحب، وأنه زوجي منذ الآن أمام الله ونفسه ما دام أن موعد الزواج قد تحدد. فلم أعتذر إليه بغير شبابي وجهلي وسذاجتي، فاستسلمت إليه قبل أن يتم الاقتران الشرعي، ولم تمض ثمانية أيام حتى غادر بيت أبيه وهرب مع امرأة قدمها له صديقه الجديد فكتب لنا أنه مسافر إلى ألمانيا ومنذ ذلك الحين لم نره
هذه هي قصة حياتي وقد عرفها زوجي كما تعرفها أنت الآن، ولي من عزة نفسي وكبريائها ما أهاب بي إلى العزلة، فآليت ألا أقرب من رجل يسبب لي ألماً وضرًَّا أكثر مما لقيت في سابق حياتي؛ ورأيتك فنسيت قسمي ولكن لم أنس جرحي، فعليك أن ترأف بتضميده. وإذا كنت مريضاَ فأنا مريضة أيضاً، فيجب أن نتعهد نفسينا بالتداوي. وأنت ترى يا أكتاف أنني أعرف أيضاً قيمة الذكرى الماضية التي ما تزال تقض مضجعي إلى جانبك، ولكني سأتذرع بالشجاعة والصبر لأنني قاسيت أكثر مما قاسيتَ، ومن حقي البدء في هذا العمل، وإن قلبي لقليل الثقة بنفسه، وأنا أضعفُ عن احتمال أكثر مما احتملت. وكم كانت حياتي سعيدة في القرية قبل قدومك إليها! وما أكثر ما أخذت على نفسي ألا أغيّر من حالها شيئاً مما جعلني أتطلّبُ منها ما لا تستطيع أداؤه، ولكن لتكن مشيئة القدر فأنا لك الآن! أو لم تقل لي في أوقات انبساطك بأن العناية الإلهية سخرتني للحدب عليك كأم رؤوم؟ الحق ما قلت يا صديقي العزيز. أنا لست خليلتك كل الأيام وأود أن أظفر بأكثر من هذا في بعضها وأن أكون لك أماً حتى لا أرى فيك حبيباً يقسو على حبيبته. أواه يا أكتاف! لقد أصبحت طفلاً مريضاً عاتياً متشككاً، أريد أن أمرضه بنفسي وأبعث فيه الرجل الذي أحب وأهوى حتى الأبد. فليمدني الله بالقوة!. . . قالت ذاك ونظرت إلى السماء ضارعة: ربِّ يا من ترانا وتسمع نجوانا! يا إله الأمهات والمحبين، هب لي الحياة للقيام بهذا الواجب! وإذا كان لي أن أخفق وأن تثور كبريائي أو أن ينحطم قلبي البائس بالرغم مني وأن حياتي كلها. . .
ولم تتم الكلام حتى غامت عيناها بالدموع فلم تعد تستطيع النطق. يا إلهي!. إني أراها(181/22)
راكعة أمامي ويداها مضمومتان منحنية على الصخرة والهواء يموجها كما يموج حقول الخلنج المجاورة. يا لك من مخلوق ضعيف سام! لقد صلت من أجل حبها ثم أنهضتها بذراعي متمتماً: (وا صديقتي الوحيدة! ووا خليلتي وأمي وأختي!. . اضرعي إلى الله واطلبي منه أن يمدني بالقدرة على حبك والإخلاص لك كما تستحقين. توسلي بأن يمد في حياتي وأن يقدرني على العيش وأن يغسل قلبي بدموعك وأن يجعله قرباناً مقدساً نقياً نقتسمه أمام الله!. . .)
واستلقينا على الصخرة وغرق كل ما حولنا في هدوء عميم وانبسطت السماء فوق رؤوسنا ألقه بالنجوم (أوتذكرين يا بريجيت لقاءنا الأول؟)
حمداً لك اللهم! ومنذ هاتيك الأمسية لم نعد إلى تلك الصخرة التي ظلت لنا قدساً طاهراً والطيف الأبيض الوحيد من حياتي الماضية ما يعبر من أمامي إلا ويغترق بصري ويملأ حسي
(طرطوس)
أحمد المحمود(181/23)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
عزرائيل يقبض بيد صفراء
- 1 -
كل الناس متفقون على أن ولْتر رِيد رئيس بعثة الحمى الصفراء، كان رجلاً ذا أدب جمّ ولطف كثير، لا يُؤخذ بملامة، ولا يُعوز ذمّتَه طُهْر؛ وكان يألف الاعتدال في أعماله، ويجري على المنطق في تفكيره؛ ولا شك أيضاً في أنه قامر بحياة آدمّيين فأقحمها المخاطر على علم في سبيل أبحاثه، ولم يكن له مندوحة عن ذلك، فالحيوانات تأبى كل الأباء أن تأخذ عدوى الحمى الصفراء
كذلك ليس بين الناس اختلاف في أن جيمس كارول وقد كان خشّاباً فيما مضى، كان على أتم استعداد للتضحية بنفسه في سبيل ما يريد ريدُ إثباته، وأنه لم يكن ممن تأخذه عاطفة أو رحمة بأرواح الخلق إذا ما أراد برهان أمر جلّ أو قل
كذلك يُجمع الكوبيّون وهم الذين شهدوا البعثة تعمل عن كَثَب في أرضهم، على أن الجنود الأمريكيين الذين تطوعوا بأجسامهم في التجارب عوضاً عن الخنازير الغينية المعهودة كانوا على جانب من الشجاعة لا يوصف. كذلك أجمع الأمريكيون الذين كانوا عند ذاك في كوبا وأكّدوا أن المهاجرين الأسبانيين الذين تطوعوا في التجارب مكان الخنازير الغينية لم يكونوا شجعاناً مخاطرين ولكن تجّاراً طامعين. أفَلْم ينقد كل واحد منهم مائتي ريال أجراً عن مخاطرته؟
وما من شك في أنك تستطيع أن تحني باللائمة الشديدة على القدر أن قسا تلك القسوة البالغة على جس لازار ولكن كذلك لا بد أن تنحى باللائمة عليه هو أيضاً، فهو الذي أبى أن يطرد تلك البعوضة التي وقعت على ظهر يده، وهو الذي أذن لها أن ترتوي من دمه ملء جوفها. والقدر إن كان قسا عليه فقد حنّ له من بعد موته وعطف على ذكره، فحكومة الولايات المتحدة سمّت باسمه مدفعية في ميناء بلتيمور إحياء له، ورتّبت لأرملته معاشاً(181/24)
خمسمائة وألف ريال
وسترى أن قصة الحمى الصفراء لا نقاش فيها ولا خصام، فحكايتها متعةٌ للحاكي، وهي فوق ما فيها من المتعة ضرورية لكتاب يحكى عن المكروب ورجاله، فهي تحقق الحُلُم الذي ارتآه بستور، فهو لو قدر الآن لصاح من قاع قبره الجميل بباريس يتحدّى العالم أجمع تيّاهاً فخوراً: (ألم أقل لكم ذلك من زمن بعيد). ذلك أنني الآن وأنا أكتب هذا أعلم أن الدنيا أصبح لا يوجد بها من سمّ هذه الحمى ما تتغطى به رؤوس ستة دبابيس. وقد لا تمضي عدة سنوات أخرى حتى لا يكون على ظهر الأرض كلها ذرة من سمها، وتصبح الحمّى خبراً يُروى كبعض البائدات - هذا إذا لم نكن فوّتنا غلطةً خطيرة في التجارب المحكمة المريعة التي قام بها ريدُ وجنوده الأمريكيون ومها جروه الأسبانيون
كانت هذه الحرب التي انتهت بالغلبة على الحمى الصفراء مثلاً جميلاً للتعاون المجيد، انتظم في إثارتها وإدارتها جنود من أعجب الجنود. وكان أول من قدح شرارتها رجل عجوز غريب يُدعى الدكتور كَرْلوس فِنْلي أعفي من اللحية ذقنه، ولكنه انبتها على كل من صدغيه، فجاءت جميلة يغبطه الناس عليها. وكان يخلّط في التجارب تخليطاً. وحسبه أفاضل الكوبيّين وحكماء الأطباء رجلاً مغفّلاً قديم الغفلة مغرماً بالنظريات. وعدّه الناس أجمعون رجلا مأفوناً جسوراً. فهذا الرجل هو الذي خّمن في هذه الحمى تخمينة أبعدت في الأغراب ولكنها وقعت في الصميم من الصواب
نعم عدّه كل أحد مأفوناً، لأن كل أحد من الناس عرف عرفان اليقين كيف يدفع هذا الوباء المخوف - هذه الحمى الصفراء! وكان لكل أحد طريقته لدفعها: قال بعضهم: يجب تبخير الحراز والسّتان ومتاع الناس جميعاً قبل خروجه من المدن الو بيئة. وقال آخرون لا، فهذا غير كاف فلابد من حرقه جميعه، لا بد من حرق الحرائر والستان والأمتعة ولابد من دفنها ولابد من إتلافها قبل دخولها مناطق الوباء. وقال قوم: ليس من الحزم أن تصافح أصدقاءك إذا كان لهم أقرباء يموتون بالحمى الصفراء. وقال آخرون: ليس في هذا ضرر أبداً. وقالت جماعة ثالثة: إن الخير في هدم المنازل التي دخلتها الحمّى، فليس بكاف تطهيرها بدخان الكبريت. وعلى اختلافهم هذا فقد أجمع الناس في جنوب أمريكا وفي أوساطها وفي شمالها، مدة قرنين تقريباً، على أنه إذا حدث أن أهل مدينة أخذت تصفرّ وجوههم، وتشخص الريح(181/25)
من صدورهم، ويصعد القيء أسود من جوفهم، ثم أخذوا يموتون بالعشرات والمئات كل يوم، لم يبق لعاقل ما يفعله إلا أن ينتفض على رجليه، ويتجه إلى أقرب باب للمدينة ويسير قُدُماً غير لاوٍ عن يمين أو يسار حتى يخرج منها. ذلك أن عِزْريل ذا اليد الصفراء يحذق النفاذ من الحيطان، واستراق الخُطا على الأرض، ومباغتة الناس من وراء الأركان، حتى النار يجوس خلالها؛ وقد يحق عليه الموت، ولكنه لا يلبث أن يُبعث حيّا. ويقوم الناس لمطاردته وفيهم أحذق الأطباء، فبعد أن يخطئوا في مطاردته أكثر ما يستطيعون من أخطاء، يأتونها بأكثر ما في قلوبهم من هوس، يجدون هذا القاتل الفلاّت لا يزال في قتله قائماً؛ ثم يسأم القتل بغتة فيكفُّ عن الناس. ويجيئه هذا السأم دائماً في شمال أمريكا بمجيء الصقيع
هذا ما كان من علم الناس عن الحمى الصفراء إلى عام 1900 وصاح فِنْلي عالياً ملء صدغيه: (أيها الناس إنكم تجهلون. أيها الناس إن الحمى الصفراء تأتي من بعوضة)، فذهبت صيحته كصرخة في واد، وارتد عليه صداها بالسخرية والهوان
- 2 -
في عام 1900 كانت الحال في مدينة هبانا أسوأ حال. فالحمى الصفراء كانت قتلت من الجنود الأمريكيين ألوفاً أكثر مما أسقط رصاص الأسبانيين، وكان المعهود في الأوبئة أنها تنزل اختياراً من طوائف الناس حيث الفقر والقذر. أما هذه الحمى فنزلت في أركان حرب الجنرال ليونارد وود فذهبت بثلث ضباطه، وضباط أركان الحرب، كما يعلم الحربيّون، رجال مصطّفون هم أكثر الجند نظافة، وأكبرهم حظاً في الحمية من الأمراض. وزأر الجنرال بأوامره فنزل رجاله على أهل هبانا غسلاً ودعكاً حتى أحالوا الكوبيّين من قوم في وسخهم سعداء إلى قوم في نظافتهم تعساء؛ وصنعوا كل ما يُصنع للمدينة، ولكن الوباء لم يتراجع، بل تزايد حتى بلغ حدّاً لم يبلغه في السنوات العشرين الماضية
عندئذ أبرقت هبانا إلى واشنطن وفي 25 يونيو عام 1900 جاء البكباشي ولْتَرْ ريد إلى كويمادوس في كوبا ومعه أمر (بأن يُعنى عناية خاصة بكل ماله صلة بأسباب الحمى الصفراء وبطرق منعها). وهذا أمر كبير، يزيده كبره كبراً إذا ذكرنا مَنْ هو ولتر ريد؛ هو أمر حاوله بستور من قبل! وأين ريدُ من بستور؟ بالطبع لم يكن ريد خلواً من المؤهلات،(181/26)
ولو أنك قد تعترض عليها بأنها ليست مما له صلة بصيادة المكروب؛ فهو جنديّ كأحسن ما يكون من الجنود، خدم في الغرب في سهوله وجباله أربعة عشر عاماً أو تزيد؛ وكان يطير كبعض الملائكة والريح تعصف والسماء تثلج حتى يحط على فراش المرضى ممن هبطوا تلك البقاع استعماراً واستيطاناً؛ وكان على خلق متين، وجانب ليّن رقيق؛ وكأني بك تقول: ما الرقة وما الخلق الكريم ومكروب الحمى الصفراء وهو إنما يتطلب عبقرية نادرة لاصطياده. أنت على حق، ولكن مع هذا سترى أن العمل الجليل الذي تم كان يتطلب قبل كل شيء خلقاً قوياً وإرادة من حديد. ومع هذا فان ريد قام ببعض صيادة المكروب في عام 1891، وقام ببعض بحوث متقطعة في أحسن مدرسة للطب في كنف أستاذ هو من غير شك أشهر أساتذة المكروب في أمريكا، وكيف لا يكون هذا الأستاذ هكذا وهو الذي عرف كوخ وخالطه مخالطة الحميم حميمه
وجاء ريد إلى كيمادوس. وبينا هو يدخل مستشفى الحمى الصفراء مرّ به عدد كبير من شباب الجند الأمريكي خارجاً منه محمولاً على الأعناق. . . فاطمأن ريد إلى أن العمل لن يعوزه، وأن المرضى الهالكين كثيرون. وكان مع ريد الدكتور جيمس كارول ولم يكن ممن يوصف بالرقة تماماً، ولكنك ستجد بعد قليل انه نعم الجندي الباحث كان. ووجد ريدُ جس لازار في انتظاره، وكان صياد مكروب متدرّب تدرب على صيادتها في أوربا. وكان له من العمر خمس وثلاثون سنة، وكان له زوجة وطفلان خلّفهما وراءه في الولايات المتحدة، وكانت تبدو في عينه نُذُر الموت. وكان رابع الثلاثة أرستيدس اجرامونتي وكان كوبياً، وكان عمله قطع جثت الأموات. وأحسن عمله إحساناً كبيراً، ولكن اسمه لم يذع لأنه كان أصيب بالحمى فتحصّن منها فخلا عمله من المخاطر. فهؤلاء الأربعة هم (بعثة الحمى الصفراء)
وكان أول ما صنعته البعثة أن عجزت عن إيجاد المكروب في الحالات الثماني عشرة الأولى التي فحصتها، وكان منها حالات غاية في السواء، ومات منها أربع. ولم يتركوا حالة من تلك الحالات إلا ضبعوا وأوغلوا فيها فحصاً وتنقيباً، فمن ابتزاز دم إلى تزريع مكروب إلى تشريح جثث. وكثرت زريعات المكروب حتى لم يحصرها عدٌّ، ولكنهم لم يجدوا في أيها بشلة واحدة. وكان الوقت صيفاً، والشهر يوليو، وهو أسوأ الشهور لهذه(181/27)
الحمى. وخرجت الجنود من المستشفى متلاحقة وهي أجساد هامدة
خابت البعثة خيبة كاملة فيما ارتجت، ولكن من هذه الخيبة كان النجاح. فهذه إحدى خصائص هذه الصناعة صناعة المكروب. وهذا هو الأسلوب الذي يدرجُ عليه قُنّاصه ليجدوا منه مثل الذي وجدوا. وجد إسميث ما وجد من القُرَاد لأنه آمن بالذي قال الفلاحون. ووجد رونالد رُس ما وجد مما يفعل البعوض الأشهب لان بتريك منسون دّله عليه. وكشف جراسي ما كشف عن بعوضة الملاريا بدافع من وطنيته. وهذا ريدُ يخيب في أول خطوة يخطوها، وقد يقول كل أحد إنها أهم خطوة يخطوها، فماذا هو صانعه! لا شيء. فلم يبق لديه ما يصنعه. وإذن توّفر لديه الوقت الكافي ليفْرُغ إلى نفسه ويُفكر ويُصغي إلى صوت ذاك المغفل القديم ذي النظريات، صوت الدكتور كارلوس فنلي يصيح: (أيها الناس إنكم تجهلون! إن الحمى الصفراء تأتي من بعوضة!)
وخف رجال البعثة إلى هذا الرجل المأفون الذي ضحك منه كل سن، وصُمَّت دونه كل أذن. فتلقاهم هذا الشيخ بالسرور والترحاب وأخذ يفسر لهم نظريته، ويذكر لهم أسباباً غامضة إلا أنها مبدعة جميلة حدت به إلى اتهام البعوض في نقل أسباب الحمى الصفراء. وأطلعهم على نتائج تجارب أجراها هي بئست التجارب لا تقنع أحداً. وأعطاهم بعض بيض أسود اللون مستطيل كالإصبع وقال لهم: (هذا بيض المجرم). فأخذ ريد البيض وأعطاه إلى لازار؛ وكان هذا في إيطاليا من قديم فعرف هناك بعض الشيء عن البعوض. فأخذه لازار ووضعه في مكان دافئ فانفس عن دُويدة انقلبت إلى بعوضة صغيرة غاية في الحسن كأنما شُدَّت على ظهرها أوتار من فضة فتراءى كالقيثار
خاب ريد، ولا شك في هذا. ولكن إلى جانب إقرارنا له بالخيبة، يجب أن نُقرّ له بقوة الملاحظة الحادة، وبكثير من التمييز وحسن التبصر في الامور، وستعلم فوق هذا انه كان كبير البخت محظوظاً. ومن ملاحظته وهو في غمرة من إخفاقه أن رأى حالات للمرض ثقيلة فظيعة، احمرّت فيها عيون المرضى كأنما صعد الدم متدفعاً فيها، وأصفرت صدورهم فصارت كأنها الذهب وأخذوا يفوقون ويتهوعون إنذاراً بالسوء. ثم رأى الممرضات يجُسن خلال هذه الحالات وينلْن منها ويتلوثن بها، ولكنهن بالرغم من ذلك لم تجئهن الحمى الصفراء أبداً(181/28)
فناقش ريد رجال بعثته، قال: (لو كان المكروب أصل هذه الحمى بمثل ما هو أصل الكوليرا والطاعون، إذن لأصاب الممرضات فجمعتهن الحمى)
وأخذ ريد بعد ذلك يلاحظ ألاعيب شتى تقوم بها هذه الحمى، فرآها تظهر في كيمادوس فجأة حيث لا مظنة لظهورها: جاءت رجلاً يسكن في منزل رقم 102 بشارع ديل، وإذا بها تنط من هذا الشارع فتنعطف إلى شارع الجنرال لي فتنزل بساكن به في منزل رقم 20. ثم هي تنط ثالثة إلى الصف الآخر من هذا الشارع. وما يكن بين المصابين صلة ما، ولا التقى بعضهم ببعض أبداً
قال ريد: (كأني بهذا الحال يشير إلى أن شيئاً ينقل المرض عبر الهواء من دار إلى دار). وكانت هناك حيل غريبة أخرى تأتيها هذه الحمى درسها عنها كرتر الأمريكي: تصيب الحمى رجلاً في منزل، فقد يموت وقد يُشفى فيرحل عن المنزل، ثم يمضي على هذه الإصابة أسبوعان فلا يحدث جديد، ثم ينقضّ البلاء كالصاعقة، فإذا بنفر من أهل هذا البيت يصابون بها. قال ريد لرجاله: (كأني بمكروب من هذا البلاء يترّيث أسبوعين في بطن حشرة ليستكمل نموّه)، فلم يصدقوه ولكنهم كانوا جنوداً طائعين
قال ريد: (وعلى هذا فقد يكون صواباً ما ارتآه فِنْلي عن البعوض، وعلى أساس فكرته فلنقم بالتجربة). فاعتزامه التجريب كان بناء على الأسباب السابقة والملاحظات السالفة، وعلى الأخص بناء على أن البعثة لم تدر ما تصنع بعد الذي صنعته
وكان القول بالتجريب قولاً هيّناً. ولكن كيف يكون البدء فيه، والمعروف الثابت أن الحمى الصفراء لا يمكن إعطاؤها للحيوانات، حتى القردة وهي أقرب إلى الإنسان خلْقاً لا تأخذها. ولكن لإثبات أن البعوض ينقل الحمى لا بد من حيوانات للتجريب، وإذن لم يبقى إلا أن تكون هذه الحيوانات آدمية. ولكن أيكون معنى هذه إعطاء هذه الحمى عمداً لبعض الناس! إن الإحصاءات دلّت على أن الوافدة إذا حلّت فقد يموت من المصابين ثمانون وخمسة من مائة، أو قد يبلغون خمسين، وعلى أية حال لا يقل الموتى عن عشرين في المائة. إذن فإعطاء الحمى عمداً لبني آدم قتل للأنفس التي حرّمها الله! ولكن هنا تتدخل شدة أخلاق ريد وصلابته لتلعب دورها الكبير. وكان ريد رجلاً لا شائبة في خلقه، ولا عائبة في ذمته، وكان مؤمناً، وبالرغم من اعتداله كان الرجل الذي اصطفاه الله لخدمة أهل بني هذه(181/29)
الإنسانية على مثل هذا الأسلوب الوعر المتطرف. وتخيّل إسميث أنْ قد ثبت له أن البعوض وحدَه هو ناقل هذه الحمى وتخيلّ ما يكون بعد ذلك من أحداث خطيرة. . .!
وطاف نهار يوم بين رجال صُفرٍ يحتضرون. فلما جاء الليل بحرّه الشديد، جمع رجاله ثم قام فيهم فقال من حديث: (. . . فلو أننا نحن رجال هذه البعثة قمنا فجازفنا بأرواحنا فأذنّا لبعوض تغذّي من دم قوم محمومين أن يَعَضَّنا ويشرب من دمائنا، إذن لضربنا خير المُثُل للجند الأمريكيين. . .). ونظر إلى لازار. ونظر إلى كارول
قال لازار: (أنا أقبل عضة البعوض)، وكانت له زوجة وطفلان
وقال كارول: (اعتمد عليّ يا سيدي وتوكل على الله)، وكانت له زوجة وخمسة أطفال، ولم يكن له من متاع الدنيا غير أجر جراحٍ مساعد في الجيش، وهو أجر حقير معروف، وغير عقل الباحث ومزاجه
(يتبع)
أحمد زكي(181/30)
الخلود والأدباء
(مهداة إلى الأستاذ المازني)
للأستاذ عبد الحليم عباس
يعتقد الأديب - والأديب الناشئ على الأخص - بأنه الإنسان المصطفى لتأدية رسالة الحياة إلى الأحياء، وأن غيره. . . هذه المخلوقات التي لا تدين بالأدب ولا تتلقى وحي الفن، ليست خليقة أن تساميه، ولا أن تطال إلى مقامه. إنها تقف في حيث تأخذ عنه، وتسمع إليه. . . ومن ثم فهو خالد بخلود هذا الأدب، وما عداه - من عباد الله - فمن التراب وإلى التراب. . . وهذه قضيةٌ مسلم بها - في رأي الأديب - لا تحتاج إلى مماراة، ومن هنا يجيء هذا العنت، وهذه السلسلة من الخيبة والإخفاق في حياة الأديب. إنه يعجب من الناس كيف لا يقدرونه حق قدره، وكيف لا يتنحون له عن مقامه الذي هو خليق به، والذي أعدته الحياة له؟ ولم لا! وهذا العلم بالحياة، وهذه المذاهب الفلسفية، والتبحر في فنون الأدب، أليس من حقها أن تقدم صاحبها وتقدره من المجموع؟. . بلى بلى - هكذا يقول الأديب - ولكنه ظلم الحياة، وجحود الأحياء، فما عليه إلا أن يقف معانداً لهم، مناهضاً لهذه الحياة، ليُعاد إليه حقه السليب المهتضم. . .
وبين هذا العناد والإصرار يضيع الأديب حاضره، ويخرِّب حياته، وقد يخربه الجوع. . . قال لي أديب ناشئ: لست أنظر إلى الجراح الماهر إن لم يفهم الأدب أكثر من نظري إلى جزار
وقال لي آخر: سأترك العمل عند هذا الوزير لأنه سخيفٌ وبذئ؛ فقلت له: هل أصابك رشاش من بذاءته؟ قال: كلا؛ ولو حدث لأدَّبته؛ قلت إذن دعه وشأنه. قال لا أستطيع. وفي اليوم التالي أضاع أديبنا وظيفته. وقليل من رجال الأدب من ربحت تجارته الدنيوية، وأصبح من رجال الأعمال
مثل هذه الحوادث كثيرة نشاهدها في كثير من الأحيان، ونحتار في تعليلها؛ ولكن مردها في البعيد يعود إلى فهم الأدباء للحياة على ضوء الأدب، وإلى الذهاب في تقدير قيمهم، وإن من حقهم أن يتعالوا على الناس، لأنهم من طائفة الخالدين. . .
ويكبر الأديب، ويشب عن الطوق - كما يقولون - وتمر عليه صورٌ من الحياة، وتثقله(181/31)
تكاليفها اليومية السخيفة - كما ينعتها سبينوزا فيرى أن يقبل عليها، ويضرب مع الضاربين فيها - إن أراد أن يعيش - فالكواكب ليست أرغفة، والسماء لا تمطر بقلا. . . وهكذا ترغمه الحياة على أن يصانعها ويصانع معها الأحياء. . .
. . . ولكن هل انتهى بينه وبينها الخلاف؟ وهل أصبح هو وبنيها على أتم وفاق، يوم علم أن هذا الأدب الذي يدلُّ به ليس له كبير فضل، وأن هذا الخلود لا يعني شيئاً؟ لقد خلدت في الدنيا بغلة أبي دلامة، وحمار الرشيد. أم أن فهمه للدنيا على هذا النحو الجديد، يعني بداية معركة جديدة حامية، ولكنها تحرق الأديب قبل أن تحرق غيره. . أظن أن كثيرين يوافقونني على أن هذه بداية معركة لا نهاية؛ فالحياة لم تلق من هؤلاء الذين يناصبونها العداء طول حياتهم مثلما لقيت من هذه الطائفة من الأدباء الذين يضربون في زحمتها، ويسايرون مواكبها، على أن يخرجوا لها ألسنتهم هزؤاً، كلما آنسوا منها غفلة، وليفضحوا سرائرها في كل حين. . .
لم تنته المعركة بعد، فليست قضية الخلود هي كل الخلاف بين الأديب والأحياء. فكيفما جارى الأديب الناس في فهمهم للحياة فلا مشاحة في أنه يفهم الحياة على وجهة تختلف عن الوجهة التي يفهمها عليها الأحياء، إذ أن الأمر لا يتعلق باختياره؛ وقد يحب هو أن يجاريهم في كل شيء، ولكن ما حيلته في هذه الأعصاب التي ركبت على شكلٍ يختلف عما ركبت عليه أعصاب الناس - أحسن منهم أو دونهم هذا لا يعنينا - إنها مرهفة دقيقة، مستوفزة، تفعل بها الإشارة الغامضة ما لا تفعله بغيرها العبارة الصريحة، كيف يحب؟ وكيف يكره؟ وكيف يجنُّ بالحسن، وتفعل به الزهرة الغضة أو الذابلة؟ هذه أشياءٌ تفسيرها عند هذه الأعصاب
وشيء آخر يباعده عنهم، ويمد في شقة الخلاف، هو أين يعيش الأديب، وما هي دنياه؟؟ لا نحب أن نكتب خيالاً، إن إدمان مطالعته في نماذج الجمال والأدب، ولد في نفسه حباً للجمال. إنه يعيش بهذا الجمال الذي يطالعه به الخيال، أكثر مما يعيش في دنيا الواقع. . . كما وإن إدمان دراسته للحياة والواقع فتح عينه على الجانب البشع منها. أليس في الحياة بشاعة؟ ومن لا يقول هذا مع الأديب، حتى عباد الحياة أنفسهم؟ إذن فهو يريد أن يتسامى في هذا الواقع ليوائم بينه وبين ما في نفسه من جمال، يود أن يرتفع بهذه الخلائق، يذيب(181/32)
نفسه قطرة قطرة، ليرى الناس جمال الحق وعظمة الصدق ونبالة الوفاء، ولكن الحياة والواقع يحتاجان إلى نقائض هذه، فما هو إلا أن يشعر بالخيبة حتى يروح يحرق الأرم ويتلوى على نفسه؛ وبين الخيال، وركود الأحياء في دنيا الواقع، تختضب الأيام بدم الكاتب، فهو على مثل هذا وفاق بين الأديب ودنياه، على أننا لا نأسف - نحن النظارة - لذلك، فلو لم يغمس الأديب قلمه بدمه، ولو لم يقدم نفسه قرباناً للجمال والحق. . . لما عرفنا أين يقع الجمال والحق في هذه الدنيا. فلتدم هذه المعركة - وهي دائمة بفضل هذه الأعصاب الشاذة - ما برحت - وإن نحر فيها الأديب نفسه - تدنينا من الحق، ولو قيد شعرة. . . إذن فلا وفاق بين الأديب والأحياء. .؟ نعم ولو أصبحت هذه الدنيا وفاق حلم الأديب، ودنياه المثالية، فالخيال لا يزال يبدع والجمال في هذه النفوس لا يحد. . .
وما هذه المصانعة التي تبدو من جانب الأدباء للحياة في بعض الأحايين والتي يخيل إليهم فيها أنهم أصبحوا يتلقون الحياة كما يتلقاها الآخرون - (بلا تذمر ولا سخط) إلا مخادعة النفس، وإلهائها عن آلامها الرفيعة التي تحزُّ فيها؛ هي قطعة الحلوى نقدمها للطفل لنسكته عن الصراخ
كيف يكون على وفاق هذا السابق مع المقعد المتخلف؟ فالأدباء في كل أمة هم رواد النهضات. يشيرون إلى العالم البعيد المجهول الممتلئة به أفكارهم، الآخذ عليهم مسارب نفوسهم، وخفي أشواقهم. كلُّ نهضة كان يسبقها أديبٌ أو أكثر، يبشر أن فجر الحق قريبٌ ورائع، وأن هناك في ضمير الغيب دنيا أمتع من هذه وأحلى. . .
. .؛ والآن هل استطاع المازني - أن يلقى الحياة، كما يلقاها الغير، أبناؤها؟ أما هو فيكاد يقول نعم، أو قد قالها بالفعل، بعد أن أزاح من فكره - حب الولع بالخلود - والحمد لله. أما نحن جمهرة القراء فنقول لا، ونمدُّ بها أصواتنا
كيف يلقى الناس الحياة؟ إنهم ينسابون في غمارها، يندفعون في لجتها - كما تندفع أنت يا أستاذ بالذات - حذو القذة بالقذة، ولكن تمرُّ الشهور، وتتصرم السنون، وينتهي العمر، وهم لا يفطنون لذواتهم، ولا يعرفون عن هذا السرور شيئاً، كيف جاء، وكيف راح؟ تلك قضية لا دخل لهم فيها.
حسبهم انهم مسرورون وكفى؛ أما هؤلاء الذين يلقون أنفسهم بالسرور إلقاء، ثم يقفون عند(181/33)
كل شوط، ليسائلوا أنفسهم هل سروا حقاً؟ هل استطاعوا أن يغرقوا ذواتهم المضطربة، ويسكتوها ولو دقيقة واحدة؟ فهؤلاء بعيدون عن السرور، وأحرى أن يتقلب بهم هذا السرور إلى شر، أو يزيدهم شراً.، إنهم يحتسون من خمرة الخيام تلك التي اتخذها ليغرق في أكوابها صحوه وعقله
وإذا ما التوت الحياة وتعقدت، وكان ضيقها لا ينفرج، وعقدتها لا تحل، إلا في نحر الوفاء، وتضحية الصدق، فما عسى يصنع الأديب؟ أما ابن الحياة فينحر هذه غير آسف، بل هو ينحرها دون أن يعلم، ولو توصلاً (إلى ترفيع درجة إن كان موظفاً). . . فهل يستطيع الأديب ذلك؟ وماذا يصنع بهذا الضمير وهذه المثل التي لا حياة له إلا بها؟ إنه خليق أن يجن أن فعلها. . .
نعود فنستميح - أديبنا المازني - عذراً، فما أراد كل هذا، وإنما أراد أن يوهم نفسه ساعة واحدة أنه أصبح كسائر الناس، يسر بما يسرون ويضحك كما يضحكون. وقديماً قال:
يا صدى إن بقلبي لكلوماً وهموماً ... مدرجات فيه لكن لا تموت
كلما قلت قضت رهن السكوت ... صحن بي من كل فج يتراءى
عم مساء
أما هذا الرفيق المخالف الذي يتمناه للأديب، فما أخال الأحياء مع الأديب إلا إياه، وما أظن الدنيا تتعدى أن تكونه. فحسبه هذا. . .
(شرق الأردن)
عبد الحليم عباس(181/34)
9 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة حسن محمد حبشي
الفصل الثاني
لم ينس العرب هذه الحوادث فبعثت فيهم الكبرياء القومي، فقالوا إن الجيوش الرومانية سارت ذات مرة - على أية حال - تحت لواء أميرة عربية، ولكن القصة - كما نستدل من أخبارهم - ذات صلة قليلة بالواقع، ولم يقتصر التغيير على أسماء الأشخاص والأماكن فحسب، (كما حدث في اختلاط اسم زينوبيا باسم وزيرها زبدي) بل إن الوضع التاريخي قد أصبح مستحيلاً على التمييز. وكل ما بقى لا يتعدّى قصة من قصص المخاطرات التي كان عرب الجاهلية يميلون إلى سماعها، وكما هو الحال اليوم في أبنائهم المحدثين الذين لا يملون سماع قصة عنتر أو ألف ليلة وليلة
ويقال إن أول ملك من العرب الذين استقروا في العراق هو مالك الأزدي الذي رمى بقوس من يد ابنه سليمان وقبل أن يسلم الروح قال بيتاً راح فيما بعد مضرب المثل:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
وقد وحّد مملكة مالك - إذا جاز أن توصف بهذا اللقب - ونظم أمورها ابنُه جذيمة الأبرش (وهو تصحيف أدبي لكلمة أبرص)، الذي حكم كتابع لأردشير بابكان (226م) مؤسس الدولة الساسانية في فارس، التي استمرت مسيطرة على عرب العراق طول فترة ما قبل الإسلام، وإن جذيمة هذا لبطل كثير من الخرافات والأمثال، وكان من كبريائه - كما يقال - إنه لم يكن ليسمح لأحد ما بمجالسته ومنادمته سوى نجمين يسميان بالفرقدين، فإذا ما عاقر الحان صبّ لكل منهما كأساً، وقد علقت أخته بوصيف له يدعى (عديا بن نصر)، وفي لحظة لعبت الخمر برأس جذيمة رضى بزواجها إياه، فبنى عدي بها؛ وفي الصباح، عندما عاد أخوها إلى رشده، وثاب إلى صوابه تميز من الغيظ من تلك الخديعة التي جازت عليه فأطاح رأس الزوج المسكين، وأرغم أخته أن تتزوّج من عبد حقير، ومع ذلك فلما وضعت غلاماً تبنّاه جذيمة وكلأه بعطفه وحدبه؛ واختفى الشاب عمرو ذات يوم فجأة ويئس(181/35)
الجميع من وجوده، وانقضى زمن طويل لم يعثر أحد فيه له على أثر حتى صادفه أخوان: هما مالك وعقيل، وقد وجداه عرياناً متوحشاً يهيم على وجهه، فاهتما به وألبساه ومثلا به أمام الملك الذي غلب عليه السرور فوعدهما ألا يرد لهما طلبة يسألانه إيّاها، فاختارا الشرف الذي لم يجرؤ على طلبه إنسان قبلهما قط: وهو أن يكونا نديميه، وعرفا فيما بعد باسم (ندماني جذيمة)
وكان جذيمة هذا أميراً مفكراً شجاعاً، وفي إحدى حملاته ذبح عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة، وهو رئيس عشيرة عربية كان قد ضم جزءاً من سورية الشرقية وأرض الجزيرة إلى نفوذه، والذي يتضح لنا أنه (كما هو ظاهر من اسم أذينة) كان بعينه أذينة زوج زينوبيا، يؤيد هذا الرأي ما قاله ابن قتيبة (وخطب جذيمةُ الزباء، وكانت بنت ملك الجزيرة وملكت بعد زوجها) وطبقاً لما يراه المؤرخون المسلمون، فقد كانت الزباء ابنة عمرو بن ظرب، واختيرت لتكون خليفته، بعد ترديته في ساحة القتال، ومهما يكن هذا الأمر فقد برهنت على أنها امرأة نادرة الشجاعة ذات عزم جبار، ولكي تأمن شر الغارات شيدت حصنين قويين على شاطئ الفرات جعلت بينهما نفقاً، وأقامت هي في أحدهما وسكنت أختها زينب في الآخر، فلما اجتمع لها أمرها واستحكم ملكها أجمعت على غزو جذيمة ثائرة لأبيها فكتبت تقول له إنها قد رغبت في صلة بلدها ببلده، وإنها في ضعف من سلطانها وقلة ضبط لمملكتها وإنها لم تجد كفؤاً غيره، وتسأله الإقبال عليها وجمع ملكها إلى ملكه، فلما وصل ذلك إليه استخفه الطرب ولم ينتصح برأي مشيره، فقال له قصير مرشده في طريقه (انصرف ودمك في وجهك) حتى إذا شارف مدينتها قال لقصير: (ما الرأي) قال: (ببقّة تركت الرأي) فراحت مثلاً، ثم استقبله رسلها بالهدايا والألطاف فقال: (يا قصير كيف ترى؟) قال: (خطر يسير في خطب كبير، وستلقاك الخيول، فأن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخذت في جنبيك وأحاطت بك فالقوم غادرون، اركب العصا (أي فرسه) فإنها لا تدرك ولا تسبق قبل أن يحولوا بينك وبين جنودك) فلم يفعل، ولما أحيط بجذيمة التفت فرأى قصيراً على فرسه العصا، وقد بعدت ثلاثين ميلاً، وأدخل جذيمة على الزباء، ثم أمرت جواريها أن يقطعن رواهشه في طست من ذهب وقالت: (يا جذيمة لا يضيعن من دمك شيء فإنما أريده للخبل)، ثم سقطت نقطة من دمه على اسطوانة رخام ومات(181/36)
ومضى قصير إلى عمرو بن عدي وطلب إليه أن يثأر لخاله، فقال عمرو: (كيف وهي أمنع من عقاب الجو)، فجدع قصير أنفه وأذنه ودخل على الزباء، وأخبرها أن عمْراً لاحق به لقتله جزاء خيانته فصدقته وأعطته مالاً للتجارة، فأتى بيت مال الحيرة فأخذ منه بأمر عدي ما ظن أنه يرضيها، وانصرف به إليها، ففرحت به، ثم قال لها يوماً: (إنه ليس من ملك ولا ملكة إلا وقد ينبغي له أن يتخذ نفقاً يهرب إليه عند حدوث حادثة يخافها) فقالت له: (قد اتخذت نفقاً تحت سريري هذا يخرج إلى نفق تحت سرير أختي) وأرته إياه، فأظهر لها سروره بذلك وخرج في تجارته وعرف عمرو بن عدي ما فعله، فركب عمرو في ألفي دارع على ألف بعير في الجوالق، حتى إذا صاروا إليها تقدم قصير يسبق الإبل وقال لها: (اصعدي في حائط مدينتك فانظري إلى مالك وتقدمي إلى بوابك)، فلما دخل آخر الجمال نخس البواب عكما من الأعكام، فأصاب خاصرة رجل فصاح، فقال البواب: (شر والله عكمتم به في الجواليق) فثاروا بأهل المدينة وانصرفت الزباء راجعة، فلقيت عمرو بن عدي فمصت خاتمها، وقالت: (بيد لا بيد عمرو)
ولقد بلغت الثقافة في مملكتي الحيرة وغسّان في عصر ما قبل الإسلام شأواً بعيداً في الرقيّ وشعشعت أنوارها، وعمّ أثرها جميع أنحاء الجزيرة العربية، وليس من الإسراف في القول أن نذكر في هذا المجال تاريخ وملابسات الظروف، التي مكنتهم من القيام بنشر الرقي والحضارة
في مستهل القرن الثالث بعد الميلاد كانت هناك بعض قبائل يرجع كلها أو بعضها إلى أصل يمني، وقد عقدت فيما بينها حلفاً وسميت في مجموعها (بتنوخ)، وكانت تلك القبائل تثير بين آن وآخر كثيراً من الاضطرابات، وانتشرت في جميع ربوع إمبراطورية وأغارت على العراق، حتى ألقت عصا التسيار في إقليم غرب الفرات الخصيب، وبينما ظلّ بعض المغيرين يحيون حياة بدوية محضة، اشتغل آخرون بفلاحة الأرض وزرعها، وعلى كر الأيام نشأت المدن والقرى، وكان أعظمها أهمية الحيرة (أي المعسكر) ذات الموقع الصحيّ الجميل وعلى مسيرة عدة أميال قليلة من جنوب الكوفة، بالقرب من بابليون القديم، وطبقا لما ذكره هشام بن محمد الكلبي (+ 819 أو 821م) المؤلف العظيم عن عصر الجاهلية، فقد كان سكان الحيرة في عهد أزدشير بابكان أول ملك ساساني لفارس(181/37)
(226 - 240م) يتكوّنون من ثلاث طوائف هي:
(1) تنوخ: وتسكن غرب الفرات بين الحيرة والأنبار في طنب من وبر الجمال
(2) العباد: ويسكنون البيوت في الحيرة
(3) الأحلاف: ولم يكونوا ينتمون إلى إحدى الطائفتين السابقتين بل ألحقوا أنفسهم بأهل الحيرة، وعاشوا بينهم كأنهم آبقون قتلة يلاحقهم الثأر، أو مهاجرون معوزون يحاولون الاطمئنان على مستقبلهم
وطبيعي أن يؤثر أهل المدن إلى حد بعيد في السكان، ولقد رأينا هشاما يسميهم (العباد) وهذا لفظ غير دقيق تماماً إذ العباد عرب الحيرة المسيحيون، وقد سموا بذلك لاعتناقهم النصرانية، أما العرب الوثنيون الذين سكنوا الحيرة منذ أن أنشئت، وظلوا مقيمين بها، فلم يكونوا يدلون على نقيض المعنى المفهوم من الوثنية. أما لفظ (العباد) فيقصد به خُدَّام الله والمسيح، ولا نستطيع أن نحدد تماماً أيان بدئ إطلاق هذا اللقب على أولئك المتدينين الذين كانوا من قبائل مختلفة، كانت تسكن الحيرة أثناء القرن السادس، وليست التواريخ ذات قيمة كبيرة نسبياً، بيد أن الأمر الذي تجب الإشارة إليه، هو وجود جماعة عربية في فترة ما قبل الإسلام لم تكن قائمة على صلات الدم أو تجمها العصبية، ولكن تربطها روابط روحية أعني بذلك الإيمان العام. أما ثقافة وديانة (العباد) فقد تسرّ بنا إلى أقصى الأماكن والجهات النائية المنعزلة في شبه جزيرة العرب كما سترى ذلك مفصلاً في مكانه الخاص، وكان هؤلاء أساتذة العرب الوثنيين الذين قليلاً ما كانوا يقرءون أو يكتبون كما كانوا عازفين عن التعليم فخورين بجهلهم بالتهذيب الذي يرون فيه نوعاً من المذلة، ومع ذلك نرى أن أرقى العقول ثقافة بين البدو كانت مجذوبة بلا نزاع إلى الحيرة، ولقد وجد شعراء هاتيك الأيام في الأمراء خير مشجع، فزار كثير من شعراء الجاهلية بلاط اللخميين كما اتخذها بعضهم كالنابغة الذبياني وعبيد بن الأبرص دار إقامة
وليس من المهم أن ندخل في تفاصيل غير مجدية كأصل ونشأة دولة اللخميين في الحيرة، ويذكر هشام بن محمد الكلبي إن أول حاكم لخمي كان يدعى (عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن لخم) وهو الذي تبنّى جذيمة والذي انتقم له من الملكة الزّباء، ولسنا ندري في الغالب شيئاً عن خلفائه، حتى نصل إلى النعمان الأول المسمّى بالأعور، والذي كان حكمه(181/38)
في الربع الأول من القرن الخامس الميلادي، وقد اشتهر النعمان هذا بأنه باني الخورنق، وهو قصر فخم بقرب الحيرة بناه في عصر الملك الساساني يزدجرد الأول الذي أراد مسكناً صحياً لابنه الأمير بهرام جور، وعند إتمامه أمر النعمان بأن يلقى مهندسه الروماني سنمار من شاهق البنيان، إما لافتخاره بأنه كان يستطيع إقامته بناء عجيباً يدور مع الشمس حيث دارت، أو خوفاً من أن يذيع مكان حجر خاص إذ أزيح من مكانه انهار البناء كله. وفي صباح يوم من أيام الربيع أخذ النعمان مجلسه في الخورنق مع وزيره، وأشرف على النجف وحدائقها وما فيها من نخيل وعيون، وأدار بصره في جميع النواحي شرقاً وغرباً، فلما امتلأت نفسه بسحر ما رأى قال لوزيره:
- أرأيت مثل هذا؟
- كلا. ولكن لو دام!
- وما الذي يخلد؟
- ما عند الله في السماوات
فسأله النعمان: كيف يتوصل المرء إلى ذلك؟ فأجابه الوزير: بالعزوف عن الدنيا والتفاني في خدمة الاله، والكفاح من اجله. ويقال إن النعمان آلى على نفسه حينئذ أن يهجر مملكته، حتى إذا ما أقبل الليل تدثر بثوب خشن، وتسلّل في جنح الظلام، وساح في الأرض فلم يره أحد بعد ذلك؛ ويظهر أن هذه الأسطورة قد تبلورت وتضخمت من هذه الأبيات التي نظمها عدي بن زيد العبادي:
وتدبّر ربّ الخورْنق إذ أش ... رف يوماً والهدى تفكيرُ
سره حاله وكثرة ما يم ... لك والبحرُ معرضاً والسدير
فأرعوى قلبه فقال: (وما غِبْ_طة حي إلى المماتِ يصيرٌ؟
ثم بعد الفلاحِ والملك والأمَّ ... ة وارتهمُ هناك القبور
ثم أضحوا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور
أما ما يراه جمهرة مؤلفي العرب من اعتناق النعمان المسيحية فليس له أساس من الصحة، وإن كان هناك ما يبعث على الاعتقاد بأنه كان ميالاً إليها، إذ كانت الحرية الدينية مطلقة لرعاياه المسيحيين، كما ورد ذكر حبر مسيحي بالحيرة سنة 410م(181/39)
(يتبع)
ترجمة حسن حبشي(181/40)
6 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الملذات والشهوات
إذا كان لك فضيلة يا أخي، وكانت هذه الفضيلة خاصة بك فأنك لا تشارك فيها أحداً سواك. ولا ريب في أنك تريد أن تدعوها باسمها وتداعبها لتتسلى بها، ولكنك بهذا أشركت بها الناس بما أطلقت عليها من تعريف، فأصبحت أنت وفضيلتك مندغمين في القطيع
خير لك يا أخي أن تقول: إن ما تلذ به روحي وتتعذب به يتعالى عن الإيضاح، ويجل عن أن يسمى، وهذا العجز عن إدراكه يخلق المجاعة في أحشائي
لتكن فضيلتك أسمى من أن تستخف بالأشياء عند تحديدها، وإذا ما اقتحمت هذا التحديد، فلا تستحي من أن تتلفّظ به تمتمةً، فقل وأنت تتمتم:
- إن هذا هو خيري الذي أحب، إن هذا ما يثير إعجابي، فأنا لا أريد الخير إلا على هذه الصورة. لا أريد هذه الأشياء تبعاً لإرادة ربّ من الأرباب ولا عملاً بوصية أو ضرورة بشرية، فأنا لا أريد أن يكون لي دليل يهديني إلى عوالم عليا وجنات خلود. . .
قل: ما أحب سوى فضيلة هذه الأرض، لأن ما فيها من الحكمة قليل، وأقل منه ما فيها من صواب متفق عليه. إن هذا الطير قد بنى عشه على مقربة مني، لذلك أحببته وعطفت عليه، وها هو ذا الآن يحتضن عندي بيضه الذهبي
على هذه الوتيرة تكلّم وأنت تتمتم ممتدحاً فضيلتك
لقد كان لك فيما مضى شهوات كنت تحسبها شروراً، أما الآن فليس فيك إلا الفضائل، وقد نشأت هذه الفضائل من شهواتك نفسها، لأنك وضعت في هذه الشهوات أسمى مقاصدك فتحولت فيك إلى فضائل وملذات هي منك ولك، ولسوف ترى جميع شهواتك تستحيل إلى فضائل، ولسوف ترى كل شيطان فيك يستحيل ملاكاً حتى ولو كنت ممن يستسلمون للغيظ والشهوات وكنت من فئة الحاقدين المتعصبين
لقد كانت الكلاب المفترسة تسكن دهاليزك من قبل، فها هي ذي الآن أطيار مغرّدة. لقد(181/41)
استقطرت بلسماً من سمومك وحلبت ناقة الأوصاب، وأنت الآن تكرع لذيذ دَرِّها
لن يخلق شرٌّ منك بعد الآن؛ غير أن هنالك شراً قد ينشأ من تخاصم فضائلك. فأصغ إليّ، يا أخي! إنك إذا شعرت بسعادة فما يكون ذلك إلا لفضيلة مستقرة فيك وهي تسهِّل اجتياز الصراط عليك
إنها لمزية أن تكون للإنسان فضائل عديدة، غير أن تعدّد الفضائل يرمى بالإنسان إلى أشقى الحظوظ. وكم من مجاهدٍ أرهقه النزال في ساحات الفضائل فتوارى لينتحر في الصحراء
إذا كنت ترى المعارك والحروب شروراً، فاعلم يا أخي أنها شرور لا بد منها، لأن للحسد والريبة والشتيمة مقامها المحترم بين فضائلك نفسها. تبصر ترَ أن كلا من فضائلك تطمح إلى المقام الأسمى وتطمع في الاستيلاء على جميع أفكارك لتستعبدها وتحصر بها وحدها كل ما في غضبك وبغضائك وحبك من قوة
إن كلا من فضائلك تحسد الأخرى، والحسد هائل مريع يتناول الفضائل أيضاً فيبيدها
إن من يحيط به لهيب الحسد تنتهي به الحال إلى ما تنتهي العقرب إليه فيوجه حمته المسمومة إلى نحره
أفما رأيت، يا أخي، من الفضائل من تشتم نفسها وتنتحر؟
ليس الإنسان إلا كائناً وجب عليه أن يتفوق على نفسه، لذلك حقَّ عليك، يا أخي، أن تحب فضائلك لأنك بها ستفنى هكذا تكلم زارا. . .
المجرم الشاحب
أفما تريدون أن تنزلوا القصاص، أيها القضاة والمضحون، ما لم يهز الحيوان رأسه؟ إليكم رأس المجرم الشاحب، إنها لترتعش؛ وها إن أفظع احتقار يتكلم في نظراته
إن عيني المجرم تقولان لكم ما الشخصية إلا شيء وجب علينا أن نتسامى فوقه؛ وما شخصيتي إلا عظيم احتقاري للبشر
لقد انتهى أجل هذا المجرم عندما أصدر حكمه على نفسه؛ فلا تتركوا للتسامي سبيلاً يندفع منه إلى الانحطاط. عاجلوه بالموت فهو المنفذ الوحيد لمن بلغ عذابه بنفسه هذا الحد البعيد
ليكن قصاصكم، أيها القضاة رحمة لا انتقاماً. وإذا ما حكمتم بالموت فلتكن غايتكم تبرير(181/42)
الحياة. لا يكفيكم أن تقيموا السلم بينكم وبين من تقتلون، بل يجب أن يكون حزنكم تعبيراً عن ولهكم بالإنسان الكامل. وهكذا تبررون الاستبقاء على أنفسكم
قولوا إن هذا الرجل عدوٌ ولا تقولوا إنه سافلٌ. صفوه بالمرض لا بالدناءة. اعتبروه مختّلاً لا مجرماً. وأنت أيها القاضي لو أنك تعلن للملأ، وأنت في برودك الحمراء، ما ارتكبت من مآتٍ في تفكيرك، لكنت تسمع الناس يهتفون قائلين: اخلعوا هذا الرجل عن كرسيه فهو ممتلئ أقذاراً وسموماً
ولكن الفكرة شيء والعمل شيء آخر، كما أن شبح العمل شيء مستقل بنفسه أيضاً. فليس بين هذه الأشياء الثلاثة أية علاقة يصح أن تعتبر علاقة العلة بالمعلول
إن شبح الجريمة كان صورة لاحت لهذا الرجل فعلا وجهه الاصفرار، لأنه عندما ارتكب جرمه كانت قوته على مستواها، ولكنه ما أتم الجرم حتى وهنت تلك القوة فلم يستطع أن يتفرّس في شبح جرمه
لقد لاح لهذا الرجل أنه ارتكب فعلة واحدة لا غير، وبذلك يقوم جنونه لأن الشواذ تحوّل إلى قاعدة في كيانه. إن الدائرة التي يرسم خطها المجرم هي قيد الأفكار، إذ يصبح كالفرخة يرسم المنوّمُ حولها دائرة فلا تستطيع اجتياز خطّها. وهكذا لا يكاد المجرم يخرج من جرمه حتى يدخل في دائرة جنونه
أصغوا إليّ، أيها القضاة؛ إن الجنون الذي يتلق العمل إنما تقدّمه جنونٌ آخر قبله؛ وانتم لم تسبروا روح المجرم إلى أقصاها
إن القاضي الأحمر يتساءل عن سبب إقدام المجرم على القتل، فيقول في نفسه إن القاتل أراد السرقة أولاً، أما أنا فأقول إن نفس المجرم لم تقصد السرقة بل طلبت إراقة الدماء، لأنها كانت ظامئة إلى إغماد النصل. إن عقلية المجرم لم تفهم هذا الجنون فاندفع إلى ارتكاب جرمه، وعقليته تناجيه قائلة: ما يهمك أن تريق الدماء ما دام جرمك يوصلك إلى السرقة أو الانتقام. لقد أصغى المجرم إلى صوت عقليته المسكينة لان ما أسرّت به إليه كان ثقيلاً كالرصاص، فسرق بعد أن قتل لأنه أراد أن يبرّر جنونه ولا يخجل منه
وعاد جرمه فثقل عليه كالرصاص أيضاً، فثقل عقله المسكين فاستولى عليه التخدّر والشلل. ولو أن هذا المجرم تمكّن من أن ينتفض بهامته لكان تهاوى حمله الثقيل عنه، ولكن من(181/43)
كان سيهزّ له رأسه يا ترى؟
لو أنك أنعمت النظر في هذا الإنسان، لما تجلّى لك إلا مجموعة علل تتطلع بالعقل إلى العالم الخارجي مفتشة عن غنيمة تظفر بها
ليس هذا الإنسان إلا كتلة أفاع اشتبكت وهي في تدافع مستمر لا تستكن إلا لتتفكك منسابة في شعاب الدنيا تسعى وراء غنائمها
انظروا إلى هذا الجسم المسكين! إن روحه الضعيفة طمحت إلى استكناه ما في الجسم من ألم ورغبات، فخيّل لها أنها متشوقة إلى القتل
إن من يتسلط عليه هذا المرض في هذه الأيام لتباغته شرورها فيريد أن يعذب الآخرين بما يتعذب هو به؛ غير أنه قد مرّ زمان من قبل كان له خير وشر، هما غير خير هذه الأيام وشرها. ذلك زمان كانت تحتسب فيه شكوك الإنسان ومطامعه جرائم عليه، فكان المبتلى بالشكوك والمطامع يعدّ ساخراً ومنشقاً عن المجتمع فيعمد هو إلى تعذيب الآخرين بعذابه
إنكم لا تريدون الإصغاء إلى أقوالي إذ ترونها تلحق الضرر بالصالحين بينكم، ولكنني لا أقيم وزناً لرجالكم الصالحين
إن في هؤلاء الرجال من تشمئز منه نفسي؛ وليس ما أكره فيهم ما يُعدّ من الشرور، فإنني أتمنى لهم جنوناً يوردهم الردى كجنون المجرم الشاحب
والحق أنني أريد أن يدعى هذا الجنون حقيقة أو إخلاصاً أو عدلاً، لأن فضيلة هؤلاء الناس لا تقوم إلا على إطالة عمرهم لقضائه بالملذّات السافلة ولا ملذّة لهم إلا بالارتياح إلى نفوسهم والرضى عنها
ما أنا إلا حاجز قائم على ضفة النهر، فمن له قدرة على التمسك بي فليفعل، ومن لا طاقة له على ذلك فلا يظن أني سأكون في يده يقبض علي كما يقبض الكسيح على عصاه
هكذا تكلم زارا. . .
القراءة والكتابة
إنني أستعرض جميع ما كُتب، فلا تميل نفسي إلا إلى ما كتبه الإنسان بقطرات دمه. اكتب بدمك فتعلم حينئذ أن الدم روح، وليس بالسهل أن يفهم الإنسان دماً غريباً. إنني أبغض كلّ قارئ كسول لأن من يقرأ لا يخدم القراءة بشيء، وإذا مرّ قرن آخر على طغمة القارئين(181/44)
فلابد من أن تتصاعد روائح النتن من التفكير
إذا أُعطى لكل إنسان الحق في أن يتعلم القراءة، فلن تفسد الكتابة مع مرور الزمان فحسب، بل إن الفكرة نفسه سيفسد أيضاً
لقد كان الفكر فيما مضى إلهاً فتحوَّل إلى رجل؛ وها هو ذا الآن كتلة من الغوغاء. إن من يكتب سُوَراً بدمه لا يريد أن تتلى تلك السورة تلاوة، بل يريد أن تستظهرها القلوب
إن أقرب الطرق بين الجبال إنما هو الخط الممتد من ذروة إلى ذروة، ولا يمكنك أن تتبع هذا السبيل إذ لم تكن لك رجلا مارد. يجب أن تكون التعاليم شامخة كهذه الذرى، وأن يكون لمن تلقن لهم قوة الجبابرة وعظمتهم
لقد رقّ النسيم وصفاً، وهذه المخاطر تحدق بي عن كثب، وفكرتي تتخطر مرحة في قسوتها؛ أمامي الصراط الممهد فلأتخذنّ من الجن أتباعاً. أنا ربّ الجسارة والعزم؛ ومن توصل بأقدامه إلى طرد الأشباح لا يصعب عليه أن يخلق من الجنّ له أتباعاً
لقد تاقت شجاعتي إلى الضحك، وقد انقطع كل حبل بيني وبينكم. إن السحب المتمخّضة بالعواصف لهي سحبكم السوداء الثقيلة وأنا أهزأ الآن بها
إنكم تنظرون إلى ما فوقكم عندما تتشوقون إلى الاعتلاء، أما أنا فقد علوت حتى أصبحت أتطلع إلى ما تحت أقدامي. فهل بينكم من يمكنه أن يضحك وهو واقف على الذرى
من يحوِّمْ فوق أعالي الجبال يستهزئ بجميع مآسي الحياة، ويستهزئ بمسارحها، بل بالحياة نفسها
تريدنا الحكمة شجعاناً لا نبالي بشيء، تريدنا أشداء مستهزئين، لأن الحكمة أنثى، ولا تحب الأنثى إلا الرجل المكافح الصلب
تقولون لي إن الحياة وقر ثقيل، فقولوا لي أيضاً لماذا تقابلون الصباح بغروركم، ثم يجيء المساء فلا يجد فيكم إلا المذلة والخضوع؟
إن الحياة جدّ ثقيلة، ولكن ما هذا الخورُ الذي يبدو عليكم؟ أفلسنا كلنا دواب ولكل دابَّة منا وقِرُها؟ وهل من شبه بيننا وبين برعم الورد، يرتجف متضايقاً لسقوط قطرة الندى عليه!
لا ريب أننا نحب الحياة، وليس سبب ذلك لأننا تعودناها، بل السبب في أننا تعوّدنا حب الحياة(181/45)
إن في الحب شيئاً من الجنون، ولكن في الجنون شيئاً من الحكمة. وأنا نفسي التائق إلى الحياة يتراءى لي أن خيرَ من يدْرك السعادة إنما هي الفراشات وكرات الصابون الفارغة، ومن يشبهها من الناس. ولا شيء يبكي زارا ويدفعه إلى الإنشاد كنظره إلى هذه الأرواح الصغيرة الخفيفة الرائعة الدائمة الخفقان في جنونها
إن الإله الذي يمكنني أن أومن به إنما هو الإله الذي يمكنه أن يرقص
عندما تراءى لي الشيطان رأيته جامداً مستغرقاً ملؤه الجد والجلال، فقلت هذا هو الروح الثقيل الذي تتساوى جميع الحالات لديه
إذا أردت القتل فلا تستعن بالغضب، بل استعن بالضحك. فهيّا بنا نقتل الروح الثقيل
إنني ما زلت راكضاً منذ تعلمت المشي. وهأنذا أطير الآن ولست بحاجة إلى من يدفعني لأتحرك
لقد أصبحت خفيفاً، فأنا أطير مشعراً بأنني أحلّق فوق ذاتي وأن إلهاً يرقص في داخلي
هكذا تكلم زارا. . .
(يتبع)
فليكس فارس(181/46)
مشرقيات
في الأدب العربي الحديث
للأستاذ أغناطيوس كراتشقويفسكي
الأستاذ بجامعة ليننجراد
بقية ما نشر في الأعداد السابقة
إن مسألة لغة الحوار في التأليف المسرحي قد تبدو ذات أهمية أكثر منها في عالم القصة. ويستدل من الاتجاه السائد أن اللغة العربية الفصحى احتفظت حتى الآن بقواعدها، لكن هناك محاولات جديرة بالاهتمام، مشبعة بروح متناقضة. ولنذكر منها محاولات جلال وتيمور. وكثيراً ما ظهرت مؤلفات نظرية تشير إلى ضرورة انتهاج تقاليد أدبية ثابتة. بل إنه قام جدال قلمي حاد في سوريا، عند ظهور مؤلفات مارون غصن، (المولود في سنة 1881)، فالموضوع يثير اهتمام الباحث المدقق، لكن حله ليس من السهولة بمكان
ومما تجدر ملاحظته أن القصصي محمود تيمور، الذي كان يكثر من استعمال العامية في الطبعات الأولى من مؤلفاته، عاد يكتب بعدئذ بلغة هي أقرب إلى الفصحى، وذلك على الرغم من أنه - نظرياً - ينبأ بمستقبل العامية المصرية ويدافع عنها
وفي مؤلفات توفيق الحكيم المسرحية، نراه يجمع بمهارة بين اللهجة العامية في الحوار وبين اللغة الفصحى عندما يدون ملاحظاته أو وصفه. وقد دلت التجارب العملية على أن هذا الحل هو خير الحلول الوسطى في الوقت الحاضر
ء - أنواع أخرى
إن تاريخ تقدم الأدب العربي الجديد محاط ببعض الظروف الخاصة التي تضطرنا إلى الولوج في بعض أنواع قد تترك جانباً إذا أثير البحث حول ما اتفق على تسميته (الأدب). مثال ذلك الصحافة، فقد لعبت بأسرها دوراً من المرتبة الأولى في الأهمية، إذ كانت مدرسة لا للقراء فحسب، بل وللكتاب أنفسهم، فكان ما ينشره الكتاب من المقالات في الصحف يساعدهم على تحسين أسلوبهم شيئاً فشيئاً، وذلك يؤثر في كتابتهم عندما يتناولون الأنواع الأخرى(181/47)
وأشد هذه الأنواع تأثراً: النثر الخطابي (السياسي وغيره) وهكذا نشأت أبحاث في النقد وتاريخ الأدب، ورسائل أدبية مختلفة، تذوقها الجمهور، إذ وصلت في أسلوبها إلى مرتبة الشعر المنثور. وسار هذا الأسلوب الخاص بالصحف والمجلات والرسائل سريعاً في طريق التقدم. نعم، إن القرن التاسع عشر لم ينتج شيئاً جديراً بالاهتمام، لكننا لا نستطيع أن ننكر أثر البستاني ونشراته الدورية العديدة. وقد تخرج في تلك المدرسة عدد كبير من الصحفيين أمثال أديب اسحق، الخطيب الملتهب حماسة، ونجيب حداد الذي اتجهت ميوله إلى الجدل الفلسفي
وكان للهجرة إلى أوربا بعض الشيء من الأهمية، إذ أنجبت شخصيات فذة عديدة، مثل الشدياق وخصمه رزق الله حسون المتوفى في سنة 1880، ورشيد الدحداح الذي امتاز بما نشره من المؤلفات القديمة (1813 - 1889). وفي خلال المدة من سنة 1880 إلى 1890 اجتازت مصر نقطة من أدق النقط في تاريخها. فعلى أثر نشوب الثورة العرابية بدت في الأفق شخصية عبد الله نديم (1844 - 1896) الذي أخذ يعالج في صحف عدة المسائل الاجتماعية والسياسية بأسلوب لاذع وفي لغة الكلام العادية. ومثله يعقوب صنوع (1839 - 1912) المعروف باسم الشيخ أبو نضارة والذي أقام فترة طويلة في فرنسا. أما عبد الرحمن الكواكبي (1849 - 1903) فكان في شبه عزلة عن كتاب عصره. كان الكواكبي رحالة ثائراً، يحلم بالجامعة الإسلامية، وقد أنشأ في كتابه (أم القرى) فكرة خيالية رائعة عن مؤتمر الاتحاد الإسلامي بمكة المكرمة
في خلال تلك المدة، أخذت مدرسة الشيخ محمد عبده تنمو وتقوى. ومن الذين تخرجوا في تلك المدرسة سعد زغلول (1859 - 1927) أشهر خطيب سياسي في مصر الحديثة، فلم يكن له نظير في مستهل القرن العشرين سوى مصطفى كامل (1874 - 1908) مؤسس الحزب الوطني. أما الذين خلفوا الشيخ عبده مباشرة، فقد وقفت جهودهم عند أبحاث إسلامية بحتة في التفسير وفي الدفاع عن الإسلام، ولم تحدث أي أثر واقع في الحركة الأدبية. وهذه الملاحظة تنطبق على أمثال محمد رشيد رضا، وهو أدقهم محافظة وأشهرهم. ومحمد فريد وجدي (المولود في سنة 1875)، وهو أكثرهم تشبعاً بالروح العصرية
وفاقت شهرة علي يوسف (1863 - 1913) - منشئ (المؤيد) - في عالم الصحافة(181/48)
شهرته في أي ميدان آخر. ولا يزال الأمير الدرزي شكيب أرسلان نزيل أوربا منذ سنوات، يشغل المقام الأول. واستأنفت المدرسة الصحفية السورية تقاليدها في مصر، بفضل يعقوب صروف (1852 - 1925) صاحب المقتطف، وسليمان البستاني (1856 - 1925) الرحالة النابه، ومترجم الإلياذة، وقد كتب عن تركيا مؤلفاً جاء فيه بأحسن الأوصاف عن حالة العرب الاجتماعية قبل الحرب العظمى. وللأسلوب العلمي الفلسفي الذي امتاز به البستاني نقيضه فيما كتبه ولي الدين يكن (1873 - 1921) من مقالات ورسائل، وقصائد
كان ولي الدين من أشد أنصار التقرب من الأتراك والعرب، فراح يصنف بعبارات تلتهب حمية وحماسة، وفي صور مؤثرة أيام أسره في إستامبول في عهد السلطان عبد الحميد، وما شاهده من المفارقات الاجتماعية في تركيا
وامتاز مصطفى لطفي المنفلوطي - وهو أصغر تلاميذ الشيخ عبده سناً - بما بذله من الجهود الموفقة لابتكار أسلوب جديد شائق، ويمكننا أن نقول إنه نجح نجاحاً كبيراً عن جدارة واستحقاق. أما البحث فيما إذا كانت المؤلفات العديدة التي نقلها بتصرف عن أصلها الأوربي قد أفادت القراء من حيث فهمها على حقيقتها، فهذا موضوع بحث آخر
وأظهرت المدرسة السورية ميلاً خاصاً إلى الرسائل والشعر المنثور. ويعتبر أمين الريحاني مبتكر هذين النوعين، وهو كاتب معروف، حائز حسن التقدير. وكان أول من رفع فن الرسائل والشعر المنثور إلى المكانة الأولى وضمن لهما شهرة ذائعة، وقد ظل مخلصاً لفنه، كما هو واضح في مؤلفاته الأخيرة. ومثله جبران خليل جبران، فانه تفرغ إلى هذين النوعين، بل إن جل مؤلفاته دواوين من الشعر المنثور أو رسائل تحوم حول نظرية خاصة أو فكرة مركزية. ثم سارت المدرسة السورية المتأمركة في طريق التنويع (مثال ذلك: ميخائيل نعيمة) لكن الأفضلية ظلت للرسائل والشعر المنثور. وهذه الرسائل، مع اختلاف مضمونها، تعد أهم مميزات المدرسة الحديثة، وإن كانت في مصر توجه عناية واهتماماً خاصاً إلى مسائل تاريخ الأدب، والفلسفة، والاجتماع
ومن الأمور الغريبة الجديرة بالملاحظة أن كتب رواد هذه المدرسة (كمنصور فهمي والعقاد وهيكل والمازني وسلامة موسى) إن هي إلا مقالات سبق أن نشرت على صفحات(181/49)
المجلات والصحف اليومية، وهو دليل على حيوية هذا النوع، بل برهان ساطع على الأثر القوي الذي تركته الصحافة الدورية بالنسبة لتقدم الأدب
ترجمة محمد أمين حسونه(181/50)
من ذكريات رحلة الجامعة المصرية إلى أوربا
زاكوبانا
مدينة الأحلام والثلج
بقلم محمد عبد الرحيم عنبر
كان من برنامجنا الطويل أن نزور بولندا، فوصلنا عاصمتها الجديدة (فارسوفيا) في مساء 17 أغسطس الماضي، كما كان من المقرر أن نقيم فيها ثمانية أيام، إلا أن أموراً شاقة عرضت فجعلت رئيس الرحلة يغير وجهة السير، إذ أن شرذمة كبيرة من مهرة (النشالين اليهود) قد احتفت بمقدمنا الاحتفاء اللائق! ومما زاد في مضايقتنا إجراءات البوليس البولندي التي كان لها كل الفضل في تأخير وصلوا حقائبنا إلى (بيت الطلبة) القذر الذي هيئ لأقامتنا!. وكان أغلبنا قد غلبه النعاس من فرط الإعياء فأسلم عينيه لسلطان الكرى ونام ببذلته نوماً هنيئاً حتى تبدت خيوط الصباح في اليوم التالي. وفي ذلك اليوم استفحلت احتفاءات النشالين إلى درجة مزعجة
فكان طبيعياً أذن أن يستقر بنا الفكر على مغادرة فارسوفيا بعد إذ جاهدنا جهاد الأبطال في الذود عن (جيوبنا) مما محا من نفوسنا جمال كل رؤية!
وعلى رصيف المحطة حدثني أحد الأولاد البولنديين عن هذه الظاهرة في أسف قائلاً لي: (يؤلمنا جداً أن يزعجكم أولئك النشالون الدوليون من سفلة اليهود الذين تضيق بهم بلادنا!) فشكرته وطيبت خاطره لكي أذهب عن وجهه لمعة الخجل
وبعد سفر شاق دام عشر ساعات بالقطار بلغنا زاكوبانا. وكم كان المنظر رائعاً حين كنا نعدو سراعاً خفافاً، كل خمسة منا في عربة رشيقة صغيرة ذات حصان واحد ينهب الأرض نهباً، ويطوي المسافات الطويلة صاعداً فوق صدر ربوات عاليات في طريقنا إلى فندق (مارتون الجميل الذي يطل على قلب المدينة من فوق ارتفاع تسعمائة متر، ارتفاع شاهق يتيح للنزل أن يدوروا بأعينهم فوق آفاق الجبال السامقة المترامية الأطراف، ذات التيجان الثلجية؛ أو أن يرسلوا أنظارهم بعيداً إلى حيث تفترش أشعة الشمس رقع الأرض ذات الألوان الصارخة المختلفة؛ وأينما تقع أبصارهم يشاهدوا جمالاً أخاذاً، ويروا صوراً(181/51)
مختلفات من سحر الطبيعة الخالدة. فها هي ذي تلك الذرى الشاهقة - ذرى الجبال - تلتحف بأوشحة رمادية فاتنة من ضباب كثيف لا يلبث أن يستحيل رذاذاً خفيفاً ثم مطراً ثقيلاً يتجمع ليفترق لينتهي إلى جداول ضئيلة تتشابك أو تتشعب، وتلتوي أو تستقيم، وتنتهي بدورها إلى مجار أوسع تعترضها صخور ضخمة ترقاها المياه بعد صراع عنيف تنبعث في لحظات عنفوانه ألحان الانتصار وأنغام موسيقية شجية فتنة الناظرين ومرح السامعين!
وها هي ذي الغابات الكثيفة تزين كل مكان وتهز في النفوس حنين الالتجاء إلى أحضانها، في ظل أشجارها الباسقة، وتحت أغصانها المتهدلة، لقضاء ساعات طوال بين الخضرة والماء والوجه الحسن!
وههنا وهناك المنازل الخشبية الريفية على صدر الجبال وقممها أو على قلب السهول، متقاربة حيناً ومتباعدة أحياناً. وتبدو جلية طوراً تحت أشعة الشمس وبين الرياض النضرة كأنما هي زهرات من بنفسج فضاح! وشاحبة طورا بين لفائف الضباب كأنها فكرة سابحة في خيال شاعر مفتون!
فكيف إذن لا تكون زاكوبانا مدينة الخيال والأحلام؟
وزاكوبانا ليست مصيفاً فقط، كما أنها ليست مشتى فقط، بل هي هما معاً. فالمعجبون بها يرحلون إليها في الصيف كما يرحلون إليها في الشتاء، ويبهرهم جمالها في الفصلين. فإذا زرتها في الصيف فلست منتّهياً من سماع وصف الشتاء حين يهبط بثلوجه فتتحول تلك البقاع الخضراء الضاحكة إلى بساط فاتن من الثلج فتتيح للناس الانزواء في منازلهم يلتمسون الدفء والراحة. وتعطي الأزواج فرصة الأوبة إلى زوجاتهم مبكرين على غير العادة! ولا يخرج إلا أولئك الراغبون في الانزلاق على الجليد. عادة شائعة في تلك البلاد
فإذا كان الشتاء حدثوك عن جمال الصيف وسحره. الصيف المفتون حيث تطوى شمسه الدافئة ذلك البساط الرهيب وتدفع بأفواج الناس إلى أحضان الغابات، راجلين أو فوق ظهور الجياد. حيث تدب الحياة من جديد في الكائنات المقرورة. حيث تلبس الطبيعة رداءها الجديد! فالناس هناك لذلك تواقون إلى الرياضة العنيفة. وتتجلى هذه الروح في الطفل والشاب والشيخ! في الرجل والمرأة! في الفقير والغني! في العاشق والخلي! في كل(181/52)
كائن حي حتى الحيوان الذليل. . .
والقوم هناك لا يألون جهداً في توفير أسباب السعادة حيث يعيشون عيشة الفطرة وينزعون عن أجسامهم المنهكة أردية السهرات الأنيقة وملابس العمل الثقيلة. فلا كلفة ولا تصنع ولا رياء ولا حقد ولا مفاخرة كاذبة. تأويلهم المدنية كلهم على السواء، ولا تجعل لأحدهم مجال الفضل على آخر، كأنهم أسرة واحدة يخرجون إلى الشوارع (بالبيجامات) وأثواب النوم. ذلك الأمر المستقبح في مدن العمل والرسميات. يتبادلون المجاملات الرقيقة كأنهم متعارفون متوادون منذ زمن بعيد
ولم يحاول أهل تلك البلاد زخرفة الطبيعة. بل تركوها كما هي بزركشتها الإلهية. وإن كان هناك ثمة مجهود يبذله الإنسان فهو في الاستمتاع بسحر الطبيعة ليس إلا؛ فيتسلق الجبال أو ينزلق على الثلج،. . . الخ. وزاكوبانا في كل هذا كالجمهورية الفاضلة التي أسسها أفلاطون في خياله الواسع!.
تكفي نفسها بنفسها وتعيش بذاتها لذاتها. يكاد يشعر المقيم بها أن تلك المدينة الوديعة هي كل ما يستطيع أن يتصور من الدنيا
وفيها السهرات الصاخبة التي تصل الليل بالنهار، وتجعل السهران يستطيع أن يقول في شيء من الزهو - إن كان هناك ثمة مجال لزهو - (بدأت سهرتي تحت ضوء القمر وختمتها تحت ضوء الشمس!)
وإن أنس لا أنس تلك الليلة البارعة التي أمضيناها في كازينو وتشاسكا حيث سعدنا ساعتين أو يزيد بمشاهدة الرقصات القومية التقليدية التي يؤديها الوطنيون في ثوبهم الوطني الموشى بالقصب والحرير ذي الألوان الفاقعة. يؤدونها رجالاً ونساء وأطفالاً! يختلط الحابل فيهم بالنابل. يأخذ الرجل يد أية امرأة يقع عليها بصره! ويمسك الطفل الغرير - مازحاً - بذقن الشيخ العجوز المائل على حافة القبر! ويحتضن الشاب الغريب الفتاة المكتملة ذات الصدر الناضج! فيدورون جميعاً في حلبة الرقص، يتجاذبون ويصفقون ويلفون لفات سريعة بارعة على كعوب أحذيتهم أو أطراف أصابعهم! ضاحكين متراقصين
وصعدنا مرات جبال تاتري راجلين أو ممتطين (القطار المعلق) إلى حيث ارتفع بنا نحو ألفين وخمسمائة متر فوق سطح البحر! نوع غريب من المواصلات لا يوجد إلا حيث(181/53)
تتناهى الجبال إلى مثل هذا الارتفاع الشاهق كسويسرا.
وهو عبارة عن صندوق ذي أركان من الصلب وجدران من الزنك، معلق في أسلاك قوية شدت إلى أعمدة متينة رفعت فوق ذرى الجبال السامقة. وفي كل ذروة محطة كبيرة، ومكتبة وبوفيه صغيران
وزاكوبانا ككل قرية أوربية بها دار للسينما وأخرى للتمثيل وناد للرياضة. وتتوفر فيها كل أسباب الحياة من حوانيت ومقاه ومستشفيات وفنادق. . . الخ
وتنتشر هناك على الأخص الصناعات الخشبية الرفيعة كالتماثيل وأدوات المكتب والزينة والعصي لوفرة الخشب المجلوب من الغابات الكثيفة
هذه هي زاكوبانا التي تفتح ذراعيها لكل قادم. وتتألم لكل راحل بعد إذ يكون قد أنشأ بينه وبين المقيمين بها علاقات ودِّ وصداقة! المدينة التي تأوي كل هارب من مضنيات الحياة، كل ناشد راحة ومتعة وسعادة وجمالاً!
وأخيراً! المدينة التي قضينا في رحابها ستة أيام بين جمال لا ينتهي وسحر لا يوصف. والتي غادرناها محملين منها في جعابنا بمقادير غير محصورة من الأحلام والشعر!
ولعل كثيراً منا دخل إليها وقد أقفلت دونه أبواب الشعر والنثر، وخرج منها شاعراً مجيداً وأديباً فريداً!!. . .
محمد عبد الرحيم عنبر
بكلية الحقوق - الجامعة المصرية(181/54)
القصص
راعية الغنم
للآنسة جميلة العلايلي
هناك في أعماق الصحراء النائية اتخذت راعية الغنم مأواها؛ وعند شط البحر الزاخر بأمواج الأزل استقر بها المقام، حيث تختلط أضواء السماء بظلال الأجواء، ويبدو الفضاء كأنه مرآة لصورة اللانهاية
في هذه الدنيا المجهولة اتخذت الراعية سكنها أو معبدها كما نظن وهي لا تدري كيف استطاعت أن تعبر محيط الحياة المحدود لتعيش في كنف الوحشة الهائلة التي لا حد لها، وكيف تمكنت من تحكيم التقاليد المرعية لتقيم لنفسها حياة لا وزن لها ولا قيمة في نظر المجتمع الإنساني
كذلك لا تدري كيف تمكنت من مغالبة رغبات الشباب وأهواء الصبا ونزعت راضية إلى حياة التقشف والحرمان
وتحار أيضاً في تفهم حياتها بقدر حيرتها من خضوعها لقوة قاهرة مجهولة ساقتها دون وعي منها إلى هذه الحياة الجرداء
وهي تذكر ماضيها القريب بما يحمله من نعم الحياة ومباهج الترف والملذات وأطايب الوجود كأنه حلم مر بها لحظات من الزمن الحالم، ولكنها لا تذكره بحنين ولا تتوق إليه ولا تتمناه، وهي تتأمل نفسها في حاضرها فيحلو لها أن تشعر بقدرتها التي حملتها - وهي لم تتعد بعد العشرين من عمرها - إلى اجتياز عقبات الحياة، وقد عبرت محيط الوجود في غير خوف، وحطمت تقاليد المجتمع الغاشمة في غير لين. . .
إنها تضحية هائلة منها بلا ريب، إذ كيف يمكن لإنسانة رقيقة ناعمة شديدة الحساسية أن تعيش في دنيا موحشة مليئة بالمخاوف والأوهام! إنها تشعر بذلك، ولكنها تعرف أيضاً أن الوحشة الهائلة والخوف المروع والسكون الرهيب أهون من أباطيل المدنية وتهاويل الجموع ومساوئ البشر، وأقل خطراً من محن التقاليد وتعسف البيئة الحاكمة!!!
لذلك ارتضت حياة الحرمان قانعة؛ ومع أن ليل الصحراء المروع كان يملأ جوانب نفسها رهبة، فإنها كانت تقتل الخوف بأحلامها السانحة. . .(181/55)
كانت تتخيل دائماً أن الله معها، وأن ذلك الشروق البهيج كلمة الأمن تنطق بها شفتا الأزل، وأن مظهر الغروب كلمة العزاء ترسم على صفحة السماء لتوحي إليها أحلام الأمن والطمأنينة والصفاء!!!
كانت تشعر أن قلبها عامر بالحب إلى درجة يسع معها ذلك الخلاء المطلق لو ضمت الخلاء بين جانحتيها؛ وعندما تواتيها أخيلة المساء تتأمل الكون في خشوع فيرتد إليها الأمن وتعاودها الطمأنينة، ويبعث الله إليها ملائكة الرحمة فتنام نوماً هادئاً لا تشوبه مرارة القلق ولا الفزع حتى يقبل الصبح فاها بمنقار طير جميل فتستيقظ وهي على يقين أن ذلك الطير بعثه الله ليحمل إليها رسالة رضاه
على أن حياتها كانت لا تخلو من العمل الجدي في نهارها. كانت ترعى أغنامها وتغزل أصوافها وتستخرج الزبد والجبن من ألبانها ولا تنتفع بذلك لنفسها بل كانت تهبه راضية أبناء السبيل وهم في ناظريها اليتامى والمساكين والمحرومون
هؤلاء هم الذين يعرفون الله ويحبونه حباً جماً، ومع ذلك تحرمهم الحياة من نعمه وهي واحدة منهم - كما تعتقد - ولكنها الآن تملك ما لا يملكون فلم لا تمنحهم مما وهبها الله الجليل العظيم؟
إنها تشعر أنه وهبها ذلك من أجلهم وعليها أن ترد الأمانة لهم، ولعل هذا الإحساس الذي ولد معها وظل ينمو ويترعرع حتى اشتد أزره وملك عليها قلبها وعقلها هو الذي دفعها إلى ترك حياة القصور والفرار من بيئتها سراً لتعيش هنا في كنف هاته الوحشة أليفة وحيدة. بنت عشها من الأغصان وزينته بالزهر، وراحت تقتات النبت وتروي عطشها من ماء النهر، وباتت تحس أن كل ما يحيط بها حانٍ عليها، وتحس بنسمات العطف ترف عليها من كل جانب، فتشعر أن قلبها بحبه الهائل أسمى من الوجود، أو لعله صورة لذلك الذي يسمونه الخلود. ويخيل إليها أنها تملك الحياة بأسرها لأنها تتنفس في طلاقة، وتعدو في غير قيد، وتخلع أرديتها دون أن تخشى النظرات الفاسقة، وتسير كما يحلو لها فلا يلاحقها أصحاب القلوب المريضة
مرت بها الأيام وهي لا نعرف لأيامها حساباً، بل تشعر أنها كما ولدتها أمها خالية الذهن إلا من الإيمان الأكيد حتى بلغ بها الخيال يوماً فحسبت أنها تعيش في الفردوس الذي وعد الله(181/56)
به المخلصين من عباده، حتى رأت يوماً إنسياً يروح ويجيء من بعيد فأيقنت أنها ما زالت على أرض الحياة تعيش
وتعلق نظرها بذلك الشبح الذي تراءى لها وهو يتمشى في سكون، وينقل خطاه في هوادة، وفي يده كتاب لا يقرأ منه إلا لماما ليتأمل مظاهر الطبيعة الفاتنة البادية في الصحراء؛ وظل كذلك حتى لمح عن بعد طيف الراعية الحانية على الغنم تطعمها وتسقيها، فتقدم نحوها عامداً، وراح يتأملها في عجب وهو يتوجس خيفة من وحشة المكان الذي يأويها؛ وقد عجب لجرأتها، وظن أنها لا بد أن تكون همجية مستأنسة أو أنسية متوحشة - ولكن مظهرها الملائكي طبع في ذهنه فاكتسح أمامه هذه الخواطر وراح يرثى لحالها ويفكر في أمرها، ووجد نفسه يتقدم إليها من حيث لا يدري فتوقف عن المسير وأسرع الخطى بعيداً عنها
فلشد ما كان يؤلمه أن يخاطب امرأة مجهولة، وكذلك يخجله أن يواجه امرأة. ولما ابتعد عنها وشعر بطول المسافة بينهما - ندم على تسرعه وقال لنفسه: وما ضرني لو حادثتها؟ ألا يحتمل أن تكون هي صحيفة مجلوة من ذلك الكتاب الغامض الذي يحتاج لقاموس؟ ثم ارتد إليه اعتدال رجولته فاطمأن إلى تصرفه
أما هي فقد راحت تتأمله في حذر وتعجب بدورها! فلأول مرة في تاريخ وجودها في الصحراء ترى إنسياً، وقد كانت سعيدة بوحدتها، فأي قدر قذف إليها اليوم بذلك الرجل المجهول. فملكها خوف ورعب، وسادها قلق واضطراب، وراحت تنظر للخلاء كأنه مغارة مخيفة تكاد تبتلعها، ثم تتزل عليها خاطر غريب فهدأت أعصابها فاطمأن قلبها وقالت لنفسها: عله عابر سبيل!! ثم استعادت بخيالها صورته، فأدركت أنه شاب وسيم الطلعة عليه مهابة الشباب الثري، وتأمله في كتابه يدل على أنه من طلاب العلم أو المتأدبين، من عسى أن يكون؟
عله يملك هذه البقاع فجاء اليوم يزورها - ولكن لو كان لسألني بأي حق اتخذت هذه البقعة؟ ثم إني لا أعرف إنساناً متمدينا يبلغ به جنون الزهد أو التقشف إلى حد يدفع به إلى شراء أرض قاحلة لا فائدة منها. والناس كلهم يجرون وراء الفائدة المادية
بهذه الخواطر شغلت نفسها طوال الليل حتى طلع الصباح فمر بها وقد تأملها في سكون،(181/57)
بينما هي تتأمله في خفر، وراح يمر عليها كل يوم ملقياً عليها نظرة عابرة وهي تتعمد أن تبدو غير آبهة ولا حافلة، حتى اشتد ظمؤه يوماً، فاقترب منها وعليه طابع الصلف والكبرياء وطلب كوب ماء، فقدمت له إناء به ماء وهي تبتسم وتقول: يؤسفني أن الماء غير مكرر. . . فذق مياه الزاهدين (قالت ذلك بلهجة لا تخلو من عطف خفيّ، ولطف ساذج، وعذوبة محببة، وتحفظ رزين، فتأفف وأبى في صمت قالت: إذن تفضل كوبة من اللبن؟
فهز رأسه موافقاً وشرب ثم مد يده ببعض دريهمات إليها فامتنعت في إباء وقالت: المال لطلاب الحياة ولست منهم! فشكرها في إيجاز وكبرياء، وتركها في موقفها وسار في طريقه في هدوء وراحت تترقب مروره وقد هيأت له كوب اللبن في كل صباح فلم يحضر، ومرت الأيام وقد ازدادت لهفتها
لم ترغب فيه كرجل يحادثها أو يجالسها، ولكنها كانت تود أن تراه ثم تغمض عينيها إلى الأبد، ولم تستطع تفسير شعورها الغامض الذي ملكها. لقد باتت تحلم به في الليل وتترقبه في النهار، وجاءها على غير موعد يطلب لبناً. . . ولما شرب ظل في موقفه لا يتحرك ولا يتكلم وهي في موقفها تواري اضطرابها بالاشتغال في غزلها وأخيراً قال بلهجة التهكم المر: ما الذي جاء بك إلى هذه البقاع الجرداء وأنت صبية حسناء؟
فمالت برأسها إلى الخلف وقد بانت أشد فتنة وسحراً ثم قالت في هدوء ودعة:
ما الذي نجنيه من حياة المدنية وضجيجها! ما الذي نجنيه من أوهام الحياة؟
لا شيء بالتأكيد!!. .
إذن خير لنا أن نفكر على قدر عقولنا في حياة تكفل لنا بقدر المستطاع الأمن والسلام
فضحك الشاب متهكما وقال: وإذا كان جميع الناس على هذا الطراز (طرازك التقشفي) فما الذي تجنيه الإنسانية أيضاً؟
قالت: على الأقل تخلو من التنابذ والتنافر فترتدع الخلائق عن الحرب والتقاتل
فازداد تهكما وقال:
وهل تظنين أن امتناعك عن مشاطرة الناس حياتهم العامة يشوه من جلال الحياة؟
قالت: لا، ولكن يطمئنني أنا ويسعدني(181/58)
قال: إذن فأنت تلبسين مسوح الراهبة إمعاناً في الأنانية؟
قالت: وهل يمكن لإنسان أن يتحرر من الأنانية؟. . . ولكن يمكن تحديد الأنانية وتوجيهها إلى طريق مستقيم، فهناك فارق كبير بين إنسان يقتل إنساناً ليسعد نفسه، وبين آخر يعرف كيف يمتع نفسه في حدود الخير والفضيلة دون أن يلجأ إلى الشر أو الرذيلة
فهز رأسه وهو يتمتم ويقول: هيه؟؟. . . وأخيراً قالت: سأعيش هنا حتى نهاية أيامي، فقال: ألا تشعرين بوحشة الوحدة؟
قالت: قلبي عامر
قال: بمن؟
قالت بنغمة حارة: بالحب!
فعاد إلى تهكمه ضاحكا وقال: وأين ذلك الحبيب؟
قالت: إنه معي
قال: ولكني لم أره، قد جئت هنا كثيرا
قالت: يخيل إليّ أنك تتغابى لتستدرجني
فتلفت الشاب يمنة ويسرة كأنه يفتش عن ذلك الحبيب، ولكنها لم تدعه في حيرته وقالت: أيمكنك أن ترى الله؟ من أجل الله جئت هنا، ومن أجله أعيش، ومن أجله أحب العالم كله!
قال: قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن لا بد لك من تحديد هذا الحب وتركيزه
فلم تفهم ما يعنيه وقالت: إنني أحب كل كائن لأنني أرى فيه سمة من سمات العظمة الإلهية، فأنا أحب الكائنات كلها لأنها تكون في مجموعها القوة الجليلة الهائلة والجمال اللامحدود، أعني أحب صورة الله منوعة الرسوم
كانت تتحدث وكل خالجة فيها تعبر بوضوح عن صدق إيمانها، وكان في التماع عينيها واختلاج شفتيها معنى صريح لعواطفها الصادقة
فغمغم الشاب بلهجة المريب: لقد دفعك الحرمان إلى ذلك
فتندت عيناها وتمتمت بصوت خفيض: أجل. هو الحرمان الذي قربني إلى الله، وهو الذي فتح قلبي للحب السامي، وهو الذي أودع في قلبي عاطفة هائلة هي على قدر غموضها عميقة عميقة(181/59)
وأحس الشاب أن كلماتها تنزلت على قلبه فتمنى لو يعانق جسمها اللدن ليبثها الحرارة التي في كيانه، ولكن بقية من كبريائه دفعته للصمت، وكان شعورها قد فاض بها فازداد اضطرابها
ولما أحس بحنينه يشتد خاف أن يفتضح أمره فانسحب وقد حياها على عجل وانصرف
ومرت بها الأيام وهي تتجنبه بقدر ما تتمناه، فقد أدركت من المرات التي لقيته فيها أن في التماع عينيه حكاية، وعلى شفتيه طابع الرغبة الجامحة؛ ولعله ظن ذلك التجنب زهداً فاحترم مشيئتها وراح يمر بها هادئاً ويعرض عنها صامتاً
وقد فسرت هي تصرفه بالخشونة والجمود فاكتفت أن تنظر إليه من بعيد عندما يجيء ويجلس هناك على صخرة وسط الرمال كأنه يحدثها بسرائر نفسه ليرفه عن صدره عبء خواطره الثقيل
وفي أمسية قمرية ساجية أحست بشعور قوي جارف يدفعها إليه. . . لتراه ثم تعود، ولما جاءته وكان قد أخذ مجلسه على الصخرة، نظر إليها نظرة خاطفة، ثم أشار إليها بيده لتجلس فامتنعت واتجهت خلفه لتعود، فانتصب في هدوء وقال لها في رفق: أجلسي يا طيفي الهارب. . . فامتنعت. . .
فعاد يقول بصوت حزين: أنا مريض
فتمتمت: لا أظن
قال: صدقيني
قالت: لست مريضاً. . . ولكنك حالم - أجل - إن ما بك هو حلم عميق وهو الذي أورثك هذا الجمود
فارتاع ثم قال: أجامد أنا؟
قالت: أو تشك؟
قال: أجل
قالت ثق
قال: لا أظنه جمود عاطفة ولكنه رهبة وخوف
قالت: ممن تخاف؟(181/60)
قال: منك!!!
قالت: أيمكن أن يخاف الرجل القوي امرأة ضعيفة؟
قال: آه من المرأة! في عينيها بريق الأمل وعلى شفتيها طابع الألم، ومن هذا الالتماع تتدفق القسوة في شبه زلال الرحمة
قالت: إن الله يحيط المرأة بسياج الغموض وهو ما يخيف الرجل، وما يسميه بالقسوة ليجعل لها حصانة طبيعية وسلاحا لا يؤذي. فتكلف ابتسامة شاحبة وقال: وبرغم ذلك فألف أف من سلاح عينيك
فضحكت في سذاجة وقالت: في عينيك حكاية وفي عيني سلاح - هه - يا للفارق الهائل:
فتماكر وقال:
في عيني حكاية!! عجبا!!
أتعرف الراعية التكهن؟
قالت: أجل
قال: إذن نبئينني يا كاهنتي؟
فلزمت الصمت طويلاً وهي تحدق في عينيه ثم قالت: في عينيك حكاية حلمك!!
قال: يا لله، وهل لحلمي حكاية؟
وإذا كان هذا رأيك عن عيني فما عساي أقوله في عينيك
فقالت: بدون اكتراث:
قال ما بدا لك
فنظر إليها طويلاً ثم أرخى جفونه وراح يعبث بعصاه في الرمل كأنه يصور خواطره بها ثم نظر إليها وقال:
في عينيك عمق الأبد وسر الأزل
قالت: ثم
قال: لا شيء
قالت: فسر ما وراءهما
قال: عسير عليّ إدراك ما وراء الأبد وتفهم خفايا الأزل(181/61)
قال ذلك وهو يتأهب للانصراف فتشبثت بردائه وقد نسيت حذرها وخوفها وقالت: ابق بجانبي، ابق بجانبي، لا تتركني هكذا وشيكا
فتعمد عدم الاهتمام وحاول أن يخلص نفسه من بين يديها. ولما رفع وجهه إلى عينيها ولمح دموعها تخاذل وأخفق وأطرق برأسه في استسلام وقد تجهم وجهه ولزم الصمت. وأخيراً غمغم بصوت خفيض: أتمنى، فقبضت على يده وهي تقول: افتح عينيك!! ودعني أتأمل فيهما طويلا
دعني أتأمل فيهما حتى نهاية الوقت بل دعني أتأمل فيهما حكاية قلبي!! وهنا تلاشى كبرياؤه وبدأت عواطفه تشيع في عينيه وتتراءى كالظلال على شفتيه بسمة السخرية حتى امتدت إلى قهقهة طويلة فاستفاق فوجدها بين يديه جثة هامدة
فنضحها بالماء حتى استفاقت ففتحت عينيها في بطء وغمغمت: أما زلت هنا أيها القدر الجائر. ثم ابتسمت وقالت أترانا انتهينا؟
قال: أي قوة هائلة قد قذفتك من أعماق الحياة لتأخذي مكانك في قلبي؟ فانتصبت وقد ملكها الفرح وقالت: إذن أنت لي وسوف تظل بجانبي إلى الأبد
وأحس في أعماقه بسخرية القدر فتألم لها وعليها، إذ أدرك خطورة تصرفه وأيقن أنه عاجز عن مكافأتها على حبها - انه مرغم على فراقها، فللتقاليد حرمة يجب أن تصان، ولبيئته تقاليد مرعية يجب أن تحترم، ولوالده عليه حق الطاعة والخضوع - فتلطف بها وقال: قد أكون تطفلت عليك فمعذرة، سأذكرك دائماً بالخير، وإذا احتجت إلى معونة فأنا أقرب الناس إليك
فتألمت واحتجت في عنف وحاولت أن تحتم عليه البقاء بجانبها فخانها النطق وقعد بها الحياء
ولم يترك لها مجالاً لاستعادة قواها. فحرك ساقيه ومضى عنها مهرولاً وتركها في مكانها تتمتم:
أيمكن أن تقذفني الحياة من أعماقها إلى شاطئ فيصدمني القدر بصخرة الفناء
ومرت الأيام سراعا وهي تترقبه كل يوم وتسقط ورقة أحلامها من على شجرة أمانيها ذابلة صفراء وحاولت أن تبحث عنه هنا وهناك فلم تعثر على آثار خطاه(181/62)
لقد مل الصحراء كما ملتها، أو لعله تعمد تجنبها رحمة بها وخوفاً عليها فأنه كان على يقين من أنه أعجز من أن يحارب أوضاع المجتمع الصارمة، وأضعف من أن يحطم التقاليد الغاشمة
ورأته في منامها على سفر يشير إليها بيده من نافذة القطار فقامت مبكرة وقطعت الوهاد والنجاد حتى بلغت محطة أول قرية تقرب من الصحراء لتتعزى برؤية المسافرين، ومرت القطر تباعا وهي تتأمل الوجوه الغادية والرائحة؛ (وأخيراً) لمحته من النافذة يرقبها في حذر ويشير إليها بيده من نافذة القطار، وسمعت بجانبها صوت رجل يقولون له (العمدة) يصيح: مع السلامة! لا تتأخر في الميعاد المحدد! وقال له صاحبه لماذا؟
فأجابه: يوم زفافه:
جميلة العلايلي(181/63)
البريد الأدبي
نظريات جديدة في الفن والنقد
اطلعنا في البريد الأخير على تفاصيل القرار الذي صدر في ألمانيا بتحريم النقد الأدبي والفني، والبواعث التي أملت بإصداره؛ ويقضي القرار الجديد بتحريم نقد المؤلفات الأدبية والفنية والموسيقية والمسرحية، ويشمل أيضاً المسرح والسينما والحفلات الموسيقية كما يشمل أشخاص المؤلفين والفنانين جميعاً، ولا يباح بمقتضى القرار الجديد سوى عرض الموضوعات ووصفها دون التعليق أو إبداء الرأي. وقد صدر من قبل قرار يقضي على الكتاب بأن يعنوا عند نقد المؤلفات الفنية بالتنويه بالمزايا السياسية والثقافية والجنسية للاشتراكية الوطنية
ويرجع هذا التحريم إلى رأي الوطنية الاشتراكية (أو الهتلرية) في الفن وهو أن الفن يجب أن يستمد إلهامه من المثل والخواص القومية، وأنه لا يوجد من أجل قيمته الذاتية فقط، ولكنه يوجد لخدمة مصالح الدولة والأمة
وقد بسط الدكتور جبلز وزير الدعاية الألمانية في بيانه الرسمي بواعث هذه الخطوة الحديثة، فذكر أن مهمة الفنان هي أن يحمل إلى الأمة (القوة مع السرور)، وأن النقد الفني لا يزال في ألمانيا يحمل طابع (الحرية اليهودية) على رغم جميع الجهود التي بذلت لمحو هذا الطابع؛ وإن أولئك الفتية الذين يزعمون اليوم أنهم أقطاب المعرفة والنقد يسيئون دون قصد إلى حياتنا الفنية والثقافية؛ وهم بلا ريب ورثة الأرستقراطية اليهودية الناقدة دون أن يشعروا. ثم قال إن ذلك لا يعني إخماد حرية النقد، ولكن القصد أن يقتصر النقد على أولئك الذي تؤهلهم معارفهم ومقدرتهم للحكم على أعمال الآخرين. وإنه ليس من الإنصاف أن يتصدى فتية أحداث في العشرين أو الثانية والعشرين لنقد أعمال رجال من أقطاب الفن قضوا أعمارهم في تفهمه وإتقانه وأحرزوا شهرة عالمية فيه، وإنه يجب أن يبدأ أولئك الفتية بالتمرن على الوصف والعرض، وإن باب النقد مفتوح للقادرين، ولكنهم لا يوجدون الآن، وإنه لا يريد أن يسقط الفنانون صرعى النقد الحر. هذا ولن يفقد الفن شيئاً إذا بعد أولئك النقدة الأغرار من الميدان، فالعظمة الزائفة تسقط في ظرف عام حتى ولو لم يقتلها النقد. أما ذوو العظمة الحقيقية فيجب أن يسمح لهم بحرية الابتكار والاحتفاظ بكرامتهم(181/64)
الفنية، ويجب أن تصان العبقرية الحقيقية من كل ما يؤذيها ويمهد لسقوطها
هذه هي نظريات العهد الألماني الجديد في الفن وفي النقد؛ ومهما كانت في ظاهرها تحمل الطابع الطرافة، فلا ريب أنها أخطر ما يكون على الفن وعلى العبقرية الفنية، فالفن الحقيقي لا يزدهر في ظل العبودية الفكرية، ولا تنظمه القوانين العسكرية، والعبقرية الفنية أو الفكرية، لا تزدهر إلا في جو النقد الحر، والنقد وحده هو الذي يبرزها ويذكيها ويصقلها
كتاب عن علائق العرش والأمة
لعل من الأزمة الدستورية التي تجتازها إنكلترا الآن وفي الخلاف الذي قام بين العرش والحكومة ما يجعل لمثل هذا الكتاب أهمية خاصة؛ فقد صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب للدكتور بريديل كايت عنوانه (الملك والتاج الإمبراطوري. ما لجلالته من حقوق وما عليها من واجبات) ويتناول المؤرخ بالشرح كل الواجبات والأعمال التي يضطلع بها العرش في مختلف الشؤون العامة، ثم مركز الملك وعلائقه بالنسبة للإمبراطورية وما له من حقوق وما عليه من واجبات في الحالتين؛ ثم مدى تأثير العرش في مختلف الدوائر الحكومية، ويتناول المؤلف خلال بحثه كثيراً من الشخصيات السياسية الكبيرة، ويبين ماذا كان موقفها من العرش؛ ويخص السياسي الكبير جلادستون بمديحه وتقديره، في حين أنه يحمل على دزرائيلي وعلى أسلوبه. ومع أن الكتاب يدور في معظمه على علاقة العرش بالحكومة والأمة، ومدى ما يقوم به في سبيل الخدمة العامة، فان أهم فصل في الكتاب هو الفصل الذي يتناول علاقة العرش بالإمبراطورية، لأن هذا البحث جديد (ولأن المسألة التي يتناولها جديدة في تاريخ الإمبراطورية البريطانية)
وقد أسبغت الأزمة الإنكليزية الأخيرة على هذا البحث أهمية خاصة
ذكرى موسيقى كبير
يحتفل في العام القادم في مدينة ليبسك بألمانيا بذكرى الموسيقي الكبير بكستهودي أعظم أساتذة (باخ) عميد الموسيقى الألمانية، وذلك لمناسبة مرور ثلاثمائة عام على مولده؛ وستقام بهذه المناسبة حفلات موسيقية يعزف فيها بآلات الكنيسة القديمة التي كان يعزف عليها في عصر بكستهودي، ويقام قداس موسيقى، وينظم متحف يضم مخطوطات الموسيقي الكبير(181/65)
ورسائله والكتب التي ألفت فيه
وقد كان بكستهودي من أهل ليبسك وقضى معظم حياته فيها ولبث أعواماً طويلة رئيس الفرقة الكنسية في كنيسة سان ماري؛ وما زالت بهذه الكنيسة المنابر التي أمر بكستهودي بإنشائها ليلقى منها مقطوعاته الشهيرة؛ وهنالك أيضاً معزف صغير كان يعزف عليه، وعدة آلات موسيقية أخرى كان يستعملها لتوقيع الموسيقى المقدسة؛ ويوجد بمكتبة ليبسك كثير من القطع الموسيقية التي وضعها، وكثير من الوثائق التي تتعلق بحياته وعلائقه مع تلميذه باخ
معهد من نوع جديد
افتتحت جامعة لايبزج أخيراً معهداً تاريخياً من نوع جديد يخصص لدراسة المسائل المتعلقة بشعوب جنوبي شرق أوربا؛ وسيقوم بالتدريس فيه جماعة من الأخصائيين من يوجوسلافيا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا واليونان وبلغاريا والمجر وتركيا؛ وقد انتدب لإدارة المعهد الأستاذ الدكتور (منستر)، وهو من أعظم المتخصصين في هذا الباب
كتاب عن العراق الحديث
صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن العراق عنوانه (تكوين العراق الحديث) بقلم كاتب أمريكي هو مستر هوارد فوستر والكتاب بحث نقدي مدعم بكثير من الوثائق، كتب بأسلوب هادئ؛ بيد أنه يكتفي من الوثائق بالمطبوع منها، ولا يدعى بأنه اطلع أو أحاط بأية وثيقة غير معروفة. ويستعرض المؤلف تاريخ العراق الحديث حتى سنة 1934؛ إلا أنه يغضي عن ذكر بعض الحوادث المعروفة كثورة الآشوريين وإخمادها في سنة 1933، وعقد اتفاق أنابيب النفط في سنة 1934، مع أنه يتحدث عن موضوعات أخرى لا تتعلق مباشرة بتاريخ العراق مثل الحرب بين ابن السعود والإمام يحيى. وينوه المؤلف بمجهود الرئيس ولسون في وضع مبدأ تقرير الشعوب لمصيرها، ويرى أنه لولا جهاده في سبيل هذه المثل العليا لكانت العراق وغيرها قد راحت ضحية الاستعمار الجشع. وهذا رأي لا يوافقه عليه الكثيرون
آثار فرعونية في المتحف البريطاني(181/66)
تعرض لأول مرة في المتحف البريطاني مجموعة من التماثيل الفرعونية نادرة المثال. وهي ملك للمسيو كالوستي جلبنكيان من كبار رجال المال والزيت الدوليين، وقد أعارها للمتحف من مجموعته الخصوصية المشهورة بباريس
وهناك أربع عشرة قطعة بينها رأس تمثال يرجح أنه للملك أمينمحعت الثالث من ملوك الأسرة الثانية عشرة. وهو مصنوع من (الابسديان) أو الزجاج الطبيعي، وكان يستعمل قبل المعادن في صناعة الأسلحة مثل رؤوس الحراب والرماح. وكذلك يوجد تمثال لقطة بحجمها الطبيعي ومعها قطتان صغيرتان. وربما كان التمثال الفريد بينها رأس امرأة يرجع عهده إلى 3500 سنة خلت، وهو مؤلف من جزءين: غطاء الرأس وهو من الفخار المدهون بطلاء أزرق، ثم الوجه وهو من مادة زجاجية(181/67)
النقد
سلسلة الموسوعات العربية
معجم الأدباء
بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
سمعت بعد عودتي من العراق الصيف الماضي أن الأديب الهمام الدكتور احمد فريد الرفاعي تطوع لنشر طائفة من أمهات كتبنا، وأن وزارة المعارف وآزرته فيما تطوع له فضمنت له تصحيح الكتب، وأن تشتري من كل كتاب ألف نسخة. وتلك همة مشكورة من الدكتور، وسنّة محمودة من الوزارة
وقد عرفت من قبل في معجم الأدباء، كما طبعه الأستاذ مرجليوت، نقصاً وسقطاً وتحريفاً، فرجوت أن تكون الطبعة الجديدة سادّة ما في الكتاب من خلل، ولبثت أنتظر أن يتحقق رجائي حين ينشر القسم الأول من الكتاب. فلما طلعت الجرائد بالبشرى بادرت إلى قراءة الأجزاء التي نشرت؛ ولكني ألفيت غير ما رجوت، وتوالت عليّ أثناء القراءة خيبة ظن بعد خيبة حتى فرغت من القسم الأول موقناً أن نشر الكتاب على هذه الشاكلة أمر لا يفي ربحه بخسارته، ولا يقوم سروره بندامته؛ وأنه يجب وقف الطبع إلى أن تؤخذ الأهبة الكافلة تصحيح الكتاب وإتقان طبعه. فليس يليق بالكتاب العظيم، ولا بالناشر الفاضل ولا بوزارة المعارف هذا التحريف والمسخ والشرح السخيف
- 2 -
وسأعرض على القارئ كيف توسمتُ الخيبة ثم ترادفت شواهدها، وتوالت أمثلتها:
نظرت إلى صفحة العنوان فرأيت أسطراً لم أبالها، ثم رأيت اسم الكتاب والمؤلف على هذا الترتيب: (معجم البلدان) وتحته: (في عشرين جزءا) وتحت هذا: (لياقوت). فبدا لي أن وضع اسم الكتاب والمؤلف على هذا الشكل ليس فاتحة خير. وكان ينبغي أن يقدم اسم المؤلف على عدد الأجزاء ويكمل الاسم بذكر اسم الأب والنسبة ويكتب بخط كبير. ثم المؤلف لم يجزّئ كتابه هذه التجزئة، فكان ينبغي الاحتفاظ بتجزئته، وتقسيم كل جزء(181/68)
أقساماً. ومن اللطائف أني قلت لبعض الأصحاب: لماذا كتب اسم ياقوت مختصراً بحرف صغير؟ قال انظر. وأراني نسخة أهداها الناشر إلى بعض الأدباء، وقد سمي نفسه فيها المؤلف لا الناشر، ثم قال لا تعجب بعدُ من وضع اسم ياقوت هذا الوضع. قلت: أتعني أن قلم المطبوعات يفكر في حذفه؟
ثم قرأت على صفحة العنوان: (الطبعة الأخيرة) فلم أدر كيف سمى الناشر طبعته الطبعة الأخيرة. أرأيت إن طُبع الكتاب طبعة أخرى أتكون طبعتنا هذه الطبعة الأخيرة أيضاً؟ أيمكن أن يقال إن في نية وزارة المعارف أن تحرّم على الناس طبع الكتاب من بعد فتبقى طبعتها الطبعة الأخيرة إلى يوم القيامة؟
رأيت هذا كله في صفحة العنوان فسألت الله ألاّ يصدق المثل: (الكتاب يقرأ من عنوانه)، ومضيت أتصفح الكتاب فإذا هو مشكول كله كلمة كلمة وحرفا حرفا. وعجيب أنه تحمّل الكلمات هذه الأحمال، ويؤذي القارئ بهذه الأشكال دون فائدة. إن الشكل في مثل هذا الكتاب ينبغي أن يُتحرّى به مواضع اللبس، فلا يشكل ما لا يشتبه على القارئ، وأما شكل واو العطف و (في) الجارّة، والقاف من قال واللام من أداة التعريف فعمل أقل ما يوصف به أنه عبث. خذ مثلاً هذه الجملة من صفحة 194: (كان من أبلغ الناس في الكتابة) فهذه لا تحتاج إلى أن تشكل لقراء معجم الأدباء. فإذا راعينا المبتدئين من طلاب الأدب وضعنا كسرتين تحت الغين والسين. فأية حاجة إلى شكل الحروف كلها: (كَانَ مِنْ أَبْلَغِ الْنَّاسِ فيِ الكِتاَبَةِ)
قلت لنفسي: دعي شكل العنوان وشكلات الحروف ولا تقفي عند الأشكال وانظري إلى الموضوع. فقرأت فألفيت تحريفاً في الطبعة الأولى مُتَّبعاً، وتحريفاً آخر مبتكراً، وسوء صنيع في بيان مبادئ الكلام ومقاطعه، والفصل بين ما يقوله ياقوت وما ينقله، وشرحا في الحاشية لا يعدو في معظمه أن يكون غلطاً أو عبثاً
أعرض على القارئ أمثلة من هذه المآخذ، وأكتفي في هذا المقال بالتحريفات الواضحة والغلطات البيّنة تاركاً التحريف الخفيّ الذي يحتاج إلى مراجعة الكتب لبيان صوابه ريثما أفرغ له
أ - تحريفات في حروف الكلمات أو شكلها:(181/69)
أول ما يلقى القارئ من التحريف الذي كشف عنه الولع بشكل الكلمات اسم مرجَليوث بفتح الجيم وجُب بضمها، وقد وردت الثانية مرتين ص 5 و 15.
ولا أدري ما عذر الناشرين في هذا الضبط. ونحن نسأل صديقنا المستشرق الأستاذ جب: أجاء اسمه بِضم الجيم في لهجة إنكليزية أو قحطانية أو عدنانية؟
أنا أعلم أن شاعر الترك الكبير عبد الحق حامد حينما كتب البيتين اللذين ينشران على غلاف مطبوعات جب، اضطر إلى مدّ الجيم من جب أو الكاف كما كتبها فقال:
نه اولور دي ياشامش اولسه ايدي مستر كَيب
ولكني لا أعرف ضرورة تقضي بضم الحرف
ص 16 - نَشوار، والقَفطى. والصواب كسر النون والقاف
ص 20 - كيش وعَمّان. والصواب عُمان. وشتّان ما بين البلدين
ص 21 - السلطان محمد بن تَكْش. والصواب تُكُش بضمتين
ص 23 - ثعلبة بن عكاية، وص 107 ثعلبة بن عكاشة. والصواب عكابة بالباء
ص 31 - مرو الشاهِجان، ونِتَفها. والصواب فتح الهاء وضم النون
ص 35 - لبّ عازب، وحُلم غائب. والصواب كسر الحاء
ص 37 - يعالج لما خَرّبه من هذا الأمر المقيم المقعدِ. وفي الحاشية: خرّبه نزل به. والصواب لما حزبه. يقال حزبه الأمر لا خرّبه الأمر. والمقيم بالفتح مفعول يعالج لا صفة للأمر
ص 40 - أبيات لياقوت (في غلام تركي رمدت عينه وعليها رفائد سود). وفي الحاشية الرفادة الخرقة توضع على الجرح. وهذا صواب. ولكن جاء في البيت الثاني:
(أرخى على عينيه فضل وقاية) وكان ينبغي أن يُعلم أنها فضل رفادة بعد أن ذِكرت الرفادة وشرِحت
ص 63 - قول ياقوت: (فاجعل جائزتي دعاء يزكو غرسه عند ذي العرش، واحمدني في بُسُطه والفرش) والصواب في بَسْطه أي بسط الكتاب
ص 64 - (إذ كلٌّ همَّه تحصيل المأكول والمشروب). والصواب همُّه بضم الميم. والمراد هنا الاسم، لأن الفعل أَهّم لا همّ(181/70)
ص 80 - ومعاوية بفارسٍ. والصواب بفارسَ، فإنها ممنوعة من الصرف، وفي الصفحة نفسها: ينعىِ. والصواب ينعىَ بالفتح
ص 82 - أمغطٍّ منى على بصري بالسحب أم أنت أكمل الناس حُسناً
وقد شرحه الناشر في الحاشية وقال: (ويروى أمُغَطىَّ على صيغة المفعول). والصواب أمغطَّى لا يحتمل البيت غيرها، وكان الواجب تصحيح البيت لا إثبات الغلط وشرحه، وفي البيت غلط آخر في وضع كلمة السحب بدل الحب. والبيت معروف.
ص 93 - (ولا أبدأُ نفعا ولا أحمدُ أخلاقا ولا أدومُ سرورا)، وقال في الحاشية: في الأصل أبد نفعا. فقد أصلح غلط الأصل بغلط آخر. والصواب أبدي بالياء.
ص 99 - (ولم تُعوَّض من ذاك ميسُرة). والصواب فتح السين.
ص 108 - (لُغوِيا نبها ثَبَتا). وقد شرحها في الحاشية فقال: والتَبَت بفتح الباء الحجة والرجل الثقة. والصواب ثبْتا. يقال رجل ثبْت لا ثبَت، والثبت بالفتح البرهان اسم لا وصف.
ص 112 - كأنْ ثنى النُّحوص. . الخ والصواب فتح النون.
ص 115 - أُضِقت إضاقة شديدة، وبعد أسطر: أُضِقت مرّة. والصواب أَضَقت بالبناء للفاعل أي أصابه ضيق.
ص 133 - فلا أزال أماكسهم ويزيدوني. والصواب يزيدونني.
ص 188 - فنقطت القلم نقطة. وفي الحاشية: الأنسب نقط القلم. أقول: وأنسب من هذا نقطت من القلم نقطة.
ص 187 - يسائل عن أخي جُرم. . الخ والصواب جَرم وهو اسم قبيلة.
ص 208 - إبراهيم بن قُطْن. ونحن نعرف في الأسماء قَطَنا لا قُطنا.
ص 209 - المُصَيصَة اسم بلد. والصواب المَصِّيصة
ص 213 - أبو عليّ الرَّوْزباري. والصواب الرُّوذباري.
ص 219 - ثنى الصَّبا غصنا قد غازلته صَبا، والصواب ثنى الصِّبى
ص 237 - أحمد الفِرغاني. والصواب فتح الفاء
ص 240 - غُمار الناس. والصواب كسر الغين(181/71)
ص 221 - :
يخال بأن العِرض غير موفَّر ... عن الذم إلا أن يدال له الوفر
والصواب يذال بالذال المعجمة من الاذالة أي الامتهان
ص 224 - :
سقى الله صوب القصر تلك مغانياً ... وإن غنيت بالنيل من سُبُل القطر
وهذا بيت معمور بثلاث غلطات. والصواب صوب القطر. و (عن سَبَل القطر)
ص 233 - (وسعد بن مسعود هو أخو عبيد بن مسعود صاحب يوم الجسر.) والصواب أبو عبيد وهو صحابي معروف قاد جيوش المسلمين في وقعة الجسر وقُتل بها. والعجيب أن في الكتاب بعد سطر واحد: وسعد هو عم المختار بن أبي عبيد الثقفي. ولم يتنبه الناشر إلى أن أبا عبيد الثقفي هذا هو أبو عبيد ابن مسعود الذي سمّاه عبيد بن مسعود. ومثل هذا ما جاء في ص 235: (محمد بن علي الشلمغاني) وبعدها بسطرين: (من أهل قرية من قرى واسط تعرف بشلغمان. ولو لم يكن المصحح نائماً لما سمى الرجل في سطرين عبيداً وأبا عبيد، وسمى القرية في سطرين شلمغان وشلغمان
ص 256 - (وكان حسن الحفظ للقرآن. أولَ ما يبتدئ به الخ). وفي الحاشية: أول مفعول يبتدئ. والصواب أولُ بضم اللام وهي مضافة إلى المصدر المؤول بعدها لا مفعول يبتدئ. وينبغي أن يُعلم أن ما بعد ما المصدرية لا يعمل فيما قبلها
ص 187 - في متن الكتاب: (ثم التي لا يقع حسم الداء بغيرها.) وهو كلام مستقيم، ولكن الناشر أخرج هذه الجملة إلى الحاشية. وأثبت في المتن (التي لا يقع بحسم الداء غيرها.) أجاز لنفسه هنا أن يغيّر المتن وهو صحيح. ولم يجز لنفسه في مواضع أخرى أن يصحح المتن وهو غلط بيّن فاكتفى بإثبات الرواية الصحيحة في الحاشية
ص 191 - كان في متن الكتاب:
كذبت همة عين ... طمعت في أن تراكا
أَوَ ما حظٌّ لعين ... أن ترى من قد رآكا؟
فغير الناشر (أَوَ ما) إلى (أَيُّ ما). والصواب ما كان في المتن. والغلط ما رآه الناشر. وغلط آخر في رسم (أَيّما) مفصولة كما رسمها(181/72)
ص 270:
معاذ الله أن نُلقى غضابا ... سوى ذاك المطاع على المطيع
وفي هذا غلطان. والصواب: نُلفى غضابا بالفاء، في الشطر الأول و (دَلّ المطاع) بدل (ذاك المطاع) في الشطر الثاني
هذا ما أخذته وأنا أعبر القسم الأول وهو جزء من عشرين، ووراء هذا معضلات من التحريف تحتاج إلى بحث وتنقيب ليتبين صوابها. وسأبين في المقال الآتي ما في تعليق الناشرين من غلط وعبث، يرى فيهما القارئ المبكي المضحك، وموعدنا العدد الآتي إن شاء الله
عبد الوهاب عزام(181/73)
نفح الطيب
في طبعته الجديدة
بقلم الأستاذ أحمد يوسف نجاتي
شارح الكتاب
اطلعت في العدد الأخير من مجلة (الرسالة) الغراء على مقال بالعنوان الذي اخترناه لكلمتنا هذه بقلم الأديب محمد فهمي عبد اللطيف، فأردت بعد قراءته أن أقدم لحضرته هذه الكلمة في غير ردّ عليه ولا تزييف لقوله. وعسى أن تكون هذه الكلمة البريئة رسالة تعارف ودّي بيني وبين الناقد الكريم تتلاقى به الأشباح كما تلاقت الأرواح، فطالما قرأت له بمجلة (الرسالة) القيمة مقالات شائقة ممتعة؛ ولا غرو في ذلك فالرسالة ميدان تتبارى فيه فرسان البلاغة وجياد البراعة، وهي المجلة التي يتقبلها الأدباء بقبول حسن ويحلّونها من أنفسهم أكرم محل
افتتح حضرة الناقد الجهبذ مقاله الكريم بكلمة طيبة أثنى فيها على تلك الهمة المشكورة التي يبذلها حضرة الأستاذ الدكتور أحمد فريد الرفاعي في إحياء الأدب العربي وبعث تراثه من مراقده ونشر موسوعاته الجامعة؛ وراقه من كتاب نفح الطيب (وغيره طبع متقن وضبط كامل وتقسيم واضح وتصحيح دقيق تقوم وزارة المعارف بمراجعة أصوله النهائية مبالغة في إجادته وحرصا على إتقانه)؛ ونحن نشاركه في هذا الثناء ونتوجه بالشكر الجزيل لحضرة صاحب المعالي زكي العرابي باشا وزير المعارف الجليل وإلى حضرتي وكيليه الهمامين، فما منهم إلا نصير للغة وآدابها عامل على ترقيتها، فجزاهم الله خير الجزاء. وكذلك سرّنا من حضرة الناقد أن نوه بالمحاسن - وإن أجمل القول في ذلك إجمالاً - فجانب بذلك عادة عرف بها كثير من نقادنا وهي إغضاؤهم عن الحسنات وتشهيرهم بما يرونه هفوات
فليس من الحزم في شيء أن ينزل الكاتب - لشهوة الكتابة - على حكم النظرة الأولى العجلى فطالما أعجلت الكاتب عن التفكير، وكان حكمها خاطئاً بعيداً عن الحق متنكباً جادة الصواب؛ وليس من الكياسة الحكيمة أن يسرع بعض الناقدين إلى رمي من ينقدون أعمالهم(181/74)
بفساد القول وزلل المنطق، فقد كان من آثار ذلك أن أحجم كثير من المبرزين في الآداب أن يجلوا للناس عرائس أفكارهم، ضناً بأعراضهم أن ترتع فيها الألسنة المضرِّاة حتى تركوا الميدان لهؤلاء الذين جعلوا عقولهم وراء ألسنتهم، يجولون فيها وحدهم، ونرجو أن يكون للكتاب والناقدين قدرة حسنة في حضرة ناقدنا الأديب وأسوة صالحة بالكاتبين الكرام في الرسالة الغراء
1 - قال حضرة الناقد: إن الناشر (وضع اسم الكتاب على الغلاف ناقصاً فسماه: (نفح الطيب) والمؤلف قد سماه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، وهذا الاسم هو الذي وضع على الطبعات السابقة) ونحن أيضاً نرى أنه كان الأولى أن يكتب على الغلاف اسم الكتاب كاملاً محافظة على وضع المؤلف. ولعل العذر في ذلك اشتهار الكتاب باسم (نفح الطيب) فحسب، وأن الاسم لو أثبت كاملاً لم يتسع له نطاق الغلاف بهذا الوضع المنسق الذي هو عليه، وأن القارئ لا يلبث إذا تصفح بضع ورقات من الكتاب أن يرى اسمه التام الذي اختاره له مؤلفه، والخطب في هذا يسير وليست ملافاته عسيرة. وكذلك نرى أنه كان من الخير أن يراعى تقسيم المؤلف فيقسم كل جزء من الأجزاء العشرين إلى أقسام ينبه بها إلى التقسيم الأصلي للمؤلف، ويبين فيها حدود أجزائه الأربعة الأصلية، وهذا أيضاً شيء يهون أمره ولا يعز تداركه في الأجزاء الآتية إن شاء الله
2 - ونقول لحضرة الناقد إن المقدمة التي صدر الجزء الأول بها للتعريف بمؤلف الكتاب ليست للناشر ولا لغيره من الشارح أو المراجعين، وإنما هي منقولة بنصها من كتاب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر لابن فضل الدين المحبي، وقد نبه حضرة الناشر إلى ذلك في أول ذيل الصفحة الأولى، وما كان للناشر أن يتصرف في تلك المقدمة بمحو أو إثبات. فليس من العجب أن ينقل الأستاذ عبارة المحبي كما هي، وليس هو الذي أثبت اسماً قد ألغاه صاحبه ولكن المحبي صاحب خلاصة الأثر هو الذي أثبته غير مرة في هذه الترجمة الطويلة التي (جاء فيها بأشياء ذكرها المقري نفسه في المقدمة التي كتبها عن سفراته ورحلاته والباعث له على تأليف الكتاب) وإذا عرفنا أن المقدمة كلها من ص 9 - 31 منقولة من خلاصة الأثر فقد ارتفع اللوم عن الناشر وغيره(181/75)
وليس (لفّا) من الشارح ولا (فضولاً) أن ينبه في أسفل صفحة 9 إلى أن المؤلف قد غير اسم الكتاب من (عرف الطيب) إلى (نفح الطيب) قبل أن ينبّه المؤلف نفسه إلى ذلك في صفحة 244 حتى لا يتوهم بعض القراء في أول الكتاب عند صفحة 9 قبل أن يقطع المسافة إلى صفحة 244 أنهما كتابان متغايران
(يتبع)
أحمد يوسف نجاتي(181/76)
العدد 182 - بتاريخ: 28 - 12 - 1936(/)
الضحك
للأستاذ أحمد أمين
ما أحوجني إلى ضحكة تخرج من أعماق صدري فيدوّي بها جوّي! ضحكة حية صافية عالية، ليست من جنس التبسم، ولا من قبيل السخرية والاستهزاء، ولا هي ضحكة صفراء لا تعبر عما في القلب؛ وإنما أريدها ضحكة أمسك منها صدري، وأفحص منها الأرض برجلي؛ ضحكة تملأ شدقيّ، وتُبدي ناجذَيّ، وتفرج كربي، وتكشف همي
ولست أدري لماذا تجيبني الدمعة وتستعصي عليّ الضحكة، ويسرع إليّ الحزن، ويبطئ عني السرور، حتى لئن كان تسعة وتسعون سبباً تدعو إلى الضحكة وسبب واحد يدعو إلى الدمعة، غلب الدمع وانهزم الضحك، وأطاع القلب داع الحزن ولم يطع دواعي السرور!
ولي نفس قد مهرت في خلق أسباب الحزن؛ تخلقها من الكثير، ومن القليل، ومن لا شيء؛ بل وتخلقها من دواعي الفرح أيضاً. وليست لها هذه المهارة ولا بعضها في خلق أسباب السرور؛ كأن في نفسي مستودعاً كبيراً من اللون الأسود، لا يظهر مظهر أمام العين حتى تسرع النفس فتغترف منه غَرفة تسوّد بها كل المناظر التي تعرض لها، ثم ليس لها مثل هذا المستودع من اللون الأحمر أو اللون الأبيض!
يقولون لي: اضحك يدخل على قلبك السرور؛ وأنا أقول لهم: أدخلوا السرور على قلبي أضحك. ففي المسألة (دَوْر) كما يقول علماء الكلام، وكما يقول الشاعر:
مسألة (الدوْر) جَرَتْ ... بيني وبين من أُحِب
لولا مَشيبي ما جَفَا ... لولا جَفَاهُ لم أَشِب
وإلى الآن لم أَدر من المصيب! هل الضحك يبعث السرور، أو السرور يبعث الضحك؟ ودخلت المسألة في دور من الفلسفة مظلم كالعادة، وانتقلت إلى بحث بيزنطي، كالبحث في هل البيضة أصل الدجاجة أو الدجاجة أصل البيضة؟ فلنغلق هذا الباب ولنعد إلى (الضحك)
يقول المناطقة في أحد تعريفاتهم للإنسان: (الإنسان حيوان ضاحك)؛ وهذا عندي أظرف من تعريفهم الآخر: (الإنسان حيوان ناطق). فالإنسان في هذا الزمان أحوج إلى الضحك منه إلى التفكير، أو على الأصح نحن أحوج ما نكون إلى التفكير والضحك معاً
ولكن لمّ خصت الطبيعة الإنسان بالضحك؟(182/1)
السبب بسيط جدّاً. فالطبيعة لم تحمّل حيواناً آخر من الهموم ما حمّلته الإنسان؛ فهمّ الحمار والكلب والقرد وسائر أنواع الحيوان أكلة يأكلها في سذاجة وبساطة، وشربة يشربها في سذاجة وبساطة أيضاً. فإذا نال الحمار قبضة من تبن وحفنة من فول وغَرفة من ماء، فعلى الدنيا العفاء، ولكن تعال معي فانظر إلى الإنسان المعقد المركب! يحسب حساب غده كما يحسب حساب يومه، وكما يحسب حساب أمسه؛ ويخلق من هموم الحياة ما لا طاقة له به، فيحب ويهيم بالحب حتى الجنون، ويشتهي ويعقّد شهواته حتى لا يكون لعقدها حل؛ فإذا حلت من ناحية عقدها من ناحية؛ ثم إذا سذجت اللذة وتبسطت لم تعجبه بل أخرجها من باب اللذة، وعقد أمله على لذة معقدة. وإذا تفلسف - والعياذ بالله من فلسفته - خرج بها عن المعقول، وحاول أن ينال ما فوق عقله، ولم تعجبه الأرض والسموات مجالاً لبحثه؛ إنما يريد الحقيقة والماهية والكُنْه. وويل له من كل ذلكّ! أستغفر الله فقد نسيت أن أذكر هموم الموظف بالعلاوات والترقيات، وما كان منها استثنائياً، وما كان غير استثنائي، وما يترتب على ذلك من معاشات وحساب تمغة، وما إلى ذلك من أمور لا تنتهي. وهذا أيضاً من ضروب الفلسفة المظلمة، فلنعد إلى الضحك
أقول إن الطبيعة عودتنا أن تجعل لكل باب مفتاحاً، ولكل كرب خلاصاً، ولكل عقدة حلاً، ولكل شدة فرجاً؛ فلما رأت الإنسان يكثر من الهموم ويخلق لنفسه المشاكل والمتاعب التي لا حد لها، أوجدت لكل ذلك علاجاً؛ فكان الضحك
والطبيعة ليست مسرفة في المِنَح، فلما لم تجد للحيوانات كلها هموماً لم تضحكها، ولما وجدت الإنسان وحده هو المهموم المغموم جعلته وحده هو الحيوان الضاحك
لو أنصف الناس لاستغنوا عن ثلاثة أرباع ما في (الصيدليات) بالضحك، فضحكة واحدة خير ألف مرة من (برشامة أسبيرين) وحبة (كينين) وما شئت من أسماء أعجمية وعربية. ذلك لأن الضحكة علاج الطبيعة، والأسبرين وما إليه علاج الإنسان. والطبيعة أمهر علاجاً وأصدق نظراً وأكثر حنكة. ألا ترى كيف تعالج الطبيعة جسم الإنسان بما تمده من حرارة وبرودة، وكرات حُمر وبيض، وآلاف من الأشياء يعالج بها الجسم نفسه ليتغلب على المرض ويعود إلى الصحة، ولا يقاس بذلك شيء من العلاج المصطنع؟
فانفجار الإنسان بضحكة يُجري في عروقه الدم؛ ولذلك يحمر وجهه، وتنتفخ عروقه. وفوق(182/2)
هذا كله فللضحكة فعل سحري في شفاء النفس وكشف الغم، وإعادة الحياة والنشاط للروح والبدن، وإعداد الإنسان لأن يستقبل الحياة ومتاعبها بالبشر والترحاب
ولو أنصفنا - أيضاً - لعددنا مؤلفي الروايات المضحكة والنكت والنوادر البارعة التي تستخرج منك الضحك وتثير فيك الإعجاب، وتنشئ بك الطرب، وهؤلاء الذين يُضْحكون بأشكالهم وألاعيبهم وحركاتهم؛ أقول لو أنصفنا لعددنا كل هؤلاء أطباء يداوون النفوس، ويعالجون الأرواح، ويزيحون عنا آلاماً أكثر مما يفعل أطباء الأجسام، ولعددنا من يستكشف الضحكات في عداد من يستكشف دواء للسل أو للسرطان أو نحو ذلك من الأدواء المستعصية؛ فكلاهما منقذ للإنسانية من آلام، مصلح لما ينتابها من أمراض
والضحك بَلْسم الهموم ومرهم الأحزان؛ وله طريقة عجيبة يستطيع بها أن يحمل عنك الأثقال، ويحط عنك الصعاب، ويفك منك الأغلال - ولو إلى حين - حتى يقوى ظهرك على النهوض بها، وتشتد سواعدك لحملها
ومن مظاهر رقي الأمم أن نجد نواحي الضحكات، ملائمة لاختلاف الطبقات. فللأطفال قصصهم وألاعيبهم ومضحكاتهم، ولعامة الشعب مثل ذلك، وللخاصة وذوي العقول الراقية المثقفة ملاهيهم وأنديتهم ومضحكاتهم. فأن رأيت أمماً - كأممنا الشرقية - حرم مثقفوها من معاهد الضحك وكانت مسلاتهم الوحيدة أن ينحطوا ليضحكوا، أو يرتشفوا من الأدب الغربي والتمثيل الغربي ليضحكوا، فهي أمم ناقصة في أدبها، فقيرة في معاهدها. وهذا أيضاً ضرب من ضروب الفلسفة المظلمة، فلنعد إلى الضحك
تعال معي نتعاهد على أن نرعى في حياتنا جانب الضحك كما نرعى جوانب الصحة والمرض، وجانب الهزل بجوار جانب الجد، ولنتخذ الضحك علاجاً في بعض أمورنا
قال لي صديق مرة إنه حاول أن يتغلب على همومه وأحزانه بعلاج بسيط فنجح. ذلك أنه إذا اشتد به الكرب، وتعقدت أمامه الأمور حتى لا يظن لها حلاً، انفجر بضحكة مصطنعة فسُري عنه وتبخرت همومه
ويروي أنه كان عند اليونان فيلسوفان يلقب أحدهما الفيلسوف الضاحك، والآخر الفيلسوف الباكي؛ كان أولهما يضحك من كل شيء ضحِكَ جِدٍّ أحياناً، وضحك سخرية أحياناً: يضحك من سخف الناس ومن وضاعتهم وحقارتهم، ويبكي الثاني مما يضحك منه الأول(182/3)
وقرأت مرة قصة لطيفة أن بئراً ركّب عليها دلوان، ينزل أحدهما فارغاً، ويطلع الآخر ملآن؛ فلما تقابلا في منتصف البئر سأل الفارغ الملآن مم تبكي؟ فقال: ومالي لا أبكي؟ أخذ الرجل مائي وسيأخذه وسيعيدني إلى قاع البئر المظلم! وأنت مم تضحك وترقص؟ فقال الفارغ: ومالي لا أضحك؟ سأنزل البئر وأمتلئ ماء صافياً وأطع بعد إلى النور والضياء!
وقد أراد مؤلف القصة أن يصور نفس الموقفين اللذين وقفهما الفيلسوف الضاحك والفيلسوف الباكي، وأن الحياة مليئة بأشخاص يتولون عملاً واحداً، ثم هذا ينظر إليه من الجانب السار الفرح، وذاك ينظر إليه من الجانب الحزين القابض
فكن الفيلسوف الضاحك، ولا تكن الفيلسوف الباكي. وكن الدلو الراقص، ولا تكن الدلو الدامع. وجرب أن تلقى الحياة باسماً أحياناً، ضاحكاً أحياناً، ولأجرب معك!
أحمد أمين(182/4)
7 - القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وأما صاحبُ القلب المسكين فما علم أنها قد رحلتْ عن ليلته حتى أظلم الظلامُ عليه، كأنها إذا كانت حاضرةً أضاء شيء لا يرى، فإذا غابت انطفأ هذا الضوء؛ ورأيتُه واجماً كاسفَ البال يَتنَازَعُهُ في نفسه ما لا أدري، كأن غيابها وقع في نفسه إنذارَ حرب
لماذا كان الشعراء ينوحون على الأطلال ويلْتاعُون بها ويرتمضون منها وهي أحجارٌ وآثارٌ وبقايا؟ وما الذي يتلقاهم به المكان بعد رحيل الأحبة؟ يتلقاهم بالفراغ القلبيّ الذي لا يملأه من الوجود كله إلا وجودُ شخص واحد؛ وعند هذا الفراغ تقف الدنيا مليًا كأنها انتهت إلى نهاية في النفس العاشقة، فتبطل حينئذ المبادلةُ بين معاني الحياة وبين شعور الحي؛ ويكون العاشق موجوداً في موضعه ولا تجده المعاني التي تمرُّ به، فترجع منه كالحقائق تُلمُّ بالفراغ العقليّ من وعي سكران
يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما الذي يجعل فيك تلك القدرة الساحرة؟ أهو فصلك بين زمن وزمن، أم جمعك الماضيَ في لحظة؛ أم تحويلك الحياة إلى فكرة؛ أم تكبيرك الحقيقة إلى أَضعاف حقيقتها؛ أم تصويرك روحية الدنيا في المثال الذي تحسُّه الروح؛ أم إشعارك النفس كالموت أن الحياة مبنيةٌ على الانقلاب؛ أم قدرتك على زيادة حالة جديدة للهم والحزن؛ أم رجوعك باللذة ترى ولا تمكن؛ أم أنت كل ذلك لأن القلب يفرغ ساعةً من الدنيا ويمتلئ بك وحدك؟
يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما هذه القوة السحرية فيك تجتذبُ بها الصدرَ ليضمك، وتستهوي بها الفم ليقبلك، وتستدعي الدمعَ لينفرَ لك، وتهتاج الحنين لينبعث فيك؟ أكل ذلك لأنك أثر الحبيب، أم لأن القلب يفرغ ساعةً من الدنيا ولا يجد ما يخفق عليه سواك؟
ووقف صاحبنا المسكين محزوناً كأن شيئاً يصله بكل هموم العالم؛ وتلك هي طبيعة الألم الذي يفاجئ الإنسان من مكمن لذته وموضع سروره فيسلبه نوعاً من الحياة بطريقة سلب الحياة نفسها، ويأخذ من قلبه شيئاً مات فيدفنه في قبر الماضي. يكون ألماً لأن فيه المضض، وكآبةً لأن فيه الخيبة، وذهولاً لأن فيه الحسرة؛ وتتم هذه الثلاثةُ الهموم بالضيق الشديد في النفس لاجتماع ثلاثتها على النفس، فإذا المسكين مبغوت مبغوت كأن الآلام(182/5)
أطبقت عليه من الجهات الأربع فقلبه منها صُدُوعٌ صُدوع
وجعلت أعذلُ صاحبنا فلا يعتذل، وكلما حاولت أن أثبت له وجود الصبر كنت كأنما أثبت له أنه غير موجود. ثم تنفس وهو يكاد ينشقُّ غيظاً وقال: لماذا رحلتْ، لماذا؟
قلت: أنت أذللت جمالها بهذا الأسلوب الذي ترى أنك تُعِزُّ جمالها به، وقد اشتددت عليها وعلى نفسك وتعنَّتَّ على قلبك وقلبها؛ كانت ظريفة المذهب في عشقها وكنت خشناً في حبك، وسوَّغتك حقاً فرددته عليها، وتهالكتْ وانقبضتَ أنت، ورفعتْ قدرك على نفسها تحبباً وتودُّداً فخفضت قدرها عن نفسك من إطراح وجفاء، واستفرغتْ وسعها في رضاك فتغاضبت، ونَضَتْ عن محاسنها شيئاً شيئاً تسأل بكل شيء سؤالاً فلم تكن أنت من جوابها في شيء
ومن طبع المرأة أنها إذا أحبت امتنعتْ أن تكون البادئة، فالتوتْ على صاحبها وهي عاشقة، وجاحَدَتْ وهي مُقرَّة؛ إذ تريد في الأولَّة أن تتحقق أنها محبوبة، وفي الثانية أن يُقدَّم لها البرهان على أنها تستحق المهاجمة؛ وفي الثالثة هي تريد ألا تأخذها إلا قوةٌ قوية فتمتحن هذه القوة، ومع هذه الثلاث تأبى طبيعة السرور فيها والاستمتاع بها إلا أن يكون لهذا السرور وهذا الإمتاع شأنٌ وقيمة، فتذيق صاحبها المرَّ قبل الحلو ليكبر هذا بهذا
غير أنها إذا غلبها الوجد وأكرهها الحب على أن تبتدئ صاحبها؛ ثم ابتدأتْ ولم تجد الجواب منه، أو لم يأت الأمر فيما بينها وبينه على ما تحب، فان الابتداء حينئذ يكون هو النهاية، وينقلب الحب عدو الحب. وأنا أعرف امرأة وضعتها كبرياؤها في مثل هذه الحالة وقالت لصاحبها: سأتألم ولكن لن أغلب؛ فكان الذي وقع وا أسفاه - أنها تألمت حتى جُنَّت، ولكن لم تُغلب. . .
قال: فما بال هذه؟ أما تراها تبتدئ كل يوم رجلاً؟
قلت: إنها تبتدئ متكسِّبةً لا عاشقة، فإذا أحبت الحب الصحيح أرادتْ قيمتَها فيما هو قيمتها. وأنا أحسبها تحب فيك هذا العنفَ وهذه القسوة وهذه الروحية الجبارة، فإنها لذّات جديدة للمرأة التي لا تجد من يُخضِعها. وفي طبيعة كل امرأة شيء لا يجد تمامَه إلا في عنف الرجل، غير أنه العنف الذي أوله رقة وآخره رقة
أما والله إن عجائب الحب أكثر من أن تكون عجيبة؛ والشيء الغريب يسمى غريباً فيكفى(182/6)
ذلك بياناً في تعريفه؛ غير أنه إذا وقع في الحب سمى غريباً فلا تكفيه التسمية، فيوصف مع التسمية بأنه غريب فلا يبلغ فيه الوصف، فيقع التعجب مع الوصف والتسمية من أنه شيء غريب؛ ثم تبقى وراء ذلك منزلة للإغراق في التعجب بين العاشق وبين نفسه؛ وهكذا يشعرون
فكل أسرار الحب من أسرار الروح ومن عالم الغيب، وكأن النبوة نبوتان: كبيرة وصغيرة، وعامة وخاصة. فإحداهما بالنفس العظيمة في الأنبياء، والأخرى بالقلب الرقيق في العشاق. وفي هذه من هذه شَبهٌ لوجود العظمة الروحية في كلتيهما غالبةً على المادة، مجرِّدةً من إنسان الطين إنساناً من النور، محركةً هذه الطبيعة الآدميةَ حركةً جديدة في السموّ، ذاهبةً بالمعرفة الإنسانية إلى ما هو الأحسن والأجمل، واضعةً مبدأ التجديد في كل شيء يمر بالنفس، منبعثةً بالأفراح من مصدرها العلوي السماوي
بيدَ أن في العشق أنبياءَ كذَبة؛ فإذا تسفَّل الحب في جلال، واستعلنت البهيمةُ في عظمة، وتجرد من إنسان الطين إنسان الحجر، وتحركت الطبيعة الآدمية حركة جديدة في السقوط، وذهبت المعرفة الإنسانية إلى ما هو الأقبح والأسوأ، وتجدد لكل شيء في النفس معنى فاسد، وانبعثت الأفراح من مصدرها السفلي - إذا وقع كل هذا من الحب فما عساه يكون؟
لا يكون إلا أن الشيطان يقلد النبوة الصغيرة في بعض العشاق كما يقلد النبوة الكبيرة في بعض الدجَّالين
هكذا قال صاحب القلب المسكين وقد تكلم عن الحب ونحن جالسان في الحديقة وكنا دخلناها ليجدّد عهداً بمجلسه فلعله يسكن بعض ما به؛ واستفاض كلامنا في وصف تلك العبهرَة الفتانة التي أحلَّته هذا المجال وبلغت به ما بلغت، وكان في رقةٍ لا رقة بعدها وفي حب لا نهاية وراءه لمحب. وخيل إلي أنه يرى الحديث عنها كأنه إحضارها بصورة ما
وأنفع ما في حديث العاشق عن حبه وألمه أن الكلام يخرجه من حالة الفكر، ويؤنسُ قلبه بالاتعاظ، ويخفف من حركة نفسه بحركة لسانه، ويوجه حواسه إلى الظاهر المتحرك، فتسلبه ألفاظه أكثر معانيه الوهمية، وتأتيه بالحقائق على قدرها في اللغة لا في النفس؛ وفي كل ذلك حيلة على النسيان، وتعلل إلى ساعة، وهو تدبير من الرحمة بالعاشقين في هذا البلاء الذي يسمى الفراق أو الهجر(182/7)
وكان من أعجب ما عجبتُ له أن صديقاً مرَّ بنا فدعاه صاحبنا وقال وهو يومئ إليّ: أنا وفلان هذا مختلفان منذ اليوم لا هو يقيم عذراً ولا أنا أقيم حجة؛ وأحسب أن عندك رأياً فاقض بيننا
ويسأله الصديق: ما القضية؟ فيقول وهو يشير إليّ:
إن هذا قد تخرَّق قلبه من الحب فلا يدري من أين يجيء لقلبه برقعة. . . وأنه يعشق فلانة الراقصة التي كانت في هذا المسرح ويزعم لي. . . أنها أجمل وأفتن وأحلى من طلعت عليه الشمس، وأنه ليس بين وجهها وبين القمر وجه امرأة أخرى في كل ما يضيء القمر عليه، وأن عينيها مما لا ينسى أبداً أبداً أبداً. . . لأن ألحاظها تذوب في الدم وتجري فيه، وأن الشيطان لو أراد مناجزَةَ العفة والزهد في حرب حاسمة بينه وبين أزهد العباد لترك كل حيَله وأساليبه وقدَّم جسمَها وفنها. . .
فيقول له المسؤول: وما رأيك أنت؟
فيجيبه: لو كان عنها صاحياً لقد صحا. إن المشكلة في الحب أن كل عاشق له قلبُه الذي هو قلبُه، وحسبها أن مثل هذا هو يصفُها. وما يدرينا من تصاريف القَدَر بهذه المسكينة ما عليها مما لها، فلعلها الجمالُ حكم عليه أن يُعذَّب بقبح الناس، ولعلها السرورُ قضى عليه أن يسجن في أحزان
وقلت له: يا صديقي المسكين، أوَكلُّ هذا لها في قلبك. فما هذا القلب الذي تحمله وتتعذب به؟
قال: إنه والله قلب طفل، وما حبُّه إلا التماسُه الحنان الثاني من الحبيبة، بعد ذلك الحنان الأول من الأم. وكل كلامي في الحب إنما هو إملاء هذا القلب على فكره كأنه يخلق به خلق تفكيره
آه يا صديقي، إن من السخرية بهذه الدنيا وما فيها أن القلب لا يستمر طفلاً بعد زمن الطفولة إلا في اثنين: من كان فيلسوفاً عظيما، ومن كان مغفلاً عظيما
وافترقنا؛ ثم أردت أن أتعرَّف خبره فلقيته من الغد، وكان لي في أحلامي تلك الليلة شأن عجيب، وكان له شأن أعجب أما أنا فلا يعنى القراء شأني وقصتي
وأما هو. . .؟(182/8)
(يتبع - طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(182/9)
في الطفولة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
زارني مرة في مكتبي صديق كريم، وكان معي في ذلك اليوم أصغر أطفالي؛ فقد تشبث بي وأبى إلا أن يصحبني. فلم أر بأساً من ذلك، وسأله الصديق بعد حوار طويل لم يعلق بذهني منه شيء (أبوك من. .) - قالها هكذا بالعربية الفصيحة - والصبي حديث عهد بتعلم القراءة والكتابة فلم يفهم (من) هذه وظنها شيئاً معيباً أو غير لائق وهز رأسه منكراً؛ فكرر الصديق السؤال، فقطب الصبي وقال: (توْ توْ) فنظر إليّ صديقي فقلت: (يا صاحبي إنه يحسب أن (من) هذه مثل قولك (كلب) أو (قط) أو شيء آخر لا يليق في رأيه أن يكونه أبوه، ولو كنت قلت له (مين) بالعامية لفهم وأجابك، وما أظن به الآن إلا أنه وقع في نفسه منك أنك تسب أباه وإني لأخشى أن يحقدها عليك ولا يكون رأيه فيك بعد اليوم إلا سيئاً، وأكبر ظني أنه سيحدث أمه عنك حديثاً لا يسرك أن تسمعه
وانقضت هذه الحادثة وأطلق الغلام خارجاً ليلعب فقد سئم الحوار الذي ارتفعنا به عن طبقته. فقال صديقي بحق: إنه موقن أن الصبي يشعر بوحشة مع أمثالنا من الكبار لأنه يحتاج إلى صغار مثله يفهمهم ويفهمونه فيسر بهم ويأنس. فقلت له إني لا أظن أن أبنائي يستوحشون حين أكون معهم لأني أستطيع أن أنزل إلى مستوى مداركهم فأكون معهم كأني أحدهم، فقال إن أمره ليس كذلك
وخرج صديقي فذهبت أفكر فيما قال فسألت نفسي: (لماذا لا نحسن نحن الكبار أن نفهم الصغار كما ينبغي أن يفهموا. . إننا لم نجيء إلى الدنيا كما نحن الآن. . ولم تلدنا أمهاتنا بأسناننا وشواربنا ولحانا ورؤوسنا الناضحة - أو التي نزعمها لغرورنا ناضجة - وإنما جئنا إلى الحياة صغاراً ثم كبرنا شيئاً فشيئاً. ولم تكن طفولتنا قصيرة العمر، بل كانت سنوات طويلات، وإن من الكبار لكثيرين لا يزالون أطفالاً وإن كانوا قد شابوا وشيخوا. . وأنّا لنذكر حلاوة الطفولة وجمال عهدها ونحن إليها ونتمنى لو أمكن أن نرتد إلى ما كنا في أيامها بكل ما حفلت به. . ومع ذلك لا نستطيع بعد أن كبرنا أن نفهم الأطفال ونفطن إلى أساليب تفكيرهم وقد كنا مثلهم. . ومع أن الطفولة ليست غريبة عنا ولا أجنبية منا حتى يستعصي علينا فهمها فان صفحتها تمحى من ذاكرتنا كل المحو فننقلب محتاجين إلى من(182/10)
يشرحها ويفسرها لنا ويبين لنا ما فيها ويعلمنا كيف نقرأها ونفهمها. . .
وأذكر أني وأنا طالب في مدرسة المعلمين العليا كنت أضحك فيما بيني وبين نفسي حين أسمع أستاذنا يقول لنا بلهجة الجد إن علينا أن نعنى بأن ندرس الطفل؛ وكنت أقول لنفسي وأي حاجة بنا إلى درس المعروف المفهوم كأنه مجهول أو غامض. فلما كبرت وصار لي ابن أدهشني أني وجدت أني محتاج أن أروض نفسي على النظر إلى الأمور بعين الطفل لا بعيني أنا؛ ولم تكن هذه الرياضة لا سهلة ولا خفيفة، فقد كانت تستنفد صبري ومجهودي معاً، ولكني كنت مضطراً إلى ذلك بعد أن شاءت الأقدار ألا يبقى له من أبويه سواي، ولولا ذلك لنفضت يدي من الأمر كله وتركت العبء لغيري
ومن فرط جهلي بالطفولة وثقل الشعور على نفسي بذلك أراني أحياناً أتمنى لو يرزقني الله عشرين أو خمسين طفلاً دفعة واحدة لا لأعذب نفسي بهم وأطير عقلي معهم، بل ليتسنى لي أن أدرس الطفولة كما ينبغي أن تدرس على نحو ما سمعت أن العلماء يدرسون ما لا أدري في معاملهم، ولكن الحوائل دون ذلك كثيرة: منها أن المرأة ليست كالقطة أو الأرنبة، ومنها إني لا أستطيع أن أعول كل هذا الجيش من الصغار، ومنها إني خليق في هذه الحالة أن أجن فلا أنا درست شيئاً ولا أنا أبقيت على عقلي
والضرورة تفتق الحيلة كما يقولون؛ والحاجة أم الاختراع. وقد لجأت إلى وسيلة أخرى أخف محملاً وآمن عاقبة، وفيها بعد ذلك لهو لا بأس به، وتلك أني أكون مع أطفالي كما يكونون أو كما أراهم يكونون، وكما يبدو لي منهم، فأخلع ثوب الكبر والوقار والاحتشام وأجعل من نفسي طفلاً مثلهم، وأحاول أن ألبس هذا الثوب الذي نضته عني الأيام بكرهي ولم تبقى لي منه إلا ذكرى السعادة وأما أمرح فيه. ومن العجيب أنا لا نذكر إلا أنا كنا سعداء به؛ أما كيف كنا سعداء، وما كان يسعدنا، فهذا ما نتخيله في كبرنا لا ما نعرفه على التحقيق. ولكن استعادة هذا العهد الذاهب عسيرة جداً. نعم أستطيع أن أقلدهم فيما أراهم يصنعون، فأضحك مثلاً بكل جسمي لا بفمي وعيني فقط! وأسقط على الأرض متهافتاً من شدة الضحك كما يفعلون، وأقذف بالكرة بلا حساب أو تقدير فتصيب المرآة أو زجاج الصورة المعلقة أو أنف جالس يستغرقه الحديث الذي يخوض فيه مع جاره فينتفض مذعوراً، ويسبقه لسانه بما لا يروي وما يجب أن يغتفر له، ونرى ذلك نحن الأطفال(182/11)
فيترامى بعضنا على بعض من فرط السرور والجذل، وتتصادم رؤوسنا ثم نفطن إلى غضب الذي أصيب أنفه وندرك أن هذا الغضب قد يكلفنا ما لا نحب فنذهب نعدو ويد الواحد منا على كتف صاحبه أو ممسكة بذيل ردائه، ونتزاحم ونحن خارجون من الباب الذي لا يتسع لنا جميعاً؛ فيقع أحدنا ويتعثر الباقون فوقه، ويصيح المتأذون من الضجة التي أحدثناها وينهروننا ويزجروننا عن هذا العبث المزعج الذي يفلق الرؤوس ويعرض الأنوف والعيون للإصابات المباغتة، فتخفت أصواتنا ويلصق بعضنا ببعض في ركن من الغرفة الثانية ونكمن وراء خزانة أو غيرها مما يتفق وجوده ونصمت برهة ثن يشق علينا السكوت، وتمل ألسنتنا الهدوء، ويتذكر أحدنا ما أفاد من المتعة حين رأى المصاب في أنفه يصرخ ويرفع يديه إلى وجهه ويصيح باللعنات الحرار والتهديد المرعب - يذكر أحدنا ذلك فيغلبه الضحك فيكركر ويساوره الخوف مما هدد به فيتناول بعض ثوبه ويضعه على فمه ليخفض صوت السرور ولكنا نرى ذلك منه فيعدينا فنفعل مثل ما يفعل ونصبح نحن الثلاثة أو الأربعة كأننا ثلاثة قطط أو أربعة - قطط صغار وليدة من فرط التداني والاختلاط، فهذا وجهه مدفون في صدر ذاك، وذاك رأسه تحت ذقن الثالث، والثالث وجهه إلى الحائط وهو يغت ويغالب ضحكه، والرابع قاعد على الأرض ومخف وجهه في طيات الثياب. وأحيانا أكون مع الأطفال قطاراً يسير متعرجاً بين الكراسي والمقاعد والأثاثات المختلفة، ولا يخلو سير هذا القطار الآدمي من حادثة فيكسر كوباً أو إبريقاً أو يقلب شيئاً؛ وقد نقع الحادثة له - فيتعثر الذي هو القاطرة وتنكب المركبات على جسمه؛ ولكن الحوادث - كائنة ما كانت - ولا يراق فيها دم - إلا دم إصبع مجروح أحيانا - ولا تمنع البشر والضحك، بل لعل هذه الحوادث هي التي تجلب السرور ولا تكون المتعة إلا بها
أفعل ذلك وغيره وأقدر عليه، ولا يحس الأطفال الذي ألاعبهم وأغالط نفسي بأني أحدهم ومثلهم أن هنالك أي فرق بيني وبينهم، ولكني أنا أحس بالفرق الذي يخفي عليهم. ومهما بلغ من استغراق اللعب لي فليس يسعني أن أنسى أني كبير وأني مقلد ليس إلا. ولو نسيت لأذكرني التعب الذي سرعان ما يحل بي، وصدري الذي يعلو ويهبط كموج البحر، ودقات قلبي السريعة، وأنفاسي المنبهرة، فلا يلبث ذلك كله أن يردني بعنف وغلظة إلى ما أتجاهله من الحقائق؛ ولو لم يكن هناك شيء من هذا لكان حسبي من الفرق أن الأطفال يختلفون(182/12)
عني في التفكير والنظر والتقدير، وأنهم يفعلون ما يفعلون بفطرتهم، ولأن حيويتهم كلها في أعضائهم وأين أجاريهم متكلفا؛ وهم يسرون بما يفعلون، أما أنا فسروري بمبلغ توفيقي في التقليد والتمثيل لا في الفعل نفسه، أي أن سروري بمحاكاتهم ومجاراتهم فني في الحقيقة؛ أما هم فالأمر عندهم طبيعي، وإفادة السرور راجعة إلى أنهم يرسلون نفوسهم على سجيتها
ولست ألاعب الأطفال لأسرهم فقط - وإن كان هذا وحده كافياً لتهوين ما أتكلفه من العناء والجهد - ولكني أحب أن أدرس الطفولة بمحاولة الاندماج مع الأطفال وتمثل احساساتهم وتصور بواعثهم على قدر ما يتيسر ذلك لي وبمعالجة استرداد القدرة على الصدور عن وحي الفطرة التي لا يكبحها العقل أو التهذيب أو العرف أو غير ذلك من اللجم التي يحسها الكبار كلما هموا بفعل شيء تغريهم به الفطرة
ولدرس الطفولة مزايا كثيرة هي السر في ولعي بهذا الموضوع: منها أن الطفل في بلادنا أشقى عباد الله. وإنه ليخجلني أن أقول إننا نعذب الأطفال ونقمع في نفوسهم الجديدة روح الطفولة ونمنعها أن تتفتح وتزهو وتربو؛ وأحر بنا إذا فهمنا الطفولة أن نحسن سياستها ونسعدها ونجعل عهدها حميداً وتمهيداً صالحاً لعهد الشباب؛ وأنا موقن أن خير الآباء ليس هو الذي يرضى عن أبنائه أو عما يعتقد فيهم ويظن بهم - فقد يكون مخدوعاً وهذا هو الأغلب - وإنما أحسن الآباء هو الذي يرضى عنه أبناؤه ويفرحون به ويباهون يعتزون
فسياستي مع أطفالي هي أن أسعى لاكتساب رضاهم عني لا أن يكونوا بحيث أرضى أنا عنهم؛ والفرق دقيق ولكني أظنه واضحاً. وقوام هذه السياسة أن تدرك أن للطفل نفساً غير نفسك، وأن لها استعداداً لعله غير استعدادك، وأن مهمتك أن تعين الطفل على إنماء مواهبه الكامنة والانتفاع بهذا الاستعداد المضمر، وأن توجد الفرصة لإبراز ذلك، لا أن تأخذ عليه الطريق وتسده؛ وبعد أن يبدو لك ما يشي بالاستعداد تسرع في توجيهه وتقويته. ولا يمكن أن يتيسر ذلك إلا إذا تركت للطفل حريته. وكيف يمكن أن تعرف ما يخفى من أمره إذا كنت تلزمه حالة معينة، أو تحتم عليه مسلكا لا يجوز له أن يعدوه أو ينحرف عنه؟. . . وكيف ترجو أن تكون له شخصية متميزة بخصائصها إذا كنت تأبى عليه الاستقلال والحرية؟. . . إن تربية الطفل هي في الحقيقة تجربة يجريها المربي ولا سبيل إلى الاطمئنان إلى صحة النتيجة إذا كنت تبدأ برأي معين وفكرة لا تحيد عنها. وسلسلة(182/13)
الاختبارات المتعاقبة هي التي تشير إلى اتجاه النفس، وتدل على ناحية الاستعداد المجهول؛ فلابد من ترك الطفل حراً، ومن تعويده الاستقلال في النظر والعمل وفي تلقي وقع الحياة، وفي طريقة استجابته لهذا الوقع. ولا نكران أن الرقابة لا معدي عنها، ولكنها يجب أن تكون بحيث لا يشعر بها الطفل ولا يتأثر بها. وكذلك ينبغي أن يكون التوجيه حين يجيء وقته، وإلا فقد الطفل استقلاله وخيف أن يكون قد اتجه حيث أردت له لا حيث يدعوه استعداده الشخصي
ومزية أخرى هي أن الطفل يمثل الأدوار التي اجتازتها الإنسانية والمراحل التي قطعتها كلها في تاريخها الطويل. وصحيح أنها تكون فيه - أي في الطفل - مختزلة جداً، ولكن المرء يستطيع أن يفطن إلى بعضها وإن كان يفوته أكثرها. وحسبي هذا القدر لئلا ندخل في مباحث علمية لا قدرة لي عليها
ومزية ثالثة لا يشق عليَّ الكلام فيها ولا يثقل فيما أرجو على القارئ؛ وتلك هي أن الطفولة غرائز ساذجة وعواطف واحساسات فطرية لم تهذب ولم تصقل، ولكنا بالتربية نعود الطفل أن يكبح شهواته ويضبط أهواءه ويضع لنفسه اللجم والقيود، وهذا شبيه بما يصنعه المجتمع بنا نحن الكبار. وقد يعلم القراء - أو لا يعلمون فما أدري - أن سبيل المدنية أن تتخذ من النظم الاجتماعية مجاري تتدفق فيها العواطف والغرائز الإنسانية الساذجة الفطرية. مثال ذلك أن الحب هو الذي يرجع إليه الفضل في نظام الزواج الذي صلح به أمر المجتمع إلى الآن. ذلك أن الرجل كان فيما خلا من عصور الاستيحاش تأخذ عينه امرأة فتروقه فيخطفها أو يستحوذ عليها بالقوة أو غير ذلك من الوسائل، ويستأثر بها ويقاتل دونها ما دام راغباً فيها، ثم يدعها أو يبقيها بعد الفتور عنها إلى أخرى تستولي على هواه، وكان الأمر كله فوضى ولكنه انتظم بالزواج، فلا خطف الآن ولا قتل ولا عنف. وقد احتفر الرقي المجرى الاجتماعي فتدفقت فيه الحياة من هذه الناحية. وكذلك الوطنية ليست في مرد أمرها إلا مظهر أنانية وأثرة، ولكن نطاق الأثرة اتسع فشمل الجماعة المتماثلة كلها بعد أن كان قاصراً على القافلة الصغيرة مثلاً أو على الفرد قبل ذلك وهكذا إلى آخر ذلك؛ وما من نظام اجتماعي إلا والأصل فيه غريزة من الغرائز الساذجة التي لم تهذب ولم تصقل
ونحن نصنع بالطفل ما تصنع بنا الحياة المدنية - نعلمه كبح الغرائز ونروضه على ضبط(182/14)
النفس وننشئه على إدراك الحدود والواجبات ونعده لحياة الجماعة المنظمة التي لا يسمح فيها بإرسال النفس على السجية في كل حال بغير كابح أو رادع أو ضبط
وشيء آخر لا سبيل إليه إلا الطفل، وذاك أن من أراد أن يعرف حقيقة الإنسان فليتأمل الطفل؛ وأنا أومن بأن الإنسان مخلوق لا شريف، ولا كريم، ولا خير، ولا فيه خصلة واحدة من خصال الخير؛ وأنه لا يعرف لا خيراً ولا شراً، ولا فضيلة ولا رذيلة، وإنما يعرف نفسه وأهواءها وشهواتها وما يحسه من رغباتها؛ وهنا موضع التحرز من خطا؛ فأنا لا أقول إن الإنسان خير بطبعه، ولكني لا أقول شرير بطبعه. وسبب ذلك أني لا أرى الغرائز الطبيعية لا خيراً ولا شراً، وإنما هي غرائز طبيعية وكفى، وعقلي لا يسمح لي أن أستنكر الفطرة التي بنينا عليها
ولا حاجة في الحقيقة إلى الرجوع إلى الطفل للاستدلال على أن الإنسان ليس بفطرته خيراً أو فاضلاً أو كريماً إلى أخر هذه المعاني الحسنة، فانه يكفى أن يفكر الإنسان في هذه الشرائع والقوانين وما إليها وكلها حض على الخير ونهى عن الشر. ولماذا يحتاج الإنسان إلى كل هذا الحض على الخير والتزيين له والتحبيب فيه، وكل هذا الزجر عن الشر والتخويف منه والتهديد بالعقاب عليه إذا كان بفطرته خيراً عزوفاً عق النكر والسوء؟.
ولكن الطفل مع ذلك أبرز مثال محسوس لحقيقة الفطرة الإنسانية. هات طفلاً وأعطه عصفوراً، وانظر ماذا يصنع به. . يربط رجله ويشد عليها ولا يبالي ألمه ويروح يطوح به ذراعه مسروراً بالدائرة الوهمية التي يرسمها به في الهواء غير عابئ بما يكلفه ويحمله من الأذى، أو يقبض على عنقه ويحبس أنفاسه ثم يلقيه على الأرض ويغتبط بأن يراه منطرحاً على جنبه ورجلاه إلى فوق، وهو لا يحس أن هذا قسوة لأنه لا يعرف لا القسوة ولا الرحمة، وإنما يفعل ما يفيده السرور الذي يطلبه والمتعة التي يشتهيها.
وتعطيه قطعاً من الحلوى ويجيء من يطلب منه واحدة، فإذا كنت لم تعلمه ما نسميه الأدب فانه لا شك يضم يده الصغيرة عليها وقد ينثني فوقها ليحجبها عنك ويمنعك في ظنه أن تأخذ منها ما طمعت فيه
وتكون في يدك موزة أو تفاحة أو ما يشبهها من الفاكهة فإذا كنت لم ترضه على كبح النفس فستراه يشب ويمد كلتا يديه إلى ما في يدك ويصيح بك أن هاتها واحرم نفسك وأعطني(182/15)
وتكون قد وعدت أخاه بشيء إذا حفظ درسه مثلاً فيحفظه فتهدي إليه ما وعدته، ويراك أخوه فيغضب ويغار وينقم منك أنك اختصصت أخاه دونه بشيء، ويدعوك أن تأخذ من أخيه وتعطيه هو، ويسره أن تفعل ذلك ولا يبالي أخاه ولا يحفل أنه خطفت من يده الهدية الموعودة، بل يروح يخايله بها ويكايده ويغتبط بأن يراه منغصاً محروماً دونه
ولا شكر على صنيع جميل ولا حفاظ لعهد، ولا وفاء ولا ذكر، إنما له الساعة التي هو فيها، والشيء الذي يحس أن نفسه تطلبه، وفيما عدا ذلك على كل شيء وكل إنسان ألف سلام
قد يقال أن هذا من الجهل وقلة الإدراك، فأقول: إني أتكلم عن الأصل قبل التهذيب والصقل. أم الإدراك فهو كالرقي الذي وصل إليه الإنسان على الأيام وبعد الحقب الطويلة؛ وقد أسلفت أن الطفل يمثل الأدوار التي مرت بالإنسانية من بدئها إلى حاضرها. فأنت ترى في سنة من عمر الطفل اختزالا لما قضت الإنسانية دهوراً ودهوراً طويلة وهي فيه من الحالات. وأما التعليم والتهذيب فهذه هي اللجم والأعنة التي نضعها لضبط هذه الغرائز وكبح العواطف وتوجيهها إلى المجاري التي احتفرت على الأيام وتحدرت فيها حياة الجماعة المنتظمة المهذبة؛ واللجام طارئ، فإذا كان يكبح بما يشد ويصد فليس معنى هذا أن ما صار إليه الأمر بعدها هو الذي كان قبلها
ومع ذلك هل نحن الكبار المثقفون المهذبون المصقولون خير من الأطفال الصغار؟. وللجواب عن هذا السؤال أرجو أن يسأل القراء أنفسهم ماذا يكون الحال - حال المجتمع لو أمنتم عقاب الله وسطوة القوانين وحكم العرف؟. والقوانين لا تعاقب على بعض الرذائل مثل الكذب والخداع والنفاق، فانظر من الذي لا يكذب أو يخادع أو يداهن وينافق - أحياناً كثيرة على الأقل؟ أظن أنه لو أمن الناس البطش والعقاب لما بقى شيء لا يجترحونه
وتعالى إلى الرجل الساكن الوقور الرزين الذي يملك زمام أعصابه ولا يدعه قط يفلت من يديه، وادن منه وهو بين الناس والطمه على خده لطمة قوية، ثم انظر ماذا يبقى من صقله وسكون طائره ووقاره، ومن هذه القشرة التي كسته المدنية وزانته بها؟
وأوجز فأقول إن الإنسان يرتد إلى طباعه الفطرية إذا أوجدته في حالة تسمح لهذا الطباع بالظهور والتغلب على لجم المدنية مثل الجوع أو الغضب أو الألم أو الخطر على الحياة أو(182/16)
السكر. فليس الطفل وحده هو الذي يشهد أن الإنسان في الأصل لا كريم ولا ذو مروءة أو شهامة أو غير ذلك، وأنه إنما يكون كذلك اكتساباً وبالدربة والعادة وبفضل الرغبة والرهبة وغيرها مما يدفع إلى الحرص على المصلحة الذاتية، ومن هنا كانت أهمية العناية بالطفل، فما ترك طفل وشأنه بغير عناية وتوجيه إلا فسد وصار شريراً وأمرؤ سوء. وهذا دليل آخر على أصل فطرة الإنسان. وليس معنى هذا أن أصل فطرة الإنسان سيئة، وإنما معناه أن عوامل ما نسميه الشر في الدنيا أقوى وأشد إغراء وأعظم استيلاء على النفس، وأن الخير مجعول لمصلحة الجماعة ومصلحة الفرد ضمنا
وليس أقدر من الأطفال على التخيل. ترى الواحد من الأطفال يمشي القهقري بحذر فلا تفهم، وتجده يحشر نفسه بين كرسيين ثقيلين ثم يعجز عن التخلص، ويضيق صدره فيصيح بك، أو يبكي فتنهض إليه وتسأله عن الخبر فيقول لك إنه كان يدخل السيارة في الجراج فانحشرت وانكسر السلم ويكون معنى هذا أنه عد نفسه سيارة واستولت عليه هذه الفكرة فهي تستغرقه وتذهله عن كل شيء، فلو كلمته لما سمع؛ وتراه مرة أخرى يشير إلى الهواء ويكلم من لا وجود له ويدعوه أن ينزل؛ فلو كان رجلاً لظننته قد جن، ولكنه طفل يتصور أن في الجو طيارة يحادث ربانها ويدعوه إلى النزول ليركب معه وهكذا
وللطفولة أحزانها كما أن لها مباهجها ومسراتها، ولكن المزية أن الأحزان أو الهموم لا تكون إلا هموم هنيهة قصيرة تزول وتمحي ولا يبقى لها ذكر متى عرض شاغل آخر. ويعيش المرء منا ما يعيش ويبلغ من العلم والعرفان والتجربة والفطنة ما يبلغ ولكنه لا يستكبر أن يتمنى أن يرد إلى هذه الطفولة الذاهلة. فإذا كان للسعادة معنى أو كان لها في الدنيا وجود فهي في عهد الطفولة ولا شك
إبراهيم عبد القادر المازني(182/17)
القصور المثلى
للأستاذ محمد عبد الله عنان
للصروح والهياكل العظيمة، كما للأشخاص والدول شخصيات تشغل مكانها في حياة الأمم والعصور، وتؤدي دورها في الحوادث والسير العظيمة؛ فإذا ذهبت الدول وفنيت الأجيال بقيت الصروح والهياكل شاهدة بما توالى عليها من الإحداث والمحن تلقى على الماضي نوعا من الضياء القاتم، وتذكرنا بتلك الأدوار العظيمة التي لعبتها في سير الدول والشخصيات الذاهية
وما زالت طائفة كبيرة من هذه الصروح والهياكل العظيمة تزين العواصم الأثرية القديمة؛ ولدينا في مصر عدة من الهياكل الفرعونية الخالدة لعبت أدوارها العظيمة في تاريخ مصر القديمة، ولكنا لا نتحدث عنها هنا لأنها تقترن بعصور تغيض منا في ظلمات الماضي البعيد؛ ولم يبق بمصر من الصروح الإسلامية العظيمة سوى المساجد، وهي ليست مما نعني به في هذا الفصل
وإنما نريد أن نتحدث هنا عن بعض الصروح الأوربية العظيمة التي شهدناها، والتي تعتبر بما لعبت من أدوار خطيرة في الدول والعصور التي قامت فيها صروحا (مثلى)
إن أسماء صروح كاللوفر وفرساي والفاتيكان وقصر الدوجات لا تمثل الهياكل والأبنية العظيمة التي تعرضها هذه الصروح فقط، ولا تقف أهميتها وروعتها عند النقوش والذخائر الفنية العظيمة التي تحتويها، ولكن أعظم ما تدلى به هذه الصروح في نظرنا هو تراثها المعنوي والحوادث والذكريات العظيمة التي اقترنت باسمها
فقصر اللوفر مثلاً يمثل عصوراً بأسرها من حياة الملوكية الفرنسية ويعرض لنا في أبهائه الشاسعة ونقوشه وذخائره طرفا من روعة هذه الملوكية وأيام عظمتها وازدهارها؛ هذا جناح هنري الثاني، وهذا جناح زوجه كاترين دي مديتشي التي تملأ سيرتها كثيراً من القصص الشائق؛ وهذه غرف ولديها فرانسوا الثاني وشارل العاشر؛ وهذا جناح هنري الرابع؛ ولويس الثالث عشر، وهذا جناح الملك العظيم لويس الرابع عشر: في تلك الغرف والأبهاء الشاسعة عاشت الملوكية الفرنسية أحقابا تشرف على مصاير أمة عظيمة، وفيها كم دبرت أمور وكم قررت شؤون خطيرة كان لها أكبر الأثر في سير التاريخ الأوربي؛ كان(182/18)
اللوفر مدى قرنين قلب فرنسا النابض، وأحيانا قلب أوربا بأسرها شأنه في عهد لويس الرابع عشر
وقد كان قصر فرساي يكمل حياة اللوفر؛ وكان في أواخر عهد الملوكية الفرنسية ملاذها ومستقرها: هذا جناح لويس الرابع عشر الفخم، وهذه غرفة نومه، وهذا بهو عمله ومتزينه، وهذا جناح الملك الخليع لويس الخامس عشر قد أثث بأثاث ما يزال إلى اليوم نموذجا فنياً رائعاً؛ أجل وهذا جناح خليلاته دوباردي ودي بومبادور الخ على مقربة من جناح زوجه الشرعية، ماري لكزنسكا، وهذه أبهاء الحفلات الباذخة التي كان ينفق عليها بغير حساب، وكانت تثقل كاهل الشعب المسكين؛ وأخيراً ها هو ذا (بهو المرايا) الشهير الذي عقد فيه مؤتمر الصلح في سنة 1919 وأملت فيه فرنسا وحلفاؤها الظافرون إرادتهم على ألمانيا المنهزمة ووقعت فيه ألمانيا وثيقة انكسارها وذلتها
في هذه الربوع والمواطن الصامتة التي تغدو اليوم آثاراً يحج إليها السائح كان يكتب تاريخ فرنسا وتاريخ أوربا
على أن الأحداث والذكريات التاريخية الرائعة لم تجتمع قدر اجتماعها في صرحين عظيمين، هما قصر الفاتيكان في رومة، وقصر الدوجات في البندقية (فينزيا) فأما الفاتيكان فهو بلا ريب أجل آثار النصرانية وأعظمها؛ وفي الفاتيكان الذي غدا علماً على البابوية والكرسي الرسولي، تتمثل عظمة البابوية، وبذخ البابوات، وكل ما في عصر الأحياء من عبقرية وجمال وافتنان؛ وليس الفاتيكان قصراً تستطيع أن تحيط برؤيته التجوال فيها والتمتع بروائعها أياماً عديدة. وقد نشأ الفاتيكان في أواخر القرن الرابع عشر قصراً متواضعاً إلى جانب كنيسة القديس بطرس، وغدا من ذلك التاريخ مركز الكرسي الرسولي، ثم تعاقب عدة من البابوات على إنشائه وزخرفته، فأقاموا إلى جانب القصر القديم قصوراً وأجنحة جديدة بلغت أعظم مبلغ من الفخامة والبهاء، نخص بالذكر منها مصلى سكستوس الرابع المسمى كابيلاسستنا، والذي خلف ميشيل آنجلو فوق جدرانه من ريشته آيات خالدات، وجناح آل بورجيا الذي أنشأهإسكندرالسادس، وأفاض عليه أبدع ما تمخض عنه الأحياء من بذخ وزخرف وبهاء؛ وجناح جوليوس الثاني (لوجي)، وهو الذي زينه رافائيل بآيات باهرات من فنه وريشته؛ ولبث البابوات يزيدون في صروح الفاتيكان وفي زخرفته(182/19)
حتى غدا مجموعة من القصور الشامخة الباذخة، تضم عشرات من الأبهاء والأروقة الفخمة، وعشرات الساحات والأفنية العظيمة، ونحو عشرة آلاف غرفة. ولا يستطيع القلم مهماً أوتى من قوة أن يصف ما تزدان به تلك الصروح والأبهاء الخالدة من نقوش وزخارف وصور تأخذ الأبصار بجمالها وروعها؛ ويكفي أن نقول إنها مثوى لأبدع وأروع ما تمخضت عنه عبقرية الجمال والفن في أعظم وأزهى العصور
على أن روعة الفاتيكان لا تقف عند جمال الفن؛ وإنما تمثل بنوع خاص في ذلك الدور الخطير الذي أداه في تاريخ النصرانية، وتاريخ البابوية، فقد كان الفاتيكان وما زال رأس الكنيسة المفكر وروحها المسير، وكان مدى عصور طويلة مبعث تلك السلطة الزمنية القوية التي زاولتها البابوية مع سلطنها الروحية جنباً إلى جنب؛ وكانت أبهاء الفاتيكان ومخادعة مسرحاً لكثير من الحوادث التاريخية البارزة، وكانت أيضاً مسرحاً لكثير من المؤامرات والدسائس والمآسي المروعة
وليس بين صروح أوربا الأثرية كلها صرح يثير ما يثيره الفاتيكان في النفس من روعة وإجلال وإعجاب؛ وسيبقى الفاتيكان عصوراً علما على عظمة البابوية الذاهبة، وسيبقى حلية الآثار النصرانية والكنسية كلها
ولنتحدث بعد ذلك عن قصر الدوجات ذلك الصرح الذي لا يدلى مظهره المتواضع بذلك الدور العظيم الذي لعبه في تاريخ أعظم جمهوريات العصور الوسطى
كان قصر الدوجات الذي لا يزال يجثم بحناياه العربية البيزنطية وشرفاته المنخفضة بجوار كنيسة القديس ماركو على المنعطف الذي يصل بين البحر وبين ميدان سان ماركو (القديس مرقص) منزل الدوجات ومستقر الهيئات النيابية التي امتازت بها نظم البندقية في العصور الوسطى، مثل المجلس الأعلى ومجلس العشرة الشهير الذي يثير اسمه كثيراً من الذكريات المروعة؛ وكان رأس الجمهورية المفكر وقلبها النابض، يكتب فيه تاريخها وتدبر فيه أسباب قوتها وعظمتها، وتضطرم فيه تلك الدسائس والمؤامرات الخطيرة التي تدفع بها إلى براثن المحن الدموية أو الفوضى، وكان أخيراً حرمها المقدس وملاذ دستورها، وسلطانها الأعلى
ومن هم أولئك الدوجات الذين سمى الصرح العتيد باسمهم، وتوج اسمهم تاريخ البندقية(182/20)
الحافل من مبدئه إلى منتهاه؟ كان الدوج (أو الدوق) رئيس الجمهورية وحاكمها الأعلى، وكان في المبدأ يعين بالانتخاب على يد جمعيات من الشعب، ثم أنشئ المجلس الأعلى في القرن الثاني عشر من نواب يعنيهم زعماء الولايات، ومنهم ينتخب الدوج والوزراء وكبار القضاة؛ وكانت البندقية جمهورية، ولكن جمهورية أرستقراطية، تقبض الأرستقراطية على مصايرها وتستأثر فيها بالحكم والسلطان؛ وكان الشعب يجاهد طول الوقت لكي ينتزع لنفسه تلك السلطات التي تستمد منه وتدار باسمه؛ ولكن تلك الأرستقراطية الطاغية المستنيرة معاً كانت حريصة على سلطانها وزعامتها؛ وفي القرن الثالث عشر استطاعت الأرستقراطية أن تقصي الشعب نهائياً عن كل اشتراك في الشؤون العامة، وذلك بأن حول المجلس الأعلى من هيئة نيابية انتخابية إلى هيئة وراثية خالدة، وبذا قامت في البندقية تلك الأرستقراطية الوراثية القوية التي يصفها المؤرخ الفيلسوف سسموندي بقوله: (كانت فياضة الحزم والغيرة والطمع، جامدة في مبادئها، راسخة في سلطانها، تقترف باسم الحرية طرفا من أشنع مثالب الاستبداد، مشاكسة غادرة في السياسة، دموية في الانتقام، متسامحة مع الفرد، باذخة في الشؤون العامة، مقتصدة في الإدارة المالية، عادلة نزيهة في القضاء، قديرة في إزهار الفنون والزراعة والتجارة، محبوبة مطاعة من الشعب؛ يرتجف النبلاء الذين تمثلهم منها فرقا) ثم اختارت الأرستقراطية مجلس العشرة الشهير، وخول سلطات استثنائية وعهد إليه بحماية الجمهورية وسحق كل جريمة وثورة يدبرها الخوارج والطامعون، فتم بذلك للأرستقراطية سلطانها المطلق، وغدت كل شيء في نظم الجمهورية وحياتها ومصايرها
وقصر الدوجات من أقدم الصروح التاريخية يرجع بناؤه إلى نحو ألف عام، ولكن القصر القديم أحرق وزالت معالمه غير مرة خلال الحوادث والفتن، وأعيد بناؤه، وتعهده الدوجات بالإنشاء والزخرف حتى اتخذ شكله الحالي منذ القرن الرابع عشر؛ وتشرف واجهة القصر الأمامية التي تذكرنا حناياها المرمرية بالمشرفات الشرقية، على منعطف سان ماركو، وتشرف واجهته الخلفية على قناة من الماء؛ ويقع في مواجهته بناء عتيق قاتم هو سجن الدولة القديم؛ وتربط الصرحين قنطرة معلقة هي قنطرة الزفرات الشهيرة (بونتي دي سوسبيري) التي يمثل اسمها في كثير من القصص المؤسى، والتي يقال إنها لعبت أيما دور(182/21)
في مصارع النبلاء والسادة، يدفعون منها إلى السجن أو يلقون إلى الماء
وتتكون أبنية القصر من طبقات ثلاث تشرف من الداخل على فناء مستطيل واسع، وليس في مظاهرها الخارجية كثير من الزخرف، ولكنها تبدو قاتمة عابسة تؤذن بأنها كانت أيام مجدها ملاذ الكتمان والصرامة، فإذا نفذت إلى الداخل أخذتك روعة الغرف والأبهاء الشاسعة الفخمة التي زينت جدرانها وسقفها بأجمل ما خلقته عبقرية الأحياء من النقوش والصور؛ ولقد زينت شرفات الطبقة الأولى بتماثيل عدة من مشاهير الدوجات، وزينت إحدى غرف الطبقة الثانية بطائفة كبيرة من الدروع والأسلحة القديمة التي كان يرتديها أو يتقلدها الدوجات أو قادة الجمهورية؛ بيد أن أروع ما في هذا القصر الشهير هو الطابق الثالث حيث يوجد جناح الدوج والأبهاء الرسمية التي تحيط به؛ هذا هو بهو اجتماع المجلس الأعلى لا يزال بتقاسيمه ومقاعده الخشبية القديمة وفي صدره مقعد الدوج؛ وهذا هو البهو الأكبر حيث تنعقد الاجتماعات الرسمية الكبرى، وهنالك في أعماق القصر وراء هذه الأبهاء الشاسعة توجد غرفة متوسطة متواضعة أقيمت في صدرها عدة مقاعد خشبية هي غرفة اجتماع مجلس العشرة! وهنالك بالضبط عشرة مقاعد يتوسطها مقعد الدوج؛ وفي الغرفة المتواضعة التي يخيل إليك أنها تمثل روح العصور الوسطى، وتمثل الصرامة والغدر والسلطان المطلق معا، كانت تبرم أهم الشؤون وأخطرها، وتصدر أعظم القرارات في حياة الجمهورية، ولقد زينت جدران هذه الأبهاء وسقفها بطائفة بديعة من الصور التاريخية رأينا بينها صورة لافتتاح الصليبيين والبنادقة لقسطنطينيه سنة 1203 وموقعة لبانتو البحرية الشهيرة التي هزم فيها الترك سنة 1571
وقد عرفت مصر الإسلامية عظمة الجمهورية البندقية وعظمة الدوجات في العصور الوسطى وكانت ثمة في عصور السلام علائق ومخاطبات منتظمة بين بلاط مصر وبين قصر الدوجات، وكان البلاط المصري يخاطب (الدوج أو الدوك) باسمه مقرونا بألقاب التعظيم والتكريم
هذه طائفة من الصروح العظيمة التي تمثل بماضيها الحافل عصوراً وأحقاباً عظيمة من التاريخ؛ وهي بذلك صروح مثلى كالأمم والشخصيات المثلى، لا تقف عظمتها عند تلك الأبنية الشامخة وتلك الروائع الفنية التي أسبغتها عليها عبقرية الأجيال والعصور الزاهرة؛(182/22)
ولكن أشد ما تمثل عظمتها في تلك الصفحات الخالدات التي سجلتها في بطون التاريخ، وذلك التراث المعنوي الزاخر الذي يغمر كل رحابها وجنباتها الصامتة
محمد عبد الله عنان(182/23)
في الأدب المقارن
أثر الترف في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الترف من مستتبعات الحضارة، تتجه إليه الأمم عقب عصور النهضات، إذ يلذلها الركون إلى الراحة واجتناء ثمرات مجهوداتها التي بذلتها في عهود النهوض والكفاح والتمهيد، وتميل إلى الاستمتاع بخيرات الحياة من دعة ولذة وسرور في ظل السلام والنظام اللذين تنشرهما الدولة بعد أن توطدت أركانها، وفي بحبوحة الثروة والنعمة اللتين أثلهما جهاد السنين والأجيال، فيهجر الشعب رويداً رويداً حياة الخشونة والقناعة والجد ويستكثر من أسباب الراحة والبهجة، وإشباع مطالب الجسم والنفس، وبدوات الخيال والشهوة
ويكون أشد الأمم إقبالاً على وسائل الترف ومضيّاً إلى غاياته، أشدها من قبل تخشناً في العيش، وأعظمها جلاداً في ميدان تنازع البقاء، وأتمها ظفراً وغلبة على البلدان، لما تجنح إليه من الراحة بعد الجهد، والاستمتاع بعد الحرمان، ولما تغدقه عليها انتصاراتها من أسلاب أعدائها وأرزاقهم، وما تطلَّع عليه من وسائل لهوهم وترفهم؛ ومن ثم انتشرت موجات هائلة من الترف في مصر الفرعونية عقب فتوحها الكبيرة في آسيا، وفي أثينا عقب امتداد سيادتها على سواحل بحر الأرخبيل وجزره، وفي روما بعد اتساع سلطانها شرقاً وغرباً
وكلتا الأمتين العربية والإنجليزية خرجتا من بداوة وخشونة عيش إلى حضارة وحياة دعة؛ وكلتاهما أقامتا إمبراطورية مترامية التخوم تعج نواحيها بالخيرات والكنوز، وَسرَت إليهما من جراء ذلك عدوى الترف وبدا أثرها في أدبيهما. بيد أنهما تفاوتتا تفاوتاً كبيراً في مدى تأثرهما بذلك الترف، فكانت الأولى على الأرجح أعظم الأمم أخذاً بوسائله وتفنناً في ضروبه؛ وكانت الأخيرة أقلها انقياداً لتياره وأشدها تشبثاً بأهداب الاعتدال
فالأمة العربية ينقسم تاريخها الاقتصادي إلى ثلاثة أطوار كبيرة: فالطور الأول وهو عهد الجاهلية أقرب إلى الفقر والخشونة التي فرضتها على العرب طبيعة بلادهم الضنينة، مما أورثهم صفات القناعة والصبر والجلد واحتمال المشقات، كما أورثهم الجود وقرى الأضياف، فتمدحوا بكل هاتيك الصفات وامتلأ بها شعرهم، وجاء ذلك الشعر في جملته قوياً(182/24)
متسماً بالرجولة مثيراً للإعجاب؛ وندر في ذلك العهد شعر المجون والخلاعة ووصف دواعي الرفاهية ومظاهر الحياة الناعمة، بل كان السادة يتبرأون من الانقياد لشهوات الجسم والنفس. ومن روائع آثار ذلك في الأدب قول حاتم الطائي:
وإني لأستحي صديقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أَقرعا
وإنك مهما تُعط بطنَك حقه ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وقول عنترة:
يُخْبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وأرى مغانم لو أشاء حويتها ... فيصدني عنها الحيا وتكرمي
وبقيام الدولة العربية دخل العرب في الطور الثاني: طور الحضارة والرفاهية والترف، وتدرجوا في الأخذ بأسباب ذلك مع مرور الزمن حتى أوفوا على الغاية. ولا غرو فقد اجتمع لديهم من أسباب الترف ما لم يكد يجتمع لغيرهم؛ فأن نجاحهم الحربي الفجائي أوقع في أيديهم أغنى بقاع الأرض وأخصبها وأعظمها حضارة وترفاً لعهدهم، وأغدق على كبرائهم ومقاتلتهم فيضاً متلاحقاً من الأموال، وأدخل في حوزتهم شاسع الأملاك، وأقام في خدمتهم الجمَّ الغفيرَ من الموالي؛ وسمحوا هم لشتى الأجناس بمخالطتهم والإقامة بين ظهرانيهم، فجاءت الأمم المقهورة في ميدان الحروب تسلط على الأمة الغالبة ما بذتها فيه من أسباب الرفاهية واللذاذة، وهي التي كانت من قبلُ سببَ سقوط عزيمتها وأدبار دولتها
وكان كل ذلك جديداً على أعين العرب الذين قضوا الأجيال في شظف البادية وتقتيرها، فاندفعوا يصيبون من تلك اللبانات ما حرموه طويلاً، وأغرقوا في استمراء تراث الأمم المغلوبة كما يغرق الوارث الذي طال حرمانه في تبذير ثروة الغنى الراحل. وكأنما تعجل العربُ في تراث كسرى وقيصر ما وعدوه في الدار الآخرة من طيبات؛ ومن ثم ابتنى الخلفاء القصور وحشدوا لتشييدها الصناع من شتى الأجناس، ووفروا بها آنق أسباب الدعة والمتعة، وحشروا فيها الغلمان والقيان، وبالغوا في إعداد الموائد والأسمطة، وأكثروا من الألوان والصحاف، واستمتعوا بالغناء والشراب، ورفلوا في فاخر الثياب، واحتفوا بالمواسم والأعياد والمهرجانات، وأسرفوا في أعراسهم حتى ضربت ببعضها الأمثال، ولم يدعوا متعة من متعات النفس أو لذة من لذات الجسم إلا استاموها(182/25)
واحتذاهم في ذلك الأمراء والكبراء وكل من أطاقه من عامة الشعب، فانتشرت مجالس الشراب والغناء، وأحكمت أوضاعها وارتقت آدابها، وراحت صناعة المغنين وحذقوا فنهم وجودوه، وراجت تجارة الرقيق ونفقت سوق الجواري، وأُخِذْن بالتثقيف والتهذيب ليجمعن فتنة اللب إلى فتنة النظر، وأولع الناس بالرقة والظرف والكياسة، ونفروا من الخشونة وتندروا بالجلافة والغفلة، واحتفوا بالمواسم يشخصون فيها إلى الرياض أو الأديرة في أرباض المدن، يتنادمون ويتغزلون
وأثر تلك الحياة المترفة جلى في الأدب العربي، بل لعله أكبر فارق يفرق أدب ما بعد الإسلام والحضارة عن أدب الجاهلية، إذ أن الأدباء اهتموا بتصوير مظاهر ذلك الترف كلها، بل كانوا من أشد الناس حرصاً على الانغماس فيه، بل تجمعوا في العواصم طلباً لأسبابه، وكان منهم من صاحبوا الخلفاء والأمراء في مجالس شرابهم وسماعهم وساعات تبذلهم واستمتاعهم، وجلسوا إلى موائدهم وشاركوا في محافلهم ومهرجاناتهم، وكل ذلك ضمنوه مدائحهم لأولئك الحكام؛ وكان شهودهم تلك المشاهد وما يحوكونه فيها من القصائد، من متممات السرور والأنس، ومستلزمات الأبهة والعظمة
ومن ثم يحفل شعر بشار وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن المعتز وابن الرومي وابن حمديس وكثيرين غيرهم بأوصاف القصور والحدائق والنافورات، وسفائن النزهة وكلاب الصيد، وألوان الطعام والفاكهة والأسمطة، ومجالس الشراب وحذاق المغنين وحسان المغنيات، والمحافل والمواكب، كما امتلأ بالنسيب الذي كان أغلبه نسيباً بالجواري دون الحرائر، والذي امتزج بكثير من الخلاعة والفجور؛ وروي الشعراء في كل ذلك عن ممدوحيهم من الأمراء تارة، وعن أنفسهم تارة أخرى، وصوروا في الحالتين حياة الترف المغرق التي طغى سيلها في عهود العباسيين والفاطميين وخلفاء الأندلس وغيرهم
وقد ظفرت الخمر من بين أسباب الترف هاتيك بالمكانة الأولى في النفوس، وفازت بالحظ الأوفر من حفاوة الشعراء، فكانت معقد السرور ومناط الأنس ورمز الصفاء؛ وتفنن الشعراء في تمجيدها ووصف تأثيرها ووصف مجلسها وساقيها وكأسها، وطلبوا البراعة بالابتكار في تلك الوجوه، وخلعوا العذار واطرحوا التدين في التوفر عليها والتغني بها، وهزئوا باختلاف الفقهاء في تحليل بعض أنواعها وتحريم بعض، وظفرت الخمر في الأدب(182/26)
العربي بمنزلة لا تبارى في أدب آخر، وسما شأنها حتى زاحمت النسيب على مكانته الموروثة من عهد الجاهلية، فأصبح وصف الخمر كالتشبيب والوقوف بالدمن وسيلة تقليدية من وسائل استهلال القصيد
ومن أجمل الشعر في وصف أسباب الرفاهية تلك، قول ابن الرومي الذي يختمه بتحسره على حرمانه مما يصف، إذ أصبح التلهف على أسباب النعيم ديدن الشعراء، وكانوا من قبل في الطور السابق كما تقدم يتبرأون من الاستسلام للترفُّه والشهوات:
في أمور وفي خمور وسَموُّ ... رٍ وفي قاقُمٍ وفي سنجاب
في حبير منمنم وعبير ... وصحانٍ فسيحة ورحاب
في ميادين يخترقن بساتي ... ن تمس الرؤوسَ بالأهداب
عندهم كل ما اشتهوه من الآ ... لات والأشربات والأشواب
والطروقات والمواكب والول ... دان مثل الشودان الأسراب
والغوالي وعنبر الهند والمس ... ك على الهام واللحى كالخضاب
لم أكن دون مالكي هذه الأش ... ياء لو أنصفَ الزمان المحابي
وقد بلغ من ولع كثير من الشعراء باجتناء ثمار تلك الحياة المترفة الغارقة في اللذات، أن خصصوا أشعارهم لمدح الأمراء بغية أن يُقرَّبوا ويُمنحوا طرفا من ظل تلك النعمة السابغة، ويشاركوا ممدوحيهم في أبهتهم ولذاتهم، وبغية النوال ينفقونه في ارتياد مواطن اللهو التي حفلت بها العواصم، ويبذرونه في مجالس الشراب والغزل يعقدونها في دورهم أو في دور المغنين والنخاسين أو في الحانات والأديرة؛ ومن ثم امتلأ شعرهم بالمدح من جهة، وبوصف الملاهي من جهة أخرى، وراح بشار مثلا يفخر بكلا الأمرين: باقتناص أموال الملوك، وانتهاب سوانح اللذات، قال:
وإني لنهَّاض اليدين إلى العلا ... قروعٌ لأبواب الهمام المتوج
وقال:
قد عشت بين الريحان والراح وال ... مزهر في ظل مجلس حسن
وبعد طور الثروة والترف هذا جاء الطور الثالث طور الفقر والانحلال، حين استنزفت موارد البلاد، وعظمت مفاسد الحكام، وخمدت العزائم من جراء الانهماك في ذلك الترف،(182/27)
وفدحت الضرائب الأهلين، وتنازع الأمراء والولاة. وقد كان جانب كبير من الشعب يشقى ويألم في عهد الرخاء والترف السالف؛ أما في هذا العهد فعم الشقاء، وانتشر الخراب، وكسدت الصناعات، وظهر القحط وتتابعت المجاعات
ولم يبق معتصما بربوة الترف فوق سيل هذا البؤس إلا القليل ومنهم الأمراء الذين يتنازعون الحكم ويرهقون الأهالي بالمغارم ليتشبثوا بمظاهر الملك والفخفخة ويتشبهوا بالسابقين في الجاه والأبهة؛ يسلبون الناس أرزاقهم باليمين ليمنوا عليهم باليسار بالأثواب والأطعمة في المواسم والأعياد كأنما يأبون أن يطلبوا الرزق من وجوهه الشريفة، ولا يريدونهم إلا عجزة مستجدين يفزعون إلى بر الأمير ويتمدحون بجوده. تلك كانت حال مصر مثلاً في فترات طويلة من حكم الفاطميين والمماليك؛ وتلك كانت حال الأندلس على عهد بعض ملوك الطوائف الذين لم تكن الحرب بينهم تهدأ، حتى لقد تشابه ثمة الأمراء ذوو الجيوش وقطاع الطرق أصحاب العصابات والمناسر. وقد أوجز بعض شعرائها وصف عبث الأمراء برفاهية البلاد في قوله المفعم بالحسرة:
أطاعت أمير المؤمنين كتائبٌ ... تصرَّفُ في الأموال كيف يريد
فثالث الأطوار المشار إليها في بدء هذه الكلمة هو طور العوز والبؤس الذي جاء رد فعل لطور الإسراف في الترف، كما يجيء الخمار عقب الإسراف في الشراب. وفرق ما بينه وبين فقر الطور الأول أن الأول كان فقراً طبيعياً معتدلاً قضت به البادية على أبنائها وحصنتهم منه بالخلق المتين؛ والأخير فقر منشؤه الإفراط والتفريط، وحليفُهُ الذلة والمسكنة واللئيم من الطباع، وفي طيه الشره والشهوة المكبوتة والتلدد والحرمان. وقد انعكس كل ذلك في أدب هذا الطور إذ جاء ضاوياً سقيما مملوءاً بالشكوى والتوجع، منطوياً على تمويهات المعاني ومخادعات الألفاظ التي تحكى ما كان يجيش به المجتمع من تمويه
هكذا جرى العرب من الترف إلى أبعد غاياته، ثم كانت سقطتهم من بعد ذلك بعيدة المهوى. أما الإنجليز فأنهم وإن شابهوا العرب ومن قبلهم الرومان في تأسيس إمبراطورية ضخمة، كانوا نسيج وحدهم في ترقي أعراض الترف وتحاشي عقابيله التي يجرها على المجتمع، والتي تحدث ابن خلدون وغيره من علماء الاجتماع بهدمها لصروح الدول، لما تسلب أبناءها من صفات النخوة والجهاد والغلبة، فلم يمسَّ الترفُ المجتمع الإنجليزي والأدب(182/28)
الإنجليزي إلا مساً خفيفاً، وفي عهود قصيرة، وذلك للظروف التي أحاطت ببناء الإمبراطورية
فقد شيدت الإمبراطورية الإنجليزية ببطيء وتدرج، لا بسرعة كما شيدت الإمبراطورية الرومانية، ولا فجاءة كما بنيت الإمبراطورية العربية، فلم يغمر المجتمع الإنجليزي سيلٌ مفاجئ من الثروة؛ وبنيت الإمبراطورية في العصور الحديثة فلم يتبع الإنجليز الطريقة القديمة من انتهاب أموال العدو المهزوم وأسر المقاتلين أو المسالمين واسترقاقهم؛ ولم يستأثر الملوك والقواد بغنائم الحرب وثمرات الفتح، فتنحصر الثروة في طبقة محدودة تسرف في اللذات بينما بقية الشعب محروم، بل كان الإقليم المفتوح حرباً يفتح للتجارة الإنجليزية ورجال الأعمال الإنجليز صغارهم وكبارهم، فجاء توزيع الثروة بين طبقات الشعب أكثر تعادلاً مما كان في المجتمع العربي
أضف إلى ذلك أن الإنجليز لم يخالطوا الشعوب المفتتحة ولم يسمحوا لأبنائها أن يملأوا عليهم وطنهم الأول ولم ينتقلوا هم إليهم بحواضرهم كما فعل العرب، ولم يأخذوا عنهم ضروب لهوهم وترفهم ولا غير ذلك من مظاهر الحياة، لأنهم كانوا عادة يفتتحون أقاليم أقل منهم حضارة، لا يستسيغون ما عندها من ضروب المتَع؛ وظل الإنجليز في بلادهم بعيدين عن تأثيرات أملاكهم، متمسكين بتقاليدهم القومية وعوائدهم وأنظمتهم التي نمت وتوطدت قبل الالتفات إلى ما وراء البحار
هذا إلى أن الإمبراطورية لم تشيد إلا وقد كسرت شوكة الملكية في إنجلترا واستتب النظام الدستوري؛ والملوك المستبدون هم عادة رادةُ الترف في ممالكهم والموحون إلى رعاياهم باغتنام اللذات والملاهي، يتوفر أوائلهم على تأسيس الدولة وتأثيل السطان، ثم يعكف أخلافهم على الترف والأبهة واتباع الشهوات، ويقتدي بهم من هم دونهم. كذلك كانت الحال في الدولة العربية حيث توطد سلطان الملك بامتداد أطراف الإمبراطورية؛ أما في إنجلترا حيث كف الملك عن أموال الدولة أن يبذرها، فقد ظل الملوك متبعين سياسة الاعتدال، فلم يكونوا قدوة سيئة لغيرهم من الطبقات
إنما فشا الترف والفساد في المجتمع الإنجليزي في أواخر القرن السابع عشر حين عادت الملكية منتصرة من فرنسا مستعيدة بعض ما ضاع من نفوذها، مصحوبة بالفرسان الإنجليز(182/29)
الذين عاشوا زمناً في المجتمع الفرنسي، والفرسان الفرنسيين الذين شبوا في بلاط لويس الرابع عشر، فعج البلاط الإنجليزي بمظاهر الترف وأسباب الغواية، وفشا ذلك منه في طبقات الشعب، وساعد على ذلك تبرم الناس بما كان حكم المطهرين الغلاة قد فرضه عليهم قبل ذلك من كبح وتزمت، وبدا أثر ذلك الترف والفساد الخلقي في درامة ذلك العهد
وانتشر الترف كرة أخرى في بعض القرن الثامن عشر بين طائفة أرباب الأعمال الذين أثلوا لأنفسهم ثروات ضخمة بشريف الوسائل وخسيسها في الولايات الهندية قبل أن تشرف الحكومة الإنجليزية على إدارتها، وعادوا إلى أوطانهم مكاثرين بطارف أموالهم مستكثرين من مظاهر الأبهة والفخفخة، وعرفوا بالنواب تشبيهاً لهم بأمراء الهند؛ ورأى فيهم أدباء العصر مواضيع شائقة لكتاباتهم الساخرة، وأولع بهم ماكنزي وكوبر وغيرهما طويلا؛ على أنه في كلتا هاتين الحالتين كانت النوبة عارضة قصيرة الأمد ضيقة الحيز، صمد لها الخلق القومي، والطبع الإنجليزي الهادئ، وتغلبت عليها تقاليد الأيام المتعاقبة وعاد الاعتدال شعار البلاط والمجتمع والأدب
فالأدب العربي قد حوى من آثار الترف الشيء الكثير، بل حوى من ذلك ما لعل أدباً آخر لم يحوه، وحفل بالرائع من الأوصاف لتلك الآثار، وإن نبأ بعضها أحياناً عن الذوق السليم والخلق الكريم. ولا ريب أن ميله هذا إلى زخارف العيش وولعة بتصويرها كان مما جنح به أخيراً إلى زخرف الألفاظ وأنيق المعاني. أما الأدب الإنجليزي فظل رجاله غالباً بعيدين عن موائد الأمراء، وظل الاعتدال في أغلب العصور رائده، بعيداً عن زخارف الحياة المترفة وزخارف الألفاظ المنمقة معاً، وكان رجاله أشد شغفاً بتصوير دخائل النفس الإنسانية ووصف محاسن المناظر الطبيعية منهم بوصف قصور الأمراء ومحافلهم ومواكبهم.
فخري أبو السعود(182/30)
من صديق إلى صديقين
للدكتور أحمد فريد رفاعي
مدير قلم المطبوعات
صَدقني أيها الصديق، الكبير في أدبه، الكبير في خلقه، الكبير في أثره، أستاذنا الزيات، أنني معجب بما تفضلتم بنشره في مجلتنا الشرقية المحبوبة (الرسالة) مما دبجته براعة الصديق الزميل، البحاثة الدءوب، الكاتب العالم الوديع، الأديب عبد الوهاب عزام، خاصاً بما لاحظه - مشكوراً مني ومن المستفيدين بنقده وعلمه، مأجوراً من ربي وربه - على ما فات علينا جماعة (دار المأمون) أولا وقبل كل شيء، ومن عاوننا في الطبع والإخراج من وراقين وطابعين آخراً
ومهما يكن من إيماني بصدق قول يحيى بن خالد: (لا يزال الرجل في فسحة من عقله ما لم يقل شعراً أو يصنف كتاباً) بيد أني ارتحت الارتياح كله إلى أن فاضلاً أديباً كأخي الأستاذ عبد الوهاب عزام تجشم المتاعب والصعاب، وأفنى الليل والصحة والجهد، في القراءة والمقابلة، والمطالعة والمقارنة، والتصحيح والاستقراء، في سبيل إقامة الأوّد، وإحقاق الحق؛ فله الحمد والثناء على ذلك، ما أبلى وأجاد، وبحث وأفاد. . ولست بقائل له إنني ألحقت بالجزء الثالث ما يفيد ويرشد، وفي الرابع ما ينصف ويحمد. ولست بمتألم لما كان من مبادرته بما تداركناه، لأن الكرم العلمي، والسخاء الأدبي لا يعدوان صنيعه. بيد أني - وهو الأستاذ الحجة - ناقل له هنا كلمات متواضعة أرجح أن علمه الوفير سيسيغها، وعطفه الفسيح سيسعها، وأدبه الجم سيبررها
(وكم كان يحلو لي أن أتحدث طويلاً عن النقد وحقيقته، علماً وفناً، وتاريخاً وتطوراً، وما له من أثر عميق يعتد به في توجيه نهضتنا التجديدية إلى الإنتاج والبقاء، والتشييد وحسن الأداء، والتقدم والنماء؛ وكم كان يحلو لي أن أستفيض معك في القول في هذا الباب، وأميط لك اللثام عما لنصفه النقدَة من سداد تزجية، وحكيم توجيه، وحسن إبانة، وفضل على الصناعة، ومنن في عنق التأليف، ورواج للكتب والتصنيف، وإصابة للنصاحة، وإعانة على الفصاحة؛ وكم كان يحلو لي أن أُزاملك في جولة في تلخيص كتاب (سالسبوري) في علم النقد، وأن أرافقك في سياحة في أسفار (ماكولي) وما كان له من إرشاد إلى الحقائق،(182/31)
في شكر للناشر، وثناء على المؤلف، في غير افتئات ولا إعنات، وفي نأي عن الحقد والشحناء، والجدل والمراء، والإقذاع والهجاء. كم كان يحلو لي ذلك كله وما في سلكه ونظامه، لولا أن النية منصرفة، إذا مد الله في سني العمر، وأطال في حبل الحياة، إلى أن أفرد لك كتاباً في هذا، وأن أشرح لك فيه ما له صلات بالأدب والعالم، وأعرج لك فيه على مضار الخصومات والاتهام بالزندقة، والتشكيك في العقيدة، لأن العلم يجب أن يكون للحق خالصاً، والأدب يجب أن يُخلق للفن محضاً، والفن يجب أن يتجه للجمال صرفا، والجمال يجب تحليته لرفاهة الحس، ومتعة العين، وصقل الذوق، مستساغاً حلواً)
(وهذه فصول لعمرك تتطلب الدرس والتقرِّي، والفرْي والتقصي؛ ولكن قصارى ما نثبته لك هنا، التوجه إليك بالنصيحة، أن تجعل الدين السمح بينك وبين ربك، وأن تتخذ من هديه تهذيب نفسك، وتقويم عوجك، وتغذية روحك، وأن تتنكب ما في وسعك لها مزالق الفتن، واغترارات التردي، ومجاهل التدسي في الخصومات التي تقوم بين العلم والدين، وبين القديم والحديث، وبين الحق والأضلولة، وبين الموعظة والأحبولة، وبين الوجدان والسخيمة، وبين السليمة والسقيمة، وبين الصدق والمين، وبين القصد والسرف، وبين الافتيات والإرشاد، وبين الإعوجاج والسداد، وبين الحلكة والنور، وبين الإفادة والغرور، وبين الرقة واللطف، والشدة والعنف، وبين التعليم والتجريح، وبين الإبهام والتوضيح، وبين الملتوي والصحيح، وبين اللفظ والمبنى، وبين العبارة والمعنى، وبين الإجحاف والإنصاف، وبين الإصلاح والإتلاف، وبين المعدلة والتحيف، وبين الإفادة والتعسف، وبين الإجادة والتحرف، وبين العقل والشهوة، وبين الزبد والرغوة، وبين الهدى والتدني، وبين الجني والتجني، وبين الشفاء والتشفي، وبين الورع والغاية، وبين البداية والنهاية.)
(ولكن ذلك كله لا يحول بيننا وبين أن نجتزئ لك القول، بأن النقد هو المرشد البريء، والمعلم المؤدب، والظهير المعين، الذي يقدر متاعبك في التأليف، ويشيد بأوجه إحسانك، ويجلي لك مواطن الضعف، في أدب ولباقة، مع تحليل الموضوع، شخصاً كان أو عصراً، إلى ما له من عناصر ومقومات، وأثر بيئة ووسط، ووراثة ودم، ومنبت ومنجم، ومزاج نحيزة، وطبيعة إقليم، إلى ما يلابس عصرك من علوم وفنون، وحقائق وبداية، ونظريات وأسس، ومدارس تفكير، وقواعد جدل، وأصول نقد، ومعايير منطق، ومقاييس مقارنة،(182/32)
وأوجه موازنة، وتناسب مقدمات، واستخلاص نتائج، وفهم لطريقة (ديكارت)، وتعرف لمناهج (كولريدج)، واستيعاب لتاريخ (سالسبوري)، وانتهال من مقولات (ماكولي)، وقفة على أطلال مذهب (بوالو)، في استشراف إلى ناحية الجمال والخير من كل شيء، ودرس للطبيعة المركبة في كل شيء، لذاتها لا لأشخاصها، ووصف للصفات الإنسانية العامة، والفضائل البشرية العامة، والطبائع الاجتماعية العامة، كمدرسة القرن التاسع عشر التي كان في طليعة كماتها (كورني) (وموليير) و (راسين) وأترابهم وأشباههم، وانتقال إلى أصحاب المذهب الإيجابي، وهم (أوجست كنت) و (أرنست رينان) ورائدهم (تين) الذين يتوخون البرهنة العلمية في كل شيء، ويرجعون مقومات الرجل إلى الجنس والبيئة والطبيعة والزمن وما إلى ذلك، مع إلمامنا بمذهب (فرديناند برونتير)، في التدرج والانتقال، المبني على فلسفة (دارون) في النشوء والارتقاء، من تقسيم الآداب العامة، من وجدانية واجتماعية، وشعرية ونثرية، إلى وحدات وفصائل، مما ليس هذا موضع الإسهاب فيه، والشرح له، مع أخذنا بأساليب العرب، وتذوق لمعنى الجمال، في صفاء روح، ومضاء عزيمة، ونفس طُلَعة، ورفاهة إحساس، للموازنة والإفادة، واضطلاع بقدسية العلم، وأمانة البحث، وحرمة العقول، واستكناه لهدى الجدل المترفق الوئيد، وتحرر من ربقة التعنت العتيد، ونزول على سياسة التسهيل والتعبيد، والتأسيس والتشييد، وأن تكون الروح الحاكمة على سلطان النقد الحافزة إلى الارتصاد له والتبسط فيه الأخذ بصفو المؤلف لا إهدار جهده، والمضي في الإعانة له لا التقحم لانتقاص أثره، والتقدم إلى شد أزره، لا التهانف بذكره، وإجلال صنيعه، في ذوب نفسه، واعتصار ذهنه، وسهر ليله، ومتاعب تحصيله، ودءوب إكبابه، ومضنى إمضائه، وعناء كتابه، بديلاً من سياسة السخرية والتكذيب، والهدم والتخريب، واللوم والتثريب، في غير هدى ولا تعقيب)
أما بعد: فلست يا سيدي الجليل بمنتحل كتاب ياقوت، إلى شخصي الضعيف، لاسيما وقد أفردت لتاريخه ربع الجزء الأول. وأود أن تعلم يا سيدي، غير معلم، في غير غمز ولا لمز، ولا تعليق ولا تعقيب، أن حكمة إصدارنا لما نحاول إصداره من مؤلفات السلف الصالح، (من رسمية وشبيهة بالرسمية؛ فالرسمية، ونعني بها كتب الأدب المجمع عليها، وهي البيان والتبيين، والعقد الفريد، والكامل، والأمالي؛ والشبيهة بالرسمية أمثال ابن(182/33)
منظور، وابن قتيبة، وابن بسام، وابن ظفر، وأبي حيان، والزمخشري، والجاحظ في حيوانه، وما إليها، وكتب الطبقات والتراجم، أمثال معجم الأدباء لياقوت، وتاريخ الإسلام للذهبي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، ومن على شاكلتهم - أود أن تعلم يا سيدي أن حكمة إصدارنا لهذه المؤلفات هو أنا نرى في إحياء هذه الكتب، وبعثها إلى النشور والظهور، اللبنة الأولى في بناء صرح الموسوعة العربية، التي يحتاج إليها الناطقون بالضاد، والتمهيد الذي لا محيص عنه، إذا ما رغبنا رغبة عملية حقة في الاتجاه العلمي والعملي معا، في وضع دائرة معارف عربية شرقية، مستندة على أصول تاريخية صحيحة، وقائمة على أسس عملية حقة)
ثم أود أن تعلم يا سيدي الصديق الكريم أن وزارة معارفنا قد أحسنت صنعاً وأصلحت أمرا، حينما أخذت على عاتقها إنْشارَ الأدب، وإحياء لغة العرب، وبعث تواليف السلف الصالح، والأخذ بناصرنا في إصدار أمهات كتبنا الأدبية، ومظاننا التاريخية، ومراجعنا اللغوية. ولتعلم - غفر الله لي ولك - أنها قررت أن تفتح الباب على مصراعيه لكل أديب عالم، أو أستاذ مثقف، أو ناشر همام، يتقدم لها برغبته في المعونة برجالاتها وأئمتها لمراجعة ما يصدر، والإشراف على ما يطبع، رغبة في خدمة الثقافة، وحرصاً على الأمانة العلمية المرجوة. ثم أود أن تعلم يا سيدي أن تسعة أعشار ما يطبع الآن، وما يروج في السوق، ليس من آثارك النافعة، ولا من منتجات من هم في مكانتك وثقافتك، بل هو مع الأسف الشديد من الروايات المبتذلة، وقصص البوليسيات والإجراميات، وأن المصلحة كل المصلحة في محاولتنا جميعاً تغيير الاتجاه، وخلق الذوق الأدبي الجديد
ثم أود أن تعلم - غير معلم طبعاً - أيها الأستاذ الجليل أن ضبط الأعلام، ومراجعة الأعلام، وشرح المبهم، والتذبيل على ما فات المؤلف والناشر - كل هذا ليس بالسهل الميسور، ولا بالعمل الضئيل، الخليق بالسخرية والتهانف. وحاشاك أن تجنح - وأنت المؤدب خلقاً ولفظاً، ومعنى ومبنى - إلى ما لم يعهد فيك طوال حياتك. وأود أن تعلم أيها الصديق الأديب أننا كلنا، في أعمالنا الأدبية والثقافية والعلمية، لم ندرج بعد من مهدنا، وأننا في بداية البداية، وأن لغتنا العربية بحاجة إلى الضبط الكامل، والشكل الكامل، والأيْد الكامل، والتآزر الكامل، وأنني أومن بحاجتي إلى توالي نصحك، ومطرد إرشادك، ومتتابع(182/34)
تعقيبك، ومحتاج حقاً إلى علمك وأدبك. وأود أن تعلم يا سيدي أنك ستأسف كثيراً - وأنا العليم برجاحة عقلك، وسجاحة خلقك، ومتانة مباءتك، ودماثة سجاياك - حينما ترجع إلى الجزءين الثالث والرابع، وترى فيهما أن حضرة أستاذنا سوياً الشيخ عبد الخالق عمر، أستاذ اللغة العربية الأول بدار العلوم لم يأل جهداً في إصلاح الكتاب وتدارك ما فات على الأستاذ المستشرق د. س. مرجليوث، في غير موضع، يستحق التقدير والشكر، والثناء وحسن الأجر
وأود أن يعلم الصديق الكريم - في غير منّ ولا تجمل، وفي غير زهو ولا اغترار - أنني ارتحت أيما ارتياح لتجنيك مبطلاً، أو هديك مرشداً، أو تحيفك متعنتا، أو إرشادك محقاً، في ترجيح نبالة القصد، وحسن الطوية، على ما عداهما علم الله. ارتحت أيما ارتياح - مهما كان الحافز والدافع، والحادي والهادي - لما كان، لأنني أسأت التصرف حقاً، ولأنني أخطأت محجة السبيل صدقاً، ولأنه لا معنى لأن يحتمل مثلي، ومن في صحتي ومتاعبي، ومن خرج أمس القريب من محنة المعاش، وإضاقة الرزق، وتوالي النكبات والأرزاء - لا معنى لأن يحتمل مثلي مسئوليات كبار، مخيفة ومفزعة، في التصدي لما تصدره الآن (دار المأمون)، التي تكلفني هي والمراجع الشمسية ومنسوخاتها ومصادرها ما لا يقل عن مائة وخمسين جنيهاً شهرياً؛ لو علم الصديق الكريم النفس والخلق مصدرها وطريقة جمعها، لتردد في أن يركب رأس الشيطان، ولتريث حتى يطلع على استدراكاتنا، ولكان نعم المشجع والظهير، ونعم العون والنصير
وأود أن يعلم الصديق الكريم - غفر الله لنا سوياً، وهو هو النبيل الخلق، الطاهر الذيل، العف الوجدان - أننا معشر الكتاب نعاني الأمرين من حسد الحاسدين، وظلم المبطلين، وشظايا الراجمين. ولو كان الصديق الكريم - رحمه الله، وهو المتصل بالدكتور طه حسين بك زعيم الأدب ونصيره، ومن خاصة الأستاذ أحمد أمين وهو عميد الأخلاقيين، ومن كتاب الرسالة ولها في الأدب وبنائه رسالات خالدات ليس إلى انتقاصها من سبيل - لو كان الصديق الجليل أنعم النظر لآثر أن يترك منهجه الجديد في تقدمته لنقده، لمن هو دونه بمراحل، خلقاً وعلماً، وثقافة وأدباً؛ ثم لوازن - بفرض عدم مطالعته لاستدراكاتنا في الجزءين الثالث والرابع - بين معجم ياقوت لمرجليوث ومعجم ياقوت لدار المأمون، ثم لم(182/35)
يبخل بالإرشاد عن طريق الصحف إن كان محباً للإعلان، أو عن طريق الصداقة إن جنح إلى الاحسان، في غير انتقاص لفضله ولا نكران
وأود أن يعلم الصديق الكريم - وأقول هذا من باب الإكبار وأنت خير أهله، ومن باب التقدير وأنت خير موضع له - أنني كنت أنتظر منك ومن زمرتك الصالحة الجليلة أن تكونوا أكثر عوناً لي من الأستاذ مرجليوث؛ فلقد كتب إليَّ - فيما بيني وبينه وبين ربي وربه - ليرشدني إلى أن نسخة شمسية لقسم ناقص من الكتاب لدى المستشرق يهودا، وأن آخر في فلسطين لديه كذا، وأن نسخة مكتبة جلالة الشاه فيها كذا، وهو ليس بعربي، وإن كان للعربية محبا ولها نصيراً؛ وأنت يا سيدي - الكريم البيت، الكريم الخلق، الكريم الماضي والحاضر - تمسك بمعاول هدم، ومقولات إقذاع، وتمهيدات تهكم! ويا ليتك أتيت بجديد، بل يا ليتك لم يفتك ما استدركناه! والله لا أحمل عليك لأنك شخص، ولكنه الإكبار لشخصك، والإكبار لعروبتك، والإكبار لمصريتك، والإكبار لنصفتك العلمية، ومكانتك الأدبية
ثم أود أن تعلم أيها الصديق الكريم، والزميل القديم، أنني - مع إكباري لكل نقد، ورضوخي لكل هدى، وإذعاني لكل ارشاد، وخضوعي لمحجة الصواب - كنت أؤمل منك كثيراً، وكنت أؤمل من (الرسالة) كثيراً، وكنت أؤمل من علماء العربية كثيراً، وكثيراً جداً؛ وليس بعباب ولا نقيصة أن أفتح لكم قبلي جميعاً، لأقول إن مشروع الأحياء أكثر مما أطيق، وأكثر مما أحتمل، وإنه بحاجة ماسة إلى عونكم الأدبي والمادي؛ أما الأدبي فبغير تلك السبيل الشائكة المقذعة المريرة؛ لاسيما وأنتم أعلم مني، وأدرى بطلاسم النساخ ومعميات الكتاب، وأخطاء الأجيال، ومجاهل اللغة، وفيافي الأحاجي؛ وأما المادي، فبأن تتقدموا بالدعاية القوية الحارة المؤمنة، بأن يساهم السراة والأغنياء في أكبر عمل ثقافي أدبي، يخدم لغة القرآن، ويرفع سمعة مصر إلى السماكين، ويحتفظ بزعامتها على الشرق وعلى الناطقين بالضاد
ثم أود أن يعلم سيدي الصديق الكريم - غير معلم طبعاً - أنني ممن لا يحفل كثيراً بمادحة أو ذامه، وأن مراني في هذا الباب كون مني رجلاً لا يخشى إلا الله، ولا يعمل إلا بوازع يخشى الله دون سواه، وأن مدح اليوم قد يكون ذم الغد، لأن معايير الأشياء تختلف بالبيئة،(182/36)
والظرف، والمكان، والزمان. وما زلت أذكر ما تذكره جيداً من محاضرة أستاذنا المرحوم الشيخ محمد المهدي، حينما حدثنا عن الصاحب بن عباد، وما عزاه إليه صاحب الأمتاع، في معرض الذم والهجاء، من ميله إلى أن يقال عنه: (أصاب سيدنا، وصدق مولانا، - ولله دره - ما رأينا مثله، مَن ابن عبد كان مضافاً إليه؟ ومن ابن ثوابة نقيسه عليه؟ ومن إبراهيم بن العباس الصولي؟ ومن صريع الغواني؟ ومن أشجع السلمي؟ إذا سلكا طريقهما، قد استدرك مولانا على الخليل في العروض، وعلى أبي عمرو بن العلاء في اللغة، وعلى أبي يوسف في القضاء، وعلى الإسكافي في الموازنة، وعلى ابن نوبخت في الآراء والديانات، وعلى ابن مجاهد في القراءات، وعلى ابن جرير في التفسير، وعلى أرسطاطاليس في المنطق، وعلى الكندي في الجدل، وعلي ابن سيرين في العبارة، وعلي أبي العيناء في البديهة، وعلي ابن أبي خالد في الخط، وعلي الجاحظ في الحيوان، وعلي سهل بن هرون في الفقر، وعلي يوحنا في الطب، وعلي ابن يزيد في الفردوس، وعلي عيسى بن كعب في الرواية، وعلي الواقدي في الحفظ، وعلي النجار في البدل، وعلي ابن ثوابة في التقفية، وعلي السري السقطي في الخطرات والوساوس، وعلي مزيد في النوادر، وعلي أبي الحسن العروضي في استخراج المعمى، وعلي بني برمك في الجود، وعلي ذي الرياستين في التدبير، وعلي سطيح في الكهانة، وعلي أبي المحياة خالد بن سنان في دعواه.) وما عزاه إليه آخر في معرض المديح والثناء، في باب مكارم الأخلاق: (إنه استدعي يوماً شراباً من شراب السكر، فجيء بقدح منه، فلما أراد شربه قال له بعض خواصه: لا تشربه فانه مسموم. فقال له: وما الشاهد على صحة ذلك؟ قال: بأن تجربه على من أعطاكه. قال لا أستجيز ذلك ولا أستحله. قال فجربه على دجاجة. قال: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز. وأمر بصب ما في القدح، وقال للغلام: انصرف عني، ولا تدخل داري بعدها، وأقر رزقه عليه. وقال: لا تدفع اليقين بالشك؛ والعقوبة بقطع الرزق نذالة). فلعلك ترى ما أراه من أن للكاتب الواحد أحزاباً لامتداحه، وأخرى لاستهجانه والزراية عليه؛ وأن وجهات النظر تختلف، بل معايير الحقائق تتباين على قدر غلبة النسبية فيها. ولعلك ذاكر قصة العميان السبعة مع فيلهم الموصوف؛ ولله في خلقه شؤون
وأخيراً أود أن تعلم يا سيدي أنني شاكر لك حقا كل فضل في إصلاح خطئنا في المعجم(182/37)
وفيما أصدره، لأنني أنشد الخدمة الحقة لوطني وديني ولغتي
والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته
أحمد فريد رفاعي(182/38)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
عزرائيل يقبض بيد صفراء
وصل الفائت
أرسلت حكومة الولايات المتحدة البكباشي ريد إلى جزيرة كوبا ليفحص سبب وباء الحمى الصفراء. وكانت الحرب الأسبانية انتهت في كوبا. فأعلن البكباشي أن الحرب قائمة ضد عدو جديد هو الحمى الصفراء. وطلب متطوعين ليجرب فيهم عض البعوض ليعلم هل تنقل الحمى به. فتطوع لازار وهو صياد مكروب متدرب، وتطوع كارول وكان جراحا مساعدا في الجيش
- 3 -
واستدعى رجال الحكم رِيدَ إلى واشنطن ليؤدي تقريره عن أعمال جرت في الحرب الأسبانية. فلما جاءته الدعوة أصدر أوامره مفصلةً إلى كارول ولازار وأَجَرَمُنْتي. وكانت أوامر سريّة، وكانت غاية في التطرف والوحشية إذا أنت قرنتها بطبع ريد المعتدل الهادئ - أوامر إذنابية لا ترضاها الذمم، وهي إلى جانب هذا خروج على النظام العسكري، فما كان لدى ريد إذن من رؤسائه في الجيش بإصدارها. ورحل ريد إلى واشنطن. وقام لازار وكارول يصدعان بأوامره فيركبان خطة غاية في الجرأة لم يركبها قبلهما من صُياد المكروب أحد. أما لازار، وقد كنتَ بالأمس تقرأ في عينه معنى الفناء ووجْمة الموت، فقد صرت اليوم تقرأ فيها معنى العزم والتلهف على البحث. وأما كارول فقد كان جندياً بطبعه فلم يأبه عمرّه بمجالس التأديب العسكرية ولم يحفل قط بالموت، وقد كان في المكروب صياداً طويل الحبل طويل الباع
بدأ لازار خطته. فحمل معه في زجاجات تلك البعوضات التي فقّسها فخرجت من البيض تحمل على أظهرها أقلاما من فضة وأخذ يسير بها بين سرائر المرضى وقد اصفرّت(182/39)
وجوههم كورق الخريف، واحمرت أعينهم بالدم القاني، وهذَوا في القول وحق عليهم الفناء. وفتح زجاجاته على جلود المرضى، فأخذت البعوضات تمتص من دمائهم حتى إذا امتلأت سدّ الزجاجات عليها، وحملها إلى منازل من الزجاج أُعدّت لها، وأدخل فيها إلى البعوض أطباقا صغيرة من الماء ومن سكر. وفي هذه المنازل هضمت أُنثيات البعوض هذه غذاءها من الدم المحموم، وطنّت قليلا، ثم سكتت في انتظار التجربة
وتذكر لازار ما قاله رِيدُ له: (يجب ألا تغفل عن حمى الملاريا، فلعل بينها وبين هذه الحمى الصفراء شبهاً قريباً، ففي حمى الملاريا لا يكون البعوض خطراً على الناس إلا بعد أسبوعين أو ثلاثة، فلعل الحال في هذه مثله في تلك)
ولكن أين الصبر من لازار، وأين منه صبر أيام بَلْهَ صبر الأسبوعين أو الثلاثة! فجاء بسبعة متطوعين لا أدري كيف جاء بهم، ولا ادري ما اسمهم، لأن أسماءهم على ما أعلم أُسدِل عليها الستار عمداً، لأن التجربة أُريدَ إجراؤها في خفاء كالليل البهيم. وقام لازار على هؤلاء السبعة - ولعّله أسكرهم أو لعّله خدرهم - فأسقَى البعوضَ من دمائهم، هذا البعوض الذي استقى منذ أيام قلائل من دم مرضى أصبحوا في هذه الساعة في عداد الأموات
وا أسفاه للازار! فقد جاءت النتيجة بغير ما ارتجى، فظل السبعة الرجال على أصح حال ولم تأتهم الحمّى. فانكفأ على عقِبَيْه خاسراً نادماً
خسر لازار، وبقى كارول لم يجرّب بعدُ حظَّه. وكارول هو الرجل الذي قضى سنين عونَ ريد الأول، وكان دخل الجيش أول ما دخل جندياً بسيطاً، ثم صار أمباشيَّ وجاويشَ سنوات عديدة تعلم فيها الطاعة حتى صارت من جبلّته. وكان رئيسه ريد قال: (جربوا البعوض). وكان رئيسه ريد ارتأى أن الشيخ المأفون فِنْلي لم يقل لغوا عندما اتهم البعوض. فلزم كارولَ أن يقول ما قال ريد وأن يرى ما ارتآه. أما رأيه هو فثانويّ في حكم الجيش ومألوفه. ألم يقل لهم البكباشي ريد عند رحيله (جربوا البعوض)!
فجاء كارول إلى لازار وهو في يأسه يذكّره، قال: (هأنذا بين يديك متأهب لما تريد). وسأله أن يُخرج إليه أخطر بعوضة لديه - بعوضة تكون عضّت لا مريضاً واحداً بل عدة من المرضى. ومن مرضى في أسوأ حال من حمّاهم. وفي السابع والعشرين من أغسطس(182/40)
أخرج لازار بعوضة حسبها أخرط ما عنده، فقد كانت شربت من دماء أربعة من مرضى الحمى الصفراء كان من بينهم اثنان في أسوأ حال. وحطّت هذه البعوضة على ذراع كارول.
ونظر إليها الجندي كارول وهي تتحسس بمقراصها تتخير للقرص مكاناً من جلده. فما الذي دار في خلده وهو يرقها تنتفخ كالكرة مما تشرب من دمه؟ لا أدري ولا أحد يدري، ولكني أحسبه يداور في فكره حقيقة يعرفها كل أحد: (أنا الآن في السادسة والأربعين، وفي الحمى الصفراء كلما زادت السن قل الرجاء في الشفاء). وكان في سنّه السادسة والأربعين، وكانت له امرأة وخمسة أولاد، ومع هذا فقد كتب في هذا المساء إلى ريد يقول: (إذا كانت نظرية البعوض صائبة وجب أن يكون حظي من الداء وفيراً). وفعلاً قد كان حظه منه وفيراً
فبعد يومين أحس بالتعب ورغب عن عيادة المرضى في عنبرهم، وبعد يومين آخرين أحسّ أنه مريض، وخال أن عنده حمى الملاريا، فنهض بنفسه على رجليه وذهب إلى معمله وفحص دمه تحت المجهر فلم يجد به مما خال أثراً. ولما خيّم الليل ضرب في عينيه الدم، واحمرّ وجهه وأقتمّ، وفي الصباح حمله لازار إلى عنبر الحمى الصفراء، وبقى هناك أياماً طويلة وإلى جنبه الموت. . . ومرّت به دقيقة أحس فيها كأن قلبه سكت فلم ينبض. . . وتلك دقيقة أعقبته سوءاً ستعلمه بعد حين. وظل بعد شفائه يعد تلك الأيام التي قضاها مريضاً بالمستشفى أمجد أيامه. قال: (أنا أول رجل أصابته الحمى الصفراء في أول تجربة من عضة بعوضة متعمَّدة)
وعانى مثلَ حظ كارول جنديٌّ يدعى (س. ص)، أسماه هذا الاسم هؤلاء البحّاث الذين خرجوا على القانون فتستّروا في ظلام الكتمان، وكان اسمه الحقيقي وليم دِين ومسكنه جراند رابدز بمتشجان فهذا عضّته أربع بعوضات وكارولُ في أول مرضه، إحداها هي التي عصّت كارول، والثلاث الأخريات عضت ستة رجال في درجة من المرض معتدلة وأربعةَ رجال كانوا في أسوأ حالة من الحمى ورجلين ماتا بها. وحَظِي هذا الجندي بالشفاء كما حظي كارول
إذن فالتجارب جاءت بخير ما يُرجَى. نعم لقد عضَّ البعوض ثمانية رجال فلم يصبهم(182/41)
سوء، ولكنه عض كارول وعض (س. ص) ونِعْم الخنزيرين الغينيين كانا في هذا التجريب فأصابتهما الحمى، وكاد قلب كارول أن يقف، وتماثل الاثنان للشفاء؛ وكان كارول مغتبطاً يكتب إلى رئيسه ريد وينتظر اليوم الذي يعود فيه ليطلعه على سجل التجارب زاهياً فخورا
ولم يشكّ في هذه التجارب أحدٌ إلا لازار، فداخله في هاتين الإصابتين شيء من الريبة، لأنه كان مجرِّباً متقناً دقيقاً حذِراً في تجريبه؛ وكان يرى أنه إذا قام بتجربة وجب عليه أن يتحكّم في ظروفها ويضبطها غاية الضبط حتى لا يتسرب إليها الخطأ، شأنَ البحّاثة القح. حدَّث لازار نفسه قال: (ليس من الكرم التشكك في أمر هاتين التجربتين بعد ما أبدى فيهما كارول و (س. ص) من التضحية والجرأة ما أبديا، ولكن كلا الرجلين تعرض للإصابة قبل التجربة وذهبا حيث توجد الحمى مرة أو مرتين قبل أن يصابا بها فعلا، فليست التجربة بالغة حدَّ الكمال، فمن يدريني أن بعوضي لا غيره هو الذي أعطاهم الحمى)
تشكك لازار، ولكن ما تشكُّكُ جندي أول واجبه إطاعة الأمر؟ وإذنْ فقد أخذ يجري على عادته فيذهب عصر كل يوم إلى أسرّة المرضى في تلك الحجرات ذات الرائحة الغريبة الضعيفة المعهودة، وإذنْ فقد استمر يقْلب زجاجات اختباره بما فيها من البعوض على أذرع رجال حمر الوجوه محمومين، ويجعل البعوض يمتص من دمائهم حتى يرتوي. وجاء اليوم الثالث عشر من سبتمبر، فكان يوماً على لازار مشؤوما، إذ بينما هو يأذن للبعوض في الزجاج أن يشرب من دم المرضى، حطت من الجو على ظاهر كفه بعوضة تائهة، فتركها تشرب من دمه وقال: (دعها تشرب فما أظنها من البعوض الذي يسيء)، قال ذلك عن بعوضة تائهة طائرة طليقة في عنبر به الرجال تموت!
كان هذا في اليوم الثالث عشر من سبتمبر
و (في مساء اليوم الثامن عشر من سبتمبر. . . شكى الدكتور لازار سوء المزاج، وجاءته رِعدة في الساعة الثامنة مساء). هكذا ذكر سجل المستشفى
واستمر السجل يذكر في إيجاز:
(19 سبتمبر: الساعة 12 ظهرً، الحرارة 39. 1 ? درجة. النبض 112. بالعين احتقان وبالوجه ارتشاح)(182/42)
(الساعة السادسة مساء. الحرارة 39. 9 ? درجة النبض 106)
(ظهرت الصفراء في اليوم الثالث. واستمرت حالة المريض في التدرج إلى أن ظهرت عليه أعراض الحمى فكانت شديدة موئسة)
ثم يخرج السجل عن جفافه القاسي ويلطف من أسلوبه قليلاً: (جاءت الوفاة زميلنا العزيز فمات مأسوفا عليه في مساء الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1900)
(يتبع)
أحمد زكي(182/43)
إدوارد الثامن
بين عرشه وقلبه
للأستاذ محمود غنيم
أرأيت ذلك العاهل الشاب، ينازعه عاملا عرشه وقلبه، يهيب به الأول: أن الجاه الجاه، والسلطان السلطان؛ ويهيب به الثاني: لا سلطان إلا سلطان الغرام؛ وهو فيما بين هذا وذاك كريشة في مهب الريح، وقد أرهف العالم أذنيه، ليسمع كلمته الفاصلة، وكاد الفلك يكف عن دورانه، لينصت إلى قراره الأخير، حتى أطلقها من فيه كلمة كالقذيفة، وسمع دويها في الخافقين، فكانت فصل الخطاب؟
ألا فليشهد الفلك وليحدث التاريخ: أن عرش الإمبراطورية البريطانية الذي لا يهزه قصف المدافع، ولا تزعزته قوة الأساطيل، قد هزه لحظ فاتر، وزعزعه بنان مخضوب! وهكذا تثبث الطبيعة البشرية أن المرأة هي المرأة في كل زمان ومكان، منذ أن أخرجت آدم من الجنة إلى أن زحزحت إدوارد الثامن عن عرشه
لقد شهد تاريخ القرون الوسطى حرباً شعواء دارت رحاها بين السلطتين الزمنية والروحية، فليشهد التاريخ الحديث حرباً شعواء من نوع آخر بين السلطتين الزمنية والقلبية. فلئن كان العرش أخضع الفاتيكان يوماً لنفوذه، فها نحن أولاء نرى العرش ينهزم أمام الحب، ثم يقف بين يديه خاضعاً ذليلاً، يبايعه بالأمارة، ويعترف له بالغلب. ولعمري إن السلطة القلبية لهي أقوى السلطات الثلاث يأساً، وأصعبها مراساً، وأشدها عراماً، وأنفذها أحكاماً. ألم يضح الناس قديماً بالأديان على مذبح الحب والغرام؟
فأن تسلمي نسلم وإن تتنصري ... يخط رجال بين أعينهم صُلبا
هذه هي بريطانيا العظمى أولى دول العالم، وهذا هو إدوارد الثامن الرجل الأول في بريطانيا العظمى، فأن شئت أن تشير إليه فقل: إن الإنسانية جسم هذا هامته، أو هي رأس هو ذؤابته، لو خلق إنسان من غير طين وماء لكان إياه، ولو استمر البشر على عبادة البشر لعبدوه من دون الله
ولكن، أليس عجيباً أن يكون هذا العاهل العظيم، لا يملك من أمر نفسه ما أملكه أنا من أمر نفسي، وما يملكه عامة شعبه من أمور أنفسهم؟! يشاء العامل البسيط أن يتزوج فيخطب(182/44)
فيمهر فتزف إليه عرسه، ويشاء إدوارد الثامن أن يتزوج فتهز القوانين رأسها نفياً، ويطل شبح التقاليد بأذنيه، وتحول الحوائل، وتعترض العقبات، وتنطبق الزرقاء على الغبراء!
أليس عجيباً حقاً أن تتقيد حرية الملك فيما هو أمس الأشياء بشخصه إلى هذا الحد، وأن الذي يقيد حرية الملك إلى هذا الحد هو الدستور الذي يكفل جميع الحريات! الدستور الذي يحرر الأديان، ما باله يقيد العواطف؟ الدستور الذي يحرر اليد واللسان، ما باله يحول بين المرء وقلبه؟ ما باله يمنع الملك أن يتزوج زواجاً شرعياً، يقره الإنجيل، ويباركه يسوع! ما هذا الدستور الذي يبيح للرعية ما لا يبيح للراعي، ويمنع الملك ما يمنح المملوك، والذي يجلس الملوك على العروش آلات صماء تتحرك بالكهرباء؛ لا تأمر ولكن تأتمر، ولا تصدر الأحكام ولكن تتلقى الأحكام؟ أهكذا تنقلب الأوضاع وتنعكس الحقائق في القرن العشرين؟
لقد كان خليقاً بهذه الأزمة أن تستحكم حلقاتها في كل قرن إلا في القرن العشرين، وفي كل مكان إلا في أوربا؛ أوربا التي حملت لواء الديموقراطية وطافت تبشر بها في أنحاء الكرة الأرضية، ما بالها تنغمس اليوم في الأرستقراطية إلى الآذان، وتأبى الاعتراف (بمسز سمبسون) لأن الدم الملكي لا يجري في عروقها؟ أكان يجري الدم الملكي في عروق نابليون يوم سمحت له أوربا أن يكون إمبراطوراً يعبث بخريطتها كما يعبث الأولاد بالألواح، ويصرف ملوكها كما تصرف قطع الشطرنج؟ أحرام على (مسز سمبسون) أن تتبوأ عرش إنجلترا، كما تبوأت (جوزفين) عشر فرنسا من قبل، ولاسيما في هذا الزمان الذي أصبح فيه كل عامل في منجم وزيراً، وكل بائع صحف دكتاتوراً؟
وماذا يفعل الملك ببنات الملوك إذا كان قلبه عند غيرهن؟ وما ضر (مسز سمبسون) ألا تكون بنت ملك متوج، أو أخت ملك متوج، ما دامت هي ملكة متوجة على عرش الجمال؟. . . وكيف لا تتبوأ مع قرينها عرش الحكم كما تبوأت عرش القلوب، دولة بدولة، وسلطان بسلطان؟ فلماذا لا يقال: إنهما كفؤان؟ هبوها ليست عذراء، هبوها ذات زوجين من الأحياء، أليست فاتنة حسناء؟ إن الجمال يقتل كل غيرة، ويغطي على كل اعتبار، وهل نضيرها ببكارتها الذاهبة، ما دامت فتنتها باقية، ووجهها لم يفقد نضرته، وعينها لم تفقد سحرها. الحسناء عذراء وإن بدلت كل يوم بعلاً، بكر وإن أعقبت كل يوم نسلاً؛ ولن تزال(182/45)
بكراً عذراء حتى تفقد جاذبيتها، وتحول نضرة خديها، وتنطفئ الجذوة التي تشع من عينيها؛ ألا رحم الله جاريتي الرشيد حين سحبت الأولى على الثانية ذيل التيه وقالت: أنا عذراء. فأجابت الأخرى ما بيننا إلا ليلة
ألا رحم الله زمانا كانت تثب فيه المرأة من أحضان عاشقيها إلى أريكة الحكم! رحم الله عشيقات البلاط الفرنسي في عهد أسرة البوربون - وما عهدهم ببعيد - حين كانت تقيد بأسمائهن التشريفات، وتصدر بأسمائهن الأحكام، وتعنوا أمامهن جباه أهل النفوذ والجاه! كلمة إحداهن مرسوم، وإيماءتها قانون، وأمرها نافذ حتى على الملك نفسه، وهي له خليلة لا حليلة
ألا رحم الله أيام العباسيين، إذا كان يؤهل المرأة لمشاطرة الملك فراشه رشاقة في قد، أو أسالة في خد، أو رأى صائب تبديه، أو بيت من الشعر فصيح ترويه، فتصبح زوجاً لخليفة، وأما لخليفة، كلاهما يتحكم في الرقاب، ويتحدى السحاب!
ألا رحم الله أيام الأندلسيين، حين كان يقف الملك على شاطئ الغدير، وينتقي زوجته من بين حملة الجرار، فيغدق عليها من ألوان النعيم ما لا عهد لها به، فتضيق بذلك كله ذرعا، ثم يعاودها حنينها إلى حمل الجرار، والانزلاق بها في الأمطار، فتخضب ردهة القصر بالحناء تخضيباً، وتمطر سماؤه بدل الماء طيباً، ثم تحمل جرتها وتسير فتنزلق قدمها، فيسري عنها، وتقر عينها، ثم لا تلبث أن تثور على الملك ثائرتها، فتقسم ما رأت معه يوم صفاء، حتى ولا يوم الحناء!
أليس من حق الملك الذي نهاره لشعبه، أن يكون ليله لقلبه؟ قاتل الله السياسة، فإنها ما تركت شأناً من شؤون أصحابها، إلا دست فيه أنفها، لقد أحصت عليهم الحركات والسكنات، فلا يتحرك أحدهم إلا بميقات. ولم تقنع بذلك، بل تركتهم يمرضون حين تشاء لهم المرض، ويشفون حين تسمح لهم بالشفاء، ويأكلون على خوانها، ويشربون من دنانها، ويجوعون ويظمأون إذا ضنت عليهم بالطعام، أو حبست عنهم المدام؛ ثم لم تقنع بذلك، فأرادت أن تعض على قلوب أصحابها بأنيابها، فلا يميلون إلا وفق ميولها، ولا يتزوجون إلا ممن تحوز شرف قبولها
لحا الله شعراء العرب! لقد كان يأرق أحدهم ليلة في سبيل الحب، فيطول به الضجر، من(182/46)
طول السهر، ومناجاة القمر؛ ولقد كان يذرف عاشقهم عبرة، فيلونها بالخمرة، ويشكو من تقرح جفنيه، ويجعل الدمع خلقة عينيه، ثم يعاف الماء القراح، ويشرب الدمع بالأقداح! كم أنشأ عاشقهم المعلقات الطوال، في والإيثار، وأنه ابتعد عن أهله، وفارقهم من أجله
وحاربت أهلي في هواك وإنَهم ... وإياي لولا حبك الماء والخمر
فيا ليت شعري، ماذا يقول ذلك العاشق الذي لم يسل الحب نومه من عينيه، ولم يرق دمعة على وجنتيه، وإنما أفقده عرشاً يمتد ظله على ربع الكرة الأرضية؟
لا تباه امرأة بعد اليوم بما بذل في صداقها من فضة ونضار، ومنقول وعقار. إنهما امرأتان، مهر كل منهما عرش وإيوان! كليوباطره في التاريخ القديم، (ومسز سمبسون) في هذا الزمان. فما أحرى كلا من إدوارد الثامن ومارك إنطوان أن يترنم بقول أمير الشعراء:
من يكن في الحب ضحى بالكرى
أو بمسفوح من الدمع جرى
نحن قربنا له ملك الثرى
أعود فأقول: أيها الملك النازل عن عرشه، هون عليك. لا أقول لك: ابك مُلكاً مضاعاً لم تحافظ عليه، لقد كسبت امرأة، ولم تخسر شيئاً، فانعم بالاً، وقر عيناً
ولعمري إن إمبراطور الحبشة لأولى منك بالدمع مقلة. لقد كان إمبراطوراً طيلة حياته، ولم تكنه في يوم من أيام حياتك. وماذا تجديك إمبراطورية واسعة لا تحتكم فيها على موضع قدميك؟ شتان بين من يحكم شعبه ومن لا يحكم قلبه! فعزاء له عن ملكه الزائل، وهنيئاً لك حريتك المستردة، وقلبك الحر الطليق.
(كوم حماده)
محمود غنيم
مدرس بالمدرسة الابتدائية الأميرية(182/47)
7 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
دوحة الجبل
وارتقى زارا ذات مساء الربوة المشرفة على مدينة (البقرة الملونة) فالتقى هنالك بفتى كان يلحظ فيما مضى صدوده عنه؛ وكان هذا الفتى جالساً إلى جذع دوحة يرسل إلى الوادي نظرات ملؤها الأسى، فتقدم زارا وطوق الدوحة بذراعيه وقال: - لو أنني أردت هز هذه الدوحة بيدي لما تمكنت. غير أن الريح الخفية عن أعيننا تهزها وتلويها كما تشاء. هكذا نحن تلوينا وتهزنا أيادٍ لا ترى
فنهض الفتى مذعوراً وقال: هذا زارا يتكلم! وقد كنت موجهاً أفكاري إليه
فقال زارا: ما يخيفك يا هذا؟ أليس للإنسان وللدوحة حال واحدة؟ فكلما سما الإنسان إلى الأعالي، إلى مطالع النور، تذهب أصوله غائرة في أعماق الأرض، في الظلمات والمهاوي
فصاح الفتى: أجل! إننا نغور في الشرور؛ ولكن كيف تسنى لك أن تكشف خفايا نفسي؟
فابتسم زارا وقال: إن من النفوس من لا نتوصل إلى اكتشافها إلا باختراعها اختراعاً
وعاد الفتى يكرر قوله: اجل إننا نغور في الشرور. قلت حقاً يا زارا، لقد تلاشت ثقتي بنفسي منذ بدأت بالطموح إلى الارتقاء فحرمت أيضاً ثقة الناس، فما هو السبب يا ترى؟ إنني أتحول بسرعة فيدحض حاضري ما مضى من أيامي. ولكم حلّقتُ فوق المدارج أتخطاها وهي الآن لا تغتفر لي إهمالي. إنني عندما أبلغ الذروة أراني دائماً منفرداً وليس قربي من يكلمني، ويلفحني القَرُّ في وحدتي فترتجف عظامي، وما أدري ماذا أتيت أطلب فوق الذرى!
إن احتقاري يساير رغباتي في نموّها، فكلما ازددت ارتفاعاً زاد احتقاري للمرتفعين فلا أدري ما هم في الذرى يقصدون. ولكم أخجلني سلوكي متعثراً على المرتقى، ولكم هزأت بتهدج أنفاسي. إنني أكره المنتفضين للطيران. فما أتعب الوقوف على الذرى العالية!
ونظر زارا إلى الدوحة يتكئ الفتى عليها ساكتاً فقال: إن هذه الدوحة ترتفع منفردة على(182/48)
القمة وقد نمت وتعالت فوق الناس وفوق الحيوانات، فإذا هي أرادت أن تتكلم الآن بعد بلوغها هذا العلو فلن يفهم أقوالها أحد. إنها انتظرت ولم تزل تتعلل بالصبر، ولعلها وقد بلغت مسارح السحاب تتوقع انقضاض أول صاعقة عليها
فهتف الفتى متحمساً: نطقت بالحق، يا زارا إنني اتجهت إلى الأعماق وأنا اطلب الاعتلاء، وما أنت إلا الصاعقة التي توقعتها. تفرَّس فيَّ، وانظر إلى ما آلت إليه حالتي منذ تجليت لنا، فما أنا إلا ضحية الحسد الذي استولى عليّ
وكانت الدموع تنهمر من مآقي الفتى وهو يتكلم، فتأبط زرارا ذراعه وسار به على الطريق. وبعد أن قطعا مسافة منها قال زارا: - لقد تفطر قلبي، إن في عينيك ما يفصح بأكثر من بيانك عما تقتحم من الأخطار. إنك لما تتحرر يا أخي، بل ما زلت تسعى إلى الحرية، وقد أصبحت في بحثك عنها مرهف الحس كالسائر في منامه
إنك تريد الصعود مطلقاً من كل قيد نحو الذرى، فقد اشتاقت روحك إلى مسارح النجوم، ولكن غرائزك السيئة نفسها تشتاق الحرية أيضاً
إن كلابك العقورة تطلب حريتها، فهي تنبح مرحة في سراديبها، على حين أن عقلك يطمح إلى تحطيم أبواب سجونك كلها. وما أراك بالطليق الحر فأنت لم تزل سجيناً يتوق إلى حريته، وأمثال هذا السجين تتصف أرواحهم بالحزم غير أنها تصبح وا أسفاه مراوغة شريرة
على من حرّر عقله أن يتطهّر مما تبقّى فيه من عادة كبت العواطف والتلطخ بالأقذار؛ لتصبح نظراته برّاقةً صافية. إنني لا أجهل الخطر المحدق بك، لذلك أستحلفك بحبي لك وأملي فيك ألا تطرّح عنك ما فيك من حب ومن أمل
إنك لم تزل تشعر بالكرامة ولم يزل الناس يرونك كريماً بالرغم من كرههم لك وتوجيههم نظرات السوء إليك، فاعلم أن الناس لا يبالون بالكرماء يمرون بهم على الطريق، غير أن أهل الصلاح يهتّمون بهم، فإذا ما صادفوا في سبيلهم من يتشح الكرامة دعوه رجلاً صالحا ليتمكنوا من القبض عليه لاستعباده
إن الرجل الكريم يريد أن يبدع شياء جديدا وفضيلة جديدة، على حين أن الرجل الصالح لا يحن إلاّ إلى الأشياء القديمة، وجل رغبته تتجه إلى الإبقاء عليها(182/49)
لا خطر على الرجل الكريم من أن ينقلب رجل صلاح، بل كل الخطر عليه في أن يصبح وقحاً هدّاما
لقد عرفت من الناس كراما دلّت طلائعهم على أنهم سيبلغون أسمى الأماني، فما لبثوا حتى هزأوا بكل أمنية سامية، فعاشوا تسير الوقاحة أمامهم، وتموت رغباتهم قبل أن تظهر، فما أعلنوا في صبيحتهم خطة إلا شهدوا فشلها في المساء
قال هؤلاء الناس: ما الفكرة إلا شهوة كغيرها من الشهوات
وهكذا طوت الفكرة فيهم جناحيها فتحطما، وبقيت الفكرة تزحف زحفا وتدنس جميع ما تتصل به
لقد فكر هؤلاء الناس من قبل أن يصيروا أبطالاً، فما تسّنى لهم إلا أن يصبحوا متنعمين، يحزنهم شبح البطولة ويلقى الخوف في روعهم
أستحلفك بحبي لك وأملي فيك ألاّ تدفع عنك البطل الكامن في نفسك إذ عليك أن تحقق أسمى أمانيك
هكذا تكلم زارا. . .
المنذرون بالموت:
ما أكثر المنذرين بالموت! والعالم ملئٌ بمن تجب دعوتهم إلى الإعراض عن الحياة
إن الأرض مكتظة بالدخلاء وقد أفسدوا الحياة، فما أجدرهم بأن تستهويهم الحياة الأبدية ليخرجوا من هذه الدنيا
لقد وُصف المنذرون بالموت بالرجال الصفر والسود، ولسوف أصفهم أنا فينكشفون عن ألوان أخرى أيضاً
إنهم لأشد الناس خطراً، إذ كمن الحيوان المفترس فيهم، فغدوا ولا خيار لهم إلا بين حالتين، حالة التحرق بالشهوة وحالة كبتها بالتعذيب. وما شهوتهم إلا التعذيب بعينه. إن هؤلاء المسوخ لم يبلغوا مرتبة الإنسانية بعد، فليبشروا بكره الحياة، وليقلعوا عن مرابعها
هؤلاء هم المصابون بسلّ الروح، فانهم لا يكادون يولدون للحياة حتى يبدأ موتهم، وقد شافتهم مبادئ الزهد والملال
يود هؤلاء الناس أن يُدرَجوا في عداد الأموات، فعلينا أن نحبّذ إرادتهم ولنحترس من أن(182/50)
نعمل على بعث هؤلاء الأموات وعلى تشويه هذه النعوش المتحركة
إذا هم صادفوا مريضاً أو شيخاً أو جثة ميت، فانهم يقولون - لقد انتفت الحياة؛ ولو أنصفوا لقالوا إنهم هم نفيٌ للحياة، وإن عيونهم دحضٌ لها لأنها لا تتجه إلا إلى مظهر واحد من مظاهر الوجود
هم يتلفّعون برداء وسيع من الأسى ويتشوقون إلى الحوادث التي تجر وراءها الموت. ولكنهم يتوقعون الموت وأسنانهم تصطك فرقا. غير أنهم في الوقت نفسه يمدون أيديهم إلى ما لذّ وطاب هازئين، فكأن الحياة قشة يهزأون بها ولكنهم يحرصون عليها. إن حكمة هؤلاء الناس تهتف قائلة (الحياة جنون، أفظع منه التمسك بالحياة. وقد بلغ الجنون بنا هذا الحد الفظيع)
يقولون إن الحياة آلام؛ فهم يقولون حقا، فلماذا لا يضعون حداً لهذه الحياة إن لم يكن فيها سوى العذاب؟ تلك تعاليم ترمي إلى وجوب الانتحار؛ فيقول البعض وهو يدعو إلى الموت: إن الملاذ الجنسية خطيئة فيجب الامتناع عنها والإضراب عن التوليد. ويقول البعض الآخر: إن الولادة مؤلمة، فعلاَمَ تلد النساء وهنّ لا يقذفن إلى الوجود إلا بالأشقياء؟ وهذه الفئة هي أيضاً من المنذرين بالفناء
وتقول لك فئة أخرى: إن الرحمة لازمة فخذ ما نملك، بل خذ ما تتكون شخصيتنا منه، فان فعلت فأنك تقطع من الأسلاك التي تشد بنا إلى الحياة. ولو أن رحمة هذه الفئة من الناس تتغلغل في صميم ذاتهم لكانوا يبذلون الجهد في سبيل دفع سواهم إلى كره الحياة. ليستمر هؤلاء الناس على ما هم عليه، لأن رحمتهم الحقيقية كامنة في إيقاع الأذى
إن ما يقصد هؤلاء الناس إنما هو التملص من تكاليف البقاء فلا يهمهم أن هم ألقوا بأغلالهم على الآخرين.
وأنتم أيضاً، أيها المتحملون من الدنيا همومها وجهودها المرهقة، أفما تعبتم من الحياة؟ أفما أنضجت المحن نفوسكم لتقوم هي أيضاً منذرة بالموت؟
أنتم يا من تحبون الأعمال الوحشية وكل حادث يمتعكم بكل جديد وغريب سريع الزوال! لقد ضقتم ذرعا بأنفسكم فما تتهالكون في العمل إلا تهربا من الحياة وطلبا للاستغراق لتصلوا بذاتكم إلى نسيان ذاتها. ولو كنتم أشد إيمانا بالحياة لما كنتم تستسلمون هذا(182/51)
الاستسلام الكامل لحاضركم. لقد خلت سرائركم من القوة اللازمة للانتظار، بل خلت مما يستلزم كسلكم نفسه من جلد
إن صوت المنذرين بالموت يدوي في كل مكان، والعالم مكتظ بمن وجبت دعوتهم إلى الموت أو بالحري إلى الحياة الأبدية؛ ولا فرق عندي بين ذاك وهذه إذا كان هؤلاء الناس يسارعون إلى إخلاء الأرض
هكذا تكلم زارا
(يتبع)
فليكس فارس(182/52)
في بهو فندق
خيانة اللغة العربية والآباء والأجداد والدهر والتاريخ
للأستاذ محمد بدر الدين الخطيب
أنا (ولا أنانية) والسائح العراقي الأستاذ يونس البحري الساعة في (صالون) فندق من أكبر فنادق بيروت، نقلب الطرف والسمع في الزمر التي نحتشد حولنا، ونتداول شتى الحديث ونود إلى (الرسالة) وافتتاحيتها المشرقة بما في نفس كاتبها الأستاذ الزيات وبما في نفوسنا نحن إخوانه من شعور صحيح يتصل بتيار الحمية ولا يتقطع ملحقا بسلك مذبذب ضعيف يتفرع إلينا من الغرب.
نحن في حماس وإشراق، والزمر التي رأيت تلغط حولنا بالفرنسية، وبالفرنسية فقط، لغطاً ضعيفاً أشبه بالنور الضئيل في المصباح الكهربائي الذي يستمد تياره من الفرع الضعيف الذي رأيت أيضاً
هذه فتاة ريانة يهفهف العطر والجمال والدلال في خطوها، تتحدث إلى أخرى بالفرنسية، وأزاءها أمها تتطلع إليها تطلع المأخوذ الذي لا يعي ما يقال.
ها هي ذي أمها تسائلها (بالعربية)
التفتت الفتاة في نزق وقد التهب وجهها بالحمق ولسانها بالنزق وصاحت بأمها:
أي! أي! هس! هس!
وعادت إلى الكلام بالفرنسية وفي نفسها أن أمها قد مسخت المدنية أو مسخت موقفها في المدنية والفرنسية في حديثها إليها بالعربية.
لم أكتم نفسي وتركت الغضب يمد عليها ويجعلني ألتفت إلى صاحبي (يونس) وأحدثه بما يشبه الصيحة عما أرى وأسمع.
وكان صاحبي مثلي في وجوم وألم مما يرى فلم يكتم نفسه وانبعث يصيح ويعلن أسفه (بالثلث)
وكان بجوارنا زمرة من الشباب وقع عليها ما نقول وقع العجب في غير رجب، فالتفتت بجملتها وتوجه أحدها إلينا يقول:
(الناس أحرار يتكلموا ما شاءوا أفرنسية ولا عربية ولا ألمانية حتى شوهاد يا إخوان).(182/53)
قلت له شوهاد؟ أي كلمة كبرت، وأي حمية صغرت، وأي. . .
ليتك تذهب إلى تركيا وتتكلم بغير التركية ويحسبك الأتراك تركيا مارقا فترى وتسمع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من التأنيب والتعذير!
لا دواء لك ولا لأمثالك إلا أن تذهب إلى تركيا في شكل تركي، ولا أحسب المنطق يفيدك أو يفيد هذا الجمهور الغريب من أشباه الشباب وأشباه الرجال، هذا الجمهور الخارج من حظيرة فنية استعمارية. . نعم. . .
وصاح صاحبي السائح العراقي يقول: لقد طفت أكثر بلاد العالم فلم أجد أمة تحتقر نفسها وتلوي ألسنتها وتتحمس لهذا العبث إلا في بلادنا العربية
ما شأن اللغة العربية حتى تتجاوز عنها وترطن بالفرنسية؟ أليست لغة المجد والعلم، ولغة دمك وبلادك؟
بهتت الزمرة، وساد وجوم، وتلجلج الجو، لا يحير، وماذا يحير، وعناصره عربية، وإن لم تكن عربية فطبيعية، تشهد للأمر الواقع، وتخشع احتراماً له وإجلالاً؟
ساد صمت وعدنا إلى حديثنا، ثم انفضت من حولنا الزمرة! وذهب أفرادها وفي نفوسهم ما لا يعلم إلا الله
وعدنا نقرأ مقال الأستاذ الزيات نفرج به ما اشتبك واحتبك من الشجون، ونثني على كاتبه ثناء خالصاً مشرقاً وثناء صحيحاً يجدر بالشعور الصحيح والرأي الصحيح
وتأملنا ولا زلنا نتأمل في هذه الظاهرة السوء والعلة الغريبة التي تجد في كثير من الذين داخلتهم حمية وحماسة ورعونة ولؤماً للدفاع عنها والسفاهة في سبيلها
تأملنا ولا زلنا نتأمل، وفي نفوسنا وأمانينا أن يبادر من يشعر بالخطر وبما وراء هذا الانحلال من نذر من الكتاب إلى معالجته بقوة وبصراحة
محمد بدر الدين الخطيب(182/54)
في ساعة يأس
للشاعر القروي
هل بينكم من راحمٍ قاتلِ ... يزحزح الأيامَ عن كاهلي
يقذِفُ بي في دَرَك اللجّ لا ... يلفِظني موجٌ إلى ساحِلِ
يا من يُذَرّيني طحيناً على ... وجهِ صعيدٍ محرقٍ قاحل
ما رشَحَت من جوّهِ قطرةٌ ... يوماً على نَضْرٍ ولا ذابل
أُشفِقُ أن أُبعثَ في عُشبةٍ ... أو زهرةٍ أو غُصُنٍ مائل
يا لاَشتهائي جنَّة من لظىً ... آكلُ من يانعِها الآكلِ
في شجر من لهب ثائرٍ ... على ضفاف اللهبِ السائلِ
مأدبةٌ تأكلُ أضيافَها ... آمنةُ الوارشِ والواغِلِ
وأبَرْدَها عندي إذا اجحَو حَمَت ... كأُختِها في قَفصي الناحِلِ
لاقفةً فُلكَ همومي معي ... ذاهبة بالحِمل والحامِل
من يشتري لي عَدَما مطلقاً ... يُعْيى على النافخ والجابل
لاشِ حياتي يا إلهي ولو ... حقّقتَ زعمُ الملحِدِ الجاهل
جسمي وروحي وأغانيَّ لا ... تُبقِ على باق ولا زائِلِ
ما حيلةُ اليائسِ لا ينتهي ... من عاجل إلا إلى آجلِ
أقسى من الموتِ على النفسِ أن ... تسعى إلى الموتِ بلا طائل
هَبْ كانَ لي الخلدُ تنغّصْتُهُ ... بذكرِ هذا الألمِ الهائلِ
وا حيرة العاقلِ في. . . ... قضى وأمضى بشَقَا العاقل
يفعل ما لو غيره فاعلٌ ... لقامت الدنيا على الفاعِلِ
يا بائعاً (سَحبانَ) من (باقل) ... كبيعه شعبيه بالشاقلِ
القدسُ لم تَزَنِ فما بالها ... تُرجَمُ عن (بابِلَ) من (بابِلِ)
كم صرعةٍ للحق قد زعزعَت ... رأييَ في الحقِّ وفي الباطِلِ
مُت يا أخي العامل، مُت جائعا ... ولا تسل عن أجرة العامل!
إن فاتَكَ الخبزُ فَلُكْ آية ... وانعم بموت الآمن الآمل!(182/55)
غداً لك الخلدُ فما ضرّ إن ... لم تأكلِ اليومَ مع الآكلِ!
قبّلْ يدَ الظالمِ قسراً ولا ... تعتب على خالقهِ العادلِ!
هل كانت الآلام مذ قُدِّرت ... إلا نصيبَ الرجل الفاضلِ!
فلنحمدِ المولى على نعمةٍ ... خُصت بنا من فضله الشامل،
إبليسُ! يا مسكين! مُت غيرة ... فالصَّلب. . حظ البشر الكامِلِ!
يا سائلي عن سر هذا الأسى ... أَقصِرْ وقاك الله يا سائلي
ما أبعد الشكوى، على هولها ... عن بعض ما ينهش في داخلي
عن سرّ أسرار عذابي الذي ... عزّ على السامع والقائلِ
يا مستعير الدمع لبيّكَ خذ ... ما شئت من طَلٍّ ومن وابلِ
في كل جفن من جفوني سَماً ... وكُلَّ هدب مقلتا. ثاكل
(سنبولو - البرازيل)
الشاعر القروي
من العصبة الأندلسية(182/56)
إدوارد الثامن
للدكتور أحمد زكي أبو شادي
كأنكَ لم تبذل فؤادك داويا ... لشعبكَ حتى فاتكَ اليوم داميا
كأنكَ لم تدر البطولة يافعاً ... ولم تصحب الهيجا وتَسْلُ المغانيا
كأنك لم تُعطِ العظائم حقَّها ... ولم تعرفْ الأوطان حُبّكَ فاديا
كأنك ما طاردت عن شعبك الأذى ... وأنفقت في هذا الطراد اللّياليا
مَواهبُ يَجنى العُرْفُ شَرَّ جنايةٍ ... عليها، ويَنْسَى العُرْفُ غيرك جانيا
وما قيمةُ التاجِ الذي أنتَ تارك ... إذا بات هذا التاجُ خصما وعاديا؟
تفانيتَ في الإحسانِ للشعبِ دائما ... فلم يَزِن الإِحسانَ أو كان ناسيا
وأذعَنَ للتقليدِ في حين قد أبى ... نُزُولَكَ عن عرش زهابك ساميا
وهيهات أن يحظى بسحرك تاليا ... وهيهات أن يلقى شبيهك ثانيا
فكان مُهينا كبرياَءك، جارحا ... وفاَءك، مهما عُدَّ للعرش وافيا
ومِنْ قِدَمٍ كان التذبذبُ مِلّةً ... وسوف على الدهماءِ يلبثُ عاتيا
أَمثلكَ في إِشفاقِهِ وإِبائِهِ ... يُسَخَّرُ، مهما زُخْرفَ القيدُ حاليا
أَتحْرَمُ مَحْضَ العيشِ مثلَ بني الوَرى؟ ... إذنْ كلُّ عيش دونه ليس غاليا
تُضَحِّي؟ نعمْ ضحَّيتَ أضعافَ ما رَجَوْا ... ولكنّهم ما بادلوكَ الأمانيا
وما كنتَ للحبِّ المقدَّسِ خاضعا ... ولكن لمعنىً بَذّ عندي المعانيا
هو البرُّ بالنفسِ العظيمةِ عندما ... تَرَى الناسَ فَوْضى والأماني مآسِيا
ومِثلُكَ لن يرضى الحياةَ مَنِيَّةً ... ولكنّما يهوى الحياةَ معاليا:
معالي مِنْ نُبْل وسعى وخدمة ... وحرية، لا أن يرى العيش خاليا
وَهَبْتَ الكثيرَ الفخم للشعبِ خالصا ... ولكنَّه يأبى لكَ النّزْرَ صافيا
ومِنْ عَجَبِ يحنو عليكَ بلهفةٍ ... فلم ترض إلا أن تكون المواسيا
وكنت عظيم النُّبْلِ في كلِّ موقف ... كأنكَ يومَ الرَّوْعِ تشدو الأغانيا
فأفعمت قلبي من ثباتِكَ نشوة ... ومِنْهُ لباكي الشعب صُغْتَ التعازيا
إذا أَسَرَ التقليدُ أحلامَ أُمَّةٍ ... نظمتُ لها قبلَ العَزاءِ المراثيا!(182/57)
الإسكندرية
أحمد زكي أبو شادي(182/58)
إلى الفيلسوف الشاعر نيتشه
بقلم محمد فهمي
نظمت على أثر قراءة ديوانه (هكذا قال زرادشت) الذي
تترجمه (الرسالة)
أَذبْتَ قلبك أَشعاراً تردِّدُها ... أَوْدَعْتها لَذعَ ما في القلب من نارِ
في كل بيتٍ لسانُ النار مندلعٌ ... في كل بيت تَبدّي شبه إِعصارِ
وأُيُّ قلب تراك اليوم ساكبه ... وأَيُّ فكر تراءى لي بأسرار
أَلا هو القلب دفاقاً ومنطوياً ... على البُطولة في سيّالها الجاري
أَلا هو الفكر في أَجوازه لُمَعٌ ... من الخلود كضوء الفرقد الساري
تُلقى القذيفة من شعرِ مؤججةً ... نحو القلوب فتغدو كالّلظى الواري
وتبعث البأس فيها جِدّ محتدمٍ ... وتوقُظ العزم في إِقدام جَبّار
وتحطِمُ القيد إذ حلقاتُه نسجت ... من الخرافة في تأثيرها الزَّاري
وتُطلق الروح كالطير الذي فُتحت ... له السجون وأَقفاصٌ لأُسَّار
يمضي يُحلِّق نشواناً ومنطلقاً ... ويهتك الحُجب من غيب وأستار
حتى يشارف سر الكون مجتليا ... غايَ الحياةٍ لإنسان به سار!
فما الحياة أراها اليوم أُلْهيةً ... لفتنةٍ النفس في كشف وإضمار
وما الخلود أراه طيف أُمِنَيةٍ ... تساور الفكر في حلٍّ وتسيار
ولا الوجود هباء ليس يَعْدِله ... في كفّة الزُّهد حتى عُشر مِعشار!
بل الحياة كفاحٌ لا قرار له ... وليس يلحاه إلا كلُّ خوَّار
بل الوجود هو الفردوس تحجبه ... عنا سخائف أوهامٍ وأوطار
وما الخلود سوى قُصوى بُلَهْنِيةٍ ... لكامل الخلق فوق الأرض قرَّار
أنت الذي جعل الآمال دانيةً ... وأَنْزَلَ الخُلد في الأخرى لذي الدار
وَحْيٌ من الفكر يهدي شهد حكمته ... في كأس سِفرٍ تَجلّى فوق أسفار. . .
(المنصورة)(182/59)
محمد فهمي(182/60)
من هنا ومن هناك
بوشكين أمير شعراء روسيا
تستعد روسيا السوفيتية استعداداً عظيما للاحتفال بمرور مائة سنة على وفاة شاعرها الأكبر بوشكين الذي مات متأثراً بجروح بالغة بعد مبارزة جنونية مع هيكرين دانت أحد ضباط الحرس القيصري الذي كان يغازل امرأة بوشكين، والذي قيل إنه استطاع أن يحظى بها بعد مجازفات غرامية سافلة انتهت بمقتل شاعر روسيا الكبير في 27 فبراير سنة 1837
ولو عاش بوشكين إلى اليوم لأبى أن تحتفل به روسيا هذا الاحتفال الذي يؤلمه ويكبر عليه من رجال مستبدين غاشمين داسوا تعاليمه، ولم يبالوا أن يجعلوا روسيا جحيما لا يطاق من العسف والجبروت، والفاقة والعوز، والكبت والتنكيل. وهي أمور وقف بوشكين حياته على محاربتها في عهد القيصر، وانضم بسببها إلى جماعة الديسمبريين يناضل الظلم بيده ولسانه وقلبه، ولم يبال أن ينفى إلى الجنوب، وأن يحرم ملذات بطرسبرج وأنوارها التي كانت في ذلك الوقت زينة الحياة الدنيا
ولد بوشكين في 26 مايو سنة 1799 من أب روسي، وأم خلاسية يجري في عروقها دم الزنوج الأفريقيين، لأنها حفيدة (هينبال!) العظيم، أحب خدم البلاط إلى بطرس الأكبر، والذي كان يلقبه عاهل روسيا (جوهرة بلاطي!) من سبيل الدعابة، لأنه كان عبداً أسود امتاز بشجاعته النادرة وإخلاصه المتين لصاحب التاج
وكان أبوه روسياً مثقفاً يقتني مكتبةً حافلة تزخر بأجود الكتب الفرنسية كقصص فولتير ومؤلفات روسو وغيرها، فكانت النبع الفياض الذي ارتوى منه بوشكين وشفى نفسه الصادية، وساعدته ذاكرته القوية على استظهار ما في كتبها من درر وغُرر ومُلَح وطُرف، وهو لم يعد بعد طور الصبى. ولم يظهر بوشكين عبقرية ما في صغره؛ وكان يكره اللغة الروسية من صميمه، ولم يكن يعلم أن سيصير عما قريب إمامها المجلي، وفارسها المغوار، وشاعرها الذي لا يدانيه شاعر
وكان أبوه يضيق بضعف ولده في الروسية، فلما ضبطه مرة مكباً على فولتير يكاد يلتهمه، لم يسعه إلا أن يضربه ضرباً مبرحا وحرَّم عليه دخول مكتبته حتى يتقن اللغة الروسية. . . (وعندها يا بني يمكن أن يثمر في قلبك، وعلى لسانك، هذا الأدب الفرنسي الجميل!. . .)(182/61)
وقد صدق أبوه!!
وفي سنة 1812 التحق بصالة المحاضرات في قرية زارسكوسيلو، إحدى ضواحي موسكو، وهناك تعرف إلى الشاعر (درزهافن) فنفخ فيه من روحه وشجعه على قرض الشعر، وكان يستملح منه هذه القصص الممتعة التي كان ينظمها وينشدها أخواته الصغيرات. وحدث أن زار الشاعر الروسي الكبير (زهيكوفسكي) ضاحية زارسكو، وسمع بوشكين فأعجب به وتنبأ له عن مستقبل باهر. وقد تأيدت تك النبوءة عندما نظم بوشكين قصيدته الطويلة (رسلان ولدميلا) سنة 1820 فأرسل إليه الشاعر الروسي صورته وعليها هذه العبارة (إلى التلميذ: من أستاذه المغلوب على أمره!)
وقد اشتملت قصيدة رسلان على طائفة كبيرة من الفوكلور الروسي الذي كان يترفع عنه الشعر في ذلك الوقت، وبرغم ذلك فقد كان للقصيدة رنة عظيمة في روسيا ولهج بها كل لسان؛ وكان الشاعر باتيوشكوف يصبو إلى إمارة الشعر الروسي، فلما صدرت قصيدة بوشكين حقد على الشاعر الشاب (الذي سبق الشعراء إلى ما كانوا يصبون إليه!)
رحل بوشكين إلى العاصمة الصاخبة بعد حصوله على شهادة الليْسيوم، وكان يتمنى لو التحق بالمدرسة الحربية، بيد أنه ألحق بوظيفة في السلك السياسي، واستطاع أن يجوب آفاق القوقاز، وهو في ذلك العهد مسبح خيال الشعراء ونبع إلهامهم؛ ثم تجول في ربوع القرم، وقضى حقبة طويلة درس فيها الإيطالية والإنجليزية، واشتد ولعه بشاعر الإنجليز بيرون فكان يستظهر قصائده، وبلغ ما إعجابه به أن قلد بقصيدته (أسير القوقاز) قصيدة بيرون (تشيلد هارولد). وفي هذه القصيدة يبدع بوشكين في الكلام عن الحب ووصف الجمال القوقازي والخرائد القوقازيات ويرتفع ببطل القصيدة إلى ذروة الطهر
وشعر بوشكين في هذه الفترة من عمره متأثر بالأدب العربي إلى حد بعيد؛ وأثر أبي نواس والمدرسة العباسية فيه شديد الوضوح، فهو يصف بيوت الحانات وما فيها من ألوان الترف وجمال السراري والولدان. ومن يقرأ ما جاء في الأغاني ونهاية الأرب عن حب الأعراب ثم يقرأ قصيدة (الغجر لبوشكين يلمس أثر الثقافة العربية في هذا الشاعر لمساً تاما. فهذا الفتى (أليكو) الذي يسأم صخب المدن ويفر إلى الريف فيحب الفتاة (زمفيرا) ويتزوجها، ثم تمله الفتاة وتقلوه وتعلق فتى وسيم الخلق فتتصل به وتساقيه كؤوس الغرام ويفاجئهما أليكو(182/62)
في حالة مريبة فيقتلهما جميعا، ويثير عليه غضب سيده وهو والد الفتاة، فيطرده من خيامه ليهيم على وجهه في الأرض، ويعود السيد ليرى زوجته بين يدي عاشق أثيم فتسود الدنيا في عينيه ويترك العاشقين وشأنهما وينطلق على وجهه في الأرض حيران. . . كأنما انتقم منه القضاء للفتى أليكو
وتأثر بوشكين بشكسبير أيضاً، ويبدو ذلك الأثر على أتمه في قصيدته (بوريس جوديونوف) التي تصور رجلاً آفاقياً متشرداً يصل إلى عرش أمة في غفلة الزمن، وقد عرض فيها بديمتري الذي استطاع أن يحكم روسيا ولم يكن من قبل شيئاً مذكورا
ومن أحسن قصائده (أونجين) التي بدأ بنظمها سنة 1823 وأتمها سنة 1831 وسنعود إليها في عدد تال
مسز جراندي
اشتهر القرن التاسع عشر في إنجلترا بأنه قرن الانتقال المفاجئ في حياة أمة عظيمة عتيقة محافظة - ففيه ظهر داروين الذي قلب البيولوجية رأساً على عقب؛ وفيه تبدل الاجتماع الإنجليزي فأصبح اجتماعاً صناعياً يرتكز على أساس من الآلة البخارية بعد أن كان اجتماعاً زراعياً أو صناعياً يرتكز على أساس من آلة تدار باليد. وفيه خطا الطب خطوة واسعة من الشعوذة إلى التشريح العلمي وبحث خصائص المكروب
ولكن القرن التاسع عشر لم يستطع أن يخطو بالأسرة الإنجليزية خطوة واحدة إلى الأمام، بل إنه زاد الطين بلة فأغرق إنجلترا في بحر من الذهب فأنزف الإنجليز إترافا زادهم جموداً وقوى من سلطان مسز جراندي عليهم جميعاً
ومسز جراندي هذه هي هذا الشبح الخرافي الذي يكنى به في إنجلترا إلى اليوم عن سلطان التقاليد العتيقة البالية التي تعطي للأب في منزله سلطة الدكتاتور، وللأم سلطان القديسة، تأمر وتنهي وترفع في وجوه أبنائها عصا القرون الوسطى فتفل بها من حريتهم وتحد من استقلالهم إن فرض أن لهم استقلالا أو حرية. وكان صوت مسز جراندي يدوي في كل بيت إنجليزي فيقول: هذا واجب وذاك لا يصح، وينبغي أن تدنى الفتاة عليها من جلاليبها، وألا تفتح النافذة، وألا تمد عينيها إلى أحد إذا سارت في الطريق، وألا تختار لنفسها بل أبوها هو الذي يختار لها(182/63)
وكان لمسز جراندي سلطان مخيف على الأدباء، وكانوا جميعاً يخشون بأسها، ولذا كانت أفكارهم سجينة في زخارف من الكلام الأجوف الموشى الذي يعجب اللغويين ويهزأ به الأدباء المصلحون. وماكولي دليل على ذلك، فأسلوبه المرقص المطرب لا يكاد يدانيه أسلوب آخر في موسيقاه، ولكنه بأفكاره يعيش كما تعيش العناكب في الأركان والزوايا، وكما تسعى الخفافيش في ظلام الليل. وجون رسكن كذلك، وهو رجل أنيق العبارة رشيق الأسلوب، ومع ذلك أراد أن يضحي تقدم إنجلترا ورقيها الآلي ما دام هذا الرقي في رأيه ينافي الفن الصحيح. ولقد ثار على مسز جراندي أديبان عظيمان هما لورد بيرون وبرسي شللي فكان أولهما يجاهر بآرائه الكفرية، ويغيظها فيشرب الخمر في جمجمة ميت، ويترخص في الحب وينظم دون جوان. وكان الثاني يحتقرها في عظمة ووقار وينظم مأساة سنسي ويفلسف في الحب، ولكن مسز جراندي هي الأخرى لم تأبه بهما، بل هي قد لفظتهما من إنجلترا إلى اليونان وإيطاليا ولذلك لم يشعر بهما أحد إلا بعد أن مرضت هذه السيدة المحتشمة وأوشكت أن تموت
والذي يهمنا من هذه الكلمة عن مسز جراندي أن الشريعة الإسلامية أكبر أعدائها، ومع ذلك فسلطان مسز جراندي في مصر أقوى منه بكثير في إنجلترا، فهل يتأذن الله أن تموت؟!
د. خ(182/64)
البريد الأدبي
كتاب جديد لأندريه جيد
منذ بضعة أعوام ظهرت للكاتب الفرنسي الكبير أندريه جيد عدة مقالات رنانة تفيض بالمديح في روسيا السوفيتية وفي نظمها وأحوالها، وفيما هيأته للطبقات العاملة من حياة جديدة، ولكن أندريه جيد يطلع الآن على قرائه بكتاب جديد عنوانه: (العودة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي وفيه يحمل على روسيا السوفيتية بعنف وشدة، وينعت ما سماه قبل بجنة العمال والطبقات العاملة بالجحيم المستعر، ويقول لنا أندريه جيد في سر هذا الانقلاب إنه كان يحب روسيا ونظمها الجديدة قبل أن يرى ويختبر بنفسه ما فيها؛ ولكنه الآن وقد وقف بنفسه على الحقيقة، وشاهدها في موطنها، وبعد أن أقام في روسيا زهاء ثلاثة أعوام، يستطيع الآن أن يقول فيها كلمة حق وصدق
يقول لنا أندريه جيد في كتابه: (إن أقل احتجاج أو نقد يعاقب عليه في روسيا السوفيتية بأشنع العقوبات، ثم يخمد في الحال؛ وإنه يرتاب في أن دولة أوربية أخرى - حتى ألمانيا الهتلرية ذاتها - يخمد فيها الرأي ويسحق ويذل مثل ما هو في روسيا)
ثم يقول لنا أن الثقافة العالية وسفه الرعاع في روسيا أمر سواء، ولا يسمح لإنسان أن يفكر بغير ما تفكر به جريدة (برافدا) لسان الحزب الشيوعي؛ ويحظر على كل روسي أن يعبر الحدود؛ وأن يعرف شيئاً عن العالم الخارجي؛ والمهم دائماً هو أن يعتقد الشعب الروسي أنه أسعد حالاً من كل الشعوب الأخرى
ثم إنه فيما خلا الطبقة الممتازة التي تنعم بالحياة المترفة في الطعام واللباس والمسكن، ترى الشقاء يسحق كل الطبقات والجموع؛ ويتكدس الناس في مساكن ضيقة قذرة ويعيش معظمهم على الخبز الجاف والسمك؛ وأما البضائع فهي مكدسة في الحوانيت والمخازن ولكنها جميعاً من أردأ صنف؛ والرداءة صفة عامة لكل شيء في روسيا. وأما المبادئ الشيوعية فلم يبق منها إلا صورتها؛ وتجد السياسة السوفيتية الحالية في التدرج في إحياء الأسرة والملكية الشخصية والميراث، حتى يشعر الفرد أنه يملك شيئاً لنفسه يجب أن يدافع عنه؛ بيد أن الفرد ليس له وجود، وقد سحق كل ما فيه من مظاهر الاستقلال المادي والمعنوي(182/65)
وقد أحدث ظهور كتاب أندريه جيد دهشة كبيرة في جميع الدوائر لأنه كان معدوداً من أصدقاء روسيا الحميمين، ومن أخلص محبيها ودعاتها
معرض للتاريخ السياسي
افتتح في برلين أخيراً، في جناح من المكتبة الملكية البروسية، معرض من نوع خاص عنوانه: (ألمانيا السياسية، الطريق إلى مصير الشعب الألماني)، وقد عرضت في هذا المعرض الجديد عدة وثائق تاريخية، مما عرض من قبل في مؤتمر نورمبرج، مما يتعلق بتطورات الحزب الاشتراكي الألماني، وكفاحه في سبيل الحكم، وما قامت به الحكومة الجديدة في الأعوام الثلاثة الأخيرة من المشاريع والأعمال؛ وفيه أيضاً وثائق ومخطوطات تاريخية، لقادة ألمانيا في العصر الحديث، مثل إرنست مورتس آرنت، وفردريك وليم الثالث، والبارون فون شتاين، وشارنهورست، وأندرياس هوفر، وكلها ترجع إلى العصر المسمى في التاريخ الألماني (بعصر التحرير) وهو في أوائل القرن التاسع عشر
وقد أذيع عن المعرض والغاية التي أقيم لأجلها بيان جاء فيه إن هذا المعرض يوضح كيف أشرفت الإمبراطورية الألمانية غير مرة على السقوط، وأنها كانت تجتاز مثل هذه المرحلة حين قبض الحزب الاشتراكي الألماني على زمام الحكم، وأن الكفاح لانتشال ألمانيا من هذه الوهدة والعود بها إلى مركزها القديم هو نقطة التحول في تاريخ العصر الجديد؛ وأن ألمانيا تكتب الآن تاريخها مرة أخرى، وأنها قد حققت مركزها القديم في الأسرة الأوربية، وستعمل على تبوء مركزها في تاريخ العالم؛ وأن الاشتراكية الوطنية التي تقود ألمانيا الآن إلى مصايرها، تقدر القوى الثقافية والكفاحية التي كانت لها في الماضي حق قدرها، ولذا ترى أن تبرز هذه القوى للجيل الجديد
قبيلة الكنتين
تلقينا من (نيالا) بمديرية دارفور بالسودان من مأمورها الفاضل عبد الماجد إبراهيم الكلمة الآتية:
السلام عليكم ورحمة الله؛ وبعد: فتوجد قبيلة في دارفور الآن تسمى الكنتين نزحت إلى دارفور من جهة مراكش وأن رجالها ملثمون ونساءها سافرات؛ وفي أكثر حليهم وسيوفهم(182/66)
علامة الصليب؛ وهم مسلمون ولغتهم أعجمية؛ وهم يقولون إنهم عرب أو أصلهم عربي، وينتمون في نسبهم إلى طارق بن زياد.
ولكن بعض المؤرخين يقول إن الكنتين (بربر) من جهات مراكش، وبعضهم يقول إنهم تتار. فأرجو أن تتفضلوا وتوضحوا لنا أصل هذه القبيلة إذا كانوا حقيقة من أصل عربي أو بربري أو تتري. . . الخ
وقد رأينا أن نذيع الاستفهام على صفحات (الرسالة) عسى أن يتقدم من الباحثين الذين توفروا على دراسة السودان وقبائله من يتفضل بإجابة الكاتب عن سؤاله
مرثية جراي
نشرت الرسالة في عددها 180 بتاريخ 141236 كلمة من
نابلس عن مرثية جراي أبدي كاتبها فيها إعجابه بالنص
العربي كما خطه يراع صديقي الأستاذ على الطنطاوي وأنحى
باللوم على الترجمة. ولما كان لهذا اللوم مساس بي فقد أحببت
أن أقول كلمة في الموضوع:
قال الكاتب ما نصه: (وعندي أن الأستاذ لو ترجم المرثية عن أصلها لبان له من روحه الفنانة وإخلاصه ما يجعل ترجمته في دقتها تقف في صف واحد مع ترجمة جرالد للرباعيات الخيامية المشهورة). وأكبر ظني أن الكاتب المحترم لم ينتبه إلى كلمة (دقة) التي ذكرها وعلاقتها بالموضوع فإذا كان يريد بالدقة المحافظة في الترجمة على المعنى الحرفي للأصل فأني أعترف بأن ترجمتنا للمرثية لم تكن دقيقة، لأننا لم نسع لذلك البتة، بل كان هدفنا الوحيد جعل القارئ العربي يستمتع - على قدر الإمكان - بجمال الفكرة التي أوحت الأصل، وقد كان أسلوب الأستاذ الطنطاوي كفيلاً بذلك. ولا شك أن الكاتب يوافقني إذا قلت بأن ترجمة فيتز جرالد (لا جرالد كما ذكر هو) لرباعيات الخيام لم تكن قط دقيقة بهذا المعنى. وإذا كان في شك من ذلك فليقارن ما بين ترجمة فيتز جرالد المذكورة وترجمة الأستاذ الصافي النجفي. هذا وقد أجمع النقاد الإنجليز على أن قصيدة فيتز جرالد ما كانت(182/67)
لتتبوأ مكانتها العظيمة في الشعر الإنجليزي لو راعى المترجم النص الأصلي (بدقة)
وأخيراً فان جاز لي أن أفهم رأي الكاتب في الدقة بالترجمة من قصره لمعنى كلمة على العم وترجمته لكلمة بقارة بدون أن يفكر في معناها الخاص، أو من ترجمته لمقدمة ولبول التي اعترف باني لم أفهمها إلا بعد الرجوع للنص الأصلي
- نعم إن كان هذا مراده من الدقة في الترجمة فإني مغتبط بأن ترجمتنا لم تكن دقيقة ولله الحمد
(بغداد)
علي حيدر الركابي(182/68)
النقد
سلسلة الموسوعات العربية
معجم الأدباء - الجزء الأول
للدكتور عبد الوهاب عزام
وعدت القارئ في المقال السابق أن أعرض عليه بعض ما أخذته على تعليق الناشرين في القسم الأول من المعجم
والمآخذ هنا أنواع: منها شرح كلمات بيّنة لا يجهلها أحد ممن يقرءون معجم الأدباء، ومنها غلط في الشرح، ومنها فضول يذكر ما لا يحتاج إليه البيان ولا ينتظره القارئ، ومنها نوع آخر لا أدري ماذا أسمّيه إلا أن أسميه الشرح المضحك.
وسأجتزئ بمثل من هذه الأنواع دون استقصاء:
(أ) فمن الأول الأمثلة الآتية:
ص 52 دري الشيء وبالشيء دراية: وصل إلى علمه
ص 52 حسب ما اقتضاه: قدر ما استلزمه. وهذا معنى يعثر عليه بالقرائن اهو أنا أسأل القارئ هل يحتاج إلى قرائن لمثل هذا التفسير؟
ص 55 القرطاس: الصحيفة التي يكتب فيها، الغيّ: الضلال. العيّ: العجز عن الكلام
ص 56 الفسحة: السعة
ص 113 النصارى: أتباع يسوع المسيح، الواحد نصراني نسبة على غير قياس إلى الناصرة أو جمع نصران أو جمع نصري الخ، فهل يرى القارئ أن ورود كلمة نصارى في المعجم تحوج إلى هذا التفسير؟ وهي لم ترد في سياق بحث في الدين أو في الاشتقاق، بل لأن بعض المترجمين أخواله نصارى
ص 115 اقترضي: استسلفي. يقال استسلف منه دراهم وتسلف
ص 157 أجلّك: عظّمك
ص 208 سما: علا
ومن العبث الضار أن الشارح ينقل أحياناً عن كتب أخرى ترجمة لبعض أدباء المعجم لا(182/69)
تزيد على ما رواه ياقوت، كما فعل في ترجمة إبراهيم بن العباس الصولي، وفي نقل ترجمة ياقوت نفسه عن شذرات الذهب بعدس ترجمة وافية لا تعدو الثانية أن تكون نبذاً منها. ولو كانت التراجم التي ينقلها مفيدة فوائد ليست في المعجم ما جاز إثباتها ولوجب أن يكتفي ببيان موضعها ليرجع إليها من يشاء. وفي الجزء الثاني من هذا مثال عجيب جداً سيراه القارئ إن شاء الله
(ب) وأما الغلط فسأقتصر منه على ما لا يقبل التأويل والتخريج على الأوجه الضعيفة في اللغة والنحو حتى لا أفتح باباً للمناقشات الواهية
ص 47 ذكر ياقوت كتاب المرزباني في النحو وقال: (إلا أنه حشاه بما رووه، وملأه بما وعوه، فينبغي أن يسمى مسند النحويين) وجاء في التعليق: (المسند من الحديث ما عزى ورفع إلى قائله) وهذا صواب، ولكنه لا يصلح تفسيراً لكلمة المتن. فالمسند هنا الكتاب الذي يجمع الأحاديث على ترتيب الرواة؛ وليس كل كتاب في الحديث يسمى مسنداً، فلا يقال مسند البخاري كما يقال مسند أحمد
ص 106 (وكانت كلماته حاملة إياي على هذا التصديع لمجلسه الرفيع) وهذه جملة من رسالة كاتب إلى بعض الرؤساء يقول فيها: إن ما بلغه من ثنائه عليه، حمله على كتابة الرسالة إليه. فالتصديع هنا كناية عن الكتابة التي تكلف المكتوب إليه مشقة القراءة. ولا تزال هذه العبارة جارية في بلاد العرب والفرس.
يقول المتكلم لمن يخاطبه، أو الزائر لمن يزوره: صدّعناكم. أي سببنا لكم الصداع بكلامنا الخ. فقول الناشرين في الحاشية في تفسير الجملة السابقة: (صدعت إلى الشيء ملت إليه) خطأ
ص 108 في ترجمة أبان بن عثمان: (يعرف بالأحمر البجلي أبو عبد الله مولاهم) فُسرت كلمة مولاهم بهذه العبارة: (من الشيعة) وهذا غلط، والمراد بها أنه مولى بجيلة. ومثل هذا شائع في التراجم. مثلاً يقال: محمد بن الحسن الشيباني مولاهم. أي مولى بني شيبان. الخ
ص 110 (إبراهيم بن عبد الوهاب الابزاري الطبري) وفي الحاشية: (نسبة إلى طبرية) والمعروف أن الطبري نسبة إلى طبرستان، وأن طبرية يقال في النسبة إليها طبراني، ومنها الحافظ أبو سليمان الطبراني أبو سليمان الطبراني المحدث المعروف(182/70)
ص 110 بنو حمدان ممن استقلوا بالموصل. . . وكان مقر ملكهم الموصل وأشهرهم سيف الدولة. . . الخ. والمعروف أن سيف الدولة لم تكن له إمارة بالموصل بل في حلب، وأن أمارة الحمدانيين بالموصل ورثها ناصر الدولة وحده
ص 117 استحلفني: أقسمت له يميناً بناء على طلبه. ويرى القارئ ما في هذا التفسير
ص 121 (ونهى النبي عن لبس السراويل المخرفجة).
وفي الحاشية: (خرفج الشيء أخذه أخذاً شديدا. وكأنه يريد أنها أخذت وهي تخلط أخذاً حتى ضاقت فصارت بحيث تصور أعضاء الجسم لضيقها.) وهذا تفسير بالنقيض. يقال عيش مخرفج أي واسع، والسراويل المخرفجة الواسعة التي تسقط على ظهر القدم. وبهذا فُسر الحديث
ص 222 في الحاشية: رماح خطية منسوبة إلى الخط: مكان فيه شجر تصنع منه الرماح. والصواب: أن الخط بلد في البحرين تجلب إليه الرماح من الهند. قال في اللسان: وليست الخط بمنبت الرماح، ولكنها مرفأ السفن التي تحمل القنا من الهند)
(جـ) وأما الفضول في الشرح فمن شواهده:
ص 102 ذكر في المتن الجواليق بمناسبة أبي منصور الجواليقي، فقال الناشرون في الحاشية: (الجوالق والجواليق وعاء من صوف أو شعر مندوف وهو الذي تقول عنه العامة شوال: قال الراجز.
يا حبذا ما في الجواليق السود ... من خشكنان وسويق مقنود
أي مختلط بالقند: وهو عسل قصب السكر؛ يقال: سويق مقنود ومقند.)
فإذا أغضينا عن التسوية بين الجوالِق والجواليق في الشرح مع أن الأول مفرد والثاني جمع نجد الشارح أتى بالرجز لا شاهدا بصحة تفسيره ولكن لاشتماله على كلمة الجواليق، ثم استطرد لتفسير المقنود الخ
وص 105 الصنائع جمع صنيعة وهي الجميل والمعروف قال الشاعر:
إن الصنائع لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها مكان المصنع
وفي الحديث صنائع المعروف تقي مصارع السوء
ص 151 وأغرب من هذا ما جاء في ترجمة إبراهيم بن سعدان، فقد أبى الشارح إلا أن(182/71)
يشرح، فلما قال ياقوت: (وكان لسعدان ابن المبارك النحوي ابن يسمى إبراهيم) كتب هو في الحاشية:
(سعدان علم منقول. والسعدان نبات من أحسن المرعى وأجوده يضرب به المثل؛ فيقال في الشيء يحسن ولاَ يبلغ في الحسن درجة غيره: ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان.)
وص 238 (وهذا قول متمرد على الله مستغربا مهال الله)
وفي الحاشية: أغراه إمهال الله استدراجا له فتمرد وتمادى. وفي الحديث إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. وقال تعالى: (وأُملي لهم إن كيدي متين)، (فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً)
وظاهر أن سوق الحديث والآية الأولى شرح للموضوع لا للفظ وهو فضول هنا. ومصدر هذا كله أن الشارح لا يسير على خطة، فهو حيناً يستطرد بما لا حاجة إليه، وحيناً يترك ما يحتاج إليه القارئ. بل أحسب أن للكتاب شراحاً مختلفين ليس بينهم اتفاق؛ ولهذا أدلة فيما يأتي
وأما ما سميته الشرح المضحك فمن فكاهاته:
ص 131 في سياق الكتاب: (فجاء كتاب بعض بني مارقة من الصراة) فأراد الشارح أن يعرف القارئ بني مارقة فقال: (بنو مارقة قوم يسكنون الصراة) قلت: وفوق كل ذي علم عليم!
ص 165 في الكلام على إبراهيم الصولي ويزيد بن المهلب: (حتى قتل يزيد يوم العقر). وفي الحاشية: يوم العقر بفتح العين من أيام العرب، قتل فيه يزيد بن المهلب) فهل زاد الشارح على ما فهمه القارئ من الكتاب؟ على أن قتل يزيد كان في أيام بني أمية، وأيام العرب تقال غالباً لأيام الجاهلية
ص 167 روى ياقوت أبياتاً أولها: ولكن الجواد أبا هشام، الخ ثم قال بعد الأبيات: (وهذا الشعر يدل على أن قبله غيره) فقال في الحاشية في تفسير كلمة (غيره): أي من الشعر
ص 101 هراة بفتح الهاء والراء بلد، النسبة اليها هروى، وبلخ بفتح وسكون يصرف ويمنع من الصرف، وإليها ينسب أبو معشر البلخي). لم يبال الشارح أن يبين أين هراة وبلخ، ولكن اهتم بأن يبين أن بلخا ممنوعة من الصرف أو مصروفة.(182/72)
ثم قوله في هراة (بفتح الراء) لغو لأن ما قبل الألف لا يكون إلا مفتوحاً
هذا وموعدنا العدد الآتي لنبين بقية مآخذ الجزء الأول وبعض مآخذ الجزء الثاني. والله المستعان
عبد الوهاب عزام(182/73)
نفح الطيب في طبعته الجديدة
بقلم الأستاذ أحمد يوسف نجاتي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
3 - لم يقل الشارح الذي علّق على ما في صفحة 52 إن القدماء جميعاً لم يذكروا الأهرام إلا بصيغة التثنية ولكنه قال: إن شعراء الماضي يذكرون الهرمين، وليس معنى هذا أنهم لا يذكرون الأهرام، ولكن الغرض أن الكثير الشائع على ألسنة أغلب الشعراء ذكر الهرمين: هرمي خوفو وخفرع كما في قول المتنبي، وقول لسان الدين بن الخطيب وغيرهما، وخطب هذا يسير أيضاً
4 - قد يكون تفسير الرسيم في صفحة 61 ناقصاً كما يقول حضرته، بل كان خيراً لو بينت مرتبة هذا الرسيم من السير، ولكن لو تتبع حضرته كل صفحات الجزء لوجد أنها مشروحة شرحاً شافياً في غير هذا الموضع؛ ودعوى أن أمثالها في الكتاب كثير دعوى مجازفة لا ينهض عليها دليل؛ بل إن بعض الكلمات اللغوية التي يوجز في شرحها في موضع يشبع القول فيها في موضع آخر؛ ولو فصل القول في كل مرة للعبارة الواحدة - والكلمة قد تتكرر في الكتاب نحو مائة مرة لكان هذا البيان (فضولاً) من القول يتحقق به وصف الناقد الأديب صانه الله
5 - شكرنا لحضرة الكاتب أن أحسن ظنه بالشارح في مثل هذا التحريف الذي يدركه كل قارئ في صفحة 79 حتى أن نقطتي قاف (فشرقنا) في ذيل ص 14 ظاهرتان جد الظهور
6 - أضم صوتي إلى حضرة الناقد الأديب في أن شرح الأثير ص 98 الشرح الأول خطأ لا يصح - ويعلم الله كيف سرى هذا التفسير إلى الكتاب فقدسها عن محوه مراجع النموذج الأخير وكان قد أثبته غيره، وان كان حضرة الناقد إنما يوجه نقده إلى ما في الكتاب من تفسير خاطئ لبعض كلماته من حيث هو خاطئ. وليس بدافع اللوم عن هذا الخطأ تعدد الأيدي في الشرح فهي متكاتفة على العمل متضامنة فيه ولكن الكرام يعفون عن نصف تفسير خاطئ لأكثر من ألفي تفسير مصيب.
وأما التفسير الثاني الذي أتى به الشارح لكلمة الأثير فالنظر الدقيق يؤيده، والذوق السليم لا يبعده، بل هو الذي رآه حضرة الناقد بعينه، لا بل إن الشارح قد قال فيه أكثر مما قال،(182/74)
وكان يحسن بحضرته أن يأتي بنص العبارة تاما ولا يختزلها.
وما رآه حضرته من أن صحة العبارة: ومسحنا بالخطأ منها أثراً وصفيحا لا نراه، بل صحة العبارة كما هي في الأصل (أثيراً) الموازنة (صفيحاً) فان أثر السيف، أثره، وأثيرة فرنده ورونقه، وكأن المقري جعل الطريق سيفاً لاستطالته ودقته وصعوبة السير فيه وجعل خطاهم به وقطعهم إياه مسحا له
7 - ليت شعري ما الدليل على أن (الشارح) لم يطمئن (ص 139) لكلمة الرباع بالباء الموحدة؟ ويا لله لمن يدري خلجات النفوس أكثر من أصحابها ويعرف اطمئنان القلوب وقلقها وإن لم يشعر بذلك ذووها. ولو أن الشارح لم يطمئن لها لاستبدل بها في الأصل غيرها كدأبه في كثير من صفحات الكتاب مع تنبيهه إلى ذلك، ولكنه أبقاه لارتياحه إليه واطمئنانه به، ثم قال أيضاً في أسفل الصفحة تعليقاً عليه (لعلها الرياع بالياء المثناة أي الريع والنماء والزيادة، و (لعل) تفيد معنى ربما، وقد يكون، ولا يزال الشارح مصرا على ذلك الجواز فكلا المعنيين لا غبار عليه. أما المعنى الأول فيجذب إليه كلمة (البقاع) فان الرباع جمع ربع بمعنى الدار والمحلة والمنزل والوطن، فهو بذلك التفسير مناسب للبقاع؛ وقد يكون الربع بمعنى أهل المنزل مثل السكن، وجماعة الناس، ولست أحيل أن يكون (رباع) جمعاً لربع بهذا المعنى الذي يراه حضرة الناقد وإن كان الأنسب أن تكون بمعنى الأماكن معطوفة في سجعة المقري على كلمة البقاع. وأما الرأي الثاني وهو أن تكون الكلمة (الرياع) فيقتضيه كلمة الفضل المجاورة له، ولا زلنا نصر على رأينا (أن اللغة تقول بملء فيها (الرياع) بمعنى النماء والزيادة، ويقول أهل اللغة: راع الطعام وغيره رَيْعاً رُيوعا ورِياعا ورَيَعانا إذا نما وزاد وزكا
8 - قال حضرة الناقد وفي ص 152 قول القائل في وصف دمشق:
. . . أو تكن في السماء فهي عليها ... قد (أمدّت) هواءها وهواها
فقال الشارح: لعلها أمرّت!؟ نقول ومعنى أمرت أذهبت ولا يصح المعنى على هذا (الحدس) الخ. ونحن نقول: أنّا لا نزال عند رأينا في جواز إرادة معنى أمرَّت، وإن اللغة تقول: أمرّ كذا بالشيء إذا جعله يمرُّ به وينعطف عليه، والمعنى الذي شرحه لكلمة (أمدت) فيه شيء من القلق لا يساعد عليه كثيراً تركيب البيت(182/75)
9 - اشتد حضرة الكاتب في حملته على تعليقنا الذي رأينا جوازه في معنى كلمة (الشمال) بصفحة 181 عند قول الشاعر:
تمتع بالرقاد على (شمال) ... فسوف يطول نومك باليمين
فقد قال الشارح (يجوز) أن تكون (شمال) جمع شملة وهي كساء يشتمل به. . . ثم أتى بحديث علي رضي الله عنه الخ فقال حضرة الناقد الأديب - بعد أن نقل العبار مقتضبة: (وهذا كله شرح فاسد) فان المراد بالشمال مقابل اليمين، إذ المعنى: تمتع بالنوم على جنبك الشمال في الحياة قبل أن يستمر نومك باليمين.
ولا زلنا مصرين جد الإصرار على أن هذا المعنى جائز - وان لم يكن متيقنا - بل أن سياق الحديث ربما رجح هذا المعنى. قال المقري: ويحث على انتهاز فرصة اللقاء إذ هي غنيمة، ويذكر بقول من قال - وأكف الدهر موقظة ومنيمة: تمتع بالرقاد على شمال الخ. فالشاعر يحض على انتهاز الفرصة وانتهاب المسرة، ويحرض المرء أن يختلس غفلات الدهر إذا نامت عيونه عنه فيتمتع من يحب بالنوم على هذه الشمال التي تجمع الشمل وتلم الشتات يلتف المتحابان بها إذا لفهما الليل بشملته قبل أن يودع كلاهما بطن الثرى فلا يكون فراش وثير ولا مضجع ممهد، وإنما يوسد في القبر يمينه، ويجعل عمله لا حبيبه قرينه. ومن لفظ (الشملة) اشتقت العرب معنى الشمل واجتماعه، والجمع والتئامه
وأنا لنعجب جد العجب من وضع حضرة الكاتب علامتي التعجب والاستفهام بعد قولنا (وفي حديث علي!؟) فليس في العبارة ما يتعجب منه ولا فيها منكر يستفهم عنه. فما أحوج علامتيه هاتين إلى بضع علامات التعجب والاستفهام
قال الناقد الأديب في شرح زجر الطير (وهذا فضول في الشرح ومثله في الكتاب كثير) وهاتان دعويان يصعب على حضرته تأييدهما، فان ما يراه حضرة الناقد فضولاً قد يراه غيره لازماً؛ والضعيف أمير الكرب. وهل على الشارح من حرج أو ضير وهو يشرح بيتاً يقول: إذ زجرنا للوصل أيمن طير، أن يبين أن زجر الطير كان عادة جاهلية أبطلها الإسلام (وإن لم يرد الشاعر هنا حقيقة معناها البدوي). وأي فضول في هذا البيان الذي استدعته المناسبة وجر إليه الحديث وهو ذو شجون؟
قال حضرته: وفي صفحة 203 قرأت قول ابن الخياط:(182/76)
فلم أر الطرة حتى جرت ... دموع عيني بالمريزيب
ثم قال وأنا أحفظها كالمريزيب وهي أصح وأبين. وأنا أقول كلتا الروايتين لا بأس بها والمعنى عليهما واحد
أما ما نبه إليه في صفحة 220 من أن المراد بالفتى الطائي هو البحتري لا أبو تمام فلم يفت الشارح، بل سبقه إلى التنبيه عليه منذ شهرين في الاستدراك على الجزء الأول الذي طبع ملحقاً بالجزء الثاني؛ وكان يجمل بحضرة الناقد الحكيم أن يطلع عليه قبل أن يسجل نقده على صفحات الرسالة الغراء؛ وقد تداولت الأيدي الجزء الثاني من مدة غير قصيرة (يريد بالفتى الطائي أبا عبادة البحتري لسبق ذكره في هذه الأبيات) وقول حضرته إنه يريد بامرئ يصطاد نسر الجو بالنسر نفسه على جهة التشبيه بامرئ القيس (كما قلنا في ذيل صفحة 220) أخالفه فيه، فقد يسوغ لي أن أرى الآن خلاف ما ذهبنا إليه معاً في ذلك بل يصح أن يكون امرؤ القيس لا دخل له هنا، وأن الشاعر (وهو ابن شاهين) إنما يرى نفسه كالبحتري الذي يزعم أنه ورث منه طرفاً كريماً وجواداً سابقاً أعنقت عليه قصيدته، وسار مسرعاً عليه أدبه، وأنه يريد (بامرئ يصطاد نسر الجو بالنسر) ممدوحه المقري إقراراً من الشاعر بأنه أشعر منه كما صرح بذلك من قبل في قوله:
ورثته منه ولكنما ... من شاعر وافى إلى أشعر
فالشاعر ابن شاهين هو نسر الجو (وقد اصطنع التوجيه والتورية في اسمه (شاهين) نسر الجو، والذي يصطاد نسر الجو بالنسر ويتغلب عليه هو المقري الممدوح بالقصيدة، يعني أنه أقوى من النسر، وأشد افتراساً من الشاهين. والغرض من هذا أنه أشعر وأقدر وذلك ظاهر واضح لمن يتأمل
ومثل ذلك ما أخذه حضرته على تعليقنا على مدينة (برديل) بصفحة 257، فقد تلافينا هذا السهو بالاستدراك، فنرجو حضرته أن يطلع عليه بصفحة 10 منه، بل قد نبهتا إليه مرة أخرى في الجزء الثالث وأشبعنا القول في هذه المدينة، وهدانا الله منذ زمن إلى موقعها، والى لغات العرب فيها، بل إلى لغات غير العرب، وقلنا إنها هي مدينة بوردو، وأطلنا الكلام في ذلك بالجزأين الثاني والثالث
وفي الختام نقول لحضرة الكاتب أن اسم صاحب المرية هو (خَيْران) الفتى العامري(182/77)
الصقلي وإليه تنسب قلعة خَيْران بالأندلس. أما ما في الإحاطة من أن اسمه (خيروان) فهو تحريف فاسد لا يعول عليه، وإنما هو (خَيْران) (فَعْلان من الخير) وقد ذكرنا ترجمته وتكلّمنا عليه طويلاً في الجزأين الثالث والرابع (الذي يجري الطبع فيه) والشارح يعرف من قديم (خيْران) هذا فله أثر عظيم في تاريخ العرب بالأندلس، وهو مشهور لدى المؤرخين وليس من رجال الأندلس من يسمى خيروان أبداً
وأرجو من حضرة صديق الغيب أن يحمل حديثي هذا على خير محامله، وأن يتنزل بقبول شكري له وثنائي عليه أن عُني بالكتاب وقدر العمل فيه قدره ونبِّه إلى ما اعتدَّه هفوات، وكلنا نتعاون في خدمة هذه اللغة الشريفة والنهوض بآدابها ونشر ثقافتها.
أحمد يوسف نجاتي
الأستاذ بدار العلوم العليا(182/78)
سافو على مسرح الأوبرا الملكي
لناقد الرسالة الفني
وهذه رواية أخرى تقتبس للمسرح وتلاقي من النجاح ما بلغته (الجريمة والعقاب) وإن أضاع الاقتباس نواحي كثيرة من جمال الرواية القصصية على الرغم من أن مؤلفها العظيم الفونس دوديه اشترك مع مؤلف مسرحي آخر هو أدولف بيلو في وضع هذه المسرحية. ولكنها مع ذلك عظيمة تحوي شخصيات قوية وفيها دقة وصدق تصوير وجمال
تصف حال الشبان عندما يبلغون العشرين ويمرون بهذه المرحلة الخطرة من الحياة وهم في سذاجة وقلة تجريب يتصلون بالنساء فيقاسون من ألم الفراق والهجر والوصل والغيرة ما تنوء به كواهلهم، فيه إنذار للشبان من بنات الهوى وتحذير لهم من الاتصال بهن والعيش معهن تحت سقف واحد، فان من أخطر الأمور على الشاب أن يقع في حب واحدة منهن لأنه لا يستطيع أن يحتمل ماضيها ويغفر لها ما سلف من حبها لغيره ويكون الخطر أشد لو أن المرأة بادلته الحب الخالص فإذا حدث وخضع أحد الحبيبين للعقل والواجب وترك الآخر فما أشد الهجر وأمر الفراق ولهذا فقد أهدى دوديه القصة: (إلى أولادي عندما يبلغون سن العشرين)
الإخراج والتمثيل
يؤلمني أن مخرج الفرقة القومية لا يقوم بدراسة الروايات كما يجب، فإزاء رواية كهذه كان من الخير للفرقة والفن أن يرجع إلى الرواية القصصية ليفهم كل شخصية على حقيقتها فيوفر على نفسه هذا التخبط في توزيع الأدوار وتفهيم ممثليه لروحها وهو لو فعل لما أسند دور سافو إلى السيدة دولت أبيض، ولما عهد إلى علي رشدي بدور جان جوسان أو على الأقل لأفهم كلا منهما الشخصية على حقيقتها حتى لا تكون الهوة بين ما رسم المؤلف وبين ما أبرز الممثلون سحيقة
إن أول ما يلفت نظر الناقد أن سافو دولت أبيض تكبر في السن عن سافو الفونس دوديه وفي هذا نقص يجب على الممثلة والمخرج أن يعملا على تغطيته، ولكن طبيعة السيدة دولت جامدة وهي لا تليق لأدوار العاطفة، ومن المؤلم أنها تعتقد أن البكاء وحده هو الوسيلة التي تستطيع بها أن تؤثر في النظارة وتصل إلى قلوبهم ونسيت أن الصناعة(182/79)
وحدها ليست كافية فهي لم تتأثر بالقصة ولم تعش في هذه الشخصية وتحس بها وإلا لأبرزت ما يضطرم في نفسها من احساسات متباينة ولم تقصر همها على الإلقاء والبكاء وتبدو سطحية بكل معنى الكلمة
انظر إليها وهي تسرع بإلقاء كلماتها في الفصل الأول ثم وهي تقف خلف جان، ثم وهي في الحان لا تهتم بأن تبرز عاطفة، بل تهتم بالإلقاء، وفي هذا الفصل الثاني بينما يكون الموقف على أشد ما فيه من حياة بين الممثلين تراه فجأة قد برد عند دخولها واشتراكها في الحديث معهم واتهامها لهم، وكان الطبيعي أن يزداد حياة وقوة
كل هذه دلائل على أن دولت لم تستطع أن تسمو بالدور أو تؤديه على وجه مرض. على أني لا أبخسها مواقفها في الفصل الخامس منذ دخول جان وحوارها معه. ثم وهي تلقى علينا الرسالة التي تكتبها له فقد أجادت إلى حد بعيد. فهذه المواقف تلائم طبيعتها لأنها مواقف تخمد فيها العاطفة الثائرة ويعمل فيها العقل وتتغلب غريزة الأمومة والواجب؛ وهذا يؤيد قولي بصلاحيتها التأدية أدوار الأمومة
وكما أن دولت تكبر من سافو كذلك (علي رشدي) لا يصلح لجان، فليس هو بالشاب الريفي القوي، وليس بالجميل الذي يجعل إحدى النساء تصرخ: (يا للفتى الجميل) وهو مع هذا كان بعيداً عن الشخصية بعداً تاماً إذ كان عبداً لتعاليم المخرج حتى كأنه يحاول أن يبرز لنا عزيز عيد الشاب في صباه لا جان جوسان
قلت إن الشاب كان ريفياً قوياً جامد العواطف؛ فقد كان يجلس إلى مكتبه بينما سافو أمامه على كرسي فلا يتحرك إليها في تلهف بل يبقى مكانه يقرأ، وهكذا عكس ما أبرزه علي رشدي فقد كان في الفصل الأول متظرفاً ضعيفاً حتى كأنه باريس، بل وأكثر من ذلك كانت تبدو لنا منه جوانب الخنوثة وكان اهتمام علي بالإلقاء والصناعة أكثر من اهتمامه بإبراز احساساته وما يضطرم في نفسه من مختلف العواطف. ولست أسوق دليلاً أكبر من موقفه في الفصل الثاني حيث الفارق كبير بينه وبين منسي وعباس. وكذلك في الفصل الرابع ترى الصناعة واضحة يكشفها إلقاء عباس الهادئ الحزين الذي يؤدي بعاطفته
أكتفي بهذا اليوم وسأتحدث عن بقية الممثلين والترجمة كما أتحدث عن رواية المعجزة.
يوسف(182/80)
العدد 183 - بتاريخ: 04 - 01 - 1937(/)
الرسالة في عامها الخامس
أستهل عام (الرسالة) الخامس والدنيا في بلاد الرسالة تلقى بسمعها إلى دعاء الوحي من جديد. فالعقول التي كبلتها أغلال الجهل تتحرر، والنفوس التي دنستها أرجاس الذل تتطهر، والعزائم التي طالما استنامت لسلطان القوة تستفيق! كأنما ارتد إشراق الروح إلى مطالعه بعد أن اضطرب في الضباب والسحاب عشرة قرون! هذه مصر والعراق وسورية وأكثر أمم الشرق تنبثق في أجوائها وأرجائها أشعة الشمس الصحراوية الأولى، فتنعش ما خمد من غرائز الرجولة، وتحي ما همد من نوازع المجد، وتقتل ما عاث من جراثيم البلى، وتهدي من ضل إلى سواء المحجة؛ بينما أمم الغرب يغيم عليها الأفق، فتدفع بالسلام إلى الحرب، وتلقي بالحياة إلى الموت، لأن حضارتها الحديدية علمتها كيف تهدم، ولم تعلمها كيف تبني! فالمصري أو العربي أو الشرقي يعلم أنه كان يناضل عن ذاتيته، فلما أستردها عاد يناضل عن إنسانيته؛ وسلاحه في كفاح البربرية اليوم، هو كسلاحه في كفاحها أمس: قوة صارمة تعتمد على العدل، وثقافة عاملة تستند إلى الروح، وسياسة جامعة تقوم على المحبة. ومحال على ابن الرسالة والنور أن يرى مخلفات العقل والقلب تتهاوى في العدم ثم لا ينهض!
أستهل عام (الرسالة) الخامس ومصر وأخواتها على باب عهد جديد؛ فالنوايا معقودة على تغيير الحال، والميول متجهة إلى طريق الكمال، والآمال معلقة على الثقة بالله؛ ولكل حال مقتضى، ولكل عهد رسالة، ولكل قوم أدب. وسبيل القلم أن يدخل في عُدد هذه النهضة دخول الآلة والمدفع: ينتج إنتاج الخير كتلك، ويدافع دفاع الحق كهذا، ثم ينفرد هو بالوساطة بين الروح والجسم، والسفارة بين السماء والأرض. ولقد كان لأدبنا في أمسه الدابر ذبذبة بين الشرق والغرب، فلا إلينا ولا إليهم. وتلك حال كانت لازمة لما نحن فيه لزوم النتيجة المحتومة؛ فإذا أحس الفنان مظاهر الاستقلال والاستقرار في الوطن والحكم والرأي والعقيدة والعزيمة، كان حريا بفنه أن يستقل، وبذهنه أن يبتكر. (والرسالة) ترجو أن تحمل بعون الله دعوة العقول الخصيبة إلى هذه الأمة النجيبة. وستظل تنقل خطاها الوئيدة السديدة المتزنة على ما رسمته لها كرامة الجنس وطبيعة البيئة وحاجة الثقافة؛ لا تتخذ لهوالحديث، ولا تصطنع خوادع الحس، ولا تتملق شهوات الأنفس. وأصدقاؤها - والحمد لله والشكر لهم - لبسوها على هذه الخشونة، فلا يريدون أن تخطر في وشي، ولا(183/1)
أن تطرى في كلام، ولا أن تميل إلى هوى العامة، حتى أبوا كل الأدباء أن يتسع فيها مجال القصص، والقصص في الأدب الحديث فرع يكاد يختصر كل فروعه ويطغى على جميع نواحيه. وما زلت أذكر يوم أعلنا عن باب المسرح والسينما في الرسالة! فقد انثالت علينا رسائل الإشفاق والعتب تناشدنا الله أن نربأ بالصحف المهذبة الوقورة أن تنطوي على هذا (الهذر)! ولا يكاد العدد يخرج إلى الناس حتى تأتينا آراء القراء في التليفون أوفي البريد تستحسن ما ارتفع إلى المستوى الذي عهدوه، وتستهجن ما أنخفض عنه؛ وهذه الرقابة الغالية دليل على اشتراك الذوق ووحدة الهوى بين القارئ وبين المجلة. فنحن لذلك حريون أن نحرص كل الحرص على أن ندع للرسالة هذه الخطة، ونحفظ عليها تلك السمة
على أن هناك طائفة من ذوي الثقافة المتخطفة والذوق الملول، تعودوا أن يتناولوا كل شيء بالمس الرقيق؛ فهم يريدون أن يكون لكل عدد لون، ولكل مقالة خلاصة، ولكل خلاصة نكتة، ولكل نكتة صورة. وما دامت الصورة تمثل الفكرة، والعنوان يلخص الموضوع، فالاستغراق في التفاصيل بعد ذلك عناء وعبث!! هؤلاء هم الجناة على الأديب والأدب؛ يدفعون الباحث بسأمهم إلى توخي السهولة وإيثار الخفة، فيكون من ذلك هذا التفاعل الدوري بين سطحية القارئ وسطحية الكاتب. وإنا لنرجو أن تجد هذه الطائفة في (الرواية) مجازا إلى (الرسالة)؛ فإن المثل يقول: تطعَّم تطْعم، أو ذُق تشتهِ. ومن الخير أن تمهد للجد باللهو، وأن تجر إلى التثقيف بالتسلية. والرواية حلقات بين عامي ? الذوق ونبيله، ودرجات بين خفيف الأدب وثقيله؛ وخفتها من طرافة الموضوع لا من سخافة الفن، ووزانتها من براعة الأسلوب لا من وقار الفكرة. وبالرسالة والرواية نحاول مخلصين أن نرضي كل ذوق، ونساير كل طبقة، ونضع في بناء الأدب العربي الجديد لبنة
تحرشت بالرسالة في عامها المنصرم عوادٍ من الأسى والمرض، بعضها يقطع الوجهة على السالك البصير، ويدفع اليأس في صدر الواثق المؤمن. ولكن الله أبرُّ بالعمل الصالح أن يدعه فريسة الأحداث والغير. ومضيَّ الرسالة قدما في خطتها الرشيدة إلى غايتها البعيدة أربع سنين لا تتغير ولا تتعثر ولا تتخلف، يجرئنا على أن نجدد لقرائها العهد، ونؤكد لأصدقائها الوعد، ونحن أقوى ما يكون العاهد والواعد اطمئناناً للوفاء ووثوقاً بالمستقبل
احمد حسن الزيات(183/2)
البحث عن الذهب
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
وجدت صديقي ينتظرني - كما وعد - فدخلنا معاً وجلسنا متقابلين إلى مائدة صغيرة، وبدأنا بأيدينا ففركناها - فقد كان البرد شديداً، وكان كلانا قد خلع المعطف والطربوش، وكانت الحجرة دافئة ولكنه لم يكن قد مضى من الوقت ما يكفي لانتقال الدفء إلى أبداننا. ثم أكب صاحبي على البيان الذي فيه ألوان الطعام وجعل يسردها لي لأتخير ما يطيب لي منها. وفرغنا من ذلك بعد طول التردد وانصرف العامل بدفتره الذي دون فيه ما طلبنا. فقال صديقي وهو يميل على المائدة:
(والآن ما العمل؟)
قلت: (هذا هو السؤال الأبدي! وما أظن بنا إلا أننا سنظل نسأل عن ذلك طول العمر - طال أم قصر. . المسألة مسألة حظ يا صاحبي)
فقال: (كلا. . لابد أن هناك وسائل كثيرة لاكتساب المال بسرعة. . كثيرون يفعلون ذلك. . وهذا دليل على أن الوسائل موجودة ولكنا نحن - لسبب ما - لا نهتدي إليها)
قلت: (فليكن الأمر كما تصوره، فلست أرى أن هذا يجدينا شيئاً)
قال: (ولكن لابد أن تكون هناك وسيلة)
قلت: (إذا كان ينفعك أو يريحك الإيقان من ذلك فأيقن وأرح نفسك)
فقال وهو يهز رأسه: (نحن اثنان. . كلانا محتاج إلى مبلغ حسن من المال. . والحاجة ملحة، والسرعة لا مفر منها. . لا سبيل إلى الاقتراض لأن الذين يقرضون يطلبون ضماناً. . شيئاً يطمئنون به على مالهم. . سخافة؟!. ولماذا ينبغي أن نرد شيئا؟؟. ألسنا أحق بالمال من هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينفقونه ويروحون يكنزونه ويدفنونه في خزانات أوفي قدور يدسونها تحت الأرض. .؟؟)
فضحكت وقلت: (هذه بلشفية)
قال: (لا تصدق. . آه لو كنت غنيا!!. إذن لصارت الدنيا أرغد وأهنا. .)
قلت وأنا أبتسم: (ماذا كنت تصنع؟)
قال: (أصنع؟. أتسأل؟. . كنت أضع المال في صرر وأرمي بها لمن أتوسم فيهم أنهم أهل(183/4)
لأن يكون في يدهم مال. . (وأطرق شيئا ثم رفع رأسه وقال): هل تعرف أني زرت اليوم أختي؟؟. . إنها غنية كما تعرف. . وكيف لا تكون غنية وهي لا تنفق شيئاً؟ فلما دخلت عليها وفتحت فمي لأتكلم رفعت يدها في وجهي وقالت: (ولا مليم!) فغضبت وصحت بها ونهرتها عن هذا السلوك)
فقلت: (ماذا قلت لها على سبيل الزجر عن هذا السلوك الذي لا يليق بين الأخ وأخته؟)
قال: (قلت لها؟. قلت لها هل تظن أنها من بوليس المرور حتى ترفع يدها هكذا لأقف؟؟ شيء غريب فقالت بهدوء: إنها ليست هذا، وليست كذلك دكان تسليف! كلا لا فائدة. . بح صوتي معها. . أكدت لها مائة مرة أني محتاج إلى قليل من المال، فوافقت وأكدت لي أني سأكون محتاجاً إلى هذا المال حين أخرج من بيتها. . سلوك يطير العقل. . فهل تسمى هذه أختاً؟ إني أتصور أختاً ظريفة لطيفة سخية كريمة تعطيني، وهي تعتذر، وتملأ يدي وهي مغضبة. . . وهكذا تكون الأخت. . . أما هذه؟. . . أعوذ بالله!. . على كل حال لا فائدة. . وإنما أردت أن أقول لك أن هذا الباب أيضا سد في وجهي)
فقلت: (لماذا لا تفكر في طريقة لكسب المال)
قال بلهجة الاستنكار: (أفكر. . وما الفائدة من التفكير؟ لا فائدة مادامت الدنيا مقلوبة. . آه لو كان لي سلطان في هذه البلاد. . إذن لعقدت امتحاناً كل ثلاثة شهور للأغنياء. . . يجلس أعضاء اللجنة ويقف أمامهم الغني فيقول له أحدهم: (كم تملك يا مولانا؟) فيقول: (ألف فدان، ونحو مائتي ألف جنيه في المصرف وعمارتين - كلا منهما ذات سبع طبقات في شارع الملكة نازلي) فيقول أحد الأعضاء (وماذا تصنع بكل هذه الثروة) فيقول (أوه لا أصنع شيئا. . كل ما زاد على حاجاتي الضرورية جدا أضيفه إلى المدخر) فتقول اللجنة: (شيء جميل. . . أهذا رأيك فيما ينبغي أن يصنع المرء بالمال؟. . لا بأس. . اسألوا أحمد (أي العبد الخاضع المطيع) ماذا يكفيه؟) فأقول ردا على السؤال: (أوه يكفيني القليل. . خمسون ألفاً. . كفاية. . أعني مؤقتاً. .) فتقول اللجنة: (أحمد هذا رجل يحسن أنفاق المال. . أعطوه ما يطلب) فاقبض المبلغ وأفرك يدي وأقول (إذا سمحتم لي يا حضرات الأعضاء الموقرين فأني أستأذنكم في لفت نظركم إلى رجل يعرف كيف يعطي. . . بارع جدا في الإنفاق) فيسأل أحدهم (من هذا. . . قل بسرعة) فأقول (انه المازني) فيقول (آه صحيح. .(183/5)
كيف نسيناه؟. . هاتوه حالاً. . علينا به. . اقبضوا عليه حيثما تجدونه) فيقبض عليك الشرطة ويجرونك مصفدا إلى اللجنة فيضحك الأعضاء ويقولون (خذ. خذ. خذ أيضا) فتخرج معي مسرورا. . ونروح ننفق باليمين وبالشمال حتى يحين موعد الامتحان التالي. . ما قولك؟)
فقلت وأنا أضحك: (شيء عظيم جدا. . . ولكن إلى أن يتيسر أن تلي أمور الناس ماذا نصنع؟)
فقال: (آه هذه هي المسألة. . ما رأيك أنت)
قلت: (يمكننا أن نكسب الورقة الأولى الرابحة من يانصيب المؤاساة، أو اليانصيب الأيرلندي)
قال: (هذا ممكن. . ولكن ذلك يتطلب أن ننتظر بعضة شهور. والعجلة من الشيطان، ولكنه لا معدي لنا عنها - كائنة ما كانت منه. . شيطان أو غير شيطان. . سيان. .)
قلت: (صدقت. . يمكن أن نخترع شيئا ونحتكر بيعه - وصنعه بالطبع - فنغنى)
قال: (صحيح. . . فكرة لا بأس بها. . سأدون هذا في مذكرتي. . تنفع في المستقبل. . وعلى ذكر ذلك ماذا نخترع؟)
فقلت: (باب الاختراع واسع. . واسع جدا. . . مثلا نخترع طريقة تجعل السيارات تستغني عن البنزين وتكتفي بالماء - أو حتى بالهواء - أو نخترع بديلا من النقود، فان النقود هي أصل البلاء في هذه الدنيا. . . أو نخترع. .)
قال: (يكفي! يكفي! ولكن هذا كله يحتاج زمن. والمطلوب هو الاهتداء إلى وسيلة تكفل إفادة المال اللازم في أربع وعشرين ساعة. . .)
فقلت وأنا اضطجع وأرسل الدخان من فمي خيطا متلويا - فقد فرغنا من الطعام -: (يظهر أن الضرورة تفتق الحيلة حقيقية)
فقال: (معلوم. . اسمع. . أترى هذا الرجل القاعد هناك في الركن الأيمن؟. أترى كيف يأكل؟. أترى كرشه المدورة كالكرة، ووجهه المنتفخ؟ وكيف يفتح عيناً ويغمض أخرى وينظر حوله قبل أن يدس اللقمة في فمه كأنما هو يخشى أن يراه أحد؟. . الحق أقول لك إني أكره وجهه ولا أرتاح إلى النظر إليه)(183/6)
قلت: (يا أخي لا تنظر إليه. . دعه وحول عينيك عنه)
قال: (ولكني لا أستطيع. . إنه وجه سوء. . لا يمكن أن يكون هذا الرجل من أهل الخير. . إنه ممن لا يؤتمنون على القصر والأيتام والأرامل. .)
فضقت به وصحت (ولكن مالك أنت؟. . دعه وشأنه. . أليس له حق في أن يأكل هنا مثلي ومثلك؟)
قال: (يا أبله. . إن هذا الرجل لا بد أن يكون منطوياً على أسرار يكره أن تذاع. . لأن وجهه ناطق بأنه شرير. . فلوقمت إليه الآن وقلت له: (طيب. طيب) كأني أعرف سره الذي يجاهد لإخفائه ألا تظن أنه يفزع ويضطرب ويشتري سكوتي بأي ثمن. .)
فقلت: (أها؟. أهذه طريقتك؟. أتريد أن تبتز المال من الناس بهذه الوسائل؟. .)
قال: (المصيبة أني لا أستطيع. . تنقصني الشجاعة. . ولكني واثق أني أنجح إذا استطعت أن أصنع هذا؟. . ومع ذلك لكل إنسان سره القبيح. . ولو أن واحداً جاء إليّ ووقف على رأسي الآن وحدق في وجهي ثم هز رأسه هزة العارف بكل ما هناك ثم قال (طيب! طيب! يا أحمد) لما وسعني إلا أن أضطرب. . على كل حال يظهر أنه لا فائدة. . لا أمل في مال كثير نفيده بالسرعة اللازمة. .)
قلت: (صدقت. لا أمل)
قال: (خسارة. . سأظل أتحسر لأني لم أجد الشجاعة الكافية للوقوف على رأس هذا المجرم - هو مجرم ولا شك - وإبلاغه بعيني أني لا أعرف باطنه كما أعرف ظاهره البادئ لنا. . خسارة. . نهايته
. . . نقوم؟)
قلت: (تفضل)
ودفع إلى الخادم ثمن الطعام وخرجنا
ولم نقل للرجل المنتفخ الأوداج شيئاً فلم نعرف أله - أم ليس له - سر يشتري كتمانه. .
وقلت لصاحبي وأنا أودعه (على فكرة. . من قبيل الاحتياط للمستقبل. . من يدري؟.)
قال: (نعم. .)
قلت: (ما هو الجواب الصحيح. . أمام اللجنة؟)(183/7)
قال: (آه!. . انفق ما في الجيب يأتك ما في الغيب)
قلت: (أهو ذاك؟. أما ما في الجيب فلست أحتاج في أمر إنفاقه إلى التكلف. . وأما ما في الغيب فهل تعرفه يأتي يا صاحبي؟)
فأشار لي بيده ومضى عني وهو يضحك
إبراهيم عبد القادر المازني(183/8)
عاصفة في الشرق الأقصى
حول حوادث الصين الأخيرة
بقلم باحث دبلوماسي كبير
بينما تواجه أوربا أزماتها الخاصة، في أسبانيا وفي حوض البحر الأبيض بنوع خاص، وتنظر إلى تطوراتها بحيرة يمازجها الجزع، إذا بحدث خطير يقع فجأة في الشرق الأقصى ويثير في الصين فتنة جديدة كادت تسفر عن أخطر العواقب لو لم تخمد في مهدها. وقد غدت هذه الفورات الفجائية ظاهرة الحوادث في الصين، وأضحى من الصعب أن نقف على بواعثها وغاياتها دون الرجوع إلى مثيلاتها من الحوادث والمفاجآت التي توالت في الصين في عشرة الأعوام الأخيرة، واستعراض الأوضاع السياسية الفريدة التي تعيش في ظلها تلك الإمبراطورية الشاسعة
وملخص الحادث المسرحي الجديد الذي كاد يثير ضرام الحرب الأهلية في الصين كرة أخرى، هو أن الماريشال تشانج هسويه ليانج الذي يرابط بقواته في سيانفو عاصمة إقليم شنصي، قد دبر كميناً للقبض على الماريشال تشانج كايشك رئيس حكومة نانكين الوطنية، والقائد العام للجيوش الصينية بينما كان يستشفي قريباً من سيانفو، واعتقله مع بعض حاشيته؛ ثم أذاع أنه يرمي بذلك إلى حل الحكومة الوطنية الحاضرة التي تمادت في خضوعها لليابان، وتأليف حكومة جديدة تعلن الحرب على اليابان، وتعمل على استرداد الأقاليم التي انتزعتها اليابان من الصين وفي مقدمتها إقليم منشوريا؛ وقد أخطر الماريشال الثائر أسيره بهذه المطالب، وأخطر بها حكومة نانكين، فرفض الرئيس المعتقل ورفضت الحكومة أن تبحث في شانها قبل الإفراج عن الرئيس، وإعادة الأمور إلى نصابها؛ وقد حاولت حكومة نانكين أن تصل بطريق المفاوضة والتفاهم إلى تسوية مؤقتة يفرج معها عن الماريشال المعتقل، فأبى الزعيم الثائر؛ واضطرت الحكومة أن تجرد عليه بعض قواتها؛ وقد زحفت القوات الحكومية فعلاً صوب سيانفو، وبدأت المعارك الأولى بين الفريقين ونحن نكتب هذه السطور
فمن هو هذا الزعيم الثائر تشانج هسويه ليانج؟ وما هي بواعث حركته؟ إن الماريشال تشانج هسويه ليانج هو ولد الماريشال تشانج تسولين زعيم منشوريا السابق الذي قتل غيلة(183/9)
في حادث قطار دست له القنابل سنة 1930؛ وكان تشانج تسولين مدى أعوام طويلة حاكما بأمره في منشوريا قبل أن تنتزعها اليابان؛ وكان يعمل بالاتفاق مع السياسة اليابانية، فلما قتل خلفه ولده في حكم الإقليم، ولكنه اختلف مع السياسة اليابانية، وكانت حكومة نانكين الوطنية قد قامت يومئذ باسم الصين المتحدة كلها، فأعلن تشانج هسويه ليانج انضمامه إليها؛ ورأت اليابان الفرصة سانحة لتنفيذ مشروعها الاستعماري في الصين، فاحتجت بوقوع بعض حوادث اعتداء على الرعايا اليابانيين، وغزت منشوريا في سنة 1931، واضطر الجنرال تشانج هسويه ليانج إلى الانسحاب بقواته دون مقاومة تذكر؛ وعسكر مدى حين في إقليم جيهول في جنوب منشوريا؛ ولما أتمت اليابان غزو منشوريا واحتلالها، دفعت قواتها إلى جيهول، فارتد أمامها الماريشال المنهزم بقواته؛ واحتلت اليابان هذا الإقليم في سنة 1933؛ وعسكر تشانج هسويه ليانج من ذلك الحين بقواته في بعض أنحاء إقليم شنصي. وفي سنة 1935، انتدبته حكومة نانكين، أوبعبارة أخرى انتدبه الماريشال تشانج كايشك لمحاربة القوات الشيوعية التي تقدمت جنوباً واحتلت ولاية ستشوان المجاورة لشنصي؛ ولكنه بدلا من أن يقوم بهذه المهمة فضل التفاهم مع الشيوعيين، واتخذ من ذلك الحين موقفه المريب من حكومة نانكين
ويجب أن نذكر كلمة عن الشيوعية في الصين؛ ففي الصين الآن حزب شيوعي كبير يسيطر على قوات عسكرية كبيرة بقيادة زعيم الشيوعية الصينية ماو تسي دون؛ فقد كانت الشيوعية من قبل عضد الحركة الوطنية، ومنذ سنة 1924 إلى سنة 1927 وهي فترة الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، تعمل الحركة الوطنية بمعاونة الشيوعية، ويندمج الحزب الشيوعي في الحزب الوطني الصيني (الكومن تانج) وتستمد الحركة الوطنية كثيرا من القوة والتنظيم من روسيا البلشفية ودعاتها في الصين. ولكن الماريشال تشانج كايتشك بعد أن تم له الظفر على قوات الشمال في سنة 1927، واستطاع أن يقيم حكومة نانكين الوطنية رأى أن يضع حدا للتعاون مع الشيوعية، وقضى على عناصرها من (الكومن تانج) ومن الحكومة والجيش، وبدأت الخصومة من ذلك الحين بين حكومة نانكين وبين الشيوعية؛ ومنذ عدة أعوام تعمل قوات الحكومة لمطاردة قوات الشيوعية ومحاصرتها في الأقاليم الوسطى التي تسيطر عليها ولكنها لم تستطيع حتى ألان أن تقضي عليها(183/10)
وفي تلك الفترة استطاعت اليابان أن تنتزع منشوريا وجيهول وبعض الأقاليم الأخرى من الصين، وان تمهد تمهيدا قويا لسياستها الاستعمارية في الصين؛ وهنا حدث تطور واضح في سير الحركة الوطنية، فقد رأى كثير من الزعماء والمستنيرين أن استمرار الحرب الأهلية على هذا النحو يقوي نفوذ اليابان ويفتح أمامها أبواب الصين، وانه من الحكمة والضرورة أن تتضافر القوى المشتتة لمقاومة الاعتداء الأجنبي؛ ولوحظ أيضا أن الماريشال تشانج كايتشك رئيس الحكومة الوطنية يتبع إزاء الغزو الياباني سياسة الضعف والتسليم، وانه لم ينفك عن التصريح بأنه يريد التفاهم والاتفاق مع اليابان، ولكن على أي الأسس؟ إن اليابان تسير مسرعة في تنفيذ برنامجها الاستعماري، ومازالت تنتهز كل فرصة للتوغل في قلب الصين واحتلال أراضيها. ويرد زعماء (الكومن تانج) على ذلك بأن الحكومة الوطنية مرغمة على اتخاذ هذا الموقف، وأن الصين لا تستطيع في ظروفها الحاضرة أن تقف أمام الغزو الياباني، وأنه يحسن التفاهم مع العدو المغير حتى تقوى الصين نفسها وتستطيع أن تقاوم الاعتداء بصورة فعلية؛ وقد اضطر تشانج كايتشك نفسه أمام هذا التيار الجديد أن يؤكد في تصريحاته الرسمية أمام مؤتمر اللجنة التنفيذية للحزب الوطني (الكومن تانج) في الصيف الماضي أن الحكومة المركزية لن تتنازل قط عن التمسك بوحدة الصين وسلامة أراضيها ولن تعقد أي معاهدة تخالف هذا المبدأ، ولن تنزل عند أي رغبة أو وعيد بإرغامها على إقرار الحالة في منشوكيو (منشوريا) أو أية حالة أخرى من حالات الاعتداء على الأراضي الصينية
وقد رأى الماريشال تشانج هسويه ليانج أن ينتهز فرصة هذا التطور لينزل إلى الميدان، والظاهر انه يريد أن يحاول استغلال الشعور القومي الذي آثاره اعتداء اليابان المتكرر على الصين، وأن يجعل من مطالبته حكومة يانكين لان تعلن الحرب على اليابان شعاراً قوميا يلتف حوله المعارضون لسياسة الحكومة الوطنية. بيد أن تشانج هسويه ليانج شخصية ثانوية في الواقع، وهو لا يشغل بين زعماء الصين أو قادتها مركزاً خطيراً يمكنه من تزعم مثل هذه الحركة الخطيرة؛ ومن جهة أخرى فان الأساليب التي لجأ إليها في اعتقال رئيس الحكومة وقائد الجيش الأعلى ومعاونيه، ليست مما يشهد له بالفطنة والكياسة، وليست مما يعاون على التمهيد للحسم لمشاريعه. وتقدر قوات الزعيم الثائر بنحو(183/11)
مائة وخمسين ألف جندي، وهي قوة ضئيلة بالنسبة للوحدات العسكرية الصينية، وبالنسبة لقوات الحكومة المركزية التي تقدر بنحو مليونين؛ وإذا كانت الحوادث لم تسفر حتى كتابة هذه السطور عن حل حاسم للمشكل فانه لا ريب أن حكومة نانكين لن تنزل عند وعيده، ولن تتخلى عن محاربته حتى يلقي سلاحه
هذا من الناحية الداخلية، بيد أن للمسألة ناحية خارجية في منتهى الخطورة. فنحن نعرف أن الصين ميدان للتنافس الخطر بين اليابان وروسيا، وان اليابان تسيطر على منشوريا، كما تسيطر روسيا على منغوليا الخارجية، وأن عوامل الاحتكاك بينهما لا تنتهي، وخصومة اليابان وروسيا خصومة طبيعية وتاريخية معاً؛ وكلتاهما تخشى الأخرى وترقب مساعيها في الصين بمنتهى الغيرة واليقظه؛ وقد ذهبت اليابان في توغلها في الصين إلى حد يثير مخاوف روسيا ويحملها على مضاعفة جهودها لصون أملاكها ومصالحها في الشرق الأقصى؛ ومن جهة أخرى فقد عقدت اليابان أخيراً تحالفاً مع ألمانيا ضد الشيوعية أو بعبارة أخرى ضد روسيا، ومن المرجح أن هذا التحالف الذي يقوم في الظاهر على هذا الأساس، يتضمن تحالفاً سرياً عسكريا بين الدولتين، وان غاية الحقيقة حصر روسيا بين نارين: نار اليابان من الشرق، ونار ألمانيا من الغرب إذا ما وقعت حرب عالمية. ذلك أن ألمانيا الهتلرية تعتبر روسيا البلشفية عدوتها المميتة، وتسعى إلى تحطيمها وسحقها بكل ما وسعت وتعتقد أن تعاونها مع اليابان على هذه الصورة يكون رداً بليغاً على الميثاق الروسي الفرنسي الذي اعتقدت انه موجه ضدها، وانه خطر دائم على سلامتها؛ والظاهر أن حوادث الصين الأخيرة لم تكن بعيدة عن آثار الميثاق الياباني الالماني، وانه يمكن أن نلمس فيها أثرا لإصبع روسيا، وأن الماريشال تسانج هسويه ليانج كان يعول في ثورته على معاونة روسيا الخفية إذا ما ساعدته الحوادث على تنفيذ برنامجه، وأن روسيا ترى في اضطرام هذه الثورة على حكومة نانكين وضد النفوذ الياباني، ما يمكن أن يكون رداً من جانبها على الميثاق الياباني الألماني؛ بيد أن روسيا لم تخرج عن تحفظها إزاء هذه الأزمة ولم يبد منها ما يدل على إنها تتصل بها أو تعلق عليها أهمية خاصة، هذا في حين أن اليابان قد أبدت استعدادها وتحفزها للتدخل إذا ما تطورت الحوادث تطورا يمكن أن يهدد نفوذها أو مصالحها(183/12)
ثم هنالك الدول الغربية وعلى رأسها إنكلترا، وهي تعلق أهمية خاصة على سير الحوادث في الشرق الأقصى؛ وهنالك أمريكا، وهي تخشى ازدياد النفوذ الياباني في الصين وفي المحيط الهادئ. ومن الواضح أن بريطانيا العظمى، والدول الأخرى التي تسيطر على أملاك عظيمة في الشرق الأقصى مثل فرنسا وهولنده، يهمها كبح التوغل الياباني ومقاومته، لأنه يزداد كل يوم خطراً على أملاكها ومصالحها؛ والسياسة البريطانية تميل بلا ريب إلى تأييد كل حركة تؤدي إلى تحقيق هذه الغاية؛ بيد أنها لا تميل في نفس الوقت إلى نهوض الشيوعية وتقدمها في الصين، لأنها تعتبرها خطراً عظيما على أملاكها ونفوذها؛ وهي ألان في موقف انتظار وتريث واستعداد للطوارئ؛ وأما أمريكا فهي تسير في ذلك على سياسة مستقلة، وكل ما يهمها هو الاحتفاظ بنفوذها وسيادتها في المحيط الهادئ، وهي تعتقد أنها تستطيع تحقيق هذه الغاية بالتفاهم مع اليابان وعقد اتفاق يصون مصالح الفريقين
هذا وقد صح ما توقعناه من أن حكومة نانكين لن تخضع لوعيد الزعيم الثائر، وإن الثورة لن يرجى لها النجاح المنشود؛ فقد وردت الأنباء الأخيرة بأن المارشال تشانج هسويه ليانج قد أذعن للإنذار الذي وجهته إليه الحكومة المركزية، واستمع لنصح زملائه حكام الولايات المجاورة، وأفرج عن الماريشال تشانج كايشك؛ وقد عاد الماريشال إلى نانكين عود الظافر في مظاهرات حماسية، واعتذر الزعيم الثائر على فعلته؛ ولم تعرف شروط التسوية بعد؛ ولكن الظاهر أن تشانج هسويه ليانج سيغادر الصين مدى حين، وان الحكومة ستمنحه معاشاً حسنا، وانه تعهد بعدم التدخل في الشؤون العامة العسكرية أو السياسية
على أنه يبقى لنا أن نتساءل، هل انتهت الفتنة وأخمدت نهائياً، أم أنه يخشى أن تكون بذورها قد تمكنت في القوات المتمردة، وإن الشيوعية المحلية لا تزال تغذيها؟ هذا ما لا يتضح الآن: بيد أنه يمكن القول أن حكومة نانكين ستنشط إلى محاربة الشيوعية والقضاء عليها، لأنها تخشى منها على نفوذها واستقرارها. ولا ريب أيضاً أن الحكومة الوطنية ستعنى بأمر هذا التطور العميق في شعور الشعب الصيني واتجاهه إلى وجوب الوقوف في وجه اليابان ووضع حد لمطامعها؛ وربما اضطر الماريشال تشانج كايشك غير بعيد إلى أن يتخذ سياسة اشد حزماً إزاء المطامع اليابانية، إذا وجد في مثل هذا الشعور ما يكفي لتوحيد الصفوف، وشد أزر السياسة الوطنية المتطرفة التي يجب اتباعها يومئذ وتدعيمها بقوة(183/13)
السلاح إذا اقتضى الأمر
(* * *)(183/14)
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 7 -
تعددت المدارس وتنوعت الفرق في العالم الإسلامي، فمن متكلمين إلى متصوفة، ومن شيعيين إلى سنيين، وتحت كل شعبة من هؤلاء طوائف شتى وأحزاب متفرقة. بيد أن هذه المدارس المتنوعة والفرق المتعددة تلتقي في نقط مشتركة ويقوم الخلاف بينها على بعض المبادئ العامة. وقد استطاعت التعاليم الفلسفية أن تنفذ إليها جميعاً، ولكن بدرجات متفاوتة. ففي حين أن الشيعة، وخاصة الإسماعيلية، يتقبلون بقبول حسن كثيراً من الآراء الفلسفية، نرى أهل السنة يقفون من هذه الآراء موقف الحذر والحيطة؛ وعلى هذا النحو يمكننا أن نلاحظ أن المعتزلة يدنون في اغلب أبحاثهم من الفلاسفة، في حين أن الأشاعرة يعارضونهم ويناقضونهم. وقد سبق لنا أن بينا مقدار تأثر فلاسفة الإسلام بنظرية النبوة الفارابية، ونريد اليوم أن نبين إلى أي مدى استطاعت هذه النظرية أن تؤثر في المدارس الإسلامية الرئيسية، وكيف استقبلت من معارضيها ومحبذيها. ولا نظننا في حاجة إلى أن نبين موقف الصوفية منها، فهي بما فيها من تصوف كفيلة بأن تنال حظوتهم، وهي فوق هذا تضع أساساً علمياً لآرائهم ونظرياتهم. وسنقصر حديثنا على المعتزلة والأشاعرة من علماء الكلام، والإسماعيلية والباطنية من الشيعيين
فأما المعتزلة فقد دالت دولتهم تقريباً وانقضى سلطانهم قبل أن تظهر نظرية النبوة الفارابية في ثوبها الواضح وشكلها الكامل. غير أن نظرية كهذه تتلاءم مع نزعتهم العقلية وروحهم الفلسفية، ولا نظنهم، لو أدركوها، كانوا يحاربونها ويقابلونها بالرفض والمعارضة الصريحة، ذلك لأن أكبر مأخذ يؤخذ عليها، كما أسلفنا، أنها تتعارض مع بعض النصوص الثابتة الواضحة، ولكن المعتزلة وقد فتحوا باب التأويل على مصراعيه لن يعدموا الحيلة في التوفيق بين هذه النصوص وبين فكرة تشرح النبوة شرحاً عقلياً فلسفياً. وأما الأشاعرة فقد نصبوا أنفسهم للدفاع عن التعاليم الإسلامية المأثورة، وجدُّوا في تفهمها كما وردت. حقاً(183/15)
إنهم يقولون بالتأويل، ولكنهم لا يتوسعون فيه توسع المعتزلة
ونظرية الفارابي في النبوة تناقض في رأيهم مناقضة صريحة طرق الوحي المسلم به في الكتاب والسنة ومما يؤسف له أن أبا الحسن الأشعري وهو من معاصري الفارابي لم يخلف لنا شيئاً يعتد به في هذا الصدد. إلا أن الغزالي وهو اكبر نصير للأشاعرة على الإطلاق، وفي النصف الأخير من القرن الخامس الهجري بوجه خاص، لم يغفل نظرية الفارابي في النبوة، وتحامل عليها كما تحامل على الآراء الفلسفية الأخرى، ولكنه في تحامله هذا لم يستطع أن يرد عليها رداً مقنعاً أو ينقضها بشكل واضح. على انه هو نفسه بالرغم من خصومته لها وتحامله عليها لم ينج من أثرها، وقال بآراء تقترب منها كل القرب؛ وخصومة الأفكار تختلف إلى حد ما عن خصومة الأشخاص، فقد تستطيع التبرؤ من كل ما يتصل بخصمك المادي مع انه يعز عليك أحياناً أن تنجو تماماً من سلطان فكرة تعارضها، ذلك لان النظريات والآراء بما فيها من قدر من الصواب يمكنها أن تؤثر في أصدقائها وأعدائها، بل وفي اشد الناس هجوماً عليها؛ ولا أدل على هذا مما نلاحظ في مسألتنا الحاضرة، فأن الغزالي يناقش في كتابه (تهافت الفلاسفة) نظرية النبوة الفارابية ملاحظاً أن النبي يستطيع الاتصال بالله مباشرة أو بواسطة ملك من الملائكة دون الحاجة إلى العقل الفعال أو قوة متخيلة خاصة أو أي فرض آخر من الفروض التي يفرضها الفلاسفة، ثم يعود في كتابه (المنقذ من الضلال) فيقرر أن النبوة أمر مسلم به نقلاً ومقبول عقلاً، ويكفي لتسليمها من الناحية العقلية أن نلاحظ إنها تشبه ظاهرة نفسية نعترف بها جميعاً، آلا وهي الأحلام والرؤى. وهاكم عبارته بنصها: (وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه أن أعطاهم أنموذجاً من خاصية النبوة وهو النوم، إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير).
ونحن في غنى عن أن نشير إلى أن هذه العبارة تحمل في ثناياها أفكاراً فارابية واضحة وبصرف النظر عما في موقف الغزالي من تناقض فان اعتراضه على نظرية الفارابي في النبوة لم يكن شديداً ولا قاطعاً. ولهذا لم يتردد في أن يعتنقها في مكان آخر محاولاً، كما صنع الفارابي، إدعامها على أساس من الفيض والإشراق. ولعل هذا هو الرأي الأخير الذي اطمأنت إليه نفسه، ولاسيما. والدلائل قائمة على أن المنقذ متأخر تأليفاً عن التهافت،(183/16)
ومشتمل على خلاصة أبحاث الغزالي ونتيجة دراساته السابقة
وإذا كانت نظرية النبوة الفارابية قد استطاعت التأثير في خصومها من الأشاعرة فهي على هذا أقدر لدى من ينتمون إليها من الإسماعيلية والباطنية. وإنا لنلحظ منذ أخريات القرن الرابع الهجري أن إخوان الصفا الذين لم يبق اليوم شك في أمر اتصالهم بالإسماعيلية يشيدون بذكر قوة المخيلة ويبينون ما لها من اثر في المظاهر النفسية المختلفة، وخاصة في المنامات والأحلام والوحي والإلهام. ويلخص لنا الغزالي في رده على الباطنية معتقدهم في النبوات قائلاً إنهم يذهبون إلى (أن النبي عبارة عن شخص فاض عليه من السابق بواسطة المثالي قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات كما قد يتفق ذلك ليعض النفوس الذكية في المنام حتى تشاهد من مجاري الأحوال في المستقبل إما صريحاً بعينه أو مدرجاً تحت مثال يناسبه مناسبة ما فيفتقر فيه إلى التعبير إلا أن النبي هو المستعد لذلك في اليقظة، فلذلك يدرك الكليات العقلية عند شروق ذلك النور وصفاء القوة النبوية، كما ينطبع مثال المحسوسات في القوة الباصرة من العين عند شروق نور الشمس على سطوح الأجسام الصقيلة). ويضيف الغزالي أن هذه الآراء كلها مأخوذة عن الفلاسفة، وهذه ملاحظة لا تقبل الشك ولا الإنكار وقد تأثر الإسماعيلية بالأفكار الفلسفية في غير موضع، إلا أن نظرية النبوة على الخصوص راقتهم إلى حد كبير وصادفت هوى في نفوسهم. فإنها لا توضح النبوة فحسب، بل تشرح فكرة الإمامة التي قامت عليها دعوتهم، وقد قدمنا أن الفارابي يصرح بان الإمام والنبي والفيلسوف يرمون إلى غاية واحدة ويستمدون تعاليمهم من مصدر مشترك آلا وهو العقل الفعال. وإذا كان بعض الإسماعيلية قد أخذ على عاتقه أن يرد على منكري النبوة فهو في الوقت نفسه يدفع شبهاً يمكن أن توجه إلى الإمامة. فنظرية النبوة الفارابية أساس علمي متين بنى عليه الإسماعيليون كثيراً من تعاليمهم. ولم يزيدوا عليها شيئاً إلا انهم تأولوا بعض النصوص التي سكت عنها الفارابي فقالوا مثلاً إن جبريل هو العقل الذي يفيض على الأنبياء بالمعلومات، وإن القران تعبير عن المعارف التي فاضت على النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المصدر
الآن وقد لخصنا في اختصار أثر نظرية النبوة الفارابية في القرون الوسطى الإسلامية،(183/17)
يجدر بنا أن نولي وجهنا شطر القرون الوسطى اليهودية والنصرانية لنبين ما إذا كانت هذه النظرية قد تمكنت من النفوذ إليها أم لا. وسنكتفي من بين مفكري اليهود بموسى بن ميمون الذي يعلن في صراحة تلمذته للفارابي وابن سينا. وسنشير بين المسيحيين إلى (ألبير لجراند) فقط الذي كثيراً ما ردد اسم الفارابي في مؤلفاته اللاتينية. فأما ابن ميمون فلا نظن أن واحداً من رجال الفلسفة المدرسية - اللهم إلا ابن سينا - قد أستمسك بنظرية النبوة الفارابية وعنى بها مثل عنايته، فقد وقف عليها في الجزء الثاني من كتابه (دلالة الحائرين) نحو مائة صفحة أو يزيد، وبذل جهده في التوفيق بينها وبين الديانة الموسوية وترجع الآراء المتعلقة بالنبوة في نظره إلى ثلاثة أقسام. فطائفة ترى أن النبي مجرد شخص اصطفاه الله من بين خلقه وكلفه بمهمة خاصة سواء أكان عالماً أم جاهلاً صغيراً أم كبيراً، فلا يشترط فيه أي شرط ما دام الله قد أختاره، اللهم إلا أن يكون حسن السلوك سامي الأخلاق؛ ويرى المشاؤون - ويعني بهم ابن ميمون فيما نعتقد الفارابي وابن سينا - أن النبوة تستلزم كمالاً في الطبيعة الإنسانية وسموا في المواهب العقلية والاستعدادات الفطرية، فليس لكل شخص إذن أن يكون نبياً، بل من اكتملت فيهم صفات نفسية وعقلية معينة. والرأي الأخير الذي ينحاز إليه الفيلسوف اليهودي هو أن النبي إنسان كامل من الناحية العقلية قد فضله الله واصطفاه على عباده الآخرين. ولا بد له من مخيلة قوية تمكنه من الاتصال بالعقل الفعال وتقفه على الأمور المستقلة كأنما هي أشياء محسوسة ملموسة. وعلى قدر ما تعظم المخيلة ويزيد اتصالها بالعالم العلوي تسمو الإلهامات النبوية وتتنوع، ومن هنا تفاوت الأنبياء فيما بينهم بتفاوت مخيلاتهم، وأختلف ما يوحي إليهم تبعاً لذلك. فقوة المخيلة إذن ذات اثر كبير في الكشف والإلهام وشرط أساسي في كل من يرقى إلى مرتبة النبوة. بيد انه يجب أن يضم النبي إلى مخيلته قوى عقلية عظيمة، لأن المخيلة لا تستطيع أن تصعد إلى درجة العقل الفعال إن لم يكن في معونتها قوى فكرية ممتازة. هذه الملاحظات على اختصارها تكفي للبرهنة على أن ابن ميمون اعتنق في إخلاص نظرية الفارابي في النبوة
وأما ألبير لجراند فقد أثرت فيه الآراء الفارابية عامة من نواح كثيرة. فهو يقول بنظرية في السعادة لا تختلف كثيراً عما ذهب إليه الفارابي، ويقرر إن الإنسان متى وصل إلى(183/18)
مرتبة العقل المستفاد اصبح على اتصال دائم بالعالم الروحاني، وأضحى إلى حد ما شبيها بالله، ووقف على المعارف المختلفة، وفاز بغبطة لا نظير لها. ويحلل من جهة أخرى نظرية النبوة تحليلاً سيكولوجيا يتفق اتفاقا تاما مع ما جاء به الفارابي. كل هذا يثبت، كما لاحظ رينان من قبل، إلى أي حد نفذت اللغة العربية والنظريات الإسلامية الخطيرة إلى المدرسة الألبيرية. وسهل علينا أن نحدد على وجه التقريب المصدر الذي استقى منه ألبير نظرية النبوة الفارابية، فإنه لا يبعد أن يكون قد قرأ عنها شيئاً فيما ترجم من كتب ابن سينا إلى اللاتينية، أوفي كتاب دلالة الحائرين الذي أحرز منزلة عظيمة في مختلف المدارس المسيحية
يتبع
إبراهيم بيومي مدكور(183/19)
في الأدب المقارن
أشكال الأدب في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
تبدأ العلوم والفنون الإنسانية كلاًّ مختلطاً كالسديم، فإذا ما ارتقت وتطورت تبينت أجزاؤها وانفصلت، ووضحت أشكالها وتميزت، وتعددت مناحي كل علم وفن، وتوفر بعض ممارسي تلك العلوم أو الفنون على ناحية من نواحي العلم أو فرع من فروع الفن وتوفر غيرهم، كلٌّ يتبع ما هو أقرب إلى طبعه وأوفق لعبقريته وأتمُّ تعبيراً عن منازعه؛ وكلما ارتقى العلم أو الفن جدت فيه ضروب وأشكال لم تكن من قبل، وتولدت من الأشكال القديمة أخرى غيرها
وذلك شأن الأدب: يبدأ بانفصال الشعر عن الموسيقى، فإذا هو ألحان وأهازيج ساذجة المعاني؛ ثم ما يزال جانب المعنى منه يقوى حتى يطغى على جانب النغم، حتى يبلغ الشعر أشده وما تزال الآمة متبدية؛ فإذا ما نالت حظاً من الحضارة والثقافة ظهر النثر بجانب النظم، حاوياً لكثير من مميزات الشعر الفنية: كالتعبير عن الوجدان وحسن الاختيار الألفاظ المعبرة، فإذا ما استمر الأدب في رقيه تعددت أشكال النظم والنثر واختلفت صورهما، واجتذب كل شكل فريقاً من الأدباء يصطفونه دون غيره أو بجانب غيره، لإخراج أفكارهم وأحاسيسهم في قالبه، وإبراز نظرتهم إلى الحياة في أوضاعه وحدوده
فتعدد أشكال الأدب من دلائل رقيه وابتعاده عن عهود الابتداء وعصور الإبهام والعموم، وهو أيضاً من دلائل سريان روح التجديد فيه: فمن طبيعة النفس الإنسانية أن تسأم النغمة الواحدة إذا كررت، مهما كانت عذوبتها أو براعة صاحبها، وتستوي في ذلك الموسيقى وغيرها من الفنون، فإذا ما سئم جيل شكلا من أشكال الأدب، أو أصبح ذلك الشكل الأدبي غير ملائم لعصره، فأن روح التجديد - إذا كانت هناك - تدفعه إلى ابتكار شكل طريف ملائم، وهجر الأشكال القديمة مهما كانت منزلة الأدباء المتقدمين الذين مارسوا تلك الأشكال، ومهما يكونوا قد أودعوها من صادق الأفكار والشعور، ومحكم الصور لعصرهم
وقد شهد الأدب الإنجليزي عصر اليزابيث، وهو ما يزال مختلط الأجزاء، مضطرب الصور، لم تتميز أشكال منظومه ومنثوره، بل لم تستقم بعد أساليبه الشعرية ولا لغته(183/20)
الكتابية؛ فما لبث الشعر على أيدي شكسبير ومعاصريه من مؤلفي المسرح، وسبنسر وملتون ثم دريدن، أن كسب لغة نقية مختارة، وأشكالاً واضحة بينة، صالحة للتعبير عن شتى الأفكار وتصوير مختلف الحالات النفسية. وضع شكسبير أساس الشعر المرسل، ورفع بعبقريته مكانة ذلك الضرب من الموشحات المعروف بالسونيت، وهوموشح من أربعة عشر بيتاً متداخلة القوافي على هيئة تبرز الفكرة الوحيدة التي تتضمنها السونيت إبرازاً رائعاً؛ ووضع سبنسر موشحه المنسوب إليه والمكون من أبيات تسعة متداخلة القوافي آخرها أطول عروضاً من سائرها، مما يجعل أداة صالحة للقصص الشعري الرصين
وجاء ملتون فأدخل الملحمة في الشعر الإنجليزي الحديث: والملحمة أعظم ضروب الشعر شأناً، وأكثرها كلفة، وأبعدها منالاً لما تحتاج إليه من طول التوفر، وعمق البصر بالأدب، واتساع الثقافة، والتضلع من اللغة، والتمكن من الأساليب الشعرية، وامتداد الخيال؛ وقد قدر كولردج الزمن اللازم لإنشاء ملحمة بعشرين عاما: ينصرف الشاعر في عشر منها إلى الاستعداد والتحضير؛ وبتوفر في عشر على الإنشاء والتجويد؛ وجاء دريدن عقب ملتون فوطد أساس ضرب آخر من النظم يدعى الأود أو القصيد الخطابي، يمتاز بوعورة عروضه وقوافيه، ويوجه الخطاب فيه عادة إلى شيء مخصوص أو فرد معروف أو ذكراه؛ ورفع دريدن كذلك مكانة (الدوبيت) في الشعر الانجليزي، أعني القصيد المؤلف من أبيات ثنائية القوافي، محكمة الوزن، مصقولة اللفظ؛ وهو الضرب الذي تلقفه عنه بوب فزاده صقلاً وإحكاما، وساد من بعدهما القرن الثامن عشر
توطدت دعائم الشعر وتميزت أشكاله فجاء دور النثر، وهو دائماً متأخر عن الشعر في الظهور، ودعت الأحوال السياسية والاجتماعية التي سادت القرن الثامن عشر إلى احتفاء الأدباء والمثقفين بالنثر: فقد كانت النظم الدستورية قد استتبت، والرأي العام قد تكون، والطبقة الوسطى قد تعاظم شأنها، والحركة العلمية قد نشطت بعد ما اقتبسته إنجلترا من علوم أهل القارة، والصحف قد انتشرت معتمدة على الرأي العام والطبقة الوسطى، وقد غبر عهد المخاطرة والجهاد الذي تجلى في حكم اليزابيث وثورة المطهرين، ألهب خيال الشعراء، وجاء عهد الإصلاح والعمل الرزين في الداخل والخارج(183/21)
وفي أول ذلك القرن كان النثر الإنجليزي حطاماً مبعثراً من الألفاظ المتنافرة والتعابير المتعثرة، والأساليب العامية، وزخارف اللفظ، وبهارج المعنى، والتقليدات الفاشلة للأسلوب اللاتيني المتطاول الجمل؛ فما لبث دريدن وكاولي أن هذبا من حواشيه وقوّما من معوجه، ونقياه من الغريب والسوقي، فظهر النثر الإنجليزي الحديث المعروف ببساطة ألفاظه، ولطافة مأخذه، وسلاسة تعابيره؛ ثم تلاهما اديسون وسنيل فوطدا دعائم (المقالة) في الصحف التي تعاونا في إصدارها، فإذا المقالة شكل من أشكال الأدب جم المزايا. فهي تدور حول فكرة مفردة تكون وحدتها وتجمع شتى الأفكار الثانوية، وتتناول ما شاء الكاتب أن يدرسه من مسالة اجتماعية أو نقد أدبي أو حالة نفسية، أو نظرة في الفنون
ومن المقالة نمت بذور شكل آخر من أشكال النثر دعت أليه طبيعة ذلك العصر: هو القصة التي تكونت من اجتماع عدد من المقالات تدور حول شخصيات معينة، فما لبث الذوق العام أن استطرفها وكان قد مل الرواية التمثيلية، فحلت القصة محلها في تصوير المجتمع ودرس الأخلاق واستكناه دخائل النفس الانسانية، وتوفر عليها من كبار الكتاب أمثال ريتشاردسن وجولد سميث، وجين اوستن، فاحكموا أوضاعها، وهذبوا حوارها ووضحوا شخصياتها، وأسلموها إلى القرن التالي شكلا من أشكال الأدب جم المزايا مبشراً بمستقبل حافل
وكأن النثر لم يقنع بهذا الضرب الخيالي من التأليف، وآثر أن يجعل من الحقيقة الواقعة مادة للفن كما جعل من القصص الخيالي، ويتخذ من الماضي مراداً له كما اتخذ من الحاضر، فالتفت إلى التاريخ، وكان من قبل يدون باللاتينية أو بإنجليزية ملتوية التراكيب مختلطة الحقائق بالأوهام والاكاذيب، فبعث فيه الروح الفنية التي شملت نواحي الأدب ونفخ فيه النزعة العلمية التي تمشت في سائر العلوم، ولم ينصرم القرن إلا وقد ظهر اكبر اثر تاريخي في اللغة، وهو كتاب جيبون عن الدولة الرومانية، وإذا النثر الفني قد كسب شكلا جديداً هو التاريخ الفني للعصور أو الوقائع أو الأبطال
وهكذا صار الأدب الإنجليزي أدباً رفيعاً متسع الجوانب متميز الأوضاع متعدد الأشكال، مشتملاً على أرقى ما لدى الأمم الأخرى من الصور الأدبية، يقدم لممارسيه ما يختارونه من أشكال الأدب ملائماً لطبائعهم، ولقرائه ما يؤثرونه موافقاً لأذواقهم، وورث القرن التاسع(183/22)
عشر عن القرنين السابقين له تراثاً ضخما من أشكال المنظوم والمنثور وآثار الفحول فيهما، فلم يكد يحس حاجة إلى استحداث أشكال أخرى، بل انصرف إلى استغلال ما بين يديه منها، ولاءم بين بعضها وبين حاجاته، وآثر بعضاً منها على بعض: فعالج وردزورث وتيسون الشعر المرسل، وعالج سوذي وموريس وهاردي الملحمة واختلفت حظوظهم من النجاح، واستغل هازلت وثكري وماكولي المقالة في النقد الأدبي، وعالج ماكولي وكارليل التاريخ. وهجرت الرواية التمثيلية الشعرية وحلت محلها أخرى نثرية أكثر التزاما للواقع وملاءمة لحاجة العصر، وتعاظمت مكانة القصة الطويلة والقصيرة حتى فاقت ما عداها، والتفتت إلى تصوير المجتمع الجديد القائم على الصناعة والمخترعات
أما تاريخ الأدب العربي منذ نهضته بقيام الإسلام وتوطد دولته، ودخوله في طور الحضارة والثقافة، فمغاير لهذا: فقد ورث عن الجاهلية لغة قوية غنية تبشر بمستقبل عظيم، وشعراً رصيناً محكم الأوزان متعددها موطد الأركان ممهد الأساليب مؤذنا برقى إلى ابعد الغايات، فإذا الأدب يجمد في أول الطريق، ويجتزئ بماضيه عن مستقبله، ويطوي زهاء خمسة قرون من عهود الحضارة والثقافة، فلا يتفرع كما تفرع الأدب الإنجليزي إلى أشكال متميزة ذات خصائص واضحة، بل يظل كل من الشعر والنثر سديماً مشوشاً كما كان في أول بدئه، وينبغ من فحول العربية أمثال ابن المقفع والجاحظ وابن الرومي والمتنبي والمعري، فلا يعنيهم غير تقيل السلف فيما درجوا عليه من مناهج القول، ولا تتوطد على أيديهم أشكال جديدة للنظم والنثر، ولا يؤدون للعربية الخدمات الجلي التي أداها للإنجليزية أبناؤها
طوى الأدب العربي عصور ازدهاره وهو يضرب على نغمة واحدة في النظم وأخرى في النثر؛ ففي النظم ظلت القصيدة المفردة القافية، غير المحدودة الطول، غير الموحدة الفكرة، غير المعروفة العنوان، هي الشكل الشعري الوحيد، يصوغ فيه ابن القرن الخامس أفكاره كما صاغ الجاهلي أفكاره من قبل؛ وفي النثر ظلت كتب الأدب المبهمة العناوين المشتجرة الفصول والفقرات المتباعدة المواضيع، المختلطة النظم بالنثر، والأدب بالدين، والقصص بالنقد، وهي الضرب السائد منذ انتشرت الكتابة إلى أن خمد الأدب
وفي الشعر ابتكرت الموشحات، فلم تكن غير زخارف من القوافي ينمقها الناظم كما شاء دون أن تكون أوضاع قوافيها معينة على إبراز المعاني، ولم ينتشر استعمال تلك(183/23)
الموشحات واقتصرت على من ضروب الشعر الوجداني الضئيل الحظ من المعنى. قال ابن رشيق: (وقد رأيت جماعة يركبون المخمسات والمسمطات، ويكثرون منها، ولم أر متقدماً حاذقا صنع شيئاً منها لأنها دالة على عجز الشاعر وقلة قوافيه وضيق عطنه. . . وهذا الجنس موقوف على ابن وكيع والأمير تميم ومن ناسب طبعها من أهل الفراغ والرخص)؛ وفي النثر ابتكرت المقامة فإذا هي أشد من الموشح احتفاء باللفظ، وإذا هي لا تفوقه ذيوعا ونجاحا، وحاكته عقما فلم ينتج عنها ابتكار جديد، كما مهدت المقالة في الإنجليزية السبيل مثلاً للقصة
فإذا بحثت في الأدب العربي عن أشكال أدبية متميزة متعددة لم تجدها، وإنما ظل الأدب كما بدأ سديما مختلطا متشابها: ارتقت معانيه وتعددت أغراضه ورقت ديباجته، ولكن جمد شكله فلم يتحول إلى أشكال جديدة، وظل النقاد لا يقسمون الأدب إلى أكثر من نظم ونثر ثم يقفون، ويفاضلون بين النظم والنثر مفاضلة ليس لها موضع ولا هناك ما يسوغها؛ فأن أرادوا التوسع فاضلوا بين الرجز والقصيد، وقدموا شاعرا على شاعر لبراعته في الطول أو في القطع، وهي مفاضلات كذلك لا موضع لها ولا مبرر، لأن هذه الأشياء متقدمة الذكر ليست بأشكال للشعر متميز كلٌّ منها بخصائص في الأسلوب أوفي الموضوع، تجعل شكلا منها أصعب على الشاعر المعالج من شكل آخر أو أبعد متناولا
وإنما جنح بالأدب العربي إلى هذه الحال من الجمود الشكلي التي لا يجد معها جديد، ولا يحل طريف محل عتيق، ولا يتسع أفق الأدب ولا تتشعب مناحيه، عوامل تقدمت الإشارة إليها مراراً وكان لها أبعد الأثر في تاريخ العربي، بل كان لها فيه ضرر بليغ، إذ باعدت بينه وبين أن يكون دائما تعبيرا حرا صحيحا عن شعور الفرد والمجتمع، متطورا مع حاجات الأجيال وتجدُّد شؤون الحياة، وتلك هي تغلب روح المحافظة على روح التجديد فيه، واعتماده على تشجيع الملوك، واعتزاله الآداب الأخرى، واحتفاله باللفظ قبل المعنى
فلو عنى أدباء العربية بدراسة الآداب الأخرى حق العناية لا طلعوا على أشكال للأدب تستحق أن تنقل إلى العربية فتكون باعثا على ابتكار غيرها. ولقد اهتدى الأدباء الإنجليز في كل ابتكاراتهم سالفة الذكر بهدى الأمم الأخرى: فالسونيت اقتبسوها عن بترارك، والشعر المرسل أخذوه عن الدرامة الإغريقية، والأود نقلت عن بندار، والملحمة تأثر فيها(183/24)
ملتون أثر هوميروس وفرجيل، والمقالة أوحت بها كتابات مونتين؛ وليس يدين الأدب العربي بشيء من هذا لغيره من الآداب، ولو فعل لجاء أرحب آفاقا وأوضح مناهج وأبرز أشكالا
استقل الأدب العربي بنفسه وأعتزل غيره، ولم يكن من داخله حافز إلى التجديد والابتكار: فأن نفس السبب الذي صده عن آداب الأمم الأخرى صدف به عن تجديد نفسه، ذلك السبب هو إكبار المتقدمين وإجلال آثارهم إجلالاً لا مطمع معه إلى تنكب طرائقهم أو الحيدة عن أساليبهم، وغير هذه النزعة المحافظة كانت تسود الأدب الإنجليزي: كانت روح التجديد متمكنة من سائر فحوله، لا يمنعهم إعجابهم بمتقدميهم من الأعلام عن اختطاط غير طرقهم، وبفضل هذه الروح المجددة كان الأثر المنقول عن الآداب الأجنبية لا ينشب أن تتمثله الإنجليزية ويونع فيها، ويؤتى ثمرا جديدا لم تحظ به الآداب المنقول عنها؛ فالسونيت أصبحت في الإنجليزية ضربين: الشكسبيري والملتوني؛ والمقالة هذُّبت واستخدمت في مقاصد لم تخطر لمونتين على بال، وكانت أداة إصلاح اجتماعي نادر المثال، وخرجت من غضونها القصة الاجتماعية
وولوع أدباء العربية بالألفاظ استغرق كل تفكيرهم واجتهادهم: ألهاهم احتيال الحيل في تنسيق الألفاظ وإظهار البراعة في استخدامها عن التفكير في المعنى أو الشكل الأدبي الذي يصاغ فيه، فابتكروا كثيراً في البديع الذي يتعلق باللفظ ولم يبتكروا فيما يتعلق بالشكل الأدبي. ولما أراد شاعر مجيد كالمعري أن يأتي بجديد في القوافي لم يتجه إلى تحرير الشعر من بعض قيودها أو تذليلها لإبراز المعنى على أحسن صورة، بل زادها قيوداً فضاعف حروف الروي في لزومياته، لأنه كان يحس أنه يفعل ذلك دون أن يَخْرِمَ التقاليد الأدبية المتخلفة عن الأقدمين، ودون أن يتهمه متهم من النقاد كابن رشيق (بعجزه وقلة قوافيه وضيق عطنه)
واعتماد أدباء العربية على نوال الأدباء، وترددهم على أبوابهم، ومشاركتهم إياهم في لذاتهم وترفهم أحياناً، أو دوام طموحهم إلى تلك اللذات والمتعات، وذهاب أيامهم بين مرارة الحرمان ونشوة اللذاذة ووخامة البشم والخمار، كل ذلك لم يدع لهم وقتاً للتوفر على الأدب الصحيح والانصراف إلى الفن الرفيع، ولم تقم أمامهم حاجة إلى الابتكار والتجديد، إذ كان(183/25)
الأمراء قانعين أن يقال فيهم مثل ما قيل فيمن قبلهم من الملوك الفخام وكما قيل في أولئك الملوك، فكان حسب الشاعر أن يقتفي أثر من قبله ويحذق وسائله في اقتناص معاني المديح
أما فحول الإنجليزية فكان معظمهم بمنجى من هذه الحاجة الملحَّة، ومعتصم من حياة الفلاكة واللذاذة التي كان يحياها كثير من أدباء العربية، وكان لهم بفضل كدِّهم في سبيل الحياة أو بفضل ما ورثوه من ثروة غنى عن سؤال الأمراء، ومتَّسع من الوقت للاعتزال في صومعة الفن الخالص من شوائب المادة، بل كان منهم أفراد كوردزورث وشلي وتنيسون عاشوا في رغد دون أن يعملوا في حياتهم عملاً سوى أن يقرءوا يكتبوا ما يسر نفوسهم ويرضي الفن وحده. ولا ريب أن أمثال هؤلاء أشد رغبة في التجديد والاختراع، وأقدر على القيام بالتجاريب الأدبية في الأشكال والصيغ والمواضيع، ممن يقضون العمر نظماً للمدح والسؤال وترقُّباً للرضى والأنعام. وقد فطن ابن رشيق في عبارته السالفة إلى ضرورة اتساع الفراغ للتفنّن في ضروب القول، وإن يكن قد قرن ذلك بذكر الرخص وأضافه إلى البطالة والعبث
فالأدب الإنجليزي ظل دائماً على صلة بالحياة وحقائقها، يعينه على ذلك ما به من روح التجديد، وما اخذ نفسه به من التزود من الآداب الأخرى، وما تمتع به أقطابه من وقت قصروه على فنهم والحياة دائبة التحول والتجدد، فلا ندحة للأدب إذا توثقت صلته بها عن تحول أشكاله وتجدد صورة
وأزيائه. أما الأدب العربي فباعد بينه وبينها تلك العوامل السالفة الذكر؛ فلا غرو أن جمد فلم تتجدد أشكاله مع مرور الزمن، وتحول الأدب الإنجليزي في قرنين من أدب ناشئ مختلط الأوضاع إلى أدب راق متجدد الصور متعدد الأشكال
فخري أبو السعود(183/26)
البيان
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها يقيمها الكاتب على حدودٍ ويديرها على طريقة، مصيباً بألفاظه مواقع الشعور، مثيراً بها مكامن الخيال، آخذاً بوزن تاركاً بوزن لتأخذ النفس وتترك
ونقل عن حقائق الدنيا نقلاً صحيحاً إلى الكتابة أو الشعر، هو انتزاعها من الحياة في أسلوب وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدَّق واجمل، لوضعه كلَّ شيء في خاصِّ معناه وكشفه حقائق الدنيا كشفةً تحت ظاهرها الملتبس. وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة: تستدرك النقص فتتمه، وتتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيَّد فتطلقه، وتأخذ المطلق فتحدُّه، وتكشف الجمال فتظهره، وترفع الحياة درجةً في المعنى، وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلاً يعيش به
فالكاتب الحقُّ لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصوِّرة لهذا الوجود، تصوّر به شيئاً من أعمالها نوعا جميلاً من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسير، تفسير الحقيقة؛ والخطأ الظاهر يريده على التبيين، تبيين الصواب؛
والفوضى المائجة تسألها الإقرار، إقرار التناسب؛ وما وراء الحياة يتخذ من فكره صلة بالحياة؛ والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلة نفسيةً لتعلو به أو تنزل. ومن ذلك لا يخلق الملهم أبداً إلا وفيه أعصابه الكهربائية، وله في قلبه الرقيق مواضع للاحتراق تنفذ إليها الأشعة الروحانية وتتساقط منها
وإذا اختير الكاتب لرسالة ما، شعر بقوة تفرض نفسها عليه، منها إسناد رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به؛ فيكون إنساناً لأعماله وأعمالها جميعاً، له بنفسه وجود، وله بها وجود آخر؛ ومن ثمَّ يصبح عالماً بعناصره للخير أو الشر كما يوجَّه؛ ويلقي فيه مثل السر الذي يلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يرى سهلاً كل السهل حين يتم، ولكنه صعب أيُّ صعب حين يبدأ
هذه القوة هي التي تجعل اللفظة الواحدة في ذهنه معنى تاماً، وتحول الجملة الصغيرة إلى قصة، وتنقلب باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة، وهي تخرجه من حكم أشياء ليحكم(183/27)
عليها، وتدخله في حكم أشياء غيرها لتحكم عليه؛ وهي التي تميز لغته وأسلوبه لأنها تلتقط بمعانيها ألفاظها، وما تعطيه هو إلا لتعطي الناس منه، وكما خلق الكون من الإشعاع تضع الإشعاع في بيانه
ولابد من البيان في الطبائع الملهمة ليتسع به التصرّف، إذ الحقائق أسمى وأدق من أن تعرف بيقين الحاسة أو تنحصر في إدراكها. فلو حدَّت الحقيقة لما بقيت حقيقة، ولو تلبَّس الملائكة هذا اللحم والدم لبطل أن يكونوا ملائكة؛ ومن ثم فكثرة الصور البيانية الجميلة للحقيقة الجميلة، هي كل ما يمكن من طريقة تعريفها للإنسانية
وأيُّ بيان في خضرة الربيع عند الحيوان من أكل العشب إلا بيان الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صور الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم، تكاد بعدد أزهاره ويكاد الندى ينظرها كما ينظره
ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى: كالإيمان والجمال والحب والخير والحق - ستبقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة
وفي الكتَّاب الفضلاء باحثون مفكرون تأتي ألفاظهم ومعانيهم فنّاً عقلياً غايته صحة الأداء وسلامة النَّسق، ويندر البيان في كلامهم فيكون كوخز الخضرة في الشجرة اليابسة هنا وهنا؛ ولكن الفنَّ البياني يرتفع على ذلك بان غايته قوة ألداء مع الصحة، وسموَّ التعبير مع الدقة، وإبداع الصورة زائداً جمال الصورة؛ أولئك في الكتابة كالطير له جناح يجري به ويدفُّ ولا يطير، وهؤلاء كالطير الآخر له جناح يطير به ويجري، ولو كتب الفريقان في معنى واحد لرأيت المنطق في أحد الأسلوبين يقول: أنا هنا في معانٍ وألفاظ. والإلهام في الأسلوب الآخر يقول: آنا هنا في جلال وجمال وصورة وألوان
ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورة خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ اكبر مما هي كأنها شبَّت في نفسه شباباً، وأقوى مما هي كأنما كسبت من روحه قوة، وأدلَّ مما هي كأنما زاد فيها بصناعته زيادة. فالكاتب العلميَّ تمر اللغة منه في ذاكرة وتخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها؛ ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع تخرج عليها طابعه هو. أولئك أزاحوا اللغة عن مرتبة سامية، وهؤلاء علوا بها إلى أسمى مراتبها؛ وأنت مع الأولين بالفكر، ولا شيء إلا الفكر والنظر والحكم؛ غير انك مع ذوي الحاسة البيانية لا(183/28)
تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والتأثر
وللكتابة التامة المفيدة مثل الوجهين في خلق الناس: ففي كل الوجوه تركيب تامٌّ تقوم به منفعة الحياة، ولكن الوجه المنفرد يجمع إلى تمام الخلق جمال الخلق، ويزيد على منفعة الحياة لذة الحياة؛ وهو لذلك يرى ويؤثر ويعشق
وربما عابوا السموَّ الأدبيَّ بأنه قليل، ولكن الخير كذلك؛ وبأنه مخالف، ولكن الحق كذلك؛ وبأنه محيّر، ولكن الحسن كذلك؛ وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك
إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد، وان لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(183/29)
حب الشاعر
للأستاذ السيد محمد زيادة
يا حبها: أأنا مخلوق بك ومخلوق لك؟. . كيف أتَّقيها ولجمالها في كل مشرق من مشارقه صورة، وفي كل صورة معنى، وفي كل معنى خلابة وفتنة؟. .
كنا على موعد أنا وهي، وكان موعدنا بين الأصيل والغروب في حديقة سميناها حديقة الحب؛ تترامى أطرافها، وترى في مكانها من بعيد كأنها عاشق برح به هواء فذهب إلى الخلاء يتفرج بالوحدة، وترى من داخلها في جوها الشعري الغزلي كأنها جنة هيئت لعاشقين
وتقوم بين أفنانها ربوة صاحية نائمة. . . صاحية بنسيمها الرفاف الممطر، ونائمة بمنظرها السكران الحالم، وتظل هذه الربوة شجرة لقاء وارفة تعانقت أغصانها فكان لها مواقف الحب والشوق. . . وهناك على هذه الربوة تحت هذه الشجرة كان الموعد. . . والتقينا
وقبل أن يحين الملتقى بساعة كنت جالساً في حجر الشجرة أترقب من خلال أوراقها احمرار الشمس بعد تمايل الأصيل، وكان كل ما في الحديقة من أشجارها وزهرها يترجرج، كأنما كان للحديقة قلب ينتظر انتظار قلبي. . .
وسرب خيالي بين أنحاء الطبيعة في أنحاء الفكر؛ أما قلبي فكان معي ولم يكن معي!!. كنت أحس انه معي يدق ويرتعش وهو مطمئن خائف، وكنت أحس أنه بعيد عني بعد حبيبتي وأنه قادم معها بعد فترة
ومرت عليَّ الدقائق ثقيلة محببة، فكانت كل دقيقة تأتي بعد دقيقة كأنها اجل يمتد إلى اجل. . .
وإني لفي غرةٍ وذهول فكر إذ رأيت الحديقة تهتز فجأة كأنما راعها رائع. . . فتبينت فإذا بنسمة وردية تنفلق في جو الحديقة نصفين وينفذ من بينهما صوت ملاك. . . وتسمَّعت فإذا بها أغنية هي فن وسحر فن، وسمعت صوت الملاك يردد:
يا حبيب القلب مالي ... شغلت نجواك بالي
وأنصتُّ فإذا الصوت يقترب شيئاً فشيئاً، وإذا الحديقة تبتسم شيئاً فشيئاً، وإذا القلب يذوب شيئاً فشيئاً. . .(183/30)
لقد جاءت الحسناء. . .
جاءت تترنم بهذه الترنيمة!! ومادت بي الربوة فلم اسمع إلا رعد فؤادي، ولم أر إلا برق خيالي؛ ثم انقشعت من فوق رأسي سحابة فنظرت فرأيت الحديقة ترقص، ورأيت الحسناء قد وافت باسمة مغنية متثنية. وخيل إليَّ أن الأشجار كلها قد تجمعت وسارت جحفلاً لتحيي جمالها وتزف إلى الطبيعة في قوامها غصناً خلقه الله ليحيا، وأحياه ليظل سراً وتظل الطبيعة عاجزة عن معرفة هذا السر
ومدت إليَّ يدها وهي ضاحكة وقالت: كأنك تناديني من بعيد، فهل أنت بعيد؟
قلت: كانت روحي بعيدة شاردة، وها قد رجعت لما سمعت صوتك. . . وأنا ألان أناديك منها
قالت: لعل روحك طويلة، ولعلك تناديني من أولها. . .
قلت: بل أناديك من آخرها، ولولا انك أدركتني فأدركت آخرها لضاع مني في الانتظار كما ضاع أولها
ثم ضحكت وافتنَّ مبسمها في الضحك فقلت: كأني بالحديقة كلها تضحك في وردة إذ تضحكين
قالت: هذا رأي خيالك
قلت: ورأي عينيَّ ورأى قلبي ورأى الحقيقة. . .
قالت: إذا كانت الحديقة تضحك فلم لا أراها كما تراها؟
قلت: لأنك لا ترين ثغرك الضاحك كما أراه
فضحك وجهها كله، ويا للجمال في ضحكة الوجه الجميل!!
لقد رايته يومض وميض قبلة دانية تمتنع، ويشع شعاع قبلة ممنوعة تدنو، فقلت: وهاهي الدنيا كلها تضحك
قالت: لقد كبرت الحديقة فصارت في خيالك دنيا. . .
قلت: لا. . . بل تبسمت الدنيا من حول الحديقة لان وجهك تبسم من حول ثغرك
فأطرقت إطراقة حنين وحب، وترقرقت في مفاتن حسنها معاني هواها فكانت فلسفة الجمال بين فلسفة العواطف؛ ثم رفعت رأسها ونظرت إلى السماء فسبحت عيناها في الشفق، ثم(183/31)
عادت إليَّ من غيبتها وقالت: ما ارق قلب الطبيعة، إنها الآن حانية. . . ألا توحي إليك؟. .
قلت: لقد أوحي إليّ بهذه الأبيات وأنت قادمة
قالت: ما أشوق نفسي ألان إلى الشعر
قلت: هذا هو شعر الحديقة:
صدْح البلابل فنٌّ من تغنيها ... يا سكرة اللحن لما مرَّ من فيها
البدر تفسير معنى من تلألئها ... والغصن تفسير معنى من تثنيها
كأنها آية قد أُلبست جسداً ... يحار في حسنها الرفاف رائيها
في صوتها رنة لم يعطها ملك ... تضنى قلوب الورى من حيث تشفيها
غنت فقال الهوى هذي مخلدتي ... هذي التي قدستني في أغانيها
فأسبلت أجفانها على نظرة صارخة ثم زفرت وقالت: آه منكم آيها الشعراء!! إنكم إذ تغوون لا ترشدون
قلت: وأين ألغي هنا؟
قالت: في لسانك من وراء شيطانك، من وراء قلبك. . . لقد جعلت الشعر مصيدة. . . إنك محتال شريف!!
قلت: إذا فما لشعري لم يصد؟
فسكتت هي وقالت عيناها وقالت: يا منكر الخير. . .
ثم سكتت عيناها وقالت هي:. . . ويحك
قلت: لو انك رأيت كيف كان اللحن بين شفتيك وأنت مقبلة عليَّ إقبال الدنيا على طريدها، وكيف كانت شفتاك في وجهك وكيف كان وجهك فوق قوامك، وكيف كان ميد قوامك بين ميد الغصون. . . لو انك ما رأيتِ هذا لكنتِ ألان شاعرة ولما قلت في وصف نفسك غير ما قلته؛. والله لكأن الفتنة ما خلقت إلا للمغنيات. . .
ونظرت إليها خلسة فرأيت وجهها ساكناً يحتج على أني أخطأت وعددت فتنته من فتنة غيره، ثم رفعت بصري لأخلس نظرة أخرى، فصدمتني منها نظرة حزينة وقالت: أكل المغنيات جميلات لديك؟. . .
قلت: ومن غيرك جمعت بين جمال الجسم وجمال الصوت في جمال ثالث هو انفرادها(183/32)
بالجمع بينهما؟؟. . فإذا كنت لم أحسن التعبير فليكن عذري أنني أحسنت القصد
ولكنها غضبت وطال منها الغضب، وتراءت لي كأنها تجادل قلبها في صوابه لترده إلى صوابها، ثم كأنها انتصرت وأمسكت قلبها بالحجة؛. . ثم تبسمت فتهكمت ثم قالت: يخيل إلى انك خلقت وفي قلبك أذن مرهفة للغناء فعشت لتهوى المغنيات، وتجعل من كل منهن قصة حب، وتفيد من كل منهن تجربة حب، وتحسب كلا منهن إنها نهاية فلا تلبث حتى تراها بداية؛ وجاء دوري عندك. . . ولكن أي حب؟!
قلت: حب الشاعر الجاعل روحه نسمة في جوك، الباذل لك من قلبه كل البذل
وقالت: كفى أن تقول حب الشاعر ليفهم سامعك أنه حب أيام أو أسابيع أو شهور، وأنه كالزهرة لا تكاد تينع حتى تجتني
قلت: لقد عكست الوضع يا آنستي؛ فحب الشاعر غير حب الناس، لا يكون له آخر كما يكون له أول؛ وإنما هو الحب الذي يبدأ ليظل حيث يبدأ فيرتبط بأجل الشاعر ما طال أجله ثم يبقى بعده ما بقى ذكره. . . أفلا تعلمين أن الشعراء هم اشد أهل الوفاء تمسكا بالوفاء، وأكثر أهل الحب صدقاً في الحب؟. .
قالت: هذا من وهم الشعر والشعراء
قلت: أفلا تعرفين أنهم يشقون ليسعدوا غيرهم؟. .
قالت: وهذا من أكاذيب الشعر والشعراء
قلت: أفلا تعتقدين أنهم مخلدون؟. .
قالت: وهذا من أحلام الشعر والشعراء
قلت: إذن فماذا تقولين فيهم؟
قالت: أقول إنهم شواذ الناس، أما خلالهم فهي الخير والشر، كلاهما يشق طريقه في جوف الأخر، وأما كلامهم فأجمل ما فيه أكذب ما فيه، وأما حياتهم فما منها غير تناقضها واضطرابها، وليس لها أن تركن إلى حال مهما تكن الحال. . .
قلت: وحبهم إذا كان من قلوبهم؟
قالت: أليس الشاعر كالطائر لا يطيب له عيشه إلا في تنقله بين الأفنان والادواح؟ ثم أليس من طبيعة الشاعر أنه طماح لا تقنع نفسه إلا بسعيه وراء الجديد حيث يكون؟ فهل مع هذا(183/33)
نصدق أن في طوقه أن يحب فتنفرد لديه حبيبته، ويحبس عليها قلبه؟
قلت: وهذه الحرق التي في كبدي منك، ما هي وما مصيرها
قالت: هي الهوى الغاوي ومصيرها إلى غيرها من غيري
ثم اضطجعت إلى ظهر المقعد تبتسم وتخفي ابتسامتها كأنها شاعرة بغيظ فؤادي فقلت: وهذه الألفة التي بين روحي وروحك من أين جاءت إذا لم تكن بنت الحب؟
فقطَّبت بعض جبينها الوضاح، وظهرت لي كأنها تنكرني وتتنكر لي، ففلقت بهذا كبدي ثم قالت: هذه الألفة؟. . سل عنها قلبك. . .
أواه منها!! أواه منها!! ما كان أقساها
وسكتنا فترة وكلانا في حاله. . . هي في دلالها تتأود وتهز ساقاً موضوعة فوق ساق، وأنا في حنقي أتلوَّى واضغط يداً مضمومة إلى يد، ثم نظرتُ إليها ونظرتْ إليَّ فقلت: هل تعلمين كيف أنت ألان في قلبي؟
قالت: لا إخالني إلا ممقوتة مقت الحقيقة عندما تكون مرة
قلت: بل محبوبة حب الدلال في الجمال. . . إني أراك ألان فاتنة أخرى ممثلاً في فتنتها عناد الفتنة؛ فأنت في عيني برق يثور على برق؛ أما أنا فلست أنا. انظري. . . هل تَرينني كما كنت قبل دقائق إنساناً بحالة إنسان؟
فسرّحتْ طرفها في هيكلي، فاقتحمتْ نظراتها إلى قلبي فذابت في دمي وجرت في عروقي، وكانت النظرات شيئاً حلواً في شيء مر. . . كانت رضا في غضب، وإغراء في صد، وليناً في صلابة
ثم كفتَّ الغادة بصرها وقالت: لو لم يكن غرام الشعراء غرام برهة من الدهر قد تطول وقد تقصر لما كان مزعزعاً مُخلّى، ولكان فيه أظهر ما في الغرام؛ ولكن من حكمة الله أنه يخلق في كل شيئا كامل شيئاً ناقصاً ليجعل الكمال في الدنيا غاية لا تدرك
قلت: الشاعر يخلق موعوداً بحبيبة يتناهى إليها الجمال في رأيه، فيعيش ما يعيش هائماً على وجهه بين مراتع الغيد يفتش عن تلك الحبيبة المجهولة، فتجنح به عيناه إلى كثيرات يتخايلن له بتلك التي في غيبه. . . حتى إذا صادفها وعرضت له جمعته على حبها وأخرجته من طور الفكرة المشعثة إلى طور الفكرة الملمومة. . . وهانت التي كانت في(183/34)
غيبتي فأصبحتْ في حياتي
قالت: لا أكاد أصدِّق هذا إلا لأكذِّبه، فما يثبت عندي أنني أول من توافي وأخر من تحب
قلت: كيف لا وأنت قد أصبحت لي في كل مالي، فأنا لا أرى الجمال إلا في جمالك أو في خلال جمالك؟. . إن خيالي ليقف عند نهايتك فليس فيه ما بعدك إلا أنت أو ما يجيء عنك. . .
يا رب سبحانك!! يا فاتح الروح للروح. . . يا هازم القلب بالقلب. . . يا فاعل ما تريد. . . يا رب سبحانك. . .
ماذا أقول؟. . . يا حبها أجب، فأنت السائل وأنت المجيب
آني رايتها تبكي ولكن بغير دموع، وسمعتها تضجُّ ولكن بغير صوت، ثم بدت في عينيها فترة كأنها سنة، ورأيتها في جلستها رخيّة رخيّة كأنها نائمة، وكانت حقاً نائمة نوم أحلام في يقظة فكر
قلت: آه ما أجملك!. . .
قالت: وما اجمل شيطانك. . .
ثم هزت رأسها هزة ضعف، ثم سكتت فتركتها تسكت لأرى ما في سكوتها من كلام حسنها. . . فماذا رأيت؟ رأيت وجهها يحمرُ ويحمر حتى يكاد يلتهب، ثم رايته يميل عني ليخفي ما سفر عليه مما احتجب خلفه، وأدركت ما بها فاستحييت أن أطيل النظر إلى شعاع السحر في احمرار الخفر على محيياها، فأغمضت جفوني على حلم سكران فلم أراها. . .
وسمعتها تتنهد، وجاوبها قلبي فتنهد، وفتحت عيني مخمورتين لأراها فإذا بجمالها ثائر فزع. . . عينان مهمومتان ووجه مرتبك
ثم رايتها وخزت شفتها بسنها، وقرصت إصبعاً بإصبعين، ودقت برجلها على الأرض دقة وقالت: ما أضعف الإنسان!!.
ثم تفتَّرت وتندَّى جبينها وهدأت هدوء الفكر المستسلم فقلت: وما أقوى الحب!!
(طنطا)
السيد محمد زياده(183/35)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
عزرائيل يقبض بيد صفراء
وصل الفائت
ذهب البكباشي ريد رئيس بعثة الحمى الصفراء في جزيرة كوبا إلى الولايات المتحدة بدعوة من السلطات. وبقى مساعداه كارول ولازار في كوبا. أما كارول فطلب إلى لازار أن يسلط عليه بعوضة سبق أن شربت من دم مريض بالحمى، ففعل، ومرض كارول بالحمى ثم أشتفى. ثم وقعت بعوضة وبيئة اتفاقاً على ذراع لازار وهو يدور في عنابر المرضى فمرض بالحمى ومات
- 4 -
وعاد ريد من الولايات إلى كوبا، فرحب به كارول ترحيباً حاراً. وحزن ريد للازار وفرح للتجربتين اللتين نجحتا في إعطاء الحمى إلى كارول والى س. ص. وجفف مدامعه على لازار ورأى في القدر الذي وقع به يد الله التي لا غالب لها، ولم يفته أن يرى فيه ظاهرة للعلم أيضاً. كتب ريد: (أن لازار قرصته بعوضة وهو في عنابر الحمى الصفراء بالمستشفى، فلا أقل من الإقرار بجواز أن هذه البعوضة تلوثت بالحمى الصفراء من مريض، وإذن فحادث لازار وقع اعتباطاً ولكنه لم يضع سدى. . .)
قال ريد: (والآن جاء دوري أنا لأذوق البعوض دمي). ولكنه كان بلغ الخمسين من عمره فأرادوا تخزيله فقال لهم: (ولكن لابد من البرهان). وتُنصتُ إلى صوته الموسيقي فتجده لطيفاً خافتاً. وتنظر إلى وجهه فلا تجد لذقنه هذا البروز الذي يكون للفتوة والرجولة القوية. وتجمع هذا وهذا فتكاد تحسب أن ريد كان في الذي قال متردداً هيابا. ووالله لو حسبت ذلك ما شأنه، وكيف يشينه وهو وأحد من ثلاثة مات أولهم من غير شك وَوُرى التراب يقيناً
قال ذلك الصوت اللطيف الناعم: (ولكن لابد من برهان). وقام ريد صاحب هذا الصوت(183/37)
اللطيف الناعم إلى الجنرال ليونارد وود وحمل إليه الأخبار كلها وما تضمنته من أحداث مؤثرة. وكان وود أقل الرجال تخنثاً. فما سمع ما سمع حتى أذن لريد أن يفعل ما يشاء وأن يذهب إلى أي حد شاء. وأعطاه مالاً ليقيم معسكراً من سبع خيام وبيتين صغيرين، حتى قناة العلم أعطاه ثمنها. وأحسن من هذا كله أنه أعطاه مالاً يشتري به رجالا يقامرون في تلك التجارب بأرواحهم فيسلكون بها سبيلاً تهلك فيها على الأقل نفس من كل خمس فلا تعود إلى الوجود لتستمتع بالثمن الذي دفع فيها. فشكر ريد الجنرال، وخرج عن كيمادوس حتى إذا بعد عنها ميلاً نصب على الأرض سبع خيام، ونشر العلم الأمريكي فوقها، وأسمى المعسكر معسكر لازار - ولنهتف ثلاثاً لذكرى لازار. وستعرف بعد قليل أي أعمال مجيدة وقعت في هذا المكان
ليس آكد في الحقائق من الحقيقة الآتية: كل صائد من كبار صياد المكروب يختلف اختلافاً بيناً عن كل صائد آخر منهم، ولكنهم جميعاً تجمعهم صفة واحدة: أنهم جميعاً مبتكرون، إلا ريد. ولكنه لا يستأهل الشنق لأنه لم يبتكر، لأن عذره حاضر، فأمر البعوض والقراد وغيره من ناقلات المكروب كان حديثا شائعا على ألسن البحاث في عشر السنوات الأخيرة من القرن الماضي، فلم يكن لريد مندوحة عن سماعه واقتباسه. وإن فاته الابتكار في هذا، فوالله ما فاته أن يسود البحاث جميعا بقوة خلقه. وإلى جانب هذا كان مجربا متقناً محسنا. ووسوس إليه خلقه الصلب القويم: (لا بد من قتل الناس لخلاص الناس)، فقام يرسم سلسلة من اختبارات محكمة هي أسوأ ما ابتدعه رجل خير من الجرائم
وكان ريد رجلاً يحب الإتقان والإحسان في الأعمال، فقضى بأن كل رجل يراد قرصه ببعوضة يصير حبسه قبل قرصه أياماً وأسابيع في هذا المعسكر تحت شمسه المحرقة حتى يكون بمعزل عن أي عدوى بالحمى الصفراء تأتى من غير هذه البعوضة، فلا بد أن تكون التجارب مسدودة الثقوب محكمة لا يخر الماء منها. وأعلن ريد في الجند الأمريكي أن الحرب لم تضع أوزارها بعد، وأن حرباً جديدة أُعلنت لخلاص الإنسان. وسأل هل فيكم متطوعون؟ ولم يكد يجف مداد الإعلان حتى دخل إليه في مكتبه جندي يدعى كيسنجر من ودخل معه رجل آخر يدعى جون موران وحتى هذا لم يكن جندياً بل كاتباً ملكياً يعمل في مكتب الجنرال فتز هيولي دخلا عليه مكتبه فقالا: (جئنا أيها السيد لتجرب فينا).(183/38)
وكان ريد رجلاً طاهر الذمة حي الضمير، فسألهما هل أدركا كل الإدراك ما اقدما عليه من المخاطر، وأخبرهما خبر الصداع الذي يجيئهما، والتهوع الذي يأتيهما، والقيء الأسود الذي يقيأن. وذكر لهما ما كان من وافدات جائحة لم تبق من الرجال على رجل واحد ليعود فيحكي خبرها ويدل على فظائعها
فأجاب الرجلان: (نعلم ذلك، وإنما جئنا تطوعاً واختياراً في سبيل العلم والإنسانية وحدهما). عندئذ اخبرهما ريد بما كان من كرم الجنرال ود، وذكر لهما أن من تعضه البعوضة سيكون له مائتا ريال قد تزاد إلى ثلاثمائة. فقال الرجلان: (نحن إنما تطوعنا على ألا نأخذ عن تطوعنا أجراً)، فانتفض ريد على قدميه ورفع يده بالسلام إلى قبعته، وهو البكباشى، وقال لهما: (أيها السيدان الكريمان، لكما تحيتي!)
وفي نفس هذا اليوم دخل الاثنان المحجر العسكري ليتجهزا فيه ليصيرا بمثابة خنزيرين غينين للتجريب على أحسن ما تكون الخنازير، فلا تدخل إليهما لوثةً ولا تتطرق إليهما ريبة. وفي الخامس من ديسمبر استضاف كيسنجر خمس بعوضات شربت من دمه حتى تروت، وكانت اثنتان منها قد شربتا منذ خمسة عشر يوماً وتسعة عشر يوماً من دم مرضى هلكوا بالحمى. ولم تمض عليه غير خمسة أيام حتى جاءه صداع يكاد يصدع رأسه، ومضى يومان آخران فاخذ يصفر لونه، وتعاقبت عليه أعراض المرض كما يجب أن تكون. ثم تعافى فحمد الله ريد على هذا الشفاء
ثم جاء المجد يسعى إلى ريد وصاحبيه كارول وأجرمنتي. وإن يكن الدهر لم يسعفهم، بمعنى أن الشبان الأمريكيين لم يزدحموا عليهم للتطوع ازدحاماً ويدوسوهم في سبيله دوساً ويرموا بحياتهم رمياً في سبيل العلم والإنسانية، فقد بعث الدهر إليهم رجالاً أسبانيين جاءوا من كوبا حديثا من أسبانيا، وكانوا غاية في الجهالة، وكان لهم مأرب في المائتي ريال؛ فتقدم خمسة من هؤلاء طمعاً في المال. ولنسمهم المهاجرين الأسبان، أو لعل الأوفق أن أسميهم بالأرقام 1، 2، 3، 4، 5 كما يسمى صيادو المكروب حيواناتهم التجريبية فيقولون الأرنب رقم 1 والأرنب رقم 2 وهلم جرا. وعلى كل حال تقدم هؤلاء الخمسة، فلما تهيئوا للقاء البعوض عضهم عضات هي أخطر في المتوسط من الرصاص البنادق، واستحقوا المال الذي أخذوه، فأن أربعة منهم جاءتهم الحمى الصفراء على أبين ما تجيء وبأظهر ما(183/39)
تكون من الأعراض، أو كما يقول بعض الأطباء إذا هم لبسوا جلد العلماء: (بأجمل ما تكون الأعراض) وهذا نصر مبين! نصر لا يأتيه الشك من أي جهاته؛ فأن أحداً من هؤلاء الرجال لم يقترب يوماً من حيث يكون الوباء، وأخذوا فعوملوا معاملة الخنازير الغينية والفئران والأرانب التجريبية فحبسوا طويلاً في كيمادوس في خيمات مستورة لا يصنعون شيئاً ولا يرون أحداً، ولم تحدث لهم أحداث إلا شكات في أجسادهم شكتهم إياها إناث البعوض المقلمة ظهورها بالفضة. وكان الضجر لاشك قاتلهم لولا أنهم كانوا جهالا مغرقين فلم يكن بينهم وبين الحيوان فارق مبين
كتب ريد إلى زوجته يقول: (افرحي معي يا حبيبتي، فإنك لو استثنيت لقاح الدفتريا وبشلة السل التي اكتشفها كوخ، فهذا الكشف العلمي الذي وجدناه سيروى للأحفاد بأنه أكبر كشف حدث في القرن التاسع عشر. . .)
لم يكن ريد في السبيل التي اتخذها مبتكراً، ولكن دقته هذه بلغت حداً تنهض به إلى طبقة المبتكرين، فهو لا شك مبتكر في دقته، وقد كان في مقدوره أن يقف من بحثه عند هذا الحد، بل لعلك مقسم أن قد سولت له نفسه الوقوف عند هذا الحد، ولِمَ لا وهؤلاء ثمانية جاءتهم الحمى من قرصات البعوض؟ ألا أي حظ هذا الذي صحب ريد فلم يمت من رجاله الثمانية غير واحد؟
على أن ريد لم يقف عند هذا الحد، وأخذ يتسأل: (. . . ولكن أيجوز أن تنقل الحمى عن طريق غير البعوض؟)
واعتقد الناس أجمع أن ملابس الموتى من الحمى وأفرشتهم وكل ما يمتلكون يحمل الموت في طياته، فأحرقوا من أجل ذلك من الأفرشة والملابس ما بلغت قيمته ملايين الدولارات. وارتأى هذا الرأي رئيس الأطباء، وأرتآه كل طبيب له اسم في أمريكا شماليها وجنوبيها وأوسطها إلا الشيخ المخبول فنلى. وتشكك فيه ريد. وبينا هو في سرور من نجاحه في عدوى كيسنجر والأسبانيين المهاجرين جاء النجارون فنصبوا بيتين صغيرين دميمين في معسكر لازار. وكان البيت الأول أقبح البيتين، طوله أربع عشرة قدما في عشرين عرضا. وكان له بابان في مدخله، نصب أحدهما في حذقٍ خلف الآخر حتى لا يفلت منه البعوض. وكان له نافذتان تطلان على الجنوب فتحا والباب في حائط واحد حتى لا يجري في هواء(183/40)
البيت تيار. ووضع في البيت موقد لطيف ليرفع حرارته بعيداً فوق الدرجة الثانية والثلاثين المئوية، ووضع فيه براميل مليئة بالماء ليتشبع منه الهواء فيصبح بحره ومائه خانقاً كبطن سفينة ببعض مناطق الاستواء. وكان في هذا كفاية لهذا البيت من كرب وضيق، ولكن جاء الثالث عشر من نوفمبر عام 1900 فحمل جند إليه وهم يتصببون عرقاً عدداً من صناديق محكمة التسمير متهمة المنظر جاءت من عنابر الحمى الصفراء لتجعل من هذا البيت مثلاً يضرب في اللعنة والشؤم. . .
فلما أدبر نهار هذا اليوم وخيم ليله شهد ريد وكارول مشهدا من خير مشاهد الشجاعة والتضحية، ففي هذا البيت اللعين الأول دخل دكتور أمريكي شاب يدعى كوك، ودخل معه جنديان أمريكيان (ليت شعري ماذا عوق الناس فلم تنصب لهؤلاء الأبطال تماثيل الأبطال) يدعى أحدهم فوك ويدعى الآخر جرنجان
وفتح هؤلاء الرجال الثلاثة هذه الصناديق المحكمة المريبة داخل هذا البيت في جو رطب متلزج تضيق فيه الأنفاس
أُف لها من رائحة كريهة! ولعنوا وسبوا وسدوا أنوفهم واستمروا يفتحون الصناديق. فأخرجوا منها وسائد عليها القيء الأسود لقوم ماتوا بالحمى. وأخرجوا منها ملاءات أسرةٍ وألحفةٍ تلوثت بما يخرج من المريض إذا غاب حسه وهمدت قوته وضاع تحكمه في جسمه. وأخذوا يضربون الوسائد وينفضون الملاءات والألحفة، فقد كان ريد قال لهم: (لابد أن تعفروا جو هذه الحجرة بالوباء وتنشروه جيداً بين أرجائها). وقاموا يهيئون لأنفسهم من هذا المتاع فراشا على آسرة صغيرة من آسرة الجيش. وخلعوا ملابسهم ورقدوا على هذه الفرش القذرة وحاولوا النوم في تلك الحجرة الملعونة. . . وأقام ريد وكارول على هذه الحجرة يحوطانها بالرعاية ويحاذران خشية أن تدخلها بعوضة تائهة. أما طعام فوك وكوك وجرنجان فلا تسل عنه فقد كان لا شك أطيب طعام
وتوالت الليالي وثلاثتهم في هذا البيت راقدون، ولعلهم كانوا يفكرون فيما صنع الله بأرواح من سبقوهم إلى هذه الملاءات وهذه الألحفة، أو لعلكم كانوا يفكرون هل من سبيل غير البعوض تنتقل به الحمى. . . ثم جاء ريد، وهو رجل يجمع إلى طهارة ذمته شدة دقته؛ وجاء كارول، وهو رجل كالح عبوس؛ جاء كلاهما يزيدان تجربتهما إحكاماً على إحكام.(183/41)
فحملا معهما صناديق أخرى وردت من عنابر الحمى الصفراء، فلما فضها فوك وكوك وجرنجان فزعوا إلى خارج عجزاً عن احتمالها ولكنهم عادوا ورقدوا وناموا. . .
وقضوا على هذا عشرين ليلة! فأين ذكراهم لا تُخلَّد، ولِمَ صنيعهم لم يُمجّد! ثم نقلوا وعزلوا وحدهم في خيمة طلقة الهواء وانتظروا أن تأتيهم الحمى: ولكنها لم تأتهم، وزادوا وزناً وصحوا أجساماً وقرقعوا بالنكات على البيت القذر الذي شرفوه، وعلى ألحفته وملاءاته التي تلفعوا بها فيه. ولما جاءتهم الأخبار بان كيسنجر والأسبانيين أصابتهم الحمى ضحكوا ملء أشداقهم كتلاميذ المدارس أن تكون الحمى جاءت هذه الأجسام الكبيرة من عضة بعوضة صغيرة
قد يعجبك هذا البرهان إعجابا شديدا، ولكن أي تجربة فظيعة تلك التي ساقت إليه، على أنه لم يكف ريد فلم يرضه علمه ولم تقتنع به لوثته
فأعاد الكرة، فأدخل إلى تلك الحجرة ثلاثة آخرين من شباب أمريكا، وجاءهم بملاءات وألحفة جديدة القذر جديدة البشع وعلى هذا أنامهم عشرين ليلة؛ وأراد أن يزيد في رفاهيتهم فأنامهم في نفس الأقمصة التي مات فيها المصابون
ثم عاد بعد ذلك فأدخل ثلاثة شبان امريكيين آخرين في نفس هذا البيت، وأرقدهم فيه عشرين ليلة على نفس الأسلوب مع فرق بسيط زاد التجربة دقة: ذلك أن غطى ووسائدهم بفوط أُشربت قبل ذلك من دماء رجال ماتوا بالحمى
وبرغم كل هذا بقي كل هؤلاء الرجال التسعة أصحاء فلم تنلهم مسة ولو خفيفة من الحمى. قال ريد: (ما اعجب العلم؟).
وكتب: (إن الأسطورة الكاذبة التي تقول بأن الملابس تنقل الحمى الصفراء قد انفقأت كما تنفقئ فقاعة تخزها بدبوس). ولقد صدق ريد، فما أعجب العلم حقا! ولكن كذلك ما أقساه! وما أقسى صيادة المكروب! فهي قد تنزع من الباحث قلبه. وأخذ شيطان ريد الباحث يوسوس إليه: (ولكن أصادقة حقاً تلك النتائج التي أدت إليها تجاربك)؟ نعم إن الحمى لم تأت أيا من هؤلاء الرجال الذين ناموا في هذا البيت، ولكن ما أدرانا أنهم بطبيعتهم حصينون من الحمى، فهي لا تأتيهم أبداً؟ وكان ريد وكارول سألا فوك وجرنجان أمرا هو أقصى ما سأله ضابطا جنديا فأجاباهما إليه، ومع هذا فقد قام الاثنان من جديد فحقنا(183/42)
جرنجان بدم وبئ أشد الوباء جاءا به من دم مريض، وقرصوا فوك ببعوض كان قرص مرضى ماتوا من الداء. فأصيب جرنجان وفوك بآلام جسام. واحتقن وجهاهما، واحمرت بالدم عيونهما، ونزلا وادي الموت ولكنهما عبراه سالمين. فحمد ريد ربه؛ حمده لخلاصهما، ولكنه حمده على الأكثر لما تبين له أنهما لم يكونا حصينين من الحمى لما باتا في بيت الكرب عشرين ليلة
ووهبوا كلا من فوك وجرنجان عن صنيعهما ثلاثمائة ريال، وهو مبلغ لم يكن صغيراً في تلك الأيام
(يتبع)
احمد زكي(183/43)
بين عامين
أنا ونفسي. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . كنت نائماً ولكن قلبي لم ينم، بل كان يقظان يهزني لأفيق، ويغريني بشتى الألاعيب يلوح لي بها، ملفوفة بثياب الأحلام زاهية وكابية، سارة ومحزنة. . . فلا أحفل بها، فلما ضاق بي ذرعا، وضعني على حافة الهاوية، ودفعني. . . فأفقت فزعاً. . .
فإذا العام على وشك الرحيل!
نظرت من النافذة فإذا كل شيء أراه نائم؛ هذه النخلة التي تقوم حيال شباكي، وقبة الأعظمية التي تبدو من ورائها في عظمة وجلال، ودجلة التي تجري صامتة مهيبة، والقمر الذي يغسل ماءها بشعاعه. . .
وإذا على الطريق شبح يسير منهوكا!
على الطريق الذي لا يمتد في سهل ولا وعر، ولا يسير على سفح جبل، ولا شاطئ بحر، ولا يسلك الصحراء، ولا يخترق البساتين. . . ولكنه يلف السهل والوعر، والجبل والبحر، والصحراء والبساتين وكل ما تحتويه، ومن يكون فيها. .
على الطريق الطويل الذي يلوح كخط أبيض، يغيب أوله في ظلام الأزل، ويختفي آخره في ضباب الأبد. .
رأيت شبحاً يسير على. . طريق (الزمان)!
وسمعت صائحاً يصيح بالطبيعة: أن تيقظي، إن العام يرحل الآن!
ففتحت النخلة عينيها ونظرت، فلما رأته قالت: قد رأيت عشرات مثله تأتي وتذهب، فلم تبدل شيئاً. . الفأس لا تزال باقية، وهذا الوحش البشري لا يزال ينتظر ثمري ليسلبنيه؛ ثم إذا قنط مني كافأني بالفأس والنار. . . فمالي وللعام الراحل؟
وأغمضت عينيها فنامت، ولم تكترث!
ونظرت القبة، فلما أبصرته قالت: قد رأيت مئات مثله تجيء وتروح، لم تبدل شيئاً؛ فهذا النخيل قائم حولي كما كان، والشمس تطلع عليّ كل يوم وتغيب، والنجوم تسطع فوقي كل ليلة، والأرض تنتظرني، تريد أن أهرم فتجذب أحجاري إليها وتأكلني. . وكل شيء على(183/44)
حاله لم يتبدل إلا الإنسان: كان الخليفة يمشي تحتي، ويخطر بين أساطيني في حلل المجد وأردية الجلال؛ إن أمر أطاعت الدنيا، وإن نادى لبى الدهر، وإن مال مالت الأرض؛ وكان الناس يطيفون بي أجلة أمجاداً، عباداً أذلاء لله، وملوكا أعزة على الناس. . فأصبحت وحيدة منعزلة، لا أرى إلا هذه الفئات من العامة المساكين الذين تعروا من كل جاه إلا جاه العبادة، ومجد إلا مجد الآخرة. . فمالي وللعام الراحل؟ وأغمضت عينيها، وعادت تحلم، ولم تكترث!
وتنبهت دجلة ونظرت، فلما رأته قالت: قد رأيت ألوفا مثله تمر في هذه الطريق فلم تعمل في الكون شيئاً، ولم تغير إلا الإنسان؛ كانت تقوم على شاطئ القصور الفخمة، تتوج هامها العظمة، ويحل أرجاءها الجلال، ويمثل في أبهائها المجد، ويقف على بابها التاريخ، يصدر عنها، ويكتب حديثها، وتبثق منها أشعة الحضارة والفن، وتسطع منها أنوار العلم والأدب، وتومض في شرفاتها وأروقتها العمائم التي كانت على أشرف رؤوس وأحفلها بالفضائل والعلوم. . . فلم يبق من هذا كله إلا أطلال، يريدون أن يطمسوا اليوم آثارها ويغطوا عليها بقبعة. . . ولكن ذلك لن يدوم؛ إن طريق الزمن لا يزال مسلوكا. . . ثم صمتت وعادت تجري كما كانت تجري ولم تكترث!
وأنصت القمر وأطل ينظر، فلما رأى العام الراحل قال: لقد رأيت ملايين مثله، وقد مللت مر السنين وكر العصور، فمالي وله؟ وعاد يفيض نوره على الكون ولم يكترث!
وبقيت وحدي!
بقيت وحيداً. . فنظرت في نفسي:
لقد صحبت سبعاً وعشرين قافلة من قوافل الزمان. . . فهل اقتربت من آمالي؟ هل دنوت من الغاية التي أسعى إليها في سفري؟
ثم سألت نفسي: ما هي الغاية التي تسعين إليها؟ أتسيرين إلى غير ما نهاية، كلما مر عام تعلقت به فسرت معه حتى يضيق بك عام من الأعوام فيقذف بك إلى وادي الموت؟ ألا تعلمين إلى أين المسير؟
ولم تكن النفس ترقب مثل هذا السؤال، فاضطربت اضطراباً شديداً، وكثرت فيها الآراء، واشتد بين أعضائها الخلاف، ثم انشقت انشقاقا، وانقسمت أحزاباً، وانتثرت نفوساً(183/45)
قالت النفس الأولى: الغاية يا صاحبي واضحة؛ إننا نسعى لخدمة هذا الجسم الذي نحمله، نحيا لنسد حاجاته، وإجابة رغباته، وإمتاعه بملذاته
قالت الثانية: خسئت أيتها (النفس الفاجرة!) إننا لم نسخر من أجل هذا العنصر الأجنبي؛ إن الجسم ليس منا
قالت الأولى: أفهو إذن من غيرنا؟ وقهقهت ضاحكة
قالت: اسخري من نفسك، إنه لو كان منا، لما عشنا إلا فيه ولم نعش بعده؛ إنه ثوب نلبسه ونخلعه، أفيكون الثوب جزءا من اللابس؟
قالت الأولى: إنني لم أفهم فلسفتك، أتزعمين أن يدي ورجلي ليستا مني؟
قالت: نعم إن المرء لو قطعت يده أو رجله، أو ذهب سمعه أو بصره، لا تنقص نفسه شيئا، بل لقد يكون الأعمى الأصم أكمل نفساً، وأقوى عقلا، وأسمى روحا، من السميع البصير؛ وإنك لتعلمين هذا، ولكنك (نفس سوء) تريدين الاستمتاع بشهواتك، ونحن لا نحيا لنيل الشهوات!
قالت الأولى: فلم إذن نحيا يا أيتها (النفس المفكرة؟)
قالت: نحيا لنكشف خبايا الوجود، لنستطلع طلع الكائنات، لنعرف نواميس الكون وأسرار الطبيعة. . . من أجل هذا نحيا
فانبرت لها نفسي الثالثة. . . فقالت:
- كنت أظنك عاقلة تفهمين وتعرفين، فإذا أنت جاهلة. ويحك! ما نحن والوجود؟ مالنا وللطبيعة؟ ماذا يعنينا أكانت المجرة نهراً في السماء، أم كانت مجموعة من الكواكب؟ وماذا ينفعنا أن يكون في المريخ ناس، أو يكون مقفراً لا ناس فيه؟. . . مالنا ولهذا الفضول؟
قالت الثانية: إنك (نفس شاعرة) تنكرين قيمة العلم
قالت: إن هذا العلم خسران لك يا حمقاء! إنك كنت ترين في الكسوف حادثاً غريباً مليئاً بالأسرار يبعث فيك عالماً من العواطف، فلما علمت انه حادث طبيعي: كوكب يقوم بحذاء كوكب، ضاع معناه، وانتفت أسراره، ولم يعد يثير فيك عاطفة، أو يهيج فيك حسا
قالت الثانية: وما قيمة العاطفة؟ أتريدين أن ندع العلم من اجل عاطفة؟
قالت الثالثة: لا. بل تعلمي، ولكن تعلمي ما تحتاجين إليه؛ العلم دواء يؤخذ بمقدار الحاجة،(183/46)
ولكن الشعور غذاء لا يستغنى عنه، فنحن نحيا لنرى الجمال ونستمتع به، ونتذوقه في الطبيعة وفي الإنسان وفي الفن. . . من أجل هذا نحيا
فوثبت النفس الرابعة (النفس المؤمنة المطمئنة) فقالت: يا للسخف!
قالت الثالثة وقد غاظها ما قالت: أي سخف ترين من فضلك؟ إذا كنا لا نرى الجمال فلم نحيا؟
قالت الرابعة متهكمة: كأنك تحيين الآن! إنك يا سيدتي سجينة فاسعي لتتخلصي من قيود السجن، ثم انطلق في فضاء الحرية، فعيشي في الحياة الأخرى: حياة الانطلاق
ورأيت المناقشة قد طالت وغدت مملة، وتشعبت فيها الآراء فأسكتهن ورجعت أفكر وحدي
قلت: إنني لا أدري لماذا أحيا؟ ولا أعرف ما هي صلتي بالكون!
كنت أنظر إلى الدنيا من خلال الكتب، وأشرف عليها من نافذة المدرسة، فأراها صغيرة كقبضة الكف، فحسبت أني إذا خرجت من المدرسة وحزت الشهادة قبضت عليها بيدي
وعشت بهذا الأمل، فلم أعرف حقيقة الحياة، ولم أعد لها العدة، ولم أجد من يخبرني خبرها إلا هؤلاء الأساتذة، وهم قوم مخادعون، لا يبصرون التلميذ بالدنيا كما هي في ذاتها، بل كما يريدون هم أن تكون. . .
وخرجت من المدرسة، وهبطت من سماء الخيال إلى ارض الحقيقة، فإذا الطريق مزروع بالشوك؛ فانطلقت امشي وأجاهد بهمة الشاب القوي الطموح، فما قطعت من الطريق إلا قليلاً حتى وجدت هذه (الطفيليات البشرية) تتعلق بكتفي وتستمسك بي، حتى إذا دنوت من أول منزل وهممت أن أستريح فيه وثبت فسبقتني إليه، فسرت أجاهد وأتقدم أؤم منزلاً آخر، حتى هدني التعب، ونال مني النصب، ولم أصل إلى شيء
ولاح لي فجأة قصر عظيم على جانب الطريق، تلمع قبابه المغشاة بالذهب، وتشرق جدرانه المغطاة بالفضة، وتضيء نقوشه وزخارفه في شعاع الشمس، ويقرأ على بابه بأحرف من النور: (هذا قصر اليأس) فراعني مظهره، وهممت أن أحيد عن الطريق فأدخله، ولكني نظرت إليه أولاً، فإذا هو موحش مظلم في وسطه قبر مفتوح مملوء بالأساود والأفاعي. . . وإذا هو خال من البشر، ليس فيه إلا جماعة الشعراء البائسين، يعدون قصائدهم لتدفن معهم في هذا القبر الأسود فلا يدري بها أحد. . .(183/47)
فوليت هاربا، وآثرت العودة إلى مقارعة الشوك، وجهاد الحياة
عدت فقارعت وجاهدت، فلم أصل إلى شيء. . . فسألت نفسي: هل أيأس؟
سألتها وحدثتها، ولكني جهرت بالحديث، فأيقضت النائمين. . .
أطلت علي النخلة؛ فقالت: إلامَ تجاهد وتناضل؟ ماذا تريد أيها الرجل؟ ألا تقنع مثلي بأن تقف في مكانك حتى يأتيك الموت؟
قلت: لا. إن لي غاية واحدة، هي أن أبقى دائما أجاهد وأناضل!
فضحكت وقهقهت أوراقها، وعادت إلى منامها
ومدت القبة رأسها فقالت: ألا تنام مثلي أيها الفتى وتحلم؟ لماذا تعدو في طريق القبر؟ قلت: إني أحب أن اصل إلى القبر لأني سأخرج منه إلى الفضاء الواسع؛ سأخلع فيه ثوبي الجثماني ثم أنطلق صُعُدا
فذهبت وهي تحدث نفسها: ينطلق صعداً؟ أنا هنا منذ ألف ومائة سنة ولم انطلق صعداً، ثم رجعت إلى المنام
وقالت دجلة وقد صفق لي ماؤها سروراً:
- امض أيها الغلام امض؛ إن طريقك طويل، ولكنك قوي؛ إنك لا تمشي إلى القبر لتفنى، ولكن تدخل من باب القبر إلى عالم الخلود، هأنا قد بلغت من العمر سبعمائة وخمسين ألف سنة، ولكنك قد ولدت بعقلك قبلي، وستعيش بروحك من بعدي. . . انطلق. . . انطلق إلى حياة الخلود؛ إنك ستبقى بعد أن تموت الجبال، وتغرق البحار، ويختنق الهواء. . . وتدفن الصحراء!
وأمن القمر على كلامها، وأطلَّ عليّ من النافذة فصافحني بشعاعه وقال!
لقد صدقت! إنك تعيش ألان لتعد العدة للحياة. . . إنك ستحيا حقاً حين تنطلق من قيود الجسم
ثم صمت. . . وصمت!
وكان العام يقطع اللحظة الأخيرة. . . فصحت به:
أنا الذي يهتم بك أيها العام. . . أنا الذي يودعك ويستقبل غيرك، لا النخلة ولا القبة ولا دجلة ولا القمر. . . تلك للفناء، وأنا للبقاء. . . تلك تنتظر الموت، وأنا انتظر الحياة. . .(183/48)
أنا امشي على هام السنين إلى الحياة الأخرى!
(بغداد)
على الطنطاوي(183/49)
بَنانٌ على بيان (البيانو)
للشاعر العالم الراوية الأستاذ أحمد الزين
ضَربتْ على وَتَر الحنانِ ... نفسي فداؤك من بنان
وشدَت بعاجٍ من أنا ... مِلِها على عاجِ (البيانِ)
مرّت عليه مثلما ... مرّت على القلب الأماني
أو مثلما مرَّ الخيا ... لُ يعيدُ لي ذكرى المغاني
وأفتن في سحر النُّهى ... شدُو الأنامل وَاللِّسان
وهفاَ بلُبِّكَ في أفا ... نين الصبابة ساحران
رنّات ساحرةِ الغِنا ... ء تجيبُ رنات المثاني
بثت إلى الأوتار من ... حرَ الصبابة ما تعاني
كم أودعت ألحانَها ... في الشوق من سحر المعاني
فتحِسُّ أوتار (البيا ... ن) وَقلبها يتشاكيان
لم يعرف الحبَّ المبَّر (م) ... ح مثلُ أفئدة الغواني
فلُرب حابسةِ الدُّمو ... ع وَدمعها في الصدر قاني
حبس الحياءُ بكاءها ... فبكت بترجيع الأغاني
نشرت صحيفة لحنها ... رمزاً يدق على البيان
رمزوا إلى ألحانهم ... صوناً لها عن الامتهان
وَاللحن من سرِّ الملا ... ئك غير مبتذل الصيان
وحي تنزَّل من سما ... ءِ قريحة ذات أفتنان
تنسي الوقورَ وقاره ... طرباً وَتمضي بالجبان
وتخالُ بالأوتار نا ... رَ الشوق تُضرمها اليدان
لاقت أنامِلها (البيا ... نَ) كما تلاقى عاشقان
يتضاحكان من السرو ... رِ وَفي الأسى يتباكيان
في نفْحة أْحسَسْت من ... طرب بها طَرب المكان
وَتجاذَبَا ذِكر الهوى ... وحديث أيامٍ حِسانِ(183/50)
وَليالياً طابت وَأث ... مارُ المنى فيها دواني
ومجالساً هبطت إلى الد ... نيا بها عُليا الجنان
زَمن تولى صفوه ... أيعود صفوك يا زماني
آناءُ لهوٍ خلّفت ... حزناً عليها كل آن
لم أنسها يا صاحبْي ... وُدي ولكن ذكِّراني
إني لُيطربني الحدي ... ث وَإن ملأت بها جناني
زيدا فؤادي لوْعة ... لا تطعما أن تسلياني
من لم يذق ألم الحيا ... ة قضى سِنِيها وَهو فاني
(احمد الزين)(183/51)
هدى النفس
بقلم العوضي الوكيل
يا هُدَى النفس بعد طول ضَلال ... لا تزالين لمْعَةً في خيالي
أتملاكِ في خياليَ طيفاً ... بالغ السحرِ، عبقريَّ الجمالِ
وٍكأني أراك باسمةَ الثغ ... ر تجيبين لوعتي وَاشتغالي
نحن روحان عاشتا قبل هذا الكو ... ن، في عالم رفيع الجلال
ينكر الناس منهُ صورةَ ما تش ... هدُ عين الهوى، وَلسنا نُبالي!
أنا هذا الفتى المثالِيُّ في التسع ... ر، وأنت - الحياةَ - أسمى مِثال
العوضي الوكيل(183/52)
الفنون
بيتر باول روبنز
الفنان الخالد
للدكتور أحمد موسى
إذا قيس قدر الفنان بعمله، وفنه بحسن اختياره، ومجده بتراثه، فأنك تجد روبنز في عصره إمام الفنانين، وحجة العارفين، لأنه الفنان الذي عاش لفنه، وشعر بالجمال فيما حوله، وبحث وراء المثل الأعلى في كل ما صادفه. صور الجمال فأبدع، والطبيعة فأحسن، والحياة فأجاد. صور القصص التاريخية والدينية فأوضح، والشخصية فعرف؛ لا تجد فيما ترك مجالاً للنقد، ولا بين ما أختار موضعاً للزلل
هذا هو روبنز الذي ولد في مدينة سيجين سنة 1577، وانتقل في صحبة والديه وأخوته إلى كولونيا سنة 1578 وبقى فيها إلى سن العاشرة ثم تركها إلى انتفرب سنة 1588. تمتع بقسط وافر من التربية الراقية التي لم تكن دائماً متوفرة لغيره من الفنانين، ودان بكثير من درايته بالتاريخ العام والتاريخ الديني إلى المدرسة الكاثوليكية بانتفرب
شب روبنز مولعاً بمشاهد الطبيعة، موهوبا حدة النظر ودقة الملاحظة، له نظر سجل كل ما رآه؛ انجذب نحو الجمال، وتعطش إلى الخلود، وهام بالكمال المطلق
لم ير روبنز المثل الأعلى بين الموجودات، ولكنه ظل في خياله السامي، فعبر عنه جهد طاقته في تراثه المجيد
استمد من الطبيعة مادة التعبير والتصوير، فاستطاع إظهار ما انطوت عليه عبقريته وما جال بخاطره. كان من هذه الناحية عبداً للطبيعة، ولكنه فاز في النهاية بدرجة الوصول فكان سيدها، لأنه استمد منها مادته، ووصل بها إلى ما لم تصل هي إليه من تسام، إن قدر لنا أن نتأمله ونفهمه ونتأثر به، وصلنا نحن أيضاً بمشاعرنا إلى كمال الاستمتاع
كان أول معلميه للمناظر الطبيعية توبياس فيرهجت الذي وصل صيته إلى إيطاليا، كما كان أدم فان نورت معلمه لتصوير الأجسام والمناظر الشخصية؛ أما معلمه للفن والألوان فكان اوتوفان فين(183/53)
لاحظ فيه معلموه نبوغا ظاهراً، فكانت دروسهم له أشبه بتعاريف أولية لأصول سير العمل، أما هو فقد نهج في اقصر وقت منهجا سار عليه وعرفت روحه فيه، وظل بعد مائة عام يؤثر في الفن الفلامنكي تأثيراً عميقاً إلى أقصى حد
شاءت المقادير لروبنز أن يسافر إلى إيطاليا سنة 1600، وشاءت المقادير أن يلحق بخدمة أحد أمرائها الذي كان من كبار عشاق الفنون الجميلة في مدينة مانتوا، فشاهد روبنز لدى الأمير حيناً وبوساطته حيناً أخر أحسن ما أخرجته قرائح الفنانين الإيطاليين وغير الإيطاليين
لم يكن لروبنز إلا الانتقاد والتأمل، فكان في حالة من البؤس النفسي شبيهة بحال الفيلسوف المتصوف؛ لم يقنع بما رآه، ولم ير شيئاً عده كاملاً؛ ولذا فقد عمل مكملاً، وصل إلى ما صبت إليه نفسه، تلك النفس التي تميزت من نفوس المجموع بدقة التأمل وبالدرس. وبقوة الملاحظة وبالتغلغل في كنه المرئيات، وأخيراً بالقدرة اللانهائية على تفهم الجمال
وبقدر تفانيه في التصوير كان عاشقاً لسماع الموسيقى ولعزفها، كأنه يقول إن مصدر الفنون واحد، وإن الفنان الكامل لابد له من دراية بالفنون الأخرى لزيادة الاستمتاع بما في الحياة من مكنونات لا يصل إليها إلا العارف
تراه أيضاً ألمّ بأصول الكيمياء لرغبته في الوقوف على سر صناعة الألوان
سافر كثيرا، وتأمل كثيرا؛ لم يترك لحظة تمر دون النظر والدرس، باحثاً عن الجمال أياً كان نوعه، وحيثما كان وجوده. كان لرحلته إلى أسبانيا تأثير في نفسه لم يقل من اثر رحلته إلى إيطاليا التي استطاع أن يعرف الفن القديم والفن المعاصر أثناء إقامته بها
وتدل كراسات روبنز ومذكراته الخاصة على أنه كان كثير التدوين والتسجيل والنقل والاقتباس، لا للتقليد بل للإلمام، شأن العالم الجهبذ؛ فتراه ينقل قدماً لتمثال استماله، ووعيناً من صورة استهوته، وذراعا ورأساً من أخرى، فكان جباراً في اختياره عنيفاً في نقده
خلق روبنز فنا قائما بذاته ومدرسة عرفت باسمه، بعد أن شاهد الكثير من أعمال فناني إيطاليا، وتأثر إلى حد بعيد بميشيل أنجلو وروفائيل وتيتسيان وكراتسي، كما أن بعض لوحاته تمت بصلة إلى جيليو رومانو الذي شاهد صوره عندما أقام في مانتوا
أشبع نفسه الفنية، فعرج بعد عودته من إيطاليا على دراسة الألوان ودرسها درساً وافياً،(183/54)
فكان له في صوره لون اسمر قوي، وظلٌ ازرق رمادي عُرفا بعده باسمه
أقام في بروكسل حيث تزوج من ايزابيلا برانت سنة 1609 وبنى بيتاً خاصاً لأقامته كان متحفا لآيات الفن ومدرسة لتلامذته، أمثال فان دايك، وفان تولدن، وكورن، وارسموس كويللينيوس، وجان فاندن هوك، وتوماس فان ايبرن، وساللارت، وفوتز، ودل مونت، وولفوت
وكل هؤلاء كانوا خير معين له على إتمام أعماله، فكان غالباً يضع التصميم والرسم التخطيطي ويترك لهم القيام بالتنفيذ تحت إشرافه، كما أنه كان المخرج الأخير لكل صورة
على أن فان سيندر وباول دي فوس كانا قديرين إلى حد أن سمح لهما بتصوير بعض الحيوانات في مصوراته
أما لوكاس فان آدن وجان وبلدنز فكانا يصوران أجزاء على لوحاته الشاملة للمناظر الطبيعية، كما كان جان بروجل يصور الزهور
ولا يعد هذا نقصا في مقدرة روبنز ولا تقصيرا منه، لأنه كان في ذلك أشبه بأستاذ يدير معهداً للأبحاث يساعده فيه تلامذته
والمجال لا يسمح هنا بوصف كل تراثه الخالد الذي بلغ ألفي قطعة من روائع الفن موزعة على متاحف العالم، ولكنا نقتصر فقط على وصف ما جاء من صوره بهذا المقال
فالصورة الأولى (الخاطئون أمام المسيح) تمثل يسوع واقفا وحول رأسه هالة من نور، أمامه امرأة خاطئة تقف منحنية بخشوع والدمع منهمر من عينيها تلتمس المغفرة عن الخطيئة، وحولها ثلاث رجال ظهرت على وجوههم علائم الندم والألم لما فرط منهم، لأنهم أمام رسول الله الذي ينظر إليهم نظرة العطف والسمو
والصورة الثانية (إنزال الجسد من الصلب إلى الأرض) تراها مجموعة رائعة من تسعة أشخاص لا تجد بينها واحدا خرج عن دائرة الاندماج وتكميل الشخصية الكاملة للصورة. انظر إلى طريقة ووقوف القديسات واشتراكهن في حمله، ولاحظ ما ارتسم على وجوههن من علائم الألم والحزن. أليس هذا الإنشاء الكامل دليلا على قوة المعرفة بالقصص الدينية والعبقرية الفنية في الإخراج؟
وصورة مادونا القديس إلديفونسو تمثل العذراء جالسة على عرش وفوق رأسها ملائكة(183/55)
ثلاثة في هيئة أطفال بأجنحة يحملون الأزهار، وحولها وقفت أربع قديسات ينظرن إلى القديس الدفونسو وهو راكع أمامها، وهي في مجموعها تبين إلى حدٍ بعيد نبل الإخراج وقوة التعبير. وإذا تأملنا وجوه هذه القديسات وملابسهن نراها تعطينا فكرة صحيحة عن ناحية القوة البنائية في إنشاء روبنز
أما الصورة الرابعة (حكم الراعي باريس) فهي توضح لنا إلى أي حد وصل علم روبنز بالتاريخ القديم وبالقصص الإغريقي؛ فباريس هذا كان شاباً وديعاً يرعى الغنم، صادفه في طريقه ثلاثة آلهة هن هيرا واثينا وافروديت في هيئة نسوة غاية في الجمال، وسألنه أن يعطي التفاحة التي بيده إلى أجملهن منظراً. فأجاب باريس سائلاً ماذا يكون جزاؤه؟
وعدته هيرا بأن تمنحه الملك والغنى - وأثينا بمنحه الحكمة والشهرة - وأفروديت بأجمل النساء على الأرض إطلاقاً! تريث باريس وأخيراً أعطى تفاحته إلى أفروديت (راجع إلياذة هومير 28: 24)
أنظر إلى باريس وهو يمثل التريث والحيرة في الاختيار؛ ثم انظر إلى كل واحدة منهن ثم إليهن جميعاً، فكل واحدة أبرع من الأخرى جمالاً، ثم لا تلبث أن يستلفت نظرك ما فيها من قوة لا تزال إلى اليوم مطمح الفنانين
فكر قليلاً في العصر الذي مثل فيه روبنز هذه القصة الإغريقية الخرافية! أليس عجيباً أن يوفق روبنز إلى هذا الحد الذي يدعو إلى الدهشة والاستغراب؟ ألا تراه وفق كل التوفيق في تصوير هذه القصة الرائعة؟ أعطى تفاصيل الجسم كل عنايته، فكانت أية في جمال التناسب وعظمة الانسجام. لا ترى للتكرار فيها أثراً. إن متحف مدريد يحسد حقاً على احتوائه هذه التحفة الفنية، ولعل الحرب الداخلية لا تكون سبباً في أن يتسرب التلف إليها كما تسرب إلى غيرها في هذه الأيام بأسبانيا
وتعد لوحته الممثلة لأحد مواقف رواية اشيللوس تاتيوس في القرن الخامس قبل المسيح والمسماة لوسيبوس وكليتوفون من أروع وأبدع اللوحات
أنعم النظر إلى مظهر المرأتين المخطوفتين وإلى ما ظهر عليهما من علائم الوجل والتوسل، وكيف استطاع روبنز أن ينفث فيها من روحه وعبقريته، وتأمل كيف ينظر الحصانان إلى هذا الموقف الخطير كما لو كانا يتحفزان للهرب، ثم إلى قوة عضلات(183/56)
الرجلين الخاطفين
إن مجلداً ضخماً لا يكفي للكتابة عن روبنز الخالد، ولكنا مع هذا استطعنا أن نعرف بعض ما سجله تاريخ الفن له
دكتور أحمد موسى(183/57)
القصص
البنتُ سرُّ أمها
(لشولتو دوجلاس) و (فوجان بيسكو)
ترجمة محمد عبد الفتاح محمد
مالت السيدة (بولا بار فيلد) في مقعدها الوثير إلى الوراء فبان جيدها العاجي الأبيض ينم عن أنوثة ناضجة وفتنة ساحرة
وأخذت ترنو إلى سقف الغرفة بعينين ساجيتين وقد غربت عن بالها لفافة التبغ التي استوت بين أصابع يدها البضة الجميلة المستندة على ذراع المقعد
كانت تحلق في أجواء الخيال تبحث عن حيلة تحوك خيوطها وهي التي قد بلغت السابعة والثلاثين من عمرها - ولم تجنح إلى تدبير الحيل واستنباط الوسائل. لأن وسامة محيياها كانت أحبولة كافية لجر المغنم ونيل المقصد. . إلا أن توالي الأعوام لم يدع من فتنة وجهها شركا يقوى على اصطياد الفرائس. . بل رأت أن شحذ الفكر وتدبير الحيل خير عون لها ألان على نيل ما تصبو إليه النفس وما يتمناه الفؤاد. . بعد أن الفت أن نجاحها عن طريق لحاظها الفتاكة قد تعثر في كثير من المواقف
كانت تقنع إبان حياتها المدرسية بالبنسات لشراء الحلوى راضية بعطف معلميها ومعلماتها. غير أن الثناء الذي كان ينصب على جمالها انصباباً والمديح الذي كان ينهال على فتنتها انهيالاً. حولا وجهها إلى أصدقائها الشبان فأنصتت لهم وهم يترنمون بهزج الهوى في أذنيها ويرتلون أية الحب على مسمعيها. . مالت إليهم بكليتها. وتقبلت منهم الهدايا على اختلاف صنوفها
ولتلك الخطة الزرية عثراتها وأخطاؤها. فما بلغت الثامنة عشرة من سنيها حتى تزوجت من رجل فقير أهاب بها قلبها القُلَّبُ أنها تحبه وتهواه
وكان زوجها هذا رجلاً هادئ الطبع، وديعاً جميلاً، خاملاً مغموراً، لا يهمه من دنياه سوى أن يملأ بطنه ليعيش. لذلك أخذت هي تدبر أمور الحياة لها وله ولابنتهما التي خرجت مبكرة إلى عالم الوجود بعد الزيجة بتسعة أَهِلة(183/58)
ولم تحس بأي إحساس من الحزن عندما قضى بعلها نحبه بعد ثلاث سنين من زواجهما. بل انبسطت أساريرها، وسرت لزوال تلك العقبة الكؤود التي كانت تقف حائلاً بينها وبين أمالها وأمانيها
كذلك لم تكن بالمرأة التي ترى أن الشرف في الحياة هو العمل على تحصيل القوت من سبله المشروعة، بل كانت من النساء اللواتي يسلكن أي سبيل للوصول إلى الحياة الرغدة الهانئة؛ ولا غضاضة في أن تهب جسدها متعة لمن يشاء مادام يجر عليها ذلك ما ترغب من أطايب العيش ولذائذه. ولذا عهدت بطفلتها إلى مرضع، ثم إلى مربية، ومن ثم إلى مدرسة داخلية، واتبعت أهواءها وما تمليه عليها رغباتها ومطامعها. راحت تخبط في ذلك العالم العابث الصاخب مع من يقع في يدها من الرجال
ولما أتمت ابنتها الثانية عشرة ألحقتها بمدرسة خارجية، ثم بأخرى، ومضت لا تعنى بتتبع أخبارها، ولا تهتم لترسم خطواتها؛ فكان لهذا ابلغ الأثر في إفساد الفتاة وإتلافها إلى أن بلغت الثامنة عشرة فبدت جميلة فاتنة. . . ففكرت أن تسلخها من دور العلم وأن تبقيها في المنزل، إلا إنها الفتها منافساً خطراً وأليفاً ينقص من قيمتها في سوق الجمال
ولا ننكر إنها كانت تنظر إلى ابنتها كمجرد طفلة، ولكن عندما تكون المرأة في السابعة والثلاثين، وترى نفسها تبدو كأنها في السابعة والعشرين، لا ترضى بأية حال أن تكون لها ابنة حسناء فاتنة في الثامنة عشرة
وكانت الابنة حقاً فاتنة، ولم تكن تلك الحقيقة لتغيب عن المرأة. . . غير إنها كانت تبدو دائماً دمثة الأخلاق مهذبة. . . ولم تبدر منها طوال حياتها أية بادرة تؤخذ عليها، بل كانت تعامل أمها بما كانت تتلقنه من ضروب الأدب وحسن الأخلاق
وفتح الباب آنئذ ودخلت الفتاة تقول لامها في صوت ثابت رزين مشوب باحترام شديد:
- لقد أفرغت حقيبتي يا أماه. . . هل آخذ (بوجو) إلى الحديقة لنتنزه قليلا؟
يا للجمال الرائع! ويا للحسن الخلاب! كانت طويلة القامة في مهابة وجلال، ناضجة الأنوثة، مستكملة لكل معاني الجاذبية
وجابهت المرأة الحقيقة المرة، وصدمتها الرؤيا الحقيقية القاسية. . . روعتها تلك المنافسة الخطرة. . . رأت من غير جهد جاذبية قوية وجمالاً باهراً، فأحست بنيران الغيرة تضطرم(183/59)
بين ضلوعها، وكرهت فيها. . . في ابنتها ذلك الجمال المغري الذي اكسبه رداؤها المدرسي البسيط روعة وجلالا
ورنت إليها وأخذت تحدث نفسها قائلة: (إنها ساحرة. . . تانك العينان الزرقاوان الصافيتان، وتلك الأهداب الوطف الناعسة. لقد كنت وأنا في مثل سنها أبدو كما تبدو، مغرية فاتنة، بذلك الشعر الذهبي المتهدل في إهمال حبيب على جبينها الأبيض المشرق، وبهاتين الشفتين الحمراوين اللتين تغريان بالقبل. إنها بهذا الحسن الفتاك، وبهذا الجمال الغلاب، تبدو كإحدى ربات الجمال القديمات)
وأخذت كل من الأم وبنتها تنظر إلى الأخرى في صمت وسكون. . . في حين كانت تنتاب المرأة شتى العوامل والأفكار وهي تتفرس في ابنتها البريئة. . الطاهرة. . والفاتنة أيضاً
وكانت الفتاة مازالت في وقفتها تنتظر رد أمها على سؤالها ولكن تجاهلت المرآة ذلك وقالت كأنها تنتزع الكلام من حلقها انتزاعا
- سوف لا تذهبين إلى المدرسة بعد ألان يا عزيزتي. فماذا اعتزمت أن تفعلي بنفسك بعد ذلك؟
- لست. . . لست ادري بالضبط. . . وأظن انه يجدر بي أن. . أن أبقى هنا بجوارك. . أني احب ذلك من قرارة نفسي. وعلى كل. سأتبع ما تشيرين به عليّ
- أضنك سئمت المدرسة؟ إذ قد تركتك فيها زمنا طويلاً
- لقد كانت جد سعيدة والله يا أماه. . . وقد ارتبطت بأواصر الصداقة مع كثيرات
ودق جرس التليفون، فرفعت المرأة السماعة، ثم قالت تحدث مخاطبها:
- أهذا آنت يا (فريدي؟) لقد ضننت أنك لن تعود إلا في الغد. . . ماذا؟. . . اجل. . . ساكون على أهبة الاستعداد في تمام السابعة لتناول العشاء معا. . . إلى اللقاء يا حبيبي. . .
ثم وضعت السماعة مكانها وعادت إلى مقعدها تفكر، وغرقت فيه وهي لا تزال في تفكيرها؛ غير أنها بعد لحظة ضربت بيدها فجأة على ذراع المقعد، ثم رنت إلى ابنتها وهي تقول:
- تعالي واجلسي يا عزيزتي. . . إن لي حديثاً معك(183/60)
فجلست الفتاة قبالتها وتفرست فيها أمها فترة طويلة وهي صامتة؛ ثم خرجت من صمتها أخيراً وآخذت تسرد عليها تاريخ حياتها في شي من الإسهاب. . . مالت إلى الخلف في مقعدها وقصت عليها تلك الأسباب التي دفعت به إلى هذه الطريق الوعرة التي تنساب فيها، وتلك الحياة الشائكة التي تحياها
وعندما انتهت من قصتها خيم على الغرفة صمت رهيب أطرقت أثناءه الابنة وأخذت تنظر إلى الفرش الثمينة التي ازدانت بها أرض الغرفة
غير أن الأم استأنفت تقول:
- وها أنت ترينني وقد بلغت السابعة والثلاثين من عمري، فإذا كنت ترغبين في حياة رغدة هانئة فدعيني اشق لنفسي الطريق التي أراها أجدى لنا وانفع
فرفعت الفتاة رأسها في سرعة وقد شع من عينيها الزرقاوين بريق غريب لم تستطع الأم أن تدرك معناه
فترددت المرأة طويلاً قبل أن تتابع الحديث. وساءلت نفسها. . ترى هل أدركت ابنتها معنى ما قصته عليها. . إنها تجلس أمامها هادئة رزينة، في تأدب واحترام كطالبة صغيرة ساذجة واستطردت قائلة:
- والآن، هل فهمت ما أرمي إليه؟ وهل تفقهين ما أبغي إذا قلت لك إنه يتحتم عليك الخروج من الميدان ردحاً من الزمن؟ فهناك رجل جديد. رجل غني واسع الثراء. . . وإني أحوك حوله شباكي هذه المرة. لا لشيء سوى أن اقترن به. إني أعمل يا ابنتي كي أوفر لك، ولي أيضاً أسباب السعادة والهناءة. وسوف يأتي هنا هذا المساء. فيجب ألا تظهري أمامه. . . وليس ذلك لأنك تظهرين حقيقة عمري فحسب، بل لأني أيضاً لا أستطيع الثبات بجمالي أمام سحرك؛ وليس هناك من الرجال من يقوى على رؤيتنا معاً - أنا وأنت - في غرفة واحدة دون أن يفتنه حسنك
فهبت الفتاة واقفة بغتة وهي تقول صارخة:
- أمي!!
واختفت دلائل الطهارة والبراءة والأدب الجم والحياء الشديد، اختفت كل تلك الدلائل وحل محلها بريق غريب في العينين الزرقاوين. تبدلت بضحكة ثائرة صاخبة تحشرجت في(183/61)
حنجرتها المتهدجة الحنون
ألقت بنفسها على حجر أمها ثم طوقت عنقها بذراعيها واستطردت تقول:
- أمي. . . أمي العزيزة. . كم. . كم أنا سعيدة! كم أنا فرحة هانئة؛ إنك طيبة القلب جداً؛ لطالما أعجبت بك إعجاباً شديداً؛ إنك حياتي يا أمي؛ إني احبك حباً هائلاً؛ وساكون لك أكبر عون على نجاح خطتك. . . هيا أعطيني (شلنين) لأذهب إلى (السينما) وسأبقى خارج الدار حتى يرحل عنها رَجُلُكِ. . ومن ثم ننظر في باقي الأمر عندما يسفر الصبح. . ويا حبذا لو أمكنك بسلاح جمالك وقوة سحرك أن تجعليه يهبني سيارة صغيرة ذات مقعدين. . . سيارة سباق زرقاء بجوانب حمراء. . يا لسعادتنا! يا لطالعنا المجدود!
فلهثت الأم وهي تقول:
- ابنتي!!
فقالت الفتاة العصرية الساحرة:
- ماذا علينا لو فعلنا ذلك ما دمنا نود رغد العيش؟. يا ترى هل سنشرب (الجن) و (الفيرموت) الإيطالي!؟
محمد عبد الفتاح محمد
بالمساحة والمناجم(183/62)
البريد الأدبي
العيد المئوي لمعهد مصري جليل
كان الاحتفال بالعيد المئوي للمدرسة الخديوية حادثا فريداً في تاريخ مصر الثقافي والاجتماعي، فقد انقضت مائة عام كاملة مذ قام هذا المعهد الجليل ليعنى بالثقافة الإعدادية أو الثانوية؛ وكان قيامه في سنة 1836 في أبي زعبل مكان مدرسة الطب القديمة، ثم الحق بعد ذلك بمدرسة الألسن الشهيرة التي كان مقرها مكان فندق شبرد الحالي، والتي كان مديرها العلامة الشهير رفاعة رافع بك الطهطاوي؛ ثم اعيد بعد ذلك إلى أبي زعبل، ثم إلى بولاق، ثم إلى العباسية، واستقر أخيراً في بنائه الحالي بسراي فاضل باشا بدرب الجماميز منذ سنة 1888، اعني منذ ثمانية وأربعين عاما، وأطلق على المعهد اسم (المدرسة التجهيزية) إشارة إلى مهمتها في أعداد الطلبة للالتحاق بالمدارس العالية أو الخصوصية كما كانت تسمى في ذلك الوقت؛ ثم أطلق عليها اسم المدرسة الخديوية أيام إسماعيل باشا، وكان التعليم فيها داخليا مجانياً حتى أواخر القرن الماضي
وقد أنجبت المدرسة الخديوية خلال عمرها الطويل الحافل ثبتاً باهراً من العلماء والعظماء والزعماء في كل ضرب وفن، وزودت مصر الحديثة بمئات من أبنائها البررة الذين عملوا على تقدمها، وشادوا نهضتها الحديثة، وقادوها في مختلف نواحي حياتها العامة، وسهروا على مصايرها وتسديد خطاها طوال هذه الحقبة المليئة بالحوادث والخطوب من تاريخها. والمقام أضيق من أن يتسع لتعداد هذا الثبت الباهر؛ ويكفي أن نذكر أن صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا زعيم مصر المستقلة هو من خريجي هذا المعهد الجليل، وان أكابر رجال الدولة الآخرين الذين شهدوا الاحتفال بصفة رسمية كرئيس مجلس الشيوخ، ورئيس مجلس النواب، ووزير المعارف كلهم من خريجيه، وان منهم أعلاما ساطعة كأميري الشعر الحديث صبري باشا وشوقي بك، وإمام الوطنية المصرية الشاب مصطفى باشا كامل
وكان الاحتفال بالغ الروعة والجلال؛ وقد بدئ في اليوم الأول، وهو يوم الاثنين الماضي بإقامة حفلة رياضية شائقة في النادي الأهلي اشترك في مباراتها كبار الرياضيين القدماء من خريجي الخديوية؛ وكان منظراً شائقاً مؤثراً أن ترى أولئك الكهول الذين شابت(183/63)
نواصيهم وصلعت رؤوسهم يرتدون ثياب اللعب القديمة فرحين جذلين، ويلعبون متأثرين متحمسين؛ ثم أقيمت في المساء بدار الأوبرا الملكية حفلة تمثيلية موسيقية؛ وفي اليوم التالي أقيم الاحتفال الرسمي الكبير في سرادق فخم رحيب نصب في فناء المعهد القديم، واحتشد فيه آلاف من خريجي الخديوية؛ وانتظموا جماعات يجمع بينها عهد التخرج؛ وكان لقاء الخريجين بعد هذا البعاد الطويل مؤثراً، وكان بعضهم يعانق بعضا في مظاهر من الحنان المشجي، ألقيت في الاحتفال خطب رنانة، اشترك في إلقائها وزير المعارف، رئيس الوزراء، ورئيس مجلس الشيوخ، وناظر المدرسة الحالي وبعض الخريجين
وبعد أن قام مندوب جلالة الملك بوضع الحجر الأساسي بفناء المعهد الجديد اختتم الاحتفال بمنظر بالغ في الطرافة والروعة، إذ هرع المدعوون جميعا وفي مقدمتهم مندوب جلالة الملك والوزراء والعظماء والخريجين على اختلاف أعمارهم ومراتبهم إلى قاعات طعام معهدهم القديم، وجلسوا جميعا يتناولون الشاي والفطائر على موائدهم الخشبية القديمة عارية كما عرفوها أيام الدرس، فكان لذلك منظر مرح ومؤثر معاً
بول بورجيه بالعربية
ظهرت أخيراً ترجمة عربية لأثر من الآثار الغربية الخالدة هو قصة (التلميذ بقلم بول بورجيه الكاتب الفرنسي الكبير وعضو الأكاديمية الفرنسية؛ أخرجها بالعربية الأستاذ عبد المجيد نافع المحامي. وقد ظهرت القصة لأول مرة في سنة 1892، وبورجيه يومئذ في عنفوان شبابه، فنالت نجاحاً عظيما، وحملته إلى الطليعة بين كتاب العصر، ومهدت لدخوله بعد ذلك بعامين في الأكاديمية الفرنسية وانتظامه في سلك الخالدين. ويعتبرها البعض أعظم قصصه، وأمتنها أسلوباً، أوفرها امتناناً. أما الترجمة العربية فهي متينة بليغة تشهد لمترجمها بما بذل في سبيلها من جهد شاق يقدره على الأخص أولئك الذين يقرءون لبورجيه بالفرنسية ويعرفون روعة أسلوبه، ودقة بيانه، وقوة تعبيره
وقد توفى بورجيه منذ نحو عام في الثانية والثمانين من عمره بعد أن غمر الأدب الفرنسي بفيض رائع من شعره وقصصه ومسرحياته وآثاره النقدية
وظهور مثل هذه الآثار الخالدة من الأدب الغربي مترجمة بأقلام رصينة بارعة كقلم الأستاذ نافع مما يبعث إلى الغبطة، ويدفع بالترجمة إلى غايتها المقصودة، ويرتفع بالتراث المترجم(183/64)
إلى المستوى الرفيع الذي نرجوه غذاء للعقلية المصرية الفتية في عصر النهضة والاستقلال
معهد ألماني جديد للتمثيل
يفتتح في يناير الحالي معهد جديد للتمثيل في مدينة ميونيخ (منشن) عاصمة بافاريا (بألمانيا)، وسيكون برنامجه شاملا لدراسة فن التمثيل ذاته، وفن الزخرفة والإخراج، وتنظيم الأزياء والمناظر، وتاريخ المسرح، ومدة الدراسة فيه سنتان. والجديد في هذا المسرح أن أساتذته سيختارون جميعاً من بين الشباب. ولميونيخ شهرة خاصة بفنها المسرحي، وبها مسرح تاريخي قديم تمثل فيه أرقى الروايات الألمانية يقع إلى جانب القصر الملكي القديم؛ وفي كل عام ينظم فيها مسرح عظيم في العراء يشهده الألوف
مجموعة شعرية عن الريف المصري
صدرت أخيراً بالفرنسية مجموعة شعرية عن الريف المصري بعنوان (في الجنوب تحت السماء الحارة) , بقلم السيدة نيللي فوشيه زنانيري؛ والسيدة نيللي مصرية المولد والنشأة والوطن، ومن الشخصيات المعروفة في الأوساط الاجتماعية المصرية الأوربية؛ وهي كاتبة وشاعرة قديرة تعبر عن خواطرها باللغة الفرنسية، وعضو في نادي القلم المصري. وقد أصدرت من قبل مجموعتين شعريتين أخريين؛ ومجموعتها الجديدة تحتوي خمس وعشرين قصيدة كلها وصف وتصوير للمناظر الطبيعية المصرية والريف المصري بشمسه الوضاءة وفلواته الشاسعة، ورماله وضبابه ورذاذه المنعش؛ وهذه القطع الشعرية تفيض قوة ورقة، كما أنها تفيض موسيقى. ذلك أن الخيال الذي أخرجها قد صاغته الطبيعة المصرية، ونما وترعرع في ظلها، فهو يحسن لذلك التعبير عنها وعن مؤثراتها. وقد زينت هذه المجموعة الشعرية بعدة صور فنية بديعة
المدينة الخالدة ومجتمع المستقبل
منذ نصف قرن اصدر الكاتب الأمريكي إدوارد بلامي كتابه أو قصته عن الحروب الجوية، وعنوانها (نظرة إلى الوراء من سنة 2000 إلى سنة 1887) فيها تخيل أن الحرب قد انتقلت من الأرض إلى الجو، وأن معارك جوية ستنشب في السماء كما تنشب المعارك بين(183/65)
الجيوش البرية؛ وقد أيدت الحوادث خيال الكاتب، فلم تجيء الحرب الكبرى حتى كانت أساطيل من الطيارات تملأ الجو، وحتى كانت المعارك الحامية تنشب في الهواء
وقد صدرت أخيراً بالألمانية قصة جديدة من هذا النوع في تصور المستقبل، وهي ليست قصة عسكرية كقصة بلامي، بل قصة اجتماعية عنوانها (المدينة الخالدة) بقلم الكاتب النمسوي الكبير البارون فون ليفنتال؛ والمدينة الخالدة هي مدينة فيينا عاصمة النمسا؛ ويصور لنا الكاتب في قصته ماذا سيكون عليه المجتمع النمسوي سنة 2000، وهو يتوقع أن يكون النظام السائد يومئذ هو نظام النقابات؛ ويتوقع أن ينعم المجتمع بكثير من الرخاء والرفاهة، وأن يحتفظ المجتمع النمسوي خلال هذه الحقبة دائماً بميوله المرحة، وتفاؤله رغم كل الظروف والمحن؛ وقصة البارون ليفنتال تفيض وطنية وحماسة وقد استقبلت في النمسا استقبالاً عظيما، وذاعت ذيوعاً كبيراً، وهي اليوم كتاب الموسم في العاصمة النمسوية؛ وتعتبر في نظر النقدة أصدق صورة للروح النمسوية والعواطف الفينية التي تجنح في مجموعها إلى المرح والدعابة والترويح عن النفس، واستقبال الحياة دائماً بالابتسام والرضى(183/66)
النقد
سلسلة الموسوعات العربية
معجم الأدباء - الجزء الثاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
أفتتح هذا المقال بكلمتين: الأولى أن الدكتور الفاضل احمد فريد الرفاعي مشكور على ما يبذل من جهد في نشر الآداب العربية، معترف له بالهمة العالية. وليس يذهب بجهده، ولا يحط من همته، أن تقع في الكتب التي ينشرها أغلاط، ولكن يشين الأدباء جميعاً إلا يبين له الغلط ليبتغي الوسيلة إلى تجنبه
والكلمة الثانية أوجهها إلى أستاذي الجليل الشيخ عبد الخالق عمر الذي اعترف كل حين بفضله، وانطوي ما حييت على حبه؛ فقد شرعت أنقد الكتاب وليس أمامي إلا الناشر ومن ورائه وزارة المعارف. ولما تبينت أن لأستاذي الفاضل شركة في العمل لم اعد هذا النقد موجهاً إليه، ولا حسبت هذه الأغلاط مأخوذة عليه، لأن هذا العمل على اضطرابه لا يمكن أستاذنا من الأشراف على التصحيح، والتصرف في الآمر على قدر علمه الواسع وبحثه الدقيق. ولو وكل الآمر إليه ما وقعت في الكتاب هذه المأخذ.
ثم أمضي في نقد الجزء الثاني (أو القسم الثاني من الجزء الأول، في تجزئة ياقوت) متجاوزاً عن بقية مآخذ الجزء الأول، بادئاً بأغلاط المتن فمثنياً بمآخذ التعليق. وأُذكر القارئ بما قلته في مقالي الأول أن هذا النقد نقد تمثيل لا استقصاء، وأني لا اثبت إلا الغلط الذي أدركه بالنظرة الأولى، تاركاً إلى حين الجمل التي يحتاج تصويبها إلى مراجعة وبحث
ص 10 أبيات أولها
فإن تسأليني كيف أنت فأنني ... تنكرت دهري والمعاهد والصَّبِرَا
وسائر الأبيات على روي الباء المطلقة، مثل عزبا، الدربا. فلست ادري كيف سها الناشر عن اختلاف القافية في الأبيات؟ وكيف يتفق هذا السهو مع عنايته بشكل الصبرا، وهوغلط آخر، فالصبر هو المادة المرة المعروفة، وما أظن الناشر أراده، والوزن لا يحتمله فهذه كلمة واحدة تنوء بثلاثة أغلاط(183/67)
ومثل هذا في ص 244 أبيات أولها:
إذا كانت صِلاتكم رقاعا ... تخطط بالأنامل والأكف
وبعده بيت عكس شطراه فصار:
فها خطي خذوه بألف ألف ... ولم تكن الرقاع تجر نفعا
ولم ينبه اختلاف القافية الناشر إلى هذا الغلط
وهذا الغلط مما استدركه الناشرون، ولكني أبقيته في المقال لأنني لم ادع أن هذا يدق على إفهامهم، ولكنه دليل على مقدار العناية بالتصحيح، وليس يذهب بالمؤاخذة إنهم استدركوه؛ فإن وقوعه في الكتاب يدل على الإسراع والتساهل
ص16 (وكان من رستاق جِي) وفي الحاشية تروى: رستاق الحيَّ، ولعلها رستاق حي على الإضافة. . . الخ. والصواب جيّ بالجيم المفتوحة وللياء المشددة، وهو موضع بأصفهان
ص29 (لأن المهلبي مات بعَمّان) والصواب عُمان
ص31 (ولقد قرَرْتَ عين أبيك بك في حياته، وسكنت مضاجعه إلى مكانك بعد وفاته). والصواب قرَّت عينُ أبيك، لأن قرّ لازم، ولو لجاز أن يتعدى ما جازت التعدية في هذه الجملة رعاية لسياق الكلام
ص37 (كتابي - أيدك الله - من المعسكر بجَيْل) والصواب جيل بالكسر، وكانت بلدة قرب بغداد، أو جَبُّل وكانت بين بغداد وواسط
ص41 ولكنا وهبنا إساءتك لخدمتك، وعلينا المحافظة فيك على حفيظتك. وفي الحاشية على بمعنى مع. والصواب غلّبنا المحافظة. . . الخ
48 (فخرجت مبادراً وأنفذتِ لِشُكْرَسْتان صاحبي، وانفذ ابن سعدان محمدا لأواتيه، وانتظرت عودهما بما فعلا). والصواب لَشكَرِستان. والظاهر: محمدا ابنه كما يفهم من سياق الكلام
ص53 (لولا الثقة بأنه يحقن مياه الوجوه ويحميها، ويَجُمُّها ولا يَقذِيها). والصواب يُجمّها لا يُقذيها، من أجم أقذى
ص57: أيارب كلُّ الناس أبناءِ علة=أما تعثر الدنيا لنا بصديق
والأصح أبناء عَلّة؛ وأبناء العلات من أبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة. والمراد أن الناس على(183/68)
اختلافهم متشابهون ينزعون إلى أصل واحد. وفي الحديث: (الأنبياء أبناء علات) وقال المعري:
ألا إنما الأيام أبناء عَلّة ... وهذي الليالي كلها أخوات
ص81 حتى ترى في وجهك الميمون غاية سُؤلها
والصواب تسهيل الهمز لتلائم القوافي الأخرى: رَسولهِا، وُصولِها الخ
ص86 ثلاثة عشر بيتا في الغزل، والخطاب فيها لمؤنث. غيّره الناشر إلى مذكر، مع أن الشاعر سمى من يخاطبه ظبية، وجعل لها فرعاً من الشعر؛ ومن هذه الأبيات:
والصابئون يرون انك فردة ... في الحسن إقراراً لرب ماجد
كالزهرة الزهراء أنت لديهم ... مسعودة بالمشتري وعطارد
قال الشارح: فردة بمعنى مفرد، ليستقيم له خطاب المذكر على رغم الشاعر واللغة
ص90 السري بن احمد الشاعر الرّفاء. والصواب تشديد الفاء
ص91 (وارتقوا كيف شِئتمْ في المعالي - والصواب شئتمُ بضم الميم ومدها
ص122 (ومات فرأته السيدة فاُّتهِمَ أنه سقاه السم)
- والصواب فمات ابن أخي السيدة الخ والدليل في ص 110
ص123 الُمحْسن بن علي التنوخي. والصواب المحسِّن
قال المعري في القصيدة التي كتبها إلى ابنه على بن المحسن:
يا ابن المَحسِّن ما أُنسيت مكرمة ... فاذكر مودتنا إن كنت أنسيتا
ص126 منديل الغُمْر. والصواب منديل الغَمَر
ص128 لها فخِذٌ بُختيّةٌ تُعلف النوى - والصواب فخذا بختيّة بالتثنية والإضافة
ص 133:
إن بان شخصي عن مجالس غيره ... فالنفس في ألطافه تتقلب
والصواب مجالس عِزّء، لأن الأبيات شكوى من احتجاب الممدوح وأولها:
ومحجب بحجاب عز شامخ ... وشعاع نور جبينه لا يحجب
ص135 وجدت في آخر نسخة المعتضد لعبد القاهر الجرجاني - والصواب المقتصد
ص139 (وكان ورعا متخشناً في الحكم) وفي الحاشية (هكذا رواه ابن الانباري وفي(183/69)
الأصل متلينا. ورواية ابن الانباري أظهر.) أقول: واظهر من هذا وذاك (متثبتاً في الحكم)
ص178 قول بديع الزمان:
أخامقة حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
وفي الحاشية: المقة المحبة - والصواب أُحامقُه حتى يقال سجية. أي يجاريه في الحمق
ص182 من مطبوخ ومسلوخ الخ - والصواب بين مطبوخ الخ
ص188 في رسالة الخوارزمي إلى البديع (أما ما شكاه سيدي من مضايقتي إياه رَغْيمٍ في القيام). والصواب مضايقتي إياه - زَعَم - في القيام. يعني ما زعمه من مضايقتي الخ
ص189 من رسالة الخوارزمي أيضاً: (ففيهم لعمري فوق ما وصف حسنُ عشرة، وسدادُ طريقة وجمالُ تفصيل وجملة.)
والصواب الفتح في الكلمات الثلاث: حسنَ عشرة الخ على التمييز، يشهد بهذا سياق الرسالة
ص 194 من رسالة الخوارزمي أيضاً: ولو أراد سيدي أن اصدّق دعواه في شوقه إليّ، ليَغُضَّ من حجم عتبه عليّ، فإنما اللفظ زائد، واللحظ وارد) وهذه جمل لا معنى لها. والصواب لنَقَص من حجم عتبه الخ فإنما اللفظ رائد بالراء
ص 114 أبو العباس أحمد بن محمد البارودي - والصواب الباوردي
ص 138 أبا لهب محمد ابن أبي العلاء - والصواب أبو كريب، وليس في المسلمين من يسمى أبا لهب
ص 139 وكان مفتياً في علوم شتى. والصواب متفنناً
147 في نسخة مرجليوث: قال ابن أبا جعفر؛ فصححت في هذه الطبعة: قال ابن أبي جعفر. والصواب قال ابن الفرات: أبا جعفر الخ كما يفهم من سياق القصة؛ فابن الفرات يخاطب أبا جعفر
ص151 ابن عمر - والصواب أبي عمر
وسأبين في المقال الأتي أن شاء الله ما أخذته على تعليق الناشرين في هذا الجزء. ثم أبين سوء النسق في تراجم الكتاب وفي متنه. والله ولي التوفيق
عبد الوهاب عزام(183/70)
معجم الأدباء أيضاً
رد على نقد
للأستاذ محمود مصطفى
الأستاذ بكلية اللغة العربية
قرأت كلمة للعالم الجليل الدكتور عبد الوهاب عزام يتناول فيها ذلك العمل العظيم الذي اضطلع به الدكتور احمد فريد الرفاعي من إظهار هذه الكنوز الأدبية العظيمة في ثياب قشيبة معبدة الطريق للقراء
واشهد أن الدكتور عزام قد دل بكلمته على غيرة على العربية لم يقر له معها قرار حتى يغير ما رآه غير مساوق للصواب في نظره، وهي غيرة يشكر قدر شكر الدكتور الرفاعي على غيرته التي حملته بذل المصونين الجهد والمال في سبيل خدمة العربية
وما دفعني أن ادخل بين الناقد والمنقود إلا حبي لإحقاق الحق وإقرار الأمور في نصبها
اكتب هذه الكلمة ولم اسعد بعد باقتناء الكتاب، فأنا اكتفي بالرد على ما لمست عدوله عن الجادة في كلام الدكتور عزام
(1) (إذ كلٌّ هَمَّه تحصيل المأكول والمشروب)، يقول الدكتور عزام الصواب همُّه بضم الميم والمراد هنا الاسم إذ الفعل أهمه لا همه. وتقول عبارة القاموس المحيط: وهمه الأمر أحزنه كأهمه. ولا يعزب عن البال أن استعمال هذا الفعل بمعنى شغله واستبد بمشاعره مجاز قريب لا تكلف فيه
(2) (ومعاوية بفارسٍ) قال الصواب بفارسَ فأنها ممنوعة من الصرف. وأقول ورد في القاموس وفارس الفرس أو بلادهم. وإذا اتبعنا القاعدة القائلة إن كل اسم قبيلة أو موضع لا علامة للتأنيث فيه يصح تذكيره على معنى القوم أو الرهط والموضع، وتأنيثه على معنى القبيلة أو البلدة، فعلى هذا لا يكون لتخطئة الدكتور التنوين وجه مقبول
(3) (ولم نعوضّ من ذاك ميُسرة) قال الدكتور عزام: الصواب فتح السين؛ وأقول في القاموس المحيط الميسرة مثلثة السين. وفي كتاب (نيل الأرب في مثلثات العرب) للشيخ قويدر الخليلي:(183/72)
سهولة الأمر تسمى ميسره ... ومصدر إلى قدرت مقدره
يريد أن ميسرة مثلثة السين، وكذلك كلمة مقدرة مثلثة الدال. وغيرهما مما هو على هذا الوزن كثير
(4) (لغويا نبيها ثَبَتاً) قال الدكتور عزام والصواب ثَبْتاً يقال رجل ثَبْت لا ثَبَتٌ والثَبَت بالفتح (يريد بالتحريك) البرهان اسم لا يوصف. وأقول: في القاموس الإثبات الثقات، وفي شرحه وهو ثبت من الإثبات إذا كان حجة لثقته في روايته، وهو جمع ثَبَت بالتحريك وهو الأقيس وقد يسكن وسطه. الخ
ولعل التفرقة التي جاء بها الدكتور عزام وهي أن الثبت (بالتحريك) البرهان اسم لا وصف، إنما عقدها بنظرة خاطفة من قول الشارح (وقيل للحجة ثبت بفتحتين إذا كان عدلا ضابطا) فذهب باله إلى أن الحجة هنا الدليل والبرهان
(5) (أُضِقتُ إضاقة شديدة) قال الدكتور عزام (والصواب بالبناء للفاعل أي إصابه ضيق) وأقول لو إنه فسرها بقوله أصابه عسر لقلنا إنه تابع صاحب القاموس في قوله: أضاق ذهب ماله وأعسر، فإما وقد فسرها بقوله أصابه ضيق فهو تفسير عام ينطبق عليه قول القاموس: ضاق ضد اتسع وأضاقه وضيقه) فمعنى كل ذلك جعله ضيقاً. والمراد هنا ضيق الصدر
(6) (المُصَيْصة اسم بلد) قال الدكتور عزام والصواب الَمصِّيصة. وأقول: ورد في كتابي (إعجام الأعلام): (الَمصِيصة - المِصِّيصة مدينة على ساحل البحر الرومي. . . قال في القاموس (والمصيصة كسفينة بلد بالشام ولا تشدّد) وقد ضبطها صاحب تقويم البلدان عن مزيل الارتياب فقال: بكسر الميم وتشديد الصاد وسكون الياء وفتح الصاد)
فمن ذلك يعلم أن الناقد والمنقود وقعا في الخطأ وإن كان اللوم في نظري على الناقد اشد، لأنه يأخذ على غيره في مسالة بعينها فيجب أن يكون تحريه للصواب أدق
(7) (غُمار الناس) قال الدكتور عزام والصواب كسر الغين، وأقول يفهم من مراجعة القاموس المحيط لمن وقف على سر اختصاره وراعى مراده في عطفه واستئنافه أن الغمار جمع لغَمْر وهو الماء الكثير كما أن الغَمْر يكون بمعنى الكريم الواسع الخلق أو الجواد من الخيل أو السابغ من الثياب أو اللفيف من الناس ويشاركه في هذا المعنى الأخير (اللفيف(183/73)
من الناس) مفردات أخرى وهي الغَمَر (بالتحريك) والغَمْرة بالفتح فالسكون مع تاء التأنيث والغُمارة بالضم مع التاء والغَمار بالفتح أو الضم. وعلى هذا يكون مصيباً من قال غمار الناس (بالضم) بمعنى جماعتهم ولفيفهم. كما أنه ليس في القاموس ما يدل على أن غِماراً يكون جمعاً لغَمْر بهذا المعنى الأخير وإلا لأتى به قبل ذكر الجمع كما هي عادته
وليس معنى كل هذا أن استعمال غِمار بالكسر في معنى جماعات الناس خطأ بل نقول إنه خلاف الأولى لأن استعماله يكون مع التجوز بتشبيه جماعة الناس باللجة وإطلاق لفظ غمر عليها ثم جمعه على غمار. أما المفرد وهو غمار (بالضم) فكاف في الدلالة على الجماعة دلالة حقيقية لا تجوز فيها. فظهر من هذا أن المنقود استعمل الضبط الجائز القريب في الاستعمال
هذا قول أعجلتنا عن الإفاضة في نواحيه وتتبع مظانه، مشاغل لم نستطع أن نزيحها عن كاهلنا إلا بهذا القدر والسلام
محمود مصطفى(183/74)
معجم الأدباء أيضا
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
يعرف أولو البصر بالأدب والأستاذ الباقعة الدكتور عبد الوهاب عزام، عالماً ثقة، وعلماً حجة؛ فيصلاً إذا قال، وثبتاً إذا جال؛ لا يقف نبوغه عند ناحية من نواحي الأدب، بل يفيض علمه عليها جميعاً؛ فهو من أدبائنا القلائل الذين برزوا في كل أفق، وربطوا بآصرة الأدب بين الغرب والشرق، وقد اختص ببحوثه الرائعة وآرائه الشائقة مجلة (الرسالة)، لأنها رسول الثقافة، وآخر ما أمتع به قراءها ذلك النقد الجامع لكتاب (معجم الأدباء) الذي ينشره الدكتور الرفاعي. فنقد القسم الأول منه نقداً عميقاً، وفحص عن وجه الحق فحصاً دقيقاً، وأبى له تواضعه إلا أن يقول: (هذا ما أخذته وأنا اعبر القسم الأول وهو جزء من عشرين، ووراء هذا معضلات من التحريف تحتاج إلى بحث وتنقيب ليتبين صوابها) واقرر مؤكداً أن هذا النقد الممتع سيحمل الناشر على الإمعان في التحري، وسيدفعه إلى التريث والتأني حتى يخرج الكتاب كما يريده الأدباء والمؤرخون
على أن لي رأياً في قليل من كثير مما أورده من المآخذ الأستاذ القدير ولعليّ قد وفقت إلى الصواب
ص64 (إذ كلٌّ همَّه تحصيل المأكول والمشروب). (والصواب همه بضم الميم، والمراد هنا الاسم، لأن الفعل أهم لا هَمَّ) هذا ما أرتآه الدكتور. واللغة تخالفه. نص القاموس (مادة هم) قال: (وهمه الأمر هماً ومهمة حزنه كأهمه) وإن الأبلغ ما رآه الأستاذ، وليس في الكتاب شبهة من خطأ
ص82:
أمغط مني على بصري بالحبب ... أم أنت اكمل الناس حسنا
وقد شرحه الناشر في الحاشية وقال: (ويروى أمغطى على صيغة المفعول). (والصواب أمغطى لا يحتمل البيت غيرها وكان الصواب تصحيح البيت لا إثبات الغلط وشرحه) وأرى أن كلا اللفظين جائز والمعنى معهما مستقيم، فالأول يثبت أن حبيبه قد غطى على بصره بالحب أو أنه أكمل الناس جمالاً في صورة الاستفهام عن الشقين، ولا أنكر أن الوجه الثاني أفضل وأفصح(183/75)
ص93 (ولا أبدأ نفعا، ولا أحمد أخلاقا، ولا أدوم سرورا). (وقال في الحاشية في الأصل أبد نفعا؛ فقد اصلح غلط الأصل بغلط آخر. والصواب أبدى، وليس ما صححه الناشر غلطا، ولعله الأوفق حتى يتفق ونظم الكلام ووزن الأفعال الذي يبدو أنه مراعى في العبارة
ص99 (ولم تعوض من ذلك ميسرة) (والصواب فتح السين) والفتح والكسر والضم كلها صحيح إذ السين مثلثة، واحسب الأستاذ اختار الفتح لأنه به قرء قوله تعالى (فنظرة إلى ميسرة) وكان أيسر للناشر أن يتركها دون ضبط أو يثلث ضبطها
ص133 (فلا أزال أماكسهم ويزيدوني) (والصواب يزيدونني) ولا أدري كيف ساغ للدكتور تخطئة الصواب فكتب النحو تنص على جواز تزيدوني بالتخفيف والتثقيل، وبالتخفيف قرأنا نافع وتأمروني وتحاجوني
ص221
(يخال بأن العرض غير موفر ... عن الذم إلا أن يدال له الوفر)
(والصواب يذال بالذال المعجمة من الإذالة أي الامتهان)
ويدال ليست خطأ بل لعلها أوقع في المعنى لإن الغرض من الادالة الدوران والتحول والزوال، وكل هذه المعاني انسب من الامتهان في البيت. هذا ما عنَّ لي التعليق به على نقد أستاذنا النابغة وأرجو أن يلاحقنا بالحكمة والرأي الرشيد
(المعادي)
عبد العظيم علي قناوي(183/76)
العالم المسرحي والسينمائي
المعجزة
لناقد الرسالة الفني
النقاد عادة من أدق الناس في مسائل الذوق الفني، فهم بطبيعة عملهم كقضاة، قاسون لا يرضيهم من الأعمال إلا كل عظيم جليل، ولهذا فإن اختيارهم يكون بلا ريب ممتعاً، وقد أيد زميلنا وصديقنا الناقد المسرحي الأستاذ محمد على حماد هذا الرأي باختياره هذه القصة وقيامه بترجمتها للمسرح المصري ترجمة سلسلة الأسلوب سهلة اللفظ تلائم رواد المسرح
والرواية قطعة فنية رائعة من تأليف الكاتب الإنجليزي (رودولف بيزير) نالت في إنجلترا نجاحاً كبيراً دعا الكتاب الفرنسيين إلى نقلها لمسرحهم ودفع بأكبر شركة سينمائية في العام إلى اقتباسها. وقد أتيح لرواد السينما أن يروا شارلس لانتون ونورما شيرر وفريدريك مارش يقومون بالأدوار الرئيسية في هذا الفلم الذي نال الجائزة الأولى للعام الذي اخرج فيه. واللذين شاهدوا الفلم ثم رأوا القصة تمثل على مسرح الأوبرا لابد أحسوا بأن المسرح قد ابرز عوامل الجمال فيها في حين أن الفلم قصر عن أداء هذه المهمة كاملة
لست في حاجة إلى ذكر ملخص الرواية فموضوعها معروف لان أشخاصها ظهروا على مسرح الحياة في العهد الفكتوري، فالبطل روبرت بروننج شاعر إنجليزي كبير له دواوينه وأعماله الأدبية، والبطلة اليزابيث باريت شاعرة رقيقة العاطفة تزوجت من بروننج؛ وقد نشرت مجموعة الرسائل التي تبادلها البطل والبطلة والتي استمد منها المؤلف مادة قصته
لست أوافق من قام بالتلخيص المنشور في البرنامج الذي توزعه الفرقة القومية من أن القصة تدور في أساسها حول ذلك النزاع القديم المتجدد بين جيل وجيل، وبين فكرة وفكرة، وبين الآباء المحافظين الذين يريدون أن يفرضوا آراء أجيالهم الغابرة على أبنائهم الخ، فلو أن القصة تقوم على هذا الأساس وحده لما استحقت أن توصف بأنها عمل فني؛ فقد سبق المؤلف كثيرون إلى طرق هذا الموضوع. والواقع أن في القصة تحليلا نفسيا عظيما لشخصية الأب وشخصية الفتاة؛ ومن يتتبع القصة بانتباه تبرز أمامه الحقيقة الواضحة التي يعنيها المؤلف ويصورها بدقة، وهي أن الأب يحب ابنته - دون أن يدري - حبا جنسياً
فالعاطفة الجنسية هي سر حبه لابنته، ولكنه لا يدري هذه الحقيقة؛ فابنته ثمرة الحب ولدتها(183/77)
أمها أيام كانت الحياة هانئة بين الزوجين، فهو إنما يحب أمها فيها في حين أنه يكره أولاده الآخرين لأنهم ليسوا ثمرة الحب، بل أنجبتهم أمهم في أيام الجفوة والشقاء بين الزوجين، وهذا هو السر في قسوته عليهم وفي أنه لا يفهمهم ولا يفهمونه
الإخراج والتمثيل
تصرف المخرج تصرفا له من السوابق ما يبرره وهو إخراج الروايات التاريخية في ثوب عصري، إلا أنه كان من الخير أن تظهر القصة في ثوبها التاريخي، فإنما تمثل واقعة تاريخية هي قصة زواج روبرت بروننج من اليزابيث باريت. أما رسم المناظر فبديع ولا سيما المنظر الثاني، ولكن اختيار الورق الأزرق الداكن لكساء حوائط غرفة نوم اليزابيث مما لا يلتئم والحوادث التي تجري فيه. فالرواية كما نعلم تحوي المواقف المحزنة والمواقف المضحكة، والأزرق الداكن لا يصلح إلا للمواقف المحزنة، ولأنه يبعث آثراً قابضاً في نفوس النظارة، فكان من الواجب أن يتنبه المخرج لهذه الحقيقة
أما الإضاءة فمهملة إلى أبعد حدود الإهمال: فهي واحدة لا تتغير سواء في المواقف المحزنة والمفرحة؛ ومن بديهيات الإضاءة أن الضوء القوي الصارخ من ضروريات المواقف الفكهة، كما أن الضوء الخافت من ضروريات المواقف المحزنة؛ ولكن الأستاذ عزيز يتجاهل هذا كله ويجعل الضوء قوياً صارخاً طوال مواقف الرواية
وفي المنظر الأول نجد الشبان يصعدون إلى غرفة نوم شقيقتهم بعد تناول العشاء وهم في ملابس السهرة في حين أن الشقيقتين كانتا تلبسان الملابس العادية. والأدهى أننا لم نحس أثناء التمثيل أننا في جو إنجليزي، فقد كان الممثلون في أحاديثهم وحركاتهم مصريين أكثر منهم إنجليزا. فالأستاذ منسي فهمي قام بدور الأب وبذل مجهوداً كبيراً ووفق إلى حد بعيد في تأدية الدور، ولكن كان يثور من حين لحين مما لا يتلاءم مع الشخصية ومع الخلق الإنجليزي؛ فالشخصية ليست في حاجة إلى الثورة لتؤثر الأب في نفوس أولاده، فان الرهبة التي في نفوسهم منذ الطفولة كفيلة بأن تعنى عن هذه الثورة، ولكن الذنب ليس ذنب الممثل بل هو ذنب المخرج. والآنسة نجمة إبراهيم كانت مجيدة في دور هنريتا، ولكنها كانت في ثورتها مصرية وفي سخريتها كانت بعيدة عن تصوير الخلق الإنجليزي. ومن المؤلم أن يسمح المخرج لعباس فارس أن يظهر الكابتن بهذه الصورة المزرية، فإن من(183/78)
الإسفاف أن نلجأ إلى الحركات لإضحاك النظارة ونيل رضاهم، والفرقة القومية قامت للسمو بالفن، والشخصية سهلة واضحة هي أن الكابتن خجول يرتبك في حضرة السيدات، وكان من الواجب أن يبرز الشخصية على حقيقتها دون الالتجاء إلى الافتعال
قام حسين رياض بدور الشاعر فأداه أداء طيباً، ولكن إبرازه له على انه شاب رزين مما لا يرضيني ومما يتعارض مع ما هو معروف عن نزوات الشعراء وخفتهم، وهذا الشاعر تقدم للزواج من فتاة شبه مقعدة!! وفي الموقف الذي يطلب فيه يد اليزابيث اهتم بتجويد إلقائه اكثر من اهتمامه بإبراز عاطفته
أما السيدة زينب صدقي فقد كانت بديعة إلى ابعد حد. والحق أن هذا الدور من احسن أدوارها، وفيه أثبتت أنها مقلدة ماهرة لنورما شيرر ولا سيما في المنظر الأول عند حدوث المعجزة وقيامها من فراشها وسيرها إلى النافذة، وفي الفصل الأخير عندما قبلها والدها القبلة التي كادت تفضح عاطفته
يوسف تادرس(183/79)
سافو على المسرح الأوبرا الملكي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
تحدثنا في العدد الماضي عن دولت ابيض في (سافو) ثم عن علي رشدي في دور جان، وقبل أن انتقل إلى غيره من الممثلين أرى أنصافا لهذا الشاب المجتهد أن أقول انه ظلم ظلما كبيرا في إسناد دور لا يليق به ولا يتفق مع طبيعته، وإنه على رغم هذا قد بذل جهداً مشكوراً يستحق الثناء
ولابد لي أن اذكر عباس فارس في دور (ديشليت) ومنسي فهمي في دور (كودال) وفؤاد شفيق في دور (سيزير) فهؤلاء الثلاثة بلغوا درجة كبيرة من النجاح، وإليهم الفضل في النهوض بالرواية والوصول بها إلى درجة تجعل الجمهور يتقبلها ويستسيغها
وأما المناظر فمنقولة عن المناظر التي أخرجت بها الرواية في فرنسا، وقد استطاع الأستاذ أدمون تويما مدير المسرح أن يقنع الأستاذ عزيز بإخراجها في ثوب عصري ولكنه فيما أرى اخفق في إقناعه بالاستغناء عن المصباح البترولي في الفصل الأول، فقد كان مضحكا أن ترى الشاب الفقير الذي يسكن الطابق الخامس يضيء غرفته بثريا كهربائية كبيرة! وبرغم ذلك نراه يضيء مكتبه بمصباح بترولي! إن التقيد بالأصل دون استعمال العقل يبعث السخرية، وكان أولى بالمخرج أن يضع بدلاً من المصباح البترولي مصباحاً كهربائياً للمكتب
أما الإضاءة فعادية، وبودي لو يعنى المخرج بتوزيع الضوء ومساقطه حتى لا تتعارض ظلال الممثلين وحتى لا يقع ظل ممثل على زميله وأن يختار من ألوان الضوء ما يلتئم مع جو المواقف
الترجمة
نقل القصة إلى العربية الأستاذ محمود كامل المحامي، وقد لاحظت الفرقة بعد أن نقدت المترجم الأجر أن الترجمة غير دقيقة، فعهدت إلى لجنة مؤلفة من الأساتذة أدمون تويما وإبراهيم الجزار وسراج منير بمراجعتها فاستغرق عملها 27 يوماً. وقد اطلعنا على صفحات عديدة فشاهدنا الكثير من التصحيح والتبديل، فكان أثر هذا أن أصبحت القصة تحوي اكثر من أسلوب واحد، وكنا نفضل لو أن المترجم اشترك مع أعضاء هذه اللجنة(183/80)
لتجنب هذا الخلط(183/81)
العدد 184 - بتاريخ: 11 - 01 - 1937(/)
ذكرى ميلاد
في مثل هذا الأسبوع من عام 1932 وأنا في دار السلام، هبط على برق الأثير هبوط الملك البشير على زكريا الواهن اليائس. بشرني بأن أسمي قد اشترك، ووجودي قد ازدوج، وعمري قد امتد، وأصلي قد تفرع! فأخذني شعور لا عهد لي بمثله؛ لا أصفه لأنه اعمق من الإدراك، ولا أنساه لأنه أوسع من الذاكرة. هو شعور خليط مبهم؛ لا هو حماسة، ولا هو نشوة، ولا هو جذل، ولا هو غبطة؛ وإنما هو كل أولئك وشيء آخر لا أدريه، لون مشاهد الطبيعة بألوان الأمل، وعطر نسائم (دجلة) بروائح الجنة، وزين مغاني الكرخ باوشية السحر. فخرجت إلى بساتين (الصالحية) وفي إهابي المشبوب رجل أخر، يحيا لأنه يحب الحياة، ويعمل لأنه يريد العمل، ويزهى لأنه يسعى لآسرة، مررت بالأطفال الذين كنت أراهم كل يوم، فبدت لي في قسماتهم وبسماتهم معان جديدة. لم يعودوا شقاء الوالدين وهم الحياة كما كنت اشعر، وإنما أصبحوا كطفلي بهجة الوجود وراحة المكدود ورجاء المستقبل؛ ثم وجدتني آنس بكل أب، وأسكن إلى كل أم، واشعر كما يشعر كل والد بحمل رخي رضي يثقل رويداً رويداً على البال المطمئن الوادع!!
عدت إلى مصر فرأيتني ارسخ في الوطنية لأني غدوت أصلاً من أصولها، وأعز في القرابة لأني صرت فصلاً من فصولها؛ ثم تجددت الأفراح، وتسابقت التهاني، وتنافست الهدايا، وتعاقبت المآدب، وغرقت الدار الكئيبة في فيض من البهجة، ورقصت الروضة الموحشة على الحان البلبل، ورفرفت السعادة الهشة على مهد الوليد
وكان العش الآمن الغار يعلن في كل رابع عشر من شهر يناير ذكره للنعمة وشكره لله؛ فيرف للأصدقاء بالأنس، ويخف للفقراء بالصدقة. وتتفتح مصاريعه الضاحكة لتهنئات الصحاب ودعوات الأحبة. ويخرج المرموق المعشوق صاحب العيد في زينته وبهجته كالسوسنة الغضة، يقابل مهنئيه، ويتقبل هداياه، ويستعرض لعبه، ويشع على الحفل البهيج من روحه الجذاب، وحسنه الفاتن، وذكائه الباكر، إشعاعاً من وراء المعلوم لا يدركه إلا الأب الحنون وإلا الأعزب الشاعر
حنانيك يا رباه! أكل ذلك اصبح اليوم ذكرى؟ أغاية السعادة في الأرض أن تنقلب وحشة في النفس وظلمة في العين وحسرة في الفؤاد؟ لا يزال صوته الصافي الجميل يرن في شعوري كله: فأنا اسمعه يقول ويده الصغيرة تجذب يدي: (يالله نشترى خروف عيدي يا(184/1)
بابا. . . عاوز أتومبيل أحمر زي أوتومبيل الملك يا بابا.) فأخرج معه كما يخرج الصديقان الأليفان لأمر مشترك؛ فينتقي ثيابه بذوقه، ويختار لعبه بنفسه، ويقترح على أن نذهب إلى (حديقة الفردوس)، فيمشي بين أفواف الزهر، أو على زخرف الممشى، فلا أدري أجمال الروض زها فيه فنظر حتى فتن، أم جماله هو فاض على الروض فزها حتى بهر! ثم يتفرق بصره المبهور بين التماثيل والتصاوير والورد، فيذهل عن طريقه فيخوض في الماء فجأة؛ فيخلع حذاءه وينزع جوربه ثم يدعهما للشمس ويقعد هو تحت المظلة أو فوق العشب يرسل على أبيه السعيد سيلاً من الأسئلة لا ينقطع، وفيضاً من المسرة لا ينضب؛ ثم يعود إلى بيته المزدان المرح فيستقبل في المساء أعمامه احمد أمين وزكي وخلاف والعبادي وعوض زناتي ويونس وسائر محبيه ومحبي أبيه، فينقلهم بإشراق نفسه وائتلاق طبعه من عالم الناس إلى عالم الملائكة!
ثم دار الفلك، وتجرم العام، وعاد اليوم الرابع عشر من شهر يناير! ولكنه وا حسرتاه يعود هذه المرة على بيت غير البيت، ودنيا غير الدنيا!! فلا العش مرح بفرخه، ولا الروض شاد ببلبله، ولا الأتومبيل حال براكبه!
يعود على ثياب مطوية، ولعب مخفية، وصور مستورة، وعيون مقروحة، وقلوب محطمة، وأمال مهيضة! فلا بساط الأنس ممدود يا رفاق، ولا حفلة العيد ساهرة يا أحبة!
اجل يعود اليوم الرابع عشر من شهر يناير، ولكنه والهفتاه يعود على قبر جني الأزاهير بين حقول القرية البعيدة؛ تسهر عليه الشجرة الصغيرة، وترعاه من قرب عيون الآهل!
فيا من دعوت نفسك الرءوف الرحيم! أين أجد رأفتك فيخف أساي، وأصيب رحمتك فيندمل جرحي؟
ويا شاعر العروبة، وحكيم الدهر، وطريد الغير؛ متى أجد مصداق بيتك المعزي الخالد:
ستألف فِقدانَ الذي قد فقدتَه ... كإلفِك وِجدان الذي أنت واجد
احمد حسن الزيات(184/2)
الشمس
للأستاذ أحمد أمين
أي شيء أحب إلى النفس، من المتعة هذه الأيام بالشمس، والحديث عن الشمس؟
فقد أقرسنا البرد حتى اصطكت منه أسناننا، وانكمش جلدنا، ويبست أطرافنا، وحتى وددنا - إذا رأينا النار - أن نحتضنها، وإذا رأينا الجمرة أن نلتهمها؛ ولوددت في هذه الأيام أن أكون فرانا، أو طباخا، أو سائق قطار، حتى لا أفارق النار
كل شيء في الطبيعة جميل، وأجمل ما فيها شمسها
وهي في شتائنا أجمل منها في صيفنا، ولها في كل جمال
فلها - صيفا - جمال القوة، وجمال القهر، وجمال السفور الدائم، نعظمها ونجلها؛ ونهرب منها ولكن نحبها. تقسو أحيانا، ولكنا نرى الخير في قسوتها؛ فهي كالمربي الحكيم، تقسو وترحم، وتشتد وتلين؛ تلفحنا بنارها، ولكنها نار كنار الحب يكتوي بها قلب العاشق، ثم هو يرجو بقاءها، ويخشى زوالها؛ ترسل علينا شواظاً من نار، فتسفع جلودنا، وتكوي جباهنا، حتى إذا غلا جوفنا، ووغر صدرنا، غابت عنا، وأرسلت رسولها اللطيف الوديع (القمر) فخفف من حدتنا، ولطف من سورتنا، وأصلح ما أفسدت، وضمد ما جرحت؛ فإذا خشيت أن نطمئن إليه، أدركتها الغيرة فغيبته، وطلعت علينا ببهائها، وجمالها وجلالها. وهكذا دواليك
وهي - شتاء - تطلع علينا بوجه آخر، ترينا فيه جمال الحنو، وجمال الدعة، وجمال الرحمة والعطف، وجمال الغادة اللعوب، تشاغلك فتظهر وتختفي، وتسفر وتحتجب، وتخرج من قناعها ثم تتقنع
وتنتقم من رسولها الذي غارت منه صيفاً فتطلعه علينا في جو بارد لا نطيقه، حتى لا نفكر إلا في دفئها ونسمتها، ولا نشتاق لشيء شوقنا لرؤيتها
فما أجملها قاسية وراحمة! وما أجملها واصلة وهاجرة!
تتلون بشتى الألوان فتسحر العقول، وتبهر العيون؛ فهي تارة بيضاء، وتارة صفراء، وتارة حمراء، ثم لا تستطيع أن تحكم هي في آيها أبهى وأجمل، فهي تزين ثيابها بأكثر مما تزينها ثيابها(184/3)
فتحت النافذة قبل أن اكتب مقالتي فتدفقت في حجرتي أشعتها الفضية اللامعة، وملأتها روحاً وحياة، وملأتني دفئاً، وملأتني معاني، وكانت حياتي في حجرتي قبل زيارتها حياة مظلمة باردة جامدة لا معنى فيها ولا روح
خلعت من جمالك على الزهر، فكان فتنة للناظرين؛ فجماله من جمالك، ولونه قبس من ألوانك، وحياته مدد من حياتك؛ فأبيضه وأحمره، وأصفره وأرزقه، ليس إلا نعمة من نعمك، وأثراً من فيضك
فالوردة الحمراء ليست إلا نقطة من دمك، والياسمين الأبيض ليس إلا لمحة من نورك، والنرجس الأصفر ليس إلا تبراً ذائباً من شعاعك
لقد أبيت على الناس أن يديموا النظر إلى جمالك، فألهيتهم بالنظر إلى بعض آثارك، ولونت الأزهار بألوانك، وأريتهم قدرة إبداعك، فشغل الجاهلون به عنك، وشغف العارفون به على أنه قبس منك، يطالعون جمالك فيه، ويقرأون معانيك في معانيه
ثم شأنك في البحر عجب أي عجب! تضربينه بشعاعك، وتلفحينه بنارك، فيتحول ماءه بخارا، يصعد إليك ليستجير منك، ويمثل بين يديك لتمنحيه عفوك، وتنيليه عطفك، حتى إذا شعر برضاك، وأمن من غضبك، دمع دمعة السرور، ففارقته ملوحته، وعاد إليه صفاؤه وعذوبته، واكتسب منك الحياة فكان ماءً جارياً، بعد أن كان ماءً راكداً، فجرى جداول وانهارا، فأرسلته إلى خدمك في الأرض من أزهار وأشجار يحيي ذابلها، ويستخرج دفينها، وينضج ثمارها
ثم تحركت فملأت الحياة حولك حركة؛ فكم من نجوم لا يعلمها إلا الله تسير حولك وتحذو حذوك؛ ثم تلعبين بالهواء من سخونة وبرودة فيتحرك، ويتعلم منك اللعب فيلعب بالبحار والأنهار والأشجار وبكل شيء يمر به؛ فإذا الدنيا كلها لعبة في يده
ثم أنت أنت حرقت الأشجار والنبات، وطمرتها تحت صفحة الأرض آلافاً من السنين بعد آلاف، حتى إذا تنبه الناس آخر الزمان فطنوا إلى انه مستودع من مستودعاتك، فاستغلوه في كل ما نرى الآن من حركة، فهو سر حركة المصانع والبواخر، وسر حركة القطارات والآلات، فلو قلنا إن كل حركة في الأرض أنت مصدرها لم نبعد
تلعبين بالناس فتنمينهم وتوقظينهم؛ ترسلين أشعتك الجميلة على العالم فينتبه، وتغيبين عنه(184/4)
فينام؛ ثم تتداولين العام فتنبهين قوماً وتنيمين قوما، ويراك قوماً شروقاً وقوم غروبا، وقوم ليلاً وقوم نهارا، وقوم صيفاً وقوم شتاء، وأنت أنت في عليائك لا تملين الحركة ولا تشعرين بنوم أو يقظة، ولا بليل أو نهار
بل بك يجري الدم في عروقنا، فدمنا من غذائنا، وغذاؤنا من حرارتك، تسلطينها على الأرض فتخرجين منها (حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة أبا)؛ بل ما أفكارنا إلا منك؛ أليست أفكارنا من دمائنا، أو ليست دماؤنا منك؟
بل لقد كنت حيناً من الأحيان آله الناس ومعبودهم، فكنت مصدر وحيهم، ومصدر إلهامهم، ووجهة عبادتهم. رأوك مصدر الحياة فعبدوك، ورأوك مصدر النعم فمجدوك، ورأوك يحيط بك كثير من الغموض على جلائك ووضوحك فألهوك، ورأوك أكبر النجوم فرببوك
ثم أتى الأنبياء، فرأوك تأفلين فسلبوك ألوهيتك، ورأوك تتغيرين فحولوا عبادتهم عنك
ولكن إن سلبوك ألوهيتك فلم يسلبوك عظمتك وجمالك وجلالك وكفاك ذلك فخراً
لست ادري أأصاب العرب إذا أنثوها أم أصاب الإنجليز إذ ذكروها؛ لعل الإنجليز رأوا القمر وادعاً جميلاً هادئاً رقيقاً فأنثوه، ورأوا الشمس قوية قاهرة قاسية فذكروها؛ ولكن لعل واضعي اللغة الإنجليز لو عاشوا في عصرنا، ورأوا ما نرى من قوة المرآة وضعف الرجل، وجبروت المرأة واستكانة الرجل، لرجعوا إلى رأي العرب، وآمنوا ببعد نظرهم، وقلبوا المذكر مؤنثاً والمؤنث مذكرا
ولعل العرب أيضاً رأوا الشمس أم الأرض وأم القمر وأم الزرع فأنثوها، إذ لا تلد إلا المرأة؛ ورأوا القمر طفلاً يدور حول أمه فذكروه، واحتاط العرب أن يدرك الشمس شيء مما يلحق الأنوثة فقال شاعرهم: (وما التأنيث لاسم الشمس عيب)
أما الشمس نفسها فلم تعبأ بتأنيث ولا تذكير، كما لم تعبا بمن أنثها وبمن ذكرها
فهي في سمائها تؤدي رسالتها، وتسير سيرتها، وتبهرنا بجمالها، وتوحي إلينا بأسرارها
فما أعظمك! واعظم منك من خلقك
4 يناير سنة 1937
احمد أمين(184/5)
8 - القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وأما هو فحدثني بهذا الحديث العجيب من لطائف إلهامه وفنه قال: انصرفت إلى داري وقد عز على أن يكون هذا منها وأن يكون هذا مني، وهي أن غابت أو حضرت فأنها لي كالشمس للدنيا، ولا تظلم الدنيا من ناحية إلا من أنها تضيء في ناحية، فظلمتها من عمل نورها. وكانت ليلتي فارغة من النوم فبت أتململ، وجعل القلب يدق في جنبي كأنه آلة في ساعة لا قلب إنسان؛ وكان في الدنيا من حولي صمت كصمت الذي سكت بعد خطبة طويلة، وفي أنا صمت آخر كصمت الذي سكت بعد سؤال لا جواب عليه؛ وكان الهواء راكداً كالسكران الذي انطرح من ثقلة السكر بعد أن هذى طويلاً وعربد؛ والوجود كله يبدو كالمختنق لان معنى الاختناق في قلبي وأفكاري. ونظرت نظرة في النجوم فإذا هي تتغور نجماً بعد نجم كأن معنى الرحيل انتشر في الأرض والسماء إذ رحلت الحبيبة، وكان كل وجه مضيء يقول لي كلمة: انتظر
فلما عسعس الليل رميت بنفسي فنمت والعقل يقظان، وصنعت الأحلام ما تصنع، فرأيتها هي في تلك الشفوف التي ظهرت فيها عروساً؛ وما اعجب كبرياء المرآة المحبوبة! إنها لتبدو لعيني محبها كالعارية وراء ستر رقيق يشف عنها كالضوء، ثم تدل بنفسها أن ترفع الستر، فان لم يتجرأ هو لم تتجرأ هي؛ وكأنها تقول له: قد رفعته بطريقتي فارفعه أنت بطريقتك. . .
وكانت مصورة في الحلم تصويراً أخراً فلا ينسكب من جسمها معنى الحسن الذي أتأمله وأعقله، ولكن معنى السكر الذي يترك المرء بلا عقل؛ ولم تكن غلائلها عليها كالثياب على المرأة، ولكنها ظهرت لي كاللون على الوردة الزاهية؛ تظهر فتنة وتتم فتنة
أيتها الأحلام ماذا تبدعين إلا مخلوقات الدم الإنساني، ماذا تبدعين؟
قلت: يا صديقي دع الآن هذه الفلسفة وخذ في قص ما رأيت. ثم ماذا بعد الوردة ولون الوردة؟
قال: انه القلب المسكين دائما، انه القلب المسكين. لقد ضحكت أي وقالت: هاأنذا قد جئت، وأقبلت ترائيني بوجهها، وتتغزل بعينيها، وتتنهد بصدرها، وألقت يدها في يدي فأحسست(184/7)
اليدين تتعانقان ولا تتصافحان؛ ثم تركناهما نائمتين إحداهما على الأخرى، وسكتنا هنيهة وقد خيل إلينا إذا تكلمنا استيقظت يدانا
أما صافحتك امرأة تحبها وتحبك؟ أما أحسست بيدها وقد نامت في يدك ولو لحظة؟ أما رأيت بعينيك نعاس يدها وهو ينتقل إلى عينيه فإذا هما فاترتان ذابلتان، وتحت أجفانهما حلم قصير؟
قلت: يا صديقي دع الفلسفة؛ ثم كان ماذا بعد أن نامت يد على يد؟
قال: ثم كانت سخرية من الشيطان اقبح سخرية قط
قلت: حسبي لكأنك شرحت لي ما بقى. . .
فضحك طويلا وقال: أن الشيطان يسخر الآن منك أيضاً، وكأني به يقول لك: وكان ما كان مما لست اذكره. . . أفتدري ما الذي كان وما بقية الخبر
لقد كنت مولعاً بامتحان قوتي في الضغط بيدي على أعواد منصوبة من الحديد، أو على أيدي الرجال الأقوياء إذا سلمت عليهم؛ فلما صافحني لبثت مدة من الزمن ثم شددت على يدها قليلاً قليلاً، فتنبهت في هذه العادة؛ فمسخت الحلم وانصرف وهمي إلى أقبح صورة وأشنعها وأبعدها مما أنا فيه من الحب ولذات الحب؛ فإذا بازائي وجه، وجه من؟ وجه مصارع ألماني كنت اعرفه من عشرين سنة واضغط على يده. . .
قلت: إنما هذه كبرياؤك أو عفتك تنبهت في تلك الشدة من يدك، ولا يزال أمرك عجيبا؛ فهل معك أنت ملائكة ومع الناس شياطين؟
قال: والذي هو اعجب أني رأيت في أضعاف أحلامي كأن قلبي المسكين يخاصمني وأخاصمه؛ وقد خرج من أحناء الضلوع كأنه مخلوق من الظل يرى ولا يرى إذ لا شكل له؛ وسبني وسببته، وقلت له وقال لي، وتغالطنا كأننا عدوان؛ فهو يرى أني امنعه لذته، وأرى انه هو يمنعني، وانه أشقى بي على ما أشقى؛ قلت له فيما قلت: لا قرار على جنايتك فاذهب عني ولا تتسم باسمي فانه لا فلان لك بعد اليوم؛ ولولا انك مخذول في الحب لعلمت أن لمسة يد الرجل ليد المرأة الجميلة نوع مخفف من التقبيل، فإذا هي تركته يرتفع في الدم انتهى يوماً إلى تقبيل فمه لفمها، ولولا انك مخذول في الحب لعلمت أن هذا الضم بين اليدين نوع مخفف من العناق، فإذا هي تركته يشتد في الدم انتهى يوماً إلى ضم(184/8)
الصدر للصدر؛ ولكنك مخذول في الحب، ولكنك مخذول
وقال لي فيما قال: وأنت أيها الخائب؟ أما علمت أن أناملها الرخيصة هي أناملها، لا أعوادك من الحديد؟ فكيف شددت عليها ويحك من تلك الشدة التي أخرجت لك وجه المصارع؟ ولكنك خائب في الحب، ولكنك خائب.
قلت: فهذه قضية بيني وبينك أيها القلب العدو؛ لقد تركتني من الهموم كالشجرة المنخرية قد بليت وصارت فيها التخاريب فلا حياتها بالحياة ولا موتها بالموت، وكم علقتني بفاتنة بعد فاتنة لا عنها إقصار ينتهي ولا فيها مطمع يبتدئ؛ ما أنت إلا وحش اكبر لذته لطع الدم
واستدار الحلم فلم البث أن رأيتني في محكمة الجنايات، وكأني شكوت قلبها إليها فهو جالس في القفص الحديدي بين المجرمين ينتظر ما ينتظرون من الفصل في أمرهم؛ وقد ارتفع المستشارون الثلاثة إلى منصة الحكم وجلس النائب العام في مجلسه يتولى إقامة الدعوى وبين يديه أوراقه ينظر فيها، ورأيت منها غلافاً كتب على ظاهره: قضية القلب المسكين.
وتكلم رئيس المحكمة أو من تكلم فقال: ليس في قضية القلب محام، فابغوه من يدافع عنه؛ ثم التفت إليه وقال: من عسى تختار الدفاع عنك؟
قال القلب: أو هنا موضع للاختيار يا حضرة الرئيس؟ ليس تحت هذه - وأومأ إلى السماء - ولا فوق هذه - وأومأ إلى الأرض - إلا. .
فبدر النائب العام وقال: إلا الحبيبة. أكذلك. غير أنها أستاذة في الرقص لا في القانون
- القلب: ولكنني لا اختار غيرها محكوماً لي أو محكوماً علي. أنا أريد أن انظر فيها وانظروا انتم في القضية. . .
- الرئيس: فليكن؛ فهذه جريمة عواطف ائذن لها أيها الآذن
فنادى المحضر: الأستاذة. الأستاذة
وجاءت مبادرة، ودخلت تمشي مشيتها وقد افتر ثغرها عن النور الذي يسطع في النفس؛ وأومضت بوجهها يميناً وشمالاً فصرف الناس جميعاً أبصارهم إليها وقد نظروا إلى فتنة من الفتن، وثارت في كل قلب نزهة، وغلبت الحقيقة البشرية فانتفضت طباع الموجودين في قاعة الجلسة، وابطل قانون جمالها قانون المحكمة، فوقعت الضجة وعلت الأصوات(184/9)
واختلطت؛ وترددت بين جدران المكان صدى في صدى كان الجدران تتكلم مع المتكلمين
أصوات أصوات: سبحان الله! سبحان الله! تبارك الله، تبارك الله، آه آه؛ آه آه؛ وسمع صوت يقول: اتهموني أنا أيضاً. . . فنفرت الكلمات وأنا وأنا وانا. واختفت المحكمة وانبعث المسرح بدخول فاتنته الراقصة؛ وكان المستشارون والنائب العام في أعين الناس كأنهم صور معلقة على الحائط لا يخشاها أحد أن تنظر إلى ما يصنع
فصاح الرئيس: هنا المحكمة! هنا المحكمة! سبحان الله. . . المحكمة المحكمة
- النائب العام: هذا بدء لا ترضاه النيابة ولا تقبل أن تنسحب عليه. نعم أن هذا الوجه الجميل ابرع محام في هذه القضية، ونعم أن جسمها. . . آه ماذا؟ إنكم تأتون بالشهوة الغالبة القاهرة لتدافع عن المشتهي. . . عن المتهم. هذا وضع كوضع العذر إلى جانب الذنب. وكأنكم يا حضرات المستشارين. .
- فبدرت المحامية تقول في نغمة دلال وفتور: وكأنكم يا حضرات المستشارين قد نسيتم أن النائب العام له قلب أيضاً. . .
واشتد ذلك على النائب وتبين في وجهه، فقال: يا حضرة الرئيس
- الرئيس مبتسما: واحدة بواحدة، أرجو إلا تكون لها ثانية، ومعنى هذا كما هو ظاهر إلا تكون لها ثالثة. . .
(ضحك)
قال صاحبي المسكين: وكنت بلا قلب. . . فلم التفت للجمال، بل راعني ذكاء المحامية ونفاذها وحسن اهتدائها إلى الحجة في أول ضرباتها، وتعجبت من ذلك اشد التعجب، أيقنت أن النائب العام سيقع في لسانها كما يقع مثله في لسان المحامي القدير، ولكن كما يقع زوج في لسان زوجة معشوقة متدللة تجادله بحجج كثيرة بعضها الكلام. . . وقلت في نفسي:
يا رحمة الله لا تجعلي من النساء الجميلات الفاتنات محاميات في هذه المحاكم، فلو ألبسوهن لحى مستعارة لكان الصوت الرخيم وحده من تلك الأفواه الجميلة العذبة نداءا قانونياً للقبلات. . .
ونهضت المحامية العجيبة فسلطت عينيها الساحرتين على النائب، ثم قالت تخاطب المحكمة: قبل النظر في هذه القضية قضية الحب والجمال، قضية قلبي المسكين. . . أريد(184/10)
أن أتعرف الرأي القانوني في اعتبار الجريمة. أهي شخصية، فتقصر على صاحبها؛ أو خاصة فتضر غير جانبها؛ أو عامة فيتناولها العموم المحدود لمن تجمعهم جامعة الحب؛ أو هي اعم، فيتناولها العموم المطلق للهيئة الاجتماعية؛ ما هي جريمة قلبي. .؟
- الرئيس: ما رأى النيابة؟
النائب ضاحكا: (غزالتها رايقة) كما يقول الراقصات والممثلات. . . . أرى أنها جريمة آتية من ضرب الخاص في العام. . (ضحك)
المحامية: جواب كجواب القائل: حب أبي بكر. كان ذلك الرجل يحب زوجته الجميلة ويخافها، وكانت تقسو عليه قسوة عظيمة وتغلظ له الكلام وهو يفرق منها ولا يخافها. فرآها يوما وقد طابت نفسها فأراد أن ينتهز الفرصة ويشكو قسوتها؛ فقال: يا فلانة قد والله أحرق قلبي. . ولم يدعه يتم الكلمة، فحددت نظرها إليه وقطبت وجهها وقال: حب أبي بكر الصديق رضى الله عنه. . (ضحك) ورنت ضحكة المحامية فاضطربت لها القلوب، ووقعت في كل دم، وفي دم النائب أيضاً؛ فانخزل ولم يزد على أن يقول: أحتج من كل قلبي. .
الرئيس: لندخل في الموضوع، ولتكن المرافعة مطلقة فان الحدود في جرائم القلب تسدل وترفع كهذه الستائر في مسرح التمثيل. وعشرون ستارة قد تكون كلها لرواية واحدة
- النائب العام: يا حضرات المستشارين، لا يطول اتهامي فان هذا القلب هو نفسه تهمة متكلمة
المحامية: ولكنه قلب
النائب: وأنا يا سيدتي لم أحرف الكلمة ولم اقل انه كلب. (ضحك) وتضرج وجه المحامية وخجلت
- الرئيس: الموضوع الموضوع
النائب: يا حضرات المستشارين. أن ألم هذه الجريمة آما أن يكون في شخص الجاني أو ماله، أو صفته كان يكون زوجا مثلا، أو صيته الأدبي. فأما الشخص فهذا ظاهر، وأما المال فنعم أن القلب المسكين قرر لنفسه ولصاحبه إلا يبتاع أبدا تذكرة دخول إلى جهنم. . . (ضحك)(184/11)
- المحامية: أستميح النائب عذرا إذا أنا. . . إذا أنا فهمت من هذا التعبير أن حضرته يعرف على الأقل أين تباع هذه (التذاكر). . . (ضحك) وتفرج وجه النائب العام وخجل.
- الرئيس: كنت رجوت إلا تكون للأولى ثانية، وقلت: أن معنى هذا كما هو ظاهر إلا يكون لها ثالثة؛ فهل أنا محتاج إلى القول بان المعنى المنطقي إلا يكون للثالثة رابعة. . .؟
- النائب: يا حضرات المستشارين. وأما الصفة، فهذا القلب المسكين قلب رجل متزوج؛ ولا تغرنكم صوفية هذا القلب، ولا يخدعنكم تألهه وزعمه السمو. انه على كل حال يعشق راقصة، وهذا اعتداء في ضمنه اعتداء؛ على الزواج وعلى الشرف. وهبوه متصوفاً متألهاً ولم يتصل بالراقصة، فهو على كل حال قد أخذها ولكن بأسلوبه الخاص. . . وبهذا اقترف الجريمة. آه. أن هذه القضية ناقصة؛ وذلك نقص فيها أخشى أن يكون نقصا في الحكم أيضاً، فأتموه انتم. يا حضرات المستشارين أن النقص فيها إنها لا شهود فيها؛ ولكن هذا عمل آلهي لا يظهر إلا يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون
- المحامية: هذا تعبير اكبر من قدرة قائله ومن منزلته ووظيفته، هذا تعبير جسور. يا حضرة النائب؛ من الذي لا يحمل شهودا في لسانه ويديه ورجليه؛ بل ألف شاهد على ليلة واحدة. . . يجب أن يكون مفهوما بيننا يا حضرة النائب أن النون والباء في لفظة (نائب) غير النون والباء في لفظة (نبي)
- النائب: يا حضرات المستشارين. لا أرى مما يحرجني في الاتهام أن أصرح لكم أن مما حيرني في هذه الجريمة أن ليس فيها من أوصاف الجرائم إلا ثلم الكرامة. فلا قذف ولا سب ولا هتك عرض ولا فجور، ولا اصغر من ذلك، ولا كاس خمر للراقصة. . .
- المحامية: لا أرى يا حضرة النائب كاس ماء، وسيجف حلقه في هذه القضية فلعل المحكمة تأمر لي بكاس. . . (ضحك)
- النائب: يا حضرات المستشارين. يعشق راقصة؛ اسم فاعل من رقص يرقص؛ امرأة لا تلبس ثيابا بل عرياً في شكل ثياب. . . امرأة لا كالنساء؛ كذبها هو صدق من شفتيها. لماذا؟ لأنهما حمراوان رقيقتان عذبتان محبوبتان مطلوبتان. . .
المحامية: تضحك. . .
- النائب بعد أن تتمتع: امرأة لا كالنساء، جعلتها الحرفة امرأة في العمل، ورجلاً في(184/12)
الكسب. . .
- المحامية: ولكنك لا تدري تحت أي حمل سقطت المسكينة. وقد يكون في الرذائل رذائل كبعض أصحاب الألقاب؛ ذات عظمة. . .
- النائب: يحب راقصة، أي يضعها في عقله الباطن ويشتهيها. نعم يشتهيها. فمن عقله الباطن، وبتعبير اللغة، من واعيته - تخرج الجريمة أو على الأقل فكرة الجريمة
والصيت الأدبي يا حضرات المستشارين؟ هل من كرمة لمن يعشق راقصة؟ لا بل هل من كرامة في الحب؟ ألم يقولوا أن كرامة الرجل العاشق تكون تحت قدمي المرأة المعشوقة كالممسحة الخشنة تمسح فيها نعليها
الحب؟ ما هو الحب؟ انه ليس فكرة، بل هو شيطان يتلبس لجسم العاشق ليعمل أعماله بأداة حية، وهذا التركيب الحيواني للإنسان هو الذي يهيئ من الحب مداخل ومخارج للشياطين في جسمه. وهل رضى صاحب القلب المسكين بجناية قلبه عليه، وعظيم ما انتهك من أخلاقه السامية، هل رضى بعشقه راقصة؟ انه لم يرض الرضى الصحيح، أو رضى بقدر ما. فعلى كليهما يقوم في نفسه مانع والمانع من الرضى هو الموجب للعقوبة
- المحامية: ولكن قدراً من الرضى ينزل بالجناية فيردها إلى جنحة كما في القانون الإنجليزي. وقد قرر الشراح انه ما دام الرضي غير مستلب بكله، فالجريمة غير واقعة بكلها
- النائب: جنحة كل قلب هي جناية من هذا القلب بخصوصه، على طريقة: (حسنات الأبرار سيئات المقربين). والعبرة هنا بالواقع لا بالصفة القانونية. وقد قرر الشراح أن الواقع قد يكون أحياناً سبباً في تشديد العقوبة، فلا بد من تشديد العقوبة في هذه القضية. لا اطلب الحكم بالمادة 230 عقوبات بل بالمواد من 230 إلى 241 ضربة واحدة. . .
- المحامية: قد نسيت أن هذا قلب وعقوبته عقوبة لصاحبه البريء
- النائب: إذن اطلب عقابه بحرمانه الجمال؛ وهذا اشق عليه من العقاب باثنتي عشرة مادة وبعشرين وثلاثين
الرئيس: وما هي الطريقة لتنفيذ الحكم بهذا الحرمان؟
النائب: تأمر المحكمة بالمراقص كلها فتغلق، وبالمسارح كلها فتقفل، وبالسما فتبطل إلا ما(184/13)
لا جمال فيه منها ولا غزل ولا حب، ويحرم السفور على النساء إلا العجائز والدميمات، ويمنع نشر صور الجمال في الصحف والكتب، و. . .
المحامية: قل في كلمة واحدة: يجب إصلاح العالم كله لإصلاح القلب الإنساني
وجلس النائب، فالتفت الرئيس إلى المحامية وقال لها:
وأما هو؟
(لها بقية - طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(184/14)
الريف
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أراني كلما فسد الجو، وكثر تقلبه، وعز الاطمئنان إليه، أميل إلى الخروج إلى الصحراء أو الريف، ولا أطيق القعود في البيت؛ ولست اعرف لهذا المزاج - الشاذ فيما اعتقد - تعليلاً يسكن إليه العقل وتستريح إليه النفس. فأما انه مزاج شاذ فاعرفه من صياح أهلي حين يرونني ارتدي ثيابي والمطر منهمر والريح تعصف، وأهم بالخروج؛ ولست أراهم يملون أن يقولوا لي: (يا شيخ، ما هذا الجنون؟ تخرج في هذا المطر!! أما أن هذه لحكاية! اقعد. . . اقعد. . . نضرم لك الفحم، ونشوي (أبا فروة) أو نمص القصب ونحمد الله على وقاية الجدران) فأهز رأسي وأقول: (ما أحلى هذا! ولكني لا أطيق المكث هنا على حبي له بينكم، ولست احب أن أفارقكم لحظة، وانه ليعز على إلا تأخذكم عيني في حيثما أكون، ولكن نفسي أمارة بالسوء، أو بالحماقة، أو بما شئتم غير ذلك. فإذا كنتم تحبونني فتعالوا معي. . . فان الفضاء رحيب، الصحراء واسعة، وهاتوا القصب معكم، وأبا فروة أيضاً. . . نضع هذا كله في السيارة ونمضي بها. . . قوموا)
ولكنهم لا يفعلون، فامضي وحدي وأعود بزكام أو برد، ولكني أعود مستريح النفس هادئ الأعصاب!
وقد كنت أقول لصديق لي منذ بضعة أيام، وهو من أصحاب العقول المثقفة، والنظر البعيد، والغوص الشديد: (يا أخي، لماذا لا يحب المصريون الريف؟)
قال: (وكيف لا يحبونه وهم لا يبرحونه؟)
قلت: (إنما اعني أهل المدن - القاهرة مثلا - قلما يخطر لهم أن يقضوا أيام البطالة والفراغ من العمل في رحلة إلى الريف)
قال: (وأين تريد أن يذهبوا، وليس في الريف لغير أهله مذهب أو مقام؟)
قلت: (هذا هو سؤالي. . . لو كان الناس عندنا يحبون الريف ويطيب لهم أن يقضوا فيه كل ما يسعهم أن يخسروه من الوقت، لتغير حال الريف، وتكيف على مقتضى هذه الرغبة، وصار لغير أهله فيه مذهب ومقام)
قال: (ربما) وانقطع كلامنا في ذلك(184/15)
ولكني لم اكف عن التفكير فيه، وقد أدرت عيني في شعوب البحر الأبيض فإذا أكثرها كأهل مصر، ليس لهم (غرام) أو (عشق) للريف أو ما يسمى (الطبيعة)، فالروم والطليان والفرنسيون والأسبان، كلهم على شاكلتنا: الحضري منهم يبقى في المدينة ولا ينشد الريف أو يحن إليه؛ والريفي في قريته، يندران تنزع نفسه إلى تركها أو التطواف بعيدا عنها. ولا نكران أن هجرة أبناء هذه البلاد إلى الأقطار الأخرى غير قليلة، وفي مصر وحدها منهم عشرات الألوف، أو مئاتها، ولكن الهجرة تجيء عن اضطرار لا عن رغبة، والباعث عليها الحاجة، فلا دخل لهذا فيما أقول عنهم من ضعف ولوعهم (بالطبيعة)
واكثر الأجانب هنا يتخذون مساكنهم في قلب المدينة ولا يبعدون ببيوتهم عن أماكن عملهم بعدا يكلفهم مشقة أو يجشمهم عناء ونفقة، ما خلا الإنجليز، فان الرجل منهم يكون عمله في شبرا، فيتخذ بيته في أطراف مصر الجديدة أو في الزمالك على النيل، أو في الجيزة على طريق الهرم، ولا يبالي ما يضيع من الوقت في الذهاب والإياب، ولا يحفل ما يكلفه هذا البعد من النفقة. وقلما يقضي يوم بطالة في بيته إلا إذا كان مريضا. وليس بالنادر أن ترى الواحد منهم يحمل في سيارته خيمة وطعاما وشرابا يكفيان أياما، وفراشا أيضاً للنوم والجلوس، وأدوات للعب، ويذهب بذلك كله إلى السويس مثلا؛ ولو شاء لأعفى نفسه من هذا العناء كله، فلن يعدم فندقا يبيت فيه، ولكنه يضرب خيمته على ساحل البحر أو في الصحراء ويقضى أياما ناعما بالعزلة والوحدة وبما حوله من وجوه الأرض أو الماء، ويروح يمشي بضعة فراسخ كل يوم. . . وقد يكون وحده، فلا يشعر بوحدة ولا تخطئه سكينة النفس، وقد يكون معه غيره، فلا تراه - فيما يبدو لك - شاعرا بأنس يفتقده في وحدته، فكأن انسه كله بالمحل ولا بالرفقة. . ومن المتع التي يحرص عليها أن يكون له بيت أو كوخ - سيان عنده - في مكان ريفي بعيد يذهب إليه كلما أوسعه أن يخلو من مشاغل العمل. فهو في هذا نسيج وحده. ولا يمنعه المطر أو الإعصار أن يخرج في ثياب السهرة ليتعشى ويرقص ويحيى الليل على اسعد حال، ولا يقعده البرد في بيته كما يقعدنا - حتى في بلاده التي لا اعرف اسخف منها جوا، ولا ابعد عن الاعتدال، فهو هناك كعهدنا به هنا
وآهل الشام على خلاف آهل مصر، فانهم كثيرو الخروج إلى الرياض والبساتين؛ حتى(184/16)
(قهواتهم) أو (مقاهيهم). كما يريدوننا أن نسميها - قلما تكون إلا في بستان أو كما يقول ابن الرومي:
(في) ميادين يخترقن بساتي ... ن تمس الرؤوس بالأهداب
ولا اعرف كما قلت تعليلا لهذا الاختلاف في الطباع؛ واحسب أن اعتدال جو بلادنا على العموم يحمل على الرضى بالموجود ولا يغري بغشيان غيره. ولماذا يشتاق ساكن المدينة إلى الريف وليس في المدينة ما يزهده فيها ويدفعه إلى الخروج منها والتماس ما هو أخف محملا، واكفل براحة النفس وسكينة الأعصاب؟ ومما يساعد على القناعة ويبعث على القعود أن التنوع مفقود؛ فالذي يترك القاهرة لا يتوقع أن يستفيد متعة يخطئها فيها؛ والمناظر في الريف واحدة أو هي متشابهة، فلا جبال هناك ولا غابات ولا إحراج، ولا غير ذلك مما يحرك الخيال فيحرك النفس، ولا اختلاف هناك يجعل للنقلة لذة ترجى. والريف من مصر قريب، فهو معروف غير مجهول. والصحراء حولها من بعض جهاتها فلا موجب للتخيل، ولكن الإنجليزي شانه غير شاننا، فان جو بلاده دائم التقلب، وهو مع تقلبه السريع سخيف غير مأمون؛ وقد يكون هذا مما يدفع الإنجليزي إلى اشتياق الريف ويغريه بتصور سحره ويبعثه على التماسه ونشدانه حتى ولو تكررت خيبة أمله فيه
وأمم البحر الأبيض شبيهة بنا من حيث المزاج، وجوها اقرب إلى الاعتدال من جو الشمال؛ ومن هنا فيما أظن مشاكلتها لنا في هذه الطبيعة، ولست أرى وجوه الاختلاف تؤثر في هذا
ولا نكران إننا تغيرنا. فكثر بيننا الذين يطلبون الريف أو الصحراء ويؤثرونهما على المدن، ولكننا نفعل ذلك على سبيل التقليد ومن قبيل المحاكاة ويفضل التثقيف الحديث والاتصال الوثيق بالغرب لا بدافع من الفطرة وحافز من الطبيعة. ومثلنا في هذا أمم البحر الأبيض فقد ذهبت تقلد أمم الشمال كالإنجليز والاسكندناويين والألمان، وراحت تتكلف حب الطبيعة حتى لصارت تبدو كأن هذا فيها طباع، وما هو بذاك
إبراهيم عبد القادر المازني(184/17)
الخليفة العزيز بالله وزوجه النصرانية وأصهاره
البطاركة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ليس غريبا أن تقرا في التاريخ الإسلامي أن خليفة من الخلفاء قد ولد من أم نصرانية أو انه قد تزوج من نصرانية وله بين الأمراء النصارى أصهار ولأولاده منهم أقارب؛ ولكن ربما يبدو غريبا أن يقترن خليفة مسلم بنصرانية تنتمي إلى آسرة من الأحبار، وأن يكون له بين أحبار الكنيسة أصهار، ولولده منهم أقارب وخؤولة: تلك هي حالة العزيز بالله ثاني الخلفاء الفاطميين بمصر، ولد المعز لدين الله، ووالد الحاكم بأمر الله
كانت الخلافة الفاطمية منذ قيامها بمصر تتشح بصيغتها المذهبية العميقة؛ بيد إنها رأت أن تتبع نحو الذميين من النصارى واليهود سياسة التسامح الحر؛ وظهر اثر هذا التسامح جليا في علائق الذميين بالدولة، وفي ارتفاعهم إلى أرقى مناصبها؛ بل نرى في خلافة المعز لدين الله وولده العزيز ثبتا حافلا من الوزراء والكتاب النصارى واليهود يحتلون ارفع المناصب في البلاط وفي الحكومة؛ وكان أول وزراء الدولة الفاطمية وأعظمهم يهوديا اعتنق الإسلام، وهو الوزير يعقوب بن كلس؛ وفي عصر العزيز كان مدير الدولة وكبير الوزراء نصراني هو عيسى بن نسطروس؛ وكان متولي أعمال الشام يهوديا يدعى منشا؛ وفي عهد المعز والعزيز أنشئت كنائس وأديار كثيرة؛ وبلغ نفوذ النصارى واليهود ذروته في عصر العزيز حيث استولى الوزراء والكتاب الذميون على معظم أعمال الدولة، واستأثروا بمعظم السلطات والنفوذ، وقد كان لهذه السياسة المتطرفة في التسامح والعطف أثر سيئ في المجتمع المصري؛ وتنقل الرواية إلينا في ذلك قصة خلاصتها أن العزيز بالله رأى ذات يوم في طريق الركب الخلافي امرأة تمد بيدها رقعة كأنها ظلامة. فتناولها، فإذا بالمرأة هيكل من الجريد قد ألبس أزرار، وإذا في الرقعة ما يأتي: (بالذي أعز اليهود بمنشا، والنصارى بعيسى ابن نسطورس، وأذل المسلمين بك إلا ما كشفت ظلامتي. . .) فأدرك العزيز ما انتهت إليه نفسية الشعب من تحكم الأقلية الذمية في مناصب الدولة ومرافق الأمة؛ وسواء صحت هذه الرواية أم كانت فقط أسطورة ذات مغزى، فان العزيز لم يلبث أن أدرك خطر هذه السياسة على سلطان الخلافة وهيبة إمامتها المذهبية، فانقلب(184/18)
إلى مطاردة الذميين، وقبض على الوزراء والكتاب من النصارى واليهود؛ ولكنه عاد فأفرج عنهم بعد أن اتخذ بعض الضمانات التي تكفل الحد من طغيانهم وإسرافهم في سياسة الاصطفاء
وتجمع الروايات المعاصرة على أن جنوح العزيز إلى هذا الإسراف في التسامح نحو الذميين يرجع من وجوه كثيرة إلى نفوذ زوجه أو سريته النصرانية، وابنته منها الأميرة ست الملك؛ وكانت فتاة عاقلة حازمة يحبها والدها العزيز ويستمع إلى نصحها، في كثير من الأمور؛ وأخيرا إلى نفوذ صهريه أخوي زوجه، وهما حبران كبيران تبوأ في عصر العزيز أرفع المناصب الكنسية
وهذه القصة: أعنى قصة زواج العزيز من سيدة نصرانية، قصة يمازجها شيء من الغموض والاضطراب، وتنفرد بتفاصيلها الرواية النصرانية، ولا تكاد تشير إليها الرواية الإسلامية؛ وتقول لنا الرواية أن هذه السيدة زوج العزيز أو سريته، كانت جارية رومية نصرانية من طائفة الملكية، وكان لها أيام العزيز نفوذ كبير في الدولة؛ وكان لها أخوان هما ارسانيوس أو (أرساني) وأريسطيس، رفعهما العزيز بتدخله ونفوذه إلى ذرى المناصب الكنسية، فعين أريسطيس بطريركا للملكية ببيت المقدس (سنة 375هـ) وعين أرسانيوس في نفس العام مطرانا للقاهرة، ثم عين بعد ذلك بطريركا للملكية بالإسكندرية (سنة 390هـ) وكان لهذين الحبرين بلا ريب نفوذهما في بلاط يرتبط معها بأواصر المصاهرة، وفيه أختهما (زوج الخليفة) وابنته منها الأميرة العاقلة المحبوبة ست الملك؛ وكانت عند وفاة والدها العزيز في نحو السادسة والعشرين من عمرها؛ وقد حملت رسالته في التسامح بعد ذلك في فرص كثيرة، ولاسيما بعد مصرع أخيها الحاكم بأمر الله سنة 411هـ
وتذهب الرواية الكنيسة إلى أبعد من ذلك، فتقول لنا أن هذه السيدة النصرانية هي أم الخليفة الحاكم بأمر الله ولد العزيز، وتنفرد بهذا القول الرواية القبطية المعاصرة، وتقول لنا بالنص ما يأتي: (وكان الملك العزيز بالله بن المعز لدين الله قد رزق ولدا من سرية له رومية وجلس في الملك من بعده، ولقب بالحاكم بأمر الله؛ وكان للسرية المذكورة التي هي أم الحاكم أخ اسمه أرساني فجعلتها بعنايتها بطرك الملكية. . .) ولكن الرواية النصرانية تنقل إلينا في غير موطن أن هذه السيدة هي أم ست الملك ابنة العزيز دون الإشارة إلى(184/19)
أنها أم الحاكم؛ فيقول لنا يحيى الانطاكي مثلا، وهو مؤرخ معاصر تقريبا: (وفي شهر رمضان سنة خمس وسبعين وثلاثمائة صير اريستس خال السيدة ابنة العزيز بالله بطريركا على بيت المقدس، أقام عشرين سنة ومات بالقسطنطينية، وصُير أخوه ارسانيوس أيضاً مطرانا على القاهرة ومصر). ويقول لنا المكين بن العميد في صراحة ووضوح: (أن العزيز بالله صاحب مصر تزوج امرأة نصرانية ملكية ورزق منها بنتا؛ وكان للمرأة أخوان أحدهما اسمه ارميس (اريستس) صيره بطركا على بيت المقدس، والآخر أرسانيس صيره بطركا للملكية على القاهرة ومصر؛ وكان لهما من العزيز جانب لأنهما أخولة ابنته)، وهذا بينما تلزم الرواية الإسلامية الصمت إزاء هذه المسالة كلها، ولا تشير إلى أم الحاكم إلا بأنها (الست العزيزية). بل نرى المقريزي يشير إلى ارسانيوس وولايته لمنصب البطريركية دون الإشارة إلى أنه صهر العزيز أو خال ست الملك. ومما يبعث إلى التأمل انه إذا كانت السيدة النصرانية هي أم ست الملك، فأن العزيز يكون قد تزوجها أو تسراها وهو ولي عهد بالمغرب قبل سنة 359هـ - وهو تاريخ مولد ابنته - ففي أي ظروف حصل هذا الزواج أو التسري؟ وفي أي ظروف وقعت هذه الجارية الرومية المصرية في يد البلاط الفاطمي بالمغرب؟ هذا ما لا توضحه لنا الرواية، ومن جهة أخرى فان الرواية الكنسية (القبطية) المعاصرة هي التي تنفرد بالقول بان هذه السيدة هي أيضاً أم الحاكم، هذا بينما تكرر الرواية النصرانية المعاصرة والمتأخرة إنها هي أم ست الملك فقط؛ ولو كانت نفس الأم هي أم الحاكم، وهو الخليفة وشخصيته أهم من شخصية أخته، لما ترددت الرواية في ذكر هذه الحقيقة. وقد ولد الحاكم بعد مولد أخته بستة عشر عاماً (سنة 375 هـ) ولم يرزق العزيز خلال هذه الفترة إلا بابن يدعى محمداً وقد توفى طفلاً؛ وفي ذلك أيضاً ما يبعث إلى التأمل
أفلا نستطيع على ضوء هذه الملاحظات أن نرتاب في هذا القول الذي تنفرد به الرواية الكنسية، وأن نعتقد أن هذه السيدة النصرانية هي أماً لست الملك فقط، وأن (السيدة العزيزية) التي تشير إليها الرواية الإسلامية بأنها أم الحاكم هي سيدة أخرى، وإنها هي الزوجة الشرعية؟ هذا ما نميل إلى الأخذ به، خصوصاً إذا ذكرنا موقف ست الملك من النصارى، وهو موقف عطف دائماً وموقف أخيها الحاكم وهو موقف اضطهاد وقسوة لا(184/20)
مثيل لهما، وصمت الرواية الإسلامية في هذا الموطن لا يمكن أن يحمل على انه صمت تحفظ وإغضاء، لان الرواية الإسلامية تقدم إلينا ثبتاً حافلا من الخلفاء الذين ولدوا من أمهات من النصارى، وفي مقدمتهم عبد الرحمن الناصر اعظم خلفاء الأندلس
وتقدم إلينا الرواية النصرانية بعض تفاصيل عن حياة هذين الحبرين الكبيرين اريسطيس وارسانيوس صهري الخليفة العزيز بالله؛ فتقول لنا أن الطائفة الملكية اشتد ساعدها في عصر العزيز من جراء هذه المصاهرة الملوكية، ووضعت يدها على بعض كنائس اليعاقبة؛ وأن البلاط الفاطمي في أوائل عهد الحاكم بأمر الله، وفي عهد مدبر دولته برجوان الصقلبي، انتدب اريسطيس بطريرك بيت المقدس ليكون سفير الحاكم إلى قيصر قسطنطينية باسيل الثاني في سنة 390هـ (سنة 1000م)، ولكي يعمل على عقد الهدنة والصداقة بين مصر والدولة البيزنطية بعد أن استطالت الحرب بينهما في الشام منذ عهد المعز لدين الله؛ فسار اريسطيس إلى قسطنطينية مع رسل القيصر، وقام بالمهمة، وعقدت بين مصر والدولة البيزنطية معاهدة سلم وصداقة لمدة عشر سنين، وأقام اريسطيس في عاصمة بيزنطية أربعة أعوام حتى توفى في سنة 394 هـ
أما ارسانيوس فانه لبث بطريركا للملكية زهاء عشر سنين؛ وكان في أواخر أيامه قد اعتزل الحياة، في دير القصير الذي شيد في بعض ربى المقطم، وعكف على النسك والتعبد؛ وفي سنة 400هـ (1010م) حينما اشتدت موجة الاضطهاد الديني التي أثارها الحاكم بقوانينه الصارمة ضد النصارى واليهود، أمر الحاكم بهدم هذا الدير الشهير ضمن ما أمر بهدمه من البيع والأديار الأخرى، فهاجمته الغوغاء، وقوضت أبنيته، ونهبت مقتنياته وآنيته، واخرج منه ارسانيوس مع باقي الرهبان الساكنين فيه؛ وقضى ارسانيوس اشهرا أخرى في بعض البيع حزيناً على ما أصاب قومه من الخطوب؛ وفي ذات ليلة من شهر ذي القعدة سنة 400هـ نفذ بعضهم إلى مكانه المتواضع وقتلوه سراً، واحتوت ابنة أخته ست الملك على ما كان له من المال والثياب والذخائر المقدسة. ولم تحدثنا الرواية عمن قتله أو من أمر بقتله، بيد أن في هذا الحادث نفسه ما يبعث إلى الريب في قرابة الحاكم بأمر الله بالحبر المقتول
تلك هي قصة زوج العزيز أو سريته النصرانية وقصة أخويها الحبرين البطركين؛ وهي(184/21)
مصاهرة طريفة فريدة في نوعها، ولا تذكر لنا الرواية مثلاً أخر يرتبط فيه خليفة مسلم مع بعض خلفاء النصرانية برباط المصاهرة، وإذا استبعدنا من الرواية ما يتعلق بالحاكم ونسبته لهذه الأم النصرانية، فانه ليس ثمة ما يحمل على الشك في جوهرها وتفاصيلها. بيد أن الرواية لا تحدثنا عن اسم هذه السيدة الرومية النصرانية التي سطعت في قصر من أعظم القصور الإسلامية، وفي ظل خلافة تطبعها الصبغة المذهبية بأعمق طابع، ولا تحدثنا عن مصيرها
محمد عبد الله عنان(184/22)
صفحة من طفولتي ترتبط بصفحة من حاضري
للأستاذ خليل هنداوي
(كان لي أخت فقدتها صغيرة أيام نكبة الحرب العظمى
بالكوليرا. ومازال اسمها يطوي أيامي حتى استقر على
صغيرة لي حلت مكان الأولى؛ فكانت الأخت والبنت؛ وكان
لها اسمها ومقامها)
يا لشد ابتهاجي حين أراها تخطر أمامي ووجهها يتدفق نوراً بالصفاء، وشعرها الأشقر يتموج كالشعلة!
تملأ وحدها مكاناً ويملأ أخواها مكاناً،
وتفعم وحدتي أنساً وقلبي محبة؛
فلا ألمحها إلا ضاحكة، ولا أسمعها إلا مهلهلة!. . .
كأنها ضحكة انطلقت بها الحياة،
أو بسمة انجلت عن معنى الرضا.
أناديها باسمها، فيهزني اسمها لأنه وليد ذكرى أليمة ترتبط بها ذكريات. أراها فأرى فيها صاحبة هذا الاسم أيام كانت تحيا بجانبي وتصل طفولتي بطفولتها، أيام كانت تتعانق أحلامنا وتتلاقى آمالنا
أرى فيها صاحبة هذا الاسم طفلة كما كانت بالملامح التي كانت. ولكن العين التي أرى بها قد اختلفت وزالت عنها معاني الطفولة! ولكني أراها وألمسها وأعانقها فأرى أن سلسلة هذا الزمان الطويل لم تكن خلال ذلك منقطعة، لأنها استطاعت أن تثبت لي اتصال الموت بالحياة، واستطاعت أن تعيد لي الميت باسمه وروحه!
أراها تخطر أمامي واثبة أو متهادية، ويراها من معي بعينه كما أراها، ولكن عين الذكرى تمتد إلى أبعد من هذا الحد، فتراها متصلة بذكريات بعيدة الأمد، تحملها كما تحمل عيناها نور غدها. تراها تحمل إلي شيئاً من طفولتي المطوية، أناديها باسمها فأرى (يسرى) الأولى التي كانت تخاف كثيرا من الدخان كأنما صفاء روحها لا يحتمل أن يرى السواد(184/23)
يغشى السماء الزرقاء والتي كانت لا تجد وسيلة إلى إهداء سلامها إلى أبينا الجندي إلا القمر!
كانت في الخامس من ربيعها يوم زحف الهواء الأصفر بجنوده وويلاته، يغشى المدينة فيأخذ منها جنوداً، ويدخل البيت فلا يرضى إلا بكبشين أو ثلاثة! أو بكل ما تنفس بحياة. كنا نسمع بصفته فنخشى ريحه، ونرتاع من صوته ونحذر أن نلقاه في مكان؛ ولكنه كان يمشي ولا يرى، يدخل ولا يحسه أحد. فأنشب مخالبه في أخي الصغير. فكانت (يسرى) تخشى الدنو منه، ولكنها كانت تسمع من الجارات يقلن لأمه: إنه سليم لأن يديه لم يزرقا. . خافي من زرقة اليدين فهي علامة الموت) وما مر على الصغير ساعات معدودة حتى سقطت (يسرى) التي كانت تحذر وتبالغ في الحذر على صغرها، لأنها تفهم الموت شيئا مروعا. وكانت أمنا تجاهد فينا لا تخشى أن ينشب المرض مخالبه فيها، وما غلبته إلا بقوة اعتقادها وإيمانها. فحنت على سرير (يسرى) وقد رأت أخاها نجا بمعجزة. . . ولكن يسرى تتأمل في يديها فترى أن الزرقة أحاطت بهما فتقول لأمها: (ها إنني أموت، لأن يداي مزرقتان. .) فتواري الأم وجهها لتذرف دمعتها بعيدة عن عينيها! (إنني لن أشفى يا أماه لأنني لا أرى في جسدي إلا الزرقة.) هاتي لي ثياب العيد - وكان العيد بعد أسبوع - من خزانتي، أريد أن ألبسها كلها. هاتي ردائي الأحمر الذي أرسله إلى والدي من القدس.) لبست ثيابها واغتبطت برغم الألم، ثم أخذها ذهول عميق عقبه سكرة الموت، ولبثت حتى حان وقت وقوعها في الداء، فأسلمت روحها ولما يتنفس الفجر! فبكت أمنا بهدوء يشقه بعض شهقات، تحاول ألا نسمع وكنا نياما، وهي تخشى على أخي النكسة، حتى طلع النهار - وأوصت حفار القبور
تتراءى لي هذه الصفحة الأليمة فأراها واضحة السطور على رغم القدم، وأذكر أنني نهضت فوجدتها كتلة زرقاء هامدة لا تنبض بالحياة، فروعني ذلك ولكني لا أذكر كيف بكيت! فمشينا إلى المقبرة وهي على يدي الحفار لا يمشي خلفها إلا ثلاثة: أمها وجدتها وأنا، أعدو خلفهما حافي القدمين، ولكني أرى من وراء ظهر الحفار رأسها الملتف وقدميها الملتفتين. وكيف يمشي أحد معنا والناس لاهون بموتاهم. فوجدنا على باب المقبرة ولداً لا أهل له يوارونه التراب وكان اللحد ضيقاً، فطووا قدميه بالعنف حتى يتسع اللحد له! فمشينا(184/24)
حتى أدركنا لحدها وكان واسعاً، فقالت أمها:
انه كثير السعة وهي صغيرة.
وسدوها اللحد وهالوا على وجهها التراب. وكنت أظن أن وجهها توارى إلى الأبد. فعدنا وأخذ النسوة يعزين والدتي قائلات:
- اشكري الله على نجاة الصبي بهذه الفدية
ولعل هذه التعزية كانت مما تخفف عن الأم لوعتها ولكن مكان الولد لا يسد
(لكلِّ مكانُ لا يسد اختلاله)
بلى ضننت أن وجه يسرى قد توارى إلى الأبد
ولكن هاهي ذي الحياة تتمخض مرة جديدة عن (يسراي) تعيدها إلي ابنة لا أختا؛ تعيدها قطعة من كبدي
لا أحفظ للأولى صورة، ولا أذكر من ملامحها شيئاً، ولكن جدتك - يا يسراي - تقول لي: إنها عادت بملامحها ونضرة وجهها وكأنها هي. وإنها لا ترى فيك إلا ابنتها. . .
فأهلاً بك أختاً وبنتاً!
وأهلاً بك يا شعلة حياتي!
خليل هنداوي
في الأدب المقارن(184/25)
الأدب العامي في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
بداوة الأمة هي عهد طفولتها؛ فيها يكون أدبها ساذجاً على صدق عاطفته، ضئيل الحظ من الفكر المستقيم على قوة شعوره؛ ويشبه دخول الأمة طور الحضارة والثقافة بلوغ الناشئ الحلم؛ إذ تنضج أفكارها ويتنبه وعيها بما يحيط بها من مظاهر الكون ويزداد تأملها فيها واتصالها بها؛ ومن ثم يزداد اثر الفكر السليم والنظر الثاقب في آدابها بجانب الشعور الحار والعاطفة المتدفقة؛ على انه لما كانت العاطفة عادة تقتصر على فريق من أبناء الأمة دون فريق، فأنه يصير للامة المتحضرة أدبان: أدب راق للخاصة وأدب عامي للدهماء؛ ولا ريب انه كلما ازداد انتشار التعليم في الأمة كان ذلك كسباً للأدب الراقي؛ ولم توجد بعد الأمة التي يتوحد فيها الأدبان
وتزداد الهوة بين الأدبين تدريجيا بارتقاء الحضارة وازدهار الثقافة وترفه المجتمع: فتدخل الأدب الراقي النزعة العلمية، وترتقي لغته وتتسع جوانبها، وتتهذب لهجته وترق حاشيته، ويزداد تراثه من جيل إلى جيل لاستعانته بالكتابة؛ أما الأدب العامي فيتداول بالرواية، ولذا يظل في تجدد وتحول وزيادة ونقص؛ تلونه المجتمعات المتعاقبة بألوانها، وتترك فيه العصور المتوالية مياسمها، ويظل ساذجاً كأدب البداوة الأولى: يهتف بالغرائز والعواطف البسيطة، ويتحدث بأحلام النفس الإنسانية في السعادة المطلقة وميلها الدائب إلى الجمال والقوة والحق والفضيلة، ويظل على ما يشوبه من خرافة وغرارة هو الثقافة الوحيدة التي تتمتع بها الطبقة العاملة
وقد كان للعرب على عهد حضاراتهم أدبان كذلك: ساعد على قيام الأدب الراقي اعتداد أشراف العرب بأدبهم القديم، وتمسكهم بلغتهم، وانتشار الثقافة والعلوم التي ورد مناهلها فريق من الأمة دون فريق؛ ساعد على ظهور الأدب العامي اختلاط العرب بالأمم وفساد لغة الكلام. وصار للإنجليز كذلك أدبان منذ تحضروا وتثقفوا وامتزجت اللغة الانجلوسكسونية باللاتينية، واستخدمت في العلوم والآداب، وتوطدت قواعدها واتسعت جوانبها وأصبحت لغة مجتمع راق. فانفصال الأدبين الخاص والعامي أحدهما عن الأخر جاء مختلف الكيفية في الأمتين: ظهر الأدب العامي في العربية بفساد اللغة الفصحى(184/26)
وانحطاطها، وظهر الأدب الفصيح في الإنجليزية بارتقاء اللغة العامية وارتفاعها
تختلف الأمتان في هذا، وتختلفان أيضاً في علاقة الأدبين الفصيح والعامي في الأزمنة التالية لانفصالهما: ففي العربية كانت الهوة بينهما سحيقة والاتصال يكاد يكون معدوما، لشدة ترفع الأدب الفصيح عن صاحبه، بل تجاهله لوجوده؛ أما في الإنجليزية فكانت المسافة بينهما اقرب، والاتصال أوثق؛ وظل للأدب العامي دائماً للمثقفين اعتبار، ورحب به الأدب الفصيح مرارا وخلطه بنفسه، واقتبس أساليبه وصوره، واصطنع مواضيعه ونغماته، فأفاد بذلك فائدة كبرى
فالأدبان الفصيح والعامي وإن اختلفا تهذب لغة واستقامة تفكير وعمق نظرة وتنوع أشكال، يستقيان من معين واحد، هو النفس الإنسانية، بميولها وأحلامها وآمالها. وإذا امتاز أولهما بصفات هي وليدة الحضارة العالية والمجتمع الراقي والعلم المنظم، فان الثاني يمتاز بصفات الصدق والبساطة والقرب من الطبيعة التي هي مرجع كل فن؛ والأدب الفصيح عرضة من آن إلى آن لغلبه اللفظ فيه على المعنى ورجاحة الزخرف على الجوهر، وظهور التأنق والتحذلق على الشعور الصحيح والطبع المرسل، فهو بحاجة دائما إلى العودة إلى الطبيعة، وخير سبيل له إليها الأدب العامي، إذا نقاه من أو شابه واستخلص أجود عناصره
ظل للأدب العامي في إنجلترا دائما اعتبار، وظل كبار الأدباء مهما سمت ثقافتهم واتسعت نظرتهم إلى الحياة على علم به: فشكسبير وسبنسر وملتون طالما استقوا من معينه قصصا سائغا ضمنوه آثارهم، والتقطوا من كنوزه ألفاظا معبرة ألحقوها باللغة الشعرية الراقية فصارت من بنيتها؛ وأتيح للاغاني الشعبية من حين إلى حين أفراد من خاصة المثقفين عنوا بجمع ما وصل إلى عهودهم منها، فكانت تلك المجموعات نصب أعين الشعراء، يتخذون منها مواضيع لأشعارهم أو يحاكونها في الأسلوب والنظم
وكان لتلك الأغاني فضل عظيم في بعث النهضة الرومانسية في أوائل القرن التاسع عشر، بعد أن اختنق الشعر في جو المدينة وأثقلته قيود الألفاظ والتقاليد؛ فقد انصرف جمهور المتأدبين عن ذلك الضرب المتكلف من النظم إلى مجموعات الأشعار الشعبية التي توفر على جمعها ونشرها إذ ذاك نفر من الأدباء، وضمنوها ما وصل إليهم من مقطوعات منذ(184/27)
عهد القرون الوسطى فنازلا، بعضها يدور حول السحر والطلاسم، وبعضها من نسج الخرافة، وبعضها مزيج من الخرافة والتاريخ، وكلها مملؤة بحب الطبيعة ووصف مناظرها؛ وكان لاسكتلندا وأدبائها فضل كبير في تلك الحركة؛ فقد اخذ الكثير من الأغاني من أدبها العامي، وقام أدباؤها بالجانب الأكبر من ذلك الجمع والنشر، وقاموا بالرحلات بين أريافها وحزونها ينقلون عن الزراع والرعاة أغانيهم وأسمارهم
ومن الاسكتلنديين أيضاً كان الرعيل الأول من الشعراء الذين نظموا أشعارهم في التغني بالطبيعة وحياة البسطاء من الفلاحين والرعاة وحياة الفروسية الغابرة؛ ومن أولئك ألان رمزي وروبرت برنز ووالتر سكوت. وقد كان ثاني هؤلاء فلاحا قحا، فعبر في شعره عن حياة فلاحي اسكتلندا وتقاليدهم وأفراحهم وأتراحهم؛ اما الثالث فقد كان على نقيض ذلك أرستقراطيا سليل أسرة تمت إلى الفرسان العصور الوسطى، فاحتفى شديد الاحتفاء بالأغاني الراجعة إلى تلك العصور، وازداد شغفا بالأغاني الشعبية حين اطلع على ما ترجم منها عن الألمانية، فطاف في اسكتلندا طلبا للاستزادة، وجعل محصوله من كل ذلك مادة لأشعاره وقصصه التي رفعته في زمنه وبعده إلى مصاف كبار الأدباء، وأكسبته شهرة عظيمة في القارة الأوروبية
وفي هذا الجو المملؤ بحب الطبيعة والبساطة والشعور الصادق، نشا وردزورث وكولردج ثم شلي وكيتس، وهذه الروح الخافقة المأخوذة عن الأغاني الشعبية هي التي أوحت إليهم أشعارهم البديعة وجعلتهم ينهجون بالشعر نهجهم الطريف. وكان وردزورث احرص الجميع على اختيار المواضيع البسيطة لقصيده، واختيار أشخاصه من بين الريفيين والدهماء، واستعمال ألفاظهم بذاتها في شعره؛ وقد جمع باكورة ما نظمه على ذلك النمط في كتابه (الأغاني الشعرية) الذي أخرجه بالاشتراك مع كولردج، وصدراه بمقدمة شرحا فيها المذهب الجديد المستمدة روحه من روح الأغاني والأقاصيص العامية
ووجد الأدب لعامي لنفسه مسلكا جديدا إلى الأدب الفصيح، حين تقدمت القصة وتناولت الحياة الاجتماعية بالوصف الدقيق، وأولعت بتصوير شتى الشخصيات من الطبقات الفقيرة والأوساط الريفية، وتناولت معاملات تلك الطبقات والأوساط ومحاوراتها وعقلياتها بالعرض والتحليل، وتوخت الأمانة للواقع بنقل ألفاظ القوم ومحاكاة أساليبهم في الخطاب؛(184/28)
وفي روايات هاردي تصوير لكل ذلك دقيق لا يباري دقة ونفاذ بصيرة؛ وهكذا كسب الأدب الفصيح كسبا جديدا من الأدب العامي
أما في العربية فكان نصيب الأدب العامي دائما الزراية والتجاهل؛ وكان أول ما يأخذ به المتأدب نفسه التخلص من شوائب العامية لفظا ومعنى وأسلوبا، وشر ما يوسم به لفظ انه عامي، أو معنى انه سوقي؛ وابعد ما يفكر فيه الأديب أن يخالط العامة أو الزراع ليأخذ عنهم ما يتحدثون فيه وما يتأدبون به، من قصص ممزوج بالخرافة، وغناء متسم بالسذاجة، أو يطوف في الأرض طلبا لذلك كما طاف سكوت وأمثاله في شعاب اسكتلندا؛ إنما كان أدباء العربية يشدون الرحال إلى البادية طلبا للفصيح من الكلام والأصيل من الأساليب، والمأثور من أقوال العرب يتخذ حجة في المناظرة، وأنموذجا في الإنشاء وقد عيب على بشار قوله في جارية:
ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت
لأنه تناول موضوعا بسيطا عاميا وتحدث في سذاجة لا تليق بالشعر الفصيح. وإنما كان الأدب العربي فيما ارتضى له أصحابه، واستن له نقاده، أدب بلاط يحفل بذكر الملوك لا السوقة، ونديم أرستقراط يشارك في حياة العلية ويشمخ عمن دونهم، ولا يرى في حياء الدهماء وحياً لقول، ولا موضوعا لتفكير، فلم يكن من شعراء العربية من يحتفي بوصف أشخاص قريته كما فعل جولد سميث في (القرية المهجورة) وصفاً كله حب وحرارة، ولا من يرثى أبناء القرية في مراقدهم الأخيرة، وهم الذين افنوا العمر كدا دون أن تسمع الدنيا بأسمائهم أو يصعدوا إلى المجد على أكتاف غيرهم أو دمائهم، كما فعل جراي في مرثيته
وقد اثر عن بعض شعراء العربية كابي نؤاس وأبى تمام، انهم كانوا يتلقفون أحيانا أقوال العامة فيصوغونها شعرا، كالذي رواه ابن الأثير من أن أبا تمام وصل من بعض قصيده إلى قوله: (وأحسنُ من نور يفتِّقه الصَّبا) وارتج عليه، حتى مر بالباب سائل يقول: (من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا)، فاكمل أبو تمام البيت: (بياض العطايا في سواد المطالب)، على أن ذلك كان نادرا ضئيل الأثر. أما الاحتفال للأدب العامي، ومحاولة الانتفاع به، والرغبة في جمعه، والعمل على تلقيح الأدب الفصيح بعناصر الحياة فيه، فذلك(184/29)
كان بعيدا جدا عن أذهان أدباء العربية
لم يستفد الأدب العربي الفصيح من شقيقه العامي شيئا، مع انه كان أحوج كثيرا من الأدب الإنجليزي إلى تلك الاستفادة، بل لعل رفضه الاستفادة من أدب العامة كان من أسباب اضمحلاله وسقوطه: فقد أبى الأدب العربي إلا اعتزال أدب العامة بنفس الإصرار والشموخ الذين اعتزل بهما آداب الأمم الأخرى، وتعالى عليه تعاليه عليها؛ ورأى المسعودى وابن النديم نسخا من قصص ألف ليلة وليلة، التي بدأت تتجمع حولها آداب العامة فاستخفا بها وحقراها، ولم يخطر لهما أن بها مادة لعبقرية الأديب أو لقاحا للأدب. سخرا من الأقاصيص الشعبية في القرن الرابع الذي كانت الصنعة اللفظية فيه قد ركبت الأدب، والتقاليد قد كبلت المنظوم والمنثور، ولو التفت الأدباء إلى ذلك الأدب الشعبي الناشئ واستوحوه جديدا من القول، لربما شهد الأدب العربي نهضة جديدة وإحياء كالذي شهده الأدب الإنجليزي في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن الذي يليه
والحق أن الأدب العربي العامي قد احتوى من المواضيع الأدبية والأشكال الفنية ما أعوز الأدب الفصيح، بل انه احتوى من ذلك على ما هو أشبه بالأدب وانهض بوظيفته واقرب إلى التعبير عن الشعور. والحق أن الأدب الفصيح ليس بالترجمان الصادق المستقل للمجتمع العربي، ولا هو بالسجل الكامل لنتاج الذهن العربي وخلاصة النفس العربية في تعاقب العصور، والأدب العامي اصدق وأوفى منه في كل ذلك
فالأدب العامي حافل بآثار الخيال؛ مملوء برائع القصص، وهو ما يعوز الأدب العربي الفصيح منثوره ومنظومه؛ فالقصة الاجتماعية ضرب من الأدب لم يألفه أدباء العربية، والخيال الذي أولع به الشعراء واشتهر به البحتري خيال كاذب، إنما هو وهم ومغالطات صبيانية: من توهم أطياف أحبة لا وجود لهم، واختراع مواقف للوداع لا طائل تحتها؛ ولو فطن الأدباء لأخذوا بيد القصة فرفعوها من عاميتها إلى لغة الفكر المثقف والوضع المهذب، فأضافوا بذلك إلى الأدب فنا يجد فيه متحولا عن فنونه العتيقة
والأدب العامي حافل بضروب الأوزان والقوافي الشعرية المتداخلة، وهي الأشكال التي رفضها الأدب الفصيح وظل متمسكا دونها بالقصيدة الموحدة القافية، وأبعدها عن حظيرته فلجأت إلى حظيرة الأدب العامي؛ على أن تلك الموشحات التي راجت في الزجل دون(184/30)
الشعر أدل على الرقي الأدبي واقدر على التعبير عن شتى المقاصد من القافية الموحدة، فتلك فائدة أخرى ما كان أحرى الأدب الفصيح أن يستفيدها من الأدب العامي، ولكن الأرجح أن ذيوع تلك التوشيحات في أدب العامة زاد الأدباء صدودا عنها فيما يحتفون به من أغراض القول
وأسباب هذا الجفاء الذي استحكم بين الأدبين الفصيح والعامي في العربية هي: روح المحافظة التي سادت الأدب الفصيح والتبجيل العظيم لآثار الأقدمين، والاعتداد الشديد بلغة الضاد التي هي لغة الكتاب المنزل والدولة؛ وهي عوامل نماها وقواها اعتزاز العرب في صدر الإسلام بقوميتهم وتعاليهم عمن عداهم من الشعوب، وحرص أبناء تلك الشعوب على التشبه بهم بحذق لغتهم وتقليد أساليبهم؛ كل ذلك جعل للفظ عند الأدباء التقديم على المعنى، فكل قول عدم اللفظ الفصيح هو عامي سوقي حقير لا قيمة له، وجعل لأساليب العرب الأقدمين مكانة رفيعة، فكل قول شذ عنها ناب مستهجن، وكل احتذاء لها مهما أرهقه التكلف وخرج به التقليد عن طور المعقول والمحسوس، فهو مقبول معدود في الأدب؛ هذا إلى ما تقدمت الإشارة إليه من تعلق الأدباء بأهداب الملكية والعلية ابتغاء النوال، مما نأى بجانبهم عن جانب العامة
فالأدب الفصيح استحال في حيز تلك التقاليد والمراسيم إلى قوالب متحجرة، وأوضاع متصلبة، غير حر الحركة ولا سهل التجديد ولا قابل لتأثير من الخارج، لا يتأثر إلا بماضيه، بتراث العرب الأفحاح الذين قصدوا القصائد ونسبوا وفخروا وهجوا وارتجلوا الخطب؛ وتلك حال إذا صار إليه الفن جمد وبعد عن الأمانة للحياة والتصوير لحقائقها. وشبيه بذلك ما صار إليه فن النحت وفن التصوير عند قدماء المصريين من جمود وزيغ عن الحقيقة، حين كبلتها الأوضاع والرموز الدينية
وقد اصبح لزاما على الأدب الفصيح وقد كبلته التقاليد بالقيود، وأحاطته الصناعة بالسدود، أن يترك التعبير الصحيح عن شعور المجتمع للأدب العامي، وذلك هو الذي تم دون أن يشعر رجاله، ودون أن يقلعوا عن كبريائهم وترفعهم عن الشعب. فظلوا في تقاليدهم الجامدة وبراعاتهم اللفظية سادرين، وقد نما الأدب الشعبي واتسع، وحوى من صادق المشاعر والعواطف، وجميل المحاورات والمناظر، ما أعوز الأدب الفصيح، وما قربه إلى نفوس(184/31)
الشعب وإلى نفوس الأمم الأخرى معا:
فقد فطن الأوربيون من عهد الحروب الصليبية إلى ما في الأدب العربي من جمال وعبقرية ومتعة، فتداولوا أقاصيصه وأغانيه وحاكوها في آدابهم الشعبية وخلطوها بها، وترجموا مجموعات منها إلى لغاتهم في شتى الأزمنة، ولم يالوها حفاوة وامتداحا، وعرفوا فضلها في إدخال العنصر الرومانسي في آدابهم العالية، وهي نفس الوظيفة التي أداها أدبهم الشعبي؛ أما موقفهم من الأدب العربي الفصيح فكان خلاف ذلك: فانهم كلما حاولوا دراسته والانتفاع به في آدابهم صدهم عنه ما فيه من غرابة معان متكلفة لا تمت إلى الحياة الصحيحة، ومن زخارف ألفاظ يحتفي بها أدباء العربية كأنها حقائق مجسمة، فإذا ترجمت لم تعد شيئا مذكورا، فرجعوا خائبين وعزوا تلك الغرابة إلى اختلاف عقليتي الشرق والغرب، وما هو كذلك وإنما مرجعها ما خالط الأدب الفصيح من تقاليد جامدة شبيهة بالرموز الدينية، بعدت به عن التعبير عن شعور النفس الإنسانية، شرقية كانت أو غربية
فالأدب العربي العامي قد احتوى من عناصر الصدق في الشعور، وتصوير المجتمع، ووثبات الخيال ما أعوز الأدب الفصيح كثيرا، وهو مع ذلك قد لقي الإهمال والازدراء من المثقفين وخسر الأدب الفصيح معونته في العصور الماضية، وهو أن لم يكن أحرى من الأدب الفصيح بالدرس، واكثر منه فائدة لمؤرخ الأدب والمجتمع فليس دونه تلك الوجوه، وهو خليق بان يدرس معه جنبا إلى جنب، وتجمع أثاره المتخلفة من شتى العصور، ففيها هي ذاتها متعة جليلة، وفيها بجانب ذلك للشاعر والقصصي ما يبعث الإلهام، ويبسط منادح التفكير والقول، ويدني من الطبيعة والصدق
فخري أبو السعود(184/32)
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 8 -
انتهى بنا الحديث في المقال السابق إلى بيان اثر نظرية النبوة الفارابية في القرون الوسطى. ويظهر أنها لم تقف عند هذا الحد بل جاوزته إلى التاريخ الحديث. ونرى واجبا علينا لإتمام هذا البحث أن نشير إلى بعض المفكرين المحدثين في الغرب والشرق الذين حاولوا تفسير النبوة تفسيرا يمت بصلة إلى النظرية الفارابية؛ ولن نتحدث من بين فلاسفة الغرب إلا عن اسبينوزا الذي أشرنا في بحث سابق إلى انه يلتقي مع الفارابي في نقط كثيرة. وأما مفكرو الشرق ومصلحوه فسنذكر من بينهم شخصيتين جليلتين كانت لهما اليد الطولى في نهضة الأمم الإسلامية الأخيرة وتقدمها العلمي والأدبي، وهما السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام. ولا نظن أحدا إلى الآن حاول أن يربط آراء هذين المصلحين ربطا وثيقا بنظريات علماء الإسلام الأول ومفكريه، اللهم إلا محاولات ضئيلة ترمي إلى أيجاد علاقة بينهما، أو بين الأستاذ الأمام بوجه خاص من جانب وابن قيم الجوزيه وابن تيميه والغزالي من جانب آخر. وإذا صح أن آراءهما الدينية قد ربطت بأقوال بعض أئمة السلف فأبحاثهما العقلية لا تزال حتى الساعة غير واضحة الصلة بنظريات فلاسفة الإسلام. وخطأ أن يظن أن هذه الصلة مقطوعة أو معدومة، فان السيد والأمام إنما تم تكوينهما أولا وبالذات على حساب المصادر العربية؛ وفي مجلة العروة الوثقى ما يشهد بأنهما كانا يدعوان إلى دراسة فلاسفة الإسلام وتفهم أفكارهم. وسنرى بعد قليل كيف يلتقيان في مشكلة من أهم مشاكل الإسلامية
كلنا يعلم أن الصلة بين العقل والنقل بين الفلسفة والدين شغلت الفلاسفة المحدثين كما كانت حجر الزاوي في فلسفة القرون الوسطى. وقد وقف اسبينوزا على هذا الموضوع كتابا مستقلا غير معروف من جمهور القراء، لان نفوذ كتابه الآخر المشهور (الأخلاق) غطى عليه، ونعنى به (رسالته الدينية السياسية) التي تتمم في رأينا مذهبه الفلسفي. ذلك لأنه إذا(184/33)
كان (كتاب الأخلاق) يوضح الحقائق العقلية، فأن هذه (الرسالة) تشرح الحقائق النقلية. وهذان الضربان من الحقائق متميزان عند اسبينوزا ومستقلان تمام الاستقلال ويقابلان علمين منفصلين: الحقيقة العقلية وموضوع الفلسفة، والحقيقة النقلية في موضوع علم الإلهيات، واسبينوزا فيلسوف وعالم في الإلهيات في أن واحد، فلا يستطيع أن يلغي إحدى هاتين الحقيقتين ولا أن يدمجها في الأخرى، بل يقرر أن كل واحدة منهما ضرورية ومطلقة النفوذ في مضمارها؛ والدين أن لم يكن الحقيقة كلها حقيقي في ذاته ولا غنى للجمعية عنه. غير أن الحقيقة الدينية تعتمد رأسا على الوحي والإلهام، فكيف يتم هذا الوحي وبأنه وسيلة يستطيع الأنبياء الوصول إليه؟ هذا هو السؤال الذي حاول اسبينوزا أن يجيب عليه. وفي رأيه أنا إذا تتبعنا الكتب المقدسة جميعها وجدنا إن الإلهامات النبوية المختلفة سواء أكانت عبارات صحيحة آم صورا رمزية إنما تتم بواسطة مخيلة قوية. وعلى هذا لا تتطلب النبوة شرطا آخر سوى أن يكون الأنبياء ذوي خيالة نشيطة متنبهة
لا يمكننا أن نمر بهذه الآراء دون أن نفكر على الفور في الفارابي وفي الدراسات الفلسفية اليهودية في القرون الوسطى. حقا أن المعرفة الناتجة عن الوحي والإلهام لا تساوي في نظر اسبينوزا المعرفة العقلية، مع انهما عند الفارابي متساويتان متكافئتان؛ ولعل هذا راجع إلى أن اسبينوزا فيلسوف قبل أن يكون لاهوتيا، وديكارتي قبل أن يكون فارابيا؛ ولا شك أن الأفكار الواضحة النيرة هي وحدها عند ديكارت سبيل المعرفة اليقينية غير انه بالرغم من هذا الخلاف فمن المسلم أن الفيلسوف العربي والفيلسوف اليهودي متفقان على أن قوة الخيالة شرط أساسي في النبوة. وهنا نتساءل: هل هذا الاتفاق مجرد مصادفة أو اخذ اسبينوزا عن الفارابي بعض آرائه في النبوة؟ إذا ما لاحظنا أن الأول درس في عناية مؤلفات ابن ميمون أمكننا أن ندرك الصلة بين الأفكار الاسبينوزية ونظرية النبوة الفارابية. ونحن نلحظ من جهة أخرى أن مذهب السببية عند الفيلسوفين متحد، وانهما يقبلان فكرة التنبؤ بالغيب دون أن يكون لها أي اثر في مجرى القوانين الطبيعية. ففي مقدور ذوي النفوس الممتازة أن يقفوا أثناء اليقظة أو في حالة النوم على الأمور المستقبلة ويتكهنوا ببعض الحوادث التي ستحصل غدا أو بعد غد لا محالة. وعلى كل حال فنحن لا نذهب مطلقا إلى أن اسبينوزا اخذ عن الفارابي مباشرة، لأنه ما كان يعرف العربية؛ وبعيد أن(184/34)
يكون قد وقع في يده شيء مما ترجم من كتب الفارابي إلى اللاتينية. وكل الذي نعتقده انه استقى بعض الأفكار العربية من مصدر ثابت هو كتاب (دلالة الحائرين) لابن ميمون، وفي هذا الكتاب، كما قدمنا قسط وافر عن نظرية النبوة
ولنعد الآن مرة أخرى إلى الشرق وإلى السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام بوجه خاص. فأما السيد فلم يخلف لنا مؤلفات كثيرة نستطيع أن نقرا فيها كل أبحاثه ونظرياته، وفيما وراء (رسالته في الرد على الدهريين) و (تاريخه للأفغان) لا نكاد نجد له إلا مقالات متفرقة في (العروة الوثقى) وفي بعض الصحف والمجلات الموجودة في ذلك العهد. وكأنه اكتفى بان يلقن اتباعه وتلاميذه تعاليمه دون أن يودعها بطون الكتب شان سقراط وطائفة من المصلحين. هذا إلى أن حياة الاضطراب والرحلة والانتقال التي قضاها ما كانت تسمح له بالهدوء الكافي للجمع والتأليف. ومهما يكن فقد أدلى في موضوع النبوة بآراء جديرة بان تسرد هنا. وذلك انه أثناء مقامه الأول في القسطنطينية سنة 1870 دعي إلى إلقاء محاضرة في دار الفنون. ويظهر انه شاء أن يكون موضوع المحاضرة متناسبا مع المكان الذي ألقيت فيه، ولهذا تحدث عن فائدة الفنون. وفي خلال هذا الحديث شبه الجمعية بجسم مرتبط الأجزاء والأعضاء، ولكل عضو من أعضائه خاصة. ثم انتقل من هذا إلى انه لا حياة للجسم إلا بالروح، وروح هذا الجسم هي النبوة أو الحكمة. فالنبي والحكيم من الجمعية الإنسانية بمنزلة الروح من البدن. وكل ما بينهما من فارق: هو أن النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب يختص الله بها من يشاء من عباده (والله اعلم حيث يجعل رسالته) في حين أن الحكمة تنال بالبحث والنظر. وفوق ذلك فالنبي معصوم من الخطأ والزلل، بينما الحكيم يجوز عليه ذلك ويقع فيه وأول شيء يستخرج من التشبيه السابق أن النبي عضو وعضو هام من أعضاء الجمعية الإنسانية، وأن النبوة مهمة ووظيفة من الوظائف الضرورية للمجتمع. وفي هذا ما هيأ السبيل لشيخ الإسلام حسن فهمي أن يثيرها شعواء على السيد متهما إياه بأنه يزعم أن النبوة فن، وأن النبي صانع. وقد أحدثت هذه التهمة ضجة عنيفة في صحف الشرق المختلفة، وترتب عليها أن أرغم السيد على مفارقة استامبول سنة 1871
التتمة في العدد القادم(184/35)
إبراهيم بيومي مدكور(184/36)
قصة الميكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
عزرائيل يقبض بيد صفراء
وصل الفائت: بنى ريد رئيس بعثة الحمى الصفراء ومساعده كارول بيتا صغيرا وأناما فيه ثلاثة رجال، الطبيب كوك والجنديين فوك وجرنجان، أناماهم في اقمصة الموتى بالحمى وفي دمائهم، فلم تصب الحمى أحدا منهم. إذن فالحمى لا تنتقل من ثياب المرضى ولا من قذرهم، وأنما من البعوض. وخشية أن تكون الحمى لم تصبهم لأنهم بطبيعتهم حصينون، حقنا أحدهم بدم مريض، وسلطا على الآخر بعوضة وبيئة، فجاءت الحمى كليهما
- 5 -
وبينا هذه التجارب تجري كان رجل غير جندي من أهيو كاسف البال حزينا. هذا جون موران الذي أنتصب له ريد قائما ورفع له يده بالسلام. تذكر انه تطوع (في سبيل العلم والإنسانية) ورفض بتاتا أن يأخذ أجرا، وقرصته بعوضة الحمى ذات الأقلام الفضية البيضاء، وبعد ذلك قرصته مرارا بعوضات مختارات تحمل السم نقيعا في بطنها، ولكنه صمد وا أسفاه لكل هذا وظل صحيحا سليما. فحار ريد ماذا يصنع به
ثم أسعده الخيال فقام فبنى له بيتا صغيرا ثانيا إلى جانب ذلك البيت الكريه الأول، وكان هذا البيت الجديد على نقيض جاره القديم. فكانت له نوافذ في قبالة الباب حتى يجري فيه الهواء، وكان باردا، وكان به سرير لطيف نظيف عقم فراشه بالبخار. وعلى الجملة كان منزلا ترضاه الصحة غاية الرضاء، فكأنما بني خصيصا لمسلول يعيش فيه ليطيب؛ وأقام في وسط البيت سترا من ثوب شف دقيق ضاقت فروج نسجه فلا تأذن لأصغر بعوضة أن تنفذ منها. ونال الستر من البيت عدا الحائطين سقفه وأرضه
وفي اليوم الحادي عشر من ديسمبر عام 1900 في الساعة الثانية عشر ظهرا دخل البيت موران بعد استحمام، وليس عليه من الثياب غير قميص فضفاض للنوم؛ ومضت خمس دقائق، فجاء ريد وكارول بوعاء من زجاج فتحاه في البيت فخرج منه خمس عشرة من(184/37)
بعوضات أنثيات عطشى تطن حنينا إلى شربة من دم. وكانت كل واحدة من هذه الخمس عشرة شربت في أيام مختلفات قبل هذا من دم صبية صفر الوجوه في مستشفى لاس انيماس
دخل موران إلى هذه الحجرة النظيفة الصغيرة بعد استحمامه في قميص واحد ورقد على سريرها النظيف وانتظر القدر الذي يكون. هذا موران، فهل يسمع به أحد من الناس الان؛ وبعد دقيقة طن البعوض حول رأسه. وبعد دقيقتين قرصه البعوض. وفي ثلاثين دقيقة كنت تراه راقدا سطيحا وفي جلده عدة وخزات وخزها إياه البعوض وهو صاغر مستسلم لا يؤذن له حتى شفاء غليله بدق هذا البعوض
وعاد للقرص في منتصف الساعة الخامسة من نفس اليوم، وعاد إليه مرة ثالثة في غد اليوم ليعطيني الفرصة لإناث البعوض التي لم تعثر عليه فتعضه، لتعثر عليه وتعضه حتى تشتفي منه. وكان إلى جانب موران في النصف الآخر من البيت شابان يعيشان فيه لا يفصلهما عن موران وعن بعوضه غير الستر الشفاف، وعاشا في هذا النصف ثمانية عشر شهرا في سلام
آما موران ففي صبيحة عيد الميلاد من عام 1900 استقبله العيد بالهدايا آلاتية: وجع ينبض في رأسه، وحمرة في عينيه يزيدها نور الشمس ألما، وهمود بلغ منه حتى عظامه؛ لقد هده البعوض شر هدة، وأطاح به حتى كان من الموت على قيد شعره؛ ثم آخذت الأقدار بيده فحمد الله ريد على انه اشتفى، ولكنه اشتفى ليعيش في خمول ذكر ما استحقه أبدا، وعلى كل حال فقد نال أمنيته - في سبيل العلم والإنسانية؛ والنتيجة انه هو وفوك وجرنجان وكوك وكل من تطوع معهم أو أوجر، كل هؤلاء اثبتوا أن البيت الأول بيت الكرب والهول خلا من البعوض فخلا من كل خطر برغم قذره، وأن البيت الجميل النظيف الثاني دخل إليه كل خطر برغم أناقته ونظافته. ووقع ريد أخيرا على جواب كل سؤال في معضلته الكبرى، وكتب في أسلوبه العتيق يقول: (إن أول شرط يجب توفره في بناء ليكون وبيئا بالحمى الصفراء أن يحل فيه بعوض عض من قبل مرضى بالحمى الصفراء)
كلمة ما ابسطها. وكلمة ما اصدقها. وانتهى الأمر وكان ما كان. وكتب ريد إلى زوجه: (أن الدعاء الذي بت أدعو الله إياه عشرين عاما: أن يكون من نصيبي بطريقة ما وفي وقت ما(184/38)
أن اخفف عن الإنسان شيئا من شقاء الإنسان، هذا الدعاء قد استجابه الله! وهذا العام الجديد يطل علينا، فآلف عام وآنت بخير يا عزيزتي. . . أنصتي! أنصتي! هؤلاء عشرون بواقا ينفخون أبواقهم معا يسترقدون العام القديم)
أم هم ينفخون أبواقهم تحية لازار! أم هم ينفخون أبواقهم احتفالا بالحمى الصفراء أن أمكن محوها من على ظهر الأرض! آم ينفخ هؤلاء الموسيقيون أبواقهم إنذارا بالقدر الخبيء الذي لن يلبث أن يجيء أفراد هذه البعثة الصغيرة بعيد ساعة نصرها بقليل. . .
- 6 -
وجاءت الدنيا إلى هبانا، وهتف هناك لريد. وجاء العلماء إلى هبانا واشتركوا في نقاشهم العابس وفي التساؤل والتشكك المعهود. ثم جاء وليم كروفورد جرجاس وكان رجلا مثل ريد لا يعاب، جاء إلى هبانا يتدرب استعدادا لصنيعه الأكبر الاخلد في بنما فدخل إلى ميازيب هبانا وإلى مجمعات مراحيضها والى أحواض مائها وشن فيها الغارة على البعوضة الاستيجيوميويه، وفي تسعين يوما خلصت المدينة من الوباء لأول مرة بعد قرنين فلم تقع فيها إصابة واحدة من الحمى الصفراء. انقلاب كأنه السحر، ولكن مع هذا بقي الشك يساور الأطباء والعلماء والنطاسيين ذوي اللحى العبوسة، في أوربا وأمريكا، فظلوا يسألون عن هذا، ويعيدون الكرة على هذا، فعل الذي لم يطمئن قلبه. . . وذات صباح دخل خمسون من هؤلاء الشكاكين بيت البعوض المذكور واخذوا يقولون: (أن هذه التجارب بارعة جميلة، ولكن نتائجها يجب أن تمحص وتوزن من غير عوج أو ميل. . .). وبينا هم فيما هم انكشف غطاء وعاء به بعض انثيات البعوض، انكشف بالطبع اتفاقا، فخرجت البعوضات منه وذهبت قدما إلى وجوه هؤلاء العلماء تطن طنينا وفي عيونها بسمة الخبيث ولهفة الجوعان. فوا حسرتاه على العلماء الإجلاء! طار الشك من قلوبهم، كما طارت أرجلهم بهم - إلى الباب. وارتد الستار بينهم وبين البعوض بقوة صاخبة تحكي عن قوة اقتناعهم بالذي قال ريد. ثم اتضح الأمر فإذا بالبعوض لم يكن لوث بالحمى
بعدئذ جاء جرجاس، وقد سبق ذكره، وجاء معه جون جتراس وكان كوبيا عمدة في الحمى الصفراء، وكانا كلاهما اقتنعا في الذين اقتنعوا بالتجارب التي أجريت في معسكر لازار، فاختطا الخطط لتطبيق نتائج هذه التجارب. وكانت خططا جميلة، ولكنها كانت مع(184/39)
الآسف سريعة نزقة. قالا: (أن من الغريب أن تلك الإصابات التي حدثت في معسكر لازار لم يمت أصحابها. إنها كانت إصابات ذات أعراض نموذجية من الحمى الصفراء، ولكن أصحابها اشتفوا منها وصحوا من بعدها. أفيكون سبب ذلك أن ريد لم يمهلهم على أرجلهم طويلا وبعث بهم إلى الفراش ليستريحوا سريعا). وبدا يلعبان بالنار. قالا: (سنأتي بنفر من المهاجرين الأسبانيين الذين وردوا حديثا، فهم غير حصينين، ثم نصيبهم بالحمى إصابة شديدة، ولكن على أسلوب ريد لتكون العاقبة مأمونة). هكذا فكرا وهكذا اختطا، وما كان ايسر محو الوباء بإبادة البعوض وهو من البعوض الأنيس الذي يسكن منازل الناس ويتناسل في أماكن بين ظهرانيهم غير خافية ولكنهما قالا: (وبهذا نكون أيضاً قد أعدنا تجارب ريد وخرجنا على نفس نتائجه فزدناها ثبوتا)
وجاءا بالمهاجرين، وكانوا قوما جهلاء لا يفقهون، أنصتوا للذي قالاه لهم واطمأنوا إلى أن الإصابة ستكون مأمونة العاقبة. ثم عض البعوض سبعة منهم، وعض ممرضة أمريكية شابة جسورة. فخرج من المستشفى من هؤلاء الثمانية مهاجران والممرضة، وقد أمن الثلاثة عواقب للمرض جديدة، وأمنوا عواقب الأمراض اجمع، وكل هم من هموم الدنيا. خرجوا محمولين على الأعناق والطبول تدق دقا بطيئا خافتا حزينا. . .
ألا ما كان ابرع ريد في بحثه. ألا ما كان أسعده حظا في بحثه - في تلك التجارب التي خلت من الموت في معسكر لازار. . .
واستولى الذعر على هبانا، وأخذت الجماهير تتجمع وتتحدث بالغضب اصطخابا، ومن ذا الذي يلومهم والحياة الإنسانية عند كل الناس غالية مقدسة
كان كارول قد عاد إلى هبانا ليقضي في بعض مسائل علمية صغيرة، وكان رجلا كالحنوطي ذهبت العاطفة من قلبه، وكان فوق ذلك جنديا. قال: (نحن الآن نستطيع أن نستأصل الحمى الصفراء فلا تكون، ونحن الآن نعلم بأي وسيلة تنتقل من رجل لرجل، ولكن الذي لا نعلمه هو الشيء الذي بسببها). هذا ما قاله كارول لريد، وهذا ما قاله ريد لكارول، ولابد من اعترافنا، واعتراف كل أحد معنا، بان الشيء الذي لم يعلماه بعد، والذي ظلا يعتزمان طلبه، إنما كان أمرا علميا محضا لا يهم إلا ممن يطلبون المعرفة للمعرفة. وأني أسألك أكان هذا أمرا من الخطورة بحيث يستحق ضياع الأرواح، ولو أرواح(184/40)
مهاجرين أسبانيين؟ أما أنا فلن أستطيع جواب هذا السؤال. وأما ريد وكارول فقد أجاباه بنعم. ولا عجب. فهما بدآ هذا الأمر جنديين يطيعان أمرا، وبدأه إنسانيين يخاطران بروحيهما في سبيل الإنسان، وآذنا للبعوض أن يصب سمة في جلديهما في سبيل المعرفة القاسية الباردة، ثم زهاهما المجد الذي يكون من كشف الغطاء عن كل مجهول. . .
وتأكد لديهما أن الوباء ليس بشلة ترى، أو أية مكروبة أخرى تريها اكبر المجاهر , لقد نظرا في أكبدة الناس وأحشاء البعوض طلبا لهذا المكروب عبثا. ولكن أمعنى هذا انه لا يوجد؟ كلا. فهناك احتمالات خفية أخرى. فهناك احتمال وجود نوع اصغر من المكروب دق حتى عن اكبر مكرسكوب لا يحسن وجوده إلا بقتل الرجال ونفث سمه الخفي فيهم، قد تكون هذه طبيعة مكروب هذه الحمى الصفراء. يؤيد هذا أن فريدريك لفلار، الرجل القديم ذا الشوارب الكبيرة، كشف عن وجود مثل هذه الأحياء في داء (الفم والقدم) الذي يصيب العجول. وود ريد وكارول أن يكشفا في الحمى الصفراء عن وجود مثل هذا المكروب الذي اخرج عن طوق المجاهر فلم تكتشفه
وكان ريد في شغل شاغل، فبعث كارول إلى هبانا يستطلع الامر، فلما جاءها غضب اشد الغضب لموت من مات في تجارب جتراس، وكان جتراس في هلع هالع ومن ذا الذي يلومه، فمنع كارول أن يستخرج دما من مرضى الحمى الصفراء. لا، لا. لا يمكن أن يستخرج دما ابدا. بل ولن يؤذن لكارول أن يعضهم ببعوضه. وزاد جتراس في سخفه ففضل إلا يفحص كارول حتى الجثث التي تموت خشية أن يثير هذا ثائرة السكان. فكتب كارول إلى ريد يقول: (. . . فتصور خيبتي في وسط هذا) وزاد فاستنكر مخاوف قوم جهال يتسخفون. على أن هذا لم يورثه الخيبة، فما مثل كارول يخيب
ولسنا ندري أي حيلة اعمل، وأي سحر استنجد حتى جاء بدم وبئ من مريض بالحمى، ورشحه في مرشح خزفي دقت مسامه حتى لا ينفذ منه المكروبات التي تريها المجاهر، واخذ السائل الراشح الذي نفذ من الخزف وحقنه تحت جلد ثلاثة رجال غير حصينين من الحمى - ولا يذكر التاريخ كيف أغراهم بالرضاء. فأصيب اثنان منهم. فصرخ صاحبنا صرخة الفرح: أن الحمى الصفراء مثل مرض (الفم والقدم) كلاهما ينشا عن أحياء بالغة الصغر تستطيع الإفلات من مرشح خزفي دقيق المسام(184/41)
وكتب ريد إلى كارول يقول: (كف عن قتل الناس فقد غلونا فيه)، ولكن أين الكف من كارول، فلابد له من الحصول على بعوض وبئ، وحصل عليه ببعض طرائقه الجريئة الشيطانية، وانتزع الرحمة من قلبه وقام بأخيرة تجاربه
وقال في صدد ما جرى: (لقد عضني البعوض ومرضت، وكنت انتظر الخاتمة تأتي في بحر سبعة أيام. ولكنها لم تأت، فاقتنعت كل الاقتناع بان قوة الإصابة تتوقف على قابلية المصاب اكثر منها على عدد القرصات. ففي التاسع من أكتوبر علم 1901 جمعت كل البعوض الوبيء الذي عندي، وكانت ثمان منها أتاها الوباء قبل ذلك بثمانية عشر يوما، وسلطتها عامدا على رجل غير حصين، فكانت الإصابة التي جاءته إصابة معتدلة). وختم مقاله ختام الفاخر المنتصر. ولك ماذا كان الحال لو أن هذا المريض مات، والله يعلم أن احتمال هذا كان كبيرا؟
هذه قصة هذه العصابة العجيبة، غريبة ما وسعت الغرابة. وإني لأعود بالذكر إلى الذي كان من هذا الباحث كارول، وأتصوره وقد عرت من الشعر رأسه، واحتجبت عيناه وراء منظاره، ثم اذكر انه كان حطابا قبل أن يكون بحاثا، ثم اذكر ما كان من جرأته الخارقة وقلة مبالاته بالعاقبة في أمر نفسه، فلا أتمالك أن ارفع قبعتي احتراما وإعجابا به بالرغم من اغرامه الشديد وإلحاحه في أن يتجسس عن أسرار الطبيعة في اخطر مخابئها. إن كارول كان أول رجل أصيب في هذا السبيل، وهو الذي سن السنة الأولى فاقتدى به الجنود الأمريكيون، وقفى على آثره الكاتب الملكي، وتشجع به المهاجرون الأسبانيون رقم 1، 2، 3، 4، 5، وحذا على حذوه البقية الباقية من هذا النفر الكريم الذي عرفنا أعمالهم وجهلنا أسماءهم - كل هذا في سبيل العلم وسبيل الإنسانية! ولعلك تذكر انه لما أصيب وقف قلبه أو كاد في سبيل العلم وفي سبيل الإنسانية. فهذا القلب الذي وقف أو كاد في عام 1900، ثم تشبث بعد ذلك بالحياة، عاد في عام 1907 فوقف وقفة لا حركة من بعدها. . .
- 7 -
وقبل ذلك بخمسة أعوام، أي في عام 1902، مات ريد وهو في عنفوان شبابه، وكان متعباً اشد التعب برغم صباه. مات وهتاف الأمم له يزداد اصطخابا. وهل تدري بأي علة مات؟ بالزائدة الدودية. ومات فقيرا. تمتم لصديقه كين وهو على سرير العمليات قبيل أن يهبط(184/42)
المخروط بالأثير على وجهه: (إني لم اترك لزوجتي ولابنتي من متاع الدنيا إلا القليل. . . القليل. . . القليل)، واسكت الأثير لسانه، وهبط به إلى الأخير من أحلامه
لنا الفخار في امتنا وفي مجلس امتنا، فنهم منحوا مدام املي لورانس ريد، زوجة الرجل الذي اقتصد للعالم ملايين الدولارات، دع ذكر الأنفس، منحوها منحة طبية، خمسمائة وألف دولار معاشا سنويا، ومنحوا مثلها لأرملة لازار، ومثلها لأرملة كارول، ولاشك أن هذا كانت فيه الكفاية لهن، بدليل أن لجنة من شيوخ المجلس قالت في غرابة وإبهام: (إن الأرامل لا يزال باب الرزق في وجوههن مفتوحا)
ولكن ما الذي جرى لكيسنجر، جندي اهيو، الذي غامر في التجربة وصمد فيها صمودا في سبيل العلم والإنسانية وحدهما؟ أن الحمى الصفراء لم تقتله. وانه رفض أن يأخذ أجرا عن آلامه وتخاطره. ولكنهم أخيرا وبعد الجهد أغروه بقبول خمس عشرة ومائة دولار وساعة من ذهب، أهديت أليه في حفل جنود معسكر كولومبيا وضباطه. انه لم يمت بالحمى، ولكن خرج سم الحمى من جسده ليدخل فيه ما هو شر منه: شلل زحف في جثمانه بطيئا. واليوم هو مقعد يعد الزمن مصابرة على عقارب ساعته، وهي من ذهب! وساعده الحظ أخيرا فجاءته زوجة طيبة تعوله من غسل الثياب للناس
وماذا جرى للقوم الآخرين؟ أن الوقت يضيق بي عن تناولهم. وفوق هذا فأنا لا ادري ماذا جرى لهم. لقد لقي كل واحد من هذا النفر قسمة مختلفة خصته بها المقادير. أي والله لقد كانوا زمرة من اغرب الزمر، قامت في تلك السنوات العشر بأعجب ما قام به صياد المكروب، وتوجت هذه الصيادة بأفخرها وأفخمها، وعملت بيد واحدة وقلب واحد في بحث وباء الحمى الصفراء حتى لم يبق من سمه وأنا اكتب هذا ما يغطي راس دبوس
قال دافيد بروس وهو محارب الموت القدير: (ليس بمستطاع في الوقت الحاضر أن نتخذ من أجسام الناس أداة للتجريب). فاليوم ماذا يقول بعد الذي كان!
احمد زكي(184/43)
8 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فيلكس فارس
الحرب والمحاربون
لا نريد أن يراعينا خيرة أعدائنا، كما لا نريد أيضاً أن يراعينا من نحبهم من صميم الفؤاد
دعوني أعلن لكم الحقيقة
أنني احبكم من صميم الفؤاد، أيها الرفاق في المعارك، فما أنا الآن إلا، كما كنت في الأمس، جندي مثلكم، فأنا إذن من خيار أعدائكم. دعوني أعلن الحقيقة لكم
إنني عارف ما في قلوبكم من حقد وحسد، فانتم من العظمة بحيث لا يمكنكم أن تتجاهلوا الحقد والحسد؛ فلتكن عظمتكم رادعة لكم عن الخجل بما في قلوبكم. وإذا امتنع عليكم أن تكونوا أولياء في معرفة الحق فكونوا على الأقل جنودا يكافحون من اجل هذه المعرفة؛ وما المكافحون إلا طليعة الأولياء
لقد كثر عدد الجنود فليتني أرى مثل هذا العدد من المحاربين، وعسى إلا تكون سرائرهم على طراز واحد كالألبسة التي يرتدونها
لتكن أنظاركم منطلقة تفتش على عدو لكم، وقد لاحت في لمعانها بوادر البغضاء. عليكن أن تجدوا العدو لتصلوا معه حربا تناضلون فيها من اجل أفكاركم، حتى إذا سقطت هذه الأفكار في المعترك، ينتصب إخلاصكم هاتفا بالظفر
احبوا السلام كوسيلة لتجديد الحروب، وخير السلام ما قصرت مدته. أنني لا أشير عليك بالعمل، بل أشير بالكفاح؛ لا أشير عليكم بالسلم، بل بالظفر. فليكن عملكم كفاحا وليكن سلمكم ظفرا
لا اطمئنان في الراحة إذا لم تكن السهام مسددة على أقواسها. وما راحة الأعزل إلا مدعاة للثرثرة والجدال. فليكن سلمكم ظفرا. . .
تقولون أن الغاية المثلى تبرر الحرب؛ أما أنا فأقول لكم أن الحرب المثلى تبرر كل غاية، فقد أتت الحروب والأقدام بعظائم لم تأت بمثلها محبة الناس، وما أنقذ الضحايا حتى الآن(184/44)
إلا إقدامكم لا إشفاقكم
أنكم تتساءلون عن الخير، وما الخير إلا الاتصاف بالشجاعة، فدعوا صغيرات الأطفال يقلن: (أن الخير في اللطف والجمال)
يقولون أن لا قلوب لكم، ذلك لان قلوبكم تنبض بالإخلاص، وأن احب تواضعكم في إخلاصكم. أنكم تستحون لان أمواجكم تندفع في مدها، وسواكم يخجل من تراجعها في جزرها
أن قبحكم مريع، فتدثروا به أيها الاخوة، لان في دثار القبح ما ليس في سواه من الروعة والبهاء
أن النفس لتقف صاخبة عندما تعتلي، والقسوة كامنة في اعتلائكم، فما خفيت حالكم عني. ففي ميدان القسوة الشديد العزم بمنهوك القوى فلا يمكنهما أن يتفاهما - إنني اعرف من انتم
إذا ظفرتم بعدو فصبوا عليه بغضكم؛ وحاذروا أن تصبوا عليه احتقاركم، فما عدوكم إلا مدعاة مباهاتكم، فإذا عملتم بوصيتي يصبح انتصاره انتصارا لكم أيضاً
أن الثورة مفخرة للعبيد، فليكن افتخاركم انتم قائما على طاعتكم. وليكن أمر الآمر فيكم جزءا من هذه الطاعة نفسها. أن المحارب الصادق يفضل ما يجب عليه ما يريده. فعليكم أن توجهوا ما تؤمرون به إلى هدف رغباتكم. وليكن حبكم للحياة تعبيرا عن أسمى أمانيكم؛ ولتكن هذه الأماني عبارة عن ارفع فكرة في الحياة. وما ارفع فكرة لكم، وأنا أستمحيكم إبداءها لكم كأمر، إلا هذه القاعدة: (ما الإنسان إلا كائن يجب أن نتفوق عليه)
على هذا الوجه تمر حياتكم بالطاعة والجهاد، فما يهمكم أطالت الحياة أم قصرت. فليس من محارب يطلب أن يعامل بالمراعاة
لقد قلت لكم الحق بلا محاباة لأنني احبكم من صميم الفؤاد، أيها الاخوة في السلاح
هكذا تكلم زارا. . .
الصنم الجديد
لم يزل في بعض الأماكن من الأرض شعوب وجامعات، أما نحن فليس عندنا سوى حكومات وما أدراكم ما هي الحكومات، وما أدراكم ما هي الحكومات(184/45)
أعيروني أسماعكم لأخاطبكم عن موت الشعوب: - ليست الحكومة إلا ابرد مسخ بين المسوخ الباردة، فهي تكذب بكل رصانة إذا تقول: (أنا الحكومة، أنا الشعب)
إياكم وتصديق ما تقول؛ فما كون الشعوب إلا المبدعون الذين نشروا الأيمان والمحبة؛ فأتوا بأجل خدمة للحياة. وما الناصبون الإشراك للجموع الغفيرة ألا من يهدمون كيانها ليشيدوا الحكومات على أنقاضها، ويعلقوا نصلا قاطعا فوق راس الشعب، وينصبوا مئات الشهوات أمام عينه
إن الشعب، حيث بقى له مرتع على الأرض، لا يفهم ما هي الحكومة، بل هو ينفر منها كما ينفر من العين الساحرة، ويراها شذوذا هادما للشرائع والتقاليد. وإليكم هذا الدليل: أن لكل شعب بيانه عن الخير والشر؛ وجيرة هذا الشعب لا تفهم هذا البيان الذي أوجده لنفسه محددا به شرائعه وتقاليده، على حين أن الحكومة تكذب في جميع تعابيرها عن الخير والشر، فليس ما تقوله إلا كذبا، وليس ما تملكه إلا نتاج سرقتها واختلاسها
أن كل ما للحكومة مزيف، فهي تنهش بأسنان مستعارة، وأحشاؤها مختلقة اختلاقا؛ وما شعارها إلا (البيان المبهم المشوش عن الخير والشر) فهي تتجه به نحو الفناء، وتقوم بنشره بدعوة صريحة للمنذرين بالموت
أن عدد من يدخلون الدنيا قد تجاوز الحد، وما أوجدت الحكومة إلا لخدمة الفضوليين الدخلاء على الحياة. انظروا إلى هذه الحكومة كيف تجتذب إليها فتضمهم إلى صدرها وتشبعهم عناقا وتقبيلا. اسمعوها تهدر قائلة:
- ليس اعظم مني على وجه الغبراء، فأنا يد الألوهية المنظمة
وعندما تهتف هذا الهتاف، تتهاوى الركاب جاثية، وبين الراكعين كثير من غير طوال الآذان وقصار النظر
أن هذه الأكاذيب تجد مصدقين لها وا أسفاه حتى بينكم انتم، يا من تجول فيكم النفوس الأبية، لان الحكومة تعرف أن تدغدغ قلوبكم الطافحة بالمكارم، الطامحة إلى الجود، إنها لتخترق سرائركم، انتم أيضاً، يا من تغلبتم على الألوهية القديمة، فهي تعرف إنكم تعبتم من الكفاح فتستخدم ملالكم لعبادة الصنم الجديد
انه لصنم يتمنى أن يحيط به الأبطال وفضلاء الرجال؛ انه لمسخ بارد يريد أن يدفأ بشمس(184/46)
الضمائر المشعة المشرقة
انه ليمنحكم كل شيء إذا أنتم سجدتم له. فهذا الصنم الجديد يشتري لمعان فضائلكم وما في لفتاتكم من عزة وكرامة. انه في حاجة إليكم ليجتذب إليه العدد الفائض من الدخلاء على الحياة، فهنالك البرج الجهنمي، وهنالك جياد الموت تقرقع بعددها حاملة شارات المراتب والأمجاد؛ اجل ذلك هو اختراع الموت أتى به للجموع ليحصدها حصدا وهو يباهي بأنه هو الحياة، والمنذرون بالموت يرون بفعلته خير لمبادئهم
حيث يكرع الجميع السموم ويضيع كل إنسان نفسه صالحا كان أو طالحا، فهنالك تقوم الحكومة لأنها تسود كل مكان يوصف فيه الانتحار البطيء بالحياة
انظروا إلى هؤلاء الدخلاء. انهم يختلسون ثمرة جهود المخترعين وكنوز الحكماء ويدعون هذا الاختلاس تمدنا؛ غير أن كل شيء يصبح أدواء ومصائب تحت سلطانهم. انظروا إلى هؤلاء الدخلاء وليس فيهم إلا الإعلاء ينفثون غسلين مرائرهم، وينتحلون صفة الصحافيين. . . انهم يتناهشون ويلتهم بعضهم البعض الآخر وليس لهم القوة على هضم ما يلتهمون
انظروا إلى هؤلاء الدخلاء، انهم يحشدون الأموال، وكلما ازدادت ذخائرهم زاد فقرهم، فانهم يطمحون إلى الاستيلاء على القوة فيبدءون بالقبض على محركها الأول: على الأموال الطائلة، وما هم إلا الدخلاء العاجزون
انظروا إليهم! انظروا إلى هؤلاء القرود يتسلق بعضهم البعض الآخر فيتدافعون متمرغين في الأوحال على الشفير. أن كلا منهم يطمح إلى التقرب من العرش، وقد عراهم جنون التوصل إليه، فكان لا سعادة إلا على مقربة منه، وقد يرتفع رشاش الأوحال إلى العرش كما ينزلق نفسه إلى الأوحال
إنني أراهم وقد جن جنونهم، قرودا لا تكن لهم حركة وهم يتسلقون قاعدة صنمهم البارود وقد انبعثت منه ومنهم اكره الروائح وأخبثها
(يتبع)
فليكس فارس(184/47)
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة حسن محمد حبشي
الفصل الثاني
وخلف النعمان ولده المنذر وكان أميرا عاقلا شجاعا. ويستدل على سطوة اللخميين إذ ذاك من الحادثة التي حدثت عقب موت يزدجرد الأول، وذلك ذلك أن المنذر تدخل في النزاع القائم حول انتخاب خليفته، وأيد اختيار بهرام جور الذي عارض توليته رجال الدين في فارس. وفي الحرب التي أندلع لهيبها بعد قليل بين الفرس والروم برهن المنذر على أنه تابع مخلص، ولكن الروم كبدوه خسائر فادحة عام 421م. وفي أوائل القرن السادس الميلادي اعتلى العرش أمير يسمى المنذر الثالث الذي دعاه العرب أبن ماء السماء، وطالت مدة حكمه وازدهرت، وان كانت قد تلبدت سماؤها بغيوم حادثة يستحيل فهمها دون الرجوع إلى التاريخ العام لهذه الفترة؛ ذلك أنه حوالي 480م امتد نفوذ قبيلته كندة التي يظهر أمراءها كانوا خاضعين لتبابعة اليمن خضوع اللخميين لملوك فارس، وشمل نفوذها جزءا كبيرا من وسط بلاد العرب وشمالها. وكان اليد العاملة في بسط هذا النفوذ حجر (آكل المرار) أحد أجداد امرئ القيس، ولكن ما لبث أن تفكك هذا عندما مات حجر، ولكن عاد الشمل فالتم مرة ثانية لمدة وجيزة حوالي سنة 500م على يد حفيده الحارث بن عمرو، وصار منافسا خطيرا لإمارتي الحيرة وغسان؛ على حين كانت تعاليم مزدك الاشتراكية قد اتسع نطاق دعوته وتغلغلت بين العامة في فارس حتى انتهى الأمر بان أعتنقها الملك قباذ نفسه. ومن المؤكد انه قد حدث بين عامي 505 و 529م أن اجتاح الحارث بن عمرو الكندي العراق وأقصى المنذر عن مملكته. وليس من البعيد أن يكون سقوط الأخير - كما يؤكد كثير من المؤرخين - راجعا إلى عدائه للتعليم المزدكية التي أثارت سخط مولاه. وعلى كل حال - وأيا كانت الأسباب - فان الحارث قد أقصى المنذر وقتاما؛ وبالرغم من انه عاد إلى عرشه بعد فترة قصيرة قبل تولية انوشروان الذي قتل كثيرين من اتباع مزدك (528م) فان النسيان لم يسحب ذيوله على ما لحقه من إهانة وقسوة، وإن حياة امرئ القيس(184/49)
وقصائده لتحمل طابع الكراهية الموروثة التي تأصلت جذورها بين لخم وكندة. ولقد أدت أعمال المنذر ضد الروم إلى نشاط كبير، فقد دخل سورية ووصل إلى إنطاكية، وراى جستنيان نفسه مضطرا لان يكل أمر الدفاع والذب عن هذه الأقاليم إلى الحارث بن جبلة الغساني (الحارث الأعرج) الذي وجد فيه المنذر قوة تفوق قوته. ومنذ ذلك الحين اخذ كل من ملوك الحيرة وغسان في الإغارة على إقليم الآخر وتخريبه؛ وفي إحدى الغزوات اسر المنذر ابن الحارث، وسرعان ما ضحى به لأفروديت الإلهة العربية العزى، ولما استرد الإقليم ثانية سنة 554م فوجئ في معمعان القتال وذبح في موقعة تدعى (يوم حليمة). ومجمل القول أن اللخميين كانوا وثنيين ليس لهم حظ من الرقي والحضارة، تلك التي يستحقها تماما النذر الثالث. وقد روى الأغاني أنه كان له نديمان من بني أسد هما خالد بن المضلل وعمرو بن مسعد، فأغضباه في بعض المنطق، فأمر بحفر حفرتين وأن يجعلا في تابوتين ويدفنا فيهما ففعلوا ذلك بهما، حتى إذا اصبح سأل عنهما فأخبر بهلاكهما فندم على ذلك وأغتم؛ ثم ركب المنذر حتى نظر إليهما فأمر ببناء الغريين عليهما فبنيا وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما عندهما يسمى أحدهما يوم نعيم يعطي فيه أول طالع عليه مائة من الإبل سودا، والأخر يوم بؤس يعطي فيه أول طالع عليه راس ظربان اسود، ثم يأمر به فيذبح ويطلى بدمه الغريان، ويقال أن عبيد بن الأبرص كان أول من اشرف عليه يوم بؤسه فقتله؛ وظل على هذا الحال حتى مر به رجل من طي يقال له حنظلة، فلما رأى نفسه مقتولا قال له: (أجلني سنة ارجع فيها إلى أهلي، ثم أصير إليك فانفذ في حكمك) فقال: (من يكفلك حتى تعود) فنظر في وجوه جلسائه فعرف فيهم شريك بن عمرو الذي قام وقال للملك: (أبيت اللعن يدي بيده ودمي بدمه إن لم يعد إلى اجله) فلما كان العام القابل جلس في مجلسه ينتظر حنظلة أن يأتيه فإبطا عليه، فأمر الملك بشريك ليقتله، فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليهم فتأملوه فإذا هو حنظلة متكفنا متحنطا معه نادبته تندبه، فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما فأطلقهما وابطل تلك السنة
وقد خلفه على العرش ابنه عمرو الذي يعرفه شعراء العربية المعاصرون والمؤرخون باسم عمرو بن هند؛ وفي عهده أصبحت الحيرة مركزا أدبيا زاهرا، وقد وفد على بابه كثيرون من شعراء عصره، وسترى في الفصل التالي علاقاته مع طرفة وعمرو بن كلثوم والحارث(184/50)
بن حلزة. ولقد كان عمرو هذا رجلا شرس الطباع مستبدا طاغية ضاق به العرب ذرعا كما نرى ذلك من قول الدهان العجلي:
أبا القلبُ أن يهْوي السدير وأهله ... وإن قيل عيشٌ بالسدير غريرُ
فما انذروا الحيّ الذي نزلوا به ... وإني لِمَن لم يأتهِ لنذيرُ
به البقّ والحمىًّ وأسْد خفيةَّ ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور
ولقي عمرو مصرعه على يد كبير التغالبة عمرو بن كلثوم، ثأرا لكرامة أمه ليلى التي خدشت عنده
ونكتفي بالإشارة إلى اسمي قابوس والمنذر الرابع ابني هند اللذين ولي كل منهما العرش فترة قصيرة، ونكون بذلك قد وصلنا إلى أخر ملك لخمي للحيرة ألا وهو النعمان الثالث ابن المنذر الرابع ويكنى بأبي قابوس وقد حكم من سنة 585 إلى 607م؛ كما نشا في أحضان أسرة مسيحية شريفة في الحيرة قامت بتربيته وتعليمه، وكان كبيرها زيد بن حماد أبا الشاعر عدي ابن زيد، وعدي هذا ذو شخصية جذابة كما كانت وقائعه قوية الصلة بحوادث النعمان؛ وكان كل من جده وأبيه ذا ثقافة ليست بالقليلة، وشغلا مراكز سامية أيام المنذر الثالث وخلفائه، وقد استطاع زيد بواسطة دهقان يدعى (فاروخ ماهان) من اجتذاب عطف كسرى انوشروان بان صار كاتب ديوانه، وذلك منصب لا يرقاه إلا أبناء الأشراف. وحينما اشتد ساعد عدي أرسله أبوه ليتلقى المعارف مع ابن الدهقان فأجاد الفارسية كتابة وقراءة، كما أتقن العربية اتقانا تاما، وقرض الشعر، وتعلم ركوب الخيل، ولعب الكرة، كما أن جماله الشخصي وذكاءه وذلاقة لسانه وحضور بديهته كل أولئك حببه إلى انوشروان فقربه أليه واتخذه كاتبا له ومترجما في ديوانه؛ ولم يكن قد كتب بالعربية قط من قبل في الديوان الملكي، وحباه الملك عطفه، وبعث به إلى القسطنطينية في سفارة خاصة حيث استقبل اجل استقبال؛ وعند أوبته أوحى القيصر - جريا على سنة متبعة - إلى جميع الموظفين القائمين بحراسة الطريق بمد الخيل في محطات البريد بما يلزمها حتى يرى المبعوث الفارس عظمة واتساع الإمبراطورية البيزنطية
(يتبع)
(حسن حبشي)(184/51)
من ديوان البغضاء:
الست التي. .؟؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
بَلَى! كنتِ في قلبي سِرَاجا يضيئه ... فيفترُّ عن أنوارِه كلٌّ جانبِ
وكنتِ حياة للحياةِ تمدٌّها ... بأفراحها في عابسات المصائب
وكنت ليَ البرَّ الوديع إذا غلت ... بأمواجها وادَّافعت بالمناكب
وكنتِ نسيما واللَّظى ينشِفُ اللَّظى ... ويتركُ ظِل الدّوْح ظلَّ اللّواهب
وكنتِ ملاذي والشؤون كأنّها ... من الدّمع ينبوعٌ يجيش بغارب
وكنتِ إذا ما العينُ مدّت هيامها ... إليكِ تلّقتها احنُّ الترائب
وكنتِ كأنفاسِ الرياضِ، عبيرُها ... على الفاقِدِ المحزون فَرْحة آيب
َبلَى! كنتِ. . . كنت السحرَ تبدو صدورُه ... من الخير تخفى منه شَّر العواقب
ارى الحَّية الرقطاَء اجملَ منظراً ... وألينَ مسّاً من ثِديّ الكواعب
إذا ما تراَءتها العيونُ بريئةً ... من الخوف خالتَها دُعابةَ لاعب
تدانىَ إلى اللاّهي دُنوَّ مقاربٍ ... فيدنو ويُدْنِي كفّه كالمُداعب
إلا ارْفَعْ يداً، واذهب بنفسك رهبةً ... فمن حُسنها نابٌ شديد المعَاطب
بَلَى! كنتِ. . . إذ عيني عليها غِشاوةٌ ... وإذْ أتردَّى من سوادِ الغياهب
وأُخرى على عينِ البصيرة خيَّلت ... لنفسي هداها بالأماني الكواذب
أُرى من تكاذيب الخيالِ كأنني ... إلى جنة الفردوس أحدو ركائبي
أُغني لآمالي لأبلغ غايتي ... وأُدرك لذّاتي، واجني مطالبي
وما ذاك إلاّ راحةُ القلب بالهوى ... وبالوُدِّ في عيشٍ شديد المتاعب
وأَن أَرِدَ الماء الزلالَ. . . ولم أَرِد ... وقد عشت دهرا - غيرَ رنْق المشارب
ألا فاعلمي أني ظَمِئت، وأنّني ... تجنبت جُهِدي الماَء جمَّ الشوائب
فجئتُك ضمآنا يموتُ بِغُلةٍ ... فأغريت بي الغُلاتِ من كل جانب
لقد كنتُ خِلواً انْتحي حيث اشتهي ... وأرْضَى وآبى مُقدِما غير هائبِ
تسهِّلُ لي الصعب الأبي عزيمتي ... ويكفُلُ لي صدقي قضاءُ مآربي(184/53)
وارمي بنفسي في المهالك باسماً ... لأنفُذَ منها باسماً غيرَ خائب
فوا حزنَا. . .! أضْللت عزمي وهِمتي ... وأيْتَمت أفكاري وَضيعت وَاجبي
تخشَّعت تحت الحُبِّ وَالوجد وَالجوى ... وطول اضطرابي في الهموم الغوالب
أذَلَّ شبابي الحبُّ حتى رأيتُني ... أمُّر بأترابي مرور المُجانِبِ
وَأحسدُهم ِمما لقيت. . . وَإنّني ... لأخشى عليهم، مِحنتي وَتجاربي
ألاوَيحها!! كم بت ارُقبُ طيفها! ... وكم سهرت عيني نجيَّ الكواكب!
وَكم طُفت بالبيداء أطلب خلوة! ... وَأُرسل طَرْفي في ضلال المذاهب!
أُمَّثلها حتى أكادَ امسها! ... وَأُلقي إليها ما تضمُّ جوانبي!
وَأشتاقُها وَالبحر بيني وَبينها ... وَبيدٌ تعاَوت بالرِّياح الغواضب!
فلما التقينا ضمنا الشوق وَالهوى ... وَكان حديث الوصل صمت الرغائب
وَلكن. . . رمت بيني وَبينك بعدهُ ... ضريبة أُنثى. . . وَهي شرُّ الضرائب
فأطلقت في إثري الضواري مُجِدة ... تعان على أنيابها بالمخالب
تمزّقُني ألحاظها وَعيونُها ... كأني أُرْمى بالسهام الصوائب
يفزِّعُني ظِلِّي إذا ما لمحتُه ... وَقد غالني رُعبي وسُدَّت مهاربي
فما كدْت أنجو بالحشاشة بعدما ... تلقيت من حُبيك شرّ النواكب
ألا لا تقولي كيف كنت!!. . . فإِنني ... أرى كلَّ أُنثى شرُّها غيرُ غائب
ترومينَ مني الوُدَّ بُقيا عَلَى الذي ... مضى. .!! خاب فألي أن أُرى غير ثائب
ترومين منّي الودّ!. . تلك عجيبة ... وَأسعى لذبحي! تلك أُمُّ العجائب
تشهَّيت لحماً. .! فَات ما تشتهينه ... فلم يبق من لحمي طعامٌ لساغب
تمليت هذا البغض حتى رأيتني ... أُريب حيَّاتي وَأغذو عقاربي
فإن يكُ بغضي كلَّ ذنب جنيته ... إليك. .! فإني لست منه بتائب
وَكيف!. . وقد أنهكتني وَعرقتني ... وَقدت عَلَى قلبي جيوش النوائب!
ذريني. . . ولكن الحياة مليئة ... بكن. . . فما في الأرض منجى لهارب
محمود محمد شاكر(184/54)
الفنون
فرانسسكو جويا
للدكتور أحمد موسى
يعد جويا من أغرب شخصيات القرن التاسع عشر وأبعدها أثرا في الفن. ظل يصور حتى تجاوز الثمانين من عمره، وقضى حياة حافلة بمختلف الحوادث والعبر، وبوفاته انتهى دور من أهم أدوار الفن الأسباني
ولد فرانسسكو جويا في 30 مارس سنة 1746 في فونديتورس إحدى القرى الصغيرة في مديرية اراجون لوالدين فقيرين اشتغلا بالفلاحة في قطعة صغيرة من الأرض كانت مصدر حياتهم؛ فكانت طفولته مليئة بالعمل والتعب والملل.
وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره رسم شكلا تخطيطيا لخنزير على حائط مسكنه الريفي، وشاهد أحد الرهبان هذا الرسم مصادفة فوجد فيه ما يدل على استعداد راسمه؛ فتقدم إلى والده ناصحا بان يذهب بابنه إلى فنان يقيم في سرقوسة وهي اقرب البلدان إلى قريتهم
كان أول معلميه جوزي لوزان مارتنز، فعرف منه كيفية تحضير الألوان وشد قماش اللوحات في الإطار، وما إلى ذلك من وسائل العمل نظير خدمته لمعلمه
وفي مدة وجيزة استطاع جويا أن يفهم الأسرار العملية لمهنته التي ولد لها، وأمكنه أن يصور بعض تفاصيل مهمة على لوحات معلمه، ولم تنقض ثلاث سنوات حتى رخص له مارتنز برسم لوحات بأجمعها
جمع جويا بين ظاهرة العبقرية الفنية وبين قوة العضلات؛ فكان يمضي أوقات فراغه في الرياضة البدنية والمصارعة والجري وحمل الأثقال
وكان محبوبا من بنات البلدة اللواتي كن يحضرن لمشاهدة مصارعته مع أمثاله الذين تغلب عليهم دائما. وكان كثير التردد على القهوات والحانات فكان روادها يخشون بأسه.
بدأ جويا حياته الفنية بتصوير العذراء، فأخرجها إخراجا أنيقا في ثوب رقيق وقوام رشيق. ومع هذا السمو كنت تراه أحيانا يغني أغاني شعبية عامية لا تنسجم مطلقا مع مصوراته في ذلك الحين، كما كان عصبي المزاج سريع الغضب سريع البطش
عاد في آخر الليل مرة مع أصدقاء له إلى المدينة فصادفه في حارة قذرة من حاراتها نفر(184/55)
من قطاع الطرق الذين أرادوا به وبأصدقائه شرا، ولكن جويا بمساعدة رفاقه استطاع مطاردتهم وقتل ثلاثة منهم!
ولم يترك الفرصة تسنح للقبض عليه ففر هاربا إلى مدريد. ظهر في العاصمة كفنان بسيط، ولم ير سبيلا إلى العيش لأنه لم يكن يعرف أحداً فيها. كان دائب البحث عن أي عمل ولكنه كان يعود مساء كل يوم كسير القلب إلى الملجأ الذي أقام فيه
وفي صباح يوم وجد المسكين في إحدى الأزقة الضيقة وقد اعتدي عليه بالسكاكين فأخذه أولئك الذين كان يقيم معهم وعنوا به حتى شفي من جراحه
علم البوليس انه من العاطلين المدمنين على الخمر فطارده إلى خارج العاصمة، فذهب إلى حلبة مصارعة الثيران واستطاع أن يجد عملا حقيرا نظير اجر بسيط ادخر معظمه حتى تمكن به من الوصول إلى إحدى موانئ أسبانيا الجنوبية حيث أبحر إلى شاطئ إيطاليا الغربي. وصل إلى روما وهناك أمكنه العمل عند فنان شعبي راجت حاله
وعند هذا الفنان تعرف إلى أناس لا يميلون بطبعهم إلى العلم ولا إلى المتعلمين وإنما هم من أولئك الذين تجتذبهم حياة الشوارع وما فيها من وسائل لقتل الوقت
ومال بطبيعته وبحسب استعداده وبعامل البيئة التي عاش فيها إلى تصوير مناظر الأزقة والحارات والقهوات على نقيض الفنانين الآخرين الذين كانوا كثيرا ما يتحاشون إظهار هذه المواقف على لوحاتهم
وهذه نزعة لم يسبق أحد إليها خصوصا وانه اكثر من تصوير الوجوه الثائرة والمناظر الشاذة المتصلة بحياة الجمهور والغوغاء مباشرة، حتى لترى هذه المسحة على معظم لوحاته التي تعد بحق خير مسجل لشخصية مصور من انبغ فناني القرن التاسع عشر
صعد يوما إلى قبة كنيسة بطرس ليحفر الأحرف الأولى من إسمه، ولا تزال محفورة إلى اليوم. وهكذا كانت أقامته في روما غريبة الأطوار. وقد تعرف فيها بسفير روسيا الذي طلب إليه السفر إلى بطرسبرج ليكون مصورا للقصر. وفي أثناء المفاوضة في هذا الشأن قبض عليه بتهمة تحريض إحدى الراهبات على عمل غير شريف. ولولا اتصاله الوثيق بسفير روسيا لما استطاع الإفلات من يد العدالة
كان جويا تعسا في غربته، وكان دائم الحنين إلى بلدته، ورأى في إقامته الطويلة بروما(184/56)
تكفيرا كافيا لسابق جرائمه، فعاد إلى مدريد سنة 1775 وتزوج من يوزيفينا بايو شقيقة الفنان فرانسسكو بايو الذي كان مصورا في قصر مدريد والذي بوساطته استطاع جويا أن يقوم بعمل تصميمات لمناظر وزخارف الأقمشة التي كانت تغطى بها حوائط القصر. وأول تصميم له نسج على قماش لهذه الغاية سنة 1776، واستمر حاله هكذا حتى سنة 1791، وتدرج في التقرب من سادة القصر وتقدم في فنه تقدما عظيما حتى اصبح ابرز فناني عصره في أسبانيا، وعمل لوحات مثلت الحياة على الصورة التي تغلغلت في نفسه كما صور اكبر الشخصيات
كان جويا فنانا بكل معاني الكلمة، كما كان بوهيميا في علاقته الزوجية، ولم يخل تاريخ حياته من فضائح أهمها اتصاله بأميرة ألبا التي عشقها عشقا تملك عليه مشاعره فصورها على لوحات تجل عن الحصر في مواقف مختلفة، وكان يعيش في جناح من قصرها. أما هي فكانت تتوجه من حين لأخر إلى زوجته وأولاده وتقدم إليهم العطايا والهدايا
ولم تكن الملكة راضية عن هذه العلاقة؛ فعملت ترتيبا أخرجت به الأميرة من القصر إلى جهة نائية. سافر جويا بصحبة معشوقته في عربة خاصة كسرت عجلتها في الطريق الوعر، فقام بعمل الإصلاح اللازم كما لو كان حدادا ماهرا، وأمكن السير بالعربة إلى اقرب قرية لتغيير العجلة. تعرض جويا بعد هذا المجهود للهواء البارد فأصيب بصمم في إحدى أذنيه لازمه حتى أخر حياته
مضت الأعوام وعادت الأميرة إلى مدريد وماتت بعد وصولها. وعاد هو لتصوير مناظر دلت على منتهى الحنق والحقد على النساء، كما دلت على كثير مما خالج نفسه من البؤس والشقاء
زحف الفرنسيون على مدريد فقابلهم جويا بكل ترحيب وانضم إليهم بقلب مطمئن، وبعد خروجهم منها وجهت إليه تهمة الانضمام للعدو؛ إلا انه تمتع بالعفو لكبر سنه
بدأ الهدوء يدب إلى نفسه، واستمر يصور لوحاته، واكمل مجموعته بالقلم الرصاص حتى بلغ السابعة والسبعين، ثم رحل إلى بوردو عملا بمشورة طبيبه، ولم يترك التصوير مع ضعف بصره، بل كان يستعين بالمجهر. وآخر لوحة له صورها في سن الحادية والثمانين، ومات بعدئذ بسنة واحدة سنة 1828(184/57)
هذه هي ترجمة فنان لم يكن له نظير في مجرى حياته ولا في قوته الإنشائية لمجموع لوحاته التي من اشهرها صورة (البقرة العمياء) تمثل مجموع من بنات وشبان تتوسطهم بنت مغمضة العينين تبحث عمن يناديها (محفوظة بمدريد)، وصورة (الغداء في الغيط) وفيها مثل الطبيعة تمثيلا رائعا (محفوظة بلندن) وصورة (النزهة في الأندلس) وكانت مرسومة خصيصا للنسج (محفوظة بمدريد) وصورة الولد النطاط وهي من أدق الصور التي تدل على منتهى قوة الملاحظة والإخراج: وقفت أربع بنات يحملن ملاءة كبيرة وفوقها صبي واقف على ساق واحدة استعداد للقفز إلى أعلى عندما يشددن الملاءة
وصورة (المشاجرة في الملجأ) وهي من احسن صوره، تذكرنا بوقت بؤسه عندما كان بعيدا عن بيته يبحث عن عمل ولم يجد إلا ملجأ حقيرا يأوي إليه. والناظر فيها يأخذه العجب عندما يرى أنها تمثل حياة الملاجئ تمثيلا صادقا؛ صور عليها بعض الحيوانات وبعض الأشجار وعربة قديمة في ركن من اللوحة؛ أما بوسطها فقد وقف المتشاجرون موقفا عنيفا لا يستطيع غير جويا أن يخرجه في هذه القوة
وله لوحة خالدة (محفوظة بمدريد) اسماها (الرمي بالرصاص) على يمينها وقف الجنود شاهرين بنادقهم، وعلى اليسار اصطف المنبوذون مستسلمين للإعدام، وقد أعطى الصورة ظلا ونورا قويين قلما تراهما لغيره من الفنانين
هذا غير لوحاته العظيمة للشخصيات البارزة في عصره، كصورة ماري لويس، وصورة فرديناند السابع وصورة أمير الكاديا وغير ذلك مما يجل عن الحصر
وله لوحات تعد من اغرب ما تركه فنان، منها صورة (شجرة الربيع) وهي تمثل صبية التفوا حول رجل يحمل ساقا طويلة ثبت في أعلاها شجرة صغيرة وولدان صغيران يتسلقان الساق
أما لوحته (بالقلم الرصاص) الممثلة لحلبة مصارعة الثيران فهذه تعد في مجموعها من اعظم ما أخرجه؛ فقدرته على تصوير الثور الثائر والمصارع الماهر لا سبيل إلى وصفهما
احمد موسى(184/58)
البريد الأدبي
توحيد الثقافة العربية
بحث أساتذة كلية الآداب بالجامعة المصرية منذ أسابيع في امثل الطرق إلى توحيد الثقافة في البلاد العربية، ثم رأوا أن يذاكروا ذلك إخوانهم القائمين على أمور الثقافة في لبنان وسورية وفلسطين، فدعوهم إلى القاهرة في عطلة عيد الفطر، فلبى الدعوة بعض أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت والأستاذ اسحق الحسيني عن فلسطين، ولم يستطع الأساتذة الدمشقيون الحضور لأسباب طارئة؛ ثم قضوا في القاهرة أسبوعا حافلا بالزيارات والمشاهدات على برنامج معين؛ واجتمعوا مرارا في دار (لجنة التأليف والترجمة والنشر) وتناقشوا في موضوع الدعوة ومنهاجها ووسائلها، فأسفرت المناقشة عن اتفاقهم على هذه الأسس آلاتية:
1 - أن تؤلف جمعية لتوحيد الثقافة العربية وتركيزها وتقويتها تتكونه من 24 عضواً هم الداعون والمؤسسون
2 - أن تسعى الجمعية في أن تضم أليها أعضاء من البلدان العربية الأخرى، وهي العراق وشرق الأردن وتونس والجزائر ومراكش
3 - أن يراعى في اختيار الأعضاء الجدد أن يمثلوا فروع الثقافة المختلفة
4 - أن تؤلف لجنة فنية لدرس النهضات الفكرية والبرامج التعليمية في البلاد العربية لتوحد غاية التعليم وتقرب مناحي الفكر بقد ما تسمح بذل طبيعة الإقليم
5 - أن تتلافى تعارض الجهود الادبية، فلا ينشر مثلا كتاب قديم في بلد يكون بلد آخر قد اخذ ينشره على صورة مرضية
6 - أن تعمل الجمعية لإصدار مجلة خاصة بها يعالج فيها أعضاؤها الأغراض التي أنشئت لها
7 - أن تعقد الجمعية مؤتمرات ثقافية في العواصم العربية على التتابع يحضرها الأعضاء ومن يدعون من الأدباء والعلماء فيوثقون الروابط ويرصدون التطور ويوجهون الجهود إلى الغرض المشترك. وسننشر أسماء الأعضاء وتفاصيل المشروع في فرصة أخرى
لجنة تفسير القران تحدد الفرص وتضع قواعد العمل(184/59)
حددت الجنة التي ألفت لتفسير القرآن الكريم تمهيداً لترجمة معانيه غرضها بأنه: (وضع تفسير يقصد به إلى فهم معاني القران الكريم كما يدل عليه نظمه العربي المبين، ومعرفة ما فيه من أنواع الهداية، ويكون في متناول جمهرة المتعلمين فهمه والاهتداء به إلى معاني القران في سهولة ويسر)
ولتحقيق ذلك نتبع القواعد الآتية في التفسير:
1 - أن يكون التفسير خاليا ما أمكن من المصطلحات والمباحث العلمية إلا ما استدعاه فهم الآية
2 - ألا يتعرض فيه للنظريات العلمية فلا يذكر مثلا التفسير العلمي للرعد والبرق عند آية فيها رعد وبرق، ولا رأي الفلكيين في السماء والنجوم عند آية فيها سماء ونجوم؛ إنما تفسر الآية بما يدل عليه اللفظ العربي، وتوضح مواضع العبرة والهداية فيها
3 - إذا مست الحاجة إلى التوسع في تحقيق بعض المسائل وضعته اللجنة في حاشية التفسير
4 - ألا تخضع اللجنة إلا لما تدل عليه الآية الكريمة، فلا تتقيد بمذهب معين من المذاهب الفقهية، ولا مذهب معين من المذاهب الكلامية وغيرها. ولا تتعسف في تأويل آيات المعجزات وأمور الآخرة ونحو ذلك
5 - أن يفسر القران بقراءة حفص، ولا يتعرض لتفسير قراءات أخرى إلا عند الحاجة أليها
6 - أن يجتنب التكلف في ربط الآيات والسور بعضها ببعض
7 - أن يذكر من أسباب النزول ما صح بعد البحث، وأعان فهم الآية
8 - عند التفسير تذكر الآية كاملة أو الآيات إذا كانت كلها مرتبطة بموضوع واحد ثم تحرر معاني الآية أو الآيات مسلسلة في عبارة واضحة قوية، ويوضع سبب النزول والربط وما يؤخذ من الآيات في الموضع المناسب
9 - إلا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الآيات
10 - يوضع في أول كل سورة ما تصل إليه اللجنة من بحثها في السورة، أمكية هي أم مدنية، وماذا في السورة المكية من آيات مدنية والعكس(184/60)
11 - توضع للتفسير مقدمة في التعريف بالقران وبيان مسلكه في كل فن من فنونه كالدعوة إلى الله وكالتشريع والقصص والجدل ونحو ذلك، كما يذكر فيها منهج اللجنة
طريقة التفسير
1 - تبحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور، فتفحص مروياتها وتنقد، ويفرد الصحيح منها بالتدوين، مع بيان وجه قوة القوي وضعف الضعيف من ذلك
2 - تبحث مفردات القران بحثا لغوياً، وخصائص التراكيب القرآنية بحثاً بلاغياً وتدون
3 - تبحث آراء المفسرين بالرأي والتفسير المأثور، ويختار ما تفسر الآية به مع بيان وجه رد المردود وقبول المقبول ويفند ذلك كله
4 - يصاغ التفسير المختار مستوفياً ما نص على استيفائه في الفقرة الثانية من القواعد السابقة؛ وتكون هذه الصياغة بأسلوب مناسب لإفهام جمهرة المتعلمين خال من الأغراب والصنعة
التوزيع
نظرا لظروف أعضاء اللجنة وتحقيقاً للتعاون رئي أن تقوم لهذه الأعمال الأربعة جماعتان فقط: أولاهما تقوم ببحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور وبحث آراء المفسرين بالرأي وما يستنبط من الآية. الخ. وتتآلف من فضيلة رئيس اللجنة وحضرات الأساتذة جاد المولى بك، واحمد أمين، وأمين الخولي، والشيخ علي الزنكلوني، والشيخ محمود شلتوت
وثانيتهما تقوم ببحث المفردات اللغوية والأوجه البلاغية كما تقوم بالصياغة الأخيرة للتفسير الذي يختار؛ وتتألف هذه الجماعة من حضرات الأساتذة علي الجارم بك، ومصطفى عبد الرازق، والشيخ إبراهيم حمروش
على أن تقدم الجماعة الثانية بحثها أولاً في المفردات اللغوية والأوجه البلاغية للجماعة الأولى التي تتقاسم بينها أعمالها وتقدم تقارير بها، وما يستقر عليه الرأي في اختيار المعنى يعرض على اللجنة العامة مجتمعة فتنتهي فيه إلى قرار يقدم بعده إلى الصياغة فتنجزها الجماعة الثانية وتعرضها على اللجنة العامة مجتمعة ليقر إقرارا نهائيا مع ملاحظة أن كل خطوة يتم حثها يطبع ما تم فيها ويوزع على أعضاء اللجنة جميعها ليدرسوه قبل مناقشته(184/61)
في اللجنة العامة
التفسير المختصر
تقرر كذلك أن تضع اللجنة بعد الفراغ من تفسير كل آية أو آيات موجزاً يختصر من التفسير الأول اختصاراً دقيقاً يختصر التفسير الأول اختصاراً دقيقا في جلاء ووضوح يفرد وحده ويكتب في كتاب خاص
وفاة شاعر تركيا محمد عاكف بك:
في 29 ديسمبر الماضي استعز الله بالشاعر الكبير محمد عاكف بك أستاذ اللغتين التركية والفارسية في كلية الآداب بالجامعة المصرية، وكانت علته الفادحة قد اضطرته إلى اعتزال هذا المنصب في يونيو سنة 1936 والسفر إلى الآستانة حيث قضى نحبه بين قومه. كان الفقيد أستاذاً في جامعات تركيا قبل الانقلاب، وزاول الصحافة زهاء ثمانية عشر عاماً اصدر في خلالها مجلتي (صراط مستقيم) و (سبيل الرشاد)؛ وكان إلى ذلك عضواً في المجلس الوطني أثناء حرب الأناضول
ولا تزال قصائده الوطنية وأناشيده الحماسية التي نظمها في ذلك الحين تعلق بالقلوب وتجري على الألسن. ومن روائعه الخالدة في الأدب التركي قصيدة (جناق قلعة) التي وصف فيها موقعة الدردنيل وصفا بليغ المعرض شديد الروعة؛ وقصيدته في رحلته من نجد إلى المدينة؛ ثم نشيده الوطني الذي يردده ملايين الأتراك. وقد اشتمل ديوانه على خمسة أجزاء نشرها جميعا تحت عنوان (صفحات)
وفد إلى مصر منذ أربعة عشر عاما لازم فيها المغفور له الأمير محمد عباس حليم؛ وقد نظم في مصر والمصريين قصائد رائعة، منها قصيدته (مع فرعون). وعسى أن تتهيأ الفرصة لصديقه الحميم الوفي الدكتور عبد الوهاب عزام فيجلو لقراء (الرسالة) نواحي أدبه بعد مماته، كما أمتعهم بروائع شعره في حياته
كتاب الأشباح
صدر أخيرا في إنكلترا كتاب طريف مدهش معاً عنوانه (قصص حقيقية مع الأشباح) بقلم المركيزة تونز هند أوف رينهام والسيدة مود فولكس؛ وطرافة هذا الكتاب في أن(184/62)
القصص التي يحتويها ليست قصصاً خيالية من مبتكرات مؤلفتها، إنما هي قصص حقيقية واقعية تؤيدها المركيزة تونز هند بكثير من الشواهد والادلة؛ وهي في مجموعها تدور عن العلاقة بين الأحياء والأموات، وعلى الاتصال بأرواح الذاهبين ومثولها في كثير من الأحيان. والمركيزة تونز هند مؤلفة هذه المجموعة من اشهر المشتغلات بمسائل الأرواح والغيب، ولها في ذلك تجارب شهيرة؛ وهي تقيم منذ أعوام في دار اشتهرت منذ بعيد بما يسكنها من الأشباح والأرواح، وهي دار رينهام وتعرف في مقاطعة نور فولك (البيت الأعظم)، وقد كانت هذه الدار مسرحاً لأكثر من مأساة دموية، ولها شهرة مرعبة في جميع الأنحاء المجاورة
وإذا كانت تلاوة قصص الأشباح المختلفة تثير الدهشة والجزع أحيانا، فان تلاوة هذه القصص الحقيقية تثير الروعة والرعب في الأذهان المؤمنة
وفاة الشاعر والفيلسوف الأسباني أومانومو
من أنباء أسبانيا الأخيرة أن الفيلسوف الكاتب الشاعر الأسباني الكبير ميجويل دل اومانومو مدير جامعة شلمنقة (سلامانكا) قد توفي في الثاني من يناير. وكان موله بثغر بلباءو في سنة 1864؛ ودرس دراسة جامعية حسنة، وبدأ أستاذاً للغة اليونانية في جامعة شلمنقة سنة 1891؛ واشتغل منذ حداثته بالشعر والأدب، ودرس الفلسفة دراسة مستفيضة. واخرج في سنة 1907 ديوانه، فلقي تقديراً عظيماً، وتبوأ اومانومو مكانته في الطليعة بين شعراء أسبانيا المعاصرين. وعالج اومانومو كتابة القصة أيضاً؛ واخرج منذ سنة 1897 قصته الشهيرة: (السلام في الحرب) وفيها يصف مسقط رأسه، ومشاهد صباه؛ ثم اتبعها بقصة عنوانها (من بلادي)، ثم بقصة (المركيز دي لومبريا)
بيد انه اشتهر على الأخص بمباحثه الفلسفية. فاخرج في سنة 1913 كتابه (الشعور المؤسى بالحياة)؛ وفي سنة 1925 اخرج كتابه الشهير: (احتضار النصرانية)، واخرج أيضاً عدة كتب أخرى فلسفية ولغوية
ومنذ سنة 1914 يشغل لومانومو منصب مدير جامعة شلمنقة. وقد عزل عن كرسيه لمطاعنه اللاذعة في نظام الطغيان العسكري الذي أنشأه الجنرال دي ريفيرا؛ ثم نفي مدى حين إلى جزر الكناري، ثم رحل إلى فرنسا. وكتب في منفاه عدة رسائل وكتباً شائقة منها:(184/63)
(كيف تكتب القصة)، ومنها كتابه المؤثر: (رومانشيرو في المنفى)، ولما انهارت دعائم الطغيان في أسبانيا عاد اومانومو إلى شلمنقة وأعيد إلى منصبه الجامعي
وقد كان اومانومو من اعظم الشخصيات الأدبية التي طبعت الأدب الأسباني المعاصر بطابعها العميق(184/64)
النقد
سلسلة الموسوعات العربية
معجم الأدباء
للدكتور عبد الوهاب عزام
أخي صاحب الرسالة:
أود أن تفسح لي قليلاً في صفحات رسالتك فإني مضطر إلى التوسع قليلا في الكتابة. وسأضن كما ضننت من قبل بصفحات الرسالة القيمة فاقتصر على سرد أغلاط المعجم سرداً واثقا بفهم القارئ، مكتفياً باللمحة الدالة والإشارة الموحية، ولو استوعبت الأغلاط وأسهبت في بيان الأدلة لكان لنا معجم أخر
ابدأ مقال اليوم بكلمة في نقد الأستاذ الفاضل محمود مصطفى وأخرى في نقد الأديب الكريم عبد العظيم قناوي وثالثة في مقالات الأستاذ عبد الخالق عمر
وأود أن يتنبه الكاتبون إلى أمرين؛ الأول: أننا في شان كتاب قديم ينشر. فكل همنا أن يكون الكتاب كما راده مؤلفه. فإذا أثبت الناشر أو المصحح كلمة تدل القرائن على أن المؤلف لم يكتبها فهي غلط على المؤلف ولو كان لها محمل في اللغة
والثاني: أن مقياسنا في النقد هو اللغة التي نتعلمها ونعلمها ونكتب بها، ونعرف أن المؤلف كتب بها، فالأوجه الشاذة والمحامل الضعيفة ليس لها مساغ هنا
أقول بعد للأستاذ محمود مصطفى:
1 - جاء في مقدمة ياقوت: (إذ كل همه تحصيل المأكول والمشروب.) والقارئ بين أن يقرا هَمُّه فيخرج الكلام على وجه قوي، وبين أن يقرأ (هَمَّه) فيحمل الكلام علة وجه ضعيف، لان هَمَّ لازمة أصالة عرض لها التعدي توسعاً، واهمَّ متعديه وضعاً، وهي لغة القران. وليس من حقنا أن نعدل عن الراجح إلى غيره دون ضرورة. على أن المصححين أنفسهم اعترفوا بان عبارة المؤلف (هَمُّه) بالضم وأستدركوها في أخر الجزء الرابع فلا موضع للجدال
2 - وجاء في الكتاب: (ومعاوية بفارسٍ) فقلت إنها ممنوعة من الصرف. فنقل الأستاذ عن(184/65)
القاموس أن فارسَ الفرسُ أو بلادهم. وقال إن التذكير والتأنيث في أسماء القبائل والمواضع جائز فيجوز فيه الصرف والمنع. وأنا أقول: إن فارس في عبارة ياقوت ليست الفرس أو بلادهم، ولكنها ولاية في الجنوب الشرقي من بلاد الفرس. فليرجع إلى الكتاب. وأما الصرف ومنعه بنية التذكير أو التأنيث فهو من مماحكات بعض النحويين. وقد جرت اللغة على تأنيث ألفاظ وتذكير أخرى، وإجازة الوجهين في غيرها. فلا ينبغي أن ننوي التذكير في لفظ جرت اللغة على تأنيثه. فذلك ضرب من التأول لا حاجة إليه. وقد جرى العرب على تأنيث فارس. جاء في الحديث: (خدمتهم فارس والروم) وشواهد هذا كثيرة. وهؤلاء مؤرخو المسلمين هل تجد من يقول (فُتِحَ فارس) أو هم جميعاً يقولون: فتحت بالتأنيث؟ وما أرى الأستاذ في هذا النص: قال ياقوت نفسه في معجم البلدان: (قال أبو علي: فارس اسم البلد وليس باسم الرجل؛ ولا ينصرف لأنه غلب عليه التأنيث. . . وليس بأصله بعربي بل هو فارسي معرب بارْس)
3 - وأما ميسرة فقال الأستاذ فيها إنها مثلثة. ولا أضنه يجادل أن المختار فيها الفتح وبه جاء القران. فضبط كلمة مثلثة على غير الوجه المختار فيها غلط. وكان على المصحح أن يتركها لاختيار القارئ أو يعين الوجه المختار فيها. على أن المصحح اعترف في مقاله له بالمقطم أن (ميسُرة) غلط مطبعي. فان أراد الأستاذ من بعد أن يجادل فيها فليجادل المصحح نفسه
4 - جاء في ياقوت (لغوياً نابهاً ثبتاً) فقلت الصواب: (ثبتاً) بالسكون. والثبت بالفتح البرهان اسم لا وصف. فقال الأستاذ: إن القاموس أجاز فيها الفتح، وظن أني وهمت حين قرأت قول شارح القاموس: (وقيل للحجة ثبَتَ بفتحتين إذا كان عدلا ضابطا) فذهب بالي (كما يقول) إلى أن الحجة هنا الدليل والبرهان. أقول: هل يظن الأستاذ حقاً أني إذا قرأت هذه العبارة والشارح يقول فيها: (إذا كان عدلاً ضابطاً) يذهب بالي إلى أن الحجة هنا البرهان؟ ثم أقول له: لا ريب أن الوصف ثبْت بالسكون، وأن الثبَتَ مصدر. قال صاحب اللسان: (ورجل له ثبت عند الحملة بالتحريك أي ثبات). ويقال للبرهان ثبت. قال في اللسان: (لا احكم بكذا إلا بثبت أي بحجة. وفي حديث صوم يوم الشك: ثم جاء الثبت أنه من رمضان. الثبت بالتحريك الحجة والبينة). فإذا قيل للرجل المتثبت ثبت، فذلك كما يقال(184/66)
له حجة، وكما يقال رجل عدل. كل هذا وصف بالمصدر للمبالغة. فأما الوصف الأصيل الدائر على السنة المحدثين فهو ثبت بسكون الباء، وهو الذي تحمل عليه عبارة ياقوت. فضبط الباء بالفتح أن لم يكن غلطا فهو عبث
5 - جاء في ص 115 ج1: أُضقْت أضاقة شديدة الخ. قلت الصواب أَضَقت. ويريد الأستاذ محمود أن يصوبها مبنية للمفعول. كأن الرجل يقول: أضاقني الزمن فأضقت أي صرت ضيقا. وهذا تعسف لنصر الغلط على الصواب. والوجه أن يقال: أضاق الرجل كأعسر. قال صاحب اللسان: (أضاق الرجل فهو مضيق إذا ضاق عليه معاشه. وأضاق أي ذهب ماله) فما بالنا نعدل عن النهج الواضح إلى بنيات الطريق؟
6 - وجاء في ص 209: نزل ثغر المُصَيْصَة. قلت الصواب: المَصيصَه، وقال الأستاذ إنها المِصيِّصة، واحتج بكتابه إعجام الأعلام. وأيد حجته بقولين متناقضين: قول صاحب القاموس بأنها كسفينة؛ وقول صاحب التقويم إنها مِصيّصة. ثم خطأ الناقد والمنقود وجعلني أوفر نصيباً من اللوم؛ وأنا أحتج عليه بقول ياقوت نفسه، قال في معجم البلدان: (المَصيِّصة بالفتح ثم الكسر ثم التشديد وياء ساكنة وصاد أخرى. كذا ضبطه الأزهري وغيره من اللغويين بتشديد الصاد الأولى الخ) ومثل هذا في اللسان. ثم أقول للأستاذ إن كان الناقد حين يخطئ اجدر باللوم من المنقود، فما تقول في خطأ ناقد الناقد؟
7 - جاء في الكتاب ص 240: أنه من غُمار الناس وصغارهم. قلت الصواب غِمار بالكسر. وصوب الأستاذ الوجهين، واعترف المصحح أن الكسر أولى، وأن الضم غلط المطبعة؛ وأنا أقول مع الأستاذ محمود انه لم يخطئ في هذا ولم تخطيء المطبعة
وبعد فأسال الأستاذ الفاضل: ما رأيه في بقية الغلطات التي أخذت على الجزء الأول؟ لماذا لم يتعرض لها في مقاله؟ وإن كان راضيا بها فلماذا لم يصرح بهذا؟
وأما الأستاذ عبد العظيم قناوي فقد شارك الأستاذ مصطفى في كلمتي (هَمَّه وميسُرة). وقد تقدم الكلام فيهما. وبقي من رده قوله في البيت
أمغط مني على بصري بالحب ... (م) أم أنت أكمل الناس حسناً
أن هذا الضبط جائز - وهذا غلط بين، فالشطر الثاني خطاب لامرأة. وهو لا يستقيم مع هذا الضبط. ثم المسالة ليست مجالاً للرأي بل هي رواية يجب أن تتبع، والبيت في كتب(184/67)
الثقات كما رويته. وقد اعترف المصححون أنفسهم بالوجه الصحيح الذي نبهت أليه
وقوله انه يجوز في (أماكنهم ويزيدونني) حذف النون. وذلك حمل للكلام على الأوجه الشاذة. وقد تقدم القول فيه
وجاء في الكتاب ص 212
يخال بأن العرض غير موفر ... عن الذم أنه يدال له الوفر
فقلت الصواب يذال - وقال الأستاذ (ويدال ليست خطأ بل لعلها أوقع في المعنى الخ) وأنا أقول إنها خطأ لأن البيت في مدح رجل. ومعناه أن هذا الممدوح يظن أن عرضه لا يبرأ من الذم إلا إذا بذل ماله وأذيل أي امتهن - وإذا قرأت (يدال) كان البيت ذما. ويكون معناه انه يظن أن عرضه لا يسلم إلا إذا أديل له المال أي صار غنيا. وهذا ليس من المدح في شيء
واختم بشكر الأستاذ على حس ظنه، ولومه على مبالغته في الثناء علي. والله يهدينا جميعا للتي هي أقوم
وأما أستاذنا عبد الخالق عمر فقد وجهت إليه كلمة بارة في المقال السابق، ثم اطلعت على مقالات له في المقطم. وأنا أسال الله أن يعينني على تناسي هذه المقالات. وارى أن من الخير لي وله ألا أناقشه فيما قال. فسأستمر في نقدي فارضاً أنني لم أقرا ما كتب متمنياً انه لم يكتب
ثم أعود إلى الموضوع متمماً نقد الجزء الثاني من الكتاب، وقد وعدت في المقال السابق أن أبين ما أخذته على تعليق الناشرين، ولكني أتقدم بتبيين أغلاط كتبتها ثم سهوت عن إلحاقها بأخواتها في ذلك المقال
ص 199: قول البديع يرد على الخوارزمي هجاء الصحابة
هلا نهتك الوجنة الموشومة ... عن مشترَى الخلد ببئر رومه
والصواب مشترِي بالكسر. ومشتري الخلد الخ هو عثمان بن عفان، وقصة شرائه بئر رومة في المدينة ووقفها على المسلمين معروفة. ثم هذا البيت لم يستحق تفسيراً من الناشرين الذين يكلفون في مواضع أخرى بان يفسروا الماء بالماء
ص 237: فقال هذا زِنبيل الحوائج الخ - وفي الحاشية! وفي الأصل زبيل الحوائج(184/68)
تحريفا - أقول التحريف ما فعله المصححون، فأما الزبيل فهو افصح من الزنبيل أو هو معربه، وقد اقتصر عليه صاحب القاموس ولم يذكر الزنبيل، وذكره صاحب اللسان بعد الزبيل ثم قال: وقيل الزنبيل خطأ وإنما هو زبيل أهـ. وقال المعري:
أيها الجامع الكنوز أزر ... أم هي زِبال من نملة في زبيل
وأما الحوالج فالظاهر إنها جمع حالجة المرأة تحلج القطن، وزبيل الحوالج يجمع فيه ندافة القطن، وقد جعل في الكتاب مثلا فليرجع أليه
ص 242: في أخبار جحظة البرمكي انه كان يلقب خَنْياكِر وفي الحاشية: (كلمة فارسية معناها المغني). وهذا التفسير صحيح، ولكن كيف ضبطت الكلمة هذا الضبط؟ هل أجراها المصححون مجرى الأعلام الأعجمية وجروا فيها على المذهب الذي نشر في المقطم فأجازوا فيها كل تحريف؟ والصواب خُنَياكَر
ص 258
ماذا ترى في جَدْيِ ... وفي عقار بوارد
وقهوة ذات لون ... يحكي خدود الخرائد
والوزن لا يستقيم في الشطر الأول فينبغي أن يكون: ماذا ترى في جُدَيً - تصغير جدي. ولا يضره الصغر إذا كان لحمه لذيذاً
ص 272: قول جحظة البرمكي في قصة رجل أعطاه ثياباً وعتيدة وهي وعاء للطيب: (فخرجت كأني لص قد خرج من بيت قوم، على قفا غلامي الثياب والعتيدة كارة) والكارة حمل الثياب. فرأى المصحح أن يحذف كلمة (كارة) كرها ويضع مكانها كلمة (كلها) وكتب في الحاشية: كانت رواية الأصل كارة، ولا معنى له) وقد عرف القارئ أن له معنى وأن المصحح غير متن الكتاب غلطاً، وقدمت لهذا نظائر وسيأتي:
ص 279: قول جحظة:
يا من دعاني وفر مني ... أخلفت والله حسن ظني
قد كنت أرضى بخبز رزّ ... ومالح أو قليل بُنّ
وأرى من الصواب في القافية الثانية بُنيِّ بالياء. وهو ضرب من السمك لا يزال معروفا بهذا الاسم في مصر والعراق. وفي بعض الأغاني العامية المصرية بني يا سمك بني.(184/69)
وليت الناشرين فسروا كلمة بن هنا فهي في حاجة إلى التفسير
ص 280 يقول بعض الشعراء إلغازاً عن الدواة والأقلام:
أحاجيك. ما قبر عديم ترابه ... به معشر موتى وأن لم يكفنوا
سلوت عن التبيان مدة قبرهم ... فان نبشوا يوما من الدهر بينوا
وهو إلغاز عن الأقلام في الدوى القديمة
والتحريف في كلمة سلوت، والصواب سكوت الخ
ص 283 في الكلام عن أبي نصر الباهلي الذي يقال انه ابن أخت الأصمعي: (وكان اثبت من عبد الرحمن يعني ابن أخت الأصمعي وأسن). والمعروف أن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي لا ابن أخته. وصاحب الأمالي يكثر الرواية عن عبد الرحمن عن عمه (الأصمعي)
ص 285 وكان يسكن باب الأزَجِّ. والصواب الأزَج بغير تشديد. وهو اسم محلة كبيرة كانت في الجانب الشرقي من بغداد
ويضيق مقال اليوم عن الكلام في مآخذ التعليق على هذا الجزء فموعدنا العدد الآتي أن شاء الله. والله ولي الهداية إلى الصواب
عبد الوهاب عزام(184/70)
العالم المسرحي والسينمائي
شركة أفلام الشرق وجهودها في إخراج (نشيد الأمل)
تقرر أن يعرض فيلم نشيد الأمل في يوم الاثنين 11 يناير سنة 1937 بسينما رويال، والمعروف أن هذا الفلم لم يستغرق أعداده اكثر من 80 يوما، وهذه المدة القصيرة تشهد بالجهود الكبيرة التي بذلها رجال الشركة في إخراج هذا الفلم العظيم. ويقول رجال الشركة إن الفضل في هذا التوفيق يرجع إلى معاونة العناصر الفنية في مصر وتضافرها على نجاح هذا الفلم؛ فأولاً استديو مصر - ذلك البناء الشامخ الذي يعتبر الدعامة الأولى في نهضتنا السينمائية والذي خطا بصناعة الأفلام خطوة جريئة واسعة - وضع تحت تصرف الشركة كامل معداته الحديثة وجهد فنانيه، فقاموا بأحسن ما في وسعهم من جهد فني
فالتصوير قام به سامي بريل المصور الأول للاستديو فجاء متقناً بديعاً، وتسجيل الصوت قام به مصطفى والي يعاونه عزيز فاضل فجاء واضحاً جلياً، وبناء المناظر (الديكور) قام به ولي الدين سامح يعاونه يوسف بهجت فكان شاهداً على حسن الذوق والدقة، والتنكر (الماكياج) قام به سترانج الروسي يعاونه حلمي رفله المصري الذي اشترك في اكثر الأفلام المصرية نجاحاً
أما الإخراج فكان من نصيب الأستاذ احمد بدرخان وهو شاب وديع هادئ مفكر يشع الذكاء من عينيه، وقد كان من بين أوائل المصريين اهتماماً بفن السينما؛ وهو مبعوث شركة مصر إلى فرنسا لدراسة هذا الفن. ونشيد الأمل هو أول عمل فني يقوم بإدارته؛ وطبيعي انه ركز كل قواه ومعلوماته في هذا الفيلم حتى جاء تحفة رائعة. وقد عاونه في عمله صديقه الشاب جمال مدكور
هذا والفيلم يحوي عدا الآنسة أم كلثوم مجموعة من خيرة الممثلين في مصر وعلى رأسهم الأساتذة زكي طليمات مبعوث الحكومة المصرية لدراسة التمثيل في أوروبا وعباس فارس وفؤاد شفيق وغيرهم من كبار ممثلي الفرقة القومية وممثلاتها(184/71)
الفاكهة المحرمة
للأستاذ احمد عبد الرحمن المحامي والأستاذ محمد السوادي
وأخيراً وبعد صراع عنيف بين لجنة قراءة الروايات في الفرقة القومية، وبين المؤلفين قدر لهذه المسرحية أن تظهر على مسرح الاوبرا، وأن يستمتع الجمهور بمؤلفة مصرية ممتازة نالت رضا رواد المسرح واستحسانهم، لأن الرواية تمس جانباً من حياتهم. ولعل في النجاح الذي تعاون عليه المؤلفان وممثل الدور الأول الأستاذ احمد علام ما يجعل الفرقة القومية ورجال اللجنة تعطي الأفضلية للروايات المصرية، فليس من شك أن الفاكهة المحرمة نالت من الإقبال ما لم تنله الروايات الأخرى في هذا الموسم
لئن عيب على المسرحية المصرية أنها ما برحت تفتقر إلى الطابع الأصيل الذي يميزها عن الروايات الغربية لخلو أدبنا القديم من هذه الصورة من الأدب، فان هذه الرواية تختلف عن هذا النوع، إذ تتميز بهذا الطابع تميزاً ظاهراً، فهي قطعة من صميم الحياة والبيئة المصرية، تتصل بحياتنا وتقاليدنا وروحنا أوثق اتصال؛ وهي تقوم على الصراع بين الشباب الذي يأبى لنفسه أن يهن أمام الشيخوخة التي لا تعرف من الدنيا إلا الاعتزاز بالثروة، وعلى الصراع بين المنطق المستمد من الحكمة وجموح الرغبة، ولكن. . . في ظل التقاليد!!!
ليس من شك في أن أدبنا يفتقر إلى الوراثة المهذبة في فن صياغة المسرحية، فليست لنا تقاليد ولا آثار سابقة كما قلنا؛ ولهذا فان كتابنا الذين يعالجون المسرحية ما برحوا يأخذون بتقاليد المسرح الغربي وينحون نحوه. فالمؤلف في مصر يقف بين ثقافتين الثقافة اللاتينية والثقافة السكسونية؛ فالأولى تهتم بالمفاجئات والحركات المسرحية المتصلة والشخصيات المشتبكة المعقدة؛ والثانية تعنى بخلق الجو الهادئ والشخصيات الواضحة البسيطة
فضل مؤلفا هذه المسرحية الثقافة اللاتينية، بل قل المدرسة الفرنسية فجعلا الحوادث تتجدد، وجاءا بشخصيات تعاون على إبراز الشخصيات الرئيسية في المسرحية، وبهذا كثرت الحركة المسرحية والنشاط؛ ولكن في رأييأنهما لو سلكا الطريق الآخر وأعطيا هذه العناية للشخصيات الرئيسية لكان توفيقهما أتم. فهذه شخصية (فاضل) ذلك الصديق الذي يحب (درية) وشخصية (زوزو) ابنة صاحب الجريدة التي تحب (حسن) لو فكر المؤلفان في(184/72)
الاستغناء عنهما أو الاستغناء عن الشخصية الثانية وتصحيح موقف الشخصية الأولى منذ بدء الفصل الثاني، فأنا زعيم بان ختام المناظر يكون اهدأ وافعل في النفس أثراً، ولرأينا صورة بارزة من المسرح المتزن الذي يجعلنا نلتذ للتكشف الهادئ للحادثة ويصدم أذهاننا فيبعثنا على التأمل والاعتبار بالحوار ومناقشة الرأي. ولو أن لي أن أشير بنصيحة لطالبتهما بهذا الإصلاح
على أن هذا الرأي قد يكون متأثراً بعض الشيء بثقافتي السكسونية وحبي للمسرح الإنجليزي، ولكني القي به مع اعتقادي بان المسرحية قطعة أدبية ممتازة بشخصياتها الرئيسية الكاملة التصوير، والجو المصري الخالص الذي تعيش فيه هذه الشخصيات، والأسلوب الرائع الملموس في نواحي المسرحية
اشترك في تأليف المسرحية الأستاذان احمد عبد الرحمن قراعة المحامي المعروف ومحمد السوادي الصحفي؛ وقد يصعب على الناقد أن يفرق بين عمل مؤلفين أتما رواية واحدة معا، ولكن المسرحية من حيث الأسلوب وطريق التفكير والشخصيات تنم عن قراعة اكثر مما تنم عن زميله
يقول (بيفون) الكاتب الفرنسي الكبير: إن الأسلوب هو الرجل. وليس من شك في أن أسلوب قراعة القوي قد نم عليه، وليس الأسلوب وحده، بل كذلك الشخصيات وطريق التفكير؛ والمأساة تدل على أن له النصيب الأوفر في هذا العمل
فنحن نرى الشخصيات تنحني أمام قوة التقاليد، وحتى حسن ودرية، وهما من أصحاب الثقافة العالية، لا يفكران في الثورة على التقاليد والنظم بل يخضعان ويقبلان التضحية من اجل والديهما؛ ثم النهاية القاسية التي تفرق بين حسن ودرية، لان الشرع يحول دون زواجهما - تنم عن روح قراعة ربيب بيت التقاليد وبيت الإفتاء
الإخراج والتمثيل
ظهرت هذه المسرحية من غير مخرج، فقد كانت من نصيب الأستاذ زكي طليمات، وقد بدأ فعلاً في تدريب الممثلين، فلما ترك الفرقة وقامت العقبات في سبيل ظهور هذه المسرحية أهملت، وأبى الأستاذ عزيز عيد أن يتم إخراجها، فقام الممثلون أنفسهم بهذا العمل وعاونهم الأستاذ أدمون تويما منظم المسرح(184/73)
وافلح الممثلون في مجهودهم، كما وفق الأستاذ أدمون تويما في اختيار المناظر واختيار ألوان الضوء وتوزيعه كما يتناسب وجو المسرحية. وأقرر أن هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها مسرحية مصرية اكتمل فيها الضوء وكان عونا للممثلين؛ وأرجو أن تهتم الفرقة بهذه الناحية، وتسند إلى الأستاذ نويما الإضاءة دائما
قام الممثل الأستاذ احمد علام بالدور الأول، فكان لظهوره رنة فرح بين جمهور المعجبين به الذين احتجب عنهم زمناً غير قصير. ولقد اظهر براعة فائقة في دور حسن بك وإني بهذه لأذكر له موقفه البديع في الفصل الأول وهو يكاشف درية بحبه، وفي الفصل الثالث بعد عودته إلى البيت وحديثه مع درية زوجة ابيه، ذلك الحديث الهادئ الذي يدل على ما يضطرم في نفسه من شتى الاحساسات الألم والحب المكبوت وما إليها
وكذلك في الفصل الرابع وهو يتحدث مع شقيقته، وبعدها وهو يتحدث إلى درية، ويعرف أنها تضمر له الحب، يسمو في هذه المواقف ويصل إلى قلوب النظارة فيحركها بالألم
ويأتي بعد علام في النجاح السيدة ثريا فخري التي مثلت دور الدادة، فقد وفقت فيه توفيقاً كبيراً وأدته أداء طيباً يعجز ممثلات الفرقة عن إدراكها فيه. وكان سراج منير موفقاً في إبراز شخصية والد درية، وكانت (روحية خالد) بديعة في تأدية دور شقيقة حسن، وكانت حسنة الإلقاء خفيفة الظل، كما كان محمود رضا عذب الروح في دور نسيم أفندي مضحك الأسرة
وقامت الآنسة فردوس حسن بدور درية، وهو الدور الأول في هذه الرواية؛ فبذلت مجهوداً لا باس به، إلا إنها لم تعن العناية الكافية بإبراز عاطفتها واحساساتها في شتى المواقف، وأن تكون اقل سرعة في إلقاء كلماتها. والأستاذ منسي فهمي قام بدور محيي بك، ويخيل إلى انه لم يهتم به اهتمامه بأدواره السابقة ولم يعره جانب عنايته، ولكنه في الفصل الرابع أبدى بعض العناية فأنقذ الشخصية في النهاية
يوسف تادرس الناقد الفني(184/74)
العدد 185 - بتاريخ: 18 - 01 - 1937(/)
الدفاع المقدس
قانون الحياة مادتان: هجوم على القوت، ودفاع عن الذات. وما كلمات النباهة والمجد والخلود إلا طعوم مغريات في يد الطبيعة، تتذرع بها إلى ضمان الحياة بالوفرة، كما تتذرع بالجمال والشهوة واللذة إلى بقاء النوع بالولادة. فالحي خليق بالبقاء تتوفر فيه ولا ريب قوة السعي لنفسه، وقوة الوقوف لغيره؛ فإذا فقد هاتين القوتين أو إحداهما كان طفيليا على مائدة الحياة، وفضوليا في ملكوت الطبيعة. وليست العزة التي تملك القاصر حين يرشد، أو التابع حين يستقل، إلا يقظة الأنانية في طبعه، وثورة الحيوية في دمه. وهذا الذي نشهده اليوم في مصر المستقلة من التسابق إلى إعداد القوة، والتنافس في إنشاء الدفاع، إنما هو استكمال لإحدى وسيلتي العيش، واستشعار لأرقى طبيعتي الوجود. فقد كانت مصر قبل عهدها الجديد تجري على قدر مجهول في الغيب، وتعيش على خطر معلوم من العدو، ثم لا تجد في واديها ولا في أيديها ما يدفع الغارة ويمنع الحوزة، فهي كالمرأة حمايتها على الزوج، وكالقاصر تبعته على الوصي. لذلك خشعت نفوسها أمام القوى الساطية خشوع الوحش الداجن إذا حطم نابه وقلم ظفره، فلا تدخل في شر، ولا تشارك في مراء، ولا تملك من دون وليها المحتل نفعا ولا ضرا. كان ذلك وأكثر الدول السيدة الأيدة كالبلجيك واليونان والترك لا يطولها أصلا، ولا يكثرها نفراً، ولا يفوقها ثروة. وكان ذلك والقوة هي الدستور النافذ في الأرض؛ فالتسليح خطة السياسة، والحرب عماد السلام، والمنفعة حجة القانون، وعصبة الأمم والمعاهدات (منيكير) لمخلب الأسد؛ ولكن الاحتلال الذي غل اليد وشل الإرادة قد سلبنا فيما سلب الثقة بالقدرة، والاعتماد على النفس، فكنا فقراء مع الغنى، وأذلاء على الكثرة، لا ندري على اليقين قيمة ما نملك ولا مدى ما نطيق
أما اليوم وقد تحطمت حلقات القيود على ضغط الجهاد الملح والزعامة المخلصة، فهاهي ذي مصر طليقة على سجيتها، سافرة عن طويتها، وقد عصفت في رأسها النخوة، وتمرد في نفسها التاريخ، فهي تتأهب لإعلان قوتها وإعزاز كلمتها وتحصين عزتها في الميادين الحرب الثلاثة! وهاهم أولاء أبناؤها الميامين البررة يتدفقون في التبرع السخي لمشروع الدفاع الوطني تدفق الدماء الحية في قلوبهم الحرة! وسيدهش العالم لهبتهم العاصفة، كما دهش من قبل لغفوتهم الثقيلة، فان مصر في كل شيء فريدة عجيبة!
لقد هبوا أول الجهاد فسخوا لها بالأنفس، وهم يهبون اليوم أول النصر(185/1)
ليسخوا لها بالأموال؛ وعلى قدر الإخلاص والتضحية في الهبة الأولى،
سيكون البذل والإيثار ولا ريب في الهبة الثانية
صحيح أن تلك النهضة بدأت من الشعب وانتهت إلى الحكومة، وأن هذه النهضة ابتدأت من الحكومة وستنتهي إلى الشعب؛ ولكن ذلك لا يقدح في حقيقتها ولا يشكك في نتيجتها، فان حكومة اليوم هي شعب الأمس والذين ألبوا الأنفس على ذل الاحتلال، هم أنفسهم الذين يحمسون الأفئدة لعز الاستقلال؛ وبين عرش الملك، وكرسي الحكم، ومقعد البرلمان، وئام ناشئ من خلوص النية، وانسجام قائم على وحدة الغاية؛ ولن يهلك على خلوص النية رأي، ولن يصل على وحدة الغاية سبيل
افتتح التبرع للدفاع المقدس الوزراء فتبعهم الموظفون؛ فهل يفتتحه من الجانب الآخر الأمراء والأغنياء ليتبعهم الأهلون؟
يريد الوطن الضعيف الأعزل من أولئك الذين ربَّبهم على دلال السرف، وقلبهم في أعطاف النعيم، فحشا أهبهم بخيره، وأفعم خزائنهم بذهبه، وبسط ملكهم على أكثر أرضه، ومد نفوذهم على معظم بنيه، أن يعززوه ليفي عليهم، ويسلحوه ليدافع عنهم، ويبروه ليدوم عليهم بره وظله
ما الذي يحبس هذا الأمير المترف أن ينفق على سلاح وطنه مثل ما ينفق على سلاح صيده، ويبذل في سبيل أمته بعض ما يبذل في سبيل شهوته؟
وما لهذا الباشا البطين صاحب الهيل والهيلمان، وملك الثيران والأطيان، ورب النفوذ والسلطان، يقر أذنه عن نداء وطنه، وإنما عظمته من فضله، وعزته من أهله، وثروته من ثراه! أيتلكأ الباشا ويتباطأ الأمير حتى تنشأ عدة الدفاع مما يرضخ به الفقير والأجير والعامل؟ وهل ترك هذا أو ذاك لأحد من هؤلاء شيئا يعطيه؟ وهل من المروءة أن يدعا الفقير أو الأجير يتبرع من قوته وهو لا يكفيه؟
سادتي أصحاب السمو وأرباب السعادة! أن الفقير يغذيكم طيلة العمر بعرقه، وسيدافع عنكم يوم الفزع بدمه، ولن يكلفكم هذا الصابر المسكين إلا أن تشتروا له الفأس، وتقدموا له السلاح فهل هذا كثير؟
احمد حسن الزيات(185/2)
في الحب
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
الكلام في الحب يحلو للعاشق والسالي والخلي؛ وأنا والله (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)، وقد كنت أتوهم أني عشقت بضع من المرات في حياتي مذ عرفت أن لي قلباً وأن مكانه في الناحية اليسرى لا اليمنى. ولهذه المعرفة قيمتها عندي، فقد خيل إلي في صدر أيامي أني أحب فتاة وأفضيت إليها يوماً - أو على الأصح ليلة وكان القمر طالعاً والجو سجسجاً - بما يجن صدري، وأردت أن أؤكد لها الحب فأشرت إلى حيث الضلوع في الجانب الأيمن، وكانتأعرف مني بتركيب الجسم الإنساني، فضحكت وقالت: (هل أنت واثق مما تقول؟. .) فلم أفهم معنى لسؤالها وظننتها تريد أن تعاهدني على الحب والحفاظ وما إلى ذلك من الكلام الفارغ - أو الذي صرت أعتقد أنه فارغ - فوضعت كفها الرخصة على حيث أشرت لها إلى موضع قلبي وقالت: (مسكين هذا القلب!. .) فتناولت يدها وقبلتها وقلت على سبيل التأييد: (إي والله. . مسكين. .)
فسألتني: (وما العمل الآن؟. .) فقلت: (في أي شيء؟) قالت: (أليس الواجب أن نبدأ بقلبك فنرده إلى مكانه الذي حوله الحب عنه؟) قلت: (كيف؟. ماذا تعنين؟) قالت: (أن قلوب الناس هنا. . إلى اليسار. . ولكن قلبك قد وثب وثبة نقلته إلى اليمين؛ وهذا - فيما أظن - يجب أن يستعان على إصلاحه بالجراح. . والى أن يتم ذلك. . .)
فلم أدعها تتم كلامها ووليت هارباً. وخطر لي بعد ذلك أنه إذا كان القلب في غير الموضع الذي حسبته فيه فأن ما توهمته من إحساسه - أو بعبارة أدق - من الإحساس في ذلك الموضع لا بد أن يكون تخيلاً لا حقيقة له. وكانت هذه مغالطة، فليس من الضروري أن يعرف الإنسان موضع قلبه ليحب، ولكن المغالطة نفعتني وشفتني من هذا البلاء
وأنا لا اعشق بالمعنى المألوف لأني شديد النسيان سريعه. والنسيان يجعلني أمسى عاشقاً، واصبح سالياً. وكثيراً ما حدث أني عشقت، ولكن الليل يجيء فأجوع - ولا سيما في الشتاء - فأكل فيغلبني النعاس - والامتلاء يساعد عليه - وانهض في الصباح فيخطر لي شيء ساعة افتح عيني على الدنيا فاشغل بذاك عما عداه وافرغ من هذا الأمر الجديد في العصر أو بعد يوم أو اثنين؛ فاقعد أفكر فيما مر بي في يومي، أو في الأيام الأخيرة، وإذا(185/4)
بي أتذكر فجأة أني عشقت فأقول: (اووووووه. . . . أعوذ بالله! ما هذا النسيان الفظيع؟ إلا شد ما أذهلتني الحياة عن حبيبتي التي لا شك إنها تحسبني الآن أحيي الليل ساهراً أناجيها. . . كلا، ينبغي أن أكتم هذا لئلا تغضب؛ وليس من اللائق على كل حال أن أخبرها أني كنت ناسياً أني عاشق مد نف. . . ولكن من هي الحبيبة؟ لقد ذكرت حبها ولكني والله نسيتها هي. . .) وأحار ماذا أصنع. . . فليس من المعقول أن أسال من أعرف من الفتيات أهي التي أحبها آم سواها. ويعجبني هذا الموقف فأتصور أني أقبلت على واحدة وفركت كفي وقلت لها: (هل تسمحين لي أن القي عليك سؤالاً عني؟ (فتقول) تفضل. . . بالطبع. . لم لا؟.) فأقول: (أن المسالة بسيطة!!. . أعني أنها في الحقيقة دقيقة. . والمفروض أني أعرف بها ولكني كما تعرفين حمار. فتقول: (استغفر الله!. لماذا تطعن على نفسك هكذا؟.) فأقول: (معذرة. . واشكر لك هذا اللطف ولكنها الحقيقة. . على كل حال لقد تبينت من كلامك. . أعني. . أريد أن أقول إن كلامك الذي سمعته أغناني عن السؤال فآلف شكر لك يا روحي ونور عيني وحبة قلبي و. . .)
فتقاطعني وتصيح بي: (ماذا جرى لك؟. . . لماذا تتكلم هكذا. . .؟)
فأقول: (معذرة. . . ولكن ألست أنت روحي ونور عيني وحبة قلبي. . . لقد ضننتك. . .)
فتسال وهي مقطبة: (هل جننت. . .؟)
فأقول: (لا. . . لم أجن. . . . ولكني نسيت. . .)
فتقول وهي كالمذهولة: (نسيت!. . . ماذا نسيت. . .؟)
فأقول: (اسمعي. . . لم يبق بد من الإقرار بالحقيقة. . . إني أحب، ولكني نسيت ولم أعد أعرف من هي التي سرقت قلبي، وقد كانت نيتي حين ربكتني بالمقاطعة أن أسألك أأنت التي أحبها أم أنا قد غلطت؟. . . فلما أظهرت هذا العطف علي وأغضبك أني أطعن على نفسي، قلت إنك لا بد أن تكوني المحبوبة الضائعة - أعني المنسية - فان لم تكونيها فأنت لاشك أولى منها بحبي. . . وهذا هو تأويل قولي: يا روحي يا نور عيني ويا حبة قلبي. . . فما رأيك؟)
أتصور هذا الموقف فلا يسعني إلا أن أضحك. ومتى ضحك المرء فقد سلا وخلا قلبه من الوجع. ولو أن كل عاشق استطاع أن يضحك لكان الأرجح ألا يبقى في الدنيا حب عنيف(185/5)
طاغ
ولا أحتاج أن أقول إني في الحب كما تشاء ذاكرتي؛ فإذا استيقظت وتنبهت، ووسعها أن ترتب ما فيها، وتبرز ما يستحق الإبراز، وتؤخر ما التأخير أولى به، وتعرض الأمر علي عرضا يساعد على التدبر ولا يغري بالفرار والتماس النجاة. . . إذا فعلت ذاكرتي هذا فأني أستطيع أن أعرف أأنا عاشق أم خلي، ومن هي التي أحببتها، أو من هن اللواتي أحببتهن ثم نسيتهن؟ ولا غرابة إذن أن يكون حبي - حين أفطن إليه - بالجملة. أما إذا عجزت ذاكرتي عن هذا العرض فأني أمشي في الدنيا مستريح القلب من هم الحب وكربه، واثقاً من نعمة الخلو ومزية السلامة والنجاة
ولكن البلاء والداء العياء أن ذاكرتي تفاجئني بومضات التذكر حين تحسن اللجلجة في النسيان. . . وتصور أن تكون جالساً تناجي من تذكرت أنك تحبها. وأن تكون راغباً في ملاطفتها لتعوضها من الإساءة إليها بنسيان أمرها، فتروح تبثها هذا الحب وتناجيها بأعذب ما تستطيع من عبارات الشغف والهيام، وتؤكد لها أنك ما أحببت. . . كلا، ولن تحب سواها، وأن قلبك وقف عليها، وأن حبك لها خالد، وأن الدنيا تستطيع أن تعمر بمن شاءت من النساء الجميلات الفاتنات الساحرات؛ ولكنك أنت لن تكون لك عين ترى سواها، أو قلب يخفق لغيرها. . . وإنك لتسح بهذا الكلام وإذا بذاكرتك تصيح بك:
(حاسب. . . ماذا تقول؟. . . أتزعم أنك لا تحب سواها؟ يوه. . . أتراك نسيت تلك التي كنت تقسم لها مثل هذه الأيمان الغلاظ البارحة. . . البارحة فقط. . . في الساعة التاسعة. . . على شاطئ النيل. . . أو تلك التي دعوتها إلى الذهاب معك إلى الإسكندرية لأنك لا تطيق البعد عنها يوماً واحداً. . . أو الأخرى. . . أو. . . أو. . .)
وأرجو أن يكون القارئ منصفاً، وأن يقول لي كيف بالله يمكن أن يمضي المرء في الكلام الذي بدأه؟. . . أو كيف يستطيع أن يستحلي ما هو فيه؟. . . أو ماذا يبلغ من شعوره بالتنغيص في لحظة جميلة كالتي هو فيها؟. . . ثم أن هذه سماجة من الذاكرة. . . لماذا لا تنتظر حتى تنقضي اللحظة الحلوة، ويفوز المرء بالمتعة - متعة الجلسة والحديث والمناجاة وسرور المحبوبة بأنها محبوبة ثم بعد ذلك - بعد أن تنقضي الساعة التي هو فيها لا يبقى مانع من أن تذكره بما شاءت، وأن تعرض عليه الحقائق الثقيلة في غير أوانها(185/6)
فماذا أصنع بالله. . . وكيف أستطيع أن أحب ما ينبغي. . . وهل مما يستظرف أن تعابثني ذاكرتي معابثة تحرمني لذة الحب في دنيا تزخر بالجمال؟. . . وماذا عسى أن أقول للغانيات؟. . . والله أن هذه لحيرة وأي حيرة، ثم والله أني لمستريح مسكين
إبراهيم عبد القادر المازني(185/7)
القلب المسكين
تتمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال صاحب القلب المسكين: ووقفت المحامية وكأنها بين الحراس تزدحم عليها من كل ناحية، وقد ظهرت للموجودين ظهور الجمال للحب، ونقلتهم في الزمن إلى مثل الساعة المصورة التي ينتظر فيه الأطفال سماع القصة العجيبة؛ ساعة فيها كل صور اللذة للقلب
وكانت تدافع بكلامها ووجهها يدافع عن كلامها، فلو نطقت غيا أو رشداً فلهذا صواب ولهذا صواب، لان أحد الصوابين منظور بالأعين
كان صوت النائب العام كلاماً يسمع ويفهم؛ أما صوت المحامية الجميلة فكان يسمع ويفهم ويحس ويذاق، تلقيه هي من ناحية ما يدرك، وتتلقاه النفس من ناحية ما يعشق، فهو متصل بحقيقتين من معناه ومعناها، وهو كله حلاوة لأنه من فمها الحلو
وبدأت فتناولت من أشيائها مرآة صغيرة فنظرت فيها
- النائب العام: ما هذا يا أستاذة؟
- المحامية: إنكم تزعمون أن هذه الجريمة تأليف عيني، فأنا أسأل عيني قبل أن أتكلم
- النائب: نعم يا سيدتي؛ ولكني أرجو إلا تدخلي القضية في سر المرآة وأخواتها. . . أن النيابة تخشى على اتهامها إذا تكحلت لغة الدفاع
فضحكت المحامية ضحكة كانت أول البلاغة المؤثرة. . .
- النائب: من الوقار القانوني أن تكون المحامية الفاتنة غير فتانة ولا جذابة أمام المحكمة
- المحامية: تريد أن تجعلها عجوزاً بأمر النيابة. . .؟ (ضحك)
- النائب: جمال حسناء، في ظرف غانية، في شمائل راقصة، في حماسة عاشقة، في ذكاء محامية، في قدرة حب. هذا كثير
- المحامية: يا حضرات المستشارين. لم تكن المرآة هفوة من طبيعة المرأة، ولكنها الكلمة الأولى في الدفاع. كلمة كان الجواب عنها من النائب العام أنه أقر بتأثير الجمال وخطره، حتى لقد خشي على اتهامه إذا تكحلت له لغتي
- القضاة يتبسمون(185/8)
- النائب: لم أزد على أن طلبت الوقار القانوني. الوقار. نعم الوقار، فان المحامية أمام المحكمة، هي متكلم لا متكلمة
- المحامية: متكلم بلحية مقدرة منع من ظهورها التعذر. . . (ضحك)
كلا يا حضرة النائب؛ إن لهذه القضية قانوناً آخر تنتزع منه شواهد وأدلة؛ قانون سحر المرأة للرجل، فلو اقتضاني الدفاع أن أرقص لرقصت، أو أغني لغنيت، أو أثبت سحر الجمال لأثبته أول شيء في النائب العام. . .
- الرئيس: يا أستاذة؟
- المحامية: لم أجاوز القانون، فالنائب في جريمتنا هو خصم القضية، وهو أيضاً خصم الطبيعة النسوية
- النائب: لو حدث من هذا شيء لكان إيحاء لعواطف المحكمة. . . فأنا أحتج
- المحامية: احتج ما شئت، ففي قضايا الحب يكون العدل عدلين، إذ كان الاضطرار قد حكم بقانونه قبل أن تحكم أنت بقانونك
- النائب: هذه العقدة ليست عقدة في منديل يا سيدتي، بل هي عقدة في القانون
- المحامية: وهذه القضية ليست قضية إخلاء دار يا سيدي، بل هي قضية إخلاء قلب
- الرئيس: الموضوع، الموضوع
- المحامية: يا حضرات المستشارين. إذا انتفى القصد الجنائي وجبت البراءة. هذا مبدأ لا خلاف عليه؛ فما هو الفعل الوجودي في جريمة قلبي المسكين؟
- النائب: أوله حب راقصة؟
- المحامية: آه دائماً هذا الوصف. هبوها في معناها غير جديرة بان يعرفها لأنه رجل تقي، فليست في حسنها جديرة بان يحبها لأنه رجل شاعر؛ احكموا يا حضرات القضاة. هذه راقصة ترتزق وترتفق، ومعنى ذلك إنها رهن بأسبابها، ومعنى هذا إنها خاضعة للكلمة التي تدفع. . . فلماذا لم ينلها وهي متعرضة له، وكلاهما من صاحبه على النهاية، وفي أخر أوصاف الشوق؟ أليس هذا حقيقياً بإعجابكم القانوني كما هو جدير بإعجاب الدين والعقل؟ وأن لم يكن هذا الحب شهوة فكر، فما الذي يحول دونها وما يمنعه أن يتزوجها. . .؟(185/9)
- القضاة يتبسمون
- النائب: نسيت المحامية إنها محامية وانتقلت إلى شخصيتها الواقفة على النهاية وفي أخر أوصاف الشوق. . . فأرجو أن ترجع إلى الموضوع، موضوع الراقصة
- المحامية: آه دائماً الراقصة. من هي هذه المسكينة الأسيرة في أيدي الجوع والحاجة والاضطرار؟ أليست مجموعة فضائل مقهورة؟ أليست هي الجائعة التي لا تجد من الفاجرين إلا لحم الميتة؟ نعم إنها زلت. إنها سقطت. ولكن بماذا؟ بالفقر لا غير؛ فقر الضمير والذمة في رجل فاسد خدعها وتركها؛ وفقر العدل والرحمة في اجتماع فاسد خذلها وأهملها. يا للرحمة لليتيمة من الأهل، وأهلها موجودون! والمنقطعة من الناس، والناس حولها!
تقولون: يجب ولا يجب، ثم تدعون الحياة الظالمة تعكس ما شاءت فتجعل ما لا ينبغي هو الذي ينبغي، وتقلب ما يجب إلى ما لا يجب. فإذا ضاع من يضيع في هذا الاختلاط، قلتم له: شانك بنفسك ونفضتم أيديكم منه فأضعتموه مرة أخرى. ويحكم يا قوم! غيروا اتجاه الأسباب في هذا الاجتماع الفاسد تخرج لكم مسببات أخرى غير فاسدة
تأتي المرأة من أعمال الرجل لا من أعمال نفسها، فهي تابعة وتظهر كأنها متبوعة؛ وذلك هو ظلم الطبيعة للمسكينة؛ ومن كونها تظهر كأنها متبوعة، يظلمها الاجتماع ظلماً آخر فيأخذها وحدها بالجريمة، ويقال سافلة وساقطة وما جاءت إلا من سافل وساقط
لماذا أوجبت الشريعة الرجم بالحجارة على الفاسق المحصن؟ أهي تريد القتل والتعذيب والمثلة؟ كلا فان القتل ممكن بغير هذا وبأشد من هذا. ولكنها الحكمة السامية العجيبة: أن هذا الفاسق هدم بيتا فهو يرجم بحجارته
ما أجلك وأسماك يا شريعة الطبيعة؛ كل الأحجار يجب أن تنتقم لحجر دار الأسرة إذا انهدم
تستسقطون المسكينة ولو ذكرتم آلامها لوجدتم في ألسنتكم كلمات الإصلاح والرحمة لا كلمات الذم والعار. إنها تسعى برذيلتها إلى الرزق؛ فهل معنى هذا إلا إنها تسعى إلى الرزق بأقوى قوتها. نعم أن ذلك معنى الفجور؛ ولكن أليس هو نفسه معنى القوت أيها الناس؟
- الرئيس وهو يمسح عينيه: الموضوع الموضوع.(185/10)
- المحامية: ما هو الفعل الوجودي في جريمة قلبي المسكين؟ ما هو الواقع من جريمة يضرب صاحبها المثل بنفسه للشباب في تسامي غريزته عن معناها إلى أطهر وأجمل من معناها؟ لبئس القانون إن كان القانون يعاقب على أمر قد صار إلى عمل ديني من أعمال الفضيلة
- النائب: ألا يخجل من شعوره بأنه يحب راقصة؟
- المحامية: ومم يخجل؟ أمن جمال شعوره أمن فن شعوره؟ أيخجل من عظمة في سمو في كمال؟ أيخجل البطل من أعمال الحرب وهي نفسها أعمال النصر والمجد؟
أتأذنون يا حضرات المستشارين أن أصف لكم جمال صاحبته وأن أظهر شيئاً من سر فنها الذي هو سر البيان في فنه؟
- النائب: إنها تتماجن علينا يا حضرات المستشارين، فالذي يحاكم على السكر لا يدخل المحكمة ومعه الزجاجة. . .
- الرئيس: لا حاجة إلى هذا النوع من ترجمة الكلام إلى أعمال يا حضرة الأستاذة
- المحامية: كثيراً ما تكون الألفاظ مترجمة خطأ بنيات المتكلمين بها أو المصغين إليها؛ فكلمة الحب مثلاً قد تنتهي إلى فكر من الأفكار حاملة معنى الفجور، وهي بعينها تبلغ إلى فكر آخر حاملة إلى سموه من سموها. وعلى نحو من هذا يختلف معنى كلمة الحجاب عند الشرقيين والأوربيين؛ فالأصل في مدنية هؤلاء إباحة المعاني الخفيفة من العفة. . وإكرام المرأة إكرام مغازلة. . . يقولون أن رقم الواحد غير رقم العشرة فيضعونه في حياة المرأة، فما أسرع ما يجيء (الصفر) فإذا هو العشرة بعينها. . .
أما الشرقيون فالأصل في مدنيتهم التزام العفة وإقرار المرأة في حقيقتها. لا جرم كان الحجاب هنا وهناك بالمعنيين المتناقضين: الاستبداد والعدل، والقسوة والرحمة، و. . .
- النائب: وامرأة البيت وامرأة الشارع. . .
- المحامية: وبصر القانون وعمي القانون
- الرئيس: وحسن الأدب وسوء الأدب. . . . الموضوع الموضوع
- المحامية: لا والذي شرفكم بشرف الحكم يا حضرات المستشارين ما يرى القلب المسكين إلا في حبيبته إلا تعبير الجمال، فهو يفهمها فهم التعبير ككل موضوعات الفن. وما بينه(185/11)
وبينها إلا أن حقيقة الجمال تعرفت إليه فيها. أئن أحس الشاعر سراً من أسرار الطبيعة، في منظر من مناظرها، قلتم أجرم وأثم؟
هذا قلب ذو أفكار، وسبيله أن يعان على ما يتحقق به من هذا الفن. قد تقولون: أن في الطبيعة جمالاً غير جمال المرأة فليأخذ من الطبيعة وليعط منها. ولكن ما الذي يحي الطبيعة إلا أخذها من القلب؟ وما هي طريقة أخذها من القلب إلا بالحب؟ وقد تقولون: إنه يتألم ويتعذب، ولكن سلوه. أهو يتألم بإدراكه الألم في الحب؛ أو بإدراكه قسوة الحقيقة، وأسرار التعقيد في الخير والشر؟
إن شعراء القلوب لا يكونون دائماً إلا في أحد الطرفين: هم أكبر من الهم، وفرح أكثر من الفرح. فإذا عشقوا تجاوزوا موضع الوسط الذي لا يكون الحب المعتدل إلا فيه؛ ومن هذا فليس لهم آلام معتدلة ولا أفراح معتدلة
هذا قلب مختار من القدرة الموحية إليه، فالتي يحبها لا تكون إلا مختارة من هذه القدرة اختيار ملك الوحي. وهما بهذا قوتان في يد الجمال لإبداع أثر عظيم ملء قدرتين كلتاهما عظيمة
فان قلتم إن حب هذا القلب جريمة على نفسه، قالت الحقيقة الفنية: بل امتناع هذه الجريمة جريمة
إن خمسين وخمسين تأتي منهما مائة؛ فهذا بديهي؛ ولكنه ليس أبين ولا أظهر ولا أوضح من قولنا: إن هذا العاشق وهذه المعشوقة يأتي منهما فن
قال صاحب القلب المسكين: وانصرف القضاة إلى غرفتهم ليتداولوا الرأي فيما يحكمون به، وأومأت لي المحامية الجميلة تدعوني إليها، فنهضت أقوم فإذا أنا جالس وقد انتبهت من النوم
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(185/12)
في التاريخ السياسي
تفاقم المشكلة الأسبانية
ألمانيا تكرر محاولة أغادير
بقلم باحث دبلوماسي كبير
يظهر أن أخطار المشكلة الأسبانية لن تقف حد؛ فقد بدأت الثورة الأسبانية في أواخر يوليه الماضي حرباً أهلية، ولكن عوامل التدخل الدولية التي صحبتها منذ قيامها لم تلبث أن غلبت على صفتها المحلية الداخلية، فهي اليوم حرب دولية في الأراضي الأسبانية، يستتر فيها فريق الدول الفاشستية وراء الجنرال فرانكو زعيم الثورة، وتستتر الدول الديمقراطية وراء حكومة مدريد؛ وقد كان هذا الاستتار شفافاً في البداية ينم على حركات الدول المختلفة؛ ولكنه يفصح اليوم عن كل شيء بجلاء؛ وتبدو الدول المتدخلة ولا سيما ألمانيا وإيطاليا والسوفييت في الميدان بكل جرأة؛ وتتقاطر الأسلحة والذخائر والنجدات الأجنبية إلى الفريقين المتحاربين بلا انقطاع
فهذه الصورة الدولية التي أسبغها التدخل الأجنبي على الحرب الأهلية الأسبانية تغدو اليوم بالنسبة لأوربا بركاناً يضطرم بمختلف المفاجآت والأخطار؛ وقد كان آخر طور من أطوارها الخطرة تفاقم التدخل الألماني وظهور ألمانيا في سياستها الأسبانية بمظهر يزعج الدول الغربية ويثير كل مخاوفها. ذلك أنها لم تكتف بإرسال السلاح والذخيرة والمتطوعين إلى جبهة الثورة، ولكنها بعثت بقسم من أسطولها إلى المياه الأسبانية الشمالية، وأخذت سفنها الحربية تعتدي تباعاً على السفن الأسبانية الجمهورية بحجة الانتقام لحادث الباخرة (بالوس)؛ وفي الأنباء الأخيرة أن قوة عسكرية ألمانية نزلت في مراكش الأسبانية، وأنه شرع في بناء الثكنات اللازمة لإيوائها مما يدل على أنها ستمكث هناك طويلاً؛ وأن قوات أخرى نزلت في قادس لنجدة الجبهة الثورية
وقد كان تدخل إيطاليا وألمانيا في الحرب الأسبانية على هذا النحو يزعج الدول الغربية منذ البداية؛ بيد أنه يلوح لنا أن السياسة الإيطالية أخذت على أثر تفاهمها مع إنكلترا تخفف نوعاً من هذا التدخل، وأن الاتفاق الإنكليزي الإيطالي (اتفاق الجنتلمان) على الاعتراف(185/13)
بالحقوق والمصالح المتبادلة في البحر الأبيض المتوسط، وعلى احترام الحالة الراهنة فيه كان ذا أثر كبير في تعديل سياسة إيطاليا الأسبانية، وقد ظهر هذا التحول واضحاً في سحب إيطاليا لقواتها من جزيرة ميورقة، وفي وقف النجدات التي كانت ترسلها تباعاً إلى جبهة الثوار؛ هذا بينما يشتد التدخل الألماني ويتفاقم، ويمتد من أسبانيا نفسها إلى مراكش الأسبانية؛ وكان من المنتظر أن المجهود الذي تقوم به السياستان البريطانية والفرنسية لحصر الحوادث الأسبانية في نطاقها المحلي ودرء أخطارها الدولية يسفر عن بعض النتائج المرضية؛ ولكن الدولتان الفاشستيان وهما إيطاليا وألمانيا لجأتا إلى المطل والتسويف في الرد على هذا المسعى. وكانت المذكرة البريطانية الفرنسية تقترح على الدول ذات الشان أن تبذل مجهوداً مشتركا لوقف التدخل الدولي في شؤون أسبانيا الداخلية، ومنع المعاونات العسكرية عن الفريقين المتحاربين، وترك المسألة الأسبانية يحلها الأسبان فيما بينهم؛ وقد أجابت روسيا وهي التي تؤازر حكومة مدريد على هذا الاقتراح بالقبول؛ ولكن إيطاليا وألمانيا وهما اللتان تؤازران فريق الثوار تمهلتا في الرد حتى تطورت الحوادث الأسبانية على هذا النحو الخطر، واستطاعت ألمانيا أن تمد الثوار بنجدات عسكرية كبيرة؛ وأخيراً قدمت إيطاليا وألمانيا رديهما وهما متحدان في اللهجة والموضوع، وخلاصة رد الدولتين الفاشستيتين هو أنه لا محل لإجراء المفاوضات الدبلوماسية للبحث في هذا المشكل في حين أن هنالك لجنة خاصة للبحث في مسالة عدم التدخل، وأن منع المتطوعين الآن معناه معاونة حكومة مدريد التي تؤازرها قوات بلشفية كبيرة، وأن التبعة في تفاقم التدخل الأجنبي في أسبانيا ترجع إلى إنكلترا وفرنسا لأنهما هما اللتان اعترضتا منذ البداية على اقتراحات ألمانيا في وجوب منع المتطوعين الأجانب؛ وتزيد ألمانيا على ذلك إنها ترى بحث المشكلة كلها لا بحث بعض نواحيها فقط، وإنها تحتفظ بحرية العمل إذا لم تقبل وجهة نظرها
ومن الغريب أن ألمانيا تقرن ردها بإرسال نجدات جديدة إلى أسبانيا، وبإنزال بعض قواتها في مراكش الأسبانية، وإذا كان ظهور الجنود الألمانية في أسبانيا وفي صفوف الجنرال فرانكو قد أثار مخاوف إنكلترا وفرنسا، فان ظهورها في مراكش الأسبانية يضاعف هذه المخاوف ويذكيها، وقد رأينا الوزارة البريطانية تسارع بالاجتماع لبحث المشكلة الأسبانية،(185/14)
ورأينا السياسة الفرنسية، تضطرب لهذا التطور المزعج في الشؤون الإسبانية. ولكي نقدر خطورة هذا الظرف يجب أن نرتد بالذاكرة إلى حاث مماثل وقع في ظروف مماثلة، ذلك هو حادث أغادير الشهير الذي كاد يثير ضرام الحرب بين فرنسا وألمانيا؛ ففي أغسطس سنة 1911 ظهر في مياه أغادير المراكشية (وأغادير واقعة على المحيط الاطلنطي) طراد ألماني، وطلب القيصر في نفس الوقت (مركزا لألمانيا تحت الشمس) واضطربت فرنسا لهذا الحادث واعتبرته انتهاكا لحقوقها التي كفلتها معاهدة الجزيرة والتي عقدت بين الدول العظمى ومنها ألمانيا، ونصت على أن حفظ النظام في مراكش هو من شان فرنسا وأسبانيا وحدهما؛ واشتد توتر العلائق بين الدولتين ويومئذ لاح شبح الحرب بينهما في الأفق؛ ولم تسحب ألمانيا طلباتها ووعيدها إلا بعد مفاوضات طويلة شاقة، وبعد أن تنازلت لها فرنسا عن بعض أراضيها في الكونغو؛ والآن وقد بسطت فرنسا حمايتها على مراكش، ووطدت في مركزها وسلطانها، وأضحت جزءاً من إمبراطوريتها الضخمة في شمال أفريقية، فإنها ترتجف لأقل بادرة تهدد مراكش أو أي جزء آخر من أجزاء هذه الإمبراطورية الغنية؛ وقد كانت فرنسا تتوجس جزعاً مذ قامت الثورة الأسبانية، واضطربت شؤون مراكش الأسبانية التي تحد أملاكها من الشمال، وأضحت منطقة عسكرية خطرة؛ فالآن يزيد جزعها وتتضاعف مخاوفها إذ ترى الجنود الألمان ينزلون في هذه المنطقة ويعسكرون في مليله على مقربة من الحماية المراكشية
وهنالك ما يدل على أن هذا الحادث يشبه حادث أغادير من كل الوجوه. ذلك أن ألمانيا أثارت حادث أغادير لأطماع استعمارية، واستغلته لإرضاء هذه المطامع، وهي الآن تعيد الكرة، وتجيش بنفس الأطماع. وليس من المصادفات أن تنزل الجنود الألمانية في مراكش الأسبانية في نفس الوقت الذي تتقدم فيه ألمانيا بمطالبها الاستعمارية إلى فرنسا وإنكلترا بصورة رسمية. وقد كانت ألمانيا تروج لمطامعها الاستعمارية منذ اشهر وينادي بها زعماء ألمانيا المسؤولون في شدة وصراحة؛ وقد أجابت فرنسا وإنكلترا غير مرة على لسان ساستها وصحفها انهما لا تفكران في النزول عن شبر من الأرض لألمانيا، ولكن ألمانيا لم تنثن عن ندائها ومطالبها؛ ومنذ أسابيع قلائل كان وزير الاقتصاد الألماني الدكتور شاخت يكرر هذه المطالبة بعنف وبشدة ويصرح بأن استعادة ألمانيا لمستعمراتها لم يبق مسألة(185/15)
كرامة فقط، وإنما أضحى ضرورة اقتصادية ترزح ألمانيا تحت عواملها المرهقة، وينذر أوربا بالانفجار إذا لم تعط ألمانيا حقها من المستعمرات والمواد الخام؛ ثم اتخذت ألمانيا بعد ذلك خطواتها الرسمية الأخيرة، بتقديم مطالبه الخاصة بالمستعمرات إلى فرنسا وإنكلترا، مقرونة بمناورتها البحرية في المياه الأسبانية الشمالية، وبمناورتها العسكرية في شمال مراكش
فهل تزمع ألمانيا أن تستغل هذه المظاهرات العسكرية لتحقيق مطامعها الاستعمارية؟ هذا ما نعتقد؛ ولقد جرت ألمانيا النازية في العهد الأخير على سياسة المجازفة والوعيد والتظاهر، وجنت ثمار هذه السياسة في نقض ميثاق لوكارنو، وفي تسليح منطقة الرين الحرام، وفي غيرهما، واستطاعت أن توقع بسياستها الخلاف في صفوف الحلفاء السابقين، واضطرت فرنسا أن تسلم بالأمر الواقع في هذه المسائل مع إنها مما يمس سلامتها؛ فهل تني فرنسا أمام الوعيد والتظاهر مرة أخرى؟ هذا ما لا نعتقد؛ ففرنسا تنظر إلى أعمال ألمانيا ومشاريعها في أسبانيا وشمال إفريقية بمنتهى التوجس؛ وألمانيا تصيب هنا نقطة حساسة جداً في السياسة الفرنسية، وقد ظهر اهتمام فرنسا واضحاً في ذهاب وزير حربيتها إلى شمال أفريقية ليتفقد أعمال الدفاع، وفي حركات أسطولها حيث تجتمع وحدات كبيرة منه على مقربة من المياه الأسبانية؛ وقد بادرت فرنسا بالاحتجاج لدى حكومة بورجوس على السماح للجنود الألمانية بالنزول في مراكش طبقا لما تنص عليه معاهدة الجزيرة من تحريم مثل هذا الأجراء؛ ومن المحقق أن فرنسا لن تتساهل على الإطلاق في مشاريع ألمانية في هذه الناحية خصوصا أن مراكش الأسبانية تقع وسط إمبراطوريتها الأفريقية كما إنها تشرف من جهة البحر على طريق فرنسا الإمبراطوري؛ وإنكلترا لا تستطيع مثل فرنسا أن تتسامح في وجود الجنود الألمان في هذه المنطقة على مقربة من ثغر سبتة المواجه لجبل طارق والذي يعتبر أهم من جبل طارق ذاته بالنسبة للأشراف على مدخل البحر الأبيض المتوسط، وقد بدأت إنجلترا مثل فرنسا في حشد جانب كبير من أسطولها على مقربة من المياه الأسبانية؛ فالسياستان البريطانية والفرنسية تجمعهما هنا سياسة موحدة، وتحدوهما إلى العمل المشترك بواعث مشتركة لا شك في خطورتها
والمعروف أن ألمانيا منذ قيام الحرب الأهلية ترنو إلى استغلال هذه الأزمة الأوربية(185/16)
الجديدة لمصالحها الخاصة، وأنها تحوم حول مراكش الأسبانية وجزر الكناري، كما أن إيطاليا كانت تحوم حول جزر البليار، ولكن إيطاليا انتهت إلى إدراك الحقائق الواقعة وآثرت أن تتفاهم مع إنكلترا، وأخذت في الواقع تخفف من تدخلها في المسالة الأسبانية وإن كانت في الظاهر تبدو مؤيدة لخطة ألمانيا. أما ألمانيا فقد اندفعت في خطتها إلى هذا المدى الذي يثير اليوم أزمة في منتهى الدقة والخطورة. وفرنسا لا تجهل البواعث التي تدفع ألمانيا إلى مثل هذه المغامرة، وهي تدرك تمام الإدراك أن من ورائها المسألة الاستعمارية برمتها؛ ولكنها على ما يفهم من تعليقات صحفها لا تنوي أن تنزل في هذا الموطن على وعيد ألمانيا ورغباتها؛ وكل ما هنالك أنها لا تأبى أن تبحث المسألة الاستعمارية على ضوء جديد، وأنها لا ترى مانعاً من تحقيق بعض رغبات ألمانيا في هذا السبيل إذا كانت ألمانيا تتعهد من جانبها بان تقف عند هذا الحد من تحقيق مطامعها، وأن تعود إلى حظيرة الدول الغربية لتعمل معها على تأييد السلام الأوربي؛ ويقتضي ذلك أن تخفف ألمانيا من حدتها العسكرية، وأن تعمل مع الدول الأخرى على تخفيض سلاحها؛ أما إذا كان قصد ألمانيا من الاستيلاء على المستعمرات هو بالعكس استثمارها لتوسيع مشاريعها العسكرية، فأن فرنسا تعارض كل المعارضة في استيلاء ألمانيا على شبر من الأرض يعاونها على تحقيق هذه الغاية. هذه النظرية الفرنسية كما تعرضها الصحف الفرنسية؛ أما إنكلترا فلم يتضح موقفها بعد في هذه المسألة تماماً، وإن كان ساستها المسؤولون قد أكدوا غير مرة إنها لن تنزل عن شيء من مستعمراتها
ومن المحقق أن تطور هذه الأزمة الجديدة يتوقف إلى حد كبير على تطور الحوادث الأسبانية ذاتها، وعلى نتائج المعارك التي تضطرم حول مدريد؛ فإذا كتب الفوز للثوار، فأن ألمانيا تزداد إصرار في سياستها ومشاريعها؛ وإذا كان الأمر بالعكس، فمن المحقق أن هذه المغامرة ألمانية تنهار في مهدها
وسنرى من جهة أخرى ماذا تستطيع الجهود السياسية أن تحقق في هذا السبيل
(* * *)(185/17)
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
تتمة
وبصرف النظر عن هذه الحملة الباطلة التي أثارتها عوامل الحقد والحسد والتي لم يكن لها أساس من الواقع والحقيقة في شيء، فأن الذي نحب أن نستخلصه من الأفكار السابقة هو أن السيد يلتقي مع الفارابي في نقطتين هامتين؛ فهو يوضح أولاً مهمة النبي الاجتماعية والسياسية، وهذه مسألة يعد الفارابي من أول من صوروها في الإسلام بصورة علمية نظرية، وربما تلخص كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) في إدعاء فكرة النبوة على أساس من (جمهورية) أفلاطون وعلم النفس عند أرسطو. والسيد وهو مصلح ديني وسياسي لا بد له أن يحتذي هذه الخطى ويسير على هذا النهج. ومن جهة أخرى لا يفوتنا أن نشير إلى أن النبي والحكيم يقتربان عند هذين المفكرين إلى حد كبير، فهما روح الجمعية ومبعث الحياة والإصلاح. نعم إن السيد يفرق بينهما من ناحية الكسب والعصمة، في حين أن الفارابي لم يوضح القول في الأول وأغفل الثانية بتاتاً، وبدا كأنه يسوى بين النبي والفيلسوف من جميع الوجوه. ولكن يجدر بنا ألا ننسى أن الفارابي كان يصعد بالحكيم إلى مستوى هو العصمة بعينها ولا يمكن أن يتصور فيه الزلل، ولهذا لم يفرق بينه وبين النبي في هذه النقطة. وفوق هذا فأن السيد إذا كان قد جهر بهذه التفرقة فهو متأثر بعصره وبيئته والحملات التي وجهت من قبل إلى البحث العقلي، لأنه يعود إلى موضوع الحكمة بعد سبعة قرون قضاها المسلمون في مطاردة الفلسفة والفلاسفة. فلم يكن في مقدوره أن يدعو للفلسفة دعوة صريحة ولا أن يثبت لها حقاً في الحياة مكتملاً من كل نواحيه. وكيفما كانت الفوارق بينه وبين الفارابي فمما لا شك فيه أنه قرب المسافة بين النبي والحكيم، وعدهما معا مصدر تقويم وإصلاح؛ وهاتان الفكرتان فارابيتان في أصلهما سواء أكان السيد قد استمدهما مباشرة من كتب الفارابي أم بالواسطة من مصدر آخر. وقد ساهم السيد في نصرة الفلسفة والأخذ بيدها وساعد على إحياء دراستها في الشرق بعد أن كان الناس قد(185/18)
انصرفوا عنها زمناً
ولم يكن الأستاذ في تأثره بالفارابي أقل وضوحاً من شيخه وصديقه السيد جمال الدين، فقد قرأ ابن سينا واشترك بنفسه في إحياء الدراسات الفلسفية القديمة المهجورة. وفي نشره لكتاب (البصائر النصيرية) ما يشهد بذلك. هذا إلى إنه وإن اشترك مع السيد في فكرة التجديد والإصلاح يخالفه في الوسائل الموصلة إلى ذلك. فبينما السيد مجدد طموح يريد الوصول سريعا وعن طريق السياسة، إذا بالأستاذ الأمام يعتقد أن طبيعة الأشياء تأبى الطفرة وأن الإصلاح يستلزم خطوات رزينة، وتدرجا معقولا، ودعائم مثبتة من الأخلاق والدين. لهذا اتجه أولاً وبالذات نحو التعاليم الدينية محاولا أن يصوغها في القالب الذي يتفق وروح العصر، وأن يصعد بها إلى ما كان عليه السلف الأول. فقد كان على يقين مما لحق الإسلام من أفكار فاسدة صورته بصورة معيبة شنيعة، ووضعت حجر عثرة في سبيل النهوض والتقدم. ولم ير بداً من محاربة هذه الأباطيل والترهات والقضاء على البدع والخرافات، والأخذ بيد التفكير الحر الطليق تحت راية الدين الصحيح؛ وأثره في هذه الناحية أوضح من أن ينوه عنه. وفي رأيه أن العلم والدين لا يختلفان مطلقاً، بل يجب أن يتضافرا على غاية واحدة هي تهذيب الإنسانية وترفيهها وإسعادها. فالدين يحول دون الإنسان والزيغ الذي يقود إليه عقل جامح؛ والعلم يوضح الأصول الدينية ويبين إنها لا تتنافى مع المبادئ العقلية. ولن نستطيع الإدلاء هنا بكل أفكار الأستاذ الأمام الدينية، وسنكتفي بأن نلخص رأيه في النبوة كي تتبين وجوه الشبه بينه وبين النظرية الفارابية
يقف الأستاذ الأمام على هذا الموضوع ثلث (رسالة التوحيد) المشهورة أو يزيد، وفيها يتحدث عن الرسالة العامة وحاجة البشر إلى الرسل وإمكان الوحي ووقوعه ووظيفة الرسل ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ويصرح بأن الإنسان مدني بطبعه محتاج إلى المخالطة والمعاشرة، وعلى كل فرد من أفراد الجمعية واجب يؤديه وحق يطالب به. بيد أن الأفراد قد يخلطون الحقوق بالواجبات، ويتهاونون فيما كلفوا به مسرفين كل الإسراف فيما يدعونه لأنفسهم من حقوق؛ فتعم الفوضى وينتشر الفساد، وتصبح الجمعية في حاجة ماسة إلى قيام بعض أفرادها هداة ومرشدين، يبينون للناس النافع والضار، ويميزون لهم الخير من الشر، ويعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يقفهم عليه من شؤون(185/19)
ذاته وكمال صفاته؛ وهؤلاء هم الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم. فبعثتهم من متممات كون الإنسان، ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع الإنساني منزلة العقل من الشخص؛ منحة أتمها الله لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وليس غريباً أن يختص الله بعض خلقه بالوحي والالهام، فقد سمت نفوسهم وأصبحوا أهلاً للفيض الإلهي والكشف الرباني؛ وبديهي أن درجات العقول متفاوتة يعلو بعضها بعضاً، ولا يدرك الأدنى منها الأعلى إلا على وجه الأجمال. وليس هذا التفاوت نتيجة الاختلاف في التعليم فحسب، بل كثيراً ما كان أثراً من آثار الاختلاف في الفطرة التي لا تخضع لقوانين الكسب والاختبار؛ ولا يزال المرء يرقي في الكمال حتى يبدو البعيد له قريباً، وتتفتح أمامه حجب الغيب. يقول الأستاذ الأمام: (فإذا سلم ولا محيص من التسليم بما أسلفنا من المقدمات فمن ضعف العقل والنكول عن النتيجة اللازمة لمقدماتها عند الوصول إليها ألا يسلم بان من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأفق الأعلى وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا، وتشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إلى تعقله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحاً على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعاليم)
لا نظننا في حاجة أن نشير إلى أن كثيراً من هذه المعاني التي يرددها الأستاذ الأمام قال بها السيد جمال الدين. فمهمة النبي في رأيهما أخلاقية واجتماعية، ووظيفته تنحصر في تربية الشعوب والسير بها نحو الطريق القويم. وإذا كان السيد قد اعتبر النبي روح الجمعية الإنسانية فالأستاذ الأمام عده عقلها. ولا نظننا مغالين إذا قلنا إن الأمام يعود بنا إلى عصر الفارابي وبن سينا اللذين كانا يفسران النبوة تفسيراً علمياً سيكولوجياً. وهو يميل دائماً كما قدمنا، إلى أن يرجع التعاليم الإسلامية إلى الحال الزاهرة التي كان عليها السلف الأول؛ وفي كثير من آرائه ما يقربه من هذين الفيلسوفين وما يدفعنا لأن ندرس العلاقة بينه وبينهما في شكل أكمل وعلى صورة أوضح. فهو يقرر مثلهما أن التعاليم والأوامر الدينية يراد بها الشعوب وعامة الناس في حين أن الفلسفة إن صلحت غذاء لطائفة معينة فليس في مقدور الجميع استساغتها. ويقول بالأسباب الطبيعية التي أنكرها أهل السنة ملاحظاً، كما لاحظ فلاسفة الإسلام من قبل، إنها لا تتنافى مع قدرة الله واختياره في شيء. وفي اختصار(185/20)
يتفق الأستاذ الأمام مع الفارابي في محاولته التوفيق بين العقل والنقل، بين العلم والدين. وهذه المحاولة تدور عادة حول نقط تكاد تكون محدودة، ولعل هذا هو السبب الذي قرب المسافة في بعض المسائل بين هذين المفكرين
تتبعنا في كل ما سبق نظرية النبوة الفارابية منذ نشأتها، أعني في القرن العاشر الميلادي، إلى أن وصلنا بها إلى أوائل القرن العشرين؛ ونأمل أن نكون قد وفقنا لبيان أثرها في الشرق والغرب، في التاريخ المتوسط والحديث؛ ونعتقد أن في هذا ما يحفزنا إلى إخباء الدراسات الفلسفية الإسلامية، فقد ثبت أن هناك صلة بين أفكار اليوم والأمس، وفي أبحاث القرون الوسطى، كما لاحظ ليبنتز، درر نفيسة لا يصح إغفالها. على أن نهضتنا العقلية والفكرية لا يمكن أن تؤسس على أساس صالح إلا إن ربط فيها الحاضر بالماضي واتصلت سلسلة التفكير الإسلامي الصحيح؛ ولنا في الأستاذ الأمام والسيد جمال الدين أسوة حسنة
إبراهيم بيومي مدكور(185/21)
في الأدب المقارن
النسيب في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الجمال هو مادة الفن، والتأثر به هو وحي الأديب، والتعبير عنه هو رسالة الأدب، سيان جمال الطبيعة والجمال الإنساني؛ وأصدق مقياس لرقي الأدب وحيويته حسن تعبيره عن الفتنة بهذين الضربين من الجمال، وأدق برهان على رقي المجتمع وصحة بنيته حفول أدبه بالتعبير الصادق عن الشعور الحار بفتنة الجمال في مظهريه. والأديب الموهوب لا مندوحة له عن الإتيان بشيء جليل في بابي الوصف الطبيعي والنسيب، مهما كان حظه من سائر ضروب القول؛ فالجمال الطبيعي والجمال الإنساني هما لباب الفن وصميمه، وما عدا ذلك نوافل وفضول
والنسيب لا يزدهر إلا في مجتمع توفرت له شروط خاصة: في مجتمع على جانب من الثروة لا هو إلى الترف ولا هو إلى الفاقة، على جانب من الخلق العظيم لا هو إلى النعومة والضعف ولا هو إلى الجلافة أو التزمت، على حظ من حب المغامرة لا فانٍ في حروب متواصلة ولا خانع قابع، في منزلة من الحضارة والرقي العقلي بين الهمجية والتوحش، وبين الإغراق في التقاليد المملوءة بالنفاق: ففي المجتمع الفقير يشتغل الأفراد بكسب القوت عن الترنم بعواطف النفوس، وفي المجتمع المترف ترذل الأخلاق وتدنس العلاقات، والتزمت أو التشدد الديني يخفت صوت العواطف، وكذلك تخفته التقاليد الحمقاء الشديدة الوطأة، كما أن عصور المغامرة هي شباب الأمم التي تحس فيه بكل نوازع الشباب، من حب الجمال والشغف بالعظائم
وقد تحققت هذه الشروط إلى مدى بعيد في العربية في العصر الأموي: ففيه كانت الأمة العربية على جانب من الثروة والرقي العقلي والسمو الخلقي وحب المغامرة: قد ورثت أخلاق البادية المتينة وصقلتها الحضارة ولم تفسدها بعد، وأصابوا من ثروة الأمم التي أدانوها، وما زالوا مجاهدين متأهبين للجلاد، فلا غرو ارتقى النسيب في هذا العصر؛ وكان قد بلغ في الجاهلية درجة عالية من الرقي، فأصاب في العصر الأموي غاية رقيه؛ وكان ذلك العصر عهده الذهبي في العربية، ففيه نبغ من شعراء النسيب جميل وكثير وقيس،(185/22)
وجم غفير منهم عروة بن حزام وبن الدمينة وأبو صخر الهذلي وبن الطثرية
امتاز نسيب هذا العصر بخير ما يمتاز به النسيب: صدق شعور، وحرارة عاطفة، وجزالة نسج، وعفة مقال، وحسن بيان لمظاهر الحب وخفاياه وأحواله، وحسن وصف لجمال المحبوبة الجسمي دون إغفال لجمالها النفسي. ومن عجب أن جيلاً نبغ فيه من ذكر كان يصغي في نفس الوقت إلى الأخطل والفرزدق وجرير وهم يتشاتمون؛ ونبه شأن هؤلاء حتى كادوا أن يخملوا الأولين، مع أن جميلا وعروة وأمثالهما كانوا يترنمون بعواطف إنسانية نبيلة، والآخرين كانوا يتقاذفون بالأوضار! ومن بديع النسيب المتخلف عن هذا العصر قول قيس بن ذريح:
نهاري نهار الناس، حتى إذا دجا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أفضّي نهاري بالأحاديث والمنى ... ويجمعني بالليل والهم جامع
وقول ابن الدمينة:
لك الله إني واصل ما وصلتني ... ومثن بما أوليتني ومثيب
وأخُذُ ما أعطيتِ عفواً وإنني ... لأزورُّ عما تكرهين هيوب
وإني لأستحييك حتى كأنما ... عليَّ بظهر الغيب منك رقيب
تصرم ذلك العصر تدريجياً، ودخل عصر الترف والمجون والملكية المطلقة ذات الأبهة، فلم يعد المجتمع يصلح للحب الصادق، ولا الأدب يتسع للتعبير الصادق عن الحب: فقد ضعفت الأخلاق وانتشرت المفاسد، واشتد تأثير الجواري في المجتمع. وتقلصت مكانة الحرائر وضرب عليهن حجاب الجهل. وفي ذلك الجو الخليع تفشو الغواية والشهوة، ولا يفشو الحب العذري الحار؛ فالحب الصادق لا يكون، والنسيب الرائع لا يزدهر، إلا حيث جمال وحيث عفة، كما قال العذري؛ أما حيث تقع الجارية من نفس الرجل فيشتريها بماله ويصيرها في عداد ممتلكاته، فلا يكون ذلك
وذهب عهد المغامرة والجلاد وتلاه عهد الشيخوخة والوهن وكفت الأمة العربية عن الحرب، وأقيم عليها المرتزقة من الترك والعجم، وخمدت العزائم، واستخذت النفوس تحت جبروت الملكية المطلقة وعمالها الغاشمين الذين أفقروا الأهلين بمفارمهم، فأنصرف الناس إلى طلب القوت وحرصوا على المادة؛ ولم يعد الحب إلا اسماً يذكر، وطيفاً يتوهم، وأنيناً(185/23)
موصولاً وعويلا، وتصابياً كتصابي الشيوخ؛ أما صدق الشعور بالحب والتقلب في أحواله وأطواره، فقد انقضى بانقضاء شباب الأمة
أما الأدب فسرعان ما داخله التكلف في ظل الملكية ذات الصلات، وتوفر الشعراء على المديح؛ وبدل أن يبتكروا جديداً انصرفوا إلى معارضة معاني الأقدمين في المدح والنسيب. ومن ثم انقسم شعراء العصر العباسي فريقين: فريقاً انغمس في تيار الشهوات وملأ شعره بوصفها، كبشار وأبى نؤاس اللذين أوغلا في الباب الذي كان فتحه ابن أبي ربيعة في العصر السابق؛ وفريقاً كان أنقى صفحة وأعف طبعاً فلم يجر إلى ذلك المدى، ولكنه لم يودع شعره وصفاً صحيحا صادقاً لعواطفه وغرامه كذلك الذي توفر عليه جميل ومعاصروه، بل اكتفى بالنسيب الاستهلالي التقليدي الذي تتكلف فيه البراعة وتتوخى المحسنات البديعية؛ ومن ثم لا نرى في أشعار البحتري والطائي والشريف ومهيار وصفاً صادقاً حاراً لغرامهم. ومن الخطأ الشديد حين الكلام على النسيب في العربية أن نخلط نسيب هذا العصر الاستهلالي التقليدي بنسيب العصر الماضي الصادق الحي.
وقد شهد النسيب في الإنجليزية عصوراً مشابهة لهذه وإن جاء ترتيبها مختلفاً: فأما العصر الذهبي للنسيب في الإنجليزية فهو العصر الاليزابيثي الذي توفرت فيه الشروط السالفة الذكر، فكان عهد شباب وطموح ومغامرة، فيه ثروة ونهضة وعقلية وخلق متين؛ ومن ثم حفل مجتمع ذلك العصر بأحاديث الحب؛ وكانت قدوة الشعب ملكته التي كانت على جانب عظيم من الجمال والثقافة، يحيط بها طائفة من الفرسان البواسل، يتقربون إليها بتدويخ أعدائها ومد سلطانها براً وبحراً؛ ومن ثم ازدهر النسيب في أشعار شكسبير وسبنسر وبن جونسون وغيرهم
وفي العصر التالي خمد النسيب حيناً بتغلب طائفة المطهرين المتشددين الذين حولوا المملكة إلى صومعة يسودها الوقار والكآبة، وحرموا شتى المتعات والمسرات، حتى قيل إن سبب تحريمهم قتال الديكة - وكانت تلك تسلية معروفة إذ ذاك - لم يكن رغبتهم في الرفق بتلك الطيور، بل حرصهم على حرمان الناس السرور والتمتع. وقد ركد النسيب كذلك ركوداً طبيعياً لم يفرضه عليه أحد، في صدر الإسلام حين امتلأت النفوس برهبة الدين وانصرفت الهمم إلى جهاد أعدائه(185/24)
وتلا عصر المطهرين في إنجلترا عصر ترف وفساد، جاء رد فعل للعصر السابق، فرانت الشهوات في المجتمع، وشاع الفجور في الأدب، كالذي كان في العصر العباسي، ثم زايلت المجتمع والأدب تلك اللوثة رويداً رويداً خلال القرن الثامن عشر. على أن النسيب لم يزدهر ثانية خلال ذلك القرن لأقفاره من روح المغامرة والطموح، وتقاعد رجاله في المدن وتزاحمهم في المنتديات التي شاعت إذ ذاك. ومن أهم ما يعاب على شعراء ذلك العصر أمثال بوب وأديسون وجونسون خلو شعرهم من آثار الفتنة بالجمال في مظهريه الطبيعي والإنساني
وإنما ازدهر النسيب وحفل الأدب بوصف فتنة الجمال بانبعاث النهضة الرومانسية، التي انصرف رجالها إلى الطبيعة والتفتوا إلى الماضي الحافل بحوادث البطولة، فكان جميع رجالها كوردزورث وكولردج وكيتس وشلي مغرمين غراماً شديداً بمحاسن الطبيعة ومفاتن الجمال الإنساني. ولكيتس في ذلك أقوال جرت مجرى الأمثال، كقوله: (الشيء الجميل هو حبور لا ينقضي) وقوله: (الجمال هو الحق والحق هو الجمال؛ هذا كل ما هنالك، وهذا كل ما يعنيك أن تعلمه)
والحق أن النسيب في الإنجليزية مقرون غالباً بالوصف الطبيعي، لشعور الأدباء البدهي بما بين الأمرين من صلة وثيقة؛ فالطبيعة غالباً هي المنظر الخلفي للصورة التي يرسمها الشاعر لموقف الحب الذي يريد رسمه، كما يتخذ المصورون مظاهر الطبيعة من بحر أو غاب أو أفق مناظر خلفية لما يصورون من وجوه أو أشخاص آدميين. والطبيعة هي التي تمد الشاعر الإنجليزي بالأوصاف والتشبيهات التي يمثل بها حبيبته وعاطفته؛ وظواهر الطبيعة هي الرسل الأمينة بينه وبين محبوبته، وهي أيضاً الوحي الذي يوحي إليه فلسفة الحب التي ينسجها لنفسه
فشلي مثلاً يقول: (النافورات تمازج النهر، والنهر يمازج المحيط، ورياح الفضاء تمازجها دائماً روح عذبة، ولا شيء في العالم يمضي وحيداً، بل كل الأشياء مطيعة لقانون إلَهي يمازج أحدها الآخر، فلم يشذ كلانا؟) ومارلو يقول: تعالي سويا وكوني لي، كي نستوعب كل المتعات التي يحبونها بها التلاع والسهول والوديان والحقول والجبال الوعرة) وتنيسون يقول: (ما بالها تتباطأ في إسباغ الحب على قلبها تباطؤ الوريقة على الغصن في اكتساء(185/25)
الخضرة وقد اخضر جميع الغابة؟) ووولر يقول: (اذهبي أيتها الوردة الجميلة إليها، إلى تلك التي تضيع وقتها ووقتي، والتي تعلم حين أشبهك بها كم هي تبدو لي جميلة جذابة. أخبريها - تلك الصغيرة التي يأبى لها الخفر أن يطلع إنسان على مفاتنها - أنك لو نبت في القفار الموحشة لذويت دون أن يطري جمالك إنسان؛ ثم موتي أيتها الوردة كي تقرأ فيك النهاية المحتومة لكل غال عزيز، وتعلم قصر المدة التي يحظى بها كل جميل جذاب)
ولولوع أدباء الإنجليزية بالفنون الجميلة، وشمول نظريتهم إلى شتى مظاهر الجمال وأحواله ووسائل التعبير عنه، كانوا كثيراً ما يمزجون جميع ذلك في مقطوعة واحدة من شعر النسيب. فشلي يقول مثلاً: (إن رجع الألحان بعد خفوت الصوت يبقى مردداً في الأفئدة، ولنشر البنفسج بعد موته طيب في الأنوف، وأوراق الورد بعد ذبولها تنثر على فراش الحبيب، وكذلك ذكرياتك تظل بعد ذهابك ماثلة)، وكولردج في قصيدته (الحب) يصور موقفه مع حبيبته حيال تمثال فارس مدجج تستند إليه محبوبة الشاعر، ثم يمضي يقص حكاية غرام ذلك الفارس في سالف الدهر في أسلوب خيالي عذب، مازجا وصف عواطف الفارس بوصف عواطفه هو نفسه
وفي النسيب في العربية شيء من ذكر الطبيعة ولكنه ضئيل. وقد كانت الطبيعة على العموم مهضومة الجانب في الأدب العربي، كما مر ذكره في كلمة سابقة؛ ولم يخفق الأدب العربي في عصر من عصوره بمثل ذلك الحب الحار الذي خفق به للجمال الإنساني، في معالجته للوصف الطبيعي؛ إنما جرت عادة شعراء العربية على تحميل الرياح سلامهم، ودعاء الغيث إلى سقي منازل أحبابهم، ومناجاة الحمائم والتشاؤم بالغراب، وتشبيه لواعجهم بلواعج الإبل أو القطا لفقد صغارها وأُلافها، كما كانوا يغبطون الوحش الآمن في سربه المهنأ بألفه كما قال أبو صخر الهذلي:
لقد تركتْني أغبط الوحش أنْ أرى ... اليقين منها لا يروعهما الذعر
أما مناظر الطبيعة: أشجارها وأزهارها، والامتزاج الروحي بكل ذلك، فقليلة الأثر في الشعر العربي عامة وفي النسيب خاصة؛ فبينا نجد الشاعر الإنجليزي حين يتأنق في تصوير أقصى مناه يتصور نفسه ومحبو بته يجوسان بين الخمائل والغدران، نجد الشاعر العربي الذي تعود حياة المدينة واستمرأ معيشة الحضارة، لا يتصور اللقاء إلا في الدار،(185/26)
ولا يقابل حبيبته إلا في المجالس والمحافل والمآتم والحج، كما قال أبو حية النميري:
رمَتْه أنآه منَ ربيعة عامر ... نؤومُ الضحى في مأتم أي مأتم
وكما قال كثير:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسَّح بالأركان من هو ماسح
نقعنا قلوبا لأحاديث واشتقت ... بذاك نفوس منضجات قرائح
وكما قال ابن الرومي:
يا ليت شعري هل يبيت معانقي ... ويداي من دون الوشاح وشاحه؟
وقد يتفق النسيب العربي والنسيب الإنجليزي من بعض الوجوه: ففي كليهما استعار الشعراء أحياناً أسماء خيالية تكتماً وتعمية عند التحدث عن حبائبهم: ففي العربية فشت أسماء هند وليلى وسعاد مأخوذة عن العرب المتقدمين، وفي الإنجليزية استعملت أسماء جوليا وإلكترا وثيرزا منقولة عن الأدب الكلاسي؛ وفي كلا الأدبين اشتهر نفر من رجال الدين برقة النسيب والبصر بملابسات الحب: ففي الإنجليزية كتب دن وهربرت وسويفت وغيرهم قطعا من أصفى وأنقى ما كتب في النسيب، وفي العربية أثر عن عروة ابن أذينة الفقيه نسيب رائع اشهره أبياته التي مطلعها (إن التي زعمْت فؤادَك ملَّها)، وألف ابن حزم وهو فقيه من بيت فقهاء كتاب (طوق الحمامة) يفصل فيه أطوار الحب ونوازعه، ويبرهن على نظرياته بتجاريبه الخاصة
وقد تناول الأدبان شتى أغراض النسيب بين فارحها وحزينها، وبين الذكريات والآمال، وبين طرب اللقاء ولوعة الفراق، وبين التوجع لغدر الحبيب ولتفجع لوفاته؛ بل تتماثل في الأدبين معان كثيرة جدا من معاني النسيب: فقول الشاعر العربي: (أسرب القطا هل من يعير جناحه؟) له نظير في مقطوعة تنيسون (إلى الخطاف)، وقول كراشو: (وجه لم يصنع من دكان غير ذلك الذي تفتحه يد الطبيعة البيضاء على مصراعيه) شبيه بقول جميل: (إذا ابتدلت لم يزرها ترك زينة)، وقول تنيسون من قصيدته (مود): (لو كنت فانياً منذ قرن لسمع قلبي خطاها على رقتها، ودق وخفق تحت قدميها، وارتد زهراً احمر قانياً) يشبه قول توبة الحميري:
ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت ... عليَّ ودوني جندل وصفائح(185/27)
لسلمتُ تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
واختص الأدب العربي بمواضيع احتفى بها وأدمن طرقها، وكان أكثرها وليد خصائص بيئته، وقلما التفت إليها الشاعر الإنجليزي: كالوقوف بالأطلال، ومناجاة الأطياف، ووصف نحول الجسم وذم المشيب الذي يقعد عن المتعات ويروع الغانيات، والشكوى من الواشي والرقيب والعذول؛ وهذا الأخير راجع إلى انتشار الحجاب وحظر الاختلاط بين الجنسين إلى حد بعد أو قرب في مختلف عصور العربية. وهو أمر جعل مسحة الحزن ولتفجع اظهر في النسيب العربي منها في الإنجليزي، إذ لا مانع في المجتمع الإنجليزي من الاختلاط، ولا رقيب سوى الخلق القوي؛ وكان الشريف الرضي عني هذه الحال في المجتمع الإنجليزي بقوله:
عفافيَ من دون التَّقيَّةِ زاجرُ ... وصَونكِ مِن دون الرقيب رقيب
يختلف النسيبان من هذه الوجوه، ويختلف أدباء كلا الأدبين بعض الاختلاف في النظر إلى الجمال، لاختلاف البيئتين وأثر ذلك في تكوين الجسم: فالأديب العربي في بيئته الحارة يشبب بالعيون الدعجاء والحوراء، والشعور السوداء الاثيثة، والجفون المريضة، والجسم الممتلئ ونؤوم الضحى، على حين يهم الشاعر الإنجليزي بالشعور الشقراء يشبهها بالثلج نقاءً، ويهوى زرق العيون وينفر من الحدق النجل؛ والأديب العربي يشبب بكاعب (بنت عشر وثلاث) كما قال بشار، ولا تكون مثل هذه في الجو الإنجليزي إلا طفلة غريرة؛ والشاعر الإنجليزي آخر من يعجب بصاحبة الشاعر العربي التي يصفها بقوله:
أبتِ الروادف والثديُّ لقمصها ... مسَّ البطون وأن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشيَِ تناوحت ... نبهن حاسدة وهِجنَ غيورا
يختلف النسيبان من وجه آخر أهم كثيراً: ذلك أن النسيب كسائر فنون القول في الأدب العربي التزم طريقة التعبير المباشر، يعبر الشاعر عن إحساسه الفردي تعبيراً صريحاً ثم لا شان له بسواه، كما عبر جميل عن حبه لبثينة، وتوبة عن حبه لليلى؛ أما في الإنجليزية فيقوم بجانب هذا الضرب المباشر من التعبير ضرب غير مباشر، فيه يتحدث الشاعر عن شعور سواه بالجمال، ويصف جمال غير محبوبته، ومجال ذلك الروايات التمثيلية كروايات أنطوني وكليوباترا لشكسبير، والقصص كقصص وسكس لهاردي، ففي هذه وتلك يصور(185/28)
الأديب عواطف غيره ومواقفهم، مازجا ذلك بلا ريب بعواطفه ومواقفه، مسبغاً على إنشائه ثوباً رائعاً من الخيال
وفي العربية شيء من القصص أولع بتأليفه بعض المتأخرين من الكتاب كابي الفرج الببغاء؛ غير أنه بدائي سطحي مشوب بلوثة الترف والشهوة. وأحسن ما في العربية من وصف للحب وأطواره هو النسيب الشعري؛ فالشعر لموسيقاه واختيار ألفاظه وأخيلته خير معبر عن الشعور الفردي المباشر؛ فالشعر في العربية دون النثر هو المستأثر بالتعبير عن الحب؛ أما في الإنجليزية فللنثر نصيب من ذلك تزايد بانتشار الرواية التمثيلية وذيوع القصة، حتى ليكاد بفضل الأخيرة يغلب الشعر على مكانته من نفوس القراء، لما يستطيعه دون الشعر من التحليل المسهب الدقيق، والحركة المستمرة، والوصف المستوعب لدخائل النفوس وأطوار الحب. مواقف الغزل، حتى ليستطيع القصصي البارع أن يبكي قراءه ويمزج نفوسهم بنفوس أشخاص قصته، ويجعلهم يتمثلونهم أحياء ويذكرونهم مدى حياتهم كأنهم أصدقاء قدماء قد فقدوهم
ومن ثم نرى أن أعلام الغرام المذكورين في الأدب العربي، والذين تتخذ أسمائهم رموزاً للحب، وتضرب أمثالاً في الهيام، هم الأشخاص الحقيقيون الذين عاشوا وسجلوا قصة غرامهم بأنفسهم في أشعارهم وحدثتنا عنهم كتب الأدب؛ كعنترة وعبلة، وجميل وبثينة، وتوبة والأخيلية، وبن زيدون وولادة، على حين نرى في الإنجليزية أن أعلام الغرام الذين تضرب بهم الأمثال ويجري ذكرهم على الألسنة هم الأشخاص الخياليون الذين اخترعتهم مخيلة الأدباء، مثل روميو وجوليت، وعطيل وديدمونة، وأوفيليا وهملت، نعرف كل أولئك وهم من ابتداع شكسبير، ولا نعرف إلا الشيء القليل الغير المستيقن عن محبوبته (الحسناء السمراء) ولم ينفرد القصصيون بذلك الابتداع وذلك التعبير المباشر عن مظاهر الحب، بل جاراهم الشعراء: فمعظم شعراء الإنجليزية الذين تناولوا الحب في شعرهم تغنوا بالجمال الإنساني على إطلاقه، ولجئوا إلى الخرافات اليونانية أو أساطير عهد الفروسية، ينتخبون منها من وقائع الغرام بين بواسل الأبطال وفاتنات ربات الحجال ما يصوغونه شعراً سلساً، يضفون عليه ثوبا رقيقاً من الخيال، ويودعونه شغفهم المطلق بالجمال غير مقصور على امرأة واحدة، ولا على الوجه الإنساني، بل شاملاً لمحاسن الطبيعة أيضاً(185/29)
ولهذا الضرب من الشعر النسيبي مزايا جمة: ففيه إمتاع للخيال وإثارة للطرب، وإشباع لحب الجمال على إطلاقه؛ وهو منزه عن الغرض الشخصي وعن ريبة الشهوات تنزيهاً تاما؛ وهو يجعل من الحب والجمال والبطولة والمرأة مثلا عليا تهفو إليها النفوس، ويمنح المؤلف والقارئ معاً جواً من النقاء والسمو كثيراً ما يعوزنا في الحياة الواقعة، وفي ذلك عزاء للنفس عن نقائص الواقع المجرد وأوشاب الحياة التي قلما تتعلق بالكمال
فالأدبان العربي والإنكليزي فرسا رهان في مضمار النسيب، قد وعيا من آثاره سجلاً حافلاً يصور فتنة النفس الإنسانية بالجمال الإنساني؛ يتمثل ذلك في العربية في بعض شعر الجاهلية، وبالأخص في شعر العصر الاموي، وبذلك النسيب الأموي يعتز الأدب العربي ويفاخر أول ما يفاخر، لصدق ما فيه من شعور يعوز شعر العصور التالية، ونبل ما فيه من غرض يباين غرض أشعار المديح والهجاء، وجزالة ماله من أسلوب يزدري أسلوب الصناعة والمحسنات التي داخلت الشعر بعده، وذلك الأدب النسيبي لم ينل حقه من التقدير والاهتمام بعد، وأولئك الشعراء الناسبون لم يتبوءوا مكانهم الجدير بهم في الأدب العربي
فخري أبو السعود(185/30)
جي دي موباسان
1850 - 1893
بقلم محمد سليمان علي
حياته:
ربما ظل جي دي موباسان كاتباً خامل الذكر في القسم المدني الفرنسي طيلة حياته لولا إيحاء جوستاف فلوبير. فقد اكتشف الروائي العظيم مخايل النبوغ في الطالب الذي كانت غايته من الحياة الدنيا على حد اعترافه أن يكون (حيواناً كامل الصحة) والذي أطلق وهو في الثالثة عشرة على الدين أسم (اللاشيء الأبدي)
وكانت أمه تعتزم أن تجعل منه مؤلفاً نابهاً. وربما كان فلوبير باعث هذا الأمل، فقد كان يعرف لورا موباسان قبل زواجها من جستاف دي موباسان الفتى المتأنق الذي هجرها بعد أن جردها من كل شيء. وكان فلوبير ولورا يتراسلان بلا انقطاع، فكان يسدي النصح إليها فيما يختص بتربية ابنيها هرفيه وجي. ولقد كان لهما بمثابة الأب الناصح على نقيض أبيهما الذي كان يتجنب المسؤولية ويحب اللهو، حتى حرم بإسرافه ابنيه من فرصتهما في الحياة. ولقد كان (جي) وهو صبي (كجواد طليق في أحد الحقول)، وفي (اللبسيه امبريال نابليون) برع في الرياضة والسباحة، والنكات العملية الأنيقة؛ وفي الثالثة عشرة كان فلوبير يقرأ المحاولات الأولى في الشعر لمتبناه
وبعد أن غادر موباسان المدرسة بدأ يدرس القانون، غير أن المال أعوزه فلم يتم الدرس، واضطر أن يلجأ إلى حمى الوظيفة التي كانت غاية الوقار والأمان عند أسر الطبقة الوسطى. وكان موظفاً قديراً. وظل سنين عدة في منصب مغمور، يتناول مرتباً ضئيلاً لا يكفي رغباته المسرفة. ولكنه لم يتعجل لتعزيز وسائله بالكتابة، أللهم إلا بضع مقالات لجرائد ومجلات أدبية. فقد كانت يد حكيمة، قائدة، تسدد مستقبله الأدبي. وكان يرد على إلحاح أمه إذ تطلب منه قطعاً رائعة: (لم يحن الوقت بعد. إنني أتعلم صناعتي) وكان يكتب بعزم دون كلل، ويعرض كل سطر على فلوبير ليصححه أو يكتبه له من جديد، وما اشتكى موباسان قط ولا كد نفسه(185/31)
واستمرت تلمذته ثلاث عشرة سنة تلاها عشر من الغنى والمجد. ولما تخلص من خمول الوظيفة، وأصبح سمير الأبهاء الفرنسية، تعطش للنجاح، بيد أنه على أثر سقوطه النسبي كمؤلف مسرحي اعتراه ذلك الأسى الذي ألقى ظلاً قاتماً على الجزء الأخير من حياته. (فالتكرار) وهي المسرحية التي كان بها جد فخور، لم تمثل إلا بعد إحدى عشرة سنة من وفاته
وقد انتصر الكاتب على حساب (الحيوان كامل الصحة)؛ فقد كان من مغامراته أن يلقى بنفسه في السين وهو في لباسه ليدهش مواطنيه الباريسيين المتكلفي الاحترام، وأن يصطاد في الهواء والماء، وان يلاكم ويبارز بالسيف، وأن يجوب البلاد والأمصار. إلا أن حياة الحيوان في دي موباسان لم تكن في واقع الأمر في حدود الصحة، فقد فرط في قواه الجسمانية، وعبث بالصحة التي كان يقدرها فوق كل شيء. ولقد قدر (لثور بريتاني) كما كانوا يدعونه لضخامة جسمه أن يجلس في تراخ في الأبهاء بحكم عمله؛ ومع حبه للأدب كان نظره الضعيف يعوقه عن القراءة. وفي شبابه كان في سن تؤهله للاشتراك في الحرب الفرنسية الألمانية عام 1870، ولكن نفوذ من يهمهم مستقبله الأدبي كان سبباً في تعيينه في قسم المؤونة بعيداً عن معمعة القتال. وكان كبسترندبرج يحتقر النساء، ولكنه لم يكن يستطيع العيش دونهن
وكان في أسرته جنون وراثي؛ فبعد أن أصيب أخوه في قواه العقلية ثم موته، علم موباسان أنه محكوم عليه بتلك النهاية، وكانت حالته معقدة، وأغلب الظن إنها لو فحصت في البداية لكان في الإمكان إنقاذه. ولن يعادل ما وضع من السخريات في قصصه تلك السخرية التي إصابته في السنين القلائل الأخيرة من سني حياته، حينما انحطت قواه العقلية بسرعة. وحقاً لقد كان استمراره في الكتابة نتيجة لأرادته الحديدية وقوته الشديدة!
وفي ذات يوم وهو يغادر مكتبه التفت فابصر نفسه مازال جالساً إلى مكتبه هذا، وزادت أخيلته سوءا وأخذت أشكالاً مخيفة؛ ولم يكن هناك أمل بعد؛ غير أن الساخر الذي لم يكن يعتقد في فضيلة من الفضائل ظل يغالب الأمل، وفي الدرجات الأخيرة من مرضه كتب إلى أمه يخبرها أنه في تحسن ظاهر: فالعقل في داخليته مازال يستطيب الحياة ويقدر الشمس والسباحة والرياضة(185/32)
وحاول بمعونة فرانسوا خادمه الأمين الذي ظل سنوات عدة صديقه المخلص أن يفر من النساء المعجبات به اللاتي لم يتحققن أنه هالك، ولاسيما إحداهن وهي امرأة غامضة؛ وقد حاول بعد زيارة فجائية منها أن يطلق الرصاص على نفسه، لكن فرانسوا اليقظ كان قد اتخذ الحيطة فأخرج الرصاص من الغدارة. وبعد محاولة أخرى للقضاء على حياته نقل إلى مستشفى المجانين حيث ظل في راحة لا يذكر شيئاً ولا يحس شيئاً سوى تلك التأملات المبهمة التي يراها من فقد قواه العقلية بلا أمل
فنه:
لو طلع إنسان على نخبة من قصصه دون إلمام بالتواريخ والأحوال والنظريات، لاستطاع دون عناء أن يستنتج أنه كتب حين كانت مرارة الهزيمة في حرب السبعين ما زالت تلقى على فرنسا ظلاً عبوساً، وأنه كان رجلا مكنته وسائله وأخلاقه من الاختلاط بالأوساط الخاصة إلا أن النصيب الأعظم من عطفه الغريزي كان للفلاحين والفقراء، وأنه كان مشغولا بمعضلة البغاء، وأنه مع كل عظمته كفنان كان في استثماره تلك المعضلة لمؤثرات عاطفية ظاهرة يهبط أحياناً إلى درجة الإسفاف
وقصص موباسان جيدة. فالموضوع جذاب مشوق حتى ليجذب الانتباه لو حكي على مائدة الأكل، وهذه ميزة يعتد بها، فمهما كانت كلماتك متقطعة، وسردك فاتراً ضعيفاً، فلن تخفق في إثارة اهتمام سامعيك إذا قصصت عليهم القصة العارية في (بول دي سويف) أو (الميراث) أو (القلادة) فهذه القصص لها بداية ولها وسط ولها نهاية. فليست تهيم في خط متردد لا تستطيع أن تعرف أين تنقاد، ولكنها تتبع من المقدمة إلى النهاية منحنيا قويا جريئا
وربما خلت قصته من المعنى الروحي. ولم يرم موباسان إلى ذلك، فلقد كان ينظر إلى نفسه كرجل عادي. ولم يدع الفلسفة وحسنا فعل، لأنه حين يندفع في التأمل يصبح سطحياً. ولكنه مبدع في حدوده. وحقاً لقد كانت له مقدرة عجيبة في خلق أشخاص يزخرون بالحياة؛ وقد يضيق بالإيجاز، ولكنه يستطيع في صفحات قلائل أن يعرض أمامك ستة من الرجال في صورة واضحة حتى إنك لتعرف كل ما تحتاج عنهم فضلاً عن أن حدودهم ظاهرة، ومزاياهم واضحة، وأنهم يتنسمون أنفاس الحياة، وقد خلوا من التعقيد ومن التردد ومن المفاجآت ومن الغموض الذي نراه في الآدميين(185/33)
فصور أشخاصه بسيطة إلا أن هذه البساطة غير متعمدة، فعيناه الحادتان كانتا تريان بوضوح وإن كان على عمق غير بعيد. ولقد كانتا فرصة سعيدة أن تريا ما هو ضروري للفكرة التي يرمي إليها. فهو حقاً يضع عينه على المرمى الذي نصبه أمامه، ولكنه ما كان يستطيع أن يرى أكثر من مرمى واحد في وقت واحد. فالمنظر الواحد، والجو المفاجئ، والباعث القاهر، كانت قوام مادته. وهذا هو السبب في أنه لم ينجح في القصة الطويلة كما نجح في القصيرة. ويقول موباسان: (الفنان يحاول أن ينجح أو يخيب، والناقد لا يحق له أن يقدر النتيجة دون أن يتتبع طبيعة المجهود، وليس له الحق في أن يشغل بالمؤثرات.) ولما كان يفرق بين الخيالي والواقعي، كان يصر على أن الواقعي يجب أن يكون (أكثر كمالاً، وأشد تأثيراً، وأتم انطباقاً، مثل الحقيقة نفسها.) وهو كمن سبقه من الكتاب النابهين لم يكن خيالياً فحسب ولا واقعياً فحسب، ولكن كان الاثنين معاً؛ وكانت عبقريته في أن يرى ما في الحقيقة من ابتداع
وتمتاز كتابته أيضاً بصحة وطلاوة وبساطة من الصعب تحليلها ولكن من السهل فهمها. وليس معنى ذلك أن سهولة فهمها للأجنبي تجعلها سهلة الترجمة. فالواقع إننا نجد أن أسهل الأعمال في كل لغة أصعبها في النقل، فقراءة هوميروس أسهل من قراءة (مآسي أثينا) إلا أنه لم ينجح في نقل هومير الشاعر الساحر إلى الآن أحد. وموباسان يعالج المحيط بنفس البساطة، فهو يضع منظره بدقة واختصار وتأثير، فإذا كان يصف طبيعة نورمانديا الفاتنة، أو أبهاء القرن الثامن عشر، فهو في الحالين سواء
وكان من أتباع المذهب الطبيعي يرمي دواماً إلى الحق، غير أن الحق الذي كان يتوصل إليه به قليل من الزيف. فلم يكن يحلل شخصياته، ولا يهتم بالأسباب الدافعة. فهم يتصرفون ولكنه لا يعرف إلى أي نهاية. وفيما يلي تعليله على حد قوله: (في رأيي أن التحليل النفسي في قصة طويلة أو قصيرة معناه هذا: أن أظهر الرجل الداخلي من حياته) حقاً هذا جميل، بل هو ما يفعله القصصيون أجمعون، ولكن الحركة لا تدل دواماً على الباعث. والنتيجة عند موباسان كانت تبسيطاً للشخصية، وهذا له أثره في القصة القصيرة، ولكنه عند إعمال الفكر يتركك غير مقتنع. وإذ ذاك تقول إن في الرجال من يفوق ذلك، هذا وقد كانت تتملكه الفكرة المنتشرة بين مواطنيه إذ ذاك، وهي أن الواجب على المرء لنفسه(185/34)
أن يتصل بأي امرأة دون الأربعين تصادفه. فأشخاصه تساير رغباتها الجنسية لكي ترضي احترامها لنفسها. فهم كمن يأكل لوناً من الطعام دون إحساس بالجوع ولكن لأنه غالي الثمن
قلنا إنه كان تلميذاً وصديقاً لفلوبير. وكان التلميذ يتقبل آراء أستاذه في مواضيع عدة؛ وكان يعتقد أنه يحاكيه في مجهوداته الجبارة في الإنشاء. إلا أنه من الصعب أن يتفق ذلك وسهولة أسلوب موباسان؛ على أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الإنشاء الفني كان عند فلوبير نصباً وعناء. ولما كان موباسان قد مات في شرخ الشباب، فمن المحتمل أن ننسى أحياناً أنه لم يكن تلميذ فلوبير فحسب، إنما كان تلميذا لدوديه وزولا وأناتول فرانس أيضاً. ومن العبث القول بأن هؤلاء الكتاب الكبار كانت لهم طريقة مشتركة، سواء من الوجهة النظرية أو العملية، ولكن إذا تكلمنا على وجه العموم دون تقييد فقد نستطيع القول أنهم يمثلون الحركة المتجهة نحو الدقة والواقعية. فالتنقيب عن الكلمة الملائمة أكثر من سواها، والقول بان الفنان ينبغي أن يسدد نظره إلى الموضوع، وألا يقبل المقاييس العامة لتنظيم تقديرات الشخصية كانت ميول المدرسة والوقت. والدقة الجميلة في عمل فلوبير تدين لمبدئه وطريقته، على حين أن أدب زولا الواقعي كان في الحقيقة منتخبات من أجزاء من الطبيعة أثارت اهتمامه أكثر من سواها. وبعد، أليست ماهية الفنان وعمله مهما حاول أن يوضحه، أننا في النهاية نجده لم يصور الحقيقة وإنما غيرها؟ فإذا سما بهذا التغير نحو الجمال فقد نجح، وإذا انحط به إلى القبح فقد أخفق. وكان موباسان فناناً مجيداً لدرجة تسمو به عن الإسفاف المطلق، فأن أرخص قصصه له ميزة الابتكار، ولكنا نرى النقاد في بعض الأحيان قد بالغوا في مدحه، مع محاولته أن يكون طبيعياً نجده أحياناً يهبط إلى القيود البيانية، ويسمح أحياناً بالعواطف الزائفة
ولقد كان غالباً ما يبدأ قصصه بمقدمة يقصد بها أن يهيئ القارئ لحالة عقلية خاصة، وهي طريقة خطيرة إن لم تنجح فقد تكون مملة، وقد تحمل القارئ بعيداً عن الأثر. ولقد كان يختار أشخاصاً عاديين، ويحاول أن يظهر ما في أعمالهم العادية وحياتهم من الفواجع، وكان يختار الحادث الذي لا أهمية له ويخرج منه كل ما يستطاع من المواقف المؤثرة، وهي طريقة تساعد على خلق الانتباه للقصة. وكان يكتب ويفرط في الكتابة، وكان أيضاً يتخذ موضوعاً متشابهاً حتى (بول دي سويف) التي سببت شهرته تعطينا مقارنة سهلة(185/35)
عادية بين الرحلة التي قام بها بعض المبجلين هرباً من غضب البروسيين وقد أحسوا بقرص الجوع العنيف فسرهم أن يشاركوا البغي المسكينة زادها، وبين الرحلة الأخرى بعد أن أغروها بشتى الوسائل من حيلة ورجاء على ارتكاب الخطيئة مع الضابط الألماني تلبية لطلبه، حتى إذا قبلت التضحية على مضض شديد، أبدوا لها ازدراءهم وترفعوا عن دعوتها لمشاركتهم الزاد في الطريق بعد أن نالوا الأذن باستئناف المسير
ولقد وجد قادة النقاد أن قصص موباسان وإن لاءمت نبوغه لا تصلح على الرغم من مظهرها الخادع لأن تكون أنموذجاً مثالياً للغير. وقد كان مع حيوانيته وشهوته يعرف رقة الحب النقي. انظر على سبيل المثال قصته (ضوء القمر) ففيها نرى الكاهن الذي يكره النساء وهو ذاهب لكي يفاجئ ابنة أخيه وعشيقها ويجازيها شر الجزاء، يذهب إلى ضوء القمر الشاحب، ويذهل بين الغمام والبلابل، وحين يرى الحبيبين يخطران في تلك الجنة الفيحاء، يقول في نفسه (ربما خلق الإله القادر، هذه الليالي السواحر، لكي يلقى غلالته القدسية على الحب البشري)
محمد سليمان علي(185/36)
من ذكريات المجد!
وحي دار ابن لقمان
بقلم الأديب محمد فهمي
نحن الآن في 22 صفر سنة 647 هجرية، والقصر الملكي بجزيرة الروضة يموج بالأمراء والعظماء والحاشية؛ الكل يغدون ويروحون في ردهاته الفخمة في قلق شديد يكاد لا يستقر أحدهم في مكان، وصاحب الجلالة الملك الصالح نجم الدين أيوب جالس على العرش تضطرب الدماء في شرايينه؛ أعصابه ثائرة، وقلبه يخفق خفقاناً شديداً. إنهم جميعاً ينتظرون النبأ الخطير: نبأ المعركة الدائرة رحاها حول أسوار دمياط. دمياط الواقفة كالسد المنيع أمام الجيوش الأوربية الصليبية وهي تتدفق كالسيل وتحاصرهم بقيادة ملك فرنسا (لويس التاسع). إنها ليست حرب المسيحية والإسلام، وإن سموها كذلك، وإنما هي نضال الشرق والغرب الذي لم يخمد أواره منذ أن كان هناك شرق وغرب؛ هي الحرب بين مصر العظيمة زعيمة الشرق والإسلام، وأوربا بأجمعها؛ هي حرب بين الغرب الطامع والشرق المدافع!
نعم إن أول من دعا إليها هم رجال الكنيسة باسم الدين، ولكن الدين من دمائها براء! فلم يخضها إلا ملك طامع في توسيع ملكه، أو أمير يمني نفسه بالذهب الوفير، أو فقير يطلب المال والغنى من بلاد النفائس والكنوز. . .
وبينما القصر الملكي على تلك الحال من الاضطراب والغليان إذا بفارس قد أنهكته وعثاء السفر أشعث أغبر يلهث من الإعياء ويتصبب عرقاً يقتحم ردهات القصر وطرقاته متخذاً سمته قدماً نحو قاعة العرش. وطلب الإذن بالمثول بين يدي صاحب الجلالة. فدخل الحاجب يعلن قدوم الرسول المنتظر! انتفض الملك في مكانه وحبس أنفاسه كأنما يتهيأ للنبأ الهائل. . . دخل الفارس وألقى بالنبأ الخطير في صوت أجش. فيه شجاعة وفيه ألم. . . مولاي! سقطت دمياط بعد معركة تشيب لهولها الولدان، ودفاع يشرف شهداءنا الإبطال! سقطت دمياط!! كانت هذه العبارة خنجراً مسموماً نفذ إلى صميم قلب الملك. . .
سقطت دمياط! وفي عهدي أنا؟ أبعد أن كان جدي البطل صلاح الدين يدوخ جيوشهم في ربوع سوريا وفلسطين، ويذيقهم مرارة الهزيمة المرة بعد المرة، يجرءون اليوم على الدنو(185/37)
من العرين الذي طالما رجفوا لذكره؟! هكذا ناجى الملك نفسه في حسرة ما بعدها حسرة. . . ثم أمر الجيش بالتجهز وسار على رأسه لملاقاة العدو المغير، وعسكر في مدينة المنصورة، وقد اتخذها قاعدة لحركات الجيش
ولكن قلبه كان دائماً يئن في حشرجة المذبوح من أثر الطعنة التي أصابته عند ما ألقي إليه نبا سقوط دمياط!! فما هي إلا فترة حتى اشتد عليه المرض، فحمل إلى قصره بجزيرة الروضة؛ وهناك وبين يدي المرأة التي أحبها وأخلص لها (شجرة الدر) أم ولده وولي عهده غياث الدين توران شاه فاضت روحه إلى ربها
وفي هذه اللحظة الرهيبة وقد نظرت شجرة الدر فإذا بمليك مصر وزوجها الأثير عليها مسجى على سرير الموت بين يديها، فتملكها الأسى على الفقيد العظيم، ولكنها سرعان ما أفاقت على صوت يهتف في أعماق نفسها. . . الوطن. . . الأعداء. . .! فولي العهد كان في تلك الأثناء ببلاد الشام ولم يبلغه بعد نبأ الرزء الفادح. وها هوذا العدو قد اقتحم أبواب البلاد متجهاً نحو العاصمة. فساءلت نفسها كيف يستطيع الجيش الثبات ومقاومة العدو إذا علم بموت الملك وفقدان الرأس المدبر؟ وهل تقاوم البلاد بغير رأس؟ إن الوطن في خطر فلابد من الحكمة والتبصر. . . وهنا لمعت في خاطرها فكرة جريئة. . . لا. . . يجب ألا يعلم الجيش بموت الملك. . . ثم خرجت من الحجرة وأشاعت أن الملك مريض ويرغب ألا يدخل عليه أحد؛ وأرسلت إلى قواد الجيش وأمرائه أن الملك يأمرهم بالتأهب للقاء العدو المغير في طريقه، بينما طيرت النبأ إلى ولي العهد ببلاد الشام بالقدوم على جناح السرعة. . .
أخذت الجيوش الفرنسية تخوض في أحشاء البلاد قاصدة المنصورة، والفزع يزداد يوماً بعد يوم، والاستعداد قائم على قدم وساق؛ في هذه الساعة العصيبة حضر ولي العهد توران شاه فأطلعته شجرة الدر على كل شيء وتسلم زمام الملك. فجمع الملك الشاب كل عزمه وأصدر أوامره للقواد، وعبأ الجيوش وتأهب لليوم العظيم. . . هذا هو يوم الفصل، فإما نصر لأوربا والجيوش الصليبية يملكها مصر وبيت المقدس، بل وقلاع الشرق جميعاً ويقضي على الإسلام في دياره قضاء مبرماً، وإما نصر لمصر يرد هذه الموجة الهائلة ويحمي ذمار الوطن والدين. وكم كانت مصر كالصخرة الهائلة تتكسر عليها أمواج الحملات الصليبية(185/38)
المتتابعة!. هاهي ذي أوربا بعظمتها وجيوشها الجرارة كاملة العدة هائلة العدد (كان جيش الصليبيين حوالي تسعين ألفاً) وعلى رأسها ملك من أعظم ملوك أوربا: لويس التاسع ملك فرنسا. . .
التحم الجيشان وبدأ الصراع الهائل: التقى صراع بين عدو مغير وبين أبطال يدفعون عن حمى الدين والوطن. وقد نفذ فيهم المليك الشاب من روح الشباب وعزيمته، فاندفعوا كالليوث يفتكون بالأعداء؛ ولما اشتد الضغط على العدو والتفت حوله ليكشف مكاناً للهرب، فما هاله إلا الماء قد حاصره من الخلف، إذ كانت الأوامر قد صدرت بفتح جسور النيل فتدفقت مياه الفيضان من وراء الأعداء كالسيول الجارفة. . نظر العدو فإذا البحر قد حصره من الخلف والجيش الباسل قد أطبق عليه يرمي عن قلوب تشتعل حمية وحماسة للوطن والدين، وينظر الملك لويس والحسرة تنهش قلبه فيرى أشلاء جيشه تتطاير تحت مطارق الأذرع الحديدية من جنود مصر. هاهم أولاء جنوده يتساقطون في الميدان حوله جماعات كالفراش. ومن طلب الفرار من شفرات السيوف ابتلعه اليم. . .
وإذا بفرقة من الجيش المنتصر تتقدم نحو الملك (لويس). . . هاهم أولاء بعض الأمراء والفرسان المحيطين به يناجزونها مناجزة اليائس المستميت مدافعين عن مليكهم. ولكن ماذا تجدي شجاعة بضعة أفراد أمام جيش كله أبطال؟! فما هي إلا جولة أو بضع جولات حتى كان الملك ومن بقي معه من الأمراء جميعاً في الأسر!! وإذا بالجيش العرمرم قد انهار كما ينهار البناء الشامخ!!. . .
انجلت المعركة عن فناء العدو وقد بلغ عدد قتلاه ثلاثين ألفاً خلاف الاسرى، وكتبت آيات النصر بمداد غزير من الدماء. هاهو ذا الملك المعظم توران شاه يعود إلى المدينة تجلله أكاليل النصر والفخار، ويسوق وراءه في السلاسل والأغلال ملك فرنسا وأمراءها. الكونت دنجواي، والكونت داراتوار، والكونت دوبواتييه!؟ والكونت دوبواتييه!؟ يا لروعة الذكرى التي يعيدها إلى الأذهان أسم هذا الكونت!! ويا لسخرية القدر الذي ساقه ليشهد بعيني رأسه كيف تثأر مصر لشهداء بواتييه (بلاط الشهداء سنة 732م) بعد خمسة قرون في معركة تكسو فرنسا عارا يطغى على بريق بواتييه ويسجل في تاريخ فرنسا بل في تاريخ أوربا كلها جبروت مصر وعظمة الشرق. . .(185/39)
خيم الليل على دار ابن لقمان في مدينة المنصورة حيث أودع الملك الأسير وأمراء بلاده؛ وكان ليلاً رهيباً. وفي جوف الليل تذكر الملك الأسير بلاده وجيشه ومجده وآماله المحطمة والذل الذي يعانيه، فانحدرت الدموع غزيرة من عينيه. فخاطبه أحد أمرائه الذين يشاركونه الأمر قائلاً: (لقد نصحتك يا مولاي وقلت لك إن مصر عرين الشرق، وإن روح صلاح الدين العظيم لازالت تغذي أشبالها، فأبيت إلا محاولة ما أعجز قبلك إمبراطور ألمانيا وريكاردوس قلب الأسد)!؟ وهنا جلجل في حنايا القاعة صوت الحارس الطوشي (صبيح) الذي وكل إليه حراسة الملك الاسير، قائلاً: (نعم، صدقت أيها الأمير! أن أشبال الحمى وأبطال الوطن لتعد هذه الخاتمة لكل من رام مرام هذا الملك الأسير)
إن دار ابن لقمان لا تزال قائمة تنتظر الجيل الذي يعيد إليها حياة أبطالها. وإن من السواح الأوربيين والفرنسيين على الأخص من يقصدون هذه الدار ليشهدوا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم عظة من أبلغ العظات ودرساً من أقسى الدروس تلقنهم إياه مصر؛ وإن الفرنسي الذي يتيه عجباً وخيلاء في رحاب دمشق وربوع ميسلون ليحنى الرأس إذلالاً أمام دار ابن لقمان. ولكن كيف يحتفظ المصريون بهذا الهيكل من هياكل المجد والفخار! إنهم ويا للعار قد أهملوه شر إهمال وتركوه نهب البلى والأقذار. وهاهي ذي أحجاره وجدرانه تصارع البلى في أنفة وكبرياء! فأية كرامة لامة لا ترعى هياكل المجد!؟ وكأني بزوار الدار من الأوربيين يقولون في أنفسهم وقد نظروا إلى حالتها المزرية هذه: (لو كانت لنا هذه الدار لجعلناها كعبة يحج إليها الشباب والفتيان ليستمعوا أبلغ أناشيد المجد والبطولة ترددها جوانب هذه الدار، وجعلنا منها رمزاً خالداً على الدهر، نمجد في رحابه أرواح أسلافنا الأبطال وهي ترفرف محومة بين جدرانه! ولكنها ويا للأسف المرير لشعب لا يرعى مجد آبائه!!)
إيه أيتها الدار!! لقد خط المجد على جدرانك أروع آيات البطولة؛ وفي رحابك سجن ملك من أعظم ملوك أوربا حاول اقتحام الوطن بجيشه العرمرم فتلقفته سيوف الأبطال والأشبال، فإذا الجيش أشلاء تتطاير على شفرات السيوف وأسنة الرماح، وإذا بالملك العظيم. . سجين جدرانك. .!!
ألا خبرينا أيتها الدار، كيف شهدت أوربا المتجبرة العاتية التي خرجت بجيوشها الجرارة(185/40)
لإذلال مصر؟ كيف شهدتها تذرف دموع الحسرة والتفجع، وأنات الأسى والحزن، وهي ترسف في قيود الأسر وذل الهزيمة. في شخص (لويس التاسع) ملك فرنسا. .!!
ألا تكلمي أيتها الدار، فكلمة منك توقظ الأسماع وتهز القلوب. لأنك تتحدثين بلسان من قد رأى وقد سمع!!
ألا تكلمي، فكلمة منك تقشع عناكب النسيان والجهل التي خيمت على صفحات المجد والبطولة من سفر تاريخنا الحافل!. .
أيها المصريون! ألا إن بقاء هذه الدار بحالتها الحاضرة المزرية لطعنة في صميم الكرامة المصرية والوطنية المصرية والشعور الحي لأمة تعرف مالها من كرامة ومجد وتاريخ. . .
(المنصورة)
محمد فهمي(185/41)
بناء العلم
للسير جيمس جنز
ترجمة إبراهيم البرسي
إذا ما تجمع لدى الباحثين قدر مناسب من الحقائق في ناحية من نواحي العلمية، فالخطوة التالية تكون محاولة إيجاد قاعدة عامة تربط هذه الحقائق جميعها؛ وقد تتفق هذه القاعدة أولا تتفق مع الاعتبارات المقررة. ولا يكفي أن تفسر هذه القاعدة الحقائق المعروفة، بل لا بد أن تتفق مع كل ما يكشف منها؛ فهي على ذلك لا تكون إلا بمثابة افتراض؛ ويبدأ العالم بأن يقول: (إن التجارب أثبتت هذه الحقائق، وأرى أن افتراضاً معيناً يتفق معها جميعها) ثم يستمر هو وأمثاله في العمر للحصول على بيانات أدق وأوفى مرتبطة بالحقائق الأولى؛ وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى الوصول إلى حقائق جديدة. ويمتحن الافتراض الأول بمطابقته للمعلومات الجديدة
أما إذا وجد افتراضان متناقضان، فقد يكون ممكناً أن نتبين الصحيح منهما؛ فإذا أمكننا مثلاً أن نبين أن ظاهرة (س) تحدث إذا كان الفرض الأول صحيحاً، ولا تحدث إذا كان الفرض الثاني صحيحاً، فبأجراء تجربة لمشاهدة ظاهرة (س) يثبت أحد الافتراضين
هذه التجربة كغيرها: هي في الواقع توجيه سؤال للطبيعة وهو: (هل يستقيم الفرض الأول؟. .) وهي تجيب بان ترينا إما ظاهرة مناقضة للفرض أو متفقة معه. ولكنها لا تستطيع مطلقاً أن ترينا ظاهرة تثبت صحة هذا الفرض، لان ظاهرة واحدة تكفي لتهدم فرضاً معيناً بينما لا تكفي ملايين الظواهر لإثباته. ولهذا السبب لا يستطيع العالم أن يجزم بمعرفته أي شيء على وجه التأكيد؛ اللهم إلا الحقائق المباشرة للمشاهدات. وإذا تعدى هذا فلا يستطيع التقدم إلا بافتراضات متعاقبة تحظى الواحدة منها باتفاقها مع حقائق اكثر من سابقتها وتتخلى كل منها لمن تتبعها؛ وفي الواقع لن يأتي وقت لانتقال من الافتراضات إلى التأكيدات
الآن وقد ناقشنا أبسط مثل لاستفسار الطبيعة يجدر بنا أن نشير إلى بعض الصعوبات، فليس من الممكن دائماً أن تضع سؤالاً يكون جوابه (الإيجاب) أو (النفي) فقط، فكثيراً ما تنشأ مسائل أكثر صعوبة عند ما يخدع فرض وهمي من يقوم بتجربة، أو يحاول الحصول(185/42)
على جواب لسؤال غير معقول؛ فإذا أمكنه بطريقة ما أن يجري تجربته فان نتيجتها تكون غير مفهومة كما كان السؤال بالنسبة للطبيعة
ولنضرب لذلك مثلاً، فنتصور عدداً من الرجال مجهزين بأدق الأجهزة، ولكن ينقصهم الإدراك العلمي، فإذا رأوا مثلا (قوس قزح) في السماء ورغبوا في معرفة بعده عنهم، وبدءوا يعتبرونه كمنظر عادي بسيط فكونوا فرقة من المساحين لتعيين بعده، فمن القياسات المأخوذة بأدق الأجهزة تظهر نتيجة واحدة لا خلاف فيها، وهي أن المسافة (ناقص 93 مليون ميل)
وظاهر أن من السخف بمكان أن تقاس مسافة بالسالب، وأسخف منه هذا التقدير الكبير لها، إذ أن القوس قد يظهر بيننا وبين جبل معين مثلا وبعده لا يداني هذه المسافة بحال. أما إذا غير وضع السؤال بان قلنا (ما المسافة التي يبعدها مصدر الضوء الذي نراه في القوس أمامنا؟) رأينا الجواب (ناقص 93 مليون ميل) محملا بالمعاني. فالعلامة السالبة تدلنا على أن مصدر الضوء لا يقع أمامنا بل خلفنا، ومن بعده نستنتج أن هذا المصدر ليس إلا الشمس بعينها
وفي الواقع أن وضع سؤال معقول أصعب كثيراً من الحصول على جواب لسؤال غير معقول، ولنضرب مثلا ينقلنا من هذا التعميم وصعوبته بالفلك والنظرية النسبية:
جمع الإغريق والمصريون عدداً كبيرا من الحقائق المتعلقة بالحركة الظاهرية للشمس والقمر والكواكب. وحوالي عام 150 من الميلاد حاول (بطليموس) عالم الإسكندرية وضع فرض يفسر هذه الحركات جميعها؛ وقد تصور الأرض مركزا لهذه المجموعة تدور الشمس والقمر والكواكب حولها، مخالفا بذلك ارسطاطاليس وأتباع فيثاغورس، فالشمس والقمر يتحرك كل منهما في دائرة، بينما الكواكب تتحرك في مسارات معقدة. ولم تكشف حقائق جديدة لاختبار هذا الفرض حتى وضع (كوبرنيكس) في سنة 1543 فرضا آخر اتضح أنه يفسر الحقائق السالفة الذكر بطريقة أبسط، فاعتبر الشمس - لا الأرض - مركزا للمجموعة الشمسية بينما الأرض والقمر والكواكب تسير في دوائر حولها، ولكن لازالت حركة الكواكب معقدة بعض الشيء بالحركة في دوائر ثانوية
وعلى ذلك ظهر افتراضان في المحيط العلمي؛ وقد حاول (كوبرنيكس) الفصل بينهما. فإذا(185/43)
كان فرض (بطليموس) صحيحا فان كوكب (الزهرة) لا يرى أقل من نصف دائرة ضوئية. ومن الناحية الأخرى إذا دار هذا الكوكب حول الشمس وجب أن نرى له أوجها كأوجه القمر. وقد مكننا التلسكوب الذي استكشف في سنة 1609 من توجيه سؤالنا إلى الطبيعة لتفصل بين الفرضين. وبمجرد أن رأى (جاليلو) كوكب الزهرة يظهر على شكل قوس دقيق تأكد أن فرض بطليموس لا يستقيم
ولم يثبت هذا بالطبع فرض (كوبرنيكس) ولكن تجمعت حقائق جديدة على جانب كبير من الدقة جعلت الشك يحوم حول هذا الفرض. ونخص بالذكر من بين هذه الحقائق ما لاحظه (كبلر) من أن حركة المريخ التي درسها في شيء من التفصيل لا تتفق مع فرض (كوبرنيكس). وقد جعله هذا يعرض فرضا جديدا، وهو أن الكواكب لا تدور حول الشمس في دوائر ودوائر صغيرة حول محيطها، ولكن في إقطاع ناقصة تكون الشمس بؤرتها المشتركة وقد ظل هذا الفرض متفقاً مع كل الحقائق الفلكية لمدة طويلة
وقد حاول (نيوتن) بعد هذا بنصف قرن أن يجمع هذه الحقائق وغيرها تحت فرض أوسع، فتصور أن كل جسم في الكون يجذب غيره بقوة الجاذبية، وهذه تتغير عكسيا مع مربع المسافة بين الجسمين؛ وفرض أن الكواكب تتحرك تحت تأثير هذه القوى فقط، ثم بين أن هذا الفرض يفسر سير الكواكب في إقطاع ناقصة، وكذلك يفسر كمية كبيرة من الحقائق والظواهر منها حركة القمر حول الأرض وحركة كرة الكريكيت في قطع مكافئ عند قذفها. حتى المد والجزر فسره هذا الفرض وأخيراً وجد أنه يفسر حركة المذنبات هذه التي كانت تعتبر دلائل مخيفة ومجهولة تخشى لأنها علامة الشر أو الغضب السماوي أصبحت لا ترى إلا ككتل جامدة ترسم مسارها حول الشمس تحت تأثير نفس القوى التي تعمل في الكواكب
ثم استمرت بعد ذلك الحقائق والبيانات تترى وكلها متفقة مع نظرية نيوتن حتى منتصف القرن التاسع عشر حيث وجد الفلكي (لفرييه) شذوذاً في حركة عطارد، فان فرض نيوتن يتطلب أن يعيد الكوكب مساره دائماً حول الشمس في نفس القطع الناقص كما تدور لعب الأطفال الآلية في نفس المسار مرات مستمرة، بينما وجد (لفرييه) أن كوكب عطارد يتحرك في قطع ناقص ولكن هذا القطع نفسه متحرك في الفراغ ويتم دورته في نحو ثلاثة ملايين من السنين، فكأنما المسار الذي تجري فيه هذه اللعبة موضوع على مائدة متحركة(185/44)
تدور حول محورها ببطء بينما تجري هي بسرعة في مسارها
وبمضي الزمن عرض (أينشتين) فرضاً جديداً هو النظرية النسبية، وهذه لم تفسر الظواهر التي فسرتها نظرية الجاذبية لنيوتن فحسب، بل وضحت حركة (عطارد) توضيحاً دقيقاً وفسرت كذلك عدداً كبيراً من الحقائق العلمية الأخرى
وقد أمكن عمل تجارب ومشاهدات فاصلة بين النظريتين: النظرية الحديثة (لأنشتين) والنظرية القديمة لنيوتن، وفي كل هذه التجارب والمشاهدات قضت الطبيعة على نظرية الجاذبية وعززت النظرية النسبية؛ وقد أجريت تجارب أخرى لتفصل في النظريات السائدة في هذا العصر كالنظرية القائلة بان الضوء ينتقل كموجات في الأثير الذي يملأ كل شيء، وأن القوى الكهربائية والمغناطيسية تنتقل كضغط وشد في هذا الأثير، وفي هذه أيضاً انحازت الطبيعة للنظرة النسبية. وقد أصبحت النظرية النسبية الآن تفسر مجموعة هائلة من الظواهر الطبيعية ولم تظهر بعد حقيقة واحدة لا تتفق معها.
إن الغرض العام للعلم هو أن يسير إلى مثل هذه النظريات ويصل إليها. ولا نستطيع مطلقا أن نعتبر نظرية ما نهائية أو حقيقة مطلقة، إذ من المحتمل أن تظهر حقيقة جديدة في وقت ما ترغمنا على هذه النظرية؛ وقد يحدث ذلك للنظرية النسبية ولو أنه بعيد الاحتمال. وإذا ما حدث ذلك برغم استبعاده فان الوقت الذي أنفق في تكوينها لم يضع سدى، بل سيكون تدرجا إلى نظرية أوسع وأكمل تتفق مع عدد أكبر من الظواهر الطبيعية. من ذلك يظهر العلم للرجل العادي متغيرا دائم التغير دائراً حول نفسه مخالفا لنظرياته الأولى، ولكن العالم يراه دائم التقدم ويرقى من نظرية إلى أخرى، تحظى كل نظرية منها باتفاقها مع حقائق تزيد على التي أزاحتها، ورائده الوصول إلى هدفه الأسمى وهو النظرية التي تفسر ظواهر الطبيعة كاملة
إبراهيم البرلسي(185/45)
11 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة حسن محمد حبشي
الفصل الثاني
وأمضى عدي فترة من الزمن في سورية وخاصة في دمشق حيث يقال إنه نظم فيها أول قصيدة. ولما مات أبوه حينئذ هجر مقامه في الحيرة واهتم بالصيد والقنص وسائر فنون اللهو والتسلية. وكان يزور (المدائن) بين فترة وأخرى ليشرف على أعمال التحرير، وفي فترة زيارته للحيرة علق فؤاده هند ابنة النعمان التي كانت تبلغ من العمر وقتئذ إحدى عشر سنة. وإن القصة التي يرويها الأغاني لفي غاية الغرابة حتى لا يمكن التجاوز عنها؛ وتتلخص في أن هنداً كانت أجمل نساء أهلها وزمانها، خرجت في خميس الفصح تتقرب في البيعة في أيام المنذر، ودخلها عدي يتقرب، وكانت عبلة الجسم فرآها عدي وهي غافلة وتأملها ولم يقل لها جواريها ذلك، وإنما قبلن هذا من أجل أمة لهند يقال لها مارية، كانت قد أحبت عدياً فلم تدر كيف تجيء له، فلما رأت هند عدياً ينظر إليها شق عليها ذلك وسبت جواريها، ولكنها وقعت في نفس عدي، فلبث حولاً لا يخبر بذلك أحداً حتى أخبرت مارية هنداً ببيعة دومة وما فيها من الرواهب وحسن بنائها، فسالت أمها الإذن فأذنت لها، وبادرت مارية إلى عدي فأخبرته الخبر فاخذ معه جماعة من فتيان الحيرة ودخلوا البيعة، فلما رأته ماريا قالت لهند: (انظري إلى هذا الفتى فهو أحسن من كل ما ترين من السرج وغيرها) فقالت هند: (ومن هو؟) فقالت: هو عدى ابن زيد، ثم حرضتها على الاقتراب منه وسألتها أن تكلمه، ثم انصرفتا وقد تبعته هند بنفسها وانصرف بمثل حالها، ثم عرضت له في الغد فقال لها: (لا تسأليني شيئاً إلا أعطيتك إياه) فعرفته إنها تهواه وحاجتها الخلوة به على أن تحتال له في هند وعاهدته على ذلك، وبادرت إلى النعمان فأخبرته خبرها وذكرت إنها شغفت به، وأنه إن لم يزوجها إياه افتضحت في أمره أو ماتت. فقال لها: (ويلك وكيف أبدأه بذلك؟). فقالت: (هو أرغب في ذلك من أن تبدأه)، وأتت عديا فأخبرته الخبر وقالت (أدعه فإذا أخذ الشراب منه فاخطب إليه فأنه غير رادك) قال: (أخشى أن يغضبه ذلك) قالت: (ما(185/46)
قلت لك هذا حتى فرغت منه معه) فصنع عدي طعاماً، ثم أتى النعمان بعد الفصح بثلاثة أيام فلما أخذا منه الشراب خطبها إلى النعمان، فأجابه وزوجه وضمها إليه بعد ثلاثة أيام
وعند موت المنذر الرابع أيد عدي حق النعمان الذي كان من قبل تلميذه ثم غدا حماه، في عرش الحيرة، ولقد تكللت الخدعة التي مثلها في هذا الحادث بالنجاح التام، ولكنها كلفته حياته
فعزم على الأخذ بالثأر أتباع (أسود ابن المنذر) إذ فشل صاحبهم في نيل العرش، ولكن مكائدهم أثارت شكوك النعمان ضد صانع العرش له. فألقى عديا في غياهب السجن حيث ظل يرسف في القيد ردحاً طويلاً حتى قتله النعمان حينما توسط كسرى ابرويز في إطلاق سراحه
وترك عدي غلاماً يدعى زيداً أشار كسرى ابرويز بان يخلف أباه في إدارة التحرير العربي في الديوان الملكي بالمدائن، ولما تصالح مع النعمان لم ينس ثأره القديم ولكنه أخذ يتحين الفرصة ويتأهب لها؛ وكان ملوك الفرس ذوي دراية بمحاسن النساء فإذا أرادوا امرأة بعثوا من يذيع طلبتهم وما يتوفر فيها من محاسن جثمانية وخلقية، ولكنهم لم يكونوا قد فكروا حتى ذلك الحين في نساء بلاد العرب ظناً منهم بأنها خالية من أية امرأة جميلة حوت من الصفات ما طلبوه، فوجد زيد إذ ذاك الفرصة سانحة، فجاء كسرى وقال له: (رأيت أيها الملك أنككتبت في نسوة، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله كثير فأبعثني وابعث معي رجلا من حرسك يفقه العربية) فبعث معه رجلا جليداً، ثم دخلا الحيرة ثم وصف للنعمان طلبة الملك، فقال لزيد والرسول يسمع: (أما في عين السواد ما تبلغون به حاجتكم؟) فقال الرسول لزيد: (ما العين؟) قال: (البقر) ثم رجعا إلى كسرى فقال لهما: (أين الذي كنت خبرتني به؟) فقال له الرسول: (قال النعمان أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟) فعرف الغضب في وجهه، ثم بعث إليه كسرى فقيده وبعث به إلى خانقين، فلم يزل في السجن، ثم أمر بقتله فقتل ووطأته الفيلة
وإن الشواهد المنقولة إلينا لتظهر النعمان الثالث حاكما مستبداً زير نساء مولعاً بالخمر والغناء، كما كان مشجعاً لكثير من الشعراء وخاصة النابغة الذبياني الذي فر هاربا من الحيرة لفرية كاذبة. وإن هذه القصة وأخرى اتهم فيها الشاعر المنخل لتلقيان شعاعا(185/47)
نستطيع على هديه أن نتعرف حياة النعمان الخاصة، فلقد تزوج امرأة أبيه المتجردة أجمل نساء عصرها، وبينما كان هو يوليها كل حبه كانت هي تحب غيره. وقد اتهم فيها النابغة لنظمه قصيدة يصف فيها محاسن الملكة ويذكر فيها نواحي خاصة دقيقة، ولكن الحقيقة هي إنها كانت والمنخل اليشكري يتبادلان الحب ويجرعان كؤوس الهوى، وقد فاجأهما النعمان ذات يوم على غير ما يهوى؛ ومنذ ذلك اليوم لم يعد أحد يرى المنخل. ومن هنا نشأ المثل القائل (حتى يعود المنخل) وبالرغم مما يقال من أن كثيراً من ملوك الحيرة كانوا مسيحيين فان الشك يحتك في الصدور عما إذا كان أحدهم - سوى النعمان الثالث - يستحق هذا اللقب؛ وكان اللخميون بعكس غالبية رعيتهم عريقين في الوثنية. أما تعاليم النعمان فقد هيأته للنصرانية، كما أن هدايته - كما تؤكد القصة - كانت على يد رائده عدي ابن زيد
يذكر النسابة المسلمون أن الغساسنة - سواء المقيمون منهم في المدينة أو من جرى العرف بتسميتهم بغساسنة الشام - من ولد عمرو ابن عامر المزيقيا الذي كان قد باع أملاكه في اليمن وهاجر على رأس جمع غفير من سكانه قبيل انفجار سد مأرب؛ ويعتبر ابنه جفنة عادة مؤسس الأسرة، أما عن تاريخهم البدائي فالثابت منه ضئيل جداً لا يبل ظمأ الباحث. ومما يذكر عنهم أنهم دفعوا الجزية للضجاعمة وهي أسرة من نسل صليح الذي كان حاكما على حدود سورية تحت رعاية الروم. وتبع ذلك صراع عنيف خرج منه الغساسنة ولواء النصر يرفرف فوق رؤسهم. ومنذ ذلك الحين نراهم قد استقروا في هذه الأقاليم كممثلي السلطة الرومانية ذوي ألقاب رسمية كأشراف وقواد، تلك الألقاب التي أبدلوها هم والعرب الذين حولهم بكلمة (ملك) كما هي العادة الشرقية. (وأول من ملك الشام من آل جفنة الحرث ابن عمرو بن محرق، وسمي محرقا لأنه أول من حرق العرب في ديارهم ويكنى أبا شمر؛ ثم ملك بعده الحرث بن أبي شمر وهو الحرث الأعرج وأمه ماريه ذات القرطين، وكان خير ملوكهم وأيمنهم طائراً وأبعدهم مغاراً، وأشدهم مكيدة وكان قد غزا خيبر فسبى من أهلها ثم أعتقهم، وكان قد سار إليه المنذر بن ماء السماء في مائة ألف فوجه إليهم مائة رجل فيهم لبيد الشاعر وهو غلام، وأظهر أنه إنما بعث بهم لمصالحته فأحاطوا برواقه فقتلوه وقتلوا من معه في الرواق وركبوا خيلهم فنجا بعضهم وقتل بعض، وحملت الخيل الغسانيين على عسكر المنذر فهزموهم وكانت له بنت يقال لها حليمة كانت تطيب أولئك(185/48)
الفتيان يومئذ وتلبسهم الأكفان والدروع، وفيها جرى المثل (ما يوم حليمة بسر)
(يتبع)
حسن حبشي(185/49)
9 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
أفيحلو لكم، أيها الاخوة، أن يخنقكم ما يتبخر من أشواق هؤلاء المسوخ؟ حطموا النوافذ واقفزوا منها لتنجوا بأنفسكم
حاذروا هذه الأبخرة الخانقة وابتعدوا عن عبادة الأصنام فإنها دين الدخلاء على الحياة. حاذروا هذه الأبخرة واعرضوا عن هذه الضحايا البشرية
لم يزل حتى الآن مجال تسعى في رحبه النفوس الكبيرة نحو الحرية في الحياة، ولم تخل الأرض من أماكن يلجا إليها المنعزل منفرداً أو مزدوجاً حيث تهب نسمات البحر الهادئة. فان الحياة الحرة لم تزل تفتح أبوابها لكبار النفوس؛ والحق أن من يملك القليل لا يناله إلا اليسير من تحكم المتسلطين. فطوبى لصغار الفقراء!
لا يظهر الإنسان الأصيل في الحياة إلا حيث تنتهي حدود الحكومات، فهنالك يتعالى نشيد الضرورة بنغماته المحررة من كل مطاوعة وتقييد
هنالك عند آخر حدود الحكومات، قفوا وتطلعوا، يا إخوتي، أفما ترون تحت قوس قزح المعبر الذي يجتازه الإنسان الكامل؟
هكذا تكلم زارا
حشرات المجتمع
سارع إلى عزلتك، يا صديقي، فقد أورثك الصداع صخب عظماء الرجال، وآلمتك وخزات صغارهم. إن جلال الصمت يسود الغاب والصخور أمامك، فعد كما كنت شبيها بالدوحة التي تحب، الدوحة الوارفة الظل المشرفة على البحر مصغية في صمتها إلى هديره
على أطراف حقول العزلة تبدأ حدود الميادين حيث يصخب كبار الممثلين ويطن الذباب المسموم. لا قيمة لخير الأشياء في العالم إن لم يكن لها من يمثلها، والشعب يدعو ممثليه رجالاً عظاماً. فالشعب يسيء فهم العظمة المبدعة، فيبتدع من نفسه المعاني التي يجمل بها ممثليه والقائمين بالأدوار الكبرى على مسرح الحياة(185/50)
إن العالم يدور دورته الخفية حول موجدي السنن الجديدة. وحول لاعبي الأدوار على مسرح الحياة يدور الشعب وتدور الأمجاد، وعلى هذه الوتيرة يسير العالم
إن للاعب الأدوار ذكاءه، ولكنه لا يدرك حقيقة هذا الذكاء لانصباب عقيدته إلى كل طريقة توصله لخير النتائج والى كل أمر يدفع بالناس إلى وضع ثقتهم به
غداً سيعتنق هذا الرجل عقيدة جديدة، وبعد غد سيستبدل بها أجد منها. ففكرته تشبه الشعب تذبذباً وتوقداً وتقلباً
إن ممثل الشعب يرى بالتحطيم برهانه، وبإيقاد النار حجته، وبإراقة الدماء افضل حجة وأقوى دليل. إنه ليعتبر هباء كل حقيقة لا تسمها إلا الآذان المرهفة، فهو عبد الآلهة الصاخبة في الحياة
إن ميدان الجماهير يغص بالغوغاء المهرجين، والشعب يفاخر بعظماء رجاله فهم أسياد الساعة في نظره. ولكن الساعة تتطلب الإسراع من هؤلاء الأسياد، فلذلك يزحمونك، ياأخي، طالبين منك إعلان رفضك أو قبولك، والويل لك إذا وقفت حائراً (بين) (نعم) وبين (لا)
وإذا كنت عاشقاً للحقيقة فلا يغرنك أصحاب العقول الرعناء المتصلبة، وما كانت الحقيقة لتستند يوماً إلى ذراع أحد هؤلاء المتصلبين
دع المشاغبين وارجع إلى مقرك، فما ميدان الجماهير إلا معترك يهدد سلامتك بين خنوع (نعم) وتمرد (لا). إن تجمع المياه في الينابيع لا يتم إلا ببطء، وقد تمر أزمان قبل أن تدرك المجاري ما استقر في أغوارها
لا تقوم عظمة إلا بعيداً عن ميدان الجماهير وبعيداً عن الأمجاد، وقد انتحى الأماكن القصية عنها من أبدعوا السنن الجديدة في كل زمان
اهرب، يا صديقي، إلى عزلتك. لقد طالت إقامتك قرب الصعاليك والأدنياء، لا تقف حيث يصيبك انتقامهم الدساس وقد اصبح كل همهم أن ينتقموا منك. لا ترفع يدك عليهم فان عددهم لا يحصى، وما قدر عليك أن تكون صياد للحشرات. انهم لصغار أدنياء ولكنهم كثرة. ولكم أسقطت قطرات المطر وطفيليات الأعشاب من صروح شامخات. ما أنت بالصخرة الصلدة، ولشد ما فعلت بك القطرات، ولسوف يتوالى ارتشاقها عليك فتصدعك(185/51)
وتحطمك تحطيما
لقد أرهقتك هذه الحشرات السامة فخدشت جلدك وأسالت منه الدماء، وأنت تتحصن بكبرك لتكظم غيظك، وهي تود لو إنها تمتص كل دمك معتبرة أن من حقها أن تفعل لان دمها الضعيف يطلب دماً ليتقوى، فهي لا ترى جناحاً عليها إذ تنشب حمتها في جلدك. إن هذه الجروح الصغيرة لتذهب بالألم إلى مدى بعيد في حسك المرهف، فتتدفق صديداً يرتعيه الدود. أراك تتعالى عن أن تمد يدك لقتل هذه الحشرات الجائعة، فحاذر أن يجول سم استبدادها في دمك
إن هؤلاء المشاغبين يدورون حولك بطنين الذباب، فهم يرفعون أناشيدهم تزلفا إليك ليتحكموا في جلدك ودمك. انهم يتوسلون إليك ويداهنونك كما يداهنون الآلهة والشياطين، فيحتالون عليك بالملاطفة والثناء، وما يحتال غير الجبناء
انهم يفكرون بك كثيراً في سرهم فيلقون الشكوك عليك، وكل من يفكر الناس به كثيراً تحوم حوله الشبهات
انهم يعاقبونك على كل فضيلة فيك ولا يغتفرون لك من صميم فؤاد هم إلا ما ترتكب من أخطاء. انك لكريم وعادل، لذلك تقول في قلبك: (إن هؤلاء الناس أبرياء وقد ضاقت عليهم الحياة) ولكن نفوسهم الضيقة تقول في نجواها: (إن كل حياة عظيمة إنما هي حياة مجرمة) ويشعر هؤلاء الناس بأنك تحتقرهم عندما تشملهم بعطفك، فيبادلونك عطفك بالسيئات. انك لتصدعهم بفضيلتك الصامتة فلا يفرحون إلا عندما يتناهى تواضعك فيستحيل غروراً. إن الناس يطمحون بالطبع إلى الهاب كل عاطفة تبدو لهم، فأحذر الصعاليك لأنهم يحسون بصغارهم أمامك فيتحمسون حتى ينقلب إحساسهم كرها وانتقاماً
أفما شعرت انهم يخرسون عندما تطلع عليهم، فتبارحهم قواهم كما يبرح الدخان النار إذا همدت
اجل ياصديقي، ما انت إلا تبكيت في ضمائر أبناء جلدتك لأنهم ليسوا أهلا لك، فهم لذلك يكرهونك ويودون امتصاص دمك
إن أبناء جلدتك لن يبرحوا كالحشرات المسمومة لان العظمة فيك ستزيد أبداً في كرههم لك
إلى عزلتك، يا صديقي، إلى الأعالي حيث تهب رصينات الرياح، فانك لم تخلق لتكون(185/52)
صياداً للحشرات
هكذا تكلم زارا. . .
العفة
احب الغاب، فما تسهل حياة المدن علي وقد كثر فيها عبيد الشهوات الثائرات
لخير أن يقع الرجل بين براثن سفاح من أن تحدق به أشواق امرأة جامحة ملتهبة
إنك إذا ما تفرست في رجال المدن، لتشهد لك نظراتهم بأنهم لا يرون في الأرض شيئاً يفضل مضاجعة امرأة. . .
في أغوار أرواحهم ترسب الأقذار، وأشقاهم من تمرغ عقله بأقذاره
ليتك حيوان اكتملت حيوانيته على الاقل، ولكن أين منك طهارة الحيوان؟ ما أنا بالمشير عليك بقتل حواسك؛ إن ما أوجبه إنما هو طهارة هذه الحواس
ما أنا بالمشير عليك بالعفة، لأنها إذا كانت فضيلة في البعض فإنها لتكاد تكون رذيلة في الآخرين. ولعل هؤلاء يمسكون عن التمتع، غير أن شبقهم يتجلى في كل حركة من حركاتهم
إن كلاب الشهوة تتبع هؤلاء الممسكين حتى إلى ذرى فضيلتهم فتنفذ إلى أعماق تفكيرهم الصارم لتشوش عليه في سكينته؛ ولكلاب الشهوة من مرونة الزلفى ما تتوسل به إلى نيل قطعة من الدماغ المفكر إذا منعت قطعة اللحم عنها
إنكم تحبون المآسي وكل ما يفطر القلوب، أما أنا فلا أثق بكلاب شهواتكم لأن نظراتكم الرصينة تمتلئ شهوات عندما تقع على المتألمين؛ وقد تنكر الشبق فيكم فدعوتموه إشفاقاً وأني لأضرب لكم مثلا على هذا: حالة العدد الوفير ممن أرادوا طرد الشياطين فدخلوا هم في الخنازير بدلاً منها
إذا ما ثقلت العفة على أحد منكم فعليه أن يعرض عنها كيلا تنبسط أمامه سبيلاً إلى الجحيم، جحيم أقذار النفس ونيرانها
لعلكم ترون بذاءة في كلامي، أما أنا فأرى البذاءة حيث لا ترونها انتم
ليست البذاءة في قذارة الحقيقة، بل هي في تدنيها وإسفافها، وطالب المعرفة يأنف من الانحدار إلى مهاويها(185/53)
إن من الناس من دخلت العفة قلوبهم فلانت هذه القلوب لها. أولئك هم الضاحكون وفي ابتسامهم ما ليس في ابتسامكم من إخلاص. انهم يهزءون بالعفة ويتساءلون عما يمكن أن تكون أفليست العفة غروراً؟ أفليست هي التي جاءت إلينا ولم نذهب نحن إليها؟ لقد فتحنا قلبنا لها فاستقرت ضيفاً ثقيلاً فيه، فليبق هذا الضيف نازلاً فينا ما طاب له المقيل
هكذا تكلم زارا. . .
(يتبع)
فليكس فارس(185/54)
إلى شباب الوادي
للأستاذ محمود الخفيف
تنفّس صُبحكمو المنتظر ... فلله هذا الصباحُ الأغرْ
تهَلَّلَ في المهد سمحَ الجبين ... رفيف الحواشي بِهيَّ الغُرر
على جانبيه يفيضُ اليقينُ ... ويلمعُ في مُقلتيهِ الظّفرْ
وتضحك بين يديه المنى ... وتبدو البشائرُ ملَء البصر
ثقيفَ العزيمة في مهده ... يريك نبوغَ صِباهُ الصِّغر
جريء الوثوب إلى مبتغاه ... ذكي الفؤاد وثيق الحذَر
يفيضُ على الأرض من ذَوبه ... نُضارٌ يكلِّلُ هام الشجر
وتحنو عليه بناتُ الهديل ... وتنثر في المهرجان الزَّهَرْ
ويزُهي الوجودُ بهذا الوليد ... وينسى لديه وضئ البُكَرْ
ويستقبلُ الشرق من وَمضه ... معاني تبعث حُلو الذِّكَرْ
أناشيد جاشت بهن النفوس ... يقصِّرُ عنهن لحن الوتر
تُرنُّ بأيامه الحافلات ... وتومي إلى سرِّه المدَّخر
وتوحي إلى مصر من مجدها ... ومُعجز آياتها ما غبر
تدبُّ بواديه روحُ الرَّجاء ... ويُحصي القرونَ إليه النهر
وقد طال بالنيل عهد الهوان ... وبالأمس كان عزيز النفر
وما عرف النيل معنى الخلاص ... ولا لَمَحَ النصر حتى سفر
فيالك صبحاً جرى نورُه ... فبدَّد من ليلنا ما اعتكر
نرى حُمْرَةَ الورد في أفقه ... بشير السلام جلاه السَّحَرْ
وما كان يقطر إلا النجيع ... وما كان يلبس إلا العَفَرْ
تلقته مصرُ لقاَء الرؤوم ... ألح عليها الضنى والسهر
وطال المخاضُ وطافت بها ... صنوف الرزايا وشتَّى الغِير
عبرنا إلى شطَّه الحالكاتِ ... وخضنا الحتوف إليه زُمرْ
دعاَ الأعْزَلُ الشيخ أشْبَالَهُ ... فضج له الغاب لما زأر(185/55)
وراحت تُعربدُ ريح المنون ... وترمي صواعقها بالشرَر
تقدَّم يزجي صفوف الجهاد ... وليس من الموت فيه وَزر
عنيد الخصومة صعب الأباء ... شديد المراس جليل الخطر
على رأسه من جلال المشيب ... هدًى ومن الحق نورٌ بهر
وليس بيمناه غيرُ اليقين ... إذا غيره بالسنان افتخر
فتىَّ الفؤاد له عزمةٌ ... تذيب الحديد وتفري الصخَر
سل الموت كيف طغى موجه ... وكيف صبرنا له فانحسر
سل المجد كيف ارتخصنا النفوس ... وكيف ارتضينا ظلامَ الحُفر
وكيف انثنت دوننا الحادثاتُ ... وكيف انجلت جائحات الغمر
سل الحرب من خاضها قبلنا ... بغير القنا والظبا فأنتصر؟!
بني مصر وافاكمو يوُمكُمْ ... وثاب الزمان ولان القدر
جعلتم من الروح مهر الخلاص ... فسال بها من دمكم وانتشر
وَما ضنَّ حُرٌّ غداة النضال ... وَلا مَنَّ يوماً بها من مَهَرْ
فلله موقفكم في الفداء ... ولله سيرتكم في السِّير!
ومصر لكم في غدٍ أمرها ... أعدوا لها من جليل الأثر
بني مصرَ لا يُكتفَي بالصباح ... فقد يعقب الصَّفْوَ فيه الكدر
هلموا فما دون رأْدِ الضحى ... وما دون جذوته من وطر
هلموا إلى صهوات العلى ... فما ضلَّ ساع لها أو عثر
وكونوا لها في ظلال السلام ... كما كنتمو في غواشي الخطر
فليس السلام ركوناً وعجزاً ... وَلكنه همة تُعتصر
شبولَ الحمى لن يِذِلَّ الشبولُ ... وَلن يعرف الليث معنى الخور
زمانكمو للجريء النطاح الد ... ؤوب الجلادِ القويِّ الظفُر
لكل كميِّ يخوض الوغى ... إذا شب جانِبُها وَاستعر
وَلن تتناعس أظفارُه ... إذا زحمته ذئاب البشر
فروضوا على البأس أخلاقكم ... ير العَصْرُ من روحكم ما استتر(185/56)
وَيرهب أحلافُكُمْ وُدَّكُمْ ... ودادُ الأعزَّة لا يحتقر
ألستم طلائع هذا الوجود ... أصول الحضارة فيمن عَمَر؟
أفيضوا على مصر من روحكم ... شباباً يرد لها ما اندثر
خذوا الوحي من أمسها العبقريِّ ... وَمن يومها بالغات العبر
أشيروا إلى غدها في الكفاح ... وَغنوا بحاضرها في السَّمَرْ
شبول الحمى قد تولى الشتاء ... وَوَافى ربيع المنى وَازدهر
وَليس الربيع جمالاً فحسب ... يهز القلوب وَيَسْبي النَّظر
وَلكنه قوة لا تني ... وَبَعْثٌ تراه شتيت الصُّور
نماءٌ وَخَلْقٌ وَحُرِّيةٌ ... إلى سرها جو مصر افتقر
وَانتم لعمري رياحينُه ... وَزينته وَشذاه العَطِر
أعيذكمو أن تشينوا الربيعَ ... وَأن تذروا غرسه يهُتصر
فصونوا عن اللهو إكليلكم ... وَإلا ذوَى عِقدُه وَانتثر
غدا نبتني صرحنا عالياً ... وَنجني من الغرس أحلى الثمر
الخفيف(185/57)
تأملات. . .
المصباح الناعس
للأديب احمد فتحي مرسي
خافقٌ في الظلام كالأملِ البا ... سم قد فاض في القلوب وَرَفّا
هامسٌ كالشفاه تهمسُ في رف ... قٍ بما نمَّ عن أساها وَشفّا
ناعس كالجفون أدركها الأي ... نُ فَلبَّى الكرى نداها وَخَفّا
باسمٌ كالطيوف في حُلُم الصبِّ (م) ... توالت عليه طيفاً فطيفا
راقصٌ كالظلال في نغم الروْ ... ض إذا الروضُ فاض شدواً وَعزفا
وَكأن الظلامَ جْمعٌ من الخل ... ق غفيرٌ يلوح صفًّا فصفّا
وَكأن المصباح في وِقفْةِ الوا ... عظ شيخٌ ينوءُ وَهْنَا وَضعفا
أُرتِجَ القولُ وَالخطابُ عليه ... فبدا في الظلام يرجف رَجفا
فاغراً فاهُ، فَاتحاً شفتيه ... دون أن يَلفِظَ - العَشيَّة - حرْفا
نشر الليلُ بردتيه وَأَرخى ... فوق هامِ الربى مُسوحاً وَسُجفا
وَالنجومُ اُلوضاءُ تخفق في الأُف ... ق وَريحُ المساءِ تعصفُ عصفا
وَكأن الظلام بحر خضمٌّ ... يَفرَقُ القلب منه رُعباً وَخوْفا
وَكأن المصباحَ فيه غريقٌ ... بين لجاته يلوح وَيخفى
يغلب الموج ساعديه فينأى ... كلما قارب النجاة وَأوْفى
أيُّهذا السجينُ في ظلماتِ اللي ... ل كيف الخلاص مِنْهن كيفا؟
أنت في قبضة الظلامِ أسير ... في صِفادِ السهادِ ترسف رسفا
ساهرُ الجفن قيدتك يد اللي ... ل فلهفاً عليك في القيد لهفا
وَالفراش الوديع يرقصُ حولي ... ك وَيروي صداه لثماً وَرشفا
أي شيءٍ أحبُّ من رشفةِ الضو ... ءِ وَأحلى من السناءِ وَأشفى
أي شيء ارق من لمحة النو ... رِ وَأبهى من الضياء وَأصفى
عَشِقَ الحرق في سناكِ قريراً ... وَتمنّى لوْ مدَّ للموت كفا. . .
رُب نفس هفت إلى النور وَالحس ... ن وَلو كان ثَّم موتا وَحتفا(185/58)
هكذا هذه الحياةُ شُعاعٌ ... في ظلام الوجود يخَطَفُ خطفا
يغِلبُ الليل وَالظلامَ فيحيا ... أو يغير الدجى عليه فيُطفْاَ
أحمد فتحي مرسي(185/59)
الفنون
رمبراندت
للدكتور أحمد موسى
أراد الله أن يكون خلود الشخصية وقفاً على الغنى أو الجاه، كما شاء ولا راد لمشيئته أن يمنح الإنسان عقلاً يميز به موضع الجمال في خلقه، فيقدسه ويستلهم منه وحياً لحياته التي لا تعتبر حياة بمعناها الكامل إلا إذا رجعت في جوهرها إلى التمييز
وكأن الشخصية التي نحللها اليوم من تلك الشخصيات التي لم يكن للغنى يد في تخليدها، ولا للجاه أي اثر في تكوينها، بل رجع الفضل فيها إلى الفن الذي عبر عنه رمبراندت تعبيراً استلهمه من الواقع الملموس طامحاً به إلى الكمال المنشود
ولد رمبراندت فان راين في منتصف يوليو سنة 1606 بليدن لأبوين فقيرين، اشتغل الوالد طحاناً محدود الرزق؛ أما أمه فكانت الزوجة المخلصة البريئة
شب الولد بسيط النشأة والمعيشة لم ير أحد على ملامحه أي اثر للنزعة الفنية، كما انه هو نفسه لم يكن يدري ماذا يكون من أمره في مستقبل الأيام
والشخصية في نظر التاريخ لا يتحتم أن تكون فذة في العلم أو الأدب، ولا في السياسة أو الحرب؛ لان الحضارة في اكمل معناها تقوم على أركان لا يقل الفن فيها قيمة عن أي ركن آخر، بل إن شيلر شاعر ألمانيا الأعظم يقول: (إن الحضارة الحق يجب أن تمهد سبيل الحرية للإنسان، وأن تعينه على الوصول إليها، كما يجب أن تشغل فراغ عقله حتى يصبح بها قادراً على الشعور بوجدانه مادام انه مخلوق ذو إرادة)
وهكذا كان إنتاج رمبراندت ممهداً السبيل للشعور بالحرية في تراثه المجيد، الذي إذا تأملناه شعرنا بالوجود، وانتعشت فينا الإرادة إلى العمل والانتاج، بل والى الاستمتاع إلى حد بعيد، اعني انه ترك وراءه ركناً هاماً من أركان الحضارة الإنسانية!
ونبوغ التلميذ لا يتوقف دائماً على قدرة أستاذه؛ وهذا ما يلاحظ على رمبراندت؛ فعندما التحق بالعمل عند سواننبرج في ليدن سنة 1621 لم يكن معلمه هذا من الدرجة الأولى؛ ومع انه استمر يتلقى مبادئ الفن عليه ثلاث سنوات؛ فقد سافر إلى أمستردام لزيادة المعرفة؛ فتلقى الدرس على لاستمان نصف سنة عاد بعدها إلى بلدته ليدن، وبدأ حياته(185/60)
العملية مستقلاً في آخر سنة 1631، اعني عندما بلغ الخامسة والعشرين؛ إلا انه ظل - ولو أن أول لوحة له مؤرخة سنة 1627 - يواصل الليل بالنهار في المران والمشاهدة، حتى إذا ما بلغ الثلاثين كان أستاذاً معترفاً به
تزوج رمبراندت في أواخر يوليو سنة 1634 من زاسكيا فان اولنبرج، فأتمت عليه نعمة الحياة؛ ولم يكن اختياره لها لمجرد الهدوء إلى جانب زوجة، بل لأنه وجد فيها خير معين؛ وكان القدر قاسياً، فلم تمض ثماني سنوات حتى فرق الموت بينهما
كانت وفاة زاسكيا فاتحة مصائب كثيرة، تراكم دينه، وساءت حاله؛ بعد أن كان من عشاق جمع الصور النادرة والتحف الثمينة، اصبح والمحكمة تحدد موعداً لبيع بيته وما فيه
وكانت هندريكا ياجرز مدبرة بيته عاشقة له معجبة به، فتقدمت بمالها الخاص وأنقذت الموقف ولم يتم البيع
أثرت هذه الصدمات تأثيراً فعالاً في اتجاه الفنان، نتبينه في لوحات كثيرة له، فنرى بعضها تشمله روح اكتئاب وحزن ظاهرين
توفي رمبراندت في اليوم الثامن من أكتوبر سنة 1669 بعد حياة مليئة بالإنتاج الفني الهائل، الذي تخلله هدوء العيش حيناً، وآلام النفس أحياناً أخرى، معتبراً في التاريخ العام وتاريخ الفن إماماً لفناني المدرسة الهولاندية إطلاقاً
وتاريخ الفن لا يعنى بإنتاج الفنان من حيث الكثرة؛ وإنما يعني أول ما يعني بقدرته على الابتكار، ولمس النواحي التي لم يسبق لغيره معالجتها، ولذا يقول كارل بوليوس فيبر بان الفنان الجدير بالتسمية هو ذلك الذي ينتج ما لا يستطيع غيره انتاجه؛ لاننا نقول أن إنتاجاً ما بعيد عن الفن إذا استطاعت الكثرة عمل نظيره
ترك رمبراندت حوالي الخمسمائة لوحة، صورها خلال ثلاثين سنة، مثلت المناظر التاريخية الدينية، والشخصية، والطبيعية بروح لا يمكن لغيره تصويرها
حفظت المتاحف والكنائس كثيراً منها، وتتباهى الممالك بكثرة ما بمتاحفها وكنائسها من عمله، وتوجد أربعون لوحة منها بمتحف بطرسبرج ومثلها بباريس وكاسل وامستردام، واثنتا عشرة ببرلين واقل من ذلك بفينا ومدريد
هذا عدا ما هو في حيازة الأفراد؛ فلدى ملك إنجلترا ودوق وستمنستر والليدي والاس،(185/61)
واللورد البسماير بلندن، وهافمير بنيويورك، ورودولف كان بباريس، وكارستانجن ببرلين والليدي سيكس بامستردام قطع من تصويره
أما الدارس للوحاته فنه يرى ما يفيض عليها من صدق التمثيل للحقيقة متمشياً في ذلك مع مذهب الواقع فضلا عن انه من ناحية مذهب الكمال لا يقل بحال عن كبار الفنانين، كما يلمس فيها روح القوة العنيفة المتغلغلة في إخراجها وسحر الألوان المشتملة عليها، والقدرة التي أصبحت مضرب الأمثال في تكوين الظل والنور، اللذين لا يزالان مثلاً أعلى يحتذي به إلى هذا العصر
بهذا الظل والنور ابرز رمبراندت الجمال التكويني والمجموعي إبرازاً يعتبر أدق ما أمكن الوصول إليه، مكونا طرازاً خاصاً انطبعت عليه نفسه، وعرف باسمه على مر القرون
ويعتبر إنتاج رمبراندت إجمالاً المقياس الصادق لقوة الفن الجرماني؛ إذ بشخصيته الممثلة في طرازه يتم التوازن بين عظمة الفن الروماني في كفه، والفن الجرماني في الكفة الأخرى
فسر رمبراندت الكتاب المقدس على لوحاته تفسيراً سهلاً من الناحية الوضعية، ولكنه قوي من الناحية الفنية، متخذاً مادته من الطبيعة المحيطة به، أما الأشخاص فقد كانوا من مجاوريه، حتى أشخاص أقاصيص كتاب العهد القديم كانوا من يهود هولاندا المعاصرين. ومن كل هذالا نرى فيه فناناً عبقرياً فحسب؛ بل مسجلاً ومؤرخاً صادقاً في كل ما صور، لأنه لم يعتمد الخيال كل الاعتماد، بل على الموجود الملموس
أخرج اللوحات الشخصية إخراجاً فذاً، فصور أبرز رجال عصره تصويراً دقيقاً، كما صور حوالي الأربعين لوحة لنفسه حينما كان يخلو مستلهماً بين حين وآخر؛ ولذلك ترى في هذه الأربعين لوحة صفحة كاملة لتكوينه النفسي والفني، وتطوره في تفكيره وفهمه لحقيقة الوجود
ومن أهم هذه الصور لوحته المحفوظة بمتحف برلين والمؤرخة سنة 1634، ولوحته المحفوظة بالهاي 1634 أيضاً، وبفينا سنة 1635، وباللوفر سنة 1637، وفي لندن بالناشونال جاليري سنة 1640، وبيكنجهام بالاس في لندن سنة 1642
ومن أحسن صوره لنفسه من الناحيتين الإنشائية والفنية تلك اللوحة التي مثلته جالساً على(185/62)
مقعد وثير، وهي في حيازة اللورد الشستر بلندن ومؤرخة بسنة 1658، وكذلك واحدة أخرى في باريس مؤرخة بسنة 1660 وثالثة في لندن بالناشونال جاليري سنة 1664
أما آخر صورة من هذه المجموعة فهي مؤرخة بسنة 1669 أعني قبيل وفاته، وهي في حيازة السير ريلد بلندن
وصورته لنفسه لا تنم عن عظمة مصطنعة ولا تجميل مرغوب فيه، ولا تكلف لضعف في الإخراج. تراه وقد أسدل الشعر على كتفيه متفنناً بدقة وانسجام، مكوناً للوجه من حوله مكاناً ملاصقاً لسواد الشعر؛ فأبرزه خير إبراز؛ كون فيه شخصيته دون جفاف؛ فترى نظرة العينين وما ينطوي فيهما اقرب إلى الآلام منه إلى مسرة الحياة، ولكن هذا ليس غريباً على رجل كامل الحس، فنان بنفسه ولحمه ودمه، صادف آلاما مبرحة فضلا عن نظرته الخاصة إلى الحياة
وله لوحة (بمتحف درسدن) خالدة، تنبض بالحياة، تمثله وزوجته زاسكيا في مرح وسعادة، والمشاهد لها يدهش للقدرة العظيمة التي استطاع بها أن يجعلها فذة مودية للغاية التي صورها من اجلها، فجاءت ملامح وجهيهما ناطقة بالهناء والتوفيق. انظر إلى يده اليمنى رافعة كأساً امتلأت لنصفها، والى صفاء لون الخمر فيها، ثم المس جمال الإنشاء العام ولاحظ قوة الظل والنور التي جعلتها مجسمة
ولوحته لمدبرة بيته هندريكا، وهي مؤرخة سنة 1663 ومحفوظة بمتحف برلين، والمجموعة المحفوظة بقلعة وندسور ومنها لوحة لأمة، وصورة أخيه أدريان لابساً خوذة ذهبية ومؤرخة 1650، ومحفوظة بمتحف برلين، وصورة ابنه تيتوس المحفوظة بمتحف فينا، عدا الكثير لأبيه وأخته، كل هذه تكون لك ناحية جلية لقوته
أما اللوحات التي صورها للشخصيات البارزة في عصره فهي أيضاً مجموعة جديرة بالتسجيل هنا. من أهم ما فيها صورة الخطاط كوبينول مؤرخة 1631 ومحفوظة ببطرسبرج، وصورة اليزابيت باس، وصورة حرم الأدميرال سوار تنهوت في امستردام، وصورة العمدة بانكراس وحرمه مؤرخة سنة 1645 في قصر بكنجهام بلندن، وصورة الطاهية مؤرخة 1651 بمتحف ستوكهلم، وصورة جان سيكس مؤرخة 1654، ومحفوظة بسيكس جاليري في امستردام(185/63)
واهم لوحاته العامة صورة الصيرفي وهي مؤرخة 1627، ترى أن ابرز ما عليها شخصية الصراف الجالس إلى منضدة، ملتفتاً إلى محدثه في شيء من التردد، واضعاً يديه عليها، قابضاً باليسرى على كيس نقوده، واليمنى في حالة استعداد لأخذ قطعة النقود من محدثه. وترى على يمينه كاتب الحسابات جالساً مصغياً، شاخصاً بعينيه إلى المتكلم، وقد امسك ريشة الكتابة بيمينه، ووضع اليسرى على الكتاب وضعاً في غاية الدقة لا يوفق إليه غير رمبراندت والوجوه خلف الصورة لا تقل روعة عما في مقدمتها، إلا أن مهارة الفنان جعلت المشاهد يدرك تماماً ابرز وضع للوحة واهم ما يقصد منها بمجرد النظر إليها، لما خيم عليها من ضالة النور المتعمدة. أما الظل والنور فهما واضحان بالنظر إلى الظل الواضح على صفحة الكتاب تحت يد الكاتب، وكذلك ظل الكتاب فوق المنضدة، فضلا عما تراه من الظل على الجانب الأيسر لوجه الصيرفي؛ على حين جعل الجانب الأيمن منيراً. وظهر الشعر المجعد ظهوراً غاية في الدقة. وتدل ملامح وجه المتكلم على الرجاء والالتماس بكل قوة.
وله لوحة اسماها (دانيا) وهي صورة لامرأة عارية بالحجم الطبيعي مؤرخة سنة 1636، محفوظة ببطرسبرج، وصورة المراكبي وامرأته وهي في حيازة ملك إنجلترا، وصورة كوينتابل في سان ريمو؛ وصورة امرأة تستحم مؤرخة سنة 1654 بلندن؛ وصورة العروس اليهودية مؤرخة سنة 1665 بامستردام؛ وكذلك صورة رجال الكنيس اليهودي في جنازة دوق دوفنشير. هذا عدا صوره لرجال ونساء عجائز تعد من آيات الفن، معظمها محفوظ بلندن وبطرسبرج وبروكسل ودرسدن
(لها بقية)
أحمد موسى(185/64)
البريد الأدبي
الأدب العربي الحديث
جاء في جريدة (النوفيل ليترير) الفرنسية ما يأتي:
كثيراً ما يقال ومازال يقال: إن تلك الصلة الوثيقة التي تجمع الشرق والغرب لا يجب إنقاذها مما هي سائرة إليه فحسب، بل يجيب تمكين أواصرها، وتوثيق عراها؛ وهذا بالطبع لا يتأنى إلا تبادل الأفكار وتناقل الآراء. . . فما الذي يعرفه الغربيون عن الأدب العربي الحديث؟. وما الذي يعرفه الغربيون عن تلك النهضة الأدبية الحديثة التي يحمل لواءها شباب مصر، وتلك الباكورة الأدبية الطيبة التي تتزايد في ربوع النيل يوماً بعد يوم؟
ويسرنا أن نشكر جهود هؤلاء الكتاب الذين بذلوا ما في طاقاتهم في سبيل نشر هذه الآداب في ربوع الغرب، وفي طليعتهم الكاتب الفرنسي القدير موريك برن. . . فهو لا ينفك يعمل منذ اثني عشر عاماً على أحكام الرابطة بين الفكرين الشرقي والغربي. ولم يقتصر على ما بذله في سبيل ذلك من الجهود التي ترمي إلى تبادل الآداب والفنون، بل نرى له اليوم جولة أخرى في ميدان الترجمة اعتزم فيها أن ينقل أفكار أعلام الأدب العربي الحديث إلى اللغة الفرنسية، وقد بدأ جولته - بالاشتراك مع الأستاذ. م. خضري - بترجمة رواية توفيق الحكيم الرائعة (شهرزاد)
وقد سئل موريك برن لماذا آثر تقديم توفيق الحكيم على غيره من كتاب العربية، فأجاب:
- إن توفيق الحكيم - دون منازع - هو اقدر كتاب العربية في التأليف القصصي (الدرامي) وهو الكاتب المسرحي الأول في مصر. ومن روائع مسرحياته رواية (أهل الكهف) التي قامت دار الأوبرا الملكية المصرية بتمثيلها في الشتاء الماضي ولا تقل (شهرزاد) عنها قوة ولا روعة
فسئل: ألا يكتب توفيق الحكيم غير المسرحيات؟ فأجاب:
- كلا. . . إن له أيضاً باعاً طويلا في غير المسرحيات. . . فهو اقدر كتاب العربية على تصوير الحياة المصرية خير تصوير. . ولست مبالغاً في ذلك؛ فعندما تقرءون روايته القادمة (عودة الروح) التي أوشكت على الفراغ من ترجمتها ستتثبتون من ذلك. وهذه(185/65)
القصة تصور حال أسرة مصرية ثرية تصويراً يبعث على الإعجاب في نفس القارئ؛ وسترون في شخص بطلها (محسن) الشاب المصري الذي يمتلئ حماسة ويفيض قوة وفتوة، مما يجعلني اكرر لكم أن توفيق الحكيم اقدر كاتب مفتن في تصوير الحياة المصرية اصدق تصوير
فسئل: ولكن لماذا اختار لها اسم (عودة الروح)؟ فأجاب:
- لأن القصة تصور كيف انبعثت من جوانح مصر روح جديدة جعلتها تحطم أصفادها، وتكسر أغلالها. فقصة (عودة الروح) هي قصة جهاد مصر ونضالها في سبيل استقلالها. . .
وأقول أخيراً إنه لن يمضي طويل من الزمن حتى نرى أدباء مصر الناهضة يتبوءون مكانهم اللائق من أدباء الغرب، فمن بواعث السرور أن نرى بينهم تلك النهضة الأدبية الموفقة التي تنتظم ربوع النيل
محمد عاكف بك
نعت الرسالة في عددها الأخير الشاعر الكبير محمد عاكف بك، ولما كنت من الذين عرفوا الفقيد شاعراً، واعجبوا به، وترجموا بعض آثاره إلى العربية، فأني اكتب هذه الكلمة الصغيرة للتعريف بالنواحي التي عرفتها من أدبه، تاركا للدكتور عزام صديقه ما وراء ذلك من تعمق واستقصاء
سمعت بالفقيد بعد أن اصدر ديوانه (الظلال) وقد كان يترجم لي إلى النثر العربي، كان يترجمه صديقي الأستاذ محمد محمد توفيق
وأول ما قرأت له مقدمة ديوانه الظلال، وهي قصيدة تشرف على العشرين بيتاً، عنوانها خسران، وفي نهايتها يقول:
(وذلك نظمي بالعربية)
وصدى تألميَ العميق يضيع في ... تجويف هذى القبة الزرقاءِ
وكذاك خسراني الذي أودعته ... في شعري المتأجج الوضاء
لهفي عليه يئن أنا خافتاً ... وكأنه ما خط من لأوائي!
ولست اذكر هذه القصيدة بتمامها، ولم أعثر عليها في أوراقي، ووددت ووجدتها فنشرتها(185/66)
على الناس فإنها تفيض بإسلامية الرجل، وحبه للجامعة الإسلامية التي يتمناها، وفي ذلك يقول:
. . . . . . وغايتي ... أن يستعيد نفوذه الإسلامُ
والصوفية العميقة هي الطابع الذي يغلب في شعره، قرأت منها قصيدة عنوانها (الوحدة) اشتغل الآن بنقلها نظماً إلى العربية، وقد بلغ الذروة العليا في تصوير الإحساس، وقد استهلها بقوله:
من منذ آبادً وآباد وإي ... ماني لنورك ظامئ لم ينهل!
وله منها قصيدة نظمها وهو منحدر إلى الحجاز حاجاً، وأبدع فيها أيما ابداع، ولعلها خير ما قيل في هذا على الإطلاق
وفي شعره موسيقى تتملك عليك مشاعرك، وقد أعجبتني قصيدة له سمعتها بالتركية فافتتنتبها وترجمتها إلى العربية نظماً وعنوانها على قبر شهيد؛ وهاهي ذي:
خليليَّ إن الأولى يبذلو ... ن نفوسهمُ فدية للوطن
مسجّون تحت سجوف السما ... ء، يحيط بهم دمهم كالكفن
ومثل أولئك عاشوا وماتوا ... وهانوا. . . وأوطانهم لم تهن. . .
ولا يسكنون الثرى بل لهم ... غوادً برحمته رائحه
ولا يطلبون إلى عابر ... قراءة شيء سوى الفاتحه
وقد اعجب رحمه الله بالترجمة لما رآها وشكر لي الدقة التي راعيتها فيها. رحم الله الفقيد، وعوض الأدب عنه خيراً ووفق إخوانه وأصدقاءه أن يترجموا لنا عربياً حتى نستمتع بأدبه وقوته
العوضي الوكيل
وحي القلم للرافعي
أصدرت لجنة التأليف والترجمة والنشر في هذا الأسبوع الجزء الأول والثاني من كتاب (وحي القلم). والأستاذ الرافعي من أفذاذ الألسنة البيانية في الأدب العربي كله قديمه وحديثه، وقد استقام قلمه على طريقة من البيان انفرد بها فعرفت به وعرف بها. وهذا(185/67)
الكتاب قد اجتمعت فيه روح الرافعي الفلسفية وروحه البيانية، وتعاونا على بناء الفن العربي بناءً جديداً فيه من الروعة والمتانة والتسامي والجمال كل بديع. وكل أديب عربي يحتفل بهذا الكتاب احتفالاً خاصاً لأنه قطعة من النفس العربية المتصلة بالماضي والحاضر والمستقبل، ويهتز له لأنه تعبير فني دقيق عن المعاني الغامضة التي لبثت قروناً لا تجد من يبن عنها إبانة الرافعي
محاضرة عن حاجتنا إلى الفن
يلقي الأستاذ محمود تيمور برابطة موظفي الحكومة شارع عماد الدين رقم 187 بعمارات الخديوي حرف (أ) محاضرة عن حاجتنا إلى الفن. وذلك في يوم الخميس 21 يناير سنة 1937 في تمام الساعة السادسة مساء. وتطلب التذاكر من دار الرابطة أو من المحاضر بشارع الأمير حسين رقم 6 بالزمالك بالقاهرة(185/68)
النقد
سلسلة الموسوعات العربية
معجم الأدباء
للدكتور عبد الوهاب عزام
كان للأستاذ محمود مصطفى أرباً في أن يصدني عن نقد معجم الأدباء، أو مصلحة في أن يحسب من المجادلين عن ناشري الكتاب. فهو لا يألو جهداً في أن يشغلني بمناقشة غير سديدة
نشرت (الرسالة) للأستاذ رده في سبعة مآخذ مما أخذته على المعجم في مقالي الأول، ثم طلع على الناس في جريدة المصري بمقال قال فيه:
(فقد كانت المآخذ عشرة فما زال بي (يعني صاحب الرسالة) حتى نزلت له عن اثنين فيها. فلما حاول أن انزل له عن ثالث لم اقبل فتظاهر بالرضى عن نشره، ولكنه حين خلا بنفسه حذف ذلك المأخذ، وما كنت احب أن يكون منه ذلك. والأعجب من هذا انه حين ناقشته بعد ظهور المجلة في أمر هذا الحذف كان جوابه أن الدكتور عزاما لم يرض عن نشره)
وأنا اعرف أن الزيات نصح الأستاذ أن يحذف جداله في بعض الكلمات تنزيها له وللرسالةعن اللغو لا إشفاقاً من حججه الدامغة. وقد أبى الأستاذ إلا أن ينشر على الناس المآخذ الثلاثة التي نصحه الزيات بحذفها؛ وليس أدل على نصح صاحب الرسالة، ولا ادمغ لحجة الأستاذ محمود من نشر هذه الكلمات
1 - قال الأستاذ إن مرو الشاهجان ينبغي أن تكون بكسر الهاء. وهذه حجته: (إن التركيب إضافي في اللغة الفارسية، ومعنى مفرداته هكذا. المرو=المرج. الشاه=الملك. جان=نفس أو روح فالمعنى على ذلك: مرج نفس الملك. والقاعدة في اللغة الفارسية أن جميع كلماتها مهملة الإعراب ملازمة السكون إلا في موضعين: الموصوف وأول المتضايفين فهما يكسران، وذلك يعرفه من ألم اقل إلمام بهذه اللغة، فمن اجل ذلك كان كسر كلمة الشاه واجبا. . . ويظهر أن لهذا المآخذ شاناً خاصاً إذ كان هجوما فانتصارا من اعزل مثلي (لم يجلس إلى معلم الفارسية إلا شهراً أو شهرين) على عالم جليل يفوق أهل اللغة علما(185/69)
بأسرارها. فهذا ما حدا بصديقه الأستاذ الزيات إلى تخطيه التقليد الواجب في مثل هذا المقام) اهـ
وأقول إن للكتاب محنا، واشدها على أنفسهم أن يضطروا إلى الجدل في الصغائر وان يرجعوا القهقرى إلى عهد الكتاب
إن تفسير مرو الشاهجان بما فسره الأستاذ منقول من معجم البلدان، وقد قرأته منذ أمد بعيد وعددته من هذيان ياقوت في تفسير أسماء البلدان. كالذي يقوله عامة مصر في تفسير الفيوم بألف يوم، والبدرشين بقول يوسف الصديق حين رأى زليخا عجوزاً: اصبح البدر شينا الخ
والصواب: أن مرو الشاهجان تعريب مرو شاهكان، أي مرو الشاهية. وتفسير هذا لا يفهمه من درس الفارسية شهراً أو شهرين
ولو سلمت للأستاذ هذه الخرافة ما بلغت به غايته، فمن (ألم اقل إلمام) بالفارسية يعلم أن القاعدة التي ذكرها الأستاذ غلط. ولو انه (جلس إلى معلم الفارسية شهراً أو شهرين) لعرف أن المضاف إذا تقدم يكسر، فإذا عكست الإضافة وتقدم المضاف إليه لم يكسر، مثل عالمشاه وجهانشاه وخوانسلار وهلم جرا.
ومقتضى خرافة ياقوت التي تبعه فيها الأستاذ أن شاهجان معناه روح الملك فالمضاف إليه مقدم، فيجب أن يقال: شاهجان باسكان الهاء، وهذا الضبط مروي أيضاً.
هذا جدال الأستاذ في الفارسية، فلننظر أكان أقوم رأياً فيما يرجع إلى العربية وآدابها والإسلام وتاريخه
2 - في ص29 ج2 من المعجم: (لأن المهلبي مات بعمان) وفي الحاشية: عمان بلد في أطراف الشام. قلت الصواب: عُمان، لأني اعرف من تاريخ المهلبي انه مات بعُمان لا بعَمان. فانظر كيف يجادل الأستاذ. يقول: يفهم من كلامي أني لا اعرف أن في الشام بلدا اسمه عُمان. كأن اشتغالي بأمور المسلمين والعرب التاريخية والحاضرة، وذهابي إلى الشام ثماني مرات لم يعرفاني أن في الشام بلداً اسمه عمان. . . الخ. والحمد لله على أن أحداً غيره لم يفهم هذا من كلامي. ثم يقول: (فيثبت بواسع علمه أن المهلبي إنما مات بالتي على الخليج الفارسي (عُمان) ولم يمت بالتي في الشام، فإما مجرد التخطئة في الضبط فليس فيها(185/70)
إقناع مادام للبلدين وجود في العالم العربي الذي كان المهلبي يتولى الوزارة فيه) اهـ
يا أستاذ! المهلبي مات بعُمان، ولا يحتاج إدراك هذا إلى علم واسع فأقرا ترجمة المهلبي في معجم الأدباء نفسه لتعرف أين مات الرجل. كيف وأمامنا النص القاطع نقول أن المهلبي كان وزيراً في البلاد العربية فجائز أن يكون مات في كل بلد عربي؟ ولو لم نعرف بالنص أن الرجل مات بعُمان أو عمان لرجحنا الأولى، لأنا نعلم أن المهلبي كان وزيراً لمعز الدولة بن بويه، وبنو بويه لم يمتد سلطانهم على عمان قط. أرايت أيها الأستاذ أن الزيات نصحك ولم يغشك حين أشار عليك بالعدول عن الجدال في هذا؟
3 - جاء في الكتاب: (وأنفذت لشكرستان صاحبي الخ) فقلت الصواب لشكرستان، فوقف الأستاذ موقف الحكم يخطئ الناشر والناقد في ناحية ويصوب رأيهما في أخرى - ولو عرف أن الشكرستان هنا اسم رجل لا مكان لأراح نفسه من هذا العناء. فليخطئ نفسه ويسترح
4 - ورد في الكتاب السري الرفاء - فقلت الصواب تشديد الفاء. فقال الأستاذ إن المؤاخذة بهذه الشدة: (شدة متناهية) وان الذنب في هذا على المطبعة - وأنا أقول لولا أن الناشرين التزموا الشكل في كل حرف لما أخذتهم بهذا، وقد شكلوا حروف الرفاء كلها فشددوا الراء وفتحوا الفاء عبثاً. فلم يكن بد من أن أظن أن تخفيف الفاء مقصود. لأن من يشكل ما لا يحتاج إلى شكل لا يترك ما يحتاج إليه إلا عمداً
5 - وجاء في الكتاب من رسالة الخوارزمي إلى البديع: (ففيهم لعمري فوق ما وصف حسن عشرة وسداد طريقة وجمال تفصيل وجملة) فقلت الصواب أن ينصب حسن وما عطف عليه على إنها تمييز - فقال الأستاذ ما قال: ورماني بأني لم أدرك ما تقضي به بدائة النحو
والأستاذ في هذا مليم ومعذور؛ مليم بما حسبني قرأت الجملة كما قرأها فلم اهتد إلى أن (فيهم) خبر مقدم و (جمال) مبتدأ مؤخر. وكان عليه أن يفرض أن لي وراء هذه البدائة النحوية نظراً دقيقاً في الجملة عدل بي عن رفع الكلمات إلى نصبها، وكان عليه إذ لم يبن له قصدي أن يستوضحني ثم يجادل. وأما انه معذور فلأني لم اكتب الجملة كلها مصححة وكان يلزمني أن أعيدها كلها على هذه الشاكلة: (فهم فوق ما وصف حسن عشرة الخ) ولكن(185/71)
حرصي عل الإيجاز في نقدي كله أفاتني هذا البيان
وانظر ما الذي دعاني إلى تخطئة الجملة كما ضبطت في الكتاب: لو أني اكتفيت بقراءة الجملة وحدها أو قراءة رسالة الخوارزمي كلها لما أدركت السقم في هذه العبارة، ولكن قرأت رسالة البديع التي أجاب عنها الخوارزمي فأدركت الخطأ والصواب. وبيان هذا أن البديع كتب إلى الخوارزمي ينقم عليه سوء لقائه ويصف قومه في همذان بأوصاف هي في مضمونها حسن العشرة وسداد الطريقة الخ. وأجابه الخوارزمي معترفا بان قوم البديع أو أهل همذان فيهم هذه الأوصاف: حسن عشرة الخ فلا يمكن أن يكون معنى جملة الخوارزمي: إن قومك فيهم فوق ما وصفت: حسن عشرة الخ لان هذه الأوصاف ليست زائدة على ما وصف البديع، بل هي خلاصة وصفه، ويجب أن يكون مراد الخوارزمي أن القوم فيهم من حسن العشرة الخ فوق ما وصف البديع، وهذا لا يستقيم مع الجملة التي في الكتاب فالصواب ما رأيت. ويؤيد هذا رواية رسائل البديع المطبوعة في بيروت: فإما القوم الذين صدر عنهم سيدي فكما وصف حسن عشرة وسداد طريق الخ)
فهل يرى الأستاذ بعد هذا إنها غفلة عن بدائه النحو أو نظر دقيق وراء النحو والصرف لا يدركه إلا الموفقون لإدراك دقائق البيان؟
6 - جاء في الكتاب (وكان مفتياً في علوم شتى) قلت: الصواب متفنناً. وقال الأستاذ مفتنا. فقد وافقني على خطأ الكتاب. وأنا افرض أن مفتنا أصح من متفنن. ولكنا نبحث عن عبارة ياقوت، وهو قد استعمل (متفننا) في مواضع منها ما في ص238 ج2: وهو شاب فاضل بارع متفنن) وقد استعملها الناشرون أنفسهم فقالوا: (كان غزير الفضل متفننا في العلوم (ص107) فان ادعى إنها حيث وجدت في الكتاب محرفة عن مفتن فليؤاخذ بها الناشرين حيثما وجدها
وبعد فإني احمد للأستاذ غيرته في المجادلة عما يظنه صواباً، ولكني أود أن يتثبت ويتهم ظنه كثيراً وأن يجادل للحق لا طلباً للزلفى عند الناس. ثم أقول له خاتماً: أن أربأ بالأستاذ وبنفسي وبالقراء عن مثل ما جادل به في مرو الشاهجان، وعّمان، ولشكرستان الخ، فان عاد إلى المجادلة في أمثالها فليعذرني إذا لم يظفر مني بجواب وحسبي ما أضعت من وقتي في جداله(185/72)
ثم أعود إلى المعجم، منجزاً ما وعدت به من نقد تعليق الناشرين على الجزء الثاني:
سأتجاوز عن شرح البديهيات مثل السخط: ضد الرضا. والعواقب: جمع عاقبة آخر كل شيء. وسأترك شرح الفصول فان الناشرين يقولون إنا نريد أن نوضح الواضح وان نستطرد لإفادة القارئ كما يستطرد صاحبا الكامل والأمالي ولكل وجهة
ثم أعدد المآخذ الآتية:
ص30 - قول الصابي:
قُلّدتُ ديوان الرسائل فانظروا ... أعدلت في لفظي عن التسديد
أعلىّ رفع حسابَ ما أنشأُته ... فأقيم فيه أدلتي وشهودي
وفي الحاشية: (في هذا البيت لبس. ولعل حساب منونة منعت من الصرف للضرورة وتكون ما نافية والمعنى حساب ما أنشأته أو أن الأصل ما أنشيه) وليس في البيت لبس ولا ضرورة. وحساب مضاف إلى ما أي حساب الذي أنشأته. والمعنى أيلزمني أن أرفع إليكم حساب منشآتي كما يرفع صاحب الخراج حسابه الخ
ص38 - الكنف: الظل. وهذا تفسير مضلل للقارئ الذي فرضنا انه في حاجة إلى إيضاح الواضح. والتجوز لا يسوغ هذا الشرح، بل الكنف الجانب والناحية الخ
ص40 - (فتبعني بعض حجابه وعدل بي إلى البيت من داره) وفي الحاشية: عدل إلى الشيء رجع. وهذا تفسير إن صح في بعض الاستعمال لا يصح لتفسير الكلمة هنا. فهي هنا بمعنى مال وحاد
ص69 - العذار الشعر المتدلي بجانب الأذن؛ وهذا غلط. فالشعر المتدلي لا يسمى عذارا، وإنما هو الشعر النابت على جانبي الوجه
ص73 - الحائن: الأحمق. والذي نعرفه أن الحائن اسم فاعل من الحين أي الهلاك
ص74 - قول الصابي في وصف البق:
أحاط بي عسكر للبق ذو لجب ... ما فيه إلا شجاع فاتك بطل
في الحاشية: اللجب الصوت والجلبة. ما عهدنا للبق لجبا، وإنما ذلك للبعوض اهـ. أقول البق هو البعوض. ولا يعرف البعوض في العراق اليوم إلا بهذا الاسم
ص89 - الشريحة كل قطعة من اللحم - والصواب القطعة المرفقة من اللحم(185/73)
ص90 - الجمار الجزء الأبيض من طلع النخل - والجمار ليس من الطلع وإنما هو قلب النخلة أو شحمها كما يقول اللغويون وأسال أي عامي في مصر عن الجمار
ص107 - ذكر اسم الصابي في المتن. فأثبت الشارح في الحاشية ترجمته في خمسة اسطر. وقد مضت قبل عشر صفحات ترجمة الصابي في أربع وستين صفحة - كأن الشارح لا علم له بما مضى في الكتاب - وفي الحاشية نفسها ترجمة للصاحب بن عباد في ثمانية اسطر وستأتي ترجمته في خمس وأربعين ومائة صفحة
وفي حاشية ص161 ترجمة لبديع الزمان مختصرة من بن خلكان. وفي الصفحة نفسها تبتدئ ترجمة البديع في متن الكتاب وتستغرق إحدى وأربعين صفحة
فليت شعري لم هذا العبث؟ أما كان يمكن إحالة القارئ على التراجم المطولة في أماكنها؟
ص184 - (وإنما يشتغل بالجل من لا يعرف قيمة الخيل) وفي الحاشية الجل: السرج. وهذا غلط واضح إنما الجل ما تلبسه الدابة ليصونها من برد أو حر
ص185 - البارح الريح الحارة في الصيف تأتي من قبل اليمين، ولست ادري ما معنى اليمين هنا؟ هل المراد أن هذه الريح تدور مع الشخص كيفما دار فتأتيه عن يمينه؟ أظن في هذا لبساً بين البارح من الرياح والبارح من الحيوان
ص205 - (تكريت: بلدة مشهورة. . . ولها قلعة حصينة في طرفها الأعلى راكبة على دجلة غربيها) وهذا وصف تكريت في الزمن القديم وكان ينبغي أن توصف تكريت الحاضرة أو يقال: كانت الخ ولا يجوز أن توصف بلاد قائمة بأوصاف زالت عنها، وليس في تكريت اليوم قلعة حصينة في طرفها الأعلى
ص277 - في الكلام عن بعض الوزراء: (فكانت له أفعال منكرة منها انه استدعى العيارين وضمنهم ما يسرقونه من أموال الناس). وفي الحاشية: ضمنه الشيء كفله به والزمه إياه اهـ وهذا تفسير لا يصلح هنا. فلو أن هذا الوزير الزم العيارين ما يسرقونه ما كان هذا فعلا منكراً بل التضمين هنا معناه أن الوزير اتفق مع العيارين على أن يؤدوا ما لا معينا مقابل ما يكسبون بالسرقة. كما يؤدي العامل مالاً عن ارض أو غيرها. وهذا من الوزير إقرار للعيارين على أعمالهم. ومن اجل هذا كان عملاً منكراً
وبعد فلست أستطيع إحصاء أغلاط الكتاب وتحريفاته، ولا تبيين مساوئ الترتيب في(185/74)
التراجم، والتهاون في تنسيق المتن، وحسبي أن دللت على العيب، ودعوت إلى تداركه. وقد رأيت في الأجزاء 3، 4، 5، 6 مثل ما في الأول والثاني من الأغلاط. فسأنتظر حتى تظهر الأجزاء التي طبعت بعد هذا النقد، فان ألفيتها كما أود فذلك مقصدي. وإن كانت كأخواتها أديت حقها من النقد حتى يقوم الأود. والخير أريد، وما توفيقي إلا بالله
عبد الوهاب عزام(185/75)
العالم المسرحي والسينمائي
على ستار سينما رويال
نشيد الأمل
إنتاج شركة أفلام الشرق وإخراج أحمد بدرخان
ظهرت كلمة (النهاية) على شاشة سينما رويال فكانت إيذاناً بانتهاء عرض فيلم نشيد الأمل، فضج الناس بالتصفيق وتطلعوا إلى الشرفة حيث تجلس الآنسة أم كلثوم بطلة الفلم وجعلوا يهتفون بحرارة فلقد أخذتهم بتمثيلها، وسحرتهم بصوتها العذب البارع، ولم أغادر مقعدي وجلست قليلاً في مكاني فمر بي خاطر عجيب وقلت لنفسي: (ترى هل كان يظهر الفلم على هذه الصورة وينال هذا النجاح لو لم تنشئ شركة مصر للتمثيل والسينما أستوديو مصر العظيم؟)
الحق أن هذا الفلم الهائل إذا كان يدين ببعض النجاح لمواهب بطلته، فهو يدين أولاً إلى رجل مصر العظيم طلعت حرب باشا الذي أنشأ شركة مصر للتمثيل والسينما وأقام ذلك الاستديو الكامل المعدات الذي عرض لنا الفلم بعض معداته
ولقد كان لرجل الاستديو النصيب الأكبر من إعداد الفلم حتى المدير الفني (أو المخرج كما يسمى في مصر خطأ) كان مبعوث شركة مصر إلى فرنسا لدراسة السينما، فهو معدود من رجال الأستوديو وإن كان قد بعد عنه لظروف خاصة. فلولا الأستوديو لما ظهر الفلم في هذه الصورة، ولولا طلعت حرب لما أقيم الاستديو
نجح الفلم نجاحاً كبيراً، ما في هذا شك، وهذه باكورة مباركة لشركة أفلام الشرق في أول أعماله، وجزاء طيب للجهود الجبارة التي بذلها الأساتذة عبد الله فكري أباظة ومحمد شتا وعبد الحليم محمود كما هو توفيق عظيم يستقبل به صديقنا الأستاذ احمد بدرخان أول أعماله الفنية التي نرجو لها الاتصال ودوام التوفيق
ملخص السيناريو
قبل أن أتحدث عن نواحي الفلم المتعددة أرى من الخير أن أبدأ بتلخيص القصة أو السيناريو حتى يتفهم قولي من لم يسعدهم الحظ بشهود الفلم بعد(185/76)
فآمال فتاة منكودة الحظ كان من قسوة الحياة عليها أن تزوجت من رجل غوي يدعى إسماعيل كان بين عصابة تعمل لترويج المخدرات. وأهمل الزوج امرأته وابنته سلوى وتركهما يعانيان الآم الفاقة، حتى انتاب الصغيرة المسكينة المرض ولم تجد ما تقتات به. ولم يكن الزوج يكتفي بهذا بل كان ينتهز الفرص ليقتنص بعض المال مما ينال زوجه من نصيب لها في وقف
ظلت هذه الحال تلازم (آمال) وازدادت حالة الصغيرة سلوى سوءاً لولا عناية الله إذا أرسل الدكتور عاصم وهو طبيب كريم الخلق طيب القلب، فتولى معالجة ابنتها وكان يغمر الأم بحنانه وكرمه
وجاء الدكتور يوماً لزيارتها فسمعها تنشد لطفلتها نشيداً عذباً تحتال به على انامتها، فأعجب برخام صوتها. وطلبت آمال من الدكتور أن يعاونها في الحياة بان يجد لها عملاً شريفاً يساعدها على كسب قوتها كممرضة مثلاً، ولكن عاصما يشير عليها باستغلال ما وهبها الله من صوت ملائكي فتتردد أولاً ثم تقبل أخيراً. ويتعهدها الدكتور بأكبر أساتذة يلقنونها فن الموسيقى والغناء كما يمهد لها الطريق للظهور أمام الجماهير ويقوم للدعاية لها بين أصدقائه ومعارفه
وكانت الحفلة الأولى لها فنجحت نجاحاً هائلاً وحالفها الحظ، فخطت خطوات واسعة وارتقت درجات الشهرة، وصارت قبلة عشاق الموسيقى والطرب، وكان بين المرضى الذين يعالجهم الدكتور عاصم مخرج سينمائي يشكو اضطراب الأعصاب، فأخذه عاصم ليسمع (آمال) في حفلة طلبة الجامعة، فيعجب المخرج بها، ويختارها بطلة لفلم التضحية الذي يتولى إخراجه
وعاد الدهر يناوئ (آمال) فبعث لها زوجها السابق يرهقها بطلب المال، فأمرته ألا يتردد على بيتها وأن يلازم داره وهي تمر عليه لتناوله ما تجود به نفسها
وتوثقت عرى الصداقة بين عاصم وآمال، وأخيراً كتب لها يكاشفها بحبه، ويعرض عليها الزواج فتسر وتقبل، وينتظر الاثنان حتى ينتهي عملها في الفيلم ويحتفلا بالزواج. ويحدث أن الممثل الأول في الفلم يتودد إلى آمال فتصده، ويتابعها يوماً فيراها تدخل البيت الحقير الذي يقطنه إسماعيل، فيسرع بالكتابة إلى عاصم يقول له إن آمال تخونه(185/77)
وتحل الوقيعة بين الحبيبين بعد أن يتهمها بالخيانة، ولا يحتمل عاصم الصدمة فيرحل إلى أوربا، ويخرج إسماعيل لها يرهقها بطلباته، فلما رأى إنها لا تهتم له كثيرا يعمل على كيدها بانتزاع فلذة كبدها (سلوى) فيستصدر حكما شرعياً بحضانة ابنته بحجة أن أمها تحترف الغناء. وهكذا تفقد حبيبها وتنتزع طفلتها المسكينة من أحضانها
ولم ينقطع إسماعيل بعد هذا عن إرهاقها، فذهب إليها في الاستديو فأمهلته قليلاً، وأشارت إلى أحد موظفي الاستديو باستدعاء رجال الشرطة، ويعرف إسماعيل بهذا فيثور ويقرر الانتقام منها، ويستمر العمل في التقاط صور الفلم، ويكون من نصيب ممثل الدور الأول أن يطلق مسدسه على آمال، فينتهز إسماعيل الفرصة ويطلق في نفس الوقت رصاصة حقيقية من مسدسه فتسقط مضرجة بالدماء
ويصل رجال الشرطة، وتقوم معركة بينهم وبين إسماعيل تنتهي بموته كما يقع بقية زملائه المهربين في أيدي الشرطة وتسعف آمال بالعلاج، ويتولى العناية بها الدكتور محبوب صديق عاصم، فيعرف الحقيقة كلها ويكتب بها إلى عاصم
وتشفى آمال، وتحضر حفلة العرض الأول لفلم التضحية الذي ينال اكبر النجاح، ويتوافد الناس على بيتها يهتفون لها، ويجيء لتهنئتها المخرج والدكتور محبوب ومعهما الدكتور عاصم، ويلتقي الحبيبان ثانية
إن أول ما يذكر لرجال شركة أفلام الشرق انهم لم يسيروا وراء غيرهم من الشركات الأخرى فيختارون قصصاً مضطربة ضنا على المؤلف الأديب ببعض المال وإنما اختاروا قصة من تأليف شاب مثقف هو صديقنا ادمون تويما واقتبسوا منها قصة سينمائية، ولهذا فان الوقائع كانت تسير سيراً منتظماً وتتتابع تتابعاً طبيعياً من غير تعسف ولا شطط
وقد يرى القارئ أن القصة لا ترمي إلى غرض سام أو فكرة نبيلة ولكن ليس من الضروري أن يقوم الفلم على فكرة من هذا النوع؛ ولقد شاهدنا الكثير من الأفلام الأمريكية والأوربية تنال اكبر النجاح وهي لا تقوم إلا على فكرة بسيطة، أو قل إن في بعضها ما تنعدم فيه الفكرة؛ وإنما يكفي الفلم انه يصور ناحية مصرية وينقد ناحية خاصة في أخلاقنا وأحكامنا، ويسير في طريق طبيعي دون أن يشعر المشاهد أن هنالك ثغرة في الوقائع أو قطيعة في التسلسل تجعل المشاهد يصحو إلى نفسه من سحر المنظر، فيفسد خياله وينحى(185/78)
باللوم على الشركة والممثلين والمدير الفني
اكتفي الآن بهذا القدر وسأتم الحديث في العدد القادم
يوسف(185/79)
العدد 186 - بتاريخ: 25 - 01 - 1937(/)
محضر جلسة
للأستاذ احمد أمين
تذاكر جماعة - من ذوي الرأي - في الأدب العربي وحاجته إلى الإصلاح، وفيما له من ثروة قديمة تحتاج إلى الإحياء، واقترحوا أن يكونوا جمعية للأخذ بناصر الأدب والنشر ذخائره؛ وكان من بينهم من ينتسب إلى الجامعة الأزهرية، ومن ينتسب إلى الجامعة المصرية، ومن ينتسب إلى المجمع اللغوي، ومن هو عضو في لجنة التأليف والترجمة والنشر، ومن يتصل بدار الكتب، وغيرهم؛ وصحت عزيمتهم على ذلك، وعهدوا إلى أحدهم بوضع مشروع قانون للجمعية يحدد غرضها، ويوضح نهجها، واختاروا يوم 15 ديسمبر سنة 1936 الساعة الخامسة بعد الظهر لقراءة المشروع.
فلما حان الموعد حضر واحد فقط، وخيل إليه انه اخطأ اليوم، أو اخطأ الساعة، أو اخطأ المكان، فأعاد قراءة الدعوة فإذا كل شيء من الزمان والمكان صحيح. وبعد ربع ساعة حضر آخر، فتبادلا العجب من عدم حضور الأعضاء في الموعد.
واخذ من تأخر يلقي محاضرة قيمة في المحافظة على الزمن، وكيف هي عند الإنجليز والفرنسيس والألمان، وما جرى له من أحداث في هذا الباب أيام كان في أوربا، وحاجة المصريين إلى معرفة قيمة الزمن؛ وقد استغرقت محاضرته القيمة ربع ساعة كان قد حضر في أثنائه عضوان آخران فاشتركوا جميعاً في الحديث عن قيمة الوقت، وكل يروي نادرة في هذا الموضوع طريفة، وقصة ممتعة؛ وتختم النادرة أو القصة بضحكات عالية يدوي بها المكان، وتتخلل الضحكات تعليقات على ما يروى تسلسل الضحك وتتابع الفكاهة.
ولا أطيل عليك، فقد تم اجتماع اغلب الأعضاء في الساعة السادسة والنصف، وقد اعتذر بعضهم بزيارة صديق له عند خروجه، وآخر بتعطيل الترام له، وثالث بان من عادته أن ينام بعد الظهر وقد طال على غير عادته، ورابع بأنه نسي الموعد لولا إنه لقي فلاناً مصادفة فذكره به.
اخذوا يتناقشون في هل يختارون رئيساً للجلسة حتى يتم القانون؟ انحاز إلى هذا الرأي فريق، لأنه لا بد لكل جلسة من رئيس يدير المناقشة ويأخذ الأصوات؛ وعارض فريق بحجة أننا نريد أن نكون ديمقراطيين لا رئيس ولا مرءوس، وانه حتى بعد إن يتم القانون(186/1)
لا حاجة لنا إلى رئيس، فكلنا سواسية في الرأي، ويكفي أن يكون للجلسة (ناموس) يدون الآراء ويأخذ الأصوات.
ولا أطيل عليك أيضاً فقد وافت الساعة السابعة والجدل على اشده في هذا الموضوع الخطير، وعند تمام الساعة السابعة والنصف انتصر الفريق الأول فكان لا بد من رئيس.
ولكن عرضت مشكلة أخرى اخطر من الأولى: هل يختار الرئيس بالسن أو بالاقتراع السري؟ قال قوم بهذا، وقال قوم بذاك، وكاد يحتدم الجدل على نمط المسألة الأولى لولا إن أحد الحاضرين قال: اختار فلاناً ليدير هذه الجلسة، فخجل الآخرون إن يطعنوا في هذا الاختيار، فسكتوا وكفى الله المؤمنين القتال.
وطلب من المقرر أن يقرأ المادة الأولى فقرأها، ونصها: (أنشئت بمدينة القاهرة جمعية تسمى جمعية إحياء الأدب العربي)
- أ -: هل يقال: (أنشئت) أو (تنشأ)؟ أظن إن الأصح إن يقال: (تنشأ)، لان الجمعية لم تتكون بعد، فكيف يعبر بالماضي فيقال أنشئت؟
- ب: هذا رأي في محله، لان إنشاء الجمعية مستقبل، والذي وضع للدلالة على المستقبل هو الفعل المضارع والأمر لا الفعل الماضي. فإذا قلنا أنشئت دل على أنها تكونت في الزمن الماضي، وليس ذلك بصحيح.
- جـ: الفرض في القانون إن يوضع في شكل يدل على إن الجمعية أقرته، فواضع القانون فرض إن الجمعية اجتمعت وأقرت القانون وألبسته ثوبه النهائي، ولذلك يوضع في صيغة الماضي.
- د: وأمثال ذلك كثيرة، فكاتب العقود يقول: (في تاريخه أدناه قد باع فلان لفلان كذا) ثم يمضي البائع والمشتري العقد؛ وقبل الإمضاء كان البيع مستقبلاً، ومع ذلك عبر عنه بالماضي.
- هـ: ومع هذا فلم تذهبون بعيداً؟ والماضي يستعمل في المستقبل كما قال تعإلى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) فأمر الله هو يوم القيامة وهو لم يأت بعد، وإنما عبر عنه بالماضي للإيذان بأنه أمر محقق، أو للتنبيه على قرب مجيئه، فهنا كذلك، لما كان تكوين الجمعية محققاً إن شاء الله أو قريب الوقوع يعبر عنه بالماضي على سبيل المجاز.(186/2)
- و: الأمر ابسط من هذا كله، فإذا قلنا (أنشئت) أو (تنشأ) لا يترتب على ذلك ضرر، وهو لا يقدم الجمعية ولا يؤخرها؛ إنما ينهض بالجمعية عملها في تحقيق غرضها، فإذا حققته لا يضرها أنشئت أو تنشأ، وإذا لم تحققه لا ينفعها أنشئت أو تنشأ.
- أ (محتداً): ولكننا نجتمع لإحياء الأدب العربي فاقل ما يجب علينا أن تكون عبارتنا صحيحة لفظاً ومعنى، نحواً وبلاغة، وإلا أعطينا مثلاً سيئاً لإحياء الأدب العربي.
- الرئيس: أظن أن الأمر وضح؛ فلنأخذ الآراء على (أنشئت) أو (تنشأ).
- ز: لكن بقيت مسألة: أليست (تكونت) خيراً من (أنشئت) لان الإنشاء في اللغة هو الخلق، والخلق يكون من العدم، وليست أفراد الجمعية معدومين حتى يقال فيها أنشئت؛ إنما هي موجودة مفرقة، فهي تتجمع وتتكون لا تنشأ.
- أ: ومن قال إن التكوين لا يكون من العدم؟ ففي كتب المتكلمين (إن التكوين إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود) وفي التوراة سفر اسمه سفر التكوين وفيه حكاية خلق العالم، والعالم قد خلقه الله من العدم.
(أراد (ز) أن يرد عليه فقاطعه الرئيس واخذ منه الكلمة)
- الرئيس: (في شيء من الضجر): أرى أن نكتفي بهذه المناقشة في هذا الموضوع ونأخذ الأصوات على ما يأتي: هل نقول أنشئت أو تنشأ، أو تكونت أو تتكون؟
- أ: لا، بل نأخذ الرأي - أولاً - على أن تصاغ الكلمة من مادة الإنشاء أو من مادة التكوين، وبعد ذلك نأخذ الرأي هل نعبر بالماضي أو المضارع.
- الرئيس: وهو كذلك.
(آخذت الآراء - أولاً - فكانت الأغلبية في جانب مادة الإنشاء؛ ثم أخذت - ثانياً - فخرجت الأغلبية في جانب أنشئت.
- الرئيس: إذن ننتقل إلى المادة الثانية.
- أ: التعبير (بإحياء الأدب العربي)، فان هذا التعبير لا اقبله، واحتج عليه بكل قوتي؛ فانه يدل على أن الأدب العربي ميت ونحن نريد إحياءه، فهل كان الأدب العربي ميتاً؟ انه حي، وكان حياً في العصور الماضية وسوف يبقى حياً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكيف نقول إن الأدب العربي قد مات وعلى رأسه القرآن الكريم وقد قال الله تعإلى فيه:(186/3)
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). إن الأدب العربي حي، وكل ما نريد أن تعمله الجمعية أو تنظمه أو تنشر كتبه القديمة. فأما لفظ الإحياء فلا؛ وأنا أنذركم أنكم إذا أصررتم على لفظ الإحياء انسحبت من الجمعية.
هنا ساد المجلس صمت رهيب.
- جـ تشجع وقال: في الواقع إن المسألة لا تحتاج إلى كل هذا، فلفظ الإحياء لا يدل على سبق الموت؛ ألا ترى يا أستاذ.
- أ: إن الغزالي سمى كتابه الكبير (إحياء علوم الدين) فهل كانت علوم الدين قبله ميتة؟ كلا إنما أصابها نوع من الركود والجمود، فأراد الغزالي أن يزيل عنها ركودها وجمودها، وان يعرضها عرضاً جديداً يتفق وذوق عصره؛ ولم يقل أحد إن الغزالي صبأ أو كفر أو تزندق بتسمية كتابه هذا الاسم. وموقفنا الآن من الأدب العربي هو موقف الغزالي من علوم الدين؛ نريد إن ننهض الأدب ونعرضه في شكل حديث يتفق وأذواق الناس في هذا العصر.
- د: وأيضاً فان الإحياء ترجمة لكلمة (رينسنس) وقد استعملها الفرنج للدلالة على حركة النهضة العقلية في أوربا وبعث المدنية من رقدتها، والمعنى الحرفي لهذه الكلمة: (الولادة من جديد) فاختار الكتاب المحدثون كلمة الإحياء للدلالة على ذلك.
- الرئيس: نأخذ الأصوات على بقاء كلمة (إحياء الأدب العربي) أو تغييرها.
- أ، هـ، ي (في نفس واحد): لا! المناقشة لم تستوف بعد.
- الرئيس: الساعة الآن التاسعة فلنؤجل المناقشة إلى الجلسة المقبلة.
- الجميع: موافقون.
قال صاحبي: ومتى تنتهي قراءة القانون:
قلت: في المشمش. .!
أحمد أمين(186/4)
في النسيان
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أعوذ بالله من قولة (أنا)؛ ولكني مصاب بنفسي وهذا عذري، وشر ما أصبت به منها النسيان؛ وحسبك به بلاء عظيماً. وقد صرت بفضله - أو من جرائه - امرأ له الساعة التي هو فيها، فأعفيت من الهموم كما أعفيت من اللذاذات أو المسرات ومن ذكرياتها الحلوة. ولا آسف على ذلك فقد تكافأ الربح والخسارة. ولو أراحني الناس كما أراحتني نفسي لتمت لي السعادة في هذه الدنيا الدنية. ويبلغ من نسياني إني أكون ذاهباً إلى فراشي في الليل فأراني اقف أمام السرير متردداً حائراً لا ادري ماذا جاء بي إلى هنا. . أهي علبة السجائر، أم أريد المعطف أو العباءة؟ هذا في الشتاء - أم ماذا يا ترى؟ ثم استخير الله وأقول لنفسي: (نم يا شيخ وأرح نفسك من عناء المحاولة فما فيها فائدة).
وارقد على فراشي، فتدور في نفسي معان وتتمثل لذهني صور أتعلق منها بما يروقني فاغمض عيني - وقد قرت - وأقول إن شاء الله في الصباح اكتب الفصل أو ارسم الصورة أو أقص القصة. . واقرأ الفاتحة للموتى وآية الكرسي ليحفظني الله من العين وأنام. . ويطلع الصبح فاستيقظ مع الدجاج فإذا بي قد نسيت كل شيء، وإذا بالصور والمعاني قد مسحت بقدرة ربك من اللوح ولم يبق منها ولا اثر ضئيل يدل عليها ويهدي إليها، ويساعد على رجع ما ولى منها، فأتعزى بان الذي لا أجده لا يزال هناك وانه غاب ولكنه لم يمح، وقد تنتعش الذاكرة فجأة فيطفو ما رسب.
ويتفق أن اقف أمام المرآة لأسرح شعري أو أسوي ربطة الرقبة أو افعل غير ذلك من الشؤون التي تحوج في العادة إلى المرايا - وان كنت أنا أستطيع ذلك كله بغير معونتها - حتى إذا صرت أمامها وقفت متعجباً متسائلاً: (لماذا يا ترى انظر في المرآة؟) وارفع يدي إلى جبيني وافركه وأحاول أن أتذكر، ولكن الأمر يعييني فأهز رأسي وامضي لشأني.
وأقول وأنا ماض إلى عملي اليومي: إني سأكتب كيت وكيت، ويشغلني ذلك طول الطريق، واصعد إلى مكتبي والتقي بإخواني وزملائي ويجر اللقاء إلى التحدث في أمور شتى من عامة وخاصة، حتى إذا خلا المكان وتناولت القلم وأقمت سنه على الورقة رأيتني أتساءل: في أي شيء كنت أنوي أن أكتب يا ترى؟. وكيف أمكن أن أنسى بهذه السرعة العجيبة وقد(186/5)
كنت مشغولاً به طول الطرق؟. وأحتاج أن أبحث عن موضوع آخر. . ومن يدري. . فقد يكون الموضوع الذي أهتدي إليه بعد العناء هو بعينه الذي نسيته وأنا أحسبه غيره.
ومن كثرة نسياني تحتاج الخادمة أن تحاسبني كلما هممت بالدخول أو الخروج، فأني أفقد مناديلي لأني أنسى أين أتركها، أو القيها ولا أذكر ماذا صنعت بها، وزوجتي تعدها مسئولة عن هذه المناديل التي لا ينتهي الخلاف عليها ولا ينقطع الجدال من جرائها. فأنا أزعم أني تركتها حيث ينبغي أن تترك هذه الأشياء، والخادمة تنفي ذلك وتؤكد أني لم أفعل - بأدب طبعاً - وتقسم أنها عدتها فألفتها ناقصة؛ وزوجتي تحدق في وجهي وتسألني: هل أكون مستريح الضمير إذا صدقوني؟ ومتى وصل الأمر إلى الضمير والذمة فأنه لا يسعني إلا أن أتردد وأقول بالأرجح والمعقول كأنها قضية منطقية.
فتشير زوجتي إلى الخادمة وتقول: (يكفي. . . اذهبي يا بنت) فتذهب البنت ولكنها تواجهني حين أهم بالخروج وتسألني كم منديلاً معي؟ فأصيح (أوووه). . وهل أنا أعرف؟. سبحان الله العظيم! ألا يمكن أن يستريح المرء في هذا البيت؟. ما معنى هذا التعطيل؟. تنحي من فضلك.
فتقول: (أرجو أن تعدها).
فأقول: (وما الفائدة، ما دامت تضيع. . . . هه) وأخرجها من الجيوب وأعدها وأقول: (ثلاثة) مثلاً.
فترجو ألا أنسى أنها ثلاثة، فأقول: (طيب. طيب).
وتفتح لي الباب وأنا عائد وتسألني عن المناديل، فأخرج ما أحمل منها وأرمي به إليها وأمضي عنها، فتدركني وهي تصيح وتقول: (هذه أربعة. . . من أين جاء الرابع؟).
فأتعجب وأقول: (من أين جاء؟. . ماذا تعنين. . ربما كنت اشتريته).
فتقول: (ألا يمكن أن تكون أخذت منديل صديق وأنت. . . وأنت. . .!)
ويمنعها الأدب والحياء أن تنطق باللفظ فأنوب أنا عنها وأقول (ذاهل. . . أليس كذلك. . . كلا لم يبلغ الأمر هذا الحد. .)
فتلح وتقول: (ولكن من أين جاء إذن؟).
فأقول متململاً: (أووووه. . . إن شكواك لا تنقطع من أن المناديل تنقص وأنت الآن(186/6)
تزعمين أنها زادت واحداً فاحمدي الله إذن وأريحيني)
ولكني لا أرتاح منها ولا من ستها ولا من الأطفال، ولا أزال أرى من يجري ورائي منهم ويخبرني إني نسيت الجورب أو لبست اثنين مختلفين، أو تركت الطربوش ويوشك أن أخرج برأسي عارياً، إلى آخر هذه التوافه التي لا أعرف لها آخراً.
وأحسب أن نسياني إنما يشتد لأن رأسي لا يخلو من شيء يدور عليه تفكيري ويستغرقني ذلك حتى لأذهل عما عداه؛ وقد كانت أمي - عليها رحمة الله - تتعجب لأمري وتقول لي: (يا بني ما الذي يطير عقلك؟)
فلا يعجبني هذا وأقول معترضاً: (إن عقلي لم يطر. . ثم إن هذا غير معقول. . أم تظنينه حمامة)
فتقول غير عابئة بملاحظتي: (لم يكن أبوك هكذا. . ولا أنا مثلك. . إنك لا تتذكر شيئاً أبداً)
فأقول: (إني من صنعكما - أنت وأبي المحترم - فأين ذنبي بالله؟)
فتقول مستاءة: (لماذا لا تتكلم خيراً؟)
فأقبلها وألثم يدها وأسترضيها وأقول معتذراً: (ماذا أصنع إذا كان ربي قد خلقني هكذا. . . واسع خروق الرأس كالغربال القديم)
فتبتسم وتدعو لي الله أن يرد علي ما غرب من عقلي، فأتقبل دعاءها بالشكر وأمري إلى الله.
والأم تحتمل ابنها وتصبر على ما يكون من ذهوله، ولا تسيء به الظن، وليست هكذا الزوجة فإنها تحمل ذلك على غير محمله، وتؤوله بأنه قلة اكتراث وعدم مبالاة، وأن الرجل لا يفكر فيها ولا يفرض لها وجوداً ولا يقيم لها وزناً إلى آخر هذا الهراء؛ وهي سليمة لا تخونها الذاكرة، فليس في وسعها أن تدرك بلاء النسيان وأن تعذر المنكوب به. ومن العبث أن يقول لها المرء إن كثرة المشاغل هي التي تطير من الرأس كل ما عسى أن يكون فيه. إذن لماذا لا يشغل الرجل بها هي ولا ينسى ما عداها هي. . .؟ هذا هو المشكل
وما دخلت البيت مرة إلا شعرت أني لا بد أن أكون قد نسيت شيئاً أوصتني به زوجتي، فأقول لنفسي: (سترك اللهم. . وعونك أيضاً) وقد أكون مخطئاً ولكن الخطأ لا يمنع الشعور(186/7)
الثقيل. وكثيراً ما يتفق أن يكون ظني في محله، فلا تكاد ترى وجهي الناطق بتوقع اللوم حتى تبتدرني بقولها: (بالطبع نسيت) فأقول وأنا أتكلف الضحك: (أي والله. . صدقت. . الحق أن فراستك قوية)
فتقول: (وما العمل؟)
فأسال متحرزاً: (في أي شيء؟)
فتقول: (في أن تذكر. . كيف نحملك على التذكر؟)
فأقول: (اربطي لعبة في رجلي فأضطر أن أتذكر كلما سمعت كركرتها)
فتقول: (إني جادة)
فأقول: (نكتب الشيء في ورقة وأضعها في جيبي أو مع الساعة)
فتقول: (وتنساها في جيبك. . وتخرج الساعة فترى الورقة فترميها وأنت ذاهل)
فأقول: (ألبسيني الجاكتة مقلوبة. . أزرارها إلى الخلف)
فتهز رأسها وتقول آسفة (كلا. . لا فائدة. . الأمر لله. . لو كان شيئاً يعالج. . ولكنه مستعص. . لا علاج له).
فأقول متشهداً: (صدقت يا امرأة. . أما والله إنك لمنصفة. . جزاك الله خيراً وقواك على احتمالي)
وأعترف أني كثيراً ما أنتفع بالمعروف المشهور من نسياني، فإذا سألتني عما لا أريد أن أبوح لها به أو أذكر الحقيقة فيه تظاهرت بالبلاهة وقلت: (وهل أنا أعرف؟. وأين العقل الذي يتذكر؟. .)
وما قرأت كتاباً إلا نسيت ما فيه - نسيته جملة وتفصيلاً؛ حتى اسمه واسم كاتبه؛ وقد أعود إليه كأني ما قرأته ولا سمعت به، فهو في كل مرة أعود فيها إليه جديد ولو كنت قرأته عشر مرات؛ وهذا نافع لان فيه اقتصاداً. وكم من كتاب اشتريته ثم نسيت أين وضعته ثم يتفق أن أعثر عليه فأقف مستغرباً متسائلاً: أتراني قرأت هذا الكتاب من قبل. . أم لم أفتحه. . على كل حال. . الأمران سيان. . توكلنا على الله)
وأحسب هذا يجعل العلم والجهل سيين. ولولا أني أعرف أن ما أقرأ لا يضيع وإنما يختفي لأغراني ذلك بالانقطاع عن القراءة لقلة ما يبدو لي من فائدتها المحسوسة.(186/8)
إبراهيم عبد القادر المازني(186/9)
انتصار الحب
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كل ما يكتب عن حبيبين، لا يفهم منه بعض ما يفهم من رؤية وجه أحدهما ينظر إلى وجه الآخر.
وما تعرفه العين من العين لا تعرفه بألفاظ، ولكن بأسرار والغليل المتسعّر في دم العاشق، كجنون المجنون يختص برأسه وحده.
وضمة المحب لحبيبه إحساس لا يستعار من صدر آخر، كما لا يستعار المولود لبطن لم يحمله.
وكلمة القبلة التي معناها وضع الفم، لن ينتقل إليها ما تذوقه الشفتان.
ويوم الحب يوم ممدود؛ لا ينتهي في الزمن إلا إذا بدأ يوم السلو في الزمن.
فهل يستطيع الخلق أن يصنعوا حداً يفصل بين وقتين لينتهي أحدهما؟
وهبهم صنعوا السلوان من مادة النصيحة والمنفعة، ومن ألف برهان وبرهان فكيف لهم بالمستحيل، وكيف لهم بوضع السلوان في القلب العاشق؟
وإذا سألت النفس من رقة الحب، فبأي مادة تصنع فيها صلابة الحجر؟
وما هو الحب إلا إظهار الجسم الجميل حاملاً للجسم الآخر كل أسراره، يفهمها وحده فيه وحده؟
وما هو الحب إلا تعلق النفس بالنفس التي لا يملأها غيرها بالإحساس؟
وما هو الحب إلا إشراق النور الذي فيه قوة الحياة كنور الشمس من الشمس وحدها؟
وهل في ذهب الدنيا وملك الدنيا ما يشتري الأسرار، والإحساس، وذلك النور الحي؟
فما هو الحب إلا انه هو الحب؟
ما هو هذا السر في الجمال المعشوق، إلا أن عاشقه يدركه كأنه عقل للعقل؟
وما هو هذا الإدراك إلا انحصار الشعور في جمال متسلط كأنه قلب للقلب؟
وما هو الجمال المتسلط بإنسان على إنسان، إلا ظهور المحبوب كأنه روح للروح؟
ولكن ما هو السر في حب المحبوب دون سواه؟ هنا تقف المسألة وينقطع الجواب.
هنا سر خفي كسر الوحدانية، لأنها وحدانية (أنا وأنت).(186/10)
ناقشوا الحب؛ فقالوا أصبحت الدنيا دنيا المادة، والروحانية اليوم كالعظام الهرمة لا تكتسي اللحم العاشق.
وقال الحب: لا بل المادة لا قيمة لها في الروح؛ وهذا القلب لن يتحول إلى يد ولا إلى رجل.
ناقشوا الحب؛ فقالوا إن العصر عصر الآلات، والعمل الروحي لا وجود له في الآلة ولا مع الآلة.
قال الحب: لا، يصنع الإنسان ما يشاء، ويبقى القلب دائماً كما صنعه الخالق.
وقالوا: الضعيفان: الحب والدين، والقويان: المال والجاه، فبماذا رد الحب؟
جاء بلؤلؤة روحانية في (مسز سمبسون)؛ ووضع إليها في ميزان المال والجاه اعظم تاج في العالم: تاج إدوارد الثامن (ملك بريطانيا العظمى وإرلندا والممتلكات البريطانية فيما وراء البحار وملك - إمبراطور الهند).
وتنافست الروحانية والمادية، فرجع التاج، وما فيه إلا ضعف المعنيين من القلب.
وأعلن الحب عن نفسه بأحدث اختراع في الإعلان، فهز العالم كله هزة صحافية:
الحب. الحب. الحب.
(مسز سمبسون)، تلك الجميلة بنصف جمال، المطلقة مرتين. هذا هو اختيار الحب.
ولكنها المعشوقة؛ وكل معشوقة هي عذراء لحبيبها ولو تزوجت مرتين؛ هذا هو سحر الحب.
ولكنها الفاتنة كل الفتنة، والظريفة كل الظرف، والمرأة كل المرأة؛ هذا هو فعل الحب.
ولكنها العقل للأعصاب المجنونة، والأنس للقلب المستوحش، والنور في ظلمة الكآبة؛ هذا هو حكم الحب.
ومن اجلها يقول ملك إنجلترا للعالم: (لا أستطيع أن أعيش بدون المرأة التي احبها)؛ فهذا هو إعلان الحب. . . . .
إذا أخذوها عنه أخذوها من دمه، فذلك معنى من الذبح.
وإذا انتزعوها انتزعوها من نفسه، فذلك معنى من القتل.
وهل في غيرها هي روح اللهفة التي في قلبه، فيكون المذهب إلى غيرها؟(186/11)
لكأنهم يسألونه أن يموت موتاً فيه حياة.
وكأنهم يريدون منه إن يجن جنوناً بعقل. . . هذا هو جبروت الحب.
وللسياسة حجج، وعند (مسز سمبسون) حجج، وعند الهوى. .
التاج، الملكية، امرأة مطلقة، امرأة من الشعب، فهذا ما تقوله السياسة.
ولكنها امرأة قلبه، تزوجت مرتين ليكون له فيها إمتاع ثلاث زوجات؛ وهذا ما يقوله الحب.
واللحظة الناعسة، والابتسامة النائمة، والإشارة الحالمة، وكلمة (سيدي). هذا ما يقوله الجمال.
وانتصر الحب على السياسة، وأبى الملك أن يكون كالأم الأرملة في ملك أولادها الكبار. . .
العرش يقبل رجلاً خلفاً من رجل؛ فيكون الثاني كالأول.
والحب لا يقبل امرأة خلفاً من امرأة، فان تكون الثانية كالأولى.
وطارت في العالم هذه الرسالة: (أنا إدوارد الثامن. . أتخلى عن العرش وذريتي من بعدي).
(وأعلن الحب عن نفسه بأحدث اختراع في الإعلان؛ فهز العالم كله هزة صحافية.)
الحب. الحب. الحب.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(186/12)
ضوء جديد على مأساة شهيرة
هل قتل الحاكم بأمر الله أم اختفى؟
معترك من الروايات والأساطير المدهشة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في ليلة السابع والعشرين من شوال سنة 411 من الهجرة (13 فبراير سنة 1021م) خرج الحاكم بأمر الله يطوف كعادته في شعب المقطم حيث اعتاد أن يرصد النجوم، ثم لم يعد من جولته قط، ولم يعرف إنسان خبره أو مصيره قط؛ وكل ما عثر عليه بعد ذلك من آثاره، حماره الأشهب وقد وجد معرقباً في طريق حلوان، ثم ثيابه مزررة وبها آثار الطعان في بركة قريبة من حلوان.
بيد إن اختفاء الحاكم تلك الليلة الشهيرة، واجتماع مختلف القرائن والآثار على مصرعه بيد الجناة، لم يكن خاتمة حاسمة لعهده وسيرته وذكراه. اجل أعلنت وفاة الحاكم، وأقيم ولده أبو الحسن على مكانه في كرسي الخلافة، وذلك يوم النحر (10 ذي الحجة سنة 411هـ) لأسابيع قلائل من اختفائه، ولقب الظاهر لإعزاز دين الله؛ وبدأت الخلافة الفاطمية عهداً جديداً؛ ولكن ذكرى الخليفة الذاهب لبثت تغمر الأفق مدى حين، وتثير في المجتمع مختلف الفروض والأساطير. ذلك أن أدلة الجناية لم تكن واضحة، ولم يقم دليل قاطع على القتل أو الوفاة، ومن جهة أخرى فان الحاكم بأمر الله لم يكن فيما زعموا شخصية عادية يغمرها العدم كما يغمر سائر البشر، وتطوى آثارها من ذلك العالم لتغيض في العالم الآخر بتلك البساطة التي أحاطت باختفائه. ألم يكن الحاكم شخصية خارقة تهيم في الخفاء، وتزعم الاتصال بعوالم الغيب، وترنو إلى مدارك السمو فوق البشر؟ ألم يقدمه الدعاة السريون إلى الناس بأنه (ناطق الزمان) وانه آلة وروح حل في صورة البشر؟ وهل من كانت هذه خواصه ومزاعمه يسري عليه قانون الفناء كما يسري على جميع الناس؟
لقد اجمع معظم الروايات المعاصرة والمتأخرة على إن الحاكم ذهب ضحية المؤامرة والجريمة على اختلاف بينها في مدبري المؤامرة ومرتكبي الجريمة. ومعظمها على إن الذي دبر المؤامرة أخته الأميرة ست الملك، وذلك لما بدا من إسرافه في قتل الزعماء(186/13)
ورجال الدولة، وما ارتكب من التصرفات العنيفة المتناقضة التي هزت أسس المجتمع وقلبت أوضاعه؛ وأخيراً لما جنح إليه من حماية الدعاة الملاحدة الذين نادوا بألوهيته؛ فهذه الأسباب حسبما تقول الرواية هي التي حملت أخته على تدبير مصرعه اتقاء لنشوب ثورة تودي بالعرش وبتراث الدولة الفاطمية كله؛ أما شريك ست الملك ومنفذ الجريمة، فهو الحسين بن دواس زعيم قبيلة كتامة، وكان يخشى سطوة الحاكم وفتكه؛ وأما القتلة فهم عبيده أو هم جماعة من البدو اعترضوا الحاكم في طريقه ليلة اختفائه بحجة التماس الإحسان والصلة، ورتبهم المتآمرون لقتله؛ أما جثته فقد حملها الجناة إلى أخته فدفنتها في نفس مجلسها: هذا ملخص ما تقوله الرواية في شأن المؤامرة والجريمة.
وهذه الروايات ليست موضوعنا في هذا البحث؛ وهي ليست كل شيء في تلك المأساة العجيبة؛ وإنما نعني في هذا البحث بطائفة أخرى من روايات ذات نوع خاص ودلالة خاصة، لا تأخذ بنظرية المؤامرة أو الجريمة، ولكنها تؤيد فكرة الاختفاء العمد والهجرة الأبدية، وتسبغ بذلك على ذهاب الحاكم لونا من الخفاه الغامض، كذلك الذي يغمر شخصيته وحياته كلها؛ وإذا كانت هذه الروايات تجنح في مجموعها إلى نوع من الأسطورة، فإنها مع ذلك تدخل في عداد التاريخ وتستحق الدرس بهذه الصفة، خصوصاً، وان ما تقدمه إلينا من التفاصيل والوقائع ليس في ذاته مستحيلاً ولا خارقاً.
وأول رواية من هذا النوع رواية كنسية كتبت في عصر الحاكم ذاته، ووردت ضمن سير البطاركة، أو سير البيعة المقدسة في ترجمة الأنبا زخاريا البطرك القبطي المعاصر للحاكم؛ وخلاصتها، إن الحاكم خرج إلى الجبل ذات ليلة، وسار في الجبل ومعه ركابي واحد إلى أن بلغ حلوان، ثم نزل عن حماره؛ وأمر الركابي أن يعرقبه ففعل، ثم أمره بالانصراف إلى القصر وتركه بمفرده، فعاد الركابي كما أمر؛ فلما لم يعد إلى القصر في اليوم التالي سأل رجال القصر هذا الركابي عن سيده، فأجابهم بأنه تركه في حلوان، وعاد وحده نزولاً على رغبته، فمضوا في طلبه، فوجدوا الحمار معرقباً، وبحثوا عن الحاكم في كل موضع، فلم يجدوه ولم يقفوا له على خبر أو اثر.
ووردت في تأريخ الكنائس المنسوب لأبي صالح الأرمني، والذي كتب في أواخر القرن السادس الهجري رواية مماثلة نصها: (وبهذه الناحية (أي حلوان) نزل الإمام الحاكم بأمر(186/14)
الله عن الحمار الذي كان راكبه، وتقدم إلى الركابي الذي كان بصحبه إلى حيث يذهب بأن يعرقب الحمار، وذهب هو وحده إلى داخل البرية، ولم يرجع يعود، ولا عرف أين توجه إلى يومنا هذا، وكان ذلك في شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة).
ويشير مؤرخ نصراني آخر، هو إن ابن العبري الذي كتب تأريخه في أواخر، القرن السابع الهجري إلى مثل هذا الرأي، فيقول في حوادث سنة 411هـ: (وفيها فقد الحاكم بن العزيز ابن المعز العلوي صاحب مصر، ولم يعرف له خبر)، ثم ينقل قصة طوافه ومصرعه حسبما رواها القضاعي، وذلك على سبيل الرواية والترديد فقط.
وتقول الرواية الكنسية أيضاً، (ولم تزل الناس مدة غيبة الحاكم وإلى إن انقضى مدة ولده يقولون إنه بالحياة. كثير كانوا يتزيون بزيه ويقول كل واحد منهم أنا الحاكم، يتراؤوا للناس في الجبال حتى يأخذوا منهم الدنانير) ثم تروى لنا قصة رجل يسمى (شروط) كان نصرانياً واسلم ثم تعلم السحر والشعوذة، وكان يشبه الحاكم شبهاً عجيباً، ولو انه أطول منه بقليل؛ فلمّى اختفى الحاكم ظهر في الناس باسم (أبي العرب)، وادعى انه الحاكم، والتف حوله بعض الناس، وكان يطالب الأغنياء بالمال، ويقول لهم انه سيعيده إليهم عند رجعته إلى مملكته؛ ثم استتر طيلة عهد الظاهر وهو مستمر على دعواه حتى اعتقد كثير من الناس انه الحاكم، وانه يخفي نفسه لأمر مكتوم لا يعرفه سواه؛ وفي أوائل عهد المستنصر، نزح إلى البحيرة ونزل عند بعض البدو وتظاهر بالنبوة ومعرفة الغيب واستمر في دعواه انه الحاكم وانه يعتزل الحياة العامة حتى ينتهي قطع طالعه الذي يخشاه؛ ولما ذاع أمره، واهتمت السلطات بمطاردته توارى عن الأنظار ولبث مختفيا حتى عرف بأمره سانونيوس البطرك، وانفذ إليه مالاً وتعهده بعونه ورعايته، وأول ما يلفت النظر في هذه الرواية الكنسية هو أنها لا تشير أية إشارة إلى فكرة المؤامرة أو الجريمة، بل لا تشير مطلقا إلى فكرة الوفاة، ولكنها تميل في مجموعها إلى تأييد فكرة الغيبة والاختفاء، وتستأنس في ذلك بالإشاعات والأساطير التي ذاعت في ذلك الشان منذ اختفاء الحاكم، واستمرت ذائعة أيام ولده الظاهر
على إن الرواية الكنسية لا تقف عند ذلك الحد؛ ذلك إن ابن العبري يحدثنا عن مصير الحاكم بعد اختفاءه، ويقول لنا إن كثيراً من الناس اعتقدوا حين اختفاءه انه لجأ إلى مكان(186/15)
في الصحراء واعتنق النصرانية، ثم ترهب وقضى أيامه هنالك؛ ثم يقول انه، أي المؤرخ، حين ما كان بدمشق سمع بعض كتاب الأقباط يقولون إن الحاكم حينما اشتد في مطاردة النصارى ظهر له يسوع المسيح كما ظهر لبولس الرسول، فآمن به، وتوارى سراً في الصحراء حتى توفي
ومما يجدر ذكره إن هذه الأسطورة - أي أسطورة تنصر الحاكم وترهبه ليست هي الأولى من نوعها، فقد نسب جده المعز لدين الله إلى مثل ما نسب إليه، وزعمت الرواية الكنسية إن المعز تأثر بما شهده من معجزة نصرانية هي تحرك جبل المقطم لدى صلوات الأحبار النصارى وتضرعاتهم، فنزل عن الخلافة لولده العزيز وتنصر وترهب، ودفن في إحدى الكنائس
ويجب لكي نقدر مغزى هذه الروايات الكنسية إن نذكر الظروف التي نشأت فيها، وان نكر موقف الكنيسة القبطية ونفسية المجتمع النصراني في عصر الحاكم بأمر الله: فقد عانت الكنيسة وعانى النصارى في هذا العصر ضروبا مرهقة من الاضطهاد المادي والمعنوي، وجازت الكنيسة شر محنة نزلت بها منذ عصر الاضطهاد الروماني، فهدمت بيعها وأديارها، ونبهت أموالها، وبدد تراثها المقدس، وثل الأحبار كل هيبة ونفوذ، وامتحن الكثير منهم، وعانى المجتمع النصراني من القوانين والفروض الجديدة شر ما تعانيه اقليه مضطهدة من ضروب العسف والذلة والإرهاق؛ ومن ثم فان الروايات الكنسية المعاصرة تصور لنا هذا العصر، عصر استشهاد للكنيسة ورعاياها، وتحدثنا في مواطن عديدة عن مختلف المعجزات النصرانية التي ظهرت في هذا العصر والتي كانت الكنيسة تستمد منها العزاء والصبر على مغالبة المحنة؛ ومنها قصة فتى مسلم يسمى ابن رجاء تأثر بمعجزات المسيح فتنصر وترهب، ورسموه قديساً باسم بولس ولقبوه بالواضح؛ ومنها قصة أبي نجاح النصراني، وكان من أعيانهم وأكابرهم فأراد الحاكم إن يرغمه على الإسلام فأبى فأمر بجلده حتى توفى، وزعمت الأسطورة إن الماء كان يقطر من لحيته أثناء ضربه، وان المسيح ظهر له وتولى سقايته أثناء تعذيبه؛ وقصة الرئيس الفهد الوزير، فقد قتله الحاكم لأنه أبى الإسلام وأمر بإحراق جثته، ولكن النار لم تؤثر فيها؛ وقصة البطرك زخاريا فقد اعتقله الحاكم وطرحه للسباع لتأكله ولكنها نفرت منه ولم تمسه بأذى؛ وغير ذلك من(186/16)
الخوارق المزعومة التي تدل على روح الكنيسة وعقليتها في هذا الظرف العصيب، وعلى جنوحها إلى الاستعانة بسيل من الأساطير والمعجزات الجديدة لتأييد هيبتها المقوضة، وتقوية نفوس رعاياها والمؤمنين بقدرتها وسلطانها
فهل نعجب إذا كانت الرواية الكنسية تحدثنا عن مصير الحاكم بأمر الله بهذا الروح ذاته فتحيط هذا المصير بأسطورة من أساطيرها، وتضيف بذلك معجزة إلى معجزاتها؟ إن في تقديم الحاكم بأمر الله، الخليفة الفاطمي، في ثوب النادم المستنيب، يبدو له المسيح، فيرتد عن دينه ويعتنق النصرانية، ثم يترهب، ويقظي بقية حياته في بعض الأديار النصرانية، لأعظم معجزة تقدمها الكنيسة إلى المؤمنين، واعظم ظفر تستطيع إن تصوره لرعاياها في هداية ذلك الذي انزل بهم شر البلايا والمحن أعواما مديدة، ثم انتهى به المطاف إلى إن غدا جندياً من جند المسيح. إن في هذه الخاتمة لأعظم عقاب للآثم، واعظم ترضية للكنيسة والمؤمنين، وابلغ انتقام يمكن إن تنزله الكنيسة بخصيمها
- 2 -
ولا ريب إن التاريخ لا يمكن يحفل بمثل هذه الأسطورة التي لم يؤيدها أي دليل أو أية قرينة سوى الرواية الكنسية التي تنفرد بترديدها، والتي تنم في الحال عما وراءها من الغايات والبواعث؛ بيد إن هنالك في الرواية الكنسية الأولى شيئا واحداً يمكن الوقوف به، وهو ما تنوه به من اختفاء الحاكم أو غيبته دون الإشارة إلى مصرعه بصورة من الصور. ذلك أن هذه النظرية - نظرية الاختفاء - لم تكن دون صدى في حوادث العصر ووثائقه. وإذا استبعدنا فكرة المؤامرة والجريمة مدى لحظة، واستبعدنا ما ينسب إلى الأميرة ست الملك من أنها هي التي دبرت مصرع أخيها على الوجه الذي بسطنا، فان الحوادث والقرائن الأولى التي عقبت ليلة السابع والعشرين من شوال تسبغ على فكرة الاختفاء مسحة من الاحتمال. ذلك إن مصرع الحاكم أو وفاته لم تكن أول ما خطر لرجال القصر والدولة، بل كان أول ما خطر لهم فكرة الغيبة، فخرجوا في اثر الحاكم عدة مرات يبحثون عنه ويستقصون أثره قبل إن يؤمنوا بمصرعه؛ ولبث الكرسي الخلافي شاغراً مدى ستة أسابيع حتى يوم عيد النحر (العاشر من ذي الحجة)، ولم ينادى بالخليفة الجديد حتى استقر لدى رجال الدولة إن الحاكم قد لقي حتفه بصورة من الصور أو على الأقل قد ذهب إلى(186/17)
غير ما عودة: بيد أن فكرة مصرعه، مهما كانت الصورة التي صورت بها ومهما كانت الجناة التي نسب تدبيرها أو تنفيذها إليهم، لم تكن فيما يبدو من روايات العصر وأحاديثه، حقيقة مقررة، ولم تكن رأي السواد الأعظم من الناس. بل لقد أشارت بعض الروايات التي سلمت بمصرع الحاكم إلى صدى هذا الشك في مقتله، فنرى ابن خلكان مثلاً يقول في ترجمة الظاهر ولد الحاكم ما يأتي: (وكانت ولايته بعد أبيه بمدة، لان أباه فقد في السابع والعشرين من شوال سنة إحدى عشر وأربعمائة؛ وكان الناس يرجون ظهوره، ويتبعون آثاره إلى إن تحققوا عدمه، فأقاموا ولده المذكور في يوم النحر)
(النقل ممنوع - للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان(186/18)
في الأدب المقارن
التأثير في الآداب الأخرى
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
من أقوى الدلائل على حيوية أدب أمة وصدق ترجمته عن المشاعر الإنسانية احتفاء الأمم الأخرى به، وعنايتها بدرسه، وتأثرها بنتاجه، واصطناعها وسائله، واشتهار فحوله بينها؛ فإن الأدب إذا كان حياً صادق التعبير عن النفس الإنسانية، عميق النظرة في مشاهد الكون، تخطى حدود أمته واجتاز حوائل اللغة والتقاليد والجنسية والبيئة؛ تخطى ذلك إلى ساحة الإنسانية التي تمحى عندها فوارق الزمان والمكان، ويلتقي لديها أبناء الأمم المختلفة والأزمان المتباعدة، وتمجد العبقرية الفنية حيثما نبتت
فحيوية الأدب وصدقه شرط أساسي لذيوعه وتأثر الآداب الأخرى به. وقد تجتمع إلى قوة الأدب الفنية الخاصة قوة أصحابه الحربية وسلطانهم السياسي، فيكون ذلك عاملا كبيرا مؤديا إلى انتشار الأدب؛ على انه عامل إضافي لا يضير انعدامه.
فالأدب واللغة هنا على طرفي نقيض: فلغة الأمة لا تذيع في الأمم الأخرى إلا تبعاً لارتفاع سلطانها السياسي، مهما كان رقي اللغة ذاتها وصلاحيتها وتفوقها على اللغات الأخرى، أو تخلفها عنها؛ فلغات الرومان والعرب، ثم الفرنسيين والإنجليز، لم تذع وتتخذ صبغة عالية إلا مصاحبة لامتداد نفوذ تلك الأمم؛ أما الأدب فلا يذيع إلا لرقيه وصلاحيته وتفوقه في بعض النواحي، سواء أساعده النفوذ السياسي أم أعوزه؛ ذلك لان اللغة وسيلة ضرورية من وسائل التعامل، فلا بد من الإلمام بلغة الأمة ذات الشان العظيم في الحياة الدولية والاقتصادية؛ أما الأدب فهو متعة وجدانية كمالية، تقبل النفس منه ما وافق طبعها وترفض ما لا تستسيغه، ولو كان يمت إلى أوسع الأمم سلطانا وأضخمها جيشاً.
والأدب الإغريقي نسيج وحده في هذا الباب، وهو مصداق كل ما تقدم ذكره، ولم يؤثر أدب تأثيره في آداب الأمم، ولا نال مثل ما نال من احتفالها: فهو أدب حي راق صادق، ذاع في عهد سطوة أصحابه وفي عهد اضمحلالهم، بل أثر في غالبيهم في ميدان الحرب والسياسة(186/19)
- الرومان - ابعد تأثير ثم عاد فبعث مكمنه فأثر فيه نشأت الآداب الأوربية الحديثة، بل على يديه درجت، وفي حجره شبت؛ ومازالت دراسته أحد فروع الثقافة العالية في الجامعات الأوربية؛ ومن اجل دراسته والاستفادة من كنوزه تدرس اللغة الإغريقية على بعد ما بينهما وبين اللغات الحديثة. أما اللغة ذاتها فتقلص ظلها منذ تقلص ظل السيادة اليونانية التي أظلت حوض البحر الأبيض الشرقي على عهد أثينا والإسكندر والبطالسة، ودرست اللغة وبطل التخاطب بها حتى في بلاد اليونان ذاتها
وتترواح درجة تأثير أدب آمة في آداب غيرها تبعا لحالة المؤثر والمتأثر: فيكون الأثر شاملاً غامراً إذا كانت الهوة بينها بعيدة، بأن كان الأول عظيم الرقي والآخر بدائياً ساذجاً، كما كان تأثير الأدب اليوناني في الأدب الروماني والآداب الأوربية الحديثة، وكما كانت منزلة الأدب الفرنسي من الأدب الألماني في أوائل القرن الثامن عشر؛ وقد يكون أثر أدب في غيره قاصراً على ناحية يتفوق فيها أو يمتاز بها، كما كان تأثير قصة المغامرات الإسبانية في الأدب الإنجليزي، أو تأثير القصة الروسية في الآداب الأوربية العصرية؛ وقد تحتفي أمة بدراسة أدب أمة أخرى إعجاباً به وتقديراً له، دون أن يتأثر به أدبها تأثراً كبيراً؛ واغلب ما يكون ذلك إذا تماثل الأدبان في الرقي، كما هي الحال بين كثير من الآداب الأوربية الحديثة التي قطعت مراحل متماثلة، ووصلت إلى درجات من الرقي مقاربة؛ وقد يتناكر أدبان ويتنابذان فلا يتأثر أحدهما بالآخر، لشدة ما بينهما من تفاوت، أو لاعتداد كل منهما بنفسه، كما كان من ازورار الأدب العربي عن الأدب اليوناني؛ وقد يدرس الأدب في المعاهد وعلى أيدي العلماء والأدباء لمجرد البحث العلمي والتاريخ، دون إن يكون له كبير اثر في آداب الأمم، آو يكون لجمهور المتأدبين بصر به، كما يدرس الأدب العربي في بعض الجامعات الأوربية اليوم
وكلا الأدبين العربي والإنجليزي أثر في آداب الأمم الأجنبية، وبلغ في الرقي والخطر ما جعله جديراً باحتفائها، واشتهر فحوله وأعلامه بينها، وساهم بنصيب في الأدب الإنساني العالمي. على أن الأدب العربي أعطى اكثر مما أخذ، وأثر في آداب الأمم الأجنبية أكثر مما تأثر بها، بينما الأدب الإنجليزي قد اخذ اكثر مما أعطى إلى اليوم، وغنم من كنوز الأمم الأخرى أكثر جداً مما أودع تلك الكنوز؛ وهذه في الحقيقة ظاهرة مطردة في تاريخي(186/20)
الأمتين لا في أدبيهما فقط. كانت الأمة العربية منذ ظهورها أمة إعطاء، أعطت العالم ديناً وقوانين ولغة وأدباً، ولم تأخذ إلا ما يتضاءل أمام ذلك كله من حضارة الفرس المادية، ونظريات اليونان الفلسفية. وكانت الأمة الإنجليزية أمة أخذ، أخذت عن غيرها دينها، والفت من لغاتهم لغتها، واشتقت من آدابهم أساليب أدبها وأشكاله، وأغنت جزيرتها بخيرات الأقطار، ولم تهد إلى العالم من مبتكراتها إلا نظامها النيابي. وعلى حين انزوت جزيرة العرب قابعة في عزلتها بعد أداء رسالتها، آثرت إنجلترا بما قطفت من أطياب العالم المادية والأدبية التي اجتنتها على مدى العصور اجتناء مميز بصير خبير بما ينفع، نابذ لما يذهب جفاء
أثر الأدب العربي في آداب كثير من الأمم الشرقية، كالهنود والفرس والترك واليهود؛ وما يزال ذلك التأثير ماثلاً في الألفاظ والأساليب التي اقتبستها منه تلك الآداب؛ وقد أدى إلى اتصال تلك الآداب بالأدب العربي اتصال العرب بتلك الأمم بالحرب والتجارة، وبسط العرب سيادتهم عليهم حيناً، ونشرهم دينهم بينهم، فكانت سيادة العرب سبب انتشار اللغة العربية التي ظلت تدرس في تلك الأقطار عصوراً طوالاً، ولم تزل تدرس في بعضها؛ وكان انتشار الدين الإسلامي عاملاً آخر أطول بقاء؛ فلما انتقلت السيادة إلى الفرس فالترك ضعفت مكانة اللغة العربية، بينما ظل التفوق والتأثير للأدب العربي حيناً طويلاً لرقيه وتأخر الآداب الأخرى
ولم يسم من تلك الآداب الشرقية إلى مضاهاة الأدب العربي إلا أدب الفرس. وقد كان بين هذين الأدبين وفحولهما تمازج واتصال وتعارض وتبادل عديم النظير بين أدبين آخرين: بدأ ذلك بانتصار العرب الحربي والديني، وكان أدبهم على جانب عظيم من التقدم، بينما أدب الفرس بدائي لم يتعد بعد طور الطفولة، ولم يستقل تماماً عن الدين، لأنه - كأدب قدماء المصريين - ترعرع تحت ملكية شديدة الجبروت والأنانية، وكهنوتية شديدة الغيرة والأثرة، فلم يكن يعدو الأقاصيص الساذجة والمواعظ ونوادر الملوك والآلهة: أما الأدب العربي فكان قد ترعرع في حرية البادية
فلما اتصل الفرس بالأدب العربي واعجبوا به، لم ينقلوا ما راعهم منه إلى أدبهم بل انتقلوا هم إليه، فنثروا ونظموا في لغة الدولة والدين والقران، وكان منهم جملة من فحول الأدب(186/21)
العربي، على حين كان أدبهم هم خالياً من الفحول على الإطلاق؛ ثم نشأت طبقة منهم تؤلف باللغتين وتساهم في الأدبين، وبذلك بدأ الأدب الفارسي في الظهور وكان الشعر اسبق من النثر؛ فلما استقلت فارس واستعادت سيادتها القومية في ظل السامانيين والبويهيين ومن بعدهم، نبغ فيهم رهط كبير من الشعراء والكتاب عكفوا على إحياء أدبهم وإثرائه، متأثرين خطى الأدب العربي في المواضيع والأشكال الأدبية والأوزان الشعرية والألفاظ، واخذوا عن العربية ما كان قد داخلها إذ ذاك من محسنات وصنعة؛ وبينما دخل الأدب العربي في طور ركوده افتتح الأدب الفارسي عصر رقي رائع طويل، ضارع فيه الأدب العربي وفاقه في كثير من الأبواب، كشعر الملاحم ووصف محاسن الطبيعة، ونال بعض فحوله كالفردوسي والخيام من الشهرة العالمية ما قصر عنه فحولة العربية
وكان للأدب العربي اثر كبير في آداب الأمم الغربية؛ ولكن بينما تأثرت الآداب الشرقية بالأدب العربي الفصيح، كان الأدب العربي العامي هو الذي اثر في الآداب الغربية: فالأقاصيص الشعبية وضروب الأزجال التي فشت في الأندلس كانت نواة الأدب الإسباني الحديث الذي تمثل في عهد النهضة الأوربية في قصص سرفانتيس، والذي أثر في الأدبين الفرنسي والإنجليزي أثراً مذكوراً فيما بعد؛ وتلك الأقاصيص والأزجال انتقلت من إسبانيا إلى جنوب فرنسا، حيث نشأ شعراء التروبادور الذين وضعوا اللبنة الأولى في أساس الشعر الفرنسي الحديث. أضف إلى ذلك ما نقل من تلك الأشياء إلى الأدب الإيطالي وأثر في كتابات بوكاشيو وبترارك ودانتي، وما تسرب إلى الأمم الأوربية في عهد الحروب الصليبية. هذا إلى قصص ألف ليلة وليلة التي انتقلت إلى أوربا من عهد بعيد وترجمت إلى لغاتها، وكانت موضع إعجاب الأدباء واقتباسهم
وللأدب العربي أثر ثالث عظيم الخطر عديم النظر، لم يتأت حتى للأدب اليوناني أن يأتي بمثله: ذلك هو حلوله محل غيره في الشام والعراق وشمال أفريقية، حتى نسي أهل كل قطر من هاتيك ما كان له من أدب قبل ذلك، واصبح تاريخ الأدب في كل إقليم منها يبدأ بعهد الجاهلية في جزيرة العرب. والواقع أن الأدب العربي لم يسد تلك البقاع لمجرد قوته وحيويته، وإنما تمكن من الإتيان بتلك المعجزة بفضل ما صاحبه من ظروف وعوامل، كقوة اللغة العربية ذاتها وكونها لغة الدين الجديد والدولة، ثم السياسة الحكيمة التي سلكها(186/22)
العرب في حكم الأقطار: فقد تركوا لها حرية العبادة والمعيشة، وأشعروها مع ذلك بالنقص وانحطاط منزلتها عن منزلة الفاتحين أصحاب الدين والدولة؛ فتسامحهم الديني لم يستفز تلك الأمم إلى مقاومة الدين الجديد ومعاندته، كما قد كان يستفزها القهر والإرغام على اتباعه؛ وشعورها الباطن بالنقص والانحطاط دفعها إلى التشبه بالقائمين بالأمر عليها والانغمار في جملتهم؛ ومن ثم انتشر الدين واللغة وحلا محل غيرهما، وانتشر بانتشارهما الأدب العربي
فالأحوال كانت مهيأة في الشرق مساعدة لانتشار الأدب العربي: لتفوقه وتفوق لغته على ما كان هناك من آداب ولغات، وانتشار دين قومه وسيادتهم، ومشابهة الأمم الشرقية للعرب في الطباع إلى مدى، وامتزاجها بهم في أطراف الإمبراطورية العربية. أما في الغرب فلم يكن الأدب العربي الفصيح ليلاقي مثل هذا النجاح، بل هو لم يلاقي نجاحاً ما، ولم يصب إعجاباً قط؛ وقد هرع إليه متأدبو الإفرنج غير مرة يريدون الانتهال من مورده، وارتدوا خائبين قانطين؛ وبينما وجدوا في الأدب الفارسي ما يترجمونه ويظنون به ظنهم بآثار آدابهم، لم يجدوا في مدائح المتنبي لسيف الدولة وأهاجيه لكافور، وتفنن بديع الزمان في صوغ الأسجاع والنكات على لسان أبي الفتح، ما يستحق عناء الدرس والترجمة، أو يحث على الإعجاب والظن. إنما تنقل الأمم من آداب غيرها ما يمت إلى الإنسانية في شتى بقاعها وعصورها بأوثق الأسباب؛ أما المدح والذم والزخارف اللفظية التي إذا ترجمت تبخرت فلا تنفق في غير لغتها وعصرها
ولقد كانت الآداب الغربية قبل عهد النهضة ناشئة تتلفت باحثة عن الأستاذ المرشد، فلم تره في الأدب العربي الفصيح، لأنه لم يكن أدب شعب ومجتمع وحياة متجددة بل اختار لنفسه إن يكون أدب بلاط، ونديم علية، ورهين تقاليد لا تتغير، واستبعد من حظيرته منادح كثيرة من منادح القول، ومواضيع شتى من صميم الحياة والفن؛ وإنما استفادت تلك الآداب بما وجدته في الأدب العربي العامي من آثار الخيال الرائع، والتصوير الصادق، والتعبير المتعدد الأشكال عن الحياة الإنسانية المتدفعة المتجددة، فضلاً عما ينسم منه من روائح الشرق وبذخه وكنوزه وغرائبه، تلك التي ما زالت من قديم تستهوي نفوس الغربيين وتثير أخيلتهم، فأوسع الأوربيون ذلك الأدب العامي دراسة وترجمة ومحاكاة، ثم لم يلبثوا إن(186/23)
اهتدوا إلى ضالتهم المنشودة في الأدب اليوناني، فعلوا من معينه ونهلوا
وقد قيل إن كوميدية دانتي الإلهية متأثرة برسالة الغفران، وقصة ربنسون كروزو أوحت بها قصة حي بن يقضان، وذلك بعيد: فلو أن الآداب الأوربية كانت تتأثر بالأدب العربي الفصيح لما اقتصر تأثرها على هذين المثالين الشاردين - على كون قصة حي بن يقضان أثراً فلسفياً لا أدبياً - وليس بين الكوميدية الإلهية وبين رسالة الغفران شبه سوى أن الجنة والنار مشاهد وقائعهما، ولا بين روبنسون كروزو وحي بن يقضان تماثل إلا انعزالهما في جزيرة، وتوفيرهما حاجاتهما بأنفسهما؛ وكلتا الفكرتين بديهيتان يلوح انهما تطرآن على الفكر الإنساني في شتى العصور والأصقاع. وهل شيء اكثر بداهة واقرب إلى الطبيعة من أن دانتي المتعصب الديني في عصر التعصب الديني وفي وطن البابوية يلتفت إلى العالم الآخر ويجري فيه حوادث مهزلته؟ أو إن ديفو المغامر الأفاق في عصر المغامرات البحرية، وفي إنجلترا البلد البحري يتخذ بطلاً لقصته مخاطراً بحاراً؟
أما الأدب الإنجليزي فكان - كما تقدم - أقل من الأدب العربي تأثيراً في الآداب الأجنبية، وأكثر منه تأثراً بها: تأثر من عهد النهضة بالأدب اليوناني والروماني والفرنسي والإيطالي والأسباني ثم الألماني، وأخذ خير ما تلك الآداب من الأشكال الأدبية والمواضيع والأساليب، وصاغها على النحو الملائم لطبائع أهله وعبقرياتهم الخاصة، ومثل كل ما اخذ ونقاه، حتى جاء الأدب الإنجليزي مضاهياً لأحسن ما في تلك الآداب إن لم يفقهها جميعاً عمق فكرة وشمول نظرة وحرارة شعور وصدق عاطفة وبساطة بيان، ونبغ فيه من الأعلام أمثال شكسبير وملتون وبيرون وسكوت من كان لهم مكان رفيع في القارة، وعنى بدراستهم، والإشادة بفضلهم أقطاب الآداب الأوربية، أمثال هوجو وتين وسنت بيف، وحوكيت قصائد بيرون وقصص سكوت، ومثلت روايات شكسبير في مسارح العواصم الأوربية، وساهمت إنجلترا بنصيبها في النهضة الرومانسية التي كانت حركة أدبية دولية ساهمت فيها سائر الآداب الأوربية والأمريكية
على إن كل ذلك لا يكاد يتخطى حدود التقدير والإعجاب بذلك الأدب، ولم يتعدى ذلك إلى إحداث ثورة شاملة أو تطور خطير في تلك الآداب، ولم يؤثر الأدب الإنجليزي فيها بعض ما أثرت هي فيه، فهو قد جاء متأخراً عنها قليلاً ولحق بها فتشابه الجميع اليوم رقياً، فهي(186/24)
في غنى عن الأخذ عنه، وهو لا يفاجئها بعناصر ليست فيها، وهو وهي سواء في الأخذ من الأدب اليوناني والبناء على أساسه واعتناق مبادئه التي دان بها في تصوير الحياة وتحليل النفوس وعبادة الجمال.
فالآداب الأوربية اليوم، بما فيها الأدب الإنجليزي، فرسا حلبة واحدة، متشابهة في النشأة والتاريخ والمنهج، وهي وان كانت على اتصال وامتزاج دائبين، لن ينتظر أن يكون تأثير واحد منها في غيره تأثيراً بعيد المدى شاملاً غامراً، كما كان تأثير الأدب اليوناني في الأدب الروماني، أو تأثير الأدب العربي في الأدب الفارسي، فمثل هذا التأثير الشامل لا يكون إلا بين أدبين قد انفرجت بينهما مسافة الخلف، وضرب حجاب العزلة بينهما دهراً، كما هو الشأن اليوم بين الآداب الغربية في مجموعها - ومن بينها الأدب الإنجليزي - والآداب الشرقية في مجموعها - ومن بينها الأدب العربي - فقد كان التدرابر والتناكر سائدين بينهما عصوراً طويلة، والأولى في رقي مطرد، والثانية في تدهور مستمر، فلما تلاقتا ورفع من بينهما حجاب العزلة أثرت الأولى في الثانية؛ وما تزال تؤثر تأثيراً هو أدنى إلى الثورة المطلقة أو الخلق من جديد.
فالأدب الإنجليزي قد بلغ من الرقي وصدق الرسالة واتساع الجوانب ما يبذ به الأدب العربي، ونال من المكانة بين آداب الأمم أسماها، وحاز من أدباء تلك الأمم اعظم التقدير والحفاوة، وهو مكانة ستظل له دائماً كما ظلت مكانة الأدب اليوناني بعد زوال دولته، وهو خليق أن يؤثر في آداب الأمم التالية أثراً بعيداً، أما إذا ووزن بين تأثيره في الآداب الأخرى إلى اليوم وبين تأثير الأدب العربي في الآداب المعاصرة له، فان الأدب العربي يرجحه كثيراً. بيد إن الأدب العربي قد أدى رسالته في ذلك الصدد ولم يعد صالحاً لان يؤثر في آداب الأمم الأخرى حتى يتجدد ويتأثر هو ذاته بغيره من الآداب، ويفتتح في تاريخه فصلاً جديداً غير الفصل السالف.
فخري أبو السعود(186/25)
على أطلال الماضي
وقفة على (إيوان كسرى)
للأستاذ علي الطنطاوي
خرجنا من بغداد فسلكنا على (حي البتاويين) ظاهر (الباب الشرقي)، وجزنا على قصوره الشم التي تتكئ فيها الأرستقراطية الناعمة على الأرائك سكرى بخمرة الذهب، وسرنا إلى (الهنيدي) في الطريق التي تنام على بسط الحقول السندسية، يحرسها صفان من النخيل، حتى انتهينا إلى (المعسكر البريطاني) صرح أكاسرة اليوم، فتركناه وأممنا صرح أكاسرة الأمس لنقف عليه ذاكرين معتبرين.
عبرنا نهر (ديإلى) وخلفنا القرية جاثمة على كتف النهر، قد دلت رجليها في مائه، واستقبلنا الفلاة الواسعة، فما عدنا نرى إلا الفضاء؛ حتى إذا سرنا فيها ساعتين طلعت علينا قرية (سلمان) تلوح على حاشية الأفق، تضح وتغيب، ثم تبيناها ورأينا قبة مسجدها واضحة، ورأينا بجنبها بناء ضخماً كأنه جبل. . . قلت: ما هذا؟ قال صحبي: هذه قبة سلمان الفارسي، وهذا ايوان كسرى. فقلت: يا للعجب! أطاف سلمان حتى استقر قبره بجانب الإيوان، فغدوا متلاصقين، وبدوا متعانقين؟ وحثثنا (الدراجات) إلى القرية فبلغناها بعد ساعة.
كانت قرية صغيرة، نشأت على تربة سليمان رضي الله عنه، ليس فيها - إلا مسجده - شيء يذكر؛ أما الإيوان فهو في ظاهر البلد، متربع على ظهر الفلاة وحيد معتزل، مطرق حزين!
وقفنا عليه فإذا هو طاق عال مهدم، وجدار شامخ متصدع، وإذا هو ضخم فخم، ولكنه عار موحش، ليس فيه صورة ولا نقش: لا صورة إنطاكية التي تروع بين روم وفرس، ولا انوشروان الذي يزجي الصفوف تحت الدرفس، ولا عراك الرجال بين يديه في خفوت منهم وإغماض جرس، ومن مشيح يهوي بعامل رمح، ويليح من السنان بترس. . .
لقد محا الدهر الصورة، كما محا أهلها، ودار الزمان دورة أخرى، فأصبح حاضر البحتري ماضياً وعيانه أثراً. . . ذلك لأن الماضي نقطة واحدة، تتلاقى فيها الأبعاد، وتضيع المسافات، وتفنى الدهور. . . نقرأ قصيدة البحتري، ونرى الإيوان، فنحس أنهما قد التقيا(186/26)
في عالم الماضي وضاع ما كان بينهما من عصور، كما التقت آثار (سر من رأى) بأطلال بابل، فكان حكمها في الخيال واحداً وأثرها في النفس واحداً، وكما التقت في أبصارنا ونحن قادمون على القرية قبة سلمان بالإيوان. . . ومن لعمري يدرك الزمن الذي كان بين آدم ونوح، وإبراهيم وموسى، وبلقيس والزباء، وهوميروس وأفلاطون، وحروب طروادة وفتوح اسكندر؟ إن الحوادث كلما أمعنت في المضى، ضاعت من بينها الأزمنة وامّحت الأبعاد
وليس يهيج النفس ويثيرها كرؤية أطلال الماضي والوقوف بآثار الغابرين؛ ففيها روعة البقاء، وهول الفناء، وعبرة الدهر؛ وهي نوافذ تطل منها النفس على عالم المجهول الذي تحن إليه أبدا ولا تنى تقرع بابه، فتتحرر فيها ساعة من قيود المادة، وتطير في مسارب الأحلام
ولقد وقفت على الأهرام، ومررت على الحديبية، وجلست في العقيق، وعرجت على حطين، وزرت بعلبك، فكان شعوري في ذلك كله كشعور اليوم وأنا في المدائن أمام إيوان كسرى. . . استعظم الأثر واعجب بجلاله، واكبر القدرة التي أنشأته، ثم أعود بفكري إلى الماضي فأحسن بأن صفحته تفتح أمامي فأرى حقيقة شاهده كل ما قد قرأت في الكتب، وأتخيل أنى مع الغابرين أسمع وأرى، فأراني قد عشت دهوراً؛ ثم أقابل وأعتبر، ثم أذهل عن نفسي، وأجول بفكري وخيالي في آفاق كثيرة لم أرها من قبل في الآثار الباقية للأمم الماضية يلتقي أعظم شيئين وأجلهما: الزمان والمكان؛ فتلمس القرون تنحدر على صخر الهرم، أو أعمدة بعلبك، أو آجر الإيوان، هذا الآجر الذي حمل أعباء القرون السبعة عشر. يا لروعته وجلاله! انى لأحتقر نفسي وأنا قائم بقامتي القصيرة الهزيلة حيال هذا الكائن الجبار الهائل، ثم أعود فأرى كل شي دوني حقيرا، أنا الحي، وأنا الباني، وما هذه كلها إلا أثر من آثاري، ليس لها لولا فكري وجود ولا لوجودها معنى. . .
أطفت بالإيوان في خشوع واكبار، ووقفت على بابه في هيبة وإجلال، ثم دخلت من الصحراء فإذا. . . فإذا أنا خرجت إلى الصحراء، الصحراء الصامتة صمت الموت، الموحشة وحشة المقبرة، الممتدة امتداد الزمان. . . وقفت أستنشق عبير المجد، وأتسمع نشيد العظمة؛ فما سمعت إلا صفير الرياح، ولانشقت إلا رطوبة الفناء. لمست الجدار فما(186/27)
أحسست إلا برودة الحجر؛ تسلقت الجدار حتى كلت رجلاي ولم أبلغ نصفه، فجلست على لبنة بارزة لاستريح، وتلفت. . . فإذا الأفق الواسع الرحيب وإذا الناس كالنمل، وإذا القرية كأنها كومة من الحجارة، مكومة في أعماق الوادي، وإذا دجلة تجرى بعيدا تلبس حلة من نور الشمس فتبدو لامعة تزيغ منها الأبصار، وإذا أنا وحدي معلق بين السماء والأرض، فغثت نفسي، وأخذني الدوار، وهممت بالسقوط، فأغمضت عيني كيلا أرى شيئاً
أغمضت عينى، وفتحت قلبي، فرأت البصيرة مالا يراه البصر: رأيت إني قد ذهبت أتخطى أعناق القرون وأطوي سجل الزمان، وأدير بفكري دولاب الفلك، فيكر راجعا. . ازّخرفت هذه الجدران العارية وأخذت زينتها، وعادت هذه الأبواب، فأسدلت عليها ستر الوشى والديباج، وتحلت هذه السقوف بالصور والنقوش وتدلت منها سلاسل الذهب، تحمل الثريات المرصعة باللؤلؤ. . . عاش الإيوان، وقام في صدره سرير انو شروان، ورجع المجد وعاد السلطان
وحلت الحياة في هذه الصحراء، فنبعت المدائن والقصور من الأرض نبعاً، ونبتت منها نباتا، فنمت في لحظة وأورقت، وعلت واستطالت، ولونت الحياة هذه البرية الكالحة بألوان الزهر، فعادت حدائق وبساتين، كانت لهذه المدائن كالإطار، فرايتها أعظم المدن، وقصورها أفخم القصور، والإيوان أجل صروحها وأعلى ذراها، ورأيت هذه الأبواب التي كانت منذ ساعة تفضي من الصحراء إلى الصحراء، مفتحة للرياح والذئاب. . . قد قامت عليها الحجاب، ووقفت دونها الملوك، وحل على أعتابها المجد، والجدران التي كانت عارية مصدعة، قد شمخت وبذت وعزت، حتى غدت والطير تخشى إن تطير فوقها، أو تحوم في سمائها، ورأيت دجلة التي كانت منذ ساعة تجرى في البادية بعيدة عن الإيوان، معرضة عنه، لا تلتفت اليه، ولا تأبه له، قد غدت ساقية. . . تمشي خاضعة وسط المدائن، وتنحني لتعقد على كتفيها القناطر والجسور، وتفتح صدرها لتضم ظلال هذه القصور، وهى تستنقع فيها في أمسيات الصيف الحارة!
ورنوت بعيني إلى هناك، إلى الحيرة، فإذا الخورنق السامق يعنو للإيوان كما يعنو صاحبه لربه؛ ورميت ببصري إلى بعيد. إلى الجزيرة، فإذا فيها أشباح تجيء وتروح خلال الضباب، تموج كأنها في بحر واسع، وكأن خيامها سفائن يحملها الموج، ويمشي بها مد(186/28)
وجزر، ولكن هذه الأمواج تتكسر على صخرة الإيوان ثم ترقد ضعيفة وانية، والإيوان مشمخر عات، لا ملك اعظم من ملكه، ولا سلطان اعظم من سلطانه، ولا إنسان اعز من ربه؛ وامتد ببصري إلى المشرق والمغرب فلا أرى كالإيوان ثروة وجاهاً وعظمة ومجداً.
ولكن. . . مه! إن في البادية لشيئاً جديداً؛ إنها تضطرب وتهتز؛ إن فيافيها تتمخض بالحياة، ها هوذا النور يشق الضباب الكثيف، حتى يلمع كالبرق الخاطف، بين قصور المدائن وتحت أقبية الإيوان. . . لقد ضرب محمد (صلى الله عليه وسلم) صخرة الخندق، فأضاءت المعجزة الإيوان، فوعده اتباعه وقال لهم: هذا الطريق.
يا للعجب العجاب! إن هذه القرية الملتفة في ألحفة الرمل، النائمة على صخور الحرة، المتوسدة سفح أحد، وجوانب سلع، تريد أن تأكل المدائن!. . بلغ كسرى الخبر، فضحك حتى استلقى. . . ثم جاء كسرى الكتاب، فعبس وبسر، واعرض واستكبر، ومزق كسرى كتاب سيد العالم. . .
لقد نطق سيد العالم بالحكم النافذ: ليمزقن الله ملك كسرى.
وفتحت عيني فإذا الحلم قد تصرم، فغاضت المدائن في الأرض ونزعت الجدران ثيابها، وابتلعت الصحراء زهرها ووردها، وعادت قاحلة ليس فيها إلا هذه الأنقاض جاثمة على ظهرها، قد حطمها الكبر، وثقلت عليها السنون، فانحنت حتى تسلق صبية القرية سطحها يلعبون عليه. . .
الصبية يعلبون على سطح الإيوان! أين كسرى يرى ما صار إليه إيوانه؟ أبناء العرب يتلهون بمجلسك يا شاهنشاه! لقد قوض المجلس، وثل العرش، وهوى التاج، فما أنجدك الجند، ولا أغنى عنك الغنى، ولا حمتك الحمية، ولا آواك الإيوان!
لقد مزق البدو ملكك يا كسرى؛ وما هذا عجيباً، فالتمزيق اسهل من الترقيع، والهدم اهون من البناء؛ ولقد هدم البرابرة من قبل عرش الرومان. . . غير أن هؤلاء البدو - يا ملك - قد أسسوا حضارة خيراً من حضارتك، وبناء اجل من بناءك، وحكموا اعدل من حكمك. وقد أثمرت حضارتهم حضارة القرن العشرين، وحضارتك لم تثمر شيئاً.
لقد بنت ديمقراطية عمر الذي كان ينام على التراب، ويلتحف بالبرنس، ويؤدب بالدرة، ويعين الفقير، ويخدم العجوز، وينصف من نفسه، لقد بنت ديموقراطيته دولة. أما جبروتك،(186/29)
وعظمتك الجوفاء، واستبعداك الناس، فلقد هدم دولة!
هذه بغداد الإسلام؛ فيها أربعمائة وخمسون ألفاً؛ وهذا إيوانك تصفر فيه الرياح الباردة صفير الفناء المرعب، وتنشد فيها الطبيعة نشيد الموت!
من الذي كان يفكر أيام عز الإيوان أن صبية العرب ستلعب في أنقاضه؟ من الذي يفكر اليوم بان أطفال الحبشة ستقفز على أطلال روما؟ لا تتعجبوا من شيء، إن الليالي يلدن كل عجيبة. . .
وليعتبر الطغاة، فلقد كان كسرى - يوم كان كسرى - اضخم سلطاناً، واعظم بنياناً، واكثر أعواناً، فأباد الزمان السلطان، ودك البنيان، واهلك الأعوان. . .
اعتبروا. . . فهذا صرح كسرى خال موحش. وهذا قبر سلمان عامر مأنوس. . . قد مات القصر، وعاش القبر! قصر كسرى شاهنشاه، الذي كانت تقوم على بابه الملوك.
. . . ضاحين حسرى من وقوف خلف الزحام وخنس قد مات، وغدا قبراً في الفلاة؛ وهذا القبر، قبر فارسي من عامة الناس، يصبح مثوى الحياة، تلتف به البيوت، ويؤمه الزائرون، يقفون حياله خاشعين، ثم يعودون ولا يلتفتون إلى الإيوان وبينهما ثلثمائة متر. . .
اين كان سلمان من كسرى انوشروان؟ أين كان من وزراءه واتباعه؟ أين كان من خدامه وحشمه؟ صه. . لقد خلد سلمان بالإسلام، فكان اعظم من كسرى!
أما بعد، فقد تكون الأهرام اضخم أفخم، وأعمدة بعلبك اجل واجمل، ولكن للإيوان معنى آخر. . .
هنا كان يستقر جلال الماضي كله؛ هنا كانت عظمة الملك وجبروت السلطان؛ هنا كان الذي يستعبد الناس، فيؤلهه الناس. . . لم يبق من ذلك كله شئ. . .
وكانت الشمس قد جنحت إلى المغيب، فنزلت ووقفت أودع الإيوان، فاقترب مني سائل اعمى، وجعل ينفخ في ناي معه نغمة حزينة مؤثرة. . . فكان لها - في تلك الساعة، في صمت الصحراء، ووحشة الإيوان، وغروب الشمس - اثر في نفسي لا يوصف، فقلت: آه. . . ليتني كنت شاعراً.
علي الطنطاوي
مدرس الأدب في الثانوية المركزية ببغداد(186/30)
إلى الأستاذ الزيات
(ذكرى ميلاد) حركت قلمي!
للمربية الفاضلة الآنسة زينب الحكيم
أحييك من قلب فواجع الحدثان للتتابعها، ويئن من المصائب لتواليها، حتى اصبح قلباً كسيراً ملتاعاً. وأشكرك على كلمتك (ذكرى ميلاد) بقدر ما أشاركك عواطفك النبيلة نحو ذلك (الرجاء) الضائع والأمل المنهار.
لقد هز نفسي هذا المقال هزة عنيفة، وحرك قلمي بعد أن سكن طويلاً ليكتب عن الأطفال، والطفولة الهنيئة. وكنت قد دفنت هذه الذكرى لا تعمداً ولكن قهراً، مع إن أمنيتي في الحياة كانت العمل على إسعاد الأطفال واستمتاعهم بطفولتهم، ولا سيما ونحن في بلد لا يعرف للطفل حقه، ولا يدرك للطفولة كرامتها.
وكم نحن في حاجة إلى آباء مثلك يعنون بدراسة أبناءهم، ويشاركونهم الحياة ليعيشوا وإياهم سعداء.
غالب الظن، أن الأستاذ الزيات لم يدخل مدرسة علم النفس الحديثة، أو هو إذا كان قد فعل لا يطنطن بدراساته المتعددة وجهوده المتكررة كما يفعل بعضهم. إن كلمتك يا أستاذ تعد بمثابة رؤوس لعدة دروس تربيوية جامعة في عالم الأطفال، يجب أن توضح وتدرس للآباء والأمهات جميعا.
فان (فرحك الصادق، واستبشار نفسك بذلك المولود الذي هبطت عليك بشراه هبوط الملك على زكريا، والذي جعل نفسك تطمئن إلى إن اسمك قد اشترك، ووجودك قد ازدوج، وعمرك قد امتد في الحياة)، كل ذلك ما ينبغي أن يحسه ويشعر به جميع الآباء والامهات، قبل وبعد أن يرزقهم الله أطفالاً، وذلك من أهم العوامل التي تؤثر في حياتهم.
إن ذلك (الرجاء) الذي غير من نظرتك إلى الاطفال، فجعلها نظرة عملية جادة، بعد إن كانت خيالية نظرية، تلك النظرة التي جعلتك تتقرب إلى كل أب، وتسكن إلى كل أم، هي التي جعلتك في هذه الناحية في صف المكلفين المسؤولين. ولعمري إن الرجل المكلف المسئول هو الرجل الحر الذي يعتمد عليه. فلله ما اجمل ما اختصك الله به من فطنة للوجود الحق، وما أقوى ما امتازت به طبيعتك من تكوين الأسرة السعيدة التي هي اللبنة(186/32)
الأولى في بناء الوطن العزيز.
ثم إن خطة تعاقب المآدب، وتقديم الهدايا، وبهجة الدار المتوالية، وإعطاء الصغير فرصة الرياضة في الحديقة، والعناية بنظام حياته كلها، في غير إسراف أو تقتير يتفق تماماً وروح التربية الصحيحة. كذلك إقامة حفلات الميلاد والتعارف بين الأطفال، وما إلى ذلك، لمما يزيد في بهجة الأسر، ويدرب النشء على الآداب العامة من نعومة أظفارهم، ويشعرهم بالواجب، ويعد شخصيتهم للنضوج التدريجي، ويشجعهم أيضاً على قبول كل شيء حولهم وفحصه، من أشياء وأفكار ومبادئ، فيخضعون للصالح منها في غير تأفف، ويأنفون من الطالح في صراحة ويقين.
لقد كنت مثال الأب الصالح بالنسبة لطفلك العزيز، فان مصاحبة الآباء لأبنائهم أثناء شراء لعبهم ولوازمهم، وإعطاءهم فرصة الانتقاء والاختيار مع التوجيه الصحيح والإرشاد الحكيم، يمكنهم من دراسة غرائز أطفالهم وتعرف ميولهم، فيعملون على تربية كل وفق طبيعته.
وكم كنت أباً رحب الصدر، بارعاً في فن تربية الأطفال وهم رجال المستقبل وعدة الوطن حينما كنت تجيب (رجاء) على أسئلته بقدر ما يحتمل عقله، ولا ترد له سؤالاً أو تعنفه عليه، ولو كنت فعلت لما لحظت مخائل نجابته المبكرة، ولا حدة ذهنه وشخصيته القوية المرنة كما وصفت
إلى هنا، يأتي دور العتب على الأستاذ الزيات، في هلع نفسه، وتطيره من الحياة، لان الله اختار ذلك الكم العبق لجواره الكريم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) أيدري أحدنا لماذا خلق على النمط الذي اختصه الله به؟! أو لماذا يرجعنا الله إليه إن عاجلاً أو آجلاً؟! له فيما يريد ابلغ حكمة
وعهدنا بالأستاذ كبير النفس قوي الإيمان، صقلته غير الدهر وصروف الزمن، فلا ينبغي أن يجزع إلا على قدر
ولست ادري لم تطوى ثياب (رجاء) تعبث بها الهوام وتوارى في الحقائب، وقد لامست جسمه النضر، وتضوع فيها شذى أنفاسه العطر!! ولماذا تخفى لعب (رجاء)، وهو الذي لمسها بيديه الطاهرتين؟! وأتساءل في دهشة: لماذا تستر صور (رجاء) وجميع آثاره؟!!(186/33)
إن هذا ينافي بقاء ذكراه الكريمة، ويمحو صورته الجميلة من المخيلة، ويذهب بصوته الرائق من الأذن
أيها الأب الكريم! سهل على النفس غرامها، وعلى القلب حنينه، وعلى العقل حيرته. انشر صور (رجاء) في كل مكان جميل في المنزل، وضع لعبه في اكرم مكان وأليقه، وانفض عن ثيابه المطوية الغبار، حتى تتلمسه في كل شئ حولك؛ وضع أثراً من آثاره كمنديل، أو قفاز، أو لعبة صغيرة في مكان يحتمل أن تطرقه على حين فجأة، وانس انك وضعت ذلك الأثر في هذا المكان، فإذا صادفك بعد حين، فاختبر انفعال نفسك بالعثور على ذلك الأثر المنسي، وجدد الذكرى؛ ثم حدث أصدقاءك ومحبيك كلما زاروك عن صور (رجاء) على اختلاف مواضعها ومناسباتها. واشد بذكائه وجمال نفسه، وما كنت تعقد على وجوده من أمل، وبهذا تستطيع إن تبقى (رجاء) حيا في عقلك وفؤادك، وبهذا تستطيع أن تجد رجاء أقوى في (خليفة رجاء). وحذار من تضليل الطفل بعاطفة مصطنعة، فإنها لن تخفى عليه مهما صغر سنه، وان هو عجز عن أن يثأر لنفسه منك صغيراً، فلن فلت منه وهو كبير. واعمل بالمبدأ القائل: احي ويسر للآخرين الحياة
وإني بهذه المناسبة، يحضرني حوار شعري طريف، كنت قد حفظته وأنا طفلة بالمدرسة لشاعر الطبيعة الإنجليزي (وردذورث ألخص معناه فيما يلي:
تخيل الشاعر انه قابل مرة طفلة ريفية راقه حسنها، فاستأذن في محادثتها، وسألها: (ألك اخوة وأخوات أيتها الصغيرة؟ قالت: نعم، نحن سبعة من ذكور وإناث، مات منا اثنان. فقال لها: إذن انتم خمسة الآن لا سبعة؟! فقالت: لا، نحن سبعة. فقال إذا كان قد مات منكم اثنان فالأحياء خمسة فقط!! فأجابته الريفية الساذجة بدهشة ردت الشاعر العظيم إلى صوابه قائلة: ولكنهما حيان عند الله وسنتقابل جميعا في الجنة. .)
هذا يا سيدي الأستاذ تحليل طفلة غربية ساذجة، فهل يجوز أن يكون جواب الشرق في مثل هذه الأحوال كذلك؟!!
الجواب منك وإليك، وأنت صاحب النفس الكبيرة، والإيمان العامر. أطال الله بقاءك، وأجمل عزاءك
زينب الحكيم(186/34)
من الشعر المنثور
أحبك أيها الشتاء!
للأستاذ خليل هنداوي
(ألف أدباؤنا أن يكرهوا الشتاء لأنه فصل قاتم الأحشاء، يفرون
من جوه الثقيل ولا يدعون شعره بنفذ إلى قلوبهم، ولكني
أراني تدفعني إلى لقاء الشتاء دوافع لا أستطيع لها دفعاً، وقد
اترك القطر الذي لا تظهر فيه آثار الشتاء كثيراً إلى قطري
الذي تتجلى فيه)
(خ. هـ)
احبك أيها الشتاء!
احب غيومك المتناطحة في الأعالي، تغشى السماء فتحجب زرقتها عن العيون، وتسطو على النور فتتركه قاتم الأحشاء
احب خيوطك المتواصلة التي لا تنقطع، كأنها أغنية السماء للغبراء
احب طيورك السوداء النازحة، هائمة بين الأشجار الجرداء، أو محلقة في الأجواء
احب أشجارك العارية لأنها خلعت ثياباً قديمة وطرحت أوراقاً ذاوية، تاركة لغيرها حق النماء
احب عصافيرك التي تتوارى في الغيوم المدلهمة وقد صرفها التأمل عن الغناء
احب هامات الجبال المكتسية بالثلوج، وبطونها التي في كل منحدر منها ساقية تغني، وفي كل منبطح جدول له خرير
احب رائحة الأرض التي تنم عن كنوز تنطوي عليها فأفعم نفسي بشذاها، وأملأ قلبي من طيب ثراها
احبك حيثما كنت أيها الشتاء!(186/36)
احبك وأنت تزجي إلى مدينتي الغيوم السوداء
تطرح على غامرها وعامرها شباكاً من خيوطك المتواصلة
فما يبالي العاملون بك، ولا يفر الساعون منك؛ يمشون سراعاً تحت شباكك إلى العمل الذي يناديهم!
احب هذه الحجب القاتمة التي يطرحونها على أبدانهم يتقون بها برد الشتاء
انهم يريدون إن يصافحوك تحت هذه السرابيل ولا يريدون منك فراراً
احبك وأنت تغشى مدينتي لأنني أرى قلبها ينبض ويخفق بهؤلاء المتزاحمين صفوفا متراصة في كل شارع؛ تدوي أصواتهم في قلبك وقد كانت هامدة، وتعلو حركتهم في جوك وقد كانت خامدة
احب أنفاسك المتراكمة على المدينة حابسة أنفاسها فيها. . . أتروح هذه الأنفاس فلا أجد إلا نفساً واحداً، وأنت لو ميزت هذا النفس لرأيت انه خليط من أنفاس متباينة؛
أنفاس زفرت من صدور عاملين بائسين؛ وأنفاس خرجت من رجال ونسوة مرحين
كلها صدتها أنفاسك تحت غيومك، فردتها إلى المدينة نفساً واحداً، أكاد - إذا تروحته - أن أقول: هذا نفس عاشقة تترنح! وهذه زفرة بائس يتروح!
ولكني لا أجدها إلا نفساً واحداً متمازجاً! يعبق في جو المدينة، وينسل إلى دور المدينة
فنهارك الحائل متحرك، وليلك الحالك متحرك
هذه الحركة هي أبرز مظاهرك وخير ظواهرك، تشأ وتنمو في حضنك أيها الشتاء!
احب حركتك التي تدل على ثورة الأرض والسماء فيك، فكل شئ فيهما وبينهما ثائر يتحرك!
توحي غيومك المتناطحة معنى الحركة، وتهدي عواصفك الثائرة ورياحك الجائرة إلى الحركة، وتعلن في كل مكان نزلت فيه الحركة. . .
أقم ما شئت يا شتاء!
ولتدلهم - ما شاءت - غيومك!
فإنني أحببت كل اضطرابك، وأنست باصطخابك يا علامة النفس الحية الثائرة!
خليل هنداوي(186/37)
من مرآتي لامرتين لحبيبته إلفير
إلى إلفير
(. . . أما الشاعر فانه لقادر على أن يترك لمن يحب ويهوى
حياة لا يهرمها العفاء!)
لامرتين
ترجمة الأستاذ معروف الأرناءوط
بلى إن نهر (آنيو) ليمور وقد استفاضت أثباجه، ورجع صداها اسم (سنتي) البهي، وكذلك نهر (الفوكلوز) ألا تراه هادراً دافقاً يحمل إلى صخور (تيبور) اسم (لور) المستحبّ، وان لنهر (فه رار) مثل هذا الشأن، إذ ألقى في سمع العصور الآتية اسم (الينور)
يا لهناءة الجمال وقد عكف الشاعر على عبادته واصطفاه حرماً ومقاماً! بل يا لهناءة الاسم الذي يسكن في أغانيه وأناشيده!
أيتها الحبيبة! انك لتستطيعين أن تبعثي أنفاسك الأخيرة، أما الشاعر فانه لقادر على أن يترك لمن يحب ويهوى حياة لا يهرمها العفاء. ألا ترينه وقد سدر في سدفة، يحلق في الفضاء بجناحين من عبقرية وذكاء؟ إنه ليصعد حتى يلتقي مع الخلود في مصاف واحد
لئن كان زورقي، وقد استخذى للرياح البوارح، غبر يمشي قدماً إلى شاطئٍ وادعٍ ساكنٍ، فذلك لان ريحاٍ لينة سجواء تهافتت عليه ومشت به إلى نور دافق
إذا كانت هنالك شموس ابهر للألاَءً استفاضت فوق هامتي، إذا كانت دموع الحبيبة غسلت حوبات قدري العاثر ورفهت عن جبيني وقد غشيته ظلال الفناء، فربما كان ذلك - عفوك يا صاحب النغم الثائر - حادياً بي إلى أمر يتساوى معه تمردي بالحب الذي يستهويني فأصوغ أناشيد الرثاء والنزع واترك في معبد الحب القديم نصباً قائماً وأثراً خالداً
ألا نرى الرجل الجوَّابة وقد اعتسف السير وارتاد حمى الوادي كيف اطمأن إلى الشجرة الفرعاء، ينعم بوارف ظلها ثم استفزته نوازع النفس إلى نقش اسمه على جذعها فترك بذلك أثراً بيناً
أرأيت كيف تنكر كل شئ واستبهم، وكيف غشيت ظلمة الموت حواشي الطبيعة فتعرت(186/39)
الأرض من روائها، ونصل زبرج الغابات وذوى، واستفاقت أمواج النهر في أعماق الزاخرة الهزج، وهبت على المروج ريح صرصر عاتية صوحت زهرها وأقاحها ومشت عربة الخريف في مزالق السنين تدفعها إلى المجهول يد الشتاء العابثة
إن الزمن والموت حليفان سلاحهما سيف مرهف الحد عظيم الصليل، انهما ليطويان العالم الخامد ويجددانه كر الغداة ومر العشي
ينثال الحصاد في حضيض النسيان الابدي، وكالصيف الذي يتساقط عشبه وينهار، وكالكرمة الذابلة المصفرة إذ ترى الخريف المخصوصب يلقي بأزهارها إلى القطاف، هكذا ستسقطين وتذبلين يا زهرات العمر القصيرة وما تمثل فيك غير الشباب، والحب والسرور والجمال الزائل
انظر بعين رأفة وحب إلى ذلك الشباب الهادر! انه يتألق ويفيض جمالاً ثم يمتصه السرور والفرح، وحينما تنصب كأسه المترعة لن يبقى منها إلا ذكرى ضئيلة، فإن القبر الذي ينتظره يبتلعه بأسره، ثم يسود هذا الحب سكون أبدي
ولكن العصور الآتية ستمر فوق رغامك يا (إلفير) وستعيشين إلى الأبد
(دمشق)
معروف الأرناءوط(186/40)
إلى نينون. . .
لألفريد دي موسيه
ترجمة الدكتور احمد ضيف
أستاذ الأدب العربي بدار العلوم
ترى. . . ماذا تقولين لي - يا ذات الشعر الأسود والعيون الزرقاء - إذا بحت لك بحبي. . . الحب كما تعلمين ينبوع أسقام مضنية، بل هو سقم لا يعرف الشفقة. . وانك لتتجرعين آلامه. مع هذا فقد تتوعدينني بالعقاب
نينون! انك لبارعة. . فقد خفي علي انصرافك عني فلم أتنبأ به؛ فإذا قلت لك إن ستة اشهر قد انصرمت في صمت وسكون خفيت فيها آلامي المبرحة وآمالي السانحة. . ربما تقولين انك تعلمين ذلك. . .
فإذا قلت لك إن جنوناً حلواً لذيذاً صيرني ظلاً من ظلالك، وحملني على ألا أفارق خطواتك، وان شيئا من الشك والوجد، كما تعلمين، جعلك اجمل ما تكونين، قد تقولين لا أظن ذلك. وإذا قلت لك إني احفظ في سويداء قلبي كل صغيرة وكبيرة من مسامراتك، وان نظرة ارتياب منك - كما تعلمين - تجعل تلك العيون الزرقاء لهيبا مشتعلاً. . . إذن لتحرمين علي رؤيتك؛ وإذا قلت لك إن السهاد ينتابني كل ليلة، وان البكاء يتملكني كل يوم، وإني أدعو الله جاثياً. . نينون! ألا تعلمين انك عندما تضحكين تظن النحلة أن فمك زهرة قرمزية. . إذا قلت لك ذلك ربما تضحكين مني!
سيخفى عليك أمري فسأجيء إليك صامتا. . اجلس في ضوء مصباحك وأتحدث معك فاسمع صوتك واستنشق عبيرك، ولك أن ترتابي في حبي وان تظني بي الظنون وان تضحكي مني، ولكن لن يتسنى لعينيك إن تعرفا لماذا تنظران إلي شزراً؟
ساجني في الخفاء زهرات حافلة بالأسرار , وفي المساء اجلس خلفك واسمع عزف يديك على البيانو، واشعر بقدك الرشيق يلتوي بين ذراعي كغصن يميد، وأنت غارقة في لجة الأنغام المرقصة!
فإذا جننا الليل، وبدد النوى شملنا، ودخلت حجرتي، وأرخيت سدولها، تناوبتني ذكريات(186/41)
أيقضت في نفسي الغيرة؛ فهناك وأنا وحدي أمام الله أهيم فرحاً وسروراً. . . افتح قلبي، وكأنه خزانة من ذهب، فأجده مملوءاً بحبك. . . إني احب وأعرف أن اكتم حبي. . . احب ولا ينبئ عن حبي شئ. . . احب ومثلي لا يذاع له سر! فما اعز سري، وما اعز سقمي وحبي!
لقد أقسمت أن احب في غير أمل ولا رجاء، ولكن في سعادة وهناء. . . إني أراك وكفى! كلا. . . لم اخلق لهذه السعادة الجلى كي أموت بين ذراعيك أو أعيش تحت قدميك! وا أسفاه! كل شئ ينبئ بذلك. . . حتى آلامي. .
مع هذا، ترى ماذا تقولين لي - يا ذات الشعر الأسود والعيون الزرقاء إذا بحت لك بحبي؟
احمد ضيف(186/42)
10 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الصديق
يقول المنفرد في نفسه (لا أطيق وجود أحد بقربي) ولكثرة ما يقف محدقا في ذاته تظهر التثنية فيه، ويقوم الجدال بين شخصيته وبين ذاته فيشعر بالحاجة إلى صديق. وما الصديق للمنفرد إلا شخص ثالث يحول دون سقوط المتجادلين إلى الأغوار كما تمنع المنطقة المفرغة غرق العائمين
إن أغوار المنفردة بعيدة القرار، فهو بحاجة إلى صديق له أنجاده العالية؛ فثقة الإنسان في غيره تقوده إلى ثقته بنفسه، وتشوقه إلى الصديق ينهض أفكاره من كبواتها.
كثيراً ما يقود الحب إلى التغلب على الحسد، وكثيراً ما يطلب الإنسان الأعداء ليستر ضعفه ويتأكد إمكانه مهاجمة الآخرين.
من يطمح إلى اكتساب الصديق وجب عليه إن يستعد للكفاح من اجله، ولا يصلح للكفاح إلى من يمكنه أن يكون عدواً. يجب على المرء أن يحترم عداءه في صديقه، إذ لا يمكن لك أن تقترب من قلب صديقك إلا حين تهاجمه وتحارب شخصيته.
أنت تريد الظهور أمام صديقك على ما أنت عليه هاتكاً كل ستر عن خفايا نفسك، فلا تعجب إذا رأيت صديقك يعرض عنك ويقذف بك إلى بعيد.
من لا يعرف المصانعة يدفع بالناس للثورة عليه، فاحذر العرى، يا هذا، لأنك لست إلهاً، والآلهة دون سواهم يخجلون من الاستتار.
عليك بارتداء خير لباس أمام صديقك، لتهيب به إلى طلب المثل الأعلى: الإنسان الكامل.
أفما تفرست يوماً في وجه صديقك وهو نائم لترى حقيقته؟ أفما رأيت ملامحه إذ ذاك كأنها ملامحك أنت منعكسة على مرآة مبرقعة معيبة؟ أفما ذعرت لمنظر صديقك وهو مستسلم للكرى؟
ما الإنسان، أيها الرفيق، إلا كائن وجب عليه أن يتفوق على ذاته، وعلى الصديق أن يكون(186/43)
كشافاً صامتاً، فامسك عن النظر علناً إلى كل شيء ما دمت قادراً في غفلتك على كشف كل ما يفعله صديقك في انتباهه. عليك أن تحل الرموز قبل أن تعلن إشفاقك، فقد ينفر صديقك من الإشفاق ويفضل أن يراك مقنعاً بالحديد وفي عينيك لمعان الخلود.
ليكن عطفك على صديقك متشحاً بالقسوة وفيه شيء من الحقد، فيبدو هذا العطف مليئاً بالرقة والظرف.
كن لصديقيك كالهواء الطلق والعزلة والغذاء والدواء، فان من الناس من يعجز عن التحرر من قيوده ولكنه قادر على تحرير أصدقائه.
دع الصداقة إذا كنت عبداً، وإذا كنت عاتياً فلا تطمح إلى اكتساب الأصدقاء
لقد مرت أحقاب طويلة على المرأة كانت فيها مستبدة أو مستعبدة فهي لم تزل غير أهل للصداقة، فالمرأة لا تعرف غير الحب.
إن حب المرأة ينطوي على تعسف وعماية تجاه من لا تحب، وإذا ما اشتعل بالحب قلبها فان أنواره معرضة أبداً لخطف البروق في الظلام. . .
لم تبلغ المرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة؛ فما هي إلا هرة، وقد تكون عصفوراً، وإذا هي ارتقت أصبحت بقرة. . .
ليست المرأة أهلاً للصداقة، ولكن ليقل لي الرجال من هو أهل للصداقة بينهم؟ إن فقر روحكم وخساستها يستحقان اللعنة أيها الرجال، لان ما تبذلونه لأصدقائكم يمكنني أن ابذله لأعدائي دون أن ازداد فقراً.
إنكم لا تتخذون إلا الأصحاب، فإلى متى تسود الصداقة بينكم؟
ألف هدف وهدف
لقد شاهد زارا كثيراً من البلدان وكثيراً من الشعوب، فنفذ إلى حقيقة الخير والشر، وعرف أن لا قوة في العالم تفوق قوتهما.
تحقق أن ليس على الأرض من شعب تحلو له الحياة دون أن يخضع النظم والسنن لتقديره، وان كل شعب يرى من واجبه، إذا أراد الحياة، أن يجيء بتقدير يختلف عن تقدير من يجاوره من الشعوب. وهكذا كان ما يراه أحدها خيراً يراه الآخر دناءة وعاراً.
ذلك ما عرفته، فكم من عمل اتشح بالعيب في بلد، رأيته مجللاً بالشرف والفخر في بلد(186/44)
آخر.
لم أر جاراً تمكن من إدراك حقيقة جاره، بل رأيت كلاً منهما يعجب لجنون الآخر وقسوته.
لقد علق كل شعب في رأسه لوح شريعته، وسطر عليه ما اجتاز من عقبات وما تضمر إرادته من عزم، فما تراءى له صعب المنال فهو موضوع تمجيده، وما خيره إلا حاجة ملحة عز مطلبها، فهو يقدس كل وسيلة تمكنه من الظفر بهذه الحاجة.
إن كل ما يوطد الحكم لهذا الشعب، وكل ما ينيله النصر والمجد ويلقي الرعب في روع جاره مثيراً حسده إنما هو في نظره ذو المكانة الأولى، وما احتل المقام الأول في اعتباره يصبح مقياساً لجميع أموره ومعنىً لجميع ما يحيط به؛ فإذا ما تمكنت من الاطلاع على حاجات أي شعب وخبرت أرضه وجوه وحالة جاره، فانك لتدرك النواميس التي تتحكم فيه وتحفزه إلى المجالدة للغلبة على اهوائه، ولتعرف السبب في اختياره مراقيه الخاصة يتدرج عليها لبلوغ أمانيه.
(عليك أن تكون سباقاً مجلياً في كل مضمار، فلتتلفع نفسك بغيرتها كيلا تبذل الولاء إلا للصديق)
إنها لكلمات إذا وقعت في أذن يوناني، ترتعش نفسه لها فيندفع إلى اقتحام الصعاب طلباً للمجد.
(قل الحق، وكن ماهراً في تفويق سهامك من قوسك)
إنها لوصية صعبت وعزت على الشعب الذي اقتبست اسمي منه، وفي هذا الاسم من المصاعب قدر ما فيه من أمجاد.
(اكرم أباك وامك، ولتكن باراً بهما من صميم قلبك)
وهذه الوصية القائمة على إرغام النفس، قد عمل بها شعب آخر فبلغ القوة واصبح خالداً.
(كن أميناً وابذل للأمانة دمك وشرفك حتى ولو كان جهادك في سبيل ما يضير وما يورد المهالك).
وهذه أيضاً وصية عمل بها شعب آخر، فتغلب على ذاته واصبح عظيماً تثقله الأماني الجسام.
لقد أقام الناس الخير والشر، فابتدعوهما لأنفسهم، وما اكتشفوهما ولا أنزلا عليهم بهاتف من(186/45)
السماء.
لقد وضع الإنسان للأمور أقدارها ليحافظ على نفسه، فهو الذي أوجد للأشياء معانيها الإنسانية.
ما التقدير إلا الإيجاد بعينه، فأصغوا إلي أيها الموجدون.
ما الكنوز والجواهر إلا أشياء أرادها تقديركم جواهر وكنوزاً، فما القيمة إلا اعتبار، ولولا التقدير لما كان الوجود إلا فتوراً لا نواة فيها. اسمعوا أيها الموجدون: إن قيمة الأشياء تتغير تبعاً لتحول اعتبار الموجد، ولا بد لهذا الموجد من أن يهدم في كل حين.
لقد كانت الشعوب تتولى الإيجاد في البدء حتى ظهر الأفراد الموجدون، فما الفرد في الواقع إلا احدث هيئات الوجود.
لقد أقامت الشعوب لنفسها قدماً شريعة خيرها، وما نشأت هذه الشريعة إلا باتفاق المحبة التي طمحت إلى السيادة، والمحبة التي رضيت بالامتثال.
إن هوى المجموع اقدم من أهواء الفرد، وإذا كان خير الضمائر ما يكمن في المجموع، فان شرها ما يتجلى في الفرد المعلن شخصيته.
والحق أن الشخصية المراوغة التي لا محبة فيها، الشخصية التي ترمي إلى الاستفادة من خير الأكثرية، إنما هي عنوان انحطاط المجموع لا مبدأ كيانه.
ما خلق الخير والشر في كل عصر إلا المتهوسون المبدعون، وما أضرم نارهما إلا عاطفة الحب وعاطفة الغضب باسم الفضائل جمعاء!
لقد شاهد زارا كثيراً من الشعوب والبلدان فيما رأى قوة على الأرض تفوق قوة المتهوسين، والقوة معنى لكلمتي الخير والشر.
ما أشبه ما يستدعى التمجيد ويستوجب العقاب بالمسخ الهائل، فمن له بسحق هذا المسخ، أيها الاخوة؟ من سيشد بالأغلال على ما يتلع هذا الحيوان من آلاف الأعناق؟
لقد بلغت الأهداف الألف عداً إذ بلغ عدد الشعوب الفاً، فنحن بحاجة إلى قيد واحد لألف عنق، لأننا بحاجة إلى هدف واحد، فالبشرية لم تعرف حتى اليوم لها هدفاً، ولكن إذا كانت الإنسانية تسير ولا غاية لها، أفليس ذلك لقصورها وضلالها؟
هكذا تكلم زارا(186/46)
(يتبع)
فليكس فارس(186/47)
12 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ ينولد نيكلسون
ترجمة حسن محمد حبشي
الفصل الثاني
ثم ملك بعده الحرث الأصغر بن الحرث الأعرج بن الحرث الأكبر؛ ومن ولد الحرث الأعرج أيضاً عمرو بن الحرث الذي كان النابغة سار إليه فارق النعمان بن المنذر؛ وكان يقال لعمرو أبو شمر الأصغر ومن ولده المنذر بن الحرث والأيهم ابن الحرث، والأيهم هذا أبو جبلة بن الايهم؛ وجبلة آخر ملوك غسان، وكان طوله اثني عشر شبراً، وكان إذا ركب مسحت قدمه الأرض، وأدرك الإسلام فأسلم في خلافة عمر بن الخطاب ثم تنصر بعد فلك ولحق بالروم. وكان سبب تنصره انه مر في سوق دمشق فأوطأ رجلاً فرشه فوثب الرجل فلطمه فأخذه الغسانيون فادخلوه على أبى عبيدة الجراح فقالوا هذا لطم سيدنا. فقال أبو عبيدة: (البينة بان هذا لطمك؟) قال وما تصنع بالبينة؟ قال إن كان لطمك لطمته بلطمتك. قال ولا يقتل؟ قال لا. قال تقطع يده؟ قال لا، إنما أمر الله بالقصاص فهي لطمة بلطمة، فخرج جبلة ولحق بأرض الروم وتنصر ولم يزل هناك إلى أن هلك). وإن الأخبار العربية الخاصة بدولة الغساسنة لمحيرة موئسة، وقل أن تمد الباحث بأي مادة حتى يستطيع أن يؤلف من شتاتها هيكلاً تاريخياً تقريبياً بإضافتها إلى النتف المبعثرة في كتب المؤلفين البيزنطيين. ويظهر أن أول أمير مستقل من الغساسنة هو الحرث بن جبلة الذي اختاره جستنيانوس حوالي 529م ليكون في جانبه ضد المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، وقد قضى الجانب الأعظم من حكمه الطويل (529 - 569) في حروب طاحنة مع منافسة الخطير الذي ذكر شيء عن دفاعه وموته في الواقعة الفاصلة واقعة حليمة التي أشرنا إليها آنفاً، وكان الحرث مسيحياً يعقوبياً، وقد دافع عن هذا المذهب دفاعاً شديداً في حماسة منقطعة النظير في وقت كان التعلق بأهدابه إبانه مجازفة خطيرة. وان القصة التالية لتصور خلقه الخشن المخيف: ذلك انه في أخريات أيامه زار القسطنطينية ليتفق مع السلطة الحاكمة هناك عمن يخلفه من أبنائه، واستطاع أن يجتذب إليه عطف الكثيرين،(186/48)
وترك أثراً عظيماً في نفوس أهلها وخاصة ابن أخي الإمبراطور جستنيانوس؛ وبعد عدة أعوام حينما تقدم بجستنيانوس عمره وأصابه الجنون، خافه حجابه إذا اخذ يهذي بقوله: (هش سيأتي ارثاس ويأخذكم).
وخلف الحارث ابنه المنذر الذي ظهر على ملك الحيرة الجديد قابوس بن هند عام 570م في الموقعة التي ربما كانت هي المعروفة عند العرب بعين أباغ، وربما يكون رفض الإمبراطور جستنيانوس إمداده بالمال مانعاً إياه (المنذر) من الاهتمام برعاية مصالحه؛ وكان ذلك فاتحة عداء بينهما، ولذلك تلبدت سماء صداقتهما بغيوم عداء ظل مستحكم الحلقات إحدى عشرة سنة؛ ومنذ ذلك الوقت حتى استيلاء الفرس على فلسطين سنة 612م ضربت الفوضى بجرانها، وعمت أرجاء مملكة الغساسنة، فأخذت القبائل المختلفة تختار رؤسائها الذين كانوا بطبيعة الحال، وفي كثير من الأحيان، من جفنة؛ ولكن الأسرة نفسها تحطمت تماماً؛ وغير بعيد إن تكون قد استعادت قواها الداثرة وسطوتها الغابرة، حينما طرد هرقل الفرس من ارض سورية سنة 629م إذ نجد الغساسنة مراراً يحاربون المسلمين بجانب رومة، ويتفق المؤرخون العرب جميعاً على إن جبلة بن الأهيم الجفني - الذي كان له ضلع كبير في النزاع - هو آخر ملك غساني، وقد حكم حوالي سنة 635م؛ وان الشاعر حسان بن ثابت الذي كانت تربطه رابطة القربى بالغساسنة قد زار في شبابه بلاطهم فصور لنا تصويراً شاملاً دقيقاً ما يموج به من صور النعيم والترف والعظمة في قوله (لقد رأيت عشر قيان: خمساً روميات يغنين بالرومية، وخمساً يغنين غناء أهل الحيرة أهداهن إليه إياس بن قبيصة، وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها، وكان إذا جلس للشرب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف من الفضة وأوقد له العود المندى إن كان شاتياً، وان كان صائفاً بطن بالثلج واتى هو وأصحابه بكساء صيفية يتفضل بها هو وأصحابه في الصيف، وفي الشتاء الفراء والفنك وما أشبهه؛ ولا والله ما جلست معه يوماً قط إلا خلع على ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه. هذا مع حلم عمن جهل، وضحك من غير مسألة، مع حسن وجه وحسن حديث، ما رأيت منه خناً قط ولا عربدة)
ولم تكن إقامة الغساسنة ثابتة بعكس منافسيهم في الفرات، فقد حكموا الإقليم الذي حول(186/49)
دمشق وتدمر، ولكن هذه الأماكن لم تكن في حوزتهم أبداً، وكانت عاصمة ملكهم البدوية (الحيرة) التي ظلت تنتقل معهم هنا وهناك، ولكنها كانت توجد عادة في الجولان جنوب دمشق، وقد استطاع الغساسنة إن ينشئوا حضارة اعظم من حضارة اللخميين لتأثر الأولين تأثراً شديداً بالثقافة الإغريقية، وللطبيعة البدوية التي كان عليها الآخرون الذين كانوا أوثق اتصالاً بالعرب الوثنيين الذين استطاعوا أن يسموهم بميسهم. وان بعض مظاهر هذه الحضارة لتتضح لنا من خلال الوصف الشائق لبلاط جبلة بن الأيهم، ذلك وصف الذي ينسب إلى الشاعر حسان. ولما صب النعمان الثالث ملك الحيرة جام غضبه على الشاعر الألمعي النابغة هرب إلى سورية حيث نظم قصيدة رائعة امتدح فيها الغساسنة في شخص مليكهم الحرث بن الأعرج، وبعد إن امتدح بسالتهم وشجاعتهم في ركوب متن الأهوال التي صورها في بيت واحد قوي يقوله فيه:
ولا عيب فيهم غير إن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
اخذ يقول:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحلام غير عوازب
محلتهم ذات الأله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
تحييهم بيض الولائد بينهم ... وأكيسة الإضريج فوق المشاجب
يصونون أجساداً قديماً نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب
وتاريخ البدو أيام الجاهلية لا يخرج من كونه سجلاً لحروبهم، أو بالأحرى عن ذكر عصابات كانت تغير على القوافل بين آن وآخر للسلب والنهب، ولم تكن ثمة حاجة إلى الاستغاثة، بل كان كل فريق منهم يفخر بنسبه، ويرمي الآخر بوابل هطال من الأهاجي المقذعة وتؤسر الإبل والنساء، كما كانت المناوشات العدة تقوم بينهم، ولكن القليل منها يؤدي إلى نشوب حرب، وكان ذلك نوعاً من الحروب الهوميرية أتاح فرصة طيبة للقيام بأعمال تنطوي على البطولة. ويقول ثوريك في ذلك: (وإذا شئنا أن نكتب التاريخ الواقعي لمثل هذه المنازعات البدوية وجدنا ذلك اقرب إلى المستحيل. أما عن المصادر المعاصرة لها التي تستأهل عناية الباحث، فليس لدينا سوى القصائد والمقطعات الشعرية التي ظلت(186/50)
محفوظة، وطبقاً لما يذكره السيوطي كان العرب يطلبون من أي بدوي يقص حادثة تاريخية إن يقرنها ببعض أشعار تتعلق بها. وفي الحقيقة أن هذه الأقاصيص وأشباهها التي حفظت على مر العصور حتى وصلت إلينا قد تبلورت حول القصائد. ومما يؤسف له أنها قلما كانت صحيحة، وكثيراً ما يتضح أن الأقاصيص قد اخترعت اختراعاً حتى توافق موضوع الأشعار).
حسن حبشي(186/51)
الفنون
رمبراندت
للدكتور احمد موسى
بقية ما نشر في العدد الماضي
أما صور الجماعات، فمنها ما هو في منتهى الروعة والقوة. وصورة التشريح تمثل عدداً من فطاحل أطباء أمستردام متلفتين حول جثة منبسطة على منضدة التشريح، والدكتور تلب يلقي عليهم شيئاً عن حالة تشريحية معينة أتم الفنان تصويرها سنة 1632، وكانت في دار جماعة الأطباء بأمستردام إلى أن أخذتها الجليري الملوكية في الهاي. وهي صورة تمثل ثمانية اشخاص، سبعة منهم يستمعون لثامنهم وهو الدكتور تلب، وتظهر على الوجوه إجمالاً ملامح الوقار العلمي والشوق إلى معرفة الجديد. أما الدكتور تلب فقد مثل الثبات والهدوء اللازمين للعالم، ماسكاً (جفتاً) بيمينه رافعاً به الشرايين، ناظراً إلى زملائه، متحفزاً للشرح، مشيراً بيسراه إشارة العالم الواثق الذي تنبعث من عينيه نظرة محيطة بالدرس والفحص؛ وتبدو على وجوه المستمعين ظاهرة الرغبة الأكيدة والاستغراب، انظر للواقف إلى جانب الدكتور تلب، ممسكاً صفحة ورق بيسراه، ألا ترى وجهه ناطقاً بالحياة؟ ثم انظر إلى التكوين المجموعي للرؤوس وقد بدت اللحى نامية تحت الذقن، سنة العلماء ذلك الحين. لقد جمع رمبراندت بين بساطة مظهر العالم وبين جلالة العلم والوقار، أما الجثة فلا يمكن إخراجها بأحسن مما أخرجه رمبراندت، فهي مسلوبة الإرادة تماماً، ترى اليد مرتمية ارتماءً متراخياً على المنضدة، فضلاً عما ظهر على الوجه من علائم فقدان الحياة؛ فالفم مفتوح والعينان مغمضتان، والجسم عار، والذراع الأيسر مشرح ظهرت منه الشرايين ممسوك بعضها بالجفت، وهي في مجموعها لا تدل فقط على القوة في الإخراج، بل تدل أيضاً على النزعة العظيمة التي نزع إليها رمبراندت، فهو ميال إلى الجديد، مدفوع بعامل الفن إلى خدمة النواحي البعيدة التي لولا تفكيره فيها واتجاهه إليها لما شرع في عمل شبيهاتها غيره من بعده
وتكاد تكون أهم لوحاته عموماً صورة الحراسة الليلية وهي أكبرها مساحة، إذ بلغ طولها(186/52)
أربعة أمتار ونصف متر وعرضها ثلاثة أمتار ونصف أو يزيد قليلاً. وبالرغم من إن الصورة تظهر كما لو كانت تمثل فرقة من الجنود الأمسترداميين خارجين من مركزهم نهاراً، فنظر لما وقع من أشعة النور على جانب من وجوههم؛ إلا إن الظل والنور في الصورة يعطي فكرة صحيحة عن قوة هذا العبقري ولمسه جمال التصوير في ظلام حالك يخترقه شعاع من النور، فيزيد في جلال التصوير بجوار الظلام الحالك. تمثل هذه اللوحة عشرين شخصاً لا ترى وجهاً يشابه الآخر، ولكنه مع هذا جعل الجزء منسجم في الكل ومندمج في المجموع؛ فهو بتصويره على هذه الصفة أشبه بملحن موسيقي يوزع قطعته على آلات موسيقية عديدة، جاعلاً الانسجام الكلي متوافراً بينهما ليتم بذلك الخلق الفني المنشود.
صورها رمبراندت في فترة طويلة وأتمها سنة 1642، وهي مع اتساع مساحتها مليئة بالإنشاء، لا ترى فيها فراغ إصبع دون معنى أو دون عناية، جعل الظل شديداً والنور شديداً فظهرت بألوانها الساحرة معجزة عصره.
ومجموعته للصور الدينية كبيرة عظيمة من أهمها صورة (بولص في السجن) مؤرخة سنة 1627 ومحفوظة باستوتجارت، وسمسون ودليلة سنة 1628 ببرلين، والعائلة المقدسة سنة 1631 بميونيخ وتجهيز الصليب 1633 بميونيخ ايضاً، وانزال المسيح من الصلب 1633، وضحية إسحاق 1635 ببطرسبرج، وسيمون ينذر حماه، وصعود المسيح 1636، وعائلة توبياس 1637 باللوفر، وبعث المسيح 1639 بميونيخ، وبحث العذراء عن المأوى 1640 في جروسفنور هاوس بلندن، والعائلة المقدسة باللوفر، وتضحية مانو مؤرخة 1641 بدرسدن؛ وهي أيضاً تكمل تعريفنا بفنان لا يمضي يوم دون ذكر اسمه في عالم الثقافة والفن. انظر إلى وجهي القديسة والقديس وما بدا عليهما من فرط الخشوع والاستسلام. أما الملابس بثناياها وتفاصيلها، والدار والمدخل والسلم، فكلها بجانب ما ظهر على تكوين الملاك الصاعد شيء ثانوي؛ صوره كما لو كان مسحوباً من أعلى بإرادة خارقة، وتراه وقد تجرد عن الإرادة الذاتية صاعداً دون مقاومة.
وصورة الزوجة الزانية أمام المسيح 1644، والعائلة المقدسة 1645 ببطرسبرج، وإبراهيم مضيفاً لملاك 1645 ببطرسبرج أيضاً، وسوزانا في الحمام 1647 ببرلين، وداود وشارل(186/53)
يعزفان الهارب بامستردام، وأولاد يعقوب يحضرون لأبيهم بدم أخيهم يوسف ببطرسبرج، وعودة الابن المفقود (وهذه أيضاً من احسن لوحاته) ببطرسبرج.
أما الصورة الطبيعية، والتي تظهر أنها لم تتجاوز الاثنتي عشرة، فمن أهمها صورة الطاحونة وهي في حيازة اللورد لانسدون، وصورة الرعد في متحف براونشيوايج، وصورة منظر جبلي على سفحه بعض خرائب وهي مؤرخة 1560 بجاليري كاسل، وصورة جبال وقع عليها ضوء القمر فجعلها تؤثر على الناظر تأثيراً شعرياً غريباً. ومجموعته بالقلم الرصاص والريشة معظمها باللوفر وفينا، وبمتحف الصور اليدوية بميونيخ وبرلين ودرسدن، وبالمتحف البريطاني، وبمتحف هارلم وأمستردام غير ما لدى الأثرياء؛ وهي كلها تبلغ حوالي المائتين وستين صورة تصلح لان تكون وحدها رسالة علمية فنية لحلقة في سلسة تاريخ الفن العام.
ولا يحضرني الآن ما أقوله عن رمبراندت الخالد سوى قول شيللر:
(إن الإنتاج الفني الحق لا ينبغي أن يحيط بما هو خارق للعادة من الناحية الإشتمالية البحت، ولكنه ينبغي أن يشمل ما هو خارق لها من الناحية التكوينية، التي بها يتأثر الإنسان بكليته؛ على حين لا يتأثر إلى هذا الحد بالناحية الإنشائية التي لا تهم غالباً إلا الأخصاء ذوي الحاجة المحدودة).
احمد موسى(186/54)
من هنا وهناك
غاندي والفيران
انتهى سلطان غاندي في الهند وظهرت حقيقة الزعيم الذي كان بريق شهرته يخطف الأبصار. وفي الحق لقد كان الناس معذورين في إعجابهم بغاندي، لا سيما أيام إعلانه العصيان المدني وصبره الجميل لبطش نائب الملك وغطرسة الحكام الإنجليز؛ فلما فشل العصيان المدني ورأى الهنود أن غاندي كان يسخرهم في تيه لا طائل وراءه، هب الشباب في أنحاء الهند يسخطون على المهاتما ولم يبالوا أن يلتفوا حول جوهر لال نهرو. وزهدهم في غاندي انغماسه الشديد في الهندوكية، ودفاعه الحار عن تعاليمها التي هي سبب نكبة الهندوكيين. وغاندي برهمي سخيف العقيدة، فهو مؤمن سني يقدس البقرة ويتبرك بروثها بل يتطهر به، وهو لذلك لا يرى مانعا من أن تترك 70 مليون بقرة سائمة، لا يستطيع أحد أن يطردها من حقله إذا عاثت فيه أو نفشت في زرعه. ويدعي غاندي أنه انصرف عن الميدان السياسي إلى نصرة المنبوذين وتخليصهم، وكان ادعاؤه ذلك جميلاً لو أنه عمل به، ولكن غاندي، بدلاً من أن يوصي بالمنبوذين خيراً ويكف عنهم أذى البراهمة أوصاهم بالصبر على هذا الأذى. . . لأن الدين يأمر بذلك. . . وهو يقول أن الدين يأمر بذلك، ويعلم أن الفيدا - كتاب البراهمة المقدس - لم يرد فيه سطر واحد يهون فيه من شأن هذه الطبقة البائسة. وبذلك كان غاندي ضغثا على المنبوذين، وكان موقفه الموئس سبباً في ثورة الدكتور امبيدكار - زعيم المنبوزين - عليه وتصميمه على الانحياز بإخوانه، وهم سبعون مليوناً - إما إلى المسلمين وإما إلى السيخ.
ولكن المضحك من أمر غاندي هو انهيار ماضيه العظيم وتربيته العالية تلقاء خرافات الصوفية البرهمية التي لا تطاق. فقد حدث أن زلزلت الأرض زلزالها في الهند وانخسف جانب عظيم من الأرض، فما كان من غاندي إلا أن عزا الزلزال إلى غضب الآلهة؟! واحنق بذلك أديب الهند الكبير طاغور. وحدث مرة ثانية أن اجتاح الهند طاعون قتال، فأوصت الحكومة بوجوب محاربة الفيران لأنها اكبر الوسائل في نقل ميكروب هذا المرض. . . فما كان من غاندي إلا أن هب يحمي الفيران ويناضل عنها (لأنها مخلوقات ضعيفة لا حول لها وهي لا تستحق التعذيب والقتل لكي يسعد الناس، والطاعون قضاء من(186/55)
السماء إن شاءت رفعته!!).
بين يوريبيدز وأرسطوفان
كان يوريبيدز عدواً للمرأة، وهو في كل دراماته كان يبشر بالحد من سلطانها وجعل الرجل سيدها المطلق. ولم يكن يؤمن بها مطلقاً، وكان يبني مآسيه دائماً على المصائب التي تنبع من مكرها والتي كان يعزوها إلى الشيطان الثاوي في أعماقها؛ وعلة ذلك انه كان بائساً في زواجه؛ فقد دخل الجحيم عندما تزوج زوجته الأولى، فلما خرج منها تزوج زوجته الثانية استقر في سقر، ولم يسعه إلا أن يطلقها كذلك، وقد طلق زوجتيه لأنهما كلتيهما خانتاه وصبتا إلى غيره. . .
هذا ويوريبيدز أقوى رجال المسرح اليوناني، ودراماته تدل على تفكير عميق وخيال خصب، ولكنه هاج الرأي العام اليوناني بأفكاره المتطرفة وآرائه التي كان لا يتورع أن يسخر فيها بالآلهة، بله الناس.
وقد سلطت المقادير أرسطوفان - الدرامي الكوميدي - على يوريبيدز يوسعه سخرية، ويتخذ من أدبه هزواً؛ وأرسطوفان اكبر أديب مهرج عرفه التاريخ، وهو لا يستحي أن يظهر على المسرح بطل الدرامة راكباً حماراً اعرج، أو يلبس الرجل زي امرأة وما يلبث أن ينكشف آخر الأمر؛ وقد يحشو الرواية بنكات مكشوفة تتصل بالعرض وتنهش الشرف ويحمر لها وجه الفضيلة.
وسنلخص كوميديات أرسطو فان في هذه النبذ في الأعداد التالية، غير أن الذي يروعنا منه في هذه المناسبة هو جراءته الكريهة على سيد أدباء اليونان والتعريض المزري بأمه؛ وكان يبالغ في إيذائه فيتهمها بالدعارة والفجور، وأنها كانت في صدر حياتها تبيع الفجل والخيار والطماطم في (مشنة) تحملها على رأسها وتنادي في شوارع أثينا!! وكان اليونانيون يسمعون هذا البذاء ويغضون. وقد أدى رضاءهم عن أرسطوفان إلى سقوطهم وظهور رومة عليهم.
سرفانتس
هاج ضرب الثوار الإسبانيين للطراد سرفانتس ذكريات سرفانتس الكاتب الروائي الإسباني(186/56)
العظيم صاحب (دون كوبكسوت) والذي يباهي به الإسبانيون الإنجليز كما يباهي الإنجليز كل العالم بشاكسبير. والذي يقرأ سرفانتس لا يلبث أن يتملكه الإعجاب الشديد بذكائه الخارق، ونشاط روحه التي يطبعها المرح، وتسبح في لجة من المزاح البريء والدعابة الخلابة والنكتة الحلوة المضحكة. ولقد كتب سرفانتس مقدمة كتابه (دون كوبكسوت) وهو نزيل السجن، وقد صدرت تلك المقدمة عام 1605 فما لبثت أن ترجمت إلى الإنجليزية ثم الفرنسية بعد صدورها بعام واحد. هذا وقد صدر الجزء الثاني سنة 1615، وقد استطاع سرفانتس أن يتناول في كتابه هذا الخالد حياة طبقات الناس في إسبانيا كما لو كان عائشاً بينهم - ولم تفته طبقة من تلك الطبقات على كثرتها إلا وتغلغل فيها واندمج في معائشها. فهو يصف المحامين والحلاقين، والأطباء والسماسرة، والمعلمين واللصوص، والكهنة وعذارى الأندلسيات من العرب والطباخين وأميرات قشتالة والجزائر. وشخصية دون كوبكسوت شخصية عجيبة اخترعها سرفانتس فجعلها تحب وتكره، وتسخط وترضى، وتنشد المثل الأعلى للحياة والقدوة الصالحة للفروسية، ودون كوبكسوت رجل غريب الاطوار، وهو في الحقيقة يمثل سرفانتس نفسه، لأنه شقي كما شقي صاحبه، وتعذب كما تعذب، وجال في الآفاق كما سجن سرفانتس وحي عبداً رقيقاً في قيود البيئات المختلفة كما حي سرفانتس عبداً رقيقاً عند أحد أمراء الجزائر ببلاد المغرب. ولقد عاش سرفانتس في العصر الذهبي لإسبانيا المسيحية في القرن السادس عشر بعد جلاء العرب والقضاء على صولة ملوك الطوائف، ومات في نفس اليوم الذي مات فيه شاكسبير من عام 1616.
يوريبيدز والسوفسطائيون
يصغر يوريبيدز الشاعر الدرامي اليوناني الكبير مواطنه سوفوكلس بخمسة عشر عاماً، ولهذه الخمسة عشر عاماً أثر كبير جداً في المسرح اليوناني الذي بدله يوريبيدز وغير معالمه إن لم يكن قد هدمه وأقامه على أسس جديدة متينة. ففي هذه الفترة كان السوفسطائيون قد عظم سلطانهم، واتسع مدى تعليمهم، وتأثر الناس بفلسفتهم، لأنهم علموا اليونانيين قواعد النقد، وبذروا في نفوسهم الشك، وجعلوهم يستريبون في كل قديم حتى آلهتهم، لأنهم كانوا يجيدون الجدل ويتقنون المنطق، فوسعهم أن يصبحوا المعلمين الفنيين لجميع الشعب اليوناني المثقف. ولقد تأثر بهم يوريبيدز، وانتهل من مورد فلسفاتهم، ومن(186/57)
هنا ثورته على التقاليد القديمة للمسرح، واستهزاؤه الشديد بآلهتهم، ونظرته إلى هذه الآلهة نظرة السخرية المرة التي تقع في اعتبارها موقع المردة والشياطين الجبارين، لا موقع الأرباب الرحماء.
حقيقة لقد أسخط يوريبيدز قومه، ولكنه فتح عيونهم على حقيقة الحياة، وبدلاً من أن يقدم لهم روايات أبطالها الأرباب وأنصاف الارباب؛ قدم لهم روايات أبطالها هؤلاء الناس، وحوادثها تلك الحوادث التي تزدحم بها الحياة كل يوم. . . الحب والبغضاء، والحقد، والطمع، والأنانية، و. . . المرأة!.
ولا نغالي إذا قلنا إن يوريبيدز هو الذي أنار الذهن اليوناني واعد الأفكار لثورة الفلاسفة (سقراط وأفلاطون وأرسطو. . .) وبالتالي فهو الذي أنار أذهاننا منذ اكثر من أربعة وعشرين قرناً.
هل برنردشو كافر؟
لا تستطيع أن تدعو برنردشو فيلسوفاً؛ مع انه احسن الفلاسفة الذين يعيشون في العصر الحديث، وليس في هذا الكلام تناقض، إذ لا تستطيع أن تحدد فلسفة شو كما تحدد فلسفة نيتشه أو كانت أو ديكارت أو برجسون، وكل من هؤلاء قد ترك أثراً كبيراً أو طفيفاً في عصره وبيئته، ولكن شو قد ترك آثاراً جليلة في الدنيا برمتها، وسيعيش أدب شو، ولكن أدباً كأدب ولز سيموت. ذلك أن أدب شو كتب لهذا الجيل وللأجيال القادمة، أو قل انه كتب للنفس البشرية في كل العصور، ولكن ولز يكتب لهذا العصر الذي نعيش فيه فقط، وقد ماتت كل كتبه التي دعا فيها إلى الإخاء الأممي. وها هي ذي الدكتاتوريات تبتلع آراءه وتغيبها في أعماق الظلام. ولذلك كتبنا مرة أن ولز قد مات وكان ذلك يوم الاحتفال ببلوغه السبعين، وكنا نقصد انه مات بأفكاره وكتبه وقصصه لولا أن سها الصفاف فاغفل هذه العبارة. وفلسفة شو هي باقات يانعة من الآراء الاجتماعية منتثرة في قصصه ودراماته، وليست له نظرية محدودة كما للفلاسفة، ولكن الذي يبرز بروزاً واضحاً منها هو كفره الصريح وإيمانه بان الله هو الحياة نفسها، وليس شيئاً آخر. ومع أن هذا الرجل متأثر إلى حد بعيد بالطهريين، وهو إلى الآن ينحو نحوهم في امتناعه عن إيذاء الحيوان والاكتفاء بالأغذية النباتية فانه يكفر بأفكارهم ويثور على تقاليدهم الاجتماعية بكل ما فيه من قوة(186/58)
وجلد. وقلما ألف شو في الحب، وهو يستهزئ بالمحبين، ولذلك لم ترج دراماته في مصر خاصة، وفي ممالك البحر الأبيض عامة، ذلك لان شعوب هذا البحر شعوب وجدانيون مولعون بالموسيقى والرقص والغناء والفنون، وهذه كلها من آلات الحب، ويدلنا ذلك أيضاً على رجحان العقل في رأس شو على القلب في صدره، ولذلك لم ندهش يوم زار مصر وتفرج على آثار توت عنخ واحتقرها، وقال انه جدير بمصر أن تبيعها للأمريكان وتبني بثمنها سدودا على النيل أو تسدد بها ديونها. حقا إن شو لكافر!.
د. خ(186/59)
البريد الأدبي
ذخائر أسبانيا الفنية
أثارت أهوال الحرب الأهلية الإسبانية جزع الكثيرين على مصير ذخائر إسبانيا الفنية والأدبية، ولكن السنيور كارلوس مونيثلو رئيس الجنة التي الفت للمحافظة على هذه الذخائر يؤكد لنا أن تراث إسبانيا الفني قد نجا من السلب والتخريب، وانه اليوم حيثما يصان من كل عبث، ولم تفت هذه المشكلة الخطيرة حكومة مدريد حينما اشتدت وطأة الحرب الأهلية، فقد الفت لجنة من العلماء والفنيين لتعنى بالمحافظة على تراث إسبانيا الفني؛ وبادرت اللجنة بنقل ذخائر الاسكوريال (ومنها المكتبة العربية الأندلسية) إلى مكان امين؛ ولما اشتد هجوم الثوار على مدريد وتقاطرت قنابلهم على المدينة المحصورة نقلت اللجنة معظم الذخائر الفنية إلى بلنسية حيث تقوم الآن حكومة الجمهورية. ويقول السنيور مونيثلو انه قد فقدت بعض الذخائر أو أتلفت خلال الحرب، ولكن من جهة أخرى وجدت ذخائر كثيرة كانت مدفونة في أعماق الأديار أو مخبأة في المجموعات الخاصة، وهذه وحدها تعدل كل ما فقد أو أتلف أو تزيد عنه. وقد وجدت أيضاً عدة صور ومخطوطات ثمينة في المنازل والمكاتب الخاصة التي تركها أصحابها حينما اقترب الثوار من مدريد، ومنها مخطوطات كانت قد سرقت من الكتبة الوطنية وقد سجلت هذه الذخائر كلها في قوائم سرية حيث لا يعرف بوجودها أحد، وحتى يبت في مصيرها متى وضعت الحرب أوزارها، ومما عثرت عليه اللجنة من الذخائر المجهولة مخطوط بأغاني برثيو أقدم شاعر إسباني، ومخطوط من كتب لوبي دي فيجا اعظم شعراء إسبانيا. وقد زعم الثوار أن الجمهوريين أتلفوا ذخائر كنيسة طليطلة ومنها صورة الجريكو الشهير، ولكن السنيور مونيثلو يؤكد أن الجمهوريين غادروا الكنيسة سليمة بكل ذخائرها وحافظوا عليها حتى اللحظة الاخيرة، وحاولت اللجنة الجمهورية أولاً أن تحمي المتاحف العامة بوضع أكياس الرمل وحظائر السمنت، ولكن إلقاء القنابل المحرقة كان يهددها بالدمار، فعند إذ قررت نقلها من مدريد، ونقلت معظم الذخائر الشهيرة مثل صور موريليو، وفيلاسكيز، ونقوش جويا، وصور رافائيل كلها إلى بلنسية، ولما شبت النار في قصر دوقات ألبه من جراء قنابل الثوار، بذل الجمهوريون جهداً عنيفاً لإنقاذ معظم ما فيه من الذخائر الفنية، وهكذا(186/60)
استطاعت الحكومة الجمهورية خلال الأهوال والخطوب أن تنقذ معظم تراث إسبانيا الفني ليبقى ذخراً لإسبانيا وللحضارة كلها.
حول تنظيم المسرح المصري
نشرت مجلة (الكوميديا) الفرنسية في أحد أعدادها الأخيرة مقالاً عن تنظيم المسرح المصري، ذكرت فيه أن المسيو جورج ريمون مراقب الفنون الجميلة بوزارة المعارف العمومية قد اقترح على الوزارة أن تنتدب الفنان الفرنسي الكبير المسيو اميل فابر المدير السابق لمسرح (الكوميدي فرانسيز) ليقوم بمهمة تنظيم المسرح المصري. والأستاذ فابر من اعظم الأخصائيين في فن التنظيم المسرحي، ومن أعظمهم مقدرة وافتتاناً؛ وقد اشرف مدى أعوام طويلة على تنظيم مسرح الكوميدي فرانسيز وهو مسرح الدولة، وأحرز على يديه تقدماً باهراً. ولكن الذي يدعو إلى التأمل أن ينتدب المسيو فابر لتنظيم مسرح شرقي ذي تقاليد خاصة تمتزج بعادات الشعب وعقائده الدينية، ذلك أنه إذا كانت روح المسرح ومقاصده واحدة في مختلف المجتمعات، فانه يختلف في توجيهه وفي مظاهره وفي وسائله لتحقيق غاياته الثقافية، باختلاف الأمم والشعوب، وهذا ما نرجو أن تفطن إليه وزارة المعارف.
وقد صرح مسيو فابر لمكاتب الصحيفة المذكورة انه قد خوطب فعلاً في قبول هذه المهمة وانه قد يسافر قريباً إلى مصر.
مجموعة شعرية فرنسية عن مصر
أصدرت السيدة إيمي خير الكاتبة الشاعرة المعروفة وعضو نادي القلم المصري مجموعة شعرية جديدة بالفرنسية عنوانها (تعاريج النهر) وتحتوي هذه المجموعة على عشرات من القصائد والمقطوعات الساحرة في وصف أيام مصر ولياليها، ومروجها وضفاف نيلها؛ وعدة أخرى في سعادة الأمومة ومتاعبها. ويمتاز نظم السيدة إيمي خير بالدقة والبساطة المؤثرة؛ وهي فوق كونها شاعرة أديبة ممتازة، عالجت القصة وأخرجت منذ بضعة أعوام بالفرنسية قصتها المعروفة (سلمى وقريتها).
بعض أوراق البردي المصرية(186/61)
كانت مكتبة ريلاند الشهيرة بمنشستر قد اقتنت في سنة 1917 على يد الدكتور رندل هاريس مجموعة من أوراق البردي المصرية، وبينما كان العلامة الأثري الأستاذ روبرتس يعنى أخيراً بفحص هذه المجموعة إذ استوقف نظره قطعة سميكة من الورق المقوى كانت قد وجدت في تابوت مومياء، وظهر بفحصها أنها مجموعة من عدة أوراق البردي ألصقت معاً، فتولى الأستاذ علاجها ووصل أوراقها، ولجأ في ذلك إلى عدة عمليات صعبة دقيقة، وكلل مجهوده بالنجاح إذ أخرجت كل ورقة منها على حدة، ووجد أنها عبارة عن مجموعة أدبية شعرية ترجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد؛ ومن بينها عدة مقطوعات من كتاب (الدوترونوم)، وعدة أخرى من الكتاب الأول من (الإلياذة)، وقطعتان من مأساة يونانية قديمة، وقطعة من كتاب تاريخي، وبعض قصائد متفرقة؛ فعولجت الأوراق جميعها، وألقيت عليها طبقة من الصمغ تمسك أجزائها.
عصير البرتقال والدم الإنساني
هل يحل عصير البرتقال مكان الدم الإنساني؟ إن عملية نقل الدم الإنساني من شخص سليم قوي البنية إلى شخص عليل يحتاج إلى الغذاء الدموي ليست حديثة، فقد ظهر من النقوش والصور المصرية القديمة أنها لم تغب عن تفكير الطب المصري القديم. ولكن هذه العملية تغدو اليوم من أهم الظواهر والوسائل الطبية في عصرنا؛ وفي برلين وحدها مائة شخص من الأقوياء يعطون دمهم للمرضى؛ واشتهر من بينهم بالأخص شخص يدعى إدموند أكارث تبرع منذ سنة 1933 إلى نحو خمسين مريضاً بدمه وخص كل منهم نحو نصف لتر، والمدهش في أمر هذا الرجل انه يعيش طبقاً لنظام خاص، ويشرب كميات كبيرة من عصير البرتقال والليمون، ويؤكد أن هذا العصير من اعظم المقويات الغذائية والدموية وهو يتناول منه نحو ثلاثين قدحاً في اليوم. وقد أثارت حالة هذا الشخص دهشة الأطباء، ويتولى بعضهم فحصه ليرى مبلغ ما يمكن أن يؤديه عصير البرتقال في تقوية الدم وغزارته.
التدريم بمناسبة ما جاء في افتتاحية العدد الماضي
أهم شيء في (المنيكير) هو تسوية الأظفار بعد القص، فإذا وضعت لها لفظة (التدريم)(186/62)
مشت الحال.
جاء في القاموس المحيط: (درم أظفاره تدريماً سواها بعد القص).
والاصطلاح والاستعمال سيشملان سائر تلك العناية باليد، وهل اللغات اصلها إلا تواضع واصطلاح، فيقال:
فن التدريم، تدريم اليد، درمت يدي، الآنسة المدرمة، الأوانس المدرمات، ما اجمل هذا التدريم.
(وفوق كل ذي علم عليم)
أحد القراء
النشيد القومي
نشرت جريدة الأهرام هذا الخبر:
تلقى حضرة صاحب المعالي وزير المعارف كتاباً من لفيف من حضرات أصحاب الفضيلة أعضاء هيئات التدريس بكليات اللغة العربية وأصول الدين والشريعة الإسلامية والمعهد الأزهري يرفعون فيه باسم اللغة والدين إلى معاليه اجمل عبارات الشكر والتقدير لإقراره النشيد القومي، حامدين لأعضاء لجنة التحكيم يدها البيضاء على البلاد وعلى رأسهم سعادة رئيس مجلس النواب.
وقد طلبوا إلى معالي العرابي باشا تعميم النشيد بين جميع أبناء البلاد طلاباً وشعباً؛ ثم رجوا في آخر كتابهم أن تساير النهضة الوطنية الحاضرة نهضة دينية لتصبح البلاد مثلاً أعلى في الفكر والدين والخلق.
وهذا الخبر العجيب في صورته العجيبة، هو إجماع من لفيف من حضرات علماء الأزهر الشريف على أن النشيد لا غلط فيه ولا إلحاد ولا ضعف ولا ركاكة، ثم هو إعلان للناس جميعاً ليقولوا سمعنا واطعنا. . .
ومعنى هذا أن لفيفاً من حضرات علماء الأزهر يردون على ما نشر في (الرسالة) من غلطات هذا النشيد رداً لا برهان فيه إلا كلمة (العلماء).
وهل يكفي في مثل هذا القرار أن ينسب إلى لفيف من علماء الأزهر ليقول للناس: (إنه(186/63)
لقول فصل وما هو بالهزل)؟ ونحن في زمن العلم الذي قاعدته (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)؟. . .
لقد نزل حضرات العلماء إلى المعركة، فلنا أن نطلب منهم الرد على ما جاء في (الرسالة) من غلطات النشيد واحدة واحدة. . فان لم يتفضلوا بذلك قلنا لهم الكلمة المشهورة: ولو أفتاك المُفْتون. . . نعم ولو:. .
السيد زيادة
الاجتهاد في الأصول
قال الأستاذ عبد المتعال الصعيدي (الرسالة 179): وان الرسول صلى الله عليه وسلم جعل للمجتهد إذا اخطأ أجراً واحداً وإذا أصاب فله أجران، ولم يفرق في ذلك بين أصول وفروع، بل أطلق الأمر إطلاقاً، وفتح باب الاجتهاد في الأصول والفروع معاً فأنكرت هذا القول أشد الإنكار، وعجبت منه أشد العجب لان الاجتهاد (في تعريفه الأصولي) هو بذل الجهد في طلب العلم بأحكام الشريعة، وهو عبارة عن استنباط الفروع من الأصول، ولأنهم ينصون في كتب الأصول (راجع كتاب الخضري، وهو اقرب المراجع ص 457) ينصون على أن المجتهد فيه هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع، يخرج من ذلك ما لا مجال للاجتهاد فيه مما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع، أما المسائل الكلامية، أي الأصول (راجع الخضري ص 462) فالحق فيها واحد ومن أخطأ فهو آثم، فان كان الخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فالمخطئ كافر.
وقد ألحق الأصول بالفروع الجاحظ وأشباهه، ممن لا يعتد بهم، ويتضح بطلان مذهبهم لكل من كان واقفاً على شيء من علم الأصول.
علي الطنطاوي
هومير لابلاند
نعت إلينا أنباء السويد الأخيرة كاتباً من طراز خاص هو صائد الذئب والكاتب اللابي الشهير يوهان توري توفي ببلدته يوكاسيرفي في قاصية لابلاند (شمال السويد) في الثانية والثمانين من عمره؛ وكان توري في شبابه من أشهر صائدي الذئب في تلك الأنحاء(186/64)
الثلجية، وكان كاتباً وشاعراً ملهماً بالفطرة حتى انه سمي (هومير لابلاند)، وعرف توري لأول مرة حينما اصدر كتابه الشهير عن الشعب اللابي بلغته الأصيلة التي يجيد الكتابة بها، ويرجع الفضل في حثه على تأليفه وإخراجه إلى آنسة دانماركية تدعى إميلي ديمانتهات عرفته في رحلة لها إلى لابلاند حيث أقامت حيناً بين القبائل اللابية ودرست أحوال معيشتهم، وعندئذ فاتحها توري برغبته في وضع كتابه عن حياة هذا الشعب القطبي المدهش، ولم يكن معتاداً على الكتابة ولا على الجلوس إلى المكتب، فشجعته وعاونته حتى أتم الكتاب؛ ثم ترجمته إلى اللغة الدنماركية، فنال نجاحاً عظيما وذاعت شهرة مؤلفه في الأمم الشمالية كلها
وكتب توري بعد ذلك عدة كتب باللغة اللابية أيضاً وترجمت جميعها إلى السويدية والنرويجية والدنماركية؛ وأنعم عليه بوسام شرف لما أداه من مجهود في التعريف بجنسه وأمته؛ وكان فوق مواهبه الأدبية يشغف بالرسم، وله عدة لوحات قطبية بديعة نالت تقديراً وإعجاباً
وكان توري صياداً بارعاً ويقال انه قتل من الذئاب ما لم يقتله أي صائد آخر في عصره، وكان في أعوامه الأخيرة يعيش من راتب صغير أجرته عليه الحكومة، ويغذي نفسه بالأسماك التي يصيدها بنفسه، وقد احتفل مواطنوه منذ عامين ببلوغه الثمانين في حفلة قطبية رائعة أفاضت في وصف طرافتها وبهائها الصحف السويدية(186/65)
الكتب
وحي القلم
تأليف الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم
للدكتور عبد الوهاب عزام
أنا معجب بالرافعي منذ قرأت له. وأحذر أن يغطي الإعجاب على بصري، وتكل عين الرضا عن العيوب، وقد اتهمت نفسي، ولتكافئ التهمة الإعجاب، ويعادل الحب الارتياب.
الرافعي نسيج وحده؛ تقرأ له فتشعر أنك في اختراعه وتصويره، وبيانه وتفكيره، لا يذكرك بأحد، ولا يذكرك به أحد. وحسب الكاتب أن يكون كوناً مستقلاً يستملي الضمير، ويبدع في التصوير، وكثير من الكتاب قوالب تختلف أحجامها وأشكالها ولكنها صور مستعارة لا تفتأ تستعير مادة عملها.
بين شعراء الفرس شاعر تسمى (خلاق المعاني)؛ والرافعي في وحي القلم جدير بهذا اللقب. وما اعسر الخلق هنا وما اصعب الإبداع. يعمد إلى الحدث الصغير ذي المعنى المحدود فيحطم حدوده ويصله بالبشرية كلها، أو يشيعه في العالم كله، ويصوره صوراً تلقى القارئ بجدتها وروعتها: والكاتب الملهم يرى الخليقة أسباباً متصلة، ومعاني متجاوبة، وصوراً متجاذبة، فما يبصر ذرة إلا رأى وراءها الفلك، ولا يمسك شعاعاً إلا جذبه إلى الشمس، وكأن كل شيء في الوجود عين تطل على العالم غير المحدود. تنثال عليه الفكر وتتزاحم أمامه الصور، فيكون همه أن يشق طريقه بين المعاني المتزاحمة ويحد سبيله بين الطرق المتشعبة، وان يطرد المعاني التي لا يريدها عن المعاني التي يقصدها. فهو من الخصب في نصب - نصب الكاتب المقلد من الأجداب والأجيال.
العالم أمام الرافعي كتاب مفتوح، يدرك فيه جمال الحروف، وحسن السطور، ثم ينفذ إلى ما لا ينتهي من المعاني. وما يزال يعرض المعنى الواحد في صور رائعة حتى يدع القارئ معجباً حيران، قد اجتمعت على القراءة خفقات قلبه، ونظرات عينه، وأسارير وجهه. فلو أن الرافعي صور هذه الخفقات وبين هذه النظرات والقسمات لاسترد البيان الذي أفاضه(186/66)
على قارئه
والرافعي يغرب أحياناً، أو يدق فينبهم معناه. وفي هذا ثورة بعض الأدباء عليه، ولكن الذي آمن بقدرته فيما وضح واستبان من كلامه يؤمن انه حين يغمض يتحيل لمعنى دقيق خفي لم ترضه الألفاظ، ولم يذللُه الكتاب، أو يتلطف لفكر نفور آبد ليختله. وكثيراً ما يخيل إلي وأنا اقرأ آبدات الرافعي إني اتبع بصري طائراً يرتفع في اللوح ثم يرتفع حتى تضمره السحب؛ فلا تراه العين ولكنها تعرف انه في جو السماء. فان قيل أن هذا حكم الإعجاب والرضى، قلت فإني اتهم نفسي فلا ادفع عن هذه الأوابد. ولكن وحي القلم بريء من الغموض والانبهام، وإنما اكتب اليوم عن وحي القلم.
وهذا الكاتب النابغة نزاع إلى الجمال، طماح إلى الفضيلة، مولع بكل خلق كريم، فلا يعالج أمراً إلا حلق به إلى الجمال والرأفة والرحمة والإحسان والحرية والإقدام وهلم جراً.
وقلبه فياض بالإيمان والطهر، فإذا كتب في الدين وما يتصل به ارتقى إلى حيث تنقطع المطامع. اقرأ مقاله: (سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم). إنها تملأ القارئ إعجاباً، وتسمو به حتى يحسب نفسه ملكاً محلقاً يرى مآتم الناس ومصائبهم من حيث لا تتعلق به ولا تستهويه؛ ولا يوفق لهذا البيان إلا مسلم ملهم كالرافعي، يكتب في حقيقة علوية كالنفس المحمدية. ثم اقرأ في مقاله: (الله اكبر) وصف المسجد ونشيد الملائكة؛ لقد قرأت فكانت تنبعث التكبيرة من قرارة نفسي، فامسكها مؤثراً الاستماع إلى هذا التكبير الذي يدوي به المسجد؛ فلما انتهى المقال لم املك إن رفعت صوتي بآخر كلمته منه (الله اكبر)
هذه النزعات العلوية، والسمو الروحي يتجلى في مقالاته: الإشراق الإلهي، فلسفة الإسلام، حقيقة المسلم، وحي الهجرة، فوق الآدمية، درس من النبوة، شهر للثورة، ثبات الأخلاق.
الرافعي كاتب الإسلام والعربية، يتناول الحديث الصغير في تاريخ الإسلام ومآثر العرب فيجعله عنوان فصل بليغ من الحكمة والموعظة، يسايره فيه القارئ متعجباً: كيف ولدت الواقعة الصغيرة هذه المعاني التي تحاول أن تكون تاريخ جيل؟. اقرأ (زوجة إمام) و (السمكة). واقرأ (يا شباب العرب) و (يأيها المسلمون).
وهذا الكاتب السماوي ابرع الناس تحليقاً بالحب الطاهر، وأعظمهم ترفعاً به، وأبصرهم بالمهاوي والمهالك التي يحلق عنها هذا الحب العلي الأبي. نظرة إلى السماء تصف العلاء(186/67)
والمضاء والطهر والسمو الروحي الذي لا يحد، ونظرة إلى الأرض تصف السقوط الحيواني، والهوى الشيطاني؛ فترى القارئ مدعواً إلى السماء، مطروداً عن الأرض، طائراً إلى الخير، نافراً عن الشر.
وإذا وصف صاحبنا الجمال، بث في العالم معانيه، ونقض عليه ألوانه، فكأنما خلق العالم خلقاً جديداً. يخلق من الشعاع شمساً، ومن القطرة نهراً، ومن الوردة حديقة؛ ثم يغرد فلا يدري أهذا التغريد تفسير هذا الجمال، أم هذا الجمال تصوير هذا التغريد. . ولا يدري القارئ أهو في ربيع باهر، أم في بيان ساحر؟. وما أشبه قلمه وهو يشقق المنظر الغفل عن سرائر الجمال بإبرة الحاكية، تسلط على الصفحة الجامدة السوداء فتردها كلاماً وأنغاماً وألحاناً؛ واقرأ (عرش الورد) ترى كيف جعل ابنته على عرشها مركزاً يحيط بها الجمال فلكاً دائراً.
ولله مصطفى حين يتغلغل في الجماعات، فيحس آلامها، ويصف أسقامها، ويعرب عما في ضمائر البائسين، وعما في رءوس المتكبرين؛ ولا يزال بالمعنى الذي يراه الناس جماداً، يقدحه حتى يخرج منه النار والنور. ويأخذ الحادثة الصغيرة ينطقها بما وراءها، ويكشفها عما انطوت عليه حتى يقيم بها للإنسانية عرساً أو مأتماً. اقرأ (أحلام الشارع) تسمع أنات البشرية وتر عبراتها وتلمس مصائبها مصورة ملونة بدم المهج وماء العيون ونار الزفرات وحز الحسرات وسواد الفاقة والذلة؛ ثم تسع لعنة الإنسانية على لسان ما خلقت الإنسانية من قوانين. والعجب انك كلما أسال الحزن عبراتك طبع البيان الساحر على شفتيك بسمة إعجاب لا تملك نفيها. واقرأ (عربة اللقطاء) تر انه صاغ من أساريرهم حروفاً للهجاء تسع كل معنى، وتتمثل الآثام التي ولدت هؤلاء، والمصائب التي يحملها هؤلاء، والمفاسد التي سيلدها هؤلاء. وتقرأ (لحوم البحر) فتستمع إلى الشيطان والملك، كل ينشد أناشيده. ويستخرج الرافعي منها دعوة إلى الفضيلة ولعنة للرذيلة، وهو قادر تسخير الشيطان لبيانه. فقد أعطي في البيان ملك سليمان.
وإذا وعظ مصطفى الصادق نفذ إلى السرائر، وصور للإنسان فضائله ورذائله تصويراً لا يدع له إن يختار إلا الأولى وان يهجر إلا الثانية. وهو لا يعمد إلى النذر يصبها على النفس صب السياط، يألم لها الجسم، ويموت القلب، بل يعمد إلى الحياة يصورها هنا على(186/68)
حقائقها نافياً عنها تلبيس إبليس، وإلى القلب ينفخ فيه العظمة، ويبث فيه الفضيلة والطهارة والطموح إلى كل خير، والنفور من كل شر. واقرأ له (وحي القبور).
وهذه المقاصد الجليلة والنزعات السامية تخالطها دعابة دقيقة، وسخرية نافذة؛ ترى الكاتب يرتفع فوق العالم ثم يسخر مما عبد الناس من أباطيل وأهواء، فإذا التماثيل التي يسجدون لها تهاويل، وإذا الهول الذي يفزعون منه تهويل، وإذا العظمة والكبرياء والسلطان والجاه والغنى وكل ما عده الاجتماع عظمة لقوم وحقارة لآخرين، أضاحيك يخلقها الجهل، ويهدمها العقل، ويقدسها الإنسان حيوانا، ويحطمها الإنسان إنساناً. . وأعوذ بالله من الرافعي إذا انطلق ساخراً يرسل بيانه طعنات دراكاً وهو يضحك ضحك البرق في السحاب الراعد، أو لمع السيف في يد الضارب.
وبعد، فهذا وصف الروض في كلمات لو كانت أزهاراً ما مثلته، ونعت البحر في سطور لو كانت أمواجاً ما صورته. فأما الروض في بهجة جماله، والبحر في روعة جلاله، فهما ما خطه الرافعي. فإن شئت فقل جنات في صفحات، وعباب في كتاب؛ وان شئت فقل انه العالم في سطور قد انتظم، ووحي الهي سماه الرافعي (وحي القلم).
(ذلك الفضل من الله)
عبد الوهاب عزام(186/69)
نشيد الأمل
إنتاج شركة أفلام الشرق
لناقد لرسالة الفني
السيناريو والإدارة الفنية (الإخراج)
تحدثنا في العدد الماضي عن قصة الفلم التي اخذ عنها السيناريو، ولكن القارئ فيما أعتقد يرى أن هناك بعض نواح كان من الخير اهمالها، مثل مناظر عصابة تجار المخدرات.
إن سر نجاح الأفلام الفنية التي تؤدي رسالة واحدة وتشبع فيها ناحية واحدة هي ناحية الفن الخالص، ولكن الأستاذ بدر خان عندما كتب سيناريو (نشيد الأمل) وأدار الفلم أعطى بعض المناظر أهمية لا تستحقها، واخذ لها صوراً كثيرة؛ فتصويره للاستوديو وشركة الطيران والباخرة النيل جعل من الفلم أداة دعاية، ونحن يسرنا بالطبع هذه الدعاية لمؤسسات مصرية وطنية ناجحة نؤيدها ونعتز بها، ولكن يؤسفنا أن نقلل من القيمة الفنية لأفلامنا بمثل هذا التصرف.
وهو كذلك لم ينصف شخصياته، فتراه في دور الدكتور عاصم - وهو الشخصية الرئيسية الأولى في القصة - قد اختزله وجعله ثانوياً في حين جعل دور المخرج دوراً رئيسياً وجارى غيره(186/70)
العدد 187 - بتاريخ: 01 - 02 - 1937(/)
قرآن الفجر
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كنت في العاشرة من سني وقد جمعت القرآن كله حفظاً وجودته بأحكام القراءة؛ ونحن يومئذ في مدينة (دمنهور) عاصمة البحيرة؛ وكان أبي رحمه الله كبير القضاة الشرعيين في هذا الإقليم. ومن عادته أنه كان يعتكف كل سنة في أحد المساجد عشرة الأيام الأخيرة من شهر رمضان؛ يدخل المسجد فلا يبرحه إلا ليلة عيد الفطر بعد انقضاء الصوم؛ فهناك يتأمل ويتعبد ويتصل بمعناه الحق، وينظر إلى الزائل بمعنى الخالد، ويطل على الدنيا إطلال الواقف على الأيام السائرة، ويغير الحياة في عمله وفكره، ويهجر تراب الأرض فلا يمشي عليه، وتراب المعاني الأرضية فلا يتعرض له، ويدخل في الزمن المتحرر من أكثر قيود النفس، ويستقر في المكان المملوء للجميع بفكرة واحدة لا تتغير؛ ثم لا يرى من الناس إلا هذا النوع المرطب الروح بالوضوء، المدعو إلى دخول المسجد بدعوة القوة السامية، المنحني في ركوعه ليخضع لغير المعاني الذليلة، الساجد بين يدي ربه ليدرك معنى الجلال الأعظم
وما هي حكمة هذه الأمكنة التي تقام لعبادة الله؟ إنها أمكنة قائمة في الحياة، تشعر القلب البشري في نزاع الدنيا أنه في إنسان لا في بهيمة. .
وذهبت ليلةً فبت عند أبي في المسجد؛ فلما كنا في جوف الليل الأخير أيقظني للسحور، ثم أمرني فتوضأت لصلاة الفجر وأقبل هو على قراءته. فلما كان السحر الأعلى هتف بالدعاء المأثور: اللهم لك الحمد! أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد، أنت بهاء السماوات والأرض؛ ولك الحمد، أنت زين السماوات والأرض. ولك الحمد، أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن ومن عليهن، أنت الحق ومنك الحق. إلى آخر الدعاء
وأقبل الناس ينتابون المسجد فانحدرنا من تلك العلية التي يسمونها (الدِّكة) وجلسنا ننتظر الصلاة. وكانت المساجد في ذلك العهد تضاء بقناديل الزيت في كل قنديل ذبالة يرتعش النور فيها خافتاً ضئيلاً يَبِص بصيصاً كأنه بعض معاني الضوء لا الضوء نفسه. فكانت هذه القناديل والظلام يرتج حولها، تلوح كأنها شقوق مضيئة في الجو، فلا تكشف الليل ولكن تكشف أسراره الجميلة، وتبدو في الظلمة كأنها تفسير ضعيف لمعنى غامض يومئ(187/1)
إليه ولا يبينه، فما تشعر النفس إلا إن العين تمتد في ضوئها من المنظور إلى غير المنظور كأنها سر يشف عن سر
وكان لها منظر كمنظر النجوم يتم جمال الليل بإلقائه الشُّعَلَ في أطرافه العليا وإلباس الظلام زينته النورانية؛ فكان الجالس في المسجد وقت السحر يشعر بالحياة كأنها مخبوءة، ويحس في المكان بقايا أحلام، ويسري حوله ذلك المجهول الذي سيخرج منه الغد. وفي هذا الظلام النوراني تنكشف له أعماقه منسكباً فيها روح المسجد، فتعتريه حالة روحانية يستكين فيها للقدر هادئاً وادعاً راجعاً إلى نفسه، مجتمعاً في حواسه، منفرداً بصفاته منعكساً عيه نور قلبه؛ كأنه خرج من سلطان ما يضيء عليه النهار، أو كأن تلك الظلمة قد طمست فيه على أبواق الأرض.
ثم يشعر بالفجر في ذلك الغَبَش عند اختلاط أخر الظلام بأول الضوء شعوراً نديا كأن الملائكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسح بها على قلبه ليتنضَّرَ من يُبْس، ويرق من غلظة. وكأنما جاءوه مع الفجر ليتناول النهار من أيديهم مبدوءاً بالرحمة مفتتحاً بالجمال؛ فإذا كان شاعر النفس التقى فيه النور السماوي بالنور الإنساني فإذا هو يتلألأ في روحه تحت الفجر
لا أنسى أبداً تلك الساعة ونحن في جو المسجد، والقناديل معلقة كالنجوم في مناطها من الفلك، وتلك السرج ترتعش فيها ارتعاش خواطر الحب، والناس جالسون، عليهم وقار أرواحهم، ومن حول كل إنسان هدوء قلبه؛ وقد استبهمت الأشياء في نظر العين ليلبسها الإحساس الروحاني في النفس، فيكون لكل شيء معناه الذي هو منه ومعناه الذي هو ليس منه، فيخلق فيه الجمال الشعري كما يخلق للنظر المتخيل
لا أنسى أبداً تلك الساعة وقد انبعث في جو المسجد صوت غرد رخيم، يشق سُدْفةَ الليل في مثل رنين الجرس تحت الأفق العالي، وهو يرتل الآيات من آخر سورة النحل:
(ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنَةِ وجادلْهم بالتي هِي أحسنُ، إن ربَّك هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيله وهو أَعلمُ بالمهتدين. وإن عاقبتم فعاقِبوا بمثْل ما عُوقبتم به؛ ولئن صبرتم لهُوَ خيرٌ للصابرين. واصبِرْ وما صبرُكَ إلا بالله، ولا تحْزَنْ عليهم، ولا تكُ في ضيْقٍ مما يَمْكرُون. إنَّ الله مع الذين اتقوْا والذين هم مُحسنون.)(187/2)
وكان هذا القارئ يملك صوته أتم ما يملك ذو الصوت المطرب، فكان يتصرف به أحلى مما يتصرف القمري وهو ينوح في أنغامه، وبلغ في التطريب كل مبلغ يقدر عليه القادر، حتى لا تفسر اللذة الموسيقية بأبدع مما فسرها هذا الصوت؛ وما كان إلا كالبلبل هزته الطبيعة بأسلوبها في جمال القمر، فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال التغريد
كان صوته على ترتيب عجيب في نغماته؛ يجمع بين قوة الرقة وبين رقة القوة، ويضطرب اضطرابا روحانياً كالحزن اعتراه الفرح على فجأة. يصيح الصيحة تترجح في الجو وفي النفس، وتترد في المكان وفي القلب، ويتحول بها الكلام الإلهي إلى شيء حقيقي، يلمس الروح فيرفض عليها مثل الندى، فإذا هي ترف رفيفا، وإذا هي كالزهرة التي مسحها الطل
وسمعنا القرآن غضاً طرياً كأول ما نزل به الوحي، فكان هذا الصوت الجميل يدور في النفس كأنه بعض السر الذي يدور في نظام العالم. وكان القلب وهو يتلقى الآيات كقلب الشجرة يتناول الماء ويكسوها منه
واهتز المكان والزمان كأنما تجلى المتكلم سبحانه وتعالى في كلامه، وبدا الفجر كأنه واقف يستأذن الله إن يضيء من هذا النور.
وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما محيت الدنيا التي في الخارج من المسجد وبطل باطلها، فلم يبق على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة؛ وهذه هي معجزة الروح متى كان الإنسان في لذة روحه مرتفعاً على طبيعته الأرضية
أما الطفل الذي كان فيّ يومئذ فكأنما دعا بكل ذلك ليحمل هذه الرسالة ويؤديها إلى الرجل الذي يجيء فيه من بعد. فأنا في كل حالة اخضع لهذا الصوت: ادع إلى سبيل ربك؛ وأنا في كل ضائقة اخشع لهذا الصوت: واصبر وما صبرك إلا بالله.
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(187/3)
أنا والأحمر
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
غضبت على ذات دل وحسن. ومن النساء من تدل ولا حسن لها. ومن هن الجميلة التي لا تدرك قيمة ما وهبها الله؛ ولكن هذه عارفة مدركة أصح أدراك وأدقه. وآية ذلك إنها لا تنفك تؤكد خصائص جمالها وتبرزها بألوان الثياب، وأسلوب التفصيل، وبطريقة تسريح الشعر وفرقه، وبحركاتها ومشيتها ولفتة وجهها، والجانب الذي تؤثر إن تمنحكه منه، وابتسامتها وخطرتها ووقفتها، وبالصورة التي تعرضها على عينك وهي متكئة على ظهر كرسي أو حافة شرفة، إلى آخر ذلك إذا كان له آخر
وسر هذا الغضب أنها تؤمن بالدلال - كما لا يسعها إلا إن تفعل - وأني أنا أؤمن بقول المتنبي عليه ألف رحمة:
زودينا من حسن وجهك مادا ... م فإن الجمال حال تحول
وصلينا نصلك في هذه الدن ... يا فإن المقام فيها قليل
فلها عقلها وطبيعتها، ولي عقلي وطبيعتي؛ ومن أجل ذلك نحن مختلفان متجافيان - تراني فتعرض عني، وأرها فأتجاوزها بعيني، كأنها ليست هناك؛ وتراجع نفسها أحياناً فتصفو وتقول عفا الله عما سلف، وتومئ إلي إيماءة تجعلها خفيفة خفية من الكبر والتردد، فأتجاهل وأتعامى وأتباله، فترجع إلي شر مما كانت به من الغضب والسخط، وتمنحني كتفها أو توليني ظهرها، وتمضي الأيام على هذا التقاطع الشديد - أخرج إلى الشرفة وتكون هي مطلة فتأخذني عينها، فما أسرع ما تتناول مصراعي الشباك وتغلقهما بعنف لا داعي له سوى أنها تريد إن تسمعني صوت الإغلاق لأدرك معناه. وأكون أنا في الشرفة فتظهر في نافذتها أو شرفتها، فلا أكاد أراها حتى اعبس وأمط بوزي. كان من سوء حظي ألا استطع إن اقف في الشرفة دقائق من غير إن تسد الفضاء أمامي، ثم أدور دورة سريعة وارتد إلى الغرفة ملتمساً الوقاية من جدرانها
ولم يكن هذا حالنا من قبل، بل كنت أقبل عليها فتهش لي وتريني وميض أسنانها والتماع عينيها، وكنت ألقاها فتدنو مني حتى لاحس أنفاسها العطرة على وجهي، وتضع راحتها البضة على قلبي وتقول لي: (كيف حال هذا المسكين الذي لا يمل الدق بل الوثب؟)(187/4)
فأقول (أتريدين إن يمل)
فتقول (أعوذ بالله. . ما هذا الكلام يا شيخ. .)
فأصرف الكلام عن وجهه وأقول (إنه يدق لي ولك، فلا عجب إن كان يتوثب)
فتبتسم لي - في عيني - وتقول: (ألا يمكن إن يفتر ذكرك لي - يفتر قليلا - ليرتاح هذا القلب بعض الراحة. . إنه عنيف الدق وأنا أشفق عليه)
فأقول (لا تخافي عليه ولا تجعلي إليه بالك. . دعيه يدق فإن هذا عمله وواجبه في الحياة)
ثم نمضي معه إلى حيث يروق القعود ويطيب الحديث وتحلو النجوى ويحسن الغزل، ونرجع ضاحكين وتنام ملء عيوننا
وقلت لها مرة (لماذا هذه المساحيق كلها. . ما حاجتك إليها؟ كيف يمكن إن يفتقر إلى زيفها هذا الوجه الخارج من الفردوس؟
فضحكت وقالت (أهو زيف. .؟)
قلت مغالطاً (أنه تأكيد لا حاجة بك إليه)
قالت (يا خبيث. . اعترف أنك تريد إن تقبل فمي وتخشى إن يعلق بشفتيك الأحمر!)
قلت (إلا يكون مجنوناً أو أعمى ذاك الذي لا يشتهي إن يقبل هذا الفم الجميل!)
قالت (لا تغالط. . دع العموم إلى الخصوص)
قلت (أتتعمدين إن تضعي هذا الأحمر إذن؟)
قالت (لا. . هي عادة ليس إلا. .)
قلت ملحاً: (أتكرهين إن أقبلك. . أو بعبارة أصرح فإن عفريت الصراحة ركبني اليوم. . إلا تشتهين هذه القبلة التي تقيمين في سبيلها الحواجز وتضعين الأسلاك الشائكة أو الأصباغ العالقة؟)
قالت (مالك اليوم. . ماذا جرى لك؟)
قلت: (إن الذي جرى لي هو هذا. . أنت تعرفين إني احب فمك. . وأنت لا تكرهين إن أضع شقتي على شفتيك. . وتعرفين أيضاً أني شديد الكره لهذا الأحمر السخيف، وتعرفين فوق هذا أن أزالته سهلة إذا هو علق بفمي منه شيء يسير أو كثير، ولكني مع ذلك أكرهه لله. . هكذا أنا. . خلقني الله كذلك ولا حيلة لي. . فلماذا تصبغين به شفتيك على الرغم من(187/5)
ذلك. . ليس الأحمر في ذاته هو الذي يضايقني ولكن تعمد وضعه. إذا كان الدلال هو الباعث على ذلك فإن الدلال ميسور بغير الأحمر. وعلى أن الدلال حسن وجميل، وهو يشحذ الرغبة ويقوي الحب إذا كان في حدود الاعتدال ولم يجاوز المعقول أو المحتمل. . أي ما يسهل على الرجل احتماله بلا عناء شديد أو مرهق، ولكن المرأة لا تفهم هذا مع الأسف، وهي لا تزال تلح في الدلال وتلح وتلح حتى يسأم الرجل وتنتفخ مساحره ويتعذر عليه الصبر ويضيق صدره فيفتر حبه، لأنه يكلفه فوق ما تطيق أو ما يمكن إن تحتمل طبيعته، فتذهب المرأة تقول غدر الرجال وعدم وفائهم وتقلبهم؛ ولو أنصفت للامت نفسها ولأدركت أنها هي التي أملته وأزهقت روحه
فقطبت وقالت (أهذا تهديد؟)
قلت (وهذا خطأ آخر. . فليس فيما أقول تهديد وإنما هو عجب واستغراب يدعو إليهما اختلاف الطبيعتين. .)
فقاطعتني وقالت (قل إن طبيعتك المتجبرة تريد إن تجعل مني ملهاة لنفسك لا تخالف لك إرادة ولا تعصي لك أمراً. .)
فقاطعتها وقلت: (كلا: ليس هناك تجبر ولا شبهه، إنما أشرح لك ما تغريك به طبيعتك وما تغريني به طبيعتي. .)
ولا أحتاج إن أروي ما قالت وقلت، فإن في مقدور القارئ إن يتصور ذلك، وأكبر الظن إن تجارب مثل هذه مرت به وعاناها، فما تعيش المرأة بغير الرجل ولا رجل بغير المرأة إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة؛ ومتى عاش رجل وامرأة فلا مفر من أن تسوقهما الطبيعتان إلى الشجار والنقار في بعض الأحيان، وأكثر ما يحدث ذلك من جراء توافه لا قيمة لها، ولا يجري في الخاطر إن تجر إلى خلاف.
وقد حاولت يوم ذاك إن ألاعبها وأمازحها بعد فتور الحدة وذهاب السورة، ولكن تعبي ذهب عبثاً، ورجعنا وقد أيقن كلا منا أن هناك سرا أعوص لما أبدى صاحبه من الجفاء وضيق الصدر.
ولقيتها بعد ذلك، فقلت لنفسي إن العتاب يجدد مرارة الخلاف ولم يكن لي ولا لها مفر من الكلام والنفاق، فقد كنا في حفل حاشد من المعارف والأهل، وانفض السامر فناولتها ذراعي(187/6)
وقلت (تعالي فإن بي حاجة إلى الهواء الطلق، فابتسمت، فتوهمت إنها نسيت ما كان بيننا أو آثرت مثلي إن تطويه. وإذا بها تقول لي أول ما تقول ونحن في السيارة (إنك مستبد) فعجبت وقلت: (كيف.؟ لقد كنت أظن أني من ألين خلق الله وأسلسهم قياداً) (فصاحت بي (أنت. . تقول إنك سلس القياد. . أعوذ بالله. .)
قلت وأنا أحول إن أصرفها عن هذا الموضوع الشائك (طيب. . آمنا وسلمنا. . مستبد مستبد. . كما تشائين. . والآن يا جاحدة. .)
وكنت أنوي إن أمازحها، ولكنها قاطعتني بسرعة وحدة: (جاحدة. . لماذا بالله. . هه)
فقلت لنفسي إن ليلتي لاشك سوداء. . وأنا رجل أكره الجدل العقيم ولا يثقل على نفسي شيء مثله، ولست أعرف لي صبراً عليه؛ غير أني ضبطت نفسي ولم ادع عنانها ينفلت من بين أصابعي فقلت: (معذرة: إني أضحك ولا أعني ما أقول)
قالت (واعترف أنك مستبد)
قلت (إذا الاعتراف بما ليس في يرضيك، فهأنذا اعترف وأمري لله)
قالت (كلا. . إنما أريد اعترافاً صريحاً لا مكابرة ولا تحفظ فيه)
قلت (فليكن؛ ولكن ما خيره؟. ماذا يفيدك إن اقر لك بأني مستبد؟. أما إن هذا لغريب)
قالت (اعترف والسلام. . لست أريد فلسفة)
قلت (اعترفنا يا ستي. . فهل راق مزاجك ورق)
فضحكت وقالت: (نعم) قلت: (إذن امسحي الأحمر الذي صبغتي به شفتيك، أو دعيني امسحه لك بهذا المنديل. . إنه نظيف)
قالت (كلا) وأصرت على الرفض والتأبي فقلت: (إلا تدركين أنك مغرورة؟) فاحمر وجهها كأنما أفرغت على وجنتيها كل ما في الدنيا من الأحمر، فقلت وقد تعمدت إن اثقل عليها: (نعم مغرورة. . ولم أكن أحسب شوقي رحمه الله صدق في قوله: والغواني الخ. . تعرفين الباقي. . وأحسبك تتوهمين أن حياتي رهن بأن تمسحي هذا الأحمر. . أو أن روحي معلقة بِشفتيك وما يكون أو لا يكون عليهما من الأصباغ السخيفة. . ثقي أن الأمر ليس كذلك. . وإنما انصح لك بمسح الأحمر لأنه. . .)
وأمسكت إشفاقا عليها من اللفظ القاسي الذي كان على لساني فسكتت ولم تقل شيئاً(187/7)
والغريب أنها بعد إن نزلت أمام منزلها وودعتها تعمدت إن تقف هنيهة قبل إن تدخل من الباب وتخرج منديلا صغيراً وتمسح به الأحمر عن شفتيها وفي يدها الأخرى مرآة الحقيبة
وكان هذا أخر عهدي بلقائها وكلامها
ولا تزال المعركة ناشبة، واحسبنا سنمل هذه الحرب الباردة - حرب الشفاه الممطوطة والأكتاف المهزوزة والإشاحة بالوجه والأعراض بالعين وتقطيب الحواجب وتجعيد الجبين، إلى آخر هذه المناظر المضحكة، ولولا أني لا اعدم القدرة على رواية الجانب المضحك لانفلقت، ولكنت حرياً أن ألقي السلاح وأعدل عن الكفاح، ولكنها هي متكبرة. . أوه جداً جداً. . وأنا كما تعرف. . دائم الضحك - هذا أولا - وأما ثانياً فإني لا أنفك أقول لنفسي: لقد عشت قبل عهدها دهراً طويلا لا تحس بالحاجة إليها ولا تعرف إنها موجودة. وإنك الآن لتحيا بغيرها، ولا تعدم نعيما تفيده بدونها ومن غير طريقها، فماذا ينقصك ولماذا تعني نفسك بالتفكير في الأمر كله؟. . دع كل شيء للظروف والمصادفة. . وليكن ما يكون. . . ولكن يخطر لي أحياناً أني قد ألقاها ولا أرى على شفتيها هذا الأحمر، فماذا يكون العمل حينئذ؟. أقول لك. . دع هذا أيضاً للمصادفة وإلهام الساعة، إن التدبير هنا قلما يجدي أو يصح. .
ولكن ضحكي يحنقها، وابتسامي يثير سخطها، وأنا لا أستطيع أن أكره نفسي على التعبيس بلا موجب، وهذا هو البلاء والداء العياء، فإنها تتوهم أني أسخر منها فتزداد لجاجة في الصد والإعراض، واحسبني سأظل هكذا أبداً. . أفسد على نفسي متع الحياة بسوء تصرفي وقلة حكمتي، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
إبراهيم عبد القادر المازني(187/8)
في الأدب المقارن
الإنسان
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
إذا ما استقر الإنسان في موطن آمن، وارتقت عقليته، لم يعد يكتفي بتوفير حاجاته الجسدية واتقاء قوارع الطبيعة، بل بدأ يفكر في نفسه ومنشئه وغايته؛ لم يعد يكتفي بقبول الحياة على علاتها ومداراة غوائلها، بل راح يتساءل عن ماهيتها وغايتها وما بعدها، وأجاب عن تساؤله ذاك بما تتيح له عقليته البدائية من تفسيرات فطرية، بعضها صادق وأكثرها وهمي؛ ثم ما يزال كلما ترقى في مدارج الفكر يعاوده الشك من حين إلى حين في تلك التفسيرات، ويثور على عقائده المتوارثة، ويتناولها بالتعديل والتهذيب، فيكون من ذلك الدين والفلسفة
ويشارك الأدب الدين والفلسفة في التعبير عن تأمل الإنسان في نفسه، وتساؤله عن نشأته ومصيره، فيحفل الأدب شيئاً فشيئاً بآثار تفكير الإنسان في الحياة والموت، وافتخاره بقوته وسيادته، وجزعه من ضعفه وقصور حيلته، واعتداده بمبتدعاته في مجال العلم والفن والصناعة، وارتياعه من تضاؤل آثاره تلك جميعاً إزاء قوى الطبيعة وأبعاد الكون؛ وتصطبغ تأملاته تلك في عالم الأدب بصبغة البشر والتفاؤل حيناً، وبصبغة التشاؤم والقنوط حينا، حسب ما يسود المجتمع من عوامل الحيوية والثقة بالنفس والإقبال على أسباب المتعة والحبور، أو دواعي الانخذال وسقوط الهمة وفتور العزيمة، وحسب ما يخالج الأديب الفرد من بشر ملازم أو طارئ، وتشاؤم مصاحب أو عارض.
فتأمل الإنسان في نفسه، وتساؤله عن مكانه في الكون، واهتمامه الدائب بسبر قواه وامتحان قدرته واستكناه غاياته ومراميه، كل هاتيك من أظهر ميزات المجتمع المتحضر والأدب الحي. وقد كان ذلك الاهتمام الملح بالإنسان: قواه وطباعه ومواطن ضعفه، ومفاخره ومعايبه ومصائره ومطامحه، من أبرز ظواهر الحضارة الإغريقية وخصائص الأدب الإغريقي والفنون الإغريقية، ففيها تنويه بالجمال الإنساني وترنم بالبطولة الإنسانية، وفيها بجانب ذلك عرض لنقائض الإنسان ومغامزه، وفيها إشادة بما تمهد له الحياة من أسباب(187/9)
المجد والابتداع والتمتع والسرور، وتصوير لما تفرضه عليه من هوان وصغر وقهر وآلام، وما تبسط له من فجاج الحرية وما تكبله به من مشعبات القيود؛ وليست مواضيع الدرامة اليونانية المتعددة في صميمها إلا موضوعاً واحداً: هو اصطدام مطامع الإنسان بصرامة الأقدار
ولحفول الأدب الإغريقي على ذلك النحو بدراسة الإنسان، سميت الآداب الإغريقية أو الكلاسية عامة منذ عهد النهضة الأوربية (بالإنسانيات)، فإن الاطلاع عليها لم يكن كشفاً للعالم القديم فقط، بل كان كشفاً للنفس الإنسانية ذاتها، تلك النفس التي كانت قد أهملت في العصور الوسطى اشد الإهمال، وازدريت شر الازدراء، بتأثير الكنيسة التي ذهبت في تضليل العقول مذهباً بعيداً، فزعمت الإنسان شريراً خاطئاً بالطبع، وعلمت الإنسان أن فيه نزعة من الشيطان، لا يذهب مسها عنهم إلا العصا في الصغر، ودوام التندم والاستغفار في الكبر. وهكذا عكست الكنيسة بجهالتها غاية الدين الذي لم يأت إلا لتوطيد ثقة الإنسان بنفسه وتمكين اعتقاده بحاضره ومستقبله، فلا غرو خمد الأدب في تلك العصور، إذ لا أدب ولا حياة إلا حيث للإنسان ثقة بالإنسان
وقد ورث الأدب الإنجليزي فيما ورث عن الأدب الإغريقي تلك النزعة الإنسانية، وحفل كما حفل أدب اليونان بتمجيد الإنسان من جهة، والأسى لتلاعب الأقدار به من جهة أخرى: فمواضيع روايات شكسبير الكبرى كهملت وعطيل وماكبث هي مواضيع الدرامة اليونانية: فهي تدور حول أبطال أو عظماء نالوا من المجد وشرف المحتد وفضائل الشجاعة والقوة والعقل شأوا عظيماً، ولكن كل مزاياهم تلك تذهب هدراً من جراء مغامز في شخصياتهم تتسلل منها أصابع القدر إلى سعادتهم فتنغصها، وإلى مجدهم فتثله؛ ورواياته بجانب ذلك تعج بشتى الدراسات للطبائع الإنسانية، التي تثير الروعة والإكبار تارة، والشفقة والأسى مرة، والاحتقار والاشمئزاز حيناً، والسخر والضحك طورا.
وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث في الأدب الإنجليزي ألفينا نفس ذلك العراك المستمر بين النفس الإنسانية الجادة في تحقيق مطالبها ومطامحها، وإثبات شأنها وخطرها، وبين القدر الصارم القوانين السادر في جبروته. لم يزد بعد تقدم العلم وتذليل قوى الطبيعة إلا تجسماً واستفحالاً. وقد نقله هاردي من عالم الرواية التمثيلية التي تدور حول الأبطال والملوك،(187/10)
إلى القصة المقروءة التي تدرس المجتمع العادي، وتتناول أوساط الناس ودهماءهم، وليست (تس) الفقيرة إلا نظيرة (أوفيليا) المنعمة، ولا (يهود المغمور) في طموحه إلى القوة إلا قريع (مكبث) المشهور في تطاوله إلى العرش: مطامح إنسانية، وآمال في المتعة والسعادة، وأقدار ماضية تعترضها وتبطش وهي عمياء بطش جبارين
وقد كان الموت ولن يزال عدو الإنسان اللدود، وبلاءه الأكبر، واللغز الأعظم الذي استغلق على فهمه، ووقف له بالمرصاد كأنما يسخر من كل ما يبني وما يجمع، ويتهكم بكل ما يأتي وما يدع، ويقنعه في ذروة نجاحه ومجده وسعادته بعبث سعيه وإدراكه؛ ومن ثم امتلأت الآداب بذكر الموت وصولته وإزرائه بالحياة والاحياء، واتيانه على الجبابرة، وتسويته بين العلية والسوقة، وبين العالم والجاهل، وتمزيقه شمل الألاف، وتعفيته لآثار السرور والفوز بوصل الأحبة، وعبثه بحور العيون وبياض الأجياد والنحور. وقد تفنن الخيام في رباعياته في صوغ هذه المعاني وتحليتها بالصور الفاتنة المنتزعة من الطبيعة ومن الجمال الإنساني، ومن مجالس الصفو والشراب
وبجانب الموت تمثلت الرهبة لعيني الإنسان في مظاهر الطبيعة الرائعة، وقواها المصطرعة، وفجاجها المترامية، ومخلوقاتها المقتتلة في سبيل الغلب والبقاء، وصممها عن آلامه وأشجانه، وغفلتها عن أفراحه وأتراحه، ومضيها على عاداتها حسنت به الحال أو ساءت، وخلودها على رغم فنائه، وطيها جيلاً من الناس بعد جيل؛ فامتلأ الأدب بذكر ذلك كله. ومن جميل أمثلته مقطوعة هوجو (الطبيعة والإنسان) التي يقابل فيها بين شباب الطبيعة وشيخوخته، ونضارتها وجفاف عوده، وبقائها ووشك ذهابه، ويتنبأ بقيام جنازته بين معالم أعيادها، وبمضيه غير ما سوف عليه منها، ولا محسوس فقدانه.
وقد كان شكسبير معنياً بالموت موكلاً بالتفكير فيما بعده، ينطق بذلك أبطاله كهملت، الذي يتأمل في الموت في خلوته، ويؤم المقابر حيث يرى الحفارين يعبثون بالجماجم وحيث يشهد دفن حبيبته في ريعانها. ولا يمل شكسبير ذكر الموت والبلى، حتى في شعره النسيبي، الذي يتسم لذلك بمسحة الحزن والكآبة. ولشيرلي مقطوعة رائعة في الموت سارت بعض أبياتهم مسير الأمثال، وهي تطابق في شتى المواضع معاني رباعيات الخيام. ومن احسن أشعار التأمل في الموت في الإنجليزية قول كيتس، وقد كان لضعف بنيته ما(187/11)
يزال متمثلا شبح الموت: (حينما يخامرني الخوف من أن أقضي قبل أن أجني كل ثمار عقلي الوافرة، وقبل أن تحويها الكتب المكدسة كما تحوي البيادر المحصول الناضج؛ وحينما أشاهد على وجه الليل المرصع بالنجوم رموزاً من الغمائم لرواية تجري في علو، وأذكر أني ربما لا أعيش حتى أرسم ظلاً لها بيد الإلهام السحرية؛ وحينما اشعر يا جميلتي الوشيكة المضي إني لن أراك بعد، ولن أنعم بتلك القوة الساحرة: قوة الحب الأعمى، عند ذلك أقف وحيداً على شاطئ الدنيا الرحيبة، وأفكر حتى يصير الحب والمجد هباء)
وتمثلت رهبة الطبيعة لأدباء الإنجليزية في البحر وهياج أواذيه واصطخاب عواصفه، واطراد ثورته وبعد غوره، ومن روائع آثار الشعراء في هذا الصدد أبيات تنيسون التي نظمها وقد قصد البحر مفكراً مهموماً، يبغي العزاء عن فقد صديق له حميم، ومنها قوله: (تكسر أيها البحر على صخورك الباردة الكالحة، وطوبى لابن الصائد إذ يتصايح هو وأخته لاعبين، وتمضي الجواري المنشآت إلى مرافئها بسفح التل. ولكن من لي أنا بمصافحة تلك اليد التي غابت، وذلك الصوت الذي سكت). واستعار شلي رحب البحر وشدة أسره وصرامة صروفه، للتعبير عن صرامة الزمان وبطشه بالإنسان. قال يخاطب الزمان: (أيها البحر الذي لا يسبر غوره، والذي أمواجه السنون، والذي قد غدت أواذيه أجاجاً من ملح دموع الإنسان، والذي يطوي في مده وجزره أطراف الإنسانية، ويبشم من فرائسه وإن يكن ما يزال يعوي طلباً لسواها فيلفظ بقاياها على شطوطه غير الكريمة ولا الوثيرة)
واسترعت تفكير الأدباء أحوال المجتمعات التي رضيها الإنسان لنفسه مقاماً وما يداخلها من نقائص لا يخلو من بعضها مجتمع أو جيل، وما في بعض أنظمتها من تقييد للحريات وهضم لحقوق بعض الأفراد أو الطبقات، فنددوا بتلك المساوئ ونادى بعضهم بإصلاح تلك المفاسد التي تهبط بالإنسان عن رتبته التي هو جدير بها في الكون، وتعترض سيره إلى ما ينشده من كمال؛ فكان منهم رادة حركات النهوض والإصلاح؛ بل نادى بعضهم بفض المجتمع والعودة إلى الطبيعة. وبمثل تلك الكتابات الاجتماعية تحفل كتابات فلتير وروسو. وقد كانت هذه النزعة ضئيلة المظهر في الآداب القديمة؛ أما في الآداب الحديثة فهي تتعاظم وتشتد جيلا فجيلا. فالنقد الاجتماعي والحض على الإصلاح غرض حديث من أغراض(187/12)
الأدب يضارع غرضه القديم من التعبير عن الجمال والإفصاح عن الشعور الفردي
فالتفكير في شأن الإنسان ماضيه وحاضره ومستقبله من مميزات الإنسان المتحضر المثقف، وهو لا يكف عن هذا التفكير طوال حياته؛ ولا تزال أشباح الماضي والمستقبل والحياة والموت ماثلة أمامه، يكون لنفسه في شأنها فلسفة تختلف عمقاً واتساعاً وإقناعاً، وتختلف في مدى قربها من اليقين والجزم، أو قيامها على الشك والرفض. على إن هذا التفكير الإنساني يفرض نفسه فرضاً شديداً على كل أديب أو كل مثقف أو كل إنسان، في فترة خاصة من فترات حياته، بل أزمة من أزمات وجدانه، يشتد فيها تفكيره في نفسه وبني جنسه، ويحفزه إلى التساؤل والثورة على الحياة الإنسانية حادث نفساني يؤثر فيه أثراً عمقاً: من خيبة أمل أو إخفاق حب أو موت عزيز، فتتسم آثار الأديب في تلك الفترة بالتمرد والتشاؤم والكابة؛ وقد يحاول إصلاح العالم دفعة واحدة ويدعو الناس إلى حياة جديدة تصورها له أحلامه، ثم ما يلبث إن تخلف الحقائق المتحجرة ظنونه وتثبط هياجه وتروض جماحه، فيعدل حياته بما يلائم ظروف الحياة الإنسانية البطيئة التغير الوئيدة الخطى، فتعود آثاره الأدبية مشرقة بالبشر متغنية بمباهج الحياة بدل الإمعان في التفتيش عن معايبها
ولسريان الحياة في دماء الشعب الإنجليزي وغلبة التفاؤل على أمزجة أبنائه، كان أدباؤه إذا راعتهم نقائص الحياة الإنسانية وشرورها، وأحزنهم ضعف الإنسان وشقاؤه، لم يلبثوا إن يتحولوا عن ذلك الجانب الأسود من الصورة إلى جانبها الأبيض، ويطلبوا العزاء بما في الحياة من جمال عما فيها من قبح، فيشيدون بمقدرة الإنسان على الجلاد وبراعته في الابتكار، وبطولته وماضيه الحافل بالعظائم، ويترنمون بمفاتن الطبيعة وما يصيب الإنسان عندها من رخاء بال وراحة نفس، ويطلبون السلوى قبل كل شيء بممارسة فنهم الذي يصور تلك الحياة ويحكيها حكاية تروي من نفوسهم مالا ترويه الحقيقة الواقعة، يصور آلامها تصويراً يخفف تلك الآلام عن نفوسهم، ويحكي مفاتنها ونعمها التي فاتتهم حكاية تشفى صدورهم. فتمثيل الأديب للحياة في فنه يشعره كأنما قد أحاط بتلك الحياة وتمكن من أعنتها، ويكسبه ثقة بنفسه وإيمانا بقدرته على الابتداع والإتيان بجديد من عنده.
فتنيسون حين فقد صديقه الحميم سالف الذكر توفر على إنشاء قصيدة طويلة في ذكراه،(187/13)
ولكنها لم تقتصر على ذكراه بل امتدت إلى شتى نواحي الحياة وشملت نظرته العامة إليها؛ وشكسبير حين مرت به أزمته النفسية الكبرى بإخفاق آماله في الحب والصداقة، نفس عن صدره بمآسيه الكبرى، وفيها لا نرى الإنسان ألعوبة عاجزة في يد الأقدار، بل نرى في آثار بطولته ما يملؤنا روعة ويبقي أمامنا نور الأمل؛ وورد زورث حين تبددت أحلامه في المجتمع الإنساني الفاضل الذي خال الثورة الفرنسية منجلية عنه، مرت به غيمة قنوط عابسة لم يقشعها عنه إلا تعزيه بمحاسن الطبيعة وقضائه الوقت متفيئا ظلالها مصوراً آثارها في شعره. وفي عبادة الجمال الطبيعي والإنسان كان كيتس يجد مفزع روحه مما يتكنفه من بأساء الحياة وما يمض عيشه من فتكات الداء
ومن أبدع الأشعار التي تعرض جانبي الصورة ناصعهما وحالكهما، وتجسم ضعف الإنسان وفناءه، وتمجد قوته وعبقريته، مقطوعة شلي المسماة (أوزيماندياس المصري) وفيها يقول: (قابلت مسافراً من أرض قديمة قال: تقوم في الصحراء ساقان من الحجر ضخمتان عديمتا الجذع، وقد ارتمى بجانبهما وجه مهشم يكاد يغور في الرمال، تنطق تقطيبته وشفته المعوجة كبرياء وعظمة هادئة، بأن المثال قد أجاد قراءة تلك الصفات التي ما تزال حية مطبوعة على ذلك الحطام الجامد، وقد فنيت اليد التي صورتها والقلب الذي غذاها، وقد لاحت على القاعدة هذه الكلمات: اسمي أوزيماندياس، ملك الملوك. انظروا إلى آثاري أيها الجبابرة وأقروا يائسين، وليس بجانب ذلك شيء باق، قد أحاطت بذلك الحطام الهائل المهدم رمال موحشة منبسطة جرداء تمتد إلى مالا نهاية)؛ فهنا وصف شائق أخاذ لعظمة الملك وبراعة الفنان، وتصوير رائع لسطوة الموت وبطشة الفناء
وفي الأدب العربي نرى تزايد هذا الاهتمام بالإنسان نشأته وأحواله ومصيره، بتزايد حظ العرب من الحضارة والثقافة: ففي الأدب الجاهلي وفي صدر الإسلام لا نعثر إلا بالأبيات المتفرقة يتأمل فيها الشاعر في ضعف الإنسان وقصر حياته، وتلاحق همومه، واتصال آماله برغم ذلك، وشدة إقباله على الحياة وتغاضيه عما وراءها. وفي ما عدا تلك النظرات الخاطفة والمواعظ العارضة، لا يكرث الشعراء أنفسهم كثيراً بالتساؤل فبما كان وما سوف يكون، بل لكل منهم شأن يعنيه من حاضره، فمتغزل عاكف على هواه مترنم بليلاه، ومفتخر يشيد بمجد نفسه ومكان قبيلته، ومداح مجتهد في استدرار صلات الأمراء، وهجاء(187/14)
ممعن في إثخان غريمه. ومما أثر عن متقدمي الشعراء في التأمل في حال الإنسان وقول القائل:
مَنَعَ البقاَء تقلبُ الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وقول الآخر:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول؟ ... أنحب فيُقضى؟ أم ضلال وباطل؟
ويتزايد التفكير في خلق الإنسان وغايته كلما أنتشر العلم والفلسفة: فنرى في شعر بشار وأبي نواس وأبي تمام من آثار ذلك فوق ما نجد في شعر الأخطل والشماخ جميل، حتى يبلغ ذلك التفكير مداه بنضج العلوم والفلسفة في القرنين الثالث والرابع، ويبدو ذلك واضحاً في آثار شعراء العربية الكبار: أبن الرومي والمتنبي والشريف والمعري: لكل من هؤلاء فلسفة إنسانية منثورة في إنحاء شعره، ونظرة إلى الحياة تلائم طبعه ومذهبه: فابن الرومي يرى الحياة فرصة من الجمال الطبيعي والإنساني يجب إن تغتنم، ومتعة للحس والروح يجب أن تباكر. والمعري يرى حياة الناس شقاء وشراً متصلا. والشريف يرى مثله الأعلى في الفضيلة والمعاني. والمتنبي يرى الناس سواما يحر فيهم القتل ويحق لمثله إن يسود فيهم ويعتلي، فلسان حاله قوله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روَّى رمحه غير راحم
كما إن جُماع فلسفة المعري قوله:
فأف لعصريهم: نهار وحندس ... وجنسي رجال منهم ونساء
والحق إن المعري كان أشمل هؤلاء جميعاً نظرة، وأنفذ شعراء العربية جميعاً فكرة، وأشدهم شغلا بالحياة، وعناء بأمر الإنسان والأحياء، وتفكيراً في ماضي الإنسان ومستقبله، وتبصراً في أحوال مجتمعاته ودياناته، وله في كل ذلك من مستنير الأفكار المصبوبة في جزل الألفاظ والأساليب ما ينزله أرفع مكانة بين الشعراء المفكرين، على ما يشوب تفكيره في أكثر مواضعه من مسحة التشاؤم القاتم المغرق الذي هو وليد عصره المضطرب، وحياته الكئيبة، وبنيته السقيمة، وأعصابه المرهفة.
وفيما عدا المعري نرى أدباء العربية عامة أقل عناء بشؤون الإنسان وشغلا بالحياة وغايتها من أدباء الإنجليزية؛ وهم أكثر منهم قبولا للحياة على علاتها، ورغبة في اغتنام متعاتها(187/15)
والتغاضي عن سوآتها، وأقل تمرداً ولجاجاً في الأزمات النفسية. والأديب العربي أكثر تحدثاً عن نفسه وعاداته وآدابه ولباناته منه عن الإنسان عامة؛ وهذه النزعة السمحة الراضية ترجع إلى العوامل أهمها طيب المناخ الذي يبعث البشر والثقة، والإيمان الديني الذي بعثه الإسلام في نفوس أبنائه وبثه في مجتمعهم، والإسلام اكثر تغلغلا في حياة معتنقيه وتسرباً في أرواحهم وتجسما في مظاهر مجتمعهم من غيره من الأديان. هذا إلى أن الحكم المطلق لم يكن يسمح للأدباء بنقد المجتمع والنظم نقداً جريئاً، وإنما كان يروضهم على الاندماج في ظروف الحياة المحيطة بهم، والتعود على اجتناء خيرها واتقاء شرها، كما قال الشاعر:
وإن امرأً أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد
فلم يكن أدباء العربية يطيلون الوقوف بمهامه الشكوك ومضايق الأزمات النفسية، بل سرعان ما كانوا يشيحون عما يطوف بهم من خيالاتها علماً بأن من أطال الفكر في الحياة وغايتها، والإنسان ومصيره، أقامه الفكر بين العجز والنصب، كما قال المتنبي، وحين كانت تطيف بهم تلك الحالات النفسية العابسة، ويثير شجنهم وجزعهم ما يلاحظون في حياة الإنسان ومجتمعه من نقص وشر، لم يكونوا يتأسون كما يتأسى شعراء الإنجليزية بمحاسن الطبيعة، فقلما أعاروا محاسنها التفاتاً، كما أنهم قلما اكترثوا لفجائعها وأهوالها، ولو كانوا يتعزون بذكر البطولة الإنسانية، فما يكاد يكون لها في آدابهم أثر؛ أو بتاريخ الأمم العظيمة، فما كانوا يذكرون من آمرها إلا غرور مشيديها وتقويض الزمان لأركانها، ولا بالتأمل في مخلفات فنون تلك الأمم، فما كانت توحي إليهم إلا بضعف الإنسان وبطلان مساعيه وقد التفت المتنبي إلى شرقي الإمبراطورية الإسلامية المترامية فقال:
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى ... كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا؟
من كل من ضاق الفضاء بجيشه ... حتى ثوى فحواه لحد ضيق
والتفت إلى غربيها فقال:
أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتتبع
إنما كان أدباء العربية إذا جزعوا لضعف الإنسان وقصر مدته وشرور مجتمعه، يجدون(187/16)
مفزعهم من الحزن والقنوط في (الفضيلة الاجتماعية): في الأخلاق القويمة التي تكسب الإنسان حسن الأحدوثة الموروث حبها عن العرب الأقدمين، وتنجيه من شرور المجتمع الذي لا يد له بإصلاحه، والذي لا تنال شروره عادة إلا من يستهدف لها بسوء فعله، وتكسبه رضى ربه وتضمن له عقبى الدار. ومن ثم زخر الأدب العربي بروائع الحكم ونبيل التمدح بمكارم الأخلاق، وهذا باب من أشرف أبواب الأدب العربي وبه يمتاز على غيره، ومن محاسن ما فيه من ذلك قول إياس بن القائف:
إذا زرت أرضاً بعد اجتنابها ... فقدت صديقي والبلاد كما هيا
فاكرم أخاك الدهر ما دمتما معا ... كفى بالممات فرقة وتنائيا
وقول الشريف:
لغير العلا مني القلى والتجنب ... ولولا العلا ما كنت في العيش أرغب
غرائب آداب حباني بحفظها ... زماني، وصرف الدهر نعم المؤدب
فالعرب كانوا منذ جاهليتهم أمة اجتماعية ذات ميل غريب إلى الاجتماع، وفضيلة اجتماعية أصيلة، واستعداد متمكن للتحضر والتعاون، وأن يكونوا أمة مصلحة، يأنسون بالاجتماع ويتفاخرون بحسن الجوار وسيادة العشيرة وخدمتها معاً، ويشتغلون بمتعات تلك الحياة الاجتماعية عن طول الندب لنقائص الحياة وشوائبها، وطول التشكك والتحير في منشأ الكون ومنتهاه، وميلهم الطبيعي ذاك واضح الأثر في شعر شعرائهم، وفضيلتهم الاجتماعية تلك هي مرجع ازدهار العمران في كل بلد وطئوه، حالما وطئوه، على حين نشر الإغريق الخراب في شرقي البحر الأبيض حين هبطوه، واستغرقوا قروناً طويلة في الاستقرار وتشرب الحضارة.
فخري أبو السعود(187/17)
ضوء جديد على مأساة شهيرة
2 - هل قتل الحاكم بأمر الله أم اختفى؟
نظرية الاختفاء كما يشرحها الدعاة السريون
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وقد رأينا فيما تقدم إن الدعاة الملاحدة، أعني حمزة بن علي وصحبه، ألفوا في اختفاء الحاكم فرصة لاذكاء الدعوة وتغذيتها واتخذوا من هذه الاختفاء وظروفه الغامضة، مستقى جديداً للزعم والإرجاف؛ فزعموا إن الحاكم لم يقتل ولم يمت، ولكنه اختفى أو ارتفع إلى السماء، وسيعود عندما تحل الساعة فيملأ الأرض عدلاً، وأضحى هذا الزعم أصلا مقرراً من أصول مذهبهم. وقد انتهت إلينا في هذا الزعم - أي زعم الغيبة والرجعة، وثيقة هامة بقلم كبير الدعاة حمزة بن علي ذاته، وفيها يشرح لنا ظروف هذا الاختفاء وبواعثه على ضوء دعوته وأصول مذهبه، واليك ما جاء في تلك الوثيقة الهامة التي تقدم رغم غرابة شروحها ومزاعمها إلى المؤرخ مادة للتأمل:
يقدم إلينا حمزة رسالته بهذا العنوان: (نسخة السجل الذي وجد معلقاً على المشاهد في غيبة مولانا الإمام الحاكم) وهي التي يفتتح بها رسائله في متن الدعوة وأصولها حسبما أشرنا فيما تقدم
ويؤرخ الداعي هذه الرسالة بشهر ذي العقدة سنة 411هـ أعني عقب اختفاء الحاكم أو بعده بأيام قلائل، ويفتتحها بدعوة الناس إلى المبادرة (بالتوبة إلى الله تعالى وإلى وليه وحجته على العالمين وخليفته في أرضه وأمينه على خلقه أمير المؤمنين) وأنه قد سبق إليكم، اعني إلى الناس (من الوعد والوعظ والوعيد من ولي آمركم وإمام عصركم، وخلف أنبيائكم، وحجة باريكم وخليفته الشاهد عليكم بموبقاتكم، وجميع ما اقترفتم فيه من الأعذار والإنذار، ما فيه بلاغ لمن سمع وأطاع واهتدى وجاهد نفسه عن الهوى وآثر الآخرة عن الدنيا، وأنتم في وادي الجهالة تسبحون، وفي تيه الضلال تخوضون وتلعبون، حتى تلاقوا يومكم الذي كنتم به توعدون)
وإن أمير المؤمنين قد أسبغ على الناس نعمه ولم يفر عليهم شيئاً منها، ولم يبخل عليهم(187/18)
بجزيل عطائه، ولم يشاركهم في شيء من أحوال هذه الدنيا (نزاهة عنها، ورفضاً منه لها على مقداره ومكنته لأمر سبق في حكمته، وهو سلام الله عليه اعلم به، فأصبحتم وقد حزتم من فضله وجزيل عطائه ما لم ينل مثله بشر من الماضين من أسلافكم. . . ولم تنالوا ذلك من ولي الله باستحقاق ولا بعمل عامل منكم من ذكر وأنثى؛ بل منة منه عليكم ولطفا بكم ورأفة ورحمة واختباراً ليبلوكم أيكم احسن عملاً، ولتعرفوا قدر ما خصكم به في عصره من نعمته وحسن مننه وجميل لطفه وإحسانه، وعظيم فضله دون من قد سلف من قبلكم)
وأنه قد أجرى عليهم الأرزاق والنعم من الذهب والفضة والخيل المسومة والأقطاع والضياع، ورفعهم إلى ذرى المراتب وشرفهم بأرفع الألقاب، حتى غدوا سادة يحكمون ويطاعون، وعاشوا في نعماء ورغد، فاقبلوا على الدنيا واعتزوا بها، وظنوا إنها سبيل الفوز في الآخرة، وتظاهروا بالطاعة في حين أنهم متمسكون بالمعصية؛ ثم يقول الداعي:
(ثم من نعمة الباطنة عليكم إحياؤه لسنن الإسلام والإيمان، التي هي الدين عند الله وبه شرفتم وطهرتهم في عصره على جميع المذاهب والأديان، ومزيتم من عبده الأوثان وابانهم عنكم بالذلة والحرمان وهدم كنائسهم ومعالم أديانهم. . . وانقادت الذمة إليكم طوعاً وكرهاً فدخلوا في دين الله أفواجاً: وبنى الجوامع وشيدها وعمر المساجد وزخرفها، وأقام الصلاة في أوقاتها والزكاة في حقها وواجباتها، وأقام الحج والجهاد وعمر بيت الله الحرام، وأقام دعائم الإسلام، وفتح بيوت أمواله، وأنفق في سبيله، وخفر الحاج بعساكره، وحفر الآبار، وآمن السبيل والأقطار، وعمر السقايات، واخرج على الكافة السدقات، وستر العورات، وترك الظلمات، ورفع عن خاصتكم وعامتكم الرسوم والواجبات، وقسم الأرض على الكافة شبراً شبراً، وفتح لكم أبواب دعوته، وأيدكم بما خصه الله من حكمته ليحثكم على طاعته وطاعة رسوله وأوليائه عليهم السلام، فشينتم العلم والحكمة وكفرتم الفضل والنعمة، وآثرتم الدنيا كما آثروها قبلكم بنو إسرائيل في قصة موسى عليه السلام، فلم يجبركم ولي الله عليه السلام، وغلق باب دعوته واظهر لكم الحكمة وفتح لكم خارج قصره دار علم حوت من جميع علوم الدين وآدابه وفقه الكتاب في الحلال والحرام والقضايا والأحكام. . . وأمدكم بالأوراق والدواة والحبر والأقلام، لتدركوا بذلك ما تمضون به وتستبصرون. . .)
ثم يقول حمزة بعد إن يستعرض أعمال الحاكم على هذا النحو - إنهم - أي الناس، لم(187/19)
يزدادوا إلا ضلالاً وإثما، وتمادوا في غيهم وفجورهم؛ وينعى على الناس هذه النازلة الأليمة ويحذرهم من عواقبها، ثم يقول مشيراً إلى اختفاء الحاكم: (فقد غضب الله تعالى ووليه أمير المؤمنين سلام الله عليه من عظم إسراف الكافة أجمعين، ولذلك خرج من أوساطكم، قال الله ذو الجلالة والإكرام: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)، وعلامة سخط ولي الله تعالى تدل على سخط الرب تبارك وتعالى. فمن دلائل غضب الإمام غلق باب دعوته ورفع مجالس حكمته، ونقل جميع دواوين أوليائه وعبيده من قصره ومنعه عن الكافة سلامه، وقد كان يخرج إليهم من حضرته ومنعهم لهم عن الجلوس على مصاطب سقائف حرمه، وامتناعه عن الصلاة بهم في الأعياد وفي شهر رمضان، ومنعه المؤذنين أن يسلموا عليه وقت الآذان ولا يذكرونه، ومنعه جميع الناس أن يقولوا مولانا ولا يقبلوا له التراب، وإنهاؤه جميعهم من الترجل عن ظهور الدواب، ثم لباسه الصوف على أصناف ألوانه، وركوبه الأتان، ومنعه أولياءه وعبيده الركوب معه حسب العادة في موكبه، وامتناعه عن إقامة الحدود على أهل عصره، وأشياء كثيرة خفيت عن العالم، وهم عن جميع ذلك في غمره ساهون. . .
ومن ثم (فقد ترك ولي الله أمير المؤمنين سلام الله عليه الخلق أجمعين سدى، يخوضون ويلعبون في التيه والعمى الذي آثروه على الهدى)
ويختتم الداعي رسالته الغريبة بتكرار الدعوة إلى التوبة والاستغفار، وأن يتجه المؤمنون بأبصارهم إلى الطريق التي سلكها أمير المؤمنين (وقت أن استتر) وأن يجتمعوا فيها بأنفسهم وأولادهم، وأن يطهروا قلوبهم، ويخلصوا نياتهم لله رب العالمين، وأن يتوسلوا إليه بالصفح والمغفرة وأن يرحمهم بعودة وليه إليهم. . . (والحذار الحذار أن يقفوا أحد منكم لأمير المؤمنين أثراً ولا تكشفوا له خبراً، ولا تبرحوا في طريق يتوسل جميعكم. . . فإذا أطلت عليكم الرحمة خرج ولي الله أمامكم باختياره راضياً عنكم، حاضراً في أوساطكم، فواظبوا على ذلك ليل نهار قبل أن تحق الحاقة ويغلق باب الرحمة وتحل بأهل الخلاف والعناد النقمة، وقد أعذر من أنذر. . . . الخ).
ويؤرخ الداعي رسالته بذي القعدة سنة إحدى عشر وأربعمائة، وينعت نفسه فيها بمولى دولة أمير المؤمنين، ويذيلها بالحث على نسخها وقراءتها والعمل بما فيها.(187/20)
وهذا السجل يعتبر وثيقة مدهشة، وربما كان بروحه وأسلوبه أقوى رسائل الدعاة وأهمها، ومما يلفت النظر بنوع خاص ما يطبعه من حرارة وأسى، وإذا كنا لا نستطيع أن نؤمن بأن الداعي يصدر فيه عن إيمان حقيقي، فإنه ينم على الأقل عن براعة الداعي في عرض ما يريد أن يعتبره الناس أساساً لعقيدة مدهشة، هذا إلى أن هذا (السجل) يعتبر وثيقة تاريخية هامة بما يقدمه إلينا عن أعمال الحاكم وتصرفاته المختلفة في بادئ عهده ثم في خاتمته.
على أنه ما يلفت النظر أيضاً أن الروايات الإسلامية والنصرانية، المعاصرة والمتأخرة، لا تشير أية إشارة إلى هذا (السجل) الذي يقول لنا الداعي إنه وجد معلقاً على المشاهد، ولو وقعت مثل هذه العلانية في إذاعة السجل بمساجد مصر لما أغفلت الرواية الإشارة إليها، ولعل الدعاة حاولوا إذاعته فلم يفلحوا، وقد اشتدت عليهم وطأة المطاردة عقب مصرع الحاكم كما رأينا فلاذوا بالاختفاء والاستتار. واصدر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله ولد الحاكم سجله الشهير الذي يتبرأ فيه من هذه المزاعم الخارقة التي قيلت في أبيه وفي أسلافه، وفيه يعلن اعترافه إلى الله (بأنه وأسلافه الماضين وأخلافه الباقين مخلوقون اقتداراً ومربوبون اقتساراً، لا يمكلون لأنفسهم موتا ولا حياة، ولا يخرجون عن قبضة الله تعالى) وأن جميع من خرج منهم عن حد الأمانة والعبودية لله عز وجل، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ وأنه قدم إنذاره لهم بالتوبة إلى الله من كفرهم، فمن أصر فسيف الحق يستأصله
وإلى جانب هذه الوثيقة التي كتبها حمزة بن علي عقب اختفاء الحاكم. والتي يحاول فيها أن يعلل هذا الاختفاء وان يشرح بواعثه، وأن يطمئن المؤمنين على رجعة سيده ومولاه، توجد بين رسائل الدعاة وثيقة أخرى عنوانها (الغيبة) تمس نفس الموضوع من ناحية اخرى، وقد كتبت بعد اختفاء الحاكم بثلاثة اشهر عن لسان قائم الزمان (أي الحاكم بأمر الله) بقلم داع مجهول، والظاهر إن كاتبها هو المقتني أحد أكابر الدعاة واحد (الحدود الخمسة): وقد وجهت إلى أهل الشام خاصة، وفيها يذكرهم قائم الزمان بالعهد الذي قطعوه، ويحذرهم من الدجال الذي يزعم أن الألوهية انتقلت إليه، والذي عاند الموحدين وحاصرهم، ويقول إن الدين لا يصح إلا عند الامتحان، ثم يخاطب الموحدين بقوله:(187/21)
(معشر الموحدين، إذا كنتم تتحققون أن مولاكم لا تخلوا الدار منه وقد عدمته أبصاركم. . . وإذا فسدت المعدة ضرت البصر؛ فهكذا إذا كانت المادة واصلة إلى النفوس الصحيحة، فينظروا صورة الناسوت نظراً صحيحاً، وإذا كانت المادة من فعل الأبالسة ومادة النطقاء والأنس وشرائعهم فيفسد النظر وما ينظر إلا بشر)
(واعلموا معاشر الموحدين لمولانا الحاكم المعبود سبحانه وتنزه عن الحد والمحدود أن قائم زمانكم يطالبكم، وقد شهدتم في مواثيقكم بعضكم على بعض بما شرطتموه على نفوسكم. . .)
ثم يشير إلى أن كثيراً من الموحدين ارتدوا عما كانوا أقروا به وهو الاعتراف بألوهيته، ويحذرهم من سلوك هذا الطريق؛ ويشير إلى (الدجال) ويقول إنه قتل الكثيرين بسبب عبادة الحاكم؛ وأن المولى غني عن عبادتهم، وإنما هي أعمالهم ترد عليهم.
ثم يقول: (ألم تعلموا أن مولاكم يراكم من حيث لا ترونه. . معشر الأخوان أحسنوا ظنكم بمولاكم يكشف لكم عن أبصاركم ما قد غطاها من سوء ظنكم)
ويلوح لنا أن هذا (الدجال) المشار إليه في هذه الرسالة إنما هو عبد الرحيم بن الياس ولي العهد، ووالي الشام؛ فقد اشتد في مطاردة الدعاة، حينما ظهرت دعوتهم بالشام، وفتك بكثير من أتباعهم وأنصارهم، وهو ما تشير إليه الرسالة.
(النقل ممنوع - للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان(187/22)
إلى رجال التعليم:
نقد نظام التعليم في مصر
للأستاذ ساطع الحصري بك
مدير دار الآثار العربية بالعراق
يذكر القراء أن المربي الكبير الأستاذ ساطع بك الحصري كان قد وفد إلى القاهرة في العام الماضي ليطلع على الأنظمة التعليمية المصرية فزار المدارس وقرأ المناهج ثم لاحظ على نظام التعليم عندنا ملاحظات قيمة لم يرد أن ينشرها يومئذ لصفته الرسمية في وزارة المعارف العراقية. فلما أنتقل منها إلى دار الآثار رأى أن يذيع هذه الملاحظات في مصر عن طريق الرسالة ليطلع عليها القائمون على شئون التعليم فيها ثم يناقشونها. وهذه فرصة حسنة يتيحها الأستاذ لرجال التعليم ليبادلوه الرأي فيما يجب أن يكون عليه نظم التعليم في عهد مصر الحديث.
(الرسالة)
- 1 -
لعل ابرز المآخذ التي تستلفت أنظار الباحث المحايد عندما يلقي نظرة انتقادية عامة على نظام التعليم في مصر هو (حرمان المدارس الابتدائية من أساس متجانس متين) فإن الدراسة في هذه المدارس لا تبتدئ ببداءة (الأعمال المدرسية) كما هو شأن المدارس الابتدائية في سائر أنحاء العالم، بل تبتدئ بعد ذلك بسنة أو سنتين، لأن المدرسة الابتدائية لا تقبل إلا من (يعرف القراءة والكتابة). وهذه (المعرفة) لا تتيسر بطبيعة الحال إلا بالتخرج في رياض الأطفال، أو بالدراسة في الصفوف الأولى من المدارس الأولية مدة سنتين أو اكثر، أو بالدراسة في المنزل مدة غير محدودة وإذا تركنا الدراسة المنزلية جانباً، ولاحظنا الفروق العظيمة الموجودة بين أساليب التعليم والتربية المتبعة في رياض الأطفال من جهة، وفي المدارس الأولية من جهة أخرى، اضطررنا إلى القول بأن (أسس المدارس الابتدائية) في مصر بعيدة عن (التجانس) بعداً كبيراً. وإذا شبهنا تلك المدارس بالمباني، نستطيع أن نقول: إنها ليست مشيدة على الأرض المتينة، بل قائمة على دعائم غير(187/23)
متجانسة، يختلف بعضها عن بعض اختلافاً كبيراً من حيث الطول والعرض والعمق والمتانة.
لهذا السبب، تشاهد بين طلاب الصفوف الأولى من المدارس الابتدائية فروق عظيمة، من حيث العمر والمعلومات والقابلية العقلية
ومن المعلوم أن (عدم التجانس بين الطلاب) من أخطر الآفات التي تعتري (نظام التعليم الجمعي)، ومن أكبر المشاكل التي تعقد مهمة المعلمين الذين يقومون بتعليم عدد غير قليل من الطلاب في فصل واحد ووقت واحد. ولذلك تجد رجال التربية في البلاد الغربية يبحثون عن ألف طريقة وطريقة لزيادة التجانس في الصفوف ويسعون دائما للتأليف بين ضرورات التعليم الجمعي وبين مطالب الفروق الفردية.
وأما نظام التعليم الابتدائي المرعي في مصر - فبعكس ذلك - يزيد هذه المشكلة زيادة هائلة. لأنه يضيف إلى الفروق الطبيعية فروقاً اصطناعية ناشئة عن اختلاف نتائج الدراسة السابقة.
إن التخلص من مضار هذه المشكلة ليس من الصعوبة بمكان. إذ يكفي لذلك تغيير النظام الحالي على أساس (إتمام بناية المدرسة الابتدائية بإيصال أسسها إلى الأرض القوية)؛ وجعلها مؤسسة تعليمية قائمة بنفسها، تتعهد بتعليم وتربية الأطفال منذ بدء أعمارهم المدرسية، دون أن تتكل على مؤسسات أخرى في تعليم القراءة والكتابة.
- 2 -
ومن المآخذ البارزة التي تستلفت الأنظار في نظام التعليم في مصر هي (اصطباغ رياض الأطفال بصبغة مدرسية)، واضحة.
ومن المعلوم أن رياض الأطفال تعتبر - عادة - بمثابة معاهد (تربية قبمدرسية) تتعهد بتربية الأطفال - (حتى وصولهم إلى الأسنان المدرسية) - بالأساليب الملائمة للأعمار التي تتقدم تلك الأسنان بوجه عام.
وأما نظام التعليم المتبع في مصر فينظر إلى (رياض الأطفال) نظره إلى (المدارس) تماما. فإن التعليمات الرسمية المتعلقة بها تحمل عنوان (منهج الدراسة) و (مدارس رياض الأطفال) وتوصل عدد (الدروس) في الأسبوع إلى الأربعة والثلاثين، وتكرر كلمات(187/24)
(الدرس) و (الدراسة) و (أوقات الدروس) و (خارج أوقات الدروس) على الدوام، حتى إنها تنظر إلى (التهذيب) أيضا كدرس من الدروس، وتعين (الغرض من تدريس التهذيب للأطفال، وتبين كيف يجب أن (تلقي عليهم دروس التهذيب)، وكيف يجب إن يجري (تدريس التأمل في مشاهد الطبيعة).
إن حركة التطور والتقدم السريعة التي حصلت في ساحة رياض الأطفال منذ بداءة القرن الحالي - ولاسيما ما كان منها بسبب آراء وأعمال دكرولي ومونتسوري - اتجهت على الدوام نحو (تخليص رياض الأطفال من الصبغة المدرسية). واعتقد أن أسباب بقاء رياض الأطفال في مصر بعيدة عن هذا الاتجاه، بهذه الصورة، تعود أولا وبالذات إلى كيفية (تكوين المدرسة الابتدائية). إذ من الطبيعي أنه عندما يطلب من رياض الأطفال إن تهيئ الطلاب إلى المدارس الابتدائية القائمة على الطراز الذي ذكرناه آنفا، ويحتم عليها تعليم القراءة والكتابة والحساب بالقدر الذي تتطلبه المدارس الابتدائية الحالية - يتعسر جعلها (دور تربية) أكثر من جعلها (بيوت تدريس)، بل يصبح من الضروري جعلها (مدارس من نوع خاص).
إن التعديل الذي يدخل على أسس المدارس الابتدائية، - وفقا للاقتراح الذي أدرجناه في الفقرة السابقة - يفسح في الوقت نفسه مجالا واسعاً لإصلاح رياض الأطفال وفقا للنزعات التربوية الحديثة، ولجعلها بمثابة (معاهد تربية قبمدرسية) - كما تقتضيها النزعات المذكورة - اكثر من (مدارس إعدادية للمدارس الابتدائية) كما هي الحال الآن
- 3 -
غير أن أهم المآخذ التي تؤخذ على نظام التعليم في مصر، هو (الاختلاف العظيم الموجود بين الدراسة الابتدائية وبين الدراسة الأولية) إذ أن مناهج هذين النوعين من المدارس المصرية يختلف بعضها عن بعض اختلافا كلياً، ولا توجد بينهما رابطة منظمة تسهل انتقال الأطفال من الواحدة للأخرى؛ حتى ولا يوجد تماثل نسبي يساعد على تقريب تأثيراتهما على نفوس الأطفال على الأقل.
لنفرض أننا أخذنا جدولين يبين كل واحد منهما خطة الدراسة المتبعة في كل واحد من هذين النوعين من المدارس؛ واستبدلنا فيهما تعبير (اللغة العربية) بتعبير (اللغة البيتية) أو(187/25)
(لغة الأم)؛ وعرضنا الجدولين على أحد المربين دون أن نخبره بماهيتها، فلا شك عندنا في أنه عندما يقارن هذين الجدولين بعضهما ببعض، سيظن أن كل واحد منهما يعود إلى مملكة، وسيجزم بأن هاتين المملكتين تختلفان اختلافاً كلياً من حيث الحاجات والتقاليد والنزعات. وإذا أخبرناه بأن هذين الجدولين يعودان إلى مملكة واحدة، فسيقول بدون تردد (إذن يجب أن يكونا عائدين إلى دورين مختلفين من الأدوار التي مرت عليها حياة تلك المملكة)، وسيظن أن هذين الدورين ينفصل بعضها عن بعض بتطورات خطيرة وانقلابات عظيمة؛ وعلى كل حال سوف لا يتصور قط أن هذين الجدولين يمثلان مناهج الدراسة المتبعة في نوعين من المدارس التي تربي أبناء جيل واحد في مملكة واحدة بل في مدينة واحدة.
وفي الواقع تصوروا جارين يسكنان في محلة واحدة، وافرضوا أن لكل منهما طفلاً في التاسعة من العمر، غير أن الأول قد أرسل ابنه إلى مدرسة ابتدائية في حين أن الثاني أرسل ابنه إلى مدرسة أولية أو إلى مكتب عام؛ ثم قارنوا بين الدروس التي سيتلقاها كل واحد منهما، تجدوا أن الأول سيخصص ستة في المائة من أوقات دراسته لتعليم الدين والقرآن، في حين أن الثاني سيخصص ثمانية وعشرين في المائة من مجموع أوقات دراسته لنفس الموضوع، كما أن هذه الأوقات ستصل إلى أربعين في المائة إذا ذهب الطفل إلى أحد المكاتب العامة؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأول سيخصص خمس مجموع أوقات دراسته لتعليم اللغة الإنكليزية، وسيبدأ بدراسة تلك اللغة قبل أن يبدأ بتعلم قواعد اللغة العربية نفسها؛ في حين أن الثاني سوف لا يتعلم شيئاً منها طول مدة دراسته المقبلة. وعلاوة على كل ذلك، فإن الأول سيخصص اكثر من ربع أوقات دراسته للرسم والأشغال اليدوية والتربية البدنية، في حين أن حظ الثاني من هذه التمارين والأعمال سيكون شبيهاً بالعدم.
وإذا لاحظنا مدى تأثير هذه الفروق العظيمة على عقلية الأطفال ونفسياتهم، وجب علينا أن نقول: إن نظام التعليم المتبع في مصر لا يساعد على تكوين (جيل موحد الشعور).
كان يوجد في البلاد الغربية أيضا بعض الفروق بين مناهج الفصول الابتدائية التابعة للمدارس الثانوية وبين مناهج المدارس الابتدائية المستقلة عنها، غير أن تلك الفروق كانت(187/26)
(طفيفة جداً) بالنسبة إلى الفروق الهائلة التي تشاهد بين مناهج المدارس الابتدائية والأولية في مصر. مع هذا، قام علماء التربية ورجال السياسة في تلك البلاد بحملات عنيفة ضد تلك الحالة، وأثاروا حولها أبحاثاً دقيقة ومناقشات شديدة، انتهت في معظم البلاد بتوحيد أسس الدراسة الابتدائية وفقا لمبدأ (المدرسة الموحدة) ذلك المبدأ الذي يلخص في عبارة (شعب واحد، مدرسة واحدة).
أفليس من الغريب جداً ألا تبدأ في مصر إلى الآن أية حركة ضد هذا النظام؟.
إنني لا اجهل بأنه نشأت في مصر - منذ مدة - حركة مباركة تطالب بتوحيد التربية والتعليم، وتعمل في سبيل ذلك بنشاط وقوة. غير أني ألاحظ في الوقت نفسه أن أغراض تلك الحركة المباركة وخططها لم تتعد حدود (التوحيد بين المدارس الأميرية والمدارس الحرة؛ في حين أنني اعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذه الحركة لا يمكن أن تثمر الثمرة الكافية، إذا لم تسع لتوسيع نطاق عملها فتشمل في الوقت نفسه (توحيد أسس الدراسة في المدارس الأميرية نفسها).
إن الفرق العظيم الموجود بين مناهج المدارس الابتدائية والأولية كان من أول النقائص التي استوقفت نظري في نظام التعليم في مصر عندما زرت مدارسها للمرة الأولى سنة 1921 قبل مجيئي إلى العراق؛ واستمرار هذه الفروق بدون معارضة أو انتقاد كان من أهم ما استقلت نظري عن زيارتي الثانية لها سنة 1936
لقد عرضت ملاحظتي هذه - عند زيارتي الأولى على وشك المعارف بكتاب خاص. وعندما قدمت العراق، وجدت أن السلطة الإنكليزية كانت قد نقلت هذا النظام إلى هذه البلاد أيضاً، وكانت قد أحدثت مدارس أولية تختلف بمناهجها عن المدارس الابتدائية. وأول الأعمال التي أقدمت عليها - عندما توليت إدارة المعارف العامة هنا - كان القضاء على ذلك النظام؛ فقد وحدت برامج الدراسة في السنين الأربع الأولى توحيدا تاما، وجعلت الدراسة الأولية منطبقة على دراسة السنين الأربع الأولى من المدارس الابتدائية كل الانطباق.
أقدمت على ذلك - حينئذ - تحت تأثير عقيدة تربيوية اجتماعية، قبل أن أرى مفعولها في كثير من البلاد بصورة فعلية. فإن مبدأ (المدرسة الموحدة) كان قد دخل حديثاً في صلب(187/27)
دستور (وايمار) في ألمانيا؛ غير أن معظم البلاد الأوربية كانت قد ظلت بعيدة عن الأخذ به، كما أن جميع البلاد الشرقية - بما فيها تركيا - كانت معرضة عنه. غير أن التطورات التي حدثت في نظم التعليم العام في تلك البلاد وغيرها - منذ ذلك التاريخ - أثبتت تماماً أنني كنت مصيباً في ذلك العمل كل الإصابة.
أفلا يجب على مصر أيضا أن تقوم بعملية مماثلة لتلك، وتعيد النظر في أسس نظامها التعليمي على مبدأ (توحيد أسس الدراسة)؟
- 4 -
من الأمور التي يجب أن تلاحظ بوجه خاص، أن الفروق العظيمة التي أشرنا إلى وجودها بين مناهج المدارس الابتدائية ومناهج المدارس الأولية كانت تتماشى بفروق مماثلة بين معاهد المعلمين الذين يتولون شؤون التربية والتعليم في كل نوع من نوعي هذه المدارس،
فإن معلمي المدارس الأولية يتخرجون في دور المعلمين الأولية في حين أن معلمي المدارس الابتدائية يتخرجون في معهد التربية. غير أن الفروق الموجودة بين دور المعلمين ومعهد التربية في مصر، لم تكن من نوع الفروق الاعتيادية التي تنتج من اختلاف (درجة التحصيل العام) أو (أسلوب الاستعداد المهني) فحسب، بل هي من نوع الفروق العظيمة التي تنتج من اختلاف (نوع الدراسة ونزعتها). و (نوع الثقافة التي تتولد منها). وذلك لان دور المعلمين الأولية تستند على المدارس الأولية، فالمدارس الأولية الراقية، وتستمر على خططها ونزعاتها، في حين أن معهد التربية يستند على المدارس الابتدائية، والثانوية، ويستمر على خططها ونزعاتها.
إنني لا أود في هذا المقام أن أتطرق إلى خطط كل من معهد التربية ودور المعلمين الأولية ومناهجها وأبدي رأيي في هذا الخطط والمناهج نفسها، بل أود أن الفت الأنظار إلى الفرق العظيم الموجود بين نوع الثقافة واتجاه العقلية التي يستند عليها ويصل إليها كل واحد منهما. وأقول: إن الفروق العظيمة التي شرحنا وجودها بين مناهج الدراسة الابتدائية والأولية تشتد وتقوى بصورة هائلة خلال تطبيق تلك المناهج، من جراء الهوة العميقة الموجودة بين معاهد معلمي المدارس الابتدائية والأولية.
ولهذا السبب تصل (ثنائية التربية والتعليم في مصر) إلى أقصى الدرجات التي يمكن أن(187/28)
يتصور الإنسان وجودها في مملكة واحدة
إنني كثيراً ما تصفحت التقارير التي قدمها الخبراء الفنيون الذين استقدمتهم الحكومة المصرية للاسترشاد بآرائهم في إصلاح معارفها، وأوردت أن اطلع على رأيهم في هذه الثنائية، ولو من خلال التقارير التي قدموها؛ وعلمت أنهم لاحظوا هذه الثنائية؛ غير أنهم لم يبدوا أي اعتراض عليها. ويغلب على ظني أن السبب في ذلك كان اعتقادهم بأن هذه الأمور تتعلق بتقاليد مصر ونزعاتها التي لا يجوز المناقشة حولها. لأنهم قسموا النظام التعليمي في مصر إلى قسمين، عنونوا أحدهما بعنوان (المدارس التي على النمط الأوربي) واكتفوا بإبداء بعض الملاحظات لإصلاح كل واحد من هذين النظامين على حدة: غير أني أرى من الضروري أن نتساءل قبل كل شيء: هل يجوز أن يكون في مملكة واحدة نظامان من المدارس، أحدهما على (نمط أوربي) وثانيهما على (نمط محلي أو غير أوربي؟)
أنا أعتقد أن ذلك مما لا يجوز بوجه من الوجوه. فعلى مصر أن تأخذ من الأنماط الأوربية ما يلائم حالاتها وحاجاتها، ثم توجد نمطاً قومياً خاصاً بها. فلا يجوز لها مطلقاً أن تؤسس صنفا من المدارس (على النمط الأوربي) بجانب صنف آخر يبقى على نمط غير أوربي. وإذا كان لوجود هذين النمطين بعض المستوجبات والمبررات في بدء تأسيس المعارف، فلا يمكن أن يكون لبقائهما الآن أي موجب بعد أن وصلت مصر إلى هذه المرحلة من مراحل نهوضها، وبعد أن صارت تحكم نفسها بنفسها. . .
يظهر أن مصر الفت هذا النظام المزدوج منذ مدة طويلة. ولعل هذه الألفة الطويلة كانت من أهم الأسباب التي حالت دون انتباه مفكري مصر إلى أضرار هذا النظام.
غير أنني أعتقد أن إعادة النظر في أسس النظام التعليمي في مصر على مبدأ (توحيد أسس الدراسة) أصبحت من أهم الإصلاحات الضرورية لمصر في بدء عهد نهضتها السياسية والاجتماعية الحديثة. فإن بقاء نظام التعليم على ما هو عليه من الثنائية يكون خطراً على وحدة الشعور التي يجب أن تسود البلاد.
قد يقول قائل: لا خوف على وحدة الشعور في مصر أبدا لان هذه الوحدة تجلت بأجلى مظاهرها خلال كفاح المصريين الطويل ضد الحماية والاستعمار؛ غير أنني أقول بأن (وحدة الشعور) التي عملت عملها خلال ذلك الكفاح كانت (وحدة) من نوع خاص، تكونت(187/29)
تجاه عدو مادي وخارجي، استمر في إرهاق نفوس الجميع منذ مدة تنيف على نصف قرن. أما الآن فستدخل مصر في حياة كفاح جديدة تتطلب النضال في سبيل إصلاح النقائص الداخلية وضمان التقدم في جميع مناحي الحياة.
إن وحدة الشعور التي تكونت وتجلت خلال الكفاح السياسي لا تلبث أن تندثر خلال هذا النضال الإصلاحي إذا لم تغذ بتربية موحدة مستندة على نظام تعليمي موحد.
ولذلك أقول: إن إعادة النظر في أسس نظام التعليم أصبحت من الواجبات التي تتحتم على مصر في مستهل حياة النهوض التي دخلتها الآن.
- 5 -
هذه ملاحظات تتعلق بأسس نظام التعليم في مصر، ابسطها أمام الرأي العام المستنير بكل احترام وصراحة وإخلاص. وأرجو ألا يعتبرني أحد متطفلاً على مصر بهذه الملاحظات، فإني عربي صميم أدين بدين (العروبة) في أيمان وصدق، واهتم بمصر بقدر ما اهتم بسورية والعراق. ولا أكون مغالياً إذا قلت: أنني اهتم بمصر اكثر مما اهتم بسورية والعراق، لأنني أعرف أن مصر - بحسب أوضاعها العامة - أصبحت (القدوة المؤثرة) في العالم العربي بأجمعه. فاعتقد لذلك أن كل تقدم يحصل في مصر لا يخلو من النفع لسائر البلاد العربية، كما أن كل نقص يعيش ويستمر في مصر لا يخلو من ضرر العدوى إلى سائر البلاد العربية.
فكل خدمة تسدى إلى مصر تكون كأنما أسديت إلى سائر البلاد العربية جمعاء.
بغداد
أبو خلدون
(ساطع الحصري)(187/30)
الفقر أستاذ. . .
للأستاذ السيد محمد زيادة
التقى رجلان فقيران، كلاهما مدقع ذليل لفقره. . . وجلسا يتشاكيان ويتناجيان بأحاديث يصل فيها الفقر إلى الألم، ويصل الألم إلى الحسرة، وتبلغ الحسرة إلى الثورة، وتنتهي الثورة إلى الدموع. . . ثم يكون بعد الدموع الاستلام والجلد والهدوء والراحة
قال أحدهما للآخر: هبك أصبحت غنياً من أهل الترف والنعيم والجاه؛ فكيف تكون في غناك، وماذا تعمل إذ ذاك بمالك؟.
فأجاب: أكون ظلا مباحاً يأوي إليه الشَّرَدُ بلا قيد، ويتفيؤه الفقراء بغير عناء، وأكون حلقة الاتصال بين الأغنياء والمساكين. . . أعطي أولئك المكانة والمظهر، وأعطي هؤلاء النفس والجوهر
وأما مالي فلا يكون ألا مطية للكرم ومجالاً للعطف وسبيلاً للرحمة، ولا أكون عليه إلا كالأمين على مال موقوف للخير ولا يكون لي منه ألا ما للمرضع من لبن ثديها تدرُّ به للتربة
والتقى رجلان غنيان كلاهما مرهوب مرفوع لغناه. . . وجلسا يتداعبان ويتنادمان بأحاديث يصل فيها الغنى إلى الفخر، ويصل الفخر إلى الكبر، ويبلغ الكبر إلى التعاظم، وينتهي التعاظم إلى الوقاحة. . . ثم يكون من الوقاحة انتفاخ الأوداج واتساع المزاعم وادعاء المستحيل
قال أحدهما للآخر: هبك أصبحت فقيراً من أهل البؤس والعدم؛ فكيف تكون في فقرك؟ وماذا تجد إذ ذاك في دنياك؟
قال الثاني: وهل تتوقع الفقر لأمثالنا؟
قال الأول: ليكن هذا مستحيلاً، ولنفرض انه وقع. . .
قال الآخر: إذن أنتحر. . .
ومشت الأيام في طريقها إلى غايتها. . . فإذا الفقير المعدم غني موسر يتدرج نحو الثراء وشيكاً؛ فيجد في كل عمل حظاً، ويكسب من كل حظ ثروة، ويحس في كل ثروة سعادة. . . لأن الدنيا رضيت عنه فراحت تسترضيه، ومالت إليه فأخذت تستميله(187/31)
وقد كان بين آخر العسر وأول اليسر يحمل تلك النفس الطيبة التي كان يحملها وهو فقير والتي أوحت إليه إذ ذاك أن يقول لصاحبه ما قال. . . فظلم نفسه باستمساكه بمذاهب الفقر واستعذابه حياة الفقراء!!. ثم تتغير قليلاً فكانت دنياه مزيجاً من حياته القديمة وحياته الجديدة، فأنصف نفسه بذلك وعدل بين الفقر والثراء!!. ثم تتغير تغيراً بينياً فنسى الفقر ونسى أنه كان فقيراً، وحقر الفقراء واستقر في الأغنياء، وطغى واستكبر، وبدل النفس الخيرة بنفس شريرة، واستطاب لسانه كلمة أنا. . . وبذلك لبس الغنى كما يشاء الغنى أن يلبس
وويل للغني من جهلة إذا تسلط على عقله الغرور فتعبده!!. ينسيه أنه إنسان ويلقي في روعه أنه فوق مرتبة البشر، ليجرد من صفات الإنسانية، ويكسوه صفات غيرها تصيره تحت؛ ودائماً تحت مرتبة البشر. . . المال في يده مفسدة لخلقه ومضيعة للفضيلة ونداء للجشع وقضاء على الرحمة. . .
لقد تلف الرجل، وفقدته الحياة حياً فلم يصبح معدوداً في الناس؛ وإنما اصبح رقماً حسابياً لثروة واسعة ليس من ورائها خير
ومشت الأيام في طريقها إلى غايتها، فإذا الغني الذي استبعد على نفسه الفقر قد رجع فقيرا يستبعد على نفسه الرجعة إلى غناه. تمور به الدنيا وتهيئ له في كل خطوة عثرة، وفي كل عثرة كبوة، وفي كل كبوة مصيبة، وفي كل مصيبة هماً وشقاء. . . لأنها غضبت عليه فراحت تقصيه عنها شيئاً فشيئاً لتقطع أسباب المودة بينها وبينه
وكان في بدء انكسار حظه واغتراب نجمه يستكبر على الفقر ويتعظم على القدر، ويحاول بشق النفس ألا يتحول مرتعه ولا يتبدل منزعه، فوضع نفسه بهذا أمام الدنيا في موضع الحرَد والعنت ليناصبها العداء، ويملي عليها العصيان والكبرياء!!. ثم اشتدت عليه غضبة الدهر فأيقظت فيه بعض عقله ونبهته إلى حاله ومصيره. . . فأعتدل طغيانه، وفتر عنفوانه، وهمت به نفسه الخائرة الواهنة تريده على أن ينتحر فراراً من الفقر النازل؛ ولكن راجعته بوادر السمو المنساقة إليه في بوادر الفقر. . . فتشجع واستمهل نفسه فيما أرادت!!. وكان في هذا كالذاهب على رغمه إلى ميدان الحرب. . .
ثم تمت صنعه الفقر فيه. فتأهب للصبر الطويل، وتماسك عزمه لاحتمال الفاقة وصراع(187/32)
الزمن. وتهذبت سريرته من شوائب الغنى وكفر المادة؛ وبذلك أسلمت نفسه بالحقيقة وحسن إسلامها.
الفقر في ذاته قبيح شديد القبح؛ ولكنه في عمله جميل رقيق الجمال، إذا نزل بالرجل مسخه وبدل في طبيعته، وصير منه للناس الفقراء رجلاً خفيفاً محبوباً، وصير منه للناس الأغنياء رجلاً ثقيلاً مبغضاً، وصير منه بين أولئك وهؤلاء رجلاً بين المحبوب والمكروه. . . فيصبح الرجل بفقره ثلاثة رجال، لكل منهم روح خاصة تضعه في مكانه من الإنسانية
وإذا رضى الله عن رجل ممن ولدوا أغنياء واحبه امتحنه بمحنة الفقر ليخلق منه إنساناً في أرفع درجات الإنسان، وإذا غضب رجل ممن ولدوا فقراء ومقته هيأ له الغنى وغمره به، ليخلق منه رجلاً آخر بين الإنسان والحيوان. . حتى إذا أراد الله وعاد الأول إلى غناه وعاد الثاني إلى فقره شعر كل منها بنعمة الفقر
وإن الفقير ليتعلم من فقره القناعة فيجد سعادته في قناعته، كما يتعلم الغني من غناه الجشع فيجد شقاءه في جشعه. . .
ولا يعرف الفقير أنه فقير إلا إذا عرف أن غيره غني. . . ولا يشعر بوجود الفقر معه إلا إذا شعر بامتناع الغني عليه؛ فإذا اجتمع قوم من الفقراء ولم يكن بينهم واحد من الأغنياء، لم يجدوا للفقر مَضَضاً ولوعة، ولم يحسوا أنهم الفقراء. . . حتى يكون منهم أو يكون بينهم ذو يسار فيرونه في مباهج النعيم ومناهج السعادة، فيفكرون فيجدون في حياته حياة أخرى لم يألفوها ولم يعرفوها، ثم يفكرون فيجدون في حياته فراغاً لا يملؤه إلا المادة، ونقصاً لا يسده إلا الثراء. ثم يفكرون فيعرفون أنهم فقراء. . .
والفقراء في هذه الحياة مظلومون لأنهم يحرمون بقدر ما يعملون. . .
والفقر يمتاز من الغنى بأنه ألزم للحياة وادعى لسلامتها. فليس الناس إذا جمعهم الفقر فصاروا جميعاً فقراء، كالناس إذا جمعهم الغنى فصاروا جميعاً أغنياء. . إذ لو أراد الله الحالة الأولى لوجدنا الناس كتلة واحدة مبنية على الطهارة الفطرية مدعمة بالإخلاص الروحي؛ يتبادلون المعروف ويتعاونون على أيامهم بمناعة الأيمان وقناعة النفوس. . . فتصلح لهم وتصلح بهم الحياة، ويعيشون في نعيم دونه نعيم الغني. . .
ولو أراد الله الحالة الثانية لوجدنا الناس كالوحوش بنفوس داجية وعقول ضارية؛ يتعشق(187/33)
كل منهم التسلط حيث لا مجال للتسلط، ويستكبر على القيام براحة نفسه فلا يجد من يقوم براحته. . . فتفسد عليهم وتفسد بهم الحياة، ويعيشون في جحيم أخف منه جحيم الفقر. . .
فالفقر أستاذ أخلاق، ومن قدر له أن يكون أحد تلاميذه فقد قدر له أن يتقلى دروس الحياة.
طنطا
السيد زيادة(187/34)
التعب
للأستاذ محمد جلال
ألقى الأستاذ ميكائيل فستر خطبة في هذا الموضوع بجامعة كمبردج في 14 يونية سنة 1893 لا تزال ذات قيمة.
ولابد للباحث من الرجوع إليها ليعرف نشوء الآراء وتبدلها فيما هو بصدده. ولذلك سأبدأ بتدوين ملخص رأيه.
قال الأستاذ فستر: (إن قوة الإنسان الجسمانية محدودة بنقيصتين هما: ميل الجسم إلى السكون حتى ليعسر حثه على الحركة. وسرعة استعداده للتعب، أي العجز عن مواصلة العمل المطلوب منه.
والتعب ينشأ حتى من تكرار أبسط الحركات. ولنضرب لذلك مثلاً تحريك صنج أو ثقل باليد. أن هذا العمل يتم فسيولوجيا على الوجه الأتي: يحصل في الجهاز العصبي المركزي - ولنطلق عليه اسم (المخ) تبسيطاً للشرح - تغيرات تبعث على حدوث تغيرات أخرى في حزم من الألياف تسمى الأعصاب. وهذه التغيرات التي يسميها الفسيولوجيون دوافع عصبية تحدث في العضلات تغيرات من شأنها أن تجعلها تقصر ثم تنكمش حتى تتلاقى أواخرها معاً. وفعلها هذا يحرك روافع عظيمة. وبذلك تنثني الذراع أو اليد ويرفع الثقل
ومن الجلي أن التعب قد ينشأ بطرق ثلاث على الأقل.
(1) نكوص العضلات
(2) نكوص الأعصاب
(3) نكوص المخ، أو نكوص اثنين منها أو الجميع معاً.
أما ما يعتري العضلات من نصب فلا يتوقف على مقدار ما تنفقه من جهد مثل ما يتوقف على مقدار سرعة ذلك الجهد وتعويضه، أي على مقدار الفرق بين سرعة الهدم وسرعة البناء
ويشذ القلب عن جميع عضلات الجسم بأنه لا يعرف الكلل، وحينما يعجز عن الاستمرار في تأدية وظيفته يكون ذلك بسبب اختلال أو فساد يصيب أحد أجزاء الجسم الأخرى لا بسبب اختلاله أو فساده هو ألا في ما ندر.(187/35)
وتوجد عوامل لتعب العضلات غير الإفراط في بذل رأس ماله الحيوي، ذلك بأنها ميدان حياة وموت، إذ تحمل إليها الشرايين مواد حية وتنقل منها الأوردة مواد ميتة. ومن مظاهر الحياة الغريبة أن كل عضو يصنع سماً لنفسه وهو يؤدي حركة من حركة
فالتعب يتوقف على مقدار ما تفرزه العضلة من السم الضار بها كما يتوقف على ما تدخره بقية أجزاء الجسم من قوة تعين بها تلك العضلة على مقاومة ما يعتريها من وهن بإزالة السموم وجلب مواد حية جديدة.
على أن كل عمل تأتيه العضلات يشاركها فيه المخ والأعصاب، وما ينجم من تعب لا يصيب العضلات وحدها. ومن المشاهد أن الإنسان قد يبلغ به الجهد حد الإعياء، ومع ذلك قد يدفعه الفرح أو الخوف المفاجئ إلى إتيان ما كان يظنه منذ لحظة مستحيلاً، وقد تشل حركتنا وتنضب قوتنا من تأثير انفعال مباغت. ولما كانت العضلات لا تحس ولا تشعر ولا تدري بما يفاجئ، فلا يمكن أن تتأثر بالانفعالات، فالتعب الذي يمحوه الأمل أو الذي يعجل به اليأس لا يمكن أن يعزى إلى العضلات بل لابد أن يكون مصدره الجهاز العصبي.
وهنا يجب التنبيه على التفرقة بين الأعصاب والجهاز العصبي فالأعصاب لا تتعب مطلقاً، وإنما الذي يكل هو المخ أو الإرادة، وهذا ما نقصده بالجهاز العصبي، وهو أقل قدرة من العضلات على تحمل التعب. ولعل سرعة تكرار ذبذبة الأمواج الصوتية والضوئية وغيرها مما يجتهد المخ مسجل الاحساسات، فأننا لنرى أن الصوت المستمر يأتي علينا وقت لا نسمعه كما نفقد الشعور بلمسة واصبة ولا نشعر بحلاوة ما نأكل أو نذوق من مادة سكرية نأكلها أو نذوقها دون انقطاع، وإحساسنا يكاد يصبح بليداً، دون أن ندرك بفعل التكرار، ولذلك تفقد الملذات لذتها في نظرنا بطول المدة وتشبع الجسم وسآمته
ولما كانت أعضاء الجسم جميعاً مرتبطة في العمل، فالجهد الذي يصيب أحدها لا تسلم منه سائر الأجزاء. . . ولما كان الدم يحمل السموم كما يحمل المواد المنعشة فإن مروره في الجهات الحساسة كالمخ قد يسبب لها اضطراباً وقلقاً أو تخديراً وموتاً.
على أن تلك السموم تفيد بعض الأعضاء التي تتغذى بها أو تحولها إلى مواد غير ضارة أو تقذف بها إلى خارج الجسم، ولذلك تجب علينا العناية بالأعضاء الداخلة وخصوصاً الكبد.(187/36)
ولا يفوتنا أن الجلد لا يقل أهمية عن الكبد. وليذكر كل واحد أن لأبداننا علينا حقوقاً يجب أن نوفيها بالراحة والرياضة غير المجهدة).
هذا بعض ما يقوله الأستاذ فستر.
أما الدكتور فلوري فقد أفرد باباً للتعب في كتابه الطلي الذي جعله مقدمة لطب النفوس، وفيه يقول: (إن الإنسان يستنفد قواه اليوم ما يتعرض له من مختلف الذبذبات، فقد أقام المسيو فيريه البرهان على انه يكفي أن يمر تحت نظرنا لون زاه، أو على سمعنا صوت، حتى يهيج جهازنا العصبي إلى حد يزيد قوتنا مؤقتا ثم يعقب ذلك خمول دائم. فإذا قدرنا ما يقع تحت أبصارنا من ألوان الصور، وما يقرع أسماعنا من أصوات الموسيقى وحركة العربات وغيرها، أمكننا أن نكون فكرة عن مقدار ما يذهب من قوانا هباء بسبب التعب الجسماني ليس غير
وإذا أضفنا الإجهاد العقلي وما تستنفده حياتنا العاطفية استطعنا أن نعرف أن أجل نومنا قصير لا يعوض ما كابدنا من مشقة، وهذا هو الإرهاق بعينه، ولا يكون علاج هذا الإرهاق المدمر ألا بإحدى وسائل ثلاث:
الراحة والمران ثم تنبيه المراكز العصبية تنبيهاً منظماً
أما الراحة فتتطلب العزلة التامة بعيداً عن المنغصات والمثيرات في بيت من بيوت العلاج المائي بحيث لا يقطع تلك الحياة البسيطة التي يقضيها المجهد هناك ألا فترات الأكل والاستحمام والنزهة والتعرض لتيارات الكهرباء الاستاتيكية.
وفلوري يرى أن هذه الوسيلة شرها أعظم من خيرها ولا يقرها علاجاً إلا حين يخفق كل علاج سواها، فإن المرء لا ينبغي له أن يرتمي في أحضان السآمة بل يجب عليه أن يصون نشاطه ويذكيه بتنمية ميله الطبيعي إلى العمل بالمران. فإن البطالة والكسل مصدر كل الموبقات ومنبع عدة اضطرابات وأمراض عصبية. والتعب الحقيقي نادر عارض لا يلازم المفكرين المنتجين إلا أمداً قصيراً، ولكنه كثيراً ما يلازم الفارين من متاعب الحياة الذين يقضون أوقاتهم دون عمل، والذين لا ينتجون إلا إذا هبط عليهم وحي أو الهام. لأمثال هؤلاء لا تنفع الراحة إذ هم في راحة دائمة، والراحة لا تفيد ألا من تعوزه، وهي لا تعوز ألا من يبذل أقصى الجهد في عمل متواصل. أي أناة وجلد ومثابرة، وأي جهد(187/37)
استلزمته مؤلفات إسكندر دوماس الكبير أو مؤلفات بلزاك أو ميشليه أو هوجو أو تيير؟ فلنر كيف كان هؤلاء الفحول يشتغلون
يقول دوماس الصغير في والده: لم يكن والدي يشتغل متقطعاً، بل كان يشتغل يومياً من وقت استيقاظه حتى الظهر غالباً؛ ولم يكن الغذاء ألا فترة راحة، وإذا تناول طعامه وحيداً، وهذا نادر، نقلت له مائدة صغيرة إلى حجرة العمل حيث يأكل برغبة ولذة كل ما يقدم إليه. فإذا انتهى الأكل عاد إلى كرسي العمل وتناول قلمه. ولم يكن يشرب وقت الغداء إلا النبيذ الأحمر أو الأبيض مخلوطاً بماء سلتز، فلا قهوة ولا خمر ولا تبغ. أما بقية اليوم فلم يكن يتناول فيه ألا شراب الليمون. وشغله في المساء قليل، ولكنه على كل حال لم يكن يسهر أبداً حتى ساعة متأخرة من الليل بل كان ينام نوماً عميقاً.
ولم يكن يشعر بتعب ألا إذا قضى على هذه الحال عدة أيام بل عدة اشهر. عند ذلك يسافر للصيد والقنص في رحلة قصيرة يستغرق معظم وقتها في النوم دون أدنى تفكير، فإذا ما حل ببلدة فيها ما يدعو إلى الفرجة ذهب لمشاهدة غرائبها ودون مذكرات عنها؛ فكل راحته في تغيير العمل.
ولقد شاهدته في عدة سنين يصاب بالحمى يومين أو ثلاثة عقب عمله اليومي المستمر، وتبلغ ضربات قلبه 120 أو130 فيعالج نفسه بالنوم العميق وشراب الليمون يوضع له في جفنة عظيمة على منضدة بجوار السرير، فكلما استيقظ تناول جرعات، منها وبعد مضي يومين أو ثلاثة ينتهي كل شيء فيقوم ويستحم ويبدأ عمله.
وكان دائماً في صحة جيدة لا يرتاح راحة تامة إلا في الصيد والسفر، ولم أعهده يرتاح في المنزل مطلقاً. غير أنه كان كثير النوم؛ وقد ينام بالنهار (على حسب هواه) ربع ساعة نوماً مصحوباً بشخير عظيم، فإذا ما استيقظ امسك بالقلم، ولم يكن يمحو شيئاً حين يكتب، وكان جميل الخط
أما دوماس الصغير فكان على خلاف والده، متقطع العمل يسكت أشهرا ثم يستأنف الكتابة، ذلك بأنه كان عديم الخيال، معتمداً في تأليفه على الملاحظات والتفكير؛ فكان لابد من أن يستغرق زمناً طويلاً في المشاهدات، ثم يفكر في طريقة صوغ القصة، حتى إذا ما نضجت عمد إلى تدوينها على القرطاس؛ وكان يقضي مدة المخاض في حركة، حتى إذا ما أراد(187/38)
الوضع بدأ عمله مبكراً واستراح عند الظهر. وكان يحب التأليف في الريف، ولا يشتغل في اليوم اكثر من ساعتين أو ثلاث، وكلما طال عمله طال نومه وقلت رغبته في الأكل، وكانت صناعة الكتابة منهكة له، وكثيراً ما اضطر إلى الانقطاع عن العمل بتاتاً مددا طويلة.
على أنه كان كأبيه من حيث الاعتدال، فلم يكن يشرب نبيذاً ولا قهوة ولا خمرا ولم يكن تبغاً.
أما بلزاك العظيم فقد كان غريباً في حياته التأليفية. فلم يكن يكتب ألا بعد أن يلبس لباس الهبان، وكذلك كان سلوكه مثلهم منظماً نقياً جيدا. ويروى تيوفيل جوتييه أن بلزاك كان ينصح لتلاميذه أن ينقطعوا للعمل سنتين أو ثلاثا بمعزل عن الناس، وألا يشربوا إلا الماء ولا يأكلوا إلا الأرانب، وأن يناموا عند تمام الساعة السادسة مساء ويستيقظوا عند منتصف الليل فيبدأوا عملهم حتى الصباح، كما كان ينصحهم بالعفاف المطلق؛ وكان كثير التكرار لهذه النصيحة الأخيرة. ولم يكن هازلا في نصائحه. وقد كان عظيم الإنتاج بفضل إرادته الخارقة ومزاجه التقشفي وانقطاعه عن الناس انقطاع المتحنثين الأبرار. وكان في سلوكه مستقيماً حتى لم يكن يشرب النبيذ
وأما هوجر فكان مفرطاً في شرب الخمر والأكل دون اكتراث، ولكنه ككل عظماء المنتجين، كان يبدأ عمله في ساعات محددة من وقت الاستيقاظ إلى وقت الغداء. وكان يستيقظ في الساعة السابعة دائماً فيغسل رأسه بماء بارد، ثم يبدأ يكتب وهو واقف بسلاسة دون محو صفحات من نثر أو نظم قد أختمر في عقله في مساء اليوم السابق في أثناء نزهته المعتادة بعد الظهر. وما أكثر ما صنف! ولكن تصانيفه الهائلة لم تجهده أبداً وذلك بفضل نظام العمل.
أما ميشليه فكان من عادته أن يكتب مبكراً؛ فكان في أول حياته يستيقظ في الرابعة صباحاً، ثم اصبح في وسط حياته يعمل نحو الساعة الخامسة: وفي آخر حياته صارت السادسة هي ساعة بدء العمل. وكان محباً للنوم، هادئه عميقه، وكان ينام الساعة التاسعة مساء حين كان وحيداً. وكان يدرس قبل نومه الحقائق الأساسية الخاصة بالفصل الذي عليه أن يكتبه في اليوم التالي، فمما لا شك فيه أن العقل يشتغل بالليل وصاحبه نائم.(187/39)
وكان معتدلاً في غذائه، لا يأكل شيئاً ثقيلاً، ويكثر من الخضر؛ وقبل بدئه عمله يتناول فنجانة صغيرة من قهوة ولبن دون خبز وفي الحادية عشرة صباحاً يأكل بيضتين وشريحة من اللحم المشوي؛ وقد يأكل قليلاً من الفاكهة ويشرب قليلاً من النبيذ أما الخمر فلم يكن يتعاطاها ولم يكن يحب القهوة ألا باللبن
وكان يشتغل في كل يوم ست ساعات طول حياته، ولم يكن يحب الملاهي، وما كان يزورها ألا نادراً؛ وما كان يلهيه عن عمله شيء، فإذا ما أتم كتابه شعر بأثر متاعب العمل المتواصل فلا ينجيه من آلامه إلا الريف والتاريخ الطبيعي
مما سبق يتبين أن هؤلاء العظماء قد اشتغلوا كثيراً جداً دون انقطاع تقريباً مدى عدة سنين ولم يصابوا في صحتهم بسوء، فقد عاش دوماس الكبير 67 سنة وميشليه 74 وتيير 80 وهوجو 82 ودوماس الصغير 71، ولم يمت صغيراً ألا بلزاك فقد عاش 51 سنة فقط. ولعل لكثرة مشاغله وهمومه المالية أثراً في ذلك؛ فكثيراً ما كان يضطر إلى العمل 16 ساعة في اليوم شهرين متتاليين أو ثلاثة أشهر. فلا عجب إذا كل وعجز عن المقاومة وإن كان قوى الجسم مفتول العضلات.(187/40)
شاعر الإسلام
محمد عاكف
بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
كنت أقرأ اسم محمد عاكف بين أعلام الأدب التركي الحديث، وكنت لا اعرف ألا طرفاً من أخباره وأشعاره. فلما سافرت إلى استنبول منذ سبع سنين، وكان عاكف قد هاجر إلى مصر، عرفت من سيرته وأدبه ما حببه إلي وشاقني إلى لقائه. فلما عدت إلى مصر بادرت إلى زيارته، وكان من سعادة الجد حينئذ أن ألفيته على مقربة مني في حلوان نازلاً في كنف الأمير عباس حليم باشا رحمه الله
ذهبت إلى داره، فطرقت الباب رجل ناهز الستين اشمط ربعة قوي البنية، عليه سيما الحياء والتواضع. وجلست فتحدثنا قليلاً، فافتتحنا عهداً من المودة المؤكدة والصداقة المخلصة
وكان صديقي حيياً، نزر الكلام، كثير التفكر، طويل الصمت، نزاعاً إلى العزلة، نفوراً من المجامع؛ فتوفر حظي من لقائه والأنس به، قلما زرته فلم ألفه في داره
وكان أنسه أن أزوره أو يزورني، فنفرغ للحديث نصرفه بين الماضي والحاضر، ونمزج فيه الجد بالفكاهة. ونطوف به في أرجاء الأدب والتاريخ، ونتعرف بها أحوال المسلمين. وكان إذا أنس بالمجلس انطلق في الحديث وتبسط واستزاد المحدث بحسن استماعه واهتمامه. فإذا قاسمنا مجلسنا غيرنا صمت حياء أو انقباضاً، أو إصغاء أو إنكارا؛ فإذا سألته لأشركه في الحديث هز رأسه متجاهلاً، أو ابتسم أو أجاب موجزاً، ثم راجع صمته. فإذا انفض المجلس أبدى لي رأيه مخالفاً أو موافقاً، ساخطاً أو راضياً
وكان احب شيء إليه أن نلتقي في عشايا الصيف، فنطوف في حلوان نتعطف في شوارعها كما تتعطف بنا شجون الحديث، فلا ننتبه لمكاننا حتى نخرج من ابنيه المدينة فنرجع إليها، ويلهينا الحديث حتى ننتهي إلى طرفها الآخر. وكان قوياً على المشي محباً له لا يذكر الدار ألا أن شكوت إليه التعب، فيشكني عائداً إلى داره أو داري لنقطع الحديث بشرب الشاي.(187/41)
وكم تحدثنا وقرانا في سيرنا وجلوسنا في الآداب الثلاثة: العربية والفارسية والتركية. وكنت احب أن أقرأ عليه شعره؛ وكان يسره أن يستمع له. وكانت كل أحاديثنا وقراءتنا متعة، نجتمع فيه على الفكر والذوق والأمل والألم. وكان أطيب المجالس مجلساً نفزع فيه إلى شعر محمد إقبال. وهو (رحمه الله) عرفني بإقبال يوم أعارني ديوانه (بيام مشرق) فإذا صفا الوقت عمدت إلى أحد كتب إقبال فقرأت واستمع مقبلاً مستغرقاً يقطع إنشادي في الحين بعد الحين بالاستعادة أو الاستحسان أو التعجب أو التأوه. وشد ما كان يثير إقبال نفسه، أو يثلج صدره! وشد ما كان يحزنه أو يفرحه! وأذكر أننا بدأنا كتاب إقبال (أسرار خودي) فوالينا الجلسات حتى أنهيناه إنشادا، ثم اتبعنا به أخاه (رموزبي خودي) فختمناه على شوق إلى الإعادة
وكنت عرفت أساتذة كلية الآداب بهذا الأديب الكبير، فاختاروه لتدريس التركية بها، فكان محبباً إلى الأساتذة والطلاب يأنسون به ويجلونه ويتوددون إليه
- 2 -
كرت على هذا الأيام، وعددنا فيه بضع سنين لا يكاد عاكف يغيب ثلاثة أيام لا أراه في حلوان أو كلية الآداب. وكان قوياً صحيحاً مغتبطاً بالعافية، فلم يرعنا ألا أن بدا عليه الهزال والشحوب، وازداد به الانقباض والحزن، فإذا سألناه اخبرنا أن مرضاً قديماً عاوده. وهو يطب له ويرجو الشفاء. ثم بداً له أن يذهب إلى الشام يستمد العافية من السفر وتجديد الهواء، فعاد بعد شهرين وقد استفاد أن مرضه لم يزدد. ثم تغير وتغير فأنكرنا حاله ورثينا له، وإذا الجسم القوى المضمور عظام تحت الثياب، ولكنا كنا نأمل له العافية، ونرتقب أن نغتبط به معافى متهللاً كما كان.
وكان سفري إلى العراق، فتركته راجياً أن ينجده الطب فيسترد عافيته ونضرته، وتطول سعادة أصدقائه وغبطة الأدب به. وكتبت إليه من بغداد فلم اظفر بجواب، ولم يكن ذاك من دأبه. فالتمست له عذرا من المشاغل وتمنيت ألا يكون المرض شغله عن رجع الخطاب، ثم علمت أنه سافر إلى استنبول وأن حاله لا تبشر بالرجوع إلى مصر.
- 3 -(187/42)
رجعت إلى حلوان افتقد زوراته بالنهار والليل، وأندب غدواتي وروحاتي إليه، ممسكاً بكتاب أو معداً الحديث، وأتذكر مجالس عزت علي من بعده، ومن لي بعد عاكف بمجالسه؟
وعلمت أواخر الصيف الماضي أن صاحبنا لما به، وأن داءه قد استفحل، وغلب اليأس الأمل. ثم انقطعت الأخبار، وطال الانتظار، وأرجفت الأنباء، ولم نظفر من الأمر بيقين. والتمسنا أخباره بالبريد والبرق فلم نستقر على نبأ
ثم طلعت جرائد مصر بالنعي، وترادفت جرائد تركيا بخبره، ولكن بالحسرة والرثاء، وبصورته ولكن في ساعاته الأخيرة، وبمشهده، ولكن محمولاً على الأعناق، وبالخبر اليقين! ولكن في بطن الثرى.
فإلى رحمة الله التقي النقي، وفي ذمة الله الأديب الألمعي وفي رضوان الله (شاعر الإسلام)
(للكلام بقية)
عبد الوهاب عزام(187/43)
سجين شيلون
للشاعر الإنجليزي لورد بيرون
بقلم الأستاذ محمود الخفيف
إلى الذين لا يلويهم شيء عما يعشقون من حرية
(المعرب)
تمهيد
كتب بيرون هذه القصيدة الجميلة في فندق صغير في قرية بالقرب من لوزان، حيث عاقته رداءة الجو عن متابعة سيره، وقد أثار مرأى ذلك الحصن العتيق (شيلون) في قلبه ذكرى فرنسوا دي بونفارد الذي سجنه فيه دوق سافوي من أجل مبادئه الجمهورية عام 1570م وقد جعله بيرون بطل هذه الأقصوصة الخيالية الرائعة.
- 1 -
لقد علق الشيب بشعري ولكن لم تلده السنون، كذلك لم تبيض رأسي في ليلة كما تبيض رؤوس الرجال بغتهم الرعب.
وتقوست ساقاي. وإن لم يك ذلك عن جهد، بل لقد صدئتا في سكون موبق مهلك، إذ كانتا نهب الدمار في سجن مظلم تحت الأرض
وكان حظي في هذه الدنيا حظ أولئك الذين لا يجدون في أرضها مضطربا، ولا في سمائها مسرحاً، إذ كان ذلك عليهم محرما
على أن ما ألاقيه، إنما هو من أجل عقيدة أبي! أجل، من أجل تلك العقيدة أقاسي الأصفاد وأغازل الموت طالبا يده!
ولقد قضى ذلك الأب نحبه مستشهدا على خشبة الصلب، في سبيل مبادئه، التي لم يكن لينثني عنها، وفي سبيل هاتيك المبادئ عينها، يجد أبناؤه مأواهم في ظلمات السجن
كنا سبعة، نحن الذين تراهم الآن واحداً فحسب، ستة في الشباب وواحداً في المشيب، انتهوا جميعاً كما بدأوا فخورين بما صبه الاضطهاد على رؤوسهم من نقمة.(187/44)
ألقي بواحد في النار، وهلك اثنان في الميدان، حيث طبع الدم عقيدتيهما بخاتمه، وذهبا كما ذهب أبوهما في سبيل الله الذي أنكره أعدائهم، وألقي بالثلاثة الباقين في غيابة السجن حيث لم يعش منهم سواي أنا. . . حطامهم الباقي
- 2 -
هنالك في سجن (شيلون) ذلك السجن العتيق العميق، توجد سبعة أعمدة أقيمت على النمط القوطي، سبعة أعمدة ضخمة شهباء، تتراءى كالحة على بصيص منبعث من شعاع كئيب سجين، شعاع من أشعة الشمس ضل طريقه، فسقط من خلال الشقوق في الجدار الضخم على أرض السجن، واخذ يزحف فوق تلك الأرض الرطبة المبللة كأنه خيال المذنب انعكس في مستنقع
في كل عمود من تلك الأعمدة علقت حلقة، وفي كل حلقة ربطت سلسلة. آه. يا لهذا الحديد من آكل، فهاهي ذي أسنانه لا يزال أثرها في ساقي ولن يزول ذلك الأثر إلا بزوال هذا النهار الجديد، الذي تتأذى به الآن عيناي وتتألمان، لأنهما لم تريا الشمس هكذا تشرق منذ سنوات لا يسعني حصرها، فقد نسيت عددها وغاب عن وعيي تعاقبها الثقيل، منذ أحنى آخر اخوتي رأسه وفارق دنياه، وأنا بجانبه لا تزال تدب في جسمي الحياة!
- 3 -
أوثقونا كلا في عمود من تلك الأعمدة الحجرية وكنا ثلاثة معا، ولكن كل في معزل عن أخويه، ولم نك نستطيع أن نتحرك خطوة واحدة، ولم يك يتسنى لأحدنا أن يرى وجهي الآخرين لولا ذلك الضوء الشاحب الأغبش الذي جعل كلاً منا غريباً في عين أخيه: وهكذا كنا معا وإن كنا في الوقت نفسه منفردين، كانت أيدينا مغلولة مربوطة، ولكن قلوبنا كانت تذوي من الحزن.
على أننا مع ما كنا نقاسيه من حرمان أنفسنا من عناصر الحياة الصافية وجدنا بعض العزاء أن كنا نستطيع أن نتحادث ويسمع كل منا كلام أخويه فيسري كل عن الآخرين بما ينشد من أمل جديد أو بما يذكر من أسطورة قديمة أو بما يتغنى به من نشيد حماسي من أناشيد البطولة(187/45)
ولكن هاتيك التعلات وا أسفاه تسربت إليها في النهاية برودة المكان، وصار لأصواتنا رجع كئيب موحش هو الصدى المرتد من أحجار ذلك السجن، صارت أصواتنا حبيسة ضعيفة ولم تعد كما كانت بالأمس طليقة مليئة. ربما كان ذلك وهما ولكني لم اعد أتبين في تلك الأصوات أصواتنا السوالف.
- 4 -
كنت أكبر هؤلاء الثلاثة، وكان علي أن أشد أزر أخوي وأسري عن قلبيهما، ولقد قمت من ذلك بأحسن ما استطعت، وكذلك قام كل منهما بما وسعه
وتالله لقد حرك الحزن نفسي من أعماقها، وبلغ الأسى منها كل مبلغ من أجل أخي الأصغر، ذلك الفتى الذي أحبه أبي لأنه كان يرى في جبهته جبهة أمه، وكان يرى في عينه لازورد السماء
وفي الحق أنه مما يذكي القلوب أسى أن يرى مثل هذا الطائر في مثل ذلك القفص. ذلك لأنه كان جميلاً كالنهار حين كان يبدو لعيني من جمال النهار بقدر ما يبدوا منه لأعين النسور الفتية المحلقة في جو السماء؛ كان جميلاً كنهار القطب، لا يرى الغروب حتى يتصرم صيفه، ذلك الصيف الصاحي الطويل زمن ضوئه ابن الشمس المتشح بياض الثلج.
كان أخي شبه ذلك النهار في نقائه وبريقه وكان عذب الروح يفيض بالمرح، ولا تعرف عيناه الدموع في شيء، اللهم إلا فيما ينال الآخرين من شقاء، وهنالك تفيضان كما يفيض الغدير المنحدر من الجبل، ولن يرقأ دمعه حتى يدفع ذلك الشقاء الذي أزعجه مرآه وأمضه
- 5 -
وكان الآخر مثله في صفاء الروح، ولكنه خلق محارباً مقداما، فكان قوي البنية، متين الأعضاء، له من قوة الإرادة ما يتحدى به العالم في ساحة الحرب، وكان أشد ما يبهج نفسه أن يتاح له الموت في طليعة الصفوف، لا أن يذوي هكذا في الأغلال.
ولقد أوهن روحه صليل تلك الأغلال حتى ذبلت كما تذبل الزهرة، ورأيتها تتساقط شيئاً فشيئاً، وفي الحق لقد نالني مثل ما ناله، ولكني تجلدت لأبقي على حشاشة هذا البيت العزيز الغالي، وكان أخي هذا صائداً يطارد الغزلان والذئاب على متون التلال، ولذلك كان(187/46)
يرى في هذا السجن أقبح هوة وفي تصفيد قدميه أسوأ عذاب.
- 6 -
كان تقع بحيرة ليمان تحت أقدام ذلك الحصن على عمق ألف قدم. وكانت لججها تتلاطم وتعج حتى لتصل إلى رأسه وتجعل قياس عمقه يبدأ من تلك الرأس البيضاء التي كانت تكتنفها الأمواج من جميع النواحي، وتجعل مع الحائط من الحصن سجنين؛ وتدعه كالقبر الحي!
وكان يقع القبو الذي ألقي بنا فيه تحت سطح البحيرة، وكثيراً ما سمعنا موجها فوق رؤوسنا يلطم الجدران بالنهار والليل ولقد أحسست ثبج الشتاء يضرب القضبان في الريح العاصفة ورأيته ينبعث صعداً نحو السماء الهانئة.
وعند ذلك أرتج الصخر وهو الصخر، وأحسسته يهتز وما هو بالمهتز، ذلك أني كنت حينئذ أستطيع أن ابتسم، أن أرى الموت الذي يطلقني من هذا الأسر!
البقية في العدد القادم
الخفيف(187/47)
الشتاء
للأستاذ أديب عباسي
أحسب أن مقال الأستاذ الكبير (أحمد أمين) في امتداح الشمس وذكر آياتها فينا وأياديها علينا، كان بداعي توارد المعاني والانتقال الطبيعي من موضوع (الضحك) إلى تاليه (الشمس)
فالشمس بما ترسل إلى النفوس في الشتاء من إشراق، وما تشيعه في الوجوه من بشر، وما تبعثه إلى القلوب من حرارة، تعمل عمل الضحك في النفوس والأجسام. ومن هنا ما جوزت لنفسي أن افترض من انتقال الأستاذ بين الموضوعين انتقال توارد لا انتقال عفو
وأنا اعترف بأنني متأثر الأستاذ الكبير، متأثر به في كتابة هذا الفصل. فلولا موضوع الشمس الذي دبجت يراعته الساحرة ما كنت في الأرجح أفكر في موضوع (الشتاء) وأكتب فيه في هذا الفصل الذي يغرى بالاعتكاف والانكماش. ولولا طريقة الأستاذ في امتداح الشمس والتغزل بمحاسنها لكانت لي خطة تباين في الراجح هذه الخطة عند الكتابة في هذا الموضوع لو عينت يوماً أن اكتب فيه
والشتاء - كما لا بد انك تعلم - أقل فصول العام نصيباً من احتفال الشعراء والكتاب له. ومن هنا كان ما قيل فيه مدحاً وهو القليل، وذماً وهو الكثير، أقل لما جاء في الربيع أو الصيف أو الخريف مدحاً وثناء. ولعل ذلك لما يرين على النفوس في هذا الفصل من حرج الشتاء وضيق البرد مما يذود عن الشعراء أقل الشعر والنثر في التغزل بالشتاء ومدح القر. على أنني سأخرج على هذه القاعدة وامتدح الشتاء في فصل الشتاء عينه وإبان اشتداده وسورته غير العادية في هذا العام.
وأول ما نذكره للشتاء وغيومه المقطبة وبروقه الملعلعة ورعوده المقعقعة وغيثه المنهل وسيله الحادر ونهره الهادر، أنه فصل الأحياء والبعث في الطبيعة، وأنه محرك رواقد الأجنة وغوافي النبت، ثم هو مغذي الزرع وباعث الرزق ومحيي الضرع. ولعلة واضحة وسبب مقبول أن أشتق العرب الغيث من الغوث، إذ لولا الشتاء ما نبت نبت ولا تفتح زهر ولا اكتسى دوح ولا فاح عطر ولا غنى جدول ولا انبجس نبع ولا أورق عمود ولا أخضر ربع ولا أحصد زرع(187/48)
يسيل في الترب الماء فينقل أسباب الخصب والنماء إلى البذور المستكنة والأجنة المخبوءة في باطن الأرض، فتصاعد الجواهر المغذية محمولة في مطاويه إلى سوق النبت وأزهاره وأوراقه وبراعمه وتسير في كل مسير، فيأخذ حاجته ونصيبه كفعل الجسم بالدم
ولولا الشتاء لحرمنا الربيع بوشيه وأفوافه وأنواره، والصيف وضلاله الندية، ونسماته الرخية وغلاله الوفية، والخريف وما أنضج من ثمر شهي وفاكهة روية
وللشتاء جماله الرائع القوى: ففيه الغيوم تأخذ كل شكل وتلون كل لون وتسير متلاحقة مطردة، تارة مسرعة وأخرى وئيدة، تشق عباب الجو كالسفين المثقلة. وهي تجتمع في الجو لتفترق، وتفترق لتتجمع، فهي حيناً جميعة وهي حينا الشمل شتيت. وآنا هي مسفة حتى لتدخل من النوافذ وتتطفل على الناس في مخادعهم وأسرتهم، وآونة تسمو وتشيل في كبرياء وأنفة حتى لتكاد تحس بأنها تبغي إلى الشمس سبيلا.
والغيم رمز الأمل القوي والعزم الفتي. فهو أبداً متجدد وهو أبداً يسير، وأبداً يستهدف المرامي البعيدة والآفاق القصية، ولن يصده عنها سهل ولا وعر. وهو كلما وصل أفقاً وبلغ غاية استهدف أفقاً آخر جديداً إلى أن يفنى كفناء الأمل بفناء العمر الذي يضع الحدود ويقيم السدود للآمال والأماني الإنسانية.
وفي الشتاء السيل المنزع والموج المصطفق والنهر الزاخر، وفيه الثلج يكسو الأرض حلة نقية من أديم الشمس هي لولا برودها. وفيه الجليد كالثريات المدلاة حيناً، وحيناً كصفحة السماء، في الزرقة والاستواء، وحيناً آخر تراه. فتخاله هشيماً من البلور النقي الصفيق. وفيه الندى مسلوكا عقوداً من اللؤلؤ في خيوط الزرع وتباشير النبت. وفيه الضباب يضيق الأفق ويقصر أمد الأبصار فترة، فيكون للأبصار كالحمية للأجسام يعطيها فرصة للاستجمام من ألم النظر البعيد! وفي الشتاء البروق الخواطف والرعود القواصف والرياح العواصف. وكل هذا فيه جمال القوة وجمال الروعة، وهما كجمال الهدوء والاعتدال لا زمان لرياضة العواطف وحياة الشعور. وإن يكن في فصول العام ما يرينا عظمة الخالق وجبروته ففصل الأمطار هو أول هذه الفصول. ولا يذكر الناس الله ويخشعون أمام سطوته خشوعاً صادقاً إلا في فصل الشتاء حينما يعود إلى الأذهان ذكر الطوفان الذي أغرق قوم نوح، وحينما يشتد قصف الرعد وهزيمه فتزلزل الأرض زلزالها، وتوشك أن تخرج أثقالها كيوم الحشر.(187/49)
والشتاء في أول عوامل التعمير والبناء في صرح الاجتماع، فلولا الشتاء لما كان الموقد، ولولا الموقد لما كانت الأسرة أو لتأخر نشوءها أمد طويلاً، ولولا الأسرة ما كانت قبيلة، ولولا القبيلة ما كانت دولة ولا مملكة. فأنت ترى أنه لولا الشتاء وضرورة اجتماع الأفراد حول النار للاصطلاء وطلب الدفء، لظل نشوء الأسرة رهناً بحوادث وظروف أخرى طارئة قد تقع وقد لا تقع.
وفي الشتاء يقل الأجرام قلة ملحوظة، وذلك أن الناس يقلون من الغدو والرواح ويعتكفون في بيوتهم مما لا يهيئ للصوص فرصاً عديدة للسلب والنهب. وفيه كذلك يسمو مستوى الحياة العائلية. فالأب يرى بنيه وزوجه، يخالطهم ويباسطهم ويقيم بينهم وقتاً أطول، فلا الزوجة ساهرة مسهدة، ترقب دامعة العين والقلب أوبة الزوج من إحدى زوراته الليلية، ولا البنون يلتمسون حنو الأب وعطفه عليهم ورعايته لهم وانتباهه إليهم فلا يجدونها، ولا العاشق المفتون ييسر له كل اليسر أن يتسور على الناس الدور ليسطو على الأعراض ويلغ فيها ويفسد
وفي الشتاء تقل الضوضاء ولا يقطع على الناس في الليل وأطراف النهار هدوءهم لغط الباعة وهرجهم وصراخهم وضجيجهم في الشوارع والأزقة وأمام الدور والمدارس والمستشفيات وفي كل محل تجوس خلاله أقدامهم
هذا ويعلم الشتاء الناس الحذر والحيطة، فلا يجدي معه أن تهمل لباسك أو تهمل أمور بيتك أو تهمل استشارة الطبيب أو تغامر في الأدلاج والسير فإنه على خلاف بقية الفصول، سريع حاسم في عمله، ولا يدع لك فرصة للمطل والمراوغة وترك التبعات المفروضة عليك نحوك ونحو بنيك وذويك.
ويعلمنا الشتاء بتقلبه واختلاف وجوهه وقوة تنبيهه دراسة الطبيعة وحسن الاستدلال بالأمائر والإشارات على حال الجو من دفء أو قر أو إمطار أو انحباس وخلافها. والبدوي أسرع الناس استدلالاً وأسوغهم معرفة وأصدقهم فراسة بشؤون الجو، لأن للشتاء عنده من المعاني غير ما له عند الحضري وساكن المدينة
ومن أنعم الشتاء على الناس وفضله العميم انه يحجب عن الأبصار كثيراً من مشاهد القبح والتشويه المغثية مما تقذى به العيون، وأنه يحجب كذلك الكثير من مظاهر الفتنة والجمال(187/50)
والإغراء
وقد تقول محتجاً ومعارضاً: نستطيع أن نفهم ونسيغ أن يكون من فضل الشتاء على الناس وخيره العميم أنه يحجب عنهم مظاهر القبح فيمن حرموا الجمال بما لابد أنهم مخبؤه من أجسامهم الشوهاء المضطربة بما يلففون به أنفسهم من أردية وأكسية ثقيلة، حتى لا يكاد يبدو الاضطراب والتشويه. قد تقول: إننا نستطيع أن نُسيغ هذا ونفهمه، ولكن كيف نفهم أن يكون إخفاء الحسن والجمال والفتنة من أنعم الشتاء عندنا وفضله العميم علينا؟
وأجيب: إنك بلا ريب تحمد للشتاء أن يخفي عنك الفرو الغزير حول العنق فتنة الجيد العاجي، وما يصله بأعلى الصدر من نحر يطل عليك إطلالة الفجر. وتحمد للشتاء أن يخفي عنك بالمعطف الثقيل والدثار الكثيف والصوف الخشن الصدر الناهد البض، والترائب المصقولة والأعضاء المملوءة والرداء الشف يخفي شيئاً ويبدي أشياء فتكون الفتنة - وايم الله - أشد من فتنة العرى الكامل!! وتحمد للشتاء أنه يخفي عن عينك ضمور الخصر وهيف القد والساقين لفرط انسجامها لا تدري أهمها إلى الربالة والامتلاء، أم هما إلى الدقة والنحافة. ستحمد للشتاء كل أولئك لأنك تحب أن يثوب إليك رشدك والعازب من لبك، وتحب أن تنقطع شيئاً آهاتك وتغيب حيناً مثيرات الحرمان والحسرة في فؤادك.
أفبعد هذا لا نصوغ للشتاء عقود المدح والثناء. ونردد قول الشاعر: (سلام الله يا مطر عليك). سواء (أعنى الشاعر مطر السماء أم عنى اسما من الأسماء؟!
بلى، سلام وألف سلام يا شتاء!
أديب عباسي(187/51)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
محبة القريب
إنكم لتعطفون على القريب، وتعبرون عن عطفكم بتزويق الكلام، أما أنا فأقول لكم إن محبتكم للقريب إن هي إلا أنانية مضللة.
إنكم تلجئون للقريب هرباً من أنفسكم، وتريدون أن تعدوا هذا العمل فضيلة، وهل يخفى علي كنه تجردكم هذا؟
إن المخاطب أقدم من المتكلم، فالأول مقدس أما الثاني فلم يقدس بعد. ذلك هو السبب في عطف الإنسان على قريبه.
إن ما أشير عليكم هو أن تنفروا من القريب لا أن تحبوا لتتمكنوا من محبة الإنسان البعيد، فإن ما فوق محبة القريب محبة الإنسان البعيد المنتظر، وإني أضع فوق محبة الإنسان محبة الأشياء والأشباح.
إن الشبح الذي يعدوا أمامك، يا صديقي، لهو أجمل منك، فلماذا لا تعيره لحمك وعظمك؟
لقد استولى الخوف عليكم فلذلك تفزعون إلى القريب. لا قبل لكم باحتمال أنفسكم وما حبكم بالحب الكامل، لذلك أراكم تطمحون إلى إغواء قريبكم لتتمتعوا بضلاله.
أتمنى أن تنفروا من جميع فئات الأقربين ومن جيرتهم أيضاً لتضطروا إلى إيجاد الصديق الذي يطفح قلبه بالإخلاص. إنكم لتدعون شهوداً عندما تريدون أن تغدقوا الثناء على أنفسكم، وإذا ما توصلتم إلى تضليلهم ليحسنوا الظن بكم تبدءون حينئذ بإحسان الظن بأنفسكم.
ما من أحد يرتكب الكذب إلا إذا تكلم ضد ضميره؛ فأصدق الناس من لا ضمير له يحول دون قوله الصدق. على هذه القاعدة تتكلمون عن أنفسكم بين الناس لتضللوهم في حقيقتكم.
يقول المجنون في نفسه: (إن مخالطة الناس تفسد الأخلاق، بل هي تفسد بخاصة من لا خلاق لهم)(187/52)
إن منكم من يهرع إلى جاره ليفتش عن نفسه، ومنكم من يذهب إليه لينساها. أنكم تسيئون محبة أنفسكم، لذلك يصبح انفرادكم بمثابة سجن لكم.
إن الغائبين يؤدون ثمن حبكم للقريب، لأن خمسةً يجتمعون منكم يقضون دائماً على السادس الغائب.
إنني لا احب أعيادكم، إذ رأيتها مليئة بالممثلين، ورأيت النظارة أبرع منهم تمثيلاً.
لا أدعوكم إلى محبة القريب، بل أدعوكم إلى محبة الصديق. فليكن الصديق لكم مظهر حبور الأرض فتحسون بما ينبئكم بالإنسان الكامل.
أوصيكم بالصديق يطفح قلبه إخلاصاً؛ غير أن من يطمح إلى الظفر بمثل هذا القلب يجب عليه ن يكون كالاسفنجة قادراً على تشرب السائل المتدفق. أوصيكم بالصديق الذي يحمل عالماً في نفسه، فهو الصديق المبدع الذي يسعه أن يقدم لكم هذا العالم في كل حين فيعرض عليكم ما مر به من عبر الحياة، فتشهدون كيف يتحول الشر إلى خير وكيف تنتهي الصدف بكم إلى غاياتكم.
ليكن المستقبل والمقاصد البعيدة ما تصبو إليه في يومك، فتحب في صديقك الإنسان الكامل، وتضعه نصب عينيك كغاية لوجودك.
لا أشير عليكم بحبه القريب أيها الأخوة، بل محبة الآتي البعيد.
هكذا تكلم زارا. . .
طرق المبدع:
أتقصد العزلة يا أخي لتجد الطريق التي توصلك إلى مكمن ذاتك؟ أذن، فقف قليلا في ترددك وأصغ إلي:
لقد قال القطيع: (من فتش فقد تاه، ومن انعزل فما أمن العثار).
وأنت قد عشت طويلا بين هذا القطيع، ولسوف يدوي صوته ملياً في داخلك. فإذا قلت له: - لقد تغير ضميري جانحاً عن ضميرك - فلن تكون إلا شاكياً متألماً.
إن اشتراكك بالشعور مع القطيع قد أورثك هذا الألم، وآخر وهج من هذا الضمير المشترك لا يزال يلهب فجيعتك فيجددها. ولكنك ترغب في اتباع هاتف آلامك لأنه يقودك إلى التوغل في ذاتك، فأين برهانك على حقك في المضي إليها وعلى أنك قادر على هذا السفر.(187/53)
أفأنت قوة جديدة وحق جديد؟ أأنت حركة ابتداء؟ أأنت عجلة تدور على ذاتها؟ أبوسعك أن تجعل النجوم تدور حولك؟
لكم من طموح يتحفز نحو الأعالي، ولكم من طمع يرتعش في أمانيه، فاثبت لي أنك لست من الطامحين الطامعين.
إن كثيراً من ساميات الأفكار لا تعمل إلا عمل الأكر المنتفخة فلا تكاد تتضخم حتى يحكمها الضمور.
إنك تدعو نفسك حراً، فقل لي ما هي الفكرة التي تقيمها مبدأ لك. ولا تكتف بقولك إنك خلعت نيرك، فهل كنت يا ترى ذا حق بخلعه؟ إن من الناس من يفقدون آخر مزية لهم إذا هم انعتقوا من عبوديتهم.
لا يهم زارا أن تقول له من أية عبودية تحررت، فلتعلن له نظراتك الصافية الغاية التي تحررت من أجلها
هل بوسعك أن تسن لنفسك خيرها وشرها فترفع إرادتك شريعة تسود أعمالك. أبوسعك أن تكون قاضياً على نفسك وان تكون منتقماً منها لشريعتك؟
إنه لأمر مريع أن يبقى الإنسان منفرداً مع من أقامه قاضياً عليه ومنتقماً منه بالشريعة التي أوجدها. إن مثل هذا الإنسان ليذهب في الفضاء ذهاب الكوكب مقذوفاً إلى فراغ الوحدة وصقيعها.
إنك وقد أصبحت منفرداً لا تزال تتألم من المجتمع لأنك لم تطرح شجاعتك ولم يزل للأمل مرتع فيك. غير أنك ستتعب من انفرادك يوماً، إذ تلين قناتك، وينحطم غرورك فلا تتمالك من الهتاف قائلاً. إنني أصبحت وحيداً فريداً
سيأتي يوم تحتجب فيه عظمتك عنك فتلتصق صغارتك فيك حتى لترتجف فرقاً من تساميك نفسه إذ يبدو أمامك كشبح مرعب فتصرخ قائلاً (كل شيء باطل)
إن في المنفرد عواطف تطمح إلى القضاء عليه فإن لم تنل منه نالت من نفسها وانتحرت. فهل أنت مستعد لارتكاب جريمة قتل؟
أتعرف، يا أخي، معنى كلمة الاحتقار، وما ستكون آلامك إذا أنت أردت العدل واضطررت إلى الاقتصاص ممن يحتقرونك؟(187/54)
إنك تكره الكثيرين على تغيير اعتقادهم فيك، فتثير حفيظتهم عليك. لقد اقتربت منهم ثم تجاوزتهم، فهم لذلك لن يغتفروا لك.
لقد تفوقت عليهم، فكلما اعتليت فوقهم ازددت صغاراً في أعين الحاسدين. وما كره الناس أحداً كرههم للمحلق فوق السحاب.
لقد وجب عليك أن تقول للناس: - إنني اخترت ظلمكم نصيباً حق لي منكم، لذلك عز إنصافي عليكم. إن الناس يرشقون المنفرد بالمظالم والمثالب، ولكنك إذا كنت تريد أن تصبح كوكباً فعليك أن ترسل أنوارك حتى إلى الراشقين.
واحترس بخاصة من أهل الصلاح والعدل لأنهم يتوقون إلى صلب من يوجد فضيلة لنفسه. إنهم يكرهون المنفرد.
واحترس أيضا من السذاجة المتقية، لأنها ترى الكفر في كل إنسان لا يلتصق بها. وقد كان الساذجون في كل زمان يتوقون إلى إيقاد النار واللعب بها.
كن على حذر من التطرف في حبك، فإن المنفرد يمد يده متسرعا لمصافحة من يلتقي في طريقه. أن من الناس من يجب عليك إلا تمد إليهم يداً، بل مخلباً ناشباً.
غير أن اشد من تصادف من الأعداء خطراً إنما هو أنت وما يترصدك في المغاور والغابات إلا نفسك.
لقد تبينت الطريق الذي يقودك إلى ذاتك. أيها المنفرد، وطريقك منبسط أمامك وأمام شياطينك السبعة. فتصبح منذ الآن جاحداً لنفسك، ساحراً مجنوناً، مشككا كافراً شريداً. فيجب عليك أن ترضى بالاحتراق بلهبك إذ لا يمكنك أن تجد ما لم تشتعل حتى تصبح رماداً.
إنك تتبع طريق الخالق، أيها المنفرد، فأنت تفتش على إله لك تقيمه من شياطينك السبعة. إنك تتبع طريق العاشق، أيها المنفرد، وقد عشقت نفسك، فأنت لذلك تحتقرها احتقار العاشقين.
يريد العاشق أن يبتدع لأنه يحتقر، وما له أن يدعي الحب إذا كان لم يبدأ باحتقار المحبوب.
توغل في عزلتك، يا أخي. سر فلا رفيق لك إلا حبك وإبداعك. إنك ستسير طويلا قبل أن(187/55)
تقفو العدالة أثرك متثاقلة متعارجة.
اذهب إلى عزلتك فأنني أشيعك بدموعي يا أخي، لأنني احب من يتفانى ليوجد في فنائه من يتفوق عليه.
هكذا تكلم زارا
الشيخة والفتاة
لماذا تدلج مختفياً في الغسق يا زارا؟ وما هو الذي تخفيه بكل احتراس تحت ردائك؟ أكنز وهبته أم طفل رزقته؟ وإلى أين تتجه على طريق اللصوص يا صديق الأشرار؟)
فأجاب زارا: - والحق يا أخي، أن ما أحمل إنما هو كنز وهبته، فهو حقيقة صغيرة طائشة كالطفل، ولولا إنني كممت فمها لصاحت بملء شدقيها.
بينما كنت أسير اليوم منفرداً في طريقي عند الغروب، التقيت بشيخة ناجتني قائلة: -
لقد كلمنا زارا مراراً نحن النساء، ولكنه لم يتكلم عنا مرة واحدة.
قلت لها: - يجب ألا يتكلم عن النساء إلا للرجال.
فقالت: - لك أن تتكلم أمامي عن النساء لأنني بلغت من العمر أرذله فلن تستقر أقوالك في ذهني.
وقبلت رجاء المرأة العجوز فقلت لها: - كل ما في المرأة لغز، وليس لهذا اللغز إلا مفتاح واحد وهو كلمة (الحَبل)
ليس الرجل للمرأة إلا وسيلة؛ أما غايتها فهي الولد، ولكن ما تكون المرأة للرجل يا ترى؟ أن الرجل الحقيقي يطلب آمرين: المخاطرة واللعب؛ وذلك ما يدعوه إلى طلب المرأة فهي أخطر الألعاب.
خلق الرجل للحرب، وخلقت المرأة ليسكن الرجل إليها، وما عدا ذلك فجنون، ولا يحب المحارب الثمرة إذا تناهت حلاوتها، فهو لذلك يتوق إلى المرأة لأنه يستطعم المرارة في أشد النساء حلاوة
تفهم المرأة الطفل بأكثر مما يفهمه الرجل؛ غير أن الرجل أقرب إلى خلق الطفل من المرأة، ففي كل رجل حقيقي يحتجب طفل يتوق إلى اللعب. فلتعمل النساء على اكتشاف الطفل في الرجل.(187/56)
لتكن المرأة لعبة صغيرة طاهرة كالماس تشع فيها فضائل العالم المنتظر.
ليتوهج الكوكب السني في حبك أيتها المراة، وليهتف شوقك قائلا: لأضعن للعالم الإنسان الكامل. ليكن في حبك استبسال تتسلحين به لاقتحام من يثير الوجل في قلبك. ضعي شرفك في حبك، وما تعرف المرأة من الشرف إلا يسيراً؛ غير أن الشرف في حبك هو الخلق الذي يجعلك تبادلين المحبة بأكثر منها فلا تنحدرين إلى المقام الثاني
ليحذر الرجل المرأة عندما يستولي الحب عليها، فهي تضحي بكل شيء في سبيل حبها، إذ تضمحل في نظرها قيم الأشياء كلها تجاه قيمته، ليحذر الرجل المرأة عندما تساورها البغضاء، لأنه إذا كان قلب الرجل مكمنا للقسوة، فقلب المرأة مكمن للشر
إلى من توجه المرأة أشد بغضائها؟
والجواب في قول الحديد للقوة الجاذبة:
- إن أشد كرهي موجه إليك لأنك تجتذبين ولا طاقة فيك لتربط على ما تجتذبين.
إن سعادة الرجل تابعة لإرادته؛ أما سعادة المرأة فمتوقفة على إرادة الرجل.
تقول المرأة وقد استسلمت لحبها العميم: لقد اكتمل العالم.
ولابد لها أن تخضع وأن ترى أعماقا على سطحها، لأن روح المرأة سطحية، فهي صفحة ماء متماوجة تداعبها الرياح، في حين أن روح الرجل أعماق تزمجر أمواجها في المغاور السحيقة القرار؛ وقد تشعر المرأة بقوة الرجل ولكنها لن تفهمها
عندئذ قالت العجوز: لقد تكلم زارا عن أشياء طريفة اجدر بسماعها من النساء من لم يزلن في مقتبل العمر. ومن الغريب أن ينطق زارا بالحق عندما يتكلم عن النساء وهو لا يعرفهن إلا قليلا. أفتكون أصابته ناشئة عن أن ليس في حالة المرأة شيء ممتنع
والآن أصغي إلي يا زارا، فإنني سأعلن لك حقيقة صغيرة مكافئة على ما قلت، وكبر سني يجيز لي أن أعلنها لك، فاسترعها وأطبق شفتيك عليها لئلا يتعالى صراخها من فمك
فقلت هاتها، هذه الحقيقة الصغيرة أيتها المرأة. وهذا ما قالت العجوز: -
- إذا ما ذهبت إلى النساء فلا تنس السوط.
هكذا تكلم زارا. . .
(يتبع)(187/57)
فليكس فارس(187/58)
شاعر الطبيعة
للسيد عمر أبو ريشة
شاخص الطرف محدق في الفضاء ... فوق طود عالي المناكب ناءِ
يرقب الفجر والندى مالئ بُرْ ... دَيْه والشعر مائج في الهواء
شاعرٌ خافق الجوانح بالحب ... (م) بعيد عن عالم الضوضاء
تتراءى في وجهه الهادئ الوا ... جم آي الوداعة الغرَّاء
وبعينيه بارقٌ قذفته ... شعلة الروح مبهم اللألاء!
نهض الفجر مثقلاً يتلوَّى ... فوق صدر الطبيعة الخرساء
يتخطَّى الربى وئيداً ويهمى ... بشتيت الأظلال والأنداء
وثبةٌ إثر وثبة ذائب الأل ... وان فيها وجامد الأضواء
فارتدى الكون بردةً من جمال ... وتهادى بباسم النعماء
فإذا السفح باسمٌ تمرح القط ... عانُ فيه وترتعي بهناء
وإذا الطير بين كرٍّ وفرٍ ... من غدير لروضة غناء
صورٌ أفرغت على أذن الشا ... عر نجوى علوية الإيحاء
هبط السهل والهجيرة تنقضّ ... (م) وتطوي مطارف الأفياء
وتصبُّ الخمول والسام الصاخ ... ب والصمتَ في فم الغبراء
وتردّ الجمال منهتكَ الستر ... (م) سليب النعومة العصماء!
وتسلّ النشاط من قبضة الكو ... ن فيغفو على ذراع الفناء!
فصدور الحقول متعبةٌ تل ... هث في غمرة من الإعياء!
ورءوس الأزهار مطرقة تن ... سلّ منها انتفاضة الكبرياء!
وقيان الغصون مَلْوِيَّة الأع ... ناقِ صرعى كآبة عمياء. . .
صورٌ أفرغت على أذن الشا ... عر نجوى علوية الإيحاء!!. .
بلغ المنحنى. . فجاز مدى الطر ... ف بحسٍّ مفجَّع الأنباء!
مأتمُ الشمس ضجَّ في كبد الأف ... ق وأهوى بطعنة نجلاء
عصبت أرؤس الروابي الحزانى ... بعصاب من جامدات الدماء!(187/59)
فأطلّت من خدرها غادة اللي ... ل وتاهت في ميسة الخيلاء
وأكبَّت تحلُّ ذاك العصابَ ... (م) الأرجواني باليد السمراء!!
وذؤابات شعرها تترامى ... في فسيح الآفاق والأجواء
وعيون السماء ترنو إليها ... من شقوق الملاءة السوداء!!
فإذا الكون لجَّة من جلال ... فجَّرتها أصابع الظلماء
يرسب الطرف في مداها ويطفو ... ثم يرتد فاقد الارتواء
فتطلُّ الأشباح من كوَّة الوهم ... (م) وتعوي مجنونة في العراء
وتموج الأصداء من جهش الأر ... ض بأذن المهابة الصماء
وتحس الروح الوديعة بالرع ... شات تسري كموجة الكهرباء!
صور أفرغت على أذن الشا ... عر نجوى علويَّة الإيحاء!!
هكذا استعرض الوجود مليّاً ... في غضون الإصباح والإِمساء
في اختلاج البروق في قهقا ... ت الرعد في صاخب من الدأماء
في ابتسام الرياض في هدأة الجد ... ول في نفحة الربى الفيحاء
فانثنى ضاربا على الوتر الشا ... دي أهازيج روحه الشماء!
فَضَّ فيها عن الحياة نقابا ... من خداع وبرقعا من رياء!
ورمى ختم سرها فتجلت ... بعد لأي عريانة للرائيْ!
فتهادت بناتها باصطفاق الص ... نج والدف واتساق الغناء
كدُمى هيكل لقد نفض الله ... (م) عليها اختلاجة الأحياء!
يتمايلن راقصات نشاوى ... بدلال مفجر الإغراء!
فمن الخصر عطفة تركت في ... حُلمة النهد نفرة للعلاء
كل بنت جياشة الصدر ترمي ... أختها بابتسامة استهزاء
هذه في يمينها مشعلُ الحب ... (م) قصير الأنفاس خابي السناء
هذه في عيونها تصرخ الشه ... وة جوعا وتزدري بالحياء
هذه فوق رأسها تشرق الحك ... مة في شبه هالة وضاء!
هذه. . خَل هذه، ودع الأخ ... رى فصعب إصابة الإحصاء(187/60)
زمر من كواعب برزت في ... صور العيش في أتم جلاء!. .
عزف الشاعر النبيغ فجسَّت ... أكبدَ الراقصات كف العزاء
مسنداً رأسه على كتف القي ... ثار مستسلماً إلى الأهواء
وإذا ما صحا على نفخة البو ... ق بأذنيه وازورار القضاء. .
خدِرت كفه على الوتر الشا ... دي وسالت أَصداؤه في الفضاء
وتلاشت تلك الحسان تلاشي ال ... شمع في زفرة اللظى الحمراء
وهوى فوق مضجع من تراب ... تحت عطفي صفصافة غيناء!!
حلب
عمر أبو ريشة(187/61)
الفنون
اكروبوليس أثينا
-
للدكتور أحمد موسى
الجمال في هذا الوجود كثير، ولكنه ليس رخيصاً؛ ولذلك كانت معرفته والاستمتاع به شان فئة معينة من الناس. وكان من أهم ما نظرت إليه الجامعات الأوربية الحديثة وجوب تدريس مادة علم الجمال ضمن دراسة الفلسفة، ومادة تاريخ الفن العام وعلم الآثار بعد إكمال دراسة التاريخ والجغرافيا؛ فبالأولى نتمكن من معرفة الجمال بقواعد تؤدي إلى ترقية حواسنا وتهذيب تقديرنا، وتقريب استمتاعنا من الكمال، وما ينبني على هذا كله من تمهيد السبيل إلى إكمال سلسة التطور الفني والوصول بها إلى الغاية المقصودة دون ركود أو انحطاط. وبالثانية نسجل ماضي الفن تسجيلاً علمياً نقيس به الحضارات ونعمل على ربط الحاضر بالماضي وبالمستقبل فيكون التطور طبيعياً والتقدم منتظراً
وإذا رجعت إلى حضارة أي شعب أو أمة، وجدت أن الآثار والفن من أهم مواد التسجيل لمقياس مدى هذه الحضارة؛ فكأننا بدراساتنا هذه نقصد الوصول إلى معرفة الوسائل التي بها نستطيع تكوين حضارة حقيقية ترجع في جوهرها إلى معرفة نواحي الجمال الفني، فضلا عن الاستمتاع واللذة نتيجة صدق التقدير.
وإذا نظرنا إلى مصر وجدنا أن الفن فيها عظيم، وان الطبيعة منحتها الكثير من جمالها، ومع هذا يجهل كثير من أبنائها ما فيها منه، وليس جهلهم هذا نتيجة مباشرة لجهلهم العام دائماً، ولكنه نتيجة لإهمال مدارسنا لعلم يعد اليوم من أهم العلوم الدراسية في أوروبا التي نأخذ عنها الكثير.
والظاهر أننا بحسب مولدنا والبيئة التي نشأنا فيها قليلو التأمل فيما نراه - وأثر ذلك واضح في كثير من تصرفاتنا العامة حتى في مطالعتنا، ترانا نقرأ ما نقرأ بطريقة أوتوماتيكية خالية من الأخذ والرد تبعدنا غالباً عن الاستمتاع.
وإذا نظرنا إلى الطبيعة فإننا قد لا نستطيع أن نتذوق ما يسميه الغير جمالاً؛ وإذا شاهدنا(187/62)
معبدا أو كنيسة أو جامعاً أو صورة صعب علينا التعرف على ما فيها من سر الجمال والإنشاء.
وإذا كان من نصيب البعض زيارة متاحف أو معارض فنية، وكان من شانه وصف ما شاهد، أو نقد ما عاين، أو تكوين رأي شخصي، تراه لا يخرج فيما يكتبه أو يقوله أو يقرره عن مديح وإطراء أو ذم وتقليل ليس فيه قيمة دراسية تعود على القارئ أو المستمع بأي تثقيف أو فائدة، بل على النقيض من ذلك قد تضر استعداده الفطري وتنقص منه؛ وذلك ما حدا لي في الواقع إلى الاتصال بالأستاذ الكبير رئيس تحرير هذه المجلة، بقصد التحرير في تاريخ الفن وتاريخ الآثار أجمالا، حتى أستطيع بذلك أن أقدم للقارئ تعاريف إجمالية تكوين خلاصة هذه الدراسات، إذ بها يمكن اكتساب المعرفة الحقة لعلمين مهمين يؤديان بنا إلى التعرف على ما في حياة الإنسان من تراث فني مجيد، ويكسبنا ناحية من الاستمتاع قد لا يمكن الوصول إليها دون المعرفة الدراسية ولاسيما وبيئتنا لا تزال تخلو من هذا النوع من التثقيف.
وقد فكرت كثيراً في الخطة التي يمكنني السير عليها، ووجدت أن الملائم للقراء وجمهرتهم من الأدباء والمثقفين، إلا أنحو نحواً مدرسياً بحتاً قد يمل القارئ، فتراني مرة أكتب عن روبنز وأخرى عن جويا وثالثة عن رمبراندت، ثم تراني أنتقل فجأة إلى اكروبوليس أثينا، مع أن الصلة المدرسية أو المنهجية بين هذه المقالات وبعضها مفقودة تماماً؛ كما أني لم اعرج على الفن المصري أو الإسلامي بعد، ولكني أتعمد هذا الأعراض مؤقتا، كما أتعمد الانتقال المفاجئ لأمرين: أولهما تشويق القارئ كل مرة بقراءة شيء جديد مخالف لسابقه؛ وثانيهما إعطاء الفكرة العامة عن ماهية تاريخ الفن وتاريخ الآثار في ابسط عبارة تؤدي إلى معرفة وسائل القياس بواسطة الفن المقارن، وبذلك تكمل حواسنا، وندرك الجمال على الوجه المتقدم.
على أنه كان ولابد من جعل الدراسة منتظمة، فهذا ما سيكون بطبية الحال في النهاية؛ إذ يمكن عندئذ، بعد عمل ترتيب بسيط، جمع فناني كل مدرسة على حدة، ووضعهم معاً وضعاً تاريخياً، وهذا الترتيب يمكن أجراؤه فيما يتعلق بتاريخ الآثار أيضا.
واليوم أقدم إيضاحاً عن اكروبوليس أثينا الذي يعتبر آية من آيات الفن القياسي، إلا أني(187/63)
مضطر للإشارة إلى تاريخ أثينا نفسها قبل الدخول إلى اكروبوليس اضطرار من يريد تاريخ الأزهر مثلاً، فيعرج على تاريخ القاهرة وعلى ما كان لها من الشان أيام إنشائه
كانت أثينا من ناحية حضارة الإغريق مركز الحياة اليونانية، وكانت من الناحية السياسية من أهم بلاد الإغريق حينا، وعاصمة لها حينا آخر.
قامت هذه المدينة على مرتفع أكسبها بروزاً هاماً في مقاطعة أتيكا بين نهيري اليزوس وكفيزوس وعلى بعد خمسة كيلومترات من شاطئ البحر وسبعة كيلومترات من ميناء بيريوس. يرجع إنشاؤها إلى الملك ككروبس اختار لها هذا المرتفع لحسن ملاءمته. ثم أقيم مكان هذه المدينة بناء قلعة اكروبوليس الذي خصص للحفلات الدينية والحربية في عصر الحضارة الإغريقية، بعد إصلاح الأرض وتسطيحها ثم إحاطتها بسور عال من كل الجهات (ش 1) فكان بذلك أهم بناء في أثينا، وقد جعل المدخل في الجهة الغربية للمرتفع مكوناً من مداخل بعضها خلف بعض لتعزيز الوصول إلى اكروبوليس، ولأمكان عمل الرقابة اللازمة عند الدخول إليه أو الخروج منه، وسمي هذا المدخل في ذلك الحين بلاسجيكون نسبة إلى ما يقال من أن مؤسسيه كانوا البلاسجر (ش 2)
وفي داخل المرتفع المحاط بالسور سكن ملوك هذه المنطقة من أتيكا، وبجوار تمثال الإله زويس بني معبد هيكاتومبيدوس وهو اقدم المعابد، وفيه أقيم تمثال أثينا بولياس وتمثال الإله ارشتايوس وعلى اسمه بني بعدئذ معبد ارشتايون، وتمثال بوزيدون إله البحر والزلازل.
كثر سكان أثينا وزحف جزء منهم تدريجياً إلى جنوب وغرب المرتفع، فكان أمام المدخل وعلى بعد مناسب منه أول سوق تجارية
ونظراً لاتحاد سكان اتيكا وتكوينهم مقاطعة متحدة الأطراف عملاً بإرادة الملك تيستوس اتسعت دائرة المدينة وزادت قيمتها الاجتماعية والسياسية فأصبحت العاصمة.
أما السكان الذين زاد عددهم كثيراً عن قبل فقد امتدوا بمساكنهم إلى الأطراف خصوصاً إلى الجزء الغربي، حيث سكن صناع الفخار، ولذلك سمى هذا الموقع حي الفخارين
اشتغل الفنان بيسستراتوس وأولاده بتجميل المدينة مبتدئين بالجزء الشمالي الغربي منها، فبنوا هيكلاً شمل الاثني عشر إلهاً، كان بوضعه ملتقى الشوارع التي أنشئت وتقاطعت(187/64)
عنده.
ثم أبتدأ بيسستراتوس وأولاده أيضا في بناء معبد زويس الأولمبي بالطرف الجنوبي الشرقي وسموه معبد ألمبيون على أن بناءه لم يتم إلا بواسطة هدريان كما أنهم أضافوا إلى مباني معبد أثينا القديم مدخلاً مكوناً من أعمدة أقيم في أعلاها إفريز رسومات شملت تماثيل تبين مواقع حربية؛ أما المدخل العام للمرتفع فأنهم أدخلوا عليه كثيراً من التحسينات البنائية، فأصبح مدخلاً فخماً بكل معاني الكلمة.
ولم يترك بيسستراتوس البئر الموجودة بالسوق القديم دون تحميل، فبنى حولها بناء ظاهراً، كما بنى الجهة الشرقية دائرة ليكايون لتقديس أبولون؛ على أن بناءها لم يتم إلا بواسطة بركليس. وقد تحولت هذه الدائرة فيما بعد إلى جمنازيوم أقيمت فيه الحفلات الرياضية منذ أيام الحاكم ليكورجوس
وبعد ثورة تيرانيس وانتصار الديموقراطية بواسطة كلايسثينس في نهاية القرن السادس قبل المسيح أصبحت أهمية أثينا عظيمة وقيمتها الاجتماعية أعظم.
وبعد عام 500 ق. م. أقيم مكان خصص للرقص في الموضع المخصص للإله ديونيزوس في الجنوب الشرقي للمرتفع تطل عليه أماكن صنعت من الخشب لمشاهدة تمثيل المناظر الدراماتيكية التي مثلت أيضا في هذا المكان.
ظل الحال كذلك حتى جاء الفرس محاربين (480 - 479 ق. م) فدمروا المدينة وهدموا معظم مبانيها. وكانت فترة إقامتهم قصيرة، فعاد الأثينيون إلى أثينا نشطين، وأخذوا يعيدون الحال إلى ما كانت عليه مبتدئين ببناء سور جديد بطول ثمانية كيلومترات.
وواصل المهندس تيميستو كليس أعماله البنائية بميناء بيريوس وهي التي بدأها قبل الحرب الفارسية، ثم أنتقل إلى مواضع أخرى أنشأ عليها مواني أخرى غير بيريوس.
أبتدأ رؤساء المدينة بالإشراف على أعمال التأسيس والبناء، وأول ظاهرة لهذا اهتمام كيمون بتوسيع الجهة الغربية لمكان القلعة وبجوار مدخل اكروبوليس، وذلك ببناء أكتاف عريضة أقيم على جزء منها ومن المسطح الأول معبد أثينانيكا - الذي اتخذ منه الأتراك عام 1687 طابية لهم؛ فتفككت أحجاره وتهدم، وظل كذلك حتى أعاد بناءه المهندسان الألمانيان شوبرت وهانزين تحت أشراف العالم الأثرى لودفيج روس عام 1835.(187/65)
وبنى بايسيانكس أحد أقارب كيمون صالة رحبة على أجورا، وصور الفنان لوحات زين بها هذه الصالة.
انتهت أيام كيمون وابتدأ عصر بركليس الذي يعد أهم عصور أثينا فأنشأ الأوديون ثم التفت إلى تجميل اكروبوليس
وبنى اكتينوس معبد بارثنون (ش2) وبعده قام البناء العظيم منيسيكليس ببناء المدخل الباهر للقلعة، وهو المسمى بروبيلين (ش2).
هذا بيان موجز لنشأة أثينا وأكروبوليس وما أحاط بهما لم يكن منه بد.
للكلام بقية
أحمد موسى(187/66)
القصص
العبقري الملعون
للكاتب الإيطالي
جيوفاني بابيني
ذهبت إلى براغ مرتين ولكني لم أستطع لقاءه. ففي المرة الأولى لم أجرؤ على التطلع إلى بيته. وفي الثانية لم أهتد إلى منزله الجديد، فقضيت ليلة في تلك المدينة الغريبة أسائل الناس عنه وأنا مسوق إليه سوقي إلى المصير المحتوم.
لقد كنت في تلك الليلة متشبعاً بكلامه وأفكاره حتى أخذت أحلم أحلامه وأغني أغانيه وأتابع تيارات تفكيره وأتمثل نفسي أحد أبطال قصصه. لم أخضع لرجل من قبل كما خضعت لذلك الرجل الغريب الذي يزداد تأثيره فيَّ يوماً بعد يوم حتى لم أعد أفكر قي أمل الخلاص منه. كنت أعتقد أنه أعظم رجل أنجبته أوربا. ففي فنه روعة (بو) وتهاويله، وقوة نيتشه ووحدته، وموسيقى شيلي وعذوبته، وآلام (دستوفسكي) ومرارته فيه حمرة الجحيم وزرقة السماء. فيه طلاقة الطفل وعبوس الشيطان، ولكن شيئاً آخر كان خافياً عليَّ هو عبقريته الفذة التي لم يكن يدركها أو يشرف عليها إلا القليلون. ولم تكن شهرته الذائعة التي نالها في سنين قلائل إلا مجداً خالداً يشدو بذكره. لقد رماه الناس بالكبرياء والنفور، ولكنهم لم يدروا شيئاً عن مؤلفاته ولم يحيطوا بأركان عبقريته. لقد أحببت قصصه إذ كانت كلها سيرة لشخصه من نسج غريب. تزأر أرواح أبطاله وتدوي بين أحزان الحياة ومخاوفها.
لم أستطع أن اكبت ذلك الإعجاب طويلاً، بل أحسست بدافع قوي لأن أراه وأتطلع إلى وجهه واسمع كلمات تخرج من فمه. أردت أن اقرأ في سطور وجهه تلك الآلام العاصفة التي صبها في أبطال قصصه فوطنت العزم على لقائه. وقد ساعدني على ذلك رجل فرنسي قادني إلى بيته، فدلفت إلى سلمه وقد ازدادت دقات قلبي شدة كلما دنوت من الطابق الذي كان يقطنه. وقفت أمام الباب وحاولت الكلام ولكن لساني كان قد لصق بسقف حلقي فوقفت برهة انظر إلى تلك اللوحة النحاسية المنقوش عليها اسمه في حروف كبيرة سوداء فازددت هلعاً ورعباً. وأخيراً استجمعت قواي ومددت يدي إلى الباب أقرعه، فجاءتني(187/67)
خادمة نَصف في لباس أسود، فهمست في أذنها باسم ذلك الكاتب العظيم، فقادتني إلى ممر طويل ينبعث فيه نور ضئيل شاحب حتى وصلت إلى غرفة نظيفة قد أغلقت نوافذها وتدلت مصابيح الكهرباء في وسطها، فلمحت في أحد جوانبها مكتباً صغيراً عليه دفتر كبير شبيه بدفاتر المحامين وقد كسيت الجدران بالخرائط والصور.
شعرت بخيبة الأمل عندما وقع نظري على تلك الغرفة العادية التي لم تكن تختلف عن سائر الغرف ولاسيما وقد كنت أتوقع صومعة لقديس أو عريناً لأسد لا مكتب أحد المحامين؛ فأخذت أسائل نفسي: أحقا هذا بيته وتلك غرفته، أم أنا في بيت أحد أقربائه؟ ولكني لم أطل التفكير في هذا إذ رأيت أمامي رجلاً ضئيلاً قد أربى على الخمسين يحييني بلغة فرنسية صحيحة، فارتعت لمرآه. أيعقل أن يكون رجل أحلامي وأماني هذا الرجل الضئيل الذي يرمقني بعينين صغيرتين وتنفرج شفتاه عن ابتسامه هي أقرب إلى ابتسامات البله والسذج؟ أيعقل أن يكون هذا الرجل الذي يرتدي ثوباً أسود ويضع يديه في جيبه كما يصنع ضابط الاستيداع أو موظف المعاش؟ ذلك الذي جعل قلبي يخفق بروعة آثاره وقوة أسلوبه؟ وهل يمكن أن تكون تلك الأفكار العظيمة التي حيرتني وجعلتني اقطع الليالي ساهراً قد نبعت من ذلك الرأس الأصلع الصغير؟ لم اكن لأصدق هذا، بل كنت كلما أنعمت النظر فيه ازددت دهشة وعجباً، حتى لم أستطع أن أخفي دهشتي فقلت. أأنت الكاتب الذي أبحث عنه والشاعر الذي كتب (نفسي) و (الله) (ومشاكل نصف الليل)؟ فأجابني في هدوء وابتسام: نعم، وكأنه لم يشعر أنني أهنته بسؤالي هذا فدعاني إلى الجلوس وسألني حاجتي.
لم أكن أعرف مكاني، ولم أكن أستطيع التفكير في شيء أقوله، فلاحظ علي بعض هذا الارتباك فدنا مني متلطفاً وقال: أراك أحد المعجبين الأجانب الذين يأتون لرؤيتي. إن هذا أمر يسير، فأني أستطيع أن أقوم لك بما تريد. ثم أسرع إلى مكتبه وأخرج ورقة ومجموعة من الصور وعاد ثانية يستأنف حديثه: (هاك بعض تاريخ حياتي مدوناً بالفرنسية، وفهرسا كاملا لجميع مؤلفاتي. أي صورة تعجبك؛ إنني أظن أن أحسن صوري ما كان جانبيا، ولكن لك الاختيار. في أي صحيفة ستنشر هذا المقال؟ أفي صحيفة يومية أم في مجلة؟ فلما رأى أنني لم أجبه إلا بنظرة حائرة ساهمة عاد إلى مكتبه وأخرج كتابا صغيرا وقدمه إلي قائلا: هاك أشهر المقالات التي نشرتها كبرى الصحف عن مؤلفاتي، إنها مدبجة بأقلام كبار(187/68)
الناقدين. ألا تريد صورة تنشرها مع المقال؟ ثم أسرع ذلك الرجل الذي لا يعرف التعب إلى مكتبه وجاءني بأقاصيص من الورق مكتوبة بخط يده، فلم أستطع أن أخفي دهشتي، ولكن صاحبي مضى في حديثه قائلا: أليس هذا كل ما تحتاج إليه؟ أظنك تريد أن تعرف كيف أكتب، سأخبرك حالا: إني أعمل أربع ساعات في اليوم ولا أكتب أكثر من خمسين صفحة في جلسة واحدة. إني لا أستعمل الكتب القديمة ولا المعاجم البالية، لأني صنفت كل مواد الكتابة تصنيفا جديدا. ففي هذا الصندوق تجد الصفات، وفي ذلك تجد التشابيه والاستعارات، وفي الثالث تجد المتناقضات، وفي الأخير تجد أوصاف المناظر الطبيعية، وفي ذلك الذي عن يمينه تجد الأوصاف الغريبة لجميع الناس. أما الذي عن يساره فقد جمعت فيه كل عناوين القصص والمسرحيات. أظنك الآن تستطيع أن تفهم أن عملي ليس شاقا جدا بفضل هذا الترتيب. إني أكتب بدون تفكير كأني آلة: فإذا أردت أن أكتب شيئاً فما علي إلا أن أضع يدي فأخرج كل ما أحتاج إليه. إني لست أحد أولئك البلهاء الذين ينتظرون الوحي والإلهام، فإنني أكتب بانتظام وفي أوقات معينة. فماذا ترى في هذا؟ فحاولت أن أتكلم ولكني لم أستطع. فمضى صاحبي يقول: (أخبرني. ألا يمكن أن تؤدي لي عملا في إيطاليا؟ ألا يمكنك أن تنقل بعض كتبي إلى الإيطالية؟ إني أعطيك 40 % في المائة من الأرباح وحق النشر في بلادك. دعنا نكتب العقد.
ومن حسن الحظ أن دق جرس التليفون في الغرفة الثانية فأسرع إليه الرجل دون استئذان، ولكنه ما لبث أن جاءني يقول: عفوا إن ناشري كتبي في ميونيخ يطلبوني. دعنا نستأنف حديثنا. قل لي بصراحة: ألا تستطيع أن تقوم بهذا! فنهضت مذعورا وأنا أعجب أن تكون هذه اليد الغليظة قد جرت بتلك الروائع الخالدة، ثم صوبت نظري إلى الباب ولكنه لم يكد يراني أنهض حتى صاح: ألا تنتظر الشاي! إن زوجي وطفلي سيعودان حالا وسنتناول الشاي معاً. ألا تريد أن ترى طفلي؟ إنهما طفلان جميلان، أحدهما في السابعة والآخر في الحادية عشرة، إن زوجي تجيد العزف على (البيان) وتتقن فن التصوير. إن هذه اللوحات الفنية التي تراها على الجدران من ريشتها، فقبعت في كرسي وأنا أتفرس في وجه ذلك الرجل الذي لم يفتأ يقوم ثم يقعد ويفتح الأدراج ثم يقفلها وأخيراً قال لي: هنا تجد الطبعة الأولى من كتبي، وفي الدرج الآخر تجد الطبعات الثانية، وتحتها التراجم. إنه محصول(187/69)
كبير، أليس كذلك؟ إني أعنى بها عنايتي بأطفالي. ثم أخذ يقهقه عاليا فلم أطق أن أرى فكيه ينفرجان عن فم واسع كريه، فصحت: يجب أن أذهب، ثم اندفعت إلى الباب وتدحرجت على السلم؛ وبدون أن أشعر وجدت نفسي خارج المنزل، وما كدت أصل إلى منزلي حتى ألقيت جميع مؤلفات ذلك الملعون في النار
ترجمة نظمي خليل(187/70)
البريد الأدبي
اكتشاف مدهش في الموميات المصرية:
وقع العلماء الأثريون في متحف (المتروبوليتان) بنيويورك على اكتشاف مدهش في شأن الموميات المصرية القديمة؛ فقد رأى الدكتور ونلوك مدير المتحف أن يسلط أشعة رنتجن على لفائف الموميات لأول مرة، وقد انتهى البحث إلى نتيجة مدهشة؛ وكان بعض العلماء قد سلط هذه الأشعة على الموميات من قبل فكانت النتيجة سلبية دائما لأن اللفائف الكثيرة التي تحيط بالجثث المحنطة كانت تحول دون ظهور أية نتيجة. ولكن العلامة الكيميائي الدكتور أرثور كوب توصل إلى اختراع جهاز جديد، واستعمل الدكتور ونلوك للكشف على مومياءين ترجعان إلى الأسرة الحادية عشرة، وهي مما وجدته البعثة الأمريكية أثناء حفرياتها بمصر سنة 1920، فكشفت الأشعة عن حقيقة مدهشة هي أنه يوجد تحت هذه اللفائف العديدة، وفوق الجثة المحنطة كثير من الحلي والجواهر التي زينت بها الجثة في الصدر والعنق والمعاصم، وبذا كشفت الصورة التي أخذت عن كنز لم يكن يحلم به إنسان، ففي عنق المومياء وجدت أربعة عقود، منها واحد ذهبي يتوسطه بعض اللآلئ الكبيرة والصغيرة، وعقد من اللآلئ الصناعية الصغيرة (الخرز)، ووجد على الصدر غطاء من الخرز وعقد كذلك، وكشفت الأشعة عن سوارين، كل معصم فيه سوار من الخرز وثلاثة جعارين كبيرة قد ثبتت فيهما. كذلك كشفت الأشعة عن سوارين في مفصل القدمين كسواري المعصمين. ومن أعجب ما كشفت الأشعة هيكلا جرذين صغيرين عند القدم يظهر أنهما تسربا إلى الجثة عند ربطها. وقد رأى العلماء إزاء هذا الاكتشاف أن يحاولوا نزع اللفائف عن المومياء، بيد أنه رؤي قبل ذلك أن نتخذ كل الوسائل العلمية لحفظها خوفاً عليها من التلف. وقد عرضت الصور التي كشفت عنها الأشعة بجانب المومياء في متحف نيويورك.
شعب مصري في غانة الجديدة؟
نشرت إحدى الصحف الألمانية التي تصدر في بودابست نبأ اكتشاف غريب وفق إليه بعض الطيارين والعلماء الإنكليز أخيراً في جزيرة غانة الجديدة التي تقع في المحيط الهادي على مقربة من استراليا، فقد طار إلى الجزيرة بعض الطيارين الأستراليين وتوغلوا(187/71)