لا يهولنك ما أقرر لك من أن القبعة الأوربية على رأس المسلم المصري تهتك أخلاقي أو سياسي أو ديني أو من هذه كلها معاً، فإنك لتعلم أن الذين لبسوها لم يلبسوها إلا منذ قريب بعد أن تهتكت الأخلاق الشرقية الكريمة وتحلل أكثر عقدها، وبعد ن قاربت الحرية العصرية بين النقائض حتى كادت تختلط الحدود اللغوية، فحرية المنفعة مثلاً تجعل الصادق والكاذب بمعنى واحد، فلا يقال إلا أنه وجد منفعته فصدق، ووجد منفعته فكذب؛ وعند الحرية العصرية أنه ما فرَّق بين اللفظين وجعل لكل منهما حدوداً إلا جهل القدماء وفضيلة القدماء ودين القدماء. وهذه الثلاثة: الجهل والفضيلة والدين هي أيضاً في المعجم اللغوي والفلسفي الجديد مترادفات لمعنى واحد هو الاستعباد أو الوهم أو الخرافة.
ومتى أزيلت الحدود بين المعاني كان طبيعياً أن يلتبس شيء بشيء وأن يحلَّ معنى في موضع معنى غيره، وأصبح الباطل باطلا بسبب وحقاً بسبب آخر، فلا يحكم لناس إلا مجموعة من الأخلاق المتنافرة تجعل كلَّ حقيقة في الأرض شبهة مزورة عند من لا تكون من أهوائه ونزعاته، فيحتاج الناس بالضرورة إلى قوة تفصل بينهم فصلاً مسلحاً، فيكسبون القانون بمدنيتهم قوة همجية تضطره أن يعد للوحشية الإنسانية، وتدفع هذه الوحشية أن تعد له.
ومن اختلاط الحدود تجيء القبعة على رأس المسلم، وما هي إلا حد يطمس حداً، وفكرة تهزم فكرة، ورذيلة تقول لفضيلة: هأنذي قد جئت فاذهبي.
ما هو الأكبر من شيئين لا حد بينهما لتعيين الصِّفر، وما هو الأصغر من شيئين لا حدَّ بينهما لتعيين الكبر؟ إنها الفوضى كما ترى ما دام الحدُّ لا موضع له في التمييز ولا مقرَّ له في العُرف ولا فصل به في العادة؛ ومن هنا كان الدين عند أقوام أكبر كلمات الإنسانية في عامة لغاتها وأملها بالمعنى، وكان عند آخرين أصغرها وأفرغها من المعنى؛ وما كبر عند أولئك إلا من أنه يسع الاجتماع الإنساني وهو محدود بغاياته العليا، وما صغر عند هؤلاء إلا بأن الاجتماع لا يسعه فلا حدَّ له، وكأنه معنى متوهَّم لا وجود له إلا في أحرف كلمته.
فجماعة القبعة لا يرون لأنفسهم حداً يحدونها به من أخلاقنا أو ديننا أو شرقيتنا، وقد مرقوا من كل ذلك وأصبحوا لا يرون في زيّنا الوطني ما فيه من قوة السر الخفي الذي يُلهمنا ما أودعه التاريخ من قوميتنا ومعاني أسلافنا.(171/6)
وأنا أعرف أن منا قوماً يرى أحدُهم في ظن نفسه أنه قانون من قوانين التطور؛ فهو فيما يُلابسه لا ينظر إلى أنه واحد من الناس بل واحدٌ من النواميس. . . ومن هنا الثقلُ والدعوى الفارغة وما هو أكبر من الثقل وفراغ الدعوى. وإنه لحقٌ أن يكون بعض الناس أنبياء، ولكن أقبح ما في الباطل أن يظن كل إنسان نفسه نبيّا.
واعلم أن كثيراً مما يزينونه للشرقي من رذائل المدنية الأوربية إن هو إلا منطق شهوات في جملته، ولقد تسمع الجائع يتكلم عن الطعام فترى كلاماً تحته معانٍ ومعانٍ لا يعدها غير الجائع إلا حماقة ساعتها.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(171/7)
كل شيء بخير سيدتي المركيزة!
للأستاذ عبد الحليم الجندي
في فاتحة الصيف جلسنا عند سفح الهرم نستمع إلى آخر أناشيد باريس عاصمة فرنسا، التي يقول عنها أبناؤها إن كل شيء فيها ينتهي بأغنية، والتي يُزلفها (كوت) إلى الهاوية في سرعة الطائرات التي يبعث بها إلى مدريد، والتي يسوقها (توريز دجوهر) إلى جهنم الحمراء: أي إلى الشيوعية، فأدار لنا (الأستاذ) تلك الأنشودة البديعة الواردة أخيراً:
كل شيء بخير: سيدتي المركيزة: المتاع سرق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة: والقصر يحترق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة
استمعنا، واستمعنا! ثم نسينا - طبعاً - ورجعنا؛ حتى إذا كنت في أوائل الشهر الماضي برأس البر طفرت تلك الأغنية إلى ذهني وإلى فمي فطفقت أرددها، في المساء وفي الصباح، وعلى الشط وفي السامر.
نحن الآن في مجلس خاص، في الكازينو، على قيد أمتار من اللسان، حيث العذب الفرات والملح الأجاج يلتقيان؛ وهؤلاء أكبر الأساتذة في أقدم جامعة في العالم، وفي أحدث جامعة في العالم، أخذوا في خلوتهم البديعة بأطراف الأحاديث، وسالت تلك القرائح السامية بخواطر عالية في الحضارة والاجتماع.
الأستاذ الكبير - في جامعتنا المصرية - يعالج ترجمة فصحى لكلمة (المودة) ويعرض على الفقيهين الكبيرين كلمة بديعة بارعة، فتأخذهما النشوة ويطربان؛ والأستاذ يقص علينا حديث رحلته الأخيرة إلى الشام، تلك الأمة المجاهدة في الحرية، المجاهدة في الأدب، المجاهدة في الاقتصاد. . . وبنوها الذين ضربوا لنا الأمثال في كل ضرب! الذين حدثوه عن مصر بما لا يعرفه أبناء مصر!. . . لقد كان أروع ما راعه في ذلك القطر الشقيق أنه لم يجد فوارق بين الطبقات؛ وعلة ذلك عنده أن العروبة أعمق أصولاً عند إخواننا، وأن العروبة معناها النخوة والمساواة؛ وعلته أيضاً أن التفاوت في المرتبات ليس هائلاً؛ وأخيراً أن ليس ثمة أسرات تضرب في مظاهر الأبهة كأنها تضرب برَوقين في السماء. . .
أما هنا - وانحدر الحديث إلى من هنا. قال قائل: هنا تجد ستة عشر مليوناً ولا تجد ستة(171/8)
عشر رجلاً ممن ينفذون إلى الأعماق! قلت: إني أطلق على حضارتنا الحالية: (حضارة السندوتش)؛ فالناس يمرون بمحال (السندوتش) ليطعموا طعامهم على وجه الاستعجال، كما يعبر رجال القانون، ولا يضيرهم بعد ذلك أن تتأذى معداتهم وأعصابهم ما داموا قد تناولوا وجبتهم بحال من الأحوال. . .! ولقد طغت تلك المحال على المطعم الأصيل فكادت تجليه عن مكانه. أنظر حيثما شئت تجد أنوارا لامعة في الأرض تكاد تباهي كواكب السماء! إنها ليست أنوار معهد ولا مستشفى، ولكنها أنوار السينما والسندوتش. وكلما ذهبت الفتاة إلى الطبيب أو شكا الطالب إلى أستاذه رجاهما الطبيب أو الأستاذ أن يقلعا، أو يقللا، من ارتياد السينما ومن ازدراد السندوتش. . .
وكما قضى السندوتش على المطعم تكاد تقضي المذكرات في الجامعة على المراجع، والخليلات على الحليلات، والمسكنات السياسية على الصلاح العميق، وشهوات الساعة على واجب التاريخ. . . والأدب الرخيص على الأدب العالي. . . والمجلات الخفيفة على الكتب. . . ولنفس الأسباب. . وفي عبارة موجزة: لكأن هذا الجيل ليس من مصر! وكأنما هو يقضى منها وطرأ، أو كأنه فيها عابر سبيل. . . .
وتطرق الحديث - حتما - إلى البلاج، إلى الماء، وإلى فنون الماء، وما أدراك ما فنون الماء: العزاء، والإغراء، واستهتار الرجال وتبذل النساء! وخرج كل منا من الحديث غضبان أسفاً.
ومع ذلك فالدولاب يسير. . . وظواهر الأشياء لا تنبئ إلا عن خير الأشياء. . .
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة: المتاع سرق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة: والقصر يحترق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة
وانفرط العقد، وانصرم الليل، وأرسلت الشمس شعاعها في الصباح أصفر وهاجاً نافذاً في أعماق اليمِّ كأنه سهم ذهبي بديع يتوهج في طبقات الأفق، والتقى الصديقان بعد عشرة أعوام وبعد رحلة طويلة في أوربا، وبعد أن (كانا يظنان كل الظن أنْ لا تلاقيا). . . وانطلقا على الشاطئ.
قال الذي رجع من أوربا: أرأيت أني وجدت في مصر ما لم أجد في أوربا؟ قال له(171/9)
صاحبه: أنسيت أن إسماعيل قد جعلها قطعة من أوربا؟ ومنذ ستين عاماً! قال إنها كلمة تعدل كل ديون إسماعيل، فهو كما أفقر الأمة في أموالها أفقرها بهذا الذي ظن أنه صيّرها إليه. . . إنك لا ترى على هذا الشاطئ إلا أقبح القبيح الذي تنكره أوربا. . لكأن الناس يا صديقي قد جاءوا إليه ليتعروا فيه لا ليصطافوا عنده. . . .
وانطلقا حتى بلغا مجمع البحرين قال: نظر إلى النيل يقذف بنفسه في صميم البحر لأبيض؛ إنه ينطلق كالقذيفة في البحر. . وترى ماءه الأحمر أو الأسمر، بل تستطيع أن تشربه عذباً على بعد أميال من الشاطئ؛ ولكنك بعد أميال أخرى لا تراه؛ ويفنى اللون الأسمر في اللون الأزرق، والماء العذب في الماء الملح؛ وهكذا نحن نقذف بأنفسنا في ذلك الخضم الأوربي ولكن مع فارق ضخم هو أن الماء يسع الماء، أما الحضارة الأخرى فإنها تلفظنا. . .
وانطلقنا. . . . فهما الآن عند الكازينو: حيث الفتيات يواعدن الفتيان جهرة. . .! لكأنه يوم الزينة، وكأن الناس قد حُشروا ضحى. .! لا ليشهدوا سحرة فرعون ولا آية موسى، ولكن ليشهدوا السحر الحرام. . فيرى الإناث الرجال المتأنثين، ويرى الرجال النساء المسترجلات. . . . وإلا فلماذا لا يحتشد ذلك الجمع على الشاطئ الذي يبدأ من بور سعيد وينتهي عند البرلس بمصيف آخر؟ لماذا لا يحتشد ذلك الجمع إلا أمام الكازينو؟ ارجع البصر يا صديقي إلى ذلك الحوت المستلقي على الشاطئ! ثم ارجع البصر كرتين، هنالك، تلك الفتاة التي وصفها النقيب (سانت أوبان) في مرافعته عن فكتور مرجريت عندما قدموه للمحاكمة من جراء (لا جارسون) - تلك الرواية التي صارت بعد خمسة عشر عاماً من أعف الروايات!! - قال سنت أوبان (. . أين تلك البطة المسربلة بالبياض وهي تقسم يمين الطاعة لزوجها في المعبد من هذه الفتاة العارية المتمددة على رمال الشاطئ تعرض جسدها على الطبيعة تستقبل أشعة الشمس حقاً ولكنها تستقبل أيضاً تلك الأشعة النارية المسلطة عليها من عيون الناظرين. . .)
وانطلقا نحو علم أخضر يتراءى على البعد. قال أحدهما إنك ترهقني عسرا إذا سرت بي إلى حيث هذا العلم؛ إنني أراه فوق الشاطئ الذي نحن عليه كطربوش الميت على الآلة الحدباء التي تحمله؛ وهو من مجد هذا الشعب المنتشر على هذا الشاطئ كالنشيد الذي أجازوه مائة جنيه لأنه خالٍ من المعنى، خالٍ من الإحساس، ومع ذلك جعلوه نشيدنا(171/10)
القومي!!. . . إنني سمعت الأنشودة التي غنيتها لك في المرقص، ولكن المرقص يحمارُّ خجلاً، ويتفصد جبينه عرقاً، إذا وقف أزواجه أمام هذا الشاطئ. . . إن الشاب يتعلم ليتعطل، والعامل يعمل ليجوع، والاقتصاد المصري يزخر كتيار النيل ليصب في البحر الذي يجمعنا بأوربا. . . أفهذا الشباب الناهض، بل الرابض، هو الذي سيبني الأسطول البحري، والأسطول الجوي، ويقطع الصحراء راجلاً إلى الحدود. . .!! ومع هذا فقد شرع له أساتذة الجيل أسوأ شرعة عندما أعطوا جائزة لذلك الباحث الذي شرط على رجل القرن العشرين أن يكون (وصوليا) لكي ينجح. . .!! فإذا سألت عن هؤلاء الأساتذة، فاعلم أن منهم صاحب (حياة محمد)، وأن منهم أيضاً تلميذ محمد عبده!!
ومع ذلك أيضاً. . . فكل شيء بخير.
كل شيء بخير: سيدتي المركيزة، المتاع سرق، والقصر يحترق، وكل شيء بخير. . .
وكنا كلما بعدنا عن الكازينو هدأ الموج وسكن البحر؛ قلت: ما للموج لا يرغي ولا يزبد إلا حيث هؤلاء الناس يجتمعون؟ فأجاب صديقي: (إنني سمعت إحداهن تقول لأختها: إن الموج يتدافع نحوها كما يتدافع الهوى أو الهواء، تارة في عنف، وتارة على استحياء. فردت عليها الفاجرة تقول: اسمعي! إنني سأذيع لك السر الذي بيني وبينه: (إنه يتظاهر أمام الناس بأنه يلاطم الشط ولكنه في الحقيقة يقبل قدمي. . وهأنذي أركض بهما في ذلك المغتسل البارد. . وأسلمهما للقبل).
وكنا قد دنونا من السارية، ثم وقفنا تحت العلم، فيا لتوفيق الله سبحانه! إنه علم فرق الجوالة من شباب الجامعة الأشداء جاءوا يضربون خيامهم على هذا الشاطئ ويضربون لفتيانه المثل العالي. . وجاءوا ليبعثوا فينا الأمل الذي قضى أو كاد.
ورجعنا في العاشرة صباحاً، وكان الراديو يجلجل في الآفاق جميعها بآيات الله العلي! قلت يا صديقي بل هنا الأمل.
فلنراجع البرنامج!
عبد الحليم الجندي المحامي(171/11)
رواية ورواية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قال محدثي:
(كنت في ذلك الوقت غارقاً في دروسي، فقد رسبت، كما تعلم، في الامتحان وأبيح التقدم له مرة أخرى، فعدت من البلد، ونزلت على أقربائي هؤلاء، وشرعت أستعد لأداء الامتحان في المواد التي أخفقت فيها، وكانت أربعاً، تضاف إليها ثلاث أخرى اخترتها طمعاً في (المجموع) فعكفت على دروسي وأقبلت على تحصيلها. وما أكثر ما كنت أفني ليلي بالسهر في مراجعتها فكانت (سميحة) تزجرني عن ذلك وتقول: إن سهر الليل يهدّ القوي ويكثف العقل، وإن عمل النهار أوفر فائدة وأرفق بالجسم والعقل. وكانت هي قد فازت (بالبكالوريا) ولم تتلكأ عندها مثلي ووثبت منها إلى كلية الطب. ولم تكن قد قضت فيها غير عام واحد ولكنها - مذ التحقت بها - أصبحت تتحدث عن الصحة والعلل وطبابها كأنها جالينوس. وكنت أحبها غير أن دروسي شغلتني عنها، وكانت معي في البيت فلا داعي للشعور بالوحشة وفراغ الدنيا حول المرء. وكنت إذا تعبت أقوم فأتمشى في البيت وأدور بالغرف - فما ثم غيرها - وقد أتلبث شيئاً عند سميحة وهي مستلقية على سريرها - أو على الأصح نائمة كقاعدة فوقه - وفي يدها قصة تزجي بها الفراغ وكانت تحب الروايات البوليسية مثلي فلا يفوتها شيء مما ينقل إلى العربية في هذا الباب. وأنا مثلها وعسى أن يكون هذا هو الذي دهورني، ولكنه لم يدهورها فلا أدري ما علة إخفاقي وسر نجاحها؟. لا تعترض!! إني أعرف ما تريد أن تقول، ولهذا أقول لك إنها ليست أذكى مني وإن كان لا يسعني إلا أن أعترف أنها أمضى عزماً وأقوى إرادة وأقوم طريقاً إلى غايتها حين تكون لها غاية. وما أظن بها إلا أنها أرادت أن أعشقها فعشقتها، ولكن الذي يحيرني أنها تأبى على راحة القلب واطمئنان البال، ولا تنفك تظهر لي النفور من هذا الحب والكراهة له والزهد فيه. وأحسب أن هذه هي طباع المرأة، فهي تعني (أريد) حين تقول (لا أريد). . ما علينا. . انتهى الامتحان واستطعت أن أنام مرتاحاً ووسعني أن أدير عيني فيما حولي وأن أجعل لقلبي حظاً بعد طول الحرمان، ولكن سميحة كانت تنفيني عن البيت وتقول لي إني أتلفت صحتي فهي في حاجة إلى الهواء الطلق؛ وكان هذا صحيحاً لا شك فيه، ولكن هذه(171/12)
(الأستاذية) التي كانت تتكلفها معي كانت تثقل على نفسي. وكانت تخرج معي أحياناً ولكن كما يخرج المعلم مع تلاميذه الصغار إلى حدائق الحيوانات أو مرصد حلوان، فلا أشعر أني مع الفتاة التي أحبها، ولا أجد متعة أستفيدها من هذه الرحلات التي يطيب فيها الغزل عادة والتي كنت أمني بها نفسي وأحلم. وقد قلت لها مرة ونحن في (حديقة الأورمان):
(يا ستي ما هذا الحال المقلوب؟).
قالت: (أي حال؟. مالك؟.).
قلت: (لكأني أسير مع شرطي!).
فلم تضحك - وكنت أظنها ستفعل - فغاظني ذلك فقلت: (أليس حالاً مقلوباً أن نضحك في المطبخ ونعبس في الحديقة الحالية؟؟).
فسألتني مستغربة: (المطبخ؟؟ متى ضحكنا في المطبخ؟).
فقلت لها بضجر: (لا تكوني حرفية!! إنما أعني البيت وأنت تعرفين ما أعني فلا تغالطي).
قالت: (إن البيت ليس من مرادفاته المطبخ).
فسكت ولم أقل شيئاً - وماذا عسى أن أقول؟ -).
وحدث مرة أخرى وكنا معاً - على ما يبدو للناس، أما في الحقيقة فقد كان كل منا وحده - فضاق صدري، فقلت أرفّه عن نفسي بالغناء، فرفعت صوتي وانطلقت أغني:
(يا بت أنا بدّي أبوسك ... بس أبوسك!
وأطرب وأحظى بكؤوسك ... رقي شوية!)
فلم يرعني إلا قولها: (ليس أضر من الخمر ولا أقتل).
فقلت: (يا ستي إن المراد بالكؤوس هنا الشفاه الرقيقة، وبالخمر الريق العذب).
فقالت: (إخص!. . .).
فقلت مندهشاً: (إخص؟؟).
قالت: (إخص!. . .).
قلت: (طيب!. . .).
وهذا يريك من أي معدن صيغت سميحة، ولكني على هذا كنت أحبها حباً عظيماً لأني كنت واثقاً أن هذه قشرة نشرتها كلية الطب على صفحة معدنها الصافي، وستزول ولا شك مع(171/13)
الأيام.
وصح ظني، فقد كانت كما قلت لك تحب الروايات البوليسية حباً جماً، وكان قد صدر منها أخيراً رواية طويلة في مجلدين اسمها (السم في الدسم)، فاشتريتهما وغرقت فيهما - أعني في المجلد الأول - واستغنيت بهما عن هذه النزهات والرحلات التي لم أكن أفيد منها أي متعة، بل كنت أفيد منها التنغيص.
وكنت أخفيهما عن عينها مخافة أن تسطو عليهما، وكانت الرواية قد نفدت بسرعة، فلا سبيل إلى نسخة أخرى غير التي كانت معي إذا هي ضاعت، فلا عجب إذا كنت قد حرصت عليها وضننت بها. ولا أكتمك أن نفسي حدثتني أن أعذبها - أعني سميحة - بعد أن أفرغ من الرواية وأعرف سر الجريمة، وذلك بأن أخايلها بها وأحرك نفسها لها ولا أمكنها منها، ولماذا لا أعذبها كما عذبتني؟ ثم إن تعذيب المرأة أحياناً لا يكون من القسوة، فقد وجدت على ضآلة تجربتي وقلة خبرتي أنها تستحلي هذا - أعني المكايدة إذا لم تخرج إلى الإيلام ولم تجاوز الحدود المعقولة. . . ومع ذلك من يدري؟ فلعلها تستعذب العذاب بلا قيد أو شرط. . . لا أدري!
وفي إحدى الليالي عدت من مأدبة كنت مدعواً إليها مع لفيف من إخواني وأندادي، أقيمت لتوديع واحد منا مسافر إلى إنكلترا لإتمام تعليمه هناك، فلما رجعت إلى البيت دخلت غرفتي وأنا أمني النفس بساعةٍ جميلة أقضيها مع الروائي البارع الذي أبدع ذهنه صوغ هذه القصة الممتعة، وإذا بها قد اختفت. . وكنت قد دسستها بين المرتبتين المطروحتين على السرير، فإن أقاربي هؤلاء يخافون الفئران والصراصير، فيكدسون المراتب على السرير فتعلو جداً ويحتاج المرء إلى كرسي يصعد عليه. ولم أشك في أن سميحة سرقت روايتي، وأنها الآن تنعم بها في سريرها على عادتها حين تريد القراءة. وكانت الساعة الحادية عشرة فقدرت أن تكون قد قطعت مرحلة طويلة وبلغت العقدة التي لا يمكن أن يستريح القلب إذا لم يقف على حلها، فمضيت إلى غرفتها ونقرت ودخلت، فقالت: (خير إن شاء الله!)، فقلت وأنا أرفع نفسي لأجلس على حرف السرير - فإنه عال كما قلت لك -
(أوه لا شيء. . . إنما جئت لأتحدث معك قليلاً).
قالت بجفوة: (ليس هذا وقت الحديث فقم من فضلك).(171/14)
قلت: (بل قولي إنك تقرئين رواية (السم في الدسم). . أليست بديعة؟).
فاطمأنت لظنها أني فرغت منها، ففي وسعها الآن أن تمضي في قراءتها من غير أن تخاف أن أقطع عليها - بالسرقة أو الخطف - حلاوة المتعة، ورأيت إمارات هذا الاطمئنان في وجهها ففرحت فإن الانتقام يكون أوقع إذا خيب أملاً قوياً، وأطلتُ الحديث فسئمَت واشتهت أن تعود إلى روايتها، وقالت: (هل تنوي أن تنام هنا الليلة؟ إذا كنت تنوي هذا فقل لي لأنتقل إلى غرفة أخرى!).
ونهضت عن السرير ومضت إلى الشرفة ففتحتها وأطلت منها، فلمحت الرواية تحت الوسادة فما أسرع ما دسستها في جيبي، ثم قلت وأنا أمضي إلى الباب: (إذا كنت تكرهين وجودي إلى هذا الحد، فإني ذاهب إلى حيث. . .).
فقالت من الشرفة: (ألقت) وضحكت.
فلم يسؤني ذلك، فأن الذي يضحك أخيراً يضحك كثيراً كما يقول الإنجليز على ما حدثنا معلمنا؛ وأوصدت باب غرفتي بالمفتاح، واستوثقت منه بهزه مراراً وبقوة لأرى هل يستطيع محنق مغيظ أن يكسره، ثم قعدت على كرسي وراء الباب، ورحت أنتظر.
ولم يطل انتظاري، فقد اهتز الباب فصحت وأنا أتكلف الفزع: (من؟).
قالت: (افتح من فضلك!).
قلت: (إذا كنت تنوين أن تقضي الليل في هذه الغرفة فقولي لي لأنتقل إلى سواها).
قالت: (لا تكن فظاً. . . لماذا سرقت الرواية؟).
قلت: (بضاعتنا ردت إلينا. . هل عرفت من القاتل. . لعلك تظنين أنه (رودلف). كما كان المحققون يتوهمون؟؟ كلا يا فتاتي!. . . إن السر أعمق وأخفى من ذلك وإن الروائي لبارع حقاً. . والآن أرجو أن تذهبي فقد بلغت الفصل الذي يشقي صبر المرء إذا لم يتمه في مثل لمح البصر. . اذهبي ونامي يا حبيبتي واحلمي (بالصيني) فإن له لدخلاً في الأمر وعلاقة بالسر).
قالت: (صحيح؟.).
قلت: (طبعاً. . لقد عرفت ذلك منذ دقيقة واحدة).
قالت: (ألا تخبرني من القاتل؟؟ إني أكاد أجن ولا أستطيع أن أنام حتى أعرف هذا، فكن(171/15)
لطيفاً وأخبرني).
قلت: (حتى تكوني أنت لطيفة).
قالت: (ماذا تطلب قل وخذ وهات الرواية).
قلت: (الرواية كلها؟؟ لا!. إن ثمنها غال جداً. . . على أني بعد التفكير العميق أرى أن المساومة لا تليق ولهذا أرفض كل ما تعرضينه كائناً ما كان).
قالت برقة: (ترفض أن تعلم أني. . . أني. . . أني. . . أحبك؟) (بصوت خافت).
فانتفضت واقفاً وصحت (إيه؟).
قالت: (لا تصح هكذا. .).
ووضعت فمها في ثقب المفتاح وهمست: (يا عبيط. . إني أحبك. . هل تفهم؟. وأنوي أن أتزوجك على رغم أنفك؟. . فنضع لهذه المنافسة السخيفة حداً ونستطيع حينئذ أن نقرأ الروايات البوليسية كلها معاً. . تقرأ لي فأسمع. . وأقرأ لك فتسمع).
فاعترضت وقلت: (ولكني قد أحب أن أسرع وأقلب بضع صفحات ليطمئن قلبي، ولا تحبين أنت ذلك فيقع الخلاف).
قالت: (كلا. . على كل حال. . سأكون واثقة أن الرواية باقية في البيت فأنا أتعهد لك أن أقدمك على نفسي وأتركك تسرع أو تبطئ كما تحب. . وحسبي أن تترك لي فتات المائدة).
فأثر في نفسي هذا الإخلاص والإيثار. . وأي إيثار أعظم، وأي تضحية أكبر، من أن تتركني أقرأ - أو أتم - رواية بوليسية قبلها؟؟ هذا إخلاص وإيثار لم يسمع - أو على الأقل لم أسمع أنا - بمثلها. فلا عجب إذا كنت قد فتحت الباب بسرعة وفتحت مع الباب ذراعيّ لها فدخلت في ذراعي قبل أن تدخل من الباب.
وكان لا بد أن أجزيها إخلاصاً بإخلاص، وإيثاراً بإيثار، فدفعت إليها الرواية وقلت: (إقرئيها قبلي يا نور العين).
إبراهيم عبد القادر المازني(171/16)
صور سياحة
3 - معاهد باريس
الحي الجامعي والمدينة الجامعية ومسجد باريس
بقلم سائح متجول
لا ريب أن ما تتمتع به فرنسا وباريس في مصر من حب وتقدير يرجع قبل كل شيء إلى غرسها العلمي والثقافي؛ وإذا كان هذا الغرس يذبل اليوم ويتضاءل لأن عوامل كثيرة جديدة دخلت في الثقافة المصرية المحدثة، فأن الثقافة والآداب الفرنسية ما زالت تحتفظ في مصر بكثير من جاذبيتها وسحرها.
لقد تلقى كثير من المصريين علومهم بفرنسا، وما زالوا لثقافتها رسلاً مخلصين.
بيد أنه من حسن الطالع أن هذا الجيل المتعصب لثقافته الأجنبية يضمحل اليوم؛ ذلك أن مصر يجب ألا تكون ميداناً بعد لنضال الثقافات الغربية التي تبغي دائماً من بسط نفوذها العلمي والثقافي أغراضاً خاصة، ويجب أن تسير مصر في تكوين ثقافتها القومية على مبدأ الاختيار الحر بعيداً عن دعاية أولئك الرسل المتعصبين.
إن فرنسا تتمتع منذ الأحقاب بسمعة جامعية وعلمية راسخة، وما زالت باريس بجامعتها الشهيرة كعبة الطلاب من سائر الأنحاء والأمم، وما زال حيها الجامعي أو الحي اللاتيني على تقشف مظهره من أشهر أحيائها وأجدرها بالحب والعطف، وأغناها بالذكريات.
ففي الحي اللاتيني يتفتح الذكاء الفرنسي، وفيه تشع العبقرية الفرنسية، وفيه ينهل ألوف من الشباب الأجنبي مورد الثقافة الرفيعة، ويلمسون كثيراً من نعم النظم الديموقراطية التي تسود أفق الحياة العامة في فرنسا.
وفدنا على باريس في صميم الصيف والحياة الجامعية معطلة، فلم يتح لنا أن نرى شيئاً من مظاهر نشاطها، ولكنا مع ذلك طفنا بأرجاء الحي الجامعي مراراً ولمحنا آثار الصبغة الجامعية تطبع الحي في معالمه، وفي فنادقه ومقاهيه، ومظاهر حياته المتواضعة.
يشغل الحي الجامعي ركناً من أقدم أركان باريس وأكثرها تواضعاً، كما يشغل حينا الأزهري أقدم أركان القاهرة وأكثرها تواضعاً؛ وقوام الحي الجامعي شارع سان ميشيل:(171/17)
ففي ضفته اليسرى يقع ميدان السوربون. وشارع سوفلو، وفيما بينهما وبين شارع سان جاك تقع السوربون والكليات المختلفة الملحقة بها فيما بين دروب وشعاب ضيقة قاتمة؛ وفيما بينهما أيضاً تقع عدة من المعاهد العلمية القديمة مثل كلية (لوي الأكبر)؛ ومن الحق أن يقال إن هذه المجموعة القديمة من المباني القاتمة لا تتفق في مظاهرها المادية المتواضعة مع ما لها من سمعة جامعية مؤثلة؛ بيد أن هذا الحرص على القديم ربما كان في ذاته مثاراً للإجلال والإعجاب بهذه المعاهد التالدة التي يرجع بعضها إلى نحو سبعمائة عام، فنحن نعرف أن معهد السوربون أسس في منتصف القرن الثالث عشر، في عهد لويس التاسع، وكان في الأصل معهداً لتدريس العلوم الدينية، وأن تنظيم الكليات الجديدة في السوربون يرجع إلى عصر نابليون، أي إلى نحو قرن وربع.
وحي سان ميشيل الذي يضم هذا الحشد الجامعي، كما قلنا حي متواضع بيد أنه حي عامر ضخم، ويمتد بولفارسان ميشيل من أحد طرفيه إلى مونبارناس، وشارع (البور رويال) وما زال يخترقه إلى اليوم خط الترام بعد أن ألغيت خطوطه من معظم الشوارع الكبرى؛ ويتصل من الناحية الأخرى بشارع فوجيرار على مقربة من الأوديون وحديقة اللوكسومبور التي تبث نسيمها الصبوح إلى الأحياء المجاورة، والتي يهرع إليها جمهور الطلبة والشعب يتفيأون ظلالها ورياضها؛ وفي سان ميشيل والشوارع المتفرعة منه عدة من الفنادق الرخيصة التي تنم عن تواضع روادها؛ وهنالك أيضاً طائفة من المكتبات التي تتاجر في الكتب المستعملة؛ وإنك لتلمس على الجملة في كل ناحية من أنحاء سان ميشيل وما إليه ما يدل على صفة الحي المتواضعة النبيلة معاً.
ولا بد لنا بهذه المناسبة أن نذكر كلمة عن المدينة الجامعية التي تربطها بالحي اللاتيني أوثق الروابط؛ والتي لا يعرفها كثيرون من المصريين الذين درسوا في فرنسا لأنها أنشئت منذ أعوام قلائل فقط.
تقع المدينة الجامعية في ظاهر باريس من جهة الشمال الشرقي في شارع جوردان في بسيط أخضر من الحدائق والحقول النضرة؛ وقد كان من حظي أن زرت المدينة الجامعية وطفت بأنحائها برفقة مدموازيل ليجران، وهي آنسة رفيعة الثقافة تتولى منصباً في إدارة المدينة الجامعية نفسها، وهي التي تفضلت بالشرح والتعريف لكل ما سألت وشاهدت.(171/18)
كان أول من فكر في هذا المشروع الجليل عضو من أعضاء مجلس الشيوخ غاب عني اسمه، فدعا إليه في المجلس وفي الصحافة، ولم يلبث أن صادف نجاح التحقيق؛ وكان المثري الأمريكي روكفلر أول من اهتم بأمره ونفحه بهبة مالية حسنة ساعدت على تحقيقه.
وتنقسم المدينة الجامعية إلى قسمين: القسم العام ويشمل الأبهاء والمرافق العامة وإدارة المدينة الجامعية نفسها، وهذا القسم هو روح المدينة وهيكلها الحقيقي؛ والقسم الخاص، وهو الذي يضم دور الطلبة لمختلف البلدان، وهو خاص بسكنى الطلبة؛ وفي القسم الأول حديقة بديعة وعدة أبهاء كبيرة للمطالعة والكتابة والجلوس قد أثثت جميعها ببساطة وإتقان معاً؛ وهنالك مطعمان كبيران قد صفت فيهما موائد بسيطة نظيفة، وكذلك مقهيان كبيران؛ وفي وسع الطلبة أن يجلسوا للمذاكرة أو الكتابة أو السمر في هذه الأبهاء الشاسعة المنيرة، وأن يتناولوا الطعام أو القهوة أو الشاي أو غيرهما في تلك المطاعم أو المقاهي النظيفة بأثمان زهيدة جداً تناسب أحوالهم وماليتهم؛ ووجبة الطعام الحسنة تكلف الطالب من 3 إلى 5 فرنكات، وثمن المشروب فرنك أو نصفه، وهذه أثمان لا تحلم بها في مطاعم المدينة ومقاهيها؛ وهناك حمامات وملاعب ومسرح يقوم الطلبة بالتمثيل فيه أو تمثل فيه الفرق التي تدعوها إدارة المدينة لتسلية الطلبة، وهنالك في الطابق الأرضي مكتبة بدئ بتأثيثها وإعدادها لتغذي الطلبة وتعاونهم على المذاكرة والبحث: هذه هي محتويات القسم العام للمدينة الجامعية شرحناها بإيجاز؛ وإنك لتشعر أثناء الطواف بهذه الأبهاء والغرف الشاسعة التي تشرف على الحدائق والحقول النضرة، إنها لأبدع ملاذ يمكن أن يأوي إليه الطالب في أوقات المذاكرة والفراغ معاً، بعيداً عن صخب المدينة وضجيجها، وإنك لتأنس شعوراً من الغبطة والإعجاب بما هيئ للشباب من وسائل الراحة والمتاع البريء.
وأما القسم الخاص من المدينة الجامعية فيحتوي على عدة دور كبيرة أنشئت إلى جانبي القسم العام عن يمينه وعن يساره على طول شارع جوردان؛ لكل دولة دارها؛ فهنالك دور لإنكلترا وأمريكا واليابان وفرنسا وهولندا وبلجيكا وكندا وغيرها؛ وتخصص هذه الدور القومية التي تتولى الدول المختلفة تشييدها على أرض تمنح لها، لسكنى طلبة هذه الدول، فدار إنكلترا خاصة بالطلبة الإنكليز، ودار أمريكا بالطلبة الأمريكيين، وهولندا بالهولنديين، وهكذا؛ وأبدع الدور وأعظمها هي دار الولايات المتحدة؛ وهنالك دار صغيرة ولكن أنيقة(171/19)
لليابان؛ وقد أعدت هذه الدور لتكون فنادق للطلبة وجهزت بوسائل الراحة والنظافة، وأثثت ببساطة واتقان؛ ويستطيع الطالب أن يجد سكناً في دار البلد الذي ينتمي إليه بأجر شهري قدره مائة فرنك؛ ويستطيع أن يجد غرفة خاصة حسنة الأثاث بأجر شهري قدره مائتا فرنك، وتغص هذه الدور بالطلبة لما لها من مواقع جذابة تغمرها الشمس والضوء والهواء، ولما للسكن فيها من المزايا المريحة.
ولقد وددنا أن نرى في المدينة الجامعية بين هذه الدور الأنيقة الضاحكة، دارا مصرية! ففي باريس يدرس دائماً عدد كبير من الطلبة المصريين، وإنها لدعاية حسنة لمصر المستقلة الفتية أن يكون لها دار جامعية في العاصمة الفرنسية إلى جانب دور الأمم الأخرى، وإنها لنعمة سابغة لطلبتنا أن يكون لهم في باريس دار مصرية يأوون إليها بعيداً عن صخب المدينة ومغرياتها؛ قهل تفكر وزارة المعارف في هذه المسألة الهامة، وهل توليها شيئاً من عنايتها وعطفها؟ إنا لنرجو مخلصين داعين بالتوفيق والتحقيق.
هذا ولا تنس وأنت في باريس أن تزور (المكتبة الوطنية) في شارع ريشليو، ففي هذا المعهد الثقافي الضخم كنور زاخرة من الكتب في مختلف العلوم والفنون؛ وفي المكتبة الوطنية قسم شرقي ضخم، وقسم خاص بالمخطوطات العربية، ولكل قسم فهارسه المنظمة، ومرشدون يفهمون أعمالهم حق الفهم، وقد لفت نظرنا عند مراجعة فهارس المخطوطات العربية عدة أسماء مخطوطات نادرة مثل: أحاديث الإمامة والسياسة (رقم 1566)، وحسن المسالك لأخبار البرامك (2107) وعيون المعارف للقضاعي (1490)، وتراجم الصواعق في وقعة الصناجق (1853)، وتاريخ المهديين والحفصيين (1874)، وتاريخ مصر لابن زولاق (4727). بيد أننا لم نجد متسعاً من الوقت لبحث هذه المخطوطات لمعرفة حقيقتها ومبلغ أهميتها.
وهنالك في باريس صرح لابد لكل مسلم أن يزوره، هو مسجد باريس؛ ويقع المسجد في قاصية باريس، وفي حي من الأحياء القديمة المتواضعة على شوارع جوفري سانت هيلير، وجورج دوبلا وديبانتون، وقد بني على الطراز المغربي، ويشرف بابه العمومي ومئذنته على شارع ديبانتون، وفي فنائه حديقة صغيرة حولها أروقة أربعة تفضي إلى أبهاء وأجنحة ومرافق مختلفة، وفي الجهة اليمنى من الفناء يقع المصلى، وهو بهو شاسع أنيق،(171/20)
قد فرش بالبسط النفسية، وبه عند القبلة منبر مكسو بالديباج الأخضر من إهداء مليكنا المغفور له فؤاد الأول؛ ولقد يممننا في عصر ذات يوم إلى هذا الحرم الإسلامي المقدس الذي يحفه الصمت العميق من سائر نواحيه، ولم نتمالك أن نجثو خاشعين لله عز وجل، وان نؤدي ما تيسر من الصلاة مغتبطين لذكر الله ورسوله في هذا الحرم النائي عن أرض الإسلام.
وبالمسجد مكتبة صغيرة ومعهد قيل لنا إنه تلقى به محاضرات إسلامية مختلفة، ومستشفى صغير لبعض الأمراض الخطيرة؛ وبه أيضاً حمام عربي، ومقهى ومطعم عربي، قد صفت موائده في حديقة داخلية صغيرة تقع في الجهة الشرقية، وتعزف فيها الموسيقى العربية أحياناً، ويقوم بهذا العزف بعض الموسيقيين المغاربة. وقد تنولنا القهوة العربية لأول مرة في باريس في هذا المنتدى الأنيق وسمعنا الموسيقى العربية في مجتمع قوامه مسلمون من مختلف الأمم.
بيد أن شعور الغبطة الذي قد يأنسه المسلم مدى لحظة لقيام هذا الصرح الإسلامي في باريس لا يلبث أن يمازجه شعور بالمرارة والأسف حين يستعرض المعاني والظروف لتي أقيم فيها. إن فرنسا لم تعمل لإقامة هذا المسجد حباً بالمسلمين أو احتراماً لشعائرهم ومشاعرهم، وإنما أقامته أداة من أدوات التأثير الاستعماري، وهو في الواقع رمز لسيادتها على الأمم الإسلامية التي تسودها أكثر منه رمزاً للعطف والتقدير.
وإلى هنا نقف اليوم؛ وسنحدثك في الفصل القادم عن الحياة الليلية في باريس، وعن بعض مظاهر المجتمع الباريزي.
(? ? ?)(171/21)
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
- 5 -
إلى هنا انتهينا من بيان أثر نظرية السعادة الفارابية في رجال المدرسة الفلسفية الإسلامية وفي طائفة من المتصوفة الذين تشوبهم روح فلسفية. والآن يجدر بنا أن نبين ما إذا كانت هذه النظرية قد أثرت في الصوفية الآخرين المعتدلين أو المحافظين إن صح هذا التعبير. وإن مهمتنا في هذه المرحلة أشق منها في سابقتها، لأنه ليس بغريب أن تُفترض صلة بين فلاسفة وصوفية متفلسفين. أما محاولة إثبات علاقة بين الفلسفة والتصوف البحت الذي يرى من واجباته الأولى محاربة الفلاسفة والمتفلسفين فهذا أمر عسير، ومهما يكن فسندرس هذه النقطة بنفس الطريقة والمنهج اللذين درسنا بهما النقط السابقة مبينين أولاً السر فيما ذهبنا إليه من تقسيم الصوفية إلى معتدلين ومتطرفين.
لم يكن الإسلام فسيح الصدر للرهبنة المسيحية والتقشف الهندي، وكثيراً ما دعا إلى العمل للدنيا والتمتع المباح بلذائذ الحياة: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) فهو بعيد إلى حد كبير عن طريقة القسس والرهبان في بيعهم وصوامعهم وسنة فقراء الهند وعبادهم في ألمهم وعذابهم المستطاب. ومع هذا فكل دين كائناً ما كان يشتمل بعباداته ونصائحه على قدر من التصوف لا يحتمل الشك. وسبق أن أشرنا إلى أن هناك عوامل كثيرة وتعاليم مختلفة: هندية وفارسية وإغريقية ومسيحية أثرت في تكوين التصوف الإسلامي، ولكن يجب أن نضم إلى هذه المؤثرات الخارجية عاملاً آخر داخلياً وجوهرياً، ألا وهو الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبعض الأعمال الدينية. ولو لم يكن في طبيعة الإسلام ما يسمح بشيء من التصوف ما وجد التقشف الهندي والرهبنة المسيحية إلى المسلمين سبيلاً. وقد دار نقاش طويل بين المستشرقين متعلق بأثر القرآن في تكوين نظريات الإسلام التصوفية، وهم في هذا فريقان: فريق ينكر هذا الأثر وآخر يثبته. وفي مقدمة الفريق الأول يجب أن(171/22)
يذكر البارون كارادي فو الذي يزعم (أن القرآن لم يكن مطلقاً الكتاب الذي استطاع مبدئياً أن يجتذب الصوفية نحوه كثيراً، لأنه متعلق جداً بالأمور الخارجية وليس فيه الحنو الداخلي والروحي حقيقة). وعلى عكس هذا يقرر أستاذنا ماسنيون، وبجانبه الأستاذ مرجليوث، (إن في القرآن البذور الحقيقية للتصوف. وهذه البذور كفيلة بتنميته في استقلال عن أي غذاء أجنبي). ونحن نعتقد أن القرآن أعان الصوفية كما أعان المتكلمين والفقهاء على نصرة آرائهم. فإن كتاب الله في العالم الإسلامي قاموس للنحاة واللغويين، ومذهب فلسفي للباحثين والمفكرين، وذكر يتقرب به المبتهلون والمتضرعون، ولائحة يرجع إليها المشرعون، وعقيدة يحتج بها المتكلمون. وكثيراً ما حاول أصحاب الآراء الجديدة والنظريات الحديثة الاحتجاج به والاعتماد عليه، بل إن هؤلاء أحوج إلى نصرته من غيرهم فأن آية منه قد تقرِّب آراءهم إلى من حولهم وتكسب نظرياتهم سلطاناً دينياً وصفات شرعية. فالصوفية إذن لا فرق بين متطرفيهم ومعتدليهم أفادوا من القرآن بقدر ما أفاد غيرهم من الباحثين. وأما ما في هذا الكتاب الكريم من حنو ورقة وعطف وشفقة فأمر لا يقبل الشك. ويدهشنا أن البارون كارادي فو لم ينتبه إليه؛ ذلك لأن القرآن لا يخاطب العقل وحده بل يناجي كذلك القلب؛ ولا يعني بالظاهر أكثر من عنايته بالباطن. وكم فيه من تحاليل شائقة وأساليب جذابة تصف أحوال النفس وأحاديثها الداخلية. وكيف يتصور أن يخلو كتاب سماوي من مناجاة القلوب والأرواح وهو إنما أعد أولاً وبالذات للجماهير التي تحس قبل أن تفكر وتسير غالباً وراء العاطفة والوجدان. وإنه لجهل بطبيعة الأديان أن يقال إن تعاليمها مصوغة في قوالب منطقية ولغة عقلية بحتة. ويطول بنا البحث لو حاولنا أن نسرد هنا كل الآيات القرآنية المتصلة بالقلب والروح والتي استطاع الصوفية استغلالها في نواح كثيرة، ونكتفي بأن نشير إلى دراسة تحليلية عميقة أبان فيها الأستاذ ماسنيون الألفاظ الصوفية المقتبسة من القرآن الكريم. فمصطلحات المتصوفة فضلاً عن نظرياتهم ترجع إلى أصل في كتاب الله. وغني عن البيان أن حديث المعراج وقصة يوسف كانا أساساً لنظريتين هامتين من النظريات الصوفية وهما الجذب والحب. والعلم اللدني الذي يتباهى به أهل الكشف والواصلون صورة مأخوذة عن الخضر عليه السلام الذي قال الله في شأنه: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً). وعلى هذا(171/23)
يجب أن نبحث عن أصول التصوف الإسلامي في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كما نبحث عنها في الصوامع الهندية والبيع اليهودية والكنائس المسيحية وتعاليم مدرسة الإسكندرية. غير أنه لا يفوتنا، وهذا أمر ينبغي التنبه إليه، أن الألفاظ والآيات القرآنية مرت بأدوار مختلفة من حيث مدلولها وتفهم الناس لها. فقد يفهم صحابي من لفظة قرآنية ما لا يفهمه تابعي أو رجل من رجال القرن الثالث الهجري. ولسنا في حاجة إلى أن نشير إلى مرونة الألفاظ القرآنية ومسايرتها للزمن والتقدم العلمي. ولو جارينا متصوفي العصور الأخيرة لرددنا كل بحث صوفي إلى آية قرآنية أو حديث نبوي، وهذا إسراف من غير شك. فلا يصح إذن أن نبحث عن أساس التصوف الإسلامي في القرآن وحده أو فيه كما فهمه الصوفية المتأخرون، بل يلزمنا أن ننشد هذا الأساس في الألفاظ والآيات القرآنية كما بدت للمتصوفين الأول. يقول الأستاذ نكلسون: (صواب أن نعد المتصوفة بين خواص دارسي القرآن، ولكن لا يصح، فيما أظن، أن نعتبر التصوف مجرد نتيجة للدراسات القرآنية).
وفي هذه الجملة القول الفصل والحكم السديد في تلك الخصومة الآنفة الذكر التي شجرت بين المستشرقين. فأنا لا نسلم بأبعاد القرآن رأساً عن النظريات الصوفية، كما لا نوافق على عده وحده كفيلاً بخلق تصوف كامل. ولا يفوتنا أن نشير أخيراً إلى أن هذه المعركة فقدت اليوم كثيراً من أهميتها.
بدأ التصوف فعلاً على صورته الفطرية البسيطة منذ الصدر الأول للإسلام، فلوحظ على كثير من الصحابة ميلهم إلى الزهد والتقشف وإعراضهم عن الدنيا، بل لقد خطا بعضهم في هذه السبيل خطوات فسيحة وبالغ فيها مبالغة واضحة. بيد أن هؤلاء الزهاد والمتقشفين لم يتسموا باسم خاص ولم ينتسبوا إلى طائفة معينة، ولم تطلق كلمة (صوفية) على جماعة محددة إلا في أواخر القرن الثاني للهجرة. وما زال هذا النوع من السلوك ينمو ويزيد أنصاره إلى أن ولد بعض الأبحاث والنظريات، والعلم نتيجة العمل، والنظرية في الغالب وليدة التطبيق. لهذا رأينا رجالاً من مفكري القرن الثالث الهجري، وعلى رأسهم المحاسبي وذو النون المصري، يبدءون بوصف بعض الأحوال النفسية والظواهر الصوفية، ومخلفاتهم من أقدم ما كتب في هذا الباب. ونظرية الاتحاد بوجه خاص ترجع إلى عهد(171/24)
متأخر، فإن البسطامي هو أول من قال بها. ثم جاء الجنيد والحلاج فرفعاها إلى عنان السماء. وهذه النظرية أدق شيء في التصوف الإسلامي، وقد قسمت إلى طائفتين: طائفة تقبلها وأخرى ترفضها. والقرآن لا يشير إليها مطلقاً بعبارة صريحة، بيد أن أنصارها لم يعدموا الحيلة في دعمها ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي نستطيع أن نذكر منها قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (وهو معكم أينما كنتم) (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سدسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (ما تقرب إلى المتقربين بمثل أداء ما افترضت عليهم، ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى يحبني وأحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ويصره الذي يبصر به).
بيد أن الاتحاد الصوفي يؤدي إلى الاشتراك في ذات البارئ جل شأنه وحلول اللاهوت في الناسوت. وقبول شيء إلهي في داخل العبد معناه الوحدة الربانية. وكل الخلاف بين الأشاعرة والمتصوفة يتلخص في هذه النقطة. فالأشاعرة لا يقبلون أن ينزل الإلهي في الإنسان ولا ن يصعد الإنساني إلى الإلهي، ويرفضون ضرورة مذهب الحلول وإن كانوا يسلمون بالتصوف في جملته. إلا ن التصوف عندهم مقصور على وصف بعض الأحوال النفسية ودراسة الأخلاق العملية التي تسمو بالمرء إلى درجة الكمال دون أن تدعي الوصول إلى حلول الحلاج المزعوم. ومن هنا خرجت الصوفية المحافظة وانقسم المتصوفون إلى معتدلين ومتطرفين، وليس هذا التقسيم بالجديد في العالم الإسلامي ولا في كل المدارس التي تسودها نزعة دينية. وإنا نلاحظ في مختلف الدراسات الإسلامية - لا فرق بين التوحيد والفقه والتصوف - أن هناك شعبتين متميزتين: شعبة السنيين وشعبه المبتدعين، أو شعبة المحافظين وشعبة الأحرار. وإذا كان الغزالي هو أكبر خليفة لأبي موسى الأشعري في نصرة مذهب أهل السنة الكلامي هو بحق مؤسس التصوف السني. وكأنما أخذ على عاتقه نصرة أهل السنة على طول الخط ومحاربة أهل البدعة كيفما كانت فرقهم ونحلهم، فلاسفة كانوا أو باطنية، متصوفة كانوا أو متكلمين، حلاجيين كانوا أو معتزلة، وقد آذت حملته الفلاسفة والمتفلسفين بقدر ما أخذت بيد أهل السنة من الكلاميين. أما التصوف السني فهو تقريباً واضع أصوله وقواعده ومبين طرقه ووسائله في إحياء(171/25)
علوم الدين الذي أضحى عمدة المتصوفين المتأخرين بلا استثناء. نعم إن الغزالي يجهر هنا بنظريات متناقضة تنقض آراءه الكلامية والفلسفية، فتراه مثلاً يحارب محاربة عنيفة ويرفض رفضاً باتاً نظرية الاتحاد الحلاجية في كتاب الإحياء على حين أنه يميل إليها ويقول شيئاً يشابهها تمام المشابهة في كتاب مشكاة الأنوار، وهذه نقطة ضعف لاحظناها عليه من قبل، وعل تطوراً حدث في آراء الرجل هو السر في هذه النظريات المتناقضة، ومهما يكن فكتاب الأحياء هو مصدر التصوف السني من غير جدال، وعليه نعتمد أولاً هنا أولاً وبالذات، وهو الذي أثر وحده تقريباً من بين كتب الغزالي الصوفية في المتصوفين المتأخرين. وما كان الغزالي لينكر التصوف وقد ركن إليه بعد أن خبر الدراسات الأخرى ولم يطمئن إليها ووجد فيه حصنه الحصين. فهو يرى أن علم القلوب لازم لزوم علم المرئيات والملموسات، لأن هناك عالمين عالم الباطن وعالم الظاهر. فإذا كان بعض العلوم يتولى عالم الظاهر بالدراسة والشرح فلا بد من علم خاص لتوضيح عالم الباطن. والمعلومات نفسها ضربان: حسية وصوفية أو ظاهرية وباطنية؛ وفي هذا التقسيم ما يقابل أنواع العلوم التي أشرنا إليها من قبل. ولكن قد يقال إن وسلتنا في تعرف المعلومات الظاهرية هي الحواس فبأي طريق نستطيع الوصول إلى المعلومات الباطنية؟ والأمر في هذا يسير إذا ما رجعنا إلى الصوفية فإنهم يقولون إن التقشف والزهد والفضائل العملية جميعها سبيل إدراك الحقائق الخفية والإلهامات التي تجاوز عالم السمع والبصر. فالمعرفة إذن هي غاية التصوف السامية. أما اتحاد العبد مع الرب فهذه قضية منقوضة عقلاً وغير مقبولة نقلاً. وإذا شئنا أن نقارن بين تصوف الغزالي وتصوف الفارابي وجدناهما متفقين على رفض مذهب الحلول الذي ذهب إليه الحلاج والإلهام الذي يعمل له الغزالي يشبه من وجوه كثيرة الاتصال الذي جد في طلبة الفارابي. وكلا الرجلين يؤمن بوجود معارف باطنية وراء الحقائق الحسية، وهذه غاية الحياة العملية والنظرية ومقصد الصوفية والأنبياء. ولقائل أن يقول إن الغزالي يستمد إلهاماته من الله مبشرة على حين أن الفارابي يقنع بالاتصال بالعقل الفعال. ولكن هذا الفرق في الواقع سطحي فأن العقل الفعال في رأي فلاسفة الإسلام جميعاً ليس إلا فاصلاً معنوياً ومرحلة تدرج بين العبد وربه، وكل فيض مصدره الأخير والحقيقي هو الله جل شأنه. وعلى هذا يمكننا أن نستنتج من كل ما سبق أن(171/26)
نظرية السعادة الفارابية أثرت في جميع المتصوفة المسلمين المتطرفين منهم والمعتدلين أو الأحرار والمحافظين.
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور(171/27)
في الأدب المقارن
أسباب النباهة والخمول
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الممارسون للآداب نثراً ونظماً في كل أمة وفي كل جيل أكثر من أن بعدوا، لأن الإفصاح عن خوالج النفس وتأثراتها بما تحس وما ترى طبعي في الإنسان، وإنما يَنْبُهُ من أولئك الممارسين للآداب القليلون ويخلد الأقل؛ يميزهم من غيرهم سداد الفكر ولطف الشعور وروعة الأسلوب، ومن أولئك يكون أعلام كل أدب، ترفعهم عبقريتهم فوق رؤوس معاصريهم وتمشي بهم على عواتق الأجيال.
غير أن للمصادفات والحظوظ والظروف دخلاً كبيراً وصغيراً في صعود الأدباء وهبوطهم، فتَعدِل أحياناً وأحياناً تجور. والأرجح أنها كانت كثيرة الجور والإجحاف في الأدب العربي، وكانت أشبه بالعدل والإنصاف في الأدب الإنجليزي، فقد صاحبت الأدب الإنجليزي ظروف طبيعية مساعدة تسمح للعبقرية الفردية أن تسلك سبيلها غير معتاقة، وأحاطت بالأدب العربي عوامل عارضة أدت إلى رفع بعض من لا يستحقون الرفعة بجوار من يستحقونها، وإلى خفض من هم أولى بالرفعة والنباهة.
فقد ترعرع الأدب العربي ونضج وقومه أميون لا يقيدون في القرطاس آثار أدبائهم وأخبارهم، وإنما يروونها رواية ويتوارثونها تواتراً جيلاً بعد جيل؛ والرواية أقل من الكتابة نصيباً من الدقة وحفظ الآثار والتمييز بين الغث والسمين والبصر بما يستحق البقاء، فكان من جراء ذلك أن ضاع شعر كثير ونثر أكثر، واندثرت أخبار أدباء لعل منهم من كان أجدر بالخلود وأجدر بإعجاب الأجيال التالية ممن خلد؛ ولم يصلنا من أخبار قرون طويلة قبل الإسلام وبعده إلا كل مبتور غير مستوثَق.
فلما صارت الرواية صناعة يطلب بها علو الذكر ودرُّ الرزق وتقريب الأمراء، كان ذلك ضغثاً على إبالة، إذ اشتد عبث الرواة بما بين أيديهم من الأدب العربي، وشوهوه بالبتر والوصل والاختراع والنحل، وحملهم تنافسهم وتكاثرهم بسعة العلم على تخليد أسماء(171/28)
أنصاف الأدباء وأشباه الشعراء، وخلقوا شعراء وفصحاء لم يخلقوا من قبل، وعزَوْا إلى غيرهم من الآثار ما هم براء منه؛ وهكذا خمل من رجال الأدب من عاشوا في عالم الأحياء، وعاش في عالم الأدب من لم يشهدوا نور الحياة.
ولما استُعملت الكتابة الخطية وقل الاعتماد على الرواية، ظلت الكتب نادرة والاستنساخ أمراً غير يسير، ولم تكن الكتب في شيء من الكثرة التي صارت إليها بعد انتشار الطباعة. ثم تعاورت الدولة العربية الغزوات البربرية المدمرة، فأباد الوثنيون في الشرق، والنصارى في الأندلس، كرائم المؤلفات ونفائس الكتب العربية، فذهبت بذهاب ذلك آثار أعلام من الأدباء واندثر ذكر آخرين.
وكان للمشادات والمقارعات الدينية والمذهبية والعصبية والسياسية والجنسية التي صحبت قيام الدولة الإسلامية ولازمتها في حياتها يد طولي في العبث بالتراث الأدبي، فأخمل ذكر أدباء انهزم حزبهم أو انخذل مبدؤهم، ونُشر عمدا ذكر من ناصروا الغالبين في كل تلك الحلبات، وتبارى الغالبون والمغلوبون في العبث بتراث أسلافهم الأدبي ونسبة الروايات الملفقة إليهم، ولهم من انتشار الرواية وندرة الكتابة خير معوان.
ويتصل بهذا تقريب الخلفاء والأمراء لرجال الأدب، لا برّاً بالأدب ولكن طلباً للأبهة وبعد الصيت، فقد أصبح اتصال الشاعر أو الأديب بالخليفة أو الأمير ضمان النباهة وسيرورة آثاره في البلاد، كما كان الإخفاق في التقريب إلى أولئك الحاكمين داعياً في كثير من الأحيان إلى خمول الأديب، فنَدَرَ من أعلام العربية النابهين من لم يتصل بالخلفاء والوزراء. ولا يسع المرء إلا أن يتصور أن عصور أبي نواس ومسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري كانت حافلة بأندادهم، وإنما خلصت بهؤلاء لطافة حيلتهم إلى حضرة الأمراء فاشتهروا، وعثر بغيرهم مسعاهم فخملوا. ولقد خمل ذكر ابن الرومي طويلاً وإنه لأشْعَرُ ممن ذكروا جميعاً؛ ولعل من أسباب خمول ذكره فشله في الاتصال بالخلفاء والوزراء.
ولما استرقَّت جوائز الملوك أعناق الشعراء، وأعمل هؤلاء الحيل، وأذالوا الشعر في استرضاء الممدوحين واستجداء الأثرياء، ترفع كثير من ذوي الشرف والأدباء عن الهبوط إلى ذلك المجال، وأحجموا عن نظم الشعر أو التوفر عليه أو الاشتهار به، ولسان حالهم قول الشافعي:(171/29)
ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد
وإن يكن أبو تمام يقول:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
فإنما كان يعني شعر المتقدمين من جاهليين ومخضرمين ممن تغنوا في شعورهم بالنجدة والمروءة والعزة، وما نخاله كان يعني الشعر الذي كان ينظمه هو وأضرابه واستجداء للرؤساء.
وبذلك حُرمت العربية طائفة من الشعراء لعلهم أسمى طباعاً وأشرف أغراضاً وأصدق شاعرية وأشد حباً للفن من مرتزقة المداحين الذين استأثروا بالجوائز ونباهة الذكر.
ولما فسدت الفصحى تدريجاً باختلاط العرب بالأعاجم العرب بالأعاجم، اشتد الحرص على آثار المتقدمين وتعاظم الإعجاب بهم والرفع من شأنهم، لا لشيء سوى صحة لغتهم واستقامة أساليبهم، وإن كانت أفكار كثيرين منهم على جانب من السذاجة، وأغراض شعرهم على حظ من البساطة، كالحطيئة وابن أبي ربيعة وكثير من الجاهليين.
فهذه عوامل شتى فعلت فعلها البعيد المدى في التراث الأدبي العربي، وساعدت على إعلاء ذكر رجال وخفض آخرين، وهي: ندرة الكتب والاعتماد على الرواية، والأغراض المذهبية، وتسخير الأمراء للشعر، وتكسب الشعراء به، وفساد لغة الكلام، وكوارث الغارات. تحكمت كل هاتيك في أقدار الأدباء وحظوظهم من النباهة، ولم يكن مردّ أمرهم دائماً إلى النبوغ الشخصي والذوق الناقد، فلا نبعد عن الصدق إذا قلنا إن الأدب العربي لم يحتو على خير عناصر المجتمع العربي أو يمثله أصح تمثيل، وإن سجل تاريخ الأدب العربي لا يحتوي على جميع أفذاذ الموهوبين من أصحاب البيان الذين أنجبهم المجتمع العربي.
ومن ثم احتل مكان الصدارة من تاريخ الأدب العربي بعض من لا يستحقون ذلك المكان، ومن لا يعبرون خير تعبير عن أفكار عصورهم وشعورها؛ ومنهم من نال من رفيع الذكر ما هو أهله، ولكنه لم ينله لمزاياه الصحيحة وأسرار نبوغه الحق بل لمساعدة بعض تلك العوامل السالفة الذكر له؛ فقد كان وما يزال من النقاد من يعظم المتنبي لا لأشعاره الصادقة التي أودعها عصارة روحه الكبير، بل لاختراعاته الكاذبة في مدح سيف الدولة وتهنئته(171/30)
وتعزيته، مِن مثل قوله:
إذا نحن سميناك خلنا سيوفنا ... من التيه في أغمادها تتبسم
وبجانب تلك النباهة غير المستأهلة أو المبنية على غير أساسها الصحيح، خمولٌ ما كان أحق أصحابه بالذكر والتمجيد، ولقد قال البحتري:
إذا أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا ترتقب إلا خمول نبيه
ولعله هو خير من يعلم كم أخملت الدنيا بنباهته من شعراء، حين وفقه الحظ دونهم إلى الاتصال بالولاة والخلفاء.
فمن أفذاذ الخوارج أمثال قطري بن الفجاءة وشبيب بن يزيد من كانوا أسمى غرضاً وأشرف شعراً ونثراً من معاصريهم المداحين ولكنهم أخمل منهم ذكراً. ومن الأبيات السائرة المجهولة القائلين ما تشمل حكمة يقصر دون مداها أشباه بشار وأبي نواس، أو تحوي نسيباً تزري روعته بكل ما لُفق في صدور المدائح من نسيب مصطنع، أو تعبر عن شاعرية صحيحة ما كان أحرى صاحبها أن يتوفر على إثراء اللغة بفيض قريحته، ولكن طوفان تلك العوامل القاسية غمره ورفع غيره، فمن تلك الآثار الشاردة قول القائل:
أهابك إجلالاً وما بك قدرة ... علي ولكن ملء عين حبيبها
وما هجرتك النفس أنك عندها ... قليل ولكن قل منك نصيبها
وقول الآخر:
إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها ... فقدت صديقي والبلاد كما هيا
فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً ... كفى بالممات فرقة وثنائيا
ولم يخلُ الأدب الإنجليزي من آثار الإجحاف وتقلُّب الظروف: فأمام شعرائه شكسبير لم ينل في حياته مثل ما له اليوم من مكانة، وخمل ذكره بعد مماته أجيالاً، وعلا شأنه خارج إنجلترا قبل أن يعلو فيها. وقريعه في سماء الشعر الإنجليزي ملتون قضى أواخر حياته في غمرة من النسيان لإنخذال مذهب المطهرين الذي كان هو لسانه الناطق، وباع ملحمته الذائعة الصيت لورّاق بدراهم معدودة، وظل حقبة مهملاً. وكبير النهضة الرومانسية وردزورث قضى زهرة عمره منبوذاً مُعرَضاً عنه. وبعكس ذلك سما تنيسون في حياته إلى أوج الشهرة والإعجاب، ولم يكد يقضي نحبه حتى هبط ذكره وانصرف الجيل التالي عن(171/31)
شعره.
على أن تلك كلها أمثلة لتقلب الأذواق بتعاقب الأجيال، وهو أمر طبيعي لا محيد عنه. وقد خلا الأدب الإنجليزي أو كاد من تلك الظروف العاتية التي لابست الأدب العربي وتحكمت في مصاير رجاله: فقد شب الأدب الإنجليزي من عهد اليزابيث وقد اخترعت الطباعة، واطرد رقي الطباعة وانتشار الكتب والصحافة والتعليم مع اطراد رقي الأدب، ولم يخضع الأدب طويلاً لسيطرة الحكم، وظل مرد الأمر في تقدير الأدباء إلى الرأي العام المتعلم الذي يقوّم الأديب لفنه الخالص؛ فإن رانت على بصيرته غشاوة من تقليد موروث أو مذهب سائد أو مشادة محتدمة في السياسة لم يلبث بعد أن ينجلي ذلك أن يعود إلى إنصاف من أجحف بهم وإسقاط من لم يستحقوا سالف تقديره.
فإلى أمرين اثنين يدين أعلام الأدب الإنجليزي في مراحله المتتالية بنباهتهم وخلودهم: نبوغهم الشخصي، والذوق العام. وليس بين أقطابه الذين يعتد بهم من لا تؤهله عبقريته لما أوليه في تاريخ الأدب من مكانة، أو من هو مدين بخلود ذكره إلى أهواء السياسة أو أغراض الحاكمين أو دسائس الأحزاب أو تحريف الرواة أو عبث النقاد.
فالنابهون في الأدب الإنجليزي أكثر استحقاقاً لمكانتهم من النابهين في الأدب العربي، والخاملون المغبونون في هذا الأخير أكثر منهم في الأول؛ والأدب الإنجليزي بما أحاط به من ظروف مواتية أسهل تأريخاً ودرساً من الأدب العربي. وهذا الأخير محتاج إلى مراجعة ودرس طويل وتأريخ جديد غير التأريخ الذي جرى عليه العرف حتى الآن ليمنح كل أديب حقه من التقدم أو التأخير، ويُزَحْزَحَ عن الصدر من تؤهلهم له آدابهم ونظراتهم في الحياة، ويستنقذ من يستطاع استنقاذهم من غمرة الخمول.
فخري أبو السعود(171/32)
نابليون وخطواته الأولى في سبيل المجد
للأستاذ عبد المجيد نافع
تتمة
وشبت نيران الثورة في باريس، ودعت الحاجة إلى قمعها، فأشاروا على باراس أن يعهد بإخمادها إلى نابليون، فعرض أن يوليه قيادة مجلس الأمة وأمهله ثلاث دقائق ليفكر في الأمر ملياً.
فيا عجباً للأقدار! ثلاث دقائق، ثم يتقرر مصير نابليون، ومستقبل فرنسا، لا بل مستقبل أوربا بأسرها.
واستعرض نابليون الموقف، فلم يتردد في القبول حين رأى خمسين ألف جندي من جنود النمسا يظهرون على أسوار ستراسبورج، والإنجليز يحاصرون ببوارجهم ثغر برست، وحينذاك نسي خصومة الخصوم، وعياءهم وعجزهم، واستلهم الوطنية الحق فألهمته أن الوطن إذا أحدق به الأعداء وجب دفن الخصومات، ودرس الحزازات، ووضع اليد في أيدي القائمين بالحكم مهما كانت صبغتهم وألوانهم ونزعات نفوسهم.
فقال نابليون لباراس: إني أقبل ولكني أنذرك بأني لن أرد السيف إلى غمده إلا بعد أن أعيد النظام إلى نصابه.
وكذلك تجلى نابليون في ثوب الوطني الصادق والمحارب الصحيح الذي لا يطيق بحال أن تعرقل مساعيه أعمال السياسيين.
وكان القبول في الساعة الواحدة صباحاً. فلما أقبل المساء إذا بباراس يعلن في المجلس انتصار جنوده. فإذا جاء الغد رقي نابليون إلى رتبة قائد قسم، وسمع الناس اسمه يتردد في جوانب المجلس، ثم يجتاز اسمه منبر الخطابة لينقش على صفحات الصحف فينفض عنه غبار الخمول الذي حجب اسمه عن الأسماع والأنظار ردحا من الزمن.
وتقلد بونابرت قيادة الجيش في الداخل، واتخذ (فان) سكرتيراً له، فكان هو الذي كتب أوامره حين بات قنصلاً وهو هو الذي، بعد أربعة عشر عاماً، كتب وثيقة تخليه عن عرش فرنسا.
وكان نابليون يختلف إلى صالون مدام تليان فرأى جوزفين فشغفته حباً، وملكت عواطفه؛(171/33)
وكان في السابعة والعشرين، وكانت في الثانية والثلاثين، ولكنها كانت على جانب من الجمال والروعة فأضرمت نيران الغرام في صدره.
على أن الذين يحاولون تشويه شخصية نابليون بخلق البواعث غير الشريفة لأعماله، وابتداع الحوافز لمشاعره، تراهم يسارعون إلى القول بأن حبه لجوزفين إنما كان حباً مسرحياً، وإن أكبر همه، وغاية الغايات عنده أن يتذرع بذلك الزواج لتولي قيادة الحملة الإيطالية.
ولكنك قد رأيت كيف كان يتهالك وجداً على الزواج، وكيف داعب الأمل بالاقتران بكليري. وبعد فما هي العلالي والقصور التي كان يبنيها على الاقتران ببنت تاجر صابون!
ولو أنه لم يصادف هوى في قلب مدام دي بوهارنيه، إلا أنه وجد منها عند الزواج سميعاً ومجيباً؛ فقد كانت، على رغم موت زوجها، ووجود ولد وبنت لها، تحيا حياة خليعة، وتتردد على مدام تليان، وتغشى صالون باراس؛ ومن كانت في مثل حالتها كانت خليقة أن تستند إلى ذراع رجل قوي كنابليون الذي أصبح في طليعة القواد وأنقذ فرنسا من الأخطار التي تتهددها.
ولكن هل كانت جوزفين خليلة لباراس؟ إن بعض الكتاب المعاصرين يتبرعون بهذا التأكيد. على أن الذي يسترعي النظر أن جوزفين لم تظهر في بيت باراس إلا باعتبارها صديقة لمدام تليان. والمنطق والبداهة يتضافران على أن الأخيرة لم تكن لتسمح لكائنة من كانت أن تنازعها هوى الرجل القابض بكلتا يديه على مصاير فرنسا.
وإذا كانت جوزفين، قبل الزواج، شاءت أن تستوثق من باراس، سواء بنفسها أم بواسطة مدام تليان، أن زوجها المقبل سوف يكون موضع رعاية حكومة الدير كتوار، بل إذا كانت لمحت إلي أن مكانة الحق أن يكون على رأس الحملة الإيطالية، فكل أولئك لا ينبغي أن يكون مثاراً للدهشة ما دامت جوزفين قد أرادت بهذا الزواج وجه المصلحة لا وجه نابليون.
ولما كاشفت جوزفين نابليون بحديث باراس وعزمه على تقليده قيادة الحملة الإيطالية قال لها لا تحسبي أني ألتمس حمايتهم بل على العكس من ذلك هم الذين سوف يشعرون بالسعادة حين أظلهم بحمايتي. إن سيفي إلى جانبي، وبه سأصل إلى أبعد الغايات.(171/34)
ولو أتيح لك أن تطالع الرسائل التي خطها نابليون إلى جوزفين لقرأت فيها آيات الحب مسطورة، ذلك الحب المضطرم الذي ظلت حرارته متأججة من يوم أن عرفها وهو يحبو في طريق المجد إلى يوم بات في ذروة القوة وقمة السلطان.
على أن وضع الخطة لاجتياز جبال الألب والانحدار إلى سهول لومبارديا والانقضاض على الجيوش النمساوية وسحقها سحقاً، كل أولئك قد استغرق وقت نابليون واستنفد جهوده حتى قلت زيارته لجوزفين. ولم تكن إلا تكن إلا في شهر يناير من عام 1796 حيث تقدم لها بطلب الزواج ولقي ذلك الطلب قبولاً.
وكانت جوزفين لا تزال مترددة، فأحبت أن تفزع إلى نصيحة موثق العقود الأستاذ راجيدو، فلما أقبلت على مكتبه توسلت إلى نابليون أن ينتظرها في غرفة الاستقبال، ولم يكن من شأن نصيحة كاتب العقود أن تنتشل جوزفين من غمرة التردد إذ قال لها: (إيه لك! أو تتزوجين بجنرال لا يملك غير الكبود والسيف؟ فإذا صح أنه يملك شيئاً فإنما يملك كوخاً حقيرا! إنه لجنرال صغير، لا اسم له، ولا مستقبل! تجيء مرتبته وراء مراتب جميع قواد الجمهورية! إنه لخير لك أن تقترني بمورد للجيش!).
ولم يكن نابليون يسترق السمع؛ على أن الباب كان نصف مغلق، وبذلك تطاير إلى سمعه حديث موثق العقود، فملك عواطفه ولم ينبس ببنت شفة؛ ثم استطاع أن يثأر لكرامته الجريح بعد ثماني سنين. ففي غداة حفلة التتويج، استدعى الرجل الطيب راجيدو إلى قصر التويلري وأعطاه مكاناً في الصف الأول بكنيسة نوتردام حيث تقام حفلة تتويجه إمبراطوراً لفرنسا، وبذلك يتاح له أن يرى بعينيه التي في رأسه إلى أية ذروة من ذرى المجد يستطيع الجنرال الصغير الذي لا مستقبل له أن يسمو بموكلة موثق العقود الأستاذ راجيدو!
وفي 23 فبراير نودي ببونابرت قائداً عاماً للحملة الإيطالية، وحدد للزواج يوم 9 مارس سنة 1796. وفي أوراق الزواج أنقصت جوزفين من عمرها أربع سنين سوياً، وزاد نابليون في عمره سنة كاملة! فالتقى الزوجان في العمر وإن لم يتلاقيا في الحب!
على أن حملة المتهجمين على نابليون لا تقف عند حد. لذلك نرى جمهرة المؤرخين يملئون أفواههم بأن قيادة الحملة الإيطالية كانت هي البائنة (الدوطة) التي أعطاها باراس إلى جوزفين.(171/35)
ومهما يكن هذا القول جارحاً لذاعاً فإنه يتجافى مع الحقيقة. فليس يجوز في عقل عاقل أن رجلاً مثل باراس يجازف بتسليم القيادة إلى قائد لا يقوى على الاضطلاع بأعبائها فيغامر بأقدس المصالح، لا بل يقامر بمستقبل فرنسا.
على أن الوقائع تهدم هذه الدعوى من أساسها، وتضع قصة زواج نابليون بجوزفين في نصابها الحق؛ فلم يكن باراس يملك التصرف وحده في مصير قيادة الحملة الإيطالية بل كان لابد من موافقة الأغلبية في حكومة الدير كتوار، وقد كانت مؤلفة من كارنو وباراس وليبو وريبل ولوتورنور.
وإذا جاز لنا أن نستصرخ ضمير رجل، أو نفزع إلى عدالة شاهد، فأولى لنا ثم أولى أن نفزع إلى ريفيير لوبو وقد كان لنابليون من ألد الخصوم؛ وهو في ذلك يقول: (لقد قيل إن زواجه بأرملة بوهارنية كان شرطاً لا يستطيع بدونه أن يحصل على القيادة التي جعلها مناط آماله. إن ذلك لم يكن! والذي أستطيع أن أؤكده هو أن الاختيار الذي تم من حكومة الدير كتوار لم يكن تحت تأثير باراس ولا شخص غيره).
كيف إذن سبيل بونابرت إلى تولي القيادة؟ ينبغي لنا أن نذكر أن الجنرال الصغير قد وضع خطة لغزو بيمون في 19 يناير وأن تلك الخطة قد أرسلت إلى القائد العام شيرير، فتلاها ثم بعث بها في الحال إلى حكومة الدير كتوار معلنا أنها من عمل مجنون، وأنه لابد من استدعاء هذا المجنون وتكليفه بتنفيذها.
فاختلط الأمر على حكومة الدير كتوار، واحتدم وطيس الجدل بين أعضائها، وما لبثت الغالبية وقوامها ليبو وكارنو وباراس أن جنحت إلى جانب نابليون، وانحازت إليه لترجيح كفته، فعهدت إليه بإنفاذ الخطة التي وضعها.
وفي الحق، فما كان نابليون مدينا بتلك القيادة لا إلى زواجه، ولا إلى باراس، وإنما كان مدينا بها إلى كفاية كارنو الحربية التي أمكنته من التعمق في درس الخطة التي وضعها نابليون، وتفهم روحها، فأتيح له أن يصل إلى مكان الإقناع من نفوس زملائه.
وما لبث نابليون أن انتزع نفسه من بين أحضان المرأة التي أحبها من أعماق قلبه ليبدأ سلسلة المعارك الدموية التي خاض غمراتها عشرين عاماً.
ومضى في طريق المجد صعدا، لا يلوي على شيء، ولا يقف في وجهه سهل ولا جبل،(171/36)
حتى تألبت عليه أوربا بأسرها، وظاهرتها في تألبها شر أنواع الخيانات.
والآن نسأل: ماذا كان أثر ذلك المجد في نفس نابليون؟ لقد كان يمكن أن ينسى نشأته، ويتنكر لعائلته، ولا يأبه لعوز المعوزين، ولا يحفل ببؤس البائسين. على أن شيئاً من ذلك لم يكن، وظل نابليون في حاضر مجده، كما كان في ماضي بؤسه، ينطوي على أصدق الود لذوي قرباه؛ لا ينسى يد الصنيعة لمن اصطنعها، ولا تفتر حرارة إخلاصه لأصدقائه؛ يشعر قلبه حب الواجب، ولا يتطرق إلى إرادته الوهن أو تصيب عزيمته الكلال.
ما كان نابليون في مصاف الملائكة كما تخيله أنصاره، ولا كان في عداد الوحوش الضارية كما تصوره خصومه، وإنما كان رجلاً عظيماً خالداً في التاريخ، وإنساناً له عواطفه وأهواؤه، ورذائله وفضائله.
عبد المجيد نافع المحامي(171/37)
من دمشق. . . إلى بغداد
للأستاذ علي الطنطاوي
لما جاوزنا (أبا الشامات) وأصحَرنا، ونظرت بين يديّ وعن يميني وعن شمالي، فلم أجد إلا الصحراء الصامتة لرهيبة الموحشة، ووجدت دمشق التي أحببتها ولقيت فيها من يحبّني، وألفتها وتركت في كل بقعة منها قطعة من حياتي وطائفة من ذكرياتي قد اختفت وراء الأفق، وتضاءل (قاسِيُونها) وصغر حتى ما يبدو منه إلا خيال علويّ يلوح في السماء له وميض ولمعان، أحسست بلوعة الفراق فخفق قلبي خفقاناً شديداً:
كأن القلب ليلة قيل يُغدي ... بليلي العامريّة أو يُراح
قطاة غرّها شرك فباتت ... تعالجه وقد علق الجناح
وخالطني حزن عميق وشعور مبهم، أعرفه من نفسي كلما سافرت سفراً بعيداً - على كثرة ما أسافر وأبتعد - شعور من يجد الموت ويبصره بعينه! ولم لا؟ وهل لحياة إلا أن تقيم في المكان الذي تألفه، وترى الناس الذين تحبّهم، وتصل ماضيك بحاضرك بصورة تراها، أو نغمة تسمعها، أو بقعة تحلّها؟ وهل يحيا المرء إلا في الأمكنة والوجوه، وبالذكريات والآمال؟ وهل الموت إلا أن ينبتر مما يحيط به، وينقطع عن كل ما يعرف، ويقدم على بلد مجهول وحياة غريبة عنه لا عهد له بها ولا نبأ عنده منها؟ أو ليس للإنسان حياة ظاهرة في قيامه وقعوده وطعامه وشرابه وجيئته وذهابه، وحياة باطنة في أفكاره وذكرياته وآماله وآلامه وميوله وعواطفه؟ أو ليست حياته الباطنة هي الأصل وهي الأساس، فلا يحيا إلا بها ولا يقوم إلا عليها، كما أن الشجرة لا تحيا إلا بجذورها الممتدة في جوف الأرض المختفية في بطن الثرى، فإذا انقطع المرء عن عادته، وابتعد عن أهله وصحابته، لم ينفعه أنه لا يزال يقوم ويقعد ويأكل ويشرب، كما أن الشجرة لا تنفعها أغصانها وفروعها، إذ هي بُتّت من أرضها، وقطعت من أصلها، وفصلت عن جذرها. وأحسب أن الله جلّ وعزّ ما قرن الموت بالإخراج من الديار، وأجزل ثواب المهاجرين في سبيل الله، التاركين أوطانهم ابتغاء مرضاة الله، إلا لأن الهجرة ضرب من ضروب الموت ولون من ألوانه. . . فإن (تعدّدت الألوان فالموت واحد)!
وازدحمت في نفسي صور حياتي في دمشق، وحبّبت إليّ أضعاف ما كنت أحبّها، ومرّت(171/38)
أمامي صور أخوتي وأهلي وإخواني، وذكرت سهراتنا البيتية، ومجالسنا الأدبية، وهذه الحفلات الوداعية الكثيرة التي تفضلت فأقامتها أسرة التعليم، وجمعية التمدن الإسلامي، والمدرسة التجارية، تكريماً لي قبل أن أعمل شيئاً أستحق عليه التكريم، وأفيض فيها عليّ من النعوت ما ليس فيّ ولا أستحق الأقل منه. . . وذكرت من دمشق كلّ حبيب إليّ جميل في عيني، فازددت بها تعلقاً، ووددت لو أني أبيت فلم أذهب ولم أتغرّب.
وكانت الصحراء قد امتدت من حولنا، وأحدقت بنا، وصرنا في قبضتها لا شأن لنا ولا خطر، وآضت هذه السيارات الفخمة التي كانت تمل الشارع بطوله وعرضه، وكانت تعد وهي في دمشق شيئاً عظيماً، أهون على الصحراء من حبة رمل! وضاعت في أرجائها فلم تعدْ تعدّ شيئاً. وكان قد بلغ مني الحزن، وحزّت في نفسي لوعة الفراق، فأغمضت عينيّ ورجعت إلى نفسي، حتى إذا استروحت فتحتهما وجعلت أحدّق في هذه البادية، فأرى السيارة تعدو فيها تسرع حتى نحسّ كأنها تطوي الأرض طياً؛ وأراها تلهث من التعب، والبادية باقية على حالها، كأننا لم نقطع منها شبراً، وكأننا بعد في أماكننا. ولست غريباً عن البوادي، فقد عرفتها في رحلتنا تلك. . . إلى مكة. وبقيت فيها سبعة عشر يوماً. ما من ساعة منها إلا وهي أشد من عشرة أسفار إلى بغداد؛ ولكن هذه البادية (بادية الشام)، تختلف عن جزيرة العرب؛ ففي الجزيرة مناظر متباينة، وأراض مختلفة، فيها الجبل وفيها السهل، وفيها الوعر وفيها الرمل، وما في هذه إلا شيء واحد لا يكاد يختلف أو يتغير، أرض منبسطة ترابية قاحلة، تمتد إلى الأفق، كأنها بحر ليس فيه ماء! فكنا نقرأ ونتحدث لنقطع الصحراء بحديثنا، فتقطع الصحراء بصمتها وجلالها حديثنا، وكنا ننام ونفيق والصحراء هي هي. . . حتى قطعنا يوماً كاملاً، وكان صباح اليوم التالي، (وللصباح في البادية جمال وروعة، لا يكون مثلهما في المدن) وبدّدت الشمس ظلمة الليل، فتبدَّدت من نفسي ظلمة الكآبة والحزن، وانزاحت عني نوبة المرض، (وما العاطفة الرقيقة المؤنّثة إلا مرض في الرجال. . .) فصحوت، ونظرت في أمري فإذا أنا لم أغترب ولم أفارق بلدي. وهل بغداد إلا داري وبلدي وفيها أهلي وأخوتي، إن لم تقرر هذه الأخوّة الأنظمةُ ولم تسجّل في الدساتير، فلقد قررها الله من فوق سبع سمواته وسجّلها في القرآن: (إنما المؤمِنون إخْوَة). وليس ينقض ما أبرم الله، وإن فرقت بيننا شارات على الأرض، وألوان على المصوّر،(171/39)
فلقد جمع بيننا الدين واللغة والعادات، وألّف بيننا تاريخ الماضي، وأمل المستقبل وألم الحاضر، ووحّد بيننا الدم الذي جاء من نبعة واحدة. فأنى ننكر هذه الأخوّة وشاهدها فينا، ودمها في عروقنا؟
وكيف أجهل بغداد ولها في نفسي مائة صورة، وفي ذاكرتي عنها مالا أحصي من الأخبار والتواريخ والأشعار.
وبغداد عاصمة الإسلام، ومشرق شمس الحضارة، وحاملة راية العصر الذهبي الإسلامي، وأم الدنيا، ومنزل المنصور والرشيد والمأمون. . .
فدى لك يا بغداد كل قبيلة ... من الأرض (إلا) خطتي ودياريا
فقد طفت في شرق البلاد وغربها ... وسيّرت رحلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرقّ شمائلاً ... وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا
وكنت أرانا نخاف هذه البادية ونحن على طريق مسلوكة، في سيارة متينة، ونمل من طولها نقطع منها ثمانين أو تسعين كيلاً في الساعة، ونشكو ومعنا اللحم والفاكهة والماء المثلج، ونتعب ونحن مضطجعين على المقاعد الوثيرة، ثم إذا وصلنا إلى الفندق نمنا أربع عشرة ساعة، لنستريح ونسترد الروح فأفكر في أجدادنا أي ناس كانوا؟. . . وكيف قطعوا هذه البادية وهم على ظهور الإبل، يخوضون لجة الرمل الملتهب، يلتحفون أشعة الشمس المحرقة، يتبلّغون من الطعام بتمرة، ويكتفون من الماء بجرعة، ثم إذا وصلوا قابلوا جيوشاً أوفر منهم عَدداً وعُدداً، فحاربوها وانتصروا عليها، وفتحوا بلادها. . . فأقول: هذا هو فرق ما بيننا وبين أجدادنا؛ هو الفرق بين الشاب منهم تصيبه ضربة في المعركة، فتقطع يده من كتفه وتلبث متعلقة به، فتؤذيه وتعيقه عن القتال، فيعمد إلى أصابع يده المقطوعة، فيدوس عليها، ثم يتمطى حتى يبترها، ثم يلقيها ويعود إلى جهاده، والشاب منا يزاحم المرأة على كل شيء هولها، فيخطر في الشارع كالعروس ليلة الزفاف، وإذا شاكته شوكة أو لفحته الشمس أوى إلى الفراش!
ولما كان ضحى الغد بدا لنا نخيل العراق، وأشرفنا منه على مثل الليل، فعرقت لماذا سمى العرب السواد سواداً، وذهبت أتذكر الفتوح وعهدي بمطالعتها قريب - فأحسّ بأني أسمو(171/40)
عن زماني وأعيش في أيام الصدر الأول - وأقدر بعد نظر المستعمرين وصحة رأيهم في تعطيلهم التاريخ الإسلامي في مدارسنا، وتنشئة أبنائنا على الجهل به والبعد عنه، لما لهذا التاريخ من العمل السحري على بث روح الشرف والنبل والقوة والعزة والفضيلة في نفوس شباب العرب، ولأنه شمس إذا طلعت كسفت هذه الأنوار الكهربائية التي أضاء بها الغربيون أرجاء تاريخهم فبدت تواريخهم سوداء مظلمة. . . وبدا وحده المشرق المنير.
وجعلت أتشوّق إلى بغداد - وأعرض في ذاكرتي صوراً منها حلوة، وأنتظر أن أرى مدينة المنصور بأسوارها المستديرة وأبوابها الفخمة - وألمح قبّتها الخضراء العالية المشمخرة، الذاهبة في السماء ثمانين ذراعاً طالعة علينا من عرض الفلاة، تضطرب صورتها في دجلة، ثم أذكر ليلة الثلاثاء لسبع خلون من جمادي الآخرة سنة 329 وقد كانت ليلة مطر ورعد هائل وسيل شديد، فهوت هذه القبة التي كانت تاج بغداد - وعَلَم البلد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم وبقيت إلى آخر أيام الواثق، فكان بين بنائها وسقوطها مائة وثمانون سنة.
وأرى دار الخلافة - وقد قدم رسل ملك الروم على المقتدر، فرسم أن يطاف بهم في الدار، وليس فيها من العسكر أحد ألبتة، وإنما فيها الخدم والحجاب والغلمان، سبعة آلاف خادم، وسبعمائة حاجب، وأربعة آلاف غلام - قد جعلوا على السطوح والعلالي وفتحت الخزائن والآلات فيها مرتبة كما يفعل لخزائن العرائس، وقد علقت الستور، ونظم الجوهر وصف على درج غشيت بالديباج الأسود، وكان عدد ما علق في قصور المقتدر من الستور الديباج المذهبة المصوّرة بالجامات والفيلة والخيل والجمال والسباع. . ثمانية وثلاثين ألف متر، وعدد البسط في الممرات والصحون التي وطئ عليها القواد ورسل صاحب الروم سوى ما في المقاصير والمجالس من الأنماط وعشرون ألف قطعة. وأدخل الرسل من دهليز باب العامة الأعظم إلى الدار المعروفة بخان الخليل، وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام، وكان فيها من الجانب الأيمن خمسمائة فرس عليها خمسمائة مركب ذهباً وفضّة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمسمائة فرس عليها الجلال الديباج بالبراقع الطوال، وكل فرس في يدي شاكري بالبزّة الجميلة؛ ثم أدخلوا من هذه الدار إلى الممرّات والدهاليز المتصلة بحير الوحش، وكان في هذه الدار من أصناف الوحش التي أخرجت من الحير(171/41)
قطعان تقرب من الناس، وتتشمم وتأكل من أيديهم؛ ثم أخرجوا إلى دار فيها أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشى، على كل فيل ثمانية نفر من السند والزراقين بالنار، فهال الرسل أمرها؛ ثم أخرجوا إلى دار فيها مائة سبع، خمسون يمنة وخمسون يسرة، كل سبع في يد سبّاع وفي رؤوسها وأعناقها السلاسل والحديد؛ ثم أخرجوا إلى الجوسق المحدث، وهي دار بين بساتين في وسطه بركة رصاص، حواليها نهر رصاص أحسن من الفضّة المجلوّة، طول البركة ثلاثون ذراعاً، فيها أربع طيارات لطاف بمجالس مزيّنة بالديبقى المطرّز، وأغشيتها ديبقى مذهب، وحوالي هذه البركة بستان بميادين فيه نخل، عددها أربعمائة نخلة، طول كل واحد خمسة أذرع، قد لبّس جميعها ساجاً منقوشاً من أصلها إلى حد الجمارة بحلق من شبه مذهبة. . . ثم أخرجوا من هذه الدار إلى دار الشجرة، وفيها شجرة في وسط بركة كبيرة مدوّرة، فيها ماء صاف، والشجرة ثمانية عشرة غصناً، عليها الطيور والعصافير من كل نوع، مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة، وبعضها مذهب، وهي تتمايل في أوقات، ولها ورق مختلف الألوان، يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر، وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر. . . إلى أن دخلوا إلى الخليفة.
وملأ نفسي الشعور بعظمة بغداد، المدينة التي كانت وحدها دنيا، كان فيها ستّون ألف حمّام، فلو أن في كل حمّام خمسة نفر حمامي وقيم وزبّال ووقّاد وسقاء وذلك أقل ما يكون، لكان أصحاب الحمامات ثلاثمائة ألف رجل، وكان حيال كلّ حمام خمسة مساجد، فلو أن في كل مسجد خمسة أشخاص، لكان ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان. وأحصيت الزوارق التي في دجلة أيام الناصر فكانت ثلاثين ألفاً.
قال الخطيب: (لم يكن لبغداد في الدنيا نظير، في جلال قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتميّز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ومنازلها، ودروبها وشعوبها، ومحالها وأسواقها، وسككها وأزقتها، ومساجدها وحماماتها، وطرزها وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها، وزيادة ما حصر من عدّة سكانها).
وبعد فهاأنذا على (جسر بغداد) في نشوة من خمرة الذكرى أذكر ما لا سبيل إلى تلخيصه، وأحس ما لا طاقة على وصفه، وقد قال أبو الوليد: قال لي شعبة: أرأيت بغداد؟ قلت: لا.(171/42)
قال: فكأنك لم تر الدنيا. أما أنا فقد رأيت جسر بغداد، ورأيت الدنيا؛ لا أقول إنه أعظم من جسر إسماعيل، أو أجمل من جسر الزمالك، ولكن لجسر بغداد سراً آخر، يعرفه كل من نظر في كتب الأدب والتاريخ وقرأ عن جسر بغداد. . . هذا الذي جازه القواد الفاتحون، والفقهاء والمحدثون، والشعراء والماجنون؛ هذا الذي وقف عليه الرشيد والمأمون، وأبو حنيفة والشافعي، والفضل وابن دينار، ومطيع وأبو نواس، وعبد الله بن طاهر ويزيد بن مزيد، وشهد جلال الخلافة، وعظمة العلم، وروعة الزهد، وضحك المجون، وقوة الجيش. . . . وجرى عليه نهر التاريخ. . . وتداعت على جوانبه القرون. . . . هذا الذي كان سرة الأرض!
أيا حبّذا جسر على متن دجلة ... بإتقان تأسيس وحسن ورونق
جمال وفخر للعراق ونزهة ... وسلوة من أضناه فرط التشوق
تراه إذا ما جئته متأملاً ... كسطر عبير خط في وسط مهرق
أو العاج فيه الآبنوس مرقش ... مثال فيول تحتها أرض زئبق
أما إنني إن أحببت مصر لأن منها أصلي، وأحببت الشام لأن فيها مولدي، فإني أحب العراق لأن فيها أجمل ذكر الماضي، وأحب الحجاز لأن إليها قبلتي، وأحب كل بلد يقول أهله: لا إله إلا الله محمد رسول الله. لأنه بلدي، وأهله أهلي.
(بغداد)
علي الطنطاوي(171/43)
نبوة المتنبي أيضاً
للأستاذ محمود محمد شاكر
(أخي سعيد الأفغاني:)
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد، فأني أشكر لأخي حُسن ظنِّه بي في بعض كلامه، ومسارعته في الرد على كلمتي التي نشرتها الرسالة (العدد 167). هذا على أنه ليس يجمُلُ بالأستاذ أن يحمّل نفسه تكاليف الرد على مثلي، فأن الذي بيننا من التخالُفِ في الطبيعة، والتباين في الجِبّلة ليقوم في هذا الأمر مقامَ الرد. وأيضاً، فليس مما يحسُنُ به أن يبسط عذره للقراء عن تأخر الرد بجولته في قرى (البقاع)، وأن قراءته للذي أتيت به من الكلام كانت بعد عشرة أيام من صدوره. وليعلم الأستاذ الجليل أني أحب أن يحملني على طبيعتي، وأن يتقبلني على علتي، وأن يعرفني رجلاً شيمته العجزُ ودأبهُ التخلُّف، فلا قبل له بمثل قدرة الأستاذ وقوته على مد الشوط؛ هذا على ما ركِّب في أصل خلقتي من الحدة والثورة وضيق الصدر. وليس أدلّ على ما بيننا من تباين الجبلة - من الذي استيقنه الأستاذ وأثبته فيَّ من التخلُّفِ والعجز، والذي رأيته فيه من القدرة والمسارعة، فهو لم يضق ذرعاً بكل الذي كتبناه، ولا تخلّف في رد كلامنا وإسقاطه بالحجة والبيان والبرهان، في أوجز لفظ، وأوزن فكر، وأدق فهم. . . ثم في أقل وقت. وأنا - على نقيضه، فأنا كما وصفني الأستاذ حين يقول. (أما أنا فما كنت أظنُّ!! أسطراً تذكر عرضاً في رد فكرة تثير (مثل هذا) الفاضل، فيحمل هماً بجد وقره وعنته اثنين وأربعين يوماً، ثم ينفثه في رده الذي تكرم به على مثل هذا الشكل)، ولا أدري لم لا يظنُّ الأستاذ ذلك؟ ألا فليعلم أخي سعيد أن اثنين وأربعين يوماً ليس كثير دهر على عاجزٍ وجل هيَّابٍ متخلِّف، وأن كلمته الصغيرة - التي أثارتني فحملت همها أجد وقره وعنته اثنين وأربعين يوماً - كانت مما يقتضيني عامين على الأقلِّ في تقليبها وفهمها ودراستها أواصل ليلهما بالنهار، ثم في الاستعداد للردّ، ثم في جمع شتات الذهن، ثم في نفض الذهول عن العقل والفكر، ثم في كتابة ما يُسوِّل لي قليل علمي وتحريره والنظر في صدوره وأعقابه.
وبعدُ أيضاً، فأن أخي سعيد قد رماني بقارصاتٍ، وهو الذي يقول عن كلمتي في الرسالة: (وصحف الرسالة أحوجُ إلى أن تملأ بالحقائق والبرهان منها إلى الدعوى والانتقاض؛(171/44)
وأتمنى للأستاذ أن يهجُر هذا الأسلوب في الجدال، فما هو بمغنيه عن الحق شيئاً، كما لم يغن (طنينُ) الأستاذ صروف بالإشادة بمزايا الكتاب في مقدمته) أهـ، ولست أدري! فلعل صُحف الرسالة قد غنيت بأساليب البيان العبقري، والسخرية النابغة من مثل قوله عن كلمات فؤاد صروف (طنين الأستاذ صروف)، فالطنين في هذه العبارة كلمة بيانية مبتدعة فيها من الفن والموسيقى ما يتضاءل معه إبداع جلّة الكُتاّب والشعراء والموسيقيين. ومثلُ الذي يقول: (وأنا أعوذُ بالله من الغرور، والذهابِ بالنفس، ومن الجهل بمقدارها، والمكابرة في العلم، والعصبية للرأي والهوى؛ فما يزال الناس - ولله الحمد - يقيسون فضل المرء بخضوعه للحق، وإتقانه لعمله، لا بدعواه و (تبجُّحه)) إلى آخر هذا الكلام البليغ الذي لو أراده الجاحظ وجهد فيه، واحتفل له، لما تعلّق بذيلهِ، ولا جرى في غباره. وأنا أعوذ بالأخ أن يعودَ إلى مثل هذا القولِ، فإني أكره أن أجزي أخاً أي بالذي أعلمُ أنَّه يؤذيه ويرمضُه، فيذهله عن منازل الصّبر، ويستفزّهُ عن مواطن الحلم.
وليس أحب إلى نفسي من أن أهتديَ إلى الحق على علم وبصيرة، وأن أخضَعَ له على الرضى والغضب، وأن أعمل على افراره ما استطعت إلى ذلك سبيلا. فلا يتبعنّ - أخي الأستاذ سعيد - ظنّه أنا من أهل الغرور، والذهاب بالنفس، والجهل بمقدارها، والمكابرة في العلم، والجدال فيما لا جدوى منه ولا منفعة. وسأنتهي - إن شاء الله - مع الأخ إلى النهاية التي يرضاها غير باغ ولا ظالم. فأول ما أبدأ به بيان ما ورد في كلمته (الرسالة 170) من التهافُت في بعض القولِ، ثم أعقّبُ على ذلك بذكر نبوّة أبي الطيب، وتقرير القول في نفيها على وجه يبلغ بنا رضاه، ثم أجيبه عن كل ما سألنيه من شيء، فإن اعترض في خلال ذلك، نظرت في الذي يأتي به، فإن غلبنا على الحق أسلمنا وبذلنا له الطاعة، وإن رضي قولنا فهو عند قاعدته التي ذكرها (ألا يحفِلَ نقْداً أو رداً إلا إذا كان حقاً، وسبيله أن يأخذ نفسه به، ويشكر لصاحبه).
1 - قال الأستاذ سعيد حين ذكر خبر التنوخي ورأينا في رده: (سأل التنوخي أبا الطيب عن معنى (المتنبي) فأجابه: (إن هذا شيء كان في الحداثة) وظاهر أنه يعني التلقيب لا التنبؤ، فجوابه غير صريح، وهو كما قال الراوي جواب مغالط) اهـ. والأصل الذي اعتمد عليه الأستاذ فيما ينقل هو (طبقات الأدباء) لابن الأنباري، ونص الخبر: ثم (قال التنوخي:(171/45)
قال لي أبي، فأما أنا فسألته بالأهواز عن معنى المتنبي، لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أولاً، فجاوبني بجواب مغالط، وقال: إن هذا شيء كان في الحداثة، فاستحييت أن أستقصي عليه وأمسكت) وهذا نَصٌّ قد اختصره ابن الأنباري على عادته. وجاء الأستاذ سعيد فأراد أن يبين وجه المغالطة في الجواب، فزعم أن أبا الطيب يعني التلقيب لا التنبؤ في جوابه. وكان أولى بالأستاذ قبل أن يؤول الكلام على هذا الوجه أن يتدبر القول وينظر فيه على الصورة التي يؤوله بها، ثم يبين وجه المغالطة بياناً لا يسقطه العقل. . . يقول التنوخي إنه سأل أبا الطيب عن معنى (المتنبي) ليسمعَ منه هل تنبأ أولاً - أي هل كان اللقب لحادث نبوة كانت منه أم هو نَبْزٌ به ولُقِّب - فيجيبه أبو الطيب: (إن هذا التلقيب كان في الحداثة) فأي المغالطة في هذا الجواب! وفي المسألة وجهان: إما أن يكون التنوخي قد سأل أبا الطيب مصرحاً بالذي أراده فقال له: هل ادعيت فسميت المتنبي فيقول أبو الطيب (هذا شيء كان في الحداثة) فيكون المراد (النبوّة) ولا شك، وإما أن يكون قد سأله عن علة تلقيبه بالمتنبي، فيقول: (هذا شيء كان في الحداثة) فيكون جواب رجل لا يحب أن يمتد في الحديث فهو يقطعه على سائله، فهو يقول له: إن هذا اللقب وسببه كانا في الحداثة ولست براض عن سؤالك؛ فليس في هذا مغالطة. ثم إن امتناعه عن ذكر علة غير النبوة في سبب التسمية دليل على أن النبوة هي العلة في التلقيب، لأن اللفظ صريح في الدلالة على المعنى. وليس يغفُلُ أبو الطيب عن معنى هذا اللقب، ولا يظن أن الناس غافلون عنه، فيكون امتناعه عن ذكر العلة مما يوقعهم في حيرة من تأويل معناه. ثم ما الذي يضر أبا الطيب لو كان هذا التلقيب في الكبر ولم يكن في الحداثة؟ فحرصه على تخصيص ما أراد من المعنى بالحداثة ينفي إرادة (التلقيب) البتة. وأولى حين يكون التخصيص بالحداثة أن يراد بذلك النبوة، فإن قوة التدفع، وسمو الطموح، وإشراف النفس، وتهاويل الأمل، هي بالحداثة ألزم، وهي التي تورث نيران الشباب فتدفعه إلى المغامرة والتهدر والمخاطرة على غير هدى ولا بصيرة، حتى يركب بها صاحبها الحدَثُ الغرُ مركب من الحماقة، ويرد بها كل مورد من الغرور، فلا يرعوي عن أن يدعي مالا مطمَع له ولو كانَ النبوّة. وقول التنوخي بعد جواب أبي الطيب: (فاستحييت أن أستعصي عليه فأمسكت) دليل على أن الرجل اكتفى بإشارة أبي الطيب إلى حادث النبوة، وأمسك عن الذي كان يريده أولاً من(171/46)
التصريح في إثبات ما كان من أمره في ادعاء النبوة.
واختصار ابن الأنباري خبر التنوخي هو الذي دفع الأستاذ إلى هذا التأويل. وأصل خبر التنوخي أنه قال: حدثني أبي قال: أما أنا فإني سألته بالأهواز سنة أربع وخمسين وثلاثمائة - عند اجتيازه بها إلى فارس في حديث طويل جرى بيننا - عن معنى المتنبي، لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أم لا، فأجابني بجواب مغالط لي، وهو أن قال: هذا شيء كان في الحداثة أوجبته الصورة! فاستحييت أن أستقصي عليه وأمسكت) فالمغالطة في قوله (أوجبته الصورة) والصورة ههنا الصفة على اصطلاح أهل الكلام، وصفة الحداثة لا توجب ادعاء النبوّة، فهذا هو وجه المغالطة. فلما رأى التنوخي - وهو شابٌ لم يعدُ السابعة والعشرين من عمره، وأبو الطيب إذ ذاك شيخٌ قد نيَّف على الخمسين - ما أصاب هذا الشيخ من الحرج وضيق الصدر حتى لجأ إلى المغالطة في التعليل، وتبرير فعلته على السفسطة، استحيا أن يستقصي على هذا الشيخ فأمسك عن الذي يؤلمه ويغيظه ويضع من كبريائه ويحط من شيخوخته، ويلجئُه إلى ركوب الإحالة في المنطق، والفساد في التعليل.
2 - ويقول الأستاذ سعيد: (يورد الأستاذ على حديث أبي عليّ بن أبي حامد شبهة واحدة بعد أن يقرّ بأحكامه، ويقول عنه في ص 49: (فهو حديث محكم لا يأتيه التوهين إلا من قبل غرابته عما جرت عليه الأحكام في شأن من يدعون النبوة. . . الخ).
وقد أطال في بيان وجه الغرابة بما لا فائدة بنقله هنا. (سبحان الله يا سعيد!!) والذي في كلام أبي عليّ هو هذا: (فاستتابه وكتب عليه وثيقة وأشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاهُ ورجوعه إلى الإسلام)، وجليٌّ أنهم استتابوه من دعوى النبوّة فرجع بذلك إلى الإسلام، أما الوثيقة فهي ببطلان علويته، وبهذا تزول شبهة الأستاذ (!!) فأن من المألوف أن تكتب الوثائق في إثبات الأنساب ونفيها) اهـ.
وعجبٌ أمر الأستاذ سعيد في حرصه على تأويل الكلام بما لا وجه له ولا أصل؛ وهو في نقله هذا النص قد اعتمد على كتاب ابن الأنباري، وهو مولعٌ باختصار الأخبار (واختزالها) وهذا تمام خبر أبي علي بن أبي حامد:
(أخبرنا التنوخي، حدثني أبي، قال حدثني أبو عليّ بن أبي حامد، قال: سمعت خلقاً بحلب يحكون - وأبو الطيب بها إذ ذاك - أنه تنبأ ببادية السماوة ونواحيها، إلى أن خرج إليه(171/47)
لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيدية، فقاتله وأنفره وشرد من كان اجتمع إليه من كلب وكلاب وغيرهما من قبائل العرب. وحبسه في السجن حبساً طويلاً، فاعتَلّ وكاد أن يتلفَ حتى سُئِل في أمره فاستتابه. وكتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاهُ، ورجوعه إلى الإسلام، وأنه تائبٌ منه، ولا يعاودُ مثلَهُ، وأطلقه). فأنت ترى أن لا ذكر للعلوية في هذا الخبر، ولا في غيره مما رُوِي عن أبي عليّ بن أبي حامد هذا، فكيف يتأتى لكَ أن تقحم العلوية فيه، وهو لم يذكرها فيه ولم ترد عنه في خبر غيره، ثم تعمد إلى الكلام فتؤوّلَ بعضهُ على النبوَّة وبعضهُ على العلوية فتجعل التوبة للأولى والوثيقة للآخرة؟ ورحم الله أبا عثمان الجاحظ، فلو أنه أدركَ عصرنا هذا لقال في ذلك أمثل مما قال في إبراهيم النظام، فنصُّ الخبر مبينٌ عن أن أمير حمص كتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها (1) بأن ما ادعاه باطلٌ - وهو النبوة - (2) وأنه رجع إلى الإسلام (3) وأنه تائبٌ منه (4) وأنه لا يعاودُ مثله. فهذه أربعةٌ في قَرَن كانت في هذه الوثيقة، فكيف تسوِّغ عربية الكلام للأستاذ سعيد تأويله وبيانه؟ فلو سلمنا للأستاذ سعيد بالذي ذهب إليه لكان سياقُ الكلام هكذا: (حتى سئل في أمره فاستتابه، وكتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها ببطلان ادعائه العلوية، وأنه رجع إلى الإسلام، وأنه تائبٌ (منه)، وأنه لا يعاود مثله) فعلى أي الكلام عطفت جملة قوله (وأنه رجع إلى الإسلام) وإلى أي مذكور يرجع الضمير في قوله (وأنه تائب (منه))؟ وكيف ترد أوائل هذا الكلام على أواخره ليستقيم على عربيته؟!
إن أخي الأستاذ سعيداً ليأخذ من الكلام ما يشاء ويدع ما يشاء، وبذلك (تزول شبهة الأستاذ) أو كما قال.
3 - ثم يقول: (عرض الأستاذ لرواية الهاشمي التي فيها: (كان أبو الطيب لما خرج إلى كلب وأقام فيها ادعى النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي إلى أن أشهد عليه في الشام بالتوبة وأطلق) وهذه الرواية تعني أنه ما تخلى عن دعوى العلوية، وحين ترك ادعاء النبوة بقي على دعواه الأولى. ومنها ومن الرواية التي قبلها نفهم أنه لما أطلق ترك الدعويين معاً، فتاب من تنبئه، وكتب وثيقة ببطلان انتسابه للعلويين وليس في الأمر مشكلة ولا تناقض. . .) أهـ.
يقول الأستاذ سعيد إن هذا الخبر الذي رواه يعني (أنه ما تخلى عن دعوى العلوية، وحين(171/48)
ترك ادعاء النبوّةِ بقي على دعواه الأولى) والخبر يقول إنه (ادعىّ العلوية، ثم ادعىّ النبوّة، ثم عاد يدعي أنه علوي)، والعربية تقول إن هذا النص لا يمكن تأويله على الوجه الذي أراده الأستاذ فإن لها ألفاظاً، وإن لألفاظها معاني، وإن لمعانيها حدوداً؛ فإخراج المعنى عن حده إخراج للفظ عن معناه، وإخراج اللفظ عن معناه إخراج له عن العربية. يقول الخبر: (ثم عاد يدّعي أنه علويّ) فيقول الأستاذ مؤوّله، ومعنى ذلك (ثم بقي على دعوى العلوية)!! ثم يقول الأستاذ: (ومنها ومن الرواية التي قبلها نفهم (أولاً نفهم، فالأمر بعد هذا سواء) أنه لما أطلق ترك الدعويين معاً، فتاب من تنبئه؛ وكتب وثيقة ببطلان انتسابه للعلويين). ففي الخبر الذي قبل هذا أقحم الأستاذ العلوية ولا ذكر لها فيه وجعل الوثيقة المذكورة فيه يراد بها دعوى العلوية، وفي هذا الخبر الذي رواه ولا ذكر للوثيقة فيه أقحم الوثيقة التي يراد بها الإشهاد عليه فيها ببطلان انتسابه للعلوية التي ادعاها، وذكرها الخبر مرتين. فهذا أروعُ ما وقع لي من القدرة على الجمع بين الروايات (كما هو مستوفي يكتب مصطلح الحديث، وأنا أستحي أن أشرح هذا في مجلة (الرسالة). . . مما يدرسهُ الطلاب المبتدئون).
وهذا الخبر أيضاً اعتمد الأستاذ في نقله على (اختزال) أبي البركات (ابن الأنباري) في طبقات الأدباء. وسياقُ الرواية هكذا: (وقد كان المتنبي لما خرج إلى كلبٍ وأقامَ فيهم ادَّعى أنه علويٌّ حسنيٌّ، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علويٌّ، إلى أن أشهد عليه بالشام بالكذب في الدعويين، وحبس دهراً طويلاً وأشرف على القتل، ثم استتيب وأشهد عليه بالتوبة وأطلق). وقد كان هذا النصُّ أمثل من (مختزل) ابن الأنباريّ للذي يعتمده الأستاذ من التأويل، وهو أحفل له في استخراج مادة الجدل في التفسير والتوجيه. على أن هذا الخبر هو كما وصفناهُ في كتابنا ص 48 (عجيبٌ لا يفرغ من العجب من اختصاره وتداخله). فمن ذلك أنه صريحٌ بينٌ في الدلالة على أنه قد أشهد على أبي الطيب مرتين: (الأولى) إشهادٌ عليه بأنه قد كذب في (الدعويين) و (الآخرة) استتابةٌ وإشهادٌ عليه بالتوبة.
ففي المرة الأولى ذكر ابن شيبان الهاشمي (دعويين) أشهد أبو الطيب على نفسه بالكذب فيهما، فإن أراد (بالدعويين) دعوى العلوية ودعوى النبوّة جميعاً كان كلامُهُ كلُّهُ خَلطاَ متداخلاً، فأنه ليس يكفي فيمن ادعى النبوّة أن يشهد على نفسِه بالكذب، بل لا بُدّ مَعهُ من الاستتابة والرجوع إلى الإسلام والإفرار به، فإن لم يُعط ذلك قُتِل، فإن كان فُعِل معهُ ذلك(171/49)
وتاب وأقرّ فما قوله بعد ذلك (وحُبس دهراً طويلاً (سنتين) وأشرف على القتل (ثم) استتيب، وأشهد عليه بالتوبة وأطلق) ولم أعيدت استتابته؟ أيكون هذا كله لغواً باطلاً من القول!!
فإن أراد (بالدعويين) ادعاء العلوية في المرة الأولى والمرة الآخرة فالأمر في ذلك على خلاف المعقول. أيقدم الوالي الإشهاد بالكذب في دعوى العلوية، وهي لا تخرج من الإسلام، ولا يكفر بها مدعيها، ولا يقتل من أجلها إن أصر عليها، ويدع ادعاءه النبوة فلا يقتله أو يستتيبه إلا بعد أن يحبسه دهراً طويلاً حتى يشرف على القتل، فيومئذ يستتيبه ويشهد عليه بالتوبة!!
ولفساد هذا الخبر وجوهٌ أخرى، ولكنه على أي وجهيه أدرته، لا يسوغ للأستاذ أن يقول فيه (وهذه الرواية تعني أنه ما تخلى عن دعوى العلوية، وحين ترك النبوة بقي على ادعائه العلوية) إلا أن يلغي معاني الكلمات التي وردت فيه، أو يحيلها عن وجهها؛ فتكون ثم، وعاد، كلمات مغسولة من المعاني، ثم يزيد على ذلك أن يزيد في الكلام معاني ألفاظ لم تكن فيه كقوله (وحين ترك النبوة بقي على ادعائه العلوية) ولو أراد الأستاذ أن يتأول هذا الخبر على وجه مقارب خرج له إلا أن يقول فيه (إن أبا الطيب تخلى عن دعوى العلوية، وحين تركها بقي على ادعاء النبوة حتى استتيب فأطلق) وهذا محال.
وليعلم الأستاذ أني تركت له أبواباً من القول توطئ له أن ينفذ إلى الاعتراض، فليعترض قولي بما شاء. ولكني أسأله أن ينظر في اعتراضه أولاً ثم في الخبر بعد، ثم في كلامي آخراً، فلعله يجد في ذلك ما يمنعه من الاعتراض ويقنعه بالصواب. وأسأله أيضاً أن يتحرى في فهم الأخبار ما تقتضيه عربية الكلام حتى تستقيم له المعاني، وتتجه به الآراء إلى الحق والهدى إنشاء الله.
(للكلام بقية)
محمود محمد شاكر(171/50)
مشرقيات
في الأدب العربي الحديث
للأستاذ أغناطيوس كراتشقويفسكي
للأستاذ بجامعة ليننجراد
- 2 -
ويعد كل من الشيخ محمد عبده (1843 - 1905) وجورجي زيدان (1861 - 1914) في مقدمة الكتاب الذين امتاز بهم هذا العصر. نعم إن أولهما لم ينتج شيئاً من المؤلفات الأدبية، لكن ذلك لا يدعو إلى إنكار الدور الهام الذي لعبه، فبفضل جهوده استقر رأي المسلمين في طريق التجديد، وازداد نفوذ الحركة الأدبية شيئاً فشيئاً، بحيث أثر الشطر الأكبر من المصريين. وظهرت في خلال ذلك أنواع أدبية جديدة كالرواية التاريخية. واصطبغت هذه الأنواع بصبغة خاصة تختلف كل الاختلاف عن نظيراتها، فكان الكاتب يوجه جل اهتمامه إلى تنسيق الألفاظ، إلى أن جاء المنفلوطي (1876 - 1924) فاتجه بهذا النوع إلى طريقه الكمالي.
أما المدرسة السورية المتأمركة فقد برزت إلى الميدان في خلال السنوات العشر الأولى من القرن العشرين، وهي على ما نظن كانت أقوى المدارس الأدبية العربية الحديثة من حيث استقلال شخصيتها. وزعماؤها: أمين الريحاني (1879) وجبران خليل جبران (1883 - 1931) الذي يمثل طابع جهودها. فقد رأس بمدينة نيويورك جماعة (الرابطة القلمية)، وكانت تلك الجماعة الأدبية تنشر دعوتها على صفحات مجلة (الصائح) التي تولى إدارتها عبد المسيح حداد. ومن أهم الصفات المميزة لهذه المدرسة، أنها قطعت كل صلة بأساليب الأدب القديم وبطريقة الكتابة العادية، واصطفت الأساليب القلمية المتطورة، أساليب الرسائل النثرية، والشعر المنثور المنمق إلى حد التكلف. وقد نال كثيرون من أنصار هذه المدرسة شهرة ذائعة في العالم العربي (حتى تونس والحجاز) فتأثر الكتاب بأسلوبهم. ومنهم أيضاً الشاعر الروائي ميخائيل نعيمة (1889) والشاعر رشيد أيوب (1862) وإيليا أبو ماضي (1889) ونسيب عريضة. . . الخ. وللمدرسة السورية الأمريكية بالبرازيل مركز(171/51)
خاص وأهمية محلية لا تأثير لها في البلاد العربية. والشعر هو المفضل المختار عند أنصار هذه المدرسة التي قوامها: الياس فرحات (1891)، ورشيد سليم خوري (1887)؛ وفوزي المعلوف (1899 - 1930). وقد شرع شكري الخوري (1871) في محاولة طريفة، هي استعمال اللهجة السورية الدارجة في الكتابة الأدبية، ولكن أحداً لم ينسج على منواله.
وقد انتهت سيطرة المدرسة السورية المتأمركة بانتهاء الحرب العظمى، فانقطعت الصلة بين روادها وبين الحياة الراهنة في العالم العربي، ورجع بعض زعمائها (كالريحاني ونعيمه) إلى وطنهم الأول. وقد عادت الآن زعامة الأدب إلى مصر وتركزت في المدرسة الموسومة بمدرسة العصريين. وترجع بوادر هذه الزعامة إلى عام 1907 حين تألف حزب الأمة وأنشأ (الجريدة) وتولى رياسة تحريرها أحمد لطفي السيد مترجم (الأخلاق) لأرسطو ومدير الجامعة المصرية الآن. وفي عام 1922 التف الكتاب المجددون حول جريدة (السياسة) التي يتولى إدارتها أحد الكتاب العصريين الذائعي الشهرة: محمد حسين هيكل بك (1888)، وأهم ما تمتاز به هذه المدرسة التعمق في فكرة الأدب وفي حاجات رجاله المتزايدة يوماً بعد يوم، وهي تختلف عن المدرسة السورية المتأمركة في أنها توجه جل جهودها إلى الأدب العربي القديم، وتبدي شغفاً خاصاً بالنقد وبتاريخ الأدب. وفي مؤلفات أنصار هذه المدرسة، نلاحظ للمرة الأولى أن روح الوطنية المصرية الخالصة تحل - عن عمد وإدراك - محل القومية العربية. وقد وجهت هذه المدرسة عناية خاصة إلى (الأقصوصة المصرية)، كما استطاعت شهرة ذائعة وأنصارا مخلصين متحمسين في سائر الأقطار العربية، بفضل اتساع نطاق الصحافة وانتشارها. وهكذا عادت مصر فتولت الزعامة للمرة الثانية في تاريخ الأدب العربي الجديد، وستظل محتفظة بهذه الزعامة، مرتكزة على دعائمها بثبات أعظم مما كانت عليه في نهاية القرن الماضي.
2 - أنواع خاصة
أ - الشعر:
لا يزال الشعر أكثر الأنواع انتشارا وأدقها محافظة، شأنه في عصور الأدب العربي القديم.(171/52)
ففي جميع الأقطار العربية نجد شعراء لا عداد لهم. لكن تاريخ الشعر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ليس إلا تاريخ تجديد شباب الشعر القديم بطرق معدلة كل التعديل. فبينما كان الشعراء في الماضي يقلدون شعر عصور الانحطاط نراهم الآن ينسجون على منوال المتنبي والشعراء العباسيين وأحياناً شعراء الجاهلية. وقد لعب ناصيف اليازجي (1800 - 1876) دوراً هاماً في سوريا، إذ ظل محافظاً دقيقاً، لكنه كان مالكاً لناصية اللغة. وظهرت بوادر الأثر الأوربي في دوائر أخرى ظهوراً واضحاً، فرأينا فرنسيس مراش (1836 - 1873) الشاعر الحلبي، يحاول التعبير عن أفكار فلسفية اجتماعية في قصائد يسودها روح التشاؤم. أما في مصر فقد جاء تجديد شباب الشعر العربي متأخراً نوعاً، فاستهل الحركة محمود سامي البارودي (1839 - 1904) وإسماعيل صبري (1854 - 1923)، وقصائد كل منهما تطابق كل المطابقة أسلوب الشعر العباسي أو القديم، بل إنهما كانا يشيران أحياناً بوضوح إلى القصائد الأصلية المعارضة، ونلاحظ أن الحياة تدب بقوة في مؤلفات الشعراء المصريين المتعاقبين أمثال شوقي (1868 - 1932)، ومحمد حافظ إبراهيم (1871 - 1932).
قبل الحرب العظمى كان شوقي شاعراً بالمعية (شاعر الأمير) وكان من نوع ممتاز، قديراً في صناعة اللغة وصياغة الألفاظ، لكنه حصر شعره في دائرة الأسلوب التقليدي. وبعد الهدنة أخذت شهرته تتطاير في أنحاء العالم العربي وأطلق عليه لقب (أمير الشعراء). وقد حاول شوقي في السنوات الأخيرة أن يخلق المأساة (التراجيدي) في الأدب العربي. أما حافظ إبراهيم فهو من أبناء الشعب ولذا انحصر ميله في المواضيع السياسية والاجتماعية مع النسج على منوال المتقدمين من وجهة الأسلوب. وثالث الشعراء المصريين المعروفين هو خليل مطران، وقد ولد ببعلبك بسوريا حوالي سنة 1871 وأبدى نبوغاً ممتازاً في المصنفات الغنائية والروائية ذات الأسلوب الطليق الحر والمنوع (خصوصاً في القافية والوزن). وهنالك كتاب من الجيل الجديد نشر دواوين طلية كعباس محمود العقاد المولود في سنة 1889، وإبراهيم عبد القادر المازني المولود في سنة 1877، وأحمد محرم المولود في سنة 1877، وأحمد رامي المولود في سنة 1892. ومصطفى صادق الرافعي المولود في سنة 1880، وأحمد نسيم المولود في سنة 1878. وفي الأيام الأخيرة أظهر(171/53)
الجمهور ميلاً إلى تذوق شعر أحمد زكي أبي شادي. ومن الصعب أن نتكهن بالشاعر الذي سوف يحمل زعامة الشعر العربي بعد شوقي وحافظ.
وفي العراق جمع الشعر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أغرب الصفات على اختلافها وتباينها. فقد ازدهرت التقاليد الأدبية القديمة في المدن الكبرى كبغداد والموصل. وقاد حركتها شعراء أفذاذ أمثال عبد الغفار الأخرس (1873 - 1805) وعبد الباقي العمري الفاروقي (1789 - 1861) كما أن أسرة الألوسي لعبت دوراً هاماً في هذا الميدان. وفي النجف الأشرف وكربلاء، مدينتي الشيعة المقدستين، ازدهر الشعر العباسي وشعر البادية الصحيح في الأوساط الأدبية الشيعية. ولم نصل إلى معرفة أصول هذه المدرسة إلا بفضل ما نشره أحمد عارف الزين زعيم الطائفة الشيعية يصيدا (سوريا). وكان أبرز زعمائها إبراهيم الطباطبائي (1832 - 1901). وفي العراق كما في مصر - حاول المجددون إعادة الشباب إلى الشعر العربي القديم. وأتيح لنا أن نقتبس هذه الظاهرة بوضوح في شعر عبد المحسن الكاظمي (1865 - 1934). وبالنظر إلى أنه يقيم في مصر منذ نهاية القرن الماضي فقد خصص بعض قصائده لسرد الحوادث المصرية. وهنالك شاعران آخران جديران بالذكر وهما يمثلان الاتجاه الجديد خير تمثيل، أولهما جميل صدقي الزهاوي (1869 - 1936) ومعروف الرصافي (1875). وقد كان الزهاوي مشرباً إلى أقصى حد بالروح الفلسفية، وكان يطلق لنفسه الحرية التامة فيما يتعلق بالأسلوب. ولم يتردد مطلقاً في ابتكار الأوزان والقوافي المختلطة. وكثيراً ما نظم الشعر المرسل حيث يسير على الوزن دون القافية. بعكس الرصافي إذ حصر شعره في دائرة الأسلوب التقليدي، لكنه يمتاز بعبقرية الشاعر الواقعي، سواء في شعره الغنائي والوصفي، أو السياسي والاجتماعي؛ وقد جاوزت شهرة هذين الشاعرين حدود بلادهما. أما في سائر الأقطار العربية، فالشعر رغم وفرته وكثرة إنتاجه، لا تتعدى أهميته الحدود المحلية.
ومن شعراء سوريا عنحوري (1855) وهو شيخ مسن على اتصال دائم بمصر ومتشبع بالآراء العصرية إلى حد بعيد، وعيسى اسكندر المعلوف (1869) شاعر وعالم من نوع وحيد، وهنالك طبقة من كتاب الجيل الحديث اشتهروا الآن في الأوساط الأدبية، نخص بالذكر منهم: شفيق جبري (1895) وخليل مردم (1895) وحليم دموس (1888) وأحمد(171/54)
عبيد، ومحمد البزم (1887)، ومحمد الشريقي (1896) وسليمان الأحمد المعروف باسم (بدوي الجبل) الخ.
وفي المهجر كثير من الشعراء الذين تطبع مؤلفاتهم وتذاع في بلاد أخرى، بخلاف الأمر في سائر الأقطار العربية حيث لا تتعدى شهرة الشعراء النطاق المحلي ولا يقدر مؤلفاتهم سوى مواطنيهم (مثال ذلك محمد الشاذلي خازندار بتونس). أجل، إن الشعر الغنائي العصري منوع المقاصد، مشبع بروح الفن الناضج الدقيق، ولكن المجال لا يزال متسعاً لابتكار أساليب أرحب مدى. وقد ظهرت ترجمة (الإلياذة) للبستاني في عام 1904 لكنها لم تسفر إلا عن بعض محاولات تقليدية، أما الشعر الشعبي (الزجل) الذي تستعمل فيه العامية بدلاً من الفصحى، فالواقع أنه لم ينتج سوى مؤلفات فكاهية انتقادية، شأنه كما كان في الأزمنة السالفة (أسعد رستم بأمريكا)، وأكثرها يرمي إلى أغراض سياسية (عمر الزعني بسوريا).
ب - القصة والأقصوصة:
لم تنشأ القصة أو الأقصوصة من أصل عربي كالمقامات والقصص الحماسية بل ترعرعا بتأثير الأدب الأوربي المباشر. وقد ظهرت أولاً القصة التاريخية التي لم تصل إلى شأو الكمال من الوجهة الأدبية. كان أول بزوغ هذا النوع في محيط البستاني بسوريا، وعني به ابنه سليم (1848 - 1884) بقصد اتخاذه وسيلة في التربية والتعليم. وفي عام 1884 وضع جميل المدور (1862 - 1907) أخبار أيام هارون الرشيد (؟) فارتفع بهذا النوع إلى مكانة أسمى، وإن كانت تلك (الأخبار) أقرب إلى الآثار منها إلى الأدب، وقد بلغت القصة التاريخية ذروتها في مؤلفات جورجي زيدان، حيث كان يطالع القراء بقصة في كل سنة تقريباً، قصة جديدة من سلسلة تاريخية طويلة الحلقات.
ولقد ولد زيدان مؤرخاً بطبعه، فأراد أن يتخذ من قصصه وسيلة لجعل التاريخ في متناول العامة، وأن يهيئ للجمهور مطالعات طريفة سهلة، فالغرض الذي كان يرمي إليه هو التعليم والتثقيف، ولذا تراه لا يعلق أهمية تذكر على المسائل الأدبية البحتة. وقد نالت مؤلفاته إقبالاً منقطع النظير، بل إنها كانت فاتحة عهد جديد في الأدب العربي الحديث.
(يتبع)(171/55)
ترجمة محمد أمين حسونة(171/56)
على أطلال الماضي
للسيد إبراهيم أدهم الزهاوي
ما بكائي لزينب وانتحابي ... وسؤالي ربوعها وجوابي
ووقوفي بها وقوف حجيج ال ... بيت لولا تفردي واكتئابي
وملامي النوّى على ما أحالت ... من رسوم وقوضت من قباب
سنة تلك سنها شعراء ... ما بهم من زمانهم غيرُ ما بي
إن أولى الربوع بالدمع سحّاً ... أربع المجد والعلا والغلاب
سفهت نفسَها الليالي اللواتي ... سحبت فوقها ذيول الخراب
أربعٌ لا تزال منها بقايا ... أفلتت من حبائل الأحقاب
شوهتها يد البلى ككتاب ... رث إلا عنوان ذاك الكتاب
أنا صَبٌّ بها وكل محب ... تتصباه أربع الأحباب
كلما طاف طائف من هواها ... في فؤادي وجدته في خطابي
لا قرضت القريض إن لم أذدْ في ... هـ ذياداً يغني عن القرضاب
عن عُلا معشري وأي عَلاء ... كعلا معشري الرفيع الجناب
كيف لا يعتلي وبانيه بانٍ ... كلَّ نجم في الكائنات الرحاب
يا أبا القاسم حار عقلي ... في مدى عقله وتاه حسابي
كيف لا تنحني الأكابر إكبا ... راً لأسمى طبيعة في إهاب
أي باب فتحته لأولي الأل ... باب مستغلق من الأبواب
ومنار نصبتها في طريق ... طالما ضلَّلت مسير الركاب
إن مَحْياك في الحقيقة محيا ... كل حي يسير فوق التراب
فأعاديك في الورى كموالي ... ك يدورون حول ذاك الشهاب
أين دنياهمُ التي هي دنيا ... أشبهت ذات جِنَّةٍ في يباب
طال أظفارها التي لم تَعَهَّدْ ... ها يمين ورث حسن الثياب
فتعهدتها بيمينك حتى ... عاودتها شوارد الألباب
فعليها طلاسم تقتنيها ... فتقيها رجعاً على الأعقاب(171/57)
ها مراقي فانظر أكانت ... تترقى لو لم تزل في احتجاب
تلبث الصخرة العظيمة آبا ... داً إذا لم تدفع بأيد صلاب
أم يقولون كان ينبع منهم ... من يعيد الحياة بعد ذهاب
والذي تشهد البرية طرّاً ... أن مسعاك فوقي قدر الطِّلاب
قد ترحلت عن مغاوير أدوا ... كل دَين مؤجل في الرقاب
ضربوا الأرض إذ أصرت على البغ ... ي وهبت إلى رؤوس الحراب
فشفوها من دائها بدواها ... قد يكون الدواء ضرب الرقاب
ذاك دور لن تشهد الأرض دوراً ... مثله والقشور غير اللباب
وبدت لي أمية فبدت لي ... دولة المكرمات والأحساب
وسألت الدهياء كيف ترقت ... للثريا فلم يكن من جواب
أين مُلْكٌ أبو سليمان يرعا ... هـ فيرعى صيَّابة الأنساب
عبقري، زمانه عبقري ... كل شيء يجري به بنصاب
ما حسام الحجاج لو كنت تدري ... غير تعويذة من الأوشاب
لم يكن مثله بقبضة مروا ... ن فمرت أيامه في تباب
واجتبى الله للأعاريب أملا ... كاً حراصاً على اتباع الصواب
واجتباهم من هاشم من بني ال ... عباس من خير دوحة في انتساب
جل هارون أن تكون كهرو ... ن ملوك تسربلت بالسراب
عجم يعجمون عود الرزايا ... ثم لا يهتدون للأسباب
ذاك نجم يدور في الفلك السا ... بع لا في مهابط التَّوْراب
سجدت للذي يريد ليالي ... هـ سجود العبدان للأرباب
واتقته الآباء في كل أرض ... واقتفتها الأبناء في الأصلاب
مالك الملك قائماً بالذي يط ... لب عدلاً عقابه كالثواب
تحسن الرحمة الوثيرة إلا ... لجنوب تقلبت في الكذاب
فأَنِمْها على الظُّبي لا توثق ... من ذئاب تريك صدق الكلاب
إنما تُعصم البلاد بسيف ... نائم قائم مجيب مجاب(171/58)
خطة في سنى الضحى ضيعوها ... فأضاعوا مِلاك مُلك رُحاب
اشتراك في الموبقات وخوف ... من شراراتها على الأثواب
وهي الريح زعزع تحمل النا ... ر فمن ذا ينجو من الالْتهاب
واستفاقت بغداد بعد دهور ... أنقضت ظهرها من الأوصاب
استفاقت فلم تجد لا فتى الصم ... صام فيها ولا فتى المحراب
واستجارت جاراتها فإذا الجا ... رات يرزحن مثلها بالعذاب
فدعت دعوة أبى الله إلا ... أن يكون الجواب فصل الخطاب
نحن إبان نهضة بسوى الوح ... دة لا ترتضي من الأحزاب
ضاع كل الطلاب إن لم تكن أوّ ... لَ شيء نريده في الطلاب
لا تصح الأعضاء في الجسم ما لم ... تك فيه مشدودة الأعصاب
تمرع الأرض بالربيع على مقدا ... ر ما التمَّ فوقها من سحاب
وتضيع الأنهار في لجج البح ... ر ويكفي العباب شر العباب
وأحق الشعوب بالوحدة الك ... برى شعوب ذاقت وبال انشعاب
(بغداد)
إبراهيم أدهم الزهاوي(171/59)
بعد هجر طويل
بقلم العوضي الوكيل
أثرتِ في نفسي ماضي الذِّكَرْ ... وهجت فيها ما انطوى واندثر
وهجتِ أحلاما عِذاب المنى ... كالنور، أو كالظل، أو كالزهَر
إن لم أنل منها، فحسب النهى ... مرآك، من ريٍّ لهذا النظر!
عودي إلى النفس، وكوني بها ... لهفة شوق ساعر ذي شررْ
عودي إِلى النفس، وأحيي بها ... ما كان من نجوى بها أو سَمَر
يا طالما عاد إلى داره ... مسافر من بعد طول السفر!
وأمتعيني بحياة الهوى ... إِمتاعك العين بوجه أغر
بل جدديني. . . أنت محفوفة ... بِجِدّةٍ ليست لحسن القمر
في كل يوم فيك معنى هوى ... يخالف المعنى الذي قد غبر
وفي كل يوم صورة فذة ... غير الذي شاهدته من صور
أأنت من شاهدتها أمس؟ أم ... أنت سواها؟ اصدقيني الخبر
عودي، فقد عدت إلى جنتي ... وعادني الهم وطول السهر
عودي، فما أحراك أن ترجعي ... أمس إلينا، عبقري الغُرر
أمس الذي نُيِّحَ في قبره ... بمهجتينا، لابثاً في الحفر
أحييتُه عندي بتذكاره ... وربما تحي الفقيد الذِّكر
فلتنسخي لذاته في غدِ ... وعشت للقلب الوفي الأبرْ
العوضي الوكيل(171/60)
نكبة فلسطين
بقلم عبد الوهاب أدهم
البلد المقدسُ الطاهرُ ... عاث به ذو حنقٍ غادرُ
ومهبط الوحي غدا بلقعا ... يجول في أرجائه الكافر
والجنة المئناف قد صوّحت ... لم يشدُ فيها البلبلُ الساحرُ
فمن لها؟ قد أجدبتْ أرضها ... ولم يُغثها العارض الماطرُ
هذي فلسطينُ على شجوها ... ليس لها، من أهلها، ناصرُ
أعداؤها قد استباحوا الحمى ... لله ذياك الحمى الزاهر!
كم قتلوا من نسوة زانها ... عفافُها وذيلها الطاهر
كم صرعوا من فتيةٍ ذنبها ... إيمانها ودينها الغافر
كم روّعوا الأطفال في مهدها ... وغادروها جفنها قاطر
العُرْب في أوطانهم عصبة ... يغمزها العاجمُ والكاسرُ
يقذفها الغربيّ في مهمه ... فمن لها؟ لقد طغى الماكر؟
الله يا غافل عن دهره ... دهرك لا يغلبه السادر
والحق لا يناله ضارع ... كفاه لم يصحبهما الباتر
فكن جسوراً فاتكاً قادراً ... ما فاز إلا الفاتك القادر!
هذي فلسطينُ اشتكت ضيْمها ... وسمعكم عن صوتها واقرُ
فمن لها؟ قد أجدبت أرضها ... ولم يغثها العارض الماطر
(دمشق)
عبد الوهاب أدهم(171/61)
القصص
الكذب
للقصصي الروسي نيكولا يفتش اندريف
ترجمة الأديب محمود البدوي
(أنت كاذبة! أنا أعرف أنك كاذبة!).
(لماذا تصيح هكذا. .؟ أمن الضروري أن يسمعنا كل إنسان؟).
وكذبت مرة أخرى فما كنت أصيح كما ادعت، وإنما كنت أتكلم على أتم هدوء ورقة. أمسكت بيدها وأخذت أحدثها في لين هادئ، والكلمة السامة: (كذب) تفح حولي فحيح الحية الصغيرة.
(واستطردت تقول: (أحبك. . . ويجب عليك أن تكون على ثقة تامة بي. . ألا يقنعك هذا؟) وقبلتني. . ولكني لما أردت أن أطوقها بذراعي وأضمها إلى صدري لم أجدها: كانت قد أفلتت مني وبارحت الممر المظلم، فتبعتها إلى الغرفة التي أخذ الحفل البهيج فيها يقوض خيامه، ومن أين لي أن أعرف - في مكان كهذا - أين أنا! لقد طلبت مني المجيء إليه فجئت، ورأيت القوم يدورون حولي مثنى مثنى طول الليل. وما تقدم إلى أحد ولا خاطبني إنسان. كنت هناك غريباً عن كل الناس، جلست في ركن يقرب من العازفين على الآلات الموسيقية وفم البوق النحاسي الضخم يوجه في خط مستقيم إلي. . . وسمعت في ناحية شخصاً سجيناً يزمجر ويضحك بعد كل دقيقة في هزة وخشونة ويصيح:
(هو. . . هو. . . هو. . .).
وكانت تقرب مني من حين إلى حين سحابة بيضاء عطرة. كانت هي. . ولم أكن أدري كيف دبرت بمهارة فائقة ملاطفتي وهي متقية أعين الناس، ففي ثانية خاطفة ضغط كتفها على كتفي، وفي لحظة قصيرة خفضت بصري فاستطعت أن أرى الجيد الأتلع والدثار الأبيض الضيق العروة. . ولما رفعت طرفي رأيت جانب الوجه الأبيض الصارم الهادئ كوجه الملاك المفكر فوق مقابر الموتى، فوق مقابر المنسيين من الموتى، رأيت عينيها. . . كانتا نجلاوين ساكنتين حبيبتين تتعطشان للنور. . تحف بهما دائرتهما الزرقاء، وقد برق(171/62)
فيهما إنساناها في قتامة. وكنت كلما نظرت إلى هاتين العينين أراهما على حال واحدة لا تتغير: سوداوان عميقتان لا يدرك كنههما، وإذا ما نظرت إليهما ولو نظرة قصيرة اشتد وجيب قلبي، ولكني لم أشعر قط بمعنى اللانهاية بمثل هذا العمق وهذا الخوف الذي شعرت به الآن؛ ولم أعرف مطلقاً قوتها كهذا الحد القوي الجارف. شعرت خائفاً متألماً أن حياتي كلها غدت كشعاع ضئيل من النور ابتلعته عيناها، حتى أصبحت غريباً عن نفسي فارغاً أجوف غالباً في عداد الموتى. . . ثم بارحتني وخلفتني وحيداً وأخذت معها حياتي. . حياتي كلها، ورقصت ثانية مع رجل وضيء الوجه طويل متعجرف، أخذت في انقباض وحزن أنعم فيه البصر وأدرس أجزاء جسمه، وشكل نعليه، وعرض كتفيه المرتفعتين، وخصل شعره المتموج المنتظم. والرجل بنظرته غير العابئة ولا المكترثة ولا الباصرة يلصقني بالحائط، أصبحت في نظره مخلوقاً تافها كالحائط نفسه.
ولما أطفأت الشموع تقدمت نحوها وقلت:
(حان وقت العودة. . سآخذك إلى المنزل).
فاستغربت وقالت: (ولكني. . . ذاهبة معه!).
وأشارت إلى الرجل الطويل الجميل الذي لم ينظر إلينا مطلقاً ثم جرتني إلى غرفة خالية من الناس وقبلتني. فقلت بهدوء ورقة:
(إنك كاذبة).
فأجابت: (سنتقابل اليوم. . . لا بد أن تجيء. . .).
ولما ركبت العربة إلى المنزل، كان الصباح الضبابي الأخضر قد لاح فوق السطوح العالية، ولم يكن في الشارع كله إلا أنا وسائقي؛ وجلس الرجل متجمعاً يخبئ وجهه من الريح، وأنا جالس خلفه منكمشاً في معطفي ومغطياً وجهي حتى عيني. وكان للسائق أفكاره ولي أفكاري، وخلف الجدران الكثيفة المحيطة ألوف من الناس يغطون في النوم سابحين في أحلامهم وأفكارهم. . . فكرت فيها، وفي أكاذيبها، وفي الموت الرهيب، وبدا لي أن هذه الجدران المحيطة بعد أن أضاءتها تباشير الصباح، كانت تنظر إلي كمخلوق ميت، وهذا هو السبب الذي جعلها جامدة معتدلة هكذا. ولم أكن أعرف في أي شيء يفكر السائق، ولم أكن أدري ما الذي يحلم به أولئك المختفون وراء الجدران، ولا كانوا هم يعرفون ما أفكر(171/63)
فيه وأحلم به. . .
وعلى هذا المنوال من التفكير والسكون والتأمل زحفنا في الشوارع الطويلة المستقيمة، بينما يفضض نور الصباح أعالي السقوف، وكل ما حولنا كان أبيض ساكناً. وقربت مني سحابة بيضاء عطرة. . . وأخذ إنسان سجين يضحك عند أذني ويصيح:
(هو. . . هو. . . هو. . .).
لقد كذبت. لم تبر بوعدها ولم تجيء، وكان انتظاري قدومها عبثاً، كان وهما باطلاً وأملاً خائباً. . . وأخذ الغبش يهبط من السماء القاتمة أشهب بارداً متجمداً. . . ولم أعد أعرف متى يتحول الغبش إلى مساء، أو متى ينقلب المساء ليلاً أسود. فكرت فيه كله كليل طويل حالك فوقه ليل، وأخذت دائماً، بخُطى الانتظار المنتظمة الرتيبة، أروح وأجيء في الطريق، ولم أشأ أن أقرب من منزل حبيبتي الشاهق، ولا من الباب الزجاجي الأمامي الذي بدا لي شاحباً في ظل سقفه الحديدي، ولكني رحت بنفس الخطى المنتظمة أذرع الجانب الآخر من الشارع. رائحاً غادياً. . . رائحاً غادياً. . . وعندما كنت أواجه المنزل لا أستطيع أن أنزع عيني من الباب الزجاجي، فإذا ما بعدت عنه كنت غالباً أقف وأدير رأسي وأسارقه الطرف، وهنا يخز الثلج الساقط وجهي بوخزاته الحادة. . . كانت هاته الإبر الثلجية طويلة نافذة، حتى إنها نفذت إلى قلبي ومزقته وهو المعني بالشوق المضني والانفعال الشديد للانتظار الخائب! وهبت الريح الباردة من الضوء في الشمال إلى الظلام في الجنوب، وصفرت وعوت، ولعبت على السقوف المتجمدة وخلصت نفسها منها وضربت وجهي بسفعات حادة من الندف الثلجية، وخشخشت كما يخشخش الرمل على مصابيح الشوارع الفارغة حيث يرتجف اللهب الأصفر ويقضقض من البرد وينحني أمامها. كم أسفت على هذا اللهب المنفرد الذي يعيش في الليل فقط، وفكرت في الحياة التي ستقف حركتها في الشارع بعد لحظات، وفيّ بعد أن أغادر المكان وتبقى الندف الثلجية تهطل وتضربه بضرباتها، واللهب الأصفر يستمر راجفاً منحنياً في كنف الوحدة والبرودة المحيطة به.
انتظرتها فلم تجيء. وبدا لي أني وهذا اللهب المنفرد متشابهان، وكل ما بيننا من خلاف أن مصباحي لم يكن فارغاً كمصباحه، وأخذ الناس يظهرون من وقت لآخر في المكان الذي(171/64)
ذرعته بخطواتي يكبرون في صمت وسكون، ويتضخمون ورائي، ويبدون سوداً ضخاماً حذائي، ثم يختفون فجأة كالأشباح السنجابية حول ركن بيت أبيض قائم هناك، ثم يقدمون ثانية نحوي من حول الركن ويذوبون في المسافة الرمادية المفعمة بالثلج الصامت المتحرك مدثرين في معاطفهم الضخمة حتى انعدمت أشكالهم واختفت أجسامهم، سائرين صامتين على غرار واحد يشابهوني، وفكرت في أن رهطاً من هؤلاء الناس كانوا يمشون مثلي رائحين غادين منتظرين مترقبين راجفين في صمت. . . . ويفكرون تفكيرهم المبهم الحزين.
انتظرتها فلم تجيء. . . ولم أدر لم أعول وأذرف الدمع السخين وأرسل العبرات الغزار؟ لم أدر لم لم أبك في ألم وحزن؟ لم أدر لم ضحكت وكنت سعيداً جذلاً طروباً؟ قبضت أصابعي إلى راحتي بقوة كأنها المخالب، وتخيلت أني أقبض بشدة على المخلوق السام. . . . الحية. . . . الكذب. . . . فالتفت علي ذراعي وعضت قلبي وأصابني من سمها الزعاف الدوار الشديد. بدا كل ما حولي أكاذيب مجسمة، وانمحى الحد الفاصل بين الحاضر والمستقبل، بين الحاضر والماضي، انمحى الحد بين الوقت الذي كنت فيه في غيابات العدم، والوقت الذي بعثت فيه في هذه الحياة الدنيا. . . . . . وفكرت في نفسي - سواء وجدت أو لم أوجد - كانت أبداً قبل أن أوجد وبعد أن وجدت متسلطة على كياني وجثماني. ومن الغريب علي أن أفكر في أن لها اسماً وجسماً وأن لكيانها ووجودها نهاية وبداية. . . ليس لها اسم مطلقاً، وإنما كانت دائماً المخلوقة الكاذبة، والتي تعد ولا تفي بوعدها أبداً. . . لم أدر لماذا هكذا. ولكنني ضحكت، وغاصت الإبر الحادة في قلبي، وضحك عند أذني إنسان سجين:
(هو. . . هو. . . هو. . .).
وفتحت عيني ورأيت نوافذ المنزل الشاهق المضيئة، وأخذت النوافذ تحدثني بألسنتها الزرقاء الحمراء بكل هدوء:
(إنها تخونك في هذه اللحظة، فبينما أنت تتجول ذارعاً الأرصفة مترقباً حضورها معذباً كئيباً، إذا بها وكلها جمال ونور وإشراق. . . وخيانة، جالسة هنا تسمع همسات الرجل الصبوح الطويل الذي احتقرك وازدراك. إنك إذا اندفعت إلى داخل المنزل وقتلتها ستعمل(171/65)
عملاً عظيماً. لأنك ستقتل الكذب).
وقبضت يدي بشدة وقد أمسكت بسكين وأجبت ضاحكاً:
(أجل. . . سأقتلها. . .).
ولكن النوافذ نظرت إلي بوجوم وقالت في حزن:
(إنك لن تقتلها أبداً. . لأن الآلة التي في يدك هي الكذب بعينه، كقبلاتها تماماً).
واختفت الظلال المترقبة الصامتة وبقيت وحيداً في هذه البقعة الباردة، أنا وألسنة اللهب المنعزلة التي ترجف من البرد والخيبة. . وأخذت الساعة في قبة الكنيسة القريبة تدق، وكان صوتها المعدني الحزين يرتجف وينتحب ويتمدد. ويفقد نفسه في الثلج المدوم المجنون الهاطل؛ وأحصيت الدقات وضحكت، دقت الساعة الخامسة عشرة. كانت قبة جرس الكنيسة قديمة بالية كساعتها. ومع أن الساعة كانت سائرة على منوال حسن، فإنها كانت تدق غالباً أكثر من اللازم، حتى إن الرجل العجوز الذي كان يحركها صعد إلى القبة ليقف بيديه اللسان الضارب. علام كانت تكذب هذه الأصوات الراجفة الحزينة التي يخنقها الظلام الضبابي؟
وانفتح الباب الزجاجي مع آخر دقة كاذبة للساعة، وهبط الرجل الطويل نفسه الدرجات. وعلى الرغم من أني رأيت ظهره عرفته لأني كنت قد شاهدته أمس بوقاحته وغطرسته. . . عرفت مشيته وكانت اليوم أخف حركة وأكثر ثباتاً منها بالأمس. . لقد غادرت من قبل هذا المنزل كما غادره هذا الرجل الآن. إنها الطريقة التي يمشي بها الرجال الذين لا تزال على شفاههم قبلات المرأة الكاذبة.
هددت. . . رجوت. . . قضقضت بأسناني. . .
(قولي الحقيقة. . .).
فسألتني، ووجهها جامد كالثلج، وحاجباها مرتفعان في استغراب، ومن عينيها يطل إنسانان سوداوان سريّان هادئان، لا يسبر غورهما:
(ولكن. . . هل كذبت عليك؟).
وكانت تعرف أني لا أستطيع البرهان على كذبها، وأن كل أبحاثي وأوهامي وجهودي في معرفة الحقيقة ستذهب هباء بعد كلمة واحدة منها. . . كلمة كذب واحدة. . . ولقد ترقبت(171/66)
هذه الكلمة وندت عن فمها أخيراً، وظاهرها يتلألأ بالصدق على أن باطنها كان مظلماً قاتماً. . . (أحبك. . . ألست كلي لك؟).
وكنا بعيدين عن المدينة، والحقول المغطاة بالثلج ترنو إلى النوافذ المظلمة، وفوقها الظلام مخيم، وحولها الظلام جاثم، الظلام الكثيف الجلد الصامت الساكن، ولكن الحقول كانت تلمع بضوئها المكتنز كوجه جثة في الظلام. . . وأضاءت شمعة واحدة في الغرفة الرحبة الشديدة الحرارة، وعلى ضوئها الأحمر انعكست الحقول الميتة. . .
(أود أن أعرف الصدق، بغضّ النظر عما يسببه لي من حزن؛ ربما مت بعد سماعه. . . ولكن خير للمرء أن يموت من ألا يعرفه. أرى الكذب يطل من عينيك. قولي الصدق، وسأذهب بعد ذلك بعيداً عنك إلى الأبد).
ولكنها كانت صامتة، والنظرة التي في عينيها، النظرة الجامدة المتفرسة نفذت إلى سويداء قلبي وأخرجت أعماق نفسي وأبدتها للعيان. . . وأخذت بفضول غريب أمتحنها وأنعم النظر فيها، ثم صحت بها:
(أجيبي. . . وإلا قتلتك!).
فأجابت بهدوء: (اقتلني. . . بعض الأحيان يضيق المرء ذرعاً بالحياة. . . هل تستطيع الوقوف على الحقيقة بالتهديد؟!).
فجثوت على ركبتي وضغطت على يدها، وأخذت أتوسل إليها وأرجوها أن ترحمني وتقول الصدق.
فقالت، وقد وضعت يدها على شعري: (مسكين. . . مسكين. . .).
فرجوتها: (ارحميني. . . أود الصدق. . . أتلهف عليه. . .).
ونظرت إلى جبينها الناعم، وفكرت في أن الصدق الصراح هنالك. . وراء هذا الفاصل الرقيق، فوددت بجنون لو هشمت جمجمتها لأراه، وهنا تحت هذا الصدر المرمري الأبيض كان قلبها ينبض، فوددت لو مزقت هذا الصدر بمخالبي لأرى ولو مرة القلب البشري العاري. . . وكان لهب الشمعة المحدد كالسنان يشتعل بعيداً ساكناً لا يتحرك، والجدران المظلمة قد غابت في القتامة المحيطة، كان كل شيء يبعث على الأسى والوحشة والرعب.
وقالت: (مسكين. . . . مسكين).(171/67)
وارتعش اللهب الأصفر وتشنج، وضرب لونه إلى الزرقة، ثم تمايل واحتضر. . . وطوانا الظلام في جوفه، ولم أعد أستطيع أن أرى وجهها ولا عينيها؛ وكانت ذراعاها تطوقان رأسي. . . لم أعد أحس بالكذب، وأغمضت عيني وغدوت لا أفكر. . . ولا أعيش في هذه الدنيا. . . وإنما فنيت بكليتي في لمسات يديها، في الإحساس اللذيذ، في النشوة العجيبة التي هيمنت على حواسي ومشاعري، وبدا الصدق في عملها هذا ووضح وبان. . وجاء من أعماق الظلام همسها وانياً غريباً مخوفاً:
(ضمني إليك. . أنا خائفة. . .).
وخيم الصمت ثانية. . . ثم همست مرة أخرى في صوت خافت جازع:
(إنك تود الصدق. . . وهل أنا أعرفه؟ حتى أنا. . . أود أن أعرفه. . . احمني. . . أوه. . . أي رعب!!).
وفتحت عيني وقد أخذ الظلام الشاحب يهرب من النوافذ العالية، ويتجمع على الجدران، ويختبئ في الأركان، ولاح من النوافذ شيء ضخم في بياض الموتى. . . كأن عين إنسان ميت تبحث عنا. . . كأن شخصاً ضمنا في قبضته الباردة. . . فالتصق كلانا بالآخر ونحن نرتجف، وهمست:
(أوه. . . . . . ما أفظع هذا!).
لقد قتلتها!. . .
قتلتها. . . ولما تمددت كتلة بشرية لا حس ولا حركة على النافذة ووراءها الحقول البيضاء تمتد وتتشعب وضعت قدمي على جسمها وانطلقت أضحك، وأقهقه. . . ولم يكن ضحكي ضحك المجنون، لا. . . لقد ضحكت لأن أنفاسي خلصت وصدري استراح، ولأن في أعماق نفسي السعادة والسلام والفراغ. . .
لقد انمحت من قلبي الدودة التي كانت تنخره، وانحنيت وأخذت أتطلع إلى العينين الميتتين، عينان نجلاوان تتعطشان للنور، بقيتا مفتوحتين شبيهتين بعيني تمثال من الشمع، العيون المستديرة القاتمة التي تبدو مغطاة (بالميكا) أستطيع الآن أن ألمسها بأصابعي، وأفتحهما وأسبهما ولا أرهب شيئاً ما، لأن شيطان الكذب والشك مات من هذين الإنسانين السوداوين المبهمين إلى الأبد، مات من هذين الإنسانين اللذين كثيراً ما ارتويا من دمي.(171/68)
ولما قبضوا عليّ انطلقت أضحك جذلاً، وكل من رآني عد فعلتي عملاً وحشياً مرعباً؛ كانوا يديرون ظهورهم نافرين متراجعين، وأخذ بعضهم وقد روع يوجه إلي ضروب اللوم والتعنيف الشديد، على أنهم لما بصروا بحالي المرح الطروب، شحبت وجوههم، وسمرت أقدامهم، وقالوا: (مجنون).
ويبدو لي أن هذه الكلمة هدأت ثائرتهم وأقرت هائجهم، لأنها أعانتهم على حل اللغز. كيف وأنا المحب الوامق أقتل عشيقتي، وفي الوقت نفسه أضحك؟ على أن رجلاً بادنا أحمر الوجه طروباً سماني اسماً آخر. ولشد ما ساء ني منه هذا حتى اسود في عيني النور، النور الذي كان أمامي.
(مسكين. . .) قالها في عطف لا تشوبه المرارة، لأنه كان بادناً طروباً:
(مسكين).
فصحت في وجهه: (لا تقل هذا. . . . . . . . لا تسمني بهذا الاسم).
ولم أدر لم صحت في وجه الرجل، ما كنت بالطبع أرغب في قتله، ولا حتى في لمسه، ولكن القوم الذين أذهلهم الحادث وأخذوني كمجنون ومجرم، انقلبوا أكثر رعباً وفزعاً، وصاحوا بطريقة جعلتني أضحك مرة أخرى.
ولما قادونيبعيداً عن الغرفة التي تمددت فيها الجثة قلت ثانية في صوت عال ملتفتاً إلى الرجل البادن الطروب:
(أنا سعيد. . . أنا سعيد).
وكان هذا حقاً.
رأيت مرة في صباي نمراً أرقط في حديقة الحيوانات، لفت نظري وشغل تفكيري، لم يكن كالحيوانات الأخرى التي نامت في حماقة وأخذت ترمي الزوار بالنظر الشزر. وإنما مشى في قفصه في خط مستقيم من ركن في دقة حسابية عجيبة! كان في كل مرة يرجع إلى المكان الذي بدأ منه، وفي كل مرة يحك فروته الذهبية في حاجز القفص ورأسه الحاد المفترس مطأطئ، وعيناه تتطلعان إلى الأمام، ولم يتجه قط ينظره إلى الناس. . . والناس يتجمعون حول قفصه طول اليوم، متحدثين صاخبين، وهو يواصل تجولاته ولا ينظر إليهم مطلقاً. وقليل من الوجوه في هذا الحشد كنت باسمة، وكثرتها كانت عابسة بل حزينة وهي(171/69)
ترقب هذه الصورة البشعة وتتحول عنها بزفرة حارة. وعندما كانوا يبارحونه كانوا يلقون عليه نظرة فضولية أخيرة وهم عاجزون عن الفهم، ثم يصعدون الزفرات! كأن هناك شيئاً مشتركاً بين هؤلاء الرجال الأحرار وهذا الوحش السجين. وأخذت بعد ذلك كلما ذكر الناس الخلود وتحدثت الكتب عن الأبدية، أفكر في هذا النمر الأرقط، وأتصور أني أعرف الخلود وعذابه.
لقد غدوت في محبسي الحجري نمراً أرقط. . . سرت في المكان مفكراً على خط واحد في عرض محبسي من ركن إلى ركن، وفكري يتجول معي في خط قصير أيضاً. أفكار ثقيلة وطأتها علي، خيل إليّ بأني لا أحمل رأساً على كاهلي، وإنما أحمل الدنيا كلها على عاتقي. . وكانت هذه الأفكار تحوي كلمة واحدة ولكن ما أكبرها وأهولها كلمة. وما أعلقها بغيابات الأقدار!
(أكاذيب. . .) هذه هي الكلمة.
وأخذت هذه الكلمة تفح مرة أرخى من كل ركن، ثم التفت حولي. . ولكنها لم تعد حية صغيرة كما كانت، وإنما انقلبت ثعباناً ضخماً مفترساً تلمع عيناه. أخذ يلسعني بلسعاته. ولما صحت متألماً خرج من فمي صفير كريه. . . كصفير الثعابين، كأنما احتشد صدري بضروب الزواحف.
(أكاذيب).
مشيت غارقاً في أفكاري والأرض المقيّرة الناعمة الخضراء. . . غدت في عيني هاوية شفافة سحيقة مالها من قرار، وأصبحت قدماي لا تحسان ببرودة الحجر تحتهما، وتصورت نفسي أسبح في علو شاهق فوق الضباب والظلام، ولما خلص صدري من الزفرة السامة. . . من هناك. . . من القاع. . . من هذا الحجاب الرقيق الذي مع رقته لا تنفذ إليه العين، دوي يبطئ صدى مروع. . . كان الصدى بطيئاً جداً كأنه يعبر آلاف السنين، وهو في كل دقيقة وزفرة يفقد بعض قوته. أدركت بأن هناك في باطن القاع كانت الرياح الهوج التي تعصف بالأشجار تصفر. . . ولكن صفيرها وصل إلى أذني كأعقاب الأخبار السيئة تحمل في طياتها كلمة واحدة قصيرة:
(أكاذيب).(171/70)
هذا الهمس الوضيع أخذ بمخنقي وحبس أنفاسي، فألصقت قدمي بالأحجار وصحت بأعلى صوتي:
(لم تعد هناك أكاذيب. . . بعد. . . لقد قتلت الأكاذيب).
وتحولت عامداً بوجهي لأني كنت أعرف أن الجواب سيجيء من أعماق الهاوية السحيقة. وكان الجواب:
(أكاذيب. . .).
أنت ترى أن الأمر هكذا. . . لقد ارتكبت خطأ جسيماً.
قتلت المرأة. . . ولكني خلدت الكذب. لا تقتل المرأة إلا بعد أن تنتزع - بكل وسائل التعذيب والنار والوعيد - الصدق من أعماق نفسها. فكرت في هذا وأنا أسير في محبسي من ركن إلى ركن.
لقد حملت معها الصدق والكذب إلى مكان مظلم مرعب. . . وهل أذهب إليه. . .؟ هل أذهب إلى هناك. . . وعند عرش إبليس سأقبض عليها وأجثو على ركبتي وأبكي وأقول:
(أريني الصدق).
رباه. . . رباه. . . هذا أيضاً كذب. . . الظلام هناك. . . وفراغ القرون. . . والخلود أيضاً. . . ولكنها ليست هناك. . . ليست في كل مكان. . . بقي الكذب. . . إنه خالد أزلي سرمدي. . . أحسست به في كل ذرة في الهواء. . . وعندما أنشقه أنشق معه في صدري الضعيف فحيح الثعابين فيمزقه. . . فيمزقه. . .
أواه. . . أي جنون عندما يطلب الرجل الصدق. . . وأي عذاب وألم؟
رباه. . . أنقذني. . . . . . أنقذني!!
محمود البدوي(171/71)
البريد الأدبي
كتاب جديد عن الشاه
يعتبر جلالة رضا خان عاهل إيران من أعظم قادة العصر وملوكه؛ ومن أعظم زعماء الإصلاح في الشرق؛ وقد استرعت شخصيته وأعماله الباهرة اهتمام كثير من الكتاب والمؤرخين المعاصرين، فصدرت عنه عدة كتب بمختلف اللغات؛ ومن ذلك كتاب صدر أخيراً بالألمانية عنوانه: رضا شاه بقلم الكاتب الألماني (هوبرت ملتسج ويستعرض المؤلف في كتابه منذ مولده في سنة 1878 في قرية علشت من أعمال مزنداران، ووفاة والده وهو طفل في نحو الخامسة، وتربيته على يد أخيه الجنرال نصر الله خان. ومما يذكر عن الشاه أنه تلقى تربيته العسكرية في فرقة القوازق الروسية الشهيرة حيث اشتهر بالفروسية والبراعة في الأعمال العسكرية؛ وفي سنة 1921 حينما اضطربت شؤون فارس وتجاذبها النفوذان الروسي والإنكليزي زحف رضا خان على رأس كتيبة من الجند الوطنيين على طهران، وعاون على تأليف وزارة وطنية برآسة السيد ضياء الدين، ودخلها هو وزيراً للحربية؛ ومن ذلك الحين يقوى نفوذ رضا خان في الحكومة وفي توجيه السياسة الإيرانية، وكان معظم من ورائه يشد أزره، وما زال يتحين الفرص حتى قام بضربته الأخيرة، وتولى العرش سنة 1925، وأقصى عنه أسرة فاجار الملوكية التي سقطت إيران في ظلها إلى الحضيض.
ويصف المؤلف شخصية الشاه ووسائله في الحكم، ويقول إنه يؤثر سياسة الروية والتريث على سياسة الاندفاع والتسرع التي يأخذ بها الكماليون في تركيا؛ وهو قد استطاع أن يحرر بلاده من النفوذ الأجنبي، وأن يلغي المعاهدات الأجنبية المجحفة، وكذلك الامتيازات الأجنبية والمحاكم القنصلية، وكل ما يعترض السيادة القومية، ولكنه قطع هذه الخطوات في روية وتمهل، ونجح إلى أبعد حدود النجاح، وأبدى براعة سياسية تخلق بأعظم الزعماء والساسة، ثم عمد رضا خان بعد ذلك إلى الإصلاحات الداخلية فأصلح الدستور والقوانين، وأدخل النظم والعادات العصرية في المجتمع الإيراني، ومع ذلك فلم يعمد إلى العنف أو الاندفاع وإنما سار في كل ذلك بطريقته الرفيقة المستنيرة معاً.
ويكتب المؤلف بأسلوب قوي واضح معاً؛ ويعتبر مؤلفه خير ما أخرج في موضوعه في(171/72)
العهد الأخير.
ترجمة ضحى الإسلام إلى الفارسية
وصل إلينا بالبريد ترجمة الجزء الأول من (ضحى الإسلام) تأليف الأستاذ الجليل أحمد أمين مترجماً إلى اللغة الفارسية، وقد قام بترجمته الأستاذ عباس خليلي صاحب جريدة (اقدام)، وطبع بطهران طبعة أنيقة على ورق مصقول جيد، وهو يقع في نحو 450 صفحة، وسنعود إلى الكلام عن الترجمة في مقام آخر.
الطب والحركة الهتلرية
عقد أخيراً في مدينة درسدن مؤتمر للطب والطب الطبيعي، وقد ألقى خلاله الجراح الألماني الكبير الدكتور فرديناند زاور بروخ خطاباً استرعى الأنظار بقوته وجرأته؛ ذلك أنه حمل فيه على سياسة النظام الجديد (أعني النظام الهتلري) في محاربة الجامعة الطبية القديمة، وأطرى المدرسة القديمة التي كانت قائمة قبل حكم النازي؛ وقال إنه يحب ألا ننسى أن هذه المدرسة هي التي اشتركت في تكوين أعظم الأساتذة، وفي معتركها سقط كثير من الأساتذة والطلبة.
ودعا الدكتور زاور بروخ إلى وقف المناقشات العقيمة ورد الهدوء إلى الجامعة، لأن الهدوء ضرورة لابد منها لمتابعة المباحث العلمية؛ وحمل على الجهود الجديدة التي تبذل لإحلال الطب الطبيعي مكان الطب الفني، وقال إنها جهود زائفة من الوجهة العلمية، وأنه لا يوجد طب دون درس ودون تقاليد، وأن العلم لا يمكن أن يفنى في فكرة قومية، بل إن مملكة العالم لا تقف عند هذا العالم، ويجب أن يبقى العلم مخلصاً لغايته الأبدية، وهي البحث عن الحقيقة بإخلاص.
وقال أيضاً إن أسلحة الذهن ضرورية لمستقبل الأمة كضرورة الأسلحة المادية، وإن الفلسفة هي امتياز للرجال الناضجين، وليست ميدان الأحداث الناشئين.
وقد أحدثت خطبة العلامة الكبير امتعاضاً في الدوائر النازية، وصدرت الأوامر للصحف النازية بعدم إذاعتها؛ ولكنها أذيعت مع ذلك في جميع الصحف الأجنبية.
فرنسا وثقافة البحر الأبيض المتوسط(171/73)
تهتم فرنسا دائماً بأن تساهم في توجيه الثقافة في حوض البحر الأبيض المتوسط مساهمة قوية، ففي روما وفي أثينا، وفي مصر وسوريا، وفي تركيا، تقوم معاهد فرنسية كبيرة لنشر الثقافة الفرنسية؛ وفي موناكو (جنوب فرنسا) تقوم أكاديمية خاصة تسمى أكاديمية البحر الأبيض المتوسط، مهمتها أن تساهم في تأدية هذا الدور الذي تضطلع به فرنسا، وقد أذيع أخيراً أن هذه الأكاديمية أنشأت معهداً عالياً للتربية يسمى (كلية البحر الأبيض المتوسط) تعقد فيه محاضرات ودراسات عالية في الحضارات والثقافات الخاصة بأمم البحر الأبيض المتوسط منذ العصور الغابرة إلى يومنا، ويقوم على توجيه هذه الدراسات عدة من علماء فرنسا ومفكريها الأعلام، وفي مقدمتهم المسيو بول فاليري الشاعر الكبير ورئيس مركز هذه الدراسات، ومسيو شارل فيلاي، وأندريه بونيه العالم الأثري، وجان دستيه المتخصص في آداب البحر الأبيض، وغيرهم من كبار الأساتذة والمفكرين.
ويرجع اهتمام فرنسا بتوجيه الثقافة في أمم البحر الأبيض المتوسط إلى عهد الصليبيين؛ وقد بدأت فرنسا بهذه المهمة فعلا في بلاد لبنان منذ القرن الرابع عشر الميلادي، ولعبت المعاهد الفرنسية في تثقيف الشعب اللبناني دوراً كبيراً.
وفاة ملك النوَر
توفي أخيراً في سانت بلتن من أعمال النمسا ملك النوَر بطرس فادوس وقد يبدو غريباً أن نتحدث عن ملك النوَر ولكن الواقع أن النوَر (أو الغجر) وهم في أواسط أوربا ولا سيما في بولونيا والمجر ورومانيا كثرة تبلغ نحو المليون لهم ملك يختارونه بالانتخاب، وقد كان فادوس آخر ملوكهم، وهو من النوَر النمسويين؛ وعند وفاته ازدحمت سانت بلتن بالوافدين عليها من زعماء النور وأعيانهم من جميع أنحاء النمسا والمجر، وغمر منزل الملك المتوفى بالزهر، وتولى السهر على جثته طبقاً للعادات النوَرية اثنا عشر من خاصة أسرته؛ واقتيد نعشه إلى القبر في موكب حافل، وكان المشيعون رجالاً ونساء يرتدون الثياب الرسمية، وهم زهاء ألف من مختلف الطبقات والأعمار. ولما ووري التراب أخذ النساء ينشدن الأغنية المحزنة وفي تقطيع شعورهن طبقاً للعادة؛ ثم طاف الجميع بالقبر حفاة الأقدام. ولما كان قانون النوَر يقضي بانتخاب الملك الجديد في مدى ثلاثة أيام من(171/74)
وفاته سلفه، وكانت السلطات النمساوية قد منحت المشيعين أربعاً وعشرين ساعة فقط، فقد سهر الجميع طول الليل وأتموا انتخاب ملكهم الجديد.(171/75)
الكتب
الشيخ عفا الله
تأليف الأستاذ محمود تيمور
175 صفحة - قطع متوسط - طبع المطبعة السلفية - غلاف
أنيق فاخر - خمسة قروش
بفلم محمود البدوي
يكتب محمود تيمور لقصة منذ أكثر من عشر سنوات، ويوجه إليها كل عنايته وجهده وفنه. والذي قرأ مجموعة تيمور القصصية الأولى ثم يقرأ (الشيخ عفا الله) الكتاب الذي بين أيدينا الآن يرى مبلغ ما وصل إليه المؤلف من توفيق، ويرى أيضاً أنه يتطور ويخطو نحو الكمال الفني خطوات سريعة، وأنه كلما تقدم في السن أكسبته الحياة تجارب، وصقلت فنه وهذبت أسلوبه، ووسعت دائرة فكره، وفتقت ذهنه، وعمقت إحساسه، وجعلته دقيق الملاحظة بعيد النظر، حتى أصبح من نوابغ كتاب القصة القصيرة في مصر ومن الآخذين بيدها القابضين على زمامها الذين يوجهونها خير توجيه وأحسنه.
والذي يعرف تيمورا، وهو يقف من أبطال قصصه موقف الملاحظ المشاهد دائماً ولا ينزل إلى ميدان أبداً، قد يدهش عندما يراه يصور الطبقات الدنيا من الشعب، ويتغلغل في حياتها، وينفذ إلى أعماق نفوسهم ويتكلم بلسانهم ويصور أحلامهم وأمانيهم تصويراً دقيقاً فيه الكثير من الصدق. . على أن هذه الدهشة لا تلبث أن تنقلب إلى إعجاب وتقدير متى أدرك القارئ أن تيموراً وإن كان ينظر إلى هذه الطبقة من بعيد ولكنه يراها بعيني قلبه، ويحس بالعطف والشفقة والحنان على هؤلاء التعساء المساكين الذين يعيشون أبداً في الظلام مستسلمين صاغرين.
وتيمور قصصي واقعي يصور الحياة المصرية على بساطتها وسذاجتها أبدع تصوير، وقد يحيد بعض الأحيان عن الواقع ويميل إلى المغالاة في بسط الحوادث ليخلق المفاجأة ويرهف حس القارئ ويأسر لبه، على أن ذلك لا يكون إلا في سبيل فكرة سامية جليلة.(171/76)
وأول ما يسرك في هذا الكتاب أن صاحبه تمشى فيه مع كتاب القصة الحديثة في أوربا الذين خضعوا راغبين لعلم النفس، فبسطوا النظريات النفسية وحللوا الإنسان تحليلاً دقيقاً على ضوء هذا العلم الجليل الشأن العظيم الأثر، وعنوا عناية فائقة بالغرائز وخفايا اللاشعور، ووفقوا وبرعوا في سبر أغوار النفس البشرية والوصول إلى أعماقها. . وتصوير أدق خلجات الفؤاد، ورد كل ما يجيش في صدر الإنسان وعقله من عواطف وخواطر وانفعالات إلى أسبابه وبواعثه الحقيقية. لقد كشف هؤلاء العلماء الأفذاذ الإنسان البشري - بعد جهل طويل - وجردوه من لباسه المستعار وأبرزوه في ضوء النهار أمام هؤلاء المتزمتين العاجزين الذين يشوهون بنفاقهم حقائق الوجود.
والشيخ عفا الله أولى قصص الكتاب الإحدى عشرة هي أوضح صورة قوية على ما قدمنا، فيها الكثير من التحليل النفسي العميق. فهذا الرجل الذي يحب ويكبت الغريزة فيضطرب ويكاد يجن ثم يضعف أمامها ويتركها تسير في طريقها ويقوم منها على صوت ضميره القوي الملح عليه. . الذي يأخذ عليه دائماً السبيل ويبرز أمامه جرمه مجسماً على أبشع صورة هي قطعة حية من صميم الحياة وصميم النفس وصميم الواقع.
و (قصيدة غرام) هي وصف رائع لحياة طبيب شاعر عاشق فيها الكثير من الصدق والحرارة والإخلاص، وتعرف من خلال سطورها أن المؤلف كتبها بعناية وحرارة، وأنه أفرغ فيها كل فنه، ولولا أنه أقحم فيها مسألة الزواج إقحاماً وجرى في ذلك مع العرف والتفكير المصري الساذج ليوافق هوى القراء فحاد بذلك عن الفن وانحرف عن السبيل لكانت من أروع ما كتب تيمور عن الحب وصور. وفيها إحساس صادق يعرفه المسافرون الراحلون عن أوطانهم. . وليس ذلك لأن المؤلف قام بدور البطل نفسه، بل لأن المؤلف قام بهذه الرحلة - كما يبدو لي - ومن هنا يدرك القراء مبلغ الصدق في التصوير عندما يكون المؤلف جزءاً من البطل فكيف به إذا كان البطل كله؟
ثم قصة (الشيخ علوان) هذا الرجل الذي يضرب بتقاليد المجتمع وأوضاع الناس عرض الحائط ويعيش على هامش الحياة لا يتقيد بعرف ولا يخضع لنظام ولا يتورع عن التزوج بزوجات أخيه الثلاث. . . ولا يأنف من أن يفرض على الموسرين من الشبان ضريبة ليطعم وينعم ويعيش، كما يعيشون وينعمون ويلتذون!. . . لو رأيت الشيخ علواناً هذا في(171/77)
الطريق لصافحته بحرارة!
ومحمد عوف مجلد الكتب في (الكسيح) هذا الرجل القوي الشخصية الجبار الجسم الذي بسط سلطانه على صبيه، فأسره وأحاطه بالأغلال والقيود، فما استطاع الغلام التملص أو الفكاك من الأسر حتى بعد أن بتر الترام ساقي معلمه وغدا عاجزاً كسيحاً يصب لعنته على الناس أجمعين.
وعادل الدرديري في (إفلاس) هذا الشاب الطموح الجامح القلق، الذي ضاق ذرعاً بالمدينة وتقاليدها وسخفها ومفاسدها ونفاقها، وحن إلى الريف في هدوئه وبساطته وطهره. . فلما اختبره اجتواه وارتد عنه حائراً لا يدري كيف يعيش ولا كيف يعيش هؤلاء السعداء على نسق ونظام وقانون!
وعلى هذا المنوال الحسن باقي قصص الكتاب، وكلها من أقوى القصص المصرية الرائعة.
وأبطال تيمور على العموم مرضى يحيون في دائرة ضيقة خانقة، ويحسون بثقل الحياة عليهم، ومع هذا لا يتحركون ولا يفكرون في التحرك. . لتغيير مآلهم. . أبداً خاضعين مستسلمين لمن هو أقوى منهم، ولهذا لا تأسف على فراقهم ولا ترسل الدمع وراءهم، وهم يخرون صرعى في ميدان الحياة، لأنك تشعر في أعماق نفسك بأنهم لا يصلحون لغير الموت.
وتيمور مغرم بهذا النفر المريض من الناس غراماً كبيراً، وهذا ما كان يعيبه النقاد على تشيكوف، وهو أنه ضيع عمره وقضى حياته في وصف قوم مرضى لا خير فيهم، ولكن هؤلاء المرضى هم غالبية الطبقة العامة التي يصورها المؤلف. وتشيكوف كان يصف روسيا المريضة، وتيمور يصف مصر المريضة أيضاً. . والقصصي الواقعي ينتزع أبطاله من صميم الواقع. . . فإلى أن ينشأ جيل قوي جديد بدل هذا الجيل المريض العاجز سيستمر تيمور يعالج حياة هؤلاء المرضى ويسخر منهم ويتركهم صرعى عاجزين.
وبعد فهذه كلمة قصيرة عن كتاب جديد يستحق عليه صاحبه التهنئة والإعجاب والتقدير.
محمود البدوي
قصص مختارة من الأدب التركي(171/78)
تعريف خلف شوقي أمين الداودي
181 صفحة - قطع متوسط - طبع مطبعة عيسى البابي
الحلبي
في هذا الكتاب أكثر من خمس وعشرين قصة قصيرة اختارها المعرب لطائفة من أدباء الأتراك الذين تغني شهرتهم عن التقريظ كما يقول! ومن بينها قصص (محاكمة الحاجة فطومة) و (النار الموقدة) - نشرت في الرسالة - و (اعترافات سيدة) و (الكلب بوبي). وهذه الأخيرة فيها القليل من الفن القصصي، أما الثلاث الأولى فكل ما يمكن أن يقال عنها أنها تقرأ.
هذا ونرجو أن يوفق المترجم في كتابه المقبل إلى ما وهو أحسن من هذا وأفضل وإن كنا نرجو لكتابه هذا ما يستحق من تشجيع وتعضيد.
البدوي(171/79)
العدد 172 - بتاريخ: 19 - 10 - 1936(/)
اليوم المشهود. . .
ذلك يوم الأوبة! وأوبة الزعيم العظيم عنوان من النور على فصل جليل الخطر بارز الأثر من تاريخنا الجديد: تجمعت في هذه الأوبة أشتات من المعاني والمنى، فكان يومها الأغر مظاهرة شعبية هاتفة، جلجل فيها صوت الحق، واستعلى بها شأن الأمة، واستعلن فيها مجد الوطن؛ وكأنما انبثقت في النفوس لأول مرة مشاعر المصرية والحمية والعزة، فكل امرئ يحس بوجوده المستقل، ويُزْهَى بسلطانه القادر، ويفخر بإرادته الحاكمة.
احتفل حَشْدُ الناس يوم الثلاثاء على حواشي الميناء وفوق متون الماء لاستقبال الرئيس الجليل على (كوثر)، وقد عاد إلى وطنه الشاكر الذاكر بتحقيق المسعى وتصديق الأمل؛ فكان هذا الاستقبال النادر مشرق الدلالة على معناه: نَمَّ بهزة السرور عن لذة النصر، وبهشاشة الوجوه عن جمال الشكر، وبحماسة الهتاف عن وجهة الرأي. وكانت الإسكندرية في ذلك اليوم صورة منسقة الألوان مهذبة الأطراف منمنمة الخطوط للقطر كله؛ تمثلت فيها من أعلى الجنوب إلى أسفل الشمال وجوه البلد، وأنماط الزي، ونوازع الهوى، ومرامي النظر؛ فالأندية والمقاهي والمطاعم والفنادق والطرقات والمركبات سيول متدافعة من فنون القول، ولكنها لا تخرج في عنصرها وجوهرها عن تفنيد المعارضة وتأييد المعاهدة وتمجيد الزعيم.
لا أكذِبُ الله، كانت الحجج كثيراً ما تسقط إعياء في حَلْبة الجدل، ولكن
تهافتها كان يرجع إلى ضعف المدافع لا إلى ضعف القضية؛ وكان
الغالب على منطق السواد من وفود البلاد الإيمان الثابت برأي الوفد،
أو الإذعان المريح لحكم الواقع. فهم بقولون مالنا ولجدال المحامين
بمواد القوانين وآراء العلماء ونصوص الكتب؟ إن الوفد لم نجرب عليه
تدليسا في رأي، ولا تفريطاً في حق، ولا توريطاً في باطل، وقد مضى
في ضمان الوحدة والخبرة ففاوض، واطمأن على سلامة الحق والعدالة
فعاهد؛ فإذا قال لنا هذا هو الاستقلال الذي استنفدتم إليه الجهود
والوسائل، وأرخصتم فيه الأموال والمهج، كنا أحرياء أن نقبل عليه(172/1)
بالسمع، ونخلد إليه بالثقة. ثم تبلغ الثقة الراجحة حد اليقين المحض إذا
عارض هذا القول من نستريب بسياسته ونستوحش من ناحيته. كذلك
يقولون إذا أخرجهم نشاط الحديث. من التسليم الأعمى إلى التدليل
البصير: لا جدال في أن المعاهدة محت الاحتلال وأثبتت الاستقلال
وفتحت السودان، وحطت عن كاهلك امتياز الأجنبي، وأذهبت عن
ضميرك رجس الهون، وجعلتك مطلق السيادة حر الإرادة تحت سمائك
وفوق أرضك؛ فإذا توخينا وجوه الإصلاح الداخلي ونحن على هذه
الحال الجديدة من حرية الرأي والعزيمة والعمل، وبذلنا في سبيله ما
كنا نبذل في سبيل الاستقلال من نقود وجهود وتضحية وزمن، جرينا
من سُبل التقدم إلى أبعد الغايات في أيسر كلفة وأقصر مدة.
كان اسم النحاس ولفظ المعاهدة هتاف المظاهرات وموضوع الخطب وحديث الأندية في الاسكندرية، ذلك لأنهما كلمتان استوعبتا أحفل وأنبل العواطف وأجمل الذكريات من جهادنا المجيد. فالنحاس اسم يشمل الزعامة والوطنية والوفد، ويتضمن أسماء عرابي ومصطفى وسعد، ثم يستغرق كذلك أسماء مكرم والنقراشي وماهر؛ والمعاهدة لفظ يتناول مدلوله أهوال الثورة التي بذرتها، ودماء الشباب التي أسقتها، وأشلاء الضحايا التي غذتها، وجهود الإبطال التي تعهدتها ثم جنتها؛ ثم يشمل كذلك ما قر في أذهاننا من معاني الحرية، وشاع في نفوسنا من مشاعر المجد، وحصل في أيدينا من وسائل السيادة، وامتد في خيالنا من حدود الأمل.
ما أجمل الإسكندرية اليوم! لقد أصبحت خالصة المصرية حتى في الطبيعة والمظهر! الجو راكد الريح زاهق الأنفاس كأنه طلعة المختنق، والبحر راقد الموج مصقول الأديم كأنه صفحة المرآة؛ فلا العباب زاخر يبعث الروعة في القلب الشاعر، ولا النسيم نديٌّ ينضح بالنعيم الجسد المحرور؛ ومع ذلك نراها أقرب ما كانت إلى القلب، وأروع ما تكون في(172/2)
النفس! لقد ذوب هذا اليوم عنصرها الدخيل كما تذوب حبات الملح في لجج الفرات العذب. لم يبق إلا مواكب الأهلين تشدو بأهازيج النصر، ووفود الأعيان تناقل أحاديث الوطنية، وكتائب الوفدين تنشد أغاني الحماسة، وخطباء المحتفلين يرسلون على أمواج الأثير عواطف مصر الشابة إلى الجهات الأربع.
تجددت مظاهر النصر والشكر والتأييد والفرح في سُوح القاهرة، فكان يوم السبت في مدينة المعز أبهر جلالاً وأروع استقبالاً من يوم الثلاثاء في مدينة الإسكندر! ذكرنا به أيام سعد! وأيام سعد خوالد يتحدين النسيان ويعاجزن البلى، وقد كن لهذه الأيام السعيدة شروقاً وبكرة.
سننعم بأصائل هذه الأيام حيناً من الدهر يقصر أو يطول، ولكن شمسها ستدخل في ملكوت الخيال وعالم الذكرى، ثم لا يبقى في أيدينا من ثمارها غير المعاهدة. والمعاهدة وثيقة الاستقلال في القانون، ولكنها ورقة الامتحان في العمل. ولا ريب أن الذين عرفوا كيف يحررونها، سيعرفون كيف ينفذونها. ومن عمل واليد شلاء، وبلغ والطريق غفلاء، فهل تخشى عليه والسبيل واضحة، والغاية لائحة، والساعد حر والساق طليق؟
أحمد حسن الزيات(172/3)
الجمهور
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وقال صاحب سر (م) باشا: كان من بعض عملي في الحكومة سنة 1922 أن أُراقبَ الحركات والسكنات، وأبث العيون والأرصاد، وأعرف المضطرب والمنقلب في أيام الفتن ونوازل المحنة، محافظة على الأمن ومبادرة لما يُتوقع؛ فكنت كالمرصد المهيَّأ بآلاته لتدوين حركات الزلازل.
وانتهى إلينا يوماً أن راجفة من هذه الزلازل سترجُفُ بفلان من أهل الرأي الحر الذي يستقلُّ ولا يُتابع، وينتقد ولا يحابي، ويصرِّح ولا يجَمْجمُ، وأن قوماً ثوَّروا عليه الغبارَ الأدميَّ من العامة وأشباه العامة، وأنهم يتحيَّنون الوقت لتوجيه المكيدة له في شكلها المفترس من هذا الجمهور الناقم.
أما فلان هذا فرجلٌ سياسي عنيد أضاع الحقَّ كلَّه لأنه لا يرضى بنصف الحق. . . وكلمته في السياسة كأنما تلقى على لسانه من الغيب فلا يتحول عنها ولا يملك أن يتكلم بما يتكلم؛ وقد ذهب بصوته أنه في قوم لا يسمعون إلا ما أرادوا، فهو بينهم كالحق المغلوب لا يموت لأنه غير باطل، ولا يحيا لأنه لا ينتصر. وقد كان رجلاً كالمصباح الوهَّاج فألقوا عليه الغطاء فإذا هو في طبيعته ويبدو للناس بغير طبيعته، وتركه رأيه الحرُّ الصريح كالنبي المكذَّب يُردُّ عليه صدقُه لا لأنه غير صادق ولكن لأنه غير مستطاع أو غير ملائم.
ومن آفاتنا نحن الشرقيين أننا نستمرئُ العداوة وننقاد لأسبابها ونتطاوع لها تطاوع الصغار بأنفسهم لما في أنفسهم، كأن المستبدين الذين كانوا في تاريخنا قد انتقلوا إلى طبائعنا؛ فردُّ الفكر على الفكر في مناقشة تجري بيننا - لا يكون من دفع الحقيقة للحقيقة، ولكن من رد الاستبداد على الاستبداد ومن توثُّب الطغيان على الطغيان؛ فهو الثَّلبُ والطعنُ والتجريح، وهو الجفوة والخصومةُ واللَّدَد، وهو المنازعة والعنف والتحامل؛ وهو بهذه وتلك شرّ وفسادٌ وسقوط. والجدال بين العقلاء يبعث الفكر فينتهي إلى الحق، ولكنه فينا نحن يهيج الخلق فينتهي إلى الشر، والردُّ على عظيم منا كأنه يردُّ على منزلته في الناس لا على منزلته في الرأي، وكشف الخطأ عندنا تعبيرٌ بالخطأ لا تبصير بالصواب، واستلاب الحجة من صاحبها وإفسادها عليه كاستلاب المِلك من مالكه وطرده منه. .(172/4)
ومن ثمَّ كان الدفاع بالمكابرة أصلاً من أصول الطبيعة فينا، وكان الاضطهاد حجةً للحجة العاجزة، وكان الإعنات دليلاً للدليل الذي لا ينهض بنفسه، ومتى اعتبر كلُّ إنسانٍ نفسه إمبراطوراً على الحق. . . فلا جرَمَ لا تردُّ كلمةٌ على كلمة إلا بحرب.
قال صاحب السر: وكبر الأمر على الباشا فجمع رؤوسَ المؤتمِرين بذلك الرجل الحر، وأخذ يقلّبهم تقليبَه بين التودد والملاطفة، وقال لهم فيما قال: إن فضيلة الجمهور هي التي تضمن تربية الفضيلة وحفظها وغلبتَها على الرذائل، وإن كل صحيح يكون فاسداً إذا لم يكن الجمهور صحيحاً، وإن غير العقلاء هم الذين يقبلون الحقيقة في يوم ثم يرفضونها هي ذاتها في يوم آخر، فإن ذهبتَ تجادلهم وتحتجُّ عليهم بأنهم قبلوها - قالوا: هذا كان أمس. . . فكأنما الفاصل بين زمنين يجعل الشيء الواحد ضدين ثم سألهم: ما هو ذنب الرجل؟ فقال منهم قائل: إنه خارج علينا في الرأي. فقال الباشا: إن المعنى في أنه يخالفكم هو أنكم أنتم تخالفونه؛ فقد تكافأت الناحيتان، وخلافٌ بخلاف؛ فما الذي جعل لكم حقَّ رده عن الرأي دون أن يكون له مثل هذا الحق في ردكم أنتم؟ قالوا: إننا الكثرة. قال الباشا: يا أصدقائي إن خوف الكثرة من رأي فرد أو أفراد هو أسوأ المعنَيَين في تفسير رأيها هي؛ وعشرة جنيهات لا تعبأ بالجنيه الواحد فإنها تستغرقه، بيد أن هذه ليست حالَ عشرة قروش يا أصدقائي. . نعم إن قطعَ الخلاف ضرورة من ضروريات الوطنية، ولكن إذا كان الأمر في ظاهره وباطنه كالخلاف في أيهما أطول: العصا أو المئذنة. .؟ فذلك جدال محسومٌ من نفسه بلا جدال.
إن أساس انخذالنا نحن الشرقيين في قلوبنا إذ لا نعتبر المعانيَ العامة إلا من جهة أنها قائمة بالرجال، ثم لا نعتبر الرجال إلا من ناحية ما في أنفسنا منهم، ثم لا نعتبر أنفسنا إلا من جهة ما يرضينا أو يغضبنا، وقد لا يغضبنا إلا الحق والجِد، وقد لا يرضينا إلا الباطل والتهاون، ولكنا لا نبالي إلا ما نرضى وما نغضب.
لستم أحراراً في أن تجعلوا غيركم غير حر، فإن يكن الرأي الذي يعارضكم رأياً حقاً وتركتم منابذتَه فقد نصرتم الحق؛ وإن يكن باطلاً فإظهاره باطلاً هو برهان الحق الذي أنتم عليه؛ ولن تجرّدوا أحداً من اختيار الرأي إلا إذا تجردتم أنتم من اختيار العدل، فإن فعلتم فهذه كبرياء ظالمة، تدَّعي أنها الحق ثم تدَّعي لنفسها حكمه، فقد كذبتْ مرتين.(172/5)
اسمعوا أيها السادة: قامت بين اثنين من فلاسفة الرأي مناظرة في صحيفة من الصحف وتساجَلا في مقالات عدّة، فلما عجز أضعفُهما حجةً وكعَمه الجدال، كتب مقالته الأخيرة فجاءت سقيمة، فلم ترضِه فبيَّتها ونام عنها على أن يرسلها من الغداة بعد أن يردد نظره فيها ويصحح أراءه بالحجج التي يفتح بها عليه. قالوا: فلما نام تمثَّلت له المقالةُ في أحلامه جسما حياً موهوناً مترضضاً، مخلوعاً من هنا مكسوراً من هناك، مجروحاً مما بينهما؛ ثم كلمته فقالت له: ويحك أيها الأبله. إن أردت أن تغلب صاحبك وتُسكتَه عنك فاحمل مقالتك إلى رأسه في العصا لا في الجريدة. . .
قال صاحب السر: وضحك القوم جميعاً وأذعنوا وانصرفوا مقتنعين قد خَلُصتْ دِخْلتُهم لذلك الرجل الحر وتفصَّلوا من جريمة كانت في أيديهم، وما جاء الباشا بمعجزٍ من القول ولكن تصويره للمسألة كان حلاً لها في نفوسهم. فلما أدبروا تنفَّس الباشا كأنما خرج من البحر وكان يتعاطى إنقاذ غريق ويعاني فيه حتى نجا؛ ثم قال لي: إن هذا كان جواباً عن شيء في أنفسهم ولكنه هو سؤال عن شيء في أنفسنا: ما الذي يجعل الناس عندنا يخشون المعارضة في الرأي الوطني حتى إنهم ليجازُون عليها بهذه العقوبة الشعبية المنكرة، وما بالهم لا يعطون الرأي حكمه وحقيقته بل يعطونه من حكم أنفسهم وحقائقها وشهواتها المتقلبة حتى لترجع الفروقُ الضعيفة المتجانسة في أبناء الوطن الواحد - وكأنها من الخلاف والمباينة فروقٌ جنسية كالتي تكون بين إنسان من أمة وإنسان من أمة أخرى تعاديها به.
قلت: إن رأى الكثرة قانون باشا.
قال: هذا صحيح ولكن بشرطين لا بشرط واحد: الأول ألاَّ يخرج الرأي على القانون، والثاني ألاَّ تكون الحقيقة في الرأي الذي يناقضه؛ ومحاولة إكراه المعارضة تفضٌ للشرطين معاً. ثم إن أساس الوطنية سلامة القلوب وصفاء النيات واستواء الموافق والمخالف في هذا الحكم؛ ومتى وقع الخلاف بين اثنين وكانت النية صادقة مخلَصَة لم يكن اختلافها إلا من تنوع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأيين ما من ذلك بد.
الحقيقة يا بني أن الجماهير ليست في تربيتها من الجماهير السياسية التي يُعتدُّ بها إذ لا تزال في أول عمرها السياسي وبهذا السبب وحده كان اختلاف الكبراء في السياسة لا يشبه(172/6)
إلا نزاع الخصمين بغير شهود ولا قاض نافذ الحكم، فهو نزاع قوة تفوز بوسائلها لا نزاع حق يستعلي بأدلته.
وهذه المجالس النيابية الشرقية كلها صور ممثَّلة جافة منقطعة النماء من أسبابها كالفرع المقطوع من الشجرة، وإنما يتنفّر الفرعُ ويُثمر أثماره إذا قام بشجرته لا بنفسه، وما شجرة الفرع السياسي إلا الجمهور السياسي.
فسبيل الإصلاح في كل مملكة شرقية أن ينهض أهل الرأي من كل مدينة فيها بين عالم وأديب ومحام وسّريّ ومن كان بسبيلٍ من هؤلاء، فيجعلوا لمدينتهم دار ندوة للاجتماع والبحث والمشورة وقول (نعم) بالحجة وقول (لا) بالحجة. ثم يعلنون ذلك في جمهورهم وينزلون منه منزلة الأستاذ والأب والصديق في تعليمه وهدايته وإرشاده؛ وتتصل هذه الدورُ في كل مملكة بعضها ببعض وتنتهي بالمجالس النيابية. وبغير ذلك لا يُملأ الفراغ الذي نراه خاوياً بين الشعب والحكومة وبين الكبراء والجماهير، وإنما أكثر مصائبنا من هذا الفراغ فهو الذي يضيع فيه ما يضيع فيه ويختفي ما يختفي.
منا قومٌ موظفون في الحكومة؛ ولكن أين القوم الذين تكون الحكومة نفسها موظفةً عندهم؟
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(172/7)
أنقذوا تراث الأندلس
واجب الأمم العربية والإسلامية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قرأنا في الأنباء الأخيرة أن مندوب بوليفيا (من جمهوريات أمريكا الجنوبية) لدى عصبة الأمم قد أثار أمام إحدى لجان العصبة مسألة الآثار الفنية في أسبانيا وما يهددها من الأخطار من جراء الحرب الأهلية الطاحنة التي تجتاح أسبانيا من أقصاها إلى أقصاها، وطلب أن تعمل العصبة لحماية هذه الذخائر الفنية ولا سيما في الأماكن التي تهددها ويلات الحرب.
ونحن نعرف أن عصبة الأمم لا تملك وسيلة للتدخل الفعلي في المأساة الأسبانية، ولا تستطيع مع الأسف أن تعمل شيئاً لحماية الآثار الفنية في أسبانيا.
بيد أن لهذه الصيحة الكريمة التي يرسلها مندوب بوليفيا قيمتها وأهميتها في تذكير العالم المتمدن بأن في أسبانيا تراثاً فنياً بديعاً هو اليوم رهين القدر، ووشيك التبدد والفناء، إذا لم تتداركه يد الحماية والغوث.
وهذه صيحة يجدر بنا أن نرددها. ذلك أن بين هذا التراث الذي تحدق به الأخطار من كل صوب بقية نفيسة من تراث الإسلام في أسبانيا: هنالك في غرناطة الحمراء وجنة العريف وأبهاؤهما ونقوشهما الرائعة، وهنالك في أشبيلية قصر بني عباد، وبرج (الجيرالدا)، وهنالك في قرطبة مسجدها الأموي الجامع الذي ما زال رغم تحويله إلى كنيسة من أروع الآثار الإسلامية، وهنالك تراث الإسلام الفكري في قصر الأسكوريال؛ وهنالك آثار ونقوش إسلامية كثيرة في معظم المتاحف والمدن الأسبانية؛ وكلها مما يلقي أعظم ضياء على تاريخ أسبانيا المسلمة وحضارتها في أزهر وأمجد عصورها.
ولقد كنا أول من أرسل هذه الصيحة منذ بدء الحرب الأهلية الأسبانية، إذ كنا يومئذ على مقربة من أسبانيا مسرح المأساة، وقرأنا فيما قرأنا من أنبائها أن طيارات حكومة مدريد قد ضربت مدينة غرناطة بالقنابل (وغرناطة ومعظم قواعد الأندلس الأخرى ما زالت بيد الثوار)، وأن قنابل قد سقطت على قصر الحمراء فأتلفت بعض جدرانه، فأثار هذا النبأ في نفوسنا شجناً وأسى، وكتبنا يومئذ نلفت نظر العالم المتمدن، ونظر العالم الإسلامي خاصة(172/8)
إلى ذلك الخطر الداهم الذي يهدد تراث الإسلام في أسبانيا.
وهذه مأساة القصر (الكاثار) المروعة بجوار طليطلة، وقد خرب فيها حصن القصر القديم الذي يرجع معظم بنائه إلى العصر الإسلامي.
وفي الأنباء الأخيرة أيضاً أن زعماء الثورة رأوا أن يجتذبوا ولاء الجنود المغاربة وأن يثيروا حماستهم بأن يسمحوا لهم بإقامة الصلاة في جامع قرطبة الكبير الذي هو اليوم كنيسة جامعة؛ ونحن نغتبط إذ يستطيع المسلمون أن يؤدوا شعائرهم في ذلك المسجد الجامع القديم الذي هو أبدع آثار الدولة الأموية في الأندلس؛ ولكنا نخشى أن تؤدي الفوضى العسكرية في مثل هذه الظروف إلى تشويه هذا الأثر الإسلامي الخالد أو تخريبه.
والآن يزحف الثوار على مدريد ويطوقونها من الشمال والجنوب والغرب؛ وتضطرم حول العاصمة الأسبانية وفي سمائها حرب طاحنة لا يقف المتحاربون فيها عند شيء ولا يفرون شيئاً؛ وفي مدريد متحف يضم كثيراً من الآثار والنقوش الإسلامية؛ وعلى مقربة من مدريد تقع ضاحية الأسكوريال، وفيها الدير المسمى بهذا الاسم والقصر الملحق به الذي يضم المكتبة العربية الشهيرة؛ فالآن وهذه المعارك الطاحنة تدور حول مدريد بين جيوش الحكومة وجيوش الثورة، ماذا يكون مصير الأسكوريال ومصير الآثار والكتب العربية؟ هذا سؤال نردده جزعين خصوصاً بعد الذي رأينا من روعة هذه الحرب التي تجتاح في طريقها كل شيء ولا تقف عند أي اعتبار إنساني.
لقد عملت أسبانيا النصرانية في إبان غلوائها وتعصبها على تبديد معظم تراث الإسلام، وكانت يوم مصرع الأندلس، ويوم كانت لا تزال تضطرم بروح العصور الوسطى، تعتبر هذا التراث رجساً يجب أن يمحى من أرضها ومن تاريخها القومي؛ فلم تمض أعوام قلائل على سقوط غرناطة حتى أمر الكردينال كمنيس بالكتب العربية فجمعت من سائر الأنحاء وأحرقت أكداساً في أكبر ميادين غرناطة، وكان منها ألوف مؤلفة من كتب الدين والفقه والتاريخ والأدب وغيرها، ولم يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والرياضة وهبت لجامعة الكالا (القلعة) التي أنشأها كمنيس، وأبيد بتلك الجريمة البربرية التي ارتكبت عام 1499 معظم تراث الأندلس الفكري.
ومع ذلك فقد بقيت من الكتب العربية في أسبانيا مجموعة كبيرة أودعت في أقبية(172/9)
الأسكوريال، وأخفيت بعناية عن نظر كل باحث ومتطلع؛ وكان عددها حتى أواسط القرن السابع عشر يبلغ نحو عشرة آلاف مجلد؛ ولكن محنة جديدة أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس، ففي سنة 1671 شبت النار في الأسكوريال والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه سوى ألفين، هي التي عهدت الحكومة الأسبانية في منتصف القرن الثامن عشر إلى العلامة اللبناني ميشيل الغزيري ببحثها وتصنيفها في فهرسة الجامع، وهي التي بقيت إلى يومنا من تراث الأندلس.
هذا عن تراث الأندلس الفكري. أما عن الآثار المادية، فقد حولت جميع المساجد الجامعة إلى كنائس، وتناولتها يد التدمير بالهدم والتحوير، وضحيت جميع الذخائر والاعتبارات الفنية في سبيل تحقيق الشهوات الدينية؛ ولم يأت القرن الثامن عشر حتى كادت آثار الإسلام كلها أن تمحى من أسبانيا؛ ولم يبق منها سوى حمراء غرناطة ومسجد قرطبة والقصر في أشبيلية ومجموعة من اللوحات والتحف والنقوش الأثرية في متاحف مدريد وقرطبة وبنبلونة وأشبيلية وغيرها.
هذه البقية الباقية من تراث الإسلام في أسبانيا يحدق الآن بها خطر داهم، ويخشى بحق أن تمتد إليها يد التدمير التي تحطم الآن كل شيء في طريقها؛ فهل تبقى الأمم الإسلامية على صمتها وجمودها حتى تقع الفاجعة ويمحى ذلك التراث العزيز تحت وابل النار والقنابل، أم يجدر بالأمم الإسلامية أن تحذو حذو مندوب بوليفيا لدى عصبة الأمم فترفع صوتها مطالبة بالعمل لإنقاذه وحمايته؟ نعتقد أن الأمم الإسلامية المختلفة تستطيع أن تبذل على يد حكوماتها من المساعي في هذا السبيل ما يكفل لفت نظر الفريقين المتحاربين في أسبانيا إلى احترام هذا التراث المقدس الذي لا يعني أمره أسبانيا وحدها، بل يعني أمره العالم العربي والإسلامي أيضاً، ويعني أمره العالم المتمدن بأسره.
ولسنا نعرف أي سبيل ستتخذ عصبة الأمم إذا استجابت لدعوة مندوب بوليفيا، وهي بلا شك سوف تحلها مكانها من الأهمية والعناية؛ وليست الوسيلة مما يهم في الواقع، وكل ما يهم هو أن يصل هذا النداء إلى حماية الآثار والذخائر الفنية إلى الفريقين المتحاربين في أسبانيا؛ وإذ لم يكن في وسع الأمم والحكومات ذات الشأن أن تساهم في هذه الدعوة بطريق مباشر، وأن تتصل في ذلك بطريق الثوار، وهم يسيطرون على أشبيلية وقرطبة وغرناطة،(172/10)
فلا بأس من أن تساهم فيها على يد عصبة الأمم ذاتها.
ونحن نعرف أن حوادث الحرب الأسبانية، ووسائلها المخربة، ومناظرها المؤسية، كانت مثار الروع والأسى في جميع الأمم المتمدنة، ونعرف أن حكومات بعض الدول العظمى قد فكرت في أن تقوم بالسعي في سبيل تخفيف ويلات هذه الحرب الأهلية الطاحنة، وحمل الفريقين المتحاربين على اتباع القواعد الإنسانية، وربما بذلت بعض النصح في هذا السبيل؛ ولا ريب أن تحطم الآثار والذخائر الفنية لا يقل شناعة عن سفك الدماء ذاته، ومن أقدس واجبات الجيوش المتمدنة أن تحرص على قدسية هذا التراث الفني وصونه من كل اعتداء.
هذا ويجدر بالهيئات العلمية والثقافية في الأمم العربية والإسلامية أن تتخذ الخطوة الأولى في هذا السبيل، فتبث إلى حكوماتها المختلفة ما يساورها على مصير الآثار الأندلسية من جزع، وترجوها أن ترفع صوتها الرسمي بالدعوة إلى حمايته، وأن تبذل في ذلك السبيل ما استطاعت من السعي الودي؛ وفي وسع هذه الهيئات العلمية والثقافية أيضاً أن تذيع دعوتها في الصحافة الدولية، فللصحافة الدولية صوت مسموع، وفي وسعها أن تقوم بدور في هذا الشأن، وهي ما زالت تنوه بشناعة الإجراءات والوسائل المخربة التي ترتكب خلال الحرب الأسبانية؛ وقد لفتت نظرها فظائع موقعة القصر الأخيرة، وما أصاب القصر من حرق وتخريب، فأخذت تنوه بهذه الخسارة الأثرية وبالخطر الداهم الذي يهدد تراث أسبانيا الأثري والفني من جراء هذه الحوادث؛ وعلى أثر ذلك ارتفع صوت مندوب بوليفيا في أرجاء عصبة الأمم بمثل هذا النذير.
وهانحن أولاء نردد هذا النذير بدورنا؛ ونحن على يقين من أنه سيحدث صداه وأثره في جميع الهيئات العلمية والثقافية في الأمم العربية والإسلامية؛ وإذا كانت بوليفيا، تلك الجمهورية النائية في أعماق أمريكا الجنوبية قد حفزتها البواعث التاريخية والإنسانية على أن توحي لمندوبها أن يلقي نداءه أمام عصبة الأمم، فأولى وأجدر بالأمم الإسلامية أن تلبي داعي الواجب والمساهمة في هذا المسعى الكريم الذي يبذل صوناً لتراث الإسلام في أسبانيا.
محمد عبد الله عنان(172/11)
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
تتمة
- 6 -
وقبل أن نختم بحثنا هذا نقول كلمة مختصرة في أثر هذه النظرية في الفلسفة المدرسية اليهودية والمسيحية، وفي بعض فلاسفة العصور الحديثة، وفلسفة اليهود في القرون الوسطى، أو بعبارة أدق الدراسة اليهودية الفلسفية في ذلك العهد هي في الواقع صدى للفلسفة الإسلامية، واليهود هم خلفاء العرب على تراث أرسطو والفلاسفة الآخرين، وقد فازت الفلسفة على أيديهم منذ القرن الثالث عشر الميلادي فوزاً عظيماً، وأضحوا أنصارها طوال القرون الثلاثة التالية حين خذلتها الشعوب الأخرى، فأخذوا الأفكار العربية أو المعرَّبة ونقلوها إلى لغتهم وتدارسوها فيما بينهم، وتتلمذوا لفلاسفة الإسلام تلمذة صادقة مخلصة، ودون أن نستقصي هنا كل مفكريهم نكتفي بأن نشير إلى شيخهم الأعظم وأستاذهم الأكبر موسى بن ميمون الذي يعد بحق الممثل الأول للفلسفة اليهودية المدرسية، وإذا ما ذكر ابن ميمون ذكرت الفلسفة الإسلامية على الفور، فقد اعتنق كل نظرياتها تقريباً، وصادفت نظرية السعادة بوجه خاص من نفسه هوى، ووجد فيها مجالاً فسيحاً للتوفيق بين الفلسفة والدين، فهو يعتقد أن البحث والثقافة سبيل الكمال الإنساني، وأن العلم هو العبادة الحق التي يستطيع العبد التقرب بها إلى ربه وكشف الحقائق الغامضة؛ وكلما أمعن الإنسان في الدراسة والنظر كلما ازداد قرباً من ربه، ويشبه ابن ميمون الخالق والخلق في رتبتهم المختلفة بملك عظيم يسكن قصر منيفاً في مدينة كبيرة، وسكان هذه المدينة بين المعجب بهذا القصر المصوب النظر إليه، والغافل عنه المعرض عن جماله وجلاله، ومن فتنوا به قد يدفعهم الشوق إلى السعي نحوه والطواف حول جدرانه الفخمة، وربما اقتحموا عتبته وانسابوا إلى حدائقه وأفنيته الملأى بالأزهار والرياحين والمناظر البهجة، ومنهم من يقنع بهذه الغاية ولا يطلب وراءها مزيداً، وذوو النفوس السامية والهمم العالية يأبون إلا التشرف(172/13)
بالمليك في حضرته والإصغاء إلى حديثه والتمتع برؤيته، وحينذاك يحظون بالغبطة الدائمة والنعيم المقيم، وواضح أن هؤلاء الماثلين في الحضرة الملكية هم من فازوا بالسعادة الفارابية، والمليك الذي يرمز إليه ابن ميمون ليس شيئاً آخر سوى العالم الروحاني الذي نسعى إلى الاتصال به.
تأثر فلاسفة القرون الوسطى المسيحيون كذلك بكثير من الآراء الفلسفية الإسلامية، ولم يكن التصوف الفارابي بوجه خاص بالغريب عليهم، ذلك لأن المسيحية نفسها تشايع الأفكار الصوفية في جملتها وتدعو إلى قدر منها غير قليل، وإذا كانت الأشياء كلها صادرة من الله وعائدة إليه فخطيئة عظمى أن ينسى المخلوق خالقه أو أن يتراخى في السعي نحوه والقرب منه. على أن الوصول إلى الذات الأقدس ليس بالعسير في رأي المتصوفين المسيحيين، فإنا ندنو من الله كلما خففنا أحمالنا وعرضنا عن شواغل الحياة، وقد كتب المسيو جلسون أستاذ الفلسفة المدرسية المسيحية الآن في (كلويج دي فرنس)؛ وهو الحجة في هذا الباب فصلاً ممتعاً في نظرية الحب المسيحية وأبان ما انطوت عليه من مدلولات خفية ونزعات صوفية، ومحبة الله هي السبيل الذي يقربنا منه ويقودنا إلى السعادة الفارابية، ويجب أن نضيف إلى هذا أن السعادة التي تعشقها الفارابي تعتمد على قوة أخرى وتستمد نفوذاً آخر من سلطان عظيم، ألا وهو سلطان أرسطو الذي استولى على القرون الوسطى المسيحية استيلاء تاماً منذ القرن الثالث عشر للميلاد. فإن هذه السعادة أشبه ما يكون (بالأديمونيا) الأرسطية؛ وقد أسلفنا القول فيما بينهما من صلة. لذلك لم يتردد كثير من أنصار أرسطو المسيحيين في اعتناق هذه النظرية وإن حاربوا في عنف غيرها من آراء الفلاسفة المسلمين. فألبير لجراند وسان توماس يتحدثان عن عقل مقدس هو في الغالب ابن (للروح القدسية) التي أشاد بذكرها الفارابي من قبل. وسان توماس يقرر في وضوح أن سرور النفس وغبطتها تنحصر في تأمل الحقائق الأزلية. فالسعادة الفارابية أثرت إذن في يهود القرون الوسطى ومسيحييها على السواء، وليس بعزيز علينا أن نبين المصدر الذي أخذ عنه المسيحيون هذه النظرية، فقد قرءوا عنها شيئاً فيما ترجم من رسائل الفارابي إلى اللاتينية ووقفوا عليها مفصلة في مؤلفات ابن سينا وابن رشد وفي كتاب موسى بن ميمون المشهور (دلالة الحائرين) الذي استقى منه الغرب كثيراً من الأفكار(172/14)
الشرقية.
لم يقف أثر هذا الكتاب في نشر الأفكار الإسلامية عند القرون الوسطى، بل جاوزها إلى العصور الحديثة، وذلك أنا نجد لدى واحد كاسينوزا أو لَيْينتز آراء كثيرة الشبه بآراء فلاسفة الإسلام: فنظرية النبوة عند الأول تشبه شبهاً عظيماً النظرية التي أخذ بها الفارابي؛ ومشكلة العناية عند الثاني لا تختلف كثيراً عما قال به ابن سينا من قبل. ربما يبدو غريباً أن نحاول إثبات علاقة بين مفكري الإسلام وهؤلاء الفلاسفة المحدثين، خصوصاً وقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة الإسلامية أن يقفوا بها عند القرون الوسطى. وما فكر واحد منهم، فيما أعلم، أن يدرس الصلة بينها وبين فلسفة العصور الحديثة دراسة منظمة. غير أنا نرى أن هذه الصلة جديرة بالبحث والدرس ومعتمدة على أسس تعززها؛ فقد عرف اسبينوزا كتاب دلالة الحائرين وعني به عناية كبيرة، كما عرفه ليبنتز وأثنى عليه ثناء مستطاباً فعلى ضوء هذا الكتاب نستطيع أن نحدد إلى أي مدى تأثر رجال العصور الحديثة بالأفكار الإسلامية. ويخيل إلينا أنا أول من تنبه إلى هذه العلاقات التاريخية، وقد حققناها فيما يتعلق بنظرية النبوة.
ويمكننا أن نلاحظ كذلك وجوه شبه بين نظرية السعادة الفارابية وبعض الأفكار الصوفية الحديثة، وخاصة لدى اسبينوزا الذي تربطه بالفارابي أكثر من علاقة واحدة. فكلاهما يعد السعادة غاية لمذهبه الفلسفي؛ ويعملان على تحقيقها بوسائل متماثلة. وكلاهما صوفي النزعة في سلوكه وآرائه، وتصوفهما عقلي نظري مبني على العلم والدراسة. ونظرياتهما الكلامية متقاربة ومتشابهة؛ فصفات البارئ عند الفارابي لا تختلف كثيراً عنها لدى اسبينوزا. الله في رأيهما علم ومعلوم وعالم في آن واحد، وهوية وماهية معاً؛ هو مسبب الأسباب والجوهر المطلق أو الجوهر الوحيد. فهو موجود بنفسه وجوداً أزلياً قديماً، وكل الكائنات تستمد جودها منه. وعلى هذا نرى أن الفيلسوف العربي والفيلسوف الإسرائيلي يقولان بمذهب وحدة الوجود. وإذا كانت النفوس البشرية قد استمدت وجودها من الله فهي دائماً في نزوع إليه؛ وكمالها في أن تتجه نحوه وتقترب منه وتحبه حباً صادقاً. وهذا هو الحب الفلسفي الذي يتغنى به اسبينوزا، ويرى فيه لذة لا تنقطع وغبطة تجل عن الوصف.
الآن وقد تتبعنا نظرية السعادة الفارابية منذ نشأتها إلى أن أسلمناها إلى العصور الحديثة(172/15)
نستطيع أن نقرر أن المشائين من العرب أثروا فيمن جاء بعدهم تأثيراً واضحاً. فأفاد منهم مفكرو الإسلام لا فرق بين متطرفيهم ومعتدليهم في نواح كثيرة، وإن تحاملوا عليهم وحاربوا معظم نظرياتهم. وأخذ عنهم رجال الفلسفة المدرسية من يهود ومسيحيين كثيراً من آرائهم وأفكارهم. ولم يقف أثرهم عند القرون الوسطى بل تعداها إلى العصور الحديثة، وقد أوضحنا فيما سلف وجوه الشبه بين بعض النظريات الفارابية والآراء الأسبينوزية، نحن لا ندعي طبعاً أن الفلسفة الإسلامية أثرت تأثيراً مباشراً في رجال العصر الحديث وجماعة الديكارتيين بوجه خاص؛ فأن أحداً منهم لم يعرف العربية. ولكن الأفكار الإسلامية نفذت إليهم، فيما نعتقد، عن طريقين: طريق اليهود وطريق المسيحيين، ففيما كتب موسى بن ميمون مثلاً أو سان توماس ما يحكي بعض الأبحاث الإسلامية. وإذا كانت الفلسفة الإسلامية نفسها لا تزال غامضة ومجهولة، فبديهي أن يبقى أثرها في طي الخفاء، ولا سيما إذا كان هذا الأثر متعلقاً بناحية يزعم الناس أنها بمنأى عن التأثير. فقد شاع خطأ أن ديكارت يفصل فصلاً تاماً بين عهدين، وأنه أب لفلسفة لا تحمل في ثناياها شيئاً من آثار الفلسفات السابقة، غير أن هذه الفواصل المزعومة بين العصور قد انمحت، وهذه السدود المقامة باطلاً بين مراحل التفكير الإنساني قد انهارت. وقد ثبت فعلاً أن ديكارت سبق إلى كثير من أفكاره في القرون الوسطى المسيحية، كما أن مذهب ليبنتز مثلاً يقترب من الفلسفية المدرسية والإغريقية بقدر قربه من النظريات الديكارتية. فلم لا نحاول بدورنا أن نوازن بين شك ديكارت وشك الغزالي؟ ولم لا نبحث عن أصل للتفرقة الأسبينوزية بين الذات والوجود عند الفارابي كما بحثنا عنه لدى كثير من الفلاسفة المتقدمين، إنا إن فعلنا خدمنا القرون الوسطى والتاريخ الحديث، وألقينا جزءاً من الضوء على طائفة كبيرة من النقط الغامضة، وقمنا بقسطنا في ربط الفلسفة الإسلامية بسلسلة التفكير الإنساني.
ولنا رجاء آخر، وهو أن تتجه الجهود نحو العصور المتأخرة من تاريخ الثقافة الإسلامية؛ فإن ما كتب عنها لا يكاد يذكر ومعلوماتنا عنها محدودة للغاية. وقد حاول هورتن في أبحاث متفرقة أن يوضح جانبها الفلسفي؛ إلا أن أبحاثه غير ناضجة، وهي أشبه ما يكون بمقدمات لدراسة كاملة لم تبدأ بعد. وأما اللغة والتشريع والتوحيد والتصوف فلا تزال في طي الكتمان تماماً. ومن غريب المصادفات أن أحد قراء (الرسالة) بعث إلينا، ونحن نكتب هذه(172/16)
الكلمة، مستفسراً عن بعض أبيات للصوفية المتأخرين. فالجمهور المثقف يشعر إذن بهذا النقص ويشاركنا في الشكوى منه، وعل أغمض شيء في هذا الدور حقيقة هو تاريخ التصوف على الرغم مما فيه من طرافة، وما له من أهمية اجتماعية وفلسفية. نحن لا ننكر أن عصور الظلام ثقيلة على النفس وليس فيها شيء كثير يجتذب الباحث أو القارئ، هذا إلى قلة مصادرها وتعذر السير فيها والاهتداء إلى معالمها. بيد أن ربط حاضرنا بماضينا يستلزم أن نجلي غامضها وندرسها دراسة كافية.
إبراهيم بيومي مدكور(172/17)
في الأدب المقارن
الطبيعة
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الطبيعة إلف الشاعر الحميم، وتوأم روحه، ومرتع فكره ومتاع بصره، ومهبط وحيه، ومعاهد متاعه وذكرياته، إلى ظلالها يسكن، وبين محاسنها يهيم، وعندها ينفض أوشاب العيش ويطرح أعباءه، ويستريح فكره الذي أنضاه التعب، ونفسه التي أضجرتها معاشرة الناس، وتتهادى إليه عذارى الشعر طائعة، وتسلس إليه شوارد الأفكار مقادها، ويظل يلتفت إلى ماضي أوقاته بين مباهجها بحنين عذب، ويأمل معاودتها بقلب شيق؛ فلا غرو يكون للطبيعة في نفس الشاعر المطبوع مكان أثير، وفي أدب الأمة الراقية منزلة رفيعة.
وقد نالت الطبيعة لدى أدباء الإنجليزية في أغلب عصورها هذه المكانة التي هي بها جديرة: فعكفوا جيلاً بعد جيل وأديباً إثر أديب على وصف مظاهرها وعبادة مفاتنها، وملئوا جانباً كبيراً من نظمهم ونثرهم بأوصاف الوديان اليانعة، والربى الحالية والأمواه الجارية، والأطيار الصادحة والأفلاك الدائبة والغيوث الساجمة، ووصفوا الطبيعة في حالي رضاها وغضبها، وابترادها ودفئها، واكتسائها وعريها.
وتوسلوا للتعبير عن فرط هيامهم بمحاسنها المتجددة بشتى الوسائل: فبثوا أوصافها في رواياتهم الشعرية وقصصهم النثرية، كما فعل شكسبير وهاردي، وطاروا على أجنحة الخيال إلى الوديان السحرية، والغابات المجهولة، والشواطئ النائية، يرصعون كل أولئك ببدائع الأوصاف ونقثات العواطف، وعبادة الجمال الطبيعي، متخذين مسرحاً لكل ذلك خرافات الأقدمين كما كان يفعل سبنسر وكولردج وتنيسون وبروننج، أو جنات الفردوس كما فعل ملتون.
ومن أولئك الشعراء من يدينون بخلودهم لأوصافهم الطبيعية الرائعة، وقلما يهتم أحد اليوم لما نظموه في النسيب أو الاجتماع أو السياسة، مثل تنيسون، بل منهم من لم يكد يؤثر عنه قول في غير الطبيعة، أو تخلو قصيدة له من أثرٍ لها، مثل وردزورث. ولا غرو فالطبيعة(172/18)
مادة الشعر وصميمه، ولربما عَرَضَ في القصيدة قد نُظمَتْ في أي غرض كان بيتٌ أو بيتان يحويان وصفاً طبيعياً بديعاً، فإذا هما يرفعان من قدرها ويحببانها إلى النفوس ويكونان سبب اشتهارها وسيرورتها.
ولا ندحة عن القول بأن الطبيعة لم تنل هذه الرعاية ولم تحتل هذه المكانة في الأدب العربي، ففي العربية لا ريب أوصاف طبيعية بالغة غاية الجودة، ولكنها قليلة إذا قيست بنظائرها في الإنجليزية، قليلة إذا قيست بما نظم أو نثر في العربية ذاتها في غير الطبيعة من أغراض، فليس ما قيل في وصف جمال الطبيعة ببالغ عشر معشار ما قيل في التشبيب بالجمال الإنساني، ولم يُعرف من شعراء العربية من قَصرَ شعره على التغني بمباهج الطبيعة، وإن منهم لَمنْ قَصرَ قوله على النسيب بهند وليلى وأترابهما.
وقلما جاءت أوصاف محاسن الطبيعة مقصودة لذاتها مستقلة بنفسها في قصيدة أو رسالة، بل كان ذكرها غالباً يأتي عرضاً كأنها غير جديرة وحدها بالتفات الشاعر وتكلُّفه عناء النظم، وكانت تستعار مظاهرها وأحوالها لبيان أغراض أخرى عن طريق التشبيه تُرصَّعُ القصيدة بفنونه، وجاء أصحاب المجموعات الشعرية الذين اختاروا صفوة أشعار العرب في أقوى عصور الأدب، كأبي تمام والمفضل الضبي، فما أفردوا للطبيعة باباً من أبواب مختاراتهم، وإنها لأجدر بالصدر.
وكان فحول الشعراء ينصرفون عن وصف محاسن الطبيعة التي تكتنفهم، ومفاتن الجنات الزاهية التي كانت مهاد الدولة الإسلامية، بمروجها وأنهارها وجبالها وأجوائها، إلى وصف قصور الأمراء وحدائقها ونافوراتها وبركها الصناعية، فالبحتري يعرض ببصره عن جبال لبنان الفاتنة متجهاً إلى مقاصير ابن خاقان:
تلفتُّ من عليا دمشق ودوننا ... للبنان هضب كالغمام المعلق
إلى الحيرة البيضاء فالكرخ بعدما ... ذممت مقامي بين بصرى وجلق
رباع من الفتح بن خاقان لم تزل ... غنى لعديم أو فكاكا لمرهق
ولابن المعتز وابن حمديس وابن خفاجة شهرة بوصف الطبيعة، ولكن كثيراً من أشعارهم يتسم بالفتور ويصطبغ بالصنعة وترين عليه مسحة التكلف والتظرف، وتنقصه حرارة الهيام بالطبيعة والامتزاج بروحها والنفاذ إلى خفي معانيها وأسرارها، وتجري في أشعارهم(172/19)
تشبيهات تكررت حتى مُلَّت: فالأصيل ذهب والحصباء در والنسيم ينسج من الماء درعاً، ويُفسد الكثير من تلك الأشعار الحرصُ على حسن التعليل كقول ابن حمديس في نهر:
جريح بأطراف الحصى كلما جرى ... عليها شكا أوجاعه بخريره
فشتان بين خرير النهر الحي المتدفع وبين الجراح والشكوى والأوجاع، وأمثال هذا القول تدل على شعور زائف وملاحظة سطحية.
وبعض أولئك الشعراء إذا استهزتهم فتنة الطبيعة وصفاء الأوان، نظموا في ذاك أبياتاً شفعوها للتو بدعوة لصديق أو عشيق أو نديم يناشدونه أن يتحفهم برفقته ويعجل لهم بالراح والأوتار، فالبحتري بعد أن تأنق في وصف الربيع قال:
فما يحبس الراح التي أنت خلها؟ ... وما يمنع الأوتار أن تترنما؟
وغيره يقول:
ولما حللنا منزلاً طله الندى ... أنيقاً وبستاناً من النور حاليا
أجد لنا طيب المقام وحسنه ... مني فتمنينا فكنت الأمانيا
ولا يدل هذا على كبير شغف بالطبيعة أو حسن فهم لجمالها، وليس بمشغوف بالطبيعة ولا فاهم لأسرارها من لا تكفيه مفاتنها السافرة حتى يستعين لإكمال سروره بالسَّمَر والغزل والغناء والسكر، وإن أحب ما تكون الطبيعة إلى عاشقها الصادق لحينَ يصحبها وحيداً، فهو يرى مفاتنها خير رفقة له وخير مؤانس لمهجته.
وقد حظي الربيع دون غيره من الفصول بالتفات شعراء العربية، كأن الربيع وحده هو فصل الجمال والصفاء والحبور، وبقية الفصول أوانٌ لكسب الرزق واحتمال قبح الحياة، كما قال الطائي:
دنيا معاش للورى حتى إذا ... جاء الربيع فإنما هي منظر
ولو درى لعلم أن هذه الدنيا منظر لمن شاء أن يرى ويشعر في كل الفصول وفي جميع حالاتها ومظاهرها، وإن للشتاء لروائعه وجاذبيته كما للربيع، وإن جميع مجالي الطبيعة وأشكالها لمسارح للب الشاعر ومجالات لفنه وتصويره، وقد تغنى شعراء الإنجليزية بفتنة الخريف كما ترنموا بسحر الربيع، واستجاشهم غضب اليم وتجهُّم الأفق كما استهواهم صفاؤهما ووداعتهما.(172/20)
ومن شعراء العربية من يضيق باعهم في وصف الطبيعة قبل أن يقولوا في المنظر المجلو أمامهم أبياتاً، ويدركهم العجز والإحالة فيسبحون بقدرة البارئ ووحدانيته، كما قال النواسي:
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
وقول أبي تمام:
صبغُ الذي لولا بدائع لطفه ... ما عاد أخضر بعد إذ هو أصفر
فقدرة الخالق أمر لا شك فيه، والإشارة إليها في هذه المواقف سذاجة في القول والتواء في استرسال الفكر، وهرب من مواصلة التأمل والوصف، والموقف موقف استمتاع بالجمال وتصوير له، لا موقف وعظ وخشوع. وأزن هذين البيتين بقول تنيسون في زهرة ضئيلة: (أيتها الزهرة النامية بين شقوق الجدار، ها قد انتزعتْك أناملي، وهاأنت كلك محمولة في كفي، بيد أني لو استطعت استكناه سرك لعرفتُ سر الله والإنسان جميعاً) فهذا شاعر يفكر ويتأمل ويتوق إلى المعرفة، وذانك شاعران يسلمان تسليم العجز، فلا أجادا التصوير ولا استرسلا في التفكير.
فأغلب شعر الطبيعة في العربية - على قلته - تنقصه حرارة الشغف بها وطول مصاحبتها وممازجتها روحاً بروح، وإدمان التأمل في محاسنها ومحاولة النفاذ إلى معانيها، وصدق التعبير عن وحيها ودقة الوصف لمجاليها المتعددة، وظلَّ الالتفاتُ إليها دائماً ثانويا، والانتباه إليها عرضياً، والأُنس بها وقتيا وشيك الزوال.
بل كان من فحول العربية من كأن بينهم وبين الطبيعة حجاباً كثيفاً، فندر أن أعاروها بالاً، ولم يقع ذكرها في شعرهم ونثرهم، إلا وقوع الغلط، كالمتنبي والشريف الرضي، برغم كثرة أسفار الأول بين العواصم والفلوات، وقد صرف الكُتَّاب صناعتهم إلى كثير من وجوه البيان، فلم يختصوا الطبيعة بكبير عناية، وتوخى بديع الزمان في مقاماته أن يضرب في كل ناحية من نواحي القول بسهم، ليبدي براعته للقارئين، إلا الطبيعة فأنها لم تفز منه بالتفات.
فالعربية تكاد تقفز من الوصف الطبيعي السامي لذاته، لولا شاعر فرد هو ابن الرومي الذي تنطق أشعاره بحبٍّ للطبيعة عميق، وانجذاب لسحرها لا يدافع، ونظر في محاسنها وأغوارها نافذ، وقد أنشأ لوصف مختلف مظاهرها قصائد كثيرة، أودعها خير ما في(172/21)
العربية من وصف الجنان والفلوات، والأصائل والأسحار، والغيم والمطر، والطير والوحش، وشعره في كل هذا يضارع أسمى ما في الشعر الإنجليزي.
وضآلة حظ الطبيعة في الأدب العربي راجعة إلى عوامل متتابعة توالت على الأدب في مختلف عصوره، فحالت دون أن يكون ترجمانا صادقاً مبيناً لشعور أصحابه في هذا الباب، وهي أولاً بداوة العرب في أول تاريخهم، وثانياً تكسب الشعراء بشعرهم في عهد الحضارة والدولة، وثالثاً شدة محافظتهم وتقليدهم للمتقدمين، وأخيراً تغلب الصنعة اللفظية في عهد تدهور الأدب.
فوصف محاسن الطبيعة وآثارها في النفس وصفاً مسهباً محكماً مقصوداً لذاته عمل فني لا يتأتى إلا بأعمال الفكر ورياضة النظم، وهو مالا يتيسر في عهد البداوة، فضلاً عن أن المناظر الصحراوية واحدة متكررة صارمة لا تحفز إلى التصوير الشعري المسهب كما تحفز إلى التأمل في الخالق ورهبته وحكمه صنعه، وقد ظلت هذه النزعة الدينية التي بثتها البادية في نفوس العرب، وكانت التنشئة الدينية في العصور التالية تنميها فيهم منذ الصغر، مصاحبة لهم فيما بعد، تغْلبُهم على الاستمتاع بروائع الجمال الطبيعي وآيات الفن الإنساني، فنرى شاعرهم إذا وقف بمنظر فتان أو أثر خلَّفه القدماء فسرعان ما ينصرف عما ثمت من معاني الجمال أو القوة إلى التسليم بعظمة الخالق وضعف المخلوق وفناء الأفلاك وسقوط الجبابرة، وقد سبق التمثيل لشيء من ذلك، والبحتري يقول:
أناة أيها الفلك المدار ... أنهب ما تصرف أم جُبار؟
ستَفنى مثل ما تُفنى وتَبلى ... كما تُبلى فيدرَك منك ثار
ولما تحضر العرب وشاهدوا الأقطار الواسعة ونعموا في الجنات اليانعة، ودخل أدبهم في طور الثقافة والصناعة الفنية، ظهرت آثار الوصف الطبيعي في بعض أشعارهم، ولكنها كانت قليلة كما تقدم، وعمهت عيون أكثر الشعراء عن محاسن الطبيعة وأسرارها في غمار المدينة، حيث تكأكأوا متزاحمين على عطايا الأمراء، وزهدهم في وصف المناظر الطبيعية قلّة ما ورد منها في شعر المتقدمين الذين كانوا يترسمون خطاهم، حتى إذا كان عهد الاضمحلال الأدبي غلب التظرُّف واصطناع الرقة والنكتة اللفظية على الشعر ففقد كل روح وحرارة.(172/22)
أما الأدب الإنجليزي فلم يخنقه جو المدينة أو يرهقه تقليد القدماء إلا في عصر محدود ما لبث أن بددته النهضة الرومانسية التي كانت في جوهرها عودةً إلى الطبيعة أي إلى الشعر الصحيح وبين النقاد المحدثين من يأبى قبول ما نظمه أقطاب العهد الكلاسي في عداد الشعر الصحيح، وفيما عدا ذلك العهد كانت الطبيعة دائماً قبلة الشعراء شَغَفَهم بها حبّاً أمران: تعدُّدُ مجاليها وتتابع تقلباتها واختلاف صورها في بلادهم، ودراستهم للشعر الإغريقي الحافل بالصور الطبيعية، ويتجلى أثر هذا العامل الأخير في المقطوعة التي نظمها كيتس معبراً عن شديد حبوره وبالغ متعته عقب قراءة ترجمة الإلياذة.
بيد أن اللغة العربية ذاتها حافلة بالأسماء والأوصاف لشتى مظاهر الطبيعة وآثارها، وحالاتها وأوقاتها، غنية بكل ما يحتاج إليه الأديب القدير لينقل على القرطاس أيّ المناظر الطبيعية شاء، نقل المصور الصناع، وهنا أيضاً يبدو لنا التفاوت بين مقدرة اللغة واستعدادها، وتقصير أدباء العربية في عهد ازدهار الحضارة دون كثير من غايات الأدب.
فخري أبو السعود(172/23)
في الخطابة
للأستاذ عبد المجيد نافع
كانت الخطابة ولا تزال من أقوى وسائل الإقناع، وهي أفعل في النفوس من الكتابة؛ وشتان بين الكلام الحي والكلمات الجامدة؛ وإذا كان الكاتب يعرض عقله ومنطقه فأن الخطيب يبلغ موضع الإقناع من نفوس السامعين بروحه، ويطبعهم بطابع شخصيته. ولا شك أن لروح الإجتامع أثرها في النفوس، فقد فرغ علماء النفس من تقرير أن الفرد في الجماعة أشد قابلية للتأثر، وأعظم اندفاعاً في طريق الحماسة، ولذلك ترى بعض الناس إذ خلوا إلى أنفسهم، وتخلصوا من حماسة الجماعة فقرءوا في هدوء الخطب التي سبق لهم سماعها عجبوا كيف كان لهذا الكلام العادي المبتذل كل هذا الأثر البليغ في نفوسهم. ولا تنس أن للبيئة والظروف المحيطة والذكريات المثارة أثرها الفعال في النفوس. وليس من يماري في أن المرحوم سعد باشا كان في طليعة الخطباء؛ شخصية بارزة، وذهنية خصبة، وعقلية جبارة، وبديهة حاضرة، ولفظ مختار، وقدرة على الارتجال لا تجارى ولا تبارى، ولكن لا تعتقد أن هذه المواهب مجتمعة كانت هي وحدها العناصر المؤلفة لشخصية (سعد الخطيب). وإنما كان سعد إذا نهض يخطب نهضت معه الذكريات، وتراءت حوله المثل الوطنية العليا. كان سعد إذا خطب ثارت أمام الخواطر ذكريات مالطة، وسيشيل، وجبل طارق؛ والحرية المسلوبة، والاستقلال المغصوب، والضحايا والشهداء الذين بذلوا أرواحهم وأراقوا دماءهم في سبيل الحرية والاستقلال. والخطب الخالدة في التاريخ التي ألقاها عظماء الرجال تستمد قوتها وخلودها من عظمة شخصياتهم ورهبة المواقف التي كانوا يقفونها، أكثر مما تستمد هذه القوة وذلك الخلود من قيمتها الذاتية. ولو أنك عرضتها على محك النقد الصادق، وحللتها في ضوء المنطق والمعقول، لوجدت أنها لا تكاد تجاوز دائرة غيرها من الخطب المألوفة. وإنما أثار طارق بن زياد الحمية في نفوس جنوده حين أهاب بهم: (العدو أمامكم والبحر وراءكم. . .) لا بجمال الصورة وروعة التمثيل وحدها، وإنما أثارها بشخصيته العظيمة، والموقف التاريخي الذي كان يقفه. وإذ هتف نابليون في جنود حملة إيطاليا غداة المعركة التي اشتبك فيها مع جنود النمسا فسحقهم في سهول لومبارديا: (إن الحكومة مدينة لكم بالشيء الكثير، ولكنها لا تستطيع أن توفيكم حقوقكم، واليوم ترون(172/24)
أمامك الثراء والمجد). نقول إن روح نابليون وموقف الجند هما اللذان أضرما في نفوسهم جذوة الحماسة أكثر مما أججتها كلمات نابليون. والزعيم الشاب مصطفى كامل حين أرسل الصيحة الخالدة: (بلادي! بلادي! لك حبي وفؤادي) تغلغلت في نفوس المصريين، لأنها خرجت من أعماق نفس وطنية مخلصة، ونفذت إلى أعماق قلوب تؤمن بالحرية وتدين بالاستقلال. وإن نظريتنا لتصبح بمأمن من كل معارضة، وبنجوة من أي نقد، إذا ذكرت أن الخطيب العظيم يُسمع ولا يقرأ، وأن الخطب الخالدة في التاريخ لا تكاد ترتفع فوق المستوى العادي.
كان للخطابة في الماضي شأن أي شأن، فقد ثلت عروشاً ودكت دعائم ممالك، وأقامت عروشاً وممالك مكانها، ونصرت أقواماً وخذلت آخرين، وقبرت دعوات وبعثت أخرى، ودفنت مبادئ وأحيت غيرها. وإنما تبلغ الخطابة شأوها وتصل إلى أوج مجدها إبان الثورات والفورات والهبات والانقلابات والفتن السياسية والاجتماعية وأطوار التحول والانتقال. ذلك بأن غليان النفوس وثورة الأفكار يجعل الناس كالهشيم اليابس الذي تكفي شرارة واحدة لإضرام النار فيه، وإذا كان هذا هو شأن الخطابة في الماضي فلا شك أن شأنها قد ارتفع، وأثرها قد تضاعف في عصر الديمقراطية الحديث.
وفي الواقع أن الخطابة أقوى أداة من أدوات النضال السياسي والتطاحن الحزبي، وكل حزب بحاجة إلى بث دعوته وترويج سياسته، والهتاف بمبادئه، وكسب الأنصال واجتذاب الأشياع. وهو يتوجه إلى جمهور متباين العقليات مختلف المشارب والمشاعر، جم المنازع والأهواء، فلا مندوحة للخطيب عن قوة الشخصية وسحر البلاغة، والإلمام بنفسية الجماعات لبلوغ مكان الإقناع من نفوسهم. ولابد للدعوة، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أن تبلغ الكوخ والقصر، وتصل إلى أدنى الطبقات وأسماها. والديمقراطية الحديثة أتاحت لكل رجل مهما كانت الطبقة التي نبت فيها، والبيئة التي نشأ بين أحضانها أن يصل بمواهبه وكفايته وملكاته وجهوده إلى أسمى مناصب الدولة، وهو إنما يتخذ من أكتاف الجماهير سلماً يصعد عليه إلى قمة السلطة وذروة المجد. أرأيت إلى لويد جورج وهتلر ومصطفى كمال وموسوليني كيف بلغوا مكان الزعامة من أقوامهم، ومركز السلطان من شعوبهم؟ ليس من ينكر أن الخطابة كانت أحد العناصر البارزة في تكوين نجاحهم. ولقد(172/25)
بات الكلام في الجماهير فناً يحرص الزعماء والقادة على إتقانه وتجويده، وأضحى التعبير عن إجادة الكلام يدل دلالة صريحة على مبلغ القوة والسحر الكامنة في ثنايا الكلام الخلاب، أولا تذكر قول الرسول عليه صلوات لله وسلامه: (إن من البيان لسحراً)؟ ثم ألا يسترعي نظرك تحولهم هذا من ملوك الكلام وذاك من أمراء البيان؟ ولو أنك رحت تفتش في تاريخ معظم القابضين على زمام الشعوب والآخذين بأعنة السلطة القائمين على مصاير الأمم لوجدتهم من الخطباء المصاقع والمداره المقاويل. فالوزراء في إنجلترا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من دول الغرب جلهم إن لم يكن كلهم من الخطباء المفوهين.
بل لقد أصبحت الخطابة هي الوسيلة لتي تسمو بصاحبها إلى أسمى مناصب الدولة، وتبوئه مكان الزعامة من أمته، حتى ضاق خصوم الخطباء بنفوذهم صدراً وتبرموا بتضخم سلطانهم، فتراهم ينعون على الديمقراطية الحديثة طغيان حكومات المحامين عليهم.
طغت موجة الخطابة على الأمم في العصر الحاضر حتى لترى بعضهم بنسب مصدر المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحاضرة إلى نقص في كفاية المتولين لزعامة الأمم الذين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بتزويق الكلام، وتنميق العبارات. ولا يرى هذا البعض دواء لداء المدنية الغربية إلا بالعدول عن الاسترسال بالثقة إلى تجار الكلام، وتفويض الأمور العامة إلى الفنيين من ذوي الكفايات.
والمعارك الانتخابية هي الميدان الفسيح لتجلي المواهب الكلامية، والملكات الخطابية. ولا بد من تعمق في درس نفسية الجماعات وتفهم ميول الجماهير لكفالة النجاح في ميدان النضال الانتخابي. ولذلك ترى بعض الخطباء لا يتورعون عن بذل الوعود والإسراف في العهود. بل إنك لترى بعض زعماء الأحزاب وقادة الهيئات لا تتراجع ضمائهم أمام تصوير الخيالات حقائق والمستحيل ممكناً مستطاعاً. والنظام البرلماني الحديث يتطلب نجاح أكبر عدد ممكن من مرشحي الحزب الذي يخوض غمار المعركة الانتخابية لإنجاح فرد أو أفراد. فقد تعددت الأحزاب والهيئات في أمم الأرض جميعاً. وإذا كانت تختلف في البرامج والميول الشخصية، فنجاح حزب من الأحزاب بالأغلبية في الانتخابات له أهميته وخطره. فإذا كانت التقاليد البرلمانية تقضي بأن الأغلبية هي التي تتسلم مقاليد السلطة، وتتولى زمام الحكم، وتوجه السياسة العامة، فنجاح هذا الحزب أو ذاك في الانتخابات له أهميته لأنه يدل(172/26)
على طريقة الحكم، وأسلوب دارة شؤون الأمة، والطابع الذي تطبع به سياسة الدولة. وليس يستوي أن يكون على رأس الأحكام في إنجلترا حزب المحافظين، أو حزب الأحرار، أو حزب العمال، فلكل حزب أسلوبه في الحكم ومبدؤه في السياسة العامة. كذلك ليس من الظواهر التي لا تسترعي النظر أن يكون على رأس الحكومة الفرنسية المسيو ليون بلوم أو المسيو بيير لافال.
ودور النيابة هي ميدان يتبارى فيه الخطباء السياسيون كل يحاول كسب الأصوات وجذب الأنصار إلى جانبه، وإذ كان أحد البارزين في مجلس العموم البريطاني قد قال: (إن الخطب البرلمانية تغير رأيي ولكنها لا تغير صوتي)، فلا يمنع أن للخطابة شأناً أي شأن في مجلس النواب، أو لم يكن كليمنصو يسقط وزارة بخطبة حتى لقبه مواطنوه الفرنسيون بالنمر وأسموه (هدام الوزارات)؟ أوليس ينقذ سفينة الوزارة من الغرق خطبة من تلكم الخطب الخالدة الموفقة؟ أرأيت كيف أن بريان يوم ضيق عليه خصومه الخناق واستجوبوه في مجلس النواب عن تصرفه إزاء العمال المضربين حين أنذرهم بالتجنيد إن لم يكفوا عن الإضراب، نقول أرأيت كيف أن بريان انتزع تصفيق المجلس وحصل على قرار الثقة بوزارته حين لوح بيده صائحاً من أعماق نفسه: (هذه يدي فانظروا إن كانت تلطخها قطرة من الدماء!) وهل من يجادل في أن القادة في المجالس النيابية يتجاذبون الأغلبية، ويبذلون الجهود الجبارة لانحياز الأنصار إلى صفوفهم؟ بل إن غزو السلطة والتنازع على الحكم وشهوة السلطان، لتهدد في بعض الأمم بالتقلقل الوزاري، والخطابة بلا ريب، سلاح من أسلحة النضال.
ولا تستطيع المعارضة أن تؤدي واجبها في النقد البريء النزيه حيال الأغلبية القابضة على زمام السلطة إلا بالكلام. بل لا يستطيع أي مجلس نيابي أن يقوم بواجبه المقدس في الإشراف والهيمنة على السلطة التنفيذية بغير الخطب الداوية. صحيح أن خطباء المجالس لا ينبغي لهم أن يحرصوا في خطبهم البرلمانية على إرضاء الجماهير وتملق شعور الجماعات، وإنما لابد لهم من الكلام المستمد من الشعور ومن الدرس العميق ومن مصلحة البلد ليؤدوا أمانة النيابة عن الأمة. لقد كان خصوم لامرتين يتهمونه ظلماً بأنه (يتكلم من النافذة): أي يرمي بخطبه البرلمانية إلى إسماع صوته للجماهير خارج المجلس. ولكن(172/27)
الرجل كان بريئاً مما افتروا عليه، وإنما كان حراً في عقيدته، مستقلاً في رأيه، غير فان في شخصيته أحد، ولا واقع تحت سلطان حزب من الأحزاب؛ ولذلك كنت تراه تارة يؤيد بيتر، وطوراً يؤيد جيزو على بعد الشقة بين السياستين، ولم يكن يأخذ عليه المنصفون شيئاً لأن الرجل جعل قبلته الحق ومصلحة الوطن.
وإذا كانت الخطابة سلاح المعارضة في الهجوم، فهي كذلك سلاح الأغلبية في الدفاع؛ وليس أمتع من قراءة الخطب التي يلقيها مصاقع الخطباء البرلمانيين في الغرب كرّاً وفرّا وهجوماً ودفاعاً، ناهيك بسماعها! وهل أروع وأبدع من قراءة خطب بت وفوكس ودزرائيلي وجلادستون ولويد جورج وبريان وفيفياني وجوريس؟ كان عام 1906 أول عهد كليمنصو بالدخول في الوزارة؛ ولطالما مزق النمر الفرنسي وهو في المعارضة خصومه تمزيقاً؛ وأصبح وزيراً للداخلية وأمست سياسته حيال العمال المضربين هدفاً يصوب إليه الحملات جماعة الاشتراكيين، وعلى رأسهم جوريس، وجوريس مدره مفوه؛ بل لقد ذهب بعض المؤرخين إلى اعتباره أعظم خطيب في القرن التاسع عشر في أوربا بأسرها. ووقف كليمنصو في وجه العاصفة الاشتراكية لا يجد الروع سبيلاً إلى قلبه. ثم صاح صيحته: (لقد لمست في الحال أن الحملة تنطوي على الرغبة في ذبحي على مذبح الاشتراكية، لكن وا أسفاه! فأني لست من تلك الضحايا المستسلمة، المستعدة لتقديم أعناقها البريئة طائعة إلى سكين القصاب. إني لأقاوم وأقاتل. إني لأصيح وأتمرد، وما حفزني إلى اعتلاء المنبر إلا الرغبة في إرسال صيحة الاحتجاج).
والمؤتمرات السياسية وغيرها هي الأخرى مجال فسيح لظهور المواهب الخطابية.
على أني أحب ألا يفهم أن قولي ينصب على الخطابة السياسية، والخطابة السياسية وحدها، ففي دور القضاء تتجلى الخطابة القضائية؛ وترى بين المحامين وأصحاب الدعوى العمومية والجالسين في كراسي الاتهام الخطباء المصاقع وأمراء الكلام، لكن لا ينبغي أن ننسى أن لون البلاغة السياسية يفترق عن لون البلاغة القضائية وإن كانا يتفقان في الغاية وهي الوصول إلى مكان الإقناع من النفوس. ومن الطبيعي أن تختلف هذه عن تلك، فالجمهور غير الجمهور والبيئة ليست هذه البيئة. وفارق بعيد بين أن تخاطب قضاة مرنوا على سماع مختلف الكلام حتى لا يخدعوا بالمزوق المنمق منه وبين جمهور محدود(172/28)
المواهب والملكات. وشتان بين موقف محام درس ملف قضيته وتأهب للرد على كافة حجج الخصوم، واستعد تمام الاستعداد لدفع اعتراضاتهم، وبين خطيب برلماني أمامه خصوم ومنافسون، وتنهال عليه الاعتراضات والمقاطعات من كل جانب. ومهما يكن من شيء فالبلاغة هي البلاغة، وسحر البيان هو سحر البيان، ولابد من التدرع بالبديهة الحاضرة والتذرع بالدرس العميق وعدم الاعتماد على شقشقة الكلام.
ولا نرى مندوحة عن أن ندرج المحاضرات العامة تحت كلمة الخطابة فالمراد هو الكلام في الجماهير.
ولم يخل عصر من العصور من الخطباء المصاقع الذين يملكون أعنة البلاغة. فلقد عرفت جزيرة العرب خطباء مفوهين من أمثال قس بن ساعدة الأيادي، وعلي بن أبي طالب، وزياد بن أبيه، والحجاج الثقفي، وسحبان وائل، وغيرهم وغيرهم. وديموستين اليوناني أبقى على الأيام من الأيام، وشيشرون الروماني أبقى على الزمن الباقي من الزمن. ثم ألا تزال صيحة ميرابو داوية يوم صاح في وجه رسول الملك: (اذهب وقل لمولاك: إننا مجتمعون هنا بإرادة الشعب ولا نخرج إلا بقوة السيوف!). ثم ألا يزال التاريخ يذكر صيحة نابليون وجنوده: (إن أربعين قرناً تشرف عليكم من سماء هذه الأهرام). وأخيراً أو ليست خطبة طارق بن زياد خالدة على وجه الزمان حين جلجل بكلمة الحق وأهاب بجنوده: (العدو أمامكم والبحر وراءكم. . .) فأقسموا أن يقاتلوا حتى تدين لهم بلاد الأندلس أو يموتوا دون الغاية.
والآن نسأل: هل الخطابة ملكة أم اكتساب، وموهبة أم مران؟
ولكنا نرى أن قد امتد بنا نفس الكلام إلى حد نخشى معه الملل فموعدنا معك الأسبوع القادم إن شاء الله.
عبد المجيد نافع المحامي(172/29)
الثمرة الأولى لثورة فلسطين
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لم تعد قضية فلسطين خافية على أحد.
فلقد امتلأت الأجواء بضجيج الأمواج اللاسلكية حاملة على أجنحتها أخبار فلسطين وأنباءها، وأصبحت ثورتها حديث الناس في مجتمعاتهم وأنديتهم ومجالسهم، حازت إعجابهم إعجاباً أحاطه عطف وشعور وإشفاق. وقال الناس للناس: ألم تروْا كيف عرف عرب فلسطين طريق الحياة فشقوها، وقاموا بالمعجزات في نهضتهم، وضربوا المثل الأعلى في التضحية، ودقوا باب الحرية باليد المضرجة، فأعلنوا سخطهم على سياسة الانتداب بالإضراب العام الشامل والاضطراب؛ وقد مر عليهما ما يقرب من ستة أشهر، وهم معطلون أشغالهم ومصالحهم، ثائرون في سبيل قضية إنسانية عادلة - قضية الدفاع عن الكيان - ناقمون على من يريد إذلالهم وإخضاعهم، عازمون على مواصلة الكفاح، إلى أن يحق الله الحق، وإلى أن ترجع بريطانيا عن نواياها نحو بلادهم.
لفتت قضية فلسطين أنظار العالم، وتطلع إليها، فشملها المسلمون بعطفهم والعرب بتأييدهم، وامتلأت نفوسهم آلاماً لما أصاب عرب الأرض المقدسة.
وقاموا متضافرين غاضبين من أجلهم يناصرونهم ويدعون إلى إنصافهم ومساعدتهم، وعقدوا الخناصر على صيانة فلسطين وحفظها، فقويت الأواصر بينها وبين البلاد المحيطة بها، وتوثقت العُرى واشتبكت الوشائج، وتعهد ملوك العرب وأمراؤهم ورجالات الإسلام بقضية فلسطين تعهداً يرفع عنها الظلم النازل بها ويضمن لها كيانها العربي ويدفع عنها أي اعتداء على مقدساتها، تعهداً أخرج فلسطين من حيزها الضيق إلى حيز العالم العربي، فأصبحت بذلك جزءاً من القضية العربية الكبرى وعاملاً من عوامل السلام في الشرق العربي.
هذه هي الثمرة الأولى التي جنتها فلسطين من ثورتها وغضبتها وما كان لهذه الثورة أن تثمر هذه الأثمار لولا خاصيتان امتازت بهما على غيرها من الثورات:
الأولى أنها امتازت بالشمول، إذ اشترك فيها جميع الطبقات كل بحسب دائرة اختصاصه، ولم يحن الوقت لتفصيل ذلك، ولولا هذه الخاصية لما كانت حركة فلسطين على ما هي(172/30)
عليه من القوة والعزيمة والمضاء.
والثانية أنها امتازت بالسموّ، وهذه الخاصية هي التي أكسبت الثورة روعتها وجلالها وقدسيتها وجعلتها محل إكبار الشعوب وموضع دهشتهم. فقد سمت النفوس وبعدت عن الأهواء والغايات الشخصية واعتنقت مبادئ الثورة المقدسة، فإذا العربي في فلسطين يسمو بنفسه ويرتفع بها إلى العلاء، وإذا هو في جوّ من الروحانية نزع الأحقاد من الصدور وأحل الوئام محل الخصام ونشر ألوية المودة والمحبة والرغبة في التعاون بين الناس.
وإذا هو لا يرى في سماء بلاده إلاّ أرواح الصحابة والصديقين والشهداء، ولا يرى في أرض بلاده إلاّ دماء هؤلاء مبثوثة بين ذرات التراب، وإذا العرب في فلسطين اليوم غيرهم بالأمس، شغلهم الإخلاص وشغلهم حب الوطن فشغلوا العالم بما شغلهم وقالوا قولاً صريحاً إلى الأجيال لا غموض فيه ولا التواء:
لن تكون فلسطين وطناً قومياً لليهود
ولن يكون في فلسطين وطنٌ قوميّ لليهود
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(172/31)
نهضة المرأة المصرية
رسالة وجوابها
رسالة الآنسة أمينة
سيدي الأستاذ فليكس فارس: -
دفعني إعجابي الشديد بمقالتكم في (الرسالة) إلى الإقدام على الكتابة لأقدم لكم خالص شكري وشكر زميلاتي على ما تفضلتم به (على الجنس الضعيف) من نصائح ثمينة، ودرس عميق في سبيل رفع مستوى المرأة المصرية.
ومع أنني يا سيدي أؤمن بكل كلمة كتبتها تحت عنوان: (نهضة المرأة المصرية) وواثقة بأنكم درستم الموضوع من جميع نواحيه، فأني أرجو أن تتفضلوا بالسماح لي أن أضيف مشهدين آخرين (هما مقتل الأمة، وعلة دمارها):
الفتاة المصرية الحديثة ضحية استبداد أهلها وضحية ضلال الرجل وغروره.
المشهد الأول: أسرة مؤلفة من أب وأم وبنين وبنات، ثقفت الفتاة منهن أحسن ثقافة، وتحلت بأجمل ما في الأخلاق الغربية والشرقية، وبعد ذلك تقبر في بيت ذويها حيث تبقى مسلوبة الحرية، إلى أن يمن الله عليها بمن يخطبها من أهلها فتصبح زوجة لمجهول (نكرة ضمت إلى نكرة، فتبدأ المآسي. . . .) فهي فاقدة حرية التصرف في مسألة اختيار زوجها، كما أنها مضطرة إلى التسليم بمن يختار لها بعلاً كي تتخلص مما هي فيه من. . .
سيدي: إنني أشفق على نفسي وعليكم من ذكر بعض ما تتحمله الفتاة المصرية من آلام نفسية ومادية وهي بين أهلها. فهي دائماً في خلاف مستمر لما بينها وبينهم من تفاوت في العلم والتفكير والرقي، وتعسة مع زوجها النكرة لما بينها وبينه من تنافر الأخلاق والطباع. إن الأمة المصرية اليوم في دور انتقال من القديم إلى الجديد، ومن الاستعباد إلى الحرية في حياتها السياسية والعلمية والأخلاقية والنفسية؛ ومن الصعب جداً التوفيق بين القديم والجديد، ولابد لكل دور انتقال في حياة الشعوب من ضحية - والفتاة المصرية اليوم هي ضحية هذا التطور.
المشهد الثاني: ينقسم الشباب المصري إلى قسمين: قسم لا يفكر في الزواج مطلقاً بل يفضل أن (يتلاقى بالفتاة التي تركها وهي مثقلة بالأوصاب من أن يعيش وإياها مستنيراً(172/32)
بأنوار شمس الله). وقسم يتطلب في الفتاة المستحيل من الكمال والجمال والمال، وأهمها المال، فيجعل نصب عينه الزواج كصفقة مالية فيبحث عنها أين كانت؛ وزواج أساسه المال هو بالطبع بدء حياة الشقاء للزوجين.
أراك يا سيدي بالرغم من دفاعك عن المرأة ومعالجة مسألتها معالجة صحيحة قويمة تلومها لنزولها إلى ميدان العمل. اسمح لي يا سيدي أن أقول إن المرأة المصرية الحديثة لم تتمرد مطلقاً على وظيفتها الطبيعية. فأنها بالرغم عن ثورة نساء العالم الربي المتمدين ومطالبتهن بالمساواة فإن المرأة المصرية ما زالت هادئة وادعة لا تهمها إلا شؤون بيتها وأولادها أو علمها وثقافتها - قانعة بكل ما يأتيها الزمان من سعادة أو شقاء. تقول يا سيدي (إن المرأة المترجلة الضلول ليست هي من نرجو لإحياء الأسرة وخلق الأمة الحية) وأظنك تقصد بالمترجلة المرأة العاملة. إن المرأة يا سيدي لا تنزل إلى ميدان العمل إلا إذا ألزمتها الحاجة القصوى إلى ذلك. أؤكد ذلك باختبار شخصي كما أنني شاهدت حالات كثيرة كان الدافع فيها لخروج الفتاة إلى العمل الاضطرار.
إن الفتاة المصرية هي الوحيدة التي لم تفقد أنوثتها ورقتها بالعمل؛ فهي وإن اضطرت إلى العمل تحن دائماً إلى تكوين بيتها والاهتمام بزوج مخلص يعولها وإيجاد أطفال يصلحون لتكوين الأمة القوية أجساماً السليمة عقولاً.
إنك يا سيدي تنكر على المرأة العمل ولكنك إذا بحثت في سبب ذلك تجد أن الرجل هو الذي دفعها إليه. فهو يهملها، أي يضرب عن الزواج، فتضطر إلى العمل لتمضية وقتها الطويل الممل، أو لكسب عيشها، وربما كانت تعول أسرة بأسرها. كل امرأة متهتكة أو عاملة هي صنيعة الرجل لأنه هو الذي حرمها العيش ومرّر حياتها فدفعها إلى ما هي فيه من بؤس.
وأخيراً تقول يا سيدي: (ليس كالمرأة من يصلح المرأة أو يفسدها. . .) ونقول: (ليس كالرجل من يصلح المرأة أو يفسدها. فهو بيده كل شيء. هو القادر أن يصونها في بيته فتصير له زوجة صالحة شريكة حياته وأم أولاده. كما لو كان أباً أو أخاً يمكنه أن يعول ابنته أو أخته فيعاملها بحنو ومحبة حتى لا يضطرها إلى السعي وراء عيشها. الفتاة المصرية الحديثة وديعة وضعيفة جداً، فهي تهاب العمل وتأباه ولا تلجأ إليه إلا مرغمة.(172/33)
تجد يا سيدي اليوم ألوفاً من الفتيات المصريات المتعلمات الراقيات قعيدات البيوت؛ فماذا يفعلن وكيف يضعن ساعاتهن التي تبدو لهن أبدية؟؟ لذا تجدهن حيارى لا يعرفن كيف يتصرفن ليكسبن قلب الرجل. فإن هن اشتغلن قيل عنهن مسترجلات غير صالحات للزواج، وإن هن مكثن في منازلهن ذقن من أهلهن كل أنواع التقريع والهوان لأنهن بائرات. فكيف الحل وأين المصير؟).
عفواً يا سيدي ومعذرة، فما دعاني إلى كتابة هذا إلا يقيني من إخلاصكم في سبيل الخير العام لخدمة المرأة المصرية الحديثة. وما هذه إلا نفثة من نفثات حارة مكتومة.
(قصر الدوبارة)
أمينة
جواب الأستاذ فارس
سيدتي الآنسة الناهضة:
أشكر لك شكرك لما أدليت به من آراء في مبحث المرأة، وأعجب فيك بعاطفة تنير وفكر يحلل ما يراه ظلماً وإرهاقاً. وقد حقَّ على كل عربي يتوق إلى إحياء حضارته أن ينحني إجلالاً أمام الرجولة في خُلق فتاة قومه، كما حقَّ له أن يرد جموح الترجّل في حياتها الاجتماعية.
إن ما فاتني ذكره في مقالي (نهضة المرأة) من محن الفتاة المصرية خاصة والعربية عامة لم يفته إيلامي وإيلام كل مفكر وطني لا تفتح الحياة جرحاً في كيان قومه دون أن يشعر بذلك الجرح في صميم فؤاده. وما اصطدام الفتاة بمن وبما حولها، وتعارضُ حياتها وما استقرّ فيها من الحوافز شعوراً وتفكيراً إلا من أعمق هذه الجراح وأخطرها عاقبة وأصدقها إنذاراً.
إن ما تلفتينني إليه، أيتها الآنسة الفاضلة، يتناول جزءاً من بحث كامل في حالة المرأة أوردته في فصل (منابت الأطفال) في كتاب رسالة العنبر إلى الشرق العربي، ولكنتُ أكتفي بهذه الإشارة لولا أنني أعلم أن كل معضلة اجتماعية لها منافذها العديدة يتطلع إليها المفكرون كلٌ من موقفه الخاص، فلا يمكن للحلول التي يوردها أي كاتب إجمالاً في أية(172/34)
قضية اجتماعية أن تشمل جميع دقائقها وأنواعها، لذلك رأيت من واجبي الوقوف معك أمام ما تبين لك من أعراض الداء لأحاول معالجته جهدي.
إنك ترين أولاً أن الفتاة المصرية ضحيةُ استبداد أهلها.
فعلاَمَ يمكن أن يقع الخلافُ بين فتاةٍ وأهلها؟
إنه إن وقع على طُرق المعيشة في البيت، من حيث المأكل والملبس والرياش، فلا أحسب الأهل معارضين ابنتهم في كل تحسين تريد إدخاله، إذا هي لم تتجاوز حدود طاقة العائل، وليست المسألة في هذا الأمر من قبيل اصطدام الجديد بالقديم، بل هي مسألة تقدير بين ما يمكن الحصول عليه والطاقة المتوفرة. وللفتاة الرأي وليس لها الحكم في هذا، ولا أعتقد أن في العالم آباء وأُمهات يضنون على فلذة أكبادهم بما يرونه ضرورياً. فإذا كان هنالك أبٌ يجود على نفسه ويحرم رعيته، وهي وديعة الله بين يديه، فمثل هذا الأب مسخٌ لا يصح أن يتُخذ أساساً لبحثٍ اجتماعي.
لقد لاح لك، يا سيدتي، أن سوء التفاهم ناشئ من التطور، وأن الفتاة هي الضحية بين رقيها وجمود أهلها، أما أنا فيلوح لي أن في وصف كل قديم بالجمود، ووصف كل جديد بالرقي على الإطلاق خطأ قد يكون هو السبب في ازورار الأبناء عن الآباء في هذا العصر وفي كل عصر، فالحقيقة التي بقع الخلاف عليها إنما هي حقيقة لا دخل للقديم والجديد فيها، لأن الحقيقة قد تكون في أحدهما دون الآخر أو في كليهما، ولا يمكن للباحث أن يقف في جنب الأبناء على كل حال آخذاً برقيهم كبرهان على جمود آبائهم. وكثيراً ما تغتر الشبيبة بتطورها، فإذا ما تحسبه رقياً نوعٌ من الهوس وضربٌ من الغرور. ويقيني أن ليس للفتاة من يعطف عليها عطف أمها وأبيها مهما بعدت بينها وبينهما شقة الثقافة والعلم. ومهما بلغ حب الفتاة لأبويها فأنه يبقى دون حبهما لها، ولكن قد يتلبس حب الأبوين بعقيدة لهما في الحياة تختلف وعقيدة الفتاة فيبدو لها هذا الحب بغضاً وتحكماً واستبداداً. فإذا كان العلم والتهذيب لم يرفعا بروح هذه الفتاة إلى مرتبة الرقي الحقيقي ولم ينيلاها من النور ما تكشف به الظلام عن بصيرتها وبصائر من حولها أخذت بالظواهر فانقلبت ثائرة تطمح إلى إقناع أهلها بالعنف معتقدة أن من حقها وقد تعلّمت وجهلوا أن تصبح أماً لأبويها فلها الأمر وعليهم الطاعةُ العمياء.(172/35)
إن الفتاة التي لا يوصلها علمها وثقافتها إلى إقصاء الأوهام عن كل قديم وعن كل جديد، وإلى الوقوف تجاه أهلها موقف من يحمل نوراً لا من يحمل ناراً، لا تكون قد قطعت شوطاً بعيداً في مجال الثقافة الحق.
إن في العالم اتجاهاً إلى التكامل بارتقاء الأنسال المتتالية، وفي طبيعة الأبوين ما يجاري هذا الاتجاه بشعورهم الخفي بتفوّق أبنائهما، وليس من كائن في الأرض لا يقف في نصف طريق حياته مدركاً أنه ضيَّع الكثير من عمره، فهو يؤمل أن يفوز أبناؤه بما فاته من الحياة. فإذا ما عرفت الفتاة هذا واستعانت على أبويها بحبهما لها، فلا بد لها من استجلابهما إلى ما ترى إذا هي اتجهت إلى الصواب ولم تؤخذ من بهارج التجديد بما يقودها ويقود أهلها معها إلى الدمار.
أما إذا كان الخلاف واقعاً من طموح الأهل إلى إرغام الفتاة في اختيار الزوج، فما أراه، هو أن الآباء في كل زمان يغالون في حرصهم على مستقبل بناتهن فيتجاوزن بحق الاختيار الحدَّ الذي يتحصّن وراءه الاختيار الطبيعي الكامن في فطرة الفتاة، وعلى حرية هذا الاختيار تُبنى السعادة في الزواج ويضمن إيجاد النسل الصحيح.
وظاهرة هذا التحكم تصطدم اليوم بما تنبّه في الفتاة من شعور وقد أصبحت تدرك مميزاتها الشخصية وتستجلي سريرتها. وما أخالني قصّرت في مقالي عن نهضة المرأة عندما حملتُ فيه على هذا التحكم الذي وصفتُه تحكماً في قضاء الله وقدره.
إنني وأنا أدرك الأسباب التي تحدو بالآباء إلى الاهتمام بمستقبل بناتهنّ، مقدراً هذا العطف وهذا الحنان قدرهما، لا يسعني إلا لفت هؤلاء الآباء إلى خطورة موقفهم في هذا الأمر فأدعوهم إلى احترام الأمانة الضعيفة ولها رجاحتها في الذمم، كما أدعوهم أيضاً إلى التبصر في عاقبة الزواج المبني على الإكراه.
أي أب يقدم على إكراه ابنته على الزواج بمن تنفر فطرتها منه، إذا هو عرف أن حفيده من هذا الزواج سيجيء الحياة معتّلاً بجسمه أو مختلاً بعقله. . .
وهل في الشرق العربي اليوم من لا يزال يقول:
بنونا بنو أبنائِنا وبناتُنا ... بنوهنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعد؟
أبيننا من لا يزال يعتقد وهو في القرن العشرين أن الرجل هو مصدر الحياة وأن المرأة(172/36)
ليست إلا مستودعاً للجنين.
لو يعلم القيمون المُكرهون أية جناية يأتون بتحكّمهم في الفطرة التي لا يسع الفتاة نفسها أن تتحكم فيها لكانوا يرعوون عن غيهم، إذ يتضح لهم أن وأْد البنت في الجاهلية كان أقل فظاعةً من وأدها في زواج تموت فيه حيةً لتقذف إلى الدنيا بأطفالٍ تتعثر الإنسانية بهم في سيرها نحو الرقي.
غير أنني لا أعتقد أن في هذه الأيام من هؤلاء القيمين الأغرار عدداً كبيراً؛ وإذا كان هنالك بقية منهم، فأنني لا أعتقد أن من فتيات اليوم من تستنيم لهذا الضيم، فأن الفتاة المهذبة التي تشعر بشخصيتها لا يسهل على وليها أن يرغمها على الزواج بمن تكره، وهي تعلم أن الشرع السامي لا يأخذ بالإيجاب دون قبولها الصريح، ولكن إذا كان الإكراه غير مباشر وكانت الفتاة تلجأ إلى القبول بأي زوج للتخلّص من أهلها، فإنها في هذا الموقف مشاركة لهم في جرمهم إذا هي تصنّعت الحب، وتكفلت الإغواء تكلفاً لرجل يريد إدخال الحياة إلى مسكنه فلا تدخل إليه إلا مبدأ الشقاء والموت.
على الفتاة المثقفة في مثل هذه الحال أن تجاري فطرتها وتتحصن بحوافزها فلا تستسلم للتمثيل الدنيء، لأنها إذا كانت مُرغَمة على عدم النفور فلا شيء يرغمها على التظاهر بالحب والقبول لتسقط أبرياء في شركٍ تكون هي الضحية الأولى فيه.
ولكن هنالك من الرجال من غلظت رقابهم، وانطمس شعورهم إلى درجة لا يميزون فيها بين فتاة تميل إليهم وفتاة تنفر وتشمئز منهم. فويلٌ للمجتمع من مثل هؤلاء الرجال الذين تطفح فطرتهم بالشهوة وليس في قلبهم من الحب إلا خياله الأسود. أولئك الذين طغت عليهم الأنانية حتى خيّل لهم أن كل فتاة يطلعون عليها بمناكبهم العريضة وفي يدهم بعض المال وبعض الحليّ تخر ساجدة أمام بهائهم وعظمة أقدارهم، ويلٌ لبنات الأولياء المتغطرسين من رجل يحسب نفور الضحية حياء وازورارها دلالاً.
إن مثل هذا المخلوق لأشبه بالقابل الكهربائي لا بطّارية فيه ليحس باتصال الجهاز المقابل به أو انصرافه عنه. وكم من رجلٍ في القرن العشرين يذكّرنا برجل الكهف يترصد الأنثى على الطريق فيبدأ بقرع رأسها بحجر ليفقدها رشدها أولاً. . .
ولو عرف هؤلاء المغرورون عواقب اعتدائهم لابتعدوا عمن تجول شهوتهم حولها لا رحمة(172/37)
بها، وهم لا رحمة فيهم، بل إشفاقاً على أنفسهم التي اتخذوها من دون الحق معبوداً.
لابدّ لنا ونحن في موقف الباحث يشفق على المعتدي في جهله كإشفاقه على الضحية في ضعفها، من أن نشير ولو تلميحاً إلى حقيقة أدى الجهل بها إلى معظم هذه المصائب التي تقضي على الأسر وتهدّ من بنيان المجتمع.
إن المرأة المُكرَهة في زواجها لا تُضار في جسمها ونفسها بقدر ما يُضار زوجها الباغي عليها، لأن في تكوين المرأة ما يساعدها على عزل قسطها من الإيجاب في وضعها السلبي، فتقي خلاياها من أن ينفذ إليها ما هو ترياق لها في حالة شوقها وما يصبح سماً زعافاً في حالة نفورها كما لها أن تقي أعصابها أيضاً من الهزّة الشاذّة عن طبقتها فينزلق الإكراه عليها انزلاقاً، وعندئذ تعمل الطبيعة عملها بردّ الفعل في جسم الرجل ونفسه وهو لا يدري، فكأنه لا حس المبرد يحس بالارتواء الكاذب وهو يشرب من دمه.
ما أكثر من عرفت من هؤلاء الرجال الذين تزوجوا بالإغراء، فقامت شهوتهم وأطماع الفتاة نفسها أو أطماع أهلها مقام الحب المتبادل، فرأيتهم يباهون بزوجاتهم كأنهن تكملة للرياش الفاخر في مساكنهم، ثم تمرّ الشهور فإذا هم يجرّون أرجلهم جراً بعد أن كانوا يسيرون في الأرض مرحاً، وإذا النور ينطفئ في أحداقهم وحق الطبيعة يكتب على جباههم آية الفاشلين.
ويلٌ لمن يخدع نفسه بمظاهر القبول ولا يبالي بإيجاب ما يشعر به كاملاً في سريرة من يريدها شريكة لحياته وأماً لأطفاله، إن هذا الرجل لأشبهُ بالتائه في الصحراء يتوقّع في كل مرحلة إرواء غليله من السراب يتوهج ماؤه، يتباعد إلى الآفاق كلما توهّم الوصول إليه.
هذا ما نراه في معضلة الإكراه الذي تشكو منه بعض فتيات البلاد، وما نشأت هذه المعضلة إلا من أطماع المزوّجين وضعف المروءات في المتزوجين.
أما علاج هذا الداء فميسور بعد بيان ما تقدم بيانه إذا نفذت أشعة الحقيقة إلى قلوب الغواة والطامعين، إذ لا يمكن أن يبصر عبيدُ الشهوات ما تفتح ضلالاتُهم من مهاوٍ تحت أرجلهم دون أن يرتدعوا عن الانتحار والقضاء على أنسالهم، ولكنَّ في الحياة كثيرين ممن اتسعت أحداقهم ولكنهم عميٌ لا يبصرون.
(تتمة البحث عن شباننا وسبب إضرابهم عن الزواج وعن(172/38)
العلة في بوار الفتيات في مقال آخر)
(الإسكندرية)
فليكس فارس(172/39)
نبوّة المتنبي أيضا
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 2 -
اللهمّ إنا نعوذ بك من فتنة الرأي والهوى، كما نعوذُ بك من سوء الاقتداء والتقليد.
4 - يقول الأستاذ سعيد الأفغاني في العدد (171) من (الرسالة) بعقب حديثه عن رأينا في ردّ رواية اللاذقي - الذي كان قد آمنَ بنبوّة المتنبي أبي الطيب، وأسلمَ له، وبايعه بيعة الإقرار بصدق نبوّته، وزاد أن أخذ البيعة لأهله كذلك: (وقد رددتُ أنا قسماً كبيراً من رواية اللاذقيّ هذا لشيءٍ غير ما ذهب إليه الأستاذ الكريم، وسأبينه قريباً). وقد وفى الأستاذ بعدَته فأبان خيرَ الإبانة عن (الشيء) الذي من أجله (ردّ قسماً كبيراً) من رواية (اللاذقيّ هذا). وهذا بيانه بعد كلامٍ كثير، يقول: (وقد عجبتُ كل العجب من الأستاذ - وهو الناقد الأصوليّ الفنّان (أستغفر الله يا سعيد) - حين لم يدر لم اختصرتُ حديث اللاذقيّ؟ إذ أن الأمر ظاهر، فأن الزيادات التي أهملتها يرفضها العقل ويكذبها الواقع، ولم تكن ثمة حاجة لأدُلّ القراء على سبب إهمالها لأن تهافُتها بيّنٌ. وكثيرٌ أن تجردَ عليها حملةٌ كالتي نزل بها الأستاذ الميدان!! فخصَّص لها صفحتين من كتابه القيم، وهو يعلمُ حفظه الله أن من أدلة الوضع عند المحدّثين مخالفة الواقع والمعقول كما هو مستوفي بكتب مصطلح الحديث) اهـ.
عونكَ اللهمّ! فلستُ أدري من أين أبدأ في بيانِ تهافتِ هذا القول وتناقضه! هذا رجُلٌ سماهُ أبوهُ معاذاً فكان عند الذين قرءوا حديثه (أبا عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقيّ)، وهو في الرواة مجهول غيرُ معروف بصدق ولا بكذبٍ؛ وقد جاءَنا هذا الرَّجُل ينبئنا عن أبي الطيب خبر قدومه اللاذقية سنة نيفٍ وعشرين وثلاثمائة، فيأنى بحديث طويل ممتدٍّ،
(1) يذكر فيه حلية أبي الطيب وصفته وسمته وحسن أدبه، (2) ثم يذكر حديثاً جرى بينه وبين أبي الطيب، فيقول له اللاذقي: (والله إنك لشابٌ خطير، تصلح لمنادمة ملكٍ كبير!) فيكون جواب أبي الطيب: (ويحك! أتدري ما تقول؟ أنا نبيٌ مرسل) (3) ثم يذكر رسالة أبي الطيب إلى أمته الضالة المُضِلة! وغرض رسالته؛ (4) ثم ما سمع من قرآن أبي الطيب الذي وصفه بقوله: (فأتاني بكلامٍ ما مرّ بمسمعيّ أحسنُ منه) (5) ثم يذكُرُ عدد آيات(172/40)
هذا القرآن، (6) ثم يخرجُ إلى ذكر معجزة هذا المتنبي في حبس المدرار (المطر)، لقطع أرزاق العصاةِ والفجار، (7) ثم يقول إنه خرج مع غلام أبي الطيب ليرى المعجزة، فلمّا استيقنها واطمأن بها قلبُهُ انفلت إلى أبي الطيب وهو يقول: (أبسُط يدك. . . أشهدُ أنك رسولُ الله) فبسط يدهُ فبايعه بيعة الإقرار بنبوّته، (8) ثم لم يَنِ هذا اللاذقيّ حتى أخذ بيعته لأهله، (9) ثم يقول بعد: (ثم (صَحَّ) أن البيعة عمّت كل مدينة بالشام) (يا سبحان الله)، (10) ثم يعقِّبُ على ذلك أن معجزةَ أبي الطيب كانت (بأصغر حيلةٍ تعلمها من بعض العرب وهي (صدحة المطر)، (11) ثم يزعُم أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي رضي الله عنه! (أنه رأي أهل السُّكون وحضرموت والسكاسك من اليمن يفعلون ذلك ولا يتعاظمونه، حتى إن أحدهم ليصدح عن غنمه وإبله وعن القرية التي هو فيها فلا يصيبها شيء من المطر، (12) ثم يقول إنه سأل أبا الطيب هل دخلت السكون، فيقول له: نعم! أما سمعت قولي:
مُلِثَّ القطرِ، أَعْطِشْها ربوعا ... وإلاَّ فاسقِها السَّمَّ النقيعا
أُمنْسِيَّ السَّكونَ وحضرموتاً ... ووالدتي وكندةَ والسَّبيعَا
ثم يقول هذا اللاذقي بعقب ذلك: (فمن ثمَّ استفادَ (أبو الطيب) ما جوّزه على طغام أهل الشام)، (13) ثم يختم حديثه بما كان يُمَخرقُ به أبو الطيب على أهل البادية بإيهامهم أن الأرض تُطْوى له وكيف كان ذلك؛ (14) ثم يزعمُ أن أبا الطيب سئلَ في تلك الأيام عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أخبر بنبوَّتي حيث قال: (لا نبيّ بعدي)، وأنا أسمى في السماء (لا)).
هذا مختصر حديث هذا اللاذقيّ، وأنت إذا قرأته بتمامه رأيته أحمق قولٍ يعجزُ عن الإتيان بمثله أحمق معتوهٍ لما فيه من الاضطراب والسخف والتلفيق والكذب، وقلة مبالاة هذا الرجل بنسبة الكفر إلى نفسه حين زعم أنه قال لأبي الطيب: (ابسط يدك، أشهد أنك رسول الله) ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذه أغراضٌ في كلام اللاذقي قد بينا لك عددها (14) تناول منها الأخ سعيد ثلاثة أغراض هي الثلاثة المتتابعة في تعدادنا، وقذف بالباقيات وردها وأهملها لأنها مما (يرفضه العقل، ويكذبه الواقع) كما قال في كلمته الأخيرة، ومن قبل ما قال في كلمته التي نشرها في(172/41)
(الرسالة - العدد 161): (وسأعفي نفسي من أشياء كثيرة، وردت في (الصبح المنبي) لا يقبلها عقلٌ ولا تؤيدها قرائن) ويعني هذه الرواية عن اللاذقيّ.
وأنا أسأل الأستاذ سعيد أن ينصف نفسه وينصفنا، وأن يعفينا من التأويل وطلب الحجة فيما لا تأتي منه الحجة إلا متكلفة على أبعد وجه وأضل سبيل. فانظر أيها الأستاذ سعيد إما جاءك رجل بحديث قد استيقنت أن نصفه كذب قد مزج بقول غير معقول، أفأنت مصدقه في سائر الذي جاءك به من الحديث؟ فإن قلت: لا أصدقه في سائر حديثه فقد بطل ما جاء به هذا اللاذقي كله، لأن أربعة أخماس من حديثه مما (يرفضها العقل ويكذبها الواقع) كما قلت أخيراً: ومما لا يقبلها عقل؛ ولا تؤيدها قرائن كما قلت أولاً. وإن شئت أن تتطلب الجدل فقلت أصدق بعضه، وأكذب بعضه، فأنت غير قادر على أن تنشئ لهذا الرأي حجة يلجأ إليها أو دعامة يعتمد عليها، فإن هذا اللاذقي رجُلٌ مجهول في الرواة لا يعلم حاله في صدق أو كذب، ومن كان كذلك نُظر في قوله، فإن كان الذي يأتي به من الرواية صدقاً كان ذلك مانعاً من اتهامه بالكذب إلا ببينة أخرى، وإن كان كذباً لم تجد بُدّاَ من وسمِه بالكذبِ وإسقاط روايته كلها، وجملةً واحدةً؛ ويصبحُ ما أتى به كله كأن لم يُرْوَ ولم يعرفْ، فلا ينظرُ إليه في رواية أو تاريخ؛ فإن قلت أقبل المعقول وأردُّ غير المعقول، فلا بُدّ من أن نقول لك إنك قد اعتمدت في بعض قولك على مذهب أهل الحديث في علم الرواية، فقلت: (إن من أدلة الوضع عند المحدثين مخالفة الواقع والمعقول)، ونعم، فإن رواية ما يستحيل أن يقع، وما لا يأتي على وجهٍ يرتضيه العقل، ساقط عند المحدثين، وهم يتهمون صاحبه بالكذب لوضع فلا تقبل له روايةٌ أبداً، ولو كانت صادقة، ولو كان في قول غيره من الصادقين ما يقع عليها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة. فهذا مذهب القوم بتمامه، ومذهب عقلاءِ الناس في أمر دينهم ودنياهم. واعلم أيها الأستاذ سعيد أن القول يُردّ ويُرفض ويكذب صاحبه لأنه غير معقول ويستحيل وقوعه، ولا يمكن في العقل أن يطرد عكسُ هذه القضية: فليس يقبل القولُ ويرتضي صاحبه لأنه معقول وجائزٌ وقوعه وحدوثه، ولست أشكُّ في موافقتك لي على هذا؛ إذن فليس من الحكمة ولا من الصواب ولا من العدل ولا من العلم أن تختصر حديث اللاذقيّ فتأخذ منه المعقول الجائز الحدوث، وأنت تردّ سائر حديثه بل أكثره، ثم تقول عنه في عدد الرسالة (161): (وقد حفظ لنا (التاريخُ) مشهداً من(172/42)
مشاهد هذه الدعوة (النبوّة) في اللاذقية). فليس شيء من كلام الوضاعين والكذابين مما يصحُّ أن يعتمد عليه في تاريخ أو غيره.
ثم لو نظر الأستاذ سعيد إلى هذا الحديث الذي عدّه (مما حفظ التاريخ من مشاهد دعوة أبي الطيب إلى نبوته) لوجدَ يقيناً أن هذا المختصر من حديث اللاذقيّ هو أيضاً (مما يرفضُه العقل، ويكذبه الواقع) و (مما لا يقبله عقل، ولا تؤيده قرائن)، فأن فيه من الوهن والضعف والتخالف والتناقض ما لو تدبره الأستاذ - وهو يدرس شعر أبي الطيب، ويصوِّر منه نفسه وطبائعها وغرائزها - لعلم أنه موضوعٌ متكلفٌ ليس فيه من الصدق شيء؛ ولم أردك بسوءٍ أيها الأخ إذ قلت في كلمتي السابقة إنك تأخذ من الكلام ما تشاءُ، وتدع ما تشاء، فتزول بذلك شبهاتك.
إن للرواية أصولاً لا يأتي لأحد أن يخرج عنها إلا بحجة لا تسقط عند النقد والنفض؛ ومن أصول الرواية ألا تُقبل رواية من كذَب في أحاديث أو وضعها، وإن كان سائر الذي يرويه مما يعضده فيه رواية غيره من الصادقين، فكيف بمن يكون أمرهُ في الحديث الواحد: أربعة أخماس كذبٌ غير معقول، والخمس الباقي تختلفُ عليه الآراء في وصفه بأنه صدق أو كذبٌ، أو معقول وغير معقول، أو تؤيده قرينة أو لا تؤيده قرينة؟ ألا إن هذا أولى بالإسقاط والرفض والنبذ حيثما ثُقِف، وكذلك هو حديث هذا اللاذقيّ المجهول.
5 - وقد أراد أستاذنا سعيد أن يوهم قارئ كلامه أننا اتخذنا رأينا - في نسبة أبي الطيب إلى الشجرة العلوية المباركة - (برهاناً) على رد رواية هذا اللاذقيّ المجهول لقولنا في ص 48 (أما اللاذقي فمجهولٌ ولا يتيسر لنا نقد سنده، ولكن مما شك فيه أن اللاذقية التي نسب إليها، كانت لوقت أبي الطيب موطناً لفئة من العلويين ومحطاً لكثير من كبار الدعاة العلويين الذين أحدثوا أحداثاً عظيمة في التاريخ العربي كلّه). فلذلك لم يتورع عن بتر بقية كلامنا، فقد قلنا بعقب هذا وبغير فصل (فلا بأس من أن تجعل هذا ذكراً مذكوراً وأنت تتبّصر في أصل الرواية على وهنها وتضاربها، وتهالك معانيها التي يفسدُ بعضها بعضاً كما سترى). فلو كنا قد اتخذنا هذا (برهاناً) لقلنا مكان (فلا بأس) (فلابد) ليستقيم المعنى الذي أراده لنا الأستاذ الجليل. ويخيل إليّ أن الأستاذ سعيد سيحاول أن يقع في هذا الكلام بالتأويل. فأنا أضرب له المثل على الفرق بين هذا وذاك، ليدع هذا الذي يعمد إليه من(172/43)
أفانين الكلام. فإنك لو أردت أن تعلم جاهلاً دين الإسلام بعد إيمانه بصدق القرآن وأنه وحيٌ من العزيز الحكيم، ثم أخذت تفهمه أن الصلاة عمود الدين وأن الله أمرَ بها عباده، والبرهان والدليل على ذلك قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة)، فلست تقول له بعقب ذلك (فلا بأس) من الصلاة، وإنما تقول: (فلا بد من الصلاة).
ولو تدبر الأستاذ قليلاً كما سألناه في كلمتنا الأولى (عدد الرسالة 167) لعلم أن الإشارة في هذا الموضع هي إلى الذي قلناهُ في كتابنا ص17 - 19 من أنه كان بينه وبين العلويين عداءٌ وحفيظة بلغ من أمرهما أنهم ارصدوا له قوماً من السودان عبيدهم في طريقه بكفر عاقب ليقتلوه - وذلك مُنصرفَه من طبرية سنة 336 - حتى إن أبا الطيب لم يُحجم عن التعريض بهم، وهو يمدح كبيراً من أولاد عليّ رضي الله عنه بالرمْلة هو أبو القاسم طاهر بن الحسن بن طاهر العلوي فقال في مديحه:
أتاني وعيدُ (الأدعياءِ) وأنهم ... أعدُّوا لي السودان في كفر عاقب
ولو صدقوا في جدِّهم لحذرتهم ... فهل فيّ وحدي قولهم غير كاذب
وقال في مدح الأمير ابن طغج، وقد صحبه أبو القاسم العلوي وأقام معه في الرملة يحضر مجالسه.
وفارقت شرَّ الأرض أهلاً وتربة ... بها (علويٌّ) جدُّه غير هاشم
فلهذا ولغيره من آثار العداوة والبغضاء بين أبي الطيب والعلويين (مذهباً أو نسباً) قلنا في ص17 (إن عندنا في أقوال العلويين المعاصرين عن أبي الطيب سبباً للتوقف دون التسليم).
هذا على أن عندنا من الأسباب ما يحملنا على رد رواية العلويين في أخبار أبي الطيب، وقد ذكرنا بعضها متفرِّقاً في كتابنا، وبعضٌ آخر لم نذكره لضيق الوقتِ، ورغبة في اختصار القول، واعتماداً على فطنة القارئ إذ كان في وضع كلامنا ما يُشيرُ إلى أطرافه.
6 - قلت في كلمتي التي نشرتها الرسالة (العدد 167) إن الأخ سعيد قد لا يجد دليلاً على صحة هذه الروايات التي رويتْ في نبوّة أبي الطيب، فيما يزعم، إلا أنه قد رواها فلانٌ وفلانٌ ورواها المعري - وهو الحجة الثبتُ - وقلنا إن الحكم - بأن رواية المعري أو غيره من العلماء - هذه الأخبارَ مما يصححها أو يرجّح الصدق فيها - حكم خطأ لا يصح(172/44)
لأحد أن يتابع عليه، ولم أقل ذلك إلا لقول الأستاذ في عدد الرسالة (161)، (وسأعتمد في قص الحادث (يعني النبوّة) على أبي العلاء خاصة، لفضله وتحريه وقرب زمانه)، وهذه الكلمة الأخيرة وحدها تدل على أن الأستاذ يَعُد ما يرويه أبو العلاءِ عن أبي الطيب مما ترجحُ فيه كفة الصدق على كفة الكذب، ولكن الأستاذ لم يرض قولنا هذا، فعادَ يقولُ في كلمته الأخيرة: (هذا وقد حمل الأستاذ أقوالي ما ليس تحمل: فأنا لم أدّع للمعرّي تنزُّها عن الخطأ، ولم أقل بأن (ورود خبر في كتب العلماء هو الدليل الذي لا دليل غيره، وما جعلت قرب الزمن دليلاً على الصحة بل هو مما ييسر للمحقق وسائله) اهـ. وأنا لا أحبّ أن أكثر القول على أستاذنا في نقد كلامه هذا بل أقول: إن كان في يدك دليل على صحة هذه الروايات والأخبار فأظهرهُ ولا تكتمهُ، فمن قبلُ ما قلنا لك في مقالنا بعدد الرسالة (167) إن (الخبر لا يستحقّ صفة الصدق إلا بالدليل الذي يدُل على صدقه، فإذا لم تجد الدليل على صدقه ذهبت عنه صفة الصدق وبقي موقوفاً. فإذا اعترضت الشبهات من قبل روايته أو درايته مالت به الشبهة إلى ترجيح الكذب فيه. . .). ولكن أستاذنا لم يرد أن يقف عند هذا القول، وزعمه من (التهويل) ويقول: (وما التهويل بمغن عن أحدنا فتيلاً)، وزعم أني (لم أجد بأساً في أن أعرفه أنّ الخبر ما يحتمل الصدق والكذب، وانّ وأن. . . الخ الخ مما يدرسه الطلاب المبتدئون). وظنّ أن في هذا القول مذهباً لهُ عن الإتيان بدليله على صدق الروايات التي يزعمُ أنها من التاريخ وأنها صحيحة. ويخرجُ من هذا ويدعه لقول: (إننا نبزنا روايات التاريخ بالبطلان والكذب، ثم لا يكون دليلنا عليها إلا أنها كذب وبطلان). وليس الأستاذ ببالغ من كلامنا مبلغاً يسقطه أو يحزّ فيه إلا أن يثبت لنا أوّلاً صحة هذه الروايات، ومن أين لأحد أن يسلم بصحتها ويقتنع بأنها خالية من الكذب والوضع وسوء القصد في الإساءة والتشهير والتسميع بأبي الطيب؟ فإذا فعل ذلك فقد بلغ أوّل الحق، وكان لهُ أن يجابهنا بما شاء من القول مصرّحاً ومعرّضاً. فالدليل أيها الأستاذ سعيد.
7 - ومن أعجب أمر الأستاذ سعيد أنه ينشئ من الكلمة الواحدة تردُ في الكلام جملة لها معنى يوجهه هو كيف أراد على ما خيّلتْ، ويضَعها حيث شاء من الحديث غير متهيب ولا متلفت عن يمين وشمال، ولو خرج بالكلام الذي أمامه من العربية. . . كما مرّ بك في كلمتنا السابقة. فمن ذلك أنه وقف عند قولنا في الكلمة الأولى (الرسالة عدد 167): (وتركُ(172/45)
المعرّي الشكّ (في تلك الأخبار) أو تكذيبها ليس يقومُ أيضاً دليلاً على صحتها، وليس المعرّي بمنزه عن الخطأ والغفلة، وهو من هو، فذهاب وجه النقد عن المعرّي ليس يكون طعناً فيه، ولا يوجب نسبة الكذب إليه، ولا ينفي صفة الصدق عنه). وليس يذهب عن أحد من القراء أننا أردنا بهذا الكلام أن ندفع ظنَّ من يظنَّ - أي الناس كان - أن توقفنا دون التسليم بما رواه المعري في خبر نبوة أبي الطيب، أو نقدنا له، أو تكذيبنا أو إسقاطنا لما روي - يكون طعناً فيه، أو يعد مما يوجب نسبة الكذب إلى أبي العلاء. ولكن الأستاذ سعيداً ترك هذا، وأراد أن يبالغ وينشئ حول كلامه (خطا من النار)، فأخذ كلمتنا: (وليس المعري بمنزّه عن الخطأ والغفلة) وردّها بقوله: (وأنا لم أدّع للمعري تنزهاً عن الخطأ)، فكيف - أيهذا الأستاذ سعيد - تزعم أننا قلنا إنك ادعيت للمعرّي تنزهاً عن الخطأ وكيف تخرّج هذا الذي ذهبت إليه من كلامنا؟
ليعلم الأستاذ أني لا أحفلُ بمثل هذا، ولا أنظر إليه، ولا أقف عنده، ولكني أبينه له ولغيره، ليعلم أن كل أحد يستطيع أن يقول ما يشاء فيما يشاء على أي وجه يشاء. . . ولكن ذلك لا يجوز على أحد، ولا يغفل عنه من قرأ الأول والآخر، ونظر وفهم وجمع وعرف معاني الكلام، وكيف خرج وإلى أين ينتهي؛ وليعلم أيضاً أن كل أحد يستطيع أن يفهم من الكلام ما يشاء على غير قاعدة من منطق أو عربية، ولكن فهمه لا يكون حجة يأتي بها الناس ويظهر بها عليهم، ويحاول أن يسقط أقوالهم بها. لابد للكلام من منطق عقل وفقه عربية حتى يفهم، وإلا أصبحت المعاني فوضى لا ضابط لها ولا وكيل عليها ولا حفيظ.
وللقارئ أن ينظر إلى فعلات الأخ سعيد هذه فقد قلنا في كلمتنا الأولى (الرسالة عدد 167) عند رد اعتراضه: (إن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل (الرواية)، وقد أتى به القوم ليعضدوا قولهم في خرافة النبوة. . . الخ) فجاء ينقل هذا في كلامه مرتين هكذا (إن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل (الرواة)) فنحن نقول: (الرواية)، وهو يقول على لساننا (الرواة) وبين اللفظين فرق (كبير) في عربيتهما وفي موقعهما من الكلام. ولو أردنا الذي أراده الأخ سعيد لكلامنا لقلنا (من أكاذيب الرواة). ولو رجع الأخ إلى كلامنا الذي أعقب هذه الكلمة لعلم لم قلنا (أباطيل الرواية) ولم نقل (أكاذيب الرواة). هذا على أني أقول أيضاً إن الذي زعموه من خجل أبي الطيب حين كان يسأل عن أمر لقب المتنبي -(172/46)
هو من أكاذيب الرواة. فإذا أراد الأستاذ أن يعرف من هم هؤلاء الرواة، فليرجع إلى الكتاب الذي نقل عنه هذا الكلام، فينظرَ من هم؛ ومع ذلك فليسَ تغني معرفة الرواة شيئاً في هذا الأمر. وتعب أن أمضي على هذا الوجه في تعريف الأستاذ سعيد بوجوه بطلان كلام هؤلاء الناس الذين نقل كلامهم، فعليه أن يريحنا قليلاً بتدبره في كلام هؤلاء الناس، والنظر في معاني رواياتهم بالذي توجبه العربية، مع المقارنة بين هذه المعاني المختلفة المتباينة فعند ذلك يعرفُ كيف كان التناقُضُ في الرواية، وكيف هدَمتْ الرواياتُ بعضها بعضاً في خبر نبوة أبي الطيب.
وبعد. . . فأن في كلام الأستاذ من وجوه التهافت ما لا تطيعني (الرسالة) على الإفاضة فيه، ولا يواتيني الزمنُ على إزهاقه من أجله، ولكني أنصح للأخ ألا يلجأ إلى ضروب القول التي يخرج بها الكلامُ عن حده إلى مجاهل من المغالطة والاعتراض، وإرادة الغلبة، واتباع الظن، وفتنة الرأي، والإصرار على خطرات النفس. وليعلم الأستاذ أني لست ممن يغفل عن مواضع التحريف في القول، أو الإحالة في الحجة، أو الفساد في التأويل، فإن أراد أن يعود إلى الحديث والكتابة، فليعد على مذهب مرضيٍّ متبع معروف غير منكر. فإن فعل فما أنا بالذي يسوءه أو يغضبه، وما أريد من شيء إلا أن أهتدي إلى الحق على يديّ من كان له فضلُ السبق، وحسنُ الحديث، وكمالُ الغلبة بالحق. . . هذا وقد أعفينا الأستاذ من كثير قولٍ في الذي جاء في مقاله الأخير - لو أردنا أن نكيل له من جرّائه بمثل كيله لفعلنا فأشوينا. . . ولكن.
عبَأت لهُ حِلمي لأُكرمَ غيره ... وأعرضت عنه، وهو باد مقاتله
محمود محمد شاكر(172/47)
النظرية العامة للالتزامات
في الشريعة الإسلامية
للدكتور شفيق شحاتة
إن صرح القانون مشيد على فكرة الالتزام. وقد ارتدت هذه الفكرة في القانون الخاص رداء خاصاً، حيث ظهرت في صورة الحق الشخصي، المقابل للحق العيني. ثم هي فيه، تخضع لقواعد عامة، تحكم مختلف المسائل التي تعرض للالتزام. وقد استخلص هذه القواعد فقهاء الرومان، ونقلت عنهم في القوانين المستمدة من التشريع الروماني. وجمعت هذه القواعد، النظرية المعروفة بالنظرية العامة للالتزامات، وهي نظرية أجمعت الآراء على أنها من خير ما أنتجت قريحة الرومان القانونية.
أما في الشريعة الإسلامية، فقد وجه الفقهاء جهودهم نحو الحلول الفرعية، ولم يحاولوا وضع قواعد عامة تحكم الالتزام في مصادره، وفي آثاره، وفي طرق انقضائه. على أن بالشريعة الإسلامية كنوزاً من الأفكار والآراء والتصويرات القانونية، فإذا نحن أردنا الانتفاع بها يتحتم علينا أولاً الوصول إلى القواعد العامة التي تحكمها جميعاً، إذ لا يقوم العلم إلا على أساس من القواعد العامة.
ثم إن الفقه الإسلامي، قام وترعرع في مدى أجيال عديدة، وساد في مختلف الأقطار التي جمعتها المدنية العربية، تلك المدنية التي تركت آثاراً خالدة في جميع مناحي العلوم والفنون. فليس من الغريب أن يكون أثرها كذلك في ناحية التفكير القانوني. وفي الواقع قد ظهر هذا التفكير في صورة من أبهى صوره، ولا تزال آثار هذا التفكير من أنفس ما يدخر الشرق من التراث العلمي.
فمن العقوق إذن أن يهمل هذا التراث؛ ومن العناية به أن يعمد إلى التأليف بين فروعه. ففي جميع الأمم وفي مختلف العلوم عمد العلماء إلى التركيب بعد التحليل؛ وقد قام الفقهاء بقسطهم الوافر من التحليل، فيتعين البدء من حيث انتهوا، وبهذا العمل نكون قد وصلنا ما كان قد انقطع. فعسى أن يكون الاهتمام بالآثار القانونية لفقهاء المسلمين على هذا الوجه فاتحة عصر إحياء لتشريع لا يمكن أن يكون ملائماً مثله في بلاد كانت مهداً له ومرتعاً.
وإن في هذا العمل تحقيقاً كذلك لغرض من أغراض التشريع المقارن، وقد أعلن المؤتمر(172/48)
الدولي المنعقد بلاهاي في سنة 1932، ما يعلقه من الأهمية على التشريع الإسلامي، كمصدر من مصادر التشريع المقارن.
1 - طريقة البحث
1 - الطريقة الموضوعية
لا يخفى أن القيام بهذا العمل يقتضي من الباحث اعتماد خطة معينة، فقد لوحظ أن الخطة التي اتبعت للآن لم تكن مما ترتضيه دائماً القواعد العلمية.
فإنا نجد من جهة أن من تصدى من العلماء الغربيين لمعالجة هذه المسائل لم يصل أبداً إلى تفهم روح النصوص، وهم في الغالب، يجهلون أيضاً اللغة التي وردت بها هذه النصوص. أما المستشرقون، فلا نجد بينهم القانوني الفقيه الذي سرعان ما يلحظ ما للنص من خطر.
ومن جهة أخرى، نرى المؤلفين الشرقيين تنقصهم الروح العلمية، ومؤلف (سافاس باشا) على شهرته مثل ناطق لهذا النقص.
وكذلك الأمر في الرسائل والمؤلفات التي حاول فيها مؤلفوها التقريب بين الفقه الإسلامي وبين آخر ما وصلت إليه اتجاهات المحاكم في عصورنا هذه، فما كان من تأثير حماسهم الصبياني إلا مسخ الشريعة الإسلامية.
فمن المتعين إذن أن نضع في مواجهة هؤلاء وهؤلاء الطريقة التي نرى وجوب اتباعها، وقد سميناها الطريقة الموضوعية التاريخية لأنها تتناول موضوعات البحث وتقررها كما وردت في النصوص مراعية في ذلك منتهى الأمانة، ثم هي تتتبع هذه النصوص على مدى الأجيال لتتلمس تطورها التاريخي. فهي قائمة على فكرة أساسية، ألا وهي أن التشريع كائن حي وليد الهيئة الاجتماعية، ينمو بها ولها، ويتطور معها، ويجمد عند جمودها.
وهذه الطريقة تعمد لذلك إلى المسائل. فقد رأينا أن التشريع الإسلامي لم يعن إلا بالمسائل، فإذا أردنا تفهمه على حقيقته، وجب أن نتقصى المسائل ونستوعب ما ورد عليها من الحلول، فتكون هي الحجارة التي بها يتم بناء هيكل النظريات بصرف النظر عما حشر في الكتب حشراً لتفسير هذه الحلول إذا كانت هذه التفسيرات لا تتفق والواقع.
فمن يتصفح كتب الفقه يتبين أن التفسير الذي يرد على الحلول لا يكون صادراً دائماً عن(172/49)
مبادئ عامة، متمشية في جميع أجزاء الجسم الواحد، بل هو يرمي إلى تبرير الحل الذي ورد بشأنه فقط، تبريراً يستند سواء إلى فكرة مقبولة عقلاً، أو إلى أن حلولاً مشابهة قد جاءت في مناسبات أخرى.
ولكن هذا التبرير المباشر لا يمكن اعتباره كافياً، إذ قد تكون هناك مسائل أخرى مماثلة أيضاً ولم تحل على نفس الشكل. فالتفسير الصحيح يكون بإيراد التعليل الذي ينطبق على أكثر المسائل المتشابهة، مع ذكر ما دعا إلى الأخذ بغير ما يقضي به في مسائل معينة أخرى.
وهذه الطريقة تصل بنا إلى العلل الرئيسية والأخيرة للحلول، وهذه العلل وحدها هي التي يقبلها العلم، ويجب اعتبارها دون غيرها وإحلالها محل ما استبعد من التعليلات.
وقد تتعدد في كتب الفقه الطرق لتبرير الحل الواحد. أما تعدد الأدلة فأمر لا شائبة فيه لو كانت الأدلة جميعها تتضافر لتكوين مبدأ واحد يقضي بالحل موضوع النظر.
ولكنا نجد في الغالب الطرق لا الأدلة تتعدد، وكل طريق منها صادر عن فكرة قد تكون متنافرة مع الفكرة التي أوحت بالطريق الآخر.
ففي الخطة التي نقول بها تلزم الاستعانة بالروح العامة للتشريع، لاستبعاد ما يتبين فضوله من الطرق. فإذا ما اكتفى بأحدها وجب الاحتفاظ به في جميع المناسبات، حتى إذا ما اضطر الباحث اضطراراً إلى الرجوع إلى الطريق الآخر في حالات أخرى معينة وجب اعتبار هذه الحالات استثناءات لما سبق تقريره كمبدأ عام، وقد تنم هذه الحالات عن اتجاه التطور في التفكير.
وكذلك التكييف القانوني النظري لا يخضع دائماً عند الفقهاء لفكرة واحدة. صحيح أن تعقد الظاهرة القانونية قد يحول في بعض الأحوال دون تصويرها على أساس الفكرة والواحدة. ولكن في هذه الأحوال يقتضي منا المنطق أن نغلب العنصر المسيطر على هذه الظاهرة؛ وعند تصويرنا لها نلاحظ ما شذ على تكييفنا القانوني من الحلول؛ ولا يلجأ إلى ذلك إلا إذا لم يعثر في التشريع الإسلامي نفسه على تصوير ينتظم النظرية بما حوته من الحلول جميعاً.
يتضح مما تقدم أنه إذا كان تقيدنا بالحلول وثيق العرى فالأمر بخلاف ذلك بالنسبة للشروح؛(172/50)
ولا يخشى من هذا التحرر على صحة تفهم روح التشريع، فقد قلنا إن التشريع الإسلامي قائم على هذه الحلول، وروحه فيها وحدها.
على أن هناك محظوراً آخر. فأنا إذا نحن فرضنا على التشريع الإسلامي أفكاراً غريبة، اقتضتها أساليب التشريعات التي نشأت فيها نكون قد مسخنا هذا التشريع بالفعل.
فيلزمنا إذن التجرد من أساليب هذه التشريعات، وإذا نحن حاولنا الوصول إلى المبادئ الأولية، فلن تكون إلا تلك التي يتطلبها كل تشريع لمجرد كونه وليد العقل البشري، وهو واحد مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة.
وذلك كله لا يحول دون الاستعانة في عرض المسائل بما جربنا عليه في بحث قوانيننا الحديثة على أن يكون هذا إطاراً خارجياً، وعرضة للتحوير وفقاً لمقتضيات التشريع الإسلامي.
لذلك لن نعير كثيراً من الاهتمام ما حوته الكتب الفقهية من الأمثال والأصول، فهي في الغالب عبارة عن مبادئ يقضي بها المنطق أو العدل، لا نفس النصوص التي وردت بمناسبتها. ونذكر هنا أن مما استنفد نصيباً من نشاط الفقهاء مقارنة الحلول بعضها ببعض لإظهار الفروق والأشباه، على أنهم في هذا كله قلما يرتقون إلى المبادئ الأولية العامة.
أما علم أصول الفقه فهو شديد الاتصال بعلم الكلام، ولا يفيد في دراسة موضوعية للنصوص، فهو أشبه بفلسفة القانون منه بالقانون.
وقد قرب فقهاء الحنفية بينه وبين الفروع، ومع ذلك يقول (الحموي) (أنظر (الغمز) ج1، ص245) إنه: (لا عبرة بما في كتب الأصول إذا خالف ما ذكر في كتب الفروع كما صرحوا به).
وكذلك لا يلتفت في دراستنا الموضوعية إلى مصادر التشريع، ذلك أن (القرآن الكريم)، لم يأت إلا بقليل من الآيات في موضوع الالتزامات، وهي في الغالب من قبيل القواعد الأخلاقية.
أما (الأحاديث النبوية)، فهي أيضاً قليلة العدد، وسيؤخذ بها على أنها نصوص إذا جاءت بحلول معينة لبعض المسائل. ولن نتعرض لما وجه من الطعون إلى بعض هذه الأحاديث، فهي لمجرد ورودها تنم عن اتجاه خاص في التفكير.(172/51)
فالعبرة إذن دائماً بالمسائل وأحكامها. ومما يؤيد وجهة النظر هذه أن في عقد البيع قد وردت أحاديث متعددة في صيغة النهي، وقد فرع الفقهاء عليها البطلان في بعض الأحوال، ومجرد الكراهية في البعض الآخر بالرغم من اتحاد الصيغة في جميع الأحوال.
يتضح من ذلك أن التشريع الإسلامي في موضوع الالتزامات يفقد صبغته الدينية.
ونذكر هنا أن هذا التشريع لا يمنع مصدره الديني من اعتباره تشريعاً بالمعنى الصحيح، ذلك أنا إذا نظرنا إلى ماهية القاعدة القانونية في هذا التشريع ألفيناها تتضمن جميع العناصر التي تلاحظ في القواعد القانونية.
من ذلك ابتناؤها على المظّان، وابتعادها عن التوغل في الدوافع النفسية؛ ومن ذلك أيضاً الجزاء المترتب على مخالفتها، فقد فرق الفقهاء بجلاء بين ما هو واجب قضاء، وما هو واجب ديانة.
أما (القياس) وقد اعتبروه مصدراً من مصادر التشريع، فهو، في الواقع، عملية من عمليات الاستدلال يقوم بها العقل، إذا أراد الوصول إلى حكم عن طريق الاستنتاج.
وهذه العمليات العقلية تؤدي إلى وضع حدود وتقسيمات، وشأن علم الفقه منها شأن سائر العلوم الأخرى.
وإذا استعمل العقل في مهمة استنباط الأحكام، فقد يؤدي به منطقه الجامد إلى حلول قد تتعارض مع فكرة العدالة المطلقة أو مع بعض الأحاديث الصريحة فيلجأ الفقهاء عندئذ إلى ما يسمونه (الاستحسان).
فالحكم الذي يقضي به الاستحسان ليس في الواقع إلا استثناء اقتضته قواعد العدل والإنصاف أو أسباب أخرى.
وقد يستعمل الاستحسان لإدخال ما استقر عليه (الإجماع) في التشريع.
وقد يتعين اعتباره كالعادة والعرف، عاملاً من عوامل التطور، إذا تبين أن التشريع الإسلامي قد تأثر بالفعل بواسطته. وهذا هو موضوع الطريقة التاريخية.
(يتبع)
شفيق شحاتة(172/52)
الجوائز الأدبية ومغزاها
بقلم إبراهيم إبراهيم يوسف
ستصبح الجوائز الأدبية يوماً ما، وإن بعد، موضوع رسالة أحد طلاب العلم يتقدم بها إلى إحدى الجامعات لينال إجازة (الدكتوراه) في الآداب. ولا ريب في أن مثل هذا الموضوع سيكون في نظر أدباء ذياك الجيل المقبل طريفاً غاية الطرافة، كما يجد أدباء هذا العصر متعة وأي متعة في حديث التقدير الأدبي الذي لقيه أدباء القرن التاسع عشر في أوربا وأمريكا. فقد كان تقدير الأدباء لذلك الجيل يجري على منوال خاص. ففي إنكلترا مثلاً منح الشاعر (لوريت) الذي نشأ راعياً مرعى خصيباً. ومنح الكثير من الأدباء ألقاباً بمناسبة إحياء أيام مولدهم أو نحوها من المناسبات. أما تقدير الأدباء في أمريكا فكان يجري على منوال آخر أساسه الانتفاع الضمني بالناحية المادية لمظهر الهبة أو المكافاة، إذ يذكر عن (ناتانيل هوثورن) أنه عين قنصلاً لأمريكا في ليفربول لمجرد الاعتراف بقدره الأدبي. وكذلك قلد (هرمن ملفيل) مثل هذه الوظيفة ليتمكن من التغلب على ضائقته المالية. وتابعت أمريكا السير في ذلك حتى عام 1904 حين عين الرئيس روزفلت (ادوين أرلنجتون روبنصن) في إدارة المكوس تشجيعاً له على النهوض بالشعر. جرى مثل ذلك على البعض في حين أن فطاحل الأدباء للعصر الفيكتوري مثلاً لم يصيبوا شيئاً من هذه الهبات، إلا أنهم استعاضوا عن ذلك بإدراك الحقيقة الراهنة التي كانت تتجلى لهم يوماً بعد يوم في زيادة طبقات القراء، فأوحت لهم ثقتهم بأنفسهم ألا يضعوا أمانيهم في غير المستقبل. وسرعان ما اطمأنت نفوسهم عندما صدر عام 1880 قرار يجعل حق الطبع والنشر ملكاً للمؤلف. وقضى هذا القرار على قرصنة الناشرين وسطو المغتصبين على أعمال الأدباء. وبطبيعة الحال كان تكرار نشر عمل أدبي يدر على صاحبه رزقاً جديداً. ولهذا لم يأبهوا للهبات والجوائز.
وأول الجوائز الأدبية التي ظهرت خلال القرن العشرين ولم تكن لها سمة التجارة هي (جوائز نوبل) في بلاد السويد و (جائزة جونكور) و (جائزة فمينا) في فرنسا، والجائزة (الهوثورنية) في إنكلترا، و (جائزة بولتزر) في أمريكا. وظهرت بعد ذلك جوائز أخرى في هذه البلاد وغيرها. ومهما تكن هذه الجوائز صادقة في التعبير عن عصر بذاته، أو عن(172/54)
أثرة الروح القومية، أو هي مسألة قاصرة على المؤلف دون غيره، فهي على أي حال جوائز اعتراف بالتفوق الأدبي.
وليس من شك في أن جوائز نوبل خلدت ذكر الفرد برنهارد نوبل ذلك المخترع السويدي الذي تمكن من اكتشاف الديناميت فيما بين سنة 1865 وسنة 1866. وكأنما أراد أن يوازن بين خطر ما اخترعه بعمل آخر فأثبت في وصيته عدداً من الهبات ظنها مؤدية إلى القضاء على استعمال الديناميت. ولعل ذكرى السنين العجاف من حياته، التي أضناه فيها الكفاح بعدما زار الولايات المتحدة عام 1850 ليعمل في خدمة المخترع الاسكندنافي الأسبق جون إريكسون أوحت إليه بوجوب تخصيص إعانات للعلماء كي يتيسر لهم متابعة أبحاثهم ووجوب مساعدتهم حين الإخفاق. فلما واتاه الحظ حقق ذلك في وصيته إذ أثبت فيها قبل وفاته أن فوائد ما يتركه من رأس مال يجب أن تقسم سنوياً إلى خمس جوائز، تبقى إحداها وقفاً على علم الطبيعة، وأخرى وقفاً على الكيمياء، وواحدة للطب أو علم التحليل النفساني، ورابعة تخص مشكلة السلام، وخامسة ترصد للأدب. وتمنح جائزة الأدب سنوياً كما هو نص الوصية، (إلى الشخص الذي أنتج في عالم الأدب أحسن كتاب حوى نزعات مثالية). ووكل أمر اختيار ذلك إلى المجمع السويدي. والحق أن هذه الجائزة التي تتراوح بين اثني عشر ألفاً وخمسة عشر ألف جنيه تهيئ لأي أديب حياة راضية مرضية.
أما جائزة جونكور فلا زالت على عهدها منذ نشأتها في سنة 1903 أشهى ثمرة يتهافت عليها الأدباء في فرنسا. وهذه تمنح دون استثناء للأدباء الناشئين. وهي أرفع منزلة من مقعد ثابت في المجمع الفرنسي. وتعد جائزة جونكور الدرجة الأولى من سلم العلياء الأدبي. وهنالك جائزة فرنسية أخرى لها صداها في خارج البلاد الفرنسية هي جائزة فمينا. وكانت (مجلة فمينا) قد تآزرت عام 1904 مع (مجلة لافي أوروز) على منح جائزة قدرها خمسة آلاف فرنك لأحسن رواية توضع باللغة الفرنسية في نظر لجنة الكاتبات الفرنسيات. وأنشأت هذه اللجنة النسائية عام 1919 جائزة شبيهة بتلك وقفتها على المؤلفين الإنكليز لما بين البلدين من صداقة. ثم أنشأن عام 1932 (جائزة فمينا الأمريكية) لتكون قاصرة على الأدباء الأمريكيين.(172/55)
وأهم الجوائز الأدبية التي تمنح في بريطانيا العظمى هي أولاً: الجوائز التذكارية لجيمس تيب بلاك التي تمنح في ربيع كل عام من أجل تاريخ حياة شخص عظيم أو من أجل رواية طابعها بريطاني. وعلى أستاذ آداب اللغة الإنكليزية في جامعة أدنبرج أن يختار أحسن الأعمال. وثانية الجوائز (جائزة هوثرن) التي تمنح لأحسن قصة يضعها كاتب إنكليزي دون الحادية والأربعين من عمره. أما جوائز بولتزر فقاصرة على الكتاب الأمريكيين من ذوي المواهب الفذة، على أن تظهر هذه المواهب في أعمالهم الأدبية.
ولا ريب في أن جائزة نوبل اليوم هي أعظم الجوائز في عالم الأدب إطلاقاً، إذ هي لا تؤثر قومية على أخرى. ثم إنه لا يحكم بها من أجل كتاب مفرد، بل يجري الحكم بها بعد التثبيت من صلاحية شطر من مؤلفات أديب بذاته، وهي لهذا السبب غالباً ما تمنح في خريف حياة الكاتب الأدبية وبعد أن يستكمل نضوجه الأدبي. وتشبه جائزة نوبل في ذلك اعتراف الشهود على ميت بطيبته وحسن عمله في الحياة، ولعل مستر سنكلر لويس أحد الشواذ الذين يثبتون صحة هذه القاعدة، فقد أنتج كثيراً بعد ما أحرز جائزة نوبل.
أما الجوائز الأخرى التي تقل عن جائزة نوبل شأناً، وقد ذكرت من قبل، فهي كثيراً ما كانت متحزبة في قصدها متأثرة بروح العصر في اختيارها. ثم إن الضيق المالي الذي شمل العالم في السنين الأخيرة لم يدع لواحدة من هذه الجوائز أن تصل إلى جزء من أربعين جزءاً من جائزة نوبل، وإن كانت تطبع صاحبها بطابع الجودة وتدمغه بخاتم الذهب الإبريز في نظر القارئ والناشر على السواء. ومن ثم يحرز المؤلف مكانة بعد أن يكون مهملاً الإهمال كله. والحق أن الجائزة أياً كانت تدق الطبول لصاحبها فيتنبه الناس إلى أن لهذا الرجل كتاباً لا يمكن التغاضي عن قراءته. وهذا مثلاً هنري وليمصن لم يكن معروفاً إلا لنفر قليل، فما هو إلا أن منح جائزة هوثورين من أجل كتابه (تاركا، كلبة الصيد) حتى تهافت الناس على قراءة كتابه وذاع اسمه في كل محيط. وعندما قضى المحكمون بمنح جائزة جونكور لأندريه مارلو لكتابة حظ شخص ' لفتوا العالم إلى واحد من أدباء الشباب في فرنسا الذين يعملون ويجاهدون للمثل العليا. وكانت جوزفينا جونصن قد باعت من كتابها (الآن في نوفمبر) مدى أحد عشر شهراً من بدء ظهوره 10 آلاف نسخة. وما إن منحت جائزة بولتزر من أجله حتى وصلها بين عشية وضحاها 9 آلاف(172/56)
طلب ممن يريدون الاستمتاع بهذا الكتاب. وخلاصة القول إن هذه الجوائز القومية تحرض الناس على القراءة وتدفع الأدباء إلى تحسين الإنتاج.
ثم هنالك معركة حامية أبداً مستعرة دائماً في الخفاء بين الكتب، وليس لدى الذين لم يندمجوا بعد في تجارة الكتب أي فكرة عنها، فالتنافس بين المؤلفين بلغ شدته القصوى، وهو في هذه الشدة قاس عظيم القسوة صلف قوي، وليس للتسامح أو اللين أو الهوادة إليه سبيل؛ ولعل هذه الحرب اليوم أشد استعاراً مما كانت عليه في سابق الأيام.
ومهما تكن الحال فستبقى الديموقراطية عرجاء حتى يكون من واجبات الدولة تمرين الجماهير على كيفية القراءة المنتجة. وأول الخطوات في ذلك أن تبين للناس أحسن وأثمن وأنفع الكتب، ولكن إلى أن نصل إلى مثل هذا العهد ستبقى أسواق الكتب مملوءة بما يظهره الناشرون في كل يوم، أولئك الناشرون المنتشرون في كل بلاد الشرق والغرب، وستبقى جمهرة القراء في حيرة عندما يعمدون إلى انتخاب كتب للقراءة، ويكفي دليلاً على هذا حال الولايات المتحدة، فقد أصدر الناشرون فيها برغم كساد سوق الكتب منذ عام 1930 قدرا لا يقل عن 5000 كتاب جديد في كل سنة من سني الأزمة، ومع ذلك فالكتب التي تقرأ محدودة العدد.
ولهذا فالحاجة ماسة إلى حسن الانتخابات وصحة التأكيد. وليس أجدر بحل هذا المشكل من الجوائز الأدبية. وليتنا نحن الناطقين بلغة الضاد نأخذ بهذه السنة.
إبراهيم إبراهيم يوسف
ملخص عن:(172/57)
تعزية باطلة
للأستاذ خليل هنداوي
(إن في العمر مرحلة تتفق الحقيقة والذكرى فيها على بث
الألم)
سمرنا إلى أن غفا السامر ... وأَعيا من السهر الساهر
تعالي إليَّ لنطوي الزمان ... وننشر ما لفَّه الغابر
فليس لنا من غد حاضر ... وليس لنا أَمل سافر
تعالي نفر إلى عزلة ... يفر إلى مثلها الشاعر
تعالي نعود إلى نجوَياتٍ ... تقر بها النفس والناظر
تعالي نعود إلى الذكريات ال ... عتاق، فقد يشتفي الذاكر
تعالي إلي حيث لذاتنا ... خفقن كما يخفق الطائر
ففي كل صوب لنا مشهد ... نضير بآمالنا زاهر
وفي كل وادٍ لنا نشوة ... يعربد شيطانها الفاجر
تعالي إلى حيث فاح القديم ... بأحلامنا، وانتشى الحاضر
دنا ودنت، والشفاه التقت ... فما باح من سرها خاطر
ولم تتوثب عليها أمانٍ ... ولم يمش فيها هوى ساعر
فأدركه وجل خائف ... وأدركها وجل حائر
أيرجع عهد الشباب النضير ... ويسطع منه الشذا العاطر؟
هو العمر غاضت بشاشاته ... يعذبنا طيفه الزائر. . .
(دير الزور)
خليل هنداوي(172/58)
وحي الريف
زهرة القطن أو ذات الثوب الذهبي
بقلم أحمد فتحي مرسي
أشرقت في البلادِ سهلاً فسهلاً ... زهرة في الحقولِ ياما أُحَيْلَى
تنثني في الغصون إن هبت الري ... حُ وجر النسيمُ في الحقل ذيلا
الندى سائلٌ على وجنتيها ... رطَّب الخد والجبين وحلَّى
تلثِمُ الريحُ ثغرَها ثم تمضي ... وتجوب الحقول حقلاً فحقلا
وتُسِرُّ الغداةَ في مسمعيها ... عن مدى حبِّها حديثاً وقولا
قمتُ بين الرياض ذات صباح ... أقتل الوقت والفراغ المُمِلا
وتخيَّرتُ في الفضاءِ مكاناً ... راقَ في ناظري مياها وظِلا
ووقفتُ الغداةَ أرعى الحقول ال ... خضر مستعرضاً بهاَهاَ مُطلاَّ
شدَّ ما راقني جمالُ رياضٍ ... أشرقت في الضحى شعاعَا وطَلاَّ
وزهورُ القطن البهيجة في الحق ... ل تَهاوى على الرُّبى وتَجَلى
يرقصُ اللوْزُ في سنا الصبح رقصاً ... وتميل الزهورُ في الغصن ميلا
والحقول الوِضاءُ تبدو سماءً ... أطلعت زاهر الكواكب ليلا
وكأنَّ الحقول مائدة خض ... راءُ والريح لاعبٌ يتسلى
وكأن الزهور أوراق لعب ... نُثرت فوقها وحلت محلا
قد أنرت الربوع يا زهرة القط ... ن فهلا أنرت قلبيَ هلا
أنت حسن الحقول في ذلك الري ... ف ومصباحها الجميلُ المحلى
أنت دنيا الفلاح والعقل والما ... ل ولولاك ضاع مالاً وعقلا
أنت ليلاهُ في الغدوِّ وفي الرو ... ح وقد جُنَّ في الحياة بليلى
أنت سؤل البلاد والأمل المنشو ... د والمطمح العزيز المُجلَّى
أحمد فتحي مرسي(172/59)
القصص
صديقة الطلبة
للشاعر الفرنسي الفريد ديمسيه
ترجمة السيد مظفر البقاعي
- 1 -
كان بين طلاب معهد الطب في جامعة باريس فتى لم يتجاوز التاسعة عشرة من العمر يدعي (أوجين أوبرت)، وهو من أسرة طيبة أقام أبواه في الريف وخصصا له نفقات ضئيلة كانت تقوم بأوده، وكان الشاب محبباً إلى رفاقه لطيب عنصره ودماثته وسخائه، وإنما كانوا يأخذون عليه انصرافه إلى الوحدة ورغبته عن الملاهي حتى لقبوه (بالطفلة) فكان يبتسم لدن سماع اللقب يقيناً منه أنه دعابة نزيهة.
وكان أوجين يمقت الغانيات ويعدهن من جنس خطر غادر، فيسرد بين سمع صحبه وبصرهم أدلته الوفيرة على رأيه، إلا أن هؤلاء كانوا يسخرون من مزاعمه، وبذهم في ذلك فتىً من خلانه مرح ماجن يدعى مارسيل كان لا يفتأ يحاوره ويجادله:
- أتزعم أن خطأ أو عارضاً حدث اتفاقاً يجيز لك وضع قاعدة مطردة!. . .
- بل إني أرى وجوب اجتناب أمثال هذه الأخطاء خيفة تكررها.
- هذه سفسطة. . .
ويطول الحوار في المقهى، والرفاق شهود، ويحرص مارسيل خلاله أن يثبت لأوجين أن النساء وخصوصاً العاملات منهن طاهرات وفيات، ثم يتخلص من ذلك إلى وصف جارة لأوجين اسمها ميمي بنسون بأوصاف مغرية يمل منها هذا فيتناول قبعته وينسل بلطف تاركاً مارسيل والمواعظ تتدفق من بين شفتيه. . .
- 2 -
لم تكن ميمي بنسون جميلة بالمعنى المعروف لدى الباريسيين، ولكنها كانت عاملة فتانة، وهناك فرق بين الغادة الوسيمة والعاملة الوضيئة، فتلك إذا ما ارتدت ثوباً بسيطاً وصداراً من حرير وخماراً صارت عاملة رشيقة، وأما هذه فأنها لو لبست رداء زاهياً ومعطفاً(172/60)
مخملياً فوقه وغطت رأسها بقبعة، فربما بدت حسناء، وقد تترآى للعيان كمشجب علقت عليه الثياب المذكورة.
وقد كانت الآنسة بنسون ذات أنف أخنس وفم أشدق وأسنان جميلة ووجه مستدير وعينين براقتين فيهما حور، وشعر أسود؛ وليست هذه أوصاف حسن باهر، ومع ذلك فقد قرر مارسيل إغواء أوجين وإغراءه بحب هذه الفتاة؛ ولعل هذا لأنه كان هو نفسه مغرماً بالآنسة زليا صديقة الآنسة بنسون الحميمة، راجياً أن يكون التحبب داعية الحب. ولئن كان ذلك ممكناً، بل لو كانت المصادفة أقوى الفتن والغوايات، فكم من أناس عجز الاتفاق عن التغلب عليهم وباءت المصادفة بالفشل إزاءهم. . . ومن تلكم النفوس كانت نفس أوجين.
لم يكن مارسل يجهل سجايا خدينه، فرسم خطة سهلة أيقن أنها رائعة فعالة في التغلب على ثبات صاحبه ومقاومته، ذلك أنه أولم احتفاء بعيد مولده وليمة كان قد هيأ لها بضع زجاجات من الجعة، وقطعة لحم قديد، وشيئاً من السلطة، وقرص حلوى كبير، وزجاجة من خمر شمبانيا. ودعا طالبين من رفاقه، وطلب إلى صديقته زليا أن تأتيه مساء يومئذ وبصحبتها الآنسة بنسون. وفي الموعد المضروب عندما كانت الساعة تدق السابعة طرقت العاملتان الباب ودخلتا: زليا مرتدية ثوباً قصيراً مشطباً، وبنسون رداء أسود لم يكن يفارقها. وبعد أن جلستا واحتستا الكأسين الأوليين استأذنهما رب المنزل في التغيب قليلاً، وقصد تواً إلى منزل أوجين فوجده كعادته محاطاً بكتبه مكباً عليها، فبعد كلمات منمقة غير ذات معنى، بدأ يلومه برقة وينعى عليه إجهاده نفسه، وبنصحه بوجوب الاستراحة والتلهي، ثم اقترح عليه القيام بنزهة قصيرة، فقبل أوجين الاقتراح لأنه كان متعباً بعد إذ قضى يومه في الدرس والمطالعة. وبعد جولة لم يعد صعباً على مارسيل أن يستزير صديقه، وكان الفتاتان قد أطلقتا لنفسيهما العنان إذ داخلهما السأم من الانتظار، فخلعتا وشاحيهما وحسرتا، ثم أخذتا ترقصان وتتذوقان ما على الخوان على سبيل التسلية. فلما دخل الشابان وقفتا في ذهول وقد توردت وجنتاهما، ثم حيتا أوجين في استحياء وحيرة ودهشة لعرفانهما سلوكه واعتزاله، وبعد أن أجالتا فيه النظر عادتا إلى الرقص والغناء؛ أما أوجين فقد تقهقر ليولي الأدبار لولا أن أقفل مارسيل الباب وألقى المفتاح على المائدة وصاح:
- لقد امتلكنا هذا النافر المعتكف. . أقدم لكما يا آنستيّ أفضل شاب في فرنسا، وهو راغب(172/61)
في التشرف بمعرفتكما منذ زمن طويل، وإنه جد معجب بالآنسة بنسون.
فكفت الصبيتان عن الرقص، وحيتا أوجين كرة أخرى، وقال له مارسيل:
- إني قدتك بالرغم منك لتشاركني في عيدي الخاص، فهلا فعلت؟
وبإشارة من مارسيل قالت له بنسون بصوت عذب: ذلك رجاؤنا يا سيدي.
ووافى القوم آنئذ الطالبان المدعوان، فلم يعد لأوجين سبيل إلى الخلاص فجلس على مضض.
- 3 -
دام العشاء إلى ساعة متأخرة أكثر خلاله الفتية من تدخين اللفائف واحتساء العقار. أما العاملتان فكانتا فكاهة المجلس وتعلة السامر بأحاديثهما الشائقة وفيها المعقول والمبالغ فيه: فمنها أن كاتبين ربحا في القمار عشرين ألف فرنك وبدداها مع عاملتين خلال ستة أسابيع؛ وأن ابن أحد أعاظم أغنياء باريس قدم لغسالة معروفة (لوجا) في الأوبرا وداراً في الضاحية فرفضتهما وآثرت أن تظل بارة بأبويها العجوزين، وأن وجيهاً زار عاملة فنفاها أولو الأمر إلى أمريكا وأعطوها محفظة مفعمة بالأوراق المالية. . .
فقاطعهما مارسيل أخيراً قائلاً: إن زليا تبتكر وتغرق، أما الآنسة ميمي فقد فاتها أن الكاتبين ما ربحا شيئاً، وما قدم الغنى غير برتقالة، والعاملة في المستشفى في أشد حاجة إلى القوت. . .
نهضت عندئذ بنسون - وقد لاح لأوجين أنها اصفرت عند سماعها الجملة الأخيرة - فقالت:
- إن كان مارسيل لا يصدق القصص فليسمع هذه الحادثة وقد كنت أحد أبطالها:
ذهبت في الأسبوع الفائت مع اثنتين من صديقاتي وهما بلانشت وروجيت إلى مسرح (الأديون) لمشاهدة رواية، فاستأجرنا لوجاً ودفعت روجيت الثمن - إذ كانت قد ورثت مالاً، فرآنا ثلاثة طلاب ودعونا للعشاء، فقمنا إلى مطعم المسرح مع الأبطال وأخذنا نطلب أفخر الأطعمة وأغلاها وأسرفنا في الطلب؛ وكنا كلما قدمت صفحة تناولنا منها لقمة أو لقمتين ثم نستبدلها من غيرها، والشبان الثلاثة يحرقون الأرم على أن لو استطاعوا ازدراد شيء من الصحون المرفوضة أو المعادة؛ وجعلوا أخيراً يفكرون في أمر الدفع فقد كان مع أحدهم(172/62)
ستة فرنكات ومع الثاني دون ذلك ومع الأخير ساعته. ثم قاموا متثاقلين يجرون أرجلهم نحو المحاسب الذي ابتدرهم بقوله: الثمن مدفوع، لأن روجيت دفعت الثمن سلفاً. ثم عرضنا على السادة المذكورين إبلاغهم إلى دورهم ولكنهم مانعوا ورفضوا جهدهم فأصررنا وقد تظاهرنا بأننا ثريات نبيلات، وكانت روجيت تقول لي:
- يجدر بنا أيتها المركيزة أن نقود السادة إلى منازلهم.
فأجيبها: حباً وكرامة يا كونتس!
لم ترق هذه القصة للتلميذين صديقي مارسيل، فوجما وقد اغبر وجهاهما، ولعلهما كانا يعرفان تفاصيل الحديث أكثر من الآنسة بنسون التي طلب منها مارسيل أن تسميهم له فرفضت، فسر أوجين من إبائها وأثنى عليها قائلاً:
- أنت محقة أيتها الآنسة، إذ ليس بين الشبان الذين يملئون الجامعات والمدارس من خلا من خطيئة ارتكبها، أو طيش فعله، ومع ذلك فكل رجال فرنسا البارزين من سياسيين وقضاة وأطباء إنما يخرجون من هناك. . .
وقال مارسيل: هذا حق، فكم من عين قضى طفولته يتناول الطعام في أحقر المطاعم، بل ربما لم يكن لديه ثمن القوت ثم سألها وهو يغمز بعينه: ألم تري بعدئذٍ العشاق المجهولين؟ فأجابته غضبى نافرة: من تحسبنا؟ أولا تعرف بلانشت وروجيت. . . فقاطعها قائلاً: حسناً لا تغضبي، ولكنها قصة ثلاث طائشات بددن مالهن وأضعنه جزافاً كي يسخرن بثلاثة مساكين لا يد لهم في الأمر!
فأجابته: ولم إذن دعونا؟
- 4 -
طلب مارسل إلى ميمي أن تغني، فأنشدت مديحاً قيل فيها يتلخص فيما يلي:
(ليس لميمي غير ثوب واحد وقبعة. رداؤها لا يرتهن مدى الزمن مهما اعتراها من محن).
وكانت الجمل الثلاث الأخيرة لازمة الأغنية، جعل السامعون يرددونها، ويضربون الطاولة بمقابض السكاكين أو بالغلايين فيحدث من ذلك دوي شديد أزعج الآنسة المغنية فقالت: كفى، ليت عندنا آلة موسيقية نرقص شوطاً على إيقاعها.
قال مارسل: لدي قيثارة لكن أوتارها ناقصة.(172/63)
وقالت زليا: هو ذا بيانو وسيعزف عليه مارسل. فحدجها هذا بنظرة غضب قاسية وقال: إنك تعلمين أنني لا أكاد أعرف عزفاً، وأن ليس سواك من يستطيع أن يلاعب أصابع العاج؛ ولو كنت طلبت ذلك من أوجين لسقطت على الخبير ولكني لا أريد إزعاجه.
فاحمر وجه أوجين وانسل بكياسة فجلس إلى البيانو وأخذ يعزف فابتدأ الرقص، ولكنه لم ينته إلا بعد أمد طويل إذ جعل القوم ينتقلون من رقص إلى رقص دون كلال أو ملال، وأنهك السهر والصياح أعصاب أوجين فاستولى عليه النعاس ولكنه استمر يعزف بصورة آلية كالفارس النائم على فرسه، وكانت الراقصات تمررن من أمامه كأشباح في الحلم. ولا مرية في أن الحزن يستولي على من يرى غيره يضحك بمعزل عنه، وكذلك عاودت أوجين بلابله ووساوسه فجعل يناجي نفسه:
هذا لعمري سرور من حزن واغتباط من بؤس، وإنها لحظات يخيل إلى أنها اختلست من أوقات الشقاء. ومن يدري أي واحد من هؤلاء الخمسة لديه ما يسد به رمقه غداً؟!
وبينا هو غارق في لجة أفكاره وهواجسه مرت بقربه الآنسة بنسون وخيل إليه أنها اختلست قطعة الحلوى من الخوان ودستها في جيبها.
- 5 -
وانبلج الصباح فانفض السامر وتفرق السمار، ومضى أوجين يدلف في الدروب والسكك يستنشق نسيم الصباح العليل وهو ممعن في خوض عيلم من أفكاره السوداء وصار يردد على رغمه:
(ليس لميمي غير ثوب واحد وقبعة). ويتساءل: - هل تدفع التعاسة الإنسان إلى التظاهر بالجذل والسخر من البؤس؟ وهل يفتر ثغر جائع عن ابتسامة!. . .
وكان يعتاده الأسى إذا ما ذكر أمر اختلاس الحلوى فيهتز حنواً ورحمة ويقلب الأمر ظهراً لبطن ويقول:
- ترى لم سرقت الحلوى ولم تسرق الخبز!. . . ثم لا يلبث أن يلتمس لها عذراً.
لم ينتبه أوجين ليرى أين طاحت به قدماه، فدخل اتفاقاً بعض المنعطفات التي أدت به إلى أزقة ضيقة، فلما تبين ذلك عاد أدراجه فرأى امرأة هزيلة صفراء الوجه شعثاء الشعر أطمارها بالية خرجت من دار قديمة، وقد بدا عليها السقام واصطكت ركبتاها حتى لم تكد(172/64)
تستطيع مشياً فجعلت تعتمد على الجدران.
وبدا لأوجين أنها تقصد صندوق البريد القريب فابتدرها مضطرباً وسألها عن أمرها وهدفها، ثم مد لها ذراعيه لتستند عليهما وقد شارفت على السقوط فازورت في كبرياء ووجل وألقت إليه بالبطاقة التي تحملها، وأشارت إليه أن يضعها في الصندوق وعادت تجر ساقيها مشية النزيف أمضه الونى حتى دخلت دارها، فتحرك لها فؤاده ورقت لها حناياه وأشاطه الحنو بعد رزانة ففض غلاف الرقعة دون ما روية أو تريث إذ أدرك أن هذه السقيمة قد تقضي قبل أن تتلقى جواباً، وكان عنوان الغلاف: (إلى حضرة البارون. . .) وفحواه ما يأتي:
(اتل يا سيدي كتابي ولا تهمله، فأنا أموت جوعاً إذ لم أحصل على بلغة منذ أيام، وأمس بت على الطوى وما أزال، وقد لا يصل كتابي إليك إلا وأصبح شريدة بلا مأوى، فقد أقعدني المرض عن العمل لأكسب قوتي وأدفع أجرة المسكن. أرسل لي بربك ديناراً بلا تأخر، ولا تدعني في شك يلتهم ما أبقت الآلام مني، إني منتظرة حتى نهار الخميس في داري: شارع المهماز، واسمي الجديد الآنسة برنان) (روجيت).
دهش أوجين أشد دهشة لما رأى التوقيع وتمتم قائلاً:
- إنها الفتاة التي بددت دراهمها نفسها. . . لقد ألقى بها الداء إلى هذه الهاوية من الذل!. . . وأردف يتابع نجواه:
- ليت شعري ألم تعلم صديقاتها بأمرها؟ أم ترى تركنها تتضور جوعاً وفي العراء من غير ملجأ!. . .
وأفاق من ذهوله كأنما كان في حلم مريع فسارع إلى طاه كان يفتح حانوته فاتباع طعاماً ثم سار يقود أجير الطاهي إلى دار روجيت، فلما وصلها أوعز للغلام أن يطرق الباب ويعطيها الطعام فإن سألته عن مرسله فليقل إنه (البارون. . .) ثم سار متثاقلاً فأصلح من شأن الرسالة وألقاها في صندوق البريد وهمس يحدث نفسه:
(أما إذا رأت روجيت أن جواب بطاقتها كان سريعاً فستفهم السر من البارون).
- 6 -
كان أوجين يرى من الواجب أن يرفق المائدة المرسلة بالدينار المطلوب ولكنه كان خالي(172/65)
الوفاض صفر اليدين. فإن الطلاب كالعاملات فقراء، وليست الدراهم بضاعة رائجة في الحي اللاتيني؛ لذا قصد فتانا حلاقاً مرابياً في ساحة البانطيون ليرهن بعض حاجاته وهناك ألفى خليله مارسل يحلق لحيته ويقترض مالاً يفي به ثمن عشاء الأمس، فلما أبصره هذا سأله عن جلية أمره فأطلعه بإيجاز على قصده، فسخر منه مارسل وصار يعنفه وأوجين لا يزداد إلا متانة وعزماً، وأخذ يلوم ميمي بنسون وإضرابها من الصديقات اللواتي يتناسين عشيراتهن بالأمس ويوجه إليهن سهاماً صائبة من الانتقاد والاحتقار الشديد إلى أن قال:
- إن فتاتك بنسون غول فظيع عدا كونها متهللة خليعة ماجنة. أما صداقتها فمادية ممقوتة.
فقال الحلاق المرابي واسمه الأب كاديديس:
- إنك قاس وحكمك جائر لأني أعرف الآنسة بنسون وأعتقد أنها نبيلة سامية وهي عظيمة.
فأجاب أوجين: - نعم هي عظيمة في شراهتها وكثرة تدخينها.
فقال المرابي: - ذلك ممكن وأكثر الشبان ما بين آكل وضاحك ومغن ومدخن، على أن منهم من له قلب يحس ويتألم فسأله مارسل: - ماذا تقصد؟
فأجاب الحلاق: - هناك في مؤخرة الحانوت ثوب حريري تعرفانه يا سيدي لأنكما تعلمان أن صاحبته لا تملك سواه، وهي الآنسة ميمي التي رهنتنيه فجر اليوم لكي تسعف روجيت أولاً فإنها في أشد عوز.
ودخل مارسل إلى أقصى الحانوت ليشاهد الثوب العتيد وتبعه أوجين فقال الأول:
- إن أنشودة ميمي كاذبة إذ رهنت ردائها!. . . كم أعطيتها أيها الأب كاديديس على هذه الرهينة الثمينة.
- أقرضتها أربعة فرنكات وكنت لها محسناً لأن الثوب بال قديم. فصاح مارسل:
- مسكينة ميمي! أراهن على أنها رهنت الرداء لتساعد روجيت؟
فقال أوجين: - أو لتدفع ديناً ممطولاً.
وأردف المرابي قائلاً: وإني لأذكر أن بعض دائنيها حجزوا على أثاث دارها ولم يتركوا لها سوى سريرها وكانت نائمة عليه وقد ارتدت أربعة أثواب فوق بعضها كيلا يأخذ الغرماء واحداً منها، وقد كانت يومئذ في حال خير من حالها اليوم، فلم ترهن ثوبها إذن لتفي ديناً، ويدهشني أن يكون ذلك لمعونة بائسة مثلها.(172/66)
واسترد مارسل الثوب بعد أن دفع قيمة الرهن، وخرج مع صديقه - الذي أصر على أن الرهن ليس من أجل روجيت - فقصد دار ميمي تنفيذاً لرهان عقداه.
- 7 -
- ذهبت الآنسة إلى الصلاة.
هذا ما قاله البواب للطالبين عندما سألاه عن ميمي.
فصاح أوجين في عجب: إلى الصلاة!
وردد مارسل: إلى الصلاة! هذا مستحيل لأنها لم تبرح الدار. دعنا ندخل فنحن أصدقاء قدماء.
ولكن البواب أكد لهم أنها خرجت مذ هنيهة إلى الكنيسة المجاورة دأبها كل صباح. وفيما هم كذلك إذ ظهرت تجتاز الشارع فأسرع مارسل ينعم النظر في أثوابها فرآها ترتدي غلالة عتيقة مؤتزرة بستارة نافذة من الصوف الأخضر، وقد سترت رأسها بنصيف أبيض فبدت بهذه الأطمار خلابة وأزاحت الستر قليلاً فبانت قامتها الهيفاء. وقالت للفتيين: - هذا ثوب تفضل.
فقال مارسل - لعمري إنك فاتنة. قالت: إني غدوت كحزمة. قال: بل طاقة ورد، وإني نادم إذا رددت لك ثوبك. قالت: وأين وجدته؟!
قال: فككت أسره، وأطلقت رقه، ودفعت فديته، فهل تغفرين جرأتي؟
قالت: نعم وسأنتقم.
وأخذت ترقى الدرج إلى غرفتها وخلفها الصديقان حتى وصلت إليها، فدخلوا جميعاً. وقال مارسيل: - لا أعيد لك الرداء إلا على شرط.
قالت: ويحك! أشروط! إنها حماقة لا أريدها.
قال: لقد تراهنا! فقولي بصراحة لم رهنت ثوبك؟
قالت: دعني أرتديه ثم أخبركما عن السبب. استرا وجهيكما كي لا أضطر إلى لبسه في الخزانة أو على السطح. فأجاب مارسل: - اطمئني فلن نختلس نظرات.
- إني أثق بكما ولكن قيل: أحذر الأمين.
وخلعت الستارة وألقتها على وجهي الشابين، وأمرتهما بالصمت والخضوع، فقال مارسيل:(172/67)
إحذري أن يكون في الستر خرق نراك منه، فقد جعلنا فعلك في حل من كلامنا.
فهتكت الستار ضاحكة فقالا:
- سرك يا آنسة هلا بحت لنا به وأنجزت وعدك؟
فترددت هنيهة ثم دفعتهما نحو الباب وقالت:
- تعاليا معي فتريا.
- 8 -
بعد مسير غير قصير في طرق ملتوية ودروب ضيقة سار فيها أوجين من قبل وصل الثلاثة إلى دار روجيت فدخلوها، وقد ربح مارسل الرهان لأن الأربعة فرنكات وقطعة الحلوى التي سرقتها الآنسة بنسون أمس كانت على المائدة مع فضلات الدجاجة التي أرسلها أوجين.
وكان حال المريضة خيراً من قبل، وكان شكرها للمحسن المجهول عظيماً. وقد اعتذرت بواسطة صديقتها بأنها غير قادرة أن تستقبل الشابين فانصرفا متعجبين من هذه الكبرياء وهذه العفة.
وبعد أن حضرا دروسهما في المعهد تغديا معاً، وفي المساء خطرا يتنزهان في الشارع الإيطالي. وأخذ مارسل يحاور عشيره ويحاول إقناعه قائلاً:
- طالما لمتني على حبي هؤلاء العاملات، وقد رأيت من طيب أنفسهن ونبلهن البرهان القاطع. من هو ذلك المحسن الذي قام بما قامت به ميمي من أجل صديقتها؟ إن فتاة ترهن ثوبها الوحيد وتسرق قطعة حلوى لتساعد رفيقتها لجديرة بالتقديس وخلود الذكر. أما تلك العليلة فإنها لا تقل عن خدينتها شرفاً وطهراً؛ ولو أن فيها أدنى شائبة لما طلبت كسائلة صدقة من أحد. وكادت تقضي منتظرة لولاك، فلم تخش موتاً محققاً، وهي التي عرفت حلاوة العيش عندما ألقت بنفسها في النهر مرة من قبل.
فقال أوجين: حسبك يا مارسل! أتظن أن أيامي كهؤلاء بلا عائل ولا سند هن ذوات حنكة أو دراية كافية؟ وهل يا ترى نذرن أنفسهن البائسة للشقاء والتعاسة؟ ليت شعري متى يعدن إلى جادة الخير والصلاح؟ ألا قل لي أولا تعاملونهن يا معاشر الشباب بطيشكم ومجونكم المعهودين؟! هيا بنا إلى دار روجيت المريضة علنا نحملها على أن تسلك الصراط(172/68)
المستقيم، ولن أطلب منها قسماً بل لا أؤنبها ولا أوبخها، ولكني سأقترب من سريرها فآخذ بيديها ويدي صاحبتها وأقول لهما. . .
ومرّ آنئذٍ أمام مقهى لاح لهما فيه على ضوء المصباح وجها فتاتين تأكلان حليباً مجمداً، فلما رأتا الشابين لوحت لهما الأولى بمنديلها وقهقهت الأخرى ضاحكة. فقال مارسل مقاطعاً أوجين:
- واهاً! إن كنت ترغب أن تحدثهما فهم هنا في مرح ولهو، ويظهر أن البارون قام بالمطلوب.
فأجابه:
أولا يخيفك جنون كهذا؟
نعم! لكني أرجو أن لا تطعن في العاملات وخصوصاً اللواتي على شاكلة بنسون.
(دمشق)
مظفر البقاعي(172/69)
البريد الأدبي
كتاب عن الحبشة للجنرال فرجين
صدر أخيراً في السويد كتاب جديد عن المسألة الحبشية بقلم شخصية كانت تشغل في الحبشة حتى الغزوة الإيطالية المكانة الأولى، تلك هي شخصية الجنرال فرجين السويدي مستشار إمبراطور الحبشة السياسي والعسكري من مايو سنة 934 إلى ديسمبر سنة 935، وقد ذاع اسم الجنرال فرجين أثناء الحرب الحبشية، وكاد وجوده إلى جانب الإمبراطور في بدء الهجوم الإيطالي يؤدي إلى اضطراب العلائق السياسية بين إيطاليا والسويد؛ ذلك أن الجنرال فرجين عين مستشاراً للإمبراطور بواسطة حكومته، وكان تعببنه حلقة اتصال قوي بين الحبشة والسويد، وكان يوجد في الحبشة في بدء الهجوم الإيطالي عدة ضباط من السويد يعملون لتنظيم جيش النجاشي، وكانت المعامل السويدية تصدر الأسلحة والذخائر إلى الحبشة، ولكن السويد رأت في النهاية أن تبتعد عن التدخل في هذه المغامرة فأمرت الجنرال فرجين وزملاءه بالانسحاب من الحبشة.
والكتاب الذي ألفه الجنرال فرجين بالسويدية، وترجم أخيراً إلى الإنكليزية عنوانه الحبشة كما عرفتها وفيه يعرض الجنرال إلى الظروف والحوادث التي انتهت بهجوم إيطاليا على الحبشة، ويفصل حوادث الغزو حتى ديسمبر الماضي أي إلى انسحابه من ميدان الحوادث، وربما كان هذا القسم الأخير هو أهم أقسام الكتاب، ففيه يسرد الجنرال كل المقدمات والوسائل التي تذرعت بها إيطاليا لتنفيذ اعتدائها، ويقول إنه لم يكن جافياً أن إيطاليا تدبر هذا الاعتداء منذ زمن طويل، وأنها أرسلت قبل وقوع الاعتداء بعامين عدة من الرسل والمندوبين بصفة قناصل في طول الحبشة وعرضها؛ واشتغل هؤلاء ببث الدعاية لإيطاليا وكسب ولاء القبائل والزعماء بالرشوة والوعود، واشتغلوا أيضاً بتدبير المشاكل والمشاغبات مع السلطات المحلية لإثارة الخواطر وتحدي الإمبراطور.
ومن جهة أخرى، فقد عملت إيطاليا من جانبها على إذاعة دعوى قوية في أنحاء أوربا والعالم كله ضد الحبشة وصورتها بصورة أمة همجية تهدد باستعداداتها الحربية مركز البيض في أفريقية، وتدبر الاعتداء على مستعمراتها، وأنه يجب على أوربا أن تشد أزر إيطاليا في موقفها وفي محاولتها أن تحمي مركز البيض في أفريقية، وأن تحمل رسالة(172/70)
الحضارة الأوربية إلى تلك البلاد الهمجية الوعرة.
ويعتبر كتاب الجنرال فرجين بما فيه من حقائق وبيانات وثيقة عن هذه الحوادث الخطيرة أهم الوثائق التي صدرت عن الحبشة قبيل محنتها وسقوطها في يد الاستعمار الغربي.
حول مقالات الأستاذ كراتشقوفسكي
وردت في (ترجمة) الفصول التي تنشرها الرسالة للأستاذ المستشرق أغناتيوس كراتشكوفسكي عدة وقائع ونقط تحتاج إلى الضبط والتصحيح وهذا بيان ما لفت نظرنا منها.
(1) إن الأستاذ كراتشوفسكي يشغل منصبه العلمي (بأكاديمية العلوم بلننجراد) وليس بجامعة لننجراد كما ورد في تعريف المترجم، وأنه ليس هو مترجم قصة (عودة الروح) لتوفيق الحكيم ولكن الذي ترجمها هو كاتب روسي آخر يدعى مسيو ساليير.
(2) وأن كتاب (زعماء الأدب العربي المعاصر) ليس من تصنيف الدكتور كمبفماير وحده ولكنه اشترك في وضعه مع الدكتور طاهر خميري الأديب التونسي الذي يشغل الآن منصب محاضر في المعهد الشرقي بهامبورج.
هذا عن المقال الأول.
(3) وأما عن المقال الثاني فقد ورد في آخره ما يأتي: (وفي عام سنة 1884) وضع جميل المدور (أخبار أيام هارون الرشيد)؟
ونحن نجيب المترجم عن استفهامه وهو أن الكتاب المشار إليه يسمى (حضارة الإسلام في دار السلام) بقلم جميل بن نخلة المدور؛ وقد طبع بالقاهرة سنة 1888.
ذكرى الموسيقي بروكنر
من أنباء فينا أنه قد احتفل فيها في الأسبوع الماضي بذكرى الموسيقي النمساوي الشهير أنتون بروكنر وذلك لمناسبة مرور أربعين عاماً على وفاته؛ فأقيمت عدة احتفالات موسيقية كبيرة في بهو جمعية الموسيقى النمساوية وفي بهو الكونسر فتوار وفي معظم أبهاء العاصمة النمساوية الأخرى، واتخذت هذه الاحتفالات صفة رسمية. وأنتون بروكنر أحد أقطاب هذه الموسيقية الزاهرة التي غمرت النمسا وأوربا بفنها الرائع في أواخر القرن(172/71)
الماضي، وكان مولده في سنة 1824؛ وتوفي في سنة 1896؛ وتخصص في الموسيقى الكنسية؛ واشتغل أولاً موسيقياً لكنيسة لنز، ثم انتخب موسيقياً لكنيسة البلاط؛ وعين بعدئذ أستاذاً للكونسر فتوار؛ وطاف بروكنر أنحاء العواصم الأوربية وعرض فيها (سيمفونياته) الشهيرة وهي من أبدع ما وضع من مقطوعات الموسيقى الكنسية. ومما يؤثر عنه أنه كان ورعاً جداً حتى إنه أهدى مقطوعته الأخيرة المعروفة (بالمقطوعة التاسعة) إلى (الله سبحانه وتعالى) ولكن الموت عاجله ولم يتمها؛ وكان القيصر فرانز يوسف يغدق عليه حبه وعطفه حتى إنه أهدى إليه مسكناً فخماً في قصر (البلفدير) الشهير.
هرمان فندل
نعت إلينا أنباء باريس الأخيرة الكاتب الألماني المعروف هرمان فندل فقد توفي فيها في الثانية والخمسين من عمره؛ وقد ولد هرمان فندل ألمانياً في مدينة متزمن من أعمال اللورين، ولكن اللورين ضمت بعد الحرب إلى فرنسا، فغدا فرنسياً، وتلقى فندل دراسته في ميونيخ ودرس الفلسفة والتاريخ؛ وخاض منذ الحداثة غمار السياسة، وانضم إلى الحزب الديموقراطي، واشتغل بالصحافة، واشتهر بمقالاته القوية اللاذعة، ثم اعتزل السياسة واشتغل بالتاريخ، وتوفر على دراسة تاريخ يوجوسلافيا السياسي والاجتماعي، وقام فيها برحلات ومباحث عديدة حتى غدا مؤرخها الأخصائي. وأهم كتبه عنها كتابه المسمى: (نضال السلافيين في سبيل الحرية والوحدة)
وله كتاب آخر في دراسات مختلفة عن يوجوسلافيا عنوانه: (في أرجاء يوجوسلافيا الجنوبية)
وفي سنة 1920، طلبت إليه الحكومة الألمانية أن يكون سفيراً لها في بلغراد فأبى؛ وفي سنة 1929، أنعمت عليه جامعة بلغراد بلقب الدكتوراه الفخرية لخدماته الجليلة لقضية السلافيين.
تبادل المؤلفات بين البلاد العربية(172/72)
قررت الحكومة المصرية أن تتبادل إدارة الصحافة والثقافة والنشر مع حكومات البلدان العربية العراق والحجاز وسوريا وفلسطين واليمن وغيرها المؤلفات والمطبوعات التي تطبع في مصر وفي تلك البلاد فترسل هذه الإدارة إلى هذه الحكومات نسخة من كل ما يطبع أو يصدر في مصر وترسل هذه البلاد إلى الإدارة نسخة من كل ما يطبع أو يصدر بها من المؤلفات. وهذا القرار جزء من الخطة التي رسمتها الحكومة المصرية لتوحيد الثقافة العربية في جميع هذه الأقطار.
تاريخ العرب الأدبي للأستاذ نيكلسون
تبدأ (الرسالة) من العدد القادم في نشر كتاب (تاريخ العرب الأدبي) للمستشرق الإنجليزي الكبير الأستاذ رينولد نيكلسون صاحب التآليف المعروفة لكل مشتغل بالدراسات الإسلامية والتاريخ العربي. والأستاذ نيكلسون من المستشرقين الذين درسوا الأدب العربي دراسة دقيقة ووقفوا على أسرار العربية، وله معرفة تامة بكثير من اللغات الغربية كالفرنسية والألمانية واليونانية واللاتينية والإيطالية وبعض اللغات الشرقية كالسريانية والعبرية والفارسية والعربية. وقد ولد في 19 أغسطس سنة 1868 وتعلم في جامعة أبردين التي صار فيها - فيما بعد - أستاذاً للعربية والفارسية، وكذلك في جامعة ترينتي كولدج بكمبردج، وله كثير من المؤلفات والمترجمات التي تتعلق بالآداب الشرقية وعلى الأخص العربية والفارسية ومن أهمها: (1) مختارات من ديوان شمس تبريزي (1898) وتذكرة الأولياء لفريد الدين العطار (جزءان 1900) ومبادئ العربية (3 مجلدات) 1907، 1909، 1911، وتاريخ العرب الأدبي (طبع لأول مرة سنة 1907 ولآخر مرة سنة 1931) وترجمان الأشواق لابن العربي مع ترجمته الإنكليزي وتعليقات بقلمه (1911) وكتاب (في التصوف الإسلامي) وصوفيو الإسلام (1914) ونظرات في التصوف، وأسرار الروح (عن محمد إقبال) 1920، ودراسات في الشعر الإسلامي، وكتاب كشف المحجوب مع ترجمة وتعليق بقلمه (1911) وأشعار عمر الخيام ترجمة وتعليق 1909 والمسعودي وغير هذه من الكتب القيمة. وهو يعيش اليوم في هدوء الشيخوخة بين أسفار الأدبين العربي والفارسي. ولكتابه في الأدب العربي قيمة ممتازة بين كتب المستشرقين(172/73)
تتجلى في سداد بحثه ووضوح أسلوبه واستقامة منهجه وقوة إدراكه لمختلف الآثار والعوامل التي طبعت أدب العرب في كل عصر وفي كل بيئة.(172/74)
الكتب
تاريخ الفلسفة اليونانية
تأليف الأستاذ يوسف كرم
المدرس بكلية الآداب
بقلم الدكتور إبراهيم بيومي مدكور
منذ عام تقريباً ندبنا على صفحات (الرسالة) حظ الفلسفة في بلدنا؛ وأخذنا على العامة ازدراءهم لها وإعراضهم عنها وجهلهم بها، وساءنا من الخاصة أنهم لا يأخذون بيدها ولا يقومون على نشرها ولا يحببون الناس فيها، وربما كان قسط الخاصة من شكوانا أعظم من غيرهم؛ فإنهم إن قاموا بواجبهم وكتبوا لنا فلسفة بلغة العصر وروح العصر اجتذبوا القراء إليهم ورغبوهم في أبحاثهم. وكم شكا عشاق الفلسفة - وحق لهم أن يشكوا - من أنهم لا يجدون منها في العربية الغذاء الكافي لأرواحهم وعقولهم، وكأنى بهذه الشكوى جاءت إرهاصاً لما بعدها وإعلاناً عن نقص اتفقت عليه الآراء، ولا أدل على هذا من أن لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهي أعرف ما يكون بحوائج البلد العلمية ووسائل مدها، قد وجهت عناية خاصة في هذا العام إلى الدراسات الفلسفية وأخرجت لنا خمسة كتب في نواحيها المختلفة.
ومن بين هذه الكتب تاريخ الفلسفة اليونانية الذي وضعه زميلنا الأستاذ كرم بعد خبرة طويلة وتجارب عديدة، فقد وكل إليه تدريس الفلسفة بكلية الآداب بالجامعة المصرية منذ عشر سنوات أو يزيد استطاع فيها أن يعرف فلاسفة الإغريق عن قرب وأن ينفذ إلى صميم أفكارهم. ويقع مؤلَّفه في ثلاثمائة وخمسين صفحة تقريباً من القطع الكبير درست فيها المدارس الفلسفية اليونانية منذ عهد الشعراء إلى أواخر أيام مدرسة الإسكندرية؛ وذيلت ببيان عن المراجع الهامة وقاموس مفيد في الأعلام والألفاظ الفلسفية. وينقسم هذا الكتاب إلى خمسة أقسام: مقدمة وأربعة أبواب. ففي المقدمة يعرض المؤلِّف للفكر اليوناني قبل الفلسفة ويتحدث عن عصر الشعراء والحكماء السبعة، وفي الباب الأول يدرس الطبيعيين الأول والمتأخرين والفيثاغوريين، والأيلبين، والسفسطائيين، وسقراط الذي يفصل بين(172/75)
مرحلتين متحيزتين من مراحل تاريخ الفلسفة؛ ويقف الباب الثاني على أفلاطون، والثالث على أرسطو. أما الباب الرابع والأخير فيتكلم فيه عن صغار السقراطيين والأبيقوريين وأصحاب الرواق والشكاك ورجال مدرسة الإسكندرية. وإنا لنلحظ في هذا التقسيم أنه عني عناية خاصة وجديرة بالتقدير بالشخصيتين العظيمتين في تاريخ الفلسفة اليونانية وهما أفلاطون وأرسطو؛ فقد درس كل واحد منهم في باب مستقل، وليس هذان البابان من الأبواب الصغيرة، فحديثه عن أفلاطون يقع في ست وستين صفحة، وترجمته لأرسطو تشغل ما يزيد على ثلث الكتاب جميعه (134ص).
وفي الواقع لقد وزن المؤلف المدارس الفلسفية الإغريقية بميزان صحيح وقسم بحثه بينها قسمة عادلة ومتناسبة دون أن يفوته منها شيء هام، اللهم إلا أصحاب مذهب الاختبار الذين أهملهم رأساً وبعض شراح أرسطو في الدور الأخير وفي مدرسة الإسكندرية بوجه خاص مثال الإسكندر الأفروديسي، وسميلسيوس، وثامسبتوس، الذين لم يشر إليهم إشارة كافية. وبالرغم من تشعب هذه المدارس وتعددها فقد عرضها في صورة مرتبة مهذبة، وقسم أبحاثه إلى أبواب وفصول وفقرات هي غاية في الدقة والوضوح. وليس بغريب أن يعنى مدرس بوسائل العرض والإيضاح! فهذه سنته كل يوم في دروسه ومحاضراته. وهي سنة صالحة من غير شك ومعينة على تذليل بعض الصعاب التي يلاقيها القارئ في أبحاث دقيقة كهذه. وقد ضم المؤلف إلى هذا حسنة أخرى، فختم كثيراً من مباحثه بنظرة عامة وربط تاريخي شائق.
ليس صعباً على من يدرس الفلسفة اليونانية أن يجد المصادر التي يستقي منها، فهي كثيرة ومتنوعة؛ إنما الصعب أن يختار من بين هذه المصادر أصلحها. وقد وفق المؤلف في هذه كما وفق في غيرها؛ فقد اعتمد فيما وراء أفلاطون وأرسطو على أوثق مصادر الفلسفة اليونانية. وكنا نفضل أن يحيل على هذه المصادر في صلب الموضوع بدل أن يكتفي بسردها في الفهرست. وفيما يتعلق بأفلاطون وأرسطو سلك سبيلاً يحمد عليها؛ فقد درسهما دراسة مباشرة وقدم لنا صورة ناصعة عن مؤلفاتهما وحكم عليهما بناء على ما قالا لا اعتماداً على ما قال الناس عنهما. وهذه الطريقة علمية قطعاً ومعينة على تفهم الفيلسوفين على ضوء ما كتبنا. غير أنها مدعاة التكرار والاستطراد أحياناً، كما قد تسوق إلى سرد(172/76)
تفاصيل جزئية قليلة الفائدة وفي حذفها ما يفسح المجال للمشاكل الهامة. ذلك لأن الملخِّص قد يؤخذ أحياناً بما هو أمامه وينسى بحثه الرئيسي. وعلى كل فلئن فات المؤلف إبراز بعض المشاكل الأفلاطونية والأرسطية في ثوبها الكامل لقد نجح نجاحاً كبيراً في إعطاء فكرة صحيحة عن مؤلفات أفلاطون وأرسطو وتلخيصها على وجه حسن. وكنا نود أن تستخدم المصادر العربية في بحث كهذا؛ وفي استخدامها ما يسمح بتحقيقات ومقارنات علمية وتاريخية جديدة فاتت مؤلفي الغرب ومؤرخيه، وقد تنبه زميلنا إلى هذه النقطة في بعض الفصول، إلا أنه لم يلتزمها في كل بحثه.
الأستاذ كرم هادئ في كل شيء؛ هادئ في أسلوبه، فلا يحفل بالتراكيب الضخمة والعبارات الطنانة، وما أحوج اللغة العلمية إلى هذا الهدوء. فهو يكتب كتابة موضوعية كل همه فيها أداء المعاني العلمية في عبارة مقبولة. بدأ كلامه وختمه بالتحدث عن الفلسفة وتاريخها دون أن ترى في أسلوبه حشواً أو فضولاً. إلا أنه قد يصل به حبه للإيضاح أحياناً إلى استعمال بعض الألفاظ والتراكيب الدارجة بالرغم من ابتذالها أو ضعفها. ومع هذا ينبغي أن نشير إلى المجهود الصادق الذي بذله في اختيار الألفاظ العربية الملائمة لأداء الأفكار الأجنبية. وقد كلَّلَ هذا المجهود بذلك القاموس اللغوي الاصطلاحي الذي ختم به كتابه. وفي اختصار لقد استطاع أن يقدم لنا تاريخ الفلسفة اليونانية في قالب علمي لا بأس به. وهذه ناحية يجب أن يتنبه لها الباحثون إن كنا نريد لأنفسنا لغة علمية محترمة. وهاكم قطعة من قلم المؤلف يلخص فيها الفلسفة الأفلاطونية ويبين أصولها ومميزاتها يقول: (أما أسلوبه (يعني أفلاطون ولو قال أما مذهبه أو طريقته لكان أولى) في الفلسفة فهو التوفيق والتنسيق: لم ير في تعارض المذاهب سبباً للشك مثل السوفسطائيين، وإنما وجد أنها حقائق جزئية، وأن الحقيقة الكاملة تقوم بالجمع بينها وتنسيقها في كلٍّ مؤتلف الأجزاء. وطريقة التوفيق حصرُ كل وجهة في دائرة، وإخضاع المحسوس للمعقول، والحادث للضروري، فنحن نجد عنده تغير هرقليطس، ووجود بارمنيدس، ورياضيات الفيثاغوريين وعقيدتهم في النفس، وجواهر ديموقريطس، وعناصر أنبادوقليس، وعقل أنكساغورس فضلاً عن مذهب سقراط، وسندل على هذه الظاهرة كلما صادفناها، وثمة ظاهرة أخرى هي محاولته تحويل العقائد الأرفية آراء فلسفية، أي وضعها في صيغة عقلية ودعمها بالدليل. فهو لم يزدر شيئاً من تراث(172/77)
الماضي، وأراد أن ينتفع بكل شيء، ثم طبع هذا التراث بطابعه الخاص، وزاد فيه فتوسع وتعمق إلى حد لم يُسبَق إليه).
والأستاذ كرم هادئ كذلك في مناقشاته وأحكامه، فهو يناقش النظريات الفلسفية في هدوء وسكون، ويحكم على مختلف الآراء أحكاماً بعيدة في جملتها عن الشطط والمغالاة. بيد أن هدوءه هذا قد يؤخذ عليه، وكم كنا نوده عنيفاً نوعاً في بعض المواقف. فأن هدوءه دفعه إلى تبسيط المسائل إلى درجة ربما ضاع معها لبها، ولم يمكنِّه من استيفاء بعض المشاكل التاريخية. فلم يثر مثلاً أسئلة كهذه: هل سقراط أو ميتافزيقي؟ وكيف تفسر الرموز في أسلوب أفلاطون؟ وعلام يحمل التذكر عنده؟ ولم يفصِّل القول في مشكلة الإله عند أفلاطون ونظرية العقل عند أرسطو تفصيلاً مقنعاً ومرضياً، وكأنه تناسى ما كتبه الباحثون السابقون هذه في المسائل واكتفى بعرضها كما يرى هو دون أن يبين آراء الآخرين. وقد حال هدوء المؤلف أيضاً دونه والاسترسال في النقد بعض الشيء. نحن لا ننكر أنه نقد طائفة من الآراء والنظريات التي عرضها في حكمة ودقة؛ ولكنا كنا نتمنى أن يعنى بالنقد أكثر من هذا وخاصة في دراسة الفلسفة الأرسطية، ويظهر أن الخلاف بيننا وبينه ي هذه النقطة راجع إلى المبدأ ووجهة النظر؛ فإنه فيما يبدو لنا، يرى في أرسطو الكمال والتبرؤ من كل نقص وخطأ، وهذا رأي قد لا يقره عليه كثيرون الآن.
وكيفما كانت الاعتراضات التي يصح أن توجه إلى تاريخ الفلسفة اليونانية فأنه يحوي أكبر وأنفس مصدر عربي عرف حتى اليوم في هذه الناحية، ولم يدع مؤلِّفه أنه جاءنا بنظرية جديدة أو طريقة مبتكرة في دراسة تاريخ الفلسفة؛ وكل ما صنع أنه قرأ ودرس ومثَّل في تأن وتؤدة، ثم استخلص من قراءته ودراسته تلك الثمرة الطيبة. وهو لم يمنِّنا مطلقاً بأمان ولم يعدنا بوعود حتى نحاسبه على إنجازها؛ بل ترك تاريخ الفلسفة يتحدث عن نفسه، ولم يزل هذا التاريخ في حديثه حتى انتهى إلى مرحلة نرجو أن تكون أخيرة لا آخرة. ويقيننا أن من بدأ تاريخ الفلسفة على هذا النحو وبهذا التوفيق لابد واصل إلى نهايته.
إبراهيم مدكور(172/78)
العدد 173 - بتاريخ: 26 - 10 - 1936(/)
رغبات الأدب في العهد الجديد
ورغبات الأدب هي الخوالج القدسية العليا للشعب الكريم؛ تتمثل في عقله نزوعا إلى الحق، وفي نفسه طموحا إلى الخير، وفي ذوقه صبوّاً إلى الجمال. فإذا أتيح لها نفس من الديمقراطية وفرج من الحرية وروح من العدل، سطعت في أرجائه وأجوائه سطوع الأرج المنعش، فنضّرت الحياة وعطرت الأرواح وطهرت الأنفس، وإلا ذوت في مناشئها ذويّ النبات المكروب والأمل المخيب. وفي هذا العهد الجديد الذي انتعشت فيه عواثر المنى، وانفسحت به مناحي الجد، يحاول كل عامل من عوامل الرقي أن يستعيد قوته ويستفيد كماله. والأدب المصري ظل إلى اليوم فريسة الإهمال والفوضى؛ يكابد طغيان السياسة في استسلام، ويجاهد سطوة الجهالة في يأس، ويقاسي مضض الحرمان في ضراعة؛ وأولو الأمر يقابلون جهده بالاستهانة، ويكافئون بره بالعقوق، ويستغلون سلطانه في الصحف وعلى المنابر، ثم لا يدخلونه في الحساب يوم الغنيمة.
هاهم أولاء رجاله الصابرون البواسل، يؤدون رسالة الروح المضنية وقرائحهم المجهودة تنضح بالمداد كما تنضح الجباه الناصبة بالعرق، والصدور المحاربة بالدم، ثم لا يلقون ممن يحملون لهم الشعلة إلا ما لقي أصحاب الرسالات من الكفران الغادر والخذلان المهين. وما حال الأدب في الأمة الأمية، إلا كحال النبوة في الأمة المشركة، إذا لم يكن له سند من الله وعون من الحكومة ذهب ذهاب المصباح في عواصف البيد المظلمة. فالأديب المضطر إنما يشقى للقوت لا للفن، ويسعى للشهوة لا للمجد، وينتج للحاضر لا للمستقبل؛ وإذن لا يكون الأدب إلا كما نرى: بخس في الكيف، ونقص في الكم، وشعوذة في الوسيلة، وإسفاف في الغاية
يرغب الأدب إلى أولياء العهد الجديد أن يبسطوا عليه ظل الحماية، فما يستطيع اليوم لضعف دولته وجهل رعيته أن يستقل. يرغب إليهم أن يقوه تضييق الحرية ليتسع فكره، ويكفوه تمليق الجمهور ليسمو إنتاجه؛ فان العبث بحرية الرأيتعطيل لموهبة العقل وإفساد لفطرة الله وصد عن سبيل التقدم. ومزية الإنسان الحر في الحكومة الحرة أن يقول ما يعتقده صوابا، ويفعل ما يراه حسناً، ما دام هنالك دين يردع غواية النفس، وقانون يحبس عنان الإرادة. وان إذلال الأدب لشهوات الناس وضرورات العيش إضعاف لملكة الذوق وتدنيس لنقاء الضمير وتشويه لجمال الإلهام؛ ورقي الأدب قائم على استقلال رأيه ونبل(173/1)
غرضه وتأمين حياته؛ ولا تجد أنهض به وأعود عليه من الجوائز والمكافآت، فإنهاتحفز القرائح للعمل، وتضمن الإجادة بالتنافس، وترفع المستوى بانتخاب الأجود؛ وبضعة آلاف جنيه من الخزانة العامة ينفق أضعافها في تمهيد طريق أو تجميل بناء تخلق في الأمة أدباء موهوبين عالميين، وتجمع لها من الأدب الصحيح ثروة
ويرغب الأدب إلى أولياء العهد الجديد أن يضيفوا إلى غذائه ثمار العقول الخصيبة لنوابغ الأمم الأخرى، فان لكل أمة مزايا ولكل بيئة خصائص؛ ولن يكون أدبنا عالميا ما لم يلقح بآداب العالم؛ والتقليد والاحتذاء من أقوى العوامل أثراً في الأدب. ولو شاء الله لأدبنا الكمال من نقصه لألهم المترجمين في عصر المأمون أن ينقلوا روائع الأدبين الإغريقي واللاتيني من الشعر والقصص والروايات والملاحم كما نقلوا العلم والحكمة، إذن لقلدهم أدباء العرب في ذلك، ولسدوا في الأدب العربي خللا ما برئ منه حتى اليوم.
ذلك ميسور بإنشاء دار للترجمة في دار للكتب تنقل أدب الأمم الكبرى نقلا صحيحا، ثم تُنشر عن الدار على نحو ما تفعل اليوم في نشر الكتب العربية القديمة، فيجتمع للأدب الحديث رافدان زاخران يرفده أحدهما بعصارة المدنيات الغابرة، ويرفده الآخر بخلاصة المدنية الحاضرة. والواقع الأليم أنك تستطيع أن تقرأ أي نابغة في أي لغة محترمة إلا في اللغة العربية!!
كذلك يرغب الأدب إلى أولياء العهد الجديد أن تكون له مراجع عليا تقوم عليه، فتتعرف أطواره وتتعقب آثاره، وترتاد له سبل الكمال، فتسد ما فيه من خلل، وتعالج ما به من جمود، وتدفع ما عثا فيه من فوضى؛ ثم تكون لقرائح الشباب وهي في أول الشوط مناراً وحمى، ولعبقريات الشيوخ وهي في آخره أمناً ومثابة.
والمفروض اليوم أن مراجعه التي تقوم بطبيعة إنشائها على تسديده وتعضيده هي مجمع اللغة العربية الملكي بالمعارف، وإدارة الصحافة والنشر والثقافة بالداخلية، وجمعية كبار العلماء بالأزهر؛ ولكنها على هذا الوضع المقلوب والعزم المتخاذل والحركة الوانية لا تنفعه بنافعة؛ فإن العضوية في بعضها تشريف، وفي بعضها الآخر طعمة؛ أما العمل ففضل من العامل، فإذا تفضل به كان له في نهضة الأدب شأن ضئيل وأثر حائل.
على أن إدارة الصحافة والنشر والثقافة حديثة النشأة، والمظهر البادي عليها مظهر الطموح(173/2)
والفتوة، ومن الممكن أن نعقد بها أسباب الأمل لأنها وليدة هذا العهد، ولكن الأدب لا يزال يرغب إلى زعماء العهد الجديد، أن يساعدوه على أن يكون خليقا بهذا العصر السعيد.
أحمد حسن الزيات(173/3)
القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أقبل عليَّ صاحبي الأديب وقال: أنظر هذه هي، وقد حلت بهذا البلد وما لي عهد بها منذ سنة. ومد إلي يده فنظرت إلى صورة امرأة كأحسن النساء وجهاً وجسماً، تتأود في غلالة من اللاذ.
وكأن شعاع الضحى في وجهها، وكأنها القمر طالعاً من غيمه، ويكاد صدرها يتنهد وهي صورة، وتبدو هيئة فمها كأنها وعد بقبلة، وفي عينيها نظرة كالسكوت بعد الكلمة التي قيلت همساً بينها وبين محبها. . .
فقلت: هذه صورة ما أراها قد رسمها إلا اثنان: المصور وإبليس. فمن هي؟
قال: سلها، أما تراها تكاد تثب من الورقة؟ إنها إلاّ تخبرك بشيء أخبرك عنها وجهها أنها أجمل النساء وأظرفهن وأحسن من شاهدت وجهاً وأعيناً، وثغراً وجيداً، والذي بعد ذلك. . .
قلت: ويحك، لقد شعرتَ بعدي، إن هذا شعرٌ موزون
وأحسن من شاهدتَ وجهاً وأعيناً ... وثغراً وجيداً والذي بعد ذلكا. . .
قال: إن شيطان هذه لا يكون إلا شاعراً؛ ألستَ تراه ناظماً من فنونها على الرسم شعراً معجزاً كل شاعر؟
قلت: وهذا أيضاً شعر موزون:
ألستَ تراه ناظماً من فنونها ... على الرسم شعراً معجزاً كل شاعر
قال: بلى والله إنه الشيطان، إنه شيطانها يريك لهذا الجسم روحاً رشيقة، تلين كلين الجسم بل هي أرشق
قلت: وهذا أيضاً، والقافية التي بعد هذا البيت: وبها شقوا. . .
فضحك صاحبنا وقال: حرك الصورة في يدك، فإنها ستراها وما تشك أنها ترقص.
قلت: الآن انقطع شيطانك، فهذا ليس شعراً ولا يجيء منه وزن. . .
وتضاحكنا وضحك الشيطان، وظهر الوجه الجميل في الرسم كأنه يضحك. . .
قال صاحب القلب المسكين: أنظر إلى هاتين العينين، إنهما من العيون التي تفتن الرجل وتسحره متى نظرت إليه، وتعذبه وتضنيه متى غابت عنه. إن في شعاعهما قدرةً على(173/4)
وضع النور في القلب السعيد، كما أن في سوادهما القدرة على وضع الظلمة في القلب المهجور. . .
وانظر إلى هذا الفم، إلى هذا الفم الذي تعجز كل حدائق الأرض أن تخرج وردةً حمراء تشبهه.
وانظر إلى هذا الجيد تحته ذلك الصدر العاري، فوقه ذلك الوجه المشرق؛ تلك ثلاثة أنواع من الضوء: أما الوجه ففيه روح الشمس، وأما الجيد ففيه روح النجم، وأما الصدر ففيه روحُ القمر الضاحي.
انظر إلى هذه المسافة البيضاء من أعلى جبينها إلى أسفل نهديها، تلك منطقة القُبُلات في جغرافيا هذا الجمال. . .
وانظر إلى الصدر يحمل ذينك الثديين الناهدين؛ إنه المعرض الذي اختارته الطبيعة من جسم المرأة الجميلة للإعلان عن ثمار البستان. . .
انظر إلى النهدين لِمَ برزا في صدر المرأة إلا إذا كانا يتحديان الصدر الآخر. . . .؟
وانظر لهذا الخصر الدقيق وما فوقه وما تحته، ألا تراه فتنةً متواضعةً بين فتنتين متكبرتين. . . .؟
انظر إليها كلها، انظر إلى كل هذا الجمال، وهذا السحر، وهذا الإغراء؛ ألا ترى الكنز الذي يحول القلب إلى لص. . .؟
هذه مخلوقة مرتين، إحداهما من الله في العالم، والأخرى من حبي أنا في نفسي أنا، فكلمة (جميلة) التي تصف المرأة التامة، لا تصفها هي إلا بعض الوصف؛ ورسمها هذا الذي تراه إنما هو حدود لتلك الروح التي فيها قوة التسلط، وهيهات يُظهر من تلك الروح إلا ما يُظهر من الجمرة المشتعلة رسم هذه الجمرة في ورقة.
أشهد ما نظرت مرة إلى هذا الرسم ثم نظرت إليها إلا وجدت الفرق بينها في نفسها وبينها في الصورة، كأنه اعتذار ناطق من آلة التصوير بأنها ليست إلا أداة. . .
قلت: اللهمَّ غفراً؛ ثم ماذا يا صديقي المجنون؟
فأطرق الأديب مهموماً، وكانت أفكاره تنفجر في دماغه انفجاراً هنا وانفجاراً هناك؛ ثم رفع إليَّ رأسه وقال:(173/5)
هذه الغانية قد حبست أفكاري كلها في فكرة واحدة منها هي؛ وأغلقت أبواب نفسي ومنافذها إلى الدنيا، وألهبت في دمي جمرة من جهنم فيها عذاب الإحراق وليس فيها الإحراق نفسه كيلا ينتهي منها العذاب.
وبيننا حبُّ بغير طريقة الحب، فإن طبيعتي الروحانية الكاملة تهوى فيها طبيعتها البشرية الناقصة، فأنا أمازجها بروحي فأتألم لها، وأتجنبها بجسمي فأتألم بها
حبٌّ عقيم مهما يكن من شيء فيه لا يكن فيه شيء من الواقع
حب عجيب لا تنتفي منه آلامه ولا تكون فيه لذاته
حبٌّ معقد لا يزال يلقى المسألة بعد المسألة، ثم يرفض الحل الذي لا تحل المسألة إلا به
حب أحمق يعشق المرأة المبذولة للناس، ولا يراها لنفسه ألا قديسة لا مطمع فيها
حب ابله لا يزال في حقائق الدنيا كالمنتظر أن تقع على شفتيه قبلة من الفم الذي في الصورة
حب مجنون كالذي يرى الحسناء أمام مرآتها فيقول لها: اذهبي أنت وستبقى لي هذه التي في المرآة. . .
قلت: اللهم رحمة؛ ثم ماذا يا صاحبي المسكين؟
قال: ثم هذه التي أحبها هي التي لا أريد الاستمتاع بها، ولا أطيقه ولا أجد في طبيعتي جرأة عليه، فكأنها الذهب وكأنني الفقير الذي لا يريد أن يكون لصاً. يقول له شيطان المال: تستطيع أن تطمع؛ ويقول له شيطان الحاجة: وتستطيع أن تفعل؛ ويقول هو لنفسه: لا أستطيع إلا الفضيلة
إن عذاب هذا بشيطانين لا بشيطان واحد، غير أن لذته في انتصاره كلذة من يقهر بطلين كلاهما أقوى منه وأشد.
قلت: اللهم عفواً؛ ثم ماذا يا قاهر الشيطانين؟
فأطرق ملياً كالذي ينظر في أمر قد حيره لا يتوجه له في أمره وجه، ثم تنهد وقال: يا طول علة قلبي. من أين أجيء لأحلامي بغير ما تجيء الأحلام به، وإنما هي تحت النوم ووراء وإنما هي تحت النوم ووراء العقل وفوق الإرادة؟ لقد بلغ بي هواها أن كل كلمة من كلام الحب في كتاب أو رواية أو شعر أو حديث - أراها موجهة إلي أنا.(173/6)
ثم قال: انطلقْ بنا فتراها حتى تعلم منها علماً فهي في ذلك المسرح، هي في ذلك الشر، هي في تلك الظلمات، هي كاللؤلؤة لا تتربى لؤلؤةً إلا في أعماق بحر.
وذهبنا إلى مسرح يقوم في حديقة غنَّاءَ مترامية الجهات بعيدة الأطراف تظهر تحت الليل من ظلماتها وأنوارها كأنها مثقلةٌ بمعاني الهجر والعشق.
وتقدَّمَنا نسير في الغبش، فقال صاحبنا المحب: إني لأشعر أن الظلام هنا حيٌّ كأن فيه غوامض قلب كبير فما أرى فرقاً بين أن أجلس فيه وبين الجلوس إلى فيلسوف عظيم مهموم بهمِّ اللانهاية. فتعال نبرز إلى ذلك النور حول المسرح لنراها وهي مقبلة فأن رؤيتها سيدةً غير رؤيتها راقصة، ولهذه جمالُ فن ولتلك فنُّ جمال.
ولم نلبث إلا يسيرا حتى وافتْ، ورأيتها تمشي مشية الخفرات كأنها تحترم أفكار الناس، يزهوها على ذلك إحساسٌ نبيل كإحساس الملكة الشاعرة بمحبة شعبها. وانتفض مجنوننا وأغمض عينيه كأنها تمر بين ذراعيه لا في طريقها، وكأن لذة قربها منه هي الممكن الذي لا يمكن غيره.
وكان عجيباً من العجب أن تحرك الهواء في الحديقة واضطربت أشجارها فقال: أنت ترى. فهذا احتجاج من راقصات الطبيعة على دخول هذه الراقصة. قلت: آه يا صديقي؛ إن المرأة لا تكون امرأة بمعانيها إلا إذا وجدت في جو قلب يعشقها.
ونفذنا إلى المسرح وتحرَّى صاحبنا موضعاً يكون فيه منظر العين من صاحبته ويكون مستخفياً منها. ثم رُفع الستار عنها بين اثنتين يكتنفانها، وقد لبسن ثلاثتهن أثواب الريفيات وظهرن كهيئتهن حين يجنين القطن.
وبرزت (تلك) في ثوب من الحرير الأسود وهي بيضاء بياض القمر حين يتم، وقد شدَّت وسطها بمشيدة من الحرير الأحمر فتحبكت بها وظهرت شيئين: أعلى وأسفل، ثم ألقت على شعرها الذهبي قلنسوة حمراء من ذلك الحرير أمالتها جانباً فحبست شيئاً منه وأظهرت سائره. وأخذت بيدها صفَّاقتين وأقبل الثلاث يرقصن ويغنين نشيد الفلاحة.
لم أنظر إلى غيرها فقد كانت صاحبتاها دليلين على جمالها لا أكثر ولا أقل. وما أحسب الحرير الأحمر كان معها أحمر ولا الأسود كان عليها أسود، ولا لون الذهب في معصمها كان لون الذهب. كلاَّ كلاَّ هذه ألوان فوق الطبيعة لأن ذلك الوجه يشرق عليها بالجمال(173/7)
والحياة، وذلك الجسم يفيض لها بالخفة والطرب، وتلك الروح تبعث فيها المرح والنشوة؛ هذا مزيج من خمر الألوان لا من الألوان نفسها.
وقال مجنوننا: إن أجمل الجمال في المرأة الفاتنة هو ذاك الذي يجعل لكل إنسان نوع شعوره بها، وأنا أشعر الساعة أن قلبي نصف قلب فقط وأن نصفه الآخر في هذه وحدها، فما شعورك أنت؟
قلت، يا صديقي إن الله رحيم، ومن رحمته أنه أخفى القلب وأخفى بواعثه ليظل كل إنسان مخبوءاً عن كل إنسان، فدعني مخبوءاً عنك.
قال: لابد
قلت: إن المصباح في الموضع النجس لا يبعث النور نجسا، وما أشعر إلا أن النور الذي في قلبي قد امتزج بالنور الذي في عينيها.
ثم كأنها أحست بأن إنساناً قد امتلأ بها فأدارت وجهها وهي ترقص فتلمحت صاحبنا وجعلت تُقطّع الطرف بينها وبينه كأنها تعرفه وتجهله، ثم تبيَّنت إلحاح نظره فضحكت لأنها تعرفه ولا تجهله.
أما هو، أما المجنون، أما صاحب القلب المسكين؟
(لها بقية)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(173/8)
تبسَّم!!
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تبسم!!)
(إيه!!)
(تبسم!!)
(أتبسم؟؟)
(نعم. .)
(هل تريد مني أن أتبسم؟.)
(نعم. . هذا ما أعني)
(ولكن كيف؟. أعني أني لا أريد. . . لا أشعر بحاجة إلى الابتسام؟)
(ألا تستطيع أن تتبسم؟.)
(ربما أمكن أن أتبسم بفمي فقط ولكن هذا ليس ابتساماً)
(بفمك. . . . برجلك. . . تبسم والسلام)
فقلت: (طيب هه) وتكلفت الابتسام كما أراد فقال: (حسنا. . والآن. . جرب مرة أخرى)
فنظرت إليه - حدقت في وجهه فقد خامرني الشك في عقله ولكنه كان ساكناً لا يبدو عليه غير ما ألفت منه. ولما طال نظري إليه قال: (هل فرغت؟؟ إني منتظر)
فسألته (ماذا تنتظر؟.)
قال: (أن تتبسم. . تفضل)
فلم يسعني إلا أن أضحك وأن أضرب كفاً بكف فقال: (هذا أحسن. . . ولا بد أنك تشعر أنك أحسن حالاً بعد هذه الضحكة العالية)
فأمسكت من القهقهة - أعني حبست ما كنت أريد أن أنفجر به من ذلك - وقلت له: (ما هي الحكاية. . . . لست أكتمك أني مستغرب سلوكك في هذه الليلة)
فقال: (استغرب ما بدا لك أن تستغرب. . . إنما المهم أن تتبسم)
قلت: (شيء جميل ولكن ألا ترى أن الأمر يحتاج إلى شيء من الإيضاح. . الواقع أني لست فاهماً شيئاً)(173/9)
قال: (لا بأس. إسمع. إنك رجل كاد ينسى الابتسام وهذا هو مرضك لا ما تتوهم أن معدتك وأمعاءك مصابة به. ليس بك شيء. كن من هذا على يقين جازم. وإنما الذي بك أنك لم تعد تعرف سرور الحياة. والذنب في هذا لك لا للحياة. لا تقل لي إن الحياة لم تعرض عليك إلا صفحاتها الدميمة التي تثير الاشمئزاز والتقزز وتغري النفس بالكآبة والجهامة فإن هذا الكلام فارغ. وأنت الذي أغريت عينك بهذه الصور القبيحة ولولا ذلك لاستطعت أن ترى الصفحات الأخرى المشرقة الوضيئة التي تنعش النفس وتحييها وتجددها. بل إن الذي تتعلق به عينك من صور القبح والدمامة لا يخلو من جمال يشرح الصدر ويفرح القلب. وليست هذه فلسفة ولكنما هي وصف للواقع من أمرك وأمر المتفلسفين الذين يقرءون ولا يفهمون. نعم لا يفهمون. . تقول إنك قرأت الأدب الإنجليزي وتوفرت عليه وأنا أعرف ذلك ولا أجهله، وأعرف أنك قرأت أديسون فلماذا لم تفهم صورته الوصفية لجبل الهموم أو تله أو ما شئت فسمه. الواقع أنك قرأت ولم تعن إلا بالجانب الذي يوافق مزاجك النفسي الذي أسمح لنفسي أن أسميه الأعور - أي الذي لا يرى إلا بعين واحدة ولا يتأثر إلا من جانب واحد. أتقول إن الأمر أمر خلقة وطباع. . لا يا سيدي. . . إننا نتعلم كيف نضبط غرائزنا وطباعنا الحيوانية، وكذلك نستطيع أن نهذب ما نظنه طباعا فطرية في نفوسنا لا تقبل التهذيب والتنقيح والصقل. على أن المسألة ليست مسألة طباع وإنما هي مسألة نظر، فلماذا تنظر إلى جانب السوء وحده ولا تنظر أيضاً إلى جانب الخير والحسن والجمال والفكاهة. . . باختصار - أنظر واضحك يا سيدي. . . ولن تعدم ما يضحك في أي أمر وأي حال، واعلم أنك حين تضحك يتأثر جسمك كله وأعصابك أيضاً. وثق أن ضحكة واحدة تطلقها كافية لتغيير حالتك النفسية. . . هذا علاجك. . فاذهب عني ولا تعد إلي فأن شفاءك في يديك).
وخرجت أقول إن هذه فلسفة جديدة لا تستحق ما غرمت في سبيلها، ومشيت أفكر في هذا ومضيت أبدي وأعيد فيه بيني وبين نفسي فاصطدمت برجل كان مقبلاً علي فصاح بي بعد أن حك أنفه كما حككت أنا أنفي (اللي واخد عقلك يتهنا به. . . مالك كده زي المسطول) فغلا دمي حين سمعت ذلك ثم ذكرت نصيحة الطبيب فضحكت فقال الرجل (وبتضحك كمان) فقلت له (يا أخي إذا كنت أنا مسطولاً فأنت مثلي، وإذا كان شيء قد أخذ عقلي فإن(173/10)
عقلك لم يكن على ما يظهر في مكانه. ثم إن منظرنا حين اصطدمنا لا شك يبعث على الضحك. وقد ضحك الأطفال والرجال والنساء وكادت الحيوانات تضحك حين وقعت المصادمة والتقى الأنف بالأنف فلماذا تضحك الدنيا كلها ولا يعبس فيها ويتشاجر ويتشاتم إلا أنا وأنت (فقال صدقت. . معك الحق) وصافحني ومضى عني راضياً.
ودخلت (قهوة) أو (مقهى) فألفيت إخواناً لي يلعبون (الورق) وهو شيء لا أحسنه ولا استعداد عندي لفهمه. وكان مع أصحابي اثنان لا أعرفهم فقدموني إليهم وسموهم لي بأسمائهم فقعدت على كرسي بعيداً عنهم، ثم ضجرت فوقفت أنظر إلى اللعب وإن كنت لا أفهم شيئاً، ولكني رأيت هذا خيراً من الوحدة. ولم أشأ أن أظهر جهلي فجعلت أتظاهر بالفهم. ولم أكن أقول شيئاً ولكني كنت أبتسم كأني فاهم. واتفق أن أحد الغريبين كان أكثرهم كسباً فنظر إلي فألفاني أتبسم فقلب الورق وأشار إلي وقال: (كلمة من فضلك) وتراجع عن الكرسي فدرت إليه ووقفنا بجانب مرآة كانت خلفه فقال - أو همس على الأصح -: (إنك تعرف بالطبع أن هذا اللعب مزاح لا جد فيه)
قلت: وأنا أستغرب هذا الكلام الذي لا أرى له داعياً (لم أكن أظن هذا) وابتسمت، فقد بدا لي أن من المستغرب بل من المضحك أن يكلف نفسه عناء التأكيد لي أن اللعب لا يراد به أكثر من تزجية الفراغ. ومالي أنا. . ما شأني بهم. . . أتراه توهمني من الشرطة. . أم ترى هذا المحل من المحلات التي لا يباح فيها لعب الورق.
كان هذا يدور في نفسي وهو يقول لي: (بالطبع مزاح. . وسيرد كل منا ما كسبه إلى إخوانه. . وقد أردنا أن يظهر كل منا براعته في. . . في. . . فاهم. . . أليس كذلك. . . . هذا لا يسمى غشاً. . . لا لا. . أستغفر الله. . . لو كنا نلعب جادين لكان غشاً ولا شك، ولكن في المزاح يجوز ما لا يجوز عند ما يجد المرء. . أليس كذلك. . . هه هه. .)
ومضت أيام فلقيت واحداً أعرفه ومعه فتاة في بعض الطريق ولم أنظر إليهما ولكني كنت أنظر إلى الناحية التي أقبلا منها، وكنت أبتسم لخاطر في نفسي فوقعت عيني في عين صاحبي هذا والابتسامة على فمي فأقبل يعدو ورائي حتى أدركني ثم تنحنح وقال: (ممممممم أظنك. . . يظهر. . . أريد أن أقول. . . الحقيقة إنها بنت عرفتها أمس. . ولكن. . أعتقد أنك. . أعني أني. . الواقع أنه لاشيء هناك بيننا. . معرفة جديدة. . . بنت(173/11)
حلال. . .)
وقد سقت عباراته بعضها وراء بعض ولكنه كان يتنحنح كثيراً ويمسح العرق المتصبب بمنديل كبير فلم يسعني إلا أن أضحك فما استطعت أن أفهم لماذا رأى من واجبه أن يجشم نفسه هذا البيان أو الاعتذار. . . لست أباه ولا أخاه ولا أنا وصي عليه ولا لي عليه أي سبيل. . .
وقد حال الضحك دون الكلام - أعني دون الجواب - فصافحته وتركته يمسح عرقه.
وركبت الترام مرة وكان الجالس أمامي في يده جريدة يتأمل صفحتها المصورة وكنت أنا أتسلى بالنظر إلى الطريق من النافذة التي وراءه فرأيت فتى علق ثوبه الفضفاض بدراجة ولم يستطع تخليصه منها فجعل يجري معها وراكبها لا يعني بالوقوف فابتسمت وكانت الدراجة تساير الترام فظللت أتبسم ولولا الحياء لقهقهت وإذا بجليسي يتكلف الابتسام ويتحركفي مقعده ويقول فجأة - فما كان بالي إليه بل إلى المنظر الذي وراءه - (الحقيقة أن الفن الصحفي تقدم جداً)
فتنبهت وقلت: (جداً. . صحيح) وجازيته ابتساماً بابتسام
فسعل وقال: (الإنسان معذور إذا بدأ بصفحة الصور وما فيها من المناظر الجميلة)
فاستغربت كلمة (المناظر) وسألته (المناظر)
قال: (أعني صور الفتيات الجميلات. . . ولكني لا أشتري الجريدة لهذا وحده. . . . لا لا لا أعوذ بالله. . أرجو ألا تكون جعلتني من هذا الفريق الذي لا يعنيه من الصحف إلا صور النساء لا لا لا. . . . أؤكد لك أني أقرأ. . . . أقرأ. . . . أقرأ كل شيء
قلت: (طبعاً. طبعاً. . . ظاهر يا سيدي ظاهر)
قال: (ثم إني موظف ورب عائلة. . لي زوجة وأولاد. .)
فهممت بأن أقول له إن كونه رب أسرة وذا زوجة وأولاد لا يبدو أنه منعه أن يعترف لي - وأنا غريب بما أراد أن ينفيه ولكني لم أقل شيئاً واكتفيت بالابتسام ونزلت عند أول محطة وقفنا عندها.
الحقيقة التي أعترف بها أن طبيبي هذا لم يكن مخرفاً فقد أفادني الابتسام صحة وعافية وانشراحاً وزاد فعلمني ما لم أكن أعلم، وإذا كان القارئ في شك مما أقول فما عليه إلا أن(173/12)
يجرب فعل الابتسام لأمر أو خاطر لا علاقة له بجليسه مقترناً بسقوط النظرة في عينه عفواً. وليخبرني بعد ذلك بالنتيجة إذا شاء، فما أشك أنا في أنها ستدهشه وتكشف له عن كثير من أسرار النفوس لم يكن يخطر له على بال.
إبراهيم عبد القادر المازني(173/13)
صور سياحة
4 - ليالي باريس
مونمارتر ومونبارناس
المسارح والمنتديات الليلية
بقلم سائح متجول
للمدن العظيمة في الليل حياة أخرى غير حياة النهار، ولهذه الحياة الليلية متاعها وسحرها، ولها أحياناً خطرها وألوانها القاتمة؛ ففي تلك المقاهي والمنتديات الساطعة، وفي تلك المسارح الأنيقة، وفي تلك الأبهاء والحانات الليلية التي تزينها أسراب من الحسان ينفثن السحر من عيونهن ومن عطرهن، وفي تلك الأحياء الشهيرة التي غدت أسماؤها أعلاماً في القصة والأدب؛ هنالك في تلك الربوع والمنتديات ينسى الإنسان مدى لحظة متاعب الحياة الدنيا، ويستطيع أن يتذوق شيئاً من متاع الحياة الليلية الضاحكة واللهو المريء.
وباريس مدينة عظيمة، وفيها حياة ليلية مضطرمة، قوامها تلك المنتديات والمسارح والحانات الشهيرة التي كثيراً ما تقرأ عنها في القصص وتشاهدها في السينما، فيخيل إليك أنها عالم بأسره من الفتنة والجمال والسحر.
وسنعرض في هذا الفصل صوراً من تلك الحياة الليلية الباريزية الشهيرة مما رأينا وشهدنا.
تقع مراكز الحياة الليلية الباريزية في أحياء معينة اشتهرت بأسمائها كما اشتهرت بماضيها وتقاليدها، وأضحت علماً على حياة الليل في باريس.
وأشهر هذه الأحياء وأهمها من هذه الناحية هي بلا ريب أحياء: مونمارتر ومونبارناس وبيجال وكليشي وما إليها من مسالك ودروب.
ولقد كان حي مونمارتر يستأثر فيما مضى بأكبر قسط من الشهرة الليلية، بيد أنه على ما يظهر يفقد اليوم شيئاً من هذه الشهرة التي غدا ينافسه في أسبابها وبواعثها حي مونبارناس؛ وكان مونمارتر وما زال أعظم الأحياء الباريزية الشعبية شهرة، وأكثرها جاذبية لشباب الطبقات المتوسطة والدنيا، ومازال رغم تقلبات الزمن وفقدان الكثير من سحره السابق، يجذب إليه طوائف الشباب المثقف والناشئين من الكتاب والأدباء وذوي المهن، يجدون(173/14)
ملاذاً سهلاً في فنادقه ومطاعمه ومقاهيه الرخيصة؛ ويستمرئون فيه ما استطاعوا من مسرات الحياة الليلية، حيثما يتفتح الحب السهل بين شباب كثير التواضع والطموح.
ويقع حي مونمارتر في قلب باريس، ومازال يحتفظ بكثير من معالمه القديمة؛ دروب ضيقة ملتوية، وأبنية عتيقة لم تنلها يد التجديد، وفنادق ومطاعم ومقاه لم تعرف شيئاً من الأناقة الحديثة؛ ومع ذلك فربما كانت هذه المطاعم والمقاهي المتواضعة في مظاهرها أفضل من كثير من المحال الأنيقة المحدثة، لأنها مازالت تحتفظ بشيء من التقاليد الحسنة من حيث تقديم الألوان والمشروبات الجيدة بأثمان معتدلة، وعدم التورط في تلك المظاهر الخلابة التي تؤذي الجيب دون مبرر.
هذا إلى أن مونمارتر مازالت تزخر بالمسارح والأبهاء والأندية الليلية، من حانات ومراقص شهيرة؛ وقد كانت مونمارتر ومازالت تستمد شهرتها من تلك الأندية الليلية ومما يعرض فيها من أصناف اللهو والمرح التي تقوم في معظمها على السحر النسوي؛ وأشهر تلك المنتديات بلا ريب هو مسرح (الفولي برجير) يقع في منعطف من شارع (فوبور مونمارتر)؛ ومسرح (الكازار) الذي يقع في هذا الشارع نفسه على مقربة من اتصاله (ببولفار الإيطاليين)، والذي تقوم بالتمثيل فيه سيبيل سوريل العجوز الحسناء وفرقتها الشهيرة؛ ومسرح (معرض العراء) الذي يقع أيضاً في نفس الشارع؛ هذا في (فوبور مونمارتر)، وأما في حي مونمارتر ذاته، وهو على مقربة من (الفوبور) فتقع حانات ومراقص لا حصر لها.
وتغص دروب بيجال وكليشي وهما على مقربة من مونمارتر بالحانات والمقاهي المريبة التي تؤمها الغانيات من طبقات متواضعة، ويؤمها طلاب اللهو من جميع الطبقات والجنسيات. ويمتاز شارع بيجال بالأخص بما يعرض فيه من الألعاب الصبيانية المختلفة مما يعرض عادة في (لونبارك)
وفيما بين بيجال وكليشي توجد عدة من المسارح والمراقص الممتازة؛ وهنالك يقع (كازينو دي باري) الشهير الذي تعرض فيه مناظر العراء المطلق من الممثلة الأمريكية الحسناء (جوان وارنر) وفرقتها؛ ويقع مرقص (الكليزيوم) في شارع روشوار، وهو من أشهر مراقص باريس، وفيه سرب من الفتيات الحسان لأجيرات أو كما يسمون، يرتدين أثواباً(173/15)
مشقوقة من أحد الجانبين تسفر عن ساق عارية؛ وهؤلاء يرقصن مع الطالبين بتذاكر خاصة يصرفها المحل للراغبين وقيمة التذكرة التي تعطى عن رقصة واحدة فرنكان؛ هذا إلى عدة حانات ليلية للرقص والغناء تفتح أبوابها حتى الصباح.
وقد ذاعت مناظر الرقص العاري في باريس وأصبحت أشهر دعاية تذيعها المسارح والمراقص الأنيقة؛ ففي الفولي بريجر، والكازينو دي باري، والكازار، تعرض المناظر والرقصات العارية بانتظام؛ ويمتاز الكازينو دي باري بعرض أشهر هذه المناظر وأجملها، ويشترك في المنظر الواحد نحو عشرين فتاة عارية لا يسترن سوى ملمس العفة بغلالة صغيرة على شكل (فينوس) ويسدلن على ظهورهن شعوراً طويلة مستعارة لتستر الألية بعض الشيء؛ وبطلة الرقص العاري أو ملكته هي مس جوان وارنر التي ترأس فرقة العراء في (الكازينو)؛ وقد كان لها منذ عامين أو ثلاثة قصة مع القضاء، حيث عرضت بعض رقصاتها العارية الأولى، فاعتبرها البوليس عملاً فاضحاً، وحُقق معها، وقدمت إلى محكمة الجنح، ولكنها دافعت عن نفسها بأنها تقوم بمناظر فنية محضة، وأخذ القضاء بنظريتها وقضى ببراءتها. ومن ذلك الحين ذاع الرقص العاري في باريس، ونظم في أشهر المسارح، وسميت مس وارنر (ملكة العراء المطلق) والواقع أن مس وارنر تتمتع بجسم باهر التكوين والتقاسيم كأنه تمثال روماني رائع.
وقد شهدنا هذه المناظر الباريزية العارية في (الفولي برجير) وفي (الكازينو) وفي (الكازار)، وشهدنا عدة أخرى من المنتديات والحانات الليلية في مونمارتر وكليشي ومونبارناس، فماذا رأينا وماذا شعرنا؟ رأينا مناظر كثيرة الألوان والضوء، ولكن قليلة السحر حقاً. وإن منظر هذه الأجسام العارية قد يثير الغرائز الوضيعة، ولكنه قلما يثير السحر الرفيع، وأي سحر في مناظر تسودها مسحة البغاء أكثر مما تسودها مسحة الفن والجمال؟ والظاهر أن هذه المسارح الباريزية الليلية إنما تعتمد على الأجسام النسوية العارية كعامل أساسي في اجتذاب النظارة، وإنك لتقرأ الإعلانات الخلابة في الصحف عن مناظر العراء فيخيل إليك أنك سترى مناظر من الجنة ; ; ; ; 24 وأمثالها من العبارات الرنانة تقرأها دائماً في برامج هذه المسارح؛ ولقد كانت أسماء (الفولي برجير) و (الكازينو دي باري) و (الكازار) تثير فينا قبل رؤيتها سحراً لا يقاوم، فلما أتيح(173/16)
لنا أن نراها آنسنا خيبة أمل مرة، لأننا لم نر فيها من المناظر الرفيعة الرائعة ما يتفق مع تلك الدعاية الرنانة التي تثار حول أسمائها في الصحف وفي السينما؛ وهي دعاية يفهمها الفرنسي، ولذلك فهو قليل الاقبال على هذه المسارح والمنائر التي ترتب لاجتذاب الأجانب وتقتضي من روادها أجوراً فاحشة حتى إن الكرسي المتواضع (في نهاية البارتير أو في الجاليري) في الفولي بريجير أو الكازينو لا يكلف أقل من ثلاثين أو أربعين فرنكاً (40 - 52 قرشاً).
ومونبارناس؟ إن اسم مونبارناس كمونمارتر يغمر الأدب الباريسي، ولكن مونبارناس أحدث عهداً في الأخذ بناصية الحياة الليلية الباريزية؛ ومونبارناس شارع مديد شاسع في جنوب باريس على مقربة من اللكسمبور وسان ميشيل، وهو أكثر رحابة وأقل صخباً من مونمارتر، وبه على مقربة من محطة (مونبارناس) عدة مقاه حسنة أشهرها وأجملها (لاكوبول) وهو مقهى أنيق وبه مرقص ليلي؛ وهنالك في الجانب الآخر أشهر حانة ليلية في الحي وهي حانة (جوكي)، وهي غنائية راقصة وينحصر الجانب الساهر المنير من مونبارناس بين (لاكوبول) والمحطة؛ وهنالك تلمح تحت أنوار الشارع والمقاهي كثيراً من الغواني وأنصاف الحرائر.
وقد اشتهرت مونبارناس بأنها مهبط الأدباء والفنانين الناشئين؛ والواقع أنك حين تتجول في مقاهي الحي ومطاعمه ترى كثيراً من الفنانين الذين أطلقوا لحاهم والذين تدل عليهم مظاهرهم يؤمون أندية الحي ويتجولون في دروبه؛ والمعروف أن رواد مونبارناس هم غالباً من الطبقة المثقفة، وهي بذلك تمتاز عن مونمارتر التي عرفت بأنها مهبط الطبقات الدنيا أيضاً؛ وقد أخذت مونبارناس في العهد الأخير تنافس مونمارتر في الأخذ بزمام الحياة الليلية، ونجحت في ذلك إلى حد ما؛ بيد أنها مازالت تضيق بأنديتها القليلة عن أن تضم كثيراً من تلك الجماهير الغفيرة التي تهرع إلى مونمارتر بالليل، هذا إلى أنها لا تحتوي كثيراً من تلك المنتديات الشعبية التي تغص بها مونمارتر والتي تموج بروادها دائماً.
والظاهر أن مونبارناس تقف في منافستها لمونمارتر عند ناحية خاصة، فهي بموقعها وشوارعها الشاسعة الفخمة أقدر على اجتذاب الخاصة من مونمارتر؛ وقد سمعت من بعض الباريزيين الخبيرين بشؤون الحياة الاجتماعية أن المستقبل لمونبارناس في تحول تيار(173/17)
الحياة الليلية إليها؛ وأن مدى هذا التحول يتوقف على مدى قيام المقاهي والمنتديات الجديدة في حي مونبارناس.
هذه صورة موجزة مما استطعنا أن نقف عليه من نواحي الحياة الليلية في باريس؛ ولا ريب أن توجد ثمة نواح أخرى يعرفها أولئك الذين أقاموا في العاصمة الفرنسية أكثر مما أقمنا وعرفوها أكثر مما عرفنا. بيد أنا نعتقد أن ما أتيح لنا أن نشهده من المنتديات والمناظر المختلفة التي وصفناها هو عنوان الحياة الليلية الباريزية يعبر عنها تعبيراً حقيقياً؛ وقد حرصنا على تعرف هذه الحياة ما استطعنا، ولم نبخل بأنفاق ليال عديدة برمتها في التجوال والمشاهدة، ولم نضن بما اقتضاه التجوال من نفقات فاحشة في غالب الأحيان؛ ولم نر في كل ما شهدنا، في تلك الأحياء الشهيرة، وفي تلك المنتديات والمسارح الليلية ذات المظاهر الأنيقة والأنوار الساطعة والبرامج الخلابة، من المتاع والفتنة ما يتفق مع تلك الدعاية المغرقة التي يبثها في مصر عن باريس وعن منتدياتها ولياليها أولئك الذين لم يعرفوا غير باريس، والذين يقدمون إلينا عنها في كتبهم ومقالاتهم أجمل الصور وأروعها.
(يتلى)(173/18)
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
يستمد كل دين سماوي أولاً وبالذات على الوحي والإلهام، فمنهما صدر، وبما لهما من إعجاز فاز، وعلى تعاليمهما تأسست قواعده وأركانه. وما النبي إلا بشر منح القدرة على الاتصال بالله والتعبير عن إرادته؛ وهذا هو كل ما له من امتياز، فلا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، ولا يروي خبراً إلا وهو تنزيل من حكيم حميد، ولا يقضي بقضاء إلا وهو ينفذ إرادة الله. والإسلام ككل الديانات السامية يستمد قوته من السماء، فعقائده وقوانينه مأخوذة من الكتاب والسنة اللذين هما وحي مباشر أو غير مباشر: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)، فمن ينكر الوحي يرفض الإسلام في جملته، أو يهاجمه على الأقل في أساسه ويهدم دعائمه الأولى والرئيسية. وتلك جريمة شنعاء قل أن يجرؤ عليها أشخاص عاشوا فوق أرض الإسلام وتحت سمائه. وليس شيء ألزم لفيلسوف مسلم من أن يحتفظ في مذهبه بمكان للنبوة والوحي إذا شاء أن تقبل فلسفته وتقابل بالتسامح من جانب إخوانه المسلمين. وقد كان فلاسفة الإسلام حريصين كل الحرص على أن يوفقوا بين الفلسفة والدين، بينا العقل والنقل، بين لغة الأرض ولغة السماء، لهذا لم يفتهم أن يشرحوا لغة السماء ويوضحوا كيفية وصولها إلى سكان العالم الأرضي وبينوا الدين في اختصار على أساس عقلي، فكونوا نظرية النبوة التي هي أهم محاولة قاموا بها للتوفيق بين الفلسفة والدين. والفارابي هو أول من ذهب إلى هذه النظرية وفصل القول فيها بحيث لم يدع فيها زيادة لخلفائه فلاسفة الإسلام الآخرين. وهذه النظرية هي أسمى جزء في مذهبه الفلسفي، تقوم على دعائم من علم النفس وما وراء الطبيعة، وتتصل اتصالاً وثيقاً بالسياسة والأخلاق، ذلك لأن الفارابي يفسر النبوة تفسيراً سيكلوجياً نفسياً، ويعدها وسيلة من وسائل الاتصال بين عالم الأرض وعالم السماء، ويرى فوق هذا أن النبي لازم لحياة المدينة الفاضلة من الناحية السياسية والأخلاقية، فمنزلته لا ترجع إلى سموه الشخصي فحسب، بل لما له من أثر في الوسط الاجتماعي.
قد يكون الفارابي أكثر فلاسفة الإسلام اشتغالاً بالمسائل الاجتماعية، فهو يتعرض لها في كثير من مؤلفاته، ويعنى بها عناية تدل على الرغبة والاهتمام، وبين رسائله القليلة التي(173/19)
وصلت إلينا رسالتان رئيسيتان موقوفتان على السياسة والاجتماع، وهما: السياسة المدنية، وآراء أهل المدينة الفاضلة. وله شرح مختصر على نواميس أفلاطون لا يزال مخطوطاً حتى اليوم ومحتفظاً به في مكتبة ليدن، وقد رأيناه هذا الصيف فيما رأينا من مخطوطات عربية أخرى بالمكاتب الأوربية؛ وكتاب آراء أهل المدينة الفاضلة يكفي وحده في أن نعد الفارابي بين من فكروا تفكيراً منظماً في النظريات السياسية، وعله أشهر كتبه وألصقها به؛ وقد عرف المتأخرون له هذه المنزلة، فلقبوا مؤلفه به وسموه (صاحب المدينة الفاضلة)، وهذا الكتاب يحاكي جمهورية أفلاطون إلى حد بعيد، ويحوي كثيراً من الآراء الأفلاطونية. والواقع أن شيخ الأكاديمية انفرد تقريباً، بين مفكري الإغريق، بالتأثير في دراسة العرب الاجتماعية، وبرز في هذا المضمار على أرسطو الذي ساد الفلسفة الإسلامية في نواحيها الأخرى.
فعلى طريقة أفلاطون يرى الفارابي أن المدينة كل مرتبط الأجزاء ومتضامها؛ هي كالبدن إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر. فالألم الذي يحس به أحد أفراد الجمعية لا بد أن يعدوه إلى الآخرين، والسرور الفردي لا يصح أن يعرف في جمعية صالحة. فلا يألم شخص وحده، ولا يُسر وحده، بل يجب أن تسري في الجميع روح واحدة تحس بإحساس مشترك. وإذا كانت أعضاء الجسم ذات وظائف متميزة فواجب أن يكون لكل فرد من أفراد المجتمع عمل خاص، ولن تتم للجمعية سعادتها إلا إذا قسم العمل بين أفرادها تقسيماً متناسباً مع كفايتهم ومشوباً بروح التضامن والتعاون، وبديهي أن الأعمال الاجتماعية متفاوتة بتفاوت غاياتها؛ وأسماها وأشرفها ما اتصل برئيس الجمعية ومهمته، لأنه من المدينة كالقلب من الجسم، فهو مصدر الحياة وأصل التناسق والنظام؛ وليست وظيفته سياسية فقط، بل هي أخلاقية كذلك؛ فإنه مثال يحتذى وسعادة الأفراد تتلخص في التشبه به.
يبني الفارابي كل آماله على رئيس المدينة ويعلق عليه كل الأهمية، كما علق شيخ أثينا أهمية كبيرة على رئيس الجمهورية، ويشترط فيه شروطاً كثيرة تشبه تمام الشبه الشروط التي قال بها أفلاطون من قبل، بل هي مأخوذة عنها نصاً. ويعقد لها في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) فصلاً مستقلاً عنوانه: (في خصال رئيس المدينة الفاضلة)، وفي هذا(173/20)
الفصل يقرر أنه لابد أن يكون رئيس المدينة سليم البنية قوي الأعضاء تامها، جيد الفهم والتصور، قوي الذاكرة، كبير الفطنة، سريع البديهية، حسن العبارة، محباً للعلم والاستفادة، متحلياً بالصدق والأمانة، نصيراً للعدالة، عظيم الإرادة، ماضي العزيمة، قانعاً متجنباً للملذات الجسمية. شرائط صعبة التحقيق ونادرة الوجود مجتمعة في شخص واحد كما يلاحظ الفارابي نفسه، ومع هذا لا يتردد في أن يزيدها تعقيداً؛ فيضيف إليها شرطاً آخر أملاه عليه مذهبه العام واستعداده الصوفي، أو بعبارة أخرى يضيف إليها الشرط الذي يبعده عن أفلاطون بقدر ما يقربه من التعاليم الإسلامية، وذلك الشرط هو أنه لابد لرئيس المدينة من أن يسمه إلى درجة العقل الفعال الذي يستمد منه الوحي والإلهام، والعقل الفعال، كما نعلم، أحد العقول العشرة المتصرفة في الكون، ونقطة الاتصال بين العبد وربه، ومصدر الشرائع والقوانين الضرورية للحياة الخلقية والاجتماعية، وعلنا تلحظ من هذا أن خيال الفارابي - ولو في هذه النقطة على الأقل - أخصب من خيال أفلاطون. ففي حين أن مؤلف الجمهورية يريد أن يرغم الفيلسوف على النزول من سماء التأملات إلى عالم الشؤون السياسية، يطلب الفارابي من رئيس مدينته أن يندمج في العالم الروحي وأن يحيا بروحه أكثر من حياته بجسمه، ويشترط فيه أن يكون قادراً باستمرار على الاتصال بالعقل الفعال. فالحاكم الفيلسوف الذي قال به أفلاطون يتحول إلى حكيم واصل عند الفارابي. يقول دي بور في حق: (يُبْرز الفارابي رئيسه في كل الصفات الإنسانية والفلسفية؛ فهو أفلاطون في ثوب محمد النبوي). وواجب على رئيس كهذا قد حظي بالسعادة الحقة ونعم بالاتصال بالكائنات الروحية أن يجتذب مرءوسيه نحوه، ويقوم على تهذيب أرواحهم أولا وبالذات، ويصعد بهم إلى مستوى النور والإشراق. فنحن إذن أمام مدينة سكانها قديسون ورئيسها نبي، وهي مدينة لا وجود لها إلا في مخيلة الفارابي.
بيد أن الفيلسوف العربي يأبى إلا أن يصور لنا من هذا الخيال حقيقة ويحملنا على التسليم بإمكان المدينة الفاضلة التي ينشدها، ذلك لأن الاتصال بالعقل الفعال، وإن يكن نادر الوجود وخاصاً بعظماء الرجال، ميسور من طريقين: طريق العقل وطريق الخيالة، أو طريق التأمل وطريق الإلهام؛ فبالنظر والتأمل يستطيع الإنسان أن يصعد إلى درجة العقل المستفاد حيث تتقبل الأنوار الإلهية، وليست النفوس كلها قادرة طبعاً على هذا الاتصال، وإنما تسمو(173/21)
إليه الأرواح القدسية التي تستطيع أن تخترق حجب الغيب وتدرك عالم النور. يقول الفارابي: (الروح القدسية لا تشغلها جهة تحت عن جهة فوق؛ ولا يستغرق الحس الظاهر حسها الباطن؛ وقد يتعدى تأثيرها من بدنها إلى أجسام العالم وما فيه؛ وتقبل المعلومات من الروح والملائكة بلا تعليم من الناس). فبفضل الدراسات النظرية الطويلة والتأملات العقلية الكثيرة يستطيع الحكيم الاتصال بالعقل الفعال، وهذا الحكيم الواصل هو الذي يسمح الفارابي بأن يكل إليه مقاليد أمور مدينته، وبهذا يحل (صاحب المدينة الفاضلة)، على طريقته طبعاً مشكلة الرئيس السياسي والاجتماعي، وهو حل صوفي كما ترى؛ وليس غريباً أن يصدر عن فيلسوف يقول بنظرية السعادة والاتصال. فآراء الفارابي السياسية، وإن اعتمدت على دعائم أفلاطونية مشوبة بنزعة صوفية واضحة.
على أن الاتصال بالعقل الفعال ممكن أيضاً عن طريق الخيالة، وهذه هي حال الأنبياء؛ فكل إلهاماتهم وما ينقلون إلينا من وحي منزل أثر من آثار الخيالة ونتيجة من نتائجها، وإذا ما رجعنا إلى علم النفس عند الفارابي وجدنا أن المخيلة تلعب فيه دوراً هاماً وتنفذ إلى نواحي الظواهر النفسية المختلفة. فهي منبتة الصلة بالميول والعواطف وذات دخل في الأعمال العقلية والحركات الإرادية. تمد القوى النزوعية بما يستثيرها ويوجهها نحو غرض ما؛ وتغذي الرغبة والشوق بما يؤججهما ويدفعهما إلى السير في الطريق حتى النهاية. هذا إلى أنها تحتفظ بالآثار الحسية وصور العالم الخارجي المنقولة إلى الذهن عن طريق الحواس، وقد لا يقف عملها عند ادخار الصور الذهنية والاحتفاظ بها، بل تخلق منها قدراً مبتكراً لا تحاكى فيه الأشياء الحسية، وبهذا يشير الفارابي إلى الخيالة المبدعة التي تنبه إليها علماء النفس المحدثون بجانب الخيالة الحافظة ومن الصور الجديدة التي تخترعها الخيالة تنتج الأحلام والرؤى. ويعنينا هنا قبل كل شيء أن نبين أثر الخيالة في الأحلام وتكوينها. فإنا إن فسرنا الأحلام تفسيراً علمياً استطعنا أن نفسر النبوة وآثارها. ذلك لأن الإلهامات النبوية إما أن تتم في حال النوم أو في حال اليقظة؛ وبعبارة أخرى إما أن تبدو على صورة الرؤيا الصادقة أو الوحي. والفرق بين هذين الطريقين نسبي، والاختلاف بينهما في الرتبة لا في الحقيقة. وما الرؤيا الصادقة إلا شعبة من شعب النبوة تمت إلى الوحي بصلة وتتحد معه في الغاية وإن اختلفت عنه في الوسيلة. فإذا فسرنا أحدهما أمكن(173/22)
تفسير الآخر. وقد عقد الفارابي في كتابه: آراء أهل المدينة الفاضلة فصلين متتاليين (في سبب المنامات، وفي الوحي ورؤية الملك)؛ وفي هذا ما يبين الصلة بين هذين المبحثين.
فهو يبدأ أولا بالأحلام فيوضحها توضيحاً يقرب كثيراً من بعض الآراء العلمية الحديثة، ويرى أن المخيلة متى تخلصت من أعمال اليقظة تفرغت أثناء النوم لبعض الظواهر النفسية، فتخلق صوراً جديدة أو تجمع صوراً ذهنية قديمة على أشكال مختلفة محاكية ومتأثرة في ذلك ببعض الاحساسات والمشاعر الجسمية أو العواطف النفسية والمدركات العقلية، فهي قوة مخترعة قادرة على الخلق والإيجاد والتصوير والتشكيل، ولها أيضاً قدرة عظيمة على المحاكاة والتقليد، وفيها استعداد كبير للانفعال والتأثر فأحوال النائم العضوية والنفسية واحساساته ذات أثر واضح في مخيلته، وبالتالي في تكوين أحلامه، وما اختلفت الأحلام فيما بينها إلا لاختلاف العوامل المؤثرة فيها، فنحلم بالماء أو السباحة مثلاً في لحظة يكون مزاجنا فيها رطبا، وكثيرا ما مثلت الأحلام تحقيق رغبة أو الفرار من فكرة بغيضة؛ فقد يتحرك الإنسان أثناء نومه تلبية لنداء عاطفة خاصة، أو يجاوز مرقده ويضرب شخصاً لا يعرفه أو يجري وراءه، وعلى الجملة الميول الكامنة والاحساسات السابقة أو المصاحبة لحلم ما ذات دخل عظيم في تكوينه وتشكيله. ولسنا في حاجة لأن نشير إلى أن هذه الملاحظات على بساطتها تشبه التجارب العلمية التي قام بها فرويد وهرفي وموري من علماء النفس المحدثين الذين اشتغلوا بالأحلام وتحليلها. وقد أبان فرويد في جلاء أثر الميول الكامنة في تشكيل الرؤى والأحلام، وخاصة لدى الكهول والشبان؛ واستطاع هرفي وموري أن يبرهنا على أن الحلم غالباً ما يكون امتداداً لإحساس سابق أو نتيجة لإحساس مقارن، فقد يحلم الإنسان بحريق في حجرته في الوقت الذي يقع فيه بصيص من الضوء على حدقته أثناء نومه، أو بأنه يضرب على أثر ألم في ظهره. وقد حدث مرة أن رأى شخص أن داره تنهار به في الوقت الذي انكسرت فيه إحدى قوائم سريره. ولقد وصل الأمر بهرفي أن ظن - بناء على ما سبق - أنه يمكن أن يتصرف في أحلامه ويشكلها كما يشاء، فمتى ربط صلة بين بعض الاحساسات وذكريات معينة استطاع في نومه استعادة هذه الذكريات بإثارة الاحساسات المتصلة بها. وقديماً حاول الإغريق أن يحتفظوا بأحلامهم أو يثيروها بواسطة بعض الطقوس الدينية.(173/23)
وإذا كان في مقدور الخيالة أن تحدث كل هذه الصور فهي تستطيع أن تشكلها بشكل العالم الروحاني، فيرى النائم السموات ومن فيها، ويشعر بما فيها من لذة وبهجة. وفوق هذه فقد تصعد المخيلة إلى هذا العالم وتتصل بالعقل الفعال الذي تتقبل منه الأحكام المتعلقة بالأعمال الجزئية والحوادث الفردية، وبذا يكون التنبؤ؛ وهذا الاتصال يحدث ليلاً ونهاراً، وبه نفسر النبوة، فهو مصدر الرؤيا الصادقة والوحي. يقول الفارابي: (إن النبوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جداً، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاءً يستغرقها بأسرها، ولا يستخدمها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير تفعل به أيضاً أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منها في وقت النوم. . . اتصلت بالعقل الفعال وانعكست عليها منه صور في نهاية الجمال والكمال، وقال الذي يرى ذلك إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود واحد منها في سائر الموجودات أصلاً، ولا يمتنع إذا بلغت قوة الإنسان المتخيلة نهاية الكمال أن يقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها، فيكون له بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية، وهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة والتي يبلغها الإنسان بهذه القوة فميزة النبي الأولى في رأي الفارابي أن تكون له خيالة قوية تمكنه من الاتصال بالعقل الفعال أثناء اليقظة وفي حال النوم، وبهذه الخيالة يصل إلى ما يصل إليه من إدراكات وحقائق تظهر على صورة الوحي أو الرؤيا الصادقة، وليس الوحي شيئاً آخر سوى فيض من الله عن طريق العقل الفعال، وهناك أشخاص قويو الخيالة، ولكنهم دون الأنبياء فلا يتصلون بالعقل الفعال إلا في حال النوم، وقد يعز عليهم أن يعربوا عما وقفوا عليه، أما العامة والدهماء فمخيلتهم ضعيفة هزيلة لا تسمو إلى درجة الاتصال هذه لا في الليل ولا في النهار. يقول الفارابي: (ودون الأنبياء من يرى بعض الصور الشريفة في يقظته وبعضها في نومه، ومن يتخيل في نفسه هذه الأشياء كلها ولكن لا يراها ببصره، ودون هذا من يرى جميع هذه في نومه فقط؛ وهؤلاء تكون أقاويلهم التي يبرون بها أقاويل محاكية ورموزاً وألغازاً وتشبيهات، ثم يتفاوت هؤلاء تفاوتاً كثيراً). وهنا يشير الفارابي(173/24)
إلى جماعة الأولياء والواصلين الذي يتفقون مع الأنبياء في بعض النواحي ويختلفون عنهم في نواحي أخرى.
هذه هي نظرية النبوة التي انتهى إليها الفارابي بعد أبحاثه الاجتماعية والنفسية. فالنبي والحكيم في رأيه هما الشخصان الصالحان لرياسة المدينة الفاضلة؛ وكلاهما يحظى في الواقع بالاتصال بالعقل الفعال الذي هو مصدر الشرائع والقوانين الضرورية لنظام الجمعية، وكل ما بينهما من فارق أن الأول يحظى بهذا الاتصال عن طريق الخيالة والثاني عن طريق البحث والنظر. وسندع الحكيم وطريق اتصاله جانباً فقد تعرضنا له من قبل على صفحات الرسالة حين تكلمنا عن نظرية السعادة، وسنوجه عنايتنا فيما يلي إلى بيان أصول نظرية النبوة وأثرها فيمن جاء بعد الفارابي من فلاسفة ومفكرين.
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور(173/25)
في الأدب المقارن
أثر الدين في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
للدين في أدب كل أمة أثر عميق متشعب، بل هو أخل الآداب والفنون والعلوم، تنشأ كلها في الجماعات البدائية لخدمته، ويستأثر بالتبحر فيها رجاله، ثم تذيع عنهم في بقية الشعب وتنفصل تدريجياً عن الدين، ويستقل كل منا بنفسه، ويظل للدين مع ذلك أثر فيها قل أو كثر، يؤثر فيها من جراء تأثيره في المجتمع الذي تستقي منه العلوم والفنون؛ هكذا كان الدين عند قدماء المصريين واليونان والرومان واليهود وغيرهم من الأمم.
ولا يشد الأدبان العربي والإنجليزي عن هذه القاعدة: فقد تأثر كل منهما بالوثنية أولاً ثم بدين سماوي وكتاب منزل، وشهد
نهضة دينية كبرى كان لها أثر عظيم في مجتمعه، واختلط الدين بالسياسة في كلتا الأمتين وتأثر الأدب بهذا الاختلاط، وكان من رجال الدين في الأمتين بلغاء ذوو أذواق أدبية أتحفوا أدب اللغة بآثار جليلة في الحض على الفضيلة والكمال الروحي، وكان من أدباء كلتا الأمتين متشيعون للطوائف الدينية دافعو عنها في نظمهم ونثرهم.
شهد الأدب العربي أعظم النهضات الدينية طراً بظهور الإسلام، الذي غير وجه المجتمع العري وأغنى الأدب بخير ما فيه من الخطب الدينية والسياسية، وإن يكن الأدب الإنجليزي لم يشهد نشأة النصرانية فلم تفته نهضة دينية عظيمة الشأن هي الإصلاح الديني الذي شمل أوربا في عهد الحياء وامتد في إنجلترا إلى القرن السابع عشر، وانتهى بانتصار طائفة المطهرين، وأنجب هذا العهد رهطاً من الكتاب والشعراء المبرزين أمثال ملتون وبنيان ودَن وهريك وهربرت وكراشو، الذي خلفوا أحسن ما في اللغة من أشعار الورع والطهر والسمو الروحي.
وحبت تلك النهضة الدينية الأدب العربي بكتاب سماوي لن يزال مثلاً أعلى في البلاغة ومعيناً لا ينضب للبلغاء، ومنذ ترجم الإنجيل إلى الإنجليزية ترجمة بليغة، كان له فضل عظيم على اللغة وعلى أدبها، فقد أقام قواعدها ووضح أساليبها، ولم يزل مثلاً للسلاسة والإمتاع.(173/26)
واختلط الدين بالسياسة في الدولة العربية، وكان محور التقائهما مشكلة الخلاف التي اصطرعت حولها الأحزاب وقامت باسمها الدولات، وامتزج الدين السياسة في إنجلترا عهداً، وكان مدار امتزاجهما سلطة الملك وحقوق الشعب، فالملكية تدعي الحق الإلهي والسلطان المطلق في شؤون الدين والدنيا، والشعب يريد الحرية في كلا الأمرين ويحد سلطة الملك في الناحيتين، وتأثر الأدبان بهذا التداخل بين الدين والسياسة.
ويدين الأدب الإنجليزي للديانة بثلاث أياد: الأولى وضع من أوضاع الأدب هو الرواية التمثيلية، التي نشأت في العصور الوسطى في الكنيسة حيث كان يمثل عذاب المسيح والآم الشهداء وخبائث إبليس، وتمثل الفضائل والرذائل شخوصاً متحاورة، فمن هذا البدء الساذج نمت الرواية التمثيلية التي ازدهرت في عهد شكسبير، والتفتت إلى دراسة الإنسان والمجتمع، واليد الثانية أثر أدبي خطير من نفائس الأدب الإنجليزي، هو ملحمة ملتون الفردوس المفقود، التي أوحى إليه بها الروح الديني الذي ساد عصره، والعراك الديني الذي خاض غماره، واستعار مشاهدها ومعالمها من الإنجيل الذي كان به في عهده أسمى مكانة، وأخيراً للكنيسة فضل على الأدب الإنجليزي إذ كان من رجالها من ساعدهم الفراغ الذي ينعمون به على الانصراف إلى الأدب، بل كان منهم من ألحقوا بالكنيسة عمداً ليحظوا بذلك الفراغ وذلك الانصراف، ومن مشهوريهم سويفت ودَن وكنجزلي.
وليس في الأدب العربي ما يقابل هذه الأيادي التي أسدتها الديانة والكنيسة إلى الأدب الإنجليزي: فقد أكبر المسلمون شخص نبيهم عن كل تمثيل وتشخيص، وانتهت حياته بالظفر الأكبر لا بمأساة كمأساة المسيح. وإن يكن في تاريخ الإسلام ما يشابه تلك المأساة فهو مصارع أبناء الإمام علي التي خلدتها الأشعار الباكية، وإذا كانت رسالة الغفران تشابه الفردوس المفقود في امتداد مشاهدها في العالم الآخر فهي تخالفها في كل شيء آخر لاختلاف المؤلفَين؛ ثم إنه لم تكن في الإسلام هيئة دينية رسمية تكاد تقصر على أبناء العلية ومن يلوذ بهم كالكنيسة الإنجليزية.
وفي الأدبين العربي والإنجليزي آثار طريفة للنزعة الصوفية، التي هي من أسمى مظاهر الروح الديني، وإن خرجت عن مألوف المتدينين في أشياء، وأنكر منها رجال الدين أحياناً أموراً، واتخذت لها رموزها وطرقها الخاصة التي تستغلق على غير أربابها، وأظهر(173/27)
أصحاب هذه الطريقة الرمزية في الأدب الإنجليزي بليك، وأجزلهم في العربية شعراً وأسيرهم ذكراً ابن الفارض.
وجاءت النهضة العلمية والفلسفية بعد النهضة الدينية في كلتا الأمتين، تمثل ذلك عند العرب في ذيوع الفلسفة اليونانية، وعند الإنجليز في ارتقاء العلوم المادية كعلوم الحياة وطبقات الأرض والكيمياء والطب، وتطبيق نظرية النشوء والارتقاء عليها وعلى العلوم الاجتماعية، فقام الصدام بين الدين والعلم والفلسفة، وانعكس ظله في الأدب، وأوضح مثال للشك العلمي في العربية شعر المعري، وفي الإنجليزية شعر تنيسون وهاردي.
كان انتصار المطهرين الذين وضعوا أساس حرية الشعب الدينية والسياسية أوج احتفال الإنجليز بالمسائل الدينية وظهور آثارها في أدبهم، وبعدها هبط إلى المحل الثاني من تفكيرهم، ولم تقم له إلا حركات قليلة الشأن في القرن الماضي، إذ كان يحاول كل من فريقي البروتستانت والكاثوليك جمع الأنصار حوله، وظهر في ذلك المعترك من الأدباء المتحمسين للدين جملة، أشهرهم نيومان ثم تشسترتون المتوفى حديثاً، وكانت آراء داروين في منتصف القرن الماضي ضربة شديدة وجهت إلى روايات الإنجيل في شأن الخلق، فانصرف جمهور الناس نهائياً عن التحمس للدين ورجاله، وهكذا بعد الأدب الإنجليزي عن الدين وتأثيره في العصور الحديثة بعداً كبيراً.
أما تأثر الأدب العربي بالإسلام فكان أشمل وأبعد مدى وأطول أمداً من تأثر الأدب الإنجليزي بالمسيحية لأسباب عديدة: أولاً إن الإسلام نشأ بين أظهر العرب فشهدوا مبعثه وجهاده وظفره على الوثنية؛ وثانياً أنه كان أساس دولتهم وقطب سياستهم الداخلية؛ وثالثاً أنه ظل دائماً مجاهداً أعداءه مغيراً تارة ومدافعاً أخرى، فكان قطب السياسة الخارجية أيضاً في أحوال كثيرة؛ ورابعاً أنه كان بعد انتشاره محور العلوم والآداب وكان القران أساس الثقافة التي يؤخذ بها الناشئون؛ وخامساً أنه سوَّى بين الداخلين فيه فقام منهم مقام الوطنية في الأمم الأخرى؛ وأخيراً أنه بأحكامه يشمل أمور الدنيا شموله شؤون الآخرة، ويحيط بقواعد المجتمع الذي هو مبعث الأدب، فلا غرو إن تأثر الأدب العربي في كل عصوره بالدين روحاً ومظهراً وغرضاً وأسلوباً.
فظهور الإسلام بين العرب ترك أثره في شعر الشعراء، بين مهاجم له ومدافع عنه ومادح(173/28)
للرسول (ص)، وظلت مدحة الرسول في كل العصور غرضاً من أغراض الشعر؛ وجهاد الإسلام أعداءه فاتحاً أو منافحاً مدى القرون الطويلة، تجلى أثره في خطب الخلفاء والقواد وأشعار المادحين للأمراء المنتصرين على الروم أو الوثنيين أو الأسبان أو الصليبيين، لاسيما وقد كان ذلك دائماً مصطبغاً بصبغة القومية، فقد كان الإسلام يجمع شعوبه في عصبة أمم واحدة ذات شعور مشترك وأعداء مشتركين، ومن أشهر آثار ذلك كله في الأدب يائية أبي تمام في فتح عمورية، ومدائح المتنبي لسيف الدولة، وقصائد الأبيوردي، والبهاء زهير، وابن مطروح في الحروب الصليبية، ومدائحهم للأيوبيين، ومراثي الأندلس وصقلية، كل هاتيك يخفق فيها الروح الديني، ممتزجاً بالوطنية والسياسة وتمجيد الدولة القائمة.
وفي داخل الدولة كان الدين - متمثلاً في مسألة الخلافة - محور السياسة ومصطرع الفرق ومشتجر الآراء ولثام المطامع ولواء الثورات وشغل الشعوب، فلم يكن هناك صراع بين ملكية مستبدة وشعب متشبث بحرياته، ولم يكن هناك محافظون وأحرار، ولا اشتراكيون ورأسماليون، ولكن كان هناك خوارج غلاة في الدين يحبذون الشورى ويقرون الخلافة في الأصلح لها، وأمويون وعباسيون وعلويون، كل منهم يدعي الإمامة، ومرجئة ومعتزلة يحظون حينا بتقريب البلاط، ويستهدفون حينا لمقته، وعامة الشعب في أغلب العصور مع شيعة عليّ لمكانة سلفهم العظيم من النبي وقدمه في الإسلام، ولما حاق بالغطاريف من ذريته من تنكيل جَمَعَ بينهم وبين الشعب المقهور بعطف متبادل.
ومرآة كل ذلك جلية في أشعار أقطاب الخوارج، ومتشيعي الشعراء من عهد الكميت وكُثيّر والفرزدق، إلى زمن ابن الرومي إلى عصر عمارة اليمني الذي رثى دولة الفاطميين رثاء موجعاً، وفي أشعار طالبي الدنيا المناصرين للدولة القائمة المؤيدين لدعواها، كمروان بن أبي حفصة، وفي نثر زعماء المذاهب ونظمهم في بيان آرائهم والنضح عن مبادئهم، كخطب واصل بن عطاء وشعر صاحب المرجئة الذي يقول منه:
نرجي الأمور إذا كانت مشابهة ... ولا نحاور فيمن جار أو عندا
ولا نرى أن ذنبنا بالغ أحدا ... ما الناس شركا إذا ما وحدوا الصمدا
وشمول روح الدين أو مظهره لكل مرافق المجتمع وقواعده الدولة على هذا النحو ترك في(173/29)
الأدب عامة: إذ صبغ أكثره بصبغة الجد والرزانة والقصد في القول واجتناب الإيغال في الخيال، والولع بالحكم والعبر والأمثال، ورغّب الأدباء في الأخبار الصادقة عن السلف من جاهليين وإسلاميين، وزهدهم في الأساطير ومختلق الأحاديث، والى رهبة الدين الذي كان عماد الدنيا والآخرة ترجع أشعار الزهد والوعظ التي يحفل بها الأدب كأشعار أبي العتاهية وابن عبد القدوس، والى جلالته وجلالة الانتماء إليه ترجع مسحة التسامي والعفة التي تزين على شعر الشريف الرضى.
كان الدين دائماً منبث الروح، وإلا فمتجسم المظهر في شوْون الحياتين، وإن صدمته الأهواء السياسية كثيراً، وغلبته الأهواء الفردية، وتغافل عنه حماته فلم ينشطوا للذود عن حرمانه إلا أن يكون في ذاك قضاء لمآربهم أو شفاء لسخائمهم، حتى كان من المتناقضات حقاً أن الأدب العربي الذي ازدهر في ظل دول إسلامية حوى من جريء القول ما لم يحو غيره.
وخلاصة القول أن كلا الأدبين العربي والإنجليزي تأثر بدين قومه تأثرا بينا، ولكن بينما كان تأثر الأخير بالمسيحية مقصوراً على عهود بذاتها وأمور بعينها، ثم ركد أمر الدين، وأحس الأدب أنه قد استفاد منه كل ما يمكنه أن يستفيد، فانصرف عنه، ظل للدين في الأدب العربي دائما مكانة عالية وأثر بعيد، وسيظل له مثل هذه المكانة ومثل هذا الأثر، في كل أدب يدين مجتمعه بالإسلام وينطق بالضاد.
فخري أبو السعود(173/30)
بين شوقي وابن زيدون
بقلم الدكتور زكي مبارك
- 1 -
عرفنا ابن زيدون العاشق الذي يحسن التحدث عن مآسي القلوب، ويكاد يعرف أسرار النفوس، فماذا نقول عن شوقي؟ لقد طال الحديث عن هذا الشاعر في فصول هذا الكتاب، ونخشى أن يتحيَّف حقوق من عرضنا لهم من الشعراء، ولكن كيف نستكثر القول في شوقي، وقد بذَّ ابن زيدون؟ إن نونية شوقي أعجوبة من الأعاجيب، وقد أرسلها من الأندلس في أعقاب الحرب العالمية فضجّ لها شعراء مصر، وأجابه إسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وعبد الحليم المصري؛ ولكنهم عجزوا جميعاً عن الجري في ميدانه، ولم يُؤثَرْ لهم في معارضته شيء ذو بال بالقياس إلى أمير الشعراء.
ابتدأ ابن زيدون نونيته بشكوى البين والأعداء والزمان، وكانت الأبيات السبعة التي تحدث بها عن جواه زفرة محرقة لم يعيها ما وشيت به من الزخرف، ولكن أين هي من بداية شوقي حين خاطب الطائر الحزين في وادي الطلح بضاحية إشبيلية؟ لقد تمثل الطائر شبيهاً به في لوعته وجواه فاندفع يقول:
يا نائح الطَّلحِ أشباهٌ عوادينا ... نشْجى لواديكَ أم نأسى لوادينا
ماذا تَقُصُّ علينا غير أنَّ يداً ... قصت جناحيك جالت في حواشينا
رَمى بنا البينُ أَيكا غير سامِرنا ... أخا الغَريب وَظِلاً غير نادينا
كلٌّ رَمَتهُ النَّوى، ريشَ الفِراقُ لنا ... سَهما، وسُلَّ عَليكَ البَينُ سِكِّينا
إذا دعا الشوقُ لم نبرَح بمُنصَدِعٍ ... من الجناحين عَيٍّ لا يُلَبِّينا
فإن يكُ الجنسُ يا ابن الطلح فرَّقنا ... إن المصائب يَجمعن المصابينا
لم تألُ ماَءكَ تحناناً ولا ظَمأ ... ولا ادِّكاراً ولا شجوَاً أفانينا
تَجُرُّ من فَننٍ ذيلاً إلى فننِ ... وتسحب الذيلَ ترتادُ المؤاسينا
أساةُ جسمك شتى حين تطلبهم ... فمن لروحك بالنُّطس المداوينا
والشاعر في هذه الأبيات حيران، يجعل الطائر في حالتين: حال المغترب، وحال المقيم، فما تدري أيبكي من الغربة أم ينوح من فقد الأليف؛ ومع حيرة الشاعر وضلاله عن تحديد(173/31)
ما يريد نراه بلغ غاية الرفق حين قال:
تَجُرُّ من فَننٍ ذيلاً إلى فننِ ... وتسحب الذيلَ ترتادُ المؤاسينا
وهي حال نشهدها في الطائر المحزون، فقد نرى الطائر يتنقل على غير هدى من أيك إلى أيك، فنعرف أنه يبحث عمن يواسيه، ولكن أين من يواسي الطائر الحزين؟ إن شوقي نفسه أخطأ حين قال:
أساةُ جسمك شتى حين تطلبهم ... فمن لروحك بالنُّطس المداوينا
فإن الطائر لا يجد من يأسو جسمه، وإنما يجد من يذبحه ويشويه، والناس ألأم من أن يطِبُّوا لطائر جريح!
وانتقل ابن زيدون من شكوى البين والأعداء والزمان إلى معاتبة حبيبته، فذكر أنه لم يستمع وشاية ولم يعتقد إلا الوفاء، أما شوقي فقد انتقل من خطاب الطائر إلى بكاء الأندلس والحنين إلى مصر، فقال:
واهاً لنا نازحي أيكٍ بأندلسٍ ... حللنا رَفيفاً من رَوابينا
رسمٌ وقفنا على رسمِ الوفاءِ لهُ ... نجيشُ بالدمع والإجلالُ يثنينا
لفتيةٍ لا تنالُ الأرضُ أدمعهم ... ولا مفارقُهم إلاَّ مصلينا
لو لم يسودُوا بدينٍ فيه منبهةٌ ... للناس كانت لهم أخلاقهم دينا
لم نسر من حرمٍ إلا إلى حرمٍ ... كالخمر من بابل سارت لدارينا
لما نبا الخلْدُ نابت عنهُ نُسختهُ ... تماثُلَ الوردِ خيرياً ونسرينا
نسقي ثراهمْ ثناءً، كلما نُثِرَتْ ... دموعُنا نُظمت منها مراثينا
كادت عيونُ قوافينا تحرِّكهُ ... وكدنَ يوقظن في الترب السلاطينا
وللقارئ أن يتأمل الحسن في هذه الأبيات، فالشاعر يغلبه الدمع، وهو يتذكر ملوك الأندلس، ولكن الإجلال يثنيه عن البكاء، لأنه في ديار قوم لم تنل الأرض أدمعهم ومفارقهم إلا عند السجود، فهم لم يعرفوا الخشوع لغير الله، وذلك من أبعد الغايات في الثناء.
ويأبى شوقي غلا أن يحرص على المعاني الشعرية، فهو في الأندلس لا يسري من حرم ألا إلى حرم، ولكن كيف؟ كالخمر سارت من بابل إلى دارين! وقديسة الخمر لا تجوز في غير مذاهب الشعراء.(173/32)
ثم قال في الحنين إلى وطن النيل:
لكن مصر وإن أغضت على مقةٍ ... عينٌ من الخلدِ بالكافور تسقينا
على جوانبها رفَّت تمائمُنا ... وحول حافاتها قامت رواقينا
وهذا معنى قديم سبقه إليه من قال:
أحبُّ بلاد اللهِ ما بين منعِجٍ ... إلي وسلمى لو يصوبُ سحابها
بلادٌ بها نِيطتْ عليَّ تمائمي ... وأول أرض مسَّ جسمي ترابُها
والبكر هو قول شوقي:
ملاعبٌ مَرحَت فيها مآرُبنا ... وأربُعٌ أنِسَتْ فيها أمانينا
وإنما كان هذا معنى بكراً لما فيه من طرافة الخيال، أرأيتم كيف تمرح المآرب، وكيف تأنس الأماني؟
لقد رأيت شوقي أول ما رأيته سنة 1921، وكان دعاني للغداء عنده بالمطرية مع الأصدقاء الأكرمين مصطفى القشاشي، وسعيد عبدة، وأحمد علام، فعجبت يومئذ لذلك المبسم الساحر وسألت نفسي: كيف كان ذلك الملاك في صباه!
إن حنين شوقي إلى مصر حنينٌ عميق، وإنما كان كذلك لأن الشاعر شهد في مصر دنيا من الحب والمجد لم يظفر بها إلا الأفلون؛ ودنيا شوقي لم تكن مثل دنيا الناس في هذا الزمان، كانت الدنيا في شباب شوقي تفيض بالبشر والإيناس، وكان الشاعر يعيش فيها عيشة مضمخة بالسحر والفتون، وكان للجمال قدسية، وكان للصبا سلطان، وكانت خطوب الزمن لا تهد النفوس كما تفعل في هذه الأيام.
ومن البكر أيضاً قول شوقي:
بنَّا فلم نخلُ من رَوحٍ يُراوحنا ... من برِّ مصرَ وريحان يُغادينا
كأُمِّ موسى على اسم الله تكفلنا ... وباسمه ذهبت في اليمِّ تلقينا
يريد ان يقول إن مصر لم تلقهِ في النفي غلا خوفاً عليه من كيد فرعون، فرعون القرن العشرين المستر جون بول!
- 2 -
تذكرون قول ابن زيدون:(173/33)
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به ... من كان صِرفَ الهوى والودِّ يسقينا
واسألْ هنالك هل عنى تذَكُّرُنا ... إلفاً تذكرهُ أمسى يُعَنِّينا
وهذا شعر جميل، ولكن انظر كيف عارضه شوقي فقال:
ياساريَ البرقِ يرمي عن جواِنحنا ... بعد الهدوءِ ويهمي عن مآقينا
لما ترقرقَ في دمعِ السماءِ دماً ... هاجَ البكا فخضبنا الأرضَ باكينا
الليلُ يشهدُ لم نهِتك دياجيَهُ ... على نِيامٍ ولم نهِتفْ بسالينا
والنَّجمُ لم يرَنا إلاَّ على قدمٍ ... قيامَ ليلِ الهوى للعهدِ راعينا
كزفرةٍ في سماءِ الليلِ حائرَةٍ ... مِمَّا نُردِّدُ فيهِ حينَ يضوينا
َباللهِ إن جُبتَ ظلماَء العبابِ على ... نجائبِ النور مَحْدواً (بجرِّينا)
ترُدُّ عنكَ يداهُ كلَّ عاديةٍ ... إنْساً يعِثنَ فساداً أو شياطينا
حتى حوتْكَ سماءُ النيل عاليةً ... على الغيوثِ وإن كانت ميامينا
وأحرزتك شفوف اللاَّزَورْد على ... وشى الزبرْ جدِ من أفوافِ وادينا
وحازكَ الريفُ أرجاءً مؤرَّجة ... ربت خمائلَ واهتزَّت بساتينا
فقفْ إلى النيل واهتفْ في خمائِله ... وانزل كما نزلَ الطَّلُّ الرَّياحينا
وآس ما باتَ يذْوي من منازلنا ... بالحادثاتِ ويضوي منْ مغانينا
انظروا. ابن زيدون يسأل البرق أن يسقي القصر، وشوقي يسأل البرق أن يأسو المنازل الذاوية، والمغاني الضاوية، والمعنيان مقتربان، ولكن شوقي أعطانا صورة شعرية لتنقل البرق من أفق إلى أفق، وانحداره من أرض إلى أرض، وأعطى صوراً من ريف مصر وخمائل النيل لا تشوقُ غلا شاعراً ودَّع دنياه حين ودَّع النيل.
وقال ابن زيدون:
ويا نسيمَ الصِّبا بلّغ تحيتنا ... من لوْ على البعد حيَّاً كان يحيينا
عارضه شوقي فقال:
ويا معطّرة الوادي سَرت سحراً ... فطاب كلُّ طروحِ من مرامينا
ذكيَّةَ الذَّيل لو خِلنا غلالتها ... قميصَ يوسف لم نُحسب مُغالينا
جَشِمتِ شوك السرى حتى أتيت لنا ... بالورد كُتْباً وبالرَّيا عناوينا(173/34)
فَلوْ جزيناكِ بالأرواحِ غاليةً ... عن طيبِ مسراكِ لم تنهَضْ جوازينا
هل من ذيولك مِسكيٌّ نحمِّلُه ... غرائبَ الشوقِ وشياً من أمالينا
إلى الذين وجدنا وُدَّ غيرهمو ... دُنيا ووُدَّهمُ الصافي هو الدِّينا
إن ابن زيدون لم يزد على أن قال: (يا نسيمَ الصِّبا)، وهو تعبير ورد في مئات القصائد، أما شوقي فراح يَفتنُّ افتناناً يدل على قوة الشاعرية، وبراعة الخيال، فوصف النسمة بأنها معطرة الوادي، وأنها سارت في السحَر فطاب بمسراها كلُّ مرمىً سحيق، وأنها ذكيةُ الذيل كأنها قميص يوسف، وأنها جشِمت شوك السرى حتى أتت بالورد مجسماً في رسائل، وأتت بالريَّا مُمثَّلةً في عناوين، وشكر لها النُّعمى فقال:
فَلوْ جَزَيناكِ بالأرْوَاحِ غالِيَةً ... عن طيبِ مسراكِ لم تنهض جَوَازينا
وابن زيدون يقول: (بلِّغ تحياتنا) وهي عبارة جافيةٌ، لأنها وردت في صورة الأمر، أما شوقي فيترفق، ويقول:
هل من ذيولك مِسكيٌّ نحمِّلُه ... غرائبَ الشوقِ وشياً من أمالينا
وابن زيدون يصف أحبابه بالقدرة على إحيائه لو أسعفوه بتحية، وشوقي يجعل كل هوى غير هوى أحبابه بمصر صورة من الدنيا، أما هوى أحبابه الذين يتشوق إليهم فهو في صفاء الدِّين
ولا ننكر أن أخيلة شوقي مقتبس من ابن زيدون، فقول شوقي:
ياساريَ البرقِ يرمي عن جواِنحنا ... بعد الهدوءِ ويهمي عن مآقينا
اختلس برفق وحذق من قول ابن زيدون:
بنتم وبنَّا فما ابتلَّت جوانحُنا ... شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا
والمعنى الذي عرضه ابن زيدون في ثلاثة أبيات بسطه شوقي في ثمانية عشر بيتاً، وإنما اتفق له ذلك لأنه كان يعارض ابن زيدون، فكان لابدَّ له من توشيةٍ بارعة تُعَفِّ على النظرة الفطرية في أبيات ابن زيدون، ولابن زيدون فضل السبق، ولشوقي فضل البراعة في تلوين الصور الشعرية، وهو فضل ليس بالقليل.
وأراد ابن زيدون أن يتذكر أيام الأنس فقال:
حالت لفَقْدِكُمو أيامُنا فغدت ... سُوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا(173/35)
إذ جانِبُ العيش طلق من تألُّفنا ... ومربع اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هصرنا فُنون الوصل دانية ... قُطُوفُهُ فجنينا منه ما شِينا
ليُسق عهدُكُمُ عهد السرور فما ... كُنتم لأرواحنا إلا رَياحِينا
وهذا شعرٌ صافي الديباجة، رائع المعاني، ولكن انظروا كيف عارضه شوقي فجمع بين الأسى والفخر حين قال:
سقياً لِعَهدٍ كأكنافِ الرُّبا رِفَةً ... أنَّى ذَهبنا وأعْطَافِ الصِّبا لينا
إذ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهيةٌ ... ترِفُّ أوقاتُنَا فيها رَياحينا
الوصلُ صافيةٌ والعيشُ نافيةٌ ... والسعدُ حاشيةٌ والدهر ماشينا
والشمسُ تختالُ في العِقْيانِ تحسَبُها ... بَلْقيسَ تَرْفُلُ في وشي اليمانينا
والنيل يُقبلُ كالدنيا إذا احتفلت ... لو كان فيها وفاءٌ للمصافينا
والسعد لو دام والدنيا لو اطردت ... والسيل لو عفَّ والمقدار لو دِينا
ألقى على الأرضِ حتى ردّها ذهباً ... ماءً لَمسنا به الإكسير أو طينا
أعداءُ من يُمنِهِ (التابُوتُ) وارْتسمتْ ... على جَوانبهِ الأنوَارُ مِنْ سينا
له مبالغُ ما في الخُلقِ من كرم ... عهدُ الكرام وميثاق الوفيِّينا
لم يجر للدهرِ إعذارٌ ولا عُرُسٌ ... إلاَّ بأيامنا أوْ في ليالينا
ولا حوى السعدُ أطغى في أعنته ... منَّا جياداً ولا أرخى ميادينا
نحنُ اليواقيتُ خاضَ النارَ جَوهَرُنا ... وَلم يَهنْ بيدِ التشتيت غالينا
ولا يَحولُ لنا صبغ ولا خلق ... إذا تلوَّن كالحرباءِ شانينا
والقارئ حين يوازن بين هاتين القطعتين لا يدري أيهما أجود، لأن ابن زيدون على قصر نفسه في هذا الشوط بلغ غاية الرشاقة حين قال:
وإذا هصرنا فنون الأنس دانية ... قطفه فجنينا منه ما شينا
وبلغ غاية الدقة حين قال:
إذ جانب العيش طلق من تألفنا ... مورد اللهو صاف من تصافينا
والدقة في هذا البيت تؤخذ من صدق التعليل، فالعيش لم تتسع جوانبه إلا بفضل التألف، تألف القلبين، واللهو لم يصف مورده إلا بفضل التصافي، تصافي الحبيبين، والدنيا لا كدر(173/36)
فيها ولا صفاء، وإنما تصفو حين تصفو النفوس، وتقسو حين تقسو القلوب، فالزهر الذي يبسم لك لا يبسم لك وحدك، وإنما تراه يخصك بالرفق لأن الدنيا صفت لك، وقد يراه غيرك في ابتسامه صورة من صور العبوس، والنهر الذي تنظر إليه في الليالي المقمرة فتراه عاشقاً يغازل القمر ويتلقى دعابته في حنان، هذا النهر لا يتمثل لك كذلك إلا لأنك تشاهد أمواجه الفضية بقلب مرح وحس طروب، وهو نفسه قد يبدو للمحزون صورة من صور الاكتئاب.
ويروقنا قول شوقي:
سقياً لِعَهدٍ كأكنافِ الرُّبا رِفَةً ... أنَّى ذَهبنا وأعْطَافِ الصِّبا لينا
إذ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهيةٌ ... ترِفُّ أوقاتُنَا فيها رَياحينا
الوصلُ صافيةٌ والعيشُ نافيةٌ ... والسعدُ حاشيةٌ والدهر ماشينا
والنيل يُقبلُ كالدنيا إذا احتفلت ... لو كان فيها وفاءٌ للمصافينا
يروقنا هذا الشعر، لأن الشاعر جعل عهده في نضرة الزهر الذي يتفتح في أكناف الربوات، ولأنه رأى اللِّين في أيام الأنس شبيهاً باللين في أعطاف الصبا، وأعطاف الصبا جوهرٌ نبيل لا يعرف طيب لينها إلا شاعر أمكنته من أعطاف الصبا سَورَةُ الصبوات، ويروقنا أيضاً لطرافة هذا الخيال:
(ترف أوقاتنا فيها رياحينا)
ورفيف الأوقات معنى يعرفه العشاق الذين دار بهم الزمن في أرجوحة اللهو الجموح.
ويروقنا هذا الشعر مرة ثالثة لأن الشاعر يرى إقبال النيل كالدنيا حين تحتفل، وانظروا كيف تكون الدنيا حين تحتفل، ثم تأملوا روعة هذا الاستدراك:
(لو كان فيها وفاء للمصافينا)
ولكن هذه الطرافة في أخيلة شوقي لا تنسينا براعة ابن زيدون حين جعل محبوبته كل شيء حين قال:
يا روضة طالما أجنت لواحظنا ... ورداً جلاء الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياة تملينا بزهرتها ... منىً ضروباً ولذاتٍ أفانينا
ويا نعيماً خطرنا من نضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا(173/37)
إن لم يكن هذا هو الشعر فما عسى الشعر أن يكون؟ أترون العذوبة في الهتاف بالروضة التي (طالما أجنت لواحظنا ورداً جلاه الصبا)، تأملوا عبارة (أجنت لواحظنا)، وانظروا كيف تغزونا الروضة فتقهرنا على تذوق جناها المرموق، والشاعر لا ينتظر حتى تهفو نفسه إلى مناعم الروضة، وإنما تهجم الروضة عليه فتعلمه كيف يهصر الأفنان، وكيف يجني القطوف، وعبارة (جلاه الصبا) ما رأيكم فيما تحويه من سحر أخاذ؟ ثم ما هذا التعبير الطريف:
(منىً ضروباً ولذات أفانينا)
أتعرفون كيف يكون للمعنى ألوان وللذات أفانين؟ إن هذا خيال شاعر غرق مرة في كوثر الوصال.
وانظروا هذا البيت:
ويا نعيماً خطرنا من نضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
أتحسون قوة هذا المعنى؟ ألا يُريكم الخيال صورة فتىً منعم يسحب ذيل النعيم؟ إن ابن زيدون في هذه الأبيات أقوى من شوقي في التحسر على ما ضاع من دنيا الهوى المفقود
(البقية في العدد القادم)
زكي مبارك(173/38)
في الأدب التحليلي
صورة. . .!
(مهداه إلى أخي الأستاذ أنور العطار)
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . كان معروفاً بالشذوذ والخروج عن المألوف، لا يبالي إذا اتجه له الرأي ما يقول فيه الناس، ولا يحفل إذا أزمع الأمر نهى ناهٍ ولا نصيحة ناصح، وكان يعرف ذلك من نفسه ولا يغضبه أن يوصف به، بل كثيراً ما سمعناه يتحدث به ويطيل الحديث، يجد في كشف دخيلته للناس لذة وارتياحاً، كأنما هو يلقي عن عاتقه حملاً ثقيلاً. . .
يجمع في نفسه المتناقضات: فبينما هو منغمس في لج الحياة المضطربة المائجة يفزع من الوحدة، ويكره الهدوء، ويركب متن المغامرات في الأدب وفي السياسة، يحطب في المجامع، ويناقش في الصحف، وبينما هو مطمئن إلى هذه الحياة، مقبل عليها، إذا به قد استولت على نفسه (فكرة صوفية. . .)، فغمرت الكآبة روحه، وفاض اليأس على قلبه، وأحس الحاجة إلى الفرار من الناس، والرغبة في العزلة المنقطعة، وأصبح يكره أن يرى أمس أصحابه به، وأدناهم إلى فلبه، ويحب الحياة الساكنة الهادئة، ويجد الأنس في حديث قلبه ومناجاة ربه. . .
وهو أسرع الناس إلى المزاح والفكاهة، وأضيقهم بمجالس الجد، وأبعدهم عن تكلف الوقار، واتباع (الرسميات)، فلا يكون في مجلس إلا حركه بحديثه وإشاراته ونكاته، وأفاض عليه روح المرح، والود الخالص، ولكن موجة من الحزن المفاجئ، قد تطغى على قلبه في أشد الساعات سروراً، وأكثر المجالس طرباً فإذا هو حزين كئيب. قد ضاق بالناس وتبرم بمزاحهم وهزلهم، وغدا راغباً في الجد محباً للوقار، متلبساً بالصرامة والحزم، منصرفاً عما كان فيه منذ لحظة واحدة، لا يعرف الناس ولا يعرف هو، ماذا أصابه، فنقله من حال إلى حال.
تغلب عليه العاطفة حيناً فيمسي ارق الناس شعوراً، وأرهفهم حساً؛ يرى المشهد الجميل من مشاهد الكون، أو يسمع النغمة العذبة الشجية، أو يقرأ البيت الغزلي الرقيق، أو القصة(173/39)
العاطفية المحزنة، فتوقظ في نفسه عالماً من الذكريات، فيخفق لها قلبه، ويهفو لها فؤاده، ويحس بها تلذعه لذعاً، وتفيض على نفسه شعوراً طاغياً، بحب مبهم غامض، لا يجد طريقاً ينبعث منه، فيزلزل كيانه زلزلة، كما يزلزل البركان الأرض، إن لم يجد فوهة يندفع منها. . . ويدعه شخصاً متهافتاً، لا يقوم إلا على أعواد من العواطف الرقيقة المتداعية. . . ويسيطر عليه العقل أحياناً فيحتقر العاطفة، ويدعو إلى أدب قوي نافذ، ويسخر من الحب ويهزأ بالعاشقين، ويزدري هذه القصص وهذه الأشعار التي كان يرقص لها قلبه وتفيض لها مدامعه. . .
ويقبل على العمل بهمة عجيبة ورغبة قوية، فيطالع ويكتب، ويعمل كآلة دائبة الحركة، لا يأخذه ضعف ولا خور، ثم يشعر فجأة بكراهية العمل والنفور من المطالعة الجدية والعزوف عن الكتابة والتأليف ويستولي عليه كسل عقلي عجيب، لا يطيق معه عملاً من الأعمال. . .
عرفته في دمشق، وقد كان يعمل في مدرسة ابتدائية، نزلوا به إليها، فلا يكلفه العمل فيها جهداً ولا مشقة، ولا يشغل من تفكيره شيئاً، فكان يستمتع بوقته ونفسه كما يشاء، ويشتغل بالأدب للذة والمتعة الفنية. فيقرأ ما طابت له القراءة، ويكتب ما رغب في الكتابة، ويؤلف ما مال إلى التأليف. . . فكرة هذه الحياة وهوى الحياة العقلية المنظمة التي تضطره إلى نوع من الدرس بعينه، وتجبره على نوع من الكتابة بذاتها - وكان يعيش في أسرة رفرف عليها الحب، وسادها الإخلاص وأسبغ عليها ثوب السعادة، بين اخوة له ما رأى الراءون مثلهم في ذكائهم واستقامتهم وطاعتهم إياه، وحبهم له، وحرصهم على رضاه، وصحابة له ما فيهم إلا أريب طيب النفس، صادق الود صافي السريرة حسن السيرة، وكان له في بلده منزلة يحسده عليها من هو أكبر منه سناً وجاهاً، وأكثر علماً ومالاً، فمل هذه الحياة ومال إلى الهجرة وانتجاع أفق جديد. . . وأزمع السفر إلى بغداد، تاركاً عمله في وزارة معارف الشام، عاصياً الناصحين والناهين من الأهل والأصحاب. . . وجاء معنا إلى بغداد، فلم يكد يلقي فيها رحله حتى عراه اكتئاب وملل لا يعرف له سبباً، وأحس الحنين يحز في قلبه والشوق يدمي فؤاده، وانتابته إحدى نوباته العاطفية، فلم تدع في رأسه إلا فكرة واحدة، هي الرغبة في العودة، لا يبالي معها ماذا قيل عنه، وماذا ضاع من عقله، فصحا من نوبته،(173/40)
وتخلص من عاطفته، فآثر البقاء وأقبل على العمل، فلم يمض عليه يوم حتى سمع من ينشد:
فيم الإقامة بالزوراء؟ لا شكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي!
فنشطت عاطفته المكبوتة من عقالها، تصرخ في وجه العقل، أن: فيم الإقامة بالزوراء؟ فغلب العقل واستحذى وذهب يستعد لمعركة أخرى. . .
ولقد وجد في بغداد من الإكبار فوق ما كان يرجو ونرجو له، ووجد اسمه قد سبقه إليها، وحف به قراؤه والمعجبون به، وأسرعوا للسلام عليه والاجتماع به، فلم يكن أبغض إليه وأشد عليه من هذه الاجتماعات، فكان يعرض عنهم ويرتكب في هذا الباب أشد الحماقات، حتى إنه ليدع الجماعة من علية القوم في ردهة الفندق ويفر منهم، وما جاءوا إلا من أجله، فيقوم من غير استئذان ولا اعتذار، ويذهب إلى غرفته فيعتصم بها. . وإنه ليعلم ما في عمله من الجفاء، ولكنه يضطر إليه اضطراراً، فهو يشعر أن جو هذه المجالس ثقيل عليه حتى ليوشك أن يخنقه ويغدو فيه كمن سد أنفه وفمه، وإنا لنلومه ونثقل عليه الملام، فلا يدفع عن نفسه لوماً ولا يحاول إنكاراً، ويعترف بالضعف، ويقر بالعجز، فنرحمه ونكف عنه.
إنه لا يستطيع أن يحمل اسمه، لا يقدر أن يتلقى بوجهه وجسمه هذا الإعجاب الذي يزعمون أنهم يوجهونه إلى الشخص الآخر الذي ينشر في (الرسالة) كأن له شخصيتين، فهذه التي يأكل بها ويشرب ويمشي ويضحك ويمزح غير تلك التي يفكر بها ويكتب ويؤلف وليس بينهما من صلة ولا يربطهما سبب من الأسباب. والعجيب من أمره أنه يضيق بالكلام في مثل هذه المجالس ويتهيبه، وتظنه أول ما تلقاه حيياً عيياً لا يفصح ولا يبين، فإذا أنت اتصلت به وعلقت حبالك بحباله، رأيته مفوهاً طلق اللسان شديد البيان. وإن أنت خالطته وعرفت دخيلته أبصرته لا يتهيب موقفاً خطابياً مهما كان شأنه، ولا يخشاه ما يخشى الرد على ألفاظ المجاملة ويتهيب مجلس تعارف وانتساب.
كان يأمل أن يجد لذة في تدريس الأدب، ولكنه لم يكد يمارسه حتى اجتواه ومله، وعلم أن الاشتغال بالأدب للذة لا يستقيم مع هذا العمل النظامي المستمر، إنه يصبح وفي رأسه فكرة يريد أن يكتب فيها فصلاً، فيدركه وقت المدرسة، فيذهب وتذهب الفكرة في طريقها، أو(173/41)
يصبح وهو يكره الكلام ويميل إلى الصمت، يحب أن يفكر فيطيل التفكير، ويحلم فيغرق في الأحلام، فيراه ملزماً بالكلام خمس ساعات أو ستاً، وهو يحب الشاعر أو الكاتب ويميل إليه فيكرهه المنهج على درس شاعر آخر لا يحبه ولا يفهم أدبه، ويضطره الطلاب إلى إطالة الحديث حيث ينبغي له الإيجاز، أو إيجازه حيث تطلب الإطالة، أو لا يفهمونه ولا يسايرونه فيهبط من سماء متعته الأدبية، ليمشي مع أفهامهم وعقولهم. . .
إنه رجل شاذ الطباع متناقض العواطف، يشتاق إلى بلده فإن عاد ندم على العودة، وإن أقام هاجه الشوق، وإن لجأ إلى عقله ثارت عاطفته، وإن اتبع عاطفته أبى عقله. . .
لا يفهمه أحد، ولا يفهم هو نفسه. . مسكين! إنه أديب!
(بغداد)
علي الطنطاوي(173/42)
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
المستشرق الإنجليزي
ذلك هو كتاب تاريخ الأدب العربي للأستاذ رينولد نيكلسون ننشره ابتداء من هذا العدد تباعاً كما وعدنا في العدد الماضي
المدخل لتاريخ العرب
العرب أمة من الأمم العظيمة التي تناسلت كما يقال من سام ابن نوح، ومن ثم يعرفون عادة بالساميين ذلك اللفظ الذي يدخل فيه البابليون والآشوريون والعبرانيون والكنعانيون والسبئيون والأحباش والآراميون والعرب، وبالرغم من أن هذا مبني على تقسيم غير مضبوط اجتماعياً (لأنه ورد في الإصحاح العاشر من سفر التكوين، أن الكنعانيين والسبئيين من ذرية حام) بالرغم من هذا فقد أحسن الاختيار المتوفى سنة 1828م في فهمه للشعوب الشديدة الارتباط ببعضها التي ذكرناها. وسواء أكان الموطن الأصلي للجنس السامي المتماسك جزءاً من آسيا (كبلاد العرب أو أرمينية أو أدنى الفرات) أم أنه دخل آسيا من أفريقية فهذا شيء لم يثبت بعد، فهم (منذ زمن بعيد فبل بدء العصر الذي ظهروا إبانه على مسرح التاريخ) قد تشعبوا وكونوا أقواماً منفصلة، ولا يمكن في هذا المجال شرح علاقات اللغات السامية ببعضها البعض. ولكن قد يستطاع ترتيبها ترتيباً زمنياً حسب انتشار الأدب كما يلي:
1 - البابلية أو الآشورية (من 3000 - 500 ق. م)
2 - العبرية (من 1500 ق. م)
3 - العربية الجنوبية أو كما تسمى أحياناً السبئية أو الحميرية (نقوش منذ 800 ق. م)
4 - الأرامية (نقوش منذ 800 ق. م)
5 - الفينيقية (نقوش منذ 700 ق. م)
6 - الحبشية (نقوش منذ 350 ق. م)
7 - العربية (من 500 م)(173/43)
وبالرغم من أن العربية على هذا الاعتبار أحدث اللغات السامية إلا أنها تعتبر عادة أقرب صلة من أية واحدة أخرى إلى النموذج الأصلي السامي الذي اشتقت جميعها منه، كما هو الحال في العرب - تبعاً لمركزهم الجغرافي وحياتهم الصحراوية المطردة التناسق - فقد حافظوا على الطبع السامي وظل فيهم - لاعتبارات خاصة - أنقى وأبرز مما هو عند بقية الأمم المتفرعة من هذا الجنس. ومنذ عصر الفتوح الإسلامية الكبرى (700 م) حتى اليوم نشر العرب لغتهم ودينهم وثقافتهم في مساحة كبيرة من المعمورة تفوق كل ما كانت تشمله الإمبراطوريات السامية القديمة. حقاً إن العرب لم يلبثوا طويلاً على الحال التي كانوا عليها خلال العصور الوسطى، فلم يعودوا الأمة المسيطرة على العالم، إلا أنهم قد استعاضوا عن ضياع السلطة الزمنية بالجد في نشر سلطانهم الديني. ولا يزال الإسلام حتى اليوم الحاكم الأعظم لآسيا الغربية؛ أما في أفريقيا فهو في تقدم مستمر، حتى في أوربا، فقد وجد في تركيا عوضاُ له عن طرده من إسبانيا وصقلية. وبينما نرى أن معظم الشعوب السامية قد امحت غير مخلفة وراءها سوى ثبت طفيف غامض لا نأمل من ورائه أن نلم بتاريخها تماماً نرى في دراستنا للعرب مادة وفيرة تساعدنا على دراسة معظم أطوار تقدمهم منذ القرن السادس للميلاد، تساعدنا على كتابة التاريخ العام للحياة والتفكير عندهم. ولست في حاجة لأن أقول إن هذا الكتاب لا يحاول أداء هذه المهمة حتى ولو زاد حجمه مراراً؛ إذ لا بد من انقضاء زمن طويل قبل أن يقتحم الباحث ميدان الأدب العربي الواسع المناحي المختلفة، وقبل أن تكون النتائج مقبولة لدى المؤرخ
لم يكن (الربع الخالي) فحسب - الذي يخترق شبه الجزيرة ويقوم فاصلا طبيعيا دون الاتصال بالداخل - هو الذي يقسم بلاد العرب منذ القديم إلى قسمين: شمالي وجنوبي، بل كان هناك أيضاً العداء الناشب بين جنسين بينهما بون شاسع من ناحية الطبع وأسلوب العيش. فبينما كان سكان القسم الشمالي (الحجاز وهضبة نجد الوسطى) بدوا غلاظاً يسكنون بيوتاً من الوبر وينتقلون من مكان إلى آخر انتجاعا للعشب والكلأ لأبلهم كان أهل اليمن معروفين لدى التاريخ - قبل كل شيء - كورثة لحضارة تالدة وأصحاب ثروة ضخمة خيالية من الطيب والذهب والأحجار الكريمة تحت إمرة الملك سليمان. وقد تكلم بدو الشمال اللغة العربية - أي لغة قصائد العصر السابق للإسلام والقرآن - على حين(173/44)
كان أهل الجنوب يستعملون لهجة يسميها المسلمون (الحميرية) التي عثر حديثاً على نموذج من خطوطها وفُسّر. وسنهب في الكلام حالاً عن هؤلاء السبئيين الذين أطلق عليهم هذا الاسم جغرافيو اليونان والرومان. وقد أخذ نجمهم في الأفول في القرون الأولى للمسيحية حتى تلاشوا نهائياً من صفحة التاريخ قبل سنة 600م حينما أخذ جيرانهم أهل الشمال في الظهور والقوة.
وليس من شك في أن ما نشر بين علماء الأنساب المسلمين الفكرة القائلة بأن العرب يرجعون في أصلهم إلى رهطين منفصلين تسلسلاً من جدهم المشترك سام بن نوح هو الفارق الجنسي العظيم من الذكاء. أما فيما يختص بأهل الشمال فإن تسلسلهم من عدنان (من ذرية إسماعيل) أمر معترف به من الجميع. أما أهل الجنوب فيرجعون إلى قحطان الذي يزعم النسابون
كان أهل الجنوب يستعملون لهجة يسميها المسلمون (الحميرية) التي عثر حديثاً على نموذج من خطوطها وفُسّر. وسنهب في الكلام حالاً عن هؤلاء السبئيين الذين أطلق عليهم هذا الاسم جغرافيو اليونان والرومان. وقد أخذ نجمهم في الأفول في القرون الأولى للمسيحية حتى تلاشوا نهائياً من صفحة التاريخ قبل سنة 600م حينما أخذ جيرانهم أهل الشمال في الظهور والقوة.
وليس من شك في أن ما نشر بين علماء الأنساب المسلمين الفكرة القائلة بأن العرب يرجعون في أصلهم إلى رهطين منفصلين تسلسلاً من جدهم المشترك سام بن نوح هو الفارق الجنسي العظيم من الذكاء. أما فيما يختص بأهل الشمال فإن تسلسلهم من عدنان (من ذرية إسماعيل) أمر معترف به من الجميع. أما أهل الجنوب فيرجعون إلى قحطان الذي يزعم النسابون أنه نفس يقطان بن عابر؛ وتحت اليقطانيين الذين هم الأصل القديم نجد مدرجاً مع السبئيين كثيراً من القبائل القوية كطيء وتنوخ وكندة وغيرها من التي استوطنت بلاد العرب الوسطى قبل ظهور الإسلام بوقت طويل، ولم يكن هناك ما يميزهم من البدو الذين يرجع أصلهم إلى إسماعيل. أما فيما يتعلق بعدنان فإن سلسلة نسبه لا تزال موضع جدال وحجاج وإن اتفق الجميع على أنه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم من هاجر. وتذكر القصة أنه عند ميلاد إسماعيل أمر الله إبراهيم أن يرحل إلى مكة بزوجه هاجر وابنها ويتركهما هناك، فامتثل لأمره وتركهما، وجاءت رفقة من جرهم (وهم من ولد يقطان) فنزلوا شعاب مكة فنشأ إسماعيل مع أولاد الغرباء، وتعلم الرمي، ونطق بلسانهم ثم خطب إليهم فزوجوه امرأة منهم.
ولا جدال في أن هذه الأنساب خيالية إلى حد ما، إذ لم يكن علم النسب موجوداً في العصر السابق للإسلام، حتى لم يكن لدى المحققين المسلمين سوى أخبار طفيفة محيرة اعتمدوا عليها. أضف إلى هذا أنهم راعوا الظروف السياسية والدينية وغيرها، ومن ثم فإن دراستهم للقرآن والتاريخ الديني قادتهم لدراسة رءوس القبائل الذين يوضعون في المقدمة. أما سلسلة النسب التي تبدأ بعدنان فلسنا نستطيع قبولها كمسألة تاريخية خالصة، ولن أن أغلبها قد تراكم في ذاكرة العرب قبل ظهور الإسلام، يؤيد هذا شهادات شعراء الجاهلية؛ ومن ناحية أخرى أن نسبة كل قبيلة إلى جدها الأول تخالف الحقائق التي أثبتها البحاث(173/45)
المحدثون، من أن كثيراً من الأسماء تشير إلى اتحاد محلي، فمعد مثلاً تشير في الأصل إلى جماعات كبيرة أو محالفات قبلية. وقد يكون الخلاف الاجتماعي بين عرب الشمال وعرب الجنوب (كالعداء الحاد الذي فرق بينهم منذ صدر عهد الإسلام) قد يكون هذا الخلاف مقبولاً إذا قصرنا لفظ اليمنية (أهل الجنوب) على أهل سبأ وحمير وغيرهم من المتحضرين الذين سكنوا اليمن وتكلموا لهجتهم الخاصة، ولكن يصعب أن يقصد به البدو اليمنيون المتكلمون بالعربية الذين انتشروا في جميع رحاب شبه الجزيرة. وإن مثل هذا النقد لا يؤثر في قيمة وثائق النسب باعتبارها صورة للعقلية العامة، ومن وجهة النظر هذه تكون الخرافة أحياناً أهم من الحقيقة. وينبغي علينا أن يكون هدفنا في الفصول التالية إيضاح معتقدات العرب غاضين النظر عن نقدها وبيان حظها من الخطأ والصواب.
إن للعربية بأوسع معانيها لهجتين رئيسيتين هما:
أ - العربية الجنوبية وهي لسان اليمن، وتشمل السبئية والحميرية والمعينية واللهجات القريبة منها كلهجة مهرة والشحر.
ب - العربية الفصحى التي ينطق بها في بلاد العرب عامة ماعدا اليمن. أما عن اللغة الأولى - دون التعرض لمهرى وسكنزى وغيرهما من اللهجات الحية - فليس لدينا سوى هذه المخطوطات العدة التي جمعها الرواد الأوربيون، وستكون موضوع بحثنا في الفصل التالي الذي سأقدم فيه بحثاً موجزاً يتناول تاريخ السبئيين والحميريين القديم. والعربية الجنوبية تماثل العربية في تراكيبها القوية من الجمع الشاذ وعلامة التثنية، وإشارة الجمع بإضافة م (وتستعيض العربية عنها بحرف ن) وكذلك في كلماتها. أما حروفها الهجائية التي تشمل تسعة وعشرين حرفاً فهي أقرب إلى الحبشية؛ وقد استولى الأحباش على الإمبراطورية الحميرية في القرن السادس الميلادي، حتى إذا كان حوالي سنة 600م أصبحت العربية الجنوبية لغة ميتة، ومنذ ذلك الحين صار للهجة عرب الشمال السيطرة العظمى واتخذت لنفسها كلمة (العربية).
إن أقدم الآثار المكتوبة للعربية جديدة إذا قورنت بالنقوش السبئية التي يرجع بنا بعضها إلى 2500 سنة أو ما يقرب من ذلك إلى الوراء، وباستثناء نقوش الحجر في شمال الحجاز ونقوش الصفا المجاورة لدمشق (التي بالرغم من أنها قد كتبت بالعربية الشمالية قبل العهد(173/46)
المسيحي فهي أقرب إلى السبئية ولا يستطاع تسميتها بالعربية بالمعنى المفهوم من هذا اللفظ) باستثناء ذلك فان معظم أقدم أمثلة الخط العربي التي اكتشفت قد كتبت بخطوط لهجات زبد الثلاثية، وهي السريانية والإغريقية والعربية وترجع إلى سنة 512 أو 513، ولغتي حران اليونانية والعربية التي ترجع إلى سنة 568م. ولسنا نريد أن نشغل أنفسنا كثيرا بهذه الوثائق خاصة؛ وإن ترجمتها تتطلب مشقات عظمى، وكان القليلون من عرب العصر السابق للإسلام ملمين بالقراء أو الكتابة، ويرجع الفضل في قدرة هذا النفر إلى المعلمين اليهود والنصارى، أو إلى الثقافة الأجنبية التي انبثقت أضواؤها من الحيرة وغسان، ولكن بالرغم من أن القرآن (وقد جمع لأول مرة بعد واقعة اليمامة سنة 633م) هو أول كتاب عربي، إلا أنه يمكن إرجاع بداءة الكتابة بلغة الضاد إلى عصر متقدم. ومن الأرجح أن كل قصائد عصر قبل الإسلام التي وصلت إلينا إنما ترجع إلى القرن السابق لظهور الإسلام (أي من 500 - 622) ولكن يد التفنن الصناع وإبداعها الفني اللذين غيرا من شكلها الأول يقفان حائلا دون الأمل بأن نعثر خلالها على الصورة الأولى للقصيدة العربية. وقد يمكن القول بشأن هذه القصائد الفخمة - كما هو الحال في الإلياذة والأوديسة - إنها (نتيجة فن بالغ حد الإتقان، يستحيل أن يكون قد صار إلى ما صار إليه إلا بعد مرور عهد طويل على ممارسته) وقد ظلت هذه القصائد محفوظة طوال مئات السنين بالحديث الشفهي كما سنوضح ذلك في مكان آخر. وفي صدر عهد بني العباس أي بين عامي 570 و 900م شرع الأدباء المسلمون في تدوين معظمها. ومن الحقائق الثابتة أن اللغة واحدة في القصائد التي يمثل أصحابها قبائل عدة مختلفة ونواحي متعددة من شبه الجزيرة. كما أن الفروق اللسانية طفيفة جداً إلى درجة لا يؤبه بها، ومن ذلك نستنبط أن الشعراء كانوا يتخذون لهجة صناعية تخالف لغنة المحادثة وهي أشبه ما تكون باللهجة الأيونية التي استعارها الشعراء الدوريون والأيوليون.
(يتبع)
ترجمة محمد حسن حبشي(173/47)
النظرية العامة للالتزامات في الشريعة الإسلامية
للدكتور شفيق شحاته
- 2 -
2 - الطريقة التاريخية
أما عن منشأ التشريع الإسلامي، فإنا نرى الإعراض عن البحوث التي حاول بها العلماء تأييد رأي دون آخر. أما حججنا فسنتلمسها من دراستنا الموضوعية نفسها، ذلك أنه من العبث الاستناد إلى التشابه بين بعض الأفكار للقول باتحاد المصدر أو بالاستمداد. فإن أهمية هذا التشابه لا يصلح تقديرها إلا إذا وضعت الأفكار في الجسم الذي انتزعت منه.
لذلك لن يوجد أبداً دليل أقطع على التشابه أو عدمه من استعراض نظرية الالتزامات في التشريع الإسلامي بعد بناء هيكلها. فعندئذ فقط سيظهر لنا إن كانت ثمة استعارات ومن أين أتت، وما هي؛ وإن لم تكن، فكيف كان التشريع متماسك الأطراف ظاهر الإبداع.
ونلاحظ هنا فقط فشل المحاولات التي ظهرت قديماً وحديثاً لإثبات استمداد التشريع الإسلامي من القانون الروماني. أما محاولة (كاروزي) فقد هدمها المستشرق (ناللينو). وحديثاً ظهرت رمالة في الشفعة (طبعت في ميلانو سنة 1933) رمى بها مؤلفها إلى إثبات هذا الاستمداد. على أن استنتاجاته لم تقنع أحداً كما يظهر من تعليق الأستاذ (روسييه) على هذا الكتاب في (مجلة تاريخ القانون ص 323 لسنة 1934).
على أنه ليس بين أيدينا في الواقع من الآثار القانونية شيء يرجع إلى ما قبل العصر العباسي. أما عن الجاهلية فإن هناك بعض الإشارات البعيدة مبعثرة في آثار متأخرة عن هذا العهد؛ وكذلك يقال عن عصر الخلفاء الراشدين والخلفاء الأمويين، فإن جل ما نجد هو بعض الحلول لمسائل عرضت على بعض الحكام ولكن لا يظهر أنه في مدى هذه العصور الطوال قد كانت هناك مجموعة من القواعد أوحت بهذه الحلول الطفيفة.
ويبدو لنا أن التشريع في هذا العهد لم يكن شيئاً آخر سوى العادات المحلية السائدة سواء في جزيرة العرب أو في الأقطار المفتوحة، وإن ما ورد من الأحكام يعبر تماماً عن هذه العادات مع اتجاه خاص أملاه الدين الجديد.(173/48)
ثم يضعنا العصر العباسي فجأة في أول عهده أمام مجموعة كاملة من الأحكام؛ ففي نظر التاريخ لا يظهر التشريع الإسلامي كتشريع بالمعنى الصحيح إلا مع (أبي حنيفة) الذي وردت آراؤه في جميع المسائل كما وردت آراء صاحبه (أبي يوسف) بمجموعات الكتب التي وضعها (محمد) صاحبه الآخر المتوفى سنة 189هـ.
فأول أثر من الآثار القانونية هو إذن اثر كامل الأجزاء. وإذا كانت هذه الكتب قد ذكرت في بعض الأحوال آراء لبعض الفقهاء ممن سبقوا (أبا حنيفة) فإن هذه الآراء لا تكون في مجموعها تشريعاً يعتد به.
فهذه الكتب تعطينا صورة كاملة للتشريع الإسلامي كما ارتأاها (أبو حنيفة)، وفي نفس هذا الكتب نلحظ اتجاها خاصاً يمثله (أبو يوسف) وهو اتجاه ظاهر الميل نحو الأخذ بقواعد العدل والإنصاف.
وقد انتقل هذا التشريع كما هو مع اتجاهاته المختلفة إلى الأجيال المتعاقبة من الفقهاء - بواسطة كتب (محمد) وإذا كان الفقهاء في زمن (السمرقندي) (حوالي سنة 573هـ) قد وضعوا حلولاً لبعض المسائل التي استجدت والتي أسموها (النوازل) فلم يكن عملهم هذا إلا بمثابة الملحق من الكتاب.
ولم يكن للفقهاء حتى في عصور الاجتهاد سوى تطبيق الأحكام الموضوعة على مسائل يقيسونها قياساً على ما سبقها، أو الترجيح بين حلين قام بشأنهما الجدل؛ ويلاحظ أن الفقهاء لم يترددوا في الواقع عن القياس والترجيح حتى في العصور التي تلت ما أسموه (إقفال باب الاجتهاد).
ولذلك نلاحظ أن القرون التي مرت على هذه الكتب لم تضف إليها الشيء الكثير. وما قد جاء من الحلول عن طريق الإجماع أو العادة موجود في الغالب بتلك الكتب. ومع ذلك فمما لا شك فيه أن (العرف والعادات) قد ساعدت على جعل بعض القواعد أكثر مرونة أو على تحديد مدى تطبيقها، إلا أن الأسس بقية ثابتة كما كانت من (المبسوط) إلى (رد المحتار) (2521هـ).
ويلاحظ أخيراً أن بعض المسائل أتتنا لا عن طريق كتب (محمد) الستة، بل عن طريق كتب أخرى له أو لغيره، وهي معتبرة أضعف سنداً من الكتب الستة؛ ولذلك عبر عنها(173/49)
(بغير ظاهر الرواية) على أن المفهوم أن هذه المسائل كذلك قد عرضت (لأبي حنيفة) أو لأصحابه.
أما مؤلفات (ابن سماعة) و (ابن رستم) التي وردت بها هذه الرواية فلم تصلنا، وعلى ذلك تكون ثقتنا بصحة هذه الرواية بقدر ثقتنا فيمن رواها من المؤلفين وهم يوردون هذه الرواية كغيرها أثناء عرضهم للموضوع.
وفي بحثنا هذا قد رجعنا أولاً وبادئ ذي بدء إلى كتب (محمد) وبذلك انتهجنا نهجاً كان الباحثون بعيدين عنه، فهم في الغالب يرجعون إلى أحد الكتب المتداولة للمتأخرين.
ولما كان (مبسوط) (محمد) هو (الأصل) كما يسمونه كان من المتعين الرجوع إليه أولاً. والواقع أن الرجوع إليه ليس من الميسور فهو لم يطبع بعد، والمخطوطات الموجودة منه بمصر أكثرها ناقص، على أنا قد وفقنا إلى العثور على نسخة وردت حديثاً على دار الكتب وهي من محتويات مكتبة المغفور له (محمد على الكبير).
أما ثاني الكتب الستة وهو (الجامع الصغير) فهو مطبوع، على أنه لا يروي غلة لاختصاره.
و (الجامع الكبير) هو ثالثها وقد عثرنا على جزء صغير منه بدار الكتب وتمكنا من تتبع بقية النصوص خلال ما ورد عليه من الشروح الكثيرة، وهو يختلف كثيراً في أسلوبه عن (المبسوط)، ذلك أن المسائل ترد به موجهة، بينما (المبسوط) خلو تماماً من التفسير والتوجيه.
أما رابع الكتب الستة وهو (الزيادات) فقد تقصينا نصوصه من خلال شروح (العتابي) و (قاضي خان).
والخامس والسادس من الكتل الستة موضوعان في السير، أي في قوانين الحرب فلم يدخلا في نطاق بحثنا.
وبعد أن تمكنا من هذا الأساس، سرنا في بحثنا متتبعين المؤلفين، على حسب الترتيب الزمني، ابتداء من (الخصاف) (261هـ)، لغاية (السندي) (1257هـ).
ولم نتراجع أمام المخطوطات القديمة فتيسر لنا بذلك الانتفاع ببعض المؤلفات العظيمة التي لم تتداولها الأيدي بعد. ومن ذلك (مختصر) (الطحاوي) (المتوفى سنة 321هـ). و(173/50)
(محيط) (رضي الدين السرخسي) المتوفى سنة (544هـ)، وقد ذكر هذا المؤلف الأخير، المسائل مرتبة، وهو يورد دائماً مسائل غير ظاهر الرواية ومسائل النوازل في فصول مستقلة. ونذكر من ذلك أيضاً (الذخيرة البرهانية)، و (خلاصة) (افتخار الدين).
أما مؤلفات (العصر الذهبي) للفقه الإسلامي، وهو الذي يمتد من مجموعات (محمد) لغاية (قاضي خان)، فنذكر منها (مبسوط) (السرخسي)، وهو شرح لما اختصره (الحاكم الشهيد) من الكتب الستة. و (جامع الفقه) (للعتابي) وهو مجموعة مسائل، تمتاز بشيء من الطرافة وبدائع (الكاساني) وهي بلا ريب أروع ما ألف في الفقه الإسلامي، وهي تمتاز بحسن ترتيبها، ووضوح أسلوبها. وهذا المؤلف هو في الواقع فريد في تقسيماته، وطريقة عرضه للمسائل. وقدجعلناه عمدتنا في جميع بحوثنا.
أما في العصر الذي يلي العصر الذهبي، وقد سميناه (عصر الشرح والتحشية)، فأول ما يقابلنا من المؤلفات العظيمة، (الهداية) وقد كتب في شرحها ما تقوم به مكتبة واسعة الأرجاء. ونذكر أيضاً مجموعة الشروح التي وردت على (الكنز)، وكذلك مجموعة الشروح التي وردت على (الدر المختار).
وعند الحلقة الأخيرة نجد (رد المحتار) (لابن عابدين) وهو عبارة عن دائرة معارف فقهية، على أنها تفتقر إلى التنسيق، وقد تبعه (السندي) (7521هـ) في شرح (الدر المختار)، ومؤلفه يقع في ستة عشر مجلداً ولا يزال مخطوطاً، وهو من محفوظات مكتبة الأزهر.
وهناك بعض المؤلفات اكتفى أصحابها بسرد المسائل، دون إيراد وجوهها، وقد سميت (بالفتاوى). وليس معنى ذلك أنها، في الواقع، أجوبة عن أسئلة عرضت، ونذكر منها (الظهيرية) و (التتارخانية) و (الهندية).
ومما يستحق التنويه، تلك المؤلفات، التي حاول مؤلفوها الارتقاء بها عن مجرد الحلول والعلل المباشرة، متقصين أسباب الفروق والنظائر؛ ونذكر منها (فروق) (الكرابيسي) ولا يزال مخطوطا، وأشباه (ابن نجيم) وشهرتها تغني عن وصفها، وشرح (التاجي) عن هذه (الأشباه) ولا يزال مخطوطا.
وأخيراً، نجد فريقا من المؤلفين، قد وجه عنايته إلى الناحية القضائية للمسائل. وأهم ما وضع في ذلك (جامع الفصولين) (لابن قاضى سماوه) وتنقيحه (نور العين).(173/51)
ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى ما كابدناه من الصعاب عند البحث في هذه المؤلفات، وقد اقتضى ذلك منا مجهودا مضاعفاً يعرفه فقط من عالج هذه البحوث. فمن ذلك أنه لا يكفي الباحث التطلع إلى العنوان ليتعرف ما سيتناوله الباب من الموضوعات. فالمسائل في الواقع مبعثرة في مختلف الأبواب لغير ما سبب ظاهر.
ولا يستطيع الباحث الجزم بأن مسألة بعينها ليست موجودة في كتاب معين إلا إذا طالع جميع صفحات هذا الكتاب بإمعان تام. ولذلك نجد المؤلفين في إشاراتهم إلى المراجع ينقل بعضهم عن بعض. فإذا ذكر أحدهم عن مسألة أنها وردت (بالمبسوط) فلا يفيد ذلك أنه تحقق بنفسه من صحة ورودها.
لهذه الأسباب اضطررنا إلى دراسة بعض الكتب من الغلاف إلى الغلاف، وراجعنا جميع أبوابها باباً باباً لتقصي ما يهم موضوعنا من المسائل.
ويلاحظ أيضاً أن هذه المؤلفات لا تتبع ترتيباً واحداً في تسلسل الأبواب، ولو أن هذه الأبواب أو الكتب واحدة لم تتغير في الغالب منذ وضع (المبسوط).
على أن (المبسوط) جاء خليطاً من الأبواب ولا يراعي ترتيباً ما. أما الترتيب الذي نجد عليه (الجامع الصغير) فهو ليس (لمحمد) وقد اتبع هذا الترتيب غالب المؤلفين.
ومهما يكن الأمر فلا أهمية في الواقع لهذا الترتيب، فهو لم تقض به أسباب مقبولة، أما ما يذكره أحياناً المؤلفون من الأسباب فهو مجرد أسباب لفظية أو شكلية لا قيمة لها. وأنا نجد مثلاً أن كتاب الإجارة جاء في (بدائع الصنائع) قبل كتاب البيع، مع أن (الكاساني) نفسه قد أحال في كتاب الإجارة على كتاب البيع في كثير من المسائل.
(يتبع)
شفيق شحاته(173/52)
دمشق
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
زنبقَةَ الصحراءِ ... يا فِتْنَةَ الوجودِ
نَشرتِ في الفضاء ... روائح الخلودِ
وشوشْتَ في الأسماع ... قصائِدَ البقاءِ
من أطيبِ الأسجاع ... وأسلسِ الغِناءِ
سرِبْتَ في الأفكار ... روحاً يفيضُ عطفا
وغِبت في الأنظار ... طيفاً يذوب لُطفا
يا مُتْحَفَ الدُّهور ... ومعرِض الألباب
خبأتِ لِلعصورِ ... سُلافةَ الأحقاب
لم تأْسَنِ الدِّنانُ ... ولا ذَوى العُنقودُ
كأنها الزَّمانُ ... قديمُهُ جديد
غوطتكِ المِفتَانُ ... ما إن لها مثيل
سماؤُها الألحانُ ... وأرضها الحقول
وبرَداكِ الطُّهر ... ينسابُ في الوِهادِ
نايٌ براهُ السكْر ... يفتنُّ في الإنشاد
خطٌّ من البقاءِ ... في مصحفِ الوجود
وسِلسِلُ الشِّفاءِ ... فرَّ من الخلودِ
وقاسيونُ لاحا ... وأنت بين سوحِهِ
مُترَعَةٌ مِراحا ... تلعبُ في سُفوحِهِ
كملك ينامُ ... وسفحُه وسادَه
عاش له السلامُ ... وما اشتهاهُ عاده
رباعُك الجميلة ... تطفحُ بالمنائِر
ألحانُها الجليلة ... أصداؤُها سوائر
تموج في الفضاء ... كما يموجُ النورُ(173/53)
تسري إلى السماءِ ... يحفزُها السرورُ
والرَّبوةُ الفتانة ... عرسٌ على الأيامِ
أنهارُها طنانة ... تحفِلُ بالأنغام
والنيربانِ فتْنهْ ... وعبقٌ وعطرُ
ومسرب للجنه ... وبهجةٌ وسِحر
دِمَشقُ أنتِ مأوى ... للحسنِ والفنونِ
عِشتِ الدُّهُورَ نجوَى ... للشاعِرِ المفتون
زَنَّرَتِ الرِّياضُ ... أنحاءها البعيدة
ولَفَّتِ الغياض ... أفياءها السعيدة
فيالها مطافاً ... للحُبّ والرساله
تزيَّنَت أعطافاً ... وائتَلَقَتْ غلاله
أنَّى التَفَتَّ عُرْسٌ ... وحُلُمٌ مديدُ
وفرَحٌ وأُنْسُ ... وعالم جديد
وهاتف يُغنِّي ... يذيبه الغرامُ
يعيشُ بالتَّمني ... وقوتُهُ الأنغام
وبلبلٌ صداح ... يهيمُ بالوِرادِ
تهدُّه الجراح ... وهو على الوِداد
وهاهنا الآباد ... لم يطوها الفناءُ
تكلَّم الجماد ... واختلج العفاءُ
وهاهنا الليالي ... كأنها الأعياد
تناجتِ الدوالي ... وانتشتِ الأعواد
ظلّتْ على الأحقاب ... ندية الأفياءِ
زاهيةَ الشباب ... ضاحكة الرُّواءِ
وهاهنا حسانُ ... ينشدُ آل جفنه
فيزدهي الزمانُ ... وترقص الأسِنه(173/54)
أين هو أُميَّة ... وأين عبد الملِك
والراية البهيّة ... على جبين الفلك
وأين ملك زاهر ... تجري الفتوح باسمه
طاحت به الدائِرُ ... لم يبق غيرُ رسمه
ودالتِ الأيام ... من جِلِّقَ البهيه
فانطوتِ الأعلام ... وحاقتِ الأذِيه
وغاضت البشائر ... وضاعت الأفراح
وناحت المنائرُ ... وعمت الأتراح
أخيلة تمُرُّ ... أرواحُنا فداها
وصورٌ تكرُّ ... ما تنتهي رُؤاها
(بغداد)
أنور العطار(173/55)
مساء القرية
بقلم محي الدين الدرويش
جثم الصمت على هام الطُّلول ... وأقام الهمُّ فيها مأتما
فهي من حيرتها سكرى ملول ... تتنزَّى من عناء الما
تجمد العينُ لدى رؤيتها ... ويطير القلب منها هلعا
تلمح الوحشةَ في نظرتها ... وترى البؤس عليها رتعا
وإذا ما الليل أرخى السُّجفا ... واستسرَّ الناس في سُدفته
خِلتُ جنّاً في عراء هُتَّفا ... فيلجُّ القلب في رعدته
ضمت الأطلالُ قوما حُرموا ... لذَّة العيش وعدل القدر
شظف العيش لديهم مغنمُ ... وصفير الريح صوت الوتر
رب غيداء كما شاء الهوى ... تأسر القلب بلحظ أصيد
هي من شقوتها رهن الجوى ... تتلظى في بلاء أنكد
حملت يا ويحها أكوابها ... والى (العاصي) تولت مسرعة
قد نفت من حرقة جلبابها ... وتعايت من وناها جازعة
قد سئمت العيش في هذي الربوع ... حيث لا عيش بها يحتمل
ذكريات تتوالى ودموع ... كلما ترتادها تنهمل
أين مني زمن طالعني ... من ثنايا العمر رفّافٌ أنيق؟
ما عهدت الهمَّ يوماً ضافني ... أحتسي اللذات فيه لا أفيق
آه لو ترجع هاتيك العهود ... ويسود الصفوُ أيام الحياة
فنعيم العيش في لثم الخدود ... وانتعاش الروح من (ماء الحياة)
إنما الدنيا بلا قصف جمود ... موحش يغمره يأس عميق
فاغنم اللذات في هذا الوجود ... فحياة المرءِ إيماض بروق
غاية العلم ضلال باطل ... وجهالات بها تضطرب
هل درى والموت فينا نازل ... ما مصير الروح أنى يذهب؟
ينشد المرءُ نبوغاً سامياً ... وهو لا يعقل ما رام النبوغ(173/56)
سيريه الكون شراً طامياً ... هو عنه يتجافى ويروغ
يجتني الناس أفانين الهناء ... وهو في عزلته مكتئب
ما جنى من عيشه غير العناء ... هو يشقى والليالي تلعب
(حمص)
محي الدين الدرويش(173/57)
القصص
من الحياة الواقعية
مليم العظماء. .؟!
بقلم السيد محمد زيادة
وقف هذا العظيم وقفة ناطقة بعظمته أمام دكان حلاق، ثم جاز بابه متهادياً منتفخاً كما يجوز باب داره التي لا تحوي إلا ما هو مالكه؛ وكان الحلاق جالساً كالنائم، لا يصل بصره وذهنه إلى أبعد من مجلسه، فهب واقفاً تدق على قلبه هيبة الداخل عليه.
وجلس الرجل على الكرسي جلسة أمير متواضع، ووقف الحلاق من خلفه كما يقف المتهم في ساحة العدل. . . وكان دهشاً يزدهيه ويربكه أنه على فقره وخموله يحظى بشرف التصرف في نبات ذلك الرأس العظيم وتزيينه وريه بأغلى ما عنده من العطور؛ ولكنه استجمع نفسه وذهب يجلب من نواحي دكانه أجود مقصاته وأحد أمواسه، وبدأ يعمل بفكره وعينيه ويديه، حتى يخرج من مهارته تحفة فنية رائعة ترضي عظمة (الزبون) وتفتح للدكان باباً في الشهرة ومن ورائه باباً في السعادة. . .
وتواردت على رأس الحلاق أحلام خلابة تنبئه بحياة هنيئة ناعمة، وصيت ذائع منتشر. . . فتصور أن بعد ذلك الرأس الرفيع رؤوساً رفيعة أخرى ستظهر عليها بدائع يديه. . . وأيقن أن قد حان الوقت لينال حقه المهضوم وينصف فنه المظلوم. . .
وتصور أنه إذ يتعب في تزيين ذلك الشعر وتجميله إنما يتعب في تزيين دنياه الجميلة التي الجميلة التي في خياله. . . ثم اعتقد أنه ولا شك بالغ بعد ذلك غاية الأمل ما دام قد حلق لهذا العظيم، وما دام العظيم يرضى عنه، فجعل يبذل ما في وسعه من حذق لتجيء الصنعة فاتنة لا عيب فيها فتجيء الدنيا كاملة لا نقص فيها.
وراح الزبون الكريم المتواضع يطلب موسى غير الموسى لتكون أمضى، ويطلب فرشاة غير الفرشاة لتكون أطهر؛ ثم أخذ ينبسط مع الحلاق ويؤنسه من نفسه العظيمة ويحاضره في تواضع العظمة وعظمائها. ويقص عليه نوادر تبين له أن الكبير من لا يتكبر، وأن الحلال حلو ولو مرَّ، والحرام مرٌّ ولو حلا، وأن الدنيا والآخرة للأمين، والدنيا والآخرة(173/58)
على الخائن؛ ثم كان يفصل قصصه بأحكم الحكم وأصدق الأمثال. والحلاق غارق بسمعه في لذة الحديث، مستغرق بعينه في لذة الصنعة، سابح بفكره في لذة الأحلام. . .
قال الزبون فيما قال: كل شيء يقع في هذه الحياة بقضاء، فما من شر يصيب وما من خير يصاب إلا وهو مكتوب من قبل في لوح القدر.
قال الحلاق: صدقت والله يا أفندينا. . . فقد يكون الإنسان غافلاً فتنساق إليه الأسباب من تلقاء نفسها، وقد يكون خاملاً فينصب عليه الرزق من حيث لا يدري. والمثل فيّ أنا. . . أنا جالس يا أفندينا في غفلتي وخمول شأني ضعة مكاني - فإذا بك تشرفني بالدخول علي؛ فهل هذه إلا مفاجأة؟ (وفي السماء رزقكم وما توعدون).
قال الزبون: وفي حقيقة الأمر أنها لم تكن مني عن تدبير ولا نيّة، ولم تكن في حسباني ولا ألقيت لها بالاً، ولا كنت في حاجة ماسة للحلاقة اليوم. . . فما هي إلا خطرة مالت بي إليك ولا أدري سببها، وكأنما كان للإلهام فيها عمل.
فأحس الحلاق أن في حديث زبونه ما في حديث نفسه، فانتشى ظاهره بما في باطنه وقال: إي والله إنه لإلهام وإنه لحظ سعيد وإنه لشرف عظيم؛. . وأرجو ببركة تواضعك الميمون أن أصبح في القريب حلاق إخوانك العظماء من هامات الناس وكبرائهم. وبذلك أكون صنيعة فضلك وخادم إحسانك.
قال الزبون: لا ريب في أنك ستكون حلاقي الخاص وحلاق إخواني الدائم إذا ما أعجبتُ أنا بحلاقتك وصنعتك.
وانتهى الحلاق من جهاده في سبيل المجد، ووقف مضموم اليدين ينتظر الرضى والثناء! وأعجب العظيم بحلاقته أيما إعجاب ووقف يعرض نفسه على هذه المرآة وتلك المرآة وهو ينثر كلمات الإعجاب في كرم وسخاء. والحلاق لا يدري أهو كالناس على الأرض أم طائر مع ملائكة الحظ والسعادة. . .
وأخرج الزبون من جيبه دخينة ضخمة فخمة كأنها من نوع ممتاز لخلق ممتاز - وأشعلها ثم قال: ألا تدري أن هذه الدخينة من صنع بلادنا؟.
قال الحلاق: يا عجيباً!! وهل تقدمت بلادنا إلى هذا الحد؟
قال الزبون: أنت تعجب فكيف عجبك لو علمت أن ثمن العلبة من هذه عشرون قرشاً؟(173/59)
وكيف بك لو علمت أن هناك نوعاً آخر ثمن العلبة منه مائة قرش؟. وكل الذين يتشرفون بزيارة السراي الملكية يقدم لهم من هذا النوع. . وأنا أكاد لا أصدق أن في (السجائر) ما هو رخيص، فكم هو ثمن أرخص (سيجارة) عند الناس؟
قال الحلاق: يا مولاي أن معظم السجائر من هذا النوع الرخيص الدون، وثمن الواحدة منه مليم واحد وهو ثمن نصف رغيف للفقير المسكين. .
قال الزبون: إذن فالمليم له معنى كبير!!؟ ياله بؤساً وشقاء للإنسانية. . أمعك واحدة من هذا النوع الرخيص؟. لا ريب انها ستكون لذة جديدة مشتهاة لغرابتها.
قال الحلاق: أنا يا أفندينا لا أدخن فمليم ومليم ثمن رغيف.
قال: آه. . . أضن أن معي مليماً فريداً حائراً في جيبي. خذه فاشتر لي به واحدة لأرى.
وذهب الحلاق يتكفأ ومعه المليم، وغاب دقائق ثم عاد يتوثب ومعه (السيجارة) الرخيصة. . . ونظر فلم ير أحداً في الدكان؛ ثم نظر فلم يجد آلاته لا في موضعها ولا في غير موضعها، وحينئذ. . . حينئذ فقط أدرك الحلاق أن الزبون العظيم ما هو ألا محتال عظيم، وأن الأحلام التي ألقاها في خياله إنما ألقاها غشاءً على بصيرته؛ فلطم وصرخ واستغاث؛ واجتمع الناس يتناولون الحادث كما حدث ويتبادلون الرأي فيه. . . ومال بعضهم إلى الأرض يقلب شعر اللص الجريء لعله يعثر فيه على سر.
وقال بعضهم: ما أغلى التضحية! لقد طمع الحلاق المسكين في العظيم والعظماء فضيع آلاته وأسباب رزقه ليعلم من كل ذلك أن العظمة قد لا تساوي في بعض أهلها غير مليم.
(طنطا)
السيد محمد زيادة
دون جوان لبنان يفكر. . .
بقلم الآنسة فلك طرزي
جلس (موفق) على حافة البركة التي تتوسط حديقة منزله الصغير وأخذ يداعب المياه الصافية التي تتساقط في الحوض وتتسابق بأصابعه، ويرسم على صفحتها خطوطاً وحلقات سرعان مت كان سير الماء يبددها ويمحوها لتتعود صفحته جلية ملساء تتراكض في(173/60)
وسطها الحبات اللؤلؤية، وكأنها قطع صغيرة من الماس تتقاطر من ثقوب النافورة وتتساقط على صفحة الماء رذاذاً فتبعث نغمة خافتة ووسوسة شجية. لم يصغ موفق إلى الموسيقى العذبة التي كانت تنبعث من لحنها لأن نفسه كانت بعيدة، بعيدة جداً عن هذا الحوض الصغير الذي كانت أنامله تعبث بمائه وتلهو به.
لقد ذكر موفق في هذه اللحظة أياماً ولّت وليالي انقضت كان خلالها يتمتع بأهنأ اللذات والمسرات، إذ كان النعيم يكسو ساعاتها ولحظاتها بأثواب السعادة الزاهية الألوان المختلفة الأشكال، ويبسط عليها ظلال الهناء والمرح والسرور، فكان كل من هذه الظلال الثلاثة يرشده إلى جنات وفراديس تجري من تحتها الأنهار، وتغرد على أفنانها الأطيار. . . فكان موفق يتمتع ويتلذذ، وكان يرشف كؤوس اللذة صافية حتى الثمالة، وكان يقطف ما حلا له من الزهر وما طاب من الثمر، ثم يعرض عن هذه وتلك حينما يتضح له أن ذبولاً قد ذهب بنضرة الزهر، أو أن مرارة قد مازجت حلاوة الثمرة، حتى شاع أمره بين الناس وذاع بين جميع البيئات، فدعوه (دون جوان لبنان) لما عرف عنه من حبه للنساء وإغرائه إياهن بشتى الوسائل، وإيقاعهن في حبائله بمختلف الطرق والأساليب.
وكان موفق يسر بهذا اللقب أما سرور؛ وهل من شيء يعتز به كل دون جوان في الحياة أكثر من اعتزازه بالحظوة الرفيعة التي يلاقيها عند النساء؟ فكان يذيع هذا النبأ الجديد هنا وهناك ويطلع الذين لم يعلموا بأمره أنه كان يحلم بهذا اللقب منذ حداثته، بل منذ كان صبياً يلعب والصبية الصغار من أبناء الحي. وكان كثيراً ما يقص عليهم حوادث وحكايات جرت له وهو مازال في الثامنة عشرة من عمره، وكم من مغامرات غامرها، وكم من نسوة ساذجات كان يغريهن بالكلمات المعسولة والمجاملات اللطيفة ليجذبهن إليه ويوقعهن في شباكه؛ ثم ليعرض عنهن ويوليهن ظهره بعد أن ينال منهن بغيته ويتركهن وشأنهن ويذهب ليبحث عن اللذة عند غيرهن.
ولما كبر وصار رجلاً جعله أبوه مديراً للمتجر الكبير الذي كان يعد من أشهر المحال التجارية في بيروت، وقسم الأعمال الأخرى على اخوته الثلاثة الذين يصغرونه ببضع سنين، وترك له حرية التصرف في الدخل الذي كان ينهال على هذا المحل كأنه النهر المتدفق يجرف في طريقه كل الأشياء ولا يبقي منها شيئاً واحداً. . . أخذ موفق ينفق(173/61)
بسخاء وإسراف ويبدد الأموال هنا وهناك وفي كل مكان دون أن يفطن للآخرة ودون أن يحسب لها حساباً، وكم كلفته شخصية دون جوان، هذه الشخصية التي تقمصته وامتزجت به واختلطت بنفسه فصارتا نفساً واحدة.
أجل! كم كلفته أموالاً وإسرافاً، بل كلفته جهوداً في العدو وراء كل امرأة يستهويه جمالها وتجذبه حمرة شفتيها.
وما لبث موفق أن أخذ يستعرض في ذاكرته أشكال النسوة اللاتي تولى زمامهن في الحياة إلى حين. وأخذ يذكر النعيم والهناء اللذين تذوق حلاوتهما في عشرتهن ومصاحبتهن، ويذكر هذه النشوة التي كانت تعتريه حينما كان يظفر بفريسة يشبع نهمه بلحمها ودمها. . .
فهذه التي تمثل الآن شبحها وتجسم في مخيلته، كانت هيفاء القد نحيلة الخصر، وتلك التي عقبت أختها الآن وتصورها خياله كانت، ويا شد ما كانت! كانت ناعسة الجفون، حالمة العينين، تزيد نظراتهما رقة وعذوبة أهداب كثيفة سوداء كثيراً ما كانت تسدل فوقهما لتخفي بين الجفون معاني تلوح في حدقتيهما. وأما هذه الأخرى فيا لشفتيها! كم كانتا رقيقتين كأنهما وردتان نضرتان متفتحتان في روض وجهها الذي تتلألأ فيه فتنيره عينان وضاءتان كحيلتان تريقان عليه نوراً مشرقاً ساطعاً يزيد في إشراق سمائه وجماله، وهؤلاء الفتيات الخمس اللائي وضعهن يوماً في السيارة وسار بهن من بيروت إلى أحد مصايف لبنان حيث قضى معهن سهرة أحياها إلى الصباح. . . لقد جلس بينهن أمام مائدة قد صف عليها جميع أنواع الكحول، وتكدست فوقها أصناف النقل المتنوعة والأثمار المشكلة. . . وما أسعدها ليلة قضاها موفق بين نزعات الهوى الباسم ونغمات الهواء البليل الناعم، يتمتع بمغازلة خمس حسان من أجمل الفتيات وأرشقهن قدوداً وأعذبهن صوتاً وأحلاهن حديثاً. . . وما أهنأها ليلة وما أجملها، تنشق موفق النسمات اللطيفة التي ينفحها جو لبنان الصافي العليل.
غير أن الأوراق المالية كانت في هذه الليلة تسيل من جيبه كما كانت الشمبانيا تسيل من القوارير.
كان موفق يفعل هذا كله لإرضاء نفس لا يستطيع كبحها، وأهواء ليس في وسعه ردها؛ ولم يذكر موفق أن الحب، الذي يدعونه بالحب الخالص الصافي، قد خالط نفسه يوماً من الأيام.(173/62)
كلا؛ فهو ما شعر قط بلذة الروح - هذه اللذة العالية التي ترفع بصر الإنسان إلى ما فوق المادة وتجعل القلب يخفق بأنبل العواطف وأشرفها - تعتور نفسه، وتشعرها برعشة تهتز لها أضالعه وتختلج جوانحه. كلا! إنه لم يعرف من الحب سوى المعنى الوضيع الذي تولده حيوانيته، وجهل ومازال يجهل المعنى الرفيع الذي تولده نورانيته، والذي يضئ الروح بنور الفضيلة والهدى والحق. . .
لقد كانت أهواؤه شغل حياته الشاغل، إذ هو لا يجيد من فنون الحياة إلا فن الإغراء والإغواء والمخادعة. . . وما فكر قط أن آخرة مؤلمة ستنتج عن حياة الطيش والفوضى؛ لقد انتهى موفق إنفاق ما في خزائن المتجر وتجاوزها إلى رأس المال، فأفلست التجارة. . ولم يجد الدائنون بداً من عرض جميع ما يملك موفق وأسرته في المزاد العلني، فبيع المنزل وجميع مفروشاته الفاخرة، وبيعت الحديقة الغناء الواسعة الجوانب التي تحيط به من جميع أطرافه، ونزحت الأسرة المنكودة عن البيت بعد أن نعموا باجتماع الشمل حقبة، وراح موفق ينشد العمل في كل مكان فلم يعثر عليه إلاَّ بعد جهد جهيد مقابل أجر زهيد يكاد لا يكفي نفقته ونفقة أخته التي تقاسمه الحياة وتشاطره البؤس. . .
أحس موفق حين رجع بذكرياته إلى هذه الذكرى المؤلمة، كأن هزة عنيفة تعتري جسمه فانتفض واختلج، وشعر كأن شيئاً أخذ يحز في نفسه حزاً مؤلماً، فانتصب واقفاً وغادر حافة البركة التي كان جالساً عليها يداعب مياهها، وأخذ يجول بنظره في أطراف الحديقة، ويتلفت يمنة ويسرة، يحدق بكل ما يبصر، ويصغي إلى كل ما يسمع، فإذا به يشاهد براعيم الأزاهر ترنو إليه وترفع نحوه أكمامها المتضوعة العبير تشكو ظمأها، فاقترب من البركة وأخذ إبريقاً من المعدن الأبيض وملأه وسقى الأزاهر وبلل أغصانها بقطرات الماء النمير، ثم بعد ما فرغ من سقيها أخذ وعاء صغيراً ووضع فيه دقيقاً خلطه بماء، ثم أخذ يعجنه حتى إذا تماسك قدمه إلى حمامة سمعها تنوح شاكية له جوعها. . .
وهكذا تعزى دون جوان المنهزم عن عزه الغابر المفقود بإطعام الحمام وسقى الأزهار!
فلك طرزي(173/63)
البريد الأدبي
وفاة الأبيوردي - رد على الأستاذ علي الطنطاوي
أخي الأستاذ صاحب الرسالة
كتب إليَّ الأديب الفارسي المحقق عباس إقبال نزيل باريس أثناء رسالة فارسية يقول ما ترجمته:
قرأت في العدد 158 من مجلة الرسالة مقالاً بقلم الأستاذ علي الطنطاوي تحت عنوان (الأبيوردي المتوفى في مثل هذا اليوم سنة 557 بمناسبة مرور 798 سنة على وفاته) والظاهر أن الكاتب الفاضل خدع برأي ناشر الديوان قليل الاطلاع الذي أخطأ فجعل وفاة هذا الشاعر سنة 557، وهذا غلط صريح. والصواب أن وفاته سنة 507 كما روى ابن خلكان وياقوت في معجم الأدباء (ج 4 ص 341) وسائر المؤرخين، ويؤيد هذا ما رواه ياقوت في المعجم (4 ص 343) نقلاً عن خريدة القصر للعماد الكاتب من أن الأبيوردي تولى في آخر عمره عملاً للسلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، وأنه سُمَّ وهو يتولى هذا العمل، وبينما كان واقفاً عند سرير السلطان محمد ضعفت رجلاه وسقط على الأرض وقال:
وقفنا بحيث العدل مدّ رواقه ... وخيّم في أرجائه الجود والبأس
وفوق السرير ابن الملوك محمد ... تخر له من فرك هيبته الناس
وغياث الدين أبو شجاع بن ملكشاه مات سنة 511، فمحال أن يكون الأبيوردي الذي وقع في مرض موته أمام سرير السلطان قد مات سنة 557. وبهذا يبطل اجتهاد الأستاذ الطنطاوي ودعوته إلى الاحتفال بعد سنتين بمرور ثمانية قرون على وفاة الأبيوردي، إلا أن يحتفل بعد سنتين بمرور 850 سنة على وفاة الشاعر أو يمد الله في عمر الكاتب اثنتين وخمسين سنة أخرى ليحيي ذكرى الشاعر بعد تسعة قرون.
وناشر ديوان الأبيوردي قليل الاطلاع جدا، فقد نشر في الديوان قصائد من شعر أبي اسحق إبراهيم بن عثمان بن محمد الكلبي الغزي (441 - 524) ولا شك أنها من شعر الغزي ومنها اللامية المطبوعة في الصفحات 274 - 279 من ديوان الأبيوردي والتي يقول فيها الشاعر صراحة:(173/64)
قصدتك لا بالشعر من أرض غزة ... ولكن بقولي أنني لك آمل
(ومثل هذا الغلط في مواضع أخرى لا يتسع المجال لبيانها الآن.)
ولم يطلب إلي الأديب الفاضل نشر كلمته، ولكنني آثرت نشرها إفادة للقراء، وإذاعة لتحقيقات هذا الأديب البحاثة الذي يطرفنا بين الحين بأبحاثه في الأدب العربي وكتبه.
عبد الوهاب عزام
مهرجان أدبي عظيم تمثل فيه مصر
أشرنا من قبل إلى أن مهرجانا أدبياً كبيرا سيقام في لندن في الثالث عشر من شهر أكتوبر الجاري لتكريم الكاتب الإنجليزي الكبير المستر هربرت جورج ولز (هـ. ج. ولز)، لمناسبة بلوغه السبعين من عمره، وأتينا بهذه المناسبة على ترجمة وجيزة لمستر ولز، ونزيد الآن أن هذا المهرجان الأدبي العظيم قد أقيم في الموعد المحدد له بفندق سافوي بلندن، واتخذ صورة مأدبة عشاء كبرى شهدها أربعمائة كاتب وأديب يمثلون معظم دول العالم. ولما كان مستر ولز رئيس نادي القلم الدولي، ورئيس نادي القلم الإنجليزي، فان معضم المندوبين الذين شهدوا المأدبة كانوا يمثلون نوادي القلم في أنحاء العالم وعددها نحو خمسين ناديا. وكانت مصر ممثلة في هذا الاحتفال بواسطة نادي القلم المصري على يد الأستاذ حسين محمد قنصل مصر في لندن الذي شهد الاحتفال بالنيابة عن نادي القلم المصري، ورأس الاحتفال الكاتب الإنجليزي الشهير مستر جون بريستلي؛ وبعد تناول العشاء تعاقب على الخطابة كل من مستر برناردشو الكاتب الأشهر ووكيل نادي القلم الإنجليزي، ومسيو اندريه موروا الكاتب الفرنسي، ومسيو كاريل شابيك الكاتب البولوني، وجوليان هكسلي الكاتب الإنجليزي، والكاتبة الإنجليزية مس ج. سترن؛ وقد تبارى الخطباء في تحية مستر ولز والإشادة بمواهبه وعبقريته الأدبية، فرد عليهم بخطاب طويل يفيض شكراً وعرفاناً. وقد ناب الأستاذ حسين محمد في إبلاغ مستر ولز تهنئة نادي القلم المصري وتحياته، فرجاه أن يحمل شكره وتحياته للنادي المصري.
وقد أفاضت الصحف الإنجليزية في ذكر هذا المهرجان الأدبي العظيم، وقالت إن لندن لم تشهد منذ بعيد احتفالاً أدبياً في عظمته وروعته.(173/65)
ترجمة للسير جرنفيل
من أهم كتب الموسم التي صدرت أخيراً بإنكلترا كتاب عن السير رتشارد جرنفيل أمير البحر المشهور في القرن السادس عشر، ومؤلفه مستر جورج هربرت بوشنل؛ وقد كان العصر الذي ظهر فيه السير جرنفيل، وهو عصر الملكة اليزابيث، أشهر عصور البحرية الإنجليزية، وفيه ظهر مع جرنفيل عدة من أمراء البحر المشهورين مثل السير فرنسيس دريك، والسير رالي، وجون هوكنس وغيرهم. وكانت البحرية الإسبانية يومئذ في أوج قوتها، وكانت المعارك الهائلة تنشب بين الإنجليز والأسبان باستمرار في المياه الأوربية والمياه الأمريكية، وتملأ سير هذه المعارك وتراجم أبطالها من الإنجليز والأسبان أسفاراً بديعة تفيض بأغرب الحوادث حتى يخيل لقارئها أنه يتلو صحفاً من الخيال المغرق. وكتاب مستر بوشنلي عن السير جرنفيل وعنوانه: أحد هذه الأسفار العجيبة التي تذكرنا بكل ما يحتويه القرن السادس عشر من الحوادث والمعارك البحرية المدهشة ومن أعمال البطولة الرائعة.
وقد كان السير جرنفيل من أبناء كورنوال، وظهر في البحر منذ حداثته، وقاد أول حملة بحرية إلى مياه فرجينيا (أمريكا) في سنة 1586، واشترك في كثير من المعارك البحرية التي وقعت يومئذ بين الإنكليز والأسبان، وحارب أيضاً ضد الترك في البحر الأبيض، واشترك في موقعة (الأرمادا) الشهيرة ضد الأسطول الأسباني؛ بيد أن أعظم موقعة خلدت اسم جرانفيل هي موقعة (آزورس) التي قتل فيها؛ وكان يومئذ قائد سفينة (رفنج) الشهيرة في الحملة التي سارت بقيادة الأميرال توماس هوارد لضبط السفن الأسبانية القافلة من أمريكا محملة بالذهب والفضة؛ وفي مياه (آزورس) نشبت المعركة، وكان الأسطول الأسباني يفوق السفن الإنكليزية ضعفين. ولما رأى الإنكليز ضعف مركزهم قرروا الانسحاب، وكانت سفينة جرنفيل في المؤخرة فاشتد عليها الضغط، ولكنها لبثت تقاتل حتى آخر لحظة وجرنفيل يرفض التسليم حتى جرح جرحاً عميقاً، وعندئذ سلمت برغم إرادته، بيد أنها لم تسلم إلا بعد أن أغرقت عدة سفن أسبانية؛ وتوفي جرنفيل بعد ذلك بساعات قلائل.
هذه الحياة المضطربة الحافلة يعرضها مستر بوشنل عرضاً قوياً ممتعاً يخيل إليك عند(173/66)
تلاوته أنك تقرأ قصة رائعة الخيال.
كتاب جديد لجون كنتل
مستر جون كنتل من أكابر الكتاب السويسريين المعاصرين، وهو من ضيوفنا الأجانب، يستقر بمصر كل شتاء ويمتزج بالمجتمع المصري، ونعرف الكثير عن مصر وشؤونها؛ وقد ساح كثيراً في شمال أفريقيا، وأقام حيناً في مراكش وتونس، وله خبرة واسعة بشؤون البلاد العربية وأحوالها السياسية والاجتماعية.
وقد كان لهذا الاتصال بالأمم الشرقية وهذه المعرفة بأحوالها تأثير كبير في توجيه كنتل الأدبي في الأعوام الأخيرة، وظهر هذا الأثر واضحاً في روايته الدكتور إبراهيم التي صدرت في العام الماضين وصدرت في نفس الوقت بالألمانية بعنوان ففي هذه القصة التي اختار كنتل أبطالها من المصريين واختار مصر مسرحاً لحوادثها يدلل كنتل على خبرته بشؤون القرية المصرية والمجتمع المصري الريفي، وأحوال المستشفيات المصرية، وما هنالك في ذلك المجتمع من مثالب وعيوب يجب إصلاحها.
على أن جون كنتل لم ينس وطنه الأصلي حيث نشأ وترعرع فهو من أبناء مقاطعة (تسين) السويسرية، وقد كتب عنها روايته الشهيرة (فيامالا) وهو يصدر الآن بالألمانية روايته الجديدة عن سويسرا، (تريز اتيين) وصدرت أخيراً ببرلين عن مطبعة (كتر بحر) ومسرح هذه الرواية الجديدة هضاب ولاية (برن) وبطلتها فتاة من سويسرا الفرنسية من مقاطعة (فاليه) أو (فاليش) هي (تريز) وهي فتاة بائسة شريدة، تجوب البلاد والطرقات باحثة مستجدية لقوتها، ولكنها كانت فتية حسناء، نحيلة القوام جذابة المحيا؛ وفي ذات يوم بينما كانت تستجدي في إحدى ضياع برن لمحها قروي شيخ من أعيان الناحية فأشفق عليها وألحقها بخدمته وكان يحبوها بعطفه، ولكن الخدم كانوا يكرهونها لحسنها وتأثيرها على السيد؛ وأخيراً أحبها الشيخ وتزوجها؛ ولكن الشيخ كان له ولد فتي يدرس في المدينة، فلما عاد إلى المنزل وألفى تريز هنالك شغف بها حباً، وشغفت به حباً؛ وذهب الهيام بتريز إلى أن فكرت في التخلص من الوالد الشيخ، فلم تجد سبيلاً غير الجريمة، فقتلته؛ ولكنها وقعت بين براثين القضاء، واختتمت بذلك حياتها.
هذا هو مجمل القصة الجديدة التي يخرجها جون كنتل؛ وقد لوحظ أنها ضعيفة الخاتمة كما(173/67)
لوحظ ذلك في روايته الدكتور إبراهيم؛ بيد أن كنتل يبدي فيها كما يبدي في معظم رواياته براعة فنية في العرض والوصف، ولا سيما في عرض مجتمع القرية، وسيدها الذي يتمتع بالحول والنفوذ.
ولجون كنتل بالإنكليزية عدة قصص شهيرة أخرى نذكر منها: , , , , وغيرها.
الحرف
أشارت هذه المجلة في أحد أعدادها الفائتة إلى ما وافق عليه المجمع اللغوي من الاصطلاحات في كتابة الأعلام الأعجمية، وكان من ذلك الاصطلاح على كتابة الحرف واواً بثلاث نقط فوقها عوضاً عن كتابته فاء بثلاث نقط، وذلك لأن أهل المغرب يستعملون هذا الحرف للإشارة إلى حرف الخلاف بين أهل اللغة الواحدة، فلا معنى لمراعاة ما يستعمله أهل المغرب ولا أهل المشرق، لأن الاصطلاح على شيء مع إبقاء خلافه ينافي المقصود من المهمة التي يعمل لها المجمع، فيجب إذا حصل الاتفاق على شيء - مع مراعاة انه لابد من أخذ رأي جميع ممثلي الأقطار العربية - وجب نبذ خلافه وعدم اعتباره بعد ذلك أصلاً.
على أن العلة المذكورة في عدول المجمع عن كتابة الحرف بفاء منقوطة ثلاثاً غير صحيحة، لأننا في المغرب نكتب الكاف بفاء منقوطة ثلاثاً، بل الغالب عندنا كتابته بكاف ذات ثلاث نقط على ما اصطلح عليه المجمع، وسبق إلى قريب من ذلك العلامة ابن خلدون. وبعض الناس عندنا يكتبه بقاف منقوطة كذلك بثلاث؛ ولعل هذا ما اشتبه على أعضاء المجمع الكرام، فظنوا القاف فاء، مع أن الاشتباه بعيد، إذ أن أهل المغرب ينقطون الفاء من تحت لا من فوق فلا اشتباه بينها وبين القاف.
وعلى كل حال فإن العدول عن كتابة بالفاء لا موجب له إلا هذا التوهم الخاطئ، ولا سيما والواو حرف غير معجم، وقد اصطلح الناس قبل المجمع بكثير على كتابته بالفاء، فعسى أن يتفضل المجمع بتعديل قراره بالنسبة إلى هذا الحرف، وينظر في إدخال عضو جديد إلى هيئته من علماء المغرب.
(المغرب)(173/68)
ع. ك
رباعيات عمر الخيام تعرض للبيع في لندن
ستباع في قاعة سونبي في التاسع من نوفمبر أقدم نسخة خطية من رباعيا عمر الخيام وهي مكتوبة على خمس وعشرين ورقة مذهبة وعمرها أكثر من خمسة قرون.
وكان يملكها رجل يدعى (محمد سالم) وجيء بها من لاهور منذ خمس سنوات إلى معرض الفن الفارسي، والأرجح أن تبقى في إنكلترا. وقد درس العلماء - من الشرق والغرب - الأوراق وقرروا أنها تلي في القدم نسخة أوزلي المكتوبة في سنة 1460 وهي المكتبة البودلية وعنها ترجم فتزجرالد الرباعيات.
ولا تزال هذه النسخة الأخرى كأزهى ما كانت عندما كتبها (حافظ فرج الله) في بغداد سنة 1473.
وقد صينت نسخة (لاهور) على القرون؛ وبعد كتابتها بمائتي عام أهداها (محمد شافني) (كذا) إلى محمد مهدي بن موسى دهلمي.(173/69)
الكتب
صدى أحلامي
للآنسة الشاعرة جميلة العلايلي
بقلم الأديب محمود البدوي
ديوان صغير الحجم أنيق الشكل جيد الشعر عذبه، فيه روح الفنانة الملهمة والشاعرة المطبوعة على قول الشعر دون تكلف ولا صنعة ولا محاكاة. . ولا يعييه كثرة ما فيه من نواح وشكوى وأنين فهذا كله لا بأس به إذا جاء من المرأة، ومن فتاة كجميلة العلايلي فنانة بطبعها تعشق الحرية وتتعلق بالمثل العليا - التي لا تتحقق - وتحس بثقل البيئة الخانقة التي تكتم أنفاسها وتهيض جناحيها وتبدد أحلامها الذهبية وتذيب في صدرها أمانيها العذاب. . وفي الديوان قطع شعرية جزلة تحسد عليها، وقصيدة تديرها الشاعرة دوران القصة القصيرة، وهذا توجيه منها حسن ومقبول يحبب الشعر إلى نفوس القراء الذين انصرفوا عنه - مع الأسف - إلى القصة!
والقارئ لهذا الديوان سيشعر بعواطف المرأة الخالصة الصادقة الصريحة، وهذا ما نطلبه من كل فتاة تحاول المحاولات الأدبية مثلها وتجاري الرجل في الفن. . فليست البراعة في تقليد الرجل في عواطفه ومشاعره وتفكيره وحبه، وإنما البراعة في أن تبرز خصائص المرأة وتبدو أنوثتها قوية من خلال السطور؛ والدنيا بأسرها تصفق اليوم (لفيكي باوم) لأنها تمتاز بالحنان. . الحنان الذي لا يعرفه الرجل. والذي يقرأ لكثير من فتياتنا المتأدبات يرى أن أقلام الرجال تجول في أعمالهن الأدبية وتصول، وهذا عيب فاضح تضيع معه شخصية المرأة، ولكن المرأة عندنا تحس بضعفها وعجزها وتستسلم للرجل حتى وإن ضيع شخصيتها وهي أسمى ما يمكن أن تعتز به.
والدراسة القوية المتواصلة لبعض شعراء العرب العباسيين كالبحتري وابن الرومي والنواسي، ولطائفة من شعراء الإنجليز الخالدين كشيلي وبيرون وهاردي ووردثورث - وهذا عاشق للطبيعة كجميلة - سيصقل فنها وأسلوبها، ويكسب شعرها الرنين الموسيقي الذي لا حياة للشعر بدونه، ويوجهها التوجيه الذي نرجوه لها، ويدفعها على توالي السنين(173/70)
إلى القمة.
هذا ونحب أن تسقط الشاعرة من ديوانها - في طبعته الثانية - القصيدتين اللتين سمتهما الشعر المنثور فما نعرف لهذا الشعر الغث المرذول لوناً ولا طعماً حتى ولو كان قائله ابن الرومي.
الواقع أن ديوان (صدى أحلامي) هو خير الجهود الأدبية الموفقة التي بذلتها فتاة في السنين الأخيرة وصاحبته تستحق عليه التهنئة القلبية الخالصة. . . من بنات جنسها!!.
الحياة الجديدة
تأليف الأستاذ نقولا يوسف
للآنسة أمينة شاكر فهمي
لقد دفعني مقال الأستاذ دريني خشبة المنشور (بالرسالة) عن كتاب (الحياة الجديدة) للأستاذ نقولا يوسف إلى مطالعة الكتاب ودرسه درساً دقيقاً، فدهشت جداً لما ذكر الأستاذ من محاسن الموضوعات وما أنكر عليه من طوبيات وتوحيد وعالمية، دون أن يذكر شيئاً عما حاول المؤلف إثباته بقوة وبلاغة عن عدم صلاحية اللغة العربية للتمشي وأدب القرن العشرين.
يخيل إلي أن الأستاذ دريني خشبة مرّ سهواً بقول المؤلف الفاضل في موضوعه (الأدب الجديد) صفحة 91: (لم نعد اليوم في عصر الفراغ والعبث بالوقت نقتله فيخرج لنا الكتاب دواوين مطولة في السجع والتورية والكنايات والمجازات والاستعارات مما اكتظ به الأدب التقليدي الجامد القديم). فلا يسعني إلا أن أنكر على المؤلف انتقاده المر للغتنا العربية وما بها من مجازات واستعارات وهي أجمل ما في لغتنا وأرقها.
فهلا قرأت أجمل من فن العرب في قول أحدهم:
ولما برزنا لتوديعهم ... بكوا لؤلؤاً وبكينا عقيقا
أداروا علينا كؤوس الفراق ... وهيهات من سكرها أن نفيقا
تولوا فاتبعتهم أدمعي ... فصاحوا الغريق وصحت الحريقا
أو قول بعضهم:(173/71)
سألتها عن فؤادي أين موضعه ... فإنه ضل عني عند مسراها
قالت لدينا قلوب جمة جمعت ... فأيها أنت تعني؟ قلت أشقاها
لقد قرأت الكثير من دواوين الشعر الإنجليزي والفرنسي فلم أجد أجمل ولا أدق تعبيراً من الشعر العربي القديم الذي تقول عنه يا سيدي في كتابكم صفحة 193: (إنه يشبه القبر المزين بالنقوش وفي جوفه الرمم)
إن التجديد يا سيدي الأستاذ لا يكون في تغيير اللغة وتشويهها، بل في تغيير الأفكار والنزعات والأخلاق. إنه ليؤلمني جداً أن أقرأ لأحد كتابنا النابغين المجدين العصريين قوله: (إن الأدب العربي القديم محتاج إلى زركشة اللفظ وزخرف الكنايات ليسترا عيبه وقبحه)، فهل تعد جمال اللفظ والمعنى زخرفاً؟ وطرافة التورية وبساطتها زركشة؟
فما قولك في قول ابن الفارض:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها كالبدر كأس وهي شمس يديرها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وما قولك في الأدب العصري الحديث، كقول الأستاذ عبد الرحمن شكري في قصيدته (البحر):
ألا ليتني لج كلجك زاخر ... أعب كما تهوى النهى والبصائر
خيرك يحكي صدحة الدهر صامتاً ... كأنك دهر بالحوادث مائر
وقوله:
فلعل الحياة كالماء تجري ... بين هذا الثرى وبين السماء
وقول الأستاذ محمود محمد شاكر في قصيدته (حيرة):
أتنهاني عن الجزع الليالي ... وما تنفك تتركني مصابا؟!
فتسلبني الأحبة عن عيان ... وتمنحني بذكرهم عذابا
لذا تجد يا سيدي أن اللغة العربية ليست بقاصرة عن التعبير ووصف حياتنا العصرية. إنني يا أستاذي لست ممن يدين بالرجعية والتمسك بالقديم ولكني في كل ما قرأت من لغات أجنبية لم أجد أجمل ولا أقوى من لغتنا العربية القديمة. وأراك يا سيدي تعيب على العرب وضعهم مائة اسم للأسد ومائتين للجمل كأن لم يكتب العرب شيئاً إلا أسماء الأسد والجمل.(173/72)
لقد دهشت لقولك في (الحياة الجديدة) صفحة 135: (ولسنا نجهل مركز الأدب العربي بين تلك الآداب وهو الأدب الذي تتخذه مصر لها أدباً قومياً حتى اليوم، وهو لا يمت إلينا بصلة ولا بنسب، فنحن لا نتحادث في حياتنا اليومية بلغته الفصحى. .) إنني والحق يا سيدي عاجزة عن الرد على هذا القول، وإنني أترك الرد لأدبائنا الأفاضل. فهل نفهم من ذلك أن اللغة العربية الفصحى ليست بلغتنا وأننا يجب أن نتكلم بلغة أخرى؟ وأي لغة يا ترى تشير بها علينا: الهيروغليفية أم الإنكليزية أم العربية العامية؟ عفواً يا سيدي ومعذرة، فإنني لا أقصد التهكم أو الانتقاد، ولكن آلمني جداً احتقاركم للغتنا العربية بكل ما فيها من جمال وقوة. وبالرغم من كل هذا فإنه لا يسعني إلا أن أبدي إعجابي الوافر بكل ما حوى الكتاب من بحوث علمية وعالمية، ودفاعكم الحار عن الفلاح المصري، وقولكم: (إذا أنصفنا أخانا الفلاح فإنما ننصف البلاد المصرية كلها) وكم كنت أود لو أذكر كل فصل على حدة لما جمع كل منها من أبحاث قيمة ودرس عميق وتحليل سيكولوجي دقيق وإحصائية مدهشة عن تاريخ تقدم العلم في سبيل الوقاية من الأوبئة الفتاكة التي اجتاحت في القرن الماضي عدداً عظيماً من سكان العالم. أما بحث (عدة النجاح في العصر الجديد) فهو فصل ممتع وأبحاث قيمة دقيقة عن تاريخ أجناس الشعوب المختلفة وتطور الأديان والعلوم والفنون ونشأتها في كل الأمم، ويختم مقاله بقوله: (كذا الفن كالعلم والأدب لا وطن له ولا لغة لأنه ينبثق من النفس البشرية ويعود إليها).
وهو - على طول الخط - يدل على ثقافة والمؤلف الواسعة ودرسه التحليلي العميق. ولقد أعجبت جداً بفصول المؤلف الخيالية، وخصوصاً فصل (مصر بعد خمسة قرون) إذ جمع بين الخيال الواسع والحقيقة والنبوءة. كما أبدع في التحدث عن فلسفة الجمال والحياة في فصل (فن الحياة) و (البشرية). أما تأملاتكم يا سيدي (على شاطئ البحر) فهي من أجمل وأرق ما قرأت في الخيال، وأخص بالذكر منها قولكم (وما تلك الفترات التي يسعد فيها بنو البشر إلا لحظات مختلسة في غفلة الزمن لا بد أن ندفع لها ثمناً غالياً).
أما فصول الساعات مع نوابغ الأدب الشعري والفلسفي والعلمي مثل تاجور وشللي وملتون وويلز وغيرهم فهي مجموعة ثمينة جداً عن تاريخهم وكتاباتهم وفلسفاتهم. ولكن فات حضرة الأستاذ أن يذكرنا بساعة مع شوقي أو حافظ إبراهيم.(173/73)
وأخيراً أضم صوتي إلى حضرة الأستاذ د. خ. وأقول إن بحوث (الحياة الجديدة) دسمة غزيرة الفكر. فهي مجموعة ثمينة جامعة بين جمال الخيال ودرس التاريخ وتحليل للعصر الجديد دقيق، وتراجم متقنة للأدب القدم والحديث، وهو حقيقة يكاد لا يكون له نظير في مكتباتنا العربية.
أمينة(173/74)
العالم المسرحي والسّينمائي
موسم الفرقة القومية الجديد
من حديث للأستاذ طاهر حقي لمحرر (الرسالة) الفني
في مجلس يضم بعض كبار المشتغلين بالمسرح جرت أحاديث الموسم المقبل على الألسنة، فمن قائل إنه مزدهر، وأصحاب الرأي الأخير يستندون إلى قيام أكثر من فرقة واحدة تعمل إلى جانب الفرقة القومية وما سيجره قيام الفرق من منافسة قوية.
فإلى جانب الفرقة القومية تقوم فرقة رمسيس وقد بدأت عملها هذا الأسبوع برحلة إلى الأقاليم؛ وتتكون في هذه الأيام فرقة فاطمة رشدي للسفر إلى العراق وسوف تستأنف العمل في القاهرة بعد عودتها. وهنالك فرقة استعراضية ألفتها السيدة بديعة مصابني، ثم فرقة مختار عثمان، هذا إلى جانب فرقة الريحاني التي تبدأ متأخرة كعادتها.
وقد خطر لي أثناء الحديث أن أوجه بعض الأسئلة عن الفرقة القومية ومبلغ استعدادها للموسم الجديد إلى سكرتيرها الأستاذ طاهر حقي وهو كما يعرف القراء من الأدباء الذين اشتغلوا بالمسرح من زمن بعيد، وقد أخرجت له أكبر الفرق المصرية فيما مضى أكثر من رواية تمثيلية نالت نصيباً كبيراً من التوفيق والنجاح، فآراؤه في المسرح لها قيمتها.
قلت: (ما هو مدى النجاح الذي تتوقعه للفرقة القومية في الموسم الجديد؟ والى أي شيء يعزى؟) فأجاب قائلاً: (إني أتوقع للفرقة نجاحاً هائلاً في الموسم الجديد، لأن استعدادنا تام من جميع النواحي؛ فالنظام يسود أعمال الفرقة من انتقاء للروايات، إلى توزيع الأدوار على الممثلين توزيعاً عادلاً بحيث ينال كل ممثل الدور الذي يليق به ويصلح له، إلى حفظ الممثلين لأدوارهم. ولا أظنك تجهل قرار اللجنة بأن تسير الفرقة في التمثيل على القاعدة الإنجليزية التي تقضي على الممثلين بأن يستظهروا أدوارهم ويشتغلوا دون ملقن، وفي رأيي أن هذه الطريقة ستخطو بالمسرح خطوات واسعة إذ تجعل الممثل يعتمد على نفسه ويدرس دوره دراسة كافية، فلا إهمال بعد اليوم اعتماداً على الملقن.
قلت: (ما رأيك في المنافسة بين الفرقة والفرق الأخرى؟)
قال: أعفني من هذا السؤال. إن بضاعتنا غير بضاعة الفرق الأخرى، فالفرقة القومية قامت للنهوض بالمسرح، ونحن ننشد الفن الخالص والأدب الرفيع لا نهتم بكسب مادي أو(173/75)
نجاح اسمي؛ ولكني أقول إن الفرقة القومية ترحب بكل منافسة وهي على استعداد لمساعدة الهيئات والنوادي والجمعيات بكل ما يتيحه لها قانونها.
قلت: (هل لك أن تبدي رأياً في الروايات التي وقع عليها الاختيار للموسم الجديد، وفي قيمة هذه الروايات الأدبية والفنية)
فأجاب قائلاً: (إن الموسم سيكون حافلاً بروايات منتقاة بعناية زائدة وهي بين مصرية مؤلفة وأجنبية ممصرة أو مترجمة.
فأما الروايات المؤلفة فهي من قلم أدباء معروفين، وقد حازت رضاء أعضاء اللجنة وهم كما تعرف من زعماء الأدب العربي، ولا أظن الجمهور إلا معجباً بهذه الروايات. ويسرني أن أقول إن الفرقة القومية قد فتحت الطريق أمام ذوي العقول الخالقة المنتجة ليخرجوا إلى عالم الأدب والفن روايات هادئة لا تحوي طعاناً ولا تقتيلاً ولا أحاديث ثائرة عنيفة تصدم الأعصاب وتلهب الحواس، بل تحوي أحاديث هادئة فيها من الجمال ما يصدم الأعصاب ويبعثها على التأمل والاعتبار، وتعالج الشؤون الاجتماعية التي تشغل الرأي العام وتوجه تيار المدنية إلى الناحية التي تجدي على البيت والأسرة.
والروايات الممصرة مأخوذة عن روايات أجنبية لأكبر الكتاب نالت في بلادها من النجاح ما جعل شركات السينما تتهافت على اقتباسها. وقد بذل الكتاب المصريون مجهوداً كبيراً في تمصيرها حتى أصبحت وكأنها مصرية الفكرة والموضوع والحوادث. ولا شك أن هذه الروايات ستنال رضا رواد المسرح كما تنال رضا الأدباء. أما الروايات المترجمة، فهي من روائع الأدب الأوربي الحديث، وقد أخرجت على أكبر مسارح أوربا. ولم نوجه أنظارنا عند الاختيار إلى ناحية المسرح الفرنسي وحده كما كانت الحال فيما مضى، بل كان الاختيار موزعاً بين الأدب الروسي والإنجليزي والألماني والفرنسي. وليس بين الروايات واحدة لكاتب مغمور، بل جميع الروايات لكتاب معروفين في بلادهم والبلاد الأخرى، فالموسم كما ترى حافل، حافل.
قلت: ومتى تبدأ الفرقة عملها، ومتى ينتظر إنشاء المعهد؟
قال: ليس لدي قرار أستند إليه، فلجنة المسرح التي يرأسها صاحب المعالي حافظ عفيفي باشا هي التي تقرر ذلك، وينتظر أن تجتمع بعد عودة معاليه من أثينا قريباً. على أني(173/76)
أعتقد أن الافتتاح سيكون في النصف الثاني من شهر نوفمبر، وذلك ريثما تتم الإصلاحات القائمة في دار الأوبرا. ومن المنتظر أن يشرف حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول حفظه الله دار الأوبرا ويشهد أكثر من رواية. أما المعهد وإرسال البعوث إلى أوربا فقد أرجئ البت فيهما لحين مجيء المخرج الفرنسي الذي استدعته اللجنة ليعاونها في تنظيم المسرح المصري.
قلت: على ذكر هذا المخرج أو الخبير الفرنسي، هل تعتقد أن في مجيئه فائدة كبيرة، وفي أي ناحية يفيدنا، والى أي مدى؟
فأجاب: (ليس من شك في أن آراء الخبرات ذات قيمة كبيرة، فإن لهؤلاء الرجال من الخبرة ما يجعلهم جديرين بإبداء الآراء التي تؤدي إلى الإصلاح السريع. وقد يرى بعض الناس أن مسرحنا مصري، فكيف يستطيع هذا المخرج، وهو أجنبي عنا لم يدرس أدبنا العربي ولم يعرف خلقنا المصري، أن يساهم في رقي المسرح وتنظيمه، ولكن الواقع يا صديقي أن المسرح لم يكن يوماً مصرياً أو عربياً، وهو ليس من أدبنا بل منقول عن الغرب ورجال الغرب أجدر بإرشادنا إلى الإصلاح.
وقد عانى المسرح في فرنسا بعض ما يعانيه مسرحنا المصري، وقد بذلت جهود عديدة لإقالته من عثرته وقد وفق القوم هناك. فمجيء هذا المخرج سيفيدنا دون ريب، وأعتقد أنه سوف يشير بإجراء إصلاحات كبيرة في مسرح دار الأوبرا سيكون لها شأن غير قليل في تسهيل مهمة المخرج المصري).
(يوسف)
السينما
اليد السوداء
إخراج ابنكمان الصغير
دار العرض، سينما النهضة
لست أدري لم اختار المؤلف للفلم هذا الاسم المخيف الذي يبعث الرعب في نفوس رواد(173/77)
السينما ويمنعهم من الإقبال على مشاهدته في حين أن التسمية لا تتفق مع غرض القصة وموضوعها وروحها ولا تتصل بها كبير اتصال. فالناقد يرى بجلاء أن الحوادث العنيفة والمؤامرات بالشكل الذي عرضت به تجعل الجزء المضحك غير مرتبط بالجزء الآخر حتى ليبدو العنف دخيلاً على قصة الفلم، وفي رأيي أن نجاح الفلم يكون مضاعفاً لو أن المؤلف عالج قصته على أنها كوميدية فقط.
وليس للقارئ من فائدة في تلخيص هذا الفلم إلا أن يأخذ عنه فكرة سيئة، مع أن الواقع أن الفلم ظريف ومضحك وهو من نوع روايات الجزائرلي ولكنه أرقى موضوعاً.
قام عبد النبي بالدور الأول، وعبد النبي محمد من الممثلين المسرحيين المعروفين، وقد أدى دوره بنجاح كبير؛ وأعتقد أن الشركة التي عهدت إليه بهذا الدور سوف تستغله في أدوار أخرى. وقامت السيدة عقيلة راتب بدور البطلة فكانت موفقة هي الأخرى. وأبدى مختار حسين مجهوداً كبيراً ولكن طبيعة جسمه تجعله لا يصلح لتمثيل دور رجل الشرطة السري لاسيما وأنه كان يبدو دون تخف. ونصيحتي للمخرج ألا يختار الأسماء وحدها، بل الشخصية التي تصلح للدور، وما أقوله في مختار أقوله في حامد مرسي فلم يكن هو الآخر ناجحاً في دوره النجاح المنتظر.(173/78)
العدد 174 - بتاريخ: 02 - 11 - 1936(/)
حماسة الشعب
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وحدثني صاحب سر (م) باشا قال: لما رجع سعد باشا من أوربا في سنة 1921 كانت الأمة في استقباله كأنها طائر مد جناحيه لا خلاف لشيء منه على شيء منه، بل كله هو كله؛ وكانت المعارضة في الاستحالة يومئذ كاستحالة وجود رقعة في ريش الطائر.
على أن ثوب السياسة المصرية كثير الرقع دائما بالجديد والخلق. فرقعة من المعارضين، وأخرى من المتعنتين، وثالثة من المتخاذلين، ورابعة من المعادين، وخامسة وسادسة وسابعة من الحاسدين والمنافسين والمختلفين لشهوة الخلاف، ورقاع بعد ذلك مما نعلم وما لا نعلم، فإن من العجيب أن هذا الجو الذي لا يتقلب إلا بطيئاً يتقلب أهله بسرعة، وهذه الطبيعة التي لا تكاد تختلف لا يكاد أهلها يتفقون.
ولكن سعدا رحمه الله رجع من أوربا رجعة الكرامة لأمة كاملة، ففاز بأنه لم يخسر شيئاً من الحق، وانتصر بأنه لم يهزم، ودل على ثباته بأنه لم يتزعزع، وذهب صولة ورجع صولة وعزيمة؛ فكان إيمان الشعب هو الذي يتلقاه، وكانت الثورة هي التي تحتفل به، وبطلت العلل كلها فلم يجد الاعتراض ما يعترض عليه، واتفقت الأسباب فأجمعت الكلمة، وظهر سعد كأنه روح الأمة متمثلا في قدرة، حاكماً بقوة، متسلطاً بيقين. . . .
نعم لم ينتصر البطل ولكن الأمة احتفت به لأنه يمثل فيها كمالا من نوع آخر هو سر الانتصار، فكانت حماسة الشعب في ذلك اليوم حماسة المبدأ المتمكن يُظهر شجاعة الحياة وفورة العزائم وفضيلة الإخلاص وشدة الصولة وعناد التصميم، ويثبت بقوة ظاهره قوة باطنة، وكان فرح الأمة عناداً سياسياً يفرح بأنه لا يزال قوياً لم يضعف، وكان ابتهاجها مجداً يشعر بأنه لا يزال وافراً لم يُنتقص، وكان الإجماع رداً على اليأس، وكانت الحماسة رداً على الضعف.
انبعثت صولة الحياة في الشعب كله وابتدأ المستقبل من يومئذ، فلو نزلت الملائكة من السماء في سحابة مجلجلة يُسمع تسبيحهم ليؤيدوا سعداً - لما زادوه شيئاً؛ فقد كان محله من القلوب كأنه العقيدة، وكان التصديق مبذولاً له كأنه الكلمة الأخيرة، وكانت الطاعة موقوفة عليه كأنه الباعث الطبيعي، وكان البطل في كل ذلك يشبه نبياً من قِبلِ أن كلاً منهما صورة(174/1)
كاملة للسمو في أفكار أمة.
قال صاحب السر: ورجع الباشا من القاهرة وقد رأى ما رأى من مسامحة النفوس وصحة العهد واجتماع الكلمة وإعداد الشعب للمراس والمعاناة فقال:
تالله لقد أثبت (سعد) للدنيا كلها أن مصر الجبارة متى شاءت بنت الرجال على طريقة الهرم الأكبر في العظمة والشهرة والمنزلة والقوة. ولقد صنع هذا الرجل العظيم ما تصنع حربٌ كبيرة فجمع الأمة كلها على معنى واحد لا يتناقض، ودفعها بروح قومية واحدة لا تختلف، وجعل عرق السياسة يفور كما يفور العرق المجروح بالدم.
إن هذه الأمة بين شيئين لا ثالث لهما: إما الحزم إلى الآخر وإما الإضاعة. ولا حزم إلا أن يبقى الشعب كما ظهر اليوم طوفاناً حياً مستوي الطبيعة مندفع الحركة غامراً كل ما يعترضه إلى أن يُقضى الأمر ويقول أعداؤنا يا سماء أقلعي.
هكذا يعمل الوطن مع أهله كأنه شخص حي بينهم حين يستوي الجميع في الثقة، ويتآزر الجميع في الأمل، ويشترك الجميع في العطف الروحي، ولا يبقى لجماعة منهم حظ في رغبة غير الرغبة الواحدة للجميع؛ وهكذا يعمل الوطن بأهله حين يعمل مع أهله.
كان أعداؤنا يحسبوننا ذباباً سياسياً لا شأن له إلا بفضلات السياسة ولا عمل له في أزهارها وأثمارها وعطرها وحلواها؛ فأسمعهم الشعب اليوم طنين النحل وأراهم إبر النحل، ليعلموا أن الأزهار والأثمار والعطر والحلوى هي له بالطبيعة.
وكانوا يتخرّصون أن مذهبنا في الحياة لمصلحة المعاش فقط، وأن المصري حاكما أو محكوماً لا يمدُّ آماله الوطنية إلى أبعد من مدة عمره سبعين أو ثمانين سنة، فإذا أطلقوا أيدينا في حاضر الأمة أطلقنا أيديهم في مستقبلها. ومن ثم طمعوا أن يكون الحق الناقص في نفسه حقاً تاماً في أنفسنا لهذه العلة؛ وحسبوا أن السياسي المصري لا يتجرأ أن يقول ما يقوله السياسي الأوربي من أنه لا يخشى الموت ولكنه يخشى العار، فانه إذا مات مات وحده، وإذا جلب العار جلبه على نفسه وعلى أمته وعلى تاريخ أمته بيد أن سعداً قالها؛ وفي مثل هذا قد يكون قول (لا) معركة.
وهاهي ذي معركة اليوم التاريخية، فان الذرات الحية التي تخلق من دمائنا نحن المصريين قد ثارت في هذه الدماء في هذا النهار تعلن أنها لا ترضى أن تولد مقيدة بقيود.(174/2)
أتدري ماذا عرضوا على سعد؟ إنهم عرضوا عليه ما يشبه في السخرية طاحونة تامة الأدوات والآلات من آخر طراز، ثم لا تقدم لها إلا حبة قمح واحدة لتطحنها. . . . نتيجة تسخر من أسبابها وأسباب تهزأ بالنتيجة.
إن أوربا لا تحترم إلا من يحملها على احترامه، فما أدرى السياسيين في هذا الشرق عملا أفضل ولا أقوى ولا أرد بالفائدة من إحياء الحماسة في كل شعب شرقي، ثم حياطتها وحسن توجيهها؛ فهذه الحماسة الشعبية الدائمة القوية البصيرة هي قوة الرفض لما يجب أن يرفض، وقوة التأييد لما يجب أن يقبل وهي تعد ذلك وسيلة جمع الأمر وإحكام الشأن وإقرار العزيمة في الأخلاق وتربية الثقة بالنفس، وبها يكون إذكاء الحس وتعويده إدراك الأعمال العظيمة والتحمس لها والبذل فيها.
وما علة العلل فينا إلا ضعف الحماسة الشعبية في الشرق وسوء تدبيرها وقبح سياستها، وإنا لنأخذ عن الأوربيين من نظامهم وأساليبهم وسياستهم وعلومهم وفنونهم فنأخذ كل ذلك بروحنا الفاترة في خمول وإهمال وتواكل وتفرد بالمصلحة واستبداد بالرأي، فإذا دينارهم في أيدينا درهم، وإذا نحن وإياهم في الشيء الواحد كالنحلة والذبابة على زهرة.
ليست لنا حماسة الحياة وبهذا تختلف أعمالنا وأعمالهم، وذلك هو السر أيضاً في أن أكثر حماستنا كلامية محضة إذ يكون الصراخ والصياح والتشدّق ونحوها من هذه المظاهر الفارغة - تنقيحاً للطبيعة الساكنة فينا وتنويعاً منها بغير أن نجهد في التنقيح والتنويع. ومن هذا كانت لنا أنواع من الكلام ينطلق اللسان فيها للخروج من الصمت لا غير. . . . ومنه كثير من هذا الهراء السياسي الذي يدور في المجالس والأحزاب والصحف.
إن حماسة الشعب لا تكون على أعدائه فقط بل على معايبه أيضاً وعلى ضعفه بخاصة. والشعب الفاتر في حماسته لو نال حقين مغصوبين لعاد فخسر أحدهما أو كليهما؛ أما الشعب المتحمس القوي في حماسته، فلو غُصبَ حقين ونال أحدهما لعاد فابتزَّ الآخر.
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(174/3)
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
- 2 -
أثيرت مشكلة الوحي في العالم العربي منذ بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته. فكفار فقريش ما كانوا يريدون أن يقبلوا أن محمد بن عبد الله ينزل عليه وحي سماوي، وكثيراً ما رددوا جملتهم التهكمية المشهورة: هذا ابن أبي كبشة يكلم من السماء. واستبعدوا عليه كل البعد أن يتصل بالعالم الإلهي وهو بشر مثلهم يأكل ويشرب ويتردد إلى الحوانيت والأسواق: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق؛ لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيراً، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها) بيد أن معجزاته بهرتهم وفصاحته أفحمتهم وهم أهل القول واللسن، وزعماء البلاغة والبيان. فأخذوا يتهمونه تارة بالسحر والشعوذة، وأخرى بالكهانة والتنجيم؛ وعزوا إليه قوى خفية لا حصر لها. ولم يكن له من جواب على هذه الدعاوى الباطلة والاتهامات القاسية إلا أن يقول: (ما أنا إلا بشر مثلكم يوحى إلي). فهو لا يجيء بشيء من عنده، ولا يفتري عليهم الكذب، وإنما يبلغ رسالة الله: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين). ونظرية الإسلام في الوحي وطرائقه سهلة واضحة. فهناك ملك خاص هو جبريل عليه السلام، قادر على التشكل بأشكال مختلفة شان الملائكة الآخرين؛ وكل وظيفته تتلخص في أنه واسطة بين الله وأنبيائه. وعنه تلقى محمد صلى الله عليه وسلم كل الأوامر الدينية، اللهم إلا في ليلة المعراج فقد اتصل بربه مباشرة واستمع ما فرض عليه وعلى أمته. ويجب أن نشير كذلك إلى أن الأحلام وسيلة من وسائل الكشف والإلهام، فإن النفوس الطاهرة تصعد أثناء النوم إلى عالم الملكوت حيث تقف على الأمور الخفية والحقائق الغامضة. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبدأ دعوته أحلاماً آذنت بمهمته، وكانت إرهاصا لنبوته وبشيراً برسالته: والرؤيا الصادقة جزء من أربعين جزءاً من جزاء النبوة. وفي القران الكريم سورة كاملة تشرح الأحلام وأثرها في التنبؤ بالغيب، ونعنى بها سورة يوسف.
لم يتردد رجال الإسلام في الصدر الأول مطلقاً في التسليم بهذه الوسائل الخاصة بالوحي(174/4)
والإلهام. ولم يحاول واحد منهم أن يسأل عن النبوة في سرها وأساسها، ولا عن المعجزات في عللها وأسبابها. وآمنوا إيماناً صادقاً بكل ما جاء من عند الله دون بحث أو تعليل. وقد عنوا من الفجر الأول للإسلام بالرؤيا وتعبيرها ووضعوا في ذلك أبحاثا مستقلة لم تلبث أن كونت علماً خاصاً. وإنا لنجد بين التابعين تلك الشخصية الجليلة المعروفة بين رواة الحديث، وهي شخصية ابن سيرين التي كانت تعد حجة في تأويل الأحلام وتفسيرها. وعل هذا في الغالب هو السر في أن المتأخرين نسبوا إليها في هذا الباب كتباً ليست من صنعها.
بيد أن هذا التسليم الهادئ لم يطل أمده، وهذا الإذعان الفطري لم يبق في مأمن من الشكوك والأوهام. فقد اختلط المسلمون بعناصر أجنبية مختلفة نفثت فيهم كثيراً من سمومها، لم ترع أصلاً من أصول دينهم إلا وضعته موضع النقد والتشكيك والتضليل. ولا غرو فقد كانت هذه العناصر موتورة من الدين الذي ألغى أديانها ومن الحضارة الجديدة التي سلبتها مجدها وعزها. لذا تألبت في كل جموعها، وأخذت تحارب الإسلام بشتى الوسائل لتثأر لنفسها ودينها وتسترد نفوذها وسلطانها، ولكنها عبثاً حاولت وباءت بالخيبة والفشل: (إنا نحن نزَّ لنا الذكر وإنا له لحافظون). فالمزدكية والمانوية من الفرس، وأنصارهم من زنادقة سادة العرب، بدأوا في القرن الثاني للهجرة ينشرون دعوة التثنية ويهدمون فكرة التوحيد التي قام عليها الإسلام. وكلنا يعلم خبر بشار بن برد وصالح بن عبد القدوس الثنويين اللذين كانت لهم مجالس خاصة تذاع فيها الآراء المزدكية والمانوية السمنية وغيرهم من براهمة الهند أخذوا في ذلك العهد نفسه ينادون بتناسخ الأرواح، وينكرون النبوة والأنبياء، ولا يرون حاجة البشر إليهم. وصاحب الأغاني يقص علينا حديث جرير بن حازم الأزدي السمني وما كان بينه وبين عمر بن عبيد في البصرة من حوار ونقاش. وملأ اليهود كتب الحديث والتفسير باسرائيلياتهم، وقالوا بالرجعة والتشبيه وخلق القران كما قالوا بخلق التوراة من قبل. وأرسل آباء الكنيسة على المسلمين شواظاً من أسئلتهم واعتراضاتهم المتعلقة بمشكلة الجبر والاختيار فزادوها تعقيداً، وشغلوا الناس بها فوق عرفهم ومألوفهم، وذهبوا إلى إنكار أبدية عذاب النار فقال الجهم بن صفوان معهم إن الجنة والنار يفنيان ويفنى أهلهما واجترأ الدهرية على أن ينكروا البارئ جل شأنه والعقاب والمسؤولية، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.(174/5)
وقد سل المعتزلة وغيرهم من مفكري الإسلام لهؤلاء وهؤلاء سيف الحجة والرهان وجادلوهم جدالاً قد لا نجد له نظيراً في تاريخ الأديان الأخرى. فأبلى واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد بلاء حسناً في معارضة بشار بن برد وصالح بن عبد القدوس. وناظر أبو الهذيل العلاف الثنوية في البصرة وهدى بعضهم إلى الإسلام. وكان للنظام، وهو أحذق الجدليين في الشرق، قدم صادقة في مناقشة الزنادقة والدهرية والديصانية. ثم جاء من بعده تلميذه الجاحظ فسار على سنته، وبذل في هذا النضال همة طائلة ومهارة فائقة، واستعان عليه باطلاعه الواسع وأسلوبه العذب وقلمه السيال. وفي كتاب الانتصار لأبي الحسين الخياط المعتزلي الذي طبع في مصر أخيراً تفاصيل كثيرة عن هذه الملاحم الكلامية والمعارك الجدلية. وكثر الحوار بين المسلمين والنصارى من جانب وبين المسلمين واليهود من جانب آخر. وأخذت طائفة من الإسماعيلية على عاتقها رد شبه مفكري النبوة والأنبياء ومعجزاتهم. وفي اختصار كان القرنان الثالث والرابع للهجرة - أو التاسع والعاشر للميلاد - ميداناً فسيحاً لجدال عنيف شمل معظم أصول الإسلام ومبادئه.
وليس هناك شك في أن التسليم بالوحي والمعجزة ألزم هذه الأصول وأوجبها؛ فإن منكري النبوة ينقضون الدين من أساسه ويهدمون الحضارة الإسلامية كلها. وعلى الرغم مما في هذه الدعوى من جرأة وفي هذا الموقف من تهجم، فإنا نجد بين المسلمين من وقفوه. ودون أن نعرض لكل من خاضوا غمار هذا الموضوع في القرنين الثالث والرابع للهجرة نشير إلى رجلين: هما أحمد بن اسحق الراوندي ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب. فأما الأول فشخصية غريبة للغاية، ولا يعرف بالدقة تاريخ مولده ولا وفاته، ويغلب على الظن أنه مات في أخريات القرن الثالث. وهو من أصل يهودي نشاً في راوند قرب أصبهان، ثم سكن بغداد واتصل بالمعتزلة، وكان من حذاقهم، وعده المرتضى بين طبقتهم الثامنة. إلا أنه لم يلبث أن خرج عليهم لأسباب لم يجلها التاريخ بعد، وحمل عليهم، بل وعلى الإسلام وتعاليمه المختلفة، حملة عنيفة. ولازم الملحدين واتصل بهم اتصالاً وثيقاً. ويظهر أنه أضحى دسيسة ضد المسلمين يدبر لهم المكائد ويُستأجر للطعن عليهم وينشر فيهم عناصر الزيغ والإلحاد. ولم يخف أمره على بعض اليهود المخلصين الذين حذروا المسلمين منه وقالوا لهم: ليفسدن عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه التوراة علينا. وقد كتب كتباً كثيرة كلها(174/6)
انتقاص للإسلام ورجاله؛ منها كتاب فضيحة المعتزلة في الرد على كتاب فضيلة المعتزلة، الذي وضعه الجاحظ من قبل، وكتاب الدامغ يعارض به القران، وكتاب الفرند في الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم، وكتاب الزمردة في إنكار الرسل وإبطال رسالتهم. والكتاب الأخير يعنينا بوجه خاص فإنه يعطينا فكرة عن مسألة النبوة، وكيف كانت تثار في ذلك العهد. وقد بقي هذا الكتاب مجهولاً إلى زمن قريب؛ ويرجع الفضل في التعريف عنه إلى صديقنا المسيو كراوس الذي اهتدى إليه في مخطوطة من المخطوطات الإسماعيلية الموجودة في الهند، وهذه المخطوطة ليست إلا جزءاً من المجالس المؤيدية المنسوبة إلى المؤيد في الدين هبة الله بن أبي عمران الشيرازي داعي الدعاة الإسماعيلي أيام الخليفة الفاطمي المنتصر بالله وتشتمل المجالس المؤيدية في جملتها على 800 محاضرة ألقيت في (دار العلم) بالقاهرة في منتصف القرن الخامس الهجري، ودرست فيها المشاكل الإسلامية على اختلافها. وفي المجلس السابع عشر من المائة الخامسة إلى المجلس الثاني والعشرين يعرض المحاضر لأقوال الراوندي في الطعن على النبوة ويعقب عليها بالنقض والرد. وهذه المجالس الستة هي التي نشرها المسيو كراوس وترجمها إلى الألمانية وعلق عليها تعليقاً ضافياً يدل على اطلاعه الواسع وبحثه العميق في مجلة الرفستا الإيطالية سنة 1934. فهي لا تحوي كتاب الزمردة في مجموعه، بل فقرات منه تولى الإسماعيلية مناقشتها وإظهار ما فيها من خطأ ومغالطة. وقد صيغت هذه المناقشة في قالب مشوق جذاب، وإن تكن مسجعة سجعاً ثقيلاً أحياناً، وفيها دفاع وردود عقلية هي أثر من آثار الثقافة الإسماعيلية المترامية الأطراف. ولا يتسع المقام لعرض هذه المناقشة في تفصيلها؛ وسنكتفي بأن نستخلص دعاوى ابن الراوندي واعتراضاته.
قد يكون أول شيء يلحظه المطلع على هذا الحوار هو ما في ابن الراوندي من حذق ومهارة ومكر ودهاء. يقف موقفاً بعيداً عن التحيز - ولو في الطاهر على الأقل - كي يجتذب إليه كل القراء، فهو لا يتعرض للنبوة بالنفي والإنكار فقط، بل يناقش موضوعها مناقشة حرة طليقة يأتي فيها على أقوال المثبتين والمنكرين. وكم نأسف لأن صاحب المجالس المؤيدية أهمل جانب الإثبات في هذه القضية. ولو وافانا به لاستطعنا أن نحكم في وضوح ما إذا كان واضع كتاب الزمردة يكيل بكيلين. على أن هناك ظاهرة أخرى تؤيد أن(174/7)
ابن الراوندي يمعن في الدهاء والمكر؛ فهو يعلن في أول بحثه أنه لا يعمل شيئاً سوى أنه يردد أقوالاً جرت على ألسنة البراهمة. في رد النبوات. وسواء أكانت هذه الأقوال من آثار الفكر الهندي أم من اختراع ابن الراوندي فهي تتلخص فيما يلي: إنكار للنبوات عامة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، نقد لبعض تعاليم الإسلام وعباداته، ثم رفض في شيء من التهكم للمعجزات في جملتها. فأما الرسل فلا حاجة إليهم لأن الله قد منح خلقه عقولاً يميزون بها الخير من الشر ويفصلون الحق عن الباطل، وفي هدي العقل ما يغني عن كل رسالة. يقول ابن الراوندي: (إن البراهمة يقولون إنه قد ثبت عندنا وعد خصومنا أن العقل أعظم نعم الله سبحانه على خلقه، وأنه هو الذي يعرف به الرب ونعمه، ومن أجله صح الأمر والنهي والترغيب والترهيب. فإن كان الرسول يأتي مؤكداً لما فيه من التحسين والتقبيح والإيجاب والحظر، فساقط عنا النظر في حجته وإجابة دعوته؛ إذ قد غنينا بما في العقل عنه، والإرسال على هذا الوجه خطأ. وإن كان بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح والإطلاق والحظر فحينئذ يسقط عنا الإقرار بنبوته). وسيراً في هذا الطريق العقلي المزعوم يرى ابن الراوندي أن بعض تعاليم الدين منافٍ لمبادئ العقل، كالصلاة والغسل والطواف ورمي الحجارة والسعي بين الصفا والمروة اللذين هما حجران لا ينفعان ولا يضران. على أنهما لا يختلفان عن أبي قبيس وحراء في شيء، فلم امتازا على غيرهما؟ وزيادة على هذا أليس الطواف بالكعبة كالطواف بغيرها من البيوت؟ والمعجزات أخيراً غير مقبولة في جملتها ولا في تفاصيلها؛ ومن الجائز أن يكون رواتها، وهم شرذمة قليلة، قد تواطأوا على الكذب فيها. فمن ذا الذي يسلم أن الحصى يسبح أو أن الذئب يتكلم؛ ومن هم هؤلاء الملائكة الذي أنزلهم الله يوم بدر لنصرة نبيه؟ يظهر أنهم كانوا مفلولي الشوكة قليلي البطش، فانهم على كثرتهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين معهم لم يقتلوا أكثر من سبعين رجلاً. وأين كانت الملائكة يوم أحد حين توارى النبي صلى الله عليه وسلم بين القتلى ولم ينصره أحد؟ وبلاغة القران على تسليمها ليست بالأمر الخارق للعادة، فإنه لا يمتنع أن تكون قبيلة من العرب أفصح من القبائل كلها، ويكون في هذه القبيلة طائفة أفصح من البقية، ويكون في هذه الطائفة واحد هو أفصحها. وهب أن محمداً صلى الله عليه وسلم غالب العرب في فصاحتهم وغلبهم، فما حكمه على العجم الذي لا يعرفون هذا(174/8)
اللسان وما حجته عليهم؟
لسنا في حاجة مطلقاً لأن نرد على هذه الشبه الواهية والدعاوى الباطلة، وسيدرك القارئ بنفسه ما فيها من تضليل ومغالطة. ولا نظننا في حاجة كذلك إلى سرد الدفاع المجيد الذي دبجه يراع الإسماعيلية ضدها، وفي مقدور كل باحث أن يرد عليها بآرائه الخاصة وأفكاره المستقلة؛ وكل ما نريد أن نلاحظه هو أن ابن الراوندي يردد نغمة ألفناها لدى المعتزلة من قبل. فهو ينادي بالحسن والقبح العلقيين، ويذكرنا بذلك السؤال الذي وضعته مدرسة المعتزلة لأول مرة وهو: هل الإيمان واجب بالشرع أو بالعقل؟ بيد أن المعتزلة المخلصين لم يستخدموا العقل هذا الاستخدام السيئ، وبذلوا جهدهم في أن يوفقوا بينه وبين الدين، وأن يردوا على شبه الزنادقة والملحدين بكل ما أوتوا من حجة بينة وبرهان قاطع. ومسألة العقل والنقل هي عقدة العقد ومشكلة المشاكل في ذلك العهد! وسنعرف فيما يلي كيف استطاع الباحثون الآخرون حلها.
(يتبع)
إبراهيم مدكور(174/9)
صور سياحة
5 - فرنسا وباريس
الحريات المتطرفة وبعض مظاهر الحياة الاجتماعية
بقلم سائح متجول
ليس بين أمم العالم أكثر ترديداً لكلمات الحرية والإخاء والمساواة من فرنسا.
ولا غرو فقد كانت الثورة الفرنسية مهد الحريات الديمقراطية في أوربا، ومنها انبثق فجر الديمقراطية الأوربية الحديثة، وفيها تقررت حقوق الإنسان، وكانت صيحة الحرية والإخاء والمساواة أقدس شعائرها.
وقد خاضت الأمة الفرنسية كثيراً من الحوادث والخطوب وبذلت كثيراً من دمائها للاحتفاظ بذلك التراث المقدس: تراث الثورة الفرنسية، وتراث الحريات الديمقراطية؛ وما زالت فرنسا على رغم الحوادث والخطوب حصن الديمقراطية في أوربا، ومازال شعارها المقدس: (الإخاء والحرية والمساواة) ترقمه على نقدها، وعلى جميع دورها العامة، وتقرؤه في كل مكان وكل مناسبة.
ولا ريب أن الحريات العاملة والحريات الشخصية أكثر توفراً في فرنسا منها في أي بلد أوربي آخر؛ حرية القول والكتابة، وحرية التصرف، في حدود القوانين طبعاً؛ وفي فرنسا يعقد أي اجتماع، ويلقى أي خطاب، وينشر أي كتاب أو مقال سياسي أو اجتماعي، دون أن تتدخل السلطات أو تعترض إلا ما كان واقعاً تحت طائلة القانون، أو ما كان ينذر فعلاً بتكدير الأمن العام.
هذا في فرنسا فقط؛ ولكن فرنسا تفهم الحريات خارج فرنسا فهماً آخر؛ والسياسة الفرنسية لا تطيق أن تسمع لفظ الحرية في شمال أفريقية مثلاً أو في غيرها من الأملاك والمستعمرات، ولها وسائلها الخاصة في إخماد كل نزعة أو حركة حرة، وفي سحق كل رأي حر.
ولكن ذلك لا يمنع أن تكون فرنسا ذاتها بلد الحريات المتطرفة، بل إن أولئك الذي يسلبون حرية الرأي والتصرف في بلادهم يجدون في فرنسا ملاذاً لهذه الحريات.(174/10)
والحرية أسمى ما يتمتع به الإنسان، وأثمن ما تزدان به الكرامة الإنسانية، ولكن التطرف في فهمها وتطبيقها يخرجها أحياناً عن دائرة المعاني الرفيعة التي قصدت إليها، وعندئذ تغدو ابتذالاً وخروجاً على النظم والقوانين، وأحياناً على الحشمة والحياء.
وقد وصلت الحريات السياسية في فرنسا إلى حدود التطرف والإغراق، ووصلت الحريات الاجتماعية إلى حدود الإباحة والابتذال.
وإنه ليكفي أن نتتبع ما يقع في فرنسا كل يوم من مظاهرات واعتصابات عنيفة، وما يحيط المعارك والمناقشات الحزبية فيها من مناظر الاضطراب والفوضى، وما تتكشف عنه حياتها ونظمها العامة من ألوان الفساد والضعف في تكرار الفضائح المالية والسياسية المثيرة، لنحكم بأن هذه الصورة من النظم الديمقراطية التي تقدمها إلينا فرنسا ليست من افضل صور الديمقراطية وأحبها.
وفي وسع السائح المتجول أن يلمح كثيراً من ألوان الفوضى السياسية في فرنسا، في أقوال الصحف وفي مناقشات الأفراد، وفيما يعرض للبيع من النشرات السياسية والشيوعية التي تسمم الآراء وتذكي الشهوات والأحقاد. ولقد حدث ونحن في باريس في الأيام الأولى لاضطرام الثورة الإسبانية أن هب فريق كبير من الصحافة الباريزية يتهم الحكومة الفرنسية بأنها ترسل الذخائر والطيارات سراً إلى حكومة مدريد، وأنها بذلك تزيد نار الثورة ضراماً وتعرض السلام للخطر، فاضطرت الحكومة أن تصدر بلاغاً رسمياً تنكر فيه هذه الوقائع، واضطرت بعد ذلك أن تثير مسألة عدم التدخل في الحوادث الإسبانية، هذا بينما انتهزت الدول الفاشستية (إيطاليا وألمانيا) كل فرصة لإمداد الثوار بكل صنوف المعاونة في الوقت الذي لبثت تتظاهر فيه بقبول فكرة عدم التدخل؛ وهكذا أفسدت الصحافة برعونتها على الحكومة موقفها وسياستها.
وفي فرنسا اليوم حزب شيوعي قوي يحتل أربعة وسبعين كرسياً من كراسي البرلمان، ويبث دعايته في عدة صحف ونشرات قوية في مقدمتها جريدة (الأومانتيه) التي أسسها جان جوريس، ويكتب فيها اليوم أشهر الكتاب والنواب الشيوعيين مثل مارسل كاشان، وبول لوي، وفايان كوترييه، وموريس توريز وغيرهم.
وكثيراً ما سمعنا، عندما نشبت الثورة في إسبانيا، أن فرنسا قد تضطرم عما قريب بمثل(174/11)
تلك الثورة، إذا لم تعمل الحكومة لتحسين الأجور وتأمين العمال على حقوقهم ورفاهتهم، كنا نسمع ذلك في مقاهي باريس ومطاعمها وشوارعها.
وكما أن الحريات السياسية تتخذ ألواناً من التطرف والإفراط فكذلك الحريات الاجتماعية في فرنسا.
ولا ريب أن معظم المجتمعات الأوربية تتمتع بحريات اجتماعية واسعة، ترجع إلى نظام المجتمع ذاته، والى ما تتمتع به المرأة من حريات مطلقة، كما ترجع إلى روح القوانين، والى فهم المبادئ الأخلاقية ومعيار الحياء بطرق وأساليب خاصة.
ولكن لا ريب أيضاً أن فهم الحريات الاجتماعية يتخذ في فرنسا ألواناً من التطرف قد لا يسيغها كثير من المجتمعات الأوربية، كما يتخذ التساهل في فهم معيار الحياء ألواناً تستهجنها المجتمعات الأخرى.
مثال ذلك منائر العري التي حدثناك عنها في مقال سابق؛ ففي باريس تنتشر مسارح العرى؛ وتعرض المناظر والرقصات العارية في أفخم مسارح باريس مثل الفولي برجير والكازينو دي باري، ويعلن عنها في أكبر الصحف مثل الطان والفيجارو والجورنال والماتان وغيرها، وتعرض أسراب الراقصات العاريات بلا حرج، ويعتقد القضاء أن هذا الضرب من التمثيل العاري عمل فني لا اعتراض عليه، ويتحدث النقدة الفنيون في الصحف المحترمة عن نجاح مس جوان وارنر (ملكة العراء المطلق) وعن رقصاتها العارية.
وفي باريس تصدر مجلات جنسية كثيرة، ويكتب بعضها بأساليب مثيرة، وينشر صوراً عارية، وإعلانات غرامية هي اتجار مكشوف بالحب، ولنمثل لذلك بمجلة (فروفرو) التي ربما كانت أكثر تحفظاً من غيرها، كذلك تعرض الكتب الجنسية بكثرة في المكاتب ومع الباعة وتلقى رواجاً مدهشاً.
وفي باريس ترى مناظر الحب في النهار وفي الليل، في الشارع وفي الحديقة، وفي المقهى، وفي المترو؛ ومن المناظر العادية أن ترى فتى وفتاة يتبادلان القبلات الحارة وقد أمسك الفتى بخصر الفتاة، أو يتبادلان العناق المضطرم؛ ترى ذلك في أي وقت وأي مكان، وتراه بنوع خاص في أقبية المترو، وفي المترو ذاته، ولا يمنع ذلك أن يكون وسط(174/12)
الجمهور الحاشد، والأعين ترمقهما من كل صوب؛ بل ترى في أقبية المترو، في المنعطفات المستترة أو حين ينسدل الظلام كثيراً من المناظر الغرامية المريبة.
وتكثر مثل هذه المناظر المثيرة أو المريبة مساء في منعطفات مونمارتر وبيجال وكليشي وفي المراقص والحانات الليلية.
ولا تختص باريس وحدها بهذه المناظر الإباحية، فقد رأيت في الجنوب أثناء انتظاري بمحطة ناربون جماعة رياضية من طلبة الجامعات شباناً وفتيات وقد ارتدى الجميع الثياب الرياضية واشترك الفتيات في ارتداء السراويل القصيرة التي تترك الساقين عاريين؛ وفي أثناء انتظار القطار جاءت الفتيات فجلست كل واحدة منهن في حجر فتى، وساقاها العاريتان على ساقيه العاريتين وأخذ الجميع ينشدون النشيد الجمهوري، وقد طوق كل فتى فتاته بلا حرج.
ولكن من الإنصاف أن نقول إن الطبقات الدنيا هي التي تذهب في فهم الحب والحريات الاجتماعية إلى هذا الابتذال المثير.
على أننا نعرف كما يعرف الذين زاروا العواصم الأوربية الأخرى أن رقص العراء المطلق لا يسمح به إلا في باريس، وأنه يندر أن ترى في غيرها من العواصم مثل هذا الابتذال العلني في مناظر الحب والغرام، أو مثل هذه المجلات والكتب الجنسية التي تغمر باريس.
وإذا كانت الحريات الاجتماعية في برلين وفينا مثلاً لا تقل إطلاقاً وتسامحاً عنها في باريس، فإن معيار الحياء يرتفع فيهما كثراً عنه في باريس؛ ومن النادر أن ترى في الشارع أو الحديقة أو الترام أمثال هذه المناظر الغرامية المكشوفة التي تراها في باريس.
وإذا كانت باريس قد اشتهرت دائماً باللهو الخليع، فتلك شهرة في محلها، وباريس تموج بالملاهي الخليعة من كل ضرب، وتغمرها بالليل ريح شاملة من المرح الخليع، ومن الغريب أن هذه الملاهي يعلن عنها بمنتهى البراعة، وتصور في إعلاناتها وبرامجها كأنها أروع ما انتهى إليه الفن؛ فإذا ازدلفت إليها منيت بخيبة الأمل، ورأيت الابتذال بعينه، وأدركت ما في هذه الدعاية الخلابة من ختل وتضليل.
ولقد تحدثوا كثيراً عن سحر الباريزية وأناقتها ورشاقتها؛ ونحن نستميح عشاق العاصمة(174/13)
الفرنسية عذراً، إذا قلنا إننا لم نستطع أن نكتشف في الباريزية كثيراً من هذا السحر وهاته الأناقة؛ فالمرأة الباريزية تعتمد في جمالها وسحرها على المظاهر والصناعة أكثر مما تعتمد على الحقيقة؛ وهي تكثر من صباغة الشعر والأظافر وتفرط في استعمال المساحيق؛ والشقرة هي لون الشعر المحبوب في باريس، ولكنها شقرة صناعية في الغالب؛ والواقع أن الباريزية لا تتمتع بذلك اللون الوردي الباهر الذي تتمتع به الإنكليزية أو النمسوية مثلاً، بل يغلب عليها اللون الثلجي أو اللون الباهت، فتعمد في تجميله إلى الصناعة؛ ويبدو عناء التجمل وفي وجهها دائماً؛ وأما عن الأناقة فإن الباريزية لا تتمتع منها بقسط كبير، فهي تميل إلى الأزياء المعقدة أو الغريبة، وتكثر من الألوان بلا تناسق؛ والخلاصة أن الباريزية تعشق المظاهر، وتفرط في التجمل، وتعتمد على الصناعة؛ بيد أنها تتمتع مع ذلك بخفة روح لا شك فيها.
وإن أولئك الذين عرفوا فينا وباريس معاً، يعرفون كم تحوي فينا من الجمال النسوي الرائع، وأي صباحة ورشاقة وأناقة طبيعية تتمتع بها الفتاة النمسوية، وأي فرق شاسع بين هذا السحر الطبيعي وبين ذلك السحر الصناعي الذي تلجأ إليه الباريزية في تكلف وعناء.
ويصح أن نشير هنا إلى مسألة الصحة العامة والنظافة الشعبية، فقد لاحظنا أن الصحة العامة ليست في أوجها، وأن الشباب لا يتمتع بكثير من النضرة ومظاهر القوة والفتوة؛ وتبدو مظاهر السقم والعناء على وجوه الطبقات العاملة من رجال ونساء؛ وقد لاحظنا فوق ذلك أن هذه الطبقات وربما بعض الطبقات الوسطى أيضاً لا تعنى كثيراً بمسألة النظافة؛ وإنه ليكفي أن تركب المترو ظهراً أو مساء حين يكتظ بالعمال والمستخدمين لتدرك هذه الحقيقة، ولا تشذ عن ذلك أسراب الفتيات الحسان؛ وربما كان في ظروف حياة هذه الطبقات ما يفسر هذه الظاهرة، فالنظافة تحتاج إلى كثير من النفقة، والاستحمام في باريس ترف يصعب على الفقراء الإكثار منه؛ وفي الفنادق المتوسطة قد يكتفي بغرفة حمام واحدة في طبقات الفندق كلها؛ والغرفة ذات الحمام الخاص ترف رفيع لا يسمع به إلا في الفنادق الأرستقراطية؛ وهذه حقائق لا يصعب على السائح اكتشافها.
والى هنا نقف في حديثنا عن باريس وعن الحياة الباريزية والمجتمع الباريزي؛ ولقد قلنا في بدء هذه الفصول إننا لا ندعي الوصول إلى أعماق المسائل والشؤون، وإننا إنما ندون(174/14)
حقائق وملاحظات انتهينا إليها بالتجوال والمشاهدة، وأحياناً بالتجارب والدرس؛ وقد حفزنا إلى كتابة هذه الفصول ما سبق أن نوهنا به في البداية وهو أننا مازلنا نقرأ بالعربية عن فرنسا وعن باريس كتباً وفصولاً يطبعها الإغراق والمبالغة في التغني بمحاسن العاصمة الفرنسية وكل ما في الحياة الفرنسية؛ وهانحن أولاء قد حاولنا بهذه الفصول المتواضعة أن نقدم بعض الحقائق والصور حسبما رأينا وشعرنا بعيداً عن كل إغراق ومبالغة؛ وربما كانت باريس بالأمس أعظم فتنة وأشد سحراً منها اليوم، وربما فقدت العاصمة الفرنسية كثيراً من هذا السحر بفعل الظروف والتقلبات الاقتصادية والاجتماعية، ولكنا نصرح مخلصين أننا لم نشعر أن لباريس هذا السحر الفياض الذي ينسب لها، أو أن لها تلك الفتنة التي أملت على كثير من كتابنا تلك الفصول الوردية الرنانة. هذا ومما يبعث إلى الغبطة أن كثيراً من الأصدقاء البارزين الذين عرفوا باريس وعرفوا حياتها ومجتمعاتها أكثر مما عرفنا، يقرون كثيراً من هذه الصور التي قدمناها والملاحظات التي أبديناها.
(يتلى)
(* * *)(174/15)
في الأدب المقارن
الخرافة في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
تفشو الخرافة - وهي الاعتقاد بالمستحيل عقلاً - بين الجماعات الأولية، حتى تشمل ديانتهم وعلومهم وفنونهم القليلة، وعرفهم وتقاليدهم، لأن تلك الجماعات في نشأتها كالطفل في صغره، قليلة الإدراك للأسباب والمسببات، سريعة الانقياد للعواطف والأوهام والمخاوف، فلا تلبث أن تنمو بينها شتى الأساطير، تفسر بها قوى الطبيعة ومظاهرها، وتمجد بها أسلافها، وتدعم كيان مجتمعها. هكذا كان لقدماء المصريين خرافاتهم المتعلقة بواديهم ونهرهم، وآلهتهم وفراعنتهم؛ وكانت لليونان والرومان أساطيرهم التي تدور حول أعمال آلهتهم وحروبها، وحبها وغضبها.
وكانت للعرب خرافات شتى، انتزعت من حياتهم البادية، وما توحي إلى النفس من رهبة وبأس، بفلواتها وحزونها، وسباعها وأنوائها، وحيكت حول الآلهة والجن والغيلان، وحول أبطالهم وملوكهم وغابر دولهم، وتناولتها الأجيال المتعاقبة بالزيادة والتهويل، والتغيير والتبديل، في حوادثها ومشاهدها.
وكانت للإنجليز في عهود همجيتهم أساطير متشعبة، مشتقة من حياة أهل الشمال، المضطربة بين ظلمات الأحراج ومتون البحار، حافلة بأخبار هجراتهم وغزواتهم، ممتلئة بأوصاف شياطين البر والبحر، ممجدة لبلاء ملوكهم أمثال الملك آرثر، وألفرد الأكبر، في دفع هجمات المغيرين الذين تعاوروا الجزيرة على كر العصور، من رومان وسكسون ونرمانديين؛ وتمازجت أساطير كل هؤلاء، واختلط مسيحيها بوثنيها، وجنوبيها بشماليها.
والخرافة على ما بها من مجاوزة للمنطق وتهويل وتحريف واستحالة - لا تقل عن حوادث التاريخ صدقاً في وصف أحوال المجتمع الذي هي وليدته، والبيئة التي هي نتاجها؛ فالخرافة العربية التي نمت في البادية، مثلاً، ملأى بذكر الغيلان والسعالي والعنقاء، وبأسماء العدائين الذين يسبقون الظباء، والحديدي النظر الذين يرون القادم والمغير من رأس أميال، كزرقاء اليمامة. والخرافة الإنجليزية التي ترعرعت في الغابة ودرجت على أثباج اليم حافلة بحكايات عرائس الغاب وآلهة البحار، ومناظر الغسق والضباب.(174/16)
على أن الخرافتين تلتقيان، والمخيلتين تتقابلان في نواح، حتى لتخال إحداهما صدى للأخرى أو محاكاة له، لولا بعد الأمتين في تاريخيهما بعداً يحول دون كل محاكاة أو اقتباس؛ فأخبار تأبط شراً، وسليك بن السلكة وأشباههما من شذاذ العرب وطريدي العرف والمجتمع، مماثلة لحكايات روبن هود وأصحابه الذين كانوا يعيشون على اقتناص الظباء في غابات ملك إنجلترا؛ وقصة مقتل أحد أقيال اليمن على يد أخيه الطامع في عرشه، التي وردت في كتب الأدب العربي وروى فيها شعر لشاعر يدعى ذا رُعَين، منه قوله:
فأما حِمْيَرٌ غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
واستشارة الخائن للعرّافين قبل اقتراف جريمته، والخدعة الحربية التي لجأ إليها جيش ابن الملك القتيل من استتار كل مقاتل بشجرة اقتلعها في طريقه وحملها أمامه، حتى بدا الجيش كأنه غابة تسير؛ كل ذلك مشابه للحوادث التي اتخذها شكسبير موضوعاً لروايته ماكبث، والتي تدور حول مصرع بعض ملوك اسكتلندا، وهي بلاد تشبه بوعورتها واستقلالها وبأسها وتأثيرها في عقول أهل إنجلترا، حالة اليمن في جزيرة العرب؛ وقد عبثت الخرافة بكلتا القصتين ونمقتهما بمظاهر السحر والتنبؤ بالغيب.
حتى إذا ما ارتقت الجماعة البشرية، وأخذت بأسباب العلم الصحيح، وعرفت الفلسفة المنطقي، واعتنقت ديناً راقياً، فترت حماستها لخرافاتها القديمة، وقل تصديقها لها، وسخر منها العلماء والفلاسفة الأتقياء، وهبطت إلى طبقة العامة، فوجدت فيهم وحدهم أمناءها الأوفياء، يتوارثونها كما توارثها آباؤهم من قبل، وتروي من نفوسهم ما لا تروي العلوم الجافة، فهم يؤثرونها على تلك العلوم، ويمزجون رواياتها بحقائق العلم تارة، ويخلطون عقائدها بعقائد دينهم الجديد الراقي تارة أخرى.
على أن أكثر الأمم، كاليونان والرومان وأمم أوربا الحديثة، حين بلغت طور نضجها العلمي والديني، لم تنبذ خرافات طفولتها ظهرياً، وإن بطل تصديقها برواياتها، وذهب إيمانها بخوارقها ومعجزاتها، ولكنها اتخذتها غذاء دسماً للعلم والفن؛ فجعلها العلم موضع فحصه وبحثه وتنقيبه، وأقامها مقام الشك حتى تثبت البينة على ما فيها من بذور الصدق؛ واستمد منها النحت والتصوير والشعر والنثر مادة لا تفنى للتفنن في الوصف والتأمل والتجوال في مشاهد الحياة ومرامي التاريخ ومنازع النفس الإنسانية.(174/17)
ذاك أن أكثر تلك الخرافات - على ما بها من وهم ومغالات - تحوي ما لا يحصر من صفات الجمال ومظاهر الروعة، ودلائل العظمة، وأحاديث البطولة والمخاطرة التي يغرم بها الطبع الإنساني، وصور الفضائل والرذائل، التي يرتاح الإنسان إلى رؤيتها مصورة معروضة، كما أن تلك الخرافات، بما تقص من وقائع بعيدة العهد وتعرض من مشاهد نازحة المزار، تروي في النفس حب البعيد والشغف بالماضي القديم والولوع بالمثل الأعلى، وهي النزعة التي تعرف في الإنجليزية بالرومانس؛ زد على ذلك أن استعارة مشاهد تلك الخرافات ووقائعها وأسماءها في الوصف، يكسب التشبيه قوة ووضوحاً. فما أجود قول امرئ القيس، وليت الشعراء أكثروا الضرب على وتيرته:
أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟
لذلك حفل الأدب الإنجليزي بالخرافات الإنجليزية، وما تحني من جسائم الأعمال وبدائع الصور، كحروب الملك أرثر ومغامرات فرسان المائدة المستديرة، تلك التي كانت وحياً لسبنسر وتنيسون في أجود قصيدهما. ولم يكتف الأدباء بخرافاتهم الوطنية، فاصطنعوا خرافات اليونان والرومان، وتحدثوا طويلاً عن آلهتهم واقتبسوا كثيراً من الإلياذة والأوديسة؛ وزاد غيرهم فاستعاروا خرافات كل من عرفوا أو سمعوا عنهم من أمم الغرب والشرق: فاتخذ ملتون لقصيدته الكبيرة سمسون الجبار موضوعاً عبرانياً، وتحدث تنيسون عن هارون الرشيد، وطار كولردج على جناح الخيال إلى قصر قبلاي خان عاهل الصين. أما شكسبير فاستعار مواضيع رواياته من كل ما أصاب من تراث الأمم لا فرق بين تاريخّيها وخرافيّها، ورصعها بما كان لا يزال يساور أهل جيله من اعتقاد في عجائب السحر والمعجزات.
ومن الأدباء من لم يكفه كل هذا المدد الزاخر من غرائب الأساطير وأفانين خيال الأقدمين، فأطلق لخياله هو نفسه العنان، وابتكر مواضيع لقصائده من صنعة الوهم، وحلاها بروائع الصور وممتع الخطرات، كما فعل كولردج في خريدته الملاح القديم، وبروننج في فريدته تشايلد رولاند، وتوماس هود في أنشودته أينس الحسناء، وكما صنع سويفت في كتابه العالمي الصيت (رحلات جليفر).
ألفى أدباء الإنجليزية في أرجاء تلك الخرافات، مجالاً رحباً لفنهم وخيالاً، وتحريراً(174/18)
لأفكارهم من عقال الحقائق المتحجرة، وغذاء لقولهم الجوالة في مظاهر الكون وشؤون الخلق، المستطلعة إلى المجهول، ووسيلة لتصوير المناظر الطبيعية، بين جبال ووهاد، وغياض ومياه، ورصعوا أشعارهم في كل ذلك وكتاباتهم بأشتات الآراء، في المسائل التي كانت تشغل أذهان معاصريهم، ولونوا خرافات الأجيال المتقادمة بألوان أجيالهم ومجتمعهم الذي عاشوا في مضطربه.
أما موقف العرب من خرافات أسلافهم - حين اعتنقوا دينهم الحنيف وتحضروا وتثقفوا - فكان غير هذا: فقد أعرضوا عنها ترفعاً وازدراء، ولم يحفظوا منها إلا ما كان شبه بالصدق، وما دار حول يوم عظيم من أيامهم، أو شاد بمجد بعض قبائلهم. وفي تلك الحال كانت الروايات تختلق اختلاقاً، ويبذل الجهد لوسمها بميسم الصدق. ولما اطلع العرب على ثقافات الأمم الأخرى من يونان وفرس وهند، لم يهتموا إلا بما صدقوه من تواريخهم، وما استملحوه من حكمهم وأمثالهم، ولم يعنَّ لأحد من الأدباء أن يستخدم الخرافة مادة لفنه، أو يستعير ما فيها من جمال وروعة ليفيد بهما أدبه.
وغاية ما يذكر في هذا الباب، أن بعض الأدباء - كابن دريد أطلق لخياله شيئاً قليلاً من الحرية، ومضى يخترع الروايات والنوادر، يفسر بها بعض الأمثال السائرة المنحدرة من عهود الجاهلية، كقولهم (عند جهينة الخبر اليقين)، و (الصيف ضيعت اللبن)، و (جزاء سنمار)؛ وقد أخرج من صنعوا ذلك أحاديثهم مخرج الحق، وأسندوا بعضها، كي يضمنوا لها الرواج بين المتأدبين، كما أن أصحاب المقامات الذين أسلسوا لخيالهم العنان قليلاً حرصوا على ألا يبعدوا كثيراً عن حيز الإمكان، لئلا يعرض عنهم أولو الألباب.
ذلك بأن العرب كانوا شديدي الحرص على العلم الصحيح حيث ثقفوه، موكلين بالصدق التاريخي، زاهدين جداً في الأساطير وجمحات الخيال، وهو خلق أورثهم إياه دينهم منذ اعتنقوه، فإنه وإن أثبت وجود الجان وائتمارهم بأمر سليمان، واستماع نفر منهم إلى القران، قد أوسع أساطير الأولين سخراً واستخفافاً؛ وكثيراً ما جمع بينها وبين الشرك، وهو قد جب ما قبله مما هو شبيه بالكفر والزيغ، ودعا المؤمنين إلى التفكير في خلق السموات والأرض، وطلب العلم الصحيح، فلا غرو أن زهد المسلمون في تخريف الجاهليين وأوهامهم؛ وقد زادهم نفرة من الأساطير ومختلق الأقاصيص ما تنبهوا إليه من جرأة بعض(174/19)
الدخلاء والمغرضين على الأحاديث النبوية، يخترعونها ويفسرونها بما تمليه أهواؤهم.
زد على ذلك أن الإسلام قد حرم الخمر، وهو تحريم راعته أغلبية الأمة، وإن تجوزه بعض الشعراء، بل الخلفاء والكبراء. وهذا الإمساك عن المسكر قد كسب الأمة عامة صفات التؤدة والصحو والتوقر والإحجام عن مجاراة الخيال، والتحليق في فضاء الأوهام؛ وطبيعة بلادهم ذاتها تبث هذا الصحو في طبائعهم، فإنها في الغالب مصحية سريعة التحول من وضح النهار إلى حلك الظلام، لا تطول بها كما تطول في البلاد الشمالية فترات ذلك التحول، من غلس وغسق، ولا يكثر بها انتشار الضباب الذي يحجب الأشياء إلا أشباحها ويوقع في النفس التوجس والوهم، والخرافة الإنجليزية حافلة بتلك المشاهد بين غلس وغسق وضباب.
كل ذلك جعل مثقفي المسلمين سريعين إلى إنكار الخوارق ونبذ الأغراب والسخرية من المغربين، فدعبل الخزاعي مثلاً يهزأ ملياً بنفر من قبيلته ذاتها زعموا أن أحد أجدادهم حادث ذئباً، فهو يقول:
تِهتُم علينا بأن الذئب كلمكم ... فقد لعمري أبوكم كلم الذيبا
فكيف لو كلم الليث الهصور؟ إذن ... أفنيتم الناس مأكولاً ومشروباً
ومن جهة أخرى لم يحس أدباء العربية كبير حاجة إلى ذلك الضرب من الأدب، تحفزهم إلى التأول في الدين وتمييز ما نهى عنه مما لم ينه، فهم لم يكونوا شديدي الولع بتقصي مناظر الطبيعة وتصويرها، فيتوسلوا للتفنن في ذلك بالطيران على أجنحة الخيال إلى شتى المنائر والأودية والشطآن؛ ولا كانوا شديدي التوفر على نقد أحوال عصورهم السياسية والاجتماعية، فينتزعوا لذلك الصور من خرافات الأقدمين مماثلة لصور مجتمعهم؛ أضف إلى ذلك ما لازم الأدب العربي دائماً من نزعة محافظة وولع بمحاكاة بدائع المتقدمين، ولعاً لا طموح معه إلى تجديد شديد المباينة لمناهجهم في الأدب.
تلك هي العوامل التي صرفت أدباء العربية عن الاحتفال بالأساطير، وجعلتهم جميعاً يسلكون الطريق (المباشر) للإفصاح عن خواطرهم، طريقة القصائد المتوسطة الطول، والأبيات المحكمة الموجزة، ورائدهم قول قائلهم:
وإنَّ أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا(174/20)
وقد رُوي أن سهل بن أبي غالب صنف كتاباً في سير الجن وأحوالهم ورفعه إلى الرشيد، فقال له الخليفة: إن كنت رأيت ما ذكرت فقد رأيت عجباً، وإن كنت اخترعت ما رأيته فقد وضعت أدباً. ولكن أحداً من معاصري ذلك المؤلف أو من جاءوا بعده لم يحفل بهذا الضرب من الأدب، وأهمل الكتاب حتى ضاع.
أقصيت الخرافة عن حظيرة الأدب العربي، وتركت للعامة يخففون بالاستماع إليها أعباء عيشهم، ويُسرُّون بالإنصات إلى مغامراتها ومصاولاتها هموم حياتهم المتشابهة الرتيبة، ويلونها لهم القُصاص بألوان الدول المتعاقبة والأحوال المتوالية، وتنفث فيها السياسة أحياناً أغراضها، حتى أتيح لها مَن دونها فكان منها أقاصيص ألف ليلة وليلة، وعنترة ومهلهل، وسيف بن ذي يزن، وقد اطلع عليها بعض أدباء العربية في العصر الذي دونت فيه فاستخفوا بها ونبذوها.
بيد أن تلك الأقاصيص على عاميتها وركاكة أسلوبها، وفحش بعض مواقفها، تحوي من روائع الوقائع، وجميل المناظر، وآثار الخيال، ما يعوز الأدب العربي كله؛ وبفضل ما فيها من روعة وجمال وخيال قد نالت الخلود وحظيت بالشهرة والترجمة إلى شتى اللغات، وأعجب بها من الغربيين من لم يسمعوا بحِكَمِ المتنبي، وأمثال الطائي، وبديع ابن المعتز.
فخري أبو السعود(174/21)
الدكتور ألفرد بتلر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
نعت لنا الأخبار منذ قليل المغفور له الدكتور ألفرد بتلر المؤرخ الإنجليزي الكبير والعالم بالآثار المصرية.
وقد كان ذل الرجل العظيم إنجليزي الجنس واللغة، ولكنه كان مصري العقلية عربي الثقافة؛ قضى الشطر الأكبر من حياته منصرفاً إلى دراسة الحياة في وادي النيل وتاريخ حضاراتها الغابرة، حتى لقد قيل إن عاطفته كانت في قرارتها مصرية، فكانت آخر أنفاسه متجهة إلى النيل، وآخر أمنياته منصرفة إلى التملي به وتنسم نسماته.
وقد كان ارتباطه الروحي والعقلي بمصر وواديها داعياً إلى أن تكون كل آثاره العلمية مرتبطة بها، فليس له مؤلف لا يتصل بمصر وتاريخها وآثارها، وكان همه الأكبر منصرفاً إلى تلك الفترة التي تتعسر دراستها على الأكثرين، وهي فترة الحكم الروماني الأخير وأول العصر الإسلامي، فألف كتاباً في الأديرة والكنائس المصرية، وكتاباً آخر في تاريخ الفتح العربي لمصر؛ ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن تاريخ مصر في هذه الفترة مدين أكبر الدين لهذا المؤلف الكبير، إذ لولا دراسته العميقة وعقله الكبير وعلمه الواسع لظلت هذه الفترة من أظلم فترات تاريخ هذه البلاد.
لقد فقدت مصر استقلالها على يد الرومان بعد أن استولى عليها قيصر وذهبت دولة البطالسة عنها، ودخلت منذ ذلك العهد في دائرة الدولة الرومانية الكبرى، واختفى تاريخها في غمار تاريخ الدولة المتبوعة، ومازالت بعد ذلك تنحدر على جوانب الحوادث من هوة إلى هوة كما تنحدر البلاد التابعة المغلوبة في كل عصور التاريخ، وغطت على صورتها ركام من آثار المظالم والمهانة والاضطراب.
فإذا كان الدكتور بتلر قد استطاع أن يستخرج صورة مصر في تلك الحقبة من طبقات تلك الركام، فقد أدى أكبر خدمة لأبنائها، فليس من الهين أن يستطيع باحث الوصول إلى مثل هذا الكشف، ولاسيما إن كان يحيط بعلمه الظلام والإبهام وتقادم العصور.
على أن ظلام تلك العصور التي جلاها الدكتور بتلر لم يقتصر أثره على إخفاء معالم تاريخ البلاد، بل لقد أدى إلى نتيجة أشد ضرراً وأقسى وقعاً؛ وذلك أنه قد نشأت في هذه الأثناء(174/22)
قصص لا أساس لها وخرافات من خلق الخيال والجهل وجهت الباحثين إلى وجهة مضلة جعلت التاريخ يظلم أهل مصر في تلك العصور، فيصمهم بأقسى الوصمات والتهم، وكان للدكتور بتلر فضل إظهار الحق وإعادة الكرامة المصرية إلى ذكرى أهلها.
ولما فتح العرب مصر كانوا لا يعبأون بغير الفتح في أول فورة التوسع والنضال، وما كانوا يخرجون من حرب إلا ليدخلوا في غمار حرب جديدة، ولم يكن لهم سجلات عند ذلك يقيد بها تسلسل الحوادث ولا يثبت فيها وصفها، فلم يكن بد من أن يلجأ المؤرخون في القرون التالية إلى روايات المحدثين وقصاص الأخبار؛ وكان المؤرخون يبذلون في التحري عن أخبارهم جهد المستطاع، ولكنهم مع ذلك كانوا لا يجدون مناصاً من تلقفها من أصحابها وإسنادها إلى أصحابها تخلصاً من عبء الأمانة، ولهذا صار تاريخ الفتوح العربية خليطاً من الأخبار والقصص والروايات؛ فإذا أراد باحث أن يتتبع سلسلة من الحوادث وجد نفسه حيال إبهام شديد وغموض يسد عليه السبل؛ ثم تتابعت العصور على هذه الأخبار فتناولها الباحثون وتصرفوا فيها واستخدموها في تأليفهم بالزيادة والنقص والتصرف، حتى صارت الأخبار الصحيحة مختفية تحت طبقات أخرى من الركام المتخلفة من العصور المتعاقبة.
فإذا نظرنا إلى عمل الدكتور بتلر نظرة عادلة عرفنا مقدار خدمته لتاريخ مصر، إذ استطاع أن يستخرج تاريخ العصر الروماني في مصر أولاً، وأن يصفي أخبار العصر العربي الأول مما شابه من القذى والصدأ. ولقد كان عمله عظيماً في نواح متعددة لا نستطيع هنا حصرها. على أننا نضرب مثلاً أو مثلين منها:
نشأت خرافة سخيفة في العصور المتأخرة من التاريخ الإسلامي وهي خرافة إحراق العرب لمكتبة الإسكندرية عندما تم لهم فتحها، ولسنا ندري على سبيل التحقيق ما هي الخطوات الأولى التي أدت إلى خلق تلك الخرافة، ولكن أحد المؤرخين أوردها في بعض مؤلفاته فرددها من جاء بعده، ومازال صداها يتردد بعد ذلك حتى صار الناس يتلقونها بغير تمحيص ويوردونها موارد الحقائق الثابتة التي لا يرون ضرورة لمناقشتها؛ واتخذ أهل الأغراض تلك الخرافة وسيلة يتوصلون بها إلى الحط من شان المدنية العربية والغض من الذكاء العربي. وأي وسيلة أنجع في الدعاية على العرب والإسلام من أن يذكر اسم مكتبة(174/23)
الإسكندرية العظمى ويقال إن العرب قد أحرقوا تلك الثروة الفكرية النادرة وأبادوا بذلك ما خلفته أذهان النوابغ في كل العصور القديمة؟
ولقد كان للدكتور بتلر الفضل الأكبر في أنه تتبع أثر تلك المكتبة كما يتبع الرائد آثار الأقدام وهو هادئ النفس مطمئن العين حتى أظهر لأهل القرن العشرين تقلب القرون الماضية على تلك المكتبة وبين لهم ما آل إليه أمرها على يد قيصر ثم على يد أحزاب المسيحية الأولى المتحمسة التي دفعتها حماسة الدين أو سورة العصبية إلى القضاء على ذلك الأثر العلمي النفيس.
ولقد حمد المنصفون للدكتور بتلر ذلك المجهود العظيم في إظهار الحق والإبانة في نصرته، وكان من بين هؤلاء المنصفين اللورد كرومر إذ كتب إلى ذلك المؤلف خطاباً خاصاً جاء فيه: (لقد قضيت القضاء الأخير على تلك الخرافة السخيفة، خرافة إحراق العرب لكتبة الإسكندرية).
ولعل الدكتور بتلر أول من حاول محاولة منتجة أن يكشف القناع عن شخصية لم تزل منذ بدء الإسلام مثار التساؤل والإبهام ألا وهي شخصية (المقوقس) فإنه استطاع بعد جهد عظيم وبحث علمي يكاد يكون معجزاً أن يبين للناس من هو ذلك الرجل أو من هم هؤلاء الذين أطلق عليهم ذلك الاسم. ولم يكن في بحثه يدع ثغرة للإبهام ولا للشك، بل كان ينخل الحقائق ويصفيها حتى لا يتسرب إليها في أثناء البحث ما يشوبها.
ولقد كان من أكبر آماله أن يرى كتابه منقولاً إلى لغة العرب، ولكن ذلك الأمل قد طال العهد به حتى بلغ نيفاً وعشرين عاماً، ثم توقفت لجنة التأليف والترجمة والنشر إلى ترجمته، فلما بلغه نبأ ذلك الحدث كان اغتباطه أشد اغتباط حتى أنه لم يتمالك أن لام المصريين في خطاب بعث به إلى بعض أصدقائه على أنهم لم يعنوا بنقل ذلك الكتاب من قبل مع أنه كتاب يخدم تاريخهم ويسد فيه فراغاً عظيماً.
وكان الدكتور بتلر فوق خدمته لتاريخ مصر كثير العناية بما يهمها. ولقد أرسل إليه صديق كتاباً مرة يشير فيه إلى ما جاء في كتابه (فتح العرب لمصر) من أن قبر سيدنا عمرو بن العاص غير معروف، وأن ذلك الصديق ذكر له أن ذكر قبر ذلك الرجل العظيم وارد في بعض المؤلفات العربية وأنه بجوار مدفن سيدنا عقبة بن عامر بالقرافة الصغرى.(174/24)
فأثار ذلك النبأ حماسة الشيخ الإنجليزي فأرسل إلى صديقه يقول: (لئن صح أنك استطعت معرفة مكان قبر عمرو بن العاص واستطعت التثبت من ذلك بالوسائل العلمية التي لا تدع مجالاً للشك، فما أحراك أن تثير في الناس دعوة لإقامة أثر عظيم على ذلك القبر جدير بعظمة فاتح مصر الكبير).
ولا أجد لهذه الكلمة خاتمة خيراً من أن أقتطف قطعة من الخطاب الذي أرسله إلى صديقه يذكر له فيه ثناء اللورد كرومر عليه، وقد جاءت في تلك الكلمة حكمة بالغة أحب أن أسوقها لأهل البحث والعلم. قال: (ولكن أهل البحث الذي يجيدون في أعمالهم قلما ينتظرون ثواباً على عملهم، اللهم إلا ما يجدون فيه من لذة البحث ونشوة الكشف عن الحقائق).
وهذه صورة تلك القطعة من خطابه بخطه أقدمها لقراء الرسالة أثراً من ذلك الصديق الكبير عليه رحمة الله.
محمد فريد أبو حديد(174/25)
الخطابة مَلَكَةٌ وفن
للأستاذ عبد المجيد نافع
يولد الإنسان خطيباًن كما يولد شاعراً أو فناناً، أو عسكرياً أو سياسياً؛ وتلك الملكة، وهي وليدة الفطرة، لا تنمو وتؤتي ثمارها إلا بالمران والصقل؛ فالخطابة إذن موهبة وفن معاً، فلا يسيغ العقل أن يكون المرء عاطلاً من الموهبة الخطابية ثم يصبح بين عشية وضحاها من الخطباء الخالدين في التاريخ، كما لا يهضم الفكر أن يكون الإنسان خطيباً موهوباً ثم يصبح بين بياض يوم وسواد ليلة من الخطباء المعدودين دون درس وتحصيل ومران. ولقد يحلو لبعض المؤرخين أن يرسم صورة لخطيب مفوه كان في حداثته خلواً من ملكة الخطابة، بل يصورونه في طفولته مثال الفهاهة والعي، ثم يصيرونه في رجولته الخطيب المصقع، والمفوه المنطيق! فقد زعموا أن (ديموستين) خطيب اليونان العظيم كان في حداثته به عي وفهاهة، فطمح إلى الخطابة وصحت عزيمته على مغالبة ذلك النقص والتغلب عليه، فكان في كل يوم يذهب إلى البحر فيملأ فمه بالحصى، ثم يقف أمام الموج المضطرب المصطخب، فيصيح الصيحات العالة، وما لبث أن تغلب على الفهاهة والعي وبات في طليعة الخطباء القادرين! تلك صورة أدنى إلى خيال الشعراء منها إلى تحقيق الثقات من المؤرخين، بل لعلها أسطورة من الأساطير التي تحيط بحياة عظماء الرجال عادة، أو التاج الذي يضعونه على رأس البطل، أو إكليل الغار الذي يضعونه على هامته، أو هالة المجد التي يحيطون بها تاريخه. فقد يكون صحيحاً أن الخطيب اليوناني كان يقف حيال الموج المصطخب فيرسل الصيحة عالية؛ على أن العقل لا يسلم بأنه كان عييَّاً، وكل ما يستطاع التسليم به أنه يروض نفسه على الكلام بنجوة من الناس.
وقد تبقى ملكة الخطابة دفينة إذا لم تتح الظروف لبعثها؛ وقد يظل الخطيب الموهوب خاملاً مغموراً إذا لم يوجد أمامه الميدان الذي تتجلى فيه مواهبه، ولولا الثورة الفرنسية ورغبة الفرنسيين في ثل عرش الاستعباد، وكسر قيود الاستبداد، وتقويض دعائم الماضي وتشييد صروح المستقبل وهدم النظم العتيقة البالية، وبناء النظم الدستورية الحديثة، وغرس مبادئ الحرية والمساواة والإخاء - لولا ذلك الغليان الفكري لما ارتفع (ميرابو) من غمرة الخمول إلى ذروة الشهرة والمجد. وما كان الزعيم الشاب مصطفى كامل لتتجلى مواهبه الخطابية،(174/26)
فيلقي بالإسكندرية في عام 1907 خطابه الذي يعد برنامجاً وطنياً، لولا رغبة المصريين في الجلاء وتشييد صروح الاستقلال؛ بل لولا فورة عام 1919 ورغبة الشعب المصري في تقرير مصيره بنفسه، ما بات سعد زغلول الخطيب الخالد في التاريخ.
ولا مندوحة لمن ينشد الكلام أن يدرع بالعلم، فالخطيب ينبغي له أن يعلم ما يقول، وأن يعلم جمهور سامعيه منه جديداً، وإلا عد من تجار الكلام لا من الخطباء، وكان قوله ثرثرة لا طائل تحتها ولا غناء فيها، لا خطابة تحق حقد وتبطل باطلاً، وتنصر دعوة وتخذل أخرى، وتبث مبدأ قويماً وتكافح غيره فاسداً.
إن الخطيب الذي يقرأ شعر الشعراء ونثر الناثرين وخطب الخطباء، ويكون على اتصال روحي بالحركة العلمية والأدبية، لهو الخطيب الذي يعرف كيف يضفي على فكرته الثوب الذي يلائمها ويأتي بالصور الأخاذة والعبارات الخلابة والآراء الناضجة ويملك شعور سامعيه.
والخطيب الذي لا يعنى دائماً بتجديد ثروته العلمية واللفظية خليق ألا يسمع الناس منه إلا الرأي المبتذل، والفكرة الغثة التافهة، والعبارات الممجوجة المملولة.
على أن الإسراف في المطالعة يوشك أن يصيب المرء بنوع من الشلل العقلي، وإن شئت فإنه يصيب الذهنية الخصبة بضرب من الأجداب والأمحال، فمن يفكر برأس غيره دائماً، وينظر بغير عينه، ينتهي أن تشل حركة تفكيره فلا يفكر ولا يرى. ومن ير العالم من ثنايا الكتب يمش رجلاً خيالياً لا يدرك من شؤون العالم شيئاً. ومن لا يقتصد في المطالعة خليق أن يداخله اليأس فيهتف: ليس في الإمكان أبدع مما كان! وينادي: لا جديد تحت الشمس، ويصيح صيحة اليأس: ما ترك الأوائل للأواخر شيئاً!
والحق أن الأوائل خاضوا في كل شيء، على أنهم تركوا للأواخر كثيراً، ومن يذهب غير هذا المذهب فإنما ينكر حركة التطور العقلي والفكري في العالم.
ومن الناس من يلتهم الكتب التهاماً دون تفهمها والتغلغل في روحها، وخير من هذا للخطيب الطامح أن يطيل النظر في خطب الخطباء فيتذوق الأثواب التي يسبغونها على آرائهم، بغير أن يتعسف في محاكاة طرائقهم فلكل خطيب شخصيته وأسلوبه في عرض أفكاره.
ويجمل بمن يأنس في نفسه الاستعداد الخطابي أن يستمع إلى كبار الخطباء ليشهد وسائلهم(174/27)
في بسط آرائهم وإقناع جمهور السامعين.
ومن نافلة القول أن يلفت الخطيب إلى وجوب تفهم نفسية الجماعة التي يوجه إليها الخطاب ليتولى إقناعها، فالخطب البرلمانية تفترق عن المرافعة في مجلس القضاء، والكلام في اجتماع انتخابي يختلف عن التحدث إلى مجمع علمي، على أن الخطيب الموهوب مطبوع على فهم روح الجماعة التي يخاطبها.
وفي كل حال ينبغي أن يتوفر في كل خطاب عناصر وضوح الفكرة وترتيب المنطق وروعة الأسلوب، ولكن التأنق في العبارة لا ضرورة له على الإطلاق، بل قد يأتي التزويق والتنميق هادماً لدعوى الارتجال الخطابي، والجمهور لا يتعنت فيطالب الخطيب بما يطالب به الكاتب، والأسلوب الذي يخلو من الكلفة والصنعة يكون أفعل في النفوس من الأسلوب الذي تغلب عليه البهرجة والتأنق. والخطيب الذي يتراءى أمام السامعين وقد ضاق صدراً بالعبارة التي يبرز فيها فكرته ثم يرفق إليها يكون شأنه في التأثير شأن من يلقي قنبلة، أو من يشهد بركاناً ينفجر. وإني لأذكر فيما أذكر قول أحد كتاب الفرنسيين إنه يؤثر بربرية (جمبتا) في الخطابة على أناقة (جوريس) فيها؛ فالغابة الطبيعية أحب إلى القلب، وأشهى إلى النفس، وأمتع للنظر من الغابة التي نسقتها يد الإنسان.
ولقد ألِفَ الكتاب تقسيم الخطباء إلى: قارئ، وحافظ، ومرتجل؛ فأما القارئ فهو الذي يتلو من ورقة يحملها بيده؛ وأما الحافظ فهو الذي يلقي خطابه عن ظهر غيب كما يلقي الطلبة محفوظاتهم في المدارس؛ وأما المرتجل فهو الذي يلقي من وجي الخاطر وحاضر البديهة.
ولقد دلت التجارب على أن السامعين يتبرمون بالخطيب القارئ، ويشيع السأم في نفوسهم، وبخاصة حين يلمحون أكداس الورق أمامه، وإذا لم يُجد الإلقاء جاءت عباراته بمثابة قطع الثلج تتساقط فوق رؤوسهم، وهم يؤثرون أن يتلوها حين يخلون إلى ضمائرهم ليتذوقوا جمال الأسلوب ونضوج الفكرة فيها. والخطب المكتوبة تدعو للإطالة والإسهاب فتبعث على الملل، ولذلك جرت التقاليد البرلمانية على تحريمها. ثم إن ما يغتفر للخطيب المرتجل الذي يلقي من حاضر البديهة لا يغتفر للخطيب القارئ الذي أمعن في التحضير وأطال في الكتابة. فالأول، خلال فورة الخطابة وغليانها، إذا جرح أحداً، أو فاه بعبارة نابية، افترض فيه حين النية، وسقط عنه ركن العمد. فأما الثاني وقد قال عبارته في دم بارد، وضمير(174/28)
جامد، فإنه يتحمل الظروف المشددة المترتبة على العمد وسبق الإصرار.
على أنه لا مندوحة عن تلاوة الخطب الرسمية؛ فخطورة الموقف، ودقة المسئولية، تحتمان وزن العبارات، ولا تسمحان بمغامرات الارتجال الخطابي. وهنا تحضرني رواية (فون بيلوف) مستشار الإمبراطورية الألمانية قبل الحرب العالمية إذ قال في مذكراته أنه كان يعد لغليوم الثاني إمبراطور ألمانيا السابق الخطب التي يزمع إلقاءها في المواقف الرسمية الخطيرة، مخافة أن يتورط، وقت الاندفاع الخطابي، في عبارات تمس مسئولية الدولة الألمانية. على أن الإمبراطور كان كلفاً بالخطابة، وكان يزعم لنفسه قدرة على الارتجال لا تجارى ولا تبارى. وتحدد يوم ليلتقي بقيصر الروسيا على ظهر بارجة حربية، وأعدَّ له (فون بيلوف) الخطاب الذي سيلقيه، فما أن نهض غليوم للخطابة حتى ضرب صفحاً عن الخطبة الرسمية، وفاه بعبارات أقامت الدوائر السياسية البريطانية وأقعدتها؛ ففطنت الدبلوماسية الألمانية للمر، ونشطت لإنقاذ الموفق، وإصلاح ما أفسده زهو الطاووس.
والخطيب القادر على الارتجال لا يلبث أن يشعر بثقل قيود التلاوة حتى في أدق المواطن الرسمية وأخطرها. وسعد زغلول، وهو المثل الأعلى للخطيب المرتجل، كان يضيق بالتلاوة صدراً، فيلقي الأوراق من يده ويعمد إلى الارتجال، فيحلق في سماء البلاغة.
ولابد للخطيب الحافظ من ذاكرة جبارة لأنه إذا خانته الذاكرة بات في أدق المواقف وأحرجها؛ فقد يروى أن نائباً من نواب الإمبراطورية الفرنسية ألقى خطاباً شهد الجميع بأنه رائع فما لبث محرر صحيفة (الفيجارو) أن أماط اللثام عن أن الخطاب منتحل. فأقر النائب بمصدر الخطاب، وقال إن له ذاكرة قوية فيحفظ عن ظهر قلب أغلب ما يقرأ. وأنه قرأ ذاك الخطاب فوعته ذاكرته. فلما حمي وطيس الجدل في المجلس ألقاه وهو يؤمن بينه وبين نفسه (أنه له)! ودارت الأيام دورتها وأصبح عضواً بمجلس الشيوخ، فقام للخطابة وظل يهدر ويتدفق حتى اصطدم بكلمة فما يدري ما بعدها؛ ولبث يحاول ثم يحاول فلا يجد ما يقوله كأن ما بذهنه قد تبخر. فأنقذ رئيس المجلس الموقف بأن رفع الجلسة، فلما أعيدت نهض صاحبنا وعالج الكلام فلما بلغ تلك الكلمة ارتج عليه، وما كان يغني عنه أن يبدأ الجملة من أولها إذ كان عندما يبلغ تلك الكلمة يرتج عليه ثانية، فبادر الرئيس إلى إنقاذ الموقف برفع الجلسة نهائياً، وما ارتقى صاحبنا المنبر بعد ذلك أبداً.(174/29)
والخطيب الحافظ إن لم يكن حسن الإلقاء، لطيف الإيماءة، كان ضعيف التأثير في سامعيه؛ وشعور الجمهور يهديه إلى اكتشاف الخطب المحفوظة عن ظهر قلب. فالألفاظ البراقة، والصور الخلابة، والعبارات المصقولة، والجمل المسجوعة، مضافة إلى الاندفاع الخطابي؛ كل أولئك يمزق القناع عن وجه الخطب المحفوظة ويهدم دعوى الارتجال من أساسها.
استغفر الله أن يفهم من قولي أن الخطيب لا ينبغي له أن يلبس فكرته ثوباً جميلاً، وإنما أريد أن أقول إن الخطيب الجدير بحمل هذا اللقب لا يجمل به أن يكون أسيراً لألفاظ رصها وعبارات رصفها. فليس العيب في العناية بإعداد الخطاب، وإنما العيب أن يكون الخطيب عبداً للاستعارات والمجازات والتشبيهات والكنايات، وعلى الجملة عبداً لكافة المحسنات اللفظية وعبارات البديع والبيان.
كان (جان جوريس) الخطيب الاشتراكي العظيم يعترف صراحة بأنه يعد خطبه ولا يرى في ذلك عيباً على الإطلاق. ففي 21 نوفمبر من عام 1893 كان يستجوب الوزارة الفرنسية عن سياستها العامة، فلما فرغ من خطابه نهض المسيو شارل ديبوي رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية للرد عليه فقال: (أعتقد أنكم بعد أن سمعتم خطاب مسيو جوريس تجدون بعض العناء في تصديق دعواه بأني لم أدع له الوقت الكافي لإعداد خطابه) فنهض جوريس وجهر بتلك العبارة: (إني لأشعر قلبي الاحترام لمنبر الخطابة ولزملائي فأعد ما ألقيه).
وكان (بربو) المحامي الفرنسي المدره يترافع يوماً فدفعت الصفاقة خصمه لأن يداعبه مداعبة ثقيلة، فقال: إن رائحة الزيت تنبعث من ثنايا مرافعته؛ كناية عن أنه أفنى الليل في إعدادها على ضوء المصباح. فأجاب (بربو): (ليس يضيرني أن يسجل علي أني أعد مرافعاتي بدقة، وإن إجلالي للقضاء يحول بيني وبين التورط في العبارات الجوفاء والصيحات الفارغة التي تجد لها موطناً في ساحة أخرى غير ساحة العدل)، وكان المحامي الخصم عضواً بمجلس النواب فأفحمته عبارة شيخ المحاماة.
ومن الأوهام الشائعة أن الارتجال في الخطابة يعني أن الخطيب ينهض ولم يعد خطبته، بل إن ذهنه خلو من كل ما يتعلق بالحديث الذي سيخوض فيه، ولسنا نتردد في الجهر بأن مثل هذا الخطيب عاجز إلا عن الثرثرة والكلام الأجوف الفارغ، وكل بضاعته ألفاظ طنانة(174/30)
وعبارات رنانة لشد ما لاكها حتى حفظها عن ظهر غيب، فأصبح يتجر بها في كل موقف خطابي. وصدقوني أن الخطيب لا يستطيع أن يرتجل الكلام عن موضوع إلا إذا درسه دراسة عميقة، ولا يقوى على الارتجال في كل المواقف إلا إذا كانت له ثقافة عالية ومعلومات عامة واطلاع واسع في العلم والفلسفة والأدب والتاريخ؛ وفي كلمة، أن يكون عبارة عن (دائرة معارف). ولابد له من إعداد فكرته، أستغفر الله، بل لابد له من إعداد ألفاظه وعباراته قبل إلقاء خطابه، إنما لا ينبغي له أن يكون أسيراً لألفاظ بعينها أو عبداً لعبارات بذاتها وإلا انحدر إلى طبقة الخطباء الحافظين. وليست تهم طريقة إعداد الخطبة وإنما تهم إجادتها، فمن الخطباء من يفكر وهو يكتب، ومنهم من يفكر وهو يمشي، ومنهم من يفكر وهو يتحدث إلى صحبه، ومنهم من يفكر وهو في مضجعه، ومنهم من يفكر في الفترة بين دعوته للخطابة ووقوفه على المنبر؛ وإنما يلتقي الخطباء المرتجلون عند أمرين: سعة الاطلاع، وهبوط وحي الفكرة وسط حرارة الاندفاع الخطابي.
وما أخالك بعد هذا الشرح الموجز إلا قد فهمت مغزى عبارة (برييه) الخطيب الفرنسي العظيم: (إن سر الخطباء المرتجلين هو أنهم لا يرتجلون على الإطلاق).
عبد المجيد نافع المحامي(174/31)
بين شوقي وابن زيدون
بقلم الدكتور زكي مبارك
تتمة
- 4 -
واشترك شوقي وابن زيدون في التفجع والحنين، أما ابن زيدون فيقول:
يا جنة الخلد أُبدِلْنا بسَلْسلها ... والكوثر العذب زقوماً وغسْلينا
كأننا لم نبتْ والوَصلُ ثالثُنا ... والدهر قد غض من أجفان واشينا
سِرَّان في خاطر الظلماء يكتُمنا ... حتى يكادَ لسانُ الصبح يُفشينا
لا غَرْوَ أنَّا ذكرنا الحبَّ حينَ نهتْ ... عنهُ النُّهى وَتركنا الصبرَ ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوراً ... مكتوبةً وأخذنا الصبرَ تلْقيِنا
أما هَواَكِ فلم نعدِلْ بِمَنهَلهِ ... شِرباً وإن كان يُروينا فيُظمينا
لم نجفُ أُفقَ جمالٍ أنتِ كوكبهُ ... سالينَ عنه ولم نهْجُرْهُ قالينا
ولا اختياراً تجنبناكِ عن كثب ... لكن عَدتنا على كرهٍ عوَادينا
والشاعر في هذه الأبيات يصف أيام الوصل أجمل وصف، ويرى نفسه انتقل من كوثر الخلد إلى الزَّقوم والغسلين، ويرى ورد الهوى القديم شرباً لا بعد له شرب، وإن كان يرويه فيظميه، ونعيم الوصل يرهف الحس فيزيد القلب ظمأ إلى ظمأ والتياعاً إلى التياع، وتحدث الشاعر عن البين فذكر أنه لم يقع عن سلوة ولا صدود، وإنما أكرهته العوادي.
ويروقنا هذا التعبير المؤنق:
(لم نجفُ أفقَ جمالٍ أَنتِ كَوكبُه)
فكأن الدنيا كانت لعهده أفقاً من المفاتن، وكانت محبوبته كوكب ذلك الأفق المطلول بأنداء الفتون.
هذا جزع من صنع الدهر صرخ به ابن زيدون، وعارضه شوقي فقال يصف قسوة الليل وقسوة الفراق:
ونابغىٍ كأنَّ الحشرَ آخِرُهُ ... تُميتُنا فيهِ ذِكراكم وتحيينا(174/32)
نطوي دُجاهُ بجُرحٍ من فِرَاقِكُمو ... يكاد في غَلَسِ الأسحار يطوينا
إذا رسا النَّجم لم ترقأ محاجرنُا ... حتى يزولَ وَلم تهْدَأ ترَاقينا
بتنا نُقَاسي الدَّوَاهِي مِنْ كَوَاكِبِه ... حتى قَعَدْنا بها حَسرَى تُقاسينا
يبدُو النهارُ فيُخفِيه تجلدُنا ... للشَّامِتِينَ ويأسُوه تأسِّينا
وهذا من الشعر الرفيع، ومن العجز ألا نجد غير هذا الوصف، وإلا فكيف نصل إلى بيان الفتنة في هذا البيت:
يطوي دُجاهُ بجرح من فراقكمو ... يكادُ في غلس الأسحار يطوينا
أترون كيف يطوى الدجى بالجرح؟ أترون كيف تكون الجراح أعظم من ظلمات الليل؟
ثم ما هذه الوثبة الشعرية حين يقاسي الشاعر بطء الكواكب، ثم ينظر فيراها ابتليت به فباتت تقاسيه، وهي حسرى لواغب؟ والشاعر قد يعظم سلطانه على الوجود فيرى الدنيا تجزع لجزعه وتأسى لأساه.
وكان الشعراء الأقدمون يرون النهار يبدد الأشجان يفضل ما فيه من الشواغل، أما شوقي فيرى أشجانه لا تهدأ نهاراً إلا بفضل التأسي والتجلد للشامتين.
- 5 -
بقي النظر فيما تفرد به الشاعران
ونحن نرى ابن زيدون تفرد بهذين البيتين في خطاب حبيبته التي أقصاه عنها الزمان
نأسى عليك إذا حثت مشعشعة ... فينا الشَّمُول وغنَّانا مُغنِّينا
لا أكؤس الرَّاح تبدي من شمائلنا ... سِيما ارتياحٍ ولا الأوتارُ تلهينا
وهذا من أدق المعاني النفسية، فالشراب والعناء يهيجان العواطف الغافية، ويبعثان الوجد الدفين؛ وللشوق في أمثال هذه اللحظات لذعات أعنف من الجمر المشبوب. وأين الجمر بجانب ما يثور في القلب عند الشراب والسماع؟ إن هذه لحظات تكشف المقنع من سرائر النفوس، وتصنع ما تصنع الحمى العاتية حين تنطق المحموم بأسماء لم يهذ بها لسانه ولا وجدانه منذ سنين.
وقول ابن زيدون:
ولو صبا نحونا من علو مطلعه ... بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا(174/33)
هو أصل المعنى الذي ساقه شوقي في السينية:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهو أخذ رفيق لا يحاسب على مثله الشعراء
وتفرد شوقي بالفخر، الفخر بنفسه وبأمجاد النيل، فقال:
لم يجر للدهر إعذارٌ ولا عُرس ... إلا بأيامنا أو في ليالينا
ولا حوى السعدُ أطغى في أعنَّته ... منَّا جياداً ولا أرخى ميادينا
نحن اليواقيتُ خاض النارَ جوهرُنا ... ولم يَهُن بيدِ التشتيت غالينا
ولا يحول لنا صِبغ ولا خُلقٌ ... إذا تلوَّن كالحرباء شانينا
لم تنزل الشمس ميداناً ولا صعِدت ... في ملكها الضخم عرشاً مثل وادينا
ألم تُؤلّهْ على حافاته ورأت ... عليه أبناءها الغُرَّ الميامينا
إن غازلت شاطئيه في الضحى لبسا ... خمائل السندس الموشية الغينا
وبات كل مجاج الواد من شجر ... لوافظَ القزِّ بالخيطان ترمينا
وبهذا دافع الشاعر عن الوثنية المصرية أجمل دفاع، وهل عبد المصريون الشمس إلا لأنهم عرفوا فضل الشمس؟ وما الدنيا بدون الشمس إلا وجود تافه سخيف!
وشوقي لم يعن إلا نفسه حين قال:
نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا ... ولم يَهُن بِيدَ التَّشتيت غالينا
وقد صدق، فقد قامت في وجه الرجل أحداث تهد الجبال، وانتاشه الخصوم أشد انتياش، ولكن من كان يملك مثل قلبه وإحساسه وشاعريته يصعب هدمه، وإن تكاثرت المعاول، واستحصدت سواعد الهادمين
وتفرد شوقي بالحديث عن الأهرام فقال:
وهذه الأرض من سهل ومن جبل ... قبل القياصر دِنّاها فراعينا
ولم يضع حجراً بان على حجر ... في الأرض إلا على آثار بانينا
كأن أهرام مصرَ حائط نهضت ... به يدُ الدهر لا بنيانِ بانينا
إيوانه الفخم من عُليا مقاصره ... يُفنى الملوك ولا يُبقي الأواوينا
كأنها ورمالاً حولها التطمت ... سفينة غرقتْ إلا أساطينا(174/34)
كأنها تحت لألاء الضحى ذهباً ... كنوز فرعون غطين الموازينا
وللقارئ أن يتأمل هذه الأبيات، له أن يتأمل قوة الفخر في هذا البيت:
ولم يضع حجراً بان على حجر ... في الأرض إلا على آثار بانينا
وله أن يعجب من روعة الخيال في هذا البيت:
كأن أهرام مصر حائط نهضت ... به يد الدهر لا بنيان بانينا
وله أن يتأمل دقة التشبيه في هذا البيت:
كأنها ورمالاً حولها التطمت ... سفينةٌ غرقت إلا أساطينا
ذلك شوقي وتلك آياته البينات.
- 6 -
وتفرد ابن زيدون بوصف الجمال الإنساني، وتفرد شوقي بوصف الجمال الطبيعي. أعطى ابن زيدون محبوبته صورة هي تحفة في الصور الإنسانية، وأعطى شوقي مفاتن النيل صورة هي غرة في الصور الطبيعية؛ أما صورة النيل فقد رآها القارئ من قبل. وأما محبوبة ابن زيدون فقد صورها بهذه الأبيات:
ربيبُ ملكٍ كأن الله أنشأهُ ... مسكاً وقدَّر إنشاَء الورى طينا
أو صاغه وَرقاً محضاً وتوَّجه ... من ناصع التبر إبداعاً وتحسينا
إذا تأوَّدَ آدتهُ رَفاهيةً ... تومُ العقودِ وآدته البرى لينا
كانت له الشمسِ ظئراً في أكلَّته ... بل ما تجلى لها إلا أحايينا
كأنما أُثبتت في صحن وجْنتهِ ... زُهر الكواكب تعويذاً وتزيينا
ما ضرَّ أن لم نكن أكفاَءه شرفاً ... وفي المودة كافٍ من تكافينا
وهذه نظرة شاعر يعرف جواهر الصَّباحة. وفي الحسن ألوف من الأفانين يعرفها الراسخون في علم الجمال، فالجمال المنعم غير الجمال المحروم، والزهر النضير الذي يضاحك الشمس في حديقة غناء بقصر من قصور الملك، غير الزهر الظمآن المنسي الذي يتفتح وهو مهجور في ربوة قاصية لا يعرفها غير الذئاب. إن جواهر الجمال تختلف أشد الاختلاف، ولكل لون من ألوان الجمال وحي خاص. وجوهر الشعر يتبع جوهر الجمال، وهل يمكن أن يكون ما يوحيه الجمال المحجب شبيهاً بما يوحيه الجمال المباح؟ إن الطبيعة(174/35)
قد يبدو لها أحياناً أن تكايد الناس فتنشئ من الحسن في حي بولاق ما تغيظ به الناعمين في حي القصر العالي، ولكنها لا تفلح، فالجمال الذي ينبت في البيئات السوقية يظل سوقي الشمائل والنوازع، أما الجمال الذي يفتح في البيئات المنعمة فيظل ملحوظ المشارب والميول.
فمعشوقة ابن زيدون ربيبة ملك، وربيبة الملك تألف السيطرة منذ أيام المهد، ويظل دلالها طول الحياة دلالاً سماوياً يأخذ فيضه من قوة الطبع، لا من لؤم التمنع، وينزل رضاها على القلب نزول الطل على الريحان. وابن زيدون يتمثل محبوبته خلقت من المسك، ويرى الناس ما عداها خلقوا من طين، وكلمة (طين) وقعت قبيحة في شعر ابن زيدون، إلا أن يكون أراد الإشارة إلى بعض الناس؛ والمرء حين يغضب يرى الناس خلقوا من طين، وإن كان الطين أشرف من بعض من نرى من المخلوقات؛ والطين تربة يحيا بها الزهر ويتغذى منها الشوك، وفوقه تتخطر الظباء، وعليه تزحف الأفاعي والصلال.
وبلغ ابن زيدون نهاية الترفق حين قال:
إذا تأوَّد آدته رفاهية ... توم العقود وأدمته البرى لينا
والجمال الذي تؤذيه العقود والدمالج والأساور والخلاخيل جمال غض رقيق يشبه في رقته نواظر العيون، ولفائف القلوب، وهذا الجمال منثور في المدائن نثر الزهر واللؤلؤ، ولولا وجوده في هذه الدنيا لما عرف شاعر قيمة النعمة العظيمة، نعمة البصر والحس والذوق، لولا الجمال المنعم المصون الذي لا يطمع في تفيء ظلاله غبي ولا لئيم لأقفرت الدنيا من الشعر وخلت من الأنفاس العطرة، أنفاس الشعراء؛ لولا الجمال المنعم المصون الذي لا يطمع في تفئ ظلاله غبي ولا لئيم لما استطاب شاعر سهر الليل، وألم الجفون. وهل يعني القلب في سبيل الجمال المبتذل الذي ترنو إليه جميع العيون؟ إن الجمال المبتذل شبيه بالكوكب المتهالك الذي لا تألم من النظر إليه عين رمداء، أما الجمال المنعم المصون فشبيه بالشمس لا يقوى على النظر إليه إلا الفحول من الشعراء، والأقطاب من الكتاب، هو الجمال الفرد؛ ولا يصاوله إلا الرجل الفرد، وإن كان يتواضع فيقول:
ما ضرَّ أن لم نكن أكفاءه شرفاً ... وفي المودة كافٍ من تكافينا
هذا تواضع، فإن جوهر الحب في قلب الشاعر أنفس من جوهر الحسن في وجه الجميل.(174/36)
وهل تعربد معاني الصباحة في الوجه المليح كما تعربد عرائس الشعر في قلب الشاعر الذي يقلى الأنوار والظلمات وحوله جيش من الهوى المتمرد والوجد المشبوب؟
إن قلب الشاعر جوهر نفيس، ولولا فضله على الدنيا ما عرف أحد جمال الصبح المشرق، ولا تنبه مخلوق إلى لمح الكواكب ولألاء النجوم، ولا تلفت باحث إلى شعر ابن زيدون وقد طمره الزمن بتسعة أحجار تسمى تسعة قرون.
- 7 -
ثم ماذا! بقي أن نشرب صبابة الكأس من نونية شوقي، وكل صبابة في الكأس صاب، بقي أن نتوجع لبلواه وهو يتشوق إلى مصر فيقول:
أرض الأبوّة والميلاد طيبها ... مر الصبا في ذيول من تصابينا
كانت محجَّلة فيها مواقفُنا ... غرّاً مسلسلة المجْرى قوافينا
فآب من كُرة الأيام لاعبُنا ... وثاب من سِنة الأحلام لاهينا
ولم ندع للَّيالي صافياً فدَعتْ ... (بأن نغص فقال الدهر آمينا)
لو استطعنا لخضنا الجو صاعقة ... والبر نار وغى والبحر غسلينا
سعياً إلى مصر نقضي حق ذاكرنا ... فيها إذا نسي الوافي وباكينا
أرأيتم هذا الشعر؟ أرأيتم الخيال في هذا البيت:
فآب من كرة الأيام لاعبنا ... وثاب من سنة الأحلام لاهينا
أرأيتم صورة الهول المقتحم في هذا البيت:
لو استطعنا لخضنا الجو صاعقة ... والبر نار وغى والبحر غسلينا
ثم ماذا؟ بقي ختام القصيدة، وهي أبيات ما قرأتها إلا بكيت على أمي يرحمها الله. وانظروا كيف هفا قلب الشاعر إلى أمه في حلوان:
كنز بحلوان عند الله نطلبه ... خير الودائع من خير المؤدينا
لو غاب كل عزيز عنه غيبتنا ... لم يأته الشوق إلا من نواحينا
إذا حملنا لمصر أو له شجناً ... لم ندر أي هوى الأمين شاجينا
طيب الله ثراك أيها الشاعر، ورحم والدي ووالديك، فالدعاء في أعقاب شعرك كالدعاء في أعقاب الصلوات.(174/37)
زكي مبارك(174/38)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
مقدمة لابد منها
نشر نيتشه كتابه هذا في أربعة أجزاء بين سنتي 1883 و1885، فأشعل ثورة فكرية لا في ألمانيا فحسب، بل في سائر الأقطار الأوربية والعالم الجديد. ولم يكن العالم العربي في ذلك العهد على اتصال وثيق بالحركة الفكرية الغربية، فلم يسمع بنيتشه وفلسفته حتى مر زهاء ثلث قرن، فورد اسمه على بعض الأقلام عرضاً، وكل ما عرف عنه حينذاك في هذه البلاد هو أنه يدعو إلى مذهب تمجيد القوة والعمل على إيجاد الإنسان الأعلى بالقضاء على كل اعتقاد يشل الإرادة ويثبط الهمم في معترك الحياة.
وفي الواقع أن نيتشه الفيلسوف الألماني الأشهر قد دعا إلى هذا المذهب ليعارض الفلسفة الدينية التي أخذ بها الغرب عن المسيحية فأغرق في احتقار الحياة باسمها، وضل ضلالاً بعيداً في تفهمها، إذ اعتبرها دعوة عن الإعراض عن الزائلة إعراضاً تاماً، ورأى الكمال للإنسان في التقشف والزهد والترفع حتى عن العاطفة الجنسية التي يقوم الكون عليها.
ولاح لنيتشه أن هذه النظريات الاجتماعية منحدرة من الإيمان بالخالق وخلود الروح ما وراء المنظور فثار بعقله الجبار عليها وأنكرها جاحداً معها كل إيمان بغير الإنسان نفسه والحياة نفسها
ولو كان تسنى لنيتشة أن ينفذ إلى حقيقة الإيمان الذي دعا عيسى إليه لكان تجلى له إيماناً بالقوة التي ترفع الضعفاء، لا بالضعف الذي يسلط الأقوياء عليهم. ولو كان تسنى لنيتشه أن يستنير بما في الإسلام من مبادئ اجتماعية عليا لأدرك أنه باتباع مثل هذه المبادئ ينشأ الإنسان الأعلى لا بالالتصاق بالأرض دون الالتجاء إلى السماء.
ولقد يلوح للبعض أن لا فائدة من ترجمة نيتشه إلى العربية لأن فلسفته راسية على الجحود؛ أما نحن فنرى أن خلو المكتبة من هذا المؤلف الذي أثر التأثير الكبير في تطور الحركة الفكرية في أواخر القرن الثامن عشر في العالم الغربي يعد نقصاً فيها وقصوراً(174/39)
علينا؛ إذ لم يتردد أي شعب في نقله إلى لغته. وفوق ذلك فإن ما يتجلى في فلسفة نيتشه من جحود لا نراه يتجه إلى الله الواحد الأحد الذي نعبده وبوحيه ندين، بل هو يتجه إلى الألوهية المزيفة التي ارتسمت في ذهنه من إدراكه الناقص لحقيقة الوحي كما يفهمه المؤمنون
فلنمر، إذن، بجحود نيتشه باسمين، ولنقف عند نظراته في الحياة مفكرين
إن في كتاب زرادشت من المبادئ الاجتماعية ما يجدر بنا الوقوف عنده، لأنه يتفق والقاعدة التي وضعها الإسلام للحياة بحديث للنبي (صلعم) على قول، أو بكلمة لأمير المؤمنين عمر على قول آخر وهي:
(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.)
لقد أدرك نيتشه الشق الأول من هذه الحكمة، وفاته الشق الأخير فلم يأمن الضلال والعثار؛ أما نحن أبناء هذا الشرق العربي فآخر هذه الحكمة راسخ في أعماق نفوسنا مما يجعل الشق الأول منها هداية لا ضلالاً
هذا وإننا سنورد في آخر الترجمة بعد بسط فلسفة نيتشه التحليل الذي تقتضيه لإظهار فاسدها وصحيحها، فنقف في وجه المادية التي تطغى موجتها على المدنية، ونثبت أن لا خير في حضارة يعمل الإنسان فيها لدنياه كأنه يعيش أبداً دون أن يعمل لآخرته كأنه يموت غداً.
فليكس فارس
وسنوالي نشر الكتاب كاملاً ابتداء من العدد القادم(174/40)
كلمة أخيرة
حول (نبوة المتنبي أيضاً)
للأستاذ سعيد الأفغاني
قرأت للأخ شاكر مقاليه الأخيرين المطولين جداً في الرسالة (171، 172) فإذا ما أريد أن أقوله قد قلته سابقاً في الرسالة (170) فليرجع إليه فهو رد على مقاليه هذين أيضاً
لما عرف الأستاذ شاكر أنا (لا نحفر رداً ولا نقداً إلا إذا كان حقاً، وسبيلنا حينئذ أن نأخذ به أنفسنا ونشكر لصاحبه.) عاذ بذلك فراغ روغة عدل فيها بالكلام عن وجهه الذي يجب أن يكون فيه، فلم تظفر اعتراضاتنا - لسوء حظها - منه بجواب. وقد كنا طلبنا اليه التعرض لهذه الأخبار التي رماها جملة بالكذب فيبين وجوه بطلانها والسبب الحادي لرواتها على وضعها ببيان يزيل اللبس ويرضي الأمانة والعقل، فأبى وطفق يتعلق بتوافه الأمور: فهذا كلام شغل أربعة أعمدة من (الرسالة) في تزييف رواية اللاذقي وقد عرف القراء قيمتها عندنا، وذاك كلام يعرض لبسطي عذري في التأخر بالرد، وذلك كلام آخر طويل يدور حول ياء سقطت من كلام له نقلناه. . . الخ
استوفى الأخ ستة عشر عموداً زوى عنا فيهن حججه المزعومة ونافع بيانه وأطلق قلمه فسطر من القول النبيل ما نمر به مر الكرام؛ ولما أشرف على الختام قال: (وتعب أن أمضي على هذا الوجه في تعريف الأستاذ سعيد بوجوه بطلان كلام هؤلاء الناس الذي نقل كلامهم.) وقد علم أصلحه الله وعلم القراء أن البحث والحوار كله يدور حول هذا فقط، ففيم الهرب منه والاشتغال بغيره؟ ولست أنا الذي ادعي بطلان الروايات فأحتاج لمعرفة وجوه البطلان، وإنما نفع ذلك وغناؤه - إن تم - عائدان عليه وحده، فهو الذي ألف واستهدف، وهو الذي ادعى وأعوزه البرهان.
وقد كنت ظننت أني مع أستاذ يعينني في إزالة ما حول هذا البحث من شبه بالعلم الواسع والحجة البالغة ولطف التأني وحسن القصد، فإذا بي أمام امرئ يريدها جدلاً ومراء أو استطالة قول وحب غلبة مع معرفته من نفسه الحدة وضيق الصدر.
فما أنا - وقد عرض الأستاذ لنا أدبه عرضاً صحيحاً - بالذي يجاريه في أسلوبه. وكل ما تفضل به من غمز احتل من كلامه محل الحجة لا يحدوني على مقابلته أو مشاكلته، ولا(174/41)
على الخروج على قاعدتي التي أطمعته فورطته وكانت خليقة منه بغير ما فعل.
ليت الأستاذ شاكراً كان تريث قليلاً فلم يحرص على صدور رده عقب كلمتي بلا تأخر، ولم يخرج عما أخبرنا من طبعه في الإبطاء والتخلف، فإن الناس لا يقدرون الكلام بسرعة صدوره، وإنما يقدرونه بما يحمل من الحق والصواب.
ليته تريث وتدبر وأنعم في كلامه وكلام غيره، إذن لما أعجله حب الرد للرد فجعله ينقض فكرة هي له على أنها لغيره، ويستنجد لدفعها بالعربية والمنطق والأصول؛ وبيان ذلك باختصار أنه:
كان أشكل عليه في كلام أبي علي بن أبي حامد أمر الوثيقة التي كتبوها على المتنبي بعد أن استتابوه من دعوى النبوة؛ فذهبنا نحن إلى أنها في إبطال علويته لا تنبئه، وأمر علويته ورد في روايات ثانية، فكان من الأستاذ أن أورد رواية أبي علي ثم علق على كلامنا فيها بقوله: (الرسالة ص1665)
(فأنت ترى أن لا ذكر للعلوية في هذا الخبر ولا في غيره مما روي عن علي بن أبي حامد هذا، فكيف يتأتى لك أن تقحم العلوية فيه وهو لم يذكرها فيه ولم ترد عنه في خبر غيره، ثم تعمد إلى الكلام فتؤول بعضه على النبوة وبعضه على العلوية فتجعل التوبة للأولى والوثيقة للآخرة؟)
والذي قلناه نحن هو هذا (الرسالة 170): (وليس في الأمر مشكلة ولا تناقض ولا داع لأن يرجح الأستاذ (ص 49) من كتابه إقحام لفظ النبوة بين العلويتين في حديث الهاشمي، وليقول: (إن المراد بالنبوة (تأمل) في حديث أبي علي بن أبي حامد العلوية) فمن المقحم ومن المؤول أيها البحاثة المحقق الذي لا ينسى اليوم ما قاله أمس؟! ثم قلنا: (فعلوية أبي الطيب التي أراد أن يفسر بها النبوة الواردة في الروايات على اختلاف مصادرها لم تسلم له من الأصل، وبقي المتنبي جعفياً يمنياً، وإذا كان لابد (تدبر) من إيراد احتمال فالأولى أن تجعل العلوية الثانية من زيادات النساخ وإقحامهم. على أن الروايات في غنى عن هذا الفرض أيضاً (تأمل وتدبر) وليس فيها داع إلى شكل أو تأويل. فمن الغريب جداً أن ينكر أبو الطيب دعوى النبوة من ساعة القبض عليه وأن يظل على العلوية طول أيام سجنه حتى كتابة الوثيقة)(174/42)
فنظرية الإقحام أنت قلت بها أيها الأستاذ الجليل لا نحن، وكلمتنا بدئت بقولنا (إذا كان لابد من احتمال) أما كلمتك فبدئت: (إن المراد بالنبوة في حديث أبي علي. . العلوية ص 49 من كتابك القيم) وأياً كان صاحب اكتشاف الإقحام ومؤول النبوة بالعلوية فهو ونظريته خليقان بما تفضل به الأستاذ من استنكار واستبشاع.
لقد رماني الأستاذ بدائه: عدم التدبر والتحريف، وأراد أن يتناول فكرة لي كيفما اتفق له لينقدها، فوقعت يده على فكرته هو منقولة في كلامي! وقاتلك الله العجلة، فقديماً ذكروا أن تاجراً أضمر أخذ عدل من أعدال شريكه فوضع رداءه عليه ليعرفه في الظلمة؛ ثم ذهب وجاء رفيقه ليصلح أعداله فوجد رداء رفيقه على عدله وظن أنه نسيه فرفعه ووضعه على عدل شريكه. ولما كان الليل أتى الشريك بحمال واطأه ففتح الحانوت واحتمل العدل الذي عليه الرداء وأخرجه هو والرجل، وجعلا يتراوحان على حمله حتى أتى منزله ورمى نفسه تعباً، فلما أصبح افتقده فإذا هو بعض أعداله!!
فعلى القارئ المتتبع أن يرجع حيثما وجد نقلاً لكلامي إلى الأصل المنقول عنه فلست أفرغ دائماً لبيان ما حرف ولا أحتمل إلا تبعة ما قلت على ما قلته بحروفه، غير مروي بكلام من غيري. ومن أول كلامي بجمل من عنده ثم شرع في ردها فإنما رده على تأويله فحسب
كان رغب إلينا الأخ شاكر ألا نتبع ظننا في أنه من أهل الغرور والذهاب بالنفس والجهل بمقدارها، والمكابرة في العلم والجدال فيما لا جدوى منه ولا منفعة. وقبل كلمته هذه كان ادعى لنفسه تدبراً وإمعاناً وأصولاً ودراية، ثم في الأخير حلماً عند المقاتل البادية حين لمزنا بالحاجة إلى هذه الصفات، وكلام كلينا معروض لمن أراد تثبتاً، وسبحان الذي قال: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
فهل أجد حرجاً في أن أقول ثانية (صحف الرسالة أحوج إلى أن تملأ بالحقائق والبرهان منها إلى الدعوى والانتقاص) وإن القراء (لا يخفى عليهم وجه الحق في كلام اثنين، ولا يصرفهم عنه نيل من صاحبه ومراوغة في الحط منه)، وحرام أن أقتل الوقت في تتبع المزالق التي زل فيها صاحبنا في مقاليه هذين، فما هي بنافعتنا فيما ظهر لتباين أسلوبينا في البحث و (اختلاف في الجبلة) على ما قال الأخ شاكر.
وما أنا بعائد إليه لأن الحقيقة لم تفد شيئاً بخوض هذا البحث معه، ولن أجاري أخي في(174/43)
طريقه التي سلكها فما هي لي بطريق، ولا أرب لي بتعسف المتاهات، ولولا أن يظن العجول من القراء أن نظرية الإقحام وتأويل النبوة بالعلوية التي رماني بها الأستاذ على عجلة وخطأ هي نظريتي وفكرتي لما خططت حرفاً من كلمتي هذه.
وبعد، فليس عندي لأخي الأستاذ على أقواله في غير السلام.
سعيد الأفغاني(174/44)
الفصل في نبوة المتنبي من شعره
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
يعتمد الباحثون في نبوة المتنبي على تلك الأخبار المتناقضة في أمر نبوته، فيذهبون فيها مذهبين متناقضين: فريق يجزم بوقوع هذه الدعوى منه، وفريق يجزم بأنها من اختراع أعدائه؛ وكل فريق يتعصب للأخبار التي تؤيد مذهبه، ويجزم بصحتها كل الجزم، ويطعن في صحة الأخبار التي لا توافق مذهبه، وتؤيد مذهب الفريق الآخر، وقد ضاع الحق في ذلك بين التعصب للمتنبي والتعصب عليه، ولم تنهض فيه حجة واضحة تقطع بالحق من ذينك المذهبين، وتقضي على هذا الخلاف الذي لم ينته إلى الآن.
ولا خلاف بين الفريقين في إطلاق لقب المتنبي على أبي الطيب، وإنما الخلاف في أنه أطلق عليه لادعائه النبوة في حداثته، أو لقوله:
أنا تِرب الندى وربّ القوافي ... وسِمام العدى وغيظ الحسُود
أنا في أمةٍ تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود
ما مُقامي بأرض نخْلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
هذا هو ما حكاه أبو الفتح عثمان بن جني عن أبي الطيب نفسه؛ وأما الأول فحكاه أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي قال: قدم أبو الطيب المتنبي اللاذقية في سنة نيف وعشرين وثلثمائة وهو لا عذار به، وله وفرة إلى شحمتي أذنيه فأكرمته وعظمته لما رأيت من فصاحته وحسن سمته، فلما تمكن الأنس بيني وبينه وخلوت معه في المنزل اغتناماً لمشاهدته، واقتباساً من أدبه، قلت: والله إنك لشاب خطير تصلح لمنادمة ملك كبير، فقال: ويحك أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل، فظننت أنه يهزل، ثم تذكرت أني لم أسمع منه كلمة هزل قط منذ عرفته فقلت له ما تقول؟ فقال أنا نبي مرسل، فقلت له: إلى من مرسل؟ فقال إلى هذه الأمة الضالة المضلة. قلت تفعل ماذا؟ قال: أملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً. قلت بماذا؟ قال: بإدرار الأرزاق، والثواب العاجل لمن أطاع وأتى، وضرب الرقاب لمن عصى وأبى. فقلت له: إن هذا أمر عظيم أخاف عليك منه، وعذلته على ذلك، فقال بديهة:
أبا عبد الإله مُعَاذ إني ... خفيٌّ عنك في الهيجا مقامي(174/45)
ذكرتَ جسيم مطَّلبي وأني ... أخاطر فيه بالمُهج الجسام
أمثلي تأخذ النكباتُ منه ... ويجزع من ملاقاة الحمام
ولو برز الزمان إلي شخصاً ... لخضَّب شعر مفرقه حُسام
وما بلغت مشيئتها الليالي ... ولا سارتْ وفي يدها زمامي
إذا امتلأت عيون الخيل من ... فويل في التيقظ والمنام
ثم ذكر بعد هذا أنه لم يزل معه حتى قال له: أبسط يدك اشهد أنك رسول الله، قال: فبسط يده فبايعته بيعة الإقرار بنبوته، ثم قال:
أيَّ محلٍّ أرتقي ... أيَّ عظيم أتقي
وكلُّ ما قد خلق الل ... هـ وما لم يخلق
محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي
وقد يكون هذا الذي ذكره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي صحيحاً، ولم يكن المتنبي إذا صح أنه ادعى النبوة أول من ادعاها في الإسلام، فقد ادعاها قبله وبعده خلق كثير، وقد يكون هذا غير صحيح؛ وربما يؤيد هذا أن الأبيات الأولى رويت في ديوانه على أنه قالها وقد عزله معاذ في إقدامه في الحرب، وأن الأبيات الثانية لا تتفق مع دعواه النبوة، وكثير من الناس يتخذها دليلاً على إلحاده.
وقد يكون ما رواه ابن جني هو الصحيح، وله شواهد كثيرة في الأدب العربي، ومن هذا أن شاس بن نهار من شعراء الجاهلية لقب بالممزق لقوله:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلاً ... وإلا فأدركني ولما أُمزَّق
وأن محصن بن ثعلبة وهو شاعر جاهلي أيضاً لقب بالمثقب لقوله:
رددْن تحية وكنَنَّ أخرى ... وثقبن الوَصاوِصَ للعيون
وأن خداش بن بشر المجاشمي وهو شاعر إسلامي لقب بالبعيث لقوله:
تبعث نمي ما تبعثُ بعد ما ... (م) استمر فؤادي واستمر عزيمي
ومن ذلك أن جران العود العبدي سمي بهذا لقوله:
خذا حذراً يا جارتي فانني ... رأيت جرانَ العود قد كاد يصلح
فخوفهما بسير قدَّ من صدر جمل مسن(174/46)
ومن ذلك أن المرقش الأكبر لقب بهذا لقوله:
الدار قفر والرسومُ كما ... رقَّش في ظهر الأديم قلم
واسم المرقش ربيعة بن سعد بن ملك
ومن ذلك أن مدرج الريح لقب بهذا لقوله:
ولها بأعلى الجزع رسمٌ دارس ... درجت عليه الريح بعدك فاستوى
فإذا نظرنا إلى هذه الأخبار المتناقضة في ذاتها لم تشف غليلنا في هذه النبوة المزعومة؛ وليس أمامنا فيها إلا اللجوء إلى ما سموه علم الجرح والتعديل، وإني لا أثق كثيراً بهذا العلم، لأنه مختلف أيضاً في أمر رواة الأخبار، ولأنه يعتمد على ظاهر أمرهم وهو لا يدل حقيقة عليهم.
فلا بد من اللجوء إلى أمر آخر يشفي غليلنا في أمر هذه النبوة، وذلك الأمر هو الشعر الذي قيل في العهد الذي يقال إن المتنبي ادعى فيه هذه الدعوى، وسنبدأ بهذا في المقال الآتي
(يتبع)
عبد المتعال الصعيدي(174/47)
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون المستشرق الإنجليزي
المدخل لتاريخ العرب
- 2 -
وإذا وجدنا أن اللغة لا تجري فحسب على ألسنة الشعراء الجوالين (الذي كانوا عادة على جانب من الثقافة) أو عرب الحيرة المسيحيين، بل تتداولها ألسن الرعاة واللصوص والبدو الغلاظ في كل البقاع، إذا وجدنا هذا فليس ثمت داع للشك في أننا نسمع من خلال شعر القرن السادس اللغة العربية التي كانت مستعملة في طول بلاد العرب وعرضها. وقد زاد انتصار محمد والفتوح الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين من شأن هذه اللغة وأصبحت العربية لساناً مقدساً في جميع الأمصار الإسلامية. ولا مراء أن الفضل في هذا يرجع إلى القرآن، ولكن من ناحية أخرى أمر اعتبار لهجة مكة (التي نزل بها القران) الأصل للعربية، وتسمية العربية (لغة قريش) كافٍ لدحض كل حقيقة حول هذا الموضوع. وقد اتخذ محمد (ص) - كما لاحظ نلدكه - الشعر القديم مثالاً. وفي صدر الإسلام كانت سلطة الشعراء الجاهليين (وقليل منهم كان من قريش) هي التي ثبتت قدم اللغة الفصحى وعممت استعمال الأسلوب الفصيح. وطبيعي أنن يكون المسلمون - وهم الذي عدوا القران كلمة الله والمعجزة البالغة في أسلوبها - قد قدموا لهجة قبيلة النبي على كل لهجة أخرى، كما أنكروا القول بأن كل قبيلة أبعد من مكة أقل فصاحة، ولكن هذه النظرة لا تلقى قبولاً لدى الباحث المحايد. ولو أنه كان للقران تأثير عظيم في تاريخ اللغة العربية وآدابها، وسنرى في فصل خاص أن ضرورة حفظ أصل الكتاب الكريم سليماً، وشرح غوامضه بعثت المسلمين على استنباط علم النحو واللغة، ودعت إلى جمع شعر الجاهلية والأخبار التي لابد قد تطرق إليها الضياع. ولما استقر العرب - كفاتحين - في سورية وفارس واختلطوا بالشعوب الغريبة عنهم، لم تلبث لغتهم محافظة على فصاحتها الأولى، أما في بلاد العرب نفسها وخاصة بين بدو الصحراء فلم يكن الفارق محسوساً، وكذلك في البلدان المجاورة ومراكز التجارة الكبرى كالبصرة والكوفة حيث كان معظم السكان من الأجانب الذين اعتنقوا(174/48)
الإسلام وسرعان ما استعربوا؛ وظل الباب مفتوحاً على مصراعيه لجميع ضروب الفساد. وقد أعلن علماء اللغة حرباً ضروساً على هذه العربية التي شابتها العجمة، وإن الفضل في انتصار العربية الفصحى وتغلبها على الأخطار الجسام التي هددتها ليرجع إلى ما بذله هؤلاء من جهود، وبالرغم من أن لغة البدو الوثنيين لم تبق كما هي - أو ظلت على أي حال حية على ألسنة المتحذلقين والشعراء فحسب - إلا أنها أصبحت بعد تحوير قليل الوسيط العالمي للحديث بين الطبقات العليا في المجتمع الإسلامي، وفي مستهل العصور الوسطى كانت لغة الحديث والكتابة لجميع مثقفي المسلمين من أي جنسية كانوا: من بلاد الهند حتى المحيط الأطلسي، فكانت لغة البلاط والدين، ولغة الشرع والتجارة، ولغة السياسة والأدب والعلم، وفي القرن العاشر حينما ثل الغزو المغولي عرش الخلافة العباسية وانفرط عقد الوحدة الإسلامية السياسية لم تعد العربية أو اللغة العامة للعالم المحمدي، بل حلت مكانها لهجة سوقية في بلاد العرب وسورية ومصر وبعض الأقطار الناطقة بالضاد، ولو أنها ظلت في هذه الأمصار لغة الأعمال والأدب والتعليم. ونسمع اليوم من مصدر ثقة (أنها آخذة في النهوض، وأنها على وشك أن تسترد ثانية مكانتها الأدبية العظمى) وهي إذا كانت تشغل - بالنسبة إلى هؤلاء المسلمين من غير العرب - نفس المكانة التي تشغلها اللاتينية والإغريقية في الثقافة الأوربية الحديثة، فينبغي ألا يغرب عن ذهننا أن القرآن (وهو أروع آثارها) يحفظه كل مسلم لأول ذهابه إلى المدرسة، وهو يتلوه في صلواته اليومية، ويسيطر على مجرى حياته كلها إلى درجة يكاد لا يصدقها المسيحي العادي.
وآمل أن يغفر لي القارئ تجاهلي - في كتاب كهذا - ما يتعلق بالتاريخ العربي القديم الذي يمكن الإلمام به من الآثار الآشورية والبابلية، كما أن أي كتابة يحاول من ورائها دراسة العرب من سنة 2500 ق. م. حتى بداية العصر المسيحي لأشبه بخريطة رسمتها يد سير جون ماندفيل؛ بيد أن شعباً (غير سبأ أو حمير) من بين شعوب الجزيرة استطاع أن يترك أثراً أبقى من غيره، ذلك هو شعب النبط الذين سكنوا المدن واحترفوا التجارة قبل ميلاد المسيح بزمن طويل، وأسسوا مملكة (بترا) التي كانت رخية متقدمة في الزراعة حتى كان عام 105م. حين ضربها ودمرها تراجان، وكان هؤلاء الأنباط يتكلمون العربية بالرغم من أنه قد ورد خطأ في أحد نقوشهم أنهم كانوا يستعملون الآرامية في الكتابة؛ ويخلط المؤلفون(174/49)
المسلمون بينهم وبين الآراميين إلا أن الدراسة العميقة لنقوشهم أثبتت خطأ هذه الفكرة التي أقرها كاترمير، وإن كتاب (الفلاحة النبطية) الذي ألفه عام 904م للكاتب المسلم ابن وحشية الذي اعترف بأنه ترجمه من الكلدانية، فقد ظهر الآن أنه مختلق، وما أشرت إليه في هذا المجال إلا كمثال للوسيلة التي يستعمل فيها المسلمون لفظ (نبطي)، لأن العنوان المشار إليه حالاً لا يرجع بالطبع إلى بترا ولكن إلى بابل
من كل ما قيل يستطيع القارئ أن يلاحظ أن تاريخ العرب - وجل معلوماتنا عنه مقتبسة من مصادر عربية - يمكن تقسيمه إلى ثلاثة عصور
(1) العصر السبأي والحميري من 800ق. م. وهو تاريخ أقدم نقوش العربية الجنوبية حتى سنة 500م.
(2) العصر السابق للإسلام (أي من 500م - 622م)
(3) العصر الإسلامي ويبدأ من هجرة الرسول من مكة إلى المدينة أي من سنة 622 حتى الوقت الحاضر
أما عن العصر الأول الذي يتعلق بتاريخ اليمن أو بلاد العرب الجنوبية فليس لدينا مراجع عربية معاصرة له سوى النقوش؛ كما أن المورد القيم الذي تمدنا به هذه النقوش على نقصه هو الأحاديث الواردة في قصائد الجاهلية والقران وخاصة في الدب المحمدي المتأخر؛ ولا مراء في أن معظم هذه الأخبار أساطير، ومن الأجدر أن يتجاهلها الباحث المشتغل بالبحث التاريخي، ولكني سأخصص جزءاً وافياً لدراستها، خاصة وأن غرضي الأول هو التعريف بمعتقدات العرب أنفسهم وآرائهم.
أما العصر الثاني فيسميه المسلمون عصر الجاهلية أو عهد البربرية وتنطبع مميزات هذه الفترة في دقة وأمانة فيما وصلنا من أغاني وقصائد الشعراء الوثنيين، إذ لم يكن هناك إبان هذا الوقت أدب نثري فكان من مهمة الشاعر التغني بتاريخ قومه والافتخار بنسبهم، وتمجيد استعمالهم للسلاح، وتبجيل فضائلهم، ورغماً من أن مقداراً عظيماً من شعر الجاهلية قد فقد إلى الأبد، إلا أنه لا تزال لدينا بقية كبيرة (بإضافتها إلى ما وضعه علماء اللغة والآثار المسلمون من قصص تترى) تساعدنا على تصوير حياة هذه الأيام الغابرة تصويراً دقيقاً.
أما أهم العصور الثلاثة وآخرها فهو تاريخ العرب تحت ظل الإسلام، وينقسم طبيعياً(174/50)
الأقسام التالية التي ألممت بها في هذا المكان حتى إذا ألقى القارئ عليها نظرة تبين من خلالها مجمل المظاهر السياسية المتعددة لهذا العهد المضطرب الدقيق الذي يقوم تجاهه؛ وهذه الأقسام هي:
أ - حياة محمد
حوالي مستهل القرن السابع المسيحي ظهر في مكة رجل من قريش هو محمد بن عبد الله بكتاب سماوي هو القرآن، دعا قومه لنبذ الأوثان ولعبادة (الله الواحد)، وقد ظل مثابراً عدة أعوام على الدعوة لدين الإسلام في مكة على رغم ما لاقاه من سخرية القوم منه واضطهادهم إياه، ولما وجد أن تقدم دعوته ضئيل هاجر عام 622م إلى بلدة مجاورة تلك هي المدينة، ومنذ ذلك التاريخ كان النصر المؤزر حليفه، وفي خلال السنوات العشر التالية دانت بلاد العرب جميعها لديانته، ودعت بلسانها للإيمان الجديد
ب - خلافة الراشدين (632 - 661)
بعد أن قبض الرسول (ص) تعاور حكم المسلمين بالتتابع أربعة من أعظم صحابته، هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسمي كل منهم خليفة، ويعرفون عادة بالخلفاء الراشدين، وفي ظلهم وبإرشادهم ثبتت دعائم الإسلام في شبه الجزيرة وخفق لواؤه بعيداً وراء الحدود، أما أعداؤه من البدو فقد استقروا كمستعمرين حربيين في السهول الخصبة من سورية وفارس، وسرعان ما وقعت الإمبراطورية الحديثة النشأة في حرب أهلية، وكان مقتل عثمان إيذاناً باشتعال النضال بين طلاب الخلافة المتنافسين، وتمسك علي - صهر الرسول - بلقبه، ولكن حاكم سورية القوي معاوية بن أبي سفيان أنكر خلافته ونافسه
ج - الدولة الأموية (661 - 750)
لما سقط علي صريعاً بضربة خنجر اعتلى معاوية عرش الخلافة الذي ظل وفقاً على أسرته تسعين عاماً، وكان الفارق الوحيد في الأمويين أنهم كانوا عرباً قبل أن يكونوا مسلمين، وكان أثر الدين فيهم ضئيلاً، ولكن ظهر منهم بعض حكام أكفاء مهرة، جديرين بأن يكونوا قادة جنس آمرٍ. وقد بلغت الفتوح الإسلامية أقصى اتساعها عام 732م، وكان للخليفة القائم في دمشق قواده فيما وراء أكسوس والبرانس وعلى شواطئ بحر قزوين(174/51)
ووادي النيل؛ وفي غضون ذلك كان بأس الدولة آخذاً في التدهور والانحطاط من جراء المنازعات السياسية والدينية القائمة فيها؛ أما الشيعة الذين تمسكوا بحصر الخلافة في علي وأبنائه بأمر مقدس، فقد ثاروا مراراً عدة، وانضم إليهم المسلمون الفرس الذين كانوا يمقتون العرب والحكومة الأموية الظالمة، كما كان العباسيون - وهم ذوو وشيجة قربى قوية بالرسول - قادة الاضطراب الذي انتهى بخلع البيت الحاكم نهائياً واستئصال شأفته.
د - الدولة العباسية (750 - 1258)
كان العرب حتى ذلك الوقت أصحاب السلطان في المجتمع الإسلامي، وقد شمخوا بأنفهم تيهاً على المسلمين من غير العرب وازدروهم، ولكن انعكست الآية بعد ذلك، إذ نجد أنفسنا قد انتقلنا من عصر العصبية العربية إلى عصر النفوذ الفارسي والثقافة الجامعة، وكان صفوة القوات العباسية من فرس خراسان، وشاد العباسيون (بغداد) عاصمتهم الزهراء على أرض فارسية، ونال أشراف الفرس أسمى مناصب الدولة أرفعها في بلاط بني العباس، وإن لم تكن الدولة الجديدة دينية، إلا أنها كانت على الأقل حدية على الدين مجتهدة في أن تحيط نفسها بمظاهر الورع، ونسي العرب والفرس حيناً ما بينهم من خلاف وفروق، وتعاونوا جميعاً كما ينبغي على المسلمين الأتقياء، ولقي التعليم تشجيعاً عظيماً، وكان هذا العصر العصر الذهبي للإسلام، وقد بلغ أوجه أيام هرون الرشيد الزاهرة (786 - 809). ولما مات تداعت عمد السلام مرة ثانية، وابتدأ نجم الإمبراطورية القوية البأس في المغيب، وأخذت المقاطعات تنسلخ واحدة بعد أخرى عن الخلافة، وتقتطع نفسها منها، ومن ثم ظهرت دول مستلقة كثيرة، بينما صار الخلفاء دمى في أيدي الجند الأتراك، وظلت معظم الأقطار الإسلامية معترفة بسيادتها اسمياً، ولكن منذ أواسط القرن التاسع لم يعد لهم إلا القليل منها، أو لم يعد لهم شان مطلقاً.
(يتبع)
ترجمة محمد حسن حبشي(174/52)
مشرقيات
في الأدب العربي الحديث
للأستاذ أغناطيوس كراتشقويفسكي
الأستاذ بجامعة ليننجراد
- 3 -
وهنالك محولات فردية بذلت في سبيل كتالة القصة الأخلاقية (سعيد البستاني ويعقوب صروف). والقصة النفسية (فرح أنطون 1874 - 1922)، وإن كانت لم تضارع قصص زيدان في مضمار النجاح
لكن معين القصة التاريخية عند العرب لم ينضب بعد كما يتضح من قصة (ابنة المملوك) التي وضعها في عام 1926 القصصي المصري محمد فريد أبو حديد. وهي من نوع يختلف كل الاختلاف عن قصص زيدان، بل إنها وصلت من بقض الوجوه إلى مستوى أعلى. أما الأقصوصة فقد رأت النور في مصر بخلاف القصة التاريخية، ولا بأس من ذكر المحاولات التي بذلت في سوريا، ولكن ما كتب هناك من الأقاصيص كان قاصراً على طبقة من المبتدئين. فقد شرع جبران خليل جبران وهو في شرخ الشباب في كتابة الأقصوصة على سبيل التمرن، لكنه لم يعد إلى ممارسة هذا النوع من الكتابة. أضف إلى ذلك أن المجال لم يفسح لهذا النوع الجديد في مصر إلا ببطء كبير. ولقد حاول الجيل القديم أن يستعمل أسلوب المقامات في النقد الاجتماعي، كحديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي المتوفى في عام 1930، وهو ابن الصحفي النابه إبراهيم المويلحي (1846 - 1906). أما المحاولات الأخرى (عائشة التيمورية ومحمد حافظ إبراهيم) فقد كانت أقل توفيقاً. وهناك مؤلف معروف جرب حظه في الأقصوصة، هو المنفلوطي، وكانت أقصوصته تارة موضوعة، وتارة أخرى منقولة بتصرف، لكن كتابته امتازت بجمال التنسيق وسلامة الأسلوب دون دقة الموضوع أو البراعة القصصية. أما محمد تيمور الذي توفي في شرخ الشباب (1892 - 1921) فيمكننا أن نعده منشئ الأقصوصة المصرية ومبتكر التصوير الواقعي للحياة الاجتماعية الحديثة. فقد كان ملماً كل الإلمام بالآداب الأوربية، قوي(174/53)
الملاحظة، دقيقاً. فوضع أقاصيص صغيرة مأخوذة من صميم الحياة المصرية، بأسلوب يحاكي أسلوب موباسان أو تشيكوف تحت هذا العنوان (ما تراه العيون).
وتقدمت الأقصوصة خطوات إلى الأمام في مؤلفات شقيقه محمود تيمور (المولود في سنة 1894) وهي مجموعة في ستة مجلدات. وأقاصيص محمود تيمور واقعية كأقاصيص شقيقه محمد، لكنها أكثر تنوعاً، وأعمق تحليلاً، وأفصح لغة، وأسهل أسلوباً.
وقد اثر فن التيموريين القصصي تأثيراً كبيراً في جيل الكتاب المعاصرين، ولنذكر منهم: أخوي عبيد، المرحوم عيسى عبيد المتوفى عام 1924، الذي وضع مجموعتي (إحسان هانم وثريا)، وشحاته عبيد الذي كتب (درس مؤلم)، وطاهر لاشين مؤلف (سخرية الناي، ويحكى أن. . . وحواء بلا آدم). وهي مجموعة قصصية امتازت بالطلاوة والفكاهة، ومحمد أمين حسونه مؤلف (الورد الأبيض).
ومن المميزات الجديرة بالملاحظة أن هذا النوع من الأدب وجد أنصاراً مخلصين في البلاد العربية، وجلها تأثرت بمصر إلى مدى بعيد.
وفي العراق كاتبان ذاعت شهرتهما إلى ما وراء وطنهما هما: محمود أحمد (المولود في سنة 1901)، وقد وضع قصة طويلة بعنوان (خالد)، ومجموعة باسم (الطلائع) وأخرى موسومة (في ساع من الزمن)، والقصصي العراقي الثاني هو أنو شاؤول الذي كتب مجموعة (الحصاد الأول).
ولقد ظهرت الأقصوصة العربية في أمريكا (المهجر) في الوقت الذي ظهرت فيه في مصر، وربما قبل ذلك، ولنذكر أولاً عبد المسيح حداد الذي كتب أقاصيص صغيرة كلها فكاهة بعنوان (حكايات المهجر) وهي تكاد تكون صوراً سريعة للحياة العربية في أمريكا، وقد أخذ المؤلف كثيراً من روح أقصوصات جبران، وهناك أيضاً ميخائيل نعيمه الذي خصص في أقصوصته النفسية مجالاً واسعاً لتحليل الروح تحليلاً عميقاً، متأثراً بالأدب الروسي في القرن التاسع عشر.
إذا استطعنا القول بأن الأقصوصة العربية الجديدة وجدت أمامها الطريق اللائق بتقدمها وازدهارها حتى بلغت المكانة الجديرة بها، فإن القصة لم تصل إلى هذا المدى من النشاط، وكل ما رأيناه في هذا المضمار هو بعض محاولات طفيفة.(174/54)
وقد استهل هذا النشاط بقصة (زينب)، وهي قصة طويلة وضعها في عام 1914 محمد حسين هيكل بك الذي أصبح فيما بعد صحفياً وأديباً نابهاً، وموضوعها منقول عن الحياة الريفية في مصر. أما من حيث اللغة والأسلوب وطريقة الكتابة فقد فتحت فتحاً جديداً، إذ امتازت القصة بأسلوبها الطبيعي الخالي من الصناعة والتكلف، لكنها رغم ذلك لم تلفت الأنظار في بدء ظهورها.
ووضع الدكتور طه حسين (المولود في سنة 1889) قصة دعاها (الأيام) في عام 1927، وسار فيها على أسلوب الأخبار العائلية، وهي تصف طفولة صبي مصري يافع، عاش في قرية صغيرة على ضفاف النيل، والقصة جديرة حقاً بالتقدير، لا من حيث الوصف الحي للحياة الواقعة فحسب، بل كمؤلف أدبي من الطراز الأول في اللغة والأسلوب وطريقة الرواية.
أما مجموعة القصص الثلاث لتوفيق الحكيم فقد رسمت لها خطة واسعة النطاق، ولم ينشر منها حتى الآن سوى القسم الأوسط (عودة الروح) في جزءين (كتبا في سنة 1927 ونشرا في سنة 1933)، وقد خصص هذا القسم للحوادث التي توالت على مصر ابتداء من عام 1920.
وكان لظهور توفيق الحكيم في سماء الأدب أحسن وقع لما امتاز به من التعمق في الفن الروائي، وبراعة الوضع، وسلاسة اللغة؛ وهذه الأمثلة تحملنا على أجنحة الأمل وتدفعنا إلى الاعتقاد الجازم بأن القصة ستحل قريباً المحل اللائق بها في الأدب العربي الحديث.
ج المسرحية (الدرامة)
لم تنبت المسرحية العربية الجديدة من أصول محلية، شأنها في ذلك شأن القصة (فهي لم تأخذ شيئاً من المقامة أو القراقوز أو أسرار الدين الشيعي). وقد شاع فن التمثيل بين الطلبة بفضل الحفلات السنوية التي كانت تقيمها المدارس الأوربية، واعتاد المدرسون أن يضعوا بأنفسهم المسرحيات التي يقوم الطلبة بتمثيلها إذ كانوا يختارون موضوعاتها من التوراة أو من التاريخ اليوناني والروماني القديم (الكلاسيك)، وأخيراً من ماضي العرب.
لم يقتص المسيحيون وحدهم على توجيه عبقريتهم نحو هذا النوع، بل اشترك معهم المسلمون. ففي سوريا، كتب إبراهيم الأحدب مسرحيتي (إسكندر المقدوني) و (ابن زيدون(174/55)
الأندلسي)، ووصل فن المسرحيات الهزلية الأخلاقية إلى نتائج جديرة بالثناء منذ أوائل عهد النهضة الأدبية، بفضل التأثير الأوربي، فقد زار الكاتب السوري مارون نقاش (1817 - 1855) إيطاليا عدة مرات، واطلع على مؤلفات موليير ودرس حالة المسرح الإيطالي الجديد. وما إن عاد إلى وطنه حتى شرع في كتابة ثلاث مسرحيات هزلية على أسلوب موليير، وعهد بتمثيلها إلى فرقة من الهواة، وفي اثنتين منهما صور المؤلف الحياة السورية الحالية. أما الثالثة فهي مقتبسة عن (ألف ليلة وليلة)، وقد نالت تلك المسرحيات بعض النجاح، لكن بعد وفاة المؤلف وهو في ريعان الشباب، لم يحاول أحد أن يسير على خطته، اللهم إلا في بعض المسرحيات الهزلية الصغيرة التي وضعها طنوس الحر (عام 1860) فإنها لم تصاف من النجاح إلا القليل.
وبعد مضي عشرين سنة ألف الكاتب السوري أديب إسحاق (1856 - 1885) فرقة تمثيلية صغيرة بمدينة الإسكندرية، وهو شقيق سليم النقاش المتوفى عام 1884، واتجهت الميول وقتئذ شيئاً فشيئاً إلى المأساة شبه الكلاسيكية. وكان أغلب أنصار هذه النزعة من رجال حلقة اليازجي والبستاني.
وأول ما ظهر من المآسي (المروءة والوفاء، لخليل اليازجي (1856 - 1889)، وهي قطعة شعرية مستقاة من حادث معروف في أساطير الأدب الجاهلي. ويعد نجيب حداد (1867 - 1899) من أغزر الكتاب المسرحيين في هذا العهد إنتاجاً، فقد ترك ست عشرة رواية مسرحية، أغلبها منقول بتصرف عن مؤلفات كورني وفيكتور هيجو واسكندر دوماس وشكسبير، لكنه ليس من السهل غالباً العثور على الأصل. وكتب أيضاً بعض تراجيديات من وضعه، وهي لا تختلف عن سابقتها في النوع، نذكر منها (صلاح الدين) و (ثارات العرب). ونالت مسرحيات حداد إعجاب الجمهور إذ ظل يتذوقها ويفضلها على سائر المسرحيات العربية حتى نشوب الحرب العظمى، وإن كان الأوربيون يعتبرونها فطرية وغير متناسقة مع حاجات المسرح.
وحاول الكاتب المصري محمد عثمان جلال (1829 - 1898) أن ينفث روحاً جديدة في المسرحية الهزلية الأخلاقية، وفيما عدا ترجمته لمسرحيات راسين وكورني إلى اللغة العربية الفصحى، عزم هذا الكاتب على تنفيذ فكرة جريئة، هي نقل مؤلفات موليير إلى(174/56)
اللهجة المصرية العامية مع مراعاة الأحوال الأخلاقية المصرية.
لسنا ننكر أن محاولته تدل على مهارة فائقة وعبقرية ناضجة، ولكن اللهجة العامية كانت غريبة على المسرح الذي لم يألفها، ولذا لم تمثل مسرحياته إلا في سنة 1912.
تلك هي أهم البواعث التي يعزى إليها قصور التأليف المسرحي العربي على النوع شبه الكلاسيكي.
لما جاءت سنة 1920 كانت بعض الروايات مترجمة وبعضها موضوعة على طريقة نجيب حداد، الذي كان قد أفسح المجال لعدة مؤلفين قديرين نسجوا على منواله. أما بعد سنة 1920 فقد بدأ عهد جديد للأدب المسرحي في مصر بفضل جهود محمد تيمور الذي تحدثنا عنه في صدر هذا المقال.
كان الفن المسرحي موضع عنايته الخاصة، وطالما كتب عن المسائل الخاصة بنظريات الفن المسرحي وتاريخه، كما أنه وضع عدة منولوجات لإلقائها على المسرح، وقد ترك أربع روايات مسرحية: روايتين هزليتين، ودرامة وأوبريت. أما حوادثها فتجري كلها في مصر الحديثة، عدا الأخيرة فهي مقتبسة عن مصر في عهد المماليك.
ومسرحيات تيمور تمتاز بالروح القوي، وتراه يدب فيها بفضل استعماله اللغة المصرية الدارجة، كما أن صفاتها المسرحية العظيمة جديرة بالتسجيل، ولا شك أنها في مقدمة المسرحيات المعبرة عن الحياة العصرية، وهذا من أقوى البواعث التي يعزى إليها نجاحها.
وفيما عدا هذه المسرحيات، فقد نجح ميخائيل نعيمه في المهجر، وفي وضع مسرحية هزلية أخلاقية، امتازت بما فيها من التحليلات النفسية الأخلاقية الرائعة؛ هي رواية (آباء وأبناء) - 1917 - ووقائعها مأخوذة عن الحياة السورية العصرية، وخصصت المقدمة لمسائل مبدئية، مما يدل على اهتمام المؤلف اهتماماً جدياً بالمشاكل التي يثيرها التأليف المسرحي، ولا ريب في أن هذه الجهود تعد فاتحة خير للفن المسرحي العربي.
والمسرحيات المصرية التي وضعها أنطون يزبك (خصوصاً الذبائح) المكتوبة باللهجة العامية، تدل على تقدم مطرد بالنسبة لسابقاتها. وقبيل عام 1930 حاول الشاعر الكبير احمد شوقي بك أن يعيد إلى التراجيدية شبه الكلاسيكية رونقها وبهاءها، فخلف بعد وفاته عدداً من المسرحيات الشعرية المنقولة عن التاريخ المصري القديم أو تاريخ العرب(174/57)
ونحجت هذه المسرحيات نجاحاً باهراً بفضل تناسق روحها الشعرية الجميلة المكتوبة بأسلوب عربي قديم صحيح (كلاسيك) فجاءت مطابقة لذوق الجيل الحالي، وإن كانت لا تعد تقدماً في تاريخ المسرح العربي.
(يتبع)
ترجمة محمد أمين حسونة(174/58)
إلى الوفد السوري
أيها الظافر المتوج بالنور!
للشاعر (أبو غسان)
أقبل الفجر يا هزار ومَنْ من ... ك ومني بمتعة الفجر أحرى
ما ترى الورد قد تفتح للنو ... ر وقد أوشك الندى أن يفرا
والشحارير قد تيقظن للشد ... ووأيقظن في الخمائل عطرا
والفراشات قد جرين إلى الحق ... ل يفيض النثير عنهن تبرا
وسرت رعشة الحياة إلى الكو ... ن تهز الوجود أنساً وبشرا
موكب من مفاتن وجلال ... هب يستقبل الصباح الأغرا
موكب للجمال، للحق، للحب ... ترف المنى حواليه سكرى
طِرْ بنا يا هزار نلتمس الرو ... ض فقد آن للأسى أن يُسَرَّى
ننفض الصبر والأسار فقد كد ... نا، رعاك الإله، نهلك صبرا
نحن في هدنة الكفاح مع الليل ... وقد يعقب الكفاح الأمَرَّا
فتعجل شذا الصباح فما تد ... ري لعل المساَء يحدث أمرا
كم ترقبت ذا الضياء وقد جن ... (م) عليك الدجى أذىً واكفهرا
وشكوت الظلام يصهر جنبي ... ك عذاباً ويفعم الأرض ذعرا
فاستمع للبشير يا لدة النف ... س يساقط عليك أسعد بشرى
ويضح الأفق بالسناء فتفتر ... (م) الروابي ويرقص الدوح سكرا
ويغني الرواح بالأمل العذ ... ب فتهفو الأرواح لله شكرا
هو فجر الخلود إثر دياج ... غمرت بالفناء عشك دهرا
هو فجر الأحلام منَّ به الله ... (م) على أنفسٍ إلى الفجر حَرَّى
أي بشير السماءِ: ألأرضُ قد ضا ... قت لك الله بالتنظُّر صدرا
هاتها نفحة من النغم العل ... ويّ ترجعْ ذوابل الحلم نضرا
هات ما شئت عن وفادة باريس ... وأحدث مما هنالك ذكرا
هل عنا الخصم بعد كبرٍ وهل آ ... من بالحق بعد كفر وبرا(174/59)
وصراخ الضعيف هل لقي السم ... ع وقد طالما نأى عنه وقرا
وهل القوم أيقنوا أن في الشا ... م أباة لا ترتضي العيش أسرا
قد نماها إلى العلاء أماجي ... د لهم في الزمان أمجد ذكرى
لقنوا الكون برهة مثل العد ... ل وفاقوا الأنام عزماً وفكرا
وأفاضوا على دُنى الغرب بالنو ... ر وكانت، إلا من الجهل قفرا
والأماني يا بشير أحقَّا ... شوهت حسنها الثعالب مكرا
أم أراجيف ذو الضلالة قد دس ... (م) لظاها على الحقيقة كفرا
فأزل باليقين من يدك الري ... ب وأدرك به النفوس فتبرا
قد شرى الشعب بالدماء أماني ... هـ فلا غرو إن غلا الشعب حذرا
ولأنت الحكيم يا قائد الشعب ... وحاشاك أن تُزَلّ وتغرى
إن في وجهك النبيل من العز ... لآيا على جبينك تُقرا
وبكفيك من جراح العوالي ... لخضاب الكمى أحرز نصرا
أو لست الصفيَّ من حرس المجد ... عركت الأيام مداً وجزرا
فيك من قلب (هاشم) حكمة الده ... ر ودنيا من رأس (فارس) أخرى
وبك العبقري من دوحة الصل ... ح يروع النهى جلالاً وسحرا
ومن (السعد) عزمة الليث قد سي ... م اعتسافاً فطبق الجو زأرا
ودهاء ابن (مردم) في السياسا ... تِ ومن ثمَّ كابن (مردم) خبرا
همم تصدع الجبال وتنهد ... لديها معاقل الدهر حسرى
ليس بدعاً أن تسترد إلى الر ... بع سليب الرجاء والحق قسرا
أي بشير انظر الخلائق يكتظ ... (م) بها الرحب كالخضمات زخرا
زحفت من جوانب الأرض تجتا ... ز إليك الدروب سهلاً ووعرا
ترهف السمع ترقب النبأ الأعلى ... وترنو إليك تسأل بشرى
ملت العيش في القيود فما تأ ... لو كفاحاً أو تنزع العيش حرا
راعها الأفك من حضارة أورو ... با تجني على الحضارة وزرا
تحجب المخلب المحدد بالصب ... غ خداعاً وتزعم الخير شرا(174/60)
وستراق الشعوب أمناً وتحر ... يراً وقتل الأرواح بالرق نشرا
فمشت تنشد الحياة لتمحو ... وصمةَ الغرب بالحضارة غرا
تستمد اليقين من شرف الأم ... س وتنضو إلى الغد العزم بكرا
فتوقل بها ذرى المجد تطلع ... في سماء التاريخ ما شئت فخرا
جادلتك الخصوم فيها وما كن ... ت لتعيى وأنت أكرم عذرا
فأقم للخصوم في مقبل العه ... د على قدرها الدليل الأغرا
وأدر دفة السفينة تجنبْ ... عاصفاً يرمق السفينة شزرا
لأرى الأفق قد تلبد بالسح ... ب وقرن الخلاف في الركب ذرا
شرر يستطير في الوطن الباكي ... وخطب يكاد أن يستحرا
فتدارك بالمبضع الداَء في المه ... د وإلا فيا له الله أمرا
واصطلمها فوضى يسعرها الطي ... ش على الحي ذو الحماقة غرا
قد ختمت اليوم الجهاد صغيراً ... وبدأت الجهاد أكبر حرا
إن يك العهد في النضال عسيراً ... إن عهد البناءِ أوفر عسرا
ولأنت المرجو إن حزب الده ... ر وأعظِم (بكتلة) الحزم ذخرا
أيها الظافر المتوج بالنو ... ر تباركت للهداية بدرا
قد مَهَدْتَ السبيل للهدف الأس ... مى ووفيت جهدك العهد برا
فتقبل تحية الساحل الشا ... كر عصماَء صغتها لك شعرا
حرة لم تهم بغيرك عرساً ... وَهْيَ تأبى إلا رضاءك مهرا
حفها بالحياة والروح غرا ... ن بهم أنت والمكارم أدرى
من بقايا سيوف (فيصل) في الشط ... رعى الله عهد (فيصل) ذكرى
المشبين ثورة الجبل السا ... مي دجى الأمس والشدائد تترى
جبناء اللسان في زمن القول ... وأُسد الوغى إذا الهول كرا
وعظيم تحية الوطن المفجوع ... يمناه في مدى الروع تُغرى
يتملى بمقلة فرح الشا ... م وتبكي منه فلسطين أخرى
غرقت بالدماء في الحرم الأ ... قصى وعاثت بها يد اللص غدرا(174/61)
تتلظى حمراء في (جبل النا ... ر) وتهوى بجانب (المهد) كسرى
تسأل الغوث أهلها فإذا الغو ... ثُ من الأهل كالقطيعة نزرا
لكأني بالقوم قد حسبوا لحق ... عطاء والواجب المحض برا
وكأن لم تكن فلسطين للإسلا ... م قلباً وللجزيرة طرا
أيبيت الأحرار في حُفر الأر ... ض ونأوى إلى القصور مقرا!
وتعاني الطوى ويُتخمنا الشب ... ع، ونختال في الحرير وتعرى!
ونصبُّ الأموال في سُبل اللهـ ... وونشكو إذا دعا الجد فقرا!
نوَّر الله يا دمشق محيا ... كِ ولا زلت للعروبة ظئرا
قد شفيت الأخاء نحو فلسطين ... وقاسمتها الأسى مستمرا
فأعدى، وَقد فرغت، لها الجه ... د جديداً وَالعون أعظم قدرا
(اللاذقية)
(أبو غسان)(174/62)
القصص
نومان. . .
- مكانكم!
لويت عنان فرسي نحو مصدر الصوت الآمر، ولكن العثير الذي أثارته
حوافر الشياه حال دون أن أرى شيئاً، وصبرت قليلاً فلاح لي خلال
ذرات التراب الحائرة أربعة أشباح قد اعترضت سبيل الماشية فحالت
دون سيرها، ولما همد الغبار تبينت في الأربعة الأشباح أربعة رجال
قد ضرب كل منهم لثامه على وجهه فلم يبن منه إلا عينان كعيني
الصقر، وتمنطق كل منهم بحزام من الرصاص لمعت ظروفه النحاسية
تحت أشعة الشمس المائلة للمغيب، وسدد كل منهم فوهة بندقيته الكامدة
نحونا، لا يتحرك ولا تطرف عينه.
وانطلق الصوت الآمر مرة أخرى أجش:
- مكانكم قبل الهلاك!. . .
وأدرت رأسي ببطء نحو رفاقي في رحلتي، وكانوا ربعة نفر من جنود الشرطة السورية، فتبينت وجوهاً علاها الاضطراب، ورؤوساً منكسة الأذقان؛ ورأيتهم وكل قد خفض بصره فزعاً، يخالسون الأنظار ويسترقون الرؤية؛ فكدت، أنا موظف الحجز في محكمة (الرقة) أقهقه في الموقف العصيب من أمر هؤلاء النفر، يرتعدون هلعاً وفي كتف كل منهم بندقية كأنما علقت بإشارة ناطقة على الجبن والخور.
وساد صمت قصير لم يقطعه إلا حوافر الخيل تضرب الأرض، وارتفع بعدها الصوت الأجش:
- هذا الطريق إلى (الحان) فدونكموه. . . هيا!
سكت أصحابي ولكني قلت مستفهماً:
- وهذه الماشية المحجوزة؟(174/63)
- هيا. . . الماشية لنا. . .
كان جواباً حاسماً، ولكن رئيس الجنود جمع شتات شجاعته وصاح معترضاً:
- وكيف نتركها لكم؟ هذا لن يكون
وقبل أن يلفظ الحرف الأخير دوى صوت الطلقة التي أطاحت قبعته. . .
- هاه! هيا سيروا، ولا يلتفتن أحد وراءه. . .
وكان أول من لكز حصانه رئيس الجنود وقد ملكه الذعر فأرسل العنان لفرسه لا يلوي على شيء، وأرسلنا الأعنة لخيلنا، نريد أن نبلغ (الحان) قبل المغيب.
لاحت لنا بيوت الشعر من قرية الحان وبين الشمس وبين أن تغيب قليل، وكانت خيولنا تسير ببطء وتثاقل، كأنما تحس بما عليها من عار وخزي، وكان الجنود ساهمين لا ينبس أحدهم ببنت شفة، فكأن الخوف والخجل تكاتفا على إظهارهم بمظهرهم هذا الذليل؛ وسرت خلفهم منعزلاً عنهم أفكر في هذه المهزلة التي أكرهنا على تمثيلها. فلما لاحت لي أطلال (الحان) العتيق تحيط بها بيوت الشعر عنت لي فكرة، فعزمت على أمر.
تلقانا مختار القرية، الذي كنت به وبأهل قريته عارفاً، بخير ما يتلقى المرء، ولما ترجلت انتحيت به ناحية وقلت له:
- أريد نومان
فرفع إلى رأسه ثم ألقى على أصحابه الجنود نظرة أعادها إلي في دهشة وتساؤل، فتبسمت وقلت:
- لا تخش شيئاً، لست أجهل أن نومان طريد الحكومة ولكني أطلبه
فحرك كتفيه باستسلام وقال:
- كما تشاء
ومضى، ولم تكن إلا برهة حتى عاد وأسر إلي: (هو سينتظرك عند الجدار الغربي من الحان)، فيممت المكان الذي ذكر، فلاح لعيني فتى طويل القامة متين البناء، ملق عباءته على رأسه، ومرخ لثامه على وجهه، وفوق منكبيه تنوس ضفيرتان بلون الليل على ثيابه البيضاء، قد اقترن حاجباه فوق اللثام، ولمع مقبض خنجره خلف الحزام؛ ومذ رآني خف إلي مصافحاً فتعانقنا، وبادرته:(174/64)
- هيه يا نومان!
فأجابني صوت صافي النبرات رنان:
- يا لبيك! ما وراءك؟
فأخبرته الخبر وما سينجم عنه، ثم قلت له:
- أنت وما ترى، فلقد طرحت الأمر عن عاتقي
فلمعت الابتسامة خلف اللثام الكثيف، وقال بلهجة الحازم الواثق:
- لعينيك أبا خالد، فسيبلغك خبري. . .
وابتعد عني يتخطى الأطناب متغلغلاً بين البيوت، وعاد بعد يسير معتلياً صهوة فرسه وقد تمنطق بحزامين من الرصاص وبندقيته في يده، فلما بلغ موقفي لكز الجواد وجال على ظهره جولة ثم قذف بالبندقية في الهواء وتلقفها بأصابعه والجواد يعدو، ثم هتف بي:
- إلى اللقاء، فاتنظرني
وأتبعته نظري وقد سار في الطريق الذي جئنا منه حتى حجبه عن عيني الغبار الثائر
تعددت الطلقات تمزق سكون الليل البهيم، فانتبه رفاقي بعد أن أخذ الكرى بمعاقد أجفانهم فهوموا، وأرجف من في مضيف المختار من رجال القرية أسماعهم إلى الأصوات برهة، ثم انصرفوا إلى ما هم فيه من حديث؛ أما المختار فقد نظر إلي نظرة المستفهم، فأجبته بابتسامة الخبث وقد فهمت ما يريد؛ فهز رأسه وتمتم بكلمات غير مفهومة. وكانت أصوات البنادق لا تزال تلعلع حيناً بعد حين، آناً متفرقة وطوراً متوالية متقاطعة؛ وبعد هنيهة سكت كل شيء، فوجب قلبي وتوجست خوفاً من هذا السكون، وقد حدثتني النفس بمصاب نومان، غير أني طردت أفكار السوء وخرجت من المضيف.
كان ليل البادية زاهياً، نجومه الوضيئة المنتثرة في نواحي السماء الزرقاء، ونسيم أول الربيع البليل يعبث بأروقة البيوت وكواسرها، وعواء الكلاب يتردد في أطراف المنازل تارة وينقطع أخرى، ولاح لي (الحان) كشبح جبار أسود حاثم في الفلاة المترامية الأطراف، فوضعته نصب عيني وأصخت بسمعي إلى الطبيعة الساكنة.
كم هي رهيبة هذه القناطر المعقودة والأقواس المتتالية في ردهات (الحان) العتيق!
كم هي مهيبة هذه الأعمدة المتوازية التي تملأ أبهاءه مشققة السطوح مهشمة الرؤوس! وهذه(174/65)
الجدران التي لم يذهب من حجارتها، على كر القرون والعصور، إلا ما أخذ أثافي للقدور وأركاناً للمواقد! لقد جلت في قاعات هذا القصر القديم ونظرت خلال خروق السقوف من غرفة إلى الكواكب الزاهرة، ثم رقيت الجدار وأرسلت بصري يجوب أنحاء البادية، ولكن عيني لم تقع إلا على فلاة موحشة سوداء ونجوم تليها نجوم لا يبلغها حصر، ويعيا عن عدها الفكر.
وانتابتني الهواجس مرة أخرى، ولكن الغبار القاتم الذي ثار عند مد البصر قشع غيومها؛ فقد ميز سمعي في هدأة الليل وقع حوافر الشياه على رمال الطريق فانجابت عني الشكوك وملأ قلبي الفرح وقد تبينت صوت نومان يحث الشياه على المسير.
ونبحت الكلاب هذا الفوج من الطارقين فأوقدت النيران وحمل كل قبساً ليتبين هذه الغبرة الغريبة، قلما اقترب القادمون رأيت على ضوء المشاعل منظراً يملأ الصدور حبوراً ويثير العواطف والشعور: قطيع من الغنم يتلوه أربعة رجال مشمرو المآزر ملثمو الوجوه، قد كتفت أيديهم مكن خلاف وعلقت بنادقهم في الأعناق، يسوقهم سوق الماشية فتى متين الهيكل، شديد الأسر، ملطخ الثياب بالدماء القانية، قد اعتلى صهوة جوادٍ أشقر، تنوس على كتفيه ذؤابتان طويلتان كلما حرك رأسه ليرد تحية محي.
فقزت عن الجدار وعدوت أشق الجموع إلى نومان هاتفاً
- المذبَّة المذبَّة أبا صخر!
- أبشر أتاك الخير. . .
ومد ذراعيه فاعتنقته.
كان لهيب النار الموقدة في ساحة (الحانة الكبرى) يتلوى كرؤوس الثعابين فترقص له الظلال على الأقواس الرهيبة والأعمدة المرمرية الهائلة، وكان نومان قائماً في وسط الساحة معتمداً على بندقيته ينظر إلى أسراه نظر الصقر إلى الفريسة، كرمز للبطولة والنبل.
رفع البطل رأسه ثم أداره ببطء على الحاضرين ثم قال:
لقد اجترأ هؤلاء فقطعوا الطريق على فلان وصحبته، فأشهدكن أنه حر في حكمه عليهم. . . أعندك ما تقول يا أبا خالد؟(174/66)
- لا، غير الشكر الذي أعجز عن وصفه.
فأطرق قليلاً ثم قال:
- لقد وفيت بما وعدت، وحكمتك فحكمني
فقلت له:
- إنما أنا رهن إشارتك، وحكمك نافذ. فمر تطع
- أسراي أطلقهم
. . . وبين زغاريد النساء وهتاف الرجال فك نومان وثاق الأسرى، وسار إلى الباب رافع الرأس، بقدم ثابتة وخطى جبارة.
(حلب)
(ع)(174/67)
البريد الأدبي
نقل تراث الأندلس من الاسكوريال
في الأنباء الأخيرة عن الحرب الأهلية الأسبانية أن حكومة مدريد قد نقلت على جناح السرعة جميع التحف الفنية والكتب الخطية من دير الاسكوريال إلى مدريد خوفاً عليها من التلف الذي تتعرض إليه من جراء الحرائق والقنابل، ونحن نعرف أن قوات الثوار تحدق الآن بمدريد وأنها على قيد مسافة قليلة من ضاحية الاسكوريال، وقد وقعت أخيراً حول الاسكوريال عدة معارك طاحنة. وفي تصرف حكومة مدريد ما يعدو إلى الثناء خصوصاً إذا علمنا أن بين هذه التحف الفنية التي نقلت إلى مدريد مجموعة الكتب الأندلسية التي كانت محفوظة بالاسكوريال؛ ويبلغ عدد هذه المخطوطات النفيسة التي هي آخر بقية من تراث الأندلس الفكري نحو ألف وتسعمائة مجلد؛ بيد أن نقلها إلى مدريد لا يبعد عنها كل الأخطار المحتملة، ذلك لأن مدريد أصبحت محصورة بالقوات الثائرة من كل ناحية، وقد لا تمضي أيام قلائل حتى تسقط في يد الثوار، وعندئذ يعلم الله وحده ما يصيب المدينة وكل ما فيها من ألوان التخريب، غير أن هنالك من جهة أخرى ما يحمل على الاعتقاد بأن حكومة مدريد تغنى بنقل جميع هذه التحف الفنية إلى مكان أمين بعيد عن العاصمة، وربما نقلت إلى برشلونة حصن الحكومة الديموقراطية وملاذها بعد مدريد، وهي أبعد ما يكون عن الخطر. فإذا صح ذلك كان باعثاً إلى نوع من الاطمئنان على هذا التراث النفيس الذي يزعجنا اليوم مصيره، والذي نوهت (الرسالة) غير مرة بما يتهدده من الأخطار، وما يجب على الأمم الإسلامية والعربية في شأن الدعوة إلى حمايته وصونه.
ترجمة للفيلسوف مندلسون
صدرت ترجمة جديدة جامعة للفيلسوف الألماني اليهودي الأشهر موسى مندلسون بقلم الكاتب الألماني أوتو تسارك وقد ظهر الكتاب في امستردام (هولانده) لأن الكتب المتعلقة بالتاريخ اليهودي أو الفلسفة اليهودية لا يسمح الآن بنشرها في ألمانيا، وعنوانه (ترجمة مندلسون) وفيه يستعرض الكاتب حياة هذا الفيلسوف منذ مولده في سنة 1729 في دساو، وهي نفس السنة التي ولد فيها الشاعر لسنج صديقه الحميم فيما بعد. وقد اشتغل مندلسون بادئ بدء كاتباً في محل تجاري، كما اشتغل الفيلسوف موسى بن ميمون بتجارة(174/68)
السمك، والفيلسوف اسبينوزا بصقل الزجاج؛ وفي سنة 1754 تعرف بالشاعر لسنج وتوثقت بينهما أواصر صداقة أدبية متينة، وأصدرا معاً كتاباً عنوانه (بوب المشتغل بما وراء الطبيعة)، ونشر له لسنج بعد ذلك (محادثاته الفلسفية) غفلاً من اسمه، لأن العصر لم يكن يسمح بالتوسع في المسائل الفلسفية العميقة؛ وأصدر لسنج بعد ذلك كتابه (ناتان الحكيم) واتخذ مندلسون بطلاً لقصته. ولكن مندلسون بلغ ذروة القوة والابتكار حين أصدر كتابه (فيدون) في سنة 1767؛ ويعتبر كتاب مندلسون بداية عصر جديد في الأدب الألماني الصحيح لأنه يحمل فيه على الحركة الأدبية المتأثرة بنفوذ الأدب الفرنسي ونفوذ فولتير، ويحمل كذلك على فردريك الأكبر لأنه شجع هذه الحركة؛ ولم يغضب فردريك الأكبر لهذه الحملة بل بالعكس سر لها وطلب مندلسون لرؤيته؛ ولمندلسون نظرية في الجنسية اليهودية خلاصتها أن يندمج يهود كل أمة في جنسية هذه الأمة اندماجاً تاماً، وإلا يجعلوا لأنفسهم من اليهودية نفسها جنسية خاصة، ولكن المتعصبين لم يقبلوا نظريته، وأصروا دائماً على اتخاذ اليهودية ذاتها جنساً وديناً؛ وقد كان لمندلسون تأثير عظيم في توجيه الأدب الألماني الحديث.
وموسى مندلسون هو جد الموسيقي العظيم فيلكس مندلسون الذي ولد في سنة 1809 وتوفي في سنة 1847
وتعتبر هذه الترجمة الجديدة من أقوى التراجم التي صدرت عن مندلسون، وقد اشتهر مؤلفها اوتو سارك من قبل بترجمته لكوسوت بطل المجر القومي.
الوطنية واستعباد الفكر
خطب الدكتور جبلز وزير الدعاية الألمانية في معرض الكتب في مدينة فيمار، فأشار إلى مركز الكاتب بالأمس ومركزه اليوم في ألمانيا النازية، وشبه الكاتب بالجندي الذي لا يصح له أن يطلق الرصاص إلا متى أمر وحيث أمر، فكذلك الكاتب يجب أن يكون جندياً من جنود الوطن لا يكتب إلا فيما اتفق مع مثل الوطن وغاياته؛ ويجب أن تحد حرية القلم بالحدود التي يتطلبها الوطن وألا يتخذ الكاتب من (فرديته) وحريته الفكرية سبيلاً إلى التصريح بما يخرج عن المثل القومية. والدكتور جبلز هو أوفر العصبة النازية ثقافة، وربما كان أشدهم شعوراً بما انتهت إليه الحركة الفكرية والثقافية في ألمانيا النازية من(174/69)
التدهور، ولذا نراه ينتهز كل فرصة للدفاع عن السياسة النازية في تصفية الذهن والقلم؛ بيد أن الدكتور جبلز يدافع عن قضية لا يمكن الدفاع عنها؛ فالفردية وحرية الفكر هما أساس المدنية؛ والفردية معناها الكرامة الإنسانية، وحرية الرأي هي أسمى ما يتمتع به الفرد في أمة متمدنة، ويكفي أن تعرف أن الصحافة الألمانية انتهت في عهد النازي، وبفضل القوانين الحديدية التي يسهر على تنفيذها الدكتور جبلز إلى حالة تدعو إلى الرثاء، وقد اختفت الصحف الكبرى الصحافة الألمانية، وأضحى الألماني يرغب عن قراءة الصحف الألمانية، ويؤثر قراءة الصحف الأجنبية، ولم تظهر في الأعوام الثلاثة الأخيرة عبقرية فنية ذات شأن أو أي إنتاج أدبي يلفت النظر، ولا يمكن أن تظهر في ظل هذا النظام الحديدي الذي يجعل من القلم أداة مصفدة توجهها السلطات حيث شاءت. ومما يدعو إلى التأمل أن الدكتور جبلز يلقي خطابه في استعباد حرية الذهن في فيمار حيثما سطعت أعظم عبقرية أدبية ألمانية في ظل الحرية ونعني جيته.
كتاب عن روبرت والبول
روبرت والبول من أعظم ساسة إنكلترا وساسة العصر الحديث؛ ويعتبر هو الواضع للأساليب السياسية المحافظة التي مازالت إلى اليوم توجه السياسة الإنكليزية.
وقد صدرت أخيراً ترجمة مطولة لهذا السياسي الكبير في ثلاثة أجزاء بقلم الكاتب الإنكليزي ف. س. أوليفر الذي توفي قبل تمام ظهر كتابه، بعنوان (المغامرة اللانهائية) ومستر أوليفر ليس من الكتاب المحترفين، ولكنه كاتب هاو، وقد كان تاجراً كبيراً، ولكنه اشتهر حينما أصدر كتابه عن (اللورد هاملتون) السياسي الكبير، وظهرت مقدرته في الوصف والتحليل في كتابة التراجم.
ويعرض مستر اوليفر حياة روبرت والبول في إفاضة، ويصف الأساليب السياسية في القرن الثامن عشر في العصر الذي ملك فيه والبول زمامها (أوائل القرن الثامن عشر)؛ ويدلل على أن هذه الأساليب كانت تقوم على نوع من الطغيان السياسي الذي يسود اليوم بعض الدول العظمى؛ ويقص علينا خلال ذلك حوادث هذا العصر السياسية.
ويرى مستر أوليفر أن أعظم فارق بين السياسة في ذلك العصر وبين السياسة في عصرنا هو في مقدار القوى التي يجب على السياسي العظيم أن يسيرها؛ ففي القرن الثامن عشر(174/70)
كان عليه أن يقود زمام جماعة من الملاك، وملك، وملكة، وبعض الحظايا؛ ولكن عليه اليوم أن يقود زمام ملايين الناخبين، وزمام صحافة غدت في عصرنا قوة هائلة تختلف نزعاتها ومصالحها.
مدرسة للفن المسرحي
أنشأت الحكومة النمسوية أخيراً مدرسة فنية من نوع خاص هي (مدرسة أساتذة الفن المسرحي)؛ وتعنى هذه المدرسة الجديدة التي ألحقت بأكاديمية الفنون الجميلة، بتعليم كل ما يتعلق بتنظيم المناظر المسرحية وزخرفة المسرح والإخراج المسرحي، وانتدب للتعليم فيها أشهر أساتذة هذا الفن من الأخصائيين في الزخارف وتنظيم الثياب والإخراج وغيرها. ومدة التعليم فيها سنتان؛ ويدخلها الطلبة بعد جواز امتحان فني يثبت أهليتهم لتلقي الشؤون المسرحية؛ والتعليم علمي وعملي بحيث يقضي الطلبة نصف اليوم في تلقي الدروس النظرية، ثم يقضون باقي اليوم في نفس المسارح لتلقي التجارب العملية. وتمنح للطلبة الفائزين بعد عامين (دبلوم فنية) للعمل في المسارح كأساتذة للإخراج الفني.
ذكريات صحفي شهير
صدر أخيراً بالفرنسية كتاب للصحفي الشهير لوسيان كوربشيه عنوانه (ذكريات صحفي) ` في مجلدين كبيرين؛ وقد كان كوربشيه من أعظم صحافيي ما قبل الحرب، يكتب في أشهر الصحف الباريزية، وكانت له علائق أدبية وثيقة بأعاظم كتاب العصر ولا سيما الكاتب اللوريني الأشهر موريس باريس. ويتناول الجزء الأول منه ذكريات كوربشيه أحوال باريس ومجتمعاتها قبل الحرب، وهو بهذه الصفة وثيقة تاريخية ثقافية لها قيمتها؛ ويتناول الجزء الثاني حياة كاتبين عظيمين هما موريس باريس وبول بورجيه، وقد كان باريس يتولى زعامة فرنسا الأدبية في بعض المناحي ولاسيما الكتابة السياسية الوطنية، وكان بورجيه يتولى الزعامة الأدبية في عالم النقد والتحليل النفسي؛ وقد استطاع كوربشيه أن يقدم لنا صوراً حية قوية من هذين الكاتبين، ومن الآثار العميقة التي أحدثاها في جيل عصرهما الأدبي والثقافي؛ ويبدي كوربشيه فوق ذلك حبه وإعجابه العميق لهما. ويعتبر كتاب كوربشيه نداء للشباب والجيل الجديد يذكره بالقديم وما كان فيه من عظمة تفي(174/71)
التفكير، وارتفاع عن مناحي الأدب المنحل الذي يغمر كل شيء في عصرنا.
ذكرى الموسيقي لست
احتفل أخيراً في فينا بذكرى الموسيقي الشهير فرانز لست لمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاته؛ وهذا الاحتفال هو صدى احتفالات قومية عديدة أقيمت في بودابست احتفاء بهذه الذكرى لأن لست مجري المولد والجنس، ولكنه درس في فينا، وفيها بزغ مجده، وكان مولده في سنة 1811 ووفاته سنة 1886؛ وبرع لست في العزف على البيانو وفي التصنيف الموسيقي، وله بالأخص قطع كنسية رائعة؛ وطاف بباريس ولندن ومعظم عواصم القارة وخلب الألباب بافتنانه وسحره، وكتب عن رحلته كتاباً سماه (أعوام الحج)، وله مصنفات موسيقية في المقام الأول.
وقد أهدت الحكومة المجرية بهذه المناسبة إلى مدينة فينا لوحة تذكارية عن لست؛ واحتفلت الحكومة بوضعها في دير (شوتنهوف) في احتفال رسمي فخم شهده وفد عن الحكومة المجرية، وشهده جمع كبير من الوزراء وأقطاب الفن؛ وألقيت خطب عديدة عن حياة لست وعن عبقريته الفنية؛ وعزفت قطع من تصنيفه ونوه الفريقان بالدور العظيم التي تقوم به ذكرى لست في توثيق الروابط الثقافية والفنية بين الشعبين المجري والنمسوي
دوهامل ومستقبل الكتب
يكتب الآن مسيو جورج دوهامل عضو الأكاديمية الفرنسية في مجلة (مركير) الشهيرة عدة مقالات عن مستقبل الكتب، وما يهددها من أخطار عظيمة من جراء السينما والراديو وغيرهما من الوسائل المصطنعة لنشر الثقافة السطحية؛ وقد كان مسيو الفريد فاليت يكتب في مجلة (مركير) في نفس الموضوع قبل جورج دوهامل؛ ويلاحظ مسيو دوهامل في مقالاته القوية الممتعة أن هذا العصر الذي يهدد فيه مصير الكتب بأشد الأخطار، هو العصر الذي اشتدت فيه حاجة الإنسان إلى (الكتاب) الجيد، وينعى على الحركة الأدبية المعاصرة ما تبديه من الميل إلى جعل الأدب سلعة تجارية وجعله آلياً وتجريده من كل عناصره المعنوية، وذلك طبقاً لأساليب تجعل من الذهن سلعة تجارية منحطة. ويزمع مسيو دوهامل أن يجمع هذه المقالات في كتاب خاص تنتظره الدوائر الأدبية بفارغ الصبر.(174/72)
وفاة علامة أثري
نعت أنباء فينا الأخيرة العلامة الأثري الدكتور ولهلم كوبتشك توفي في التاسعة والسبعين من عمره، وكان مولده بمدينة برسبورج؛ ودرس التاريخ القديم واللغات القديمة في فينا وبرلين، واشتغل منذ شبابه بالتدريس في جامعة فينا، ثم عين بعد ذلك أميناً لمتحف النقود والمداليات القديمة، وأستاذاً للتاريخ الروماني في جامعة فينا.
وقد اشتهر الأستاذ كوبتشك بمباحثه في مسائل التاريخ، القديم ولاسيما التاريخ الروماني وقراءة النصوص والآثار القديمة وفحص النقود والمداليات القديمة واستقراء التواريخ والحوادث فيه؛ واشتهر أيضاً بمباحثه في الجغرافيا الرومانية القديمة
خريدة القصر للأصبهاني والذخيرة للإمام القرافي
ذكرنا في العدد 168 من (الرسالة) أن الجمعية الآسيوية البنجالية عثرت على جزء من كتاب (خريدة القصر) للأصبهاني، وأنه عثر على نسخة من كتاب الذخيرة للإمام القرافي في مكتبة الأزهر. وقد جاءنا من أمين مكتبة كلية القرويين بفاس ما يأتي:
يوجد بخزانة كلية القرويين العامة بمدينة فاس تحت نمرة (البرنامج الجديد) ل 576 جزءان من كتاب خريدة القصر وجريدة العصر للإمام أبي عبد الله محمد بن محمد الكاتب عماد الدين الاصبهاني المتوفى سنة 597هـ موافق 1200م وهما الجزء الخامس والسادس من النسخة. أول الخامس (قافية العين من شعر القاضي أبي بكر الأرجاني في مدح الوزير جمال الدين أبي علي وزير المسترشد بالله، وفي آخره آخر القسم الثاني من كتاب خريدة القصر وجريدة العصر يتلوه القسم الثالث في ذكر محاسن شعراء الشام في الجزء السادس، وينتهي هذا الجزء السادس بقوله: تم الجزء السادس ويتلوه الجزء السابع وهو الثاني من القسم الثالث الأمراء الكنانيون من شيراز، وهما جزءان ضخمان كتبا بخط جميل أندلسي في كاغد متين خاليين من كل طرة فاقدين اسم الناسخ وتاريخ النسخ إلا أن إمارات القدم تلوح عليهما، وقد كانا مملوكين لجناب أمير المؤمنين المنصور الذهبي السعدي المتوفى سنة 1012هـ موافق 1785م بآخر أحدهما ما نصه: برسم خزانة مولانا أمير المؤمنين الخليفة المجاهد أبي العباس المنصور بن مولاه أمير المؤمنين الخليفة(174/73)
المجاهد أبي عبد الله محمد الشيخ. وعلى الجزءين معاً وقف هذين الجزءين على خزانة كلية القرويين العامرة، على التحبيس خط يد السلطان المنصور الذهبي السعدي سنة 1012هـ موافق 1782م.
ويوجد أيضاً منه قطعة أخرى مبتورة الأول والآخر كانت مجهولة فأعملت المجهود لكشف عنها فوجدتها من جريدة القصر ونظمت تحت عدد ل 604.
كذلك توجد الذخيرة على مذهب إمام دار الهجرة للعلامة الشهير الإمام القرافي شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس المالكي مذهباً المتوفى سنة 684هـ 1282م تحت نمرة ل 354 غير تامة. الموجود منه الآن تحت النظام ثلاثة أجزاء ضخام جداً، وأصل هاته النسخة من ثمانية أجزاء بدليل ما رقم على الجزء الثامن منها ونصه: (السفر الثامن من كتاب الذخيرة على مذهب إمام دار الهجرة النبوية وفيه من الأبواب الفقهية كتاب أمهات الأولاد، كتاب الجنايات، كتاب موجبات الضمان، كتاب الفرايض والمواريث، كتاب الجامع. فلا شك أن هذا هو الجزء الأخير، وعندنا الجزء السادس وفيه من الأبواب الفقهية كتاب الحبس والوصية والشفعة والشركة. وبآخره: كمل الجزء السادس من الذخيرة بحمد الله وحسن عونه يتلوه في السابع إن شاء الله كتاب الرهون.
وعندنا جزء آخر كتب عليه أنه الخامس من كتاب الذخيرة وعند الفحص لوضع البرنامج الجديد تبين أنه جزء مختلط إذ أوله في الجنايات والمواريث وآخره في العتق والكتابة، وبآخره: تم السفر الخامس من كتاب الذخيرة على يد عبد الملك بن محمد بن عبد الملك الحضرمي سنة 727هـ ويظهر أن هذا غلط من الناسخ حيث ضم أول الثامن مع آخر الخامس وجعلهما سفراً واحداً. أما الأولان أعني السادس والثامن فسالمان. أجزاء ثلاثة ضخام جداً في أوراق متينة مكتوبة بالسواك بخط أندلسي جميل خاليين من اسم الواقف.
محمد العربي(174/74)
الكتب
كتاب البلاغة العالية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
130 صفحة من القطع الكبير، طبع المطبعة السلفية، ثمنه
خمسة قروش
يمتاز الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي المدرس في كلية اللغة العربية، بحرية الرأي وحب التجديد، والمثابرة على البحث والتأليف، فهو لا يفتأ الفينة بعد الفينة يدبج الرسائل الضافية، والكتب العالية التي تنم عن علم غزير، وأدب وفير، وفكر دقيق لاقف، وهن رهيف خاطف
وقد أخرج للناس في هذه الأيام الجزء الأول من كتابه البلاغة العالية، وهو خاص بعلم المعاني. وأهم ميزة لهذا الكتاب أنه خالف الترتيب المعهود من عهد السكاكي والخطيب، إلى ترتيب آخر جديد، فزاد في علم المعاني فصولاً وحذف منه فصولاً، واجتهد في مسائله برأيه الذي يحرص الحرص كله على إظهاره في كل ما تخطه براعته.
وهناك ميزة ثانية لا تقل عن هذه الميزة أهمية، وهي أنه أزاح طائفة كبيرة من المسائل النحوية التي أقحمها الأقدمون في البلاغة إقحاماً عابثاً، كما ذكروا في أحوال التعريف بالإضمار أنه يكون لأن المقام للتكلم أو للخطاب أو للغيبة، وكإرغائهم وإزبادهم في تقسيم القصر باعتبار المقصور إلى قصر موصوف على صفة وقصر صفة على موصوف، وباعتبار حال المخاطب به إلى قصر أفراد وقصر قلب وقصر تعيين، إلى غير ذلك من المباحث النحوية التي طفحت بها كتب البلاغة وهي أبعد ما تكون عنها. وقد صنع الأستاذ المؤلف خيراً بإزاحته تلك الأعباء النحوية عن كاهل البلاغة، وجعلها خالصة لمعانيها الخاصة بها.
وإنا نشكر للأستاذ إتحافه طلاب البلاغة بهذا الكتاب الذي جرد فيه العناية وأظهر الكفاية حتى استحصفت وثائقه، واستحصدت علائقه، وغدا حريا - من أجله - بأن يوشح حلل المجد والثناء، حجياً بأن يطوق قلائد الشكر والدعاء.(174/75)
س. ص
ديوان السري الرفاء
طبعته مكتبة القدسي بباب الخلق
السري شاعر من شعراء سيف الدولة كان في صباه يرفو الثياب ويطرزها ثم تولع بالأدب ونظم الشعر وتفنن في التشبيهات والأوصاف فأحسن في كثير منها، وشعره نمط سهل يتحدر عن طبع صاف كما يجري الماء من الينبوع وليس وراءه العلم والفلسفة ولكن وراءه النفس والطبيعة.
وقد قال فيه الإمام أبو هلال العسكري صاحب كتاب الصناعتين: ليس فيمن تأخر من الشاميين أصفى ألفاظاً مع الجزالة والسهولة وألزم لعمود الشعر منه. ويريد أبو هلال بلزوم عمود الشعر تجنب الغموض في تركيب النظم والبعد من تدقيق المعاني تدقيقاً فلسفياً، وذلك رأي كان قديماً في النقد يفرقون بين الشاعر الذي يصنع شعره صناعة عقلية دقيقة وبين المطبوع الذي يرسل شعره في جمال سبكه وصفاء لغته وإشراق معانيه كما يرسل الطائر المتغرد لحنه في التغريد.
وشعر الطبع من أحسن ما يفيد الناشئين في نهضتنا هذه فإنه صقل وجلاء وتصحيح للطريقة وتهيئته للسمو في هذه الصناعة، وديوان السري قوي الأثر في ذلك؛ وهل في الغزل أصفى وأرق وأجمل من مثل قوله:
بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحية السلام
ويلقاني بعزة مستطيل ... وألقاه بذلة مستهام
وحتفي كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حد الحسام
وله في شكوى الدهر:
يرتد عنه جريحاً من يُسالمه ... فكيف يسلم منه من يحاربه؟
ولو أمنت الذي تجنى أراقمه ... علي، هان الذي تجنى عقاربه
الإسلام في بولونيا
تأليف علي فورونوفتش ومحمد سيد الحموي(174/76)
بلقم الأديب محمود البدوي
رسالة صغير في أربع وستين صفحة من القطع المتوسط طبعت بمطبعة الاعتماد على ورق جيد ومحلاة بكثير من اللوحات والخرائط وصور كبار رجال الإسلام في بولونيا وبعض الفرق الإسلامية والأندية والمساجد هناك. . . وتقرأ فيها كيف نشأ الإسلام في بولونيا وامتد وتشعب واضطهد من الروس وثار عليهم وتحرر وثبتت دعائمه بعد أن استقلت بولونيا حتى غدا الآن عصره الذهبي.
والرسالة في إيجازها تشبه المختصرات التي تلقى على تلاميذ المدارس. وأسلوبها سهل بسيط يفهمه كل قارئ، يود أن يقف على حال المسلمين في تلك البلاد.
وليقرأ معنا القارئ الكريم:
(يبلغ عدد المسلمين في بولونيا 12000 نفس وليس هذا العدد بالقليل إذا نحن وازنا بينه وبين عدد المسلمين في دول غرب وشمال أوربا، وحالتهم المعيشية على جانب عظيم من التحسن، وهذا التحسن آخذ في الزيادة لاهتمام الدولة بهم ومحافظتها على مصالحهم الدينية؛ وهم يعترفون بفضل الحكومة القائمة وكرمها، ويعتبرون هذه الأيام العصر الذهبي للإسلام في تلك البلاد، وهم ينعمون في بحبوحة من العيش وقد توطدت صلاتهم بالخارج وزادت معارفهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية وسافر بعضهم لطلب العلم في الخارج وخصوصاً العلوم الدينية وحج بيت الله الحرام وزيارة الأماكن المقدسة.
وحيد
تأليف الأستاذ حسين عفيف المحامي
قصة تمثيلية طريفة في 191 صفحة من القطع الصغير طبعت بمطبعة حجازي بالقاهرة على ورق جيد. وهي في أربعة فصول طوال وحوارها شائق وأسلوبها متماسك وخيال مؤلفها فياض يروق القارئ المصري. وبطلها وحيد شاعر موسيقي فنان يعيش في كوخ في الجبل، مرت عليه سميرة إحدى بنات الباشوات فأحبها الشاعر وأحبته من أول نظرة. . . وجاءته في اليوم الثاني يدفعها وجدها وحبها ودار بينهما حديث غرامي طويل انتهى إلى عناق أطول. . وافترقا على وعد بلقاء قريب. . . ومرضت سميرة في اليوم التالي(174/77)
وأرسلت أختها (ألفت) ومعها رسالة رقيقة إلى وحيد فأعجب الشاعر بجمالها وأحبها وأحبته وضمهما عناق. . . وعلمت سميرة بخيانة ألفت وحب وحيد الجديد فكسر قلبها، ومرضت وماتت. . .!! ولحقت بها ألفت ومات بعدهما وحيد وهو يقول:
(هأنذا الآن أقضي ومن قبل قضت سميرة، غداً يلتقي الخلان ويعودون كما كانوا إلى الصفاء بعد أن لم يبق ثمت للعداوة موجب.
والقصة كما قلت خيالية ممتعة وسيعجب بها القارئ كثيراً.(174/78)
العدد 175 - بتاريخ: 09 - 11 - 1936(/)
من ذكريات بغداد
الحلقة. . .
ذلك اسم كان يطلقه الزعيم (ياسين) على ستة من الإخوان جمعهم تشابه الذوق، وألف بينهم تجانس الهوى، فتساهموا الصفاء، وتقاسموا المودة، وخلطوا حياتهم بحياة بعض، فما كانوا يفترقون الصائل الأيام ولا عشايا الليالي. كانوا يتخذون سامرهم كل ليلة في دار أحدهم، فيتحلقون على مائدة الشاي السخية، أو يتقابلون أمام المدفأة الواهجة، ثم يديرون بينهم سقاط الحديث على أروع ما تشققه الأذهان الخصيبة من براعة الفكرة وملاحة النكتة وطلاوة الخبر وسلامة النقد وصحة الحكم، فلا يدعون شأناً من شؤون الحياة، ولا وجهاً من وجوه السياسة، ولا أمراً من أمور البلد، إلا تناولوه باللسان المرهف والفؤاد اليقظ والنظر المستقل؛ فهم معارضون ولا لسان لهم في حزب، ومصلحون ولا يد لهم في زعامة.
كانوا يمثلون نواحي النشاط الفكري في العراق أصل التمثيل؛ ففيهم رجل الجيش، ورجل التعليم، ورجل القانون، ورجل الطب، ورجل الشعب؛ ذلك إلى امتياز كل منهم بسمة من سمات الطبع وصفة من صفات الخلق، فطه الهاشمي عذب الروح، سرى الأخلاق، وقور النفس، مصروف الهم إلى القراءة المنتجة والتأليف المحكم فيما يتصل بالتاريخ والحرب، ولو ترك إلى نفسه لما خرج من مكتبته ولا قام عن مكتبه؛ وناجي الأصيل نبيل العاطفة، حلو الفكاهة، سمح المقادة، أفلاطوني النزعة، يعيش في السماء ويحلم دائماً بالمدينة الفاضلة؛ ويوسف عز الدين متئد اللسان، حصين الصدر، سريع الفطنة، يتبسط في هزل الكلام ويتحوط في جده، وهو لا ينفك لإخوانه موضع السر ومرجع المشورة؛ وكامل الجاردجي متوقد الذكاء، متمرد الطبع، متوثب العزيمة، دائب الحركة، صليب الرأي، يدين بالديمقراطية، ويميل إلى الاشتراكية، ويرفرف بجناحيه على الفلاح والعامل والعاطل؛ وموفق الآلوسي طموح القلب، سريع البادرة، بارز الشخصية، يعتد برأيه إلى حد العناد، ويعتز بنفسه إلى حد المخاطرة؛ وشوكت الزهاوي واسع البال، ضيق الأفق، قد قصر جهده على عمله فلا يكاد يطمح في شيء، ولا يشارك في رأي، ولا يحفل بحادث؛ وأولئك كانوا لما اجتمع لهم من ضروب الثقافة وشتى الخلال صورة مصغرة للأمة، يعيشون منعزلين وهم فيها، ويفكرون مستقلين وهم منها، كأنهم كانوا لآمالها رموزا تتميز تميز العنوان،(175/1)
وتنفرد انفراد العلم. كانوا جميعاً في ربقة الحكومة إلا كاملاً، فكان للجماعة الكلمة الحرة والفكرة الطليقة. وقف على السياسة الصريحة قواه، وأيقظ لأطوارها المختلفة رأيه، فكان يناصر الحزب ما دام معارضا، فإذا قبل الحكم تركه إلى غيره، حتى انفرد ذات يوم بالمعارضة. كان اليد اليمنى لياسين في حزب الإخاء الوطني، وياسين أمل البلاد المرجو وزعيمها المنتظر، فلما رآه يقصد الحكم عن طريق الملاينة والمسايرة خالفه ومعه مقاعد البرلمان ووظائف الديون ومزايا السلطة، وخرج مغاضباً إلى الجهاد بالنفس والمال، فزاول المحاماة، وعالج الصحافة، ولقي في سبيل الله ما يلقى المعارضون المتزمتون من الضيق والعنت.
كان لي في هذه (الحلقة) كرسي وثير دائم، يحيطه الإخوان بالعطف ويخصونه بالكرامة؛ وكنت أجد في نفسي من الأنس بهم والطمأنينة إليهم ما لا أجده لجماعة أخرى، فكنت أناقلهم شجون الحديث فأعلم منهم ما لا أقرأ في الصحف ولا أسمع من الناس ولا أرى في الحكومة. كانوا يحملون في نفوسهم آمال العراق الناشئ، وفي رؤوسهم ثورة الشباب الجديد: سياستهم الجماعة قبل الفرد، والعامة قبل الخاصة، والعراق قبل العروبة. ولكن آراءهم كانت في رأيي أشبه بأحلام الفلاسفة تحت رواق المعبد؛ لأنك إذا استثنيت كاملا لا تجد فيهم من يفكر في انقلاب أو يجهر بمعارضة.
تركت العراق وفيصل ونوري وجعفر قد مكنوا لدولته بالمرونة اللبقة والسياسة التجارية التي تعطى لتأخذ؛ وكان شباب البلاد قد سئموا سياسة الأمر الواقع وبرموا بالإدارة المطلقة، فتمنوا حكومة زعيمهم المحبوب ياسين؛ وتسلم ياسين مقاليد الأمور، وانضوى إليه رفيقاه، وآل إليهم سلطان البلاط بالفعل، ونفوذ (دار الاعتماد) بالقانون؛ وسارت السفينة آمنة - كما يرى البعيد - من الألغام والصخور، ثم تفرقت السبل بعدئذ برجال الحلقة.
طخ! طخ! طخ! ثلاث قنابل ألقتها ثلاث طوائر على سراي الحكومة! فروعت الموظفين وأفزعت الآهلين، فأخلوا السراي وأغلقوا المدينة! ماذا؟ الجيش الثائر يحاصر بغداد ويطلب إلى المليك إقالة الوزارة! وبكر صدقي الفاتك الطماح يقترح للوزارة الجديدة حكمت سليمان! وحكمت سليمان يدخل في وزارته الحلقة ما عدا طرفيها. لقد كان صديق الحلقة، وكان في معارضته من طراز (كامل) لا يحفل الثراء ولا يبالي المنصب، حتى رووا أنه(175/2)
ضاق يوماً براتب سائقه فذهب به إلى قائد الشرطة يرجو منه أن يجد له عملا يعيش عليه!
أحمد حسن الزيات(175/3)
2 - القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أما صاحب القلب المسكين فرأى الضحكة التي ألقت بها صاحبته وهي ترقص حين عرفته - غير ما رأيتها أنا غير ما رأى الناس. كانت لنا نحن ابتساما عذاب من فم جميل يتم جماله بهذه الصورة، وكانت له هو لغة من هذا الفم الجميل يتم بها حديثاً قديماً كان بينهما. واعترانا منها الطرب واعتراه منها الفكر، ووصفت لنا نوعاً من الحسن ووصفت له نوعاً من الشوق، ومرت علينا شعاعاً في الضوء ووقعت في يده هو كبطاقة الزيارة عليها اسم مكتوب. . .
وقوى إحساس الراقصة الجميلة بعد ذلك فانبعث يدل على نفسه ضروبا من الدلالة الخفية، ورجعت بهذا الإحساس كالحقيقة الشعرية الغامضة المملوءة بفنون الرمز والإيماء وكأنها زادت بهذا الغموض زيادة ظاهرة، وللمرأة لحظات تكون فيها بفكرين حينما يكون أحد الفكرين ماثلاً أمامها في رجل تهواه؛ ففي هذه الساعة تتحدث المرأة بكلام فيه صمت يشرح ويفسر، وتضطرب بحركة فيها استرخاء يميل ويعتنق، وتنظر بألحاظ فيها انكسار يأمر ويتوسل، وكانت هي في هذه الساعة. . . فغلبت والله على صاحبها المسكين وتركت نفسه كأنها تتقطع فيه من أسف وحسرة؛ ثم كانت له كالزهرة العبقة بينه وبينها جمالها وعطرها وهواؤها والحاسة التي فيه.
وجعل يستشفها من خلال أعضائها وهي ترقص، ثم قال لي: انظر ويحك! لكأن ثيابها تضمها وتلتصق بها ضم ذي الهوى لمن يهوى.
قلت: ما هي إلا كهاتين اللتين ترقصان معها: امرأة بين امرأتين وإن كانت أحسن الثلاث.
قال: كلا، هذه وحدها قصيدة من أروع الشعر تتحرك بدلا من أن تقرأ، وترى بدلا من أن تسمع؛ قصيدة بلا ألفاظ ولكن من شاء وضع لها ألفاظاً من دمه إذا هو فهمها بحواسه وفكره وشعوره.
قلت: والأخريان؟
قال: كلا كلا، هذا فن آخر، فالواحدة من هؤلاء المسكينات إنما ترقص بمعدتها. . . ترقص للخبز لا غير. أما (تلك) فرقصها الطرب مصنوعاً على جسمها ومصنوعاً من جسمها؛ إنها(175/4)
كالطاووس يتبختر في أصباغه، في ريشه، في خيلائه، بخترةً يضاعفها الحسن ثلاث مرات. ولو خلق الله جسمين أحدهما من الجواهر أحمرها وأخضرها وأصفرها وأزرقها، والآخر من الأزهار في ألوانها ووشيها، ثم اختال الطاووس بينهما ناشر ذيله في كبرياء روحه الملونة - لظهر فيه وحده اللون الملك بين ألوان هي رعيته الخاضعة.
وانتهى رقص الحسناء الفاتنة وغابت وراء الستارة بعد أن أرسلت قبلةً في الهواء. . . فقال صاحبنا: آه لو أن هذه الحسناء تصدقت بدرهم على فقير، لجعلته لمسة يدها درهماً وقبلة. . .
قلت: يا عدو نفسه؛ هذه قبلة محررة مسددة وقد رأيتها وقعت هنا. . . ولكنك دائماً في خصام بين نفسك وبين حقائق الحياة. تعشق القبلة وتخاصم الفم الذي يلقيها، وتبني العش وتتركه فارغاً من طيره. إن المرأة التي تحبك لا بد أن تنتهي إلى الجنون ما دامت معك في غير المفهوم وغير المعقول وغير الممكن.
ثم بدأ فصل آخر على المسرح وظهر رجال ونساء وقصة؛ وكان من هؤلاء الرجال شيخ يمثل فقيها وآخر يمثل شرطياً، فقال صاحبنا الفيلسوف: لقد جاءت هذه الثياب فارغة وكأنها الآن تنطق أن صحة أكثر الأشياء في هذه الحياة صحة الظاهر فقد ما دام الظاهر يخلع ويلبس بهذه السهولة؛ فكم في هذه الدنيا من شرفاء لو حققت أمرهم وبلوت الباطن منهم لرأيتهم إنما يشرفون الرذائل لأنهم يرتكبونها بشرف ظاهر. . . وكم من أغنياء ليس بينهم وبين اللصوص إلا أنهم يسرقون بقانون. . . وكم من فقهاء ليس بينهم وبين الفجرة إلا أنهم يفجرون بمنطق وحجة. . . ليست الإنسانية بهذه السهولة التي يظنها من يظن وإلا ففيم كان تعب الأنبياء وشقاء الحكماء وجهاد أهل النفوس؟
العقدة السماوية في هذه الأرض أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان إلا حيوانا متلطفا تلطيفاً إنسانياً؛ ثم أراه الخير والشر وقال له اجعل نفسك بنفسك إنسانا وجئني.
قلت: يا عدو نفسك، فما تقول في حبك هذه الراقصة وأنت حيوان ملطف تلطيفاً إنسانياً؟
قال: ويحك! وهل العقدة إلا هنا؟ فهذه مبذولة ممكنة، ثم هي لي كالضرورة القاهرة، فلا يكون حبها إلا أغراء بنيلها، ولا تكون سهولة نيلها إلا إغراءً لذلك الإغراء؛ فأنا منها في امرأة وحب، ولكني في امتحان شديد عسر أغالب ناموسا من نواميس الكون، وأدافع قانونا(175/5)
من قوانين الغريزة، وأظهر قوتي على قوة الضرورة الميسرة بأسبابها، وهي أشد الضرورات عنفاً وإلحاحاً وقهراً للنفس من قبل أنها ضرورة لازمة، وأنها مهيأة سهلة. فلو أن هذه المرأة المحبوبة كانت ممتنعة بعيدة المنال لما كانت لي فضيلة في هذا الحب العفيف، ولكنها دانية ميسرة على الشغف والهوى؛ فهذا هو الامتحان لأصنع أنا بنفسي فضيلة نفسي.
ومر الفصل الذي مثلوه وما نشعر منه بتمثيل فقد كان كالصورة العقلية المعترضة للعقل وهو يفكر في غيرها، وكانت (الحقيقة) في شيء آخر غير هذا. ومتى لم يتعلق الشعور بالفن لم يكن فيه فن؛ وهذا هو سر كل امرأة محبوبة، فهي وحدها التي تثير شعور المحب في نفسه فيشعر من حسنها بحقيقة الحسن المطلق، ويجد في معانيها جواب معانيه، وتأتيه كأنها صنعت له وحده، وتجعل له في الزمان زمناً قلبياً يحصر وجوده في وجودها وليس فن الحب شيئاً إلا استطاعة الحبيب أن يجعل شهوات المحب شاعرة به ممتلئة منه متعلقة عليه، كأن به وحده ظهور جسدية هذا الجسد وروحانية هذه الروح. وكل ما يتزين به المحبوب للمحب، فإنما هو وسائل من المبالغة لإظهار تلك المعاني التي فيه كيما تكبر فيدركها المحب بدقة، وتثور فيحسها العاشق بعنف، وتستبد فيخضع لها المسكين بقوة
والشهوات كالطبيعة الواحدة في أعصاب الإنسان، وهي تتبع فكره وخياله؛ ولا تفاوت بينها إلا بالقوة والضعف، أو التنبه والخمود، أو الحدة والسكون؛ غير أنها في الحب تجد لها فكراً وخيالاً من المحبوب، فتكون كأنها قد غيرت طبيعتها بسرٍ مجهول من أسرار الألوهية. ومن هنا يتأله الحبيب، وهو لم يزد ولم ينقص ولم يتغير ولم يتبدل؛ وتراه في وهم محبه يفرض فروضاً، ويشرع شريعة من حيث لا قيمة لفروضه وشريعته إلا في الشهوة المؤمنة به وحدها.
ومن ثم لا عصمة على المحب إلا إذا وجد بين إيمانين أقواهما الإيمان بالحلال والحرام، وبين خوفين أشدهما الخوف من الله، وبين رغبتين أعظمهما الرغبة في السمو.
قان لم يكن الفاسق ذا دين وفضيلة فلا عصمة على الحب إلا أن يكون أقوى الإيمانين الحرص على مكانة المحبوب في الناس، وأشد الخوفين الخوف من القانون. . . وأعظم الرغبتين الرغبة في نتيجة مشروعة كالزواج.(175/6)
فان لم يكن شيء من هذا أو ذاك فقلما تجد الحب إلا وهو في جراءة كفرين، وحماقة جنونين، وانحطاط سفالتين. وبهذا لا يكون في الإنسانين إلا دون ما هو في بهيمتين.
ثم جاء الفصل الثالث وظهرت هي على المسرح. ظهرت هذه المرة في ثوب مركيزة أوربية تخاصر عشيقاً لها فيرقصان في أدب أوربي متمدن. . . متمدن بنصف وقاحة؛ متأدب. . . متأدب بنصف تسفل، مشروع. . . مشروع بنصف كفر؛ هو على النصف في كل شيء حتى ليجعل العذراء نصف عذراء؛ والزوجة نصف زوجة. . .
وكان الذي يمثل دور العشيق فتاة أخرى غلامية مجممة الشعر ممسوخةً بين المرأة والرجل. فلما رآها صاحبنا قال: هذا أفضل. . . .
وهشت الحسناء وتبسمت وأخذت في رقصها البديع فانفصل عني الصديق وأهملني وأقبل عليها بالنظرة بعد النظرة بعد نظرة، كأنه يكرر غير المفهوم ليفهمه، ورجع وإياها كأنه في عالم من غير زمننا تقدمه عن عالمنا ساعة أو تؤخره ساعة. وكانت جملة حاله كأنها تقول لي: إن الدنيا الآن امرأة! وكان من السرور كأنما نقله الحب إلى رتبة آدم ونقل صاحبته إلى رتبة حواء، ونقل المسرح إلى رتبة الجنة.
والعجيب أن القمر طلع في هذه الساعة وأفاض نوراً جديداً على المسرح المكشوف في الحديقة فكأنه فعل هذا ليتم الحسن والحب. وأخذ شعاع القمر السماوي يرقص حول هذا القمر الأرضي فكانت الصلة تامة وثيقة بين نفس صاحبنا وبين الأرض والسماء والقمرين.
ما هذا الوجه لهذه المرأة؟ إنه بين اللحظة واللحظة يعبر تعبيراً جديداً بقسماته وملامحه الفتانة. كل البياض الخاطف في نجوم السماء يجول في أديمه المشرق؛ وكل السواد الذي في عيون المها يجتمع في عينيه؛ وكل الحمرة التي في الورد هي في حمرة هاتين الشفتين.
ما هذا الجسم المتزن المتموج المفرغ كأنه يندفق هنا وهنا؟ إنه جسم كامل الأنوثة؛ إنه صارخ صارخ؛ إنه عالم جمال فيه كما تقول الفلسفة حين تصف العالم: فيه (جهة فوق) و (جهة تحت). لو امتدت له يد عاشقه لجعل في خمس أصابعها خمس حواس. . .
ما هذا؟ ما هذا؟ لقد ختم الرقص بقبلة ألقاها الخليل على شفتي الخليلة، وكانت تركت خصرها في يديه وانفلتت تميل بأعلاها راجعة برأسها إلى خلف، نازلةً به رويداً رويداً إلى الأرض، هاربة بشفتيها من الفم المطل عليها. وكان هذا الفم ينزل رويدا رويدا ليدرك(175/7)
الهارب. . .
وقبل أن تقع القبلة التفتت لفتة إلى. . . ثم تلقت القبلة أما هو؛ أما مجنونا؛ أما صاحب القلب المسكين؟
(طنطا)
(لها بقية)
مصطفى صادق الرافعي(175/8)
الأدب والخلود
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
عشت سنين عديدة - أكثر عمري - بالخيال والهم. وكانت دنياي تحد من كل ناحية بجدران مكتبتي ومنظاري المكبر الذي أتدبر به الحياة وأستعين على درسها بقوته وقدرته على الجلاء والكشف والتوضيح، الكتب الكثيرة المرصوصة على رفوفها. وكانت رياضتي حين أكل وأتعب ويبلغ مني الجهد أن أدير عيني في صفوف هذه الكتب التي كنت أنتقي أنفس الطبعات منها وأحسنها ورقا وأجودها جلداً وأحلاها منظراً. فلما صدمتني الحياة - مرة وأخرى - ورأيت أزهار آمالي وورق آرائي التي كنت أحسبها خالدة النضرة دائمة البهجة ولا أظن بها إلا أنها ستظل رفافة أبداً - أقول لما رأيتها تصفر وتتساقط وتذوى وتجف وتتكسر وتنفرك في يدي وتحت قدمي راعني عظم جهلي، وهالني الشعور بالوحدة والوحشة والغربة في هذا العالم الزاخر الذي احتجت برغمي أن أخوض بحره وأرمي بنفسي في عبابه وأنا لا أدري كيف أسبح فيه وأتقي الغرق.
وأنصف الكتب فأقول إنها لم تغشني ولم تخدعني ولم تتعمد أن تزيف صور الحياة، ولكني اقتصرت عليها واستغنيت بها، فصرت لا أرى الحياة إلا بعيون أصحابها، ولا أحسها بغير أعصابهم، حتى ليخيل إلي الآن - من حيث معرفتي يومئذ بالحياة وإحساسي بوقعها وفهمي لها وتجربتي لأحوالها - أني كنت أشبه بكتاب مختارات من جملة ما قرأت وحصلت، ولست بإنسان له وجود وشخصية وكيان مستقل. ومن متناقضات ذلك العهد أني كنت من أعظم الكتاب تحمساً للدعوة إلى تحرير الأدب العربي من رق التقليد وأن كنت أنا لا أعدو أن أكون نسخة مختصرة لكل قديم من الآراء والمذاهب والاحساسات والخوالج. وليس هذا ذنب الكتب وإنما هو ذنبي. على أني لو كنت وجدت من يرشدني لرشدت ولانتفعت بما ضاع من عمري، ولكني لم أجد هذا المرشد والناصح الأمين والقدوة الحسنة لا في المدرسة ولا في البيت ولا في الإخوان، فقد كان شأنهم كشأني، سوى أنهم كانوا أحكم مني وأرشد بطبيعتهم وأهدى سبيلاً، فلم يقعوا فيما وقعت فيه ولم يضيعوا مثل ما ضيعت من عمري.
وأحسست بخيبة الأمل والضيعة في كل ناحية، فاسودت الدنيا في عيني وخامرني اليأس، وظهر ذلك في كل ما عالجت من فنون الأدب وألوانه، وهجرت العمار إلى الخراب،(175/9)
وانتقلت من المدينة الحية التي تعج بالناس وتزخر بالحياة إلى الصحراء المنقطعة ورمالها الصفراء وجدبها الرائع وفضائها الرحيب وسعتها العقيمة، لأني رأيت أنها أولى بي، وأن المقام في خرابها العظيم أرفق بنفسي المتهدمة وآمالي التي درست وهماتي التي فترت.
وتعاقبت السنون - أربعة عشر عاماً كاملاً - وأنا أجد الأنس بالصحراء والروح فيها والراحة بها. نعم كنت أنحدر إلى المدينة كل يوم وأرى الناس وأعمل معهم وأكد وأسعى، ولكني كنت لا أشاطرهم شعورهم بالحياة وإن كنت لا أثقل عليهم بما أحس. وكنت أكون معهم، ولكني بقلبي وعقلي مع الصحراء، فلا أكاد أعود إليها حتى أحس أن حجراً قد انحط عن صدري وأنه صار في وسعي أن أتنفس وأن أنضو ما أتكلفه مع الناس وأواجه حقيقة نفسي التي أضمرها وأخفيها عن العيون واسترها حتى لا أوذي الناس بها.
ولكن الصحراء معدنها خصب وإن كانت ظاهرة الجدب حتى لتبدو كأن لا أمل فيها، وإن قلبها العامر وإن كانت في رأى العين خواء قواء. وإن الاحتمالات التي تنطوي عليها لأكثر من أن يأخذها حصر، وما ينقصها إلا أن تساعفها الأحوال. وهل مصر كلها إلا صحراء جرى فيها نهر واحد فانقلبت من جنات الدنيا؟ فهذه الصحراء أيضا جنة مضمرة وفردوس مكنون.
وصار مجرى هذا الخاطر في نفسي عميقاً على الأيام، فقلت لنفسي في خلواتي الكثيرة بها: إن هذه الصحراء فيها قوى مستورة مقيدة تنتظر الانطلاق، وخصباً محجوباً لو وجد ما يظهره لربا فيها النبات واهتز ورف وزكا. وأنا أيضاً مثلها. ولم لا؟ أأكون أعقم وأجدب من التراب والحصى والرمال الصفراء؟. . . وقد انتشرت على سطح نفسي طبقة كثيفة من القنوط غطت ما انطوى عليه من الزكاء والطيب والريع الكثير الوفير، وما أظن بها إلا أن فيها خمائل أمل مدفونة ورياض خير أحسبها على الرغم من كل شيء لا تزال مخضلة يترشش نداها. وإن النفس لأقدر - أو هي ينبغي أن تكون أقدر من التراب على تربيت الندى وحفظه وادخاره. وإذا كانت تربة بعض النفوس مبكاراً فليس بضائري أن تكون تربة نفسي مئخاراً. وما يمنعها التأخر بعد أن تبشر ويخرج نباتها أن يسرع ويطول ويقوى. وإذا كانت هذه الصحراء تنتظر أن يجيئها الغوث من الخارج فان النفس غياثها فيها. وللصحراء السحب التي تجري الماء على وجهها، وللنفس مدد كاف من حيويتها التي(175/10)
هي في أعمق أعماقها. وأحسب أني لو حفرت في هذه الأرض لبلغت الماء ولو بعد عمق كبير. كذلك أحسب أني لو مهت نفسي وحفرت فيها لوقعت في بعض أعماقها على ماء غير قليل؛ وسأحتاج أن أرمي التراب وأخرج الطين والحجارة وأن أنكشها من حين إلى حين حتى لا تعود جميعها فتتجمع وتسدها مرة أخرى.
واقتنعت بذلك وصح عزمي على إن من الواجب تنقية نفسي - أو بئرها - مما سد منابع الماء في أعماقها المجهولة، فأعددت العدة لذلك وجئت بالعتلات والمعاول والمجارف والحبال والمقاطف والدلاء إلى آخر ذلك مما يحتاج إليه المرء في الحفر. وقلت لنفسي: (اسمع يا هذا. . . إنك لا تستطيع أن تحتفر إلا إذا وسعت، فما تدري أقريبة المنزع بئر نفسك هذه أم بعيدته؛ والأرجح أن تكون بعيدة وأن تكون قد تكدست فوقها أكوام شتى وطبقات متراكبة من أوحال السخافات المختلفة المتعددة التي عشت بها هذا العمر كله. فيجب من الآن - وقبل الشروع في الحفر - أن توسع صدرك وتوطن نفسك على الشك في كل ما أخذت به من الآراء والمذاهب، أي على اعتبار أن كل ما كان عندك بمنزلة العقائد التي لا تقبل الجدل يجب أن يعاد بحثه بغير هوى، وإلا كان ما يوشك أن تحاوله الآن من الحفر عملا لا خير فيه ولا جدوى منه، وأولى بك حينئذ أن تنصرف عنه. وكما أن الذي يحتفر بئراً لا يستطيع ذلك إذا هو اجتزأ بثقب ضيق إشفاقاً على الأرض أن يفسد منظرها بتوسيع الفوهة وأن يشوه استواءها، كذلك أنت لا تستطيع أن تصل إلى شيء إذا كنت ستصر على آرائك القديمة، فاضرب فيها كلها بمعولك وانظر كيف ثباتها، وهل تحتمل ذلك أم تتناثر وتتبعثر ذراتها وتنقلب ترابا يطير كالهباء، وهذا أول ما ينبغي أن تروض وتوطن نفسك عليه وإلا فتعبك ضائع مع الرياح الأربع.
ولم أجد لي معدي عن الرضى بمراجعة النفس وإعادة النظر بغير هوى في كل ما كنت أعده من الحقائق المفروغ منها. فقلت لنفسي: (يجب أن أبداً من البداية. والبداية هي أني خلقت لأعيش وأعطيت الحياة لأحيا. وهذا من البدائه، إذ لا يعقل أن أكون أعطيت الحياة لأرميها للكلاب، وإلا فلماذا أعطيتها إذن؟ وما دام الأمر كذلك فأن واجبي الأول هو أن أعيش وأحيا، وأن أحرص على الحياة وأضن بالعيش أن يفسده شيء بقدر ما يدخل هذا في الوسع. ثم إني لم أعط حياة الأبد، وإنما أعطيت حياة محدودة لها آخر كما لها أول، وهذا(175/11)
يضاعف وجوب الحرص عليها والضن بها على المفسدات، لأنها فضلاً عن القصر يسهل زوالها ويضيع معناها بسوء الرأي. وعلى إذن أن أنفي من جوها كل ما ينغص هذه الحياة أو يقصر عمرها أو يفسد فترتها. وأول ما ينغص هذه الحياة ويضيع معناها ويفسد الغاية منها ويعكس الآية فيها ويقلبها عذابا وجحيما، هذا الأدب الذي جننت به وضيعت خير شطر من عمري فيه. وما هو الأدب على كل حال. .؟ هو شيء - أعني كلاما - يحاول صاحبه به أن يوهم الناس أنه خير منهم وأرقى وأذكى وأفطن وأحس وأعلم، وأن خطوهم وراءه بأجيال إذ يخطو هو على مهل. ثم يرتقي المرء من إيهام الناس إلى إدخال الوهم على نفسه هو فيزعمها خالدة باقية على الزمن بآثاره - أي بالكلام الذي يصوغه - على حين تفني كل هذه الملايين من معاصريه وممن جاءوا قبله ومن سيجيئون بعده. فلماذا بالله يخلد كلامه وحده دون كلام هذه المئات العديدة من الملايين في كل أمة وكل زمن؟. . . ثم كيف يتاح هذا الخلود في حياة قائمة على الفناء المحقق؟. . . وليس الخلود ألف سنة ولا ألفين ولا ثلاثة ولا أربعة أو أكثر. . . وانظر من ذا الذي خلد إلى الآن. . . وفكر في أمل الذين نذكرهم إلى اليوم في دوام الذكر على الزمن. . . وإذا كنت الآن أعجب لشيء فإني أتعجب لذلك الذي يستطيع أن يفهم الخلود ويقنع بما فهم من معناه نفسه.
وأعترف بأني كنت أومن بالخلود في هذه الدنيا الفانية، ولكني أعترف أيضا أنها كانت عندي كلمة حلوة أرتاح إليها وأحس لها ندى على النفس وبردا على القلب من غير أن أدرك لها معنى محدوداً جلياً. وإذا كان هناك من يؤمن بهذا الخلود فيخيل إلى أنه إما أن يكون شاباً لم يعان الحياة ولم يواجه حقائقها، أو هو رجل لا يزال قادراً على مغالطة نفسه أو على الإيحاء إليها، أو فيه لوثة تمنع أن يجيء تفكيره مستقيماً؛ وقد يكون هناك غير هؤلاء فما أدعى الإحاطة ولا ما هو قريب منها. وبدا لي وأنا أفكر في هذا أن من السخف أن يتصور المرء أنه سيخلد بآثاره لا لسبب إلا أنه نشر كتاباً وأن الصحف أثنت عليه ومدحته. كأن الأجيال المقبلة ستعقم صحفا وكتابا هم أقرب إلى نفسها ومزاجها وأساليب تفكيرها وإلى احساساتها واتجاهاتها ونزعاتها من كتاب الجيل الذي مضى أو الأجيال التي اندثرت. وغريب أن يعتقد إنسان إن آراءه وأساليب تفكيره وكتابته الخ تظل هي الحبيبة الأثيرة إلى كل عصر على الأزمان كلها!(175/12)
كانت فكرة الخلود أول ما أخرجته وألقيته من الأوحال التي تراكمت على نفسي وحرمتني نعمة الشعور بالحياة - كما ينبغي أن يكون الشعور بها - والارتياح إليها. فقد كنت أستسخف الناس وأستحمقهم وأستقل عقولهم وأحتقر عواطفهم وأراهم دوني في كل شيء، ولا أكاد أطيق منها معارضة أو مخالفة يسيرة أو ملاحظة بريئة يحسن فيها القصد ولا تسوء النية؛ وكنت أترفع عنهم وأحس أني متواضع جداً حين أجالس أحدهم؛ وكان يزيد شعوري بالتواضع ويضاعفه أن أراني أكلمهم كما يتكلمون وأجاريهم في أحاديثهم الفارغة وثرثرتهم الجوفاء فأرضى عن نفسي كل الرضى وأقول لها في تسويغ هذا التواضع: (وماذا عسى أن يصنع المبصر بين العميان؟) وما أكثر الأعمال التي تركتها وفقدت رزقي منها لأني لم أطق من صاحبها الذي كنت أعمل معه أن يكلم رجلاً خالداً مثلي كأنه من أندادي - أو أن أسمع كلاماً يشعرني أنه لا يفطن إلى قيمة من هو معه ولا يدرك أنه خالد وأنه حقيق بالتقديس وجدير بأن يركع أمامه على ركبتيه. ولقد خاصمت مرة رجلاً لأنه لم يأخذ برأيي ولم يصدر عن مشورتي، فعددت منه هذا تطاولاً على مقامي؛ وغضبت على آخر لأنه نظر إلي نظرة تبينت فيها الحسد كان ما وهبنيه الله يمكن أن يطمع في مثله طامع. والويل لمن كان يحدثني ولا يحرص على أن تكون عينه في عيني. . . إذن هو يتعمد أن يفهمني أنه يستخف بي وأنا الذي يعي الزمان مكان نده.
وبعد أن أخرجت الخلود وأفرغت القفة من طينه أحسست أني حططت عن صدري جبلاً فقلت: (يا سلام. . . أما إنها لراحة كنت محروماً منها. . . والله لقد كنت مغفلاً. . . وما الذي أغراني بوضع هذا الجبل كله على صدري. . . وكيف بالله كنت أرجو أن أتنفس. . . أعوذ بالله. . . والحمد لله).
وبعد أن أخذت حظي من الراحة قلت لنفسي: (إذن ما الرأي في هذا الأدب الذي نكبني بفكرة الخلود وزين لي هذه المصيبة التي رزأت بها نفسي؟ (وفكرت ثم قلت) ما دمنا قد خلصنا من مصيبة الخلود، فالأدب أولا يكون وسيلة للتنفيس عن النفس والتخفيف عنها وإراحتها من ثقل العواطف والخوالج، وهذا هو الذي يسميه غيري فناً ذاتياً - وقد كنت مثلهم أفعل ذلك - وأسميه أنا سلوى شخصية، والمسألة ميل واستعداد. . فهذا يجد ما يسليه ويرفه عن في الألعاب الرياضية، وذاك يلتمس الترفيه في القمار، وثالث يجد التسرية في(175/13)
الرقص، ورابع يفوز بها من الأدب - أي من رص الكلام الفارغ. وليس الكلام الفارغ هو الذي يسري عن النفس، وإنما هو المجهود الذي يبذله المرء في رصف هذا الكلام. ومجهود رصف الكلام هو مجهود بدني ككل مجهود آخر، والمرء يحس بالإعياء والتعب بعده كما يحس بعد لعب الكرة أو غيرها. ولعل الإعياء فيه أشد لقلة الحركة الجسمية، وكثرة ما ينهك من الأعصاب.
ثم ينقلب الأدب صناعة مع طول المزاولة والتدريب، كما يمكن أن ينقلب أي فن آخر؛ ويصبح كما هو الحال والواقع عندي. ومن الناس في الأدب الهاوي أي الأديب الذي لم يتحول على الأيام وبالمزاولة صانعا، فهذا لا يزال يتخذه سلوى وملهاة يزجى بها الفراغ ويريح بها النفس ويرفه عن الأعصاب وإن كان يتعبها من ناحية أخرى كما يتعب المرء نفسه بالتنس والسباحة وغير ذلك: أما من صار مثلي فالأدب عنده صناعة وإن شق عليه أن يعترف بذلك ورأى في الاعتراف به غضاضة أو توهمها على الأصح لطول ما راض نفسه على النظر إلى الأدب كأنه فن سماوي يغري به الذي تميزه الطبيعة وتكتب له عندها الخلود كأن الطبيعة تحابي الناس على نحو ما يحابي الخلق بعضهم بعضاً.
وخرجت من هذا التفكير بأني في الواقع فتحت دكان أدب إذا أحسنت الإعلان عنها ولفت النظر إليها وأجدت عرض ما فيها من البضاعة فأني خليق أن أفوز بالإقبال عليها والطلب لما فيها فيكثر كسبي ويعظم ربحي كما هو الحال في كل تجارة أخرى. ولا فرق بين غيري من الأدباء وبيني إلا على قدر اعتمادهم في رزقهم على الأدب؛ فمن كان معوله مثلي عليه فالأدب عنده صناعة لا شك في ذلك، وإلا فهو رجل يسر الله له رزقه ففي وسعه أن يتسلى بالأدب كما يمكن أن يتسلى باقتناء الديكة أو الثعابين أو السجاجيد أو بالكرة أو التنس أو السياحة أو التوغل في مجاهل الأرض لصيد الأسود والفهود والفيلة إلى آخر ما يمكن أن يلهو به إنسان إذا رزق الوسيلة.
ولما انتهيت من هذا كله سهل علي أن أتلقى الحياة كما يتفق أن تجيء وأن أتقبلها بلا تذمر أو تسخط. وهان علي ما كان يبدو لي عسيراً فيما مضى قبل أن يرتد إلي عقلي الذي ذهب به جنون الأدب، فان لكل فن ضرباً من الجنون، وليس الأديب الذي يتوهم أنه خالد ويطلب أن يعامله الناس على هذا الاعتبار بأقل جنوناً من بائع الفول المدمس الذي يأبى أن(175/14)
يبيعك منه شيئاً ولو بذلت له مال قارون إلا إذا تقدمت إليه في تواضع ظاهر وقلت له إني أريد (لوزاً) بقرش. ولا فرق عندي - الآن - بين اعتداد الأديب بأدبه إلى ذلك الحد المبالغ فيه وبين تجبر بائع الفول وتحتيمه عليك أن تسمى فوله لوزاً لظنه أن تسميته لوزاً أبلغ في التبجيل وأدل على التوقير. وما يطلب بائع الفول في الحقيقة أن توقر الفول وإنما يطلب أن توقره هو، ولكنه يشعر أن طلب التوقير لشخصه مباشرة قد لا يلقى الارتياح، فهو يجعل من الفول أداة لما يشتهي ويروم ولا يفطن إلى أن الناس يجارونه ويضحكون منه ويتفكهون فيما بينهم بالتنكيت عليه لأنه لا يرى الضحك ولا يسمع النكت، وإنما يرى مظاهر الاحترام المتكلف ويسمع فوله يدعى لوزاً. وليست النعامة وحدها هي التي تستطيع أن تغالط نفسها وتتجاهل ما تغمض عينها عنه فأننا جميعاً مثلها وان كنا لغرورنا نضرب بها المثل في الحماقة. وكذلك الأديب الذي يطلب منك الاحترام والتوقير لخلوده إنما يطلب هذا لشخصه لا لأدبه؛ ولو أمكن أن يهتدي إلى وسيلة أخرى له ما يشتهى وما تتعلق به نفسه من الإجلال والإكبار غير الأدب لما قصر في اتخاذها، ولكان الأرجح - إذا وجدها أجدى عليها - أن يتساهل فيما يجب للأدب من الإكبار، بل لرأيته يدعي أنه إنما يكتب أو ينظم أحياناً للتسلية لا لمنافسة الأدباء المحترفين. وكل إنسان يشتهي المجد أو التمجيد من الطريق الذي يراه أوفق له ويرى نفسه أقدر على انتهاجه ولا فرق من هذه الناحية بين الأدب وبين رفع الأثقال والحرب والموسيقى والسياسة وغير ذلك، فإنها جميعاً وسائل يستعين بها الإنسان على ما يريد من الفوز بالتمجيد الذي تصبو إليه نفسه.
وقد وجدت وأنا أنقب وأحتفر حجارة كثيرة تفتتت من صخرة الخلود الضخمة زحزحتها وأخرجتها ورميتها مثل النبوغ والعبقرية وما أشبه ذلك فألقيتها جميعاً، فشعرت بالراحة وأحسست أن ما كان يسد متنفسات روحي قد زال والحمد لله على التوفيق؛ ورأيتني قد رجعت إنساناً بعد أن كنت دفتراً أو كتاباً كالكتب التي عندي، وكل ما كان ينقصني هو أن أجد من يغللني أو يجلدني ليتسنى أن أوضع على رف كبقية الكتب وعلى ظهري كما على ظهورها (كشكول المازني). والواقع أني لم أكن إلا كشكولاً فيه خليط مضطرب غير متسق من الآراء المستمدة أو المولدة من هنا وههنا فصرت بعد التنقية الدقيقة التي أجريتها في نفسي إنساناً يشعر بالحياة التي وهبها ويلتذها وينعم بها ويحرص عليها كما ينبغي أن يفعل(175/15)
ويوفر لها الأسباب التي تعين على زيادة الإمتاع المستفاد منها.
وكنت كالذي وقف وفي يديه ما يشبه المنظار فإذا رفعه إلى عينيه لم ير إلا الصورة المطبوعة أو المنقوشة على زجاجة وهو يحسب انه يكبر له الأشياء ويجسم له المناظر. أما بعد التنقية فقد رميت هذا الذي كنت أحسبه منظاراً مكبراً ونظرت بعيني لا بعيون الغير فبدت لي الدنيا بما فيها من جمال وقبح ومن خير وشر ومن عرف ونكر، وأنا الآن أخوض العباب وأغالب التيار وأصارع الموج، وأطفو تارة وأرسب أخرى، ولا أعدم ما أتعلق به فأنجو وأستريح وأستجم إذا أدركنا التعب لاكما كنت - واقفاً على الساحل أصف ما لم أجرب وأتحدث عما لم أختبر تقليداً لإحساس غيري ومجاراة لنظراته وأنا لا أدري أني لست سوى مقلد وإن كنت أزعمني مبتكراً.
وخطرت لي حكاية، فقد زعموا أن صانعاً بارعاً منقطع النظير خاف المعجبون بحذقه وأستاذيته أن يدركه الأجل فيموت معه فنه ويلف عليه وعلى براعته كفن واحد، فتقدموا إليه يرجون منه أن يتخذ له تلاميذ يعلمهم فأبى، فألحوا فلم يلن، فشكوه إلى الحاكم فأمره أن يفعل فلم يطع فسجنه، ولبث في السجن أياماً، فتشاور محبوه وإخوانه في الأمر فقال أحدهم: (أنا أحل لكم هذا المشكل) ودعا إليه واحداً من أتباعه وقال له أنّا سنسجنك مع هذا الصانع في حجرة واحدة فكن معه الرفيق المخالف، فإذا ضحك فاعبس أنت، وإذا رأيته يعبس فاضحك أنت وقهقة، وهكذا في كل شيء. (ففعل الرجل كما أمره فكاد الصانع يجن وطلب أن يأخذوه إلى الحاكم، فلما صار عنده قال له إنه مستعد أن يعلم ألف تلميذ ولا يبقى ساعة واحدة مع هذا الرفيق المخالف في غرفة واحدة.
بمثل هذا يجب - في رأيي - أن يعالج الذين يصرون على الحكم لنفسهم بالخلود قبل أن تحكم لهم الأيام فما أعرف طريقة أجدى وأكفل بشفائهم من طريقة الرفيق المخالف.
إبراهيم عبد القادر المازني(175/16)
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 3 -
أسلفنا القول عن إحدى الشخصيتين اللتين أثارتا مشكلة النبوة أثناء القرن الثالث والرابع للهجرة في شكل حاد، ونعني بها ابن الراوندي. واليوم نريد أن نتحدث عن الشخصية الأخرى التي ليست أقل من الأولى خطراً في هذا المضمار والتي ربما كانت أعرف لدى جمهور القراء، وهي شخصية أبي بكر محمد بن زكريا الرازي الذي ولد سنة 250 هجرية بالري حيث تعلم الرياضيات والفلك والأدب والكيمياء. ويظهر أنه لم يتقدم للدراسات الطبية إلا بعد أن بلغ سنا خاصة، ولكنه لم يلبث أن برز فيها على جميع معاصريه وأحرز شهرة كبيرة. فصار يتنقل من بلاط إلى بلاط، ومن مدينة إلى مدينة، يشرف على مستشفاها ويأخذ بيد العلاج والطب فيها. وكان في كل هذا يحن إلى الري ويعود إليها من حين لآخر إلى أن توفى بها في العقد الثاني في القرن الرابع. وليس هناك شك في أن الرازي هو أكبر طبيب في الإسلام، بل وفي القرون الوسطى على الإطلاق. فقد أحاط بكل النظريات الطبية القديمة وأدخل عليها عناصر جديدة هدته إليها تجاربه الكثيرة، ومنح الكيمياء كذلك قسطاً كبيراً من عنايته، ودرسها دراسة واقعية تجريبية قضت على كثير من الخرافات والأباطيل التي لصقت بها في ذلك العهد. ولم يكن الرازي طبيباً وكيميائياً فحسب، بل اتجه نحو الفلسفة وكتب فيها عدة أبحاث. ولقد كان حريصاً كل الحرص على أن يلقب بالفيلسوف؛ ولذلك لما أحس أن بعض معاصريه ينكرون عليه هذا اللقب سارع إلى الرد عليهم، وبين في رسالة خاصة مميزات الفيلسوف العلمية والعملية محاولاً أن يطبقها على نفسه. وهو في طبه وفلسفته واثق من نفسه كل الوثوق وإلى درجة لا نكاد نجدها لدي أي شخص من مفكري الإسلام. فهو ينتقد جالينوس في بعض آرائه، ولا يتردد في أن يرفض فريقاً من النظريات الأرسطية، ويضع نفسه في مصف أبقراط وسقراط من الأطباء والفلاسفة السابقين. وفوق هذا فهو لا يسلم بتلك الجملة المشهورة: (ما ترك الأول للآخر(175/17)
شيئاً) ويعتقد على العكس منها أن السابقين تركوا للاحقين أشياء كثيرة. وقد استدرك هو نفسه على القدامى جزءاً من نقصهم وأصلح بعض أخطائهم. ولا نظنه ينكر علينا إذا حاولنا اليوم أن نثبت ما في آرائه من ضعف أو خطأ، وما أشبهه في هذا ببيكون بين الطبيعيين والفلاسفة المحدثين. وليس بغريب أن يقف هذا الموقف أشخاص ينادون بالتجربة ويؤمنون بنظرية التقدم العلمي المستمر. فالرازي إذن مجدد وذو آراء مستقلة يجدر بنا أن نعرفها بصرف النظر عن خطئها أو صوابها، شذوذها أو اعتدالها.
لم تستبق لنا الأيام، ويا للأسف، كثيراً من مؤلفات الرازي الطبية والكيميائية والفلسفية، إلا أنا ربما كنا أعرف بطبه وكيميائه منا بفلسفته. والسبب في ذلك أن الباحثين من المحدثين عنوا بالرازي الطبيب والكيميائي أكثر من عنايتهم بالرازي الفيلسوف. ونحن لا ننكر أن جانبه العلمي أوضح وأقوى من جانبه الفلسفي، وأن ما وصل إلينا من كتبه الطبية والكيميائية يزيد نسبياً على مخلفاته الفلسفية. بيد أن في فلسفته جرأة وغرابة تدفع الباحث إلى دراستها وتفهمها. وإذا كان شذوذها وخروجها على المألوف هما من دواعي الإعراض عنها والتنفير منها فأنهما في الوقت نفسه من وسائل الترغيب فيها والتشويق إليها. ونعتقد أنا نستطيع الآن أن نكون عنها فكرة كاملة على ضوء ما نقله أبو حاتم الرازي والبيروني والكرماني ونصيري خسرو، وبعض الرسائل القليلة التي وصلت إلينا والتي كتبها الرازي نفسه.
لئن كان الرازي قد اشتغل بالفلسفة فإنه يفترق عن فلاسفة الإسلام المعروفين في نواح كثيرة. فهو يهاجم أولا أستاذهم وزعيمهم أرسطو ويخرج على كثير من نظرياته الطبيعية والميتافيزيقية.
ويبالغ ثانيا على العكس منهم في التعليق بأهداب الآراء المزدكية والمانوية والمعتقدات الهندية. وينكر أخيراً كل الإنكار محاولتهم التوفيق بين الفلسفة والدين. ويرى أن الفلسفة هي السبيل الوحيد لإصلاح الفرد والمجتمع، وأن الأديان مدعاة التنافس والتطاحن والحروب المتتالية. وقد كتب كتابين عدهما البيروني بين الكفريات، وهما: مخاريق الأنبياء أو حيل المتنبئين، ونقض الأديان أو في النبوات. وقد صادف الكتاب الأول نجاحا لدى بعض الطوائف التي انتشر فيها الزندقة والإلحاد وخاصة لدى القرامطة. ويذهب(175/18)
الأستاذ ماسنيون إلى أن أثره تعدى إلى الغرب وكان منبع تلك الاعتراضات التي وجهها عقليو أوربا إلى الدين والنبوة في عهد فرديك الثاني. وحتى اليوم لم يوقف له على أثر بين المطبوعات والمخطوطات العربية. وأما الكتاب الثاني فقد وصلنا منه فقرات عن طريق غير مباشر في كتاب أعلام النبوة لأبي حاتم الرازي المتوفى سنة 330 هجرية. وأبو حاتم هذا من أكبر دعاة الإسماعيلية الذين أبلوا بلاء حسنا في طبرستان وأذربيجان في أوائل القرن الرابع للهجرة. وقد كان معاصراً ومواطناً للرازي الطبيب، ودارت بينهما مناقشات حادة ومتعددة حضرها بعض العلماء والرؤساء السياسيين
وقد شاء أبو حاتم أن يدون هذه المناقشات في كتابه أعلام النبوة. حقا إنه لا يصرح في هذا الكتاب باسم الرازي ويكتفي بأنه يوجه نقده إلى من سماه الملحد؛ غير أن هناك أدلة قاطعة على أن هذا الملحد ليس شخصاً آخر سوى الرازي. فان حميد الدين الكرماني المتوفى سنة 412هـ وزعيم الدعاة الإسماعيليين في عصر الحاكم بأمر الله يصرح في كتابه الأقوال الذهبية بأن مناقشات في النبوة والمناسك الشرعية دارت بين الرازي والشيخ أبي حاتم بجزيرة الري أيام مردادج وفي حضرته. والكرماني حجة في هذا الباب فإنه أعرف ما يكون بأخبار الإسماعيليين زملائه وبمواقف الرازي وآرائه التي أخذ على عاتقه أن ينقض بعضها في كتابه الآنف الذكر. ومما يؤسف له أن مخطوطة أعلام النبوة الوحيدة، التي وصلت إلينا، بدون مقدمة؛ ويغلب على الظن أن هذه المقدمة المفقودة كانت تشتمل على غرض الكتاب والدافع إلى تأليفه. فكتاب أعلام النبوة يقفنا على الاعتراضات الرئيسية التي وجهها الرازي إلى النبوة وأثرها الاجتماعي؛ وعليه نعتمد هنا أولاً وبالذات.
وهذه الاعتراضات في جملتها تقترب بعض الشيء من الاعتراضات التي أثارها ابن الراوندي من قبل. وكأن الرجلين يرددان نغمة واحدة ويصدران عن أصل معين، أو كأن تعاليم هندية وآراء مانوية اختفت وراء حملتهما. ونحن نعلم من جهة أخرى أن الرازي يقول بالتناسخ الذي عرفت به السمنية من الهنود، ويتشيع للمانوية الذين كانوا يدسون في غير ملل للإسلام ومبادئه؛ ولا يبعد أن يكون قد وقف على نقد الإغريق للديانات على اختلافها. وسواء أكان الرازي متأثراً بعوامل أجنبية أم معبراً عن آرائه الشخصية فإنه يصرح بأن الأنبياء لا حق لهم في أن يدعوا لأنفسهم ميزة خاصة، عقلية كانت أو روحية،(175/19)
فان الناس كلهم سواسية، وعدل الله وحكمته تقضي بالامتياز واحد على الآخر. أما المعجزات النبوية فهي ضرب من الأقاصيص الدينية أو اللباقة والمهارة التي يراد بها التغرير والتضليل. والتعاليم الدينية متناقضة يهدم بعضها بعضا ولا تتفق مع المبدأ القائل إن هناك حقيقة ثابتة؛ ذلك لأن كل نبي يلغي رسالة سابقه وينادي بأن ما جاء به هو الحق ولا الحق سواه؛ والناس في حيرة في أمر الأمام والمأموم والتابع والمتبوع.
والأديان في جملتها هي أصل الحروب التي وقعت فيها الإنسانية من قديم، وعدو الفلسفة والعلم. وربما كانت مؤلفات القدامى أمثال أبقراط وأقليدس وأفلاطون وأرسطو أنفع من الكتب المقدسة. يقول الرازي: (الأولى بحكمة الحكيم ورحمة الرحيم أن يلهم عبادة أجمعين معرفة منافعهم ومضارهم في عاجلهم وأجلهم ولا يفضل بعضهم على بعض، فلا يكون بينهم تنازع ولا اختلاف فيهلكوا. وذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمةً لبعض فتصدق كل فرقة أمامها وتكذب غيره، ويضرب بعضهم بالسيف ويعم البلاء ويهلكوا بالتعادي والمجاذبات، وقد هلك بذلك كثير من الناس كما نرى).
نظننا في غنى عن أن نشير إلى أن أقوال الرازي هذه تمثل أعنف حملة وجهت إلى الدين والنبوة طوال القرون الوسطى. بيد أن الشيخ أبا حاتم استطاع أن يقابل هذه الحملة وجهاً لوجه ويخذلها، وأن يهدم هذه الفتنة من أساسها. وفي كتابه أعلام النبوة صفحات تفيض إفحاماً وإعجازاً، ومناقشات تسد على المكابرين والمعاندين سبل التخلص والفرار. وحبذا لو نشر هذا الكتاب في جملته فضم آية إلى آيات الإسماعيلية الكثيرة وأثراً من آثارهم العلمية النفيسة. وأبو حاتم ممن أحسنوا الجدل والمناقشة والأخذ والرد. وكيف لا وهو داع مهمته أن ينتصر لدعوته، ويرد عنها شبه الخصوم والمعارضين؟ فهو لا يرد على الرازي بقضايا مسلمة وأدلة مشهورة، وإنما يحمله على أن يرفض نفسه بنفسه، ويبين له أن أقواله وآراءه متهافتة ومتناقضة. وهو فوق هذا لا يتكلم باسم الإسماعيلية وحدهم، بل باسم الإسلام والعقل والإنسانية جمعاء. ذلك لأن مشكلة النبوة لا تتصل برفقة دون فرقة، ولا تعني طائفة منفردة من طوائف الإسلام.
وقارئ كتاب أعلام النبوة لا يشعر مطلقاً أنه يحمل شارة خاصة على عكس كتب الفرق المختلفة. وهنا نقطة نحب أن نلفت النظر إليها، وهي أن حملة الرازي وابن الراوندي من(175/20)
قبله على الأديان والنبوات أثارت الأوساط الإسلامية على اختلافها، وحفزتها إلى الدفاع عن معتقداتها. فأبو علي الجبائي الكبير (المتوفى سنة 303هـ) وابنه أبو هاشم (المتوفى سنة 324هـ) المعتزليان، وأبو الحسن الأشعري (المتوفى سنة 324هـ) زعيم أهل السنة رأوا من واجبهم أن يردوا على ابن الراوندي؛ ومحمد بن الهيثم الفلكي والرياضي (المتوفى سنة 430هـ) أخذ على عاتقه أن ينقض رأي الرازي في الإلهيات والنبوات.
إلا أن الإسماعيلية بوجه خاص قد بذلوا في هذا المضمار همة عالية ومجهودا صادقا؛ ومعظم الردود على منكري النبوة إنما وصلتنا عن طريقهم. وليس هذا بغريب، فأن الإسماعيلية في تعاليمها الدينية ومبادئها السياسية تقوم على النبوة وتعتمد عليها.
في هذا الجو المملوء بالحوار والمناقشة في موضوع النبوة الخطير نشأ الفارابي، وكان لا بد له أن يقاسم في هذه المعركة بنصيب. لاسيما وهو معاصر لابن الراوندي والرازي معا؛ فقد ولد سنة 259 هجرية وتوفى سنة 339. ويروى المؤرخون أنه كتب ردين، أحدهما على بن الراوندي والآخر على الرازي؛ ونأسف جد الأسف لأن هذين الردين لم يصلا إلينا. وقد نستطيع أن نتكهن بموضعهما على ضوء الملاحظات السابقة. فإنه لا يتوقع أن يرد الفارابي المنطقي الفيلسوف على ابن الراوندي إلا في شيء يتصل بالمنطق والجدل اللذين أخل الأخير بقواعدهما، أو في مبدأ من مبادئ الفلسفة والإلهيات التي خرج عليها.
ولابد أن يكون الفارابي، وهو الأرسطي المخلص والمعنى بالسياسة والاجتماع، قد أخذ على الرازي كذلك أشياء كثيرة، في مقدمتها التهجم على أرسطو وإنكار مهمة الرسول السياسية والاجتماعية. على أن الفارابي لم يكتف بهذا الموقف السلبي وهذا الدفع الذي إن رد عن النبوة بعض خصومها الحاضرين فهو لا يمنحها أسلحة تستعين بها على هجمات المستقبل. وعلى هذا أجهد نفسه في أن يقيم النبوة على دعائم عقلية ويفسرها تفسيرا علمياً، وبذا استطاع أن يبطل كلمة أنصار العقل الموهومين، ويدحض دعوى المتفلسفين الذين يزعمون أن الدين لا يمكنه التآخي مع الفلسفة، ولا القرب منها. ومن غريب المصادفات أن هذه الدعائم الجديدة ترجع إلى أصل أرسطي؛ فكأن الفارابي قد تمكن في نظرية النبوة أن يصوب إلى هدفين ويحظى بغايتين، فأسس الأديان تأسيسا عقلياً فلسفياً وأبان للناس أن أرسطو الذي تهجم عليه الرازي وأنكره آخرون جدير بحظ كبير من الإجلال والتقدير.(175/21)
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور(175/22)
الحرب الأهلية الإسبانية
صراع بين الطغيان والحرية
خطر الفاشستية على السلم الأوربي
بقلم باحث دبلوماسي كبير
انتهت المأساة الإسبانية إلى موقف شديد الحرج، فمنذ أسابيع تطوق القوات الثائرة مدريد، وتشدد عليها الحصار والضغط، وتصلى المدافعين عنها والمسالمين من أهلها ناراً تحصد الأرواح بلا رأفة؛ ومنذ أسابيع تضطرب الجمهورية الإسبانية في يد القدر، وتبذل جهود المستميت للدفاع عن حياتها وكيانها؛ وقد لاح مدى لحظة حينما زحف الجيش الثائر على مدريد، وطوقها من معظم النواحي أن مدريد ستسقط تواً، وأن الجمهورية الإسبانية قد تلفظ أنفاسها الأخيرة في أيام قلائل؛ ولكن الجيش الثائر لقي مقاومة شديدة لم يكن يتوقعها؛ وتدل الأنباء الأخيرة التي وردت ونحن نكتب هذه السطور أن القوى الجمهورية التي تدافع عن مدريد قد عادت إلى الهجوم، واستردت بعض المواقع التي تشرف على العاصمة، وأن الأمل قد يتجدد بإنقاذ مدريد وإنقاذ الحكومة الجمهورية؛ بيد أن مصا ير الحرب قد تتغير فجأة، وقد تقسط مدريد في يد الثوار قبل أن تطلع (الرسالة) على القارئ بهذا المقال.
على أنه يجب أن نلاحظ أولاً أن سقوط مدريد لا يعني ختام الحرب الأهلية الإسبانية؛ ولا يعتبر نصراً حاسماً للثورة العسكرية؛ ذلك أن سقوط العاصمة قد قدر منذ بعيد وبحثت الحكومة الجمهورية كل ما يترتب عليه من الاحتمالات؛ ولن يترتب عليه من الوجهة المادية سوى كسب الثوار لمدينة جديدة، وإن كان يعتبر من الوجهة المعنوية فوزاً له قيمته؛ وما زالت الجمهورية مسيطرة على شرق إسبانيا كله من قطلونية حتى مالقة، وكذلك على قسم كبير من الأقاليم الوسطى والشمالية؛ فإذا سقطت مدريد؛ قامت الحكومة الجمهورية في برشلونة أو في قاعدة أخرى، واستمر النضال مضطرماً بين الفريقين.
ولكن هزيمة الثوار أمام مدريد قد تكون بالعكس موقعة الفصل في هذه الحرب البربرية المخربة؛ ذلك أن قوى الثوار ومواردهم محدودة، وقد دفعوا إلى المعارك الأخيرة بكل قواهم ومواردهم الاحتياطية. فإذا هزموا أمام العاصمة بعد أن لاح لهم أمل الظفر، تفككت قواهم(175/23)
وخبت روحهم المعنوية، وربما اضطروا إلى الانسحاب عن جزء كبير من الأقاليم التي يحتلونها؛ وعندئذ تتطور مصا ير الحرب في صالح الجمهورية.
ولقد عالجنا موضوع الحرب الأهلية الإسبانية منذ نشوبها في أواخر يوليه الماضي، وقلنا يومئذ والحوادث في بدايتها إن هذه الحرب الأهلية الداخلية ليست إلا طوراً من أطوار الصراع الأوربي العام بين الديمقراطية والفاشستية، أو بعبارة أخرى بين النظم الحرة والطغيان العسكري؛ وقد أيدت الحوادث رأينا وما زال كل يوم تكشف لنا عن هذه الحقيقة بأدلة مادية لا شك فيها؛ وإذا كان مما يدعو إلى الأسف أن حكومة مدريد الشعبية قد اضطرت إزاء الظروف القاهرة أن تعتمد في نضالها على بعض العناصر غير المرغوب فيها من شيوعية وفوضوية؛ فليس معنى ذلك أنها حكومة شيوعية كما تصورها لنا الدعاية الفاشستية، بل هي في الواقع حكومة جمهورية شعبية من ورائها العمال والفلاحون والطبقات الوسطى أو بعبارة أخرى من ورائها الشعب الإسباني. أما الثورة التي يرفع لواءها الجنرال فرانكو وزملاؤه من القواد والضباط الخوارج فهي ثورة النظم الطاغية التي حطمتها الجمهورية في سنة 1931، ومن ورائها الملوكية الذاهبة والكنيسة وأحبارها وكبار الملاك وأصحاب الأموال، والقواد والضباط الخوارج، وهي العناصر التي كانت تتمتع بالنفوذ والسلطان في ظل الملكية الذاهبة، وترهق الشعب الإسباني بطغيانها وامتيازاتها وجشعها؛ فلما ظفر الشعب الإسباني بالقضاء على الملوكية في سنة 1931 لبث أنصارها من الأحبار والملاك يترقبون الفرص للانتقاض على النظام الذي قضى على نفوذهم؛ وقامت الوزارة الجمهورية الأولى التي يرأسها السنيور أزانا ببعض الإصلاحات السياسية والاجتماعية كنزع ملكية بعض الضياع الكبيرة وتوزيعها على الفلاحين، وفصل جماعة من الضباط الذين يشك في ولائهم، والحد من سلطات الكنيسة وأحبارها، فزادت هذه الإجراءات في غضب العناصر الرجعية؛ وفرت رؤوس الأموال الكبيرة إلى الخارج، وزادت العطلة والبأساء وأخذت الجمهورية الجديدة تتخبط في غمار من الصعاب السياسية والاقتصادية؛ وجاءت بعد وزارة أزانا في أواخر سنة 1933 وزارة محافظة فألغت هذه الإصلاحات، ولكنها فشلت في معالجة الأزمة الاقتصادية؛ وأسفرت هذه الأزمة غير بعيد عن قيام بعض الحركات الثورية الخطرية، ولا سيما في منطقة الاستورياس وفي قطلونية(175/24)
حيث يشتد الاحتشاد الصناعية؛ وعملت العناصر الرجعة على إذكاء الثورة، ولكنها أخفقت وسحقت في سيل من الدماء؛ وقامت وزارة اشتراكية جديدة برآسة السنيور أزانا في فبراير الماضي، وعاد الفلاحون إلى المطالبة بنصيبهم من الأرض، واستولوا على كثير من الضياع واضطرت الحكومة أمام الضغط العام أن تقر هذه الحركة، واشتدت في محاسبة الكنيسة ونزع أملاكها وفي مطاردة أحبارها وتجريدهم من كل حول ونفوذ؛ ولكنها لم تفعل شيئاً لإصلاح الجيش وتطهيره من العناصر الناقمة، مع أن الجيش كان مصدر الخطر على الجمهورية، ولو فعلت لتغير سير الحوادث؛ ورأت العناصر الرجعية أن تلتف حول العناصر الناقمة في الجيش من قادة وضباط، وأن يتحد الجميع على مقاومة هذه الحركة الخطيرة التي ستنتهي بالقضاء عليهم وعلى أملاكهم وامتيازاتهم، وكانوا يضعون آمالهم في الجيش والحرس المدني، ويعولون على إسقاط الجمهورية بثورة عسكرية محلية، لأن الشعب لا يحبهم ولا يمكن أن يصغي إليهم؛ ولكن الحكومة الجمهورية كانت على شيء من التحوط والحذر، فاضطروا أن يولوا شطرهم إلى مراكش حيث تكثر العناصر الناقمة في الجيش، وحيث يستطيعون الاعتماد على الجند المغاربة، وعلى المعاونة الخارجية.
هكذا اجتمعت أسباب الثورة الإسبانية التي انفجرت في 17 يوليه الماضي، وتولى قيادتها الجنرال فرانكو حاكم جزر الكناري، وأحد زعماء الجيش الناقمين؛ على أن هذه الثورة لم تنشأ مستقلة، ولم تكن داخلية محضة، فقد كانت تعتمد منذ الساعة الأولى على المعاونة الأجنبية، ولم يك ثمة شك في المصدر أو المصادر التي قدمت هذه المعاونة؛ فقد رأت الفاشستية الإيطالية وهي عماد النظم العسكرية الطاغية في أوربا الجنوبية لأسباب سياسية وعسكرية أن تشد أزر الجنرال فرانكو، وأن تعاونه بكل الوسائل؛ ورأت ألمانيا النازية من جانبها أن تشترك في هذه المعاونة لأسباب وبواعث مشابهة، ذلك أن قيام حكومة عسكرية رجعية في مدريد تقوم على وسائل الطغيان والعنف التي تقوم عليها الفاشستية الإيطالية والنازية الألمانية، مما يقوي هذه النظم من الوجهة المعنوية، ومما يضعف جبهة الديموقراطية الأوربية التي تقف في وجه الفاشستية والنازية؛ وحصن الديموقراطية الأوربية إنكلترا خصيمة إيطاليا منذ الحرب الحبشية، وفرنسا خصيمة ألمانيا التاريخية؛ وإيطاليا ترى في قيام حكومة فاشستية في إسبانيا تقع تحت نفوذها وتأثيرها وسيلة لتقوية(175/25)
نفوذها في غرب البحر الأبيض وتهديد مركز إنكلترا في هذه المياه؛ ولذلك لم تدخر إيطاليا وألمانيا وسعاً في إمداد الثورة الإسبانية بالسلاح والذخائر والرجال؛ ولم يبق سرا أن أسطول الثوار الجوي كله يتكون من طيارات إيطالية وألمانية، وأن ضباطه جميعاً من الإيطاليين والألمانيين؛ وأن إيطاليا قد اتخذت من جزيرة ميورقة مركزاً لإمداد الثور الإسبانية وتموينها، وإن الإمدادات الألمانية تصل إلى الثوار من الشمال، ومن الغرب بواسطة البرتغال التي تعمل أيضاً في معاونة الثورة وإمدادها تحقيقاً لأطماع ومصالح خاصة؛ وقد ترددت فوق ذلك إشاعة قوية بأن هنالك اتفاقاً سرياً بين الثوار وبين إيطاليا وألمانيا والبرتغال، يقضي بأن تأخذ إيطاليا جزر البليار ثمناً لمعاونتها، وتأخذ ألمانيا جزر الكناري، وتأخذ البرتغال بعض الأراضي المجاورة لحدودها الشرقية؛ وهو اتفاق لا يبعد صدوره من زعماء عسكريين يعملون بمال الأجنبي وسلاحه لسحق الحريات الشعبية في بلادهم وإراقة دماء مواطنيهم على هذا النحو الذريع الذي تطالعنا به الأنباء كل يوم؛ وهذا الاحتمال مما يثير اليوم في فرنسا وإنكلترا أشد الجزع، لأن جزائر البليار على مقربة من المياه الفرنسية وهي واقعة في طريق الجزائر، ولأن حلول إيطاليا بها يعرض سيادة إنكلترا في غرب البحر الأبيض ومواصلاتها الإمبراطورية من طريق جبل طارق إلى أشد الأخطار على أن الدولة الفاشستية في الحوادث الإسبانية على هذا النحو كان له رد فعل مماثل؛ فقد رأت روسيا السوفيتية من جانبها أن تقاوم نفوذ الفاشستية في إسبانيا بمعاونة الحكومة الجمهورية، وقد قابلت المثل بإرسال السلاح والذخائر والطائرات إلى حكومة مدريد، وقد ظهر أثر هذه المعاونة أخيراً بثبات الجنود الجمهوريين وانقلابهم إلى الهجوم في كثير من المواقع حول مدريد؛ ولهذا التدخل الثنائي في الحوادث الإسبانية قصة دولية مضحكة، فقد اقترحت فرنسا في بدء نشوب الحرب الأهلية الإسبانية على الدول أن تتبع إزاءها سياسة الحياد المطلق، ووافقت على هذا الرأي إنكلترا وألمانيا وإيطاليا وروسيا والبرتغال، وأنشئت لجنة عدم التدخل لتراقب تنفيذ هذه السياسة المشتركة ولكن الدول الفاشستية كانت تعبث منذ الساعة الأولى بمبدأ الحياد، وكانت روسيا تقابلها بالمثل، وقد اشتركت فرنسا أيضا في معاونة حكومة مدريد ولكن بشكل مستتر؛ فلما ظهر أن الدولة الفاشستية تتمادى في معاونة الثورة، رفعت روسيا القناع أيضاً وأنذرت أنها تستأنف كل(175/26)
حريتها في العمل إذا لم تقم الدول الأخرى، أعني ألمانيا وإيطاليا، بالكف عن مساعدة الثوار؛ والآن تبدو مساعدة روسيا لحكومة مدريد بشكل واضح وتتقاطر السفن الروسية من البحر الأسود إلى مياه برشلونة وبلنسية واليقنت مشحونة بالذخائر والمؤن، وقد يتطور الموقف إلى أشد من ذلك، وقد يفضي هذا التدخل المزدوج غير بعيد إلى مصادمات وحوادث لا تؤمن عواقبها على السلام الأوربي.
لقد غدت الفاشستية مصدر الخطر على سلام أوربا، وكانت البلشفية قبل عامين مصدر هذا الخطر العام، ولكن روسيا السوفيتية رأت في النهاية أنها لا تستطيع أن تبقى في عزلتها الخطرة خصوصاً بعد أن استعادت ألمانيا جيشها وتسليحاتها في ظل الفاشستية الهتلرية، فانضمت إلى جبهة الدول الغربية، وعقدت مع فرنسا الميثاق الشهير الذي اتخذته ألمانيا ذريعة لنقض جميع تعهداتها العسكرية في معاهدة الصلح؛ وقد حل الخطر الفاشستي الآن في تهديد سلام أوربا محل الخطر البلشفي؛ وقوام هذا الخطر مطامع ألمانيا وإيطاليا العسكرية والاستعمارية؛ وقد رأت روسيا أن قيام دولة فاشستية جديدة في إسبانيا مما يقوي جبهة الدول الفاشستية ضدها، فرأت أن تخوض المعركة في إسبانيا ضد التدخل الفاشستي، وأن تعاون حكومة مدريد ما استطاعت لأن في فوزها فوزا للجبهة الديموقراطية التي اندمجت فيها روسيا.
فالمعركة التي تضطرم الآن في إسبانيا هي معركة مبادئ تذكيها المصالح والمطامع السياسية والعسكرية؛ وهي مظهر محلى لتلك المعركة العامة التي تضطرم في أوربا بين الجبهتين الخصيمتين؛ ومن الخطر على سلام أوربا وعلى حريات الأمم الضعيفة أن تنتصر هذه الثورة الفاشستية؛ وربما كان انتصارها نذير حرب أوربية إذا لم تنجح أوربا في حصر هذه الشعلة المضطرمة داخل إسبانيا؛ بيد أن المعركة ستستمر حينا آخر، وقد تتغير مصاير الحرب بين آونة وأخرى، فتحرز الجمهورية الإسبانية نصرها الحاسم، وتتحطم مشاريع الدول الفاشستية، وينجو السلام الأوربي مما يتهدده من الأخطار.
(* * *)(175/27)
من النيل. . . إلى الرافدين
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
حينما قيل لي في وزارة المعارف: إنك ممن اختيروا لانتدابهم للتدريس في مدارس العراق، أحسست أن واجباً يناديني ويطلب التلبية مهما كانت فجأة النقلة ووعثاء السفر ولوعة الفرقة للأهل والوطن. . . تحقيقاً للثقة العراقية في السمعة المصرية التي رفع الله ذكرها في الشرق العربي الإسلامي، ووفاء لناشئة العراق ببعض ما لأجدادهم على العقلية العربية العامة من دين المجد والدين والعلم. . . وإيغالا بالجسم في صميم الشرق. . . وملأ للنفس من روحه الذي أومن بسره وسحره. . . وتوثيقا للعلائق بين البلدان العربية التي ما يبزغ فجر يوم جديد إلا وفيه أمل مشرق بوحدتها التي يرسم القلم الأعلى حدودها، وينسج الزمان بنودها، ويصنع جنودها.
وانطلق الجسم من حدود الأرض التي له فيها تاريخ وأطوار. . . إلى الأرض التي للروح والعقل فيها أشواق وأوطار! فقد عاشا في ميراثها، وقبسا من هداها للجنان واللسان، واعتز بفتوح أقلامها وسيوفها، فهما منها على غير نكرً.
واستدبرت السفينة شاطئ الوطن الذي في ترابه أبي، وعلى ترابه أمي، فأحسست شعور الانفصال له وقدة على كبدي! وصارت الفلك واحتواها الماء الذي قامت على عبريه بواكير الحضارات، وذابت في عبابه دولات، فقرأناه ككلمة خالدة في التاريخ، وعبرناه كقطرة في محيط الطبيعة.
وأقبل الليل ونحن على موج نرى جهاد السفينة فيه، والتقاء الظلام به، وإشراق النجوم عليه، فإذا القلب خافق صريع بسحر هذه الأكوان الثلاثة التي في كل منها محراب لعبادة الجمال الأعلى.
وتنفس الصبح على صفحة البحر فإذا لون من بهجة الحياة يشيع في النفس فتود لو أن الفلك والفلك وقفا فلا يريمان! ولاح حاجب الشمس من صوب فلسطين الثائرة ضد البطش والدس، فإذا بالعيون تشخص والخيال يطوف في بطون الوديان وقنن الجبال، فلا يرى إلا ثائراً رابضاً وراء صخرة، أو طائراً يقذف (بالبيض) مصارع، أو شلوا في فم ذئب، أو عيناً في منقار طير، أو طراداً عنيفاً بين قوة جبارة تعتمد على حذق للجديد من أساليب(175/28)
الحرب، وبين مقاومة صلبة فدائية تعتمد على الحق وإمداد الايمان؛ فسألنا الشمس أم الحياة أن تشرق بالأمل على قلوب أبناء عمومتنا، وأن تنضح مضاجع الشهداء بالشعاع المسكوب!
ثم أوفت بنا السفينة إلى بيروت وقد مال ميزان النهار إلى الغروب، فلاحت (الحمراء) في سفح لبنان كغادة نائمة في حضن جبار. فودعنا البحر واستجممنا قليلاً، ثم اجتزنا لبنان في طريق كسير الأفعي فلم نر منه غي جماله النائم، وعهدي به منذ ثلاث سنين في ضحوة النهار، أرض الفتنة والسحر.
لبنان والخلد اختراع الله لم ... يوسم بأجمل منهما ملكوته
ونزلنا دمشق عرش أمية الفاتحة الماهدة لدولات العرب طريق الحضارة والاستقرار في الوطن الكبير، فما رأينا منها إلا كما يرى النظر الطائر من مدينة تتثاءب لهجعة الليل. وما هي إلا بقية من سواد قضيناها في فندق أمية حتى غدونا مصبحين مسرعين إلى سيارات الصحراء. . . وهكذا خرجنا من الفيحاء من غير أن نرى أفراحها ومباهجها لاسترداد حريتها واستقبال وفدها، ومن غير أن نحج إلى مناسك جهادها وأعلام تاريخها.
فلما جاوزنا أرباض المدينة، وابتدأت صفرة الصحراء تطغى على خضرة الزرع، أخذت أجمع نفسي وأرهف حسي لأستقبل المجهول الذي طالما تاقت الروح إلى اختراق غيوبه وهتك حجابه حتى ترى ما فيه من صور الصمت والهول والوحشة، ونستلهم سماءه بعض المعاني التي فتقت ألسنة آبائنا بهذه الألفاظ البدوية الواعية لما أتت به الحضارات والمترجمة عن خلجات النفسي ودقائق الأحاسيس.
وهنا ابتدأ شعور مفاجئ لا تاريخ له في قلبي، فحملق البصر وتفرس في ذلك الرحب ليرى ظلال الأجناد والأحداث التي قلب بها القدر أوضاع الأرض بأيدي محمد وأبي بكر وعمر، وطغيان الموجات العربية في فترات التاريخ، وولادة الجزيرة، واحتضان العراق والشام ومصر لما تلد؛ ثم انحسرت هذه النظرة الأولى وارتدت تستنشد اللسان قول لبيد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الديار بعدنا والمصانع!
ثم احتدمت الهاجرة، والتهب الهواء، والمع السراب، وبرزت الصحراء الحمراء عارية تحت عين الشمس، ونحن فيها (كركْبٍ م الجَنّ في ِزي ناسٍ) فوق مركب (يملأ الآفاق(175/29)
صوتاً وصدى) فتصطف له أرواح الصحراء ترى، في عجب، سحر الحياة الجديدة!
وفي خطفة من خطفات الروح تلفت القلب صوب الجنوب فرأي المدينتين الغريقتين في أمواج الرمال تتحديان بصمتهما وعزلتهما ضجة الدنيا بالشهوات، وسعارها بالآفات، فحييتهما تحية القدوم على أقرب الحدود لهما، وأخذت الطمأنينة والسلام لنفسي منهما. . .
وفي مغرب الشمس وافينا (الرطبة) أول محطة عراقية، فكان أول صوت رن في آذاننا صوت الحاكي يغني أغاني من (دموع الحب) في مقهى هناك وقد التف حوله السمار في إنصات وطرب. فقلنا ها هي ذي مصر تسبقنا إلى العراق، فلا وحشة ولا اغتراب. ثم وجدنا من البشاشة لنا والأنس بنا ما إنسانا أننا في صحراء تبعد عن مصر بأربعين ساعة بالوسائل السريعة!
وما غشى الليل وحبك الظلام حتى واصلنا السير فكنا في الصحراء كسر في ضمير حليم! وجعلنا نسرح الطرف من خلال زجاج السيارة وقد غشيه الغبار فلا نرى غير نجوم وهنانة وأمانة من طول الوقوف على هذا الديموم.
وجاءت سكرة النوم فهمدت الأجساد ونام كل (على نفسه) في مجلسه، واستراحت المقل من التصويب والتصعيد في الأفق البعيد، وهكذا نمنا على دوي الرحى. . . ولم يوقظنا إلا وقوفها في (الرمادي) في الهزيع الأخير. . . فألممنا بها للتأشير على جوازات السفر. . . ثم وصل ما انقطع. . . اطراد السير والنوم حتى نرد بغداد مع الصباح. . .
(هذه هي بغداد أيها الركب؟) هكذا قال الصبح الوليد. . . فمسحت جفوني، وجعلت أتلفت عن شمالي ويمني لأرى مدخل دار السلام. . . المدينة التي احتضنت نتاج مكة ويثرب ودمشق وأثينا وروما والمدائن والإسكندرية، وزاوجت بين ألوانه، ومزجت ثقافاته حتى رأت الدنيا من تفاعلها عالماً جديداً غريباً. . .!
المدينة التي اضطلعت بالوصاية على ميراث الدين والعلم في زمن الجهل فربا في أيدي بنيها الممثلين لأجناس الناس وأديانهم وألوانهم، فجمعوا خلاصة ما في الإنسانية من تسامح وتلاقٍ على المعنى الموحد والرأي المجتمع.
المدينة التي كان الحج إليها واجباً على من كان يريد أن يتملى من دنيا القرون الوسطى في عظمة ملوكها وبطولة قوادها وفحولة علمائها وبلاغة صناع الكلام بها وضجة سوامرها(175/30)
بالإنشاد، ورنين الكؤوس، وضحك المجان، وعزف القيان. . .
ومهما يكن من عبث الزمان بها وتقلب الأحداث عليها، وتبدل المشاهد فيها، فان أطياف الماضي لا تزال تخايل أمام العيون التي تعرفت إليها في دنيا الكتب وصحائف الآثار. والذين يجدون في أنفسهم قدرة على ذكرى الأضواء والألوان لا يستطيعون أن يمروا على تراب كتراب بغداد، وقد ضم بين معادنه أشعة سقطت من أمجاد تاريخهم وعرش دينهم وعلمهم. . . دون أن يتفرسوا بين طياته، وتحن قلوبهم إلى الالتصاق بذراته!
وبعد. فإن ما رأيناه من حفاوة إخواننا العراقيين حكومة وشعبا بنا، وتقديرهم الجميل لجهود المصريين في المعاونة على تنفيذ سياسة الإنشاء والتعمير، وثقتهم فيهم حتى لقد أسلموا إليهم أعز شيء في الدولة وهو نفوس الناشئين، ووقوفهم على الدقيق والجليل من شؤون مصر. . . وامتلاء دورهم ونواديهم بأغاني مصر في المذياع والحاكي. . . كل أولئك مما يجعل الأمل يوشك أن يكون يقيناً بأن الشرق العربي قادم على عهد من وحدة المنزع ومجابهة الحياة في صفوف يجمعها نظام موحد وإن اختلفت أوضاعها في الميدان العام.
وإنه ليسرني إلى ما يقارب الفخر. . . أن تكون مهمتي في مصر والعراق من أمس المهمات بإعداد العقلية العامة في الناشئين لهذه الحال الموموقة والتوسيد لها. . . وأنعم بها من رسالة لمعلم!
(كوت العمارة)
عبد المنعم محمد خلاف(175/31)
في الأدب المقارن
أثر الفنون في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
تختلف الفنون في مجالاتها وبعض وسائلها: فللشعر من القدرة على وصف الحركة وتناول الأشياء المتباعدة في الزمان والمكان ما ليس للتصوير، ولهذا من المقدرة على بيان دقائق الموصوف وتحديد ماهيته ما يعوز الشعر؛ ولكن الفنون تتفق جميعاً في غايتها التي هي التعبير عن تأثر الإنسان بروائع الحياة وشغفه بجمالها، وفي كثير من وسائلها التي تتصل بطبائع الإنسان وميوله: كالتناسب والتماثل والتكرار في الشكل أو في النغمة أو في الروي، والتقابل والتضاد في كل أولئك.
فالفنون على تعددها مظاهر شتى لصفة إنسانية واحدة، هي ترهف الشعور وحب الجمال. ولا يخلو المبرز في أحد الفنون من بصٍر بسائر وإن قل، وحب لها يعلو على حب الفرد العادي. وكثيراً ما جمع الفنان الموهوب بين فنون عديدة يبرع فيها جميعاً؛ وقد نبتت الموسيقى والشعر والرقص بين الجماعات الأولية من أصل واحد ونمت حتى استقل كل منها. وكان الشعر في بدئه موسيقى عجماء وصيحات غنائية غير ذات معنى، ثم داخلها المعنى تافهاً في أول أمره، وما زال يتعاظم شأنه حتى احتل المكانة الأولى في الشعر، وإن لم تفقد الموسيقى أهميتها في رصانة القصيد، فأي شعر خلا منها قصر عن أوج الكمال مهما سما معناه.
وقد مارس العرب والإنجليز تلك الفنون الثلاثة: الموسيقى والرقص والشعر، منذ عهودهم الأولى، وارتقت موسيقاهم بمخالطة الأمم الأخرى: فأخذ العرب عن الفرس، والإنجليز عن الإيطاليين خاصة والفرنسيين ما لم يكونوا يعرفون من أصوات الموسيقى وآلاتها ومصطلحاتها وبان أثر ذلك في أدبهم. وأبدع أمثلة لشعر الغناء والرقص في الإنجليزية قصائد ملتون التي نظمها قبل انغماره في حركة المطهرين. وممن تغنى من شعراء الإنجليزية بتأثير الموسيقى والغناء دريدن في قصيدته (مأدبة الاسكندر)، وكولنز في قصيدته (العواطف).
وبذلك تغنى أيضاً شعراء العربية، بل بلغ انكبابهم على غشيان مجالس الغناء والرقص حداً(175/32)
بعيداً، بعد أن انتشر الترف عقب الفتوح، حتى كاد شعر كثير منهم، كبشار وأبي نواس، ينقسم إلى بابين رئيسيين: المدح الذي يطلب من ورائه المال الوفير، والتغني بمجالس اللهو والطرب التي ينفق فيها ذلك المال. ومن جيد ما قيل في وصف المغنيات وآلات الموسيقى قول ابن الرومي:
وقيان كأنها أمهات ... عاطفات على بنيها حوان
كل طفل يدعى بأسماء شتى ... بين عود ومِزْهَرٍ وكران
أمه دهرَها تترجم عنه ... وهو بادي الغنى عن الترجمان
ذات صوت تهزه كيف شاءت ... مثلما هزت الصَّبا غصنَ بان
وقوله في راقصة:
إذا هي قامت في الشفوف أضاءها ... سناها فشفَّتْ عن سبيكة سابكِ
وارتقى بين الأمتين حين تحضرنا فن العمارة، وقامت في بلادهما بيوت الملك والعبادة، والحصون والمعاقل، وتأثر فن العمارة في كلتيهما تأثيراً كبيراً بالطراز القوطي، واسترعت الأدباء تلك المباني الضخمة والحصون المشيدة، تروع الناظر فخامتها، ويعجب اللب من مغالبتها كر السنين ومصاحبتها جيلا من الناس بعد جيل؛ وشغل شعراء العربية خاصة بوصف قصور الملوك، وما حوت من ضروب الزخرف. ولفتت أذهان شعراء الإنجليزية وكتابها القصور والبروج المتخلفة من عصور الإقطاع تلك التي تجيش بذكريات الماضي والتي شهدت مصارعات الأمراء ومحنهم في غياباتها. وكانت لكثير من الأدباء مواقف بالكنائس والكتدرائيات، ولا سيما وستمنستر أبى التي تعج رحابها بآثار الماضي.
ووصلت يد كل من الأمتين إلى تراث اليونان، فاختلف موقفاهما: فأما الإنجليز فلم يتركوا شاردة ولا واردة من آثار ثقافة اليونان وفنونهم إلا تزودوا منها، فأحدث اطلاعهم على روايات سوفوكليس وأوربيدس انقلاباً في (رواية المعجزات) التي ترعرعت في الكنيسة في العصور الوسطى، فالتفتت إلى تصوير طبائع النفس الإنسانية، أي صارت فناً؛ وأخذ الإنجليز عن اليونان وتلامذتهم الطليان النحت والتصوير. وكانت بلاد اليونان وإيطاليا وما تزالان محج رجال الفنون الإنجليز من شعراء ومصورين ونحاتين وموسيقيين، وكانت صورهم وتماثيلهم وما تزال وحياً ونماذج لفناني الإنجليز؛ وأنجبت إنجلترا عدداً عديداً من(175/33)
نوابغ المصورين والمثالين جاروا أساتذتهم من أهل القارة في مجالات النحت والتصوير، كما جاورهم في مضمار الأدب.
وظهرت آثار تلك الفنون في الأدب الإنجليزي: فالتمثيل صار باباً من أبواب الأدب له خطره، وتوفر عليه أكثر نوابغ العصر الاليزابثي وكثير ممن تلاهم. والصور والتماثيل التي أبدعها رجال الفن الإنجليز أمثال رينولدز وكنستبل وترنر، والأجانب أمثال رافائيل ودورر وفان ديك، وسير أولئك النوابغ، صار كل ذلك مجالاً لتأمل الشعراء والكتاب، ومهبطا لآثار أخرى في عالم الأدب لا تقل مكانة عن تلك الآثار في عالم النحت والتصوير؛ وصرف بعض الأدباء همهم إلى نقد أعمال المصورين والنحاتين والممثلين، ومن أولئك هازلت ورسكن، وإلى الأخير يرجع الفضل في إظهار المصور ترنر.
وقد قضى كيتس وشلي وبيرون وبروننج وهاردي ردحاً طويلاً أو قصيراً من أعمارهم في إيطاليا، حيث استطابوا مناظر الطبيعة وتفيأوا ظلال آثار الرومان واستلهموا بدائع المصورين والمثالين الطليان، بين رومة وفلونسة والبندقية، وقضى الشاعران الأولان نحبيهما هناك، ودفنا في أرباض تلك المعاهد التي ألفاها حيين. وبين أطلال رومة نبتت فكرة عمل من أكبر أعمال النثر الفني في الإنجليزية، ألا وهو تاريخ جيبون عن انحطاط الدولة الرومانية وسقوطها، فهو يحدثنا في مذكراته أن الرغبة في وضع مؤلفه عنت له أثناء تجواله هناك بين آثار الوثنية ومعالم النصرانية.
ولم تقتصر الصلة بين الأدب وغيره من الفنون على اقتباسه منها واستلهامه إياها، بل حدث العكس: إذ عمد أعلام تلك الفنون إلى الأدب يطلبون الوحي وينشدون النماذج، فوجودا في روايات شكسيبر العديدة، ومناظرها الكثيرة، وشخصياتها الحية، ومواقفها الحافلة بشتى العواطف، وفي خرائد ملتون المملؤة بالأوصاف والصور والحالات النفسية، وفي روائع تنيسون وبروننج المنسوجة من أشتات الخرافات البديعة، منادح لفنهم ومسرى لخيالهم. والمتاحف الإنجليزية ملأى بتلك الآثار المنتزعة من قصائد الشعراء. كصور ليدي شيلوت، وأوفيليا، والحسناء القاسية.
وكان من شعراء الإنجليزية المعدودين من ضربوا بسهم في الفنون الأخرى، واشتهروا بها اشتهارهم بصناعة القلم: فشكسبير كان ممثلاً كما كان شاعراً ومؤلفاً للمسرح، ووليم(175/34)
موريس كان مصوراً وشاعراً، وروزيتي ألف جماعة (ما قبل الرافائيليين) التي كانت لها مبادئها في التصوير، كما كان لها مذهبها في الأدب؛ وأكثر من هؤلاء من لم تدركهم الشهرة في غير الأدب من الفنون، وإن كانوا شديدي الولع بها، شديدي الشغف بممارستها والتثقف فيها.
وهكذا أصبح من غير النادر في الإنجليزية أن ترى الأسطورة أو القصة التاريخية، كوقائع يوليسيز ومخاطرات فرسان المائدة المستديرة. وقد تناولها الشاعر والممثل والمصور والنحات كل من ناحيته مستقلاً بنظرته، أو معتمداً على الآخرين، مستلهماً محاسنها ومغازيها، مبرزاً من صورها وأفكارها ما يلائم فنه ويجري في مجال صنعته، نافثاً فيها من خلاصة تفكيره وعصارة شعوره واتجاهات عصره ما يزيدها جدة وروعة.
هذا التواصل والتجاوب والتعاون المستمر بين الفنون زاد الأدب الإنجليزي خصباً على خصب أفسح أمامه أغراض القول، وزاد رجاله بصراً بحقائق الفن وغاياته ووسائله، واعتقاداً بوحدة الفنون جميعاً وتلاقيها في الوسائل والغايات؛ فحرصوا في نثرهم ونظمهم على صدق النظرة وصحة الشعور ونشدان الجمال، واستعاروا وسائل الموسيقار والمصور والممثل والنحات، فاهتموا بالأوصاف الجميلة للطبيعة والإنسان، واعتنوا بتوضيحها وإبرازها، متوسلين لتصوير المعنى بجرس اللفظ ومناسبة التعبير واختيار القوافي. وتصرفوا في الوزن والروي بما يلائم الحالة الموصوفة من سكون أو حركة، وفرح أو حزن، وقسوة أو لطف: وتأنقوا في صوغ الحوار بين أبطال قصائدهم، معبراً حوارهم عن منازعهم؛ فإذا قرأت القصيدة القصيرة أو الطويلة لأحدهم، لم تجدك حيال معان ذهنية متزاحمة، بل رأيت صوراً محكمة التصوير، وموسيقى مطربة النغمات، وأشخاصاً ممتلئين حياة وقوة وألواناً وظلالاً.
ولم يغفل الشعراء الذين مجدوا الفنون الأخرى ذلك التمجيد عن فنهم الخاص، فنظم بوب وكيتس وتنيسون وغيرهم من الأعلام قصائد غراء في الشعر والشعراء. ولملتون وماثيو أرنولد أشعار في شكبير تفيض إعجاباً وتقديساً، ولوردزورث وتنيسون وأبركرومبي الشاعر المعاصر في ذكرى ملتون أشعار كهذه. وكان هاردي لا يمل ذكر شلي وتعظيمه في قصيده؛ وكانت لشعراء الأمم الأخرى لدى شعراء الإنجليز منزلة كهذه، فأشعارهم ملأى(175/35)
بمحاكاة الشعراء الأقدمين كهوميروس وفرجيل ودانتي والخيام، والمحدثين كشيلر وجيته وهيجو، وترجمتهم والتحدث عنهم، لأن الفن يجمعهم طراً في صعيد واحد، ويمحو بينهم فوارق الزمان والمكان.
وما أعظم الفرق بين هذا الإعجاب النبيل بمتقدمي الشعراء، وبين ما نراه في العربية من وثوب بعض الشعراء ببعض، ووقوع حماد في بشار، وحملة ابن الرومي على البحتري، وحقد دعبل على الطائي؛ أذهلهم التناحر على متاع الدنيا عن الصلة السامية التي يصلهم بها الفن؛ وقد نعلم أن البحتري كان يقدم أبا تمام، وأن المعري كان يعظم أبا الطيب، ولكن ذلك التقدير لم يتخذ شكلا فنياً، ولم يبرز في عالم الشعر قصيداً رائعاً يفيض بتقديس الفن وتبجيل رجاله. وبينما كان ذاك التحاقد ديدن شعراء العربية فيما بينهم كان جهلهم بشعراء الأمم الأخرى مطبقا.
لقد حجب العرب عن تلك العوالم الفنية إعراضهم عن تراث اليونان الفني، ودعاهم إلى ذلك الأعراض تمكن الملكة البيانية منهم؛ تمكنت من نفوسهم في البادية، حيث لا تتوفر أدوات فن من الفنون سوى فن البيان الذي لا يحتاج إلى أدوات غير صفاء الذهن وطلاقة اللسان، وقوى اعتداد العرب بتلك الملكة وتوفرهم عليها نزول القرآن الكريم الذي زادهم كلفا بالفصاحة، وكان دائماً أساس ثقافتهم التي يؤخذون بها من الصغر. فالإنجليز اتصلوا بتراث اليونان وهم بعد مقصرون دون جميع غايات الثقافة، فاغترفوا من جميع مناهله؛ ولم يتصل العرب به وبغيره من تراث الأمم إلا بعد أن توطد أدبهم وتمكن سلطانه من نفوسهم، فشمخوا به على سائر الآداب، واستغنوا به عن كل الفنون.
لذلك لم يحفل العرب بالتمثيل، ولم يزدهر بينهم التصوير والنحت، ولم يتعديا حدود الصناعة ذات الغرض المادي إلى حدود الفن السامي الذي هو غاية نفسه، واقتصروا من التصوير والزخرفة والنحت على ما كان يزين قصور كبرائهم من تهاويل ودمي قليلة الحظ من الفن، لا تحمل وراءها من المعاني السامية ما تحمله الصور والتماثيل الفنية؛ واستبد الأدب بالتعبير عن أسمى مشاعر العرب وأرقى أفكارهم. وإذا تذكرنا أن الفنين الآخرين سالفي الذكر - الموسيقى والرقص - لم يتخلصا من ربقة المادية وشبهة الشهوات إلى عوالم الفن المتسامي بالنفوس، وظلا دائماً مقرونين بالشراب والقصف وخلع العذار، تبين(175/36)
لنا أن الأدب كان فن العرب الفرد، وأن الشعر ظل ديوانهم في مختلف عصورهم، أودعوه حوارهم فاستغنوا عن التمثيل، وأوصافهم فاستغنوا عن التصوير، وأمداحهم فقام مقام التماثيل.
ومن ثم نرى أثر فنون التمثيل والتصوير والنحت في الأدب العربي ضئيلاً: فلم يكن بين العرب ممارسون لتلك الفنون ينعكس ظل فنونهم في الأدب؛ ولم يكن لدى أدباء العربية كبير اهتمام بمخلفات الأمم السالفة في مشارق دولتهم ومغاربها. ومن القليل الجيد الذي نظموه في تلك المناحي سينية البحتري التي يصف فيها نقوش إيوان كسرى، ورائية ابن احمد يس التي يصف فيها تماثيل الأسود في بعض القصور، وسينية أبي نواس التي يصف عرضاً في أثنائها تصاوير كأسه في قوله:
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدَّريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زُرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
وقول بعض شعراء الأندلس في تمثال امرأة وولدها:
ودمية مرمر تزهو بجيد ... تناهي في التورد والبياض
لها ولد ولم تعرض خليلا ... ولا أَلَمتْ بأوجاع المخاض
ونعلم أنها حَجَرٌ ولكن ... تتيمّنا بألحاظٍ مِراَض
ولا تخلوا كل هذه الشواهد من آيات البراعة وحسن الملاحظة والوصف، حتى ليأسى المرء على أن لم يول العرب هذه المناحي من القول اهتماماً أكثر مما أولوها. وسينية البحتري مثل شرود من أمثلة الشعور الصادق والعاطفة الإنسانية والروح الفنية في الأدب العربي؛ وأعجب من تفردها في الأدب العربي صدورها عن البحتري الذي سخر بيانه للمدح والهجاء. وقد كان نقاد العرب يطربون لهذه الأشعار الفنية الجميلة، البعيدة عن آثار المدح والهجاء والنسيب المتكلف، فقد أعجب الجاحظ وغيره بسينيتي البحتري وأبي نواس سالفتي الذكر، وعدوهما من ذخائر الشعر العربي، ولكن دواعي مثل هذا النظم كانت نادرة، وتيار محاكاة السابقين كان يدفع الأدباء في غير هذا الاتجاه.
فالأمتان العربية والإنجليزية تتفقان في ظهور الأدب فيهما على سائر الفنون واجتذابه أغلب نوابغهما، واشتهارهما بالسبق فيه بين الأمم، فان الإنجليز وإن جاروا الأوربيين في(175/37)
مجالات النحت والتصوير لم يبلغوا شأوهم كما بلغوا الشأو والغاية في صناعتي الشعر والنثر، ولم ينجبوا من أعلام النحت والتصوير من توازي مكانته العالمية مكانة شكسبير وملتون وبيرون؛ ولكن تفترق الأمتان في أنه بينما مارس الإنجليز الفنون الأخرى وهاموا بها ومجدوا آثار الأمم الأخرى فيها أهمل العرب الفنون الأخرى إهمالاً يكاد يكون تاما، فلم تجتذب اهتمام نوابغهم ومثقفيهم، وظل ما عرفوه منها أدنى إلى الصناعات منه إلى الفنون، وظل الأدب - ولا سيما الشعر - يشغل في عالم الفن والوجدان مكاناً عالياً وسلطة مطلقة فردية بين العرب، كسلطة الخلفاء والأمراء المستبدة في عالم السياسة، متوحداً بالإفصاح عن أفكارهم مستأثراً برعايتهم وإجلالهم.
وقد خسر الأدب العربية بتفرده هذا الشيء الكثير، لأن الفن الواحد لا ينمو خير نموه بعزلته، بل بمواصلته الفنون الأخرى؛ خسر ما كان ينتظر أن تمده به تلك الفنون من إلهامات ومنادح للقول، وما كان ينتظر أن تبثه في رجاله من فهم دقيق للفن وسمو غايته وتعاليه عن المادة وبعد مراميه، وما توحيه إليهم من وسائل للتعبير والتصوير والملاءمة بين المعنى واللفظ، وجعل الأخير دائماً خادما للأول. وبالجملة خسر الأدب معاونة الفنون التي استأثر بالمكانة دونها، كما خسر مساعدة الآداب الأجنبية التي ترفع عنها.
فخري أبو السعود(175/38)
صديق!
للأستاذ علي الطنطاوي
أستأذن أستاذنا المازني فأستعير منه تلك الكليشيه المعهودة التي كان يصدر بها مقالات ذات الثوب الأرجواني، لأقول: إن المقالة خيالية لا حقيقة، وأؤكد هذا للقراء!
(علي)
قال:
. . . لا أدري كيف عرفته، ولا أعلم السبيل التي دخل منها إلى قلبي؛ فاحتل فيه هذه المنزلة، ولم أنتبه له إلا وهو ملء سمعي وبصري وعقلي. . .
وإنني لأعرفه منذ عشرين يوماً، ولكني أحاول عبثاً حين أحاول ادكار بدايتي معه، لأنه عماد حياتي؛ لا أستطيع أن أتصور لصلتي به بداية؛ عرفته يوم عرفت الدنيا؛ لم أجهله قط ولم أنفرد عنه ساعة؛ وهو دنياي، إن لقيته لقيت الحياة، وإن نأى عني وجدت كل شيء في الحياة ميتا.
ولست أدري أي صلة هذه، ولا أعرف لها تحديداً مضبوطاً، ولكن الذي أدريه وأعرفه أنه ليس له في أعماق قلبي إلا الصداقة. إنني لم أنظر إلا إلى روحه، بل أنا لا أقدر أبداً أن أتخيله بشراً من لحم ودم. إنني أراه فكرة سامية، صورة شعرية بارعة، معنى من المعاني العبقرية. . . إنني أراه وحده معنى كلمة الوجود. . . لقد ضاعت معه حدود شخصيتي، ومحيت معالمها، فلم أعد أعرف أين أنتهي (أنا)، وأين يبدأ (هو)، وامتزجت نفسي بنفسه، فكأني (أنا من أهوى ومن أهوى أنا. . .)، وكدت أقول بالحلول، وأرتكب هذه الحماقة الكبرى، التي لا يقول بها ذو عقل. . . حين رأيتني أضحك إذا سر (هو)، وأحزن إذا تألم، وأشبع إذا أكل، وإذا أصابه الصداع وجعني رأسه، وإذا رأى (هو) حلماً هنيئاً تبسمت وأنا غارق في منامي، أجد اللذة الكبرى في رفاهيته وراحته، وآلم لشقائه أكثر مما آلم لشقائي، وأريد أن أمنحه صحتي وحياتي وكل ما أملك؛ أريد أن أفني فيه ولا أجد في شيء من ذلك عملاً كبيراً، ولا أحس أني مقدم على تضحية، لأنه اندمج في أعمق عاطفة من عواطفي، ونزل إلى أبعد غور من نفسي، وسيطر على قواي كلها، فلم يبق لي عاطفة مستقلة أو حاسة حرة أفكر بها فيه، وأزن صلتي به. . .(175/39)
اختلف نظري إلى الحياة، وتبدلت المشاهد في عيني، فكأن الدنيا كانت في ظلام، حتى طلع في سمائه بدراً منيراً فأصبحت أرى كل شيء جميلاً في بصري: هذا السطح المشرف على الفضاء الرحيب، سطح دارنا في (الأعظمية)، وهذا النخيل الممتد إلى غير ما نهاية، وبغداد التي تلوح منائرها وقبابها كأنها معلقة في السماء حيال الأفق، ودجلة التي تبدو من خلال الأغصان لامعة كصفحة المرآة المجلوة تشق عبابها الزوارق، تتمايل شرعها البيض مع نسيم المساء الناعش الخفيف، والبدر الذي طلع من الشرق يبدو منه حاجب ويختفي حاجب وراء نقاب من الغيوم. . . وهذا الطريق الذي لم تمتد إليه يد الحكومة بالتعبيد فبقى على فطرته وجماله لم تشوهه كف الإنسان، يظهر تارة، ويلتوي تارات، ويضيع بين النخيل ويضل الطريق. . . والفلاحين الذي يرجعون إلى دورهم حين تعود الشمس إلى خدرها، ويزدحمون على هذا الطريق الشعري الضيق، هم ودوابهم ومواشيهم تطنطن الأجراس في أعناقها والقطعان يسوقها الرعاة الذين تنكبوا عصيهم ثم ساروا وراءها يزمرون أو يغنون، وهؤلاء الأطفال من تلاميذ المدارس الذين يلعبون في هذه الرحبة، يتقاذفون الكرة يتصايحون ويتراكضون، فإذا أمسك أحدهم بها ضربها برجله فانطلقت تشق الفضاء كأنها القنبلة، ووقف الصبية صامتين قد علقوا أنفاسهم وتبعتها عيونهم، تبصر مسيرها، فإذا هبطت واستقرت على الأرض عادوا يركضون ويصيحون.
أصبحت أرى كل شيء جميلاً في عيني حبيباً إلي: الفلاحين الآوين إلى بيوتهم، والأطفال العاكفين على كرتهم، والدواب والمواشي. . . وأسمع في كل صوت أغنية عذبة، أسمعها في حفيف الأوراق، وزقزقة العصافير، ونباح الكلاب، ودوي الرعد. . . وأرى الجمال في ظلام الليل الدامس، كما أراه في صفحة البدر المنير، وأبصره في الصحراء المقفرة، كما أبصره في الروضة المزهرة، وأسمعه في صفير الرياح الرعب، كما أسمعه في تغريد البلبل المطرب، وألمسه في الخريف كما ألمسه في الربيع؛ بل إني لأعجب من هؤلاء النظامين المتشاعرين الذين يسميهم الناس شعراء، كيف يعمون عن صفحة الكون، ثم يذهبون فيحدقون في صفحات الكتب، وينظرون فيها بالمجهر: هؤلاء المقلدين الذين يظنون أن الخريف معناه الوحشة أبداً والموت والكآبة، وأن معنى الربيع الأنس دائماً والبهجة والسرور، كأن العواطف البشرية تسير على التقويم الفلكي، وتدور مع الأيام. . . فليس(175/40)
على الشاعر إلا أن ينظر في التقويم حتى يرى أيوم حزن هو، أم يوم سرور؟! وكأن في وجه الأديب زجاجتي فوتوغراف لا تريان إلا ما في الوجود، لا عيني إنسان يحس ويشعر.
أين إذن عاطفة الشاعر؟ وهل يرى الشاعر الحزين اليائس ربيعاً مشرقاً جميلاً؟ ألا يرى في الربيع الوحشة والكآبة والحزن؟ وهل يشعر المسلول القانط بجمال الزهر؟ والشاعر الفرح؟ ألا يرى في الشتاء وفي الخريف جمالاً وبهجة، ويبصر فيهما ورداً وزهراً؟
إن في شعر هؤلاء المتشاعرين المقلدين كل شيء إلا الحياة، إلا العاطفة، إلا الروح. هو شعر ميت، تمثال حسناء، ولكنه من الشمع!
لقد ظهر هذا الصديق فجأة في طريقي، فملك علي أمري، وأخذ بيدي فسلك بي طريقاً جديدة، حتى نأى به عن الناس فأصبحت لا أرى في الدنيا غيره، ولا أبصره سواه، وصب في نفسي عزيمة وقوة، فأحسست بالنشاط في جسمي وروحي، ودفعني إلى أداء الواجب علي، فوفيته على وجهه، وساقني في سبيل الاستقامة والشرف، وسما بي عن (الأنانية) والاستئثار فأضحيت أشفق حتى على أعدائي المخاصمين، وأعطف حتى على المجرمين والساقطين؛ وفتح لي مغاليق هذا الكون، فإذا وراء هذه المظاهر دنيا من الجمال والجلال والسحر والفتون، وإذا حيال هذه الدنيا دنيا أكبر، وأحفل بالكائنات، هي في نفسي، فرأيت وأبصرت ونعمت وانتفعت. . .
لقد دفعتني هذه الصداقة إلى الصلة بربي، والقيام بواجبي، والتعلق بأهلي، فلست أريد بعدها شيئاً، فخذوا الدنيا كلها، حسبي أني أخذت منها صديقاً.
(بغداد)
علي الطنطاوي(175/41)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فرديك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الجزء الأول
مستهل زرادشت
- 1 -
لما بلغ زارا الثلاثين من عمره، هجر وطنه وبحيرته وسار إلى الجبل حيث أقام عشر سنوات يتمتع بعزلته وتفكيره إلى أن تبدلت سريرته، فنهض يوماً من زقادة مع انبثاق الفجر وانتصب أمام الشمس يناجيها قائلا:
- لو لم يكن لشعاعك من ينير، أكان لك غبطة، أيها الكوكب العظيم؟ منذ عشر سنوات ما برحت تشرق على كهفي، فلولاي ولولا نسري وأفعاي، لكنت مللت أنوارك وسئمت ذرع هذا السبيل، ولكننا كنا نترقب بزوغك كل صباح لنتمتع بفيضك ونرسل بركتنا إليك. أصغ ألي، لقد كرهت نفسي حكمتي كالنحلة أتخمها ما جمعت، فمن لي بالأكف تنبسط أمامي لأهب وأغدق إلى أن يغتبط الحكماء من الناس بجنونهم ويسعد الفقراء منهم بثروتهم.
تلك هي الأمنية التي تهيب بي للجنوح إلى الأعناق، كما تجنح أنت كل مساء منحدراً وراء البحار حاملا إشعاعك إلى الشقة السفلي من العالم، أيها الكوكب الطافح بالكنوز.
لقد وجب علي أن أتوارى أسوة بك، وجب علي أن أرقد على حد تعبير الأناسي الذين أهفو إليهم.
باركني، إذن، أيها الكوكب، فأنت المقلة المطمئنة التي يسعها أن تشهد ما لا يحد من السعادة دون أن تختلج كمقلة الحاسدين بارك الكأس الدهاق تسكب سلسبيلاً مذهباً ينثر على الآفاق وهجاً من مسراتك.
أنظر! إن هذه الكأس تريد أن تندفق ثانية، ويريد زارا أن يعود إنساناً.
وهكذا بدأ جنوح زارا إلى المغيب.
- 2 -(175/42)
وانحدر زارا من الجبال فما لقي أحداً حتى بلغ الغاب حيث انتصب أمامه شيخ خرج من كوخه بغتةً ليفتش عن بعض الجذور والأعشاب، فقال الشيخ:
- ليس هذا الرحالة غريباً عن ذاكرتي، لقد اجتاز هذا المكان منذ عشر سنوات، ولكنه اليوم غيره بالأمس.
لقد كنت تحمل رمادك في ذلك الحين إلى الجبل، يا زارا، فهل أنت تحمل الآن نارك إلى الوادي؟ أفما تحاذر يا هذا أن ينزل بك عقاب من يضرم النار؟
لقد عرفت زارا، هذه عينه الصافية، وليس على شفتيه للاشمئزاز أثر؛ أفما تراه يتقدم بخطوات الراقصين؟
لقد تبدلت هيئة زارا، إذ رجع بنفسه إلى طفولته. لقد استيقظت يا زارا فماذا أنت فاعل قرب النائمين.
كنت تعيش في العزلة كمن يعوم في بحر والبحر يحمل أثقاله، وأراك الآن تتجه إلى اليابسة، أفتريد الاستغناء عمن حملك لتسحب هامتك على الأرض بنفسك؟
فأجاب زارا: إنني أحب الناس
فقال الشيخ الحكيم: أنني ما طلبت العزلة واتجهت إلى الغاب إلا لاستغراقي في حبهم، أما الآن فقد حولت حبي إلى الله، وما الإنسان في نظري إلا كائن ناقص، فإذا ما أحببته قتلني حبه.
فأجاب زارا: ومن يصف لك الحب الآن! إنني لا أقصد الناس إلا لأنفحهم بالهدايا.
فقال الحكيم القديس: إياك أن تعطيهم شيئاً، والأجدر بك أن تأخذ منهم ما تساعدهم على حمله، ذلك أجدى لهم على أن تغنم سهمك من هذا الخير، وإذا كان لا بد لك من العطاء فلا تمنح الناس إلا صدقة على أن يتقدموا إليك مستجدين أولاً.
فأجاب زارا: أنا لا أتصدق، إذ لم أبلغ من الفقر ما يجيز لي أن أكون من المتصدقين.
فضحك القديس مستهزئاً وقال: حاول جهدك إذن إقناعهم بقبول كنوزك، إنهم يحاذرون المنعزلين عن العالم، ولا يصدقون بأننا نأتيهم بالهبات؛ إن لخطوات الناسك في الشارع وقعاً مستغرباً في آذان الناس. إنهم ليجفلون على مراقدهم إذ يسمعونها فيتساءلون: إلى أين يزحف هذا اللص؟! لا تقترب من هؤلاء الناس. لا تبارح مقامك في الغاب، فالأجدر بك أن(175/43)
تعود إلى مراتع الحيوان، أفلا يرضيك أن تكون مثلي دبا بين الدببة وطيرا بين الأطيار؟
فسأل زارا: وما هو عمل القديس في هذا الغاب؟
فأجاب القديس: إنني أنظم الأناشيد لأترنم بها، فأراني حمدت الله إذ أسر نجواي فيها بين الضحك والبكاء، لأنني بالإنشاد والبكاء والضحك والمناجاة أسبح الله ربي، ومع هذا فما هي الهدية التي تحملها إلينا؟
فانحنى زارا مسلماً وقال للقديس: أي شيء أعطيك؟ دعني أذهب عنك مسرعا كيلا آخذ منك شيئاً.
وهكذا افترقا وهما يضحكان كأنهما طفلان.
وعندما انفرد زارا قال في نفسه:
- إن لأمر جد مستغرب، ألما يسمع هذا الشيخ في غابة أن الإله قد مات.
- 3 -
وإذ وصل زارا إلى المدينة المجاورة، وهي أقرب المدن إلى الغاب، رأى الساحة مكتظة بخلق كثير أعلنوا من قبل أن بهلواناً سيقوم هنالك بالألعاب، فوق زارا في الحشد يخطبه قائلاً:
- إنني آت إليكم بنبأ الإنسان المتفوق، فما الإنسان العادي إلا كائن يجب أن نفوقه، فماذا أعددتم للتفوق عليه؟
إن كلا من الكائنات أوجد من نفسه شيئاً يفوقه، وأنتم تريدون أن تكونوا جزراً يصد الموجة الكبرى في مدها؛ بل إنكم تؤثرون التقهقر إلى حالة الحيوان بدل اندفاعكم للتفوق على الإنسان. وهل القرد من الإنسان إلا سخريته وعاره؟ لقد اتجهتم على طريق مبدؤها الدودة ومنتهاها الإنسان، غير أنكم أبقيتم على جل ما تتصف ديدان الأرض به. لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى؛ على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته.
ليس أوفركم حكمة إلا كائن مشوش لا يمت بنسبه إلى أصل صريح، فهو مزيج من النبات والأشباح، وما أدعو الإنسان ليتحول إلى شبح أو إلى نبات.
لقد أتيتكم بنبأ الإنسان المتفوق.
إنه من الأرض كالمعنى من المبنى، فلتتجه أراداكم إلى جعل الإنسان المتفوق معنى لهذه(175/44)
الأرض وروحًا لها.
أتوسل إليكم، أيها الأخوة بأن تحتفظوا للأرض بإخلاصكم فلا تصدقوا من يمنونكم بآمال تتعالى فوقها؛ إنهم يعللونكم بالمحال فيدسون لكم السم، سواء اجهلوا أم عرفوا ما يعملون، أولئك هم المزدرون للحياة، لقد رعى السم أحشاءهم فهم يحتضرون؛ لقد تعبت الأرض منهم فليقلعوا عنها.
لقد كانت الروح تنظر فيما مضى إلى الجسد نظرة الاحتقار فلم يكن حينذاك من مجد يطاول عظمة هذا الاحتقار. لقد كانت الروح تتمنى الجسد ناحلاً قبيحاً جائعاً متوهمة أنها تتمكن بذلك من الإنعتاق منه ومن الأرض التي يدب عليها. وما كانت تلك الروح إلا على مثال ما تشتهي لجسدها ناحلةً قبيحة جائعة، تتوهم أن أقصى لذتها إنما يكمن في قسوتها وإرغامها.
أفليست روحكم، أيها الأخوة، مثل هذه الروح؟ أفما تعلن لكم أجسادكم عنها أنها مسكنة وقذارة وأنها غرور يسترعي الإشفاق؟
والحق ما الإنسان إلا غدير دنس، وليس إلا لمن أصبح محيطاً أن يقتبل انصباب مثل هذا الغدير في عبابه دون أن يتدنس
تعلموا من هو الإنسان المتفوق.
إن هو إلا ذلك المحيط تغرقون احتقاركم في أغواره.
وهل تتوقعون بلوغ معجزة أعظم من هذه المعجزة؟
لقد آن للاحتقار أن يبلغ أشده فيكم، بعد أن استحال شرفكم ذاته كما استحالت عقولكم وفضائلكم إلى كرهٍ واشمئزاز لقد آن لكم أن تقولوا: ما يهمني شرفي، وما هو إلا مسكنة وقذارة وغرور، في حين أن على الشرف أن يبرر الحياة نفسها لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني القوى العاقلة في، إذا لم تطلب الحكمة بجوع الأسد، وما هي الآن إلا مسكنة وقذارة وغرور.
لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني فضيلتي فإنها لم تصل بي إلى الاستغراق، وقد أتعبني خيري وشري، وما هي إلا مسكنة وقذارة وغرور.
لقد آن لكم أن تقولوا: ما يهمني عدلي، إن العادل يقدح شرراً ولما أشتعل.(175/45)
لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني رحمتي، أفليست الرحمة صليباً يسمر عليه من يحب البشر. ورحمتي لما ترفعني على الصليب أقلتم مثل هذا وناديتم به؟ ليتني سمعتكم تهتفون بمثله!
إن ما يرفع عقيرته على السماء إن هو إلا غروركم لا خطاياكم، إن هو إلا حرصكم حتى في خطاياكم.
أين هو اللهب الذي يمتد إليكم ليطهركم؟ أين هو الجنون الذي يجب أن يستولي عليكم؟
هاأنذا أنبئكم عن الإنسان المتفوق.
إن هو إلا ذاك اللهب وذلك الجنون.
(يتبع)
فليكس فارس(175/46)
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون المستشرق الإنجليزي
المدخل لتاريخ العرب
- 3 -
هـ - من الفتح المغولي إلى اليوم (من 1258 - )
انتهى عصر الخلافة بسقوط بغداد عام 1258 في يد المغول الرحل الذين كانوا تحت زعامة هولاكو. وما كادوا يتقدمون إلى الأمام حتى صدهم المماليك المصريون وردوهم على أعقابهم إلى فارس التي اعتنقوا فيها الإسلام بعد زهاء خمسين عاماً، أما الخانات خلفاء هولاكو فقد حكموا في فارس.
ثم أغار على آسيا الغربية فريق من البرابرة بقيادة تيمور واندفعوا كالأتي المزبد، ونشروا الفساد والفوضى في ربوعها (1380 - 1405 م) وإذ ذاك تفككت رابطة الإسلام من الناحية السياسية. وفي هذه الفوضى الضاربة بأجرانها نشأت ثلاث إمبراطوريات إسلامية. ففي سنة 1358 عبر الأتراك العثمانيون البسفور ودخلوا القسطنطينية عام 1453، حتى إذا كان عام 1517 دخلت في حوزتهم سورية ومصر وبلاد العرب وأصبحت فارس مملكة مستقلة تحت حكم الصفويين (1502 - 1736) بينما أسس بابر وهو من ولد تيمور - إمبراطورية التتار العظمة والهند، وظلت قوية الشوكة تحت خلفائه وخاصة أكبر وأورنجزيت (1525 - 1707).
أما الحوادث السياسية التي أجملناها آنفاً فسنعالجها بالتفصيل في صلب هذا الكتاب؛ على حين أن غيرها لن يكون نصيبه منا سوى الإشارة الموجزة والنظرة العابرة. ولما كانت الآراء التي انتشرت في الأدب العربي شديدة الارتباط بتاريخ الناس ولا سبيل إلى فهمها بعيدا عن الحوادث الخارجية التي نشأت فيها، فقد وجدت نفسي مضطراً إلى الإسهاب في بعض النواحي التاريخية حتى يتبين القارئ الحقائق المهمة من وجهة نظرنا الخاصة. كما سيرى أن ليس من إطناب في الكلام عن العصور المتقدمة السابقة (500 - 750م) خاصة إذا علم أن هذه تعد محور التاريخ العربي ومركزه. وقد بلغت الحضارة الإسلامية أقصى(175/47)
شأوها خلال القرنين التاليين لهذا التاريخ وإن أخذ العرب يتراجعون إلى الوراء سريعاً. وقد طمس الهجوم التتاري - في الغالب - معالم حياتهم الأهلية وإن ظلوا متمسكين في سورية ومصر تحت الحكم التركي بأهداب ثقافتهم كما نراهم يستميتون في الكفاح بإسبانيا ضد النصرانية. وفي أيام ازدهار الدولة العباسية كان أثر العرب الخلص في الأدب الذي حمل اسمهم ضئيلاً قياسياً؛ ولم ألتزم جادة القياس الوطني وإلا استثنيت جميع الأجانب والمولدين الذين كتبوا بالعربية. أما الفرس الذين ألفوا حتى يومنا هذا استعمال الضاد في كتاباتهم الدينية أو الفلسفية فيمكن القول بأن عملهم لا يصور تاريخ الفكر العربي؛ ومن ثم كان من الضروري دراستها معاً كي نصل إلى الغاية المقصودة. ولكن ماذا يكون موقفنا إزاء هؤلاء المؤلفين الكثيرين الذائعي الصيت الذين ليسوا عرباً أقحاحاً ولا فرساً خالصين، بل هم مزيج من الجنسين. أترانا نسترجع أنسابهم ونحاول أن نزن أي دم الجنسين أرجح كفة؟ إن مثل هذه المحاولة يطول أمدها، وليس من ورائها جدوى. والمؤكد أنه بعد العصر الأموي لا يستطاع وضع حد فاصل صحيح بين العناصر الأهلية والأجنبية الموجودة في الأدب العربي، فقد امتزج كل منها بالآخر امتزاجاً قوياً. وإذا كان لا بد من التمييز بينهما إلى أبعد حد مستطاع، فلابد لنا من اتباع طريقة ضيقة واهية في عرض التاريخ الأدبي إذا أصررنا على اعتبار كل منهما منفصلا عن الآخر.
الفصل الأول
سبأ وحمير
قد يمكن القول بأن تاريخ العرب يبدأ بما نعرفه عن أهل سبأ، ولكن كخطوة تمهيدية ينبغي لنا أن نلم ببعض الأجناس التي تعرض علينا صورها في الأساطير والقصص، والتي يعتبرها المؤرخون المسلمون السكان الأصليين للبلاد. ومن بين هؤلاء قوم عاد وثمود، أولئك الذين طالما ورد ذكرهم في القرآن مثلاً للكبرياء والجبروت اللذين أديا بهم إلى التهلكة. وكان موطن (عاد) أرض حضر موت التي تتاخم بلاد اليمن على حدود الصحراء المسماة بالأحقاف. ولا يستطاع الجزم أهم من الجنس السامي من سلالة الآراميين الذين أخضعهم وأبادهم الغزاة المغيرون على بلادهم من الشمال أم أنهم - كما يقرر هومل -(175/48)
ممثلو ثقافة غير سامية خلفت إرم ذات العماد، تلك الجنة الأرضية التي بناها (شداد) أحد ملوكهم. وإن قصة هلاكهم لتروى على النمط التالي: ذلك أنهم كانوا جبارين ضخام الأجسام، يعبدون الأصنام ويقترفون شتى الموبقات، فلما بعث الله فيهم نبيه (هودا) نصح لهم أن يتوبوا عما اقترفوه من الأثام فقالوا له: (يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين، إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء). ثم نزل قحط شديد بأرض عاد فأرسلوا بعض رءوسهم إلى مكة ليصلوا عسى أن ينزل القطر ويستقوا، وإذ بلغت رسلهم مكة لقيهم أمير العمالقة (معاوية بن بكر) بالبشر والترحاب، ومد لهم الموائد، فشربوا الخمر ودارت بالدفوف جاريتان ذواتا غناء شجي تسميان بالجرادتين، فألهاهم ذلك عما جاءوا من أجله شهراً كاملاً، فلما حان وقت أوبتهم قام أحدهم ليصلي، فلم يكد ينتهي من صلاته حتى حلقت في السماء ثلاث سحابات مختلفة الألوان إحداها حمراء والثانية بيضاء والثالثة دكناء، ثم رن صوت من خلف السموات يقول (يا قيل: اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب) فاختار الرسل السوداء ظنا منهم أنها تعج بالماء، وأنها أكثر السحاب فيضا، وحينذاك أنشد الصوت:
خذها رماداً رمددا ... لا تدع من عاد أحدا
لا والداً تترك ولا ولدا ... إلا جعلته همدا
ثم ساق الإله السحابة السوداء حتى حومت فوق أرض عاد فانبعث منها إذ ذاك ريح صر صر عاتية أفنت الناس جميعاً إلا فئة قليلة لبت نداء هود وأجابته إلى دعوته ونبذت عبادة الأوثان. وإذ ذاك ظهر بطبيعة الحال وعلى ممر الزمن شعب آخر يدعى بقوم عاد الثانية وكان مقره اليمن في مملكة سبأ؛ وإن السد العظيم سد مأرب لينسب إلى ملكهم لقمان بن عاد الذي تحاك حوله طائفة من الخرافات، وكان يكنى بذي النسور إذ أوحى إليه أنه سيعمر ويفنى سبعة أنسر كلما مات واحد خلا إلى آخر
وفي شمال بلاد العرب بين الحجاز وسورية سكن قوم ثمود الذين ورد ذكرهم في القرآن بأنهم كانوا يسكنون مغارات نحتوها في الجبال. ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يجهل طبيعة هذه البيوت المنحوتة في الصخور، والتي لا تزال آثارها قائمة في الحجر (مدائن صالح) على مسيرة أسبوع من شمال المدينة، والتي تدل عليها النقوش(175/49)
النبطية التي عثر عليها في القبور. وقد أخطأت ثمود كما أخطأت عاد من قبل. وتشابهت النهايتان، فهزأت ثمود من نبيها صالح وأبت أن تطيعه أو يأتي بمعجزة خارقة، فأطلع لهم صالح من الصخر ناقة ضخمة وفصيلها، وأمر ثمود ألا تمس بسوء؛ بيد أن أحد الآثمة الأشرار واسمه (قدار الأحمر) عقرها وذبحها (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دراهم جاثمين) وصارت العرب تقول لكل من باء بجرم كبير، وحظ أغبر (أنكد حظاً من عاقر الناقة أو أحمر ثمود) وينبغي أن نشير إلى أن ديودور الصقلي وبطليموس قد أشار إلى وجود آل ثمود، أما قوم عاد فلا نجد لهم أثراً يذكر في العصور التاريخية، على حين أن ثمود عاشوا حتى القرن الخامس الميلادي، وكان أباطرة الدولة البيزنطية يستخدمونهم كفرسان ثموديين في جيوشهم.
وبجانب عاد وثمود نرى العمالقة مدرجين بين أهل الفترة، وقد جاء في علم الآثار العربية الإسلامية ما ينبئ عن وجود عدة أقوام سلفوا في عصر بعيد، كالكنعانيين والفلسطينيين. وأنّا لنسمع أن مقر العمالقة كان في تهامة مكة، وفي بعض أنحاء أخرى من شبه الجزيرة. ويجب أن نشير أخيراً إلى قبيلتي طسم وجديس اللتين لم يدون عنهما شيء إلا حقيقة هلكهما، والدواعي التي أدت إلى ذلك. وإن القصص الخرافية التي أشارت إليهما لا تخلو من لذة بالنسبة لوجودهم في المجتمع العربي القديم.
أما تاريخ القحطانيين - أو عرب الجنوب - قبل الإسلام فهو تاريخ شعبين: السبأي والحميري اللذين خلفا زعماء الإمبراطورية العربية الجنوبية التي امتدت من البحر الأحمر حتى الخليج الفارسي. وسبأ (أو شبا كما هي في العهد القديم) تستعمل خطأ إذا قصد بها كل بلاد اليمن على حين لم تكن سوى إقليم منها وإن كانت بلا جدال أقوى شكيمة وأعظم أهمية من كل الممالك والأقاليم التي ورد ذكرها في كتابات الإغريق والرومان القدامى؛ ومهما بولغ في عظمتها وثراها فمن المحقق أن سبأ هذه كانت ذات مركز تجاري ممتاز قبل ظهور المسيح بعدة قرون. (ولقد قامت السفن منذ زمن بعيد تمخر عباب المياه بين مواني بلاد العرب الشرقية وبين الهند محملة بالبضائع، وكانت منتجات الأخيرة وخاصة الطيب والبخور والحيوانات النادرة (كالقردة والطواويس) تنقل إلى ساحل عمان؛ ومنذ القرن العاشر قبل الميلاد كانت لهم دراية بالخليج الفارسي حيث كانوا ييممون شطر مصر(175/50)
يبيعون لفراعنتها وأمرائها بضائعهم، وقد كانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر سبباً في تفضيل الطريق البري للتجارة بين اليمن وسورية، وكانت القوافل تقوم من (شبوت) في حضر موت وتذهب إلى مأرب عاصمة سبأ، ثم تتجه شمالاً إلى مكربة (مكة فيما بعد) وتظل في طريقها من بترا حتى غزة المطلة على البحر الأبيض المتوسط).
وظل رخاء السبئيين قائماً حتى أخذت التجارة الهندية تهجر البر وتسلك عبر البحار على طول شواطئ حضر موت وخلال مضيق باب المندب، وكانت نتيجة هذا التغير - الذي يظهر أنه حدث في القرن الأول للميلاد - أن أخذت قوتهم تتضعضع شيئاً فشيئاً، كما أن جزءا كبيراً من السكان اضطر للبحث عن مساكن جديدة في الشمال، ومن ثم أقفرت مدنهم ونضبت العيون المائية، وسنرى حالاً، كيف بلورت القصة العربية نتيجة انحطاطهم الهائل في حقيقة واحدة تلك هي انفجار سد مأرب.
وأن إمحاء السبئيين قد أخلى الطريق لظهور جماعة من نفس الجنس يسمون بالحميريين أو كما يسميهم المؤلفون القدامى وتقع بلادهم بين سباْ والبحر، وتحت حكم ملوكهم المعروفين بالتبابعة أصبحوا قوة يرهب جانبها من الجنوب في بلاد العرب. وظل عظم نفوذهم - ولو ظاهرياً - على القبائل الشمالية حتى القرن الخامس بعد الميلاد حينما ثار الأخير ون تحت زعامة كليب ابن ربيعة، وأزالوا قوة اليمن المسيطرة عليهم في واقعة تعرف بواقعة (خزازة). ولم يفلح الحميريون كما أفلح السبئيون فان موقعهم البحري جعلهم عرضة للغارات كما كان جدب البلاد من السكان مضعفاً لقوتهم الحربية. وقد قام الأحباش - وأصلهم من مستعمري اليمن - بمحاولات عدة لتثبيت أقدامهم، وكانوا يتخذون عادة حكاماً قد نفاهم أمراء وطنيون، ومن أشهر الولاة الأحباش (ابرهة) الذي سنقص خبر مهاجمته الفاشلة لمكة في موضعها الخاص، وانتهى الأمر بأن وقعت إمبراطورية حمير أخيراً تحت حكم فارس ولم تقم لها قومة سياسية مدة قرن من الزمان قبل ظهور الإسلام.
ترجمة حسن حبشي(175/51)
الفصل في نبوة المتنبي من شعره
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 2 -
وتوجد قصيدتان تنسبان إلى المتنبي في هذا العهد، إحداهما قالها وهو بأرض نخلة، وهي ديار بني كلب الذين يقال إنه تنبأ فيهم وهي هذه القصيدة:
كم قتيلٍ كما قُتِلْتُ شهيدِ ... ببياضِ الطُّلي ووَرد الخدودِ
وعيونِ المهَا ولا كعيونٍ ... فتكتْ بالُمتَيَّم المعمود
دَرَّ دَرُّ الصِّبا أأيامَ تجْرِ ... يرِ ذيولي بدار أثلة عودي
عمْرَكَ الله هل رأيتَ بدورا ... طلعتْ في براقع وعقود
رامياتٍ بأسهم رِيشُها الهُدْ ... بُ تشق القلوبَ قبل الجلود
يَترَشَّفْنَ من فَمي رشفات ... هُنَّ فيه أحلى من التوحيد
كلُّ خَمصَانَةٍ أَرَقَّ من الخم ... ر بقلبٍ أقسى من الجلمود
ذَات فرعٍ كأنما ضرب العن ... بر فيه بماء ورد وعود
حالكٍ كالْغُدَافِ جَثْلٍ دَجُوِج ... ىٍ أَثِيثٍ جَعْدٍ بلا تجعيد
تحمل المسْكَ عن غدائرها الرِّ ... يحُ وَتفْترُّ عن شتِيتٍ برود
جمعتْ بين جسم أَحمدَ والسُّقْ ... م وبين الجفون والتسهيد
هذه مهجتي لديك لَحِيْنى ... فانقصى من عذابها أو فزيدي
أهل ما بي من الضنا بطلٌ صي ... د بتصفيف طُرَّةٍ وبجيد
كلُّ شيء من الدماء حرام ... شربُه ما خلا دم العنقود
فاسقنيها فدًى لعينيك نفسي ... من غزال وطارفى وتليدي
شيبُ رأسي وذلتي ونحولي ... ودموعي على هواك شهودي
أيّ يوم سررتني بوصالٍ ... لم تَرْعُني ثلاثةً بصدود
ما مُقامي بأرض نخلةَ إلا ... كمُقام المسيح بين اليهود
مفرشي صهوة الحصان ولك (م) ... ن قميصي مسرودة من حديد
لأمةٌ فاضةٌ أضاةٌ دِلاصٌ ... أحكمت نسجها يدا داود(175/52)
أين فضلي إذا قنعتُ من الده ... ر بعيش مُعجَّل التنكيد
ضاق صدري وطال في طلب الرِّز ... ق قيامي وقلَّ
عنه قعودي
أبداً أقطع البلاد ونجمي ... في نحوس وهمتي في سعُود
فلعلي مؤمِّلُ بعض ما أب ... لغ باللُّطف من عزيز حميد
لِسريٍ ّلباسُهُ خشنُ القط ... ن ومرُويُّ مرْ وَليس القرود
عش عزيزا أو مت وأنت كريمٌ ... بين طعن القنا وخفق البنود
فرؤوسُ الرِّماح أذهبُ للغي ... ظ وأشفى لغلِّ صدر الحقود
لاكما قد حييتَ غير حميد ... وإذا متَّ متَّ غير فقيد
فاطلب العِزَّ في لظىً وذر الذُّ ... لَّ ولو كان في جنان الخلود
يقتلُ العاجز الجبان وقد يع ... جز عن قطع بخنق المولود
ويُوَقى الفتى المخسُّ وقد خوَّ ... ض في ماء لبَّة الصنديد
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرتُ لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضا ... د وعوذُ الجاني وغوث الطريد
إن أكن معجباً فعُجبُ عجيب ... لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا تربُ الندى وربّ القوافي ... وسمامُ العدى وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الل ... هـ غريبٌ كصالح في ثمود
ويجب قبل أن ننظر في هذه القصيدة من جهة اتفاقها مع دعوى النبوة التي تنسب إلى المتنبي، أن ننبه إلى أن النبوة لا تتفق مع صناعة الشعر، لأن الشعر العربي إلى ذلك الوقت كان صناعة أوزان وكلام، ووظيفة النبوة أسمى من أن تتقي بقيود الشعر، أو تعني عنايته بزخرف اللفظ، أو تعتمد اعتماد على الخيال، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى في سورة يس: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين -) كما يشير إلى ذلك وإلى بعد النبوة مما كان يلابس الشعر من اللهو والعبث قوله صلى الله عليه وسلم: لما نشأت بغضت إلى الأوثان، وبغض إلى الشعر، ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى(175/53)
أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام كان يرعى معه لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست لذلك فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، ولم أقض شيئاً. عراني مرة أخرى مثل ذلك.
وهذا كله لم يكن المتنبي ليجهله، وما كان له أن يقدم على دعوى النبوة معه. ولعل الذين نسبوا إليه هذه الدعوى قد شعروا شيء من هذا حينما جعلوا له قرأنا يعارض به القرآن الكريم، لأنهم رأوا أن الشعر وحده لا يصح أن يستقل بأمر النبوة، أو لا يلتئم معها. ومن ذلك الذي نسبوه إليه وذكروا أنه زعم أنه قرآن أنزل عليه: والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار، امض على سنتك، واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فان الله قامع بك زيغ من ألحد في الدين، وضل عن السبيل.
وكم يكون الشعر أبعد من وظيفة النبوة إذا كان صاحبه يتكسب به كصاحبنا المتنبي، فإنه نشأ شاعراً مداحاً يتكسب بشعره، ويسأل به، ومن هذا قصيدته في مدح محمد بن عبيد الله العلوي، ومطلعها:
أهلاً بدارٍ سباك أغيدُها ... أبعدُ ما بان عنكَ خردَّها
وقد ذكر فيها أن ناقته حملته إلى هذا الممدوح:
إلى فَتَى يُصدر الرماحَ وقد ... أنهلها في القلوب مُوردُها
له أَياد إليَّ سالفةٌ ... أعُدُ منها ولا أُعَدِّدُها
ثم طفق يمدحه إلى أن قال:
وكم وكم نعمة مُجَلَّلةٍ ... ربيتها كان منك مولدُها
وكم وكم حاجةٍ سمحت بها ... أقرب مني إليّ موعدُها
ومكرمات مشت على قدم ال ... بر إلى منزلي تَردُّدُها
أقرّ جلدي بها عليّ فلا ... أقدرُ حتى الممات أجحدُها
فعد بها لا عدمتُها أبداً ... خيرِ صلات الكريم أعودُها
وقد عذله أبو سعيد المجيمري في ذلك العهد على تركه لقاء الملوك وامتداحهم، فقال له:
أبا سعيدٍ جَنِّب العتابا ... فرُبَّ رأى أخطأ الصوابا(175/54)
فانهم قد أكثروا الحجَّابا ... واستوقفوا لردَّنا البوابا
وإن حَدَّ الصارِم القرضابا ... والذّابلات السُّمر والعرابا
ترَفعُ فيما بيننا الحجابا
ولاشك أن طبقة الشعراء المتكسبين أدنى طبقات الشعراء نفوساً، وأبعدها عن الصلاح والتقوى، وهي طائفة تتخذ الشعر وسيلة لجمع المال، ولا يهمها في دنياه غيره، ولا تطمح نفوسها إلى وظيفة كوظيفة النبوة تكليفاً من الكمال الروحي ما ليس في طبيعتها.
وإن هذه الحادثة لتدل على مقدار ما بلغ إليه المتنبي في ذلك قال: أذكر وقد وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد، فأخذت بجانب منديلي خمسة دراهم، وخرجت أمشي في أسواق بغداد، فمررت بصاحب دكان يبيع الفاكهة فاستحسنتها ونويت أن أشتريها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه وقلت: بكم تبيع هذه الخمسة بطاطيخ! فقال بغير اكتراث: أذهب فليس هذا من أكلك، فتماسكت معه وقلت: يا هذا دع ما يغيظ واقصد الثمن، فقال ثمنها عشرة دراهم، فلشدة ما جبهني ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائراً، ودفعت له خمسة دراهم فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجار قد خرج من الخان ذاهبا إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من الدكان ودعا إليه وقال: يا مولاي بطيخ باكور، بإجازتك أحمله إلى البيت فقال الشيخ: ويحك بكم هذا؟ قال بخمسة دراهم، قال بل بدرهمين، فباعة الخمسة بدرهمين وحمله إلى داره، وعاد إلى دكانه مسروراً بما فعل، فقلت له: يا هذا ما رأيت أعجب من جهلك! استمت على في هذا البطيخ، وفعلت فعلتك التي فعلت، وكنت أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم فبعته بدرهمين محمولاً! فقال: أسكت. هذا يملك مائة ألف دينار، قال المتنبي: فعلمت أن الناس لا يكرمون أحدا إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار، وأنا لا أزال على ما تراه حتى أسمع الناس يقولوا إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار.
(يتبع)
عبد المتعال الصعيدي(175/55)
من ديوان البغضاء
عقوق. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
ملْ بنا، يا فؤادُ! ننسى المودَّا ... ت، ونُلقى إلى العدواة حَبَّا
وتعالَىْ! يا ربة الأرقش الخدّا ... ع، وارعى ما بين جنبيَّ خصبا
وجناحيك، فانشري وظلِّي ... بقعةً من مقابر الحب جربا
وامنعي نفثةَ الوفَا واحجبيها ... رُبّ ذكرى أحيتْ مواتاً أجبَّا
وانظري نظرةَ العُقاب إذا ... أبصر صيداً، فرامه فاشرأبَّا
وانفضي الناس نفضةَ الأسد المج ... روح أشلاَء صيده والأرْبا
وتعالَىْ! أنا الصديق، ويا أع ... جب من يجعل العداوة صحبا!
ولئن كان ما رعيت من الأض ... لاع جدباً، فلن أسومكِ جدبا
واعلمي أنني تركتُ وفاَء ال ... حُب زُهداً، ورمتُ فيك الحبا
هذه كفُّ خائضٍ غمراتِ ال ... حب أبلى فيها بلاءً صعبا
مستميتاً قد غالب الموت والح ... ب ونال الحياة كسباً وغصبا
تيك أُنثى! ودونها الآبُد الطّ ... اوى إذا ساور الفريسةَ وثْبا
يا لعينيك. . . شبتاَ في دمي النا ... رَ شُواظا، يعبُّ في الدم عبَّا
وبنانٍ أقسى من القِدِّ في النف ... سِ، وإن خلتُه بناناً رطبا
آهٍ من غفلة. . . إذا خطرت لي ... ملأتنْي غيظاً وحِقداً وحربا
قد رمتني في جاحمٍ يتلظّى ... فإذا مات أرَّثتْه فشبَّا
أَوَفَاءً. . . لغادِرٍ يتسلى ... بعذابي! تبًّا - لذا الحب - تبَّا
الْمَحَبَّات تقُتلُ القلب قتلاً ... والعداوات تُردف القلب قلبا
فتعالي! يكن كمكْركِ مكري ... وأكن في الحروب روعاً ورُعبا
لا توليْ، وتتركيني وحيداً؛ ... لست أبغي بغير قُربك قربا
وانفثي فيَّ السِّحر حتى ... أقهر الناسَ والأسودَ الغُلْبَا
فألَدُّ الأعداءِ من علّمتْهُ ... مِحَنُ الحب أن يعُق الحُبَّا. . .(175/56)
محمود محمد شاكر(175/57)
الشاعر وسريره
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
- 3 -
تهللٌ يعلو محياكا ... وبسمةٌ لاثمة فاكا!
وفرحة خجلى عروسية ... تطلقها كالفجر عيناكا
وأي عطر منعش، مؤسف ... هذا الذي يحمل رُدناكا
قل يا سريري، أي شيء جرى ... أنساك شكواي وشكواكا؟
أتاركي أنت بلا رحمة ... قد عوّدتنيها سجاياكا؟
أشامتٌ بي أنت في محنتي؟ ... معاذ إخلاصك لي في هوايْ
بالله حدثني عما جرى ... لعل فيه ما يسرّي أساي
ها هو ذا يهمس - رؤيا محت ... بلواه؛ ويلي! أين ضلت رؤاي؟
جاءته طيفاً في الكرى ماسحاً ... شكواه؛ ويلي! أين ولى كراي؟
رأى، وعى، لامس - يا ليته ... يداي، أو أذناني أو مقلتاي!
رق سريري لي، ورقت له ... حسناءُ مما قلته فيه!
مرَّت بيمناها على صدره ... فانتعشت بيض أمانيه!
لكن قلبي الحي. . . قلبي الذي ... يستنزف الرحمة داميه!
قلبي الذي يصرخ في سره ... من ألم مّرٍ يقاسيه
يلم يُلف قلباً من بني آدم. . . ... يحنو عليه أو يسليه!
إهنأ سريري بالذي ناله ... جدُّك إذ أخطأني الجدُّ
لست بغيران ولا حاسدٍ ... يمنعني - أن أحسد - الودُّ
ولي نصيبي بعد في كل ما ... حلّتك من أطيافها (هند)
لكن كفَّا أنت قبَّلتها ... أشتاق أن الثمها بعد!
لعل أن يُطعمني بعدها: ... الثغر والعينان والخد!
ويلي عليها. .! لكأني بها ... مقبلة نحوك في لطف
حاملة في ثغرها بسمة ... حائرة تبدو وتستخفي(175/58)
كعائش في جنةٍ وحده. . . ... نازعه شوق إلى ألْفِ!!
يا ليت شعري: أنت مقصودها ... أم ربك البائس - بالعطف؟
فابنة حوّاء متى أظهرت ... فربُّها يعلم ما تخفي!
علي أحمد باكثير(175/59)
على النيل
بقلم العوضي الوكيل
وقفت على النيل الوديع عشية ... أطالع في أمواجه ما أُطالِعُ
وأسمع من أمواجه لحن فتنةٍ ... ومعنى يُغشّيني، وذكرى تتابع
كأني إليها من قديم مُوَجَّهٌ ... وكلّيَ إصغاءٌ، وكلي مسامع
كأني قبل الآن أسمعت مرة ... صداها، له دفق وفيه تدافُع
وما ذاك إلا رمز ما أنا حالم ... به قبل أن تهتزّ مني الأضالع
وناجيت ماَء النيل في صمت راهب ... بأسطورة الحب الذي لا يخادع
أيا نيل حدثْني فإني عالم ... ولكن لساني شامسٌ أو ممانع
علمت وكم معنى يدور بخاطري ... أضلته في نفسي فيافٍ قواطع
لكم مرت الأجيال عجلى مُخِبة ... عليك وإذ تبدو كأنك هاجع
وأنت الطهور الفرد في هذه الدنى ... وفي قُدسك الأسمى معان تطالع
عليك هدوء الهازئين، وربما ... يلوح لنفس في الهدوء تواضع
أتلحظني هيمان في العيش سادراً ... قد انعدمت مني إليه الدوافع
وصرت أعيش اليوم للأهل وحدهم ... فما أنا في دنياي - ما عشت - طامع
أتلحظ دمعي وهو ينهلُّ مسبلا ... وأبْينُ شيءٍ فيَّ هذى المدامع
أسير فلا أدري لأية غاية ... أسير وتدعوني إليَّ المواجع
خلقنا لندري العيش وهو يضلنا ... كمن بت تثنيه وبات يُقاطع
أيا نيلُ قُصَّا السرَّ إنك عالمٌ ... به من شباب الكون والكون ياِفع
وحدِّثْ عن المجهولِ واكشف دفينَه ... فإنك نور في الأحاسيس ساطعُ
وبُلَّ بنفسي غُلّةً بعد غُلّةٍ ... ولا تنس أني عابد لك خاشع
تمل فؤادي في غلاف من الشجى ... وفيه جراحات، وفيه مصادع
أيا شاهد الأدهار مرَّت بناسها ... كمسبحة مرت عليها الأصابع
فأُفْنِىَ منها الناس؛ والزمن الذي ... حواهم تبقى لم تَضِرْهُ الفواجع
كمسبحة يُستلُّ معدود حبِّها ... ويبقى بها الخيط الذي هو جامع(175/60)
العوضي الوكيل(175/61)
القصص
من صور الحياة
قصة مجرم
للآنسة نعيمة المغربي
انعقدت محكمة الجنايات للنظر في قضايا مختلفة ومنها جناية قتل اتهم فيها فتى طيب الأحدوثة لم يسبق له الإجرام. وظهر من التحقيق أن الجناية لم تقع بقصد السرقة، إذ أن خاتم القتيل الماسي وساعته الذهبية - وهو كهل غني - وأشياء أخر ذات قيمة لم يمسها القاتل، مع أن المجال كان فسيحاً أمامه لسرقتها والاختفاء بها، وإنما اكتفى القاتل بما فعل واللجوء إلى مسكنه الذي كان قريباً من محل الحادثة والذي كان يأوي إليه مع أمه المقعدة، وقد قضت المسكينة نحبها حينما قبض الجند على ابنها من غلبة الخوف والرعب عليها.
ذلك ملخص خبر الجناية التي شغلت أهل المدينة وخاصة سكان الحي الذي وقعت فيه الحادثة وكانت موضع سمرهم لا أسفاً على القتيل الذي عرف بعتوه وصلفه وشحه، بل شفقة على القاتل الذي عرفوا فيه الفتى الحسن الخلق، يكد ويشتغل لينفق على أمه البائسة التي لم يك لها من عائل سواه. لذلك كله امتازت هذه الجلسة بوفرة عدد المستمعين فيها، وكلهم مشفقون على القاتل راثون له.
ظهر في قفص المتهمين شاب لا يتجاوز العشرين من عمره، نحيل الجسم غائر العينين لا تظهر عليه علامة من تلك العلامات التي يمتاز بها المجرمون، بل كان بادي الانكسار هادئ النظرات مستسلما لخواطر تجول في رأسه وأحاديث تهجس في نفسه. وبعد سماع شهادة الشهود ومرافعة النيابة ومحامي الدفاع سأله الرئيس الأسئلة المعتادة التي تلقى على المتهمين وطلب منه إذا كان عنده ما يدافع به عن نفسه. وهنا أرهف المستمعون آذانهم وتطاولوا بأعناقهم حتى لا تفوتهم كلمة من قصة ذلك المجرم البائس قال:
إنني إذا سردت قصتي فأنني لا أسردها بغية الدفاع عن نفسي أو حباً في الحياة فقد سئمت العيش واستولت علي النفرة من الناس، بل لتعلموا أنني فرد من أفراد المجتمع البشري قدر عليه أن يعيش عيشة ضنك وشقاء ويحيا حياة مليئة بضروب الألم والعذاب، وكنت في(175/62)
ربيعي الثاني عشر حينما فتحت عيناني على صورة من صور الحياة المؤلمة التي تركتني أرزح تحت كلكلها وأصبحت حياتي بعدها جافة قاسية خالية من المباهج التي تساعد المرء على اجتياز ما قد يتخلل طريقه من حصى وأشواك
مات أبي وأنا صغير، ولم يترك لنا أنا وأمي من حطام الدنيا سوى أساس عتيق بال في مسكن صغير تداعت أركانه، وتشققت سقوفه وجدرانه، وكان ذلك المسكن لجار لنا غني كنا نؤدي إليه أجرته من دون مطل أو تسويف. وكان أبي بنّاء يتناول في يومه بضعة قروش يأتي بها إلينا وهو فرح مغتبط مع ما يحيط به من فاقة وبلاء. فيملأ البيت بهجة ورواء، ويحوله إلى قصر من أوفر القصور سعادة وأعظمها هناء.
وبالرغم من قدم العهد فأنا أذكر ذلك اليوم الرهيب يوم أن عرفت أن ذلك الإنسان الذي يستنزف قواه ليدفع عنا غائلة السغب والعرى قد أخرسه الموت ونام نومه الأبدي.
ففي أمسية من أمسيات الشتاء الباردة، وفي ليلة دجوجية الجناح غدافية الأديم، كانت الريح صر صرا عاتية، وكرات الجليد تتساقط على جوانب بيتنا المتداعي فيسمع لسقوطها صوت كأصوات الأرواح الهائمة. طرق الباب فدخل رجلان يماثلاننا في الفاقة والبؤس يحملان جثة أبي مهشمة أو كتلة من لحم ودم. ولقد نسيت كيف مرت علينا تلك الليلة المشؤومة، غير أنني أذكر أن جثمانه ظل مسجى طول اليوم التالي حتى شعر بذلك من لم تخل قلوبهم من عناصر الرحمة والشفقة فأمدونا بقليل من المال جهزنا به فقيدنا وأودعناه مرقده الأخير. ومما زاد لوعتنا أن الطبيب الذي قام بفحص الجثة قرر أنه كان مريضاً بعلة القلب فلم يستطع احتمال العمل المجهد تحت حر الشمس في أعلى البناء فأصابه دوار عرضه للسقوط والموت السريع. وكأن ذلك الأب الشفيق كان يخفي علته هذه عن أمي خشية قلقها أو محاولتها منعه من متابعة عمله المضني، وقد أصيبت تلك التاعسة على أثر هذه الصدمة التي بلينا بها بمرض عضال أقعدها عن مواصلة السعي لكسب القوت ودفع أجرة المسكن، ومع هذا فقد كانت تتحمل الفقر والشقاء والمرض والإعياء بصبر واستسلام.
لقد ألقت الأقدار بي من حيث لا أشعر في بيداء هذه الحياة وضربتني ضربة قاسية لا رفق فيها ولا هوادة، وأرادتني أحداث الزمان على أن أحمل حملاً أعجز عنه وأنا صبي صغير(175/63)
فتلاشت ابتسامتي واربد وجهي، وعادت الحياة في نظري هماً ناصباً. أمي مقعدة لا تستطيع حراكا وهي تحتاج إلى قوت ودواء، وصاحب المسكن يطالبنا بأجرته في نهاية كل شهر، وعلينا أن نؤديها إليه صاغرين وإلا كان الشارع لنا مأوى، وقد أشار عليّ بعضهم بإيداع المريضة في إحدى المستشفيات، فقبلت ذلك على مضض، ولكن إدارة المستشفى أبت قبولها بحجة أن مرضها عضال لا يرجى منه شفاء. على أنني مع ذلك لم أيأس ولم أحزن رغبة في أن أظل بجانبها أخدمها وأروح عنها ما تجده من آلام محرقة تحاول جهد طاقتها أن تخفيها عني فتتكلف لي الابتسام، ابتسام المريضة الصبور المستسلمة. لقد ذاق أطفال قبلي مرارة اليتم، وذاق الكثيرون مثلي مرارة الحرمان والعدم، ولكن آلامهم لم تك تشبه آلامي: إذ كانت آلامي آلام صبي في أول مرحلة من مراحل حياته يرى تحت نظره أعز الناس لديه يدنو من الموت أو يدنو الموت منه بخطى سريعة فلا يستطيع التخفيف عنه أو إسعافه بجرعة دواء.
أجل كنت أذرع البلدة وأجوس خلال شوارعها باحثاً بحث اليائس عن لقمة أتبلغ بها أو عن عمل يكفل العيش لي ولتلك المريضة المدنفة، وكنت إذا حصلت على بضع دريهمات أضن بها على نفسي فأعود وأنا أطفر فرحاً فأشتري لها ما تحتاج إليه من غذاء ودواء وأوفر الباقي أجرة لمسكننا الحقير.
وقد كنت أستطيع أن ألجأ إلى تلك الطريقة التي يلجأ إليها الكثيرون من أمثالي - أعني السرقة - وكانت أحياناً تتجسم هذه الفكرة في مخيلتي حينما أصاب بتلك الآفة الغشوم - آفة الجوع - ولكنني لا ألبث أن أرجع عن هذا العزم إذ أربأ بنفسي أن تنحط إلى هذه المنزلة مفضلاً كل شقاء على الوقوع في هذا المنحدر الرهيب.
وكنت أعرف أيضاً أن هناك سبيلاً أفضل من هذا كله أقصر مدى وأقل تعباً وجهداً. سبيلاً ينتهي بي إلى تخفيف متاعبي وآلامي وينقطع به همومي وأحزاني. فقد كان في استطاعتي أن أقصر ساعات عذابي بالانتحار، ولكن ذكرى المريضة المقعدة كانت تبعد عني هذا الخاطر، وتجعلني أبتسم لليأس المميت في ظل الحياة التعيسة التي أحياها.
سدت في وجهي أبواب الرزق، وأمي تزداد مرضاً على مرض فلجأت إلى بيع أثاثنا البالي، فبدأت بالفراش الذي أنام عليه والكرسي الذي أجلس فوقه وجميع الأمتعة الحقيرة(175/64)
التي يضمها مسكننا، فنفذ ذلك كله وهو مبلغ تافه لا تأثير له في دفع الشقاء. ومما زاد في بليتنا أن صاحب المسكن أخذ يطالبنا بتأدية ما تأخر له عندنا من الأجرة التي لا نملك منها شيئاً، وأمهلنا بذلك ثلاثة أيام وإلا طردنا دون شفقة أو ورحمة.
طوفت في هذه الأيام الثلاثة في الشوارع ضاوياً متعباً مريض النفس والجسم والفكر، صفر الكف، فلم يفتح علي بشيء حتى أعياني التجوال، وأرهقني اليأس، فرجعت إلى البيت أبكي بدموع غزار.
انقضت المهلة المعينة لتنفيذ وعيد ذلك الظالم، ولم يبق منها سوى ليلة واحدة لم يغمض لي فيها جفن ولم يرقأ لي دمع. وشعرت آنئذ بجميع ضروب اليأس، وذقت من الألم أشكالا، ثم اعتراني بحران عميق، أصبحت فيه أشبه بالصنم. وعندما انبلج الصبح ولاح لي وجه ذكاء بدا وجه أمي النحيل الشاحب، وهي تتنفس تنفساً خافتاً، فانبثق في لبي خاطر استجبت له: هو لقاء صاحب المسكن واستعطافه علني أجد بذلك من الضيق مخرجاً. فنهضت متثاقلاً، وأنا ضائع الفكر مضطرب البال، أقرب إلى اليأس من ذلك الغريق الذي يرتجف وسط الخضم وقد تعلق بأوهى الأسباب أملاً في النجاة.
وعندما وصلت قصر صاحب الدار تجلدت وطرقت الباب ففتح لي خادم كنت أجد عنده بعض العطف، فسهل لي لقاء سيده فدخلت عليه وأنا أرتجف كريشة في مهب الريح.
تذللت بين يديه واستعطفته وشرحت له ما أقاسيه من بؤس وهم، واستلهمته ريثما تقضي تلك البائسة فهي على أبواب الأبدية، وكنت أحدثه وهو صامت ساكن لا تطرف عينه ولا يرفع نظره إلي، حتى إذا فرغت من شكواي صرخ في وجهي صرخة جافة قاسية ملؤها العنف والقسوة وختمها بأبشع الشتائم وأقبح النعوت.
يصبر عزيز النفس على الموت والخطر والعذاب والجوع، ولكنه لا يصبر على الإهانة والطرد. يهون على أبي النفس كبيرها أن يرمي في أتون ملتهب يشوي جسمه شياً دون أن تلقى عليه نظرة ازدراء أو كلمة اشمئزاز. ومع هذا لم أحرك ساكناً بادئ ذي بدء بل تصاممت عن سماع كلماته المرة عسى أن تهدأ ثورة غضبه ويثوب إلى رشده ويرفق بي. ولكنه أعاد الكرة وأمعن في طردي وتحقيري بلهجة تفوق الأولى عظماً وهولا، فكانت كلماته هذه كسهم أصاب مركز الصبر من فؤادي فمزقه، فأحسست أن الدم يتصاعد إلى(175/65)
رأسي، وأن الأرض تدور بي، ولاح لي طيف أمي وهو ملقى في العراء. فلم أشعر إلا وأنا ممسك بخناقه أضغط عليه بين يدي حتى سقط جثة هامدة.
يقولون عني إنني مجرم خطر، وإني أستحق الموت عبرة لأمثالي، وما أنا إلا إنسان حكمت عليه الظروف القاسية بأقسى أحكامها، وأراد له أخوه الإنسان أن يصبح مجرماً بعدما تعب واجتهد اجتهاد الأبي ليعيش عيشة الكفاف فلم ير قلباً يعطف عليه وينتشله مما هو فيه.
هذه قصتي المكتومة أعلنتها. وأحزاني الحبيسة أطلقتها، فلتحكم علي محكمتكم الموقرة بما يمليه ضميرها ويرضاه عدلها
وأخيراً خلت المحكمة للمداولة، فأجلت البت في هذه القضية إلى أسبوع آخر.
نعيمة المغربي(175/66)
البريد الأدبي
كتاب عن تاريخ الحبشة وبلاد العرب
أصدرت الجمعية الجغرافية الملكية مجلداً جديداً من كتاب (البحر الأحمر والحبشة وبلاد العرب منذ العصر الغابر) ' ' ' بقلم المسيو (كامرر)؛ وفي هذا المجلد الجديد مباحث شائقة عن (حرب الفلفل) وعن اكتشافات البرتغاليين البحرية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر؛ ومن المعروف أن هذه الاكتشافات كانت ذات أثر فعال في تطور مركز مصر التجاري؛ لأنها لبثت عصوراً طريق الهند، ولبثت ثغورها مهبط هذه التجارة، فلما اكتشف البرتغاليون طريق الهند تحول قسم عظيم من تجارة الغرب إلى هذه الطريق الجديدة، وهجرت الطريق القديمة التي كانت تمر بمصر أو الشام، ودخل البحارة البرتغاليون الميدان وأنشئوا مراكز تجارية وحربية في موزنبيق وقاليقوط وجوا ومسقط وغيرها، وغزوا جزائر الهند الشرقية ووصلوا إلى شواطئ الصين؛ وانتبه سلاطين مصر لهذا الخطر المحدق بموارد بلادهم فتحالفوا مع البندقية على محاربة هذا الخطر لأنه يمس تجارتها أيضاً؛ ولبثت مصر مدى حين قابضة على مفتاح البحر الأحمر، ولكن البرتغاليين قبضوا على طريق الهند، ورأوا من جهة أخرى أن يغزوا البحر الأحمر فتحالفوا مع الحبشة، وكانت تخشى مصر؛ وأرسلت بعثة برتغالية إلى بلاط النجاشي؛ ولكن الحبشة لبثت حذرة من أولئك الأصدقاء الجدد ومن نيا تهم.
واستمرت المعركة مدى حين على سيادة البحر الأحمر والمحيط الهندي، وفي المشرق للاستئثار بغنم السيادة التجارية، ولعبت منتجات الشرق مثل الفلفل والبهار دوراً في هذه المعركة؛ وتخللتها معارك وأحداث بحرية عظيمة ما زالت مضرب الأمثال في الروعة والشجاعة.
ولكتاب مسيو كامرر مزية أخرى، هي أنه يتتبع تاريخ الآراء والتطورات الجغرافية في كتابه خلال هذه العصور؛ وهذه التطورات مشروحة بالخرائط والوثائق الوافية، وفيها خرائط قديمة كانت سرية لم تعرف في عصرها، لأن الخرائط التي كانت توضع عن الطرق البحرية في ذلك العصر، كانت كالخرائط الحربية يحرص أصحابها على سرها.
وقد زين الكتاب فوق ذلك بعشرات من الصور التاريخية الهامة.(175/67)
الكاتب الألماني رودلف شتراتس
نعت إلينا أنباء ألمانيا الأخيرة الكاتب القصصي الألماني الكبير رودللف شتراتس , توفي في الثالثة والسبعين من عمره في ضيعته في (كيم زي) على مقربة من ميونيخ؛ وبوفاته اختفى كاتب من أخصب وأعظم الكتاب الألمان في عصر الإمبراطورية، وكان شتراتس مدى الحرب ومن بعدها أيضاً في طليعة الكتاب الذين يدهشون الجمهور بوفرة إنتاجهم وبراعة ابتكارهم؛ وقد نشأ شتراتس ضابطاً، وقضى أعواماً عديدة في خدمة الجيش، وكتب أولى قصصه عن حياة الجندية، وشرح فيها حالة الضباط وأحوال معيشتهم. وكان يدعو دائماً إلى ابتعاد الجيش عن الأحزاب والسياسة؛ وكان شتراتس يتمتع بمواهب القصصي البارع، ووفرة في الخيال، وهو يصف لنا في رواياته، مدينة برلين وحياتها قبل الحرب وصفاً بديعاً مدهشاً، وكان يختار دائماً لأبطال قصصه النبلاء وكبار الأغنياء فيصف حياتهم وأحوالهم بدقة مدهشة، ولم يتخذ قط من بين الطبقات الدنيا أبطالاً لقصصه، ولم يعن بمعالجة المسائل الاجتماعية ولا يتوخى الغايات الاجتماعية، وإنما كان يكتب قصصاً شائقاً مشجياً مؤثراً فحسب؛ ولكن ذلك لم يمنع من انتشار كتبه انتشاراً هائلاً حتى إن بعضها طبع مائة مرة. ومن أشهر كتاباته بعد الحرب قصص يصف فيها حالة برلين أيام التضخم النقدي؛ وقد ساح شتراتس كثيراً، وظهر أثر سياحاته في كتبه، ولكنه كان دائماً في أعماق نفسه (وطنياً) ألمانياً، يتجه بالوصف إلى إذكاء الوطنية الألمانية؛ وأشهر رواياته على الإطلاق هي رواية (هيدلبرج القديمة) ومن رواياته الشهيرة الأخرى: (مكان في الشمس) (المعجزة الألمانية) (سفينة بلادفة) (لو كان العالم مليئاً بالعفاريت ? وغيرها وقد بلغت كتبه زهاء ثلاثمائة مجلد.
لجنة تفسير معاني القرآن الكريم
أصدرت مشيخة الأزهر قراراً بتأليف لجنة لتفسير القرآن الكريم توطئة لترجمته من حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة: الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية رئيساً، والأستاذ محمد أحمد جاد المولى بك مفتش أول اللغة العربية بوزارة المعارف، والأستاذ علي الجارم مفتش أول اللغة العربية بوزارة المعارف، والشيخ مصطفى عبد الرازق(175/68)
والأستاذ أحمد أمين من الجامعة المصرية، والشيخ إبراهيم حمروش شيخ كلية اللغة العربية، والشيخ أمين الخولي من الجامعة المصرية، والشيخ علي سرور الزنكلوني من كلية أصول الدين، والشيخ إبراهيم الجبالي من كلية أصول الدين، والشيخ محمود الغمراوي من كلية اللغة العربية، والشيخ محمود شلتوت من كلية الشريعة، والشيخ محمد أحمد العدوى من كلية أصول الدين أعضاء.
استكشاف جبال هملايا
استطاعت البعثة الألمانية التي أوفدت لتسلق جبال هملايا الهندية أن تصل إلى أكمة سمفو الواقعة في شرق كانشن جونجا على ارتفاع أكثر من 22ألف قدم، وهي أول مرة يستطيع الإنسان أن يصعد إليها، والبعثة المذكورة مكونة من الدكتور باور البافاري وهو من الأخصائيين في صعود الجبال، والهر فين والهر هاب، والهر جتنر؛ وقد وصلت البعثة إلى قلب أراضي نبال منذ أشهر؛ ووصلت منطقة زيمو الثلجية في سبتمبر، ثم انقسمت إلى فريقين؛ فسار الهر فين مع بعض الحمالين إلى وادي تالونج، ونفذ منه الطعام بعد أيام، وقضوا نحو يومين بلا طعام قبل أن يصلوا إلى المساكن؛ وكان تقدمهم بطيئاً حتى كانوا يقطعون في هذه الهضاب ميلاً واحداً فقط في اليوم، ثم تلاقى الفريقان بعد ذلك وسارت البعثة كلها إلى سنجيك، وصعدت إلى قمة سيمفو.
وقد اقتنعت الفرقة أن طريق سيمفو هو أفضل الطرق للصعود إلى الآكام العالية التي لم يتوصل المكتشفون بعد إلى ارتيادها؛ ويزمعون العودة إلى الهند في العام القادم، وقد سبق أن استطاع الدكتور باور مع بعض زملائه الصعود إلى ما دون ثلاثة آلاف قدم من هذه الأكمة الشهيرة، ولكنه رد بعاصفة من الثلج، فعاود الكرة في هذا العام ونجح في محاولته.
وثيقة مصرية قديمة
اكتشفت أخيراً في إحدى قرى الفيوم المسماة ارسيم أو مدينة التماسيح وثيقة غريبة تدل على أن العقود الخاصة بأعمال الصبيان موجودة من أقدم العصور؛ وقد استطاع الأستاذ فولزن العلامة الدانمركي أن يقف على محتويات هذه الوثيقة فإذا فيها ما يأتي: -
(يشهد تريفون بأن ولده القاصر تيونيس قد عين صبيا لمدة سنة من تاريخه عند(175/69)
تولوماتوس النساج).
وسوف يتعلم الصبي طول مدة العقد من أستاذه كل أصول حرفة النسج، ويتقاضى فوق ذلك كل شهر خمسة دراهم مقابل الكسوة، وفي آخر العام يتقاضى 12 درهما.
وفي مقابل ذلك يدفع والد تيونيس إلى الحكومة ضريبة الأحداث عن ولده، ويجب عليه أن يدفع عن كل يوم يتغيب فيه الغلام درهما بصفة غرامة، وفي حالة فسخ العهد يجب عليه أن يدفع مائة لخزينة الدولة؛ وإذا لم يقم المعلم تولوماتوس بتعليم الغلام كما يجب، فإنه يدفع مثل هذا القدر للخزينة.
جواهر الطيب المفردة ليوحنا بن ماسويه
احتفل المجمع العلمي المصري بافتتاح جلساته لعامي 1936 و1937 فألقى القس بولس سباط محاضرة عن كتاب (جواهر الطيب المفردة) ليوحنا بن ماسويه العالم النصراني الكبير، والطبيب الشهير الذي عاش في القرن التاسع، وكان رئيس دار الحكمة التي أنشأها الخليفة المأمون ببغداد سنة 830.
وفي هذا الكتاب النفيس وصف ابن ماسويه جواهر الطيب المفردة وذكر أسماءها ومعادنها وأنواعها وخواصها وفوائدها بالنظر إلى الطب والعطارة وقسمها قسمين: الأصول، والأفاويه، وقال: إن الأصول خمسة: المسك والعنبر والعود والكافور والزعفران، وأن الأفاويه أربعة وعشرون: السنبل والقرنفل والصندل والجوزبوا والبسباس والورد والفلنجة والزرنب والقرفة والهرنوة والقاقلة والكبابة والهال بوا وحب الميسم والفاغرة والمحلب والورس والقسط والأظفار والبنك والضرو واللاذن والميعة والقنبيل.
ولهذا الكتاب مخطوطان: أحدهما محفوظ في دار الكتب بمدينة ليبسيك بألمانيا، والآخر عثر عليه القس بوليس سباط في مدينة حلب سنة 1933 نسخة الأرخيد ياكون يوحنا بن عبد المسيح الانطاكي بمدينة حلب سنة 1563.
وقد اهتم القس بولس سباط بتنقيح هذا السفر الجليل والتعليق عليه، وإضافة فهارس علمية له وسينشره المجمع العلمي المصري في مجلته لهذا العام.
الحركة الفكرية العنصرية في ألمانيا(175/70)
تمضى ألمانيا الجديدة في سياستها العنصرية إلى النهاية؛ وآخر ما قررته في هذا السبيل القضاء على الآثار والمؤلفات الفقهية اليهودية. ومن المعروف أن أعظم الآثار القانونية الألمانية كتبها اليهود الألمان ولا زالت إلى اليوم مرجع البحث في ألمانيا، ولكن الدكتور فرنك رئيس الجمعية القانونية الألمانية أصدر أمره إلى جميع المكاتب العامة ودور البحث أن تستبعد جميع المؤلفات اليهودية في القوانين الألمانية، كما أصدر أمره إلى جميع الناشرين بالا يعيدوا طبع شيء من هذه المؤلفات أسوة بالامتناع عن نشر المؤلفات الجديدة التي يضعها اليهود، وبذلك لا يمضي طويل حتى تختفي هذه الآثار اليهودية من الأدب القانوني الألماني.
ويرى الدكتور فرنك أنه يجب على العنصر الألماني أن يبدأ عصراً جديداً في التأليف القانوني، وأن الذهن الآري يجب عليه أن يعرب عن عبقريته ونقائه في هذه المؤلفات.(175/71)
الكتب
موسى بن ميمون
حياته ومصنفاته
تأليف الدكتور إسرائيل ولفنسون
بقلم الدكتور إبراهيم بيومي مدكور
هنالك كتب تقرأ لموضوعها وأخرى لأصحابها! وكأن منظمي المكتبات العامة أدركوا هذا المعنى تماماً فأعدوا طائفتين متميزتين من الفهارس: إحداهما للمادة والأخرى للمؤلفين؛ والكتاب الذي نحن بصدده يجذب القراء بموضوعه وبما يبذله مؤلفه من وسائل في سبيل نشره. فهو يدرس أولاً أعظم شخصية بين مفكري اليهود في القرون الوسطى، ومن ذا الذي لا يرغب في أن يعرف شيئاً عن ابن ميمون بعد ذلك الحفل العظيم الذي أقيم في العام الماضي تخليداً لذكراه المئوية الثامنة؟ وأعتقد أن هذا الحفل نجح نجاحاً كبيراً؛ فقد وجه الباحثين إلى دراسته وتعريف الناس به، وأضحت شخصيته بعده شعبية إلى حد ما، ولو لم يكن من آثاره إلا كتاب اليوم لكفى. وعلنا نحتذي هذه السنة الصالحة ونخلد ذكرى فلاسفة الشرق وعلمائه الآخرين كي نبعثهم من مرقدهم وننشر تراثهم ونلفت الأنظار إليهم ونحلهم في المحل اللائق بهم. وفوق هذا ففي الدكتور ولفنسون نشاط يغبط عليه؛ وليس نشاطه في التحدث عن كتبه بأقل من نشاطه في جمعها وتأليفها، ولا تكاد تلقاه إلا ويحدثك عن أبحاثه الماضية ومؤلفاته الحاضرة ومشروعاته المستقبلية؛ وإذا ما ظهر له في عالم التأليف كتاب خيل إليك أنك تلمح باستمرار على وجهه السؤال الآتي: هل قرأت كتابي؟ ولسنا ندري ماذا كان يصنع لو قدر له أن يشتغل بالأعمال المالية والشؤون الاقتصادية! يغلب على ظننا أنه ما كان يباري في هذا المضمار!
ولسنا في حاجة لأن نؤكد للدكتور ولفنسون أنا قرأنا كتابه الأخير؛ فهو يعلم أنّا عنينا به وهو لا يزال في مهده، وقمنا بعض الشيء على تنشئته وتكوينه، وقد ناقشناه غير مرة في طريقته وأسلوبه وموضوعه ومصادره؛ وها نحن أولاء مسرورون بظهوره في ثوبه الحاضر سروراً مزدوجاً، فيسرنا منه ما فيه من أبحاث قيمة أضافت إلى اللغة العربية ثروة(175/72)
طائلة، ونغتبط بأن نرى فيه زهرة يانعة شهدنا من قبل ساعة تفتحها وتابعنا أدوار نموها وكمالها. وإذا كنا قد أسررنا بالأمس إلى الدكتور ولفنسون بما لاحظنا على مخطوطته، فنحن اليوم في حل من أن نعلن إلى قرائه ما خلفه كتابه في نفسنا من أثر؛ والأبحاث العقلية وقف على أصحابها ما لم ينشروها؛ فان نشرت أصبحت ملكاً للإنسانية جمعاء.
يشتمل كتاب موسى بن ميمون على تصدير، وأربعة أبواب وفهرس بأسماء المصادر العربية والعبرية والإفرنجية. ففي التصدير يبين المؤلف الأسباب التي دفعته إلى وضع كتابه، والطريق الذي سلكه، والصعوبات التي صادفته، ويلخص النتائج التي انتهى إليها؛ وفي الباب الأول يدرس حياة ابن ميمون ويأتي على الظروف المختلفة التي أثرت في نشأته وتكوين آرائه، ويعرض في إسهاب لمشكلة إسلامه مدلياً فيها بأقوال المؤرخين السابقين ومناقشاً لها مناقشة طويلة. وهذا الباب حافل بالمعلومات يدل على اطلاع واسع بحث مستفيض، إلا أنه لم يرتب ترتيباً كافياً. وقد عنى فيه بجمع الحقائق وسردها أكثر مما عنى بطريقة عرضها وربط بعضها ببعض. وكنا نود أن يرجع المؤلف العوامل التي أثرت في حياة ابن ميمون إلى نقط رئيسية يأتي عليها الواحدة بعد الأخرى. نحن لا ننكر أن ملخصه الجامع الذي صدر به كل باب من أبوابه حدد بحثه بعض الشيء؛ ولكن كنا نفضل أن يقسم هذه الأبواب إلى فقرات يعنون لكل واحدة منها بعنوان خاص، كما صنع في مشكلة إسلام ابن ميمون مثلاً وهذه الفقرات في جملتها لا تخرج عن الملخصات الآنفة الذكر. وقد وقف المؤلف على إسلام أسرة ابن ميمون 14 صفحة كاملة؛ وهذا الموضوع هام حقاً وجدير بهذه العناية. غير أنا لا نكاد نجد فيه جديداً؛ ذلك لأن المؤلف شغل بجمع ونقل آراء الباحثين السابقين دون أن يرجح واحداً منها على آخر ترجيحاً واضحاً. والواقع أن هذه المسألة درست من قبل دراسة موسعة، فلم ير صاحب كتاب موسى بن ميمون بداً من أن ينقل آراء من سبقوه ويعول عليها التعويل كله حتى في مناقشة النصوص التي عرض لها. ولا يفوتنا أن نشير إلى أنه قد يسهب أحياناً في سرد هذه النصوص وينقل منها ما يجاوز بحثه ويناقشها مناقشة سطحية. ونعتقد أنه كان في مقدوره، وهو ذو خبرة لغوية واسعة أن يشرح النصوص العربية شرحاً أضبط، ويستكمل ما فات المستشرقين السابقين.
وفي الباب الثاني الذي هو أصغر أبواب الكتاب درست مؤلفات ابن ميمون الدينية. وهذا(175/73)
الباب واضح في جملته ومحتو على ملاحظات ونقد لا بأس به، وما اتصل فيه بتثنية التوراة والتلمود جيد للغاية. ولا غرو فالمؤلف حين يدرس الفقه والتشريع الإسرائيلي إنما يتكلم عن خبرة تامة ومعرفة حق؛ فهنا يبدو بجلاء اختصاصه وتمكنه من مادته. هذا إلى أنه أحسن اختيار ما قدمه؛ فلم يشغل القارئ العربي بتفاصيل جزئية عن الديانة اليهودية قد لا تعنيه كثيراً معرفتها.
والآن ننتقل إلى الباب الثالث الذي هو عمدة الكتاب وأكبر أبوابه، وقد عنون له المؤلف كالآتي: - (فلسفة موسى بن ميمون ومصنفه دلالة الحائرين). ويخيل إلينا أنه كان الأولى أن يكون عنوانه كما يلي: (دلالة الحائرين وما يحوي من آراء فلسفية ودينية). فان المؤلف لم يشرح في هذا الباب فلسفة ابن ميمون شرحاً نظرياً وتاريخياً منظماً؛ وإنما جعل كل همه أن يلخص كتاب دلالة الحائرين وينقل أهم ما جاء فيه من آراء وأفكار، ويعطي فكرة عامة عن تاريخ تأليفه والأدوار التي مر بها منذ ابن ميمون إلى اليوم، ويبين أثره في العالم الغربي والشرقي. ولئن فاته أن يدرس فلسفه ابن ميمون الدرس اللائق بها لقد وفق توفيقاً كبيراً في تلخيص كتابه دلالة الحائرين، ونستطيع أن نقرر أن هذا الملخص الذي يقع في نحو خمسين صفحة قد يغني عن قراءة أجزاء دلالة الحائرين الثلاثة. ولم يلخص المؤلف هذا الكتاب بالمعنى، بل ترك ابن ميمون يعبر في أغلب الأحايين عن آرائه بنفسه. وفي هذا ما يسمح للقارئ أن يتصل اتصالاً مباشراً بالفيلسوف المترجم له. ويجدر بنا أن نلاحظ أنا في حاجة ماسة إلى طبع دلالة الحائرين بحروف عربية. ففي انتظار هذه الطبعة المنشودة قدم لنا الدكتور ولفنسون فصولا ممتعة من كتاب عربي هام كتب بالعربية دون أن يعرفه كثير من أبنائها. وكل ما يؤخذ على هذا الملخص نقص في الترتيب وربط المسائل بعضها ببعض أحياناً، أو قصور في عرض بعض النقط أحياناً أخرى. ففي صفحة 58 يحكم المؤلف مثلا على المترجمات العربية حكماً غير مبني على أساس صحيح، ويشير إشارة ناقصة إلى أثر الفلسفة الإسلامية في الفلسفة اليهودية. وكنا نتوقع أن يعير هذه المسألة ما تستحق من أهمية، ولا سيما وهو يدرس شخصية يبدو فيها الأثر الإسلامي بشكل واضح. والتاريخ والواقع يشهدان بأن الفلسفة اليهودية في جملتها ليست إلا امتداداً للفلسفة الإسلامية. وفي صفحة 121 يتكلم عن أسلوب ابن ميمون؛ وفي رأينا أنه كان(175/74)
ينبغي أن يقدم هذه النقطة ويبدأ بها قبل الدخول في تفاصيل كتاب دلالة الحائرين؛ على أن المؤلف فاته أن يشير إلى جلاء ابن ميمون، ووضوح لغته، وعنايته بتوصيل المعنى إلى القارئ، وطريقته المنطقية البرهانية في المناقشة والتعليل.
وفي الباب الرابع والأخير يدرس المؤلف كتب ابن ميمون الطبية. وهذه تكملة لا بد منها؛ فان ابن ميمون فوق تشريعه وفلسفته كان طبيباً يشار إليه بالبنان في علمه وعمله، وقد خلف كتباً طبية عديدة استفاد منها الشرق والغرب أثناء القرون الوسطى. وقد نجح المؤلف في التعريف عنها، وعرض نماذج من موضوعاتها؛ وإن كان قد فاته أن يبين في وضوح الصلة بينها وبين المؤلفات الطبية العربية الأخرى المعاصرة لها أو السابقة عليها. وعلى هذه الدراسة ألصق بكتاب طبي منها ببحث تاريخي.
وفي الفهرس نرى مجموعة طبية من المراجع القديمة والحديثة العربية والعبرية والإفرنجية التي تتصل بحياة ابن ميمون وآرائه ومؤلفاته. ويا ليت المؤلف أضاف إليها بعض الملاحظات النقدية التي تبين قيمتها العلمية وما احتوت من أبحاث مفيدة. وعلى كل فهذا الفهرس ثمرة من ثمرات اطلاعه الواسع، وأداة صالحة من أدوات البحث والدراسة. وسيجد فيه القراء والمطلعون نبراساً يستضيئون به في ظلمات القرون الوسطى، وهادياً يرشدهم إن أرادوا التوسع في بعض النقط التاريخية والفلسفية.
هذا هو كتاب موسى بن ميمون في محتوياته. وأما أسلوبه فمقبول في جملته، وإن أعوزه شيء من العناية والدقة. وأما مصادره - على الرغم من تعددها وحسن اختيارها - فلم تستخدم استخداماً كافياً. ونعتقد أنه لو كان المؤلف قد تريث أكثر في دراستها، ودقق أطول في قراءتها، لأخرج لنا عن ابن ميمون بحثاً أشمل وأوسع.
ومهما يكن من اعتراض يمكن أن يوجه إلى كتابه فأنا لا نتردد مطلقاً في أن نقرر أنه ضم إلى سلسلة أعماله المتواصلة حلقة ذهبية ناصعة. وهو من غير شك، كما قرر فضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق في المقدمة التي قدم له بها (ثمرة جهد كبير في الاطلاع على مراجع مختلفة في لغات شتى) وإذا لاحظنا أنه يدرس شخصية جليلة من كبار المفكرين الذين تربوا فوق أرض الإسلام وتحت سمائه أكبر ما له من قيمة؛ وسيستعين به أصدقاء الفلسفة الإسلامية وطلابها على تفهم كثير من الآراء والأفكار(175/75)
العربية. وأملنا كبير في أن ينحفنا الدكتور ولفنسون وهو مؤرخ استكمل وسائل البحث التاريخي، بمؤلفات أخرى تكشف الغطاء عن فلسفة القرون الوسطى اليهودية.
إبراهيم مدكور(175/76)
العالم المسرحي والسينمائي
أدب السيناريو
صورة جديدة من الأدب أوجدها الفيلم الناطق
لناقد (الرسالة) الفني
ظل الأدباء حتى السنين الأخيرة لا يعرفون الفنون والآداب إلا في صورها القديمة من الشعر والنثر الفني والقصص التمثيلي وغير التمثيلي. وظهرت صورة جديدة من الأدب في القصة القصيرة، وهي على رغم انتشارها وذيوعها ليست جديدة وإنما هي صورة مصغرة من القصة الطويلة، أو هي قصة ملخصة تلخيصاً حكيماً.
واخترعت السينما الناطقة فرأينا القصص تعرض على اللوحات ولم يؤثر هذا الاختراع أي تأثير في العالم الأدبي حتى ظهرت السينما الناطقة فسمعنا الممثلين ينطقون بحوار فني وضعه المؤلفون من أكبر رجال الأدب والفن في العالم.
بعض هذه القصص بما تحوي من حوار مقتبس عن قصص معروفة، ولكنه يظهر في صورة خاصة وترتيب فني جديد لم يألفه الناس وعرف بالسيناريو.
والسيناريو كلمة أطلقها رجال السينما على القصة السينمائية في وضعها الخاص الذي يعاون المصور والمدير الفني ومساعديه على القيام بمهمتهم في سبيل إخراج فيلم من الأفلام.
ظلت هذه الصورة الجديدة لا يعرفها الناس وكأنها سر من الأسرار، وكان المتلهفون على المجلات السينمائية وكتب السينما يعرفون القليل عنها من أمثال بسيطة يضربها المؤلفون والكتاب في بعض ما يكتبون، حتى جازفت إحدى دور النشر في أوربا وقامت بطبع أكثر من سيناريو فكان هذا العمل الجريء هو الباعث على ظهور هذه الصورة الجديدة من الأدب.
أقبل الناس على قراءة هذه الكتب للتسلية والدرس، وهناك من المؤلفين والكتاب من كانت لديهم الموضوعات التي تصلح وتليق بأكبر الأفلام، ولكن جهلهم بشؤون السينما وعدم تمكنهم من التفصيلات كثيراً ما صرفهم عن السير في هذا السبيل، فظهور هذه المطبوعات(175/77)
أفادهم فائدة كبيرة، فهي في الحقيقة شرح تفصيلي عملي يمكنهم من فهم السيناريو وطريقة وضعه.
وليست فائدة هذه المطبوعات قاصرة على هذا وحده، فقارئ السيناريو يجد لذة كبيرة في تلاوة قصة سبق له أن شاهدها على ستار السينما.
قرأت أكثر من كتاب واحد مما أخرج، وأقرر أنني وجدت تسلية كبيرة فيما قرأت، وخرجت بفائدة لم أكن أحلم بها، فقد جعلتني أفهم السينما على حقيقتها وأعرف دقائقها تمام المعرفة إذ وجدت تطبيقاً عملياً على كل ما قرأت من الكتب الخاصة بالسينما وأحوالها.
فهذه الصورة الجديدة من الأدب تدين بخلقها إلى الفلم الناطق، وأنا زعيم بأن الأدباء سوف يجدون في هذه الصورة ما يرضي ميولهم ويدفعهم إلى تأليف السيناريو. ولقد كتب المؤلفون قصصاً تمثيلية وقاموا بطبعها قبل أن يعرضوها على الفرق التمثيلية ووجدت من الرواج والإقبال ما يعوض على الكاتب مجهوده؛ وأعتقد أننا سوف نرى في القريب من المؤلفين من يقوم بطبع (سيناريو) قبل أن تقوم شركة من الشركات بإخراجه، وسوف يقبل الناس على تلاوته بدافع اللذة والتسلية وهكذا يضيف الفلم الناطق صورة جديدة إلى الآداب والفنون.
يوسف
في الفرقة القومية
تأكدت لدينا استقالة الأستاذ زكي طليمات من الفرقة القومية المصرية فهو قد قدم فعلاً استقالة إلى الأستاذ خليل بك مطران مدير الفرقة، وسوف تعرض على لجنة ترقية المسرح المصري في أول اجتماع لها، وقد كان من المنتظر أن تعقد اللجنة اجتماعاً في تمام الخامسة بعد ظهر يوم الأربعاء الماضي ولكنه أجل لتغيب معالي رئيس اللجنة حافظ عفيفي باشا في الإسكندرية.
وقد رفع الأستاذ طليمات أيضاً إلى معالي وزير المعارض التماساً يرجو فيه إلغاء انتدابه في الفرقة القومية المصرية.
ولسنا ندري حقيقة الأسباب التي دفعت الأستاذ طليمات إلى تطليق المسرح والفرقة القومية(175/78)
التي طالما تمنى قيامها وعمل كثيراً في سبيل إنشائها، فالإشاعات كثيرة: منها أن هنالك من يضع في طريقه العقبات وأن بين رجال الفرقة من يعمل على الحد من السلطة التي كانت له في الموسم الماضي ويذكرون مسائل معينة للتدليل على صحة ما يقولون.
والسبب المباشر في استقالته أنه تقرر سحب رواية الجريمة والعقاب التي نقلها إلى العربية الدكتور الشاعر إبراهيم ناجي والممثل فتوح نشاطي بعد أن استعد لها وأتم دراستها واختار لنفسه أحد أدوارها، وقد عهد بإخراج هذه الرواية إلى الأستاذ عزيز عيد، وكان الدور الذي اختاره الأستاذ طليمات لنفسه من نصيب الأستاذ حسين رياض.
وقد يرى القارئ الملم بالوسط المسرحي المصري أن هذا التصرف عادي في الفرق ولهذا فإن دهشتهم لتقديم الاستقالة كانت كبيرة، ولكن المتصلين بالأستاذ طليمات يقولون إن هذه الحادث هو القشة التي قصمت ظهر البعير.
ونحن يسوؤنا جداً أن تنتهي المسألة بهذه النتيجة المؤلمة، ونحن نأسف جد الأسف على خروجه من الوسط المسرحي ونعد اعتزاله خسارة كبيرة فهو المخرج الوحيد في مصر الذي درس فن الإخراج والتمثيل في أوربا دراسة تهيئه لأن يتولى هذه المهمة في مصر، وهو إلى جانب هذا أديب مطلع لا نجد بين الممثلين أكثر من اثنين في مثل اطلاعه وإخلاصه للفن.
والمسرح المصري في هذه الفترة في حاجة إلى توحيد الجهود لإقالته من عثرته. وخروج الأستاذ طليمات يضعف من الجهود التي تبذلها اللجنة ورجالها المحترمون. ونحن نرجو مخلصين أن يعدل الأستاذ طليمات عن هذه الاستقالة، وأن تمهد له اللجنة الطريق إلى سحبها بأن تزيل ما في النفوس من الصغائر التي تفسد الجو المسرحي، كما نرجو ألا يوافق معالي وزير المعارف وسعادة وكيل الوزارة الأستاذ العشماوي بك على إلغاء انتدابه.
يوسف(175/79)
العدد 176 - بتاريخ: 16 - 11 - 1936(/)
مشروع خطير
تطعيم الأدب العربي
كانت اللغة العربية في عصر من عصورها مجمع الثقافات، وملتقى المدنيات، ومنتهى الألسن؛ وكان الأدب العربي في حدود مراميه التعبير العام عن خوالج الإنسانية في أكثر بقاع الأرض، لأن الإسلام الذي جمع قلوب الأمم على قرانه، جمع ألسنتهم على لسانه، فلم تكن هناك فكرة تجول في ذهن كاتب، ولا صورة تتمثل في خاطر شاعر، إلا وجدت في هذا الخضم المحيط صدفة تستقر فيها. فلما تحولت عن مذاهبه الأنهار، وجفت على جوانبه الروافد، عاد كالبحيرة المحدودة الراكدة، لا يمدها إلا قطرات المطر ودفعات السيل في الحين بعد الحين. فإذا أردنا لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأجنبية، ونطعمه بأنواع الفنون الأدبية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة، ونخلي بينه وبين الحرية ليزدهر وينتشر ويساهم الآداب العالمية في تبليغ رسالة الجمال والخير والحق.
ذلك كلام يدخل في بدائه العقل لوضوحه، ويجري في قوانين الطبع لضرورته؛ فإذا عدنا إليه فإنما نعود لنحتال في تنفيذه لا لنلح في تعزيزه. وقد رغبنا إلى الحكومة في عدد مضى أن تنشئ دارا للترجمة تنقل آداب الأمم الكبرى نقلاً صحيحاً، ثم تنشرها كما تنشر دار الكتب الأسفار العربية القديمة؛ والأمر في ذاته قريب المنال قليل المؤونة، ولكن رغبة الفرد إلى الحكومة تكون في الغالب أملاً يتنفس به الصدر ولا يتعلق به صدق ولا ظفر. رغبنا إلى الحكومة هذه الرغبة اليائسة وما كنا نعلم أن ترجمة الآداب الغربية على خطة مرسومة هي مشروع في لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أنضجت له الرأي ووجَّهت إليه العزيمة. ولجنة التأليف والترجمة والنشر فرقة من فرق الجنود المجهولة، تجاهد في صمت، وتكابد في صبر، وتبذل في إيثار. وقد طوت في جهاد الجهالة اثنتين وعشرين سنة فلم تنخزل عن صعوبة، ولم تنهزم عن تضحية، ولا تزال تضطلع وحدها بحماية الكتاب وقد غلبه على مكانه الطفيليات العابثة من المجلات الهازلة والنشرات الهزيلة.
تريد لجنة التأليف والترجمة والنشر أن تنقل إلى العربية آداب اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، كل أدب منها في عام. وستنتقي لكل أدب عشرة أو أكثر من أعلام(176/1)
المترجمين الذين حذقوا أدب اللسانين المترجِم والمترجَم في دقة فهم وجمال صياغة. ثم تجعل مع هؤلاء أديباً من أهل اللسان الأوربي يتولى اختيار الكتب الخالدة لكل كاتب أو شاعر، ثم يكون مرجعاً للمترجمين فيما عسى أن يغمض عليهم من خفايا الكنايات وأسرار الجُمل؛ فإذا خرج الكتاب من الترجمة والمراجعة انتهى إلى أستاذين من أساتذة البيان العربية فيصقلان أسلوبه ويهذبان لفظه؛ ثم تنشر مطبعة اللجنة هذه الكتب تباعاً على غرار واحد وشكل رائق وتصحيح دقيق. واللجنة تهيئ الأسباب لتبدأ عما قريب في إخراج الأدب الإنجليزي، حتى إذا فرغت منه اشتغلت بغيره. والتعليق على مثل هذا المجهود الخطير المعجز لا يكون بغير الدعاء إلى الله أن يقرن العمل بالتوفيق ويقطع الأمل بالفوز. وليس بعد الله من يعين على هذا الجهد إلا الحكومة. فإن الجمهور القارئ في مصر وفي غير مصر قليل، وأكثر هذا القليل يكاد لا يعرف طريق المكتبة ولا يألف صحبة الكتاب. فترك اللجنة إلى أهواء القراء معناه حبس أموالها القليلة في المخازن والمكاتب فلا تقلبها في تأليف ولا نشر؛ والحكومة التي تساعد المدارس والمجامع والصحف، وتعول المجمع اللغوي ودار التمثيل ودار الكتب، لا تستطيع أن تضن بالمساعدة السخية على هذا المشروع الضخم تقوم به صفوة من أقطاب الثقافة في هذا البلد وقد كان من واجباتها الأولى أن تفكر فيه وتنهض به.
ولقد كان من فضل الله على (الرسالة) أن تحمل عبئها من هذا العمل الجليل المثمر، فقد أمضت النية على أن تصدر بجانبها أختها (الرواية) وهي مجلة أسبوعية تعتمد على نقل ما راع وخلد من بدائع الأدب الغربي في القصص على أوسع معانيه من الأقاصيص والروايات والمذكرات والاعترافات والرحلات والسِير. وسيكون شعار (الرواية) الجمال في الأسلوب، والحسن في الاختيار، والنبل في الغرض؛ فترضي الذوق كما ترضي (الرسالة) العقل، وترفع القصة كما ترفع (الرسالة) المقالة، وتسجل أدب الغرب كما تسجل (الرسالة) أدب العرب.
ولا جرم أن الأدب العربي سيكون له في كل عام مما تنتجه (اللجنة) وتترجمه (الرواية) وتنقله الصحف الأخرى، مورد ثَرُّ الينابيع، فياض الجوانب، من العبقريات الممتازة والقرائح السمحة، يحيي مواته، ويزكي نباته، ويجعل من سهوبه الفيح جناناً ناضرة، فيها(176/2)
متاع الأذن بالتغريد والشدو، ولذة العين بالرواء والبهجة، وشهوة النفس بالزكاء والعطر، وسعادة العالم بالسلام والوئام والمحبة.
احمد حسن الزيات(176/3)
3 - القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أما صاحب القلب المسكين فرمقها وهي تلفت إليه التفات الظبية بسواد عينيها بجعل سوادهما الجميل في النظرة الواحدة نظرتين لعاشق الجمال، تقول إحداهما: أنت، وتقول الأخرى: أنا؛ ثم أراها وقد كسرت أجفانها وتفترت في يدي الممثل العشيق وأفصح منظرها ببلاغة. . . ببلاغة جسم المرأة المحبوبة بين ذراعي من تحبه؛ ثم اختلجت وصوبت وجهها، وأهدفت شفتيها؛ وتلقت القبلة.
وكان به منها ما الله عليم به، فانبعثت من صدره آهة مُعولة تئن أنيناً، غير أنها كلمته بعينيها أنها تقبله هو؛ فلا ريب قد حملت إليه إحدى النسمات شيئاً جميلاً عن ذلك الفم لمست به النفس النفس، والقبلة هي هي ولكن وقع خطأ في طريقة إرسالها. . .
ليس تحت الخيال شيء موجود، ولكن الخيال المتسرح بين الحبيبين تكون فيه أشياء كثيرة واجبة الوجود، إذ هو بطبيعته مجرى أحلام من فكر إلى فكر، ومسرحُ شعور يصدر ويرد بين القلبين في حياة كاملة الإحساس متجاوبة المعاني. وبهذا الخيال يكون مع القلبين المتحابين روح طبيعي كأنه قلب ثالث ينقل للواحد عن الآخر، ويصل السر بالسر، ويزيد في الأشياء وينقص منها، ويدخل في غير الحقيقي فيجعله أكثر من الحقيقي. ومن هنا لم يكن فرح ولا حزن، ولا أمل ولا يأس، ولا سعادة ولا شقاء، إلا وكل ذلك مضاعف للمحب الصادق الحب بقدر قلبين؛ والذين يعرفون قبلة الشغف والهوى يعرفون أن العاشق يقبل بلذة أربع شفاه.
وانسدلت بعد هذه القبلة ستارة المسرح، وغابت الجميلة المعشوقة غيبة التمثيل فقلت لصاحب القلب المسكين: إن روحيكما متزوجتان. . . قال: آه، ومدَّها من قلبه كأنه دنف سقيم.
قلت: وماذا بعد آه؟
قال: وماذا كان قبلها؟ إنه الحب فيه مثل ما في (عملية جراحية) من تنهدات الألم ولذعاته، غير أنها مفرقة على الأوقات والأسباب مبعثرة غير مجموعة. (آه)؛ هذه هي الكلمة التي لا تفرغ منها القلوب الإنسانية، وهي تقال بلهفة واحدة في المصيبة الداهمة، والألم البالغ،(176/4)
والمرض المدنف، والحب الشديد. فحينما توشك النفس أن تختنق تتنفس (بآه).
قلت: أما رأيتها مرة وقد أوشكت نفسها أن تختنق. . .؟
قال: لقد هجت لي داءً قديماً؛ إن لهذه الحبيبة ساعات مغروسة في زمن غرس الشجر، فبين الحين والحين تثمر هذه الساعات مرها وحلوها في نفسي كما يثمر الشجر المختلف؛ ولقد رأيتها ذات مرة في ساعة همها؛ ثم ضحك وسكت.
قلت: يا عدوَّ نفسه! ماذا رأيت منها؟ وكيف أراك الوجد ما رأيت منها؟
قال: أتصدقيني؟ قلت: نعم.
قال: رأيت الهمَّ على وجه هذه الجميلة كأنه همَّ مؤنث يعشقه همَّ مذكر. . . فله جمال ودلال وفتنة وجاذبية، وكأن وجهها يصنع من حزنها حزنين: أحدهما بمعنى الهم لقلبها والآخر بمعنى الثورة لقلبي.
قلت: يا عدو نفسه هذا كلام آخر؛ فهذه امرأة ناعمة بضّة مطوي بعضها على بعضها، لفّاء من جهة هيفاء من جهة، ثقيلة شيء وخفيفة شيء، جمعت الحسن والجسم وفناً بارعاً في هذا وفناً مفردا في ذاك، وهي جميلة كل ما تتأمل منها، ساحرة كل ما تتخيل فيها، وهي مزاحة دحداحة وهي تطالعك وتطمعك، وأنت امرؤ عاشق ورجل قوي الرجولة؛ فالجميلة والمرأة هما لك في هذا الجسم الواحد، إن ذهبت تفصلهما في خيالك امتزجتا في دمك؛ ولو أمسكت آلة التصوير نظراتك إليها لبانت فيها أطراف اللهب الأحمر مما في نفسك منها. ولعمري لو مرت عربة تدرج في الطريق ونظرت إليها نظرتك لهذه المرأة بهذه الغريزة المحتبسة المكفوفة لظننتك سترى العجلة الخلفية عاشقاً مهتاجاً يطارد العجلة الأمامية وهي تفر منه فرار العذراء. . .
فضحك وقال: لا، لا. إن نوع التصوير لإنسان هو نوع المعرفة لهذا الإنسان، ومن كل حبيب وحبيبة تجتمع مقدمة ونتيجة بينهما تلازم في المعنى؛ والمقدمة عندي أن إبليس هنا في غير إبليسيته، فلا يمكن أن تكون النتيجة وضعه في إبليسيته. وما أتصور في هذه الجميلة إلا الفن الذي أسبغه الجمال عليها، فهي في معرفتي وخيالي كالتمثال المبدع بداعة لا يستطيع أن يعمل عملاً إلا إظهار شكله الجميل التام حافلاً بمعانيه.
ليست هذه المرأة هي الأولى ولا الثانية ولا الثالثة فيمن أحببت؛ إنها تكرار وإيضاح(176/5)
وتكملة لشيء لا يكمل أبداً، هو هذه المعاني النسوية الجميلة التي يزيد الشيطان فيها من عشق كل عاشق. إن بطن المرأة يلد، ووجه المرأة يلد.
قلت: هذا إن كل وجهها كوجه صاحبتك، ولكن ما بال الدميمة؟
قال: لا هذا وجه عاقر. . .
قلت: ولكن الخطأ في فلسفتك هذه أنك تنظر إلى المرأة نظرة عملية تريد أن تعمل في تمنعها أن تعمل؛ فتأتي فلسفتك بعيدة من الفلسفة، وكأنك تغذو المعدة الجائعة برائحة الخبر فقط.
قال: نعم هذا خطأ، ولكنه الخطأ الذي يخرج الحقائق الخيالية من هذا الجمال؛ فإذا سخرت من الحقيقة المادية بأسلوب فبهذا الأسلوب عينه تثبت الحقيقة نفسها في شكل آخر قد يكون أجمل من شكلها الأول.
أتعلم كيف كانت نظرتي إلى نور القمر على هذه والى حسن هذه على القمر؟ إن القمر كان ينسيني بشربتها فأراها متممة له كأنه ينظر وجهه في مرآة، فهي خيال ووجهه؛ وكانت هي تنسيني مادية القمر فأراه لها كأنه خيال وجهها.
أتدري ما نظرة الحب؟ إن في هذا القلب الإنساني شرارة كهربائية متى انقدحت زادت في العين ألحاظاً كشافة وزادت في الحواس أضواءً مدركة، فينفذ العاشق بنظره وحواسه جميعا في حقائق الأشياء فتكون له على الناس زيادة في الرؤية وزيادة في الإدراك يعمل بها عملا فيما يراه وما يدركه. وبهذه الزيادة الجدية على النفس تكون للدنيا حالة جديدة في هذه النفس؛ ويأتي السرور جديدا ويأتي الحزن جديدا أيضاً. فألف قبلة يتناولها ألف عاشق من ألف حبيب؛ هي ألف نوع من اللذة ولو كانت كلها في صورة واحدة. ولو بكى ألف عاشق من هجر ألف معشوق لكان في كل دمع نوع من الحزن ليس في الآخر.
قلت: فنوع تصورك لهذه الراقصة التي تحبها، أن إبليس هنا في غير إبليسيته. . .
قال: هكذا هي عندي، وبهذا أسخر من الحقيقة الإبليسية.
قلت: أو تسخر الحقيقة الإبليسية منك وهو الأصح وعليه الفتوى. . .
فضحك طويلاً وقال: سأحدثك بغريبة. أنت تعرف أن هذه الغادة لا تظهر أبداً إلا في الحرير الأسود؛ وهي رقيقة البشرة ناصعة اللون فيكون لها من سواد الحرير بياض(176/6)
البياض وجمال الجمال. فلقد كنت أمس بعد العشاء في طريقي إلى هذا المكان لأراها، وكان الليل مظلما يتدجَّى، وقد لبس وتلبس وغلب على مصابيح الطريق فحصر أنوارها حتى بين كل مصباحين ظلمة قائمة كالرقيب بين الحبيبين يمنعهما أن يلتقيا؛ فبينا أقلب عيني في النور والغسق وأنا في مثل الحالة التي تكون فيها الأفكار المحزنة أشدَّ حزناً - إذ رفع لي من بعيد شبح أسود يمشي مشيته متفّترا قصير الخطو يهتز ويتبختر؛ فتبصرته في هيئته فما شككت أنها هي، وفتحت الجنة التي في خيالي وبرزت الحقائق الكثيرة تلتمس معانيها من لذة الحب، وكان الطريق خاليا فأحسست به لنا وحدنا كالمسافة المحصورة بين ثغرين متعاشقين يدنو أحدهما من الآخر، وأسرعت إسراع القلب إلى الفرصة حين تمكن، فلما صرت بحيث أتبين ذلك الشبح إذا هو. . . إذا هو قسيس. . .
فقلت: يا عجباً، ما أظرف ما داعبك إبليس هذه المرة وكأنه يقول لك: إيه يا صاحب الفضيلة. . .
وكان الممثلون يتناوبون المسرح ونحن عنهم في شغل إذ لم تكن نوبتها قد جاءت بعد؛ وألقى الشيطان على لساني فقلت لصاحبنا: ما يمنعك أن تبعث إليها فلانا يستفتح كلامها ثم يدعوها فليس بينك وبينها كلمة تعالي أو تفضلي.
قال: كلا، يجب أن تنفصل عني لأرها في نفسي أشكالا وأشكالا؛ ويجب أن تبتعد لألمسها لمسات روحية؛ ويجب أن أجهل منها أشياء لأحمق فيها علم قلبي؛ ويجب أن تدع جسمها وأدع جسمي وهناك نلتقي رجلاً وامرأة ولكن على فهم جديد وطبيعة جديدة. بهذا الفهم أنا أكتب وبهذه الطبيعة أنا أحب ما هو الجزء الذي يفتنني منها؟ هو هذا الكل بجميع أجزائه.
وما هو هذا الكل؟ هو الذي يفسر نفسه في قلبي بهذا الحب.
وما هو هذا الحب؟ هو أنا وهي على هذه الحالة من اليأس نعم. أنا بائس ولكن شعور البؤس هو نوع من الغنى في الفن لا يكون هذا الغنى إلا من هذا الشعور المؤلم. والحبيب الذي لا تناله هو وحده القادر قدرة الجمال والسحر؛ يجعلك لا تدري أين يختبئ منه جماله فيدعك تبحث عنه بلذة؛ ولا تدري أين يسفر منه جماله فيدعك تراه بلذة أخرى. أنا أنضج هذه الحلوى على نار مشبوبة؛ على نار مشبوبة في قلبي.
قلت: يا صديقي المسكين هذه مشكلة عرضت بها المصادفة وستحلها المصادفة أيضاً. وما(176/7)
كان أشد عجبي إذ لم أفرغ من الكلمة حتى رأينا (المشكلة) مقبلة علينا. . .
أما هو: أما صاحب القلب المسكين؟
(طنطا)
(لها بقية)
مصطفى صادق الرافعي(176/8)
المشيرة عايدة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قلما يستطيع الإنسان أن يضع نفسه موضع إنسان آخر في أمر يعنيه، ولو كان هذا يسعه في كل حال لكان الأرجح أن يضحكه الذي يمضه ويثقل عليه أو يبكيه. - في هذا كنت أفكر وأنا أسمع قصة صديقي وكان قد دخل على وهو ينفخ ويسمح العرق المتصبب - عرف الخجل لا التعب والنصب، فانه صاحب سيارة فخمة ضخمة لا تتعب الراكب ولا تكلفه جهدا غير النظر إلى الطريق وسكون الأعصاب واتزانها وهو يمرق بها بين المارة الذين لا يحلو لهم السير إلا وسط الشارع كأنما كان الشارع متنزها عاما وكأنما ينبغي على سائق السيارة أن يسير بها فوق الرصيف ليفسح لهم.
وكان يحاول أن يقص عليَّ القصة وهو يمسح وجهه بالمنديل فكان نصف ما يقول يخرج مخنوقا في مطاوي المنديل فقلت له: (هلا انتظرت حتى ينشف هذا العرق).
فغضب وقال: بلهجة المعاتب (وأنت أيضاً. . .؟؟)
فقلت: له وأنا أحاول أن أفئ به إلى الرضى (إنما أردت أن أقول إن المنديل يغيب فيه بعض الكلام فيجيء ما أسمع غير مفهوم. . . على كل حال يحسن أن تبدأ من البداية).
قال: (البداية؟. يا خبر!)
قلت: (عمن تتحدث؟. . يخيل إلى أنك ذكرت اسماً. . .)
قال: نعم. . . عايدة. . .)
قلت: (آه. . . عايدة؟؟ ومن عسى أن تكون هذه المجرمة؟؟)
قال: ألا تعرفها؟. هذا مدهش. . . كيف يمكن.؟)
قلت: (يا أخي لا تغضب. . . إنك تعرف أن ذاكرتي خوانة. . . وليس من النادر أن أنسى أسماء من أعرف من الناس. . . فإذا سمحت بأن تذكرني بها فأنى أعدك أن. . .).
فقال: (أوه. . . إنك تمزح ولا شك. . . لا يمكن أن تجهلها)
قلت: أشكر لك هذه الثقة بسعة معارفي. . . ولكني أؤكد لك أن الاسم لا يحرك في نفسي أي ذكرى. . . لا يثير أي اختلاج. . . وليس هذا لأنها لا تستحق الذكر بل لأن الأسماء تقع من رأسي في غربال واسع الخروق)(176/9)
فاقتنع وشرع يصفها لي فهززت له رأسي وقلت: (خير من هذا الوصف الذي لا يصف شيئاً أن تقول لي: أين تسكن أو أن تذكر لي بقية اسمها. . . شيء من هذا القبيل. . . أما أن تظن أنه يكفي أن تقول: (بنت جميلة هيفاء ممشوقة القوام. . . فاسمح لي أن أؤكد لك أنك. . .)
فرماني بنظرة وأومأ إلى أن أقصر، فأمسكن إشفاقا عليه. وبلع ريقه ثم أخذ يصف لي بيتها فضقت ذرعا بهذا الحال وقلت له: (يا أخي ما حاجتي إلى كل هذا؟؟ وكيف تظن أن في وسعي أن أعرف إنسانا من قولك إن لبيته شرفتين وأربع نوافذ أو عشرا وأن فيه خمس غرف أو ستا.؟ إنما أسالك عن الموقع. . . عن الشارع أو الحارة أو الدرب. . . ماذا جرى لعقلك اليوم)
وبعد لأي ما استطعت أن أعرف الشارع الذي فيه بيتها فتذكرت.
وكانت عايدة هذه - كما قال - جميلة، ولكن في قولي (جميلة) اقتصاداً - أو إن شئت فقل إيجازا مخلا - وما أكثر الجميلات ولكن ما أقلهن أيضاً. والجميلات التي تقع العين عليهن أكثر من أن يأخذهن إحصاء، ولكن اللواتي يقعن من نفس المرء وتثبت على صفحة القلب صورهن - هؤلاء هن القليلات وعايدة هذه إحداهن. وإنه لسر ولغز لا يحل أنها بقيت إلى الآن بلا زواج، فما تنقصها لا الرشاقة ولا الظرف، ولا أنس الحديث وعذوبته، ولا دماثة الطباع وحلاوتها، ولا وفاء الثقافة ولا حسن التدبير وكياسة التصرف. وكانت - ولعلها لا تزال - تلازم شرفتها ولا تكاد تغادر بينها إلا لضرورة ملحة أو حاجة ملجئة، ولا تخرج حين تخرج إلا ومعها أبوها أو أمها أو واحد غير هؤلاء من أهلها. ولعل هذا الذي زهد فيها ونفر منها فما أدري. على أني أعرف أن هذا الحبس قد أغراها بضروب من العبث، فهي لا تزال في شرفتها في حفل من الزينة أو في قميص نوم هفهاف يتركها عارية النحر إلى الثديين، مكشوفة الذراعين إلى ما فوق الكتف، أو في منامة - بيجامة - من الحرير الرقيق محبوكة التفصيل على قدها الممشوق وجسمها الرخص، وإذا كانت لا تخرج وكان في البيت من يغنيها عن العمل ويعفيها من مشقاته، وكانت الشقة على اتساعها أضيق من أن تكفي فتاة متعلمة حديثة الآراء فإنها لا تكاد تفارق الشرفة - فيها تقعد لتروح عن نفسها ولتقرأ إذا شاءت، ولتنظر إلى الرائحين والغادين وتتسلى بالمناظر التي تأخذها عينها، وقد(176/10)
ألفت ذلك فهي لا تستطيع أن تفطم نفسها عنه؛ وأحسب أنها لو صرفها أهلها عن الشرفة لجنت، فما لها عزاء غيرها ولا سلوى سواها، وإذ كانت ترى كل ما يرى من الشرفة ولا يفوت عينها المفتوحة ما يقع أحيانا بين بعض الرجال والنساء في حيها المكتظ بالناس وكانت لا تخالط إلا أهلها، فليس من المستغرب - بل هذا لا غيره هو المتوقع - أن يغلبها صباها أحياناً فيصدر عنها ما قد يعده المتشددون - وما أقلهم في هذا الزمان - مخالفا لمقتضيات الحشمة، وما هو كذلك؛ ولو قضى على شاب أن يحبس في بيت ولم يؤذن له في أكثر من النظر من الشرفة على حين يرى أنداده جميعا يخرجون متى شاءوا إلى حيث يشاءون لكان من المحقق أن ينتحر، ولكن عايدة لم تنتحر لأن نشأتها جعلتها تألف هذه الحياة، وان كانت لا تعزيها عن الحرمان مما ترى أترابها ينعمن به، وأقله أن تزور أترابها كما يزرنها، وحدهن، وفي غير حاشية من الأهل والآباء والأمهات.
ولكني استطردت عن حكاية صديقي فلأعد إليه، قال: (لعلك تذكر أني كنت جارا لهذه الفتاة - أعني كنت أسكن بيتا يقابل بيتها، وكان لابد أن أراها وأن أعجب بها فأنها كما يقول الشاعر: (بيرنز) - (يكفي أن تراها لتعشقها). . .)
فقاطعته عامدا وقلت: (عفوا!! لو كان بيرنز قد قال هذا لما كان في قوله ما يستحق الذكر، ومن الصعب ترجمة هذا البيت من شعره، ولكني أظن أن الذي أراده هو أن معنى أن تراها أن تحبها. . . أي أنه لا حيلة لمن يراها إلا أن يحبها. . . على كل حال تفضل)
فنفخ وتأفف وقام وتمشى ثم عاد إلى مجلسه فما له صديق غيري يستطيع أن يبيحه دخلته.
وقال بعد هنيهة: (طيب. . . قل ما بدا لك. . . المهم أني أعجبت بها. . . شغلت بها زمنا حتى لكدت أهمل عملي وأسئ إلى نفسي. . . ويجب أن أعترف لك بالفضل في رد ما ذهب من عقلي. . .)
فهممت بأن أقول شيئاً مثل (العفو) أو ما هو من هذا بسبيل، ولكنه أشار إلى فرددت الكلمة التي كانت على لساني ومضى هو في كلامه فقال: (وتعلم أني تركت البيت إلى سواه فراراً منها)
قلت: (أعلم ذلك وأظن أني أشرت به فأن البعيد عن العين بعيد عن القلب)
قال: ولكني أمس مررت من هناك ووقفت أتحدث إلى البواب زمناً وأنا أرجو أن تلتفت(176/11)
إلي، فلما لم تفعل شرعت أنفخ في البوق وعيني على الشرفة، فرمت إلي نظرة وضيئة وابتسمت، فكدت أطير من الفرح، وكان البواب يحادثني وأنا لا أصغي إليه ولا أدري ماذا يقول ولعله كان يرد على كلام لي نسيته، فما كان لي غاية إلا أن أجعل لوقوفي مسوغا في نظر البواب. ولما كان البواب لا يكف عن الكلام وكان ينتظر مني أن أقول شيئاً فقد طلبت منه أن يجيئني بقليل من الماء أفرغه في جوف السيارة وما كانت بها حاجة إلى ذلك، ولكن هذا ما خطر لي أن أصرفه عني به فمضى عني فرفعت عيني إليها فألفيتها لا تزال تبتسم فتظاهرت بأني أصلح البوق ولكن عيني كانت عليها، فأشارت إلي بيدها أن أمضي إلى آخر الشارع وأن أنتظرها هناك فأسرعت إلى مقعد القيادة ولم أنتظر البواب المسكين الذي أرسلته ليجيئني بالماء وذهبت في الطريق الذي أشارت إليه ووقفت أنتظر)
فقلت: (على أحر من الجمر؟)
قال: (لا تتهكم. . . إن المسألة ليست مزاحاً. . . نعم كنت على أحر من الجمر. . . فماذا تريد؟)
قلت: (لا شيء. . . إنما أنتظر أن تذكر بيتاً لشاعر. . . ألا يحضرك شيء من محفوظك.؟)
قال بلهجة جادة لم أكن أنتظرها: (أنا أقول لك ماذا كان يجول في خاطري. . . لقد كنت أمني النفس بوشك اللقاء الذي ظللت أرجوه عاماً كاملاً ولم يصرفني عنه سواك. . . وكان لك حق. . . الآن فقط أدركت أن الشباب يحتاج إلى التجربة التي تغري بالتؤدة وتقص أجنحة الخيال. . . كنت أحلم بأن أراها إلى جانبي في السيارة وأحدث نفسي بقربها؛ ولا أكتمك أني ذهبت أنشئ أحاديث بيني وبينها. . . أحاديث كانت تبدأ بالعتاب وتنتهي بالقبلات والعناق. . . وكنت أتصورها تدني ساقها مني - عفوا بالطبع - فأغتنم الفرصة وأدني أنا أيضاً ساقي من ساقها فتنأى بها فأرد ساقي على مهل كأن الأمر كله جاء عفواً، ثم نعود إلى هذا التداني ولا تبعد عني هذه المرة بل تبقي ساقها ملاصقة لساقي فأنعم بهذا القرب الذي لم أكن أطمع فيه بل الذي قطعت الأمل من إمكانه في هذه الدنيا. . . ونذهب إلى مكان خلوي. . . وكان خيالي يتشبث بأن يكون المكان خلويا لا يخلوا من أنس ولكنه لا يبلغ من ضجة الناس وزحامهم فيه أن يعكر وجودهم الصفو وينغصه، فإذا بلغناه وقفنا(176/12)
وطلبنا شيئاً نبل به ريقنا ويدور الحديث بغير انقطاع، كما لابد أن ينقطع والسيارة تخطف في الطريق، وتلتقي العين بالعين ويحن القلب إلى القلب وتتصل الأيدي وتتداخل الأصابع وتسري الوقدة منها إلي، ومني إليها، فتتلامس الشفاه ويستريح الصدر إلى الصدر ويحف ذراعي بخصرها ويحيط ذراعها بعنقي، ثم نتباعد ونتنهد وقد شفى كل منا بعض ما يجد وأوحي بشيء مما يجن في تلك القبلة الطويلة التي يفرغ فيها روحه ويفضي بشوقه وصبوته. . . وكنت على استغراق هذا الحلم اللذيذ لمشاعري وحواسي أنظر إلى الطريق ولا يفوتني أحد ممن يمشون فيه. . . ولم يكن حلمي يمنعني أن أنظر في الساعة كل بضع ثوان. . . وليس أشق من الانتظار ولكني استطعت أن أنتظر نصف ساعة. . . وما أقلها لو فكرت. . . وما نصف ساعة يقضيه شاب في انتظار الفوز بلقاء ظل عاما كاملا يطمع فيه ثم انتهى به الأمر إلى اليأس منه؟؟ ولكني على هذا مللت وحدثتني النفس أن شيئاً لابد أن يكون قد عاقها. . . ذلك أني أعلم أنها لا يسهل الخروج عليها وحدها؛ فقلت لنفسي إنه لا ضرر على كل حال من الرجوع والمرور ببيتها لعلي أرى ما يهديني إلى سبب هذه الغيبة الطويلة على الرغم من إشارتها الملحة أن أسير بسرعة وأنتظرها في آخر الطريق. . . وأوجز فأقول إني رجعت من حيث جئت وتظاهرت بأن شيئاً في السيارة يحوجني إلى الوقوف وترجلت وفتحت غطاء المحرك ولكني لم أنظر إليه وإنما رفعت عيني إلى الشرفة، وكانت عائدة واقفة فيها ومستندة كعادتها على حافتها وكأنما لا شيء هنالك. . . لا أحد ينتظرها في آخر الشارع منذ نصف ساعة. . . كأنها لم ترسلني إلى آخر هذا الشارع. . . أدهى من هذا يا صاحبي أنها لم تكد تراني حتى كادت تسقط على الأرض من الضحك. . . نعم الضحك. . . كانت تضحك لأنها ضحكت علي وكلفتني أن أنتظرها وهي لا تنوي أن تجيء. . . ماذا يضرها أن أنفلق نصف ساعة؟؟ ماذا خسرت هي إذا كنت أنا مغفلا؟؟ ماذا عليها إذا كنت صدقتها وتوهمت أنها تجن لي مثل الذي أجنه لها وأني لبثت نصف ساعة أحلم وأمني النفس بقربها وحديثها وابتسامها وقبلاتها وضماتها وعناقها؟؟ لا يضيرها شيء بل يسرها أنها ضحكت علي وخدعتني واستغفلتني واستحمقتني وتركتني أرتفع بخيالي إلى حيث شاءت لي السخافة ثم رمت بي إلى الأرض الصلبة. . . هل يعنيها أن عظامي رضت أو أنها تحطمت؟؟ هل تبالي أن آمالي خابت؟؟ هل تحفل الصدمة التي(176/13)
لابد أن أحسها حين أعرف أنها كانت تعابثني وتستغفلني. .؟؟)
فقلت له (خذ) ومددت لي يدي بسيجارة فتناولها وهو ذاهل، وأضرمت له عود الثقاب وأنا أرد الضحك الذي أحس أني سأنفجر به. . . ونفخ الدخان مرة وأخرى، وأحسست أنه صار أهدأ أعصابا، فقلت (الحقيقة أنه) فصل (بارد. . . لا شك في ذلك)
وكان لابد أن أتألفه بكلام كهذا ليهدأ ثائره، ثم قلت له وقد آنست منه إقبالا (هي فتاة تعد محرومة من متع الحياة. . . كل ما تعرفه من متع الدنيا أن تجلس في الشرفة وتنظر. . . أظن أن هذا لا يجوز أن يحسب في المتع. . . أولى به أن يزيد شعورها بالحرمان الذي تقاسيه. . . بالحجر المضروب عليها. . . أهلها ليسوا مخطئين لأنهم لا يعرفون إلا هذا الأسلوب. . . وهي ليست مسرفة في إحساسها بالحرمان لأنها تعلمت ما لم يتعلمه أبوها وأمها، وعرفت ما لم يعرفا. . . والمجتمع المصري عرف السفور، ولكنه لا يزال بعيدا عن الحياة الاجتماعية التي تجعل السفور ذا معنى وفائدة. . . والبنت المصرية سافرة ولكنها لا تحيا الحياة الاجتماعية التي يستدعيها السفور. . . فكأنها تسفر لترى بعينها ما هي محرومة منه. . . والنتيجة أن الفتاة صارت كالحجلة في حكايات كليلة ودمنة. . لا هي بقيت محبوسة في البيت، ولا هي فازت بالمتع البريئة التي يقتضيها السفور. . . ليست أريد أن ألقي عليك محاضرة، وإنما أريد أن ألفت نظرك إلى أن هذه الفتاة معذورة إذا هي التمست التسلية والضحك. . . وليس من العدل والإنصاف أن نأبى عليها أن تضحك، وأن نحرم عليها أن تتسلى. . . وليس من حقك أن تدعي أن لك عليها حقا فما هي بزوجة لك ولا صاحبة. . . ولقد عرفت اسمها من أفواه الناس لا من أبيها ولا من أحد من أهلها. . . والمغازلة يا صاحبي مقامرة. . . والمقامر يجب أن يحتمل الخسارة كما ينتظر من ملاعبيه أن يحتملوا الخسارة حين يربح هو. . . وقد قامرت وخسرت. . . ومن واجبك أن تتلقى حظك بابتسامة. . . ضع نفسك في مكانها. . . فأنك خليق أن تضحك مما حدث كما أضحك أنا الآن)
وانفجرت بالضحك المكتوم فنهض كالمغضب وقال: (أو تضحك؟)
قلت: (سبحان الله. . . وهل كنت تنتظر مني أن أبكي؟؟ والله إني لأراها قد عاملتك كما تستحق. . . برافو عليها. . . ويا سخيف. . . ألا تعرف أنها لا تخرج قط فكيف صدقت(176/14)
أنها لاحقة بك. . .)
قال: (يا أخي ألم أقل لك إنها أشارت إلى أن أسبقها)
قلت: (أنا أيضاً أشارت إلى مرات حين كنت أزورك. . . وكنت أرى يدها تشير إلى أن أسبق فأتريث حتى أرى ما يؤيد ما فهمته من هذه الإشارة فكان تريثي يريها أني لست بالخفيف الطياش. . . ويخيل إلي الآن أن أساليبها لا تعدد فيها ولا ابتكار. . . مسكينة لا تعرف إلا أن تشير إلى الرجل أن يسبقها فإذا فعل ضحكت. . . هذا كل ما عندها على ما يظهر)
قال: (أو تعذرها؟. . . تلتمس الأعذار لها؟)
قلت: (المرة الآتية. . . حين تستغفلك مرة أخرى. . . اضربها علقة. . . قم يا أبله. . . واجبك الآن أن تقلب الصورة لترى وجهها الآخر. . . صورتك أنت وأنت تنتظر وتحلم ولا تعرف ما أعدت لك. . . اقلب الصورة واضحك. . .)
فسرني أن وقف هنيهة كالمفكر ثم انطلق يقهقه
إبراهيم عبد القادر المازني(176/15)
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
لم يكن عبثا أن يسمى فلاسفة الإسلام أرسطو عظيم حكماء اليونان والرجل الإلهي، وأن يرفعوه إلى منزلة لم يسم إليها واحد من الفلاسفة السابقين أو اللاحقين. ذلك لأنهم وجدوا لديه حلولا لكل مشكلة اعترضتهم، ووقفوا في كتبه على مختلف المعلومات التي تاقت إليها نفوسهم. ودائرة المعارف الأرسطية واسعة وشاملة حقيقة بحيث يصادف الإنسان فيها كل المسائل الفلسفية مدروسة دراسة مفصلة أو مشارا إليها على الأقل. ولا تكاد توجد مشكلة من المشاكل الحديثة إلا وفي عبارات أرسطو ما يتصل بها تصريحا أو تلويحا. ويمكننا أن نقول إن هناك كتبا دبجها يراع أرسطو على أن تخدم فلاسفة الإسلام أولاً وبالذات. وحظ كتابٍ ما لا يقاس في الواقع فقط بمقدار ما يحوي من أفكار، بل يرجع أيضاً إلى ما يحيط به من ظروف ومناسبات. فقد يكون ثانويا في نظر مؤلفه، ولكن الخلف يقدره تقديرا كبيرا لأنه اهتدى فيه إلى أجوبة على أسئلة العصر وحلول لمشاكل الجيل. ومن هذا الباب تماما رسالتان صغيرتان لأرسطو لا يذكران في شيء قطعا إذا ما نسبا إلى مجموعة مؤلفاته، ومع هذا صادفا نجاحا عظما في الفلسفة المدرسية الإسلامية ونعني بهما رسالة الأحلام أو ورسالة التنبؤ بواسطة النوم ونحن لا ننكر أن هاتين الرسالتين تحتويان على ملاحظات دقيقة في علم النفس فاقت كل النتائج التي انتهت إليها المدارس القديمة، وإن تلاميذ أرسطو وأتباعه من المشائين اليونانيين عنوا بهما عناية خاصة. ولا سيما الأحلام وتعبيرها كانت من المسائل التي شغلت العامة والمفكرين في القرنين السابقين للميلاد والقرون الخمسة التي تليه، وبعبارة أخرى في ذلك العصر الذي سادت فيه العرافة والتنجيم. غير أنا نلاحظ إن الرسالتين الآنفتي الذكر أحرزتا في العالم العربي منزلة لا نظير لها، ولا نظن أن أرسطو نفسه كان يحلم بها. ويكفي لتعرف هذه المنزلة أن نشير إلى أنهما الدعامة الأولى التي قامت عليها نظرية الأحلام والنبوة عند الفارابي.
لا نظننا في حاجة إلى أن نثبت أن هاتين الرسالتين أرسطيتان، فأسلوبهما وطريقتهما دليل واضح على ذلك، وأرسطو يشير إليهما في بعض رسائله الأخرى الثابتة. وقد تولى زلر(176/16)
من قبل توضيح هذه النقطة بما لا يدع زيادة لمستزيد. والذي يعنينا هنا أن نبين ما إذا كانت هاتان الرسالتان ترجمتا إلى العربية أولا. وهذه مسألة غامضة بعض الشيء، وليس من السهل البت فيها برأي جازم. فأن المؤرخين، وخاصة ابن النديم والقفطي، حين يتحدثون عن كتب أرسطو التي ترجمت إلى العربية لا يشيرون إليهما؛ وكأن ما ترجم من كتبه السيكلوجية ليس إلا كتاب النفس المعروف، ورسالة الحس والمحسوس.
والفارابي نفسه في رسالته المسماة: (ما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة) يقسم الكتب الأرسطية من حيث موضوعها إلى ثلاثة أقسام: تعليمية وطبيعية وإلهية. وبين الكتب الطبيعية لا يذكر رسالتي الأحلام والتنبؤ بواسطة النوم اللتين اعتاد المشاءون السابقون عدهما فيما بينهما. وكل ما يحظى به الباحث إنما هو إشارة غامضة إليهما في ثبت الكتب المنسوبة إلى أرسطو، والذي أخذه العرب عن بطليموس الغريب. بيد أنا على الرغم من كل هذا نميل إلى الاعتقاد بأن هاتين الرسالتين إن لم تكونا قد ترجمتا إلى العربية رأسا، فقد وصلتا إليها عن طريق غير مباشر. وابن النديم يحدثنا عن كتاب في تعبير الرؤيا لأرطا ميدورس نقله حنين بن اسحق إلى العربية؛ ولا يبعد أن يكون العرب قد استقوا من هذا الكتاب أو من أي مصدر تاريخي آخر أبحاث أرسطو المتعلقة بالأحلام وتأويلها. ذلك لأن فلاسفة الإسلام يدلون في هذا الصدد بآراء تشبه تمام الشبه الآراء الأرسطية. فحديث الفارابي عن النوم وظواهره والأحلام وأسبابها لا يدع مجالا للشك في أنه متأثر بأرسطو وآخذ عنه. وقد كتب الكندي من قبل رسالة في ماهية النوم والرؤيا وصل الأمر ببعضهم أن عدها ترجمة لبعض الرسائل الأرسطية. وربما كان أقطع شيء في هذه المسألة أن نلخص آراء أرسطو، وفيها وحدها ما يكفي لإثبات أن فلاسفة الإسلام تتلمذوا له هنا كما أخلصوا له التلمذة في مواقف أخرى.
يذهب فيلسوف اليونان إلى أن النوم هو فقد الإحساس، وأن الحلم صورة ناتجة عن المخيلة التي تعظم قوتها أثناء النوم على أثر تخلصها من أعمال اليقظة. وبيان ذلك أن الحواس تحدث فينا آثارا تبقى بعد زوال الأشياء المحسة. فإذا ما جاوزنا الشمس إلى الظل قضينا لحظة ونحن لا نرى شيئاً، لأن أثر ضوء الشمس على العينين لا يزال باقياً. وإذا ما حدقنا النظر إلى لون واحد طويلا خيل إلينا بعد مفارقته أن الأجسام كلها ملونة بهذا اللون. وقد(176/17)
نصم بعد سماع قصف الرعد، ولا نميز بين الروائح المختلفة إذا شممنا رائحة قوية. كل ذلك يؤيد أن الاحساسات تترك فينا آثارا واضحة. وهذه الآثار الخارجية تعطينا فكرة مقربة عن آثارها الداخلية التي تحتفظ بها المخيلة وتبرزها عند الظروف المناسبة. فالأحلام إذن احساسات سابقة، أو بعبارة أدق، صور ذهنية لهذه الاحساسات تشكلها الخيالة بأشكال مختلفة. على أن الاحساسات العضوية أثناء النوم قد تؤثر في الأحلام كذلك، فيحلم الإنسان بالرعد مثلا إذا صاح صائح أو ديك بالقرب منه، أو أنه يأكل عسلاً أو طعاماً لذيذاً لأن نقطة غير محسوسة من المزاج جرت على لسانه. وقد يرى النائم أنه يحترق في اللحظة التي يقترب فيها من جسمه لهب ضئيل. وليست الاحساسات وحدها هي التي تؤثر في الأحلام، فأن الميول والعواطف ذات دخل كبير فيها. فالمحب يحلم بما يتفق وحبه، والخائف يرى في نومه عوامل خوفه ويعمل على اتقائها. وكثيرا ما نحلم بأشياء رغبت فيها نفوسنا أو فكرنا فيها طويلا. هذه هي الأحلام في حقيقتها وأسبابها. وعل في هذه الأسباب ما يسمح لنا بتأويلها أحيانا. وقد يستعين الأطباء على معالجة مرضاهم وتشخيص دائهم بسؤالهم عن بعض أحلامهم. وإذا عرفت الاحساسات والظواهر النفسية المحيطة بحلم ما أمكن تعبيره. ومهارة مفسري الأحلام قائمة على أنهم يتلمسون وجوه الشبه الموجودة بين الأحلام بعضها وبعض، والعلاقات التي بينها وبين ظروف أصحابها الخاصة. بيد أن كل هذا لا يبيح لنا أن نتقبل الرأي الشائع القائل بأن الأحلام وحي من الله، فأن العامة والدهماء يحملون كثيرا بل العصبيون والثرثارون أكثر أحلاما من غيرهم؛ ولا يستطيع العقل أن يسلم بأن الله خص هؤلاء أو أغدق عليهم فيضه.
لابد أن تكون هذه الأفكار الأرسطية قد وجدت السبيل إلى العالم العربي حيث شغل موضوع الأحلام المفكرين على اختلافهم. فأهل الحديث، معتمدين على بعض الآثار، يفرقون بين الرؤيا الصادقة وأضغاث الأحلام. وهناك أحاديث كثيرة متصلة بالأحلام وأنواعها نكتفي بأن نشير إلى بعضها. روى ابن ماجة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الرؤيا ثلاث: فبشرى من الله، وحديث من النفس، وتخويف الشيطان. وفي الصحيحين: (الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان. والمعتزلة يرون في الأحلام آراء مختلفة: فيرجعها بعضهم إلى الله، ويذهب بعض آخر إلى أنها من(176/18)
فعل الطبائع ومنهم من يجع بين هذين ويقول إنها على ثلاثة أنحاء: نحو يحذر الله به الإنسان في منامه من الشر ويرغبه في الخير، ونحو من قبل الإنسان، ثم نحو أخير من قبل حديث النفس والفكر. ويقول النظام إن الرؤيا خواطر مثل ما يخطر البصر. وهذا التفسير على اختصاره يحمل في ثناياه بعض الأفكار الأرسطية.
إلا أن رأي أرسطو في الأحلام يبدو بشكل واضح لدى الفلاسفة. وقد خلف الكندي رسالة في ماهية النوم والرؤيا سبق أن أشرنا إليها. وهذه الرسالة لا تزال حتى اليوم بين مخطوطات استامبول، ونرجو أن نوفق إلى نشرها قريبا وقد وقفنا عليها من طريق آخر، فان المستشرق الإيطالي البينو ناجي نشر في أخريات القرن الماضي بضع رسائل للكندي مترجمة إلى اللاتينية وبين هذه الرسائل واحدة عنوانها (النوم والرؤيا)، ويكاد يكون من المحقق أن هذه الرسالة اللاتينية ليست إلا ترجمة للرسالة العربية المتقدمة. ونظرة إلى هذه الترجمة اللاتينية تكفي لإثبات أن الكندي تأثر تمام التأثر بأبحاث أرسطو السابقة المتعلقة بالنوم والرؤيا. وقد قارن البينو ناجي بعض التعريفات الكندية بما يقابلها من التعريفات الأرسطية وأظهر في جلاء ما بينهما من قرابة. وبهذا وضع الفيلسوف العربي أساس نظرية الأحلام الفلسفية في السلام.
(يتبع)
إبراهيم مدكور(176/19)
صور سياحة
6 - يوم في فرساي
بقلم سائح متجول
في باريس جمهرة من الصروح والمشاهد التاريخية العظيمة التي تجذب الزائرين بماضيها وروعتها؛ ولكن فرساي تتمتع بشهرة خاصة في التاريخ والسياسة؛ وقد كانت مسرح بعض الأحداث العالمية الكبرى التي غيرت مصاير التاريخ والأمم؛ وبستان فرساي آية في العظمة والروعة والجمال.
فمتى كنت في باريس، فيجب ألا تفوتك زيارة فرساي وقصرها العظيم.
وفرساي في الواقع من ضواحي باريس، ولا تبعد عنها أكثر من ثمانية عشر كيلو مترا؛ وفي وسعك أن تصل إليها بواسطة قطر خاصة من المترو تيسر إليها يوم الآحاد، وفي وسعك أن تقصد إليها بواسطة القطار العادي من محطة مونبارنارس
وفرساي مع ذلك مدينة كبيرة يبلغ سكانها زهاء ستين ألفا تخترقها شوارع كبيرة، وبها كثير من الفنادق والمطاعم التي أعدت على ما يظهر خصيصا للوافدين عليها؛ وفي يوم الآحاد تبدو فرساي كأنها في عيد، وتكثر فيها الحركة بما يتقاطر عليها من وفود الزائرين من أهالي باريس، ومن الأجانب من مختلف الأمم.
قصدنا إلى فرساي في صباح يوم أحد بالقطار العادي، وكان غاصا بالقاصدين إليها من فرنسيين وأجانب؛ وكان يوما بديعا سطعت شمسه بعد أن أزعجنا المطر في باريس أياما متوالية؛ فوصلنا إلى فرساي في نحو نصف ساعة؛ وقصدنا إلى القصر توا، وهو قريب من المحطة، يشرف على ساحة واسعة؛ ولفت نظرنا لأول وهلة كثرة الجند الذين يتجولون في المدينة، وفي فرساي كما علمنا حامية كبيرة.
ومن الغريب أن واجهة القصر الخارجية لا تتمتع بكثير من الجمال والروعة، ومنها يبدو البناء كأنه معسكر ضخم؛ ولقد ذكرنا ذلك بواجهة قصر الفاتيكان الخارجية التي لا تدلي بشيء من عظمته الداخلية؛ بيد أننا ما كدنا نجوز إلى ساحة القصر الداخلية، ونشرف منها على بستانه العظيم حتى وقعنا على منظر من أروع ما شهدنا.
يشرف قصر فرساي من الوجهة الخلفية على بستان شاسع، قد نظم أبدع تنظيم، ونمت به(176/20)
الأشجار الباسقة من أنواع لا نظائر لها في حدائقنا. وفي مقدمة البستان مما يلي القصر مباشرة بحيرة صغيرة ساحرة؛ وأرض البستان مدرجة، تمتد منحدرة في حظائر بديعة من الأحراج الصغيرة، وحظائر من الزهر تأخذ اللب بمناظرها وألوانها الرائعة، ويطبع مناظر البستان كلها طابع ساحر من الرشاقة والأناقة والتنسيق.
وقد حول قصر فرساي كما حول قصر اللوفر إلى متحف، ولكن القصر في ذاته تحفة فنية رائعة؛ وأعتقد أنه يفوق قصر اللوفر من حيث الجمال والخواص الفنية، وإن كان اللوفر يفوقه من حيث الجلال والهيبة الملوكية؛ ذلك أن قصر اللوفر كان مقر العرش، ومقر الملوكية الفرنسية في أوج عظمتها وازدهارها، ولم يكن قصر فرساي إلا مصيفا ومقاما مؤقتا، ولم يغد مقر البلاط الدائم إلا في فترات قليلة في أواخر عصر لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر.
وقصر فرساي أحدث عهدا من قصر اللوفر؛ وقد بدأ قصرا متواضعا أنشأه لويس الثالث عشر؛ ولكن ولده لويس الرابع عشر فكر في أوائل حكمه في توسيع البناء وتحويله إلى قصر ملوكي عظيم الشأن، فعهد بذلك إلى المهندس (لي فان) أشهر مهندسي العصر، وخلفه في تلك المهمة المهندس مانسار، ثم دي كوتيه؛ وقام بتنظيم البستان وإنشائه (لي لوتر) وأشرف على زخرفة القصر الفنان (لي بران) وكلهم من أعلام هذا العصر الزاهر، فجاء القصر وبستانه آية من آيات الفخامة الملوكية والفن الرائع.
وقد كان القصر في المبدأ مصيفا ومقاما مؤقتا للملك وخاصته، ولكنه غدا في عصر لويس الخامس عشر مقرا للملك والبلاط، وكان لويس الخامس عشر يؤثر الإقامة فيه ويمضي فيه معظم أوقاته تحيط به خاصته، وتقيم فيه خليلاته إلى جانب زوجه الملكة الشرعية كما سنرى.
ويتألف قصر فرساي من طبقتين غير الطبقة الأرضية؛ والطبقة الثانية والوسطى هي أبدع ما فيه، وهي التي تضم تحفه وذخائره؛ وتتكون هذا الطبقة من عدة أجنحة وأبهاء ملوكية شاسعة، وتضم مجموعة ثمينة من الصور التاريخية التي تمثل كثيرا من المناظر الشهيرة والشخصيات الملوكية في عصر لويس الرابع عشر، ولويس الخامس عشر؛ ويشغل جناح الملك لويس الخامس عشر الطرف الأيمن من القصر، وقد عرضت في غرفه الأنيقة(176/21)
مجموعة من الأثاث الملوكي النفيس، ومنها أثاث غرفة الاستقبال، وغرفة المكتبة وغرفة النوم، والمتزين وكلها مما لا يزال يعتبر في عصرنا من أجمل وأبدع النماذج الفنية؛ وقد زينت الجدران ببعض المناظر الملوكية من حفلات الاستقبال والصيد وغيرها، وزينت السقف بأبدع النقوش؛ وتوجد في هذا الجناح مجموعة من الصور للملك لويس الخامس عشر وزوجه الملكة ماري لكزنزكا، وبعض أفراد الأسرة المالكة ورجال الدولة من صنع أعظم مصوري العصر؛ وفي هذا الطرف أيضاً، وإلى جانب جناح الملك يوجد الجناح الذي كان مخصصا لسكني خليلته المركيزة دي بومبادور، ومن بعدها لسكين خليلته الدوقة دوباري، ومن الغريب أنه لا يبعد كثيرا عن الجناح الذي كان مخصصا لسكني الملكة الشرعية ماري لكزنزكا.
ويلي هذا الجناح، في وسط القصر، جناح لويس الرابع عشر، وهو أفخم وأروع، وبه غرفة نوم ملوكية مازالت تحتفظ بأثاثها، وإلى جوارها ترى متزين الملك، وخزائن الثياب؛ وقد زين هذا الجناح بصور عديدة للويس الرابع عشر، في أوضاع ومناسبات مختلفة؛ والملك يبدو فيها جميعا قصير القامة، محدودب الأنف، وقد انسدل على كتفيه شعره الغزير، وبدت على وجه ملامح الكبر والخيلاء.
ويوجد في الطرف الآخر من القصر بهو شاسع تزينه مجموعة كبيرة من الصور التاريخية الضخمة التي تمثل أعظم المواقع الحربية التي انتصرت فيها فرنسا منذ فجر العصور الوسطى حتى عصر نابوليون، وقد صورت معظم هذه المناظر في عصر نابوليون واشترك في تصويرها أعظم مصوري العصر مثل لوي دافيد، وايزابي، وفرنيه؛ وتبدأ المجموعة بمنظر يمثل انتصار الملك كلوفيس على الرومان الغاليين (سنة 486م)، ويليه منظر استوقفنا طويلا لروعته وطرافته، هو منظر انتصار الفرنج على العرب في سهول ثوروبواتييه سنة (732م)، وهي الموقعة الشهيرة التي تعرف في التاريخ الإسلامي بموقعة البلاط أو بلاط الشهداء، وفيها يبدو عبد الرحمن الغافقي قائد العرب شيخا مهيب الطلعة تتدلى لحيته البيضاء الطويلة حتى صدره، وقد وثبت بجواده المضطرم إلى الطليعة وهو شاهر سيفه، ولكن جنده يتساقطون من حوله أمام ضربات الفرنج؛ وأذكر أنني رأيت هذه الصورة منذ أعوام في طبعة إنكليزية لكاتب المستشرق دوزي عن الأندلس، وكنت أتوق(176/22)
إلى معرفة الأصل الذي نقلت عنه، فإذا بي في بهو فرساي أمام المنظر الرائع وجها لوجه.
ويلي ذلك في صفين متقابلين مناظر لأعظم المعارك التي انتصرت فيها فرنسا مرتبة حسب العصور والتواريخ؛ مواقع شارلمان، ولويس الحادي عشر، ولويس الرابع عشر، وموقعة فالمي أشهر معارك الثورة الفرنسية ضد أوربا، ثم طائفة كبيرة من مواقع نابوليون مثل مارنجو، فاجرام، أوسترلتز، وغيرها.
بيد أن أعظم ما يثير الخيال في أرجاء هذا القصر الشاسع، هو الذكريات التاريخية العظيمة التي كان مسرحا لها، والتي أسبغت عليه طابعا خاصا من الروعة والخلود؛ ففي قصر فرساي عقدت مؤتمرات ووقعت معاهدات كان لها أكبر الأثر في تاريخ فرنسا وتاريخ العالم بأسره؛ نذكر منها عهد استقلال الولايات المتحدة (أمريكا) الذي وقعته إنكلترا في سنة 1783 على أثر هزيمتها في حرب الاستقلال الأمريكية، وقد وقع هذا العهد في قصر فرساي ترضية لفرنسا وتكريما لها لما بذلته من كبير عون للأمريكيين في هذه الحرب التحريرية؛ وكانت نتيجة هذا العهد الخالد أن قامت في العالم الجديد أمة حديثة مستقلة من أعظم الدول الديموقراطية؛ وفي سنة 1871، على أثر محنة فرنسا وهزيمتها أمام ألمانيا في الحرب السبعينية (سنة 1870) أرغمت فرنسا على أن توقع وثيقة هزيمتها وذلتها في قصر فرساي نفسه، في بهو المرابا الشهير وهو البهو الشاسع الذي يتوسط القصر فيطل على البستان من ناحيتيه، وأرغمت على أن تتنازل لألمانيا عن الألزاس واللورين؛ وفي بهو المرايا أيضاً أعلنت الإمبراطورية الألمانية، وتوج أول إمبراطور ألماني، وهو فلهلم الأول (جيوم)، وأجريت مراسيم التتويج في نفس البهو بحضور ملوك الولايات الألمانية المتحدة، وهذه ذكريات من أسود الذكريات وأتعسها في تاريخ فرنسا القومي.
على أن فرنسا اعتزمت غداة ظفرها في الحرب الكبرى أن تمحو هذه الصفحة المشجية وهذه الذكريات الأليمة من تاريخها وأن تثأر لشرفها القومي من ألمانيا، وأن ترغمها على أن توقع وثيقة انكسارها وذلتها في نفس المكان الذي اختارته ألمانيا من قبل لإرغامها وإذلالها؛ ففي هذا البهو الشهير ذاته - بهو المرايا - وقعت ألمانيا معاهدة الصلح - أو معاهدة فرساي - التي فرضها عليها الحلفاء الظافرون في يونيه سنة 1919، والتي تثقلها بمختلف الفروض والمغارم الهائلة، وتقضي عليها برد الالزاس واللورين إلى فرنسا.(176/23)
وليس في بهو المرايا اليوم ما يذكرنا بأعظم معاهدة عرفها التاريخ سوى لوحة بسيطة مؤثرة كتب عليها. (في 28 يناير سنة 1919، ردت الألزاس واللورين إلى فرنسا)
وفي نهاية البستان الشاسع من الناحية الأخرى صرحان آخران منعزلان هما قصر تريانون الكبير، وقصر تريانون الصغير؛ وقد أنشأ أحدهما لويس الرابع عشر، وأنشأ الآخر لويس الخامس عشر؛ وكلاهما حافل بالذكريات العذبة، وكلاهما كان مسرحاً لليالي والحفلات الباهرة؛ وكان تريانون ملاذا محبوبا للملكة ماري أنتوانيت، والإمبراطورة جوزفين بوهارنيه زوج نابوليون.
قضينا عدة ساعات في التجوال في هذه المعاهد والمشاهد التي تذكى الخيال إلى الذروة وتحملنا إلى عصور وعوالم أخرى؛ وكانت الساعة الثانية بعد الظهر حينما انتهينا من هذا التجوال الممتع، وغادرنا القصر المنيف والبستان الشاسع إلى قلب المدينة حيث طفنا بطرقاتها برهة، ثم عطفنا على مطعم نتناول فيه الغداء، وقد رأينا أن الأثمان في فرساي ليست أقل ارتفاعا منها في باريس، وأن موجة الغلاء المرهق التي قدمنا لك منها فيما تقدم أمثلة عديدة تعم فرنسا بأسرها.
ولقد كان يوم فرساي خاتمة التجوال في رحلتنا الباريزية؛ وكانت الإقامة في باريس بما فيها من تكاليف وأثقال مرهقة، وبما استوعبناه من مشاهدها ولياليها المتماثلة، قد أخذت تثقل على النفس، فأزمعنا مغادرة العاصمة الفرنسية إلى عواصم ومجتمعات أكثر ترحابا وأقل إعناتا وإرهاقا، وأرفع خلالا ومثلا وقد يكون فيما اتخذته فرنسا أخيرا من الخروج عن معيار الذهب وتخفيض قيمة الفرنك بالنسبة للعملات الأجنبية شيء من التخفيف على السائحين وإغراء لهم بزيارة فرنسا بعد ما انصرفوا عنها في الأعوام الأخيرة، ولكن الظاهر أن التخفيض الجديد لم يحدث أثرا يذكر إذ صحبه ارتفاع مماثل في الأثمان، فإذا صح ذلك، وإذا لم توفق الحكومة الفرنسية إلى تخفيض معيار العيش وإخماد تلك النزعة الجشعة التي تبدو في كل صنوف التعامل فأن أولئك الذين زاروا فرنسا أيام ارتفاع الفرنك واكتووا بنار هذا الغلاء، يترددون كثيرا في العودة إليها.
(* * *)(176/24)
في الأدب المقارن
شخصيات الأدباء في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
يكثر التشابه بين أفراد الجنس الواحد في عالم الطبيعة في الطبقات الدنيا من الأحياء، وكلما ارتقى الجنس في سلم الحياة ازداد الاختلاف في المظهر والصفات بين أفراد الجنس؛ وكذلك الحال في المجتمعات البشرية: يتشابه الناس ويتقاربون في المشارب والأغراض في عصور الانحطاط، ويختلفون خلقا وعبقرية في عصور النهضات، ويتفرقون في شعاب الحياة ودروب المطامح فلا يتفقون إلا في تدفع الحياة في نفوسهم وعلو هممهم وولوعهم ببعيدات الأمور، فالتشابه والاتفاق من إمارات الانحطاط. والاختلاف والتميز من دلائل الرقي.
وذلك الشأن في آداب الأمم: فان أظهر ميزات عصور النهضات فيها اختلاف مشارب الأدباء وتباين شخصياتهم واستقلال نظراتهم إلى الحياة ووجهاتهم في الفن، فهم وإن اتفقوا على مبدأ أو مذهب في الأدب، لا يتشاكلون ولا يكرر بعضهم بعضا ولا يغني أحدهم عن سائرهم، بل ينتحي كل منهم ناحية من الحياة يوكل بها، ويرى الحياة جمعاء بمنظار نفسه لا بمنظار غيره، وينفث في أدبه خلاصة عبقريته الفردية؛ أما في عصور إدبار الأدب فيتماثل الأدباء حذوك النعل بالنعل، ويتهافتون جميعا على نموذج الأدب أو الإنشاء الأدبي، لا ينفكون يقلدونه ويعارضونه ويغفلون بمحاكاته عن حقائق الحياة ولباب الفن، فيخرج أدبهم جميعا صورا مكرر من أنفسهم وأشكالا ممسوخة من ذلك النموذج المحتذى أو القالب المصبوب.
ويمتاز فحول الأدب الإنجليزي، ولاسيما في عصور نهضاته ببروز شخصياتهم واستقلالها واختلاف بعضها عن بعض اختلافا تاما، إلا في اقتباسها جميعا من نور الصدق، وإصدارها جميعا عن معدن الشعور: فالنهضة الرومانسية في مستهل القرن التاسع عشر مثلا، كانت ذات أغراض معينة مشتركة بين جميع أعلامها: كانت ثورة على قيود الفكر وصناعة اللفظ وتقاليد النظم وعودة إلى الطبيعة والبساطة، ونزوعا إلى جمال الحياة، ومع ذلك يتباين فحول شعرائها وتبدو شخصياتهم بارزة واضحة الاختلاف في الأخلاق(176/25)
والمشارب والأساليب:
فوردزورث كان موكلا بالطبيعة ومجاليها وأسرارها، مؤمنا بضرورة استخدام لغة النثر السهلة في الشعر؛ وشلي كان معينا بالإصلاح الاجتماعي وعدوا لدودا للملكية والكنيسة والتقاليد الحمقاء؛ وكولردج كان هائماً في عوالم المجهول وأغوار الماضي السحيق؛ وسكوت كان مغرما بالعصور الوسطى وتاريخها في بلاده اسكتلندا، متغنيا بمجدها وفروسيتها، محييا لأغانيها الشعبية؛ وبيرون كان بوهيمي النزعة جريء الفكرة مشغولا بقصص الأبطال، جزل الأسلوب رائعه دون تدبيج ولا ترو
ولنضرب مثلا آخر مؤرخي الإنجليزية الثلاثة، الذين توخوا الفن والأسلوب الأدبي في تواريخهم: جبيون وماكولي وكارليل، فأولئك شخصيات ثلاث متميزة: فالأول رصين الأسلوب واللفظ، محكم البنيات ميال إلى الموازنة في المعاني والازدواج في التراكيب، والثاني يراوح بين طويل الجمل وقصيرها، مولع بتصوير المناظر التي يمر بها تصويرا يقف بك أمامها وجها لوجه، كلف بتأريخ مآثر وطنه وعظائم أبنائه ومواقف فخاره، أشد تشبعا بالوطنية وأقل نصيبا من النظرة الإنسانية الشاملة من صاحبيه، والأخير قصير الجمل فجائي الأفكار، معني بعظماء الرجال أخلاقهم وسحناتهم وآثارهم في عصورهم.
وقل مثل ذلك في سائر مشهوري الأدباء الإنجليز: كلهم مختلفو الشخصيات مستقلوها، واضحو النفسيات، متميزة شخصياتهم ونفسياتهم إحداها عن الأخرى، تقاربوا في العصور أو تباعدوا، اتفقوا في المذهب الأدبي أو اختلفوا، وذلك أول دليل على حيوية الأدب، وأصدق شاهد باستمداده من ينابيع الحياة الجارية، لا من بطون الكتب الجافة، فالحياة لا تفنى صورها تعددا، وهي تبدو لكل أديب صادق النظر والشعور في صورة جديدة.
وإنما تشابهت شخصيات الأدباء وتماثلت آثار الشعراء في عصور تدهور الشعر في أواسط القرن الثامن عشر، حين بعد الشعراء عن الطبيعة وانغمروا في المدينة، وهجروا الحياة وغرقوا في صفحات الكتب، وأعرضوا عن وحي شعورهم وقلدوا من سبقوهم، فعدوا بوب ودريدن المثل الأعلى الذي يحتذى، والمطلب الأسمى الذي لا يطلب سواه، واحتذوهما في الغرض والأسلوب والعروض، وتعاوروا أشعارهما معارضة واقتباسا واختلاسا، فخرجت آثارهم جميعا متشابهة متشاكلة بعيدة عن الفن لا تصور شخصيات قائليها، وخملوا جميعا(176/26)
من دون ذينك الشاعرين اللذين احتذوهما. فلا يهتم بآثارهم اليوم إلا مؤرخ الأدب المدقق المستقصي.
وفي تاريخ الأدب العربي شخصيات مستقلة واضحة متميزة، مخالفة كل منها للأخريات قولا وخلقا وأسلوبا، كالمعري الحكيم المشفق على أمة الطير والحيوان، المعنى بتنازع البقاء وبغي الأحياء، والمتنبي الطموح (المتعاطي للكبر وعلو الهمة) كما قال بعض معاصريه؛ وابن الرومي المشغوف بالجمال الطبيعي والإنساني، المنهوم بنعيم الحياة ولذاتها، الدقيق النظرة، الرائع التصوير؛ وأبي نواس الماجن المستهتر؛ والجاحظ الموكل بفنون الثقافة؛ وبديع الزمان المعتد بنفسه، الحريص على المادة المكاثر بثروته اللغوية ومهارته الصناعية، السهل الديباجة، الرائق الفكاهة. كل هاتيك شخصيات بارزة متميزة.
ولكن بجانب أمثال أولئك حفل كبير من مشهوري الأدباء الذين آتتنا آثارهم وانحدرت إلينا بعض أخبارهم، ولكن شخصياتهم مبهمة مطموسة، يكتنفها الضباب ولا يستجليها الخيال، وتتشابه كثيرا حتى لنضيف آثار بعضها الأدبية إلى آثار الأخرى فلا ترى فارقا، ولا تحس مانعا يحول دون ذلك من تباين الأساليب أو اختلاف النفسيات أو تضاد النزعات؛ بل إن شخصيات بعض من تقدم ذكرهم من فحول العربية، على كثر ما وصل إلينا من كتاباتهم وأخبارهم، مبهمة في كثير من نواحيها.
ولا ريب أن لطول العهد وكر الزمن أثرا كبيرا في تبديد الآثار، وتغيير الأفكار والمشارب والأذواق، وإحاطة شخصيات المتقدمين بغمام من الغموض والغرابة مهما تحدث الشعراء بذكر الخلود؛ ولكن هناك عدا هذا عوامل لابست الأدب العربي فأدت إلى غموض كثير من شخصيات كثير من أعلامه، وتشابهها واختلاطها، أولها شيوع الأمية في الجاهلية وصدر الإسلام، مما أدى إلى تبدد أخبار كثير من الشعراء وضياع أشعارهم واختلاطها، ودخول الزيف والتمويه عليها، مع أن شعر ذينك العصرين كان أصدق حديثا وأكثر إفصاحا عن شخصيات قائليه من شعر العصور التالية، لو لم تعبث به يد الأمية والنسيان.
ولما انتشرت الكتابة لم تكن الطريقة التي جرى عليها المؤرخون في ترجمة الأدباء هي المثلى: فقد اقتصروا على تواريخ ووقائع - كوفود الأديب على ممدوح أو اتصاله بديوان أمير - لا أهمية لها في شرح نفسياتهم، ولا غناء وراءها في توضيح شخصياتهم، وجاء(176/27)
كثير من التراجم مختزلا مجتزأ. وناقض بعض الروايات بعضا، وصعب تصديق بعضها، فظلت جوانب من تلك الشخصيات مغلقة؛ فما أقل ما يعرف عن عبد الحميد وابن المقفع والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي، فهم لا يكادون يظهرون في ضوء التاريخ إلا في جناح أمير أو ركاب عظيم؛ أما نشأتهم فمهملة، وهي التي لها أكبر الأثر في آدابهم؛ وأما حياتهم اليومية فمغفلة، كأن ليس لها خطر ولا شأن.
وما قصر فيه المؤرخون لم يعوضه الأدباء أنفسهم: فكثير منهم لم يصوروا أنفسهم في أشعارهم ورسائلهم صورا واضحة، ولم يودعوها خلجات أفئدتهم ونظراتهم في الحياة، بل ما أكثر الكتاب الذين قصروا بيانهم على إنشاء رسائل الأمراء، والشعراء الذين توفروا بأشعارهم على مديح أرباب النوال، فامتلأت آثارهم الأدبية بذكر أناس كثيرين ووصف أحوالهم وأفكارهم، فيما عدا منشئي تلك الآثار الأدبية أنفسهم وأحوالهم وأفكارهم، فلا غرو جاءت آثارهم متشابهة، لا توضح شخصياتهم ولا تنهض ببعض ترجمتهم، ومن العجيب أن أكثر الشعراء إفصاحا عن أفكارهم الخاصة وحاجاتهم وشعورهم، كانوا هم المجان والخلعاء الذين لم يكن لهم شعور ولا تفكير في سوى اللذة والعبث كبشار وحماد.
فالناظر في ديواني الطائي والبحتري، وفي رسائل ابن العميد والصاحب، لا يعثر إلا نادرا على فقرة أو أبيات مصدرة عن شعور شخصي للأديب هو ببيانه محتفل، أو فكر جليل هو في إذاعته جاد، ولا يرى في الشعر إلا مديحا وهجاء وشكوى للزمان وافتخارا بعلو الشأن، أو ما كان يجب للشاعر من علو الشأن، وضربا للأمثال واصطناعا للحكمة؛ ولا يرى في النثر إلا تنميقا وتدبيجا واقتباسا وتكاثرا بسعة الاطلاع، فلا غرو يتشابه أولئك الشعراء إلا تفاوتا قليلا في الصياغة، وأولئك الكتاب إلا اختلافا بسيطا في الأسلوب؛ فإذا أنت نزعت جانبا كبيرا من نظم أولئك الشعراء، أو نثر أولئك الكتاب، لم تشوه آثارهم بانتزاع ما لا غنى عنه لبيان نفسياتهم؛ وإذا أضفت بعض آثارهم إلى بعض لم يعقك عائق من تميز شخصية عن شخصية أو اختلاف منحى عن منحى.
وهناك عامل خطير لا يقل عن هذا أهمية في تشابه شخصيات الأدباء وتماثل آثارهم: ألا وهو نزعة المحافظة والتقاليد التي صاحبت الأدب العربي منذ قامت الدولة العربية وانتشرت اللغة في الأقطار، فقد اتخذ الأقدمون مثلاً عُلياً في البلاغة والشاعرية، وألح(176/28)
المتأخرون على آثارهم وأغراضهم في القول ومعانيهم محاكاة وتوليدا وتخريجا، وجالوا جولان المتقدمين في ميادين المدح والهجاء، والفخر، وشكوى الدهر، وضرب المثل واستخراج الحكمة، واحتذوهم في النسيب بليلى وهند والوقوف بالأطلال واستحثاث المطي وذرع الفلوات، فكان للأدباء في توالي العصور تراث أدبي واحد يتكرر ولا يكاد يتغير، ويتشكل ولا يكاد يتحول، ويأخذ منه كل أديب ويكاد يفنى فيه، وينهل منه وتكاد شخصيته تغرق في عبابه.
فتقليد المتقدمين دون الطبيعة، واتخاذهم مثلاً عليا يصدر عنها القول، بدل أن يصدر عن الشعور الفردي المستقل، من أكبر أسباب ركود الأدب وتشابه آثار الأدباء وتقارب شخصياتهم؛ ومن ثم جاءت آثار كثيرا من الأدباء المتأخرين متشاكلة مشابهة جميعها لآثار المتقدمين، على تباعد الزمان واختلاف المواطن؛ وظلت شخصياتهم غامضة لأنهم لم يجلوها في كتاباتهم جلاء صادقا.
ولما استفحلت الصناعة اللفظية، واشتد الحرص على المحسنات البديعية، غرقت معاني الشعر وأغراضه وشخصيات الأدباء جميعا في سيل من الألفاظ المرصوفة والعبارات المقتنصة من آثار المتقدمين، وأصبحت دواوين الشعراء جميعا ديوانا واحدا مملوءا بالنكات اللفظية، لا فرق بين أوله وآخره. وما أشبه ما قاله البهاء زهير بما قاله ابن نباتة بما قاله صفي الدين من نسيب متناه في ادعاء الرقة والظرف، ووصف لمجالي الطبيعة تخلط فيه محاسن الطبيعة وصورها ببهارج الألفاظ وزخارفها مزجا عجيبا، وتتطلب البراعة بإقحام مصطلحات العلوم كالنحو والمنطق والنجوم.
ولا ريب أن أمتع الأدب للنفس، وأعلقه باللب، ما أبان عن شخصية قوية، ونفسية مستقلة؛ ومن ثم نرى أن ذوي الشخصيات الأصيلة والنظرات الصادقة في حقائق الحياة، كالمتنبي وأبي العلاء وابن الرومي والجاحظ، هم الذين حظوا، دون غيرهم من أدباء العربية الأقدمين، بالدرس الطويل والترجمة المفصلة من كتاب عصرنا الحالي، لأن آثارهم تشوق الدارس وتحفزه إلى الكتابة والتعليق والنقد، وتحوي صورا من أنفسهم يطيب للمطلع التأمل فيها والنظر إلى الحياة في ضوء أفكارها. ولو حاول ناقد أن يترجم لمروان بن أبي حفصة، أو مسلم بن الوليد، أو مهبار، أو البحتري، أو الصاحب، أو الحرير، ترجمة(176/29)
مفصلة تشرح نفسية المترجم وتميط عن نزعاته وميوله وعوامل ذلك، مستمدا شرحه وتحليه من آثار الكاتب أو الشاعر الأدبية التي اشتهر بها، لكلف نفسه شططا.
فالناظر في الأدبين العربي والإنجليزي، لا يسعه إلا أن يلاحظ أن يجد في تاريخ الأخير شخصيات قوية مستقلة ظاهرة التباين والاختلاف، مصورة في أعمالها الأدبية حتى لتكاد تغني بها عن ترجمة المترجمين، وتحوي كتاباتها صورها النفسية الداخلية فلا تكاد تترك للمؤرخ أكثر من سرد التواريخ وبعض الوقائع وهي لذلك ممتعة جذابة يحس القارئ أن بينه وبينها على اختلاف اللغة والزمن والوطن تجاوبا وصلة شاملة هي صلة الإنسانية، ويطربه أن يراها تعالج نفس المشاكل وتخامرها نفس الخواطر والخوالج التي تساوره، وأمثال تلك الشخصيات الواضحة أقل عددا في تاريخ الأدب العربي.
فخري أبو السعود(176/30)
تشاؤم المتنبي وما أعد لهذا التشاؤم
(كلمة أعدت لتلقى في مهرجان دمشق فجاءت متأخرة)
للأستاذ خليل هنداوي
التشاؤم طبيعة العقل المتيقظ الذي فتح عينيه فرأى نفسه في القافلة البشرية فأخذ يسأل نفسه: لِمَ يمشي؟ ومن أين إلى أين؟ ولكنه لبث يمشي. . . وكيف لا يتشاءم العقل حين ينظر إلى الكون ويحاول أن يحكم على أشيائه بميزانه، فيجد قاعدا ما كان يجب أن يكون قائما، وقائما ما كان ينبغي له أن يكون قاعدا. هذه النظرة الأولى التي تبدأ في العقل حين يتيقظ وعلى مقدار سعة دوائر العقل تتسع هذه الآماد وتتباعد هذه الدوائر. وهنا يعود العقل في كل مراحله خاسئا يحمل غلى النفس خيبته في رحلته، فتلقاه حاملا الشقاء دون عزاء والحيرة دون إيمان، والنفس إزاء هذا القلق العميق إما أن تعود إلى نفسها ويلتف بعضها على بعضها التفاف الأفعى، تخلق من نفسها العزاء في هذه الحياة؛ وسواء عندها أن تخلقه من إيمان تفرضه أو تفاؤل تؤمن به، فترى في الحياة إشراقا ولا إشراق وبهجة ولا بهجة، فتتغنى مغتبطة بهذا التفاؤل الذي هو وليد ذلك التشاؤم المبطن به، وإما أن تعود ولا تكسب من التشاؤم إلا التشاؤم.
وقد يكون هذا التشاؤم عاما يمثل رسالة الإنسانية المتألمة، وقد يكون خاصا يمثل رسالة الشاعر نفسه، يضع فيها آلامه ولا يتصل بالإنسانية إلا بقدر ما تريد نفسه أن تتصل بها. وآفاق التشاؤم أوسع مدى، وأصحابه أكثر نبلا لأنهم أفنوا ذواتهم في الذات الإنسانية، وأصبحت تتمل فيهم كل آلامها وأوجاعها، لأن الإنسانية ذاتها تجهل ما تريد من الكون وما يراد منها. وآفاق التشاؤم الخاص ضيقة محدودة تدل على أنانية أصحابه، إذ لو أن حظا من حظوظ الحياة الضائعة أتاهم لبدل نظراتهم في الكون ولون لهم شمسا جديدة بألوان غير ألوانهم
ولكن التشاؤم لا تتحد نتائجه؛ فمن التشاؤم ما يذهب بصاحبه إلى الاستسلام حين يؤمن بعجزه، وإلى الزهد حين يؤمن بفناء الحياة، وهذا أقبح التشاؤم وان يكن أصدقه عند العقل. ومن التشاؤم ما يثير في النفس قوى المقاومة فيها بالعنف والشدة، وبهذا التشاؤم تعتز الحياة وتشرق ألوانها القاتمة؛ فشوبنهاور ونيتشه رجلا تشاؤم حالك اللون، ولكن تشاؤم شوبنهاور(176/31)
قاده إلى الاعتقاد بأن العدم وحده هو الذي ينقذ الإنسانية من آلامها التي تتذوقها بين الموت والحياة. وتشاؤم نيتشه كان موقظا لنفسه وحافزا قويا له لعبادة الحياة لأنها الحياة مهما كانت ألوانها ومهما طغت آلامها.
لست أعرف في الأدب العربي أبلغ تشاؤما من اثنين: المعري وابن الرومي وثالثهما المتنبي. . . أما الأولان فقد سلكا في تشاؤمهما مسلكا عدمياً يدعو إلى احتقار الحياة، والمعري هو القائل بأن الولادة جناية، وهو الي غلبت عليه فكرة صوفية غير مؤمنة؛ وابن الرومي هو الذي جعل من حياة الإنسان مأساة يبدأ أولها بعويل الطفل حين يولد وتنتهي بمثله حين يموت. أما المتنبي فقد كان جهازه العصبي عنيفا، وكان تشاؤمه مضطربا متوثبا لم يدفعه إلا إلى مقاومة الحياة؛ لا يصدفه عنها صادف لأنه مؤمن بها ومستهام بها ولو أنها عجوز دردبيس! وقد كان تشاؤمه، اجتماعيا - وهو ما اصطلح أدباؤنا على تسميته بالحكمة المتنبية - وتشاؤمه الاجتماعي كان وليد حظه في هذا الوجود الذي جعل من حياته المبهمة والمعلومة مرحلة آلام وجهاد. تشاؤمه في نظراته الاجتماعية ولا يرى منها إلا ما يتصل بنفسه؛ ولقد يطغى هذا التشاؤم على بقية نظراته في مسائل الحياة والكون لأنه كان مريضا بحب معالي الأمور، مريضا بعظمة نفسه، كأنما يرى - بعد أن حرمه المجتمع حقه - يرى واجبه أن يضع نفسه - وهو حر بها - موضعا عاليا، وذا أقل ما يفعل؟ ولا أستطيع إلا أن أتصور تلك الحدة في جهازه العصبي الذي كان عنيفا في احتداده متوترا في هدوئه. وهنا كان سر اختلاف التشاؤم بين المعري والمتنبي. فالمعري كان أوسع أفقا في دائرته ومغازيه، وكان نظره أعم في مسائل الكون والحياة لأنه وف درسه وشعره عليها، وكان له في زهده وعماه ما يصرفه عن الاشتغال بدنياه. فمال به تشاؤمه إلى الزهد والعدمية كما مال بشوبنهاور. مع أن المعري أحد محبي المتنبي والمتأثرين به، أخذ منه تشاؤمه وأغفل ما كان عنده من أسباب المقاومة. وإذا فكر الإنسان قليلا في حاله بدا له أن الكآبة تنتظره، وأن كل فكرة هنا تقوده إلى الحزن. وما حياة الإنسان على الأرض إلا مأساة تنتهي دائما بالدموع والشقاء والموت. يعلم المفكرون هذا المغزى ولكن بعضهم لا يقول به. بل إن منهم من يدعو إلى الإيمان القوي بالحياة. ولكن هل كان الناس كلهم يملكون هذه القوة الروحية؟ وهما أمران مختلفان؛ أن يتغلب المرء على تشاؤمه وهمومه في سبيل إتمام دورة الحياة، أو(176/32)
أن يجتنب الحياة تطغى عليه أنانية حاقدة. وهل كان هذا الإيمان القوي بالحياة إلا نتيجة تشاؤم عميق ونفور عميق من الحياة وولع عنيف بها يولده هذا النفور؟
في فلسفة المعري تشاؤم ليس بإيجابي صرف، ولكنه تشاؤم سلبي. فيها انطلاق من الذاتية وتعلق بالذاتية: لا تطلق (أم دفر) لمجرد نتنها ولكنها تدانت من (أم دفر) فلم تبؤ إلا بالخيبة. فلسفة وجدت ذاتها ضائعة بين الذوات؛ ومثل ذات المعري لم تأت لتكون ضائعة، فشنت الغارة على الدنيا وعلى أهلها وانتقمت لذاتها منها ومنهم، وبهذا استغنت عن ذاتها في ناحية وتمسكت بذاتها من ناحية ثانية. ولهذه الذات خطرها لأنها أنانية حاقدة نصبت نفسها فوق غيرها وطفقت تعطى أحكامها القاسية على الناس وقيمهم وعقائدهم، وتسخر منهم وتفشي معايبهم وتكشف عن مخازيهم، وهي في كل هذا فرحة مختالة، ترى في كل خطوة تخطوها ظفرا لها لامعا. ولهذه العلة وحدها كان يأنس بالمعري كل متشائم لأنه يحسن له الانتقام من الحياة وأبناء الحياة ولكنه ظفر موهوم لا يكلف صاحبه إلا النقمة. أما من لا يزالون يتلمسون في أنفسهم بقية من الحياة النشيطة فهم لا يرضون عن هذا التشاؤم. فالمتنبي متشائم يهاجم فساد الناس والمجتمع ولكنه لا يهرب من الحياة ولا ييأس منها يأسا قاتما، في يأسه انطلاق وفي نغمته رضا، وحياته وأدبه شيئاًن متصلان لا يمكن أن ينفصلا لأنهم يعبران أصدق التعبير عما يريد أن يقوله عن الحياة، ولأن حقائقه العامة كانت مستخلصة من حقائق الحياة الخاصة.
- 2 -
ادخل في كل باب ولجه المتنبي: في اجتماعياته وفي إحساسه بذاته وفي نظراته إلى الحياة والموت وما وراء الموت تجد في ثنايا هذه النظرات تشاؤما عميقا ينفذ إليه النظر الثاقب، وتجد أن هذه المقاومة التي تمثل الرجولة الكبيرة قد كلفت صاحبها كثيرا، وجعلت حياته مسرحا للاضطراب والشقاء. أما المجتمع عنده، فهو غاب تتصارع فيه سباع الأنس، ينال واحدها الشيء غلابا واغتصابا. وقد تنقلب هذه السباع غربانا ورخما، فويل للجريح الذي يشكو إليها، وويل للذي يأمن لهم، ويثق بهم، ويغره منهم الثغر المبتسم. ولا عجب إذا تناحرت السباع فالحياء لا يسد لها جوعا والسلام لا يحفظ لها بقاء. والشاعر - خلال ذلك - يريد أن يكون أسدا - ولكن حييا - (وهل ينفع الأسد الحياء من الطوى؟) يريد أن(176/33)
يكسب ما لا يصمه وما لا يشركه فيه وغد. وإذا لم ينل ذلك فالذنب ذنب الزمان الهرم!
كيف يريد أن يقابل مثل هذا المجتمع؟ أيشكو ويتعتب، وهو في كل قصيدة يشكو ويتعتب. أيسكن ويرضى؟
وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاء أو سكون لغوب
أيرضى عن الحياة وما وصفت إلا لجاهل متعاقل وما شقي فيها إلا عاقل؟ أيطمئن إلى سرورها وقد رأى انتقاله؟ أيسعى في مناكبها ومسعاه منها في شدوق الأراقم؟ أيتعلل بشيء منها ولا أهل يتعلل بهم ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟
اتخذ الشاعر مواقف متعددة إزاء المجتمع، فهو طوراً يسعى إلى مدارة أصحابه، وقلما يفعل فيصادق العدو ومن نكد الدنيا مصادقته، وهو طورا - وقد مل من المبالاة بالأرزاء - يسعى إلى أن تهون عليه الأرزاء، وأن يخدر إحساسه بها، لأنه ما انتفع بالمبالاة. وطورا ينظر إلى الأيام نظرة عميقة فلا ينكر عليها تقبلها، ولا يمدحها ولا يذمها، لأنها تبطن لا عن جهل، وتكشف لاعن حلم، ولأنها لا تشبع إلا إذا جاع، ولا تروي إلا إذا ظمئ! وفي هذه النظرة يدنو من مذهب القائلين باللا شعور في الطبيعة. وقد يضطرب هذا الرأي في نفسه فيتصور أن الناس هم الجانون لا الأيام وحدها، فيزيد نقمته على المجتمع، ويصبح لا يميل إلى مجازاة الابتسام بالابتسام، ولا الشك في كل إنسان، لأنه واحد من الأنام، وإنما يريد أن ينتقم من الناس وأن يطأ قلوبهم وآمالهم كما يطأون قلبه وآماله.
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
وكيف يكون الذنب كله ذنب الزمان؟ وربما تحسن الصنيع لياليه وإن كدرته أحيانا. ولكن هو الإنسان الذي يركب في قناة الزمان سنانا. وقد يسأم الشاعر من هذه المقاومة العنيفة فيعود إلى عدم الاكتراث بدهره، ويرى أن هذا المراد الذي تتفانى عليه نفوس البشر أحقر من أن نتعادى فيه ونتفانى. ولكنه ينظر إلى نفسه فيرى أن هذا المراد الكبير، المراد الذي جل أن يسمى - هو سبب شقائه. فلو مال عنه لوجد في الحياة رغدا كثيرا وراحة كبيرة، ولكن ما هي قيمة الحياة بدون مراد كبير؟ والمتنبي ليس ممن يرضون بميسور عيشهم! فيتعلل وهو أبلغ تعليل يراه بأن لا عذاب في العذاب، وأن كل بعيد الهم فيها معذب.
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام(176/34)
فليحمل العذاب في سبيل ما جل أن يسمى!
هذه مراحل كان يأوي إليها الشاعر في نضاله، أقربها تجثم فوقه غيوم سوداء من التشاؤم، ولقد زاد في تشاؤمه إحساسه بعظمته التي لا يقنعها مظهر من المظاهر، وهو الذي كان في محفل من الناس واليوم أصبح في محفل من قرود! ولكن المتنبي إزاء هذه النوازع هل راح يبغض الحياة؟ ظل إحساس المتنبي برغم هذه العوارض التي ألمت به إحساسا قويا فنيا، يحب الحياة ولا ينكر ابتغاء كل نفس للحياة وحرصها عليها وهيامها بها. ومن الذي لم يعشق الدنيا والحياة؟ ولكنه لا ينسى أنها لا تنيل أربا ولا تعطى غاية ولا تسمح بوصال. وقد كان هذا وحده كافيا في خلق النفور منها ولكن:
من لذيذ الحياة أنفس في النف ... س وأشهى من أن يمل وأحلى
وإذا الشيخ قال أفٍ فما ملّ ... حياة وإنما الضعف ملا
وإذا كان الشيخ وحده يمل الحياة بسب ضعفه فليبادر وهو فتى - إلى الحياة - يستخلص منها ملذاتها قبل أن تستخلص منه نفسه، ويجنح إلى اللهو فأوقات اللهو تمر سراعاً كأنها كما قال قبل يزودها حبيب راحل! والزمان لا لذيذ خالص فيه ولا سرور كامل. . . وليت شاعرنا يقنع بهذا التعليل، فقد تطغى عليه في بعض مواطنه موجة من التشاؤم لا نجد لها مثيلا إلا عند المعري. . . ينظر إلى الدنيا وقد أعياه أمرها فيراها خائنة:
. . . أخون من مومس ... وأخدع من كفة الحابل
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
يراها خائنة معشوقة
ومن لم يعشق الدنيا قليل ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
وقد نظر المتنبي فيما نظر إلى الموت وما بعد الموت، فكان نظره قصيرا فيما وراء الطبيعة وخياله محدودا؛ ليس له رأي ذاتي فيه وإنما يسمع ما قيل ويشك فيما قيل؟ ولعله سما في قصيدته التي رثى بها عمة عضد الدولة سموا يذكرنا بما سما إليه المعري في الرثاء. فقد مزج نظرته بشيء من الفلسفة الوثنية التي تعيد الأرواح إلى جوها والأجساد إلى تربها وترى كل شيء معلقا بالزمان
نحن بنو الموتى، فما بالنا ... نعاف ما لابد من شربه(176/35)
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجساد من تربه
يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه
وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
فكم في هذه الصورة الأخيرة من ورعة وتشاؤم! وقد تكون روعتها في انطلاقها وإطلاقها الخيال للسامع، فيصور ويمثل منتهى هذا الحسن الذي يسببه، وقد وددت لو أنقل صورة لمثل هذا المنتهى للشاعر الفرنسي (بودلير) في قصيدته (جيفة) وهل يريد المتنبي من هذا المنتهى إلا هذه الجيفة؟ وليته رسم لنا خطوطها وأتم صورتها، ولكن الموت قد يعكر على المتنبي هناءه، ولكنه لا يمنعه منه وقد يستغل اسمه وهوله - أمام محبوبته، وجيفته - فيطلب إليها أن تزوده من حسن وجهها قبل أن يحول، وأن تصله في هذه الدنيا لأن المقام فيها قليل، أما رعشة الموت فهو يحسها ويلمسها ويراها ويدرك كما أدرك المعري بنظره الشامل أننا:
يدفن بعضنا بعضا وتمشي ... أواخرنا على هام الأولي
وهل في هذه النظرات العميقة إلا تشاؤم عميق؟ ولكنه لم يسلم صاحبه إلى الاستسلام؛ تشاؤم يرى كل ما يشق منظره فيحسب يقظات العين حلما! ويعفو عن الزمن لأنه لا يعقل أن يبلغه ما ليس يبلغه الزمن من نفسه. وهكذا خلق هذا التشاؤم فيه قوة يعود تعليلها إلى أمور كثيرة، منها إلى مزاجه ومنها إلى بيئته؛ وحقا إذا كان مزاجه العصبي قد أضربه في موطن فقد عاد عليه بفوائد كثيرة في مواطن كثيرة. منها هذه المقاومة العنيفة والمجابهة التي يطفح بها شعره، وقد كان أولى بهذا التشاؤم أن يقوده إلى ما قاد المعري إليه برغم أن المعري لم يبل في الحياة والأصحاب بمثل ما ابتلى به المتنبي.
هذا الجانب من جوانب المتنبي أعجب به وأعتز به لأنه علامة من علامات الرجولة الممسوخة في هذا الجيل، تصون عزتها ولا تنسى أن تبرز بذاتها إزاء كل ذات مهما تناهت عظمتها، وهل تستطيع أن تجد قصيدة لم يطبعها المتنبي بذاته؟ بل هل كان المتنبي(176/36)
قادرا على التجرد من ذاته؟ ألا نراه يتغنى في كل مقطوعة بذاته؟ ويحن إلى غايته ويطأ هام الملوك والخلائق وينقض على الزمان يراغمه وعلى الحظ يصاوله، ولعل المتنبي أول شاعر قام يحاول إخضاع الحظ والناس لموازين العقل والذكاء.
ولعل أصحابنا النقاد يرون مغامز في المتنبي، فيأخذون عليه رياءه ومبالغته وتقلبه، ويتخذون موقفه مع كافور حجة على غدره وتقلبه. ومثل هذا النقد صدق يشهد به المتنبي وأشعاره، ولكي أعتقد أن هذا الرياء الذي تنقم عليه الأخلاق لم يكن إلا رياء فنيا - والرياء الفني يغمر كل شعرنا وأدبنا ولا يزال. . . ولو كان من نوع ذلك الرياء اللين لكان لصاحبه شأن مع رجال الأحكام. وإن شخصيته المتجردة من شعره كانت شخصية عنيفة قاسية لا تهاود في عزتها. الأمر الذي يدل على أن رياءه هو الرياء الذي تواضع عليه شعراء ذلك العصر وأدباؤه وتقبلوه ولم يستقبحوه.
حياة زاهرة بالأهوال والآمال كلما صدع لها الدهر أملا زادت حزما وعزما، غير مستعظمة إلا نفسها ولا قابلة إلا لخالقها حكما؛ حياة تود أن تنفصل عن الناس لتتصل بالناس، وذات لم يترك لها الدهر مجالا للنظر في غير ذاتها، في شعرها أثر عصرها وبيئتها، وفي شعرها أثر العصور. ولعمري إن هذا لهو الأدب الحي الذي تتوق إليه الآداب العالمية اليوم، أدب ترتسم فيه الرسالة القومية والرسالة الإنسانية. . .
ما أفقر أدبنا الحاضر على غناه إلى متنبي جديد يفيض قوة وعزيمة على رغم تشاؤمه! ولعله إذا عاد يغير شيئاً في رسالته ويجعلها رسالة قوية يفرضها فرضا بقوة البيان شاعر ذو كبرياء وسلطان، على شعب مريض أصبح السائر لا يسير بينه إلا بألف ترجمان.
(دير الزور)
خليل هنداوي(176/37)
تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
الفصل الأول
- 4 -
مصادر الأخبار:
وإن المصادر الرئيسية الهامة التي تدور حول سبأ وحمير لهي (أولا) تلك المسماة بالنقوش الحميرية، و (ثانيا) الأحاديث المنقولة في الغالب عن الأساطير والتي أبقاها لنا الأدب الإسلامي. وبالرغم من أن اللغة العربية الجنوبية قد ثبتت أقدامها في بعض الأماكن الجنوبية القاصية حتى عهد النبي أو بعده بقليل، إلا أنها أخذت تضمحل من أمد بعيد بتقوى لغة الشمال الجزلة الرائعة ثم أخذت منذ ذلك الحين تبسط سلطانها دون أن تجد لها منافسا في رحاب شبه الجزيرة، ولكن يجب أن نذكر أن اللغة السابقة لم تتلاش نهائيا. وقد حدث في القرن السادس الميلادي أن أناخ راكب بدوي بعيره وأخذ يتفرس في دهشة في بعض نقوش غريبة على حائط صخري، وقارن بين هذه النقوش العجيبة التي كاد الدهر أن يطمس معالمها وبين البقايا غير الواضحة تماما للأراضي المجاورة، التي كانت تفيض بالذكريات الجميلة. ويسمى المؤلفون المسلمون هذه الخطوط بالمسند، وإن قليلا من المسلمين كانوا يستطيعون قراءة حروف هجاء العربية الجنوبية، بل كانوا ذوي دراية بمبادئ وقواعد علم الإملاء أيضاً، وهذا يظهر لنا بجلاء من عبارة وردت في الكتاب الثامن من الإكليل للهمداني، ومع أنهم قد استطاعوا تفسير أسماء الأعلام والتعرف إلى مدلول الكلمات، إلا أنه لم تكن لديهم معلومات ثابتة عن اللغة نفسها، وسأشرح فيما بعد كيف كشفت هذه النقوش مرة ثانية بفضل بعض الرحالة الأوربيين، وكيف فسرت وأولت حتى غدوا على بينة منها قادرين على اتخاذها أساسا للبحث التاريخي، وما هي النتائج التي جنوها من دراستهم لهذه الناحية؛ ولكن قبل أن نأخذ في شرح ذلك أرى من الضروري أن أقول لماذا استعملت لفظ (العربية الجنوبية) أو (السبئية) القليل التداول بدلا من (الخطوط الحميرية) و (اللغة الحميرية): ذلك أن كلمة (حمير) ليست دقيقة إذا أردنا بها لغة هذه(176/38)
النقوش أم النقوش ذاتها؛ أما من ناحية اللغة فلم تكن خاصة بأهل حمير، بل كان يتكلمها كل قبائل اليمن المختلفة وأهل سبأ ومعين أيضاً، وإن اختلفت اللهجات في كل جهة عن الأخرى. وقد أطلق المسلمون على لغة اليمن القديمة اسم (الحميرية) لسبب بسيط، ذلك أن الحميرين كانوا أقوى جنس سكن هذه البلاد خلال القرون الأخيرة السابقة لظهور الإسلام. ولو كانت جميع الآثار المكتشفة ترجع إلى عصر السيادة الحميرية لسمعنا عنها في شيء من اليقين فيمن خلفهم، ولكن الحقيقة هي أنها ترجع إلى عهد سحيق أيام العصور الأولى التي يرجع بعضها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وربما كان بل تأسيس الإمبراطورية الحميرية بألف عام، كما أن لفظ (سبئ) لا يوضح المقصود تماما لأنه يغلب استعماله لاسم شعب أكثر من أن يكون لقبا سياسيا، وعلى كل فأني أفضل لفظ (عرب الجنوب) على كل ما عداه.
ومن أول رواد البحث والتنقيب في بلاد اليمن العالم كارستن نيبوهر الذي قام بدافع نفسه وللذته الخاصة بإماطة اللثام عن النقوش. وقد طبع عام 1772م كتابه المسمى وقد رن صدى اكتشافاته في مجامع أوروبا العلمية ورجح الظن بأن حمير وجدت في بقايا مدينة شهيرة باسم ظفار وفي ذات مرة لقيه أحد الهولنديين الذين اعتنقوا الدين الإسلامي وأطلعه على نسخة من النقوش جمعت كل الحروف الهجائية التي لم تكن معروفة من قبل، ولكن - كما يقول - (أصابتني حمى عنيفة في تلك الآونة، وكنت أستعد بين كل لحظة وأخرى للموت أكثر مما أعد نفسي لجمع النقوش القديمة) وبهذا ضاعت فرصة عظيمة، ولكن الدهشة عادت ثانية إذا اكتشف البحاثة عام 1810 عدة خطوط في جوار ظفار ونسخها بيده، ولكن ما يؤسف له أن السرعة التي لازمت المكتشف جعلت المنسوخ غير متقن الضبط تماما. وقد اشترى أيضاً رسما أخذه معه وانكب عليه في أوقات فراغه ناسخا أياه، غير أن جهله للروح الأصلية أوقعه في عدة أخطاء في الحروف، وبذلك لم تكن النتائج التي توصل إليها ذات قيمة تذكر. وإن أول منسوخات قيمة للنقوش العربية الجنوبية وصلت إلى أوربا على أيدي الضباط الإنكليزي المشتغلين بحراسة الشواطئ الجنوبية والغربية لبلاد العربي وفي سنة 1838 طبع الليفتنانت ج. ر. وللستد نقوش حصن الغراب ونقب الحجر في كتابه المسمى(176/39)
وإذا ذاك خطأ أميل روديجر أستاذ اللغات الشرقية بجامعة هل (اعتمادا على مخطوطين في مكتبة برلين الملكية جمعت فيهما كل حروف الهجاء الحميرية) خطأ أول خطوة في سبيل الكشف الصحيح، فدحض الفكرة القائلة بأن خط العربية الجنوبية يجري من اليسار إلى اليمين، تلك الفكرة التي أقرها (دي ساسي) وصادفت قبولا عاما، كما أظهر روديجر أكثر من ذلك ان آخر كل كلمة كان ينتهي بخط عمودي، وإن نقوش ولِلَّسِتدْ قد ألقت بصيصا من النور على صنعاء، وفسر رموزها وروديجر كل منها مستقلا عن الآخر عام 1841م.
وتقاسمت إنجلترا وألمانيا فخر الكشف عن هذه النقوش، ولكن لم تكد تمضي بضع سنين حتى كانت فرنسا ثالثتهما، وسرعان ما مضت قدما في هذا السبيل وتكللت بحوثها بالفوز العظيم ونالت قصب السبق. وفي عام 1843 بدأ توماس أرنود التنقيب والبحث بادئا من صنعاء، ونجح في الكشف عن بقايا مأرب مدينة سبأ القديمة الشهيرة، ولم يعبأ بتقهقر صحته، بل نسخ ما يقرب من خمسين أو ستين مخطوطا نشرت بعد ذلك في الجريدة الأسيوية وقد عثر في أسيندر على مترجم ماهر، وفي سنة 1870 تنكر العالم اليهودي واخترق (الجوف) شرق صنعاء التي لم يخترقها أوربي قبله منذ سنة 24 ق. م حينما قاد ? جيشا رومانيا من نفس الطريق، وقد توصل هذا المكتشف إلى نتائج أكثر أهمية بعد أن لاقى كثيرا من المتاعب والأهوال الخطرة، ثم تمكن هاليفي أن يعود بعد أن نسخ قرابة سبعمائة مخطوط، وفي أثناء ربع القرن الأخير جمع أشياء أكثر أهمية بينما انكباب براتوريوس وهاليفي وميللر وموردتمان وغيرهم على البحث أزاد معلوماتنا عن لغة وتاريخ وديانة عرب الجنوب في العصر السابق للإسلام.
ولا يمكن القول بأن هناك دقة ما سواء في أسماء الحكام الحميريين - كما يظهر ذلك مما كتبه المؤرخون المسلمون - أم في الترتيب الذي جرت عليه في وضعها، ولو كان هؤلاء أشخاصا تاريخيين لكان لهم ذكر فيما بعد، والأرجح أنهم كانوا أمراء غير ذوي أهمية أرجعتهم القصص إلى العصر القديم وخلعت عليهم نعوت العظمة، وعلى من يعتوره الشك في هذا أن يقارن الصحف الحديثة بتلك التي استنبطت من النقوش وقد جمع د. هـ. موللير أسماء ثلاثة وثلاثين ملكا من ملوك سبأ، كما تكرر كثيرا ورود بعض الأسماء - وهذا دليل على قيام الأسر الحاكمة - وكانت تخلع عليهم الألقاب للأبهة، وقد نجد كثيرا من(176/40)
هذا في ذَمَرْ عَلِى ذِرِّيحْ (الفخم) ويَثَعَمَرْ بَيِّن (السامي) وكَرِيَبِعيلْ وَتَاريُهَنْعِمْ (أي العظيم المنّاح) وسمهعلي ينوف. أضف إلى هذا أن الملوك كانوا يحملون ألقابا عدة في المراسلات تنبئ عن عصور ثلاثة في تاريخ البلاد العربية كمكرب سبأ أو ملك سبأ وملك سبأ وريدان، وبهذه الطريقة يمكننا أن نحدد على وجه التقريب عصر المباني والنقوش المختلفة، وأن نظهر أنها لا تنتمي إلى العصر المسيحي، ولكنها تسبقه أحيانا بثمانية قرون على الأقل.
وإن البون الشاسع الذي يفصل بين قوم سبأ وحمير المحبين للتجارة والسلام وبين العرب الهمج الذين بعث فيهم محمد (صلعم) ليظهر على أشده في خضوع الأولين لآلهتهم التي تعد أساس الآثار الجنوبية العربية كما ذكر ذلك جولد زيهر.
فكان الأمير يشيد معبدا للآلهة شكرا لنصرها إياه على أعدائه ويبارك الكاهن أبناءه وممتلكاته؛ أما المحارب الذي فاز بقتل أعدائه أو بالأسلاب أو بنجاته من المنية فيقدم فروض الشكر ويتوسل في ضراعة أن يكون على الدوام متقلبا في أعطاف رعايتها. وكانوا يعتقدون أن الموتى يعيشون سعداء تحت رحمة إلهية كما كانوا يوقرونهم بل ويعيدونهم أحيانا، وإن العبارة التالية التي ترجمها الكولونيل لهي أوضح مثال على هذا وهي: (لقد تقدم سعد الله وبنوه بنو مرثد بهذه اللوحة إلى مقه هران (سيد الأوَّام ذو عِران أَلِى) الذي تفضل بسماع الرجاء المرفوع إليه حينما أهدى إليه بنو مرثد أول ثمار أرض أرهقم وان مقه هران قد تعهد بحماية سهول ومراعي هذه القبيلة في مساكنهم لقاء ما يقدمونه إليه من الهدايا الكثيرة طول العام، والحق أن أبناء سعد الله سينزلون أرض أرهقهم وسيقربون الضحايا في حرمي عشتر وشمس وسيكون هناك قربان آخر في هران (وكلا العملين بغية أن يتكفل حروت بحماية حقول بني مرثد، والتفضل بسماع شكواهم) وكذلك تقرب القرابين في معبد مقه حروت، وبمقتضى ذلك يتهيأ له المحافظة عليهم بناء على السنة التي ابتع نهجها سعد الله والتي شاهدها في معبد مقه النعمان، أما مقه هران فقد وقى أرض أرهقم الخصبة من الصقيع والطوارئ أو بعبارة أخرى من البرد القارس والحر اللافح)
وقبل أن أختم هذا البحث القائم على البيان الناص عن نقوش العربية الجنوبية لابد لي من أناشد فطنة قرائي الذين يعلمون كم يكون من الصعب أن يكتب المرء بوضوح ودقة عن موضوع ليست مصادره الأولى في متناول يده، خاصة إذا كانت نتائج البحث السابق(176/41)
تنقض على الدوام بيد العاملين الحديثين في نفس الميدان.
ومن حسن الطالع أن يكون تحت يدنا مرجع دقيق واف لتلك البقايا القليلة الناقصة؛ فمعلوماتنا عن جغرافية بلاد العرب الجنوبية وعن الآثار والتاريخ القصصي مستقى جلها من كتابات شخصين من أهل اليمن تفيض كتاباتهما بالحماسة للمجد القديم والفخر به، وتعتبر أقوالهما - المتضاربة بين الحق والخرافة - من وجهة النظر الحاضرة - عملا له قيمته، وهذا الكاتبان هما حسن بن أحمد الهمداني ونشوان بن سعيد الحمير، وفضلا عن كتاب جغرافية العرب القيم المسمى (صفة جزيرة العرب) الذي طبعه د. هـ. موللير، فقد ترك لنا الهمداني كتابا عظيما آخر في تاريخ اليمن وآثارها، ذلك هو (الإكليل) وينقسم إلى عشرة كتب هذا بيانها.
الكتاب الأول: موجز تاريخ أصل الإنسان ونشأته
الكتاب الثاني: تاريخ نسب الهميسع بن حمير
الكتاب الثالث: بخصوص صفات قحطان الممتازة
الكتاب الرابع: بخصوص العصر الأول من التاريخ إلى حكم تبع أبي بكر
الكتاب الخامس: بخصوص العصر المتوسط من عهد أسعد تبع إلى عهد ذي نواس
الكتاب السادس: بخصوص العهد الأخير حتى ظهور الإسلام
الكتاب السابع: نقد البدع الفاسدة والروايات الكاذبة
الكتاب الثامن: القلاع والمدن والقبور التي شيدها الحميريون وشعر علقمة والمراثي والنقوش وغيرها
الكتاب التاسع: ويتضمن حكم الحميرين وأمثالهم في اللغة الحميرية وأحرف هجاء النقوش
الكتاب العاشر: بخصوص نسب قبيلتي حاشد وبقيل (كبيرتي قبائل همدان)
(يتبع)
ترجمة حسن حبشي(176/42)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
- 2 -
وما فرغ زارا من كلامه حتى ارتفع صوت من الحشد قائلا (لقد كفانا ما سمعنا عن البهلوان، فليبرز لنا الآن لنراه)
فضحك الجميع مستهزئين بزارا، وتقدم البهلوان ليقوم بألعابه وهو يعتقد أنه كان موضوع الحديث.
- 4 -
وبهت زارا مجيلا أنظاره في القوم، ثم قال:
ما الإنسان إلا حبل منصوب بين الحيوان والإنسان الكامل فهو الحبل المشدود فوق الهاوية
إن في العبور للجهة المقابلة مخاطرة، وفي البقاء وسط الطريق خطرا، وفي الالتفات إلى الوراء وفي كل تردد وفي كل توقف خطر في خطر
إن عظمة الإنسان قائمة على أنه معبر وليس هدفا، وما يستحب فيه هو أنه سبيل وأفق غروب
إنني أحب من لا غاية لهم في الحياة إلا الزوال، فهم يمرون ما وراء الحياة، أحب من عظم احتقارهم لأنهم عظماء، المتعبدين يدفعهم الشوق إلى المروق كالسهام إلى الضفة الثانية
أحب من لا يتطلبون وراء الكوكب معرفة ما يدعو إلى زوارهم أو ما يهيب بهم إلى التضحية، لأنهم يقدمون ذاتهم قربانا للأرض، لتصبح هذه الأرض يوما ميراثا للإنسان الكامل
أحب من يعيش ليتعلم، ومن يتوق إلى المعرفة ليحيا الرجل الكامل بعده، فأن هذا ما يقصد طالب المعرفة من زواله
أحب من يعمل ويخترع ليبني مسكنا للإنسان الكامل فيهيئ ما في الأرض من حيوان ونبات لاستقباله. فان هذا ما يقصد طالب المعرفة من زواله(176/43)
أحب من يحب فضيلته، فما الفضيلة إلا الطموح إلى الزوال وإن هي إلا السهم تنشبه أشواقه
أحب من لا يحتفظ لنفسه بشرارة واحدة من روحه، فيتجه إلى أن يكون بكليته روحا لفضيلته لأنه بهذا يجعل روحه تجتاز الصراط
أحب من يكون من فضيلته ميوله ومطمحه، لأنه بمثل هذه الفضيلة يتوق إلى إطالة حياته كما يتوق إلى قصرها
أحب من لا يريد الاتصاف بعديد الفضائل، إذ في الفضيلة الواحدة من الفضائل أكثر مما في فضيلتين، والفضيلة الواحدة حلقة ترتبط فيها الحياة
أحب من يجود بروحه فلا يطلب جزاء ولا شكورا، ولا يسترد، فهو يهب دائما ولا يفكر في الاستبقاء على ذاته
أحب من يخجل من سقوط زهر النرد لحظه فيرتاب بغش يده، إن أمثاله التائقون إلى الزوال
أحب من يبذل الوعود وهاجة ثم يتجاوز عملة وعده، إن أمثاله هم التائقون إلى الزوال
أحب من يبرر أعمال الخلف ويدافع عن السلف لأنه بذلك يسلم نفسه إلى نقمة معاصريه، فهو ممن يتوقون إلى الزوال
أحب من يعلن حبه لربه بتوجيه اللوم إليه، إذ يجب أن يهلك بغضب ربه
أحب من يبلغ التأثر أعماق روحه في جراحها فيعرضه أتفه حدث للفناء، إن أمثاله يعبرون الصراط دون أن يترددوا
أحب من تفيض نفسه حتى يسهى عن ذاته، إذ تحتله جميع الأشياء فيضمحل فيها ويفني بها
أحب من تحرر قلبه وتحرر عقله حتى يصبح دماغه بمثابة أحشاء لقلبه، غير أن قلبه يدفع به إلى الزوال
أحب جميع من يشبهون القطرات الثقيلة التي تتساقط متتالية من الغيوم السوداء المنتشرة فوق الناس، فهي التي تنبئ بالبرق وتتوارى
ما أنا إلا منبئ بالصاعقة، أنا القطرة الساقطة من الفضاء، وما الصاعقة التي أبشر بها إلا(176/44)
الإنسان الكامل.
- 5 -
وبعد أن ألقى زارا هذه الكلمات أجال أنظاره في الحشد وسكت ثم قال في قلبه: لقد تملكهم الضحك، فهم لا يفهمون ما أقول، وما أنا بالصوت الذي يلائم هذه الأسماع
أعلي أن أسد آذانهم ليتمرنوا على الإصغاء بعيونهم؟ أم يجب أن أضرب الصنج أسوة بوعاظ الصيام؟ لعل هؤلاء القوم لا يثقون إلا بالألكن من المتكلمين
إن لهؤلاء الناس ما يباهون به فما عساه أن يكون؟
إنهم يسمونه مدنية ليميزوا بها أنفسهم من الرعاة. فهم لذلك ينفرون من لفظة الاحتقار إذا ما ذكرت في معرض الكلام عنهم، فلسوف أخاطبهم إذن عن غرورهم
سأخاطبهم عن أحقر الكائنات، عن الإنسان الأخير، وتوجه إلى الحشد قائلا:
لقد آن للإنسان أن يضع هدفا نصب عينيه، لقد آن له أن يزرع ما ينبت أسمى رغباته، ما دام للأرض بقية من ذخرها؛ إذ سيأتي يوم ينفذ هذا الذخر منها فتجدب ويمتنع على أية دوحة أن تنمو فوقها.
ويل لنا! لقد اقتربت الأزمنة التي لن يفوق الإنسان فيها سهام شوقه محلقة فوق البشرية إذ تخونه قوسه وتتراخى أوتارها
الحق ما أقوله: لن يخرج من الإنسان كوكب وهاج للعالم حين تزول بقية السديم من نفسه، وهذا السديم لم يزل فيكم
ويل لنا! لقد اقتربت الأزمنة التي لن يدفع الإنسان فيها بالكواكب للعالم. ويل لنا؟ لقد اقترب زمان الإنسان الحقير الذي يمتنع عليه أن يحتقر نفسه
اسمعوا! هأنذا منبئكم عن الرجل الأخير
إنه من يقف متسائلا عن نفسه فلا يعلم أمحبة هي أم إبداع أم تشوق، أم توهج كوكب
وستصغر الأرض في ذلك الزمان فيصطفر على سطحها الرجل الأخير الذي يحول إلى حضارة كل ما يدور به، إن سلالة هذا الرجل لا تباد، فهي أشبه بالبراغيث، والإنسان الأخير أطول البشر عمرا
ويقول أناسي الزمن الأخير متغامزين: لقد اخترعنا السعادة اخترعا(176/45)
لقد هجر هؤلاء البقاع التي تقسو عليها الحياة، لأنهم شعروا بحاجتهم إلى الحرارة فأصبح كل واحد يحتك بجاره وقد احتاجوا إلى الدفء جميعا
إنهم يقتحمون الحياة باحتراس لأن الوجل والمرض في عينهم خطأ، وما سلم من الجنون من يتعثر منهم بالجارة وبالناس
إنهم يأخذون قليلا من السموم حيث يجدونها طلبا لملاذ الأحلام ويكرعون منها ما يكفي دفعة واحدة طلبا للذة الموت
وإذا هم عملوا فإنما يعملون للتسلية محاذرين أن تذهب هذه التسلية بهم إلى حدود الإنهاك
ليس بينهم من يصبح غنيا أو يمسي فقيرا، وكلا الفقر والغني يجلب الضنى، وما منهم من يطمح إلى الحكم أو يرضى بالخضوع وكلاهما محرج مرهق
ليس هنالك راع وليس هنالك إلا قطيع واحد. إن كلاً من الناس يتجه إلى رغبة واحدة، فالمساواة سائدة بين الجميع. ومن اختلف شعوره عن شعور المجموع يسير بنفسه مختارا إلى مأوى المجانين
ويغمز أمكر هؤلاء الناس بعينهم ويقولون: لقد كان الجميع مجانين فيما مضى
لقد ساد الاحتراس بين هؤلاء القوم لأنهم أخذوا بالعبر، فهم يتلقون المحادثات متهمكين، وإذا نشأ بينهم خلاف بادروا إلى حسمه صلحا، لأنهم يحاذرون أن تصاب معدهم بالعلل والأدواء
لهؤلاء الناس لذات للنهار ولذات أخرى لليل، غير أنهم يراعون صحتهم أولا
(لقد اخترعنا السعادة اختراعا) ذلك ما يقوله أناسي الزمن الأخير وهم يغمزون
عند هذا أنهى زارا خطابه أو بالحري تمهيد خطابه فتعالت أصوات التهليل من الحشد وهو يقول: (إلينا بهذا الرجل الأخير يا زارا، اجعلنا على مثال أناسي الزمن الأخير فقد تخلينا لك عن الإنسان الكامل
ولكن زارا وجم أمام هذا الحشد يسوده مثل هذا الروح فاستولى الحزن عليه وقال في نفسه:
إنهم لا يفهمون كلامي، فلست بالصوت الذي تتطلبه هذه الأسماع
لقد عشت طويلا في هذه الجبال وأنصت طويلا إلى هدير الغدران وحفيف الأشجار فأنا أكلم هؤلاء الناس الآن كأنني أخاطب رعاة الماعز(176/46)
إن روحي صافية تغمرها الأنوار كما تغمر القمم تباشير الصباح، ولكنه يحسون بالصقيع في قلبي ويحسبونني مهرجا يأتيهم بالمفجع من النكات
ها هم أولاء يحدجونني بأنظارهم ويتضاحكون، ففي قلبهم ثورة البغضاء وعلى شفاههم بسمة الثلوج
- 6 -
وطرأ حادث كم الأفواه واسترعى الأبصار، وكان البهلوان بدأ بألعابه فاندفع من النافذة وأخذ يتمشى على الجبل الممدود بين برجين فوق الساحة وما عليها من المتفرجين وما وصل إلى وسط الجبل حتى فتحت النافذة مرة ثانية واندفع منها فتى مخطط بالألوان كالمهرجين وسار متبعا خطوات البهلوان صارخا:
- إلى الأمام أيها الأعرج! إلى الأمام أيها الكسلان، أيها المرائي ذو الوجه الشاحب! اذهب لئلا تداعبك نعلي، ما هو عملك بين هذين البرجين؟ أفليس في البرج مكان سجنك؟ إنك تسد الطريق في وجه من هو أفضل منك)
وكان الفتى يتقدم خطوة كلما قال كلمة حتى أصبح قاب قوس من البهلوان، وعندئذ وقع الحادث الذي كمَّ الأفواه واسترعى الأبصار. فان الفتى لم يلبث أن صرخ صرخة الجن وقفز فوق العقبة القائمة في سبيله. ولما رأى البهلوان انتصار خصمه عليه أخذه الدوار وخلت رجله عن الحبل فرمى عارضة التوازن من يديه وسقط في الفضاء حيث لاحت رجلاه ويداه كعجلة تدور في الهواء.
وماج الحشد على الساحة كالبحر اجتاحته العاصفة الهوجاء وانفرط الناس مولين الأدبار وانفرط المكان حيث كان يتجه الجسم بانحداره
ولكن زارا لم يتحرك فوقع الجسم على مقربة منه حيث تقطعت أوصاله وتهشم غير أنه كان لم يزل حيا، وما عتم أن عاد روع الجريح إليه فرأى زارا جاثيا قربه فرفع رأسه وقال له:
- ماذا تفعل هنا؟ ما كنت أجهل أن الشيطان سيضل خطواتي يوما وها هو ذا الآن يجرني إلى جحيمه، أفتريد أن تمنعه؟
فقال زارا:(176/47)
- وشرفي يا صديقي إن ما تذكره لا وجود له، فليس من شيطان وليس من جحيم، إن روحك ستموت بأسرع من جسدك فلا تخش بعد الآن شيئاً
فرفع الرجل بصره مشككا وقال:
إذا كان ما تقوله صحيحا فأني لا أفقد شيئاً بفقد الحياة. فلست أنا إذن إلا حيوانا رقصت بالضرب وغذيت بأفخر غذاء
فقال زارا: لا، ليس الأمر كما تقول فأنك اتخذت المخاطرة مهنة لك ولم يكن فيها ما يشين. أما الآن فمهنتك هي أن تفنى، من أجل هذا سأدفنك بيدي
ولم يحر المدنف جوابا بل حرك يده باحثا عن يد زارا ليصافحها دلالة على شكره
(يتبع)
فليكس فارس(176/48)
نظرية العامة للالتزامات في الشريعة الإسلامية
للدكتور شفيق شحاته
3
ملاحظات موضوعية على المؤلفات - أول ما يلاحظ على الفقهاء أن نظرهم لم يتجه أثناء وضعهم للحلول إلى طريقة تطبيق أحكامهم. فتلك الناحية العملية لا تكاد تظهر خلال جدلهم وأبحاثهم
على أن هذا ليس معناه كما ادعاه بعض المستشرقين أن التشريع الإسلامي لم يوضع إلا على أنه مثل أعلى، يوصى باتباعه، وأنه في الواقع ونفس الأمر، لم تتبع أحكامه في الدول الإسلامية فإنا، وقد رجعنا في بحثنا إلى كثير من الأوراق البردية المثبتة للوثائق القانونية مما كان يجري به التعامل في العصور الأولى للإسلام، وإلى أحكام محكمة مصر الشرعية القديمة، ويرجع بعضها إلى أكثر من خمسمائة سنة خلت، نستطيع أن نؤكد فيما يتعلق بموضوع الالتزامات أنه لم يكن هناك تشريع أو قواعد أخرى متبعة في المعاملات سوى قواعد الشريعة الإسلامية.
وإذا كانت هذه القواعد قد خولفت بالفعل في بعض الأحايين، فقد كان ذلك خضوعاً لظاهرة معروفة، وهي أن الاحتياجات العملية تخلق دائما بجانب التشريع قواعد أكثر مرونة تلطف من حدته.
من ذلك - وهذا في نظرنا، دليل على حيوية التشريع الإسلامي - ما وضعه الفقهاء من (الحيل) لتلافي بعض ما وضعوه من القواعد التشريعية الجامدة
على أن هذه الحيل تندمج تماماً في الهيكل التشريعي، لأنها لا تصدم قاعدة من قواعده، فهي عبارة عن عقود أو إقرارات صورية، تنطبق عليها الأحكام التي وضعت للصورة التي اتخذتها لا لحقيقتها، وقد ساعد على نجاح هذه الوسائل قواعد الإثبات وأحكام الصورية في التشريع الإسلامي
فالحيل إذن ستكون محل دراستنا، على أنها الجانب الحي للتشريع الإسلامي، وهي قد كانت موضعاً لعناية (محمد) نفسه وهو أحد واضعي المذهب
وتظهر أيضاً الناحية العملية للفقه الإسلامي من خلال كتب (الشروط)، وقد عنيت هذه(176/49)
الكتب بوضع صيغ لكتابة العقود والإقرارات. وقد اهتم بهذه الناحية أيضاً (محمد) في (المبسوط)؛ على أن لهذه الناحية من الفقه فقهاءها الاخصائيين، نذكر منهم (أبا زيد الشروطي) و (الطحاوي) ويتضح لمن يتصفح كتب الشروط هذه أنها لم توضع لمجرد النظر: فهي تراعي دائما الاحتياجات العملية، وتحيط العاقد علماً بما يجب أن يتخذ لنفسه من الحيطة في اشتراطاته مع اختلاف المذاهب
وهذه الصيغ لا تخلو من (الرطانة) القضائية كتكرار الألفاظ والمبالغة في الاحتياطات، ومن الغريب أنها على قدم عهدها يرد بها عبارات تشبه كثيراً ما نقرؤه في العقود التي تحرر في أيامنا هذه
وتظهر أخيرا الناحية العملية من خلال (الفتاوي)، وهي مؤلفات جمعت ما أجاب به المفتون عما عرض عليهم من الأسئلة في حوادث واقعية، ولدينا من هذه المجموعات ما يرجع عهده إلى سنة 1100هـ، وهي جميعها تتبع آثار الكتب الفقهية، ولا تحيد عن الأحكام التي وردت بها قيد أنملة
ومما يؤخذ أيضاً على المؤلفين اهتمامهم الزائد بدقيق التفصيلات وتفننهم في افتراض المسائل البعيدة الوقوع
وإن كان هذا التطرف في التصورات، وهذا التوغل في الدقائق قد أفاد التشريع بعدد وفير من الأفكار والآراء، فانهما مع ذلك قد أساءا إلى الروح القانونية. ذلك أن هذه الروح تمج التدني إلى صغائر المسائل كما تمج الدقة التي تتطلبها الرياضيات. فمما يثقل على القانوني، أن يرى المؤلفين يسترسلون في عمليات حسابية معقدة
ويلاحظ أن المتأخرين قد وقعوا في محظور آخر، وهو التراشق بالأدلة اللفظية البحتة، والاعتماد في الاستدلال على المنطق المجرد
الروح العامة للفقه الإسلامي - يظهر لنا أن هناك نزعات ثلاثا تسيطر على التشريع الإسلامي
(1) أما الأولى فهي النزعة الفردية. وقد يذهب البعض إلى أن هناك نصوصا كثيرة ترمي إلى حماية مصالح الجماعة. على أن هذه النصوص لا تنهض دليلا على أن النزعة الفردية ليست متغلبة ذلك أن التشريع الإسلامي اصطبغ في الأصل بصبغة دينية.(176/50)
فهو يرمي بطبيعته إلى توفير السعادة على الفرد. والفرد - مهما حاول أنصار الاشتراكية في عهدنا هذا - سيبقى دائما أبداً هو الغاية التي يسعى إليها كل تشريع، وإذا غلبنا في بعض الأحيان مصلحة الجماعة فليس ذلك في الواقع إلا لكونها تتضمن في نفس الوقت مصلحة الفرد.
(2) أما النزعة الثانية فهي السعي وراء العدالة المطلقة عن المساواة. وقد ظهرت هذه النزعة في نظرية الالتزامات في صورة المساواة بين المتعاقدين. على أن الفقهاء قد توغلوا في هذا الاتجاه إلى أقصى حدوده، ومن آثار هذه النزعة نظرية الربا
(3) والنزعة الثالثة ترمي إلى الابتعاد عن كل ما من شأنه خلق القلق أو المنازعات في المعاملات. لذلك هم ينفرون من الغرر على كافة صوره. وقد توسعوا في بيان أحكام الجهالة الفاحشة واليسيرة. وذلك كله اتقاء للمنازعات. وسنرى أن هذه النزعة أيضاً قد ذهبت بهم بعيدا.
وأخيرا نقول كلمة عما وضع في القرن التاسع عشر الميلادي من التقنينات في التشريع الإسلامي
أما (المجلة العدلية) فقد قام بوضعها في آخر عهد الدولة العثمانية فريق من الفقهاء. وقد جعلوا منها مجموعة نصوص أوردها تحت أرقام متسلسلة. على أنهم لم يحاولوا قط إخضاع المسائل لقواعد عامة تكون هي موضوع المواد. فالمواد جاءت بالمسائل على أنها مسائل. وإن قليلا من المواد جاءت بتعاريف، منقولة هي كذلك عن الكتب الفقهية
وقام بعد ذلك في مصر (قدري باشا)، فوضع كتاباً سماه (مرشد الحيران) ذكر به مجموعة من الأحكام الشرعية على نسق القوانين المصرية. على أن محاولته وضع نظرية للالتزامات لم تفلح، فاكتفى بذكر طرق انقضاء الالتزامات وبعض أوصافها، وإن المواد التي وردت بها هذه الأحكام لا تخلو مع ذلك من الأغلاط. أما نظرية العقد كما أوردها فهي في الواقع نظرية عقد البيع
القانون المقارن - أما وقد بينا منهاج بحثنا في التشريع الإسلامي، نتساءل هنا هل يجدر بنا بعد الوصول إلى تعرف حقيقة هذا التشريع الرجوع إلى غيره من التشريعات لمقارنته بها(176/51)
قد يبدو هذا ضروريا في زمن يكاد لا يخلو مؤلف فيه من مقارنة الشرائع. ولكنا رأينا الإعراض عن هذا الاتجاه، لنتمكن من توجيه جميع جهودنا نحو بناء هيكل التشريع الإسلامي في موضوع الالتزامات، حتى إذا ما تم هذا البناء، نكون قد مهدنا لمن يهمه ذلك، أن يقوم بدراسته المقارنة على أسس متينة
وهذا كله لا ينفي أننا في الواقع قد رجعنا إلى أكثر من تشريع واحد في موضوع دراستنا هذه. فأنا لم نخط سطرا واحدا إلا بعد إعمال الفكر في مختلف التشريعات، ليصح فهمنا، ووضعنا للمسألة على وجهها المطلق. فالمقارنة قد تمت بالفعل، ولو أن القارئ لا يقرؤها في الغالب قراءة العين
ونلاحظ هنا أنه من السخف محاولة الوصول عن طريق مقارنة الشرائع إلى إصدار الأحكام التقويمية على هذه الشرائع. فان التشريع كما قلنا ظاهرة من الظواهر الاجتماعية مقيد ككل ظاهرة بظروف الزمان والمكان، ويخضع كذلك لمنطقه هو نفسه، وإذا كان يجوز للغريب عن العلوم القانونية أن يدهش لغرابة بعض الأحكام، ففقيه النفس يرى فيها على العكس دليلاً جديداً على أن العقل البشري قد جاهد وناضل في مختلف البيئات في سبيل الوصول إلى (الحقيقة القانونية)
مقارنة المذاهب - وقد استبعدنا كذلك مقارنة المذاهب واكتفينا مؤقتا بدراسة مذهب (أبي حنيفة)
ذلك أنه قد تبين لنا أن الفقه الحنفي يمثل التشريع الإسلامي في أولى صوره وأنقاها، ولا نرى مجاراة ما هو شائع من أن المذهب الحنفي هو أقرب المذاهب إلى التشريعات الحديثة، فهو أبعدها عنها وإن كان في مسائل العبادات يبدو أكثرهم تسامحا من غيره
أما التقسيم المشهور للمذاهب، ما بين أهل الرأي وأهل الحديث، فهو أيضاً تقسيم لا نرى له معنى. فان جميع المذاهب في الواقع تلجأ إلى الاستدلال العقلي. سواء منها المالكية والشافعية والحنبلية. فمن المعروف أن نظرية (المصالح المرسلة) عند المالكية، و (الاستصحاب) عند الشافعية، تؤديان ما يؤدي إليه (الاستحسان) عند الحنفية. وهذا التقسيم لا يفيد سوى أن الفقه الإسلامي قد انتابه ما انتاب غيره من التشريعات. ففيها جميعها يتجاذب المفسرين دائما تياران، تيار التوسع، وتيار التضييق في التفسير.(176/52)
ونلاحظ أن في موضوع الالتزامات قد راعى فقهاء المذاهب غير الحنفية احتياجات الحياة العملية أكثر مما صنعه فقهاء الحنفية. وذلك على رغم أن الأولين يتمسكون بالأحاديث في أكثر المسائل خلافا للأخيرين. ويبدو لنا أن فقهاء الحنفية قد اجتهدوا في جعل بنائهم التشريعي محكما، ففاتهم شيء من المرونة. أما الفقه المالكي فهو ظاهر الأخذ بما يتطلبه العمل من القواعد المعقولة. أما الفقه الشافعي فقد بقى مترددا بين النزعتين. بينما الفقه الحنبلي قد اكتفى بتخير الآراء من مختلف المذاهب، ولم يظهر عليه أي طابع خاص. وفقه الشيعة يقرب كثيرا من فقه الشافعية
يتضح مما تقدم أنه من المفيد إن لم يكن من الضروري إفراد الفقه الحنفي بدراسة خاصة. وفي الواقع أن الصناعة مختلفة فيه عنها في المذاهب الأخرى. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن هناك تشريعا مالكيا، وتشريعا شافعيا، وتشريعا حنبليا كذلك
ونذكر هنا أنه قد حاول بعض الفقهاء في هذه المذاهب الارتقاء إلى المبادئ العامة، ومنهم (القرافي) في الفقه المالكي، و (العز بن عبد السلام) في الفقه الشافعي، و (ابن رجب) في الفقه الحنبلي، وفي الفقه المالكي نوع من المؤلفات وردت بها أحكام المحاكم، وقد سميت (بالعمليات)
ونذكر أخيرا أنه قد اكتشف المستشرق (جريفيني) كتابًا في فقه الشيعة الزيدية، قال عنه إنه أقدم ما وجد من كتب الفقه الإسلامي
وقد اهتم بعض الفقهاء منذ العصور الأولى، بإيراد أحكام المذاهب المختلفة مجتمعة، وهو ما يسمونه بعلم (الخلافيات). نذكر منهم (الطبري) و (الشعراني)؛ على أن هذا العلم لا يفيد في دراسة موضوعية للنصوص، ذلك أنهم يوردون الأحكام، كلاً منها بجانب الآخر، منتزعة من مذاهبها، والمسألة إذا انتزعت هكذا فقدت الكثير من قيمتها، وقد حاول (الشعراني) التقريب بين مختلف المذاهب، على أساس من الصوفية لا يهمنا
ومما تقضي به الطريقة التي نقول بها الاستعانة بكتب الطبقات، وتاريخ القضاة، والتاريخ العام لتتبع التطور التاريخي للتشريع، وتقضي كذلك بالرجوع إلى ما وصلنا إليه من الوثائق عما جرى عليه العمل بالفعل، من قواعد التشريع الإسلامي، كالأوراق البردية، وما قد يرد في كتب الآداب العامة من النصوص القانونية(176/53)
(انتهى)
شفيق شحاتة(176/54)
من زوايا الشباب
// لَمْياءُ إن سالت يراعةُ شاعرٍ ... يشكو الغرام تسيل فيكِ جروحي
شرحُ الصبابة في الوجوه فطالعي ... في ناظريَّ ووجنتيَّ شروحي
لم يبقَ لي فكر لنظم قصيدةٍ ... إلاَّ موشّح دمعيَ المسفوح
أفقدتني عقلي فقلتُ أردّه ... بالبعدِ عنكِ فكدتُ أفقدُ روحي
الشاعر القروي
عيني عليك
يا نجمةً في سماء الحسن طالعة ... عيني عليكِ ولكن أين منكِ يدي؟!
إحدى يديَّ إلى علياكِ أرفعها ... مستعطفاً ويدي الأخرى على كبدي
أليس تشجيكِ شكوى شاعرٍ ملأت ... آهاته الأرض وامتدَّت إلى الجَلَد
أما تهيجكِ أنَّاتٌ يرجّعها ... مستوحشاً وبشير الصلح لم يفدِ
هذا المحبُّ وهذا وصف حالته ... يُجْنَى عليه ولا يجني على أحد
لم تُبقِ منه عيون الغانيات سوى ... شيء من الروح في شيء من الجسدِ
فرحات
من طرائف الشعر المهاجر
كبد من تراب
تمر الليالي كمرَّ السحابْ
وتمضي الأماني كومض البروقْ
فحتَّامَ يغمر هدا الضبابْ
حواشي نفسي فلا تبصرْ
وتبحث عنك فلا تعثرُ
تراها أضاعت إليكِ الطريقْ
وكل جمالٍ عيوني تراه(176/55)
ولحنٍ شجيٍّ بسمعي استقرْ
وكلُّ عبيرٍ يفوحُ شِذاهْ
وكل نسيم عليل بليلْ
يحدث عنك وما من سبيلْ
إليكِ وقد طال هذا السفَرْ
حنينٌ وشوقٌ وحبٌّ دفين
تُكابُده كبدٌ من ترابْ
فإِن يكُ في الأرض ماءٌ وطين
يحولُ ويفصلُ ما بيننا
وكنت اتخذتِ السُّهى موطناً
فيا ربِّ عّجل بيوم الذهابْ
م. معلوف
هي الدنيا
عادت إلى الأشجار أوراقها ... وعادت الدنيا تثير الشجون
تذكّر المسكين وادي الحمى ... ونام بالأحلام تحت الغصون
مرّي عليه اليوم ريح الصبا ... وأيقظيه من سبات الجنون
تحرشي بالورق ... وأَسمعيه الحفيف
ردي إليه الرمق ... من قبل يأتي الخريف
يوم تمرّين على نائم ... أحلامه قد بددتها المنون
قالوا ربيع قلت أين الصبا ... أين الفراشات وأين الطيور؟
أيام أعدو خلفها حافياً ... وكيفهما في الحقل دارت أدور
طائرة لكنني مثلها ... من فرحي ما بين تلك الزهور
وكل ما في الوجود ... لنا حلال مباح
لا عاذل لا حسود ... لا غُرْبةٌ لا انتزاح(176/56)
هذا ربيع أعطني مثله ... وخذ إذا ما شئت كل الدهور
(الولايات المتحدة)
رشيد أيوب(176/57)
القصص
من الأدب الإيطالي
الوسيط
للقصصي الإيطالي (بوكاشيو)
بقلم محمد عبد اللطيف حسن
كان في فلورنسا منذ قريب سيدة إيطالية حسناء تدعى بريتولا، وقد اشتهرت هذه السيدة بين أهل بلدتها بمكرها ودهائها وسعة حيلتها، وكان ذكاؤها وفطنتها مثار دهشتهم، وموضع إعجابهم. ومما يؤسف له أنها كانت متزوجة من تاجر غني لا يفهم الحياة إلا من ناحيتها المادية، ولا يهتم بشيء قدر اهتمامه بما يجنيه من ربح ومنفعة من وراء تجارته! أما حاله مع زوجته فلم تكن حال الزوج الموافق المهتم! وهذا ما دعاها إلى النفور منه والميل غلى غيره
وقد أسعدها الحظ حينئذ برؤية شاب جميل كان دائم المرور أمام منزلها فأحبته حباً جماً وأصبح لا يهنأ لها بال أو يسعد لها حال ما لم تره مرة في كل يوم على الأقل!! وكان هذا الشاب - واسمه تنكريد - يجهل في مبدأ الأمر تعقلها به، وعنايتها بأمره، فلم يلتفت إليها ولم يهتم بها
وبالرغم من أن تجاهله لها كان يضايقها ويكدر عليها صفوها، فإنها كانت حريصة فلم تحاول الاتصال به عن طريق الاستفسار عنه أو إرساله الرسائل إليه خشية أن يلحظ أحد علاقتها به أو يكتشف سر حبها له؛ وهداها تفكيرها آخر الأمر إلى أن تلفت نظره إليها وتجتذب قلبه نحوها عن طريق قسيس ورع كان من أخلص رفقائه وأكثرهم له وفاء ومحبة
وبعد أن اختمرت هذه الفكرة في رأسها ذهبت إلى الكنيسة التي يقيم بها هذا القسيس وابتدرته بقولها:
- لقد جئت إليك يا سيدي أطلب معونتك في أمر مهم سأشرحه لك. ولعلك تذكر أنني أخبرتك في مرة سابقة عن أقاربي وزوجي الذي يحبني أكثر من حبه لحياته، والذي لم(176/58)
يتأخر في يوم من الأيام عن تحقيق ما أطلبه منه!! ولهذا أحببته أنا الأخرى حبا شديدا وأصبحت لا أطيق الفراق عنه أو أستطيع الحياة بدونه!! أما ما جئت إليك اليوم من أجله فهو أن هنالك شابا يدعى تنكريد، وهو كما علمت من بعض الناس صديق حميم لك، اعتاد أن يمر من أمام منزلي كل يوم، وفي كل مرة يمر فيها أراه يرمقني بنظراته التي تدل على شدة حبه لي، وكثرة هيامه بي. وقلما يحول بصره عني طيلة الوقت الذي أكون فيه مطلة من نافذة غرفتي. فاضطر إلى مغادرة النافذة أو إغلاقها في وجهه خشية أن يتقول علي الناس بما يشين سمعتي أو يسيء إلى شرفي. وليس ببعيد يا سيدي أن يكون تنكريد هذا قد تعقب خطاي ورآني وأنا أدخل هذه الكنيسة، أو من المحتمل أن يكون الآن في انتظاري خارجها! وأصدقك القول يا سيدي أن هذا الأمر قد أصبح يضايقني أكبر المضايقة، ويؤلمني أشد الألم. بل لقد بلغ الأمر بي إلى حد أنني أصبحت أفضل الموت على أن أكون مضغة في أفواه الناس!
وبعد أن استرحت برهة قصيرة تابعت حديثها فقالت:
- وكثيرا ما فكرت يا سيدي في أن أحيط أخوتي أو زوجي علما بهذا الموضوع الشائن، ولكني لا ألبث في كل مرة أن أحجم عن ذلك حينما أتذكر أن الرجال غالبا ما ينهون مثل هذه الأمور بالضرب المؤلم الذي قد يفضي إلى الموت في كثير من الأحيان! وأخيرا استقر رأيي، حقنا للدماء وحسما للنزاع، على أن أطلب مساعدتك لسببين: الأول أن هذا الشخص صديقك فتستطيع من هذه الناحية أن تردعه بنفسك؛ والثاني أن من أهم واجبات القسيس الورع التقي إصلاح سيئات الناس وخطاياهم سواء أكانوا أصدقاء أم غرباء. وأنا أتوسل إليك يا سيدي أن تنصح صديقك هذا بالكف عن مغازلتي والامتناع عن النظر إلي. وإذا كان لابد له من هذه المغازلة فهناك كما أعلم سيدات كثيرات غيري يتمنين من صميم أفئدتهن أن يكن عشيقات وفيات له!!
ولما انتهت بريتولا من بث شكواها نكست رأسها كما لو كانت توشك أن تبكي من شدة الحزن والتأثر!!
ولم يشك القسيس الساذج في شيء مما قالته، بل أخذ عليه العكس يمتدح خصالها الطيبة ويثني على حسن تصرفها ورجاحة عقلها!! ووعدها أخيرا بتحقيق رجائها وإجابة ملتمسها.(176/59)
وقبل أن تغادر بريتولا الكنيسة قالت للقسيس الطيب القلب:
- ولا تنس يا سيدي أن تخبر تنكريد إذا دفعته الجرأة إلى إنكار شيء مما قلته لك، بأنني قد أتيت إليك بنفسي واعترفت أمامك بكل شيء. . .
وفي اليوم التالي أرسل القسيس في طلب صديقه تنكريد. ثم انتحى به جانبا وأخذ يلومه بلهجة هادئة، وعبارة متزنة، على تصرفه الشائن مع بريتولا. . .
ودهش تنكريد بطبيعة الحال لهذا الاتهام الذي لم يخطر على باله، لأنه، كما قلنا، لم يرفع بصره إلى بريتولا في مرة من المرار التي كان يمر فيها أمام منزلها؛ وبالرغم من أنه نفى عن نفسه هذه التهمة بشدة، فان صديقه القسيس لم يصدق ذلك وقال:
- لا تتظاهر بالدهشة يا عزيزي من هذا الأمر، ولا تحاول أن تنكر هذه التهمة لأنني سمعتها من شفتي بريتولا نفسها. . .
وبعد أن سكت برهة قال:
- ولعلك تعلم يا تنكريد أن هذا السلوك الشائن وذلك التصرف السيئ لا يليقان برجل فاضل مثلك، وإني أنصحك نصح الصديق المخلص أن تدع هذه السيدة الفاضلة تعيش في هدوء وسلام مع زوجها الذي تحبه إلى حد العبادة! ولا تحاول أن تقلق راحتها أو تفسد حياتها مرة أخرى. . .
ولم يغب عن بال تنكريد غرض بريتولا من هذا الاتهام الكاذب. وقبل أن يغادر الكنيسة وعد صديقه ألا يعرض لبريتولا ولا أن يضايقها بعد ذلك. فاستراح القسيس لهذا الوعد وشكره على شهامته ونبل أخلاقه
وقصد تنكريد من فوره إلى منزل بريتولا. ولحسن حظه وجدها في انتظاره كالمعتاد في نافذة غرفتها
وما كادت بريتولا تراه وهو مقبل على منزلها حتى ابتسمت له ابتسامة خبيثة ماكرة، وتجلى البشر والسرور في قسمات وجهها، وحيته بهزة خفيفة من رأسها الجميل
وتأكد تنكريد الآن أنه لم يكن مخطئا في زعمه، فابتسم لها ابتسامة رقيقة عذبة ورد تحيتها بأحسن منها. . .(176/60)
ومنذ هذا اليوم أخذ يصوب نظره إليها في كل مرة يمر فيها من أمام منزلها، فكان ذلك سببا في سرورها وغبطتها. . .
والظاهر أن بريتولا لم تكتف بهذا الفوز الباهر بل أرادت أن تتقدم في سبيل حبها خطوة أخرى. فذهبت إلى القسيس وألقت بنفسها بين قدميه، وأخذت تبكي بكاء مرا. فدهش القسيس وسألها عن سبب بكائها! فأجابته بريتولا دون أن تكف عيناها عن البكاء.
- إنني أبك يا سيدي صديقك الملعون الذي شكوته إليك من قبل
فقطب القسيس ما بين حاجبيه وسألها قائلا:
- ألا يزال هذا الرجل يضايقك؟
فأجابته بريتولا وهي تبكي:
- نعم. فمنذ أن شكوته إليك وهو لا يفتأ يضايقني بنظراته الوقحة، ويؤلمني بابتساماته السخيفة. وليس هذا فقط. بل أنه بعد أن كان يمر من منزلي مرة واحدة أو مرتين في اليوم أصبح يمر الآن ما لا يقل عن سبع مرات!!
وبعد أن نهنهت دموعها الجارية تابعت حديثها فقالت:
- وليت الأمر قد انتهى عند هذا الحد، فبالأمس أرسل إلى من قبله عجوزا لا أعرفها. وبعد أن عرفتها بنفسي أعطتني حقيبة جلدية نفيسة ومنديلا حريرا غالي الثمن، وقالت لي وهي تبتسم ابتسامة ذات معنى إنها مهداتان إليَّ من تنكريد! ولا أكتمك يا سيدي أنني غضبت لذلك غضبا شديدا وكنت على وشك أن أطردها هي وهدية تنكريد خارج منزلي، لولا أنني خشيت أن تحتفظ بالحقيبة والمنديل لنفسها دون أن تخبره برفض هديته! ففضلت ان آخذهما منها! وقد رأيت من الواجب أن أحضر معي هذه الهدية لكي تردها إليه وتخبره بأنني لست في حاجة إلى شيء منه. وأرجو أخيرا أن تحذر صديقك هذا بأنه إذا لم يكف عن مضايقتي، فأنني سأضطر حتما إلى إخبار زوجي أو أخوتي بكل شيء مهما كانت النتائج التي تترتب على ذلك قالت ذلك وقدمت الحقيبة والمنديل للقسيس وهي تتظاهر بالحزن والغضب لإهانة تنكريد إياها!!
وظن القسيس لسذاجته وسلامة صدره أن ما قالته بريتولا قد حدث بالفعل، فغضب لذلك غضبا شديدا، وقال لها بعد أن فكر برهة:(176/61)
إنني لا أستغرب يا سيدتي شدة حزنك لهذا الأمر، ولست ألومك بالطبع على شيء مما حدث. بل إنني على العكس أشكرك على اتباعك نصيحتي، وعملك بمشورتي. ومع أنني لمت تنكريد عندما زارني لأول مرة، فانه على ما يظهر لم يرعو عن غيه، ولم يرتدع عن ضلاله، ولهذا عولت على أن أوبخه توبيخا شديدا على هذا السلوك المعيب. وأرجو يا سيدتي ألا تنقادي لعاطفتك فتخبري زوجك أو أخوتك بهذا الأمر، فان نتائجه السيئة لا تخفى بالطبع على سيدة عاقلة مثلك، بل اتركي كل شيء وأنا أتصرف فيه بعقلي وحكمتي.
وما كادت بريتولا تبرح الكنيسة حتى أرسل القسيس في طلب صديقه تنكريد مرة أخرى. فلما جاء قابله بوجه عابس وجبين مقطب. واستنتج تنكريد من ذلك أنه لابد وأن تحادث مع بريتولا فانتظر بفارغ صبر ما سيقوله له. ولم يطل انتظاره طويلا إذ انهال عليه القسيس بوابل من الشتائم واللعنات بعد أن أعاد على مسامعه كل ما ذكرته بريتولا له.
وبالرغم من أن تنكريد أنكر بشدة إرساله الحقيبة والمنديل إلى بريتولا، إلا أن القسيس لم يصدق قوله، بل اشتدت حدته وازداد غضبه عن ذي قبل ثم قال:
- كيف تنكر ذلك أيها الشرير المنافق مع وجود دليل المادي على ارتكاب فعلتك؟
ثم نهض من مقعده، وأحضر الحقيبة والمنديل وناولهما إياه ثم قال:
- أليس في هذا الكفاية؟ فشعر تنكريد - مع براءته - بالخجل لوجود ذلك الدليل القاطع ولما لم يجد بدا من الاعتراف بهذه التهمة المنسوبة إليه قال:
- نعم. لقد أرسلت إلى بريتولا هذه الهدية لأنني كنت أحبها كغيرها من النساء، ولكني بعد أن تأكدت الآن أنها تختلف عنهن كل الاختلاف، فإني أعدك بشرفي ألا أرتكب ما يسيء سمعتها أو يجرح شعورها. وثق يا سيدي أنك لن تسمع منها بعد اليوم شكوى
ولم ينس تنكريد أن يأخذ معه الحقيبة والمنديل قبل أن يغادر الكنيسة بعد أن اقتنع تماما من أن بريتولا تحبه حبا جما، وتهيم به هياما شديدا، وأنها ما فعلت ذلك إلا بدافع هذا الحب والهيام. . .
وقصد تنكريد من فوره إلى منزل بريتولا حيث كانت لحسن الحظ في انتظاره كالمعتاد، وما كاد صاحبنا يلمحها من بعيد حتى أخرج من تحت إبطه الحقيبة والمنديل وأراهما إياها. فسرت بريتولا سرورا شديدا لأنها عرفت حينئذ أن خطتها المرسومة سائرة في طريق(176/62)
التقدم.
ولم يبق إلا غياب الزوج عن منزله لتكلل خيانة بريتولا بالنجاح التام. ولم يطل انتظارها طويلا إذ اضطر الزوج بعد بضعة أيام من وقوع الحادث السابق إلى السفر إلى جنوا، للقيام بإحدى المشاغل الضرورية التي تتطلبها طبيعة عمله
وذهبت بريتولا إلى القسيس مرة ثالثة عقب سفر زوجها مباشرة وقالت له وهي تبكي:
- لقد سبق أن قلت لك يا سيدي بصراحة أنه لا يمكنني أن أحتمل مضايقة تنكريد أكثر من ذلك. ولما كنت قد وعدتك بالا أقدم على عمل شيء قبل مشورتك، فقد جئت إليك اليوم لأشكو لك من صديقك تنكريد. . .
فذهل القسيس حينما سمع منها ذلك وسألها قائلا:
- ألا يزال هذا الملعون يضايقك؟؟ فقال له: بريتولا وهي تتظاهر بالحدة والغضب:
- نعم. ففي مساء الليلة الماضية دخل حديقة منزلي بعد أن علم بسفر زوجي إلى جنوا - ولست أدري كيف - وتسلق إحدى الأشجار إلى نافذة غرفتي، والتي كانت لسوء حظي مفتوحة في ذلك الوقت. وكنت على وشك أن أصرخ عندما رأيته في غرفتي لولا أنه توسل إلي ألا أفعل ذلك، ورجاني بأن أكون رحيمة به فلا أرتكب ما يلفت أنظار الناس إليه. وأقول لك الحق يا سيدي إنني خضعت لتوسلاته ولم أفعل شيئاً أكثر من أنني طردته من نفس النافذة التي جاء منها ثم أغلقتها وراءه بشدة. . .
وبعد أن سكتت برهة تابعت حديثها فقالت:
- والآن أرجو أن تحكم يا سيدي بنفسك في هذا الأمر وتخبرني هل في إمكاني أن أحتمل مضايقة تنكريد أكثر من ذلك؟؟ أو ليس من الواجب أن أخبر أخوتي بما فعله حتى يردوه إلى صوابه، ويعيدوا إليه ما عزب من عقله؟؟
واحمر وجه القسيس حينما سمع ذلك وفار دم الحنق والغضب حارا في عروقه وقال:
- وهل أنت متأكدة من أن الذي دخل غرفتك إنما هو تنكريد دون غيره؟؟
فأجابته بريتولا وهي لا تزال تبكي:
- وهل يمكنني يا سيدي أن أخطئ في معرفته بعد كل ذلك؟؟ فأنا واثقة تمام الثقة من أن الشخص الذي دخل غرفتي إنما هو تنكريد نفسه. وإذا تجاسر وأنكر ذلك أمامك - وهذا ما(176/63)
سيفعله بالطبع - فأرجو منك ألا تصدقه. . .
وبعد أن مرت بين الاثنين فترة سكوت قصيرة قطعها القسيس بقوله:
- إن ما فعلته يا سيدتي إنما هو الصواب بعينه؛ وقد قمت بواجبك خير قيام. ولست أنكر أن عمل تنكريد في منتهى الخسة والدناءة، ولكني مع ذلك استحلفك بالله أن تتركي هذا الأمر لي مرة أخرى دون أن تخبري أخوتك بشيء مما حدث؛ وسترين بعد ذلك إذا كان في إمكاني أن أقوم اعوجاج تنكريد. فإذا أفلحت كان بها، وإذا فشلت فسأترك لك الخيار في أن تتصرفي في هذا الأمر كما تشتهين. . .
وقبل أن تغادر بريتولا الكنيسة قالت للقسيس وهو يودعها:
- تأكد يا سيدي بأنني لن أضايقك بهذه المسألة بعد الآن. وقد استقرر رأيي على ألا أخبرك بشيء في هذا الموضوع مطلقا
وما كادت بريتولا تبرح الكنيسة حتى استدعى القسيس صديه تنكريد بعد أن استقر رأيه على أن يزجره زجرا شديدا وأن يعنفه تعنيفا قاسيا. ولما حضر قابله بوجه مقطب، ومظهر قاس، ثم انتحى به ناحية من الكنيسة وأخذ ينهال عليه بالشتائم واللعنات التي كانت تزداد حدتها شيئاً فشيئاً، بينما جلس الآخر في مكانه هادئا ساكنا كما لو كانت هذه الشتائم واللعنات موجهة إلى غيره! وأخيرا تضايق تنكريد من تأنيب القسيس وقال:
- ما الذي فعلته يا صحابي حتى استحق منك كل هذه الشتائم؟
فازداد غضب القسيس لهذا الإنكار وضحك ضحكة ساخرة ثم قال:
- ألا تدري ماذا فعلت أيها الأحمق؟ إنك تتكلم كما لو كان هذا الأمر لا يعنيك. . .
فتظاهر تنكريد بالدهشة وقاطعه بقوله:
- عن أي أمر تتحدث يا مولاي؟؟
فحملق القسيس في وجهه بشدة وقال:
- أين كنت في مساء الليلة الماضية؟؟
فأجابه تنكريد بهدوئه وسكونه المعتاد:
- لست أدري بالضبط يا سيدي!!
فازدادت ثورة القسيس ثم قال:(176/64)
- سأخبرك أين كنت أيها المخادع الشرير!!
وبعد أن استجمع شتات تفكيره تابع حديثه فقال:
- لقد دخلت حديقة بريتولا في مساء الليلة الماضية ثم تسلقت إحدى الأشجار إلى غرفتها، وكاد أمرك يفتضح لولا أنها أشفقت عليك ورأفت بك ولم تفعل شيئاً أكثر من أنها طردتك من نفس الطريق الذي جئت منه!!
ولم يغب عن بال تنكريد ماذا تقصده بريتولا من هذا الكلام الذي قالته للقسيس، وأخذ يفكر فيما يجب عليه أن يفعله في مساء تلك الليلة، ولكن القسيس ما لبث أن قطع عليه حبل تأملاته فقال:
- إنك تظن أيها المنافق أن في إمكانك أن تحمل هذه السيدة الفاضلة على حبك. . . ولكن لا! ولست أغالي إذا قلت لك انك أصبحت الآن أبغض الناس إليها، وأثقلهم على قلبها! وليس هذا فقط، بل أنك أمسيت في نظرها كالطاعون الذي لا يترك إنسانا إلا بعد أن يفتك به! حقا إنك لم تستمع لنصحي ولم تأبه لإرشادي، ولكني أؤكد لك بأن الأمر قد خرج الآن من يدي. فإذا لم ترتدع، فستضطر بريتولا إلى إخبار اخوتها أو زوجها بكل ما فعلته معها، وفي هذا كما تعلم ويل وعذاب لك. . .
وبعد أن هدأ تنكريد ثورة القسيس بوعوده وتوسلاته غادر الكنيسة وهو على أشد ما يكون من الفرح والسرور وفي المساء ذهب إلى منزل بريتولا ثم دخل الحديقة وتسلق الشجرة التي تؤدي إلى نافذة غرفتها، والتي تركتها مفتوحة لهذا الغرض. ولما دخل الغرفة قابلته حبيبته يشغف ظاهر وسرور عظيم، وتعانق الاثنان عناقا حارا وهما يشكران هذا القسيس الذي كان واسطة التعارف بينهما!
ومن بعد هذا اليوم أصبح العاشقان الفاسقان يتقابلان دون أن يحتاجا إلى وساطة هذا القسيس الطيب القلب!!
محمد عبد اللطيف حسن(176/65)
البريد الأدبي
كتاب عن البحر الأبيض
أضحى البحر الأبيض مسرحا للمنافسات الدولية المزعجة، وأضحت مشاكله من أعقد المشاكل الدولية وأخطرها؛ وقد ظهر أخيرا بالإنكليزية كتاب عن هذا البحر ومشاكله السياسة والعسكرية الكبرى بعنوان (البحر الخطر) بقلم الكاتب والصحفي الإنكليزي الكبير جورج سلوكومب؛ ويقسم الكاتب كتابه إلى خمسة أقسام يتحدث فيها عن المسائل السياسية والدولية والبحرية والعسكرية، ثم عن المشاكل والاحتمالات الغامضة التي تثيرها ظروف هذا البحر الجغرافية من جبل طارق إلى جزائر الدوديكانيز؛ ويمهد لمضوعه بنبذة تاريخية عن هذا البحر، والأمم التي قامت على ضفافه منذ غابر العصور، ثم يتحدث عن مركز إنكلترا في جبل طارق، وكونها تفيض على مفتاح البحر من غربه، ويقول إن سلامة جبل طارق وسلامة السيادة البريطانية هنالك تتوقفان على علاقة إنكلترا بالدولة التي تسيطر على قلعة سبتة المراكشية، وعلى استمرار حالة الحياد القائمة في ثغر طنجة.
وينوه المؤلف بموقف إيطاليا الحالي، ويقول: إنه أول موقف من نوعه تنازع فيه دولة عظمى سيادة بريطانية في هذا البحر منذ عصر نابوليون، ولأول مرة قد افتتحت قناة السويس، وتحولت تجارة الغرب إلى الشرق عن طريقها، وغدا البحر الأبيض شريانا حيويا للإمبراطورية البريطانية، تنهض دولة واقعة في منتصف الطريق، وتلقى إشارات لا ريب فيها بأنها تستطيع أن تقطع المواصلة بين جبل طارق وقناة السويس؛ ويقرن المؤلف ذلك بإحصاءات دقيقة عن القوات البحرية والعسكرية التي تملكها دول البحر الأبيض: فرنسا وإيطاليا ويوجوسلافيا وبلاد البلقان وتركيا.
ويعطف المؤلف بعد ذلك على مركز إيطاليا في ألبانيا وعلى مسألة العلائق المصرية الإنكليزية، وعلى مركز الدردنيل وموقف روسيا، ثم على نهضة البلاد العربية التي أخذت تبدو بكل شكل واضح؛ ثم يتحدث عن الحرب الأهلية الإسبانية، ويبين مكامن الخطر فيها على السلام الأوربي، سواء نجحت الثورة القائمة فيها أم أخفقت
ويشعر القارئ عند قراءة هذه الفصول القوية الواضحة التي يستعرض فيها المستر سلوكوب مشاكل البحر الأبيض، أن الخطر يجتم هنالك في كل ناحية من نواحيه، وإن هذا(176/66)
العامل الذي لم يحسب حسابه من قبل في السياسة الأوربية قبل أن تستكمل إيطاليا تسلحها وأهباتها العسكرية يغدو اليوم من أخطر وأهم العوامل التي يتوقف عليها سير السلام الأوربي وتتوقف عليها سلامة الإمبراطورية البرطانية.
عبقرية فنان مسلم
نوهت الصحف الفرنسية أخيرا بعبقرية فنان جزائري مسلم يدعى السيد محمد راسم، يعرض رسومه الآن في معرضه الخاص بباريس في شارع فوبور سانت أورنوريه. ومما قالته جريدة الايكودي باري في ذلك: إن المرء ليشعر بعاطفة من الهدوء والنبل والغبطة حينما يتأمل رسوم محمد راسم؛ وإن أولئك الذين يزعمون أن الزخرفة الإسلامية متماثلة يرون ما يبهرهم في تنوع النماذج التي يقدمها وفي طرافتها، وفي ذلك المزيج المدهش الذي يتجلى فيها سواء من حيث التناسق أو اللون أو الأسلوب؛ ومنه نماذج فارسية ومغربية ومصرية تنم كلها عما يحتوه الفن الإسلامي من فن التوازن والتناسق وقوة الإعراب والتأثير
ويعرض محمد راسم أيضاً صورا صغيرة بعضها يمثل مناظر تاريخية مشتقة من التاريخ الإسلامي، وبعضها يمثل مناظر عربية؛ كما أنه يعرض قطعا فنية من الخزف البديع تمثل مناظر مدهشة من وقائع القرصان الجزائريين في القرن السابع عشر، ومناظر الفرسان المسلمين
والواقع أن الفن العربي لم يفقد شيئاً من طرافته ولا أوضاعه التقليدية، وفي وسعه أن يعبر بكل قوة وبراعة عن مناظر عصرنا، وفي وسعه بنوع خاص أن يعبر دائما من تلك الأفكار والمناظر التي خلدها الشعر العربي وأذاعها في العالم بأسره
هذا قول الكاتب الفنان في الصحيفة الفرنسية، فما قول سادتنا المتفرنجين الذين ينكرون على الفن الإسلامي كل فضائله ومزاياه؟
جائزة نوبل للطب
من أنباء استكهلم (السويد) أن جائزة نوبل للطب والفسلجة لسنة 1936 قد تقرر منحها للأستاذ السير هنري هالت ديل عضو المجمع الوطني للمباحث الطبية بلندن، والأستاذ(176/67)
أوثوليفي النمسوي الأستاذ بكلية حراتس، وذلك لمباحثهما المتعلقة بالتأثيرات الكيماوية للمؤثرات العصبية.
والمعروف عن الأستاذ ليفي أنه أول من اكتشف أثر التفاعل الكيماوي في الاهتزاز العصبي، فإذا انطلقت الهزة إلى الأنسجة العصبية واستقرت في العضل نشأت عنها مادة كيمياوية في العصب النهائي، واستطاع العصب أن ينقل هزاته بواسطة هذه المادة.
وقد توسع السير هنري ديل في تطبيق هذه النظرية؛ وهو يقسم حسب مباحثه أعصاب الجسم إلى مجموعتين؛ فالمجموعة الأولى تفرز مادة كيماوية تسمى (الأدرينالين)، والمجموعة الثانية تفرز مادة تسمى (اكتلكولين)، وأهمية هذا التقسيم في أن هنالك مؤثرات معينة يمكن إحداثها في الأعضاء وفي هيكل الجسم بالحقن بمثل هذه الموارد وبمواد معينة تحدث أثرا يقلد في هزاته هزات الأعصاب الطبيعية
وجائزة نوبل للطب تبلغ نحو عشرة آلاف جنيه إنكليزي وستوزع مناصفة بين العالمين الكبيرين
شارل موراس محرر لاكسيون فرانسيز
قرأنا في الصحف الفرنسية الأخيرة نبأ اعتقال شارل موراس الزعيم والكاتب الملكي الشهير وزجه في سجن (سانتيه) ليقضي فيه عقوبتين حكم بهما عليه من جراء مقالات عنيفة كتبها في جريدة (لاكسيون فرانسيز) ضد بعض رجال الحكم؛ وشارل موراس كاتب وروائي من أعظم كُتاب فرنسا المعاصرين وصحفي من الطراز الأول، وقد اشتهر بنوع خاص بمقالاته في لاكسيون فرانسيز وما تمتاز به من تصوير عنيف وقوة نقدية لاذعة، وبلاغة ساحرة في نفس الوقت
وقد نشرت الصحف الفرنسية بهذه المناسبة بعض تفاصيل عن النظم المتبعة في تنفيذ أحكام الحبس التي يقضى بها في جرائم الرأي أو الجرائم السياسية، والتي عومل بها شارل موراس؛ وهي في الواقع نظم مريحة عادلة؛ فالكاتب المحكوم عليه يحجز في غرفة خاصة بها الأثاث الكافي، وله أن يستلم بريده الخاص من رسائل وكتب وصحف وغيرها كما أن له أن يستقبل زواره طبقا لقائمة يقدمها بذلك ويصادق عليها مدير البوليس؛ وله أن يطلب على نفقته ما شاء من ألوان الطعام إذا لم يوافقه طعام السجن، وأن يستبقي ملابسه العادية،(176/68)
وأن يستحضر منها ما شاء، كما أن له أن يتريض داخل السجن طبقاً لنظام معين.
وهكذا يستطيع الكاتب المعتقل أن يزاول داخل السجن عمله العادي من قراءة وكتابة. ومن ثم فان شارل موراس سيكتب مقاله كل يوم وتنشره لاكسيون فرانسيز كالمعتاد. وتتحدث الصحف على اختلاف نزعاتها عن الكاتب السجين بعطف، ويشير البعض إلى أن شارل موراس قد يرشح خلال اعتقاله لعضوية الأكاديمية الفرنسية.(176/69)
الكتب
1 - في سنن الله الكونية
تأليف الأستاذ محمد أحمد الغمراوي
1 - النتائج السياسية للحرب العظمى
ترجمة الأستاذ محمد بدران
للأستاذ محمود الخفيف
- 1 -
تفضل الأستاذ الغمراوي فأهدى إلي كتابه (في سنن الله الكونية) فرأيت وقد فرغت من قراءته أن أقدمه إلى قراء الرساله، ولكنني أحس أني كي أصف موضوع هذا الكتاب، وصفا صادقا، ولكي أقدره حق قدره في مثل هاتيك العجالة، ينبغي أن أتجاوزه إلى كلمة عن مؤلفه، وإن كنت أشعر أن ذلك سوف لا يرضيه.
يجمع الأستاذ بين خلتين قليل اجتماعهما لشخص: فهو من ناحية شديد الإخلاص لدينه مع التفقه فيه، ومداومة البحث في مسائله، حتى لكأنك منه حيال رجل يقصر على الأمور الدينية همه؛ وهو من ناحية أخرى رجل من رجال العلم المعروفين بالفطنة وسعة الاطلاع مع الدقة وحب البحث، ثم هو من الناحيتين يكاد يعطيك نموذجا صحيحا لتلك (الحلقة المفقودة) التي نتوق إلى وجودها لنصل بها ما بين الثقافتين العلمية والدينية
فإذا قلت لك بعد هذا أن الكتاب صورة من صاحبه فقد قربت موضوعه إلى ذهنك، واستطعت بعد أن أزيدك معرفة به
كان من حسن التوفيق أن انتدبت الجامعة ألازهرية الأستاذ الغمراوي فيمن انتدبت من الأساتذة، فهذا الكتاب (ثمرة تدريس علم سنن الله الكونية في السنة الأولى من قسم الوعظ والإرشاد بكلية أصول الدين. وعلم سنن الله الكونية هو العلوم الطبيعية مطبقة على الدين)
بدأ الأستاذ هذا الكتاب بفصل ممتع بين فيه بيان خبرة ووثوق أن ليس ثمة أي تناقض بين حقائق العلم وحقائق الدين، وهو يؤيد دعواه بالحجة مستشهدا بآي الذكر الحكيم، فلا يسعك(176/70)
إلا أن تسلم معه بأن (العلم قرآني بموضوعه) وأنه (قرآني بطريقته)، فقرآنية العلوم الطبيعية واضحة ملموسة فيما ورد في الكتاب الكريم من آيات التدبر والتفكر فيما خلق الله في السموات والأرض؛ وسبل العلم في طلب أسرار الفطرة أو في تفهم سنن الله في كونه هي السبل التي أمرَ القرآن باتباعها من حيث تمحيص الحقائق والاستناد إلى البراهين وتحكيم العقل. والاعتماد إلى جانب ذلك على المشاهدة.
راح الأستاذ بعد هذا يعرض المسائل العلمية التي يشتمل عليها كتابه، وهو فيها مقيد بمنهج دراسي خاص؛ وأحب أن أشير هنا إلى أني كنت احسبني قبل قراءتها حيال مسائل لا تهم كثيرا من يشتغل بالأدب، ولكني قرأتها في يسر واستمتاع وخرجت منها وقد كسبت من المعارف ما صرت أعتقد أنه لا غنى عنه لمن يطلب الثقافة. فالكتاب إذاً يستطيع أن يقرأه الإنسان على أنه كتاب عام لا كتاب مدرسي؛ وبهذه المناسبة يجدر بي أن أقرر أن الأستاذ قد توخى فيه سهولة العبارة وبساطة توجيه المسائل، وفي مثل هذا العمل لا ريب من العناء ما يعرفه كل من حاول أن يقرب إلى الأذهان موضوعات يعلم أنه يطرقها لأول مرة
هذا ولم يقف جهد الأستاذ المؤلف عند تبسيط المعلومات وحسن توجيهها، بل إنه تمشيا مع طريقة كتابه يقف عند المناسبات المختلفة ويشير إلى الآيات القرآنية التي تتصل بالموضوع فيعرضها في لباقة ووضوح مبينا لك مراميها وإعجازها في غير تكلف أو التواء، وتلك هي في الحقيقة حسنة الكتاب. وإذا كان لي أن آخذ على الأستاذ شيئاً، فذلك أنه مع مثل هذا الاستعداد وهذه المزايا، لا يخرج لنا كتابا واسعا يبسط فيه موضوع العلاقة بين العلم والدين، ذلك لأنه (إذا تم للإنسان هذا الجمع بين العلم والدين ثم ما يصح أن يسمى بعلم سنن الله الكونية، واستطاع الإنسان أن يدرس العلم بروح العبادة من غير أن يضحي بشيء من دقة العلم، وأن يدرس الدين ويطبقه بروح العلم من غير أن يضحي بشيء من عبادة الدين، وهنالك يتم للإنسان الاتحاد بين عقله وقلبه، وبين علمه ودينه، وهذا شيء ممكن تماما في الإسلام
- 2 -
يأتي بعد ذلك الكلام على الكتاب الثاني (النتائج السياسية للحرب العظمى). وهو كتاب ألفه بالإنجليزية الأستاذ رمزي ميور أستاذ التاريخ الحديث بجامعة منشستر سابقا، وترجمه إلى(176/71)
العربية الأستاذ محمد بدران، وقدمته لجنة التأليف والترجمة والنشر إلى الجمهور كحلقة من سلسلة معارفها العامة، تلك السلسلة المباركة التي أخرجت اللجنة عدة حلقات منها في نواحي المعرفة المختلفة من فلسفة وتربية وأدب وتاريخ وغيرها، والتي ستوالي اللجنة بعون الله إصدار بقية حلقاتها حتى تشمل جوانب النهضة العملية في مصر والعالم العربي.
أثرت الحرب العظمى تأثيراً عظيماً في مجرى تاريخ العالم وخلف ذلك الحادث من النتائج مالا تزال أوروبا حتى اليوم تخضع لمؤثراته. ولقد شمل أثر الحرب جميع نواحي الحياة من فكرية وفنية واقتصادية، ولكن أثرها في الناحية السياسية كان أبعد منه في غيرها، وعلى نوع هذا الأثر يتوقف مصير العالم بلا ريب في المستقبل القريب.
ولا نزاع في أن تتبع الأثر الذي أنتجته الحرب في العالم من أهم نواحي الثقافة العامة، ونحن من الوجهة السياسية على الخصوص لا نستطيع أن نفهم منشأ الحركات الدولية الحديثة، ولا أن نتبين مبادئها ومراميها دون أن نرجع في هذا كله إلى ما تمخضت عنه الحرب الكبرى. والكتاب الذي اضطلع بتعريبه الأستاذ بدران فأنجز مهمته على خير ما يرجى، كفيل بأن يعطيك فكرة واضحة قوية عما خلفته تلك الحرب (فهو خلاصة تاريخ العالم في دور من أدوار الانتقال لا يكاد يختلف عن الفوضى في شيء)، ومؤلفه أستاذ متضلع في التاريخ الحديث، ملم بتياراته واتجاهاتها، ولذا كان شديد التنبؤ لما أحدثته فيها الحرب، واضح الفكرة في تتبع الحوادث، حسن الأداء في عرضها، مما يجعلك تقرأ الكتاب في يسر ولذة، ومما يجعلك تغتبط أشد الاغتباط أن ترى مثل هذا الكتاب في متناول قراء العربية.
أما عن الترجمة، فلقد تجلت شخصية الأستاذ بدران فيها قوية متينة، فما تكاد تشع إلا كأنك تقرأ الأصل، فليس هناك غموض أو التواء في التعبير أو أية صعوبة في الأداء مما يصادفه المرء عادة في الكتب المترجمة؛ هذا إلى انتقاء دقيق للفظ العربي المطلوب مع الحرص على الإيجاز وإيراد المعنى في صورة واضحة. والحق أشهد أن الأستاذ بدران قد وفق في تعريبه إلى خير ما يطمع فيه المعرب المخلص النابه.
هنا ولقد ختم الأستاذ المعرب الكتاب بفصل من عنده هو (العالم بين يونيه سنة 1930 ويونيه سنة 1936، تكلم فيه عن النزاع بين الصين واليابان والمسألة الحبشية والحركة(176/72)
النازية وحوادث البلقان والشرق الأدنى، وهو فصل ممتع حقا رأينا فيه الأستاذ بدران كمؤلف حريصاً على الإتقان والتفوق حرصه على دقته فيما عرب مع صعوبة تناول مثل هذا الموضوع المتشعب في مثل هذا الحيز الصغير، وإنك لتقرأ هذا الفصل الأخير من الكتاب فتحس كأنك قرأت كتاباً كاملاً وتعجب كيف استطاع الأستاذ أن يلم بأطراف موضوعه في مثل هذا الإتقان.
الخفيف(176/73)
العالمِ المسرحي والسينمائي
الحروب الصليبية على ستار سينما رويال
لناقد (الرسالة) الفني
أنصف سيسل دي ميل الشرق في فلمه الأخير (الحروب الصليبية) في شخص صلاح الدين الأيوبي سلطان مصر، فدل بذلك على أن روحه روح فنان لم يتملكها التعصب ويحيد بها عن طريق الحق والواجب في تسجيل التاريخ على شريط السينما
فهو قد صور بطلنا الشرقي في الصورة المعروفة عنه من الشجاعة والنبل، صوره رجلا يأبى الوصول إلى أغراضه عن طريق الخسة والدناءة، ويترفع عن وسائل الغدر والخيانة، في حين أن الكثيرين من كتاب الغرب إذا ما عرضوا لشخصية شرقية مهما أيد التاريخ والحوادث عظمتها لم يتركوها دون مغمز، بل منهم من يخلق لها الحوادث المخزية ويروح يبذل جهده لإلصاقها بها، ويصور الشرق والجو الذي يحيط بالقصة في أشنع الصور وأشدها إلى النفس.
فإنصاف سيسيل دي ميل لصلاح الدين والشرق عمل جدير بالتقدير لاسيما وأنه صور الشرق في أوج عظمته عندما كانت الإمبراطورية المصرية في أقوى أيامها وبلاد الغرب في همجيتها ليس القراء في حاجة إلى أن نقدم لهم هذا المدير الفني العظيم، فهو أحد أركان النهضة السينمائية في أمريكا وأحد دعائمها، وله ماض حافل بالأفلام الهائلة الرائعة، ولكني إذا تحدث عنه لا يسعني إلا أن أشرح رأيه في السينما؛ فهو يرى أن السينما فن المجموعات وأنها لم تخلق لتعالج الموضوعات البسيطة أو الموضوعات الاجتماعية التي تعرض للإنسان في حياته الخاصة، وإنما خلقت لتعالج الموضوعات التي تشغل شعوب العالم والتي تتمثل فيها قوى الجماعة. فهي أليق ما تكون للروايات الاستعراضية أو الروايات التاريخية التي تتجلى فيها العظمة والقوة.
ولهذا كان دي ميل يعمد دائما إلى التاريخ يستلهمه مادة لقصصه السينمائية، ولا يختار من الوقائع والحوادث إلا ما يتلاءم مع العظمة والأبهة الكاملة وما يحتاج إلى مصروفات باهظة وأنت إذا تشهد أي فلم من أفلامه تعجب كيف استطاع هذا الإنسان أن يدير الفلم على هذه الصورة من الدقة وأن يخلق حول القصة الجو الصادق.(176/74)
وهذا الرجل إذ يعمد إلى التاريخ لا يتقيد بالحوادث التاريخية إلا أنه يتصرف تصرفا معقولا ويحافظ أشد المحافظة على الجو التاريخي. ومهارته لا تقف عند حد خلق الجو التاريخي الصادق وإظهار العظمة والأبهة، بل تتعداه إلى اختيار القصة التي تساير التاريخ وتلازمه، كما تحوي كثيرا من المواقف التمثيلية البديعة.
وأفلام دي ميل تدل على أنه رجل يميل إلى ما له علاقة بحوادث المسيحية فهو أدار (بن هور)، (علامة الصليب) ثم (الحروب الصليبية) فهل لهذه النزعة علاقة بأنه يقلب إحدى حقائق التاريخ الثابتة، وهي أن الصليبيين لم يأخذوا عكا عنوة وإنما سلمت بعد اتفاق عقد بينهم وبين صلاح الدين؟ لا أظن. وإنما الموقف التمثيلي بعد حرب الدبابات التي أظهرها اقتضى ذلك فلم يحجم عن تجاهل هذه الحقيقة كعادته.
قلت إن موضوع الفلم بديع وقد أمكن أن يساير التاريخ إلى حد معقول، ولكن ذلك لم يمنع دي ميل من أن يخالف بعض الحقائق التاريخية، وستكون قصة الفلم موضع حديثنا في العدد القادم، وسوف نقارنها بالتاريخ كما نقارنها بقصة ايفانهو للكاتب الإنجليزي المعروف والتر سكوت التي تحدث فيها عن صلاح الدين وريكاردس والتي اقتبس منها دي ميل الموقف الذي يقطع فيه ريكاردس قطعة الحديد بسيفه ويقطع صلاح الدين كذلك قطعة الحرير بسيفه أيضاً
أما المجهود الفني الذي بذله دي ميل فهو هائل، فالمناظر في غاية الروعة ومعدات الجيش كاملة مما أكسب الفلم قسطا من الحقيقة. وهو قد أعطى صورة صادقة لهجمات الصليبيين على عكا ودفاع المسلمين عنها. فلقد جاء في كتاب (صلاح الدين الأيوبي وعصره) تأليف الأستاذ الكبير محمد فريد أو حديد وهو حجة في تاريخ المماليك في حديثه عن حصار عكا:
(وقد أبلى في ذلك الشأن بلاء حسنا شاب من صناع دمشق فانه أدخل من التحسين على صناعة النار ما جعلها تحرق آلات الحصار المنيعة التي كان الفرنج يطلونها بطلاء يمنع تعلق النار بها. وكان أشد الآلات على المدينة الدبابات، وهي أبراج عالية ذات طبقات يركبها الجنود وتسير على عجل وفي مقدمتها حديد قوي فتصطدم بالأسوار فتصدعها، ثم يعمل الجنود المجتمعون بها في الأسوار فيهدمونها.
وقد تمكن ذلك الشاب المجتهد من إحراقها باختراع سائل يرميه أولا في قدور على هذه(176/75)
الدبابات ثم يقذف بعد ذلك النار فيلتهب ذلك السائل ولا يقاوم ناره شيء) أهـ
ورواد السينما يشهدون لسيسل دي ميل أنه أعطى صورة صادقة لكل ما ذكره الأستاذ فريد وأنا أعجب من دقة هذا المدير الفني في تصوير الحصار والهجوم هذا التصوير الصادق.
كذلك لا أنسى الموقعة التي قامت بين جيش ريكاردس وبين جيش صلاح الدين بعد أن دخل الصليبين عكا فقد كانت صورة جميلة لحرب الفروسية والشجاعة والأقدام، وقد تضاءلت أمام أعيننا الحروب الحديثة التي بدت قذرة أثيمة في وسائلها وأغراضها.
والتصوير دقيق والزوايا التي أخذت منها المناظر تدل على مهارة كبيرة، والشخصيات التي اختارها تطابق في كثير الشخصيات التاريخية، وما عرف عنها ولاسيما شخصية ريكادوس وصلاح الدين والراهب. ومن المواقف التمثيلية الرائعة موقف صلاح الدين أمام جميع الملوك المسيحيين وهم يقولون له (نحن ملوك عديدون) فيجيب بعظمة (وأنا ملك واحد).
أما ملابس صلاح الدين ففيها كثير من الأخطاء مما يدل على أن واضع النماذج لم يدرس الملابس الإسلامية، فقد ألبس صلاح الدين عباءة ملكية من القطيفة تشبه في كثير عباءة ملك فرنسا وهذا اللباس غريب عن مصر والشرق ولباس الرأس غريب كذلك، فصلاح الدين كان يلبس في غير الحرب العمامة دائما وهو لم يلبس العقال لأنه كردي لا عربي.
وعندما ظهر صلاح الدين في خيمته ومعه أسيرته أميرة نافار وزوجة ريكاردس شاهدنا فتاة تعزف على القيثارة وهذه القطعة الموسيقية رومانية وليست عربية والعرب والمصريون استعملوا من القطع الموسيقية العود والناي والمزهر (نوع من العود) وربما القانون، أما القيثارة فلم تكن أبداً بين القطع التي استعملوها.
ولقد اتخذ المسيحيون الصليب شعارا لهم فلم يقلدهم المسلمون في اتخاذ الهلال شعارا، فاتخاذ الهلال شعار إنما شاع في أيام الإمبراطورية التركية. وليس هنالك ما يمنع أن يضع صلاح الدين الهلال على رأسه ودرعه، ولكن ذلك ليس معناه أن الهلال كان شعارا كالصليب كما يفهم من الفلم.
إن دقة تصوير الفلم لريكاردس طبقا لما جاء في التاريخ على أنه ملك شجاع لا يعبأ بمظاهر الملك، مندفع لا يفكر في النتائج البعيدة، ولم يكن بالقديس الذي يعبأ بأمر الدين(176/76)
كثيرا، لم ترق في أعين الإنجليز، ولذلك منعوا عرض هذا الفلم في بلادهم
والفلم العظيم وهو أقوى من فلم (كليوباترا) وأقل من فلم (علامة الصليب)، ولكن يجدر بالمصريين أن يشهدوه ليروا عظمة صلاح الدين الذي كان يستمد قوته من مصر.
يوسف تادرس(176/77)
العدد 177 - بتاريخ: 23 - 11 - 1936(/)
زهرات على القبر
محمد فريد
بمناسبة ذكراه السابعة عشرة
ما كان أحقَّنا ونحن نجني ثمرات الجهاد، ونعقد أقواس النصر، ونحيي بطولة الزعماء ونحيي ذكرى الشهداء، أن نضع إكليلاً من الزهر الندى على قبر الشهيد الأول محمد فريد!
لقد أستشهد في مثل هذا الأسبوع الذي وقع فيه موافقة البرلمان على المعاهدة، واحتفال الشعب بذكرى الضحايا، فكيف غفل اللسان الذاكر وذهل الفؤاد العروف عن تحية المجاهد الصابر والمضطهد المهاجر والصريع المحتسب؟ وما أقلَّ التحية للذين نفروا لخلاص الوطن لا يبتغون ثراء ولا دعة، وهاجروا في سبيل الحرية لا يجدون مراغماً ولا سعة، ولفظوا أنفسهم في منازح الغربة ومضاجع البؤس حسرة فحسرة!
هذه دورهم، كان للعزة في أفيائها مَرَاد، وللنعمة في أفنائها ربيع، فتقوض فيها المجلس وانصرف عنها اللاجئ وتعاقب عليها مالك بعد مالك! وهذه قبورهم، تناوحت عليها سوافي الرياح فطمست الشاهد وأبهمت الأثر وتناهبها هالك بعد هالك! وهذه ذكرياتهم، ملأت المسامع وعمرت القلوب حيناً من الدهر، ثم أوشكت اليوم لكنود الناس أن تغوص في لجج النسيان والعدم! وهذه أرواحهم، كانت في المحن السود تباكرنا بالعزاء وتراوحنا بالأمل وتغادينا بالمعونة، ثم أقبلت ساعة النصر تخفق فخورة مع العلم، وتصفق مؤيدة مع البرلمان، وتهتف مبتهجة مع الأمة، ولكنها لم تسمع وا أسفاه من بادلها تحية برحمة، وجازاها وفاء بدعاء!
إن الشريعة تنسخ الشريعة، والفكرة تطرد الفكرة، والجديد يخلف القديم، ولكن الجهاد في سبيل الوطن غاية لكل جيل في طريقها خطوة، وبناية لكل عامل في إقامتها حجر؛ والخطوط اللاحقة لا ترد الخطوة السابقة، والحجر الأعلى لا ينقض الحجر الأسفل. والمثل العليا من الرجال قليلة في عهدنا الحديث؛ فما أولانا أن نضن بهم على الفناء، فننصب تماثيلهم في كل ميدان، وندرس تاريخهم في كل معهد، ونرفع ذكرهم في كل مناسبة.
وا حسرتاه على حظ فريد من أمته! حبس عليها ثروته ورضى بالجوع، ورصد لها قوَّته وصبر على المرض، وضحى لها أسرته وعاش على التشريد، ثم كان نصيبه منها بِرّاً لا(177/1)
يسعف، وتقديراً لا يدوم، وذكراً لا يتصل، وقبراً لا يعرف!
كان فريد - برد الله ثراه وخلد ذكراه - سليل مجد وربيب نعمة وحليف جاه؛ وكان سبيله في الحياة سبيل كل أمير وكل كبير: يغتصب ثروته من عرق العامل، وقوته من دم الفقير، ومسرته من دمع البائس، وجبروته من ظلم الضعيف؛ ولكنه تنكب طريق المترفين واتبع هادي الفطرة، فدخل به في سواد الشعب وقرّنه في أغلاله وشركه في ذله، فدفعته الجِبِلَّة الحرة إلى أن يتطوع لإنهاضه بجهده. ويتبرع لإنقاذه بماله؛ ثم أتصل برسول الوطنية يومئذ مصطفى كامل، فكان منه مكان أبي بكر من محمد، ومصطفى النحاس من سعد؛ رفع معه ألوية الجهاد على سواعد الشباب الفتيه، ثم خلفه على تكاليف الدعوة من جهد وبذل وتضحية، فاستمر ينفخ فيما يشبه الرماد، ويصيح فيما يقارب الجماد، حتى أشتد عليه أذى المحتلين وكيد المنافقين فهاجر ناجياً بحريته وفكرته؛ ولاذ بالأستانة يبتغي بها متنفساً لآمال مصر، ومضطرباً لعزائم الشباب، فكان في هذه المدينة ذات الأستار والأسرار والحفر قبساً من الحق الساطع الصادع يبعث في قلوب المصريين المهاجرين والطلاب بالضوء والحرارة.
كان يدعو شبابنا الوديع إلى الثقافة الحربية في المعاهد العسكرية التركية استعداداً لليوم الموعود والحدث المنتظر؛ وكانت الحرب الكبرى قد انفجرت دواهيها على العالم يومئذ، فحاول أن يكون لمصر من أعقابها المجهولة مغنم. وكأنما دس عليه أهل الأفك، أو عارضت أطماعه أطماع الترك، فأتمروا به ليحاكموه، ففر خفية إلى برلين؛ وهناك أراده الألمان على أن يكون وسيلة من وسائل الحرب السرية في الشرق، فأبى عليه خلقه الصريح وجوهره الحر أن يكون أداة ليعيش. وتفرق عنه الرفاق إلى موارد الرزق الممكنة، وأنقطع عنه المدد من مصر ومن غير مصر، فعمل عمل الأجير، وعاش عيش الفقير، يتبلغ بما يمسك الرمق، ويكتسي بما يستر الجسم، ويأوي إلى غرفة في بعض السطوح يكايد فيها المرض والفقر والوحدة والغربة، حتى أدركه الموت البائس الخامل وهو في غيابة برلين المقهورة الباكية، ليس فيه إلا فم يهتف للحرية، وقلب يخفق لمصر!
إن فريداً كان مثال الفكرة السليمة والوطنية القويمة والرجولة الكاملة والتضحية المؤمنة. بذل في سبيل الوطن، ما بذل عثمان في سبيل الدين، ثم كانت عاقبة أمره أن مات كما مات(177/2)
عثمان شهيداً غير مفهوم؛ ولكن الله جازى فريداً كما جازى عثمان: جعل أسمه للخلود وروحه للخلود!
أحمد حسن الزيات(177/3)
4 - القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أما صاحب القلب المسكين فما كاد يرى الحبيبة وهي مقبلة تَتيمَّمنا حتى بغته ذلك فساوره القلق، واعتراه ما يعتري المحب المهجور إذا فاجأه في الطريق هاجره. أرأيت مرة عاشقاً جفاه الحبيب وأمتنع عليه دهراً لا يراه، وصارمه مدة لا يكلمه؛ فنزع نومه من ليله، وراحته من نهاره، ودنياه من يده؛ وبلغ به ما بلغ من السقم والضنى؛ ثم بينا هو يمشي إذ باغته ذلك الحبيب منحدراً في الطريق.
إنك لو أبصرت حينئذ قلب هذا المسكين لرأيته على زلزلة من شدة الخفقان، وكأنه في ضرباته متعلم يكرر كلمة واحدة: هي هي هي.
ولو نفذت إلى حس هذا البائس لرأيته يشعر مثل شعور المحتضر أن هذه الدنيا قد نفته منها.
ولو أطلعت على دمه في عروقه لأبصرته مخذولاً يتراجع كأن الدم الآخر يطرده.
إنها لحظة يرى فيها المهجور بعينيه أن كل شهواته في خيبة، فيردُّ عليه الحب مع كل شهوة نوعاً من الذل، فيكون بازاء الحبيب كالمنهزم مائة مرة أمام الذي هزمه مائة مرة.
لحظة لا يشعر المسكين فيها من البغتة والتخاذل والاضطراب والخوف إلا أن روحه وثبت إلى رأسه ثم هوت فجأة إلى قدميه.
غير أن صاحبنا لم يكن مهجوراً من صاحبته؛ ولكن من عجائب الحب أنه يعمل أحياناً عملاً واحداً بالعاطفتين المختلفتين، إذ كان دائماً على حدود الإسراف ما دام حباً، فكل شئ فيه قريب من ضده. والصدق فيه من ناحية مهيأ دائماً لأن يقابل بتهمة الكذب من الناحية الأخرى، واليقين مُعدٌّ له الشك بالطبيعة، والحب نفسه قضاء على العدل، فأنه لا يخضع لقانون من القوانين، والحبيب - مع أنه حبيب - يخافه عاشقه مع أنه حبيب.
وقد يصفرّ العاشق لمباغته اللقاء كما يصفرّ لمباغته الهجر، وهذه كانت حال صاحبنا عندما رآها مقبلة عليه؛ وكان مع ذلك يخشى إلمامتها به توقياً على نفسه من ظنون الناس، وأكثر ما يحسنه الناس هو أن يسيئوا الظن؛ وهو رجل ذو شأن ضخم ومقالة السوء إلى مثله سريعة إذا رُؤى مع مثلها. وكأنما هي ألمت بكل هذا أو طالعها به وجهه المتوقر المتزمت؛(177/4)
فعدلت عن طريقها إلينا ووقفت على رئيس فرقة الموسيقى وما بيننا وبينها إلا خطوات. ورأيتها قد هيأت في عينيها نظرة غاضبتنا بها ثم لم تلبث أن صالحتنا بأخرى.
وكأنها ألقت لرئيس الموسيقى أمراً ليتأهب أهبته لدورها ثم همت أن ترجع، ثم عادت إليه فجعلت تكلمه وعيناها إلينا، فقال صاحبنا وأعجبه ذلك من فعلها: أنها نبيلة حتى في سقوطها.
ولا أدري ماذا كانت تقول لرئيس الموسيقى، ولكن هذا الرجل لم يظهر لي وقتئذ إلا كأنه تليفون معلق.
كانت عيناها إلى صاحبها لا تنزلان عنه ولا تتحولان إلى غيره، ولا تُسارقه النظر بل تغالبه عليه مغالبة؛ ورأيته كذلك قد ثبتت عيناه عليها فخيل إلى أن هذا الوجود قد أنحصر جماله بين أربعة أعين عاشقة؛ وكانت تطارحه ويطارحها كلاماً مخبوءاً تحت هذه النظرات وقد نسيا ما حولهما وشعرا بما يشعر به كل حبيبين إذا التقيا في بعض لحظات الروح السامية: أن هذا العالم العظيم لا يعمل إلا لأثنين فقط: هو وهي.
وكان فمها الجميل لا يزال يساقط ألفاظه لرئيس الموسيقى، وكأنها تسرد له حكاية مروية أو تعارض بحافظته كلاماً تحفظه من كلام التمثيل أو الغناء؛ فهي تتحدث وعيناها مفكرتان شاخصتان، فلم ينكر الرجل هيئتها هذه؛ ولكن كيف كانت عيناها؟
لقد أرادت في البدء أن تجعل قوة نظراتها كلاماً، حتى لحسبت أن هذه النظرات الأولى تهتف من بعيد: أنت يا أنت.
ثم بدأ في عينيها فتور الظمأ: ظمأ الحب المتكبر المتمرد، لأنه حب المرأة المعشوقة، وأن له لذتين: إحداهما في أن يبقى ظمأ إلى حين. . .
ثم أرسلت الألحاظ التي تتوهج أحياناً فوق كلام المرأة الجميلة في بعض حالاتها النفسية، فتضرم في كلامها شرارة من الروح تظهر الكلام كأنه يحرق ويحترق. . .
ثم توجعت النظرات لأنها تصلها بالرجل الذي لا يشبه الرجال فلا يستوهب خضوعها ولا يشتريه؛ والرجل كل الرجل عند مثل هذه المرأة هو الذي لا يشبه الباقين ممن تعرفهم، فإذا أحبها فكأنما أحبها عذراء خَفِرةً لم تُمس، وكأنه من ذلك يصلها بماضيها وطهارتها وحيائها وما لا يمكن أن تتمثله إلا في مثل حبه.(177/5)
ثم ذبلت عيناها الجميلتان، وما هو ذبول عيني امرأة تنظر إلى محبها؛ إنه هو استسلام فكرها لفكره، أو عناد معنى فيها لمعنى فيه، أو توكيد خاطرة تحتاج إلى التوكيد؛ ومرةً هو كقولها: لماذا؟ وتارةً هو كقولها: أفهمت؟ وأحياناً، وأحياناً هو انتهاء مقاومة.
وتمت الحكاية المروية التي كانت تلقيها للتليفون. . . فكرَّت راجعة إلى المسرح بعد أن صاحت نظراتها مرة أخرى كما بدأت: أنت يا أنت. . .
فقلت لصاحبنا: ويحك يا عدو نفسه! لو اختار الشيطان عينين ساحرتين ينظر بهما إليك نظر الفتنة لما أختار إلا عينيها في وجهها، في هيئتها، في موقفها؛ وأراك مع هذا كمنتظر ما لا يوجد ولا يمكن أن يوجد؛ وأراها معك في حبها كالحيوان الأليف إذا طمع في المستحيل.
قال: وما هو المستحيل الذي يطمع فيه الحيوان الأليف؟
قلت: ذلك حين يطمع في أن تكون له حقوق على صاحبه فوق الألفة والمنعة.
قال: لقد أغمضت في العبارة فبين لي شيئاً من البيان.
قلت: هب كلبةً تألف صاحبها وتحبه فهي له ذليلة مطواع، ثم يبلغ بها الحب أن تطمع في أن يكون لها تمام الشرف، فلا يقول صاحبها عنها هذه كلبتي، بل يقول هذه زوجتي. . .
قال: وي منك، وي منك؛ لقد ضربت على رأس المسمار كما يقولون. هذا هو المستحيل الذي بيني وبينها، هذا هو المثل. يا لفظ الحلوى، يا لفظ الحلوى! لو كررتك بلساني ألف مرة، فهل تضع في لساني طعمها. . .؟
قلت: خفض عليك يا صاحب القلب المسكين فلست أكثر من عاشق.
قال: بل أنا مع هذه أكثر من عاشق، لأن في العاشق راغباً وفيَّ أنا راهب، وفيه الجريء وفيَّ المنكمش، ويغترف الغرفة من الشلال المتحدِّر فيحسوها فيرتوي، وأغترف أنا الغرفة بيدي، وأبقيها في يدي، وأطمع أن تهدر في يدي كالشلال. . . . أنا أكثر من عاشق، فإنه يعشق لينتهي من ألم الجمال، وأعشق أنا لأستمر في هذا الألم.
هذه هذه. العجيب يا صديقي أن خيال الإنسان يلتقط صوراً كثيرة من صور الجمال تجئ كما يتفق، ولكنه يلتقط صورة واحدة بإتقان عجيب هي صورة الحب؛ فهذه هذه.
ألم أقل لك أن إبليس هنا في غير حقيقته الإبليسية ولم تفهم عني؟ فأفهم الآن أننا إن كنا لا(177/6)
نرى الملائكة فأنه ليخيل إلينا أننا نراها فيمن نحبهم؛ وما دام سر الحب يبدل الزمن والنفس ويأتي بأشياء من خارج الحياة، فكل حقائق هذا الحب في غير حقيقتها.
هذه هذه. لا أطلب في غيرها امرأةً أجمل منها، فهذا كالمستحيل، ولكن التمسن فيها هي امرأةً أطهر منها، وهذا كالمستحيل أيضاً. أنها أجمل جسم، ولكن وا أسفاه! إنها أجمل جسم للمعاني التي يجب أن أبتعد عنها.
وسكت صاحبنا إذ رفعت ستارة المسرح وظهرت هي مرة أخرى. ظهرت في زينة لا غاية بعدها تمثل العروس ليلة جلوتها. ألا ما أمرَّها سخرية منك أيتها المسكينة! عروس ولكن لمن؟
كانت تبرق على المسرح كأنها كوكب درى نوره نور وجمال وعواطف شعر.
وأقبلت تتمايل بجسم رخصٍ لين مسترسل الأعطاف يتدفق الجمال والشباب فيه من أعلاه إلى أسفله.
وأظهر وجهها حسناً وأبدى جسمها حسناً آخر فتم الحسن بالحسن.
واقفة كالنائمة، فالجو جو الأحلام، وكان الحب يحلم، وكان السرور يحلم.
مهتزة كالموج في الموج. هل خلقت روح البحر في جسمها المترجرج فشئ يعلو وشئ يهبط وشئ يثور ويضطرب؟
ثم دقت الموسيقى بألحانها المتحركة، وأحسسنا كأن روح الحديقة جالسة بيننا تنظر إليها وتتعجب. تتعجب من قوامها للغصن الحي، ومن بدنها للزهر الحي، ومن عطرها للنسيم الحي.
أما صاحب القلب المسكين؟
(يتبع)
مصطفى صادق الرافعي(177/7)
الوهم
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أكثر ما يقعد الإنسان عن الطلب، أو يصده عن السعي أو يصرفه عن الإقدام، وهي لا حقيقة؛ وقل أن يقدم الذي يطول تفكيره ومشاورته لنفسه؛ ويندر أن يفوز بالطيبات في هذه الدنيا إلا الجسور أو (الفاتك اللهج) كما يقول بشار، أي الذي لا يتردد ولا يضيع الوقت والفرص في الموازنات والمعادلات وحساب العواقب والمغبات.
تكون مع المرأة التي تحبها، فتحدثك نفسها أن تبثها ما تجد، أو على الأقل أن تثني على جمالها أو ذوقها في اختيار ثيابها. فتتردد مخافة أن يسوء وقع ما تقول في نفسها وان تعد ذلك منك تسحباً واجتراء عليها، فتحجم، وتمتعض هي، لأنك خيبت أملها فيك ورجاءها عندك. وقد لا تحب المرأة الرجل، ولكنه لا يسوئها منه أن تعترف أن يحبها، ولا يثقل عليها أن يثنى بما يعلم وما يتخيل أيضاً؛ والمرأة تنتظر من الرجل أن يشعر بجمالها وأنوثتها قبل أن يشعر بعقلها أو علمها أو أدبها أو غير ذلك مما يجرى هذا المجرى. وكثيراً ما تقرأ لي الفتيات ما يكتبن أو ينشدنني ما ينظمن، حتى إذا فرغن من التلاوة تعمدت أن أهمل ما سمعت منهن وذهبت أصف لهن ما وقع في نفسي من صوتهن وهيئتهن وهن يقرأن، وكيف كان النسيم يعبث بذلاذل الثوب ويكشف عن سيقانهن البضة، وكيف أن خصورهن كن يغرين بالتطويق، وشفاههن وهي تتحرك وتلتقي وتفترق، وتختلط من فرط الأثر بالمعاني المصورة في الكلام، تحمل على اشتهاء القبلات الطويلة، ولا أراهن يغضبن لذلك أو يتجهمن، أو حتى يتكلفن العبوس والقطوب، بل تشرق وجوههن ويشيع فيها البشر، وتومض عيونهن وميض الجذل والاغتباط والرضى، وأنا أفعل ذلك لأسرهن وأشرح صدورهن لأهرب من إبداء الرأي في كلام لا أرى فيه قيمة أو وزناً فننتقل بسهولة إلى حديث آخر نخوض فيه، وتطوى الورقات وتدس في الحقائب، ونحن نسح بالكلام، ثم ينصرفن راضيات مسرورات شاكرات، وأبقى أنا أو أذهب، ولا أكون قد رددت نفسي على مكروهها.
وقد جربت الناس فلم أجد ما يريح مثل الاجتراء عليهم. كنت في بعض ما مر بي مضطراً إلى الاتصال في عملي برجل سريع البادرة عظيم الغرور متقلب الرأي فلا راحة لإنسان(177/8)
معه، وآثرت الملاينة في أول الأمر وقلت: أسايره خطوة أو خطوات لأجره باللباقة والكياسة إلى حيث أريد من حيث لا يشعر هو. فكان يفطن إلى حيلتي في بعض الطريق فينبو في الزمام، فخطر لي أن المنطق والحجة لعلهما أجدى، فصرت أجادله بالتي هي أحسن ولكن بالبرهان والبينة، فكان يتململ ويتأفف ولا يكتم ضجره مني وكراهته للجاجتي، فضاق صدري يوماً وخرجت معه عن طوري - على ندرة ذلك جداً - ولم أستطع أن أملك زمام نفسي، فأسمعته من رأيي فيه ما أعتقد أنه أوجع ما سمع في حياته، فما راعني إلا استخذاؤه وإلا أنه أذعن، وراح بعد ذلك يتقي أن يثير غضبي ويخشى بادرتي أشد الخوف. فاسترحت.
وقد يظن القارئ أني أشير بالتوقح على الناس وسوء الأدب معهم، وما أريد شيئاً من هذا، وإنما أقول أن احترامك لغيرك لا ينفي أو يمنع أن تحترم نفسك؛ ومن احترام النفس أن تكون صريحاً وحازماً، والصراحة والجرأة ليس معناها قلة الأدب، فأنك تستطيع أن تذهب في الصراحة إلى أبعد مدى وأن تتحفظ مع ذلك بالأدب. ومتى عرف الناس فيك الصراحة ألفوا منك الشجاعة، اقتنعوا بذلك ووطنوا أنفسهم عليه وأعفوك من كثير مما تكره.
وقد قص عليّ بعضهم حكاية شاب اتخذت منه زوجته دابة، فهو لا يفعل إلا ما تأمر، ولا يخرج أو يدخل أو يقوم أو يقعد أو يأكل أو يشرب إلا إذ أذنت له، وقيل لي إنها هي التي تنتقي له ثيابه وتختار له ما يوائمها من قميص وربطة وحذاء إلى آخر ذلك. وتأمره فيصادق هذا ويخاصم أو يعادي ذاك، ويصل فلاناً ويقاطع فلاناً، فعجبت! وسألت محدثي: وماذا يخيفها منها؟ أهو يخشى أن تأكله إذا أعترض أو أبى أو تمرد على هذا السلطان؟ فهز محدثي رأسه ولم يستطع أن يذكر لي سبباً معقولاً. وما أزال إلى هذه الساعة عاجزاً عن تصور ما تستطيع هذه المرأة أن تصنع إذا أنتفض زوجها على هذا الاستبعاد؟ هي وقفة واحدة يقفها الرجل فلا يسع امرأته إلا أن تلزم حدها وتترك له حقه في نفسه. وهذه الوقفة لا تحتاج إلى ثورة، ولا تطلب أن تقوم قيامة البيت، بل لعل الهدوء أحجى وضبط الأعصاب أجدى. وما أظن امرأة تكبر رجلاً يكون عنانه في كفها الرخص، ولا شك أنها لا تنفك تحتال لتخضعه من حيث لا يشعر ولا يدري، والرجل الرشيد يدرك ذلك ولا يخفى عليه أنها تدور من ورائه لتحمله على ما تريد فيلين لها ليرضيها ويسعدها بالشعور بالنجاح(177/9)
ويجعلها بذلك ألين في يده من ناحية أخرى. وحياة الرجل والمرأة مناوشات مستمرة، ولعلها أشبه شئ بالحرب التي تشنها العصابات المتحصنة في رؤوس الجبال على الجيوش المنظمة. وقدرة الرجل وسطوته معترف بهما، ولكن المرأة لا تقر لهما الإقرار التام ولا تزال تختبئ وتطلق قذيفتها. وخير للرجل وأجلب لراحته أن يدع لها فرصة كافية لإصابة الهدف، فتسكن نفسها وترضى عن حالها، وإلا دفعها إلى التمرد الصريح. ولكنه ينبغي أن يكون له وجود وكرامة، وإلا خسر احترامها له. واحتفاظه بكرامته واستقلاله وحريته لا يكلفه إلا أن توقن هي أنه لا خير في محاولة إخضاعه لها.
وقد زاولت التعليم عشر سنين فما أذكر أني احتجت يوماً أن أعاقب تلميذاً، ولو تمردوا علي لما وسعني شئ فإني واحد وهم كثر، ولو انتفضوا على نظام المدرسة لما استطاعت أن تكرههم عليه، ولكن التلميذ يتوهم البأس والشوكة والسطوة والقوة، ويرهب ما يتوهم، ويطول عهده بذلك فيتقرر في نفسه. وقد كنت وأنت معلم لا أحجم عن مصارحة تلاميذي بأن سلطان المدرس خيالي ولا حقيقة له، وأنهم لو شاءوا لتناولوني وقذفوا بي من النافذة، وقذفوا بالمدرسين جميعاً وبالناظر أيضاً ورائي، وكنت أراهم يبتسمون لما يسمعون مني، ثم يعودون إلى ما ألفت منهم من حسن الإصغاء وشدة الحرص على النظام.
وكبر أبني وصار أطول مني قامة، وأنا الآن كهل وهو شاب، وقد توخيت في تربيته أن أدعه حراً، وأن أجعله يشعر باستقلاله، ومع ذلك لا أراه يجترئ الاجتراء الذي أتوقعه وأريده ويسرني أن أراه منه، لأنه يهاب ذلك السلطان الذي درج على إكباري والإقرار له منذ الصغر. فهو لا يزال طفلاً بالقياس إلي فيما أرى، وأنه لكذلك إذا اعتبرنا التجربة والعلم وما إلى هذا ولكن وهم الأبوة، أو سلطانها، أو لا أدري ماذا، يصده حتى عما لا بأس منه ولا ضير، ولا عيب فيه، ولا خوف من الزجر عليه. وأنا أيضاً كنت طفلاً - كما لا احتاج أن أقول - وكان هذا شأني، لأن للعادة سلطانها.
ولو جرب الناس الشجاعة والأقدام لأدهشتهم أن ما كان يخافونه أو يتقونه أو يتوقعونه، لا وجود له، وأنه لم يكن سوى وهم ليس إلا. وأكرر أني لا أحض على تجاوز الحدود، فليس من حسن الأدب أن يكون المرء جباناً أو ذليلاً، ولا من سوئه أن يكون عارفاً بحقوقه حريصاً عليها وجريئاً في سعيه وصريحاً في قوله، أي مخلصاً في نفسه.(177/10)
إبراهيم عبد القادر المازني(177/11)
في الأدب المقارن
أثر البيئة في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
طبائع الإنسان ومواهبه متماثلة حيثما حل من بقاع الأرض، ومجتمعاته متشابهة الظواهر أينما قامت. تتشعب بين أفراد كل مجتمع إنساني عوامل التعاون والتنافس والتحاب والتباغض والمطامع والمخاوف، غير أن للبيئة أثرها في تشكيل المجتمع الإنساني الذي تحيط به، بما تعرض أمام أبصاره وأذهانه من مناظر ومسائل تحجب عنه غيرها، وما تفرض عليه من أعمال يمارسها دون سواها، ويكون لهذا وذاك أثره البين في لغة المجتمع وأدبه، مقروناً إلى أثر الطبائع والمواهب التي تشترك فيها الأمم جمعاء.
فللبيئة في أدب كل لغة ثلاثة آثار بعيدة المدى: فهي أولاً تؤثر في مبنى اللغة وأصواتها وألفاظها وتعابيرها وتشبيهاتها ومجازاتها وأمثالها السائرة وحكمها المتواترة، فكل ذلك منتزع من طبيعة الإقليم؛ وهي ثانياً تؤثر في مهن المجتمع وعلومه وفنونه وعمرانه وينعكس كل ذلك في مرآة الأدب؛ وهي أخيراً تعرض دائماً أبداً أمام أنظار الأدباء وحواسهم مناظر طبيعية بذاتها، تسترعي انتباههم وتستجيش نفوسهم وتلهمهم كل ما تجود به قرائحهم في باب عظيم الخطر من أبواب الأدب هو باب الوصف الطبيعي.
وأثر البيئة في الأدبين العربي والإنجليزي واضح وضوحاً شديداً يكاد لروعته يخفي أثر الطبيعة الإنسانية التي تشترك فيها الأمتان ويتفق عندها الأدبان، فإن تباين البيئتين تبايناً شديداً أدى إلى اختلاف اللغة والمهن والعمران والمناظر في المجتمعين، وأدى بالتالي إلى اختلاف أشكال الأدبين وصورهما ومواضيعهما وأساليبهما؛ ويمكن إيجاز التعبير عن الفرق بين الأدبين بالقول بأن أحدهما شب في بيئة صحراوية والآخر ترعرع في بيئة بحرية.
نشأ العرب في البادية فجاءت لغتهم مشرقة الديباجة متينة البناء قوية التعبير غنية الاشتقاق منتظمة أوزان الشعر متعددتها وحفلت بأسماء ظواهر الطبيعة البرية وحالاتها، وأسماء حيوان البادية وأطوار حياته، واشتقت تشبيهاتها ومجازاتها وأمثالها من القمر والنجوم والكثيب والقطا، والمُنبتِّ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وورود الماء بماء أكيس، وإلقاء الحبل على الغارب. ولعدم ملاءمة البادية لغير الأدب من الفنون عظمت مكانته(177/12)
بينهم.
واشتغل العرب في البادية بالتجارة ينقلونها بين الشرق والغرب، فامتلأت لغتهم بمصطلحات التجارة بعضها عربي وبعضها منقول عن الأمم التي بادلوها التجارة، وامتلأ أدبهمبالتشبيهات المنتزعة من أحوال التجارة: فالقرآن الكريم يكرر في غير موضع تشبيه الخير والشر بالنجدين، وذكر الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم؛ وعنترة يقول:
حصاني كان دلال المنايا ... فخاض غمارها وشرى وباعا
وبثت حياة البادية في العرب صفات الحمية والشجاعة والحرية والأنفة أن يدينوا لملك، وظهر أثر كل ذلك جلياً في أدبهم؛ وأشهر أمثلة ذلك معلقة عمرو بن كلثوم، فهي ديوان العرب في الحماسة؛ وأدى إباؤهم ودوام انتجاعهم الكلأ إلى استمرار المناوشات والوقائع بين قبائلهم، وانعكس ذلك في مفاخراتهم ومنافراتهم نثراً وشعراً.
وهذه الصفات الشماء التي تلزم حياة التبدي جعلت العرب ينظرون شزراً إلى الزراعة والصناعة اللتين لم يكن لهما مجال في البادية، ويحتقرون الزراع والصناع الذين تسترقهم الأرض وتستعبدهم المادة، ولا يرون الشرف والعزة إلى في رعي الإبل والتجارة والقتال. فالأخطل يعيّر بني النجار بمساحيهم، وآخر يفاخر غريمه فيقول:
لحا الله أَلاْمَنَا نسبا - وأجدرنا أن ينفخ الكيرَ خاله - يصوغ الشنوف والقروط بيثربا
والحق أن الشعر الجاهلي مهما يكن قد داخله من تزييف يمثل الجانب الاجتماعي من حياة العرب في الجاهلية تمثيلاً رائعاً؛ ولا يمكن تصور حالة العرب في ذلك العهد إلا على ما وصِفت في أشعار طرفة ومهلهل وأمثالهما.
أما مناظر البادية الطبيعية المتشابهة الشديدة الوطأة، فيبدو أنها لم تُشرب العرب من حب الطبيعة مقدار ما بثت في نفوسهم من رهبتها والحرص على اتقائها، ولم تلهمهم من أشعارٍ في وصف محاسنها قدر ما أوحت إليهم من أشعار في التأمل في أحوالها والاستعبار والخشوع، فلا غرو لم تخرج الصحراء شعراء طبيعيين يصفون محاسن المناظر، كتلك التي تحفل بها الإلياذة والأوديسة، وإنما أخرجت أنبياء وحكماء في شتى عصورها.
وتحضّر الشعب الإنجليزي في جزيرة تحيط بها البحار، وتجري فيها الأنهار، وتتخللها(177/13)
البحيرات، وتتوالى عليها الأمطار والثلوج والسحاب والضباب، ويتعاقب فيها الصحو والدجن، وتنتشر في أرجائها الغابات والآجام، وتتتابع فيها الربى والقيعان، فامتلأت لغتهم بأوصاف البحر والغاب، وأسماء ما أسكنوهما من جان، واشتُقت منهما تشبيهاتهم وأمثالهم، فاستُعير الضباب لحالة الشك والإبهام، والسحاب للحزن والقلق، وقالوا في أمثالهم إن الوقت والمدَّ لا ينتظرون إنسانا، وحلت السفينة من مخيلتهم ما كان للجمل لدى العرب من منزلة: فبينما ترى حسان يشبه تراقص الخمر في إنائها بتهادي الناقة المسرعة فيقول:
بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل
يُشّبَه ملتون (دليلة) وهي شاخصة في عظم جرمها وتمام زينتها وعتادها إلى (سمسون الجبار) لاختداعه عن سر قوته بالسفينة المنشورة الشراع.
وامتلأت قلوب الإنجليز بحب البحر، وظهر أثر ذلك في أدبهم في كل العصور: في روايات شكسبير كالعاصفة وتاجر البندقية، وفي تواريخ أمراء البحر الإنجليز ككتاب (وستوْرَدهو!) الذي سماه مؤلفه كنجزلي بأسم البلدة التي أنجبت معظم أولئك البحارين الذين يسمون بأفذاذ ديفون، وككتاب سَوْذي عن نلسون، والروايات الخرافية عن البحارة الذين لاقوا الأهوال وطوفوا في مسالك البحار، أمثال روبنسون كروزو، واسكندر سلكرك، وجليفر؛ واوصاف البحر وقصصه تكون جانباً كبيراً مما يعرف بأدب الأطفال.
ولم يشغف الإنجليز بالبحر وحده، بل بالماء حيث حل من البقاع، وأياً اتخذ من الأشكال، فهاموا حباً بالأنهار والبحيرات، ونال إقليم البحيرات في غرب إنجلترا مكانة سامية في قلوب شعراء الإنجليز، واتخذه شعراء النهضة الرومانسية مستراداً ومقاماً، وحفلت دواوينهم بأوصافه ومحاسنه، فحل في إنجلترا محل جبال برناس التي كانت ترتادها آلهة الشعر في بلاد اليونان.
وحفل الأدب الإنجليزي كذلك بذكر الغاب ووصفه في مختلف أوقات العام، واتخذ مسرحاً لروايتي (كما تشاء) و (حلم ليلة في منتصف الصيف) لشكسبير، وفي الأخيرة تمتزج الحقيقة بالخيال، وتختلط الأناسي بعرائس الغاب وعفاريته، وفي تلك العرائس المتخيلة نظمت أشعار كثيرة، وفي تلك الغابات كان يعيش روبن هود وجماعته ذات الوقائع الممتعة، وبالجملة بثت طبيعة بلاد الإنجليز المتعددة المنظر والحالات أُلفة الطبيعة والشغف(177/14)
بها في نفوس الإنجليز، فاحتلت من أدبهم موضعاً مكيناً.
ولموقع الجزيرة وإحاطة البحار بها اشتغل الإنجليز بالتجارة، ينقلونها بين العالمين القديم والجديد، وقد مارسوها بحراً على حين مارسها العرب براً، فدخلت تعبيراتها وأوصافها في أدبهم؛ واشتغلوا بالزراعة لملاءمة الإقليم وحفل جانب من أدبهم بوصف سكان القرى والبلدان الريفية، وحياتهم ومجتمعاتهم، وكثر ذلك خاصة في العصور الحديثة حين تقدم فن القصص وأزداد التفات الأدباء إلى الحياة اليومية والطبقات الوسطى والدنيا. ومن خير أمثلة ذلك روايات جين أوستن وتوماس هاردي؛ واشتغل الإنجليز كذلك بالصناعة الكبيرة لوفرة المعادن في بيئتهم، فقام نوع من الأدب يدرس مشاكل الصناعة ويصور مجتمع الصناع، وانصرف بعض الروائيين، كأرنولد بنيت، إلى وصف حياة الرأسماليين، وبعضهم، كتشارلز دكنز، إلى درس أحوال العمال والمناداة بتحسينها.
هكذا تأثر كلا الأدبين بالبيئة التي قام فيها، فاختلفا لذلك مناحي ومواضيع وأشكالاً؛ بيد أن البيئة التي تقدم ذكرها إن هي إلا البيئة المحلية المحض، وهي على عظيم تثيرها في المجتمع والأدب قلما تنفرد بالتأثير فيهما، بل تشاركها في ذلك بيئة أوسع أطرافاً هي البيئة العالمية، أي العالم كله بما فيه من ظواهر طبيعية وما يسكنه من أقوام، فهيهات أن يعيش مجتمع في بيئته المحلية غير متأثر بالعالم الخارجي تأثراً قل أو كثر، عن طريق التجارة والغارة والرحلة، وذلك الأثر العالمي يعرض أمام أفراد المجتمع من الظواهر والمشاكل ما كانوا عنه بنجوة، ويُدخل في لغتهم وأدبهم ما كانوا به جاهلين.
تأثر الشعبان العربي والإنجليزيبأحوال العالم الخارجي، أي البيئة الكبرى، ولكنهما اختلفا في هذه البيئة كما اختلفا في البيئة المحلية، إذ تأثر كل منهما بما يليه مباشرة من أجزاء تلك البيئة العالمية: وما يلي بلاد العرب هو الأمم الشرقية من فرس وهند وروم شرقيين ومصريين، ذات الحضارة الشرقية العتيدة والملكيات القديمة؛ وما يلي الإنجليز هو الأمم الغربية الوراثة لحضارة الإغريق والرومان ذوي التاريخ الحافل بالنظم الحكومية والآراء الحرة في السياسة والاجتماع، وبذلك ازدادت صبغتا الأدب تبياناً.
تأثر العرب بحضارة الأمم التي كانوا ينقلون متاجرها. ولا سيما الفرس والروم، وكانت لهم بهؤلاء علاقات سياسية لأكابرهم إلى ملوكهم سفرات، والى اشتغال قريش بتلك التجارة(177/15)
ومخالطتها تلك الأمم يرجع ذلك الرقي الأدبي والمادي الذي بلغته قبيل الإسلام، وظهورها على القبائل في الثروة والجاه والشرف واللغة، وإنجابها عظماء الرجال الذين على أيديهم توطدت دولة الإسلام في حال من التمدن وسط بين همجية البداوة ونعومة الحضارة.
ولو استمر العرب بالبيئة الخارجية طبيعياً محدوداً هكذا لازدادوا رقياً وازدادت لغتهم بهاء وأدبهم ازدهاراً؛ ولكن التوسع الخارجي الذي أعقب نجاح المسلمين الحربي المفاجئ أوقف ذلك التأثر البطيء، وأحدث انقلاباً تاماً في مجرى الأمور، فلم يعد تأثر الأدب العربي بالعالم الخارجي مقصوراً على النقل التدريجي، بل انتقل الأدب ذاته جملة من وطنه الأصلي وهجر بيئته الأولى إلى بيئة أو بيئات جديدة في الشام والعراق ومصر والأندلس وغيرها، والأدب العربي في انتقاله هذا ومهاجرته هذه من وطن إلى وطن نسيج وحدة بين آداب الأمم.
وجد الأدب العربي نفسه في بيئة جديدة، في أراض مزروعة مثمرة، وأمم مترفة مستقرة، وبلدان عامرة متحضرة، ذات علوم وصناعات، فتأثر بهذه البيئة الجديدة في ثلاث النواحي سالفة الذكر: في مفردات اللغة وتعبيراتها التي ازدادت بالنقل والتعريب، وفي المهن ومظاهر العمران، وفي وصف مناظر الطبيعة الجديدة، فكثر في الأدب ذكر الرياض والأزهار.
على أن تأثر الأدب في الناحيتين الأولى والثالثة كان قليلاً نسبياً لفني اللغة في الاشتقاق الذي أغناها عن الإمعان في التعريب، ومحافظة العرب التي نفَّرتهم من استعمال ألفاظ اللغات الأخرى وأخيلتها إلا ما جاء عفواً أو ضرورة، وحرصهم على احتذاء أسلافهم حتى ظلوا يقلدونهم في وصف البيد والخيام والنؤى والعيس، وهم يعيشون بين الأرياف والعواصم، فقامت هذه التقليدات للمتقدمين في الأدب العربي كالمتحجرات في عالم الجيولوجيا: قد فقدت كل حياة ولم تعد إلا رموزاً للماضي.
ولم يشغف العرب شغفاً حاراً بمظاهر الطبيعة التي صادفوها في بيئتهم الجديدة، وكأن نفرتهم القديمة من قسر الطبيعة لم تفارق نفوسهم، وكأن كل ما كانوا يطمحون إليه بعد أن طووا الأميال ضرباً في فلوات الجزيرة وهواجرها، ظلّ ظليل وماء سبيل وهواء بليل، تريح الجسوم وترويها وترفه عنها بعد طول الكد، فغص أدبهم الطبيعي بذكر راحة الجسم(177/16)
ولذات الحواس، دون طويل تأمل في محاسن الطبيعة واجتلاء لأسرارها وتقصٍّ للذكريات والآمال عندها، وأجمع الأمثلة لذلك قول الشاعرة الأندلسية:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنوِّ المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها، ويأذن للنسيم
إنما كان أشد تأثر الأدب العربي في بيئته الجديدة بالناحية الثانية، ناحية العمران، ناحية الحياة المستقرة في البلدان، المعتمدة على الزراعة والصناعة، الخاضعة للملكية، وهي عكس حياتهم في البادية تماماً، فانغمر الأدباء في جو المدن، واعتزلوا الطبيعة وتكأكأوا على بيت الأمراء، وتزاحموا على مجالس الطرب والشراب، واستفرغوا جهدهم في انتهاب فرص الحياة من جاه ومال ورفاهية ولهو، وتأثر الأدب بذلك: فلم يعد يتغنى بالنجدة والبأس والقناعة، بل طاب له الاستظلال بسلطان الحاكمين، يترنم بمدحهم بعد أن كان أمثال عمر بن كلثوم يثورون على نيرهم، وتفنن في وصف مظاهر التحضر وضروب الترف واللهو في المدن.
أما الأدب الإنجليزي، فتأثر بالبيئة العالمية في النواحي الثلاث - نواحي مبنى اللغة ومظاهر العمران ومنظر الطبيعة - تأثراً كبيراً: فاللغة الإنجليزية تدين للغات الأجنبية ولا سيما اللاتينية بأكثر مفرداتها وطرق اشتقاقها وكثير من تعابيرها ومجازاتها؛ والمجتمع الإنجليزي تأثر بالمجتمع الإيطالي في عصر الإحياء، وبالمجتمع الفرنسي في عصر لويس الرابع عشر؛ ولم يخلُ في عصر من التأثر بحالة العمران في أوربا، إذ كانت الحضارة الأوربية الحديثة مشتركة بين شتى الأمم؛ وباطلاع الإنجليز على أوصاف الطبيعة في الآداب الكلاسيكية ازدادوا شغفاً بمفاتن بلادهم، وزادوا فوصفوا محاسن الطبيعة في إيطاليا وبلاد اليونان وغيرهما.
تأثر الأدب الإنجليزي بالبيئة العالمية في شتى النواحي، ولكنه لاستقراره في وطنه الأول وبيئته المحلية جاء تأثره بالأولى بطيئاً محدوداً لم يطغ على خواصه المحلية، بل ظلت للبيئة المحلية المكانة الأولى والآثار الواضحة في الأدب، ولم يزد الأثر الخارجي على أن(177/17)
أضاف إلى العناصر المحلية ما يناسبها ويخصبها من العناصر الأجنبية، وكلما احتجن الأدب جانباً من تلك العناصر مثَّلها ومزجها بنفسه وصبغها بصبغته الخاصة.
فالأدبان العربي والإنجليزي قد نشأ في بيئتين طبيعيتين مختلفتين وترعرعا في مجتمعين متباينين، وتأثرا بعوامل عالمية مختلفة، وهاجر أحدهما من بيئته الأولى إلى بيئة جديدة بينما ظل الآخر في وطنه الأول، فلا غرو أن يختلف الأدبان في الصبغة والمناحي والأوضاع والأغراض والأخيلة، اختلافاً يروع الناظر فيهما فيخيل إليه أن ليس هناك تشابه بينهما فقط، ولا وجه للموازنة والمقابلة، ويكاد يخفي ما فيهما من تعبير مشترك عن شتى النوازع النفسية والظواهر الاجتماعية، التي تتفق فيها الطباع الإنسانية، في شتى المجتمعات، ومختلف البيئات.
فخري أبو السعود(177/18)
خطر الفاشستية على سلام العالم
ومشكلة البحر الأبيض المتوسط
بقلم باحث دبلوماسي كبير
لم يبد خطر الفاشستية على سلام أوربا وسلام العالم كما يبدو اليوم؛ ولقد كان رأينا دائماً أن الفاشستية وما تقوم عليه من مبادئ العنف، وما يحدوها من الأطماع المضطرمة، وما تؤكده بأعمالها وتصريحاتها من احتقار لمبادئ الحق والعدالة الدولية، إنما هي مصدر دائم للشر والخطر على السلام، وبخاصة على الأمم الضعيفة التي تدين بوجودها واستقلالها لمبدأ الحق الطبيعي لا للقوة الغاشمة؛ بيد أن الفاشستية لم تبد من قبل بمثل هذه الجرأة المكشوفة، وهذا التحدي الواضح، وهذا التوثب لارتكاب العدوان والشر، وهذا الاستخفاف بحقوق الشعوب ومصايرها كما تبدو اليوم.
منذ أكثر من عام نظمت إيطاليا اعتداءها المثير على الحبشة، واستطاعت لا بحرب شريفة مشروعة، ولكن بوسائل همجية ممقوتة أن تقهر هذه الأمة المنكودة وأن تضمها لأملاكها، وان تقيم على أنقاض الحريات المغصوبة إمبراطورية استعمارية تصول بها اليوم؛ وفي الصيف الماضي استطاعت الفاشستية الإيطالية وحليفتها النازية الألمانية أن تضرما في أسبانيا نار ثورة مضطرمة، وما زالتا إلى اليوم تمدان العسكرية الثائرة بالسلاح وكل صنوف المعونة، وما زالت أسبانيا تتلظى في جحيم الحرب الأهلية، لأن الفاشستية والنازية تود كل منهما أن تحقق لنفسها ظفراً معنوياً يكون مظهره قيام حكومة طغيان فاشستية في أسبانيا على أنقاض الجمهورية، وظفراً مادياً يقوم بتحقيق بعض المصالح السياسية والعسكرية التي تطمح كل منهما إلى تحقيقها.
وكما أن مسألة البحر الأبيض المتوسط كانت أثناء الاعتداء الإيطالي على الحبشة مثار الخطر والاحتكار المستمر بين إيطاليا وبريطانيا العظمى، فكذلك تثير الحرب الأهلية الأسبانية مسألة البحر الأبيض المتوسط مرة أخرى، وتثيرها بصورة أدق وأوسع نطاقاً وأشد خطراً؛ وقد كانت الأزمة التي أثارت الحرب الحبشية في هذا البحر محلية في نوع ما لأنها كانت تتعلق بشرقية فقط، وتتعلق بالنزاع بين إيطاليا وبريطانيا على السيادة في هذه المياه، ولكن الأزمة التي تثيرها أسبانيا اليوم أزمة عامة شاملة، تتعلق بالتوازن في البحر(177/19)
الأبيض المتوسط كله، وتدخل فيها فضلاً عن إيطاليا وبريطانيا العظمى، فرنسا وألمانيا.
وقد خطب السنيور موسوليني في ميلان أخيراً في سياسة إيطاليا العامة نحو المشاكل الأوربية المختلفة وكرر دعاوى إيطاليا القديمة على البحر الأبيض المتوسط، ووصفه بأنه بحيرة رومانية، وأنه يجب أن يكون في الواقع كذلك لولا أن بريطانيا تدعي فيه سيادة لا يحق أن تكون لها، ووجه الدعوة في خطاب إلى بريطانيا أن تتفاهم مع إيطاليا على قاعدة المساواة في الحقوق والمصالح؛ لأن كون بريطانيا تتخذ من هذا البحر طريقاً لأملاكها فيما وراء البحار، لا يجيز لها أن تدعي السيادة فيه والسيطرة على مياهه؛ وقرن السنيور موسوليني خطابه السياسي كالعادة ببعض التلميحات والتهديدات المسرحية، فأشار إلى عصبة الأمم بأنها حلم سخيف، وسخر من مشروع نزع السلاح ونظرية السلامة الإجماعية، وما إليها من مثل تأيد السلام؛ ولكن الحكومة البريطانية لم تلبث أن أجابت (الدوتشي) على مزاعمه ودعاويه؛ فذكرت أولاً في خطاب العرش الذي افتتح به البرلمان البريطاني، أن سياستها الدولية تقوم على تأييد عصبة الأمم وتدعيمها وإصلاحها لتتمكن من تأدية مهمتها، وأنها ما زالت تؤمن بالسلامة الإجماعية كوسيلة لتأيد السلام والتفاهم بين الأمم؛ وأما فيما يتعلق بالبحر الأبيض المتوسط، فقد ذكرت الحكومة البريطانية على لسان وزير خارجيتها مستر أيدن في مجلس العموم، أن بريطانيا العظمى تعتبر هذا البحر شرياناً من شرايين الإمبراطورية، وطريقاً حيوياً لتجارتها تدافع عنه بكل ما وسعت.
ألقى السنيور موسوليني خطابه الرنان غداة الاتفاق الذي عقد أخيراً بين إيطاليا وألمانيا، وكان من أهم نتائجه اعتراف ألمانيا بالإمبراطورية الإيطالية وسيادة إيطاليا على الحبشة، واتفاق الدولتين على اتخاذ خطة سياسية مشتركة في أواسط أوربا وشرقيها، وتحالفهما على مقاومة الخطر البلشفي الذي يزعج ألمانيا الهتلرية في كل لحظة؛ واتفاقهما على احترام استقلال النمسا إلى حين؛ ولم يكن هذا الاتفاق بين الدولتين الفاشستيتين مفاجأة في السياسة الدولية؛ فمن المعروف أن إيطاليا وألمانيا تجمع بينهما روابط خاصة أهمها اتفاق الوسائل والخطط، والاتحاد في كثير من المطامع والغايات، ولا سيما المطامع الاستعمارية؛ وقد كانت ألمانيا أول الدول المؤيدة لإيطاليا يوم اعتدائها على الحبشة، لأنها تجيش بمثل الأماني الإمبراطورية التي تجيش بها إيطاليا؛ هذا فضلاً عن اتحاد الدولتين في مناوأة(177/20)
عصبة الأمم، وسياسة نزع السلاح، وفي النزعة العسكرية، والخطط السياسية العنيفة.
والواقع أن المسألة الاستعمارية تلعب دوراً كبيراً في الأزمة الدولية الحاضرة، وفي أزمة البحر الأبيض بنوع خاص؛ فقد رأينا كيف بدأت هذه الأزمة وتفاقمت من جراء اعتداء إيطاليا على الحبشة ووقوف إنكلترا في وجه السياسة الإيطالية، وحشدها الدول بواسطة عصبة الأمم لتوقيع العقوبات الاقتصادية ضد إيطاليا؛ والآن وقد كلل اعتداء إيطاليا بالنجاح وفازت بامتلاك الحبشة، فأنها تتطلع إلى تحطيم المركز الممتاز الذي تستأثر به إنكلترا في البحر الأبيض المتوسط لكي تأمن على مواصلاتها مع إمبراطوريتها الأفريقية؛ ومن المحقق أن معونة إيطاليا للجنرال فرانكو زعيم الثورة الأسبانية لها صلة كبيرة بهذا المشروع الذي تحلم به إيطاليا؛ ذلك لأن قيام حكومة عسكرية فاشستية في أسبانيا موالية للسياسة الإيطالية، يهدد مركز إنكلترا في جبل طارق وفي غرب البحر الأبيض المتوسط، كما انه يعزز مركز إيطاليا ونفوذها في هذه المياه خصوصاً إذا ثبتت الأنباء القائلة بأن القوات الإيطالية تحتل الآن جزيرة ميورقة كبرى جزر البليار. وألمانيا تؤيد إيطاليا في هذا الموقف، وتعاون ثوار أسبانيا أيضاً، لأنها ترى في قيام الفاشستية في أسبانيا تقوية للجبهة الفاشستية التي تمثلها مع إيطاليا وإضعافاً للدول الديموقراطية: أعني فرنسا وإنكلترا في أوربا، كما أنها ترى في ظفر الفاشستية هزيمة لعدوتها روسيا السوفيتية التي تعاون الجبهة الجمهورية في أسبانيا وربما كانت ألمانيا إلى جانب ذلك ترى في التدخل في شؤون أسبانيا وغرب البحر الأبيض وسيلة لإثارة المسألة الاستعمارية التي تعلق عليها أهمية كبيرة.
وقد امتازت خطط الدولتين الفاشستيتين في العام المنصرم بالاندفاع والتحدي؛ وما زال السنيور موسوليني بالأخص يبرق ويتوعد في كل خطبه وتصريحاته، وينوه بقوة جيوشه واستعداداته وينذر أوربا بالويل إذا لم تنزل عند أطماعه ومطالبه؛ وما زالت إنكلترا وهي التي يخصها (الدوتشي) بأكبر قسط من الوعيد والتحدي تقابل الموقف بالرزانة والإغضاء، ماضيه في تقوية تسليحاتها في نفس الوقت في كل ما وسعت؛ كذلك نرى ألمانيا الهتلرية تنحو في خططها السياسية هذا النحو فتنقض المواثيق والعهود متى شاءت، وتلوح في كل فرصة باستعداداتها العسكرية؛ وفرنسا التي هي محور هذه الضربات تتلقاها في هدوء وتحاول مع حليفتها القديمة إنكلترا أن تذلل الصعاب والأزمات بالأساليب السياسية، وهي(177/21)
ماضية أيضاً في مضاعفة استعداداتها العسكرية العظيمة.
ومن المحقق أن الدول الغربية وعلى رأسها فرنسا وإنكلترا ترغب في السلام كل الرغبة، وتعمل على اتقاء خطر الحرب بكل ما وسعت؛ وكذلك لا ريب أن الفاشستية لا تبدي مثل هذا الحرص في المحافظة على السلام اجتناب أخطار الحرب؛ ولقد اندفعت إيطاليا وألمانيا خلال هذا العام إلى إثارة عدة أزمات دولية كانت كل منها تكفي لإضرام نار الحرب، فنقض ألمانيا لميثاق لوكارنو ومعاهدة الصلح، وغزو إيطاليا للحبشة وحملاتها العنيفة على إنكلترا، وعلى عصبة الأمم، وعملهما معاً على إضرام نار الحرب الأهلية في أسبانيا، كل هذه كانت وما تزال تثير كدراً في أفق السلام، وقد كادت في أكثر من فرصة أن تغدو خطراً حقيقياً على السلام.
وهذه النزعة الخطرة التي تندفع الفاشستية فيها دون تدبر للعواقب ترجع إلى حالة نفسية تستغلها الفاشستية؛ فالدول الغربية التي خرجت من الحرب بأكبر قسط من الغنيمة، والتي تبسط سلطانها على إمبراطوريات استعمارية شاسعة، وتستأثر بوفرة هائلة في المواد الأولية، تتمتع بمستوى مرتفع من الرخاء الاقتصادي، ولها صناعات مزدهرة، وتجارة خارجية عظيمة، وهي تحرص على ذلك كله، وتجانب الحرب ما استطاعت، لأن الحرب نذير الخراب البؤس الاقتصادي؛ وهذا مثل إنكلترا وفرنسا وبلجيكا؛ فهي دول (راضية) لا تود بحالتها بديلاً، أما الدول الفاشستية، أو بعبارة أخرى إيطاليا وألمانيا، فهما من الدول (غير راضية) لأنهما تعانيان حالة من البؤس الاقتصادي ولا تحتكمان على مقادير كافية من المواد الأولية، ولا تتمتعان بمقدار مرضي من الرخاء، فهما لذلك ساخطتان، تحقدان على الدول (الراضية)، وتودان تغيير هذا الحال والاستيلاء على بعض المستعمرات الغنية التي تكفل لهما الحصول على المواد الأولية؛ وإذا كانت الفاشستية تقوم في الداخل على العنف، فهي لا ترى أيضاً سوى العنف وسيلة لسياستها الخارجية، وهي تندفع بلا تدبر للعواقب، لأنها تعرف جيداً أن الدول (الراضية) أشد ما يكون زهداً في مقابلة العنف بالعنف، وأنها تعمل جهدها لاتقاء خطر الحرب؛ ولقد نجحت الفاشستية في استغلال هذه الحالة، وحققت لنفسها بالعنف ألواناً من الظفر، في ميدان السياسة والحرب، كغزو الحبشة؛ ولا تزال تسرف في الوعيد كلما لاح لها أمل في التهويل والاستغلال.(177/22)
على أن الذي لا ريب فيه هو أن ألمانيا وإيطاليا مهما بلغتا اليوم من القوة لا تستطيعان الاضطلاع بحرب أوربية كبيرة، فكلتاهما تفتقد إلى المال والمواد الأولية، وأن كانت غنية بالرجال والأساليب الفنية؛ والحرب المعاصرة تقوم على المال والمادة كما تقوم على الفن والسواعد؛ ومن ثم كان تلهف ألمانيا على استرداد مستعمراتها وهي أمنية تبدو مستحيلة التحقيق على الأقل في الوقت الحاضر؛ ثم أنتيار الحوادث لا يستقر على حال، فها هي ذي الحرب الأسبانية تتطور في مصلحة الجمهوريين، والثورة تدنو إلىالفشل؛ وسيكون فشل الثورة الأسبانية ضربة أليمة ولكن عادلة للفاشستية التي أثارتها؛ والأحوال السياسية تتطور في أوربا الوسطى تطوراً سريعاً، ودول الاتفاق الصغير تنظر بعد خطبة الدوتشي في ميلان وما ورد فيها من إشارة إلى تعديل المعاهدات، إلى السياسة الإيطالية وغاياتها بمنتهى الريب، بل أن الاتفاق الذي عقد أخيراً بين ألمانيا وإيطاليا يبدو ضئيلاً مزعزع الأسس أمام التطورات الأخيرة في أوربا الوسطى؛ وها هي ذي إيطاليا رغم صياحها ووعيدها تؤثر أن تمد يدها إلى إنكلترا التي تمضي في تسليحاتها البحرية والجوية بخطى الجبابرة.
والخلاصة أن الفاشستية هي منبع الخطر على سلام أوربا، ففي إيطاليا وألمانيا تضطرم النار الخفية التي قد تثير ضرام الحرب في أي أزمة من الأزمات التي ما زالت الفاشستية تعمل على إثارتها بلا تدبر للعواقب؛ فإذا لم تنجح أوربا في كبح هذه النزعة الخطرة، فالويل للسلام الأوربي والحضارة الأوربية؛ بيد أن كل ما هنالك يدل على أن أوربا حريصة على سلامها وتراثها، وأنها لن تنحني أمام وعيد هتلر وموسوليني(177/23)
نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 5 -
اعتنق الفارابي، بعد الكندي، نظرية أرسطو في الأحلام وقال معه إنها أثر من آثار المخيلة ونتيجة من نتائجها. ولا بد أن يكون القارئ قد لاحظ في التفاصيل والجزئيات تشابهاً واتصالاً أكثر من هذا بين رأي الفيلسوف العربي والفيلسوف اليوناني؛ فإن الفارابي يعتد بالميول والعواطف ويثبت مالها من أثر في تكوين الأحلام وتشكيلها. ويرى كذلك أن للطبائع والأمزجة دخلاً كبيراً فيها. وكل تلك أفكار رددها أرسطو من قبل.
بيد أن مؤسس الليسيه يجهد نفسه دائماً في أن يبعد عن مذهبه التفسيرات الدينية والتعليلات القائمة على قوى خفية وأسرار غامضة. ونزعته الواقعية تغلب عليه في دراساته النفسية كما استولت عليه في أبحاثه الطبيعية والأخلاقية. لهذا نراه يرفض أن تكون الرؤى وحياً من عند الله، ولا يقبل مطلقاً التنبؤ بواسطة النوم. لأن الأحلام ليست مقصورة على طائفة دون أخرى، وفي مقدور العامة والدهماء أن يدعوا التنبؤ بالغيب عن هذا الطريق، وهذا ما لا يسلم به أحد. وهنا يفارق الفارابي أستاذه ويقرر أن الإنسان يستطيع بواسطة مخيلته الاتصال بالعالم العلوي واختراق حجب الغيب والوقوف على المكنون والخفي. ولكن يجدر بنا أن نعقب على هذا مسرعين بأن الفارابي وإن خالف أرسطو فأنه يخالفه في نقطة محدودة؛ ذلك لأن الاتصال بالعقل الفعال عن طريق المخيلة لا يتم في رأيه إلا لطائفة ممتازة وجمع مختار، وإذا كان الفارابي وفق لحل موضوع المقامات والرؤى فلم يبقى أمامه إلا خطوة واحدة لحل مشكلة النبوة. فإن المخيلة متىتحررت من أعمال اليقظة المختلفة استطاعت أثناء النوم أن تصعد إلى سماء النور والمعرفة. وإذن متى توفر لدى شخص مخيلة ممتازة تمت له نبوءات في النهار مثل نبوءات الليل، وأمكنه في حال اليقظة أن يتصل بالعقل الفعال مثل اتصاله به أثناء النوم، بل ربما كان ذلك على شكل أوضح وصورة أكمل. فالنبي في رأي الفارابي بشر منح مخيلة عظيمة تمكنه من الوقوف على(177/24)
الإلهامات السماوية في مختلف الظروف والأوقات.
هذه هي نظرية النبوة في حقيقتها العلمية والفلسفية، وظروفها وأسبابها الاجتماعية، ومصادرها وأصولها التاريخية، ونعتقد أن الجزء الطريف والمبتكر في فلسفة الفارابي. حقاً إنها تعتمد على أساس من علم النفس الأرسطي، إلا أنها في مظهرها الكامل أثر من آثار تصوف الفارابي ومعتقداته الدينية. فأن الاتصال بالعقل الفعال سواء أكان بواسطة لتأمل والنظر أم بواسطة التمثيل هو قمة الصوفية الفارابية. ومن جهة أخرى يجب أن نلاحظ أن الفارابي متمش هنا مع مبدئه في التوفيق بين الفلسفة والدين ومتأثر بتعاليم الإسلام تأثره بأفكار أرسطو. فأن العقل الفعال الذي هو مصدر الشرائع والإلهامات السماوية في رأيه أشبه ما يكون بالملك الموكل بالوحي الذي جاءت به نظرية الإسلام: كل منهما واسطة بين العبد وربه وصلة بين الله ونبيه. والمشرع الأول والملهم والموحي الحقيقي هو الله وحده. وبهذا استطاع الفارابي أن يمنح الوحي والإلهام دعامة فلسفية، ويثبت لمنكريهما أنهما يتفقان مع مبادئ العقل ويكونان شعبة من شعب علم النفس.
غير أنه قد يعترض عليه بأنه يضع النبي في منزلة دون منزلة الفيلسوف. فأن وصول الأول عن طريق المخيلة في حين أن الثاني يدرك الحقائق الثابتة بواسطة العقل والتأمل، وليس هناك شك في أن المعلومات العقلية أفضل وأسمى من المعلومات المتخيلة؛ ولكن الفارابي فيما يظهر لا يأبه بهذه التفرقة ولا يعيرها أية أهمية؛ وسواء لديه أن تكون المعلومات مكتسبة بواسطة الفكر أم بواسطة الخيالة، ما دام العقل الفعال مصدرها جميعاً، فقيمة الحقيقة لا ترتبط بالطريق الذي وصلت إلينا منه، بل بالأصل الذي أخذت عنه؛ والنبي والفيلسوف يرتشفان من معين واحد ويستمدان علمهما من مصدر رفيع؛ والحقيقة النبوية والحقيقة الفلسفية هما على السواء نتيجة من نتائج الوحي وأثر من آثار الفيض الإلهي على الإنسان عن طريق التمثيل أو التأمل.
على أن الفارابي بعد أن فرق في كتابه: آراء أهل المدينة الفاضلة بين النبي والفيلسوف من ناحية الوسائل التي يصلان بها إلى المعرفة عاد فقرر في مكان آخر أن الأول، مثل الثاني، يمكنه أن يعرج إلى مستوى الكائنات العلوية بواسطة العقل. فأن فيه قوة فكرية مقدسة تمكِّنه من الصعود إلى عالم النور حيث يتقبل الأوامر الإلهية فلا يصل النبي إلى(177/25)
الوحي عن طريق المخيلة فحسب، بل فيه من قوى عقلية عظيمة. يقول الفارابي: (النبوة مختصة في روحها بقوة قدسية تذعن لها غريزة عالم الخلق الأكبر كما تذعن لروحك غريزة عالم الخلق الأصغر فتأتي بمعجزات خارجة عن الجبلة والعادات؛ ولا تصدأ مرآتها ولا يمنعها شئ عن انتقاش ما في اللوح المحفوظ من الكتاب الذي لا يبطل، وذوات الملائكة التي هي الرسل، فستبلغ مما عند الله إلى عامة الخلق).
وإذا كان في مقدور النبي أن يتصل بالعقل الفعال بواسطة النظر والتأمل فأن النبوة تصبح ضرباً من المعرفة يستطيع الناس على السواء الوصول إليه. فبتأثير العقل الفعال نبحث ونفكر وندرك الحقائق العامة، وبتفاوت أثره فينا تختلف درجاتنا ويفضل بعضنا بعضاً، وإذا ما عظم إشراقه على واحد منا سما بنا إلى مرتبة الإلهام والنبوة. وعلى هذا هو الذي دفع علماء الكلام إلى أن يأخذوا على الفارابي ومن جاء بعده من فلاسفة الإسلام ميلهم إلى عد النبوة أمراً مكتسباً. مع أن أهل الحق، فيما يصرح الشهرستاني، يقولون (إن النبوة ليست صفة راجعة إلى النبي، ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه، ولا استعداد نفسه، يستحق به اتصالاً بالروحانيات، بل رحمة يمن الله بها على من يشاء من عباده). ونحن لا ننكر أن موازنة الفارابي بين النبي والفيلسوف تدع باب النبوة مفتوحاً للجميع، كما أن الفلسفة ليست مقصورة على طائفة دون أخرى. إلا أنه يخيل إلينا أن الفلسفة في رأي الفارابي ليست سهلة المنال بالدرجة التي تبدو لأول وهلة، فلكل أن يتفلسف، ولن يحظى بالفلسفة الحق إلا أفراد قليلون؛ وفوق هذا فالفارابي يقرر أن النبي ينعم بمخيلة ممتازة أو قوى قدسية خاصة، ويغلب على ضننا أن هذه القوة القدسية وتلك المخيلة فطريتان في رأيه لا مكتسبتان وإن كان هو نفسه لم يصرح بذلك. ونحن نسلم جميعاً بأن في نفس النبي ومزاجه كمالاً فطرياً استحق به النبوة، وسما بسببه إلى الاتصال بالملائكة وقبول الوحي. والأنبياء هم صفوة الناس وخيرة الله في خلقه: (الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس) يقول الشهرستاني: (فكما يصطفيهم من الخلق قولاً بالرسالة والنبوة يصطفيهم من الخلق فعلاً بكمال الفطرة ونقاء الجوهر، وصفاء العنصر، وطيب الأخلاق وكرم الأعراق. فيرفعهم مرتبة مرتبة، حتى إذا بلغ أشده، وبلغ أربعين سنة وكملت قوته النفسانية وتهيأت لقبول الأسرار الإلهية بعث إليهم ملكاً وأنزل عليهم كتاباً).(177/26)
وأخيراً إذا كان الفارابي قد استطاع التخلص من الاعتراضين السابقين فهناك اعتراض ثالث تعز الإجابة عليه، وهو أن تفسير الوحي والإلهام على النحو السيكلوجي السابق يتعارض مع كثير من النصوص الثابتة. فقد ورد أن جبريل عليه السلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في صورة بعض الأعراب أو أنه كانت تسمع له صلصة كصلصلة الجرس، إلى غير ذلك من آثار متصلة بالوحي وطرائفه. ولا نظن أن هذه الآثار غابت عن الفارابي، إلا أنه، فيما نعتقد، شغل بمسألة أخرى، وعني بأن يثبت أولاً وبالذات أن الوحي أمر ممكن ولا يخرج على المبادئ العلمية المقررة، وبذا أصبح اتصال الروحاني بالجسماني الذي كان يستبعده الصابئة وغيرهم مقبولاً، وينبغي أن نلاحظ أن جُلّ جهد الفارابي في نظرية النبوة لم يكن موجهاً نحو أهل السنة الذين يؤمنون بكل ما جاء في القرآن والحديث متصلاً بالوحي وكيفياته، وإنما كان مصوباً إلى تلك الطائفة التي أنكرت النبوة من أساسها، وهذه الطائفة لم تحارب الإسلام فحسب، بل حاربت الأديان على اختلافها. فلم ير الفارابي بداً من أن ينتصر لمبدأ النبوة من حيث هو وان يوضحه بمعزل عن أية بينة أو وسط خاص، وليس بعزيز عليه بعد هذا أن يتأول ما ورد من نصوص دينية تخالف آراءه أو تبعد عنها، وقد سلك سبيل التأويل غير مرة، فسلم بوجود اللوح والقلم مثلاً، ولكنه فسرهما تفسيراً يتفق مع نظرياته الفلكية والميتافيزيقية، ونحن لا ننكر أن الاسترسال في التأويل قد يغير كثيراً من معالم الدين، إلا أنه وسيلة لازمة لمن يحاولون التوفيق بين العقل والنقل. والحقيقة أن الفارابي وقف هنا، شأنه في نظرياته الأخرى، موقفاً وسطاً، فأثبت النبوة إثباتاً عقلياً علمياً غاضاً الطرف عن بعض النصوص والآثار المتصلة بها. وكأنه في الوقت الذي منحها فيه أسلحة جديدة جردها من بعض ما كانت تعتمد عليه من أحاديث وأسانيد. والموفق مضطر دائماً لأن يستخلص من الرأيين المتقابلين مذهباً جديداً يمت إلى كل واحد منهما بصلة.
ومهما يكن من شئ فلو لم يصنع الفارابي إلا أنه أظهر في جلاء منزلة النبي السياسية والاجتماعية لكُفي. وقد استطاع بهذا أن يرد على أباطيل أبن الراوندي واعتراضات الرازي. وعلى ضوئه سار فلاسفة الإسلام الآخرون وفسروا كثيراً من التعاليم الدينية بهذه الروح وتلك النزعة. وبوضع النبوة هذا الموضع الإنساني الاجتماعي يمكن أن تحل مشكلة(177/27)
الرياسة الدينية والسياسية التي شغلت المسلمين منذ القرن الأول للهجرة. وفي رأي الفارابي أن النبي والإمام والملك والحاكم والفيلسوف الذي نادى به أفلاطون لجمهوريته يجب أن يقوموا بمهمة سياسية واحدة. فهم واضعو النواميس والمشرفون على النظم الاجتماعية مسترشدين في كل هذا بالأوامر الإلهية. وميزتهم المشتركة أنهم يستطيعون الاتصال بالعالم الروحاني في حال اليقظة وأثناء النوم بواسطة المخيلة أو الفكرة. وفي هذا التفسير ما فيه من انتصار للإسماعيلية والشيعة بوجه عام سنرى أثره فيما بعد.
(يتبع)
إبراهيم مدكور(177/28)
شخصية ناقدة يهملها النقد العربي
نقد أبن أبي عتيق
للأستاذ خليل هنداوي
ما زدت خوضاً في آثار الأقدمين إلا زدت إعجاباً بها وبهذا الجد الذي ولدها؛ وإنك لتقلب في كتبهم فيبهرك هذا التلون في المادة وهذا التفنن، وهب أنك خرجت منزعجاً لاضطراب في الاتساق واختلاف في الاتفاق، فإن هذا لم يكن ليذهب ببعض عجبك من هذا الجد ومن هذا الدأب اللذين يدلانك على عقلية حاولت أن تتأمل وتعلل!
في كتب الأقدمين ذلك الاضطراب الذي كان لا يحسه أصحابه. لأنهم لم يعملوا أعمالهم على حساب الأجيال الآتية، ولو فعلوا لهوَّنوا على مؤرخينا كثيراً من عناء الافتراض وقياس ما لا يقاس، ولكن أصحابنا - عفا الله عنهم - لم يريدوا أن يعطونا الثمرة ناضجة بل أرادوا أن نعمل على إنضاجها وصونها. وفي كتبهم ثمرات كثيرة تنادي الأيدي وهي دانية القطوف؛ وأذكر أني ما جلست يوماً إلى كتاب من هذه الكتب إلا خرجت بحديث ممتع أو فائدة جميلة تدفعني نفسي إلى التقاطها وأنى لي أن أقسم أعضاء جسدي أقلاماً تسطر!
جلست في هذا الصيف إلى أغاني أبي الفرج التي كلما ضربها الأدباء تفجرت منها عيون جديدة. ووقفت على أسم (أبن أبي عتيق) الذي عاش في الحجاز في العصر الأموي ورافق تطور المدرسة الغزلية أتأمل تكرر أسمه في كثير من المواقف مع كثير من الشعراء، طوراً يبدو لي كناقد وطوراً كسامر، فحصرت مواقفه في هذه المواضع على التقريب، فإذا بي أراني أمام شخصية عنيدة في النقد هي - إذا صح ضني - أول شخصية في الأدب العربي (اليقيني) عالجت الأدب وعملت على نقده مستلهمة إلا ذوقها. . . ولكن أبا الفرج عفا الله عنه ترك هذه الشخصية مجهولة لأنها - في زعمه - لم تبتكر ولم تنتج شعراً ولا لحناً، ولكن هذه الشخصية تتردد كثيراً على الأفواه. وتغشى كثيراً مجامع اللهو والأدب، وتصبغ كثيراً هذه المجاميع بألوانها الخاصة. ومما يجعل هذه الشخصية بارزة ترددها الكثير إلى هذه المجامع المختلفة، وتردد أصحابها إليها معتبرين رأيها في النقد والأدب. ولا اعلم - بحسب روايات الأغاني - نقداً تحليلياً عميقاً كهذا النقد. ولقد أردت أن أوضح هذه(177/29)
الشخصية وأستوضح عنها في بطون الكتب والأخبار، وليس عندي ما يسعفني على ذلك؛ ولو كان ذلك سهلاً لما سهل على عقلي الذي لم أتعود إرغامه على الدخول في هذه المنعرجات الطويلة التي تحتاج إلى تأمل طويل وأناة في الإمعان. ولكن ذلك غير مانعي في من أن أغامر في رسم ناحية من نواحي شخصية هذا الرجل العجيب المنتج في النقد، وأظنها الناحية الأكثر بروزاً في الرجل.
والآن من هو ابن عتيق؟
يبدو لنا أن أبي عتيق رجلاً يخالط المغنين والشعراء ولا بد أنه كان يتذوقهم، وأنه كان صاحب ثقافة واسعة في الشعر والغناء تخول له الحكم فيهما، وإن كان بعد هذا كله صاحب ذوق خاص يفهم الشعر والغناء به. ومنذ كان كما يبدو يقصده الملحنون والشعراء أنفسهم يحتكمون إليه في لحن أو بيت أو ملحن أو شاعر فلا يتباطأ في حكمه، ولا يفل رأي في ذلك. حديد اللسان والجنان والبيان! ولولا هذه الثقافة وهذه الشهرة لما كان له مقام في ذلك. ولقد كان عمر بن أبي ربيعة أحسن المقربين إليه، وكان له معه عشرة حسنة ومجالس طيبة، وكان له مع شعراء الحب والغزل أمور كثيرة، ولا بد أن حادثة من حوادث غرامه جعلته يحدب على المحبين، ويمثل دور الرسول بينهم وبين أحبتهم.
ويمتاز نقده بأنه كان نقد روح ومعان لا نقد قشور ومبان؛ ويعود سر ذلك إلى أن اللغة العربية كانت لا تزال بعيدة عن الفساد، وأن لسان العرب كان لا يزال لساناً فصيحاً، وكان نقده أقرب إلى أحاديث النوادي، لأنه نقد بيت أو فكرة، ولأنه نقد يلم بجانب واحد من المعنى ويهمل بقية الجوانب. ونقده ليس فيه صرامة ولا خشونة ولا صلف، وإنما هو نقد تهيمن عليه رقة حجازية ومجون برئ يأبى إلا أن يظهر. ومن وراء ذلك تهكم بعيد ويصيب المفصل! ولهذا التهكم جعل الشعراء يتقدمون إليه ويطمعون في اكتساب مرضاته. وهو يذهب تارة في نقده يكشف عن المعنى غطاء ثقيلاً، وطوراً يستجلي المعنى البعيد في البيت ويكشف عن قصده، وتارة يفسد على الشاعر ما ذهب إليه ولم يفطن له! ومثل هذا النقد أقرب إلى الروح الأدبية في ذلك العصر وهو - بعد هذا - بعيد عن مثل ذلك الاختلاق الذي وضع على لسان الخنساء يوم نقدت حسان بن ثابت وأضعفت بنقدها اللغوي مواضع فخره! لأن الوثبات الأدبية الأولى في الأمم لا ترنو إلى مثل هذه الفروق اللغوية(177/30)
الدقيقة التي لا تنشأ إلا عند رجال انصرفوا إلى اللغة وتدقيقها والتفريق بين فروقها، ولو أن هذه الوثبات تلتفت إلى هذه الفروق لقتلت كثيراً من روح نشاطها وأخمدت كثيراً من نار إبداعها. ويمتاز أبن أبي عتيق بثقافته الغنائية، ومثل هذه ترقق الذهن وتلطف الحواس وتجعل للبيت المنظوم قدراً خاصاً. وقد كانت هذه الثقافة الغنائية عنده سليقة طبيعية. ولقد مر ذات يوم بمعبد وهو يغني - وكان طفلاً - فقال: (إن عاش معبد كان مغني بلاده) وعاش حتى رأى صدق نبوءته. ويمتاز بهذه الروح الخفيفة التي لا يستغني النقد ولا الناقد عنها. ويدل على ذلك مواقف كثيرة.
منها أن عمر بن أبي ربيعة شبب بزينب بنت موسى الجمحية بقصيدته:
يا خليلي من ملام دعاني ... وألما الغداة بالأظعان
وكان سبب ذكره لها إن أبن أبي عتيق ذكرها عنده ووصف من عقلها وأدبها وجمالها ما شغل قلب عمر. فبلغ ذلك أبن أبي عتيق فلامه فيها وقال له: أتنطق الشعر في ابنة عمي؟ فقال عمر
لا تلمني، عتيق! حسي الذي بي ... إن بي يا عتيق ما قد كفاني
لا تلمني، وأنت زينتها لي ... أنت مثل الشيطان للإنسان
قال أبو وداعة السلمي منكراً على عمر التشبب بها (لا أقر لأبن أبي ربيعة أن يذكر امرأة من بني هصيص في شعره) فأجاب أبن أبي عتيق (لا تلوموا أبا وداعة أن. . . من سمرقند على أهل عدن) ومن خفة روحه أن سمع عمر ينشد قصيدته.
ومن لسقيم يكتم الناس ما به ... لزينب نجوى صدره والوساوس
ولستُ بناسٍ ليلة الدار مجلساً ... لزينب حتى يعلو الرأس رامس
خلاء بدت قمراؤه وتكشفت ... دجنته، وغاب من هو حارس
وما نلتُ منها محرماً غير أَننا ... كلانا من الثوب المورد لابس
قال عتيق: أَمنا يسخر أبن أبي ربيعة، فأي محرم بقى؟ فاعتذر عمر، فقال له عتيق: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة. فأنظر ما كان أبعد هذه الروح في كشف المستور، وما أخف روحها في التعبير عنه.
ولقد يثبت في تهكمه من الأدب إلى السياسة ويضربهما ويصيبهما بحجر واحد ويكون(177/31)
تهكمه في هذا الموقف الدقيق بليغاً ما بعده أَبلغ! سمع عمر ينشده قوله
فأتتها طبة عالمة ... تخلط الجد مراراً باللعب
إن كفى لك رهن بالرضا ... فاقبلي يا هند! قالت: قد وجب
فقال له عتيق: إن الناس يطلبون خليفة مذ قتل عثمان في صفة قوادتك هذه يدير أمورهم فما يجدونه. فماذا يستطيع المحلل أن يزيد على هذا التهكم؟ ويسمع عمر ينشده قوله
حبذا أنت يا بغوم وأسما ... ء وعيص يكننا وخلاء
فقال له: ما أبقيت شيئاً يُتمنى يا أبا الخطاب إلا مِرجلاً يُسخن لكم فيه الماء للغسل. ولا أدري كيف يوفق بين محرم وطاعة إلا التهكم وحده؟
ويسمع عمر ينشده قوله:
ليت ذا الدهر كان حتماً علينا ... كل يومين حجة واعتماراً
فأجابه عتيق: الله أرحم بعباده أن يجعل عليهم ما سألته ليتم لك فسقك! وهكذا تجد أنه يتصدى لعمر لا لأنه يضمر لعمر مقتاً أو كرهاً، ولقد كان لعمر في نفسه منزلة لم ينزلها غيره من شعراء عصره وهو الذي تنبأ بنصف بيت كان في خاطر عمر.
قال عمر: لا تلمها وأنت زينتها لي
فأجاب عتيق: أنت مثل الشيطان للإنسان
فقال عمر: هو والله!
فقال عتيق: إن شيطانك ورب القبر ربما ألم بي فيجد عندي من عصيانه خلاف ما يجده عندك من طاعة، فيصيب مني وأصيب منه.
ولعمر كما ذكرت في نفسه منزلة خاصة إذ يرى فيه المثل الأعلى للشعر، إليه يسمو الشعراء، وبشعره يقتدي الشعر. ولقد كان يعرف شعراء عصره منزلة عمر عند أبن أبي عتيق. فكان يأتيه من يحاول مناقضته أو مجادلته فيه، وكان الشاعر يأتي بأبيات يتحدى شعر عمر، ولا أعلم شاعراً انثنى سالماً من نقد أبن أبي عتيق، ولا أعلم واحداً استطاع أن يجرح له حكماً أو نقداً.
(دير الزور)
البقية في العدد القادم(177/32)
خليل هنداوي(177/33)
في الحياة
للأستاذ السيد محمد زيادة
لست أكتب هذا لأكتب؛ وإنما هي شكوى أطرحها هنا. . . أما طرفها الأول فهو أنا، وأما طرفها الثاني فلا أدري أهو شعوري المرهف لكل كبيرة وكل صغيرة تمر به، أم هو وجداني المستوعب دائماً كل ما فيَّ وكل ما أنا فيه، أم هو نفسي المتفتحة لكل ما ينتهي إليها من أمرها ومن أمر غيرها!!. فأني في هذا الشعور بهذا الوجدان مع هذه النفس أعيش في الدنيا كسفينة المستكشف عملها في اليم أن تظل حائرة على الوجه اليم فلا تكاد ترسو إلى شاطئ إلا لتنشد غيره؛ ويتملك رأسي خيال يقظ لا يهجع. ويقظة الخيال شقاء من الفن فهي شقاء في كل مواقع الحس لكل نواحي الحس.
وأراني منكوباً بهذا الخيال مرزوءاً بهمه، ثم أراني أحبه ولا أحيا بغيره. . . فكأنما أنا بين بليّتين فيهما مشكلتان لا حل لهما فلا نجاة منهما. . .
وأحس أنني قد قدر علي أن أعيش هكذا حتى أموت هكذا؛ فما استريح يوماً من سعي الخيال وراء ما يعني وما لا يعني، ولا اقصر يوماً عن التفكير في صوره التي يستخرجها من صور الحياة. أتُراني مقطوعاً من قمة جبل محطوطاً عند سفحه، وأريد أن أرى وأنا عند السفح ما أراه وأنا في القمة؟. . أم تراني أخطأت إذ خلقت لتحتويني الدنيا فظننت أني خلقت لأحتويها؟. .
أمشي في الطريق فأرى قصاباً يمر بسكينه مرتين على رقبة ديك كبير، ثم يقذف به بعيداً؛ فيقف صامتاً تتدفق الدماء من عنقه، وتزوغ عيناه فتارة تشخص إلى القصاب، وتارة تتطلع إلى الصبية الملتفين حوله يشهدون مصرعه، وتارة تنظر إليّ وكأنها تقول كلاماً، ثم يرقص الديك رقصة الموت إذ ترنِّحه المنية، ثم يرتمي على الأرض. . . فأُلقي عليه نظرة ساكنة ثم ألتفت عنه وآخذ سبيلي فإذا هي على غير ما كانت عليه، وكأن الشارع بما فيه من سابلة وما يحفه من مبانٍ خلوة هادئة في وهدة غارقة بين نجدين. فأستعيد صورة الديك مضطرباً ثم مذبوحاً ثم هامداً فيخيل إلي أنه كان وقت ذبحه يقول: الآن قد آمنت بأنني ما خلقت إلا ليأكلني من كان يطعمني. .
ثم أغيب عن الوجود غيبة، وأظل أفكر ويشغل بالي التفكير. وقد يستنفذ هذا من وقتي ومن(177/34)
ذهني ما أنا في حاجة إليه لشؤوني.
وانطلق مع صديق لي إلى ناحية المروج في نزهة خلوية فتقابلنا على الأرض نملة تسعى، فيدوسها الصديق بقدمه عامداً إلى قتلها؛ ولكنه يتركها تتلوى فلا هي بالحية ولا هي بالميتة، فيشجر بيني وبينه شقاق في الرأي حول فعلته. . . أريد أن اثبت له أنه مخطئ وأن الله لم يجعله على الأرض مبيداً للحشرات، ويريد هو أن يثبت لي أنه مصيب وان الله لم يجعلني على الأرض مرشداً للناس. ويطول الخلاف بيني وبينه، فلا هو مقتنع بأن عمله هذا قسوة ولا هو مقنعي بأن عمله هذا رقة؛ فأضطر إلى السكوت على مضض وأمشي مشفقاً على النملة المتوجعة، متألماً لطغيان القوة على الضعف، متعجباً لاعوجاج معنى الحياة، حاملاً من إشفاقي وتألمي وتعجبي ثورة على صديقي. . . لقد ديست النملة وتحطمت وبقيت تتعذب حتى تموت فماذا جرى منها حتى نستحل ما جرى عليها؟. . وأين الرحمة؟ أين الرحمة؟
وأظل أتغيظ ويملأ الغيظ نفسي، وقد يذهب هذا من سروري ما أنا في حاجة إليه في نفسي.
ويصادفني في الطريق رجل كسير مسكين يترقرق الدمع في عينيه ويكاد يطفر، وتجول الحسرة الصامتة في جبينه وتكاد تتكلم؛ فتلتقي عيناي بعينيه في موقع الفاقة من هيكله، ثم يلتقي شعوري بشعوره في موضع الألم في نفسه. . . وأراه يتلفت عن يمينه وعن شماله متفرساً في وجوه المارين به مر الزوارق اللاهية بالصخرة الحزينة، فأذهب أتصور نفسي بائساً بؤسه حائراً حيرته واقفاً، وأمكث أتحرى في مسارح شعوري ما كنت أقوله لنفسي وما كانت نفسي تقوله لي. . . حتى أسمع في وجداني هذا الحديث: كنت أقول لنفسي: أنا جائع فهل من هؤلاء الناس السعداء من يعرف الجوع؟ وهل منهم من يرده؟. . . وتقول لي نفسي: أمسك على الطوى فليس بين الناس من يرجى، وليس غير الله من يسأل. . . فأقول لها وهل المحسن من الناس إلا يد من الله تمد بالحسنة؟. . . فتقول لي: يد الله لا تنتظر السؤال لتعطي. . .
ويتمطط حديث الوجدان ويطول، وأظل أتحسر ولا أستطيع إلا أن أتحسر؛ وقد يستغرق هذا من وجداني ومن خاطري ما أنا في حاجة إليه لعملي.(177/35)
وأجلس في غرفتي مسهداً في هدأة الليل تشرف بي جلستي على دور ومن ورائها حقول ومن ورائها ما لا يرى. . . فتذهب عيني إلى مسارب الفكر، ويغوص فكري إلى أعماق الكيان. فماذا أجد هناك، وما تحمل نفسي من هناك؟!
أجد هناك إرادة الحياة تغالب إرادة الموت فتتجاذبان روح الإنسان، والإنسان بينهما عاجز لا حيلة له، ضعيف لا قوة فيه، مسخر لا رأي عنده. . . وما تزالان تصطرعان حتى تهتديان إلى حل تصطلحان عليه، هو أن يموت الإنسان جزءاً من اليوم على قدر استعداده للخمود والموت، ويحيا بقية اليوم على قدر استعداده للعمل والحياة؛ وتتفقان على أن تسمى تلك الموتة اليومية الصغيرة بالنوم، فيقال نام. . . حتى تعافه الحياة فتنزل عنه للموت فيقال مات. . .
وتحمل نفسي من هناك كلمة الفناء ومعها كلمة الألم؛ وأقول لنفسي: حقاً إن هذا الذي نسميه النوم ما هو إلا راحة أصغر من راحة، فهو موت أصغر من موت. . . يا عجباً!! أهكذا جُعل الموت على رقابنا حتى لم تخل منه الحياة نفسها؟! أهكذا خُلقنا لنموت ونحيا كل يوم ثم نموت في يوم فلا نحيا؟! ثم أقول: يا ويلتاه. . . لن ألبث إلا قليلاً حتى أكون في عداد هؤلاء الأموات الذين تركوا الدنيا وما يزالون فيها. . فمنهم من يبعث ليأرق ثم يموت، ومنهم من يبعث ليشرب ثم يموت، ومنهم من تدخله موتته الصغرى في موتته الكبرى فلا يبعث إلا يوم الحشر. . .
وأظل أتأمل وأتوزع بين التأملات؛ وقد يشغل هذا من بصيرتي ومن إدراكي ما أنا في حاجة إليه لقلبي.
وآوى إلى مضجعي قبيل الفجر مهدماً كالقادم من سفر طويل، مكدوداً كالفارغ من عمل شاق؛ وألقي برأسي على الوسادة ثقيلاً كالحجر، ساخناً كالأتون، ممتلئاً بما أفرغت فيه المشاهد والمشاعر من صور طول النهار ومعظم الليل. . . وفيما أنا أستشعر الخلو، وأتلمس الاستقرار، واستكفي مخي عناء التفكير، وأقنعه بضرورة الرقاد. . . يطرق مسمعيصوت بوم ينعب، وأنا لا أمقت كما أمقت البوم طائراً نافعاً أو ضاراً؛ فأنهض من فراشي لا لأغلق النافذة دون ذلك الصوت الكريه البعيد فأزيد بعده أو أصده؛ وإنما لأطل من النافذة فأقترب من ذلك الصوت الكريه البعيد فأسمعه جيداً لعلني أفهم غموضه فأفسره.(177/36)
وتمر من الليل فترة وما تكاد تنقضي حتى أجدني قد انقلبت عاطفاً على البوم واجداً في نعيبه جمالاً ولذة؛ وما تغير هو حتى صار محبوباً، وما تغيرت أنا حتى صرت أحبه. . . ولكني إذا افتح لسماعه آذان نفسي أسمعه كالمغني، وإذا أفتح لعنائه آذان عقلي أتسمع فيه نداء المحب المشتاق للحبيب الغائب. . .
وأظل ألقي على نفسي في أنر البوم ونعيبه وشؤمه السؤال بعد السؤال؛ وقد يأخذ هذا من راحتي ما أنا في حاجة إليه لجسمي.
وهكذا أراني منكوباً بهذا الخيال مرزوءاً بهمه، حتى ليقودني إلى جنون شعري ثائر يفقدني لذة التمتع بمظاهر الكون وجماله في البحث عن حقيقة الكيان وأسراره.
والعزيز على هو أني لا أملك الخلاص من الخيال، فأنا لا أملك الخلاص من هذا التعب - اللهم إن كان هذا من فطرة الشعر فلبئست الفطرة، ولخير منها فطرة الجمود والبلادة.
إن من الناس أناساً يعيشون في هذه الحياة ليعيشوا فقط؛ لا فكر في أدمغتهم، ولا حرب في عقولهم، ولا نصب في أفئدتهم. . . كأنما خلقوا جسوماً بغير قلوب، ولكنهم سعداء أنهم يشعرون بأنهم سعداء!!
أريد أن أجرب هذه السعادة فأطرح هموم الخيال، وأنسى خيال الهموم، وأعيش بظاهر ما أرى. . أريد أن أفهم ولو يوماً واحداً أنني سعيد وإن فهم الناس في ذلك اليوم أنني شقي.
(طنطا)
السيد زيادة(177/37)
بغير عنوان. . .
(إن وجدتم في هذه الكلمة صراحة في الوصف، فلا تلوموا الطبيب فأنه يصف المرض، ليعين الدواء)
للأستاذ علي الطنطاوي
كان شاباً غُرَانِقاً جميلاً، صبوح الوجه، متأنثاً، قد أصيب بمرض التَّجمل. . . فلم يكن يجئ إلى المدرسة إلا متزيناً مستعداً استعداد عروس تزف إلى بعلها، قد صفف شعره ودهنه وعطره ولبده وعقربه على صدغيه، وحلى وجهه وصقله، وصنع به ما لست أدري. . . فبدا أبيض أحمر مشرقاً مجلواً صقيلاً، كأنه صفحة مرآة. . . وكشف عن أعالي صدره، وأحاط عنقه بهذه العقدة التي يفتن في عقدها واختيار لونها واتساقها مع الحُلة التي يلبسها افتناناً. . . ولا يزال أبداً يمد يده إليها يتلمّسها، ويصلحها ويطمئن عليها، ثم يحرك رأسه حركة غنجة يردّ بها عقارب صدغيه إلى مكانها!
وكان واضح الجبين، أزجّ الحاجبين حتى كأنهما قد خطا بقلم، أنجل العينين أشهلهما كأن لهما لون السماء وعمق البحر، وكأنهما تستجديان الحب. . . إذا نظر غض الطرف من الحياء، ودانى بين جفونه، وبرقت عيناه الناعستان فقالتا كلمة فلم تتم، فأنمها فمه القاني الصغير وشفتاه المضمومتان. . . وإذا تكلم تكلم بصوت لين حالم سكران، كأن ألفاظه تقول شيئاً، ولهجته ونبراته تقول شيئاً آخر، تقول: إن رجولة صاحبي رجولة مزورة! وإذا مشى تثنى وتخلع وتكسر، وماج جسمه موجاً، وذهب كل عضو منه في ناحية، كأن جسمه متفكك، قد تقطعت أوصاله وفصمت عراه وانحلت لوالبه. . . وإذا دعوته أقبل إلي يتهادى ويميل، فإذا وصل إلى حيث أكون، وجد أقرب متكأ فأستند عليه، كأنه بناء لا يقوم إلا إذا أسندته بدعامة، وإذا كلمته خجل كأنه فتاة في الخدر، وأجاب بصوت خافت يكاد يبتلعه الخجل، فكنت أزعق في وجهه من الغيض، ثم أطرده طرداً. . .
ولم يكن ينصرف إلى علم أو يقبل على درس، لأن عقله قد سال على جوانب جسمه خرقاً وثياباً، ولم يبق منه في داخل ما ينفع لعلم أو درس، فهو دائماً ينظر في عطفيه، ويتأمل ثيابه ويخرج من جيبه مشطه ومرآته، ولولا بقية من حياء لأخرج أبيضه وأحمره وقلم شفتيه. . .(177/38)
وكنت أراه في باحة المدرسة فأراه غريباً عن هؤلاء الشباب لا يطيق حراكاً، ولا يحسن لعباً، ولا يدفع عن نفسه اعتداء، وما فيه من الرجولة إلا اسمه وبدلته.
وحاولت إصلاحه، وتعهدته بالنصح والإرشاد، فكنت كمن ينفخ في غير ضرم، فأيست من إصلاحه وكرهته وأبغضته، وجعلت أزوي بصري عنه، وأتناساه وأهمله، ثم افتقدته فلم أجده، ثم علمت أنه قد فارق المدرسة.
ومرت أسابيع، ثم رأيت في مكانه طالباً جديداً من الطلاب الذين يتدربون على الجندية، يلبس الثوب العسكري، وعلى وجهه طابع الرجولة: له شاربان كاملان، وأثر اللحية ظاهر على خديه، والقوة والصرامة بادية في عينيه وملامحه؛ وكان قوي النظرات، صعاقاً جهير الصوت، ذكياً مقبلاً على الدرس، فطناً ألمعياً؛ وكان سريع الحركة، جم النشاط، إذا دعوته أقبل يسير بخطى موزونة، يطأ الأرض وطأ شديداً، وقد نصب قامته ورفع رأسه، فإذا قام بين يدي قرع رجلاً برجل ثم رفع يده بالسلام لا كما يرفعها مثلي أو مثلك، بل كما يرفع يده الجند بالسيف يستله من قرابه، وإذا كلمته أجاب بجرأة وأدب؛ وكنت أراه في ساحة المدرسة، فأراه على اجتهاده وإقباله على العلم، قوياً نشيطاً يصارع الطلاب ويباطحهم، فإذا تمكن من منهم وعلا عليهم عفا عنهم وأبقى عليهم، فكنت أعجب من قوته ونبله، وعلمه وفضله، وأكبر فيه هذه الصفات.
ثم أنني أحببت أن أشجعه وأضرب منه للطلاب مثلاً، فتكلمت وأثنيت، وقلت: كم بين هذا وبين ذاك من فرق. . .!!
فصاح الطلاب: ومن هذا ومن ذاك؟ أنهما شخص واحد!
قلت: ويحكم! فأي معجزة هذه التي بدلته شخص آخر، وأنشأته إنشاء جديداً؟
قالوا: يا أستاذ. . . إنه تدرب أسابيع على الجندية. . . . . .
(بغداد)
علي الطنطاوي(177/39)
في الموسيقى
إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب
للأستاذ محمد زروقي
سيدي الأستاذ:
لا أدري إذا كانت أعمالك الكثيرة تسمح لك بتوجيه بعض اهتمامك إلى ملاحظاتي الآتية، كذلك لا أدري إذا كانت وجهة نظري تبدو لك على صواب. وبالرغم من ذلك فأني أحسن الظن بك، وأسجل هنا أني آمل منك أن تتنازل لسماع صوت متواضع من بعيد لشخص من أكثر المعجبين بك والمتحمسين لك.
واسمح لي بادئ ذي بدء أن أوضح لك نقطة هامة راجياً منك العفو وحسن القبول.
وليس لي أن أوجه خطابي الجريء إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب الذي ليس لي شرف معرفته المعرفة الكافية، ولكني أوجهه إلى فناني المفضل، إلى ذلك الذي كثيراً ما استمع إليه، إلى ذلك الذي يستطيع - كصديق حميم - أن يفتح لي قلبه بكرم فأرى وأميز قلبي منعكساً عليه.
وهنا يخيل إلى أن معرفتي الدقيقة بالفنان - وهي ترجع إلى مدة بعيدة - تحتم علي ألا أخفي عنه شيئاً، وإلا كانت بمثابة خيانة له. كما يخيل إلي أن تبادل الشعور يجعل لي الحق، وربما يتطلب مني البحث عن شئ من أخطائه والاحتجاج على بعض وسائله.
بعد ذلك أبدأ - إذا سمحت لي - بأن أعبر عن الأسف الذي يعتورني عندما اسمع بعض مقطوعاتك المشهورة مثل (في الليل) و (اللي انكتب) باللهجة المصرية، في حين أن لغة امرئ القيس والمتنبي هي التي كان يجب استعمالها إذا كنا نود أن نهدي إلى أحفادنا مثل هذه الأعمال الخالدة. فذلك الذي أودع (يا جارة الوادي) في أسطوانة يجب ألا يتقيد بحدود البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وأن يظل ضمن الحدود التي اختطها الفراعنة (فماذا تهم الزجاجة نفسها ما دامت تسكرنا؟) وإني أشارك (نيتشه) رأيه الذي يقول بأن العاطفة يجب أن يعبر عنها الصوت دون غيره، وألا نعطي للكلام أكثر مما يستحق من الأهمية، ولذلك فأنني أعطي للموسيقى نفس المرتبة التي يضعها فيها المفكرون: تلك المرتبة التي تحلها محل الكلمات العاجزة عندما تكون هذه الأخيرة فقيرة وقاصرة أمام(177/40)
مطالب الحساسية القوية.
الآن أنتقل إلى الغرض الأساسي من خطابي:
حاولت في بحث قصير كان موضوع إحدى المناقشات أن أوجه مقارنة بين الحساسية في الغرب وبينها في الوسط الذي أعيش فيه، وذلك عن طريق دراسة أقوى وسائل التعبير عنها - ألا وهي الموسيقى - ولكي أعزز مناقشتي لجأت إلى الأدب وتاريخه وشخصياته البارزة. وحينئذ أصبحت مدفوعاً إلى أن أقرر بأن الغرب قد تأخر إلى القرن التاسع عشر ليشهد ازدهار (المذهب الرومانتيكي) أي تلك الحركة الفكرية والفنية التي تشبه أدبنا إلى حد بعيد. ولذلك فان أوربا لم تخلق إلا حديثاً، وحديثاً جداً من يكمل ما بدأه عمر الخيام والمعري والفردوسي. فالنفثة الحزينة المؤلمة التي بعثها الفيلسوف شبنهور (1788 - 1860) هي التي ألهمت كل الموسيقيين الرومانتيكيين، هؤلاء الموسيقيين الذين عالجوا مسائل القدر المعقدة، وآلام الإنسانية المحكوم عليها بالعذاب. وإن أشهر زعماء المتشائمين الغربيين ليس لهم أن يعلمونا شيئاً، كما أن شوبان الذي قيل إن (توقيعاته ما هي إلا دموع متساقطة على أصابع البيانو) لم يصل مطلقاً إلى ما وصلت إليه أغانينا الحزينة حسب رأيي على الأقل.
ولا شك في أن الموسيقى ليست عالمية. فلن تستطيع أن تفهم (سيزار فرنك) كما يفهم نفسه أو كرجل مسيحي، ولا (بتهوفن) بدون دراسة عميقة للفلسفة الألمانية. وأني أحاول في حكمي أن أتناسى الآراء التي انتقلت إلي بالوراثة، وأن أتحاشى التحيز والتعصب في نقدي، وأنا لا أنكر إن هذا العمل يتطلب مني جهداً عظيماً، وتسامحاً كبيراً. ولكن دراستي المتواصلة والبعيدة عن المحاباة لشلر ومدام دستايل وشاتوبريان وبيرون وبودلير، الذين أذكرهم هنا كقادة المدرسة الرومانتيكية، لا ترسم لنا صورة جديدة أو أثر يكون أجنبياً عنا حقيقة.
بقى علينا أن تساءل في صراحة: أليس الموسيقى الغربية التي لا تسير إلا في المحيط النظري (الميتافيزيقي) أكثر تأخيراً من موسيقانا؟
إن أوروبا بمؤلفيها الموسيقيين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين - برغم أعمال سترافنسكي - تُظهر تخبطاً لا نهاية له في محاولتها دراسة القضاء والقدر التي تتحكم في(177/41)
رقاب الناس. فاعتبار هذه الحالة درجة من الكمال تستحق أن تُحتذى كما يُحتذى التقدم العلمي ونظرياته تكون غلطة ما أقبحها من ذلك الشخص الموهوب الذي يصدح على ضفاف النيل. فالبحث كذلك عن مناح جديدة في الألحان الغربية واستخدام وسائل تعبيرها يعد منا رجعة إلى الوراء.
وقد ظهر لي أن محاولاتك نتجه يوماً بعد يوم نحو توافق الأصوات وإخراج مجموعة متنافرة منها في لحظة واحدة وبالتبعية محاولة التعبير عما يضطرم في نفسك بما تستخلصه من ذلك.
كانت النغمة الفردية الأوربية دائماً أبداً ضعيفة، فلا عجب أن نراها تلجأ إلى تلك الأصوات المتجمعة؛ هذه الأصوات تعبر عن أشياء متباينة، ولكنها تصدر في وقت واحد لتنتج من ذلك تآلفاً فيما بينها. ولا أدل على ضعف السلم الموسيقي الغربي من اقتصاره على استعمال النغمتين فقط (ويلاحظ أن النغمة المنخفضة ترجع إلى عرب أسبانيا) في حين أن الفرس في العصور الوسطى قد استعملوا ستاً وثلاثين نغمة وأن الأندلسيين استعملوا أربعين منها، وأن الشرقيين بعكس المؤلفين الموسيقيين الحديثين لم يجعلوا ألحانهم تعتمد على قدرة آلاتهم وعلى الأخص على وضع علامات لها.
وليست الرغبة في استعارة آلات موسيقية عجمية (كموسيقى اليد) إلا وقوعاً منا في نفس الخطأ الشنيع الذي وقعوا هم فيه وتجنباً منا على الموسيقى الشرقية.
ومهما كانت محاولاتك جريئة وتستحق الإعجاب فيجب أن تعرف - في رأيي المتواضع - كيفية الرجوع إلى مصادر الأشياء، وأن تتساءل عن ماهية العوامل التي تهيئ الخلود لفكرة ما، وأن تفكر في النتائج التي يصح أن تنتظرها من وراء هذا الاقتباس. وهنا يجب أن تعترف بأن قوانين الوراثة تلعب دور الهام: فأن (بولدييه) و (برليو) لا ينسبان فضل أعمالهما إلى نفسيهما فقط. . . . لأنهما رضعا ألحانهما من ثدي أميهما اللتين حصلتا عليها بدورهما ممن سبقوهما، وهما ليستا إلا حلقتين من سلسلة طويلة.
وليس من الغريب أن نرى وجوه الغربيين عندما يستمعون إلى موسيقانا وقد ارتسمت عليها تلك الابتسامة التي ترتسم على وجوهنا نحن عندما نستمع إلى الموسيقى الأولية. وهناك حقيقة أخرى أكثر خطراً، وهي أن الأوربيين لا يكادون يفهمون من أنغامنا الموسيقية إلا ما(177/42)
استعرناه منهم، وحيث أننا لم نوفق في استعارتنا فهم لا يحجمون عن الحكم على الجزء العربي منه بأنه رديء.
وهذا ما يدفعني إلى سرد أمثلة من خطواتك المحيرة غير الموفقة: (فبحارة الفلجا) أغنية روسية واقعية تعبر عن العذاب العقلي والجثماني الذي كان يعانيه سكان قلب روسيا، وقد أخذتها أنت بنفسك في فلم (الوردة البيضاء) وهو فلم شعري خالص: فالشقة بينهما بعيدة بعداً شاسعاً.
و (يا شراعاً) وهي قصيدة مقدمة إلى الملك فيصل عبارة عن نشيد يراد به مدح بلاد الرافدين، فهل يصح أن نقبل هذه النغمات التي تحرك العاطفة بدون شك، ولكنها خالية من الحمية والملاطفة التي يجب أن تكون عند مَن يريد أن يمدح ملكاً محبوباً يعجب به؟ ففي هذا النشيد نبحث عبثاً عن الحمية التي نراها في نشيد لمير بيير الذي فيه يعبر عن الكثير من العظمة والنبل.
وعندما ننعم النظر في مقطوعاتك الأخيرة نلاحظ في حسرة شديدة بأن (الحركة) قد زادت فيها كثيراً بحيث أن الأذن تتساءل في حيرة عما إذا كنت حقيقة الذي ملأت اسطوانة (أيها العلم الخفاق) رقم 99. 104.
فهل يجب علينا إذن ألا نستوحي شيئاً عن الموسيقى الغربية؟
لا بكل تأكيد. وليكن ذلك لمجرد الإطلاع فقط. فمن الضروري أن ندرس هوجو ولامرتين وشكسبير ورابندانا تاجور وإبسن وكبلنج وتولستوي وسرفنتس لكي نفهم الآداب العالمية، وهذه الدراسة ليست أقل لزوماً من إرسال أبنائنا إلى الخارج لتمضية بعض الوقت في (مدرسة الفنادق في جرينوبل) أو في معامل الاختبار للمراكز الصناعية في (بربي) و (برمنجهام) وفي الأحواض البحرية في (نانت) و (كيل).
ولكيي أعزز رأيي هذا أذكر الحقيقة التاريخية الآتية: عندما انتصر هارون الرشيد على الإمبراطورية نيقفور البيزنطي عام 806 ميلادية نص في معاهدة الصلح بينهما على شرط يلزم المغلوبين بتسليم العرب جميع المؤلفات التي خلفها القدماء والمحفوظات الموجودة في دور الكتب بالقسطنطينية القديمة. وقد برهن العاهل العربي مرة أخرى على ذكائه الفائق وفهمه للحقائق، فقدر أن شعبه يجب أن يتفهم ويستوعب سريعاً كل المعارف التي وقف(177/43)
السابقون على أسرارها، وأن العرب بدون مساعدة غيرهم لا يمكنهم تأسيس حضارة ثابتة؛ ولذا يجب عليهم أن يستعينوا بمن تقدموهم من مصريين وكلدانيين ويهود وفرس وهنود ويونانيين ورومانيين وقرطاجيين، وأن يتوفروا على دراسة أوراق البردي واللوحات وتماثيل الآلهة. فبعد أن درس العرب العصور السابقة أمكنهم أن يضيفوا معارف من سبقوهم إلى معارفهم الخاصة التي ستبقى على مدى الأيام.
وكذلك اليابان: فما الذي فعله حزب التجديد عندما تربع في دست الحكم عام 1868؟ لقد بدأ بدراسة مبادئ الأحزاب الأخرى في الدول المتمدينة.
فإذا تحدثنا عن القلب ونشاطه والحساسية وطرق التعبير عنها وجدنا الأمر هنا مختلفاً عن ذلك، وهذه النقطة الهامة هي محور بحثي: فالإحساس المتناهي ورد الفعل وتجسيم التأثيرات النفسانية لا يمكن أن تقارن بالمعارف التي يمكن اكتسابها.
وهناك نقوش فرعونية تذكر بعض النصائح الموجهة من أم إلى ولدها يوم أن عهدت به إلى أستاذه. وهناك نقوش أخرى تعبر عن مثال خالد: ذلك هو ألم الأشخاص المحكوم عليهم بالعمل اليومي الشاق المضني. فعليك أيها الأستاذ أن تبحث في زوايا التاريخ عن ألحان أكثر إنسانية! بل من السهل عليك أن تتخيل الأمهات في هذه العصور البعيدة وهن يهززن مهود أطفالهن بنفس المحبة والعناية والحنان التي تبديها أمهات العصر الحالي. أليس من الخطل والنفاق أن نعتبر وقع الألم النفساني الذي عاناه أسلافنا أخف على نفوسهم من وقعه علينا؟ وأني لا أجد صعوبة في أن أتخيل الألحان الجميلة التي كانوا يعبرون بها ويصورون عواطفهم التي تتوثب من الألم.
وللرجوع إلى الحديث عن محاولات التجديد أو فرنجة موسيقانا يمكنني أن أضرب مثلاً بأحد موسيقيينا الذي حاول منذ سنوات أن يعبر عن بعض مقطوعاتنا الشعرية بأوزان أوربية، فكان سبب نجاحه أنه قد استحدث شيئاً جديداً ولكنه كان نجاحاً قصير الأجل، وسرعان ما أسدل النسيان ستاره على هذه المحاولة وحسناً فعل. وقد بدأ مغنى الجزائر الحالي أو (كاروزو شمال أفريقية) كما أطلق على نفسه بإلقاء مقطوعات تحترم موسيقانا القديمة، ويجب علي أن أشير أثناء حديثي إلى أن طرق التلحين الأندلسية الأثنتي عشرة التي لا زالت مستعملة في المدن الرئيسة بشمال أفريقية ليست إلا مخلفات وبقايا بالية في(177/44)
حاجة إلى عيون عالم الآثار - وأقصد أذان رجل موسيقي - لنكشف في هذه البقايا عن عظمة المقطوعات التي كانت تردد تحت أبواب الحمراء المرمرية، أو تحت ظلال الأشجار الوارفة في أشبيلية وقرطبة.
ومهما يكن من شئ فإن استعمال هذه المخلفات القديمة لا يدخل كثيراً من التغير على قواعد الموسيقى، إذ أن في ذلك محافظة على تراثنا القديم.
ولكن للغرب سحره الأخاذ ما في ذلك من شك، لأن مغنينا الجزائري خضع لتأثير الأوبرا، واستمع بسرور إلى الألحان القصيرة من الأوبريت والصالات؛ تلك الألحان التي طغت شيئاً فشيئاً على مقطوعاته حتى أصبحنا الآن نلمس فيها أكبر فشل فني معيب.
وقد سارت المرحومة أنيسة يامنة الجزائرية في طريق مخالف لذلك كل المخالفة. فهذه الموسيقية انتهجت نهج الغناء القديم الذي يمكن تقدير أهميته، واستندت إلى شعورها النسوي القوي وخبرتها الموسيقية الطويلة. وكانت تذهب للإقامة بين أفراد الطبقة الفقيرة وبين العرب الرحل لتغترف من شعورهم البسيط الخالي من كل زخرف ثم تعود بمحصول غني متنوع وفير، وبعد ذلك تستسلم لتفكيرها ولأبحاثها وتستمع إلى نفسها وتستوحي صوت أجدادها ثم تترك قلبها يعبر عما في خلدها بألحان تخلب الألباب.
وأني أعرف الكثير عن الطريقة المخالفة لتلك التي يتبعها الأستاذ، وبمعنى آخر ترجمة الغربيين واقتباسهم لموضوعاتنا؛ وأسواق إليك هنا مثلاً مشهوراً لأوضح وجهة نظري: أقام المؤلف الموسيقي سان سانس حقبة طويلة في الجزائر، ولذلك يقوم مؤلفه المشهور (شمشون ودليلة) على طريقة التلحين الأندلسية (زيدان). ولا أتردد أن أضيف إلى هذا المثل مثلاً آخر فيما فعله ف. دافيد الذي أمكنه بعد رحلة طويلة إلى الشرق أن يخرج مؤلفيه: (الصحراء، ولالاروك). وكذلك فعلوا الأسبانيون وكذلك (بيزت) في (كارمن) (1870) وغير هؤلاء من الذين يدينون بالشيء الكثير إلى الأندلس في القرون الوسطى. ومثل هؤلاء أيضاً موسيقيي وسط أوربا مثل لست وشوبر وموزار وبعض موسيقيي أمريكا الجنوبية أيضاً الذين وجدوا في ألحاننا مورداً فياضاً لا ينضب.
والآن أعود متسائلاً إذا كان العكس ممكناً: فتقدم الموسيقى الغربية - في رأيي - قد بدأ يصل إلى درجة التشاؤم التي تكلمت عنها من قبل. وأني لا أفكر في لحظة في أن أحط من(177/45)
شأن (الأرلزين وفيدليو ولوهنجرين) ولا أريد إلا أن أضع كل موسيقي في الوضع المناسب له. وأني لا أذكر هنا ما قاله المسيو (أندريه كوردي) في مؤلفه (مشاهد الموسيقى العصرية): صراع دائم. . الموسيقى العربية تحتضر كل يوم باتصالها بالموسيقى الغربية؛ وستموت الموسيقى الشرقية إن عاجلاً وإن آجلاً إذا لم تثابر على مقاومة الموسيقى الأوربية الزاحفة عليها بموسيقى شرقية بحتة.
قد أكون فيما كتبته أعبر عن أمنية لي. فالفنان الكبير الذي لمصر فخر الاحتفاظ به، والذي له تلك المهارة الفائقة التي استطاع أن يهضم بها بعض القطع الخالدة في الموسيقى الرومانتيكية، لن يعجز بفضل ما وهبه الله من حسن اختيار أن يوفق في أعماله القادمة في مزج الموسيقى العربية بالإفرنجية بدلاً من المجهود الضائع في إخراج ثمرة غير ناضجة لا يهضمها الذوق العربي. وأني أتمنى له التوفيق المطرد والفوز العظيم.
(تلمسان)
محمد زروقي(177/46)
الفصل في نبوة المتنبي من شعره
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 3 -
ولنعد إلى النظر في قصيدة المتنبي:
كم قَتيلٍ كما قُتِلْتُ شهيدِ ... بياضِ الطُّلى وورْد الخدود
فقد ابتدأها المتنبي بالنسيب على عادة الشعراء، وتدله في ذلك النسيب كل التدله، وقتل نفسه فيه من فرط الصبابة والوجد، ثم ذكر أيام الصبا والجهل وحنَّ إليها، وتفنن في وصف الحسان اللاتي نسب بهن أيما تفنن.
ولم يكفه ذلك التدله في النسيب، والتفنن في وصف النساء، بل عمد إلى الخمر ينسب بها أيضاً، ويتدله فيها بأكثر مما تدله في نسيبه.
ولا شك أن هذا الأسلوب في النسيب ووصف الخمر، لا يتفق مع ذلك الأسلوب الذي ينسب إليه في دعوى النبوة، ولا يمكن أن يحصل هذا وذاك من شخص واحد، لاختلاف نزعتهما، وتباين المشارب فيهما، واتجاه كل منهما إلى غاية تخالف الأخرى، فهو فيما ينسب إليه في دعوى النبوة رجل جد وصلاح، مبعوث إلى هذه الأمة الضالة المضلة، ويريد أن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً؛ وهو في قرآنه يدعو إلى الأيمان ويحارب الإلحاد، ولكنه في شعره هازل خليع، يدعو إلى الفسق والفجور، وينغمس في حمأة الضلال، ويبلغ من أمره أن يستهتر بالأيمان والتوحيد إلى هذا الحد قي قوله:
يترشفن من فَمي رَشَفاتٍ ... هُنَّ فيه أحلى من التوحيد
وهذا البيت يذكر فيما يؤخذ على المتنبي من الإلحاد في الدين فكيف يتفق أن يأتي في شعره وهو في عهد يدعو فيه إلى التوحيد ويحارب الإلحاد ويزعم فيه أنه نبي مرسل؟
ثم يبلغ أيضاً من أمره عندما أخذ في وصف الخمر أن يقول فيها هذا القول:
كلُّ شيء من الدماءِ حرامٌ ... شُرْبهُ ما خلا دم العنقود
فأي نبي هذا الذي يحلل الحرام ويحرم الحلال؟ وأي ضلال يحاربه وهو يدعو إلى هذا الضلال؟
وقد جاء البيت الأول في بعض الروايات:(177/47)
يترشَّفن من فَمي رَشفاتٍ ... هُن فيه حلاوةُ التوحيد
وهو في هذه الرواية أخف في الاستهتار من روايته الأولى وهي الرواية المشهورة.
فلما جاوز في قصيدته هذا كله، ووصل إلى مقصوده من الفخر بنفسه وشكوى حاله، وحمل نفسه على تحمل الصعاب في سبيل آماله، كانت آماله أشياء أخرى دنيوية، ولم تكن هي الآمال التي تنسب إليه في دعوى النبوة؛ فليس لهذه الآمال ذكر هنا، ولا تشتم لها فيه رائحة، وإنما هو هنا رجل يسعى في اكتساب المجد، ويكد في طلب الغنى والمال، ويشكو من إخفاقه في هذا الطلب مع كثرة سعيه فيه:
ضاق صدري وطال في طلب الرَّزْ ... قِ قيامي وقَلَّ عنه قعودي
أبداً أقطع البلاد ونجمي ... في نحوس وهمتي في سُعُود
وهو أبداً مولع بذلك الاستهتار حتى في مقام الجد، فإذا أمر بطلب العز لا يفوته أن يقول إنه خير من الذل ولو كان في جنة الخلد، وأن يفضله ولو كان في لظى على الذل.
فاطلب العزَّ في لَظى وذَر الذ ... لَّ ولو كانَ في جنان الخلود
فمثل هذا لا يصح أن يكون من شخص يدعي النبوة، ويدعو الناس إلى العمل الذي يوصلهم إلى نعيم الله في الجنة. ولا فرق بينه في هذا وبين ذلك الشاعر الجاهلي الذي سبقه إلى ذلك المعنى، وكان له من جاهليته ما يهون من أمره فيه، وهو ذلك الشاعر الذي يقول:
حكم سيوفك في رقاب العذل ... وإذا بليتَ بدار ذلٍّ فارحل
دار النعيم بذلةٍ كجهَنمٍ ... وجهنم بالعز أَكرم منزلِ
وكذلك هذا الفخر لا يليق ممن يدعي النبوة:
إن أكن معجباً فَعُجبُ عجيب ... لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا ترْب النَّدى ورَبُّ القوافي ... وسمامُ العدى وغيظ الحسود
وهكذا نخرج من دراسة هذه القصيدة بيقين لا شك فيه، أنها لا تتفق مع تلك النبوة المزعومة للمتنبي، فأما أن تكون هذه القصيدة مختلقة عليه، وأما أن تكون تلك النبوة مكذوبة. وإذا كانت هذه القصيدة للمتنبي باتفاق الفريقين المختلفين في أمر نبوته، فأن تلك النبوة تكون هي المكذوبة قطعاً.(177/48)
وهذه قصيدة ثانية للمتنبي، قالها في ذلك العهد الذي ينسب إليه إدعاء النبوة:
ضيفٌ ألم برأسي غير محتشم ... والسيفُ أحسن فعلاً منه باللمم
ابعِدْ بعدت بياضاً لا بياض له ... لأنت أسودُ في عيني من الظلم
بحبِّ قاتلي والشيبِ تغذيتي ... هواي طفلاً وشيبي بالغ الحلم
فما أمرُّ برسم لا أسائله ... ولا بذات خمار لا تُريق دمي
تنفَّست عن وفاءٍ غير منصدع ... يوم الرَحيل وشعب غير ملتئم
قبلتها ودموعي مزجُ أدمعها ... وقبلتني على خوف فماً لِفمِ
فذقت ماء حياةٍ من مُقبَّلِها ... لو صاب ترباً لأحيا سالف الأمم
ترنو إليَّ بعين الظبي مُجهِشةً ... وتمسح الطَّلَّ فوق الورد بالعنم
رُويدَ حكمك فينا غير منصفةٍ ... بالناس كلَّهم أفديك من حكم
أبديتِ مثل الذي أديتُ من جزعٍ ... ولم تجني الذي أجننتُ من ألم
إذن لبزَّكِ ثوبَ أصغرهُ ... وصرتِ مثلي في ثوبين من سقم
ليس التعلُّلُ بالآمال من أربي ... ولا القناعةُ بالأقلال من شيمي
ولا أظن بناتِ الدهر تتركني ... حتى تسدُّ عليها طُرقها هممي
لم الليالي التي أخنت على جدَتي ... برقة الحال واعذرني ولا تلم
أرى أناساً ومحصولي على غنم ... وذكر جودٍ ومحصولي على الكلم
ورَبَّ مال فقيراً من مُروَّته ... لم يُثر منها كما أثرى من العدم
سيصحب النصلُ مني مثل مضربهِ ... وينجلي خبري عن صمَّة الصِّمم
لقد تصبرتُ حتى لاتَ مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لأتركنَّ وجوهَ الخيل ساهمةً ... والحربُ أقومُ من ساق على قدم
والطعنُ يحرقُها والزجر يقلقها ... حتى كأنَّ بها ضرباً من اللمم
قد كلمَّتها العوالي فهي كالحةٌ ... كأنما الصَّابُ معصوب على اللجم
بكل مُنصلتٍ ما زالُ منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلواتِ الخمس نافلةً ... ويستحل دمَ الحجاج في الحرم
تنسى البلادَ بروق الجوَّ بارقتي ... وتكتفي بالدم الجاري عن الدِّيم(177/49)
رِدِي حياضَ الرَّدى يا نفس واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنَّعم
إن لم أذَرْكِ على الأرماح سائلةً ... فلا دعيت أبن أُمِّ المجد والكرم
أيملك الملكَ والأسياف ظامئةٌ ... والطير جائعة لحم على وضم
من لو رآني ماءً مات من ظمأٍ ... ولو مثُلْتُ له في النوم لم ينم
ميعادُ كلِّ رقيق الشفرتين غداً ... ومن عصا من ملوك العرب والعجم
فإن أجابوا فما قصدي بها لهم ... وإن تولَّوْا فما أرضى لها بهم
وقد افتتح المتنبي هذه القصيدة بذم الشيب الذي ظهر فيه قبل أوانه، فحل في رأسه ضيفاً ثقيلاً غير محتشم، وبدا بياضه في عينه أسود من الظلم، وقد اجتمع عليه بذلك أمران صارا له كالغذاء: حب مبكر في عهد الطفولة، وشيب مبكر في بلوغه الحلم. ولا شك أن من يتبرم بالشيب هذا التبرم لا تحدثه نفسه بادعاء النبوة وما يلزم لها من إظهار الصلاح والتقوى، والفرح بالشيب إذا أقبل، لأنه كما قال بعض الحكماء: زهرة الحنكة، وثمرة الهدى، ومقدمة العفة، ولباس التقوى. وأين قول المتنبي في هذا من قول دعبل بن علي
أهلاً وسهلاً بالمشيب فأنه ... سمة العفيف وحلية المتحرّج
ضيف ألمَّ بمفرقي فقربته ... رفض الغواية واقتصاد المنهج
فمثل هذا هو الذي كان يقوله المتنبي في الشيب لو صح ما ينسب إليه في دعوى النبوة، وهو الذي يتفق مع الغاية التي تنسب إليه فيها.
ثم مضى المتنبي يتغزل على أسلوبه في قصيدته الأولى، يسأل كل رسم، ويجري في حب متنقل وراء كل ذات خمار، وهو حب شهوي كحب أبن أبي ربيعة وغيره من الشعراء الذين تستهويهم كل ذات جمال، ولا يعرفون في حبهم شيئاً من الوفاء، بل يتحدثون عن وفاء النساء لهن ولا يفون، كما تحدث المتنبي عن ذلك في قوله:
تنفست عن وفاء غير منصدع ... يوم الرحيل وشعب غير ملتئم
وقد يتفق لنبي أن يسمع هذا النوع من الغزل إذا كان بريئاً كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم في سماعه قصيدة كعب بن زهير
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يُفْد مكْبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول(177/50)
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
إخالها خلة لو أنها صدقت ... موعودها أو لو أن الوعد مقبول
لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل
ولكن فرقاً كبيراً بين سماع هذا النوع من الغزل وإنشائه، ورب شيء يقبل من شخص ولا يقبل من شخص أعلى منه، ورب حسنات في ذلك تعد سيئات، ورب سيئات تعد حسنات. ولا شك أن مثل هذا الغزل لا حرج فيه على كعب رضي الله عنه، وقد سمعه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاعتبار، وإن لم يكن من شأنه هو أن ينشئه.
ثم اقتضب المتنبي نسيبه اقتضابا، وابتدأ مقصوده من قصيدته بقوله:
ليس التعلل بالآمال من أرَبي ... ولا القناعة بالإقلال من شيمي
فإذا هو فيه طالب دنيا لا أكثر ولا أقل، وإذا به لا يرضى في ذلك بالقليل، وينفر من صفة القناعة التي حث عليها جميع الأنبياء قبله.
وهو في ذلك أيضاً ثائر على دهره الذي يفقر مثله على مروءته وشجاعته، ويغنى سواه على فقره من المروءة والشجاعة؛ ثائر على تلك الدول التي أقامها في عصره خدم العباسين الذين كانوا يجلبونهم أرقاء فيصبحون ملوكاً على الناس، فهو يقيم الدنيا ويقعدها من أجل تلك المهازل في نظره، ويرى نفسه أعلى شأناً من هؤلاء الخدم، وأحق منهم بهذا الملك الذي استأثروا به لأنفسهم.
وهو هنا لا يتحدث عن عدل وجور كما يتحدث فيما ينسب في دعوى نبوته، بل يتعطش إلى الحرب والقتال كما يتعطش كل فارس جبار يعشق سفك الدماء ونشر الفساد في الأرض.
ولا يتحدث كذلك عن أيمان وكفر، بل يتحدث عن خدم أقاموا لهم ملكاً هو أحق به منهم لما امتاز به من المروءة والشجاعة عليهم.
ثم تراه لا يقلع في هذه القصيدة عن استهتاره، وأخذه فيما بدل على ضعف دينه، فيقول
بكل مُنصلتٍ ما زالُ مُنتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلوت الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم(177/51)
فالذي يقول هذا لا يمكن أن يأخذ وسيلته إلى الناس دعوى النبوة، لأنها تقتضي منه شيئاً آخر غير هذا الاستهتار، وتواضعاً في القول غير هذا التجبر، واقتصاداً في الحديث عن النفس غير هذا الإسراف في الفخر.
وسبيل هذه القصيدة بعد هذا سبيل القصيدة السابقة في القطع بكذب هذه الدعوى على المتنبي، لأنها تظهره في ذلك العهد بخلاف المظهر الذي يظهر به فيما ينسب إليه في دعوى النبوة وادعاء مثل هذه الدعوى من المتنبي في علمه وذكائه تقتضي منه الحيطة في أمره، وتوجب عليه ألا يظهر بين الناس بهذا المظهر في شعره، حتى يصدقه الناس في دعواه، ويلتئم حاله فيها التئاماً يخدعهم فيه. ويجب علينا بعد هذا أن نأخذ في هذا اللقب بما نقله أبن جني عن المتنبي نفسه، وقد ذكرنا فيما سبق، فلا نعيده هنا، ولكنا نذكر في ذلك مذهباً للأستاذ (محمود شاكر) رأى أنه أقرب إلى الصدق، وأولى بالاعتبار، وهو أن المتنبي نبز هذا النبز من أجل أنه كان في أول أمره متورعاً في خلقه لا يخرج عن حدود الوقار، متزمتاً لا يلين إلى الشهوات ولا يلقى إليها مقاده مترفعاً عن سفساف الأخلاق متمسكاً بمعاليها، آخذاً نفسه بالجد الذي لا يفتر؛ وكان لا يقرب التهم ولا يدانيها، فما كذب ولا زنا ولا لاط، ولا أتى أمراً منكراً يؤخذ عليه، أو يُزَنُّ به. واستمر على ذلك حياته كلها، وخالف الأدباء والشعراء من أهل عصره فما شرب الخمر ولا حمل وزرها، ولولا اضطراره فيما نرى لما حضر مجلسها. وكان الأدباء والشعراء في ذلك الوقت أهل شراب ومعاقرة ولهو وهزل وباطل، فلما وجدوا ما هو فيه من التعفف والتورع، ووقعوا على كثرة دوران أسماء الأنبياء في شعره، وتشبيهه نفسه بهم، نبزوه هذا النبز، ولقبوه المتنبي يريدون المتشبه بالأنبياء.
ولا شك أن هذا غلو من الأستاذ في أمر المتنبي، وقد روى عن بعضهم أنه عاشره فما رآه كذب ولا زنا ولا لاط، ولكن هذا لا يكفي لأن يجعل منه الرجل الصالح الزاهد المتورع الذي يصفه الأستاذ محمود. على أن هذا الاشتقاق لا يدل على التشبه وإنما يدل على الادعاء، وقد جاء في القاموس (وتنبأ ادعى النبوة ومن المتنبئ أحمد بن الحسين) وإنما يقال في ذلك تأله، لأن التأله التنسك والتعبد، ولم يلصق هذا اللقب بالمتنبي إلا لأجل الكيد به، وإيهام أنه ادعى النبوة، ولهذا كان يكرهه المتنبي. ولو كان لهذه الأغراض المذكورة(177/52)
لفرح به وهش له، والخطب في هذا سهل بيني وبين صديقي الأستاذ محمود شاكر، بعد اتفاقنا على أن هذه النبوة مختلقة على المتنبي؛ وأني لا أحب أن أثير في هذا جدالاً بيني وبينه؛ ولعله يتغاضى عن هذا الخلاف القليل بيننا، ليكون ما ذكرناه هو القول الفصل في هذا الموضوع حقاً.
عبد المتعال الصعيدي(177/53)
تأريخ العرب الأدبي
للأستاذ ينولد نيكلسون
الفصل الأول
- 5 -
وإن نفس العاطفة الوطنية المتأججة في صدر الهمداني والتي بعثته على أن يخصص نفسه للبحث العلمي قد أوحت إلى نشوان أبن سعيد - الذي ينتمي من ناحية الأب إلى أسرة قديمة من أشراف اليمن - أن يتذكر الماضي الخرافي ويتعلق بإحياء مجد إمبراطورية زالت معالمها ودرست آثارها. وأنه ليتغنى في (القصيدة الحميرية) بعظمة وقوة أولئك الحكام الذين تبوأوا عرش أمته، ويؤول في روح إسلامية حقة حقيقية الغناء والحياة، وحقارة المطامع البشرية، ومع أن هذه القصيدة في ذاتها قليلة القيمة فأنها تعتبر وثيقة قيمة - نوعاً ما - لاشتمالها على أسماء الملوك، ومعها شرح تاريخي واف إما أن يكون كاتبه نشوان نفسه - وهذا ما يرجحه فون كريمر - أو أحد معاصريه. والذين لا يرون التاريخ إلا مجمل حقائق لن يجدوا مأربهم في هذا التعليق، إذ نرى خيوط الحقيقة معقدة متشابكة مع أساطير خرافية مكذوبة، وقد وضع القصّاصون في فجر الإسلام صورة حرفية لمثل هذه الأساطير، من ذلك أن أحد عرب الجنوب وأسمه (عبيد بن شرْية) زار دمشق تلبية لدعوة الخليفة معاوية بن أبي سفيان الذي سأله (عن الأخبار المتقدمة، وملوك العرب والعجم، وسبب تبلبل الألسنة وأمر افتراق الناس في البلاد) وطلب إليه أن يكتب وأمر أن تجمع وتكتب إجاباته كلها ثم تنشر باسمه، وهذا العمل الذي لم تصلنا أية نسخة للأسف كان يسمى (كتاب الملوك وأخبار الماضين) وقد تكلم عنه المسعودي (956م) ككتاب معروف متداول في محيط كبير، كما اعتمد عليه فيما بعد شارح (القصيدة الحميرية) إما مباشرة أو بواسطة الإكليل للهمداني. وقد نعتبره - كما اعتبره الشارح نفسه - كقصة تاريخية لكثير من شخصياتها وحوادثها أساس من الحقيقة والواقع قد مُوِّهت بكثير من القصص الخيالية والقصائد المكذوبة، مما يجد فيها السامر خير عون له على أداء مهمته. ومن بين المؤلفين المسلمين القلائل الذين اهتموا بدراسة تأريخ عرب الجنوب في العصر السابق للإسلام(177/54)
حمزة الأصفهاني، ويمدنا الكتاب الثامن من تاريخه (الذي انتهى منه عام 961م) بتفاصيل تاريخية دقيقة موجزة على التبابعة أو ملوك اليمن الحميريين.
خلف قحطان - جدَّ أعراب الجنوب - ابنه يعرب الذي يقال إنه أول من أتخذ العربية لساناً، وأول من أخذت له التحايا التي اعتاد العرب أن يحيوا بها ملوكهم كقولهم (أنعم صباحاً) و (أبيت اللعن) وقد اشتهر حفيده عبد شمس سبأ باسم مؤسس مأرب وباني سدها المشهور، وإن كان هناك آخرون يقولون إن مؤسسه هو لقمان بن عاد، وكان لسبأ ولدان حمير وكهلان، وقبل موته عهد إلى حمير بالجلوس على العرش والى كهلان بحراسة التخوم، وشنّ الغارات على الأعداء؛ ومن ثم كانت لحمير السيادة واتخذ اسم (أبو أيمن) وأقام في عاصمة المملكة بينما تعهّد كهلان بالدفاع عنها وتدبير الحروب وبالإغضاء عن سرد سلسلة نسب الملوك السبئيين الخرافيين الذين لا تذكر القصة عنهم إلا قليلاً جداً، فإنما نمضي إلى ذكر حادثة رسخت في أذهان العرب رسوخاً لا يمكن استئصاله منها، ألا وهي الحادثة المعروفة عندهم بسيل العرم أو فيضان السد.
على بضعة أميال قلائل من الجنوب الغربي لمأرب تمتد الجبال متلاحمة تاركة فيما بينها أخدوداً يشقه نهر (أدنة) الذي يجف غالباً مجراه خلال فصل الصيف؛ أما في الشتاء فتسقط الأمطار الغزيرة وتتدفق المياه بقوة هائلة تكاد لا تحتمل، فلكي تكون المدينة بمنجاة من الفيضان ولأجل تنظيم الري وزرع الأرض وفلحها بني الأهالي سداً من الحجر الصلد استرعى خيال محمد بعد أن دمر تماماً، واعده المسلمون إحدى عجائب الدنيا. وليس بغريب أن ألبس مؤرخوهم تلك الحقيقة المجردة (انفجار السد) ثوب حادثة فضفاضة طريفة وإذ آذنت شمس القرن الثالث للميلاد بالمغيب أو قبل ذلك بقليل كان يتربع على عرش مأرب عمرو بن عامر ماء السماء المزيقيا، وكانت زوجته (ظريفة) ماهرة في علم الكهانة خبيرة بفنونها، وقد رأت أحلاماً ورؤى تنبئ عن شر جسيم يتهددهم، وفي ذات يوم قالت لزوجها الذي لم يكن يثق في عرافتها: (إمضِ إلى السد فأن أبصرت فأراً ينبش السد بمخالبه ويقذف قطعاً كبيرة من الصخور بقدميه الخلفيتين فتيقَّن بأن العذاب قد حل بنا) فمضى عمرو إلى السد وأنعم النظر فشاهد جرذاً يحرك حجراً كبيراً يعجز خمسون رجلاً جلداً عن ثقله من مكانه فأيقن عمرو أن السد منهار، وأن الأرض لا بد هالكة بمن عليها،(177/55)
فعزم على بيع أملاكه والرحيل بعائلته، لكنه خشي أن يبعث الاضطراب إلى قلوب السكان، فدبر حيلة ناجعة، ذلك أنه دعا أشراف المدينة ورؤوسها إلى وليمة فاخرة مدها لهم، واتفق مع ابنه أن يثيرا الخلاف بينهما (أو بينه وبين اليتيم الذي درج في بيته كما يقول آخرون) وتبودلت بينهما الضربات فصاح عمرو: (وا فضيحتاه!! أفي يوم مجدي وفخري يسبني ويلطمني غلام عاق؟) ثم أقسم أن يقتل الفتى، فتوسل إليه ضيوفه أن يرحمه ويرأف به فأجابهم، بيد أنه أقسم قائلاً: (لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي وسأبيع أرضي ومتاعي) وإذ نجح في الخلاص من أعبائه - إذ لم يعدم مشترين لبوا دعوته واغتنموا غضبته - لم يتردد في أن يخبر الناس بما يتهددهم من بلاء ثم بارح مأرب على رأس جمع حشيد، ثم أخذت المياه تثقب السد شيئاً فشيئاً وتغمر الأرض، مرسلة في لجتها الدمار طولاً وعرضاً، ومن هنا نشأ المثل القائل (تفرقوا أيدي سبأ) أي تشتتوا كما تشتت قوم سبأ.
وإن ذلك الطوفان ليؤرخ فترة من تأريخ بلاد العرب الجنوبية ثم غابت المياه واخضرت الأرض بعد إمحال وعادت إلى الإيناع والزرع، بيد أن مأرب ظلت مهجورة، واختفى السبئيون إلى الأبد إلا ما يذكره الأعشى في قصيدة له من قوله:
وفي ذَاكَ للمُؤتسى أُسْوةٌ ... ومَأرَبُ عَضَّ عليها العرِمُ
رَخامٌ بَنتْهُ لهم حِمْيرٌ ... إذا جاء مَوَّارُه لم يَرِم
فأرْوَى الزَّروع وأعنابَها ... على سِعَة مَاؤهَا إذْ قَسَم
فَصَارُوا أيادِيَ ما يَقْدِرون ... مِنهُ على شُرْبِ طفل فُطِم
وليست في كلام الشاعر عن حمير دقة تاريخية، أما الحميريون وعاصمتهم ظفار (صنعاء فيما بعد) فقد صاروا حكام اليمن بعد انفجار سد مأرب وتلاشى السبئيين الذين أقاموه.
أما تبع الأول - الذي أطلق لقبه مؤرخو المسلمين على من خلفه من ملوك حمير فيسمى (حارث الرائش) لأنه زين بيوت قومه بالغنائم والأسلاب مما جلبه معه - كفاتح - من الهند وأزربيجان، أما عن التبابعة الذين ولوا الحكم بعده فان بعضهم يدين بدرجة في سلسلة حمير إلى النسّابين الذين كان احترامهم للقرآن يفوق دقتهم النقدية كما حدث مثل هذا بشأن المخلوق الخرافي صعب ذي القرنين، وأن الأبيات التالية لتخلط بينه وبين ذي القرنين العجيب الوارد نبؤه في القرآن والذي يعتبره معظم المفسرين نفس الاسكندر الأكبر.(177/56)
لنا مُلك ذي القرْنينِ هلْ نالَ مُلكهُ ... مِن البشرِ المخلوقِ خلقٌ مُصورً؟
نوى ثمَّ يتلو الشمسَ عِند غرُوبها ... لينظُرها في عينِها حينَ تُدْحرُ
ويسمُو إليها حين تطلعُ غدْوَةً ... ليلمحها في بُرجها حينَ تظهرُ
دليلاً بأسبابِ السماءِ نهارُهُ ... وليلاً رقيباً دائماً ليسَ يفترُ
وأرْصدَ سدّاً من حديدٍ إذا بدا ... ومن عينِ قطرٍ مترعاً ليسَ يَظهرُ
رَمى فيهُ يأجوجاً ومأجوجَ عُنْوةً ... إلى يوْمَ تُدْعى للحساب وتُنشرُ
(يتبع)
ترجمة حسن حبشي(177/57)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس الشبلي
- 3 -
- 7 -
وأمسى المساء مرخياً سدوله على الساحة فتفرق عنها المتفرجون وقد أرهقهم الفضول والرعب، وبقى زارا جالساً على الأرض قرب الميت فاستغرق في تفكيره ناسياً مرور الزمان حتى هبت نفحات الليل عليه منفرداً، فناجى نفسه قائلاً:
لقد كان صيدك موفقاً اليوم يا زارا! لقد أفلت الناس منك فاصطدت جثة هامدة.
إن حياة الإنسان محفوفة بالأخطار، وهي فوق ذلك لا معنى لها. . . فأن مهرجاً يمكن أن يقضي عليها.
أريد أن أُعلم الناس معنى وجودهم ليدركوا أن الإنسان الكامل إنما هو البرق الساطع من الغيوم السوداء من الإنسان.
ولكنني لم أزل بعيداً عن هؤلاء الناس وفكرتي بعيدة عن مداركهم، فأنا لم أزل متوسطاً المدى بين مجنون وجثة هامدة.
إن الليل مظلم ومسالك زارا مظلمة أيضاً. تعال أيها الرفيق المتيبس في حقيبته! إنني ذاهب بك إلى حيث أواريك التراب بيدي.
- 8 -
ورفع زارا الجثة على كاهله ومشى، ولكنه ما قطع مائة خطوة حتى زحمه رجل؛ وما كان هذا الرجل إلا مهرج البرج، فأسرّ إليه في أذنه:
- أذهب من هذه المدينة يا زارا فأن مبغضيك فيها كثيرون. هنا يكرهك أهل الصلاح والعدل، فيصفونك بالعدو والمزدري، ويكرهك المؤمنون بالدين الحق فيرون بك خطراً على عامة الناس، وقد كان من حظك أن هزأ الحشد بك لأنك كنت تتكلم كالمهرجين، وكان من حظك أيضاً أن اشتركت والكلب الميت، فقد كان خلاصك هذه المرة في إسفافك إلى(177/58)
المهاوي، ولكنك لم تسلم في الثانية فأذهب من هذه المدينة وإلا فأنني قافز غداً فوق جثة أخرى.
قال الرجل هذا وتوارى وتابع زارا سيره في الشوارع المظلمة. ولما بلغ باب المدينة التقى حُفّار القبور فوجهوا إلى رأسه أشعة مصابيحهم وإذ عرفوا فيه زارا أشبعوه سخرية وهزءاً وقالوا:
- مرحى يا زارا! لقد صرت الآن حفاراً للقبور؛ إنك تحمل الكلب الميت. لقد أحسنت، فأن أيدينا أطهر من أن تدنس بجثته. أتريد يا زارا أن تختلس من الشيطان طعامه؟ كل هنيئاً! ولكن الشيطان أمهر منك، ولعله يسرقكما كليكما فيلتهمكما التهاماً.
ودار حفار القبور بزارا يتفرسون فيه. أما هو فلزم الصمت وسار في طريقه. وبعد أن مشى ساعتين يقطع الأحراج والمستنقعات، شعر بالجوع لكثرة ما عوت حوله الذئاب الجائعة، فوقف أمام بيت منفرد لاحت له الأنوار من نوافذه. وقال: لقد عضني الجوع وداهمني كاللص بين الأحراج في الليل البهيم.
إن لجوعي نزوات مستغربة وقد يداهمني حتى بعد الطعام، ولكنه اليوم ندّ عني منذ الصباح حتى المساء فأين كان هذا الجوع؟
وطرق زارا باب البيت فظهر له منه شيخ يحمل مشعلاً، وقال له: من الآتي إلي وإلى رقادي المضطرب؟
فأجاب زارا: أتيناك أثنين حي وميت، أعطني مأكلاً ومشرباً فقد نسيت الغذاء النهار بطوله، إن من يشبع الجياع يولي نفسه قوة، هكذا قالت الحكمة.
فغاب الشيخ وعاد بخبز وخمر وقال:
- إنها لأماكن موحشة للجياع، ذلك ما دعاني إلى السكن هنا حيث يهرع إلي البشر والحيوان في وحدتي. أفلا تدعو رفيقك ليأكل ويشرب معك فهو أشد تعباً منك.
فقال زارا: إن رفيقي ميت ولا يسهل علي إقناعه بتناول الطعام.
فتمتم الشيخ: ذلك لا يهمني؛ إن من يطرق بابي عليه أن يأخذ ما أقدمه له. كلوا هنيئاً.
وعاد زارا إلى السير فمشى ساعتين أيضاً وهو يهتدي إلى رسوم الطريق بنور النجوم، وقد كان معتاداً السري ويجب أن يتفرس في كل شيء راقه. وعندما لا ح الصباح كان زارا(177/59)
وصل إلى غابة كثيفة حيث انقطع كل طريق أمامه، فتوقف ووضع الجثة في فراغ شجرة حواها حتى رأسها ليقيها هجمات الذئاب، ورقد بعد ذلك متوسداً نبات الأرض وما عتم حتى استغرق في نومه منهوك الجسم مرتاح الضمير.
- 9 -
وطال نوم زارا حتى غمرت وجهه أنوار الضحى بعد أن داعبته تباشير الفجر ففتح عينيه مبهوتاً وسرح أبصاره على الغاب ثم حولها يستكشف نفسه ساكناً مستغرباً.
وهب من مجلسه فجأة كما يهب الملاح تبدو لعينه الأرض، فهتف وقد هزه المرح لأنه اكتشف حقيقة جديدة فخاطب قلبه قائلاً
لقد انفتحت عيناي. إنني بحاجة إلى رفاق أحياء لا إلى رفاق أموات وجثثٍ أحملهم إلى حيث أريد.
إنني أطلب رفاقاً أحياء ليتبعوني لأنهم يريدون أن يتبعوا أنفسهم أيان توجهت.
لقد انفتحت عيناي، ليس على زارا أن يخاطب جماعات بل عليه أن يخاطب رفاقاً، يجب ألا يكون زارا راعياً للقطيع وكلباً له.
إنني ما جئت إلا لأخلص خرافاً عديدة من القطيع، وسوف يتمرد الشعب والقطيع عليّ. إن زارا يريد أن يعامله الرعاة معاملتهم للصوص.
قلت رعاة غير أنهم يدعون بالصالحين والعادلين. قلت رعاة غير أنهم يدعون بالمؤمنين بالدين الحق.
انظروا إلى أهل الصلاح والعدل لتعلموا من هو ألدّ أعدائهم، أنه من يحطم الألواح التي حفروا عليها سننهم ذلك هو الهدام ذلك هو المجرم - غير أنه هو المبدع.
انظروا إلى المؤمنين بجميع المعتقدات تعلموا من هو ألدّ أعدائهم إنه من يحطم الألواح التي حفروا عليها سننهم، ذلك هو الهدام، ذلك هو الجرم غير أنه هو المبدع.
إليّ بالرفاق. أنني أطلبهم مبدعين ولا أطلبهم جثثاً وقطعاناً ومؤمنين.
إن البدع لا يتخذ له رفاقاً إلا من كانوا مثله مبدعين، إنه يتخذهم ممن يحفرون سنناً جديدة على ألواح جديدة.
إن من يطلب المبدع إنما هم الحصّاد يعاونونه في الحصاد لأن كل شيء قد أصبح في عينه(177/60)
ناضجاً للحصاد، ولكن المائة منجل ليست بين يديه فهو يتميز غضباً ويقتلع السنابل من أصولها.
إن المبدع يطلب رفاقاً له بين من يعرفون أن يشحذوا مناجلهم، وسوف يدعوهم الناس هدّامين ومستهزئين بالخير والشر، غير أنهم يكونون هم الحاصدين والمحتفلين بالعيد.
إن زارا يطلب من كانوا مثله مبدعين يشاركونه في الحصاد وفي الراحة فلا حاجة له بالقطعان والرعاة وأشلاء الأموات.
وأنت يا رفيقي الأول، أرقد بسلام لقد أحسنت دفنك في فراغ الشجرة ووقيتك افتراس الذئاب.
غير أنني سأفترق عنك لأن الزمان قد مر سريعاً، وقد انبثقت حقيقة جديدة في أفق نفسي ما بين فجرين.
لن أكون راعياً، ولن أكون حفار قبور، ولسوف لا أقف بعد الآن في الجماعات خطيباً فقد وجهت آخر حظي إلى ميت.
أريد أن أنظم إلى المبدعين، إلى أولئك الذين يحصدون ويرتاحون فأريهم قوس قزح والمراتب التي يرقاها الواصلون إلى الإنسانية الكاملة.
سأهتف بنشيدي للمعتزلين ولمن يشعر بمثنويته في انفراده أنني سأملأ بغبطتي قلب كل من له أذاناً تصغيان إلى ما لم تسمعه أذن بعد.
أنني أسير إلى هدفي وأتبع طريقي فأقفز فوق المترددين والمتأخرين، وهكذا سيكون سيرى جنوحاً إلى الغروب.
- 10 -
وكان زارا يناجي نفسه بهذا القول والشمس في الهاجرة وإذا به يسمع صوتاً جارحاً في الفضاء ولاح له نسر يعقد حلقات في طيرانه وقد تعلقت به أفعى وما كان يقبض عليها بمخلبيه كفريسة، بل كانت ملتفة حول عنقه التفاف المحب.
فهتف زارا والحبور يملأ فؤاده: هذان نسري وأفعاي، فهو أشد الحيوانات افتخاراً، وهي أشدها مكراً تحت الشمس؛ وكلاهما ذاهبان مستكشفين في الفضاء ليعلما ما إذا كان زارا لم يزل في الحياة، فهل أنا لم أزل حياً بعد؟(177/61)
لقد اعترضني من المخاطر بين الناس ما لم أجد مثله بين الحيوانات؛ إنني أتبع السبل المخطرة فلأقتدين بنسري وأفعاي.
وتذكر زارا حينئذ القديس المنعزل في الغاب فتنهد وقال:
لأكونن أوفر؛ حكمة لأكونن ماكراً كأفعاي؛ غير أنني أطلب المستحيل لذلك أتوسل إلى افتخاري أن يلازم حكمتي ولا ينفصل عنها.
وإذا ما تخلت حكمتي عني يوماً وهي تتوق إلى الطيران وا أسفاه فأنني أرجو أن يطير افتخاري مستصحباً جنوني.
وهكذا بدا جنوح زارا إلى المغيب.
(يتبع)
فليكس فارس(177/62)
على شواطئ البسفور
للأستاذ محمد بهجة الأثري
هنا الدنيا هنا الدنيا ... ألا ما أحسن الَمحْيا
رُواء كفم الصّبح ... إذا افترّ عن الفجر
على الأفق، على الروض ... على البرّ، على البحر
كأن الأرض قد قامت ... على الرقصة والزّمر
سرور أينما سرت ... وعرسٌ لم يزل يجري
فيا عاشق دنياه. . . ... هنا الدنيا، هنا الدنيا
صفاء الأفْق كالبحر ... ولون البحر كالأفْق
فمن يرنو إلى تحتٍ ... كمن يرنو إلى فوق
يشم الأفق مطبوعاً ... على البحر بلا فرق
كأن البحر دون الأفق ... أمسى مطلق الزرق
فيا عاشق دنياه. . . ... هنا الدنيا، هنا الدنيا
رباع كجنان الخلد ... لا حرٌّ ولا برد
حباها في ضحى آب ... كما ينفحه الورد
فروْض أرج العطر ... وجوّ غَنِجٌ سعد
أنيق الوشى كالجيد ... إِذا زيّنه العقد
فيا عاشق دنياه. . . ... هنا الدنيا، هنا الدنيا
يحار الفكر إن جال ... بما يشهد من حسن
فما يؤثر أو يهوى ... وما يبعد أو يدنى!
إذا أعجبه مرأى ... رأى أعجب في الشأن
فلا ينفك مسحوراً ... كمأخوذ ابنة الدنّ
فيا عاشق دنياه. . . ... هنا الدنيا، هنا الدنيا
شهدت الحسن مطبوعا ... كما أبصرت مصنوعا
ورمت الحب مبذولاً ... فما صادفت ممنوعا(177/63)
وشِمْت الخلد مرئيا ... وكان الخلد مسموعا
وألفيت شتات الحس ... ن في (البسفور) مجموعا
فيا عاشق دنياه. . . ... هنا الدنيا، هنا الدنيا
حسان كعذارى الخل ... د يمرحن زُرافات
كأنْ آذار أبداهن ... في الآفاق باقات
فهن الزهر في الروض ... نشرن الحسن طاقات
وهن الزُّهر في الأفق ... نزلن الأرض غادات
فيا عاشق دنياه. . . ... هنا الدنيا، هنا الدنيا
كأن الدهر بالغادا ... ت كالأزهار نيسان
فهل غاب عن الخلد ... رقيب الخلد رضوان
نشاوى مثل رائيه ... ن بالإعجاب نشوان
ييمِّمن ربوع الأن ... س حيث الحب ألحان
فيا عاشق دنياه. . . ... هنا الدنيا، هنا الدنيا
أغان وأغاريد ... لها يطرب محزون
بلحن الطير في الأيكِ ... يناغيهن قانون
تثير الروح بالشدو ... كما ينشر مدفون
تغنّيها الرياحين ... كما استضحك مفتون
فيا عاشق دنياه. . . ... هنا الدنيا، هنا الدنيا
لديها متعة السمع ... وفيها شهوة العين
تعالى الله ما أقد ... ر أن يجمع حسنين
وما أحسن أن تلتذ (م) ... باثنين شهيين
بريئين بلا إثم ... جميلين بلا شين
فيا عاشق دنياه. . . ... هنا الدنيا، هنا الدنيا
حياة لم ينغصها ... سوى ذكرى لأوطاني
أرى البسفور بساماً ... فأبكي ثغر (بغدان)(177/64)
نبا من أفقها الحسن ... ولم تنعم بعمران
كأن لم تك في الدهر ... جمال العالم الفاني
فيا شقوة (بغداد) ... إذا لم تشبه الدنيا!
(بغداد)
محمد بهجة الأثري(177/65)
في شعاع الفجر
مناجاة زهرة
بقلم أحمد فتحي مرسي
إيه يا زهرتي! لأقد أقبل الفج ... رُ يفيض الضياءُ من بسماته
والشعاع الحبيب قد فاض في القل ... ب فأحيا الدفين من أمنياته
والنسيم الرخيُّ يعبث بالغص ... ن ويثني الندى من زهراته
قد مضى يوقظ الزهور ويسري ... طابعاً فوق ثغرها قبلاته
رق حتى كأنه لمسة الطف ... ل ومسُّ الرقيق من أنملاته
والفَراش الوديع يرتشف الضو ... َء ويروي صداه من لمحاته
يلتوي كالقطاة أخطأها الرا ... مي فراحت تحيد عن رمياته
والرياحين همسات إلى المر ... ج كهمس الضميرَ في خلواته
قائمات على الربي ساجدات ... كسجود التقي في صلواته
كلْ ما في الوجود يا ملكة الرو ... ض يشعُّ الجمال من قسماته
إيه يا زهرتي! لقد أشرق الرو ... ض وسال الندى على وجناته
فارشفي النور من سنا الصبح رفا ... فا تلذ النفوس من رشفاته
وابسمي فالحياة حلم ويمضي ... ويفيق الفؤاد من سكراته
إيه يا زهرتي! لقد صدح الطي ... ر فهز الوجود من صدحاته
فآض في النفس لحنه فشجاها ... وأذاب الفؤاد من نغماته
فهبيه من وجهك الطلق وحيا ... يتملى من سحره أغنياته
إيه يا زهرتي! لقد أسفر الكو ... ن وراق الجمال في جنباته
لم تبكين؟ جفِّفي ذلك الدم ... ع وصوني عن البكا قطراته
لا يرُعك الزمان إن نثر الزه ... ر وأفنى النظير من ورقاته
لا يرعك العذابُ إن ملأ الكو ... ن فكلٌّ معذب في حياته
(القاهرة)(177/66)
أحمد فتحي مرسي(177/67)
القصص
تذكرة سفر من طنطا إلى سقر
للأستاذ إبراهيم جلال بك وكيل محكمة الزقازيق الأهلية
كان بإحدى ضواحي مدينة طنطا قروي له فتيان أحدهما جميل المحيا، مفتول العضل، تام الرجولة، كأبيه في الاستقامة والدأب على حرث الحقل ورعاية الماشية واسمه حسن. أما الآخر واسمه يونس فكان على نقيض أخيه، خامل الذكر، دائم التلهي بمعاكسة جيرانه، يسد مسيل الماء عنهم، ويسرق أمطار الذرة، ويسلبهم دجاجهم وسائر ما يكنزون.
وكان أبوهما مصطفى كهلاً أرمل، ولكنه عرف بالنجدة وصلابة العود، قد أخرجته الجندية متين البدن، وأكسبته سكنى المروج الخضر حدة في البصر.
وماتت زوجته والغلامان في الطفولة الأولى، وكان قد أدخر بقية من نقود الجندية فابتاع بها حقلاً زرعه نصف فدان وأحسن القيام عليه حرثاً وإنباتاً، وأقام تحت ظلال صفصافه عالية كوخاً صغيراً وسد به الحشائش الجافة وأضجع فيه طفليه واتخذ حوله سياجاً من قصب الذرة، ومهّد في ناحية من السياج مناخاً للدواب أسكن به شاة ذات أحمال وعنزات صغار. وكان الشيخ قد عرف بحسن الرماية وإحكامها من عهد أن كان في مصاف الجيش، ولديه قلائد الشرف حازها بحسن بلائه وبسالته في فتوح السودان. وقد رآه أهل القرية غداة العيد يحمل تلك القلائد ويخطر في الدرب عند باب العمدة كما شهد له العمدة بحسن السمت حين حياه مسلماً في أدب الجند وسكينتهم، وحين تناول قدح القهوة ثم أنقلب إلى كوخه الصغير بين غلاميه وماشيته.
وكان مصطفى قد اتخذ لنفسه محراباً للعبادة في ظل تلك الشجرة، فإذا أنشق الغسق عن غرة الفجر قام إلى قناة الماء فاغتسل ثم جثا في المحراب بقلب سليم، وكان هذا حاله في المواقيت الخمسة.
فكان الله في عونه حتى ترعرع الغلامان، وجاوز حسن سن الخامسة عشر ولحق به أخوه يونس، وزكا الزرع ودر الضرع وسال النضار بكف الشيخ مسيل الماء في حقله، فلم تطغه إخلاف الرزق وسعة العيش، وعكف على تثقيف ولديه في مكتب القرية، فحذق حسن فن الكتابة والحساب؛ أما أخوه فكان غافل اللب، ينسل من المكتب مع رفقة له فيتسكعون في(177/68)
دروب القرية حتى خرج غراً جاهلاً لا يحسن شيئاً، ولم تجد فيه نصائح أبيه الشيخ، ولا نالت منه سياط التأديب ولا وجيفة القيد؛ فكان يفر من الكوخ ويبيت ليله بالعراء. وكان حسن يتميز رحمة وحناناً بيونس؛ وكم كان يتقي بساعديه سياط أبيه ويقاسم أخاه بلاء التأديب.
وطرقهم طارق بليل، وكانت ليلة قرها زمهرير وريحها عاصف، فهرت كلابهم بباب الكوخ ونهض الشيخ إلى غدارة له بالجدار عامرة بأسباب الموت. وكان حسن قد نما عوده، واستقام كاهلاه كأحسن ما تقوم أبدان الرجال، فتصدى لأبيه وتناول منه آلة الموت، وخرج إلى الفناء وأبوه يرقبه بعيني صقر وبيده هراوة.
ورأى حسن شبحاً قد التقط حملين من الخراف، وتجاوز السياج بهما فانطلق في أثره حتى حازاه، وسدد إليه القذيفة، ولكنه تعرف السارق في عدوه، ولمح من وميض الأفق تصاوير بدنه، فالقى الغدارة ولحق به؛ وصحت فراسته فقد كان أخاه يونس. وقال له حسن خل الخراف لئلا يلحق بنا أبوك فأن بيده الهراوة. ورفض يونس صاخباً؛ وتعاقد الأخوان بالأيدي، وطعن قابيل هابيل وفر بالخراف. وجاء الشيخ يشتد وبيده آلة الموت التي رماها حسن، وجثا بجانب الجريح وقال له: عجيب أمرك والله! كيف تلقي عنك سلاحك ثم تذهب إلى اللص أعزل؟ ومسح الشيخ مقلتيه وحدق في شبح السارق، ثم بسط الغدارة على تلك السواعد الخالدة وهم بإطلاق القذيفة لولا أن قام إليه حسن وانكفأ على صدره، فطاشت القذيفة ونجا يونس وخلف الخراف. وشفى الله الجريح ورده إلى أبيه فلاحاً كادحاً زينة الغلمان حماة الفؤوس.
واستبان الشيخ أن سارق الليل كان يونس.
وجاء عيد الأضحى فنحر مصطفى كبشاً، وجاد بأكثره على الأيامى من عجائز القرية وضعاف أهل السبيل، ثم جلس مع ابنه حسن يأكلان شواء وثريداً.
وقال الغلام لأبيه: يا أبت أني راحل إلى مصر غداً إن شاء الله، فقد أنقصوا أجرة السفر كرامة لهذا العيد. فقال الشيخ يا بني أني لأجد في سفرك هذا خفوقاً بين أضالعي لا أدري والله له علة ولا سبباً.
وانطوى النهار وجاء الغد، فخرج الشيخ يشيع غلامه إلى المدينة، ودخلا المسجد الأحمدي،(177/69)
وطافا حرمه مع الطائفين من أهل القرية، وصلى الناس الظهيرة مهللين مكبرين، ثم قاموا إلى المحطة، أما مصطفى فأنه تناول جبين ابنه لثماً وزفر أنفاساً محزونة ثم توارى.
ورأى حسن في غمار الناس أخاه يونس يرفس في أطماره ويزوي مسكنه وفاقة، وقد غارت عيناه بين غضون الشقاء والاغتراب.
وتعانق الأخوان، وناح يونس من كبد نادمة موجعة، ونسى حسن جراحه السالفة وما فعل قابيل به وقال: (لا عليك يا أخي! وابتاع تذكرتين وحمل إلى أخيه قرصين من خبز السميذ).
واستقر الناس في العربات في حلل العيد وحولهم قدورهم وحلواهم، وأخليت مساند القرية للشيوخ، أما الولدان والرضع فركبوا كواهل الآباء وحجور الأمهات.
وتوالى ولوج هذا الركب المنكود بأفنية العربات، وامتد مصافهم إلى السقف، حتى لقد أسبلوا من أبدانهم ستراً كثيفاً على النوافذ. وكرت العربات في إثر القاطرة تهب الأرض وركبها لاه يرى انطواء الحقول والضياع والقرى كالصحف المصورة بيد الطفل ينشرها ويطويها.
وكان ذلك قدراً محتوماً وإن كان مكتوماً، فنزل بالركب المسافر موت فات الذين نوعوا أسباب الموت، وغاب بهم الحساب عن الذين يعدون على الأيام أنواع البلاء وألوان العذاب.
ذلك أن سعيراً من وقود جهنم فار من موطئ الأقدام وجوف العربات كما فار الطوفان من أغوار مدينة نوح.
وما كان الركب إلا أهل الفاقة والمسكنة عبيد الضائقة المالية قد ذهب رب الحقل بما أنبتوا من قطن وبر، ومشت الحكومة بماشيتهم في الخراج. ولو كانت العربات مفضية إلى بعضها لسارع الناس بالنجاة من باب إلى باب وخلفوا النار تأكل بعضها، ولكنها يا للحسرة الفاجعة، كانت عليهم موصدة في عمد ممددة.
وكشفت نوافذ العربة لمن يرجوا النجاة وثباً، فتقاطر كل مقبل على موت ليختار أحد السبيلين أيهما أهون عذاباً. أغمرة الإحراق، أم دق الأعناق؟ ورأى أهل القرى والحقول ضرام النار في أتونها المستعر، وها لهم ضجيج الوقود البشري، وجن جنونهم لغفلة السائق(177/70)
واندفاعه بقاطرته كعجلات الرومان الأولى نيط بها الأسرى في أغلالهم، وحمل الموتى إلى مدينة بنها، وعرضوا في فناء المستشفى وأسعف الذين بهم رمق.
وصاح النعاة بأهل القرى فأقبل الشيخ الفاني مصطفى مخذول الساقين، زائغ البصر، لا يدري ما كتب لولده حسن؛ ودخل فناء المستشفى في مشيخة من قريته، فعرف الناس موتاهم وعلا النحيب من اليتيم والأرمل والثكلى. أما مصطفى فقد دلف إلى الأشلاء حبواً وكف بصره بدمع يحرق الأديم، وأراد أن يرى بعينه مبلغ الكارثة من فؤاده.
فلمح ولده العائق يونس قائماً يبكي وحول ساعديه العصائب وعلى صدره اللفائف، وقد نشر رداءه على جسد أخيه حسن يحاول أن يخفيه عن بصر الشيخ المفجوع، ولكن الشيخ رأى بالبصيرة ما لم يره البصر!!
إبراهيم جلال(177/71)
البريد الأدبي
أوجين أونيل الفائز بجائزة نوبل للآداب
ذكرنا في العدد الماضي أن الأكاديمية السويدية قد منحت جائزة نوبل للطب والفسيولوجيا هذا العام إلى العلامة النمسوي الدكتور أوتو ليفي والعلامة الإنكليزي السير هنري هالت ديل.
والآن نذكر أنها منحت جائزة نوبل للآداب إلى الكاتب الأمريكي الشهير أوجين أونيل ?
وأوجين أنيل هم أعظم كاتب مسرحي أمريكي في عصرنا، اشتهرت قطعه التمثيلية في أمريكا وفي العالم القديم معاً؛ وكان مولده في سنة 1888 بمدينة نيويورك من أب ممثل شهير، ودرس أوجين في هارفارد وقضى شباباً مضطرباً يعالج مختلف الأعمال، وينتقل من بلد إلى بلد، فاشتغل بحاثاً عن الذهب، واشتغل بحاراً، وصحفياً مخبراً، وممثلاً، وأحرز خبرة كبيرة في مختلف الأعمال؛ وأصابه السل وهو في بدء شبابه، فأودعه أبوه أحد المستشفيات، وهنالك كتب عدة قطع تمثيلية من فصل واحد؛ ولما شفى عاد إلى كلية هارفارد وتلقى دروس الكتابة المسرحية على الأستاذ باكر؛ ومثلت بعض قطعه المسرحية في الأقاليم فأصابت نجاحاً. وفي سنة 1919 ظهرت أولى قطعه الكبيرة بعنوان (ما وراء الأفق) فنالت شهرة كبيرة؛ وفي سنة 1921 ظهرت (الإمبراطور جونس) فزادت في شهرته؛ وفي سنة 1922 ظهرت (أنا كرستي) ومن أشهر قطعه رواية (القرد الغزير الشعر) وقد مثلت بنجاح عظيم في نيويورك ولندن. وظهرت بعد ذلك عدة قطع اشتهرت كلها في العالمين الجديد والقديم ومثلت في جميع العواصم الكبرى، ومنها: (1927) و (1928). وقد امتازت روايات أونيل بأنها تعرض المحادثات النفسية للأشخاص على المسرح في ثوب جديد ساحر، واشتهر بعضها بالتطويل حتى إنها لتبلغ تسعة فصول، وتستغرق في تمثيلها خمس ساعات، ومع ذلك فقد اشتهرت بقوتها وعميق تأثيرها. وقد تقلب أونيل في الكتابة بين عدة مذاهب (الحقيقي) و (التعبيري) والرمزي والنفسي؛ وهو لا يعنى بشيء من الآراء والمذاهب والسياسة والاقتصادية، وكل ما يعنيه هو الفكرة الإنسانية، وما تعرضه في الحياة الواقعة؛ ومعظم الخواتم في قطعه تعرض الخيبة والفشل، ويهزم الأشخاص لا بخطئهم أو تقصيرهم ولكن بفعل الحظ والمصادفة،(177/72)
وهي مؤثرات يبغضها أونيل ويرى أنه لا حق لها أن تؤثر في حياة الفرد.
جائزة نوبل للعلوم الطبيعية والكيمياء
ومنحت جائزة نوبل للعلوم الطبيعية للعلامة النمسوي الدكتور هيس والعلامة الأمريكي الدكتور هندرسون مناصفة بينهما، ومنحت جائزة نوبلللكيمياء للعلامة الألماني الدكتور هيلاندى دربي من معهد برلين.
وفاة شاعر مجري كبير
نعت إلينا بودابست الأخيرة الكاتب والشاعر المجري الكبير ديشو كوشتولاني توفي في الثالث من نوفمبر بمنزله في بودابست بشارع تابور بعد مرض طويل. وكان مولده بقرية زباتكا من أعمال جنوب المجر؛ وتلقى دراسته بجامعة بودابست؛ واشتغل بادئ ذي بدء بالصحافة؛ ثم كتب بعض القصص ونظم الشعر؛ وترجم إلى المجرية عدة قطع خالدة من شكسبير، وموليير، وموباسان، وفلده، وغيرهم من الشعراء المحدثين من كل قطر وكل لغة. ومن أشهر مؤلفاته (الشاعر الدموي) وهي قصة رائعة عن عنصر نيرون، وقد ترجمت إلى الإنكليزية وهو شاعر مجدد بمعنى الكلمة وقد استطاع أن يصوغ أعقد المسائل المعقدة المحدثة في أجمل الأساليب وأرقها، ومن منظمة المجموعات الآتية: (بين جدران أربعة) (1907) (أنين طفل) (1910) (السحر) (1912) (أخي) (1915) (بوبي) (1916) (الخبز والنبيذ) (1920) (أنين رجل محزون) (1921) العارية (1927) وغيرها، وقد ترجمت معظمها إلى الإنكليزية.
في الأكاديمية الفرنسية
في الأنباء الأخيرة أن ثلاثة أعضاء جدد قد انتخبوا للجلوس في الأكاديمية الفرنسية والانتظام في سلك الخالدين، وهم الأميرال لاكاز وقد انتخب مكان السياسي الكبير جول كامبون، والمونسنيور جرانت وقد انتخب مكان المؤرخ الكبير بييردي نولهاك، والمسيو جاك دي لاكرايتل وقد انتخب مكان الشاعر والقصصي الكبير هنري دي رينيه.
وينتمي كل من الأعضاء الجدد إلى طراز خاص من التفكير، فالأميرال لاكاز من رجال الحرب، ولكنه كاتب وخطيب كبير؛ وهو اليوم في الخامسة والسبعين من عمره، وكان(177/73)
وزيراً للبحرية، وقائداً لأسطول الغواصات أيام الحرب الكبرى؛ ومن تقاليد الأكاديمية أن يمثل فيها دائماً إلى جانب أبطال الأدب، أبطال العسكرية البارزين في التفكير والثقافة مثل الماريشال فوش الذي كان من أعضائها.
وأما المونسنيور جرانت، فهو على رغم كونه من رجال الدين، كاتب ومؤرخ كبير؛ وهو دكتور في الآداب، وقد انتخب منذ سنة 1928 لمنصب الأسقف، وكان من قبل مديراً للمعهد الكاثوليكي في ليل؛ وله ثبت حافل من الكتب والمصنفات المختلفة نذكر منها: (عيوب التربية المنزلية الحالية) (بوسويه في متز) (تطور الشعائر والعبادات في باريس منذ الثورة إلى عصر الكونكوردا) (شهداء سبتمبر سنة 1792) (رسالة إلى المشرق) وكثير غيرها، وهو خطيب مفوه ومحاضر بارع، وقد اشتهر بمحاضراته الدينية والاجتماعية التي يلقيها من آن لآخر في العواصم الأوربية المختلفة.
وأما جاك دي لاكرانيل فهو كاتب وقصصي كبير، وقد ولد بمصر ونشأ بها؛ وكان بمصر في العام الماضي وألقى بعض محاضراته في القاهرة والإسكندرية؛ وهو من أساتذة الشباب في القصة المعاصرة، بيد أنه يميل إلى النزعة القديمة، وينتمي بنوع خاص إلى مدرسة الأب (بريفوست)؛ ويؤثر الاستعراض الهادئ للأحداث والفواجع، وأسلوبه حاد ولكنه واضح. ومن أشهر قصصه (الحب الزوجي) و (الأسقف العالية).
أنباء الزمن في أخبار اليمن
أصدرت (مجلة الإسلام) الألمانية فيما تصدره من دراسات لتاريخ الشرق الإسلامي وحضارته القسم الأول من مؤلف هام عن تأريخ اليمن، هو (أنباء الزمن في أخبار اليمن) ليحيى بن الحسين بن المؤيد اليمني. وقد وقف على طبعه وتصحيحه والتعليق عليه ومهد له في مقدمة طويلة بالألمانية الدكتور محمد عبد الله ماضي عضو بعثة الإمام محمد عبده، ونال بتقديمه إجازة الدكتوراه في مايو الماضي. وهو يطبع لأول مرة عن مخطوط قديم، ويتناول تأريخ اليمن في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع من الهجرة من سنة 280 إلى سنة322 هـ. وقد أهدى الناشر ثمرة مجهوده إلى روح المرحوم الإمام محمد عبده اعترافاً بفضله ومآثره؛ وسنعود إلى دراسة هذا السفر في فرصة أخرى.
فكرة العصبية عند أبن خلدون(177/74)
أصدرت مجلة (الإسلام) الألمانية كذلك في مطبوع خاص رسالة بالألمانية عن (فكرة العصبية في مقدمة أبن خلدون)
وهي الرسالة التي تقدم بها صديقنا الدكتور طاهر خميري مدرس اللغة العربية بكلية همبورج إلى نيل إجازة الدكتوراه. ويشرح المؤلف نظرية الفيلسوف أبن خلدون في (العصبية)، وأثرها في القبيلة وتكوين الملك بطريقة نقدية مقارنة، وسنعود أيضاً إلى استعراضها ودراستها في فرصة أخرى.(177/75)
العالم المسرحي والسينمائي
التأليف والترجمة للمسرح
حديث للأستاذ زكي طليمات لناقد (الرسالة) الفني
قبلت الفرقة القومية استقالة الأستاذ طليمات، كما ألغت وزارة المعارف انتدابه للعمل في هذه الفرقة، فحرم المسرح في مصر من جهود شاب نشط مثقف أرسلته الحكومة إلى فرنسا ليدرس التمثيل والإخراج كي تنتفع به النهوض بهذا الفن.
ولسنا ندري حقيقة الدوافع التي حدت بالأستاذ طليمات إلى تقديم استقالته، ولكننا علمنا أنه ضمنها كتابة الذي رفعه إلى الأستاذ الكبير محمد العشماوي بك وكيل وزارة المعارف، ولذلك قصدت إلى الأستاذ طليمات وسألته أن يطلعني على صورة من هذا الكتاب، فأبى ورفض أن يدلي بأية تفاصيل، ولكنه أمام الإلحاح صرح بما يلي:
(لم استقل لا من أجل زيادة مرتبي أو طلب مركز أو خلافة، وإنما استقلت لأنني غير قادر على تقوية ضعف أرى الفرقة تنساق إليه يوماً بعد يوم.
كنت مغلول اليدين مشدوداً إلى خشبة تعذيب، أرى وأتألم وأصيح ولا يستمع لي أحد، وهذا عذاب لا يطاق
فاستقالتي إنما هي لأراحة ضميري).
ولم يرض الأستاذ طليمات أن يزيد كلمة على هذا التصريح بل جعل ينتقل بالحديث من موضوع إلى آخر حتى عرض لنا موضوع التأليف والترجمة للمسرح فوجهت إليه السؤال التالي:
ما رأيك في الروايات المصرية التي أخرجتها أو طلعت عليها؟
فأجاب (رأيي أن المسرحية المصرية لم تستكمل بعد مقومات نضوجها، وما برحت تفتقر إلى الطابع الأصيل الذي يميزها عن الرواية الغربية، إذ لا يخفى عليك أن الجمهور المصري لم يتعرف إلى المسرحية في اللسان العربي إلا منذ سبعين عاماً، والأدب القديم خلو منها على الرغم مما يذخر به من المخلفات الممتعة في مختلف العلوم والفنون.
أدبنا العربي والحديث يفتقر إلى الوراثة المهذبة في فن صياغة القطعة المسرحية. وليست له تقاليد فيها، فنحن ما برحنا في دور النقل والتقليد والاستساغة، نأخذ عن المسرح الغربي(177/76)
في صياغة مسرحياتنا وننحو نحوه، ولا بد لنا أن نجتاز هذه المرحلة قبل أن يستقر وضع أصيل للمسرحية المصرية. غير أن هذا لا يحجزني عن التصريح بأن بيننا نفراً من المؤلفين المصرين قد وفقوا كثيراً في تأليف روايات متينة البناء قوية الحبكة جاء حوارها قوياً في سلاسة وسهولة. فهنالك أمثال: (إبراهيم رمزي)، (عباس علام)، (المرحوم محمد تيمور)، يأتون في مقدمة هذا النفر. وجاء أخيراً (توفيق الحكيم) فأضاف ذخيرة جديدة إلى محصولنا في آداب المسرحية المصرية.
واهم ما آخذه على أكثرية المؤلفين المصريين أنهم لا يحسنون العدة للتأليف، فتحصيلهم سطحي هزيل، ولذلك لم يكن غريباً يكون نتاجهم فجاً. وأعرف ممن يكتبون للمسرح من لم يقرأ رواية أجنبية واحدة، فإذا سألته عن شغفه بالتأليف أجابك في زهو أنه مواظب على حضور التمثيل في فرقة فلان أو فلانة.
وأبين مواطن الضعف في المسرحية المصرية جهل بصياغة الرواية وحبكة حوادثها في منطق سليم يستشير اهتمام الجمهور في غير افتعال أو خروج عن المعقول، كذلك ميل إلى معالجة الموضوع بطريقة سطحية يُهدر فيها جانب الشخصيات في الرواية فيبدون نحفاء مهازيل من حيث التحليل النفسي. أما الأسلوب الذي يكتبون به فتعلوه مسحة من التكلف والنزوع إلى الإتيان بمهجور اللفظ والمبالغة في سرد المترادفات والجود بالألفاظ في إسراف معيب. فإذا خلا من هذه العيوب في بعض الأحايين، فلكي يقع في قص الحديث والسرد، وإذا قلت إن قليلاً، وقليلاً جداً من مؤلفينا يحسنون جدل الحوار لما قررت غير الواقع.
وأعتقد أنه يجب أن يمر زمن طويل حتى نحسن صناعة تأليف الرواية المسرحية. والعلة في هذا ترجع إلى أننا نعمل من جديد دخيل في آدابنا.
فقلت له: (وما رأيك في الروايات التي تترجم للمسرح المصري. ومن هو أحب المؤلفين إليك؟) وقد أجابني قائلاً (أكثر هذه المترجمات من هزيل الروايات الغربية ذات الصبغة القاتمة أو ذات المواقف العنيفة المفتعلة. وقد تهافت أصحاب الفرق التمثيلية على نقل هذا النوع من الروايات لسهولة إخراجه على المسرح، ولأن نقله إلى العربية لا يحتاج إلى كثير من العناء الذي يتطلب زيادة الأجر في نفقات الترجمة. هذا فضلاً على أن هذه(177/77)
الروايات تستهوي الأكثرية الغالبة من الجمهور، وهي أكثرية ساذجة التفكير لا تميل إلى أعمال الروية فيما يقدم إليها على المسرح. ولا يخفى عليك أن الجمهور المصري لم يتعود أشغال الفكر فيما يراه في دور اللهو، ولم يطالعه فن التمثيل باللسان العربي إلا منذ سبعين عاماً، وفن التمثيل ظاهره له وباطنه تهذيب وتثقيف.
ومن العجيب أن كثيراً من روايات (موليير) وبعض روايات كورني وراسين، وهم من عباقرة المؤلفين المسرحيين قد نقلت إلى العربية في أوائل عهد مصر بالتمثيل ولكنه كان نقلاً مشوهاً مسخت فيه معالم تلك الروائع الفنية فخرج بعضها يتعثر في أسلوب من العامية والبعض الآخر يتنكر في أسلوب ركيك محشو بالسجع مطبوع بالتعابير (الكليشية) التي مج استعمالها وأنكرتها الآذان.
وتقدمت عملية النقل في السنوات الأخيرة، وتنبهت وزارة المعارف أخيراً إلى ضرورة تغذية المسرح المصري ببعض من نفائس الأدب المسرحي فترجمت عدداً منها ترجمة أنموذجية، وقامت بطبعها متوخية في عملها هذا أن يطلع المتأدبون على أنفس الذخائر الفنية في المسرح الغربي، وأن يتأثر بطابعها من يعالجون التأليف المسرحي في مصر. ولا غنى لنا عن المسرح الغربي في هذه المرحلة، مرحلة الاستساغة، ولكن هذا يجب ألا يصرفنا بأي حال من العناية بالرواية المصرية وتشجيع مؤلفيها. ويجب ألا يكونقياسنا في الحكم عليها ما يعمر رؤوسنا من آثار نوابغ المسرح الغربي، فنحن ما برحنا في دور المحاولة، محاولة جعل الرواية المسرحية شعبة من أدبنا المصري الحديث.
وألاحظ أن أكثر مترجماتنا مأخوذ من الأدب الفرنسي، بل يكاد مسرحنا (لاتينياً) في نزعته، وما هذا بعجيب فثقافتنا لاتينية منذ القدم كما أن مزاجنا يكاد يتشابه بالمزاج اللاتيني، وذلك بحكم أننا من أبناء شواطئ البحر الأبيض المتوسط ومصر هي الضفة المقابلة لإيطاليا.
ولكن ما أحوجنا إلى أن يتعرف الجمهور والمتأدبون إلى آثار الأدب الجرماني وأدب الشمال والأدب الأمريكي الشاب الذي هو خلاصة آداب مجتمعة، فمسرحنا لم يتعرف بعد إلى (أبسن) النرويجي و (استرنبرج) السويدي و (هوبتمان) الألماني و (أوجين أونيل) الأمريكي.(177/78)
وأحب المؤلفين المسرحيين إلي هم (موليير) الفرنسي، و (أبسن) النرويجي، و (شاكسبير) الإنجليزي. ولي ولع خاص بمطالعة أعمال موليير لأنها علمتني الاعتدال وهي صفة أقر بافتقاري إليها، وطالما كان حظي الصغير منها سبباً في أخطاء أتيتها في حياتي، ولأن موليير تجتمع كاملة شخصيات الشاعر الإنساني، والكاتب المسرحي والممثل، فهو رجل مسرح بحق.
وتهزني مآسي شاكسبير بروعتها، وفيض عواطفها، وهي مآس عاطفية تركزت فيها الإنسانية بأسرها.
أما (إبسن) فهو أبو المسرح الحديث وأستاذ أساتذة نوابغ المسرح الغربي، وهو الطود الشامخ وغيره الكثبان الرملية والتلال. وفي ضباب مآسيه غموض الحياة وظمأ المعرفة الذي لا تنقع علته، وفي نضال شخصياته أروع مآسي الحياة الفكرية).
قلت له ما رأيك في استقدام الخبير الفني الذي تنوي وزارة المعارف استقدامه من الخارج؟ فأجاب (سبق أني صرحت برأيي في ذلك، وهاأنذا أكرر ما قلته: وهو أن في استقدامه ما قد يبصرنا بما خفي علينا الأخذ به من وسائل ترقية المسرح المصري وإذاعة آثاره؛ وأرجو أن توفق الوزارة في اختيار أحد الرجال البارزين في المسرح الأوربي؛ ولعل في استقدامه واضطلاعه بشؤون الفرقة القومية ما يقضي على أسباب الفوضى المنتشرة في هذه المنشأة الجديدة، وهو الأمر الذي عجزت عنه وأعياني أمره).
يوسف تادرس(177/79)
العدد 178 - بتاريخ: 30 - 11 - 1936(/)
بعد المعاهدة
بعد ليل غاشي الجوانب تراكمت على (الوادي) همومه، وطريق دامي المسالك تشابهت على الدليل رسومه، انجلى الغيهب الكثيف عن وضح الفجر، وانتهى الطريق المخيف إلى أمان الغاية؛ فحمدنا السُّرَى عند الصباح، ورضينا الغنيمة بعد المعركة، وهدهدنا الأمانيَّ على نشيد الفوز.
كنا مقيدين لا نملك مع القيد مجال العمل، ومحجورين لا نجد مع الحجر سبيل التصرف، ومستذلين لا ندرك مع (الامتيازات) معنى الكرامة، ومستقادين لا نعرف مع (الاحتلال) عبء التبعة؛ فإذا كانت مصر الأمسِ قد مشت عرجاء في طريق التقدم، وجاهدت عزلاء في ميدان العيش، فإنما كان وِزْر ذلك على الغاصب الذي سلط قوته على الحق، ومنفعته على العدل، فحجز البلاد عن وجهتها الحرة حقبة من الدهر أوْفت على نصف قرن. أما اليوم وقد انكسر القيد، وانتفى الحَجْر، وتصاغر الامتياز، وقال لك القوى الغالب: لقد رشدت فتصرف في أمرك، وشببت فدافع عن حَوزتك، واستقلت فاحكم في بلدك، فلا يسعك في تقصير عذر، ولا يسعفك في دفاعٍ حجة.
هذه ثروة النيل التليدةُ والطريفة، عبثت بها أهواء القيم المفروض بالباطل، فنقص النامي، وبلُد الحساس، وفسد الصالح، واعوج المستقيم، وتنافر المنسجم؛ فكل شيء فيها معتل يفتقر إلى علاج، أو منتشر يحتاج إلى ضبط. فإذا قصرنا الجهد أو أكثره على تنفيذ المعاهدة، من إنشاء الجيش وبناء الثكنات وشق الطرق، ظل حالنا على ما كان من بؤس العيش، ونقص الكفاية، وعجز القدرة. وهل يكون الأمر حينئذ إلا حبس قوى الأمة على الاستقلال في السعي إليه أو في المحافظة عليه؟ وهل يزيد الاستقلال على أن يكون استرداداً للحرية المسلوبة؟ تنعم الأمة في ظله وهي آمنة، وتعمل في حماه وهي حرة، وتحكم على مقتضاه وهي سيدة؟
أن إعداد الأمة لحمل نصيبها من أمانة الحياة ورسالة الحضارة وعهد المحالفة، يقتضي أن تتظاهر ملكاتها الموجدة، وكفاياتها المدبرة، وقواها المنفذة، على طرد الجهل منها، ودفع الفقر عنها، ومعالجة المرض فيها؛ وهذه العلل الثلاث هي جمَّاع العلل، لا تجد عاهة من عاهات الجسم، ولا آفة من آفات الروح في الفرد أو في الجماعة إلا ضاربةً فيها بعرق. أو واصلة إليها بسبب. والأمة كلها خَلْق سَوِيٌّ كامل لا تستطيع أن تقويه وترقيه إذا عُنيت(178/1)
بعضو دون عضو، وشُغلت بملكة دون مَلكة.
كل ما فينا عاطل يبغي العمل، وباطل يريد التغيير، وَرثٌّ يطلب التجدد؛ وتلك مخلفات العهود السود وتركات الأجيال المريضة، نمت فينا نمو الجراثيم يزرعها ويغذيها المحتل الذي لا يرحم، والحاكم الذي لا يعدل، والواغل الذي لا يعف.
كان من جرائر فقد الاستقلال في الحكم أن فقدناه من كل شيء حتى في الذات؛ فنحن نفكر تابعين، ونعمل مقلدين، ونعيش متواكلين، ونسعى على غير اطمئنان ولا ثقة. وقد ظهرت هذه التبعية واضحة في الآداب والعادات، وهي أدخل الأشياء في بناء الشخصية وأبعدها عن التراث المشترك بين الأمم كالعلم والحضارة.
ولعل أقبح آثاره ما نجد في الشباب من رخاوة العود وطراوة الخلق، وفي الكهول من ضراعة النفس وضعف الإرادة؛ فإن ترك الدفاع عن أنفسنا لغيرنا كَسَبَنا طباع العيش الأبله من الوداعة والإغضاء والرضى، فلا ترى في الجملة من يغضب للإهانة، ويثور للعدوان، ويتحمس للخصومة. وأن استبداد الأجنبي بأمرنا من دوننا قتل فينا التفكير، وأنام فينا الضمير، ودهانا بطائفة من طبائع الاستبداد كالملق والنفاق والتواضع والأثرة؛ فالأمة مستنيمة لهوى الحكومة، والحكومة مستكينة لإرادة المحتل؛ وبين طبقات الشعب ودواوين الحكم منافع مسعورة لا ترتوي، ومحاباة مهتوكة لا تستحي، وتواكل غفلان لا يفيق.
نعم كل ذلك كان نتيجة لفقد الاستقلال ما في ذلك ريب؛ ومن الممكن أن يكون وجوده علة في عدم هذه النقائص على التدريج مسايرة لفعل الزمن؛ ولكن الوقت ضيق والفرصة عجلى والضرورة حافزة، فلا بد لأولياء العهد الجديد أن يغسلوا أدران العهد القديم بالسموم، ويحسموا أدواء الماضي بالكي، ويجعلوا بين العهدين سدا من النار والحديد لا ينفذ منه إلا مصهور أو مطهَّر.
نريد أن ندخل العهد الجديد في لباس الإحرام: صدورنا نقية من أحقاد الحزبية، ونفوسنا بريئة من شهوات العصبية، وميولنا نزيهة عن خسيس المطامع.
كنا نعيش كما يعيش السَّوَام في البر أو السمك في البحر، لا تجمعنا وحدة شاملة، ولا توجهنا غاية معينة؛ وكان ذلك أثراً محتوماً للسلطات التي كانت تتنازع الحكْم، والتيارات التي كانت تتوزع الثقافة، والامتيازات التي كانت تمزق المجتمع.(178/2)
أما اليوم فنريد أن نعيش كما يعيش الناس في كل أمة: وطن صريح الاستقلال قوى الشوكَة، لا سلطان لقوة خارجية عليه، ولا سيادة للغة أجنبية فيه، ولا استبداد لشركة أوروبية به؛ وَحرية مهذبة الأطراف مأمونة السفه، ينعم الفرد فيها بنفسه، ويأمن بها على رأيه؛ ومجتمع راقي الطبقات مثقف النواحي، يؤلف نافرَه الخلق، ويجمع شتيته الحب، ويرفَّه حياته التعاون، ويؤوِيه إِلى كنفه إله وعلم وملك. ذلك ما نرتجيه في الحياة الجديدة، وذلك ما نبتغيه من الحكومة الرشيدة.
أحمد حسن الزيات(178/3)
كل امرئ وما خلق له
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
عرفت شاباً حفيت قدماه من السعي حتى فاز (بوعد) بأن يستخدم (ساعياً) أو نحو ذلك بعد أن يقر البرلمان ميزانية الدولة. ووافق البرلمان عليها وأصبحت معمولاً بها وراح صاحبنا يستنجز الوعد ويستعجل التعيين فلم يجد إلا مطاولة وإخلافاً، فمل ذلك وجاءني يوماً وذكر لي جيرة أهله لنا في بعض ما مضى ورجا أن أدله على وسيلة تبلغه ما يريد. فقلت له يا أخي: أما الحكومة فلا صلة لي بها، وأنا أراك لا تستنكف أن تعمل فيها عمل الخدم وإن كنت شاباً متعلماً، فإذا كان هذا هكذا فما أظن أن الدنيا تضيق بك في غير الحكومة ولن تعدم عملاً في شركة أو متجر أو ما شابه ذلك. ولم أزل به حتى صرفته عن الحكومة، فمضى عني وفي نيته أن يلتمس الرزق من العمل الحر. ولم يكد يفعل حتى ساورتني الوساوس، فقد رأيته شاباً حيياً طيب القلب سليم النية مستقيم الفطرة لا يكاد يعرف عن الدنيا شيئاً؛ ومثل هذا خليق أن يغرق في محيطها الطاغي، ولكني لم أكن أستطيع أن أصلح ما اعتقدت أني أفسدت، لأني لا أعرف أين يسكن حتى كنت ألحق به وأمحو ما وقر في نفسه من كلامي. ولم يعد هو إلى بعد ذلك فذهب كل أمل، فجعلت ألوم نفسي وأوسعها تقريعاً وتأنيباً، ثم شغلتني الحياة فنسيته.
ومضت شهور لا أراه ولا أسمع به - وأعترف فأقول: ولا يرد له ذكر على بالي. وجاء الصيف واحتجت أن أقضي بضعة أيام في الإسكندرية فنزلت في فندق جديد على البحر عند شاطئ (ستانلي)، فأتفق يوماًُ أني خرجت أتمشى فعدت متعباً فقلت أستلقي على السرير ففعلت وأخرجت سيجارة احتجت لإشعالها أن انهض قليلاً لأمد يدي إلى الكبريت، وكان على منضدة صغيرة قريبة من السرير، فما راعني إلا حذاءان ضخمان لا حق لمخلوق في أن يكون له مثيل ما فيهما من القدمين، ففزعت ثم تذكرت أن الذي يختبأ تحت السرير يكون هو الخائف الفزع، ففي وسعي أن أطمئن قليلاً، فقمت فقعدت على كرسي ودعوت صاحب القدمين الكبيرتين أن يخرج بالعفو عنه، فخرج القهقري - أعني أن الساقين ظهرتا أولاً ثم الجزع ثم الكتفان ثم الدماغ.
وبعد أن خرج هذا كله رفع صاحبه وجهه إلي فإذا هو الشاب الذي غاب وانقطعت أخباره(178/4)
عني فصحت به: (حامد! ماذا جاء بك إلى هنا؟)
وكان الواجب أن ينهض وينفض التراب ويشرح لي الأمر ويفسر لي كيف دس نفسه تحت سريري، ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا كله بل بقي قائماً على ركبتيه وراحتيه فضحكت وقلت له: (أظن أن على أنفك شيئاً من التراب)
فقال: (صحيح؟) وشرع يمسحه بكفه.
فقلت وقد سرني المنظر: (وهل تظن أني أكذب عليك في أمر مهم كهذا؟. ولكنك حين مسحت انفك وضعت على وجهك نحو طن من التراب لأن يدك كما لا أحتاج أن أنبهك غير نظيفة)
فاتكأ على كف ورفع كفه الأخرى إلى عينه لينظر وقال: (صحيح)
فقلت: (أظن أن هنا حوض وماء ففي وسعك أن تغتسل وتعود نظيفاً كما كنت. . . وبعد ذلك نستطيع أن نتفاهم).
فغسل وجهه ورأسه وسرح شعره، ونفض التراب عن ثيابه ثم ألتفت إلي وقال: (الحقيقة أن الرقاد تحت السرير حماقة).
فقلت: (هذا يردنا إلى الموضوع، فلماذا كنت راقداً تحتسريري؟؟ وماذا جاء بك إلى هنا على كل حال؟)
فقال: (تحت السرير؟ أنا؟. . . آه)
فقلت: (نعم. تحت السرير. . . . . هذا سرير؟ أليس كذلك؟ اتفقنا أذن! وأنت كنت تحته. . . فماذا كنت تصنع تحته. . . أعني تحت هذا السرير؟ سريري أنا. .؟)
فقال: (أهي غرفتك؟)
قلت: (ليس أسمي مكتوب عليها لا بأحرف من نور ولا بالطباشير ولا بالدهان، ولكن أظن صاحب الفندق يشهد بأنها غرفتي إذا شئت أن تسأله. . . . على كل حال يمكنك أن تصدقني وتكتفي بما أقول)
فقال: (طبعاً. . . طبعاً. . . لا شك. . . لا شك)
فراقني هذا جداً، وأدركني العطف على هذا الشاب الذي قذفت به نصيحتي في عباب حياة لا قبل له به، وقلت (الآن نعود - إذا سمحت - إلى السؤال) فقال: (لقد كنت أظنها خالية.(178/5)
وخطر لي أن خير ما أفعل هو أن أرقد تحت السرير)
فقلت: (الأمزجة تختلف، ولكن ألا تقول لي لماذا رأيت هذا خير ما يمكن أن تصنع؟ أو فلنبدأ من البداية. . . . ماذا جاء بك إلى الإسكندرية؟)
قال: (هذه قصة طويلة. . .)
قلت: (إني رجل واسع الصدر. . ومع ذلك، في وسعك أن تحذف قصة ميلادك وطفولتك، وأن تقفز إلى ما بعد اليوم الذي زرتني فيه)
قال: (لقد عملت بنصيحتك)
قلت: (ظاهر. . . . ولكني - على قدر ما أذكر، فأن ذاكرتي ضعيفة كما تعلم أو لا تعلم، - لم أوصك بالتسلل إلى الغرف التي تظنها خالية وأن كانت فيها حقيبة كبيرة وثياب معلقة، ولا بالنوم تحت أسرة الناس)
قال: (لا لا لا. لست أعني هذا. إني آسف لإزعاجك)
قلت: (استغفر الله. . . بل آنستني. . . البيت بيتك. . . أعني الفندق. . نعم؟)
قال: (خطر لي أن اهرب من مصر)
قلت: (هل ارتكبت جريمة؟)
قال: (لا لا. . . أعوذ بالله! إنما أعني أن الناس يعرفونني في مصر وقد اخجل أن يروني أزاول عملاً غير لائق. . .)
قلت: (صحيح. . . مصر صغيرة جداً. . . ليس فيها إلا مليون وربع مليون من الناس. . . ومثلك لا يمكن إلا أن يبرز جداً في مثل هذا العدد الضئيل. . . . معك حق. . . والى أين ذهبت؟)
قال: (جئت إلى الإسكندرية. . . لا يعرفني فيها أحد. . . وبدأت بأن صرت أبيع أوراق (اليانصيب) ولكن الناس كانوا يستريبون بي لأني ألبس بذلة، ويشترون من الصعيدي لابس الجلابية. . . لا أدري لماذا؟ فتركت هذا وعملت خادماً في مطعم. . . لم أبقى فيه سوى أسبوع واحد. . . الحقيقة أني لا أدري كيف يستطيع أن يحمل المرء كل هذه الصحون والملاعق ولا يكسر منها شيئاً. . .)
قلت: (هل كسرت الصحون، وحطمت الأواني؟)(178/6)
قال: (لم أكسرها، إنما كانت هي تسقط مني)
قلت: (هذه مسألة دقيقة جداً. فلنقف عندها قليلاً. . . أنها تذكرني بابني. . . كان معي يوم زرتني، فلا شك أنك تعرفه)
فقال وقد أضاء السرور والإعجاب وجهه: (أكان هذا أبنك؟)
قلت: (لا يزال أبني على الرغم من كل شيء)
قال: (ما شاء الله. . .)
قلت: (أشكرك. . . وأعود فأقول إن بائع تين مر ببيتنا يوماً فوزن لنا أقة، فأخذها منه الصبي - اعني أبني فقد كان صبياً صغيراً كما لا بد أن تعرف - واكل منها تينات في طريقه ألينا. . . بلعها بلا مضغ على ما أظن، فقد كانت المسافة أقصر من أن تسمح بالأكل الصحيح - أعني الصحي. . . المضغ اثنتين وثلاثين مرة إلى آخره - فلم يعجبنا التين فأعدناه إلى صاحبه، ولا أدري كيف عرف، ولكنه تبين أن التين أنقص مما كان، فسألنا الغلام، فقال أنه لم يأخذ شيئاً، ولكن التين كان يثب من الطبق إلى فمه. . . فهذا من ذاك يا صاحبي! ثم ماذا أيضاً بعد أن طردت من المطعم. . . لا بد أن تكون طردت. . . أم تراك قدمت استقالة مسببة ذكرت فيها أنك لا تستطيع أن تعمل مع هذه الصحون والأطباق اللعينة التي تأبى إلا أن تعاكسك وتحاورك وتغافلك وتسقط من يدك؟)
فتمتم قليلاً ثم قال إنه أشتغل بائع للبن الزبادي - اليغورت كما يسمى في أحياء الرمل - فضحكت وقلت: (لابد أن تكون قد عانيت من سلاطين اللبن مثل ما عانيت من صحون المطعم. . . الطبيعة واحدة، ولست أحتاج منك إلى بيان ما حدث، فأني أعرف روح هذه المادة التي تصنع من الصحون والسلاطين)
فقال بلهجة الجد المضحك: (الحقيقة أنه أمر غريب. . لقد كان يخيل إلي أن شيئاً فوق رأسي يحرك الطبلية ويميلها فتتسابق السلاطين إلى الأرض)
قلت: (معقول. . . . معقول. . . . شيطنة معهودة من كل ما يصنع من هذه المادة المكهربة)
ولا أطيل، فما أردت من إثبات هذا الحوار إلا أن يرى القارئ مبلغ سذاجة هذا الشاب وبراءة نفسه وطيب خيمها، وقد علمت منه انه يشتغل، خادماً أو (ساعياً) عند قصاب، وأنه(178/7)
جاء إلى الفندق - كما يفعل اليوم - بمقدار اللحم المطلوب فوضعه قرب باب المطبخ قبل أن يسلمه إلى رجال الفندق، ووقف يحادث اللبان، فجاء كلبان ضخمان وأعملا أسنانهما في اللحم، وأقبلت القطط - لا يدري من أين - فاختطفت ما بقي؛ وظهر صاحب الفندق، وذهب صاحبنا يعدو، بلا عقل، فإذا به يرى نفسه بين الغرف، وكان اليوم يوم أحد، وليس عليه بعد ذلك عمل، وقد قبض أجره الأسبوعي، فرأى أن يرتدي بذلته، ليتسنى له بعد أن يسلم الرسالة أن يخرج للرياضة والتنزه من غير أن يحتاج أن يعود إلى غرفته في (المكس).
والتقى في طريقه بين الغرف بأحد النازلين في الفندق خارجاً من غرفته، فخاف ودخل غرفتي فألفاها خالية، فدس نفسه تحت السرير، بلا تفكير، حتى أخرجته. . .
فسألته: (ألا يمكن أن يكون هناك عمل تصلح له، ويصلح لك. . . كالحلاقة مثلاً؟)
فحدق في وجهي مستغرباً وقال (إيه. . أعني. . معذرة. .)
قلت: (لا بأس. . . أردت أن أقول ألا يمكن أن تكون شيخ طريقة مثلاً؟؟، ولكن هذا يحتاج إلى ذكاء وحذق وبراعة وجرأة. . . ولا شك أنك ذكي حاذق، وشجاع وبارع، ولكن الأمر يحتاج إلى ضرب آخر من هذه المزايا، فقل لي. . لا بد أن يكون هناك شيء تتقنه. . . فماذا هو؟ فكر. . . أقدح زناد هذا الفكر. . . أرنا همتك. . .)
فأطرق ملياً ثم قال: (لو كان عندي رأس مال لاقتنيت غيّة. . . ولكن. . .)
فقلت: (هل سمعتك تقول (غيّة)؟)
قال: (نعم. . . غيّة. . .)
قلت: (مفهوم، ولكن ألا يمكن أن تجعلها أسهل. . . . أعني أن تفسرها؟. .) قال: (غيّة. . . ألا تعرفها؟)
قلت: (لا بد أن أكون أعرفها. . . ولكن ينقصني أن أعرف ماذا هي؟ فماذا هي؟) قال: (الغيّة هي. . . هي الغيّة)
قلت: (هذا أحسن. . .)
قال: (تعرف ما أعني. . . الحمام. . . تبني له بيتاً من الخشب فوق السطح، وتعنى به)
ففهمت وسألته (ولكن هل هذا عمل يربح منه الإنسان، أم هو تسلية فقط؟)(178/8)
قال: (لست أثني على نفسي، ولكني لو وجدت المال اللازم أستطيع أن أستولده. . .)
قلت: (تستولد المال؟)
قال: (لا لا. . . الحمام. . . أربيه وأستولده. . . وأبيع منه. . . عمل رابح جداً) فخطر لي أن لعله صادق، وأن هذا شيء يحسنه فسألته عما يحتاج إليه من المال فقال: أنه ادخر نحو جنيهين، وانه يستطيع أن يقترض من أهله نحو عشرة لكنه ينقصه مثل هذا القدر للبناء وشراء الحمام اللازم، فاقترحت عليه أن نجعلها شركة مساهمة فانطلق يحدثني عن الحمام وطباعه ومزاياه، ويصف لي أنواعه ويذكر لي أسماء لم أسمع بها من قبل، فاطمأن قلبي وأيقنت انه اهتدى إلى ما يحسن، وعدت به إلى القاهرة وجمعت له من أخوان لي ما يكفي (لمشروعه).
ولم أكن أظن أن الحمام تجارة رابح، ولكنه بعد عام واحد استطاع أن يرد ما أقترض من أهله ومنا، وان يخبرني أنه موفق، وانه يعيش عيشة راضية، لا ترف فيها ولا بذخ، ولكنها - على كونها عيشة كفاف - هي التي كان يصبو إليها، لفرط حبه لهذا الطير. . . .
فلا يزال صحيحاً أن المرء ميسر لما خلق له.
إبراهيم عبد القادر المازني(178/9)
في الأدب المقارن
النقد في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
ليس النقد إلا ميلاً طبيعياً في الإنسان إلى الحكم على ما يحس وما يرى، واختيار الأحسن من ذلك. ونشاط النقد دليل على نشاط الفكر، وهو مصاحب لارتقاء الأدب وانتشار الثقافة في كل أمة؛ بل هو ضروري لتقدم الأدب: يقفه على مواضع إحسانه ويظهره على مواقع تقصيره، ويجلو أمامه غاياته وطرائقه، ويستحثه على دوام الترقي والتزيد. فالأدب صدى الحياة، والنقد صدى لذلك الصدى، يُظهر للأدباء والمتأدبين مدى نجاح الأدب في تأدية رسالة الحياة ومواقع أعمالهم في النفوس.
فالناقذ النزيه خير صديق للأديب: يضع إصبعه على عيوبه فيتلافاها، ويستحسن إجاداته فيزيده ثقة بنفسه وإقبالا على ممارسة أدبه. ولعل أروع أمثلة ذلك ما كان ملازمة كولردج لوردزورث: فقد وجد الأخير في صاحبه - حين أعراض الجمهور عنه وغمْط الجميع حقه - خير عارف بقدره معجب بأدبه، وكان لإعجاب كولردج وتشجيعه أبعد المدى في أدب وردزورث، وكان الشعر الذي كتبه في عهد صداقتهما خير ما كتبه على الإطلاق.
بيد أن الأحقاد الشخصية سريعة إلى نفوس الأدباء والنقاد، والأهواء السياسية والمذهبية كثيرة الوغول على الأدب والنقد. وقد شهد الأدبان العربي والإنجليزي ما لا يحصى من أمثلة النقد المغرض، وقاسى الأدباء حملات الخصوم الشخصيين أو السياسيين باسم الفن والنقد. ومن أمثلة ذلك في العربية حملة الصاحب على المتنبي وأشلاؤه عليه أذنابه. وفي الإنجليزية عانى أعلام الأدب أمثال وردزورث وتنيسون وكيتس حملات الرجعيين والحاسدين، وبلغ الكمد من الأخير حين هاجمهبعض ناقديه فأقذع أن مات محتضراً في عنفوانه.
وقد كتب الكتاب في العربية والإنجليزية وغيرهما من اللغات في النقد كثيراً، وحاول كل من عالجه أن يستخلص من شتى الشواهد المنتزعة من آثار فحول الأدب قواعد عامة للأدب توضح غثه من سمينه وتعين القارئ والناقد على استحسان الحسن واستهجان الهجين مما يكتب الكاتبون، ولكن النقاد لم يتفقوا بعد جهودهم تلك على شيء ذي بال، بل(178/10)
ناقض بعضهم بعضاً، واستجاد هذا ما استرذل ذاك، وظل المرجع الأول في نقد الأثر الأدبي إلى ذوق النقد وتكوينه الفكري، وظل كل أثر أدبي من شعر أو نثر يحمل في طياته المبادئ التي يجب أن ينقد على حسبها، بل رأى وردزورث - وأصاب - أن الناقد الذي يُقبل على نقد أثر أدبي، وقد كون لنفسه مبادئ ثابتة غير أهل للحكم على ذلك الأثر أو غيره.
وللنقد صور شتى: فالأديب هو أول ناقد لأدبه، وإنشاء الأثر الأدبي عملية مكونة من الخلق والنقد معاً؛ ومن الأدباء من يعرض ما ينشئ على رفاقه، ويستمع إلى ملاحظاتهم عليه؛ وكان ذلك معروفاً بين العرب قبل أن تذيع الكتابة، كما كانوا يعرضون أشعارهم على النقاد في الأسواق الأدبية، ولتمكن الملكة البيانية من العرب كان كثير من أمرائهم نقادة حفصاء للأدب. ويروى لعبد الملك والحجاج وسيف الدولة مع مداحهم: كثير وليلى الأخيلية والمتنبي نوادر في ذلك، فكثيراً ما كان الأمير أبصر بالأدب ونقده من مادحه؛ فلما ذاعت الكتابة وانتشرت الثقافة ظهرت كتب النقد.
وكتب النقد أنواع: فمنها ما يدرس مبادئ الأدب وغاياته ووسائله ويدخل في هذا الباب كتب البيان والبلاغة والعروض والقافية، وهي كل ما يمكن أن يتفق عليه النقاد من مسائل النقد. ويشترك الأدبان العربي والإنجليزي في وفرة هذا الضرب من كتب النقد الأدبي فيهما؛ ومن كتب النقد ما يدرس أديباً واحداً أو جملة أدباء على منهج خاص من الدراسة، كالكتب الكثيرة المؤلفة في دراسة شكسبير وملتون ووردزورث وتنيسون وهاردي؛ ومنها ما يدرس نوعاً خاصاً من الأدب كالقصة أو الشعر الغنائي، ومن ذلك كتاب أبن كرومي عن الملحمة؛ ومنها ما يدرس عصراً يوضح عوامل الأدب ومظاهره فيه وآثار فحوله، كالعصر الاليزابيثي والعصر الفيكتوري؛ ومنها ما يدرس من عصور أدب اللغة جملة: وتلك هي كتب تأريخ الأدب، وليست في صميمها إلا نقداً، وهي حديثة العهد.
وكل هذه الأنواع نادرة في الأدب العربي وبعضها لا يوجد به، وإنما الضرب السائد فيه هو ذاك الذي توخاه مؤلفو البيان التبيين والكامل ويتيمة الدهر: من تناول الأدباء بغير نظام وسرد بعض آثارهم والتعليق المقتضب عليها؛ وتلك هي كتب الأدب التي لم يكن الغرض منها درس أولئك الأدباء والإماطة عن جوانب نفسياتهم وأسرار نبوغهم، بل كان الغرض(178/11)
اقتطاف أطايب آثار المتقدمين وتقديمها للمتأدبين السالكين سبيل الأدب الطالبين أسرار بلاغة العرب، فلم تكن الغاية درس الأديب المتقدم، بل إخراج الأديب المقبل.
وقد استفاد النقد في الإنكليزية كثيراً بتقدم العلوم الحديثة حتى فاق النقد العربي في نواحي شتى: فتقدُّم علم التأريخ علّم النقاد أن يهتموا بحالة العصر الذي يدرسون من حيث السياسة والاقتصاد والمذاهب السائدة؛ وتقدُّم علوم الاجتماع علمهم أن يهتموا بالبيئة التي نشأ فيها الأديب الذي يدرسون والصفات التي ورثها عن أسرته، ومزاجه النفسي وتكوينه الجسمي، وأثر كل ذلك في أدبه، فجاء النقد الإنجليزي الحديث واضح المناهج بين الأسباب والنتائج، وأبرزَ للعصور والأعلام صوراً جلية وشخصيات متميزة.
أما نقاد العرب فكانوا أكثر اهتماماً بدرس فنون الأدب وأساليب الصناعة منهم بدرس الأشخاص والعصور؛ وقد أسهبوا في درس الفنون التي فشت في أدبهم واستأثرت بمعظم نثرهم وشعرهم: كرسائل الأمراء والنسيب الاستهلالي والمدح والهجاء والرثاء، وهي المناحي التي لم تظفر من أدباء الإنجليزية ونقادها بالتفات، فقسَّم قدامة بن جعفر مثلاً الممدوحين إلى ضروب: فملوك ووزراء وكتاب وقواد وسوقة، وحصر صفات المدح في أربع: الشجاعة والعدل والعقل والعفة، يجمعها قول زهير:
أخي ثقة لا تُهلك الخمر مالَه ... ولكنه قد يهلك المال نائله
فمن مثل حصن في الحروب ومثله ... لإنكار ضيم أو الخصم يجادله
والناظر في كتب النقد في الأدبين العربي والإنجليزي، يرى - عدا ما تقدم - فروقاً واضحة بين نقدي الأمتين كالفروق التي يرى بين أدبيهما، بل يرى مواضع الاختلاف واحدة في الحالتين؛ ولا غرو فالنقد كما تقدم صدى الأدب، بل إن النقد والأدب يتجاوبان فيما بينهما صدى مستمراً طوال العصور؛ والخصائص التي تغلِب على أحدهما لا بد أن تغلب على الآخر، ومن ثم نجد بين النقد في العربية والنقد في الإنجليزية ما تجد بين أدبي اللغتين من فروق في نواحي المحافظة والتجديد، والتأثر بالأثر الأجنبي، والمعنى واللفظ، والفنون وهلم جرا.
فنزعة المحافظة هي الغالبة على نقاد العربية، وقل منهم من دعا إلى تجديد صحيح، وذلك أبن الأثير مثلاً يزعم أنه مجدد بذ الأوائل ثم يأتي بأمثلة من تجديده فإذا هي محافظة مغرقة(178/12)
وتقليد مفرط؛ وأغلب نقاد العربية يقدسون المتقدمين دون تأمل، ولا يرون عن مناهجهم حولاً ويضعونهم فوق متناول النقد. وذلك أبو علي الحاتمي يحسبه أتى بجديد حين مثل القصيدة بالإنسان في تناسب خلقه، فلا ينشب أن يقول: (وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها، كالرسالة البليغة)، فهو لا يتصور القصيدة إلا نسيباً ومديحاً كما فعل الأوائل.
وتتجلى نزعة المحافظة في النقد العربي في أمرين: غرضه، وممارسيه، وهما أمران متصلان أحدهما بالآخر، فقد كان غرض كتب الأدب والنقد في العربية كما تقدم وقف الناشئ المتأدب على بلاغة المتقدمين، وتفهيمه أسرار إعجاز القرآن، لينحو منحى أولئك المتقدمين ويضرب على وتيرتهم، فكان غرض النقد الأول تعليم المتأخرين كيف يقلدون الأولين.
ولم يمارس النقد فحول الكتاب والشعراء، ولم يؤثر عن فحول العربية مما يدرج تحت عنوان النقد إلا شذرات مقتضبة بعيدة عن التنظيم، كوصية عبد الحميد لمعشر الكتاب ونصيحة أبي تمام للبحتري؛ وربما ثار بعض الشعراء بما درج عليه زملائهم من تقاليد، كثورة أبي نواس بالوقوف على الديار في مثل قوله:
لا جفَّ دمع الذي يبكي على حجر ... ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد
وتمرُّد المتنبي على النسيب الاستهلالي في قوله:
إذا كان شعرٌ فالنسيب المقدَّمُ ... أكلُّ أديبٍ قال شعراً متيم؟
ولكنها كانت خطرات عابرة لم تُكوِّن مذهباً ولم تغير سنة، بل لم يتبعها قائلوها أنفسهم وجاروا التقاليد الجارفة فيما نظموه، وإنما مارس النقد في العربية المقلون في النثر والشعر كالجرجاني وأبي هلال العسكري، أو من يؤثر عنهم شيء، وهكذا كان الأدباء فريقاً والنقاد فريقاً آخر.
أما في الإنجليزية فاختلط الفريقان، وكان أفذاذ الأدب عادة هم أفذاذ النقد أيضاً، وكان زعيم كل نهضة أدبية هو أيضاً زعيم النقد فيها: فكل من بن جونسون ودريدون وبوب وصمويل جونسون ووردزورث وكولردج وديكونسي وماكولي وماثيو أرنولد ورسكن، كان كاتباً أو شاعراً كما كان ناقداً، وذاك لعمر الحق ودليل حيوية الأدب وروح التجديد فيه: فلن يكون(178/13)
الأديب أديباً حتى يكون له رأي في الأدب والحياة تنضح عنه في كتاباته النقدية، كما يصدر عنه في آثاره الأدبية، وكلُّ من دريدن وبوب ووردزورث قد استجد مدرسة في الأدب لا بأشعاره فقط، بل بنظرياته في النقد. فبينما كان غرض النقد في العربية المحافظة على مناهج المتقدمين، وكان في الإنجليزية ابتداء حركات جديدة.
ولا ريب أن الأدباء الذين يمارسون النظم والنثر هم أدرى الناس بنقدهما، لأنه لا يعرف الشوق إلا من يكابده؛ والأديب الذي يعلن للناس نظرياته النقدية مشفوعة بآثاره الأدبية أمثلةً مؤُيِّدةً لتلك النظريات، كما فعل وردزورث في أغانيه الشعبية ومقدمته النثرية لها، أحرى أن يُتَّبَعَ من الناقد الذي لا يمارس الأدب، وإنما يملي على الأدباء آراءه وهو بنجوة عن محيطهم، فمن أعجب ظواهر الأدب العربي تنحي فحوله عن مضمار النقد، وتركهم مجاله لعباد القديم ومقدسي السلف.
ولتقديس النقاد للقديم وقفوا موقفاً متناقضاً: فكانوا ينكرون على الأديب أن يحيد عن مناهج القدماء، ثم ينكرون عليه أن يتداول معانيهم التي سبقوه إليها، وصرفوا جانباً عظيما من اهتمامهم إلى تتبع سرقات الشعراء، فكتاب الوساطة للجرجاني أغلبه جهد ضائع في تقصي المعاني إلى مواطنها الأولى في أشعار الأجيال السالفة، وتمزيق القصائد بيتاً بيتاً؛ والحكم على الشعراء بالاختلاس لأوهى الشبهات اللفظية.
وكان نقاد العربية أكثر التفاتاً إلى الألفاظ منهم إلى المعاني، وعد أكثرهم إحكام اللفظ ميزة الأديب الفحل، وعدوا المعاني مشاعاً بين الجميع، قال أبو هلال العسكري: (وليس الشأن في إيراد المعاني، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه)، وقال أبن الأثير (ولقد رأيت كثيراً من الجهال الذين هم من السوقة أرباب الحرف والصنائع، وما منهم إلا من يقع له المعنى الشريف، ويظهر من خاطره المعنى الدقيق، ولكنه لا يحسن أن يزوِّج بين لفظتين؛ فالعبارة عن المعاني هي التي تخلب بها العقول، وعلى هذا فالناس كلهم مشتركون في استخراج المعاني).
ولهذا صرف أكثر النقاد همهم إلى خصائص الألفاظ وضروب الأساليب، وأسهبوا القول فيما سموه علم البديع، واستقصوا أقسام الجناس والطباق والسجع، وطُرُق تضمين الآيات وحَلِّ الأشعار؛ ووجود علم البديع في العربية دون الإنجليزية برهان ناطق على شديد(178/14)
اهتمام نقاد العرب باللفظ؛ وكان للناقد والأدباء معاً إيمان وطيد بمقدرة اللغة على أداء أي معنى، وثقة لا تتزعزع في تفوق اللغة العربية في الفصاحة على غيرها من اللغات، وكانوا يرون ذلك ميزة العرب على غيرهم من الأمم التي بذتهم في شتى العلوم.
أما موقف جمهور الأدباء الإنجليز من اللغة فكان غير هذا: فهم وإن لم يغفلوا أهمية الصياغة اللفظية وضرورة تمكن الأديب من اللغة ووقوفه على أسرارها، ظلوا يعدون اللغة وسيلة لا غاية، وسيلة للتعبير عن خوالج النفس، بل عدَّها كثير منهم وسيلة ناقصة عاجزة عن التأدية إلى تلك الغاية، يجب على الأديب أن يستفرغ جهده ليجعلها تؤدي غرضه؛ فلم يهتم أدباء الإنجليزية ونقادها برنين الألفاظ الأجوف وزخرفها المموه، بل استعانوا بمعانيها المصطلح عليها، وجرس حروفها ودقة اختيارها والملاءمة بينها، واشتقاقها وخلقها حيث لا توجد لتأدية الحالة النفسية المتخيلة على ما يجب، وتصوير الجو العاطفي أو المنظر المرئي: من رهبة أو جذل أو سكون أو سرعة، ويفاضل النقاد الإنجليز بين الأدباء حسب مقدرتهم على استخدام اللغة هذا الاستخدام وتطويعها لأغراضهم على هذا النحو، لا حسب حظوظهم من المحسنات البديعة، ويقولون إن الفرق بين لغة العلم ولغة الأدب أن الأولى تعتمد على المعنى المجرد للفظ، والثانية على ما توحيه الألفاظ من أجواء معنوية.
ولما كان إيمان العرب بتفوقهم البياني كما تقدم، لم يهتموا بالآداب الأجنبية أو النقد الأجنبي كثيراً، فهم واضعو علوم البلاغة في لغتهم، وهم نهجوا بكتب الأدب والنقد نهجهم الخاص بهم، وجدهم في هذا السبيل جسيم جليل؛ أما الإنجليز فجعلوا النقد الأدبي الأجنبي دائماً نصب أعينهم، قديماً كان أو حديثاً، فما كتبته أرسطو ومما نظمه هوراس في النقد نشأ النقد الدبي في الإنجليزية، وغُذِّى بعد ذلك بكتابات دانتي وبوالو ولسنج وجيته وسنت بيف وتين؛ فالناقد الإنجليزي يستعرض آراء هؤلاء أثناء استعراض آراء مواطنيه بلا تفريق ولا ريب أن اشتمال النقد الإنجليزي على آراء أمثال أولئك ربح للأدب لا يقدر: فاطلاع الأدباء والنقاد على خير ما تنتجه القرائح في العالم أجمع يوسع آفاق تفكيرهم ويفسح حدود أدبهم، ويربأ بالأدب أن تثقله القيود وتفسده التقاليد، ومن ثم قال ماثيو أرنولد بضرورة إتقان الناقد في أدب ما أدباً أجنبياً واحداً على الأقل، تزداد فائدته له كلما ازداد التباين بينه وبين أدب الناقد الأصلي.(178/15)
فاكثر النقاد الإنجليز كانوا كما تقدم من أعلام النظم والنثر، وكانوا مطلعين على الآداب الأجنبية، وما كُتب فيها في النقد، ثم هم كانوا - ولا سيما متأخروهم - مهتمين بالفنون الأخرى بجانب الأدب، واقفين على ما كتب في نقدها، بل كان منهم من جَمعَ بين نقدها والنقد الأدبي: فدريدن واضع أساس النثر الإنجليزي الحديث كتب رسالته في (الموازنة بين الشعر والتصوير) وكذلك جمع لام وثكري وركسن بين نقد الأدب ونقد التصوير أو النحت؛ ولا ريب أن تفقه الناقد في تلك الفنون أكبر معوان له على حسن النظر في الأدب وصدق النقد له، لتشابه الفنون في وسائلها وغاياتها.
فالناقد الإنجليزي كان اكثر أهلية للنقد وقدرة على النجاح فيه: لأنه كان يمارس الأدب بنفسه نظماً ونثراً فهو أدرى بدخائله ولأنه مطلع على الأدب الأجنبي، فهو أدرى بمحاسن أدبه ومثالبه، ولأنه متبصر في الفنون فهو أعلم بمناحي فنه الخاص - الأدب - ومن ثم حفل الأدب الإنجليزي بالدراسات القوية لعصور الأدب وفحوله وفنونه، وجاء تاريخه أوضح منهاجاً وأبين معالم من تأريخ الأدب العربي.
فخري أبو السعود(178/16)
صور سياحة
أيام في سويسرا
بقلم سائح متجول
غادرنا باريس في منتصف الليل قاصدين إلى سويسرا؛ وإذا كنا قد هبطنا باريس فرحين مغتبطين بزيارتها والتمتع برؤية معالمها ومعاهدها التاريخية، فقد غادرناها أيضاً دون أسف، بعد أن تركت في نفوسنا صوراً أخرى غير تلك الصور الخلابة التي ألفناها في كتب الأدب وفي المقالات والفصول الرنانة؛ وسار بنا القطار ينهب الأرض ليلاً متجهاً نحو الالزاس، فلما أسفر الصبح كنا نخترق أراضي الالزاس مارين بتلك المواقع الشهيرة في تأريخ الحرب والسياسة مثل بلفور وميلهوز وغيرهما؛ وقد لاحظنا مذ بدأنا نجوز الالزاس أننا نكاد نخترق أرضاً غير فرنسية، فالناس يتحدثون بالألمانية المحرفة (أو الألزاسية) في كل مكان حتى موظفي القطار يخاطبون الركاب بالألمانية، وكل ما هنالك من طبيعة ومناظر وأشخاص يكاد ينطق بأن الالزاس ليست فرنسية في طابعها وفي روحها، وإن كانت السياسة ومصاير الحرب قضت بأن ترد الالزاس واللورين إلى فرنسا عقب انتصارها في الحرب الكبرى.
ووصلنا إلى الحدود السويسرية في الصباح الباكر، ودخلنا محطة بازل (أوبال) حيث أجريت الإجراءات الجمركية في أدب وظرف؛ وشعرنا في اللحظات القليلة التي مرت حتى وصولنا إلى الفندق أننا نجوز إلى محيط آخر أرقى خلالاً ومدنية من محيط فرنسا والشعوب اللاتينية كلها؛ وإنك لتأنس نفس الشعور عندما تخترق الحدود الإيطالية مثلاً إلى النمسا، فتشعر في الحال أنك غادرت في إيطاليا محيطاً أقل مدنية وخلالاً وسويسرا موطن السياحة بحق، والسياحة أهم مواردها القومية، ولهذا تعني ولايات الاتحاد السويسري ومدنه المختلفة بتنظيم شؤون السياحة أحسن تنظيم وتذيع عن سويسرا ومصايفها ومشاتيها ومناظرها ونزهها نشرات بديعة جذابة، وتعني بتنظيم كل ما يتعلق براحة السياح ورفاهتهم مثل الفنادق والمطاعم وطرق المواصلات والألعاب والنزه ولاسيما النزه واللعاب الشتوية الجبلية والثلجية التي اشتهرت بها سويسرا؛ والفنادق السويسرية حسبما رأيناها في بازل وتسيريخ (زيوريخ) فنادق من الطراز الأول من حيث النظام والنظافة وما يتجلى فيها من(178/17)
الأناقة وحسن التنسيق، وكذلك المطاعم والمقاهي يبدو عليها طابع الأناقة والبهجة والذوق الحسن؛ ونستطيع أن نقول إن مدينة صغيرة مثل بازل أو تسيريخ تتمتع بمجموعة من الفنادق والمطاعم الأنيقة لا توجد في مدينة عظيمة كباريس، التي ما زالت فنادقها متأخرة من حيث الفخامة والتنسيق والرفاهة نحو نصف قرن عن فنادق العواصم الأخرى.
غير انه لا بد أن نقولهنا أن السائح يدفع لهذه الأناقة والرفاهة في سويسرا ثمناً غالياً، ذلك أن موجة من الغلاء المرهق تعم سويسرا؛ وقد كانت سويسرا وقت زيارتنا لها في أغسطس من أشد الدول تمسكاً بقاعدة الذهب، وقد كان الجنيه الإنكليزي يساوي 15 فرنكا سويسرياً فقط؛ ولم يمض علينا في بازل يوم واحد حتى أدركنا فداحة هذا الغلاء الذي ينغص على السائح كل شيء خصوصاً إذا كان يحمل نقداً خارجا عن عيار الذهب كالجنيه الإنكليزي أو المصري؛ فالسائح المتوسط لا يستطيع أن يعيش في سويسرا عيشة لائقة مريحة بأقل من 25 إلى 30 فرنكا في اليوم (160 إلى 200 قرش)، واليك بعض الأمثلة العملية؛ فأجرة الغرفة في فندق متوسط تساوي من 6 إلى 8 فرنكات يومياً (والفرنك ستة قروش ونصف) وأجرة الحمام فرنك ونصف ووجبة الطعام في مطعم لائق تساوي 3 - 4 فرنكات، والقهوة أو قدح البيرة يساوي فرنكا، وهكذا؛ وأذكر أنني دفعت حين وصولي إلى محطة بازل نحو ثلاثة فرنكات (عشرين قرشاً) أجرة لحمل حقيبتيّ من المحطة إلى الفندق الذي لا يبعد عنها أكثر من مائة متر ودفعت مثلها حين سفري من بازل، ووقع مثل ذلك كرة أخرى حين وصولي إلى تسريخ وسفري منها؛ وهذا من أشنع ما لقيت من صور الغلاء، وتقضي تعريفه الحمالين الرسمية بأن يدفع المسافر نصف فرنك (خمسين سنتاً) عن كل قطعة، وأن يضاعف هذا الأجر ما بين الساعة العاشرة مساء والساعة السادسة صباحاً، ولا يتعدى عمال المحطة باب الخروج حيث تقف عربات التاكسي، وعندئذ يتسلمك حمال الفندق أو تركب التاكسي، وكذلك لا يسمح لحمال الفندق أن يتعدى باب المحطة؛ ومن ذكريات هذا الغلاء الشنيع أيضاً أنني دفعت فرنكين ونصف (17 قرشاً) أجرة لقص الشعر! وهكذا قضينا بضعة أيام نكتوي في بازل وفي تسيربخ بنار هذا الغلاء الشنيع الذي لا يكاد يلطف من وقعه شيء.
ولقد اشتهرت سويسرا بأنها بلد السياحة، وقد حبتها الطبيعة فعلاً وحبت مجتمعاتها بكل ما(178/18)
يجذب السائح؛ ولكن الظاهر أن سويسرا تعول قبل كل شيء على السياحة الغالية أو السياحة المترفة؛ ولما كانت السياحة مورداً قومياً أساسياً في سويسرا، فالظاهر أنها تعمل كل ما وسعت لاستغلاله في جميع نواحيه. وحالة الرخاء المستمر التي تتمتع بها سويسرا تساعد في ارتفاع معيار العيش، وتحمل الشعب السويسري على طلب المزيد من ثمار هذا الاستغلال؛ ولكن الظاهر أن سويسرا شعرت أخيراً كما شعرت فرنسا أن هذا المورد قد أصابه النقص وأن دولاً أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا والمجر قد أخذت تجذب أنظار السياح وتستغل مورد السياحة بما قدمته من تسهيلات في النقد والسكك الحديد، وأن الخروج عن معيار الذهب في مسالة النقد وسيلة لاستدراك هذا النقص. وقد خرجت سويسرا فعلاً كما خرجت فرنسا عن معيار الذهب، وخفضت قيمة الفرنك السويسري نحو 30 ? بحيث أصبح الجنيه الإنكليزي يعادل 21 فرنكا؛ وربما كان في ذلك تخفيف على السائح وتخفيض معقول في مستوى المعيشة، ولكن ذلك يتوقف دائماً على المحافظة على مستوى الأثمان القائم، فإذا ارتفعت الأثمان تبعاً لنزول النقد، فأن السائح لا يستفيد شيئاً ويبقى الغلاء المرهق حيث هو.
ولنعد الآن إلى بازل؛ فهي مدينة أنيقة سكانها نحو مائة وخمسين ألفا، وتتمتع بموقع بديع على منعطف نهر الراين، والراين يخترق بازل، ولكنه يبدو متواضعاً هادئاً كأنه نهير صغير؛ وفي ظاهر بازل من الغرب تجتمع حدود أمم ثلاثة ترى على قيد البصر سويسرا وألمانيا وفرنسا؛ وفي بازل أقدم الجامعات السويسرية يرجع إنشاؤها إلى نحو خمسمائة عام، وبها مكتبة كبيرة تضم نحو نصف مليون مجلد، وعدة كنائس قديمة أشهرها وأفخمها كنيسة سانت مارتن. وشوارع بازل وطرقها حسنة التخطيط، ومبانيها منسقة متوسطة الارتفاع؛ وأهم ميادينها ميدان المحطة ' وعليه يشرف معظم الفنادق الكبيرة، ومنه يتفرع بحذاء المحطة أهم شوارعها، وهو (الشارع الحر) وهو الممتد في وسطها حتى النهر؛ ولبازل ضواح بديعة يمتد إليها خط ترام خاص من المدينة، يمر خلال مجموعة ساحرة من الوديان النضرة والقرى النظيفة الساحرة؛ ولقد ذهبنا ذات صباح نجوس خلال هذه المناظر الممتعة، وقصدنا إلى قرية دورناخ حيث يقوم معهد (الجتيانوم) فوق أكمة عالية تصل إليها من طرق صاعدة تقوم على ضفافها المنازل والحدائق الأنيقة؛ ولما وصلنا إلى(178/19)
(الجتيانوم) بعد رياضة مجهدة ألفينا بناء ضخما أبلق، قد بني على الطراز الإغريقي والقوطي؛ فجزنا إلى داخل المعهد وقابلنا سكرتيره ووقفنا منه على تأريخ المعهد ونظمه وغاياته؛ وخلاصة ما علمناه أن (الجتيانوم) أو (معهد جيته) معهد دولي للعلوم العقلية، سعى إلى تأسيسه الدكتور رودلف شتينر العلامة النمساوي في عام 1923، وبني على طراز الملاعب اليونانية القديمة؛ وأريد به أن يكون معهداً دولياً حراً لترقية العلوم العقلية يجري على مبدأ الثقافة الحرة المطلقة من كل قيد؛ وأنشئت فيه أقسام للتربية والفنون الموسيقية والطب والعلوم والفلسفة. وفي الصيف تلقى في المعهد دروس ومحاضرات دورية من أشهر الأساتذة في مختلف العلوم والفنون فيقبل على سماعها جمهور كبير من الزائرين، ومعظمهم من الإنكليز والأمريكيين والألمان، وقد شهدنا كثيرين منهم حول المعهد وداخله؛ وهنالك على مقربة من المعهد عدة فنادق منزلية تأوي زوار دورناخ، وإلى جانبه فوق الأكمة العالية مقهى أنيق يقصده الرواد والمتنزهون.
وبعد بازل قصدنا إلى تسيريخ (زيوريخ)، وهي اكبر المدن السويسرية وسكانها نحو ثلاثمائة ألف. وتقع تسيريخ على نهر ليمات أحد أفرع الراين عند مصبه في بحيرة (تسيريخ)، ويخترقها نهر ليتام وقد أنشئت عليه قناطر مدرجة لحبس المياه ودفعها بقوة لتوليد الكهرباء؛ وتقع بحيرة تسيريخ في نهاية المدينة شرقا، وهي من أبدع المناظر البحرية التي يمكن تصورها، وتكثر فيها القوارب البخارية المعدة للنزه القصيرة، وكذلك السفن المعدة للحفلات الراقصة؛ ويمتد أكبر شوارع تسيريخ، وهو شارع ' ما بين المحطة والبحيرة، وهو شارع طويل فخم وبه معظم البنوك والمحلات التجارية وإدارات الصحف الكبرى وقد رأينا منها إدارة (جريدة تسيريخ الجديدة) وفي تسيريخ أيضاً جامعة، ومتحف تاريخي كبير، والمدينة على وجه العموم كثيرة النظافة والأناقة تفيض حركة وحياة، غير أننا عانينا بها نفس الغلاء المرهق الذي أشرنا إليه. وقد رأينا في الأيام القليلة التي قضينا في هذه الربوع السويسرية الجميلة من خواص المجتمع السويسري كل ما يحمل على التقدير والإعجاب، فسويسرا الألمانية بلا ريب من أرقى بقع أوروبا وأعظمها حضارة، والشعب السويسري (الألماني) من أذكى الشعوب الأوربية، وأرفعها ثقافة وخلاقاً؛ فحيثما سرت رأيت أرقى مظاهر النظافة والصحة والعافية، وألفيت الشباب(178/20)
النضر يتدفق حياة وبهجة؛ وتمتاز الفتاة السويسرية برشاقتها ومظهرها الرياضي ولونها النضر، وجمالها الطبيعي الذي لا تكلف فيه ولا صناعة؛ وفي جميع طبقات المجتمع تسود الرقة والأدب الجم وحسن المعاملة والأمانة؛ ويلقى الغريب كل معاونة وتقدير واحترام؛ واللغة الألمانية هي اللغة السائدة في هذه المنطقة من سويسرا، وهم يتحدثونها بظرف ورشاقة، ولكنك تستطيع التفاهم أيضاً بالإنكليزية والفرنسية والإيطالية في معظم الأحوال
ولقد أنستنا هذه الأيام القليلة الممتعة، وما لقيناه خلالها من شمائل هذا الشعب الرفيع الدمث، ومظاهر حياته وذكائه ونشاطه التي تحمل على الإعجاب، ما لقيناه من متاعب الغلاء المرهق الذي يرجع بالأخص إلى تفاوت سعر النقد، وأنستنا بالأخص كثيرا مما لقيناه في فرنسا وباريس من مظاهر التكلف والخشونة والرياء والجشع، وكل ما هنالك من مظاهر حضارة تؤذن بالانحلال.(178/21)
إلى من يسمع!. . .
مقصورة: غلالة:
للأستاذ كرم ملحم كرم
عقدنا الأمل الأكبر على المجمع اللغوي المنعقد في مصر، وتوسمنا فيه حافزاً للخروج باللغة العربية عن جمودها وهي البعيدة عن روح العصر، الضيقة المسالكبمستنبطات العلم الحديث، والفسيحة الفجاج بما لنهضة اليوم غُنية عنه. فكان من المجمع الكريم أن خيبنا خيبة فاضحة. فما جاد علينا رجاله الميامين - دفع الله عنهم الخيبة!. . . - بكلمة واحدة من الكلمات التي خلقوها أو اشتقوها يجوز الركون إليها. فأتحفونا بالوحشيّ الغريب النافر منه حتى ابن البادية الجاثم بين كثبانه ونخيله، ورمونا بمئات (المستشزرات) ونحن نضيق بواحدة منها.
ألا عفا الله عن الأرزيز والجماز وأخواتهما. فمن يحفظها ويجهد قلمه في إثباتها والذوق نفسه يمجها. أنعتمدها نكاية بالذوق؟
ليعلم المجمع اللغوي السامي المقام أنه كفر بالرسالة المفوض أمرها إليه، فزلت به القدم في الخطوة الأولى. وإذا أبى إلا الصراحة قلنا أن ثقتنا به ذهبت عنا، خصوصاً والمفروض في إنشاء المجامع العلمية اللغوية رفع اللغة إلى مستوى روح العصر، لا التقهقر بها إلى ما بعد عشرات الأجيال، فيتخاطب بها جيل اليوم كما كان يتخاطب بها الأعراب في البادية.
والأعراب أنفسهم نفروا من كل لفظ غريب، فهل يجوز لمن يفاخر أسلافه بكونه ابتدع الطيارة والموّاج والمذياع أن يتكلم بلغة راعي الشويهة والبعير، وضارب خيام الوبر، ومفترش البلس؟
إنها لأضحوكة. والمجمع اللغوي في مصر وفر لنا هذه الأضحوكة، وربما شاء بها أن ينفي عنا جهامة الأيام السود. فالشكر له كل الشكر. على أنه كان في وسعه أن يثير فينا روح الإعجاب بدل أن يجرنا إلى الضحك في موقف الجد. فما يدعو رجاله إلى التمسك بالكلام العويص ومجالس الشنفري والملك الضليل والهمذاني وصاحبنا الفرزدق وإمامهم زهير والحطيئة وعمر بن أبي ربيعة ولا غضاضة بجرير؟. . . فهؤلاء ما حشوا أشعارهم بما لا يُفهم من وحشي غليظ، بل جاؤونا بكلام يقال اليوم وغداً وسميعه طروب له راض عنه، لا(178/22)
يحتاج أبداً إلى القاموس كي يدرك ما يقرأ ويقع في أذنيه. فكأنه وهو يصغي إلى هذا النفر من الشعراء في حضرة خطيب من أبناء القرن العشرين!
وعندنا أن السادة أعضاء المجمع اللغوي الزاهر لو استشاروا أذواقهم لوقعوا على غير هذه المتكأكآت المفرنقعات. ولكنهم حرصوا على الشاذ فرموا أنفسهم بكل شذوذ. وما ضرّهم لو نهجوا نهج الأقدمين في إثبات الكلمات الدخيلة الشائعة علىالألسن والأقلام. وإذا أبوا إثباتها كما هي فليدوروا حولها بما لا تبعد بينهم وبينها الآفاق. فان يروا من الحيف أن نقول (تلفون) و (فونوغراف) و (بيجاما) فما عليهم إلا أن يقاربوا بين هذه الكلمات وكلمات عربية مشتقة أو أن يخلقوا كلمات جديدة غير وحشية تدل عليها.
أنا لا أرى اللغة تضيق بكلمة (تلفون) وقد فتحت صدرها لمئات الكلمات الدخيلة من فارسية وعبرية وسريانية ويونانية. فكما أثبتت الإسطرلاب والشمعدان والقنديل والورد والدستور والخردق والمنجنيق وما أشبه، في استطاعتها إثبات (تلفون) لاسيما والكلمة شاعت وباتت ملء الأفواه والأسماع. وإذا طاب لأفراد المجمع المحترمين العدول عنها فهناك كلمتا (هاتف) و (ندى) وكلتاهما أفضل من الأرزيز. وليس للمجمع إلا أن يقر إحداهما لتجري عليها الألسن والأقلام في البلاد العربية جمعاء، وهي ترى في المجمع صاحب الكلمة الفاصلة في الموضوع إن يكن ثمة تقدير للصواب والمألوف.
أجل، لم يثبت المجمع اللغوي المصري وجوده. فكان أشبه بإخوانه المجامع التي قامت في سائر البلاد العربية وحاولت أن تخدم لغتها فسقط في يدها وخفت صوتها؛ وهذا من سوء الحظ. فانه ليؤسفنا أن يجول في الخواطر أن المجمع المصري لا يملك الكفاية في القيام بالواجب المفروض عليه، مع أن رجاله متضلعون من علم اللغة، ولكن ما ينفع العلم إذا ندّ عن الذوق؟. . .
هذه كلمات تجرح - ولا نكير - غير أني أجرؤ على التفوُّه بها فالموقف يقضي بإعلانها، خصوصاً ونحن إزاء حقائق لا تجوز فيها المصانعة ولا المحاباة.
لقد طلبنا من المجمع أن يلجأ إلى قاموس (لاروس) الفرنسي يترجمه إلى اللغة العربية، وكفى الله المؤمنين القتال؛ على أن يترجمه بكلمات غير ثقيلة على السمع ولا مهجورة، فلم ينزل المجمع على هذا الطلب الحق، وكان أن نفحنا بألفاظ مستغربة من مخترعاته يؤلمنا(178/23)
أن يتوكأ عليها في تشييد مكانته، وهي ألفاظ واهية كالدعامة الوشيكة الانهيار.
ولو أنصفت الحكومة المصرية في اختيار رجال المجمع لنظمت عقدة من فئة مختارة لا من علماء اللغة فحسب؛ بل من أساتذة كل فن. فاللغة مجموعة شاملة لا تقف عند سيبويه ولا عند الكسائي. لا تدين بصلف علماء الكوفة، ولا بعناد أئمة البصرة. فالعصر يدعوها إلى جمع العلوم كافة. ومجمعها اللغوي يجب أن يضم العلماء من أبناء الفنون دون ما استثناء. فيحشد في حلقته المهندسون والاشتراعيون والأطباء والصحفيون والتجار وأرباب الصناعات، ليتفق الجميع على الكلمات المطلوبة لكل فن ومهنة. وهذا ما غاب عن الحكومة المصرية وهي تنشئ صرح المجمع، فشاءت إصلاح اللغة وتهذيبها فكان أن قضت عليها بتقهقر آخر لسنا بحاجة إليه. فالمصيبة الأولى أهون من مصيبة اليوم في (نفثات) المجمع العاطرة.
ولكن المجال لا يزال رحيباً، والمجمع قائم البنيان، ومن السهل التبديل أو الإضافة؛ فيعمد المجمع إلى محو ما رسم، أو إلى خلق ألفاظ جديدة لا تعقد فيها. وبهذه الوسيلة وحدها تتعادل الكفتان، ويثق أبناء اللغة العربية بما يعلن رجال المجمع ويؤيدونه فيما قرّ رأيه عليه؛ وإلا إذا بقيت الحال كما نرى فما على المجمع إلا أن ينسج بيده كفنه، وليس فيما اخترع واشتق كلمة تتداولها الأقلام.
لي على المجمع الكريم اقتراح بسيط، فما َيضرُه لو أقرّ لفظه (مقصورة) لكلمة الفرنجية؟. . . فالكلمة تحوي معنى القصر وفخم لطيف يشبه القصر بعض الشبه. ثم إن كلمة (مقصورة) معناها حجرة، واللغة العربية أجازت تسمية الكل باسم الجزء، عدا أن الكلمة معروفة خفيفة الوقع على السمع، قريبة المتناول، مدعاة إلى التفاخر، غير مهجورة. فمن يقول: (هذه مقصورتي!. . .) كمن يقول: (هذا قصري. . .!) وفي ذلك ما يرضي ذوي المطامع وعشاق الأبهة
ولقد تفضل المجمع فأطلق كلمة (ظظر) على الفرنجية فما معنى (ظظر) أيها المجمع المحترم؟. . . وهب كان لها معنى فمن يتلفظ بها وهي ثقيلة كالرصاص، على حين أن كلمة (مقصورة) لطيفة شائعة، تسرع إلى اقتباسها الألسن والأقلام؟
وهناك كلمة فماذا يحول دون تسميتها بالغلالة، والغلالة شعار يلبس تحت الثوب، فهل ما(178/24)
يمنع أن تكون الغلالة
اقترح على المجمع إثبات هاتين الكلمتين في قاموسه، وإذا استزادنا زدناه، وإن أبى العمل باقتراحنا طلبنا إلى حملة الأقلام أن يتناولوا اللفظين فيما يكتبوه ويتحدثون به وليس فيهما شائبة
ولا يغضب المجمع أن يتصدى لانتقاده كاتب يغار على لغته ويريد لها النهوض والسير في ميدان العصر الفسيح والخروج من فقرها اللغوي في عهد المنطاد والسيارة والصاروخ. فهي لا تزال تعيش بذهن عتيق مثلها يوم كان البعير لديها أشبه بالطيارة، والسهم كالمدفع، والنار في رؤوس الجبال كالمذياع والمواج.
لقد عرف الشيخ إبراهيم البازجي كيف يحضر اللغة بما وفر لها من كلمات مستحدثة تماشي الذوق والعصر، أيخلو المجمع من مثيل للرجل العلامة وكلٌّ ينادي نفسه نعم الفتى؟. . .
نحن نخاطب من له أذنان وعينان. فليسمع المجمع اللغوي المصري الرفيع العماد!
بيروت
كرم ملحم كرم(178/25)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
وسطاء شرّ أبرياء
هذه قصة ثِيُوبُلْد اسميث. قصة الرجل الذي قاد الإنسانية فمالت معه حيث مال إلى طريق جديد طلع عليها بأمل جديد. كان أولَ أمريكي سبق إلى كشف المكروب، ولم يلحق بغباره إلى الآن منهم لاحق. أخذ يتشمّم الأرض يطلب غاية، ويستتبع أثراً يقود إلى عين، وأفاد في تتبعه هذا من رأى رآه الفلاحون، وظِنّة قال بها بسطاء المزارعين، فلم يلبث بواسطتها أن أطّلع من بحوثه على كل عجيبة غريبة. فهذه القصة ستنبئك بالذي اطّلع عليه اسميث، وبالذي وجده من بعده من تعقّبوا آثاره.
(أن في استطاعة الإنسان أن يمحو كل داء وبئ من على وجه الأرض). هكذا قال بستور وبهذا تنبّأ وهو مفلوج بعد نُصْرته المعهودة على داء دودة القزّ التي أكسبته ذكراً وأنالته مجداً. ولعلك تذكر بأية قوة وأية حرارة ألقى هذا الأمل في الناس، حتى لحسبوا أن الداءات المعْديات لا يهلّ عليها العام القابل أو على الأكثر الذي يليه حتى تكون خبراً يُرَوى. واطمأن الناس لقوله واستبشروا وأخذوا يرقبون ما تأتي به الأيام. . . وأخترع بستور الألقحة فهتفوا له عالياً، وكانت هذه الألقحة لا شك بدائع عجيبةً رائعة، ولكنك لا تستطيع القول أنها كانت لاستئصال المكروب من على ظهر البسيطة. وجاء من بعد بستور كوخُ فأدهش الناس وأفزع عندما لعب بجرثومة السل المخُوفة حتى وجدها. ولم يكن كوخ أسرف في وعوده، ولكن وعود بستور كان صداها يرن في الآذان، فرفع الناس أبصارهم إلى كوخ ينتظرون امّحاء السلّ على يديه. وجاء رو، وجاء بارنج، واشتبكا والدفتريا في معركة حامية دامية دامت سنين، هَدْهدت أثناءها الأمهات أطفالهن المناكيد، وغنّتهم أغاني آملةً، راجيةً تَعِلّةً ومصابرةً عسى يسبق العلمُ بالشفاء أيامَهم الباقية المعدودة. وجاء متشنيكوف، ومن الناس مَن ضحك منه، ولكن حتى هؤلاء أضمروا في الخلفاء أملاً قليلاً علّ الأقدار تُتيح له برغم ثرثرته أن يُعلّم فاجوساته أكل جراثيم الأرض جميعاً(178/26)
نعم أخذت وطأة الأمراض لسبب مجهول تخف على ما أحسِب، ولكن لم يظهر عليها أنها تنوي الرحيل وتستعجل الفراق الذي أمّله الناس، فخاب ظنهم وظلّوا على أملهم يرتقبون
ولم يطل ترقّبهم، فالزمان الذي يجود بالرجال الفينة بعد الفينة جاد لهم وهم في أزمتهم هذه برجل جديد شاب، اسمه ليوبلد إسميث ظهر في أمريكا في أوائل عشر السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر؛ وحكاية ذلك أن الأبقار في شمال أمريكا الشمالية كانت تُرسل جنوباً فلا تلبث أن تستقر هناك حتى تأتيها حُمىّ تعرف بالتِّكساسية فتمرض وتموت. وكذلك كانت تُرسَل الأبقار من الجنوب إلى الشمال وهي صحيحة سليمة فكانت كأنما تبذر على أرضه حيثما وطئت بذوراً للموت تفتك بالأبقار الشمالية فتكاً ذريعاً. فجاء اسميث وفسر هذا وهذا، وكتب في عام 1893 تقريراً بيّناً كشف للناس فيه سر هذه الظاهرة الغامضة، وسلك به أقوم الطرق وأخصرها، ولم يكن فيه طنطنة ونفخ أبواق، وهو لا يُشتري الآن لنفاد طبعته. فهذا التقرير أوحى إلى قُنّاص المكروب الذين أتوا من بعده بالشيء الكثير: فأوحى بفكرة بديعة إلى الفخور الصخاب دافيد بروس وبلمحات من اقتراحات نافعة إلى باتريك منسون ومسَّ بقبَسه رأس العبقري الطلياني الغضوب جراسي فجرت النار في أفكاره اشتعالاً. والأمريكي ولتر ريد ملأه هذا التقرير ثقة، وملأ كذلك رجاله الأبطال من عساكر وضباط، فقاموا بمغامراتهم الخطيرة في اطمئنان كبير، ورفضوا زيادة في الرواتب وآثروا عليها الشهادة والتضحية في سبيل العلم.
فأي رجل كان إسميث هذا الذي يجهله الأمريكيون إلا آلافا قليلة؟ وكيف أن كشفا له عن مرض في بقرة استطاع أن يحرّك في البشر كل هذه الآمال والأحلام؟ وما منطق الريفيين هذا الذي ابتدأ به اسميث فحققه وأثبته، والذي من جرّائه استطاع أن ينير للبحاث من بعده الطريق التي يسلكونها ليحققوا بها أمل البشرية المنشود، ووعدها الأكبر الخلوب الذي وعدها إياه بستور؟
في عام 1884 كان إسميث في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وكان نال درجة بكالوريوس في الفلسفة من جامعة كُرنيل وكان نال درجة دكتور في الطب من كلية أَلَبنِي ولكنه كره أن يقضي حياته في تشخيص أمراض يلبس لها وجهَ الجادّ العابس وهو يعلم أن(178/27)
لا رجاء في شفائها، وأن يُذبل زهرة أيامه في بذل الطمأنينة والسلوى والكلام الحلو الراجي لمرضى بني الناس عوضاً عن بذل العلاج الناجح الذي لا يعرف له وجودا. واختصاراً تراءى له الطب والطِّبابة أنهما عمل مهوّش لا يستقيم مع العقل السليم. وأحب أن يضرب في المجهول قليلاً ليعلم من خفاياه قدراً يستطيع حمله فلا ينوء به ظهره، أو يُتخَم به عقله. كان طبيباً ولكنه شاء برغم هذا أن يكون باحثاً، ورغب بخاصة إلى دراسة المكروب. وكان قد عُنِي وهو في كُرنيل باللعب على الأرغون، لَعِبَ عليه المزامير وقطعاً من بيتهوفن (ولم يكن جاء زمن الجازباند). وفي كرنيل في جامعتها عبّ عبّة طيبة من الرياضيات ومن علم الفيزياء ومن اللغة الألمانية، وبخاصة أشتد ميله إلى النظر في المكرسكوبات، ولعله عندئذ نظر أول مكروبة رآها.
ولكنه لما جاء مدرسة الطب في ألْبَني لم يجد في أساتذتها اهتمامابالمكروبات، فلم يكن هذا العهد يَعْمدون في شفاء الأمراض إلى قتل الجراثيم. ولم يكن في المدرسة برنامج لدراستها، بل لم يكن في أي مدرسة طبية بأمريكا شيء من هذا، وأراد أن يتعلم علم الجرثوم برغم كل هذا، وكان لا يأبه لألوان العرفان التي كانت تتعاطاها الجمهرة من طلاب الطب، وكان يحتقر التخرّصات والأكاذيب التي يسبلون عليها رداء العلم. وأشبع هَوِيَّته يبحث أحشاء القطط بحثاً مكرسكوبياً، ونشر أول رسالة له في ذلك، وفيها أبان اختلافاً للطبيعة خرجت بها في أعماق بطون القطط عن المألوف الذي درجت عليه في سائر الأحياء، وعلق عليها حواشي دلّت على الفطنة وحدة في الذهن شديدة، وكانت أول عمل دخل بفضله في زمرة البحّاث.
ونال درجته الجامعية، وأراد أن يتخذ التجريب العلمي صناعته، ولكن تحتّم عليه قبل ذلك وفوق ذلك أن يرتزق ليعيش. وكان في هذا الوقت كثير من أطباء أمريكا الأحداث يتسابقون إلى أوروبا، إلى الأستاذ الكبير كوخ يودون أن تتاح لهم الفرصة ليقفوا وراء ظهره، ويتعلموا من فوق كتفه كيف يصنع البِشلاّت وكيف يُربيها صريحة، وكيف يضربها بالمحاقن تحت جلود الحيوانات، وكيف يستطيعون من بعد ذلك أن يتحدثوا عن المكروبات حديث الخبير الضليع. ورغب إسميث أن يتبعهم، ولكن تحتم عليه أن يبحث عن وظيفة ليعيش. ورحل هؤلاء الأطباء الشبان الأثرياء إلى أوروبا، وبينما هم يأخذون من العلم(178/28)
الجديد بمبادئه الأولى، وبينما هم يوشكون من أجل ذلك أن يقعوا على مناصب أستاذيات في العلم هامة، وقع إسميث على وظيفته التي طلب. وكان منصباً وضيعاً هذا الذي ناله؛ ومن وجهة العلم لم يكن منصباً محترماً، فقد تعين في مكتب إصلاح الماشية والحيوان بواشنطن ولم يكن عندئذ إلا مكتباً صغيرا حقيرا فقيرا لا يكاد يأبه له أحد. وكان في المكتب من المستخدمين ثلاثة غير اسميث، وكان على رأسهم رجل طيب يُدْعى سلمون كان كثير الاهتمام بما عسى أن تصنعه الجراثيم من السوء للأبقار، مؤمناً شديد الأيمان بخطر البشِلاّت على الخنازير، ولكنه جهل كل الجهل كيف يتصيد المكروبات التي تعيث في هذه الماشية الثمينة. وكان في المكتب السيد كلبورن وكان يحمل درجة بكالوريوس في الزراعة ويغتبط بها، وكان يعرف بعض الشيء في البيطرة، وهو الآن يتاجر في الصيني وما إليه بمكان قريب من نيويورك. وكان ثالثَ الثلاثة في المكتب رجلٌ جسيم مَهيب عتيق أسود كان عبداً فأُعتق، وكان أسمه اسكندر، وكان يجلس حيثما جلس رزينا وقورا ساكنا حتى يُحرَّك، فيقوم إلى القّنينات القذرة فيغسلها، أو إلى الخنازير الغينية فيُعنى بها.
وبدأ اسميث في صيادة المكروب في حجرة في ذروة بيت حكوميّ أضاءها شباك واحد مفتوح في سقف البيت. بدأ في صيادة المكروب، فبدأ عمله الأوفق الذي هيأته الطبيعة له. وجاءته هذه الصيادة سلسلة منقادة فكأنما ولدته أمه وبيمينه مِحقَن وبفمه عود من البلاتين. وعلى الرغم من أنه خريج جامعة فقد كان يقرأ اللغة الألمانية قراءة جيدة، فكان في الليل يعتكف إلى دراسة ما صنع كوخ من المكروبات وصار يعبّ من مآثره العلمية المجيدة عباً. وكان كالبُطَيطة نزلت في الماء لأول مرة. فأخذ يفعل بالتفصيل كل ما فعله كوخ من قبله ويقلده تقليداً ويتبع طرائقه اللبقة في تربية الجرثوم واقتناص البشلات وتلك الخلائق العجيبة الأخرى التي تسبح في الماء انفتالا كأنما هي بَريمة الفلين جرت فيها الحياة. قال: (إن كل ما صنعت مرجعه إلى كوخ)، وتصور كوخ في بعده وعبقريته شيئاً سماويا قدسيا.
وعَمِل في حجرته السقفيّة بلا هوادة ولا حسبان لضعف جسمه، وقام على صيادة المكروب كل يومه وطرفا من ليله. وكانت له أنامل دقيقة متِّزنة كأنامل الموسيقى فساعدته على غَلْي الأحسية فندر انكبابها في يديه. وكانت إلى جانب حجرته حجرة أخرى يُختزن فيها المتاع الخسيس، وكان يخرج منها إليه قُطُر من الصراصير لا تنقطع فيتلهى في أوقات فراغه(178/29)
بدقّها. وفي وقت قصير بالغ القصر علّم نفسه كل ما يتطلبه البحث، ثم بدأ يكتشف الكشوفات على حذر، فاكتشف لقاحا غريباً مأموناً، لا يحتوي على البشلات نفسها، ولكن على عصاراتها الزلالية التي تُبتزّ منها اعتصارا وترشيحا. واشتد الحر في غرفته فزاد على حر المدينة وهي جهنم الحمراء، ولكنه احتمل هذا ومسح العرق المتقطّر من أنفه، وظل يعمل على أسلوب كوخ الأدقّ الأحذر، ونبا به طبعه عن أسلوب بستور الأخشن وطرائقه الفضفاضة.
(يتبع)
أحمد زكي(178/30)
شخصية ناقدة يهملها النقد العربي
نقد ابن أبي عتيق
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
للأستاذ خليل هنداوي
ذكر شعر الحارث بن خالد وشعر عمر عند ابن أبي عتيق في مجلس رجل ففضل الرجل شعر الحارث. فقال ابن أبي عتيق: بعض قولك يا ابن أخي! لشعر عمر نوطة في القلب، وعلوق بالنفس، ودرك للحاجة ليست لشعر. وما عصى الله بشعر أكثر مما عصى بشعر عمر أشعر قريش، من دق معناه، ولطف مدخله وسهل مخرجه، ومتنحشوه، وتلطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن حاجته. وذكر الرجل المفضل أبياتا للحارث ينعت بها الطلل:
إني وما سخروا غداة مني ... عند الجمار يؤودها العقل
لو بدلت أعلى مساكنها ... سفلاً، وأصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها ... فيرده الأقواء والمحل
لعرفت مغناها بما احتملت ... مني الضلوع لأهلها قبل
فقال له ابن أبي عتيق: (استر على نفسك واكتم على صاحبك، ولا تشاهد المحافل بمثل هذا! أما تطير الحارث عليها حين قلب ربعها فجعل عاليه سافله. ما بقي إلا أن يسأل الله تبارك وتعالى لها حجارة من سجيل) فتأمل ما ألطف هذا المأخذ، وصاحب هذه الأبيات - في الحقيقة - قد سار إلى غاية شريفة من معناه. ولكن المبالغة أفسدت عليه غايته؛ وإن معرفة الدار وإظهاره الشوق لأهل الدار لا يحتاجان إلى قلب العالي أسفل والسافل أعلى؛ وإن في هذا نذيراً أدنى إلى الشؤم منه إلى إظهار الشوق. ولعن الله شوقاً لا يثبت نفسه إلا على الركام والخراب!
ولقد كان يقحم شعر عمر بنقده - على رغم الصداقة - ويضربه في الصميم. ألم يسمع عمر يقول:
بينما ينعتني أبصرنني ... دون قيد الرمح يعدو بي الأغر(178/31)
قالت الكبرى أتعرفن الفتى ... قالت الوسطى: نعم هذا عمر
قالت الصغرى تيمتها: ... قد عرفناه! وهل يخفى القمر؟
وعمر في هذه البيات قد شغل الثلاثة به ودلههن بحبه.
فقال له ابن أبي عتيق: أنت لم تتشبب بها، وإنما تشببت بنفسك، وإنما كان ينبغي أن تقول: قلت لها فقالت لي فوضعت خدي فوطئت عليه.
وأنشد نصيب الأسود قوله:
وكدت، ولم أخلق من الطير إن بدا ... لها بارق نحو الحجاز أطير
فسمعه ابنأبي عتيق فقال له: يا أبن أُم: قل (غاق) فانك تطير، وأراد بذلك أنه لا يكون إلا غراباً أسود، ولا يكون الغراب إلا نذيراً بالويل. وهكذا تنبه الناقد بعقله إلى شيء لم يتنبه إليه الشاعر بفنه.
وأنشد ابن جندب قول العرجى لأبن أبي عتيق في جاريته:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... لخادمها، قولي اسألي لي عن الوتر
فقالت: يقول الناس في ست عشرة ... فلا تعجلي منه فانك في أجر
فما ليلة عندي وإن قيل جمعة ... ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر
بعادلة الاثنين عندي، وبالحرى ... يكون سواء منهما ليلة القدر
فقال ابن أبي عتيق - وقد راعه هذا التكلف - أُشهدكم أنها حرة من مالي إن جاز ذلك أهلها. هذه والله أفقه من ابن شهاب! وليتنا نعلم شيئاً عن ابن شهاب الذي حشره الناقد حيث لا يحشر!
وقد يتأمل ابن أبي عتيق في مواقع الألفاظ ويتبين مواضعها، فيقول مثلاً عندما يسمع قول قيس بن الحطيم:
بين شكول النساء خلفتها ... حذواً، فلا جبلةٌ ولا قضف
لولا أن أبا يزيد قال (حذواً) ما درى الناس كيف يحشون هذا الموضع.
ويسمع عتيق ابن قيس يقول: (سواء عليها ليلها ونهارها) فيقول له: كانت هذه يا ابن أُمِّ فيما أرى عمياء، فما يستوي الليل والنهار إلا على عمياء. فقال ابن قيس: إنما عنيتُ التعب.(178/32)
قال: فبيتك هذا يحتاج إلى ترجمان يترجم عنه، وما عسى يكون قدر البيت إذا كان لا يُفسر إلا بترجمان!
وأنشد كثير ابن أبي قوله:
ولست براضٍ من خليل بنائل ... قليل ولا أرضى له بقليل
فقال ابن أبي عتيق: هذا كلام مكافئ ليس بعاشق، القرشيان أقنع وأصدق منك: عمر حيث يقول:
ليت حظي كلحظة العين منها ... وكثير منها القليل المهنا
وحيث يقول:
فَعِدِى نائلاً وإن لم تنيلي ... إنه يقنع المحب الرجاء
وابن قيس الرقيات حيث يقول:
رُقيَّ! بعيشكم لا تهجرينا ... ومنينا المنى ثم امطلينا
عدينا في غد ما شئت إنا ... نحب - وإن مطلت الواعدينا
فأما تنجزي عدتي وإما ... نعيش بما نؤمل عنك حينا
وهكذا أفسد على كثير فكرته بنظرة نفسية عميقة لأن المحب الحقيقي الذي يتلهب ويتقلب على جمر من حبه لا يقول لمحبوبته إذا عرضت له: إليك عني فأني لا أرضى بالقليل، وإنما يتمنى قول عمر: (ليت حظي كلحظة العين منها) ويخلق الله بعد هذه اللحظة لحظات.
قال كثير لأحدهم - وكان مديوناً - اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنه فذهب إليه معه، فاستنشده ابن أبي عتيق قوله:
أبائنة سعدى؟ نعم ستبين
حتى بلغ قوله:
وأخلفن ميعادي وخُن أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين
فقال ابن أبي عتيق: ويلك هذا أملح لهن وادعى للقلوب إليهن. سيدك ابن قيس الرقيات كان اعلم منك وأوضع للصواب موضعه فيهن. ألم تسمع قوله:
حبذاك الدل والغنج ... والتي في عينها دعج
والتي إن حدثت كذبت ... والتي في وعدها خلج(178/33)
وترى في البيت صورتها ... مثلما في البيعة السرج
خبروني هل على رجل ... عاشق في قبلة حرج؟
وهكذا أدرك ابن أبي عتيق من نفس المرأة ما لم يدركه كثير، وأدرك أن مثل حب كثير العذري لا يستطيع أن يدخل إلى أعماق نفوس النساء لأنه حب مقتول بالإعجاب لا يرى حيث حل إلا نفسه! ومثل عمر وابن قيس وأمثالهما ممن يقعون كل يوم على امرأة يدركون ما يعجب المرأة وما تزدريه، ويفهمون تقلبها وقيمة وعودها، ولكن عتيقاً أهمل هذه المرة النظر إلى البيت الأخير في هذه القطعة حيث أخذ الشاعر يستفتي الناس في قبلة، وقد علم أن مثل هذه الفتوى باردة وأبرد منها هذا الاستفتاء الذي هو أدنى إلى الفضيحة والتهتك منه إلى العفة والتستر. وما على صاحبه إلا أن يردده في أحد المساجد ويناقش فيه أصحاب الفتاوى
وأنشد أبو أذينة مرثيته لأخيه بكر:
سرى همي وهم المرء يسرى ... وغار النجم إلا قيد شبر
أراقب في المجرة كل نجم ... تعرض في المجرة كيف يجري
بحزن ما أزال له مديما ... كأن القلب أسعر حر جمر
على بكر أخي ولى حميداً ... وأي العيش يحسن بعد بكر
فضحك ابن أبي عتيق وقال: كل العيش يحسن حتى الخبز والزيت. فآلم تهكمه أبا أُذينة وحلف لا يكلمه أبداً. وهذا هو الموقف الوحيد الذي خرج فيه شاعر متأذيا من ابن أبي عتيق.
وهناك مواقف متعددة تبدى لنا عطفه على رجال الفن؛ فلقد كان يمتزج بهم ويحس إحساسهم.
سمع عمر يقول:
كان ذا في مسيرنا إذ حججنا ... علم الله فيه ما قد نوينا
فقال له ابن أبي عتيق: إن ظاهر أمرك ليدل على باطنه فأورد التفسير، ولئن مت لأموتن معك. أف الدنيا بعدك يا ابن الخطاب! فقال عمر: بل عليها بعدك العفاء يا أبا محمد!
ولقد كان فيه حدب خاص على المحبين. وإن له مواقف كثيرة كان يقوم فيها بوصل(178/34)
المنقطع من حبال المودة كما فعل مع عمر، وكان رسوله إلى الثريا. وكما فعل مع نصيب، وقد توسط بينه وبين سعدى محبوبته: ولعل هذا الموقف يبدي لك غيرة ابن أبي عتيق على رجال الشعر والغناء والعمل على نصرهم. وهذا الموقف يبديه لنا رجلاً قوياً حاد الطبع قوي الشكيمة مفتول العضل. رأى ابن أبي عتيق حلق ابن عائشة مخدشاً فقال: من فعل بك هذا؟ قال فلان. فمضى فنزع ثيابه وجلس للرجل على بابه، فلما خرج اخذ بتلبيبه وجعل يضربه ضرباً شديداً والرجل يقول له: مالك تضربني؟ أي شيء صنعت؟ وهو لا يجيبه حتى بلغ منه ثم خلاه وأقبل على من حضر فقال: هذا أراد أن يكسر مزامير داود! شد على ابن عائشة فخنقه وخدش حلقه.
والآن أرجو أنني وفقت في الكشف عن شخصية جديدة في تأريخ النقد العربي، وأرجو زملائي كتاب (الرسالة) أن يعملوا على جمع شوارد هذا الرجل، وأرجو أن تتولى (الرسالة) نشر ما يأتيها عنه وما تقع عليه. فربما استطعنا أن نؤلف من هذه الشوارد حياة الرجل وحياة الناقد، لأن لنقده تأثيرا أكبر مما ذكرنا في توجيه أدب عصره. وإنما أدبنا لا يزال فقيراً إلى رجلين: المؤرخ والأديب. فليعمل المؤرخ عمله يعمل الأديب عمله أيضاً
(دير الزور)
خليل هنداوي(178/35)
الكلب والديك
في كتاب (الحيوان) للجاحظ
بقلم محمد طه الحاجري
يعرف كل قراء الجاحظ تلك الخصومة الحادة العنيفة التي أثارها أبو عثمان، في أول كتابه الحيوان، بين الكلب والديك، وتلك المناظرة الطويلة المسترسلة المفتنة شتى الأفانين، والذاهبة في شتى مذاهب الكلام بين صاحب هذا وصاحب ذاك؛ دون أن يكون بينهما - في حقيقة الأمر - خصومة، أو سبب يدعو إلى المناظرة، وإنما هي عبقرية الجاحظ التي لا تفتأ تبدع وتبتكر، وأسلوبه المتدفق الذي لا يألو يشقق الكلام ويولد المعاني والصور. ذلك الظن السائد نلجأ إليه كثيراًُ في تفسير مثل تلك المناظرة الغريبة. ولكني أحسب أن الأمر بين الكلب والديك أعجب من أن يكتفي في تفسيره بتلك الصفة الغالبة، والنظرة العاجلة المقاربة.
فلقد أطنب الجاحظ في تلك المفاضلة إطناباً غريباً، حتى كسر عليها جزءين كبيرين من كتابه، لعلهما يقربان من ثلثه؛ ثم كأنه لم يكتف بذلك، فترى حديث صاحبه الكلب وحديث مناظره صاحب الديك يتخللان الأجزاء الأخرى.
ثم إن هذه المفاضلة غريبة أيضاً في كتاب الحيوان، فقد سار الجاحظ في أبواب الكتاب التي تلي ذلك الباب على منهج غير ذلك المنهج، فليس إلا وصف الحيوان، وبيان عاداته وطبائعه، ومزاياه ومساوئه، ورواية النوادر عنه، والآثار الأدبية التي تدور حوله، وحكاية كلام بعض علماء الحيوان والمعنيين بأمره، مثل أرسططاليس وأقليدون، دون أن يعرض للمفاضلة بين هذا الحيوان وذاك، إلا قليلاً لا نكاد نلحظه. فالأمر بين الكلب والديك إذن ليس متمشياً مع طريقة الجاحظ في الكتاب عامة، فما الذي جعله يميزه من غيره، ويسلك فيه أسلوباً على حدة
وأخرى لا سبيل إلى الإغضاء عنها، وهي وجه اختيار هذين الحيوانين بالذات ليكونا موضعاً للمقارنة والموازنة والمفاضلة وما من سبب، فينا يبدو، يجمع بينهما، أو يدع سبيلاً للتنظير والتفضيل. ولعل السبيل بين الضب والنون أو بين الملاح والحادي كما يقول البلاغيون أكثر استقامة مما هو بين الكلب والديك. ولو أن الجاحظ يريد المقارنة وحدها،(178/36)
والمقابلة بين خلقيهما، لكان ذلك مستساغا؛ أما أن يجعلهما خصمين، وينصب لكل منهما صاحباً يهاجم باسمه، ويدافع عنه، ويناضل دونه، دون أن يكون بينهما جامعة طبيعية إلا جامعة الحيوانية، فأمر لا نستطيع أن نصفه إلا بالغرابة. فهلا ناظر بين الفيل والبعير، أو بين الثعلب والذيب!!
ورابعة تلفت نظرنا، وتثير دهشتنا، وهي ما أشار إليه في أول كلامه من أن هذه المناظرة كانت تثور بين شيخين من علية المتكلمين، ومن الجلة المتقدمين، فما للمتكلمين ولهذا؟ وما شأن الكلب والديك في الكلام على الصفات والقدر، أو المناظرة بين النار والمدر؟! لسنا ننكر أن من أول ما كان يعنى به المتكلمون، وخاصة المعتزلة، بيان دقائق صنع الله في الكون، وحكمة الله في الخلق، على نحو ما في رسالة (الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير) لإمامنا الجاحظ. فهل نستطيع أن نفهم أن تلك المناظرة إنما كانت تأخذ هذه السبيل وتتجه إلى تلك الغاية؟ إن من العسير أن نقنع أنفسنا بهذا في مثل ذلك الذي صوره الجاحظ بين الكلب والديك. وإذا أجزنا ذلك بوجه من الوجوه فأنا نتساءل مرة أخرى: ما بالهم لم يختاروا من جميع الحيوان موضوعا لهذه المناظرة إلا ذينك الحيوانين - على ما في المفاضلة بينهما - فاقتصروا عليهما، ولم يعدوهما؟
فالمسألة كما يرى القارئ الكريم غامضة، لا يكفي في بيانها ذلك التفسير العام المبهم الذي يفسر به أسلوب الجاحظ جملة واحدة.
إن ذهناً دقيقاً كذهن الجاحظ مارس الفلسفة وأساليب المتكلمين، حتى صار رأساً لطائفة من المعتزلة تدعى باسمه، ليس من القريب احتماله أن يأخذ في الكلام اعتباطاً، فيناظر بين الكلب والديك وليس بينهما وشيجة أو سبب. فإذا كنا لا نرى بينهما صل ذاتية، فلا بد أن تكون بينهما صلة أخرى خارجية، هي التي مهدت السبيل للمناظرة، فما هي هذه الصلة وأين نلتمسها؟
هل هناك صفات أضيفت إلى الكلب تقابل صفات أخرى أضيفت إلى الديك بحيث يكونان متناظرين؟ أما أننا يجب أن نتلمس ذلك تلمساً في روح العصر الذي كتب فيه الحيوان، وفي التيارات الاجتماعية التي كانت سائرة فيه، وفي الآثار الأدبية التي بقيت لنا حول هذين الحيوانين.(178/37)
وإذن فأنا أزعم أن هذه المناظرة بين الكلب والديك كانت صدى من أصداء تلك الحالة الاجتماعية الشديدة السلطان في العصر العباسي، والتي أخذت تتغلغل في المجتمع الإسلامي منذ أوائل القرن الثاني، وبلغت عنفوانها في عصر الجاحظ وأعني بها تدافع العنصرين العربي والأجنبي على التأثير في الحياة مما أنتج تلك الخصومة العنيفة بين العرب والشعوبية، تلك الخصومة التي جعلت تمتد وتنتشر وتغمر الجو هنا وهنا حتى لم يخلص من سطوتها ذانك الحيوانان المسكينان، لأن إحداهما كان يضاف إلى العرب والآخر كان يضاف إلى العجم. فالعرب كانوا في نظر الفرس قوماً جفاة غلاظاً رعاة إبل وغنم؛ الكلب أصدق أصدقائهم، وألصقصاحب بهم، وأعز رفيق لديهم، وهو ما هو ضعة شأن وهوان منزلة وخبثاً ولؤماً وقذراً ودناءة. والفرس في نظر العرب كانوا قوماً أنباطاً أصحاب قرية، قد أخذتهم طبيعة حياتهم بالاستكانة والذلة، فلا كرم ولا نجدة ولا أريحية، كل ما لهم الدجاج والديكة، تمثل ضعفهم، وتبرز بخلهم وضيق حياتهم. وهكذا أخذت الخصومة بين العرب والشعوبية مظهراً طريفاً من الخصومة بين الكلب والديك والتنابذ بينهما.
وهنا يجئ دور المتكلمين الذين أشار إليهم الجاحظ، ونحن نعرف عنهم أنهم لم يساهموا في هذه العصبية، وإن نسب المسعودي إلى طائفة منهم شيئاً منها، فرد عليه الأستاذ الكبير أحمد أمين في الفصل الذي كتبه عن الشعوبية في كتابه (ضحى الإسلام)، فأرادوا أن يحولوا تيار هذه الخصومة العصبية إلى ناحيتهم، وأن يصبغوها بصبغتهم، وأن يجعلوا من هذه المناظرة سبيلاً من سبلهم إلى بيان حكمة الله في المخلوقات، ودقائق صنعه في الكائنات. ثم جاء الجاحظ فأخذ هذه المناظرة وجعلها باباً في كتابه، فأفاض فيها وتدفق، وجمع فيها بين الكلام والحكمة والأدب على طريقته.
هذه صورة المسألة كما ثبتت لدينا، ولا تكلف فيها ولا تعسف، وإن بدت في أول الأمر غريبة. فأما أن الشعوبية كانت تعيّر العرب باتخاذ الكلاب فأحسبه مما لا نزاع فيه، فقد كانت لا تفتأ تتجنى على العرب المساوئ والمعايب، ولعل في هذا القول الذي يرويه الجاحظ عن بعض المتعصبين على العرب ما يدلنا إلى أي حد كان تجنبهم. قال الجاحظ: (وزعم لي سلمويه وابن ماسويه مطيّب الخلفاء أنه ليس على الأرض جيفة انتن نتنا ولا(178/38)
أثقب ثقوباً من جيفة بعير، فظنت أن الذي وهّمهما ذلك عصبيتهما عليه، وبغضهما لأربابه).
أما الديك فكان عند العرب من أظهر ألوان الحياة الفارسية، فهم دائماً يضيفونه إلى العجم. ومن ذلك قول الشاعر:
لعمري لأصوات المكاكي بالضحى ... وسوء تداعي بالعشي نواعبه
أحب ألينا من فراخ دجاجة ... ومن ديك أنباط تنوس غباغبه
وعن قتادة أن أبا موسى الأشعري قال:
(لا تتخذوا الدجاج في الدور فتكونوا أهل قرية) ويفسر الجاحظ هذا بأن الديك من خصائص الحياة المدنية، وكان ولاة العرب حريصين على أن يظلوا عرباً، وأن يحتفظوا بمواهبهم الحربية التي لا تلبث أن تضعف فيهم، ثم تتلاشى منهم، إذا هم ركنوا إلى حياة القرى، فاتخذوا الديكة التي هي منأبرز مظاهرها.
وهكذا نرى أن الصلة وثيقة بين العجم والديك بقدر ما هي وثيقة بين العرب والكلب، وأن كلا منهما يعتبر من خصائص الحياة الاجتماعية لذويه، وأن العرب كانوا يكرهون الديك وينفرون منه بقدر ما كان الفرس يمقتون الكلب ويسخرون من أصحابه.
وهناك دليل آخر على ما أسلفنا من أن الديك كان شديد الصلة بالأعاجم فيما يرى العرب، حتى كان يرمز في العقل العربي إليهم، وهو - فيما نحسب - دليل قوي، لأنه يجئ من عالم الأحلام، ومجالها العقل الباطن فيما يذهب إليه المحدثون من الباحثين. ذلك هو ما حكاه الدميري في كتابه (حياة الحيوان الكبرى) قال: (روى مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه خطب الناس يوماً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني رأيت رؤيا لا أراها إلا لحضور أجلي، وهي أن ديكاً نقرني ثلاث نقرات، فحدثتها أسماء بنت عميس، رضي الله عنها، فحدثتني بأن يقتلني رجل من الأعاجم) وهناك رواية أخرى للحاكم ليست فيها أسماء بنت عميس: (قال على المنبر رأيت في المنام كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات فقلت أعجمي يقتلني) ثم إنه مهما تكن قيمة هذه الرواية فان تأويل الديك بالأعجمي يدل وحده دلالة صريحة على ما ذكرنا. ويضاف إلى هذا ما حكاه ابن سيرين من أنهم كانوا يؤولون الكلب الأسود بالعربي. وإذن فقد تم الأمر من وجهيه، وتضافرتالدلائل على أن ذلك الغرض الذي(178/39)
افترضناه قريب لا تكلف فيه ولا تعسف.
على أن هذا الغرض - فوق تفسيره لموقف الجاحظ - يفسر لنا طائفة من الأحاديث الموضوعة، لم نفهم من قبل السر في وضعها، والعناية بصنعها، فنحن نعرف كيف كانت الطوائف المختلفة تجتهد في وضع الأحاديث ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتأييد مذاهبها، ونشر الدعاية لمبادئها، ومثل هذه الأحاديث نستطيع في غير عنت أن ندرك السر في وضعها. أما تلك المجموعة من الأحاديث التي نحن بصددها فيبدو في بادئ الرأي أن وضعها كان عبثاً ولهواً وسخرية، وإلا فما ظنك بهذه الأحاديث التي وضعت عن الديك، ووضعته في صف الملائكة المقربين. كذلك الحديث الذي ذكره صاحب التهذيب، في ترجمة البزي - وقد قال عنه إنه ضعيف الحديث - وهو: (الديك الأبيض حبيبي وحبيب حبيبي جبريل، يحرس بيته وستة عشر بيتاً من جيرانه) أو ذلك الحديث الآخر: (ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى: صوت الديك، وصوت قارئ القرآن وصوت المستغفرين بالأسحار). أو ذلك الحديث الثالث الذي يعتبر بدعه فنية خليقة بالخيال الفارسي المترف، وقد رواه الطبراني في معجمه: (إن لله سبحانه وتعالى ديكاً أبيض، جناحاه مُوشّيان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ: جناح بالشرق وجناح بالمغرب، ورأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء، يؤذن في كل سحر، فيسمع تلك الصيحة أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين الإنس والجن، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض، فإذا دنا يوم القيامة يقول الله تعالى ضم جناحيك وغض صوتك، فيعلم أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين أن الساعة قد اقتربت) ومثل ذلك كثير مذكور في الكتب.
أفي الحق أن كل ذلك كان عبث عابث ولهو لاه ساخر؟ أكل ذلك العناء في وضع تلك الأحاديث، والتكلف لها وتلفيق أسانيدها، وذلك الجهد الذي لا نشك في أنه كان عظيماً من أجل امرارها وإدماجها بين الأحاديث الصحيحة، أكل أولئك كان لهواً ولعباً لا غاية ولا هدف يتجه نحوه؟؟
كلا! وإنما هي الشعوبية التي أسرفت في وضع الأحاديث عن فارس وسلمان الفارسي وغير ذلك، هي هي التي أوحت بتلك الأحاديث الغريبة في تمجيد الديك وتقديسه، باعتباره رمزاً فارسياً.(178/40)
وإذن فقد استطاع ذلك الفرض أن يكشف لنا عن السر في وضع تلك الأحاديث الغريبة، وأن يبين لنا لوناً من ألوان ذلك النزاع بين النزعة العربية والنزعة الشعوبية.
محمد طه الحاجدي(178/41)
4 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
خطب زرادشت
التحول في ثلاث مراحل
سأشرح لكم تحوّل العقل في مراحله الثلاث فأنبئكم كيف استحال العقل جملاً، وكيف استحال الجمل أسداً، وكيف استحال الأسد أخيراً فصار ولداً.
إنها لعديدة تلك الأحمال التي تثقل العقل الجَلْد الصليب الذي يتجلى الوقار فيه، فأن صلابته تتوق إلى الحمل الثقيل بل إلى الحمل الأثقل.
يفتّش العقل السليم عن أثقل الأحمال فينيخ كالجمل ظهره متوقعاً رفع خير حمل إليه. أن العقل السليم ينادي الأبطال قائلاً: أيّ حمل هو الأثقل لأرفعه فتغتبط به قوتي؟ أفليس أثقل الأحمال هو في الاتضاع لإنزال العذاب بالغرور؟ أفليس أثقلها أن يبدي الإنسان اختلالاً لتظهر حكمته جنوناً؟
أم أثقلها في تخليّ الإنسان عن مطلب حين يقترن هذا المطلب بالنصر، أم في ارتقاء قمم الجبال لتحدّي من يتحدّى؟
أم أثقلها في أن يتغذّى الإنسان بأقماع السنديان والأعشاب وبتحمّل مجاعة نفسه من أجل الحقيقة.
أم أثقلها في احتمال المرض وطرد العائدين المعزّين، أم في مخادنة الصمّ الذين لا يسمعون ولا يعون ما تريد؟
أم أثقلها في الانحدار إلى المياه القذرة إذا كانت الحقيقة فيها والرضى بملامسة الضفادع اللزجة والعقارب التي تقطر صديداً
أم أثقلها في محبة من يحتقرنا وفي مد يدنا لمصافحة شبح يقصد إدخال الرعب إلى قلوبنا. أن العقل السليم يحمل ذاته جميع هذه الأثقال المرهقة، وكالجمل الذي يسارع إلى طريق الصحراء عندما يرفع الوقر عن ظهره ليندفع هو أيضاً نحو صحرائه(178/42)
وهنالك في الصحراء القاحلة يتمّ التحوّل الثاني إذ ينقلب العقل أسداً لأنه يطمح إلى نيل حريته وبسط سيادته على صحرائه
وفي هذه الصحراء يفتش عن سيده ليناصبه العداء كما ناصب سيده السابق، فهو يستعد لمكافحة التنّين والتغلب عليه
ومن هو هذا التنّين الذي يتمرد العقل عليه فلا يريد بعد الآن أن يرى فيه ربه وسيده؟
إن التنين هو كلمة (يجب عليك) وعقل الأسد يريد أنينطق كلمة (أُريد)
(إن كلمة (الواجب) تترصد الأسد على الطريق تنّيناً يدَّرع بآلاف الأصداف وعلى كل قطعة منها تتوهج بأحرف مذهبة كلمة (يجب عليك)
وعلى هذه الأصداف تشع سنو ألف عام والتنّين الأعظم يعج قائلاً إن جميع السنين تتوهج عليّ
كل ما هو سنّةٌ قد أُوجد من قبل، وبي تتمثل جميع السنين الكائنة. والحق أن كلمة (أُريد) يجب ألا ينطق بها أحدٌ بعد! هكذا قال التنّين
فأية حاجةٍ لكم أيها الأخوة بأسد العقل؟ أفما يكفيكم الحيوان القوي الجليل الممنّع بامتناعه؟
من اعبث أن تطمحوا إلى خلق سنين جديدة، إن الأسد نفسه ليعجز عن هذا الخلق إذ لا يسعه إلا أن يستعد بتحرير نفسه لخلق جديد لأن قوته لن تتجاوز هذا الحد.
أيها الأخوة، إنّ العمل الذي تحتاجون فيه إلى الأسد إنما هو تحرير أنفسكم والوقوف ببطولة الامتناع في وجه كل شيء حتى وجه الواجب. ذلك أيها الأخوة هو العمل الذي تحتاجون إلى الأسد للقيام به.
إن الاستيلاء على حق إيجاد سنن جديدة يقضي بالجهاد العنيف على العقل الخشوع الصبور، ولا ريب أن في هذا الجهاد قسوة لا يتصف بها إلا الحيوانات المفترسة.
لقد كان العقل فيما مضى يتعشق كلمة (الواجب) كأنها أقدس حق له، وقد أصبح عليه الآن أن ينظر حتى إلى هذا الحق المفدّى فيراه توهماً واعتسافاً، ليتمكن بإرهاق عشقه أن يستولي على حرّيته وليس غير الأسد من يقوم بهذا الجهاد.
ولكن ما هو العمل الذي يقدر عليه الطفل بعد أن عجز الأسد عنه؟ ولماذا يجب أن يتحوّل الأسد المكتسح إلى طفل؟(178/43)
ذلك لأن الطفل طهرٌ ونيسانٌ، لأنه تجديد ولَعِب وعجلة تدور على ذاتها فهو حركة البداية وعقيدةٌ مقدَّسة.
أجل أيها الأخوة إن العمل الإلهي للإبداع يستلزم عقيدة مقدسة، فأن العقل يطلب الآن إرادته، ومن فقد الدنيا يريد الآن أن يجد دنياه.
لقد ذكرت لكم تحولات العقل الثلاثة فأوضحت كيف استحال العقل جملاً وكيف استحال أسداً وكيف استحال أخيراً إلى طفل.
هكذا قال زارا، وكان في ذلك الحين مقيماً في مدينة اسمها البقرة العديدة الألوان.
منابر الفضيلة
وبلغ زارا خبر حكيم أطنب الناس في علمه ومقدرته في التكلم عن الكرى وعن الفضيلة فحبوه بالتكريم والتبجيل واتبعه عدد من الشبان أصبحوا دعامة لمنبره العالي، فذهب زارا وجلس معهم أمام المنبر مصغياً إلى الحكيم فكان يقول:
مجدوا الكرى وعظموه لأن له المقام الأول وتحاشوا مرافقة من ساء رقادهم ومن استحوذ عليهم الأرق.
إن اللص ليقف خاشعاً أمام الكرى فيدلج في الليل مخرساً وقع أقدامه ولكن الساهر المجازف لا يتورع عن حمل بوقه
ليس بالسهل أن يعرف الإنسان كيف يستسلم لسنة الكرى وليس إلا لمن عرف كيف ينتبه طول النهار أن ينام ملء جفنيه.
يجب عليك أن تقاوم نفسك عشر مرات في النهار فتغنم خير التعب وتهيئ المخدر لروحك.
عليك أن تصالح نفسك عشر مرات في النهار لأنه إذا كان في قهر النفس مرارة فأن في بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك
عليك أن تجد عشر حقائق في يومك كيلاتضطر إلى السعي وراءها في نومك فتبقى نفسك جائعة.
عليك أن تضحك عشر مرات في يومك لتكون مرحاً كيلا تزعجك معدتك في ليلك والمعدة بيت الداء.
قليل من يعرف هذا من الناس؛ ولن يتمتع بالرقاد الهنيء إلا من حاز جميع الفضائل. فإذا(178/44)
ما المرء أدى شهادة زور أو تلطخ بالزنا وإذا هو اشتهى خادمة قريبة فقد حرم وسائل الهناء في نومه
غير أن المرء يحتاج فوق فضائله إلى شيء آخر وهو أن يدفع إلى الرقاد بفضائله نفسها في الزمن المناسب.
إن من الفضائل من هي كالغإنيات المتجنيات، فأقم بينهن حائلا كيلا ينتهين إلى عراك تكون أنت ضحيته.
ليكن سلام بينك وبين ربك وبين الأقربين، فلا نوم هنئ بدون هذا السلام. وسالم شيطان جارك أيضاً لئلا يراودك في رقادك.
أكرم السلطة واخضع لها حتى ولو كانت هذا السلطة عرجاء. إن ذلك ما يقتضيه النوم الهنيء.
وما أنا بالجاني إذا كان يحلو للسلطة أن تسير متعارجة.
إن خير الرعاة من يقود قطيعه إلى المروج الخضراء ذلك ما يقتضيه الرقاد الهنيء)
لا أطلب كثيراً من المجد ولا وفيراً من المال وكلاهما يؤدي إلى الاضطراب، ولكنّ المرء لا ينام هنيئاً ما لم يكن له شيء من الشهرة ولديه شيء من المال.
أفضّل أن يزورني القليل من الناس على أن يرتاد مسكني عشراء السوء، وهذا العدد القليل يجب عليه ألاّ يطيل السمر عندي لئلا يعكّر صفو رقادي.
تسرني مجالسة البلهاء لأنهم يجلبون النعاس؛ ولشدّ ما يغتبطون عندما نحبذّ حماقاتهم ونشهد بإصابتهم.
على هذه الوتيرة يقضي فضلاء الناس نهارهم. أما أنا فأنني إذا ما أمسى المساء أحترس من أن أراود النعاس لأنه سيد الفضائل ولا يرتاح إلى تحرش الساهرين.
وتحت جنح الظلام أستعرض ما فكّرت فيه وما فعلته في يومي فأنطوي على نفسي كالحيوان الصبور وأسائلها عما قهرت به أميالها عشر مرات وعما عقدت به الصلح مع ذاتها عشر مرات، وعن الحقائق العشر والمسرّات العشر التي أُفعمت بها
وبينما أكون مستغرقاً تهزني الأربعون خاطرة يستولي النعاس علي فجأة، وهكذا يسودني الكرى سيد الفضائل دون أن أتوجه بدعوة إليه.(178/45)
يشغل النعاس جفنيَّ فتغمضان، ويلمس فمي فيبقى مفتوحاً
إنه يدلف إليَّ كلص محبوب فيسرق أفكاري وأبقى أنا منتصباً كعمود من خشب، ثم لا تمر لحظات حتى أنطرح ممدداً على فراشي
وبعد أن أصغى زارا إلى هذه الأقوال يقرع الحكيم بها الأسماع تملك ضحكة وأشرق نور في جوانب نفسه فناجاه قائلا:
يترآى لي أن هذا الحكيم قد جُنّ كخواطره الأربعين.
ولكنه جد خبير بحالات الكرى. فما أسعد من يجاور هذا الحكيم! لأن مثل هذا النعاس شديد الانتقال بالعدوى حتى إلى وراء الجدران.
إن شيئاً من السحر يفوح من منبره العالي، وما يجتمع هذا العدد من الشبان عبثاً حول خطيب الفضائل.
إن قاعدة هذا الحكيم إنما هي - اسهروا لتناموا - وفي الحقيقة لو لم يكن للحياة معناها فوجب أن اختار لها حكمة لا معنى لها لما كنت أجد أفضل من هذه القاعدة.
لقد أدركت الآن ما كان يطلب الناس قبل كل شيء عندما كانوا يفتشون على أوليات الفضائل؛ إنهم كانوا يطلبون النوم الهنيء والفضائل التي يتجلىَّ على مفرقها تاج المخدرات. وما كانت الحكمة في عرف حكماء المنابر، لقد نالوا الإعجاب والثناء إلا قاعدة النوم لا تقلقه الأحلام. إنهم لم يكتشفوا معنى أفضل من هذا المعنى للحياة.
وكم في أيامنا هذه من أناس يشبهون هذا الواعظ في دعوته إلى الفضيلة غير أنهم أقلَّ إخلاصاً منه. ولكن هذا الزمان يعد زمانهم ولن يطول وقوفهم والكرى يراود أفكارهم فهم عن قريب سيُمددون.
طوبى لمن دبَّ إلى عيونهم النعاس! إنهم عما قريب سيرقدون هكذا تكلم زارا.
(يتبع)
فليكس فارس(178/46)
بين أحضان الطبيعة
للشاعر السويسري جو تفريد كلر
أيتها الطبيعة المشرقة. انشري فوقي رداءك الأخضر الجميل وغني حولي بحفيف أشجارك الباسقة الناضرة.
وأيقظيني عند تباشير السحر المشرق، وفي بسمة الفجر المنير لقد تعبت روحي فذهبت ترفرف عليك حيرى واجفة
ونعست عيني أمام تلك العظمة وهذا الجلال!
فدعيني أحلم بلياليك الزاهرة.
إن وجهك كوجه الطفل في مهده
وأنت تتناجين بحفيف أزهارك التي بللت وجناتها دموع الحزن وجرت على خدِّها عبرات الأسى.
ولكنها ما تلبث أن تستردَّ نضارتها وبشاشتها من جمالك السحري.
إن قلبي مفعمٌ بالآلام والأشجان، ولكنها تتلاشى بين أحضانك الزاهرة، وتذوب في أجوائك الساحرة، فأعود كالطفل الطروب.
أيتها الطبيعة: أيتها الصديقة التي وهبتني إخلاصها الأبدي وشبابها الدائم الذي أحيا في قلبي ميت الأمل وضائع المنى
أنت قبلتي التي أؤمها، وكنفي الذي أستظل به
فإذا جاء يوم نسيتُ فيه وفاءك، ولم أوفِّك حقك من الإخلاص فاعلمي أني هبطت إلى الدرك الأدنى وأصبحت هائماً ذاهلاً. واعلمي أن قلبي قد أدمته الجراح فنسى كل شيء.
أيتها الطبيعة المشرقة! قفي بجانبي في معترك الحياة الزاخر وظلليني بحنانك، واشمليني بعنايتك، وارقبيني بنظرات الأمومة الحانية. وإذا دنت ساعتي وحانت منيتي فانشري فوقي رداءك الخضر الجميل.
ما أبهج الحياة والموت في أوديتك الساكنة!
أحمد فتحي مرسي(178/47)
6 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة حسن حبشي
الفصل الأول
وهكذا نجد بين التبابعة ملكة سبأ التي ذكرت مخاطراتها مع سليمان في السورة السابعة والعشرين من القرآن، وبالرغم من أن محمداً (ص) نفسه لم يشر إلى اسمها أو نسبها فان المفسرين اعتبروها بلقيس ابنة شراحيل (أو شرحبيل)
أما البطل الوطني الذي ورد ذكره في أسطورة عرب الجنوب فهو (تبع أسعد كامل) أو كما يسمى أحياناً (أبو كرب) الذي ما زالت ذكراه حتى اليوم - كما يقول فون كريمر - حية باقية، وما زالت روحه تكثر من الترداد على خرائب قصره في ظفار (وما من أحد يطالع قصيدة مخاطراته أو النصائح التي وجهها إلى أبنه حسان وهو مسجى على فراش الموت إلا اعتقد مضطراً أنه أمام شعر قصصي أصيل مستمد من الخرافات العربية الجنوبية التي ترجع أوليتها دون شك إلى عصر قديم جداً) وهأنذا أقدم للقارئ بعضاً من القصيدة التي يمكن تسميتها بقصيدة (الساحرات الثلاث)
الدهر يأتيك بالعجائب والأيا ... مُ والدهر فيه معتبر
بينا ترى الشمل فيه مجتمعا ... فرقه في صروفه القدر
لا ينفع المرء فيه حيلته ... فيما سيلقاه لا ولا الحذر
إني زعيم بقصة (عجبٍ) ... عندي لمن يستزيدها الخبر
يكون في الأسد مرّة رجل ... تم له في ملوكه الخطر
مولده في قرى ظاهر هم ... دان بتلك التي اسمها خمر
يقهر أصحابه على حدث الس ... نِّ ويحقرهم فيحتقر
حتى إذا مكنته صولته ... وليس يدري ما شانه البشر
أصبح في هيوم على وجل ... وأهله غافلون ما شعروا
رأوا غلاماً بالأمس عندهم ... أزرى لديهم بجهله الصغر(178/48)
لا يفقدوه لا در درهم ... لو علموا العلم فيه لافتخروا
حتى إذا أدركته روعته ... بين ثلاث وثلاثة (!) حجروا
جاءت إليه الكبرى بأسقية ... شتى وفي بعضها دم كدر
فقال هاتي أليَّ أشربها ... قالت له: ذر فقال لا أذر
فناولته فما تورّع عن ... أقصاه حتى أماده السكَر
فنهنهته الوسطى فنازلها ... كأنه الليث هاجه الذّعر
قالت له هذه مراكبنا ... فاركب فشر المركب الحمر
فقال (حقاً صدقت) ثم سما ... فوق ضبيع قد زانه الضمر
فدق منه جنباً فغادره ... فيه جراح منها به أثر
ثم أتته الصغرى تمرّضه ... فوق الحشايا ودمعه دِرَر
فحال عنها بمضجع ضجر ... ولا تساوي الوطاء والزعر
كان إذ ذاك بعد صرعته ... من شدة الجهل تحته الإبر
قلن له لما رأين جرأته ... أسَعْدُ أنت الذي لك الظفر
في كل ما وجهة يوجهها ... وأنت يشفى بحربك البشر
وأنت للسيف والسنان وفي ... الأبدان تبدو كأنها الشمر
وإنّ أنت المهريق كلّ دم ... إذا ترامى (بشخصك) السفر
فارشد ولا تستكن في (خمر) ... ورد ظفارا فأنها الظفر
فلست تلتذ عيشه أبداً ... وللأعادي عين ولا أثر
نحن من الجن يا أبا كرب ... يا تبعّ الخير هاجنا (الدغر)
فما بلونا فيك من تلف ... عن عمد عين وأنت مصطبر
ثم أتى أهله فأخبرهم ... بكل ما قد رأى فما اعتبروا
فسارعتهم من بعد تاسعة ... إلى ظفار وشأنه (الفكر)
فحلّ فيها والدهر يرفعه ... في عظم شأن وهو يشتمر
إنا وجدنا هذا يكون معاً ... في علمنا والمليك مقتدر
فالحمد لله والبقاء له ... كل إلى ذي الجلال مفتقر(178/49)
وتجعل هذه القصيدة أسعد بطل حملة عظيمة إلى فارس حيث نازل القائد الذي أرسله إليه أحد ملوك العراق وقهره ثم انطلق إلى بحر قزوين، وفي طريق عودته اخترق الحجاز وإذ ذاك علم أن ابنه الذي خلّفه في المدينة قد قتل غيلة، فأقسم أن يكون ثأره من أهل تلك البلدة شديداً (وبينما كان تبع منهمكا في إعداد الغارة عليهم، وفد عليه حبران يهوديان من قريظة يتفجّر العلم منهما، فلما علما بعزمه قالا له: (أيها الملك لا تفعل فأنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك عاجل العقوبة) فقال لهما: (ولم ذلك؟) فقالا: (هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره) فتناهى عن ذلك، ورأى أن لهما علماً وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما). . . وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها فتوجّه إلى مكة وهي في طريقه إلى اليمن، ثم أتاه نفر من هذيل قالوا له: (أيها الملك، ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟) قال: (بلى) فقالوا: (أرسل إلى الحبرين) فأرسل إليهما وأخبرهما بما حدثه به الهذليون فقالا له: (ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك. ما نعلم بيتاً لله اتخذه في الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكنّ وليهلكنّ من معك) فسألهما ما يصنع إذا قدم عليه فأشارا عليه بأن يصنع ما يصنع أهله (تطوف به وتعظمه وتكرمه وتحلق رأسك عنده وتذلل له) فقال: (فما يمنعكما إنتما من ذلك؟. . .) قالا: (أما والله إنه لبيت إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يهريقون عنده وهم نجس أهل شرك) فامتثل أمرهما وقرب النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم ثم مضى حتى قدم مكة فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل. ثم لما دنا تبع من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا (لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا) فدعاهم إلى دينه، وقال: (إنه خير من دينكم) فقالوا: (فحاكمنا إلى النار) قال: (نعم)
وكان باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تنفر تأكل الظالم ولا تضر المظلوم، فخرج قوم بأوثانهم وما يتقربون به من في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلّديها حتى قعدا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت(178/50)
النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما لم تضرهما فأصبحت عند ذلك حمير على دينه. فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن.
(يتبع)(178/51)
من الأدب الإنكليزي
مرثية جراي
(تعد هذه المرثية من أبلغ المراثي في الشعر الإنكليزي، قرأها على صديقي الأستاذ حيدر الركابي فنقلتها إلى العربية كما فهمتها) (علي)
للأستاذ علي الطنطاوي
قُرع الناقوس ينعى النهار الآفل، وراح القطيع يزحف ببطء يتسلق الهضبة راجعاً إلى القرية؛ وعاد الفلاح إلى البيت يجر رجله تعباً. . . وبقى العالم لي وللظلام!
تدثر الكون بالسواد، وتوارى عن الأنظار، وسكنت الدنيا سكوناً مَهيباً، ولم يبق في الجو نامة تسمع، إلا هذه الأصوات العميقة تفيض بها الأودية البعيدة والشعاب النائية، وإلا طنين حشرة تطير، ونعيب بومٍ على تلك الدوحة، يشكو ظلم الناس وعدوانهم على وكره الآمن.
هنالك. . . عند تيك الشجرات القديمات، تحت تلك الرِّجام التي يزدحم عليها العشب، ويتكوَّمُ الكلأ. . . كان (أجداد القرية) ينامون إلى الأبد في حفرهم الضيِّقة، وأجداثهم العميقة.
لا يوقظهم نسيم الصباح الأرج، ولا تغريد البلبل الطَّرب ولا زقاء الديك المزهو، ولا زمّارة الراعي السعيد. . . كل ذلك لم يعد يوقظهم من رقدتهم.
لا. ولن توقد من أجلهم نيران المدافئ، ولن تقوم في خدمتهم ربات المنازل، ولن يهتف أطفالهم اللُّثغ فرحين بمقدمهم، ولن يتسلَّقوا ركبهم يستبقون إلى أحلى تمْنيةٍ لهم قبلة من آبائهم عند عودتهم إلى منازلهم وأهليهم.
كم كان المنجل العضب لسواعدهم، وكم كانت الأرض الصّلدة تشقق تحت معاولهم، والغابة القاسية كم لانت لضرباتهم.
كان عملهم مفيداً، وحياتهم مجدية، فلا يسخر الطموح من مسراتهم الهينة، وحياتهم المجهولة، ولا تستمع العظمة هازئة حديث الفقر، وقصته الساذجة القصيرة.
فان فخر القواد، وعظمة الأقوياء، وكل ما تمنحه الثروة، ويأتي به الجمال. . . كل ذلك ينتظر الساعة التي لا مفر منها، والغاية التي لا محيد عنها، لا فرق في ذلك بين عظيم وحقير، لأن طريق المجد لا ينتهي إلا إلى القبر!(178/52)
فيأيها المغترون، لا تلوموا هؤلاء المساكين إن خلت قبورهم من نُصُب المجد، وتماثيل العظمة، على حين تتصاعد ألحان الثناء وأغاني المديح، من بين جدران المدافن الفخمة، وتحت أقبيتها المزخرفة.
لأن البخور المحروق، والتمثال المنحوت، لا يرد الروح على الميت الراقد، وهتاف الناس، وعجيج الجماهير، لا ينفخ الحياة في التراب الجامد، وهمس التملق، وهجس التزلف، لا يبلغ سمع الموت البارد!
ومن يدري؟ فلعلّ في بطن هذه البقعة المهجورة قلباً كان يمكن أن يفيض منه النور السماوي، ويداً كانت تدير دفّة المركب السياسي، وأصابع كان يمكن أن تمشي على أوتار القيثارة الخالدة فتنشئ النغم السحري. . . ٍلولا أن العلم لم يفتح أمامها صفحاته الحافلة بثمرات الزمان!
أخمد النسيان جذوة أرواحهم النبيلة، وأجمد نهر حياتهم الجارية، وطغا عليهم لج الزمان. . . ولكن، كم في جوف البحر من جواهر مخبوءة، ولآلئ مجهولة، وكم في عرض البادية، من وردة تفتحت واحمرت، فلم يرها أحد، فضاع أريجها المطر في رياح الصحراء.
ومن يدري؟ فلعل هنا بطلاً (كهامبتن) كان حاكماً في حقوله مطلقاً، وكان جباراً شجاعاً، ولعل هنا (ملتون) آخر، ولكنه صامت مغمور، ولعل هنا (كرموِل)، ولكنه كرموِل برئ من دم أبناء الوطن!
منعهم القدر من الاستمتاع بهتاف الجماهير، وتصفيق البرلمانات، ومنعهم من المغامرة، وركوب الأهوال، وازدراء المصاعب، واحتقار العقبات، ومنعهم من نثر الخيرات على بلادهم، وقراءة تأريخهم في عيون الشعب.
ولكن القدر لم يمنعهم مزاياهم وحدها وفضائلهم، بل منعهم رذائلهم أيضاً وجرائمهم. . . فلم يرتقوا العروش على الجماجم، ولم يسدوا أبواب الرحمة على البشر، ولم يخفوا حمرة العار والخجل، ولم يخفتوا صوت الضمير، ولم يعطروا معابد ترفهم واستكبارهم بالبخور الذي تحرقه (ربّة الشعر).
لقد اتبعوا طريقهم السوي في وادي الحياة المنعزل البارد، وساروا فيه صامتين، لم تتعلم أمانيهم القريبة، وشهواتهم البريئة الخروج بهم عن صفوف الشعب المناضل على الحياة،(178/53)
المزاحم على البقاء.
ولكنهم - مع ذلك - لم تخل قبورهم، من أثر للذكرى ضئيل: شعور مكسور، ونقش محطوم، يستجدي المارة آهة العطف، وهمسة التقدير، ويحفظ عظامهم من أن تهان.
إن هذا الشعر - شعر الأميّة الساذجة - الذي ينطق بأسمائهم وأعمارهم، يقوم مقام التعظيم والتبجيل والرثاء، وينشر بين القبور نصوصاً مقدسة، تعلم المربين والمعلمين كيف يصمتون ويتعلمون.
وأي امرئ بلغ من خمول الذكر والهوان على الناس يترك الدفء والنور والسعادة من غير أن يلتفت إلى الوراء فيودع العالم بنظره. . . إن الروح الراحلة تريد أن تتكئ قبل رحيلها على صدر محب، والعين المغمضة تحتاج قبل إغماضها إلى دموع الإخلاص. . . بل إن صراخ الحياة لينبعث من صميم القبر فيضرم نارها في رمادنا البارد.
وبعد، فيأيها الشاعر الذي يقوم في المقابر، ويندب الموتى المنسيين، إني لألتفت الآن إليك، فأرى رجلاً مثلك، شاعراً هائماً، قد جاء يبحث عما حلّ بك، وانتهى إليه مطافك، فوجد فلاحاً هرماً فسأله عنك، فقال له:
لقد طالما رأيناه عند انبلاج الفجر، يسرع الخطو ليستقبل الشمس من ذروة الهضبة.
وطالما لمحناه في الظهيرة متمدداً بجسمه المنهوك على أقدام تلك الشجرة الهرمة، وفوق جذورها البادية العجيبة يرقب الجدول الذي ينساب إلى جانبه، ويتأمل أمواهه الهادرة المتكسرة، وطالما أبصرناه هائماً على وجهه بالقرب من هذه الغاية باسماً آناً كأنه ساخر من كل شيء، وآناً عابساً كئيباً كأنه مضني هدته الآلام، وأم مريض قتله الحب اليائس.
وفي ذات صباح، نظرنا إلى الهضبة فلم نجده، فبحثنا عنه في الذروة، وعند الشجرة، والى جانب الجدول، وبالقرب من الغابة فلم نقع له على أثر.
ثم رأينا شاعراً آخر يحتل مكانه.
ثم رأينا بعد نعشه محمولاً إلى المقبرة، ترتل من حوله أناشيد الموت.
وهاهو ذا قبره، قائم تحت تلك الشجرة التي كان يجلس إليها، فتعال اقترب. . . اقرأ ما عليه:
(هنا. . . في حضن الأرض، يرقد شاب تجهله الثروة ولا يدري به المجد، ولا يعرفه إلا(178/54)
الحزن الذي اصطفاه خليلاً وهو في المهد
كان كريماً مخلصاً، فكانت مكافأته عظيمة؛ منح البائسين كل ما يملك: وهو دمعه! ومنحه الله كل ما يطلب: وهو صديق
لم يحب أن يفيض في ذكر مزاياه أكثر مما أفاض، ولم يشأ أن يهتك الستر عن نقائصه، لأنه أودعها كلّها أمانة في قلب أبيه، وعند ربه. . .)
علي الطنطاوي(178/55)
من شعر المناسبة
إلى زعيم الأمة الأكبر
للدكتور أحمد زكي أبو شادي
تقبَّلْ من الدُّنيا العُلى والتهانئَا ... وعش هانئاً يا جاعل الشعب هانئا
وهيهات أن تنسى أياديك أمة ... درأتَ الرَّدى عنها، ومازلت دارئا
أننسى أعاصيرَ السنين التي مضت ... وإن كنت مَنْ لاقى الأعاصير هازئا
أننسى جبال الموج حتى كأننا ... غرقنا، فلم تيأس ونلت الشواطئا
معاذ الوفاءُ اليوم تنسى قلوبُنا ... فكل فؤادٍ كان عندك لاجئا
وقد كنت للمجد المقدَّس قارئاً ... فأصبحت أنت اليوم وحيا وقارئا
لئن عرفَ الشاني بنصرك حقدهُ ... فكلُّ عظيمٍ ليس يعدم شانئا
وما عرف الشاني المآثر تبتني ... وغايتُه للشرّ يعملُ ذارئا
صبرت ولكن في جهادٍ مُضاعف ... وفُزْت ولكن عُدت للجهد بادئا
وما القدوة المثلى سواك، وحسبنا ... هداك، وما يرضى هداك الممالئا
ليصخب كما يرضى هواه، فللورى ... عقولٌ ترى الحسنى وتدري المساوئا
رميت بأقوى حُجة بعد حُجةٍ ... ويُضحكني من جاء بالوهم لاتئا
ولو نحن نقبنا وَجدناه دائماً ... تذبذب حتى ضيع العُمر صائبا
فسِمناه في هذا التهافت ساخراً ... وَشمناه في هذا التحرُّق طارئا
تقدم زعيم الشعب للفتح ثانيا ... وَنظم شؤون الحكم سمحا وواضئا
وَجُدْ بغنى الدستور حريةً لنا ... فقد مات عهد كان للحر رازئَا
وَدُسْ كلً أفعى في سبيل كماله ... فكم دُست من قبل الغنى واللآلئَا
وَكم قد بذلت التضحيات لأجله ... وَمازلت من حبِّ المنافع بارئا
فأهلاً بمن يغلو بنقدك عامداً ... وإن فضح الإسرافُ ما كان غابئَا
ستروى له الأيام حزمك خالقا ... مدَى العدْل وَالحكم المنزه كالئا
لئن كان طفلاً فهو باسمك ناشئٌ ... وَحبك كم قد صيَّر الطفل ناشئا
كأنك قد أنجبت جيلاً مؤخراً ... وَإن لم تكن بالخير وَالعدل ناسئا(178/56)
كأنك قد أبدعت جيشك غازيا ... وَأسطولك النامي يجوب الموانئا
سنلقى وَيلقي أمةً شع نورها ... وَقد كان من فرط التحزب طافئا
وجواً طليقا بالتسامح عابقا ... ونبعا سريا ليس يُرجع ظامئا
وفكراً أبيّاً منجبا نفع قومه ... وَقد كان مدفونا فأصبح ناتئا
وَأنك أهلٌ أن تناظر مصلحا ... سميَّك، لا تحيي بلادك جازئا
تحديت في الماضي المصاعب هادئا ... كذلك في الآتي ستلقاك هادئا
(الإسكندرية)
أحمد زكي أبو شادي(178/57)
ذكرى شهيد كلية الآداب
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
في مثل هذا اليوم ثرَّ دمُ ... تبكي البلاد له ويبتسم
جذلان يمضي للخلود، ولا ... يلوي به أسف ولا ندم
خَلَع الشبابَ على نضارته ... لِشباب مجدٍ ما له هَرَمُ
خَلَع الشبابَ، فويح رَيقِّهِ ... لم توفَ منه للهوى ذِمم!
عينانِ ناعستانِ ترقبُه ... ويدان في لطف النَّدى، وفمُ
كانت ترى فيه لها حُلُماً ... فَصَحَتْ ولما ينقضِ الحُلُم!
ونوازع للشِّعر جائشة ... تهفو عليه أسىً وتضطرم
قد كان يذخره ليُجلِسَه ... يوماً بحيث تألّقُ النُّجُمُ
قد كان يأمل أن يتمَّ به ... للضّاد ما ترنو له الأُمم
حتى دعا وطنٌ فخفَّ له ... شيحانُ في عرنينه شَمم
مِصْرٌ؛ وأيّ فتىً تُهيب به ... مصر فليس جوابَهُ (نعم!)
نسى المُنى والأهلَ واحتشدت ... في قلبه العزماتُ والهِمم
هذا الحِمى نَهْب يعيث به ... خصمٌ ألدْ وطامع نَهمُ!
جاثٍ على الوادي ينوء به ... ويضيقُ من أنفاسه الكَظَمُ
أتظلّ مصرٌ تحت كلكله! ... أيُهان شَعب كله كرم؟
أتداس للوادي كرامته؟ ... أيُصان من غدروا ومن ظلموا؟
هلا فتىً يسخو بمهجته! ... هلاً فتى للعزّ ينتقم!
وهناك صاح دمٌ تردّد في ال ... وادي فلبَّاه دمٌ فدم!!
أصغى له (الطاغي) وقبل شكا ال ... شاكي فلم يُسمع له كلمُ
لا يُسمِعُ الخطباءُ مظلمةً ... ما يُسمِعُ الدّمُ من به صمم!
يا مصر لم يف غيرَ واجبه ... مُستَشْهَدٌ لعُلاك ينتقم
أنت الكنانة أرضها ذهب ... تنمي الفنون، وماؤها شم
وعلى سمائكِ صحو عاشقة ... هبت سُحيراً وهي تبتسم(178/58)
ترعى (الجزيرةٌ) فيك نهضتها ... وبحبل ودٍّ منك تعتصم
قد تأملين فكلها أمل ... أو تألمين فكلّها ألم
ما تنقلين لسؤددٍ قدماً ... إلا وتقفوها لها قدم
فاستقبلي (العهد الجديد) بما ... تجلى به عن أفقك الظلم
قوى عتاد الجيش تحترمي ... فالجيش دون الحق يحترم!
إنا لفي زمن يسود به ... بين الشُّعوب الفاتك الحُطم
السيف يخطب فيه مرتجلاً ... في العالمين، ويهمس القلم!
بدأ الجهاد اليوم - إذ فرغت ... من قدحِه كفّاك - يحتدم!
دون المرام مصاعبٌ غُلُبٌ ... لكنها بالعزم تُقْتحم
وبنوكِ عزموا الخلاص ولن ... تقف الرواسي دون ما عزموا!
آمنت أنّهُم بما اتحدوا ... غُلبُ الأسود وأنكِ الأجم
شهداء مصر لَيَهنكم نُزُلٌ ... بجوار (سعد) يحوطه العِظم
أقسمتم بشراء أنفسكم ... في حب مصر فبورك القسم
ولتحيَ (مصرُ) ويحيَ (عاهلها) ... و (زعيمها) و (النيل) و (العلَم)
علي أحمد باكثير(178/59)
القصص
أقصوصة وصفية
سائق القطار
للأديب محمود البدوي
(تشرب. . .؟)
(لا. . . وأشكرك. . .)
فانحنى مساعد السائق، ووضع القلة الفخارية المفحمة في ركن من القاطرة، وانتصب وهو يمسح بيده الماء السائل من جانبي فمه، وتحول إلى النافذة وقال بعد أن لمح نور إحدى القرى:
(الفكرية؟)
(آه. . . . . .)
(. . . . . . . . .)
(فحم. . .)
ففتح المساعد باب الفرن المستدير، ورمق النار وهي تتضرم وتلتهب، وطالعه وهجها وسعيرها، فارتد عنها وأمسك بمجراف الفحم وقوس ظهره وغيب طرف المجراف في المخزن، ثم استدار وتقدم خطوة وعينه على الباب، ورمى النار بالوقود، فخمدت جذوتها وتلوت ودخنت، ثم شبت وامتدت ألسنتها على الحديد والتصقت بجدران الفرن، ودارت على جوانبها وسقفها، وزادها تيار الهواء ضراماً وسعيراً. . . ورمى المساعد النار بمجراف آخر، ثم رقبها لحظة، وكأنه شعر بحاجتها إلى المزيد فرماها بمجرافين معاً، وضم الباب بيده، ونصب قامته ويده على مقبض المجراف، وطرف كمه الممزق يمسح العرق المتصبب الملوث بغبار الفحم وقطرات الزيت، ونزلت يده على جنبه وتنفس وقال في صوت هادئ تشوبه بعض المرارة:
(كل شيء تغير في هذه الدنيا بعد الحرب. . . حتى الفحم)
فسأل السائق وعينه على الطريق وظهره إلى مساعده:(178/60)
(لماذا. . .؟)
فقال المساعد في حماسة غير منتظرة وهو ثرثار ضامر ناحل الجسم معروق:
(كان الفحم قوالب ضخمة. . . كارديف. . . وكان القالب الواحد يسير قاطرة بأسرها. . كنا ننزل القالب في حوض الورشة ونضربه ضربتين على يافوخه، ومثلها على جنبه، فيتهشم ويتناثر، فننضحه بالماء، وندفع منه المجرافين أو الثلاثة في النار وننام على حسه!! أما الآن فهذا الفحم كعيدان الذرة لا خير فيه. .)
فتحول إليه السائق بجانب وجهه، وبصره لا يزال عالقاً بالقضيب، وقال باسماً في خبث:
(تعبت. . .؟)
(تعبت!! لا يزال نور (المنيا) بادياً. . رحم الله أيام الشباب، كنا نعمل في الورشة أكثر من عشر ساعات وقوفاً على الأقدام ولا نفكر حتى في الطعام. كان أحسن الله إليه. . .)
وحبس سيل الكلام بعد أن بصر بالسائق يتراجع إلى الوراء ويرقب البخار. . وسأله:
(59؟. .)
(8. . . .)
ثم نسى ما كان فيه من حديث وأمسك (بالاسطبة) وأخذ يلمع جوانب الفرن وعجز الآلة الضخمة ويزيل الزيت اللاصق بالحديد والنحاس، والأنابيب الصفراء الملتوية والمعدنية الدقيقة؛ ولما وصل إلى محبس البخار بدا له أن ينفس عنه قليلاً، ففعل، وهب البخار القوي من بوق القاطرة وهو يئز وينش وطار مع التيار، ولما قفل المساعد المحبس ثانية رضت أصابعه بعض المفاتيح الصغيرة، فعبس وكشر، وصمت محنقاً، وكان صمته منتهى ما يرجوه السائق!
وكان السائق واقفاً عند نافذة القطار الزجاجية الصغيرة يرقب الطريق، وهو يدخن؛ وكان يتحول عن موقفه من حين إلى حين ليلمح الساعة وضاغط الهواء ودرجة البخار ومقياس الطريق، ثم يعود إلى مكانه عند النافذة، ويده في سرواله الأزرق، وسترته تنحسر عن صدره العريض القوي البارز، وعلى كتفيه وفي طرف كمه الزيت الملوث بالفحم المنضوح. وكان في وقفته ساكن الملامح، هادئ النفس، ثابت الجوارح، راسخ القدم، فعل الواثق من نفسه وعمله؛ وكان لصلابة عضلاته ووثاقة تركيبه وقوة أعصابه أثر واضح في(178/61)
ذلك.
أما المساعد فقد ما بظهره على ركن القاطرة تحت مخزن الفحم بعد أن أشعل سيجارة من جمرة جذبها من الفرن وانطلق يدفع الدخان ويفكر، ونظره لا يتحول عن السائق الواقف أمامه في حلته الزرقاء. ولما مد السائق رجلا وثنى الأخرى وعينه مستقرة على الطريق، انتصب المساعد وحدجه بطرفه، وتحول إلى ظله الجاري على الأرض، وأنعم فيه النظر في سكون حتى بصر به ينسحب بعد لحظات فرفع وجهه، وكان السائق قد انحنى عليه وفي فمه سيجارة جديدة فأخرج المساعد سيجارته من فمه وناولها إياه، وقد تلاقت عينا الرجلين واختلطت أنفاسهما، ونظر المساعد في حدة إلى عيني صاحبه العميقتين السوداوين ذواتي البريق العجيب، والى ملامح وجهه المعبرة القوية الساكنة وجبهته العريضة البارزة ووجهه الأبيض المستطيل. . وأحس بتضعضعه وخوره أمام قوة صاحبه وغلبته؛ شعر أمام السائق بالعجز والضعف والونى فتحسر وتقبض، ولما أرتد السائق إلى مكانه من النافذة أخذ المساعد يتفرس فيه، ويقارن بين جسمه القوي المصبوب، وبين نفسه، وهو الناحل الضامر المعروق. وفتق هذا التأمل المستكن ذهنه حتى أخذ يستعرض في مخيلته عمل كل منهما، وشغله هذا التفكير حتى نسى أن ينفض عن السيجارة رمادها أو يمحو عن فمه ما ارتسم عليه من أسى مشوب بالحقد والحسد. . . وأنطلق يحدث نفسه:
(ما الذي يفعله هذا السائق. . يحرك القطار في المحطة ثم يتركه بعد ذلك للأقدار. . ويمضي معظم الليل واضعاً يده في جيوبه يدخن، ويتلهى بالنظر إلى الطريق، وكل ما يعمله هو عقرب الساعة ومقياس البخار والضغط والطريق. . وبعض الأحيان بتواضع ويمسح ما على الساعة من غشاوة!! ثم بعد هذا كله يلقي الأوامر: غذِّ النار. . ندِّ الفحم. . زّيت الآلات. . أما أنا فأظل الليل طوله واقفاً على باب جهنم، أضرمها وأغذيها وأصلى بنارها وأمسح ما على الحديد من غبار وفحم وزيت، حتى يلمع ويصقل، وجسمي عليه ضعف قاذوراته.
وإذا وقف القطار في المحطة نزلت تحت العجلات وانبطحت على الأرض لأزيّت العدد الصغيرة والمفاصل والدوافع والجواذب وأمسح معدن الذراع، فحتى هذا يجب أن يكون لامعاً!. وإذا ملأنا الماء طوقت الخرطوم بذراعي ودفعته عن الخزان بجسمي فيصيبني(178/62)
هاطله ويزيدني بلاء على بلائي. . . هذا هو عملي وعمله، ومع هذا فأجره ضعف أجري ويزيد، وأوقات فراغي وراحتي ليست كأوقات فراغه وراحته. . . وامرأته عاقر وامرأتي تجيء في كل عام بمولود سعيد!! وأولادي من فرط الطوى ضامرون مهزولون يترقبون الصيب من السماء ليربوا ويكتنزوا ويملئوا البطون بالطعام والسماء لا تجيب! وهو فارع قوي مفتول يفور جسمه بحرارة الشباب، وأنا قميء ناحل معروق تقوست قناتي، وشابت شياتي، وأضحت جلدتي تتخدد. والحياة تقبل عليه بوجهها وتدبر عني. . . ومن يدري؟ ربما كان لقوته وسطوته سبب في ذلك، فما تحط الحياة إلا على أمثالنا من الضعفاء المرضى المناكيد، وما كنا مناكيد إلا لأننا مرضى، ولو كنا أقوياء مثله لخافت بأسنا، واتقت شرنا، وأحنت لنا الرأس فسرنا في مسالكها شامخين. . .)
(فحم. . . . . .)
فاستفاق المساعد من خواطره على صوت السائق الرنان؛ وفتح باب الفرن وأقبل على النار يغذيها بالوقود وهو صامت صابر.
عندما جاز القطار محطة (ملوي) كان الليل قد انتصف واعتدل الجو، وهب النسيم العليل من جنبات الوادي الخصيب، فأثر هذا الجو الرخي المنعش على خواطر المساعد، فخف حسده على صاحبه وزالت نقمته عليه، ووقف ينصت لدوي القطار وهو ينهب الأرض ويطوي القرى والدساكر، وقد خيم عليها النخيل وطواها الظلام في جوفه، حتى بدت صامتة موحشة رهيبة، ثم بارح مكانه وأخذ يجرف بعض الفحم من المخزن ويهيئه على عتبته للنار، وبعد أن فرغ من ذلك أشعل سيجارة ونظر إلى السائق وود لو يحادثه، يثرثر معه في أي موضوع، ويتكلم عن أي شيء، دون أن يكون لكلامه وقع أو غرض أو غاية، فما كان يعنيه هذا، وإنما حسبه أن يتكلم لأن الصمت يمله ويضجره ويأخذ بمخنقه ويثير أعصابه. . . . وفتح فمه ثم أطبقه، وكان يعرف أن السائق قليل الكلام طويل الصمت. وتنحنح وسعل وأطل من النافذة فطن في أذنيه التيار الشديد، وسفي في وجهه الغبار وجرى على وجهه دخان الفحم، وسمع صفير قطار من بعيد فبقى في مكانه ليحيي السائق إن أمكن.! ومر قطار البضاعة يجلجل على القضبان، فقال المساعد: وكأنما انبعث صوته من أعماق هاوية سحيقة(178/63)
(367. .؟)
(نعم. . .)
(من الأقصر. . .؟)
(آه. . وخزن في أسيوط. . .)
(توفيق شاكر. . .؟)
فهز السائق رأسه موافقاً، وصمت المساعد لحظة كأنما يستعرض في ذهنه صوراً باهتة يحاول بروزها ووضوحها وغير من نبرات صوته وهو يقول:
(كان سائقاً للقطار 72. . . أنزلوه. . . بعض الأحيان تتحكم الأقدار. . .)
فلم يقل السائق شيئاً وأخذ يتمثل في مخيلته صورة حادث توفيق كما سمعه من رفاقه. . . ثم وضع يده على جبينه يتفرس في الطريق، يستشف الحجب، ما وراء الغيب، ما في بطن الأقدار فقال المساعد وقد طاب له أن يجد ما يتحدث فيه:
(كان خارجاً من ورشة سوهاج. . . ليوصل القطار إلى الأقصر. . . كانت السرعة أكثر من اللازم، وكان العامل يتخطى القضبان. . . توفيق نفسه لا يدري كيف مات الرجل. . شهد عليه عامل (البلوك) و (اثنان من الخفراء)
فقال السائق وقد حز في نفسه الأسى على صاحبه
(سيئ الحظ. . . وكان عليه أن يحاذر)
فقال المساعد بصوت وإن:
(يولد كثير من الناس ليموتوا تحت العجلات. . . فما الذي يدفعه الحذر والسائق والكشاف ونور الكشاف؟ مرت على المرء كثير من الحوادث العجيبة التي تبعث على الدهشة والتفكير العميق. . . كنا قد بعدنا عن ديروط وفلاح مسكين، على جملة، ينتظر مرور القطار، ومر القطار وفزع الجمل، ورمى الرجل تحت العجلات. قد يكون مر على هذا الجمل مائة قطار وهو ساكن ثابت ولكنه جفل في هذه المرة لسبب لا نفهمه.)
فقال السائق وقد بدت على وجهه البشاشة:
(ولكن إذا كان الفلاح قد رد الجمل عن الحديد الممر وبعد به عن الشريط أكان يموت؟)
(كان لا يستطيع في تلك الساعة أن يفعل ذلك. . . كان لا بد من أن يموت فمات)(178/64)
ومر القطار على حقل كبير من القطن وقد تفتح ونوَّر فتحول المساعد إلى الحقل وراقب السائق مقياس الطريق لحظات ثم أدار المحرك إلى اليسار قليلاً، فقد بدأ الوادي ينحني والشريط يدور، وكان يعرف هذه الطريق أكثر من موضع أنفه من وجهه، وهدأت حركة الآلات نوعاً، ثم أرجع المحرك إلى مكانه بعد ثوان، وارتد عن النافذة ووقف أمام الفرن، وطرفه على الساعة والمقياس، واستمر هكذا مدة، ثم أدار المحرك إلى اليسار مرة أخرى في شدة حتى تعدى الكثير من الدرجات، فقد وصل القطار إلى طريق مرمم واهن لا تزال تجري عليه أيدي العمال في النهار. . ودار بخلده أن أحد العمال قد يكون ترك سهواً بعض الأدوات الحديدية على الشريط، فمد بصره إلى نهاية نور الكشافة وثبت نظره على حديد القضبان. . . وفكر في نفسه أنه بعد نصف ساعة وستمائة سيدخل محطة أسيوط؛ وسره هذا كما سره خروجه منتصراً من الطريق المرمم. . وبعد أن لمح المقياس أدار المحرك بالتدريج إلى اليمين، إلى نهاية ما تتحمله أرض النيل السعيد! وكان يود أن يعوض بتلك السرعة الجارفة ما قضاه وهو سائر ببطء على الطريق الواهن. . وانطلق القطار كالسهم يطوى القرى ويزلزل تحته الأرض.
وقال المساعد:
(النيل عال. . وشديد)
فقال السائق وقد تحول بوجهه إلى النيل فرأى بعض المراكب الشراعية تسير مغالبة التيار.
(أتخاف أن تتقطع الجسور؟)
(لا. . . جسور القطارات هي آخر من يصيبه الأذى دائماً!)
وبقى نظر السائق ثابتاً على النيل وقد راقه هول الليل عند الأفق البعيد.
وأطل المساعد من النافذة وبصره على الأرض الجارية. . .
وخيم صمت عميق.
وقال المساعد بعد دقائق بصوت يرتعش:
(رجل. . .)
(ماذا. .؟؟؟)(178/65)
(رجل تحت. . الـ. . .)
فتلفت السائق في سرعة البرق حيث أشار مساعده فرأى شبه شبح يضطرب في غمرة الليل. . فصفر وألقى الشبكة وأدار المحرك إلى اليسار في حذر شديد. . . وكان قد فوجئ بالأمر فاضطرب جسمه قليلاً وجاشت نفسه. . . ثم حبس البخار. . . وأحس بعد مدة بضغط الفرامل وجلجلة العدد وقد أجبرت على البطء على غير انتظار، ووقف وروحه تثور ونفسه حانقة ساخطة.
كان يود أن يدخل محطة أسيوط في الساعة الواحدة والدقيقة الرابعة والعشرين. . . منذ خمس سنوات لم يتأخر في حياته مرة. . . مرة واحدة. . . كان دائماً يحاذي الرصيف وعقرب الثواني على الستين. كم كان يشعر بالفخر والزهو والشموخ والتعالي على الأخوان، كم كان يشعر بالزهو والفخر وهو العارف بأنه المسيطر على الحديد والنار. كان إذا تأخر في أثناء الطريق يغذي النار ويدفع البخار ويجهد العدد ليدخل المحطة في ميعاده. . . ولكنه الآن سيتأخر لأول مرة في حياته كسائق سيتأخر. . . سيتأخر. . . لا دقيقة ولا دقيقتين ولا ثلاثاً. . . بل أكثر من ذلك. شعر بنفسه تذوب حسرات، أحس بالآلات تئن وتتوجع وتدق كالطبول. . . كانت ضربات الضاغط والدوافع وسحبات الذراع ورجعات (البستون). . . تدوي في أذنيه كالطاحون البالية، كالمدافع المنطلقة على غير هدى في وادي التيه. أحس بدمه يفور. . . وروحه تثور حتى عقدت جبينه السحب. . ولكن يده القوية كانت لا تزال على المحرك، والقطار يحبس نفسه ويغالب قوة دفعه. . . أي مأفون هذا الرجل الذي عبر الشريط هكذا وألقى بنفسه إلى التهلكة. . .؟ وتصور الرجل وقد تمزق وطارت أشلاؤه، وطحنته العجلات، وجرى دمه مع الزيت فتفطر قلبه على الرجل المسكين. . . ووقف تتملكه أعصابه الحديدية. صامتاً. . . حتى أحس بعد مدة بالآلات تجلجل وتطيل، والبخار ينش ويئز، والذراع يغالب ويجاهد، ويطوح بنفسه في ثقل ثم يدركه الونى فيحتضر.
ونزل السائق ودار حول مقدمة القاطرة، ثم انحنى ودخل تحتها يفحص العدد الصغيرة والآلات المحركة وخرج بعد دقائق ووجهه ينضح عرقاً، وعلى معارف وجهه الساكنة آيات الهدوء المطلق، ورآه مساعده وهو يستقيم بظهره القوي عند العجلات الأمامية ثم يتراجع(178/66)
خطوتين إلى الوراء ويتقدم تجاهه وهو يضرب بقدميه الزلط الملقى بجانب الشريط، وكان لصوت قدميه دوي مسموع في الليل الساكن، وتوقف المساعد عن مسح عمود الذراع وقبض براحته على (الاسطبة) الملوثة بالزيت القذر، وقال وهو يميل بوجهه إلى حيث صاحبه:
(لا شيء. . .؟)
(لا شيء في العجلات الأمامية، وإنما أثر الدم واضح في التروس الخلفية التي أخذ عندها الرجل، على أن العدد سليمة ولا أثر للحم ولا عظام. . .)
فصمت المساعد وكأنه يفكر، ثم استأنف عمله وكان المشعل الصغير الذي في يسراه ينتفض ويخبو ويشتعل ويميل لسان اللهب يمنة ويسرة تبعاً لهبات الرياح. . وكان الزيت قد امتزج بعرقه الهاطل وسال من يده على ساعده ولوث الكثير من جسمه، فمسح الرجل الزيت في سرواله، بعد أن رمى الأسطبة على الأرض، ودارت يده حول ذقنه ورفع المشعل إلى ما فوق رأسه، واستدار ومد بصره وكان الكثير من الركاب يطلون من النوافذ ووجوههم إلى الخلف، وظلهم للواقف منهم على الأبواب واضح على الأرض، وعامل العربة الخلفية يتحدث مع (الكمساري) وحولهما بعض الناس.
واعتمد السائق على حديد النافذة وأخذ يدخن ونظره مسدد إلى الوراء حتى رأى عامل الإشارة يلوح برايته، فقال لمساعده:
(اطلع. . .)
فطلع المساعد إلى القاطرة ووضع المزيتة جانباً، وبعد السائق عن النافذة الجانبية ووقف أمام الآلة يحدق في الساعة، ثم مد يده وأدار المحرك إلى اليمين قليلاً فتحركت العجلات الأربع الأمامية الصغيرة في بطء وثقل شديد، ودارت العجلات الأربع الكبيرة التي خلفها على الفارغ، ارتفعت عن القضبان ودارت على الفارغ في سرعة وجنون، وزفر القطار وأز البخار ونش، وشال الذراع وحط، وتحركت العجلات الأمامية ولامست العجلات التي خلفها القضبان، وشال الذراع وحط وتقدم القطار وهو يئن ويتوجع وينوح. . . تقدم القطار في بطء وحزن من غير صفير!
محمود البدوي(178/67)
البريد الأدبي
وفاة عميد الموسيقى الإنكليزية
نعت إلينا الأنباء الأخيرة السير ادوارد جيرمان عميد الموسيقى الإنكليزية توفى في الرابعة والسبعين من عمره بعد حياة موسيقية حافلة، وكان مولده في ستروبشير في سنة 1862، وتخرج من أكاديمية الموسيقى الملكية، وظهر لأول مرة بقطعته الأوبريت المسماة (الشعراء المتنافسون) وفي سنة 1889 عين السير جيرمان مديراً للموسيقى في مسرح جلوب بلندن؛ وفي نفس العام وضع تلحينه لرواية رتشارد الثالث لشكسبير؛ ثم أتبعه تلحين عدة روايات أخرى من روايات الشاعر الكبير مثل هنري الثامن وروميو وجولييت؛ وكما تحب، وهملت وغيرها. ووضع السير جيرمان قطعاً موسيقية مستقلة نالت نجاحا عظيما؛ واشتهر بحفلاته الموسيقية الرائعة في أواخر القرن الماضي، كما اشتهر اشتراوس في فينا. وله عدة مقطوعات موسيقية شهيرة مثل (الجزيرة الخضراء) التي وضعها لسوليفان؛ وإنكلترا المرحة؛ وأميرة كنسنجتون وغيرها؛ وألف كبلنج مجموعة غنائية شهيرة عنوانها وهو الذي وضع نشيد التتويج للملك جورج الخامس، وعزف أثناء تتويجه في سنة 1911.
ومن مؤلفاته أيضاً مجموعة كثيرة من الأناشيد والأغاني؛ وهو كثير الشبه في أسلوبه بأسلوب سوليفان، بيد أنه يسبغ عليه من ابتكاره طابعاً خاصاً؛ ويتجه بنوع خاص إلى الروح الإنكليزية القديمة.
كتاب عن النيل لأميل لودفيج
ظهر أخيراً في لندن كتاب جديد للمؤرخ الألماني الشهير أميل كون المشهور في عالم التأليف بأميل لودفيج؛ وهو كتابه الموعود عن (نهر النيل). وكان لودفيج يشتغل بتصنيف هذا الكتاب منذ عدة أعوام؛ وقد خطرت له فكرة تأليفه مذ زار مصر والسودان في سنة 1929، وأثرت فيه مناظر النيل وروعته الخالدة. وعرض لودفيج فكرته على المغفور له الملك فؤاد فأولاه كل عطف وتشجيع، ولقي من جانب السلطات كل معونة في الوقوف على ما أراد من المعلومات، ومراجعة ما شاء من المستندات. ولودفيج مؤرخ بالفطرة، وليس بعالم جغرافي، ولكنه لم يجعل من كتابه عن (النيل) بحثاً جغرافياً جامداً؛ وإنما اتبع في وصف النيل ومناظره ووديانه وفيضانه نفس الأسلوب الذي يتبعه في كتابه التأريخ، فكما(178/69)
أنه لا يعني في ترجمة الأشخاص بالحوادث العامة قدر عنايته بالحوادث والصور الخاصة وقراءة الأفكار والمشاعر من الأعمال والتصرفات الشخصية، فكذلك قد عني بأن يبرز من النيل شخصيته المعنوية الرائعة وما يرتبط بها من الصور والأفكار التي ترجع إلى غابر العصور، وتسبغ على النيل طابعاً من العظمة الخالدة. وكتاب لودفيج شعري ووصفي أكثر منه جغرافياً، وإن كان المؤلف لم يهمل تقديم المعلومات الجغرافية الكافية. وقد صدر كتاب لودفيج بالإنكليزية لأول مرة، ولم يصدر بالألمانية، لأن لودفيج من الكتاب اليهود الألمان الذين شردتهم ألمانيا الهتلرية، ونزعت منهم كل حقوق الطبع والنشر في ألمانيا، وحرمت دخول كتبهم في الأراضي الألمانية، ولذلك يصدرون اليوم كتبهم في لندن وباريس وامستردام، تارة بالألمانية وغالباً بالإنكليزية أو الفرنسية.
وفاة مشترع نمسوي
من أنباء النمسا أن الدكتور يوسف ردلنج المشترع النمسوي الكبير قد توفى في التاسعة والستين من عمره؛ وقد كان الدكتور ردلنج حجة في المسائل القانونية والإدارية وخصوصاً ما كان منها ذا صفة دولية؛ وكان حتى وفاته عضواً في محكمة العدل الدولية الدائمة؛ وكان أيضاً من أقطاب الساسة النمسويين في أواخر عهد الإمبراطورية، وقد شغل منصب وزير المالية في آخر وزارة للإمبراطور كارل؛ ثم تولى الوزارة مرة أخرى في سنة 1931. ومنذ سنة 1926 يشغل منصب أستاذ القانون العام في جامعة هارفرد.
وللدكتور ردلينج عدة مؤلفات قانونية شهيرة منها كتاب عن إجراءات مجلس العموم البريطاني، وكتاب آخر عن الحكومات المحلية الإنكليزية؛ وهما من أحسن الكتب في موضوعيها.
صورة حية للإنسان الأول
نشرت صحف هلسنجفور نبأ غريباً عن عثور بعثة للصيد على مخلوق مدهش نصفه قرد ونصفه إنسان في بعض إحراج ريغا عاصمة لاتافيا. وتفصيل النبأ أن بعثة صيد كانت تجوس خلال إحدى الغابات الكبيرة في تلك المنطقة، فلحظ بعض أفرادها ذلك المخلوق جاثماً عند ساق شجرة؛ فلما اقتربوا منه فر هارباً، وتسلق أحد الأغصان المدلاة، وصعد إلى(178/70)
أعلى الشجرة برشاقة مدهشة؛ فصوب أحد الصيادين بندقيته إليه وأطلق النار عليه فصاح المخلوق صيحة مزعجة؛ وسقط على الأرض مضرجاً بدمه. ولما قبض الصيادون عليه وجدوه مخلوقاً عارياً وقد نما الشعر في جسمه حتى غطاه. فحملوه إلى القرية القريبة، وهنالك تبين أن هذا المخلوق كان عاملاً في إحدى المزارع، وقد فر منها منذ بضعة أعوام ولم يظهر له أثر بعد.
ولا يستطيع هذا الإنسان القرد أن يتكلم، كما أنه لا يفهم ما يقال له؛ ولكنه يصيح سروراً حينما يقدم إليه اللحم والفاكهة.
وقد أثار هذا الاكتشاف الغريب اهتماماً خاصاً في الدوائر العلمية؛ ويرى بعض الباحثين أن اكتشاف مثل هذا المخلوق يدلل بصورة حية على الصلة القوية التي توجد بين الإنسان وبين بعض أنواع القردة، وهي صلة يدلل عليها العلامة داروين في كتابه (أصول الأنواع)؛ ثم إن منظر هذا المخلوق يذكرنا بالإنسان الأول في أطوار هجميته الأولى في عصور ما قبل التأريخ.
أسرار المجتمع الألباني
ألبانيا من البلاد البلقانية القديمة، ولكنها مازالت غارقة في غمار الماضي، ولا يعرف عن حياتها الداخلية سوى القليل، وقد رأى كاتب صحفي إنكليزي معروف هو مستر برنارد نيومانعاش في ألبانيا أعواماً طويلة أن يضع كتاباً عما شهده ووقف عليه من أسرار هذه البلاد المجهولة؛ وأخرج كتابه أخيراً بعنوان (باب ألبانيا الخلفي) ويقول المؤلف إنه دخل ألبانيا من بابها الخلفي فوجدها بلاداً لا فن فيها ولا موسيقى ولا آداب، ولكنه وجد فيها شعباً يرتبط أفراده فيما بينهم بكلمة اللسان فقط. ومن المأثور في تلك البلاد أنه إذا توفى شخص فأن الناس لا يسألون عن سبب وفاته، ولكن يسألون عمن قتله؟ ذلك لأن مبدأ الثأر لا يزال يسود جميع الطبقات والأسر، ولا يهدأ بال إنسان حتى يقتل خصمه؛ وكل فرد في قبيلة يحمل بندقية. ويقول لنا المؤلف أيضاً إنه عقد عهد الأخوة الدموية مع ألباني، ووجد أن أهم آثاره ينحصر في احترام الأخوين كل لحياة صاحبه. وقد طاف مستر نيومان في جميع أرجاء ألبانيا بعجلته التي كانت مثار الدهشة، ولقي في كل مكان حفاوة ودية بالغة، واستطاع خلال طوافه وإقامته العديدة بين مختلف الطوائف والطبقات أن ينفذ إلى الروح(178/71)
الألبانية، وأن يعرف كثيرا عن أخلاق هذا الشعب وعاداته وتقاليده. ولكتابه قيمة تاريخية واجتماعية كبرى، ومعظم الكتاب الذين كتبوا عن ألبانيا في العهد الأخير يقصرون عنايتهم على مسائلها السياسية والاقتصادية، ولكن مستر نيومان لا تعنيه هذه المسائل، وإنما يحصر جهده في المسائل الاجتماعية والأخلاقية.
كيف يعامل الكتاب في ألمانية النازية
أضحت ألمانيا جحيم الكتاب الأحرار من كل لون وكل أمة؛ وقد هجرها جميع كتابها ومفكريها الأحرار مذ عصفت بها ريح الطغيان الحالية؛ ولكن ألمانيا النازية وما زالت تضيق ذرعاً حتى بالضيوف إذا كانوا أحراراً؛ فقد روت بعض الصحف السويدية أن الكاتب الروسي الكبير ايفان بونين الذي أحرز جائزة نوبل في الآداب مند عامين، قد عومل في ألمانيا عند زيارته لها معاملة سيئة، وأنه قبض عليه وعذب في سجن (الجستابو): (سجن البوليس السري اللسيسي)؛ وكان بونين يقوم بزيارة عادية لمدينة لانداو في جبال الألب طلباً للراحة والنزهة، ولكن بونين معروف بأنه كاتب حر، وأنه حمل في بعض كتاباته على النظم الطاغية التي تسود ألمانيا في الوقت الحاضر؛ ومع انه من الروس البيض (خصوم البلاشفة) فان مجرد كونه انتقد ذات يوم نظم النازي كان سبباً في القبض عليه وتعذيبه. وقد أثارت كتابات الصحف السويدية عن هذا الحادث الرأي العام الدولي، فبادرت وزارة الدعاية الألمانية إلى إنكاره، ولكنها سلمت بأن إيفان بونين كان أثناء زيارته لألمانيا موضوعاً تحت الرقابة السياسية!
حول مباراة المولد النبوي
تناولت الصحف في الأيام الأخيرة موضوع مباراة المولد النبوي وما انتهت إليه باختيار رسالة الأستاذ عبد الله عفيفي - على الرغم مما فيها من العيوب التي اضطرت الوزارة إزاءها أن تمنحه نصف المكافأة - وأشارت بعض الصحف إذ ذاك إلى أن اللجنة التي ألفت من هيئة كبار العلماء لفحص الرسائل التي تقدم بها 133 كاتباً من مصر والقطار العربية، كانت قد اختارت من مجموعها ثلاث رسائل إحداها رسالة الأستاذ عفيفي، وطلبت هذه الصحف إلى الوزارة بهذه المناسبة أن تقسم النصف الثاني من المكافأة بين صاحبي(178/72)
الرسالتين الثانية والثالثة تقديراً لما بذلا من جهد، وتحقيقاً لبعض ما علقا من آمال، وإنفاقا لهذا المبلغ في الناحية التي أرصد لها، ولأن الاقتصار على مكافأة واحدة في مباراة كهذه فيه شيء كثير من الغبن وتثبيط الهمم لا يتفق مع ما ترمي إليه المباريات العامة من التشجيع وإظهار الكفايات المغمورة.
ولقد كان غريباً بعد هذا أن بنشر الأستاذ عفيفي بياناً في بعض الصحف يشكو فيه من الوزارة لأنها لم تمنحه المكافأة كلها ولم تغض عما في رسالته من نقص. ويحاول أن يزكي نفسه ورسالته فينشر للمرة الثالثة خطاباً أرسله إليه الأستاذ عبد الوهاب النجار أحد أعضاء لجنة التحكيم يصفه فيه بأنه أقدر من كتب في السيرة بعد القاضي عياض - وتلك شهادة يشكر عليها الأستاذ النجار ويغبط عليها الأستاذ عفيفي - ثم يذهب الأستاذ في بيانه إلى أنه سوف ينشر رسالته، ويحتكم فيها إلى الجمهور لينتصف لنفسه ولرسالته من وزارة الأوقاف.
ولا شك أن الأستاذ عفيفي يعلم حق العلم أنه إذا كان في هذه المباراة غبن أو ظلم فأنه واقع على غيره، وأنه إذا كان لأحد أن يشكو ويتظلم فأن الأستاذ آخر من يحق له ذلك.
على أني أعتقد أن في الأقدام على هذه الخطوة إثارة لحقائق قد تكون مؤلمة. ولقد كنا نتحاشى ونحن نكاد نلمس الغبن الواقع في بعض نواحي هذه المباراة أن نلجأ إلى النشر أو الاحتكام إلى الجمهور احتراماً لرأي اللجنة وتنزيهاً لقرار الوزارة عن مظنة الشك والارتياب. أما وقد أندفع الأستاذ في هذا الطريق فأنا نؤيده في فكرته، وسوف نستأنف معه الشوط الأخير، وللرأي العام أن يحكم، وللتاريخ أن يشهد، وللحق أن يأخذ مجراه.
(حمامات حلوان)
محمد كامل حنة
أحد الثلاثة الأول(178/73)
الكتب
1 - مقتل عثمان بن عفان: للأديب محمود الغزاوي
2 - الشخصية: تأليف الأستاذ محمد عطية الأبراشي
3 - التربية الإنكليزية: تأليف الأستاذ محمد عطية الأبراشي
للأستاذ محمود الخفيف
يعتبر مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه من أهم الحوادث في تأريخ الإسلام، إذ كان مقتله نتيجة ثورة عاصفة عاتية، نسى فيها الثوار - والإسلام في مستهل ضحاه - ما نهى عنه دينهم من قتل النفس التي حرم الله، وامتدت أيديهم الأثيمة في غير تردد أو اضطراب إلى عثمان بن عفان خليفة الرسول، وزوج ابنتيه، وأحد السابقين الأولين الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وسال دم الخليفة الشيخ في عقر داره، فلن يشن على أحد غارة أو يشهر في وجه أحد سيفاً، مما ضاعف بشاعة الجريمة، وزاد تلك المأساة هولاً ونكرا.
ولقد انطوت تلك المأساة على معان كثيرة، فهي وليدة عدة عوامل، ثم هي أول حادث من نوعه في الإسلام؛ ترى فيها ثورة سياسية، مازالت تنمو حتى انقلبت إلى فتنة ثم إلى الطغيان.
وفي هذا الكتاب الذي ألفه الأديب محمود الغزاوي ترى دراسة واضحة لتلك الثورة وتصويراً قوياً لما انتهت إليه من مأساة. مهد لموضوعه بمقدمة مبينة عن الخلافة وما كان من أمر تولية أبي بكر وعمر، ثم وضح ما حدث من الشورى بعد موت الخليفة الثاني، وأخذ بعد ذلك يدرس عوامل الفتنة فأشار إلى العداوة القديمة بين الهاشميين والأمويين؛ ثم درس سياسة عثمان وبين عوامل الثورة، وشرح حال الفتنة في الأمصار وصور في الخاتمة المأساة.
فالكتاب يعطيك فكرة جلية عن هذا الحادث التاريخي، وهو مجهود جدير بالثناء، نرجو أن تعقبه مجهودات أخرى للغزاوي فهو رجل نشاط وأدب. وأريد ألا أختم الحديث عن كتابه دون أن أشير إلى بعض هفوات لا تتفق وما عرف به من فطنة وحصافة، فهو في صفحة 13 بينا نراه يحار بين أمرين في تلمس العلة في عدم توصية النبي لأحد بالخلافة، نراه في(178/74)
الوقت ذاته إلى مخافة النبي من وقوع الانقسام والفتن، فهل لا يعتبر هذا تعليلاً؟. وفي هامش 52 نرى خطأ مطبعياً لم يصححه، كذلك لم يبين المؤلف كيف كان جمع الناس على مصحف واحد عاملاً من عوامل الثورة صفحة 61، وفي صدد الكلام عن إيثار عثمان أقاربه بالخلافة نراه يثبت في صفحة 65 أن عثمان عزل عن الكوفة محمد بن عتبة وولى سعيد بن العاص، ولكن المؤلف عندما راح ينقد هؤلاء الولاة تكلم عن الوليد كوال للكوفة فماذا كان من أمر سعيد بن العاص؟ ومتى عين الوليد؟
هذا وفيما عدا تلك الهنات فالكتاب بحث قيم ممتع. ومما يحمد للمؤلف أنه وضع في آخره ثبتاً مسهباً للمراجع العربية والإفرنجية وأنه عني بطبعه عناية جعلت الكتاب في طبعته الثانية هذه أجمل شكلاً وألطف حجماً مما كان عليه في لباسه الأول، وهو مطبوع في دار النشر الحديث للأستاذ الصاوي وثمنه خمسة وسبعون مليماً.
- 2 -
يأتي بعد ذلك كتاب (الشخصية) للأستاذ محمد عطية الابراشي وهو كتاب ظريف الشخصية قويها، يجتذبك إذا رأيته، ويسرك إذا خبرته: يجتذبك بلطف شكله وحجمه، ويسرك بما تطالع فيه من عوامل تكوين الشخصية. والأستاذ المؤلف معروف اليوم بكتاباته في علم النفس، ولقد كتب عن الشخصية فصلاً في كتابه في (علم النفس) ولكن (عن له فيما بعد أن موضوعاً كالشخصية يحتاج إلى كثير من التفصيل والتمثيل، والآن يسره أن يتقدم إلى قراء العربية وبخاصة شبان اليوم ورجال الغد بذلك الكتاب).
ولقد نحا الأستاذ في كتابه طريقة سهلة سائغة، فهو يتعرض للمسألة ثم يوضحها بالأمثلة المتنوعة؛ ومما يحمد له أنه كان يأتي بها من الشرق والغرب، بل لقد كان يتمثل بكثير من الشخصيات العربية ويرينا كثيراً من مواقف البطولة والفضيلة عند العرب ويعرض علينا منهم صوراً ما أجملها وأدقها في المقارنة بين حاضرنا وماضينا.
وبهذه الطريقة الشائقة جعل الأستاذ الابراشي كتابه في متناول كل قارئ فلا يحتاج الإنسان إلى كد ذهنه في تفهمه، بل إنك إذا تناولته لا تحب أن تدعه حتى تتمه.
بيد أني احب أن أشير إلى بعض هنات ما أحسبها تنال من شخصية الكتاب إلا بمقدار ما ينال من شخصية العالم الضليع بعض ما تضطره إليه العجلة من الهفوات. فلست أرى(178/75)
رأيه في المثال الذي أورده في صفحة 10 عن الحجاج وزياد بن عمرو العتكي؛ وأسأل الأستاذ ماذا عسى أن يكون موقف الحجاج لو أن زيادا انتقده عند الخليفة وأظهر معايبه؟ كذلك لا أشاركه رأيه في أن من أكبر عيوب نابليون شدة قسوته على النوع الإنساني. ثم إنه ذكر نابليون في صفحة 50 باسم ملك فرنسا وما كان نابليون ملكاً في يوم ما؛ ثم هو يقول عن باستور إنه اعظم العلماء نفعاً للبشرية وهذا تعميم في غير محله. هذا إلى أنني لم أفهم ما يرمي إليه في الفصل التاسع، فأنه يخيل إلي انه يعتبر نقص الإنسان في الخلقة كأنه أمر مستحب لا ينبغي أن يخشى المرء منه أو يتوقاه لأنه (إن نقص الإنسان من جهة حاول أن يكمل نفسه من جهة أخرى). وما أظن هذا يقع في جميع الظروف والأحوال؛ والأستاذ نفسه يشير في أول الفصل إلى أن الشخص الناقص في الخلقة كثيراً ما يضطر إلى التكلف والتظاهر وهما من اكبر ما يهدم الشخصية. وفيما عدا هذا فالكتاب جدير بأن ينتفع به شبابنا، وهو من المؤلفات التي نشعر بأشد الحاجة إليها لنبني الجيل الجديد، ونطبع رجاله على الفضيلة، ولذلك فأني شديد الغبطة حين أقدمه إلى القراء.
- 3 -
أتكلم بعد ذلك عن كتاب (التربية الإنكليزية) وهو كتاب آخر للأستاذ الابراشي أو هو دليل آخر على نشاطه العقلي، ويقع في نيف ومائتين وخمسين صفحة من القطع الكبير محلى بأكثر من ثلاثين شكلاً توضيحياً.
نهج الأستاذ في هذا الكتاب طريقة العرض، فموضوعه وصفياً أكثر منه نقدياً، يستطيع القارئ بمطالعته أن يلم بنظم التعليم في إنجلترا والروح التي تسير في تلك النظم. واعتقد أن الأستاذ أحسن بذلك صنعاً، فما أحوجنا في مصر إلى مقارنة نظمنا المدرسية بغيرها من النظم في البلاد الممدنة، إذ ما تزال تلك النظم عندنا مضطربة لا تكاد تتبين لها غاية، بل لا تكاد تعرف على أي أساس وضعت. نعم إن لكل أمة ظروفها ولكل أمة وجهتها، ولكن المقارنة على الرغم من ذلك خليقة بأن تكشف لنا كثيراً من عيوبنا وأن ترينا كثيراً من أوجه الصلاح، وعلى الخصوص فيما كان له مساس بالقواعد العامة للتربية والغرض منها مما لا تختلف فيه الأمم كلها اختلافا كبيراً.
تطالع في هذا الكتاب مناهج التعليم الأولي والابتدائي والثانوي في إنجلترا في المدارس(178/76)
الشعبية والحكومية، وتتبين فيه الروح التي تسيطر على كل مدرسة ونظامها المحلي والداخلي، وما يتعلق فيها بالأساتذة وطريقة اختيارهم ومرتباتهم ورؤساء المدارس وأعمالهم، كما تتبين الغاية التي يرمي إليها التعليم في جملته، فلقد أسهب الأستاذ في الأمثلة وإيراد البينات والجداول التي تقوم فيها الأرقام مقام الكلام، ثم تطالع إلى جانب ذلك فصولاً في الجامعات الإنجليزية ونظمها وكليات المعلمين، وإدارة التعليم في البلاد والسلطات المحلية والرئيسية والتفتيش المدرسي وأعمال المفتشين. . . الخ
ولقد يقول بعض الناس، وأراهم محقين فيما يقولون إن الكتابة عن التعليم ينبغي أن تكون كتابة نقدية تحليلية، أو بعبارة أخرى ينبغي أن يعنى فيها بالناحية النظرية ويكتفي بضرب الأمثلة، على نحو ما فعل صاحب (سر تقدم الإنجليز السكسونيين) مثلاً في كلامه عن التربية في إنجلترا، وكما فعل مؤلف هذا الكتاب الذي أحدثك عنه في كلمته التي صدر بها الكتاب، وهي (كلمة عامة عن العلم في إنجلترا). بيد أني أرى من جهة أخرى أن الطريقة الوصفية تضع أمام المشتغل بالتربية مادة درسه فيستخرج منها ما شاء من النظريات، وهي في ذاتها طريقة عملية يظهر أثرها قوياً كما أسلفت بين نظم ونظم، وبالمقارنة يهتدي إلى كثير من الصواب. وكذلك أميل إلى اعتبار طريقة الأستاذ ميزة كتابة بدل أن أراها عيباً فيه، هذا ومما يحمد له أنه يشير بين حين وآخر إلى ما يراه من أوجه النقص في نظمنا ذاكراً ما يرى من أوجه الإصلاح والعلاج بقدر ما اتسع له المجال؛ وحبذا لو رأينا له في القريب العاجل كتاباً عن (التعليم في مصر) ينتقد لنا فيه ما يراه عندنا من خلل ونقص ويبسط لنا آراءه فيما يرى من سبل الإصلاح.
الخفيف(178/77)
العالم المسرحي والسينمائي
الجريمة والعقاب لدستؤفسكي
على مسرح الأوبرا الملكية
لناقد (الرسالة) الفني
لم يكن ليدور بخلدي يوم قرأت الترجمة الإنجليزية للرواية القصصية كما وضعها دستؤفسكي - وذلك منذ سنين بعيدة - أن هنالك من سيخاطر يوماً باقتباس مسرحية منها؛ فان من أصعب الأمور أن يعمد كاتب إلى هذا الاقتباس دون أن يحجم مرات خوف الفشل. فاقتباس مسرحية من رواية قصصية معناه تلخيصها، والتلخيص مهما كان وافياً يعطي صورة غير صحيحة عن الأصل، ولكن جاستون باتيه المخرج الفرنسي المعروف لم يعبأ بكل هذا واقتبسها وأخرجها على المسرح في باريس فلاقت من النجاح والإعجاب الشيء الكثير مما حدثتنا عنه الصحف الفرنسية.
حقاً إنه لحدث عظيم أن تظهر على مسرح مصري رواية لدستؤفسكي ذلك الكاتب الألماني العظيم الذي طبقت شهرته الآفاق، ونقلت مؤلفاته إلى جميع اللغات الحية؛ وإنه لنصر عظيم للفرقة القومية أن تخطو خطوة جريئة كهذه وتفتح موسمها الثاني بهذه الرواية أمام كبار رجال الدولة وشيوخ الأمة ونوابها، فتعلن فوز الفن العالي والأدب الرفيع.
والرواية تقوم على التحليل النفسي العميق، ولكن في بساطة ووضوح يسهل تناولها لمن كان على قليل من الثقافة؛ وهي خالية من العوامل المفاجئة والصناعة التي اعتدنا أن نراها في المسرحيات الفرنسية. وفيها أوضح المؤلف غاية الرجل الروسي - في أيام القيصرية - من الحياة، فهو لا يرى لها غاية غير الألم على عكس الرجل الأوربي الذي يرى غاية الحياة السعادة فيسعى إليها. أما الروسي فيفتتن بالألم ويتكالب عليه، بل يسعى إليه جاهداً ليصهر في بوتقته روحاً لا يراها مؤدية رسالتها في الحياة إلا من طريق التفكير والعذاب.
نقل المسرحية عن الفرنسية الشاعر الرقيق الدكتور إبراهيم ناجي، والممثل الأديب فتوح نشاطي، فجاءت الترجمة سلسلة سهلة مما يلائم موضوع القصة وبساطة الوسائل في معالجة المؤلف للموضوع، فكان إعجابنا بالترجمة قدر إعجابنا بالاقتباس.(178/78)
ملخص القصة
الطالب راسكو لينكوف شاب روسي نفور عبوس، شديد الكبرياء على الرغم من طهارة قلبه؛ تسممت روحه بفلسفة القوة التي سادت أوربا في نهاية القرن التاسع عشر، فخيل إليه أنه شخص ممتاز، وأنه باعتباره عبقرياً وضع نفسه فوق القانون. وكان يسائل نفسه: (لو كان نابليون قد صادف في طريقه إلى المجد عوائق وعثرات، أكان ينكص على عقبيه، أم يتقدم في جرأة ويزيلها؟).
كان الرد الطبيعي على هذا التساؤل أن قتل مرابية عجوزاً ليثبت نفسه أنه يمتاز على الناس أجمعين بقوة تتسامى عن الخضوع للقوانين، ففي رأيه أن هناك أناساً يحق لهم أن يعتدوا على الحياة الإنسانية دون أي عقاب، ولكنه ما انتهى من جريمته حتى أضحى فريسة آلام مبرحة، فشعر بوحدته القاسية بين الناس ولم يطق البقاء حتى مع أمه وأخته، وهجر الجميع ليختلف إلى الحانات يختلط فيها بالأوساط الوضيعة.
وهناك يلتقي بسكير شيخ جعل يقص على الطالب آلامه وكيف أن إدمانه قد جر على أسرته الوبال من مرض اضطرت معه ابنته أن تسقط في مهاوي العار لتقوم بأودهم، فيعطف الطالب على هذا المخلوق الملوث. وتدهم هذا السكير عربة فيقضي نحبه، ويتعرف الطالب إلى الأسرة البائسة ويساعدها بما تملك يده ويحنو على الفتاة الساقطة التي تقوضت حياتها مثله ويرى فيها ملجأه الوحيد في هذا العالم.
وكان (بوفير) قاضي التحقيق الذي عهدت إليه قضية مقتل المرابية يشك في الطالب، وتشاء المصادفات أن يطلع على مقال بتوقيع راسكولنيكوف يشير فيه إلى أن هناك طبقة ممتازة من الناس تملك حق ارتكاب الجرائم، فيلاحقه في حذر ودهاء، فهو لا يملك برهاناً مادياً، لأن يقظة الطالب تفسد عليه كل شيء.
وهكذا لا تستطيع العدالة أن تقتص من القاتل، فهل ينجو من يقتل نفساً بشرية؟! لا، إنه الضمير يهيب في نفسه ويعذبه فتهن أعصابه ولا يستطيع أن يحتمل هذه الحياة، فيسير إلى الفتاة ليلقى على منكبيها هذا السر الذي أنقض ظهره وعجز عن احتماله، فترى الفتاة أن الإنسان وإن انتصر على عدالة الناس إلا أن في أعماق ضميره عدالة أسمى وأقسى لا يخفت لها صوت حتى يكفر عن جريمته، فيستمع لها ويخرج من بيتها فيلقى قاضي(178/79)
التحقيق فيناديه قائلاً: (بوفير. انتصر) ويركع أمام أكثر الأفراد الذين ظهروا في المسرحية ويعترف بجريمته.
الإخراج والتمثيل
جهود كبيرة ومصروفات باهظة جعلت الرواية مظاهرة إخراج هائلة. ولقد أعجبنا بالمناظر كل إعجاب، كما أعجبنا بالتاج القيصري الذي يعلو الستار الحريري الجميل الذي يحمل الشعار القيصري ويفصل بين المنظر والآخر، والحق أن الجهد الذي بذله الأستاذ عزيز عيد يستحق الشكر.
ولكن، هل فكر المخرج قليلاً أن طريقته هذه في الإخراج تتعارض وأهم خصائص الفن الروسي وهي البساطة؟
إن تعدد المناظر وإصرار المخرج عل إظهارها كاملة البناء جعل التمثيل يمتدد بالنظارة حتى منتصف الساعة الثانية صباحاً، فكنا نشهد تمثيل المنظر في وقت قصير ونبقى طويلاً وطويلاً جداً في انتظار تهيئة المنظر الذي يليه، وهكذا كان يضيع الأثر الذي تركه التمثيل من ملل الانتظار الطويل. ولقد كان (المايسترو) المسكين الذي يدير فرقة الموسيقى يعيد ويكرر المقطوعة الواحدة حتى يشغل النظارة فأرهق وضاعت آثار قطعه التي تعب كثيراً في إعدادها، ولولا ذلك لاستسغناها وصفقنا لكل مقطوعة منها.
إن أهم واجبات المخرج أن يعمل على تركيز إخراجه حتى تأتي الرواية والتمثيل بالثر المطلوب، لا أن يتركها هكذا مفككة؛ وأظن أنه رأى معنا إخراج هملت وروميو وجولييت من الفرقة الايرلندية التي عملت في الموسم الماضي على مسرح الأوبرا. لقد كانت كما قلت في حديث سابق على صفحات (الرسالة) تعتمد على منظر واحد وتستعين بستار صغير وبالضوء في تبديل المنظر، وهذا لا يستغرق بضع ثوان. ولو أن الأستاذ عزيز عيد عمد إلى هذه الطريقة أو قارب بينها وبين طريقته لما أضطر إلى حذف أربعة مناظر حتى لا يتأخر التمثيل عن منتصف الثانية صباحاً. فهل للمخرج أن يترفق بالجمهور؟!
تحدث معي أحد المعجبين بالأستاذ عزيز مؤيداً وجهة نظره في عرض المناظر في بناء كامل فهو يراها خير من استعمال الستائر مع (الفوندو)، وإني أخالف هذا الرأي، فأن استخدام الطريقة الثانية أجل إذ هي تجعل الجمهور أكثر انتباها وأكثر استخداما لعقله من(178/80)
الطريقة الأولى، وهذه الطريقة هي طريقة بدائية. ولو أنك عهد إلى ممثل مبتدأ باعداد مناظر رواية كبيرة لما فكر إلا في اختبار مناظر كاملة البناء لكل فصل وكل منظر من مناظر الرواية. أما الطريقة الأخرى فلا يلجأ إليها إلا الفنان القوي الذي يتغلب على الصعاب ويلجأ إلى كل جديد؛ واعتقادي في عزيز أنه يستطيع هذا، ولكن لا أدري لم لا يفعل؟
والإضاءة عادية تحتاج إلى بعض العناية؛ ويجب على المخرج أن يستخدمها اكثر من ذلك لتساعد ممثليه على قوة التعبير. وهناك بعض الاضطراب في إضاءة منظر المقابر ولا أظنه إلا خطأ غير مقصود نتيجة الإسراع، وأرجو أن يتلافاه رجال المسرح كما أرجو ألا يضاء الستار الحريري بضوء قوي صارخ بعد المناظر المؤثرة لأن هذا الضوء يضيع الأثر الحزين من النفوس.
لا يتسع لي المجال للتحدث عن التمثيل بإفاضة، واكتفي اليوم بأن اذكر أن جميع الأفراد قد أدوا جهوداً كبيرة في سبيل نجاح هذه الرواية؛ ولكني أحب أن ألفت نظر الأستاذ جورج أبيض إلى أنه لم يكن مستذكراً دوره، فكان صوت الملقن يرتفع لأسماعه فيصل ألينا في المقاعد الخلفية؛ وموقفه كذلك مع عباس فارسالذي يعترف له بأنه القاتل لا يحتاج إلى هذه الثورة وهذا الإلقاء التراجيدي. والآنسة زوزو الحكيم عليها أن تعني بالإلقاء ومخارج الألفاظ وبتلوين جملها؛ أما الآنسة أمينة نور الدين فكانت تلقي جملها في خشونة تشبه خشونة الرجال، وأرجو أن تترفق بالنظارة قليلاً وتخفف من حدتها؟
يوسف تادرس(178/81)
العدد 179 - بتاريخ: 07 - 12 - 1936(/)
بعد المعاهدة
استقلال اللغة
استقلال اللغة مظهر استقلال الذات؛ ووحدة اللسان جزء من معنى الأمة، واتحاد البيان سبيل إلى توحيد الرأي والهوى والثقافة. فإذا سمعت امرأ يتكلم غير لغته من دون ضرورة، أو يلهج غير لهجته من دون مناسبة، فلا يخامرك شك في أنه كذلك في خليقته وعقيدته ونمط تفكيره وأسلوب عمله. وإذا رأيت أمة تدير في أفواهها ألسنة الأمم، وتستعير في أعمالها دلالات الناس، فلا تتردد في الحكم عليها بالتبعية المدنية والعبودية الأدبية والوجود الملفق. وإذا شق عليك أن ترى في الأرض هذه الأمة، أو تسمع في الأمة ذلك الإنسان، فتحامل على شعورك وجل جولة في إحدى عواصم مصر. فهنا أو هناك تجد في معارض التجارة، ودور الصناعة، وبيوت المال، وأماكن اللهو، خليطا من الناس كجيش الدمستق.
تجَّمع فيه كل لَسْنٍ وأمة ... فما يُفهم الحدَّاثَ إلا التراجم
تدخل متجرا من المتاجر، أو مصرفا من المصارف، أو مقصفا من المقاصف، أو شركة من الشركات، فلا تقرأ في الإعلانات والمستندات إلا كتابة أجنبية، ولا تسمع في المحادثات والمفاوضات إلا لغة أجنبية، فإذا حرصت على أن تتفاهم بالعربية لاعتزازك بها أو لجهلك بغيرها، تضاءلت في رأى مخاطبك فينظر إليك بشطر عينه، ويكلمك ببعض شفته، وربما صغرت وصغرت حتى يستسر عليه مرآك فلا يحفلك. وتغشى قصرا من قصور الأمراء أو دورا من دور الكبراء، فتسمع النادين يتطارحون الحديث بالفرنسية أو التركية، فإذا شاركتهم فيه بلغتك، وقروا آذانهم عن سماعك، لأنك نقلت الحديث الخطير إلى لغة السوقة، وأنزلت البهو الوثير إلى مجلس العامة، وتلقى أبناء (الذوات) في المشارب والملاعب والأندية، فتسمعهم يتراطنون بلغة مشوهة التأليف، مدخولة الوضع، بغيضة اللهجة، من نحو قولهم: يا وداشئ)، ' أطلع ولو وجدت في هذا الخلط تظرفاً من أولئك الأيفاع المدللين الذين نشأتهم المهود الأرستقراطية، وثقفتهم المدارس الأجنبية، فإنك لا تجد فيه غير حمى الروح إذا تكلفه من درج في البيئات الشعبية، وخرج من المعاهد الدينية. فقد حدثوا أن شيخاً من شيوخ اللغة ومعلميها أوفدته وزارة المعارف إلى إنجلترا ليلم بطرائق التعليم ومذاهب التربية؛ فمكث تحت ضباب لندن عاما أو عامين ثم عاد، فإذا لسانه قد(179/1)
اعوج وسمته قد تبدل! يكلمك فتسمع من وراء (البيبة) كلاماً عربي الحروف سكسوني المخارج! فإذا تمضمض بالجملة أو الجملتين في المعنى المألوف توقف وتأفف، ثم راح يزاوج في الفقرة الواحدة بين العربية والإنجليزية، لأن العربية أصبحت أمام الخاطر ألد فاق، والخيال السباق، والمعاني الجديدة، أعجز من أن تسعف اللسان وتجاري البيان وتحدد الفكرة!
كل ذلك كنا نراه فنشعر بالغربة وسط الدار، وبالذلة بين الأهل، وبالتبعية تحت العلم. وكل ذلك كنا نسمعه فنحمل الآذان على مكروهه، ونروض الأنفس على أذاه، لأن أمورنا كانت في كل ناحية من نواحي الحياة شذوذا لا يستقيم في عقل، ونشوزا لا يتسق في شعور. فلما أذن الله لوجودنا أن يتميز، ولاستقلالنا أن يتم، كان من المحتوم على أولياء العهد الجديد أن يعالجوا الضعف الذي يوهن وثبات العزة، ويزيلوا النقص الذي يعوق خطوات الكمال.
تريد اللغة العربية من أولياء العهد الجديد أن يطردوا الاحتلال اللغوي من الشركات والبنوك كما طردته تركيا، فيمدوا لها أسباب السيادة، ويهيئوا للعاطلين وسائل العمل، ويضمنوا للأهليين صحة التعامل، ويمصروا هذه البيوت التي تطاول الحكومة في النفوذ، وتجابه الأمة بالعجز، ويشتمل كل منها على دولة وسفارة وامتياز. تريد العربية أن تكون لسان العلم في المدارس الأجنبية، وفي كليات الجامعة المصرية، فإن التعليم باللغة الأوربية ينقل بعض الأفراد إلى العلم، ولكن التعليم باللغة الوطنية ينقل كل العلم إلى الأمة. وما دام للغة مجمع لغوي قوي يساعدها على النمو، فلن يخشى عليها في الطريق قصور ولا فشل.
تريد العربية أن تأخذ مكانها الشرعي في المحاكم المختلطة ريثما تدك قواعدها المعاهدة. فإن من أعجب الأمور أن يضيع القانون بين قوم يعيشون بالقانون، ويزهق العدل في دار أقيمت للعدل. وقد كان الإغضاء على ذلك يحمل على مصانعة القوة ومخادعة السياسة، ولكنه اليوم لا يحمل إلا على تفريط العجز وترويض الاستكانة.
كذلك تريد العربية أن تطهر من شوائب التركية في الدواوين والقوانين والمدارس والجيش، فلا تحب أن يداخلها بعد اليوم باشكاتب ونوبتجي وبوستجي وقلفة وطابور ويمكخانة ويوزباشي وصاغ وأميرالاي الخ. ولنا فيما يعمل الترك والفرس بالعربية مثل ماثل ودافع محرض.(179/2)
ذلك ما تريده اللغة من الحكومة. أما ما تريده من الأمة فذلك شيء تلهمه العزة وتمليه الكرامة؛ فإن لغة المرء تاريخه وذاته؛ فالغض منها غض منه، والتفضيل عليها تفضيل عليه، ولا يرضى لنفسه الضعة والصغار إلا مهين أو عاجز.
أحمد حسن الزيات(179/3)
5 - القلب المسكين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أما صاحب القلب المسكين فتزعزعت كبده مما رأى؛ وجعل ينظر إلى هذه الفتانة تمثل زفاف العروس وقد أشرق فيها رونقها وسطعت ولمعت فبدت له مفسرةً في هذه الغلائل غلائل العرس؛ وما غلائل العرس؟
إنها تلك الثياب التي تكسو لابستها إلى ساعة فقط. . . ثياب أجمل ما فيها أنها تقدم الجمال إلى الحب، فأزهى ألوانها اللون المشرق من روح لابستها، وأسطع الأنوار عليها النور المنبعث من فرح قلبين.
تلك الثياب التي تكون سكباً من خالص الحرير ورفيع الخز، وحين تلبسها مثل هذه الفاتنة تكاد تنطق أنها ليست من الحرير، إذ تعلم أن الحرير ما تحتها. . .
ثم تنهد المسكين وقال: أفهمت؟
قلت: فهمت ماذا؟
قال: هذا هو انتقامها
قلت: يا عجبا! أتريدها في ثياب راهبة؛ مكبكبة فيها كما ألقيت البضاعة في غرارة، بين سوادٍ هو شعار الحداد على الأنوثة الهالكة، وبياض هو شعار الكفن لهذه الأنوثة؟
قال: أنت لا تعرفها؛ إن الرواية التي تمثل فيها بين الروح والجسم، هي التي احتاجت إلى هذا الفصل يقوي به المعنى؛ وكل عاشقة فعشقها هو الرواية التي تمثل فيها، يؤلفها هذا المؤلف الذي اسمه الحب؛ ولا تدري هي ماذا يصنع وماذا يؤلف، غير أنه لا يفتأ يؤلف ويضع وينقح كما تتنزل به الحال بعد الحال، وكما تعرض به المصادفة بعد المصادفة؛ وعليها هي أن تمثل. . .
قلت: فهذا، ولكن كيف يكون هذا انتقاما؟
قال: إن الأفكار أشياء حقيقية، ولو كشف لك الجو هذه الساعة لرأيته مسطوراً عباراتٍ عبارات كأنه مقالة جريدة. هذا الفصل حوار طويل في الهموم والآلام ورقة الشوق وتهالك الصبوة؛ لو كتب له عنوان لكان عنوانه هكذا: ما أشهاها وما أحظاها! إن الهواء بين كل عاشقين متقابلين يأخذ ويعطى. . .(179/4)
قلت: يا عدو نفسه ما أعجب ما تدقق. لقد أدركت الآن أن المرأة تتسلح بما شاءت لا من أجل أن تدافع، ولكن لتزيد أسلحتها في سلاح من تحبه فتزيده قوةً على قهرها وإخضاعها. . .
أما هذه (العروس) فكانت أفكارها لا تجد ألفاظاً تحدها فهي تظهر كيفما اتفق، مرسلةً إرسالاً في اللفتة والحركة والهيئة والقومة والقعدة، وهي من علمت: امرأة تعيش للحقائق، وبين الحقائق، ككل ذي صنعة في صنعته، فكانت في تماديها خطراً أي خطر على صاحب القلب المسكين، تمثل شيئاً لا أدري أهو ظاهر بخفائه أم هو خافٍ بظهوره؛ وقد وقع صاحبنا منها فيما لم يدخل في حسابه، فكانت الخبيثة الماجنة كأنها تسكره بمسكر حقيقي غير أنه من جسمها لا من زجاجة خمر.
وكانت لذهنه المتخيل كالسحابة الممتلئة بالبرق؛ تومض كل لحظة بأنوار بعد أنوار، وبين الفترة والفترة ترمي الصاعقة. . .
وظهرت كأنها امرأة مخلوقة من دم ولهب؛ فلقد أيقنت حينئذ أن الحب إن هو إلا الغريزة البهيمية بعينها محاولة أن تكون شيئا له وجود فني إلى وجوده الطبيعي، فهو مصيبتان في واحدة، وكل عمله أن يجعل اللذة ألذ، والألم أشد، والقلة كثرة، والكثرة أكثر، وما هو نهاية كأنه لا نهاية.
هذه (العروس) كانت قبل الآن واقفة على حدود صاحبها، أما الآن فإنها تقتحم الحدود وتغزو غزوها وتمتلك.
يا لسحر الحب من سحر! كل ما في الطبيعة من جمال تظهره الطبيعة لعاشقها في إحدى صور الفهم. أما الحبيب الجميل فهو وحده الذي يظهر لعاشقه في كل صور الفهم، وبهذا يكون الوقت معه أوقاتاً مختلفة متناقضة، ففي ساعة يكون العقل، وفي ساعة يكون الجنون.
يا لسحر الحب! لقد أرادت هذه المرأة أن تذهب بعقل صاحبها، وأن تنقله إلى وحشية الإنسان الأول الكامن فيه، وأن تقذف به إلى بعيدٍ بعيدٍ وراء فضائله وعصمته؛ فسنحت له كما يسنح الصيد للصائد يحمل في جسمه لحمه الشهي. . . وتركت شعوره جائعاً إلى محاسنها بمثل جوع المعدة. . . وبرزت له صريحة كما هي، ولما هي، ومن حيث أنها هي هي؛ وكل ذلك حين ألبست جسمها ثياب الحقيقة المؤنثة.(179/5)
آه من (هي) إذا امتلأت الهاء والياء من قلب رجل يحب! وآه من (هي) إذا خرجت هذه الكلمة من لغة الناس إلى لغة رجل واحد!
إن في كل امرأة. . . امرأة يقال لها (هي) باعتبار الضمير للتأنيث فقط كما يعتبر في الدابة والحشرة والأداة ونحوها من هذه المؤنثات التي يرجع عليها هذا الضمير؛ ولكن (هي) المفردة في الكون كله لا توجد في النساء إلا حين يوجد لها (هو). . . . . .
أنا أنا الذي يقص للقراء هذه القصة، قد كابدت من شدة الحب وإفراط الوجد ما يملأ قلبين مسكينين لا قلباً واحداً؛ وكانت لي (هي) من إلهيات عانيت فيها الحب والألم دهراً طويلاً؛ وقد ذهبت بي في هواها كل مذهب إلا مذهباً يحل حراماً، أو مذهباً يخل بمروءة؛ ولقد علمت أن الشيء السامي في الحب هو ألا يخرج من العاشق مجرم.
فالشأن كل الشأن أن يستطيع الرجل الفصل بين الحب من أجل جمال الأنثى يظهر عليها، وبين الحب من أجل الأنثى تظهر في جمالها. فهو في الأولى يشهد الإلاهية في إبداعها السامي الجميل. وفي الأخرى لا يرى غير البشرية في حيوانيتها المتجملة. . .
وقد أدركت من فلسفة الحب أن الحقيقة الكبرى لهذا الجمال الأزلي الذي يملأ العالم - قد جعلت حنين العشق في قلب الإنسان هو أول أمثلتها العملية في تعليمه الحنين إليها إن شاء أن يتعلم. فكما يحب إنسان بروح الشهوة يحب إنسان آخر بروح العبادة؛ وهذا هو الذي يسميه الفلاسفة (تلطيف العسر) أي جعله مستعدا للتوجه إلى النور والحق والخير، وقد عدوا فيما يعين عليه الفكر الدقيق والعشق العفيف.
وكذلك تبينت مما علمني الحب أن طرد آدم وحواء من الفردوس، كان معناه ثقل معاني الفردوس وعرضها لكل آدم وحواء يمثلان الرواية. . . فإذا (قطفا الثمرة) طردا من معاني الجنة طردا كهوَ من الجنة، وهبطا بعد ذلك من أخيلة السماء إلى حقائق الأرض.
نعم هو الحب شيء واحد في كل عاشق لكل جميل، غير أن الفرق بين أهله يكون في جمال العمال أو قبح العمل. وهذه النفوس مصانع مختلفة لهذه المادة الواحدة؛ فالحب في بعضها يكون قوة وفي بعضها يكون ضعفاً؛ وفي نفس يكون الهوى حيواناً يراكم الظلمة على الظلمة في الحياة، وفي أخرى يكون روحانياً يكشف الظلام عن الحياة.
والمعجزة في هذا الإنسان الضعيف أن له مع طبيعة كل شيء طبيعة الإحساس به، فهو(179/6)
مستطيع أن يجد لذة نفسه في الألم، قادر على أن يأخذ هبة من معاني الحرمان. وبهذه الطبيعة يسمو من يسمو، وهي على أتمها وأقواها في عظماء النفوس حتى لكأن الأشياء تأتي هؤلاء العظماء سائلةً: ماذا يريدون منها؟
فمن أراد أن يسمو بالحب فليضعه في نفسه بين شيئين: الخلق الرفيع والحكمة الناضجة، فأن لم يستطع فلا أقل من شيئين الحلال والحرام.
أنا أنا الذي يقص للقراء هذه القصة، أعرف هذا كله، وبهذا كله فهمت قول صاحب القلب المسكين: إن ظهور صاحبته في فصل العروس هو انتقامها، حاصرت عيناها عينيه، وزحفت معانيها على معانيه، وقاتلت قتال جسم المرأة المحبوبة في معركة حبها، وبكلمة واحدة: كأنما لبست هذه الثياب لتظهر له بلا ثياب. . .
وأردت أن أعيبها بما صنعت نفسها له، وأن أعيبه هو بدخوله فيما لا يشبهه، وقلت في غير طائل ولا جدوى، فما كنت إلا كالذي يعيب الورد بقوله: يا عطر الشذى ويا أحمر الخدين.
وقد أمسك عن جوابي وكانت محاسنها تجعل كلماتي شو هاء، وكان وضوحها يجعل معاني غامضة، وكانت حلاوتها تجعل أقوالي مرة، وكانت ثياب العروس وهي تزف تريه ألفاظي في ثياب العجوز المطلقة. وكلما غاضبته مع نفسه أوقعت هي الصلح بينه وبين نفسه.
والعجيب العجيب في هذا الحب أن فتح العينين على الجميل المحبوب هو نوع من تغميضهما للنوم ورؤيا الأحلام؛ ليس إلا هذا ولا يكون أبداً إلا هذا. فمهما أعطيت من جدل فإقناعك المحب المستهام كإقناعك النائم المستثقل؛ وكيف وله ألفاظ من عقله لا من عقلك، وبينك وبينه نسيانه إياك، وقد تركك على ظاهر الدنيا وغاص هو في دنيا باطنه لا يملك فيها أخذاً ولا رداً إلا ما تعطي وما تمنع.
ثم. . . ثم غابت (العروس) بعد أن نظرت له وضحكت ضحكت بحزن حزن الذي يسخر من حقيقة لأنه يتألم من حقيقة غيرها. . . وكان منظرها الجميل المنكسر فلسفة تامة مصورة، للخير الذي اعتدى عليه الشر فأحاله؛ والإرادة التي أكرهها القدر فأخضعها؛ والعفة المسكينة التي أذلتها ضرورة الحياة؛ والفضيلة المغلوبة التي حيل بينها وبين أن تكون فضيلة ويا ما كان أجملها ناظرة بمعاني البكاء ضاحكة بغير معاني الضحك؛ تتنهد(179/7)
ملامح وجهها وفمها يبتسم.
كان منظرها ناطقاً بأن قلبها الحزين يسأل سؤالاً أبداه على وجهها بلطف ورقة؛ كان يسأل إنساناً: ألا تحل هذه العقدة. . .؟
وانقضى التمثيل وتناهض الناس
أما صاحب القلب المسكين؟
(يتبع)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(179/8)
تطور خطير في السياسة الدولية
هل تقترب نذر الحرب
بقلم باحث دبلوماسي كبير
تتابعت الحوادث الدولية في الأسبوعين الأخيرين بسرعة، وبدت في الأفق أزمات واحتمالات مزعجة يرى فيها المتشائمون نذر الحرب تجتمع وتهيئ الأسباب للاصطدام الخطر؛ ففي أسبانيا تتطور الحوادث تطوراً واضحاً، إذ يقف هجوم الثوار على مدريد، بعد أن كادت تسقط في أيديهم، وترجح قوات الجمهوريين التي تؤيدها نجدات سوفيتية قوية؛ وتسارع إيطاليا وألمانيا إلى الاعتراف بحكومة برجوس (حكومة الثوار) لكي تشد أزر الجنرال فرانكو زعيم الثورة من الوجهة المعنوية، ولكي تسبغ على حكومته صفة الدولة المحاربة فيسهل عليه تلقي النجدات الخارجية بصورة أوسع؛ وقد ظهر أثر هذا التأييد واضحاً في تصرفات الجنرال فرانكو الأخيرة؛ فقد أعلن أنه سيفرض الحصار البحري على شواطئ أسبانيا الشرقية والشمالية، وأنه سيغلق ثغور أسبانيا التي بأيدي الجمهوريين أعني برشلونة وبلنسية واليقنت ومالقة، وأن سفنه ستطلق النار على أية سفينة أجنبية تدخل هذه المياه؛ ووجه الجنرال فرانكو أيضاً إلى فرنسا إنذاراً بطلب الذهب الأسباني الذي سحبه الجمهوريون من بنك أسبانيا، وأودعوه في باريس؛ ومع أن الجنرال فرانكو لا يملك من الوحدات البحرية سوى عدة طرادات صغيرة لا تستطيع أن تضطلع بمثل هذا الحصار الخضم، فان المفهوم أنه سيعول في تنفيذ وعيده على يد الغواصات الإيطالية والألمانية؛ وقد ظهر أثر هذه المعاونة البحرية سريعاً في إصابة الطراد الجمهوري (سيرفانتيس) من مقذوف بحري أطلقته عليه غواصة أجنبية؛ على أن الجنرال فرانكو لم يلبث إزاء موقف إنكلترا وتشددها في عدم اعتبار صفة شرعية لحكومة الثوار، ومطالبتها بالا يتعدى الحصار المياه القومية، أعني مدى الثلاثة أميال المقررة في القانون الدولي، وأن تعين منطقة محايدة لرسو السفن الأجنبية، أن اضطر إلى تعديل موقفه والتسليم بهذه المطالب التي أيدتها إنكلترا بإجراء بعض المناورات البحرية الضخمة في المياه الأسبانية.
وظاهر من هذه الخطوة التي اتخذها الجنرال فرانكو، بتحريض الدول الفاشستية أعني إيطاليا وألمانيا وتأييدها المعنوي والمادي، أنه يقصد وقف المساعدات القوية التي تتلقاها(179/9)
الحكومة الجمهورية من روسيا السوفيتية عن طريق برشلونة وبلنسية، ومطاردة السفن الروسية التي ترد بلا انقطاع إلى هذه المياه مشحونة بالذخائر والمؤن، وهي معاونة كان لها أكبر الأثر في إحباط هجوم الثوار على مدريد، وفشل خطط الجنرال فرانكو فشلاً قد يؤدي إلى انهيار الثورة بصورة نهائية؛ وظاهر أيضاً أن فشل الجنرال فرانكو إنما هو فشل لألمانيا وإيطاليا اللتان تؤيدانه منذ البداية وتمدانه بكل أنواع المعاونة في البر والبحر والهواء؛ ولهذا بادرت الدولتان الفاشستيان إلى الاعتراف بحكومة برجوس ستراً لهذا الفشل، وإلى دفع الجنرال فرانكو إلى إعلان الحصر البحري وتأييده بإرسال الغواصات إلى المياه الأسبانية لمحاولة اعتراض السفن الروسية أو الأجنبية الأخرى التي تحمل الذخائر والمؤن للحكومة الجمهورية.
بيد أنه يشك كثيراً في أن يكون لهذا الإجراء أثره المنشود، ذلك لأن روسيا السوفيتية أبدت أنها لن تعبأ به، وأنها ستقاوم العنف بالعنف إذا اعتدى على سفنها، وما زالت السفن الروسية ترد إلى برشلونة وبلنسية تحرسها وحدات بحرية روسية؛ وهذا مما يجعل الموقف في هذه المياه في منتهى الدقة والخطورة خصوصاً بعد أن ثبت وجود بعض القوات الإيطالية في جزيرة ميورقة تجاه بلنسية، ووجود بعض الطرادات والغواصات الإيطالية في مياهها، هذا فضلا عن أن إنكلترا تهتم بالحالة في تلك المياه اهتماماً شديداً وتجوسها بعض وحدات أسطولها، وكذلك فرنسا، فأن وقوع هذه المياه على مقربة من شواطئها، ثم في طريق الجزائر يحملها على أن تشاطر إنكلترا اهتمامها، وأن ترقب الحالة مع الاستعداد لكل طارئ.
وهكذا نرى هذه المعركة التي تضطرم في الظاهر في أسبانيا بين الجمهورية وخصومها تبدو في صورتها الحقيقية صراعاً بين الفاشستية والديموقراطية حسبما بينا من قبل غير مرة؛ وهي تبدو اليوم في هذه الصورة واضحة تؤيدها الأدلة المادية الظاهرة، فمن وراء الجنرال فرانكو تعمل إيطاليا وألمانيا والبرتغال بصورة منظمة مستمرة؛ وتعمل روسيا السوفيتية لمعاونة حكومة مدريد الجمهورية بكل ما وسعت، وتؤيدها فرنسا وإنكلترا بصورة مستترة؛ وقد شرحنا من قبل ما ترتبه الدول الفاشستية من المطامع والأماني على إضرام نار الحرب الأهلية في أسبانيا بهذه الصورة، والسعي بواسطة الجنرال فرانكو إلى إقامة(179/10)
حكومة فاشستية في أسبانيا تعضد نفوذ إيطاليا وألمانيا في غرب البحر الأبيض المتوسط، وتحقق لهما بعض المغانم الاستعمارية في جزر البليار والكناري، وربما في مراكش الأسبانية؛ وبينا أيضاً ما يحمل الدول الديموقراطية أعني إنكلترا وفرنسا على مقاومة هذه المحاولة وإحباطها؛ وإذا كانت الدولتان الديموقراطيتان لا تعملان لمعاونة أسبانيا بصورة ظاهرة، فأنهما تعتمدان في هذه المعاونة على روسيا، وتؤيدان مساعيها في هذا السبيل؛ وهناك بالأخص نقطة تلفت النظر؛ وهي أن الأسطول الروسي الذي يحمل المؤن والذخيرة إلى حكومة مدريد يسير بعيداً عن قواعده لنجدة الجمهوريين، ويغامر بالظهور في مياه أجنبية، وقد يتعرض لاعتداء الغواصات الألمانية والإيطالية؛ ولكن لا ريب في أن روسيا لا تقدم على مثل هذه المغامرة إلا وهي معتمدة على تفاهمها مع إنكلترا، وعلى حماية الأسطول الإنكليزي وإمكان استخدام المياه الفرنسية لحماية سفنها وقت الخطر.
وقد لاح مدى لحظة أن قوات الجنرال فرانكو تكاد تكتسح كل شيء في طريقها وتستولي على مدريد بأيسر أمر؛ ولكن الحوادث تطورت بسرعة وتحطم هجوم الثوار على مدريد، وبدا التفوق في جانب الجمهوريين واضحاً، وربما كان هذا الفشل مقدمة انهيار الثورة الأسبانية، والخطط الفاشستية التي تؤيدها.
على أن هناك غير حوادث أسبانيا عدة تطورات وحوادث دولية خطيرة أخرى زادت في حرج الموقف ودقته. ذلك أن السياسة الفاشستية نشطت أخيراً إلى مضاعفة جهودها في سبيل تقوية جبهتها ضد أوربا الغربية بوجه عام، وروسيا السوفيتية بوجه خاص؛ فبعد أن عقدت ألمانيا وإيطاليا تحالفهما المعروف ضد (البلشفية)، وبعد أن اتفقتا على تقسيم أوربا الوسطى إلى منطقتي نفوذ سياسي واقتصادي، تتعاونان في استغلالهما وتوجيههما مع اختصاص ألمانيا بالعمل في تشيكوسلوفاكيا، واختصاص إيطاليا بالعمل في المجر، واشتراكهما معاً في العمل في النمسا، فاجأت ألمانيا العالم بعقدها تحالفاً مع اليابان اتخذت مكافحة البلشفية والثورة العالمية التي تعمل روسيا لإضرامها ستاراً له، وهذه الحجة الظاهرة، أعني مكافحة البلشفية هو الشعار الذي تستتر به ألمانيا في سياستها الحالية وتقرنه بالتهويل في وصف الخطر البلشفي ووجوب اتحاد أمم العالم على مقاومته وإنقاذ المدنية من شره؛ بيد أنه يظن أن الاتفاق الألماني الياباني، رغم ما نشر من نصوصه،(179/11)
يبطن تحالفاً عسكرياً سرياً، ويقصد إلى غايات خطيرة أخرى تتلخص في تعاون اليابان وألمانيا على مقاومة روسيا وتهديدها في الشرق الأقصى، وفي أوربا؛ وتدعيم الخطط الاستعمارية اليابانية في الصين والشرق الأقصى، نظير تدعيم الخطط الألمانية العسكرية والاستعمارية في شرق أوربا وفي غربها إذا اقتضى الأمر؛ وبعبارة أخرى يمكن اعتبار التحالف الألماني الياباني رداً على التحالف الفرنسي الروسي الذي اعتبرته ألمانيا موجهاً ضدها.
وقد كان لعقد هذا التحالف الألماني الياباني وقع شديد في أوربا وأمريكا معاً؛ ومع ما قدمته ألمانيا واليابان من الإيضاحات لتخفيف وقع التحالف، فأن الغاية من عقده لم تخف على أحد؛ ولم تقتنع الدول الكبرى بصحة الزعم الذي اتخذ ستاراً لعقده، وهو التعاون على مكافحة البلشفية، لأن البلشفية نظام داخلي يخص روسيا وحدها، وفي وسع الدول التي تخشى من تسربه إليها أن تقاومه داخل أرضها بوسائلها الخاصة؛ ولدى ألمانيا واليابان أشد الوسائل الداخلية لمكافحة البلشفية وغيرها من الأنظمة غير المرغوب فيها؛ وترى إنكلترا وفرنسا وأمريكا في عقد هذا التحالف خطراً على مصالحها في الشرق الأقصى، لأنه يعاون اليابان في تنفيذ خطتها لاستعمار الصين الجنوبية، ويقوى مركزها في المحيط الهادي على حساب أمريكا وإنكلترا، وقد كانت هذه الدول ترى في التوازن الياباني الروسي في الشرق الأقصى نوعاً من الضمان لمصالحها، فإذا قضى على هذا التوازن، واستطاعت اليابان أن تطلق يدها في شؤون الشرق الأقصى اعتمادا على انشغال روسيا بحماية حدودها الغربية من مطامع ألمانيا، أصبح التفوق الياباني خطراً على مصالح الدول الغربية وسيادة أمريكا في المحيط الهادي.
والظاهر أن ألمانيا تحاول أن تحشد في هذه الجبهة الجديدة كل الدول التي تميل إلى التعاون معها وفي مقدمتها إيطاليا، وهي تعمل لذلك الغرض بنشاط مضاعف؛ ومن المشكوك فيه أن تستطيع ألمانيا أن تحشد في تلك الجبهة الشرقية دولاً أخرى، وإن كانت إيطاليا تميل إلى تأييدها من الوجهة المعنوية، لأن إيطاليا مع صفتها الفاشستية العميقة لا تذهب في خصومة روسيا إلى الحد الذي تذهب إليه ألمانيا، والواقع أنه إذا كانت ألمانيا قد استطاعت بتحالفها مع اليابان أن تقوي مركزها ضد روسيا السوفيتية فإنها قد أثارت بعقده(179/12)
في نفس الوقت شكوكاً ومخاوف جديدة، ففرنسا وروسيا تريان فيه خطراً جديداً عليهما يجب أن يقابل بمضاعفة الجهود في التسليح والاستعداد، وإنكلترا وأمريكا تتوجسان شراً من تطور الأحوال في الشرق الأقصى تطوراً قد يضطرهما إلى العمل لصون مصالحهما؛ فهذه الظروف مع ازدياد الشك في نيات ألمانيا ومطامعها العسكرية والاستعمارية يثير حول سياستها ريباً ما كان أغناها عن إثارتها، ويجعل مزايا التحالف الجديد ضئيلة بالقياس إلى ما أحدثه من رد فعل عميق.
هذا، ومن جهة أخرى فأنه مهما كانت مزايا هذا التحالف من الوجهة العسكرية، فان الدول التي تقصدها ألمانيا بعقده، وهي فرنسا وروسيا، هما الآن أعظم الدول استعداداً من الوجهة العسكرية، وكلتاهما تتمتع بتنظيمات دفاعية وموارد عسكرية هائلة، ومهما قيل في استعداد ألمانيا الحربي من الوجهة الفنية، فإنها فقيرة في المال والمواد الأولية؛ وفرنسا تعني بمضاعفة جهودها في التسلح والدفاع ولا سيما في الأشهر الأخيرة التي ظهرت فيها ألمانيا بمظهر الوعيد والتحدي؛ وكذا روسيا فإنها مذ أدركت خطر السياسة النازية العسكرية على حدودها الغربية، انضمت إلى جبهة الدول الغربية، وعقدت ميثاق التحالف مع فرنسا؛ وفرنسا لا يمكن أن تترك روسيا وحيدة إذا هاجمتها ألمانيا، لأن بقاء روسيا قوية سليمة مما يهم فرنسا كضمان لسلامتها؛ وعلى ذلك، فإذا اندفعت ألمانيا في سياستها العسكرية الخطرة، وعملت على إثارة الحرب في شرق أوربا بصورة من الصور، فلا ريب أن الحرب ستقع أيضاً في غرب أوربا، وعندئذ تقع حرب عالمية أخرى.
والخلاصة أن الأفق الدولية مثقل بالسحب؛ ومما يلفت النظر في ذلك كله أن الفاشستية تلعب في إثارة هذه الأزمة الدولية الدقيقة أكبر دور، ولا تحجم عن تغذية الاتجاهات والشهوات العسكرية الخطرة بكل ما وسعت؛ وقد شرحنا في مقال سابق ما تنطوي عليه سياسة الدول الفاشستية، أعني ألمانيا وإيطاليا، من المغامرة وقصر النظر، وبينا أن الخطر على سلام أوربا وسلام العالم يرجع قبل كل شيء إلى هذه السياسة الخطرة. بيد أنه مما يبعث إلى نوع من الطمأنينة أن تكون الدول الغربية، أعني فرنسا وبريطانيا العظمى قد فطنتا إلى الخطر في الوقت المناسب، واستطاعتا أن تصلا في تحقيق التسليح والتنظيمات الدفاعية إلى حدود بعيدة؛ فإذا أضفنا إلى ذلك أن كفة روسيا إنما هي دائماً مع الدول(179/13)
الغربية، فأن مما يشك فيه أن تذهب الفاشستية الصاخبة إلى المغامرة بإثارة حرب تلقى فيها مثل هذه القوى الساحقة؛ وإذا كان ثمة سحب وأزمات خطيرة تكدر أفق السياسة الدولية، فلسنا مع ذلك نذهب مع المتشائمين إلى حد الاعتقاد بأنها نذر الحرب، وأن الحرب قد غدت على وشك الاضطرام.
(* * *)(179/14)
التنكر
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قلت مرة لنفسي: (لماذا لا أخرج للناس متنكراً كما كان يفعل الولاة والسلاطين والخلفاء وفيما تحدثنا الروايات أو الخرافات؟).
وليست لي رعية أتفقدها، ولا لي شعب أتعهد مرافقه ومراشده، ولكن هذا الخاطر استبد بي مع ذلك فلم يسعني إلا أن أجري معه إلى حيث يوميء؛ والتنكر فن، وإتقانه لا يتسنى إلا بالتدريب، ولكن قلت إن الله ركب لي في وجهي عينين أنظر بهما، وعندي مرآة تستطيع أن تريني هل وفقت أو أخفقت، وفي وسعي أن أعيد التجربة مرة وأخرى فلا أبرز للناس إلا وأنا مطمئن القلب.
وقد كان. اشتريت لحية كثة طويلة - شبراً وبعض شبر إذا أردت الدقة - وشاربين وحاجبين، ومسحوقاً أبيض أنفضه على شعر رأسي، وشرعت أجرب - أعني ألصق هذه الأشياء بوجهي، وعيني على المرآة، وكنت أوصد الباب علي، وأنا أفعل ذلك، لأضمن الوحدة، ولأني اعتزمت أن أجعل التجربة الأولى في بيتي. فلما وثقت أني قد أحكمت التنكر، وأني أستطيع أن أقوم وأقعد وأمشي، وأحرك رأسي، وألمس لحيتي، وأفتح فمي، وأرفع حاجبي على هيئة المستغرب، وأضحك وآكل وأشرب من غير أن تسقط اللحية أو ينحرف أحد الحاجبين عن قوسه، أو يتدلى شارب، على حين يبقى الآخر مفتولاً - خرجت على أهلي، وعلى وجهي هذه الأشياء، وفي يدي عصا غليظة أتوكأ عليها وقد تقوست قناتي من الهرم، فلم تكد تقع علي العيون في مدخل الباب حتى صرخت أمي وجدتي وأسرعتا فسترتا وجهيهما عن هذا الشيخ الغريب؛ وكان أخي الصغير معهما فوثب إلى قدميه وصاح بي يسألني أنا من؟ ويأمرني أن أخرج، وينعتني بقلة الحياء وسوء الأدب ويهددني بالشرطة، وأنا أقول له بصوت يرعش من الكبر وما يجره من الضعف (حلمك، حلمك يا بني!) فيأبى أن يكون حليماً، ولا يعبأ بشيخوختي، ولا يترفق بوهني البادي، ويدفعني عن الباب فأكاد أسقط على الأرض؛ فأنه صبي قوي، وأنا شيخ هم أقوم على العصا، فلم تبق لي حيلة إلا الخروج من البيت كما أمر. . .
خرجت مطمئناً واثقاً؛ وإذا كان أخي - ابن أمي وأبي - لم يعرفني فكيف يعرفني الإخوان(179/15)
والخلان؟ ومن ذا الذي يمكن أن يفطن إلى أن هذه الغابة التي زرعتها حول وجهي وسترت بها شبابي جليبة؟ وكان انخداع أخي - لا أمي ولا جدتي - هو الذي أراح بالي، ونفي عني الخوف؛ لأن فزعهما واستحياءهما منعا أن ينظرا ويحدقا؛ أما أخي فأمره مختلف جدا، وقد كان يمسك بكتفي ويهزني ويدفعني ويحدق في وجهي متعجباً لجرأتي، منكراً لتطفلي. ومع ذلك لم يعرفني!
ومضيت إلى شارع الدواوين، وكنا - إخواني وأنا - نختلف إلى (القهوة) فيه، ونقضي هناك بعض الوقت، نشرب (الخشاف) ونتبارى في لعب (الطاولة) ونصغي إلى الفونغراف وننظر إلى الرائحين والغادين، فلقيت في بعض الطريق أحد هؤلاء الأخوان، فوضعت يدي على كتفه وابتسمت له وقلت:
(هل تستطيع يا بني أن تدلني على لاظ أو غلى) فقال: (يظهر أنك لست من أهل الحي؟! هذا هو أمامك مسافة مائة متر لا أكثر).
قلت: (آه! لعن الله الشيخوخة! وقاتل الله الضعف! مائتا متر! يا سلام! أقول لك. . . ربنا المعين. نعم ربنا المعين) وهممت بأن أنصرف عنه، فقال: (هل تسمع بأن أتناول ذراعك وأساعدك على السير قليلاً؟)
فدعوت له بخير، وبشرته، وأكدت له أن الله سيجزيه أحسن الجزاء، وتركت له ذراعي، وسرنا معاً بعض الطريق، وأنا أدب بالعصا وأقول من الضعف (إه! إه) كما يفعل الشيوخ الذين انقطعت أنفاسهم، فقد كانت اللحية التي لففت فيها وجهي عظيمة جداً وبيضاء كالقطن. وبلغنا (القهوة) المألوفة فهمست في أذنه بصوت خافت: (أقول لك يا بني؟ سأستريح هنا قليلاً. . . نعم فأن العجلة من الشيطان، ولا خير في أن يحمل المرء على نفسه ويكلفها فوق وسعها).
وجلست إلى أقرب مائدة ووضعت العصا عليها واضطجعت مغمض العينين حتى انتظمت أنفاسي وسكن اضطراب صدري، وهدأت دقات قلبي، ثم التفت إلى صديقي وقلت (الله يرحم أيام الشباب!! هل تعرف يا بني؟ لقد كنت أصعد درج السلم - مائة درجة - خمس مرات أو ستاً في اليوم، جرياً بلا تمهل أو ترفق؛ وكنت أستحم في الشتاء القارص البرد من بئر في البيت، مرتين. . . مرة في الفجر ومرة في العصر؛ وكنت أستطيع أن ألتهم(179/16)
نصف الخروف وحدي فضلاً عن غيره من الألوان. . . أين هذه الأيام؟ إيه؟
وتنهدت: فقال: (يظهر أنك كنت قوياً متين الأسر في شبابك!)
قلت: (قوي؟ ولو لم أكن قوياً لما عشت إلى هذه السن. أنا أقول لك. . . كنت أتناول عيدان القصب. . . سبعة وأربطها ثم أتناولها من الطرفين وأضرب بها ساقي، فتنكسر. . . أعني العيدان هي التي كانت تنكسر لا ساقي بالطبع. . . هأ هأ. . . تنكسر ولا تبقى قشرة واحدة تصل قطعتي عود. . . فهل تستطيع الآن - وأنت شاب - أن تصنع هذا؟)
فهز رأسه وابتسم، فقلت: (على الرغم من ضعفي الظاهر وشيخوختي العالية، لا أزال محتفظاً ببعض القوة، ولولا أن الدخان قطع نياط قلبي لما رأيتني أنهج. . . أحذر يا بني أن تعتاد التدخين! إنها نصيحة شيخ مجرب. . . نصيحة لوجه الله. نعم لا تزال في قوة باقية. . . هذه يدي. . . اقبض عليها. . . احتفظ بكل قوتك وانظر)
وفتحت له كفي، ومددت إليه ذراعي فتناول يدي كما يفعل المرء عند المصافحة، ثم قبض عليها وقبضت على يده، وضغط وضغطت. ثم بدت عليه الدهشة، وقد نسيت أن أقول إني كنت وما زلت قوي الذراعين جداً إذا اعتبرنا ضآلة جسمي، وكل قوتي في يدي، فلا عجب إذا كان قد دهش، فقلت له: (أرأيت؟؟ ألم أقل لك؟؟ وتصور كيف كنت خليقاً أن أكون لولا فعل الدخان الملعون؟؟ لقد خرب صدري من سوء تأثيره. . .)
وسحبت يدي وفركتها فقد كانت ضغطته قوية لا رفق فيها قبحه الله؛ وجاء في هذه اللحظة واحد آخر من إخواني وكان كثير العبث، فوقف ينظر إلينا ويعجب، ثم سأل صاحبه بصوت عال كأنما كان قد وثق أني أصم.
(من هذا الرجل الفظيع؟
قال: (هذا شيخ يستريح. . . اسمع. . . (لي) أعطه يدك ليمتحن قوتها. . .)
فقلت: (لا يا بني. . . تعبت. . .)
وقال: اللعين الواقف (ماذا تصنع بكل هذه اللحية؟ أليس في بيتك مقص؟ أو مخرطة؟ أو منشار؟)
فخطر لي أن أمازحه - وليتني ما فعلت - فقلت: (لا فائدة. وما غناء المقص؟؟ إنه يتقصف إذا لامسها. . . والمنشار ما حيلته في هذه الخيوط الحديدية؟؟ لا. . . لا تطمع في(179/17)
محوها، فقد أعياني أمرها مذ جئت إلى هذه الدنيا. . . وقد كنت حين بدأت أتعلم المشي بعد الحبو أتعثر بها. . .)
فقهقه اللعين ثم مد يده إليها وتناول شعرات منها وفتلها كما يفتل الحبل، وأنا صابر جامد لا أتحرك مخافة أن أرتد برأسي فتتزحزح عن موضعها أو تسقط في يده، وكنت أتبسم أيضاً لأتألفه وأخجله عسى أن يكف عن لحيتي، فأطمعه حلمي، فكف عن فتل الشعرات، وتناول منها قبضة، فاضطربت، وجذب هو، أو ارتدت أنا - لا أدري - فإذا هي في يده.؟؟
وقلت بعد أن سكتت العاصفة: (ما قولكما الآن؟؟ ألم أخدعكما؟؟) وبدأت أقلد نفسي وأقول: (هل تستطيع يا بني أن تدلني على لاظ أو غلى؟. . . لقد قطع الدخان أنفاسي، فيحسن أن أستريح هنا برهة. . . أحذر يا بني الدخان، فأنك ترى ما صنع بي. . . والآن أعترف أني كنت بارعاً. . .)
فقال اللعين: (بارع؟ أنت كنت بارعاً؟. . لقد عرفتك على بعد عشرة أمتار. . . يقول إنه كان بارعاً؟؟ وأين المغفل الذي يمكن أن تخدعه هذه اللحية السخيفة؟؟. . . وعلى فكرة. . . ألا تنوي أن تخلع الشاربين والحاجبين؟؟ فأنا أخاف أن يجتمع علينا الأطفال ويتدخل الشرطة وتسوء العاقبة بها).
فنزعتها، فما بقيت بي إليها حاجة بعد زوال اللحية، ولكني لم أستطيع أن أصدق أن يكون قد عرفني كما زعم بعد أن نكرني أهلي - وأخي على الخصوص. وقد أعياني أن أعرف الحقيقة، فسكت. . . وآليت بعد ذلك ألا أبرز الناس إلا في جلدي الذي خلقه الله لي. . . .
إبراهيم عبد القادر المازني(179/18)
في الأدب المقارن
أثر نظام الحكم في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
تمر الأمم في استقرارها وتحضرها بثلاثة أطوار عامة من أنظمة الحكم: ففي الطور الأول تكون أزمة الأمور بأيدي رؤساء القبائل الرحالة أو القريبة العهد بالاستقرار، وهو ضرب من الحكم أرستقراطي؛ وفي الطور الثاني تتجمع مقاليد الحكم في يد حاكم فرد يوحد أجزاء مملكة ذات مساحة يعتد بها وتخوم طبيعية، وهو نظام الملكية؛ وفي الطور الثالث يعود تصريف شؤون الدولة في أيدي جميع أبنائها القادرين، وهو النظام الديمقراطي الذي هو أصلح الأنظمة جميعاً، إذ هو أدناها إلى العدل والمساواة وأجدرها أن يفسح المجال للمواهب الفردية ويمهد الطريق لرقي الأمة.
ومن الشعوب البدائية ما لا تتجاوز الطور الأول، ومن الأمم ما تقف عند الثاني كجميع دول الشرق القديم، ومنها ما تصل إلى الثالث كبعض مدن اليونان ورومه، وقد تعود دولة بعد بلوغ الطور الثالث فترتد إلى الثاني، لنكسة في أحوالها تحرمها التمتع بمزايا الحكم الديمقراطي وتجعل الحكم الفردي ضربة لازب، ومثال ذلك رومه حين اتسع سلطانها وأفسد الترف أخلاق أبنائها، فعجز السناتو عن تصريف شؤونها ووقع حكمها في قبضة الدكتاتوريين والأباطرة.
وقد عرف العرب الطور الثاني من أطوار الحكومة في جاهليتهم في أطراف الجزيرة، حيث ساعد خصب الأرض واستواؤها على توحد دولة متسعة وتوطد ملكية قوية، أما في سائر الجزيرة فظل الطور الأول، طور الحكم الأرستقراطي، سائداً، وبلغ بين بعض قبائلها ولا سيما في الحجاز مستوى عالياً من الأحكام؛ وكانت لأشراف العرب دراية عملية فائقة بقواعد الحكم والاجتماع. تتمثل في قول الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تبقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فان تولت فبالأشرار تنقاد
وهو تلخيص شعري رائع لنظريات أرسطو في السياسة. وقد نمى هذا النظام في نفوس العرب نزعات الحرية والحمية والشجاعة التي أدت إلى دوام الخصام بينهم، وأورثتهم(179/19)
الفخر بالعصبية والتمدح بالنسب؛ وأثر كل ذلك بين في أشعار ذلك العهد التي أغلبها تكرار مستمر للمفاخر والمآثر القبلية، وتمدح بالعز والمنعة، فإلى ذلك صرف شعراؤهم قولهم، ولم ينصرف الشعراء إلى مدح الملوك وتعداد مآثرهم دون مآثر القبيلة أو الأمة إلا حيث قامت ممالك الغساسنة والمناذرة والتبابعة، فكانت من ذلك مدائح حسان والنابغة والأعشى.
فلما جاء الإسلام خرج العرب دفعة واحدة من الطور الأول من أطوار أنظمة الحكم طور الأرستقراطية، إلى طور الملكية الذي توطدت بينهم قواعده وظلوا في حدوده لا يتعدونه إلى الطور الثالث طور الديمقراطية؛ ويرجع تمكن الملكية بين العرب بعد تعودهم التشاور في الأمور ورغم حض الإسلام على ذلك التشاور، إلى عوامل خطيرة أولها مكانة النبي عليه السلام: إذا كان أول حاكم فرد للجزيرة، وكان له من جلال النبوة وعظمة الشخصية والقدرة الخارقة ما عود العرب الامتثال لأمير مطاع؛ وزادهم انقياداً لهذا الضرب من الحكومة اقتفاء العمرين أثره في عدل الحكم ونجاحهما في الخارج والداخل، وحرص المسلمين على وحدة الكلمة والدين ما يزال يجاهد أعداءه؛ ومن تلك العوامل أيضاً اتساع أطراف الدولة العربية السريع، حتى عادت إدارتها متعذرة إلا بيد حاكم فرد مطاع؛ ومنها قيام الدولة على أنقاض ملكيات عتيدة ما لبثت تقاليدها أن سرت في كيان الدولة الجديدة؛ ومنها الصفة الدينية التي ظل يتخذها الحاكمون
لذلك هجر العرب تدريجياً تقاليد التشاور وتوطد لديهم نظام الملكية المطلقة، فكان منذ قيام دولتهم النظام الوحيد الذي عرفوه، أو فكروا فيه، فلم يقم من مفكر يهم من نادى بنظام مخالف له، أو دعا إلى ضرب من الديمقراطية؛ بل كانت الملكية لديهم هي النظام الطبيعي الذي لا نظام غيره؛ وظل لسان حالهم قول المتنبي: (وإنما الناس بالملوك)، وإنما كان أحرار هم يفرضون في الملك العدل والإصلاح واتباع أحكام الدين وإلا وجب خلعه. وعلى هذا الأساس كان خلع عثمان والوليد ابن يزيد، وامتلأ تاريخ العرب بالثورات، ولكنها لم تكن - فيما عدا ثورة الخوارج الذين تمسكوا وحدهم بتقاليد الجاهلية وديمقراطية الإسلام - تمردا على نظام الملكية المطلقة، بل كانت ثورة مظلوم على ظالم، أو وثبة فرد بفرد، أو فتكة أسرة بأسرة؛ وفي ظل هذا ظل هذا النظام الملكي المطلق بلغ الأدب العربي غاية رقيه.(179/20)
أما في إنجلترا، فساعدت الظروف المحلية الجغرافية والتاريخية على خروج الشعب من الطور الثاني إلى الطور الثالث من أنظمة الحكم، فأن عزلة الجزيرة أبعدتها عن غمار الحروب التي تتخذها الملكية ذريعة لتقوية سلطانها، وفرض الضرائب، وجمع جيش قائم يخمد كل تمرد على مظالمها في الداخل ويشيد في الخارج إمبراطورية لا يتسق حكمها لغير الملكية، فلم يتجه الشعب الإنجليزي إلى التوسع الخارجي، ولم يبن إمبراطورية إلا بعد أن وطد أساس حقوقه وحرياته، وبنى تلك الإمبراطورية تدريجياً، فلم يستهدف لتضخم فجائي يوقع حكومته في يد دكتاتور، وبذلك ظل الشعب غنياً عن خدمات الملكية في الخارج قادراً على كبح جماحها في الداخل لقوته وضعفها، فأحرز عليها النصر الحربي في كل ثورة ثارها في وجهها، بينما كان نصيب الثورات الشعبية في الدولة العربية السحق العاجل.
ترعرع الأدب الإنجليزي وقد ثبت النظام الدستوري في إنجلترا بجانب نظام الملكية، وشهد الأدب تضامنهما أحياناً كما في عصر شكسبير، وصراعهما أحياناً كما في عصر ملتون، وكان رجال الأدب عادة في جانب الحرية والديمقراطية يجاهرون المستبدين العداء، وقد عميت عينا ملتون في دفاعه بقلمه عن الجمهورية في ظل كرومويل؛ ولم يصلح ما بين الملوك والأدباء إلا بعد انتصار الديمقراطية على الملكية، وصيرورة الملكية جزاء من النظام الدستوري، وشارة من شارته؛ وفي ظلال هذه الديمقراطية بلغ الأدب الإنجليزي مبالغ عظمته.
فهذا فرق ما بين الأدبين في هذا الصدد: أن أحدهما بلغ أوجه في ظل النظام الملكي؛ والثاني جرى إلى مداه في حمى النظام الدستوري؛ ومن ثم نجد الأدب الإنجليزي أعظم حرية في النزعة وأصدق في التعبير، وأغنى بالمواضيع، وأكثر تنوعاً في الأشكال، لأن الملكية ليست بخير النظم التي يترعرع في ظلها الفن الصحيح، لأنها شديدة الأثرة والغيرة، ولا ترضى من ضروب النشاط إلا بما يتوفر على خدمتها، ولا تسمح للحق والفن بالذيوع إذا كان في ذيوعهما تحدٍ لسلطتها. أما النظام الدستوري فيفسح المجال للمواهب بلا عائق، ويطلق العنان للحقيقة بلا كابح.
فمن شأن الملكية المطلقة أن تخمد الرأي العام في بلادها، لأنها (هي الدولة) والرأي لها، لا(179/21)
يكاد ينطق ناطق أو يعمل عامل إلا بما ترضاه؛ ومن ثم كفت الشعب عن ممارسة شؤون الحكم، وكفت الأدباء عن نقد أحوال المجتمع؛ فعاش أدباء العربية بنجوة عن ذلك المجتمع لا يكادون يشعرون بشعوره أو يعبرون عن خوالجه أو يصفون أحواله، ومن ثم لم تظهر في الأدب العربي القصة التي تدرس المجتمع وتحلل دخائل النفس، وجاء شعر الشعراء ونثر الكتاب أكثره نظرياً لا اتصال بينه وبين حقائق المجتمع والحياة اليومية. أما في إنجلترا فان توطد أركان الديمقراطية صاحبه ظهور القصة الاجتماعية وتعاظم مكانتها حتى طغت على أشكال الأدب الأخرى.
وفي ظل الملكية المطلقة ذوى ضرب آخر من ضروب الأدب، هو الخطابة التي لا تزدهر إلا حيث الديمقراطية والمشاورة وحرية الرأي، فنراها بعد أن بلغت أوجها قبيل الإسلام وفي صدره تخمل تدريجيًا تحت الملكية التي تستأثر بالرأي والفعل، وتبطل كل رأي آخر وكل فعل، على حين ظلت للخطابة في الإنجليزية منزلتها، وأنجب البرلمان الإنجليزي في عهوده القريبة خطباء مصا قع، أمثال والبول وفوكس وبت وبرايت وغلادستون.
وفي نظير ابتعاد الأدباء عن نقد المجتمع والخوض في شؤون الحكم، ترك لهم الملوك عنان العبث مرسلا، يقارفون ضروب المجون في منتدياتهم، ويدونون صنوف الهجر في آثارهم، ويتبادلون فاحش القول في أشعارهم، فامتلأ الأدب بذلك السقاط حتى ظن المتأخرون الذين شبوا على دراسته أن الرقاعة والخلاعة من صفات الأديب، وحتى ترفع ذوو الحسب عن معاطاة الأدب
ولم يكتف الملوك بكف الأدب عن نقد أعمالهم بل اتخذوا رجاله أبواقاً للتمدح بمآثرهم ما صبح منها وما بطل، فكما اتخذوا من مرتزقة الجند أنصاراً لهم على إخضاع الرعية، اتخذوا من مرتزقة الشعراء أعواناً على تضليلها، وقد هبط هذا الارتزاق بالأدب عن مكانته السامية درجات؛ وحسبك أن يهبط الشاعر من قمة الفن والشعور والصدق إلى وهدة الشحاذة والتمليق والكذب، وهذه خلال تنزه عنها الأدب الإنجليزي في أغلب عهوده، لأن الشعب لم يمكن الملكية من ابتزاز ثمار اجتهاده وكده لتبعثرها في مظاهر الأبهة الجوفاء، وتنثرها على المرتزقة من الجند والشعراء.
وفي سبيل استرضاء الحكام واستدرار صلاتهم لم يحجم كثير من الشعراء عن امتهان الفن(179/22)
من جهة، فأذالوا الشعر وملئوه بالأكاذيب، وعن امتهان الخلق الكريم من جهة، فمدحوا الظالم والقاتل ما دام في دست الحكم، وتقربوا إليه بذم أحفاد الرسول، وتملقوه بهجاء من فتك بهم من قواد ووزراء، وهجا البحتري الخلفاء المخلوعين ومدح من استعادوا العرش على التوالي، ومدح بشار العلوي الخارج على المنصور، فلما علم باندحاره حور القصيدة ومدح بها المنصور. وتحاسد الشعراء وتهاجوا لتنافسهم على جوائز الأمراء، على حين نرى في الإنجليزية أن شلي لما بلغه امتداح سوذي لملك إنجلترا في ذلك العهد امتداحاً متملقاُ، كتب إليه يوسعه توبيخاً ويجاهره بالقطيعة.
وإذا ندرت في الأدب العربي آثار انتصار الأدباء للشعب ومناصبتهم الملوك دفاعاً عنه، فلم تندر فيه أخبار الخارجين على الحكام طلباً للملك والمجد الشخصي كحكاية تميم بن جميل الذي أنشد بين يدي المعتصم تائيته البديعة التي مطلعها:
يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يسل علىَّ السيف فيه وأسكت
ولم تندر أخبار الأدباء الطامحين إلى الملك كالمتنبي الذي خرج في صباه وظل يتوق إلى الخروج طول حياته، والشريف الرضى الذي باح مرة بدخيلة نفسه فأسقط عليه الخليفة، بقصيدته التي أولها:
ماُ مقامي على الهوان وعندي ... مِقوَل صارم وأنف حَمىّ
وما كان مثل ذلك ليكون في الأدب الإنجليزي: فالأدباء الإنجليز كانوا أشد حباً للأدب واعتداداً بمكانة الفن من أن يهجروهما إلى شيء آخر ولو كان هو الملك، كما كانوا من جهة أخرى أشد إخلاصاً لوطنيتهم ووفاء لسعادة بلادهم من أن يفكروا في اعتراض سبيل الحياة الدستورية التي رضيتها لنفسها، وما كانت الظروف لتعينهم لو حاولوا بأكثر مما أعانت أدباء العربية سالفي الذكر.
ولتزاحم شعراء العربية على صلات الملوك ومن تشبه بهم من الأمراء تجمعوا في المدينة وانصرفوا عن محاسن الطبيعة، فلم تفز من أغلبهم بكبير التفات. وقل مثل ذلك في شتى أبواب الشعر: فما يكاد يكون في أشعار الفحول وصف لجيش أو أسطول أو بحر أو بلد أو قصر أو منظر، أو رثاء أو حكمة أو تفكير في الحياة والموت، إلا مرئياً كل ذلك من وجهة نظر الممدوحين وجارياً في أطواء مدحهم والترنم بما حازوا من رفيع الشأن، فكانت مدحة(179/23)
صاحب النوال هي الوحي الأول الذي يدفع الشاعر إلى ملاحظة تلك المشاهد وتدبر تلك الحقائق.
ولاعتماد الأدباء في معاشهم على صلات الأمراء، وتوقف سعودهم ونحوسهم على رضى الأمراء وغضبهم، كثرت الشكوى في الأدب العربي، وأنحى الأدباء على ما أسموه الدهر ذماً وتقريعاً وتفنيداً، وعزوا أنفسهم بالتفاخر الأجوف، وطال ذمهم لحرفة الأدب، وما يزاملها من شقاء وحرمان؛ ولا ذنب للأدب، وإنما هم صيروه حرفة وما هو إلا فن، بل هبطوا به إلى ما دون الحرفة فصيروه تسولاً. أما في الإنجليزية فنرى جيبون مثلاً يسخر مر السخر ممن يزعمون أن الأدب أشقاهم ويعلن في صراحة واغتباط أن كتابه عن تاريخ الرومان كان خير رفيق له وسمير لروحه أعوام تصنيفه، ثم أناله من بعد ذلك صيتاً وضمن له بعد مماته ذكراً ما كان يستحقه بدونه.
أما من قنطوا من صلات الأمراء من بين شعراء العربية، وقعد بهم عجز حيلتهم عن الوصول إلى ساحات الملوك، فأما هجروا الشعر جملة وإما عكفوا على نظم أشعار الزهد، فغزر ذلك الضرب من النظم في العربية. وليس التزهيد في الحياة بأسمى رسالات الآداب، بل رسالتها الصحيحة الترغيب في الحياة والتعبير عن جمالها والدعوة إلى الاستمتاع به.
ولطمع الأدباء في جوائز الأمراء نزحوا من أطراف البلاد إلى العاصمة؛ فصارت دون سواها من المدن مجال الشعر وسوق الأدب، وخمد في غيرها نور الفنون؛ أما في إنجلترا فقلما هجر أديب بلده إلى لندن طلباً للحظوة والمال، بل هجر بعضهم مقامه بالعاصمة إلى منطقة البحيرات، فاستقر حيث الجمال الطبيعي والحياة الشعرية والوحي الصادق، وحيث عرش الطبيعة لا عروش المالكين.
ومن خلال المدح كان يتحدث شعراء العربية عن انتصارات الدولة في الحروب، فكل من أبي تمام والمتنبي وابن هاني الأندلسي يشيد بانتصار ممدوحه، وينسب إليه كل الفضل في تدبير الرأي والإقدام وهزيمة العدو ونصر الدين؛ أما في الإنجليزية فكان شعراء الوطنية أمثال كاميل وتنيسون وكبلنج يرون في انتصارات الدولة ظفراً للقومية الإنجليزية لا فخراً شخصياً للملك، فتغنى الشعراء بتلك الانتصارات، وشادوا ببسالة القواد وأمراء البحر الذين أكسبوا أمتهم مواقف الفخار، وقلما التفتوا إلى الملك أو خصوه بذكر.(179/24)
وكما طلب شعراء العربية الرزق بمدح الملوك، طلبه الكتاب بالاستيزار والإنشاء في دواوينهم، فجاءت آثارهم الأدبية كآثار الشعراء، كثيرة المبالغة والإغراق، قليلة النصيب من صدق الشعور وصحة النظر، كثيرة التلاعب بالألفاظ؛ وكان لأولئك الوزراء شأن أعجب من شأن الشعراء: إذ اتخذهم الخلفاء وسيلة لابتزاز أموال الرعية، حتى إذا ما حان الحين فتكوا بهم واستصفوا أموالهم، وكتب الأدب حافلة بأنباء نكباتهم.
ولا ريب أن غيرة الملوك على سلطانهم المطلق كانت من أسباب الانصراف عن ترجمة تراث اليونان الأدبي والتاريخي، كما ترجم تراثهم الفلسفي إلى العربية، لأن هذا الأخير مشحون بالنظريات والقضايا الخيالية التي لا تتعرض لسلطانهم بسوء، على حين أن تراث اليونان الأدبي حافل بمظاهر الديمقراطية، وآثار اشتراك الشعب في حكم نفسه، فالملكية أكثر تسامحاً مع العلماء وتشجيعاً للعلوم التي تدرس ظواهر الكون العامة، منها للآداب التي تترجم عن مشاعر النفوس؛ ولا شك في أن اطلاع الإنجليز على آداب الإغريق وتاريخهم كان من عوامل تمكين نفوسهم وتشبثهم بحقوقهم. وهكذا كانت الملكية المستبدة من أسباب حرمان الأدب العربي من الأثر اليوناني الذي استفاد منه الأدب الإنجليزي فوائد جزيلة.
فالملكية في إبان صولتها ليست بخير أنظمة الحكم التي تزدهر في ظلها الآداب الرفيعة، أما في عهود عجزها فهي شر مستطير على الفكر والحضارة عامة: فحين ضعفت قبضتها على الدولة العربية تقطعت أوصال المملكة، وتكاثر الملوك والأمراء وتنازعوا وتحاربوا، فكل بلدة (فيها أمير المؤمنين ومنبر)، وظهروا في جلود الأسود منتفخين، وأفقروا البلاد بحروبهم ومغارمهم، وكان منهم الأعاجم الذين لا يقدرون الأدب، فخيب لديهم رجال الشعراء فركد حتى ذلك الضرب من الشعر المملوء بالأماديح والمبالغات، ودخلت الحضارة عامة والآداب خاصة في دور ذلك التدهور الطويل الذي دام قروناً.
فالأدب العربي قد شهد الطورين الأول والثاني من أطوار النظام الحكومي التي تقدم ذكرها في صدر هذه الكلمة: طور الأرستقراطية في الجاهلية، وطور الملكية في الإسلام، فجاء في الطور الأول أكثره حماسي عصبي ممجد للقبائل وأبطالها، وكان قائلوه عادة من الأشراف ذوي المكانة، وظل في الطور الثاني مكفوفاً في حيز الحدود التي رضيتها له الملكية، منصرفاً عن أغراض كثيرة من أغراض الفن السليم، وترعرع الأدب الإنجليزي في الطور(179/25)
الثالث من أنظمة الحكم، طور الديمقراطية، فجاء حر النزعة، متعدد النواحي، واسع الأفق، محتفظاً بسمو الفن وتجرده عن المادة؛ وكان الفرق بينه وبين الأدب العربي، أن الأخير بلغ أشده في ظل الحماية والمنحة، والأول جرى إلى غايته في ظل الحرية والاستقلال.
فخري أبو السعود(179/26)