مأساة من سوفوكليس
4 - أنتيجونى
للأستاذ دريني خشبة
تتمة
- 11 -
الخورس: (مولاي! إن تيريزياس لم ينطق عن هوى قط! لقد أشعلت السنون رأسه بشيب التجارب، وإن هذه لنبوءة. . . إنها لنبوءة!!)
الملك وقد بدا عليه الفزع: (أنا أعرف ذلك! وا أسفاه! لشد ما أزعجتني نبوءة تيريزياس! ولكن. . . ماذا أصنع! إن التقهقر يؤلمني!
- (ما تزال فسحة من الزمن للتبصر يا مولاي!)
- (ماذا أصنع؟ انصحوا لي! سأطيع! سأخضع! انصحوا لي!
- (انطلق من فورك فاستنقذ الفتاة من قبرها، وابن قبرا للقتيل!)
- (أهذه نصيحتكم؛. . . ها. . . ها ها. . . لا. . . لن أستسلم! لن أستخزي!
- (البدار البدار! أسرع ما استطعت! إن السماء نفسها تتجهم. . . إنها تنذرك بلسان الكاهن
- (أواه! أنا مجبر! أنا مغلوب على أمري! أنا ما أستطيع مغالبة القضاء!
- (هلموا الساعة فاصنع كل شيء! بيدك أنت! لا تشرك يداً أخرى!
- (هلموا في إثري يا شعبي العزيز! هاتوا عدتكم! سأبني القبر، وسأحل العقدة التي أحكمت رباطها! لشد ما يضطرب الجزع في حنايا ضلوعي! لماذا حدث عن طريق قومي؟ يا للشجو!!
(يخرج الملك عجلا)
- 12 -
ويردد الخورس عظة الموقف، ثم يدخل رسول فيقول:
- (سلام على جيرة قدموس وأحباء أمفيون! قضي الأمر، فلا سعادة تنفع ولا شقاء يبقى! الجميع سواء! المُلْك! ما الملك! ما هو إن كان موحشاً هكذا! حلَك شديد وظلمة تتدجى!(162/73)
- (ما وراءك يا رسول! أي ضِغْث ناء من جديد بكلكله على هذا البيت؟
- (ماتوا!! وقتلتهم ما يزالون أحياء!
- (من القاتل ومن القتيل، أفصح يا رسول!
- (هايمون! قتل هايمون! انتحر المسكين!! قتله يأسه وأودى به قنوطه، وحزنه على الفتاة التي قتلها أبوه!
- (ويحك يا كاهن طيبة، ما قلت إلا حقا! ويْ! الملكة! إنها قادمة! مسكينة يا أم هايمون! لشد ما تحزنين اليوم
- 13 -
(تدخل الملكة يوريدس)
- (فيم تناجيكم أيها الأعزاء! أحقاً قتل هايمون نفسه؟ لقد سمعتكم تقولون مثل هذا؟! نبئوني! لا تنزعجوا! ليست هذه أولى مصائبي، أحقاً مات ولدي!؟ تكلموا!!
- الرسول: (أيتها الملكة! سأقص عليك كل شيء، لقد شهدت المأساة بنفسي! كلنا سواء في الحزن وشركاء في الأسى! لقد ذهبت في إثر الملك إلى بطحاء طيبة حيث جثمان بولينيسيز، وحيث عمل الملك بيديه في حفر مقبرة لبقايا القتيل التي أبقت عليها عقبان الجو وذؤبان الفلاة. . . ثم انثنينا إلى القبو المظلم الفظيع الذي أمر بأنتيجونى أن تموت فيه. . . وما كدنا نقترب حتى سمعنا نشيجاً مؤلماً وأنيناً مفزعاً. . . ثم إذا صرخة داوية تتردد في حنايا القبو. . . وامرنا الملك أن نتقدم حين أدرك أن الصوت صوت هايمون. . . تقدمنا أيتها الملكة! وا حزناه! لقد بلغنا أقصى زاوية في القبو! يا للهول؟ أنتيجونى؟! مسكينة! لقد شنقت الفتاة نفسها بغُلالةٍ حريرية في سقف القبو!! وركع هايمون على ركبتيه. . . بجانبها. . . وأخذ يعانقها. . . ويبكي. . . وينعى حظه. . . ويبث شكواه! وكان يندب حبه بكلمات مُئنّة تقطّع نياط القلوب!. . . وكلمه أبوه. . . ولكن حدجه بنظرات غائرة، ثم انتزع سيفه وجعل زُجه إلى أرض القبو، وسِنَّه في صدره، واتكأ المسكين بكلكله عليه، فبرز الجراز يلمع من ظهره. . . وسقط قليلاً على الثرى، وظل ذراعه الضعيف الواني ملتفاً حول خصر أنتيجونى.!! وتدفق الدم مختلطاً بتراب القبو. . . وذهبت روحه البريئة محوطة بأرواح الآلهة إلى هيدز!!)(162/74)
(تخرج الملكة كالمجنونة لا تلوي على شيء)
- 14 -
- (ماذا تستنتج من هذا؟ لقد انطلقت الملكة دون أن تنبس ببنت شفة؟!
- عجيب حقاً!! ربما كرثها الخطب، فهي ذاهبة تجمع له وصيفاتها ثم يبكي الجميع شباب هايمون!
- (. . . أ. . . الملك!. . . الملك قادم. . . ماذا يحمل؟. . . وي؟ إن الحزن كاد يصعقه!!
(يدخل كريون حاملا جثمان هايمون)
- (ويل لي من قتيل قاتل! ويل لي مما جنيت على نفسي! يا رحمتا لك يا ولدي! ويح لك يا هايمون! أنا قاتلك فاعف عني! اصفح عن والدك يا هايمون! آه!. . . أه. . .!
الخورس: (مسكين! يندم الآن ولات حين مندم! انبلج الحق لعينيه. . . ولكن. . . بعد أن لم يكن شيء!
الملك: (وا أسفاه عليك يا ولدي! الساعة فقط ألمس أخطائي! لكأنما كان القدر يعصب عيني!!)
(يدخل رسول ثان)
- (مولاي! أنت هنا تبكي ولدك. . . وفي القصر. . . بكاء جديد يا مولاي؟!
- (بكاء جديد ماذا؟ ماذا تخبأ لي الأقدار بعد هذا؟
- (الملكة يا مولاي. . . الملكة. . .
- (الملكة؟. . .
- (إي. . . ماتت!
- (ماتت! وا حربا لي آه يا برزخ الموت لم يجرف تيارك قطع نفسي؟ وأنت يا رسول الشؤم! لقد قتلتني مرة أخرى! ألا حدث أيها الرسول! أهي مضرجة بدمائها مثل هذا. . .
(ترفع ستار عن جثة الملكة فتبدو للعيان)
- (وا حسرتاه على ما قدمت! بكاء جديد وشجو آخر، أي خطوب أنكى تتربص بي أيضاً؟ آه يا ولدي الحبيب. . . ويح لك. . . ولأمك. . . أمك التاعسة. . .!)
الرسول: (لقد كانت تصلي للآلهة أمام المذبح، وكانت أيضاً تبكي ولديها ميجاريوس(162/75)
وهايمون قبل أن تطعن نفسها بخنجرها)
الملك: (ألا من يطعنني أنا الآخر بخنجر ذي شعبتين، فلا يبقي ولا يذر!. . . وا حزناه!. . .
الرسول: (لقد طعنت نفسها بعد أن انطلقت من هنا وبعد أن سمعت بانتحار هايمون!
الملك: (أنا القاتل يا رفاق! أعترف! أنا القاتل! لقد قتلتهم جميعاً. . . اقبضوا علي!
مرحبا بالموت! مرحبا به من منقذ! لن أعيش ليوم آخر، لن تشرقي على يا ذكاء مرة أخرى
الخورس: (الزمن كفيل بكل شيء! والقدر يبرم نهايته!)
الملك: (لقد صليت صلاتي وأودعتها كل أماني!)
الخورس: (وماذا تجدي الصلاة؟ إنها لا تدفع حشرجة المحتضر!)
الملك: (هلموا بي! هلموا بالرجل المتجبر الذي قتل ولده. وقضى على. . . زوجه!. . . إن الدنيا بأجمعها تَهاوى فوق رأسي حجراً حجراً! يا للمقادير! يا لشجوي!. . .)
الخورس: (العمل الصالح طريق السعادة الممهد! وطاعة السماء فرض قدسي! الكبرياء تحطم الكبرياء! والخيلاء تورث الشقاء. . . والسعيد من اتعظ)
دريني خشبة(162/76)
البريد الأدبي
عطف المسلمين على منكوبي فلسطين
كان من أثر ما نشرته (الرسالة) من الوصف الناطق لمآسي فلسطين الدامية أن دفعت الأريحية العربية إخواننا في (تلمسان) إلى أن يؤلفوا جمعية لإعانة منكوبي فلسطين، فجمعت في أول اجتماع ألفا وخمسين فرنكا فرنسيا؛ أرسلت بها تحويلا إلى إدارة الرسالة على بنك الكريدي ليونيه في باريس. وقال الفاضل السيد المختار الصبان أحد أعضاء هذه الجمعية في كتابه إلينا: (وقد اقتضى نظر اللجنة المكلفة بجمع الإعانات في (تلمسان) أن يُبعث هذا المبلغ بأسمكم، راجين من فضلكم أن تبلغوه أنتم من هناك إلى من هو قائم بقبض الإعانات وتلقيها بفلسطين. وهذا مبلغ أول اجتمع بيننا، وسنوافيكم بعده إن شاء الله بكل ما يجتمع لدينا، لأننا مازلنا فاتحين باب الإعانة ودائبين في العمل. . .)
و (الرسالة) باسم فلسطين تشكر لأهل تلمسان أريحيتهم، ويسرها أن تكون واسطة خير بين إحسانهم وبين لجنة الإعانة
مسألة الأجناس
وجهت مجلة (النوفيل لترير) الباريزية إلى طائفة من أكابر الأخصائيين الفرنسيين في علوم الأجناس البشرية (البيولوجيا والانتروبولوجيا) عدة أسئلة تثيرها اليوم مسألة الأجناس في أوربا؛ وأخصها ما يأتي: (1) ما هو مبلغ نظرية جوبينو عن مزايا نقاء الأجناس أو تمازجها من الصحة؟ وهل يمكن أن تعتبر من الوجهة العلمية من عوامل التأثير في الحياة العقلية والمادية للأمم؟ (2) هل يمكن أن يعتبر وجود الأجناس النقية المنعزلة في عصرنا حقيقة بيولوجية؟ أم هل تقتصر هذه الحقيقة على بعض الميول العقلية والمصطنعة التي تتأثر بها اليوم بعض الأمم؟
وقد أجاب على أسئلة المجلة الباريزية عدة من أكابر العلماء منهم الأستاذ ريبو أستاذ البيولوجيا في كلية العلوم الباريزية، والمسيو رفيير مدير متحف الأنتروبولوجيا، والدكتور فرنو أستاذ الأنتروبولوجيا في معهد باريس. وتتلخص أجوبة هؤلاء العلماء فيما يأتي:
(1) إن الأجناس أو السلالات النقية نادرة الوجود في عصرنا حتى في أعرق الأمم حضارة، ولا يوجد أي نموذج منها في أوربا. وهي من الوجهة النظرية يجب أن تكون(162/77)
وحدات بيولوجية. ولكن الواقع أن الجماعات التي تزعم أنها قد احتفظت بنقاء الجنس لا تقوم إلا على المصلحة المشتركة، ولا تجمعها سوى ميول عقلية أو مصطنعة، وهذه ليست سوى عواطف يستغلها القادة في الجمهور الساذج
(2) إن امتزاج الأجناس الرفيعة بالأجناس المنحطة لا ينتج دائماً من الآثار السيئة ما يقول بعض العلماء؛ فقد ثبت من المشاهدات البيولوجية الحديثة أن هذا الامتزاج ينتج أحياناً نماذج جنسية بديعة. مثال ذلك امتزاج الأسبان والبرتغاليين بالهنود في البرازيل، فقد أنتج في بعض الأقاليم جنساً خلاسياً هو أذكى وأنشط وحدات الشعب البرازيلي
وقد أنتج امتزاج المستعمرين الهولنديين في جنوب أفريقية بالهوتنتوت شعباً ذكياً قوياً من الوجهة الحيوية
ويلاحظ الأطباء الفرنسيون أن امتزاج الفرنسيين بالهند الصينيين ينتج نسلاً بديعاً خصباً
وقد لاحظ رحالة إنكليزي كبير أن امتزاج السود بالبيض في الجزر الجنوبية في المحيط الهندي ينتج نسلاً جميل التكوين وافر الذكاء؛ وقد لاحظ بنوع خاص أن النساء الخلاسيات في هذه الجزر يتمتعن بجمال في الوجه والجسم يندر أن يوجد في كثير من الأجناس الأوربية
والخلاصة أن آراء أولئك العلماء تكاد تتفق على نقطة جوهرية هي أن نظرية نقاء الأجناس لا تقوم من الوجهة العلمية على أسس صحيحة
رواية عن مصر الفرعونية
كان أول من أتخذ أساطير مصر الفرعونية وتاريخها موضوعا للقصة العصرية الكاتب والرحالة الألماني الشهير جورج إيبرس، فقد أخرج لنا عن مصر الفرعونية عدة قصص امتازت بحسن السبك والخيال؛ ولم تكن المباحث الأثرية الفرعونية قد تقدمت في عصر ايبرس، أعني منذ نحو قرن تقدماً يذكر، وقد أثارت الاكتشافات الأثرية الأخيرة في تراث مصر القديمة اهتماماً كبيراً، وألفى فيها جماعة من الكتاب من مختلف الأمم مادة حسنة للقصة الممتعة. ومن هذه القصص التي ترجع بنا إلى الماضي الغابر، قصة صدرت أخيراً بقلم الكاتب الإنكليزي جاك لندسي عنوانها (جولات وينامين) وهي قصة تدور حوادثها على أواخر عصر طيبة حينما أشرفت مصر على هاوية الفوضى والحرب الأهلية، وبطلها(162/78)
موظف حكومي يدعى وينامين أوفده الكاهن الأكبر (آمين) إلى لبنان ليشتري خشباً من الصندل ليصنع منه قارب مقدس، ويصف المؤلف أحوال مصر المضطربة خلال الرحلة وما يلاقيه وينامين من الأحداث والمفاجآت الخطرة، ويصف بالأخص ظروف الحياة في طيبة القديمة، ويقارنها بالحياة في مصر الشمالية (الدلتا)، ويبدي مستر لندسي براعة خاصة في تنسيق الحوادث التاريخية وسبكها في قالب القصة المبتكرة دون أن يجني على روحها أو صبغتها التاريخية، وهذه مقدرة تشهد له بالتوفيق في فهم روح مصر الفرعونية كما يجب أن يفهمها قصصي يحاول أن يعرض الحقيقة في ثوب الخيال. ويرى بعض النقدة أن مستر لندسي هو أول قصصي إنكليزي استطاع منذ تشارلس كنجسلي مؤلف (هيباسيا) التي تدور حوادثها على العصر اليوناني في مصر أن يقدم عن مصر القديمة رواية جديرة بالتقدير الأدبي
رحلة في بلاد العرب
الآنسة فرييا ستارك رحالة إنكليزية تجولت كثيرا في الجزء الجنوبي من بلاد العرب. وقد أصدرت أخيراً كتاباً عن بعض رحلاتها عنوانه (أبواب جزيرة العرب الجنوبية وفيه تصف رحلتها في حضرموت، التي اخترقتها وحيدة في غمر من الصعاب والمشاق الهائلة. وقد كانت حضرموت منذ الأزمان الغابرة أعظم مركز لتجارة (البخور) والعطور الدينية التي لبثت مراكز إنتاجها قروناً في معزل عن العالم ولاسيما أوربا؛ وقد استطاعت الآنسة ستارك أن تنفذ إلى هذه المراكز وأن تتجول فيها؛ وفي كتابها نحو مائة صورة التقطتها بنفسها تمثل كثيراً من المناظر المدهشة عن طبيعة هذه البلاد وسكانها
ذكرى مؤلف المارسييز
احتفل أخيراً في أنحاء فرنسا بذكرى مؤلف النشيد القومي (المارسييز)، روجيه دي ليل لمناسبة مرور مائة عام على وفاته ونظم الاحتفال الرئيسي في مدينة ستراسبورج مسقط رأس المحتفل بذكراه، وألقيت الخطب الرسمية تنويهاً بروعة النشيد القومي وعظمة واضعه. وكان روجيه دي ليل ضابطاً في جيش الثورة، وكان شاعراً بفطرته، فوفق إلى وضع هذا النشيد الذي مازال منذ نحو قرن ونصف قرن يثير ضرام الحماسة القومية في(162/79)
فرنسا كلما هبت عليها الأزمات أو قرع نذير الحرب؛ وقد وضع روجيه دي ليل نشيده لجيش الرين الذي كان ينتمي إليه، ولكن جماعة من المتطوعة المرسيليين (أهل مرسيليا) نقلوا هذا النشيد وأذاعوه في أنحاء فرنسا، فسمي نشيد المارسييز منذ أيام الثورة إلى يومنا، ومازال هذا النشيد القومي الفرنسي يعتبر من أروع الأناشيد القومية؛ وقد وصفه الكاتب الإنكليزي الكبير توماس كارليل بأنه أسعد تركيب موسيقي، وأعظم غذاء للعزة والحماسة
وفاة كاتب ألماني كبير
توفي في باريس أخيراً كاتب سياسي ألماني كبير هو جورج برنهارت محرر جريدة (باريز - تسيتونج) التي تصدر بالألمانية في باريس. وكان برنهارت قبل قيام الحكومة الهتلرية عضواً في مجلس الريخستاج (البرلمان)، وكان ديمقراطياً متطرفاً، فلما قامت حكومة النازي هرع إلى المنفى فيمن هرع من أكابر الكتاب والساسة اتقاء لبطش طغاة ألمانيا الجدد؛ ووقف قلمه على محاربة الدعوة النازية في الخارج؛ وكان يكتب بالفرنسية في بعض المجلات والصحف الباريزية بمثل براعته في اللغة الألمانية
ومعظم أقطاب الكتاب الألمان يعيشون اليوم في المنفى وعلى رأسهم توماس مان، وأخوه هنريش مان، وأميل لودفيج، وليونارد فرنك، وغيرهم. ومنهم من غادر ألمانيا بسبب يهوديته مثل لودفيج؛ بيد أن معظمهم غادرها لأسباب سياسية، ولأن الحكومة الجديدة لا تسمح بذرة من الحرية للكتاب أو المفكرين
وهكذا يموت أكابر الكتاب الألماني في المنفى تباعاً لأنهم لا يستطيعون أن يتنفسوا في وطنهم(162/80)
الكتب
سعد زغلول
سيرة وتحية
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
بقلم الأديب عبد الرحمن صدقي
آية هذا الكتاب أن اجتمعت له خصال ثلاث تجعله في عداد كتب السيرة المشهود لها لأعلام المترجمين، وتلك الخصال هي: التحقيق التاريخ، والتحليل النفساني، والتأثير العاطفي
يقول العقاد في كلمة التمهيد لترجمته: (إن الصديق والمؤرخ في الكتابة عن رجل كسعد زغلول يستويان أو يتقاربان، لأن الصديق لن يقول فيه ما ينكره المؤرخ، والمؤرخ لن يقول فيه ما ينكره الصديق. ومن النقص في جلاء الحقيقة أن يكتب المؤرخ ترجمة لعظيم ثم لا يكون على مودة لذلك العظيم. ولأن يكون الكاتب مؤرخاً وصديقاً خيرٌ للتاريخ نفسه من أن يكون مؤرخا وكفى، لأن الترجمة فهم حياة، وفهم الحياة لا يتسق لك بغير عطف ومساجلة شعور)
ولما كان الاستقصاء في طبيعة مؤلفنا الكبير، فقد ابتدأ موضوعه من البداية، فتناول (الطبيعة المصرية) بالبحث الضافي، وعرض لمحك النقد أقوال المؤرخين فيها من أقدم عصور التاريخ، وأخذ باطل المبطلين منهم بالتفنيد المدعم بالأسباب والأسانيد. ثم أبان في فصل آخر عن وجه الحقيقة فيها بما لا يدع بعده زيادة لمستزيد
وانتقل إلى أصل المترجم له، فلم يسكت عن تلميح البعض إلى نسبته إلى غير الأرومة المصرية، ومن هؤلاء من يرد أعراقه إلى المغول والترك، وآخرون إلى البدو أو عرب المغرب، ولقد سرد المؤلف مثار الشبهات عند أولئك المتقولين ليعيد فيها النظر على ضوء علم الأجناس، ثم باستقراء ما هو معروف من طريق القبائل العربية النازحة، فانكشف لمرأى العين ضعفها وصرف عنها الأذهان مقررا أن عراقة سعد في بيئة الفلاح المصري لا تفوقها عراقة زعيم من أبناء الأمم الأخرى(162/81)
ثم يجيء الكلام عن جيل سعد وطابعه المميز من طلب الإصلاح والدعوة له والغيرة عليه، وبيان الدوافع لهذه الحركة الإصلاحية من الداخل والخارج، وما كان لهذا الجيل من شأن في نشأة سعد واتجاه همته، وصفة أعماله في مستقبل أيامه، ومن هذا الوصيد الكريم، يتطرق القارئ إلى حمى البيت القديم، ويتعرف إلى جد زغلول وأبويه وقرابته وطبائع قومه وأسرته، ومظاهر الحياة في بلدته، وإذا بك بعدها ترى سعداً في مدارج طفولته، وتتوسم مخايل نجابته، وتتتبع خطواته من مكتب القرية، إلى الجامع الدسوقي، إلى حلقات معهد الأزهر الكبير
وفي هذه القاهرة المعزية، اندمج الفتى سعد في حركة دعاة الإصلاح وألقى بسهمه مع سهامهم، وكان يحضر الدرس على الشيخ محمد عبده، ويختلف إلى مجلس السيد جمال الدين الأفغاني؛ وكان الأول أستاذاً له في الدرس وقدوة في الخلق، وأما لقاؤه للثاني بطبيعته الثورية فكان مرآة مجلوة لنفسه الجائشة وحافزاً لملكاته البيانية والخطابية
ومن ذلك الحين يصح الجزم بأن سعداً قد أتجه فعلاً إلى وجهته، واستقام على متن طريقه المقدورة له
ويتسع الأفق فإذا الثورة العرابية ومقاديرها ومعقباتها من نفي وتشريد وحبس. وتشاء العناية لسعد أن تقوم على خدمته ظروف وملابسات، فيفرج عنه على كره من أولياء الأمر. ولا يلبث طويلاً حتى يشق طريقه من المحاماة إلى منصة القضاء، ثم تحمله رغبة الحاكمين في إرضاء القومية المصرية وقتئذ إلى دست الوزارة
هنا تزخر حياة هذا الرجل بالأحداث، ويظهر أنه المدخور لنهضة وطنية عارمة تعم البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وتؤلبها في قوة وإيمان على الغاصبين. ويمضي المؤلف في تاريخه الضخم يصورها أروع تصوير، ويدفع عنها المغالطة والنكير، في فصول حافلة طوال: في طريق الوزارة، سنة 1906، وزارة المعارف ووزارة الحقانية، سعد الوزير، الحركة الدستورية، الوزير المصري في المعاش، في ميدان الانتخاب، الجمعية التشريعية في خمسة أشهر، قبيل الحرب، الحرب العظمى، تأليف الوفد المصري، بدء العمل، القارعة، الثورة، من القاهرة إلى مالطة إلى باريس، تأليف الوفد الأول، موقف الوزارة الرشدية، برنامج الوفد والامتيازات، الوفد في أوربا، من سفر الوفد إلى لجنة ملنر،(162/82)
المفاوضة في لندن، في مصر أثناء المفاوضة، بعد عودة الأعضاء، الوزارة العدلية، العودة، الخلاف على المفاوضة، القطيعة بين سعد والوزارة، فضل المفاوضات الرسمية، النفي، تصريح 28 فبراير، من المنفى إلى الوزارة، في رآسة الوزارة، الملك فؤاد وسعد، من رآسة الوزارة إلى رآسة النواب، في رياسة مجلس النواب
وهذه الفصول الطوال تنتظم التاريخ المعاصر كله لمصر الحديثة في صور حية رائعة تتعاقب على أنظارنا وكأنما كاتبها لا يخط أحرفاً وإنما يرسم تهاويل مجسمة كالتي اشتهر برسمها على جدران المعابد شيخ الرسامين ميشيل انجيلو. على أنه يتخللها هنا وهناك مواقف شتى يقف فيها الفنان موقف المحلل الشارح، كما يلبس أحياناً رداء المدره المنافح
ويختتم المؤلف كتابه كما استهله بفصول دقيقة عميقة لا تتاح لغيره عن زعامة سعد وأثرها، وعن سعد وخصومه، وعن شخصيته وأخلاقه، وعن ثقافته. ويبلغ العقاد منتهى حنو العاطفة في كلامه عن سعد في بيته، ومبلغ حدبه على أهله، وكيف كانت السيدة الجليلة أم المصريين بنفسها المحبة وفطنتها الألمعية وقلبها الكبير، شريكته بحق في حياته ومجده. وكذلك يعرض عليك المؤلف الناحية اللينة إلى جانب الناحية الصلبة في وصفه للقاء الأول واللقاء الأخير. وأما كلمته عن فاجعة الوفاة فإنها في عبارتها الصادقة المؤثرة يطالعها القارئ فيغلبه التأثر مهما يكن جلده، فإذا هو لا يملك وجده، وإذا الدمع يخنقه والزفرة تكظ صدره ثم لا تبرح ذهنه هذه الصورة آخر العمر:
(ثم ضعف النبض دفعة واحدة، بعد انتظامه في جميع الأدوار الماضية، فغلب اليأس على الرجاء. وعاده الأطباء للمرة الأخيرة في التاسعة والدقيقة الخامسة والأربعين، ونزلوا إلى المكتب لكتابة تقريرهم الأخير. وإنهم لكذلك، إذ دعي فتح الله بركات باشا إلى غرفة خاله وهو يجود بنفسه في غيبوبة لم تنقطع منذ الصباح. فاشرأبت الأعناق وأمسك الناس أنفاسهم يترقبون. وما هي إلا دقائق معدودات حتى عاد فتح الله باشا إلى المكتب يمشي كالشيخ الهائم شاحب الوجه مذهول العينين. ولم يجرؤ أحدٌ على سؤاله مخافة أن يكون الجواب المحذور. ولكنهم علّقوا أنظارهم جميعاً بعينيه ولبثوا شاخصين ينتظرون. دقيقة واحدة أو دقيقتين، ولكنهما كانتا من أزمان الأبد في روع الشاخصين المنتظرين. وفي تلك اللحظة ارتفع صوت ناحب عند الشرفة المطلة على المكتب، فضرب فتح الله باشا يديه(162/83)
على ركبتيه، وجلس وهو في جمود الأموات. . . . . . ومضت ثوانٍ أخرى. مضت والناس في سكون عميق مرهوب، وكان كل ما في بيت الأمة، وكل ما حوله على أعمق ما يكون السكون، لا صدى في المنزل ولا في الطريق طوال اليومين الماضيين، حذراً من إزعاج المريض العظيم المأمول الشفاء. فلما ارتفع الصوت الناحب وجم الحاضرون ثواني قلائل، كأنما كانوا يستطيلون الأمل المدبر، أو كأنما كانوا بين تصديق وتكذيب. ثم انفجروا صيحة واحدة بالنشيج والعجيج، فلم يكن أرهب من ذلك السكون إلا هذا الضجيج الذي اتصل صداه في لحظات معدودات بكل مكان في القاهرة، وكل مكان في أرجاء البلاد. .)
ولو أرخينا العنان لإعجابنا لأوردنا الكتاب كله شاهداً على فضل كاتبه في كل ما سطره فيه، وتبريزه في نواحيه المتعددة، وبلوغه الغاية من الفن والوفاء والصدق
ولكننا نقتضب، فنقول إن جملة القول في كتاب سعد زغلول للعقاد إنه أعظم نَصَبِ أقيم للبطل العظيم الراحل
عبد الرحمن صدقي(162/84)
العدد 163 - بتاريخ: 17 - 08 - 1936(/)
الأخلاق المحاربة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وحدثني صاحب سرّ (م) باشا بهذا الحديث قال: كنا في ثورة سنة 1919 سنة الهزَاهِز والفتن، وقد تفاقمت الثورة وأخذ الشباب يعمل ويفكر فيما يستطيع أن يعمل وما يجب أن يعمل؛ وكان السّخط العام هو ميراث الوقت، فكانت قلوب الشعب تلهم واجباتها إلهاماً إذ لم يكن في هذه القلوب كلها إلا لذعة الدم تعين اتجاه أعمالها وتحددّه.
كانت الثورة زلزلةً وقعت في التاريخ فجاءت تحت زمن راكد لا يتغير إلا بأن ينسف، ولا ينسفه إلا مادة إلهية كالحركة الكونية التي تخرج اليوم الجديد من اليوم القديم؛ فكان القدر يعمل بأيدي الإنجليز عملاً مصرياً ويعمل بأيدي المصريين عملاً آخر. وتعلم الشعب من دفن شهدائه كيف يستنبت الدم فينبت الحرية، وكيف يزرع الدمع فيخرج منه العزم، وكيف يستثمر الحزن فيثمر له المجد.
وكان رصاص الإنجليز يصيب هدفين معاً، فيصرع شهداءنا، ويقتل الموت السياسي الذي احتلّ معهم هذه البلاد. وقد أنعموا على الشعب بالصدمة الأولى فنشبت المعركة التي تقاتل فيها الأخلاق القومية لتنتصر؛ وشعرت مصر في جهادها بأنها مصر فالتمس روحها التاريخيّ رمزه العظيم في الأمة ليظهر فيه عاتياً جباراً؛ فكان هذا الرمز الجليل العظيم هو سعد زغلول.
قال صاحب السر: وكان الطلبة قد غدوا من أول النهار يتظاهرون، وقد جعلتهم الثورة كالأرواح تخلّصت من الموت بالموت فلا تخشاه ولا تبالي به، واستقلّت عن العقل بتحولها إلى شعور محص، وخرجت عن القوانين كلها إلا القانون الخفي الذي لا يعلم ما هو.
كانوا في معاني قلوبهم لا في غيرها، فلست تراهم إلا عظماء في عظمة المبدأ الذي ينتصرون له، أقوياء في قوة الإيمان الذي يعملون به، أجلاء في جلال الوطن الذي يحيون ويموتون في سبيله. وكانوا في الشعب هم خيال الأمة العامل المدرك، وشعورها الحي المتوثب، وقواها البارزة من أعماقها، وأملها الزاحف ليقهر الصّعوبة. يُفَادُون بأنفسهم الغالية، ويؤثرون عليها، وليس في أحدٍ منهم ذاته ولا أغراض شخصه. فما أجلَّ وما أعظم! وما أروع وما أسمى! أيتها الحياة! هل فيك أشرف من هذه الحقيقة إلا حقيقة النبوَّة؟(163/1)
قال: وكان أخي هو زعيم هؤلاء الطلبة في مدنيتنا؛ قويٌّ على الزَّعامة وفيٌّ بها، يحمل قلباً كالجمرة الملتهبة وله صوت بعيد تحسب الرعد يُقَعْقع به. إذا مشى في جهاده كان كل ما على الأرض تراباً تحت قدميه فلا يمشي إلا محتقراً هذه الدنيا وما فيها، غير مقدّس منها إلا دينه ووطنه. وسلاحه أن كل شيء فيه هو سلاح على الظلم وضد الظلم.
وكان في ذلك اليوم يقود (المظاهرة) وحوله جماعة من خالصته وصفوة إخوانه يمشون في الطليعة تحت جو متَّقد كأن فيه غضب الشباب، عنيفٍ كأنما امتزج به السخط الذي يفورون به، رهيب كأنه مُتهيئ لينفجر فلما بلغوا موضعاً من الطريق ينعطفون عنده انصبَّ عليهم المدفع الرشاش. . . .
قال: فإني لجالس بعد ذلك في الديوان إذ دخل علي أخي هذا ينتفض غضباً كأن المعاني تنبعث من جسده لتقاتل، ورأيت له عينين ينظر الناظر فيهما إلى النار التي في قلبه، فخشيت أن يكون القوم أطلقوا عليهم الجنون والرصاص معاً.
واستنبأته خبر أصحابه فقال: إن الذين كانوا حوله وقعوا يتشَحَّطون في دمائهم فوقف هو شاخصاً إليهم كأنه ميت معهم وقد أحسَّ كأنما خلع عن جسمه نواميس الطبيعة فلا يعرف ما هي الحياة ولا ما هو الموت. وكان الرصاص يتطاير من حوله كأن أرواح الشهداء تتلقاه وتبعثره كيلا يناله بسوء. قال: وما أَنس لا أنس ما رأيته في تلك الساعة بين الدنيا والآخرة؛ فلقد رأيت بعيني رأسي الدم المصري يسلّم على الدم المصري ويسعى إليه فيعانقه عناق الأحباب.
ثم قال: أين هذا الباشا وما باله لم يصنع شيئاً في الاحتياط لهذه الفَوْرة؟ يكاد الخزي والله يكون في هذه الوظائف على مقدار المرتب. . . .
قال صاحب السرّ: ولم يتم كلمته حتى خرج علينا الباشا متكسر الوجه من الحزن وقد تغرغرت عيناه فأخذ بيد أخي إلى غرفته وتبعتهما قم قال: هَوْناً ما يا بني، إن العلة فيكم أنتم يا شباب الأمة، فكل ما ابتلينا أو نُبتلى به هو مما يستدعيه خمولكم وتستوجبه أخلاقكم المتخاذلة. إننا من غيركم كالمدافع الفارغة من ذخيرتها لا تصلح إلا شكلا، وبهذه العلة كان عندنا شكل الحكومة لا الحكومة.
أتدري يا فتى ما هي الحكومة الصحيحة في مثل حالتنا؟ هي أن تحكموا أنتم في الشعب(163/2)
حكومة أخلاقية نافذة القانون فتضبطوا أخلاق النساء والرجال وتردّوها كلها أخلاقاً محاربةً لا تعرف إلا الجد والكرامة وصرامة الحق، وإلا فكما تكونون يُوَلىَّ عليكم. . . .
هذا وحده هو الذي يعيد الأجانب إلى رشدهم وإلى الحقيقة، فما أراهم يعاملوننا إلا كأننا ثياب معلقة ليس فيها لابسوها. . .
كيف يتصعلك المصري للأجنبي لو أن في المصري حقيقة القوة النفسية؟ أترى بارجة حربية تتصعلك لزورق صيد جاء يرتزق؟
إن في بلادنا المسكينة الأجانب، وأموال الأجانب، وغطرسة الأجانب، لا لأن فيها الاحتلال، كلا، بل لأن فيها ضعف أهلها وغفلة أهلها وكرم أهلها. . . . بعض هذا يا بني شبيه ببعض، وإلا فما هو كرم الشاة الضعيفة إلا لذة لحمها. .؟
نريد لهذا الشعب طبيعة جدية صارمة ينظر من خلالها إلى الحياة فيستشعر ذاته التاريخية المجيدة فيعمل في الحياة بقوانينها. وهذا شعور لا تحدثه إلا طبيعة الأخلاق الاجتماعية القوية التي لا تتساهل من ضعف، ولا تتسمح من كذب، ولا تترخص من غفلة. والحقيقة في الحياة كالحقيقة في المنطق إذا لم يصدق البرهان على كل حالاتها، لم يصدق على حالة من حالاتها. فإذا كنا ضعفاء كرماء، أعزاء، سادة على التاريخ القديم، فنحن ضعفاء فقط. . .
إن الكبراء في الشرق كله لا يصلحون إلا للرأي، فلا تسوموهم غير هذا، فهم قد تلقوا الدرس من أغلاطهم الكثيرة، وبهذا لن تفلح حكومة سياسية في الشرق الناهض ما لم يكن شبابها حكومة أخلاقية يُمدُّها من نفسه ومن الشعب في كل حادثة بالأخلاق المحاربة.
يا بني إن القوي لو اتفق مع الضعيف على كلمة واحدة لا تتغير لكان معناها للأقوى أكثر مما هو للأضعف. فإن هذا القوي الذي يعمل مع الضعيف يكون فيه دائماً شخص آخر مختف هو القوي الذي يعمل مع نفسه.
هكذا هي السياسة؛ أما في الإنسانية فلا، إذ يكون الحق دائماً بين الاثنين أقوى من الاثنين.
(سيدي بشر. إسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي(163/3)
من ذكريات الحداثة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان ذلك في (العيد الكبير) - كما كنا نسمي (عيد الأضحى) - وكنا يومئذ تلاميذ في مدرسة ثانوية، ومساكننا بعضها قريب من بعض، فنحن لهذا أصدقاء وإخوان. فاقترح أحدنا في صباح يوم أغبر أن نذهب في ليلتنا تلك إلى (دار التمثيل العربي) - أو تياترو الشيخ سلامة حجازي كما كنا ندعوه - لنشهد رواية (روميو وجوليت) فاعترضت على ذلك وقلت: إنه يكلفنا نفقة لا قِبَلَ لنا بها، فقد كان الواحد منا يأخذ في اليوم من أبيه أو ولي أمره قرشاً في اليوم، وكنا كثيراً ما نعجز عن إنفاق القرش كله لأنا لم نكن نجلس على (القهاوي) ولا كنا ندخن أو نشرب خمراً، ولم تكن السينما قد ظهرت في تلك الأيام، فكان يتفق أن يبقى مع كل منا في آخر الأسبوع بضعة قروش - اثنان أو ثلاثة، أو أربعة في بعض الأحيان - فنفرح، ونركب النيل بزورق، بضع ساعات. ولكن هذه القروش القليلة لا تكفي للذهاب إلى مسرح الشيخ سلامة، فما العمل؟؟ وأصر الإخوان على ذلك وقال قائلهم: أمامنا النهار كله، فلنحتل وليدبر كل منا أمره. فخجلت أن أقول إني عاجز عن الاحتيال والتدبير، ومضيت عنهم ببال كاسف وقلب حزين.
ورأتني أمي وكانت هي أبي وأمي - فقالت (مالك؟) ولم أكن أستطيع أن أكذبها أو أكتمها شيئاً إذا سألتني، فقلت: (إن زملائي قد اتفقوا على الذهاب في هذه الليلة إلى تياترو الشيخ سلامة، وليس معي ما يكفي لذلك، فأنا لهذا مهموم مكروب).
قالت: (كم معك؟).
قلت: (ثلاثة قروش ومليمان).
قالت: (وكم تريد؟).
قلت: (ريال).
قالت: (أما ريال فلا. . . اذهب إليهم وأنبئهم أنك لست معهم).
قلت: (ولكنني أريد أن أذهب).
قالت: (لا شك. . . ولو كان معي فضل مال لأعطيتك منه، ولكن كل ما عندي - على قلته - لازم لمطالب البيت إلى آخر الشهر، ولن يستطيع أحد منا صبراً على الجوع، فاذهب(163/5)
وافعل ما أشرت عليك به).
فتركتها وزاد كربي وثقل همي، وفتحت الباب ووقفت على رأس السلم أفكر فيما أقول لأصحابي، وأنا مطرق ويدي على الدرابزين، وكانت عندنا فتاة صغيرة في مثل سني، تخدمنا، فخرجت ورائي ثم قالت لي:
(ما لك يا سيدي؟).
قلت: (لا شيء!). وأشرت لها بيدي أن تدخل.
قالت: (ولكنك مطرق. . . .).
قلت: (ولم لا أطرق إذا شئت؟؟ هل هذا ممنوع؟).
قالت: (لا. . . ولكنك مكتئب!).
قلت: (ربما. . . .).
قالت: (يعز عليَّ أن أراك هكذا. . . .).
قلت: (أشكرك).
قالت: (ألا تخبرني ماذا بك؟).
قلت: (لا شيء!).
وماذا بالله أقول لها؟؟ إنها خادمة، فكيف أطلعها على سري؟؟ وصحيح أنها رُبّيت في بيتنا - معي - وأنا جميعاً ننظر إليها كأنها واحدة منا، ولكني لم أعتد أن أرفع الكلفة بيني وبينها على الرغم من ذلك. فلم يسعني إلا أن انحدر وأتركها.
ولكني لم أقل لإخواني شيئاً، واكتفيت بأن أجلس على كرسي أمام الباب وأنا أقول لنفسي: (من الآن إلى العشاء يفرجها ربك. . . ولست أعرف لي الآن عذراً غير الإفلاس أعتذر به لإخواني، ولكن الله قد يفتح عليَّ ويلهمني العذر المقبول).
ولم أفكر قط في وسيلة لتدبير الريال المطلوب، فقد كنت من ذلك على يأس كبير؛ واقتنعت بما قالت لي أمي، فصار همي أن أهتدي إلى عذر يقتنع به الإخوان، ولا أخجل أنا منه. وإني لكذلك وإذا بالفتاة الخادمة تدنو مني وتهمس في أذني أن تعال، فأسألها فتقول: (كلّم) وتسبقني إلى الفناء فالسلم، وأصعد درجات فتستوقفني فألتفت إليها فتمد يدها بريال تضعه في كفي فأعجب وأنظر إليه وإليها وأسألها:(163/6)
(ما هذا؟).
فتقول: (ألست تريد ريالاً؟ هذا هو).
فأقول - وقد زاد عجبي -: (ولكن من أين لك هذا الريال؟).
فتقول: (إنه من مرتبي).
فأسألها: (هل طلبته من أمي؟).
فتقول: (نعم).
فأعود أسألها: (وماذا قلت لها؟؟ لأي شيء طلبته منها؟).
فتقول: (طلبته والسلام).
فأقول: (كلا. . . إن أمك هي التي تقبض مرتبك كل بضعة شهور، ولم يحدث قط أن أخذت أنت شيئاً منه، فكيف رضيت أمي أن تعطيك الريال هذه المرة؟ قولي الحق. . كيف أخذته؟).
فأغضت وقد اتقد وجهها - وكانت بيضاء حسناء - وقالت: (سرقته لك!).
فصحت وقد فزعت: (إيه؟).
قالت: (لا تصح هكذا!! أتريد أن يقتلوني؟).
قلت: (ولكن السرقة؟؟ كيف تجرئين؟).
قالت: (وهل هذه سرقة؟ إنه من مرتبي وسأخبر ستي بعد أن تذهب أنت إلى التياترو).
قلت: (ولكن من أين عرفت أني أريد ريالاً؟).
قالت: (سمعت ستي وستي تتكلمان) - تريد والدتي وجدتي -
قلت: (ثم غافلتهما وسرقت؟ أليس كذلك؟).
قالت وهي مطرقة: (نعم).
قلت: (ولماذا ارتكبت هذا الأثم؟).
قالت: (لم أستطع أن أراك هكذا).
قلت: (شكراً لك. . . ولكن هذا الريال يجب أن يرد إلى مكانه. . . حالاً. . . فمن أين أخذته؟).
فوصفت لي المكان الذي كان فيه. فقلت لها: (يجب أن تعلمي أني لا أريد أن أذهب إلى(163/7)
التياترو، ولو كانت لي رغبة لألححت على أمي، ولأعطتني ما أريد. ثم يجب أن تقسمي ألا تعودي إلى مثل هذا العمل فإنه إثم كبير، وإلا أخبرت ستك، وأنت أدرى بما يكون إذا علمت).
وصعدت قبلي، وعدت أنا والريال معي إلى كرسيّ على الباب أمام البيت، فمر أحد أخواني فناديته وقلت له: إني آسف، وإني لن أكون معهم الليلة، وليس هذا لقلة المال (وأخرجت الريال من جيبي وبسطت به كفي له ليراه، ولكن سبباً آخر يحول دون الذهاب.
ولما تركني صعدت إلى غرفة والدتي، وكانت مشغولة بإعداد الطعام في المطبخ ففتحت خزانة الثياب وهممت بأن أدس الريال حيث كان وإذا بوالدتي إلى جانبي تسألني:
(ما هذا الذي بيدك؟).
فمددت يدي إليها بالريال وقلت وأنا مضطرب والعرق يتصبب: (ريال، كما ترين).
قالت: (ريال؟ أخذته؟).
فلم أدر ماذا أقول؟! أأقول الحق فيحل غضبها بالفتاة المسكينة التي دفعها العطف إلى السرقة؟؟ أم أتهم نفسي وأنا بريء؟! ولم يكن أحد الأمرين أخف على نفسي من الآخر، ففكرت بسرعة، فلم أجد أن في مقدوري أن أشي بالفتاة وأعرضها لنقمة أمي، وأجعل جزاءها هذا السوء على ما أرادت من الإحسان إلي وإن كانت قد أخطأت السبيل.
فقلت: (نعم. . . أخذته من هنا. . . ثم راجعت نفسي، فندمت وقد كنت أريد أن أعيده إلى مكانه. . . فهل تصدقينني).
قالت: (نعم: ضعه حيث كان).
وتركتني.
وفي تلك الليلة، قبل أن أنام، خلت بي أمي وقالت:
(أصدقني. . . أنت لم تأخذ الريال. . . هه؟).
قلت: (عديني أن تصفحي وتغفري وتطوي الأمر فلا تذكريه).
قالت: (لك ذلك).
فقصصت عليها الحكاية، فقالت: (الحمد لله! حسبي أن يقيني فيك قد صدق. . .).
قلت: (والفتاة؟).(163/8)
قالت: (لا تخف أن أخلف وعدي لك. . . ولولا أني أعرفك وأطمئن إليك لما أبقيتها في بيتي ساعة واحدة، وإن كنت لا أطمع أن أظفر بخادمة مثلها في وفائها وحسن قيامها بعملها. . . على كل حال غفرت لها من أجلك. . . قم إلى نومك).
إبراهيم عبد القادر المازني(163/9)
من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
لغة الأحكام والمرافعات
للأستاذ زكي عريبي
- 2 -
خلق الألفاظ والتعبيرات العلمية
وثمة صعوبة أخرى يلقاها المترافع المصري: تلك هي صعوبة العثور على اللفظ اللازم أو التعبير اللازم في المحل اللازم.
قدمنا أن كثيراً من المشتغلين بالقانون في مصر - بل قل غالبيتهم المطلقة - درسوا القانون بلغة أجنبية استجمعت شروط الصلاحية للتعبير عن كل فكرة أنتجها الفقه الحديث. وجميع هؤلاء، محامين كانوا أو وكلاء نيابة أو قضاة، مطلوب منهم أن يصوغوا ما تعلموه بالفرنسية أو الإنكليزية كلاماً عربياً فصيحاً.
دعك من صعوبة التفكير بلغة والكتابة بأخرى، فقد يتغلب عليها من ملك زمام اللغتين كقاضي قضاتنا، يعرض للقاعدة المعروفة أن العقوبة شخصية لا يمكن أن تعدو الجاني إلى غيره فيؤديها بهذا الاقتباس البديع (القاعدة العامة ألا تزر وازرة وزر أخرى). دعك من هذا فقد يثبت المثل المتقدم أن الأمر مما لا يصعب تذليله، وتعال إلى ضرورة إيجاد الألفاظ والتراكيب اللازمة لتأدية معان مشهورة مستقرة في فرنسا وغيرها من بلاد الفقه الحديث.
هنا الصعوبة الكبرى يلقاها المشتغلون بالكتابة القانونية كل يوم. ولا سبيل لقهرها سوى التعريب والاشتقاق.
والأول سهل ميسور على شرط الرضاء بأن تكون لغتنا القضائية شبيهة بالمالطية. ومن ذا الذي يرضى لنفسه الآن أن يقول كما كانوا يقولون في أحكام عثرنا عليها في مجموعة (القضاء) سنة 1887 (ابللو) و (محاكم الريفورمه)؟
لم يتعين إذن سوى طريق الاشتقاق وهو أصعب ما يكون. لا لأن الأمر يتطلب تعمقاً في اللغة وحسن ذوق في الاختيار فحسب، بل لأن اللفظ المشتق كثيراً ما يلتوي معناه على غير ناحيته. هو في حاجة بفرض التوفيق من هذه الناحية إلى مبايعة رجال القانون له(163/10)
واعترافهم به سيداً غير منازع لمعنى خاص).
خذ مثلاً كلمتي فقد حار صديقنا القاضي مصطفى مرعي وهو الفصيح المفوه في ترجمتها ولم يوفق بعد طول الجهاد لغير (المسئولية التقصيرية)، وقد يقول سواه (المسئولية الخطئية). وكلا التعبيرين قاصر في نظري عن تأدية كل المعنى المنطوي في العبارة الفرنسية.
وإن أنس لا أنس ما لاقيته وأنا أحاول تأدية معنى في مذكرة قدمتها لمحكمة النقض عن الشروط الواجب توفرها في جريمة شهادة الزور. بماذا أعبر عن هذا الركن من أركان الجريمة؟ إن قلت: (دعوى مربوطة) وهي الترجمة الحرفية للفظ الفرنسي كانت ترجمة سقيمة باردة. وإن قلت: (دعوى معلقة) انصرفت الصيغة إلى معنى آخر. وأخيراً استخرت الله فقلت: (دعوى قائمة) وأنا لا أدري أأديت أم لم أؤد؟
على أن هذا الذي حار فيه عجزي قد استقام لمحكمة النقض برياسة إمام اللغة القضائية العصرية عبد العزيز باشا فهمي، فقد صدر حكمها مقرراً أن لا شهادة زور حتى تؤدى في دعوى (مرددة) بين خصمين، وهو تعبير بارع دقيق، لم يكن في ميسور غير الضليع المتفقه في اللغة العثور عليه.
ولنقف عند هذا الحد من الكلام على مشاق الناطقين بالضاد في عصر اللاسلكي والكهرباء، فقد ساقتنا المناسبة إلى أبعد مما نريد؛ ولنقصد رأساً إلى لغة المرافعات، كيف كانت، وكيف يجب أن تكون، ثم نعقب على ذلك ببحث موجز في لغة الأحكام.
لغة المرافعات
ضرورة البلاغة في إظهار الحق
اتفق الناس من قديم على أن البلاغة صفة لازمة لمن جعل الدفاع عن حقوق الناس مهنته، تواضعوا على وجوب أن يكون المحامي فصيح اللسان، بالغ الأثر بكلامه، متلاعباً بالعقول والقلوب؛ وما يزال الإجماع على لزوم توفر هذه الصفات واقعاً.
ولكن لماذا؟
أليس الحق هو بغية المترافعين عن الحق؟ أوليس الحق حقاً بذاته؟ أيوجد أوضح(163/11)
وأظهر منه؟ فيم حاجة المترافع عن الحق إذن إلى الصنعة وإلى التفنن في أساليب الخطاب؟
أحد أمرين: إما أن المترافع يرمي إلى قلب الحقائق فلا بد له من زخرف القول يموه به ويغرر. وإما أن الحق المجرد بغيته ومطلبه، والحق المجرد ميسور بمجرد الطلب.
خطأ بالغ!
سل طلاب الحق في كل زمان ومكان ينبئوك بأن الكلام عن نوره الساطع وشمسه المتألقة وسلطانه القاهر خيال في خيال. حدثهم عن كنهه يخبرونك بأنه جوهر نادر ثمين مستقر في أعمق الأعماق، خفي على الباحث، عصي على المستخرج؛ وأن وجوده إذا هو اكتشف وجود نسبي يقتصر في الغالب على المكتشف، فإذا ما أراد هذا أن يثبت اكتشافه للغير وجب أن يعد نفسه لحرب عوان ليس له من سلاح فيها غير بيان حسن، ومنطق واضح، وبلاغة غالبة.
يحكى عن أومرسون أحد جهابذة الفقهاء في عصره، وقاضي القضاة في عهد لويس الخامس عشر، أنه قال: (والله لو اتهمت بسرقة برجي كنيسة نوتردام وجرى الغوغاء في أثري صائحين: (اللص، اللص) لبدأت دفاعي عن نفسي بإطلاق ساقي للريح).
مبالغة ولا شك، ولكنها مبالغة أراد بها من عرك المحاكم دهراً أن ليس في عالم القضايا شيء يزاحم البديهة ويقر له بالصحة حتماً. وإنه يكفي أن توجد تهمة لكي يوجد بجانبها خطر الحكم على المتهم ظلماً، أو تبرئة الجاني خطأ.
على أنه من ذا الذي يستطيع التحدث عن الحقيقة المجردة المطلقة؟ أين الحق الذي لا يمازجه باطل؟ وأين الباطل الذي لا يمازجه حق؟ النسبية قانون متمش في كل شيء في الوجود؛ وليس أسهل من تبين حكمه في عالم الحقوق؛ ورحم الله الإمام الأعظم أبا حنيفة، فقد قال لتلاميذه يوماً: (أراكم تسرفون في الأخذ عني، فو الله إني لأرى اليوم رأياً أعدل عنه غدا إلى عكسه). وسأله سائل مرة: (هذا الذي تفتي به أهو الحق الذي لا شك فيه؟). قال: (والله لا أدري، فقد يكون الباطل الذي لا شك فيه).
في كل دعوى إذن مزاج من الحق هو أشبه شيء بالذهب تخالطه عناصر كثيرة متنوعة على المترافع أن يطهره منها فيخرج بالمعدن النفيس متألقاً وهاجاً. وأنىّ له ذلك إلا أن(163/12)
يؤدي رسالته على الوجه الأكمل، فيجلو ما غمض، ويبسط ما تعقد، ويسهل ما استعصى، والأمر بعد ذلك ورغم ذلك لا للقضاء وحده، بل للقضاء والقدر.
ورب حجة سائغة قاطعة يحويها كلام سقيم فتضيع قوتها، وتخمد جذوتها، فإذا ناصرها البيان، وقدمها فصيح اللسان انقلبت سحراً حلالاً.
تعريف البلاغة
البلاغة إذن ألزم اللزوميات للمترافع، ولكن ما البلاغة؟ وبعبارة أخرى - حتى لا تظن أننا قد شردنا عن الموضوع الذي نعالجه - كيف يجب أن تكون لغة المترافع.
احترام قواعد اللغة
من العبث أن ينبه منبه على ضرورة احترام قواعد اللسان الذي يستعمله المترافع أداة للإقناع. إنه يخاطب في الغالب هيئات نالت حظاً يذكر من الثقافة العامة، وإنه ليحترم هذه الثقافة إذا هو نزه سمعهم عن لغة السوق والغوغاء فكلمهم بلسان سليم يحترم فيه قواعد النحو والصرف.
محل اللغة العامية في المرافعات
ولكن أمعنى هذا أنه يجب نبذ اللغة العامية وإقصاؤها عن المرافعات حتى ولو طهرت من سفساف القول وخلت من كل ما يؤذي السمع؟
الحال تختلف في مصر عنها في غالب البلاد الأوربية، فهناك تتكلم الطبقة الراقية (ومنها المترافعون عادة) بعين اللغة التي يكتبون بها ويقرأون. صحيح أن المتكلم لا يعني باختيار اللفظ وصقل الكلام عنايته بهذين الأمرين إذا كتب؛ وصحيح أن لغة الارتجال ما تزال تختلف اليوم عن لغة التحرير، فالأولى تسمع والثانية تقرأ، ولكن مجرى اللسان في الحالتين واحد فلا يميز بينهما إلا الضليع في اللغة.
وليس الأمر كذلك في مصر، فنحن - وأعني طبقة المتعلمين - نستعمل إلى اليوم في بيوتنا وفي حديثنا مع أصدقائنا بل وفي تفكيرنا إذا خلونا إلى أنفسنا لغة نعدل بها عدولاً ظاهراً إذا وقفنا للدفاع أو جلسنا للكتابة.
فهل يجب أن نمضي في هذه السبيل إلى نهايتها؟ وهل يجب إقصاء اللغة العامية عن(163/13)
المرافعات؟
المسألة شائكة حقاً. وإنه ليكفيك أن تسمع واحداً من شيوخ مدارهنا المقاويل لكي تأخذك الحيرة ويعصى عليك الحكم.
أينا لم ير الهلباوي في أحد مواقفه الرائعة؟ إنه يتكلم الفصحى فيزري بفقهاء اللغة. ولكن الرجل محام بطبعه وسليقته فهو يعرف أن العربية الصحيحة ما تزال إلى اليوم لغة صنعة، وأنها ما تزال تجهد المتكلم والمخاطب معاً. والإجهاد إذا طال انتهى إلى الملل والسآمة. لهذا تراه وقد فرغ من التحليق في سماء البيان وانتهى من قرع الأسماع في نقطة معينة بخطاب فخم داوي الألفاظ رنان العبارة، تراه بعد هذا وقد هبط بك من جوه الأعلى إلى سهل موطأ من كلام عامي يروي به لطيفة من لطائفه السائغة، أو يسوغ منه ملحة من ملحه العذبة البارعة، أو يبري منه سهماً من السخر الفتاك ينفذ به إلى مقاتل الخصم.
أنودع من غير أسى هذه اللهجة الحلوة التي طبعها الخلق المصري بطابعه الخاص منذ ألف أو يزيد من السنين وأصبحت مظهراً قومياً تتيه به مصر على جاراتها العربيات كلما ذكر موسيقى اللفظ وخفة وقع الكلام على السمع وسرعة نفاذه إلى القلب؟
لا. سوف تبقى العامية إلى جانب العربية الفصحى لغة مرافعة إضافية تصاغ منها النكتة البارعة يخف بها الضجر ويطوي بمعونتها ملل الجلسات الطويلة القاحلة. سوف تبقى لغة كلام متبخر زائل بزوال الجلسة التي يقال فيها. وليس من بقائها ضرر فهي لن تطغي على الفصحى بحال، ولن تقوى على الحلول محلها في موضع الجد وعند المناقشة الحامية تدور حول مسائل علمية أو موضوع خطير.
بل إن تخش شيئاً فاخش زوال العامية بزوال الأمية وانتشار التعليم. بل لقد بدأت هذه النهاية فعلاً. فإن اللغة التي يتفاهم بها عامة أهل المدن هي بالتأكيد غير ما كان يتخاطب بها آباؤهم منذ خمسين عاماً. إنها أقرب إلى الفصحى بفضل ما تذيعه الجرائد السيارة والمجلات المصورة وغيرها من صحيح الألفاظ والعبارات، ولن يمضي طويل حتى تصبح الحال كذلك في الأرياف فتدول دولة العامية ويسود مصر من أقصاها إلى أقصاها لسان راق أكبر أملنا أن يتجدد به شباب لغة القرآن.
روح الفكاهة في لغة العرب الفصحى(163/14)
ولسنا نخاف على روح الفكاهة من هذا التجديد، فالبرهان قائم على صلاحية الفصحى العصرية لما ينطوي عليه الخلق المصري من حب للمرح والدعابة. لقد طاوعت فكري أباظة إلى آخر حدود المطاوعة. وإن تأسف لشيء فلأنه لم يقع لنا من كلام الأستاذ شيء قضائي يمكن أن يجد له محلاً في هذا البحث. ولكن إن فاتتنا دعابة فكري أباظة القضائية فلم تفتنا لحسن الحظ دعابة عمر بك عارف. أنظر إليه وقد قام يترافع في قضية قذف مشهورة كان المتهم فيها موظفاً استباح لنفسه أن يتدخل في السياسة وجمح به قلمه مرة فنال من رجل كريم.
(ولكن المتهم آثر التعرض للسياسة وما هو لها. وانصرف إلى التشيع فيها ورضي أن يكون موقفه منها موقف الزبانية من جهنم، فهو يطلع على خصومه يشع وجهه ناراً منتفخ الأوداج ينضنض بلسانه على لقم الطريق، إن تعرضوا له يلهث، وإن تركوه يلهث. ثم إذا فرغ من تعذيب الناس مما رماهم به من جارح القول عاد يتصبب عرقاً، وأخذ مجلسه من ديوان الصناعة والتجارة يمد يداً للوظيفة يعدها قرشاً قرشاً ويمسح عرقه بالأخرى كأنه أبلى في عمله الحكومي الذي أؤتمن عليه).
صورة بارعة بلغت فيها الدعابة الساخرة غاية ما يتمناه صاحب (النكتة البلدية) ولكن بلغة هي من أفصح ما يكون.
وليست مطابقة الكلام لقواعد النحو إلا عنصراً واحداً من عناصر لغة المرافعة الجيدة، فما هي عناصرها الأخرى؟
(يتبع)
زكي عربي
المحامي أمام محكمة النقض والإبرام(163/15)
الثورة الأسبانية
بقلم باحث دبلوماسي كبير
كانت أسبانيا قبل بضعة أعوام تحيا حياة عادية، وتتمتع في ظل الملوكية بنوع من الاستقرار والسكينة، لا يزعجها سوى بعض الأزمات الداخلية والاضطرابات المحلية. ولكن أسبانيا شاءت منذ بضعة أعوام أن تحطم نير الملوكية، وأن تقيم حكومة جمهورية شعبية؛ وكانت الملوكية الأسبانية تحتضر في الواقع قبل ذلك بأعوام، في ظل حكومة الطغيان العسكري التي فرضها الجنرال بريمو دي رفييرا على أسبانيا منذ حوادث مراكش الشهيرة؛ وكانت أسبانيا تعاني مرارة هذا الطغيان المرهق ساخطة متربصة؛ فلما توفي الجنرال دي رفييرا اضمحل نير العسكرية؛ وحاولت الملوكية أن تستعيد سلطانها القديم، ولكن الشعب الأسباني كان قد سئم حياة الذلة في ظل النظم المطلقة، فانتهز فرصة الانتخابات العامة التي أجريت في ربيع سنة 1931 وأبدى رغبته جلية في مناصرة الجبهة الجمهورية، وشعرت الملوكية أنه لم يبق لها أمل في البقاء، فآثرت أن تنسحب في سكينة، وأن تترك الميدان حراً للشعب الذي لفظها وأباها.
وهكذا قامت الجمهورية الأسبانية نتيجة ثورة سليمة لم يشبها سيل الدماء، ولا ويلات الحرب الأهلية؛ واعتقد الشعب الأسباني، واعتقد العالم أن أسبانيا سوف تستقبل في ظل الجمهورية حياة جديدة من الحرية والسكينة والرخاء.
ولكن الجمهورية الأسبانية ولدت ضعيفة مفككة العرى، ولم يستطع زعماؤها منذ البداية أن يجمعوا كلمتها أو يوحدوا قيادتها ضد القوى الرجعية التي كانت تتربص بها؛ ومنذ البداية انحدرت الأحزاب والقوى الجمهورية إلى غمر الخصومات والمعارك المحلية؛ ونمت الحركة الاشتراكية في ظل النظام الجديد بسرعة، واستطاعت ولاية قطلونية مهد الاشتراكية الأسبانية أن تملي إرادتها على حكومة مدريد، وأن تفوز باستقلالها المحلي؛ وتوالت الأزمات الداخلية والاعتصابات المحلية، وزادت الأزمة الاقتصادية في حدة هذه الاضطرابات وخطرها على الجمهورية الفتية؛ وألفت الجمهورية نفسها عاجزة عن ضبط القوى التي أثارتها، وتعاقبت الحكومات بسرعة، وسارت البلاد مسرعة إلى الفوضى؛ ولم تدرك الأحزاب الجمهورية أنها بهذه المعارك المستمرة تمهد لفوز القوى الرجعية التي(163/16)
تتربص بها.
وكان الجيش مهد هذه القوى الرجعية التي تناصرها فلول الملوكية الذاهبة؛ وقد دبر فلول الملوكية وفلول النظام القديم في الأعوام الأخيرة عدة محاولات ومؤامرات لإسقاط النظام الجمهوري، ولكنها فشلت جميعاً، لأنها كانت محاولات محلية لا تؤيدها قوة عامة. على أن روح التبرم والسخط كانت تضطرم دائماً في معظم وحدات الجيش؛ ولم ينس زعماء العسكرية أنهم تمتعوا بسلطان الحكم في عهد الطغيان العسكري، وأن قيام الحكومة الجمهورية إنما هو قضاء على سلطانهم ونفوذهم؛ ورأوا من جهة أخرى ما يشجع آمالهم ومشاريعهم في عجز الحكومة الشعبية، وتوالي الاضطرابات العامة، وسأم الشعب من هذه الفوضى التي يذكيها تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتوالي الاعتصابات.
وقد ألفت العناصر العسكرية الناقمة فرصتها في الاضطرابات والاعتصابات الأخيرة التي دبرها الشيوعيون بالأخص، والتي ما زالت منذ أسابيع تزعج حكومة مدريد وتستنفد اهتمامها وقواها، فأعلنت خروجها على الحكومة، واتخذت (تيطوان) عاصمة مراكش الأسبانية قاعدة لها؛ وقد كانت مراكش الأسبانية وما زالت معقل العسكرية المتمردة؛ بيد أن زعماء الثورة كانوا قد اتخذوا أهبتهم في كثير من القواعد الأسبانية في الشمال والجنوب حيث تحتشد العناصر المعارضة لحكومة مدريد؛ وكان إعلان الثورة في الثامن عشر من يوليه في منطقة الحماية الأسبانية، حيث أعلن زعيم الثورة الجنرال فرانكو ثورة الجيش على حكومة الجمهورية، ووجوب تخليها عن الحكم. وفي الحال اجتازت عدة فرق من جيش مراكش البحر إلى الشاطئ الأسباني من جهة الجزيرة ومالقة. ولم تكن حكومة مدريد جاهلة بالأمر، بيد أنها اضطربت لقيام الثورة في عدة مناطق دفعة واحدة، وزاد في اضطرابها أن الوحدات البحرية والجوية التي سيرتها لمقاتلة الثائرين، وإطلاق قنابلها على تيطوان، انضم معظمها إلى الجيش الثائر.
وفي الحال اتسع نطاق الثورة، وانضمت حاميات الشمال في ولايات ليون وأراجون وجليقية إلى جانب الثورة؛ واخترق الجيش الثائر ولايات الجنوب بسرعة، واستولى على قواعد الأندلس: قادس وغرناطة وأشبيلية؛ واتخذ أشبيلية قاعدة للزحف على مدريد، وأعلنت القيادة الثائرة سقوط حكومة مدريد، وقيام حكومة أسبانية جديدة في الأندلس.(163/17)
أما حكومة مدريد فلم تر أمامها بعد الذي رأته من تمرد القوى النظامية سوى الاعتماد على التجنيد العام. ولنلاحظ أنه في خلال الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى من قيام الثورة تعاقبت ثلاث وزارات في مدريد ولم تمكث إحداها سوى أربع ساعات، واستقال رئيس الجمهورية السنيور أزانا؛ وفي الحال حشدت حكومة مدريد قوات جديدة من بين العمال والطوائف الموالية لها وهي التي تجتمع حول الجبهة الاشتراكية، وسيرتها لمقاتلة الثوار في الشمال والجنوب مع بعض القوات النظامية التي لبثت موالية لها. ومنذ أكثر من أسبوعين تضطرم أسبانيا بسلسلة لا نهاية لها من المعارك الدموية، وتقول الحكومة في بلاغاتها دائما إنها تقبض على ناصية الموقف وإنها دحرت الثائرين حيثما دارت رحى الحرب الأهلية. وتذيع القيادة الثائرة من محطات الإذاعة اللاسلكية في أشبيلية أنها دحرت قوى الحكومة، والأنباء المتضاربة تتوالى من الجانبين، بيد أنه يلوح من سير الحوادث والظروف أن جيش الثورة إذا استثنينا منطقة قطلونية الاشتراكية حيث دحرت العناصر الثائرة، يتقدم في معظم المناطق بسرعة؛ وقد أشرفت القوات الثائرة على مقربة من مدريد ونشبت بينها وبين قوات الحكومة معركة هائلة في (وادي راما) يقال إن الخسائر فيها بلغت من الجانبين زهاء عشرين ألفاً؛ والخسائر فادحة في جميع المناطق على وجه العموم، وخصوصاً في القوات غير النظامية التي حشدتها الحكومة من طوائف لا خبرة لها بالقتال. بيد أن قوات الحكومة استطاعت أن تقف زحف الثوار في الشمال. وأما في منطقة مدريد، فلا تزال المعارك دائرة حتى كتابة هذه السطور؛ والظاهر أن قوات الحكومة استطاعت أن تصمد في وجه الثائرين، لأن زعماء الثورة يقولون إنهم يعتمدون في سقوط مدريد على الحصار وقطع مواصلاتها حتى تضطر إلى التسليم جوعاً.
ويقول زعيم الثورة الجنرال فرانكو، إن الثورة ترمي إلى إنقاذ أسبانيا من براثن الشيوعية وانتشالها من تلك الهوة السحيقة التي تتردى فيها مذ غلبت عليها أحزاب اليسار واستولت على مقاليد الحكم، وإن الروح الثورية قد أضرمت في الشعب واستغلت لجانب الشيوعية، وإن الجيش لا يستطيع صبراً على تلك الحال المخزية التي تبدو بها أسبانيا أمام العالم، وإنهم قد اعتزموا إنقاذ أسبانيا من قبضة أعدائها الذين كادوا أن يقضوا على كيانها الاقتصادي. ويقول في بلاغه الذي أصدره إلى الجيش: (إن الاعتصابات الثورية تشب من(163/18)
كل جانب وتشل حياة الأمة، وتقضي على رفاهتها، وتدفع بالشعب الأسباني إلى الجوع واليأس، وإن ذخائر أسبانيا الفنية قد أضحت عرضة لهجمات الجموع الثائرة التي تصدع بأمر الأجنبي، وتمقتها السلطات؛ وإن الأمة تدعو الجيش اليوم وتناديه لإنقاذها. . . الخ).
أما برنامج الثورة فيلخصه الجنرال فرانكو فيما يأتي: تحقيق السلام والإخاء بين جميع الأسبانيين، وضمان العمل والعدالة الاجتماعية، والقضاء على الانتخابات المزيفة، والاعتصابات المدبرة، وحماية الحكومة المدنية من كل النزعات الثورية، وحماية أسبانيا من الدسائس الأجنبية التي تعمل لخرابها. . .
على أننا نستطيع أن نتبين من خلال هذه الحوادث والظروف حقيقة أخرى، هي أن الحرب الأهلية تضطرم في أسبانيا من جبهتين من المبادئ، أعني بين الديمقراطية والفاشستية، وهذه هي نفس المعركة التي نشبت وما زالت تنشب في كثير من الأمم الأوربية بين قوى الطغيان والديمقراطية. ولا ريب أن الفوضى التي تعانيها أسبانيا منذ قيام الجمهورية، والأزمات الداخلية المستمرة، هي ذريعة القوى الرجعية في القيام بحركتها، وهي التي أدت بالحكومة الجمهورية إلى هذا الضعف الذي يعرضها إلى السقوط. ونلاحظ أن أسبانيا توجد اليوم في ظروف تماثل ظروف إيطاليا قبل قيام الفاشستية؛ فقد انتهت بها الاضطرابات الاشتراكية المتوالية إلى مثل الحالة التي تعانيها أسبانيا اليوم وألفت الفاشستية، أو بعبارة أخرى قوى الطغيان الفرصة سانحة للقيام بوثبتها، والقبض على ناصية الحكم إلى يومنا.
وليس من ريب في أن العسكرية الأسبانية المتمردة ترمي بوثبتها إلى غايات فاشستية محضة؛ ومهما كان من الصيغ والتصريحات الخلابة التي تستتر وراءها في القيام بحركتها، فإن ظفرها يعتبر خطراً على أسبانيا من الوجهة الدستورية؛ ذلك أن قيام الدكتاتورية العسكرية معناه القضاء على النظام الجمهوري، وما يترتب عليه من الحقوق والحريات العامة، والعودة إلى نظام الطغيان الذي أنشأه الجنرال دي رفييرا قبل ذلك بعشرة أعوام، وربما كان ظفر العسكرية من جهة أخرى مقدمة لعود الملوكية الأسبانية، وقيامها ثانية في كنف العسكرية الطاغية، ورهن نفوذها وإشارتها.
وثمة حقيقة أخرى، هي أن هذه المعركة التي تضطرم اليوم في أسبانيا بين قوى الطغيان(163/19)
والديموقراطية بصورة مادية مروعة، إنما هي ناحية من المعركة العامة التي تدور رحاها اليوم في أوربا بأسرها، تارة في الجهر وتارة في الخفاء، وربما كان من الصعب اليوم أن نتبين نتائج هذه المعركة الحالية في المستقبل القريب؛ بيد أن الذي لا ريب فيه هو أن الديموقراطية فقدت كثيراً من قوتها القديمة، وأدت بضعفها وتخاذلها وما كشفت عنه في الأعوام الأخيرة من نواحي الفساد، إلى إضعاف العقيدة الديموقراطية وتحول جانب كبير من أنصارها إلى الجبهة الخصيمة؛ وهذا وجه الخطر في مستقبل الديموقراطية. وإذا أسفرت المعركة الحالية في أسبانيا عن فوز العسكرية الطاغية، فإن ذلك يكون ضربة جديدة للديموقراطية بأسرها، وعاملاً جديداً في انتعاش القوى الرجعية، ونذيراً بالمستقبل المظلم الذي يهدد الديموقراطية في جميع البلاد التي لا زالت تصمد فيها.
(* * *)(163/20)
البداوة في طباع أبي الطيب
للدكتور عبد الوهاب عزام
في خلق أبي الطيب قوة وخشونة تميلان به إلى كل قوي وكل خشن، وتعدلان عن كل ضعيف وكل ليّن؛ وفي خلقه صراحة تحبب إليه كل صريح من القول والفعل والمرأى، وتنفره عن كل مموّه مزخرف.
وقد لاءمت هذه الأخلاق التندّي، وزادها التبدي تمكناً فيه، وظهر أثر هذا في فعله وقوله.
وسأمرّ بسيرة أبي الطيب سريعاً منبّهاً إلى الحادثات والأقوال الدالة على حبه البداوة، والمبينة عن تمكن البداوة في طبعه، وأثرها في نفسه:
- 1 -
عاش الشاعر في البادية حقبة وهو صبي. روى الخطيب البغدادي عن محمد بن يحيى العلوي الكوفي أن أبا الطيب صحب الأعراب في البادية سنين ثم رجع إلى الكوفة بدوياً قحّاً.
وعاش في الشام بين البدو والحضر. وبعض من وحيه هناك من رؤساء البادية مثل سعيد بن عبد الله الكلابي، وشجاع بن محمد الطائي.
وهو يقول في الشام:
أوانا في بيوت البدو رحلي ... وآونة على قتد البعير
أعرّض للرماح الصمّ نحري ... وأنصب حرّ وجهي للهجير
وأسري في ظلام الليل وحدي ... كأني منه في قمر منير
ويقول:
ومُّدقعين بسُبروت صحبتهم ... عارين من حلل كاسين من درن
خرابّ بادية عْرثى بطونهم ... مَكن الضباب لهم زاد بلا ثمن
يستخبرون فلا أعطيهم خبري ... وما يطيش لهم سهم من الظنن
- 2 -
وفي مصر حنّ إلى البادية، وفضّل البداوة على الحضارة، وتغزل بالبدويات في القصيدة(163/21)
التي مطلعها:
مَن الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلي والمطايا والجلابيب
يقول فيها:
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة ... وغير ناظرة في الحسن والطيب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة ... تركت لون مشيبي غير مخضوب
ومن هوى الصدق في قولي وعادته ... رغبت عن شعر في الرأس مكذوب
وكانت له في مصر مع بعض رؤساء القبائل مودة. فلما أزمع الرحيل مغاضباً كافور استعان بأحد أصدقائه عبد العزيز ابن يوسف ببلبيس وسأله دليلاً فأنفذه إليه، وقال في هذا:
جزى عرباً أمست ببُلبَيس ربُّها ... بمسعاتها تقرر بذاك عيونها
كراكر من قيس بن عيلان ساهراً ... جفون ظباها للعلى وجفونها
وخصّ به عبد العزيز بنَ يوسف ... فما هو إلا غيثها ومعينها
فتى زان في عينيّ أقصى قبيله ... وكم من فتى في حلة لا يزيتها
وكان سيره من الفسطاط إلى الكوفة برهاناً بيناً على ما تمكن في نفسه من أخلاق البادية وعاداتها، ودليلاً على خبرته بالسير في البيادي، فقد سلك طريقاً أنفا لا تسلكه القوافل. ذكر في قصيدته التي وصف بها سفره اثنين وعشرين موضعاً ليس على السبل المطروقة منها إلا اثنان أو ثلاثة، فما سلك طريق الحاج المصري إلى الحجاز، ولا طريق دمشق إلى الكوفة، ولا طريق الفرات، بل سار على أحياء البادية، والمياه المورودة والآجنة حتى بلغ غايته.
وكانت له في مسيرة وقائع تمثله بدوياً قحاً خبيراً بقبائل البادية وعاداتها، مزوداً بجرأة الأعراب وإقدامهم:
لما بلغ نخلاً في سينا ألفى خيلاً صادرة عن الماء، فأشفق أن يكونوا عيوناً عليه أو عدواً(163/22)
له، فقاتلهم وغلبهم. ولما قرب من النقاب رأى رجلين فطردهما وأخذهما فأخبراه أنهما رائدان من بني سليم فخلاهما وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل فضرب له ملاعب بن أبي النجم خيمة بيضاء، وذبح له، وغدا فسار إلى النقع فنزل ببادية من معن وسنبس فذبح له عُفَيف المعنىّ غنما وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه لصان من جذام يدلانه.
ولما بلغ حسمي في شمالي الحجاز وجد بني فزارة شاتين بها، فنزل بقوم من عدي فزارة فيهم أولاد لاحق بن مجلّب، وكان بينه وبين أمير فزارة حسان بن حكمة مودة، وأراد ألا يعلم ما بينه وبينهم من ودّ فنزل بجار لهم من طيء.
واستطاب أبو الطيب حسمي فأقام بها شهراً، وما أحب المقام بالبادية إليه! ثم استراب ببعض عبيده، وظن أنهم يسرقون أمتعته، ويريدون سرقة سيف ثمين كان معه، أغراهم على هذا وردان بن ربيعة، فأرسل إلي فتى من بني مازن اسمه فليتة ابن محمد، وكان قد عرفه من قبل، فلما جاءه المازنيّ تقدم شاعرنا فشد أحماله وعبيده نيام ثم أيقظهم وطرحهم على الإبل وسار والقوم لا يشعرون.
وأخذ بعض العبيد السيف فدفعه وفرسه إلى عبد آخر. وجاء إلى فرس أبي الطيب ليأخذه فانتبه الشاعر البدوي الشجاع فقال العبد مخادعاً: أخذ الغلام فرسي. عدا إلى فرس سيده ليركبه فالتقى هو وأبو الطيب عند الفرس. وسل العبد السيف فضرب الرسن فضرب أبو الطيب وجهه فقتله: وأرسل رجلاً من بني خفاجة وآخر من بني مازن ليدركا العبد الذي أخذ السيف فلم يقدرا عليه.
وفي قتل العبد يقول الشاعر:
أعددت للغادرين أسي ... افاً أجدع منهم بهنّ آنافا
لا يرحم الله أرؤساً لهم ... أطرن عن هامهن أقحافاً
ما ينقم السيف غير قلتهم ... وأن تكون المئون آلافا
يا شر لحم فجعته بدم ... وزار للخامعات أجوافا
قد كنتَ أُغنِيتَ عن سؤالك بي ... من زجر الطير لي ومن عافا
لا يذكر الخير إن ذكرت ولا ... تتبعك المقلتان توكافا(163/23)
إذا امرؤ راعني بغدرته ... أوردته الغاية التي خافا
وأراد أبو الطيب أن يسلك إلى مكان اسمه البياضي فأرسل فليتة إلى الأعراب الذين في طريقه فعميت عليه أنباؤهم، وخشي أن يكون له على طريق رصد، فعدل إلى دومة الجندل. وواصل سيره حتى بلغ الكوفة في شهر ربيع الأول سنة 352 بعد ثلاثة أشهر من خروجه من الفسطاط.
فهل يستطيع أن يسير هذا المسير، ويفعل هذه الأفعال إلا بدوي جريء خبير بالبوادي؟
أليس في هذا تصديق قوله:
الحيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لا يحق له أن يفخر به فيقول:
فلما أنخنا ركزنا الرما ... ح بين مكارمنا والعلى
وبتنا نقبّل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعرا ... ق ومن بالعواصم أيّ الفتى
وأني وفيت وأني أبيت ... وأني عتوت على من عتا
وما كل من قال قولاً وفَى ... ولا كل من سِيم خسفاً أبى
ومن يك قلب كقلبي له ... يشق إلى العزّ قلب النوى
ولا بد للقلب من آلة ... ورأى يصدّع صمّ الصفا
وفي هذه القصيدة روح البداوة وألفاظها. انظر قوله:
وقلنا لها: أين أرض العرا ... ق فقالت: ونحن بتربان ها
واسأل اليوم بدوياً عن مكان قريب يقل لك: ها
- 4 -
وفي قصة هجاء ضبة بن يزيد العيني دليل آخر على تبدّيه. فقد اجتاز بالطفّ فنزل بأصدقاء له. وساروا إلى ضبة وسألوه أن يصحبهم فلم يسعه إلا المسير معهم، كما يقول الشاعر في بعض الروايات:
فسير الشاعر مع أصدقائه إلى قتال ضبة أو إرهابه دليل على ما تمكن في نفسه من عادات البادية.(163/24)
- 5 -
ولما رحل إلى فارس افتقد الوجه العربي واليد العربية واللسان العربي فقال وهو يصف شعب يوان:
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
وافتقد عرب دمشق الذين كانوا يكرمون مثواه فقال:
ولو كانت دمشق ثنى عناني ... لبيق الثرد صيني الجفان
يَلَنجوجيّ ما رُفعت لضيف ... به النيران نَدَّى الدخان
تحل به على قلب شجاع ... وترحل منه عن قلب جبان
منازل لم يزل منها خيال ... يشيّعني إلى النوبند جان
وذكره الثرد والنار يدلنا على أنه يريد بادية دمشق لا حاضرتها.
وقال في أول قصيدة مدح بها عضد الدولة:
أحب حمصاً إلى خناصرة ... وكل نفس تحب محياها
حيث التقى خدها وتفاح لب ... نان وثغري على حُميّاها
وصفت فيها مصيف بادية ... شتوت بالصحصحان مشتاها
إن أعشبت روضة رعيناها ... أو ذكرت حلة غزوناها الخ
ورجع إلى التغزل بالبدويات في شيراز فقال في القصيدة التي مطلعها:
أثلث فأنا أيها الطلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل
إن الذين أقمتَ وارتحلوا ... أيامهم لديارهم دول
الحسن يرحل كلما رحلوا ... معهم وينزل حيثما نزلوا
في مقلتي رشأ تديرهما ... بدوية فتنت بها الحلل
تشكو المطاعم طول هجرتها ... وصدودها ومن الذي تصل
ما أسأرت في القعب من لبن ... تركته وهو المسك والعسل
وقصة قتله برهان آخر على ما ندعي فقد حذره أبو نصر الجبلي وأشار عليه أن يستصجب خفراء فأبى أن يسير في خفارة.(163/25)
- 6 -
وشعر أبي الطيب تتجلى فيه قوة البداوة وعزتها. ومن آثار البداوة فيه تهاونه في خطاب الممدوحين. وخروجه عن الألف أحياناً. ولذلك أخذ عليه النقاد مآخذ لا يتسع المقام لذكرها.
ومن أثارها كذلك الكلف بالحرب وآلاتها والخيل، والسفر. وشعره مليء بهذا.
ومن ذلك وصفه الحبيبة بالمنعة كقوله:
حبيب كأن الحسن كان يحبه ... فآثره أو جار في الحسن قاسمه
تحول رماح الحظ دون سبائه ... وتُسبي له من كل حيّ كرائمه
ويُضحي غبار الخيل أدنى ستوره ... وآخرها نشر الكباء الملازمه
وما شرقي بالماء إلا تذكراً ... لماء به أهل الحبيب نزول
يحرّمه لمع الأسنة فوقه ... فليس لظمآن إليه وصول
متى تزر قوم من تهوى زيارتها ... لا يتحفوك بغير البيض والأسل
سوائر ربما سارت هوادجها ... منيعة بين مطعون ومضروب
وربما وخدت أيدي المطيّ بها ... على نجيع من الفرسان مصبوب
ومن أثر البداوة استعماله بعض الألفاظ الغريبة أحياناً، بما ألِف من خطاب الأعراب والأخذ عنهم.
وقد رأيته في كثير من تعليقاته على ديوانه يحتج بما سمع عنهم، واكتفي هنا بمثال واحد:
قال في قصيدة يعزي بها عضد الدولة:
مثلك يُثنى الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدمع من غربه
أيما لأبقاء على فضله ... أيما لتسليم إلى ربه
ثم أتى بشواهد على وضع العرب أيما مكان إمّا إلى أن قال:
وقد ظلع فرس لي فقال فلان الأعرابي وكان من أفصح الناس:
أيما نسره مفلوق، وأيما موهوص
- 7 -
ذلكم إجمال الكلام في بداوة أبي الطيب.(163/26)
ولست أقول إن البداوة أنتجت هذه النتائج في أخلاقه وشعره، ولكني أقول إن بين طباعه وشعره وبين البداوة صلة قوية، غرائز في الشاعر حببت إليه البداوة وما يتصل بها، وبداوة وكّدت هذه الغرائز في نفسه.
وبهذه الأخلاق الحرة، والطباع القوية، والشجاعة والإقدام كان أبو الطيب أقرب إلى الروح العربي من غيره.
ولو أن عمرو بن كلثوم، وعنترة العبسي، والحارث بن حلزة عاشوا في القرن الرابع الهجري حيث عاش أبو الطيب لأشبهوه في كثير من قوله وفعله.
عبد الوهاب عزام(163/27)
4 - دانتي ألليجييري
والكوميدية الإلهية
وأبو العلاء المعري ورسالة الغفران
فردوس دانتي
في آخر المطهر أن دانتي تحسى من فرات (ليث) جرعة نزعت ما في نفسه من أدران هذه الدنيا التي لا يجوز لمن ينطوي عليها أن يجوس خلال الفردوس. . . وهي جرعة إلهية جعلت من جسم دانتي هلاماً شفافاً وهيولى نقية استطاع بعدهما أن يرقى في السماء، ويعرج في الأثير، في إثر بياتريس. (1) وأخذ طيف بياتريس يصَّعَّد في الأديم الأزرق المشرب بنضارة البنفسج، وأخذ طيف دانتي يصَّعَّد في إثرها بقدرة الإله العلي، حتى كانا في السماء الأولى، والفتاة الطاهرة في خلال ذلك تحدثه وتتلطف به، وترفه عنه بعض ما كان يضيق به صدره من وساوس. (2) إلى أن دخلا تلك الجنينة الصغيرة التي أرضها من فضة وأنهارها من لجين. . . جنينة القمر! حيث تشرح بياتريس لحبيبها المشدوه سبب تلك الظلال التي تعلو وجه السيار الصغير، والتي يراها الناس من سكان الأرض في هذه الحياة الدنيا. (3) وفي رحاب القمر، يلقى دانتي الفتاة بيكاردا دوناتي التي تأخذ معه في حديث طويل، فتخبره أن هذا القمر هو جنة المساكين الذين نذروا حياتهم للخير في الدار الأولى، وعاشوا عيشة كلها تقوى وكلها بر وورع، ولكنهم، وا أسفاه، لأمور ما، لم يوفوا بكل ما نذروا من فعل الخيرات، ثم تلفته إلى روح الإمبراطورة كوستانزا، تمرح في بعض جنبات القمر، وتلعب. (4) وتنطلق بياتريس، وفي إثرها دانتي، وكلما عمى أمر عليه جلته له صاحبته، (5) حتى يكونا بعد رحلة سماوية جميلة، في كوكب عطارد الذي يقع في السماء الثانية؛ وثمة، يلقيان ثلة من أرواح البررة الأطهار ويتبرع أحدهم فيبدي استعداده للإجابة عن أي سؤال يلقى عليه من أمور الماضي أو الحاضر أو المستقبل. (6) ثم يعرف دانتي أن الشخص الذي عرض عليه هذا العرض إن هو إلا الإمبراطور العظيم جوستنيان الذي يذكر للشاعر من أمور الحياة الأولى، فيما يتعلق بشخصه الإمبراطوري، الشيء الكثير، ويشرع بعد ذلك يحدثه عن عظمة الرومان القدماء، ويعدد له فتوحهم وخوالد غزواتهم التي(163/28)
دوخوا بها أقاصي الأرض في ظلال بنودهم التي تحمل رمز رومة الخالد. . . النسر. . . ويذكر له أن روح روميو فلنيف تمرح في رياض عطارد ذات الزهر والأفواف. (7) وتتفرق الأرواح عن دانتي، وينطلق جوستنيان غير مستأذن، ولكن شكوكاً كثيرة تثيرها كلمات الإمبراطور في نفس الشاعر من أجل الفداء البشري، فتشرع بياتريس تقشعها واحداً فواحداً من نفس خليلها؛ (8) ويعرجان إلى السماء الثالثة حيث الكوكب الجميل المتلألئ فينوس (الزهرة)، وحيث يلقى الشاعر صديقه العزيز الكريم شارل مارتل الذي يحدث دانتي عن مملكته الواسعة المترامية الأطراف التي كان يسيطر عليها في الدار الأولى، ثم يتغير الحديث فجأة إلى الأبناء والأحفاد والسبب في اختلاف فطرتهم وطبائعهم عن طبائع آبائهم (9) ويمضيان فيلقيان روح ابنة الهوى كيونيزا التي طالما فتنت قلوباً وعذبت بحبها أفئدة، والتي كانت تملأ الأرض فسوقاً وتفعم المدائن دعارة، ثم تابت وثابت، وندمت على ما قدمت، وأقبلت على فعل الخيرات؛ وحدث أن ورثت عن أبيها عدداً من الأرقاء فمنحتهم حريتهم، وبذلك غفر لها وتُقُبِّل توبتها، وهي في هذا المكان من فينوس لا تطمع في درجة أعلى؛ ويمضيان فيلقيان فولكو الشاعر المنشد فيحدثهم عن الزانية، خضراء الدمن، رحاب التي تابت هي الأخرى فغفر لها، وسكنت هذا الكوكب مع كيونيزا. وبعد أن ينتقد الشاعر فولكو بابا روما وينعى عليه تغاضيه عن استرجاع الأراضي المقدسة يعود فيتنبأ عن بعض الكوارث التي تتربص به طي الغيب، والتي ستسحق سلطته. (10) ويعرجان صعداً فيكونان في الشمس (!!) التي يعتبرها دانتي السماء الرابعة، وما يكادان يبلغانها حتى تحدق بهم ثلة من اثني عشر روحاً، ويتقدم أحدهم (توماس أكويناس) فيقدم أصحابه إلى دانتي ويخبره عن درجاتهم (11) ثم يتوسع أكويناس في سرد حياة القديس فرنسيس، الراموز الملائكي للحب، ويلحظ أثارة من الريب تنشب في فؤاد دانتي فيحدثه عنها ويجلو له الحق الذي يمترى فيه. (12) وتقبل ثلة أخرى من اثني عشر تقياً فيتقدم أحدهم (القديس دومينيك) ويسرد أسماء أصحابه لدانتي. والقديس دومينيك هذا هو الراموز الملائكي للحكمة. (13) ويعود توماس أكويناس إلى حديثه مع دانتي، وكلما لمح أثارة من الشك في نفسه نبأه بها وجلاها له، وحذره من الوسواس وحذره من أن يحكم بقلبه أو عقله على شيء دون أن يدرسه ليصل إلى حقيقته. (14) ويبرز سليمان النبي من وسط الجماعة(163/29)
فيحدث دانتي عما يكون من مظهر الصالحين من عباد الله بعد البعث. ثم يعرجان إلى السماء الخامسة التي هي مارس (المريخ) في زعم دانتي، ويريان ثمة أرواح الشهداء الذين حاربوا تحت رايات الصليب الخفاقة، ولم يخشوا في سبيل ربهم أن يجرعوا غصص الموت. . . أولئك قد بدت عليهم سيماء الصليب، وما تفتأ أرواحهم ترسل في الفردوس أناشيد الخلود المرنة تطريباً لعباد الله السعداء. (15) ويبرز من بين الملأ سلف دانتي الصالح كاشيا جيداً، ويأخذ مكانه تحت الصليب، ثم يتعرف إلى دانتي الذي يفرح به ويهش للقائه، ويأخذ في حديث طويل عن ماضي فلورنسا السعيد الحافل وينعى على الخلف ما فرطوا في جانب الوطن وما أوضعوا في الفتنة، ومرجوا في الضلالة (16) ويخبر دانتي عن يوم ميلاده، ويصف له مجد فلورنسا ومدى حدودها في أيامه والأسر العريقة التي كانت تزدان بها تلك المدينة الشيقة التي انحطت أرومتها وفسد طيب محتدها واتضعت أقدار القروم من أهلها الأعلين (17) ويرسل كاشيا جيدا حبل القول فيتنبأ لدانتي عما يتربص به من غدرات الزمان والنفي من حظيرة الوطن حين يعود أدراجه إلى الحياة الدنيا. ثم ينتحي ناحية ويتناول طرساً من أوراق الجنة، وقلما من قصباتها ويشرع في كتابة شعر طويل ريق. (18) ويمضيان فيريان طوائف شتى من أرواح المحاربين الشهداء الذين خاضوا معامع الحروب الصليبية يمرحون في أفياء الجنات الوارفة التي يهتز عنها المريخ؛ ثم ترسل بياتريس عينيها العميقتين في لازورد السماء، وتشير إلى دانتي فيعرجان في الأثير إلى جوبيتر (المشتري) الذي هو السماء السادسة في حساب شاعر الكوميدية وهناك يلقيان جموعاً زاخرة من أرواح الصالحين الذين حكموا بين الناس بالعدل ووزنوا بالقسطاط المستقيم. ويكون هؤلاء أنَّى توجهوا مكونين دائماً شكل نسر (رمز رومة القديمة). ثم ينتهي الفصل بحملة شعواء على رجال الأكليروس وما اشتهروا به من الطمع وحب الذات والتكالب على حطام الدنيا وجمع الأموال بالحق وبغير الحق؛ ويخص دانتي رجال البابا بالقدح الأكبر من هذه الحملة (19) ويتكلم النسر الذي تكوّنه هذه الجماعة بلسان واحد مبين، فيقص على دانتي السبب الذي من أجله اتُّخذ رمزاً لعظمة الرومان. ثم يتكلم دانتي كلام المتشكك عما إذا كان محتملاً أن (يَخْلُصَ) الرجل من الناس من عذاب الجحيم من غير أن يكون مؤمناً بالمسيح مصدقاً به، فينبري النسري للإجابة ويزيل الريب(163/30)
من نفس دانتي ويخاطبه في شأن أصحاب السيطرة والحكام من المسيحيين وما سيؤدونه من الحساب الثقيل يوم القيامة. (20) وكذلك يمتدح النسر عدل بعض الملوك وورعهم، ويكوِّن هؤلاء عين النسر نفسه، وفي إنسان عين النسر يقف النبي داود، وفي الدائرة المحيطة به يقف تراجان وحزقيال وقسطنطين ووليم الثاني ملك صقلية وزفيوس. . . ثم يوضح له كيف وصلت أرواح هؤلاء إلى الفردوس وهم لم يؤمنوا بالمسيح (ولكنهم عملوا بما جاء قبله من لدن الرب فاستأهلوا دار المثابة). (21) ويسموان في السماوات العلى، فيبلغان السماء السابعة التي هي سَاتِرْن (زُحَل) حيث يسمق منه سلم ذاهب في الجو لا تدرك آخره عينا دانتي. وفي زحل يلقيان أمماً من أرواح الصالحين الذين قضوا حياتهم الأولى في اعتزال وصوفية وتأمل. ثم يدنو منهما روح كريم نقي، وهو روح خليل المسيح الورع التقي بييرو داميانو (أحد كرادلة الكنيسة ومصلحيها العظماء) فيجيب على أسئلة كثيرة يوجهها إليه دانتي، ثم يقدح في ذمم القسس الأخسّاء ورعاة الكنيسة الذين فتنتهم الدنيا بزخرفها وصرفتهم عن وظائفهم الدينية وشغلتهم عن هداية الناس. (22) ويريان جموعاً أخرى من الأتقياء المتفكرين ومن بينهم القديس الأطهر بندكت الذي يذكر لدانتي أسماء أصحابه الراضين في ظلال الرب في فراديس زحل. ثم يستطرد فيذكر أن المسوح والزنارات وسائر ألبسة القساوسة ورجال الكنيسة لا قيمة لها ما لم تزنها مسوح من الخلق الكريم والتقى والنقاء. ويزيد فيقدح في خراب ذمم الرهبان والأحبار وفساد ضمائرهم. وينطلق الألفان فيعرجان إلى السماء الثامنة، سماء الأنجم الثابتة، التي يدخلانها من الهَنْعَة. ومن ثمة يرجع دانتي بصره كرتين إلى الوراء فتبدهه المسافة الهائلة بينه وبين الأرض (23) وهناك، يرى المسيح (صلوات الله عليه) يأخذ بناصر الكنيسة ويشد أزرها، ومن حوله الملائك الأطهار يسبحون لله ويلهجون بحمده. ثم يسمو السيد المسيح فيعرج في السماء العليا وفي أثره أمه البتول مريم، شاخصة إليها أبصار الجميع. (24) ويتقدم القديس بطرس من دانتي فيسأله بضعة أسئلة يعرف بها إخلاصه ونقاء إيمانه، ويجيب دانتي فيقنع القديس بالكلم الطيب والبيان البريء (25) ويتقدم القديس جيمس فيسائل دانتي عن الأمل، ثم يبدو القديس يوحنا فيدهش دانتي لرؤيته، ولكن القديس يمحو دهشه ويذكر له أنه عرج إلى السماء بروحه فقط، ولم يعرج إليها بروحه وجسمه إلا المسيح وأمه مريم. (26) ثم(163/31)
يسائله القديس عن الفضيلة فيجيب دانتي إجابات ناصعة. وينظر الشاعر فيشدهه أن يرى أبانا آدم، فيتأدب ويتقدم إليه، فيخبره أبو البشر عن كيفية خلقه وإقامته في الفردوس ومدى إقامته فيه، ثم ما تلا ذلك من خروجه منه وسببه، ثم عوده إليه، ويتظرف فيذكر له أسم اللسان الذي كان يتكلم به في بدء الخليقة ويعود القديس بطرس فيصل حديثه، ويحمل على خلفه حملة شعواء لما اتصفوا به من جشع ذهب برواء الأبرشية الرسولية، وينسى دانتي فيحدق نظره في بياتريس غافلاً عما أوصته به في أول الرحلة إلى الفردوس فتأمره أن يغضي. . . . فيفعل. . . . ثم يعرجان إلى السماء التاسعة حيث يطلعان على الحق الجلي من أمر هذا الخلق، وحيث يشهدان فطرة الطبيعة في جماع فضائلها، وتسخط بياتريس على الإنسان (ما أكفره. . . يكون أمامه الخير بيّنا والشر بيّنا، ثم يدلف بعلمه في طريق الشر، مضحياً هذا الفردوس من أجل هنات هينات) (28) ويؤذن لدانتي فيطلع إلى الوجود الإلهي، ثم يطلع إلى الخورس الملائكي يرسل ألحانه الكنائسية الرائعة في قبة الفردوس. (29) وتنظر بياتريس في مرآة الحق الإلهي (هكذا) فترى أن بضعة شكوك قد نفذت إلى فؤاد دانتي وظلت ثمة تساوره، فتضاحكه، ثم تفجأه بما يفكر فيه، وتجلو له ما نفذ إلى قلبه من ذلك الوسواس، وتذهب في القول مذاهب شتى، وتنتهي إلى ذم رجال الدين الذين شغلتهم الدنيا عن نصرة الإنجيل. (30) ثم يدخلان سماء المنتهى ذات السناء الساطع والضوء اللامع، ويكاد نظره ينبهر لولا أن تدركه بياتريس. . . ويرى إلى نهر الضوء المتألق فينظر كيف ينتصر الملائك على شرور العالم وكيف ينتصر معهم المؤمنون المباركون. (31) ويتلفت الشاعر فلا يجد فتاته إلى جانبه، بل يجد مكانها رجلاً طاعناً في السن إذا تفرس فيه عرف فيه القديس برنارد الذي يخبره أن بياتريس قد عادت إلى عرشها ثم يريه بركات العذراء مريم عليها السلام (32) ثم يريه كذلك أرواح القديسين الذين وردت أسماؤهم في العهدين (الجديد والقديم) (33) ثم يدلف القديس برنارد نحو البتول الكريمة فيرجوها أن تمنح بركتها لدانتي وتسبغ عليه من نورانيتها حتى يستطيع التأمل في عظمة الله. وتهب له مريم ما سأل، فينكشف الغطاء ويلقى دانتي ربه فيصلي له ويضرع إليه أن يهبه إشراقة يضفيها على كتاباته وأشعاره. ثم يؤذن له فيخطف لمحة من الثالوث المبارك العظيم الذي يتحد فيه الله القدير (جل وتعالى) بالإنسان.(163/32)
ويفيق دانتي، وتنتهي رؤياه العجيبة. وسنرى من الكلمات التالية كيف اقتبس الشاعر صور القرآن الكريم وأخيلة الإنجيل الجميلة، وطريقة فرجيل في الجزء السادس من الأنييد، فتم له هذا العمل الفريد.
(لها بقية)
د. خ(163/33)
من الشعر المنثور
فجر القبرة
(مهداة إلى صديقي الأمير عمر الأيوبي)
للأستاذ خليل هنداوي
كثيرون يعرفون القبرة بشكلها الرمادي الأدكن وصوتها الرفيع المرنان، ولكن القبرة من الطيور الغريبة في حياتها وتأملها للحياة. . . . روحانية تبلغ أسمى ما تبلغه الروح، ومادية تنحط كثيراً؛ ففي حالتها الأولى تراها تغزو أطباق الجو عند منبلج الفجر تردد الغناء سكري بالجمال حتى إذا بزغت الشمس فزعت إلى الأرض تفتش عن غذائها، ذاهلة عن غنائها، ومثل هذا المشهد قد يصور أحسن تصوير حالة الذين يرقون إلى شمس المعرفة بأرواحهم ثم لا يقدرون على مقابلتها فيهبطون. . فلا الأرض تذهلهم عن السماء ولا السماء تفصلهم عن الأرض، ولا شوقهم بمنطفئ، ولا أرواحهم بساكنة. . . هؤلاء هم كهذه القبرة.
(خ. هـ)
أسمعها: أسمعها بعيدة عني، دانية مني!
أسمعها يشق غناؤها الفضاء الذي تفتح جفناه
أسمعها يتسلل شعاع قلبها مع شعاع الفجر!
قد انجلت - يا قبرتي - غياهب الليل بعد ما ظننت أن هذا الليل سرمد لا يزول
وانزاحت عن الأفق كتائب الظلمة بعد ما خلت أن هذه الألوان الربداء لا تحول
أراك تمعنين في التحليق. . .
حتى لا أرى أنامل الفجر تجذبك إليها
فماذا تركت في الجو بالأمس؟
أشيئاً تتفقدينه كل مطلع فجر؟
أم أمانة تستلمينها من الفجر؟
أرى جناحيك يرفان ويخفقان!
يربدان طوراً وطوراً يلتهبان(163/34)
وصوتك الهازج المرن يصعد في السماء
تسمعه الأرض فتهتز قليلاً ثم يتوارى كأن لم يكن شدو ولا شاد
هي سكرة قدسية يا قبرتي ترفعك إلى الأوج السامق
ترفعك على جناحي الشوق وتنطقك بلغة الغناء
فما أسمى هذه السكرة التي لا يتخللها صحو!
وما أبدع هذا الشوق الذي لا يطفئه وصال
أنت من فجرك أيتها القبرة في صعود دائم
أنت من شوقك في وصال قائم
تمجدين الشمس قبل بزوغها وترفعين إليها صلاتك وغناءك قبل شروقها
حتى إذا لمعت في الأفق ووقعت عيناك على نورها الخاطف. .
فررت إلى أطباق الأرض غاشية العينين، واجفة الفؤاد!
ألا تتمهلين قليلاً حتى تراك الشمس
وأنتِ في الأطباق العالية تغنين لها!
ألا تتمهلين حتى تتمتع عيناك بالكوكب الساطع
ويرتاح قلبك إلى من خفق للقائه شوقاً وحنيناً؟
عينك لم تستطع أن تحتمل شعاع (الشمس)
وفؤادك ناء بإفراغ شوقه للمشوق
وفي اللحظة الأخيرة تراخى جناحاك وعشيت عيناك وتدحرجت على الأرض بعد أن
رقيت معارج السماء!
ألم تتذوقي لذة الشروق؟
ألم تطعمي طعام ذلك العالم العلوي؟
ألم يكشف لك عن خزائن ذلك الوجود؟
الشوق والغناء والويل والعناء كلها تذوب تحت لوائك أيتها الشمس!
ما وصلك الذي تتغنين به؟
ما شوقك الذي ملأ الفضاء(163/35)
ما سكرك الذي لا صحوة له؟ إذا كان نور (المعرفة) لا تحمله عيناك!
أتخافين احتراقاً في الأضواء
أتهابين التطلع إلى نور الشمس؟
أم تصلين كل يوم إلى الشمس. . . وتقفين على بابها فإذا أطلت تواريت من وجهها
المهيب، وآثرت أن تنحطي وتتدحرجي صامتة ساكتة
كأنك كلما صعدت مرة ذهب جزء من روحك وراءها في الفضاء
وهكذا حتى تتوزع أجزاؤك كلها وتبلغي المرحلة الأخيرة
وددت يا قبرتي أن أراك تزيدين إمعاناً في التحليق
وددت أن أراك تزيدين في صعودك حتى لا يبقى منك على الأرض شيء!
ووددت أن أغرودتك لا تزال تتردد في الجو مبتعدة عني حتى تصير أغرودة صامتة!
أهلاً بك أيتها العائدة من عالم الشمس! منتصرة أو منكسرة، ففي عينيك ذبول الشوق،
وفي قلبك لهيبه، وفي جناحيك وجيبه!
لم تذوقي بعد تلك السكرة العميقة التي لا يبقيها صحو
ولم يضرم قلبك ذلك الشوق الذي لا يسلمك إلا إلى شوق
لم تحبي بعد شمس (المعرفة) محبة شاملة، ولم تؤثري الفناء فيها.
أتخافين احتراقاً في هذه الشمس؟
ادني واقتربي أيتها القبرة من الشمس وواصلي أغنيتك حتى تحترقي. . .
وتردك الشمس إلى الشمس. . . يا فراشة الطيور المحترقة بغير لهيب.
خليل هنداوي(163/36)
الحجاب في الإسلام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
عاد الناس في هذه الأيام إلى الكلام في مسألة الحجاب، وكان سبب عودتهم إليها ما حصل من رغبة طائفة الهنود المنبوذين في الإسلام بعد خروجهم من ديانتهم، وقيل إن وجود الحجاب في الإسلام مما يستعمله بعض أعدائه لصرفهم عن الرغبة فيه؛ وقد حملني هذا على بيان حقيقة هذا الحجاب على صفحات مجلة (الرسالة) الغراء، لانتشارها في الهند وغيره من الأقطار الشرقية، ولعلي بهذا أقضي على هذه الدعاية الخبيثة التي يراد بها صرف تلك الطائفة عن الهداية الإسلامية.
ويجب لأجل أن نعرف حقيقة هذا الحجاب أن نذكر الآية التي نزلت فيه، وهي قوله تعالى في سورة الأحزاب: (يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث. إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق. وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب. ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن. وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيما).
وقد عرفت هذه الآية بأية الحجاب، وصار الحجاب في الإسلام اسماً لهذا الحجاب الذي نزل فيها، ولا يوجد شيء آخر مما يتعلق بالنساء يطلق عليه هذا الاسم. وقد نزل هذا الحجاب في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ويراد منه منع اختلاطهن بالرجال بحيث لا يراهن الرجال أبداً ولا يكلمونهن إلا مع هذا الحجاب. والحكمة في فرضه عليهن أنه أريد بعد تحريمهن على غير النبي صلى الله عليه وسلم قطع العلائق بينهن وبين الرجال، ليكون في هذا صونهن، والبعد بهن عمن أريد قطع أطماعهم فيهن. وقد جرى الإسلام في هذا على عادته من إعطاء الوسيلة حكم ما يتوسل بها إليه، سداً للذرائع، ولأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ويؤيد هذا ما في الآية من قرن هذا الحجاب بحكم ما بينهما من هذه العلاقة.
وقد نزل في ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة الأحزاب: (يا نساء النبي لستن كأحد من(163/37)
النساء، إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولاً معروفاً. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى. وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله؛ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً).
ولم يكن المقصود من فرض هذا الحجاب على أمهات المؤمنين إلا حجبهن عن الأنظار بحيث لا يراهن الرجال، فلم يكن عليهن حرج بعد ذلك في أن يخرجن للحج وغيره، ولا في أن يجتمعن بالرجال مع هذا الحجاب للعلم والتعلم، وتبليغ الأحكام التي أخذنها عن النبي صلى الله عليه وسلم لمن يريدها منهن.
وقد خرجت عائشة في هودجها للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، وقادت الجيش الذي حارب علياً رضي الله عنه في وقعة الجمل بالبصرة.
وقد مات صلى الله عليه وسلم عن تسع نسوة: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث بن حزن، وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وصفية بنت حي. وما من واحدة من هؤلاء التسع إلا وكان بيتها مجمعاً لطلاب العلم الذين يقصدونها من سائر النواحي، فيجلسون إليها ويستمعون حديثها، وتناظرهم في العلم ويناظرونها فيه، والحجاب مضروب بينها وبينهم، فيأخذون عنها بدون أن يروها.
وممن روى عن عائشة من الصحابة عمر وابنه عبد الله وأبو هريرة وأبو موسى وغيرهم من الصحابة؛ وممن روى عنها من التابعين سعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون وعلقمة بن قيس وغيرهم.
وممن روى عن حفصة من الصحابة فمن بعدهم حارثة بن وهب والمطلب بن أبي وداعة وعبد الرحمن بن الحارث وعبد الله ابن صفوان وغيرهم.
وممن روى عن أم حبيبة أخواها معاوية وعتبة وأبو سفيان ابن سعيد ومولاها سالم بن شوال وابن الجراح وعروة بن الزبير وغيرهم.
وممن روى عن أم سلمة من الصحابة فمن بعدهم أخوها عامر ومولاها عبد الله بن رافع وأبو عثمان النهدي وأبو وائل وسعيد ابن المسيب وغيرهم.(163/38)
وممن روى عن سودة ابن عباس ويحيى بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة.
وممن روى عن زينب ابن أخيها محمد عبد الله بن جحش وأم حبيبة وزينب بنت أبي سلمة.
وممن روى عن جويرية ابن عباس وجابر وابن عمر وعبيد ابن السباق والطفيل ابن أخيها وغيرهم.
وممن روى عن صفية ابن أخيها ومولاها كنانة وزين العابدين علي بن الحسين وإسحاق بن عبد الله ومسلم بن صفوان.
فلم يكن ذلك الحجاب الذي فرض على أمهات المؤمنين إلا لذلك الغرض الخاص دون غيره من أغراض الحياة، ولم يحل بينهن وبين القيام بمطالب دينهن ودنياهن، ولا بينهن وبين مشاركة أولياء الأمور في تدبير شؤون المسلمين. وقد كان الخلفاء يرجعون إليهن في كثير من الامور، ويسمعون إلى نصائحهن ويعملون بها.
ومن هذا أن عثمان لما اضطرب عليه الأمر في آخر خلافته كتبت إليه أم سلمى تنصحه:
يا بني - ما لي أرى رعيتك عنك نافرين، وعن جنبك مزورين؟ لا تعف طريقاً كان النبي صلى الله عليه وسلم ولجها، ولا تقتدح زنداً كان أكباها. توَخَّ حيث توَخَّى صاحباك، فإنهما ثَكَما الأمر ثَكْما، لم يظلما أحداً فتيلاً ولا نقيراً، ولا يختلف إلا في ظنين - هذه حق بنوتي قضيتها إليك، ولي عليك حق الطاعة.
فكتب إليها عثمان:
يا أمنا - قد قلت ووعيت، ووصيت فاستوصيت، ولي عليك حق النُّصتَةُ، إن هؤلاء القوم رعاع غَثرَة، تطأطأت لهم تطأطؤ الماتح للدّلاء، وتَلدَّدْت لهم تلدُّد المضطر، فأرانيهم الحق إخوانا، وأراهم الباطل إياي شيطاناً، أجررت المرسون منهم رسنه، وأبلغت الراتع مسقاه، فتفرقوا علي فرقا: صامت صمته أنفذ من قول غيره، ومزين له في ذلك، فأنا منهم بين ألسنة لدَادٍ، وقلوبٍ شداد، وسيوف حداد. عذيري الله! ألا ينهي منهم حليم سفيهاً، وعالم جاهلاً - والله حسبي وحسبهم يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
(للكلام بقية)
عبد المتعال الصعيدي(163/39)
للتاريخ السياسي
المعنى السياسي لانتخابات مجلس النواب الفرنسي عام 1936
للدكتور يوسف هيكل
مجالس النواب في البلاد البرلمانية الديمقراطية هي التي ترسم سياسة البلاد، فإن أحسن المجلس العمل كافأه الشعب على ذلك بإعادة الأكثرية التي تسند الحكومة إلى المجلس الجديد؛ وإن أساءه انفضت الأمة من حوله وأرسلت إلى مجلس النواب، حين الانتخابات عناصر جديدة لاتباع سياسة جديدة. ويسهل على الشعب معاضدة الأكثرية الحاكمة، أو الحكم عليها، في البلاد ذات الحزبين أو الثلاثة، كما هي الحال في بريطانيا؛ ويصعب عليه إلقاء التبعة على حزب، في البلاد ذات الأحزاب العديدة والتي لا تستطيع تشكيل حكومة إلا بعد اتفاق عدد منها على الاشتراك في الحكم: كما هي الحال في فرنسا. وعلى كل فإن الشعب يستطيع التمييز بين الأحزاب، وإن كثر عددها، فيقوى أحدها ويضعف الآخر.
والانتخابات الفرنسية الأخيرة التي جرت في 26 أبريل و3 مايو من هذا العام، ترى كيف أن المنتَخِب الفرنسي غير فكرته السياسية، فقوى أحزاب اليسار: الشيوعي والاشتراكي وأضعف أحزاب الوسط، بما فيهم الحزب الراديكالي وأحزاب اليمين. ومما لا شك فيه أن لعلمه هذا معنىً سياسياً. فما هي الأسباب التي دعته إلى تغيير فكرته؟ هذا ما نحاول إبانته في هذا المقال. غير أنه يحسن بادئ الأمر أن نعرض بإيجاز موقف مجلس النواب السابق تجاه الحكومة، لنرى كيف كان ذلك عاملاً كبيراً في تغيير الناخب الفرنسي رأيه في الأحزاب. وأخيراً نتساءل فيما إذا كان في إمكان مسيو بلوم تأسيس وزارة قوية ثابتة، أم ستجابهه الصعوبات التي جابهت زميله مسيو هريو؟
- 1 -
جدير بالذكر أن الشعب الفرنسي لم يرسل إلى مجلس نوابه يوم 8 مارس سنة 1932 هيئة في إمكانها تأسيس حكومة ثابتة ومتجانسة. وكل ما هنالك أن حكمه كان سلبيا. لقد أقصى عن الحكم الأكثرية السابقة، غير أنه لم يستعض عنها بأكثرية متجانسة. لقد أظهر عدم رضاه عن سياسة (تارديه ولافال) غير أنه لم يمكن مسيو هريو من الحكم.(163/41)
ليس بخاف أن الأحزاب في فرنسا عديدة، حتى أن عددها بلغ العشرين في مجلس النواب الأخير؛ غير أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع: فكان حوالي 180 نائباً من النوع المعتدل، و240 من النوع الراديكالي، و180 من النوع الاشتراكي. وبرغم أن الحزب الراديكالي كان متفقاً مع الحزب الاشتراكي حين الانتخابات وكونا (الجبهة الشعبية) ليفوزا على أحزاب اليمين، غير أنهما لم يكونا متفقين على إنشاء حكومة مشتركة بينهما، لأن مبادئهما الاقتصادية مختلفة. ولذا لم يكن في مجلس النواب الأخير أكثرية متجانسة تستطيع تأسيس حكومة قوية وثابتة.
وكان الحزب الراديكالي، وهو أكبر حزب في المجلس، (مفتاح الحكومة) فإن استطاع نيل تأييد الاشتراكيين له فيقال في اللغة البرلمانية، إن الحكومة (حكومة ائتلافية) وإن اشترك في الحكم مع المعتدلين، فيقال إن الحكومة (حكومة الاتحاد القومي).
ولقد رأى مجلس النواب الأخير هذين النوعين من الحكومات: فبعد أن فازت (الجبهة الشعبية) في الانتخابات شكلت (حكومة ائتلافية) كان فيها معظم الوزراء من الراديكاليين؛ لأن حزب مسيو بلوم لم يشترك في الحكم، ولكنه أيد الحكومة. وكان في يد الزعيم الاشتراكي مصير هذا النوع من الحكومة، فإن نزع ثقته منها سقطت فوراً. وقد استعمل مسيو بلوم هذه السلطة مراراً؛ فأدى ذلك إلى أزمات وزارية حادة تلا بعضها بعضاً بفترات قصيرة. وسقوط وزارات بونكور، دالاديه، وسارو السريع عام 1933 سبب (إفلاس) (الائتلاف).
وبعد (الفضيحة الستافسكية) وحوادث 6 فبراير، اضطر الحزب الراديكالي إلى ترك رئاسة الوزارة والاشتراك مع المعتدلين في الحكم. فتأسست وزارة مسيو دومرك، وتلتها وزارتا مسيو فلاندان ومسيو لافال. ودُعيت هذه الوزارات (وزارات الاتحاد القومي). على أن هذا الاتحاد لم يكن عاماً إذ لم يشترك فيه طرفا مجلس النواب أي الشيوعيين والاشتراكيين من جهة، والمحافظين من جهة ثانية. ولذا يمكن القول بأن هذه الوزارات ما هي إلا وزارات (ائتلاف أحزاب الوسط).
وفي المدة الأخيرة من حياة مجلس النواب الأخير، تخلى الحزب الراديكالي عن وزارة مسيو لافال، وعاد إلى نوع الحكم السابق أي إلى إقامة حكومة ائتلافية بالاتفاق مع(163/42)
الاشتراكيين؛ وعلى رأسها مسيو سارو.
وكل من الحكومات التي رآها المجلس الأخير لم تكن متجانسة، ولم تكن لها قوة حيوية كافية تستطيع بها مجابهة الصعوبات التي وقعت فيها فرنسا طيلة السنين الأربع الأخيرة. لأن الاشتراكيين لم يشتركوا عملياً في حكومات (الائتلاف)، ولم يأخذوا على عاتقهم أية مسؤولية؛ ولهذا كانت الحكومة (مشلولة) إذ وجب عليها مراضاة الحزب الاشتراكي كيما تحتفظ بثقته؛ وذلك لم يمكن الراديكاليين من تطبيق منهاجهم، والسير إلى الأمام غير ناظرين إلى مراضاة الخواطر. . . ولأنه لا يمكن لأي حكومة (اتحاد قومي) أن تضع منهاجاً فعالاً يرضى عنه جميع الأحزاب الذين يعاضدون الحكومة. فالسياسة الخارجية التي يريد تطبيقها أحزاب اليمين لا يرضى عنها الحزب الراديكالي، وسياسة الحزب الراديكالي لا يقبلها أحزاب اليمين. وفي الواقع فإن هذا النوع من الحكومة ما وجد إلا لظروف خاصة، ومتى ذهبت هذه الظروف تصدع الاتحاد، واتفق الراديكاليون مع الاشتراكيين، ودارت المعركة بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين. ولا غرابة في ذلك إذ الذي يبعد الراديكاليين عن الاشتراكيين هو اختلاف في السياسة الاقتصادية، أما الذي يبعدهم عن المعتدلين فهو الاختلاف على المبدأ إذ أن الراديكاليون يدينون بالنظام البرلماني، الذي دونه يصبحون لا شيء وهم متعلقون بجمعية الأمم التي هي تطبيق المبادئ الجمهورية في (الدائرة الدولية). وعلى عكس ذلك فإن كثيراً من المعتدلين يتساهلون في وجود الجمهورية دون أن يحبذوها ويدينوا بمبادئها، وهم يحكمون على مبادئ عصبة الأمم ويعتبرونها أكبر عامل على تعكير صفو السلام. . .
- 2 -
فالأزمات الوزارية الحادة التي حدثت خلال السنين الأربع الأخيرة، والأزمة الاقتصادية العظيمة التي جابهتها فرنسا ابتداء من عام 1932، والتضارب في السياسة الخارجية التي تولدت بين سياسة الحكومات الائتلافية وحكومات الاتحاد القومي. . . أدى إلى عدم رضى الشعب الفرنسي عن مجلس النواب السابق فأرسل في 26 أبريل و3 مارس أكثرية جديدة.
ولنلق بادئ الأمر نظرة عامة على انتخابات الدورة الأولى فنرى أن الذين فازوا فوزاً باهراً فيها هما طرفا مجلس النواب أي الشيوعيين والاتحاد الاشتراكي من جهة، والاتحاد(163/43)
الجمهوري الديمقراطي (حزب اليمين) من جهة ثانية.
والعاملان الإيجابيان اللذان أديا إلى هذه النتيجة هما؛ المعاهدة الروسية الفرنسية، وحزب الصليب الناري
غيرت حكومات الاتحاد القومي الثلاث الأخيرة مجرى السياسة الخارجية الفرنسية. فبعد أن كانت فرنسا تعتمد في المحافظة على سلامتها على عصبة الأمم ومبدأ (السلام المشترك): أخذ (المعتدلون) يبنون سلامة بلادهم على التحالف؛ أي سياسة ما قبل الحرب. فتقربوا من إيطاليا وعقدوا معها اتفاق روما عام 1934، وأخذوا يتفاهمون مع الروسيا فوصلوا إلى المعاهدة الروسية الفرنسية عام 1935. فهذه المعاهدات أظهرت للرأي العام الفرنسي أن فرنسا في حاجة إلى الروسيا لتدفع عنها الخطر النازي. . . ثم إن الروسيا، في السنين الأخيرة، غيرت مجرى سياستها الخارجية. فبعد أن كانت ثورية هدامة، أصبحت محافظة!. وذلك لأنها شعرت بحاجتها إلى مساعدة الدول الديمقراطية لترد عنها خطر الحكومة الألمانية التي تضمر لها شراً كبيراً وخطر اليابان. . . فوقفت في جنيف موقف المدافع عن السلام والذائد عن مبدأ (السلام المشترك)؛ وكان ممثلها في جنيف وفي لندن السياسي الوحيد الذي هاجم ألمانيا مهاجمة شديدة وتكلم عن خطر سياستها الخارجية بصراحة. ثم أن الشيوعيين الفرنسيين خففوا من حدة ثورتهم فأخذوا يتكلمون عن القومية ووجوب الدفاع عن الوطن. . . كل هذا أبان للرأي العام الفرنسي أن لا خطر من الشيوعية وأن كل ما قيل عنها مبالغ فيه. . . فكان فوز الشيوعيين فوزاً باهراً لم يتوقعه أحد.
وفي أواخر الثلث الأول من حياة المجلس التشريعي السابق قامت في فرنسا حركة (فاشستية) على رأسها الكولونيل (دي لاروك). فأسس هذا حزباً دعاه (الصليب الناري)، وحركته تماثل حركة (الفاشست) في إيطاليا (والنازي) في ألمانيا. . . وفي الأيام الأخيرة تقوى هذا الحزب، ويدعي الآن أن عدد أعضائه من القادرين على حمل السلاح بلغ ثمانمائة ألف. غير أن هذا الحزب الجديد لم يرشح أعضاء إلى مجلس النواب، بل إنه سند أحد أحزاب اليمين أثناء الانتخابات، فكان فوز (الاتحاد الجمهوري الديمقراطي).
(يتبع)
يوسف هيكل(163/44)
من مذكراته
للأديب أحمد الطاهر
خفت إليّ مع الصباح، وحيتني بتحيته، وعليها من الثياب سواد، فرددت عليها التحية في تلطف ورعاية ورفق، وجلست صامتة واجمة خائرة النفس منهوكة القوى شاردة الفكر. ثم أخذت تجيل النظر في المكان الذي احتوانا، وأخذتُ أختلس النظر إليها فإذا هي تنظر إلى الأرض، ثم ترفع البصر إلى السماء ثم تتجه إلي بنظرة وادعة حزينة، وفي هذه النظرات الثلاث تعبير صادق عما يختلج في نفسها من المعاني: من تفكير عميق فيما نزل بها من بأساء، إلى توسل إلى الله بالصبر والرضا للقضاء، إلى رجاء فيمن تزور ليدفع عنها بعض هذا البلاء.
ثم قالت: (إني أعلم ما كان بينك وبين زوجي رحمه الله من صداقة ووفاء وإخلاص؛ ولقد ذكر لي فيما كان يذكر من شأنه أنك كنت مثابةً له في الرأي، وعوناً في التدبير، ونصيراً في الشدة، أليس كذلك؟).
قلت: (نعم كنا كذلك، وكنت أجد فيه ما تذكرين لي. رحمه الله، وطيب ثراه).
قالت: (ما أفزعني إليك اليوم وفي هذا الصباح الباكر إلا ما يحز في قلبي حزاً، ويعصر فؤادي عصراً، مما أجد من همي وهم الناس: فأما همي فهو الذي تعرفه والذي إن أخفاه لساني أعلنته ثيابي، وأما هم الناس وما أحمل منه، فذلك فيما أرى فيهم من قلة الوفاء، وخراب الذمم، وتحجر الأكباد، وضيعة الأخلاق: فلقد كنت أسمع من والدي ووالدتي - رحمهما الله - أن الناس في العهد الغابر كان الواحد منهم ينطق بالكلمة فإذا هي بينه وبين صاحبه عهد لا ينقض، وميثاق لا يحل، وإلُّ لا ينكث به؛ أما اليوم فما أرى الناس إلا عن ذلك صادفين: يقول الواحد منهم ما يقول، وبعد بما يعد: فلا يقام لقوله وزن، ولا يحسب لوعده حساب، ما لم يسجل قوله ووعده في كتاب، بل لقد ينكرون ما خطت أيديهم في الكتب، ولو شهد عليهم شهود، ولهم في ذلك طرائق وحيل. هذا زوجي - رحمه الله - قد أقرض فلاناً مائة جنيه، ولست أدري إن كان قد كتب بها صكاً أم استوثق زوجي من صدق وفائه بلسانه، وقد ألحت عليّ الحاجة والوفاء لهذه البنت اليتيمة فطالبت الذي عليه الحقُّ بالحقّ: فمطلني، ثم ألححت، فردني، ثم رجوته فصدف عني، ثم توسلت إليه فنهرني، وما(163/46)
وجدت منه إلا إنكاراً وجحوداً، وجفاءً وصدوداً. ولما رجعت من عنده بخيبة الرجاء، واليأس من الوفاء، اندفعتُ أهدده وأتوعده برفع الأمر إلى القضاء. فأجابني بقوله: (وهل تحت يدك صك بهذا الدين؟). طار رأسي، وذهبت نفسي شعاعاً، وأحسست كأن الدنيا تضيق بي حتى لا تتسع إلا لعنقي تعصره عصراً، وما وجدت ما أدفع به قحته وإنكاره. لذلك جئت إليك بجملة من أوراق المرحوم لعلك واجد فيها صكاً أو سجلاً بهذا الدين أو ما يغني عن الصك والسجل. أرأيت خراب الذمم؟ أرأيت قلة الوفاء؟ أرأيت نكث العهود؟ أرأيت إلى الناس لا يستوثقون بالسان الحي الذي هو من صنع الله، ويستوثقون بالورقة الخرساء التي هي من صنع الإنسان؟ رحماك اللهم رحماك!!).
قلت: (خلي عنك يا أختاه. فلمثل هذا نزلت حدود الله. أما سمعت قوله تعالى (يأيها الذين آمنوا إذا تَدَايَنْتمْ بدين إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ، وليَكْتُبْ بينَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ، ولا يَأْبَ كاتِبٌ أَن يَكتُبَ كما عَلَّمهُ الله، فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِل الّذي عليه الحقّ وليَتَّق الله رَبَّه ولا يَبْخَس منه شيئاً.).
قالت: (سبحان الله العظيم! هذا كلام أزلي قديم وكأنما نزل لأهل هذا العهد الحديث، بل لكأنما نزلت هذه الآية لتكون فيصلاً بيني وبين هذا المدين.).
قلت: (وفي هذا وفي مثل هذا تجدين إعجاز القرآن الحكيم).
ودفعت إلي بالأوراق فنشرتها ونظرت فيها ورقة ورقة وهي مطرقة مغرقة في التفكير. وما انتهيت منها إلى ورقة أطلت فيها النظر حتى رفعت رأسها عن يدها ونظرت إلي متلهفة وقالت: (أوجدت الصك؟).
قلت: (لا. ولكني وجدت ورقة لعلها من مذكرات زوجك رحمه الله - وبودي أن أقرأها لك فستجدين في سماعها عزاء وروحاً. وستجدين زوجك فيها يتحدث إلى نفسه بخواطره ولكنه يسوق إليك وإلى ابنتك الحديث).
قالت: (اقرأ). . . . فقرأت:
(ما أسعد الإنسان المطمئن! وما أحلى الطمأنينة في كل شيء، هذه هي السعادة حقاً، وما أشقى الإنسان الحائر المضطرب! وما أمر الحيرة والاضطراب في أي شأن من شؤون الحياة! هذا هو الشقاء بعينه، ولست أدري لم حار الفلاسفة والمفكرون في تعريف السعادة(163/47)
واختلفوا، وما لهم لا يقولون إن السعادة هي الطمأنينة، وما لهم لا يستقرون إلى أن الطمأنينة والسعادة مترادفان بفهم من أحدهما ما يفهم من الآخر؟. أغلب ظني أن الفلاسفة والمفكرين يتسامون في التفكير ويحلقون في أجواء البحث فتدق عن أبصارهم هذه الحقائق البسيطة. السعادة هي الطمأنينة والشقاء هو الفزع.
هاأنذا أخرج من بيتي صباحاً أعدو إلى عملي ثم أروح وقد أديت العمل على خير ما يؤدى الواجب ويحمد لي الناس أداءه ويرضى ضميري عن أدائه. فأطمئن ولا يفزعني عن هذه الطمأنينة شيء من الأشياء فلم لا أكون سعيداً؟ ألقى الناس: منهم الصديق ومنهم العدو، ومنهم من لا تربطني به صلة وثيقة، ومنهم الكبير ومنهم الصغير، فيلقاني كل واحد من أولئك باسماً مصافحاً لا يسألني عن شأني ولا أسأله عن شأنه إلا بمقدار ما تدعو إليه العلاقة التي بيننا فلا يكون سؤالي وسؤاله إلا في رفق ولين ورغبة في العون إن كان بي أو به حاجة إلى العون. وإن لا نتساءل عن شيء فما يكون بيني وبينه إلا التحية وردها. فأنا بين هؤلاء وهؤلاء مطمئن وادع لا يفزعني عن طمأنينتي شيء من الأشياء. فلم لا أكون سعيداً؟
وتمضي الأيام والأسابيع والأشهر وما شاء الله من أقسام الزمن وأنا أغدو وأروح بين الناس وأختلف إلى ما يختلفون إليه من شؤون الحياة وأنا واجد في جسمي هذا النشاط وهذه القوة، لا يعوقني في سبيلي مرض ولا تقعدني علة، فأنا مطمئن إلى صحتي ما دمت صحيحاً، ولا يفزعني عن هذه الطمأنينة شيء من الأشياء، فلم لا أكون سعيداً؟
وأخْلاف الرزق في الحياة تصل إلى من طريقي كدي وجهدي وما ترك الوالدون من موارد الرزق للأبناء تصل إليهم في سعة أو في ضيق وأنا بذلك راض وإلى ذلك مطمئن: لا يفزعني عن طمأنينتي شيء من الأشياء. فلم لا أكون سعيداً؟
وأنا في كل يوم من أيام حياتي أؤدي إلى الله وإلى الناس ما يجب علي من الشكر والبر بقدر ما أستطيع وكيفما يجب: لا يصدني عن ذلك صاد ولا يصدف بي عنه صادف، فأنا مطمئن إلى علاقتي بالله وبالناس لا يفزعني عن الطمأنينة مفزع. فلم لا أكون سعيداً؟
أما إذا لقيت في عملي نصباً وعناء، أو أحسست من نفسي بنفسي عجزاً عن أدائه، أو قصوراً عن وفائه، فهنا يكون الفزع وهنا الخروج عن الطمأنينة، وهنا الشقاء.(163/48)
وإن رأيتُ الناس يمدون إليّ يد السوء، أو لسان السوء، أو عين السوء، فما أشد ما ألقى من الفزع والجزع، وهنا الشقاء.
وإن رأيت معاول المرض تعمل في جسمي، وتهد من قواي، وتبعث في هذا الجسم رسالات من الألم شديدة أو غير شديدة، فهنا الفزع وهنا الشقاء.
وإن رأيت. . . وإن رأيت. . . مما يحول بيني وبين السكينة ويوقعني في الفزع والاضطراب، فهنا وهناك الشقاء.
والسعادة والطمأنينة غاية ليس وراءها من شيء، ولا يجد السعيد المطمئن في مهاد السعادة ما يبعثه على التفكير في أسبابها، ومن أين أتت إليه، وأي السبل اتخذت إليه، لأنها اطمئنان واستقرار ورضا، وسبيل لا عوج فيه ولا التواء.
أما الشقاء - أعاذنا الله منه - فلا يكاد ينزل بالمرء حتى يفسد عليه نفسه، ويلقي بالحيرة في ضميره، فلا تهدأ النفس عن الاضطراب بين علله وسبل الخروج من مضائقه. ولا يهدأ العقل عن التفكير في هذه العلل وهذه السبل، ولا يهدأ الضمير عن أن يتخذ لنفسه أشكالاً وأوضاعاً يسميها الناس وخزاً وتأنيباً وندماً وقلقاً وتبرماً وحسرة؛ وما إلى ذلك من الأسماء تختلف باختلاف أنواع الفزع وأسباب الشقاء. وهنا يكون الشقي بين شقي الرحى: شقائه الذي نزل به واضطراب نفسه وعقله وضميره في مبعث الشقاء وسبل الخروج منه. وكثير من الناس يزيد في شقاء نفسه بنفسه حين يخطئ السبيل التي تؤدي إلى الخلاص من الشقاء، أو حين يضل عن هذا الثقب الصغير الذي نفذ إليه منه البلاء، أو حين يلتمس الراحة من العناء فيما لا يزكو بالعاقل التماس الراحة فيه.
وما من سبيل لأن تعدد للناس حصراً أسباب الشقاء. ولا سبل الخلاص من الشقاء، ولكنني وجدت سبلاً ثلاثاً، كلما أفزعت عن طمأنينة السعادة إلى مضطرب الشقاء لجأت إليها فوجدت فيها عزاء وشفاء وهناء.
أخلو إلى نفسي فأصل بينها وبين الله بالتفكير في خلقها، وفي الحدود التي وضعها الله بين العبد وربه، وبين العبد والعبد. وفي تحديد حياتها بأجل تنتهي عنده، وأقيس ضعفها بقوة خالقها، وحقَّها في الحياة بحق من أوجدها في الحياة، وأتبين ما رسم الله لعباده من مناهج وطرائق تؤدي إلى السعادة العاجلة في الدنيا، أو الآجلة في الأخرى، وما فرض على العبد(163/49)
أن يأخذ به نفسه إذا اشتد به الضيق، أو سد في وجهه الطريق، ثم أرجع إلى كتاب الله أقرأ فيه وأتبصر في معانيه، فأجد فيه للنفس شفاءها، وللروح غذاءها، وأجد قوة على احتمال الشقاء، وسبلاً للخلاص من البلاء، ويهون في نفسي كل ما هالها، ويصغر في عيني كل ما تعاظمهما، فما ألبث حتى تستشعر نفسي شيئاً من الصبر والرضا، ويشع في أعطافها وحواشيها نور من الأمل والرجاء، ثم تطمئن إلى ما تجد، ثم تخلو من الهم، وإذا أنا هادئ وسعيد.
أرجع إلى بيتي فتلقاني ابنتي الصغيرة متهللة مستبشرة، فأحملها بين يديّ وأقبلها وتمضي تحدثني بما أفهم ولا أفهم من لغوها، ثم تسعى بيني وبين أمها، ويطول لغوها وسعيها، ثم تنظر إلى كل منا وعلى وجهها الصغير آيات البشر بادية، وتحاول أن تشركنا في هذا المرح الذي تشعر به، وتود لو تفيض علينا منه. فيعز علي أن أعذب هذه الطفلة البريئة بعبوسي، ويكبر عليّ أن أكدر صفوها بوجومي، وأن أحمل إليها وإلى أمها همَّاً لا قبل لهما به ولا يد لهما فيه، ولا حيلة لهما في صرفه عني. فأتناسى ذلك الهم الذي كان مبعث شقائي ثم أنساه، وأمزق عن وجهي غشاوة العبوس التي كانت تغشاه، ثم أمحوها محواً، وإذا علي الوجه ابتسامة تكون قلقة حائرة أولاً، ثم تتصل بالنفس فتستقر وتصدر عن إحساس أخيراً، حتى إذا انصرف عن النفس بعض همها الذي ملكها خلت إليّ هذه النفس تحدثني ببعض ما يجب على الرجل نحو أبنائه وأهله. وتبسط لي كيف يجزى الطفل على بنوته وطهارته وضعف حيلته، وكيف تجزى الزوجة على أنوثتها الضعيفة. وأمومتها السامية الشريفة، ورعايتها لزوجها ووفائها له. فأذكر إذ ذاك العطف والحنان، والرعاية، والوفاء، وعرفان الجميل، وحسن التقدير، ويذهب هذا كله بما بقي في نفسي من همّ. وإذا أنا بعد هذا وبهذا مطمئن وسعيد.
وثالث هذه السبل هو هذا القلم الذي أكتب به: أصل بينه وبين نفسي فإذا ما فيها من الهم والأسى ينساب إلى قناته في سهولة ورفق واطراد، وإذا هو ينثر ما في النفس على الورق ألفاظاً وأسطراً وصحائف. وما أزال أكتب حتى يقف القلم، فأنظر إلى نفسي فإذا القلم قد استنزف كل ما فيها من الهم لم يترك بقية ولا ذُمَامَة. فأقرأ ما كتبت وأقيسه بما كان في نفسي، فإذا هو هو لا يزيد عنه بمقدار ولا ينقص عنه بمقدار. وإذن لقد أفرغت نفسي من(163/50)
الهم واطمأننت وإنني لسعيد.
ولعمري إن هذه السبل الثلاث لهي خير ما اهتديت إليه من سبل التخفيف من همي. وأنا فيما يحزبني من الأمر أتخذ سمتي إليها مجتمعة أو متفرقة، فأجد فيها راحة وشفاء واطمئناناً وسعادة. ولقد اتخذت سمتي الليلة إلى هذه السبيل الأخيرة (سبيل القلم) فكتبت ما كتبت وأحس أن ليس في نفسي أكثر مما كتبت.
وإذن لقد فرغت نفسي من همها واطمأنت وإنني لسعيد أهـ).
وما انتهيت من القراءة حتى نَظَرَت إليّ باسمة راضية، وتبددت عن وجهها سحابة الحزن والأسى وقالت: (أي والله، لهذا خير عندي من الصك ألف مرة. أكان رحمه الله يجد العزاء في كتاب الله، وفينا، وفي قلمه؟ قل لي بربك بِمَ أجزيه عن فضله وبره؟ وماذا أفعل بهذه الورقة وهي فيما أرى سجل حياته وعهده الكريم بين الله وأهله ونفسه.
قلت: (أكرميها).
قالت: (وكيف؟).
قلت: (تحفظينها عندك ذخرا، وأنشرها لك في (الرسالة) ذكرى).
اليوزباشي أحمد الطاهر(163/51)
في الأدب الإنكليزي
هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟
للسيد جريس القسوس
أخي ح. ش:
لقد مضى نحو عام على رسالتك التي بعثت بها إلي تطلب فيها أن أشرح لك المشكلة الشكسبيرية التي تثار من حين إلى آخر. واليوم أراك تبادرني بسؤال آخر قلما ألتفت له الباحثون في الأدب الإنكليزي. وقبل الإجابة على سؤالك لابد من لفت نظرك إلى الفصل الممتع الذي عقده الدكتور طه حسين تحت موضوع: (ليس الانتحال مقصوراً على العرب)، في كتابه (الأدب الجاهلي) بين فيه أن الانتحال لم يقتصر على العرب؛ بل كان عند الأمم القديمة، كاليونان والرومان، ولا أعلم هل في الآداب الأوربية الحديثة، خلا الإنكليزية، شيء من هذا؛ وكل أملي أن يتعاون الباحثون في الأدب على بحث موضوع الانتحال في آداب الأمم الحية، لعلهم بذلك يتوصلون إلى نتيجة مرضية، تشفي الغليل، وتنير السبيل أمام الباحثين في موضوع الانتحال عند العرب. أما في الأدب الإنكليزي، فلم يعرف الانتحال، على ما أعلم، إلا في القرن الثامن عشر؛ وقد يكون هناك شيء منه في غير هذا القرن، لكنه ضئيل تافه إذا قيس بما عُزِي إلى الشاعرين الكبيرين جيمس مكفرسن، توماس تشاترتن من الانتحال.
- 2 -
من هو مكفرسن؟
وقبل التطرق إلى البحث في الانتحال المنسوب إلى هذين الشاعرين، لا بد من كلمة مقتضبة، نترجم بها لكليهما، ذلك لما للحوادث في حياتهما من علاقة متينة بموضوع هذا البحث. لهذا نشرع بادئ ذي بدء بمكفرسن فنقول:
ولد جيمس مكفرسن قرب كنغوسي في سكوتلندا، في 27 أكتوبر سنة 1736. وكان أبوه مزارعاً وضيع النسب، فقير الحال؛ لكنه برغم ذلك استطاع بحذقه ودهائه أن يدخل ابنه جامعة أبردين وبعدها جامعة أدنبرغ ولقد عرف الشاعر صغيراً بالنبوغ الأدبي فألم(163/52)
بالشعر الغاليقي إلماماً كبيراً؛ ونظم وهو تلميذ ما ينيف على أربعة آلاف بيت من الشعر، نشر بعضها تحت عنوان (الانجاد) سنة 1750، وأهمل البعض الآخر لأمر ما.
ولقد زاده ولوعاً بالأدب ما لاقاه من تشجيع أصدقائه له على نشر منظوماته. ففي نيوفات مثلاً التقى بجون هوم وأطلعه على بعض قصائده، فأعجب بها، وأشار عليه بنشر بعضها، خاصة ما ادّعى أنها مترجمة عن الشعر السكوتلندي القديم مثل (مقطعات من الشعر القديم جمعت في جبال سكوتلندا، وترجمت عن اللغة الغاليقية) وهي في الأصل الإنكليزي كما يلي:
, , &
760)
ليس هذا فحسب، فقد أمدّه الدكتور هيوج بلاير بإعانة مالية مكّنته من نشر هذه الأشعار، ذلك لظنه بأن أكثر هذه الأشعار مترجمة غير موضوعة.
وفي خريف سنة 1760، زار الشاعر بعض القرى السكوتلندية، وعثر فيها على مخطوطات قديمة فافتتن بها، حتى أنه ما عتم أن ترجم أحدها بمعاونة الأديبين الكابتن موريسن والقس أ. غالي
وفي سنة 1761، أعلن اكتشافه لقصيدة حماسية موضوعها فنغال: نشرها تحت عنوان ضخم هو (فنغال في ستة كتب، مرفقة بقصائد أخرى متفرقة للشاعر أوسيان اسن فنغال، مترجمة عن اللغة الغاليقية).
وعنوانها الأصلي هو: -
, , , ,
أما فهو الاسم الذي وضعه مكفرسن للبطل الايرلندي الخرافي (فن) الذي آزر كثولن حاكم ايرلندا، ووقف معه في وجه خصمه العنيد سواران ملك لوخلين حتى تمكن في النهاية من قهره، وإيقاعه في الأسر.
وفي سنة 1763، نشر قصيدة أخرى حماسية، اسمها (تيمورا) ومجموعة شعرية موضوعها
أما تيمورا هذا فاسم قصر ملوك ألستر وفي هذه القصيدة تتمة الحوادث الواردة في فنغال(163/53)
أما أوشان فهو ابن فنغال نفسه؛ وقد كان فارساً منواراً، وشاعراً مجيداً؛ عاش على ما جاء في الأساطير الغاليقية في القرن الثالث ق. م.، وإليه يعزو مكفرسن وغيره من الأدباء هذه المنظومات الحماسية الرائعة، التي تدور على بطولة فنغال وقومه.
وجميع هذه الآثار الأدبية التي نشرها مكفرسن، معلناً أنها مترجمة موضوعة بأسلوب أقرب إلى النثر منه إلى الشعر؛ ذلك لما فيه من التسجيع والإيقاع المتكلف.
ويُعدّ أسلوب مكفرسن الأدبي من أروع الأساليب وأجملها وموضوع أدبه من أبعد المواضيع أثراً في تعجيل الحركة الإبتداعية ونشرها قبيل مجيء وردزورث. ولا يقتصر نفوذه على الأدب الإنكليزي فحسب، بل تعداه إلى الأدب الأوربي عامة، والألماني خاصة. فقد ترجمت منتوجاته إلى أغلب اللغات الحية وكان غوته وهردر الشاعر والنقادة الألماني الشهير من هواة أدبه.
ويروى أن ترجمة كيساروتي الإيطالية لقصائد مكفرسن، كانت من أحب الكتب إلى نابليون.
وبعد رجوعه من رحلاته الكشفية في سكوتلندا، تقلب مكفرسن في وظائف شتى، فمن سكرتير للجنرال جونستون في جزيرة فلوريدا، إلى عضو في البرلمان؛ وهو في أثناء ذلك لا ينقطع عن الاشتغال بالأدب، والنشر، وأهم ما نشره، خلاف ما عزاه إلى غيره من الترجمات الشعرية، كتاب (سر تاريخ بريطانيا العظمى)، ولقد ظل هذا دأبه، حتى وافته المنية في 17 فبراير سنة 1796، فدفن في زاوية الشعراء في وستمنستر أبي
- 3 -
مكفرسن والانتحال
كان صموئيل جونسن النقادة الإنكليزي الشهير ودكتاتور الأدب في القرن الثامن عشر، أول من نسب إلى مكفرسن انتحال أشعاره، وادعاءه أنها مترجمة من الغاليقية، فقد نشر جونسن سنة 1775 كتيباً اسمه (رحلة إلى جزر اسكوتلندا الغربية) هاجم فيه مكفرسن هجوماً عنيفاً، مبيناً أن مكفرسن إنما عثر على بعض الأشعار والمقطعات القصصية في الشعر الغاليقي القديم، فحاك من هذه المقطعات تلك القصائد المطولة، التي(163/54)
ادعى أنها مترجمة، ولقد زاد موقف مكفرسن اضطراباً، ورأى جونسن وغيره من خصوم مكفرسن، تأكيداً، أن الشاعر السكوتلندي ينشر الأشعار الأصلية في صيغتها الأولى، فيكون بذلك قد برر موقفه؛ ورد طعنات خصومه إلى صدورهم؛ وعذروه في ذلك عجزه عن القيام بنفقات النشر، وحين لم يستطع أن يصمد أمام الأدباء المعاصرين الذين انقلبوا جميعاً خصوماً له، لم ير بدّاً من العكوف على نظم بعض القصائد، والادعاء بأنها الآثار الأدبية الأصلية، التي نقل عنها.
ولقد أُثيرتْ بعد وفاته آراء متضاربة، حول صحة هذه القصائد؛ وانقسم الأدباء إلى خصوم وشيعة. ومن أشهر خصومه ملكولم لينغ فقد بيّن في ملحق كتابه (تاريخ اسكوتلندا)، سنة 1800، أن الأشعار الأوشانية ليست مترجمة، بل نظمها مكفرسن، وعزاها إلى غيره.
وطرق هذا الموضوع أدباء فرنسيون وألمان أخصائيون في الأدب الكلتي، ولفتوا أنظار مؤرخي الأدب إلى نقط مهمة تكشف عن الناحية المهمة من هذا الموضوع الخطير.
ومن خصومه أيضاً الدكتور دوجلاس هايد فقد ألف كتاباً اسمه ذكر فيه أن مكفرسن عرف الاسم الحقيقي لفنغال تمام المعرفة، إنما توخى التحريف والتحويل في هذه الأسماء ليوهم الأدباء أن أسماء أشخاص قصائده، إنما هي مترجمة ليس إلا.
ولقد عرض اسكندر مكبيان في فصل قيم موضوعه: ? في كتابه: قضايا الجمعية الغاليقية في غلاسكو لمختلف الآراء والنظريات المتعلقة بهذا الموضوع، وخاتمة ذلك الكتاب تتضمن خلاصة ما وصل إليه معظم الباحثين في هذه المشكلة؛ وخرج من هذا كله بنتيجة معقولة هي أنه لم يعرف في التاريخ شخصية باسم أو إنما جل ما هنالك بعض مقطعات في الشعر الشعبي الخرافي، فيها بعض الإشارات إلى أبطال ايرلنديين، لم يثبت التاريخ وجودهم في عصر ما. أما انتساب (فِنّ) إلى كورمك أحد ملوك أيرلندا القدماء كما هو ظاهر في القصيدة (فنغال)، فهذا أيضاً عار عن الحقيقة إن هو إلا نتاج زائف لخيال مكفرسن وتصويره الشائق.
وبذهب مكبيان إلى أبعد من هذا، فهو يرى أن اتخاذ الايرلنديين (فِنّ) بطلا قومياً ليس بالعجيب؛ إذ كلّل أمته، عند نشأتها وتكوينها الاجتماعي والأدبي، أبطال خياليون، تنسج حول شخصياتهم الأباطيل والخرافات النتعددة، فما (فِنّ) بالحقيقة إلا بطل شبيه بهرقل،(163/55)
وتيسيوس، وبرسُيْس. ولا يبعد أن يكون (فِنّ) هذا إلهاً محلياً، قدسه قومه، وجعلوا منه بطلاً قومياً. حتى (أوشان) الشاعر الذي ينسب إليه مكفرسن نظم كثير من القصائد التي تدور حوادثها على شخصية (فِنّ)! أقول، حتى هذا الشاعر، في رأي مكبيان، وليد الخيال! لم يعش قط في عصر ما. أما تفسير كونه ابن فنغال فليس بالأمر العسير، فهو لا يختلف بذلك عن غيره من الآلهة القديمة التي عرفت بالاختلاط مع البشر، والمساهمة معهم في الحروب، ومختلف الأحداث؛ وفي كثير من الأحيان التزاوج مع فئةٍ مختارة منهم.
أما جواب مكبيان الأخير على القول السائد، (أن فنغال عاش وأوشان أنشد)
فهو إنهما عاشا وأنشدا في نفوس الشعب الغاليقي، وأخيلتهم الخصبة. لأن الشعب وجد في هاتين الشخصيتين الخياليتين، مثلهم القومية والأدبية العليا مجسمة.
أما أنصار مكفرسن فيكتفون بالتشجيع لصاحبهم، دون الإتيان ببراهين وحجج دامغة، تدحض آراء خصومهم دحضاً، وتدفع بتهجماتهم العنيفة دفعاً؛ وخلاصة ما يرونه أن هذه الأشعار تاريخية، وأنها من نظم شاعر عاش في القرن الثالث ق. م. وشهد جميع الحوادث الحربية، التي ورد وصفها في تلك المنظومات الرائعة.
والحقيقة الراهنة لا تنشد في قول جونسن الخصم اللدود، ولا في أقوال أنصار مكفرسن المتحزبين، إنما تطلب في قول فئة تقف موقف العدل والحق من هذه المسألة.
والمقام يقصر عن التعرض لآراء جميع الذين يقفون هذا الموقف لكنا نكتفي بذكر أعظمهم شأناً وأبعدهم أثراً، وأقربهم من الحقيقة، أعني به الكاتب الكبير، والنقادة الاسكتلندي الشهير كامبل أوف إسْلويْ فقد وضع مؤلفاً في هذا الموضوع اسمه: (قصص شعبية في الجبال الغربية) فنّد فيه زعم جونسن أم مكفرسن نظم آثاره الأدبية نظماً، دون أن يتأثر بأشعار عامية قديمة، أو يقتبس منها أو ينقل عنها، وإن هذه الحوادث والأسماء الواردة في منظومات مكفرسن إنما هي موضوعة مختلقة، وردت ليست مترجمة. فهو يقول أن الأبطال الأوشانين، الذين وردت أسماؤهم في قصائد مكفرسن، عاشوا بحق، وعُرفوا قبل أن يدوّن مكفرسن هذه الأشعار بأعوام.
(البقية في العدد القادم)
جرجيس القسوس(163/56)
الصديق المنشود
للأستاذ فخري أبو السعود
تحيةً في النوى يا كهف آمالي ... من مُصطف لك دون الصحب والآل
يا مخلصاً ليَ في سر وفي علن ... وراعياً لي في بُعدي وإقبالي
ومن يغالي بودي ليس يبذله ... لزخرف العيش من جاه ومن مال
ومُسدياً فضلَهُ من غير مسألةٍ ... وعارفاً ليَ إفضالي وإجمالي
ومن يُفَرِّحه فوزي بمُطَّلَبي ... وليس يهْنِئُه أن ساء بي حالي
لا شامتاً في وقع الخطوب ولا ... جذلانَ غفلان في كربي وبلبالي
ومن إذا اغتابني المغتاب أصْمَتَهُ ... فليس يُطربه ما قال عذالي
وإِن رأى عِوَجاً بي لم يُسَرَّ به ... لكن يُقَوِّمُ آرائي وأفعالي
ومن يُمَحِّضني نصحاً وأقبس من ... ضياء حكمته في كل إشكال
ومن يماثلني نفساً ويشبهني ... هوى ويفقه أفكاري وأقوالي
ومن محادَثتي إياه أعذَبُ لي ... من وقع فاجئة النُّعمى وأشهى لي
ومن إذا زدتُه خُبْراً أزيد له ... حمداً ويَعظُم في عيني وفي بالي
ومن أرى وده نعم العزاء إِذا ... تقلّبت بيَ حالٌ أو قلا قال
ودٌّ أنزهه عن كل شائبة ... وأصطفيه بتقديسي وإجلالي
كم تاق قلبي إلى قُدْسٍ أُمَجِّدُهُ ... في عالم فائضٍ بالرَّيب مُنْثَال
قد بتُّ أرقب لقيانا وأنشدها ... على تعاقب أيام وأحوال
فهل لها موعد؟ فالعمر مرتحل ... وليس يُرْجىِ لِعَوْدٍ بعد ترحال
متى تعَارُفُنا؟ أم أين أنشده؟ ... فقد أطلت - وما ألقاك - تجوالي
لكَم توسَّمت من جهل صفاتِكَ في ... فتى فأَخلف فيه الخبرُ آمالي
لم يسْخُ لي بمغالٍ في الهوى لَهِجٍ ... دهرٌ سخا بمُلحٍّ في القلي غال
فخري أبو السعود(163/58)
الشلال
للأستاذ عبد الرحمن شكري
(فلعل الحياة كالماء تجري ... بين هذا الثرى وبين السماء)
(من القصيدة)
يا أخا الصمت في الجلالة والرو ... ع وصنو النكباء والهوجاء
إن في القلب لوعة ما تقضي ... أنت حاكيت همتي ورجائي
أحسب الخلد مثل مائك ينها ... ر ونفسي في مائه كالهباء
أنت فَجَّرْتَ في ضلوعيَ ينبو ... عاً من الشجو مسرعاً في دمائي
ليت أن الحياة مثلك تعدو ... لا تَرَاخَى مثل الجياد البِطَاءِ
إن للعيش كدرة تذر النف ... س ركوداً كآسِنٍ في نِهَاءِ
فأَعِنِّي على الأواسن من نف ... سي بفيض ينهار مثل البناء
يا ابن ماء السماء هل تذكر الرع ... د تحاكي إرزامه في الغناء
قد هددت الصخور تنشد خصبا ... أم لذخر تبغيه في الدقعاء
إنما أنت ناقم ينْصف السه ... ل بفضل الشواهق الشماء
تجعل السهل والحَزُونَ سواَء ... ليس نجد ووهدة بسواء
مَرِحٌ أنت أم كما يسرع الفا ... رس في نجدة إلى الهيجاء
لك بالشم مولد وعلى صد ... ر أبيك المحيط وقع الفناء
غير أن الميلاد في قمم الش ... م حِمام لهاطل الأنواء
فلعل الحياة كالماء تجري ... بين هذا الثرى وبين السماء
لك في النفس نشوة مثلما استش ... رف راءٍ من شاهقات العلاء
ويفيض النفوس مرأى جلال ... لك حتى تطير كالأنداء
فكأني في مائك الغمر أهْوى ... وكأني في كل دان ونائي
أنت أيقظتني وقد كنت وسنا ... ن فخلت الأكوان طراردائي
هاتف في خرير مائك قد أذ ... كرني عزمتي وماضي مضائي
أنت أصفى من الوداد وأنقى ... من حبور النعيم والسراء(163/59)
أنت أرجوحة لنفسي وصوت ... منك كالظئر هاتف بالغناء
أنت مثل الشباب عزماً وبطشاً ... وَوَضاَءً أحبب به من وضاَء
لك وقع الأقدار حتى لقد خل ... تك رمزاً رُمزتَهُ للقضاء
أنت كالدهر تأخذ الترب والعس ... جد حتى تعيده في الحباء
لم تهَبْ كرَّة الدهور ولم تج ... زع لذكر الشقاء والأرزاء
يا سليل السماء حَدِّث طويلا ... بحديث العلى وصدق السناء
تبعث الصخر من صخورك يزهو ... فوق صدر العشيقة الحسناء
سوف تغدو كالشيخ في أخريات ال ... نهر تسعى بهمَّة شمطاء
فاغتبط بالمضاءِ وامرح طويلاً ... كل شيء لطيَّةٍ وفناء
عبد الرحمن شكري(163/60)
ضيعة المنى!!
بقلم فريد عين شوكة
بعض الرضى يا شبابي ... عما ذَوى من رغابي
مضت عهود التمني ... عَجْلَى كمرِّ السحاب
فاسلك سبيل التعزي ... ودع حياة التصابي
وانعم ببعض الأماني ... من الزمان المحابي
واركض مع الدهر واهتف ... له بكل ركاب
إن الزمان غبيٌّ ... يلهو به المتغابي
يا حائراً في ضلوعي ... كزورق في عُباب
وباعث الدم يسري ... كالمُهل تحت إهابي
متى تصيب قراراً ... تغفو به أعصابي
متى تعود فترضى ... من رحلتي بالإياب
متى تهون الغوالي ... عليك بعد الذهاب
متى أراك بجنبي ... كراهب المحراب
جفا الحياة ووارى ... آماله في التراب
يا قلب صبرَك أطفئ ... به لواعج ما بي
فأنت وحيُ نزاعي ... وثورتي واضطرابي
شغلتني بأمان ... كواعب أتراب
تركزت في ضميري ... وغلغلت في شعابي
حي جننتُ هياماً ... بها وخف صوابي
ما بالها كذبتني ... وأسفرتْ عن سراب
وخلفتني منها ... في وحشة واغتراب
ظمآن أهفو لديها ... لرشفة من شراب
أسوان أصلي عليها ... نار الأسى والعذاب
يا حسرة المتمنِّي ... على الأماني الكِذابِ(163/61)
(منوف)
فريد عين شوكة(163/62)
حيرة
للأستاذ محمود شاكر
أشابَ القلبُ أم كَرِهَ الشبابا؟ ... وبان الأُنْسُ أم نسي الإيابا؟
وغالبني الأسى أم غالَبتْني ... حياةٌ تجعل الفَوْزَ اغتصابا؟
أتَغْصِبُني الدموعُ الصبرَ حتى ... أَرَى الدنيا أنيناً وانتحابا!
ويُبْدِلُني الزمانُ من التصابي ... ومن طَرَبي وُجُوماً واكتئابا!
وأَسْأَمُ لَذَّةَ الدُّنْيا، ولَمَّا ... أَذُقْ مِنْ لَذَّةٍ إِلا حَبابا!
فأِزْجُرُ لَذَّتي زَجْرَ اليتامى ... إذا ما الدهرُ أَمَّ بهم ذئابا
أفي وَهَج الشباب أعود هِمّاً ... يذودُ بضعفه النُّوَبَ الصِّعابا؟
وَأُطرِقُ للحوادث مستكيناً ... كجاني الشرِّ ينتظر العقابا!
وأُصبحُ في يدِ الدنيا أسيراً ... إِذا رام الفِكاكَ وَهَي وخابا!
كما عَلِقَ الحِبالةَ ذو جَناح ... ولم يَنْفَعُهُ أن صحِبَ السحابا
فصفَّقَ ثم رَنَّقَ ثم أَعْي ... يَحِنُّ لداره جوّاَ وغابا
أَمِنْ عَدْلِ الحوادث أن أُضَرَّى ... لأطْعَمَ إِثْرَ لذَّتِهِنَّ صَابا!
وأن أستقبل الغَدَ مُسْتثيباً ... فيُقْبِلَ، لا أفاد ولا أثابا!
وأحمِلَ من بناتِ الهمِّ قلباً ... إذا نهنهتُهُ زاد اضطرابا!
جزاكِ الله من دُنْيَا خَتُولٍ. . ... غَذَوْتِ القلبَ شكّاً وارتيابا
أنتهانى عن الجزعِ اللَّيالي ... وما تنفكُّ تتركني مصابا!!
فتَسْلُبني الأحبة عن عيان ... وتمتَحُني بذكراهم عذابا
وتسألني اختداعاً: أين بانوا؟ ... ومن يُجْرم توقَّح أو تغابى
سَلِي ما شئت، واستمعي شكاتي ... كمثل الدمع تنسكب انسكابا
أَعدْلٌ منكِ أن أجَّجْت قلبي؟ ... فلولا الصبرُ يمسكه لذابا
فصارعتُ الشجون وصارعتني ... إلى أن فُزْتُ بالبقيا غلابا
فإن الدهر يُنصف من تأبَّى ... ويمنع يائساً من أن يُجابا
ومن يُعط التجلد للرّزايا ... تيقَّن أن يصيب وأن يُصابا(163/63)
وسائلةٍ بظَهْرِ الغيب عني ... وعن جَلَلٍ من الأحداث نابا
تذكِّرُنِي الأحِبَّة ولَّوْا. . ... فزاد الدمعُ والجَزَعُ انتيابا
أحافظتي، فديتُكِ من صديق ... يسائِلُ من مضى عني وآبا
هي الدنيا تُفَرِّقُ ساكنيها ... وفي الذكرى تزيدهمُ اقترابا
ألا لا تَعْجَبي لِيَ من نحيبي ... فإِن أمامنا العَجَبَ العُجابا
محمود محمد شاكر(163/64)
بلبلتي. . .
بُلْبُلَتي! ما شِئت طي ... ري حُرَّةً وغَرِّدي
وَسَقْسِقِي في جَنَّةٍ ... من مُهجَتي وكبدي
// لا تحْسَبيني جئتُ بالْ ... قَيْدِ وذُلِّ المِقْوَدِ
تفديك روحي وَسَنَا ... عيِني وتَفْدِيكِ يدي
لن تدخُلِي في قَفَصٍ ... من جوهر مُنَضَّدٍ
بل تدخُلينَ قَلْبي الْ ... وافي فغنَّي وانْشدي
رَوْضي أنا، لا رَوْضَ له ... ذا العالَم المحدَّدِ
إن تَنْفَدِ الدُّنْيَا وَجَدْ ... تِ رَوْضَنَا لم ينْفَدِ
وأنت فِرْدَوْسي وفي ... ظِلِّكِ شِدْتُ مَعْبدي
لكِنَّني أحمِي ذِما ... ري وأصون مَحْتدي
وَأَدْفَعُ الذُّؤْبَانَ عن ... محَامدي وسُؤْدَدي
شَرْقِيةٌ أَنْتِ؛ وَبِي ... بقِيَّة من أحْمَدِ
فباركيهَا بارَكَ اللهُ ... علَيْكِ، واقْصدي
عليَّ مِنْ حَقِّكِ ما ... لَسْتُ عليه أعتدي
يا أملي البَسَّام هَا ... تِي (. . .) وأَسْعِدي
سَهِدْتُ فاشْفِي بعض ما ... في جَفْنِي المُسَهَّدِ
باريسُ ما باريسُ إنْ ... فرَّطْتُ في ذا الْبلد؟
فِرْعَوْنُ جَدِّي، وأبي ... عَدْنَانُ، فَهْو مُخْلدي
وَيَثْرِبٌ مَهْوى فُؤَا ... دِي حينَ مِصْرٌ مَوْلدي
والمجدُ في شُطئَانِ هـ ... ذا النيلِ فارضيْ واسعدي
(المحلة الكبرى)
(د. . .)(163/65)
القصص
قصة مصرية
قبلة. . . .
(الحوار في هذه القصة المصرية موضوع في الأصل باللهجة المصرية وقد عرب لانتشار الرسالة في الأقطار العربية)
للأستاذ دريني خشبة
كانت شغله الشاغل!
كانت تملأ أحلامه، وتحتل كل حنيةٍ من قلبه، وكان له قبلها حبيبات كثيرات من حبيبات الضرورة اللائى يعرضن في حياة الشبان، ثم ما يلبثن أن ينطفئ، كما تلتمع الشهب وتتلألأ، ثم ما تلبث أن تنطفئ، ويكون أحدها صاعقة تنقض على أحد فتسحقه. . . فلما عرفها، نسي هواه القديم الموزع، ووهبها حبه وإخلاصه ودموعه ودمه. . . ولو استطاع لوهبها كل حبه الذي ضيعه على الحسان عبثاً من قبل.
وكان لها هي الأخرى أحباء. . . ثلاثة أو أربعة. . . تنتقل بينهم كالفراشة الظامئة تمتص من كل زهرة رحيقها، ثم تلتمس الزهرة الثانية والثالثة. . . والرابعة التي تكون أطيب شذى، وأنضر منظراً، وأملأ بالعصير الحول. ثم عرفت (جمال) فشعرت كأن حاجزاً ضخماً قوياً يفصلها من الماضي الممتلئ بمتاعب الحب المصطنع، والهوى المزوق، والغرام الكاذب الخداع. وشعرت لأول مرة في حياتها بنسيم عليل يهب في صحرائها المتلظية فيجعلها جنة تصدح فيها البلابل، ويتبسم في أفنانها الورد، وترقص في حنيَّاتها الملائكة. . . وتنشد وتغني!
وكانت تهب من نومها فلا تفكر إلا في (جمال)، وتذهب من هذه الغرفة إلى تلك وشخصه ماثل ملء ناظريها، وحبه يغمر نفسها، وكان يتمثل لها أكثر كلما توجهت إلى الحديقة تقطف الزهر وتأنس إلى الطير، وتجلس عند حافة الغدير، وترسل نظراتها الحائرة المضطربة في الشمس الغاربة خلف النخيل البعيد. . . وطالما كانت تستسلم لوحدتها هذه فترسل عَبرةً صغيرة، صغيرة جداً، تخفيها في منديل حريري صغير، لم تكن حملته قبل أن(163/66)
تعرف (جمال).
وكان (جمال) بدوره يحبها ويفكر فيها، ولكنه كان فتى غيوراً من مصر، وكل فتيان مصر غُيُرٌ أشداء في الغَيرة، وهو كان يعرف أن (سُميّة) لم تكن له قبل أن يلقاها وتلقاه، بل هو كان يعرف اثنين أو ثلاثةً من أحبائها المدنفين بها، بل إن اثنين أو ثلاثة من أحبائها كانوا أصدقاءه، وكانوا يُسرون إليه، كل على حدة، بلاعج الحب الذي يعانون من (سمية)؛ وكانوا يشكون إليه دلالها وقلة اكتراثها بهم، فلم يتحدث إليه أحدهم عن (سمية) حديث سوء أو فحش، ولم يقل له أحدهم إنه نال من (سمية) خلوة فبثها غرامه، أو إنها حفلت به حين لقيها في الطريق فجزته عن ابتسام بابتسام، بل هم جميعاً كانوا في نصب من تمنعها الذي شف قلوبهم، وأضوى أجسامهم، وجعلهم في حيرة من أمرها.
على أن (سمية)، مع ذاك، كان لها أحباء تخلو إليهم قبل أن تعرف (جمال)، وكانت تعاطيهم من بضاعة الحب المُزْجاة قبلاً رخيصةً، غير حارة ولا وفية، ولا معنى فيها من هذه المعاني الرفيعة التي تصون الحب العذري، ويتجمل بسموها الهوى الطهري؛ وكانت تسرف أحياناً فتغشي المراقص والندى، وكانت تتضع فتحسو الخمر وتقبل الكؤوس، وكانت، من النشوة وجنون الشباب، تراقص الفتيان نصف عارية؛ وكان جسمها الجميل الممشوق، ونهدها البارز المتأجج، ووجهها المستدير الحلو، وخداها الموردان الأسيلان، وأنفها الدقيق وفمها الرقيق وذراعاها الناعمان. . . كان كل أولئك يجذب إليها قلوب الشباب المستهتر، وكانت قلوب الشباب المستهتر من حولها كالفراش حول اللهب، تنقذف فيه لتحترق!
وقد عرفها جمال هنا! في نفس المرقص الذي تعودت أن تغشاه أكثر من المراقص الأخرى. وقد قدمها إليه أحد أصدقائه القُنَّع الأغنياء على أنها غانية، ولكن جمالاً عرف فيها الفتاة العذراء بقلبها، النقية بسريرتها، المتبرمة بهذه الحياة التي مظهرها دنس وفجور وفسق، وباطنها ضمير معذب وقلب محترق ونفس شقية، ودموع مُكتَّمة وأمل مفقود. لقد كانت الأضواء المصنوعة البرتقالية والبنفسجية والصفراء والحمراء والبيضاء، تتكسر على ظهرها الأملس وصدرها المرمري، وساقيها الخِدلجين، فتزيد معاني الفسوق فيها في قلوب محبيها الذين لم يكونوا يعرفون منها إلا ما تعرفه شهواتهم وخباثاتهم، في حين كانت(163/67)
هذه الأضواء نفسها تضاعف معاني الطهر والبراءة فيها في نفس جمال. ولذلك ضغط على يدها الصغيرة الحلوة الناعمة ضغطاً هيناً ليناً حينما قدمها إليه صديقه. . . وكان لقاء هو أول الطهر في حياة هذه الغانية، وهو أول الأمل المشرق والرجاء البسام.
لقد ضغط جمال على يد سمية ضغطة نقلت إلى قلبها الواسع ما في قلبه النحيل من حب ناشئ، تذوقته فلم تعرف فيه تلك النجاسة التي عرفتها من أحبائها الآخرين، وحدثت نفسها فوجدتها تنتقل فجأة من هذه الأرض الممتلئة بالأدران، إلى سماء فسيحة أثيرية ممتلئة بالأناشيد والأماني.
وفكر فيها جمال، وكاد عقله يصدفه عنها ولكن قلبه جذبه إليها بشدة وعنف، فاستسلم كالحمل، وألقى بروحه كلها في قبضة سمية.
والتقيا في خلوة، بعد مقدمات غرامية طويلة كلها حيطة وكلها حذر، وجلسا في منزل جمال الخالي من كل مخلوق عداه، وذهبا يتجاذبان أطراف الحديث الحي. . . ثم صمتا فجأة وتوسطت بينهما نظرات مستطيلة غائرة ممتلئة مغناطيساً عجيباً. . . ولم يقو جمال على هذا السحر المنبعث من عيني سمية، فأطرف برأسه، وأخذ فوديه بين يديه، وانفجر يبكي كالطفل، وسمية تتفرس فيه وتتألم. . . ولا تدري ماذا تصنع!
سمية التي خبرت من ألوان الحب ألفاً وألفاً، لم تر في حياتها مثل هذا المشهد العجيب مرة واحدة، لأن كل الذين اكتووا بنارها كانوا من طلاب جسمها الخصب، وجمالها الفتان، أما جمال، فقد عرف من ابتساماتها الحزينة، ونظراتها المترعة بالمعاني أنها جديرة بغير هذا اللون من الحب الشهوي الدنس، جديرة بحب جديد نقي يوائم هذه الناحية المستورة العميقة من نواحي نفسها الكريمة الرحيمة الناقمة على الحياة، الباحثة عن قلب واحد كريم من ملايين القلوب التي يزدحم بها العالم من حولها.
دهشت سمية، وجلست تلقاءه مسبوهة اللب ذاهلة القلب، لا تدري ماذا تقول، ولا كيف تعالج منه هذا البكاء وذلك النحيب. . . لقد كانت تظن أنه يستطيع أن ينال منها كل ما يشتهي، فإنهما بنجوة من الناس، ولا أحد يستطيع أن ينفذ إليهما ولو بنظرة. . . فلم لم يداعبها جمال؟ ولم لم يداعب كفيها على الأقل؟ لمَ لمْ يجلس إلى جانبها على الكرسي الرحيب فيضع رأسه على صدرها كما يفعل العشاق، أو يأخذ رأسها فيضعه على صدره،(163/68)
ثم يبحث بفمه في شعرها المجعد الأسود الفاحم! لماذا لم يحاول أن يُقَبِّلها؟ إن القبلة هي عربون الحب كما يقولون! فلم لا ينقض جمال على فمها الحلو فيسقي من سلافته قلبه الظامئ؟ لا! لم يفعل، ولم يحاول أن يفعل. . . بل ظل يبكي كالطفل. . . بكاءً ساكناً هادئاً، لأنه صادر من القلب، بل من أعمق أغوار الروح. . .
(أ. . . أظن بحسبك ما بكيت يا جمال؟
(. . .؟. . .
(أهذه أول مرة إذن؟. . .
(سمية. . .
(جمال. . .
(أتعطيني موثقاً يا سمية؟
(وعلى أي شيء أقاسمك يا جمال؟
(على أن تكوني لي وحدي يا سمية. . . على أن تقطعي صلتك بكل من عرفتِ قبلي
(وهل عرفت أحداً قبلك؟ أنت واهم!
(أنت تهزأين بي يا سمية!
(لا. لست أهزأ بك، بل. . . أنا. . . أحبك
(وأنا. . . وأنا يا سمية. . . بل لقد فنيت فيك
(ثق أنني لم أقلها لأحد قبلك على كثرة من تعرف ممن ظننتهم أحبائي!
(إذن ستكونين لي وحدي! أليس كذلك؟
(سأكون لك! وأقسم لك إنني لم أكن لأحد قبلك
(وعلام تقسمين يا سمية؟
(أقسم على نفحة السماء التي غمرت قلبي حين ضغطت على يدي ليلة لقيتك. . . بل أقسم على الدموع الغزيرة الغالية التي ذرفتها أنت الآن!
ودنا منها جمال. . . وصافحها، ولكنه لم يقبلها؟!
ونقل من القاهرة إلى أسيوط، وانتقلت (سمية) معه، ثم تزوجها هنالك، ولكنه كان يعاشرها كما يعاشر الفنان دُميته، يهواها ويتعبدها، على عكس ما يقول الشاعر العربي؛ وكان شديد(163/69)
الغيرة عليها، وكان يغيظه منها كثرة الخطابات التي ترسلها إلى القاهرة والتي تصل منها، وكانت هي لا تبالي أن تقع هذه الخطابات في يده فيقرؤها، ويمزق منها ما يشاء، ويبقي على ما يشاء ويرد إليها ما يشاء. ولكن خطاباً واحداً أهاجه بما حمل إلى سمية من عبارات ليس يصدر مثلها إلا عن فؤاد العاشق ولا يستطيع أن يكتبها إلا قلم وامق. . . وإن تكن التي كتبته امرأة كما يُظَن من الإمضاء.
(ومن عَلِيّة هذه التي تكتب هذا الأسلوب المتهدج يا سمية؟)
(الأسلوب المتهدج؟)
(آي. . . الأسلوب الذي يخفق بحبك، ويتنزل كالوحي عليك؟)
(جمال! ماذا تريد أن تقول؟)
(لا شيء! ولكني أعبدك يا سمية! أعبدك! أسمعتِ!)
(بل أنت تعذبني بشكوكك!
(فقط أريد أن أعرف من علية هذه؟)
(أقسم لك بدموعنا إنها فتاة. . . ولكن لا تعرفها!)
(. . . . . .؟. . . . . .)
وذهب جمال إلى (المصلحة) وغادر سمية تجتر آلامها وحدها؛ وكان قد أهدى إليها صورته يوم أن تقاسما على أن يكون كل منهما للآخر، وكانت سمية تعتز بهذه الصورة أيما اعتزاز، لأنها كانت تذكرها بالقلب الذي نبض بحبها غير مشوب بغرض دنيء، كما كانت تذكرها بأول نبضة خفق بها قلبها بحب بريء. . . فكانت تدمن النظر إليها وتبكي. . .
وعاد جمال مرة من عمله مغضباً حانقاً، لأن لئيماً من أصدقائه عرف أنه تزوج من سمية فكتب إليه خطاباً بإمضاء مستعار يهيجه به، ويذكر له من تاريخ صاحبته ما يريد أن يفصم به عرى تلك الرابطة التي ربطت قلبيهما، فتعجل جمال موعد انصرافه، ويرجع إلى المنزل ليرى رأيه في سمية، وليضع حداً لافتتانه بها، وليخلص ضميره المعذب من هذا الشقاء الطويل.
وكان يحمل معه مفتاحاً لسكنه، وكان كل مرة يفتح الباب دون أن يسمعه أحد، وكان بذلك يؤلم سمية غاية الإيلام، لأنها كانت تعتقد أنه يتجسس عليها.(163/70)
ودخل في ميعاد مبكر لم تكن تنتظر مجيئه فيه، وسار بخطى متئدة حتى كان عند باب المخدع، فوجدها بين مصراعي دولابها الكبير تقلب أوراقاً، ثم تتناول من بينها صورة فتحدق فيها نظرها. . . وتلثمها وتبكي. . .
وكان السافل الوغد الذي كتب إليه الخطاب الذي أهاجه قد ذكر له أنه أهدى إليها صورته أكثر من مرة، وأنها أهدت إليه صورتها، فوقر في قلبه أنها تلثم الصورة المجرمة التي تدخرها ككنز لهذا الحيوان.
وفي ثورة جنونية، انقض جمال على سمية، وضغط بكفيه القويتين حول عنقها، فوقعت على البساط الوردي الفخم، بين الموت والحياة!
ولكن. . . وا أسفاه! لقد نظر إلى الصورة التي كانت بيد زوجته فوجدها صورته التي كان أهداها إليها ليلة الموثق، فأفاق من وسواسه، وانحنى يقبل سمية بفم مجنون، وشفتين مرتجفتين، ولكنها لم ترد عليه بكلمة. . . فحسبها قد قضت!
وصاح جمال بالخادمة. . .
ثم هرول إلى الخارج ليحضر طبيباً. . .
ولكنه عاد ليجد الخادمة تقول له:
* (سيدي. . . لقد سافرت!
* (سافرت؟!
* (أجل. . . سافرت إلى القاهرة! هكذا قالت لي، وهاك خطاباً منها. وفض جمال الخطاب فلم يجدها زادت على هذا السطر.
(جمال! اضطررتني اضطراراً أن أعود إلى الذئاب لتغتذي بمرضي وتوغل في دمي، والذي يؤلمني أنني أكاد أضع لك ولداً في طريقي إلى القاهرة!!).
وكاد جمال يختنق!
وهرول إلى المحطة لأنه نظر إلى ساعته فوجد أن القطار لا يتحرك قبل عشر دقائق. . . ولكنه وصل إلى المحطة ولم يجد سمية هناك، فانتحى ناحية وأخذ يفكر. . . ثم ذرف دموعاً سخينة أخفاها في منديله، وأيقن أن سمية قد سافرت في سيارة.
وعاد إلى المنزل محطم القلب مهدم الجسم خائر القوى.(163/71)
ولكنه ما كاد يطرق باب المسكن حتى سمع صوصوة، ثم دخل فرأى طبيبة كأنها ملاك تحمل بين يديها ابنه. . . المولود الصغير. . . ورأى سمية ممدودة على السرير ضعيفة موهونة واهية فانهمرت الدموع من عينيه، وتقدم إلى الطبيبة فاحتمل الطفل وطبع على جبينه ذي الأسارير قبلة باكية، ثم سمع سمية تقول:
* وأنا أيضاً يا جمال!
* (وأنت أيضاً ماذا يا ملاكي؟
* (وأنا أيضاً. . . قبلة مثل هذه. . .
فانحنى على وجهها الحزين وطفق يقبله حتى طبع عليه ألف قبلة، والطبيبة العذراء تنظر وتتعجب!
وكان الفصل شتاء، وكان الموقد يتأجج بجمر شديد ونظرت سمية فرأت جمالاً يخرج من جيبه خطاباً ويحرقه، فتبسمت وهي تقول:
(ضحية جديدة لا بد؟!
ولكن جمالاً لم يرد. . . . بل مضى يساعد الطبيبة في لف الطفل!!
دريني خشبة(163/72)
ذكرى. . . .!
للقصصي الفرنسي موباسان
بقلم الأديب محمود البدوي
ما أمتع الربيع وغصن الشباب رطيب وماء الحياة يجري! وما أشجاه والشباب يولي والرأس يشتعل والحياة تدبر! لا زلت أذكر أي مخاطرة عظمى كانت الحياة في تلك الأيام الخوالي، وقد اعتدنا أن نجوب معاً خلال باريس رائجين مع الصبا بقلوب نزقة ونفوس مرحة، يملؤنا الرجاء، وتحف بنا النعماء، دون أن نعير الدنيا التفاته أو نحسب لها حساباً.
سأقص عليك إحدى هذه المغامرات التي وقعت لي منذ أمد مديد وعهد بعيد، حتى يصعب علي الإقرار بصحتها والتسليم بما فيها. كنت في الخامسة والعشرين من عمري، ولم يمض علي في باريس غير عهد قصير. كنت أخرج كل أحد مجدا في البحث عن مخاطرة أو مغامرة وأنا ممتلئ شباباً وفتوة. والآن. . . ما الذي تشابهه أيام الآحاد؟ أيام مروعة يضيق فيها المرء ذرعاً بكل فكر يثبته أو يتحدث به وبكل صحب يرافقه.
استيقظت في ذلك الصباح مبكراً وفي نفسي هذا الإحساس بالحرية الذي يعرفه أولئك الذين يعملون طيلة الأسبوع والذين ينظرون إلى يوم الأحد كيوم راحة وحرية. فتحت نافذتي ورمقت الجو البهيج وحرارة الشمس الفائضة والعصافير المغردة.
ارتديت ملابسي على عجل، وخرجت لتمضية يوم في الغابة الحبيبة خارج باريس، وكانت المدينة كلها تلمع في ذلك اليوم المشمس، ووجوه المارين تفيض بالبشر والسعادة لحياتها وسط هذا الجلال الرائع، وانتظرت على شط النهر ذلك القارب الذي سيقلني إلى (سان كلو).
وانتظاري بهذا القارب بدا لي كأنه مخاطرة في نفسه، فقد تصورته آخذاً بي إلى نهاية الدنيا، إلى أمصار عجيبة جديدة. وشد ما ابتهجت عندما لمحته قادماً كقطعة صغيرة من السحاب أخذت تكبر تدريجياً حتى لاحت أمامي، ورست على امتداد الرصيف.
ركبت القارب فألفيت نفسي وسط رهط من المتنزهين الذين ينعمون بلذائذ الأحد ومتعه، ووقفت على سطحه أرقب الأرصفة والمنازل والأشجار وهي تتوارى عن العين، حتى خلفنا باريس وراءنا، وانساب بنا القارب إلى ماء هادئ ساكن، تحفه السهول وتقوم على(163/73)
جانبيه التلال الشاهقة، وفي أسفلها الغابات والأحراج والمراعي الخضراء الرطبة.
نزلت في (سان كلو) وتخطيت مسرعاً القرية الصغيرة ثم أشرفت على الطريق الذي سيقودني إلى الغاب، وكان معي خريطة لباريس وما يجاورها، ولذا فلن أضل الطريق إذا وليت وجهي شطر إحدى هذه الطرق الصغيرة التي لا تعد والتي تؤدي على اختلاف امتدادها إلى الأحراج. وبعد فحصها رأيت أنه علي أن أتيامن ثم أتياسر ثم أنعطف إلى اليسار ثانية إذا وجب أن أصل فرساي وقت العشاء.
سرت متمهلاً أسحق الأوراق الجافة بقدمي وأنشق الهواء العليل المعطر ناسيا كل ما يتصل بالمكتب والعمل والرئيس، وفكرت فقط في المستقبل المجهول الذي سيزاح لي ستره، والذي فيه كثير من الجمال المحتمل. وذكرتني بساطة الريف عهد الطفولة وجعلتني أشعر حقاً بأنني رجعت إلى الحياة طفلاً. فهناك نفس الزهور التي كنت أرى مثلها يانعة حول باب منزل أمي الصغير والحشرات التي في لون اللهب وهي تنساب متثاقلة على أنصال العشب الذي ينحني تحت ثقلها الضئيل.
أخذتني عيناي، وحملت بكل هذه الأشياء، ولما قمت كنت منعشاً تماماً وواصلت رحلتي. امتدت أمامي طرق جليلة من نبات السرخس وقد خطط بصف من زهر الكاميليا الأبيض الطويل. وهنا تبينت في نهاية الطريق شخصين قادمين نحوي، رجلاً وامرأة، ودار بذهني أنني سمعت من ناداني فحنقت على هذا التطفل الذي عكر علي صفو وحدتي الهادئة. وكانت المرأة تلوح بمظلتها والرجل في قميصه ذي الأكمام حاملاً معطفه على ذراعه ومشيراً لي.
استدرت وانتظرتهما وكانت المرأة تسير بخطوات سريعة قصيرة. أما الرجل فأفسح المجال لقدميه وكان يلوح عليهما الضجر والتعب.
تكلمت المرأة أولاً:
(سيدي. . . هل لك أن تتكرم بإخبارنا أين نحن؟ قال زوجي إنه يعرف كل فتر الريف المحيط ومع هذا فقد ضللنا الطريق!.)
(سيدتي أنت قادمة من فرساي وفي طريقك إلى سان كلو)
والتفتت إلى زوجها بحقارة:(163/74)
(ماذا! إننا قادمون من نفس المكان الذي نرغب العشاء فيه!!)
وهزت كتفيها معنفة ومزدرية الرجل الذي ارتكب هذا الخطأ.
كانت حسناء في رونق شبابها وربما كان هذا هو الذي حملني على إخبارهما عن رغبتي في العشاء بفرساي. وأخذنا بأطراف الحديث. . . ووبخت زوجها الحائر وهو كأنما أخذته نوبة جنون يعوي عواء غريباً في خفوت كأنما لا تسمعه آذان غير أذني.
(تيـ يـ يـ ـت. . . . تيـ ـيـ يـ يـ يت)
واستطردت زوجه تقول:
(أنت دائماً مخطئ، فأنت الذي قلت إن (لاتورنيه) يسكن في شارع دي مارتز والواقع أنه لا يسكن هناك، وأنت الذي قلت إن (سلست) ليست لصة مع أنها كذلك، وأنت و. . .
وأخذت تلوم زوجها على كل أفكاره الخائبة وأعماله وجهوده الضائعة في مدة حياته الزوجية.
وعبثاً حاول زوجها إسكاتها بقوله:
(ولكن يا عزيزتي. . . أمام هذا السيد. . . ما الذي سيتصوره. . . ليس هذا بسار له).
وختم هذا بصياحه البربري الوحشي الذي بدا لي أنه عارض فجائي لحالة عصيبة مضطربة، وهنا تحولت الزوجة الصبية إلي وغيرت سلوكها بسرعة وقالت:
(إذا كان السيد لا يعارض فسنرافقه وعلى هذا فلا خوف علينا من التيه في الغاب).
فانحنيت. . . وجذبت بذراعي إليها وأخذت تحثني عن آلاف الأشياء، عن نفسها، عن حياتها، عن أسرتها، عن العمل، وزوجها يسير بجانبها ناظراً من مرة لأخرى بلهف يميناً وشمالاً صائحاً.
(تيـ يـ يـ يت)
فقلت له أخيراً:
(ما الذي يجعلك تصيح هكذا؟)
فأجاب بقلق:
(فقدت كلبي الصغير المسكين وما أتم الحول، أخذته معي اليوم لأول مرة ليرى الريف وكاد أن يجن من الفرح، كان يتوثب وينبح ويجري إلى الأحراج، ربما يموت جوعاً إذا ضل(163/75)
السبيل، أواه، الصغير المسكين).
فعنفته زوجه (إنها غلطتك. . . أنت أبله. . أه. . إنك تحملني على الغضب).
غربت الشمس وأخذ الضباب المتكاثف يحجب حوافي الريف، وتأرج الغاب بعبير الزهور الذابلة. . توقف الزوج يبحث في جيوب صديريته باهتمام.
(عزيزتي إني آسف. . . . نسيت. . .).
فرمقته وهي تتميز من الغيظ.
(ما الذي تعمله الآن؟).
(يبدو لي أنني نسيت محفظتي. . . وفيها نقودي).
فامتقع لونها من الغضب.
(لقد عيل صبري. . . آه. . أيها الغبي. . حتى النساء ترمي بمثل هذا المأفون. . . اذهب وابحث عنها حالاً، وحذاراً من العودة بدونها، أما أنا فذاهبة إلى فرساي في حماية هذا السيد فلا أرغب في المبيت في الغاب).
فأجاب بوداعة:
(حسناً. . يا عزيزتي. . . وأين أراك؟).
فحدثته عن مطعم معين أنيق جداً، ووعد بموافاتنا هناك، ثم غادرنا يبحث عن كلبه. . .! ومن آونة لأخرى كنا نسمع الصياح الحاد:
(تيـ يـ يـ يـ يت) الذي أخذ يتضاءل كلما بعد.
وتكاثف الضباب فحجب أعالي الأشجار وانساب في خلال الفروع واستطعت بعد لأي أن أميز بناء جسم مرافقتي، ونحن نسمع من حين لحين صياح (لامنتابل):
(تيـ يـ يـ يـ يت).
وأسرعت الخطى سعيداً جذلاً بهذه الرياضة الجميلة في الغسق مع امرأة مجهولة تستند على ذراعي وتميل نحوي. وبحثت عن أشياء أقولها عن عبارات سامية، أو نكات مستملحة. . على أني لم أوفق لكلمة واحدة. والحق أقول ما كنت في حاجة لشيء من هذا.
ووصلنا إلى طريق رحب تقع على يمينه مدينة كبيرة في واد خصيب وسالت ماراً عن اسمها فأخبرني أنها بوجيفال فدهشت.(163/76)
(بوجيفال!. . أمتأكد أنت؟).
(حسن!. . . تصوري بأنني ولدت هنا).
وأخذت المرأة النحيلة تضحك لإضلالنا الطريق بقلب طروب، فعزمت على ركوب عربة إلى فرساي ولكنها رفضت.
(أه. . لا. . حقاً. . . إني لا أتعطش إلى ذلك ولا أتلهف عليه، وزوجي في استطاعته أن يراني في وقت ما، وأضف إلى هذا أني سأكون أمام مخاطرة سارة لم أرها من قبل).
ودخلنا مطعماً على حافة النهر، واجترأت على طلب غرفة خاصة. . . والحق أنها. . . متعت نفسها. . استسلمت. . كنا في حالة نشوة لذيذة. . غنت وشربت الخمر، وفعلت أكثر من هذا. . . فعلت في الواقع كل ما تستطيع عمله. . .
محمود البدوي(163/77)
البريد الأدبي
مصير الآداب بين مسيو هربو والشاعر بول فاليري
عقدت لجنة التعاون العقلي الملحقة بعصبة الأمم مؤتمرها السنوي في جنيف في أواخر يوليه، برياسة المفكر الإنكليزي الكبير الأستاذ جلبرت موري، ومثلت فيها معظم الأمم المنضمة إلى العصبة؛ وجرت فيها عدة بحوث ومناقشات في المسائل الفكرية والأدبية، وكان مما لفت الأنظار بنوع خاص حوار طريف دار حول مستقبل الآداب بين أديبين كبيرين من ممثلي فرنسا هما المسيو ادوار هريو رئيس الوزارة الأسبق والمسيو بول فاليري الشاعر الكبير.
يرى مسيو بول فاليري أن أولئك المفكرين الذين يتذوقون جمال الشعر وروعة الأدب يختفون في عصرنا شيئاً فشيئاً حتى غدوا قلة محسوسة؛ وربما شهدنا في المستقبل القريب انقراض القارئ المفكر المتمهل؛ ذلك أن السينما والسيارة والأخبار السريعة التي تلقيها الصحف كل ساعة قد شغلت الأفكار، وأحدثت في الأذهان اضطراباً مريعاً، وأودت بقواعد النقد والكتابة السليمة، وأخذت الأذهان تعدل شيئاً فشيئاً عن البحث والتعمق إلى التعميم والبساطة السطحية، ووصلت العدوى إلى أولئك الذين اعتادوا من قبل أن يزنوا آراءهم وأن يمحصوها، فمستقبل الأدب الرفيع اليوم في ميزان، وليس بعيداً أن يطفو الأدب الشفوي على كل أنواع الأدب السليم الهادئ.
على أن مسيو ادوار هريو لا يرى رأي زميله المسيو فاليري، فهو أكثر منه تفاؤلاً بمستقبل الأدب الرفيع، ومن رأيه أن تطور الفكر الغربي يسير في مجراه الطبيعي، وأن الأدب يشغل مركزه الهام في المجتمع الجديد الذي يتكون اليوم. ويقول مسيو هريو إن الأدب سيبقى حياً دائماً، ذلك أن وحدة الذهن والأدب الحقيقي يرتبطان برباط قوي، ولا يتسنى للأدب أن يعيش وحده على هامش الذهن. وما دام هناك أدب رفيع فسيكون هناك قراء، فليخرج الأديب والفنان كل منهما نتائج فكره، فيجد دائماً من يتذوقها.
ويرى مسيو هريو أنه إذا كانت ثمة في آداب عصرنا بعض نواحي الضعف والسقم، فإن ذلك يرجع إلى آثار الحرب الكبرى. ذلك أنها كما أضرت في الماديات، أضرت في العقليات أيضاَ، وأصابت حركة التفكير بويلاتها.(163/78)
وقد كان هذا الحوار الطريف مثار التعليق الكثير في دوائر الأدب، ونحن أميل إلى الأخذ في ذلك الموضوع برأي الشاعر بول فاليري، ويكفي أن نلاحظ ما أحدثته السينما والراديو ووسائل التسلية الفنية والشفوية من ضعف في الحركة الأدبية، لندرك أن الأدب الرفيع يسير إلى مستقبل غامض مجهول. فما رأي أدبائنا؟
برنارد شو في الثمانين من عمره
احتفل برنارد شو، واحتفلت معه إنكلترا، ببلوغه الثمانين من عمره (في الخامس والعشرين من يوليه) وفي ذلك اليوم قامت جمعية الحفلات بتمثيل روايته الشهيرة (جان دارك) ولبث برنارد شو طوال اليوم عاري الرأس، مشمر الساعدين، يطوف بلحيته البيضاء حول المسرح ليشرف على الاستعدادات، ويدلي بنصائحه للمس وندي هلر التي تقوم بتمثيل الدور الأول. وقد رأى برنارد شو أن يفاجئ أصدقاءه بهذه المناسبة بإحدى طرائفه فذكر لهم جميعاً أنه جمع من المال ما يكفيه، وأنه يستطيع أن يشتري لنفسه كل التحف والهدايا التي يتصورها الذهن، ولذلك فهو يرجو ألا تتعدى أثمان الهدايا التي ترسل إليه ثلاثة سنتات؛ فصدع أصدقاؤه بالرجاء، وجاءت السلال إلى فناء الدار تحمل أقلاماً من الرصاص، وأمشاطاً، ودفاتر للكتابة وأسلحة وأمثالها.
وقد ألقى برنارد شو في ذلك اليوم بتصريحين: أولهما أنه بهذه المناسبة يود أن يتجول قليلاً في جبال بلاد الغال، والثاني أنه لا يرى في الواقع فرقاً بين الاحتفال بعامه الثمانين وبين الاحتفال بعامه التاسع والسبعين.
تكريم الأستاذين أحمد أمين وعبد الرحمن عزام في دار الأيتام
ببيروت
لا تترك إدارة دار الأيتام في بيروت فرصة مرور أديب كبير أو رجل خطير إلا وتخف إلى تكريمه والاستفادة من علمه ومعرفته، حتى لقد أصبحت هذه المؤسسة في طليعة المؤسسات العلمية في الحاضرة بعملها على هذه الغاية وسبقها إلى كل مكرمة علمية، يقوم على إدارتها رجل شاب مثقف، دل على همة ونضوج في عمله، تراه لا يألو جهداً في تحسين هذه الدار والتقدم بها تقدماً محسوساً يرفع عنها (دالة اليتم) وإن تكن مصنوعة(163/79)
للأيتام.
كانت حفلة التكريم من الحفلات الرائعة التي تجلت فيها العاطفة العربية التي تربط بين الأقطار العربية على اختلاف مواضعها. بدأت الحفلة بكلمة مدير المؤسسة السيد محمد عبد القادر طبارة، شكر بها الزائرين على تلبيتهم الدعوة، وعلل الأسباب التي يكرمون بها الأستاذ أحمد أمين؛ ثم قدم المحاضر إلى منصة الإلقاء، فعالج موضوع الفقر وأسبابه ومعالجتها، فجعله آفة اجتماعية لا آفة سماوية يمكن التغلب عليها، ثم حلل الفقر وجعل له أسباباً طبيعية يتغلب العلم على كثير منها، وأسباباً غير طبيعية يجد لها المخلصون علاجاً في إخلاصهم، وهنا ذكر ما يجب على الحكومات عمله في طرد الفقر، وما يجب على الأوقاف التي تجمدت في ذهنها معاني الإحسان! وكان الأستاذ محدثاً موفقاً في محاضرته، خالباً ألباب سامعيه، داخلاً في نفوسهم، محللا موضوعه تحليل الطبيب الاجتماعي. وما أن انتهت المحاضرة حتى خف الزائرون إلى الميتم يتفقدون حجراته، فرأوا في هذه المؤسسة من الأناقة والترتيب والتقدم ما يشهد كله للقائمين على هذه المؤسسة الخيرية بالهمة السامية والعمل الكامل. وبعد لأي بدأت حفلة التكريم فما قلت جمالاً عن أختها، فتكلم حضرة مفتش المعارف السيد واصف بارودي كلمة عن أثر اللغة وربطها بين الأقطار، وعن آثار الأستاذ أحمد أمين، ثم ألقى الأستاذ جورج كفوري مدير الدروس العربية في المدرسة العلمانية كلمة بليغة في تحليل أسلوب الأستاذ أحمد أمين، وخصمه بمزايا منها: نزاهة في التحليل، وغوص على أعماق المسائل؛ وأيد قول زميله الدكتور طه حسين فيه: (إنه يعمل كالكيماوي في مختبره). ثم ألقى السيد كاظم الصلح خطاباً قيماً عن جهاد الأستاذ عبد الرحمن عزام، وعن وطنيته الدافقة التي تعلن الحرب في كل ميدان عربي، لأنها مؤمنة جد الإيمان بعروبتها، وهنا نهض الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام مبلغاً تحيات الأستاذ عبد الرحمن الذي حال بينه وبين قدومه العاجل إلى العراق، وأكد بكلامه أن البلاد العربية ساعية إلى وحدتها التامة ومتلافية فيها لأن كل شيء يسبقها على تقريب ذلك وليس فجرها ببعيد. وختم الحفلة الدكتور سليم إدريس شاكر لليتيم الذي سهل للحشد الكريم اجتماعه وتعارفه، ثم انصرف الناس تلهج ألسنتهم بالشكر والثناء الجميل على ليلة كانت من ليالي الدهر.(163/80)
خ. هـ
حول نقد
قرأت في العدد 160 من (الرسالة) للأديب عباس خضر نقداً لقصيدة القاياتي. ولكني لم أستطع فهم رأيه في قول الشاعر:
يقولون إن الراح للفكر صيقل ... وربك ما في الراح عقل ولا فكر
فالأديب قد أخذ على الأستاذ المغالطة في هذا البيت وهذا قوله فيه:
(فأن خلو الراح من العقل والفكر لا يمنع من أن تصقل الفكر، وهناك كثير من الأشياء تصقل الفكر وليس لها عقل ولا فكر).
فهو قد فهم أن علاقة الراح بالعقل والفكر علاقة الملك ورأى أن للراح عقلاً وفكراً ولكني أستطيع أن أقول إنه ليس ثم مغالطة فالشاعر لم يقصد إلى ذلك ولم يعنه وإلا لكان جديراً به أن يقول:
وربك ما للراح عقل ولا فكر
ولكان البيت حينئذ سليماً والمعنى مستقيماً مع رأي الأديب.
ولكن الشاعر لم يرد ذلك ولم يعمل له وإنما يعني نفي العقل والفكر عن شارب الراح وكيف تصقل الراح العقل والفكر وهي تذهب بهما فلا وعي ولا تفكير، وذلك نظير قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) فالإثم ليس فيهما وإنما في تعاطيهما.
ولو كان الشاعر يعني رأي الأديب لكان البيت ضعيف المعنى ضعيف السبك لا يجدر بشاعر حدث بله الشاعر عميق الفكرة دقيق الالتفات.
وكيف ينعى الشاعر على القوم قولهم إن الراح تصقل الفكر ثم يقرر ذلك.
محمد جمال الدين محمد
مدرس
النشيد القومي - الغلطة الأولى(163/81)
يدور بين الأدباء كلام كثير حول اختيار هذا النشيد الذي وضعه الأستاذ محمود صادق، والأمر بتلحينه واتخاذه نشيداً قومياً لمصر؛ ولا يعنينا أن نخوض الآن في شيء من ذلك.
ولكن الذي يعنينا أن أحداً من الأدباء لم ينتبه للأغلاط الموجودة في هذا النشيد، وهي أغلاط فاحشة، ولم تتنبه كذلك وزارة المعارف، ولم يتنبه علماء الدين إلى جملة في النشيد تؤدي بمن يعتقدها من المسلمين إلى الكفر الصريح! وهذا هو موضوع العجب! كأن الجميع اتفقوا على إهمال هذا النشيد وتركه يوم من تلقاء نفسه، وأصرت وزارة لمعارف من جهة أخرى على ألا يموت.
ونحن نذكر الغلطة الأولى في هذا النشيد، ونطلب من أنصاره الإجابة عنها، فإن فعلوا استفتيناهم في غيرها، وإلا اعتقدنا أنهم عن غيرها أعجز.
يقول واضع النشيد: (سأهتف باسمك ما قد حييت).
وهذا الشطر يتكرر في النشيد كله من أوله إلى أخره. والمعروف في قوانين العربية أن (قد) في مثل هذا التركيب تكون لتحقيق وقوع الفعل، فهي تمحص الفعل الذي بعدها للماضوية كما تقول قد رأيت، أي رأيت وانتهى زمن الرؤية؛ فإذا كان ذلك فما معنى تعليق فعل وقع وانقطع على فعل سيقع في المستقبل وهو (سأهتف)؟
إن معنى الكلام هو بالضبط كقولك سأهتف باسمك في المدة التي عشتها، وهذا بالضبط كما تقول سأقابلك أمس. وكل ذلك تركيب فاسد لا يمكن أن يستقيم في العربية. ونحن الآن نطلب مثالاً من العربي الفصيح تكون (قد) مستعملةً فيه بين ما المصدرية والفعل الماضي الذي سيؤول معها بمصدر، فإن وجد المثال فليتفضل من يدلنا بذكر الكتاب ورقم الصفحة.
س. ط
كلية الآداب(163/82)
العدد 164 - بتاريخ: 24 - 08 - 1936(/)
خَضَع يَخْضع. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وقال صاحب سر (م) باشا فيما حدثني به: جاء ذات يوم قنصل (الدولة الفلانية) من هذه الدول الصغيرة التي لو علم الذباب في بلادها أن في مصر امتيازات أجنبية لطمعت كل ذبابة أن يكون لها في بلادنا اسم الطيارة الحربية. . . ورأيته قد دخل عليّ شامخاً باذخاً متجبراً كأنه قبل أن يجيء إلى هذا الديوان لمقابلة الحاكم المصري - قد تكلم في (التلفون) مع إسرافيل يأمره أن يكون مستعداً للنفخ في الصور. . .
جنى صعلوك من رعايا دولته على مصري فأُخذ كما يؤخذ أمثاله وقضى ساعة أو ساعتين بين أيدي المحققين يسألونه الأسئلة الهينة اللينة التي تحيط بتعريفه من ظاهره ولا يشبهها في سخافة المعنى إلا أن يسألوه عن ثيابه من أي مصنع هي في أوربا. . . فزعم القنصل أنه كان يجب أن يكون حاضراً يشهد التحقيق لأن جناية أجنبي على مصري تقع أجنبية. . . فلها شأن ورعاية وامتياز؛ وادعى أن المحققين ضايقوا المجرم وعاسروه وتجهموه بالكلام؛ ولهذا جاء يحتج.
ورأيته جلس متوقراً كأنما يشعر في نفسه أنه أثقل من مدفع ضخم لأن في نفسه وهم القوة، وخيل إلي أنه يرى موضعه بين السقف والأرض إذ يحمل في رأسه فكرة أنه الأعلى، وكانت له هيئة صريحة في أن الأجنبي المقيم هنا ليس هو كل الأجنبي، بل لا تزال منه بقية تتممها دولته؛ وفي الجملة كان الرجل كلمة واضحة مفسرة تنطق بأن للقانون المصري قانوناً يحكمه في بلاده.
وأنا قد درست القانون الدولي وعرفت ما هي الامتيازات وما أصلها، وهي لا تعدو كرم الأرنب التي زعموا أنها كانت تملك حماراً تركبه وترتفق به فسألتها أرنب أخرى أن تردفها خلفها، فلما اندفع بهما الحمار استوطأته فقالت لصاحبته: يا أختي ما أفره حمارك! ثم سكتت مدة وأعجبها الحمار فقالت يا أختي ما أفره حمارنا. . .
وكنا نحن الشرقيين من الضعف والغفلة بحيث لم نبلغ مبلغ الأرنب في حكمتها وتدبيرها فإنها أسرعت ودفعت صاحبتها وقالت لها: انزلي ويلك قبل أن تقولي: ما أفره حماري.
قال: غير أني في تلك الساعة نسيت القانون الدولي وكنت في إلهام مصريتي وحدها،(164/1)
فظهر لي ظهوراً بيناً أن لا شيء اسمه القانون الحق في هذه الدنيا؛ ولكن هناك اتفاقاً بين كل خضوع وكل تسلط هو قانون هاتين الحالتين بخصوصهما.
وأسرعت إلى الباشا فأنبأته، وأسرع الباشا فغير وجهه وتبسط وتهلل وتهيأ بهذا لاستقبال القادم العزيز كأنه أخص محبيه يتطلع إلى مؤانسته وقد جاء يزوره في داره. ثم دخل القنصل ولم أسمع مما دار بينهما إلا الكلمة الأولى وهي قول الباشا: لنبدأ يا سيدي من الآخر. . .
وكانت في الباشا موهبة عجيبة في اختلاب الأجانب خاصة، يديرهم بلباقة كالخاتم في إصبعه حتى قال لي أحدهم: إن لهذا الباشا حاسة زائدة لو سميت حاسة الإرضاء لكان هذا اسمها الطبيعي، وإنه يعمل بها كما يعمل المفكر بتفكيره. فهو يبتكر الأساليب الغريبة التي يصعد ويهبط بها ميزان الحرارة النفسية، وأن جليسه يكاد يشعر من مهارته في التمثيل أن في جو المكان ستاراً يرفع وستاراً يسدل بين الفصول.
فما لبث القنصل أن خرج بغير الوجه الذي دخل به، ولكنه عبس في وجهي أنا وتكرَّه لي كأنه أصغر شأني فازدرتني عينه فوثبت إلى رأسه فكرة الامتيازات. وهذه القوة الظالمة لو أنها كانت قوة قاهرة نافذة وأعين بها طفيلي ليقتحم دور الناس آمنا مطمئناً - لاستحى هذا الطفيلي أن يأكل بها إذ تجمع عليه التطفل والمقت معاً؛ ولو قيل لحسام بتار: إن لك امتيازاً على بعض السيوف ألا تقارعك، وإنك محمي أن تنالك سطوتها إذا قارعتها - لأنف أن يسمى سيفاً بهذا أو بمثل هذا فإن القوة الظالمة التي يعيرونه إياها ليست إلا مهانة لشرف القوة العادلة التي هي فيه.
قال صاحب السر: ووصفت للباشا هيئة القنصل التي انصرف بها وتقطيبه في وجهي وقلت له: إن الذبابة وقعت في صَحْفتي أنا من هذه الوليمة. . . فضحك بملء فيه ثم قال:
ستبطل هذه الامتيازات وليس بيننا وبين نهايتها إلا أن ينتهي الشعب إلى حقيقته القومية، فما تركها في مكانتها إلا نزول الشعب عن مكانته. وتالله لكأن هؤلاء الأجانب يسألوننا بهذه الامتيازات: أين مكانكم في بلادكم. . .؟
أتدري ما قاله هذا القنصل حين تجاذبنا الحديث فيها بعد أن وضعت نفسي منه في موضع المحامي الذي يخذله الدليل فيحاول أن يستنزل كرم القضاة بعرض بؤس المتهم على(164/2)
شفقتهم ليخفف القانون الذي في أيديهم بالقانون الذي في أنفسهم؟
[إنه قال: لا يلومن الشرقيون إلا أنفسهم، فهم علموا الأجانب أن نتف ريش الطير أول أكله. وهذه الامتيازات إن هي إلا معاملة بيننا وبين طبيعة الخضوع في الشعب. نعم إنها مضرة ومعرة، وظلم وقسوة، ولكنها على ذلك طبيعة في الطبيعة؛ فما دام هذا الشعب لين المأخذ فإن هذا يوجد له من يأخذه، وما دامت الكلمة الأولى في معجم لغته السياسية هي مادة (خضع يخضع)، فهذه الكلمة تحمل في معناها الواحد ألف معنى، منها: ظلم يظلم، وركب يركب، وملك يملك، واستبد يستبد، ودجل يدجل، وخدع يخدع؛ فهل يكثر أن يكون منها للأجانب امتاز يمتاز؟
قال صاحب السر: ثم زم الباشا فمه وسكت، ففهمت الكلمات التي انطبق فمه عليها وإن لم يتكلم بها، ثم غلبه الضحك فقال: والله يا بني لو أن برغوثاً طمر من ثوب صعلوك أجنبي فوقع في ثوب صعلوك وطني فتقاتلا فقبض عليهما فأُخذا لما رضي برغوث الأجنبي أن يحاكم إلا في المحاكم المختلطة. . .
ثم سكت الباشا مرة أخرى كأنه يقول كلاماً آخر لا يجوز نشره ثم قال: يا بني إن الأجانب لا يضعون الحمل إلا على من يحمل؛ فإذا نحن توخينا مرادهم أرادوا لأنفسهم لا لنا؛ وإذا وافقنا لهم غرضاً جعلوه كالدينار فيه مائة قرش وأبوا إلا أن نصارفهم عليه بمائة. هم ويحك يمتازون في معاملتنا لا في سطور القوانين والمعاهدات فلنبطل هذه العاملة يبطل هذا الامتياز.
إن الحق يا بني استحقاق لا دعوى؛ وهذا التنازع على الحياة يجعل وسائله الطبيعية الانتزاع والمطالبة والتجرد له والدأب فيه والإصرار عليه. وكل الأقوياء يعلمون أن موضع الاعتدال بين غصب الحق وبين استرداده موضع لا مكان له في الطبيعة؛ والأجنبي يعتمد علينا نحن في جعله أكبر منا وأوفر حرمة. فإذا ألغى الشعب هذه الامتيازات من فكره وروحه وأعصابه وثارت فيه كبرياء الوطنية فاستنكف من الاستخذاء ونفر من الإختضاع وأبى إلا أن يعلن كرامته، وصرف اهتمامه إلى حقوق هذه الكرامة، وأصر ألا يعامل أجنبياً يرى لنفسه امتيازاً على وطني، وقرر ذلك في نفسه ومكنه في روعه وأجمع عليه إجماعه على الدين، إذا جاءت (إذا) هذه بشرطها من الشعب، جاء جواب الشرط من الأجانب(164/3)
بنزولهم عن الامتيازات وانحلت المشكلة. إننا يا بني لا نملك ضغط السياسة ولكنا نملك ما هو أقوى؛ نملك ضغط الحياة.
لهم الامتياز بأنهم أجانب عنا، فليكن لنا الامتياز الآخر بأننا أجانب عنهم في المعاملة، مثلاً يمثل، وما يفل الحديد إلا الحديد.
يقولون النظام الاقتصادي والمال الأجنبي. ولكن أرأيت المال في يد الأجنبي إلا مالاً وتدبيراً وسلطة وسيادة، من أنه في يد الوطني دَينٌ وإسراف ورق وذل؟
لم يظهر لي إلا الساعة أن من حكمة تحريم الربا في شريعتنا الإسلامية وقاية الأمة كلها في ثروتها وضياعها ومستغلاتها، وحماية الشعب وملوكه من الإسراف والتخرق والكرم الكاذب ورد الاستعمار الاقتصادي وشل النفوذ الأجنبي.
أما لو أننا كتبنا من الأول على أبواب (البنك العقاري) وأبواب ذريته: (يمحق الله الرِّبا) فهل كانت تقرأ هذه الكلمات الثلاث على أبواب تلك البنوك الأجنبية إلا هكذا: (محال خالية للإيجار). . . . .؟
(سيدي بشر. إسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي(164/4)
خطب فلسطين بين الصهيونية والاستعمار
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لا يزال العرب في فلسطين ماضين على سنتهم - يقاتلون، وينافحون، ويذودون عن حقيقتهم، بل وجودهم. وقد توسط الأمير عبد الله بينهم وبين الإنجليز غير مرة فما أجدت وساطته، وسمع من زعماء العرب الذين استقدمهم إليه في عمان أنهم ينتظرون منه أن يكف عن كلامهم في ذلك إلا إذا كان يستطيع أن يبلغهم أن مطالبهم أجيبت بلا نقص، وليصنع الإنجليز ما شاءوا، وليبلغوا بقوتهم مجهودها. ولو كان الأمر يحتمل المساومة لجنح العرب إلى السلم، ولكنهم لم يبق لهم اختيار، فأما أن يموتوا الآن مدافعين وإما أن يوطنوا النفس على الجلاء عن وطنهم والخروج من ديارهم إذا ظلت أبواب (الهجرة الصهيونية) مفتوحة. ومن هنا هذه الاستماتة في الثورة الفلسطينية.
ولو كانت هذه الثورة شبت في فلسطين في أعقاب الاحتلال الإنجليزي، لكانت أهول وأروع، فقد كانت البلاد غاصة بالسلاح والذخيرة، ولكن الخطر على العرب من (الهجرة الصهيونية) لم يكن قد تجسد كما تجسد الآن، ولا كان العرب في البلدان الأخرى - فضلاً عن فلسطين - قد أفاقوا من صدمة الغدر الاستعماري بهم. أما الآن فقد صار الخطر على العرب فلسطين حقيقة يحسها كل واحد في نفسه وفيما حوله. وانتسخ الأمل في أن يفيء الإنجليز إلى العدل ويؤثروا القصد بعد أن رآهم العرب يهملون ما أوصت به وحضت عليه ثلاث لجان من لجان التحقيق جاءت من لندن إلى فلسطين وأجمعت على أن الهجرة يجب أن تقف لأن البلاد لا تحتمل استمرارها. وكان ذلك قبل سنوات عديدة، فكيف الآن؟؟
وقد تغيرت الأحوال في البلدان العربية الأخرى، فاستقر الأمر في جزيرة العرب، ووضع الصلح الكريم بين نجد واليمن الحجر الأول في بناء الوحدة العربية، وجاءت المعاهدة التي عقدت في هذا العام بين العراق والدولة العربية السعودية، فكانت خطوة أخرى واسعة في سبيل الحلف العربي؛ وهبت مصر تطلب أن يسوى الأمر بينها وبين بريطانيا فبادرت بريطانيا إلى الدخول في المحادثات التي انتهت منذ أيام إلى الاتفاق؛ وتلتها سوريا فأضربت شهرين أو أكثر، فلا بيع ولا شراء، ولا أخذ ولا عطاء، وتفاقمت الأزمة واستحال علاجها بغير النزول على حكم الواقع، فردت فرنسا نفسها على مكروهها وعدلت(164/5)
عن غطرسة القوة التي لا تجدي أمام المقاومة السلبية الشاملة، ودعت رجال سوريا إلى المفاوضة اقتداء ببريطانيا في مصر والعراق. ولا تزال هذه المفاوضات دائرة؛ وإذا كانت تتعثر، فما من شك في أن سوريا بالغة سؤلها عاجلاً أو آجلاً، فما بقي من هذا مفر، وإلا قامت القيامة في وقت لا ينقص فرنسا فيه الأزمات والارتباكات والمشاكل العويصة.
فالدنيا تتغير حول فلسطين، والإنجليز هناك جامدون لا يغيرون شيئاً من سياستهم، ولا يبدلونها على ما تقضي به الأحوال الجديدة. وهذا هو وجه العجب منهم، فإن العهد بهم أنهم أهل كياسة ومرونة وحذق، وأنهم أساتذة بارعون في تكييف سياساتهم وفق الأحوال. ولكنا نراهم الآن يجزعون من الاتفاق المنتظر بين فرنسا وسوريا، ويشفقون على فلسطين من عدوى الاستقلال السوري حتى ليقال إنهم سعوا سعيهم عند فرنسا ليحبطوا الاتفاق أو يؤخروه على الأقل حتى يفرغوا من ثورة فلسطين.
ويبدو لنا أن عناد الإنجليز في فلسطين يرجع إلى سببين: أحدهما أنهم يريدون أن يجيء اقتراح وقف الهجرة من الصهيونيين أنفسهم، مصانعة منهم للنفوذ المالي للصهيونية في بلادهم وفي العالم كله. وهم لا ينكرون أن العرب على حق في المطالبة بوقف الهجرة والاكتفاء بما كان إلى الآن؛ ثم إنهم يعرفون أن وقف الهجرة لا يناقض ما وعدوا به من إنشاء الوطن القومي ولا ينافي عهد بلفور، لأن هذا الوعد كان بإنشاء الوطن (في) فلسطين لا بجعل فلسطين كلها وطناً قومياً للصهيونية. وقد تم ذلك وأنشئ الوطن وتحقق الوعد وبرت إنجلترا بالعهد. ثم إن العهد نفسه مقيد بالمحافظة على مصالح أهل فلسطين الأصليين. فإذا وقفت الهجرة فإنها تقف تنفيذاً للعهد، كما أبيحت تنفيذاً للعهد. ولكن الحكومة البريطانية تتلكأ حتى تتقدم اللجنة الصهيونية باقتراح الوقف بعد أن تتبين لها استحالة الاستمرار.
والسبب الثاني أن بريطانيا تروم أن تخضع العرب في فلسطين وتكرههم على إلقاء السلاح قبل أن توفق سوريا في مفاوضة فرنسا، لأن العود إلى الثورة يكون عسيراً جداً، ولا بد من انقضاء فترة طويلة تستريح فيها الأمة من مجهود الثورة وتستجم. والمعهود في الإنسان أن الحماسة تنبه أعصابه وتشدها فلا يكاد يشعر بعظم الجهد الذي يبذله والمشقة التي يعانيها، ولكنه بعد أن يفرغ من ذلك ويسكن لا تكاد حاجته إلى الراحة تنقضي. وهذا هو الذي تعول(164/6)
عليه بريطانيا في فلسطين؛ فهي تلج في العناد وتأبى إلا العنف في القمع وتصر على التسليم والسكون قبل أن تعد بشيء أو تظهر استعادها لإجابة المطالب العربية، لعلمها أن العرب إذا سكنوا فبعيد جداً أن يثوروا كرة أخرى إلا بعد فترة راحة طويلة. وإلا فمتى عهدنا الإنجليز يقاتلون في سبيل غيرهم ويسخون بدمائهم هذا السخاء من أجل شعب آخر، ولا سيما إذا كان هذا الشعب لا يقاتل ولا يدافع عن نفسه بل يلقي عليهم وحدهم عبء الدفاع كله؟؟ فليس حرص الإنجليز على الوطن القومي وإنما هو مركزهم في فلسطين، وهم لا يعبئون شيئاً بوعد بلفور فقد نقضوا ألف وعد ووعد مثله ولم يعدموا مسوغاً، وإنما الذي يخشونه هو أن يترقى العرب في مطالبهم من وقف الهجرة إلى جلاء الإنجليز أنفسهم عن بلادهم. فما يخفى عليهم أن قضية الوحدة العربية أو الحلف العربي تتقدم، وأن الثقة بإمكان ذلك تعظم وتقوى، وأن الإيقان بتحقيق هذا الأمل يعمر الصدور، ولكنا كنا نظن أن الإنجليز أبعد نظراً مما يبدون الآن في فلسطين، فأن العرب أصدقاء طبيعيون لبريطانيا؛ وهم يؤثرون محالفتها على سواها لأنها دولة شبعت واكتظت فحسبها أن تتحفظ بما لديها وأن تستبقي خير ما في يديها. فالعرب لا يتوجسون منها كتوجسهم من دولة كإيطاليا تحدثها آمالها بنشر الدولة الرومانية التي عفى عليها الزمن. ومن مصلحة بريطانيا أن تضمن ود الأمم الواقعة على طريق إمبراطوريتها وأن تثق بمعونتها ووفائها لها عند الحاجة، وبغير ذلك لا ندري كيف ترجو السلامة وتأمن أن تتبعثر أجزاء إمبراطوريتها تبعثر حبات العقد؟؟ ولكن سلوكها في فلسطين ينفر العرب جميعاً في كل رقعة من رقاع الأرض ويسود قلوبهم ويوغر صدورهم، والعرب أمة تكبر العدل كائنة ما كانت الأغراض المحجوبة والغايات المستورة؛ وليس في وسعهم أن يعذروا بريطانيا وهم يرون عرب فلسطين يكتفون بمطالب اعترفت لجان التحقيق الإنجليزية واحدة بعد واحدة بعدلها ووجوب إجابتها. وليس أدل على أن قلوب العرب كلهم يعصرها الألم لمصاب فلسطين من إجماع ملوك العرب على التوسط عند الحكومة البريطانية طالبين الإنصاف لهذا الشعب المسكين. وقد تستطيع بريطانيا بقوتها أن تطفئ الثورة وتخمد الوقدة، ولكنها لا تكسب بذلك بل تخسر: تكسب استقرار الأمر لها على الحد الذي ترومه في فلسطين - إلى حين - وتخسر العرب جميعاً في كل رقعة من رقاع الأرض. ولو فاءت إلى العدل، لما غض ذلك منها عند(164/7)
العرب، ولا حمل أحداً على الاستخفاف بقوتها كما تتوهم، بل لكان ذلك حقيقاً أن يرفع مقامها ويعلي منزلتها، لأن العرب كما قلنا لا يكبرون شيئاً كما يكبرون العدل، والعادل عندهم أسمى مكاناً وأرفع درجات وأحق بالتوقير من القوى، وتاريخهم الطويل كله - في أمجد عصورهم وأحطها - شاهد بذلك.
إبراهيم عبد القادر المازني(164/8)
أوربا على المنحدر
معركة المبادئ والنظم
لباحث دبلوماسي كبير
كانت الثورة الأسبانية نذير عاصفة دولية جديدة من نوع خاص؛ فقد سرت ريحها خارج الجزيرة بسرعة، وتكشفت عن نتيجة لم يكن يتوقعها أحد؛ ذلك أنها لم تبق بعد مسألة داخلية تهم أسبانيا وحدها، ولكنها تغدو شيئاً فشيئاً مسألة أوربية عامة تشغل بشأنها الدول العظمى. ومما يلفت النظر بنوع خاص، هو أن ما تثيره الحوادث الأسبانية من الاهتمام لا يقتصر على الناحية السياسية فقط، بل يتعداها إلى ناحية أخرى أهم وأبعد أثراً، هي الناحية الاجتماعية، أو بعبارة أخرى، هي ناحية النظام الاجتماعي الذي تدور حوله رحى الحرب الأهلية في أسبانيا.
وقد تناولنا أسباب الثورة الأسبانية وتطوراتها في مقال سابق، وبينا كيف أنها تقوم على صراع بين المبادئ والنظم ما زالت تضطرم أسبانيا بشرره مذ قامت فيها الجمهورية على أنقاض الملوكية القديمة وطغيان العسكرية المطلق؛ على أن هذه الناحية الاجتماعية في معارك أسبانيا الأهلية لم تبد من قبل بمثل ما تبدو به اليوم من القوة والوضوح؛ ففي معسكر الحكومة الجمهورية تجتمع جميع الطبقات العاملة من الفلاحين والعمال وجميع القوى الديموقراطية والاشتراكية، وفي معسكر الثورة تحتشد عناصر الطغيان العسكرية التي حكمت أسبانيا من قبل عدة أعوام، ورجال الدين الذين جردتهم الجمهورية من نفوذهم وامتيازاتهم القديمة، وفلول الملوكية القديمة ومن إليهم من النبلاء ورجال المال والصناعة الذين أضرت النظم الاشتراكية بمصالحهم المادية، وهؤلاء يمدون الثورة بالمال؛ وهذه الصورة البارزة التي تقدمها إلينا الحرب الأهلية الأسبانية، يقدمها إلينا زعماء الجبهتين الخصيمتين أنفسهم؛ فزعيم الثورة الجنرال فرانكو يقول لنا إن الثورة الحالية إنما هي حركة قومية يراد بها إنقاذ أسبانيا من قبضة الاشتراكية والشيوعية، ومن الفوضى الاجتماعية التي انحدرت إليها في ظل الأنظمة المتطرفة، وإقامة حكومة قومية تحترم حقوق الفرد والملكية، وتعيد إلى أسبانيا هيبتها الدولية في ظل أنظمة قوية محترمة؛ وحكومة مدريد تقول لنا إنها تدافع عن الحريات الجمهورية إزاء الخطر الفاشستي الذي(164/9)
يهدد البلاد بعود الحكم المطلق، وتناشد جميع طبقات الأمة، ولا سيما الطبقات العاملة، أن تذود عن حرياتها وحقوقها التي اكتسبتها بدمائها وتمتعت بها في ظل النظام الجمهوري.
وهذه الناحية الاجتماعية البارزة التي تسفر عنها الثورة الأسبانية تغدو اليوم مسألة أوربية شائكة، تكاد أوربا تنحدر إلى غمرها، بل لقد ظهرت بوادرها العملية بالفعل، وبدا خطرها واضحاً على السلم الأوربي، فقد ظهر أن الثورة العسكرية الأسبانية تتمتع منذ الساعة الأولى بتأييد الدولتين الفاشستيتين الكبيرتين: أعني إيطاليا وألمانيا، وهو تأييد يتخذ صورته المادية في إمداد الثورة بالسلاح والمال؛ وقد أمدت إيطاليا الثوار علانية بسرب من الطيارات؛ وبعثت ألمانيا بارجتين من أسطولها إلى مياه سبتة، واتصل ضباطهما بزعماء الثورة في زيارة رسمية؛ وإزاء هذا التأييد تقوم الدولتان الديموقراطيتان الكبيرتان: أعني فرنسا وإنكلترا من جانبهما بتأييد حكومة مدريد؛ وإذا كانت فرنسا تؤثر أن تتظاهر بالحيدة فلا ريب أنها مع ذلك تمد حكومة مدريد بالمال والسلاح؛ أما إنكلترا فلم تتردد في إمدادها بالطيارات، ولكن تحت ستار التجارة الحرة. وفي ميدان السياسة الدولية تعتبر المسألة الأسبانية مسألة اليوم، وقد طرحتها فرنسا على بساط البحث بتوجيه مذكرة إلى إنكلترا وإيطاليا وألمانيا، تقترح فيها أن تجتمع الدول الأربع لبحث المسألة الأسبانية، وإصدار تصريح تتعهد كل منها فيه بالتزام الحيدة وعدم التدخل في حوادث أسبانيا؛ وقد أجابت إنكلترا بتأييد هذا الاقتراح لاتفاق وجهة نظرها مع وجهة النظر الفرنسية؛ أما إيطاليا فقد أبدت عليه تحفظاتها، وأما ألمانيا فقد اشترطت أن تدعي روسيا السوفيتية للاشتراك مع باقي الدول في القيام بهذه الخطوة. ولاقتراح ألمانيا مغزاه، وهو أن روسيا السوفيتية تؤيد حكومة مدريد والجبهة الاشتراكية التي تستند إليها، أو بعبارة أخرى هو أن التدخل البلشفي عامل هام في تطور الحوادث في أسبانيا.
ويجب أن نلاحظ أن العوامل الاجتماعية التي أملت على الدول موقفها ترجع من جانبها إلى عوامل المصلحة المادية. ذلك أن إنكلترا التي تسهر في جبل طارق على أبواب البحر الأبيض المتوسط ومدخل المحيط الأطلنطي، تخشى أن تتأثر سيادتها في هذه المياه بتطور الحوادث الأسبانية تطوراً لا يرغب فيه، وذلك بقيام حكومة فاشستية في مدريد تتأثر بوحي الفاشستية الإيطالية التي غدت منذ المسألة الحبشية شوكة في جانب الإمبراطورية(164/10)
البريطانية. هذا إلى أن لإنكلترا في أسبانيا مصالح مالية خطيرة، والأموال الإنكليزية تغذي معظم شركات التعدين الأسبانية؛ ومع أن إنكلترا تبغض شبح الفاشستية وتخشاه، فأنها أيضاً تبغض شبح البلشفية والاشتراكية المتطرفة وتخشى أن يؤدي ظفر الجبهة الشعبية الجمهورية في أسبانيا إلى قيام حكومة تخضع لنفوذ موسكو، وتعمل على مناوأة نفوذها ومصالحها في غرب البحر الأبيض المتوسط. فالسياسة الإنكليزية تعمل في هذا الظرف على إيجاد نوع من التوازن القومي في أسبانيا وقيام حكومة ديموقراطية معتدلة تجانب الغلو والتطرف؛ وأما موقف فرنسا فتمليه مصالحها في البحر الأبيض المتوسط، والخوف على سيادتها في مراكش من أن تتأثر بظفر الفاشستية المتطرفة في أسبانيا.
على أن المسألة الأسبانية في جوهرها قائمة على معركة المبادئ التي تلوح اليوم قوية في أوربا؛ فالفاشستية - في شخص إيطاليا وألمانيا - تحاول بمبادئها الطاغية المغرقة أن تهدم حصناً جديداً للديموقراطية، وأن تضم دولة أوربية جديدة إلى جبهتها بمؤازرة الثورة العسكرية الأسبانية؛ والديموقراطية - في شخص إنكلترا وفرنسا - تحاول أن تقف في وجه الفاشستية؛ وروسيا البلشفية تحاول أن تنتهز الفرص لبث دعايتها لإضرام الثورة العالمية؛ والفاشستية تمثل جبهة الدول الناقمة التي حرمت من مزايا الاستعمار الباذخ؛ والديموقراطية تمثل جبهة الدول الراضية التي تتمتع بالثراء والاستعمار الباذخ؛ ومعركة المبادئ تتحد هنا مع معركة المصالح المادية.
وهذا هو وجه الخطر في الأزمة التي تغيم اليوم في أفق السياسة الأوربية، والتي قد تغدو غير بعيد خطراً يهدد السلم الأوربي، ذلك أم معركة المبادئ والمثل تغذيها هنا مصالح مادية قوية؛ وهذا الصراع الذي تذكيه شهوات المادة والمبدأ معاً هو أخطر أنواع الصراع الدولي. فالبلشفية من ناحية، والفاشستية والنازية من الناحية الأخرى تنزل إلى ميدان الصراع مسلحة بأخطر أنواع الدعاية والقوى المادية؛ والديموقراطية من جانبها تحاول أن تقف موقفاً وسطاً بين المبادئ والمثل المضطرمة، وأن تدفع تيار التطرف من الجانبين صوناً لوحدتها وكيانها. ولنلاحظ أيضاً أن فرنسا الاشتراكية تؤثر ظفر الجبهة الشعبية الأسبانية، ولو أن هذا الظفر قد يدفع أسبانيا إلى أحضان الشيوعية، ذلك أن روسيا البلشفية تقف إلى جانب فرنسا في ميدان الصراع الدولي ضد ألمانيا، وألمانيا تعتبر نفسها حاجزاً للبلشفية(164/11)
وترى في روسيا ألد أعدائها؛ وإيطاليا ترى في ألمانيا حليفتها في المبادئ والمثل؛ والفاشستية والنازية كالبلشفية تعتبر كلتاهما أنها نظام المستقبل وتحاول أن تدفع مبادئها إلى خارج حدودها بمختلف الوسائل.
هذه هي عناصر المعركة الدولية الخطيرة التي أثارتها الحوادث الأسبانية؛ وهي ما زالت في طور التمهيد والمقدمات؛ ومن الصعب الآن أن نتبين طورها المقبل؛ ذلك أن سيرها يتوقف كثيراً على سير الحوادث في أسبانيا؛ بيد أنا نستطيع أن نتبين بعض وجوه الخطر الذي يهدد السلم الأوربي؛ فإيطاليا التي ما زالت ثملة بفوزها في الحبشة تحاول أن تستغل الظروف، وأن توجه ضربة جديدة إلى الإمبراطورية البريطانية وإلى سيادة بريطانيا في البحر الأبيض؛ وألمانيا التي جردت من مستعمراتها تحاول أن تجد فرصة للتدخل في شؤون البحر الأبيض، وبخاصة في شؤون طنجة ومراكش، وأن تنتهز مخاوف إنكلترا وفرنسا لتثير المسألة الاستعمارية من جديد؛ وإنكلترا التي شعرت منذ المأساة الحبشية بما يهدد سيادتها في البحر الأبيض من الأخطار تتحين الفرص لتوكيد نفوذها وهيبتها؛ وفرنسا لا تطيق لحظة أن يتعرض مركزها في مراكش لأي تدخل أو خطر. ومما يجدر ذكره بهذه المناسبة أن تحرش ألمانيا بمركز فرنسا في مراكش يوم ضربت عليها الحماية الفرنسية كان من أهم العوامل في تسميم جو السياسة الأوربية قبيل الحرب الكبرى، والتمهيد لذلك الجو المضطرب الذي اجتمعت فيه أسباب الحرب.
هذا وهناك ظاهرة تتكشف عنها تلك المعركة الخطيرة بين الديموقراطية والفاشستية، هي أن الفاشستية تعمل بسرعة وعزم دون تردد أو تدبر للعواقب؛ وأما الديموقراطية فما زالت مختلفة متنازعة، وما زالت تجنح إلى التردد والتخاذل. وقد استطاعت الفاشستية غير مرة أن تنتهز فرصة هذا التخبط وأن تضرب ضرباتها في صميم الديموقراطية؛ ومن جهة أخرى فقد أفسدت الروح الاشتراكية المتطرفة عقلية الجماعات، وبثت فيها كثيراً من دواعي التخاذل والغرور، هذا بينما تجد الصفوف الفاشستية منظمة طائعة تعمل لأول إشارة تلقى إليها.
فهل تستحيل تلك المعركة الدولية في القريب العاجل إلى صراع الحياة والموت بين النظم والمثل في أوربا؟ وهل تدفع أوربا إلى طريق حرب جديدة ما زالت عواملها تجتمع في(164/12)
الأفق منذ حين؟ هذا ما سوف نتبين في المستقبل القريب. بيد أنه مهما كانت ظروف المعركة الحالية، ومهما كانت نتائجها، فلا ريب أنها من عوامل الخطر في مصير السلم ومصير أوربا.
(* * *)(164/13)
فن القصة في الأدب المصري الحديث
للأستاذ هلال أحمد شتا
طالعتنا (الرسالة) الغراء، في عددها رقم 157، بمقال طلى للكاتب الأديب الأستاذ محمد علي غريب، ألم فيه بدراسة شائقة لنتاج قصصي مصري شاب. . وقد مهد لدراسته هذه بمقدمة تناول فيها فن القصة في الأدب المصري الحديث.
ولقد كانت هذه المقدمة القصيرة - كما دعت الحال - لمحة خاطفة، وإلمامة مقتضبة، جال فيها قلم الكاتب جولة سريعة كما تجري أحداث الدنيا في عصرنا الحاضر. ولكنها ساقت إلى رأسي هذا البحث الذي أطالع القراء به اليوم: وهو بحث في القصة المصرية ترويت فيه بعض التروي، لأتمكن من الدراسة الهادئة غير العاجلة، ولألم فيه بتاريخ القصة في الأدب العربي، وبقيمة هذا الفن الجميل، وبنشأته في الأدب المصري الحديث، وبالمدارس الغربية التي تأثر بها منشئو القصة في مصر؛ ثم بما حظيت به من جهود الأدباء المصريين، وما بلغته هذه الجهود من توفيق وما قطعته في طريقها نحو السداد.
ويجدر بنا - قبل أن نوغل في الحديث - أن نستعرض ما لهذا الفن الجميل من آثار جليلة في تكوين النفوس والعقول على السواء. فالقصة الناجحة القريبة من الكمال الفني، أبلغ تأثيراً في النفس، وأقوى سلطاناً على العقل، من أي عمل فني آخر. . لأن الفنون الجميلة عامة تفعل في النفس فعلاً، ولا تقوى على أن تفعل في العقل شيئاً. . وإذا نظر الإنسان إلى لوحة فنية بالغة نهاية الكمال، أو إلى تمثال أفرغت فيه عبقرية فنان موهوب، أو إذا استمع قطعة موسيقية تضافرت فيها براعة نفر من نوابغ الواضعين والعازفين، فستطغى على نفسه موجة من الشعور بالسرور أو بإحساس يشبه السرور والنشوة، ولكن عقله لن يتأثر بذلك شيئا. . في حين أن القصة الناجحة قد تخلق من قارئها إنساناً جديداً، وقد تسوق إليه رأيا يحتل من عقله موضع العقيدة. .
ومن أجل هذا عني الغربيون في نهضاتهم القديمة والحديثة بفن القصة عناية بليغة. فاستطاع قصصيوهم أن يخلقوا بفنهم جماعات قريبة من الكمال. . وكان لهذا الفن في نهضتهم الحديثة أثر جليل ملموس.
وليس مغالياً من يقول: إن فن القصة قد أبرز إلى ميدان الزمن والتاريخ فرنسا الحديثة،(164/14)
وروسيا الحديثة، وإيطاليا الحديثة. . وقد يكون كذلك خالق بريطانيا الجديدة، ودافعها إلى رقيها الفكري والخلقي الذي كادت تتفرد به بين الأمم. على أن الذي لا يقبل الجدل أن القصة قد تقدمت في أوربا وأمريكا في العصر القريب الذي نعيش فيه، فغمرت سوق الأدب، وتمتعت من الأدباء المتأدبين بعناية غلبت كل عناية، وإقبال فاق كل إقبال وجهود بذت كل جهود. .
وإذا كان الغرب اليوم في أوج عزه وعظمته؛ وإذا كان مع ذلك منكباً على فن القصة أي انكباب، فذلك دليل ساطع على أن هذا الفن جدير بالعناية خليق بالاهتمام. .
ولقد عرف الغرب كيف يحتفي بفنانيه عامة، وقصصييه خاصة، وكيف يكرمهم ويكبر فيهم فنهم وفضلهم العميم، فأتاح لهم أن يكونوا من قادة العقول في المقدمة، وأن يفرغوا إلى فنهم فيهبونه وقتهم وجهدهم جميعاً، بما ضمن لهم من وسائل المعيشة والرزق الكثير، وبما هيأ لهم من ظروف يخلون فيها لدراساتهم الطويلة، ويلمسون فيها جوانب الحياة في مختلف الجماعات ومتباين الطبقات. . .
ولقد ظل الأدب العربي مفتقراً إلى القصة في جميع عصوره الأولى؛ ويلوح أن الأمية والبداوة في العهد الجاهلي قد ساعدتا على إهمال الفنون الجميلة - ومن بينها القصة - وأن كل ما تمتع به العرب من ضروب الفن الجميل إذ ذاك هو ما حملته ألسنة الرواة من الشعر والنثر، وما ترنم به حداة الإبل من موسيقى بسيطة. .
على أن النهضة الإسلامية التي حمل رايتها محمد صلى الله عليه وسلم، كانت في حاجة إلى القصة أيضاً؛ لذلك كان القصص في القرآن جانباً خطيراً من جوانب الاعجاز، وعاملاً قوياً في تهذيب نفوس أولئك الجاهليين، وقوة رائعة تضافرت مع ما خص الله به محمداً فاستطاعت أن تخلق من أشتات الجاهليين في شبه الجزيرة أمة لم يشهد مثلها التاريخ القديم أو الحديث.
فالقرآن الكريم إذن أول من أدخل القصة على الآداب العربية، ودفع بها إلى مقام العناية. .
وطبيعي أن يعني القرآن بالقصة، فهو الداعي إلى الكمال العلمي والروحي والخلقي، الجامع لأنواع العلوم والفنون عامة، والدستور الخالد الذي ينظم حياة إنسانية عالية الأركان دائمة على الزمان.(164/15)
ولقد نال فن القصة بعد ذلك جانباً من عناية الناطقين بالضاد، فكانت السير النبوية ثانية المحاولات الموفقة لخلق فن جديد في اللغة العربية، على أن هذه السير كانت فتحاً لباب واحد من أبواب فن القصة، هو القصص التاريخي، كما كان ما فيها من فن لا يزال فجاً محتاجاً لكثير من العناية والموهبة. . وهي مع ذلك جهود لا يمكن أن يغفل ما لها من فضل عميم على القصة العربية الصميمة. .
وسايرت القصة العربية النهضة الفكرية التي دفع الإسلام العالم العربي إليها فتقدمت خطوات ليست ذات أثر كبير، إذ كانت في عصر الأمويين تكاد تقتصر على الرواية والارتجال، ولم يلتفت إليها - كفن جميل له أثره وفعله - إلا بعض الرواة الذين دبجوا قصص الشعراء المحبين، وأسبغوا عليها بعض الصناعة والحبكة والطرافة. .
ثم كان بعد ذلك العصران العباسيان الأول والثاني، حين بلغ الرقي الفكري ذروته، وحين فرغ العرب - الهادئون، الناعمون، المتمدينون - ينشدون غذاء النفس والروح في الفنون الجميلة، وحين ضربوا في كل جانب من جوانب التفكير الحر والابتكار. فكان طبيعياً أن يبلغ فن القصة أوج عزه وعظمته، وكان طبيعياً أن يتخصص كبار الفنانين العرب لكتابة القصة وابتكارها، كما تفرغ إخوانهم للموسيقى والغناء، والرسم، والكتابة، والشعر، وسائر الفنون العالية. . وكفى دليلاً على رقي القصة في ذلك العصر الحافل بالروائع والبدائع (ألف ليلة وليلة) إذا قصدنا جانب الخيال والابتكار، ثم (المقامات) إذا نشدنا جانب الصياغة والإتقان.
غير أن المحنة التي لحقت بالعرب والعربية، بانحلال الدولة العباسية، كانت كافية لأن تحطم الآثار العقلية والفنية والفكرية، وأن تأتي عليها إتياناً ذريعاً. .
وإذا كان الباحث في تاريخ الأدب العربي - بعد المحنة العباسية - يعثر بين الحين والحين على بعض الآثار الفنية المتصلة بالقصة، فليس ذلك إلا ترديداً لبعض ما خلفته يد الزمن من آثار الفنانين العباسيين. .
والقصة في الأدب المصري، حديثة العهد، قريبة المولد، لأن العصور التي خلفت عصر الفاطميين، قد أفسدت اللسان العربي الذي تكلم به المصريون منذ الفتح الإسلامي، وأدخلت على سلاسته وجذالته لكنة الترك وعجمة الفرنجة. . .(164/16)
ولسنا نستطيع أن نسمي قصص (أبي زيد) و (السيد البدوي) وأمثالها قصصاً عربياً أو عجمياً، فكلها وليدة خيال مشعوذ وقلم مرضوض. . .
إذن لم يشهد الأدب العربي المصري جهوداً تبذل في سبيل القصة الموفقة إلا بالأمس القريب، منذ عشرات السنين، وبعد أن استطاعت النهضة العلوية أن تقوم اللسان، وتصلح التفكير، وتنمي الخيال. . . حين قامت طائفة من نوابغ الشبان تخلق القصة العربية في معناها الذي نعرفه الآن، وهي طائفة كل أفرادها اليوم من الكتاب الممتازين والأدباء البارزين. . .
وإذا كانت العربية، التي تحدث بها رعاة الإبل والأنعام في شبه الجزيرة، قد وسعت مدنية العباسيين وعلمهم الغزير، فإنها قد وسعت كذلك كل ما جال في خواطر أولئك الشبان، أو هؤلاء الكرام الكاتبين. وقد استطاع ذلك النفر - بما أوتي من فن خالص وموهبة - أن يزجي إلى العربية هدية لم تألفها من قبل أبداً. فلقد كان في محاولاته الموفقة متأثراً بالمدارس الغربية إلى جانب ما خص به من سليقة عربية حلوة الجرس موفقة المرمى، سديدة المعنى.
وإنه لواجب علينا أن نطوف بهذا النفر الجليل، وأن نمضي على نتاجه سريعاً، لنسجل له فضله شاكرين. . ولكننا نرى - قبل ذلك - أن نذكر المدارس التي تخرج فيها بكلمة قصيرة: وهي المدرسة الروسية والمدرسة الإنجليزية، والمدرسة الفرنسية. .
فالمدرسة الروسية قد امتازت بمحاكاة الواقع ومسايرته، والتعلق بالطبيعة ومظاهرها وأجوائها - الملموسة وغير الملموسة - ثم بالصدق، والهدوء، والتهكم. .
والمدرسة الإنكليزية تعشقت الصدق أيضاً؛ وأحبت التحليل النفسي الدقيق، ووفقت في كشف النفس البشرية توفيقاً عظيماً، واستطاعت أن تلمس العواطف وتترجم الأحاسيس في عمق وسداد عجيبين. .
والمدرسة الفرنسية قد عشقت الخيال، وتطرفت فبالغت بعض المبالغة، غير متقيدة بالواقع أو المألوف، وبرعت في الحبكة المصنوعة براعة تثير العجب والإعجاب معاً، ومالت إلى ترجمة الأسى والحزن البليغ. .
وهؤلاء الناهضون بالقصة فريقان: كان لأحدهما الفضل في أن يحمل إلى العربية القصة(164/17)
الغربية الموفقة في معناها الحديث الذي دفعتها إليه النهضة الأخيرة، وأن يخلق في العربية أو يكشف في بحرها الزاخر عما يترجم لغة أبناء الغرب أصدق ترجمة، ويزجيها إلى أسمع العالم العربي سائغة المعنى، عربية الرنين موفورة الحظ من بلاغة أبناء العرب وفصاحتهم. .
ولن ينسى قراء العربية فضل هذا الفريق أبداً، فلقد فتح بجهوده وتمكنه وسلامة ذوقه العربي فتحاً في العربية جديداً، وكان له - وهو المترجم - فضل لا يعلو عليه فضل الواضعين أو المتكبرين، لأنه البوتقة التي صهرت جميل فن الغربيين، فاستحال فيها فناً عربياً رائعاً.
ويتزعم هذا النفر ثلاثة من نوابغ الأدباء المصريين، وهم: الزيات، والمنفلوطي، والمازني.
فأما الزيات، فيمنعني عن الإشادة بفضله أنه مدير هذه المجلة، وأنه رجل يعرف فيه قراء العربية التواضع الكثير والنأي عن الضوضاء، وأخشى - وهو صاحب الحق في النشر - أن يحول تواضعه الغزير بين هذا البحث وبين أبصار القراء وأسماعهم. .
على أن كل هذا لا يمنعني من القول بأن جهده في سبيل القصة لن ينساه له تاريخ هذا الفن في الأدب العربي، ولن ينساه له أولئك المتأدبون الشبان الذين عرفوا من معرباته معنى القصة الناجحة ولونها، والذين مضوا بعد ذلك يقفون أثره ويتلمسون الطريق التي مهدها لهم وفتحها أمام تفكيرهم. . حين نقل إلى لغة الضاد (لامرتين) و (جوت) في أبدع ما صورت الشاعرية الفرنسية والألمانية، وأنجب الخيال اللاتيني والجرماني. . وستبقى (رفائيل) (وآلام فرتر) على الأيام مثلاً بديعاً للتعريب الكامل الذي تكاد تغلب فيه قوة المترجم، كما بقيت (كليلة ودمنة) تتحدث إلى يومنا هذا بفضل ابن المقفع.
وأما المنفلوطي، فقد كان جديراً بأن يزجي إلى القصة فضلاً أكثر من فضله، فهو الأديب بفطرته والقصصي بفطرته. . ولو شاء الله وبسط أمامه سبل دراسة هذا الفن، أو قارب بين لسانه وبين لغة من اللغات الحية، لكسبنا فيه قصصياً عظيماً ولكان نتاجه في فننا هذا نتاجاً باقياً خالداً. . على أنه برغم هذا مشكور الأثر باقي الذكر، ممتاز بما خص به من أدب رائع، وذوق فني بديع، وجذالة تفعل في لسان الناشئة فعلاً محموداً.
وأما المازني - المترجم - فبالغ قمة التوفيق، كزميله الزيات، لوفرة علمه بلغة الإنجليز،(164/18)
ولأنه أديب عربي قويم اللسان، مفطور على الفن. . وقد نرى فيما بعد - أن المازني المؤلف أسدى إلى القصة يداً فوق يده هذه، ولكن الفضل لا يمحو الفضل على حال؛ وسيبقى المازني المترجم خالداً في قصة (ابن الطبيعة) فقد كان فيها عظيماً حقاً، إذ استطاع أن يختار للعربية أروع أمثلة الأدب الروسي، كما استطاع أن ينقل فن أبناء الروس نقل الفنان والأديب الموهوب.
والفريق الثني هو فريق المبتكرين، أو الواضعين، وهو أول من ساق جمهور القارئين والمعنيين بالأدب إلى فهم معنى القصة الذي عرفها به الغربيون؛ ونستطيع القول بأن هذا الفريق أحسن إلى القصة حيناً من الزمن فعرفت له أياديه، ثم أهملها اليوم إهمالاً تأخذه عليه وتشكوه منه. . ولو استمر ذلك النفر فوهب القصة عهد رجولته كما وهبها شبابه، لاستطاعت أن تبلغ شأناً غير شأنها، ومنزلاً فوق منزلتها. .
وهؤلاء الذين يستطيعون أن يشقوا طريقهم ليأخذوا مقام الصدر بين آلاف المؤلفين وأشباه المؤلفين، ليسوا إلا أربعة من كرام الكتاب؛ هم: المازني، وهيكل، وتيمور، وأبو حديد.
ولكل من الأربعة لون خاص يميزه من سواه.
فالمازني. أميز صفاته سلامة أسلوبه العربي وعلوه، ثم جمال تهكمه وفكاهته، وميله إلى المزاح، مع شدة احتفاظه بالأرستقراطية. وهو إلى جانب هذا فنان من الطبقة الأولى، فقد اجتمعت فيه فطرة الفنان، والدراسة الطويلة المستمرة، فأنجبتا للعالم العربي قوة عزيزة قليلة الوجود.
وهو - على رغم كونه تلميذا مخلصاً للمدرسة الإنجليزية - لا يستطيع أن يخفي على القارئين أنه تتلمذ على المدرسة الروسية أيضاً. وإذا كان دائم الانكباب على الأدب الإنجليزي مولعاً به ولعاً شديداً، فإنه بطبعه وبسليقته الفنية، كان فيما أنتج ميالاً إلى المدرسة الروسية، في هدوئها، وصدقها، وتفكهها، وطبيعتها وإن استطاع - بما كسب من دراسة - أن يترجم الأحاسيس ترجمة صادقة تميز بها منشئو القصة الإنجليزية.
والذي قرأ المازني - المؤلف - في قصته (إبراهيم الكاتب) لا يمكنه بعد ذلك أن يندب حظ القصة في الأدب العربي الصميم؛ لأنه يراها في قصة المازني خلقت قوية لأول عهدها بالحياة، ووجدت من روحه الفنانة، وقلمه الملهم، ودراسته الطويلة، متكأ كان جديراً بأن(164/19)
يحملها إلى المقام الذي بلغته بين أبناء أوربا وأمريكا، لو قدر له أن يضع على عاتقه هذا الواجب الخطير.
وكان هيكل فيما أنتج - وأول نتاجه قصة زينب - فرنسياً مخلصاً؛ فهو يؤثر الصناعة والحبكة القصصية، ويحب أن يضرب على أوتار تحس، وأن يعالج بمجهوده موضوعاً، غير متقيد بمذهب الفن للفن، بل ذاهباً مذهب استغلال الفن للمصلحة. ولقد أسبغ على فرنسية فنه روحاً عربية جميلة، بما وفق إليه من براعة في الوصف، وقدرة على التصوير الفاتن.
ولا شك أن هيكل فنان بطبعه؛ وقد كان خليقاً بأن يكون من عداد القصصيين الممتازين لو عني بفنه عنايته بأدبه وعلمه، ولو تابع استغلال روحه الفنية التي فطر عليها.
وكان تيمور - ولا يزال - مثالاً للقصصي المصري الخالص، وقد يكون تناول بالدراسة المدارس الغربية. . . ثم ترك نفسه بعد ذلك طليقة، وأطلق قلمه حراً، فإذا هو المصري في فنه وأدبه وحياته، وإذا هو عميق في مصريته إلى المكان الذي يجب أن يكون عنده المصري العربي الشعبي.
والذي قرأ تيمور في قصته الطويلة (الأطلال) أو في قصصه القصيرة التي أخرجها قبل ذلك كتباً، يلمس فيه ميلاً إلى هذا الفن شديداً، ويؤمل منه بعد ذلك انقطاعاً للقصة وإيثاراً لها على كل شيء، حتى يسد بذلك فراغاً يجب ألا يترك شاغراً، أو يباح هباء للعابثين المسيئين إلى القصة وتاريخها شر الإساءة. .
وكان فريد أبو حديد مصرياً كذلك دائماً، حين أخرج لنا (ابنة المملوك) و (مذكرات المرحوم محمد) ثم عميقاً في مصريته أيضاً. ويبدو أن دراسته التاريخية الطويلة، قد انحرفت به إلى القصة التاريخية فعشقها عشقاً عظيماً، ولم يرض أن يحيد عنها إلى غيرها من جوانب فن القصة.
وإذا كانت دراسة التاريخ قد غمرت نتاجه وأفرغت عليه من لونها فيضاً، فليس ذلك هو الشيء الذي يتميز به أبو حديد أو يتفرد، وإنما الذي يتميز به على القصصيين المصريين جميعاً هو الخيال الخصب الذي لا يحد، والقدرة الفائقة على تصوير الحياة في غابر العصور أو حاضرها أو مستقبلها.(164/20)
وهذا الخيال، وهذه الطبيعة، وهذه الدراسة، كانت قادرة على أن تجعل من أبي حديد عوناً للقصة المصرية شديداً، ومناصراً قوياً، وفارساً مبرزاً، لو أقبل يدخل الميدان ويوغل في ثناياه. . وهو القدير على ذلك أي قدرة. .
ولقد كان لنا أن نضع الدكتور طه حسن بك في عداد القصصيين النابغين، حين نقرأ له كتابه (الأيام) الذي بلغ به شأو من الكمال عظيماً، والذي استطاع أن يفرغ في سطوره فناً عريقاً ومقدرة فائقة تطالع القارئ فتأخذ عليه حسه. . غير أن الدكتور - فيما عدا الأيام - لا يستطيع أن يكون قصصياً. . ولو أراد الله ووهب الدكتور نعمة الإبصار، لكسب فن القصة فيه خير نصير وأحسن عون، ولكان لمصر والشرق العربي أن ينتظرا منه خيراً كثيراً، لأنه - على حالته تلك - كان يحس إحساس المبصرين، ويدرك ما يجول بخواطرهم، أو ما يغمر كياناتهم من عوامل نفسية يدفعها إليهم الوسط لذي يحيط بهم - بكل ما فيه.
(البقية في العدد القادم)
هلال أحمد شتا
بسكرتيرية مجلس الشيوخ(164/21)
5 - دانتي ألليجييري
والكوميدية الإلهية
وأبو العلاء المعري ورسالة الغفران
الجزء السادس من الأنييد (?
ذكرنا في الكلمة الأولى أن دانتي في كوميدياه كان مقلداً لسلفه الشاعر الروماني العظيم فرجيل، وأنه كان يحفظ الجزء السادس من ملحمة الأنييد عن ظهر قلب، وأنه احتذى في قصيدته مثال فرجيل، والآن نعطي القارئ ملخصاً سريعاً لهذا الجزء السادس ليرى أننا لن نكن مغالين حين جزمنا أنه لم يقلد أبا العلاء ولا أسطورة المعراج التي سنعرض لها في كلمة مستقلة.
بيد أننا نرى أن إعطاء القارئ ملخصاً موجزاً للجزء السادس من الأنييد دون أن نعرض للأجزاء الخمسة السابقة سيشوه هذا الملخص ويجعله مبتوراً، وقد يذهب بجمال الأنييد التي تعتبر أطيب طرفة في الأدب اللاتيني كله، لذلك آثرنا أن نعرض للأجزاء الخمسة الأولى في كلمة خاطفة نخلص منها إلى الجزء السادس إتماماً للفائدة.
سقطت طروادة، وأضرم الإغريق النيران فيها وروِّع الأهلون ولاذوا بالبراري والقفار المحيطة بمدينتهم، وذهب البطل إينياس يبحث عن أبيه وزوجه وولده ليفر بهم من هذا البلد، ولينجو بعزه التالد ومجده المؤثل من ذل الأسار، ولكن أباه كان رجلاً شيخاً خائر القوة، فاحتمله إينياس وانطلق يعدو به في شوارع المدينة المتأججة، حتى إذا وصل إلى شاطئ الهلسبنت (الدردنيل) افتقد زوجه فلم يجدها، ووجد عنده طرواديين كثيرين يعتزمون الهرب من وجوه الهيلانيين فجعلوه رئيسهم وعملوا في بناء أسطول ضخم أبحروا فيه إلى تراقيا حيث نزلوا إلى البر وأخذوا في تأسيس طروادة جديدة بدل طروادة الأسيوية، لولا أن أوحي إليهم أن هذه أرض ملعونة، فركبوا في سفنهم وأبحروا إلى جزيرة ديلوس حيث سمعوا صوت أبوللو يأمرهم (أن يهجروا الجزيرة ويبحثوا عن أرض أمهم الأولى حيث يعيش شعب إينياس ويحكم وتدين له كل الأمم)، ولشد ما طرب الطرواديون لهذا النبأ وأبحروا إلى كريد (إقريطش) كما خمن لهم والد إينياس، ولكنهم لم يجدوا ثمة خيراً بل(164/22)
كانت محصولاتهم تصفر وتتلف وأصيبوا بسنين عجاف. ثم رأى إينياس في منامه من يأمره بالهجرة من الجزيرة والإبحار غرباً إلى أرض إسبريا التي هي إيطاليا الحديثة حيث ولد مؤسس طروادة (داردانوس) وقد نزلوا في طريقهم في جزيرة السعالي ثم أبحروا منها إلى أرض إبيروس حيث وجدوا أندروماك زوجة هكتور بطل طروادة تحكم المملكة وقد تزوجت أحد الأسرى الطرواديين (هلينوس) فحلوا عندها أهلاً ونزلوا في ضيافتها سهلاً وزودتهم بهدايا قيمة وأبحروا إلى جزيرة صقلية حيث مروا بمملكة السيكلوب ثم اقتحموا عقبات جمة وصعاباً كثيرة حتى وصلوا إلى قرطاجنة على الساحل الأفريقي حيث وجدوا المملكة (ديدو تؤسس هذه المدينة الخالدة التي ستكون أقوى خصم ومنافس لرومة في المستقبل. وقد أكرمت ديدو مثوى المهاجرين وتزوجت من إينياس وجعلته ملكاً للمملكة غير متوج. وكاد إينياس ينسى ما سخرته له السماء لولا أن أرسل إليه جوبيتر (زيوس) ولده مير كيوري (هرمز) يأمر بالرحلة.
وبعد مجازفات هائلة وصلوا إلى شطئان إسبريا (ميناء سيكانيا) حيث مات والد إينياس وحيث سخرت جونو (حيرا) كبيرة الآلهة على أسطوله من أحرقه. وقد حزن البطل على سفائنه غاية الحزن حتى إنه ما فتئ يصلي للسماء أن تدركه فاستجابت دعاءه وأرسلت صيبا من المطر فأطفأ النيران، ورأى إينياس في المنام أباه يأمره أن يجول جولة في إسبريا ليلقي (السيبيل لتقوده إلى الدار الآخرة لأنه يريد أن يكلمه، وهنا يبدأ الجزء السادس من الأنييد.
جولة في العالم الثاني
وذهب إينياس إلى (كيوميه) حيث لقي النبية المباركة (سيبيل) خابتة متخشعة في كهفها السحيق وسط غاب الخلنج والشاهبلوط. وقبل أن يتكلم نهضت إليه وكلمته بكلام فعرف أنها تعلم ما جاء من أجله وأوصته بالصبر والتجلد، ثم ذكرت له أن لا بد، قبل الهبوط إلى العالم الثاني، من أن يذهب في تلك الغابة اللفاء المشتجرة، فيبحث في أيكها العظيم ودوحها النامي عن (الغصن الذهبي) الذي لابد من حمله هدية لبروزربين (برسفونيه) زوجة بلوتو إله الدار الآخرة.
ووصفت له النبية الطريق الذي ينبغي أن يسلك، ثم أرسلت إليه أمه فينوس حمامتين(164/23)
تطيران أمامه تدلانه في غياهب الغابة، فما لبث يتبعهما حتى حطتا على الشجرة التي تحمل الغصن الذهبي فتسلقها واقتطعه وعاد به إلى سيبيل. ونهضت النبية، وقادته إلى كهف منشق وسط الغابة فوق حيد وحر من أحياد فيزوف (البركان المشهور) حيث أمرته أن يقدم قرابينه إلى الآلهة بلوتو وبروزربين وهيكاتيه وسائر أرباب هيذر. فلما فعل، ارتفعت صيحات عظيمة من أغوار الكهف، ثم نظر فرأى البركان يميد ويزلزل ويكاد يغوص بمن فيه في جوف الأرض، ثم يسمع عواءً ونباحاً ووعوعة فيتلفت فيرى ذؤباناً وكلاباً تهمهم في جنبات الكهف، جائية من الظلمة التي تتدجى في آخره، معلنة قدوم أرباب هيذر. وتوصيه سيبيل بالصبر! وينطلقان حتى إذا كانا لدى وصيد (عتبة) باب جهنم نظرا فرأيا أشباحاً بربرية مظلمة مربدة الوجوه يسأل عنها إينياس ما هي فتجيبه سيبيل إنها الأحزان والهموم والأوصاب والشيخوخة والخوف والجوع والعناء والفقر والموت. . . وسائر ما في الحياة الدنيا من آلام. . . وقد أقامت عندها ربات الذعر فهي تتقلب على فراش خشن من فراش الجحيم ويرى بينها (دسكورديا) ربة الخصام وفوق رأسها - مكان الشعر - حيات وأفاع تتحوى وتنفث سمومها، ويرى أيضاً طائفة مروعة من الوحوش والضواري والتنانين مثل هيدرا وبرياريوس، فينزعج إينياس ويمتشق سيفه ليحمي نفسه، ولكن سيبيل تنهاه وتطمئنه فيلملم أذياله ويقتفي أثرها حتى يكونا عند نهر كوكيتوس المتكون من دموع المعذبين. وهنا يريان (خارون) في زورقه الجبار ينقل أرواح الموتى، كثيرة كأوراق الخريف من عدوة إلى عدوة، والأرواح تتدافع تريد أن تسبق، ولكن خارون ينتخب منها الطائفة بعد الأخرى ويدع الآخرين، فيسأل إينياس فتجيبه سيبيل أن الأرواح التي أديت لها شعائر الدفن الجنائزية هي وحدها التي تعبر النهر. أما التي حرمت فتهيم فوق الشاطئ دون أن تعبر مدى مائة عام أو تزيد حتى يأتيها الفرج (!). ويجزع إينياس حين يرى في هؤلاء كثيرين من أصحابه الذين ذهبوا ضحية العاصفة فكانوا من المغرقين؛ ويشتد حزنه حين يرى فيهم روح ربّانه الشجاع بالينيوروس الذي غرق في الرحلة إلى أسبريا. ويكلمه فيرجوه الربان أن يمد إليه يده فيجتاز به اليم إلى الشاطئ الآخر، ولا يوشك إينياس أن يفعل لولا أن تنهاه سيبيل!! خشية أن يخرق شرائع بلوتو، وتطمئنه فتخبره أن الأمواج ستقذف جثمان صاحبه إلى الشاطئ وسيدفنه الناس حين يرونه. ويتقدمان إلى(164/24)
خارون ليركبا في زورقه ولكنه يغضب حين يرى إينياس ما يزال حياً ببدنه وعليه عدة حربه وعتاده، ويسأله بأي حق جاز إلى هنا، فتتولى سيبيل الإجابة وتخبره أنه لن يأتي محرماً في الدار الآخرة، وغرضه أن يرى أباه فحسب ويكلمه ثم يعود أدراجه؛ وتريه الغصن الذهبي الذي احتمله بيمينه هدية لربة الموتى بروزربين، فيرضى، ويبتسم. ويحملها في زورقه إلى العدوة الآخرة. وما يكادان يطآن الشاطئ حتى يفجأهما الكلب الخبيث سيربيروس، ذو الرؤوس الثلاثة تقذف اللهب، وعليها الأفاعي تنفث السم، فيوشك يفتك بهما، لولا أن تقذف له سيبيل كعكة بها مخدر عجيب فيلتهمها ويستلقي على رمال الشاطئ، ويجوزان قليلاً فيسمعان أصوات أطفال صغار ماتوا قبل أن ينهلوا كوثر الحياة فأقاموا هنا، وعلى مقربة منهم أرواح الذين ماتوا ضحية تهم باطلة وقد قام بينهم القاضي مينوس يفحص قضاياهم ثم يمران بأرواح اليائسين من الحياة الذين ضاقوا بجدها ذرعاً فماتوا منتحرين. وهم الآن يتمنون لو عادوا إلى الدنيا فيعملوا من الصالحات ما يشفع لهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وينطلقان فيجوزان بدركات الأحزان التي ازينت طرقاتها بأزاهير الآس فيريان أرواح الذين ماتوا دون أن يقضوا مأرباً من حبهم الذي خلعوه على عذارى الدنيا، فباءوا هنا بألم لا ينجيهم منه حتى الموت نفسه: ويشهد إينياس بينهم روح حبيبته ديدو التي ما يزال جرحها دامياً ينفج، ويكلمها ويحزن لها، ثم يبكي بين يديها بكاء مراً (و. . . حبيبتي ديدو!! لا تتهميني بما أنت فيه من ضنى وتعذيب! فقد سخرتني الآلهة لأمر سماوي؛ وكان لزاماً علي أن أطيع؛ فقفي وكلميني، ولا تحرميني حتى كلمة وداع هينة عليك! وتقف ديدو بعيني حزينتين تفحصان جمرات جهنم، وتسير مسافة فيتبعها إينياس، ولكنه يعود بعد إذ لا يقوى على زفير السعير!!). ثم يعبران فيمران بأودية أرواح الشهداء، ويحدق به أصحابه من محاربي طروادة مشدوهين ذاهلين، يسألونه فيم أقبل، وحين يلمحه أبطال الإغريق مقنعاً في حديده مقرناً في سلاحه تطير قلوبهم ويهربون منه في أودية النار خوفاً وهلعاً! وتستحثه سيبيل فيهرول وراءها حتى يكونا عند مفرق طريقين يؤدي أحدهما إلى الفردوس (إليزيوم والآخر إلى هاوية من هاويات جهنم حيث يقر المجرمون الذين لطخوا حياتهم بالآثام، ويشهد إينياس على أحد جانبي الطريق مدينة منيفة عالية الذرى، ذات سور ضخم وبرج مشيد، تحيط بها أمواه فيليجيتون - أحد أنهار(164/25)
جهنم - وقد وقفت ربة الانتقام المخيفة في عليائها تحرس طبقات من المعذبين الذين راحوا يملئون الرحب بصراخهم وأنينهم. أولئك قد حسبوا ألا يقدر عليهم أحد فاجترحوا من السيئات ما شوهوا به وجه الحياة. . وهاهم، قد وقفت على نواصيهم تيزيفون تحاسبهم وتظهر لهم ما أضمروا من الخبائث، وكلما خلصت من حساب أحدهم قذفته لأخواتها ربات الذعر فتدق عنقه بمقامع من حديد وتشويه بشواظ من نار ونحاس!! وانفتحت بوابة المدينة فجأة، فلمح إينياس هيدرا هائلة ذات خمسين رأساً تحرس الطريق عندها؛ وهنا تخبره سيبيل أن هذه الطريق تؤدي إلى جحيم طرطاروس وهي في آخر السفل تبعد عنهما بعد السماء من فوقهما، وفي قرارها يرسف التيتان الذين شقوا عصا الطاعة على جوبيتر كبير آلهة الأولمب. ورأى إينياس جماعات جلوساً حول موائد كثيرة وأمامهم آكال وأشربات كلما وضعوا منها شيئاً في أفواههم نزعته منها ربة من ربات العذاب مكفلة بهم. ورأى قوماً آخرين يحملون فوق هاماتهم حجارة ثقيلة تكاد تقصمهم. وعلم من سيبيل أن هؤلاء هم الذين كانوا يشاقون آباءهم ويضارون إخوتهم ويخادعون أصدقاءهم الذين وضعوا ثقتهم فيهم ويكنزون الذهب والفضة ولا يجعلون للفقراء نصيباً منهما. ورأى كذلك الذين فسخوا خطبة زواجهم بغير حق والذين حاربوا وطنهم وخانوا أماناتهم وخرقوا الشرائع. ورأى أكسيون وسسفيوس يعذبان عذاباً أليما. ورأى تنتالوس واقفاً في بركة من الماء العذب ومع ذاك يوشك الظمأ أن يرديه كلما انحنى ليشرب هرب الماء وغاض في الأرض، ومن فوقه أشجار يانعة ذوات أثمار كلما مد يده ليقطف ثمرة ذهبت فروعها في السماء فهو أبداً ظامئ جائع.
وهنا، ينتهيان من الجوس خلال الجحيم، وتذكر له سيبيل أنهما سيبدآن رحلتهما إلى الفردوس (إلزيوم)، فتخب به في طريق دامس شديد الظلمة حتى تصل إلى أحراج نورانية فتكون هي الجنة التي وعد المتقون. وينشقان ثمة نسيماً عليلاً ويريان الصالحين مسربلين بسرابيل من أنوار أرجوانية، وينظران إلى علٍ فيريان للجنة سماء لها نجومها وشمسها وأقمارها غير ما ترى في سماء هذه الدنيا. وهناك، أخذ الفائزون يمرحون ويلعبون، فبعضهم يضطجع على العشب الأخضر يسامر أصدقاءه، والبعض يلعب ألعاب الحياة الدنيا من مصارعة وجري ورماية، وآخرون يرقصون ويتغنون الأغاني. وفي هؤلاء أقام(164/26)
أرفيوس الموسيقي يشنف آذان أهل الجنة بقيثارته. ثم رأى إينياس في أولئك الأبرار مؤسسي طروادة وأبطالها الأطهار الذين حاربوا الهيلانيين وعليهم حلل الإستبرق والغار، ومعهم أرواح كثيرة مطهرة من القديسين والشهداء والشعراء الذين نظموا قصائدهم في تمجيد أبوللو. وآخرين زانوا الحياة الدنيا بعلومهم وفنونهم وقدموا يداً بيضاء لإخوانهم في الإنسانية. وكان هؤلاء يلبسون طيلسانات بيضاً وقراطق من حرير، وقد سألتهم سيبيل إذا كان أنخيسيز (والد إينياس) بينهم، فأذنوا لها أن تبحث عنه بين جموعهم الزاخرة؛ ثم لقيته في واد نضير ذي فواكه وأثمار فعرفه ابنه، ومد الوالد ذراعيه يعانق ولده والدمع ينهمر على خديه ويروي لحيته: (وأخيراً أتيت يا إينياس! يا ولدي! كم حنت روحي إليك وكنت في خشية عليك مما أعرف من حياتك التي تلطخها دماء الحروب ويغطشها قتار المعامع!) فيجيبه ابنه (أبتاه! ليفرخ روعك فإن صورتك كانت أبداً ماثلة نصب عيني فكانت تقودني إلى الخيرات وترشدني إلى الصالحات!) ثم يحاول أن يعانق أباه، ولكن. . . إنه لم يعانق إلا شبحاً!!
ونظر إينياس فرأى وادياً مخضلاً سامق الشجر بليل النسيم يجري من تحته نهر ليث العظيم، وفي جنباته أمم شتى من أرواح الصالحين كثرت كثرة هائلة حتى لكأنها أسراب النحل في إبان الربيع. ويسأل صاحبته عن هؤلاء فتقول سيبيل: (أولئك أرواح المؤمنين تنتظر يوم البعث فتعود إلى أجسادها فتلبسها وهي تشرب النسيان من ليث ليشغلها عن توافه الحياة الدنيا!).
ويسأل أباه إينياس فيقول: (أبي ألا تكون الحياة الدنيا محببة عند أحد من هؤلاء فيؤثرها على ما هو فيه الآن من طيبات فهو يود لو يعود إليها؟) وهنا يأخذ الأب في شرح طويل عن بدء الخلق وعن العناصر التي صنع الله منها العالم (النار والهواء والأرض والماء) وأن هذه باتحادها ينشأ عنها اللهب الذي صنع الله منه الأرواح العلوية وقد انتثرت بذرة من اللهب المقدس فاختلطت بالأرض فصنع منها الآلهة السفليون الإنسان والحيوان وكلما كبر الإنسان قلت فيه بذرة اللهب المقدس وصغرت وخبثت نفسه لأن كمية الطين تزداد فيه ولذا تجد الأطفال لصغرهم ولقلة كمية الطين فيهم أكثر طهراً وأجم نقاء من الكبار. ولا بد للعبد المؤمن قبل دخول الجنة من إزالة الطين الذي اندس فيه وذلك بترويحه في الهواء، أو(164/27)
غسله في الماء أو تحريقه بالنار ليخلص من الشوائب والدنايا وليستحق أن يكون من أهل ألزيوم. أما الصالحون فيرتدون إلى الحياة متقمصين أجساد القطط والذئاب والكلاب والسعالي والقرود فتزداد بهم الدنيا قبحاً على قبح. وقد يعود بعض الصالحين كذلك ليطهروا الدنيا من دنايا هؤلاء.
ثم يحدث أنخيسيز ابنه عما ينتظر أن يتم على يديه من تكون مملكة عظيمة في إسبريا وعن جلائل الأعمال التي ستتم فيها على يديه وأيدي ذراريه. ويحدثه كذلك عن الحروب التي سيخوضون غمارها والمعارك التي سينتصرون فيها والزوجة الجميلة التي سيفوز بها، وطروادة الجديدة التي سيشيدون دعائمها فلا يمضي طويل حتى تكون سيدة العالم.
ثم يسلم الولد على والده، وتعود به سيبيل من طريق مختصر إلى هذه الحياة الدنيا.
(للبحث بقية)
د. خ(164/28)
أبو الطيب المتنبي
للأستاذ محمد محي الدين عبد المجيد
موضوعات هذا البحث
وبعد فلقد فكرت طويلاً فيما عسى أن يكون موضوع كلمتي التي أتشرف بإلقائها بين يديكم من مناحي المتنبي، وعرضت مسائل البحث على خاطري، فكنت كلما فكرت في أمر وجدت له ما يبرر التوجه إليه، ووجدت مع ذلك من الشبهات ما يذودني عنه ويقطعني عن الاسترسال فيه، ولكني استطعت في آخر الأمر أن أقنع نفسي بأنني وافد الأزهر إليكم، وبأن الأزهر هو المعهد الذي يقوم على حراسة الدين أصوله وفروعه وعلى حياطة العربية وآدابها، وبأن بحث من يمثل الأزهر يجب أن يكون متصلاً بما يؤديه الأزهر للعالم من أمانة وما يضطلع به من أعباء، فاستقام عندي بعد هذه المقدمات أن يدور بحثي حول (دين المتنبي وأخلاقه وتنبئه وموقفه من النحاة)؛ وما كدت أنتهي من ذلك الأمر وأخلص من التفكير بهذه النتيجة حتى عرض لي أمر آخر ألقيت له بالي كله، وذلك الأمر هو المقصود بهذا المهرجان: أهو تقريظ المتنبي والثناء عليه، إما بإطرائه وكيل المديح له إن حقاً وإن باطلاً، وإما بإثارة الجميل من أخباره وشعره والإعراض عما عسى أن يغض من شأنه، أم هو بحث المتنبي من جميع وجوهه لوجه الحق من غير تعنت ولا تحيز؟ ولم أزل أفكر وأقدر للأمر حتى أيقنت أن هذا الحفل الذي يجمع أقطاب الأدباء والعلماء من كل قطر لا يمكن أن يستوي عنده الأمران فإن فرق ما بينهما أوضح من أن يدل عليه. وأي إنسان يستطيع أن ينسى الفرق بين حفل يجتمع لتكريم رجل وبين حفل يجتمع فيه صفوة الأدباء لدراسة رجل من رجال الأدب كان له أشياع وأعداء، وكان أشياعه ينشرون ممادحه ويذيعون فضائله ويتأولون له، وكان أعداؤه يملئون الأرض عجيجاً حوله ويرمونه بكل نقائص الإنسانية وهم لا يتورعون عن الكذب فيما يحدثون به من أخبار. أليس من أول ما يلزم الباحثين أن يعرضوا مقالات أعدائه وشيعته جميعاً على موازين البحث الصحيحة ليخلصوا بنتيجة ترضي العقل وتسد حاجة التفكير غير مبالين أن تكون هذه النتيجة مما يتمدح به أو مما يعده الناس نقصاً؟ فإن أنا عرضت عليكم شيئاً من هذا فهذه معذرتي وهذا رأيي، ولعلي لا أكون قد أبعدت أو جانبت الصواب فيما ذهبت إليه.(164/29)
دين المتنبي
أيها السادة! لقد مني أبو الطيب المتنبي بصنفين من الناس كان لكل واحد منهما من الأثر في حياته وفي أخباره التي نتوارثها إلى اليوم أقبح الأثر، ولولاهما لعاش الرجل عيشة هادئة، ولولاهما لكانت صحيفته في تاريخ الشعر والشعراء غير الصحيفة التي نقرؤها اليوم، ولولاهما لما وجد الباحث عنه هذا الغموض وهذا التناقض اللذين يعانيهما الآن. أما أحدهما فجماعة من ذوي المكانة بين الناس وأصحاب الجاه خافوه على أنفسهم ورهبوا أن تمتد مطامعه إلى مكانتهم وجاههم، أو طمعوا منه في أن يتملقهم ويرائيهم فيرد حضرتهم كما كان غيره يردها وكما كان هو يرد حضرة غيرهم من الملوك والأمراء فلم ينالوا ذاك منه، أو دفعت أبا الطيب نوازع نفسية فنال من أعراضهم فكانوا لأحد هذه الأسباب أولها كلها مجتمعة يحنقون عليه ويغضون من شأنه، وكانوا مع ذلك يؤلبون عليه الشعراء والعلماء لينالوا منه ويؤذوه في نفسه وفي شعره. وكان أبو الطيب يخشاهم ويرهب سلطانهم، بل لم يكن يخشاهم على نفسه فحسب، وإنما خشيهم على بعض أصدقائه ومن يشفق عليه، فقد حدث أبو إسحاق الصابئ قال: (راسلت أبا الطيب رحمه الله في أن يمدحني بقصيدتين وأعطيه خمسة آلاف درهم ووسطت بيني وبينه رجلاً من وجوه التجار، فقال: (قل له والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب عليّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك تنكر لك الوزير (يعني أبا محمد المهلبي) وتغير عليك لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال فأنا أجيبك إلى ما التمست وما أريد منك مالاً ولا عن شعري عوضاً)، فتنبهت على موضع الغلط، وعلمت أنه نصح فلم أعاوده اهـ). وأما الصنف الآخر فجماعة ممن كانوا يأملون أن تكون لهم المنزلة التي أدركها من الحظوة عند الملوك، وحرص كل واحد منهم أن يكون أبو الطيب من بطانته وتنافسهم في ذلك، فلما لم يبلغ هؤلاء المؤملون هذه الأمنية أكل الحقد عليه قلوبهم، واشتعلت جذوة الحسد بين جوانحهم، فتفننوا في القول عليه والدس له، ونشروا عنه من المقابح ما لم يكن يعلم من أمر أكثره شيئاً؛ ولم يكتفوا بأن يعملوا على إبعاده عن الملوك الذين كان التقرب إليهم منتهى آمالهم، بل حاولوا التفريق بينه وبين الجمهور، فجاءوه من ناحية الدين ثقة منهم أن للدين في نظر جمهرة الناس وعامتهم المنزلة الأولى، فإذا أتى(164/30)
الرجل من جهته فقد سقط وإن بقي له كل شيء.
رموه بأنه كان رقيق الدين تاركاً لأركان الإسلام، ورموه بأنه كان يستخف بالأنبياء ويستصغر شأنهم، ورموه بأنه ذهب في الفلسفة مذهباً بعيداً عما يعتقده المسلمون؛ وقد نسوا حين رموا أبا الطيب بذلك كله أن دين الإسلام شديد الصرامة في حكم هذه المسألة، وأنه لا يحل لمن يعتنقه أن يرمي أخاه بأمثال هذه التهم لإرضاء حفيظة نفسه حتى يكون بين يديه دليل لا يقبل التأويل.
ولسنا حين نتشكك في أخبار هؤلاء الناس أو ننكر استنتاجهم ندعي لأبي الطيب أنه كان رجلاً صالحاً ورعاً يقوم الليل ويصوم النهار ويطيل العبادة وقراءة القرآن، ولكنا نفعل ذلك لنقرر أن حياة أبي الطيب قد أحاطها أعداؤه بكثير من الغموض وأحاطوها مع هذا الغموض بكثير من الأكاذيب والمفتريات كان من شأنها أن تريك حياته سلسلة من المتناقضات.
حكي على بن حمزة البصري قال: (بلوت من أبي الطيب ثلاث خلال محمودة: وتلك أنه ما كذب ولا زنى ولا لاط، وبلوت منه ثلاث خصال ذميمة: وتلك أنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن) وهذا خبر لم يذكر قائله معه وجهاً يقربه من الصدق. وهل يستطيع إنسان في الدنيا أن ينفي عن آخر فعل شيء حتى يزعم أنه لزمه طول حياته فلم يفارقه وأنه ما رآه يفعله قط؟ ثم إن أمر الصوم في حديث علي بن أبي حمزة أهون من أمر الصلاة وقراءة القرآن، فهو يستطيع أن يدعي مرة أخرى أنه رأى أبا الطيب كل عام في شهر رمضان في حلب ومصر والعراق وشيراز وسائر البلاد التي وطئنها قدماً أبي الطيب، وأنه رآه مع ذلك يأكل أو يشرب نهاراً، يستطيع أن يدعي هذا كله وحينئذ يتم له ما أراد من أنه بلا من أبي الطيب خلة ذميمة وهي أنه ما صام، ولكن أنى له أن يدعي ذلك. فأما أمر الصلاة وقراءة القرآن فنحن نسأله: أكان قد لزم أبا الطيب في مغداه ومراحه ومتيقظه ومنامه حتى يستطيع أن يزعم أنه ما صلى؟ وشيء آخر، ذلك أنه بلا منه خلة محمودة وهي أنه ما كذب، فهل سأله عن صلاته وقراءته القرآن فحدثه وصدقه الحديث أنه ما صلى ولا قرأ القرآن؟ والحق أن علي بن حمزة البصري رجل أراد أن يرمي أبا الطيب بما رمى به أمثاله أمثال أبي الطيب من قبل، وبما لا يزال أمثاله يرمون به أمثال أبي(164/31)
الطيب إلى اليوم. يريد بذلك أن يرضي خصوم أبي الطيب أو يشبع شهوة الانتقام منه، وأراد أن يعمي على الناس ويحملهم على تصديقه، فذكر في صدر حديثه أنه بلا منه ثلاث خلال محمودة، وهذه العبارة فيما نعلم من أمر الناس إحدى الدلائل على اختلاق الحديث. هذا وقد ذكر أبو العلاء في شأن صلاة أبي الطيب قال: (وحدثت أن أبا الطيب أيام كان اقطاعه بصف رؤى يصلي بموضع بمعرة النعمان يقال له كنيسة الأعراب، وأنه صلى العصر ركعتين، فيجوز أن يكون رأى أنه على سفر وأن القصر له جائز) فهل يمكن أن يكون خبر علي بن حمزة بعد ذلك موثوقاً به؟ فأما تأول المتنبي وأنه رأى أن القصر له جائز فأمر آخر ليس بحثه من شأننا الآن؛ وقراءة القرآن التي زعم علي بن حمزة أن أبا الطيب لم يفعلها أفي الناس من يعقل أن رجلاً نشأ على حفظ اللغة واستظهار غريبها، والتنقل في البوادي ليلقطها من أفواه الأعراب يجد القرآن بين يديه وهو كتاب لغة وأسلوب وفكر، فوق أنه كتاب هداية وخلق وآداب، ثم لا يقرأه ليتأسى به ويتقيل أساليبه ويتخذ من اطراد منطقه وإحكام الحجة فيه منهجاً لنفسه؟ ونحن نذكر لعلي بن حمزة أن أبا الطيب قد قرأ القرآن وفهمه، ونذكر له مما يشير إلى ذلك قوله من قصيدة يمدح بها كافوراً:
كأن كل سؤال في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب
وقوله من قصيدة يمدح فيها محمد بن زريق الطرسوسي:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما انشق حتى جاز فيه موسى
فأما ما ذكروه من استخفافه بالأنبياء واستصغاره شأنهم وعدم مبالاته بأصول العقيدة، فقد رأينا فيما جمعناه من كلام أبي الطيب مما هو متصل بهذه المسألة أن بعض ما ذكروه أهون من أن يؤبه له كقوله:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
وكقوله:
إنا في أمة تداركها الله ... غريب كصالح في ثمود
وأي شيء في أن يشبه نفسه وهو يقيم بين قوم يعتقد أنهم أعداؤه بالمسيح عليه السلام حين أقام بين اليهود؟ وأي شيء في أن يدل على أن بقاءه بين قوم لا تجانس بينه وبينهم غربة(164/32)
تشبه غربة صالح عليه السلام، إذ كان يعيش في وسط لا يرون رأيه؟ وبعض ما أخذوه عليه تجد له محملاً في الكلام لو أنت حملته عليه لم يكن به بأس، وذلك كقوله في قصيدة مدح بها الحسين ابن إسحاق التنوخي:
فما ترزق الأقدار من أنت حارم ... وما تحرم الأقدار من أنت رازق
فإنه يمكن أن يكون قد أراد أن الحسين بن إسحاق رجل موفق إلى السداد وإصابة المقادير فهي تجري دائماً موافقة لما اهتدى إليه ولا شيء في ذلك فيما نظن. وأما بقية ما أخذوه عليه فداخل في باب المبالغة التي تجري على ألسنة الشعراء وهي لم تخالط قلوبهم، وأبو الطيب كثير المبالغة في شعره، ونحن نأخذها عليه من الناحية الأدبية ولا نستدل بها على فساد عقيدته؛ فمن ذلك قوله في مدح محمد بن زريق:
لو كان للنيران ضوء جبينه ... عبدت فصار العالمون مجوسا
ومن ذلك قوله من قصيدة يقولها في صباه:
عمرك الله هل رأيت بدوراً ... طلعت في براقع وعقود
راميات بأسهم ريشها الهد ... ب تشق القلوب قبل الجلود
يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد
وقد اعتذر الناس عن قوله: (هن فيه أحلى من التوحيد) بوجوه: أحدها قاله ابن جني وملخصه إنكار هذه الرواية، والرواية عنده (هن فيه حلاوة التوحيد) وقد سرى إلى ابن جني داء النحاة في تحريف الشواهد وتغييرها على ما يوافقهم. والوجه الثاني: (تفسير التوحيد بأنه ثمر من ثمار العراق حلو المذاق، والوجه الثالث قاله العكبري وملخصه أنه ليس المراد تفضيل حلاوة الرشفات على حلاوة التوحيد، وإنما المراد تقريب حلاوتها من حلاوته لأن حلاوته ثابتة غير مكشوف فيها وحلاوتها غير معروفة، وذانك الوجهان من باب التمحلات البعيدة كما ترون، وليس لنا إلا أن نعترف بأن هذا غلو أفرط فيه أبو الطيب فتجاوز الحد. ومن ذلك قوله من قصيدة مدح بها أبا شجاع عضد الدولة
الناس كالعابدين آلهة ... وعبده كالموحد الله
وقوله من قصيدة مدح بها بدر بن عمار:
لو كان علمك بالإله مقسما ... في الناس ما بعث الإله رسولاً(164/33)
لو كان لفظك فيهم ما أنزل ال ... قرآن والتوراة والإنجيلا
وكل هذا من الغلو البعيد كما قدمنا، ونحن نعتب عليه أنه قد أسلس العنان لفكره حتى جال في هذا الميدان، فلا بدع أن يمتلئ من غباره وتصيبه إحدى قذائفه.
فأما ما اتهموه به من الذهاب في فلسفته مذهباً لا يقره الإسلام فأني أبادر بإنكار ذلك عليهم وأعرض عليكم شيئاً مما ذكروه لتتبينوا بأنفسكم أنهم لم يكونوا منصفين حين نسبوه إلى ما نسبوه إليه؛ زعموا أنه أنكر المعاد لقوله:
تمتع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
وأي دليل في هذا الكلام على إنكار المعاد؟ وأي شيء في أن تقول: (إن للموت معنى غير معنى النوم واليقظة؟ ومن ذا الذي يزعم أن معنى الموت هو معنى النوم واليقظة أو أن حال الإنسان فيه كحاله فيهما) وزعموا أنه يرى رأي السوفسطائية الذين ينكرون ثبوت حقائق الأشياء لقوله:
هون علي بصر ما شق منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم
ولو كان ذلك من مذهب السوفسطائية لما جاز لأحد أن يشبه شيئاً بضده إذا اشتركا في أمر من الأمور ونحن ما نزال نسمع الناس يقولون إن نوم فلان ويقظته سواء إذا كان لا يستفاد من يقظته أو كان لا يجد الراحة في نومه كما لا يجدها في يقظته. وما نزال نسمعهم يشبهون الموجود بالمعدوم والمنير بالمظلم. وهكذا يجري على الألسنة من غير أن يلتفت أحد إلى هذا الذي زعموه ونسبوه إلى القول بقدم العالم مستنجين ذلك من قوله في قصيدة رثى فيها أخت سيف الدولة:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
وهذا استنتاج لا يقضي العجب منه، بل أنا أصارحكم - ولا ضير علي في ذلك - بأنني لم أعرف وجه هذا الاستنتاج، ولو استنتجوا من هذين البيتين أنه ينكر المعاد لكان لاستنتاجهم وجه. على أنه إذا صح أن يكفر رجل بهذا الكلام وجب أن نحكم على علماء المسلمين عامة بالكفر ونحكم بذلك بادئ الأمر على المشتغلين بعلم الكلام والرد على فرق الملاحدة،(164/34)
ذلك بأنهم يحكون لنا أقوال الكفار كما حكاها أبو الطيب في هذين البيتين، بل إن علماء المسلمين أولى بهذا الحكم منه لأنهم يذكرون مع ما يحكونه من الآراء شبهة أهل هذه الآراء، وقد يصورون شبهاتهم في صورة الأدلة؛ يجب عند خصوم أبي الطيب أن يكون علماء المسلمين كفاراً وإن لم يعتقدوا ما يحكونه من آراء وإن كان عندهم من الأدلة على بطلانها ما لا يدخل في حساب أحد، وفي الحق أن أعداء أبي الطيب لم يكونوا موفقين فيما رموه به، وأن أبا الطيب نفسه لم يسعفه التوفيق في كل ما جرى على لسانه.
(له بقية)
محمد محي الدين عبد المجيد
المدرس بكلية اللغة العربي(164/35)
من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
لغة الأحكام والمرافعات
للأستاذ زكي عريبي
- 3 -
مطابقة المرافعة لمقتضى الحال
إن أهمها بلا شك هو مطابقتها لمقتضى الحال. فللإسهاب منها مواضع وللإيجاز مواضع. يجب استعمال اللفظ المجلجل مرة والسهل البسيط أخرى. يغلب المنطق هنا والعاطفة هناك حسب الظروف والأحوال.
وليس يستطيع هذا إلا المتكلم المصقع المتصل بالأدب بأوثق صلة، العالم بطبائع الناس العارف لمواقع الكلام، المتصرف في أنواعه المختلفة بما يريد ويشتهي.
كفايات صعبة بل شك، ولكنها لازمة أدرك الأقدمون ضرورة توفرها فيمن اتخذ الكلام صناعة. فكان محامو اليونان أفصح أهل زمانهم وأعلمهم. وسار الرومان في أثرهم فلم يكن لطلاب البلاغة في عهدهم غير ساحة القضاء يقصدونها للأخذ عن أئمتها وحاملي لوائها من المترافعين المبرزين أمثال أنطونيوس وهورتنسنس وشيشرون. ثم تجددت هذه الحال في عصر النهضة فكان على طالب المحاماة بعد الفراغ من دراسة الحقوق أن يتنسك أربع سنوات يقضيها متأملاً باحثاً قبل أن يقدم على المهمة المقدسة الكبرى - مهمة الدفاع.
وقد بلغ من إغراق الأسرة القضائية في ذلك العهد في التأدب أن أصبحت المرافعات والأحكام عبارة عن اقتباسات مكدسة من كتب اليونان والرومان تلوح بينها الألفاظ الفرنسية وتختفي.
بل إنك لتقرأ في أخبار ذلك الزمن أن باسكييه أشهر محامي القرن السادس عشر أورد في إحدى مذكراته بيتاً لاتينياً لم يشر إلى قائله ووقعت المذكرة في يد دىنو قاضي القضاة فلم يشأ أن يحكم في الدعوى حتى يعرف مصدر الشعر.
وبقي الاتصال وثيقاً بين الأدب والقانون خلال القرن السابع عشر والذي يليه. فأصبح من تقاليد المجمع اللغوي تخصيص أحد كراسيه لأبرع المحامين أدباً. وكان يشغل هذا الكرسي(164/36)
في عصرنا الحاضر إلى عهد قريب النقيب الأشهر المرحوم هنري روبير.
وتجد مثل هذه الرابطة بين الأدب والقانون في إنجلترا، فكثير من أشهر أدبائها شغلوا كراسي القضاة أو لبسوا رداء المحاماة.
وقد بقيت لغة الأحكام والمرافعات في مصر سقيمة تافهة حتى دخل الميدان أمثال محمد عبده وحفني ناصف ومحمد صالح وقاسم أمين وسعد زغلول فرقوا بها إلى طبقات لم تكن تحلم بها.
وهذه الصلة ما زالت إلى اليوم معقودة يوثق عراها أعلام من أدباء العصر، فالدكتور هيكل كان محامياً، وفكري أباظة والدكتور مرسي محمود ولطفي جمعة محامون مشتغلون. وكان على رأس محكمة النقض والنيابة العامة أديبان لم تسعد اللغة القضائية حتى الساعة بخير من قلميهما.
لغة المحاكم إذن جزء من أدب كل أمة. ليس لها عنه غنى وله فيها كل الغناء.
لا غنى لها عنه لأنها من دونه ضئيلة عليلة مملة مسئمة.
وله فيها غناء لأنه يجد في ساحتها ميدانً مترامي الأطراف تلقى فيه الحقيقة بالخيال ويسعد قلم الأديب بمواضيع لا حد لكثرتها ولا تباينها. فمنها العظيم الفخم ومنها الصغير الدقيق. فيها الباكي المفجع وفيها الفكه الضاحك. الإنسانية كلها هنا، بأفراحها وأتراحها، بآلامها وأحلامها، بنبلها وضعتها، بخيرها وشرها. فالقلم الذي لا يجري في هذه الحلبة الواسعة خير له أن يكسر.
ولكن للغة المرافعات مع ذلك خصائصها ولها مميزاتها.
لغة المرافعة لغة حديث لا كتابة
إنها قبل كل شيء لغة حديث لا لغة كتابة.
وإن كان للحديث على الكتابة مزايا فإن له متاعبه وله صعابه.
فمن مزاياه أن المحدث يلقى السامع وجهاً لوجه؛ وفي استطاعته إذ يلقاه على هذه الصورة أن يستعين على إقناعه بلسانه وعينه، بصوته وإشارته، بحركته وسكونه، ببديهته ودقة ملاحظته، بل بما فيه من قوة مغناطيسية كامنة.
ولكن يقابل هذه المزايا أن المحدث مضطر بحكم طبيعة الموقف إلى الابتكار السريع(164/37)
والكلام المرتجل ومواصلة الحديث في غير توقف ولا تردد.
فكيف يجب أن تكون لغته؟
إن أولى صفاتها من غير شك بساطة التعبير.
بل قل إن هذا الشرط شرط ضرورة؛ فقد يملك الكاتب أن يستعمل اللفظ المنمق، وأن يحتال على المعاني البعيدة، وأن يطلق العنان للخيال فيواتيه بصور شعرية رائعة. ولكن شيئاً من هذا غير مستطاع ولا ميسور لمتكلم تكتنفه صعاب الارتجال، وتستحثه الحاجة الملحة إلى إفهام سامع يرمقه بعين تتسع انتظاراً قد ينقلب في لحظة إلى تململ أو سآمة.
صحيح أن الطبيعة لن توات جميع الناس بالبديهة الحاضرة التي تستطيع الكلام عفوا، فهم مضطرون إلى تحبير مرافعتهم ثم إلقائها. ولكن حتى هؤلاء يجب أن يكتبوا بغير اللغة المعدة للقراءة، إن عليهم أن يتصنعوا لغة الارتجال؛ وليس هذا بميسور إلا أن يحتذوا حذو محام نابغة يدعى فارير، تكلم عن طريقته في كتابة الممتع فقال إنه يرى صامتاً مفكراً مدى أيام كلما اعتزم الدفاع في قضية هامة، فإذا ما كان قبل الجلسة بقليل اعتكف في مكتبه ثم جلس للكتابة فأطلق العنان لقلمه لا يلوي على شيء مما يعني به الكاتب من فصل أو وصل، وبعبارة أخرى إن الرجل كان يترافع بقلمه في القضية متمثلاً أنه أمام المحكمة، حتى إذا فرغ طوى صحفه وقام عنها وقد رسمت هذه المرافعة المكتوبة في رأسه معالم واضحة توجه فكره إذا ما وقف للدفاع، وتقيه شر جموح الخاطر دون أن تمنع تدفق بيانه المطابق لمقتضى الحال.
العاطفة في لغة المرافعات
وليس أجمل في لغة المرافعات بل ليس ألزم من غلبة العاطفة فيها.
إن كلام المحامي ليبقى مجرد كلام لا طائل تحته حتى تغشاه عاطفة صادقة فتصبح له قوة السحر. وقديماً قالوا إن القول ينفذ إلى القلب إذا صدر من القلب. ولكن كيف السبيل إلى مثل هذا القول؟ ليس أعصى في موضوعنا من التعبير عما نقصد (بالعاطفة) هي لا شيء. وهي كل شيء.
يقف محاميان يطلبان الرأفة لمتهم، فيفوه أحدهما بكلام لا يعدو السمع. ويقول الآخر قولاً يهز القلوب هزاً.(164/38)
كلاهما يترافع بالعربية. وكلاهما يستعمل كلمة الرأفة أو الشفقة. فكيف يتفاوت أثر مرافعتهما هذا التفاوت؟
فتش وابحث وسل علماء النفس ينبئوك بأن واحداً من الاثنين حساس يستشعر ما يقول ويتأثر به فتنتقل منه عدوى التأثر إلى الغير.
والتأثر لكي يكون له هذا الأثر يجب أن يكون صادقاً. وهو لا يكون صادقاً إلا أن يصدر عن يقين واقتناع.
وإن تعجب لشيء فاعجب لهذا الاقتناع يبدو لك صادقاً - وهو صادق بالفعل - في قضايا يستحيل على العقل أن يصدق أن كلام المحامي فيها وليد الاقتناع وليس في الأمر مع ذلك معمي.
ذلك أن المحامي القادر إذا ما أخذ على عاتقه المرافعة في قضية صعبة راح يفكر في صعوبتها ورائده الرغبة في التغلب عليها وتلح عليه هذه الرغبة وتلحف بقدر ما يستعصي المخرج ويبعد الحل.
ثم ينتهي الأمر بتذليل المحامي للعقبة أو اعتقاده أنه ذللها. وفي هذه الحالة الثانية تطغى الرغبة على العقل وتستعبده، وقد يكون جباراً قوياً يندفع بقوة الإيمان الصحيح.
جمعني وأستاذي الكبير مرقس فهمي قضية مخدرات كان المتهم الأول فيها رجلاً معروفاً. ولم يكن في القضية منفذ لإبرة لا من حيث أدلتها ولا من حيث أدبياتها. فالمتهم ضبط متلبساً بالجريمة ولم يكن له عذر مقبول من أي نوع. بل بالعكس كانت الأسباب تحتشد وتتضافر لأخذه بالشدة، فقد كان الرجل مثقفاً غنياً لا يشفع له جهل ولا مسيس حاجة. فجئت الجلسة وكلي آذان لسماع مرقس فهمي. ماذا يستطيع الأستاذ العظيم أن يقول في هذه القضية اللعينة؟ أي دفاع يتحسس وأي عذر يتلمس؟ جلست أترقب وأنتظر. وأخيراً وقف مرقس للكلام. فإذا به يهاجم هذا الحصن المنيع من أكثر نواحيه منعة وأقلها توقعاً للهجوم. أجل لقد أخذ مرقس القضية عنوة من ناحيتها الأدبية، متوسلاً بما لاحظه من أن التحقيق كان سرياً فيها وأن المحامين قد منعوا عن حضوره. وانظر إليه كيف يرقى بقضيته التاعسة من أعماق الحضيض إلى سماء الرفعة، يجعلها مثار الكلام على الضمانات التي يشترطها القانون لصحة التحقيق وقدسية مهمة المحامي. أنظر إليه كيف يبدأ هذا الدفاع(164/39)
المجيد وقل إن في مصر محامين:
(نحن المحامين نعالج آلام الناس ونرافقهم في شقائهم، ولهذا نرتدي الثوب الأسود ونقف في هذا المكان المنخفض. فإذا ما أعيانا التعب جلسنا على هذا الحجر الصلب فيزيدنا تعباً. فنحن حقيقة بؤساء، رفقاء البؤساء. ولكن برغم هذه المظاهر الخداعة فأن الذي في قلبه إيمان بالحق يرتفع من هذا المركز المتواضع إلى السمو الذي لا حد له. ذلك لأن عماده كله الحق، ولأن مأمورية المحامي تمثل حق الدفاع المقدس. والقداسة لا تحتاج لسلطة ولا تحتاج لمظهر قوة بل هي جميلة، جميلة بنفسها مهما كانت مظاهرها. مظاهر التعس والتواضع، ولأن المحامي مأموريته التي تسمو به إلى أقصى ما يعرف من معاني السمو هي أن يوجه ضمير القاضي وأن يحدثه فيما يصح أن يتجه إليه عدله. فحقيقة لا يوجد سمو آخر يمكن أن يتصور.
قلت هذا لا تفاخراً بموقف المحامي، لأن الذي يدرك واجبه ليس في حاجة - بل عيب عليه - أن يفخر، لكني قلته ليعلم حضرة القاضي أني أعاهد نفسي بألا أعرف لها كرامة إلا إذا تقدمت إلى ضميره بكلمة الحق، وفي هذا السبيل فليقفني في الكلام حضرة وكيل النيابة في الوقت الذي يريده. إلى أن قال:
(إن التحقيق ليس هو ما يكتب لا. لا. التحقيق هو أولاً وبالذات الضمانات، احترام الكفالات التي قررها القانون في حق المتهم. كيف تستجوبه؟ من هو الشخص الذي وضع فيه الشارع ثقته في أن يتلقى هذا المتهم المسكين وديعة في يده ليتصرف في شأنه، لعله يعنفه، لعله يخدعه، لعله يمنيه، لعله يخيفه أو يهدده. فحتى لا تكون قداسة القضاء مستندة إلى تلك الطرق المخجلة المعيبة قال المشرع إن المتهم في حماية النيابة وحدها، والمتهم أول ما تقر به النيابة تستجوبه في ساعات 24 ساعة. والمتهم إذا حبسته له ضمانه معينة. والمتهم يا سيدي القاضي لا يقابله أحد في سجنه حتى إذا أراد المحامي أن يقابله. المحامي ممثل حق الدفاع إن رأى أن يقابله ليأخذ سر هذا المسكين، لا يقابله إلا بإذن.
ولكن ماذا جرى في هذه الدعوى؟ جرى أن المتهمين جميعاً قذف بهم يا حضرة القاضي إلى هوة من النار).
ويذكرني تلمس مواضع الإحساس هنا بما يرويه هنري روبير عن سلفه العظيم لاشو إذ(164/40)
قبل أن يضطلع بمهمة الدفاع عن القائد بازين أمام المجلس الحربي الأعلى في قضية اتهامه بالخيانة العظمى في حرب السبعين. وكان مركز المتهم بالغاً نهاية السوء، والبلاد من أقصاها إلى أقصاها مرجلاً يغلي بالحقد على من سلم إلى العدو مائة ألف مقاتل بمعداتهم وأسلحتهم. فمضى لاشو يترافع ثلاثة أيام، وهو كمن يضرب في حديد بارد حتى أسعفه الحظ وقد أخذ اليأس منه كل مأخذ بسقطة لسان من النائب العام إذ وصفه في رده على مرافعته (بالمدافع عن المزورين وقطاع الطريق). وهنا وثب لاشو وثبة الأسد قد وخز بسكين. وعاودته قوته الهائلة بفعل الكرامة المجروحة، وانطلق بيانه الساحر من عقاله فأتى بما لم يسبقه إليه متكلم. واستطاع بعد دفاع مرتجل ملتهب أن ينقذ رأس موكله.
(يتبع)
زكي عريبي
المحامي أمام محكمة النقض والإبرام(164/41)
في النقد
بقلم داود حمدان
في الأسابيع الأخيرة كتب في (الرسالة) أساتذة كبار بحوثاً جليلة في النقد، توخوا منها شحذ همم النقاد، وحملهم على النقد المفيد الذي طالما كان عاملاً هاماً في نموّ الأدب وتمحيص العلم. وكان في كلام بعضهم كلام يوهم التعريض بأشخاص انبروا للدفاع عن أنفسهم، فكان لنا معشر القراء من ذلك فائدة ولذة.
وما كنت، وأنا من القراء، لأزج بنفسي بين الكتاب، لولا أن شيئاً مما كتبه الأستاذ إسماعيل مظهر في العدد 161 من (الرسالة) لم أفهمه، فجئت أستأذن (الرسالة) بنشر ما يقوم بنفسي حول هذا الموضوع، لعل الأستاذ يتفضل بتصحيح فهمي، فأكون له من الشاكرين.
يتساءل الأستاذ: (هل وضعنا للنقد قواعد يقوم عليها هيكله وتشيد من فوقها أركانه؟ ألنا في النقد مذاهب مقررة ينتحيها الناقدون؟ وهل لنا في النقد قواعد تحدد للنقد حدوده، وترسم تخومه، وتعين اصطلاحاته، شأن كل الأشياء العلمية والأدبية التي لها أثر في تطور العقليات والمعقولات؟).
ثم ينفي الأستاذ أن لنا في النقد مذاهب (وإنما اتبعنا إلى الآن في النقد طريقة ميزانها الذوق والشعور).
وفهمي الكليل لا يرى محلاً لهذا التساؤل، ولا يتصور كيف يكون للنقد قواعد ومذاهب، لأن النقد - كما أفهم أنا - شيء إضافي ليس له حقيقة مستقلة، ولذا يقال: نقد الدراهم، ونقد العلم، ونقد الأدب، وغير ذلك. وهو كل ذلك معناه التمييز والتمحيص ومعرفة الزائف من الصحيح.
ولما كان لكل علم وفن حدود وقواعد فهي هي حدود وقواعد للنقد، وليس للنقد بعدها حدود ولا قواعد.
وإنما للنقد شروط لابد من توفرها في الناقد قبل الإقدام على النقد: فأولها أن يكون الناقد عالماً بالشيء المنقود علم إحاطة لئلا ينقد شيئاً لا يكون داخلاً في حدود علمه. ولعل هذا ما حمل الأستاذ أحمد أمين على أن يعيب على النقاد أن ينتقدوا ما ليس من اختصاصهم، وذلك لأن عدم الاختصاص لا يتيح للناقد الإحاطة بالشيء المنقود. فناقد الدراهم مثلاً يجب أن(164/42)
يكون عالماً بماهية الدراهم ليستطيع نقدها، وناقد علم من العلوم يجب أن يكون عالماً بقضايا ذلك العلم واصطلاحاته، وناقد الأدب يجب أن يكون عالماً بأصول الأدب ومقاييسه ليستطيع تميز الصحيح من الفاسد، فمعرفة الصحيح من الفاسد في شيء ما، هي عبارة عن معرفة ذلك الشيء نفسه، ومن هذا يتبين أنه ليس للنقد حقيقة قائمة بذاتها ليوضع لها حدود وقواعد.
وثاني الشروط أن يكون الناقد حسن النية في النقد غير ميال مع الهوى بحيث ينظر إلى العمل من حيث هو عمل لا إلى العامل، فإن ذلك أدعى إلى العدل وأحفظ للسان من الوقوع في الإفراط في المدح أو الذم. وليس معنى هذا أنه لا يجوز مدح المحسن في عمل ما بما يستحق، فإن هذا كفران للجميل وقتل للمواهب التي ينميها التشجيع ويحييها الإطراء، وأما المسيء فيكفي بيان إساءته ووقف الناس على خطئه ما دام المقصود من النقد نفي الباطل وإقرار الحق.
وشرط آخر لناقد الأدب ونحوه من الفنون التي يكون للذوق فيها نصيب. وهو: أن يكون ذوق الناقد وذوق المنقود من بيئة واحدة أو متقاربة، وأن يكون المؤثر فيهما واحداً أو متقارباً ليكونا متقاربين لا متساويين فإن هذا مستحيل، فلا ينقد مشرقي مغربياً مثلاً في شيء تختلف فيه أذواق المشارقة عن أذواق المغاربة.
وشرط التقارب هذا يعتبر ضابطاً لا بأس به في الأدب ويكون الحكم بعد بين الناقد والمنقود الرأي الأدبي العام في تلك البيئة.
وإنما لزم هذا الشرط في الأدب لأن الأدب من ضمن عناصره الذوق والشعور فلا جرم يكون الذوق والشعور من عناصر النقد الأدبي، بيد أنهما لا يكونان كل ما في النقد الأدبي من شيء. وما دام الذوق والشعور غير محددين فمن المستحيل وضع قواعد وضوابط لهما، ولذا يكفي لقبول النقد القائم على الذوق تقارب ذوقي الناقد والمنقود.
وبعد، فقد ظهر - بحسب ما أفهم - أن قواعد النقد هي قواعد العلم والفن والأدب المنقود، وأنه لا يمكن وضع قواعد خاصة للنقد من حيث هو فن خاص، وإنما له شروط - والشروط غير القواعد - وهي لا تكاد تخفى معرفتها على أحد من كثرة ما نوه بها الكاتبون في هذا الموضوع.(164/43)
أقول قولي هذا وأنا خجل من نفسي ومن الناس أن أناقش أستاذاً كبيراً في رأيه حول موضوع ليس لي من الخبرة به عشر معشار ما له، ولكنني أضع رأيي بين يديه ليدلني على مكان الخطأ منه، وليتفضل ببيان أوسع عن رأيه إذا بقي مصراً عليه ولحضرته مني الشكر الجزيل.
(اللد - فلسطين)
داود حمدان(164/44)
هيكل عظمي!. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
(كنت أمس عند قريب لي يمارس صناعة الطب؛ فخرج لبعض حاجته، حتى أطال الغياب، وتسرب إلي الملل، فقمت إلى خزانة كانت حيالي، فقلت: لعل فيها كتاباً أقرأه فما راعني حين فتحتها إلا هيكل عظمي معلق بسقف الخزانة. . . وإلى جانبه هيكل ثان. . .)
. . . من أنت أيها الإنسان الذي انتهى به الأمر إلى أن يحبس في خزانة، ويلبث الدهر معلقاً بسلكة، ويعد متاعاً من المتاع؟ أأنت رجل أم امرأة؟ أغنيّ أم فقير؟ أملك أنت أم صعلوك؟. . . . .
هل كان في هاتين الحفرتين البشعتين عيون ساحرات الطرف، يفتن ذا اللب حتى لا حراك به، ويفعلن بالألباب ما تفعل الخمر؟ وهل كان على هذا الثغر المخيف شفاه لعس، تأخذ دنيا البخيل بضمة على شفتيه، ويبذل حياته الجبان في قبلة منها؟ وهل كان على هذا القفص العظمي صدر بلوري، يضيع بين ثدييه عقل العالم، ويذهب فيه لبّ الحليم، وينسى امرؤ أسند إليه رأسه الدنيا. وما فيها؟ هل كانت هذه العظام المستطيلة المرعبة سواعد بضة، وأفخاذا رجراجة طالما أثارت من هوى وأذكت من خيال وطالما أنطقت بالشعر الشعراء؟ أكنت أيها الإنسان امرأة فاتنة جميلة؟
وهذا الإنسان الآخر؟ هل كان عشيقك أيتها الفتاة؟ اعترفي فلا بأس عليك اليوم؟ هل كان يهيم بك حبا، ويحيا الليالي يحوم حول منزلك، أو يرقب شرفتك فإذا رأى شارة منك أو أبصر على الشرفة ظلك أو لمح طرف ثوبك الأبيض أو الأصفر أو. . . أو (الأرجواني) انصرف وهو أسعد الناس حالاً، وراح يحبر فيك (المقالات)، وطفق يرى صورتك التي نسجها من خيوط حبه، لا صورتك التي هي لك: طفق يراها في السماء التي يرنو إليها ويعد نجومها. وفي صفحة الكتاب الذي يفتحه وينظر فيه، وبين أغصان الأشجار التي تمتد إلى شرفته. وحيثما تلفت أو نظر (تلوح له ليلى بكل سبيل)؟
أم كان هذا الإنسان شاباً غضّ الشباب طري العود، ينظر بعيون الغيد، ويتثنى كأنه قضيب بان، ويتكلم بصوت ليّن المكاسر، كأن ألفظه ورناته غادة أخرى تميل وتتدلل، ولم يكن يحبك أو يفكر فيك، أو يفتش هو الآخر على من يحبه ويفكر فيه. . .(164/45)
أم كنت أيها لإنسان ملكاً يضيء على مفرقه التاج المحلى بالدر، ويلمع تحته السرير المصنوع من الذهب، إذا أمر تقاتلوا على السبق إلى طاعته، وإذ اشتهى شيئاً أسرعوا إلى تحقيق شهوته، وإذا مرض لم يكن للناس حديث إلا حديث مرضه، وإذا أبلّ لم يكن سرور إلا ببشري إبلاله، وإذا قام أو قعد أو قدم أو ذهب لهجت الألسن بقيامه وقعوده، واشتغلت الصحف بذهابه وقدومه، وإذا مشى في الطريق لم يمش على رجليه كما كان يمشي أبونا آدم عليه السلام، وكما تمشي ذريته، ولكنه يمشي على رءوس الناس الذين يحسون لفرط الإجلال أو لفرط السخط بأنه يمشي على رءوسهم جميعاً؟
أم كنت أيها الإنسان صعلوكاً حقيراً عاش على هامش الحياة، ودفن في حاشية المقبرة، فلم يحس أحد بحياته، ولم يدر أحد بمماته، ولعل حياته أشرف حياة لأنها حافلة بالفضائل، مترعة بالشرف، فكان يكدح طول نهاره. ليحصل خبزه وخبز عياله، فيأكله مأدوماً بعرق جبينه، لا يؤذي أحداً، ولا يسرق مال الدولة، ولا يتخذ وظيفته جسراً إلى تحقيق شهواته، وتحصيل لذاته، ولعل موته أشرف موت، لأنه مات مجاهداً وسط المعمل، وسقط وفي عينيه المعول.
انظر يا صديقي! التفت إلى يمينك. إن الملك لذي طالما خفته وأكبرته وأعظمت زينته وبزته وشارته وحليته، فملت عن طريقه ولم تجرؤ أن يرفع نظرك إلى طلعته الكريمة. . إنه معك في هذه الخزانة قد نزع عنه ثوب الملك والبهاء. وعاد مثلك: لا الملك دام له ولا دام الغنى!
هل كنت أيها الإنسان رجلاً عفيفاً مستقيماً، أم كنت لصاً خبيثاً؟ اعترف: إنه لن يضرك اليوم اعتراف، هل كنت لص أعراض تلبس ثوب التاجر، أو ترتدي حلة الموظف أو تتيه بردة الغنى. كم من الأعراض سطوت عليه باسم الوظيفة أو بصلة الصداقة، أو ولجت إليه من باب (السفور المتهتك)؟
أم كنت لصاً رسمياً لا سبيل للقانون عليه، لأنه يسرق من الناس ويسكتون. لأنهم يريدون أن تمشي أعمالهم. ويسرق من الحزينة بأسناد مصدقة!
أم كنت لص أدب، تسرق فكرة الفيلسوف وصورة الشاعر وموضوع الكاتب، فتلبسها ثوباً من أثوابك الخسيسة الممزقة، ثم تخرج بها على الناس على أنها بنت خيالك ووليدة عقلك!(164/46)
أم كنت مظلوماً ولم تكن لصاً ولم تحترف السرقة، ولكن رأيت صبية مشرفين على الموت من الجوع، وأسرة كادت تودى من أجل رغيف، ورأيت حقك في بيت مال الأمة، قد سرقه السادة الأكابر فغطيت وجهك حياء، وأخذت رغيفاً ليس لك، فثار بك المجتمع وقامت عليك الصحف، وتعلق بك القانون حتى استاقك إلى السجن، فمت فيه مفجوعاً بشرفك وأولادك!
اقترب أيها المجرم. أدن أيها الشهيد، تعال انتقم، هذا هو القاضي الذي حكم عليك، لأنك سرقت رغيفاً تعيش به أسرة، ثم خرج يخترق الصفوف، صفوف الشعب الذي اجتمع ليشهد انتصار الحق وظفر العدالة، فلما رآه حياه وهتف له حتى بح صوته، وصفق حتى احمرت كفاه، فلما ابتعدوا لم يعد يراه أحد مد يده التي حمل بها (مطرقة العدل) فأخذ ثمن وجدانه الذي باعه، أخذ الرشوة. . . تعال انتقم. إن القاضي والمجرم قد التقيا وزالت من بينهما الفروق!
أم أنت أيها الإنسان جندي صاحوا به: الوطن في خطر! الحضارة مهددة بالزوال! لقد أوشك أن يموت الحق وتذهب الفضيلة! فاشتعلت الحمية في رأسك، والتهب الدم في عروقك، وقدحت عيناك بالشرر، فتركت أمك المسكينة ليس لها بعدك إلا الله، وأسلمتها إلى الحزن الطويل، والثكل القاتل، وأولادك الذين تعلقوا بك يصيحون: بابا. . بابا. . أسلمتهم إلى اليتم والفقر والبؤس، وذهبت تلبي نداء الحق والفضيلة، وتخلص الحضارة، وتنقذ الوطن. . . فنمت على الجثث، وتجلببت باللهب، وتوسدت القنابل، حتى إذا أدركك أجلك سقطت صريعاً، وأقبل رفاقك يدوسون على جثتك، لا يجدون وقتاً لإزاحتها ودفنها، لأنهم يخافون إذا أبطئوا ألا يدركهم الموت في سبيل الإنسانية. . . فلما ماتوا جميعاً ربحت الإنسانية وساماً زين صدر القائد، وصفحة في تاريخ العدوان، وثبت كرسي طاغية من الطغاة. أو استقرت مكانة حزب من الأحزاب، أما الأطفال الأيتام والعجائز الثاكلات، فحسبهم عوضاً من آبائهم، وحسبهن بدلاً من أبنائهن التمتع برؤية موكب القائد الظافر.
أم أنت أيها الإنسان القائد نفسه، قد جرّد صدره من الأوسمة والشارات، وجسمه من الحلة المزدانة بالقصب، ووجهه من الأنف والعينين، وعاد قفصاً من العظام، لا يمتاز من أصغر جندي وأحقر صعلوك، فلم يعد لك تانك العينان اللتان تبرقان، فترتجف لبريقهما أقسى القلوب، وذانك الشاربان القائمان كساريتي مركب، وذلك الصوت القوي، الذي كان يصيح(164/47)
بالجنود: إلى الأمام! أي إلى الموت. . . إلى الثكل. . . إلى اليتم. . . إلى الحرب. (جحيم الحياة الدنيا)!
وأنت أيها الآخر. أأنت ذلك الجندي، مالك تقف جامداً؟ هذا قائدك، ألا تضم شفتيك، وتثبت بصرك، وتزوي ما بين عينيك، وتأخذ هيئة الجد لتؤدي التحية العسكرية، ويحك! أما أنت جندي؟ امرأة أنت، أأنت عشيقة القائد العظيم، رآك منصرفة من المعركة التي طوّح فيها بالمئات من شباب أمته في سبيل العدوان على بقعة ليست له أو إعطائها إلى غير أصحابها، ومنحها للبعض الطارئين من الشعوب الذليلة المسكينة، فماتوا كلهم ولم يقدروا على شيء، لأن للحق قوة كقوة النار والحديد، أأنت التي اخترقت سهام لحظها هذا القلب الذي طالما هزئ بالقنابل والمدمرات، فجاء يصب جبروته على قدميك، وأصبح هذا الذي يصرف عشرات الألوف من الكماة المستلئمين تصرفينه أنت وتجرينه من زمامه، حتى صار يفكر فيك وهو في ساحة الحرب، يزلزل الأرض تحت أقدام أهلها، ويتأمل صورتك والعدو على أبواب معسكره لا يخاف عليه أن تحيله الأعداء، ما يخاف عليك أن تمص لماك غير شفتيه، أو يضم جسمك غير ذراعيه. . .
اقترب يا سعادة القائد، اقترب منها، فضمها واشرب لماها. إنها هي التي تحب!
أم أنتما رجلان؟ أعدوان أنتما أم صديقان؟ أكان بينكما مسافة على الأرض ومسافة في الزمان، أم أنتما رفيقان متلازمان؟ هل التقيتما في معمل، أو عملتما في منجم، أو اشتغلتما في ديوان، أو اصطحبتما إلى الحرب، أو تجاورتما في السوق؟
أم كنتما مضطجعين في قصريكما المتقابلين، قد مللتما من التسلية، وشبعتما من الحب، فأنتما تدفعان العمر دفعاً، لا تتنازلان أن تنظرا من النافذة إلى هؤلاء البؤساء الذين يشتغلون دائماً وأبداً، كأنهم آلات تدور، تحت الشمس في الصيف، وتحت المطر في الشتاء، وفي الحر وفي الزمهرير، وفي الصحة وفي المرض، ليأخذوا بعد ذلك الواحد وتأخذوا أنتم التسعة والتسعين، مكافأة لكم على غصبكم حريتهم وعسفكم إياهم، وزرايتك عليهم، فتنفقوها على الموائد الخضر، وفي كؤوس الخمر، وعلى الشقر والسمر. . . ثم إذا خرجتم تمسحوا بأذيالكم، وقبلوا السياط التي تلهبون ظهورهم!
من أنتما أيها الإنسانان! وما شأنكما؟ أأنتما هنا لتقولا: إن الملك والغنى، والمجد والجاه،(164/48)
والفتنة والجمال، كل أولئك أثواب تلبس وتخلع؟
فأي معنى - إذن - لقصائد ساداتنا الشعراء العاطفين؟
(دمشق)
علي الطنطاوي(164/49)
الحجاب في الإسلام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
من علماء الأزهر
- 2 -
أما غير أمهات المؤمنين من نساء المسلمين فلم يفرض عليهن هذا الحجاب الذي فرض عليهن، لأن فرضه كان للغرض السابق الخاص بهن، وقد ترك الإسلام أمر هذا الحجاب للرجل وزوجه، يجريان فيه على ما تقتضيه المصلحة التي تختلف باختلاف النساء، وشأنه في هذا شأن غيره من الأمور التي تركها الإسلام لحكم العرف والعادة وغيرهما.
ولهذا كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرى مع نسائه على ترك تقييدهن بشيء من أمر هذا الحجاب كالزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن جعفر وغيرهم. وكان منهم من جرى على تقييد نسائه به مثل ما قيدت به أمهات المؤمنين، وقد ورد من هذا أن سلمة بن قيس أرسل رجلاً إلى عمر يخبره بواقعة من الوقائع، فلما قدم له عمر الطعام نادى امرأته أم كلثوم بنت علي: ألا تأكلين معنا؟ فقالت له: لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر والزبير وطلحة نساءهم.
ولعل الزبير كان يفعل هذا مع زوجه أسماء بنت أبي بكر، فقد تزوج بعدها عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت امرأة عجزاء بادنة، ولها جمال وكمال وتمام في عقلها ومنظرها وجزالة رأيها، وهي التي يقول فيها عبد الله بن أبي بكر:
أعاتكُ لا أنساك ما ذَرَّ شارقٌ ... وما ناح قُمْريُّ الحمام المطوَّقُ
أعاتِكُ قلبي كلَّ يوم وليلةٍ ... لديك بما تخفي النفوسُ معلَّقُ
لها خُلُقٌ جزْلُ ورأيٌ ومنطقٌ ... وخَلْقٌ مَصُونٌ في حياء ومصدق
فلم أَرَ مثلي طلَّق اليومَ مثلها ... ولا مثلها في غير شيء تطلَّقُ
وكانت عاتكة تحت عبد الله فشغل بها، وغلبته على رأيه، فمر عليه أبو بكر أبوه وهو في علية يناغيها في يوم جمعة، وأبو بكر متوجه إلى الجمعة، ثم رجع وهو يناغيها، فقال يا عبد الله أجمعت؟ قال أوصلى الناس؟ قال نعم، فقال له أبو بكر: قد شغلتك عاتكة عن(164/50)
المعاش والتجارة، وقد ألهتك عن فرائض الصلاة - طلقها - فطلقها تطليقة ثم ندم على طلاقها وقال هذه الأبيات فيها، فأذن أبوه في مراجعتها؛ وقد مكثت تحته حتى مات فتزوجت بعده عمر، ثم تزوجت بعد عمر الزبير. فلما ملكها الزبير قال لها: يا عاتكة لا تخرجي إلى المسجد، فقالت له: يا ابن العوام - أتريد أن أدع لغيرتك مصلى صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فيه؟ قال فإني لا أمنعك، فلما سمع النداء لصلاة الصبح توضأ وخرج، فقام لها في سقيفة بني ساعدة. فلما مرت به ضرب بيده على عجزتها، فقالت مالك قطع الله يدك ورجعت. فلما رجع من المسجد قال يا عاتكة مالي لم أرك في مصلاك؟ قالت يرحمك الله أبا عبد الله، فسد الناس بعدك. الصلاة اليوم في القيطون أفضل منها في البيت، وفي البيت أفضل منها في الحجرة.
وهكذا كان بعض الرجال يحاولون أن يفرضوا على نسائهم هذا الحجاب بحكم الغيرة لا بحكم الدين؛ وكانت عائشة رضي الله عنها هي التي حالت بين النساء والمساجد، وكن يصلين فيها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تقوم صفوفهن خلف صفوف الرجال. فلما فتحت الأمصار وأقبلت الدنيا على المسلمين ظهرت المرأة في زينتها، وأخذت تحضر إلى المسجد بحالة تدعو إلى الفتنة، فرأت عائشة في حضورهن المساجد هذا الرأي، وقالت في ذلك: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل.
ولقد كان في نفسي شيء من هذا المنع إلى أن شفاها منه عالم الأندلس، وإمام أهل الظاهر، أبو محمد علي بن حزم. قال رحمه الله وأرضاه: أما ما حدثت عائشة فلا حجة فيه لوجوه:
أولها أنه عليه السلام لم يدرك ما أحدثن فلم يمنعهن، فإذا لم يمنعهن فمنعهن بدعة وخطأ، وما نعلم احتجاجاً أسخف من احتجاج من يحتج بقول قائل لو كان كذا لكان كذا.
ووجه ثان وهو أن الله تعالى قد علم ما يحدث النساء، ومن أنكر هذا فقد كفر، فلم يوح قط إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بمنعهن من أجل ما استحدثنه، ولا أوحى تعالى قط إليه - أخبر الناس إذا أحدث النساء فامنعوهن من المساجد.
ووجه ثالث وهو أننا ما ندري ما أحدث النساء مما لم يحدثن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شيء أعظم في إحداثهن من الزنا، فقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى(164/51)
الله عليه وسلم، ورجم فيه وجلد، فما منع النساء من أجل ذلك قط.
ووجه رابع، وهو أن الأحداث إنما هو لبعض النساء بلا شك دون بعض، ومن المحال منع الخير عمن لم يحدث من أجل من أحدث، وقد قال تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى).
ومن يدقق النظر في ذلك يجد أن هذه المحاولات في الحجر على النساء كانت ترجع إلى أسباب اجتماعية لا دينية، وأن الرجال كانوا يلجئون إلى هذا الحجر إذا أسرف النساء في استعمال ما أطلق الشارع لهن في هذا الأمر، وقد بدأ الرجال كما ذكرنا يلجئون إلى ذلك بعد قليل من عهد النبوة، حتى كان ذلك يخرج بهم إلى حد الإثم. قال صاحب الأغاني: قال إسحاق قال المدائني وأخبرني أبو مسكين عن فليح بن سليمان قال: كان الدلال ملازماً لأم سعيد الأسلمية، وبنت ليحي بن الحكم بن أبي العاصي، وكانتا من أمجن النساء، كانتا تخرجان فتركبان الفرسين فتستبقان عليهما حتى تبدو خلاخيلهما، فقال معاوية لمروان: اكفني بنت أخيك، فقال: أفعل، فاستزارها وأمر ببئر فحفرت في طريقها وغطيت بحصير، فلما مشت عليه سقطت في البئر فكانت قبرها.
وقد كانت النساء الحرائر من العربيات وغيرهن يقاومن ما يحاوله الرجال من الحجر عليهن، ولا يفرطن فيما أباحه الشارع لهن، كما سبق من عاتكة بنت زيد مع زوجها الزبير؛ وقد حاول عمر قبله ذلك معها أيضاً. روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل كانت تحت عمر بن الخطاب وكانت تشهد الصلاة في المسجد، وكان عمر يقول لها: والله إنك لتعلمين أني ما أحب هذا، فقالت: والله لا أنتهي حتى تنهاني، قال عمر: فأني لا أنهاك، فلقد طعن عمر يوم طعن وإنها لفي المسجد.
فلما أخذ الرجال يفضلون الإماء على لحرائر ضعفن عن هذه المقاومة، وآل الأمر بالرجال إلى أن جعلوا بيوتهم سجناً للنساء، وحرموا عليهن الخروج إلى المساجد وغيرها، ومنعوهن من الاختلاط بالرجال ولو في حضورهم. ثم طال الأمر على ذلك بين المسلمين حتى ظن أنه من دينهم وما هو منه في شيء، وإنما كان مثل هذا مفروضاً على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يبلغ في الشدة إلى مثل هذا الحد، ثم انتهى ذلك بموت ميمونة رضي الله عنها، وكانت فيما قيل آخرهن موتاً.(164/52)
(للكلام بقية)
عبد المتعال الصعيدي(164/53)
للتاريخ السياسي
المعنى السياسي لانتخابات مجلس النواب الفرنسي عام 1936
للدكتور يوسف هيكل
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وأدت انتخابات الدورة الثانية التي جرت يوم الأحد الموافق 3 مايو إلى فوز (الجبهة الشعبية) فوزاً باهراً لم تكن تنتظره بهذه الصورة، ولم يعتقد خصومها أنهم سيخذلون هذا الخذلان.
وكان الحزب الاشتراكي الفائز الكبير في هذه الانتخابات؛ أما الحزب الراديكالي فتبادل مركزه مع الحزب الاشتراكي فبلغ عدده 116 نائباً بعد أن كان 159 نائباً في المجلس السابق.
وهذه قائمة تبين عدد الأحزاب في مجلس النواب الفرنسي الجديد، ومقدار ما ربحه أو خسره كل منها من المقاعد:
أسماء الأحزاب
عدد النواب يوم 3 مايو 1936
مقدار الربح
مقدار الخسارة
الشيوعيون والشيوعيون الخارجون
82
62
-
الاشتراكيون
146
45
-(164/54)
الاتحاد الاشتراكي
26
-
9
الاشتراكيون المستقلون
11
-
26
الراديكاليون الاشتراكيون
116
-
43
الراديكاليون المستقلون
31
-
36
جمهوريو اليسار
84
12
-
الشعبيون الديمقراطيون
23
7
-
الاتحاد الجمهوري الديموقراطي(164/55)
88
12
-
المحافظون
11
-
24
المجموع
618
فما هي الأسباب التي أدت إلى تقهقر الحزب الراديكالي؟ وما هي العوامل التي ساعدت على فوز الاشتراكيين حتى إنهم أصبحوا أكبر حزب في مجلس النواب الفرنسي لأول مرة في التاريخ؟
قبل كل شيء يجب القول بأن الحزب الراديكالي الاشتراكي لن يبيد في فرنسا، لأن هذا الحزب يمثل (البورجوازي)، أي الطبقة المتوسطة، وهي أعظم طبقة اجتماعية في فرنسا، وبرغم هذا فأن النجم السياسي للحزب الراديكالي أخذ يأفل لعوامل بعضها ناجم عنه والبعض لآخر طرأ عليه من الخارج.
على رغم الظروف الحرجة التي واجهها الحزب الأكبر في مجلس نواب عام 1932، فإنه لم يظهر وحدة في صفوفه، ولا في سياسته، ولا مقدرة على الحكم.
لم يكن النظام سائداً داخل هذا الحزب، وكثيراً ما انقسم أعضاؤه إلى فرق أثناء التصويت في مجلس النواب، مم أدى إلى خذلان الحكومة لقائمة حينئذ وكانت راديكالية! وكثيراً ما خالف قسم كبير من الأعضاء قرار هيئتهم التنفيذية. وكثيراً ما عمل بعض الراديكاليين خلاف ما قال به رئيسهم. فهو إذن لم يكن كتلة واحدة، بل كان منقسما بعضه على بعض حتى في أحرج الأوقات. . . وإن أزمات الوزارات الراديكالية التي تعاقبت عام 1933، وفضيحة ستافسكي التي أظهرت بأن كثيراً من الراديكاليين قد أفسدتهم أموال (المحتال)، وأن اضطرابات 6 فبراير، وسيلان الدماء في شوارع باريس زمن حكم وزارة راديكالية. .(164/56)
كل هذا أزال الاحترام الذي كان للحزب الراديكالي الاشتراكي في أعين الشعب.
وتلا ذلك انسحاب مسيو هريو رئيس الحزب الراديكالي حينئذ والوزراء الراديكاليين من حكومة (الرئيس دومرج) ذات الشهرة الشعبية، حينما كادت مجهودات (الشيخ الجليل) تثمر وتعود على فرنسا بالخير، مما أدى إلى سقوط هذه الوزارة الشعبية وعودة مسيو دومرج إلى (تورنفي). فأبغض موقف الراديكاليين كثيراً من أنصارهم؛ كما أن موافقة الراديكاليين على سياسة مسيو لافال الخارجية المنافية لمبادئ أحزاب الشمال كانت سبباً كبيراً في إضاعة شهرة هذا الحزب.
وكانت العوامل الإيجابية التي أدت إلى تفوق الحزب الاشتراكي سبباً سلبياً في خذلان الحزب الراديكالي.
يمكن القول بأن الحزب الاشتراكي الفرنسي هو الحزب السياسي الوحيد الذي يستحق هذا اللقب، إذ هو يحتوي على جميع التشكيلات الأساسية لحزب سياسي. . . موحد الصفوف والنظام سائد فيه، ولا يمكن لعضو ما أن يقوم بعمل يخالف ما اتفق عليه الحزب دون أن ينال جزاءه. ولا تستطيع الهيئة التنفيذية، وعلى رأسها الرئيس، اتباع سياسة لم يقرها المؤتمر العام. . . والاشتراكيون كتلة واحدة في مجلس النواب، يصوتون جميعاً مع الحكومة أو عليها. ولهم تشكيلات اجتماعية مفيدة وتقوم بتهذيب الشباب والنساء تهذيباً مدنياً وسياسياً. . . فالحزم والنظام موجودان فيه وهما ما يحتاجه الشعب الفرنسي، ولا عجب أن تكون هذه الصفات السياسية التي يتصف بها الحزب الاشتراكي قد ساعدت كثيراً على تقدير الشعب له.
وللحزب الاشتراكي رئيس قدير: مسيو بلوم، يعرف كيف يتطور ويضع مبادئ حزبه الاشتراكية في شكل يقبله قسم كبير من الشعب.
إن أكثرية الشعب الفرنسي الساحقة مؤلفة من الفلاحين الصغار الذين يعملون بأيديهم مع أفراد عائلاتهم في الحقول ويعتاشون من عملهم؛ ومن صغار التجار الذين لا يكونون ثروة ذات اعتبار. وقد تيقن مسيو بلوم بأن لا قائمة تقوم لحزبه إن لم يربح عطف هذا القسم من الشعب. ولما كان الفلاح في فرنسا متعلقاً بأرضه تعلقاً يفوق حد التصور ويموت في سبيلها، رأى مسيو بلوم من الواجب عليه تأمين الفلاح على أرضه إن رام نيل صوته؛(164/57)
فخفف حدة النظرية الاشتراكية، وأعلم الفلاح والتاجر الصغير بأن حزبه لا يريد وضع يده على جميع الأملاك والثروات، بل على رؤوس الأموال الكبيرة؛ وأنه يعتبر المالك والتاجر الصغيرين ضمن طبقة العمال، والاشتراكية تحترم أملاكهم. . . وهكذا تقرب مسيو بلوم وحزبه من هذه الطبقة التي كانت تعاضد الحزب الراديكالي وانتزع قسماً كبيراً منها.
ثم خفف الحزب الاشتراكي حدة ثورته على السياسة القومية، وأخذ يقول بوجوب الدفاع عن الوطن، ولم يردد نغمة الاشتراكية الدولية في خطاباته. . . فجميع هذه العوامل الإيجابية أدت إلى فوز هذا الحزب، كما أنها كانت أسباباً سلبية لإضعاف الحزب الراديكالي.
وكان لتفوق (الجبهة الشعبية) بصورة عامة على أحزاب الوسط واليمين أسباب عدة.
كانت الأزمة المالية، ولا سيما أزمة ميزانية الحكومة، شديدة على فرنسا طيلة السنين الأربع الأخيرة، وقد حاولت الحكومات السابقة حلها في تطبيق نظرية (الاقتصاد في كل شيء) فلم توفق. وعملها هذا أرغم الفرنسي على اختلاف مقدرته المالية على الاقتصاد والتقتير على نفسه وعائلته، فقلل ذلك تداول العملة من جهة، وزاد في الأزمة الاقتصادية وفي البطالة من جهة ثانية. وقد سئم الشعب الفرنسي هذه السياسة المالية ولم يرد مجابهة أزمات 1926 و1934 من جديد، وود اتباع تجربة اقتصادية جديدة آملاً أن تكون نتيجتها حل الأزمة وإعادة الرخاء. فعمل على التخلص من النظام البرلماني القديم الذي أفسدته الأكثريات السابقة، فأرسل إلى مجلس النواب أكثرية يسرى مؤلفة من عناصر جديدة شابة، إذ أن ما يقرب من نصف أعضاء المجلس الجديد لم يشتركوا فيه من قبل. وهذه النفسية عملت كثيراً على خذلان الراديكاليين وإضعاف أحزاب الوسط، وضياع شهرة عدد كبير من رجال أحزاب اليمين.
وقد ساعد مسيو لافال كثيراً في فوز هذه الجبهة! فالسياسة التي اتبعها في جنيف، والتي أدت إلى إضعاف مركز العصبة، إن لم يكن زوالها، وإلى إبعاد باريس عن لندن، والتي مهدت للهر هتلر الطريق لاحتلال أراضي الرين، لم ترض الفرنسيين الذين يعتقدون بأن لا سلامة لفرنسا إلا بتقوية مؤسسة جنيف ومبدأ (السلام المشترك)، وهم أكثرية الشعب. ولما أتت الساعة لإبداء رأيهم حكموا على سياسته بإعطاء أخصامه وسيلة الحكم.(164/58)
وكان لمسيو (دي لاروك) مجهودات عظيمة أدت إلى فوز الشيوعيين والاشتراكيين! فالشعب الفرنسي محب للحرية ولا يبغي بالديمقراطية بديلا. فلما قام الكولونيل دي لاروك بحركته الفاشستية وأخذ فريقه (الصليب الناري) يتسع بين العائلات المثرية، أحس الجمهور الفرنسي بالخطر الذي يهدد حريته وديمقراطيته، فعمل على تلافيه قبل استفحاله، فأرسل إلى (قصر البربون) أكبر عدوين للفاشستية مظهراً بذلك مقته للدكتاتورية وسخطه على (المائتي عائلة). . . وهكذا تحققت كلمة مسيو بوانكاريه: (كلما خافت فرنسا الدكتاتورية رمت بنفسها في أحضان اليسار).
ومما لا شك فيه أن تنظيم صفوف أحزاب اليسار، ووضعهم منهاجاً مشتركاً للإنتخابات، كان عاملاً قوياً في تفوقهم؛ كما أن الفوضى في أحزاب اليمين وتنازعهم أصوات المنتخبين وعدم إيجاد منهاج مشترك لهم أدى إلى خذلانهم وساعد على فوز الجبهة الشعبية. على أن هذا لم يكن كل شيء، بل كانت الأسباب السياسية التي تحدثنا عنها أكبر عوامل للوصول إلى نتيجة الانتخابات الأخيرة.
- 3 -
لقد فاز الحزب الاشتراكي وأصبح أكبر حزب في مجلس النواب، وشكل حكومة ذات منهاج متين تؤيده أكثرية كبرى في مجلس النواب. فهل ستظل هذه الأكثرية الكبيرة معاضدة للحكومة، أم ستجابه مسيو بلوم الصعوبات التي جابهت زميله مسيو هريو من قبل؟
مما لا شك فيه أن مسيو بلوم رجل عمل و (رجل دولة) ولكن هذا وحده لا يكفي لإيجاد حكومة ثابتة، إذ يجب، قبل كل شيء، أن تسند هذه الحكومة أكثرية دائمة. فالحزب الاشتراكي وحده لا يستطيع الحكم وإن اتفق مع الحزب الراديكالي فلا يكونان أكثرية. ولذا فهو في حاجة إلى إشراك الحزبين الجالسين عن يمينه وعن يساره في الحكم. غير أن الحزب الشيوعي رفض الاشتراك في الحكومة، ولكنه أيدها وليس للاشتراك والتأييد نفس المفعول، لأنه عندما يشترك حزب في حكومة يشترك في المسؤولية أيضاً، فخذلان الحكومة معناه خذلانه في تلك الحالة. لذا وجب عليه المدافعة عن الحكومة ومعاضدتها. أما إن أيد الحكومة فحسب، فإنه لا يشترك في المسؤولية ويستطيع سحب ثقته من الحكومة في(164/59)
أي وقت شاء دون أن يناله أي ضرر؛ فتصبح الحكومة حينئذ تحت رحمته. وقد لعب الاشتراكيون هذا الدور مع الحكومات الراديكالية، ويريد الشيوعيون الآن تمثيله مع الحكومة الاشتراكية. ومسيو بلوم أعرف الناس بالضرر الذي سيلحق حكومته إن اتبع الشيوعيون هذه السياسة.
وهذه الصعوبة حجر عثرة أمام الزعيم الاشتراكي، فإن تمكن من حفظ الائتلاف بين الأحزاب الثلاثة، وإن استطاع الاحتفاظ بثقة الحزب الشيوعي، كانت لوزارته مكانة قوية وثابتة، وإن لم يتمكن من ذلك فستجابه فرنسا سلسلة أزمات وزارية أشد خطراً من التي جابهتها خلال السنين الأخيرة، وستكون عاقبة ذلك جد وخيمة ولربما أدت إلى حرب أهلية. . .
ولحسن حظ مسيو بلوم فإن حزبه قد فاز وتسلم زمام الحكم، والحالة الاقتصادية في فرنسا آخذة في الانتعاش والتحسن، فهو بذلك أسعد حظاً من زميله مسيو هريو الذي فاز وتسلم زمام الحكم والبلاد مجابهة أشد الأزمات الاقتصادية والمالية، عام 1924 و1932. فالانتعاش الاقتصادي الحالي يساعد مسيو بلوم كثيراً، ويسمح له بصرف جهوده في مكافحة الصعوبات البرلمانية، وفي تعديل اعوجاج السياسة الخارجية وتحسين علاقات فرنسا مع الدول وخصوصاً مع بريطانيا. . . فإن تمكن مسيو بلوم من الاحتفاظ بالأكثرية التي تعاضده في مجلس النواب زالت الأزمات الوزارية التي كانت أكبر عامل في إضعاف مركز فرنسا في الدوائر الدولية؛ ويعود للحكومة احترامها وثباتها، وهما ضروريان لنجاح أية حكومة؛ وبالتالي يعود لفرنسا مركزها الدولي السامي الذي كانت تتمتع به أمام المرحوم مسيو بريان. . .
فلوراك (فرنسا)
يوسف هيكل
دكتور في الحقوق(164/60)
في الأدب الإنكليزي
هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟
للسيد جريس القسوس
- 2 -
وحجة كامبل في ذلك اكتشافه مخطوطات قديمة ورد فيها ذكر (فنّ) و (أوشان) وغيرهما من الأسماء الواردة في منظومات مكفرسن، مما يدل على أن هذه الأسماء كانت، على الأقل، شائعة معروفة في اسكتلندا وايرلندا الشمالية قبل مجيء مكفرسن. فلا يبعد أن يكون مكفرسن قد اطلع على هذه المخطوطات فأغرم بحوادثها التاريخية وافتتن؛ فعلق بذهنه ما علق وتأثر بأسلوبها الشعري واقتبس منها بعض الشيء فظهر أثر ذلك في تلك المنظومات التي ادعى أنها مترجمة.
وكامبل لا يجحد لمكفرسن فضله في جميع هذه الآثار المتفرقة وترتيبها وتدوينها حتى ظهرت بذلك الشكل الفني الرائع، إذ لولاه لعبث الزمان بهذه الآثار الخالدة عبثه بغيرها من القصائد التي تروى على ألسنة العامة، وخاصة أهل الأرياف، وسكان الصحراء.
ولا يقف كامبل عند هذا الحد في الرد على جونسن، بل يرى أنه من النادر أن تلقى واحداً من سكان ايرلندا الشمالية لم يسمع قط بالأسماء التي وردت في قصائد مكفرسن؛ وأن هذه الأسماء هي في الحقيقة محور عدد غير يسير من القصص العامية التي يتلوها الأمهات على أطفالهن حول المواقد في ليالي الشتاء الباردة.
ويصرف كامبل جونسن، ويعود إلى مناقشة الآراء السخيفة التي يتمسك بها أنصار مكفرسن، وخاصة بروفيسور أوكري ' فهذا وغيره من أنصار مكفرسن يرون أن (أوشان) وغيره من الأبطال شخصيات تاريخية حقيقية، وأنهم ايرلنديو النسب؛ نشأوا في القرن الثالث قبل المسيح؛ وأن (فنّ) يرجع في نسبه إلى نحو 110 ق. م. وأن اسم ورد في قصيدة نظمت سنة 1024، وضمنت كتاب باليموت سنة 1391. أقول إن كامبل يرد على ذلك رداً عنيفاً مبيناً تناقض الروايات المختلفة واضطرابها في تحديد نسب هؤلاء الأبطال وتبيان التاريخ الصحيح لنشأتهم. فبعض أنصار مكفرسن - ومعظمهم ايرلنديون -(164/61)
يرون مثلاً، أن هذه الأشعار الغاليقية صينت في مخطوطات قديمة، وأنها تنسب إلى أوشان وغيره من أبطال أساطير ايرلندا الأولية، وأن جميع هؤلاء الأبطال ايرلنديون لا اسكتلنديو الجنس، بينما البعض الآخر يرى أن هؤلاء الأبطال نشأوا في عصر متأخر. بل منهم من يجعل (فنّ) اسكتلندي الجنس ومنهم من يجعله إنكليزياً.
وآخرون يرون أن البطل أوسكار الوارد ذكره في الأدب الايرلندي القديم إسكتلندي الجنس والمولد، بل غيرهم موقن أنه دنمركي برغم ورود اسمه في الأدب الأيرلندي.
ويزيد موقف المناصرين وهناً واضطراباً، نسبتهم الأعمال الجسيمة الباهرة التي قام بها أشخاص هذه الآثار الأدبية إلى الكائنات الغيبية كالجن والآلهة المتعددة.
ولا يقتصر كامبل على هذا بل يعود إلى مهاجمة المناصرين من ناحية أخرى؛ فيقول إنه لم يطلع، في حياته، على مخطوطة أو سجل تاريخي فيه ذكر لمملكة (مورفن) أو ملكها فنغال. فمن أين جاء مكفرسن بهذه الأسماء التي تتخلل معظم أشعاره؟ ذلك مما يحمله على الاعتقاد الأكيد بأن هذه المملكة إنما هي من اختلاق جامع هذه القصص الأوشانية ومرتبها، مكفرسن كان أم غيره.
أما أوشان بن فنغال الشاعر الذي عزا إليه مكفرسن نظم الآثار الأدبية المعروفة باسمه، فأمره، كأمر والده غامض مبهم إذ لا يمكن أن يعمر أوشان - مسلمين جدلاً أنه حقاً ابن (فنّ) - إلى حد من الزمن يتمكن معه من الاجتماع بالقديس باترك أو أن يختلط بنساء الجن في بلاد الشباب، ويتحول في شتى أدوار حياته من نبي إلى ساحر ومن ساحر إلى شاعر، وهلم جرّا، كما هو ظاهر في الآثار الأدبية المنسوبة إليه. والخلاصة أن كل ظاهرة في حياة هذا الشاعر تدل دلالة صريحة واضحة على أنه لم يكن في الحقيقة إلا من بعض آلهة الأساطير الكلتية القديمة.
ولا يقف كامبل عند هذا الحد، بل يهاجم أنصار مكفرسن من ناحية أخرى. فهو يرى، من مقابلة هذه المنظومات التي ادعى أنها مترجمة مع غيرها من الأشعار المتحدرة عن طريق الرواية والنقل الشفهي أن هناك اختلافاً وفرقاً كبيرين وواضحين في الموضوع واللغة. فما (فنّ) كما هو مذكور في القصائد التي تتداولها العامة إلا بطل إنساني الخلق، وديع الطبع سهله، رقيق الإحساس، ولطيف النفس؛ لا يعرف العنف والكبرياء، فهو لذلك ذو نفوذ في(164/62)
قبيلته، تقوم سلطته على حبهم له وتعلقهم به، بينما الناظر في صفات (فنّ) كما جاء في شعر مكفرسن يرى أنه فارس ساط غشوم، وجهم عنيف، خلو من كل عاطفة رقيقة وإحساس لطيف! لهذا كان نفوذه وسلطانه مبنيين على خشية القوم له ورهبتهم منه.
هذا، عدا أنه لا ذكر في القصائد المنقولة شفاهاً لمملكة (مورفن) التي ورد ذكرها في أشعار مكفرسن.
أما من ناحية اللغة والأسلوب فالباحث في هذا الأدب في كلتا سبيليه: سبيل الرواية والنقل الشفهي، وسبيل مكفرسن، يرى أن لغة أدب مكفرسن مفعمة بالتعابير الحوشية، والاصطلاحات الأجنبية التي تتميزها من اللغة المعروفة في اسكتلندا الشمالية، بينما لغة أدب الرواية والنقل الشفهي محكمة السبك، موحدة التركيب متسقة الأسلوب، لا اضطراب في معانيها ولا ضعف.
وخلاصة رأي كامبل أنه لم يكن في اللغة الغاليقية أشعار كالتي ادعى مكفرسن أنها مترجمة، وأن هذه اللغة التي استعملها في كتاباته لم تكن في الحقيقة إلا لغة القرن الثامن عشر، وجل ما هنالك مجموعة أشعار قديمة وحديثة متنوعة، كانت العامة تتداول معظمها بينها، جمعها مكفرسن ورتبها وسواها بشكلها المعروف، شأن المهندس الذي يخلق من البيت الإغريقي القديم بيتاً حديث الشكل والطراز.
- 4 -
والباحث يخرج من كل ما مر بخمس حقائق مجردة، هي زبدة ما وصل إليه مؤرخو الأدب الإنكليزي في هذا السبيل الوعر الشاق:
1 - أن قصيدة أوسيان أو أوشان التي تنسب إلى مكفرسن لم تكن ترجمة خالصة عن الآثار الأدبية الأصلية.
2 - أن مكفرسن استخلص منظوماته من آثار أدبية قديمة متفرقة، وذلك بالجمع والغربلة والحذف والتعديل، وخلع عليها ثوباً جديداً كفل لها الخلود في عالم الأدب.
3 - أن جميع الظواهر تدل دلالة واضحة على أن مكفرسن لم يضع هذه الآثار الأدبية من عنده، وأنه لم يتعد كونه فناناً حاذقاً عرف كيف يستخرج من أمزجة ومركبات عتيقة بالية قطعاً فنية رائعة، وأن أوشان نفسه لم يكن المؤلف الحقيقي لهذا القصائد كما ادعى(164/63)
مكفرسن.
4 - إذا كان أوشان ناظم هذه القصائد، عُدّ بحق في طليعة شعراء العالم على الإطلاق.
5 - إن مكفرسن فتح بذلك فتحاً جديداً في عالم الأدب، فعمت شهرته الأدبية أوربا وبعد أثره في الأدب الأوربي عامة، والإنكليزي والألماني خاصة.
(يتبع)
جريس القسوس(164/64)
الشعر في مهرجان المتنبي
صوت دمشق
للأستاذ عز الدين التنوخي
عاش فوق الثرى وتحت التربِ ... خالداً في قلوبنا المتنبي
ظل ألفاً من السنين يسمى ... شاعرَ اللفظ والعلى والحربِ
ربّ بيت من شعره يتلظى ... كافلا أن يشبَّ نارَ الشعب
يصف الحرب للجبان فيغدو ... وهو بالطعن هائم والضرب
بالعينِ من شعره العذب فيه ... غمزات الهوى وسحرُ القلبِ
ذاب من رقة الخدود ومن قس ... وة قلب من عاذل غير صبِّ
غزلٌ حسن صوغه حمل الظَّن (م) ... نَ على أنه صريع الحُب
يذر الغافل الخليَّ شجياً ... ويردُّ الأبيَّ طوعاً يلبي
ساحرُ الشعر فاتناً كهديل الْ ... وُرْقِ في الروض غِبَّ جَودِ السّحب
رائد من مسالك الروح ما بيْ ... ن شغاف من القلوبِ وخِلْبِ
يحتذي في البديع حذو أبي تمْ ... امَ والبحتري بنسج العَصْبِ
إن يعيبوه بالغريب وضعف ال ... طبع حيناً وباقتعادِ الصعب
فهو شِبه الجبار يأخذ ما يل ... قاهُ بالقهر حوله والغصب
شعره فيض طبعه لا كشعر ... قدَّهُ العِيُّ من صخور صلب
لم يُؤوَّل ديوانُ شعر كديوا ... ن أبي الطيب المرير العذب
هو مرٌّ على الأعادي وعذبٌ ... للمحبين في الجفا والقرب
لست أنسى رؤياه وهو مليك ... فوق عرش من القنا والكتب
وحواليه دولة الشعر قامت ... تسلُب اللب بالبيان وتسبي
من رعاياه سيف حمدانَ من كا ... ن إذا ما ذكرته قلت حسبي
والسريُّ الرفَّاءُ أنداهم لف ... ظاً وأدناهم لمعنى القلب
وابن جني رأيتُه يشرحُ الدِّي ... وانَ شرحاً له يروق ويُصبي
لو حسبناهم من الطير كان الْ ... متنبي أميرَ ذاك السِّرب(164/65)
يُنشد الشعر بينهم فتراهم ... كالرحى إذ تدور حول القطب
كسُكارى وما همُ بسكارى ... بل نشاوَى خمر الهوى والعجْب
سمعوا لحنه فهاموا جميعاً ... لا ترى غيرَ هائم أو صب
برخيمٍ يُنسيك مزمار داو ... دَ وألحانَ معبدٍ في الحب
فهو فينا ذاك الطبيبُ المُرجَّى ... من مريضٍ لروحه مستطبِّ
حفظ الناسُ شعره فهو درس الْ ... دّهرِ فيهم والدهرُ خير مربي
كم وردنا ماءً فلم يروِ منا ... ظمأً غيرُ مستقاه العذب
وتلونا من آيه سور المج ... د وشِمْنا برق المنى ليس يُخبي
حكمةٌ يبهر المعري سناها ... فهي صوب النهى وذوب اللبِّ
حالفته منذ الشبيبة حتى ... أن توارى فؤاده في الترب
لم يذرها يوم الصريخ ولا يو ... م نشيدِ الألحان بين الصحب
ينظم البيت غادياً وهو في الشر ... ق فيمسي لسحره في الغرب
حلبٌ قد غدت بأحمد شهبَا ... َء لشعب له خلود الشهب
مادح (السيف) كان يدعى فأمسى الس ... (م) يفُ يدعى أمدوحة المتنبي
إن مجداً أُوتيه أخلدهُ الدهْ ... رُ خلود الآداب مجدُ الشعب
ضامهُ أن يرى بني العرب في ضيْ ... م علوج بغير عهد ولب
وبنو العرب ليس تفلح إلا ... بملوك منهم أُباةٍ عرب
لا يبالي الشرقُ المضيمُ إذا ما ... اتحد العرب ساعة بالغرب
يثب الليثُ إِن أُثيرَ وليث ال ... عُرب في الناس رابضٌ للوثب
أيَّ يوم أرى الطلائع منا ... غائراتٍ على الجياد القُب
يهجر الطِّرسَ واليراعَ فتاناً ... ليراع من القنا والقُضب
لا يرى المجد غيرَ فتكته البكْ ... ر ونَيل استقلاله بالغصب
ذاك يوم محجَّلٌ فيه تحطي ... مُ قيود وفيه تَهتيك حُجب
ذاك يومٌ يقرُّ عينَ أبي الطي (م) ... ب بالعُرب وهو تحت الترب
إنما شعرُه الشعور المروَّي ... بسلافٍ من البلاغة عذب(164/66)
وقصيد الفحول يهرم إلا ... شعره فهو في شباب رطب
فالمباني مُختارها ملءُ عيني ... والمعاني أبكارُها ملءُ قلبي
ينتمي كل شاعر لحماه ... وهو للعُرب ينتمي والشهب
شعراء الأجيال يمشون فوق ال ... أرض طراً ومشيه في السحب
ملأ الكونَ شعره شغل النا ... س بأحوال جدهم واللعب
سار في الناس جائباً كشعاع ال ... شمس يذكو في كل قطر وشعب
فهو مسعار ثورة وهدى قل ... ب ولحن الهوى وحَدْوُ الركب
شعرهُ صورة الحياة لهذا ... يتمشى مع الحياةِ لجنب
عز الدين التنوخي
كاتب سر المهرجان العام(164/67)
ومن قصيدة الأستاذ محمد رضا الشبيبي في المتنبي
خلت العصور وما خلت من ناقل ... أو قائل هذا الحكيم الخالد
أو مورد للقول فيمن حيرت ... منه الفحول مصادر وموارد
ما العبقري الفذ إلا فكرة ... إن مات عاش بها الرميم الهامد
وإِذا تأملت الخلود أصبته ... في الصالحات وحيث يفنى الفاسد
لابد من نقد الزمان فإنما ... نحن المعادن والزمان الناقد
حسدوا النبوغ وناوأوه فلم يمت ... بل مات بالداء الدفين الحاسد
يا شاعراً قاد القلوب لغاية ... لم يدن منها شاعر أو قائد
قرنوا بكل مفوه شيطانه ... أما قرينك فالعظيم المارد
أمتعتنا بذخائر الشعر الذي ... لولاه ما نبذ المتاع الكاسد
نشرت به في كل فج حكمة ... وتعوطي المثل البليغ الشارد(164/68)
ومن كلمة الأستاذ محمد البزم:
إله القوافي إن عصتك نبوة ... فذا الشعر تجري في علاك جحافله
ففي كل بيت صاهل ومدجج ... وكل قصيد عسكر وقنابله
فكم وحدة مارستها وهواجر ... ولا ألف إلا أهيف القد ناحله
يراع لأهواء المعالي مسخر ... يكايلها أهواءها وتكايله
يحس دبيب الحزن من قلب ذي الجوى ... ويقلقه في صدر ذي السقم واغله
وتوقظ منه خطرة الشك والمنى ... ومجرى الهوى يسطو بذي اللب خايله
إذا ماج رقراق السراب نسجته ... غلائل شعر لا ترام مغازله
تطيف بك الجنان حتى كأنها ... تلقف عنك السحر ينهل سائله
كأن وفود الجن في كل فدفد ... عفاة تليهم من همام طوائله
ولو كان للأصقاع لب يسوسها ... سعت تجتديك السحر في الشام بابله(164/69)
ومن قصيدة الأستاذ باقر الشبيبي
يا ناشد الوحدة ما أوضحها ... في وحدة الدم ووحدة النسب
هذا أبو الطيب حي خالد ... ما مات من أسس دولة الأدب
احدث في قلب الزمان هزة ... لولا المقادير تقيه لا تقلب
وفت دمشق حقه معربة ... في حفلها، إن الوفاء للعرب
وليس يكفي مهرجان واحد ... ينشد فيه الشعر أو تلقى الخطب
مغانيَ الكوفة! هذا بَرَدَى ... قد صفقت أمواجه من الطرب
ساهم في الذكرى فكم مهذب ... في الغوطة الغناء يشرب النخب
ما أنجبت هذي البلاد شاعراً ... إلا أبا الطيب شاعر العرب(164/70)
ومن قصيدة الأستاذ خليل مردوم:
يا مالئ الدنيا وشاغل ناسها ... الدهر رواية لشعرك منشد
ضمن الزمان بقاءه فكأنما ... أنفاسه في صدره تتردد
آياته لا تنقضي وعظاته ... كالبحر زاخر موجه لا ينفد
لله رأيك في السياسة إنه ... سهم إلى كبد الصواب مسدد
العرب ما صلحت على يد أعجم ... حكم الأعاجم للعروبة مفسد
أخذوا عليك قساوة ولو أنهم ... خبروا النفوس كما خبرت لأيدوا
شكواك ما زلنا نعاني مثلها ... كف مضرجة ووجه أسود!(164/71)
لقصص
قصة مصرية
شباب. . .
للأستاذ دريني خشبه
(الأغاني والحوار موضوعان في الأصل باللهجة المصرية. . .)
* (بل لابد أن أذكر لوالدتها كل شيء!).
* (يا سيدتي مالنا وللناس، حسبنا أن نأكل خبزاً ونشرب لَبناً وعسلاً!).
* (آه. . . لا. . . نأكل خبزاً ونشرب لبناً وعسلاً ونترك هذا الموظف اللاهي يعبث بابنة صاحب المنزل! لا! ليست هذه أمانة يا متولي، لابد أن أنقذ عرض هذه الصغيرة. . . إن ليلى شابة، والشباب لا عقل له، وربما اعتدى. . .).
* (أوه! مالك وللناس! إنهما لابد يحبان بعضهما بعضاً يا بخيتة. ألا تذكرين ما كنا نصنع، أنا وأنت، قبل أن نتزوج.؟!).
وتستحي بخيتة وتسكت قليلاً ثم تتنفس تنفسة عميقة وتقول:
* (الحمد لله يا متولي، لقد كنا نحب بعضنا، هذا صحيح، ولكن، الحمد لله، لم نغضب ربنا!؟).
* (مرحى مرحى! صحيح نحن لم نغضبه قط، وأحسبه قد غفر لنا الألف ألف قبلة التي تبادلناها!).
ويشتد خجلها، وتصمت لحظة ثم تقول:
* (أنت دائماً مبالغ يا متولي! ألف ألف قبلة؟ إن هذا العدد لا يؤخذ في أقل من عشر سنين، ونحن لم نحب بعضنا أكثر من شهر!).
* (ثم انقطع ما بيننا من حب؟ أم ماذا؟).
* (بل تزوجنا!).
* (وليتنا ما تزوجنا!).
* (فأل الله ولا فألك يا متولي! لماذا يا شيخ؟).(164/72)
* (لأن قبلنا كانت حلوة جداً قبل زواجنا!).
* (والآن؟ هل هي مرة؟ أم ماذا؟).
* (. . .؟. . .).
* (قم بنا).
* (إلى أين؟).
* (إلى السطح!).
* (لماذا يا امرأة؟).
* (لأريك ماذا تصنع ليلى مع هذا الموظف (سامي أفندي).!
وهرولا فوق الدرج ووقفا خلف (المنور) الزجاجي المطل على غرفة سامي، يريانه ولا يراهما. . .
فتي في الرابعة والعشرين ترف على جبينه سحابة من الحزن، يلونها الحب بأمواه باكية من الحنان والرحمة والهدوء. . له عينان عميقتان كأنما تخرقان حجب الزمان أو تناجيان سكان السماء؛ ينظم الشعر ويهيم بالغناء ويشغف بالموسيقى، ويجمع في مسكنه بالطابق العلوي من هذا المنزل المتوسط طائفة مختارة من التماثيل أهداها إليه أصدقاؤه المولعون به لنفر من فنانين مصريين وعرب. وهو موظف في مصرف أجنبي يتقاضى مرتباً لا بأس به، يستطيع أن يضمن به صفاءه الذي لابد منه للشعر والغناء والموسيقى. . . والحب الذي يسقي هؤلاء.
كان إذا هدأ الليل، هدأ هو إلى عوده، وطفق يمر أنامله على أوتاره في لين ورفق، كما ترى النسمات النحيلة العليلة على صفحة الغدير الصغير؛ فإذا غنى، أرسل من قلبه ألحاناً هي لا شك روحه ممتزجة بموسيقاه؛ ولم يكن يغني إلا ما ينظم هو، لا ما ينظم الشعراء؛ وكان، إذا سئل في ذلك، يتعلل بأنه يأبى أن يكون كنادبات الجنائز، يرجعن كلاماً محفوظاً ليبكين به النساء. . . فالشعر شعره، والغناء غناؤه، والموسيقى موسيقاه، وجملة أولئك صورة روحه التي تشعر وتغني، وترن وتئن على أوتار العود.
وكانت ليلى ابنة صاحب المنزل الذي يقيم فيه سامي، فتاة في الثامنة عشرة، لها لفتة وفي عينيها سحر، وملء قلبها أماني. . . ما كاد الساكن الجديد يملأ منزلها بصباه العطر،(164/73)
وغنائه ذي الشذى، وموسيقاه ذات المعاني، حتى رجعت هي أصداءه جميعاً، وأحست كأن الساكن الجديد لم يأت ليشغل الطابق العلوي من بيتها، بل ليحتل السويداء من قلبها؛ فكانت كلما أقبل سامي من عمله في المساء تشعر كأن كهرباء ملأ قلبها، فهو يدق ويدق، ويخفق خفقاناً شديداً، ويسري في جميع أعصابها بكل حاجات الشباب الذي أضر به كبت المحبسين: المنزل الشرقي والتقاليد!
وكانت موجات أثيرية من غناء سامي وموسيقاه تشيع في أرجاء المنزل فتهز أركان ليلى، وتذيب في عينيها دموعاً ليست كهذه الدموع التي يحتلبها البكاء، ولكنها دموع علوية لا يدري المحب من أين تنهمل، لولا ما في أغواره من معاني الهوى. . .
وانسرقت ليلى في أمسية إلى (السطح) ووقفت مختبئة في نفس المكان الذي وقف فيه هذان العجوزان - متولي وبخيتة - يتلصصان على كيوبيد، حين يرشق القلبين الحبيبين بسهامه الذهبية!
وقفت ليلى ثمة، وتلبثت طويلاً تملأ أذنيها وقلبها بغناء سامي وحبه، ثم جعلت بعد ذلك تنسرق كالمرة الأولى، حتى تنبه غافل الشباب، فراح بدوره يرسل إليها أغانيه حاملة قبله، ثم لم يجد بأساً، وقد تأكدت بينهما أواصر الحب، من أن يغافلها وينسرق إلى حيث هي، فلا يكاد يسقط في يديها وترتبك ارتباكة يسيرة حتى يقدم إليها يده المرتجفة، فتصافحه وتنفتل منه فتطوي الدرج إلى. . . حيث تكون بخيتة مصعدةً فتكتشف السر الناشئ الذي لما يكد يشب أو يترعرع. . .
كان سامي يجلس على كرسيه محتضناً عوده، وأمامه ليلى على (كنبة) تحدق فيه، وقد وضعت رجلاً على رجل، وبدا ساقاها الممتلئان طراوة ونعومة وحياة وانسجاماً، واتكأت بظهرها على المسند فنهد جيدها المرمري، وبدت انفلاقة الثديين من فتحة الثوب الوردي الذي كانت ترتديه، فاختلط ورده بوردها المتفتح في كل جزء من جسمها الناضج السوي، وأسندت فَوْدها على يمينها قليلاً، وتهدلت خصلة من شعرها الأسود الفاحم على أصابعها فزادتها فتنة.
وكان سامي يداعب عوده، ولم يكن ينظر إلى ليلى، بل كان مطرقاً برأسه قليلاً، حتى إذا استغرقته الموسيقى أرسل من عينيه عَبْرتين لمحتهما ليلى فنهضت مسرعة وتلقتهما في(164/74)
منديلها الحريري الجميل. . . ثم جلست إلى جانبه، وأرسلت ذراعها البضة فوق كاهله، وأدنت رأسها من رأسه. . . ولم تكلمه!
وصمت سامي لحظة، ثم شرع يتغنى أغنية مطلعها:
إيه يا ليل، وقد طاب الهوى
وصَفَتْ أنفاسُهُ للأنفس
ما لقلبي خَفِقاً؟! هل من جوى
ومُنَى نفسي معي في مجلسي؟
وكان الفتى يرسل غناءه هادئاً يترقرق في أذني ليلى، وكانت نبراته ونبرات العود تأتلف وتسري في الهواء فيرقص من أسرها لهب الشمعة التي كان سامي يؤثرها على لألاء الكهرباء كلما غنّى. . . وكلما زارته ليلى.
وفرغ سامي من غنائه، وسكنت الحجرة قليلاً، ثم نادته فتاته:
* (سامي!).
* (ليلى!).
* (هل أسعد منا حبيبان في هذه الحياة؟).
* (كنت أرجو ذلك يا ليلى. . .).
* (ولم لا نكون يا سامي؟).
* (آه. . . أكثر الناس يحبون على أمل. . . أما نحن. . .).
* (مالنا؟).
(لاشيء. . . لا شيء مطلقاً يا ليلى، لنعد إلى أحلامنا وموسيقانا فهي غذاء روحينا. دعي هذا الحديث فإنه يزعجني. بحسبي أن أكون معك لحظة بعد أخرى فأذوب وأحترق!).
* (بل سنتحدث؛ بل ينبغي أن نفكر في المستقبل، إنني لا أطيق فكرة بعدي عنك يا سامي! إغفر لفتاة عذراء مثلي أن تكلمك هكذا! لقد امتزجت روحانا فليس يضيرني أن أصارحك! لقد اقتنع قلبانا ألا غناء لأحدهما عن الآخر، فلم نجلس صامتين تلقاء المستقبل الذي يروعنا بالفراق ولا نفكر بأن نحسم مشاكله؟).
* (وهل نستطيع ذلك يا ليلى؟ أنسيتِ. . .).(164/75)
* (نسيتُ ماذا؟ لا. . . لا تظن ذلك محالاً!).
* (ليلى! ماذا تريدين أن تقولي؟).
* (اطمئن!).
* (أطمئن كيف؟).
* (أجل، يجب أن تطمئن، لقد صممت على أمر عظيم!).
* (ليلى!).
* (بل لن تردني أية قوة في العالم عما اعتزمته يا سامي، أليس كل ما يقوله الأغبياء إنني انهزمت بديني أمام حبي؟).
* (ليلى!).
* (لينهزم هذا الدين فأنا لم أعرفه بنفسي. . . أما الحب. . .).
* (أنت جريئة جداً يا ليلى! لا. . . لا ينبغي. . . هذا كثير!).
* (لا ينبغي ماذا؟ ألست تتفق معي؟).
* (وكيف أتفق معك يا ليلى وديني يريني الله من خلل الحب؟).
* (إذن اتفقنا، إنني لم أر الله إلا يوم أن رأيتك! ويجب أن أصل إلى الله عن طريقك يا سامي. . . اهدني يا سامي. . . لا تردني بعنف هكذا، إنك مسلم رقيق القلب مرهف الحس فياض العاطفة، وإن روحك تتكلم بلسان الموسيقى يا سامي، فلا تحاول أن تكون جباراً عليَّ، لا تحاول أن تردني عما اعتزمته. . . أ. . . ألا تريد أن نأمن غائلة الفراق، والفراق الأبدي يا سامي؟).
* (وكيف لا أريد يا ليلى!).
* (ساعدني إذن، خذ بيدي إلى ناحيتك. . . سامي. . . سامي. . .).
وانفجرت الفتاة تبكي بين يدي حبيبها، وأخذ سامي يلاطفها ويرفه عنها، ولكنها دست رأسها الجميل في صدره، وأغفت إغفاءة هينة لم يوقظها منها إلا شدة خفقان قلب سامي. . . قلبه الكبير جداً، الذي أُشرب حب ليلى، وامتزجت كل قطرة من دمه بتقديسها!
* (صحوت يا ليلى؟).
ولكنها أجابته بنظرة فاتنة من طرف عينيها المبللتين بالدموع.(164/76)
* (كلميني يا حبيبتي. . . ليلى؟).
* (سامي. . . اسكت! إن هذه الفترة الصامتة الباكية أسعد فترات حياتي!).
وطوقها سامي بذراعيه، وأخذ ينزح أسرار عينيها الباكيتين بعينيه العميقتين، ثم أهوى على فمها القرمزي ذي الثنايا المفلجة يقبله. . . ويقبله.
* (أرأيت يا متولي؟ هل صدقت ما قلته لك؟ والله لأخبرن أمها!).
* (بخيتة!! أنت طالق إن فعلت! يا غبية! يا أقبح النساء!).
* (أنا؟ أنا أقبح النساء؟ وأنت؟ أتحسب أنك زين الرجال؟).
* (لا. . . ولكني كنت أطمع في. . . فتاة طيبة. . .).
* (مثل ليلى أظن؟).
* (أجل. . .).
* (اسم الله عليك يا سامي أفندي!).
* (أحببته؟ أم ماذا يا امرأة؟).
* (صوته جميل. . . أما صوتك، فحميري خالص!!).
* (اسكتي يا خنزيره. . . هلمي بنا، كاد شباب الحبيبين يتلف قلبينا العجوزين!).
ونزل الخادمان وفي قلب كل منهما غصة تزلزله.
وبعد أيام همس الناس في هذا الحي من أحياء المدينة أن ليلى ابنة (. . .) اليهودي قد صبأت. . . واعتنقت الإسلام.
وبعد أيام أخريات، تأكد هذا الهمس، لأنها تزوجت سامي أفندي بالفعل، ونقل العروسان إلى الإسكندرية ليعيشا ثمة حياة هانئة ناعمة موفورة.
دريني خشبة(164/77)
من دروس البادية
محنة الرجولة
للأستاذ أديب عباسي
مرت السنون وتصرمت الأعوام، والأمير الكبير يلتمس رحمة المولى ويرتقب جداه ليهبه وارثاً من صلبه، يرث اسمه ويخلد ذكره، وينتهي إليه ماله وجاهه. بيد أن الأيام كانت كلها سواء في إذهاب الرجاء وتخييب الأمل، وأوشك الأمير أن يصفي ولما يجيء الوارث المرتقب.
غير أن المولى افتقد الأمير في سنة من سني يأسه، وحملت زوجته بعد طول الخيبة، ووضعت طفلة أسمياها (سلافة). ولم ييأس الأمير أو يبتئس إذ كان الوليد أنثى ولم يكن ذكراً. وماذا كان يرجو من الأيام ليبتئس بعد أن خاصمته في آماله وتجهمت له هذه الأعوام الطوال؟
ونشطت عواطف الأبوة قوية جائشة بعد طول الكبت وغياب الحافز، وهب الأب يريق على الصغيرة من عطفه وحبه ما صيرها سلواه وكل أمله في باقي حياته.
وشبت الصغيرة كما تشب بنات البادية غضة نضيرة، بقامة هيفاء وصحة مترعة؛ هذا إلى ما حباها الله وأفردها به إفراداً من جيد أغيد، وثغر أبلج، ووجنتين تفيضان بالحياة وتنضحان البشر نضحاً، إلى جبين مشرق نبيل يكلله ويزينه فرع أثيث وحف، ثم ما يتجمع جميع ذلك النور والسحر في مجتمعين للنور والسحر، ومن ثم كل ذلك الفيض فيهما من الفتنة القاسرة والقوة الآسرة.
هذا، ولم يدع الأمير وسيلة من وسائل التهذيب التي تيسرها البادية إلا اصطنعها في تهذيب (سلافة)، حتى غدت إذ شبت فتنة البادية، وحديث المجالس، ومدار الهواجس، ومطاف الأحلام في صدور الشباب. وذاعت شهرة الأميرة في طول البلاد وعرضها، وتواصفها الأمراء والأشراف، وأخذت تحوم حولها الأنظار، ويهطع إليها الخيال من جميع نواحي الطموح في البادية.
بيد أن الأمير اشترط على الخطاب الطامحين أن يجوزوا امتحاناً يعده لهم، ومن يفز فيه فاز بفتاته وأضحى الوارث الشرعي له في إمارته. وأما من فاته الفوز وخانه التوفيق(164/78)
فيتلقى عقابه لوعة الحرمان ومرارة الفشل، ومائة جلدة وجز شعر الناصية؛ وأباح الأمير امتحانه هذا كل طامح بلا تفريق في الجاه أو المال أو الشهرة أو خلافها من وسائل التمييز.
وخشيت (سلافة)، مع هذه المساواة التامة بين الخاطبين، أن يجوز الامتحان غير كفء، وغير من تهوى وتحب، وقد يكون الفائز صعلوكاً من صعاليك البادية، أو ذئباً من ذؤبانها؛ وقد يكون أسود بغيضاً مرخي المشافر واللحيين؛ وقد يكون فتى مخنثاً فاتر العزم، باهت الرجولة؛ وثمة فللموت أهون عليها وأعذب.
فاتحت أباها فيما يساورها من مخاوف ويدب إليها من ريب، ولكن أباها الأمير طمأنها وأكد لها أن امتحانه لن يجوزه غير كفء، وأنها سوف تحمد له عاقبة هذا التدبير الذي يدبر.
جاء الخاطب الأول، وكان زعيماً ذائع الشهرة كثير المال، شريف المنتسب، حسن البزَّة والمظهر، وجاء يسوق بين يديه عديد الهدايا وأنواع الطرف، وقدمها وسيلة للأغراء والزلفى، وحلَّ ضيفاً كريماً على الأمير بعد أن كشف عن غرضه ومبتغاه.
واستقبله الأمير - كعادته مع جميع الأضياف - مرحباً مؤهلاً، ثم عمد إلى خير ناقه وأعزها عليه وعقرها ثم نحرها أمام البيت، ودعا إلى الوليمة أدنى من في الحي؛ وبعد أن نال الجميع من الطعام إلى حد الشبع ثم أديرت القهوة التفت الضيف الخاطب يخاطب الأمير:
أي أميرنا العزيز! لقد جئناك في (سلافة) درة البادية، وفتنة العقول، وغاية السول؛ فماذا ترى أن تضع بيننا من الحواجز، وماذا ترى أن تقيم بيننا من العقبات؟ لقد ملأ نفسي ذكر فتاتك، ولست بعائد ومؤيدي بعد الله همتي إلا بها.
فأجاب الأمير: على رسلك يا ضيفنا العزيز! إن ضيفنا يقيم بيننا أياماً عشرة، ثم يكون الامتحان، وعندها إما (سلافة) له، وإما المائة جلدة والشعر المجزوز.
ولم يسع الخاطب الطامح إلا الإذعان والصبر حتى يحل اليوم الموعود.
وفي صبيحة اليوم التالي عمد الأمير إلى ناقتين من خير ناقه ليجزرهما كاليوم الفائت، وهنا أراد الضيف الخاطب أن يعارض الأمير ويمنعه أن يعقر ناقتيه محتجاً بأن في جزور البارحة الكفاء وان نحرهما إسراف وإتلاف للمال لا مبرر لهما. إلا أن أميرنا لم يجبه بشيء ومضى يعقر الناقتين ويجزرهما ويعد الوليمة، وعند الظهر أقبل المدعوون من أدنى(164/79)
الحي وأواسطه وتناولوا الطعام مع ضيف الأمير. ومضى الأمير يفعلها كل صباح ويزيد العدد المنحور ناقة ناقة إلى اليوم العاشر؛ ومضى الضيف يزداد لجاجة في الاحتجاج وإلحافاً على الأمير أن يقتصد في ماله فلا يتلفه هذا الإتلاف، ولكن بلا جدوى.
وتقدم الضيف بعد اليوم العاشر بطلب إلى الأمير أن يجري امتحانه، فلقد طال ثواؤه وعيل صبره وافتقده أهله، ولكن كم دهش وكم حلَّ عزمه اليأس والخيبة إذ فاجأه الأمير:
أي ضيفنا! يعز علينا أنك خسرت الرهان وفاتك الفوز، فلتذعن إذا لجزائي المفروض وتستكن.
عندها أجاب الخاطب المحنق محتجاً بأنه لم يجر عليه امتحان ليعد فاشلاً يستحق العقاب، وطلب إلى الأمير أن يفسر له ما يدعي إن يكن يروم الإقناع بالدليل والبرهان، ولكن الأمير أصر على أنه خسر الرهان وأن ليس حاجة إلى التفسير ثم أشار إلى غلمانه أن يتسلموه. . .
وقام صاحبنا ينكث أذياله وغادر الحي بناصية مجزوزة، ومائة أثر في ظهره لمائة جلدة، وصدر يغلي بالحقد ومرارة الفشل، واعتقاد جازم أن بصاحبه الأمير لما أو لمماً إن لم يكن ذا جنة وخيال.
وذاع أمر المحنة والجزاء ثم ما أصاب أول الخاطبين من جز الشعر والضرب الأليم. إلا أن ذلك لم يوئس الخطاب بادئ الأمر ولم يمنعهم من الوفود على الأمير علهم ينجحون من حيث فشل صاحبهم. على أن نصيبهم لم يكن بخير من نصيب أولهم، فكلهم كان يعود باللمة المجزوزة والظهر المجلود، ولولا أن الأمير كان برجاله وفروسيته عزيز الأبطال لكان لهم معه شأن غير ذلك الشأن، ولنالوا منه بحد السيف ما فاتهم بالامتحان.
وبعد الفشل المتوالي الذي مني به عديد الخطاب تجافى الخاطبون مضارب الأمير وعافوا الوفود عليه خاطبين، إلا فتى شريفاً جاء من أطراف البادية وآلى ألية لينالن سلافة أو يقتلن أباها ويربح البادية من عتوه أو يهلكن على حد السيوف دونهما.
ولم ير فتانا أن يثقل كاهله بنفيس الحلل وغالي الثياب، ولم يسق بين يديه الهدايا والطرف، واكتفى ببزة بسيطة وتخفف من كل ما يحمل المسافر إلا سيفه القاطع وبعض الزاد، وسار يغذ السير أياماً إلى أن وافى الأمير وحل ضيفاً عليه وأبان غايته من الوفود عليه.(164/80)
وشرع الأمير كدأبه مع جميع الخاطبين، ينحر الجزر يوماً بعد يوم والفتى صامت لا يعترض ولا يجادل، ولا يتكلم إلا حيث يجمل الكلام، ويصمت حيث يجب الصمت.
وقد اجتذب فتانا بحسن سمته وقلة حديثه عن نفسه أنظار القوم وأيقنوا بأنه فتىً يختلف أبين الاختلاف وأشده عن بقية الخطاب، فلا ظهور ولا إدلال بالجاه ولا غرور ولا شيء من ذلك الذي كان يضيفه أولئك الخطاب إلى شخوصهم ليتقربوا به زلفى إلى الأمير. هذا إلى رجولة صريحة وفكر موزون ونبل ظاهر. وصار همَّ الجميع أن يجوز الفتى الامتحان المقيد ليكون هو وارث أميرهم والمؤمر عليهم بعده.
وبلغت أوصاف لفتى وذكر شمائله خدور النساء، وأضحى اسمه لديهن ملء الأفواه والأسماع. ولم تكتف سلافة بالسماع وكثيراً ما يفتن، وأرادت أن تشاهد هذا الفتى الموصوف وترى هل يصدِّق الخبر عنه الخبر أو لا يصدِّق. وانتحت ناحية خفية من بيت الأمير الواسع وأخذت تتقرى الرجال وتتفرس في الملامح وتصغي إلى الحديث، إلى أن وقع بصرها على الفتى الموصوف. . . .
وفجأة شعرت أن قلبها يخفق أكثر مما اعتاد أن يخفق، وخيل إليها كان رئتيها لا تتسعان لكل ما تريد أن تدفعه إليهما من الهواء، وشعرت كذلك كأن هذا الفتى قليل الكلام يتحدث إليها ويخاطبها أعذب الخطاب. . . وخشيت إن هي بقيت حيث هي أن يشي بها اضطرابها أو تنم عليها أنفاسها المتهدجة، ويعلم القوم أن فتاتهم الرصينة الخفرة قد خفت ورعنت فجاءت تشهد خطابها خلسة من وراء السجوف، فتركت مكانها وفي قلبها كالسهام من العواطف المتباينة المتأججة، فثمة هذا الحب المفاجئ الذي أخذ عليها جميع مسارب الشعور؛ وثم خشيتها أن يفشل الفتى في الامتحان - إن يكن ثمة امتحان - وأخيراً إحساس قوي باللوم لهذا الأب المتعنت الذي لا يرضيه من الفتى ما رأى ورأى الجميع إلا أن يجوز الامتحان. وفي الحق لقد بدأ يخامر سلافته أن أباها إنما يصطنع هذه الأساليب الغريبة لينفر الخطاب وليبقيها عانساً يتأكلها الجوى ويغويها الحرمان. والمحب - كما تعلم - إذا أحب حباً قوياً فقد التمييز واختلطت عليه الأفكار، ولا عجب إذن أن تنتهي في أبيها الذي يعبدها إلى مثل هذا الرأي الغريب.
حل اليوم العاشر وأوشك أن يزول، فقام الأمير يوجه الحديث إلى فتانا وقال: أيها الفتى(164/81)
النبيل، هل أنت مستعد لامتحاني أن أنت تخشى العاقبة فتعود سالماً لا لك ولا عليك؟ فأجاب الفتى باختصار وحزم: إني لعلى استعداد. وعندها أقبل الأمير على قومه يخاطبهم: أهنئكم يا رجالي بوارثي العتيد وأهنئ نفسي. ثم التفت إلى الفتى وخاطبه: أهنئ بك سلافة وأهنئها بك. فلأنت خير من يستأهلها يا بني وهي خير من يستأهلك.
ووجم الجميع إلا سلافة التي برزت من وراء الخباء (إذ كانت جاءت خفية لتشهد المحنة) وخاطبت أباها عابثة أو كالعابثة:
أي أبت، كيف تتعجل وتسميني لهذا الفتى ولما يجز الامتحان بعد؟ فهلا أبقيت ذلك لنرى مبلغ همته ومقدار رجولته التي سيتكشف لنا عنها في ذاك الامتحان؟
فأجاب الأب، أي بنيتي العزيزة، لقد حاز فتاك الامتحان من حيث لا يعلم ولا تعلمين. جاءنا هذا الفتى الشريف مستبهماً لم يسم نفسه قط ولم ينتسب، ثم هو لم يحاول أن يدهشنا بثروته وجاهه وإن يكن له من ذلك الشيء الكثير (كما دلني على ذلك العيون وعيناي)، لقد جاءنا واثقاً من نفسه واثقاً أنه أهل لك دون أن يضيف إلى شخصه الأسماء الكبيرة والمال الوفير والدعوى العريضة. ثم ألم يبلغك كيف لم يعارض ولم يجادل فيما حاولنا أن نغمره ونحرجه به من وسائل الإكرام، شأن الخطاب الآخرين لنرى ما هو قدر نفسه عند نفسه؟ ولو كان رأيه في نفسه كرأيهم في نفوسهم وإن حاولوا الظهور بخلاف ذلك، لفعل فعلتهم وناله مثل ما نالهم. ولكن هو المحتد الكريم يأبى ألا أن يظهر ويستعلن. ثم أليس في سكوته دون الذي حاولنا من غمره بأسباب الإكرام ما يدل على أن فضيلة الكرم هي طبع فيه وسجية فلا يستهولها في غيره؟ أو لم يكن استهوال الخطاب الآخرين مظاهر الجود والكرم التي رأونا نغمرهم بها دليلاً لا يخطئ على أنهم ليسوا الكرام الذين يدعون؟ أليس المقل من المال أو الشحيح هو الذي يستكثر أعطيات الناس ومظاهر جودهم؟
ولم يبق بعد هذا التفسير من لم يقتنع بخطة الأمير الحكيمة وأسلوبه المبتكر في امتحان الرجال. وفي اليوم التالي عقد للفتى على فتاته بين أشد مظاهر الغبطة والحبور. وقضياها حياة مديدة هي السعادة والهناء.
أديب عباس(164/82)
البريد الأدبي
المباحث الأثرية الأولمبية
من أنباء ألمانيا الأخيرة أن الهير هتلر، أعلن أن الحكومة الألمانية قررت لمناسبة عيد الألعاب الأولمبية أن تستأنف المباحث الأثرية في أولمبيا (من أعمال مقاطعة بلوبنيس اليونانية). وقد كانت أولمبيا منذ نحو ألفي عام مستودع التماثيل والذخائر اليونانية المقدسة، وكانت ساحاتها معرضاً للحفلات الرياضية الشائقة. وفي عهد الإمبراطور تيودوسيوس الروماني في القرن الرابع الميلادي منعت الألعاب الأولمبية، وخربت الهياكل الدينية، ونقلت تماثيل الآلهة إلى قسطنطينية بعد ذلك، وفي القرن السادس وقعت زلزلة هدمت كثيراً مما بقي من الهياكل الأولمبية.
وكان أول من لفت النظر إلى البحث في الأطلال الأولمبية العلامة الفرنسي برنار دي مونفو كون في أوائل القرن الثامن عشر. ثم تلاه العلامة الألماني فنكلمان ونظم بعثة للقيام بالحفريات والمباحث الأثرية في أولمبيا، ولكن الموت عاجله وهو في طريقه إلى اليونان. وفي سنة 1829 أوفدت الحكومة الفرنسية حملة إلى اليونان لمعاونتها في حرب التحرير، فقام بعض أفرادها بالحفر في أولمبيا. وفي سنة 1852، قام العلامة الألماني أرنست كورتيوس - وقد كان أستاذاً للتاريخ القديم - بدعوة قوية للبحث في أولمبيا، واستطاع أن يحمل تلميذه القيصر فريدريش الثالث على تنفيذ مشروعه؛ وأقر البرلمان الألماني الاعتمادات اللازمة؛ وقامت بعثة ألمانية بالحفر في أولمبيا بين سنتي 1875 و1881؛ واستطاعت أن تكشف عن ساحة (التس) الشهيرة برمتها، وظهرت أيضاً أطلال معبد زيوس القديم؛ وكان أعظم اكتشاف وفقت إليه لبعثة تمثال (هرميس) الذي صنعه المثال الأشهر (براكستليس) ووصفه الرحالة باوزنيوس في رحلته، ووجدت أيضاً نحو سبعمائة قطعة أثرية مختلفة. وقامت بعد ذلك بعثات مختلفة أخرى بالحفر في أولمبيا؛ وعثرت بآثار كثيرة، ولكن ما يزال هنالك مجال عظيم للبحث والحفر.
وتزمع الحكومة الألمانية أن توفد في القريب العاجل بعثة من علماء الآثار لاستئناف المباحث الأولمبية، وسوف تزوده بجميع الاعتمادات التي تعاونها على القيام بأعمال واسعة النطاق.(164/83)
في أكاديمية الآثار والآداب
ألقى مسيو كلود شيفر رئيس البعثة الأثرية السورية في أكاديمية الآثار والآداب الفرنسية خطاباً عن النتائج التي انتهت إليها مباحث البعثة في رأس شمرا وخلاصتها أنه قد اكتشف حي جديد من مدينة أوجاريت عاصمة مملكة أوجاريت التي ترجع إلى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، ووجدت عدة وثائق مكتوبة وقطع فنية من آثار هذا العهد؛ ووجدت بالأخص إلى جانب أوجاريت أطلال مدينة قديمة يطبعها الطابع الفرعوني وترجع إلى نحو الأسرة الثامنة عشر. كما وجدت عدة ألواح مكتوبة بخط غير معروف يظن أنه قلم أوجاريت في هذه العصور.
مؤتمر نسوي في باريس
عقد في باريس في السادس والعشرين من يوليه مؤتمر دولي للنساء ذوات الأعمال والمهن، واستمرت أعماله أسبوعاً؛ وقد اجتمع فيه نحو مائتي مندوبة يمثلن أربعاً وعشرين دولة؛ ومثلت الولايات المتحدة السيدة فرنسيس بركنس وزيرة العمل؛ وقد استقبلتها الحكومة الفرنسية بصفة رسمية، على يد مدام برونشفيج ممثلة لوزارة الخارجية؛ وأقيم احتفال رسمي لتكريم المندوبات في وزرة الخارجية؛ وكان أهم الموضوعات التي ألقيت في المؤتمر خطاب للسيدة بركنس تحدثت فيه عن (الحكومة والعمل) وتناول المؤتمر كثيراً من المسائل والموضوعات المتعلقة بالمهن والحرف التي تزاولها المرأة وحقوقها في ذلك الميدان، وما تصدره الأمم المختلفة من القوانين في هذا الشأن.
مؤتمر تقدم العلوم
عقد في شهر يوليه في مرسيليا مؤتمر تقدم العلوم، ومثل فيه العلماء الفرنسيون من كل فن، الطب والهندسة والكيمياء والرياضيات وغيرها. وألقيت فيه مباحث مختلفة عن أحدث النظريات العلمية؛ وكان مما لفت الأنظار بنوع خاص الأبحاث التي قامت بها لجنة الهندسة البحرية التي تدور بالأخص حول هندسة المواني الحديثة المدنية والحربية، وألقيت مباحث هامة أخرى في الطب والنبات والحيوان وغيرها.
كتاب عن السحر(164/84)
صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن السحر عنوانه (الفن الأسود) ومؤلفه مستر (رولو أحمد). وقد اختار المؤلف لكتابه عنوان: (الفن الأسود) لأن اللون الأسود كالسحر في مختلف العصور، يقترن في أذهان الناس بالخشية والروع؛ ويقول لنا المؤلف: إن السحر معروف عند الإنسان في عصور ما قبل التاريخ، يدل على ذلك طائفة من الرسوم الحجرية التي وجدت في بعض الكهوف؛ وقد كان المصريون القدماء أساتذة في (الفن الأسود) وكان له عندهم المقام الأعلى؛ وكذلك عرف السحر جميع الأمم القديمة مثل الكلدانيين والآشوريين واليونان والرومان وغيرهم.
ويستعرض المؤلف تاريخ السحر منذ العصر القديم إلى عصرنا، ويحاول أن يشرح أساطير السحر ووسائله؛ وأهم قسم في الكتاب هو المتعلق بالسحر في العصور الوسطى، فهنا يجد المؤلف مجالاً كبيراً للتحدث، ويصف لنا كيف ذاعت فكرة الشيطان في تلك العصور إلى حدود مدهشة، وكيف كانت تمثل في كل شيء في الحياة العقلية والدينية.
وقد زين المؤلف كتابه بطائفة كبيرة من الرسوم والنقوش والتعاويذ السحرية.
وفاة راقصة شهيرة
توفيت في أواخر يوليه فنانة كبيرة هي الراقصة والموسيقية الكبيرة (ارجنتينا)، ولم تحرر راقصة في عصرنا من الشهرة الفنية بعد الراقصة الروسية الشهيرة آنا بافلوفا؛ قدر ما أحرزت (ارجنتينا). وكان ظهورها على المسرح في أوائل هذا القرن حيث ظهرت لأول مرة في بروكسل ولفتت الأنظار بروعة فنها وابتكارها. ولم تكن ارجنتينا راقصة فقط، بل كانت موسيقية بارعة؛ ولما ذاعت شهرتها أخذت تطوف مسارح العالم الكبرى، في باريس، ولندن، وأمريكا، وغيرها وهي تثير الإعجاب أينما حلت؛ وكانت في فنها، أي الرقص الأندلسي القديم قرينة بافلوفا، وفي رقصتها الشهيرة (احتضار البجعة). وكانت أبرع راقصة في استعمال الصنج (الصاجات) الأندلسية. وكانت ارجنتينا مثل زميلتها بافلوفا تحتفظ ببراعتها ورشاقتها حتى أعوامها الأخيرة، أعني وهي في حدود الخمسين. وكانت وفاتها في مدينة بايون على مقربة من بيارتز حيث كانت تمضي معظم أوقاتها في قصر بديع هنالك.(164/85)
وقد أحرزت ارجنتينا كثيراً من آيات التقدير لفنها وبراعتها ومن ذلك أن الحكومة الفرنسية أنعمت عليها بأرفع وسام من اللجيون دونير.
كتاب عن أرنولد بنيت
لم يمض قليل على وفاة الكاتب الإنجليزي الكبير أرنولد بنيت حتى ظهرت عنه عدة تراجم وكتب نقدية. منها كتاب ظهر أخيراً بقلم النقادة سيمونس بعنوان (أرنولد بنيت وقصصه) وهو عرض نقدي مستفيض لآثار الكاتب الراحل، وتلخيص بديع لقصصه، وتعليق ممتع على خواص تفكيره وأسلوبه؛ ويبدي المستر سيمونس في عرضه مقدرة فنية واضحة، ويتتبع العوامل والمؤثرات التي اشتركت في تكوين أرنولد بنيت، ويقول لنا إنه تأثر بالأدبين الفرنسي والروسي، فكان من أساتذته هوسمان، والأخوان جونكور، وموباسان، وتورجنيف وتولستوي؛ ويرد مستر سيمونس على نقدة بنيت من قبله ولا سيما مستر بريستلي الذي اشتهر بشدته في نقد بنيت، ولكن مما يلاحظ أن مستر سيمونس يميل إلى التنويه بمحاسن بنيت والإشادة بخواصه ومقدرته، وقلما يحس جوانب الضعف فيه، وهو من هذه الناحية يغفل قاعدة النقد الصحيح: ويؤيد هذا التحيز إلى بنيت حملاته على جميع نقدته السابقين؛ وينكر مستر سيمونس بشدة ما يسنده بعض النقدة، ولا سيما الكاتبة الشهيرة فرجينيا وولف، إلى بنيت من الميول المادية في الكتابة والتوجيه، بيد أن الكتاب في مجموعه عرض حسن لآثار بنيت يقدم عن الكاتب وآثاره فكرة واضحة، وقد لخصت فيه كل كتبه الهامة تلخيصاً وافياً، وكتب بأسلوب علمي بليغ، يشهد لمؤلفه بمقدرة نقدية لا شك فيها.(164/86)
العدد 165 - بتاريخ: 31 - 08 - 1936(/)
فلنتعصب. . . .!
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال صاحب سر (م) باشا: جاءني يوماً صحفي إنجليزي من هؤلاء الكتاب المتعصبين الذين تطلقهم إنجلترا كما تطلق مدافعها؛ غير أن هذه للبارود والرصاص والقنابل، وأولئك للكذب والتهم والمغالطات؛ وهو أُذُنٌ وعينٌ ولسانٌ وقلم لجريدة إنجليزية كبيرة معروفة بثقل وطأتها على الشرق والإسلام؛ تصلح بإفساد، وتداوي الحمى بالطاعون، وتعمل في نهضة الشرقيين واستقلالهم ما يشبه قطع ثدي الأم وهو في شفتي رضيعها المسكين.
ودخل عليّ هذا الكاتب في الساعة التي خرج فيها من غرفتي صاحب جريدة أسبوعية في مدينتنا؛ وكان قد نفخ الضفدع ليجعلها ثوراً فحول صحيفته إلى جريدة يومية وهو لا يجد مادتها ولا يستطيع أسبابها، إلا أنه كدأب الناس عندنا كان يحسب الكذب في العمل سهلاً مهلاً كالكذب في القول، فلم يتعاظم للأمر العظيم، واقترض لعمله كل ألفاظ النجاح من اللغة. . . .
وظن عند نفسه أنه سيخوّف بجريدته الكبراء والأعيان والمياسير حتى يغلب على جميعهم ويشرك أصابعه مع أصابعهم في استخراج ما يحتاج إليه من جيوبهم، فلم تعش جريدته إلا أياماً وأتلف ما جمع، ورهن فيها داره التي لا يملك غيرها. وعلم آخرا أن الذي يكذب فيسمي الخروف جملاً، لا يقبل منه أن يكذب على الكذب نفسه فيزعم أن الناقة هي التي نتجت هذا الخروف. . . . .
ولما انقلبت هذه الجريدة يومية كان الباشا هو ملجأ الرجل ووَزَره، وكان لكل يوم في الجريدة أخبار عن الباشا لا تقع في الدنيا ولا تجمع من الحوادث، ولكن تقع في ذهن الكاتب، وتجمع من صناديق الحروف، حتى قال لي الباشا مرة: إن اسمي قد أصبح موظفاً في هذه الجريدة لجمع الاشتراك. . . .
وتحرَّى هذا الصحفي أن يستأذن يوماً على الباشا وفي مجلسه حشد عظيم من السراة والأعيان والعمد، وكان جمعهم لأمر، فما هو إلا أن دخل الصحفي حتى ابتدره الباشا بهذا السؤال: يا أستاذ. ما هي تلغرافات أوربا عن الحوادث التي ستقع غداً. . . .؟
فضج المجلس بالضحك وفقد المسكين بهذه النكتة أربعين ديناراً كان يؤمل أن يخرج بها،(165/1)
وأعلن الباشا في أظرف إعلان وأبلغه كذب الرجل ونفاقه وإسفافه وأنه من رجال الصحافة المدَّورة تدوير الرغيف. . .
قال: ونظرت إلى الصحفي الإنجليزي نظرة أكشفه بها فإذا أول الفرق بينه وبين أمثاله عندنا - شعوره أن بلاده قد ربته (للخارج) فهو عند نفسه كأنه إنجليزي مرتين؛ ويأتي من ذلك إحساسه بعزة المالك وقوة المستعمر فلا يكون حيث يكون إلا في صراحة الأمر النافذ أو غموض الحيلة المبهمة؛ ويستحكم بهذا وذاك طبعه العملي، فهو بغريزته مقاتل من مقاتلة الفكر يلتمس ميدانه بين القوى المتضاربة لا يبالي أن يكون فيه الموت ما دام فيه العمل؛ وبهذا كله تراه نافذ البصيرة قائماً على سواء الطريق، لأن الإنجليزي الباطن فيه يوجِّه الإنجليزي الظاهر منه ويسانده؛ وفي أعماق الاثنين تجد إنجلترا وليس غير إنجلترا.
ثم تفرَّست في الرجل أريد كُنهَه وحقيقته فإذا له نفس مفتوحة مقفلة معاً كغرف الدار الواحدة يفتح بعضها لما فيه كيما يرى، ويقفل بعضها على ما فيه كيلا يرى. وله وجه عملي يكاد يحاسبك على نظراتك إليه، تدور في هذا الوجه عينان قد اعتادتا وزن الأشياء والمعاني، يتلألأ في هاتين العينين شعاع النفس القوية الممرَّنة قد نفت الثقة بها نصف هموم الحياة عن صاحبها، تُمِدُّ هذه النفس طبيعة مؤمنة بأن أكبر سرورها في أعمالها، فواجبها في الحياة أن تعمل كل ما يحسن بها وكل ما يحسن منها.
لقد خيل إلي وأنا أنظر إلى نفسية هذا الإنجليزي أن كلمة الخيبة عند هؤلاء الإنجليز غير كلمة الخيبة عندنا نحن الشرقيين، فإن خيبة النفس لا تتم معانيها أبداً في النفس العاملة الدائبة التي يشعرها الواجب أنه شيء إلهي لا يخيب، وأن ما يرفض على هذه الأرض من العمل الطيب لا يرفض في السماء.
وكأن الرجل قد أدرك غرضي بملكته الصحافية الدقيقة فأجابني عن السؤال الذي لم أسأله وقال لي مبتدئاً: إن أساسنا الشخصية وحاسة الواجب؛ وإن فيكم أنتم كل شيء إلا هذين. فأخلاقنا تظهر دائماً في العمل، وأخلاقكم تظهر دائماً في الكلام الفارغ؛ ونحن نطلب الحقيقة وأنتم تطلبون الألفاظ، حتى إنه لو خسر المصري ألف دينار ثم أعلن أنها مائة فقط وصدق الناس أنها مائة، لكان عند نفسه كأنه ربح تسعمائة. . . .
قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهل ورحب؛ ثم هممت بالانصراف عنهما(165/2)
ولكن الإنجليزي قال: يا باشا! إنه قد تمكن في روعي أن صاحب سرك هذا متعصب ديني، وقد علمت أنه ابن فلان القاضي الشرعي فطربوشه ابن العمامة؛ ولقد كان ينظر إليّ وكأنه يتأمل من أين يذبحني. . .
فضحك الباشا وقال لي: يا فلان! إن هذا الكاتب من تلاميذ برناردشو، فهو كأستاذه يجعل لكل حقيقة ذَنَباً كذيل الهر ثم يمسكها منه فإذا هي تعضَّ وتتلوى. . .
والتفت بعد ذلك إلى الإنجليزي ثم قال له: جاءني كتابك فإذا كنت تريد رأيي فيما تسميه التعصب الديني عند المسلمين فعجيب أن تضعوا أنتم الغلطة ثم تسألونا نحن فيها. إنك لتعلم أن هذا التعصب الكذب الذي أكثرتم الكلام فيه إنما هو لفظ من ألفاظ السياسة الأوربية أرسلتموه إلينا ليقاتل لفظ التعصب الحقيقي؛ ومن قبل هذا اخترعتم لفظة (الأقليات) وأجريتموها في لغتكم السياسية لتجعلوا بها لتعصبنا الوطني شكلاً آخر غير شكله فتفسدوه علينا بهذه المادة المفسدة؛ وبذلك تضربون اليد اليمنى من غير أن تلمسوها إذ تضربونها بشل اليد اليسرى.
إن الإسلام في نفسه عدو شديد على التعصب الذي تفهمونه، فهو يقول لأهله في كتابه العزيز: (كونوا قوامين بالقسْط شُهداءَ لله ولو على أنفسكم أو الوالدَيْن والأقربين).
فإذا كان العدل في هذا الدين عدلاً صارماً وحقاً محضا لا يميز بشيء البتة، لا ذات النفس التي فبها اشتهاء الدم، ولا أصلها من الأبوين اللذين جاءت منهما وراثة الدم، ولا أطرافها من الأقربين الذين يلتفون حول نسب الدم - إذا كان هذا فأين في هذا العدل محل الظلم؟
لعلك تشير إلى هذه الرعونة التي تعرفها في الأغمار والأغفال من العامة، فهذه ليست من أثر الدين بل هي أثر الجهل بالدين. إن هذا ليس تعصباً بل هو معنى من معاني الحَمِيَّة النفسية الخرقاء لم تجدوا أنتم له لفظاً، وكان أقرب الألفاظ إليه عندكم هو التعصب فأطلقتموه عليه للمعنى الذي في نفسه والمعنى الذي في أنفسكم. ألا فاعلم أن إسلام العامة اليوم هو كالعدوى المقبولة شكلاً والمرفوضة بعد ذلك.
قال الإنجليزي: ولكن لهؤلاء العامة علماء دينيين يدبرونهم من ورائهم وهم عندكم ورثة النبي (ص) أي منبع الفكرة وقوتها.
قال الباشا: غير أن هؤلاء قد أصبحوا كلهم أو أكثرهم لا يندسُّ فيهم عرق من تلك الوراثة،(165/3)
وذلك هو الذي بلغ بنا ما ترى. فالقوم إلا قليلاً منهم كالأسلاك الكهربائية المعطلة لا فيها سلب ولا إيجاب؛ ولو أن هؤلاء العلماء كانت فيهم كهرباء النبوة لكهربوا الأمم الإسلامية في أقطارها المختلفة. إذن لقام في وجه الاستعمار الأوربي أربعمائة مليون مسلم جلد صارم شديد متظاهرين متعاونين قد أعدوا كل ما استطاعوا من قوة العلم وقوة النفس، وهو لو قذف كل منهم بحجرين لردموا البحر. . .
أتريد معنى التعصب في الإسلام؟ إنه بعينه كتعصب كل إنجليزي للأسطول، فهو تشابك المسلمين في أرجاء الأرض قاطبة وأخذهم بأسباب القوة إلى آخر الاستطاعة لدفع ظلم القوة بآخر ما في الاستطاعة.
وهو بذلك يعمل عملين: استكمال الوجود الإسلامي والدفاع عن كماله.
وإذا أنت ترجمت هذا إلى معناه السياسي كان معناه إصرار جميع المسلمين على نوع الحياة وكرامتها لا على استمرار الحياة ووجودها فقط. وذلك هو مبدؤكم أنتم أيها الإنجليز لا تقبلون إلا حياة السيادة والحكم والحرية فأنتم مسلمون في هذا المبدأ لو عدلتم.
أليس من البلاء أن المسلمين اليوم لا يدرس بعضهم بلاد بعض إلا على الخريطة. . . مع أن الحج لم يشرع في دينهم إلا لتعويدهم دراسة الأرض في الأرض نفسها لا في الورق، ثم ليكون من مبادئهم العملية أن العالم مفتوح لا مقفل؟
إن التعصب في حقيقته هو إعلان الأمة أنها في طاعة الشريعة الكاملة، وأن لها الروح الحادة لا البليدة، وأن أساسها في السياسة الاحترام الذاتي لا تقبل غيره، وأن أفكارها الاجتماعية حقائق ثابتة لا أشكال نظرية، وأن مبدأها هو الحق ولا شيء غير الحق، ون قاعدتها (لا يضركم من ضلَّ إذا اهتديتم) فالهداية أولا والهداية أخيراً: الهداية في القوة والهداية في السياسة والهداية في الاجتماع. فقل لي بحياتك وحياة إنجلترا: أيعاب ذلك على المسلمين إلا بالألفاظ التي يعيب اللص بها أهل الدار لأنهم يحكمون في وجهه إقفال الباب. . .؟
قال: فوجم الإنجليزي حتى ذهل عن نفسه وصاح:
إذا كان هذا فلنتعصب فلنتعصب.
(سيدي بشر. إسكندرية)(165/4)
مصطفى صادق الرافعي(165/5)
السيارة المسروقة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(إن من الواضح أن تربيتك ناقصة. . . ناقصة جداً. . . هذا أنا - بجلال قدري - أكلمك منذ عشر ساعات وخمس وعشرين دقيقة وثلاث وأربعين ثانية وأنت لا تجيبين. . .).
فقالت زوجتي أخيراً، وألقت ما بيدها - وكان شيئاً تطرزه - أو لا أدري ماذا تصنع به -: (إني لست اليوم كفئاً لك ولهزلك، فاسكت من فضلك!).
قلت: (هذا بديل جميل من الاعتذار!. . . ألا تستحين يا امرأة؟. . ثم ما هذا الذي تتشاغلين به عن التقاط الحكمة من فم سيدك وتاج رأسك وبعلك؟).
قالت: (أرجوك!. أرجوك يا مسلم!! ثم إن الطباخة خرجت!. . .).
فانتفضت واقفاً وصحت: (نهارها أسود! لماذا؟).
قالت: (استحسن زوجها أن يكون ذهابها إليه يوم الجمعة بدلاً من يوم الأحد).
فانحططت على الكرسي وقلت: (ووافقت أنت بالطبع. .).
قالت: (وماذا أصنع غير ذلك؟ وقد أصرا على يوم الجمعة، فلو رفضت لفارقتنا، ولعدنا إلى حيرتنا القديمة).
قلت: (يا امرأة. . . . هل تعرفين أني أتضور في هذا البيت؟. . . يوم الجمعة الذي أستريح فيه، وأظل أحلم طول الليل بما أطمع أن أنعم فيه من الآكال؟؟ أوه! إن هذا لا يطاق! هذه. . . هذه. . . هذه. . . نعم هذه بلشفية صريحة! ومع ذلك تزعم الحكومة أنها تكافحها! ما عيب يوم الأحد بالله؟ لماذا يجب - حتماً - أن تكون بطالتها يوم الجمعة لا غيره؟. . .).
فضجرت زوجتي وبدأت تنفخ، وقالت: (ألا تسكت؟ مالك أنت؟ إن لك أن تأكل والسلام. . . ثم إنها مسلمة، وكذلك زوجها، فيوم الجمعة أوفق لهما).
قلت: (وهل من الضروري أن تتزوج هذه الدميمة وذلك المغفل؟).
قالت - وهي تتمطى -: (إني أشعر بفتور وخدر، فأعفني بالله من وجع الدماغ، وحسبي هم إطعامك في هذا اليوم الثقيل. . . .).
قلت - وقد خطرت لي فكرة -: (اسمعي أقل لك).(165/6)
قالت - وهي تضحك - وهل تراني اليوم هنا إلا لأسمع. . تفضل يا سيدي ونور عيني. . . وماذا أيضاً؟).
قلت: (وتاج رأسك! اسمعي. . . إن الفتور يغشي جسمك كما تقولين، وأنا رأسي يكاد يطير مذ عرفت أن هذه الطباخة الكريهة الوجه قد تخلت عنا في يومنا هذا، فما قولك في أكلة ناشفة خفيفة نصنعها هنا أو نشتريها؟).
فقالت وقد لمعت عينها: (لماذا؟).
قلت: (وندعو لولو وسيلما - من أقربائنا - ونذهب جميعاً ومعنا الأولاد إلى القناطر الخيرية، فنقضي يوماً هناك بين الخضرة والماء).
قالت: (ولكنه سينقصك الوجه الحسن).
قلت: (يا خبيثة. . . . . . . هل تظنين أني تزوجتك وأنا مغمض العينين؟).
وحشرتهم جميعاً في السيارة، ودسست السلة التي فيها الطعام والشراب في مكان مجعول لما يحمل المسافر من زاد ومتاع، وكانت الساعة الثانية مساء حين انطلقنا فبلغنا القناطر بعد نصف ساعة، فحملنا أشياءنا وتركنا السيارة في حراسة رجل من الواقفين هناك المستعدين لمثل هذه المهمات، وتخيرنا مكاناً يشرف على الماء وتظلله أشجار باسقة وبسطنا السجادة وألقينا عليها صفحات من جرائد الصباح والمساء ووضعنا عليها الصحون والصواني ثم شرعنا نأكل. ولم يكن الطعام فيما يبدو لعيوننا الفارغة كثيراً، فجعل بعضنا يخطف من بعض، فكانت ألذ أكلة وأهناها، ثم طرحنا الوسائد على السجادة واستلقينا، فنام من نام. ولما آذنت الشمس بالغروب ركبنا زورقاً في ترعة أشمون، ثم بدا لنا أن نعود لندرك (الشيخ رفعت) وهو يتلو القرآن الكريم - فما نحب أن يفوتنا ذلك منه قط - فرجعنا إلى حيث السيارة. . فإذا بها اختفت!!؟
بهتُّ حين رأيت مكانها خالياً، فوقفت كالصنم وأقبلت علي زوجتي تسألني وتهز ذراعي، فقلت لها وقد أفقت قليلاً (نعم. . هزي ذراعي. . بقوة. . إن بي حاجة إلى الشعور بأني لست أحلم وأن هذا ليس كابوساً. .).
قالت: (أين ذهبت؟).
قلت: (فتشيني!. . لقد كانت هنا. . تركتها في هذا المكان وليس في الأرض ما يدل على(165/7)
أنها انشقت وابتلعتها. . . ولست أعرف أن لها أجنحة فلا يمكن أن تكون طارت. . إن الطريقة الصحيحة للاهتداء إلى الحقيقة هي أن يبدأ المرء بنفي كل الاحتمالات غير المعقولة - كما ترينني أصنع الآن).
فصاحت (لولو): (لقد سرقها اللصوص).
فصحت بها: (تالله ما أذكاك يا فتاتي!! كيف لم نفطن إلى هذا بمثل هذه السرعة المدهشة؟).
فقالت لولو: (وماذا تكون مزية العبقرية وفضيلتها إذن؟).
قلت: (صدقت يا فتاتي النابغة. .).
فقالت زوجتي مقاطعة: (أهذا وقت الكلام الفارغ؟. ألا تفكرون في طريقة لاستردادها؟).
فقلت: (آه. . هنا أيضاً عبقرية ولكن من ضرب آخر، ضرب عملي لا يرتاح إلى النظريات. . عبقرية يمكن أن ننعتها بأنها نابليونية؛ ولست أرى أنه ينقصنا - لنوقن من أن السيارة عائدة بإذن الله - إلا ضرب ثالث).
فقالت زوجتي متهكمة (نعم يا سيدي. .؟).
قلت بحدة: (لا تتهكمي يا امرأة. . نعم ينقصنا الضرب الشِّرلُكْمُزِي).
فصاحوا جميعا: (إيه؟).
فقلت: (أعوذ بالله!! ما لكم تصرخون هكذا؟. نعم الشرلكمزي. . يا جهلة. . لو كنتم تعنون بتثقيف عقولكم الفارغة قدر عنايتكم بخلافي والمكابرة معي وإنكار نعمتي عليكم وجحود فضلي. . لعرفتم أن الشرلكمزي نسبة إلى شرلوك هولمز) فقالت زوجتي وهي تضع كفها على فمي: (طيب اسكت بقى!).
فلثمت راحتها وسكت - كما أمرت!
وقال سليم - أخو لولو -: (إن من الواضح أن علينا أن نتفرق).
قلت: (بديهي. . حتى لا يرانا اللصوص فيخافوا. . نعم يحسن ألا نضع شيئاً يزعج اللصوص ويفسد عليهم متعتهم).
فصاح بي: (يا أخي ألا تكف عن هذا العبث؟).
قلت: (كففت بإذن الله. . تفضل. . ولكن اسمح لي أن أسأل هل تعني أن نرسل الأطفال(165/8)
وحدهم في ناحية، وأمهم وأختك في ناحية، وتذهب أنت إلى حيث ألقت، وأعود أنا إلى البيت، وقد تخلصت منكم جميعاً؟؟ إن كان هذا مرادك فأنا من الآن موافق، والسلام عليكم، ولا تكلفوا أنفسكم إرسال عناوينكم).
وبعد أن هدأت الضجة التي أثارتها هذه الكلمات البريئة قال سليم: (تأخذ أنت الأطفال وهاتين أيضاً - وأشار إلى زوجتي وأخته - وتركب تاكسي وتمر أولاً بمركز البوليس ثم لا تتكل عليه بل تذهب تبحث. . وأنا أذهب أبحث من ناحية أخرى).
فقالت زوجتي لسليم: (بل أكون أنا معك فإني لا أكاد أطيق مزحه في هذه الساعات. . إنه لا يفرق بين جد وهزل. . كل وقت عنده صالح للضحك. . شيء فظيع. .).
قلت: (أشكرك. . على أني أستطيع أن أهذب لك خطتك العقيمة. .).
فقالت زوجتي: (بالله اسكت. . . أرجوك. . . أر. . . جووووووك).
قلت: (حالاً. حالاً. كل شيء في وقته يا امرأة. . وهل هذا وقت رجاء؟؟ إنه وقت العمل. . ألا تفهمين؟. اسمع يا هذا. . تذهب أنت إلى البوليس وتعفيني من هذه المهمة التي لا أرتاح إليها، ولا أعتقد أن فيها فائدة، وتأخذ معك هذه الزوجة الجاحدة الناكرة للجميل، وافعل بعد ذلك ما تستطيع، وإلى الملتقى في البيت العامر إن شاء الله).
فقالت زوجتي: (أيوه. . أنا أقول لكم ماذا ينوي أن يصنع. . سيذهب إلى البت مباشرة ولا يكلف نفسه أي عناء في البحث عن سيارته. . وسترون).
فقلت: (وهبيني فعلت ذلك فهل كنت تحسبين أني شرطي أو بوليس سري؟؟ وماذا أصنع إذا كانت السيارة قد سرقت؟ هل أجري في الشوارع كالمجنون؟. . أو أقعد على هذا الرصيف وأبكي؟. . ثم إن معي طفلين صغيرين يريدان أن يناما. . أليس كذلك يا ميدو - اختصار عبد الحميد من فضلك - ومعي أيضاً هذه الفتاة الطويلة البلهاء التي لا رأس في عقلها - أعني لا عقل في رأسها!).
فمضيا عني ولم يجيبا بشيء. وضحكت لولو فقلت: (هذا أحسن. . ما فائدة الحزن واللطم والندب؟؟ ثم إنهما مغفلان - ولا مؤاخذة - فتعالي نسأل أولاً الحارس الذي كان هنا متى رآها آخر مرة فقد خطرت لي فكرة أرجو من ورائها خيراً كثيراً وراحة تامة).
وبحثنا عن الحارس حتى وجدناه نائماً تحت شجرة فأيقظناه فقال لنا: إنها كانت هنا منذ(165/9)
وقت قصير جداً وقد ركبها رجل وفتاة، وإن الرجل قال حين سألته عن الباقين - منا -: إنه ذاهب ليشتري لهم شيئاً ثم يعود. فسألته عن الاتجاه الذي ذهبا فيه فأشار إلى القناطر وطريق القاهرة.
فطلبت أن يجيئنا بتاكسي بسرعة، وقلت للولو: (إذا حقق الله ظني فسيخيب أمل السارق وفتاته، لأن السيارة ليس فيها من البنزين ما يكفي إلا عشرة كيلو مترات على أكثر تقدير، وأنا أرجو أن يخطئ الخطأ المعقول أي أن يتوهم أن من يجيء إلى القناطر بسيارة لابد أن يكون قد تزود الكفاية من البنزين للذهاب والإياب معاً، فيمضي معولاً على ذلك ومتخوفاً من أن يقف في القناطر لأخذ بنزين آخر فتقف به السيارة في الطريق حيث لا بنزين، ولا يخطر له في أول الأمر أن هذه هي العلة فيدور يبحث عن سبب آخر لوقوفها ويضيع في هذا وقتاً ثميناً ثم ييأس فيتركها في الطريق وينجو بجلده).
وكنت أنا مقتنعاً بهذا الرأي حتى اشتريت (صفيحة بنزين من القناطر وضعناها معنا في التاكسي وقلت للولو: (لهذا فائدة أخرى هي أن يعتقد سائق التاكسي حين نتركه ونركب سيارتنا أنا ما استأجرنا سيارته إلا لهذا السبب، فلا يروح يعجب أو يسأل عن شيء ولا يبدو له شيء غريب في عملنا).
وقد شاء الله أن يحقق ظني فما كدنا نقطع خمسة كيلو مترات من الطريق بعد أن تركنا القناطر وأخذنا في سكة قليوب حتى وجدنا السيارة. وأوجز فأقول إنا ركبناها فرحين وعدنا إلى القناطر عسى أن نجد بقيتنا. فلما لم نجد أحداً تركنا لهما خبراً عند الحارس النائم ثم حملناه معنا إلى مركز البوليس لنسرهم ونعفيهم من البحث فعلمنا أن أصحابنا أبلغوهم خبر السرقة، وأن بعض الشرطة خرج للبحث وأن الخبر طير بالتلفون إلى قليوب والقاهرة ولجهات أخرى أيضاً لضبط السارق في الطريق. فشكرنا لهم هذه الهمة التي لم تكن متوقعة ثم قلت لهم: (إن المهم الآن هو البحث عن زوجتي!).
فصاح الرجل (إيه؟).
قلت: (إنها مع قريبي وقريبها).
قال: (انتهينا).
قلت: (كلا لم تنته. . وما أدراك أن هذه ليست سرقة أخرى أفظع وأشنع؟).(165/10)
فضحك الرجل وجرتني لولو وهي تحتج.
تركنا السيارة أمام رصيف البيت وجلسنا في الشرفة نأكل لحم الغائبين - أعني ننتظرهما - وإذا بهما عائدان بعد نحو ساعتين في سيارة - هي أخت سيارتنا بلا فرق - فانحدرت إلى الطريق بسرعة فوجدتهما يتأملان هذه المعجزة. فقلت: (تمام. . لقد سرقت هذه السيارة يا صاحبي ولم أكن أعرف أن قريبي ونسيبي لص. . ولكن ماذا أصنع؟. لقد أخفوك عني قبل أن أتزوج. فصار واجبي أن أخفيك أنت عن الناس بعد أن تزوجتُ).
فهم بكلام فمنعته ودعوته أن ينظر إلى رقم السيارتين، فاقتنع وقال ما العمل الآن؟ قلت: (تستعد للسجن. . لقد كان هذا واجباً من زمان طويل في الحقيقة، ولكن ما أكثر من يستحقون السجن وهم طلقاء. . والآن اذهب بالسيارة إلى الجراج - السيارة المسروقة - ثم أبلغ البوليس بالتلفون وقل له إنك عندي تنتظر حضوره للقبض عليك).
وعرفنا منهما بعد ذلك أنهما ركبا القطار ثم الترام إلى العتبة الخضراء وإذا بهما يريان السيارة عند رصيف إدارة البريد فذهبا إليها يعدوان فألفياها خالية فركبا، وساقها هو وانطلقا بها من غير أن يعنيا بالنظر إلى رقمها وانحدرا بها في شارع فاروق وتركا صاحبها المسكين يجري وراءهما ويصيح ويصرخ ويستنجد وهما يضحكان مسرورين! بارك الله فيهما من لصين جريئين!
فقلت لهما: (لا عليكما. . ستكون العتبة الخضراء كلها عندنا بعد دقائق ببوليسها وصبيانها وباعتها. . إلى آخره. . إلى آخره. . وسيشهد الجيران وجيران الجيران، أمتع رواية رأوها أو يمكن أن يروها في حياتهم أو حياة هذا الشارع الرزين).
وجاء الشرطة والمسروق المسكين في تاكسي. وكان لا بد أن يروا السيارة وأن ينزلوا، وكنت واقفاً إلى جانبها أنتظر هذا التشريف، فقال الرجل (هذه هي. .) ومسح العرق المتصبب ودنا منها وهم بأن يفتح بابها فتصديت له وقلت: (عفواً. . هل من خدمة؟.)
فصاح (خدمة؟؟ يا حرامي يا مجرم!! أين أخفيت شريكتك؟ المرأة التي كانت معك؟).
فنظرت إلى الشرطي وأنا أبتسم - فقد كان الموقف يتطلب الهدوء والكياسة - وقلت: (هذه سيارتي يا حضرة الشاويش فما خطب هذا الرجل؟).
فصاح الرجل (سيارتك يا حرامي يا صفيق الوجه؟).(165/11)
قلت: (إني أسمح بأن تتأملها).
فدار حولها ونظر إليها من الأمام ثم من الخلف، ثم وقف أمامي وهو يرعد وينتفض ويقول: (أما مجرم!!. . بسرعة غيرت أرقامها؟؟ ولكن هل تظن أن هذا ينفعك؟).
فبدا على وجه الشرطي التردد حينما سمع أن الأرقام مختلفة، وإذا كان المفجوع في سيارته قد طار عقله، فإن الشرطي لا يوجد ما يدعو إلى ذهاب عقله أيضاً. وقلت أنا: المسألة بسيطة. ومن المعقول أن أغير لوح المرور بسرعة، ولكن ليس من المعقول أن أغير رقم الشاسية المحفور على محرك السيارة، فتفضل واذكر هذا الرقم بعد مراجعة رخصتك إذا شئت ثم ارفع غطاء المحرك وانظر).
ففعل فإذا الرقم مختلف جداً وشعر بالهزيمة، وأدرك أنه تجنى علي جداً، فبدأ يعتذر، فسألته
(ولكن كيف يمكن أن تخطئ إلى هذا الحد؟؟ هل يعقل ألا تعرف سيارتك؟)
قال: (إنه لا فرق بينهما على الإطلاق - لا من الداخل ولا من الخارج؟).
فقال الشرطي: وهو يريد أن يفض النزاع الذي تهور فيه صاحبنا: (ما دامت السيارتان متشابهتين إلى هذا الحد فإنه معذور، فسامحه).
قلت: (وهل كنت تعذرني لو أني أخطأت مثل خطئه، وذهبت أسب الناس وأتهمهم بالسرقة؟).
قال (طبعاً. . صحيح إنه تهور في الاتهام قبل التثبت، ولكنه معذور في خطئه في معرفة السيارة).
قلت (وإذا دللتك على سيارتك هل تشكرني؟؟ أم تستأنف اتهامك لي بالسرقة؟).
فعاد إلى الاعتذار، وأكد لي أنه يكون شاكراً جداً، فلم يبق داع للإطالة، فرويت له وللشرطي القصة من أولها إلى آخرها كما وقعت، وقلت لهما: إننا أبلغنا مركز البوليس أنا وجدنا السيارة الأخرى التي ظنها قريبي سيارتنا، وأن البوليس لا شك سيحضر بعد قليل ليتسلمها.
وبهذا انتهى الحادث.
وقلت لزوجتي وأنا دخل بعد الفراغ من ذلك: (هل تعترفين الآن أن الذي كان يضحك ويمزح كان هو الحكيم السديد الرأي الصحيح النظر؟).(165/12)
فآثرت المكابرة وقالت إنها مصادفة واتفاق، فشهدت لولو بأني أحسنت التقدير، فعادت زوجتي تلوم لأني كتمت رأيي الحقيقي وتركتها تذهب وتلف وتدور مع سليم، وأني آثرت لها التعب ولنفسي الراحة، فقلت (ليكون هذا لك درساً. . ألم أقل لك إن تربيتك ناقصة؟) فهاجوا بي وثاروا ولكن هذا لا يعني القراء لا قليلاً ولا كثيراً.
إبراهيم عبد القادر المازني(165/13)
أسبوع في سبتمانيا
من ذكريات العرب والإسلام في غاليس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في أحد أبهاء قصر فرساي مجموعة من الصور الرائعة تمثل مناظر من الوقائع الحربية الشهيرة التي انتصر فيها ملوك فرنسا؛ وبين هذه المجموعة صورة لموقعة بلاط الشهداء التي نشبت بين العرب والفرنج على ضفاف اللوار في سنة 732م، يبدو فيها عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس، وقائد الجيش الإسلامي، شيخاً رائعاً ذا لحية طويلة بيضاء، وهو شاهر سيفه، ومن حوله بعض جنوده قتلى، وأمامه جنود الفرنج يكرون على خصومهم بشدة، وتبدو عليهم إمارات التفوق والنصر.
وهذه الصورة إحدى الذكريات القليلة التي تحتفظ بها فرنسا عن عصر يكاد يمحوه النسيان من صحف تاريخها، ونحن نعرف ماذا كان من أمر العرب في بلاط الشهداء، فقد قتل قائدهم عبد الرحمن خلال الموقعة، ثم ارتدوا في ظلام الليل إلى الجنوب؛ وغنم الفرنج الموقعة، واقترنت ذكرى النصر إلى الأبد باسم قائدهم وزعيمهم كارل مارتل، واعتبرته التواريخ النصرانية منقذ أوربا والنصرانية من الإسلام وسلطانه وتعاليمه.
بيد أن ذكرى هذا النصر الفرنجي لا يمكن أن تحجب ذكريات عصر قصير باهر قضاه العرب في جنوب فرنسا، فقد افتتح المسلمون ولايات فرنسا الجنوبية في أوائل القرن الثامن واستقروا في سبتمانيا زهاء نصف قرن؛ ثم عادوا في أوائل القرن العاشر جماعات مغامرة مجاهدة واحتلوا كثيراً من أنحاء بروفانس والرفييرا، واستعمروها زهاء قرن، وتركوا كثيراً من آثارهم وذكرياتهم المعنوية في تلك الأنحاء.
ولكن الأوربي، والفرنسي بنوع خاص، قلما يذكر هذا الفصل من تاريخ العرب والإسلام في أوربا؛ وإذا كان بعض الباحثين والمؤرخين الأخصائيين يعرضون إليه في كتبهم، فإن التواريخ الغربية العامة تمر عليه غالباً بالصمت، أو تذكره عرضاً كحادث طارئ طوى صفحته تعاقب الأحقاب؛ وإذا قصصت على الفرنسي المثقف شيئاً من تفاصيل هذه الغزوات الإسلامية لجنوب فرنسا، وذكرت له أن العرب قد انتهوا في فتوحاتهم إلى أعالي نهر الرون، وأنهم استولوا على بيزانصون مسقط رأس شاعرهم فكتور هوجو، وعلى ليون(165/14)
وماسون وصانص، وأنهم احتلوا الأنجدول وبروفانس دهراً، وأن قواعد سبتمانيا مثل أربونه وأجده ومجلونه وقرقشونه، ما زالت تسمى بأسمائها العربية محرفة إلى الفرنسية: إذا ذكرت للفرنسي المثقف شيئاً من ذلك أصغى إليك بمنتهى الدهشة وكأنما يصغي إلى قصة خرافية يطبعها الخيال المغرق.
ولقد أتيح لي أن أقضي أسبوعاً في هاتيك الربوع التي خفقت عليها الأعلام العربية حقبة من الدهر. أجل، خطر لي أن أجوز إلى سبتمانيا القديمة، وأن أشاهد قواعدها التي ما زالت أسماؤها تنم عن ذكرياتها العربية. ولقد كانت سبتمانيا - وهو اسمها القديم ومعناه ذات المدن السبعة - أولاً نجدولا الحديثة، أول أرض فرنجية غزاها العرب عقب افتتاح الأندلس، واتخذوها قاعدة لغزواتهم في جنوب فرنسا، وجعلوها ولاية أندلسية سميت بالثغر أو الرباط لوقوعها على ساحل البحر الأحمر؛ وكانت مدن سبتمانيا السبعة: أرله، وأربونه، ونيمه، وقرقشونه، وبيزيه، وأجده، ومجلونه. وكانت أربونه عاصمتها، وكانت أمنع المعاقل العربية في غاليس (جنوب فرنسا). ولما وقعت الحرب الأهلية في الأندلس، عندما أشرفت الخلافة الأموية على نهايتها، كانت أربونة قاعدة المعارضة لحكومة قرطبة، وكانت منزل الحركة التي قام بها حاكمها عبد الرحمن اللخمي (أشجع فرسان الأندلس) لانتزاع إمارة الأندلس؛ ولما اضطربت أحول الأندلس الداخلية، انتهز الفرنج الفرصة لاسترداد سبتمانيا، وكانت أربونه آخر معقل عربي وقف في وجه الفرنج، ولم تسقط إلا بعد دفاع مجيد سجلته الروايات المعاصرة، وكان ذلك في منتصف القرن الثامن الميلادي (سنة 758م).
تلك هي خلاصة المأساة العربية في سبتمانيا. أجل كان العرب سادة في هاتيك الربوع منذ ألف ومائتي عام؛ ولكن سبتمانيا لا تحمل اليوم أقل أثر مادي من طابعها العربي القديم. بيد أنه مما يلفت نظر السائح المتجول أن اسم (حي العرب) أو (شارع العرب) يطلق على كثير من الأنحاء في مدن الرفييرا وسبتمانيا؛ وهذا يرجع بلا ريب إلى وحي الذكريات العربية؛ وقد توجد أيضاً أطلال دراسة لبعض الحصون العربية، ولكنها مما يصعب تعيينه وتحقيقه.
على أنه توجد ثمة آثار معنوية كثيرة من العهد لعربي في الحياة الاجتماعية في تلك المنطقة، وبخاصة في بروفانس حيث تأثر التفكير والآداب عصراً بالمؤثرات والأساليب(165/15)
العربية، وحيث طبع المستعمرون المسلمون في القرن العاشر حياة هذا الإقليم بطابع من عاداتهم وتقاليدهم. وقد كانت هذه الحقائق التاريخية موضع عناية بعض الباحثين في القرن الماضي فتناولوها بالشرح والاستقصاء، وكانت مباحثهم فتحاً جديداً في هذا الميدان؛ ونستطيع أن نخص بالذكر منهم العلامة المستشرق رينو، فقد كتب عدة فصول بديعة في كتابه (غزوات العرب في فرنسا) عن الآثار الفكرية والاجتماعية في جنوب فرنسا وبخاصة في بروفانس.
ولقد اخترقت سبتمانيا من آرله حتى جبال البرنيه؛ ووقفت مدى حين في دينة أربونه وقد أذكى خيالي حين شهدت عاصمة الرباط الأندلسي القديم، تلك الذكريات العربية البعيدة التي تغيض في عالم القرون والتي لم أجد لها أثراً في المدينة الفرنسية الحديثة. وحينما وقفت في (بربنيان) تذكرت أنها كانت مجاز الجيوش الأندلسية إلى غاليس، وأن عرب الأندلس كانوا يفضلون اجتياز جبال البرنيه من الناحية الشرقية من ممر بربنيان، مخترقين قطلونية إلى (الثغر) ثم يتجهون بعد ذلك شمالاً إلى أقاليم الرون، أو غرباً نحو (اكوتين)؛ بيد أنه توجد إلى جانب ممر بربنيان ممرات أخرى كان يتدفق منها عرب الأندلس إلى جنوب فرنسا، وأشهرها ممر (رونشفال) الشهير الذي يسميه الإدريسي (باب الشزري). ولرونشفال ذكرى خالدة في التاريخ والقصص الفرنسيين، فقد كانت مسرحاً للموقعة الشهيرة التي مزق فيها العرب جيش كارل الأكبر (شارلمان) حين عوده من غزوته لأسبانيا الشمالية، التي نظم فيها رولان وصيف شارلمان أنشودته الشهيرة
وإن السائح المتجول ليتساءل حين يتأمل تلك الوهاد كيف استطاع العرب الذين برزوا من بسيط الصحراء إلى الغزو أن يجتاحوا تلك الهضاب الوعرة، وأن يحرزوا النصر الباهر في هاتيك السهول النائية على حين أن أعداءهم أعرف بطبائعها وجنباتها. ولقد كان اجتياز جبال البرنيه الشامخة أعجوبة في التاريخ القديم، ولكن العرب اجتازوا تلك الربى الهائلة واقتحموها مراراً في سبيل الفتح. ولقد خالجني مثل هذا الشعور حينما اجتزت صحراء العرب منذ بضعة أعوام، وأذكى القفر الشاسع خيالي، فتساءلت كيف استطاعت الجيوش العربية الزاخرة أن تجتاح هذا القفر الرائع في عصر كان التنقل فيه محفوفاً بأعظم المشاق؟ وكيف كانت هذه الجيوش تمون نفسها بالزاد والماء خلال أسابيع طويلة تستقبل(165/16)
فيها الشمس المحرقة والرياح السافية؟ أجل لقد كان اجتياز الجيوش الإسلامية في مختلف العصور لصحراء العرب وصحارى الشام وشمال إفريقية أعجوبة من أعاجيب العصر، بل إن اجتياز هذه الصحارى في عصرنا يعتبر عملاً من أعظم الأعمال الحربية.
ولقد ذكرت بهذه المناسبة ملاحظة غريبة أبداها المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون عن خواص الفتح العربي، فقد عقد في مقدمته فصلاً ذهب فيه إلى (أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط) وأورد كعادته أمثلة وأسباباً، ولكني أعتقد أن ابن خلدون غير محق في ملاحظته؛ ويكفي أن نذكر أن العرب افتتحوا هضاب فارس وأرمينية والأناضول والغرب، وافتتحوا أسبانيا وتغلبوا على وعرها بأيسر أمر، ثم اقتحموا جبال البرنيه الشامخة إلى فرنسا وافتتحوا ما وراءها من الهضاب والسهول؛ ولم تكن هذه كلها من البسائط التي يعنيها ابن خلدون.
هذه خواطر أثارتها في نفسي زيارتي لسبتمانيا أو الرباط الأندلسي القديم؛ ولقد قضيت في تلك الربوع أياماً؛ وكنت كلما وقفت بأحد هذه المعاهد القديمة ارتد خيالي إلى ما قبل ألف ومائتي عام وتصورت العصر الإسلامي كله ماثلاً أمام عيني بحوادثه ووقائعه الحافلة، ومرت بذاكرتي أسماء عربية رنانة روت بدمائها تلك الأرض: السمح بن مالك بطل موقعة تولوشة، عبد الرحمن الغافقي بطل موقعة بلاط الشهداء. . . . ولقد كنت في الواقع على سفر إلى الأندلس، وكنت اعتزم أن أتجول في ربوعها التي ما زالت تحمل ذكريات عزيزة للإسلام وآثاره، ولكن الثورة الأسبانية المشئومة حالت دون تحقيق هذا الأمل، فلبثت أياماً في سفح جبال البرنيه أرقب الحوادث وأنتظر سنوح الفرصة، ولكن شاء ربك أن يندلع لهيب الثورة في جميع أنحاء أسبانيا بصورة مروعة تحمل أشد المغامرين على الزهد في زيارتها.
على أن الزمن كفيل بتحقيق الأمل، والصعاب تشحذ العزائم. وسوف أستعين بالله دائماً على المضي في مباحثي الأندلسية إلى ن يحقق أملي كاملاً في إخراج تاريخ العرب والإسلام في أسبانيا.
فينا في 18 أغسطس
محمد عبد الله عنان(165/17)
لَمَعات
إلى الفيلسوف الشاعر محمد إقبال
جواباً لكتابيه: (أسرار خودي) و (رموز بي خودي)
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
للصوفية فلسفة عالية في العالم والإنسان والخالق، ولهم آراء حكيمة في الأخلاق والاجتماع. وقد صاغوا كثيراً من آرائهم في صور شعرية جميلة تجلى فيها القلب الإنساني في أرقى مداركه، وأصفى منازعه، وصوروا فيها خفايا النفس الإنسانية.
وفي العربية كثير من الشعر الصوفي مفرّق في الكتب. وفيها دواوين خصّت بهذا الضرب من الشعر، أسيرها ذكراً ديوان ابن الفارض، ودواوين ابن العربي، وديوان النابلسي.
ولشعراء الفارسية المقام الأسمى في الشعر الصوفي، وقد حاكاهم فيه شعراء التركية والأردية. وأعظم شعراء الفارسية في هذا مجد الدين سنائي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي، وهو زعيم شعراء الصوفية وفلاسفتهم جميعاً.
- 2 -
وكأن الله سبحانه أراد أن يبعث مولانا جلال الدين في هذا العصر مزوداً بفلسفته وعلومه، إلى فلسفة الصوفية، وصفاء نفوسهم، فبعثه في صورة شاعر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال الهنديّ.
ولإقبال منظومات كثيرة معظمها بالفارسية، وبعضها بالأردية، وقد ضمنها من الفلسفة والتصوف والأخلاق والاجتماع والسياسة ونقد المدنية ما يملأ القارئ إعجاباً. والرجل حرّ، يكره التقليد ويحذر منه، فعقله وقلبه ظاهران في كل ما يكتب. ومن منظوماته كتابان سماها (أسرر خودي) و (رموز بي خودي) أي أسرار الذاتية، ورموز اللاذاتية. ومدار البحث في الأول بيان أن العالم قائم على (الذاتية) وأن حياة الإنسان بإبراز ما أودع في فطرته من المواهب، وتقوية نفسه. ومدار البحث في الكتاب الثاني بيان ائتلاف الأفراد في الجماعة، وما تقوى به الجماعات. وقد شرح ذلك كله شرحاً مبيناً، وضرب الأمثال، واستشهد(165/19)
التاريخ، وسما إلى الدرجة العليا في الشعر.
وقد ترجمت في مجلة (الرسالة) صفحات من هذين الكتابين، ومن ديوانه بيام مشرق الذي جعله الشاعر جواباً للشاعر الألماني جوته.
- 3 -
وقد بدا لي أن أنشر في (الرسالة) منظومة أهديها إلى إقبال، وأجعلها صدى لكتابيه المذكورين آنفاً.
وأريد مع هذا أن أنهج بها في العربية نهجاً جديداً، وأجعلها مثالاً للمعاني السامية التي يتناولها الشعر إذا أطلق من عقاله، وحرّر من الموضوعات الضيقة التي اعتادها جمهور الشعراء، ولا سيما المعاني التي تكثر في أشعار الصوفية العظام. ثم أريد أن أجعلها مثالاً للقافية المزدوجة التي قصرها شعراء العربية على الرجز المشطور كما قصروا الرجز على نظم العلوم كالألفية والجوهر المكنون، والتاريخ كمنظومة ابن عبد ربه في أمراء بني أمية، والقصص ككتاب كليلة ودمنة، والصادح والباغم. وينبغي أن يسري هذا الضرب من التقفية إلى أبحر الشعر الأخرى حين تعالج الموضوعات الواسعة. فهذا الذي سنّى لشعراء الفارسية وغيرهم أن ينظموا عشرات الآلاف من الأبيات في قصة واحدة أو كتاب واحد.
وقد اخترت وزن الرمل ليُسره وخفته واقتداء بجلال الدين في المثنوي ومحمد إقبال في بعض كتبه ولا سيما أسرار خودي ورموز بي خودي.
- 4 -
ثم التفعيلة الثالثة في الرمل تأتي تامة (فاعلاتن) ومقطوعة (فاعلاتْ) ومحذوفة (فاعلا). والقافية المزدوجة تجعل كل شطرين متفقين في الروي منفصلين بعض الانفصال عن غيرهما. فينبغي أن يسوّغ الجمع في المنظومة الواحدة بين أبيات على فاعلاتن وأخرى على فاعلاتْ أو فاعلا تيسيرا للناظم. ولكن الجمع بين فاعلا، وفاعلاتْ حسن لا عيب فيه لأن الحرف الأخير في فاعلاتْ لا يأتي إلا بعد مدّ. وبهذا المدّ يتم الوزن فيأتي الحرف بعد المدّ نهاية للصوت فلا يشعر المنشد باختلاف النغمة بين فاعلا وفاعلاتْ. مثال هذا البيتان الآتيان:(165/20)
رُبَّ معنى في ضمير يكتُم ... ليس في الناس عليه محرمُ
وقلوب رمسها هذي الصدور ... أتراني مسمعاً من في القبورْ
البيت الأول بني على فاعلا، والثاني على فاعلات لكن الراء في كلمتي الصدور والقبور واقعتان بعد مد فتأتيان في نهاية لصوت كأنهما لا تحسبان في وزن البيت. وليس الأمر كذلك في الجمع بين فاعلاتن وغيرها، ففي البيتين الآتيين:
كان لي الليل مداداً فنفدْ ... وطغى قلبي بمدّ بعد مدّ
جاشت الظلماء موجاً بعد موج ... وغزاني الوجد فوجاً بعد فوج
إذا سكَنت الجيم في موج وفوج يبنى البت على فاعلاتْ فتجده قريباً جداً مما قبله. وإذا حركت الجيم يبنى على فاعلاتن فيبعد عما قبله بعض البعد. فينبغي ن يجتهد الناظم ألا يجمع بين فاعلا أو فاعلاتْ وبين فاعلاتن في منظومة واحدة رعاية لانسجام النغمات.
وإني أدعو أدباء العربية إلى العناية بهذا المثال الذي أقدمه في المعاني والقوافي ليقبلوه على بينة أو يردوه بالحجة. والله ولي التيسير.
أيها الليل إليك المفزعُ ... كم حنت منك علينا أضلع
كم خفينا في غيابات الدجى ... وملأنا الليل هماً وشجى
كم ألِفتُ الليل أُماً حانية ... وكرهت النجم عيناً رانيه
كم ألفت الليل وحشاً راقبا ... في شعاع الصبح سهماً صائبا
كم بثثت الليل سراً كِتما ... فوعاه الليل عني ألما
كانت الظلماء لوحاً للألمْ ... خطّتْ الآهات فيه كالقلمْ
كان لي الليل مداداً فنفد ... وطغى قلبي بمدّ بعد مدّ
جاشت الظلماء موجاً بعد موجْ ... وغزاني الوجد فوجاً بعد فوجْ
فنيت هذي وهذا زاخرُ ... وانجلت هذي، وهذا غامرُ
خلتني في الليل جمراً سُعّرا ... ونجوم الليل منه شررا
إرَة قد وقدت في أضلعي ... وسحاب هاطل من أدمعي
كنت سطراً لم يفسره أحدْ ... خطَّه في غيبه الله الصمد
في ضميري كل معنى مُنبَهِمْ ... حرت في الأعراب عنه بالكِلم(165/21)
قد ثوى العالم في قلبي وما ... خُطَّ شيء فيه إلا الحرف (ما)
جلّ قلبي أن أراه جامَ جم ... صُور الأقطار فيه تنتظم
إنما الأقطار في قلبي العميدْ ... أحرف أوحت إلى معنى بعيد
ربّ معنى في ضمير يكتمُ ... ليس في الناس عليه مَحرَمُ
وقلوب رمسها هذي الصدورْ ... أتراني مسمعاً من في القبور
أنا في الناس فصيح أعجمُ ... ناطق فيهم كأني أبكم
صمّت الآذان عن هذا البيان ... ضاع في ضوضائهم هذا الأذان
كيف يجدي القوم هذا النغمُ ... وعلى الآذان رن الصممُ؟
كيف يجدي القدح في هذا الحجر؟ ... قلبه رخو خليّ من شرر
إن خفق القلب قدحُ مُجهِدُ ... بعضه يورى وبعضٌ يصلد
كيف يجدي النفخ في هذا الرمادْ ... طفئ الجمر ولم تور الزناد
(يتبع)
عبد الوهاب عزام(165/22)
فن القصة في الأدب المصري الحديث
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
للأستاذ هلال أحمد شتا
ويلاحظ المتتبع لتاريخ القصة المصرية أن ثلاثة من كتابها الأفذاذ قد تنحوا عن الجهاد في سبيلها أو كدوا، وبقي واحد فرد يحاول ما يستطيعه الواحد الفرد. . فلقد أقبل هيكل على ميدان آخر يشحذ له قلمه وحسه، هو ميدان الصحافة والبحث العلمي والديني والسياسة، وانهمك أبو حديد في عمله التعليمي ودراساته التاريخية، وذهب تيمور مذاهب أخرى في الدراسة والأدب. . . ثم بقي المازني بعد ذلك يسير في طريقه سيراً هادئاً، ويخص القصة ببعض عنايته، بقدر ما تنحت أعماله الصحفية، وما أفسحت لفنه من مجال قصير.
ولقد كان هذا مما أوقف القصة المصرية العربية الناشئة موقفاً نشفق منه عليها، وما زالت في عهد الصبا تنشد الرعاية والعناية؛ ولكن فريقاً آخر من الشبان قد أقبل يمد لها يداً مباركة نرجو أن تدفعها إلى عهد الشباب قوية سريعة الخطوات.
ومن بين هذا الفريق ثلاثة نلمح فيهم استعداداً كثيراً، وفناً غزيراً، وهم: محمود البدوي، وشوكت التوني، وطاهر لاشين.
فمحمود البدوي، الذي عرفناه مترجماً للقصة الروسية القصيرة على صفحات الرسالة الغراء، قد آنس في نفسه قدرة على الكتابة ألهبت شغفه وشحذت عزيمته، فإذا هو يدفع إلى ميدان القصة كتابيه (الرحيل) و (رجل).
والذي يعرف البدوي في هدوئه وصمته، وبعده عن مجالات الأدباء والكتاب، قد يستولي عليه عجب، حين يرى اهتمام الكتاب بأمر كتابيه وتهافتهم على نقدهما وبحثهما. . ولكن الذي يعرف البدوي من ثنايا سطوره، لا يرى عناء كبيراً في أن يعرف الدافع الشريف الذي حمل هؤلاء الكتاب على العناية بفنه وأدبه.
وقد تتلمذ البدوي على المدرستين الروسية والإنجليزية، فكان مزاجاً منهما معاً، ثم أضاف إلى ذلك شخصيته التي استقل بها، فكان قصصياً موفقاً. وأميز صفاته أنه مخلص لفنه إخلاصاً شديداً حتى ليكاد يعجز عن أن يزاول سواه، لأنه استغرق كل تفكيره واستبد بجميع جهوده، وسيكون لنا منه من يسد فراغاً عزيزاً.(165/23)
وشوكت التوني قصصي موهوب، وكاتب قادر، غير أنه كاد يسيء إلى فنه إساءة بالغة، حين صمت عن الكتابة صمتاً غير محمود، متفرغاً لدراساته القانونية وقضاياه. . ولو لم يغمره - منذ قريب - نشاط أدبي نعرفه، لفقده عالم القصة آسفاً أسفاً شديداً، لأنه يعرف فيه ما يدفعه إلى التشبث به. . وقد يمحو آثار صمته الطويل أنه أقبل اليوم قوياً بدراساته وميله بعد انقطاع عن الفن الذي يحبه ويقدسه. . وسوف لا نغفر له - بعد ذلك - صمتاً أو تحولاً. لأن الفن الذي فقد رجاله أو كاد، في حاجة شديدة إلى الشباب يشد أزره.
وطاهر لاشين قصصي مصري بديع التكوين، قد بلغ بفنه وأدبه منزلة جليلة، ومجهوده في سبيل القصة المصرية كبير، وأسلوبه العربي سليم أنيق، نقي البيان لا يحب الإسفاف، ونأمل فيه خيرً كثيراً. . ونشكر له ما أسدى. . وما سوف يسدي إن شاء الله.
أولئك وهؤلاء هم المحسنون إلى القصة المصرية إحساناً محموداً الجديرون بالذكر والشكر والاعتراف بالجميل. . . ولكن طائفة كبيرة، غير محدودة ولا محصورة، قد أقبلت منذ سنوات ترمي القصة المصرية العربية بالإساءة المرذولة، وتفتح فيها فتحاً قديراً على أن يهلكها ويحطمها تحطيماً. .
وهؤلاء الذين يتخذون من كتابة القصة تجارة ورزقاً، ويسوقون إلى الميدان كل يوم عملاً جديداً، قد فقد نتاجهم كل فن أو طرافة أو توفيق، ولكنه لم يفقد القراء أو الضالين من المتأدبين، وهذه هي الإساءة التي تؤلمنا ألماً مراً وتحز في صدورنا حزاً موجعاً. .
نعم. . فقد استطاع بعض هذا النفر، أن يجعل من نتاجه المشوش مدرسة يسير تلاميذها على طريقته الملتوية التي لا تؤدي إلى فلاح، فأفسد بذلك الذوق الأدبي ونال منه، وألحق بالفن خسراناً مبينا.
والذي يقرأ اليوم هذه القصص التجارية التي تحفل بها المجلات والكتب، ناشداً منها تسلية أو إتلافاً للوقت، لا شك يخرج من قراءته وقد خسر وقتاً حقيقياً بألا يبعثر ويعبث به، ويتأثر - بعد ذلك - بما قرأ تأثراً قد ينال من تفكيره، وقلمه، وذوقه جميعاً.
ولسنا نقصد بالقصة التجارية القصة المترجمة وحسب، بل إننا نقصد المترجمة والموضوعة على السواء، لا بل ونعني الموضوعة باهتمام خاص. . فلقد سار كتابها اليوم على طريق لا ندري إلى أية هاوية تصل بهم وبقرائهم، حين أدخلوا في قصصهم نوعاً من(165/24)
الأسلوب نستطيع أن نسميه (أدباً خليعاً)، وهو مزاج من العامة الرخوة، والعربية المهدمة، والفرنسية التي يتحدث بها خليعات النساء.
هذه هي لمحنة التي تهدد اليوم فن القصة في مصر، وأعترف أني عاجز عن أن أصف لها دواء، فلا أفل إذن من أن أدعو الأدباء والكتاب إلى أن يعلنوا عليها حرباً عواناً تقتلها أو تخرجها عن ميدان الأدب خاسرة. . .
ولا يمنعني هذا من أن أضع أمام أعين الشباب مثلاً للقصصي كيف يكون، عسى أن أبلغ بهذا الذي أقول أملاً طالما نشدته وسعيت إليه، وهو أن يقبل الشباب على ما يستأهل العناية، وأن يعرض عما يصل بذوقه الفني والأدبي إلى هاوية ليس لها من قرار. .
وأعتقد أن القصصي يجب أن يكون جامعاً لجوانب خمسة، غير فاقد منها شيئاً.
وأول هذه الجوانب: أن يكون عربي اللفظ والأسلوب، أديباً قوي البيان مشحوذ القلم واللسان، وأن يكون حريصاً على عربيته معتزاً بها عاشقاً لها أميناً عليها.
وثانيها: أن يكون فناناً بطبعه موهوباً، قادراً على تصوير كل ما يحيط به وبأبطال قصصه من أجواء الطبيعة ومشاهدها وكل ما يغمر نفوسهم من شعور، أو ينتابها من أحاسيس، أو يتكون فيها من عواطف. . وكل ما يجول بأذهانهم من خواطر، أو يحتدم في صدورهم من رغبات.
وثالثها: أن يكون على حظ من الثقافة موفور، واسع الاطلاع مجرباً، قد لمس بيديه كثيراً من الحقائق، وأوغل بنفسه في جوانب الحياة وحواشيها.
ورابعها: أن يكون متنبه الحواس يقظاً، مغذياً لميله الفني، سائراً في ذلك على نهج قويم، لأن الميل الطبيعي لا يورق ويؤتي ثماره بغير مران وتنمية، والفن الجميل يقوم على عمادين من الدراسة والميل، ولا يقوم على واحد منهما. .
وخامسها: أن يتميز بشخصية مستقلة، وأن يكون ذا خيال واسع لا يضيق أمام قلمه وبيانه، وما ينشدانه من بلوغ إلى بعض الحقائق. .
والقصة التي يكتبها كاتبها في أسلوب عربي مبين، والتي تحمل إلى قارئها صوراً صادقة - طبيعية ونفسية - والتي تترجم دقائق الحياة وبسائطها فترفع للذهن قطعة من صميم الوجود، والتي يفيض من بين سطورها جمال يهز مشاعر عشاق الجمال، والتي تنتصر(165/25)
فيها حقائق على حقائق، هي القصة الكاملة التي نريدها. والتي نرجو أن يوفق إلى إخراجها منشئو الجيل الجديد. .
وبعد - فقد بلغت بحمد الله نهاية البحث، بعد أن تراقصت أمام عيني الخواطر والأفكار، وأرجو أن أكون قد ذهبت فيما قلت مذهباً حقاً، لا يخاصم العرف الأدبي الذي كسبه الذوق الحديث من بلاغة أبناء العرب وتراثهم الفكري، ومن دراسات جديدة وفق فيها أبناء الغرب توفيقاً عظيماً. .
وهذا تاريخ موجز للقصة المصرية العربية، وما أثر فيها فأحسن إليها أو أساء إلى يومنا هذا. . فأما مستقبلها فأخشى أن يذهب بها إلى موضع لا يرضاه المصريون أو الشرقيون. وأرجو - من الأعماق - أن تجد القصة من يرفعه وينهض بها، وهو أمر ليس باليسير، وإنما يحتاج رجالاً أشداء عاملين مخلصين. . ولسنا - والحمد لله - فقراء من الرجال. .
هلال أحمد شتا
بسكرتيرية مجلس الشيوخ(165/26)
الخيال في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الخيال - وهو القدرة على انتزاع شتى الصور من الواقع المشاهد واستحضارها في الذهن في أي وقت، والتصرف فيها على مختلف الأشكال والأوضاع - عنصر من أهم عناصر الأدب مهما اختلفت أنصبة الأدباء منه، وهو أسس التشبيهات والمجازات، ولولاه لالتزم الفكر الإنساني الواقع المتحجر أيما التزام.
وللخيال في الأدب وظائف شتى: فالخيال الصحيح يعين الأديب على إبراز الحقائق بشتى الوسائل، ويقدره على سبك موضوعه سبكاً فنياً لا شذوذ فيه، وعلى نبذ ما لا حاجة به إليه من تفصيلات قد تشوه ما هو بسبيله، ويساعده على إضفاء ثوب من الجمال على ما ينشئ.
وللخيال يد طولى في الأدب الإنجليزي؛ فالأديب الإنجليزي غزير العاطفة، إذا جاشت أطلق العنان واسترسل مع خياله، وأثار به منظر طبيعي أو غناء طائر أو ذكرى طارئة أو أثر من آثار الغابرين أو أسطورة من أساطيرهم، أو غير هذا وذاك كله، شتى الخيالات والأحلام والأطياف، وتناهت به عاطفته إلى حدود الأماني وآفاق الماضي والمستقبل، وهذا الاسترسال للخيال إذا أثارته فكرة رئيسية هو مرجع وحدة القصيدة في الإنجليزية.
وهناك عدا هذا الخيال المنبث في كل مناحي الأدب أغراض خاصة من الأدب قوامها وهيكلها الخيال، يجمع أطرافها وينهض بكيانها، ويوثق وشائجها، وهذه هي الملاحم الطوال في الشعر والقصص الممثلة أو المقروءة شعراً أو نثراً، ففي هذه لا يلتزم الأديب الواقع المجرد، بل يفترق عنه افتراقاً جسيماً، ويصوغ من شتى أفكاره وتجاريبه وأمانيه عالماً يجيش بالحياة والحركة، ويموج بالعواطف والنوازع، ويفيض بالجمال والإمتاع.
والأدب الإنجليزي حافل بهذه الضروب القائمة على أساس من التخيل المحض؛ فهناك ملاحم ملتون وهاردي، وفيها يستعرض كلٌّ من الشاعرين مشاغل عصره ويبحث آراءه وينفث لواعج نفسه؛ ومن طبيعة أشعار الملاحم أنها تعج بالمردة والجبابرة والآلهة، وتحفل بخوارق الأعمال وجسائم البطولة، وهي على رغم هذا كله لا تخرج عن عالمنا الإنساني ولا تغفل النفس الإنسانية، بل تظل نوازع تلك النفس ومشاغلها هي الهدف الوحيد الذي يرمي إليه ناظموها، إذ فيها يتخذ أولئك الأرباب والجبابرة طبائع الناس وميول الأفراد وإن(165/27)
فاقو البشر قوة وعظماً، ومن هنا يتأتى للشاعر أن يبسط آراؤه في ميدان متسع وإلى مدى فسيح، فالخيال هنا لا يعدو الحقيقة، وإنما يوضحها أحسن توضيح، فضلاً عما يمتع النفس به من قصص متسق وجمال وجلال.
وفي الأدب الإنجليزي مالا يعد من قصص في الشعر أو النثر ممثلة ومقروءة. وقوام القصة بطبيعتها الخيال، وإن تراوح نصيبها منه؛ فهناك القصص الواقعية التي تلتزم الحقيقة إلى أكبر حد مستطاع وتصور المجتمع الحاضر تصويراً دقيقاً، كقصص هاردي ودرامات جالزورذي؛ وهناك القصص التي ترمي إلى أغوار الماضي وتدور حول عظيم من رجال التاريخ أو الأساطير، من طَموح يبيع نفسه للشيطان ليعينه على مطامحه، إلى دائن يتقاضى دينه من لحم غريمه ودمه، كما في روايات شكسبير ومارلو وغيرهما؛ كما أن هناك القصص التي تتطاول إلى آفاق المستقبل، وفارس هذه الحلبة ولز.
هذه الأغراض والأوضاع التي سداها ولحمتها الخيال غير ظاهرة في الأدب العربي: فلا قصص ولا ملاحم. والمقامات وأشباهها إذا زج بها في هذا المجال بدت هزيلة عجفاء تدعو إلى السخرية، فأولى بها أن تظل حيث أراد كاتبوها وقصدوا بها من غرض بعيد عن القصص. والأثر الوحيد الذي يعتد به - بل يفتخر به - في هذا الباب رسالة الغفران: ففيها من آثار الخيال ومتعاته ما لا نظير له في الأدب كله. على رغم اكتظاظها بأخبار الأدباء ومسائل الأدب والنحو.
وفضلاً عن انعدام هذه الفنون الخاصة فإن نصيب الأدب العربي عامة من الخيال ضئيل إذا قيس بنصيب الأدب الإنجليزي منه، فالأديب العربي كان شديد الحرص على الواقع يلزمه به موضوعه وأفكاره، شديد الاختصار في مقاله وتعبيره عما يحس، يعبر عن تلك الأفكار أشتاتاً كلما عنَّ له حافز إلى الكتابة، لا يدخر أفكاره ولا يربط منها حاضراً بماض، بل يرسلها على السجية أبياتاً محكمة النسج موجزة البيان. فالفكرة التي تخطر للأديب الإنجليزي فيحوك حولها قصة تربط ما يتصل بها من أفكار، وتنشئ حولها شتى الصور المنتزعة من الحياة، يكتفي الأديب العربي بصوغها في بيت شعر محكم يذهب مثلاً ثم (ينام ملء جفونه).
فكبح عنان الخيال هذا سبب انعدام القصص وكثرة الحكم والأمثال في الأدب العربي. وهو(165/28)
كذلك سبب توسط طول القصائد وعدم تراوحها بين الملاحم الطوال والمقطوعات الصغار، ثم هو سبب اكتظاظها بالأفكار لا يربطها رباط جامع من خيال وثيق.
ولا ترجع ندرة آثار الخيال في الأدب العربي إلى ضعف ملكته بين الشعوب العربية، فإن كثيراً من تلك الآثار تدوولت في العامية دون الفصحى بين الشعوب الناطقة بالضاد، وإنما ترجع تلك الندرة إلى التقاليد الجامدة الشديدة التي تسلطت على الأدب العربي لظروف خاصة سبقت الإشارة إليها في كلمات ماضية: من محاكاة للأدب القديم - وهو نادر آثار الخيال لأنه أدب بدائي - ومجانبه للآداب الأخرى ولا سيما الأدب الإغريقي.
وليس أدل على أثر الثقافة الإغريقية في تربية الخيال من أن إطلاع العرب على جمهورية أفلاطون حدا ببعض فلاسفتهم إلى محاكاته في تخيل الدولة المثلى، فكان من ذلك (المدينة الفاضلة) و (حديث حي بن يقظان) وغيرهما، مما هو داخل في موضوع الفلسفة لا الأدب، فلو درس العرب دب الإغريق دراستهم لفلسفتهم لكان ذلك أثره المحتوم.
فالأدب الإغريقي حافل بالخيال البعيد المرامي، مليء بالعوالم الزاخرة بشتى العظائم والمحاسن، واغتراف الأدب الإنجليزي من مناهله هو الذي أمده بفيض من الخيال لا يفنى: وضَّح أمامه مذاهب التخيل وأشكاله، وأمده بالخرافات والأقاصيص العديدة تحاك حولها أعمال الخيال في الشعر والنثر، وتفعم بصور الجمال وترصع بالآراء النقدية والنظريات الثاقبة في شؤون العالم وأحوال المجتمع، وتلك لعمر الحق مادة الأدب وصميمه.
أما الأدب العربي فظل الواقع قبلته والحاضر ديدنه، وحين ضرب في مرامي الخيال في الغزل الاستهلالي والمكرمات المصطنعة ينسيونها إلى الممدوحين والمرثيين إنما كان يفعل ذلك مطمئناً إنه يحذو حذو المتقدمين ولا يخرج عن الحدود المرسومة للأدب في عهودهم، فجاء ذلك الخيال غثاً ممجوجاً لا يتجاوز جانب الأوهام والتلفيقات إلى جانب التعبير الصادق عن الحقيقة العميقة.
وبينما أساغ الأدب العربي هذا الخيال الغث المتكلف نبذ ضروب الخيال المطبوع الصادق الذي يمت إلى الحياة والذي هو عماد القصة النثرية والشعرية، فترفَّع عن ذلك تاركاً إياه للعامة يروون به غلتهم، تلك الغلة التي يشعر بها كل إنسان وتنزع به إلى القصص وإلى الخيال.(165/29)
فخري أبو السعود(165/30)
6 - دانتي ألليجييري
والكوميدية الإلهية
وأبو العلاء المعري ورسالة لغفران
تتمة البحث
الإسراء والمعرج
اختلف المؤرخون ومفسرو القرآن الكريم في هذه الأساطير الكثيرة التي زخرف بها كل من حادثي الإسراء والمعراج، ولم يشأ الثقات منهم أن يتورطوا في تصديق كل ما عُزي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قاله؛ ورجح بطلان هذه الأحاديث اختلاف روايتها بالزيادة والنقصان في مختلف كتب التفاسير والسِّير. وقد وقف منها الإمامان - البخاري ومسلم - موقفاً حازماً فلم يثبتا في صحيحهما إلا هذا الحديث المشهور القصير الخاص بزيارة جبريل للنبي وركوبه (ص) البراق ثم الإسراء به فمروره ببعض قوافل العرب ثم بلوغه بيت المقدس، فصلاته بالأنبياء ثمة، فعروجه إلى السماء الأولى وفيها فلان النبي وإلى الثانية وفيها فلان، حتى يبلغ سدرة المنتهى.
ولعل أقدم المصادر التي أوردت زيادات على حديث البخاري ومسلم، ويبدو عليها أثر شديد من الصنعة والتكلف، هي سيرة ابن هشام التي نسج على منوالها كتاب السير الآخرون. وقد رفض صاحب الكشاف أن يثبت في تفسيره شيئاً من تلك الزيادات، ولكن مع الأسف الشديد، تورط مفسرون أجلاء مثل الطبري والألوسي وابن كثير وغيرهم فرووا كل ما وضع الوضّاعون وزخرف المبطلون من حواشٍ وتهاويل عن الإسراء والمعراج ثم تركوا كل ما رَوَوْا من غير ما تمحيص ولا تزييف، فكان عملهم تزكية صامتة لهذه الترهات التي لم تنفرج شفتا الرسول عن حرف واحد منها.
ولقد بدا لنا ونحن نقارن ما جاءت به أسطورة المعراج الموضوعة بما جاء في كوميدية دانتي؛ ولا سيما في الجزء الخاص بجهنم في كل منها، أن يكون هؤلاء الوضّاع قد سطوا على خيال دانتي نفسه فانتحلوه لحادث المعراج، ورَوَوْا، وليتبوءوا مقعدهم من النار، عن الرسول الكريم هذا الحديث الطويل عن فئات المجرمين الذين رآهم يتعذبون بمختلف ألوان(165/31)
العذاب في دركات السعير. . . خيل إلينا أنهم سطوا على دانتي، ولكنا عدنا فوجدنا هؤلاء الوضاع يسبقون دانتي بمئات السنين، فأسقط في أيدينا، وأوشكنا نقر القائلين بأن دانتي تأثر في كوميدياه بأسطورة المعراج الملفقة، بعد إذ نفينا ذلك، وهنا، رأينا المخرج صعباً، وفي فشل البحث الذي أخذناه على عاتقنا هوان علينا؛ ولكنا ما كدنا نلخص الجزء السادس من الأنيد للشاعر اللاتيني الخالد فرجيل حتى حصحصت الحقيقة أمام أعيننا، وحتى أيقنا أن كلا من دانتي ووضاع الأحاديث الملفقة عن حادث المعراج كلٌّ على فرجيل وعيال على خياله الخصب وتصوُّرِه العميق.
والمحققون من علماء المسلمين والمستشرقين على السواء على أن الترهات الكثيرة والزخارف الباطلة التي نقرؤها في غضون كتب التفسير (كالخازن وغيره) هي إسرائيليات انتقلت إلى الإسلام باعتناق بعض اليهود لهذه الحنيفية الغراء، فهم عندما قرءوا في القرآن أسماء أنبيائهم وبعض الحوادث المشهورة الواردة في كتبهم راحوا من تلقاء أنفسهم يقصون قصصهم الإسرائيلية على أنها إسلاميات يقرها كتاب الله وحديث رسول الله، ومن هنا هذا البهرج الكثير الذي دخل على القصص الإسلامي، ومن هنا أيضاً ضياع الحقيقة بين ما قال الرسول الكريم وما لم يقل.
على أننا لا ندري لماذا يكون كل ما دخل على الرواية الإسلامية إسرائيلياً ولا يكون أشمل من ذلك؟ لم لا يكون هندياً مع من اعتنق الإسلام من الهنود، ومصرياً مع من اعتنق الإسلام من المصريين، وفارسيا مع الفرس وآشوريا مع الآشوريين ويونانيا مع اليونان، ثم لم لا يكون لاتينيا مع من اعتنق الإسلام من أمم البحر الأبيض المتوسط، وفيها أسبانيا وصقلية وجزر كثيرة من جزر هذا البحر؟!
لقد ازدهرت الثقافة الإسلامية في فارس والعراق والشام ومصر وتونس والمغرب والأندلس وصقلية، بل هي كانت تمتد إلى أبعد من ذلك، إذ أثبت المحققون أنها كانت تغزو فرنسا وسويسرا وبعض المدن الإيطالية، ولم تكن ثقافة إسلامية بحتة، بل كانت خليطاً عجيباً من أشتات الثقافات، كانت مزيجاً أقله إسلامي وأكثره محلي بحسب الإقليم الذي تتفشى فيه. ومن الإرهاق أن تفرض الثقافة الإسلامية نفسها على الأمم المغزوة دون أن تتأثر هي بثقافات تلك الأمم، ونحن نعلم أن رومة حينما فتحت أثينا عسكرياً كانت أثينا(165/32)
تتوثب لفتح عدوتها ثقافيا، وقد تم لها ذلك بأسهل مما تم الفتح العسكري لرومة فأصبح الأثينيون أساتذة للرومان في بضع سنين، ولم يبدأ العصر الروماني الذهبي بالفعل إلا بعد أن تلقحت أذهان الرومان بهذا اللقاح اليوناني العجيب.
والمسلمون أيضاً. فعصرهم الذهبي لم يكن عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عصر الخليفتين أبي بكر وعمر، ولا عصر معاوية أو عبد الملك بن مروان أو الوليد بن عبد الملك، بل كان ذلك في عصر هارون وابنه المأمون في الشرق، وفي عصر عبد الرحمن الناصر في الغرب. أما العصور الإسلامية قبل ذلك فقد كانت عصور دعوة وجهاد في سبيل الله وتعليم المسلمين الجدد تعاليم الدين الجديد، فلما استقر له الأمر في البلاد المفتوحة جاء دور الحضارة وجاء دور التفكير الهادئ، وجاء دور التلقيح للذهن الإسلامي بثقافات الأمم المختلفة التي دخلت زرافات في دين الله، فأثرت في الآداب الإسلامية كما أثر الإسرائيليون سواء بسواء.
وقد رجعنا إلى عشرات من المصادر علنا نوفق إلى أصل لأحاديث المعراج الملفقة في المائة سنة الهجرية الأولى فلم نهتد إلى شيء منها، وأكبر ظننا أنها لم تكن قد لفقت بعد، وأكبر ظننا أيضاً أن الأمم اللاتينية لم تكن قد تحرشت بالمسلمين في هذه الفترة. . . أما بعد أن عرفت هذه الأمم الإسلام والمسلمين فقد راجت السير عن المسلمين وعن نبي المسلمين وعن الفتوح الإسلامية، وقد ازدحمت هذه السير بالأخيلة الرائعة والقصص الممتع الجميل الذي يستحيل أن يكون إسلامياً بحتاً، لأن نظرية رومة (فتحت أثينا عسكرياً وأثينا فتحت رومة ثقافياً) لابد أن تنطبق على المدينة من جهة، وعلى فارس والشام ومصر والأندلس من جهة أخرى. وما أشبه الرومان بالعرب وما أشبه الأعاجم بالأثنيين في تلك العصور السحيقة المتقادمة!
ولسنا نزعم أن وضاع الأحاديث الملفقة عن حادث المعراج قد انتحلوا ما جاء في الأنيد اعتباطاً، بل هم انتحلوه كما فعل الإسرائيليون حينما انتحلوا كل ما جاء في كتبهم أو أكثره فزوقوا به القصص الإسلامي. وإن مقارنة سريعة بين الجزء السادس من أنيد فرجيل وبين الروايات التي نَسَّقها وجعل منها قصة المعراج العالم المسلم نجم الدين الغيطي (999هـ) لتجعلك تتأكد صدق استنباطنا، وتتفق معنا على أن الأدب اللاتيني، ومنه أدب فرجيل، قد(165/33)
صبغ ناحية هامة من الأدب الإسلامي لم تكن مزدهرة قبل ذلك. ولولا مخافة الإملال لسقنا لك هذه المقارنة، فارجع أنت إلى الخلاصة التي أعطيناكها في العدد السابق للكتاب السادس من الأنيد، ثم ارجع إلى سيرة ابن هشام أو تفسير الطبري أو قصة المعراج لنجم الدين الغيطي تجد أننا لم نبالغ قط في كلمة مما قلناه.
صور تأثر بها دانتي من القرآن الكريم
كانت هزائم المسيحيين المتوالية في الحروب الصليبية والتي انتهت بفشل هذه الحرب تذكي نيران البغضاء والحنق في قلب دانتي على الإسلام والمسلمين، وقد رأينا كيف بلغ به عَتهُهُ وضيق عطنه أن زج بالرسول صلى الله عليه وسلم وبابن عمه علي وبالسلطان صلاح الدين في جحيمه، وكيف جعلهم مع الفجار وأهل الفسق والمهرجين في درك واحد. وليس معقولاً أن تنتهي هذه الحرب دون أن تكون لها نتائجها من احتكاك الأذهان بين الشرق والغرب ومن إلمام الغرب بشطر كبير عن الإسلام ونبي المسلمين وكتاب المسلمين، والذي يتلو ما جاء في السور المكية من نذير شديد وأوصاف ممتعة لجهنم ودركاتها لا سيما في سور الأعراف والصافات والواقعة وجزء عم يروعه تأثر دانتي بالقرآن الكريم فيما ذكره في الـ (الجحيم)، فبرغم وثوقنا من أنه سار على درب فرجيل في الجزء السادس من الأنيد في هذا الجزء من كوميدياه إلا أننا ندهش لكثير من وجوه الشبه بين ما جاء في جحيمه وما جاء في القرآن من وصف جهنم وأهلها. ونحن نحيل القارئ هنا أيضاً على السور التي ذكرنا وعلى الملخص الذي عملناه لجحيم دانتي.
ولا ريب أنه تأثر أيضاً بالقرآن الكريم في فردوسه، ولكنه أثر غير عميق، إذ كان ينهج في جنته منهاج فرجيل في الأنيد، وبحسبنا ما قدمنا من خلاصات.
دانتي والأدب اليوناني
المشهور عن دانتي أنه لم يكن يعرف اليونانية، ولكن هذا لم يمنعه من الإطلاع على الأدب اليوناني اطلاعاً وإن يكن أبتر قليل الغناء إلا أنه كان ذا أثر كبير في تكوينه الأدبي. ومما لا شك فيه أن دانتي قرأ ما قرأ من أدب اليونان في التراجم التي قام بها مواطنه الشاعر الكبير أوفيد تلك التراجم الخالدة التي حفظت لنا جانباً كبيراً من أساطير الإغريق وتراثهم(165/34)
الأدبي. ولعل رحلة هرقل ورحلة أرفيوس الموسيقي إلى الدار الآخرة كانتا ذواتي أثر كبير أو قليل في دانتي حينما كتب كوميدياه، ففيهما وصف بارع للجحيم نسج على منواله فرجيل في الأنيد.
دانتي ورؤيا يوحنا اللاهوتي والأدب المسيحي
وإذا كان دانتي قد تأثر بكل ما ذكرنا من هذه الآداب المتفرقة، فمما لا ريب فيه أنه تأثر بالأدب المسيحي عامة، والعهد الجديد خاصة، ونخص من العهد الجديد آخر أسفاره (رؤيا يرحنا اللاهوتي)، فهي رؤيا جميلة حقاً، وفيها من ألوان الخيال (الخيال الأدبي طبعاً) شيء كثير، ونحسب أن دانتي قد اقتبس الفصل الخاص ببحيرته في جحيمه من نفس المنظر الخاص بالبحيرة في هذه الرؤيا، بل نحسب أن الوُضّاع الذين لفقوا أحاديث المعراج الموضوعة قد دسوا هذا المنظر في أسطورتهم من رؤيا يوحنا نفسها. بيد أنه ينبغي ألا نغالي في مقدار تأثر دانتي بهذه الرؤيا كما ذهب إليه بعض إخواننا من الأدباء المسيحيين بل ربما كان تأثر دانتي بأخيلة القرآن (نقصد دائما معنى الكلمة الأدبي) أبعد مدى من تأثره بأخيلة الإنجيل، لأن القرآن وصف جنة النعيم وشقاء الجحيم بما لا يسمو إليه خيال شاعر مهما تفنن وأبدع، ولأن دانتي كان يرد بكوميدياه على أعدائه خاصة وأعداء المسيحية من المسلمين في زمانه عامة، ولذا كان يحسب أنه يحارب بسلاح أعدائه.
خاتمة
هذا ما عن لنا أن نقول في دانتي وأبي العلاء، وشتان بينهما! شتان بين أعمى المعرة الساخر الملحد الفيلسوف المتفنن القانع بالعدس والفول والتين والخيار من لذائذ الدنيا الخاتلة، وبين دانتي السني المتدين المتعصب للكنيسة ولو أذلت رومة وطنه ووضعت أنف فلورنسا في التراب، الساخط على مواطنيه لأنهم حرموه المناصب التي تدر عليه العسل واللبن، المتبرم بزوجه، الناقم على أطفاله، المقلد لغيره في كل خطوة من قصيدته.
ليس ضيراً إذن على أبي العلاء ألا يكون دانتي قد قلده ونسج على منواله، بل الضير كل الضير هو في مقارنة قصيدة دانتي برسالة أبي العلاء، فلقد كان دانتي عالة على فرجيل في الكوميدية الإلهية كما شهدنا، ولكن أبا العلاء لم يكن عالة على أحد، بل كان الشاعر ذا(165/35)
الخيال الخصب والفكر الجبار والقلب المتمرد على الأديان وما تقول به من جنة ونار. هذا ولا ننكر أن أبا العلاء كان خضعاً في رسالته لتداعي المعاني كما ذكرنا في الكلمة الأولى من هذا البحث.
د. خ(165/36)
توكيد الذات
للأستاذ أديب عباسي
لمحت في ذات صباح، وأنا في الشمس انفض عن نفسي بقية من ليل، هرَّا مهزولا يسير متوجِّسا متسرِّقا على مقربة مني؛ ولم يطل بهذا الهرّ ارتيابه وتوجسه، وتحقق له سوء ظنِّه بكلاب الحي، إذ لم يمض إلا قليلاً حتى أقبل عليه من إحدى الجواد القريبة كلب بطِر شديد الجلب شديد العزم على أذيته، كأن له ترة قديمة عنده وحسابا ينوي وفاءه.
وأدرك هرنا أي شيء لا بد لاحق به، وأدرك كذلك أن الهرب ليس بمنجيه ولا مخلصه من هذا الذي أخذ عليه الطريق وسد المهرب. فاستدار في الحال وازبأر وهرَّ هريراً وأبدى عن أنيابه، وأتأر بالخصم بصره، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وتنفش شعره، وتقوس ظهره، وشال ذنبه، ووقف يتحفز.
ولم يفت كلبنا المعتدي مغزى ذلك جميعاً، ووقف تلقاءه يرمقه ويروزه ببصره ملياً، حتى إذا بدا له أن الهجوم من الناحية الأممية - وقد حصنتها مخالب مرهفة وأنياب حديدة - قد لا يخلو من خطر أكيد، انفتل منسلا كدأب الكلاب، وباغته من الخلف مباغتة استطار لها لبُّه وانخلع قلبه. وأقبلت كلاب الحي تتعاوى من بعيد ومن قريب، وكلها في البغي والاثم سواء، فكأنها وكأنه ما عناه الشاعر حين قل:
تكاثرت (الكلاب) على خراش ... فلا يدري خراش ما (يصدُّ)
وهممت عندها أن أقوم وأنجد هرنا المسكين وأذب عنه هذه العرجلة الباغية من الكلاب، إلا أن هرنا لم يدع لي لأتدخل، وحلَّ الإشكال بطريقة مسددة من إلهام الطبع، وهداية الغريزة، واستعداد الفطرة، إذ عمد إلى هذه الكلاب يستلُّ سخيمتها ويزيل شرَّتها بالاستسلام لها والكف عن قتالها، ولسان حاله يقول:
ولو كان (كلبا) واحدا لاحتملته ... ولكنه (كلب) وثانٍ وثالث
ولم تنتظر الكلاب منه حركة كهذه، فوجمت حياله تفكر ماذا هي صانعة بعد الذي رأت من استسلامه وانقطاعه عن كل مظهر من مظاهر الخصومة والدفاع، وكأن كلابنا فهمت عنه ما أراد وفطنت إلى مغزى حركته تلك، وأدركت دلالتها ومعناها، فابذعرَّت قانعة بما هيأ لها هرنا المغلوب من معاني الفوز والغلب؛ وقام هرنا وسار لطيَّته يرهف سمعه ويقِّلب(165/37)
بصره ذات اليمين وذات الشمال، ويُعد نفسه مرة ثانية لتمثيل الدور نفسه إذا أحوجه الأمر.
وفكرت ملياً فيما شهدت وطفقت أسائل نفسي: أنحن هنا أمام ظاهرة خاصة من ظواهر الحياة قاصرة على الكلاب وخلافها من ذوات الظفر والناب، أم نحن أمام ظاهرة عامة شاملة من ظواهر الحياة تشمل الإنسان والحيوان جميعاً ويخضع كافة الأحياء لحكمها وقيودها؟
ولم يطل أمد الهجس والارتياب، وأيقنت بعد القليل من التدبر أنه حالة عامة شاملة كأعم وأشمل ما تكونه حال من أحوال الحياة وظواهرها.
وتسأل: ما تلك الظاهرة، وما طبيعتها؟ ولا نطيل فهي مما وصفنا ورأيت ما يمكن أن ندعوه (توكيد الذات) وإبراز الشخصية. فكلبنا المعتدي الأول لما هاجم الهرّ بلا عداوة سابقة أو حقد قديم، إنما فعلها ليثبت من قدرة نفسه وحدة أنيابه وقوة عضله، وليؤكد لنفسه أنه ذو غلبة وبطش، ومثله في ذلك الكلاب الأخرى، وعليه لما رأت الهر يتخاذل ويتنازل لها جميعاً عن كل حق من حقوق توكيد الذات غادرته ولم تؤذه.
وأنت ترى مما أثبتنا هنا من عمل الكلاب أن هذا الدافع إلى توكيد الذات في الحيوان دافع فطري غريزي لا يخرج بمجمله عن معنى القتال المباشر الذي تمارسه جميع الحيوانات على اختلاف طفيف بينها في أساليبه وطرائقه.
أم في الإنسان فيتخذ هذا الدافع من توكيد الذات وتقريرها شتى المظاهر ومختلف الأشكال والصور، ولن تخطئ مظاهره - في لون من ألوانه - في الطفل واليافع والشاب والشيخ جميعاً.
والطفل يبدأ سلوكه يتأثر بهذا الدافع من العام الأول في عمره، وكلنا يعرف جيداً ما هي الأساليب التي يصطنعها الصغار لينبهوا إليهم الكبار ويستجلبوا رضاهم وتقديرهم، ومن هنا كان الفهم الصحيح للطفولة يوجب على المربين الانتباه الشديد لهذا الدافع والانتفاع به في توجيه الصغار توجيهاً صالحاً وتحريضهم على الإجادة والتبريز في حدود إمكانهم وكفاياتهم. وفي الحق ليس أقتل لروح الطموح في الطفل ولا أدعى لفشله من أن يغفل الآباء والمربون هذا الطور الدقيق في حياة الطفل ويتركوه وشأنه بلا تشجيع ولا استحسان حيث يستحقان، أو يعكسوا الأمر عليه ويملئوا سمعه بالنقد ويقابلوا حماسته بالفتور وثقته(165/38)
من نفسه بالتشكيك والريبة. ولا نغالي إذا نحسب أن أكثر الفاشلين في الحياة هم ممن كانت طفولتهم نزاعاً بين إهمال الوالدين وقسوة المحيط وبين ما ركِّب في نفوسهم وغرس في طباعهم من ميل جامح قوي لتأييد النفس وتوكيد الذات. وكم من طفل أعجزه أن يحوز رضى البيئة وتقدير الوالدين بأساليب مقبولة ووسائل سليمة، فراح بعدها يصطنع أغرب الوسائل وأخطرها في حاضر حياته وآتيها، كأن يعمد إلى نفسه يؤذيها أذى بليغاً أو يعمد إلى الغير يؤذيه مثل ذلك الأذى، أو كان يعمد إلى الآنية يحطمها والثياب يمزقها ولسان حاله يقول: هو ذا أنا أثبت كياني وأؤكد اقتداري وكفايتي بما ترون إن كان لا يعجبكم ولا ينبهكم إلي إلاَّ مثل ما تشهدون.
وليس من المتعذر أن تتصور حال مثل هذا الطفل، إذ يشب، كيف تكون. وليس من الصعب أن تتبين في مثل هذه الأعمال الشاذة أولى بوادر الإجرام والخروج على النظام وأوضاع الاجتماع. يحكى أن أفراد الشرطة في أمريكا ألقوا القبض، بعد لأي، على لص خطير اعتاد أن يتصدى للقطارات ويسلبها، واقتادوه إلى قاعة التحقيق. وبعد استجواب سيكولوجي دقيق دهش المحققون إذ استبان لهم أن هذا اللص كان في طفولته وحداثته كأشد الناس حياءً وخجلاً. ولما سئل فيم إصراره على أعمال العنف والإجرام أجاب بأنه إنما يفعلها ليؤكد لنفسه أنه ليس من الحياء وخور العزيمة كالذي يحس ويشعر.
هذا ويجب ألا يفوتنا أن معظم أنظمة التربية الحديثة مبنية على هذا الميل مستهدية به. فنظام الصفوف والمباريات والجوائز وما إليها من وسائل التحضيض والتشجيع تتهدى هذا الميل وتستغله. وليس من السهل أبداً أن تستبدل بهذا الدافع للعمل والإغراء به دافعاً آخر من ميول النفس وأهوائها.
ويشب الطفل فيجد نفسه بين الأمر الواقع من جد الحياة وبين هذا الميل القوي الذي لا يغفل ولا يهادن، ويجد نفسه بين العدد الذي لا يحصى من مثبِّطات العزم ومفترات السعي وبين ما أجَّج في نفسه وغرس في طبعه من حبِّ الغلب وشهوة الفوز وبروز الشخصية. فإذا أسعدته الهمة ولاءمته الظروف وسار سيرة ناجحة في الحياة نشأ نشأة بعيدة إجمالاً من شذوذ الطبع وغرابة الخلق وما يصاحبها من شذوذ العمل وانحراف السلوك. أما إذا عاندته الظروف وخانته الكفاية فهناك ما تشاء من شذوذ الطبع وغرابة السلوك. ولدينا صنوف(165/39)
وصنوف ممن ينشئون هذه النشأة الشاذة في الحياة.
فالمتقشفون هم إجمالاً نفر فشلوا في الحياة بعد أن خوَّضوا فيها، أو قدروا الفشل قبل ذلك، فاختصروا على أنفسهم العمل ووقفوا في أول جادة الحياة وبداءة السعي دون أن يحاولوا مضياً في الطريق وزيادة في السعي. لقد أعياهم أن يغلبوا بيئتهم ويتغلبوا على ضعفهم، فانقلبوا على أنفسهم - وهي أهون شيء عليهم - وأحالوا عليها بالخصومة وأضووها بالحرمان وتعوَّضوا بخصومتها عن خصومة المحيط والأضداد من الخارج. ولسنا بالطبع نعزو إلى هذا العكس في ميول الاستعلاء ورغبة البروز وتوكيد الذات جميع نماذج التقشف وإنكار الذات المشهودة، إذ لا ريب أن من حوادث التقشف ما لا يرجع في بواعثه إلى فشل المرء في الحياة كالذي يُرى من تقشف أناس قد تهيأت لهم أسباب النجاح في الحياة وذاقوا لذات الفوز والغلب ولكنهم مع ذلك آثروا حرمان الذات ومطاردة اللذات. على أننا نعود ونقرر أن معظم حوادث التقشف هي في مجملها وسيلة العجز في تقرير الشخصية وتوكيد الذات.
والحسد - كذلك - تعبير صامت واتجاه سلبي معكوس لدافع توكيد الذات. والحسد ينشأ ويتأصل في النفوس كلما تسامت مطالب المرء وبعدت غايته ثم أعجزته القدرة وعاكسه المحيط فلم يسم، عملاً وواقعاً، إلى مستوى مطالبه. ومن هنا يحسب الأخلاقيون وعلماء النفس أن الحسد ظاهرة عامة شاملة بين الناس إذ كان النجاح المطلق الذي يرضى عنده المرء عن كل شيء في الحياة مطلباً صعباً وغاية لا يسمو إليها جهد بشري. ويخيل إلينا أنه لو يسر لامرئ من الناس كل أمانيه ومهدت في سبيله جميع الصعاب ودمثت جميع العقبات وأنيل كافة ما تتشهاه النفوس وتصبو إليه، لفكر بجد وحرقة زائدة في أن ينال كمنزلة الآلهة من خلود مطلق وعلم كامل وقدرة فائقة. ومرجع ذلك أن المرء بطبيعة تكوينه النفسي والفكري مثالي يكره النقص أبداً ويتطلب المزيد والكمال، والكمال لا حد له ولا انتهاء. وهذا لا ريب يفسر لنا لماذا ينسينا نجاحنا الكبير نجاحنا الصغير، ولماذا ينسينا فشلنا الأكبر أبداً فشلنا الأصغر.
والرجل الحساس هو الآخر صنف خاص من الناس فشل في أن يؤكد نفسه ويرغم المحيط على اعتبارها وتقديرها بالقدر القائم له منها في خياله، فغدا - لذلك - سيئ الظن بالناس(165/40)
كثير الارتياب لهم، وصار لكل حركة من حركاتهم معنى الاجتداء عليه والانتقاص له والزراية به، وغدا - كذلك - قليل الاحتمال دائم النفرة سيئ التقدير.
ومثل الحسَّاس - على اختلاف طفيف - الرجل الحيّ. هذا إذا فشل في توكيد نفسه وتمييز شخصه، قام في وهمه أنه امرؤ لا يصلح للعمل ولا يقوى على الجهاد، فانزوى منطوياً على نفسه عاكفاً على همومه مجترّاً لآلامه. إلا أن بينه وبين الحسَّاس فرق أن الحسَّاس يعالن الناس غالباً بما يقدر من سوء رأيهم فيه ويحتجُّ على ذلك ويدافع عن نفسه، بينما الحيُّ في غالب أمره لا يفعل شيئاً من ذلك بل يتجرع آلامه صابراً متحاشياً، بقدر الامكان، أن يجيء والناس بسبيل واحد. ومرجع الفرق هنا إلى أن الحساس له رأي طيب في نفسه بالإضافة إلى ما يتصور من سوء رأي الغير به، بينما الحيُّ يسيء الظن بذاته ويعتقد أن الناس لهم فيه مثل رأيه في نفسه.
ينضاف إلى هذه المظاهر المعكوسة من توكيد الذات مظهر آخر هو مظهر الإسراف في الغرور وتقدير الذات. وهو ينشأ إذ يشبُّ المرء - لأسباب عدة من إساءة التوجيه - على اعتقاد قوي أنه امرؤ فوق الناس، وأن من سخافة الأقدار وغفلة الزمان وجور البيئة أو يولد بين الناس، يعيش كما يعيشون، فيشقى كما يشقون وينعم كما ينعمون ويكتفي من الأماني والآمال بمثل ما يتمنون ويؤملون، ويخيَّل إليك كأنه عاتب على ربه الذي خلق من الناس غيره!!
هذا وقد يتخذ الغرور مظهراً آخر غير مظهره العام حده التشدُّق بالكمال ونقد الزمان والتبرم بالبيئة، ويسير في اتجاه معاكس أو موارب كالذي يُرى في نفرٍ من الناس لم يستطيعوا أن يفرضوا أنفسهم على المحيط ولم يستطيعوا أن يجاهروا بكمالهم ويعالنوا الناس بكفاياتهم واقتدارهم (كما يقدِّرون لأنفسهم)، فانقلبوا - لذلك - صنفاً متواضعاً من الناس لا يهمهم - ظاهراً فقط - أن يتلبَّسوا حالات زريَّة وينتقدوا أنفسهم على مشهد ومسمع من الناس. وقد تغشُّ غير الفطن مثل هذه المظاهر حتى ليعتقد الملاحظ السطحي الذي لم يسبر غور الأمور أن هذه المظاهر تصدر عن عقيدة صادقة بالنفس وإخلاص في التقدير. إلا أنها مظاهر - على كل حال - لا تخفى على المتبصِّر الذي لا يخدعه ظاهر الإخلاص وجودة التمثيل. يحكى أن سقراط رأى فتى أثينياً موسراً يعتلي منصة الخطابة(165/41)
في أسمال بالية وثياب مهلهلة، فنظر فيه سقراط متفرِّساً زمناً ثم خاطبه بلهجة صارمة: أيها الأثيني الشاب، إني لأكاد أرى الغرور والكبرياء ينزَّان من اهابك، ويطلاَّن من وراء كل خرق ورقعة من ثيابك!
تلك بعض المظاهر المسرفة لدافع توكيد الذات. وأما مظاهره الطبيعية التي لا إغراب فيها ولا شذوذ فتقع في أشكال وألوان عديدة لا تقل عن مظاهر الشذوذ والغرابة.
من ذلك هذا الميل العام الشامل لدى جميع الأمم والأجناس إلى التقسيم والتدريج وتأليف الطبقات يتميز بعضها من بعض ويعلو بعضها بعضاً، ثم هذا السعي الدائب والاشرئباب الدائم من الناس إلى تغيير الأمكنة وتبديل المنازل حيث يستحب التغيير والتبديل، ثم ذلك الجمود على ذات الحال والحرص على البقاء في ذات المنزلة حيث لا يشتهى التغيير والانتقال، ولعله ما كان يتحوَّل أبناء الطبقة من الطبقات ولا يتزحزحون عن محلهم صعوداً ولا هبوطاً لو خلا الناس من حافز توكيد الذات والاستباق إلى الأمكنة العلية والمنازل البارزة.
وكما يقع التزاحم على المنازل الرفيعة بين الطبقات يقع كذلك بين الأجناس والأمم والممالك والدول. ولعل دافعاً قوياً من دوافع الحروب كان يزول لو زالت من النفوس رغبة الامتياز وهوى الاستعلاء.
وفي الناحية الفردية يظهر الميل إلى توكيد الذات توكيداً طبيعياً مقبولاً في مظاهر عديدة؛ منها رغبة التميز والتبذير في الاكتشاف والاختراع والإبداع الفني والأدبي؛ ومنها رغبة البروز والامتياز في مجال الاقتصاد وجمع الثروة؛ ومنها حب الغلب والانتصار في ميادين الرياضة البدنية من محاضرة ومصارعة وملاكمة وخلافها؛ ومنها - كذلك - حب الانتصار في ميادين الرياضة العقلية والترويح عن النفس بالنكتة البارعة والفكاهة الطليقة والهزل المستجد؛ ومنها حب التبريز والسمو في ميادين القيادة الاجتماعية؛ ومنها شهوة التغلب والقهر في ميادين الحب والغزل، ومنها خلاف هذا شيء كثير.
فرغبة الامتياز وشهرة البروز في ميادين العلم والاكتشاف والاختراع، وفي ميداني الإبداع الفني والأدبي، هي في أول دوافع الإنشاء والإبداع العلمي والفني. وليست الرغبة في الاختراع والاكتشاف، وفي الإبداع الفني ناجمة فقط مما ركب في النفوس من غرائز(165/42)
الاستغراب وحب الطرافة وما يكون من تسامي دوافع الغريزة الجنسية من مستواها الحسي إلى مستوى أعلى وأجل، إنما هي ناجمة إلى حد كبير مما رُكِّب في الطباع من ميل قوي إلى تقرير الذات والتغلب على الصعاب والعقبات.
وفي مجال جمع الثروة وحشد المال مظهر توكيد الذات ما تراه من عدم وقوف الناس في جمع الثروة عند الحد الذي ييسر جميع مطالب العيش وأسباب الرفاه والدعة. فالمرء يعمل أولاً لرد غائلة الجوع وسد الحاجات الضرورية، فإذا تيسر له مقدار من الثراء يحقق له سد الحاجة وطرد الفاقة انتقل حافز الإنتاج من مجال الحس إلى مجال الشعور، وغدا هدف الإنتاج وتكثيره لذة التميز والانفراد بالشيء. ومن هنا قلما نرى ربّا من أرباب المال يعتريه الفتور والوناء في الجمع والإنتاج، لأن في ذلك وسيلة صامتة يكاثر بها الأعداء ويراغم الخصوم ويدل على الأقران. وهذا الدافع لا ريب يفسر لنا تفسيراً مقبولاً كثيراً من أنواع الاستملاك السخيف، كشهوة جمع الطوابع وتواقيع العظماء ومخطوطات الكتاب، وخلاف هذا مما لا قيمة له في ذاته، وإنما كل قيمته ما يشعر مالكه بلذة الانفراد بالشيء والامتياز عن الناس ولو بالسخيف الذي لا قيمة له في ذاته ولا وزن.
وفي ميادين الرياضة البدنية من أثر هذا الدافع أن اللاعبين والمتثاقفين والمتحاضرين يقررون أشخاصهم ويؤكدون ذواتهم لدى النظارة والمشاهدين. ولولا ذلك لظلت الألعاب الرياضية ظاهرة فردية أكثر منها ظاهرة اجتماعية. وأنت تلمس أثر ذلك جيداً من الحماس الذي يستولي على قلوب اللاعبين كلما كثر عدد المشاهدين وزاد تحريضهم وتحمسهم للاعبين. ولو كان ترويض الأجسام وحده هو المقصود من الألعاب الرياضية لاكتفى اللاعبون بملاعبة ذواتهم ومثاقفة أنفسهم وحسب.
وفي ميدان الرياضة العقلية والترويح عن النفس بالنكتة والهزل يقع هذا الميل موقعاً أول. وما يؤلف من نكتة ويروج من نادرة ويذيع من فكاهة مرجعه في الأصل ميل النفوس إلى التسرية بالظهور والبروز والاستعلاء على الخصم المشهود أو الغائب. فنحن إذ نضحك من موضوع النادرة أو الفكاهة، إنما نضحك لأنها تضع لنا شخصاً أو أشخاصاً موضعاً غريباً ضعيفاً يثير فينا حس الاستعلاء والبراءة من الغفلة أو الجهل أو البقاء. على أن النادرة - في الأحوال الطبيعية - تعجز العجز كله أن تستثير الضحك فينا إذا بلغ الضعف في(165/43)
موضوعها حس الاستعلاء، ويثير بديلاً منه حس الإشفاق والخشية أن يصيب هذا الموضوع شرٌّ أو أذى بليغ. ومن هنا قد يصور لك الكاتب صورة هزلية تستثير الضحك والابتسام، ولكنك لا يسعك إلا أن تجم وتكف عن الابتسام والضحك متى بلغ كاتبك بموضوع هزله حداً مخطراً كأن يتعرض لخطر أكيد أو يضحى على حال تدعو إلى الإشفاق والأسى، ولن يعيدك إلى استشعار الغبطة والسرور إلا أن يعيد لك الكاتب موضوع هزله إلى مثل حاله الأولى التي لا تبلغ من القوة إضعاف حس الاستعلاء فيك ولا تبلغ من الضعف توليد حس الإشفاق والأسى في نفسك.
والميل إلى توكيد الذات وما يستتبعه من شهوة البروز ورغبة الاستعلاء تعمل عملها الأكيد في ميدان العمل الاجتماعي وفي مجال القيادة الاجتماعية، إذ كان الانقياد وحب التعاون يستحيلان على الجمهور إذا لم يقم فيه القادة الذين يفرضون ذواتهم فرضاً على الناس ويقودونهم قيادة حازمة قوية إلى حيث يشاءون لهم من رفعة وخير وصلاح.
وقد يستدرك القارئ هنا ويسأل: أيكون الميل إلى توكيد الذات وشهوة البروز في مجال القيادة والزعامة عامل خير ووسيلة صلاح في ميادين العمل الاجتماعي، ونحن نشهد من آثارهما هذا الميل المسرف والتكالب المزري على أسباب البروز والرفعة في ميادين الزعامة المختلفة، وإن يكن ذلك - في كثير الأحيان - على حساب الأماني العامة وإهدار المصالح الكبرى للشعب؟
ونجيب أن الميل إلى توكيد الذات عن طريق السيادة الاجتماعية ككل ميل آخر من ميول النفس يضحي أداة فاسدة ووسيلة هادمة إذا خبثت النفوس وأسفت الغاية، وعلى أن في يد الشعب - في معظم أمره - القدرة على كبح هذا الميل وحصره ضمن حدود الصالح العام، بما يداول من ثقته بين الزعماء والقادة وبما يشهر بالقيادة النفعية المتاجرة وبما يوليها من المقت والمحاسبة الشديدة، مما يقمع في القيادة عواطف الأثرة وحب الانتهاز والاستغلال حيث تهم أن تبرز وتستعلن. ولا مراء في أن الانتهاز والاستغلال عن طريق القيادة الاجتماعية يقلان في شرفنا إجمالاً قلة مطردة بما تحدثه التربية من رفع مستوى التعليم والتنبه الفكري وتعميق غور العواطف الاجتماعية.
وأخيراً أثر هذا الميل في ميدان الحب، فنرى أن دافع توكيد الذات هذا يعمل عمله القوي(165/44)
في طلب التنويع في الحب وعدم الاكتفاء بحبيب واحد يقصر عليه الهم وينيط به القلب إلى آخر العمر. وذلك أن من الناس من يبلغ حس الاستعلاء وشهوة الغلب ورغبة البروز عندهم مبلغاً يطغى عندهم على عاطفة الحب الصحيح فيغدو لا يهمهم من يحبون بقدر ما يهمهم كم من الخلق وقع في حبائل حبهم، فكأنهم بهذا يقيسون قدرتهم على الغلب والفوز في ميادين الحب بعدد اللواتي يهمُّهن ذكرهم واستحوذت على قلوبهن صورهم.
ونقف عند هذا الحد من التفصيل والتمثيل لهذا الميل في أحواله الطبيعية والشاذة موقنين أن الاستقصاء التام والجلاء الكامل لجميع آثاره إنما هو استقصاء لأعظم حالات النفس أثراً مطبوعاً في الخلق والسلوك وأشدها دافعاً وحافزاً على العمل، وليس هذا المجال مجال ذلك.
أديب عباسي(165/45)
من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
لغة الأحكام والمرافعات
للأستاذ زكي عريبي
- 4 -
لغة المرافعة لغة التماس
ويجب ألا يغرب عن الذهن أن المترافع ملتمس، فلغته يجب أن تكون لغة التماس يحوطها الاحترام الكلي للهيئة التي يترافع أمامها. قد يكون أغزر من سامعيه علماً وأظهر فضلاً، وقد يكون كلامه لهم تعليماً، ولكن عبارته يجب أن تكون عبارة إكبار وإعظام.
والاحترام والإكبار لا يقتضي التذلل ولا الضعة في توجيه الخطاب. وشد ما أكره عبارة (سيدي البيه) يوجهها بعض الزملاء إلى قاض ليس (بيكا) ولا هو بحاجة إلى رتبة تخلع عليه على سبيل التأدب الزائد وقد يحمل خلعها على أنه زلفى وتقرب.
وفي الوقت عينه لغة جرأة
على أنه إن كانت لغة المرافعة لغة تعظيم وتوقير فهي في الوقت عينه لغة عزة وجرأة. وقد روى التاريخ مواقف للمحامين رقوا فيها إلى درجة البطولة. أنظر إلى ديسيز وقد دعاه لويس السادس عشر إلى الدفاع عنه أمام الجمعية التأسيسية في وقت جمعت فيه هذه الهيئة في يدها جميع السلطات، وأصبح مجرد الإشارة إلى الملوكية جريمة. أنظر إليه وهو يواجه هيئة ضمنها أمثال روبسبيير ودانتون ومارات. أنظر إليه وهو يقرع أسماعهم وقلوبهم بهذا الخطاب الخالد.
(أيها المواطنون! سأخاطبكم بلسان الرجل الحر. إني أبحث بينكم عن قضاة فلا أجد غير متهمين.
أتريدون أن تجعلوا من أنفسكم قضاة (للويس) وأنتم خصومه؟ أتريدون أن تجلسوا للحكم في قضية لويس ولكم فيها رأي يجوب أوربا من أقصاها إلى أقصاها؟
أيكون لويس الفرنسوي الوحيد الذي لا يحميه قانون ولا يتبع في محاكمته إجراء واحد صحيح؟(165/46)
أيجرد من امتيازاته كملك ومن حقوقه كمواطن؟
أيخذله القانون حاكما ومحكوماً؟
ياله من مصير عجيب لا يتصور!)
لقد ضربت أعناق كثيرة في عهد الثورة لكلام أقل خطورة من هذا بما لا يقاس. ولكن لأعمال الجرأة روعة تهاب وتحترم، فأن التاريخ الذي حفظ هذه المرافعة الخالدة بين صحفه الذهبية. هذا التاريخ عينه يحدثنا بأن شعرة من رأس ديسيز لم تمس بسبب هذا الكلام الجريء وأنه ترافع بعد ذلك أكثر من مرة في أشد أوقات الثورة حلوكة وسوادا.
الاعتدال في لغة المرافعات
وليس أزرى بالمرافعات ولا أضيع لبهجتها ولا أفل لسلاحها من سفه لغتها. إن عبارة قاذعة واحدة يرمى بها خصم كريم - أو غير كريم - لتكفي في تنفير القاضي.
وليس بعد النفرة تفويت للغرض الأصيل المقصود بالمرافعات.
وأقبح من رمى الخصم بما لا يحب جرح الزميل.
صحيح أن المرافعة دفع وجذب، ونادر هو المترافع الذي يملك زمام أعصابه فلا تجمح به حدة الدفاع؛ ولكن المسألة مسألة مران، وإنك لتدهش وقد عودت نفسك التزام حدود الاعتدال كيف يسمو موقفك، وتعلو حجتك ويمتاز بيانك.
المرافعات في مصر
بقيت كلمة كان يمكن أن تكون موضوع مقال خاص، فلسنا نملك الإطالة فيها هنا، وهي عن المرافعات في مصر.
لقد انقضى على إنشاء المحاكم المختلطة نيف وستون عاماً، وأقل منها قليلاً على قيام المحاكم الأهلية، وقد غلبت على الأولى اللغة الفرنسية، وكانت العربية لغة الثانية منذ الإنشاء وقبله.
وقد زهت اللغة في كلا القضاءين إلى حد يشهد لمصر بالتفوق البعيد.
حضرت الأستاذين كاتسفليس وبادوا (وكلاهما شرقي متمصر) يترافعان في قضية قناة السويس. وكان إلى جانبي الأستاذ جرانمولان الناظر الأسبق لمدرسة الحقوق، فهمس في(165/47)
أذني والأول مندفع في بيانه الساحر: (لا تطمع أن تسمع خيراً من هذه الفرنسية من خير المترافعين أمام محكمة السين).
وفي المحاكم الأهلية سابقت لغة المرافعات الزمن فسبقته.
لقد وجد مداره مقاويل - على حد تعبير رئيس محكمة النقض - قبل أن تخطو اللغة العربية خطواتها الأخيرة الواسعة.
وجد (حسين صقر)، و (اللقاني)، و (نقولا توما) وغيرهم من بناة المجد في زمن كانت المحاماة فيه مجرد اجتهاد.
وثمة نموذج من هذا المجد الغابر تجده إلى اليوم قائماً بيننا في شخص شيخ الجماعة وإمام الصناعة الأستاذ الأكبر إبراهيم الهلباوي بك.
من ذا يستطيع إلى اليوم تحدي بديهته الوثابة ولغته الفكهة اللاذعة وسخره القتال؟
ومن ذا الذي يستطيع أن ينسى سعد زغلول وأبا شادي من جبابرة ذلك العصر وكلاهما كان إلى الأمس القريب صداحاً بأروع الأدب.
وجاءت بعد هؤلاء طبقة هي فخر المحاماة بمعناها الصحيح وفخر لغة العصر: أحمد لطفي بلغته السهلة الممتعة وعبد العزيز فهمي بقلمه ولسانه الجبارين يتصرفان في المعنى وفي المبنى بما يريد ويشتهي. ووهيب دوس صاحب المنطق الجزل والديباجة الرشيقة والبيات المتدفق في غير متعة ولا تزيد. ومرقس! مرقس الذي لا يلحق ولا يدانى، مرقس الجذاب الأخاذ، المتغلغل بسامعه إلى الأعماق، السامي به إلى السبع الطباق.
كل من هؤلاء يستحق أن يدرس دراسة خاصة، وأن يقدمه إلى الناس قلم غير هذا القلم، وأن تقف عليه جهود لا تستطيعها هذه العجالة.
وفي دراسة هؤلاء الفحول دراسة لناحية مجيدة من أدبنا القومي يجب ألا تهمل. وحسبك منا هنا الإشارة إلى آثارهم في مختلف ألوان فني الكلام القضائي مما لا يحصيه محص.
مرافعات النيابة
ومن الإجرام أن نغفل في صدد الكلام على المرافعات في مصر جهود القائمين بالدعوى العامة.
لقد ضربوا في فني الكلام القضائي بسهم ورقوا بالمرافعات الجنائية إلى عليين.(165/48)
من نذكر على سبيل المثال؟
أثروت أم أبو السعود من المغيبين في جوار الله؟ الأبراشي أم لبيب عطية أم عمر عارف من الأحياء النابهين؟
كلهم يصح أن يحتذى.
اسمع ما يقول النائب العام الأسبق في قضية الورداني
(إن الوطنية التي يدعي الدفاع عنها بهذا السلاح المسموم لبراء من مثل هذا المنكر.
إن الوطنية الصحيحة لا تحل في قلب ملأته مبادئ تستحل اغتيال النفس. إن مثل هذه المبادئ مقوضة لكل اجتماع.
وماذا يكون حال أمة إذا كانت حياة أولي الأمر فيها رهينة حكم متهوس يبيت ليله فيضطرب نومه وتكثر هواجسه فيصبح صباحه ويحمل سلاحه يغشاهم في دار أعمالهم فيسقيهم كأس المنون؟
ثم إذا سئل في ذلك تبجح وقال إنما أخدم وطني لأني أعتقد أن مثلهم خائنون للبلاد ضارون بها: تباً لتلك المبادئ وسحقاً لها! كيف يقوم لنظام قائمة مع تلك المبادئ الفاسدة؟ إن مبادئ كل اجتماع ألا ينال إنسان جزاء على عمل مهما كان هذا الجزاء صغيراً إلا عن يد قضاة اشترطت فيهم ضمانات قوية وبعد أن يتمكن من الدفاع عن نفسه حتى ينتج الجزاء النتيجة الصالحة التي وضع لها من حماية الاجتماع.
فإذا كان هذا هو الشأن في أقل جزاء يلحق بالنفس أو بالمال فما بالك بجزاء هو إزهاق الروح والحرمان من الحياة؟
تلك مبادئ لا وجود لمجتمع إلا بها ولا سعادة له بدونها، فالطمأنينة على المال والنفس هي أساس العمران ومن الدعائم التي ادعم عليها في كل زمان ومكان، ولكن الورداني له مذهب آخر في الاجتماع، فهو يضع نفسه موضع الحكم على أعمال الرجال فما ارتضاه منها كان هو النافع، وما لم يرتضه كان هو الضار. ويريد أيضاً أن يكون القاضي الذي يقدر الجزاء ثم يقضي به من غير معقب ولا راد.
كل ذلك والأمر لم يتعد إرجاء صدره ولا يعلم ذلك المسكين الذي سينصب عليه هذا القضاء أنه على قيد شبر من الموت جزاء له على جناية لم يسأل عنها ولم يعلم من أمرها شيئاً.(165/49)
إن مثل هذا الحق لا يمكن أن يكون إلا لله سبحانه وتعالى المطلع على السرائر العليم بالنيات، ومع ذلك فأنه جل شأنه شرع الحساب قبل العقاب؛ ثم إن هذا الحق لم يتطلع إليه أحد من العالمين حتى الأنبياء أنفسهم، وقد أجمعت الشرائع على عصمتهم من الزلل والخطأ، ولكن الورادني يريد أن يضع نفسه فوق كل الدرجات المتصورة لحاكم وحكم وقتل.
إني لترتعد فرائصي إذا تصورت منظر البلاد وقد نشأ فيها البلاء الأكبر بفشو تلك المبادئ القاضية).
واسمع ما يقوله النائب العام السابق خاتماً به مرافعته الرائعة في قضية الفلال.
(لقد أبنت مبلغ نذالة الجريمة ومدى شرها إذا هي وقعت على كابر جليل المقام.
أبنت ذلك بقدر ما فسح لي موقف النائب العمومي وأجازته الأمانة التي في عنقي.
ولو أن المجال حر لقائل لسمعتهم كل ما يتطلبه حزمكم وترضاه عدالتكم، ولكنني كما أسلفت مؤمن بفطنتكم ولي فيها كل الغناء.
على أن هناك أمراً أجل شأناً وأعظم خطراً لا أستطيع حمل ضميري على كتمانه، ولا عقد لساني عن بينه. هذا الأمر الخطير هو ما أشرت إليه في صدر مرافعتي وألمحت به عند حديثي عن الباعث الذي دفع المتهم إلى جنايته، ذلك هو ولع التبطل وغواية الاستعظام، وما أجملت في جلسة الإحالة بأنه داء اجتماعي وبيل يهدد الحكومات في كيانها ويشل النظام من أساسه، وأنه إن لم يؤخذ بيد عسراء استفحل ضرره وعز اتقاء شره. نعم استفحل ضرره وعز اتقاء شره.
ارسموا لأنفسكم بواسع خبرتكم ونافذ بصيرتكم حال البلاد وقد أصبح كل عظيم فيها هدفاً لرأي شقي تربعت في نفسه الشريرة هذه الأفكار الخطرة! تلك حال أستعيذ بالله منها.
هي مضيعة للطمأنينة ومقتلة للنبوغ ومفسدة لنفس العاملين؛ بل هي حفرة يتردى فيها إخلاص المخلصين ونشاط المجدين وإيمان الصالحين.
أنتم قضاة الحق ولكنكم أيضاً مربو الخلق. وكلمة العدل التي بها تنطقون يتجاوب صداها في نفوس ناشئة ونفوس ثائرة ونفوس فزعة خائرة. فاجعلوا حكمكم رسالة عدل وبلاغ عبرة وبشرى سلام.(165/50)
وإذا جنحتم إلى الرحمة فاشملوا بها النشء وقد أوشك أن يلتوي، والبلاد وقد دب فيها ذاك الداء الوخيم.
أنتم أطباء النفس كما أنتم قضاة العدل، والطبيب البصير لا يتردد ولا يني عند الضرورة الحاكمة، والقاضي الحازم يهذب بالزجر الحكيم وهو في زجره من الراحمين.
وازلوا بين روعة الرحمة، وقد حلت بالبلاد وبالنشء وبين ضآلتها إن هي حلت بهذا المجرم العتيد، ثم اقضوا قضاءكم والله معكم إنه نعم الهادي ونعم النصير).
تلك وايم الحق بلاغة ليس بعدها بلاغة. معنى حكيم في لفظ سليم، وفصيح عبارة في أوجز إشارة.
وتعال إن أردت تسريح الطرف في خير ما تقع عليه العين من أدب في قضية أدب إلى مرافعة عمر عارف في دعوى القذف التي سبقت الإشارة إليها. اسمع ما يمهد به هذا الأديب المتشح برداء النيابة لمرافعته القيمة:
(تعرض اليوم أمام القضاء قضية جنى فيها رجلان ينتسبان إلى الأدب على طهر الأدب عامة في شخص مصري له مكانه من العلم. ولو لم يكن إلا أنه محام نذر نفسه لنصرة الحق أمام شرف القضاء لكان ذلك من المنزلة في الثقافة العلمية والفضل المشكور حسبه).
(يتبع)
زكي عريبي
المحامي أمام محكمة النقض والإبرام(165/51)
الحجاب في الإسلام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
من علماء الأزهر
- 3 -
وقد عرف الإسلام أن إطلاقه الأمر للنساء في ذلك قد يؤدي بهن إلى إساءة استعمال حقهن فيه، فيضيق الرجال بإساءة استعمالهن له، ويعملون على التضييق عليهن وسلبهن إياه، كما حدث ذلك بين المسلمين فآل بهم إلى هذا الحجاب الممقوت الذي يحسب زوراً على الإسلام، وكما يحدث الآن في بعض البلاد الأوربية التي سئمت إسراف النساء في السفور، فأخذت تحد من حريتهن فيه، وتضيق عليهن بعض التضييق.
فلما عرف الإسلام هذا شرع للنساء في الخروج من البيت والاختلاط بالرجال سنناً تصونها عن تلك الإساءة، ولا تجعل للرجال عليهن سبيلاً في سلبهن ما أعطاه لهن من ذلك الحق. وليست تلك السنن من الحجاب في شيء، وإنما هي تنظيم لهذا الحق بين الرجل والمرأة.
ومن تلك السنن ألا تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، لأن له حقوقاً عليها في منزلها، فلا يصح لها أن تخرج منه إلا إذا سمحت بذلك نفسه، وليس له أن يمنعها من الخروج لحاجاتها بعد قيامها بحاجاته.
ومن تلك السنن ألا تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم لها. وقد ورد في ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم لها. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم. فقام رجل فقال يا رسول الله: إن امرأتي خرجت حاجة، وإني كتبت في غزوة كذا وكذا، قال: فانطلق فحج مع امرأتك.
ومن تلك السنن تحريم الخلوة، لأن في اختلاء المرأة بالأجنبي مفاسد كثيرة، وهي وسيلة من وسائل إغوائها، ودفعها في طرق لا ترضي الدين ولا الشرف. ولم يحرم الإسلام على(165/52)
المرأة الاختلاط بالأجانب مع وجود زوج أو محرم لها، ليكون هذا الاختلاط بريئاً بعيداً عن الريبة، وينحصر في الأغراض الصحيحة التي تقصد منه، كاستفادة علم أو أدب، أو أنس بحديث ونحوه.
ومن تلك السنن ألا يتبرجن عند خروجهن من بيوتهن، ولا ينظرن إلى الرجال نظرات غير بريئة، ولا يظهرن من أجسامهن ما لا حاجة إلى إظهاره، وما إلى هذا مما جاء في قوله تعالى من سورة النور: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بيني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون). وكما أمر النساء بالغض من أبصارهن في هذه الآية أمر الرجال بالغض من أبصارهم في الآية التي قبلها: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم أن الله خبير بما يصنعون).
قال الفخر الرازي في تفسير ذلك: جميع بدن الحرة عورة، ولا يجوز للرجل أن ينظر إلى شيء منه إلا الوجه والكفين، لأنها تحتاج إلى كشفهما لأجل البيع والشراء والأخذ والعطاء. ولهذا لما نهي النساء أن يبدين زينتهن استثني من ذلك ما ظهر منها. وقد قال القفال: إنه الوجه والكفان. وألحق بعض الفقهاء بهما الذراعين والقدمين. ثم إن نظر الرجل إما أن يكون لغرض كنكاح أو معاملة، وهو جائز بلا خلاف، وإما أن يكون خالياً من الغرض، فإن كان بشهوة كان حراماً، وإن لم يكن بشهوة كان جائزاً في مذهب بعض الفقهاء. وقيل إنه لا يجوز، ولكن هذا لا يلزمه إلا وجوب غض لبصر، ولا يلزمه وجوب ستر المرأة وجهها بنقاب ونحوه، بدليل أن النظر إلى الأمرد بشهوة حرام، ولم يقل أحد أنه يلزمه أن يستر وجهه، لأن هذا حرام عليه لما فيه من التشبه بالنساء. وأظهر من هذا في ذلك أن النظر بشهوة إلى حيوان جميل أو صورة جميلة حرام أيضاً، ولا يعقل أن يكلفا بهذا النقاب، وإنما يحرم النظر بشهوة لما يصحبه من إرادة الفسق. فإذا كان مجرد استحسان(165/53)
خالياً من هذه الإرادة الذميمة فأني أرى أنه ليس فيه شيء من الحرمة، بشرط ألا يصحبه ما يفعله رجالنا من التعريض القبيح إذا مر بهن النساء، وتلك عادة ذميمة يجب على رجالنا أن يقلعوا عنها، وأن يعنوا بجد الحياة بدل هذا الهزل والمزاح.
فالمرأة المسلمة في حل من هذا النقاب الذي يظن أنه فرض عليها في دينها، إذ شاءت سترت به وجهها، وإذا شاءت تركت وجهها بلا نقاب؛ ولا يطلب منها دينها إلا أن تترك التبرج والتهتك والتزين بما يزيد على الحاجة، أو يدعوا إلى الفتنة. ولا دلالة في قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) على وجوب هذا النقاب، لأن سبب نزول هذا أن نساء الجاهلية كن يشددن خمرهن من خلفهن، وكنت جيوبهن من قدام، فكانت نحورهن تنكشف، وكذلك قلائدهن، فأمرن بضربها على الجيوب لتغطي القلائد والنحور. ولا يعقل أن يراد من هذا تغطية الوجه أيضاً بعد استثنائه في قوله: (إلا ما ظهر منها).
ومما يحتج به لهذا النقاب قوله تعالى في سورة الأحزاب: (يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما)، قيل في تفسير ذلك إنه كان رجال من الفساق يتعرضون في الطرق للنساء ويتبعونهن، فإذا لامهم الناس قالوا كنا نحسبهن إماء، فنزلت هذه الآية باتخاذ الجلباب للحرائر ليعرفن من الإماء فلا يؤذين. وقد مر بن الخطاب بجارية ذات نقاب فضربها وقال لها: أتتشبهين بالحرائر يالكاع!
وإني أرى أن مثل هذا لا يصح أن يكون حجة على وجوب هذا النقاب، وأرى أن قوله تعالى (ذلك أدنى أن يعرفن) ليس معناه أن يعرف أنهن حرائر، لأن دفع هذا الأذى عن النساء واجب في الإسلام بلا فرق بين الحرائر والإماء، وإنما معنى هذا عندي أنهن يعرفن بأنهن عفيفات فلا يطمع فيهن الرجال.
أما أن ذلك لا دلالة فيه على وجوب هذا النقاب فلأن هذه الصيغة (يأيها النبي قل) لا تدل على الوجوب، لأن الأمر بالأمر بشيء لا يفيد وجوب هذا الشيء، كما هو مذهب جمهور علماء الأصول، ولأن قوله (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) يدل على أن هذا لا يقطع ذلك الأذى، وإنما هو أقرب إلى دفعه، ومثل هذا لا يكون واجباً، بل يكون مندوباً. على أنه قد اختلف في إدناء هذا الجلباب، فقال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين بذلك أن يغطين(165/54)
رؤوسهن ووجوههن بالجلاليب إلا عيناً واحدة يبصرن بها الطريق. وقال الحسن: يكفي أن تغطي المرأة نصف وجهها. وقال قتادة يكفي أن تغطي معظمه.
وإذا كانوا قد صاروا إلى هذا الخلاف فأنا يمكننا أن نحمل إدناء الجلباب على ستر مالا يبدو عند الزينة، لأن هذا قد استثني استثناء صريحاً في آية سورة النور السابقة، وهذا هو الواجب في الجمع بين الآيتين. وقد قيل إن الجلاليب الثياب، لأن الجلباب يطلق لغة على الثوب والملحفة والخمار، وهو في الآية محتمل للثلاثة، فيكون معنى إدناء الجلباب أن يطلن أطرافه حتى لا يظهر منهن شيء غير الوجه والكفين.
وهذا هو حكم الإسلام في الحجاب والنقاب، وخلاصته أن يرى ترك أمرهما لحكم العرف والعادة، وما يرضه كل من الرجل والمرأة على وجه يصونها من الفساد، ويحفظ ما له عليها من حقوق.
(تم البحث)
عبد المتعال الصعيدي(165/55)
دين المتنبي
2 - أبو الطيب المتنبي
للأستاذ محمد محي الدين عبد المجيد
ومما يتصل بالكلام على دين أبي الطيب أنه لم يشرب الخمر إلا في القليل النادر، فليس هو من المدمنين الماجنين، ولذلك لا تجد في شعره شيئاً من المجون إلا أن يهجو فيقذع في هجائه. وما لأبي الطيب والخمر، وهي إنما يشربها الغواة وذوو البطالة، ومن لا مطمع لهم في الحياة يسعون لتحقيقه، فأما الرجل الذي يفكر في المجد ويأمل أن يصل إلى ذروته، فليس ممن يفكرون في الخمر. حدثوا أن صديقاً لأبي الطيب كنيته أبو ضبيس سأله يوماً أن يشرب معه فأجابه بقوله:
ألذ من المدام الخندريس ... وأحلى من معاطاة الكؤوس
معاطاة الصفائح والعوالي ... وإقحامي خميساً في خميس
فموتي في الوغى أربى لأني ... رأيت الموت في أرب النفوس
ولو أسقيتها بيدي كريم ... أسر به لكان أبا ضبيس
وهو ينادم إخوانه إذا شربوا الخمر، فيشرب كأساً من الماء فقد قال له بعض بني كلاب: اشرب هذه الكأس سروراً بك، فأجابه بقوله:
إذا ما شربت الخمر صرفا مهنأ ... شربنا الذي من مثله شرب الكرم
ألا حبذا قوم نداماهم القنا ... يُسَقُّونها ريا وساقيهم العزم
ومد إنسان له يده بكأس من الخمر وحلف بالطلاق ليشربنها، فقال:
وأخ لنا بعث الطلاق ألية ... لأعللن بهذه الخرطوم
فجعلت ردي عرسه كفارة ... عن شربها وشربت غير أثيم
وهذه إحدى المرات التي شرب فيها الخمر، ولم يصب حكم الشريعة في قوله: (وشربت غير أثيم) ولكنها إحدى تظرفات الشعراء. ولعلها مع ذلك تدل على أن امتناعه عن الشرب في غير هذه المرة لمخافة الإثم.
أخلاق أبي الطيب(165/56)
سنتكلم في هذه العجالة على أربع خلال كان لها أثر ظاهر في حياة أبي الطيب وأخباره وشعره، وهي: الشجاعة والكبر والبخل والغدر. فأما شجاعته فهي أظهر من أن تلتمس لها الشواهد، فهو شجاع يحن شوقاً إلى لقاء العدى ويستصغر المخاطر في هذه السبيل، ويستهين بما يكابد فيه من أهوال، ولقد كان مسوقاً إلى اقتحام الردى تدفعه إليه نفسه المتوثبة الطامحة وتغريه به آماله الجسام التي يحرص على إدراكها الحرص كله، والتي يعتقد أن الوسيلة إليها هي التضحية وبذل النفس. وقد كانت فيه مع ذلك عجلة تشبه الرعونة نبتت فيه من تلهفه على بلوغ الغاية التي يصبو إليها حتى كان يخشى أن يعجل إليه الموت قبل بلوغها. أنظر إليه وهو يحدثك عن المجد الذي يتطلع إليه ويشير إلى أن الحياة أضيق من أن تتسع لانتظاره.
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما العمر
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وإن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنملة العشر
ثم انظر إليه وهو يحدثك عن مطلبه ويصف لك أن إدراكه بعيد ويحضك على ألا تبالي بما تلقاه في حياتك من الشدائد والمحن.
أريد من زمني ذا أن يبلغني ... ما ليس يدركه من نفسه الزمن
لا تلق دهرك إلا غير مكترث ... ما دام يصحب فيه روحك البدن
فما يدوم سرور ما سررت به ... ولا يرد عليك الفائت الحزن
ثم انظر إليه وهو يدلك على أن هناءة العيش وسعته وطيب الحياة وسائر ما في الدنيا من متاع أمور لا تدرك إلا بحد السيف.
وخضرة ثوب العيش في الخضرة التي ... أرتك احمرار الموت في مدرج النمل
ونراه لا يترك الحديث عن آماله وشجاعته حتى في المواقف التي لا يحسن فيها الفخر، ولقد كان مما اشتهر به شعره أنه يتحدث عن نفسه في أثناء المديح والرثاء. استمع إليه وهو يقول لكافور:
فارم بي حيثما أردت فإني ... أسد القلب آدمي الرواء(165/57)
وفؤادي من الملوك وإن كا ... ن لساني يرى من الشعراء
وهو مفتون بذلك منذ صباه، ولا عجب في ذلك فأن كثيرا من الناس تولد معهم الآمال في طراءة السن وميعة الشباب، وعصر أبي الطيب الصاخب المليء بحوادث الانقلاب خليق بأن يثير في نفسه لواعج الآمال؛ قيل له وهو صبي (ما أحسن وفرتك) فأجاب:
لا تحسن الوفرة حتى ترى ... منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة ... يعلها من كل وافي السبال
فأما الكبر فقد كان أبو الطيب مستكبراً تياهاً صلفاً يرى أن لا أحد مثله وأن أعلم أهل زمانه فدم وأحزمهم وغد، وأن كل ما خلق الله وما لم يخلق حقير إلى جانب عظمته كشعرة في مفرقه. ولقد كان من آثار كبره أن ترفع عن مدح الوزير المهلبي والصاحب ابن عباد، وحدثته نفسه أن يتأبى على عضد الدولة، ولولا أن ابن العميد زين له الذهاب إليه وأغراه بما سيناله لديه من التكرمة والمال لكان قد امتنع. ولقد جر على نفسه بهذا الترفع عداوة الوزير والصاحب وعداوة أشياعهما من الشعراء والكتاب والعلماء. فأما الوزير فقد أغرى به شعراء العراق يزدرونه وينالون من عرضه ويبالغون في هجائه، وأغرى به جماعة من العلماء منهم أبو الفرج صاحب كتاب الأغاني يتعقبونه ويشهرون به. وأما الصاحب فلم يسكته عنه علمه بمحاسنه وكثرة ما كان ينتفع بمعانيه، بل أخذ يتتبع هفواته ويعد عليه سقطاته ويغري به المترددين عليه الطامعين في عطاياه، وما أكثر هؤلاء!!!
ونحب أن ندل هنا على أمرين: الأول أن آثار كبر أبي الطيب وترفعه لم تظهر جلية واضحة إلا بعد أن اتصل بسيف الدولة ونبه شأنه. فأنت تراه قبل ذلك يمدح قوماً لا نباهة لهم ولا ذكر، وتراه يمدح على أتفه العطايا، وقد تنبه إلى ذلك أبو منصور الثعالبي فهو يقول: (وكان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب، ويصاد ما بين الكركي والعندليب) اهـ، وأبو الطيب معذور في ذلك فإن سيف الدولة قد غمره بعطاياه حتى درت له أخلاف الدنيا ولقي في جواره من الكرامة ما شجا حاسديه فكان خليقاً أن يقول فيه:
تركت السرى خلفي لمن قل ماله ... وأنعمت أفراسي بنعماك عسجدا
وقيدت نفسي في هواك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
الأمر الثاني: أنه قد اختلط على بعض الناس كثير من مواقف أبي الطيب فاعتبروها كبراً(165/58)
أو تكبراً وليست هي من الكبر في شيء وإنما هي عزة النفس والاحتفاظ بالكرامة، وتقدير المرء نفسه وإكرامه إياها من الكبر بالمكان النائي البعيد؛ فليس لأحد أن يزعم أن من الكبر إنشاد أبي الطيب سيف الدولة وهو جالس واشتراطه عليه ألا يقبل الأرض بين يديه إلا أن يكون ممن تختلط الأخلاق في أنظارهم فيرونها بغير المنظار الذي يراها به الناس؛ وعسيت أن تسأل بعد ذلك أين ذهبت عزة نفسه حين أنشد كافور وهو واقف؛ والجواب على ذلك أن ننبهك إلى أنه فارق سيف الدولة حانقاً متبرماً فلعل وقوفه بين يدي كافور وهو من أعداء سيف الدولة ليثير غيظه، أو لعله أراد به مصانعة كافور لينال منه الذي وفد عليه من أجله. على أنه إن كان قد ترك معه ما جرت به عادته مع سيف الدولة فقد اتخذ لعزته لوناً آخر، فقد كان يقف بين يديه وفي رجليه خفان وفي وسطه سيفه ومنطقته.
فأما البخل فقد رماه الناس به وحكموا في ذلك عنه أنه أحضر مالاً من صلات سيف الدولة وصب بين يديه على حصير قد افترشه ووزن وأعيد في الكيس وإذا قطعة كأصغر ما يكون من ذلك المال قد تخللت الحصيرة فأكب عليها ينقرها ويعالج استنقاذها ويشتغل بذلك عن جلسائه حتى إذا ظهر له بعضها تمثل بقول قيس بن الخطيم:
تبدت لنا كالشمس تحت غمامه ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
ولم يزل كذلك حتى استخرجها وأمر بإعادتها إلى مكانها من الكيس. وعجيب أن يكون بخيلاً ذلك الذي يقول
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي صنع الفقر
ولكنهم يروون عنه أنه قال: (إني وجدت الناس لا يكرمون أحداً إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار فاعتمدت أن يكون عندي مثلها. فأنا أجد في ذلك حتى يقول الناس إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار) اهـ. وإن يكن القوم صادقين وكان لأبي الطيب عذر في حرصه على المال وفي ضنه أن تضيع منه قطعة كأصغر ما يكون فليس هو هذا العذر الذي نسبوه إليه، وإنما عذره أن المجد الذي كانت نفسه تحدثه به في حاجة إلى المال وهذه إشارة نجتزئ بها في هذا الموضوع.
فأما الغدر فآيته أنك تراه كل يوم بين يدي ملك أو وزير وتراه كلما وقف بين يدي واحد منهم يمدحه بأنه أكرم الناس وأشجع الناس وخير الناس؛ وقد يتجاوز ذلك إلى التعريض(165/59)
بمن مدحه من قبل، وقد يتجاوز التعريض والتلويح إلى التصريح، ثم قد يتجاوز ذلك كله إلى الهجاء، اسمع إليه يقول لسيف الدولة:
وحاشى لارتياحك أن يبارى ... وللكرم الذي لك أن يباقى
ولكنا نداعب منك قرما ... تراجعت القروم له حقاقا
فإنه لم يكتف بأن جعل ارتياحه للبذل لا يباريه ارتياح، وكرمه لا يطاوله في البقاء كرم، حتى جعله سيداً فحلا وجعل الناس في موازنته حقاقاً، فلما وفد على كافور كان في أول قصيدة قالها له قوله:
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا
(يتبع)
محمد محي الدين عبد المجيد
المدرس بكلية اللغة العربية(165/60)
علم المتنبي باللغة والأدب
تصحيحه كتاب المقصور والممدود - تعليقاته على ديوانه
للدكتور عبد الوهاب عزام
يعرف جمهور المتأدبين أبا الطيب شاعراً واسع المعرفة باللغة، ولكنهم لا يعرفونه إماما من أئمة اللغة في القرن الرابع كما يتبين فيما يلي:
قدمت في الكلام على نشأة أبي الطيب أنه درس اللغة والأدب، وأثبت رواية تتضمن أنه لقي جماعة من كبار الأدباء في عصره، ولكن هذه الرواية على ما أظهرته من الوهن في بعض نواحيها لم تبين كم طلب اللغة والأدب على هؤلاء الشيوخ ولا كيف طلب. وقد بينت آنفاً أن رحيل الشاعر إلى الشام كان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وهو في سن الثامنة عشرة.
وما روي لنا أنه طلب الأدب على أحد في الشام إلا قول الثعالبي إن أباه رحل به إلى الشام فلم يزل يردده في مكاتبها الخ وجائز أن يكون الشاب المتوقد ذكاء قد درس الأدب واللغة على بعض أدباء الشام أيضاً.
والذي لا ريب فيه أن أبا الطيب بلغ من العلم باللغة وغريبها وشواهدها ولقن عن أهل البادية منها ما لا نعلمه لشاعر آخر من شعرائنا؛ وقد بلغ في هذا أن عدّ في عصره من علماء اللغة، وأن غلب الشعر عليه.
وإثبات هذه الدعوى على النسق الآتي:
1 - رويت لنا حوادث وأقوال متفرقة تبين عن اشتهاره بمعرفة اللغة وتعرب عن رأي معاصريه فيه:
قال ابن الأنباري: (ويحكى أن أبا الطيب اجتمع هو وأبو علي الفارسي، فقال له أبو علي: كم جاء من الجموع على وزن فِعلي؟ فقال: حجلي وظربي، جمع حَجَل وظَرِبان. قال أبو علي: فسهرت تلك الليلة ألتمس لهما ثالثا فلم أجد. وقال في حقه (ما رأيت رجلاً في معناه مثله.) وهذه الجملة الأخيرة ذكرها ابن جني في مقدمة شرحه الديوان، وقال: (ولو لم يكن له من الفضيلة إلا قول أبي علي هذا فيه لكفاه. لأن أبا علي، على جلالة قدره في العلم ونباهة محله وإقتدائه بسنة ذوي الفضل من قبله، لم يكن ليطلق عليه هذا القول إلا وهو(165/61)
مستحق له عنده).
فسؤال أبي علي أبا الطيب هذا السؤال دليل على أنه لفت الناس إليه بسعة معرفته باللغة، ثم شهادته له دليل آخر.
ولما وقع الجدل بين أبي الطيب اللغوي وابن خالويه في اللغة بحضرة سيف الدولة، قال الأمير: ألا تتكلم يا أبا الطيب؟ فتكلم ونصر أبا الطيب اللغوي على ابن خالويه. فسؤال سيف الدولة أبا الطيب أن يتكلم في أمر يتجادل فيه اثنان من اللغويين دليل على عده من علماء اللغة.
ولما دخل على الوزير المهلبي في بغداد أنشد بعض الحاضرين وفيهم أبو الفرج الأصفهاني هذا البيت:
سقى الله أمواها عرفت مكانها ... جُراما وملكوما وبدّر فالغمرا
فقال أبو الطيب: هو جرابا، وهذه أمكنة قتلتها علما؛ وإنما الخطأ وقع من النقلة.
وقد حكى الحاتمي أنه ناظر أبا الطيب ببغداد فلم يقتصر على مناظرته في الشعر، بل ناظره في اللغة أيضا. وحكى أن أبا الطيب قال له اللغة مسلّمة لك، فقال: وكيف تسلمها وأنت أبو عذرتها وأولى الناس بها، وأعرفهم باشتقاقها، والكلام على أفانينها، وما أحد أولى بأن يسأل عن غريبها منك.
وفي هذا برهان على اشتهار أبي الطيب بمعرفة اللغة ولو كان كلام الحاتمي تهكما وسخرية أو كانت قصته كذبا.
ولما نزل عند ابن العميد في أرّجان قرأ عليه كتابا جمعه في اللغة. قال في الإيضاح: (وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه ويتعجب من حفظه وغزارة علمه).
وقال الخالديان: (كان أبو الطيب المتنبي كثير الرواية، جيد النقد. . . وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها، ولا يسأل عن شيء إلا استشهد بكلام العرب من النظم والنثر). وقال صاحب الإيضاح: (وجملة القول فيه أنه من حفاظ اللغة ورواة الشعر).
وقال ابن جني: (ولقد كان من الجد فيما يعانيه، ولزوم أهل العلم فيما يقوله ويحكيه، على أسد وتيرة، وأحسن سيرة).(165/62)
2 - وقد أثرنا بعض كلامه في اللغة، وذلك قسمان
مجادلته ابن جني في مسائل عرضت أثناء قراءة الديوان عليه، وحسبك بمن يناظر في اللغة والصرف ابن جني أمام أهل العربية في التصريف، ثم يشهد له ابن جني الشهادة السالفة، وعندنا من هذه المجادلات أمثلة.
والثاني ما أملاه أبو الطيب نفسه شرحاً لبعض شعره. وقد عثرت على نسختين من الديوان فيهما كثير من هذه الشرح، وفيه من التبيين وإيراد الشواهد ونسبة الأقوال إلى أصحابها ما يشعر القارئ أنه يقرأ لأحد أئمة اللغة.
وأنقل هنا مثالين من إملائه على بعض أبيات ديوانه تبصرة للقارئ. جاء في شرح البيت:
أحاد أم سُداس في أُحاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد:
(قال أبو الطيب: يقال أحاد وثناء وثلاث ورباع إلى عشار في المؤنث والمذكر غير مصروف، والفراء يصرفها إذا جعلها نكرات، وكل ما لا ينصرف من الأسماء يصرف في الشعر، لأن الصرف الأصل. وهذا الذي ينسب إليه في العدد فيقال ثنائي وثلاثي ورباعي وخماسي إلى عشاري. قال أبو النجم:
فوق الخماسي قليلا بفضله ... أدرك عقلاً والرهان عمله
وأنشد:
ضربت خماس ضربة عبشمي ... أدار سداس ألا يستقيما
وللكميت:
فلم يستريثوك حتى رم ... يت فوق الرجال خصالا عُشارا
وللهذلي:
يصيّد أُحدان الرجال وإن يجد ... ثُناءهم يفرج بهم ثم يزدر
وأنشدني:
أحمّ الله ذلك من لقاء ... أُحاد أحاد في شهر حلال
وحكى ابن السكيت عن أبي عمرو: ادخلوا موحد موحد ومثنى مثنى ومثلث مثلث ومربع مربع وكذلك إلى العشرة. وكذلك ادخلوا أحاد أحاد وثناء ثناء وثلاث ثلاث ورباع رباع إلى العشرة. قال علي (يعني ابن حمزة رواية أبي الطيب) وقال أبو الطيب: وكان أبو حاتم تبع(165/63)
أبا عبيدة في قوله في كتاب المذكر والمؤنث: (ورباع رباع. ولا نعلمهم قالوا فوق ذلك) ثم رجع عنه فقال في كتاب الابل: (ورباع إلى العشرة).
قال أبو الطيب: وأما ليبيتنا فتصغير تعظيم كقول لبيد
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفرّ منها الأنامل
الرواية التي أعرفها خويخته. وكذا أنشده المبرد واليزيدي وثعلب وأنشدنيه المتنبي دويهية (هذا من قول علي ابن حمزة) وقال الأنصاري: أنا جُذَيلها المحكك، وعُذَيقها المرجب، قال: وتصغير الأسماء على هذا المعنى كقولهم كليب وعمير. قال وما يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: أنا هوى ومعي سلاحي فصغره
والتنادي، أراد التنادي بالرحيل). أهـ
وفي شرح البيت:
إذا عرضت حاج إليه فنفسه ... إلى نفسه فيها شفيع مشفع
قال أبو الطيب: يقال حاجة وحاج وحاجات وحِوَج، وعلى غير القياس حوائج. وتقول العرب: في نفسي منه حوجاء أي حاجة، وأنشد:
ألا ليت شوقا بالكناسة لم يكن ... إليها لحاج المسلمين طريق
وقال آخر:
لعمري لقد لبّثتني عن صحابتي ... وعن حِوَج قضاؤها من شفائيا
وأنشد لامرئ القيس:
لتقضى حاجات الفؤاد المعذب
وأنشد الفراء:
نهار المرء أمثل حين يقضي ... حوائجه من الليل الطويل
وزعم الأصمعي أن حوائج مولدة. قال أبو الطيب: وهي كثيرة على ألسن العرب خرجت عن القياس. قال البصري (علي بن حمزة) وأنشدني أبو الطيب للشماخ:
تقطع بيننا الحاجات إلا ... حوائج يعتسفن مع الجريّ
قال: حوائج جمع حائجة على القياس وهو صحيح. وقد ذكر ذلك ابن دريد قال حاجة وحائجة وحوجاء). أهـ(165/64)
ذلكم مثال مما أملاه الشاعر على رواة ديوانه. وأني لراج أن ييسر الله لي عما قليل طبع الديوان مجرداً من كل شرح إلا أمالي الشاعر والمقدمات التاريخية التي تصدّر بها بعض القصائد وأحسبها من إملاء الشاعر كذلك.
3 - وقد قرئ على أبي الطيب في مصر كتاب المقصور والممدود لأبي العباس بن ولاد فصححه وأخذ على مؤلفه غلطات، وقد عثرت على رسالة اسمها (التنبيهات على مقصور ابن ولاد النحوي) جاء في مقدمتها:
(قال أبو القاسم: وكان هذا الكتاب أعني المقصور والممدود قرئ على أبي الطيب بمصر سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، فردّ فيه على ابن ولاد أغلاطاً وبينها، واستشهد عند بعضها، فجمع رد أبي الطيب وشواهده بعض المصريين وادّعاه لنفسه بعد خروج أبي الطيب من مصر، وأضاف إليها أشياء من عنده غلط فيه هو وأشياء أصاب فيها. وكان هذا المدعي سمع هذا الكتاب وغيره من ابن ولاد وعنه سمعته، وهذا المدعي يعرف بأبي الحسين المهلبي، فإذ مرّ من تلك الأغلاط والشواهد شيء في كتابنا عزوناه إلى مستحقه وبيناه إن شاء الله). . .
وقد قرأت كتاب التنبيهات على مقصور ابن ولاد وهو كتاب صغير فجمعت ما نسبه المؤلف إلى أبي الطيب من الرد على ابن ولاد وأثبته هنا:
(وقال ابن ولاد في باب الشين: وذكر عن أبي عمرو ابن العلاء وعيسى بن عمرو أنهما قالا الشِذو لون المسك، قال الشاعر:
إن لك الفضل على صحبتي ... والمسك قد يستصحب الرامكا
حتى يعود الشذو من لونه ... أسود مضنونا به حالكا
وهذا ما أخذه عليه المتنبي قبلنا فقال هو الشِذو. وقد أصاب المتنبي وغلط ابن ولاد في فتحه.
وقال ابن ولاد في هذا الباب (باب الطاء): والطُرقي في النسب من قولهم الطُرقي والقُعدي فالطُرقي أبعدهما نسباً والقعدي أدناهما نسباً.
وهذا ما أخذه عليه المتنبي قبلنا فقال الصواب الطرفي بالفاء. وقال ابن الأعرابي يقال فلان أقعد من فلان أي أقل آباء وأطرف من فلان أي أكثر آباء. وهو مأخوذ من الطرف وهو(165/65)
البعد. وقال الأصمعي يقال فلان بين الطرافة إذا كان كثير الآباء إلى الجدّ الأكبر. وهو عندهم مدح كما قال الشاعر:
طرفون لا يرثون سهم القُعدُد
وهذا الذي حكاه المتنبي مشهور معروف من قول ابن الأعرابي والأصمعي (وهو) الصحيح. وقد ادعى هذا الرد ابن الملتقط (يريد أبا الحسن المهلبي) وكذب في ادعائه وهو من رد المتنبي.
وقال ابن ولاد في هذا الباب (باب الغين) غضبي مائة من الابل معروفة كقولك هنيدة وأنشد:
ومستخلف من بعد غضبي صُريمَة ... فأحربه لطول فقر وأحربا
وهذا ما رواه المتنبي فادعاه ابن المنبوذ (يريد المهلبي أيضاً) فقال الذي راوه أبو العباس (ابن ولاد) غضنى بالنون. وهو خطأ إنما هو غضيى بالياء. وهذا صحيح).
ذلكم أبو الطيب في علمه باللغة وشواهدها ونحوها وصرفها. . . الخ الخ.
عبد الوهاب عزام(165/66)
يا ضوء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
تضيء ما يستر الظلام من ال ... قبح وتكسوه حُلَّة البِدرِ
وأمسك النار وهي صائلة ... للخير والشر صولة الغِيَرِ
كسوتَ وجهي وخطري حُللاً ... وكنت للعين علة النظر
لولاك لم يرحم الذي حمد ال ... حسن أخاه ذا الآفة الكَدِرِ
تلوح للهالك السقيم فيع ... تدك خير اللذات والذْخُرِ
تلوح للجارم الحبيس كما ... يلوح ماضي النعيم في الصوَر
تغذوه أم في عينها أبدا ... سحر حنان يضيء في البصر
وهو وليد قد أُولِعت يده ... بخطفة الضوء حلية الحجر
وكلنا ذلك الوليد إذا ... لاح سراب الرجاء والوطر
وأنت في المعبد المَشِيدِ كضو ... ء الله في صالح من الخبر
أو مثل ضوء الضمير محتبس ... في النفس أو كالصفاء في السِّيَر
تهبط فوق الغدير في مرح ... مثل هبوط الطيور في الشجر
أم أنت روح الحبور قد برزت ... تنير وجه الحياة في خَفَر
سنابل النبت أنت صغت لها ... من عسجد حُلة من الحَبَر
ترقص رقص الحسناء إن لها ... رقصاً كرقص الضياء في النهَر
يا علَماً للحياة ينشره ال ... كون فيقصي القلوب عن خَوَر
ورُب فجر بَثَقْتَه بَهِج ... كفجر حب في القلب منفجر
أو مثل فجر الآمال إن لها ... فجراً وليلاً يُضَاءُ بالذّكَرِ
فطرز السحب مثلما حسن ال ... نحس بضوء الرجاء في الكدر
كأنما أنت سُلمٌ لعلا ... ء النفس تسمو لآية العُمُرِ
أم أنت حسن الجِنَانِ نبصره ... منفجراً خارجاً من الثُّغَر
ترمد طرف الحزين إِن أخا ... ك الليل بَرٌّ بالخاطر الكَدِرِ
تلِيحُ بالسعد والمنى أبداً ... لذي طموح بالترب منعفر(165/67)
وأنت كالبحر دره الفلك ال ... دوار أو فاقع من الزهر
ويا بشيراً بما نخال من ال ... آلاء في مقبل من الغيَر
حكيت ذخر الآمال تبعثها ... للوهم يزهو كالتبر في الذخُر
تخال من رقة المراسم مع ... نى لا يراه البصير بالبصر
أشهى ضياء يكسو الحبيب خما ... راً نعم ذاك الكساء في الخمُر
تستبق الطير في أشعتك ال ... غراء فعل الحسان في الغدُر
وضاءة الماس منك قد قبست ... وأنت في الروض خمرة الزهر
والضوء في المنزل الخراب كقل ... ب الندب يشفى بالجسم في الكِبَر
خواطر الخير كالملائك أو ... كالضوء يزهو في قمة الشجر
كل جليلٍ مُشَبَّهٌ بك في ال ... مدح وليس الترب كالدرَرِ
فالحق والحسن والمطامع أش ... باهك في قول ناعت الغُرَر
أَضِئْ إن اسطعت ما يرام من ال ... غيوب والطارقات والقدر
كم ذا رأيت الأنام في عنت ال ... عيش نشاوى من غير ما سُكُر
فلم تقطب على الشقاء ولم ... تَبْدُ كوجه الليل معتكر
كالشيخ شام الخطوب قاطبة ... يذخر غُفْراً لزلة البشر
عبد الرحمن شكري(165/68)
مأساة فراق
ما البرق لاح لتائه وخبا ... والكون عاد يخب في الظُّلَم
أو منية للنفس سُرَّ بها ... قلب ولم يك ذا سوى حُلُم
بأمض وقعاً من نوى قرنت ... بتعارف فتآلف النسم
يا لحظة ما كان أسعدها ... لو لم تدع قلبين في ضرم
لم يكف سرعتها فنغَّصها ... يا للقساوة حقد منتقم
هل في قريضك بعدُ تسلية ... يا صائغ الأشجان في نغم
أم قد يضاعف ذاك من أسف ... وهل القريض يرد من عدم
شلت يد التفريق حين رمت ... متآلفين بسهمها الشيم
متجاوبين بكل عاطفة ... متفاهمين بأعين وفم
يتساقيان على الكؤوس هوى ... أغضى الرقيب له على رغم
كل يحس بقلب صاحبه ... ويرى له كالروح من سجم
تلك السعادة وهي إن قصرت ... حسب المحب لذاذة الألم
(. . .)(165/69)
الشعب الباسل
للسيد عبد الرحيم محمود
شعب تمرَّس في الصعا ... ب ولم تنل منه الصعابْ
لو همُّه انتابَ الهضا ... ب لدُكدكت منه الهضابْ
متمردٌ لم يرضَ يو ... ما أن يقرَّ على عذب
عرنينه بلغ السما ... َء ورأسه نطح السحاب
وعُداته رُغم الأنو ... ف تذللا حانوا الرقاب
مثل حدا حادي الزما ... ن به وناقلت الرّكاب
إن تجهل العجبَ العجا ... بَ فإننا العجبُ العجاب
نحن الأُولى هابَ الوجو ... دُ وليس فينا من يهاب
وسلِ الذي خضع الهوا ... ء له وذلّ له العباب
هل لان عود قناتنا ... أم هل نبت عند الضراب
أو شام عيباً غير أنا (م) ... ليس نرضى أن نُعاب
حييت من شعب تخلّ ... د ليس يعرُوه ذهاب
لفَتَ الورى منك الزئي ... ر مزمجراً من حول غاب
وأرى العدى ما أذهلَ ال ... دنيا وشاب له الغراب
عرف الطريق لحقه ... ومشى له الجدَد الصواب
الحقُّ ليس براجع ... لذويه إلا بالحراب
الصرخة النكراء تج ... دي لا التلطف والعتاب
والنارُ تضمن والحدي ... د لمن تساءل أن يجاب
حكِّمهما فيما تري ... د ففيهما فصل الخطاب
(فلسطين)
عبد الرحيم محمود(165/70)
الراعي الشيخ
لفكتور هوجو - ترجمة أحمد فتحي مرسي
مالت الشمس للغروب وعاد ال ... ليل في إثرها عبوساً مهيبا
وعلى الصخر قد تطرَّح شيخ ... أوشكت شمس عمره أن تغيبا
غارقاً في السكون والصمت يرعى ال ... شمس في الغرب والفضاء الرحيبا
لحظة أي لحظةٍ قد تولت ... هدأ البحر والجبال لديها
رقد الشيخ والرياح حوالي ... يه وقد رفرف السكون عليها
غابت الشمس وهي ترنو إليه ... وقضى الشيخ وهو يرنو إليها(165/71)
إلى باكية
للسيد شفيق معلوف
وَيْحِ لو كنتُ عالماً أن شعري ... سوف ينتابُ منكِ غصَّةَ حُزنِ
لرميتُ اليراعَ عني بعيداً ... ونفيتُ العذاب عنكِ وعني
ولو أني لمحتُ دمعتكِ الحرّى ... لَشيَّعتُها بآخر لحن
وبسطتُ ابتسامَ ثغري عليها ... وتلقيتها بأهداب جفني
أيُّ لحن أثار شجو العذارى ... وتمنَّيتُ أنني لم أكُنْهُ
أيُّ دمعٍ أريق من غير جفني ... ورآه جفني فلم يحتضنْهُ
أين ذنبي؟ وفي مدامعك الذنبُ ... وقلبي الذي يكفرُ عنهُ
إنْ يقرِّحْ جفنيكِ شعري - لكِ ... اللهُ - فقلبي تقتصُّ عيناكِ منهُ(165/72)
القصص
قصة مصرية
صراع مع الشيطان!
للأستاذ دريني خشبه
(الحوار في الأصل باللهجة المصرية. . .)
انبسطت حقول الأرز حول القرية الساكنة الشاحبة، وهدأ الليل الفضي إلا من ضفادع تنق، ونسمة ترف فتحرك أغصان (الجميزة) الكبيرة التي ترسل فروعها فوق شاطئ النيل من جهة، وفوق (الدَّوّاَر) الواسع في شرق القرية من جهة أخرى؛ وسفر البدر الجميل الساحر، ففضض عباب النيل، واختلط لجينه بمائه النجاشي، وتدفق فوق (اللسان) الحجري الأبيض الذي أقاموه ليفل من غربه فأحدث خريراً موسيقياً بديعاً.
وجلس (حماده) بن العمدة في منعزل عند ضفة النهر مما يلي الماء ينتظر فاطمة. . . الفلاحة الصغيرة الجميلة، التي رآها ابن العمدة حاسرة عن ساقيها وهي تنقي الأرز مع الفلاحات الأخريات، فجن بها جنوناً، وافتتن بها افتتانا.
لقد رشقت قلبه بنظرةٍ ماكرة حين رأته يكاد يأكلها بعينيه الجائعتين، وحين أحسَّت أنها حلت من فؤاده منزلة لا تعدلها منزلة فتاة أخرى، حتى ولا زوجته الغنية التي بني بها منذ شهر وبعض شهر، فكان لعرسها صدى أي صدى في كل القرى المجاورة، لا سيما وقد غنى فيه المطرب المشهور الشيخ عبد الإله. . والعياذ بالله. . .
ولسيقان الفلاحات جمالها الرائع، وهي دائما محاطة بظل من الفتنة، يزيده الخلخال النائم على العقبين، والملاءة السوداء القصيرة، رونقاً ورواء. وكان لفاطمة جيد بارز وقوام ممشوق، وكان لها عنق طويل أبيض، يزينه عقد كبير من الكارم الأصفر، ينتهي بحلية من النحاس المصفح بالذهب فتقر على الصدر، عند انفراج الثديين، فتزيد اهتزازات النهد خفقاناً في قلب حمادة. . . حمادة المسكين. . . الذي ربط حياته أبوه بحياة هذه الزوجة الغنية التي لم يحبها، والتي ألقاها أبوه على كاهله حملاً ثقيلاً من الهم والشقاء. . . والذهب!! والذهب لا يصلح علاجاً للهم والشقاء مهما كان كثيرا طائلاً.(165/73)
لقد كان حمادة فتى ذكيا من فتيان الأزهر، فقطعه أبوه عن العلم ليزوجه هذه الزيجة الغنية قبل أن تفلت من يده، لأن أبناء العمد في القرى المجاورة كانوا قد بدءوا يخطبونها إلى والدها، وقد غادر حمادة الأزهر وفي قلبه حسرة، ولكنه خضع لمشيئة والده بعد أن خدعه بالأماني والآمال، وبعد أن زين له مستقبلاً مليئاً بالحور العين والدعة، وبعد أن بغض إليه مستقبل التحصيل الأزهري الشاق بتكرار هذه العبارة المنكرة: (الأزهر ما مستقبله؟ علومه ما قيمتها؟ أتريد أن تفقد بصرك وصحتك لتكون مأذوناً شرعيً آخر الأمر مثل الشيخ عرفه؟).
وتزوج حمادة من نظيرة، فلما كانت ليلة العرس، ودخل إلى عروسه، دارت به الأرض، وشعر كأن هواء الغرفة يخنقه، وانطفأت في عينيه الشموع الكثيرة الموقدة في (الصواني) النحاسية تحملها القرويات الصغيرات، وخيل إليه كأن جهنم بكل ما فيها من سعير تزفر من لهب هذه الشموع فتكاد تحرقه.
لقد نظر إلى عروسه فطاشت أحلامه؛ وذهبت أمانيه في الجمال الذي كان ينشده أباديد. . . حمادة، الذي كان يعبد الله في الجمال يبتليه أبوه بهذه المرأة التي فقدت نصف أذنها اليمنى، وأتلف الجدري أنفها، ونما لها في كل يد إصبع سادس ما ينفك يرقص كأنه الجلجل الصغير في عنق الدابة، ثم هي قصيرة مكلثمة شائهة، وقد زادتها الأساور والقلائد والقرط والخواتم وأرطال الذهب قبحاً على قبحها.
وتذرع حمادة بالصبر، ولم يشأ أن يجرح عزة هذه العروس التاعسة التي ليس ذنبها ألا تكون جميلة، فهي لم تخلق من نفسها شيئاً، بل هو قد رحمها وأشفق عليها رثاء لها؛ وصرف أهله وأهلها، وغلَّق الباب، وخلا إليها، ثم راح يكلمها كلام الذاهل عن تفسه، المستسلم لقضاء الله. . . ولكنها لم ترد عليه، بل تركت دمعة غليظة تنحدر على خدها فجأة، ثم استخرطت بعد ذلك في البكاء.
- (ما الذي يبكيك يا. . .)
- (لا شيء! فقط، كنت ولا زلت أعتقد أنني لم أكن أصلح لك كزوجة، ولكنهم أرغموني كما أرغموك يا حمادة، فليس هذا الذنب ذنبي!).
- (ولكنك مخطئة، فأنت امرأة صالحة وغنية!)(165/74)
- (وهذا هو موضع أساي وسبب بلواي. . . اسمع يا حمادة، لك مطلق الحرية في أن تُسرِّحني من الغد وأن تكون حراً بعد ذلك، وسأرد لك صداقك، بل سأرده مضاعفاً إن شئت. فإن أردت أن تستبقيني لديك فسأعيش معك عذراء إلى الأبد، ولن أنغص عليك بخلقي الشائه متاع قلبك ونعيم نفسك ولذة شبابك ونضرة صباك. فهذه أشياء لك أن تنعم بها، ومن الظلم أن أفرض عليك هذا القبح الذي رزأتني به المقادير، فأقف به بينك وبين لذات الحياة وهناءتها. . . أرسلني أشكر لك، أو استبقني أحمدك. فإن كانت الأولى تكن قد خلصت من خطأ أوقعك فيه غيرك، ولم تتكلف في سبيل الخلاص منه قليلاً ولا كثيراً؛ وإن تكن الثانية، فثق أنني سأعيش في كنفك كما تعيش الراهبة في دير ساكن هادئ على هامش صحراء، يقنعها أن قد انقطعت عن بهارج الحياة وزخارفه وآمنت ببطلان لذاتها. . . آه! يا إلهي! لم لا نتخذ نحن المسلمين مثل هذه الديور؟. . .
- (كفى يا نظيرة كفى! بل تعيشين معي على أحسن ما تعيش فتاة تفرح برجلها!. . .
وعاشت نظيرة في كنفه، عذراء كما عاهدته، وكان هو يحنو عليها ويعطف كل العطف، وكان يسامرها ويلاطفها ويهش لها ويبش، حتى كلفه أبوه بمراقبة الفلاحات إذ ينقين الأرز من الحشائش الغريبة وسائر الطفيليات، فرأى فاطمة. . . فاطمة الشابة الجميلة التي تتأرج كالزهر بشذاها وعَرْفها، وتتبرج كالدنيا بمفاتنها وظرفها. . . لقد بسمت له عن فم رقيق، وغمزت قلبه بعين خبيثة ماكرة ففجرت فيه أحاسيسه المكبوتة، وأطلقت عواطفه الحبيسة، وأحيت في صميمه مطالب الشباب فثارت كالبركان، وصعد الدم الحار يغلي في رأسه، وتدفقت في أعصابه قوى هائلة من الطبيعة البشرية بغَّضت إليه هذا الزهد المصطنع الذي فرضته عليه نظيرة، وقبحت إليه تلك الرهبانية التي عرفها وهو في ميعة الصبى وشرخ الشباب منذ الليلة الأولى التي رأى فيها زوجته الشائهة المسكينة.
وكان يرسل من يشتري له بلحاً أحمر يأكله بعد الغداء، وكان يوزع على الفلاحات بيده من ذلك البلح إذا فرغن من غدائهن؛ وكان نصيب فاطمة من هذا البلح الأحمر كبيراً منتقى، أثار في قلوب أترابها غيرة شديدة وجعلهن يهمسن بكلام كثير.
ومرت الأيام. . . وتأكد الحب بين حمادة وفاطمة، وإنه لينتظرها الليلة في هذا المنعزل الفريد عند ضفة النيل مما يلي الماء، قريباً من تلك الجميزة الكبيرة الوارفة، وإنها لتتأخر(165/75)
عن موعدها فيقلق حمادة ويضطرب، ويسمج في عينيه كل شيء من الطبيعة الساحرة التي حوله، حتى بدرها الذي كان للحظة قصيرة يتلو عليه مزامير الحب، يخيل إليه أنه مظلم قاتم، أو أنه جذوة من الشك السادر الحزين تجوب أقطار السماوات.
(لم لم تأت يا ترى؟ آه اللعينة! أخشى أن يكون في الطريق إلى قلبها فتى سواي. . . سأعرف. . . لا بد. . . لابد أن أعرف. . . سأسألها الليلة، لابد أن ألقاها مهما كانت ظروفها، لن تستطيع أن تنكر، ماذا تقول؟ هيه!)
وصعد إلى الجميزة لأنه لم يحتمل مرور الزمن وهو يترقب وينتظر، وجمع قليلاً من الجميز الفلكي الأحمر الكبير، وهبط ليلقى فاطمة تنتظره، فقذف بالثمر الناضج على العشب، وفتح ذراعيه وضم إلى صدره فاطمة، واحتملها كاللعبة، ويمم شطر المنعزل الهادئ القريب من الماء. . . ثم جلسا يتناجيان. . .
- (لماذا أبطأتِ عليّ يا بطة؟)
- (لا شيء، غير أنني كان يخيل إليّ أن الطريق كلها عيون ترقب جميع حركاتي، وكنت على غير عادتي أشعر بقلبي يخفق خفقاناً شديداً. . . حمادة أليس قلبك يخفق مثل قلبي؟).
- (يخفق؟ يخفق فقط؟ إنه كاد ينخلع هذه الليلة يا طمطم لأنك أبطأت كثيراً. . .).
- (حمادة، أنا خائفة. . .).
- (خائفة؟ من ماذا يا حلوة؟ هل هنا عفاريت؟).
- (لا، ليس من العفاريت، فالليلة مقمرة. . . الحمد لله. . .).
- (إذن مم تخافين؟ هل تعقبك أحد إلى هنا؟).
- (لا. . . لا أظن، ولكن. . .).
- (فاطمة. . . كفى! يجب ألا تفكري في شيء ما دمت معي. . . تعالي يا فاطمة، هاتي فمك الخمري الجميل، الله! ما أشهاه يا فاطمة! قبلة ثانية، لا والله، لابد، لابد، فاطمة، أنت ترفضين؟ آه! يا قلبي!).
- (حمادة! أنا خائفة قلت لك!).
- (خائفة من أي شيء يا طمطم؟).
- (من. . . من. . . منك. . . أنا خائفة منك يا حمادة؟!).(165/76)
- (مني؟ مني أنا؟ أنت خائفة مني؟).
- (نعم أنا خائفة منك. . . خائفة جداً!).
- (لماذا؟ هل أنا عفريت؟ القمر طالع والحمد لله؟. . .).
- (حرام عليك يا حمادة!).
- (حرام علي ماذا؟).
- (شيء. . . فقط. . . زوجتك نظيرة. . . إنها لو علمت تقتلني!).
- (امرأتي نظيرة! العياذ بالله؟ نظيرة ليست امرأتي يا فاطمة!).
- (ليست امرأتك؟ امرأة من إذن؟).
- (أجل، نظيرة ليست امرأتي! إنها فريسة أبي).
- (فريسة أبيك كيف يا حمادة!).
- (فريسة أبي، لأنه تجاهل قلبي وشبابي حين اشتراها لي).
- (اشتراها لك؟ وهل العرائس تشترى! ماذا تقول يا حمادة؟).
- (اشتراها، أجل اشتراها، اشترها لأنها تملك خمسين فداناً ومنزلين وعندها نقود كثيرة، ولكنها، كامرأة. . . لا تسوى منك قلامة ظفر يا فاطمة!).
- (لمه؟ أليست جميلة؟).
- (جميلة؟ كلا! إنها شوهاء! أكل الجدري نصف أنفها وذهب الجزار بنصف أذنها، ونبت النصفان، نصف الأنف ونصف لأذن، في يديها، فكانا في كلٍ إصبعاً سادسا؟. . .).
- (ولكنك تخونها الآن يا حمادة؟ أليس كذلك؟).
- (أخونها، لقد صرحت لي ليلة الدخلة أنها لن تقف في سبيل لذاتي!).
- (ورضيت أن تعاشرها على هذا الشرط؟).
- (. . .؟. . .).
- (وأنا أرفض أن أكون مطية للذتك! هذا كثير! دعني! لابد أن أعود أدراجي!).
- (إلى أين؟).
- (ليس هذا شأنك!).
- (آه! اعترفي إذن! إلى عشيقك الثاني! الذي أخرك هذه الليلة!).(165/77)
- (حمادة؟ ماذا تقول؟ أنت جبان!).
- (جبان؟ لا. . . أنا لست جباناً. . . ألذلك تخافين مني؟ ولكن لا، لن يتمتع بك أحد غيري، أنت لي وحدي، أفهمت؟ أنتِ لي وحدي! فاطمة! انزعي هذا الثوب. . . وذاك النصيف!).
- (يا حمادة عيب!).
- (عيب؟ لا، ليس في ذلك عيب مطلقاً! قد عرفتك الليلة فقط، ولابد أن أنالك رضيت أو لم ترضي! ستكونين جميلة جداً وأنت عارية!
- (حمادة! إن لم ترجع (فسأصوّت).
- (صوّتي ما شئت! لا تفضحين إلا نفسك! أنا رجل على كل حال، ماذا يهمني إذا اجتمع الناس؟. . .
وانقض عليها المسكين ينزع عنها ثيابها ثوباً ثوباً. وما استعصى عليه منها جبذة فمزقه، حتى وقفت أمامه فاطمة دمية من المرمر الناصع. . . تمثالاً! تمثالاً فاتناً خلاباً. . . ولكنه لا يتحرك! لقد ذهلت فاطمة عن نفسها فلم تدر ماذا تصنع؟ أتصوّت كما أنذرته؟ ولكنه قال لها إنها إن فعلت فلا تفضح إلا نفسها. . . جبنت فاطمة فلم تصوت إذن. . . ووقفت مشدوهة حائرة، وصب القمر على بدنها الجميل المذعور أضواءه الفضية فزادها فتنة؛ وهبت نسمات عليلة فداعبت شعرها الأسود فانتثرت على جيدها وظهرها وحول عنقها. . . وجاء دور الشيطان. . . نوبة إبليس الأكبر! فرح يصقل فخذيها ويلون خديها ويثقل ردفها وينفخ ثديها. . . وانطلق يوسوس في قلب حمادة (هلم! أهجم عليها! لماذا تنتظر! ها هي ذي! إنها لك الساعة وإذا فارقتك فلن تراها بعد! أنت شاب، وللشباب مآربه! زوجتك الشائهة! لا تخش شيئاً! اقطف الثمرة قبل أن يلتقطها عشيق غيرك! الجدري! فاطمة جميلة ساحرة؟ الإصبع السادس! هالك متاع الدنيا!. . .).
وأزله الشيطان فانقض على الفتاة البائسة. . . وطرحها على (الدريس) اليابس وأعواد البردي المنداة. . . ووقف برهة يملأ ناظريه الفاسقين من جمالها المظلوم. . . وقبل أن يتقدم فيخطو الخطوة الأخيرة، وحين أيقنت فاطمة أنه موشك أن يعتدي عليها. . . اغرورقت عيناها بدموع غليظة، وقالت له:(165/78)
- (حادة! والقرآن يا حمادة! القرآن الذي حفظته في الأزهر؟ نسيته؟ نسيته يا حمادة. . . بهذه السرعة؟).
- (القرآن؟ القرآن!! هه!. . .).
وجمد الفتى في مكانه لحظة. . . ثم ولى الفتاة ظهره، ونظر إلى السماء وقال:
- (ربي! غفرانك اللهم. . . فاطمة!).
- (. . .؟. . .
- (انهضي فالبسي ثيابك!).
ونهضت فاطمة وهي لا تصدق، فارتدت ملابسه، الممزق منها وغير الممزق، ثم قالت لحمادة بصوت خاشع متهدج:
- (حمادة! أنت. . . مالك يا حمادة).
ولكن الفتى ازوَرّ عنها وقال:
- (لا شيء يا فاطمة. . . عودي أدراجك إلى منزل أبيك، وسأحرسك من بعيد. . .).
وانطلقت الفتاة في الطريق المقفر الموحش، وانطلق في إثرها حمادة، وهو لا يكاد ينظر إليها. . .
- (نظيرة! هل يحزنك أن أتزوج؟).
- (يحزنني؟ بل يسرني أن تمتع شبابك كما يحلو لك!).
- (إذن فقد عقدت على فتاة فلاحة. . . فقيرة في غاية الفقر وستكون خادمة لك إذا شئت!
- (من؟ من هي يا حمادة؟ من هي بالله عليك!).
- (فاطمة بنت عم عبد القادر العتال!).
- (مبارك. . . مبارك يا حمادة
ولم تحتمل نظيرة الموسرة هذه الرهبانية التي فرضتها على نفسها في منزل العمدة الذي خدع ابنه فرجت حمادة في طلاقها. . . وذهبت بكل ما عليها من ذهب إلى منزلها الرحب الفسيح في إحدى القرى المجاورة للمنصورة!
دريني خشبة(165/79)
البريد الأدبي
إحياء الموسوعات العربية العامة
رأى صاحب المعالي الأستاذ زكي باشا العرابي وزير المعارف أن تقوم وزارته بإحياء المصادر التاريخية والأدبية للمخلفات العربية العامة، فأمر أن تؤلف لجنة من رجال الأدب لبحث هذا المشروع الخطير.
وقد اجتمعت هذه اللجنة بوزارة المعارف ظهر الاثنين الماضي (24 أغسطس) برياسة الأستاذ محمد العشماوي بك وكيل المعارف، وحضور حضرات أصحاب العزة محمد عوض إبراهيم بك، والأستاذ علي الجارم بك، ومحمد أحمد جاد المولى بك، ومراقبي التعليم ومساعديهم، واختارت لجنة فرعية من شيوخ اللغة العربية بالوزارة لتنفيذ رغبة معالي الوزير بمراجعة الأصول العربية وإخراجها بإشراف الوزارة ورعايتها، بحيث تمكن هذه المراجع الهامة من إعطاء مادة كافية من وضع كبار مؤلفي العرب لمشروع دائرة معارف عربية كاملة بشكل يتفق مع زعامة مصر للأمم العربية.
وقد شرعت الوزارة في اعتماد المبالغ اللازمة لتنفيذ المشروع. .
ومن المصادر التي رأت اللجنة مراجعتها: ابن الأثير، والطبري، وتاريخ ابن مسكويه، وتاريخ ابن خلدون، وطبقات ابن سعد، ونحو خمسين مؤلفا غيرها لها أهميتها الأدبية كالأمالي والكامل والأغاني والتراجم المختلفة في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر.
ولا شك في أن وزارة المعارف بهذا المشروع ستسدي خدمة جليلة للناطقين بالضاد في جميع أنحاء العالم العربي.
للحقيقة والتاريخ
ضمنا مجلس مع فخامة حقي بك العظيم، رئيس مجلس الشورى، وكانت لا تزال في خاطري ذكرى القصة الشجية التي قرأتها في مجلة (الرسالة) الغراء في عددها (161) للأستاذ علي الطنطاوي بعنوان (النهاية). . . وما تضمنته من حوادث خاصة عن والي دمشق ناظم باشا والجفاء الذي لقيه عند زيارته لها فيما بعد؛ فذكرت ذلك لحقي بك، وكان يومئذ حاكم دمشق، فاستغربه وقال: إني أربأ بالكاتب أن يصل به خياله لهذه الدرجة برغم(165/80)
أن كتابته عالية. ثم أخذ يسرد علينا قصة مجيء ناظم باشا إلى دمشق والحفاوة البالغة التي حظي بها قال:
(. . . ثم أتى دمشق بعد أن زار ابنتيه في بيروت، وكان ببزة عادية، فبقي فيها عدة أيام زارني خلالها في (السرايا) فاستقبلته بكل حفاوة وتعظيم تقديراً له وإكراماً لأعماله العمرانية التي أودعها في مدينتا. . . وعند خروجه اصطفت له جنود الحرس وأقامت له التحية الرسمية، وودعته أنا حتى الباب الخارجي، وقد احتفى به معظم وجوه دمشق، وتقدموا إليه بهدايا عديدة رفضها بكل إباء. وكان قد أحس نقيب الأشراف بوجوده فأتاه في اليوم التالي ورجاه أن يطيل بقاءه بضعة أيام أخر لتقوم دمشق بواجبها نحوه، فاعتذر بضرورة مغادرته المدينة إلى بيروت، حتى أن السلطة الفرنسية تقدمت إليه بمنتهى الإكرام. وإني أذكر أن الكولونيل كاترو أدّب له وليمة فاخرة كنت من المدعويين إليها. ولم يُظهر ناظم باشا مدة إقامته بدمشق عجزا أو حاجة مالية قط. وربما شعر بعض أصدقائه بشيء فتقدموا نحوه بعطايا كما ذكرنا فرفضها. ومن ذلك أن رجلاً يدعى (شيخو آغا) كان (ياورا) عند الوالي، جاءه بكل خضوع وبيده كيس صغير فيه (500) دينار، واستعطفه بلطف ورجاه أن يقبله منه كهدية، قلت أو كثرت، فهي من خيراته السالفة التي أنعمها عليه، فأبى بعفة نادرة. . . ثم مات منذ خمس سنوات. . .).
حدثت هذه المقابلة اتفاقاً، فلم أرد أن أهملها أو أخفيها على قراء (الرسالة) الغراء خدمة للحقيقة والتاريخ.
وإنا وإن كنا نستسيغ للأستاذ الطنطاوي الخيال المبدع في القصص، فإننا لا نود أن يتسمح في الحقائق التاريخية. وإن إعجابي الشديد بمتانة أسلوب أخي الأستاذ الطنطاوي، وقوة إنشائه، شجعاني لتصحيح هذه الناحية من قصته إتماماً لفنه القصصي البارع، والسلام.
(دمشق)
علاء الدين الخاني
المسألة الاستعمارية
ظهرت في العهد الأخير نزعة استعمارية جديدة في بعض الدول التي لم تتح لها فرصة(165/81)
امتلاك المستعمرات من قبل أو التي فقدت مستعمراتها لأسباب خاصة؛ وترجع الدول التي تضطرم بهذه النزعة الجديدة مثل إيطاليا واليابان وألمانيا وبولونيا مطالبها إلى حق المشاطرة في امتلاك المستعمرات على قدم المساواة مع الدول الأخرى التي تتمتع بالأملاك الاستعمارية الواسعة مثل فرنسا وإنكلترا وهولندا؛ وتزعم فوق ذلك أن لها حق الفتح والامتلاك بالقوة ما استطاعت سبيلا إلى ذلك، وتدعي أن العوامل الاقتصادية تدفعها إلى ذلك دفعاً؛ فزيادة السكان، والعطلة، وفقد المواد الأولية، وغيرها مما يرغمها على تلمس السبيل إلى تخفيف متاعبها الاقتصادية بامتلاك المستعمرات واستثمارها.
وقد بحث هذه المسألة كاتب سياسي واقتصادي كبير هو المستر جروفر كلارك، وأصدر عنها أخيراً كتاباً ضافيا بعنوان (مكان تحت الشمس) وألحقه برسالة أخرى عنوانها (قوائم الاستعمار) وفي الكتاب الأول يفند مستر كلارك مزاعم الدول الاستعمارية من الوجهة السياسية والتاريخية، وفي الثانية يفند مزاعمها من الوجهة الاقتصادية بإيراد الإحصاءات التي تدل على أن الغايات الثلاث التي تستتر وراءها: أعني إيجاد منذ للسكان، وافتتاح الأسواق المحلية، والحصول على المواد الأولية، إنما هي غايات مزعومة.
ويلاحظ مستر كلارك أن تحقيق هذه المزايا لا يتوقف على امتلاك المستعمرات فقط، بل يتوقف قبل كل شيء، وخصوصاً أيام الحرب، على القوة البحرية التي تملكها الدولة المستعمرة. ومن جهة أخرى فأن معظم البلاد التي تطمح إليها الدول المستعمرة قد أصبحت تغص بسكانها الأصليين، ومن الصعب أن ينافسهم في استثمار مواردها ومرافقها مهاجرون من الخارج، وينطبق هذا بنوع خاص على البلاد الواقعة في المناطق الحارة.
بيد أن العوامل الاقتصادية ليست كل شيء في الموضوع، فهناك ما يسمى بالعزة القومية، وهي مسألة أثارتها ألمانيا بنوع خاص. وهذا العامل المعنوي يراه المؤلف ضرباً من اللغو ولا يرى أن يقف به طويلاً، إذ أن المبدأ المسلم به هو (أن تحصد أينما بذرت).
وبحوث مستر كلاك وملاحظته جديرة بالاطلاع والتقدير.
من أخبار السفهاء في مصر
قرأنا في أحد أعداد جريدة الجورنال الباريزية ما يأتي:
(في مصر، على مقربة من الأقصر، يبنى الآن قصر فخم، وذلك من أجل سحر عيون(165/82)
ممثلة من أشهر ممثلاتنا السينمائيات. وقد قال لها محبها، وهو فتى ساحر، يملك قرى بأسرها وحقول قطن على ضفاف النيل: (سوف تعيشين هناك كملكة!) فأجابته الممثلة: ولكني إلى أن يتم ذلك سأعود إلى فرنسا وأشتغل بإخراج فلم (الملك). وقد كانت ممثلتنا العظيمة الرشيقة عند قولها. ذلك أن ج. م (جابي مورلي) سوف تأتي في مدى أيام قلائل لتقوم بإخراج شريطها).
أجل تبنى القصور في مصر وتنفق الألوف من أجل عيون الممثلات والغانيات الأجنبيات! وهذا الفتى المصري (الساحر) الذي تشير إليه الجريدة الباريزية هو أحد أولئك الفتيان الذين ورثوا أموالً مكدسة لم يعرفوا كيف حصلت أو كيف تحصل بعرق آلاف الفلاحين، وإنما يعرفون كيف تنفق على الموائد والغانيات بلا حساب في مصر وفي غير مصر: أولئك السفهاء هم في الواقع عنصر مسموم في المجتمع المصري يجب القضاء عليه بكل الوسائل.
أوراق العظماء
صدر أخيرً في فرنسا قانون جديد يقضي باعتبار المراسلات والمذكرات الصادرة من العظماء سواء في الحكومة أو خارجه من الآثار العامة التي يجب حفظه وحمايتها، وقد كانت أمثال هذه المراسلات والوثائق تعتبر حتى اليوم بطريق العرف والتقليد من الآثار العامة. ولكن الحكومة الفرنسية رأت أن تسبغ على هذا العرف صفة رسمية كي تستطيع في بعض الأحوال أن تضع يدها على الوثائق والمراسلات المخلفة عن العظماء وأن تودعها على ذمة التاريخ في دار المحفوظات العامة على رغم معارضة المعارضين.(165/83)
العدد 166 - بتاريخ: 07 - 09 - 1936(/)
وَزْنُ الماضي
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وقال صاحب سر (م) باشا: إني لجالس ذات يوم وفي يدي كتاب لبعض المتفلسفة من مَلاَحدة أوربا الذين يريدون أن يفهموا ما لا يفهم؛ وكان الباشا قد رآني مرّة أنظر فيه وأتدبر مسائله الغامضة، فقال لي: يا بني إن أحد الكلاب كان شاعراً فيلسوفاً، فنظر ليلة في النجوم فراعته وحيّرته؛ فآلى أن يفهمها بعقله وتفرغ لدرسها مدة طويلة، ثم وضع فيها كتاباً نفيساً ضخماً كان أعظم كتب الفلسفة وأشدها غموضاً عند الكلاب، وكان اسمه: العظام المبعثرة فوقنا. . . .
قال: فأنا جالس أقرأ هذا الكلام الذي لا صحيح فيه إلا أنه غير صحيح. . . إذ دخل عليَّ كاتب متفلسف ملحد من هؤلاء المدخولين في عقولهم المفتونين بأوربا ومذاهبها وعُلويَّاتها وسُفلياتها. . وهو يكتب في الصحف ويؤلف الرسائل، وقد جاء يستصرخ الباشا على فلاَّح شاركه في زراعة أرضه فزرعه الفلاح فيها وحصده، ودهاه بكيده، وابتلاه بغلظته، وتهدَّده بالنقمة.
وكان هذا الفلاح الساذج الغرير قد سبقه إليَّ وعرَّفه لي تعريفاً قاموسياً محيطاً من مادة كَفَر يكْفُر. . . ثم قال بعد ذلك إنه (بيَّاع كلام) يصدق ويكذب حسب الطلب. . . والذمة نفسها ليست عنده إلا (عملية حسابية)؛ وهو في أقوى جهاته لا ينفع الدنيا بما تنفعها به البهيمة من أضعف جهاتها.
أما الكاتب فيقول عن هذا الفلاح: إنه لا يدري أهو يُتمُّ بهائمه أم بهائمه هي التي تُتمه، وإن الذي يرفع القضية على مثل هذا المخلوق إلى المحكمة لا يكون إلا كالذي يُقَعْقعُ بالعصا على جُحْرٍ فيه الحَّيةُ السامة.
ورأى المتفلسف الكتاب على يدي فتهلل واستبشر وقال لي: هذا نسب بيننا. . فأدركت من كلمته هذه جملته وتفصيله، وخيَّل إلي أني أرى فيه نفسه الشرقية كالمرأة المطلقة. . . فقلت له: أنا اشتريت هذا الكتاب من أوربا ولكني لم أشتر منها دماغي. .
وكلَّمته أستخرج ما عنده فإذا هو في قومه وتاريخ قومه كالسائح في بلاد أجنبية يفتح لها عينه ولا يفتح لها قلبه.(166/1)
وكان جريئاً في كلامه مع الباشا يطرد القول حيث شاء حقاً وباطلاً، ثم لا سِنَاد لرأيه ولا تثبيت لحجته إلا قول فلان ورأى فلان كأن في رأسه عقلاً شحاذا. . . ثم ذكر آخر الأمر ما جاء له فخجَّله الباشا وقال: هذه مسألة ككل مسائلك تحتاج إلى رأي فيلسوف أوربي. . . وأعرض عنه ولم يدخل في شيء من أمره.
ولما انصرف قال الباشا: يحسب هذا نفسه عالماً وهو صعلوك علمي. . . وإنما يكون دماغه وأدمغة أمثاله عند الفلاسفة والعلماء الذين يذكرونهم كما تكون سلة المهملات عند الصحافيين. إن هذا الرجل يتم ضعف عقله في الرأي بقوة عناده فيه ليجعل له ثبات الحقيقة فيُظنَّ حقيقة، كأن خَضْخَضَةَ الماء باليد في وعاء صغير ينقل إلى هذا الوعاء طبيعة الموج. وعند أمثال هذا المفتون من الصعاليك العلميين - أنك إذا تناولت مسألة فأخطأت فيها خطأ جريئاً فقد جعلتها بخطئك الجريء مسألة من العلم. . . وأنك إذا عاندت فثبت الخطأ في وجه الناقدين سنة، كأن حقيقة مدة سنة. . .
هم مفتونون زائغون، ومن فتنتهم أنهم يرون البعد بينهم وبين أهل الفضائل الشرقية كالبعد بين العالم والجاهل؛ ولو حققوا لرأوه بعداً في الغرائز لا في العقل، أي كالبعد بين الفجور وما أشبه الفجور وبين التقوى وما أشبه التقوى.
زعم الأحمق أن خصمه الفلاح رجل راسخ في الماضي كأنه باقٍ في أمسِ لم ينتقل منه، مع أن أمس قد انقطع من الزمن؛ وخرج من ذلك إلى أن الأمة يجب أن تنبذ ماضيها؛ وادعى أن الإسلام يتعصب للماضي. هذه ثلاث كلمات تخرج منها الرابعة التي سكت عنها. . .
وأنا لو شئت أن أسخر من مثل هذا الصعلوك العامي لما وجدت في أساليب السخرية أبلغ من أن أبعث إليه بقارورة فارغة وأقول له املأها لي من آراء الفلاسفة. . .
يغفل هذا وأمثاله عن أن الدين الإسلامي لا يعرف الماضي بمعنى ما مضى على إطلاقه، بل هو يشترط فيه ألا يخالف العقل ولا العلم وألا يناقض الهداية. (قالوا بل نتبِعُ ما ألفينا عليه آباءنا. أوَلو كان آباءُهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون). وفي الآية الأخرى: (قالوا حَسبُنا ما وجدنا عليه آباءَنا. أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون). وفي الثالثة: (قالوا بل نتَّبعُ ما وجدنا عليه آباءنا. أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) وفي الرابعة: (إن(166/2)
وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مُقْتَدون. قال أولو جئتكم بأهدى مماوجدتم عليه آباءَكم).
فانظر كيف صور ما نسميه اليوم بالجمود في قوله (حسبُنا) وكيف صور ما نسميه بالرجعية في قوله (نتَّبع). وتأمل كيف رفض الجمود والرجعية معاً في العلم والعقل والهداية أي في آثارها من العلوم والمخترعات والفضائل الإنسانية، وكيف أبطل في تلك الثلاث الاحتجاج بالماضي بهذا الأسلوب الدقيق العالي وهو قوله في كل آية: أَوَلوْ، لم يغيرها بل كررها بلفظها أربع مرات.
فالمعجز هنا مجيء الآيات بهذه الصورة المنطقية لإسقاط حجتهم ونفي معنى التقديس عن الماضي فيهن إذا كان العلم دائم التغير، وكان العقل دائم التجديد والإبداع، وكانت الهداية شديدة على الطبيعة الحيوانية التي هي ماضي النفس فكأنها جديدة على النفس عند كل شهوة.
إن الإنسان بماضيه وحاضره كأنه مقسوم إلى قسمين يقول أحدهما: أريد أن أكون، ويقول الآخر: أنا قد كنت. فالإسلام بهذه الآيات قد أوجب وزن الكلمتين في كل زمن بما هو الأصح، وبما هو الأنفع، وبما هو الأهدى؛ وباشتراطه الهداية في جميعها أشار إلى أن الكمال النفسي للفرد يجب أن يكون مرتبطاً بالكمال الإنساني للجنس؛ وهذا معنى عجيب، وأعجب منه ما ترى من أن الإسلام قد أصلح فكرة الماضي فنقلها من معنى الآباء والأجداد للناس إلى المعاني التي هي كالآباء والأجداد لإنسانية الناس. والأخذ (بالأهدى) في اجتماع أمة من الأمم إنما هو بعينه ناموس الترقي والتطور.
ومن أدق الأسرار قوله: (إنا وجدنا آباءنا على أُمَّة). فكلمة (أمَّة) هذه لم يعرفها أحد على حقيقتها، ولم تفسرها إلا علوم هذا الزمن، فهي المشاعر النفسية التي يتكون منها مزاج الشعب وفيها يستقر الماضي؛ كأن الآية قد عبّرت بآخر ما انتهى إليه علماء النفس من أن الإنسان ابن أبويه وابن شعبه أيضاً. فالتعصب في الإسلام هو للعلم النافع وللمجد الصحيح وللهداية الباعثة على الكمال؛ وتعصب الجيل لمثل هذا في ماضيه هو في اسمه تعصب، غير أنه في معناه إنما هو العمل لتسليم مجد الأمة إلى الجيل التالي.
(طنطا)(166/3)
مصطفى صادق الرافعي(166/4)
من ذكريات لبنان
بعد نهار جميل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(والآن ماذا ينبغي أن نأخذ معنا؟ - حاذروا أن تنسوا شيئاً).
فقالت زوجتي: (لا تنسوا الكاميرا. . فسنحتاج إليها ولا شك).
وقال فكتورين - جارتنا -: (الأفلام. . ما فائدة الكاميرا بلا أفلام؟).
قلت: (صدقت. . وماذا أيضاً؟).
فقالت زوجتي: (والصابون!).
وقال فكتورين: (ورق اللعب. . أليس كذلك؟).
فقلت. (والأطباق والملاعق والفوط والسكاكين!!. إن من يسمعكما يخيل إليه أننا ذاهبون إلى بعض مجاهل الدنيا).
فقالت زوجتي: (الحق أقول لكم إني أخشى علينا. . . إن هذه الجبال لا عهد لنا بها وسنعود بالليل. . وقد كنت أفضل أن يقود السيارة رجل يعرف الطرق. . رجل من أهل البلاد).
قلت: (الحق معك. . فإني أخشى الثلج على الجبال)
فصاحت زوجتي: (ثلج؟؟ هل قلت الثلج؟).
قلت: (نعم. . جبال من الجليد. . وسنحتاج أن نربط السيارتين معاً بحبل واحد. . فإذا سقطت إحداهما في الهاوية جرت الأخرى معها. . . ألا تكفون عن التخريف؟).
فكفوا. . وقمنا إلى مضاجعنا استعداداً للسير في بكرة الصباح.
وكنا ثمانية في سيارتين: زوجتي وأولادي وأنا في سيارتنا، وجيراننا في سيارتهم. فانطلقنا منحدرين في الطريق إلى بيروت وهو طريق وعر كثير التعرج والتلوي، ولكنه أملس كبطن الكف. غير أنه مخيف - يقوم الجبل على جانب منه، والوادي تحته من الجانب الآخر. ولا ترى منه وأنت تقطعه إلا القليل لأن تلويه حول الجبل وانثناءه كالحبل أو كالحية يخفيانه. وكان الضباب في أول الأمر يمنعنا أن نسرع، ولكن الشمس بددته فانكشفت الدنيا لعيوننا فنعمنا بجمال الوادي الأخضر، وجلال الجبل الشامخ، وقد قام الشجر الثمير على سفحه بين كتل الصخور، واختلطت فيه بهجة النور وزهرته بنضارة الخضرة.(166/5)
وليس أوقع في النفس من السير في طريق تشرف عليه الجبال وتغيب قننها في السحاب فكأنها عروش للطبيعة!!!
وظللنا ننحدر وندور حول جبل بعد جبل، ونمرق من القرى والضياع واحدة بعد واحدة، وما هو إلا أن نلف مع الطريق حتى تختفي فجأة، ثم إذا هي بعد لفة أخرى تبدو لنا منازلها منتثرة وبعضها فوق بعض؛ ثم ندور مرة أخرى فتحتجب ونحن لا نكف عن الانحدار ولا نزال نهبط حتى استوى الطريق واستقام، فعلمنا أننا دنونا من بيروت. ولم تكن هي غايتنا فملنا عن طريقها وأخذنا في طريق (عالية) ثم شعرت أن السيارة صهدت جداً حتى صارت سخونتها لا تطاق؛ فعجبت، وخفت ووقفت، فسألتني زوجتي عن الخبر، فقلت: إن السيارة سخنة جداً، ولا أعرف لهذا من سبب إلا أن تكون أنابيب الماء قد ثقبت، فهو يسيل منها ولا يبقى فيها. وكنا لحسن الحظ في مدخل إحدى القرى فلم نجد عناء في الحصول على ماء صببناه فيها، وملأنا زجاجتين استعرناهما من بعض القوم. وبعد ذلك صرنا نضطر أن نقف من حين إلى حين لنصب الماء في السيارة ولم يكن ما حملنا منه كافيا، فكنا كلما بلغنا قرية نأخذ منها حاجتنا ونحتفظ بما في الزجاجتين للطريق بين القرى حتى بلغنا (الشاغور) وكان جيراننا قد سبقونا إليه.
وقفت بالسيارة وراء زميلتها وفتحت بابها فشدت زوجتي ذراعي وصاحت بي: (انظر. . . انظر. . .)
فنظرت إلى حيث تشير، فرأيت صبياً غريب الثياب. يلبس سروالاً - أو شروالاً كما يسمونه أحياناً في مصر - وقد لف على خصره - إذا جاز أن يسمى هذا خصراً - حزاماً أحمر غليظاً، ومن فوق ذلك - أو من تحته إذ شئت - صدرية من الحرير المخطط تجمع طرفيها سلسلة من الأزرار تنتهي عند العنق. وعلى رأسه لفة كبيرة. وفي كلتا يديه تفاحة عظيمة يهوي عليها بأسنانه.
وقالت زوجتي: (أين الكاميرا؟ دعه يقف حتى أصوره!).
فدنوت من الصبي وأنا أقول لنفسي: (أصيب عصفورين بحجر) أستوقفه حتى ترسمه زوجتي، وأكل إليه حراسة السيارة. ولكن الغلام رآني مقبلاً عليه، فجعل يتراجع، وعينه عليّ، وأسنانه تعمل في التفاحة، ولم يكن ثم شك في أن الصبي الأحمق يخشى أن أخطف(166/6)
التفاحة منه، فهو لهذا يدبر كلما أقبلت، وكنت أطمئنه وأؤكد له أني لا أريد به سوءاً وأن في وسعه أن يأكل تفاحته على مهل، ولكن هذا كان يزيده خوفاً، فقد أسرع في القصم وصار فيما أرى يزدرد ولا يمضغ. ولا أدري لماذا ألححت في دعوته أن يقف ويتمهل فقد كان هناك غيره ولم يكن ثم ما يدعو إلى الخوف على السيارة، ولكن الذي أدريه أنه فرغ من التفاحة ورمى وجهي بما بقي منها فأصاب أنفي.
ولما أفقت، التفت إلى زوجتي، وقلت:
(هذه جنايتك. . . وقد كان أنفك أولى، ولكن الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون) فضحكت.
وكان جيراننا قد خفوا إلى (مكان الحادثة) وعرفوا ما كان فانطلقوا يقهقهون معها. وقالت زوجتي:
(لقد استطعت أن ألقط صورتك حين وقعت التفاحة على أنفك).
قلت: (ستكون الصورة ذكرى جميلة. . . أليس كذلك؟ وهذا جزاء الأحمق الذي يتزوج. . . يجيء بامرأة فيطعمها، ويكسوها، ويبرها ويسرها ويعاني من أجلها وفي سبيلها المتاعب والمنغصات، وتضحك منه حين ينبغي أن تعطف عليه وتألم له).
فلم تعبأ بي، ومضت عني مع الجيران، وهي تضحك.
ونعمنا بيوم جميل في الشاغور، ولم يكن أقل ما سرنا نومنا على العشب، والماء إلى جانبنا يخرج من بين الصخور دافقاً راغيا يتحدر من صخرة إلى صخرة كالشلال. وانقضى النهار، وآن أن نعود من حيث جئنا. وكانت السيارة قد أصلحت في خلال ذلك، فركبنا وانطلقنا راجعين.
وقلت لزوجتي وقد بلغنا البيت (هاتي المفتاح!).
قالت: (أي مفتاح؟ إنه معك. . . لقد كنت أنت الذي أغلقت الباب، وأظنك وضعت المفتاح في جيب البنطلون).
وكان مفتاحاً كبيراً عتيقاً لا يعقل ألاّ أشعر به إذا كان في جيبي، ومع ذلك بحثت، وأخرجت الجيوب ونفضتها أمامها، وأوسعت السيارة بحثاً عسى أن يكون قد سقط مني فيها، فلم أجد له أثراً. فقلت وقد تعبت (أسوأ ختام لخير نهار. . . لا بأس. . . والآن لم يبق إلا أن(166/7)
نجيء بخيمة نقيمها هنا، أو أن يضيفنا الجيران وإن كان بيتهم لا يكاد يسعهم، أو أن ندخل البيت من النافذة. . . ولم لا؟ صحيح أنها مغلقة. . . ولكن ما قيمة هذا؟؟ نفلق خشبها بالفأس، ونحطم زجاجها. . . . وكل ما ينقصنا ليتيسر ذلك. . . . سلم طوله ستة أمتار على الأقل. . . وفأس. . . الأمر سهل جداً كما ترين. . . أم خير من ذلك أن أحملك على أسناني وأنفخك إلى النافذة، فإنك خفيفة كغلالة الورد. . . . ولكني أخشى أن تطيري إلى بيت آخر!).
فقرصتني قرصاً وجيعاً ولم أكن أتوقع ذلك فصرخت من الألم.
ولما قرت الضجة، قالت: (ألا يوجد في هذه البلدة نجار؟).
فاستحسنت الرأي، وأشرت عليها بالصعود مع الجيران إلى بيتهم حتى أجد نجاراً، وكنت أظن أن الأمر لا يكلفني إلا سؤالاً ألقيه إلى واحد من أهل البلدة فإذا النجار حاضر بقدرة ربك، ولكني مشيت بضعة أمتار - لا أقل من خمسة - وأنا أدور وألف، وضيعت أكثر من ثلاث ساعات قبل أن أجد النجار. ولما وجدته أخبرني أنه ليس عنده شيء يستطيع أن يفتح به الأقفال، واستمهلني ريثما يبحث. . . . واستغرق ذلك ساعتين أخريين. فلم ندخل بيتنا إلا بعد منتصف الليل!
ولا أزال أحاول أن أحتفظ بذكرى ذلك النهار - على الرغم من التفاحة التي بططت أنفي - وأن أنسى عناء تلك الليلة ولكن الذكريين في قرن، وكل منهما تثير الأخرى، فما العمل؟؟
إبراهيم عبد القادر المازني(166/8)
صور سياحة
منشن
مهد الحركة الاشتراكية الوطنية
(بقلم سائح متجول)
كانت العاصمة الألمانية تغص منذ شهر يوليه بمئات الألوف من الزائرين الذين اجتذبهم موسم الألعاب الأولمبية؛ ولهذا السببذاته لم تجذبنا برلين الزاخرة إليها، ولم نر في الألعاب الأولمبية وضجيجها ما يؤذن بالإقامة الهادئة؛ لذلك تركنا برلين وضجيجها، وآثرنا أن نمضي أياماً في بافاريا وعاصمتها مِنشِن (ميونيخ) مهد الاشتراكية الوطنية، ومبعث المبادئ والنظم التي تسود ألمانيا منذ أربعة أعوام.
إن أول ما يلفت نظر الزائر لألمانيا الجديدة طابعها الاشتراكي الوطني أو بعبارة أخرى طابعها الهتلري؛ ففي كل مكان تخفق الأعلام النازية الضخمة بكثرة مدهشة، وفي كل مكان تعلق صورة (الزعيم) (الفيرر)؛ وفي كثير من الأمكنة العامة مثل دور البريد والبنوك تعلق لوحات عليها ما يأتي: (تحيتنا: ليحي هتلر!) ويحمل الأفراد الشارات النازية بكثرة، على صدورهم وأذرعهم، وفي قبعاتهم؛ وهكذا في كل مكان تشهد كثيراً من المظاهر المادية للطابع النازي (الاشتراكي الوطني) العميق الذي يسود ألمانيا الجديدة.
وليس الطابع المعنوي لهذه الظاهرة أقل قوة ووضوحاً؛ ذلك أن الزائر الذي يلاحظ عن كثب يشعر بأنه يعيش في أفق عميق من المبادئ الجديدة، ويخيل إليه أن ألمانيا كلها تتنفس هذا الريح الجديد الذي نفثته فيها الحركة الهتلرية. ولست بحاجة لأن تتحدث مع أحد لتأنس هذا الشعور وإنما تشعر به من تلقاء نفسك شعوراً قوياً تنفثه فيك ألمانيا الجديدة في كل مكان.
ولا ريب أن من الصعب أن نتبين ما وراء هذه المظاهر، وما تختلج به الصدور؛ ذلك أن ألمانيا الجديدة تنطق كلها بلسان واحد، ومن أشد الخطر أن يكون لأحد رأي على رأي أولئك الذين يقودونها؛ وليس في ألمانيا صحيفة واحدة تستطيع أن تلاحظ أو تعلق، والصحافة الألمانية كلها لسان واحد لما يرسمه القادة من الآراء والملاحظات.(166/9)
هذا أول ما يلاحظ الزائر المتأمل في ألمانيا الجديدة. ولقد كانت منشن مهد الحركة الاشتراكية، وفيها بزغ نجم هتلر وصحبه، وهي لذلك أشد العواصم الألمانية حماسة للزعيم ومبادئه. وما زالت منشن في الواقع قبلة الاشتراكية الوطنية، ومستودع آثارها وذكرياتها؛ وإليها يحج أولئك الذين يعبدون المبادئ والذكريات من كل فج ليقفوا خاشعين أمام الهياكل والآثار التي أسبغت عليها السلطات نوعاً من القدسية المؤثرة: تلك هي بعض الآثار والذكريات المادية لقيام الحركة الاشتراكية الوطنية، البيت الأسمر وهياكل الضحايا، ودار (لزعيم) أو دار الحزب الاشتراكي الوطني، وهي جميعاً تقع في (ميدان الملك) وفي شارع منعزل هادئ يسمى شارع (أرسيس). ولقد شهدنا هذه الآثار السياسية التي عدت رمز التقديس في ألمانيا الجديدة لأنها ترتبط أشد الارتباط بتاريخ (الزعيم) وتاريخ الحركة الاشتراكية الوطنية. فأما (البيت لأسمر) فقد كان من قبل مقهى يجتمع فيه الزعيم وصحبه في بداية الحركة، وفيه وضع هتلر نواة حزبه، وفيه أطلق ذات يوم في الهواء رصاصة من مسدسه إيذاناً ببدء الكفاح والسير إلى الظفر؛ وكان ذلك منذ نحو عشرة أعوام، وهتلر وصحبه جماعة مغمورة لا يكاد يشعر بوجودها أحد. فهذا المقهى القديم يغدو اليوم أثراً يحج إليه، ويحرسه الجند شاهري السلاح. وعلى مقربة من البيت الأسمر يقوم هيكلان متقابلان عليهما مظاهر البساطة والروعة معاً، قد صفت في فناء كل منها ثمانية توابيت متقابلة تحوي رفات أولئك الذين سقطوا من أعضاء الحزب الوطني الاشتراكي في المعارك والمحاولات الأولى؛ وقد كتب على كل تابوت منها: (الإنذار الأخير) ثم اسم صاحب الرفات؛ وإن منظر هذه التوابيت المصفوفة في العراء لما يبعث الخشوع والروعة معاً؛ ولقد رأيت الجموع تدنو منها كما تدنوا من الحرم المقدس، وتلقي التحية النازية ببسط الذراع، والوجوه خاشعة، والرؤوس محنية، والصمت العميق يسود المكان: تلك هي مظاهر القوة السياسية الظافرة يسبغها الظافر على ذكريات ما كانت لتكون شيئاً لولا أن توجها الظفر الباهر.
وعلى مقربة من الهياكل أقيمت دار جديدة ضخمة تسمى بدار الزعيم، لتكون مقراً لإدارة الحزب الاشتراكي واجتماعاته.
فأما عن الحياة الاجتماعية في منشن فيمكن أن يقال إنها صورة حقيقية للحياة الاجتماعية(166/10)
الألمانية. ومنشن مدينة ضخمة، ولكن يبدو عليها كثير من آثار القديم، في شوارعها وفي مبانيها، وما زالت بها عدة أبواب من آثار العصور الوسطى. وفنادق منشن عديدة، ولكن ينقصها شيء من الأناقة وحسن لتنسيق. على أن أروع ما في منشن مطاعمها وبيرها الضخمة التي لا تضارعها أية أمكنة أخرى في أوربا: (ليفن بروي) (ماتيزن بروي) (توماس بروي) (منشنر بروي) وكثير غيرها؛ وإنك لتدخل أحد هذه الأبهاء الشاسعة فيدهشك منظرها ويسحرك معاً. تصور أبهاء هائلة طول كل منها نحو مائة متر أو يزيد، وعرضه خمسون متراً أو يزيد، وقد عقدت عليها منحنيات رائعة، وصفت فيها مئات الموائد، وغصت بآلاف الشاربين والآكلين؛ وأروع ما في هذه الأمكنة القاعات التي تحت الأرض أو الأقبية الهائلة التي تمتد تحت بناء ضخم أو أكثر. وتصور هذه الجموع البشرية المكتظة وهي تحتسي أقداح البيرة؛ وأي أقداح؟ أقداح هائلة من الخزف أو المعدن يسع القدح منها لتراً أو أكثر من البيرة الصابحة اللذيذة، ولا يتجاوز ثمنه قرشين! ثم تصور أطباقاً ضخمة تغص بمقادير وافرة من الطعام الشهي بأثمان معتدلة جداً. وإنك لتشهد الأقداح المزبدة والأطباق الحافلة تنفث الدخان العطر، والحنايا المعقودة والثريات الساطعة فوق رؤوس الجالسين في هذا الرحب الشاسع، والآنسات يهرولن للخدمة - والآنسات يقمن بالخدمة في مقاهي منشن ومطاعمها - ذلك منظر رائع ساحر معاً لا يستطيع السائح أن يشهده في أية عاصمة أخرى.
وأهل منشن يأكلون ويشربون بكثرة؛ والألماني على وجه العموم نهم يفرط في الأكل وفي الشراب في كل وقت، وهو على خلاف الفرنسي لا يحب الأحجام والمقادير الصغيرة، بل يؤثر الأحجام والمقادير الوفيرة في كل شيء. وللطعام الشهي لديه لذة خاصة يستمرئها؛ والطهي الألماني غني بمادته الوفيرة من مختلف اللحوم والخضر وات، ولكنه قليل التنوع؛ أم الطهي الفرنسي فيلاحظ فيه فقر المادة مع كثرة في التنوع.
ومما يلاحظ أن الشعب البافاري لا يتمتع بكثير من التناسق في الجسم والملبس، فهم يرتدون أغرب الأزياء والألوان دون تناسق ولا ذوق؛ ويمتاز الرجال في الغالب بالتكرش والترهل؛ والشباب لا تبدو عليه آيات النضارة كالشباب السويسري مثلاً. وكثير من الشباب يضعون النظارات على عيونهم، بل يضعها كثير من الضباط والجند. ولا يتمتع(166/11)
النساء بكثير من الرشاقة والأناقة وحسن الهندام؛ وقلما تجد حسناء تلفت النظر برائع قوامها أو زينتها؛ وتغلب لديهن ضخامة الصدور، بيد أنهن لا يسرفن في الزينة والأصباغ كالفرنسيات، وهم أميل إلى الحشمة والتحفظ.
وقد قلنا إن منشن مهد الحركة الاشتراكية الوطنية وإنها أشد العواصم الألمانية تأثراً بالروح والمبادئ الجديدة والاشتراكية الوطنية تقوم في جوهرها على الفكرة العنصرية، وعلى الاعتزاز بالجنس؛ وقد بث الغلو في فهم هذه العنصرية إلى الشعب الألماني روحاً عنصرية قوية تقوم من بعض الوجوه على خصومة الجنس؛ ومن ثم فأن الغرباء، ولا سيما الذين تنم عليهم ألوانهم من الشعوب السامية والشرقية يشعرون بأنهم في جو غير ودي. وقد لا يتخذ هذا الشعور أية مظاهر مادية، ولكن ما يلقاه الغريب من مظاهر الأدب والمجاملة يشوبه غالباً شيء من الخشونة والجفاء؛ وقد سمعت هذه الملاحظة من كثير من الأوربيين والأمريكيين الذين تجولوا في ألمانيا. على أنه يمكن أن يقال إن الأجنبي يشعر رغم هذه الظاهرة التي تمازجها الصراحة بأنه في جو أكثر قبولاً مما يأنسه في فرنسا من مظاهر يمازجها الرياء في كل شيء.
ومنشن غنية بالمتاحف الأثرية؛ وفي متحف قصر (الرزيدانس) وهو قصر ملوك بافاريا السابقين، مجموعات بديعة من الصور والأثاث؛ وفي المتحف الوطني مجموعات زاخرة من الأثاث والأسلحة والأزياء والصور الزيتية؛ وتوجد عدة متاحف هامة أخرى أشهرها المتحف الفني الذي يعتبر أعظم متحف في العالم من نوعه. ولا غرو فقد كانت منشن حتى الحرب الكبرى عاصمة لمملكة بافاريا، وكانت مقر ملوكية عظيمة لبثت مدى قرنين تسيطر على ألمانيا الجنوبية؛ وهي ما زالت تعتبر عاصمة ألمانيا الثانية من الوجهة التاريخية والمعنوية.
وتتمتع منشن بموقع جغرافي بديع في هضاب الألب البافارية، وعلى مقربة من الغابة السوداء؛ وقد جعلها موقعها مركزاً هاماً للسياحة في ألمانيا الجنوبية، ولقد كانت المدينة حين زرناها تموج بجموع غفيرة من السياح من سائر الأنحاء ولا سيما البلدان الشمالية مثل السويد والنرويج والدانمارك وهولندا.
هذه صور أملتها الملاحظة والتأمل؛ بيد أنه يمكن أن يقال رغم كل شيء إن السائح يلقى(166/12)
في ألمانيا كثيرً من حسن الوفادة. وقد كان لما وضعته الحكومة الألمانية من التسهيلات بالنسبة لمسألة العملة وتخفيض أجور لسفر أكبر الأثر في تقدم السياحة في ألمانيا.
(* * *)(166/13)
المرأة في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
للمرأة أثرها البين في كل مجتمع وبالتالي في أدب ذلك المجتمع، بل إن مكانتها في المجتمع وأثرها في الأدب أوضح دليل على مدى رقي الأمة. وأول ما نصادف من فرق بين تاريخي المرأة العربية والمرأة الإنجليزية أن مكانة الأولى تبدأ رفيعة وتظل كذلك حيناً ثم تسير في انحلال مستمر، بينما تاريخ الثانية هو تاريخ رقي مطرد إلى الوقت الحاضر.
كانت للمرأة العربية منزلة سامية وأثر بعيد في حياة الجاهليين والمسلمين في صدر الإسلام زادها الإسلام توكيداً، ويتضح ذلك جلياً في عظائم الأعمال التي قامت بها المرأة في ظهور الإسلام وانتشاره والمشادات التي تبعث ذلك؛ فذاك عصر حافل بأسماء فضليات النساء اللاتي تركن أثرهن في سير الحوادث وفي الأدب، وفي ذلك العصر احترفت المرأة شتى الأعمال كالطب والتدريس في الشرق وفي الأندلس. ومما له دلالته على مكانة المرأة إذ ذاك أن كبار الرجال كانوا يفخرون بالانتساب إلى أمهاتهم وعصبيتهن، وكانوا يلقَّبون بابن هند وابن عائشة وابن ذات النطاقين في مجال التبجيل والمدح؛ وكان للزوجة رأي مسموع، يشاورها زوجها قبل الإقدام على عمل، وآثار ذلك في الأدب عديدة؛ وقد جرت عادة كثير من الشعراء على تسجيل تلك المشاورات في أشعارهم يبدءونها بقولهم: (وقائلة. . .).
ذلك عصر المرأة العربية الذهبي في الأدب، ضربت فيه في الشعر ونقده ومجالسه وفي الخطابة بسهم وافر. وكان في طليعة الأديبات والبليغات بنات الخلفاء والأمراء، ولنقتصر من العديدات اللاتي نبغن في هذا العصر الطويل على ذكر الخنساء وليلى الأخيلية وليلى بنت طريف وعلية بنت المهدي في الشرق، وولادة بنت المستكفي وحمدونة بنت زياد في الأندلس.
فلما اتسعت المملكة الإسلامية واختلطت فيها الأجناس وتكاثرت الجواري واستفحل التسري وفشا الترف واستحل ما حرم من المفاسد، دب دبيب الفساد في المجتمع كله، وأخذت حالة المرأة خاصة في انحطاط شديد مستمر: وهنت رابطة الأسرة، وتنوسيت أوامر الدين التي تعلي مكانة المرأة وحقوقها، وأهمل تعليمها، وشدد عليها الحجاب حتى انفصلت عن عالم الأحياء، فتلاشى أثرها في المجتمع وفي الأدب، فلم يكد يذكر التاريخ اسم امرأة عظيمة(166/14)
ذات أثر في حياة الأمة أو أدبها.
أما مكانة المرأة الإنجليزية في المجتمع فبدأت كما نراها في قصص تشوسر وروايات شكسبير على درجة من الرقي محسوسة: فهي في قصص تشوسر تباري الرجل في الأعمال العامة؛ وفي روايات شكسبير تصوير لنساء على جانب عظيم من القدرة والطموح والسمو. وليس أدل على ارتفاع مكانة النساء في ذلك العهد من قبول الشعب اليزابيث - وهي بعد في حداثتها - ملكة عليه دون تردد، وإيلائه إياها من الولاء ما لم يوله غيرها من الملوك، وإظهارها هي من الحنكة السياسية ما بذت به الفحول. وازِنْ ذلك بما كان من ارتياع الناس في عهد انحطاط المرأة العربية السالف ذكره، حين وليت شجرة الدر عرش مصر، حتى بعث الخليفة العباسي يوبخ أمراء مصر ويتوعدهم بالويل والثبور إن لم ينضحوا ذلك العار، على حين لم يحرّك أسلافه ساكناً يوم ولي نفسَ العرش عبدٌ خصي.
واطرد رقي المرأة الإنجليزية باطراد رقي المجتمع الإنجليزي، وتزايد حظها من التعليم. وفي القرن الثامن عشر زاد التفاتها إلى الأدب وظهرت الصحف فأقبلت على قراءتها، وانصرفت همة بعض كتاب العصر إلى تحسين حالها وتثقيفها وترغيبها في الأدب. وظهرت المنتديات النسائية التي اشتهر به ذلك القرن وكان يجتمع بها رجال الأدب. فلما كان القرن التاسع عشر طفرت حالة المرأة طفرة عظيمة في طريق التقدم الاجتماعي والأدبي بانتشار التعليم العام ومشاركة المرأة الرجل في كثير من الحقوق السياسية والأعمال اليومية، فلا غرو إن تعاظم أثر المرأة في الأدب الإنجليزي، وتدفق إنتاجها في عالمي الشعر والنثر.
ولقد اعترضت هذا الرقي فترة انحطاط في القرن السابع عشر ترجع إلى انتشار الترف والفساد الخلقي اللذين صحبا عودة الملكية الإنجليزية التي كانت لاجئة إلى فرنسا، وهذا شبيهٌ بالترف الذي أدخله الفرس في المجتمع العباسي؛ ولكن بَينما نرى هذا الأخير يستمر ويستفحل حتى يكون فيه القضاء الأخير على الخلق العربي وعلى مكانة المرأة وعلى المجتمع عامة، نرى المجتمع الإنجليزي لا يلبث أن يتحرر من تلك النوبة الطارئة، وينصبُ كبارُ الكتاب - أمثال ستيل وأديسون وجونسون - أنفسهم لتطهير الأدب ورفع مستوى المرأة، وهي حركة عديمة المثيل في الأدب العربي: فبدل أن ينصرف أدباء(166/15)
العصر العباسي المترف إلى إصلاح كهذا الإصلاح الحميد تهالك شطر منهم على مفسد ذلك العصر واعتزل شطر منهم قليل وتوفَر على نظم أشعار الزهد.
وأثر المرأة في أدب مجتمعها مزدوج: فمنه ما يقوله الرجل متأثراً بوحيها، ومنه ما تنتجه هي ذاتها. وتتساوى المرأة العربية والإنجليزية من جهة الإنتاج في تقصيرهما عن الرجل وضآلة أثرهما في الأدب إذا قيس بأثر الرجل في شتى أغراض القول؛ غير أن المرأة الإنجليزية تفوق العربية في كثرة إنتاجها الأدبي، وكذلك في كثرة ما أنشأ الرجل حولها من أدب، لظروف مساعدة أحاطت بتاريخها وحُرِمتْها المرأة العربية في خير عصورها: من انتشار التعليم العام والطباعة والصحف، ووجود فن من فنون الأدب في الإنجليزية دون لغة الضاد هو القصة.
فالقصة المقروءة أو الممثَّلة التي تدرس المجتمع والنفس الإنسانية سبب كبير من أسباب تكاثر الأدب المكتوب حول المرأة: إذ لا غنى ثمة عن درس المرأة بجانب الرجل سواء بسواء ووصف أعمالها وميولها وأثرها في سير الحوادث، ومن ثم زخرت روايات شكسبير ومعاصريه، وقصص سكوت ودكنز ومريدث وهاردي وإضرابهم بشتى الصور لمختلف عناصر النساء، ومتباين طبقاتهن ومتعدد طبائعهن، وقد حرمت المرأة العربية هذه الدراسة الأدبية حرمانا تاماً.
والقصة من جهة أخرى سبب كبير من أسباب تكاثر الأدب الذي تنشئه المرأة ذاتها، لأنها تلائم طبع المرأة أكثر مما يلائم نظم الشعر الذي هو أشبه بالرجل، لأنه يحتاج إلى فوة وفخامة وشمول نظرة لا تتسق لكثير من النساء. أما القصة التي تدرس الحياة الاجتماعية وتصف لحركات والسكنات وتحصي التفاصيل وتتبع الحوادث، فتجد فيها المرأة خير مجال للتعبير عن خلجاتها ومشاهداتها. زد على ذلك أن للمرأة من لطف النفس ودقة الملاحظة ما يمكنها من فهم الآخرين والأخريات والإلمام بنوازعهم ومراميهم، وفضلاً عن هذا وذاك تستطيع المرأة في القصة أن تعبر على لسان غيرها عن نزعات الحب وأطواره تعبيراً لا يُستساغ منها إن أرسلته شعراً.
لذلك كله لم تكد تظهر القصة وينتشر التعليم العام حتى نبغ في القرن الماضي جمهرة من كبريات القصصيات بارين كبار قصصي العصر الحديث، وفي مقدمتهن جين أوستن(166/16)
وشارلوت برونتي ومز جاسكل؛ وفي هذا الفن، فن القصص، أنتجت المرأة الإنجليزية أحسن ما أنتجت من أدب، على حين كان الشعر هو الفن الذي نبغت فيه المرأة العربية.
ومن وجوه الاتفاق بين تاريخي المرأتين أنْ ظهر لكل منهما في الأدب الذي تنتمي إليه عدوٌّ عنيد أنحى عليها بقوارص الكلام: ففي العربية صب المعري جام نقمته على الحياة على المرأة التي خيل إليه أن طباعها هي طباع الحياة الخاتلة، وفي الإنجليزية ندد ملتون بالمرأة في كتاباته وأشعاره، وأنزلها منزلة دون الرجل، ووصمها بالحمق والختل، وجعل شخصية دليلة في قصته الشعرية عن سمسون الجبار مثال تلك المرأة. على أن مما له دلالته أن ملتون كان فرداً يعبر عن أفكاره الفردية التي اكتسبها من ظروفه التعسة ولا يجد من حوله سميعاً، بينما كان المعري ينعب نعيبه في أوائل عهد انحطاط المرأة العربية واشتداد وطأة الحجاب عليها، فلا ريب أنه كان يجد آذاناً صاغية وأنه مسؤول عن بعض ما حاق بها بعد ذلك من قهر وإهمال.
وقد عرف الأدب العربي عنصراً من النساء لم يعهده الأدب الإنجليزي: هو عنصر الجواري اللائى كن يبرعن في الأدب والموسيقى ويجتمع إليهن الأدباء ويشببون بهن، ولكن الأدب الجزل الصحيح لم يستفد كثيراً من ذلك العنصر المترف المتبذل، في حين أن أثر أولئك الجواري في سقوط منزلة المرأة واضح محقق.
ويمكن حصر الأدب المتعلق بالمرأة في اللغة العربية في أبواب أربعة: النسيب، وحوادث عظيمات النساء، والتمدح بالعفة واحترام المرأة في عصرها الأول، والغض منها في عصرها المظلم.
والتمدح بالعفة وتوقير المرأة والتقرب إليها بمكارم الأعمال من أنبل أغراض الأدب العربي وهو ضرب من القول ينفرد به دون الأدب الإنجليزي؛ وبديهي ألا يكون ذلك إلا في عهد علو مكانتها في النفوس، ومنه قول مسكين الدرامي:
ما ضر جاري إذ أجاروه ... ألا يكون لبيته ستر
أعمى إذا جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر
وقول أبي فراس:
ورحت أجر رمحي عن مجال ... تحدث عنه ربات الجمال(166/17)
ارتدت هذه الرعاية الكريمة للمرأة تحقيراً وسخرية حين فسد المجتمع، فلم يستحي الشعراء أن يطلقوا فيها ألسنتهم، فمن قائل:
عسر النساء إلى مياسرة ... والشيء يسهل بعد ما جمحا
وقائل:
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياء في بواطنه ظلام
وقائل:
وإن حلفت لا يخلف النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
وهو هجاء للجنس اللطيف استمرأه ساقطو الهمة من الشعراء وتنزه عنه الأدب الإنجليزي، فاقتصر على النسيب الرقيق والمداعبة الرفيقة والدراسة العلمية البريئة لشتى الطبائع والشخصيات النسوية.
والنسيب هو مجال ظهور المرأة الأول في الشعر، وفيه أي دليل على رقي المجتمع ومكانة المرأة فيه. وفي الأدبين العربي والإنجليزي نسيب على غاية من السمو والنقاء؛ وأكثر ما كن ذلك في الأدب العربي في عهد ارتقاء مكانة النساء الاجتماعية، هناك كان شعر النسيب في جملته عفيف اللفظ نقي الإشارة صادق العاطفة على خشونة وسذاجة في بعضه، فلما كان عصر الترف والفساد هوى النسيب إلى حضيض الشهوات وداخله التكلف في الشعور وفي اللفظ، وخالطه من الفحش والنسيب بالمذكر ما تنزه عنه الشعر الإنجليزي.
ففيما عدا فترة الفساد الخلقي الوجيزة في التاريخ الإنجليزي التي تقدم ذكرها، يمتاز النسيب الإنجليزي بسمو العاطفة وطهارة اللفظ والترفع عن ذكر الشهوات والتسامي عن الأوصاف الجسيمة التي تشغل حيزاً غير ضئيل من النسيب العربي، فالشاعر الإنجليزي يعد جمال محبوبته أمراً مفروغاً منه، فإن أشار إشارة عاجلة إلى محاسنها فإلى نقاء بشرتها أو لمعة شعرها، وإن عمد إلى التشبيه فإنما يشبه عينيها بالسماء صفاء أو صدرها بالدير نقاء وبعداً عن منال الرجال، إلى غير ذلك مما هو أدخل في الأوصاف النفسية وأدل على السمو الروحي.
فخري أبو السعود(166/18)
عادة الختان أصلها وتاريخها وانتشارها
بمناسبة المنبوذين والإسلام
بقلم الدكتور مأمون عبد السلام
إنه لمن الصعب على المشتغلين بدراسة طبائع الأمم وأحوالها أن يهتدوا إلى تحديد العصر الذي بدأ فيه الإنسان يختتن. وهم لا يزالون في حيرة من الدوافع التي حملته على تلك العادة، فتقول فئة منهم إن بعض القبائل لجأت إلى الختان كعلامة تميز بها نفسها عن سواها كما يلجأ بعض قبائل السودان إلى تشريط خدودهم أو إلى اقتلاع إحدى أسنانهم القاطعة. ويعلله آخرون بأنه وقاية سحرية، ويظن غيرهم بأنه عقيدة دينية يضحي الفرد بمقتضاها جزءاً من جسمه فداء عن نفسه وتقرباً إلى ربه. ويعتقد آخرون بأنه ميزة أرستقراطية.
وعادة الختان عريقة في القدم، يدل على ذلك انتشارها في أنحاء قاصية من المعمور بين أجناس من البشر قد فصلت الطبيعة بعضهم عن بعض منذ أحقاب سحيقة. فلا تكاد تخلو قارة من شعوب تمارس تلك العادة، فتراها بين قبائل السود من سكان أستراليا، كما أنها توجد بين قبائل الجالا والفلاشه، يهود الأحباش، وبين غيرهم من قبائل الحبشة، وعند قبائل البانتو والمساي والكفار والناندي بأفريقيا، وقبائل الأوتاهيت وسكان جزائر التونجا والبولينزيا وجزيرة فيجي وكاليدونيا الجديدة.
ولما اكتشف الأسبانيون أمريكا منذ أكثر من أربعمائة سنة مضت وجدوا عادة الختان منتشرة بين أقوام الناهواطل وبين أمة الأزتيك سكان بلاد المكسيك القدماء كما شاهدوها بين سكان حوض نهر الأمازون بأمريكا الجنوبية.
وكان قدماء المصريين يختتنون من عصور غابرة قبل سنة 1400ق م. فتراهم قد صوروا ولدين يختتنان على جدران معبد خونسو بالكرنك. وقد ذكر التاريخ أن مصر في عهد مربنبتاح قد غزاها قوم من سكان بحر الروم كانوا يختتنون.
والختان من مميزات الشعوب السامية وخاصة اليهود منهم، فقد كان بنو إسرائيل من قديم الزمان يختنون الرجال وقت زفافهم، فإذا أظهر العريس أي خوف أو وجل كن ذلك دليلاً على نقص في رجولته فتهجره عروسه وتلبسه المعرة. وقد علمت من بعض المعمرين أنه كانت العادة في بلدة التلين بمركز منيا القمح أن يختتن الرجل يوم زفافه.(166/19)
وقد فرض الله سبحانه وتعالى الختان على سيدنا إبراهيم عليه السلام وعلى ذريته وعبيده، وكان قد أمره بأن يغير اسمه من إبرام إلى إبراهيم لأنه سيكون أبا البشر. فقد جاء في سفر التكوين (17 ? 23 - 27): (فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه وجميع ولدان بيته وجميع المبتاعين بفضته كل ذكر من أهل بيت إبراهيم وختن لحم غرلتهم في ذلك البيت عينه كما كلمه الله، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن في لحم غرلته، وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن في لحم غرلته، في ذلك اليوم عينه ختن إبراهيم إسماعيل ابنه وكل رجال بيته ولدان البيت والمبتاعين بالفضة من ابن الغريب ختنوا معه).
ويختن اليهود أولادهم في اليوم الثامن من ولادتهم كما ختن إبراهيم ابنه اسحق فريضة الله عليه. ففي سفر التكوين (17) ابن ثمانية أيام يختن كل ذكر في أجيالكم.
وقد قام اليهود بهذه الفريضة إبان أسرهم في أرض مصر، ولكنهم أقلعوا عنها وهم في برية سينا فلم يختن موسى عليه السلام ابنه إلى أن قطعت زوجته صفورة غرلته استجلاباً لرضى الرب ومنعاً لنقمته؛ فقد جاء في سفر الخروج (4): وحدث في الطريق في المنزل أن الرب التقاه وطلب أن يقتله فأخذت صفورة صوّانه وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه.
ولما بلغ بنو إسرائيل كنعان أرض الموعد رجعوا إلى التختن فتختنوا بسكاكين من صوان في مكان جلجال كما ورد في يشوع 5 (2): (في ذلك اليوم قال الرب ليشوع اصنع لنفسك سكاكين من صوان وعد فاختن بني إسرائيل ثانية. فصنع يشوع سكاكين من صوان وختن بني إسرائيل في تل الغلف. وهذا هو ختن يشوع إياهم. إن جميع الشعب الخارجين من مصر الذكور جميع رجال الحرب ماتوا في البرية على الطريق بخروجهم من مصر. لأن جميع الشعب الذين خرجوا كلهم مختونين. وأما جميع الشعب الذين ولدوا في القفر على الطريق بخروجهم من مصر فلم يختتنوا لأن بني إسرائيل ساروا أربعين سنة في القفر حتى فنى جميع الشعب رجال الحرب الخارجين من مصر الذين لم يسمعوا لقول الرب الذين حلف الرب لهم ألا يريهم الأرض التي حلف الرب لآبائهم أن يعطينا إياها، الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً. وأما بنوهم فأقامهم مكانهم فإياهم ختن يشوع لأنهم كانوا قلفا إذ لم يختنوهم في الطريق. وكان بعد ما انتهى جميع الشعب من الاختتان أنهم أقاموا في أماكنهم في المحلة حتى برئوا. وقال الرب ليشوع اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر فدعى اسم(166/20)
ذلك المكان الجلجال إلى هذا اليوم).
ويختن اليهود أولادهم في منازلهم وفي الكنيس، فيقوم بهذه العملية والد الطفل، أو رجل اختص بذلك يشترط فيه التدين وحسن السيرة وألا يؤجر على عمله، بل يقوم به ابتغاء وجه الله. وكانوا يقطعون القلفة بسكين من الصوان أو من الزجاج أسوة ببني إسرائيل، ولكنهم استعاضوا الآن عنها بمشارط من الصلب. ويجب أن يسيل الدم وقت العملية، فكانوا فيما سلف يمصون الجرح ليكثروا من نزول الدم ثم يوقفونه بعد ذلك بالخمر يرشه المختن بفمه، ولكن ذلك قد بطل. ومن عاداتهم أن يدفنوا القلفة أو يحرقوها.
ويعتبر اليهود الختان طهارة، والطهارة عندهم إما ظاهرية وهي الختان، أو باطنية وهي طهارة القلب كما ورد في الكتاب المقدس - أرميا 9 (25).
ويقول المؤرخون إن هركانوس أجبر الأثيدوميين على الختان، وأن بطليموس أبيفانيس ختن ولديه أنطونيوس والأجيالوس.
ولكن الإمبراطور يوستينيانوس قد حرمه على الرومانيين ومن خالف ذلك يقتل. وقد حذا حذوه انطيوكوس ابيفانيس، وعُذب من أجل ذلك كثير من اليهود وقتلوا. وقد حرمه كذلك الإمبراطور هادريانوس وقسطنطين.
ولما جلا المسلمون عن بلاد الأندلس وقامت محكمة التفتيش بالقضاء على ما بقي من آثاره جرمت الختان في أواخر عهدها.
والعادة ألا يختتن المسيحيون ولو أن الكثير منهم يختتنون كما يفعل الأحباش. وقد ظهر في إيطاليا في القرن الثاني عشر الميلادي طائفة مسيحية اسمها (سركمسيسي) تأمر بالختان كما يدل اسمها على ذلك.
والختان سنة كونية كتربية اللحية عند المسلمين وقد أفتى بذلك جمهور العلماء.
ويتبع عادة الختان عادات أخرى على غاية من الغرابة. ففي بلاد البوسنة مثلاً يمنع الصبي من شرب الماء شهراً كاملاً.
ويختتن الصبيان عند قبائل الكفار في جنوب أفريقيا عند بلوغهم الحلم باحتفال رائع عظيم. فيضربون حتى تدمى جلودهم، ثم يذر الفلفل الأحمر (الشطة) على جروحهم كي يختبر مقدار صبرهم على الألم وبعد ذلك يختتنون.(166/21)
ويرتدي شبان قبيلة المساي (وهم من السود بأفريقيا الشرقية) عندما يقرب وقت ختانهم ملابس النساء، ويطلون وجوههم بالأبيض والأحمر ويتخضبون ويظهرون كل علامات الأنوثة اعتقاداً منهم بأن ذلك يبعد الشياطين عنهم فلا يصيبهم منها أذى.
ومن عادة قبائل الناندي بشرق أفريقيا البريطاني أن يزور البنات الفتيان قبيل الختان ويقرضنهم ملابسهن وحليهن ليلبسوها، فإذا تم الختان يرتدي الشبان المختتنون ملابس المتزوجات من النساء ويتبخترون بها بكل دلال النساء عدة أشهر حتى تبرأ جروحهم.
ويختتن الشبان من قبائل السود باستراليا قبل زواجهم فيجبرون على الجري في الأدغال وورائهم القوم يستحثونهم على المثابرة ساعات عدة بالضرب الشديد حتى يسقطوا من الإعياء. فيوقد الرجال بعد ذلك ناراً ويختنون الشبان بقطعتين من الزجاج ويتركونهم في حراسة رجل أو امرأة من القبيلة إلى أن يلتئم الجرح ثم يكون لهم حق التزوج. والغريب في أمرهم أن المختتن يلبس فوق وجهه نقاباً خشبيا (وجهاً من خشب) كيلا يراه أحد مدة أسبوعين.
ومن عادة بعض هذه القبائل أن تلف القلفة في قطعة من جلد الكانجرو. ثم تعطى لزوجته فتحتفظ بها طول حياتها.
ومن عادة أهل أواسط استراليا أن يلعقوا ما يسيل من الدم وقت الختان أو يطلوا به صدورهم وجباههم لاعتقادهم أن ذلك يزيد في قوتهم.
وعندما يختن قوم الأرونطا أولادهم يصرخ الرجال بأعلى صوتهم قائلين: (ببررر) فيسمعهم النسوة في عششهن فيعمدن في التو إلى أخوات المختتنين وإلى خالاتهم ومن يحل لهم التزوج بهن من النسوة فيشرطن جلد بطونهن وأكتافهن اعتقاداً منهن بأن ذلك يمنع الألم عن الصبي. ثم تعطى القلفة لأخي المختتن الصغير فيبتلعها كي ينمو ويترعرع.
وعند قبائل الكوكودون في شمال كوينزلاندا باستراليا تخيط المرأة قلفة ابنها بخيط تضعه حول جيدها لتتقي بذلك شر الشيطان فلا يؤذي ولدها.
وفي بعض بلادنا يربط الولد القلفة في خرقة يلبسها حول عنقه إلى أن يلتئم الجرح فيلقيها في النيل.
ويمسح بعض قبائل استراليا دم الختان بورق من قلف الأشجار ثم يلقون ذلك في البرك(166/22)
التي ينمو بها نبات الزنبق المائي اعتقاداً منهم بأن ذلك يقوي هذه النباتات لأنهم يتغذون بسوقها وجذورها.
مأمون عبد السلام(166/23)
نهضة المرأة المصرية وكيف توجه للخير العام
للأستاذ فلكس فارس
لا تستغل نهضة المرأة ما لم توجّه إلى تكوين المرأة الصالحة لتثمر بطبيعتها خيراً، إذ من العبث أن تجني الخير نهضة مضللة.
لا ينهض بالشرق إلا حضارة شرقية تستمد نظمها من المبادئ الأدبية العليا التي أنزلت وحياً على رسله وأنبيائه، وإلهاماً على فلاسفته وشعرائه.
فإذا ما أردنا تحديد موقف المرأة في المجتمع ونحن نستنير بهذه المبادئ يمتنع علينا أن نسلم لها بحالة تكون فيها قوامة على نفسها مستقلة بحياتها، لأن الحضارة الشرقية التي نتجه بحوافزنا إليها لا مقام فيها لامرأة لا مرجع لها ولا قوام عليها؛ وما المرأة المنسلخة عن سيطرة رجل يكفلها المتصلة بالمجتمع اتصالاً مباشراً إلا بدعة في الإنسانية أوجدتها أنانية الرجل في الغرب لشقائه وشقائها على السواء.
إن التشريع الأول الذي أيده جميع الأنبياء والمرسلين قد أورد الوضع الصحيح للأسرة الإنسانية بقوله للرجل:
(بعرق جبينك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها) وبقوله للمرأة: (بالأوجاع تلدين وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك).
فالمرأة إذن موقوفة على حياة الاشتياق بحسب تعبير الكتاب وعلى تأمين النسل الصحيح، فكل استثمار لها في أية دائرة أخرى من دوائر الحياة المادية، إنما هو خرق للناموس وجناية على العاطفة والأنسال.
إن لم تكن المرأة زوجة وأماً، فهي مرتكبة جناية أو هي ضحية جناية. وأشد شقاء من هذه السائبة، وأوفر ضراً بالمجتمع، الزوجة المسلوبة الخيار، والأم المكرهة على التوليد.
إن في اشتياق المرأة وخضوعها بهذا الاشتياق نفسه لرجلها سر اعتلاء الأمم وانحطاطها، وما جهل شعب في التاريخ أهمية الانتخاب الطبيعي، فتسلط رجاله على نسائه بشهواتهم لا بشوقهن دون أن تصبح المرأة في ذلك الشعب أَمَة تورث مذلتها بنيها فيتشربون العبودية في فطرتهم قبل أن يبصروا النور.
إن أولى الخطوات التي تقود الشعوب إلى التدهور إنما هي تجاهل أهمية المرأة، لا من(166/24)
حيث تربية الطفل فحسب، بل أيضاً وبخاصة من حيث تكوين الجنين، وما ينهض شعب يعتقد بمبدأ الزمخشري القائل:
وإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللأبناء آباء
إن الرجل الأناني الجاهل يعتقد أنه هو وحده مستودع للحياة، وإن بقاء النوع يتوقف على ما يحمل من جرثومة حية، فما المرأة في تقديره إلا الأرض يستنبتها خصبة ويتحول عنها مجدبة.
وعلى هذا المبدأ الذي ينافي روح الشرع وحكمته ويناقض ما يؤيده من العلم الحديث، يستولد الرجال النساء أطفالاً كان خيراً لهم لو أنهم لم يلدوا.
إن علم وظائف الأحياء قد اكتشف ذرات مستقرها خلايا الجسم وهي تعرف (بالكروموسوم) وعددها في كل خلية إنسانية 48، نصفها من الأب ونصفها الآخر من الأم، لأن نطفة الحياة في الرجل وفي المرأة لا تحوي سوى 24 ذرة فقط، فيتضح من هذا أن العناية قد أرادت أن يكون المولود منبثقاً من شخصين متحدين على تواز تام بين ما ينفصل عن كل منهما لتكوين الحياة الجديدة.
ويؤكد العلم أن هذه الذرات منظمة في الخلية على شكل سلسلة متصلة الحلقات وهي مزدوجة متقابلة في سمطيها، وأن في هذه الحلقات تستقر العوامل التي تنقل إلى الأبناء طوابع الآباء والأمهات.
وقد عقد المتخصصون لهذه الأبحاث فصولاً بينوا فيها كيف تتغلب عناصر الارتقاء أو الانحطاط في السلالات، فذهبوا إلى أن كل حلقة في العقد المزدوج تكمن فيها صحة عضو معين، فإن كانت هذه الحلقة ضعيفة في الأب وقابلها في الأم حلقة قوية تغلبت الصحة على المرض فيجيء الطفل سليماً وإلا فينشأ معتلاً لأن الحلقة التي يرثه عن أبويه لا مناعة فيها.
إن هذا المظهر المحسوس لاختلاف القوى الكامنة في كل من الرجل والمرأة لمما يفسر لنا علة التنافر والتجاذب بينهما، فأن الطبيعة الطامحة إلى الارتقاء وإصلاح ما تفسده الحياة تعمل بحوافزها الخفية متسلحة بالانتخاب الغريزي للوصول إلى أهدافها.
مما لا ريب فيه، إذن، أن ليس كل رجل يصلح زوجا لأية امرأة، كما أنه ليست كل امرأة(166/25)
تصلح زوجة لأي رجل كان.
إن الحياة تغالب الموت في هذا الوجود مفتشة عن أصلح المنافذ للنشوء والارتقاء، وهذه الحياة التي خرجت من الأزل متجهة إلى الأبد إنما تهب كالعاصف الجبار على الجنسين فتلويهما لسلطانها معتلية بالنوع فوق رمم أفراده. على أنه في حين أن هذه الحياة تختار سبيلها بالسائق الغريزي في النبات وفي الحيوان عاملة على تحسين مجاليها بالقضاء على الضعف الطارئ والاستبقاء على القوة الصامدة في الجسوم، فأنك لترى هذه الحياة في المملكة الإنسانية وهي أرقى وأشرف مجاليها تتلوى في مسالك الشهوات المضللة والعقليات السخيفة منزلة بالتائهين أوجع الزواجر وأبلغ العبر، وهؤلاء التائهون لا يرجعون عن غيهم فلا يشفقون على أنفسهم ولا يبالون بأنسالهم.
إن الولد المختل العليل إنما هو الضحية البريئة التي تصفع الطبيعة به أوجه الرجال الفاحشين والنسوة الطامعات المضللات، ولكن الطبيعة لا تعنو دائما لتحكم الإنسان ولا تتهيب زجره وإرغامه فتضرب عن الظهور وتمتنع عن إيجاد الضحية، وآخر ما اكتشفه العلماء في جامعة كولومبيا بالاستقراء بعد أن كان الفكر يفترضه افتراضاً هو التنافر بين عنصري الذكر والأنثى في بعض الأحوال مما يقضي بالعقم التام مع أن كلا من الزوجين ليس عقيما.
وما كان الإنسان ليحتاج إلى الاستقراء العلمي خلال دقائقه وذراته ليعلم أن الطباق والانسجام يؤديان إلى الارتباط المكين، وأن الشذوذ والتنافر ينشأ عنهما التدافع الافتراق، وليس الرجل والمرأة وترين على آلة صماء يشد أحدهما جواباً على قرار الآخر، لأنه إن لم يكن هناك طباق، فإن المرأة أو الرجل المختار أو المختارة للشدّ على طبقة رفيقة ليسمعك صوت انقطاعه بدلاً من الإيقاع المنشود.
ليكن منشأ هذا الانسجام تناسبا بين ذرات الخلايا والعوامل كما يقول العلماء المستقرون، أو فليكن ضعف هذه الذرات أو قرتها مسبباً عن عوامل الكهارب التي تسود الخلايا بتفاعل مجهول، أو فليكن هنالك ما يذهب إليه الروحيون من أن الخلايا والكهارب وكل ما يحوي هذا الجسم من مادة ليس إلا خيالاً لروح كامنة هي الحقيقة المستترة وأن من العبث أن يستقر في العلم منشأ التجاذب والتدافع بتشريح هذا الخيال الماديّ، فأننا تجاه جميع هذه(166/26)
الافتراضات، نبقى دائما أمام حقيقة لا ريب فيها وهي أن الإنسان سواء أكان رجلاً أو امرأة مدفوع بالفطرة إلى طلب الرقي لنسله بإصلاح ما أفسدت الحياة في أعضائه، وبخاصة إلى إصلاح ما تطرق إلى الصفات الأدبية من عيوب؛ ولعلّ في هذا بعض التفسير لسيادة الانسجام بين رجل وامرأة تخالف أشكالهما وأوضاع أعضائهما ومظاهر القوى الأدبية فيهما، فقد لا تجد مصارعاً يعشق مصارعة ولا فيلسوفاً يغرم بفيلسوفة. ولكم وقف المفكرون مندهشين أمام امرأة فاضلة تحس بانجذاب نحو رجل عاديّ، أو بارعة في الجمال تندفع إلى الالتصاق برجل دميم. إن بعض العشق ينشأ عن حنان خفي في الطبيعة يشبه عطف الطبيب المداوي على العليل المستجدي الشفاء.
نورد هذه النظرية دون أن نتخذها قاعدة بالرغم من تجليها لدينا في عديد الحوادث، فإن النقائص التي تتجه في الازدواج إلى الزوال والعلل التي تطلب الشفاء أبعد مستقراً من أن ينالها استقراء أو تحديد، والضعف الكامن في أحد الناس يبقى مستتراً فيه خفياً حتى عن شعوره، فكيف يتسنى لنا كشفه وتعيينه؟ لذلك ورد في الأمثال وهي حكمة الأمم: أن لا جدال في الذوق، وما أرى المتنبي إلا سابراً أقصى أسرار الحب إذ قال:
إلام طواعية العاذل ... ولا رأي في الحب للعاقل
يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل
للحب إذن وهو صلح العيوب والدافع إلى ارتقاء الإنسان ناموسه الجبار، ناموسه الصامت الهامس في أرواح المحبين كلمتين هما دستور السعادة لكل منهما - كلمة العبرة من الماضي للرجل، وكلمة الحذر من المستقبل للمرأة.
يقول الفتى للفتاة: أحبك.
فلا يرد جوابها إلا بصورة الاستفهام:
وهل ستحبني إلى الأبد؟
فالرجل لا يتوجه إلى المستقبل بقلبه بل يلتفت إلى الوراء، إلى الماضي، وهو يقسم بالوفاء والثبات، ماداً بأبصاره إلى أعماق عيني الفتاة سابراً أقصاهما ليتحقق ما إذا كان هذا الهيكل الأبدي الذي يتخذه مقاماً ومصلى لروحه، لم يرتفع فيه صوت غير صوته لم يحرق عليه بخور غير بخوره.(166/27)
هكذا تصطفي الطبيعة المحبين لاستنبات الطفل الصحيح، وهكذا تقبض الغريزة على القلبين لتسخرهما لبقاء النوع وتسييره على مدارج الارتقاء.
ولماذا خصت الطبيعة الرجل بالعبرة من الماضي والمرأة بالحذر من المستقبل؟ لماذا وضعت الطبيعة دليل الطهر في عين العذراء، ودليل العفاف في جسمها؟ ولماذا غرست فيها هذا الخوف من تقلب الرجل وانحرافه عنها؟
في هذا المجال أيضاً توصل العلم إلى استجلاء حقيقة رائعة نستدل منه على منشأ هذه الغيرة وهذا لحذر، وتلك الحقيقة هي أن الطبيعة تتجه دائماً إلى الوحدة وتأنف من الشرك وتتمرد عليه؛ وقد شوهدت حوادث كان فيها نتاج الزواج الثاني من المرأة أقرب إلى مشابهة أطفال الزواج الأول، وبتعبير أوضح تحقق العلم أن امرأة يستنبت نتاجها الأول من رجل تبقى معرضة للاستمرار على الإنتاج طابعة أبناءها على غرار ذلك الرجل.
إن هذا الاكتشاف يبرر لدى المفكر هذه الغيرة المقدسة التي تتجلى في الرجل الطبيعي غير الفاسد بمبادئ الإطلاق وضعف الحيوية فيه، وهذه الحقيقة نفسها تفسر لنا هذا الحذر الغريزي في المرأة من تخليّ المحب الأول عنها، لأن الطبيعة تتمرد في نفسها فهي تربأ بشخصيتها أن تصبح مستقراً للشرك، والكون بأسره يتجه إلى التوحيد في ارتقائه.
إن ناموس الحب والزواج في الأصل إنما هو اندماج بين روحين وجسدين اندماجاً حراً تحت سيطرة التجاذب المطلق من كل تضليل، فإذا هو تمّ وفقاً لهذا الناموس، يندر أن تنفصم عراه مدى الحياة.
على أننا في هذا العصر الذي سبقته أدوار عديدة استنبت فيها النسل من التزاوج المكذوب لا يمكننا أن نختم استمرار الاتفاق بين عاشقين ما لم نثق أولاً من أنهما كليهما قد نشأ من زواجين ساد الحب الحقيقي فيهما، إذ أننا كثيراً ما نرى امرأة جن جنونها بمن أصبحت له زوجة حتى إذا انقضت فترة من الزمن نراها مضعضعة تحلم بالشرك والضلال. وكثيراً م نرى رجلاً يهيم بفتاة حتى أصبحت زوجة له عافتها نفسه، فذهب تائها في المواخير يحصد ما جناه أبواه عليه.
من الصعب إن لم نقل من الممتنع أن يعرف حقيقة الحب ووحدته من ولد من زوج لا انسجام فيه، أن أبناء الكره لا يحبون، والطفل المولود من شهوة حيوانية حوالة يمتزج(166/28)
كوثر حبه أبداً بغسلين الفحشاء.
إن استثمار المرأة المصرية والمرأة العربية بوجه عام في سبيل الخير إنما يتوقف على إعدادها منبتاً صالحاً للأطفال، وما نشأت الأمة إلا من منابت أطفالها.
إن النبات ينمو على الأسمدة يمتصها فيحولها نسغاً صافياً، وتلك أزاهر الدمن تنوّر فواحة باسمة فوق أقذارها، أما الحياة الإنسانية فإنها إن نبتت على الأقذار فهي أقذار من منابتها.
(يتبع)
فلكس فارس(166/29)
من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
لغة الأحكام والمرافعات
للأستاذ زكي عريبي
- 5 -
(أما المتهمان على الأدب الزاريان على الفضل في أشخاص المثقفين فهما. . .
وأما المجني عليه فهو. . .
ولو شئنا التوسع لقلنا إن المجني عليهم قوم كانوا في عزلة من القوة فتجرد لهم المتهمان يسطوان عليهم بالقلم المسموم والقول القاذع والعبارة التي تقطر سماً وحقداً وحفيظة.
وما علمنا أن أمة صقلتها الحضارة أو كانت على الفطرة من البداوة جعلت من فضائلها تجنيها على الوادعين الذين هم في أمن وعزلة لا يملكون لأنفسهم أمام الساطين عليهم دفعاً.
إن لهذا الإيجاز إيضاحاً ولهذه الجملة تفصيلاً).
ولغة التفصيل الموعود أروع وأمجد. اقرأ هذا البيان لما وقع من المتهمين وهذا التنويه بشناعة الجريمة.
(أقبل مديرون من ولاة الأقاليم، وما كانوا نكرة فينساهم الناس، وما كان التشيع الحزبي ليميت العواطف الكريمة، بل ما كان للنبل أن يموت، وما فقدت مصر الرجولة فراح قوم يمشون إلى هؤلاء المعزولين بالكلم الطيب ودعوهم إلى وليمة، ورأى من يحسن القول في هذا الحفل أن يتقدم بكلمة طيبة لا ينكرها إلا حقود.
وقديماً كان الناس يمشون إلى الولاة المعزولين يرفهون عنهم ويذكون لهم حميد فعالهم. . . ولكن المتهمين هاجهما أن يرضى الناس عمن غضبا هما عليهم.
ثم هاجهما أن يعيش هؤلاء الولاة وأن يرضى عنهم الناس فراحا يقولان عنهم في جريدة. . . إنهم أسفل المجرمين.
يا شرف اللغة العربية كيف طاوعت هذين الرجلين حتى جعلا من بعض الأكرمين (أسفل المجرمين).
خبروني إذا كان الوالي الذي يعزل لا لنقصية في شرف يعد (أسفل المجرمين) فمن يكون(166/30)
القاتل الذي يقتل صاحب الفضل عليه عند الثقة به والركون إليه، والسارق الذي يسطو على الآمنين ثم يسلب الأموال والأعراض ولا يبقي على الأطفال والنساء. هذا القاتل السارق بماذا نعرفه ومن يكون؟
(أسفل المجرمين) لا يعرف حتى تنسب إليه تهمة، وحتى يأخذه بها القضاء العادل بعد مدافعة ومطاولة. ومع هذا فأنه من المؤلم أن نصفه بأنه (أسفل المجرمين).
أما في الخصومة الحزبية هوادة ونصفة؟ أما لهذا الفجر الزاخر آخر؟ أما لهذا الظلام نهاية؟)
بل انظر إلى هذا الانفعال الحق يستولي على النائب المترافع وقد قرأ للمحكمة بعض هذا المقال القادح فراح يؤدب العادي على الأدب بعصا الأدب ولا يفل الحديد إلا الحديد.
(إني آسف كل الأسف لإيلام المجني عليه بهذا النقل ولكني أنقل هذا الكفر مكرهاً عن المتهم.
أكل هذا يقوله هذا المسكين المعدم في أدبه الفقير إلى عصا التأديب، ويتقدم صاحبه الشيخ الوقور بالتنويه به والتهليل له ويدعوه في صحيفته بالأستاذ.
المتهم. . . صاحب القلم الجارح ما منشؤه وأين من كوّنه؟
لله أبوه! ألا يكون لي الشرف فأراه لأعرف رأيه فيه وهو يغمس قلمه المسموم في دماء الوادعين كما تنفث الرقطاء الزعاف؟ بل قلمه أسفل وأقتل، فالرقطاء قد تذود عن نفسها بسلاح أعد لها، وهذا يذود عن الرذيلة بسلاح لم يخلق لرجل كريم العنصر وله ضمير حي).
وهاهو ذا يهدأ بعد هذا العنف اللازم فيعرض لتعريف النقد المشروع في إحكام وحسن تعبير مدهشين فيقول:
(أساس النقد أن تعني بدرس الأمر فتتبينه جملة جملة، وترى أي أجزائه خير، وأي أجزائه لا يتسق مع باقيه في جمال الوضع وتناسق التكوين؛ على أن يكون الناقد نزيهاً لا غرض له إلا الحق. ولا تتم له ملكة النقد إلا بعد أن يكون من القوة على تمييز الأشياء بعضها من بعض في الموضع المسلم له به.
والناقد حكم، والحكم قاض، والقاضي أعلى من أن يتصف بهجر القول وإلا فليس بناقد. .(166/31)
).
ولنقف عند هذا الحد في الاستعراض وإلا ساقنا هذا الإبداع وأمثاله إلى أبعد مما يريد القائمون على الكتاب الذهبي
لغة الأحكام
تمهيد ومقارنة
الحقيقة مطلب البشر منذ أن قام للبشرمدينة. طلبها في الدين، طلبها في العلم والفلسفة، وطلبها في التشريع وفي توزيع العدالة.
والأحكام هي أداة هذا التوزيع. فهي عنوان الحقيقة.
وعنوان الحقيقة يجب أن يكون جديراً بها من حيث شكله على الأقل وهو الذي يعنينا في هذا البحث.
لقد تحدثنا عما يجب توفره في لغة المرافعات فوجدناه كثيراً بل مرهقاً. يتطلب كفايات عدة ألمعنا إلى بعضها. فهل يصدق على الأحكام ما يصدق على المرافعات؟
لنتدبر طبيعة كل قبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال.
المرافعة نوع من الأدب الخطابي يرمي بالإقناع أو تحريك العواطف إلى خدمة مصلحة معينة.
والحكم تقرير للحقيقة كما استطاع أن يراها القاضي على ضوء عناصر الدعوى ومرافعات الخصوم.
الأولى ثمرة جهاد مقاتل يبتكر الوسائل الكلامية المؤدية إلى الظفر. والثاني عمل حكيم هادئ يتحسس مكان النصفة فيدل عليه.
يستحيل إذن أن يكون نوع اللغتين واحداً: فإحداهما متغيرة متوثبة أبداً، والأخرى ساكنة مستقرة أبدا.
ولكن أمعنى هذا أن مهمة القاضي إذا ما جلس لكتابة الحكم أيسر من مهمة المحامي إذا وقف للدفاع؟
إياك وهذا الاعتقاد! صحيح أن مهمة القاضي لا تستلزم الابتكار، وهو عمل شاق يرهق(166/32)
المحامي إلى آخر حدود الإرهاق ويتطلب فيه استعداداً خاصاً يرقى بالمران، وقد يصل بالمحامي النابغة إلى سماء كبار المخترعين، ولكن عمل القاضي إذ يجلس لتمييز الحق من الباطل لا يقل عن عمل زميله دقة وصعوبة.
إنه قبل كل شيء ناقد؛ والنقد يتطلب قدرة على فهم الرأي المعروض، ثم قوة على تحليله ورده إلى عناصره الأولية، ثم صحة نظر وسلامة تقدير يستطيع بهما الوقوع على الحقيقة وسط بحر زاخر من الآراء المتناقضة، وقد ينطوي كل منها على بعض الوجاهة.
جلس هنري الرابع ملك فرنسا العظيم يوماً ليفصل في قضية هامة بنفسه. وقام للمرافعة بين يديه اثنان من أعلام المحاماة في عصره، فأبدع كلاهما وأعجز إلى حد أن صاح الملك يائساً: (رباه! إن الخصمين على حق).
والخصمان في كثير من الأحوال على حق إلى حد ما. والصعوبة الكبرى، الصعوبة الهائلة، هي أن يتبين القاضي هذا الحد فيركز عليه حكمه. على أن مهمة القاضي وقد أصاب المحز لا تنتهي بإصابته، إذ عليه بعد ذلك أن يؤيد حكمه بقلمه.
وفي الحق إن الأمر ليس من السهولة بحيث يبدو. دعك من القضايا السهلة التي يزاحم فيها الحق البديهة ولا يتطلب إلا تقريره بكلمة قد يكفي فيها قلم كاتب الجلسة. ودعك من قاض يعتقد أن عبارة (حيث) تتقدم سطوراً جرى بها التقليد الراكد تكفي في إلباس رأيه ثوب الأحكام.
ليس هذه القضايا ولا ذلك القاضي نعني، وإنما نريد القضية العصية يتسابق فيها لسانان أو قلمان لعلمين من أعلام البيان. فيخضع كل منهما لرأيه طائفة من الحجج الدامغة والأدلة القوية. ويقف القاضي بين هذين السيلين فيصلا للملحمة، ثم يقول أخيراً كلمته الحاسمة. كيف يقولها؟ ليس القاضي بمحلف يكفيه أن يجيب بنعم أو لا.
كلا الخصمين - كاسب الدعوى وخاسرها - بل وجمهور الناس يتطلع إلى أسباب حكمه ليحكم له أو عليه. لذا وجب أن تكون هذه الأسباب مقنعة. وليس الإقناع في مكنتها إلا أن يكون كاتبها من المقدرة بحيث يستطيع أن يعالج بقلمه القضية من جميع نواحيها؛ يبين وقائعها بجلاء، ويستعرض مختلف الآراء فيها بدقة وإيجاز؛ يناهض ما يرى مناهضته ويؤيد ما يرى تأييده، ثم يقف عند الرأي الذي يعتقد صحته موقفاً له قوته وله جلاله.(166/33)
تلك هي مهمة القاضي ككاتب. وليس يستسهلها إلا جاهل بأعباء الكتابة ومشاقها.
خصائص لغة الأحكام
لكل قلم قوته، ولكل كاتب طريقته، فمن العبث أن نضع قواعد مطلقة لصياغة الأحكام. الأمر قبل كل شيء حسن ذوق وحسن تصرف، ولكن للغة الأحكام مع ذلك مميزات يجب التنويه بها.
حسن اختيار اللفظ ودقة الأداء
المفهوم في الأحكام أنها نتيجة أعمال فكرة وتمعن، يصيغها القاضي وهو جالس إلى مكتبه لا تواجهه أنظار شاخصة ولا تتعجله وجوه مستحثة. فليس يغتفر له ما قد يغتفر للمترافع المندفع من تساهل في اختيار اللفظ ودقة الأداء. ليست المسألة مسألة أدب فحسب. فإن الحكم الذي تصدره محكمة ابتدائية هو سفيرها أمام محكمة الدرجة الثانية، وحكم محكمة الاستئناف عنوان جهودها أمام محكمة النقض، وقد ينبني على سوء تعبير أو غموض يعتور أسباب الحكم تشويه الرأي كله أو إضعاف حجته أمام المحكمة العليا.
الابتعاد عن التعمل
على أن الإحسان في التحرير لا يستلزم التعمل ولا التزيد، وليس أبعد عن كرامة القاضي من سعيه وراء الإعلان بأحكام تتبين فيها صنعة الأعداد للنشر والرغبة في استجلاب الثناء.
الوقار في لغة الأحكام
كذلك يكره في لغة الأحكام العنف والشدة وجموح العاطفة. فالقضاء وقور بطبعه وبالمهمة السامية التي يؤديها وبالاسم العالي الذي يتوج به أحكامه. فليس يليق به إذا ما تبين الحق في جانب خصم من الخصمين أن يحمل على الخصم الآخر فيصفه بما لا يجب. صحيح أن مهمة القضاء في بعض الأحايين التأديب والزجر: ولكن للزجر مواضعه في القليل من الأحوال. أما على العموم وفي القضاء المدني على الخصوص فيجب أن يكون الحكم عنوان الاعتدال والحشمة والتهذيب.
ويجب على القاضي أن يذكر إذا ما ناقش دفاعاً لمحام أو رأياً قانونيا أبداه أنه إنما يناقش(166/34)
زميلا له في السعي وراء الحقيقة فليس جميلاً منه ولا كريماً أن يسفه رأيه بمثل هذه العبارة التي قرأناها في حكم جنائي: (أما ما ذهب إليه الدفاع من أن عقلية المتهم غير ناضجة ويجب أن نصدقه لهذا السبب، فهو من لغو القول ولا تلتفت إليه المحكمة).
وقد يبدو لك ما في هذا القول من إساءة إذا قارنته بتصرف محكمة النقض وقد عرضت لأسباب تقرير مقدم من النيابة، فعركتها عرك الرحا وأطارتها هباء ثم ختمت بحثها بهذه التحية الجميلة (وإن المحكمة لتقدر للنيابة ما قامت به من المجهود الفني العظيم في سبيل تأييد نظريتها).
وقد جرت على هذه السنة عينها مع الدفاع إذا أحسن.
لغة الأحكام قديماً وحديثاً في مصر
وليس يبقى لاختتام هذا البحث إلا إشارة موجزة إلى تاريخ لغة الأحكام في مصر.
من عبث التحدث عما قبل عهد منشئ مصر الحديثة، فالمؤكد أنه لم يكن بمصر إلا قضاء شرعي غير محدود الاختصاص. بل لقد استمرت الحال فوضى قضائية في العهد المسمى بعهد المجالس الملغاة، فلم يكن هناك محاكم بالمعنى الصحيح المفهوم اليوم، بل كان رجال يجلسون للقضاء وليس لهم من مؤهلاته إلا الاسم. يقوم بين أيديهم وكلاء دعاوى يسعون إلى كسب قضاياهم بجميع الوسائل. وكانت اللغة في ذلك الوسط من أحط ما عرف في تاريخ العربية: كانت نوعاً من العامية الجوفاء يعتورها تعقيد متعمل ينطوي في نظر أصحاب ذلك اللسان على أروع الأدب. أنظر إلى رواية الوقائع في هذا الحكم الذي أورده محررو الوقائع الرسمية سنة 1881 نموذجاً للغموض والتعقيد المتمشيين في أحكام ذلك العهد، وفك رموزها إن استطعت وقل ما شئت.
(وفي ليلة الجمعة 22 شعبان سنة 294 صار قتل شخص يدعى شعبان نجم من كفر سعودن غربية بالغيط تعلقه وورثاه حصروا شبهتهم في شخص بلديه يدعا (يدعى) أحمد شوره، وبما أن المذكور لم يقر على ذلك وأنسب سيد أحمد عبد الدايم رئيس المشيخة أغرى الورثة ومن سئلوا في القضية على تهمته وما قيل فيحقه (في حقه) بسبب مطاعنته فيحق (في حق) الرئيس المذكور مما أبداه من المعادات (ة) في ذلك قد أخذت الحكومة في أسباب الفحص والتدقيق في هذه المسألة ولما تبين براءة أحمد الشورة المذكور وعدم صحة(166/35)
تهمته كونها بأغرى ذلك العمدة وشبهة العمدة المذكور بما حل بشعبان نجم وما اتضح من بعد شخص يدعى أبو السعود إبراهيم من كفر أبو جندي تابع إسماعيل الفار صهر سيد أحمد المذكور ليلة قتل شعبان المذكور وما توري بالتحريات التي جرت عن ذلك من أن فقده بمعرفة إبراهيم الفار لعدم إفشا أم شعبان نجم الذي قتلوه ليلتها مراعاة لخاطر سيد أحمد عبد الدايم بقصد نسبة قتله لأحمد الشورى المحكي عنه بسبب مطاعنته فيحقه قد حكم من الاستئناف ببراءة أحمد المذكور ومجازاة سيد أحمد عبد الدايم بليمان إسكندرية مدة سنة ونصف الخ).
على أن لغة محرر الوقائع الرسمية الذي شهَّر بهذا الحكم وسخر منه وقام يدعو إلى الإصلاح تستحق الإثبات هي أيضاً لطرافتها:
(منذ أيام جرى قلم النصيحة بمداد حب المنفعة على قرطاس المقصد الجميل فرقم كلمات في الإنشاء وبيان مراتبه وتفصيل الممدوح منه وغير الممدوح، وتقسيم أرباب القلم في ديارنا المصرية، وختمها بنداء عمومي صادر عن سليم القلب وصميم الفؤاد.
(ولقد كانت الآمال ترسل في مخيلتي بأقلام الرجاء أن سيكون لتلك الكلمات عند أهل الديار وقع جميل فتنفعل عنها النفوس ويظهر لها أثر يذكر في عالم المحسوسات، فكنت لذلك كالواقف على أقدام الانتظار، لانتهاز الفرصة في لقاء المحبوب يقلقه الضجر ويضنيه الاصطبار، فإذا مضى اليوم الطويل ولم أر فيه من أثر يذكر على نوال المطلوب رددت أنفاس الأسف ومنيت النفس باليوم الثاني عساه يسفر فجره عما يسكن الروع ويدفع الوسواس شأن المحب يتعلل بالأماني ويعتذر بتوارد الأيام؛ ولما طال بي المدى وتطاولت الأزمان. . .).
وقد يطول بنا وبك المدى وتطاول الأزمان قبل أن ننتهي من هذه المقدمة التي لا تحوي فائدة ولا تؤدي غرضاً فلنتركها ونترك عهدها السعيد إلى العهد التالي.
(التتمة في العدد القادم)
زكي عريبي
المحامي أمام محكمة النقض والإبرام(166/36)
المؤمن المحتضر
للشاعر الفرنسي لامرتين
بقلم محمد طه الحاجري
تفجرت هذه المقطوعات من قلبي، فكتبها أحد أصدقائي، ذات صباح، وهو إلى جانب سريري، ذلك هو السيد مونشلان الذي عني بأمري، عناية أخ، في مرضي الطويل الخطر الذي نزل بي في باريس عام 1819.
ماذا أسمع؟ الناقوس المقدّس يرنّ من حَولَيهْ! وما هذه الثُّلة من رجال الدين تحيط بي باكية؟ ولمن هذه الأغنيَّة الحزينة وهذه الشعلة الخافتة؟ إيه أيتها المنية! أهذا صوتك الذي يقرع أذني للمرة الأخيرة؟ أجل! إني لأستيقظ على حافة القبر!
وأنت أيتها الشرارة العزيزة من الجذوة الإلهية، والقطينة الخالدة في هذه الجثة الفانية، لا تخافي ولا تفزعي: فالموت آتٍ لخلاصِك! طِيرِي طَيَرانَك يا نفسي، وتجرّدي من أغلاِلك! فهل الموت إلا وضع آصار التعاسة البشرية؟
أجل! لقد انتهى الزمن من قياس حياتي. فيا أيتها الملائكة النورانية في مقامها السماوي، إلى أي دار جديدة أنتم آخذون بي؟ الآن! الآنَ أنا أسبح في أمواج من الضياء، وإن الفضاء ليتسع أمامي، وكأن الأرض تفِرُّ من تحت أقدامي!
ولكن ما هذا الذي أسمع؟ في اللحظة التي تستيقظ فيها روحي، أسمع الحسراتِ والتنهداتِ تقرع أذني! ما هذا يا رفاق المنفى! أتبكون مماتي! ولقد شربت منذ قليل من الكأس المقدسة نسيان الآلام، ووَلَجت روحي المنتشية أبواب السماء؟
محمد طه الحاجري(166/38)
للتاريخ السياسي
معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وإنجلترا
نص المعاهدة
مقدمة
إن حضرة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والأملاك البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند.
وحضرة صاحب الجلالة ملك مصر.
بما أنهما يرغبان في توطيد الصداقة وعلاقات حسن التفاهم بينهما والتعاون على القيام بالتزاماتهما الدولية لحفظ سلام العالم.
وبما أن هذه الأغراض تتحقق على الوجه الأكمل بعقد معاهدة صداقة وتحالف تنص لمصلحتها المشتركة على التعاون الفعال لحفظ السلام وضمان الدفاع عن أراضيهما وتنظيم علاقاتهما المتبادلة في المستقبل.
قد اتفقا على عقد معاهدة لهذه الغاية وأنابا عنهما المفوضين الآتية أسماؤهم:
حضرة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والأملاك البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند (الذي سيشار إليه في نصوص هذه المعاهدة بعبارة (صاحب الجلالة الملك والإمبراطور)).
قد أناب عن بريطانيا العظمى وشمال ايرلندا:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحضرة صاحب الجلالة ملك مصر.
قد أناب عن مصر:
حضرة صاحب الدولة مصطفى النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء ورئيس الوفد المصري ورئيس الوفد الرسمي.
حضرة صاحب السعادة الدكتور أحمد ماهر رئيس مجلس النواب.
حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا رئيس مجلس الوزراء سابقاً.(166/39)
حضرة صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا رئيس مجلس الوزراء سابقاً.
حضرة صاحب الدولة عبد الفتاح يحيى باشا رئيس مجلس الوزراء سابقاً.
حضرة صاحب المعالي واصف بطرس غالي باشا وزير الخارجية.
حضرة صاحب المعالي عثمان محرم باشا وزير الأشغال العمومية
حضرة صاحب المعالي مكرم عبيد باشا وزير المالية.
حضرة صاحب المعالي محمود فهمي النقراشي باشا وزير المواصلات.
حضرة صاحب المعالي أحمد حمدي سيف النصر باشا وزير الزراعة.
حضرة صاحب السعادة علي الشمسي باشا الوزير السابق.
حضرة صاحب المعالي محمد حلمي عيسى باشا الوزير السابق.
حضرة صاحب السعادة حافظ عفيفي باشا الوزير السابق.
الذين بعد تبادل وثائق تفويضهم التي تخولهم سلطة كاملة والتي وجدت صالحة مستوفية الشكل قد اتفقوا على ما يأتي:
مواد المعاهدة
المادة الأولى
انتهى احتلال مصر عسكرياً بواسطة قوات صاحب الجلالة الملك والإمبراطور.
المادة الثانية
يقوم من الآن فصاعداً بتمثيل صاحب الجلالة الملك والإمبراطور لدى بلاط جلالة ملك مصر وبتمثيل صاحب الجلالة ملك مصر لدى بلاط سان جيمس سفراء معتمدون بالطرق المرعية.
المادة الثالثة
تنوي مصر أن تطلب الانضمام إلى عضوية عصبة الأمم.
وبما أن حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة تعترف بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة فأنها ستؤيد أي طلب تقدمه الحكومة المصرية لدخول عصبة الأمم بالشروط المنصوص عليها في المادة الأولى من عهد العصبة.(166/40)
المادة الرابعة
تعقد محالفة بين الطرفين المتعاقدين الغرض منها توطيد الصداقة والتفاهم الودي وحسن العلاقات بينهما.
المادة الخامسة
يتعهد كل من الطرفين المتعاقدين بألا يتخذ في علاقاته مع البلاد الأجنبية موقفاً يتعارض مع المحالفة وألا يبرم معاهدات سياسية تتعارض مع أحكام المعاهدة الحالية.
المادة السادسة
إذا أفضى خلاف بين أحد الطرفين المتعاقدين ودولة أخرى إلى حالة تنطوي على خطر قطع العلاقات مع تلك الدولة يتبادل الطرفان المتعاقدان الرأي لحل ذلك الخلاف بالوسائل السلمية طبقاً لأحكام عهد عصبة الأمم أو لأي تعهدات دولية أخرى تكون منطبقة على تلك الحالة.
المادة السابعة
إذا اشتبك أحد الطرفين في حرب بالرغم من أحكام المادة السادسة المتقدم ذكرها فإن الطرف الآخر يقوم في الحال بانجاده بصفته حليفاً، وذلك مع مراعاة أحكام المادة العاشرة الآتي ذكرها.
وتنحصر معاونة صاحب الجلالة ملك مصر في حالة الحرب، أو خطر الحرب الداهم، أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها، في أن يقدم إلى صاحب الجلالة الملك والإمبراطور داخل حدود الأراضي المصرية مع مراعاة النظام المصري للإدارة والتشريع، جميع التسهيلات والمساعدة التي في وسعه بما في ذلك استخدام موانئه ومطاراته وطرق المواصلات.
وبناء على هذا فالحكومة المصرية هي التي لها أن تتخذ جميع الإجراءات الإدارية والتشريعية بما في ذلك إعلان الأحكام العرفية وإقامة رقابة وافية على الأنباء لجعل هذه التسهيلات والمساعدة فعالة.
المادة الثامنة(166/41)
بما أن قنال السويس الذي هو جزء لا يتجزأ من مصر هو في نفس الوقت طريق عالمي للمواصلات كما هو أيضاً طريق أساسي للمواصلات بين الأجزاء المختلفة للإمبراطورية البريطانية، فإلى أن يحين الوقت الذي يتفق فيه الطرفان المتعاقدان على أن الجيش المصري أصبح في حالة يستطيع معها أن يكفل بمفرده حرية الملاحة على القنال وسلامتها التامة، يرخص صاحب الجلالة ملك مصر لصاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن يضع في الأراضي المصرية بجوار القنال بالمنطقة المحدودة في ملحق هذه المادة قوات تتعاون مع القوات المصرية لضمان الدفاع عن القنال. ويشمل ملحق هذه المادة تفاصيل الترتيبات بتنفيذها.
ولا يكون لوجود تلك القوات صفة الاحتلال بأي حال من الأحوال. كما أنه لا يخل بأي وجه من الوجوه بحقوق السيادة المصرية.
ومن المتفق عليه أنه إذا اختلف الطرفان المتعاقدان عند نهاية مدة العشرين سنة المحدودة في المادة السادسة عشرة على مسألة ما إذا كان وجود القوات البريطانية لم يعد ضرورياً لأن الجيش المصري أصبح في حالة يستطيع معها أن يكفل بمفرده حرية الملاحة على القنال وسلامتها التامة، فإن هذا الخلاف يجوز عرضه على مجلس عصبة الأمم للفصل فيه طبقاً لأحكام عهد العصبة النافذ وقت توقيع هذه المعاهدة، أو على أي شخص أو هيئة للفصل فيه طبقاً للإجراءات التي يتفق عليها الطرفان المتعاقدان.
المادة التاسعة
يحدد باتفاق خاص يبرم بين الحكومة المصرية وحكومة المملكة المتحدة ما تتمتع به من إعفاء وميزات في المسائل القضائية والمالية قوات صاحب الجلالة الملك والإمبراطور التي تكون موجودة بمصر طبقاً لأحكام هذه المعاهدة.
المادة العاشرة
ليس في أحكام هذه المادة ما يمس أو ما يقصد به أن يمس بأي حال من الأحوال الحقوق الالتزامات المترتبة أو التي تترتب لأحد الطرفين المتعاقدين أو عليه بمقتضى عهد عصبة الأمم أو ميثاق منع الحرب الموقع عليه بباريس في 27 أغسطس سنة 1928.(166/42)
المادة الحادية عشرة
1 - مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة في المستقبل لتعديل اتفاقيتي 19 يناير و10 يوليو سنة 1899 قد اتفق الطرفان المتعاقدان على أن إدارة السودان تستمر مستمدة من الاتفاقيتين المذكورتين.
ويواصل الحاكم العام بالنيابة عن كلا الطرفين المتعاقدين مباشرة السلطات المخولة له بمقتضى هاتين الاتفاقيتين.
والطرفان المتعاقدان متفقان على أن الغاية الأولى لإدارتهما في السودان يجب أن تكون رفاهية السودانيين.
وليس في نصوص هذه المادة أي مساس بمسألة السيادة على السودان.
2 - وبناء على ذلك تبقى سلطة تعيين الموظفين في السودان وترقيتهم مخولة للحاكم العام الذي يختار المرشحين الصالحين من بين البريطانيين والمصريين عند التعيين في الوظائف الجديدة التي لا يتوفر لها سودانيون أكفاء.
3 - يكون جنود بريطانيون وجنود مصريون تحت تصرف الحاكم العام للدفاع عن السودان فضلاً عن الجنود السودانيين.
4 - تكون الهجرة المصرية إلى السودان خالية من كل قيد إلا فيما يتعلق بالصحة والنظام العام.
5 - لا يكون هناك تمييز في السودان بين الرعايا البريطانيين وبين الوطنيين المصريين في شؤون التجارة والمهاجرة أو في الملكية.
6 - اتفق الطرفان المتعاقدان على الأحكام الواردة في ملحق المادة فيما يتعلق بالطريقة التي تصير بها المعاهدات الدولية سارية في السودان.
المادة الثانية عشرة
يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن المسئولية عن أرواح الأجانب وأموالهم في مصر هي من خصائص الحكومة المصرية دون سواها، وهي التي تتولى تنفيذ واجباتها في هذا الصدد.(166/43)
المادة الثالثة عشرة
يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن نظام الامتيازات القائم الآن لم يعد يلائم روح العصر ولا حالة مصر الحاضرة.
ويرغب صاحب الجلالة ملك مصر في إلغاء هذا النظام دون إبطاء.
وقد اتفق الطرفان المتعاقدان على الترتيبات الواردة بهذا الخصوص في ملحق هذه المادة.
المادة الرابعة عشرة
تلغي المعاهدة الحالية جميع الاتفاقات أو الوثائق القائمة التي يكون استمرار بقائها منافياً لأحكام هذه المعاهدة، ويجب أن يعد باتفاق الطرفين إذا طلب أحدهما ذلك بيان الاتفاقات والوثائق الملغاة وذلك في مدى ستة أشهر من نفاذ هذه المعاهدة.
المادة الخامسة عشرة
اتفق الطرفان المتعاقدان على أن أي خلاف ينشأ بينهما بصدد تطبيق أحكام المعاهدة الحالية أو تفسيرها ولا يتسنى لهما تسويته بالمفاوضات بينهما مباشرة يعالج بمقتضى أحكام عهد عصبة الأمم.
المادة السادسة عشرة
يدخل الطرفان المتعاقدان في مفاوضات بناء على طلب أي منهما في أي وقت بعد انقضاء مدة عشرين سنة على تنفيذ هذه المعاهدة، وذلك بقصد إعادة النظر بالاتفاق بينهما في نصوص المعاهدة بما يلائم الظروف السائدة حينذاك.
فإذا لم يستطع الطرفان المتعاقدان الاتفاق على نصوص المعاهدة التي أعيد نظرها يحال الخلاف إلى مجلس عصبة الأمم للفصل فيه طبقاً لأحكام عهد العصبة النافذ وقت توقيع هذه المعاهدة، أو إلى أي شخص أو هيئة للفصل فيه طبقاً للإجراءات التي يتفق عليها الطرفان المتعاقدان.
ومن المتفق عليه أن أي تفسير في المعاهدة عند إعادة نظرها يكفل استمرار التحالف بين الطرفين المتعاقدين طبقاً للمبادئ التي تنطوي عليها المواد 4 و5 و6 و7.
ومع ذلك ففي أي وقت يعد انقضاء مدة عشر سنوات على تنفيذ المعاهدة يمكن الدخول في(166/44)
مفاوضات برضا الطرفين المتعاقدين بقصد إعادة النظر فيها كما سبق بيانه.
المادة السابعة عشرة
يصدق على المعاهدة الحلية ويتبادل التصديق عليها في القاهرة في أقرب وقت ممكن، ويبدأ تنفيذها من تاريخ تبادل التصديق عليها، وعندئذ تسجل لدى السكرتير العم لعصبة الأمم.
وإقراراً بما تقدم وقع المفوضون السابق ذكرهم على هذه المعاهدة ووضعوا أختامهم عليها.
(في العدد القدم (ملحقات المعاهدة))(166/45)
حَوْلَ النشيد الوطني
للأستاذ محمد إبراهيم المغازي
عندما أعلنت لجنة التحكيم في المباراة الأدبية الرسمية التي أقيمت في عهد الوزارة الماهرية رأيها في الموضوع العاشر من موضوعات المباراة وهو (النشيد القومي)، ومنحت فيه الجائزة الأولى وقدرها مائة جنيه لنشيد الأستاذ محمود صادق، اطلعت على النشيد المحظوظ في الصحف السيارة فلم أجد له في نفسي الوقع الذي يقنعني بأن هذا النشيد يصلح لأن يكون نشيداً قومياً رسمياً لبلد ناهض كمصر فيه من صفوة الأدباء ونوابغ الشعراء عدد لم يتوفر لغيره من لأقطار العربية؛ وعجبت في نفسي (طبعاً) لهذا الاختيار، ولكني عدت فاتهمت ذوقي وفهمي وشرعت آخذ آراء المحيطين بي ممن لهم بصر بالأدب فرأيتهم في الجملة يشاركونني شعوري بالنسبة لهذا النشيد، فعدت إلى اتهام ذوقي من جديد، واتهمت أيضاً ذوق من استطلعت آراءهم، وحسنت ظني في النشيد حتى أسمع تلحينه، فقد يظهر فيه التلحين محاسن لم تكن تظهر قبله، وكم كانت خيبة أملي عميقة يوم سمعت تلحين هذا النشيد من المذياع! لقد كان ميتاً لا حياة فيه؛ ولست مبالغاً في قولي هذا، فأني أشهد لقد سمعت أناشيد أخرى يلقيها فتيان الكشافة وفرق القمصان الزرقاء وجنود مصر الفتاة، ومع أن الأناشيد التي سمعتها منهم لم يُعط واضعوها عليها مائة جنيه جائزة، ولم تجد لها ملحنين يأخذون في تلحين الواحد منها مائة جنيه أخرى - كما جرى لنشيد الأستاذ محمود صادق - أقول إنه برغم كل هذا فإن الإنسان يحس الحرارة والقوة والوطنية تتدفق في الأناشيد الأخرى، مثل نشيد اسلمي يا مصر للأستاذ صادق الرافعي، ويغلب على ظني أنه لم يتقدم به للمباراة واكتفى بالنشيد الجديد الذي حاز به الجائزة الثانية. ومطلع النشيد الأول للرافعي:
اسلمي يا مصرُ إنني الفدا ... ذي يدي إن مدت الدنيا يدا
ومنه:
للعُلا أبناَء مصرٍ للعُلاَ ... وبمصرٍ شرّفوا المستقبلاَ
وفدىً لمصرنا الدنيا فلا ... تضعوا الأوطانَ إلاَّ أوّلاَ
جانبي الأيسرُ قلْبه الفؤادْ ... وبلادي هي لي قلبي اليمينْ(166/46)
لك يا مصرُ السلامةْ ... وسلاماً يا بلادِي
إن رمى الدهر سهامهْ ... أتقيها بفؤادِي
واسلمي في كلِّ حينْ
هذا نموذج من النشيد وقد سمعته وأعطيته محفوظات لتلامذتي لأنه وقع مني موقع الرضا واطمأنت إليه نفسي لأول وهلة.
وهناك نشيد آخر لا يقل عن هذا النشيد وهو النشيد الذي وضعه الأستاذ عباس محمود العقاد من سنوات قلائل وأقيمت له من أجله حفلة تكريمية كبرى. ومطلع نشيد العقاد:
قد رفعنا العلمْ ... للعُلا والفِدا=في ضمان السماءْ
وكله على هذا النمط السهل الجميل، وهو يصلح لأن يكون نشيداً شعبياً لسهولته واختصاره ووفائه بكل المعاني التي يطلب توفرها في الأناشيد القومية. ويطول بي المقام لو حاولت استقصاء الأناشيد الأخرى القوية الجميلة التي هي خير ألف مرة من نشيد الأستاذ محمود صادق.
والآن أحب أن يتأمل القارئ الكريم مطلع نشيد صاحب الجائزة الأولى:
بلادي بلادي فداكِ دميِ ... وهبتُ حياتي فداً فاسْلمي
غرامُك أول ما في الفؤادْ ... ونجواك آخر ما في فمي
ثم يقارن بينه وبين بيت من الشعر للأستاذ الرافعي كنا نحفظه ضمن قطعة له من الشعر في المدرسة الأولية:
بلادي هواها في لساني وفي دمي ... يمجّدُها قلبي ويدعو لها فمِي
فسيجد أن البلاد والدم والقلب والفم والفداء والهوى أو الغرام تتكرر كلها في مطلع نشيد الأستاذ محمود صادق كما تتكرر في بيت الأستاذ الرافعي تماماً. فهل نسمي هذا توارد خواطر أم ماذا؟ مع أنني أحفظ البيت المذكور من سنة 1926 أي قبل ظهور النشيد الجديد بعشر سنوات، ولا أدري كم من السنين مرت قبل أن أحفظه.
وتأمل هذا المقطع:
غرامك يا مصر لو تعلمين ... قُصارى شعوريَ دنيا ودينْ
فمنك حياتي وفيك مماتي ... وحبك آخرتي واليقين(166/47)
ماذا تركت مصر لله في هذا الوجود يا صاحب النشيد؟ أليس هذا كفراً صريحاً؟!. . .
الحق إن النشيد الوطني الجدير بهذا الاسم يجب أن يكون خاليا من هذا الشرك وأن يكون بعيداً عن (توارد الخواطر) إلى هذا الحد، وأن تنتقى ألفاظه وقافيته بحيث تكون كلها من حروف المد أو مسبوقة بحروف مد لأنها تكون شجيه الترديد. وإذا كنا نجيز مكافأة مؤلف نشيد كهذا بمائة جنيه فلسنا نفهم كيف يمنح ملحنه مبلغاً مماثلاً لما أخذه المؤلف. اللهم إن هذا إسراف في بلد هو أحوج البلاد إلى الاقتصاد!. . .
(وبعد) فقد أحسنت الوزارة الماهرية في سن تلك السنة الحميدة بإقامتها مباراة ذات جوائز مالية سخية لتشجيع الأدب ورجاله ونرجو أن تحافظ وزارة الشعب المحبوبة على هذه السنة الجميلة!. . .
وأحسب أن المدى الذي كان محدداً للمباراة لم يكن يصح تطبيقه على موضوع النشيد الوطني - وكان الأولى أن يفسح في أجله ليكون هناك متسع من الزمن أمام الشعراء فيتسع مجال الإجادة فلا تجيء الأناشيد ناقصة ضعيفة من عدم التروي والأناة مما دعا لجنة التحكيم إلى أن تقول في تقريرها - كما ورد في الرسالة الغراء - (إن أجود الأناشيد التي عرضت عليها لم تخل من أبيات أو فقرات ضعيفة إلى جانب أبيات أو فقرات جيدة، ولهذا أخذت كل نشيد بمجموعة، لا ببعض أجزائه).
لقد كانت هذه الخواطر وغيرها تتردد في نفسي، وكلما هممت بالكتابة في الموضوع ثناني عنه أنني لم أر أحداً يقدم على نقد النشيد بعد أن (اعتمدته) وزارة المعارف ولُقن لأفراد البعثة الرياضية التي سافرت إلى برلين، وظللت على ذلك حتى طلع علينا الأديب (س ط) بكلمة قصيرة في العدد 163 من (الرسالة) الزهراء عن الغلطة الأولى في النشيد، ولما وجدت أن (ابن الحلال) قد فتح الباب تقدمت أنا الآخر بكلمتي.
ورجائي أن يعيد أولو الأمر نظرهم في المسألة من جديد ويقيموا مباراة لوضع نشيد قومي كامل يحدد لها نصف سنة على الأقل، ويدعى لها الشعراء المصريون المعروفون للتقدم بما عندهم من الأناشيد أو لوضع غيرها حتى يكون لنا نشيد جدير بالخلود كما للدول الأخرى الراقية.
وأخيراً فأنه من الوفاء لهذا البلد أن يقف العمل بنشيد الأستاذ محمود صادق حتى يوضع(166/48)
نشيد جديد أو يثبت أنه الأفضل، وهنيئاً لصاحبه ما ناله من مال وشهرة والسلام!. . .
(النحارية)
محمد إبراهيم المغازي
مدرس(166/49)
دورة الأرض ودورة النفس
للأستاذ خليل هنداوي
كم لهذه المدنية من جنايات منكرة على الإنسان، فلقد شاءت في كل ما تضعه أن تعطيه صور الطبيعة مشاهد ممسوخة وأن تعطيه كتاب الكائنات سطوراً مبهمة.
لقد كان الإنسان في العهد الأول يوم كان يزحف إلى رحلاته على آلات تسعى كالسلحفاة أكثر اتصالاً بالطبيعة، لأنه يقف إزاءها وجهاً لوجه، يتأمل جمالها وجلالها ويتحمل مشاقها ويرى في تحمله لذة الانتصار. فالراحل رحلة قصيرة يتألب حوله من يهتف له ويعجب به ويسأله أن يحدثه عن عجائب رحلته لأنه يراها رحلة حُبلى بالغرائب. وترى صاحبها كلما تحدث عن رحلته تحدث برغبة وحماس، يصور تلك المشاهد ويحبب لسامعه لقيام بمثل رحلته حتى يطلع على جمال لا يغني الكلام عنه.
جمال هذه الرحلات طغى عليه جيل السرعة فلم يُبق لتلك المشاهد روعة، ولم يدع للرحلات البطيئة معنى. . . فالسيارة والقطار والطيارة أعداء هذه الرحلات البطيئة لأنها تجعل من مشاهد الطبيعة الغزيرة المعاني صوراً وأخيلة سينمائية لا ينفذ الناظر إلى دقائقها وائتلاف صورها. فالراحل من بيروت إلى دمشق في العهد السابق على عجلة كان يلبث ثلاثة أيام قد يقاسي فيها بعض الشدائد، ولكنه ينال مقابل هذا من جمال الطبيعة والتأمل في خفاياها ما لا ينسى روعتها أيام عمره، فهو يكاد يعي مصوراً جغرافياً بالطريق وقرى الطريق، وهو لا يكاد ينسى المواطن التي بات فيها لياليه. أما اليوم فهو لا يلبث في رحلته إلا ساعتين يقطعهما كلحظتين في قلب سيارة تحجب عنه كل شيء ولا يحس لذة في السيارة إلا لذة السرعة، وبهذا انطوت عنه آفاق وتوارت عنه مشاهد كثيرة. لقد ظفر إنسان اليوم بالسرعة وأصبح يقلب الأرض قطراً قطراً ولا يعصيه منها شيء، ولكنه يعود من أقطارها كأن لم ينظر شيئاً، لأن هذه السرعة قد محت من ذاكرته أكثر المشاهد، ربح هذه السرعة وخسر هذا الجمال المتغلغل في الأشياء والأكوان، وسرى فوق الأرض كمشاهد غريب عنها لا يتصل بها ولا يعي من مشاهدها شيئاً. وليته خسر من مشاهدها روعتها! ولكنه خسر التأمل الذي يترك أكبر الأثر في النفس. فكم درس كان يتولد من مشهد! وكم قصيدة تنشأ من تأمل في أعماق الطبيعة! أضاعت السرعة كل هذا وزادت في فصل(166/50)
الإنسان عن الطبيعة الأمر الذي ضج له بعض الفلاسفة وخشوا على الإنسان أن يزداد انجذابه بالمادة، والمادة قاتلة فيه كل روح وضمير. وبهذا تثبت الإنسانية في أجيالها الحاضرة أنها أصبحت طائعة خاضعة للمادة، وأنها لا يستفيق فيها نداء الروح إلا حين تفشل مادتها ويضعف تعلقها بها!
أجد السائح على الآلة البطيئة يحدثني عن جمال مشاهد غاب جمالها في نفسه وأثر في قلبه وربما غير اتصاله بها وجوها كثيرة من حياته، وهذا سر كل رحلة وغايتها. وأجد السائح على الآلة السريعة فأجده سيد رحلته. انتهى منه كما بدأ بها. . . لم يضف إلى خزانة نفسه من هذه الرحلة شيئاً إلا أسماء رآها على المصور كما أراها إذا أردتُ. وما عسى تجديني رحلة طويلة أطوي الأرض من قطبها إلى قطبها وأجمع بيدي كل آفاقها، تدور بي آلة تسير كالجن تريني السماء والأرض طائرتين، أو أرى الأرض من السماء كخيال لا يتبدل ما فيه إلا قليلاً. إني لأوثر على مثل هذه الرحلة التي اختلط رأسها بذنبها رحلة قصيرة بطيئة تتصل نفسي فيها بالأرض وتسمع نداءها وتدرك جمالها وتتأمل جلالها، وإذا انتهيت من رحلتي أحسستُ شيئاً جديداً في نفسي! أليس في تبدل كل مشهد وحي جديد يهبط على نفسي؟ أليس في كل طود شامخ أجاهد النفس في اقتحامه انتصار قوي يشجع نفسي على المثابرة؟ أليس في انتصاري على كل شدة وكل نكبة ومجاهدتي بنفسي في اقتحام المخاطر ما يعينني على اقتحام مخاطر الحياة التي تشبه من وجوه عديدة هذه المخاطر؟ وكيف تريد من الغني الذي ينشأ في النعيم والنعومة أن يقوى على مجابهة الحياة حين تقابله مصاعبها؟
إن في مثل هذه الرحلات نوعاً من المقاومة - كم يفهمه الكشافون - يعين على احتمال المصاعب، وفيه نوع آخر يجب أن نسبق إلى تفهمه هو محادثة الطبيعة فماً لفم، وعناقها صدراً لصدر، والتغلغل في خفايا جمالها الرائع، وفي هذا ما يجعل قلوبنا تطفح رضاً بالحياة ونفوسنا تحبها وتتمتع بها.
حقاً لقد كسبوا كثيراً من السرعة في رحلاتهم، وكثيراً من الراحة في هذه السرعة، وكثيراً من الرحلات في هذا العصر، ولكنهم فقدوا أجمل شيء كانوا يأخذونه من الطبيعة، فقدوا الأساليب التي كانت تدخل بها الطبيعة إلى أنفسهم، والأساليب التي كانوا بها يدخلون إلى نفس الطبيعة. . . وقد أخطئوا إذ حسبوا أن قيمة الرحلة بأبعادها ومسافاتها وتعدد مشاهدها،(166/51)
وما عسى أن تكون قيمة رحلة مثل هذه إذا أبعدتني عن نفسي ولم تستطع أن تصل ما بيني وبين الطبيعة! على أن دورة النفس هي أكثر التفافات وتعاريج وأبعاداً - على قربها - من دورة الأرض وإن كثرت فيها التعاريج والأبعاد.
سيحوا في الأرض وطيروا في أجوائها واسبقوا الزمان على دورته، ولكن اجعلوا من سياحاتكم سياحات قصيرة تعيدكم إلى الأرض وجبالها ووديانها وجمالها، ففي تأملها حياة في قلب حياة، وفي الاتصال بها انفصال عن متاعب الحياة.
وقد كان الاتصال بالأرض الخالية علاجاً يداوي به سقيم الهوى ومريض الفؤاد والمسلول، لأن نفحاتها النقية تعيد إليه ما نزعته منه الأرض التي سممتها الشهوات وقتلت روحها الملذات.
مشاهد هذه الأرض لا تزال غنية تعطي كل قاصد مهما كانت غايته لأنها غنية. . . فما أغناك أيتها الأرض حتى عندما يظنونك فقيرة!
خليل هنداوي(166/52)
في الأدب الإنكليزي
3 - هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟
للسيد جريس القسوس
- 6 -
من هو طوماس تشاترتن؟
وُلد هذا الشاعر في برستل، في 20 نوفمبر سنة 1752، بعد وفاة أبيه بثلاثة أشهر. وكان أبوه كاتباً بسيطاً في كاتدرائية برستل، يتقاضى منها راتباً زهيداً؛ فمات ولم يخلف لابنه تراثاً مادياً يُذكر.
دخل الشاعر مدرسة كولستُنْ الابتدائية حيث قضى ثماني سنين متتالية، نظم في خلالها بعض قصائد، منها واحدة نظمها سنة 1764 بعنوان (وصية الكافر)
ثم عنّ له أن يقصد عمه حارس كنيسة القديسة ماري في (ردكلف) لعله يجد في كنفه طمأنينة وعزا. كانت تلك الكنيسة على جمال فني بديع، فتن الشاعر وأذهله، فعاش بالخيال في العصور التي أبدعت ذلك الفن الرائع. ليس هذا فحسب، بل عثر في خزانة الكنيسة على مخطوطات أدبية قديمة، وسجلات دينية تعود في تاريخها إلى العصور الوسطى، فكان الشاعر الصبي في خياله وشعوره نهباً بين هذين التراثين الخالدين: التراث الفني البديع، والأدبي الرائع. فلم يعش في الحقيقة في عصره إلا بالجسد؛ أما روحه فقد كانت بكليتها في العصور الوسطى.
وانزوى تشاترتن لنفسه في تلك البيئة الروحية الهادئة عاكفاً على بحث تلك الآثار الأدبية ومطالعتها. وبقي هذا شأنه لا يعرف من أمره شيء، حتى سنة 1769 حين فاجأ العالم الأدبي بنشر قصيدة (لينور ويوغا) & في مجلة & ولقد نظم تلك القصيدة في حين لم يتجاوز فيه عمره الثانية عشرة؛ وأطلع عليها رئيس مستشفى (كلتُن)، مدّعياً أنها من آثار شاعر من شعراء القرن الخامس عشر. أما اسم ذلك الشاعر الخيالي فالكاهن طوماس رولي عاش في مدينة برستل، في عهد الملك إدوارد الرابع وكان - على ما ادعى تشاترتن - صديقاً لوليم كاننغ.(166/53)
ووليم كاننغ هذا شخصية تاريخية؛ كان تاجراً مثرياً، يتعاطى هذه المهنة في برستل - بلد تشاترتن نفسه -؛ وكان من غواة الأدب وأعوانه. وادعى تشاترتن أن الكاهن رولي كان يؤمّه ليتلو في حضرته أشعاره، فيلقى منه كل حدب والتفات. وتقوم بطولة كاننغ على الفضل والتقوى، ومتانة الخلق، وقوة العزيمة، والمحافظة على المبدأ؛ لهذا لما أرغمه الملك إدوارد على تزوج إحدى الغانيات لغاية في نفسه، رأى كاننغ نجاته في الهرب من وجه ذلك الملك العسوف؛ فقصد كلية وستبري في مقاطعة جلوسترشاير مفضلاً الحياة بجانب الكاهن الشاعر على التقرب من الملك العاتي الجبار.
درس تشاترتن هذه الحوادث دَرْس الولوع المفتنّ؛ وألمّ بها إلماماً عجيباً، واختلق قسماً كبيراً منها. ومعظم قصائده تدور حول هذه الحوادث، الصحيح منها والمختلق. ويتخلل اسم كاننغ كثيراً من أشعاره التي نظمها، وعزاها إلى الشاعر رولي مثل مأساة برستو أو قصيدة '
ادعى تشاترتن أن يراع ذلك الكاهن الخيالي دبجت هذه القصائد وغيره؛ وأنه خلّفها في مخطوطات أودعت خزانة كنيسة ردكلفْ. هذا كل ما يقوله تشاترتن عن رولي: ولم يذكر عنه أكثر من ذلك، فيعزز بذلك ادعاءه، ويقوي حجته.
وفي سنة 1767، عين الشاعر كاتباً في بعض دوائر العدل لكنه رغم ذلك كان له متسع كاف من الوقت للمطالعة والإنتاج والنشر خاصة في مجلة '
وأشهر ما ظهر له في ذلك الحين قصيدة اسمها (أُنشودة إلاَّ) وهي مأساة تمثيلية فيها ابتكار، وغنائية ساحرة، وروعة فنية سامية. (ومأساة برستو) وهي من أجلّ مآسيه الشعرية القصصية وأروعها موضوعاً وأسلوباً، وتنتهي بإعدام البطل بودون إذ اشتمّ منه الملك إدوارد معاندة وعصياناً. وفيها وصف بديع للبطل بودوِنْ إذ آثر الموت على مصانعة الملك إدوارد والتلطف له والتحبّب إليه. وفيها وصف بارع رقيق للوداع الحارّ بين ذلك البطل وزوجه البار.
ومن هذه أيضاً قصة شعرية تمثيلية اسمها (الرّهان) وأُخر مثل (جودوِنْ) و (أنشودة الجمال) و (البرلمان) و (معركة هيستنج) و (أغنيّة الصَّدقة) وغيرها من المقطّعات المتفرقة، وهي كلها شبيهة بأشعار كيتس الخالدة، من حيث جمال الفن وقوة(166/54)
العاطفة ودقّة التصوير. وجميع هذه القصائد تؤلّف مجلداً كبيراً من الشعر، جُمِعَ ونُشِر سنة 1804؛ وتشاترتن كان ينسب أهم ما فيه إلى الشاعر رولي.
لهذا بينما كان العالم الأدبي ينهج في خطى بوب وجونسن الأدبية الكلاسيكية، كان هذا الشاعر الشاب يمهّد السبل القومية للإبتداعية ذلك بأنه كان يعود إلى ينابيع قديمة فيستقي منها نتاجه الأدبي أو يستوحي منها عبقريته الخالدة؛ فيعمل بذلك على نشر الميزات التي يختصّ بها أدب الإبتداعية.
ولقد وجد شعراء القرن التاسع عشر في أدب تشاترتن وحياته الرومانتيكية مرتعاً خصباً للخيال والروح، فقد تأثر الشاعر كولردج بأدبه إلى حد بعيد؛ وهذا يظهر جلياً واضحاً في قصيدته المشهورة ولكولردج هذا قصيدة بديعة، اختصها برثاء تشاترتن اسمها وقلْ مثل ذلك عن كيتس؛ إذ يستدلّ من إهدائه قصيدته الخالدة إلى تشاترتن أنه كان يستوحي عبقريته، ويستمد نشاطه الأدبي من روح الشاعر الشاب. ليس هذا فحسب، بل أقر غيرهما من الشعراء الابتداعيين بنبوغ تشاترتن؛ فذكره شلي مثلاً في قصيدته (أدونيس) التي رثى بها كيتس في عداد الشعراء الذين قضوا في ميعة الصبا، ووردزورث لم يشأ إلا أن يقول فيه، في قصيدته (الانحلال والاستقلال) & تلك الكلمات الرائعة، التي أصبحت مثلاً سائراً بين الشعراء وهي:
, ,
ومعنى ذلك:
(لقد فكرت طويلاً في ذلك الصبي العجيب بل في تلك الروح اليقظة التي قضت آن شموخها وعزها).
والشاعر الشهير دانتي روزيتي يذكره مع أعاظم شعراء الإنكليز في
ولقد لاقى تشاترتن في خريف سنة 1770 من ضنك العيش وسوء الحال ما دفعه مراراً إلى الانتحار، حتى إنه كتب مرة وصية ينبئ فيها بعزمه الأكيد على الانتحار في أقرب الفرص، شارحاً الأسباب الحافزة له على التخلص من الحياة، لكنه عدل عن ذلك لسبب ما؛ فاستقال من وظيفته، وقصد لندن حيث قضى نحو تسعة أسابيع؛ ومن ثمَّ توجه إلى هولبرن حيث صرف مدة انعزل في خلالها عن العالم وعاش عيشة تصوف وهدوء عميقين؛ فتمكن(166/55)
بذلك من استعادة خيالاته، وتصوراته الروحية الشائقة؛ فانتعشت روحه واطمأنت نفسه، ورضى عن حاله تلك بعض الرضى؛ فسولت له النفس الاستزادة من العيش، لكنه ما عتم أن اصطدمت الروح والمادة في ميدان نفسه، فاحتدم النزاع بينهما احتداما؛ إذ أن فقره المدقع وعدم إقبال الصحف على نشر آثاره، وشعوره بفضيحة أمره، جميعها ملأت حياته كآبة وألماً، وزادت عيشه ضنكاً ومضضاً؛ فاستسلم لليأس والقنوط، وعاودته فكرة الانتحار؛ لكنه عزّ عليه الموت في ريعان الشباب، فقاوم فكرة الموت، وعقد النية على دراسة الطب مؤملاً من وراء ذلك سعادة وغبطة دنيوية دائمة، فراسل أصدقاءه يطلب المؤازرة، لكنه باء بالفشل، فكانت تلك آخر خفقة في سراج حياته، إذ عاد على أثر ذلك إلى صومعته عازماً على الموت المحتم، فتجرّع الزرنيخ، بعد أن مزق كل ما عثر عليه من آثاره الأدبية غير المنشورة.
وهكذا كانت حياته صراعاً بين البؤس والهناء، واليأس والأمل، والقناعة والطموح، والموت والحياة؛ حتى غلب البؤس في النهاية على الهناء، وانتصر اليأس على الأمل، فانهار ذلك البنيان الروحي الرخيص تحت كاهل المادة ولما يبلغ بعد من العمر عتياً، فكانت وفاته في 24 أغسطس سنة 1770 عن 17 سنة ونحو 9 أشهر.
لو أتيح له أن يعمر طويلاً لربما بذّ الكثيرين من أعاظم الشعراء، وتبوأ مكاناً ليس بعيداً من شكسبير وغوته ودانتي.
وتقديراً لنبوغه أقام هواة أدبه نصباً تذكارياً لاسمه في ساحة كنيسة ردكلف في برستل، نقشوا عليه كلمات مقتبسة من وصيته الأخيرة، وهي:
(ذكرى طوماس تشاترتن، لا تحكم عليّ أيها القارئ إن كنت تقيّاً؛ إذ الحكم لقوةٍ عليا؛ ولهذه القوة وحدها سأجيب. . . .).
(يتبع)
جريس القسوس(166/56)
دين المتنبي
3 - أبو الطيب المتنبي
للأستاذ محمد محي الدين عبد المجيد
ثم يقول بعد ذلك في شأن سيف الدولة:
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدر على مرعاكم اللبن
جزاء كل قريب منكم ملل ... وحظ كل محب منكم ضغن
وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن
فغادر الهجر ما بيني وبينكم ... بهماء تكذب فيها العين والأذن
وكان كلما نازعته نفسه إلى سيف الدولة واستشعر شيئاً من الأسف على فراقه يعلل نفسه بأنه لقي أهلا بأهل فيقول:
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملي علي فأكتب
إذا ترك الإنسان أهلا وراءه ... ويمم كفوراً فما يتغرب
ولكنه ما عتم أن اجتوى كافوراً وتبرم به ويئس مما كن أمله فيه، فلما اعتزم أن يتركه أسف على غدره ونازعته نفسه إلى ممدوحه الأول وهو يهجو كافورا:
وفارقت خير الناس قاصد شرهم ... وأكرمهم طرا لآلامهم طرا
فعاقبني المخصي بالغدر جازيا ... لأن رحيلي كان عن حلب غدرا
وما كنت إلا فائل الرأي لم أعن ... بحزم ولا استصحبت في وجهتي حجرا
ومع أنه يعترف بالغدر فقد حانت له فرصة ليعود إلى الوفاء فلم يهتبلها، تلك أن سيف الدولة حين علم رجوعه من مصر أرسل إليه ابنه بهدية فاكتفى بأن يرسل إليه قصيدة يقول فيها:
كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل
فيك مرعى جيادنا والمطايا ... وإليها وجيفنا والذميل
والمسمون بالأمير كثير ... والأمير الذي بها المأمول
الذي زلت عنه شرقاً وغرباً ... ونداه مقابلي ما يزول
ومعي أينما سلكت كأني ... كل وجه له بوجهي كفيل(166/57)
ويمر بعد ذلك عامان وبضعة أشهر فيرسل إليه سيف الدولة كتاباً بخطه يسأله فيه المسير إليه فيعتذر له بقوله:
وما عاقني غير خوف الوشاة ... وإن الوشايات طرق الكذب
وتكثير قوم وتقليلهم ... وتقريبهم بيننا والخبب
وقد عاوده طبعه الذي دللنا عليه حين ورد على عضد الدولة فقد قال له في أول لقاء:
قد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتى رأيت مولاها
ثم يقول له بعد ذلك:
يقول بشعب بوان حصاني ... أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي ... وعلمكم مفارقة الجنان
فقلت: إذا رأيت أبا شجاع ... سلوت عن العباد وذا المكان
فإن الناس والدنيا طريق ... إلى من ماله في الناس ثن
لقد علمت نفسي القول فيهم ... كتعليم الطراد بلا سنان
وانظر إلى هذا البيت الأخير فإنه يعتذر فيه عن كل مدائحه التي قالها من قبل عضد الدولة بأنه كن يقولها ليروض نفسه ويعلمها حتى إذا اعتادت لم يحسن منه القول إلا فيه.
تنبؤه
ليس في حياة أبي الطيب مسألة أشد غموضاً من سر هذا اللقب الذي نبزوه به، ومهما يكن في حياته من الدقة والغموض فإنا نعترف بقوة الدقة والغموض اللذين أحاطا بهذا اللقب. وآية ذينكم أن الكتاب ما زالوا يكتبون عن أبي الطيب منذ كان إلى يوم الناس هذا وهم يختلفون في الإبانة عن حقيقة هذا اللقب. وكتاب عصرنا هذا مختلفون أيضاً في الاستنتاج والتعليل. ولقد حاولت أن أقف على الوضع الحقيقي لهذه المسألة متخذاً من شعره وأخباره نبراساً أستفيء به فأعياني تطلابه ووقعت في حيرة ولبس وإبهام هي شر من الإعراض عنه، ذلك أنه لم يعن أحد ممن عاصر المتنبي أو قرب من عصره بالبحث عما يشوقنا اليوم أن نعرفه بحثاً يثلج صدر الحقيقة ويملأ قلب الناس بصحة أسبابه ونتائجه؛ فكل ما بين أيدينا كلمات منثورة في بطون الكتب جرى بعضها على ألسنة قوم عرفوا بالهوى فيه والتعصب له إلى حد التغاضي عن القبح، وجرى بعضها الآخر على لسان قوم لم يعرف(166/58)
الناس عنهم شيئاً أو عرفوا عنهم الكراهية له إلى حد تشويه محاسنه؛ فمهمة الباحث اليوم من أشق المهام؛ وكل ما يمكن أن يصل إليه باحث ظنون قد لا يطول به الأمد حتى تتكشف له عن نفسها كخدعة من خدع الغرور.
حكى أبو الفتح عثمان بن جني قال:
سمعت المتنبي يقول: (إنما لقبت بالمتنبي لقولي):
أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدى وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله (م) ... غريب كصالح في ثمود
وفي هذه القصيدة يقول:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
وليس هذا الذي ذكره أبو الفتح إلا كالتمحلات التي يرتكبها بعض الناس بإخراج الألفاظ عن أوضاعها ومعانيها. ذلك بأن أبا الطيب نفسه كان يتألم إذ نبزوه بهذا اللقب، فهو يعلم أن الناس لا يطلقون عليه ذلك تشبيها له بالأنبياء وإن كانت هذه الصيغة قد تستعمل في العربية لإفادة معنى التشبيه. وذكر أبو العلاء في رسالة الغفران ما كان أعداء أبي الطيب يتحدثون به عنه فقال: (وحدثني الثقة عنه حديثاً معناه أنه لما حصل في بني عدي وحاول أن يخرج فيهم قالوا له وقد تبينوا دعواه: (هاهنا ناقة صعبة فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل) وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل فتحيل حتى وثب على ظهرها فنفرت ساعة وتنكرت برهة ثم سكن نفارها ومشت مشي المسمحة، وأنه ورد بها المحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم. وحدث أيضاً أنه كان في ديوان اللاذقية وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين فجرحته جرحاً مفرطاً، وأن أبا الطيب تفل عليها من ريقه وشد عليها غير منتظر، وقال للمجروح لا تحلها في يومك وعد له أياماً وليالي، وأن ذلك الكاتب قبل منه فبرئ الجرح فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أكبر اعتقاد ويقولون هو كمحي الأموات. وحدث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل أنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح عليهما في النباح ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: (إنك ستجد ذلك الكلب قد مات. فلما عاد الرجل ألفى الأمر على ما(166/59)
ذكر. ولا يمتنع أن يكون أعد له شيئاً من المطاعم مسموماً وألقاه له وهو يخفي عن صاحبه ما فعل) اهـ. وقل أبو العلاء في رسالة الغفران مرة أخرى:
(وحدثت أنه كان إذا سئل عن حقيقة هذا اللقب قال: هو من النبوة بمعنى المرتفع من الأرض. وكان قد طمع في شيء قد طمع فيه من هو دونه وإنما هي مقادير يديرها في العلو مدير يظفر بها من وفق ولا يراع بالمجتهد أن يخفق، وقد دلت أشياء في ديوانه أنه كن متألهاً، ومثل غيره من الناس متدلهاً، فمن ذلك قوله:
. . . . . . . . . . . ... ولا قابلا إلا لخالقه حكما
وقوله:
ما أقدر الله أن يخزي بريته ... ولا يصدق قوماً في الذي زعموا
وإذا رجع إلى الحقائق فنطق اللسان، لا ينبئ عن اعتقاد الجنان لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل تدنيا وإنما يجعل ذلك تزيناً يريد أن يصل إلى الثناء، أو غرض من أغراض الخالبة أم الفناء) اهـ وأبو العلاء في هذه العبارات مضطرب كل الاضطراب، فبينا هو يقص عليك معجزات أبي الطيب التي مخرق بها على بني عدي إذا هو يذكر لك أنه إنما طمع فيما طمع فيه من هو دونه بعد همة وعلو نفس، ولا يمكن أن يكون مقصوده بذلك النبوة، ثم هو بعد ذلك يعود فيذكر لك أن أبا الطيب كان يعترف بالله تعالى ويرشدك إلى دلائل هذه العقيدة من شعره، ويعود إلى التشكك في دلالة هذه الأقوال على ما في نفسه لأن نطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الجنان؛ وكأن أبا العلاء كان يعاني ما نعانيه اليوم من غموض حال المتنبي وشدة خفائها.
والذي نستطيع أن نعقله أن هذا اللقب قد نبزه به أعداؤه وليس له حقيقة برزت في الوجود، وأن أبا الطيب كان يقوم بدعوى سياسية: كان يطلب الملك ويمني نفسه به ويعد له عدته التي ظن أنها تصل به إليه من المران على الحرب وجمع المال والاستكثار من الأعوان وتدبير المؤمرات، ولم يكن يجسر على الجهر بذلك في عواصم الملك التي عاش فيها فكان يخرج إلى البوادي يتحين الفرصة ويستجمع للوثوب وتحقيق ما في نفسه من آمال؛ وهذا سر من أسرر انتقاله من ملك إلى ملك، وقد ساعده على هذا الحلم اللذيذ ما كان يقع تحت نظره كل يوم من ثورات وفتن وانقلاب، وقوة إيمانه بأنه أفضل من سعت به قدم؛ وكان(166/60)
ربما قنع بأقل من الملك فرغب في ولاية من الولايات يخلعها عليه كافور، ولعل هذه القناعة لم تكن إلا لأنه فهم أن الولاية سبب يصل من طريقه إلى الملك كالذي يراه في جماعة من ملوك عصره. ولعل كافوراً لم تخف عليه سريرته فحرمه الولاية التي كان وعده إياها. ولعله هو نفسه قد شعر بأن كافوراً فطن لدخيلة نفسه ففر من مصر تحت جنح الليل. أفلست تراه يقول لكافور أول وروده عليه:
وغير كثير أن يزورك راجل ... فيرجع ملكا للعرافين واليا
حتى إذا تأخر جواب كافور وخشي أن يفوته المأمول أو أن يظن به عدم الكفاية للاضطلاع بأعباء الولاية عاوده بقوله:
فارم بي حيثما أردت فإني ... أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا ... ن لساني يرى من الشعراء
ولم يزل يظهر لكافور تلهفه على إنجاز موعوده بالتعريض مرة وبالتصريح مرة أخرى حتى أدركه اليأس وعلم أن في الأمر شيئاً. أنظر إلى قوله:
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
ثم انظر إلى قوله:
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
قال أبو منصور الثعالبي: (وما زال في برد صباه إلى أن أخلق برد شبابه وتضاعفت عقود عمره بدور حب الولاية والرياسة في رأسه ويظهر ما يضمر من كامن وسواسه في الخروج على السلطان والاستظهار بالشجعان والاستيلاء على بعض الأطراف ويستكثر من التصريح بذلك في مثل قوله:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لأتركن وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم
وكقوله:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دُعوا ... كثير إذا شدوا قليل إذا عُدوا(166/61)
وطعن كأن الطعن لاطعن عنده ... وضرب كأن النار من حره برد
إذا شئت خفت بي على كل سابح ... رجال كأن الموت في فمها شهد
وكان كثيراً ما يتجشم أسفاراً بعيدة أبعد من آماله ويمشي في مناكب الأرض ويطوي المناهل والمراحل ولا زاد إلا من ضرب الحراب على صفحة المحراب) اهـ.
هذه فيما نعتقد حقيقة حاله؛ فأما ادعاء النبوة فلا نستطيع أن نتقبله مهما زعم الناس أن العصر الذي عاش فيه ورغبته في أن يكون أبعد أهل عصره أملاً، وكثرة الدعوات الدينية والسياسية، كل أولئك تقرب إلى العقل أنه ادعى النبوة. نقول ذلك بعد علمنا تقدير الناس لمقام النبوة ورسوخ عقيدة الإسلام في أذهانهم، ومنها أن محمداً (ص) ختام الأنبياء حتى أن الدعوات الدينية التي ادعاها المدعون بعد ذلك لم تكن إلا في نواحي الإمامة وما يتصل بها. ونحن نرى كل هذه الدعوات كانت تستند إلى نصوص يزعم الراوون لها أنها صدرت عن رسول الله أو أفهام في نصوص أخرى ثابتة. ولو أن أبا الطيب كان قد ادعى النبوة لما وجد من الناس من ينتظر عليه حتى يتم دعواه. ولعله لم يكن من الحكمة في دعواه التي ارتضينا أمرها بحيث يخفي شأنه، فكان لذلك لا يأمن جانب أحد، وكان لا يدخل بلداً إلا ليقذف به إلى بلد، ثم كانت بعد ذلك نهايته المحتومة.
أبو الطيب والنحاة
ليس يسوغ لي في مستهل هذا البحث أن أغفل أن أبا الطيب كان قد أخذ من العربية بأوفر حظ؛ فهو حافظ لغريبها حفظ الباحث المستقصي حتى ليسأله أبو علي الفارسي: (كم لنا من الجموع على وزن فِعْلَى)؟ فيبادره بقوله (حِجْلى وظِرْبى) ويبحث أبو علي ليلته في كتب اللغة لعله يعثر لهما على ثالث فلا يجد. ويقول أبو علي في شأنه: (ما رأيت رجلاً في معناه مثله) وهذه الشهادة من أبي علي الذي كان يناصبه العداوة ويتحامل عليه كافية للدلالة على قدره؛ وكان مع اطلاعه على مفردات اللغة وغريبها عالماً بمواطن استعمالها متمكناً من قواعدها خبيراً بلغات القبائل. وله شعر جزل لا نظير له في شعر أحد من شعراء العربية. وقد خلا كثير من شعره من كل مأخذ وتجانب كل انتقاد، ولكن له مع ذلك شعراً قد جانب الطرق المشهورة في العربية إلى طرق لا يقرها النحاة الذين جعلوا مهمتهم تتبع المعروف الجاري على الألسنة ورسموه قواعد أرادوا أن تكون هي لسان الناس عامة؛ وإن(166/62)
يكن أحد قد نال من أبي الطيب في حياته وبعد موته منالاً له وجه صحيح وقد بقى أثره والدليل عليه فأولئك هم النحاة، ولسنا نعني بالنحاة علماء الأعراب فحسب، وإنما نريد بهم كل من كان يتكلم في فرع من فروع العربية؛ فهؤلاء هم الذين جرحوا عزة المتنبي وطامنوا من كبريائه؛ وهؤلاء هم الذين كان أبو الطيب يضيق بهم ذرعاً وتتألم نفسه إذا وجه واحد منهم خطابه إليه. وكيف لا يضيق صدره وشعره هو وسيلته التي يكتسب بها رضاء الناس وهم يعمدون إلى هذه الوسيلة فيضعفون من شأنها ويحاولون أن يقللوا من قيمتها. ولم يكن النحاة فيما نعتقد قد أكثروا من تعقبه والحملة عليه لوجه العلم ولا انتصاراً للحق، وإنما كان ذلك منهم سلاحاً من أسلحة السياسة التي وجهت إلى الرجل؛ وليس يعنينا بحث ذلك الآن ولكنا نذكر أنه - مع عدم توفر حسن النية - قد أمكن للنحاة أن يجدوا في شعر أبي الطيب ما يستمسكون به عليه ويتخذونه ذريعة للتشفي منه ولإرضاء سادتهم. وكانوا يجابهونه بذلك أحياناً؛ وكانت تأخذه العزة فيسب ويقذع في سبابه أحياناً شأن المغيظ المحنق الذي يداخله الشك في أمرهم؛ وكان ربما ضن عليهم بالإجابة فأحالهم على بعض أصدقائه من النحاة. حدثوا أن ابن خالويه وجه إلى أبي الطيب نقداً في حضرة سيف الدولة فقال له أبو الطيب: (أسكت ويحك فإنك أعجمي! فما لك وللعربية؟) وكان مع ابن خالويه مفتاح فضربه به فشج رأسه. وحدثوا أن سائلاً سأله عن قوله في مطلع قصيدة مدح بها أبا الفضل ابن العميد:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
فقال له: كيف قلت لم تصبرا فقال: لو كان أبو الفتح حاضراً لأجاب، يريد أبا الفتح عثمان بن جني وكان صديقاً حميماً له. وبعض المآخذ التي أخذها عليه النحاة تافه أو لا وجه له كالذي حدثوا أن ابن خالويه سمعه ينشد سيف الدولة:
وفاؤكما كالربيع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
فقال له: يا أبا الطيب إنما يقال شجاه بتوهمه فعلاً ماضياً. فقال له أبو الطيب: أسكت فما وصل الأمر إليك. يعني أنه أفعل تفضيل.
وبعض المآخذ التي أخذوها عليه صحيح لا شبهة في أنه أخطأ فيه الجادة كالتعقيد اللفظي والمعنوي، واستعمال الغريب الوحشي، والعدول عن سنن القياس، وقبح بعض المطالع،(166/63)
وبعض المقاطع، واستعمال اللغات المهجورة. وأمثلة ذلك كله ميسورة قريبة التناول.
وفي كتب علماء البلاغة أمثلة وشواهد كثيرة من شعر المتنبي يعدون بعضها في عيون الشعر ومحاسنه، ويعدون بعضها الآخر في رذيل الشعر ومستكرهه.
أما علماء الأعراب فقد جروا على قاعدتهم في عدم الاحتجاج بشعر المولدين مع أبي الطيب، ولكن كثيراً منهم يذكر أبياتاً من شعره في موطن من ثلاثة مواطن: موطن التمثيل لا الاستشهاد، وموطن مخالفة القياس، وموطن التطبيق، وذلك في المعقد من شعره. وقد ذكر العلامة رضي الدين في شرح الكافية بعض أبيات للمتنبي على أنها مخالفة للقياس. وللعلامة المحقق جمال الدين ابن هشام صاحب مغنى اللبيب، ولأبي السعادات ابن الشجري في أماليه شروح وتخريجات لأبيات كثيرة من معقد أبيات أبي الطيب. وقد كان لأبي الفتح عثمان بن جني صديق المتنبي اليد الطولى في توجيه أنظارهما إلى هذه الناحية بما بذله من جهد في تخريج شعر المتنبي حتى كان أبو الطيب نفسه يقول له: إني لم أقل هذا الشعر لهؤلاء النحاة وإنما أقوله لك.
أيها السادة؛ هذه كلمتي التي كتبتها على عجل، وإني لسعيد بأن أتشرف بإلقائها بين أيديكم، وأشكر لجنة المهرجان التي أتاحت لي هذه الفرصة النادرة للتعرف إليكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
محمد محي الدين عبد المجيد
المدرس بكلية اللغة العربية(166/64)
لمَعات
إلى شاعر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال
جواباً لكتابيه أسرار خودي ورموزبي خودي
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
يخرق الليل شعاع يخفق ... ثم يلتف عليه الغسَق
كمنار البحر يخفى ويلوح ... فيه بين الغيب والومض وضوح
أو يراع الليل يخفى وينير ... فهو سطر من غياب وحضور
تارة يبدو طريقاً لحَبا ... قامت الظلماء فيه نُصَبا
أو بياناً من بياض وسوادْ ... كبياض الطرس يعلوه المداد
كل لون فيه حرف مفصِحُ ... أُلّفت منه سطور وُضّح
وأراه تارة خطاً أحمّ ... وكأن الضوء تفصيل الظُّلَم
فهو سطر من ظلام أرقطُ ... أعجمت معناه تلك النقط
كل لون فيه حرف أعجم ... وحوى الأحرف سطر مظلم
يا لُبَيْنَى أوقدي، طال المدى ... أوقدي علّ على النار هدى
أوقدي يا لُبنَ قد حار الدليل ... أوقدي النار لأبناء السبيل
ارفعي النار وأذكي جمرها ... عل هذا الركب يعشو شطرها
شرّدي هذا الظلام الجاثما ... أرشدي هذا الفراش الهائما
حبذا النار بليل توقد ... حبذا المؤنس هذا الموقد
حبذا عندكِ هذا المنزل ... لوحدانا في سِفار منزل
ما لذا المنزل قد سار الفريقْ ... إنما النيران أعلام الطريق
قد ترحّلنا من الفج العميقْ ... لا نبالي بقريب أو سحيق
رنّ في آفاقنا هذا النداء ... فأممنا البيت يحدونا الرجاء
قد غنينا عن مبيت ومقيلْ ... وعن الأمواه والظل الظليل(166/65)
وعن الرغبة والخوف سُوى ... خُلع النعلان في وادي طوى
نحن لا نرضى بنار الغسق ... نحن لا نرضى بنور الشفَق
نحن لا نرضى بنجم الصبح لاحْ ... لا ولا نرضى تباشير الصباح
نحن لا نرضى نجوماً لامعة ... إنما نبغي ذُكاء طالعه
قد رحلنا بالجوى والحُرَقِ ... وغنينا عن رسيم الأينُق
أين منا طائرات سُبَّق ... جُمع الغرب لها والمشرق
نحن ركب في جواه مُوضِعُ ... لم يسعه في جواه مَوضع
كل حُرّ ضاق عنه الموطنُ ... وانطوى دون مناه الزمن
كل طيار على متن الفِكر ... وعلى متن هيام لا يقرّ
طائر منه يغار الملَك ... طائر من تحته ذا الفلك
بارق في اللُوح لا ينطفئ ... كل غايات لديه مبدأ
زوّدينا بهيام ووجيبْ ... زوّدي يا لُبنَ من هذا اللهيب
(يتبع)
عبد الوهاب عزام(166/66)
زهر وثمر
1 - الإسراف سَرِقَة المالك.
2 - الحظ الصاعد كرة يحذفها الدهر، فيلقَفُها المتخلِّف.
3 - الأدب وحدَه صِفْر وحدَه، فما يقوم حسابه إلا أن ياسَرَهُ رَقم من فضل مال، أو رِفْعة منصِب.
4 - تستوي وثبة العقاب الكاسر، وهزة الفرخ الدارج؛ إذا استويا في حدود قَفَص.
5 - ما أظلَم من يُمايزُ بين اثنين بما تاح لكلٍّ منهما من مكانة، لا بما بذل كلٌّ منهما من جهد.
6 - ليس دهاءً أن تكتم السر، وإنما الدهاء أن تكتم أن لديك سرّاً تكتمه.
محمد شوقي أمين(166/67)
جهاد فلسطين
للأستاذ بشاره الخوري
سائلِ العلياء عنَّا والزمانا ... هل خفرنا ذمةً مذ عرفانا
المروءاتُ التي عاشت بنا ... لم تزل تجري سعيراً في دمانا
قل (لجون بولٍ) إذا عاتبته ... سوف تدعونا ولكن لا ترانا
قد شفينا غلةً في صدره ... وعطشنا، فانظروا ماذا سقانا
يوم نادانا فلبينا الندا ... وتركنا نهية الدين ورانا
ضجت الصحراء تشكوُ عريها ... فكسوناها زئيراً ودخانا
مذ سقيناها العلى من دمنا ... أيقنت أنَّ مَعَدّاً قد نمانا
ضحك المجدُ لنا لما رآنا ... بدم الأبطال مصبوغاً لوانا
عرس الأحرار أن تسقي العدى ... أكؤساً حمراً وأنغاماً حزانى
نركب الموت إلى (العهد) الذي ... نحرته دون ذنب حُلَفانا
أمن العدل لديهم أننا ... نزرع النصر ويجنيه سوانا
كلما لوّحتَ بالذكرى لهم ... أوسعوا القول طلاءً ودهانا
ذنبنا والدهر في صرعتِه ... أن وفينا لأخي الود وخانا
يا جهاداً صفق المجدُ لهُ ... لبس الغارُ عليه الأرجوانا
شرفٌ باهت فلسطين بهِ ... وبناءٌ للمعالي لا يدانى
إنَّ جرحاً سال من جبهتها ... لثمته بخشوعٍ شفتانا
وأنيناً باحت النجوى به ... عربياً رشفته مقلتانا
في فم العلياءِ عنها نبأ ... خضب الآفاق واسترعى الزمانا
فإذ (المهد) غسيلٌ بالدما ... ويسوعٌ يذرف الدمع حنانا
أيذود العرب عن حرمته ... ونصارى الغرب ترضى أن يهانا
يا فلسطين التي كدنا لما ... كابدته من أسى ننسى أسانا
نحن يا أخت على العهد الذي ... قد رضعناه من المهد كلانا
يثرب والقدس منذ احتلما ... كعبتانا وهوى العرب هوانا(166/68)
من لِعدنان وغسان بأن ... يزهوا تيهاً بنا إذ نسلانا
شرف للموت أن نطعمه ... أنفساً جبارة تأبى الهوانا
وردةٌ من دمنا في يده ... لو أتى النار بها حالت جِنانا
قل لمن يبني على أشلائنا ... وطناً هلا حذرت البُرُكانا
ضلَّ من دك كيانا قائم ... ومضى يبني لمهووسٍ كيانا
انشروا الهول وصبوا ناركم ... كيفما شئتم فلن تلقوا جبانا
غذت الأحداث منا أنفساً ... لم يزدها العنف إلا عنفوانا
قرع الدوتشي لكم ظهر العصا ... وتحداكم حساماً ولسانا
إنه كفء لكم فانتقموا ... ودعونا نسأل الله الأمانا
قم إِلى الأبطال نلمس جرحهم ... لمسةً تسبحُ بالطِّيب يدانا
قم نجع يوماً من العمر لهم ... هبه صوم الفصح، هبه رمضانا
إنما الحق الذي ماتوا له ... حقنا، نمشي إليه أين كانا
دمعةُ للشعر في جفن العلى ... كفكفتها أكرم الخلق بنانا
حمصُ. . . والجنة من أسمائها ... آنةً والمعقل الجبارُ آنا
لو مشى (خالد) في فتيانها ... بهرج الخلد وزاد الفتح شانا
هم سياج الحق من أمتهم ... جعلتهم في يد المجد ضمانا
بشارة الخوري(166/69)
بقية من حلم
للسيد محي الدين الدرويش
الوردُ في ناديك غضُّ الجنى ... يختال نشوانَ فأين الشربْ؟
وطيرك الهَيْمانُ في كرمتي ... ينشد ألحان الهوى والشباب
والكأس في يمناك يا فاتني ... قد رقصت فيها الأماني العِذاب
وقلبيَ الخفَّاق مُسْتَطْرَبٌ ... يكاد أن يطفر فوق الإهاب
يهفو به الشوق إلى قبلةٍ ... حالمةٍ تكفيه مرّ العَذاب
والليل يقظان سريع الخُطا ... قد تشر البهجة فوق الشعاب
أودع في جفنيك هذا الدُّجى ... بقية من حُلُمٍ مستطاب
(حمص)
محي الدين الدرويش(166/70)
القصص
قصة مصرية
حب اللحم. . .
للأستاذ دريني خشبه
(الحوار في الأصل باللهجة المصرية. . .)
- (لا، بل يخيل إلي أنه مجرد من كل عواطف الحنان والمحبة، وهو بالفعل عاطل من كل ما يسمو بالإنسانية عن حضيض البهيمية الخرساء التي يرسف فيها ويجعل بها حياتي معه ضرباً من الشقاء والتعاسة لا مثيل له).
- (لا أفهم! بل الذي سمعته هو أنه يحبك حباً لا حد له، إنه يكاد يعبدك!).
- (يعبدني! هه. . . إنه يعبد جسمي فقط يا أختاه! إنه وثني شرير!).
- (يعبد جسمك فقط؟ ماذا تقولين يا روحية؟).
- (آه يا أمينة! كم يخجلني هذا الحديث الذي يدور أكثره عن اللحم والجنس، ولا يدور شيء منه عن القلب والروح؟. . . يا لتعاستي!).
- (يبدو لي أنك وجدانية أكثر مما يجب يا صديقتي!).
- (وجدانية؟ إن النبع الوحيد الذي تصدر عنه الفضائل هو الوجدان يا أمينة؛ إن الأنبياء والشعراء والفنانين لا يفهمون الحياة إلا عن طريق الوجدان؛ بل الله جل وعلا حين خاطب الناس في كتبه المنزّلة لم يخاطبهم إلا عن طريق بصائرهم، والمؤمن الحق هو كل صاحب بصيرة نيرة ووجدان سليم وقلب نابض رقيق. . . والحب، الذي ينبغي أن يكون أساس كل حياة زوجية، أليس هو أصدق صورة لل. . .).
- (صار حديثنا فلسفة! يا روحية احمدي الله على أن رزقك زوجاً لا يقصر في شيء من طلباتك. . . زوجاً غنياً ذا سمعة طيبة. . . له مركزه في الحياة).
- (هذا حق. . . ولكن الحياة ليست قصراً منيفاً وأكلة سمينة وخزاً وديباجا. . . إن هذه الأشياء أحقر ما تصبوا إليه نفس عالية يا صديقتي، ألا تفهمينني؟).
- (بل أفهمك جيداً؟ أنت شاعرة، وكنت تحلمين بزوج شاعر! أفيقي يا أختاه إلى حقيقة هذه(166/71)
الحياة الدنيا! الدنيا جد فلا تجعليها حلماً طارئاً وخيالاً مغرقاً في خيال. ماذا كنت تريدين بيومي أفندي أن يكون؟).
- (يا أمينة أنت تقسين علي قسوة شديدة. يا أمينة أنت فتاة متعلمة مثلي، وقد طالما حلمنا بزواج هنيء يتصل بالروح أكثر مما يتصل بالجسم. . . أنت على حق، لا ريب في ذلك، فيما يتعلق ببيومي من الوجهة المادية. هو رجل غني، ولكنه فقير جداً في ثقافته، فقير جداً في حساسيته، فقير جداً في فهما الدنيا الجديدة والحياة الجديدة. . إنه يأكل جيداً ويلبس بأناقة ويشتري لي الجواهر والحلي بسخاء. . . ولكنه يمزق كتبي ويخرق رواياتي ويعنفني كلما رآني أقرأ مجلة، وإذا أحببت أن ألعب على بياني برم وتسخط وتكلم بصوت عال ليفسد موسيقاي، والويل لي كل الويل إذا استأذنته في رياضة إلى الريف أو في متنزه عام. . . إنه يحنق، وسرعان ما يتهم، وهو إذا اتهم كان كالبركان يقذف بما فيه دون وعي. . . إنه لا يطاق. . . إنه بهيم يا أمينة. . . إنه بهيم، وأستحي أن أزيد!!).
- (وما هذا الذي تستحين من ذكره؟ أيستعمل ال. . .).
- (يستعملها؟. . . إنه يحب أن تكون لياليه كليالي ألف ليلة. . . وهو يتقنن في ذلك، وهو بذلك يرهقني ويضاعف بلواي، وهو يجعل لياليّ جحيماً مستمراً وشقاء مستديما. . . تشممي بخيالك فمه القذر الملوث الكريه، الذي تتصاعد منه مع رائحة الخمر ألف رائحة، يعبث بفمي وخدي ووجهي عبثاً وحشياً لا حنان فيه ولا تلطف، عبث الذئب الجائع الحمل البريء. . . أمينة. . . ارحميني. . . بحسبنا هذا الحديث الطويل. . . وإلى الملتقى. . .!).
ولم تدر هذه الزوجة التعسة أنها كانت تشكو بثها إلى غريمتها الشقية التي كانت تحاول جهدها أن تصيد هذا الزوج الغنيّ الشهوانيّ! المتلاف وأن تقسر خيره كله: مالاً ودماً على نفسها! لم تدر الزوجة التعسة أنها كانت تفعل ذلك، وأنها كانت تعد السم لنفسها وتضعه بيدها الساذجة البريئة في كأسها!
لقد حاولت روحية بكل الوسائل أن تصلح من حال بيومي أفندي؛ كانت تعظه مترفقة به، وكانت لا تغلط عليه إما خوفاً من بطشه بها، وإما إبعاداً في محاولة التأثير عليه بالأسلوب الرقيق والبيان الرشيق والروح الطيبة والقلب البار، وكانت تنيله منها للذة الوحش، ثم(166/72)
تنتزع منه الوعد بعد الوعد بالتوبة عن الخمر وهجر المخدرات، وكان يخبث ويمكر فيصغي إليها حين تنهض إلى بيانها فتوقع لحناً أو نصف لحن، ولكن البهيم الثاوي بين أضلاعه كان يهيج به فينهض فجأة ويحتملها بينذراعيه الجبارتين ويمضي إلى المخدع.
لقد كان يعبد جسمها عبادة! ولكنه لم يكن بؤمن بجسم واحد! بل كانت له آلهة كثيرة وأرباب متعددة، يخلو إلى أي منها كلما أمره شيطانه أو هاجه هواه. . . وكانت أمينة الفاجرة إحدى هذه الآلهة، وقد عبدها أول ما عبدها في منزله. . . حينما كانت تزور زوجته اليائسة التعسة، فسمع صوته المخنث وضحكها الفاسق يرن أرجاء المنزل، فزلزل قلبه، ومادت نفسه، وسال لعاب شيطانه المجرم إلى قطف الثمرة المحرمة. . . التفاحة المشئومة التي ما زالت تينع وتتأرج، وتملأ الدنيا باللذات الوضيعة والفسوق والخباثات.
ولم يكن من العسير على بيومي أن يصيد هذا الصيد، فلقد غافل زوجه وشك قلب أمينة بغمزة قوية قاتلة من عينه الصنَاع فحمست إليه أولى رسائل الغي، وأول وحي الضلال؛ وسهل عليهما بعد ذلك التلاقي في أقاصي لمدينة، هذا في غفلة من زوجه، وهذه في غفلة من أعين الرقباء.
لكن أمينة كانت فتاة تعمل على أن تصيد لا أن تصاد، لذلك كانت تمني بيومي ولا تقع في شراكه، وكانت تشتري منه ولا تبيع له، وكانت موقنة أنه لها يوماً من الأيام، وكان لا يهمها أن يشتغل قلبه بالعصبة القوية من الساقطات اللائى يتجرن بأعرضهن، فهي تعرف، إذا خلص لها أمره، كيف تعالج هؤلاء بالنعْل، لا بالأسلوب الرشيق والبيان الرقيق كما تعودت روحية أن تصنع! وكان لأمينة من جسمها الممتلئ وقوتها الخرافية كنز مدخر ليوم الفصل بينها وبين غريماتها.
وضاقت روحية ببيومي وبأمينة، ولاحظت ما رابها من سلوكها الأخير، وأفلحت في ضبطهما يتناجيان، فراحت غير مبقية على شيء. . . راحت تفرج عن جمالها الحزين، وانطلقت في المتنزهات ودور السينما تمثل فصولاً من درامة الشباب وتستعيد ذكريات سعيدة وأحلاماً أثيرية محببة. . . ذكريات الحب الذي كانت تعذب به قلوباً غضة وأنفساً رطبة، وأحلام الماضي القريب الذي أفلت بالهناءة كلها من يديها. . . راحت ترسل من عينيها الساجيتين سهاماً تعرف كيف تحيي بها آمالاً قضى عليها هذا الزواج التعس النكد،(166/73)
ومطامح هدمها السيد بيومي بذهبه الكثير الجم، وجاهه الطويل العتيد.
- (روحية!. . . أَوْه! عفواً!).
ولم تكلم صاحب الصوت المتلجلج، وهو شاب طِوَالٌ تبدو عليه مظاهر الفتوة ومخايل القوة، ولكنها لم ترفض أن تبتسم ابتسامة خمرية ساحرة، ومضت نحو شباك التذاكر تبتاع واحدة؛ وارتبك الفتى قليلاً، ثم أصلح من هندامه (ربطة الرقبة فقط) وابتلع ريقه، وانطلق يزاحم الجمهور حتى أخذ مكانه خلفها، وانتظر حتى كانت عند الشباك، ومدت يدها بالنقود، فصاح هو من خلفها:
- (من فضلك يا آنسة! التذكرتان متجاورتان. لا تأخذي نقوداً! هاتي بقية جنيه!. . .).
والتفتت روحية فوجدته الشاب نفسه! صلاح! صلاح الذي كان يوماً من الأيام أجمل ابتسامة في حياتها، والنور الإلهي الذي يضيء ظلمات نفسها. . . لقد أوشكت أول الأمر أن ترده وتقسو عليه كزوجة أبية وفية، ولكنها لم تستطع، بل التفتت إليه. . . وشكرته باسمة. . . ودخلا إلى الصالة وجلسا على كرسيين متجاورين، ولم يسعهما ن يتكلما كلمة واحدة!. . . وكان بيد كل منهما منهاج للحفلة، فظلاً يقلبانهما ألف مرة، وأكبر الظن أنهما لم يقرآ حرفاً واحداً مما فيها. . . وكان صلاح، كل دقيقتين أو ثلاث دقائق، يخالس روحية نظرة فائضة بالحزن، مبللة بالدمع، صادرة من أبعد غور في روحه المعذبة الشقية. . . ثم يقول لها (سلامات يا روحية!!) وتجيبه روحية، بلسان خجول متلعثم، عارف بما يعنيه صلاح: (أهلاً. . . و. . . سهلاً!) ثم قال لها صلاح فجأة: (روحية، أليس خيراً لنا أن نؤجل هذه الحفلة إلى غد، ونمضي من هنا فنستنشق الهواء الطلق في سفح الأهرام. . . الليلة مقمرة. . . أليست هذه فكرة؟!).
ووافقت روحية، ثم حملتهما السيارة في طريق الأهرام. . . ومع ذلك لم يتكلما أيضاً!! أليسا هما الآن في طريق خوفو؟ وهل تكلم خوفو من يوم أن دفن في حصنه المشيد!!).
وانتحيا من الناس ناحية، وصعدا فوق الصف الرابع أو الخامس من حجارة الهرم الأكبر مما يواجه الضوء الفضي المنبعث من القمر. . .
يا للياليك الساحرة المقمرة يا مصر! الصحراء الأبدية تتواثب في اللانهاية، تتسمع شكوى الفتاة المعذبة التي فقدت حبها وشقيت بزوجها؛ وأبو الهول الرهيب الصامت يرهف سمعيه(166/74)
هو الآخر؛ ومائة فرعون عظيم سيسمعون قضية الحب والشباب والزواج، والنسيم الشمالي سيمهد للعتاب البريء. . . والقبل! وحب اللحم سيغدو شبحاً بعيداً قاصياً، ويحل محله حب مأواه الروح ومصدره القلب ومطهره العين وموسيقاه الكلمة الطيبة، والتمتمة الحلوة، والعبارة التي تخنقها العبرة، والآهة العميقة الحارة يرسلها الفؤاد الملتاع الحزين! وستكون القبلة ترجمان هذا الحب القديم الذي أتاحت له المصادفة أن يحيا حياة ثانية موفورة، وسيغار القمر المطل من لازورد السماء المصرية من كل قبلة يطبعها صلاح على جبين روحية. . . ذلك لأن القمر يحب؛ ألست تراه ممتقعاً مسهداً ولهاناً؟!
- (روحية!. . .).
- (. . .؟. . .).
- (لعلك سعدت بهذا الزواج الغني الموفق؟).
- (سعادة لا نهائية يا صلاح. . . مثل هذه الصحراء. . . هه. . .)
- (والسعادة اللانهائية التي تكون كالصحراء، تكون كيف!).
- (تكون غامضة مشحونة بالأسرار. . . ألغاز! ألغاز يا صلاح! أتعرف الألغاز؟).
- (إذن، أنت سعيدة، لأن السعادة الغامضة أروع ألوان السعادات!).
- (هه! متى صرت فيلسوفاً يا صلاح أفندي؟).
- (منذ افترقنا هذا الفراق الذي حطم. . .).
- (حطم. . . حطم ماذا؟).
- (حطم أماني، وهدم قلبي. . .).
- (خير لي ولك ألا نفتح كتاب الماضي!).
- (بل سنقرأه صفحة فصفحة!).
- (صلاح!).
- (ماذا؟).
- أتحب أن نزور معبد أبي الهول الساعة؟).
- (لماذا؟ ماذا نصنع هناك؟).
- (نتحنَّث! نتعلم الصمت فلا نتكلم في هذه المسألة!).(166/75)
- (إذن لن نذهب، بل سنبقى هنا! وسأكلمك في زوجك؟ هل أنت سعيدة به حقاً؟).
- (قلت لك سعيدة! سعيدة جداً، إنه يحبني. . بل يعبدني! لقد كان يأكلني منذ أسبوعين!!).
- (يأكلك؟).
- (أي والله! ألست حلوة جداً؟).
- (الوحش!).
- (لا، لا تسب زوجي!).
- (بل أنت شقية به. . . قلبي يحدثني! أنت تكرهينه؟).
- (صلاح!).
- (أنت تكرهينه جداً!).
- (إذن من عسى أن أحب؟).
- (تحبين. . .! تحبين فتى غيره! الحب لا يشترى بذهب الأغنياء! الحب لا يشترى بذهب الأغنياء! الحب تصنعه الأعين وتزرعه في القلوب، بذرة من الطهارة يرويها نبع من الإخلاص!).
- (ومن يا ترى يكون هذا الفتى إذا كان؟).
- (من يكون! يكون الفتى الذي عرفك وتغلغل في كل جوانحك).
- (الفتى الذي عرفني وتغلغل في كل جوانحي لم يخلق بعد!. . .).
- (روحية!).
- (أؤكد لك!).
- (روحية؟ أنت تقتلينني!).
- (آه! أهو أنت هذا الفتى إذن؟).
- (روحية! أنا هو. . . أنا صلاح. . . هل نسيت؟).
- (. . .؟. . .).
- (إلى متى تفترق أجسامنا وقلوبنا متحدة متآلفة يا روحية؟).
- (. . .؟. . .).
- (تكلمي! غير معقول أن تكوني نسيتِ! يجب أن نلتمس مخرجاً. . .).(166/76)
- (كفى!. . . صلاح! أسكت!).
- (لا! بل أتكلم! لن يخدعني لسانك! إني مطمئن إلى قلبك، إنه ينبض لي كما كان ينبض قبل زواجك. . . بل هو الآن يخفق خفقاناً شديداً، إنه يدعوني ويعطف علي. . . إنه يُفضّلني. . . ولكنك تعاندين. . . ارحميني يا روحية. . . لن أدعك تفلتين هذه المرة ولو ربطتك السماء نفسها بسلاسل ذهبية! أنت لي، أنت لي دون هذا الحيوان الذي انتزعك مني، أنا أعرف هذا أنا أعرف ما بينكما من بغضاء! أعرفه كله! ثقي أنه لن ينتهي عما نهيته عنه! البهيم! الوحش الذي يعذبك ويضنيك! سيصير فقيراً معوزاً عما قريب! لقد بدأ يبيع (أطيانه) ويرهن ما لم يبع! وجسمه سيتهدم، وقد يجرفك سيل خرابه؟ روحية! كبرياؤك تذيب قلبي وتصهره! صديقتك أمينة! لقد ذكرت لي كل شيء. . . أ. . .
- (أمينة!
- (أجل. . . أمينة أعز صديقاتك. . . الأفعى! اتركيه لها! سيقصم ظهرها أو تقصم ظهره قريبا. . . لقد سقطا يا روحية فاطمئني.
- (حسبك يا صلاح. . . كفى. . كفى. .
- (لا. . . ليس حسبي. . . ينبغي أن ننتهي!
- (ننتهي كيف!
- بأن تكوني لي. . .
- (أكون لك. . . وهل تقبل! أنا؟
- (أقبل؟ أنا أرجوك وأضرع إليك. . . لا حياة لي بدونك يا روحية!
وصمتا ساعةً، وكانت دموع نحيلة تسقي حبهما الذي انتعش بكل ما كان له من قوة وحياة، وكان الليل المصري الجميل يرثى لهما فيهب نسيمه عليلاً رخياً كأنفاس العذارى، وكان صلاح قد حمل رأس حبيبته على صدره الرحيب وراح يقبله ويربت عليه بأصابعه المرتجفة. . . وكانت أصابعه المرتجفة تنسى فتمر بكل ما فيها من حب وبراءة على الذقن وفوق الخدين. . . ثم. . . ثم انحنى صلاح يتشمم بفمه المرتعش فم ملاكه الغارّ في أحلامه فوق صدره. فاضطربت روحية، وانتفضت انتفاضة هائلة، وهبت من آلامها مذعورة، وتمتمت: (صلاح! لا يصح! أنا زوجة. . . لا أخونه حتى أرى!).(166/77)
وكانت الساعة الواحدة! وقد سافرت آخر قاطرة من قاطرات الترام إلى القاهرة منذ بعيد! ولم يبق في الجهة سيارة تحملهما إلى هناك! فهل يقطعان الطريق على الأقدام؟ هذا أمر شاق. . .
- (لا تنزعجا! سأوصلكما في سيارتي!!
من هذا؟ من صاحب هذا الصوت! يا للهول؟ إنه بيومي، خرج الساعة فقط من فندق ميناهاوس!! إنه يترنح من السكر وهو لا يكاد يعي! وأمينة! أمينة معه أيضاً في تلك الساعة المتأخرة من الليل! ماذا كنا يصنعان هنالك؟
(أوه؟ أنت روحية؟ ومن هذا؟ آه! أحد عشاقك! ترى! أين كان يتمتع بك الليلة؟ هه؟ هناك! في حرم الفراعنة ولكن، اركبا، اركب، ليس الآن!. . .).
وصعد الدم يغلي في رأس صلاح، وأوشك أن ينقض على غريمه الوقح فيضغط على عنقه ليذيقه وبال أمره لولا أن نحته روحية وأشارت عليه بركوب السيارة. . . وحينئذ، فكر قليلاً وتقدم إلى مكان السائق. وجلست روحية إلى جانبه، وجلس بيومي وأمينة في الخلف، وانطلق صلاح ينهب الطريق الهادئ، وبرزت الأجيال القديمة كلها من تحت الرمال تنظر إلى أبطال القمة المؤلمة. . . الزوج الخائن. . . ولصديقة الخائنة. . . والمحب الهائج. . . والزوجة الثائرة. . .
وجعل صلاح يفكر. . . وأيقن أن الخمر قد سيطرت على دماغ خصمه. . . فهل يستطيع أن يجعلها من جنوده ضده؟! سيرى. . .
واقتربت السيارة من الجيزة. . . وبدا النيل يصطخب من بعد. . . وأزبد عبابه وجرجرت أواذيه. . . وأوقف صلاح السيارة على بعد مائة متر نحوها من النهر العظيم، ثم نزل منها وأشار إلى روحية فأطاعته ونزلت هي الأخرى. . . وهي لا تدري لماذا نزلا، وحملق صلاح في غريمه فوجده يخاصر أمينة وقد غلبهما النعاس والسكر فناما نوماً عميقاً. . .
- (بيومي أفندي! بيومي أفندي! استيقظ! هلم أنت فسق سيارتك، أنا ماض إلى بعض شؤوني في الجيزة!).
وشخر بيومي شخيراً مفزعاً بأنفه الغليظ، ونهض من مكانه متثائباً ليجلس مكان السائق وهو لا يعي من أمره ولا من أمر سيارته شيئاً. . . ثم أدار العجلة دورة آلية فانطلقت(166/78)
السيارة تطوي الطريق في خط مستقيم إلى. . . النيل. . . النيل الزاخر الأبدي!).
- (حرام عليك يا صلاح. . .).
- (أسكتي! لقد أنقذتك!).
- وَيْ! اسمع! لقد انقذفت السيارة في الماء).
- (بمن فيها طبعاً. . .).
- (يا للقوة!).
- (روحية، هلمي من هنا. . . من هذا الطريق).
دريني خشبة
(الرسالة) إن الحل في هذه الأقصوصة الجميلة لا يرضي
الخلق الجميل(166/79)
البريد الأدَبيّ
الخطر على تراث الإسلام في أسبانيا
قرأنا في أخبار الحرب الأهلية الأسبانية غير مرة أن القنابل ألقيت على غرناطة وقرطبة ومالقة. ونحن نعرف أن الأندلس تقع منذ بدء الحرب الأهلية في يد القوات الثائرة وأن حكومة مدريد تحاول تطويقها من البر والبحر، وترسل قواتها الجوية لضرب قواعدها بالقنابل من آن لآخر؛ وقد كانت غرناطة وقرطبة في الآونة الأخيرة هدفاً لتلك الهجمات الجوية؛ وقد قرأنا في روعة وجزع أن القنابل أصابت قصر الحمراء وأتلفت بعض نواحيه؛ فإذا صح هذا الخبر كنا أمام حادث بربري، وأمام كارثة حقيقية تنزل بتراث العرب والإسلام في أسبانيا. إن قوانين الحرب في كل عصر ودولة تنص على احترام الذخائر الأثرية، مهما كان في خطورة المعارك الأهلية الدائرة في أسبانيا وروعتها فإن الإقدام على تخريب المعاهد الأثرية سواء من هذا الفريق أو ذاك يعتبر عملاً بربرياً لا تبرره أية غاية. وقد منيت الآثار الإسلامية في أسبانيا بسبب التعصب والإهمال خلال القرون بكثير من التلف، فتركت كنوز المحفوظات العربية في الأسكوريال لتلتهمها النيران، وأضحت لا تجاوز ألفاً وثمانمائة بعد أن كانت حتى القرن السابع عشر تربي على عشرة آلاف؛ وحولت معظم المساجد الإسلامية الجامعة وفي مقدمتها مسجد قرطبة إلى كنائس وشوهت بذلك معالمها وخواصها الفنية؛ وهدم قسم من قصر الحمراء ليبنى مكانه قصر صيفي للإمبراطور شارلكان؛ ولم تبق يد التعصب والجهل إلا على بقية ضئيلة من النقوش واللوحات الأثرية. وهذه البقية الباقية من تراث الإسلام والعرب في مدريد وغرناطة وقرطبة ومالقة تعرض اليوم للتخريب والفناء الأخير. وليس بعيداً أن نقرأ اليوم أو غداً أن قنابل الثوار سقطت على قصر الأسكوريال وأحرقته بما فيه من المخطوطات العربية، أو أن قنابل القوات الحكومية ألقيت من جديد على قرطبة فهدمت مسجدها الجامع، أو على غرناطة فهدمت قصر الحمراء؛ ذلك أن الحرب الأهلية الأسبانية تدور بلا شفقة ولا رحمة لا بالناس ولا بالأشياء. وإنه ليحسن في مثل هذه الظروف الدقيقة أن ترفع الحكومات والهيئات الإسلامية صوتها للمطالبة باحترام التراث الإسلامي في أسبانيا وحمايته من الغارات الخطرة؛ فحق الأمم الإسلامية كلها متعلق بهذا التراث، وفي اعتقادنا(166/80)
أن مثل هذه الخطوة إذا اتخذت يكون لها أثرها.
مدام جوليت آدم
توفيت مدام جوليت آدم الكاتبة الفرنسية الشهيرة وعميدة كتّاب فرنسا من حيث السن. وكانت وفاتها في قصرها في كانيول من أعمال مقاطعة الفار حيث اعتكفت منذ أعوام طويلة تعيش في عزلة مطلقة. وقد بلغت مدام آدم المائة عام تقريباً، وكان مولدها في فريري من أعمال (الواز) في أكتوبر سنة 1836؛ وكان زوجها أدمون آدم مديراً لشرطة باريس، ثم استقال من منصبه على أثر حادثة فرار هنري روشفور من سجنه في كاليدونيا الجديدة؛ ثم انتخب عضواً في مجلس الشيوخ في سنة 1875 وتوفي بعد ذلك بعامين، وكان من رجالات الإمبراطور ومن شخصيات القرن الماضي.
وتبوأت مدام آدم منصة التحرير والكتابة منذ أكثر من ستين عاماً، وتولت تحرير (المجلة الجديدة) في أواخر القرن الماضي، وبرزت بين كتّاب هذا العصر بذلاقتها وروعة أسلوبها، وكتبت عدة كتب وروايات قيمة منها كتاب (حصار باريس) وهو من أشهر الكتب في هذا الموضوع، وفيه تصف مدام آدم ذلك الحصار الشهير الذي شهدته بعينيها؛ ومنها (مذكرات باريزية) وهي مذكرات طريفة تقدم إلينا صوراً شائقة من الحياة الفرنسية في القرن الماضي. ولمدام آدم عشرات أخرى من الروايات والكتب. وكانت مدام آدم تستقبل في بهوها الأدبي أشهر كتاب العصر ورجالاته، وكان من أشهر الأبهاء الأدبية في أواخر القرن الماضي.
ومن مآثر مدام آدم التي يذكرها المصريون بنوع خاص صلتها الروحية بمصطفى كامل زعيم الوطنية المصرية ومراسلتها معه. وكانت مدام آدم من أشد أنصار القضية لمصرية، وكانت تشجع مصطفى كامل بمراسلاته ونصائحها، وتنشر عن القضية المصرية مقالات كثيرة تدعو فيها إلى تأييد مصر في جهادها وإلى إنصافها وتحقيق أمانيها.
وكان ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وهاهو ذا الزمن يحقق بعد ثلث قرن من صيحة الكاتبة الشهيرة لمصر بعض أمانيها، وتجني مصر بعض ثمار جهاد زعمائها وأبنائها البررة. فليذكر المصريون مدام آدم وأمثالها ممن نادوا بحق مصر في الحياة والحرية، وليقرءوا كتبها ورسائلها القيمة.(166/81)
معهد (الجتيانوم)
هذا معهد من نوع فريد لا يعرف عنه سوى القليل، ومع ذلك فهو جدير بالتعريف لطرافته. يقوم في وسط الأحراج على رابية عالية، في إحدى القرى السويسرية الجميلة: ذلك هو معهد (الجتيانوم) القائم في ضاحية درناخ على مقربة من مدينة بازل. وقد أتيح لي أن أزور درناخ ومعهدها الفريد في وسط الأحراج والربى العالية، وأن أحيط بشيء من تاريخه وغاياته؛ فهو معهد دولي للعلوم العقلية كان أول عامل لتأسيسه الدكتور رودلف شتينر العلامة النمساوي. وشتينر من أقطاب التربية الحديثة، ولد سنة 1861، ودرس في النمسا وألمانيا، واشتغل منذ حداثته بشؤون التربية، وأبدى براعة خاصة في فهم الوسائل التربوية وتنظيمها، وبذل جهوداً جمة لتحقيق نظرياته الجديدة في التربية، وعمل لإنشاء مدارس جديدة من طراز خاص في بعض المدن الألمانية والنمساوية، واشتهر بمحاضراته في التربية في أوربا وأمريكا. وللدكتور شتينر عدة مؤلفات شهيرة منها: (نظر جيته إلى العالم) وكتاب (الحقيقة والعلم) و (فلسفة الحرية) وكتب أيضاً قصة حياته في كتاب مؤثر. وفي سنة 1923، بدئ تأسيس (الجتيانوم) تحت رعايته وبإرشاده في قرية درناخ، وبني على طراز الملاعب اليونانية القديمة؛ ثم قام بوضع أسسه ونظمه العلمية، وأريدَ به أن يكون معهداً دولياً لترقية العلوم العقلية يجري على نظم الثقافة الحرة دون قيد ولا شرط؛ وأنشئت فيه أقسام للتربية والفنون الموسيقية والطب والعلوم والفلسفة، وغدت درناخ منذ عدة أعوام مركزاً لحركة عقلية دوليةيساهم فيها كثيرون من مختلف أنحاء لأرض. وفي الصيف تلقى في (الجتيانوم) محاضرات دورية من أشهر الأساتذة في مختلف العلوم والفنون التي يعمل المعهد لترقيتها، وقد كانت قرية دورناخ حين زرتها غاصة بالنزلاء الوافدين على المعهد، ومنهم كثير من الإنكليز والأمريكيين.
(ع)
كتابان عن روبسبيير
صدر أخيراً كتابان جديدان عن روبسبيير زعيم المرحلة الأخيرة من الثورة الفرنسية، أحدهما بالألمانية ومؤلفه الأستاذ فريدريش زيبرج، والثاني بالإنكليزية ومؤلفه المؤرخ(166/82)
الأمريكي جيرارد والتر.
وقد صدرت في مختلف اللغات كتب كثيرة عن الثورة الفرنسية وعن روبسبيير، ولكن شخصية روبسبيير ما فتئت لغزاً على التاريخ؛ فبعض الباحثين يرى أن روبسبيير كانت شخصيته ضعيفة تستتر بمظاهر الورع والتصوف، وتسيرها مثل متواضعة؛ ويرى البعض الآخر أن روبسبيير كان في الواقع شخصية عظيمة، ولكن الظروف والشهوات التي أحاطت بها حالت دون ظهورها بمظهرها الحقيقي.
ويقدم لنا المؤلفان في هذين الكتابين الجديدين صورتين جديدتين لروبسبيير، تختلف إحداهما عن الأخرى من حيث التقدير والتصوير؛ ولكن المؤلفين يتفقان في الأخذ برأي واحد فيما يتعلق بوثائق الثورة الفرنسية عن روبسبيير وحياته، فهما يرفضان الأخذ بما في هذه الوثائق، ويعتقدان أن كثيراً منها قد زيف لأغراض خاصة. ويرى الأستاذ زيبرج بنوع خاص أن المؤرخ لا يستطيع أن يحلل شخصية ما دون أن يشعر نحوها بشيء من العطف؛ ولكنه لا يجد في شخصية روبسبيير ولا في صفاته ما يجذب أو يروق. وفي رأيه أن روبسبيير كان مع ذلك شخصية عظيمة تتمتع بمواهب ممتازة، وأنه من الخطأ مع استبعاد الوثائق الثورية أن نعتبر روبسبيير زعيماً صغيراً من زعماء الطبقة الوسطى لا يمثل سوى أماني طبقته كما يصوره بعض المؤرخين.
وينحو الأستاذ زيبرج في عرض حياة روبسبيير نحواً جديداً معتمداً في آرائه على الوقائع الثابتة والأعمال الشخصية، ويميل إلى الناحية العلمية أكثر مما يميل إلى الناحية الروائية.
أما الأستاذ والتر فيميل نوعاً إلى الناحية الروائية، ويقص علينا حياة روبسبيير الأولى في باريس حيث كان يسكن في غرفة حقيرة مع صديق له في بناء عتيق في شارع سانتونج ما يزال قائماً إلى يومنا؛ ثم يقص علينا قصة اتصاله بأسرة دوبلاي بعد أن غدا زعيماً يشار إليه، وكيف أحب الفتاة إلينور ابنة دوبلاي حباً لم يزهر، بل انتهى في غمرات الحزن والشجن، بعد أن سقطت رأس الزعيم على النطع؛ وكيف أنه يوم حمل على عربة المحكوم عليهم، مرت عربته بمنزل أسرة دوبلاي - أقصداً أو عرضاً؟ - وما كان لذلك من وقع أليم في نفسه.
وفي الكتابين من الجديد ما يغري بقراءتهما.(166/83)
الأحجار السماوية
ألقى العلامة لاكروا الأخصائي في مباحث الأحجار السماوية أمام أكاديمية العلوم بيانات طريفة عن الأحجار السماوية التي اكتشفها في المدة الأخيرة؛ فقال إنه قد شهد في الصحراء الكبرى أحجاراً كبيرة سوداء تتميز بلونها، وإنه قد وجدت منها قطع تزن نحو خمسة كيلو جرامات. ولاحظ مسيو لاكروا أن مظاهر القطع الساقطة تدل على أنها سقطت حديثاً.
وتحدث مسيو لاكروا عن الحجر السماوي الشهير الذي اكتشف في المغرب الأقصى فقال إنه يقدر طوله بمائة متر، ووزنه بنحو مليون طن، وأنه استطاع أن يعثر منه على شظية صغيرة، وأنه يقدر أن هذا الحجر سيسقط على بعد نحو خمسين كيلومتراً من جنوب غربي شاجوتي على أنه لم توجد حتى اليوم علامات تدل علىسقوطه.
إلى إخواننا في المغرب
يتفضل إخواننا في المغرب على (الرسالة) بمقالات وقصائد لا شك في أنها قيمة؛ ولكن يعسر علينا في الغالب قراءة الخط المغربي فنضطر إلى تأخيرها آسفين. فنرجو أن يكتبوها بالخط المعروف أو بالآلة الكاتبة حتى لا يحرم إخوانهم في سائر الأقطار العربية الاستفادة مما ينتجون.
التنبيهات على أغلاط الرواة
اطلعت (في العدد165 من الرسالة الغراء) على المقالة التي نشرها الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام من كتابه (ذكرى أبي الطيب) وذكر فيها أنه وقف على رسالة اسمها (التنبيهات على مقصور ابن ولاد النحوي). ولم يذكر لنا الأستاذ الدكتور اسم مؤلف هذه الرسالة مما يدل على أنها عنده غفل من ذلك. ولما كان مؤلفها من كبار اللغويين من علماء الأدب، رأيت من الواجب الاستدراك ببيان اسمه وهو (أبو القاسم علي بن حمزة البصري) ترجم له ياقوت والسيوطي وغيرهما.
والرسالة هذه قسم من كتابه الممتع (التنبيهات على أغلاط الرواة) الذي جمع فيه التنبيه على ما في نوادر أبي زياد الكلابي، والتنبيه على ما في نوادر أبي عمرو الشيباني، والتنبيه على ما في كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري، والتنبيه على ما في الكامل للمبرد،(166/84)
والتنبيه على ما في الفصيح لثعلب، والتنبيه على ما في الغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام، والتنبيه على ما في إصلاح المنطق لابن السكيت، والتنبيه على ما في المقصور والممدود لابن ولاد.
من قراء الرسالة
للحقيقة والتاريخ
قال دولة حقي بك العظيم (رئيس مجلس الوزراء الأسبق في سورية) في الرسالة (165) أن في قصتي (النهاية) غلطاً تاريخياً لأني قلت أن ناظم باشا (والي دمشق) زارها فقيراً محتاجاً، وخرج منها يائساً منكراً؛ وناظم باشا قد زار دمشق مكرماً، وخرج منها مودعاً معظماً. وكان ذلك في عهد حاكمية دولة الرئيس.
وقد كان دولة حاكم دمشق في بدء عهد الاحتلال، فلا تكون الزيارة التي يتحدث عنها دولته هي التي تحدثت عنها في قصتي، وإنما هي زيارة أخرى، لأن حوادث القصة وقعت سنة 1929 كما قلت في أول سطر منها، وكان هو حاكم دمشق قبل ذلك بسنين طويلة؛ وعلى ذلك لا يكون في قصتي خطأ، لأن ناظم باشا جاء دمشق آخر مرة في سنة 1929، وكانت حاله قريباً بما قلت في القصة، ولا يكون في كلام دولة الرئيس تصحيح للقصة. هذا ولدولته ولحضرة الكاتب شكري واحترامي.
علي الطنطاوي(166/85)
العدد 167 - بتاريخ: 14 - 09 - 1936(/)
بعد المعاهدة
من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
للدكتور عبد الوهاب عزام
يروي بعض الصوفية أن الرسول صلوات الله عليه وسلامه كان إذا قفل من غزاة قال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)؛ ويقولون إن الجهاد الأصغر قتال الأعداء وخوض المعامع وقراع المنايا، والجهاد الأكبر تقويم النفس وتطهيرها وإعدادها للرقابة على أعمالها والقيام بالعدل فيما بينها وبين الناس، ثم مجاهدة الأنفس الأخرى بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالرغبة والرهبة واللين والشدة، حتى تستقيم على السنن القويم، وتحتمل كل ما يحمّلها الواجب، وتأخذ كل ما يعطيها الحق؛ وحتى يجتمع الناس على شَرع لا تفرّقهم الأهواء، ولا تثور بينهم البغضاء؛ ثم النظر بعد هذا فيما يصلح الجماعة ويسعدها في معايشها.
صدق هؤلاء القائلون، فحرب العدوّ جهاد بّين لا تقعد عنه الأنفس العزيزة ولا تختلف فيه الكلمة؛ تدعو إليه العزة والكبرياء، والذود عن الأنفس والحرمات، ويصمد فيه المجاهد إلى عدو مرئي في معترك محدود. ولكن جهاد النفس، وإصلاح الجماعة وإسعادها، خفّي المسالك غامض الجوانب، تعترك به في النفس الواحدة منازع مختلفة، وتفترق بالجماعة أهواء متشاكسة، ويطول فيه المدى، وتمتحن العقول والعزائم.
فإن تكن الأمة المصرية قد مشت في عزتها إلى غايتها أو أشرفت على الغاية، إن تكن قد بلغت بالإباء والكبرياء والدأب والصبر ما أمّلت أو بعض ما أمّلت، إن تكن فرغت من الثورة والعداء إلى السلم والمودة، فإنما قفلت من جهادها الأصغر إلى جهادها الأكبر - الجهاد الذي ينظر في أحوال الأمة ما بطن منها وما ظهر، ليربّيها على الخير والحق، وينشئها على الخلق القويم، ويردّها جماعة صالحة متآخية، تجمعها المودّة ويعدل بينها الإنصاف، تلقى الخير والشر بقلوب موحدة وعزائم مجتمعة وآراء متناصرة - الجهاد الذي يعني بالجهلاء فيعلمهم، وبالمرضى فيأسوهم، وبالبائسين من الزراع والصناع فيأخذ بأيديهم إلى العيشة الراضية، ويقارب بين طبقات الأمة حتى يجمع شملها الخيرُ العام والمصلحة الشاملة - الجهاد الذي يهيئ للأمة وُلاة ينشرون السلام والأمان، ويقومون بين الناس(167/1)
بالقسط في كل كبيرة وصغيرة، حتى تعمّ النصَفةُ القويَّ والضعيف، والنصير والمخالف، والمحبّ والمبغض؛ وتقوم للأمة حكومة يحمل كل واحد فيها قانوناً في الخلق، يكفل ألا يحيد قيد شعرة عن القانون الذي في الورق؛ ويتنزّل فيها المثل الصالح من الرؤساء إلى من دونهم حتى يشعر كل عامل أنه يتلقى العدل من فوقه يوحيه إلى من دونه، وأنه حين يعدل لا يتبرع ولا يمن على أحد، وإنما هو الحق والواجب لا محيد عنهما ولا مفر منهما، ولا يسع الأمر غيرهما؛ وحتى لا يُقضي في أمر إلا بما يقضي به عمر بن الخطاب لو عرض هذا الأمر عليه، لا محاباة ولا حيف ولا هوادة؛ القويّ ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له؛ وحتى يكون العامل الصغير في أقصى الأرض نائلاً آمناً عليه، كالحاكم الكبير في دواوين القاهرة؛ وحتى ييأس أكبر الموظفين وأقرب المقّربين من المحاباة يأس أصغرهم وأبعدهم. لكلٍّ حقه، وعلى كل واجبه، وفوق الناس جميعاً قانون الأمة وعدل الله - الجهاد الأكبر الذي يذهب بهذه المساوئ البادية في أنفسنا وأجسامنا وأزيائنا وطرقنا وأنديتنا ودواويننا ودورنا، والذي يأخذ الأمة بيد رحيمة حازمة لتوفي به على النجاة غير مبالية بصيحات المرضى الذين يكرهون الدواء، والمفسدين الذين ينفرون من الإصلاح الخ الخ.
لست أقول إن أمتنا ابتليت بالشر والفساد من بين الأمم، ولكنني أريد لها أن تكون (خير أمة أخرجت للناس) وأن تصير مضرب المثل بين الأمم في أخلاق أفرادها، ونظم جماعاتها، وسعادة أولادها.
سيقول الضعفاء: هذا مطلب عسير! وأنا أقول إنما تَطمح عزائمنا إلى المطالب العسيرة، وإنما يكافئ هممنا لمقاصد البعيدة. وسيقول الذين في قلوبهم زيغ: هذا هذيان! وينسون أن هذا الهذيان تنطق به القوانين كلها. فإن لم يكن عملنا مصدقا قوانيننا فما جدوى هذه القوانين؟. ليس في الأمر عسر، وليس في الأمر هذيان، ولكنه حق يسير إذا برئت النفوس من يأسها، وخرست الألسن عن هذيانها؛ وحسبنا أن يقوم على رأس الأمة (عُمر) واحد يضرب المثل ولا يتهاون في إنفاذه فإذا الناس كلهم رغبةً ورهبة يقتدون به، ويحاول كل منهم أن يجعل نفسه عُمَر آخر. إن نفوس هذه الأمة معمورة بالخير، وإنما أضرّ بنا أن رفعت في كنف العدو رايات للشر انحاز إليها كل شرير، وأشفق منها كل خير فازداد(167/2)
المسيئون إساءة، وضعفت نوازع الإحسان في نفوس المحسنين. فاليوم نريد أن تُرفع في هذا البلد للخير رايات، ويُهاب بما في الأمة من أخلاق ليزداد المحسن إحساناً، ويكف المسيء عن إساءته، فإذا الناس أعوان على الخير أنصار له، فرحون به مغتبطون سعداء.
ذلكم الجهاد الأكبر تضطلع به هذه الأمة الكريمة، وتقودها إليه حكومتها الرشيدة مؤيدة موفقة مسددة إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام(167/3)
القطط
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
القط حيوان مغرور؛ وله العذر يا أخي والله. . ولو أن أمة من الأمم بدا لها في عصر من العصور أن تعبد أجدادي أو أن تعتقد أن روح الله حالة في أجسادهم لكنت حقيقاً أن أزهي وأتكبر وأتغطرس وأرفع رأسي حين أكلم الناس، وأزم بأنفي وأتبجح عليهم بما ليس عندي، وأتمدح بما ليس في، وأكون على العموم - وباختصار - نفاجاً فياشاً إذا كنت تفهم ما أعني.
ولست أتخذ القطط ولا أحبها أو أطيقها، لأن آبائي لم يكونوا ممن عبدوها أو آمنوا بحلول روح الله فيها وإن كانوا قد عبدوا في جاهليتهم ما هو أحط منها في مراتب الحياة - الأصنام والحجارة - ولكنك تكفر بالحجر فتكسره وتفرغ من أمره. أما القطط فتفيء في أمرها إلى الرشد ولكنها هي لا ترشد أبداً ولا يفارقها الغرور العظيم الذي داخلها مذ رأت نفسها معززة مكرمة - بل معبودة - بلا موجب، فالبلاء لهذا مقيم والمصيبة خالدة والعياذ بالله.
ومن غرور القط أنه لا يستأنس أبداً - يسكن بيتك ويأكل طعامك برضاك أو على الرغم منك، ومع ذلك لا يكون معك إلا على حرف. . . تمسح له شعره فيثني أرجله تحته ويرخي جفنيه ويروح يزوم أو (يقرأ) كما يقول العوام فكأنك تستلم حجراً مقدساً من فرط ما يكون من انصراف هذا الحيوان المتكبر عنك، وتدغدغه فلا يعني بأن ينظر إليك ليرى من أنت - أغريب أم صاحبه الذي يطعمه ويؤويه - بل ينحي عليك بأظافر يده وبفمه في آن معاً. وتقدم له اللقمة من الخبز فينظر إليها شزراً ويعرض عنها محتقراً لها ويحول رأسه عنك بكبر دونه كل كبر وتَرفع لا يطاق حتى لكأنك تلغو في حضرة البابا. . فإذا كان ما تعرضه عليه لحماً أو سمكاً أهوى عليه بأسنانه وهو معبس متجهم وانتزعه منك كأنما أنت تدنسه بلمسه أو حمله. ولا يكون معك أبداً إلا متحرزاً متوثباً متوقعاً منك الغدر ومتهيئاً لمباغتتك بالخيانة، وليس أطغى منه ولا أغلظ كبدا. وما أظن بالقارئ إلا أنه رأى ما يصنع القط بالفأر وكيف يمسكه بين يديه حتى يكاد يميته من الفزع ثم يطلقه عنه فيقف الفأر المسكين جامداً لا يتحرك ولا يكاد يصدق أنه حر وأن في وسعه أن يذهب ويجري. والقط(167/4)
ساكت لا يمد إليه يداً ولا يبرز مخلباً فيطمئن الفأر ويشرع في الهرب وهو يتلفت حتى إذا وثق أنه آمن وثب عليه القط وهو يضحك في سره وغرس في جنبيه مخالبه وراح يشكه بها شكاً يكون خفيفاً تارة وثقيلاً أخرى ثم يكف عنه مرة أخرى - وعينه عليه - ويكتفي بأن يربض ويتربص له وأن يلاحظه وهو يتلوى من الألم. ويدرك الفأر أن الشك قد انقطع وإن كن حر ما لقي منه لا يزال شديداً فيتشهد ويقول (يا حفيظ. . أعوذ بالله. . على وجه من أصبحت في يومي المنحوس هذا يا ترى. . . على كل حال الحمد لله. . قدر ولطف. . وترى أين ذهب هذا الوحش الضاري. . يا حفيظ. . يا حفيظ. . اللهم استرنا. . . المهم الآن أن أذهب إلى جحري فإنه على ضيقه خير ألف مرة من ميدان هذه الغرفة التي لا آمن أن يثب علي فيها قط آخر. . والعياذ بالله) ويتوكل المسكين على الله ويقول (هيه. . يا معين ويروح يجر رجلاً بعد رجل؛ وذيله مسحوب وراءه على الأرض؛ ولا تبقى له قدرة على التلفت من فرط الإعياء ومن كثرة ما نزف منه من الدم القاني فيمضي إلى الجحر وهو لا ينظر لا إلى اليمين ولا إلى الشمال ولا قدامه ولا خلفه؛ حتى إذا قارب الجحر وانتعشت نفسه قليلاً وعظم أمله في النجاة والسلامة وطول العمر وهم بوثبة أخيرة إلى حيث لا تدركه القطط ولا تستطيع أن تتبعه، إذا بالقط المتربص على ظهره، ومخالبه في لحمه الطري، فيدرك الفأر اليأس ويستسلم ويقول في سره وهو يؤكل عسى الله أن يعوضني يوم النشور داراً أخرى لا قطط فيها. . ويلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يحلم بجنة الفئران.
والقطط تولد عمياء مطبقة الأجفان فيدركنا العطف عليها وترق قلوبنا لها فنعني بها ونتعهدها ونسقيها اللبن الذي هو لطعامنا، ونبرها ونسرها سنة بعد سنة، ونفرح بها ونعجب بمنظرها ونباهي الجيران، ثم يتفق أن نخرج يوماً وأن نوصد الأبواب ونحن لا ندري أن القط في إحدى الغرف ونغيب شيئاً ثم نعود إلى البيت ويدخل أحدنا حجرة النوم ليخلع ثيابه فيغلق الباب وراءه كعادته وإذا بالقط على السرير يتحفز للوثوب عليه وتمزيق لحمه - ما في ذلك شك - فكأنه ليس أمام قط صغير وإنما هو أمام نمر مفترس فيضطرب الرجل وتتخلخل ركبتاه ولا يعود يعرف أين الباب، والقط يموء بل يعوي ويتوثب كالمجنون وقد نسى كل ما كان من سابق النعمة ولم يبق له هم إلا الخروج من الغرفة أو(167/5)
افتراس هذا الذي دخلها عليه وإن كان سيده وصاحب الفضل عليه.
وقد لقيت من قطط الجيران الأمرين فما أحب القطط كما أسلفت. وما أكثر ما يحدث أن أنسى نافذة مفتوحة أو باباً موارباً فيدخل القط ويمضي إلى أواني الطعام ويكشف عنها الغطاء - أي والله ولو كانت من النحاس الثقيل - ويلتهم كل ما بقى. . . . وقد كان لي جيران ما رأيتهم قط ينامون إلا بعد أن يغلقوا الأبواب والنوافذ جميعاً. وكنت أضحك إذ أسمع رب بيتهم يصيح في الليل - والصوت في الليل يسري - (يا حنيفة. . هل أغلقت باب المطبخ؟) فتصيح حنيفة من مرقدها والنوم يغالبها: (أيوه يا سيدي. . .) فلا يقتنع ويخشى أن يكون الكسل قد أغراها بالكذب فيقول (يحسن أن تقومي وتستوثقي) وبعد قليل أسمعه يؤنبها ويقول لها (ألم أقل لك. . هذه النافذة لم تكن محكمة الإيصاد. . . وهذا الباب. . . انظري. . . لو دفعه إنسان بيده لانفتح) فتحلف أنها أوصدت كل الأبواب والنوافذ فيقول (لا يا بنتي. . . دوري قبل النوم على كل الأبواب وكل نافذة وامتحني كل منفذ بيدك لتتحققي) وكنت أعجب لهذا المتفزع وأسأل نفسي عما يخيفه وهو في عمارة لها بواب لا ينام إلا بعد أن يدخل كل السكان ثم يغلق بابها بالمفتاح ويضعه - أعني المفتاح لا الباب - في جيبه. فإذا تأخر أحد السكان احتاج أن يدق ويقرع الباب. . ثم زال عجبي لما بلوت قطط الجيران. . وأيقنت أنه لا يخاف اللصوص وإنما يخاف القطط. . وله العذر.
والعامة تعتقد أن للقط سبع أرواح وما أظنهم إلا صدقوا، ومن كان يشك في ذلك فليتأمل كيف يسقط القط من فوق السطح العالي فلا يزيد على أن ينظر يمنة ويسرة - فأن في القطط تحرزاً شديداً - ثم ينهض ويمضي كأنما كان قد انحدر على بساط كهربائي. وتضربه بالحجر فلا يهيضه بل يرتد عنه. وهو مثال الفردية الصارخة والأثرة المجسدة. وما رأيت قطتين اتفقتا قط، وما اجتمع قطان في مكان إلا تحفزاً للقتال فترى كلا منهما قد رفع ذيله وقوس ظهره وراح يجس الآخر بعينه وهو يزوم ويقول: (واوووووووو) ويدور حوله ليغافله وينشب فيه أظفاره. والقطة هي الدابة الوحيدة التي تأكل صغارها فتأمل ذلك. ومن كان يعرف أن حيواناً مستأنساً آخر يفعل ذلك فليخبرني فإن العلم بهذا ينقصني.
ومن غرور القط أنه يعتقد أن ريقه تريق، فتراه يضطجع على جنبه ويلوي عنقه ويقبل على شعره بلسانه يلحسه ولا يخجل أن يستحم على هذا النحو أمام الناس، بل لعله يباهي(167/6)
بذلك ويفخر قبحه الله؛ وهو مفطور على الغدر والخيانة فلا أمان له ولا اطمئنان منه لأحد من الخلق ولا لشيء من الأشياء فهو لهذا سيئ الظن، حتى إنك لتراه إذا صار على رف أو لوح من الخشب يخطو كأنما هو يمشي على الجمر فيضع كفاً وينتظر ويخيل إليك من وقفته أنه يختبر المواطئ بكفه ويقدر مبلغ ثباتها وقدرتها على احتمال ثقله. ثم يمد يده الأخرى وينتظر شيئاً زيادة في الاستيثاق ومبالغة في الحذر ولا يجد ما يبعثه على الشك، ومع ذلك يظل يتريث حتى تزهق روحي وأنا أنظر إليه. وإذا رابه شيء رد يده وسحبها من موضعها بسرعة وخفة؛ ولو كان الإنجليز قد خلقوا قبل القطط وسبقوها إلى الدنيا والحياة لقلت إن القطط أخذت ذلك عنهم وقلدتهم فيه فإنهم مثلها يقدمون على الشيء متحرزين، ويخطون خطوة ثم يقفون ينظرون ما يكون، فإذا جرت الأمور على غير ما يحبون أو يتوقعون ارتدوا بخفة وبسرعة وإلا نقلوا رجلاً أخرى وهكذا، فيظهر أنهم هم الذين يتقيلون القطط ويحاكونهم في هذا والله أعلم.
ولم يسرني قط وجود قطة في بيتي إلا مرة واحدة، وكان قطاً ملعوناً لا يزال كلما أوينا إلى مضاجعنا يتسلل - لا أدري من أين - إلى المطبخ ويرفع كل غطاء عن كل وعاء ويقلب كل صحن ويروح يعبث بما في المكان. وليست نقمتي عليه من أجل ما يسرق فقلما يجد شيئاً في المطبخ لأن عادتنا أن نأكل كل شيء ولا نبقي شيئاً قبل أن ننام، فلا تبيت الأوعية والصحون إلا فارغة نظيفة، والحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه. وإنما نقمتي عليه من أجل الضجة المزعجة التي يحدثها والصحون والأطباق التي يكسرها فنهب مذعورين من فرط الضوضاء ونذهب نعدو إلى المطبخ عسى أن ندرك شيئاً قبل أن يتحطم، وإذا بالقط اللعين يثب من الرف حين يرانا إلى النافذة دفعة واحدة. وأقسم أن كنت أغلقت النافذة واستوثقت منها قبل أن أنام كما رأيت جاري يفعل ولكن من يصدق. . وتروح زوجتي تكذبني وتزعم أني لا شك أهملت كعادتي أو أني اكتفيت بأن ألمس النافذة بيدي وباركتها ثم قفلت راجعاً وأنا واثق أنها ستغلق نفسها بقدرة الله ومن غير حاجة إلى معونتي. ونظل في هذا الخلاف السخيف الذي سببه لنا القط إلى الصياح. واتفق يوماً أن دخل علينا قط ضخم بلا استئذان فهممت بطرده إذ حسبنا ما يصيبنا من القطط بالليل، ولكني لمحت قطاً آخر واقفاً بالباب يشاور نفسه، ولم أكد أراه حتى كانت المعركة ناشبة بين القطين، وكانا يدوران(167/7)
وذيلاهما مرفوعان وكل منهما يتحين الفرصة للوقوع في خصمه، وكانت أصواتهما المنكرة كأنها المسامير في آذاننا ولكنها كانت لهما كموسيقى الحرب على ما يظهر، ثم اشتبكا بعد أو وزن كل منهما صاحبه وأخذت المخالب تطول وتنغرز في أجسامهما والأسنان تساعدها، وكانا يتقلبان على الأرض - أعني على البساط - وهما يتصايحان بصيحات الحرب وأنا واقف من فرط السرور أشجعهما وأستحثهما وأقول للذي أراه يفتر منهما: (عليك به! اغرز مخلبك في عينه. . افقأها له ليعمى ولا يعود يرى النافذة. . برافو. . برافو. . أحسنت! هكذا تكون البطولة وإلا فلا. . أيوه. . أعد. . أعد. . بارك الله فيك. . مزق جلده. . أسلخه. . تمام. . مضبوط. . عضه. . عضه يا أبله. . لا لا لا. . لا تبعد. . عد إليه. . تذكر الدجاجة التي خطفها وحرمني وحرمك لذتها. . . تذكر - إذا كنت لا تعبأ بالدجاج - الفئران الطرية السمينة التي يصيدها كل ليلة ويأكل لحمها الغريض ويشرب دمها القاني. . . أقدم يا شيخ. . . أقدم. . . أو لم تسمع بقول الشاعر الحكيم: (وفاز بالطيبات الفاتك اللهج). . .) وهكذا صرت أهيجهما حتى أوسع كل منهما صاحبه عضاً ونهشاً ولاذ أحدهما بالفرار. . . ووقف الآخر برهة يلحس جراحه، ولكن الغريب أني لم أر دماً يسيل أو يقطر، ولم تأخذ عيني تمزيقاً في جلد أحد القطين على الرغم من عنف القتال. . . فهل كان مزاحاً. . . أو ريقه ترياق كما يدعى؟ ومهما يكن من ذلك فقد استرحت من القطط المتلصصة بعد هذه المعركة ولله الحمد. . . وبقيت الفئران قوانا الله عليها إنه سميع مجيب.
إبراهيم عبد القادر المازني(167/8)
صور سياحة
ليلة في براتر
بقلم (سائح متجول)
للمدن العظيمة كما للأفراد روح وخواص معنوية تحدث أثرها في النفس؛ وللمدن العظيمة أيضاً ذكريات وتقاليد تنم عن هذه الروح والخواص، ومن خواص مدينة فينا أنها تتمتع بجاذبية مدهشة تنبعث من جميع مظاهرها وحياتها العامة؛ وللعاصمة النمساوية ماض باهر حافل بالذكريات العظيمة، وإذا كانت صروف الحرب والسياسة قد أسبلت على هذا الماضي الباهر سحابة من النسيان فإن المدينة التالدة ما زالت تحتفظ بهذا الروح المرح الجذاب الذي عرفته أيام المجد، في ظل إمبراطورية عظيمة، وفي ظل دولة الفن والموسيقى الزاهرة أيام أن كان يطربها ويشجيها ويبكيها آنا بعد آخر آلهة الفن الرائع: موتسارت وشوبرت ويوهان شتراوس.
وما زالت فينا برغم جميع الأحداث والمحن تفيض بالذكريات الحافلة، وما زال الروح النمساوي يرقرق نحو الماضي ويستوحيه ويستمد من تراثه كثيراً من آيات الظرف والأناقة والسحر؛ والخلق النمساوي يجنح بطبعه إلى الأدب الجم والرقة المتناهية؛ وإنك لن تشعر في أية عاصمة أوربية أخرى بما تشعر به في العاصمة النمساوية من آيات الترحيب وحسن الوفادة ورقة الشمائل والخلال.
ومن ربوع فينا وذكرياتها العزيزة حي (براتر) ومن ذا الذي لم يسمع باسم براتر من زوار العاصمة النمساوية، بل من ذا الذي لم يجذبه ذلك الحي المرح الضاحك الذي كان أيام الإمبراطور مرتع الأمراء والنبلاء، والذي ما زال مرتع الشباب والحداثة من كل الطبقات؟ إن حي براتر يمثل ناحية خاصة من حياة العاصمة النمساوية؛ ومع أنه حدث في روحه ومظاهره، فإنه ما زال من أشد الربوع والمعاهد إعراباً عن روح فينا الحقيقية. وإن أولئك الذين يعرفون كم تعبر أحياء مونمارتر وميجال ومونبارناس عن الحياة الباريسية الشعبية يستطيعون أن يفهموا كم يعبر حي براتر عن ذلك الجانب من حياة العاصمة النمساوية.
وليس حي براتر في الواقع أكثر من مجموعة كبيرة من الألعاب والملاهي الغريبة؛ ولقد عرفت القاهرة في بعض المناسبات شيئاً من هذه الملاهي باسم (لونابرك)، وكان آخرها ما(167/9)
نظم في الشتاء الماضي أيام المعرض الزراعي؛ ولكن ما نشهده نحن في القاهرة من هذه الألعاب والملاهي ليس إلا جزءاً يسيراً مما يضمه حي براتر من الأندية والمسارح المختلفة التي تعرض فيها أحدث وأغرب الألعاب والمناظر البهلوانية المدهشة التي يطبعها جميعاً طابع المرح والحداثة والدعابة.
وفي براتر يجتمع أخلاط المجتمع من جميع الطبقات؛ ذلك أنه يضم فضلاً عن الملاهي والألعاب الكثيرة، طائفة من المقاهي والمطاعم الأنيقة التي يرتادها زوار الطبقات الرفيعة، ويقصدها المحبون ليعتكفوا في أركانها ومخادعها، ولينهلوا كؤوس الحب بعيداً عن صخب الأندية الحافلة؛ وقد كانت براتر وما تزال مهبط الحب. ولكم كانت في الماضي مسرحاً للحوادث الغرامية الأنيقة بين أبناء الطبقات الرفيعة؛ بل إن اسم براتر ليمثل في مأساة غرامية من أشهر وأروع ما عرف تاريخ الحب: ففي دروب براتر التقى الأرشيدوق رودلف وماري فتشرا في أواخر القرن الماضي؛ وكان الأرشيدوق رودلف ولد الإمبراطور فرنز يوسف وولى عهده يومئذ؛ وكان فتى مضطرم الأهواء يثور على الرسوم والتقاليد الملوكية، ويشغف بالتجوال في أحياء فينا والاغتراف من مسراتها الشعبية، وكان كثيراً ما يرتاد معاهد براتر ويمرح فيها. وكانت ماري فتشرا فتاة رائعة الحسن من أسرة نبيلة، فلمحها الأرشيدوق ذات يوم في براتر وهام بها حباً، وهنالك تفتحت في قلبيهما زهرة الحب. وكان العاشقان يتنزهان أحياناً في طريق براتر السلطانية المعروفة (بالدرب الكبير) وأحياناً يلتقين في مقهى هنالك يعرف (بدار الأنس) وهو ما يزال قائماً في براتر إلى يومنا. ونحن نعرف كيف كانت خاتمة العاشقين المؤسية في قصر مايرلنج في ضواحي فينا، حيث وجد الأمير وماري فتشرا في صباح ذات يوم من سنة 1889 قتيلين برصاص المسدس ولم تعرف أسباب المأساة وظروفها قط، وكل ما قيل يومئذ إن الأمير في نزعة من نزعاته قتل حبيبته ثم انتحر؛ وذاعت يعد ذلك روايات أخرى، بيد أن سر المأساة لم يعرف قط.
وفي هذه الحادثة التاريخية التي اقترنت باسم براتر ما يفسر منزلة براتر ومعاهدة في قلوب المجتمع النمساوي؛ وما زالت ذكريات هذه المأساة الغرامية تغشي أفق براتو، وما زالت ذكريات شهيرة أخرى تمتزج بمعاهد براتر وأنديته ومغانيه؛ وقد كانت هذه الحوادث(167/10)
والذكريات، وما زالت مستقى لأقلام كثيرة، ومبعثاً لطائفة من القصص الشائق الشجي.
ومن الصعب أن نصف هنا كل ما ينتظم في براتر من المناظر والألعاب المدهشة؛ بيد أنن نعرض هنا بعض ما رأيناه وخبرناه منها، وإن منها لما يترك في النفس أثراً لا يمحى؛ وإذا كان معظم الألعاب والنزه مما قد أعد للأحداث، فإن منها ما تقتضي ممارسته إقداماً وجلداً، ولقد شهدنا ذات مساء لعبة أو نزهة مروعة خطرة معاً. وكنا أربعة من الأخوان، فاقترح علينا صديقنا الدكتور (ق) أن نركب القطار الطائر وصديقنا الدكتور أعرف الناس بفينا وبراتر، وكان منظر هذه القطر الطائرة بريئاً متواضعاً، فهي عبارة عن سيارات صغيرة أعدت لشخص واحد، وركبت على خطوط مكهربة، فركبنا جميعاً، وكان كل ما نصح به (ق) أن نمسك أنفسنا جيداً، وانطلقت القطر الطائرة بسرعة حتى جزنا نفقاً كبيراً مظلماً قد رتب على هيئة الجو والسماء، ونظمت في أفقه نجوم كهربائية، وهنا أخذت القطر الطائرة تسير الهوينا منعطفة حتى لقد تصورنا وشعرنا حقاً أننا نركب طيارة تعالج الرياح في الأفق، ولكن حدثت بعد ذلك مفاجأة مروعة؛ ذلك أن هذه الطيارات الخيالية اندفعت فجأة إلى الضوء بسرعة هائلة لتمثل حالة سقوط الطائرة، وأخذت ترتفع وتهبط في منحدرات متعاقبة بعنف مروع مدى دقيقة أو اثنتين، حتى لقد خيل إلينا غير مرة أن الطائرة ستقذف بنا من حالق، وكانت دورة عنيفة خطرة اقتضت منا أعظم جهد وجلد؛ ثم انطلقنا بعده إلى الضوء، وتمت التجربة الهائلة، ونهضنا بأقدام وأعصاب مزلزلة، وصديقنا الدكتور في القاطرة الأخيرة يحدجنا بخبث ويبسم لما ارتسم على وجوهنا من بوادر الانزعاج والشحوب.
وثمة مشهد آخر في براتر يستحق الوصف هو (دار الأشباح) وهو اسم يطابق المسمى، وهي عبارة عن دار كبيرة تخترقها أروقة مظلمة، ويجوبها المشاهد في عربة صغيرة تنطلق به في ظلام الأروقة، ثم تعترضه خلال التجوال هياكل عظيمة وأشباح مروعة، وأحياناً تلطمه يد رقيقة خفية، أو يرى في الظلام شبحاً يخرج من قبره فجأة ثم يعود بسرعة، أو يمر فوق هيكل عظمي فيرسل صيحة مزعجة، وهكذا يرى عدة من صور الفناء والعالم الأخير خلال وميض النور في الظلماء.
وربما كانت أشهر نُزه براتر وملاهيها نزهة العجلة الكبرى وعجلة براتر تشرف على(167/11)
فينا منذ نصف قرن أو أكثر، وهي عبارة عن عجلة ضخمة يبلغ قطرها نحو سبعين متراً أو أكثر، وقد ركبت حولها مخادع كبيرة يركبها الرواد، ثم تدور بهم ببطء فترتفع بهم شيئاً فشيئاً، حتى تبلغ المخادع الذروة واحداً بعد الآخر، وعندئذ يشهد الراكب فينا بأنواره الساطعة وأبراجها الشاهقة، ثم تهبط العجلة بعد ذلك حتى يبلغ الراكب مكان النزول، وتستغرق الدورة نحو ربع ساعة. ولهذه العجلة الكبيرة شهرة خاصة بين الشباب، ولها في الحب ذكريات أيضاً، ذلك أن كثيراً من المحبين الذين تضيق بهم سبل اللقيا، يلتمسون مخادع منفردة في العجلة، ثم يقضون هذه الدقائق القليلة في بث لواعج الهوى، وتبادل القبلات الحارة.
وفي براتر يوجد معرض هو أغرب معرض من نوعه يسمى معرض المخلوقات العجيبة وفيه تعرض حقاً طائفة من أغرب المخلوقات البشرية مثل أضخم امرأة في العالم يبلغ وزنها ثلاثمائة كيلو، وأطول وأضخم رجل في العالم هو عملاق يبلغ طوله نحو ثلاثة أمتار، وأصغر مخلوقات بشرية، ونحو ذلك من غرائب المخلوقات والطبيعة.
وهنالك أيضاً في دروب براتر ومناظره والعاب عديدة أخرى يضيق المقام عن وصفها، وقد أعدت جميعاً للأحداث والشباب.
ويهرع لشباب كل مساء إلى براتر، يتفرقون في دروبها وأنديتها وملاهيها، وهي تغص بهم دائماً، وهناك يقضون ساعات في الحبور والمرح، وينسون هموم الحياة الثقيلة، وبؤس العيش والعطلة، لقاء دريهمات قليلة.
لقد كانت براتر وما تزال مرتعاً ومتنفساً للشباب؛ وهنالك بين هذه الدروب المتشعبة والمسارح الساطعة الصافية يجب أن ينسى المرء نفسه برهة، ويرجع إلى عهد الحداثة، ليشهد ويمارس هذه الألعاب الصبيانية التي تنفث رغم طابعها الصبياني كثيراً من روح المرح والدعابة، وهذا ما يفعله أهل فينا جميعاً، وهذا ما يفعله كل أولئك الذين يزورون العاصمة النمساوية، ذلك أن سحر براتر لا يقف عند مسارحها ومناظرها وألعابها، بل إن لبراتر سحراً معنوياً عميقاً يرتبط بماضيها وذكرياتها، وهذا السحر المعنوي يسبغ على اسم براتر نوعاً من الجلل لا تتمتع به عادة أمثال هذه الربوع المرحة الضاحكة؛ وإنما تتمتع به براتر، لأنها استطاعت خلال الأحداث والعواصف أن تحتفظ بماضيها وذكرياتها، وأن تبقى(167/12)
كما كانت في الماضي مرتع الأنس والمرح والهوى.
وإذا كانت العاصمة النمساوية تفخر وتزهي بمتاحفها ومعاهدها الأثرية، وقصورها ومتنزهاتها البديعة، فإنها تحل براتر بين ربوعها محلاً عزيزاً؛ ذلك لأنها أيضاً أثر الماضي المجيد، ولأنها رمز العهد الضاحك؛ وللمدن العظيمة، كما للأشخاص، شعور يتجه نحو الماضي ويخفق للذكرى.
فلا تنس إن زرت العاصمة النمساوية يوماً أن تزور براتر، ولا تنس بالأخص أن تركب القطار الطائر رغم هوله وروعته، وأن تصعد في العجلة الكبيرة التي تجثم دائماً في قلب براتر زاهية بأنوارها الحمراء والخضراء، ولا تنس أن تزور دار الأشباح ومنزل الأنس، وكل هذه المعاهد والمغاني.
(? ? ?)(167/13)
مهداة إلى الأستاذ دريني خشبة
من ذكريات زواجي
لأستاذ كبير
فوجئ قراء الرسالة منذ أيام بخبر زواج الأديب لكبير الأستاذ (د). عندما طلع عليهم بأغرودته التي جعل عنوانها (بلبلتي). فوجب على المعجبين بأدبه أن يتقدموا إليه بهدايا العرس، وكاتب هذه الكلمة واحد من هؤلاء المعجبين شعر بهذا الواجب فنهض لتنفيذه على الطريقة التي تتفق مع جهده. فهو يتقدم - على استحياء - بهذه الكلمات. وليسعد النطق إن لم تسعد الحال. . .
أذكر أني بعد أن خطبت زوجتي جلست إلى نفسي وقلت:
(اسمع يا فتى. . . ما أكثر أن تسمع الأزواج يشكون من زوجاتهم، وما أقل أن تجد من هو راض عن حالة زواجه! فهذا يشكو شدة غيرة زوجته عليه حتى إنها لتفتش جيوبه سراً كلما عاد من محل عمله لعلها تجد فيها رسالة تكشف عن سر مستور، أو ورقة تنم عن علاقة غير مشكورة. . .
وهذا يشكو شدة رقابة زوجته عليه حتى أنه لا يكاد يصل إلى مكتبه في محل عمله ساعة الصباح، وتعلم زوجته أن قد انقضت الدقائق العشر التي بين البيت والمكتب حتى تنهض إلى (تلفونها) تطلبه لتتمم عليه خشية أن يكون قد انصرف مبكراً إلى غير عمله. . .
وذلك يشكو من استعداد زوجته المدهش في إثارة الشكوك حول كل ما يعمل حتى ما ينقطع بينهما الجدال والشجار بسبب (سوء التفاهم) الذي تثيره دواما بارتيابها وعدم وثوقها فيه. . .
وذلك يشكو من أنه لا يكاد يقضي ساعة أو بعض ساعة مع إخوانه في جلسة مسائية هنيئة ثم يعود إلى بيته من بعدها راضياً منشرح الصدر حتى يلقى من عنت زوجته وعتابها له على أنه تأخر في هذا المساء عن موعده المعتاد ما يطارد من رأسه كل أثر من نشوة السرور التي أفادها في تلك الجلسة فما تلبث أن تنقلب نشوته إلى ثورة، وانشراحه إلى انقباض. ويبيت مهموماً كئيباً بعد أن كان يمني النفس بليلة سعيدة كلها بشر واغتباط).
استعرضت تلك الصور جميعها أمام عيني وعدت أقول لنفسي:(167/14)
(هذه يا فتى حال إخوانك ممن سبقوك إلى ما أنت مقبل عليه من هذا الزواج! فماذا أنت صانع؟ وفتاتك ليست إلا واحدة من نساء الله اللائى طبعن على غرار واحد، وصببن في قوالب متشابهة!؟ فأنت وفتاتك بين أن تندمجا في زمرة أولئك التعساء الساخطين الشاكين إذا أنت سرت معها على نهج بقية الأزواج، وبين أن تعيشا عيش السعادة والهناء إذا أنت أغضيت عما هو عيب (جنسها) في الواقع قبل أن يكون عيب شخصها).
وعاهدت نفسي في ذلك اليوم على ألا تثيرني من زوجتي نزعة من تلك النزعات التي رأيتها تعمل على تعكير صفو الأزواج من إخواني ومعارفي، وقضيت قضاء سابقاً لأوانه بأنها حماقة ما بعدها حماقة أن يغضب الإنسان من أمر هو يعرف أنه لا شك حاصل ثم هو يتوقع حدوثه قبل أن يحدث!
وتزوجت. . . . . .
ورأيت أن نقضي شهرنا الأول في رمل الإسكندرية، فسافرنا على أجنحة الطائر الميمون الذي يقول الشعراء إن السعداء من الناس يسافرون عليه، وكنت في زيارتي السابقة القصيرة لثغر الإسكندرية قد عرفت أن بجهة الشاطئ توجد سلسلة من الحدائق البديعة التي تليق بعروسين أن يقضيا بين خمائلها بعض سويعاتهما الوردية اللون، ولكني لم أكن أعلم أين تقع بالضبط تلك الحدائق من محطة الشاطئ، ولم أشأ أن أتأبط ذراع فتاتي وأذهب أتخبط بها وأتسكع حتى أهتدي إلى موقع تلك الحدائق. وكان من عادتي أن أصحبها كل مساء لقضاء الوقت في مغنى من مغاني الثغر وملاهيه، ورأيت في ذلك المساء أن أفاجئها بارتياد تلك الحدائق دون أن أخبرها بوجهتي حين أخرج بها في نزهة المساء لكي تكون الزيارة أمتع لها وأوقع في نفسها. فانتهزت فرصة القيلولة وأنها غلبها النعاس وتسللت أنا من الفراش فوضعت ملابسي في عجلة وتلصص وخرجت من المنزل في هدوء وحذر أطير إلى جهة الشاطئ لأرى كيف يكون وصولنا إلى تلك الحدائق، وأي مواقف الترام أقرب إليها، وأي مداخلها أمتع منظراً، وأي طرقاتها أشهى مسلكاً، وأي أركانها أهنأ جلسة وأنعم مقاماً.
ووفقني الله في مهمتي فلم أغب عن منزلي أكثر من ساعة عدت بعدها وأنا أكاد أطير بجناحين لألقى عروسي فأحتملها إلى هذه المفاجأة السارة التي خبأتها لها. . . . . .(167/15)
ودخلت الغرفة عليها، فوجدت وجهاً مربداً، ونظرات شزراء، وعينين حمراوين فيهما أثر الدموع ووقدة الشر. وأشهد لقد كانت مفاجأتها التي أعدتها هي لي أقوى ألف مرة من تلك المفاجأة الفاترة التي كنت جهدت في أن أعدها لها. . . . . .
- كفى الله الشر! مالك؟
-!؟
- خير إن شاء الله؟
-!؟
- هل حضر أحد بعد خروجي أو حدث حادث؟
-!؟
- تكلمي يا (ستي!).
-!؟
وأخيراً وبعد مناورات أعفي القارئ من سردها تبينت جلية الأمر فإذا هي غضبى لأني خرجت: أولاً - بغير علمها. . . . وثانياً - إلى مكان لا تعرفه هي. . . . وثالثاً - لأن هذا الخروج حدث في وقت لم يخلقه الله لخروج الرجل البريء. . . ورابعاً - لأني تغفلتها وهي نائمة وأتيت كل هذه الآثام؛ كل ذلك ولما ينقض على زواجنا أسبوع! أفلم يكن من الأليق تصفية هذه (الرنديفوهات) قبل الزواج؟ أم هي مقابلة عارضة حصلت في الصباح فتم ترتيب الموعد ليكون في هذا الوقت من المساء؟ وهل يليق. . .؟ وهل يجوز. . .؟ وهل يصح. . .؟ وما إلى ذلك من طوفان الأسئلة التي ليس أسهل من توجيهها بصرامة مدهشة عند النساء وليس أسهل من الغرق فيها باستسلام غريب عند الرجال!
يا سبحان الله! أبهذه البساطة تنعكس الآمال؟ وهل يمكن أن يغمر الإنسان كل هذا الخير فلا يلقى إلا كل هذا الشر؟! وماذا يكون من أمر زوجتي إذا أنا هفوت حقيقة كما قد يهفو الإنسان ما دام أنه ليس بمبرأ ولا معصوم!؟ وما فضل الحب إذا لم تكن دولة الحلم فيه غالبة على دولة الجهل، وساحة الغفران فيه أرحب من ساحة القصاص!؟
منذ ذلك اليوم بدأت أشعر بصعوبة قيامي بتعهداتي التي كنت عاهدت نفسي عليها من الاحتفاظ بهدوء الجو في بيتي وبصفاء العلاقات التي تقوم فيه. وأدركت أن الزوج مهما(167/16)
سعى لرفع مستوى حياته الزوجية إلى درجة مناسبة من السعادة فإنه لن يوفق إلى شيء من ذلك ما دام مبدأ الزوجة هو أن تتهم زوجها قبل أن تستمع إليه، وتحكم عليه قبل أن تحاكمه! وعرفت أن الزواج الموفق هو الذي يجمع بين (صديقين) يتحابان في الله ويدخل كلاهما هذه الشركة العاطفية بذخيرة صالحة من التسامح وبعقيدة ثابتة في أن الهفوة الزوجية ينميها العقاب ويؤكدها الانتقام - وتقتلها المغفرة ويمحو أثرها الصفح الجميل، وأن (المثل الأعلى) سواء للزوج أو للزوجة لم يتم خلقه بعد فلا ينبغي لأحد الزوجين أن يطالب زوجه بأن يكونه!
(زوج سعيد)(167/17)
القول المكشوف
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
لعل الأدب الإنجليزي أشد الآداب تحفظاً في المقال والتزاماً للوقار وعزوفاً عن المجون، فبينه وبين الأدبين الفرنسي والروسي، مثلاً، بون كبير في هذا المجال. وبعكس ذلك كان الأدب العربي الذي وسع من صريح العبارة عن ماجن القول وسفسافه ما لا يسيغه العصر الحالي؛ بل لم يكن يسيغه فضلاء العصر الذي قيل فيه، وذلك راجع للظروف المحيطة بالأدبيين.
فسيماء الوقار والتسامي التي تعلو الأدب الإنجليزي راجعة إلى ثلاثة عوامل رئيسية متشابكة هي: طبيعة الإنجليزي الهادئة، والتربية الإنجليزية التي تجعل غرضها الأول كبح نزعات الناشئ الجامحة وإلزامه ضغط النفس، وثالث العوامل هو الرأي العام القوي.
والرأي العام نتيجة للعاملين الأولين، ونتيجة أيضاً للنظام السياسي الديمقراطي الذي يجعل الأمر للشعب في كل مناحي الحياة، وهذا الرأي العام محافظ حريص على تقاليد الفضيلة يشهر الحرب على من يهم بخدشها، وهو من القوة بحيث لا يجسر كاتب أو شاعر أو ناشر على تحديه وإلا كان عليه الغرم المادي والأدبي، وقد ثار بالمستهترتين المتجاسرين على الدين والتقاليد أمثال بيرون وشلي فاضطرهم إلى مغادرة البلاد ولم يشفع لهم عنده نبوغهم ولا ما نالوه في غير إنجلترا من الصيت البعيد.
أما الأدب العربي فخالطته عوامل اجتماعية وسياسية جعلت اجتثاث جريء القول وبذيئه منه متعذراً: فهو قد ورث جفوة بداوته الأولى، وسرى إليه الفساد الذي تبع الفتوح واختلاط الأعاجم والموالي، وشجعت الحكومة الفردية المطلقة سريان هُجر القول بدل أن تدرأه، فكان من الخلفاء والأمراء من حرضوا على المهاجاة بين الشعراء، وأغضوا عن مجونهم ما داموا مشغولين به عن مناوأة سلطانهم، وأجازوا من وقعوا في خصومهم بقبيح الهجاء.
فالحكومة الفردية المستبدة قد حالت دون قيام رأي عام يقف للخارجين على تقاليده بالمرصاد، أو هي لم تَدَعْ لذلك الرأي العام السلطة أَو الهيبة الكافية لأن ينضح عن تقاليده، بل كثيراً ما حَمَتْ الشعراء الماجنين من غضبه. وهكذا الحكومة القائمة على أساس فاسد لا(167/18)
يسعها - لشعورها بضعف مركزها - إلا مناصرة عوامل الفساد التي ترى مصلحة لها في بقائها، أو خَلْقُ تلك العوامل.
ولقد كان في الدولة الإسلامية عامل جليل الأهمية لو بقي تأثيره فاشياً لكان الأدب العربي أرقى الآداب على الإطلاق لفظاً وأعفها قصداً، وأعظمها تساميا: ألا وهو الدين الإسلامي الذي يحض على مكارم الأخلاق والذي كانت الدولة تقوم على أساس منه، ويتضح أثره في عصر الخلفاء الراشدين، وما كان من تأديب الحطيئة وردعه عن أعراض الناس.
ولكن هذا العامل السامي الجليل تُنُوِسيَ في غمار السياسة، وجرفه تيار التكالب على الملك والسلطة، فلم يَعُدْ الخليفة أو الأمير يغضب إلا أن يناله الشاعر ببذائه، فبشار بن برد الذي ضج عليةُ القوم ودهماؤهم عهداً طويلاً من فجوره وإقذاعه ظل مُعافَىَ ولم يمس بسوء حتى تمادت به جسارته إلى عرض الخليفة ذاته. أما ما دام الشاعر متقياً غضب الحاكم أو مجتلبا رضاه فلا ضير عليه أن يرمي باللؤم أنصار الرسول أو يفضل إبليس على آدم، أو يتهكم بيوم الحشر، أو يتفاخر بشرب الخمر، أو يتلهى بسب الرجال وقذف المحصنات، أو يتباهى بالتسلل إلى الخدور في غلس الظلام.
هكذا ضم الأدب العربي بجانب سامي الأغراض وشريف الأقوال وكريم الحكم والأمثال سقطاً من القول قوامه الإباحية والاستهتار، وقام من الأدباء من صدموا الناس في عقيدتهم وتقاليدهم ونالوا من أعراضهم وسمعتهم، وأودعوا الأدب من خسيس الأقوال ووضيع الأغراض ما ينافي مقاصد الأدب وسمو الفن بالنفس الإنسانية. ولما لم يكن للناس عاصم من شرهم من رأي عام أو حكومة ساهرة عَمَدَ من استطاع منهم بِحَولٍ أو مكيدة إلى الذب عن نفسه بنفسه، وهكذا لقي المتنبي وابن الرومي حفيهما على أيدي مهجويهما.
وهناك عامل اجتماعي لابد أنه كان من عوامل ذيوع هُجر القول في الأدب العربي، بل في المجتمع العربي ذاته: ألا وهو انسحاب المرأة من المجتمع شيئاً فشيئاً، ففقَدَ الأدب باحتجازها وراء الحجاب عاملَ تجمُّلٍ وتَوَقُّرٍ وتعفُّفٍ في اللفظ والغرض، وصار الافحاش من الذيوع بحيث لم يتردد كاتبان فحلان يمثلان مجتمعيهما تمثيلاً كبيراً: وهما البديع والحريري، في حشد مقاماتهما بمقذع السباب؛ بل خَصَّصَا لذاك مقامات بذاتها.
وأظهر ما يكون المجون والفحش في الشعر في أبواب الهجاء والخمريات والنسيب الخليع(167/19)
والتشبيب بالغلمان. وقد أوغل بعض الشعراء في هذه لأبواب إيغالاً لا يكاد يصدقه العقل. ومن العجيب أن الطريقة التقليدية التي يجري عليها تاريخ الأدب العربي لا تزال تعد من فحول العربية شعراء ولم يكد يؤثر عنهم مقال في سوى هذه الأغراض الحيوانية. ومن البديهي أنه مهما تفنن الناظم وابتدع في وصف الخمر وتصوير الشهوات فلن يرفعه ذلك إلى مصاف الشعراء العظام، إذ الشعر الرفيع لا يقاس بحسن الديباجة وبراعة المعنى فحسب بل بشرف الغرض أيضاً.
فدواوين ابن أبي وبيعة وبشار وابن هانئ إن هي إلا استهتار واستسلام للشهوات وتمدح بالمخازي محكمة الديباجة بارعة النظم متنوعة الأوزان والقوافي، تتخللها حكمة شاردة أو مثل سائر ليس للناظم فيه إلا فضل التأنق في إعادة صوغه، فإذا كان هؤلاء وأشباههم من فحول الأدب والعربي فما أقصره عن بلوغ المثل الأعلى للأدب الراقي!
ومما يفترق الأدبان العربي والإنجليزي في استجازته من أبواب القول - وإن كان بمنجي من الفحش - الفخر، الذي لا يسيغه الأدب الإنجليزي بحال، على حين قد زخر الأدب العربي بما قيل فيه وعدّ باباً من أبواب الشعر التي تظهر فيها براعة الشاعر وتكمل بها منزلته. فالذوق الإنجليزي لا يسيغ أن يُزْهَى إنسان بما يتخيله في نفسه من مكارم وعظائم، بل من أول ما تطمح إليه التربية الإنجليزية - كما سبق الالماع - أن تكبح في الناشئ نزعة الزهو والعجب، وليس أَمْقَت في المجتمع الإنجليزي ممن يدل بنفسه. ولم يكن الشعر العربي في أول مره يعرف الفخر بالنفس، وإنما كان فيه فخر بالقبيلة والعصبية ولا بأس بهذا، ثم استباح بعض الشعراء فيما استباحوا لأنفسهم التمدح بالنفس صدقاً وادعاء، وغلوا في مدح أنفسهم غلوهم في مدح أصحاب النوال، بل أغربوا في المفارقة فجمعوا بين المدحين في القصيدة الواحدة، ونسبوا لأنفسهم الحكمة والشجاعة والمجد وشرف المحتد، وأجلسوا أنفسهم بجانب الشموس والبدور، وأوسعوا الدهر والحظ والناس ذماً بقدر ما أوسعوا أنفسهم مدحاً، وتلك جميعاً لعمر الحق بضائع النوكي!
فحرية القول - أو قل إباحته - فاشية في الأدب العربي القديم، بينما التحفظ ميزة الأدب الإنجليزي، وربما تغالي الرأي العام الإنجليزي في تحفظه وتشبثه بما يليق وحَجْرهِ على ما لا يليق الخوض فيه من حديث، فناهض مفكرين كان الخير الإنساني أو النفع العلمي كل(167/20)
مقصدهم، كما كان موقفه من أوائل الداعين إلى ضبط النسل مثلاً، إلا أنه لا يلبث أن يخفف من غلوائه حين يتبين له شرف المقصد وفائدة الدعوة.
ولئن حمدت الحرية الفكرية الواسعة التي تمتع بها الفلاسفة والعلماء في الدول الإسلامية فما كذلك الحرية التي استباحها المجان من الأدباء، فالأولى حرية تساعد تقدم الفكر وترقي العلم، والثانية تؤدي إلى انحطاط الخلق وتضرب في دعائم المجتمع؛ الأولى حرية فكرية نافعة، والثانية إباحية خلقية ضارة. والأدب يرسم للأمة مثلاً عليا تتوخاها، فإذا تمادى في تصوير دنيء النوازع فإنه يهبط بالنفوس إلى مستوى منحط لا تريد عنه ارتفاعاً.
وللأدب المكشوف في العصر الحديث دعاته الذين يحضون على اطراح النفاق الذي تفرضه التقاليد وتصوير الطباع على حقائقها، على أن هناك فرقاً بين المذهب الحديث وبين ما كان فاشيا في الأدب العربي القديم: فأنصار هذا المذهب ذوو مبدأ هم مقتنعون برجاحته يرون أن الأدب يؤدي مهمته ويرقي الأخلاق الإنسانية بوصف دخائلها ومظاهرها دون تمويه، أما الآخرون فلم يكن لهم مبدأ ولا غاية سوى إرضاء الشهوات والنزوات وعلى الخلق الكريم العفاء.
وهيهات أن يخلو المجتمع الإنجليزي أو غيره من آثار المفاسد التي أفصح الأدباء المتقدمون في التعبير عنها، ولكن ما لا يقبله ذلك المجتمع هو المجاهرة بذلك والمفاخرة والتجاسر على تقاليد المجتمع التي ارتضاها لنفسه وقامت عليها أسسه، وإيغال ذلك في عالم الأدب الذي تحويه بطون الكتب وترويه الأجيال ويُقصد منه إلى السمو بالإنسانية.
فخري أبو السعود(167/21)
نبوّة المتنّبي
للأستاذ محمود محمد شاكر
كتب الأخ سعيد الأفغاني كلمة عن (دين المتنبّي) في العددين من الرسالة (161و162) سنة 1936، وقد عرض فيها لنبوّة أبي الطيّب التي يزعمونها وقعت وكانت منه، ولم يجد مندوحةً عن القول (أو كما قال): (بأن تنبؤه في الأعراب أمر وقع حقيقة ولا سبيل إلى الشكّ فيه، تضافرت على ذلك كل المصادر الموثوقة حتى التي كانت تميل إليه كل الميل، فأنها لم تنف الأمر وإنما التمست له المعاذير) ثم علق على هذا فقال:
(قرأتُ أخيراً عدد المقتطف الذي كتبه الأستاذ شاكر عن المتنبيّ خاصّةً، فإذا به يذهبُ إلى نفي تنبؤ أبي الطيب الذي اتفقت عليه كل المصادر تقريباً. وقد أنعمت في تدبُّر الأسباب الحادية على النَّفْي فلم أجد فيها مقنعا به من القوة ما يقف لهذه الروايات الصحيحة!!
والتاريخ لا يثبت خبراً أو ينفيه تبعاً لميل مؤلّف أو رأيه، ولا بد فيه حال النفي من التعرض لجميع الأخبار المثبتة خبراً خبرا وهذا لم يصنعه الأستاذ شاكر!!
وأمر ادعاء المتنبي العلوية ليس فيه ما يهيج عليه الناس كل هذا، على رغم ذلك الخيال الجميل الذي لبس ادعاءه إياه في الكتاب المذكور!!
وإذا كان ما ذهب إليه الأستاذ صحيحاً، ففيم خجَلُ أبي الطيب وحياؤه كلما سئل عن أمر لقبه المتنبي؟ ولم كان يعمدُ إلى اشتقاقه من النبوة تارةً، ويعتذر بأنه شيء كان في الحداثة تارة، ويقول إنه يكره التلقّب به، وأنه (يناديه) به من يريد الغضّ منه؟ وعلى أي شيءٍ تقع كلمة كافور: (من ادعى النبوة بعد محمد أما يدّعي الملك مع كافور)؟ وكافور ليسَ من الذين يختلقون على شاعر، ولا ممن يروّج الاختلاق!!
وقد روى المعرّي - وهو الحجّة الثبت - أمر التنبُّؤ، وما حفّ به من حادث ومعجزات في رسالة الغفران. وأبو العلاء كان أحرى أن يشكَّ أو يكذب الخبر، لو أن في الأمر مجالاً للشكّ واحتمالاً للتكذيب، لأنه أشدُّ حبا للمتنبي، وعصبيّة له، وهو أنفذ بصيرة فيما يقال وأحكم نقداً للأخبار، مع قرب زمان، وصفاء ذهن، وقوة حجة، ومواتاة وسائل التحقيق إذ ذاك!!). انتهى. . . الرسالة سنة 1936 (العدد161 - ص1255).
وأنا قد قرأت هذا الكلام في موعده حين صدرت الرسالة وأدرتُ أن أردّه، ثم بدا لي أن(167/22)
أدَعه حيث هو، فإن الذي قرأ ما كتبت يعلمُ مقدار ما في هذا الكلام من الجودة وحسن الأداء وقوة الحجة وجلاء البيان وسعة الاضطلاع وبلاغة الفهم، ولكن بعض أصحابنا لم يزل بي حتى أخذ مني موثقاً أن أقول كلمتي فيه.
وهذا النقد الذي رماني به أخي الأستاذ سعيد ليس مما يثيرني ويغريني بحمل السلاح والاستعداد للمعركة. ولست أقول هذا استصغاراً لما يقول أخي أو استكباراً لما قلت، بل هو حكمي عليه مجرداً من كل ما يجعل الحكم قاصراً أو باغياً.
وهذا الذي كتبه الأخ سعيد ليس مما أعده عندي نقداً، وإنما هو اعتراض، والاعتراض شبهة، والشبهة يزيلها البيان. أما النقد فأمر آخر لم يسوّغ للأخ أن يظفَر بالقدرة عليه فيما كتب.
وقد أُتي الأخ سعيد في كلامه من قِبل أنه عدَّ الأخبار المروية عن نبوة المتنبيّ وغيرها أخباراً صحيحة ابتداء، وهذا أوّل الزلل في نقد الناقد. ولا بد لمن يريد أن ينقد ناقداً أو يكتب فيما يتناول الروايات والأخبار أن يتحقق بدءاً بمعرفة الأصول في علم الرواية، وأن يستيقن من قدرته على ضبط الفكرة حتى لا تنتشر عليه وتتفرق، ويقع فيها الاختلاف والتضارب والمناقضة. فلا بُدَّ لي هنا من أن أدل الأخ على الأصل في الأخبار حتى يعرف فرقَ ما بين الذي انتهينا إليه، والذي وقف عنده غيرنا، ثمّ نكشف له عن الشبهة التي جعلته يعترض الذي كتبناه بالذي رفضناه ورددناه وأسقطنا الثقة به والاعتماد عليه.
فالأخبار جميعاً تحتمل الصدق والكذب كما يقولون، ومعنى ذلك أنها على حالة من البراءة الأولى لا توصف بصِدقٍ ولا بكذبٍ. ولا يستحق الخبر صفة الصدق إلا بالدليل الذي يدلّ على صدقه، فإذا لم تجد الدليل على صدقه ذهبت عنه صفة الصدق وبقي موقوفا. فإذا اعترضتْه الشبهات من قِبَل روايته أو من قِبَل درايته مالت به الشبهة إلى ترجيح الكذب فيه، فلا يؤخذ به ولا يعتمد عليه، ويكون عمل الناقد بعد ذلك أن ينظر في هذا الخبر نظرة التدبر ليستخرج الحقيقة التي من أجلها تكذَّبه راويه، وبذلك يقع على حقائق مدفونة قد سترها الراوي بما كَذَب. وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا (المقتطف يناير سنة 1936 ص111) وإليك ما قلناه:
(اعلم أن أكثر ما يُروى في ترجمة هذا الرجل وغيره من الرجال، إنما كان من الأحاديث(167/23)
التي تتناقلها مجالس الأدباء، ولا يراد بها التحقيق، ولا ينظر فيها إلى صدق الرواية وسياق التاريخ وما إلى ذلك؛ بل إن كثيراً مما يروى في تراجم رجالنا كان مما يُراد به مضغُ الكلام في مجالس الأمراء أو في سامر الأدباء - هذا على أنها ربما حملت فيما تحمل أشياء لولا ورودها في هذه النصوص لافتقدنا من حلقات التاريخ حلقات لا ينتظم أمره إلا بها، ولا يستمر إلا عليها. فلمثل هذا كان لا بُدَّ لنا من النظر في النصوص وتمييزها، وردّ بعضها والأخذ ببعض، حتى لا تنقطع بنا السبل في الترجمة لهؤلاء الأعلام. فلا يفوتنك هذا إذا قرأت ما نكتب، أو أردت أن تقرأ أو تكتب).
وأنا حين أردت أن أكتب عن المتنبي نظرت في هذه الأخبار خبراً خبراً، فلم أجد دليلاً واحداً يجعلها تستحق عندي صفة الصدق فأبقيتها موقوفة، ثم عدت فنظرت فتناوشتها الشبهات واعتورتها الطعون، فلم أجد بداً من وسمها بالكذب، ثم عدت إليها فعارضتها بالعقل وشعر الرجل وحوادث التاريخ لأستخرج منها الحقائق التي يسترها الرواة والمتكذِّبون فوقعت لي أشياء هي التي جعلتها أصلاً فيما كتبت، وأنا على يقين من أن الأستاذ سعيد لم يتنبه إلى هذا الذي فعلناه، مع أنه هو الأصل في الكتابة والتحقيق، أما التسليم فليس يجدي شيئاً إلا التكرار والمتابعة، ثم الزلل والتورط فيما أراد الكذابون أن يحملوا الناس عليه ويوقعوهم فيه.
ويقيني أن الأخ سعيد لا يجد دليلاً على صحة هذه الروايات فيما يزعم إلا أنه قد رواها فلانٌ وفلانٌ، ورواها المعري - وهو الحجة الثبت - (وهو أشد منا حباً للمتنبي، وعصبية له، وهو أنفذ بصيرة وأحكم نقداً للأخبار مع قرب زمان وصفاء ذهنٍ وقوة حجة ومواتاة وسائل التحقيق إذ ذاك)، ونحن لا ننكر على المعرّي شيئاً من ذلك، ولكن الذي ننكره أن الذي كتبناه كان عصبيةً لأبي الطيب، أو حُباً له أو فيه. ليكن المعري صاحب عصبية، فذلك لا يجعلنا نحن من أهل العصبية حتى نبعث بالحقيقة، ونلعب بفن النقد من أجل أبي الطيب أو غيره من الرجال.
أما أن رواية المعري - وهو صاحب عصبية لأبي الطيب - مما يصحح هذه الأخبار أو يرجح الصدق فيها، فهو حكم خطأ لا يصح لأحد أن يتابع عليه، فإن أبا العلاء لم يُشهِد كتبه أنه لا يروي إلا الصحيح من الأخبار؛ وترك المعرّي الشك فيها أو تكذيبها ليس يقوم(167/24)
أيضاً دليلاً على صحتها، وليس المعري بمنزهٍ عن الخطأ والغفلة، وهو من هو، فذهاب وجه النقد عن المعري ليس يكون طعناً فيه، ولا يوجب نسبة الكذب إليه، ولا نفي صفة الصدق عنه.
وأحبُّ أن أقرب إلى الأخ حقيقة هذه الروايات. . . فهو يعلم أن الرواة قد رووا للرسول صلى الله عليه وسلم معجزاتٍ كثيرة؛ وكثير من الذي رووه لم يثبته أهل العلم بالحديث على طريقتهم؛ وقد رواها قومٌ على عهد الصحابة والتابعين، وهي كذبٌ مخترعٌ بشهادة أئمة هذا العلم، وقد بقيت هذه الآثار مروية إلى يوم الناس هذا، وهي عند المتأخرين شائعة معروفة متداولة مصدقة، وقد وردت في كتب كثير من الأئمة العلماء. أفيكون تداولها وذيوعها وتصديق العامة لها، وورودها في بعض كتب العلماء هو الدليل الذي لا دليل غيره على صحة هذه الأخبار؟! وأكثر من ذلك، أيكون ظهورها على عهد الصحابة والتابعين - على قرب زمن كما يقول الأستاذ - وتصديق بعض العامة لها في ذلك العصر، وسكوت بعض العلماء عن الكلام فيها مما يدل على صدقها؟!
ونحن قد أتينا في الذي كتبناه عن المتنبي بالشبهات التي ترجح الكذب في هذه الروايات التي يراد بها الوضع من قدر الرجل والتحقير له، والطعن في نسبه أو عقله أو خلقه أو أدبه. لا. . بل بينا أن ألفاظ هذه الروايات وحدها تحمل أكبر شبهة، كالذي روي عن هذا اللاذقي المسمى معاذ بن إسماعيل، وقد روي الخبر بطوله في كتب كثيرة، وأوردناه بتمامه في كتابنا ص 45 - 47 واختصره الأخ سعيد في كلامه في العدد (161) من الرسالة، ولا أدري لم اختصره، فإن الذي يقرؤه يجد فيه سمة الوضع والكذب مستعلنة كما لم تستعلن في حديث غيره. وقد بينا بعض وجوه نقده في كتابنا من ص 49 - 52. فكانت حجة الأستاذ سعيد في رد قولنا وإسقاطه أنه (لم يجد فيه مقنعاً به من القوة ما يقف لهذه الروايات الصحيحة)، وكان حقاً على الأستاذ أن يعلمني وجوه الضعف في قولي حتى أستبرئ منه، أما هذه الكلمة المجرّدة فليست بالتي تسقط كلامنا جملة واحدة حتى ولو كان هذا الكلام سقطاً محضاً.
أما ما اعترض به علينا فنحن نبين له وجه بُطلانِه. يقول: (وإذا كان ما ذهب إليه الأستاذ صحيحاً، ففيم كان خجل أبي الطيب كلما سئل عن أمر لقبه المتنبي. . .؟) إلى آخر قوله:(167/25)
فإن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل الرواية، وقد أتى به القوم ليعضدوا قولهم في خرافة النبوة. وإذا كان أمر نبوته مشهوراً متعالماً أو كما يقول اللاذقي إن دعوته (قد عمت كل مدينة بالشام)، وقد بلغ من شهرتها أنه قبض عليه من أجلها بالشام أيضاً وحبس (دهراً طويلاً)، وأن له قرآناً أنزل عليه. . يزعم أبو علي بن حامد أن أهل الشام كانوا يحكون له سوراً منه كثيرة وأبو الطيب إذ ذاك بحلب، فكيف يُعقَل بعد هذه الشهرة أن يبتدر إليه هؤلاء فيسألونه عن حقيقة هذا اللَّقَب؟ إن السؤال عن (حقيقة اللقب) بعد هذه الشهرة التي يزعمونها ليدل دلالة قاطعة على وضع هذه الأحاديث المروية والأخبار المتداولة التي تهور كثير من الأدباء في التسليم بصحتها كما فعل الأخ سعيد. ولقد كان هؤلاء الذين يزعمون أنهم سألوا أبا الطيب عن حقيقة اللقب (المتنبي) يسألونه وهو بالشام، وفي الشام أظهر نبوته وفي الشام اشتهر أمره، وأكبر من ذلك أنهم يزعمون أنهم كتبوا عليه وثيقة أشهدوا عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام وأنه تائب منه ولا يعاود مثله. فهلا كان الأولى بهم أن يظهروا على هذه الوثيقة ولما يمض عليها كثير دهر، وقد أخذها وال من الولاة فهي - ولا بد - محظوظة في ولايته. وكان أبو الطيب شجا في حلوق الأدباء والشعراء وكثير من أصحاب السلطان وهو في جوار سيف الدولة. وقد أوقعوا بينه وبين أميره بكل ما ملكوا من أسباب للوقيعة، أفتظن أنهم كانوا يحجمون عن إظهار هذه الوثيقة، وإحراجه بها، والعمل بها على تحقيره، ثم على المنافرة بينه وبين سيف الدولة!! كانت كل هذه النقائض بالشام، ومع ذلك لم يكن من أثرها إلا هذه الروايات الضعيفة التي تحمل ألفاظها الشكوك والريب.
وأسخف من هذه الرواية رواية من يروي أنه كان يعمد إلى التمويه على الناس بقوله: إن هذا اللقب (المتنبيّ) مشتقٌّ من النبوة، فليس يعقل أن أبا الطيب - وهو يعلم أن نبوته كانت مشهورة كما ذكر الرواة - يعمد إلى هذا التوجيه الضعيف الميت، وهو يعلم أنه كاذب، وأن الناس مكذبوه لأنهم يعلمون حقيقة الأمر.
واعتذاره بأنه يكره التلقب به، وأنه يدعوه به من يريد الغض منه فهو بسبيلٍ من ذلك في الضعف والسخف. على أنه مع ذلك لا يدلُّ دلالة ما على حدوث النبوة التي يزعمونها، بل على العكس من ذلك. . . إنه ليَدلُّ على أن هذا اللقب مفتعل موضوع للكيد لَهُ والغض منه،(167/26)
وأنهم كانوا قد وضعوه له ليغيظوه به. ومثل ذلك كثير في كل عصر ومكان. ولعل الأخ سعيد لا يعدم رجلاً في بلده قد نبزه الناس بنبزٍ يغيظونه به، ولا نشك أن هذا الرجل (يكره التلقب به، وإنما يدعوه به من يريد الغض منه).
وأما كلمة كافور فهي كلمة مفتعلة موضوعة، وإلاّ تكن كذلك، فليس فيها ما يدلّ على شيءٍ محققٍ كان قد حدث من أبي الطيب. وكافور كان قد سمع هذه الدعوى التي يزعمونها عن نبوة أبي الطيب وسلم بها، ثم تكلم، وليس تسليم كافور بها سنداً لها يحقق تاريخها، ويثبت وقوعها بعد الذي ذكرنا لك من ضعف الروايات.
هذا وقد أراد الأستاذ سعيد أن يعلمنا سبل التحقيق في التاريخ فقال: (والتاريخ لا يثبت خيراً أو ينفيه تبعاً لميل مؤلف أو رأيه. . . إلى آخر قوله) وهو قد فعل أكثر من ذلك وأكبر، وذلك أنه بعد اعتراضه قال: (وكافور ليس من الذين يختلقون على شاعر، ولا ممن يروج الاختلاق)، ولم يرد في كلامنا ذكر كافور واختلافه حتى يعقب الأستاذ هذا التعقيب. هذه واحدة، والأخرى أن الأستاذ قد حكم على كافور حكماً لم يرد له ذكر في كتاب، فهل يستطيع أن يؤيد هذا الحكم بالدليل التاريخي والبرهان العقلي أن كافوراً لم يكن يختلق على الناس، ولا يروج الاختلاق. .؟! لقد أتينا نحن بالروايات ونقضناها بالدليل - ضعيفاً كان أو قوياً - أما أستاذنا فقد حكم على رجل بغير دليل ولا بينة من التاريخ أو غيره.
ثم بقي اعتراض الأستاذ الذي يقول فيه: (وأمر ادعاء المتنبي العلوية ليس فيه ما يهيج عليه الناس كل هذا). وأنا لا أعلم ماذا يريد الأستاذ سعيد بقوله (كل هذا)، وإذا أرادني على أن أجيبه على ذلك فليبين لي صورة المبالغة في قوله (كل هذا)، فأنا لا أعلم من أمر هذه المسألة أكثر من أن الرجل قبض عليه بالشام وحبس. أما هياج الناس فلم يرد له ذكر في كلامنا ولا في كلام الرُّواة. وأما حبسه أو قتاله من أجل العلوية فليس ببدع في التاريخ، وكان لزاماً على الأستاذ قبل أن يكتب هذه الجملة ويصوغ هذا الاعتراض أن يرجع إلى كتب التاريخ ليعلم أن الذين قاتلوا أبا الطيب وحبسوه، كانوا قد قاتلوا من قبله قوماً أو حبسوهم من أجل ادعاء العلوية، وكذلك فعلوا مع العلويين الذين خرجوا عليهم في أرضهم وديارهم. فقتاله وحبسه ليسا يثبتان أن هذا الذي كان من أبي الطيب إنما كان إظهاره النبوة لا ادعاءه العلوية.(167/27)
وبعد، فلو حمل الأخ سعيد نفسه على تدبر الذي كتبناه في المقتطف عن المتنبي لما وقع هذا الاعتراض الذي حاك في صدره، وقد أشرنا مرات في كتابنا إلى وجوب ذلك، فقد كنا نترجم للرجل ترجمة صحيحة يقرؤها القارئ ليتمثل صورة هذا الشاعر العبقري وفاء له وتقديراً بعد مرور ألف سنة على وفاته، فلم يكن سبيلنا أن نتعرض لأصول النقد وشرحها وتفصيلها، ولم نأخذ الروايات جميعها بالنقد مرة واحدة، فأن ذلك كان يقتضي منا وقتاً كثيراً وكتاباً كبيراً، ولكن من يطلع على الذي كتبناه منصفاً متدبراً عارفاً بطرف من أصول نقد الرواية يعلم يقيناً أننا لم نكتب حرفاً واحداً إلا بعد أن استوفينا عندنا نقد الأخبار (خبراً خبراً) كما يريد الأستاذ سعيد، وليس عسيراً على المتدبر أن يستخرج من الذي كتبناه الأصول التي نقدنا بها هذه الأخبار. ولعل الأستاذ قد قرأ كثيراً مما فاضت به الصحف والمجلات عن المتنبي، وقرأ في خلال ذلك كثيراً من نقد الأخبار التي رويت، ولعله رأى أيضاً أن هؤلاء قد اتخذوا كتابنا مصدراً استنبطوا منه أصول النقد التي وضعناها، وقاسوا عليها فأخطئوا وأصابوا، وليس هو بأقل منهم حتى يفوته ما أصاب غيره.
محمود محمد شاكر(167/28)
الحنين. . .
للأستاذ محمد شوكت التوني
أخي الصديق. . .
تناولت منذ يومين رسالتك التي أثمرها صمت سنين خمس لم أتلق طوالها كلمة منك، ولا نبأ عنك - بمزيج مبهم من العواطف والأحاسيس. وأدركت - كما تدرك بعض الحقائق الخفية - أو المنكورة في بعض المناسبات - أن كثيراً مما نعتبره مبالغة قد يقع ويظهر لكل عين مجردة كحقيقة عارية، كما يصبح كثير من الوهم أو الخيال مخترعات تحس وتلمس، إذ أن محيط الحياة خفي الأمواج، وخفاء الأمواج يلد العجائب!
لقد كنت أحسبه مبالغة قول من يقول: (إن وصول خطابك قد أعاد إليّ بصري كما أعاد قميص يوسف الضوء إلى بصر يعقوب الحزين الكظيم).
فعرفت بعد ورود خطابك إليّ أن في هذا القول كثيراً من الحقيقة، وأن البصر قد يكون حاسة من الحواس الخمس وقد يكون نوراً ينبعث وهاجاً في القلب، والخاطر، والنفس، وأن بعض الانفعالات قد تسمو وترتقي فتمسى عند صاحبها أقوى من البصر، وأعظم من نفس الحياة. . .
لم ترد يا صديقي أن تكتب إليّ بالتحية، ومحوتها سلفاً من جبين كتابك مدركاً أن التحية إذا ألقيت مجاملة كانت نافلة وعملاً بين الصحاب غير نافع، وإن قصد بها التعبير عن الشوق فتحصيل حاصل. فليس بمنكر أن سنين خمساً لجديرة بأن تلهب قلبي صديقين مخلصين لم يتساقيا من كؤوس الود إلا أصفاها عنصراً وأحلاها مذاقاً وأبقاها أثراً.
ولكم كنت لبقاً وأريباً. وكانت كلماتك مؤثرة حين ذكرتني بعهدي الأدبي الخالي، وأيامه ولياليه الصافية المورد، والساعات التي كنا نمضيها باحثين في فنون الأدب، منتجين أبطال قصصنا، نراهم تحت أسماعنا وفي محيط أبصارنا يعيشون قطعاً من أكبادنا وخفقات من قلوبنا، ودمي تملؤها عواطفنا دماً وروحاً، فينبعث فينا شعور بالرضا والغبطة إن لم يصل إلى غبطة الإله بمن خلق - سبحانه - فهي تسمو وتعلو عن غبطة الوالد عند مرأى أبنائه ونماء فلذات كبده. . . لأن نظرة الأدب إلى أبنائه، وإرهاف أذنيه إلى أحاديثهم يغمرها الحنان الأبوي الغريزي فيعطل فيهما نواحي التفكير ويفسد عليهما حسن التقدير. أما أبناؤنا(167/29)
نحن فكانوا دائماً محاطين منا بالعاطفة والفكر. . .!
. . . ولعلك يا صديقي حين تذكرني بهذا العهد السعيد الفائت لا تبغي أن تقطع نفسي ونفسك حسرات وتلهب سعير الحزن وتشعل جمرة الأسى، وإنما تقصد الهتاف للخفي المغيب في أعماقي كي تثيره للحركة بعد الخمود، فأنت تقول: (لقد انصرفت عن ميدان الأدب كي تؤدي واجباً وجب، وتقف في الصف الأمين تجاهد في سبيل بلادك وحريتها، وتناضل عن حرية الأفراد المرهقين بعسف المستبدين. والآن وقد انجلى الفجر البديع عن حياة جديدة لمصر بدأت تسفر عن وجهها وترفع النقاب عن جمالها، أما يراجعك الحنين إلى الأدب تغذي عالمه بقلمك. .؟).
أما الحنين يا صديقي فأقسم ما فارقني طوال ذلك العهد، وإنما كان معذبي ومسعدي.
فإن هوى النفس - كما تعلم - غلاب لا يقهر، نفاذ إلى مقصده لا يتقهقر، وهو أقوى من الرغبات وأشد منها عناداً، وأسبقها في النفس وجوداً، وهو - بعد - مرآتها العاكسة لعنصرها، فإذا كانت أمارة بالخير، فهواها هو الرشد، يبرز مقنعاً في صورة رأي صائب، أو حركة نافعة.
وكل من في هذا الوجود مسير بالنفس - الأمارة بالخير أو بالشر. ولكل هوى صورة كائنة حية هي ظاهرة في أعمال صاحبه تبدو لأعين الرائين من الناس. كما أن لها ناحيتها الخفية التي لا تظهر ولا تنم ولا تبين. وتلك أرق الصور وألطفها. تولد في الأعماق، وتعيش وتنمو إذا راقها المهد، ولذتها الحضانة، فتطول حتى تصاحب العمر إلى نهاية الأجل. . . تلك الصورة يا صديقي هي (الحنين). . . أثر قوي من هوى النفس وصورته الخفية، يعيش في جوانب العالم الإنساني الخفي ويسبح مع الأمل في الخيال، ويرف مع الرجاء في مسابح الروح، ولكنه أبداً لطيف لا يشف ولا يكتشف ولا يحاول غدر صاحبه فيبدو غصباً.
لا يعاند صاحبه ولا يجادله أو يخاصمه ولكنه أبداً متفق معه متسق وخياله وتفكيره، يقرب له جامحات الأماني ويهون عنده بالغات المصائب، ويذلل له شامسات المصاعب.
يناجيه ويناغيه ويغذيه في أوقات تأملاته وحين البأس، ويسعده ويبث في نفسه الترسل في العزاء في لحظات الأسى واليأس.(167/30)
وصاحبك يا صديقي - كما تعرف ولا يعرف الكثيرون - فنان اتقدت شعلة الفن بين جوانحه منذ الصبى فأدرك معناها مبهمة كأنها الغريزة، واندفع في سيال مجراها يقرأ وينتج لا لمال أو شهرة، واستطاع أن يوفق بين حياة الدرس وحياة الفن، غير أن العمر قد تقدم بصاحبك إلى ميدان المسئوليات، وتوزع الجهد بين مختلف ما يطلبه الجهاد في سبيل بلاده، والجهاد في سبيل مهنته، ما يستغرق يومه كله إلا ساعات للنوم ما عرف النوم فيها إلا اسماً ورؤى! فألقى لذلك قلمه لا يكتب في الأدب ولا في الفن، وإنما يكتفي باختلاس بعض الوقت يغذي فيه بعض نهمته للقراءة والإطلاع.
وشقي صاحبك بهذا الجرمان، فقد تزاحمت عليه في حياته الجديدة موجبات للفن من حوادث ذاك الجهاد ومن ألوان ذلك العيش العتيد.
ولكم جلس إلى فكره وخياله ونفسه والشعلة متقدة والنفس راغبة، وقلمه في يده ملتهب الشوق، ويود بقطع الوتين أن يعيش في حياة الدنيا التي يرسمها ويصورها - بل يخلقها - ساعات هي من العمر إن كان بعض العمر حياة وبعضه عدم، فلا يلبث أن يناديه واجبه ولا يسعه إلا رد النداء.
ولعلك تعرف يا صديقي أن صاحبك المحامي يحيا - في مهنته - في محيط من آلام الناس وعذاب بني البشر، يعيش للمظلوم ويجاهد في سبيل الباكي الأسير.
والفنان كما تعرف أيضاً لا يعيش لنفسه وإنما يعيش للإنسانية مختزلة - في زمن حياته - في جيل معين وقوم معينين لا يستريح أو تسعده حياته إذا ظلت خواطره وأفانين إنتاجه وثمار فنه رهن محبسها - في قرارة النفس أو في مستقر الخيال والفكر - وإنما هو شقي بفنه إن لم يؤده إلى مستحقيه، فالشمعة وهي غير مضاءة فيها عناصر الضوء ولكن قيمتها عدم، فإذا أشعلت واتقد لهبها وبدأت تحترق وأعطت نفعها وهي تبذل حياتها طبقة طبقة حتى تخبو وتفنى، وحياة صاحبك - في عمله تعطي له في كل لحظة وحياً وإلهاماً. . . أولئك المظلومون يستصرخ لهم القضاء، والقضاء ظل الله في الأرض ولسان كلمته ويد قضائه وقدره، ولكنما فيه من قدسيته وتنزهه القليل اليسير، فقد ينصف المظلوم وقد ينخدع في حيلة الظالم، وكم تموت حقوق في يد قضاة الحقوق، وأولئك الأبرياء يقفون بين شاطئ الموت وشاطئ النجاة فوق موجة قلقة غير مستقرة، كلمة واحدة تقذف بالموجة إما إلى(167/31)
اليمين حيث الحرية والحياة، وإما إلى اليسار حيث الفناء وملاقاة رب عادل منتقم كريم. حولهم - في هول موقفهم - أهل وصحب يبكي بعضهم بدموع من قلب حزين، ويتباكى بعضهم بدموع خادعة كاذبة. تتنازع الحياة بآلامها وحسراتها - نفوسهم أضعاف ما تنازع من يبكون عليه. . .
وذلك الأب قتل في سبيل دفع عار عن آله وأبنائه وأحفاده أو في سبيل الحصول على طعام يرد عن أولاده شر المسغبة، تقسو عليه الحياة فيقف في القفص الحديدي ينصت إلى شهادة ولده الصغير وهو يقص على القضاة ما رأى من جريمة أبيه. . .
وتلك الأم الحانية الرؤوم حاول ولدها قتلها عن غواية وطيش، فتدلف محطمة إلى ساحة القضاء تطلب البراءة له وتسترحم في مصيره من بيدهم المصير.
وذلك الزوج أعز زوجه ودللها ومهد لها نعيم الحياة فبادلته بالحب غواية وبالإخلاص خيانة، فأرداها وفقد نعيمها وهو يسير في أغلاله إلى جحيمه، وبذلك فقد النعيمين. . . في الدنيا وفي الآخرة!
ثم أولئك المجرمون - الباغون السفاكون فعلوا فعلتهم - في غاشية، ثم ردت إليهم إنسانيتهم فوقفوا أمام القضاء في ساعة الهول يوقنون بالنهاية المحتومة ويفزعون بالوهم إلى الأمل ويمدون - بأيديهم - حبل أعمارهم. . . بنظرة باسمة من محاميهم!
. . . هؤلاء وغيرهم، وحياتهم تلك اللحظات هي مختصر لكل محيط الحياة يعيش صاحبك في وسطهم ويحيا لهم ومن أجلهم يوحون إليه الرثاء للإنسانية والبكاء على أطلال الفانين وأشباح المعذبين. . . ويحاول فنه أن يقوم بواجبه كفنان، ولكن واجباً آخر أقوى جذباً وأشد فعلاً يطغى ولا يرضى إلا أن يكون وحده صاحب الحق على شؤون صاحبك الذي يعمل ويعمل، والحنين ماثل في عالمه الخفي يسعده ويعذبه. . . ذلك الحنين الذي ولدته العواطف المحبوسة والآلام الطائفة كل يوم - بل كل لحظة - بالنفس والقلب، ثم كبر ونما وطال واستطال على كل منزع، وركب كل منفذ، وصعد مع الروح إلى أعلى سبحاتها، وجرى مع الدم إلى أقصى شوط من شرايينه، وغاص إلى أعمق أعماق النفس وسبح في ظلماتها وتراوح في أمواج ضوئها وجاب أنحاء القلب وارتقى صخوره واتأد فوق لينه وامتطى متون غيومه. . حتى أصبحت أحسه كياناً في جوار كياني، أراه في بعض الأحيان ممثلاً(167/32)
إلى جانبي في صورة طيف أو خيال، وقد أسمعه يناديني ويناجيني، وقد أضطر إلى أن أجيبه فأحدثه وأقارضه نداء بجواب ومناجاة بنجوى. . يسير معي - كالصديق الوفي - في النهار فيكاد يعزلني عن سائر الناس، وفي الليل. . . في الليل الأخير حيث تنام الناس وترقد الأعمال فأبقى في الوحدة والسكون. . . أنا وهو. . . والله ثالثنا. . .
ولكم حاولت أن أفلت من زمامه وأنجو من إساره وأفك عقالي من يديه فما زدت إلا تعلقاً به وتشبثاً بأردانه وأطرافه. . .
لقد غلبني على أمري ونزع شأني من إرادتي فرضيت أسره ولذت لي غلبته. . . وبات كما كان. . . مسعدي ومعذبي. . .
أما اليوم يا صديقي وقد انجلت الغمرة وهدأ ميدان المعركة، وبسم الشهداء في عليين وترنحت النفوس طرباً، ورقصت القلوب فرحاً، وآن للمجاهد في سبيل لحرية أن يغمد سيف جهاده، ويولي وجهه شطر إصلاح بلاده، فقد توفر لي من الوقت نصفه أو يزيد.
وسأراجع عهدي القديم وأحاول أن أفك إسار الحنين وأشفي داءه وأروي صداه وأتحرر أنا من أغلاله. . . لعله لا يبقى معذبي ويظل مسعدي وحسب.
سأمسك قلمي وأكتب للأدب والفن. لا أريد مالاً ولا شهرة، فحسبي من الثانية ما نلت، وحسبي من غنى شبع وري. . . وإنما لوجه الحق في صوره السامية: الله والوطن. نجاهد في ميدان الأدب والفن، وعذاب الجهاد في سبيل الحق أسمى مراتب اللذات.
محمد شوكت التوني(167/33)
للتاريخ السياسي
معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وإنجلترا
- 2 -
ملحقات المعاهدة
ملحق للمادة الثامنة
1 - من غير إخلال بأحكام المادة السابعة يجب ألا يزيد عدد قوات صاحب الجلالة الملك والإمبراطور التي توجد بقرب القنال على عشرة آلاف من القوات البرية وأربعمائة طيار من القوات الجوية ومعهم العدد الضروري من المستخدمين الملحقين للإدارة والأعمال الفنية، ولا يشمل هذا العدد الموظفين المدنيين كالكتبة والصناع والعمال.
2 - توزع القوات البريطانية التي توجد بقرب القنال كما يأتي:
(أ) فيما يتعلق بالقوات البرية في المعسكر ومنطقة جنيفة على الجانب الجنوبي الغربي للبحيرة المرة الكبرى.
(ب) وفيما يتعلق بالقوات الجوية على مسافة خمسة أميال من سكة حديد بور سعيد - السويس، من القنطرة شمالاً إلى ملتقى سكة حديد السويس - القاهرة والسويس الإسماعيلية جنوباً مع امتداد على خط سكة حديد الإسماعيلية - القاهرة بحيث يشمل محطة القوات الملكية للطيران بأبي صوير وما يتبعها من الأراضي المعدة لنزول الطائرات والميادين الصالحة التي قد تنشأ شرقي القنال لإطلاق النار وإلقاء القنابل من الطائرات.
3 - يعد في الأماكن المحددة آنفاً للقوات البريطانية البرية التي حدد عددها في الفقرة الأولى سالفة الذكر بما في ذلك أربعة آلاف من الموظفين المدنيين (مع خصم ألفين من رجال القوات البرية وسبعمائة من رجال القوات الجوية وأربعمائة وخمسين موظفاً مدنياً وهم الذين توجد لهم الآن معدات السكن) ما تحتاج إليه من الأراضي والثكنات الثابتة والمستلزمات الفنية بما فيها توفير الماء الذي قد تستلزمه الطوارئ، وتكون الأراضي والمساكن وموارد المياه مطابقة للنظم الحديثة؛ وفضلاً عن ذلك تقدم للجنود وسائل الراحة المعقولة مع مراعاة طبيعة هذه الجهات وذلك بغرس الأشجار وإنشاء الحدائق وميادين(167/34)
الألعاب الخ. ويعد موقع لإقامة مصحة للنقاهة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
4 - تقدم الحكومة المصرية الأراضي وتنشئ المساكن وموارد المياه ووسائل الراحة ومصحة النقاهة المشار إليها في الفقرة السابقة باعتبارها ضرورية علاوة على ما هو موجود منها الآن في تلك الجهات وذلك على نفقتها الخاصة على ن تساهم حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة بدفع ما يأتي:
1 - المبلغ الذي أنفقته الحكومة المصرية فعلاً قبل سنة 1914 في إقامة ثكنات جديدة أنشئت لتحل محل ثكنات قصر النيل في القاهرة.
2 - تكاليف ربع الثكنات والمستلزمات الفنية للقوات البرية على أن يدفع أول هذين المبلغين في الوقت المحدد بالفقرة الثامنة الآتي ذكرها لانسحاب القوات لبريطانية من القاهرة. ويدفع المبلغ الآخر في الوقت المعين لانسحاب القوات البريطانية من الإسكندرية طبقاً للفقرة الثامنة عشرة الآتي ذكرها؛ وللحكومة المصرية أن تتقاضى إيجاراً مناسباً نظير استعمال المساكن المعدة لإقامة المستخدمين المدنيين ويتفق على قيمة الإيجار بين حكومة صاحب الجلالة والحكومة المصرية.
5 - بمجرد نفاذ هذه المعاهدة تعين كل من الحكومتين فوراً شخصين أو أكثر تتألف منهم لجنة يعهد إليها بجميع المسائل المرتبطة بتنفيذ هذه الأعمال من وقت البدء فيها إلى حين تمامها. وتقبل مشروعات التصميمات ورسومها التخطيطية (الكروكية) والمواصفات التي يقدمها ممثلو حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بشرط أن تكون معقولة وألا تتجاوز مدى التزامات الحكومة المصرية الواردة في الفقرة الرابعة. ويجب أن يقر ممثلو كل من الحكومتين في هذه اللجنة التصميمات والمواصفات الخاصة بكل عمل تقوم به الحكومة المصرية قبل البدء فيه. ويكون لكل عضو في هذه اللجنة وكذلك لقواد القوات البريطانية أو ممثلهم حق فحص الأعمال في جميع أدوار إنشائها كما يجوز لممثلي المملكة المتحدة من أعضاء اللجنة تقديم مقترحات بشأن طريقة تنفيذ العمل. ولهم أيضاً حق اقتراح تعديل التصميمات والمواصفات أو تغييرها في أي وقت أثناء سير العمل، وتنفذ المقترحات والمشروعات التي يقدمها ممثلو المملكة المتحدة في اللجنة بشرط أن تكون معقولة وأن لا تتجاوز مدى التزامات الحكومة المصرية الواردة في الفقرة الرابعة. وفيما يتعلق بالآلات(167/35)
وغيرها من المهمات حيث تكون لوحدة الطراز أهميتها قد اتفق على أن تكون المهمات التي تشترى وتركب من الطراز المقرر والمستعمل عامة في الجيش البريطاني.
ومن المفهوم طبعاً أنه يجوز لحكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة أن تقوم على نفقتها الخاصة بعد استعمال القوات البريطانية هذه الثكنات والمساكن بإدخال التحسينات والتغييرات وإنشاء مبان جديدة في المنطقة المحددة في الفقرة الثانية السالف ذكرها.
6 - تحقيقاً لبرنامج الحكومة المصرية في تحسين الطرق ومواصلات السكك الحديدية في القطر المصري ولإبلاغ وسائل المواصلات فيها إلى مستوى حاجات الفنون الحربية الحديثة - تتولى الحكومة - المصرية إنشاء الطرق والكباري والسكك الحديدية المبينة بعد وصيانتها.
1 - الطرق
1 - بين الإسماعيلية والإسكندرية عن طريق التل الكبير والزقازيق وزفتي وطنطا وكفر الزيات ودمنهور.
2 - بين الإسماعيلية والقاهرة عن طريق التل الكبير ومن يستمر على ترعة المياه الحلوة إلى هليوبوليس.
3 - بين بور سعيد والإسماعيلية فالسويس.
4 - مواصلة بين الطرف الجنوبي للبحيرة المرة الكبرى والطريق الممتد من القاهرة إلى السويس على مسافة خمسة عشر ميلاً تقريباً غربي السويس.
ولإبلاغ هذه الطرق إلى المستوى العام للطرق الجيدة الصالحة لحركة المرور العامة سيكون عرضها عشرين قدماً ويكون لها تحويلات حول القرى الخ وتنشأ من مواد من شأنها أن تجعلها صالحة دائماً للانتفاع بها في الأغراض الحربية، وأن تنشأ بحسب ترتيب أهميتها سالف الذكر، وأن تطابق المواصفات الفنية المبينة بعد وهي المواصفات العادية للطرق الجيدة الصالحة لحركة المرور العام.
وتكون الكباري والطرق صالحة لتحمل صفين كاملين من سيارات النقل الميكانيكي الثقيلة ذات الأربع عجلات أو من ذوات الست عجلات أو من الدبابات المتوسطة الحجم. ففيما يتعلق بالسيارات ذات العجلات الأربع يكون البعد بين الدنجل الأمامي لأية سيارة وبين(167/36)
الدنجل الخلفي للسيارة التي أمامها عشرين قدماً ويكون الثقل على كل دنجل خلفي أربعة عشر طناً وعلى كل دنجل أمامي ستة أطنان، وتكون المسافة بين الدنجلين ثماني عشرة قدماً. وفيما يتعلق بالسيارات ذات العجلات الست تكون المسافة بين الدنجل الأمامي لكل سيارة منها وبين الدنجل الخلفي للسيارة التي أمامها عشرين قدماً، والمسافة بين الدنجل الخلفي والدنجل الأوسط أربع أقدام، وبين الدنجل الأوسط والدنجل الأمامي ثلاث عشرة قدماً، ويكون الثقل على كل من الدنجلين الخلفي والأوسط 8 , 1 طناً وعلى كل دنجل أمامي أربعة أطنان. أما الدبابات فتقدر باعتبار أن وزنها 19 , 25 طناً وطولها الكلي خمساً وعشرين قدماً والبعد بين مقدم إحداها ومؤخر التالية لها رأساً ثلاثة أقدام، ويكون ثقل الـ19 , 25 طناً محملاً على شريطين يرتكزان على مسطح قدره ثلاث عشرة قدماً من الطريق أو الكوبري.
السكك الحديدية
1 - تزداد تسهيلات السكك الحديدية في منطقة القنال وتحسن لسد حاجة القوات بعد زيادتها في تلك المنطقة ولتسهيل سرعة نقل الرجال والمدافع والعجلات والمهمات بالقطارات وفقاً لما تقتضيه حاجة الجيوش الحديثة.
ويرخص بموجب هذا لحكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بأن تنشئ على نفقتها الخاصة ما قد تقتضيه حاجات القوات البريطانية في المستقبل من الإضافات والتعديلات على السكك الحديدية. فإذا مست هذه الإضافات أو التعديلات الخطوط الحديدية المستعملة للنقل العام وجب الحصول على إذن بذلك من الحكومة المصرية.
2 - يجعل الخط بين الزقازيق وطنطا مزدوجاً.
3 - يحسن الخط بين الإسكندرية ومرسى مطروح ويجعل دائماً.
7 - فضلاً عن الطرق المبينة في الفقرة السادسة 1 السالف ذكرها وللأغراض ذاتها ستنشئ الحكومة المصرية الطرق المبينة بعد وتقوم بصيانتها.
1 - الطريق من القاهرة بمحاذاة النيل جنوباً إلى قنا وقوص.
2 - من قوص إلى القصير.
3 - من قنا إلى الغردقة.(167/37)
وستنشأ هذه الطرق والكباري التي تقام عليها وفق نفس المستوى المبين في الفقرة السادسة ذكرها.
وقد لا يتيسر إنشاء الطرق المشار إليها في هذه الفقرة والطرق المشار إليها في الفقرة السادسة في وقت واحد ولكنها ستنجز بقدر المستطاع.
8 - وحينما تتم الأماكن المشار إليها في الفقرة الرابعة على ما يرضي الطرفين المتعاقدين (ولا تدخل في ذلك المساكن الخاصة بالقوات التي ستبقى مؤقتاً بالإسكندرية طبقاً للفقرة الثامنة عشرة الآتي ذكرها) وتتم الأعمال المشار إليها في الفقرة السادسة السالف ذكرها (عدا السكك الحديدية المبينة في الشطرين 2و3 من الجزء ب من تلك الفقرة) تنسحب القوات البريطانية الموجودة في أنحاء القطر المصري غير الجهات الواقعة في منطقة القنال والمبينة في الفقرة الثانية السالف ذكرها مع استثناء القوات الباقية مؤقتاً بالإسكندرية، وتخلي الأراضي والثكنات ومنازل الطائرات البرية ومراسي الطائرات البحرية والأبنية التي تشغلها القوات وتسلم إلى الحكومة المصرية إلا ما قد يكون منها ملكاً للأفراد.
9 - أي خلاف في الرأي بين الحكومتين في تنفيذ الفقرات 3 و4 و5 و6 و7 و8 السالف ذكرها يعرض للفصل فيه على لجنة تحكيم مؤلفة من ثلاثة أعضاء تعين كل من الحكومتين عضواً منهم ويعين الثالث بالاتفاق بين الحكومتين ويكون قرار اللجنة نهائياً.
10 - تحقيقاً لحسن تدريب الجنود البريطانية قد اتفق على إعداد المناطق المحددة بعد لتدريبها. ويجري التدريب في المنطقتين أوب طول السنة. وتكون المنطقة ج للمناورات السنوية خلال شهري فبراير ومارس.
أ - غربي القنال من القنطرة شمالاً إلى خط سكة حديد السويس القاهرة جنوباً (بما في ذلك الخط المذكور) وإلى خط طول 31 , 30 شرقاً بحيث تستمد كل الأراضي المنزرعة.
ب - شرقي القنال. حسب الحاجة.
ج - امتداد المنطقة (1) جنوباً إلى خط العرض الشمالي 29 , 52 ومن ثم في الجنوب الشرقي إلى ملتقى خط العرض الشمالي 29 , 30 بخط الطول الشرقي 31 , 44 ومن هذه المنطقة شرقاً على امتداد خط العرض الشمالي 29 , 30 ومساحات المناطق المشار إليها فيما سبق مبينة على الخريطة الملحقة بالمعاهدة (مقاييس رسم 1 - 500 , 000).(167/38)
11 - تمنع الحكومة المصرية الطيران فوق الأراضي الواقعة على جانبي قنال السويس وعلى مسافة عشرين كيلو مترا منها إلا ما كان بقصد العبور من الشرق إلى الغرب أو بالعكس في ممر عرضه عشرة كيلو مترات عند القنطرة ما لم تتفق الحكومتان على غير ذلك. على أن هذا المنع لا يسري على قوات الطرفين المتعاقدين ولا على هيئات الطيران المصرية الصميمة ولا على هيئات الطيران التي تتبع حقيقة أي جزء من أجزاء مجموعة الأمم التي تتكون منها الدولة البريطانية وتعمل تحت سلطة الحكومة المصرية.
12 - تضم الحكومة المصرية عند الضرورة وسائل المواصلات المعقولة للوصول من وإلى الجهات لتي ترابط فيها القوات البريطانية كما أنها تقدم ببور سعيد والسويس التسهيلات الضرورية لتفريغ المهمات الحربية والمؤن اللازمة للقوات البريطانية وخزنها، ومن هذه التسهيلات إبقاء فصيلة صغيرة بريطانية في هاتين الميناءين لتسلم وحراسة هذه المهمات والمؤن عند مرورها.
13 - نظراً لأن سرعة الطيران الحديث وسعة مداه تقتضيان استخدام مساحات واسعة لحسن تدريب القوات الجوية فإن الحكومة المصرية تأذن للقوت الجوية البريطانية في الطيران حينما ترى ضرورة لذلك من أجل التدريب. ويكون لقوات الطيران المصرية مثل هذه المعاملة في الأراضي البريطانية.
14 - نظراً لأن سلامة الطيران تتوقف على إعداد كثير من الأماكن لنزول الطائرات فإن لحكومة المصرية ستهيئ وتيسر على الدوام المنازل والمراسي الصالحة لنزول الطائرات البرية والبحرية في الأراضي والمياه المصرية. وستحقق الحكومة المصرية أي طلب يقدم من القوات البريطانية لإعداد المنازل والمراسي الإضافية التي تدل التجربة على ضرورتها لجعل العدد كافياً لحاجة المحالفة.
15 - تأذن الحكومة المصرية للقوات الجوية البريطانية في استخدام منازل الطائرات البرية ومراسي الطائرات البحرية السالفة الذكر وفي إرسال مقادير من الوقود والمهمات إلى القوة منها لخزنها في مكان تقام عليها لهذا الغرض وفي القيام في أحوال الاستعجال بأي عمل قد تقتضيه سلامة الطائرات.
16 - تمنح الحكومة المصرية جميع التسهيلات اللازمة لمرور مستخدمي القوات(167/39)
البريطانية والطائرات والمهمات من والي منازل الطائرات البرية ومراسي الطائرات البحرية السالفة الذكر وتمنح مثل هذه التسهيلات لموظفي القوات المصرية وطائراتها ومماتها في القواعد الجوية للقوات البريطانية.
17 - تكون للسلطات الحربية البريطانية حرية استئذان الحكومة المصرية في إرسال جماعات من الضباط يرتدون الملابس الملكية إلى الصحراء الغربية لدراسة الأرض ورسم الخطط الحربية ولا يرفض هذا الإذن دون مبرر معقول.
18 - يرخص صاحب الجلالة ملك مصر لصاحب الجلالة الملك والإمبراطور في إبقاء وحدات من قواته في الإسكندرية أو على مقربة منها لمدة لا تتجاوز ثماني سنوات من تاريخ نفاذ هذه المعاهدة وهي المدة التقريبية التي اعتبرها الطرفان ضرورية لما يأتي:
أ - لإتمام بناء الثكنات في منطقة القنال نهائياً.
ب - لتحسين الطرق الآتية:
1 - الطريق بين القاهرة والسويس.
2 - بين القاهرة والإسكندرية عن طريق الجيزة والصحراء.
3 - بين الإسكندرية ومرسى مطروح، وذلك للوصول بها إلى المستوى المبين في جزء أمن الفقرة السادسة.
ج - تحسين السكك الحديدية بين الإسماعيلية والإسكندرية وبين الإسكندرية ومرسى مطروح كما أشير إلى ذلك في الشطرين 2و3 من الجزء ب من الفقرة السادسة.
وتتم الحكومة المصرية العمل المبين في الشطرات أوب وج السالفة الذكر قبل انقضاء مدة الثماني سنوات المذكورة آنفاً، وستتولى الحكومة المصرية طبعاً صيانة الطرق ووسائل المواصلات المذكورة فيما تقدم.
19 - تظل القوات البريطانية الموجودة بالقاهرة أو بجوارها إلى وقت انسحابها طبقاً لنص الفقرة الثامنة السالف ذكرها كما تظل القوات البريطانية الموجودة بالإسكندرية أو بجوارها إلى نهاية الوقت المحدد في الفقرة الثامنة عشرة السالف ذكرها متمتعة بالتسهيلات التي لها الآن.
في العدد القادم (تتمة الملحقات)(167/40)
الفلسفة والإلهيات
اتفقت كلمة الشعوب الإسلامية على أن العصر الذهبي للخلافة قد ازدهرت فيه مذاهب في الفلسفة، كانت عربية إسلامية ذاعت في العالم ذيوعاً واسع المدى، وأن المعاهد الإسلامية قد مهدت لظهور الجامعات الأوربية، وكانت المثال الذي به تقتدي وعلى هداه تسير.
وهذه النظرة المنطوية على اعتبار الإسلام مصدر الحضارة الأوربية، نشأت في رحابه، ودرجت في ظلاله، واستقت من معينه، لا نراها منبثة في الكتب الأدبية التي أريد بها مجرد الدعاية فحسب، بل نراها شائعة - بحق أو غير حق - في أكثر البحوث القيمة التي ساهم فيها العلماء من المسلمين المحدثين وتناولت تقدم الأنظمة الإسلامية وتاريخها في العصر الوسيط.
وإنا لنرى في الأدب الغربي بين الحين والحين إشارة إلى ما يطلقون عليه اسم (الفلسفة العربية)، كما نرى طائفة من كتاب الغرب تذهب إلى أن الفلسفة المسماة بهذا الاسم ليست إلا خليطاً من آراء القدماء لا تجانس بين مواده المتنوعة، قد ترك ليتفاعل وينضج، فهم منتهون إلى أن ليس هناك شيء اسمه (فلسفة عربية) وإلى أن الشعوب الناطقة بالضاد لم تفعل شيئاً أكثر من أنها استولت على الفلسفة اليونانية التي كنت شائعة بين المسيحيين من أهل سوريا، والمثقفين من أهل حران الوثنيين، ثم أضافت إليها بعض عناصر استمدتها من فارس والهند.
ومهما يكن من شي فإن من الحق أن نرد الفلسفة العربية في مادتها وصورتها وغايتها إلى حضارة البلاد التي غزاها العرب، وأن نعتبر الفلسفة اليونانية المعين الذي استقوا منه مذاهبهم.
ومهما قيل عن هذا الأمر في العصور الحديثة فإن العلماء المسلمين في العصور المتقدمة لم يخطئوا السبيل إلى فهم هذه الحقيقة. فالجاحظ البصري المتوفى سنة تسع وستين وثمانمائة بعد الميلاد - وهو كاتب قدير متبحر كان تأثيره في أسبانيا الإسلامية على جانب عظيم من الأهمية - يعترف اعترافاً واضحاً بفضل الفكر اليوناني على أهل ملته فيقول: ألم تبلغنا كتب القدماء التي خلدوا فيها حكمتهم الرائعة، وعالجوا بين صفحاتها دروس التاريخ المتشعبة، حتى بدا الماضي حياً أمام أبصارنا؟ ألم تصل إلى أيدينا نفائس تجاربهم التي ما كنا بغير هذه الكتب لنعرفها أو لنصيب في الحكمة حظاً يذكر، أو نسلك للتحصيل سبلاً(167/42)
معقولة؟
وفوق ذلك فإن الفلاسفة وعلماء الكلام لم يحاولوا في أكثر أبحاثهم أن يخفوا عن الناس النبع الذي نهلوا منه.
وما كان التعلل بالعلم ليخدع المسرفين في التعصب للقرآن وسنة النبي. فكانت الأبحاث العقلية المجهولة للعرب في عصر الرسول تلقى استنكاراً شديداً كما كان الذين يدخلون في الإسلام بدعة يستمدونها من مصدر أجنبي معرضين لهذا النوع من الاستنكار، وكانوا يقولون إن الفلسفة (حكمة مشوبة بالكفر) - وإذا استعرضت أسماء المؤلفات ككتاب: عرض لمخازي الإغريق ومنها للحكم الدينية - وكتاب البرهان الحسي على تفنيد الفلسفة في القرآن عرفت ما تتضمنه الكتب مما يؤيد ما نقول - وثمة حكاية متداولة عن فيلسوف معروف عدل عن آرائه وهو على فراش الموت، وكانت آخر عبارة قالها: صدق الله العظيم وكذب ابن سينا.
ومن الحق كذلك أن نذهب إلى القول بأن ما أضافه العرب من الثقافة الإنسانية إلى تراث من سبقهم من المفكرين لم يكن كبير الشأن ملموس الأثر. وبالرغم من هذا، ومع أننا على يقين من أن ما خلفته الحضارة الإسلامية لا خطر له، أوليس أكثر مما ورثته عن غيرها من الحضارات، فليس من العدل في شيء أن ننكر عليها توصلها إلى الجمع بين الأفكار الفلسفية على نمط مميز لها، تلك الأفكار التي عزاها علماء المسلمين إلى أنفسهم.
وإنه لمن الظلم البين أن نحقر من شأن الشغف في طلب العلم من أجل العلم، ذلك الحماس الذي كان يتقد في صدور جموع غفيرة من الناس في رحاب الدولة الإسلامية المترامية الأطراف.
وفي الحق أن لعبارة (الفلسفة العربية) معنى معيناً عند المستشرقين، فهم يعرفون أن بين العرب الخلص الدم واحداً فذا هو (الكندي) قد امتاز بطول باعه في المسائل الفلسفية، ولكنهم يعرفون - إلى جانب هذا - أن ذلك الخليط الغريب الذي يغلب عليه التنافر - والذي ائتلف من الأرسطاطالية والأفلاطونية الحديثة، وسلم به أكبر الفلاسفة المسلمين كتفسير معقول للكون - يعتبر عربياً قبل كل شيء وإن لم يكن إسلامياً، لأن أكبر زعمائه كثيراً ما كانوا مسلمين بالاسم أو زنادقة جهروا بذلك جهراً أدى إلى ضياع حياتهم أو فقدان(167/43)
حرياتهم.
ولو أن العرب كانوا برابرة كالمغول الذين أطفئوا جذوة العلم في الشرق إطفاء لم ينبعث من بعدهم البتة - وقد لا ينبعث أبداً بسبب ضياع دور الكتب وفقدان الآثار الأدبية - لو أنهم كانوا كذلك، لتأخر عصر الأحياء عن موعده في أوربا أكثر من قرن.
وليس من شك في أن حياة طالب العلم قبل عهد الطباعة كانت تفيض دائماً بالضجر واليأس، وكان مألوفاً عند الكثيرين من طلاب العلم أن يقوموا في طلبه برحلة يقطعون فيها ألف ميل أو يزيد في سبيل البحث عن معلم يتلقون عنه العلم. ولبثوا يقاسون هذه المشقة حتى العصر الذي قامت فيه الجامعات الإسلامية - بل إلى ما بعد هذا العصر - وقد قام الشبان برحلات طويلة من الأندلس إلى مكة أو من مراكش إلى بغداد، تاركين دورهم وهم خالو الوفاض أملاً في التتلمذ لأستاذ يصادف اختيارهم.
ولعل في وسعنا الآن أن نقول كلمة في نشأة الجامعات الإسلامية: فأولاها هي المدرسة النظامية المعروفة ببغداد، وقد قام بتأسيسها نظام الملك صديق عمر الخيام ووزير السلطان السلجوقي (ألب أرسلان) سنة سبع وخمسين وأربعمائة للهجرة، أي في العام السابق للفتح النورماندي لإنجلترا. ثم قامت بعد ذلك بقليل جامعات أخرى في نيسابور ودمشق وبيت المقدس والقاهرة والإسكندرية وغيرها من البلدان، وكثيراً ما قامت في مدن اشتهرت بالعلم قبل قيام الإسلام كما سيأتي ذكر ذلك بعد.(167/44)
من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
لغة الأحكام والمرافعات
تتمة
للأستاذ زكي عريبي
- 6 -
أنشئت المحاكم الأهلية سنة 1883 فلم يَزُل عهد الركاكة دفعة واحدة. صحيح أنك لم تعد تطالع (هذا المرأة) و (تلك الرجل) و (هؤلاء الشخص) و (منه ينفهم) و (لذا وكون ما ذكر) و (من حيث ليس) و (ما توري) و (سبوق المخاطبة) و (تحت الأهمية) و (كون من سابقة التحقيق) و (كون من ذا يتضح) و (كان جاري المشاجرة)، لم تعد تطالع هذا وأمثاله، ولكنك تقع على لغة ما زالت سقيمة معتلة كلغة هذا الحكم الصادر من محكمة الجنايات الاستئنافية سنة 1887، قال يروي وقائع الجريمة:
(وكان عند القتيل قبلاً واصف أغا متبنيه وجاعلاً له نصيب في بعض ملكه، ثم كرهه وطرده واستبعده من المنزل قبل الواقعة بشهر وكان فيروز أغا مدخراً في منزله أمتعة ذات قيمة، فواصف وعبد الله وخديجة المذكورة عملوا على قتله باتفاق بينهم، وفي الليلة المعهودة توجه واصف أغا إلى المنزل وكان فيروز أغا خارجا عنه وكمن في السطح بواسطة خديجة حتى حضر فيروز أغا وكانت خديجة في صالة معتاد نومها فيها وعبد الله معد له محل بالحوش وفي آخر الليل اجتمع الثلاثة على بعضهم ودخلوا على فيروز أغا وأعدموه الحياة).
إلى أن قال يورد الأدلة على سبق الإصرار ويشير إلى النصوص:
(ومنها اعترافه (أي القاتل) أن خديجة كانت تشتري له ملابس وتناوله نقود من مصروف الأغا على أمل الأغا سيزوجها وهذا يفيد سبوق سعيه في إعدام الأغا.
وحيث أن هذه الأدلة قد أثبتت على عبد الله السوداني التعمد وسبق الإصرار والتربص على قتل فيروز أغا بالأسباب المذكورة صار عبد الله يستحق العقاب بالقتل عملاً بالمادة 208.(167/45)
وحيث أن من يحكم عليه بالإعدام يشنق.
وحيث أن باقي المتهمين مثبوت اشتراكهم في السرقة باعتراف اثنتيهم).
وهاك ما يقوله حكم مدني ابتدائي صدر في السنة عينها (صحيفة 250 حقوق) يردد ما جاء في صحيفة الدعوى.
(وحيث أن حالة المرض الذي اعترى المدعي لا يمكن شفاه قطعياً وأن بعينه اليمنى غطاطة وأن علته من الجسيمة ولا يمكن أن يؤدي أشغاله بالميري، ولما كان قضى حياته في خدمة الحكومة وأفقد بصره في أثناء تأدية خدماته كان من باب العدالة أن يربط له معاش).
على أن المحكمة لم تكن أفصح عبارة فيما رأته من (أن المدعي يمكن معالجته واستحصاله بعدها على كمية من النظر).
بل انظر ماذا تقوله محكمة الاستئناف (في الأودة المدنية والتجارية):
(من حيث أن الأعمال المدعى بأجرائها سلامة بك (المدعي) في المدة المذكورة هذه ليست أعمال مستجدة صار تكليفه بها بل إنها استعلامات واستفهامات ويجب عليه في كل الأحوال استبقا تلك المأمورية في يوم أخلاه منها.
(وأن سلامة بك أجرى مناظرة المهمات المذكورة.
(ولهذا توضح للبيك الموما إليه بتلك الإفادة بأنه يعلم مسألة تلك الرسوم وأنه يلزم إعطاء أفكاره فيما تطلبه مصلحة السكة الحديد.
وهذا لا يعد عمل جديد.
(وحيث أنه لما علم للحربية بناء على طلب سلامة بك قررت اللجنة بتعيين واحد كاتب بماهية شهري 1200 قرش.
وحيث بناء على هذه الأسباب يتعين لغو الحكم الابتدائي).
وفي السنة عينها نشرت مجلة الحقوق بحثاً في (الاقتصاد المدني)؛ ولكن بوادر لغة سليمة بدأت تظهر وسط هذا الضعف كتلك التي يشرح بها هذا الحكم الصادر من إحدى المحاكم الابتدائية عدم قابلية بعض الالتزامات للانقسام.
(فلنبحث الآن عن ماهية التعهد غير القابل للانقسام فنجد أنهم عرفوه بقولهم هو ما كان(167/46)
موضوعه شيئاً أو عملاً لا يمكن الوفاء به مقسماً وقت تكوين العقد. وقد قسم العلامة ديمولان الشهير التعهدات غير القابلة للانقسام إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول عدم الانقسام الناشئ عن العقد وهو المعبر عنه بعدم الانقسام الطبيعي أو المطلق أو الضروري. . .
فيظهر جلياً أن عدم الانقسام هذا هو اضطراري وخارج عن إرادة المتعاقدين لأنه ليس في وسعهم وقدرتهم تغبير ماهية وطبيعة الأشياء).
ثم طفرت لغة المحاكم طفرة سعيدة وظهر التحسن واضحاً ملموساً في العشر سنوات التالية على يد فحول غذى بهم القضاء الأهلي بعد سنة 1890. أنظر إلى هذه الدائرة بمحكمة الاستئناف كيف أصبحت تكتب برياسة حامد محمود وعضوية قاسم أمين ودوهلتس (حقوق سنة 1896).
(وحيث أن القاضي بتخطيه هذه الحدود (أي حين يتخطى القيود الموضوعة في قانون تشكيل المحكمة) صار عديم الصفة في الفصل وأصبح كأنه في بلد أجنبي. ومتى انعدمت صفة المحكمة في الفصل لا تكون أحكامها أحكاماً ولا قضاتها قضاة، وإنما يكونون كأفراد فصلوا فيما رفع إليهم وصاغوا فصلهم في قالب الأحكام. وإن كان ذلك في استطاعتهم فليس في وسعهم أن يمنحوها من عندياتهم ما حرمه الشارع من القوة).
وما أجمل هذا الإيجاز في بيان موضوع النزاع المطروح على دائرة أخرى (دائرة أحمد عفيفي وسعد زغلول وكوريت):
(وحيث أن نقطة النزاع في هذه الدعوى هي من هو ملزم بدفع مبلغ المائة وثمانين جنيهاً إلى الخواجة سكوبو، هل تكون الست نفيسة ملزمة أو الشيخ أحمد الحكيم أو الاثنان معاً؟ وفي الحالة لأخيرة: هل تلك الملزومية بالتضامن أم لا؟).
ومضى الرقي في طريقه بعد ذلك غير وان ولا متردد، فساير سمو الأسلوب نضوج الفكر، واكتشفت أو نحتت ألفاظ عربية كثيرة لتؤدي معاني فقهية حديثة، وغمر سيل هذه النهضة المباركة دور المحاكم كلها لا فرق بين جزئية وابتدائية واستئنافية. ثم جاءت محكمة النقض في العهد الأخير فطبعت لغة الأحكام بطابع جليل ممتاز جمع إلى دقة الأداء برشاقة اللفظ وجمال الأسلوب.
لسنا نبالغ ولا نلقى القول بغير دليل. (وعلى من مارى - كما يقول رئيس محكمة النقض(167/47)
الجليل في خطبته الخالدة - أن يقرأ فأنه لا رأي لغير مطلع عليم).
وإن المطلع العليم ليحار أي زهر يقتطف وسط هذه الجنة الفيحاء. لقد طغى تيار الإجادة فاكتسح بقايا العجمة وضآلة التعبير وأصبحنا حتى في القضايا البسيطة أمام أحكام حبك نسجها وأشرقت ديباجتها. اقرأ هذا الحكم لقاض جزئي فاضل (إسكندر حنا) يقرر فيه القواعد التي يجب على سائقي السيارات مراعاتها إذا ما اقتربوا من تقاطع شارعين، ويتحدث عن ماهية هذه القواعد قانوناً:
(وحيث أن المدعي المدني يقول إنه كان سائراً في شارع رئيسي ومن حقه أن يأمن السير فيه ولا يعكر عليه أمنه السيارات الخارجة من الشوارع المتقاطعة فواجبها ألا تخرج إلى الشارع الرئيسي إلا بعد الاستيثاق من خلوه.
وحيث أنه ليس في اللوائح أو الأوامر الإدارية تقسيم الشوارع بين رئيسية وفرعية وما هي إلا قواعد أوحى بها العقل، فتواضع الناس على العمل بها اتباعاً لما تقضي به مصالحهم وما يستوجبه ضمان أرواحهم أثناء سيرهم في الطرق العمومية وتنظيمها لمرورهم. . . والواجب يقضي على من يقود سيارة في شارع متقاطع مع شارع رئيسي أن يتحقق قبل محاولة اجتيازه من خلوه أو من إمكانه المرور فيه قبل أن تدركه السيارات السائرة فيه، ولكن ليس معنى ذلك أن السائق الذي يسير في شارع رئيسي يتهاون في قيادته إلى حد الخطأ أو الإهمال، فأنه يتعين عليه أن يكون شديد الحذر كلما اقترب من نقطة التقاطع وأن يخفف من سرعة سيارته اجتناباً للمفاجآت التي قد تحصل على غرة).
بيان كامل لما احتواه رأس الكاتب من قهم صحيح لقواعد السير، خطته يراعة مالكة لناصية الألفاظ تضعها حيث يجب أن توضع في أسلوب سهل وشيق.
واقرأ هذا الحكم للقاضي (حسن جاد) في قضية رفعها رجل على شريكه في الجريمة بطلب استرداد ما دفعه إليه ثمناً لاشتراكه، ووجد القاضي نفسه أمام رأيين فقهيين لكل منهما أنصاره ومخالفوه. أنظر كيف يؤيد الرأي الذي اختاره لنفسه تأييد أديب بارع:
(وحيث أن المدعي عليه دفع بعدم قبول الدعوى قولاً منه بأن استرداد المبلغ على فرض حصول دفعه أمر غير جائز لأن الدفع إنما حصل تنفيذاً لارتكاب جريمة يعاقب عليها القانون.(167/48)
وحيث أن هذه المسألة وإن اشتد الجدل وكثر التحاور واختلفت الآراء وتناقضت الأحكام بشأنها، إلا أن المحكمة ترى رجحان المذهب القائل بجواز الاسترداد. لا لأنه هو المذهب السائد المتغلب بين الشارحين والمحاكم فقط، بل لما فيه من مزايا وما في عكسه من آفات.
وتعليل ذلك ظاهر لأن في اعتماد الدفع إفراراً للمحظور وتشجيعاً للفاجر على فجره. دع أن القانون نفسه لا يرتب أثراً للعقد القائم على سبب غير مشروع، ولا يمكن أن تفهم هذه القاعدة وتدرك حكمتها إلا إذا محوت أثر التعاقد وعاد ما كان إلى ما كان.
ذلك خير من الرأي القائل بأنه لا ينبغي مساعدة أي من طرفي التعاقد لأنه ليس لمن خالف القانون أن يستعين بالقانون ليحميه. ذلك بأن أصحاب هذا الرأي وهذه حجتهم لم يعبئوا بما يترتب على المنع من معاملة القابض على السحت معاملة أخف وأصلح من معاملة القابض على الحلال. بل إن هذه الحجة قد تلتوي على أصحابها في بعض الأحوال ويكون من نتائجها أن تتفاوت المعاملة بين العاقدين فيحل لأحدهما ما يحرم على الآخر.
وهذا من الوجهة القانونية. وأدب النفس يقضي بأن ما خرج عن النظام العام يجب إرجاعه إليه؛ ولما كان تنفيذ العقد الباطل خروجاً عن النظام وجب إلغاء التنفيذ ورد الحالة إلى ما كانت عليه قبله. ومن مصلحة المجموع أن يعلم سلفاً كل مقدم على مباشرة عقد باطل أنه لا يملك تنفيذ العقد بل ولا يملك الاحتفاظ بما تم لمصلحته تنفيذاً للتعاقد).
لغة ممشوقة تحبب إليك لو كنت من قضاة الدرجة الثانية البحث في الدعوى وتصور لك قاضي الدرجة الأولى رجلاً له قيمته فلا تقبل على هدم حكمه إن أردت الإلغاء إلا بحذر واحتراس.
وهذا قاض ثالث - مصطفى مرعي - يجيد كتابة الأحكام على حداثة عهده بالقضاء. أنظر كيف انقلب قلم المذكرات الجامح يراعة متزنة هادئة تتخير لكل لفظ موضعه ولا تتزيد في الأسباب حرفاً. أنظر إليه يطبق قاعدة أن العبرة في العقود بمعانيها لا بمبانيها:
(وحيث أن الطعن الثاني الذي وجهه المدعي للعقد يتطلب البحث فيما إذا كان العقد المذكور قد استوفى شروط البيع فيكون ملزماً للبائع أو هو لم يستوف هذه الشروط خلافاً لظاهره فيكون هبة أو وصية يسترها بيع.
وحيث أن المحكمة عند إجراء هذا البحث لا تستطيع أن تنظر إلى العقد في ظاهره دون(167/49)
أن ترجع إلى الظروف التي أحاطت بالمتعاقدين، لأن العبرة في وصف العقود بالحقيقة التي قصدها المتعاقدون لا بالصورة التي تدل عليها الألفاظ والنصوص. كما أن المحكمة لا تستطيع أن تنظر إلى العقد المذكور مستقلاً عن الورقة الأخرى التي استصدرها الوالد من ابنه على طول المدة التي تقرب من سنة بين تاريخ العقد وتاريخ الورقة سابقة الذكر لأن تحرير هذه الورقة معناه أن المتعاقدين أرادا أن يكملا بها العقد بحيث يصبح منه جزءاً لا ينفصل، أو تكون معه كلا لا يقبل التجزئة).
تلك نماذج للغة الأحكام في يومنا الحاضر أتينا بها على سبيل التمثيل لا الحصر، فإن مجموعات الأحكام زاخرة بثمار قرائح خصبة وأقلام مواتية.
(وعلى من مارى أن يقرأ فإنه لا رأي لغير مطلع عليم).
وحدث ولا حرج عن أحكام محكمة النقض والإبرام في عهدها الحاضر. ارجع إلى أي حكم تقع عليه يدك من أحكام دائرتيها. اقرأ ما شئت بلا تمييز تقرأ أدباً عالياً قد أسبغ على قضاء المحكمة العليا ما كان يجب له من روعة وجلال.
لسنا نحاول هنا تحليلاً لهذه الناحية من أدب العصر، ولكن من ذا يملك أن يمر دون أن يقف وقفة إعجاب وطرب على مثل هذا القول لمحكمة النقض ترسم به حدود حرية النقد:
(وبما أن ما ذهب إليه الحكم المطعون فيه من أن العرف جرى على المساجلة بالعبارات الحماسية والأساليب التخيلية وألفاظ التهويل والمبالغة والتحذير والترهيب لمجرد التأثير على النفس وحملها على التصديق في الشؤون التي ليس من المستطاع حمل الناظر على تصديقها بالطرق البرهانية الهادئة. هذا الرأي لا تجيزه محكمة النقض والإبرام، بل إنها تصرح بأن فيه خطراً على كرامة الناس وطمأنينتهم وتشجيعاً للبذاءة ودنس الشتائم. والحقيقة ليست بنت التهويل والتشهير والمبالغة والترهيب بل بنت البحث الهادئ والجدل الكريم. وإذا كان لحسن النية مظهر ناطق فإنه الأدب في المناظرة، والصدق في المساجلة).
بل انظر إلى لغة هذه العاطفة الجياشة تجلجل بحق الإنسان إذا عذبه إنسان لا فرق لدى حارسة القانون بين رجل ورجل:
(وبما أن هذه المعاملة التي أثبتت المحكمة أن المجني عليه كان يعامل الطاعنين بها هي إجرام في إجرام، ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال(167/50)
الشاقة. وكلها من أشد المخازي إثارة للنفس واهتياجاً لها ودفعاً بها إلى الانتقام. ولو صح أن المأمور كان يطلب نوم الطاعنين بمركز البوليس كما يقول الشاهد الذي اعتمدت المحكمة شهادته، وكان هذان الطاعنان يتخوفان من تكرار ارتكاب مثل هذه المنكرات في حقهما كما يقول وكيل أحدهما في تقرير الأسباب وفي المرافعة الشفهية، فلا شك أن مثلهما الذي أوذي واهتيج ظلماً وطغياناً والذي ينتظر أن يتجدد إيقاع هذا الأذى به - لا شك أنه إذا اتجهت نفسه إلى قتل معذبه فأنها تتجه إلى هذا الجرم موتورة مما كان، منزعجة واجمة مما سيكون؛ والنفس الموتورة المنزعجة هي هائجة أبداً لا يدع انزعاجها سبيلاً إلى التبصر والسكون حتى يحكم العقل هادئاً متزناً فيما تتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التي تتخيلها قاطعة لشقائها. ولا شك بناء على هذا أن لا محل للقول بسبق الإصرار، إذ هذا الظرف يستلزم ألا يكون لدى الجاني من الفرصة ما يسمح له بالتروي والتفكير المطمئن فيما هو مقدم عليه).
نظرة إلى الأمام
والآن وقد استدبرنا حياة اللغة القضائية كما كانت، واستعرضنا بعض الأدلة القائمة على نهضة حالية لا تنكر، نود لو استطعنا أن نزيح طرفاً من سجف المستقبل فنطل على ما يعده الزمن لهذه اللغة الكريمة العزيزة.
كأني بها وقد راق لها الجو وانبسط أمامها ميدان العمل فسيحاً غير محدود، كأني بها وقد استولت على مشاعر جيل جديد ممعن في الأدب وثقافة العصر، فراح يفكر فيها ويكتب ويؤلف، وكأني بهذا الجيل وقد ضرب بسهم في جهود البشرية نحو الكمال، وكأني بمصر وقفت على قدميها في طليعة العالم العربي تبادل الغرب ثقافة بثقافة وتبيعه علماً بعلم.
لست بحالم. إني أرى هذا اليوم رأي العين.
(تم البحث)
زكي عريبي(167/51)
2 - نهضة المرأة المصرية
وكيف توجه للخير العام
للأستاذ فلكس فارس
نحن في الشرق، وما أعني سوى الشرق العربي، مجلي ثقافتنا وقوميتنا، لا يهمنا سوى إيجاد الطفل، ولم نزل مسيرين بعقلية القبائل الغازية فنطمح إلى إيجاد الأطفال دون مبالاة بما تؤثر منابتهم عليهم.
إن خير ما تستثمر به المرأة للخير العام إنما هو استثمارها أطفالاً يصلحون لتكوين الأمة القوية أجساماً والسليمة عقولاً، وما النهضة المتجلية بين العدد القليل من بنات الشرق بالنهضة التي يصح أن نراها نهضة عامة متغلغلة في قلب الشعب نفسه؛ فالمجتمع لم يزل في الشرق العربي بأسره يتبع الإفراط والتفريط في تكوين الأسرة، فالمرأة عندنا اثنتان: ضحية استبداد الرجل، وضحية الضلال والغرور بنفسها لضعف الرجل إزاءها.
ليس لنا إلا إلقاء نظرة على ما حولنا ليأخذ بصرنا مشهدين هما مقتل الأمة وعلة دمارها.
المشهد الأول: شاب يفتش عن فتاة لتكون أماً لبنيه، قيل له إن في إحدى الأسر الشريفة فتاة بيضاء اللون أو سمراء، واسعة الأحداق طويلة القامة فاتنة ساحرة فسعى في أثرها متوسلاً إلى أهلها بكفاءته، فأصبح زوجاً للمجهولة، نكرة ضمت إلى نكرة. . . . فلا يطول الزمن حتى يظهر التنافر الخفي الكامن في الفطرتين فتبدأ المآسي التي تختتم على الأغلب بإهداء المجتمع أطفالاً تيتموا وآباؤهم وأمهاتهم لا يزالون على قيد الحياة. وهنالك الأسر المتعددة لرجل واحد امتنع عليه العدل المشروط فأهدى المجتمع الأخوة الأعداء، وما يبر بأبيه من كان لأخيه عدواً. . .
المشهد الثاني: فتاة في ربيع الحياة، مقصومة الشعر، غلامية تصادر وتباطن أي رجل كان، مهتوكة الستر، محولة هيكل الإنسانية إلى مهبط غواية وطيش، إن لم يتجاوز عدد مراقصيها المئات، عدت مقصرة في ميدان الثقافة، متأخرة في حلبة الحضارة والارتقاء، لا يصل قلبها إلى من تقف عنده وتختاره زوجاً لماله أو لجاهه إلا بعد أن يكون هذا القلب قد تقطعت أعشاره خفوقاً، فهي إذ ذاك كالنعجة التائهة راجعة إلى حظيرتها بعد أن تركت قطعاً من صوفها، وقد تكون تركت قطرات من دمها على أشواك الطريق. . .(167/52)
هي في بيت الزوج لنفسها أولاً، وكل غيرة تبدو منه إنما تتجلى لديها كفراً بالتمدن وتقهقراً معيباً، تعودت أوتار قلبها أن تشد جواباً لكل قرار، فهي تدفع بالإيقاع الموقت مرافقة رنين أي وتر وتستعذب نغماته، روحها شاردة مضللة، فهي منبت أطفال يأتون الحياة مروعين، في أعصابهم تشوش، وفي أدمغتهم اختلال. . .
هذه خطوط كبرى لرسوم تمر مشاهدها أمامنا كل يوم في هذه البلاد الشرقية، وهذه المشاهد هي مركز العلة فينا ومصدر كل ما نشكو من تأخر وانحطاط.
إن سيادة الرجل على المرأة لا تعني قتل الحوافز الطبيعية لتضليل الانتخاب الخفي وفيه سر تحسين الأنسال، كما أنه لا يعني استضعاف الرجل أمامها لتجعل نفسها ملهاة وألعوبة بين أيدي الفاحشين من الرجال.
لقد أدخلت مدنية الفرس على الحضارة العربية بدعاً لابد من التحرر منها، وجاءت المدنية الغربية تستهوي مجتمعنا بما اتضح زيفه لدى مفكري الغرب أنفسهم لخروجه عن المحور الطبيعي للحياة، وهذا الذي يراه أنصار الطفرة خليقاً بالإعجاب من حرية المرأة، المتطرفة، إن هو في نظرنا إلا عنوان عبوديتها وذل الرجل المتساهل فيها.
إن آدم وحواء أخرجا من الجنة وكل منهما حامل ناموس حياته، وسواء أكان ما جاء في التوراة تاريخاً حقيقاً للمؤمنين أم كان أسطورة خيالية لغيرهم، فإن المفكر ليجد فيه النظام الذي لا تستقر الإنسانية على سواه.
لقد تمردت المرأة في العالم الحديث على وظيفتها الطبيعية وصاح كثيرات من الكاتبات في وجه الدنيا قائلات: لا نريد أن يحسبنا الرجل آلة للاستيلاد، نحن مساويات له في مجال التفكير والعمل. وكهربت هذه الكلمات أعصاب العدد الأوفر من النساء فتمردن على الأمومة واندفعن مطالبات بالعمل الحر استناداً إلى مبدأ الشخصية قبل النوع؛ وهكذا نشأ العراك بين الرجل والمرأة في ميدان الأعمال وفي مجال الحقوق والواجبات.
إن الطبيعة نفسها قد قسمت العمل بين الرجل والمرأة فألصقت كفه بالمحراث وألصقت صدرها بالمهد. فحسبت المرأة أن في موضعها كل العبودية، وخيل لها أن في مركض جهود الرجل كل الحرية، فسلخت صدرها عن مستقر الطفل واندفعت إلى المحراث، فتعطل الحرث العميق في الأرض منابت القوت، وساد الظلام على البيت منابت الأطفال.(167/53)
إننا نسمع المعترضات يصرخن قائلات: إننا لا ننازع الفلاح محراثه، بل ننازع الرجل حقنا في الاشتراك في الأعمال التي تقوم المدنية عليها؛ نريد التغلغل في دوائر الحكم والإدارات والمصالح فإن الله لم يحرمنا القوة الفكرية التي جاد بمثلها على الرجل. ونحن نجيب السيدات بحقيقة إن أنكرها العاملات منهن كنّ كاذبات مكابرات، فنقول وهل هذه الأعمال على اختلاف مظاهرها سوى محراث يحتك بالأرض القاسية وهو يرتوي بعرق العبودية والشقاء؟ أليس الرجل في الحكم والإدارة والتجارة والصناعة مرتبطاً بمحراث العبودية لهذا التراب يعالجه لاستخراج الخبز بعرق الجبين؟ وهل الأم تملأ البيت نوراً وحكمة وشعراً مستندة إلى ذراع زوجها ومنحنية على سرير طفلها أقل مجداً أمام الحياة من أكبر رئيس لأعظم مصلحة من مصالح الشعوب؟
ليس في العالم رجل عامل، أيا كان عمله لا يخضع إرادته لمن فوقه ولمن حوله، بل ولمن دونه في مراتب الهيئات العاملة، فليس ما تتوهمه المرأة حرية في أعمال الرجال إلا عبودية لهم. على أنه إذا تسنى للرجل أن يحتفظ بشيء من الكرامة لنفسه في هذه العبودية، فإنه ليمتنع على المرأة ألا تصطدم في مواقفه بإهانات أخف منها أثقل ما يمكن أن يلحقها من القيمين عليها، آباء أو أخوة أو أزواج.
لقد كان حق المرأة في جميع العصور تابعاً لحق الرجل وهو يسود عليها، إلى أن طرأ على أوربا انقلابها المعروف في بداية القرن التاسع عشر، فنشأ في المجتمع حق جديد غريب في عناصره، هو حق المرأة منفصلاً عن حق الأسرة التي يرأسها الرجل، وهكذا شاهدت الشمس ما لم تشهد مثله في أي عصر من العصور الغابرة: شاهدت النوع البشري منشقاً إلى فريقين متناظرين يتناطحان في الميادين العامة، بعد أن كان هذا النوع لبشري إنساناً واحداً من جسدين مندغمين ينبثق من اندغامهما فجر الحياة.
أما منشأ هذا التطور فانقلاب خطير لم يصور فجائعه أحد كما صوره الشاعر الخالد الفرد دي ميسيه، فإذا ما اقتطفنا بعض عباراته لا نخرج عن دائرة الموضوع الذي نحاول الإلمام بأطرافه.
قال: (في إبان الحروب الإمبراطورية، بينما كان الآباء والأخوة في بلاد الألمان قذفت الأمهات المضطربات بسلالة شاحبة جاءت الوجود عنيفة مستعرة الأحشاء.(167/54)
تلك سلالة تمخضت بها الحياة بين حربين، وربيت في المدارس على دوي الطبول، فكان إذ ذاك ألوف من الأولاد يحدج بعضهم البعض الآخر شزراً وهم يمرنون على القوة عضلاتهم الضعيفة، وكان الآباء الملطخون بالدم يلوحون للأبناء من حين إلى حين فيرفعونهم لحظة إلى صدورهم المحلاة بالذهب ثم يتركونهم إلى الأرض ويعودون ممتطين صهوات الجياد).
وبعد أن وصف ميسيه سقوط نابليون مدفوعاً بجناحي القدر إلى أغوار الأوقيانوس البعيد، قال:
(وجرت في مجتمعات باريس أمور مروّعة، إذ انشق الرجال عن النساء، فلبس النساء البياض كالعرائس، واتشح الرجال السواد كالأيتام، ووقفت الفئتان تحدج إحداهما الأخرى بنظرات العداء. انفصل الرجال عن النساء فتولد عن هذه الانفصال شيء أشبه بالنصل القاطع لا شفاء لجرحه، وما ذلك النصل إلا عاطفة الاحتقار.
فقد الرجل حبّ المرأة، فاندفع إلى الخمر ليستعيض عما فقد، ونظر الناس إلى الحب نظرهم إلى الدين كأن كليهما توهم واغترار، وغصت المواخير بالرجال فأصبحت الفتاة مهملة بعد أن كانت تغذي الشبيبة بحبها الطاهر السامي، وعندما احتاجت هذه الفتاة إلى غذاء ورداء باعت نفسها وبذلت عرضها لتعيش. إن الشاب الذي ترك الفتات وكان يمكنه أن يستنير وإياها بأنوار شمس الله، ذلك الشاب الذي كان في وسعه أن يقتسم مع حبيبته لقمة الخبز مبللة بعرق جبينه ويتمتع بحبها في فقره، أصبح مستفرشاً لدمن الإنسانية في مواخير الفسق حيث يتلاقى بالفتاة التي تركها وهي مثقلة بالأوصاب، شاحبة مضعضعة، يجول على فمها الجوع ويرعى قلبها التبذل والفساد. .).
(يتبع)
فلكس فارس(167/55)
في الأدب الإنكليزي
4 - هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟
للسيد جريس القسوس
- 7 -
تشاترتن والانتحال
لم يكن أحد من معاصري تشاترتن يشك في صحة ادعائه أن هذه الأشعار منسوبة إلى الكاهن رولي، بل كلهم يوقنون أن تشاترتن إنما عثر على هذه المنظومات في مخطوطات الكنيسة وسجلاتها، فنقحها ونشرها في مختلف الصحف، معلناً أنها اكتشافات أدبية جديدة.
لهذا كان في برستل أدبيان كبيران من هواة الأدب الرولي، هما جورج كتكوت وهنري برْجمْ هذان حفزهما الولع بهذا النوع من الأدب إلى جمع كلّ ما يعزى إلى ذلك الكاهن الخيالي؛ من ذلك مخطوطة أدبية وضعها تشاترتن، ونسبها إلى رولي، فابتاعها برْجمْ منه بخمسة شلنات، ظاناً أنها بقلم الكاهن رولي.
ولقد بلغ بتشاترتن طموحه الأدبي إلى مراسلة الصحف، سنة 1761، حين بلغ السابعة عشر من العمر، أن أعلن اكتشافه لقصائد شهيرة (من نظم كاهن من كهنة برستل، اسمه رولي، عاصر هنري السادس، وإدوارد السابع)، لكنه لم يتلقّ جواباً مرضياً شافياً؛ لهذا بعث إلى الأديب النبيل هوراس ولبول مؤلف قصة (قلعة أوترانتو) ينبئه باكتشافاته الأبية. فردّ عليه الأديب ولبول رداً حسناً، يستزيد فيه معرفة عن ناظم هذه الأشعار، وعن مقدارها، واعداً أن ينشرها على نفقته الخاصة.
وما كان من تشاترتن إلا أن عاد فبعث إليه بكتاب رقيق، يشرح فيه بؤسه وفقره، ويتوسّل إليه في إيجاد عمل له، يستطيع به أن يسد عوزه؛ وأرفق ذلك الكتاب ببعض الأشعار الرولية الممتعة. غير أنه ما كاد ولبول يتسلم هذه الأشعار، حتى سرّ بها سروراً دفعه إلى إطلاع أصدقائه عليها؛ من هؤلاء الشاعران الكبيران طوماس جري وميسن فأدهشهما الأسلوب الرائع، والفن البديع، والنفَس الشعري العالي إدهاشاً خالطت معه أفكارهما الريبة في أمر انتسابها إلى كاهن قديم العهد. فكن ذلك بدء المشكلة الرولية في عالم الأدب(167/56)
الإنكليزي.
لكن المشكلة لم تتطور وتتعقد إلا بعد وفاة تشاترتن، فقد جمعت هذه الأشعار ونشرت في مجلد خاص، كما بينا، سنة 1803؛ فأحدث نشرها ضجة صاخبة في عالم الأدب لم تخمد حتى يومنا الحاضر.
عندئذ بادر علماء اللغة إلى دراسة لغة هذه الأشعار دراسة وافية دقيقة، استطاعوا بها أن يكشفوا بعض الكشف عن حقيقة الأمر. فقد توصلوا في بحثهم إلى الاعتقاد الجازم بأن لغة هذه الأشعار لا يمكن أن تنسب إلى الشاعر رولي، إذ كيف يصح ذلك وكثير من مفرداتها لم تتسرب إلى اللغة الإنكليزية إلا بعد القرن الذي عاش فيها الكاهن رولي؟
وأخيراً استدلوا من بحثهم العميق على أن تشاترتن كان يعتمد في كتابة أشعاره على قاموسين في الاشتقاق للعالمين اللغويين بيلي وكَرْسي فقد كان دأبه في بدء الأمر جمع كل ما تقع عليه يده من المعاني والمفردات القديمة البالية؛ ثم كان ينحت ما يستطيع نحته منها، إذا رأى أن الوزن والقافية لا يستقيمان بغير ذلك.
ولقد أدرك علماء اللغة، وخاصة العلامة اللغوي الشهير ولتر سكيت أنه كان يكتب أولاً بلغة عصره، وبعد ذلك يحوله بمضاعفة حروف المفردات وغير ذلك من السبل الحاذقة إلى أسلوبه ولهجته الخاصة، بطريقة يحافظ فيها على جمال الأسلوب الشعري وروعته الفنية.
ولقد عثر علماء اللغة في شعر تشاترتن المنسوب إلى رولي على اقتباسات من شعر سبنسر وشكسبير، ودرايدن وبوب، وقري، لكنها موضوعة بطريقة لا يشتم منها سرقة أدبية، وإنما تدل على ذاكرة حادة، وعتْ هذه الأشعار، وأرسلتها في شتى المناسبات، بطريقة يتعذر معها على القارئ التمييز بين ما هو لتشاترتن، وما هو لغيره. وذلك مما يدل كل الدلالة على أن هذه الأشعار من نظم تشاترتن، لا الشاعر الخيالي رولي. إذ كيف يصح ذلك، ورولي - في رأي تشاترتن - عاش في عصر متقدم على هؤلاء الشعراء جميعاً؟
ومما زادهم ريبة وشكاً في أمر هذه الأشعار الرولية، إدراكهم - على ممر الأيام - حذق تشاترتن ومهارته في تقليد أساليب الكتاب والشعراء المعاصرين تقليداً يتعذر معه على القارئ التمييز بين أدب تشاترتن وأدب غيره. فكان مثلاً ينشر في مجلة & ومجلة مقالات رائعة، حاكى فيها أسلوب جونيس محاكاة مدهشة؛ ليس هذا فحسب، بل دفعه حذقه(167/57)
في فنون الكتابة وأساليبها الشعرية والنثرية إلى تقليد صمُلِتْ وتشارتشل ومكْفرسن في أوشان وبوب في أسلوبه الكلاسيكي، وقري وكولنز
وقد طرق - فرق ذلك - معظم أبواب الأدب فخلّف آثاراً قيّمة في الرسائل السياسية، وأناشيد الرعاة والشعر الغنائي والهجائي، والرواية الملحّنة ومن أشهر آثاره في هذا الباب أوبرا (الثأر)
والحاصل أن دراسة تطور اللغة، واشتقاق مفرداتها؛ وعثور العلماء على معان في شعر تشاترتن مقتبسة من شعراء متأخرين، وإدراكهم حذقه في محاكاة الأساليب والفنون النثرية والشعرية، ونفي المؤرخين زعم تشاترتن بوجود كاهن اسمه رولي عاش في القرن الخامس عشر وعرفه الناس واستمعوا إليه - جميع هذه أظهرت بجلاء واضح بطلان زعم تشاترتن، ودلّت دلالة صريحة أن هذه الأشعار لم تكن في الحقيقة إلا من نفثات براعة ذلك الشاعر الشاب، وأنه إنما اخترع الكاهن رولي اختراعاً لتمثيل فكرة أو نحو خاص في حياته، أو ليلهي به الناس، وليُرضي به حاجة أدبية أو خلقية في نفسه.
عندئذ سما تشاترتن في أعين الأدباء وكبر، وأصبح ديوانه خير ما يمثل عبقرية الشباب في ميدان هذا الفنّ الجميل.
الكرك - شرق الأردن
جريس القسوس(167/58)
الشاعر وسريره
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
في عزلتي - والصمت في أفقها ... وفي ثراها الوحشة القاتلة -
أدير عينيّ فما إن ترى ... عيناي إلا ظلمة شاملة!
تقطّعت فيها خيوط المنى ... يا ويلتا. . حتى المنى الباطلة!!
كنت بها أمرح في جنَّةٍ ... تسخر منها النُّوَب الهازلة
وحين غابَتْ فتلمستها ... دوَّتْ بسمعي ضحكة هائلة!
عدتُ بها أحمل جَنْبي إلى ... سريريَ المضطرب الحائرِ
كبائس أضناه فرط الطوى ... مرّ بقصرٍ شامخٍ عامرِ
خارت به أركانه فارتمى ... وا رحمتا للحَدَث الخائر!
يرنو إلى النور. . ويُذكي الأسى ... في قلبه قهقهةُ السّامر!
مثل أغاني الموت طنانة ... في أُذن المحتضَر البائر!
ويح سريري! هو بي مشفق ... يوسعني عطفاً وتحنانا
يحضنني جذلان. . . حتى إذا ... أدرك ما بي ارتدّ أسوانا!
كم وَدّ أن يسلس جنبي له ... فما ارتضى جنبي ولا لانا!
لا. . يا سريري، خلّني والأسى! =نَمْ. لا تُبَلْ فوقك سهرانا!
ما كان أحراك بتنفيس ما ... يبهظني لو كنتَ إنسانا!
أُقسُ على جنبي ترفِّه به ... عنّي، ففي لينك آلامي!
يُذْكِرُني لينَ الرضى والهوى ... ولين آمالي وأحلامي
ولن أُعافَى ما تذكّرتُها ... ناكئةً في قلبي الدامي!
أعدُّ ساعاتيَ. . . يا ليتني ... أسهو فلا أحسب أعوامي!
يا ليت لليأس سبيلا إلى ... قلبي فَأُوقَى سُخْر أيامي!
يا ليت لليأس سبيلا إلى ... قلبي فأحيا بفؤاد خلي
واعجبا منّيَ أَستَنْجِد الْ ... يأس كأنّي لم يمتْ مأملي!
ما أنا فيه اليأسُ! لو لم أكن ... عن راحة اليائس في معزل!!(167/59)
مصيبتي هذا الشعور الّذي ... يربط ماضيَّ بمستقبلي
مَنْ لي بإِنسائيَ نفسي، فلا ... أذكر ما اسمي: خالد أم علي؟!(167/60)
نجمة المساء
'
لألفريد دي موسيه
ترجمة أحمد فتحي مرسي
يا رسولَ السماءِ في ذلك الليْ ... لِ ويا بهجة الظلام المهيبِ
من سُجوفِ المساء جبهتكِ الغرّ (م) ... اء لاحت تنيرُ بعد الغروبِ
ما الذي ترقبين - من قصركِ الأز ... رق - في ذلك الفضاءِ الرحيبِ
هدأت ثورةُ الرياح وقرَّت ... وبدا الكونُ غارقاً في السكونِ
وغصون الرياض في الليل تبكي ... فيهُز الربى بكاءُ الغصون
والفراش الجميلُ في هدأةِ الليْ ... لِ يجوب الحُزونَ إثْر الحُزونِ
هو ذا ضوؤُك البهيج تجلى ... وبدا زاهياً على الآكامِ
أنت في الليل دمعة من لجينٍ ... تتلألأ على رداءِ الظلامِ
ترقبين المروجَ والراعيَ الشي ... خَ يجوب الربى مع الأغنامِ
ما الذي تنشدين يا نجمتي الزه ... راَء في ذلك الوجود الغافي
فوق هذي التلال قد بتُّ أرعى ... وجهك الضاحك الجميل الصافي
أظلم الليلُ غير نظرتك الحيْ ... رى تجلّى وضوئك الرجَّافِ(167/61)
فلسطين
للسيد جورج سلستي
إِيْ فلسطين، قطعةً من سماءِ ... كنتِ قبلاً، وجنَّةً من رُوَاءِ
تملأُ العينَ ساحراتُ مغاني ... ك وتسبي الفؤاد منكِ المرائي
فالجمالُ المئنافُ ما شعَّ إلاَّ ... تحت أَجوائِك الحِسانِ الوِضاءِ!
يطفحُ السهلُ منكِ بالرونق الضح ... يان، والسفحُ بالسنى والسناءِ
وترفُّ الأمجادُ فوقكِ يا أرضَ الن ... بوءاتِ، رفَّةَ الأَضواءِ
وجلالُ الماضي المضمَّخ بالسؤ ... ددِ والعزِّ والعلى والإِباءِ!
كم تهاديتِ فوقَ هام التواري ... خ، دنيا سحريَّةَ الأنحاءِ
يلعبُ النور فوق ضاحي صياصي ... ها ويلهو على ثرى الأَوْداءِ!
كم تجلَّيتِ في الوجود سماءً ... رصَّعتْها كواكبُ لأنبياءِ!
تنفحُ الناسَ بالعدالة والسل ... م وبالحلم والتقى والإِخاءِ!
إِيْ فلسطينُ، مهبطَ لوحي والإل ... هامِ والدينِ والهدى والحياءِ
جنةً كنتِ فاستحلتِ جحيماً ... بوجود اليهودِ والأوصياءِ!
كنتِ بالأمسِ ملْءُ باحاتكِ السلمُ ... فأصبحتِ ساحة الهيجاءِ!
قَثراكِ الفسيحُ قد غصَّ (بالتَنْك) ... وبالطائراتِ رحبُ الفضاءِ
وتبارى بأهلك العُرْب تمثي ... لاً وفتكاً، جندُ الوصيِّ المرائي!
فاستحلوا قتلَ البريء، فما يُبْ ... صَرُ إلاَّ مضرَّجٌ بالدماءِ
وأديمٌ مخضَّبٌ وصعيدٌ ... قد علتْهُ نثارةُ الأشلاءِ
إن تحت الدم المرقرقِ أفوا ... ها وطئ الأشلاءِ رجْعَ نداءِ
تستفزّ النفوس للأَخْذ بالثأْ ... رِ وللانتقام للشهداءِ!
والميامينُ لا تنامُ على الضي ... م ولا تستكينُ للأعداءِ
ودماءُ الأحرارِ مَهْرُ المعالي ... وصَداقُ الحريَّةِ الحمراءِ!!
اصعدي، اصعدي، فأنَّ الضحايا ... يا فلسطينُ سُلَّمُ العلياءِ(167/62)
القصص
قصة مصرية
قبلت زواجها
للأستاذ دريني خشبة
(الحوار في الأصل باللهجة المصرية)
جلس (عم حامد) على حفافي الماء يغسل آثاراً من الدم الأحمر القاني في ملابسه، ثم توضأ وولى وجهه شطر القبلة وطفق يصلي. . .
ولكنه كان يصلي صلوات غير منتظمة ولا متساوقة. . . فتارة كان يطيل الركوع جداً، وتارة كان يخطفه خطفاً. . . ومرة كان يطيل السجود حتى يظن أنه نائم، ومرة أخرى كان لا يكاد يمس الأرض جبينه حتى يستوي جالساً؛ وكان مرة يصلي ركعة واحدة ويسلم، ثم يصلي ركعتين أو ثلاثاً أو أربعاً. . . ومرة كان يستمر في صلاة طويلة لا تكاد تنتهي!. . . عشر ركعات أو خمس عشرة ركعة. . . وهكذا!!
وكان يعود إلى الترعة فيتوضأ ويتوضأ، ثم يعود فيصلي ويصلي. . . وكان يرفع كفيه إلى السماء، ويعلق عينيه المغرورقتين بزرقتها، ثم يلهج بذكر الله، ويصلي على نبيه، ويكثر من قول: (لا حول ولا قوة إلا بالله!!) ولكنه كان يكثر كذلك من قول: (عمر، عمر، عمر!) ثم يبكي بكاء مرا!
وكان كلبه الأمين يُقعي بعيداً عنه، وينظر إليه ويتعجب!
- (من عمر يا عم حامد؟ السلام عليكم!).
- (أوه! عبد الله! تعال يا عبد الله نصلي ركعتين لله!).
- (أي صلاةٍ الآن؟ باق على الظهر ساعة يا عم حامد!).
- (ساعة على الظهر! والله يا بني أنا فاكر أن لشمس لم تطلع بعد!).
- (لا يا عم حامد! نحن في الشتاء والغيوم تحجب السماء، ولكن من عمر الذي تناديه يا عم حامد؟).
- (عمر؟ عمر من؟ عمر بن الخطاب!).(167/63)
- (وماذا تريد من عمر بن الخطاب في هذا البرد القارس؟).
- (لا شيء. . . فقط. . . ذكرته في جاهليته وقد خرج الفجرَ ليدس ابنته في التراب وكانت الطفلة تعبث بشعر ذقنه فينظر إليها ويبكي. . مسكين سيدنا عمر! كان له حق! كان له حق.
- (كان له حق حين ذهب يدفن ابنته حية؟! يا للقسوة؟).
- (والله كان له حق يا عبد الله! البنات! آه من البنات يا بني!).
- (استغفر الله يا شيخ! مالك مضطربً هكذا يا عم حامد؟).
- (أستغفر الله!؟ صحيح! أستغفر الله، أستغفر الله).
- (الله أكبر. . . ما هذا الدم يا عم حامد!).
- (دم! أيّ دم؟ آه! هذا من جرح بسيط في ذراعي يا عبد الله).
- (وماذا جرح ذراعك؟).
- (وقعت على هذا الحجر وأنا أتوضأ، وكانت عنده زجاجة. . . هل بذرتم البرسيم؟).
- (بذرنا البرسيم؟ نحن (نعلف) بهائمنا منه وأنت تسأل عن بذره؟ ماذا بك يا عم حامد؟).
- (لا شيء! اتركني يا عبد الله! أود أن أنام قليلاً، أنا متعب يا بني، لم أنم طول الليل. . .).
- (السلام عليكم يا عم حامد، كان الله في عونك! كان الله في عونك يا شيخ).
وانصرف الشاب الفلاح وفي قلبه وسواس يشغله؛ فهو لم يعهد عم حامد، الرجل الطيب، كما عهده اليوم شديد الحيرة بادي الارتباك مغبر الوجه؛ وعهده به الشيخ الهادئ الدمث المشرق الجبين الضاحك المُحَيَّا؛ ولكن الشاب مع ذلك لم ير أن يلحف حتى يقف على سر الفلاح الشيخ، الذي لا يوجد في القرية بأكملها من يصلي أكثر منه، أو يعطف على الضعفاء والمحتاجين كما يعطف هو على الضعفاء والمحتاجين. . .
ثم تعب عم حامد من كثرة ما صلى وناجى ربه، فنام على الحشيش اليابس المنتثر في المصلى، وطرح فوقه ذلك (البشْت) الذي صنعه بيديه من الصوف الغليظ الذي لا يُرى الشيخ إلا وهو يغزله، واسترسل في سبات عميق ممتلئ بالأحلام المخيفة والرُّؤى الدامية.
وأقبلت فتاة جريحة. . . فلاحة ساذجة، تضع فوق رأسها (طرحةً) من الشاش الأسود(167/64)
مسبلة على العنق الطويل المربوط برباط كبير من الشاش الأبيض انتفخ القطن من تحته ليدل على جرح كبير في مكان خطر؛ وربطت كذلك ذراعها اليسرى كما ربطت عنقها.
أقبلت هذه الفتاة نحو المصَلى، ووقفت عند رأس عم حامد تنظر إليه في ذلة و؟ انكسار، وترسل من عينيها الدعجاوين دموعاً كالمطر حارَّة سخينة كأنها تفور من قِدْر تغلي. . . وكانت ثيابها البسيطة تزيد في جمالها الهادئ الحزين، وتبرز من الصدر ثديين ناضجين ينحدر عليهما الجلباب الفضفاض فيجعلهما كتماثيل مختار، وتبدي من أسفل قدمين صغيرتين بَلُّوريتين هدأ على كعبيهما خلخال كبير فضي تمتاز به أقدام الغيد الأماليد من قرويات مصر، وهو دائماً فتنة الأنظار في الريف المصري. على أن وجهها الشاحب المنزعج كان هو الآخر فتنة المفاتن! حاجبان رفيعان مقوسان تحت جبين ناصع فوق عينين كبيرتين حوراويْن، تضاعف سحرهما أهداب طويلة كحيلة، تلقي ظلالاً من الجمال المصري على الخدين البارزين المثمرين. . . كأنما خلقها الله محوراً لأمور جسَام تقع في ذلك البيت الصغير من تلك القرية الكبيرة البارزة في ريف المنوفية، توكيداً لخلق الفلاح المصري الذي يقدس العفاف في الفتاة، ولا يسمح أن يُفتَحَ قلبها إلا عن طريق أبويها.
وكان عم حامد يتقلب على شوك أحلامه، ثم استيقظ فجأة ليرى فوق رأسه (ثُريّا) ابنته. . . ثريا. . . التي حسب أنه قتلها وعشيقها بمحشّته الكبيرة. .
وفرك عينيه مرتين أو ثلاث مرات، ولكنه تأكد أنها هي. . . هي ثريا من غير شك.
- (بنت؟. . .).
- (. . .؟. . .).
- (ثريا؟!).
- (أبي. . .).
- (وكيف تركت محمود؟).
- (حالته خطرة جداً. . . قد يموت بعد ساعات).
- (آه. . . يا رب. . . يا رب. . . يا لطيف! غفرانك يا لطيف!).
وصمت لحظة، ثم نادى ابنته. . .
- (ثريا. . . سامحيني يا ثريا. . . سامحيني يا ابنتي. . . سامحيني. . . قولي الله(167/65)
يسامحك يا أبي. . . قولي. . . الله! لماذا تبكين؟ الجروح تؤلمك؟ لا، لا. . . ستشفى هذه الجروح إن شاء الله. . . تعالي يا ثريا، تعالي، اجلسي إلى جانبي؛ تعالي، أنت خائفة! اطمئني يا بُنَية! اطمئني. . . لقد غسل دمك ودم محمود كل ما كان في قلبي من غيظ. . . الله يشفيه محمود ابن خالي، هل كنت تحبينه يا ثريا؟).
- (والله يا أبي لقد كان يبشرني بأنه سيخطبني إليك اليوم!).
- (لا حول ولا قوة إلا بالله! ولكن! على كل حل كان يجب ألا تسمحي له بتقبيلك. . .
أنا ظننت، لا سمح الله، أن بينكما. . . (شيئاً حراماً)!).
- (لا والله يا أبي، ما كان بيننا إلا كل طهارة).
- (لا عليك يا ثريا إذن. . . الله يشفيه يا بنية ويتزوجك وتتمتعان بشبابكما. . . لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا (أخطأت) لا ريب في ذلك. . . صحيح، أنا تسرعت. . . ولكن الحمد لله. . . لا بد أن أصلي ركعتين شكراً لله على سلامتك يا بنتي!).
وذهب عم حامد إلى الماء وتوضأ ثم راح يصلي صلاة خاشعة هادئة منظمة.
لقد كانت خلية من النحل تطن في رأس ثريا من أجل محمود، فلقد كانت تحبه، بل تعبده؛ ولقد كان يحاول أن يحملها بين ذراعيه الواهيتين الضعيفتين بعد أن فاجأهما عم حامد يتناجيان في منزله الخالي، فضربهما بمحشته تلك الضربات التي حسبها قضت عليهما، وغسلت عن عرضه عار الفضيحة التي زعمها تلحقه في ابنته. . . ولكن محموداً، القوي الجبار ذا العضل، عجز حتى عن حمل نفسه، لأن جروحه كانت أكبر، ولأن الدماء ظلت تتفجر منها وتنهمر، فسارت ثريا إلى جنبه تسنده على رغم ضعفها وإعيائها حتى بلغا دار حلاق الصحة القريبة، حيث وجداه يطبب فلاحين كثيرين ثمة، وحيث كان ابنه يضع (العَلَقَ) على أورام العجائز، أو يعالج الحمص في مرضى مساكين.
- (عم أبا طالب. . وحياة أبيك تلحق، اربط جروح ثريا، و. . . جروحي بعد ذلك. . .).
- (لا. . . لا يا عم أبا طالب. . . الحمد لله. . . عليك بمحمود أولاً!).
ولم يكن أحد من المرضى الكثيرين في دار عم أبي طالب من أهل القرية لحسن حظ الجريحين، فكانا يتكلمان بجرأة وصراحة، وأراد عم أبو طالب أن يصيد سمك الجنة من دماء الفتى والفتاة، فقال: (الله أكبر، ما هذه الجروح؟ هذه جناية بالتأكيد! لا بد أن أُبلِّغ!(167/66)
سأبلغ الشرطة لضبط الحادثة. .) وترك ما يشغله من عمل بالفعل، ثم لبس معطفه الكحلي الكبير ويمم شطر الباب يوهم الجريحين أنه منصرف إلى مركز الشرطة للتبليغ عن الحادث.
- (يا عم أبا طالب! يا عم أبا طالب! خذ من فضلك!).
وكان صوت محمود وهو ينادي حلاق الصحة ضعيفاً وانياً.
- مالك يا سيد محمود؟ هذه جنية ولا بد أن أبلغ. . .
ثم اقترب الحلاق من الجريح البائس الذي لم يكن يمتلك أكثر من عشرة قروش، ومد يده.
- (هاك (بريزة) يا عم أبا طالب، ولما (أخف وتخف) ثريا. . .).
- (بريزة! م شاء الله، والله إنها مسألة لا يكفيني فيها جنيه وغرارتان من الأرز. . .).
- (لك ذلك يا عم أبا طالب. . . أسرع وحياة أبيك).
ورفضت ثريا أن تضمد جروحها قبل محمود، وحاول محمود أن يؤثرها على نفسه ولكن الحلاق الذي لا يعرف هذه العواطف تقدم بقطع القطن والشاش القذر وصبغة اليود والمرهم، فضمد جروح الفتى، ثم جروح الفتاة).
- (كيف حال محمود يا عم أبا طالب؟).
- (اسكتي، حالتك أحسن منه بكثير، مسكين، ربما لا يأتي عليه ثاني يوم يا. . .
على كل حال الجنيه وغرارتا الأرز لا آخذهما إلا منك. . . وإلا. . . فالفضيحة إن شاء الله!!).
- (ربنا يستر يا عم أبا طالب. . . إن شاء الله ربنا يشفي محمود، ويرى خاطرك).
وتركت ثريا حبيبها في منزل الحلاق وتهالكت على نفسها إلى الحقل لتلقى أباها، لأنها أعرف به، ولأنها واثقة أن ثورة الغضب التي سيطرت عليه لابد أن تكون قد هدأت وسكنت ريحها. . . ثم هي عارفة بورعه وتقاه وقلبه المؤمن الذي لا يحب لصاحبه أن يكون سافك دماء زكيه بغير جرم غير الظن، وكم من الظن ما هو إثم لو تدبر صاحبه. . . ذهبت إليه إذن. . . وكانت ألف فكرة تزدحم في رأسها طيلة الطريق. . . (تُرى؟ كيف أكلمه؟ وكيف أبدأ حديثي معه؟ هل سكن روعه؟ أم هو حين يراني ما أزال على قيد الحياة يثور ثائره ويتمم المأساة؟ آه يا ربي! أنحلم بالزواج وتأبى المقادير التعسة إلا الفضيحة؟. .(167/67)
).
واختتم الشيخ المحطم صلاته، ونظر إلى ابنته بعينين رجراجتين تفيضان بدمع غزير، ثم دعاها لتجلس إلى جانبه فامتثلت ثريا، ودنت منه وقلبها يخفق وجسمها يرتجف، ثم جلست معه في المصلى، وبدلاً من أن يضغط بذراعيه على عنقها فيخنقها كما كان يخيل إليها، تناول رأسها لجميل فطبع على جبينها قبلة هادئة صامتة، وتحدرت دموعه على خديها، ثم جعل يرجو منها أن تسامحه!
وصمت الوالد وابنته لحظة، ولكن صراخاً مرعباً ارتفع فجأة من جهة القرية، فنظرت ثريا، وهالها أن ترى نسوة متشحات بالسواد يجتمعن قرب الحارة التي فيها دكان الحلاق!
- (أبي!. . أبي!. . محمود!. .).
- (محمود؟ ما له يا ثريا؟. . .).
- (مات!).
- (مات! لا حول ولا قوة إلا بالله. . . مسكين محمود!).
ومرّ غلام بهما مقبلاً من جهة القرية فسألاه: من مات؟ فأجابهما: (إنه محمود ابن عم حنفي. . مات عند حلاق الصحة من جروح في عنقه. . قتلوه! الله ينتقم منهم! قتلوه من أجل قفة ذرة!).
واسودت الدنيا في عيني عم حامد، وأيقن أنه ممض بقية حياته في غيابة السجن، وما كان أحوجه إلى نهاية مريحة ناعمة. . .
أما ثريا، فقد انهدت قواها، وطار لونها، وامتلأت عيناها الجميلتان الحزينتان بأشباح الوحشة، وفكرت في أحلامها التي طاشت، فكانت تتراءى لها طيوراً سودا كالخفافيش تملأ الغرب الذهبي الذي أوشكت شمسه أن تغيب!
- (أبتاه!).
- (نعم يا ثريا!).
- (لازم نروح!).
- (إلى أين يا بنتي؟).
- (هناك! عند. . . أل. . . (عزا)).(167/68)
- (طبعاً يا بنتي. . . هي. . . لا عليّ أن يضعوا الحديد في يديّ! هذا أمر الله وقضاؤه! وإذا سألوك فيجب أن تعترفي بالحقيقة يا ثريا. . . لا حول ولا قوة إلا بالله. . .
وسار الشيخ المسكين وسارت في إثره ابنته، حتى إذا بلغا القرية ويمما شطر منزل حلاق الصحة لم يجدا أثراً لجنازة أو نحوها، فظن عم حامد أنهم ذهبوا بالميت إلى مسجد لقرية للصلاة عليه، ولذلك انثنى ليأخذ طريقه إلى المسجد، ولكن رأسا برز من نافذة في باب الحلاق أخذ يناديه فجأة: (يا عم حامد. . . يا عم حامد. . . هات ثريا وتعال. . .).
ونظر الشيخ، فرأى الحلاق نفسه هو الذي يناديه، فذهب إليه وصمت لحظة وهو يرمقه، ثم قال له:
- (أبا طالب! استرني يسترك الله! أنا ما صنعت ذلك إلا دفاعاً عن عرضي! هل بلّغت لشرطة؟).
- (اطمئن يا عم حامد، اطمئن، ولكن قبل كل شيء كم جنيهاً ستعطيني؟).
- (كل ما تطلب يا أبا طالب!).
- (خمسة جنيهات على الأقل يا عم حامد؟).
- (لك ذلك يا ولدي. . .).
- (تعال إذن. . . شرّف منزلي. . .).
ودخل الرجل. . . ودخلت في إثره ابنته، يحملان هموم الدنيا والآخرة!
يا للعجب! ماذا يرى؟ هاهو ذا محمود. . محمود حي لم يمت! وهو يدخن لفافةً بشغف ولذة. . . وإلى جانبه مأذون القرية، ورجلان من أكرم رجالها.
- (قبلت زواجها!).
- (قبلت زواجها!).
- (قولي يا ثريا. . . وأنا قبلته بعلاً لي!).
وتقدم الغلام الخبيث الذي كان أخبرهما أن محموداً قد مات، فسقاهم شراب الليمون المعطر بماء الورد. . .
دريني خشبة(167/69)
البريد الأدبي
نظريات في الحرب
الجنرال لودندورف من أعظم قواد ألمانيا في الحرب الكبرى وأعظم الخبراء العسكريين المعاصرين، وله في الحرب ووسائلها وغاياتها نظريات خاصة بسطه في كتاب وضعه بعنوان: (الأمة أثناء الحرب)، وقد ظهرت أخيراً ترجمة إنكليزية لهذا الكتاب بنفس لعنوان وفي هذا الكتاب يحمل الجنرال لودندورف على نظريات كلاوزافتش في الحرب، وخلاصتها أن السياسة يجب أن تكون أداة للمشرعات العسكرية، وأن هذه المشروعات يجب أن تكون طريقاً مباشراً للحرب؛ ومع أن نظريات كلاوزافتش تعتبر في كثير من الأمم ولا سيما إنكلترا نظريات متطرفة خطرة، فإنها تعتبر في رأي لودندورف لينة قاصرة؛ ذلك لأنها في نظره تفسح للسياسة مجالاً أكثر مما يجب، ولأنها لم تدرك أهمية السيطرة العسكرية المطلقة. وكل ما يسلم به الجنرال لودندورف من نظريات سلفه هو أن الحقيقة الخالدة في الحرب (هي حصر الأغراض العسكرية في سحق جيوش العدو خلال الحرب). أم ما تبقى من نظريات كلاوزافتش فيرجع إلى ماض انقضى وحل محله عهد جديد. ويرى لودندورف أن الحرب الحديثة لم تبق حرب جيوش وقوى عسكرية فقط هـ وإنما هي حرب مطلقة تقوم على حرب الأمم ضد الأمم. ويجب بناء على ذلك أن تضع الأمة كل قواها العقلية والأدبية والمادية في خدمة الحرب، وأن تكون هذه القوة أثناء السلام مخصصة للحرب التالية. ذلك لأن الحرب في نظر لودندورف هي أعظم تعبير عن إرادة الأمة في الحياة، ولهذا يجب أن تكون السياسة عبداً مطلقاً للحرب وأداة مطيعة لها.
ويرى لودندورف أن الحرب وسيلة لا غاية لها؛ ولهذا يجب أن تعد الأمة للحرب، وأن تكون دائماً على قدم الاستعداد له. ويرجع لودندورف هزيمة ألمانيا في الحرب الكبرى إلى الدعاية النصرانية والدعاية اليهودية، ويقول إن العقيدة النصرانية، والحياة التي تترتب عليها، لها أهم أسباب الانحلال القومي في الحرب المطلقة؛ ولهذا يجب أن تستبدل بهذه العقيدة أخرى تقوم على العقائد الجنسية، أو بعبارة أخرى تقوم على الإيمان (بألمانيا) وألمانيا وحدها؛ ومن ذلك تتفجر الوطنية الصحيحة. وتؤمن المرأة بأن أعظم واجباتها ينحصر في إنتاج أبناء أقوياء للأمة يحملون أعباء الحرب المطلقة، ويخصص الرجال كل(167/70)
قواهم لهذه الغاية. والخلاصة أن لودندورف يرى أن الغاية القومية المثلى هي أن يربى الشعب ويعد لغاية هي الحرب.
كتاب عن لوبية
نظمت في العام الماضي بعثة إنكليزية لتكتشف مجاهل صحراء لوبية بالسيارة، وأسندت رياستها للمستر كندي شو. وقد قطعت البعثة في جولاتها في الصحراء أكثر من ستة آلاف ميل؛ وأصدر أخيراً مستر ماسون هودر أحد أعضاء البعثة كتاباً عن هذه الرحلة الصحراوية عنوانه: (جنة الجهلاء وفيه يصف رحلة البعثة منذ قيامها بالسيارات من القاهرة واختراقها لصحراء لوبية جنوباً حتى الفاشر من أعمال السودان على خط 14 شمال خط الاستواء، ثم عودها إلى سواحل البحر الأبيض من طريق آخر، واختراقها (بحر الرمال الأعظم) الذي يغمر واحة سيوه. وقد كانت البعثة تجري في جولتها مباحث جيولوجية وجغرافية ونباتية وحيوانية لحساب الجمعية الجغرافية البريطانية التي جهزتها. وقد لقي أعضاء البعثة حتفه أثناء السير، وهو الكولونيل ستروث.
ويغرق مستر ماسون في وصف أهوال الصحراء ويقول لنا: إن الإنسان في الصحراء يفقد حواسه الحقيقية، ويرى في السهل الشاسع، وفي ضوء الشمس الساطع، الأرض المنبسطة تغلي وتترنح في السراب، وتملأ العين هواجس متعبة؛ وتُرى أشياء لا توجد، على حين لا تُرى أشياء خطرة، وقد لا ترى حتى يقع المكروه.
ويقول مستر ماسون: إن أغرب ما يلفت النظر وجود الحيوانات في هذا القفر الشاسع الذي لا توجد فيه قطرة من الماء؛ وكذلك مما يدهش الإنسان أن يرى في قلب الصحراء وادياً عجيباً تظله الأشجار الباسقة هو (وادي حوار) وهو واد لا يصل الماء إليه من أي النواحي.
معلومات عن بلاد التتار
وقعت في بلاد التركستان الصينية منذ ثلاثة أعوام حوادث عسكرية وسياسية خطيرة لن تتضح حقائقها لبعد الشقة وانقطاع المواصلات، ولكن جريدة (التيمس) الإنكليزية أوفدت إلى الصين مراسلاً خاصاً لها هو المستر بتر فلمنج ليقف على سير الحوادث بنفسه ويعلنها(167/71)
للعالم، فسافر مستر فلمنج إلى الصين، وانقطعت أخباره شهوراً عدة حتى ظن أنه قتل أو ضل؛ ولكن ظهر فيما بعد أنه اضطر أن يخترق الصين كلها من بكين إلى الغرب ليصل إلى مدينة كشغر عاصمة بلاد التتار (التركستان الصينية)، وأنه نجح في مهمته، ودرس الحوادث والشئون في تلك الأنحاء درساً حسناً.
وقد أصدر مستر فلمنج أخيراً كتاباً جامعاً عن رحلته بعنوان (أنباء من بلاد التتار ويستخلص من رويته أن حكومة سنكيانج (التركستان الصينية) التي يرأسها الجنرال شنج واجهت ثورة خطيرة قام بها التتار والتونجان، وكادت الثورة تكتسح كل شيء لولا تدخل السوفييت العسكري ومعاونتهم للجنرال على تثبيت أقدامه؛ وكان الجنرال شنج قد قبض على زمام الحكومة منذ سنة 1933، وأرغم حكومة نانكين الصينية على الاعتراف بمركزه. والآن يسود حكم الجنرال شنج في معظم بلاد التتار، ولكن السلطان الحقيقي في يد السوفييت الذين يحتلون مراكز السلطة في البلاد كلها، ويحاذر السوفييت الآن من بث الدعوة الشيوعية في بلاد التتار، ولكنهم يبعثون أبناء الكبراء والموظفين في كل عام مجاناً إلى طشقند ليتعلموا في مدارسها، ويعدون بذور دعوتهم من طريق النشء.
وكتاب مستر فلمنج جدير بالقراءة، لأنه يتحدث عن بلاد شرقية لا نعلم الكثير من شؤونها. وقد كتب بأسلوب شائق.
النشيد القومي - (الغلطة الثانية)
نبهنا إلى الغلطة الأولى في هذا النشيد الذي يراد فرضه على مصر، وطلبنا الرد عليها وانتظرنا ثلاثة أسابيع فلم يرد أحد، وعلى ذلك فقد سلموا بها تسليماً تاماً بلا قيد ولا شرط، وأصبح قول ناظم النشيد: (سأهتف باسمك ما قد حييت) كاملاً معكوساً فاسداً يخالف العربية والعامية.
والآن نذكر الغلطة الثانية، ونحن على يقين أن صاحب المعالي وزير المعارف الرجل العالم والأديب سيكتفي بالغلطتين. أما القراء فلابد أن ينتظروا إلى نهاية العدد.
يقول ناظم النشيد:
غرامك يا مصر لو تعلمين ... قصارى شعوري (دنيا ودين)
قصارى شعوري معناها غاية شعوري ونهاية شعوري. ومن الطريف أن بعض قراء(167/72)
الصحف قرأ هذه الكلمة (قَصَارِى) بفتح القاف وكسر الراء!
ولكن ما هو إعراب (دنيا ودين)؟
أهي مرفوعة؟ لا. أهي مجرورة؟ لا. إذن هي منصوبة ولا وجه لنصبها إلا على التمييز، فهل تصلح تمييزاً أولاً؟
يشترط في التمييز أن يكون رافعاً لإبهام. والشعور هنا جنس مبهم يحتاج إلى تمام يفسر معناه، كالحب أو الكره أو الغضب وغير ذلك من أنواع الشعور. ولكن (الدنيا) ليست من أنواع الشعور فلا تصلح لرفع الإبهام عنه وتفسيره إلا إذا صح أن يقال: غرامك ي مصر غاية شعوري قمحاً وبناً وسكراً، أو نهاراً وجبالاً وحيواناً وسماء وأرضاً. وهذا كلام فاسد لا معنى له.
ثم أن الدين ليس شعوراً، بل هو عقيدة وعمل، فهو كذلك لا يصلح للتمييز هنا؛ وإذ صلح فأي مسلم يتجرأ على أن يعتقد أن غاية الشعور ونهايته من الدين الإسلامي غرام مصر؟ إذا اعتقد المسلم هذا ونادى به فهو زائغ العقيدة، ويكون النشيد القومي ضلالة يجب محوها، ويحرم على جميع المسلمين أن يقبلوه.
وإذا أريد من (دنيا ودين) الحياة الدنيا والحياة الأخرى كان هذا أقبح وأسخف. وأي مسلم يتجرأ على أن يقول: إن غرام مصر غاية شعوره من الحياة الآخرة؟
س. ط
بكلية الآداب
أقصوصة حب اللحم
علقت الرسالة على أقصوصتي (حب اللحم) تعليقاً فهمت منه أنها لم تفطن للسبب الذي من أجله آثرت هذا الحل الذي لم يرقها والذي (لا يرضي الخلق الجميل) على حد تعبيرها - ولعل الأستاذ المحترم صاحب التعليق فاته أن (روحية) هي بطلة القصة، وأنها لم تكن موافقة على تلك الجريمة التي دبرها صلاح. ولذلك قالت له: (حرم عليك يا صلاح. . .) ثم راعها أن تسمع السيارة تنقذف في النيل، فقالت: (وَيْ. . . اسمع! لقد انقذفت السيارة في الماء!!) فلما قال لها صلاح: (بمن فيه طبعاً!) لم تزد على أن قالت: (يا للقسوة!!) وقد(167/73)
أخطأ الصفاف، فجعلها (يا للقوة) مُسْقِطاً السين.
وأحسب الأستاذ صاحب التعليق يعلم أن بطل القصة عادة يحمل رأي الكاتب وإن لم يكن هذا شرطاً غاماً، فقد تكون القصة كلاًّ لا يتجزأ، وقد تكون - بل ينبغي أن تكون عادةً - درساً يرمي إلى غرض ما. ومن سياق القصة تحس الكراهية الشديدة لقصر العلاقة بين الزوجين على الجنس دون القلب، وكان بيومي أفندي رمز الجنس في القصة، وكان صلاح رمز الروح فيها. فأي شيء لا يرضي الخلق الجميل في أن ينتصر الروح على الجنس ويقذف به في النيل؟
واحسبني أهيج زعماء ثقافة اليسار إذا قلت إن القانون لجنائي في الشريعة الإسلامية معطل في مصر، فكيف يكون القصاص من زوج زان وسكير ومبذر تضبطه زوجته غير مرة زانياً وسكيراً ومبذراً؟ هل تملك تطليقه؟
هذا ولا يفوتني أن أعتب على صاحب التعليق أسلوبه، فأنني لا أنشد بقصصي الكثيرة إلا خُلُقاً جميلاً.
دريني
(الرسالة) نوافق الأستاذ الدريني على أنه ينشد بقصصه الخلق
الجميل، وهو ولا شك يوافقنا على أن الدين والقانون هما
جوهر الخلق الجميل، والدين يأذن للزوجة المضرورة أن
تطلب الطلاق وتثبت الضرار فيحكم القاضي بالتفريق،
والقانون لا يجيز لحبيب الزوجة ولا لغيره أن يقتل الزوج
وعشيقته على هذه الصورة.(167/74)
الكتب
الحياة الجديدة
تأليف الأستاذ نقولا يوسف
للأستاذ دريني خشبة
للأستاذ سلامة موسى في مصر مدرسة عرف تلاميذها بالدؤوب والنشاط الذهني، وهم جميعاً من الشباب المثقف المتشوّف دائماً لمستقبل حافل مليء بالأماني والآمال والأحلام. وهم دائما يفخرون بأنهم يمثلون ثقافة اليسار في مصر خاصة والشرق عامة، ومن هنا نزوعهم إلى الثورة في تفكيرهم، ومن هنا أيضاً تبرمهم بثقافة اليمين وتحرشهم بزعماء مدارسها. ونحن لا يسعنا إلا أن نمتدح تلاميذ هذه المدرسة بالرغم مما يتورط فيه بعضهم من البذاء والتطاول، وبالرغم من أن الأستاذ سلامة نفسه يفسح في مجلته لهذا البعض من السفهاء مجالاً واسعاً يهرجون فيه تهريجاً لا يتفق ومقام الأستاذ ومكانته الرفيعة في نهضة هذا البلد.
بيد أن للأستاذ تلاميذ بارزين، استطاعوا بعد كفاح عظيم وجهد متصل أن يفسحوا لأسمائهم أماكن ظاهرة في محيط التفكير المصري. ولعل من أفضل هؤلاء التلاميذ لأستاذ المفكر المطلع صديقنا (نقولا يوسف) الذي أخذ نجمه يتألق في السياسة الأسبوعية، ثم في عشرات من المجلات والصحف والأندية، عُرف فيها جميعاً بسمو الغاية في تفكيره وحرارته الوطنية في حبه لمصر، ومحاولته دائماً الاندماج في الأوساط المختلفة ليترك فيها خمائر من ذهنه الخصب وثقافته الواسعة واطلاعه الشامل.
ولقد بدا للأستاذ الصديق أن يجمع كل ما كتب، ويصدره في مجلد حافل غني (عن دار المجلة الجديدة) وكتب إلي يسألني عن رأيي في كتابه هذا. . . ولا أحسب في ذلك توريطاً لي من قلمه البارع يجعلني أثني على عمله الثناء كله من دون أن أعرض لبعض نواحي الكتاب بنقد شديد يكاد يشبه الذم.
جمع الأستاذ فصوله القيمة وجعلها في ثلاثة أبواب، أولها (بحوث عالمية) من مثل (فن الحياة، الإنسانية بين الحرب والسلم، في الوحدة العالمية، في الأدب الجديد. . . الخ).(167/75)
وثانيها (شئون مصرية) من مثل: (في الأدب المصري. الكاتب المصري بين البيئة والوصف، تجديد الموسيقى المصرية، احتضار الحجاب، الفلاح، وتجديد القرية. . الخ). وثالثها (دراسات أدبية وفنية) من مثل: (في الفن الإغريقي، شعراء الأرستقراطية، في الأدب الهندي، ساعات مع بوذا وطاغور وملتون وشالي، ولز والعصر الجديد. . . الخ).
ولست أدري لماذا حشد الأستاذ كل هذه الفصول في كتاب واحد؟ ولم لم يصدرها في ثلاثة كتب حتى يكون من الممكن أن يستقل كل منها بفكرة متحدة وغاية واحدة؟ إن الكتاب كبير ضخم، وهو بضخامته غير المتناسبة يتخم القارئ ويصده عن متابعة القراءة، خصوصاً وأكثر القراء كسالى، وأكثر بحوث الكتاب دسمة غزيرة الفكر، والكتاب ليس قصة يغري أولها بآخرها، ولكنه حشد من الآراء التي لا يربطها في الظاهر أي رابط، وإن رَمَت في النهاية إلى التثقيف العام.
إن القسم الثالث من الكتاب، وهو أمتع أقسامه الثلاثة، كان يمكن أن يكون كتاباً مستقلاً يكاد لا يكون له نظير في المكتبات العامة. وإن أي بحث من بحوثه ليشهد للكاتب بسعة الاطلاع وعظم الجهد الذي عانى في كتابه بعد تحضير مواده الكثيرة. . . فالبحث الأخير مثلاً (ولز والعصر الجديد) هو عصارة شهية لهذا الكاتب الإنجليزي المأسوف عليه، لقي في إعدادها حضرة الكاتب كل عناء ومشقة؛ ويكفي أن تعرف أنه تناول أكثر كتب ولز، فلخصها وشرح لك طريقته في كتابة كل منها؛ لتعلم أي جهد جبار كان يبذل أديبنا عندما اعتزم كتابة فصوله في هذا القسم الثالث من الكتاب. ومثل هذا الفصل لا يمكن أن ينتهي منه الكاتب في أقل من شهر تقريباً. أفليس من الحرام إذن أن يجتمع ذلك البحث الكلي و (شؤون مصرية) أو (تأملات على شاطئ البحر) في كتاب واحد؟! ما لولز وما لهذه الموضوعات (وليست المواضيع يا أستاذ نقولا!) الإنشائية يا صديقي؟ ما لولز وتنيسون وطاغور وبوذا وأندريه شينيه وهوراس. . . وما لخواطر في مقبرة وخواطر في حديقة وخواطر في الطريق وفي العمل؟! أفلم يكن أخلق بهذه التراجم العالمية أن تستقل في كتاب واحد يكون له خطره وفائدته؟!
وقل مثل ذلك في القسمين الآخرين.
هذا من حيث شكل الكتاب، وإن يكن إغفال الصور - خصوصاً للمترجم لهم - قد شوه(167/76)
بعض جمال هذا العمل. أما من حيث موضوعه، فأكاد أمدحه (على طول الخط) لولا هذا الغلو في الدعوة إلى العالمية في زمن تقوم فيه دكتاتوريات تريد أن تلتهم العالم وتذل الحريات. أجل، إن الإخاء الإنساني الذي يراد أن يشمل قارات الأرض جميعاً حلم جميل، ولكنه في زمننا هذا يعتبر حلم الضعفاء والنَّوْكي والمهزومين؛ ونحن في عصر تنشد فيه مصر من أبنائها وطنيةً حادةً متأججة، وطنية الدبابات والطائرات والغازات السامة التي هي أسلحة هذا الزمان الظالم المقاحم. . . الزمان الذي شهد بعينيه الكليلتين سقوط عرش أسد يهوذا تحت سنابك نيرون!
أنا أعرف أن الأستاذ نقولا رجل الأحلام والشعر والموسيقى، ولن أنسى مطلقاً رنين كلماته في أذني في ليالي أسيوط المقمرة. . . ولكني أوقظه في غير رحمة ولا عطف، ليقرأ بعينيه النفاذتين بنود المعاهدة المصرية الإنجليزية، والبرقيات المخيفة المزعجة عن تسلح الدول.
لنعطف ولتسِلْ نفوسنا رقة ورحمة، ولكن على المصريين. . على أنفسنا. . . أما على الثعابين والعقارب، فلا!
وليثق الصديق نقولا أن ولز الذي مات فلم يشعر به أحد، كما مات توماس مور فلم يشعر به أحد كذلك، لا بد أنه ندم على جميع طوبوياته التي كتبها. وليفكر الصديق نقولا أيضاً في مصر اليوم فقط، أو إلى ما بعد عشرين سنة فحسب. . . أما في العالم بعد ألفين سنة، فهذه أضغاث أحلام. . .
عمل جليل لا شك يستحق من أجله نقولا يوسف ألف تهنئة، وهدية سنية من المجلة الجديدة.
دريني خشبة(167/77)
العدد 168 - بتاريخ: 21 - 09 - 1936(/)
مصر والبلاد العربية
للدكتور عبد الوهاب عزام
بين مصر والبلاد العربية كل ما يؤلف بين الأقوام من وشائج القربى والتاريخ، وكل ما يُحكم القرابة من عقائد وعواطف وآلام وآمال، وكل ما يؤكد الأخوة من حقائق ومنافع. والكلام في هذا تبيين ما لا يعوزه البيان.
يذهب المصري إلى أحد الأقطار العربية فكأنما برح بقعة في مصر إلى أخرى؛ يرى وجوهاً يعرفها ولا تنكره، ويسمع من أحاديث الماضي والحاضر ما يسمعه في بلاده، ويحدَّث عن الهموم والمطامح التي تنطوي عليها نفسه ويخفق بها قلبه. حيثما توجه وجد أهلاً بأهل وأخواناً بإخوان، وأبصر من ذكَر التاريخ، ومشاهد الحاضر، وخطط المستقبل، ما يوحي إليه أنه في وطنه وبين قومه. وكأنه لا يذهب إلى هذه البلاد إلا ليرى بعينيه ما حدثه به التاريخ وأحكمته في نفسه النشأة والتعلم.
ذهبت مرات إلى فلسطين والشام والعراق، فكان يخيّل إلي أينما سرت لا أخطو إلا على صفحات من التاريخ المجيد، ولا أرفع بصري إلا إلى عنوان من عناوينه في صورة مسجد، أو مدرسة، أو قبة حنت على عظيم من أسلافنا أبطال الإسلام والعربية. وطوفت في العراق مدنه وقراه، وحضره وباديته؛ فكانت بغداد عندي القاهرة، بل أجل ذكراً؛ وكانت الكوفة والبصرة والموصل أعظم أثراً في نفسي من طنطا والمنصورة وأسيوط؛ وكانت مضارب شمر وبني تميم أذهب بي في التاريخ من مضارب القبائل المصرية. وأما دمشق الجميلة الجليلة فما دخلتها على أحداث التاريخ ورفعتني مواكبه فسارعت إلى الجامع الأموي أنشد قول شوقي:
هذا الأديم كتاب لا كفاء له ... رثّ الصحائف باق منه عنوان
ولست بدعاً في هذا فما أحسب مصرياً ذهب إلى هذه البلاد إلا شعر بما أشعر به
وليس الأمر بيننا تشابك أقوام واتصال أوطان فحسب ولكنه الحب المؤكد، والود الصريح، ينطق على ألسنة القوم، ويتجلى في أساريرهم، ويبين في أعمالهم، ويشهد به اهتمام القوم بكل صغيرة وكبيرة في مصر، وتحدثهم عن علمائها وأدبائها وأحزابها وقادتها حديث المحب العارف الخبير، وحرصهم على قراءة ما تخرجه مصر من كتب ومجلات وجرائد.(168/1)
وكثيراً ما نرى في الشام والعراق من يعلم عن مصر أكثر من أبنائها. وإذا تحدث هؤلاء الاخوة الكرام عن مصر أشادوا بذكرها، وأكبروا حضارتها، واعظموا مآثرها على العربية والإسلام، معترفين مغتبطين لا جاحدين ولا كارهين، وعدوا مجدها مجدهم، وعزها عزهم، وفخروا بها كما يفخرون ببلادهم.
وتطلع البلاد العربية إلى مصر، وإنزالها هذه المنزلة أجدى الوسائل إلى التقريب بينها، وتوحيد سننها في التربية والتعليم، والتأليف بين أبنائها. ولم يأل إخواننا جهداً في التودد والتقرب. فماذا يجب على مصر؟ ليست مصر أقل شعوراً بإسلامها وعربيتها، ولا أضعف تقديراً للوشائج التي تحكم بهذه البلاد أواصرها، والمصالح التي توثق بها علائقها، ولكن التاريخ السياسي في العصر الأخير فرق بين هموم مصر وهموم أخواتها، وشغلها بغير الذي شغلوا به؛ فلما أفاقت قليلاً إلى نفسها وموقفها بين الأقطار والأمم لم يلحقها شك فيما بينها وبين أخواتها من أواصر وعرى لا تقوى الحادثات على فصمها. وكلما خف عنها عبء المصائب ازدادت شعوراً وبصراً بمكانتها بين أخواتها وما يجب عليها.
إن على مصر أن ترعى القرابة وتجزي الود بالود؛ وعليها أن تضطلع بالتبعات التي تحملها إياها ثقة البلاد العربية بها، وإقامتها منها الأخ الأكبر. أسمع أحياناً بعض المتحدثين بهذا يقولون إن على مصر أن تستغل هذه الثقة؛ وحاشا لله أن يكون الأمر استغلالاً أو اتجاراً، إنما هو أخوة ومودة، وتبعات وواجبات، وتعاون على الوقوف في معترك الحياة، وتآزر على بلوغ الغاية التي تلتقي عندها مقاصدنا جميعاً. يجب على مصر أن تصلح نفسها وتكمل حضارتها، وتعمل ما يوافق مكانتها، وتسن السنن الصالحة لنفسها وغيرها. يجب عليها أن تشارك في السراء والضراء، ولا تقف بمعزل عن مصائب البلاد العربية ومسراتها، بل تشارك جهد اليد واللسان والقلب. وعليها ألا تألو جهدا في إمداد من يستمدها، وبذل ما تُسأل من معونة في العلم والأدب وغيرهما موحية إلى كل مصري يذهب إلى البلاد العربية أنه يذهب ليؤدي واجباً ويعاون أخا، وأن واجبه حيثما كان من هذه البلاد كواجبه في مصر، وأن مقصده الأول أن يبذل من قواه على قدر طاقته، لا يبغي جزاء ولا شكورا، وإن لم يقصر إخواننا في الجزاء والشكر.
ثم على مصر ألا تتردد في الاستفادة بما في هذه البلاد من مزايا، فلا ريب أن فيها من(168/2)
الآداب والأخلاق والصناعات ما يجدي علينا أن نتلقاه عنها ونحتذيها فيه.
بالمودة والتآخي والتعاون وشعور كل جماعة بمكانها من الجماعات الأخرى، وإدراكها مالها وما عليها في الجماعة الكبيرة الشاملة، يتهيأ للبلاد العربية ما بين بحر الظلمات ونهر دجلة ما تطمح إليه من مجد وسعادة، وما يكافئ تاريخها من حضارة، حتى تؤدي نصيبها من الخير للجماعة البشرية كلها. وما أعظم ما ينتظر المجد من العرب! وما أعظم ما تؤمل الإنسانية فيهم!
عبد الوهاب عزام(168/3)
مصرع هرة
للأستاذ عبد الحميد العبادي
كانت لنا هرة لطيفة، ظريفة، خفيفة الجسم، مرهفة الحس، طوافة بالليل، جوالة بالنهار؛ وكان أولادي يحبونها هي وصغارها الثلاث، ويَحْبونها بالفضل من طعامهم، والكثير من عبثهم؛ وعلى مر الأيام نشأت بين صغار الأنس وصغار الحيوان ألفة جعلت كلا يحتمل عبث كل، ويجد في ذلك لذة ومتاعاً.
وشاء حر القاهرة الذي اتقدت جذوته في أوائل الشهر المنصرم أن ينتجع أولادي بعض السواحل فراراً من وقدة الحر، وابتراداً بهواء البحر ومائه؛ وشاءت ظروفي الخاصة أن أبقى في القاهرة وحيداً إلا من خادم يرعى شؤوني إذا حضرت، ويحرس المنزل إذا غبت. ففقدت الهرة وصغارها بتبدل الحال ما اعتدنه من الطعام إلا قليلاً يمسك الرمق ويستبقي الحياة.
وكأن الهرة استشعرت شيئاً من الأنفة والأباء، فلن ترض بالدون، ولم تصبر على الهون، وانطلقت تضرب في الأرض تبتغي سعة الرزق لنفسها ولصغارها، فكانت تعود من حين لأخر مطبقة فمها على مسلاخ أرنب، أو مشاش عظم، أو عصفور اقتنصته في بعض الحدائق، فتجمع صغارها على ما وفقت له من الرزق، فيكون لهن منه عوض عما فقدن من الزاد.
وأحبت الهرة أن تعود صغارها السعي معها في كسب القوت، فكانت تبرز خارج الدار وتناديهن فيتسارعن إليها، متواثبات، سائلات الأذناب، مؤللات الآذان، محدقات العيون، فيجسن جميعاً خلال الحديقة، فلا يعدمن صرصارا أو جرادة يتبلغن بها بعد أن يلعبن بها طويلاً.
ودرجت الأيام على تلك الحال، وكأن القطط استطبن حياة السعي، وذقن حلاوة الرزق المجلوب بالجد، فعدن لا يأبهن لما كنت أرفدهن به من وقت لآخر من كسرة خبز، أو نغبة لبن، أو عرق لحم ينهسنه، أو عظمة يتعرقنها
غير أن صروف الأيام لا ينجو من كيدها إنسان ولا حيوان، ولا يسلم من آفاتها من يمشي على اثنتين، وما يدب على أربع. فقد كنت ذات يوم جالساً في منزلي وقت الظهيرة، وكنت(168/4)
ضيق الصدر، لَقِس النفس، كأنما أتوقع حدثاً يحدث، أو خطباً يلم، وإذا بي أبصر الهرة تلج من باب الدار بهيئة أنكرتها: أبصرتها تمشي متحلجة، متخلعة، تخالف بين يديها ورجليها، وتقوم وتقع، وتصطدم بما يلقاها في طريقها، فأثبتها النظر، فرأيت، وما أفضع ما رأيت! رأيتها مشجوجة شجاً قبيحاً، فأدركت من فوري أن فظاً غليظ القلب، محمقاً من طباخي الحي قد أعنتته الهرة في طلاب العيش، فأهوى إلى رأسها بسكينه، فشتر إحدى عينيها، وكاد يشطر الرأس شطراً.
وأدركت أن المسكينة تحاول الوصول، على ما بها، إلى صغارها، فطفقت أجمعهن لها من هنا وهنا، وما هي إلا أن أحستهن حتى تحوَّت عليهن، ترضعهن وتمسحهن بلسانها على عادتها. فلما جن الليل جعلت أريد الهرة على الخروج من المنزل، لعل برد هواء العشى ونسيم السحر ينفعها، ولكنها رفعت إلي رأسها وكأنها تستعفيني من الخروج ليلتها تلك، ولأقض بعد ذلك ما أنا قاض. فنزلت على وحي حالها ودلالة منظرها، وانصرفت إلى مضجعي. فلما كان الصباح إذا بي أصحو على مواء موجع صادر من الهرة، فأسرعت إليها فوجدتها تعالج سكرات الموت؛ وما هي إلا لحظة حتى غدت جثة هامدة لا حراك بها. كل ذلك والقطيطات حيال ذلك المنظر الذي لم يعرفنه بعد، مبهوتات صامتات مأخوذات. وكأنهن وقد سكنت حركة أمهن يتمثلن بالشعر الذي وضعه الشاعر الإنكليزي، بيرون، على لسان (قابيل) عندما رأى أخاه (هابيل) ميتاً، ولم يكن رأى الموت قط:
أخي! ما عراك؟ وكنت الغداة ... ذكي الفؤاد، قوي البدن
على العشب ملقى، فماذا دهاك؟ ... أنوم، وما الوقت وقت الوسن؟
سكنت، وأمسك منك اللسان ... وهل مات حي إذا ما سكن؟
ألا ما هلكت! وإن كان في ... شحوبك معنى بهيج الحزن
نعم! لقد كان في حال تغير الهرة الميتة معنى هاج حزن القطط، فقد لذن بأركان المكان واجمات، ولو ألهمن النطق لتمثلن بقول النابغة:
من يطلب الدهر تدركه مخالبه ... والدهر بالوتر ناج غير مطلوب
ما من أناس ذوي مجد ومكرمة ... ألا يشد عليهم شدة الذيب
حتى يبيد على عمد سراتهم ... بالنافذات من النبل المصابيب(168/5)
إني وجدت سهام الموت معرضة ... بكل حتم من الآجال مكتوب
وثارت نفسي لهذا المنظر الأليم، وذكرت قسوة الإنسان على العجماوات مع أنه مستأمن عليها، مستحفظ لها، مسؤول عنها. وذكرت ما جاء في صحيح الأثر من أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. وذكرت قول الرسول العربي: (إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور): ونهيه عليه السلام أصحابه عن اقتعاد الرحال في المجالس حتى لا يعلق بها شوك يؤذي الإبل عندما توضع على ظهورها، وقول عمر لرجل رآه يعنف بماشية يسير ليذبحها: (يا هذا سقها إلى الموت سوقاً رفيقاً)، وذكرت رسالة (الحيوان والإنسان) التي ختم بها إخوان الصفاء رسائلهم، وكيف ذهبوا فيها مذهباً لطيفاً في التدليل على أن الإنسان في حقيقة الأمر حيوان من الحيوان، لا يفضل غيره من الأنواع إلا بالعمل الصالح المنجي له في الدنيا والآخرة. ذكرت كل ذلك فعلمت أن البون لا يزال عندنا شاسعاً بين القول والعمل، وأن المبادئ الجميلة لا تزال إلى حد بعيد مجرد حبر على ورق، وذلك من سوء حظ الإنسانية الصحيحة.
أما بعد! فلا تبعدي أيتها الهرة المظلومة! فكأس المنية لا تبرح دائرة على الخلائق، يشرب بها الرفيع والوضيع؛ وسيان في حكمها من يمشي سوياً وما يمشي مكباً على وجهه. إن الموت لعمري واحد، ولكن الموتات تختلف؛ وموتتك أيتها الهرة؛ من أشرف الموتات. لم تموتي حتف أنفك، ولم تموتي في مسعى باطل. لقد قضيت جاهدة، مجاهدة، وذهبت في ريعان عمرك ضحية الواجب، والسعي الصالح. إذا طالت الأعمار بأقوام رضوا بالهوان والمسكنة، وآثروا العافية المذلة على الجهاد المشرف. نعم، إنك لم تجدي في هذا العالم من ينصفك، ويطلب بثأرك، ولكنك واجدة عند القوة الممسكة لهذا الكون خير الجزاء. ألم تدخل امرأة في هرة أماتتها ظمأ وجوعاً؟ أليس معنى أن الإنسان إذا تجرد من الرحمة فهو عند الله لا يستحي أن يقصها منه إذا طغى عليها وتجبر؟ ألا كفى بذلك للنفس، لو تعلمين، تأساء وتعزية.
891936
عبد الحميد العبادي(168/6)
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
- 2 -
عنى الفارابي كل العناية بموضوع السعادة علما وعملا، فخصه بكتابين من كتبه شرح فيهما مختلف آرائه الصوفية، وبين الوسائل الموصلة إلى السعادة؛ وهذان الكتابان هما: تحصيل السعادة، والتنبيه على السعادة، اللذان طبعا في حيدر آباد سنة 1345 و 1346هـ، وقد امتازا - مقرونين إلى الرسائل الفارابية الأخرى التي وصلت إلينا - بغزارة مادتهما ووضوح أسلوبهما؛ وحبذا لو فكرنا في إعادة طبعهما بمصر. ولم يكتف الفارابي بهذه الدراسة النظرية، بل جد في أن يتذوق السعادة بنفسه، وأن يصل بتفكيره وتأمله إلى مرتبة الفيض والإلهام كما صنع أفلوطين من قبل. ويقال إنه حظي بذلك مرة أو مرتين.
وواضح أنه ليس في مكنة الناس جميعاً الصعود إلى مرتبة هذه السعادة، ولا يبلغها إلا النفوس الطاهرة المقدسة التي تستطيع أن تخترق حجب الغيب وتصعد إلى عالم النور والبهجة. يقول الفارابي: (الروح القدسية لا تشغلها جهة تحت عن جهة فوق، ولا يستغرق الحس الظاهر حسها الباطن، وقد يتعدى تأثيرها من بدنها إلى أجسام العالم وما فيه، وتَقْبَل المعلومات من الروح والملائكة بلا تعليم من الناس، والأرواح العامية الضعيفة إذا مالت إلى الباطن غابت عن الظاهر، وإذا مالت إلى الظاهر غابت عن الباطن. . . وإذا اجتمعت من الحس الباطن غابت إلى قوة غابت عن أخرى مثل البصر يُخَبَّل بالسمع، والخوف يشغل عن الشهوة، والشهوة تشغل عن الغضب، والفكرة تصد عن الذكر، والتذكر يصير عن التفكر، أما الروح القدسية فلا يشغلها شأن عن شأن).
فالروح القدسية إذن واصلة، ترى المغيب، وتسمع الخفي، وتجاوز عالم الحس إلى عالم المشاهدة الحقيقية والبهجة الدائمة. هذه هي نظرية الاتصال التي قال بها الفارابي واعتنقها الفلاسفة اللاحقون، وقد لعبت دوراً هاما بوجه خاص لدى فلاسفة الأندلس. وهي كما ترى ضرب من التصوف النظري القائم على البحث والدراسة يقربنا إلى الله ونعيمه المقيم. والتصوف في جملته ساد العالم الإسلامي منذ زمن بعيد تحت مؤثرات كثيرة بين فارسية(168/8)
وهندية ومسيحية وإغريقية. وفي رأي كل متصوف أن الغرض الرئيسي من العمل والتأمل هو الاتصال أو الفناء في الله. يقول رينان: (لم يعرف الشرق أن يقف في العبادة عند حد المبالغة والإسراف، بل كان الاتحاد مع العقل الكلي بوسائل خارجية حلم الطوائف الصوفية في الهند والفرس. وهناك سبع درجات - كما يقول المتصوفة - تقود المرء إلى الغاية النهائية التي هي الفناء المطلق أو النرفانا البوذية، حيث يصل الإنسان أن يقول: أنا الله) ومشكلة أنا وأنت من المشاكل الهامة في تاريخ التصوف الإسلامي، فأنا وهو الشخص الإنساني يعمل على أن ينمحي في أنت وهو الله، وما الحلول الذي قال به الحلاج والذي درسه الأستاذ ماسنيون دراسة عظيمة إلا أوضح مظهر لهذه المشكلة في الإسلام، فهو يتلخص في اختفاء الإنسان في الله، وبذا يتحد أنا وأنت اتحاداً كاملاً.
كان الفارابي صوفياً في قرارة نفسه، يعيش عيشة الزهد والتقشف ويميل إلى الوحدة والخلوة. وقد أفاض مؤرخو العرب في وصف تقشفه وإعراضه عن الدنيا. وابن خلكان خاصة يضعه في مصاف الزهاد والنساك. وبالرغم من أنه عاش في بلاط سيف الدولة بن حمدان وجالس العظماء لم يغير شيئاً من عوائده ولم يخرج عن زهده وتقشفه. فجليس الملوك هذا وصفي الأمراء كان يرى في أغلب الأحيان بالقرب من الطبيعة يناجيها ويستكشفها أسرارها ويستمليها ما حوت من عظات. وقد رووا أنه كتب الكثير من كتبه على شواطئ المجاري المائية وبين الثمار والأزهار. فهذا الاستعداد الفطري الذي نشأ عليه، وهذه النزعة الصوفية التي تمكنت منه، أثرت من غير شك في آرائه وأفكاره، وكانت عاملاً في تكوين نظرية السعادة الفارابية. وأسلوب الفارابي نفسه يتفق مع هذا الاستعداد ويتلاءم مع هذه النزعة؛ فهو إلى الغموض أميل، وفي باب التعمق والتركيز أدخل. وهذا شأن الصوفية جميعاً يرسلون الجمل المختصرة المعماة. وكثيراً ما عانى المستشرقون صعوبات في تفهم عبارات الفارابي وإدراك كنهها، وشكوا من غموضها وتعقدها.
ويجب أن نضم إلى هذا المؤثر الداخلي عاملاً آخر خارجياً، ألا وهو الوسط الذي عاش فيه أبو نصر، فقد تفشت في العالم الإسلامي لعهده أفكار صوفية كثيرة صادرة عن أصل هندي أو فارسي أو إغريقي أو مسيحي. ولا يستطيع أحد أن ينكر تأثره بهذه الأفكار، وفي كتاباته(168/9)
ما ينهض دليلاً على ذلك. فقد جارى المتصوفة وشرح لنا المراتب التي يمر بها من يرغب في السعادة. والمرتبة الأولى في رأيه هي مرتبة الإرادة، وتتلخص في شوق زائد ورغبة أكيدة في تنمية المعلومات واكتساب الحقائق الخالدة. فإن كانت هذه الرغبة مؤسسة على دوافع حسية أو خيالية فهي مجرد إرادة، وإن قامت على التفكير والتأمل فهي اختيار حقيقي. وبعد الاختيار تجيء السعادة التي تحدثنا عنها من قبل. فهذا التدرج في جملته يشبه من بعض الوجوه منازل الصوفية.
وفوق هذا فقد عاصر الفارابي كبار الصوفية الذين يقولون بالحلول، وعلى رأسهم الجنيد المتوفى سنة 911 ميلادية وناشر نظرية الاتحاد الصوفية ومردد الجملة المأثورة: اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب). ويروى أن الشبلي دخل عليه يوماً وبحضرته زوجه، فأرادت أن تحتجب، ولكنه أبى عليها ذلك قائلاً: لا خير للشبلي عندك. ولم يكد الأخير يسمع هذه الكلمة حتى بكى. فقال الجنيد لزوجه على الأثر: استتري فقد أفاق الشبلي من غيبته. والحلاج تلميذ الجنيد من معاصري الفارابي كذلك، فقد توفى سنة 922 للميلاد. وهو صاحب الجملة المشهورة: (أنا الحق) التي لاقى من جرائها حتفه. وعلى يديه سما مذهب الحلول إلى أوجه وبدا في أوضح صوره، وتم الاتحاد الكامل بين أنا وأنت. وأشعار هذا العصر الصوفية مملوءة بالغيبة والحضور، والوجد والوجود، والنسيان والذكر. يقول بعضهم:
وجودي أن أغيب عن الوجود ... بما يبدو علي من الشهود
ويقول الآخر:
عجبت لمن يقول ذكرت ربي ... فهل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحب كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب ولا رويت
ربما يبدو بعد الذي تقدم أنا ميالون إلى أن نعقد صلة بين تصوف الحلاج وتصوف الفارابي، وأن نثبت أن آراء أوائل المتصوفة قد أثرت تأثيراً مباشراً في أفكار فلاسفة الإسلام الصوفية، ولكنا نسلم بذلك من ناحية النزعة والتوجيه العام فقط، أما من جهة النظريات في تكوينها وتفاصيلها فأنا نرفضه للأسباب الآتية:
أولاً: تصوف الفارابي نظري مبني على الدراسة والبحث قبل كل شيء. فبالعلم، والعلم(168/10)
وحده، تقريباً نصل إلى السعادة. أما العمل ففي المرتبة الثانية ومهمته ثانوية للغاية. على عكس هذا يقرر الصوفية أن التقشف والحرمان من الملذات الجسمية وتعذيب الجسم هو الوسيلة الناجعة للاتحاد بالله. يقول الجنيد: (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات).
ثانياً: - وهذا فرق جوهري - الاتصال الذي يقول به الفارابي مجرد سمو إلى العالم العلوي وارتباط بين الإنسان والعقل الفعال دون أن يمتزج أحدهما بالآخر. أما المتصوفة فينظمون من العبد والرب وحدة غير منفصلة، ويقولون بحلول اللاهوت في الناسوت. وعلى هذا يتلاشى أنا في أنت تماماً ولا يتميز الخلق من الخالق. وهذا هو سر حملة أهل السنة على هذا الخلط غير المقبول والغلو المفرط. حقاً أن الفارابي يذهب في فقرة واحدة غريبة إلى أن الإنسان حين يصل إلى درجة السعادة يحل فيه العقل الفعال. غير أنه لا يمكن أن يقبل هذا التعبير على علاته ويجب أن يحمل حملاً مجازياً. فأن صاحبه يلاحظ غير مرة أن العقل المستفاد وهو أسمى درجات الكمال الإنساني يختلف في طبيعته ووظيفته ومرتبته عن العقل الفعال. ويرى الفارابي فوق هذا أن الموجودات في تدرجها مكونة من طبقات بعضها فوق بعض؛ والله مثال الكمال المطلق، وبينه وبين الإنسان والعالم الأرضي كله فواصل متعددة. فنظريات الفارابي الميتافيزيقية والفلكية المختلفة لا تسمح بأن يتحد الخلق مع الخالق أو أن يمتزج العقل الإنساني بالعقل الفعال.
وأخيراً على كلمة اتحاد واتصال فتؤذنان بالفرق الواضح بين نظرية الحلول الحلاجية ونظرية السعادة الفارابية؛ فأن الكلمة الأولى التي تنصرف عادة إلى نظرية المتصوفة تدل على الاندماج التام بين المخلوق والخالق، في حين أن الكلمة الثانية التي تطلق على نظرية الفلاسفة تشعر فقط بمجرد علاقة بين الإنسان والعالم الروحي.
فالواجب علينا إذن أن نبحث عن منبع آخر يمكن أن تكون نظرية السعادة الفارابية في جملتها قد استقيت منه. وإذا شئنا تعرف هذا المنبع وجب علينا أن نصعد إلى أرسطو وإلى كتابه الأخلاق النيقوماخية بوجه خاص. يقول جلسون: (ليس ثمة فكرة ولا عبارة لدى أرسطو لم تنظر ولم ينتفع بها شراحه. وهذه الملاحظة صادقة على العموم في كل المشاكل التي درسها وخاصة في مشكلة العقل). ونظرية الاتصال التي نحن بصددها تؤيد هذه(168/11)
الملاحظة تمام التأييد، فإنها مأخوذة نصاً عن أصل أرسطي؛ وذلك أن أرسطو في شرحه للخير يقول في الكتاب العاشر من الأخلاق النيقوماخية إنه فضيلة تتكون في الوحدة وبالتأمل العقلي وتخالف الفضائل الإنسانية الأخرى المتعلقة بالجسم. هو قوة تأملية تكتفي بنفسها وتدرك الحق المطلق، وفضيلة عليا لأنه يتصل بأسمى شيء في الإنسان وهو العقل. وباختصار هو فضيلة الفضائل لأنه يصدق على الجانب القدسي حقيقة في الإنسان. ليس هناك شك في أن هذه الفقرات أساس لنظرية الفارابي في السعادة والاتصال. ففي رأيه، كما في رأي أرسطو، الحياة العقلية غاية في نفسها. ومتى جد الإنسان في الدراسة والنظر والبحث والتفكير تشبه بالله والعقول المفارقة التي هي إدراك مستمر وتأمل دائم. ومتى انقطع الإنسان إلى هذا المجهود النظري أقترب من الكائنات العلوية، وفاز بسعادة ليست وراءها سعادة. فأرسطو الواقعي مصدر الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية، و (الأديمونيا) الأرسطية عماد لنظرية السعادة الفارابية. وإذا تتبعنا كل ما وصل إلينا من كتب أرسطو لم نجد فيه إلا نصين اثنين يشعران بروح خفية وينزعان نزعة صوفية. وهما ما أشرنا إليه آنفاً في كتاب الأخلاق النيقوماخية وما جاء في كتاب النفس خاصاً بوظيفة العقل الفعال وأثره في تكوين المعلومات العامة. وكلا النصين أثر تأثيراً عميقاً في فلاسفة الإسلام وآرائهم الصوفية والنفسية. حقاً إن الفارابي ضنين بأسراره ولا يجب أن يقف قراءه على مصادر أفكاره؛ بيد أن عباراته تكفي للبرهنة على ما ذهبنا إليه. وأبن رشد الذي يعتنق نظرية الفارابي في الاتصال يقول لنا إن هذه النظرية جواب على سؤال أرسطو ولم يجب عليه. فبعد أن وضح كيف يدرك (النوس) أو العقل الحقائق المجردة قال: (سنرى فيما بعد إذا كان في مقدور العقل الإنساني - ولو أنه غير مفارق - أن يدرك أشياء مفارقة بذاتها). ولما لم يف أرسطو بوعده أخذ فلاسفة الإسلام على عاتقهم أن يتلافوا هذا النقص ويجيبوا على هذا السؤال.
غير أن أرسطو وحده لا يكفي في توضيح نظريات الفارابي التصوفية؛ ذلك لأن بينه وبين الفيلسوف العربي مدرسة الإسكندرية التي أثرت كذلك في فلاسفة الإسلام عامة وعلى رأسهم الفارابي. والاتصال الذي يقول به الفارابي لا يختلف كثيراً عن (الاكْستَاسيس) أو الجذب الذي قالت به مدرسة الإسكندرية. فالاثنان يعتمدان على التأمل والنظر وينتجان(168/12)
هياما وغبطه تخرج بنا من عالم الحس والمادة إلى نور الحقيقة واليقين. نعم انه يصعب علينا أن نحلل هاتين الظاهرتين تحليل نفسياً دقيقاً، ولكنا نستطيع أن نلاحظ انهما يمثلان أسمى أعمال العقل الإنساني التي ترمي إلى الخير الأعلى. ومتى وصل المرء إلى مرتبتهما أحس بسعادة تجل عن الوصف وغبطة لانهاية لها. وفي عبارات الفارابي ما يعلن عن الأصل الإسكندري الذي أعتمد عليه والذي لا يمكن أن يكون شيئاً آخر سوى كتاب الربوبية. ولنكتف بتقديم نص واحد من كل طرف يشهد بذلك. يقول الفارابي: (إن لك منك غطاء فضلاً عن لباسك من البدن، فاجتهد أن ترفع الحجاب وتتجرد، وحينئذ تلحق. فلا تسل عما تباشره، فإن ألمت فويل لك، وإن سلمت فطوبى لك. وأنت في بدنك تكون كأنك لست في بدنك، وكأنك في صقع الملكوت، فترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فاتخذ لك عند الحق عهداً، إلى أن تأتيه فرداً). ويقول صاحب كتاب الربوبية أو أثولوجيا: (ربما خلوت أحيانا ً بنفسي وخلعت بدني فصرت كأني جوهر مجرد بلا جسم. فأكون داخلاً في ذاتي وراجعاً إليها وخارجاً من سائر الأشياء سواي، وأكون العلم والعالم والعلوم جميعاً. وأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى معه متعجباً، وأعلم عند ذلك أني من العالم الشريف جزء صغير. وحين أوقن بذلك أرقى بذهني إلى العالم الإلهي، ويخيل إلي كأني قطعة منه. فعند ذلك يلمع لي من النور والبهاء ما تكل الألسن عن وصفه والآذان عن سمعه. ومن الغريب أني أشعر بأن روحي مملوءة بالنور مع أنها لم تفارق البدن). هذان النصان من غير تعليق ناطقان بالقرابة القربى والعلاقة الوثيقة بين الجذب الذي دعا إليه رجال مدرسة الإسكندرية، والاتصال الذي جد في طلبه الفارابي. وكتاب الربوبية هو المرآة التي عكست كثيراً من آراء أفلوطين وأتباعه على العالم الإسلامي.
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور(168/13)
العودة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
هانحن أولاء نعود إلى الوطن بعد طول الغيبة والتجوال؛ نعود إليه بقلوب تخفق ابتهاجاً بالعود، وكما غادرناه بقلوب تخفق ابتهاجاً للسفر واستقبال أسابيع تخالها دائماً تفيض متاعاً للنفس واستجماماً للجسم وانتعاشاً للروح المضني.
ولكن السفر لا يحقق دائماً الأمل؛ ففي كثير من الأحيان يغدو التجوال مشقة وضنى؛ ذلك أن الذهن المضطرم يذكيه الجديد في كل لحظة فلا يفتأ يطلب المزيد من المناظر والصور، والمشاعر الحساسة تجد دائماً ما يثيرها في تلك الآفاق الاجتماعية الجديدة التي تلامسها في كل خطوة؛ وشغف الملاحظة يحفز دائماً إلى المعرفة والبحث؛ وإذا كان في ذلك متاع للعقل والروح، ففيه دائماً للجسم والقوي.
على أن السياحة نزهة العصر؛ ولقد كانت السياحة فيما مضى مشقة ومخاطرة؛ وإنه ليحضرنا ونحن نكتب هذه السطور، ونخترق العباب المتلاطم، في بهو أنيق وثير من أبهاء (الكوثر) وصف المقري مؤرخ الأندلس لرحلته من المغرب إلى الإسكندرية في نفس المياه، وما يصوره لنا من روعة البحر وأهواله، فنذكر كيف استطاعت العبقرية البشرية أن تذلل الموج المروع، وأن تسير فوقه المدن الأنيقة السابحة آمنة مطمئنة، وأن تجعل من اختراق العباب المضطرم آية النزه والمسرات.
ولقد شاد الشعراء والكتاب من قبل بمزايا السياحة ومتاعها على ما كان يحفها في تلك العصور من المشاق والمخاطر؛ ذلك أن للجديد دائماً سحراً لا يقاوم، والنفس البشرية مفطورة على حب الاطلاع واكتشاف المجهول؛ وقد كانت بلاد العالم يومئذ مجاهل بعضها بالنسبة لبعض، فكان السفر اكتشافاً لآفاق ومجتمعات مجهولة؛ أما اليوم فقد اختفى المجهول من العالم المتمدن، ولكن بقى الجديد يجذبنا سحره دائماً إلى عوالم ومجتمعات مختلفة نأنس في اكتشافها ودراستها لذة ومتاعاً للعين والنفس والروح.
وقد يستغرق التجوال في تلك العوالم والمجتمعات الجديدة كل حواسك وأفكارك؛ ولكنه مهما أفاض عليك من البهجة والسحر، لا يستطيع أن يخمد في نفسك نزعة الحنين إلى الوطن وما تزال ذكرى الوطن تمثل في ذهنك في كل خطوة، أحياناً مقرونة بالزهو، وأحياناً(168/14)
بالأسف، وفقاً لمختلف الظروف والأحوال؛ وما يزال شبح العود الذي لا يفارقك منذ اليوم الذي تغادر فيه الوطن يلوح لك، ويقوى كلما ضعف سحر التجوال، حتى يحل دور السأم؛ وعندئذ يجذبك الوطن إليه بكل ما فيه من تأثير وسحر، ويغدو العود سعادة تسارع إلى اجتنائها.
وهانحن نعود إلى الوطن سعداء بالعود.
ولقد غادرنا الوطن في ظروف دقيقة تبحث فيها قضيته، وتعالج مصايره على يد زعمائه الأوفياء، فكنا خلال المرحلة نتطلع إلى أنباء المفاوضات المصرية الإنكليزية ونتلقفها حيث كنا وأنى استطعنا؛ وكانت الصحف والأنباء الأوربية ضنينة بها كل الضن فلا تنشر عنها إلا كلمات يسيرة؛ وكانت الصحف الإنكليزية بالطبع أكثر تحدثاً عنها؛ وكنا كلما شعرنا خلال السطور بأن أزمة تعترض المفاوضات زدنا لهفة وقلقاً؛ فلما جاءت الأنباء بأن الأزمات كلها قد ذللت، وبأن المعاهدة قد وقعت بالحروف الأولى، وبأن وفد مصر سيمثل إلى لندن، هللنا وكبرنا، وفاضت نفوسنا أملاً واستبشاراً؛ ولما جاء يوم الأربعاء السادس والعشرين من أغسطس، وهو اليوم الذي حدد لتوقيع المعاهدة لبثتا - ونحن في فينا - ننتظر النبأ الخطير بفارغ الصبر، وكان الراديو أسبق المصادر إلى إذاعته في مساء نفس اليوم؛ وفي صباح اليوم التالي ظهرت الصحف النمساوية وفي صدرها نبأ توقيع المعاهدة، ووصف موجز للعبارات التي تبادلها زعيم الأمة المصرية ومستر إيدن وزير الخارجية الإنكليزية؛ ثم توالت الأنباء بعد ذلك عن استقبال مصر للحادث المشهود، واحتفائها به احتفاء يتفق مع عظمته وخطورته، فكان أكبر أسفنا أننا لم نكن بمصر في تلك الأيام التاريخية لنشهد بأعيننا ذلك المنظر الرائع: منظر أمة تستقبل وثيقة تحريرها وتعلن ابتهاجاً بما جنت من ثمار جهاد طويل وشاق.
ومن غرائب الاتفاق أن تكون نفس الفترة التي تمت فيها المفاوضات بين مصر وإنكلترا ووقعت معاهدة الصداقة المصرية الإنكليزية، أعني ما بين يوليه وأغسطس هي نفس الفترة التي شهدت فيها مصر ضياع استقلالها وحرياتها منذ أربعة وخمسين عاماً.
الله أكبر! لقد دخلت مصر في عهد جديد وافتتحت صفحة جديدة من تاريخها.
فرعى الله مصر في عهدها الجديد، ووفقها على يد زعمائها وقادتها الأوفياء إلى تحقيق ما(168/15)
تطمح إليه من عظمة وسعود.
وحان وقت الرحيل بعد أيام، واستحكم حنين العود، فكان التردد على مكاتب السفر والتحري عن المواعيد وعن مختلف الطرق، وكانت أزمنة الأمكنة في البواخر من أي الثغور دليلاً على اضطرام حمى العود؛ وإنك لتأنس في هذه الفترة التي تهيأ فيها إجراءات العود، والتي تقوم فيها بآخر جولة في المدينة وفي منتدياتها شعوراً غريباً من الأسف والارتياح معاً. أما الأسف فلاختتام فترة من الرياضة النفسية والعقلية قلما نظفر بها في مصر. وأما الارتياح فلاختتام فترة من التجوال المبهظ والوحشة؛ ذلك لأن السياحة ما زالت ترفاً غالياً برغم ما تقدمه بعض الدول لتذليلها من التسهيلات في مسائل العملة والسكك الحديدية؛ وقد ذهبت ألمانيا وإيطاليا في ذلك إلى حدود مغرية حقاً، ولكنك ما تكاد تزور ألمانيا أو إيطاليا حتى تشعر بأن هذه التسهيلات لا تعد شيئاً مذكوراً بالنسبة لما تعانيه من غلاء فادح في كل شيء؛ وليس من المبالغة أن نقول إن نفقات المعيشة في أوربا وبخاصة في فرنسا وسويسرا، تبلغ على الأقل مثليها في مصر؛ ولقد قيل مراراً إن مصر لا تقدم شيئاً لتسهيل السياحة، وإنها يجب أن تجاري الدول الأخرى في تنظيم بعض تسهيلات مغرية للسياح؛ ولكن من المحقق أن تكاليف السياحة في مصر هي أرخص منها في أي بلد من بلاد العالم، ويكفي أن تتقدم مصر بهذه الميزة للسائحين.
هذا وليس من ريب في أنه مهما كانت مسرات السياحة ومغرياتها فإن السائح يشعر في بلاد الغربة بنوع من الوحشة يعروه من آن لآخر، فإذا حان أوان العود شعر بنوع من الارتياح للتخلص من هذه الوحشة واستعادة الإيناس في الوطن والأهل.
ودعنا العاصمة النمساوية في صمت، وتزودنا بالنظرات الأخيرة من هاتيك الربوع والمعاهد الضاحكة، وازدلفنا إلى محطة الجنوب لنستقل القطار إلى (جنوة) حيث نستطيع اللحاق (بالكوثر) وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب حين مررنا بجبال الألب قبالة (زيمرنج)، وهناك تأخذك الطبيعة بجمالها الرائع، وتمتد الأشجار والأزهار على الربى إلى مالا تدرك العين.
وفي ضحى اليوم التالي كنا في البندقية نتجول في ساحة سان ماركو، ونطوف بكنيسة سان ماركو وقصر الدوجات ونقطع (قنطرة الزفرات) ما بين القصر والسجن، ونتأمل هاتيك(168/16)
المعاهد والآثار التي تذكرنا بصفحة من أروع صحف العصور الوسطى.
ولقد شعرنا حين هبطنا البندقية أن يد التجديد قد صقلتها وأسبغت عليها مسحة من البهاء لم تكن لها من قبل، ووصلت كثيراً من أحيائها وطرقاتها المائية باليابسة، وكان عهدنا بها أنك لا تستطيع التنقل فيها إلا (بالجندولا)، فإذا بك اليوم تستطيع أن تقطعها سيراً من المحطة إلى الميدان - ثم إلى أنحاء كثيرة منها؛ وإنك لتشهد اليوم هذا التجديد أينما حللت في إيطاليا؛ وتلك آثار الفاشستية بلا ريب، وآثار تلك الروح الإنشائية التي تنفث إلى إيطاليا حياة جديدة في كل شيء.
وأخيراً انتهينا مساء إلى جنوة؛ وفي ضحى اليوم التالي ازدلفنا إلى الميناء فرحين باستقبال أول قطعة من أرض مصر؛ أجل هاهي ذي الكوثر تقف باسمة في ركن من خليج جنوة الكبير، وهاهو ذا العلم المصري الأخضر يخفق على ساريتها؛ وإنه لمنظر يبعث إلى الفخر والزهو أن ترى سفناً مصرية صميمة تشق عباب هذه المياه؛ ولقد كان لمصر مدى العصور الوسطى بحرية عظيمة تجوس خلال هذا البحر، وكانت سفنها التجارية كثيراً ما تمثل إلى البندقية وسرقوسة وجنوه، وكان للربابنة والبحارة السكندريين في تلك العصور شهرة خاصة؛ وكان لمصر أسطولها الحربي والتجاري إلى ما قبل زهاء قرن فقط، ولكن صروف الزمن حرمت مصر مدى قرن من امتطاء صهوة المياه؛ والآن يستأنف سيره، وتعود مصر فتسير سفنها في هذا العباب، وتعيد لنا النيل والكوثر سيرة غمرها النسيان دهراً؛ فعسى أن تكون النيل والكوثر نواة بحرية مصرية تجارية عظيمة تملأ جوانب هذا البحر نشاطاً، وتملأ نفوسنا غبطة وفخراً.
تلك الخواطر وعواطف تثيرها في النفس تلك السويعات الفريدة في حياتنا: سويعات يغمرها متاع التجوال وبهجة الجديد دائماً، ويملأها شجن البعاد أحياناً؛ على أنها ذكريات عزيزة في حياتنا نتطلع دائماً إلى تجديدها. وإن العود إلى الوطن ليملأ اليوم نفوسنا غبطة وسعادة خصوصاً وأننا نعود إليه في مستهل عهد جديد يجيش بآمال وأماني جديدة؛ ولكن أمل العود إلى التجوال يهتف بنا في نفس الوقت لنجوز نفس المشاعر والظروف مرة أخرى.
(الباخرة كوثر في 13 سبتمبر)(168/17)
محمد عبد الله عنان(168/18)
بين عالمين
مصر. . .
شهد الخلائق إنها لنجية=بدليل من ولدت من النجباء
لفقيه الشيعة الأكبر
الأستاذ محمد الحسين آل كاشف الغطاء
غير مجازف كثيراً - لو قال قائل - ليست مصر وليدة الأزمان وبنت الدهر، ونسلية الأحقاب، بل هي أم الزمان ووالدة الدهر، وجدة الليالي والأيام؛ كما أن ما نرى لها اليوم من الحضارة الزاهرة، والثقافة الباهرة، ليس بالأمر الحديث، ولا الشيء المستطرف؛ وتقدمها في العلوم والصنائع والمعارف والفنون يكاد يتصل تاريخه دورة الأفلاك، ونشأة الكون.
ولكن لا شيء من هذا أريد، ولا إياه أعني بالبيان؛ وإنما أريد بهذه الكلمة التمهيدية أن أقول: إن الفقه الإسلامي وأحكام الشريعة الإسلامية قد تحورت عن وضعها القديم ونشأتها الأولى فأصبحت (ولاسيما في القرون المتوسطة) كعقد الجمان المتلألئ، ولكن قد طمرته الأتربة وغمرته الأقذاء والأقذار حتى حجبت جماله، ولم يستبن منه سوى بصيص من اللمعان ينبئ العارف عن كنز دفين، وجوهر ثمين؛ وما كانت صحاح أحكام هذه الشريعة المقدسة توجد إلا عند رجالات من فرق المسلمين أو عند بعض طوائف منهم، ولكن لا صوت لهم ولا صيت، ولا تعرفهم أمم العالم من شرق أو غرب، وإنما كان مراجع الإسلام الذين تؤخذ منهم الأحكام هم أولئك الخشب المسندة والهياكل المفخمة التي لها بزتها الخاصة وشاراتها المعينة، الذين تنصبهم السلطات الزمنية لسياستهم حسب تلك الظروف بأسماء مصطلحة كما يقال (شيخ الإسلام) و (أمين الفتوى) و (مفتي الحنفية) و (مفتي الشافعية) وهكذا وهلم جرا إلى ما شاء الله.
وكانت الشريعة الإسلامية تضج إلى الله وإلى العلماء الأصحاء في تطهيرها من تلك الأوضار وفكها من تلك القيود والأغلال.
وبقى الحال على هذه الكوارث لا يزداد الأمر على تمادي الأيام ومرور القرون إلاَّ شدة(168/19)
العمى ورسوخاً في الجهل، وضياعاً للحقائق، وتكاثفاً في الحجب على محيا الشريعة الغراء، مثل تكاثف الغيوم السوداء على جبين الشمس. ويعرف كل ذي لبّ: أن (مصر) قد سبقت الأقطار العربية في كثير من أسباب الحضارة، فدخلت قبلها في أكثر أبواب الثقافة، ولها فضيلة السبق إلى التطور الحديث والأنظمة الجديدة - إن في الأدب أو في العلم والتعليم، أو التأليف والنشر، أو غير ذلك من أبواب المعارف.
ولكني أتنسم أن العناية قضت أن يكون لها السبق أيضاً حتى في نشر ما قبرته قرون الجهل والعصور المظلمة من الفقه الإسلامي وأحكامه الصحيحة وكشف ما تراكم على محياه من غيوم الأوهام وتحطيم تلك القيود والأغلال وطرحها عنه، وأحد شواهدي على ذلك - الكتيب الصغير، وأقول: الصغير على حد قوله:
إن الكواكب في علو محلها ... لترى صغاراً وهي غير صغار
ذاك كتاب (نظام الطلاق في الإسلام)، وكان مؤلفه الأستاذ العلاَّمة أهدى إلي نسخة منه. وبعد أن طالعته مرة أو مرتين راقني وأعجبني؛ ولا أقول: أعجبني دقة بحثه، وبراعة تحقيقه، ولطف أسلوبه، واعتدال سليقته، وأن كان حائزاً على أوفر نصيب من كل ذلك، وإنما الأمر الذي يوشك أن يكون قد تفّرد به وامتاز - هو صراحته وبسالته ومشيه على ضوء دلالة الكتاب والسنة، وعدم مبالاته بما اصطلحوا عليه من الإجماع الذي جعلوه آلة تخويف ومهماز تهويل، وإن قام على خلافه الدليل. يعرف هذه البسالة أهل هذا الفن ومن خاض لجج تلك الغمرات.
كان بعض أساتيذي العظم وقد انحصرت به في أواخر عمره مرجعية تقليد الأمامية في سائر الأقطار، وحاز من النفوذ والإكبار - ما قلما كان يتفق من السلف - وفي الوقت نفسه كان يقول:
وددت لو أعرف سنة وفاتي حتى أعلن وأجاهر بفتاوى في نفسي يساعد عليها الدليل، وتخفف عن المسلمين العبء الثقيل. فكأنه رضوان الله عليه - كان يخشى من إفشاء تلك الفتاوى حدوث الضوضاء من جهل العامة وجمود الخاصة المتسلحة بدعوى تلك الاجماعات. وكم لتلك الكلمة من الأكابر من نظائر!
فمثل - طلاق الثلاث، وطلاق الحائض، والحلف بالطلاق والعتاق وأمثالها من القضايا(168/20)
التي لم تزل من عهد قديم من المسلمات الرائجة عند جمهرة المسلمين، ويُدعى اتفاق المذاهب الأربعة عليها، فإذا نهض رجل في هذا العصر يهدم تلك المباني الراسخة بمعول الحجة البالغة والبرهان القاطع، أفلا يكون شجاعاً باسلاً وعالماً تحريراً؟
نعم طالعت الكتاب فما سنح لي موضع للملاحظة والتعليق عليه إلا في اختياره وجوب الإشهاد في الرجعة كوجوبه الطلاق، واستغرابه من علماء الإمامية الفرق بينهما، فكتبت إليه كتاباً في بيان الفارق بينهما من ناحية الدليل تارة ومن ناحية الاعتبار أخرى، فكنت أحسبه كتاباً خصوصياً لا يتجاوز حظيرة ما بيني وبينه؛ ولكن كأن مروءته، وكأن شهامته، وكأن حبه للخير وتعميم الفائدة دفعته إلى نشره والتعليق عليه؛ فما أنا ذات يوم إلا وبعض شباب النجف من تلامذة المدارس يقول لي: إن مجلة (الرسالة الغراء) نشرت كتاباً لكم مع الجواب عليه. . . وحيث أن صديقنا الأستاذ الزيات حفظه الله منذ حمل الرسالة، وأنشأ مجلتها الزاهرة، لم يتكرم بإتحافنا بها كما يصنعه جملة من الصحافيين الكرام، لذلك استعلمنا من ذلك الشاب مظانها، فذكر المكتبة العامة الحكومية في النجف الأشرف، فأوعزنا إلى إدارتها فأرسلت إلينا عددي 157 و159 فقط؛ نظرت فيهما المقالين نظرة خفيفة ثم استرجعتهما الإدارة عملاً بقانونها، ولكن بعض أبناء أعيان النجفيين الذين في بغداد أرسل إلي عفواً من غير طلب الأعداد الثلاثة، فوجدت بع إعادة النظر فيها أن الأستاذ السابق الذكر قد أسهب في الجواب عما قدمنا إليه في الكتاب. وفي الحق أنه قد استفرغ وسعه وبذل جهده وأحاط بالموضوع من جميع أطرافه شأن المجتهد الفقيه الذي يلزمه في سبيل استنباط الحكم الشرعي استفراغ الوسع، واستقصاء النظر، وبذل أقصى الجهد في تحصيل الدليل على الفتوى من الكتاب والسنة وكلمات العلماء. وهكذا صنع الأستاذ سدده الله فيما ذهب إليه من وجوب الإشهاد على الرجعة والتقصي عما أبديناه من الفرق، فقد حشد زمرة من كلمات الأساطين وجملة من الروايات والأحاديث التي يراها تشهد بصحة دعواه. . . وحيث أن من سجيتي التجافي عن إطالة المناظرة وتسلسلها خوفاً من أن يؤدي ذلك الجدل والمراء وحب الغلب بحق أو باطل، وإذا أبديت رأيي في موضوع فلست بملتزم أن يقبله كل أحد، ولا يلزمني أن أدفع كل ما يقال عليه، وإنما علي أن أحتج وأقول، ولغيري حرية الاختيار في الرد أو القبول. ولذلك لا أريد هنا أن أتعقب كل جملة مما ذكره الأستاذ(168/21)
بالمناقشة والمناوشة فيكون ذلك تطويلاً ولعله من غير طائل، ولكني أيضاً - شغفاً بنشد العلم وتعميم الفائدة أريد أن أؤسس قاعدة أصولية فقهية ينتفع بها الفقيه والمتفقه في مقام الاستنباط، ويرجع كل منهما إليها عند الحيرة والارتباك، مستفادة أيضاً من ذات الكتاب والسنة، وهي أنه إذا قام الدليل الشرعي من كتاب أو سنة احتمالان متكافئان لا يترجح أحدهما على الآخر بمرجح داخلي أو خارجي، هنالك ينظر الفقيه إي الاحتمالين أسهل على العباد وأيسر في مقام العمل، فيلزم الأخذ به والفتوى على طبقه، لما ورد في الأدلة العامة من أن الشريعة الإسلامية مبنية على الرفق والتسهيل، مثل قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله عز شأنه: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله صاحب الشريعة: (جئتكم بالشريعة السمحاء) وقوله: (يسروا ولا تعسروا) وكثير من أمثال ذلك.
ونضرب لذلك مثلاً فنقول: قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) قام فيه احتمالان: احتمال العود إلى الطلاق فقط، واحتمال العود إليه وإلى الرجعة المشار إليها بقوله تعالى (فإمساك بمعروف). فلزوم الإشهاد في الطلاق متيقن على كلا التقديرين، أما في الرجعة فمحتمل لزومه ومحتمل عدمه. ولو تنازلنا مع الخصم وقلنا بتكافؤ الاحتمالين من حيث نفس الآية، وأغمضنا عما قلناه من دلالة السياق على اختصاصه بالطلاق فقط، وإن الرجعة والإشهاد كليهما من أحكام الطلاق وهما في رتبة واحدة، فلو كان الإشهاد واجباً في الرجعة للزم أن يكون ما هو في رتبة الشيء متأخراً عن ذلك الشيء ضرورة تأخر الحكم عن الموضوع، فيكون الشيء متقدماً ومتأخراً - حكماً وموضوعاً - وهذا خلف وإحالة، وتناقض في الدلالة. ولكن أغمضنا عن ذلك كله وقلنا بتكافؤ الاحتمالين، فاللازم بحكم تلك القاعدة الأخذ بأسهلهما وأقلهما كلفة وهو عدم لزوم الإشهاد. وقد تقرر في فن الأصول أيضاً أنه إذا تعارضت الأدلة أو تزاحمت الاحتمالات فالمرجع الذي يستراح إليه هو الأصل المقرر في ذلك المورد. ولا ريب أن الأصل في المورد هو عدم الوجوب وعدم اللزوم، ويعضد ذلك ما يزيح العلة ويقطع دابر الشكوك والأوهام. ذاك ما ورد في أخبار أهل البيت سلام الله عليهم مثل ما في صحيحه محمد بن مسلم قال: سئل أبو جعفر الباقر (ع) عن رجل طلق امرأته واحدة ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها ولم يشهد على رجعتها، قال: هي(168/22)
امرأته ما لم تنقض العدة. وقد كان ينبغي له أن يشهد على رجعتها. وإن كان جهل ذلك فليشهد حين علم. ولا أرى بالذي صنع بأساً، وإن يشهد فهو أحسن. وفي أخرى: يشهد رجلين إذا طلق وإذا رجع. فإن جهل فغشيها فليشهد الآن على ما صنع وهي امرأته؛ وإن كان لم يشهد حين طلق فليس طلاقه بشيء. وفي ثالثة: الطلاق لا يكون بغير شهود، والرجعة بغير شهود رجعة، ولكن ليشهد بعد فهو أفضل، وعلى هذا النمط أخبار أخرى كثيرة صريحة في الفرق بين الطلاق والرجعة، وأن الأول لا يصح وليس بشيء بدون الإشهاد بخلاف الثاني غايته أنه يستحب في الرجعة الأشهاد، وهو استحباب إرشادي معلوم المصلحة وهي الحذر من الجحود وإنكار الزوج أو الزوجة مشياً مع الأغراض والأهواء التي قد تتفق لأحدهما. مثل هذا لا يصلح أن يكون علة للوجوب، فأن الإلزامات الشرعية وجوباً أو تحريماً إنما هي لأحداث الدواعي إلى فعل الواجب واجتناب الحرام. فإذا كانت الدواعي في الغالب حاصلة في النفوس فلا مقتضى للإلزام. ألا ترى أن الله سبحانه قال في كتابه الكريم: (وأشهدوا إذا تبايعتم) ولكن الفقهاء من الفريقين اتفقوا على الظاهر، على أن الأمر هنا للاستحباب وأنه إرشادي محض، لأن الدواعي للإشهاد ولاسيما في الأموال الخطيرة كالعقار والضياع وأمثالها متوفرة عتيدة، فلا حاجة إلى إلزام الشارع به بعد أن كانت الناس مندفعة إليه بأنفسها حرصاً على الضبط واستعداداً للطوارئ من جحود وإنكار. فأمر الشارع بالإشهاد إرشاد إلى أمر واقع، وتحفظ لازم، وليس معناه أن البيع باطل بدون الإشهاد، بل معناه أنك إذا تبايعت بغير إشهاد فقد غررت بنفسك، وخاطرت بمالك فلا لوم إلا عليك. وهكذا الأمر بالإشهاد في الرجعة إذا خشي كل منهما إنكار الآخر فأنه يندفع إليه طبعاً، وينساق له قسراً.
والإشهاد في الطلاق ليس لهذه الغاية فقط، وإلا لكان حاله كحال سائر العقود والإيقاعات كالبيع والإجارة والصلح والعتق والوقف، فلا شيء من هذه وغيرها يجب فيه الإشهاد سوى الطلاق لحكمة هي أدق وأعمق، وهي ما أشرنا إليه في كتابنا السابق. وكذا النكاح لا يجب الإشهاد فيه عندنا بحيث لا يصح بدونه، ولكن النفوس منساقة ومجبولة على الإشهاد فيه للضبط والاستعداد للطوارئ من ميراث وغيره. وأحسب أن هذا البيان سيكون كافياً عما أفاده الأستاذ في ملاحظته الأخيرة إذ يقول صفحة 1319 من المقال المنشور في(168/23)
(الرسالة): (وما اشترط في صحة الرجعة إنما اشترط ضماناً لبقاء الحياة الزوجية صحيحة سالمة من إرادة العبث بها وبعداً عن مواطن الشبهات وعن الإضرار بالمرأة عن إرادة النكول والجحد لإضاعة حقها) إلى آخر ما أفاد حفظه الله. فأن هذا كله صحيح ومتين، ولكن لا يصح بل لا يصلح أن يكون علة تبعث الشارع على الحكم بالوجوب بعد أن كانت الدواعي والبواعث متمكنة من النفوس بالإشهاد عند ملابسة الشك والخوف كما يشهدون في النكاح والبيع مع عدم وجوبه شرعاً. . . ومصاص الحقيقة وزبدة المخض أن الكلام تارة في صحة العمل في حد نفسه مجرداً عن كل الملابسات والعوارض فنقول مثلاً: إن العتق يصح بقول السيد لعبده (أنت حرّ) فيصير العبد حراً بمجرد إنشاء المولى هذه الصيغة، ولا حاجة إلى شهادة ولا كتابة ولا غيرهما. . . والكلام تارة أخرى من حيث الطوارئ كعروض خصومة أو نزاع بين السيد والعبد واحتمال الجحود والإنكار، فلا إشكال في أن الحاجة من هذه الناحية ماسة إلى الإشهاد وهو ضروري. وكذا الكلام في سائر الإيقاعات والعقود كالبيع مع الكتاب المجيد أمر فيه بالإشهاد (وأشهدوا إذا تبايعتم) ولكن لم ينسب القول بوجوبه إلا إلى بعض أهل الظاهر، وهو شاذ نادر. والخلاصة أن مقام الثبوت شيء، ومقام الإثبات شيء آخر؛ ونحن حيث قلنا بعدم وجوب الإشهاد في الرجعة أردنا مقام الثبوت على حدة في الطلاق الذي يتوقف ثبوته على الإشهاد. أما مقام الإثبات فالرجعة وغيرها سواء في أنها محتاجة ومتوقفة على الشهادة في الجملة (وإنما أقضي بينكم بالبينات والإيمان).
وأرجو أن تكون هذه النبذة كافية في سد باب هذه المساجلة، وأخشى لو زاد البحث على هذا أن تدخل في نوع المجادلة. نعم بقيت في الطلاق قضايا مهمة كثيراً ما يقع بها الابتلاء ولم يتعرض الأستاذ أيده الله لها في كتابه.
(منها) طلاق المفقود زوجها الغائب غيبة منقطعة كما وقع الابتلاء بهذا في الحرب العامة بكثرة. ولفقهاء الأمامية طريقة خاصة حسب الوارد عندهم من أحاديث من أحاديث أهل البيت (ع) في التحري أربع سنوات، ومع اليأس وعدم النفقة يطلقها حاكم الشرع.
(ومنها) ولي الصغير فأنهم جوزوا أن يعقد له ولم يجوزوا الطلاق عنه، وإطلاق كلماتهم يشمل حتى صورة المصلحة.(168/24)
(ومنها) طلاق الممتنع زوجها عن القيام بنفقتها تمرداً وعصياناً ومشاقة وإضراراً، حاضراً كان أو مسافراً، فانهم لم يجوزا لحاكم الشرع طلاقها عنه تمسكا في هذه القضايا بساق الحديث المشهور (الطلاق بيد من أخذ بالساق) وأنها ابتليت فلتصبر، وهو عندنا محل نظر، والجواز أقرب، والأدلة عليه متوفرة وقد طال المقال وضاق المقام عن ذكرها.
وفي الختام - أرد على أخي وخليلي في الله - تحيته الطيبة المباركة - بمثلها بل بأحسن منها، داعياً له بطول العمر ومزيد التوفيق، وأن يؤلف بين قلوبنا، ويجمع كلمتنا على الهدى والحق في خدمة الإسلام، ومناصرة هذا الدين الحنيف إن شاء الله.
(النجف الأشرف)
محمد الحسين آل كاشف الغطاء(168/25)
في الأدب المقارن
الأثر الأجنبي في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
تتفق اللغتان العربية والإنجليزية في خروجهما من جزيرة منعزلة، وانتشارهما في إمبراطوريتين متراميتين، وفي تأثر أدبيهما بهذا التوسع العظيم وبالاختلاط بالأمم الأخرى وآدابها، ولكنهما يختلفان في كيفية هذا التأثر ونواحيه ومداه، لاختلاف الظروف التي اكتنفت قيام الإمبراطوريتين.
فقد صحبت قيام الدولة الإسلامية ظروف أربعة كان لها أبعد الأثر في تاريخها السياسي وفي تاريخ أدبها: فهي أولاً قد قامت على أساس دعوة دينية تنتظم الأمم، وتسوي بين الناس، وتعد المؤمنين بها من مختلف الأجناس إخواناً. وهي ثانياً جاءت مبكرة غاية التبكير، ولم تنقضِ على تأسيس الدولة العربية الأصلية في الوطن الأصلي - جزيرة العرب - غير سنوات قلائل. وثالثاً تم تأسيسها بسرعة نادرة المثال في التاريخ نتيجة نجاح العرب الحربي الباهر، وأخيراً انبسط سلطانها على أمم تفوق العرب الفاتحين غنى وحضارة وثقافة.
هذه العوامل الأربعة - بما انطوت عليه من خير وشر - كانت حاسمة في مستقبل الدولة العربية. فمساواة الإسلام بين الناس - مساواته بين العرب الفاتحين وبين الأعاجم المغلوبين - هيأت لهؤلاء أن ينافسوا العرب في الحكم والرياسة وكافة أسباب الحياة. وقيام الإمبراطورية مبكرة قبل أن تتوطد الدولة في وطنها الأصلي من جهة جعل قبضة الوطن الأول على ممتلكاته واهية سرعان ما انحلت، وانفصلت جزيرة العرب أو كادت عن بقية الإمبراطورية وعادت إلى ركودها الأول، وخرجت منها عاصمة الحكم؛ ومن جهة أخرى الحكم الفردي المطلق هو النظام الوحيد القادر على إدارة تلك الأصقاع المترامية، فأهملت الشورى التي حض عليها الإسلام، والتي كانت مرعية قبل أن تمتد أطراف الدولة وتخرج العاصمة من الجزيرة. وسرعة تأسيس الإمبراطورية غمر الفاتحين بطوفان من الثروة نشر الترف والفساد نشراً يزري بكل ما عرفته رومة عقب فتوحها شرفاً وغرباً. وامتداد سلطان العرب على أمم تفوقهم حضارة وثقافة جعل من الحتم استعانتهم بأبناء تلك الأمم في(168/26)
الإدارات والصناعات التي لم يكن لهم بها عهد من قبل.
وقد استفاد العرب من سياسة المساواة والتسامح والعدل التي جروا عليها في إدارة إمبراطوريتهم أن انتشر دينهم ولغتهم فمحقاً الأديان واللغات السابقة في معظم أملاكهم وحلاَّ محلها. ولكن دولتهم جاءت - من جراء أربعة العوامل آنفة الذكر - شعوبية لا عربية صميمة، مستبدة الحكومة، مترفة المجتمع، متنافرة العناصر، منطوية على عناصر كثيرة من عناصر الانحلال.
كانت الظروف التي لابست قيام الإمبراطورية الإنجليزية وانتشار اللغة والأدب الإنجليزيين عكس هذه تماماً: فقد توطدت الدولة الإنجليزية في وطنها الأول توطداً تاماً مدى قرون قبل أن تتجه إلى التوسع الخارجي؛ واقتبس الإنجليز حضارة جيرانهم وثقافتهم حتى صاروا في مقدمة الأمم. فلما راحوا ينشرون سلطانهم لم يخضعوا أمماً تفوقهم مدنية كما كانت حالة العرب مع الفرس، أو حالة الرومان مع الإغريق؛ وتكامل بناء إمبراطوريتهم تدريجياً مع سير الزمن وتطور الحوادث، فلم يُبتلَوْا بسيل مفاجئ من الثروة والترف يزعزع دعائم مجتمعهم ويوهن متانة أخلاقهم، ولم يكونوا بسبيل دعوة دينية أو إنسانية تسوّى بين القاهر والمقهور، بل كانوا وما يزالون يعتبرون رسالتهم إخضاع الآخرين وحكمهم لا مساواتهم بأنفسهم؛ ومن ثم ظلوا متعالين عن الأمم المغلوبة مستأثرين بالكلمة العليا دونها متحاجزين عن أفرادها في المجتمع لا يخالطونهم ولا يزاوجونهم إلا في النَّدر.
لذلك كله قامت دولتهم إنجليزية صميمة، واتسق للنظام الديمقراطي أن يزداد تمكناً مع ازدياد اتساع الدولة، بعكس ما كان في حالتي العرب والرومان؛ وظل للوطن الأول في الإمبراطورية الإنجليزية المقام الأول، وبقيت به حاضرة الحكم التي تجمع سلطتها الأطراف وتؤثر في غيرها من أجزاء الإمبراطورية أضعاف ما تتأثر بالغير.
تلك الظروف التي صاحبت امتداد الإمبراطوريتين واختلاط الأمتين بالعناصر الأجنبية كان لها جميعاً أعظم أثر في تاريخ أدبيهما كما كان لها أثر في تاريخها السياسي، وهو أثر مزدوج يشمل معالجة أبناء الأمم المفتوحة لأدب الأمة الغالبة، كما يشمل اطلاع أبناء هذه الأخيرة على آداب الأمم المقهورة؛ وهنا أيضاً يتباين الأدبان العربي والإنجليزي.(168/27)
فالعرب قد سمحوا للمسلم من أية أمة أن يباريهم في معاناة أدبهم كما باراهم في شؤون الحرب والحكم، فما لبث الأجانب الداخلون في العربية أن بذوا العرب في هذا الباب بحكم قديم ثقافتهم وتليد حضارتهم كما بذوهم في غيره، وما لبثوا أن صار منهم أئمة الأدب العربي، واستأثروا أو كادوا بكتابة الدواوين ووزارة الخلفاء وصلات الأمراء.
ولم يكن من الخير في شيء للأدب العربي أن يتسلط عليه أولئك الغرباء الواغلون، وكانت لهم فيه آثار سيئة: فهم مهما تكن ثقافتهم ومهما بلغ انكبابهم على دراسة العربية غرباء بطبعهم عن الأدب واللغة والذوق الأدبي العربي وتقاليده ومراميه، فلم يكتبوا أو ينظموا على السجية بل كانوا دائماً مقلدين متعلمين: قلدوا متقدمي العرب باندماجهم في العربية، فكانوا عنصر تقليد ومحافظة، لا عنصر ابتداع وتجديد في الأدب؛ وتعملوا في اللفظ تظاهراً بتفقههم في اللغة، فأدخلوا الصنعة والبهرج والزيغ في الأدب بدل أن يوسعوا أغراضه ويسموا بمعانيه.
فَسَريَانُ العنصر الأجنبي الأعجمي في الأدب هو مرجع تغلب الصنعة على الطبع في كثير منه، ومرجع تغلب نزعة التقليد على نزعة التجديد في كل عصوره. وكفى بهذين داعياً إلى جمود الأدب ثم تدهوره. ولا شك أنه لو بقى الأدب وقفاً على العرب الصميمين، وظلت الكلمة العليا للعرب في الدولة، وظلت هذه الدولة محدودة المساحة لا تتجاوز كثيراً حدودها الطبيعية، لجاء الأدب أقرب إلى الطبع وأحفل بمظاهر الفن وأوسع مدى وأسمى أفقاً وأطول عمراً، ولكان له تاريخ غير الذي كان.
أما الأدب الإنكليز - وسنن الإنجليز التي جروا عليها في توسعهم واتصالهم بالأمم الأخرى هي ما قدمنا - فكان أقطابه بعد قيام الإمبراطورية - كما كانوا قبلها - إنجليزاً أقحاحاً يعبرون عن الطبع الإنجليزي والبيئة الإنجليزية، ويفقهون روح لغتهم وتراث أدبهم، ويصدرون عن تقاليدهم المجيدة؛ فلا غرو جاء الأدب الإنجليزي طبيعياً فنياً صادق التعبير سامي المقصد بعيداً عن التكلف ثواراً على الجمود.
فهذا فرق ما بين الأمتين في الاتصال بالأجانب؛ وهناك فرق بينهما في الاتصال بآداب أولئك الأجانب لا يقل خطورة عن سابقه. فالعرب الذين قبلوا الأعاجم أنداداً في دينهم ولغتهم وأدبهم ترفعوا عن آداب تلك الأمم، ولم يروا بأنفسهم - وهم معادن البلاغة وفحول(168/28)
الخطابة، ولغتهم لغة الدين والدولة والقرآن - حاجة إلى الاطلاع على آداب غيرهم، فنظروا إلى الأدبين الفارسي واليوناني وغيرهما شزراً، وخسروا بذلك كثيراً وضاق أفق أدبهم كثيراً لاعتزاله غيره.
على حين أن الإنجليز الذين ضنوا بقوميتهم وترفعوا عن سواهم من الأمم في الحكم وفي المجتمع لم يترفعوا عن آداب تلك الأمم الجديرة بالدرس، فانتفعوا قبل توسعهم وبعده بالآداب الإيطالية والفرنسية والألمانية، بله آداب الأمم البائدة من إغريق ورومان، أوسعوا كل ذلك درساً واطلاعاً ونقلاً، فأخصبوا أدبهم أي إخصاب، ووسعوا أطراف لغتهم ذاتها. وعلى هذا النحو استفاد الإنجليز بخير ما في الآداب الأجنبية دون أن يفقدوا شخصيتهم في غمار تلك الآداب، أو يسمحوا للأثر الأجنبي أن يفسد ملكتهم الأصلية وطبعهم الخاص.
فالظروف التي أحاطت باتصال العرب بغيرهم، وتأثر أدبهم بالآداب الأجنبية، والسنن التي استنها العرب في معاملة الأجانب، لم تكن خير ما يساعد الأدب العربي على النمو الصحيح والازدهار الطويل؛ واللغة العربية المحكمة البناء، البارعة التعبير، الغنية الجوانب، التي أينعت أحسن إيناع تحت سماء البادية لم يتح لها في أرض الحضارة من يوجهون بليغ أساليبها أحسن التوجيه إلى دراسة النفس الإنسانية ووصف المجتمع البشري، وكان رقيها العلمي في ظل الإمبراطورية الإسلامية أعظم بكثير من رقيها الأدبي.
فخري أبو السعود(168/29)
عمر بن الخطاب
للأستاذ علي الطنطاوي
(أهدي هذا الفصل إلى. . . . . . صاحب (الرسالة)، اعترافاً بفضله وفضل رسالته علي، فأنه لولا التشجيع الذي تفضل علي به يوم صدر كتابي (أبو بكر الصديق) لم يؤلف هذا الكتاب)
(علي).
- 1 -
. . . في يوم وَهِج من أيام الصيف، قد خَدِر واشتدّ حرّه، في الهاجرة الملتهبة، كان يسير على رَمْضاء مكة - وقد تسعَّرت الأرض وتوقدت، واستحالت جمرة مشتعلة - رجل ضخم الجثة مفرط الطول، شديد الأسر، قد توشح سيفه، وأقبل مسرعاً يطأ الأرض وطأ عنيفاً، فتحس كأن قد تقلقلت تحت أقدامه، ويرمي كل شيء حوله بنظرات حادة ينبعث منها الغضب، ويتطاير منها الشرر، لا يبالي بالشمس المتقدة، ولا الحصى المتسعّرة، ولا يحفل السموم الذي هب سخناً يلفح الوجوه، كأنه فيح جهنم. . . لأن له غاية فهو يسعى إليها، إنه يريد أن يقتل (سيّد العالم)!
ذاك هو (عمر) الجاهليّةِ. . . رجل يعيش في الظلام، وراء سور التاريخ، لم يَدْنُ منه، ولم يلجْ حماه، ولم يُلْقَ عليه نوره؛ رجل يمشي في هذه القافلة الجاهلية، التي تبدأ من وسط الرمال، في قلب الصحراء، ثم تسير على الرمال، رمال الصحراء، ثم تنتهي في الرمال، في الصحراء. . . تبدأ من العدم، وتنتهي إلى العدم، قبل أن تبلغ أرض المدنية، أو تصل إلى حدود العمران، أو تدنو من مهاد العلم والحضارة والحياة. . .
رجل يعيش بغير أسم، ويموت بلا ذكر!
- 2 -
قف أيها الرّجل! تودع من جاهليتك، إن عرشك في التاريخ قد أُعِد لك لتستوي عليه، إن محمداً (صلى الله عليه وسلم) سيضع في يدك المفتاح الذي يفتح لك أبواب (التاريخ) الذي جهلك وأنكرك، ولم يَدْرِ بك. . . لتدخل حرمه، ثم تعلوا في مراقيه، ثم توغل في ساحاته(168/30)
وأبهائه، حتى تصل إلى السدّة العليا، فتجلس عليها، دون الأنبياء وفوق العظماء!
قف أيها الرجل! ألقِ عنك هذا السلاح الذي جئت تحارب به دين الله: إن دين الله لا يحارب!
ارم هذا السيف الذي توشحته لتقتل محمداً، وتقضي على بدعته الجديدة، وتبيد أصحابه التسعة والثلاثين! إن محمداً رسول الله وسيد كل من قال: أنا إنسان، لن يقتل! إن هذه البدعة التي كتب لها أن تغلب على العالم، وتبقى ما بقى الزمان ظافرة منصورة لن يقضى عليها. إن هؤلاء التسعة والثلاثين رجلاً سيملكون الدنيا؛ سيصيرون أربعين ألفاً، أربعين ألف ألف، أربعمائة ألف ألف، سيصيرون هم سكان هذه الكرة. . . إنهم لن يبيدهم سيفُك يا عمر!
بل سيعزّهم الله بك، ويستجيب فيك دعاء نبيّه ومصطفاه، صلى الله عليه وسلم. . . فتعال! اغمد هذا السيف. اقبض هذه اليد التي رفعتها لتضرب بها امرأة. تعال اغتسل من شركك وجهالتك وجفائك وقسوتك. إنك ستمشي إلى مشرق النور، إلى دار الأرقم في أصل الصفا، فتشهد فيها أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله!
يا لسرّ الكلمة السماوية: لا إله إلا الله محمد رسول الله! لقد نقلت عمر من ظلمة الجاهلية إلى نور الإسلام، ومن حضيض الخمول إلى قُنّة المجد، ومن مهامِهِ النسيان إلى صدر التاريخ. . لقد ذهب عمر الفظّ القاسي الذي كان مطية لقريش في ظلمها وشركها وجبَروتها الزائف، فينصر الباطل على الحق، والشرك على التوحيد، وجاء الفاروق العادل الرؤوف الرحيم، البطل الخالد العظيم، العبقريّ الذي أدار أربع ممالك، لقد جاء أمير المؤمنين، سيف الإسلام وعزّ الدين!
يا للعجب العجاب! إن الرجل الذي خرج في الهاجرة المحرقة، في هذا اليوم العصيب، منتضياً سيفه، لا يلوى على شيء حتى يقتل محمداً، قد رجع وهو يحب محمداً (صلى الله عليه وسلم) أكثر من أمّه وأبيه والناس أجمعين!
إنها قد تعرض للمرء لحظات تبدل مجرى حياته، ولكنا لا نعرف - ولا يكاد يعرف أحد - مثل هذه اللحظة المباركة، التي قلبت هذا الرجل قلباً، فارتقى مرّة واحدة من بدويّ منكر لا يعرفه إلا قومه، إلى عبقريّ سيعرفه التاريخ بأنه قاهر كسرى وقيصر وباني الكوفة(168/31)
والبصرة، وأنه أقوى وأرق وأعقل وأعدل ملوك الزمان - هذه اللحظة التي أثرت في حياة العالم فأزاحت دولاً وأقامت دولاً، وثلت عروشاً، وبَنت حضارات.
أسلم الفاروق، فليفرق بين الحق والباطل، ولينتقل الإسلام من دين مستتر يفرّ من قريش العاتية الظالمة المستكبرة، مختبئ في حاشية من حواشي مكة التي يصول في بطاحها الشرك ويجول، وتقوم حول كعبتها الأصنام، إلى دين ظاهر مجاهد، يجابه الخصوم، ويصمد للأعداء. لقد كان الإسلام ساكناً تحت الصفا يعمل بهدوء ويتكامل في الخفاء، كما تتكامل البذرة في باطن الأرض؛ فليخرج الغصن ولينمُ في الهواء، وليسمُ إلى العلاء، ليكون منه بعد ثلاثين سنة الدوحة التي تمتد فروعها من صحراء أفريقيا إلى سهول خُراسان، ومن جبال الأناضول، إلى ساحل عُمان. . .
ليعلن الإسلام (بمظاهرة) تسير في شوارع مكة على رأسها (حمزة) أسد الله و (عمر) الفاروق حتى تنتهي إلى المسجد الحرام، فيصلي المسلمون عند الكعبة أول صلاة بجماعة، وإمامهم إمام الأنبياء وسيد المرسلين (صلى الله عليه وسلم)، ولتتقطع أفئدة قريش من الحنق، وليموتوا بغيظهم. انهم لا يستطيعون أن يصنعوا شيئاً. لقد أسلم الفاروق، وفرق الله به بين الحق والباطل! إنها (مظاهرة) صغيرة، لم يسر فيها إلا أربعون رجلاً، ولكنّ هؤلاء الأربعين هم الذين صنعوا الأربعمائة مليون مسلمي اليوم، ولا يعلم إلا الله ماذا يصنعون غداً. . . ولكن فيهم حمزة، فيهم عمر العظيم، فيهم خلاصة الإنسانية، وأفضل الأنس والجن والملائكة، محمد رسول الله!
إن هذه (المظاهرة) التي سار فيها أربعون شخصاً مائتي خطوة، من الصفا إلى الكعبة، لهي أعظم (مظاهرة) عرفها التاريخ لأعظم مبدأ قام لتقرير التوحيد، وتأييد الحق ونصرة الفضيلة، وتحقيق المثل العليا في الحق والخير والجمال.
إنها تسير أبداً، تسير في الأدمغة والقلوب، ما بقيت أدمغة وقلوب يحفّ بها الإجلال والإكبار.
- 3 -
ولكن ماذا كان عمر لولا الإسلام؟ هل كانت هذه العبقرية النادرة، وهذه النفس العجيبة التي تظهر لو لم يلمسها (محمد) بيده الكريمة ويهزها ويُفِضْ عليها من نوره؟(168/32)
هل كان لعمر هذه المكانة في التاريخ وهذه المنزلة في النفوس؟ هل كان يعيش إلى هذا العصر ويؤلف فيه عشرون كتاباً، ويبقى إلى العصر الآتي ويكتب فيه ألف كتاب؟
إن من يدقق في سيرة عمر، ويقابل بين عمر الجاهلية - على قلّة ما لدينا من أخباره - وعمر الإسلام، ويرى كيف استحال عمر من شخص إلى شخص، وتبدلت طبائعه وأفكاره في اللحظة التي وقف فيها أمام النبي صلى الله عليه وسلم ونطق بكلمة الشهادة وكيف ولد في تلك اللحظة ولادة جديدة وبدأ يصعد في مدارج العلاء. . . إلى ذروة المجد. . . إلى الجنّة، علم أن عمر مدين للإسلام بكل شيء.
نعم، قد تظهر هذه العبقرية ولو لم يتداركها الإسلام، وتبدو آثارها، ويصبح عمر زعيماً من زعماء مكة، يبرز ويعظم أثره في قريش، ثم لا يتجاوز اسمه هذا الوادي الذي يمتد ستة أكيال من جرول إلى الحجون، بعرض كيلين أثنين - أما أن يتخطى أثره الأخشبين إلى البادية، ويقطع البادية إلى الشام والعراق، وينفذ إلى الأجيال الآتية فشيء لم يكن ليناله عمر لولا الإسلام.
وماذا كانت تصنع هذه العبقرية وهي محصورة في هذا الأفق الضيق؟ وما كان يصنع وهو يعيش في بلدة منقطعة عن العالم تائهة في لجٍّ من الرمال ما له آخر لا صلة لها بالبلدان العامرة إلا صلة التجارة الضعيفة، ولا تأتيها أخبار العالم إلا رثة بالية، ولا نبأ عندها من فلسفة يونان، أو حكمة الهند، أو أخبار السياسة الدَّوْلية بين فارس والروم؟
هل يغير مصباح محبوس في صندوق مغلق؟ أم يشتعل وحده لا يدرى به أحد، ثم يفنى زيته، فينطفئ وحده لا يعلم به إنسان؟
أما كانت تمضي عبقرية عمر كما مضت ألوف من العبقريات دفنت حية في بقعة معتزلة من بقاع الأرض، في قوم متأخرين، ولم تتصل بسمع التاريخ؟
أما إن عمر شعاعة من نور الإسلام، ومعجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم!
- 4 -
لما استفاق بنو قريش من الغشية التي أصابتهم عند ما أسلم عمر عادوا يكيدون للدين، ويؤذون النبي والمسلمين، والنبي (صلى الله عليه وسلم) ماضٍ في دعوتهم، صابر على(168/33)
أذاهم، ينذرهم بطش الله، ويعدهم إذا أسلموا ملك فارس والروم، ويعدهم جنة عرضها السماوات والأرض، وهم ماضون في إعراضهم، لا يتدبرون القرآن، ولا تخشع له قلوبهم التي هي أشد قسوة من الحجارة (وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهارُ، وإِنَّ منها لمَا يشَّقَّقُ فيَخرُجُ مِنْهُ المَاءُ، وَإِنَّ مِنْها لمَا يَهبطُ مِنْ خَشْيَةِ الله) يا لهذه القلوب التي هي أغلظ من الجبال! (لَوْ أَنْزَلْنَا هذا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). وهذه القلوب التي أنزل عليها القرآن لا تخشع ولا تلين!
طلعت الشمس على وادي مكة أربعة آلاف وأربعمائة وأربعا وعشرين مرّة والمشهد واحد لم يتغير.
نبي الله يدعو الناس إلى الله، سراً وعلناً، فرادى وجمعاً، ليلاً ونهاراً؛ وبنو قريش يناوئونه ويحاربونه ويؤذونه، يلقون الشوك في طريقه وهو ماشٍ، ويرمون سلى الجزور على رأسه وهو ساجد، ويُغرون به سفهاءهم وأحداثهم، ويفتنون في تعذيب المسلمين، وتخرق لهم أدمغتهم الشيطانية طرقاً في التعذيب تقشعر لهولها الأبدان، ويقاطعون المسلمين لا يكلمونهم ولا يبايعونهم ولا يزوجونهم، ويحصرونهم في الشِّعب سنتين، ثم يعدون عدد الجريمة الكبرى، يأتمرون بالنبي ليقتلوه، ويضيّعوا دمه في القبائل، فلا يقدر عليه بنو عبد مناف.
فختام الصبر على هذا؟ أيقف هؤلاء المشركون الجاهلون من رؤوس قريش وزعماء مكة في وجه الإسلام، الذي ما جاء لقريش ولا للعرب، ولا للقرن السابع الميلادي، ولكن جاء رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، في كل عصر وفي كل بادية ومصر؟ أهؤلاء يمحون الإسلام من الأرض محواً؟ يا للسخفاء المغرورين! (يُريدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبى اللهُ إلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) وينصر نبيه، ويظهر دينه (عَلَى الدِّينِ كُلِّه).
لم يعد في قوس الصبر مَنزَع، فليس الإسلام في طريقه - نحو أرض الشام - نحو الظلال والأعناب، فليستقر في الطريق، (في المدينة) حيناً، ثم ليخرج من يثرب، ليعم العالمين.
أيها المسلمون. . . هاجروا إلى المدينة!
أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا إرسالاً مستخفين مستترين، ينسلّون من مكة انسلالاً، فلا تدري بهم قريش، إلا وهم في المدينة على رأس الجيش الذي يسحق رؤوس الكفر في (بدر)، ثم يمضي إلى (فتح مكة).(168/34)
لكن عمر؟ عمر القويّ الذي ما لان للمشركين؛ عمر الذي أعلن إسلامه وذهب يضرب المشركين ويضربونه، ويجد في ذلك لذة وراحة؛ عمر الذي حماه خاله أبو جهل، وأجاره من أذى قريش، فضرب وجهه بجواره وأباه، وعاد إلى قريش يَضرب ويُضرب، ثم لا يكون إلا غالباً، يدفع عن نفسه، وعن المستضعفين من المسلمين.
عمر يذهب من مكة مستخفياً؟ معاذ الله يا عمر!
تهيأ عمر للهجرة، فتقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى بيده أسهماً، واختصر عنزته وذهب إلى المسجد، فاستقبل قريشاً بالسلاح الكامل، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف على الملأ من قريش، فأعلن وحده الحرب عليهم جميعا. . . . فقال:
(شاهت الوجوه! لا يرغم الله إلا هذه المعاطس! من أراد أن يُثكل أمّه؛ أو يوتِم ولده، أو يُرمل زوجتَه، فليلقني وراء هذا الوادي!).
قال علي رضي الله عنه: فما تبعه إلا قوم من المستضعفين، علمهم ما أرشدهم، ثم مضى لوجهه.
- 5 -
سيقول قائل: ما لعمر يعلن هجرته، ويمشي على رؤوس الأشهاد من صناديد قريش، والنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه يهاجران مستخفيين؟ أيكون عمر أشجع من النبي ومن أبي بكر؟
لا والله، ما هو بأشجع منهما، ولقد وقف عمر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعد لم يسلم، ولم يجيء إلا ليقتله، فلما أمسك بتلابيبه ونتره، سقط على الأرض، على قدم النبي، وهو يرتعد من هيبته صلى الله عليه وسلم. وكان الصحابة - وفيهم عمر - إذا جد الجد، وحمى الوطيس، ودارت رحى الحرب، استتروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واحتموا به. ولما كانت الردة ورمت العرب عن قوس واحدة، وخاف الصحابة وخاف عمر، وأرادوا المسالمة والملاينة، قام أبو بكر وحده في وجه العالم وصارعه حتى صرعه. فكان عمر يعرفها له أبداً. . . فعلام إذن هاجر عمر جهاراً نهاراً! وهاجرا مستخفيين؟
إن في الأمر لسراً، هو غير الشجاعة والجبن، ذلك أن القائد العام عندما ينتقل من جبهة من جبهات الحرب إلى جبهة أخرى، لا يقف في الطريق على عدو، ولا يلقى حرباً، وإذا رأى(168/35)
نفراً من الأعداء، يستتر منهم، وينأى عنهم، لأنه إذا سلك سبيل الشجاعة الساذجة، وأقبل عليهم يقاتلهم، ضيع الجيش الذي ينتظره، ولا يعمل إلا به، وخسر المعركة الكبرى لينتصر على نفر من الأعداء في معركة على الهامش، ثم إن فراره لا يعد جبناً ولا عجزاً، وإقدامه لا يعد شجاعة ولا استبسالاً.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم القائد الأكبر، لا في حرب قريش أو هوازن - فما قريش؟ وما هوازن؟ ولكن في حرب الشرك والجهل والظلم، في الحروب التي تمتد أبداً بين الحق والباطل، فلا يدافع عن الحق قوم إلا كانوا تحت راية محمد، فهل يدع مهمته الكبرى، لينتشر على نفر من قريش؟
ذلك هو سرّ الهجرة.
(لم ينته الفصل)
علي الطنطاوي(168/36)
2 - جامعة الإسكندرية
بقلم الأديب إبراهيم جمعة
علماء الجامعة في عصرها الأول - فليتاس القوصي - زنودوتس - زيارة ميناندر الأثيني وافتتاح مسرح الإسكندرية - اكتشاف فيلون للبحر الأبيض الجنوبي - دراسة مانيتو وتيموثيوس وهيكتاتس للعقائد المصرية القديمة - اقليدس وهيروفيلوس - سوتر يكلف بالدراسة والتصنيف آخر الأمر - قيمة كتاباته - الفن - أخذ الإيطاليين عن الإسكندريين.
يميل الباحثون الألمان إلى نسبة هذه الجمهرة من العلماء إلى بطليموس الأول المعروف باسم بطليموس سوتر، وهو الذي يعتبره (سسميل) صاحب الفضل الأوفى في خلق حركة فكرية أدبية علمية في الإسكندرية قام هو بحمايتها، وترأس مجالسها، وأصغى إلى المناقشات الشديدة الاحتدام التي خلت في بعض الأحايين من الفائدة العلمية، فأصبح جدلاً شخصياً لا طائل تحته.
عهد بطليموس سوتر بتربية ابنه (فيلادلف) إلى عالم ذاع صيته في ذلك العصر هو فليتاس القوصي، وهو شاعر ينسب إليه أول مجهود أدبي عرفته الإسكندرية في الشعر الرثائي، بل أول مجهود عرفه العالم أجمع من هذا النوع من الشعر، وهو إلى هذا من أشهر علماء اللغة الإغريقية الذين صنفوا فيها، ووضعوا لها موسوعة كبرى حوت كل مصطلحاتها.
هذا وقد تابع زنودوتس البيزنطي التأليف والتصنيف في قواعد الإغريقية، وقام بجهد يشكر في مراجعة مخلفات (هوميروس).
ويحتمل أن يكون بطليموس سوتر هو المؤسس لمسرح الإسكندرية، وأن تكون دعوته (لميناندر الأثيني) بقصد حضور حفلة افتتاح المسرح الكبير وشهود بعض رواياته التي وضعها في أثينا تمثل في الإسكندرية؛ وقد كانت زيارة ميناندر للإسكندرية تطويقاً لجيد الجامعة بأثمن درر العصر، واعترافاً بالمكانة الناشئة والنجاح الظاهر الذي صحب جهود البطالسة الأوائل في توفير جو علمي من الطراز الأول لمدينتهم الجديدة.
ووكل سوتر إلى أمير البحر (فيلون) أمر التجوال في البحر الأحمر قصد الوصول إلى أطرافه الجنوبية؛ وقد وفق هذا إلى اكتشاف البحر الأحمر الجنوبي، وكان لهذا الاكتشاف أثره في عصر بطليموس فيلادلف ومن خلفه في التجارة وفي تزويد الجامعة بأبحاث(168/37)
عظيمة القيمة سنأتي على ذكرها في موضعها - كما عهد سوتر أيضاً إلى هيكتاتيس الأبديري، ومانيثو، وتيموثيوس أمر دراسة (الميثولوجيا) المصرية القديمة، ابتغاء تزويد الإمبراطورية البطليموسية الناشئة بما يحتاج إليه كيانها من العقائد.
والحقيقة أن كل هذه الجهود هي دون ما بلغته جامعة الإسكندرية في هذا العصر من التفوق في الهندسة على يد أستاذها الأكبر (اقليدس الإسكندري) وفي التشريح على يد أستاذه الفذ (هيروفيلوس).
وإقليدس أشهر معلمي هذا العصر إطلاقاً، وهو أبو الهندسة كما يقولون، مؤسس مذهب البحث العلمي؛ وكتابه (الأصول) أنماط في صميم المنطق أكثر منها موضوعات في الرياضة، وإليه يرجع الفضل في جعل عصر سيده بطليموس سوتر عصر تفوق رياضي عظيم الشأن، كان ولا يزال له أثره في تقدم العلم والعقل البشري.
وكان (هيروفيلوس) أبا للتشريح، كما كان (أبقراط) اليوناني أبا للطب من قبل، وبفضل هيروفيلوس سجل التاريخ لمصر السبق في دراسة (الأمعاء) دراسة دقيقة، وكانت الحكومة تمده بالمجرمين المقضي عليهم بعقوبة الإعدام ليجري فيهم تجاربه - كما أمدته حظيرة الحيوان الملحقة بالمتحف بأنواع من الحيوان شرحها ودرسها واستنبط من كل ذلك طريقة علمية للتشريح ساعدت بدورها على رفع شأن الإسكندرية في العلوم الطبية.
وتآزرت جهود هذا العالم وجهود إقليدس على خلق مكانة للإسكندرية ظلت مقترنة باسم المتحف الإسكندري حتى وقتنا هذا.
ويجدر بنا أن نذكر أنه بينما كان الإسكندريون مشغوفين بمباحث العلم البحت في الرياضة والطب وما شاكلهما، كان الأثينيون مشغولين بدراسة الفلسفة من رواقية وأبيقورية، أما اشتغال الإسكندرية بالفلسفة فقد جاء متأخراً حين أسس فلاسفتها مذاهبها الخاصة التي أشهرها الأفلاطونية الحديثة وسنعرض لها في بحثنا هذا بكثير من التفصيل.
كانت لبطليموس سوتر شواغل سياسية إلى جانب انهماكه في رفع شأن الإسكندرية، وأهم تلك الشواغل منافسته لديمتريوس ملك مقدونية، لانتزاع السلطة البحرية على البحر الأبيض الشرقي من يده، وما لبث حتى انتزع قبرص من الملك المقدوني وجعلها مركزاً لأسطوله، وغدت له بهذا سيطرة غير منازعة على المياه الشرقية من البحر الأبيض. وكان(168/38)
من شواغله أيضاً رغبته الملحة في نقل جثمان سيده (الإسكندر) إلى مصر، ابتغاء الفخر بحيازة جثمان العاهل العظيم، ولم يهدأ لسوتر بال حتى تم له ذلك، وبهذا خلا نهائياً من مشاغله الخارجية، وخصص كل عنايته بعد ذلك للمكتبة والمتحف اللذين نالا من ماله وانتباهه الشيء الكبير. ومن أمره أنه شغف مع المشغوفين بالدراسة والتصنيف؛ ومن المعروف عنه أنه وضع مصنفاً في حروب الإسكندر الأكبر التي ساهم فيها كأحد قوادها. ويصف (أريان) مؤلَّف سوتر بأنه من أدق المراجع وأوفاها في هذا الشأن، ويضعه في رأس كتب المراجع التي صدر عنها تاريخه، وقد يكون هذا حقاً، كما قد يكون ملقاً للملك المؤلف.
والمذكرات الخاصة التي يضعها القواد عن أعمالهم في الحروب يغلب عليها المبالغة، وحسن تقدير تلك الأعمال وتعظيم نتائجها مما قد يكون إغراقاً وتورطاً في الباطل، وهي لهذا لا يصح أن تتخذ سنداً من أسانيد التاريخ إلا بكثير من الحيطة والحذر. وينسب إلى نابليون الأول شيء من هذا في مذكراته التي كتبها عن نفسه، ولم يتحرر يوليوس قيصر من مثل ما ينسب إلى نابليون في مذكراته عن (الحرب الغالية).
ويذكرون أن سوتر كتب أيضاً عدة رسائل عن الشؤون العامة في عصره نشرها (ديونيسودورس) أحد تلاميذ (أرستاكاس) العالم الإسكندري، يؤسفنا أننا لم نعثر على شيء منها حتى الآن.
وفي أواخر أيام سوتر كان لا بد له من تسوية مسألة وراثة العرش، إذ كان له أكثر من وريث، وكان أكثر هؤلاء الوراث خطراً على العرش البطليموسي (بطليموس) ابن له من يونانية، أحذ ديمتريوس ملك مقدونية الموتور يشد أزره ويناصره على بطليموس (فيلادلف). وكان النزاع بين هذين الوريثين نزاعاً بين روحين مختلفتين: روح مصرية، وروح يونانية؛ وكان انتصار إحداهما على الأخرى انتصاراً لإحدى الروحين، وتحديداً لمستقبل البلاد. وكان ميل الملك الأب مع أبنه فيلادلف، وكان هوى الشعب مع الأخير إذكاء للروح القومية الجديدة التي بدأها وارث ملك الإسكندر في مصر سوتر العظيم، وإنهاضاً لمدينة هلينية الأصل حقاً، ولكنها من حق الإسكندرية، ومن جهدها وإحيائها. كان الملك الأول يأنس في الملك الابن فيلادلف سياسة مشابهة لسياسته، أساسها المحافظة على(168/39)
الصبغة المشتركة التي جمعت بين اليونانية الهلينية والمصرية الفرعونية، والتي حرص البطالسة على التمسك بها كأساس لملكهم الجديد، لا مناص منه، إبقاء على دولتهم من أن تبيد.
والذي يتأمل كيف عنى سوتر بتربية ابنه فيلادلف على أيدي خير الأساتذة، يرى كيف كان يحرص على أن ينتهي ملكه إلى هذا الوريث دون سواه، وقد كان أن نزل سوتر لابنه فيلادلف عن العرش، ولكنه ظل يظهر في بلاط ابنه مدة عامين كأحد الرعايا، ومات عام 283 ق. م مخلفاً على الزمن سجلاً حافلاً بالحوادث الجسام قَلَّ أن تتوفر لحاكم.
استطاع سوتر أن يركز دراسة العلوم والآداب والفلسفة والطب في عاصمة ملكه، ولكن هل استطاع أن يجعل الإسكندرية كعبة الفنون في هذا العصر؟
إذا كان لنا أن نحكم بالشواهد التي بين أيدينا وهي تلك النقوش البديعة التي ترى فوق العملة المتخلفة عن هذا العصر في دور العاديات، لما تأخرنا عن الحكم قطعاً بتقدم الفن في ذلك العصر؛ غير أنه لا يجب أن يغيب عن بالنا ونحن في هذا الصدد أن الفن الإغريقي كان عليه أن يغالب فناً من أقوى الفنون التي عرفها تاريخ العمارة هو الفن الفرعوني. والمشاهد بوجه عام أن المباني التي أقامها البطالسة خارج الإسكندرية روعي فيها أن تكون فرعونية الصبغة، ولكنها لم تخل من التأثر بالفن الإغريقي؛ ولم يكن للبطالسة من ذلك مناص، تشبهاً بالفراعنة وإرضاء لذوق الشعب المصري الذي لم تنسه الأحداث السياسية قوميته، ولم يمجد على مرور الزمن أبطالاً غير أبطاله، ولم يعرف عنه أنه أسلم القياد كله للمدنية الدخيلة، ولاسيما للجانب الديني منها، بل بقي محافظاً على دين أجداده محافظة تامة. لهذا ظلت المباني ذات الصبغة الدينية على النمط الفرعوني.
تأثر البطالسة بالديانة المصرية أكثر مما تأثر المصريون بالفن الإغريقي، ولذلك بقيت الصبغة المصرية كما أسلفنا ظاهرة في الفن الذي عرف عن العصر البطليموسي، إلا في الإسكندرية ذاتها، حيث كان كل شيء يونانياً صرفاً؛ فأقيم في الإسكندرية في هذا العصر المتحف والملعب والمسرح والسينما حيث دفن الإسكندر، وكانت كلها من غير جدال آية في إبداع الصنعة الإغريقية، رغم ما يحاول البعض إشاعته من تأخر الفن في هذه الفترة من الزمن.(168/40)
والأدلة المادية على تقدم الفن الإغريقي في مصر في هذا الزمن ما أبدعته يد نحات لتابوت من الرخام البديع الصنع ما يزال محفوظاً في متحف القسطنطينية لملك مجهول الاسم من ملوك صيدا، هو تحفة من تحف الحفر وحذق الألوان، وتلك المشاهد التاريخية التي ترى محفورة على الأحجار تمثل المعارك بين الفرس والإغريق، إلى تلك الصور الرمزية التي قصد بها الإشارة إلى امتزاج الشرق والغرب عن طريق الحضارة الإغريقية، إلى مناظر الصيد وغير ذلك مما لا يفوقه سوى (البارثنون) في أثينا.
وأغلب الظن أن الإسكندرية بما توفر لها من سمو المكانة لا بد أن تكون قد استهوت أمهر البناءين، ورجال الفنون حيث بلاط سوتر وفيلادلف وعطاؤهما المغدق لكل من برز في ناحية من النواحي؛ ولا شك أن الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط لم تكن إلا من خلق هؤلاء الفنانين وإبداعهم.
وقد كتب م. شريبر مقالاً ممتعاً عن فن نشأ بالإسكندرية وتقدم فيها، وانفردت به، هو صناعة الأواني الذهبية والفضية التي تتخذ عادة مقياساً لتقدم الحرف اليدوية، والتي لا تزال شاهدة على قولنا بين محتويات دور الآثار. ويحاول هو أن يثبت أن الإسكندريين كانوا الأساتذة في هذا المضمار وفي غيره. ففي رأيه أن أسلاف (بنفنتو سليني) الإيطالي، والمدرسة الإيطالية التي زعيمها هذا الأخير حاكت فن الإسكندرية في الشعر والفن. وهو يدلل بقوة على حب الإسكندريين للطبيعة وتقديرهم لروائعها، وعلى أن الإسكندرية كانت حلقة الاتصال بين العلم والفن، وبين القديم والحديث، وبين الشرق والغرب. . . الخ.
ليس الفن في ذاته ناحية من نواحي نشاط جامعة الإسكندرية، ولا هو عادة يتصل بالدراسة الجامعية اتصالاً مباشراً، ولكنا سقنا هذه الكلمة القصيرة عن الفن الإغريقي الإسكندري، لأنه جانب من جوانب المدنية، كان يستلزم من الإسكندريين ولا شك إلماماً بالأصول الهندسية التي لا غنى لفن العمارة عنها. ونحن وإن كنا لم نحصل على ما نقطع الرأي به من أن الهندسة التي اشتهرت بها الإسكندرية منذ عهد اقليدس كانت تطبق ويستفاد منها عملياً في فن العمارة، إلا أننا نرجح إمكان استفادة الفن من هندسة إقليدس استفادة كبرى.
ولنا في بعض مقالاتنا التالية عود إلى نقل إيطاليا وخاصة جامعة (بدوا) في العصور الوسطى عن جامعة الإسكندرية نظامها والكثير من تراثها الفكري حيث شاع منها إلى(168/41)
أوربا من قطر إلى قطر ومن عصر إلى عصر.
(حقوق النقل محفوظة لصاحب المقال)
إبراهيم جمعة(168/42)
للتاريخ السياسي
معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وإنجلترا
- 3 -
محضر متفق عليه
رغب الوفد المصري ووفد المملكة المتحدة أن يسجلا في محضر المفاوضات ما اتفقا عليه من تفسير لبعض نصوص معاهدة التحالف، وفيما يلي بيان هذه التفسيرات:
1 - من المفهوم طبعاً أن التسهيلات المنصوص عليها في المادة السابعة التي تقدم إلى صاحب الجلالة الملك والإمبراطور تشمل إرسال قوات أو إمدادات بريطانية في الحالات المعينة بتلك المادة.
2 - من المفهوم أنه كنتيجة لأحكام المادة السادسة تتبادل الحكومتان المشورة في حالة خطر قطع العلاقات.
وعليه ففي حالة قيام ضرورة دولية مفاجئة يخشى خطرها يعمل بمبدأ التشاور المتبادل نفسه.
3 - تشمل (طرق المواصلات) المشار إليها في الجملة الثانية من المادة السابعة المواصلات الإخبارية (الأسلاك البحرية والتلغرافات والتليفونات واللاسلكي).
4 - تشمل الإجراءات الحربية والإدارية والتشريعية الوارد ذكرها في الجملة الثالثة من المادة السابعة الإجراءات التي بموجبها تراعي الحكومة المصرية في استعمال حقها بالنسبة لمواصلات الراديو الكهربائية مستلزمات محطات التلغراف اللاسلكي التابعة للقوات البريطانية في مصر، وتواصل العمل مع السلطات البريطانية لمنع أي تدخل بين موجات محطات التلغراف اللاسلكي البريطانية والمصرية، كما تشمل الإجراءات التي تكفل الرقابة الفعالة على جميع وسائل المواصلات المشار إليها في تلك المادة.
5 - يراد بكلمتي (منطقة جنيفة) الواردتين في الفقرة الثانية (أ) من ملحق المادة الثامنة امتداد شاطئ البحيرة المرة الكبرى من نقطة تبعد ثلاثة كيلومترات شمالي محطة جنيفة إلى نقطة تبعد ثلاثة كيلومترات جنوب شرقي محطة قايد بعرض ثلاثة كيلومترات من شاطئ(168/43)
البحيرة.
6 - من المتفق عليه بالنسبة إلى (ب) من الفقرة الثانية من ملحق المادة الثامنة أن تحدد بالضبط وفي أقرب وقت مستطاع الأماكن التي ستحل بها القوات الجوية بالمنطقة المشار إليها هناك.
وينقل كذلك إلى هذه المنطقة مستودع قوات الطيران الملكية الموجودة الآن بأبي قير، على ألا يتأخر ذلك عن تاريخ انسحاب القوات البريطانية من القاهرة طبقاً للفقرة الثامنة.
7 - من المتفق عليه بالنسبة للفقرة الثالثة من ملحق المادة الثامنة (أ) أن تشمل أبنية الثكنات البريطانية أماكن للمتزوجين من الضباط، ولنسبة معينة من الرتب الأخرى. (ب) إنه وإن كان يمكن الآن تحديد موضع مصحة النقاهة تحديداً نهائياً إلا أن العريش قد تصلح لهذا الغرض. (ج) إن الحكومة المصرية جرياً على الخطة التي سلكتها فعلاً لمصلحة سكان تلك المناطق ستتخذ جميع التدابير الصحية الممكنة لمكافحة الملاريا في الجهات المجاورة للمناطق التي توجد بها القوات البريطانية.
8 - من المتفق عليه بالنسبة للفقرة السادسة من ملحق المادة الثامنة أنه فيما يتعلق بالطريق رقم (2) إذا لم تستطع الحكومة المصرية الاتفاق مع شركة قنال السويس على استخدام القوات البريطانية والمصرية لهذا الطريق وإصلاح الأجزاء التي لم تصل بعد إلى مستوى الأجزاء الأخرى إلى أن تفي بالشروط المبينة في الفقرة السادسة فأن الحكومة المصرية ستنشئ طريقاً جديداً يصل ما بين هذه الأماكن.
9 - من المتفق عليه بالنسبة للفقرة الثانية عشرة من ملحق المادة الثامنة أن يقتصر عدد أفراد الفصيلة المشار إليها على الحد الأدنى اللازم بالضبط لاستلام هذه الأدوات وحراستها.
10 - من المتفق عليه بالنسبة للفقرة الثالثة عشرة من ملحق المادة الثامنة أن الطيران سيكون لأغراض التدريب؛ على أن يكون في الغالب فوق المناطق الصحراوية، ولا يكون فوق المناطق المسكونة إلا حين تقتضي الضرورة ذلك.
11 - من المتفق عليه طبعاً فيما يتعلق بالفقرة الثانية من المذكرة المصرية الثانية أن الحكومة المصرية هي التي تدفع نفقات البعثة العسكرية، وأن كلمتي (التدريب الصحيح)(168/44)
الواردتين في هذه الفقرة يشملان التدريب في الكليات والمعاهد الحربية والبريطانية.
12 - لا تنطبق الفقرة الثانية من المذكرة الثانية إلا على الأشخاص الذين يكونون بالفعل في ذلك الوقت من أفراد القوات المصرية المسلحة.
13 - يراد بكلمة (المعدات) الواردة بالفقرة الثالثة من المذكرة المصرية الثانية كل المهمات التي يحسن بالقوات التي تعمل معاً أن تتخذها من صنف واحد فلا تشمل الملابس ولا المنتجات المحلية.
ملحق للمادة الحادية عشرة
إلى أن يتفق الطرفان على غير ما يأتي تطبيقاً للفقرة الأولى من هذه المادة يتعين أن تكون المبادئ العامة التي يراعيانها في المستقبل بالنسبة للاتفاقات الدولية هي أنها لا تطبق على السودان إلا بعمل مشترك تقوم به حكومة المملكة المتحدة وحكومة مصر وأن مثل هذا العمل المشترك يكون لازماً تماماً كذلك إذا أريد إنهاء اشتراك السودان في اتفاق دولي كان ينطبق عليه.
والاتفاقات التي يراد سريانها على السودان تكون على العموم اتفاقات ذات صفة فنية أو إنسانية، وتشمل مثل هذه الاتفاقات في الغالب على الدوام حكماً خاصاً بالانضمام اللاحق إليها، وفي مثل هذه الأحوال تتبع هذه الطريقة لجعل الاتفاق سارياً على السودان.
ويجري الانضمام بوثيقة مشتركة يوقعها عن مصر وعن المملكة المتحدة كل فيما يخصه شخصان مفوضان في ذلك تفويضاً صحيحاً.
وتكون طريقة إيداع وثيقة الانضمام في كل حالة موضع اتفاق بين الحكومتين.
وفي حالة ما إذا أريد أن يطبق على السودان اتفاق لا يحتوي على نص بالانضمام تكون طريقة تحقيق ذلك موضع تشاور واتفاق بين الحكومتين.
وإذا كان السودان بالفعل طرفاً في اتفاق وأريد إنهاء اشتراكه فيه تشترك المملكة المتحدة ومصر في إصدار الإعلان اللازم لهذا الإنهاء.
ومن المتفق عليه أن اشتراك السودان في اتفاق ما وإنهاء ذلك الاشتراك لا يكونان إلا بعمل مشترك يجري خصيصاً بالنسبة للسودان ولا يستنتجان من مجرد كون المملكة المتحدة ومصر طرفين في الاتفاق أو من نقضهما لهذا الاتفاق.(168/45)
وفي المؤتمرات الدولية التي تجري فيها المفاوضات في مثل هذه الاتفاقات يكون المندوبان البريطاني والمصري بطبيعة الحال على اتصال دائم بالنسبة لأي إجراء قد يتفقان على أنه مرغوب فيه لصالح السودان.
محضر متفق عليه
1 - من المتفق عليه بالإشارة إلى الفقرة الأولى من المادة الحادية عشرة أن يقدم الحاكم العام إلى حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة وإلى الحكومة المصرية تقريراً سنوياً عن إدارة السودان، وأن يبلغ التشريع السوداني إلى رئيس مجلس الوزراء المصري مباشرة.
2 - من المتفق عليه بالإشارة إلى الفقرة الثانية من المادة الحادية عشرة أنه بينما يكون تعيين الوطنيين المصريين في الوظائف الرسمية بالسودان خاضعاً بالضرورة لعدد الوظائف المناسبة الخالية ووقت خلوها ومؤهلات المرشحين المتقدمين لها فإن أحكام تلك الفقرة تسري فوراً بمجرد نفاذ المعاهدة؛ وتكون ترقية الموظفين في حكومة السودان بدون اعتبار للجنسية إلى أية درجة كانت وذلك بالاختيار تبعاً للجدارة الشخصية.
3 - ومن المفهوم أيضاً أن هذه النصوص لا تمنع الحاكم العام من أن يعين أحياناً في بعض الوظائف الخاصة أشخاصاً من جنسيات أخرى إذا لم يتيسر وجود ذوي المؤهلات من الرعايا البريطانيين والوطنيين المصريين أو من السودانيين.
4 - من المتفق عليه فيما يتعلق بالفقرة الثالثة من المادة الحادية عشر أنه نظراً لأن الحكومة المصرية ترغب في إرسال الجنود إلى السودان فإن الحاكم العام سيبادر بالنظر في أمر عدد الجنود المصرية اللازمة للخدمة في السودان والأماكن التي يقيمون فيها والثكنات اللازمة لهم؛ وسترسل الحكومة المصرية فوراً بمجرد نفاذ المعاهدة ضابطاً مصرياً عظيماً يستطيع الحاكم العام استشارته في هذه الأمور.
5 - بما أنه قد تم الاتفاق بين الحكومة المصرية وحكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة على أن مسألة الدين المستحق لمصر على السودان والمسائل المالية الأخرى المتعلقة بهما تبحث بين وزارة المالية المصرية ووزارة المالية بالمملكة المتحدة، وبما أن هذا البحث قد ابتدأ بالفعل فقد رؤى أنه ليس من الضروري أن تتضمن المعاهدة أي نص(168/46)
خاص بهذه المسالة.
خطاب من فخامة المندوب السامي
خطاب للمندوب السامي
إلى دولة مصطفى النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء
سيدي:
في خلال مناقشتنا في المسائل التفصيلية المتصلة بالفقرة الثانية من المادة الحادية عشرة أقترح ندب خبير اقتصادي مصري للخدمة في الخرطوم وأبدى الحاكم العام رغبته في تعيين ضابط مصري سكرتيراً حربياً له، وقد سجل الاقتراح والرغبة المشار إليهما واعتبرا مقبولين من جهة المبدأ؛ كما إنه قد اعتبر من المرغوب فيه ومن المقبول أن يدعى مفتش عام الري المصري بالسودان إلى الاشتراك في مجلس الحاكم العام كلما نظر المجلس في مسائل متصلة بأعمال مصلحته.
وتفضلوا. . . . الخ
إمضاء
ملحق للمادة الثالثة عشرة
إن الأغراض التي ترمي إليه التدابير الواردة في هذا الملحق هي:
1 - الوصول على وجه السرعة إلى إلغاء الامتيازات في مصر وما يتبع ذلك حتماً من إلغاء القيود الحالية التي تقيد السيادة المصرية في مسألة سريان التشريع المصري (بما في ذلك التشريع المالي) على الأجانب.
2 - إقامة نظام انتقال لمدة معقولة تحدد، ولا تطول بغير مبرر. وفي حدود تلك المدة تبقى المحاكم المختلطة وتباشر الاختصاصات المخولة الآن للمحاكم القنصلية فضلاً عن اختصاصها القضائي الحالي.
وفي نهاية فترة الانتقال هذه تكون الحكومة المصرية حرة في الاستغناء عن المحاكم المختلطة.
2 - تتصل الحكومة المصرية كخطوة أولى في أقرب وقت مستطاع بالدول ذوات(168/47)
الامتيازات بقصد (أ) إلغاء كل قيد يقيد التشريع المصري على الأجانب، و (ب) إقامة نظام انتقال للمحاكم المختلطة كما هو وارد في الشطرة الثانية من الفقرة الأولى سالفة الذكر.
3 - إن حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بصفتها دولة من ذوات الامتيازات وبصفتها حليفة لمصر لا تعارض بتاتاً في التدابير المشار إليها في الفقرة السابقة، وستتعاون تعاوناً فعلياً مع الحكومة المصرية في تحقيق هذه التدابير باستعمال كامل نفوذها لدى الدول ذوات الامتيازات في مصر.
4 - من المتفق عليه أنه في حالة ما إذا وجد من المستحيل تحقيق التدابير المشار إليها في الفقرة الثانية فإن الحكومة المصرية تحتفظ بحقوقها كاملة غير منقوصة إزاء نظام الامتيازات بما فيه المحاكم المختلطة.
5 - من المتفق عليه أن الشطرة (أ) من الفقرة الثانية لا تعني فقط أن موافقة الدول ذوات الامتيازات لن تكون ضرورية لسريان التشريع المصري على رعاياها، ولكنها تعني أيضاً انتهاء الاختصاص التشريعي الحالي الذي تباشره المحاكم المختلطة بالنسبة لتطبيق التشريع المصري على الأجانب، ويتبع ذلك ألا يكون للمحاكم المختلطة في سلطاتها القضائية أن تقضي في صلاحية سريان قانون أو مرسوم مصري طبقه البرلمان المصري أو الحكومة المصرية على الأجانب.
6 - يصرح صاحب الجلالة ملك مصر بمقتضى هذا أن أي تشريع مصري يطبق على الأجانب لن يتنافى مع المبادئ المعمول بها على وجه العموم في التشريع الحديث، وأنه فيما يتعلق بالتشريع المالي على الخصوص فأن هذا التشريع لن يتضمن تمييزاً مجحفاً بالأجانب بما في ذلك الشركات الأجنبية.
7 - لما كان من المعمول به في أكثر البلاد أن يطبق على الأجانب قانون جنسيتهم في مسائل الأحوال الشخصية فسينظر بعين الاعتبار إلى أنه من المرغوب فيه أن تستثنى من نقل الاختصاص - على الأقل في البداية - مسائل الأحوال الشخصية الخاصة برعايا الدول الممتازة التي ترغب في أن تستمر محاكمها القنصلية في مباشرة هذا الاختصاص.
سيقتضي نظام الانتقال الذي يوضع للمحاكم المختلطة ونقل الاختصاص الحالي للمحاكم القنصلية إليها (الأمر الذي سيكون بطبيعة الحال خاضعاً لأحكام الاتفاق الخاص المشار إليه(168/48)
في المادة التاسعة) إعادة النظر في القوانين الحالية الخاصة بتكوين المحاكم المختلطة واختصاصها بما في ذلك إعداد وإصدار قانون جديد لتحقيق الجنايات.
ومن المفهوم أن إعادة النظر هذه ستتضمن فيما تتضمنه المسائل الآتية:
1 - تعريف كلمة أجنبي بصدد الاختصاص المقبل للمحاكم المختلطة.
2 - زيادة عدد موظفي المحاكم والنيابات المختلطة بما يقتضيه التوسيع المقترح لاختصاصها.
3 - الإجراءات المتعلقة بمسائل العفو أو تخفيف عقوبة الأحكام الصادرة على الأجانب والإجراءات المتعلقة بتنفيذ عقوبة الإعدام الصادرة عليهم.
محضر متفق عليه
من المتفق عليه بالنسبة للفقرة السادسة من ملحق المادة الثالثة عشرة أن المسائل التي ينطوي عليها هذا التصريح لا تخضع لقضاء أي محكمة في مصر.
المذكرة المصرية الأولى
سيدي:
بالإشارة إلى المادة الثانية من المعاهدة التي وقعناها اليوم أتشرف بإخباركم أنه نظراً لأن حضرة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وايرلندا والأملاك البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند سيكون أول ملك أجنبي يمثله في مصر سفير فإن السفراء البريطانيين سيعتبرون ذوي أقدمية على باقي الممثلين السياسيين المعتمدين لدى بلاط صاحب الجلالة ملك مصر. وتكون محتويات هذه المذكرة خاضعة لإعادة النظر في الوقت وبالشروط المنصوص عنها في المادة السادسة عشرة من المعاهدة.
المذكرة المصرية الثانية
سيدي:
أريد أن أسجل هنا مسائل معينة أخرى تم التفاهم عليها وتتصل بالشؤون العسكرية في معاهدة التحالف التي وقعناها اليوم
1 - يسحب الموظفون البريطانيون من الجيش المصري وتلغى وظائف المفتش العام(168/49)
والموظفين التابعين له.
2 - نظراً لأن الحكومة المصرية ترغب في استكمال تدريب الجيش المصري بما فيه سلاح الطيران وتنوي لمصلحة المحالفة التي تم عقدها أن تختار المدربين الأجانب الذين قد ترى حاجة إليهم من بين الرعايا البريطانيين وحدهم فإنها قد اعتزمت أن تنتفع بمشورة بعثة عسكرية بريطانية للمدة التي تراها ضرورية للغرض المذكور، وتتعهد حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بأن تقدم البعثة العسكرية التي تطلبها الحكومة المصرية كما تتعهد بأن تقبل من ترى الحكومة المصرية إيفاده من رجال جيشها للتعلم بالمملكة المتحدة وأن تكفل لهم التدريب الملائم. ونظراً للظروف التي هيأتها هذه المعاهدة سوف لا ترغب الحكومة المصرية بطبيعة الحال في إيفاد أحد من أفراد قواتها المسلحة ليتلقى دراسته في أي معهد أو وحدة من معاهد التدريب أو وحداته في غير المملكة المتحدة، على ألا يمنع ذلك الحكومة المصرية من أن توفد إلى أي بلد آخر رجال الجيش الذين لا يتيسر قبولهم في معاهد المملكة المتحدة ووحداتها.
3 - يتعين لصالح المحالفة ونظراً لاحتمال ضرورة التعاون في العمل بين القوات البريطانية والمصرية ألا يختلف طراز أسلحة القوات المصرية من برية وجوية ومعداتها عن الطراز الذي تستعمله القوات البريطانية. وتتعهد حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بأن تبذل وساطتها لتسهيل توريد تلك الأسلحة والمعدات من المملكة المتحدة بمثل الأثمان التي تدفعها حكومة صاحب الجلالة كلما رغبت الحكومة المصرية في ذلك.
المذكرة المصرية الثالثة
سيدي:
بالإشارة إلى المادة الرابعة عشرة من المعاهدة التي وقعناها اليوم أتشرف بإبلاغكم أن الحكومة المصرية تنوي إلغاء إدارة الأمن العام الأوربية فوراً، ولكنها ستستبقي لمدة خمس سنوات من نفاذ المعاهدة عنصراً أوربياً معيناً من بوليس المدن، ويبقى هذا البوليس في المدة المذكورة تحت إمرة ضباط بريطانيين.
وتسهيلاً لإحلال موظفين مصريين بالتدريج محل العنصر الأوربي المذكور مما يضمن تجانس العمل في نظام البوليس تنوي الحكومة المصرية أن تستغني كل عام عن خدمة(168/50)
خمس موظفي البوليس الأوربي.
وستفضل الحكومة المصرية على العموم بالنظر لمعاهدة الصداقة والتحالف التي وقعناها اليوم الرعايا البريطانيين الحائزين للمؤهلات المطلوبة عندما تستخدم خبراء من الأجانب.
(تمت ملحقات المعاهدة)(168/51)
3 - نهضة المرأة المصرية
وكيف توجه للخير العام
للأستاذ فليكس فارس
من هذا الموقف دفعت الإنسانية في الغرب أوائل خطواتها على سبيل المدنية الحديثة، فكان التمرد على النظم القديمة البالية، وكانت الثورات التي خضبت الأرض بدماء الأسياد والعبيد، بدماء الظالمين والمظلومين، بدماء الأبرياء والمجرمين، نجيعاً واحداً رقص الشعب فوقه صاخباً باكياً ضاحكاً في سكرة الأماني المحطمة والآلام المخدرة.
من مثل موقف الرومان ومن مثل موقف العرب حين سادت الخرافات بين الشعوب خرجت أوربا إلى عهدها الجديد، ولكن عيسى لم يكن هاديها، ولا كان محمد ماشياً في طليعتها. كان إنجيل الغرب حقوق الإنسان التي كتبها الثائرون بالدم المتمرد، وكان قرآنها القوانين التي سنها نابليون لإقامة الموازنة بين الحقوق، ولكن هذا الإنجيل الحديث الذي استمد من إنجيل عيسى المساواة والإنصاف لم يتناول سواهما من مبادئ الإحسان والعطف والمغفرة والرحمة، وهذا القرآن الجديد: قوانين نابليون المستمدة من مذاهب الأئمة في الشرع الإسلامي وقف عند حد التنظيم المادي لحقوق الناس، فقصر عن الأخذ بما في قرآن النبي الهادي من الدعوة إلى المعروف والبر بإلادنين والأبعدين من بني الإنسان.
رأت بلاد الغرب أن الدين قد أصبح سلطة تواطأت طويلاً مع السلطان المدني المطلق وما حوله من سادات الإقطاع، وامتنع عليها أن نسلخ إنجيل عيسى عن هذه السلطة فأنكرتها وأنكرت عيسى وتعاليمه معها. وسارت المدنية الحديثة في طريقها مستنيرة بالعلم الوضعي منكرة كل ما لا تقع الحواس عليه، فأصبحت القوة وحدها المسيطر الأعلى تنبسط قاعدة رهيبة للعجل الذهبي فتمده باعتلائها ويمدها بلمعانه وصولته.
وبقيت المسيحية دين الغرب، ولكنها حصرت في كنائسه وانكمشت مبادئها عن الحياة نفسها، وبينما كانت تتلى في المعابد كل يوم الآيات التي هبطت على جبل فلسطين فهزت الدنيا وقلبت المدنيات القديمة، وتتلى بعدها رسائل الحواريين التي كتبت في السجون لتحرير الإنسان، كانت مدنية روما الوثنية تنبعث من كل جانب لتدور حول الكنائس مقهقهة ساخرة.(168/52)
كان العذارى يخرجن من الكنائس بعد سماعهن قول بولس الرسول بالتستر وحجب الشعور والاحتشام والطاعة للقيمين، فيذهبن إلى المراقص نصف عاريات كأنهن الدمى الرومانية نفخ إبليس فيهن نسمة الحياة.
إن غريزة المرأة في الأصل لا تطمح إلا إلى الطريق الذي اختطه لها الناموس الطبيعي في تكوينها، وما أحبت امرأة رجلا إلا وكانت محبتها خيالاً سابقاً لمحبة الطفل الكامنة فيها.
وإذا كانت الفتاة قد لجأت إلى المواخير كما يقول الفريد دي ميسيه لتأكل بثدييها، وتلتقي هناك بمن منع على نفسه أن يكون قيماً عليها فأصبح مستثمراً لشقائها، فأنها لم تلبث أن تعودت إذلاله لها في عرضها فلجأت إلى العمل لتأكل بعرق جبينها احتفاظاً على الأقل بحق اختيارها للرفيق الموقت أو بحق التمرد على أنوثتها الكاسرة من عزتها، وهكذا بعد أن كان الفتى يلقى الفتاة التي تحول عنها المواخير ليذلها، أصبحت هي تلاقيه في ميادين الأعمال لتزاحمه متملصة من إذلاله.
سوف يأتي يوم وهو غير بعيد تنتبه المدنية فيه إلى أن الرجل الكامل الذي ينشده العلماء في الغرب لن يخلق لهم من التمرين لقوى العقل وقوى الجسد ولا من فحص الخلايا بالمجهر حتى ولا من التلقيح بالمواد الكيميائية أو غدد القرود، فيتحققون أن الرجل المتفوق إنما هو أبن الحب الصحيح؛ فالمحبة وحدها هي السبيل إلى إدراك الحق والقوة والجمال.
لندع العالم المتمدن يفتش بعلومه ونهضته على هذا الحب الذي تخيله كارل ماركس متجلياً في الحرية التامة للناس في أهوائهم فجاءت روسيا البلشفية تثبت انخداعه في نظرياته، ليقتنعوا أنهم لن يتوصلوا في تجاربهم إلا إلى العبر الزاجرة المؤلمة.
أما نحن أبناء هذا الشرق العربي الذي انبثق الحق فيه انصباباً من الداخل بالإلهام لا تلمساً من الخارج، فلنا المسك المفتوح منفرجاً أمامنا للاعتلاء والخروج إلى النور بعد هذا الليل الطويل، إذا نحن أخذنا بروح ما أوحاه الحق إلينا.
لا بترقية الزراعة والصناعة، ولا بنشر التعليم والتهذيب، ولا بجعل البلاد جنة في أرضها غنى وتنظيماً، تنشأ الأمة ويخلق الشعب الحر السعيد.
إن الجنين الذي يحمل أسباب شقائه وهو في بطن أمه لا يمكنه أن يصير رجلاً حراً قوياً يفهم حقيقة الحياة ويتمتع بالعظمة الكامنة فيها.(168/53)
إن الاهتمام بإيجاد الطفل الصالح أولى من العمل لإعداد العلم والتهذيب لطفل نصقل مظاهره صقلاً وتتحطم كل محاولة نصرفها للنفوذ إلى علته المستقرة فيه منذ تكوينه.
ليس الفقير المتسول، ولا العليل المتألم، ولا الشيخ الهرم يتمشى بلا عزاء إلى قبره؛ ليست المرأة المستعبدة بلقمة، ولا الفتاة المخدوعة المنطرحة على أقذار المواخير؛ ليس كل هؤلاء الناس الأشقياء في الحياة بأشقى من الأطفال يجور عليهم الآباء والأمهات قبل أن يقذفوا بهم إلى الوجود ثم يرهقوهم بالقطيعة والإهمال حين يدرجون على الأرض بأقدامهم الناحلة المرتجفة.
الرجل الذي يمسخ حبه شهوة، والمرأة المتقصفة المتهتكة التي تجعل هيكل نسمات الله مركعاً لنفايات البشر من عباد الخيانة والطيش، إنما هما آدم وحواء مطرودين من الجنان إلى أرض الجهود المضيعة والآلام المحتمة. ومن يدري أن حديث معصية الأبوين الأولين ليس رمزاً لخيانة الحب، تلك الخيانة التي تنزل اللعنة بمرتكبيها وبأبنائهم من بعدهم.
إن هذه الحقائق التي استجليناها من قلب الحياة لتملي علينا المبادئ التي يجب أن نأخذ بها لتوجيه المرأة للخير العام.
إننا، ولا ريب، تجاه نهضة نسائية تبشر بارتقاء قريب، ولكن هذه النهضة مقصورة على عدد قليل من السيدات اللواتي لم ينخدعن بمظاهر المدنية الغرارة فأدركن أن المرأة المترجلة الضلول ليست هي من نرجو لإحياء الأسرة وخلق الأمة الحية.
الظلمات كثيفة، والمشاعل قليلة، ولكن هذه المشاعل كفيلة إذا رفعت بإنارة نساء اليوم ونساء الغد وإرشادهن إلى ما ثوى فيهن من فطرة شرقية سامية.
ليس كالمرأة من يصلح المرأة أو يفسدها. فليذهب صوت المرشدات متغلغلاً في كل طبقات الأمة مهيباً بنسائها إلى النهوض. وليست النهضة التي نرجوها للخير العام بين النساء مما يستلزم الوقت الطويل، لأنه إذا كانت نهضة الرجال في أمة تقتضي تحصيل العلوم بأنواعها وفروعها سياسية وإدارية وصناعية وزراعية وفلسفية، وتستلزم لبلوغ هذا الغرض امرار السنين الطوال درساً وتفكيراً، فليس الحال على هذا المنوال في إنهاض المرأة.
نهضة الرجل فكرية عملية، أما نهضة المرأة فإحياء إيمان وإشعال عاطفة. وقد لا تحتاج(168/54)
نساء بلدة لأكثر من خطب معدودة تلقيها امرأة ملهمة يملي عليها الحق الأعلى ما تقول، فتخلق من كل فتاة زوجة صالحة، ومن كل زوجة أما رؤوما.
إن الشريعة في هذا الشرق العربي إنما هي وحي من السماء لخير المجتمع في مختلف الأحوال والعصور؛ ولشرعة الزواج بخاصة في هذه البلاد ما ليس لأي قانون ابتدعه الناس في سائر المعمور من حكمة ومرونة، فهي عقد فيه للجاهلية المنحطة روادع وقيود، وللمستنيرة الراقية الفاضلة بحال رحب يمتد فيه حقها قدر استحقاقها.
الحق استحقاق وليس هبة؛ وما ظلمت نساء الشرق في أدوار انحطاطه إلا لقصورهن عن نيل هذا الحق.
أما وقد آذنت الساعة بالنهوض، وقيض الله لمصر والشرق العربي من يرى إصلاح المجتمع بتساوي أهمية وإصلاح الهيئات الحاكمة فيه، فقد حق على النابهين رجالاً ونساء أن يؤدوا رسالة الإصلاح لإحياء الأمة واستعادة مجدها.
فلنستثمر إذن نهضة الناهضات في سبيل الخير العام لإقالة الأسر من كبواتها على الأس الآتية:
1 - إحياء شعور المرأة بقداسة رسالتها، فتحس بأن لها شخصية مستقلة يسودها الانتخاب الطبيعي للرفيق مترفعاً عن كل استهواء للمطامع والشهوات المضللة. إن أشقى الناس من ضعفت شخصيته إلى درجة التردد في اختياره، وأذل فتاة في الحياة من تقف حائرة بين طلابها فتنصب ميزان الترجيح ذاهبة مع الاعتبارات الفانية للتحكم بالحوافز الخفية العالقة بأهداب الخلود.
2 - تمكين عقيدة المرأة في أن حريتها كامنة في عبوديتها (لاشتياقها) كزوجة وكأم، وإن انعتاقها من هذه العبودية إنما هو كفر بربها وبذاتها.
3 - تفهّم سيادة الرجل القوام على المرأة على ما قصده الشرع من تأمين الحاجة والرعاية والصيانة، فلا تؤول كما يحلو لبعض الرجال تأويلها بأنها تحكم وإرهاق واستبداد بالشخصية التي خلقها الله فأودعها إرادته. إن من يفهم السيادة تحكماً بالذات لا خدمة لها إنما ينصب نفسه قواماً على فضل الله وقدره.
4 - إقصاء المرأة عن كل عمل يقصيها عن واجباتها، إذ لا بد لكل مجتمع تترجل نساؤه(168/55)
أن تتأنث رجاله، وليس برجل من لا غيرة فيه.
5 - أن تتيقن المرأة أن قسطها أوفر من قسط الرجل في تكوين رجال الأمة، لأنه وإن تساوت وإياه بتكوين جسم الجنين من ذرات متساوية قيمة وعدداً، فإن أثر شخصيتها فيه ليفوق أثر شخصية الرجل، فهي المستودع والمرضع والمربي الأول.
6 - أن تعلم المرأة ويعلم الرجل قبلها أن إقامة أسرة على أنقاض أسرة إنما هو من قبيل البناء على الرماد، وما يصلح الرماد أساساً يثبت عليه أي بناء.
7 - أن تثق الفتاة من أن طهارة روحها وعفاف جسمها إنما هما الركن الذي يبني الرجل سعادته عليه، فتحرص على هذا العفاف لأن عثرته حتى في زواج خاطئ عثرة لا تقال؛ وقلما نرى امرأة خرجت ظالمة أو مظلومة من بيت مهدّم وتمكنت من بناء بيت جديد لا تساوره الأشباح ولا تدور في زواياه الخفية الوساوس والشكوك.
8 - أن ينتبه رجال الشرع إلى ظاهرة خطيرة في أحوال الأسرة المصرية وهي ظاهرة الطلاق بنسبة مروعة تدل على ضعف العقيدة الدينية وعلى انحطاط في الأخلاق، وكلاهما نذير الدمار.
9 - أن تعمل المصلحات النابهات بخاصة على إيجاد حضارة واحدة تتبعها نساء مختلف العناصر المكوّنة للوطن، إذ لا معنى لهذا الاختلاف في حياة الأسر التي تتفق كتبها السماوية على تنظيم الحياة بالمبادئ الأدبية العليا.
إن لم يقم المجتمع على عادات وتقاليد وأزياء واحدة، فإن إقامة الوطن على مثل هذا المجتمع المختلط لمن أصعب الأمور. وما تجتمع النساء في بلادنا من عديد الطوائف إلا بين طبقة معلومة اقتبست من المدنية الغربية ما يضج منه عقلاؤها، وليس الاتحاد الذي ننشده بين الأسر ما نرى فيه نساءنا الشرقيات من كل طائفة عاريات على الشواطئ أو نصف عاريات في المقاصف والمراقص.
إن وحدة العادات والأخلاق التي نصبو إليها إنما تقوم على الحرية المصونة التي تبيح للمرأة المباهاة بفكرها ومزاياها الشريفة وتصدها عن المباراة بجمالها وعواطفها وهما نور بيتها الذي يجب ألا يوقد إلا بين جدرانه.
على هذه المبادئ تعم النهضة نساء البلاد فتنشأ الحضارة الخاصة الملائمة لهذا الشعب؛ وما(168/56)
تسعد أمة تقتبس أساليب حياتها مما يتنافر وحوافز دمها وصوت القبور في روحها.
كل إنسان يجبن أمام الحوادث في حياته فيلين لها حوافزه وفطرته إنما هو الشخصية المفقودة التائهة والشبح الباكي والحيّ المستحجر؛ وقد تلمع أحداق مثل هذا الإنسان بالمجد والظفر، ولكن أنوار السعادة تبقى منطفئة في عينيه.
ونحن كأمة لا يمكننا الانفلات من هذا الناموس الثابت. إن فطرتنا مقدورة علينا كامنة فينا؛ وكل أمة تحيا على غير فطرتها فهي أمة باكية بدموع صامتة، هي أمة مستضعفة مستعبدة لا معنى لحياتها ولا سعادة فيها.
نحن بحاجة إلى نهضة روحية أدبية تصلح منابت أطفالنا بعقيدة يحييها النابهون في الشعب تحت جنح إيمانه الشرقي المكين، وليس كالعقائد في شعب ما يكفل كرامته ويضمن اعتلاءه.
بين بعض قبائل الصحراء عقيدة أصبحت فطرة في أفرادها، وهي اعتبار الكذب عاراً دونه أي عار، فإذا ما ارتكب الكذب أحد أفراد القبيلة اضطر رئيس أسرته إلى قلع إطنابه والهرب بنسائه وأطفاله إلى بعيد حيث يواري في النفي الأبدي ما التصق به من عار.
إلى خلق مثل هذه العقائد يجب أن تتوجه جهود الناهضات من النساء فيصبح الرأي العام سياجاً حرابه الزراية والاحتقار، يصد كل امرأة تقصر عن المحافظة على حقها أو تطمح إلى تجاوزه، وتصد كل رجل يقصر في واجباته كقوام على المرأة أو يسيء استعمال هذه الواجبات. وهكذا يساق الرجل إلى معاملة زوجته كما يريد أن تعامل ابنته في زواجها.
إن عقائد الأمم الاجتماعية إنما تحفظها صدور النساء قبل صدور الرجال، وتنبيه مثل هذه العقائد والتقاليد في فطرة بنات الشرق لعمل يسهل على رسولات الحق إذا عضدتهن السلطات الزمنية والروحية في هذا السبيل.
(تم البحث)
فليكس فارس(168/57)
الجاحظ
في مقالة (الفلسفة والإلهيات)
للأديب محمد طه الحاجري
جاء في المقالة التي نشرتها (الرسالة) عن (الفلسفة والإلهيات) مترجمة عن الأستاذ الفرد جيوم، بقلم الأديب الفاضل توفيق الطويل عبارة مروية عن شيخ الكتاب أبي عثمان الجاحظ في صدد الدعوى بأن مرد الفلسفة العربية في مادتها وصورتها وغايتها إلى حضارة البلاد التي غزاها العرب، وأن المعين الذي استقوا منه مذاهبهم هو الفلسفة اليونانية.
والذي يجب التنبيه إليه أولاً هو أن هذه العبارة مروية بالمعنى، بل بأصل المعنى، لا بالنص الذي كتبه الجاحظ، والذي لا ينبغي أن يعدل عنه أو يتسامح في إيراده، إذا كنا نلتزم الأسلوب العلمي (الجامعي) في البحث والاستشهاد، ولا سيما حين يكون النص المروي من ميراثنا الأدبي، ردّ إلينا، وورد في سياق عربي وموضوع عربي، ثم كان بعد ذلك لإمام من أئمة الأدب العربي. أما أن يترجم النص إلى الإنجليزية، مع ما تستلزمه طبيعة الترجمة من إضعاف المعنى وإخفاء بعض خصائصه، ثم ترجمة هذه الترجمة إلى اللغة العربية، فصنيع غريب من شأنه أن يهلهل المعنى وينهكه، حتى لا يبقى منه في العبارة المنقولة إلا ظل خفيف ناصل. ولقد عرض الجاحظ نفسه لهذا المعنى في كتابه (الحيوان) في سياق كلامه عن الترجمة وخصائصها.
ولكن وزر هذه المخالفة للأسلوب العلمي لا يرجع، فيما نحسب، إلى المترجم الفاضل بقدر ما يرجع إلى ضعف الروح الأدبية العربية التي تركت الجاحظ - وهو شيخ الكتاب وأمير البيان العربي بلا منازع - مغمور القدر مجهول المكان، وتركت ما أبقت عليه أحداث الزمن من ذخائر كتبه - وهي طرف فنية لا تكاد تظفر المكتبة العربية بما يناظرها - وكأنما هي كتب ألغاز وطلسمات من كثرة ما منيت به في نشرها من تحريف وتصحيف وخرم وتشويه وسوء طبع وفساد كبير.
أما أصل هذه العبارة المترجمة فهو - فيما نرى - ما يلي: (مأخوذاً من كتاب الحيوان، الجزء الأول، صفحة 42، 43 في أثناء الفصل القيم المستفيض الذي كتبه الجاحظ في(168/58)
فضل الكتب والترغيب في اصطناعها).
(ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها، وخلّدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيَرها؛ حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لما حسن حظنا من الحكمة، ولضعف سببنا إلى المعرفة).
أما الاستشهاد بهذه العبارة التي سيقت في فضل الكتب على تلك الدعوى العريضة التي يلج الكاتب فيها، والتي يزجيها الهوى وتصوغها العصبية، فاستشهاد ضعيف متهافت كما ترى، فليس فيها إلا ما بقوله كل ناظر في تاريخ العلم من أنه حلقات متصلة مترادفة، يكمل لاحقها سابقها، وينبني آخرها على أولها إنبناء الحاضر على الماضي، في جميع مجالات الحياة وفروع المعرفة، وإن كتب الأوائل هي التي أوجدت هذه الصلة، ومهدت للفكر العربي سبيله.
على أن هذا الاستشهاد غريب من ناحية شخصية الجاحظ، فإنه من المثل القوية التي تبين إلى حد كبير بروز الشخصية العربية في عالم المعرفة، واصطباغها صبغة مستقلة. ويلاحظ قارئ كتابه الحيوان أنه كثيراً ما ينقل عن صاحب المنطق بصيغة التمريض: (وزعم صاحب المنطق) ويعقب عليه أحياناً بعبارات يتبين فيها اعتداده بنفسه، إذ يقول مثلاً: (وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل، وما يليق بمثله أن يخلّد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الامتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء).
أمثل صاحب هذا الأسلوب الشامخ بنفسه يزج في معرض الاستشهاد على أن الفلسفة العربية ليست إلا صورة من الفلسفة اليونانية، مشوبة ببعض الفلسفات الفارسية والهندية؟!
وبعد، فنرجو ألا يحسب أحد أننا نغض بهذه الكلمة العاجلة، وبهذا التعقيب على صورة من صور الاستدلال من القيمة العلمية لكتاب (تراث الإسلام) الذي نرجو أن نرى فيه صورة من صور البحث الدقيق إن شاء الله.
محمد طه الحاجري(168/59)
ترجمة وتلخيص
خطاب أندريه جيد في تأبين مكسيم جوركي
للسيد ماجد شيخ الأرض
ألقى كاتب فرنسا العظيم خطابه التأبيني في ساحة موسكو الحمراء حيث شيع جثمان كاتب روسيا العالمي مكسيم جوركي إلى مقره الأخير قال:
ليست المصيبة بموت الكاتب الكبير مكسيم جوركي بمصيبة الاتحاد السوفييتي وحده، إنما رزء العالم كله، مادت لهوله الأرض من أقصاها لأقصاها. ولقد كان يسمع هذا الصوت الجبار الناطق بلسان الشعب الروسي العظيم في كل قطر، وينفذ صداه إلى كل قلب. ولست أعبر في هذا الموقف عن شعوري وحدي، فهو شعور الآداب الفرنسية، بل هو شعور الأدب في أوربا، بل هو شعور الثقافة في العالم كله.
بقيت الثقافة زمناً طويلاً وقفاً على الطبقات الرفيعة، فلا يرد منهلها إلا فئة من الناس توفرت لهم أسباب الفراغ، وما أخالكم تجهلون كيف تتوفر أسباب هذا الفراغ الذي تكدح من أجله الأغلبية الساحقة من البشر، لتدع وقتاً تتلهى فيه تلك الطبقة الرفيعة القليلة بالثقافة والفنون الجميلة. وما أظنكم تجهلون أيضاً أن ورود منهل الثقافة ليس بمستطاع لكل من آنس في نفسه ميلا أو ذكاء أو مقدرة. لقد ظهر في ميدان الثقافة رجال كبار من عامة الشعب أمثال موليير وديدرو وروسو، لكنهم كتبوا لغير طبقتهم وما قرأهم إلا الذين توفر لهم الفراغ.
تشاءم الناس لثورة أكتوبر العظمى التي حررت الأغلبية الساحقة من النير المستحكم على رقابها، فقالوا وكرروا القول بأن الثقافة أساس مدنية الإنسان مهددة بالتأخر والانقراض، لكن الأمور برهنت على عكس ما توهموه، فأن النظام الجديد رحب بالثقافة وعمل على ازدهارها.
ودلت التجارب على أن الخطر آتٍ من نظام الرجعة الذي ارتأته الطبقة السائدة. وقد اجتمع الكتاب لحفظ الثقافة في مؤتمر وجدوا فيه أن الخطر عليها كان في العناصر الفاشستية التي تبغي الهيمنة على الفكر وجعله أداة تسخره في سبيل أغراضها، وفي العناصر الوطنية المتطرفة البعيدة عن محبة الوطن الصحيحة، وأخيراً وجدوه في الحرب التي تسعى إليها(168/60)
تلك العناصر القائمة على البغضاء وحب الذات.
لقد كان عليّ أن أرأس مؤتمر الكتاب المنوي عقده في لندن، لكن النبأ باشتداد مرض جوركي اضطرني أن أشخص مسرعاً إلى موسكو. ففي هذه الساحة الحمراء التي شهدت أحداثا كثيرة سجل بها التاريخ صحائف بعضها في الشرف والمجد، وبعضها في الخزي والعار، وإلى جانب ضريح لينين العظيم الذي تصوب إليه أعين لا يحصى لها عد، أعلن بالنيابة عن الكتاب المجتمعين في لندن وبالأصالة عن نفسي أن حفظ الثقافة وتقدمها معلق بأهداب الرجال القائمين بالحركات الثورية التقدمية، ومصيرها منوط بمصير الاتحاد السوفيتي الذي نحميه نحن الثوريين بكل ما أوتينا من قوة.
إن فوق كل مصلحة لأي شعب على هذه البسيطة مصلحة تجمع بين الطبقات العاملة المشتغلة الموزعة بين هذه الشعوب، وإن فوق كل أدب ناطق بلسان من الألسن، أدبا إنسانياً يعمل على نشر ما في كل أدب خاص من الفضائل؛ وقد وصفها ستالين بقوله: (وطنية في الشكل، اشتراكية في الأصل).
لقد قلت مراراً بأن الكاتب بقدر ما يكون ذاتياً مخلصاً لذاتيته، تكون غاياته سامية وعامة. وليس من كاتب روسي شديد الميل لروسيته مثل مكسيم جوركي، لذلك فأنا لا نجد كاتباً روسياً ذاع صيته وكثر قراؤه مثل مكسيم جوركي.
شاهدت أمس الجماهير الغفيرة التي جاءت تلقي التحية الأخيرة على جثمان جوركي المسجى على فراش الموت، واسمحوا لي إذا صارحتكم، بأني ظللت أسرح النظر في هذا الموج المتدفق من الأطفال والنساء والعمال الذين كان جوركي صديقهم وترجمانهم، بنشوة وإعجاب؛ لكن نشوتي لا تلبث أن تنقلب إلى ألم يحز في قلبي كلما تذكرت بأن كل هؤلاء في غير الاتحاد السوفيتي، من الذين لا يسمح لهم بالدخول إلى مثل هذه القاعة، وهم من الطبقة التي كتب لها الشقاء، وحرمت عليها لذة العلم والتثقيف، كأنما ألصق على باب حديقة العلوم (ممنوع الدخول، هنا حديقة خاصة) ولكن إعجابي لا يلبث أيضاً أن يصبح كمداً يقطع في أحشائي كلما شعرت بأن ما يبدو لهم طبيعياً ما زال عندي شيئاً خارقاً يدهش له حسي وبصري، فلا أتمالك كلما ذكرت أو شعرت بذلك عن إرسال عبرة.
ماجد شيخ الأرض(168/61)
فلسطين
بقلم أبو سلمى
هذي الدماء من وراء الأبدِ ... تصيح: أين العالَم المحمدي
لا روحه تلهب آفاق الورى ... أو نفسه تغفو على المهنّدِ
تحرر العبيد في أوطانهم ... ولا أرى فيه سوى مستعبد
هذي فلسطين استحالت هَرَماً ... مقدّساً فقبلوا الترب النّدي
من كل قطر عربيٍّ فتيةٌ ... ثائرة ترعى أصول المحتد
هبَّت على الوادي وأجرت دمها ... متّحداً، يا للدم المتّحد!
فيه من الخلود أزكى طيبة ... وهو يَدُ الثورة بل أسمى يدِ
أخت صلاح الدين عشت حرَّةً ... تأبى لك العلياء أن تهوّدي
دعي (عصابة اللصوص) جانباً ... واعتمدي على بنيك اعتمدي
كم وعدوا؟! إن الرصاص وحده ... هو الذي يُنجز كل موعد
معركة اليرموك هذا نقعها ... يروح فوق هامنا ويغتدي
يُطلّ من بين العصور عاطراً ... فيه من الماضي عبير السؤدد
كل شعوب الأرض في جهادها ... تمشي على آثارنا وتقتدي
أيامنا تطوي دهوراً جمة ... النار فيها تنتهي وتبتدي
يا قائد الثورة سعّر نارها ... وزجّ - في قاع السعير - المعتدي
وأخضب لياليها دماً واسمع صدى ... قول الزمان: يا كواكب شهدي
وأطلع على الأيام وأنشر وهجاً ... فيه سني الجهاد والتمرّد
واخلع على الجبال أَبراد العلى ... حق لها يوم اللقا أن ترتدي
وقدْ فلسطين إلى تاريخها ... وقل لها سودي وإِلاّ استشهدي
أمّ العروبة اضحكي يا أُمَّنا ... فكُلُّنا اليوم أبرّ وَلد
يهفو إلى بيض الصفاح باسما ... الخود قبل الشيخ قبل الأمرد
تنثر ما فوق الثرى قلوبنا ... لينبت استقلالنا بعد غد
فيا قلوب الثائرين أنشدي ... على المدى ويا سفوح ردّدي(168/63)
(فلسطين)
أبو سلمى(168/64)
المجنونة
بقلم عثمان أبو حلمي
في غابة مجهولَةِ السرِّ ... مملوءة بالشوك والزهْرِ
أبصرتها في ظلمةٍ تجري ... من خلفها ولدانُها تجري
إنسيّةٌ هي أو لسرعتها ... جنيِّةٌ فالعين لا تدري!
تبكي وتضحكُ في تقلبها ... بمدامعٍ تجري على النحر
وبكاؤها سخرٌ فإِنَّ لها ... قلباً يضمُّ صلابَة الصخر
تقسو وتعطف فهي غاضبةٌ ... في حين تُبدي باسمَ الثغر
وتكاد تذهل من تلونها ... فكأنَّها الحرباءُ في قفر!
سحرتْ بنيها فهي ساحرةٌ ... بالطبع لم تعكف على سحر
فتّانةٌ تغري مظاهرها ... أمّا الحقيقة فهي كالقبر!
فتنتْ بنيها فهي غانيةٌ ... في العين منهم بل وفي الفكر
وهي العجوزُ، هي العجوزُ إذا ... ذكرتْ تبوءُ بأشنع الذكر
لكنّها معبودةٌ أبداً ... منهم، لعل لذاك من سرِّ!
كم بُلِّغوا عن غدرها قصصاً ... وأقلها المملوءُ بالغدر!
وهمو سكارى في محبتها ... من غير ما كأس ولا خمر
وهمو حيارى في وجودهمو ... ووجودهم كسحابةٍ تجري
أبصرتها في الغالب جاريةً ... صخاَّبة مسدولة الشعر
وتكادُ تغضبُ حيث لا تدري ... وتكادُ تبسم حيث لا تدري
تغذو بنيها حين تفجعهم ... في أنفسٍ صيغت من الشرِِّ
ورأيتها في الغاب تأكلهم ... أكلاً ولكن أكل مضطر
ولقد أراها جدّ ساكنة ... من بعد طول الضحك والبِشْرِ
ظلَّتْ طويل الدهر عابثةً ... بهمو وهم في غمرة الدهرِ
حتى توارى الكلُّ عن نظري ... بين النجود وشامخ الصخرِ
مجنونة دنياكمو، وكفى ... بيَ ما أبنتُ لها من السِّرِ!(168/65)
(الإسكندرية)
عثمان حلمي(168/66)
في ربى لبنان
بقلم عبد الوهاب أدهم
قف حيِّ لبنان وانظر حسن لبنانا ... إن كنت مثلي كئيب النفس أسوانا
في كل بقعة أرض أيكة برزت ... توحي إلى النفس أحلاماً وسلوانا
يعانق الأرْزُ فيها الأرزَ مغتبطا ... ويسحب الدّوح أذيالا وأردانا
ترقرق الماء في أنحائها فغدت ... خمائلا، وغدا لبنان بستانا
والطير يرقص من لهوٍ ومن طربٍ ... فيملأ الأرض أنغاماً وألحانا
تبارك الله! ما أسمى بدائعه ... فكيف أضمر بهتاناً وكفرانا؟
لبنان! يا جنّة الدنيا وزينتها ... خلَّفت قلبي غداة البين ولهانا
مازلت أذكر (فالوغا) و (عاليةً) ... و (بَحْمَدونَ) و (شاغورا) و (حمّانا)
حتى امتطيتُ إلى (الفيحاء) هادية ... تطوي بيَ الأرضَ أنجادا ووهدانا
يا أهل لبنان! إنا أمة قبضت ... نواصي الأرض أحقاباً وأزمانا
لا تأنفوا أن تقولوا: إننا عرَبٌ ... كم أبقت العرب للأقوام إحسانا
والحرّ يفخر بالأنساب فافتخروا ... بعبد شمسٍ وقحطان وعدنانا
إن دال سلطانهم فالدهر ذو عجب ... يهوي الأبيُّ ويسمو النذلُ أحيانا
أشبالَ (غسان) هبّوا من ضلالتكم ... ألهاكُم الغيُّ عن رُشدٍ وألهانا!
(غَسّانُ) باقٍ على الأيام مفخرة ... فهل سعيتم لِتُحيوا مجد (غسانا)؟!
(دمشق)
عبد الوهاب أدهم(168/67)
القصص
قصص مختارة من الأدب التركي
النارُ المُوقَدَة. . .
لمحمود يساري بك
أثبتت مرفقيها فوق المنضدة، وأسندت رأسها بكفيها وعيناها السوداوان شاخصتان نحو نقطة مجهولة وهي تفكر، وكان نظرها الحاد يرسل شعاعاً زاد لمعانه سواد المقلتين ولون الكحل والحالك.
وها قد مضت بضع دقائق بدون أن تمس شفتاها هذا القدح البلوري وتذوق هذا الشراب السائغ.
لمَ كانت غارقة في بحر عميق من التفكير؟ وما الذي كانت تفكر فيه؟ وما عسى أن يدور في هذا الرأس المتوج بالشعر الأصفر المقصوص على آخر (مودة)؟ وهل هي كاذبة حتى تفكرها العميق يا ترى؟ وهل يحاول هذا الرأس أن يخدع نفسه أيضاً؟
نظرت إليها نظرة الفاحص المدقق، فوجدتها قد غيرت شكل حاجبيها بالنقوش والتخطيط الأسود فحرمته تلك الصورة الطبيعية التي صورها الخالق فيها. أما الحمرة التي تبدو على وجنتيها فلم تكن ذلكم اللون القرمزي الذي ابتدعته يد القدرة فيها، بل كانت مفعول الأصباغ، وأضاع هذا أيضاً شكله الطبيعي. ونظرت إلى شفتيها فإذا لونهما ليس ذلك اللون القاني الذي أودعته يد القدرة في شفتي حواء!. . ثم استمعت إلى حديثها فإذا صورتها ليس ذلك الصوت الملائكي الذي كانت تناجي به أمها وهي في المهد صبية، بل يكاد يكون خشناً من تأثير الخمر والسهر.
- فيم تفكرين؟
ظلت جالسة في مكانها لا تتحرك ولا تتململ ولم تجب على سؤالي هذا بغير أنة طويلة.
- أوه. . .
ولو كان بين ذرات الهواء بارود لأشعله هذا الشهيق الذي خرج من صدرها كما يشتعل الغاز إذ تمسه نار.(168/68)
- إنك تتألمين هذه الليلة.
- إني أحب. . .
- أوَ تحبين أنت؟
وكانت لا تزال محافظة على هيئتها. .
- إنك لا تصدق ذلك، أليس كذلك؟
كانت جالسة معي كي أنعم عليها بثمن شرابها، وكنت أعرفها منذ أمدٍ بعيد. . . منذ صباها، ولم تنس أن تفاتحني ساعة أن اقتعدت مقعدها بجانبي بعزمها على الشرب بقولها:
- أريد أن أشرب اليوم.
ولم أرفض رجاءها هذا فأمرت لها بقدح من الشراب لا إكراماً لسواد عينيها ولا حباً بجمالها، بل شفقة عليها ورحمة بها، فلقد كنت أراها كئيبة حزينة هذه الأيام.
- ومن تحبين؟
فرفعت رأسها من بين يديها كمن أفاق من ذهول عميق وأجابت:
- إن من أحبه (نكرة).
وكأن سؤالي هذا قد أثار منها سراً دفيناً وهاج لها ذكرى أليمة حتى راحت تحرق الأرم وتهدد الهواء بقبضتها كمن يتوعد أحداً. . . فتفرست في وجهها ملياً.
فدمدمت بكلمات غامضة. . .
- لِمَ تتفرس في وجهي هكذا كأنك تعرفه؟ أو كأنك تقول لي بأنه (معلوم) لديك! إنه (أحد النكرات)!. فلا تتعب نفسك في معرفته سدى!
قالت ذلك وأنشبت أظافرها الحادة في خديها من فرط تأثرها وابتسمت ابتسامة الحزين طفح كأس اصطباره:
(هو أحد (النكرات) أما إنه لم يكن كذلك؟ فلأن هؤلاء (النكرات) يفهمون أقوالنا ويتكلمون مثلنا ويشعرون كما نشعر. ويرون كما نرى! أما أنتم! فإن تكلمنا معكم اضطررنا إلى أن نزن كلامنا كلمة كلمة وقلوبنا تخفق رعباً، خوفاً من أن تعثر ألسنتنا وتلفظ كلمة سهواً فنصبح أضحوكة في نظركم! وإذا تكلمتم أنتم أصغينا إليكم بكل حواسنا حتى نفهم ما تقولونه. . . وترانا نعمل المستحيل حتى لا نظهر أمامكم بمظهر الجاهل الغر والأحمق(168/69)
البليد! ولا أقول أنتم معشر (المهذبين) المثقفين - لا تحبوننا نحن معشر النساء، كلا فأنكم تحبوننا ولكنكم تريدون من (المرأة) أن يكون شعورها وعواطفها جميلة، مصبوغة، مزينة، رقيقة كوجهها وشفتيها وأظافرها! ولا تكلفون أنفسكم مشقة فهم المرأة، وإنما تريدون من المرأة أن تفهمكم!
- أو تحبين؟!
وكان صوتها اضطراباً كلما ازدادت حزناً
- (لقد أصبت في سؤالك هذا!
- وكيف أصبتُ في سؤالي؟
- لأنك عنيت به الحقيقة. . أيمكن أن أحبّ أنا، أو نحب نحن؟ حقاً أنحب نحن؟ أو تصدق أنت ذلك؟ لقد سألت نفسي مراراً. . فلقد تمرّ من أدمغتنا أفكار عوجاء وهوجاء، وترينا الأيام حوادث عصيبة رهيبة تدك أعصابنا دكا فتجعلها واهنة القوى ضعيفة التفكير معدومة المقاومة تفقد معها خاصة التفريق بين الشعور الذي نشعر به من صميم القلب، وبين الإحساس الذي نحس به لمجرد اللهو والعبث، وفي أيهما نحن صادقون. . . ومن ثم أنتم!. . . آه منكم!! قالت ذلك وصرت أسنانها وضربت الأرض بقدميها كمن يحاول أن يسحق شيئاً سحقاً، أو يقطعه إرباً إرباً. نحن نخدعكم ما دمتم على وجه البسيطة ونسيء إليكم دواماً. أليس كذلك؟ ولكن ماذا تقولون في الإساءة التي تسيئون إلينا بها أنتم معشر الرجال؟
أكبر الإساءة التي تُرتكب نحونا هي إساءتكم. . نصدُق لكم قولاً وفعلاً فلا تثقون فينا! وإذا ما أحببناكم فلا تصدقوننا! نقسم لكم الأيمان المغلظة فلا تؤمنون بنا!! وتشتبهون حتى في طعامنا وشرابنا! والشبهة مرض يسري أيضاً وينشب أظفاره فينا، ونأخذ نشتبه حتى في أنفسنا فنحب، فتأتي الشبهة على بالنا فتحملنا على الشك في حبنا هذا! وتنغص منا العيش. . وتتسع دائرة الشبهة هذه فلا نثق حتى في أنفسنا!
تحسبون أننا نحب من أجل المال. أو يظهر أننا نحب من أجل المال! وأضرب لك مثلاً. . أنا ذلك المثال. فأنا أيضاً امرأة أحب من أجل المال، أليس كذلك؟
قالت ذلك وتوقفت عن الكلام ومدت يدها إلى القدح الذي كان أمامها فشربته إلى الثمالة.
لم يصدقوا أنني أحب حقاً. . . وهذا الرجل الذي أحبه أيضاً يعطيني كل ما يربحه من(168/70)
عمله وأرد له عطاءه. فيصرّ هو أيضاً. . . يظن أنني ما أحببته إلا من أجل المال! هو أيضاً. . . هو أيضاً. . .
وكانت أكتافها تهتز من شدة انفعالها.
حيث أننا لا نحب. . وأن قلوبنا قدت من صخر. . أو أنها لا تعرف للصدق معنى وحبنا كاذب. . وأن أساسنا كاذب. . .).
وكانت عيناها تنظران نحو الباب. . وما كادت تلفظ الكلمة الأخيرة من كلامها حتى هبت مذعورة تطلب مني السماح لها بالذهاب.
- أستميحك عذراً، هاهو قد جاء. قالت ذلك ومدت يدها تصافحني وعيناها شاخصتان نحوه، فودعتها وأنا أنظر إلى القادم أتفحصه. . نظرت ملياً فرأيت (الخطاط) الأسود قد كسا حاجبيها لوناً غير اللون الطبيعي، ولعب (المنقاش) فيه فأضاع بلعبه ذلك الشكل الطبيعي الإلهي. . .
وهذا اللون القرمزي الذي يعلو خديها ليس ذلك اللون الذي أودعه الله في الوجنات. . .
ونظرت إلى شفتيها فما رأيت فيهما تلك الحمرة الطبيعية التي تحاكي الدم القاني. . واستمعت إلى صوتها فإذا به قد فقد حلاوته، وليس بذلك الصوت الملائكي الساحر الذي كانت تنادي به أمها وهي في المهد.
وشيء واحد لم يتغير فيها، ذلك هو عيناها!. . .
لقد كانت عيناها تشتعلان بنار الحرص كما اشتعلت عينا حواء حينما نظرت إلى آدم لأول مرة. .
محمود يساري(168/71)
بيت الحظ!!. .
بقلم عبد المعطي المسيري
كان الشيخ مرسي غانم - أو الشيخ النزهي كما يسمونه في القرية - جالساً مع نفر من القرويين ينصتون بانتباه للعمدة وهو يحدثهم نفس الحديث الذي يقصه كل ليلة منذ انتهى إليه أن سعادة المدير ونجله سيشرفان القرية ليقيم بها الابن بضعة أيام إراحة لأعصابه كما أشار الطبيب. وكان العمدة يتحدث في هذه الليلة بحماس، ويلقي التعليمات والأوامر بوجه متجهم وصوت أجش كعادته في بعض الأحيان، وذلك لأن المأمور أنبأه في الصباح أن سعادة الباشا ستكون زيارته بعد الغد وأنه - أي المأمور - يهمه أن يهتف الأهالي بحياة الباشا وأن يكون بأيديهم سعف النخل وأغصان وأن تستقبله النساء بالزغاريد. . .
وانصرف شيخنا النزهي بعد أن عرف نصيبه في هذا الاحتفال وهو أن يبعث زوجته وابنته زينب لتنظيف غرف المنزل المعد لنجل المدير وأن يكون مع المستقبلين الهاتفين. . .
سار الشيخ صوب النهر إلى أن أتى الشاطئ فخلع نعليه وشمر عن ساعديه وجلس يتوضأ، وبعد أن انتهى من صلاة العشاء أخذ طريقه إلى المنزل وهو يكثر من الحوقلة التي اعتادها عقب كل صلاة، ولكنه كان في هذه المرة يرددها بنغمة الأسف على تأخره هذا وتوقعه ضجر الزوجة والأولاد. . .
دفع الباب واحتوته الغرفة فعاود الحوقلة بصوت عال، وأحزنه أن يرى الطعام على المائدة الخشبية وحوله عائلته، وقد غلب النعاس جميع أفرادها، فبدأ بإيقاظ الزوجة، وهذه أخذت تهز الأولاد من أكتافهم معلنة إليهم في ابتهاج وفرح عودة أبيهم؛ ثم أخذ الجميع يتناولون الطعام حتى أتوا عليه فقامت زينب - الفتاة الكبرى - وأتت بالماء فغسلوا أيديهم ومدت أختها يدها وتناولت أرغول والدها من شباك الحجرة وقدمته إليه، بينما تدحرج أحمد الصغير خارج الغرفة وعاد وهو يدفع أمامه آنية نحاسية وضعها أمام أمه.
تناول الشيخ أرغوله وبعد أن تثاءب وتمطى قربه من فمه، فسرى الصوت في فضاء الحجرة وتبعته نقرات الأم على الآنية النحاسية، وأخذ الأولاد في التصفيق متبعين نفس النغمة حتى حمى الوطيس، وأخذت زينب تغني أغنية ريفية مطلعها:(168/72)
يَلْحِنَّا، يَلْحِنَّا، يا قَطر الندى ... يا شباك حبيبي يا عيني جلاب الهوى
وقامت فاطمة الصغيرة وتأهبت للرقص كعادتها حتى إذا أدركها التعب ارتمت على الأرض ليأخذ أحمد دوره. . . خفت صوت الأرغول وسكنت النقرات والأصوات، وساد في جو الغرفة الهدوء إلى أن عاود أحمد النشاط فنطق بأغنيته المحبوبة يا لليل يا ليل. . . ثم عاد الشيخ لأرغوله مشجعاً ولده وطاب لهم أن يغنوا ثانية أغانيهم البلدية، وعاد المرح وارتفع صوت زينب وتبعها الجميع مرددين مصفقين، وقامت فاطمة للرقص ونافسها أحمد بحركات ساذجة تبعث على الضحك والسرور، وبين آونة وأخرى يتعثر أحمد فيسقط على الأرض وأحياناً تسقط معه فاطمة فتتزايد القهقهة من الجميع إلى أن أدركهم الكلال فنهضت زينب وقادت أمامها اخوتها إلى الغرفة الثانية المعدة لنومهم.
على هذه الوتيرة كانت تعيش عائلة الشيخ مرسي، وعلى هذا الضرب كانوا يقضون لياليهم. أما في النهار فكانوا يعملون في الحقل بكل نشاط وابتهاج، لكل منهم عمله حتى أحمد الصغير كان يتدرب على مراقبة البقرة التي تدور حول الساقية. . .
حياة بسيطة لا تعقيد فيها، كلها سعادة وكلها أمن واطمئنان: الشيخ يرى أن سعادته في ابتسامة زوجته وفي نماء المحصول وصحة أولاده، والأولاد يرونها في هذا الحب المتبادل الذي يربط بين قلوب الجميع، والزوجة تراها في رضاء الزوج ومرح الأولاد.
. . . وفي هذه الليالي الضاحكة حيث يرقصون وينشدون وكثيراً ما التمس سكان القرية السرور والفرح والترويح عن النفس في بيت هذه الفرقة الموسيقية التي لم تعرف الشقاوة الطريق إلى أفرادها حتى أطلق سكان القرية على بيت الشيخ (بيت الحظ).
قبيل الفجر كانت زينب توقظ أمها واخوتها لقضاء ما يلزم للمنزل وتهيئة الماشية وإعداد الفطور استعداداً للذهاب إلى بيت العمدة المعد لسكن (ألبك الصغير) وتم كل شيء وأخذت هي وأمها طريقهما إلى بيت العمدة.
قامتا بما يجب عليهما من غسل أرضية الغرف وتنظيف ما علق بها من الغبار وغير ذلك، وما وافت الظهيرة حتى كل شيء على ما يرام، وحضر العمدة وجاءت على أثره سيارة كبيرة تحمل الأشياء التي يتألف منها الأثاث، وأخذ الرجال في الترتيب وأصدر العمدة أمره إلى الأم وأبنتها بتهيئة الطعام للرجال.(168/73)
بينما كانت زينب تعمل مع أمها سمعت صوت موسيقى رائعة ينبعث من إحدى الغرف فتركت ما بيدها وانطلقت إلى مصدر الصوت يدفعها حب الاستطلاع: نغمة جديدة تطرق أذنيها لأول مرة، وعلى باب الغرفة وقفت تنصت للصوت المنبعث من جهاز الراديو مأخوذة لا تستطيع ضبط عواطفها ولا امتلاك نفسها.
لم يكن يخطر ببالها قبل الآن أن في العالم غير أرغول أبيها وآنية أمها، ولم تسمع أن هناك أغاني سوى تلك التي تغنيها؛ نعم إنها شاهدت وسمعت فرقة الشيخ راشد التي تزور القرية من حين إلى آخر لتقيم الأفراح لعائلاتها، ولكن زينب كانت تفضل دائماً حفلات منزلها، وأين موسيقى الشيخ راشد من الموسيقى التي تسمعها الآن؟؟ وعقب اسطوانة الموسيقى سمعت زينب صوتاً رائعاً حنوناً:
(اللي حَبِّك يا هناه)
ثم موالاً بلدياً فرأت اختلافاً بيناً بين ما سمعت الآن وبين ما تسمع وتقول كل ليلة فأنكرت موسيقى منزلها، بل أنكرت نفسها وصغرت أمامها الألاعيب التي يقومون بها كل ليلة وأيقنت أن في العالم لذة وسعادة أشهى وأمتع من لذتهم وسعادتهم.
في مساء تلك الليلة كانت زينب تسمع أرغول والدها بملل وضجر كأن أذنيها لم تتعوداه، وودت لو ينتهي الوالد لتذهب إلى حجرتها حيث تتمثل في هدوء ذلك الصوت الشجي الساحر، وانتظر الوالد طويلاً أن يسمع صوتها ولكن دون جدوى، وظن أن لعملها الشاق في بيت العمدة أثراً في ذلك فأذن لها في الذهاب إلى النوم وهو لا يخفي كدره، وأخذ يلعن الباشا والبك والعمدة لأنهم كانوا سبباً في حرمان زينب من قسطها في الغناء والسرور، وحاول أن يشرك معه فاطمة وأحمد في الزمر والرقص ولكنهما آثرا أن يذهبا مع زينب، ومضت تلك الليلة صامتة فاترة على غير المألوف.
وفي الصباح كان البشر يلوح على محيا زينب عندما علمت أن زوجة العمدة أرسلت في طلبها لإعادة نظافة غرف ألبك الصغير).
بعد أن أتمت ما أشارت به زوجة العمدة انسلت حيث غرفة الراديو وجلست القرفصاء بجوار الباب تنصت بنشوة غريبة ولذة قوية، ودهشت إذ رأت فاطمة وأحمد يبلغانها غضب أمها لغيابها وقلقها، ولكنهما لم يلحا عليها في الإياب واطمأنا لصوت الراديو، وقفز(168/74)
أحمد على كتفيها يحاول رؤية مصدر الصوت من فرجة الباب، وارتسم الذهول على وجه فاطمة واستولى على ثلاثتهم الصمت، ولم ينتبهوا إلا على صوت العمدة وهو يحدث (ألبك) عندما هما بمغادرة الغرفة لتناول الغداء، والتفت العمدة إلى زينب فنهرها وأمرها بأخذ أخويها والرجوع إلى المنزل حتى لا تقلق أمهم.
في هذا المساء لم تنهض فاطمة لمناولة والدها الأرغول، ولم يتأهب أحمد للرقص وارتسم الوجوم على وجوه الجميع، وفقدت تلك الفرقة الساذجة الانسجام والتجانس، فرفع الشيخ يده وتناول الأرغول، ولكن الأولاد نفروا واستنكروا هذا الصوت، وفزعت زينب من نقرات أمها على الآنية النحاسية وملكها الحياء فلم تعد تغني، وكيف تغني بعد أن سمعت (اللي حبِّك يا هناه!).
لم يعرف الرجل حلاً لهذه المشكلة ولم يقو على فهم الدافع الذي ألح على زينب فحال بينها وبين مشاركته في الغناء فتحول عنها إلى أخويها وأومأ إليهما أن يأخذا بنصيبهما، ولكن فاطمة فأفأت لتعبر عن تأففها وتأتأ أحمد ففهم الشيخ السر. . .!! قرأ لغتهما المضطربة ذلك اللغز الذي أفسد حياته وذهب بسعادته.
وحار الشيخ في الأمر. لقد سمع هو أيضاً وسمعت أمهم ولكنهما لم يتأثرا، وأدرك بفطرته أن الصغار على استعداد للتمرد والثورة. . . أدرك الشيخ أنه ناضل نفسه لأنه آمن بأنه المغلوب إذا التمس السبيل إلى حياة الترف فآثر أن يكبح جماح نفسه ويعيش بأحلامه، وأدرك أن صغاره قد بهرهم النور وأن بريقه الساطع قد ألهب في قلوبهم ناراً فثاروا على حياتهم المظلمة. . . فلم يملك إلا التنهد العميق. . . وأراد أن يلعن ذلك اليوم الذي جاء فيه (ألبك) إلى القرية، ولكن الكلام مات على شفتيه. . .
ولأول مرة تراقصت الدموع في عيني الشيخ وعز على الأم أن ترى هذا المشهد الذي لم تدرك سببه، فهزت الأولاد وحاولت أن تدفعهم إلى المرح، ولكن ذلك كان عبثاً، فرمى الشيخ أرغوله وتمدد على فراشه يبكي سعادته الهاربة. . .
ونهضت زينب فغادرت أخويها وهي تقلب بصرها فيما حولها من القذارة وتقارن بين ما ترى وبين الأثاث الثمين والصور الجميلة والموسيقى الرائعة الحنون، وكانت تود لو أن حياتها كلها نهار حتى لا تقع عينها على منزلها هذا الذي صار كل ما فيه يجلب إلى نفسها(168/75)
الحزن والأسف.
وانتقل الرقص والمرح من بيت الحظ الريفي إلى بيت العمدة حيث المنية يجذب ظلها هؤلاء السذج ويفرض عليهم سلطانه، وبينما كان الأول للوجوم والامتعاض في الليل كان الثاني للفرح والسرور بالنهار.
وانقضت أيام ألبك في القرية ورحل بأثاثه وجهازه وترك وراءه أسرة سلبها سعادتها وأحلامها. . . وبينما كانت سيارته تنهب الأرض في طريقها إلى المدنية كان الشيخ النزهي ينظر إليها والأسى يملك عليه نفسه، حتى إذا غابت عن بصره حطم أرغوله وألقى ببقاياه في النهر. . .
عبد المعطي المسيري(168/76)
البريد الأدبيّ
هـ. ج. ولز. لمناسبة عيده السبعيني
يبلغ الكاتب الإنكليزي الكبير هربرت جورج ولز اليوم، أعني في الحادي والعشرين من سبتمبر، السبعين من عمره، وبهذه المناسبة تستعد دوائر الأدب الإنكليزي لتكريم الكاتب الكبير والاحتفاء بذكراه السبعينية. ففي مساء الثالث عشر من أكتوبر يقيم نادي القلم الإنكليزي مأدبة كبرى يدعو إليها أقطاب الكتاب من جميع أنحاء العالم، ويتولى الكلام عن شخصية ولز ومواهبه الأدبية عدة من أكابر الكتاب مثل جورج برناردشو، وأندريه موروا، وجوليان هكسلي، وأرثر بليس وغيرهم.
ونذكر بهذه المناسبة كلمة عن ولز وعن آثاره؛ فهو اليوم في طليعة كتاب إنكلترا وكتاب العالم، وهو كاتب اجتماعي من النوع الشامل (أنسيكلوبيدي) فله في القصة، وفي التاريخ، وفي النقد، وفي الاجتماع وغيرها. وكان مولده في سبتمبر سنة 1866 في بروملي؛ وكان أبوه رياضياً محترماً؛ وقد وصفه ولز في كتابه (لاعب الكركيت القديم) ولم يتلق ولز أولاً تربية جامعية، ولكنه انصرف منذ حداثته إلى القراءة وتأثر أيما تأثر بكتب أفلاطون وفولتير؛ واشتغل أولاً صانعاً بمعمل أحد الكيميائيين، وعكف على الدراسة في نفس الوقت؛ ورأى فيه ناظر مدرسته نجابته فعينه مدرساً معه فاستمر في هذا المنصب حتى سنة 1884، ثم رحل إلى لندن، والتحق بمدرسة العلوم في كنسنجتون؛ وقد وصف هذه المرحلة من حياته في قصته التي يؤيد فيها قضية المرأة تأييداً قوياً. ودرس ولز البيولوجيا والجيولوجيا والطبيعيات والفلك؛ وفي أواخر ذلك العهد فكر في أن يضع تاريخاً جامعاً للعالم. وحصل ولز أخيراً على إجازة العلوم بتفوق؛ وعاد إلى الاشتغال بالتدريس، مع الاستمرار في الدرس حتى حصل على إجازة جديدة للعلوم من جامعة لندن في سنة 1890. وفي ذلك الحين التقى بكاثرين روبنس التي غدت زوجته فيما بعد. وفي سنة 1893 أصيب ولز بصدع في الأوعية الدموية أرغمه على ترك التدريس والانقطاع إلى التأليف. وكان أول ظفر أدبي حقيقي ناله ولز مقالاته في مجلة (فورتنتيلي) بعنوان ثم كتب بعد ذلك عدة مقالات ورسائل علمية في بعض المجلات الكبرى. ومنذ سنة 1894 يعالج ولز كتابة القصة وقد بدأها بكتابة (جزيرة الدكتور مورو) ثم أتمها بقصة الزيارة(168/77)
العجيبة وكان الصحفي الكبير ستيد أكبر عون لولز على إظهار مواهبه القصصية؛ وكانت الصبغة العلمية تطبع قصصه الأولى مع خيال فائق متزن؛ ونستطيع أن نذكر من هذه المجموعة ما يأتي: ووغيرها.
وعالج ولز بعد ذلك القصة الاجتماعية، وعرض في قصصه إلى مشكلة الحب والزواج والعلائق الجنسية؛ ومن هذه المجموعة قصصه الآتية:
ولمستر ولز ميول اشتراكية معتدلة تبدو في كتاباته. بيد أنه ليس اشتراكياً بالمعنى السياسي، وكل ما هنالك أنه يرى أن الاشتراكية يجب أن تطبق في حدود اقتصادية معقولة بعيداً عن المؤثرات والعوامل السياسية.
وأشهر كتب ولز تلك التي يعرض فيها تنظيم المجتمع؛ وفي هذه المجموعة يصل ولز ذروة قوته وافتنانه، ونستطيع أن نذكر من هذه المجموعة ما يأتي: وهي قصة؛ , وهو عرض فلسفي.
وأما في التاريخ فقد كتب ولز بطريقة جديدة موجزة ولكن قوية؛ وأشهر كتبه في التاريخ: (سنة 1920) (سنة 1920) و (سنة 1925).
ويعرض ولز نظرياته الاجتماعية عن طريق الأدب بجميع صنوفه، ويمتاز في ذلك بقوة لا نظير لها اليوم في الأدب الإنكليزي. وإليك طائفة أخرى من كتب ولز التي اشتهرت بتأثيرها الاجتماعي:
وولمستر ولز كتب كثيرة أخرى يضيق المقام عن ذكرها.
جوستاف كان
توفى أخيراً كاتب وشاعر فرنسي كبير هو جوستاف كان زعيم النزعة الرمزية في الشعر؛ ومن الغريب أنه توفى في ختام الحفلات التي نظمت هذا الصيف في باريس احتفاء بهذا الضرب من الأدب. وقد ولد كان في متز سنة 1859 وتلقى تربية جامعية حسنة ودرس اللغات الشرقية واشتغل منذ فتوته بالصحافة. وفي سنة 1887 ظهر ديوانه الأول بعنوان القصور الريفية فكان فتحاً جديداً في عالم الشعر؛ ذلك لأن (كان) نزع فيه نزعة جديدة حرة كانت قدوة لجيل جديد من الشعراء؛ وأتبع كان ديوانه الأول عدة مجموعات شعرية أخرى نذكر منها: (أغاني المحب) ' (والقصائد الأولى) وعالم الأشباح والمطر(168/78)
والربيع وغيرها.
وكتب كان أيضاً في القصة، وله في ذلك عدة آثار حسنة نذكر منها: (الملك المجنون) و (زهرات الهوى) و (الزانية الحساسة) ' وله مجموعة قصص صغيرة عنوانها: (قصص هولندية)
وقد اشتهر جوستاف كان بمقدرته النقدية؛ وكانت جولاته النقدية الأولى في الشعر والأدب في مجلاته التي أنشأها تباعاً مثل وكانت آراؤه النقدية نماذج حسنة للنقد القوى المتزن.
ولجوستاف كان أثر ظاهر في تطور الشعر الفرنسي في العصر الأخير.
العلاقة بين الطلاق والجنون
من أنباء أمريكا الأخيرة أن إحصاءات اجتماعية دقيقة قد عملت في أقسام الأمراض العقلية في ولاية (مساشاست) لتعرف العلاقات الزوجية والأمراض العقلية، وقد دلت هذه الإحصاءات دلالة واضحة على أن للزواج أثراً محسوساً في ضبط الأعصاب وتحسن الميول العقلية. مثلا ذلك أنه وجد أن معظم سكان المصحات العقلية أناس مطلقون بين رجال ونساء، ثم يأتي بعد ذلك في الترتيب العددي الأرامل رجالاً ثم الأرامل نساء، ثم الأعزبون من الجنسين؛ كذلك دلت الإحصاءات على أن نسبة المجانين من المتزوجين هي أقل النسب العددية بالنسبة لجميع الطوائف الأخرى.
وهذه الملاحظات تقوم على دراسة عدد كبير من المصابين بأمراض عقلية يبلغ عددهم زهاء 62 إلفاً في ملاجئ نيويورك ومساشاست، خلال خمسة الأعوام الأخيرة.
حول قصيدة البلبلة
بعثت إليَّ (الرسالة) بهدايا الشعراء والشاعرات والكتاب والأدباء المشكورين الذين ثارت فيهم نخوة الشرق العزيز فناصروني بأغاريدهم العذبة الحلوة التي يضيق عنها نطاق هذه المجلة المحبوبة، والتي سأحتفظ بها إلى الأبد تحية وذكرى. ولست افضل أحداً من أصدقائي حين أراني مضطراً إلى التنويه بشاعرة الزقازيق الحزينة (السيدة م. أبو السعود) التي نرجو لها ـأنا وفتاتيـ توفيقاً من الله العليّ، وبان يهدي لها رجلها الغويّ.
أما أستاذنا العظيم (حسن جلال بك) فله منا اجزل الثناء وسنتخذ من كلمته العالية، بعد(168/79)
كتاب الله، نبراساً وحكمة.
(د. . .)
أثر إسلامي هام
علمنا أن الجمعية الأسيوية البنجالية بكلكته في الهند اقتنت أخيراً أثراً هاماً من اندر الآثار الإسلامية وهو كتاب (خريدة القصر) لعماد الدين الأصفهاني المتوفى في القرن السابع الهجري. والكتاب في ترجم الشعراء في عصر المصنف في جميع البلاد الإسلامية العربية وهو كبير ولا يوجد كاملاً فيما نعرف في مكاتب العالم. وهذه النسخة أيضاً جزء من الكتاب ويحتوي على تراجم شعراء حلب وغيرها، ولكن الذي يزيد في قيمة هذه النسخة وندرتها أنها مكتوبة بخط المصنف.
مخطوطة نادر في مكتبة الأزهر
في أثناء نقل مكتبة رواق المغاربة إلى مكتبة الأزهر العامة عثروا على مخطوط نادر هو نسخة من كتاب الذخيرة في أصول مذهب الإمام مالك، للإمام القرافي، ولا يوجد من هذا الكتاب إلا جزء واحد في مكتبة الجامع الأحمدي بطنطا وقسم صغير في دار الكتب المصرية.
النشيد القومي - غلطة الكفر
المصيبة الكبرى في هذا النشيد أنه موضوع على مبادئ (أنقره) من نقل ألفاظ الألوهية والشريعة وصرفها عن الله ودين الله إلى الوطن. وهذا إلحاد فظيع إن جاز في غير مصر لم يجز أن يكون في مصر.
يعين الدين الإسلامي معنى الآخرة ومعنى اليقين بالحساب والبعث، فيجيء صاحب هذا النشيد فيقول: غرامك يا مصر. . قصارى شعوري دنيا ودين، وحبك آخرتي واليقين.
إذن فلا آخرة ولا يقين بالآخرة.
وكما يقال: تعالى اله، سبحانه وتعالى، يقول صاحب النشيد: تعاليت يا مصر!!
ويقول الله في كتابه العزيز عن جنة الآخرة: (تلك الجنةُ التي وُعِدَ المتقون)، فينقلها صاحب النشيد إلى مصر ويقول: ألستِ الكنانةَ في أرضِه= (وموعود جنته والنعيم)(168/80)
إذن فالجنة التي وعد المتقون هي مصر، وإلا فما معنى قوله (وموعود جنته)؟
والطامة الكبرى قوله: وصوتك يا مصر وحي الإله.
فمتى أضيف الوحي إلى الله فقد تعين معناه وخرج من كل المعاني اللغوية التي تفيدها لفظة الوحي كالإشارة والرمز ووسوسة الشيطان، ولا يفهم أي مسلم على وجه الأرض من قولك: وحي الله، أو وحي الإله، أو الوحي الإلهي إلا معنى واحداً. فكأن هذا النشيد موضوع عمداً لإفساد عقيدة المسلمين وتشكيكهم فيها وحملهم على اعتقاد خلافها والنزول بألفاظ الألوهية والشريعة وتجرئ الناس عليها.
ونحن لا نصدق أبداً أن وزارة المعارف تعمل لهذا الغرض بإذاعة هذا النشيد. فإن لم تعلن تبرؤها منه وتأمر بإبطال إذاعته وتنشر ذلك في الصحف كلها، فقد وجب على الأزهر أن يتقدم إلى المعركة ويفهم وزارة المعارف أن الإله الذي يعبده المسلمون ليس هو الإله رع!!
وسنرى ويرى الشباب الإسلامي
س. ط
بكلية الآداب
حول النشيد القومي
راقني ما كتبه الأديب (س ط) عن النشيد القومي وأرى تعقيباً على ذكر الغلطة الثانية (قصارى شعوري دنيا ودين) أن (دين) معطوفة على التمييز المنصوب فمن حقها أن تكون منصوبة منونة (ديناً) فإذا أريد الوقوف عليها انقلب تنوينها ألفاً فتصير (دينا) لا غير. ولا وجه لحذف الألف منها اعتذاراً بضرورة الشعر فليست هذه من ضرورات الشعر المباحة فتكون هذه غلطة مزدوجة.
متولي أحمد كيوان
ديوانان جديدان للدكتور إقبال
علمنا أن الدكتور محمد إقبال الشاعر الفيلسوف الهندي الكبير صنف ديوانين جديدين في الشعر أحدهما باللغة الأردية، وسماه (صور إسرافيل) وهو تحت الطبع، والآخر باللغة(168/81)
الفارسية وقد صنفه متأثراً من مرضه الأخير ومن الحادثة الفاجعة الشرقية وهي سقوط الحبشة أمام القوة الإيطالية الغاشمة وقد سماه بشطر من البيت وهو (بس جيه بايد كرد أي أقوام شرق) معناه (وماذا يجب أن نعمل أيتها الأمم الشرقية؟) وفي آخر هذا الديوان قصيدة طويلة خاطب فيها روح النبي عليه الصلاة والسلام للشؤون الإسلامية والشرقية الحاضرة وهو أيضاً تحت الطبع. ونحن نهنئ الدكتور على شفائه وإصداره هذين الديوانين، وندعو الله أن يوفقه للكتاب الذي ينوي تصنيفه من زمن بعيد باللغة الإنجليزية وهو (مقدمة لدراسة الإسلام).
السيد أبو النصر الحسيني الهندي(168/82)
العدد 169 - بتاريخ: 28 - 09 - 1936(/)
المُعْجَم السياسي
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وحدثني صاحب سر (م) باشا قال: كنا في سنة 1920 وهي بنت سنة 1919؛ وقد اجتمعت الأمة على مقاطعة لجنة (ملنر) لا تكلِّمها فجعلت السكوت ثورة. وأعلن الشعب أن كلمته في لسان الوفد ينطق الوفد بها نطق النبي بما يوحى إليه، فما يكون لأحد غيره أن يقولها ولا أن يقول أُوحي بها إليّ. وأبى اللورد ملنر أن يصدق أن للمصريين إجماعاً يُعتد به، وأنهم دخلوا في السياسة دخولاً ثابتا فرسخوا فيها، وأنهم أصبحوا مع الإنكليز كالإنجليز الذين يقولون عن أنفسهم في مثلهم السائر: ينبغي أن نكون أحراراً مثل أعمالنا.
وزعم اللورد لنفسه أن هذه الأحزاب المصرية لا يتفق منها اثنان أبداً إلا كان بينهما ثالث يختلفان عليه وهو الطمع في مناصب الحكم، واستخرج من ذلك أن المصري والمصري كشِقَّي المِقراض لا يتحركان في عمل إلا على تمزيق شيء بينهما؛ فإن لم يكن بينهما (الشيء) لم يكن منهما شيء.
وذهب الرجل يتظنى ويحدس على ما يخيل له الظن، وقد حسب أن إنكلترا يحق لها أن تقول في المصريين ما يقول الله في خلقه كما ورد في الأثر: إنما يتقلبون في قبضتي؛ وكما تقول اليوم لأهل فلسطين من العرب: (إن يَشَأ يُذْهبْكم ويَأتِ بخَلْقٍ جديد). . . . وكان اللورد هذا رجلاً ممارساً لمشاكل السياسة، دخالاً فيها، داهية من دهاة القوم، له في قلبه عينان وأذنان غير ما في وجهه كحذاق السياسيين؛ وهو يعرف أن سياسة قومه لا تدخل في شيء إلا دخول الإبرة بخيطها في الثوب، إن خرجت هي تركت الخيط وقد جَمَعَ وشد. . . . فأراد أن يمتحن مذهب المصريين في إجماعهم على الاستقلال، وقدر أنه واجد من الفلاحين عوناً ومادة لمكرِه السياسي، وحسب الوفد صورة جديدة من طبقة (الباشاوات) القديمة، ينزلون من الشعب منزلة اليد التي تمسك القيد من الرِّجْل التي فيها القيد، ويضعون معنى كلمة الحاجة في كلمة السياسة، ويقولون الوطن وهم يريدون الجاه، ويقيمون الشعب كالسُّلم ينتصب قائماً بأيديهم ليحمل أرجلهم الصاعدة عليه.
فجاء اللورد إلى مصر، فوجد الأمة كلها قد حَذِرت منه وتيقظت له، حتى نصحه رشدي باشا بأنه لن يجد في مصر هرَّة تفاوضه؛ ولكنه كان مستيقنا أن أذُن السياسة الإنكليزية(169/1)
(كالراديو) لصوتين: صوت الدنانير وصوت الجماهير، فمر في البلاد يرسم على الهواء علامات استفهام، وانْصَفَقَ عنه الناس وأهملوه، وكان يسير في دائرة الصمت التي مركزها أبو الهول، فبدأ وظل يبدأ حتى انتهى وما زال يبدأ. . . وساح في البلاد سياحة طويلة وكأنه لم يسافر إلا من شفَة (أبو الهول) السُّفلى إلى شفته العُليا.
قال صاحب السر: وجاء اللورد لمقابلة الباشا، فمرَّ عليَّ مرور كتابٍ مقفل لا أعرف منه إلا العنوان؛ غير أنه رجل بمقدار الرجل الذي يخالف أمة كاملة تكاد تحسبه مطوياً على زوبعة، وترى له قوتين تحسُّ من أثرهما الرهبة والإعجاب، وإذا تأملته قلت إن اللطف والظرف أضعف شمائله، وإن الدهاء والحيلة أقوى مواهبه.
فلما لقيت الباشا من الغد سألني كيف رأيت اللورد ملنر؟ فقلت: والله يا باشا إنه كالضرورة ما يتمناها أحد ولكنها تجيء.
فضحك الباشا وقال: يا ليت لنا نحن الشرقيين ضرورة تصنع ما صنع اللورد؛ إنه كشف لنا في ذات أنفسنا عن حقيقة من أسمى الحقائق السياسية، وهي أن الشعب الذي يصر ولا يزال يصر، يجعل الإغراء لا يغري والخوف لا يخيف.
ويا ليت الأمم الشرقية تتعلم هذا الصمت السياسي عن مجاوبة الكلمة الاستعمارية أحياناً، فإن صمتَ الأمة المصرية عن جواب (ملنر) كان معناه أن قدرة الأمة هي المتكلمة كلامها بهذا الصمت، تعلن للعالم أن الواجب الشعبي قد وضع قفله على كل فم.
ولقد فسر اللورد هذا السكوت بتفسيره السياسي فأدرك منه أن في الشعب أنفة وحمية وقوة، وأن حساب الضمير الوطني أصبح لهذه الأفئدة كالحساب الإلهي للنفوس المؤمنة، كلاهما مستعلِنٌ يُخافُ ويُتقى، وكلاهما له كلمة محرمة.
أية معجزة هذه التي جعلت كلمة الأجنبي تتخذ في أذهان أمة كاملة شكل قائلها، فاجتمعت لها الجلود على معنى الرفض، وأصبح كلُّ فرد يعرف محله من الكل، وخضعت الطبائع بجملتها لقانون العزة القومية الذي يلزمها ألا تخضع للأجنبي؟
إن الأمم بعض مسائل نفسية كهذه المسألة؛ فلو أن لنا خمسة دروس سياسية مختلفة كدرس (ملنر) لكانت لنا في الإيمان الوطني كالصلوات الخمس.
والآن تعلمت الأمة أن الشعب العزيز هو الذي ينظر في فض مشاكله إلى الحل وإلى(169/2)
طريقة الحل أيضاً، وقد كان (ملنر) هو أول أساتذتنا في تعليمنا الطريقة.
وهذا الدرس يجب أن يكون درساً للشرق كله، فإن السياسة الاستعمارية قائمة فيه على خداع الطريقة في حل مشاكله، فيحلونها ويعقدونها في نص واحد؛ ويثبت الكلام الذي يتفقون عليه أن المراد منه زوال الخلاف، ويثبت العمل بعد ذلك أن المراد كان زوال المقاومة.
وفي السياسة الأوربية موافقات دميمة كالنساء المشوهات، فإذا عرضوا واحدة منها على من يريدون أن يزوّجوه. . . . فأباها وفتح لها عينيه بكل ما فيهما من قوة الأبصار، أعفوه منها وقالوا له سنأتيك بالجميلة. ثم يذهبون بها إلى معهد التجميل اللغوي فيصقلونها ويصبغونها ويضعون لها أحمر السياسة وأبيضها ثم يعرضونها جديدة على صاحبهم ذاك، وما صنعوا ما به صارت الدميمة غير دميمة، ولكن ما به رجع غيرُ الأعمى كالأعمى ولهم عقول عجيبة في اختراع الألفاظ حتى لتكون شدة الوضوح في عبارة هي بعينها الطريقة لإخفاء الغموض في عبارة أخرى. وكثيراً ما يأتون بألفاظ منتفخة تحسب جزلة بادنة قد ملأها معناها وهي في السياسة ألفاظ حبالى تستكمل حملها مدة ثم تلد.
ولهم من بعض الكلمات كما لهم من بعض الرجال السياسيين، فيكون الرجل من دهاتهم رجلاً كالناس وهو عندهم مسمار دقوه في أرض كذا أو مملكة كذا، ويكون اللفظ لفظاً كاللغة وهو مسمار دقوه في وثيقة أو معاهدة.
ثم ضحك الباشا وقال: إن أرضنا تخرج القطن وسياستنا تخرج ألفاظاً كالقطن لا توضع في المغزل إلا مدت وتحولت. وإذا ذهبنا نخالفهم في التأويل والتفسير لم نجد عندنا المعجم السياسي الذي يملي النص. أتدري يا بني ما هو المعجم السياسي؟
أما إنه لو كان كتاباً يتألف من مليون كلمة لذهبت كلها عبثاً وباطلاً وهراء، ولكنه ذلك المعجم الحي، ذلك المعجم الذي يتألف من مليون جندي. . . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(169/3)
وجع القلب
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
وجدت بالتجربة أني لا أستطيع أن أحب كما تريد المرأة من الرجل - ولست أعني أني عاجز عن الحب، فما أعرف لي في هذه الدنيا عملاً غير ذلك. فأنا أحب الطعام الجيد والشراب اللذيذ والنوم الهنيء والراحة التامة؛ وأحب الكتب والصديق الموافق الذي لا ينغص الحياة على صاحبه بطول المخالفة وكثرة المكابرة ودوام الشذوذ؛ وأحب أشياء كثيرة لا أستطيع أن أحصيها. ولكني أحب نفسي وهذا هو البلاء الأكبر. وليس هو ببلاء، إذا أردت الحق، ولكن المرأة تراه كذلك. وعندها أنك تبيع نفسك حين تحبها. ولا بأس بأن يبيع المرء نفسه أحياناً، ولكن بيعها لا يستلزم أن تترك حبها وتكف عنه. وهل يعقل أن تفيض حبك على الناس والأشياء ولا تختص نفسك ببعض هذا (الفيضان؟) غير أن غير المعقول عندك هو المعقول عندها والذي لا يجوز خلافه ولا صبر لها على سواه، فهي من أجل ذلك تسود عيشك وتريك النجوم في الظهر الأحمر. على أن الرجل يستطيع أن يخفي حبه لنفسه أو يموهه ويستره بما يحجبه، ولا أظن أن في هذا عسراً فأنه يفعل هذا كل ساعة ولا يزال يعزو أعماله إلى بواعث أخرى يظنها أشرف وأسمى من حب النفس، فهو مثلاً يأكل لا لأنه يشتهي الطعام بل لأن من واجبه أن يحرص على أن يظل قوياً قادراً على خدمة النوع الإنساني، وعلى نفس هذا فقس! غير أن هناك ما لا سبيل إلى ستره وكتمانه وتمويهه، إذ من الواضح مثلاً أن من العبث أن تنظر إلى اليمين وأن تروح تزعم أنك إنما كنت تنظر إلى الشمال، فإن اتجاه العين لا يخفى ولفتة الوجه لا مغالطة فيها. فإذا كانت النظرة إلى امرأة وأنت مع أخرى فالويل لك ولستُ مسئولاً عنك. . . . قالت لي مرة إحداهن وأنا معها وقد رأت عيني تدور: (بص هنا) وجذبتني من ذراعي، فقلت وأنا مستغرب: (ولماذا لا أبص هناك؟) قالت: (كده) بهذا الإيجاز الذي لا يفيد شيئاً؛ فقلت: (كده يعني ماذا؟ قالت: (كده) ولم تزد. فضاق صدري فقد عجزت أن أفهم سر هذا الأمر المتعب أو حكمته وقلت: (يا ستي. . إن الله خلق عيني متحركة غير ثابتة فكيف ألزمها الثبات؟ ثم هبيني استطعت ذلك فلماذا أتكلفه؟).
فقالت: (عيب!).(169/4)
فصحت (عيب؟؟ يا خبر اسود!!).
فقالت: (لا يليق أن تنظر إلى الفتيات في الطريق).
ففهمت ولكني لم أقتنع وقلت: (إن لي على هذا رداً طويلاً فهل تسمحين بأن تسمعيه؟).
قالت بتهكم: (نعم يا سيدي. . .).
فتجاوزت عن لهجة السخرية إذ حسبي موضوع واحد للخلاف وقلت: (أولاً - لماذا تظهر الفتيات لنا معاشر الرجال في الطريق إذا كن لا يردن أن ينظر إليهن أحد؟ ثانياً - وهذا أهم - لماذا يظهرن في حفل من الزينة إذا كان لا يرضيهن أن يدير الرجال فيهن عيونهم؟ ثالثا - وهذا هو الأهم - بأي وجه ألقى الله يوم القيامة إذا كنت أغمض عيني وأتكلف العمى ولا أنظر إلى مخلوقاته التي أبدعها؟؟ وقد خلق لي عينين فلا عذر لي، ورزقني غير ذلك وسائل القدرة على إدراك معاني الجمال في خلقه سبحانه. . أليس من الواضح أن مما يخجلني يوم القيامة أنه تعالى خلقني بصيراً فآثرت العمى، ومحساً مدركاً ففضلت الجهل والبلادة؟؟ وأخيراً - لا آخراً - ما الضرر على كل حال من النظر إلى الناس؟؟ ماذا خسرت الفتاة التي نظرت إليها؟. . هل أنا أكلتها بعيني؟؟ هل نقصت شيئاً؟؟ إني أراها على العكس قد زادت. . . نعم زادت. . . لماذا تنظرين إلي هكذا؟؟ هل نطقت كفراً؟؟ أقول لك زادت لأنها استفادت إحساساً جديداً مؤيداً لإحساسها بجمالها، ولو كنت لم أنظر إليها لكانت خليقة أن يساورها الشك فيما تحس من نفسها أو تعتقد، فأنا قد أفدتها راحة البال واطمئنان الخاطر، وإني لجدير بالشكر على هذا لا اللوم).
فصاحت بي بعد طول الصمت: (طيب اسكت بقى).
فقلت وأنا ضجر: (هكذا أنتن يا نساء!! إذا أعوزتكن الحجة قلتن: طيب أسكت بقى. . ولكني لا أنوي أن أسكت (بقى) فقد مرن لساني على الدوران وأنا أحس اليوم أني أوشك أن أقول كلاماً بديعاً).
فصاحت بي: (أنا معك فكيف تنظر إلى غيري؟).
فقلت: - وقد فهمت - (آه. . . . هذه هي المسألة. . . قولي هذا من الصبح يا ستي. . . نعم أنت معي. . . وإنك لحسبي من عالم الجمال والفتنة، ولو وسعني غير هذا لما كنت حسبي. . . ولكني قانع غير متذمر. . . غير أنك مع الأسف لست كل النساء. . وأنت(169/5)
تغنين عن جنسك أحياناً ولكنك لا تستطيعين أن تغني عن هذا الجنس في كل حين؛ وليس ذنبي أنك قاصرة).
فقاطعتني صائحة: (قاصرة؟؟ أشكرك).
قلت: (نعم قاصرة عن اختزال جنسك كله في شخصك الواحد).
فأبت أن تسمع مني بعد ذلك فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. . الأمر لله. . . سكتنا يا ستي. . فلعلك تكونين مسرورة).
ولكنها لم تكن مسرورة ولم تغفرها لي قط. . . وأنا أقول تغفرها بغير تعيين أو تبيين لأني والله لا أدري إلى هذه الساعة أي شيء أغضبها وأثار نقمتها علي.
وحدث مرة أخرى أن كلفتني أن أشتري لها فاكهة وكنت أعرفها تحب الجوافة حباً جماً فانتقيت حبات طيبة الرائحة ذكية العبق واشتريت لها فاكهة أخرى، ولكن الجوافة كانت هي المهمة والتي عليها الكلام؛ وذهبت بحملي إليها، ودخلت به حجرة الانتظار، وقلت لخادمتها: (قولي لسيدتك صباح الخير يا نور العين. لقد حضر سيدك، ونور عينك اليمنى - واليسرى أيضاً في الحقيقة - ومعه حمل بعير من الجوافة بل من أبدع أنواعها).
فذهبت الخادمة وأبلغتها الرسالة فأطلت تلك من باب غرفتها - بوجهها فقط - وصاحت وهي فرحة - صحيح؟؟ جوافة؟؟ حلوة؟؟).
ففتحت الكيس وأخرجت واحدة ورفعتها لها بين أصابعي وأدرتها أمام عينها فابتسمت ابتسامة السرور وقالت: (حالاً. حالاً. . . دقيقة واحدة) ودخلت.
وبقيت أنا أتمشى في الحجرة، ولم يكن فيها ما يسلي المرء، ولم يكن معي كتاب أقرأه وأزجي به الفراغ فجعلت أقوم وأقعد، وأنظر تارة في المرآة، وأمسح الطربوش تارة أخرى، وأنفض عنه ما علق به من التراب. . ومسحت الحذاء أيضاً. . مسحته مرتين حتى صار جلده كالمرآة، وحتى حدثتني نفسي أن أخلعه أنظر إلى وجهي فيه، ولكني خفت أن تدخل علي وأنا أفعل ذلك. . وتأملت الحرير الذي كسيت به الكراسي، ورفعت طرف السجادة وجسستها وفركت وبرها بأصابعي، ثم لم أجد شيئاً آخر أصنعه في هذه الغرفة، فانحططت على كرسي كبير وثير واضطجعت وفي مأمولي إذا نمت ألا توقظني حين تدخل، ولكني لم أنم لأن رائحة الجوافة الذكية كانت قوية، فقد نسيت الكيس الذي هي فيه(169/6)
مفتوحاً، فتسور إلى أنفي أريجها وملأ صدري وأدار رأسي، فأحسست بالجوع ولكني ضبطت نفسي وشددت على اللجام وقلت: (اللهم أخزك يا شيطان!) غير أن الشيطان شديد الغواية قوي الفتنة فجعل يقول لي: (وما حبة واحدة تأكلها فتنيم بها هذه الثعالب التي تمزق أحشاءك؟) فقلت: (والله لقد صدق اللعين. . فلآكل حبة واحدة من الجوافة اللذيذة. . ثم إن هذا عدل. . أفأحملها وأحرمها؟؟ وأكون كالعير التي يقولون إنها يقتلها الظمأ وهي تحمل الماء على ظهورها في القرب؟ أو كالحمار الذي يحمل أسفاراً؟؟.).
ومددت يدي إلى الكيس وأنا يقظان كنائم، وتناولت منه من غير أن أنظر إليه: وطابت الجوافة في فمي، فأقبلت عليها آكل وآكل - ولكن بغير احتفال والله - وإذا بصاحبتنا تدخل مؤهلة مرحبة باسطة يديها للسلام، ثم إذا بها تقف في وسط الغرفة الفسيحة وعينها مفتوحة جداً عليّ، فلم أستغرب، فقد كان فمي محشواً وأسناني تعمل دائبة كالليل والنهار. وتنبهت إلى واجني حين رأيتها تحملق على هذا النحو، فبلعت ما بقي في فمي بسرعة، ومططت عنقي ليسهل الانزلاق - أعني البلع - وانحنيت على الكيس لأتناوله وأقدمه إليها وأسرها به - أعني بالجوافة التي فيه - وإذا به ينطبق بين يدي لأنه فارغ!!
الحق أقول إني بهت، فما كان يخطر لي في بال أن آكل كل هذه الجوافة. ولو أن إنساناً راهنني أن أفعل لفزعت وأشفقت على نفسي، ولكن هذا الذي لم أكن أحسب أن لي قدرة عليه وقع اتفاقاً. . وقد سرني هذا في الحقيقة لأنه كان من بواعث الاطمئنان لي على صحتي، وكان جديراً بها أن تهنئني وتقرح لي، فإن الجوافة كثيرة وهي في السوق أكوام عظيمة، والجيد الطيب ليس بالقليل، وثمنه تافه لا يستحق الذكر. . . ولكنها وجمت يا أخي لا أدري لماذا؟ ووقفت جامدة لا تتحرك كأنما سمرت إلى الأرض، فأزعجني ذلك وخفت أن يكون قد أصابها شيء لا قدر الله، وأقبلت عليها أسألها عما جرى لها؛ فلما أفاقت أشارت بيدها - دون أن تتكلم - أن اذهب. . اذهب ولا ترني وجهك! فاستغربت أن تلقاني بهذه الجفوة بعد ذاك الترحيب والتأهيل والبشر الذي كان يفيض به وجهها وهي مطلة به من بين مصراعي الباب، وتمنيت لو أنها تبقى أبداً ووجهها بين المصراعين ليبقى لي بشرها وحلاوة ابتسامتها!!
الحق أني لا أفهم النساء. . . . وهل تستطيع أنت أن تفهم كيف يفسد الحال وتقع النبوة(169/7)
بين رجل وامرأة من أجل أقة من الجوافة ثمنها قرش ونصف قرش؟ إن كنت تفهم هذا فإني أحسدك وأدعو لك بالتوفيق إن شاء الله.
إبراهيم عبد القادر المازني(169/8)
صور سياحية
1 - فرنسا وباريس
بقلم سائح متجول
تأثرت مصر بالثقافة الفرنسية طوال القرن الماضي؛ ولم يكن ذلك لأن مصر أمة من أمم البحر الأبيض تميل بخواصها وموقعها إلى الأخذ بالثقافة اللاتينية، ولكن لأن ظروفاً خاصة اجتمعت منذ الغزوة البونابارتية لتحمل مصر فيما بعد على الاستعانة بالفرنسيين في مشروعات الإصلاح والتجديد وإرسال بعوثها العلمية الأولى إلى فرنسا. هذا هو الأصل في تأثر مصر بالثقافة الفرنسية، وهو عارض تاريخي محض، لا دخل فيه للعوامل الجغرافية أو الميول والخواص الجنسية؛ ومن ثم فأنا نرى أثر الثقافة الفرنسية في مصر يضمحل اليوم، لأن مصر تختار اليوم لنفسها من مختلف الثقافات، لتبني ثقافتها القومية، ولا تقف عند ثقافة دون أخرى.
ومع ذلك فما تزال الثقافة والآداب الفرنسية تحظى منا بأكبر عناية؛ وما تزال فرنسا تجذب منا أكبر عدد من الزائرين؛ وما يزال اسم باريس يثير في نفوسنا سحراً لا يقاوم؛ بل إن كثيراً من أولئك الذين لم يروا باريس يعرفونها معرفة عقلية وروحية شاملة: يعرفونها من الكتب والصحف والسينما، وتربطهم بها روابط فكرية قوية؛ وما تزال أول أمنية للسائح المبتدئ أن يرى باريس.
وقد حظيت باريس من العربية بكتب ورسائل عديدة، وحظيت في العهد الأخير بكتابين لاثنين من كتابنا المعروفين، وصفت فيهما معاهدها ومغانيها وجوانب كثيرة من حياتها الاجتماعية، وانك لتقرأ في الكتابين فصولاً وشذوراً تفيض إعجاباً بفرنسا وباريس وكل ما هو فرنسي، بل إنك لتشعر من خلال تلك الفصول الحارة المنمقة أن فرنسا هي أمة الأمم، وأن باريس هي مدينة المدن وإلهة الجمال والعلوم والفنون؛ وما زالت هذه الألوان الوردية المغرقة تطبع كل ما نكتب عن فرنسا وباريس.
على أنه يلوح لنا أن هذه الفتنة التي قد تجد مبرراتها في بعض المؤثرات والظروف الخاصة، والتي تثيرها في معظم الأحيان أهواء وميول خاصة، ويذكيها الجهل بأحوال الأمم والعواصم الأخرى، وانعدام روح المقارنة الذي تتضاءل أمامه الصور والألوان(169/9)
الخلابة؛ يلوح لنا أنها فتنة مبالغ فيها، وأن شيئاً من الملاحظة البريئة، وقليلاً من الاتزان في الوصف والرواية، وطرح المؤثرات والاعتبارات الخاصة مما يعاون على عرض صور أصدق وأدق من تلك الصور الوردية التي عرفناها وألفناها.
ومهما يكن في هذه الصور القديمة من صدق؛ ومهما يكن لهذه الفتنة القديمة من مبررات، فأنا نقول لأولئك الذين يرون العالم كله في فرنسا وفي باريس: إن الأمور قد تغيرت أعظم تغير في فرنسا وفي باريس.
وكاتب هذه السطور سائح متجول يرى ويلاحظ، ولكنه لا يدعي الوصول إلى المجهول والخارق، وإنما يلاحظ ويقدر ما تهدي إليه المشاهدة والتجارب بعيداً عن كل اعتبار وهوى.
لم تقدم فرنسا أية تسهيلات للسياحة سواء في مسألة النقد أو السكك الحديدية أو الفنادق أو غيرها كما فعلت ألمانيا وإيطاليا، وما زالت تعتمد على جاذبيتها القديمة؛ غير أن فرنسا تخدع اليوم في قيمة هذه الجاذبية؛ وقد انحط موسم السياحة في فرنسا انحطاطاً عظيماً، ولم تعد باريس كما كانت في الماضي تعج بعشرات الألوف من الأجانب ولا سيما الأمريكيين والإنكليز؛ وأهم عامل في هذا التحول هو ارتفاع قيمة الفرنك الفرنسي بالنسبة لنقد البلاد التي خرجت عن معيار الذهب. فالأمريكي أو الإنكليزي أو المصري الذي يزور فرنسا يفقد نحو أربعين في المائة من قيمة نقده؛ أضف إلى ذلك الغلاء الفاحش الذي يغمر كل شيء في فرنسا؛ ففي الفندق والمطعم والمقهى، وفي الملاهي والتنقل وكل ما يتصل بالحياة اليومية، نشعر بوطأة هذا الغلاء المرهق، وتشعر كأن النقد يذوب بين يديك سراعاً.
ولنضرب أمثلة مادية؛ فالغرفة البسيطة في فندق متوسط تكلف في اليوم من 25 إلى 40 فرنكاً (من 33 إلى 52 قرشاً) ووجبة الطعام في مطعم متوسط تكلف من 15 - 25 فرنكاً (20 - 33 قرشاً) هذا عدا الخدمة وهي من 10 إلى 15 في المائة؛ وثمن البيضة الواحدة في المقهى أو حيث تتناول إفطارك فرنكان ونصف (3 , 5 قروش) وثمن الواحدة من الموز أو التفاح أو الخوخ شراء يتراوح بين فرنك ونصف وثلاثة حسب النوع والحجم؛ وأما في المقهى فما خلا القهوة والنبيذ والكونياك والبيرة، فإن أثمان المشروبات الأجنبية تبلغ حدوداً تزهدك دائماً في طلبها؛ والسجائر الفرنسية رخيصة ولكنها سخيفة لا يقبلها(169/10)
الذوق، والسجائر الأجنبية تكلف ضعف ثمنها وأحياناً ثلاثة أمثال؛ وأما التنقل في مدينة عظيمة كباريس فلست أحدثك عن (التاكسي) لأنه ترف لا يطيقه سوى الأغنياء، ولكني أقول إن أجور الأمنيبوس والترام الذي بقيت منه خطوط قليلة هي الضعف وأحياناً ثلاثة أمثال أجورها التي نعرفها هنا؛ ولولا شبكة الترام الأرضي (المتروبولتان) التي تربط أحياء باريس وأطرافها ربطاً عجيباً بأجر زهيد (سبعين سنتيما أو نحو قرش صاغ) لكانت باريس أتعس العواصم من حيث المواصلات.
هذه أمثلة وملاحظات نعني بها السائح المتوسط ولا نعني بها طبقة الطلبة أو أولئك الذين يلجئون إلى بعض الفنادق الشعبية الرخيصة حول الحي الجامعي في سان ميشيل وفوجيرار، ويتناولون طعامهم في مطاعم العمال، فهؤلاء حقاً يستطيعون أن يستمرئوا نوعاً من العيش الرخيص لا يستسيغه السائح المتجول مهما كان من تواضعه وقناعته.
ولا تنس إلى جانب ذلك الغلاء المرهق تلك الضريبة التعسفية التي أصبحت رذيلة اجتماعية شنيعة في فرنسا (وفي غيرها أيضاً) ونعني (البقشيش)، ففي كل مكان وفي كل مناسبة، في التاكسي وفي المطعم والمقهى والمسرح وأينما حللت، يمثل شبح البقشيش، ويطلب بإلحاح خشن؛ وكل شيء يتطلب عطية حتى ولو لم تقدم أية خدمة؛ والشره خلة بارزة لتلك الطبقة التي تحتك بها في كل لحظة ونعني طبقة الخدم والسقاة؛ وروح الجشع تبدو في كل مكان؛ وقد تدخل المسرح أو الملهى الواحد فيطلب إليك البقشيش أربعة أو خمسة متعاقبون من الخدم قبل أن تجلس في موضعك، وإذا ترددت قيل لك إنا هنا لا نتناول أجراً ونعتمد على البقشيش، وإذا لم تتذرع بشيء من الحزم والبرود كانت الخسارة فادحة؛ هذا إلى المفاجآت السيئة في الحساب؛ ففي معظم الأحيان تدفع أكثر مما تتوقع لأسباب وأبواب غير معقولة ولكن لا مفر من إجابتها.
ولقد قيل في يونيه الماضي إن البرلمان الفرنسي قد أقر قانونا بإلغاء (البقشيش)، وقد صدر القانون فعلاً، ولكنا أسأنا فهمه وإدراك مقصده، فلم يكن قصد الحكومة الاشتراكية أن تحرم الخدمة ومن إليهم من نعم هذه الضريبة المرذولة، بل كان قصدها أن تجعل (البقشيش) حقاً وضريبة مشروعة لا عطية فقط، وأن تحفظ كرامة هذا الخادم أو العامل فلا ينتظر البقشيش كعطية أو نفحة وإنما يرى فيه حقاً مكتسباً ينظم دفعه حسب الظروف والأحوال؛(169/11)
ولهذا كان أول ما قرأنا في تعليمات الفندق في مرسيليا ما يأتي: (بما أن البقشيش قد ألغي، فقد قررت إدارة الفندق أن تحتسب بدل خدمة قدره عشرة في المائة!).
ومما يلاحظه السائح في فرنسا، وفي باريس بنوع خاص، أن الأمانة في المعاملات ليست متوفرة دائماً؛ وربما كان أول وأشهر التجارب التي يلاقيها السائح في ذلك هي مسألة التاكسي؛ فإذا لم تكن تعرف الطريق أو لك فكرة عنه فويل لك من السائق؛ وقلما تجد سائقاً يقودك إلى المكان المقصود مباشرة، ولا بد أن يطوف بك حيناً قبل أن يقودك إغليه، وعبثاً تلاحظ أو تعترض، وعند الحساب تضاف إلى الأجر ملحقات زائفة يؤيدها السائق بالصخب والوعيد؛ والويل لك إذا ترددت في الدفع؛ وهذه تجربة أعتقد أن كل سائح مستجد يلقاها في فرنسا؛ وقد بلوتها ير مرة وسمعت في شأنها روايات مدهشة مضحكة معاً عن تفنن السائقين في ابتزاز الملحقات غير المشروعة. وإنك لتلقى مثل هذا الغش أحياناً في المطعم والمقهى إذا لم تحسن مراجعة الحساب؛ ومن الحق أن نقول إنك تلقى مثل هذه التجارب في غير فرنسا، وإنك تلقاها في إيطاليا وباقي أمم البحر الأبيض، ولكن يندر أن تلقاها في أمة من الأمم الشمالية.
وحب المال خلة مشهورة في فرنسا، وهي تذهب إلى حد الجشع المثير، وإنك لتلمس هذا الشره في كل المعاملات، وتشعر بأن روح المادة والاستغلال تطغى على كل شيء وكل اعتبار، ومن ثم كان شغف الكسب بأي الوسائل، وكان تجلي الأثرة وانعدام روح المعاونة والمروءة في معظم الطبقات التي تحتك بها. ومن النادر أن تجد في باريس من يتقدم لمعاونتك أو إرشادك لمعرفة مكان أو غيره بشيء من التطوع أو الرقة التي تأنسها في بلاد أوربية أخرى؛ وإذا قدم إليك مثل هذا العون شعرت أنه مقرون بالسرعة والمن، وأحياناً بالتكلف والجفاء، كأن وقت الفرنسي كله وكلماته كلها من ذهب؛ وكثيراً ما تجاب بهز الأكتاف و (ليس عندي وقت) وأمثالها.
هذا وقد أفسدت الروح الاشتراكية أخلاق الطبقات الدنيا وآدابها، فالعامل والصانع والبائع والخادم والموظف الصغير، هؤلاء جميعاً يتصورون أنهم سادة الموقف في فرنسا، وأن المستقبل لهم. وإنك لتلاحظ هذا الأثر السيئ بنوع خاص في طبقة العمال والخدم، فهم يؤدون أعمالهم بتكلف ولا يحفلون بشيء؛ وهم يشعرونك دائماً عند الحديث أنهم سادة(169/12)
مثلك، ولهم في ذلك إشارات وألفاظ وقحة. وقد كان لحوادث أسبانيا في هذه الطبقات أثر عميق ملموس؛ وكم سمعنا في الفندق والمطعم وفي الشارع والمترو من بعض أفراد هذه الطبقات أن الحكومة الاشتراكية إذا لم تجب مطالب الطبقات العاملة، وإذ لم تسع إلى تحسين الأجور وتخفيض مستوى المعيشة، فإن ما وقع في أسبانيا سوف يقع قريباً في فرنسا.
وقد عرفت فرنسا أنها بلد الجدل السياسي؛ ولكن هذا الجدل يحتدم اليوم في فرنسا بشدة ظاهرة ويغمر كل الطبقات؛ وقد تشهد هذا الجدل في الشارع وفي المقهى وفي الترام، وتسمع أغرب الآراء وأشدها تطرفاً. وتلقى الصحف على اختلاف نزعاتها رواجاً عظيماً بين كل الطبقات، وتلقى الصحف والنشرات الاشتراكية رواجاً خاصاً بين الطبقات العاملة. وقد لفت نظري كتابان يعرضان للبيع بكثرة ويقبل الناس على شرائهما، أولهما رسالة عن حياة مسيو (ليون بلوم) رئيس الوزارة الفرنسية الحاضرة، والثاني كتاب عنوانه (دوريو رجل الغد)، ودوريو هو النائب الشيوعي الذي خرج على الحزب الشيوعي وعلى أوامر موسكو وكون لنفسه شعبة خاصة تتقدم كل يوم في الأهمية والعدد؛ ويرى كثيرون أن دوريو هذا سيكون من قادة الغد، وأنه ربما اضطلع بدور عظيم في التطورات السياسية المقبلة.
ومما يلفت النظر بنوع خاص حالة القلق السياسي التي تسود فرنسا اليوم، وتبدو ظاهرة في كتابات الصحف وفي تعليقات الأفراد، ويشمل هذا القلق الشؤون الداخلية والخارجية معاً؛ ففي ميدان الشؤون الداخلية يشعر الكثيرون بأن فرنسا مقبلة على تطورات سياسة هامة، وأنه ربما اقترنت هذه التطورات بشيء من العنف. وفي ميدان الشؤون الخارجية يرى الكثيرون أن احتمالات الحرب الأوربية تتقدم بسرعة، وأن نشوبها ربما كان أقرب مما يتصور الناس، وأن فرنسا ستدعي في القريب العاجل إلى خوضها.
(يتلى)
(? ? ?)(169/13)
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
- 3 -
تمتاز فلسفة الفارابي بظاهرتين رئيسيتين: نزعة روحية نامية، واتجاه صوفي واضح. والمذهب الروحي والتصوف يقتربان في الواقع ويتلاقيان في نواح كثيرة. وهاتان الظاهرتان تبدوان لدى فلاسفة الإسلام بدرجات مختلفة. وقد نفذ التصوف الفارابي على الخصوص إلى أعماق المدرسة الفلسفية العربية وأثر في صوفية المسلمين بوجه عام. ولم يقف أثره عند القرون الوسطى، بل تعداها إلى التاريخ الحديث. وبما أنا أسلفنا القول في شرح نظرية السعادة الفارابية وبيان مصادرها الأرسطية والأفلوطينية فأنه يجدر بنا الآن أن نلقي نظرة على الأثر الذي أحدثته فيمن جاء بعد الفارابي من فلاسفة ومفكرين؛ وكي تكون هذه النظرة مستوفاة يحسن أن نبين من جانب إلى أي حد تأثر كبار فلاسفة الإسلام بآراء الفارابي التصوفية، كما تأثروا بأبحاثه الأخرى؛ ومن جانب آخر ينبغي أن نحدد العلاقة بين هذا التصوف الفلسفي وما ذهب إليه صوفية المسلمين المتأخرون. وحبذا لو استطعنا أخيراً أن نوازن بين نظرية السعادة الفارابية وبعض الأفكار الصوفية التي اعتنقتها طائفة من الفلاسفة المحدثين. وبالجملة سنتابع هذه النظرية في خطواتها المتتالية إلى أن نسلمها إلى العصور الحديثة، وسنحاول عرض صورة مختصرة لتاريخها العام.
إذا كان في فلاسفة الإسلام من يصح أن نسميه تلميذ الفارابي وخليفته الأعظم فهو بلا جدال ابن سينا. حقا إن التلميذ عدا على الأستاذ وأخفى اسمه وانتزع مكانته وقضى على شهرته، وأصبحنا ونحن نعزو إلى ابن سينا آراء وأفكاراً هي في الحقيقة من صنع الفارابي وابتكاره؛ بيد أن الأول يعترف للثاني بأياديه عليه، ويقر له بالسبق والأولوية، ويدين له بالخضوع والأستاذية. ولقد بلغ من تعلق ابن سينا بنظريات أستاذه أن بذل كل مجهود في تفهمها وأفاض في شرحها وتوضيحها بحيث منحها نفوذا وسلطاناً لم تنله على يدي صاحبها ومبتكرها. ورب فكرة فارابية غامضة مبهمة تبدو لدى ابن سينا، وهو صناع اليدين، في ثوب قشيب ومظهر خلاب. وإذا كان ابن رشد هو شارح أرسطو غير منازع في الفلسفة المدرسية، فإن ابن سينا هو شارح الفارابي الماهر في الفلسفة الإسلامية. وقد يؤخذ علينا(169/14)
أحياناً أنا نحاول تحليل أفكار الفارابي على ضوء ما كتب ابن سينا، إلا أن الرجلين في رأينا متضافران ومتكاملان، يوضح كل واحد منهما صاحبه ويتممه. ولئن كان للفارابي فضل السبق، فلابن سينا فضل البيان والإيضاح. ومن ذا الذي يدعي أن في مقدوره دراسة أرسطو دراسة كاملة دون الرجوع إلى شراحه من المشائين وغيرهم؟ ولو احتفظ لنا الدهر بكل ما كتب الفارابي فلعلنا لم نستعن دائماً على تفهمه بمؤلفات أتباعه؛ فأما وما وصل إلينا من كتبه نزر يسير، فنحن مضطرون إلى توضيح غامضه بمختلف الوسائل. على أن المؤرخ الذي يعنيه أن يبين كيف نشأت فكرة ما، يلزمه كذلك أن يوضح كيف نمت وتطورت.
اعتنق ابن سينا مختلف آراء الفارابي التصوفية وتولاها بالشرح والدرس في رسائل متعددة نخص بالذكر منها كتاب الإشارات والتنبيهات، وهذا الكتاب بين المؤلفات السينوية (نسبة إلى ابن سينا) يتيمة العقد وجوهرة التاج الثمينة وثمرة النضوج الكامل. يمتاز بسمو أسلوبه وعمق أفكاره وتعبيره عن آراء ابن سينا الخالصة التي لا تشوبها نظريات المدارس الأخرى. وقد وقف صاحبه الجزء الأخير منه على الأبحاث التصوفية، ويقع في نحو خمسين صفحة تعد من أحسن ما خلفته المدرسة الفلسفية الإسلامية في هذا الباب. فقد أخذ ابن سينا على حسب عادته أفكار الفارابي وفصل القول فيها وعرضها عرضاً مسهباً مرتباً. فهو يحدثنا عن (التجريد) و (البهجة والسعادة) و (مقامات العارفين) و (أسرار الآيات) ويشرح نظرية الاتصال شرحاً مستفيضاً. وهذا هو القدر لذي جمعه وترجمه مهرن إلى الفرنسية ونشره تحت عنوان: ' وهاكم نموذجاً من حديث ابن سينا العذب ولغته السامية التي تترجم عن معان سبقه بها الفارابي يقول: (إن للعارفين مقامات ودرجات يخصون بها في حياتهم الدنيا دون غيرهم. فكأنهم في جلاليب من أبدانهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس. ولهم أمور خفية فيهم، وأمور ظاهرة عنهم، يستنكرها من ينكرها، ويستكبرها من يعرفها، ونحن نقصها عليك. . . العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئاً على عرفانه، وتعبده له فقط؛ لأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه، لا لرغبة أو رهبة. . . العارف هشّ بشّ بسّام يبجل الصغير من تواضعه مثل ما يبجل الكبير، وينبسط من الخامل ما ينبسط من النبيه. وكيف لا يهش وهو فرحان(169/15)
بالحق وبكل شيء فأنه يرى فيه الحق. وكيف لا يسوي والجميع عنده سواسية؟. . العارف لا يعنيه التجسس والتحسس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه الرحمة فإنه مستبصر بسر الله في القدر. وإذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح لا بعنف مُعَير. وإذا جسم المعروف فربما غار عليه من غير أهله. العارف شجاع، وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت؟ وجواد، وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل؟ وصفَّاح، وكيف لا ونفسه أهون من أن تحرجها زلة بشر؟ ونساء للأحقاد، وكيف لا وذكره مشغول بالحق).
يصف ابن سينا كأستاذه المراحل التي تقود المرء إلى السعادة ويتكلم عن الزهد والعبادة، ثم عن العرفان الذي هو السعادة الحق. (فالمعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على نفل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد، والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديما لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف). وليست السعادة مجرد لذة جسيمة، بل هي غبطة روحية وسمو معنوي واتصال بالعالم العلوي؛ هي عشق وشوق مستمران، وما العشق الحقيقي إلا الابتهاج بتصور حضرة الحق؛ وما الشوق إلا الرغبة الدائمة في كمال هذا الابتهاج. (والنفوس البشرية إذا نالت الغبطة العليا في حياتها الدنيا كان أجل أحوالها أن تبقى عاشقة مشتاقة لا تخلص من علاقة الشوق، اللهم إلا في الحياة الأخرى. وتتلو هذه النفوس نفوس بشرية مترددة بين جهتي الربوبية والسفالة على درجاتها، ثم تتلوها النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المنحوسة، التي لا مفاصل لرقابها المنكوسة). والوسيلة الأولى والرئيسية لإدراك السعادة هي الدراسة والبحث والنظر والتأمل. وأما الأعمال البدنية والحركات الجسمية ففي المرتبة الثانية، ولا يمكن أن تحل محل التهذيب الفكري والرقي العقلي بحال.
قد يخيل للقارئ بعد هذا التحليل أن ابن سينا أميل من أستاذه إلى متصوفة القرن العاشر أمثال الجنيد والحلاج. ولا سيما وكتاباته مملوءة بمصطلحات الصوفية وألفاظهم الفنية. فهو يردد كلمة الزهد والوجد والقوت، ويبين حقيقة المريد والعارف والعابد، ويحلل بعض العواطف النفسية كالعشق والشوق التي شغلت كبار متصوفي المسلمين. غير أنه على الرغم من كل هذا لا يزال ابن سينا وفياً لأستاذه في نظرياته التصوفية كما وفي له في كل مذهبه الفلسفي، ولا أدل على هذا من إعراضه عن فكرة الاتحاد التي زعمها الجنيد(169/16)
والحلاج ونقده نقداً فيه دقة وتعمق. فهو يرى أن غاية السعادة ليست إلا مجرد اتصال بين العبد وربه يحظى فيه الإنسان بضرب من الإشراق لا يصدران عن الله مباشرة، بل بواسطة العقل الفعال. وأما الاتحاد المزعوم الذي يقضي بأن يندمج الخلق في الخالق فغير مقبول عقلاً، لأنه يستلزم أن يكون الشيء واحداً ومتعدداً في آن واحد. ذلك لأنا لا نقبل أن نعد العقل الفعال فرداً واحداً في الوقت الذي نقرر فيه أنه محتو على كل النفوس الواصلة، كما لا نستطيع أن نسلم بفردية العارف في حين أنا نعترف باشتماله على حقيقة أخرى خارجة عنه. وانظر كيف يصوغ ابن سينا هذا الدليل. (قد يقولون إن النفس الناطقة إذا عقلت شيئاً فإنما تعقل ذلك الشيء باتصالها بالعقل الفعال وهذا حق. قالوا واتصالها بالعقل الفعال هو أن تصير هي نفس العقل الفعال، لأنها تصير العقل المستفاد، والعقل الفعال هو نفسه يتصل بالنفس فيكون العقل المستفاد، وهؤلاء بين أن يجعلوا العقل الفعال متجزئاً قد يتصل منه شيء دون شيء، أو يجعلوه متصلاً بكليته بحيث يصير النفس كاملة واصلة إلى كل معقول (وكلا الغرضين باطل)، على أن الإحالة في قولهم إن النفس الناطقة هي العقل المستفاد حينما يتصورونه قائمة). ويضيف ابن سينا إلى هذا: (إن قول القائل إن شيئاً ما يصير شيئاً آخر لا على سبيل الاستحالة من حال إلى حال ولا على سبيل التركيب مع شيء آخر ليحدث شيء ثالث بل على أنه كان شيئاً واحداً فصار واحداً آخر، قول شعري غير معقول، فإنه إن كان كل واحد من الأمرين موجوداً فهما اثنان متميزان، وإن كان أحدهما غير موجود فقد بطل الذي كان موجوداً).
فتصوف ابن سينا لا يختلف إذن عن تصوف الفارابي في شيء، وسيلتهما وغايتهما متحدتان. يقول البارون كارادي فو: (لا يبدو التصوف عند ابن سينا إلا في آخر المذهب كتاج له، وهو متميز تماماً من الأجزاء الأخرى؛ وابن سينا يدرسه دراسة فنية كأنه فصل من الفلسفة يشرحه شرحاً موضوعياً، وبالعكس ينفذ تصوف الفارابي إلى كل شيء، والألفاظ الصوفية منتشرة في كل ناحية من مؤلفاته؛ ونشعر جيداً أن التصوف ليس مجرد نظرية اعتنقها، بل حالاً نفسية). ونحن نسلم مع البارون أن تصوف الفارابي - على عكس ابن سينا - يعبر عن عاطفة صادرة من القلب، وحياة الرجلين تشهد بذلك، ولكنا نرفض من الناحية النظرية أن يكون ثمة فرق بين تصوف التلميذ وتصوف الأستاذ، كلاهما يعتمد(169/17)
على أساس واحد، ويشغل مكاناً متعادلاً في مذهبيهما؛ وكل ما هنالك من تباين هو وضوح ابن سينا وطريقته التعليمية المنظمة التي يدرس بها المسائل على اختلافها. وأما الألفاظ الصوفية فقد لاحظنا آنفاً أنها أكثر لدى ابن سينا منها عند أستاذه.
إذا كان الفارابي وابن سينا بطلي الدراسة الفلسفية في الشرق، فابن باجة وابن طفيل وابن رشد هم أعلامها في الغرب. وبما أن البحث العلمي في الشرق أسبق منه في الغرب فإن أهل الأندلس مدينون لإخوانهم المشارقة بكثير من آرائهم ونظرياتهم. لذلك لم يكن بدعاً أن تقتفي المدرسة الفلسفية الأسبانية أثر المدرسة الشرقية، وأن نرى ابن باجة وابن طفيل مثلاً يتبعان خطى الفارابي وابن سينا. وكم يسوءنا أنا لا نعرف حتى الآن عن ابن باجة الشيء الكثير، فإن معظم كتبه قد باد، وما بقي منها لا يزال مخطوطاً وموزعاً بين المكاتب الأوربية. وكتابه الرئيسي وهو تدبير المتوحد لم يصلنا عن طريق عربي، ولو لم تحتفظ لنا المترجمات العبرية بأجزائه الهامة ما وقفنا على خبره. ويرجع الفضل في استكشافه إلى مستشرق إسرائيلي من رجال القرن التاسع عشر هو سلمون منك صاحب الفلسفة اليهودية والعربية ومترجم دلالة الحائرين إلى الفرنسية. وإذا اعتمدنا على ما نقله (منك) أمكننا أن نقرر أن نظرية الاتصال الفارابية قد نالت حظوة كبيرة لدى ابن باجة. وكتابه تدبير المتوحد قائم على إثبات أن الإنسان يستطيع الاتصال بالعقل الفعال بواسطة العلم وتنمية القوى الإنسانية. والفضائل والأعمال الخلقية جميعاً ترمي إلى سيادة النفس العاملة واستيلائها على النفس الحيوانية. وبالجملة يجب على المرء أن يسعى جهده إلى الاتصال بالعالم العلوي مشتركاً مع الجمعية أو منعزلاً عنها، فإن كانت الجمعية صالحة قاسمها في مختلف شؤونها، وإن كانت طالحة لازم الخلوة والانفراد. وهنا يبدو ابن باجة متأثراً بالصوفية المسلمين فوق تأثره بالفارابي، فإن الأخير لم يدع إلى الوحدة قط؛ ومن شرائط المدينة الفاضلة في رأيه أن تقود الأفراد إلى السعادة إن لم تصل بهم إليها. وكتاب تدبير المتوحد في جملته مستقى من مؤلفات الفارابي وابن سينا، اللهم إلا الجزء الخاص بنظام العزلة والانفراد فهذا تغلب عليه نزعة صوفية بحتة.
ومهما يكن فقد وضع ابن باجة الحجر الأساسي في بناء المدرسة الفلسفية الأسبانية وسار على نهجه ابن طفيل. وحياة ابن طفيل غامضة غموض حياة ابن باجة، ومؤلفاته ليست(169/18)
أعظم حظاً من مؤلفات سابقه فقد باد معظمها ولم يبق منها إلا شذرات متفرقة. بيد أن روايته الفلسفية المشهورة (حي بن يقظان) التي وصلت إلينا تشتمل على مذهبه عامة في أسلوب جذاب وخيال بديع، وتعد هذه الرواية من أطرف ما خلف فلاسفة الإسلام، وقد ترجمت إلى لغات عدة، وكانت في غالب الظن نموذجاً نسج على منواله روبنسون كروزو. وابن طفيل يحاول أن يثبت فيها أن القوى الإنسانية تستطيع وحدها الاتصال بالله. فقد تصور شخصاً نشأ منعزلاً عن الناس ولم يتأثر بالجمعية قط ومع هذا تمكن بعقله الفردي إدراك الحقائق الكونية والتدرج منها إلى حقيقة الحقائق التي أفاضت عليه بالنور والمعرفة، وهذا الشخص هو (حي بن يقظان) الذي ولد في جزيرة قرب خط الاستواء ولم ير أباً ولا أماً، وإنما منحته الطبيعة غزالة تولت إرضاعه وتغذيته. ولم يكد يشب ويترعرع حتى اتجه نظره إلى ما حوله، فبحث في الظواهر الكونية وسر تغيرها، وانتهى إلى أن وراءها أسباباً خفية تتصرف فيها وصوراً تشكلها، وهذه الصور صادرة عن كائن قديم يسميه الفلاسفة العقل الفعال. ولم يزل يبحث ويعلل حتى أدرك أن سعادة الإنسان وشقاءه راجعان إلى قربه من ربه وبعده عنه. ووسيلة القرب والصعود إلى عالم النور والملائكة هي النظر والتأمل. سواء أكان هذا الفرض مقبولاً أم مرفوضاً لدى علماء الاجتماع المحدثين فإنه يبين لنا أولاً كيف تأثر ابن طفيل بفيلسوف الأندلس الأول ابن باجة، فأن (حي بن يقظان) يحمل في ثناياه كثيراً من خصائص (التوحيد) الذي أشرنا إليه من قبل. وثانياً في لغة (حي) الخيالية وصوره المجازية ما يعبر تعبيراً صادقاً عن نظريات الفارابي في السعادة والاتصال.
أما ابن رشد فلم ينح هذا النحو الخيالي الفرضي، بل درس مشكلة الاتصال بالعقل الفعال دراسة علمية منظمة، مبيناً أن هذا الاتصال في ذاته لا يتنافى مع أصول علم النفس المعروفة. وقد وضع في هذا الموضوع ثلاث رسائل مستقلة احتفظت لنا المصادر العبرية باثنتين منها. وهو يرى أن الطفل يولد وفيه استعداد لتقبل المعلومات العامة، فإذا ما أخذ في الدراسة والتعلم تحول هذا الاستعداد إلى عقل بالفعل، ولا يزال هذا العقل ينمو ويرقى حتى يتصل بالعقول المفارقة ويستمد منها الفيض والإلهام، وهذا هو الكمال الأسمى الذي نطمح إليه جميعاً؛ والطريق الموصلة إليه هي تنمية المعلومات وترقية المدارك الإنسانية، فالعلم(169/19)
وحده سبيل السعادة والاتصال بعالم العقول والأرواح. أما ما يذهب إليه المتصوفة من أن الإنسان يستطيع الصعود إلى هذه المرتبة دون علم ولا بحث فادعاء باطل وقول هراء. وعل في هذا الذي قدمنا ما يكفي لإثبات أن ابن رشد اعتنق كزملائه فلاسفة الأندلس الآخرين - وإن يكن أقلهم تصوفاً - نظرية السعادة الفارابية. ومن الغريب أنه لم يدخر وسعاً في نقد الفارابي وابن سينا وتجريحهما، ولا سيما إذا أحس منهما انحرافاً عن سنة أرسطو، ومع ذلك لم ينج من أثرهما، ولم يستطع أن يكوِّن لنفسه مذهباً مستقلاً يخالف مذهبهما، وهو أشد ما يكون تأثراً بهما في المسائل التصوفية. فهو يعلن مثلهما أن العلم سبيل الوصول والسعادة الروحية، وأن أسمى درجات الكمال أن يخترق المرء الحجب ويرى نفسه وجهاً لوجه أمام الحقائق العلوية، ويرفض رفضاً باتاً أن يكون تقشف الصوفية وزهدهم وسيلة التجرد والاتصال؛ فمن الفارابي إلى ابن رشد اعتنق فلاسفة الإسلام بلا استثناء نظرية السعادة. والفارابي وابن سينا يدعمان هذه السعادة رأساً على الدراسة والنظر، مع الاحتفاظ بمكان للعقل العملي والحركات الجسمية؛ وابن باجة وابن طفيل يوسعان الجانب العملي؛ وابن رشد يعود أخيراً فيقرر مع أرسطو أن الخير الأسمى لا يتم إلا بالعلم والتأمل.
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب(169/20)
في الأدب المقارن
طور الثقافة في الأدبين العربي والإنكليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
يمر أدب كل أمة بثلاثة أطوار كبرى تتبع عهود رقي الجماعة: فطور الهمجية يليه طور البداوة ويلي هذا طور الحضارة؛ وفي الطور الأول لا يكون للأدب وجود مستقل بنفسه، بل يكون الشعر تعبيراً ساذجاً عن بسيط العواطف ممتزجاً بالغناء والرقص، ويكون النثر شذوراً من الخرافات والمعتقدات المتوارثة عن الآلهة والجان وقوى الطبيعة؛ ويأتي الطور الثاني بارتقاء عقلية الجماعة بممارستها أعمالاً أرقى وأدق واختلاطها بالأمم الراقية؛ وفي هذا الطور يتميز الشعر ويستقل عن غيره من الفنون وتتسع جوانب النثر، ولكن يظل الشعب على رغم ارتقائه العقلي فطرياً متبدِّيا، حتى إذا عبر هذا الطور إلى طور الحضارة ازداد ترفاً في الحياة ومارس العلوم المنظمة وعرف الكتابة، فظهر في أدبه أثر الثقافة والفن والصناعة.
وقد مر الأدب العربي بالطور الثاني من هذه الأطوار في عهد الجاهلية وصدر من الإسلام: ففي ذلك العهد كان العرب على جانب يعتد به من الرقي العقلي لمزاولتهم التجارة ووقوفهم على حضارة الفرس والروم، وفي ذلك العهد نضجت اللغة العربية نضجاً عظيماً وبلغ الشعر من الرقي شأواً بعيداً، بيد أن الأدب ظل فطرياً بعيداً عن أثر لثقافة والدراسة والتدوين والصنعة، ثم نهض العرب نهضتين علميتين في مدى قرنين: أولاهما بظهور الإسلام ونزول القرآن وفتح الأقطار، والثانية بترجمة علوم الأقدمين، وبذلك انتقل الأدب العربي إلى الطور الثالث من أطوار رقيه: وطور الحضارة والثقافة.
وقد انتقل الأدب الإنكليزي إلى هذا الطور أيضاً بنهضتين متواليتين: الأولى في القرن السادس عشر بوصول حركة إحياء علوم الأقدمين - البونان والرومان - من أوربا إلى إنكلترا، والثانية في القرن التاسع عشر عقب التقدم الصناعي العلمي الذي كانت إنجلترا رائدته وكان من أبنائها كثير من أئمة النهضة العلمية الحديثة في علوم الفلك والحياة والطب والنفس وغيرها.
ويلاحظ أن هناك اختلافاً في توالي النهضتين في الأمتين: فقد كانت نهضة العرب العلمية(169/21)
الأولى داخلية وليدة الدين الذي نشأ بين أظهرهم، وكانت الثانية خارجية آتية من نقل علوم الأمم الأخرى، بينما في إنجلترا جاء هذا النقل عن الأقدمين أولاً ثم كانت النهضة التالية داخلية نتيجة لتحسين أبناء البلاد لما نقلوه من علوم غيرهم.
وقد أوفى العرب على الغاية في الشغف بالعلوم والجد في تحصيلها، وأظهر أمراؤهم من التقدير للعلم وأهله والرغبة في خدمته والبذل في سبيله ما لم يظهره ملوك دولة في التاريخ، وكانت رعايتهم للعلماء - بعكس ما كان تقريبهم للشعراء - جليل النفع بعيد الأثر.
وكان للعرب من اللغة العربية الرحبة الجوانب، الطيّعة الأسلوب، الغنية بطرائق الاشتقاق، خير معوان في جِدهم في درس العلوم، وامتلأت جوانب اللغة بضروب الدراسات والثقافات، وكان رقيها العلمي في عهد الدول الإسلامية يفوق كثيراً رقيها الأدبي: فبينما ظل أدباء الجاهلية دائماً أساتذة للمتأخرين يحتذونهم في الأدب، أمعن علماء الإسلام وفلاسفته في مذاهب من التفكير والبحث لم يسمع بها الجاهليون ولا خطرت لهم على بال.
ولم يقصر أدباء العربية عن غيرهم في تلك الحلبة العلمية المحتدمة، ولم يكونوا دون سواهم غفاً بالعلم وطلباً لشوارده، بل كان أكثرهم مثقفين ثقافة علمية وأدبية عالية، وقد تلقوا علومهم على طريقة عهدهم: فمن نشأ في يسار أُحضر له المؤدبون، ومن ترعرع في بيت علم وفضل قام أبوه بتأديبه، ومن قصر به جده عن هذا وذاك بين الأدباء واختلف إلى العلماء حيث كانوا يجلسون للدرس؛ أما المدارس والجامعات فلم تنشأ إلا متأخرة، قبيل بدء عهد الركود الفكري، ولم يكد يتخرج فيها عَلم من أعلام الأدب.
وكان من خصائص الثقافة الإسلامية ترامي أطرافها واختلاف أجناس الخائضين غمارها وشمولها شتى العلوم والمذاهب والعقائد من متفرق الأمم وامتزاج العلم بالأدب والدين بالفلسفة فيها، وقد ظهر أثر كل هذا في المؤلفين وفي مؤلفاتهم: كانوا طموحين في طلبهم العلم يبغون تمثُّل كل ما في عصرهم من مناحي التفكير، وكانوا كذلك طموحين في مؤلفاتهم يحبون أن يودعوها كل فن. ولو أردنا أن نشير إلى الأدباء الذين نالوا حظاً عظيما من الثقافة لأحصينا أكثر أدباء العصر العباسي الزاهي بين القرنين الثاني والخامس الهجري. ويكفي أن نذكر من الشعراء المعري الحكيم المعنى بشؤون الكون والفلك والحياة(169/22)
الاجتماعية، ومن الكتاب الجاحظ العالم الكلف بدراسة الحيوان وتذوق كل قديم وجديد وقريب وبعيد في الحياة والكتب، والذي كان - كما قيل - يستأجر المكاتب ليلاً ليبيت فيها يستوعب محتوياتها.
تماثَلَ الكتاب والشعراء في الأخذ من الثقافة بنصيب، ولكن كان لكتاب على العموم أوفر حظاً من الثقافة عامة ومن العلوم خاصة، واقتصر بعض الشعراء على الدراسة الأدبية، لأن الكتاب كانوا يترشحون للوزارة وكتابة الدواوين والولاية وتأديب أبناء الأمراء، ولا بد لتلك المناصب من دراية واسعة وإلمام شامل، ولأن كثيراً من الشعراء لم يكن للشعر عندهم غاية وراء استدرار الصلات والجوائز، ولم تكن وظيفته عندهم تسجيل الآراء والخوالج النفسية، فلم يكن بهم كبير حاجة إلى دراسة العلوم التي تهذب الفكر، بل كن حسبهم أن يقفوا على مذاهب القول التي سلكها المتقدمون من الشعراء المداحين، والبحتري أبرز أولئك الشعراء الذين عاشوا في صميم عهد الثقافة بنجوة عنها، فقد كان حريصاً على استبقاء السذاجة البدوية، وجاء أكثر ديوانه الضخم مدحاً لمن يرجو عندهم العطاء، وهجواً لمن خيبوا منه ذلك الرجاء.
كان أعلام الأدب الإنجليزي كذلك على جانب عظيم من الثقافة، وقد حصلوا - عدا من قعدت بهم ظروف غير مواتية كشكسبير وجونسون - علومهم في الجامعات التي أخذ نظامها عن العرب وأصبحت مواطن العلم والدرس، ونَبُهَ صيت بعضهم وهم ما يزالون طلاباً بها، وتشترك ثقافتهم مع ثقافة أدباء العربية في الاشتمال على الفلسفة اليونانية؛ ولكن بينما كانت دراسة الأدب العربي القديم تتم الباقي من ثقافة الأديب العربي، كانت دراسة الأدب اليوناني تكمل ذلك الجانب من ثقافة الأديب الإنجليزي. ومن ثم كان معظم الأدباء الإنجليز ملمين باللغتين اليونانية واللاتينية؛ ولمعرفة اللغات أثرها العظيم في تكوين الأديب وتوسيع أغراض القول؛ ويكثر الالماع إلى اليونان والرومان: تاريخهم وأساطيرهم ومشهوري رجالهم في الأدب الإنجليزي، كما تكثر الإشارة إلى الجاهلية والجاهليين في الأدب العربي.
ويتشابه رجال الأدبين في الرحلة عن الوطن في نشدان العلم: فقد كان أدباء العربية يطوفون في البلاد في طلب أئمة العلوم يلزمونهم، وفي طلب نوادر الكتب يستنسخونها،(169/23)
وربما أضافوا إلى ذلك حج البيت الحرام. وكذلك جرت سنة الأدباء والمتعلمين عامة من ذوي اليسار الإنجليز على الارتحال بعد نيل درجاتهم العلمية إلى أوربا وخاصة إلى إيطاليا مبعث النهضة الأوربية، وربما أضافوا إلى ذلك الحج إلى آثار بلاد الإغريق مهد العلوم والآداب والفنون القديمة؛ ولهذه الرحلة عن الوطن - فضلاً عن كسب العلم ومصاحبة العلماء - أعظم الأثر في تكوين نفس الأديب وتوسيع أفق خياله.
وكان لانتشار الثقافة في الأمتين آثاره المتشابهة في الأدبين: فارتقيا خيالاً وأسلوباً وأغراضاً ومعاني، واتسعت جوانبهما، وظهر فيهما التفنن والصنعة المقصودة، وظهرت لغة علمية دقيقة التعبير بجانب لغة أدبية أنيقة التحبير، وظهرت روح النقد وتجلت نزعة الشك من جراء اصطدام العلوم المستحدثة بالعقائد الموروثة، واشتدت المنازعات الأدبية، واحتدمت المشادات بين أنصار القديم وأتباع الجديد، وظهرت آثار المذاهب الفلسفية واصطلاحات النظريات العلمية في رسائل الكتاب وقصائد الشعراء، ونبغ من المثقفين من يجمعون بين صناعتي العلم والأدب.
ولا ريب أن هذا الطور الثالث من أطوار رقي الأدب التي أُشير إليها في صدر هذه الكلمة - طور الحضارة والثقافة - هو أرقى ما يصل إليه الأدب وفيه ينال ما قدر له من أسباب الكمال، وفيه أنتج الأدب العربي خير نتاجه، فالأدب لا يبلغ غايته إلا في حضارة تحيط به، وثقافة تغذيه، وروح نقد تستحثه. وقد دام هذا الطور الأدبي في العربية زهاء ثلاثة قرون حافلة، تخلف لنا منها تراث زاخر يشهد بشغف العرب بالعلم وولوعهم بالأدب، ثم عملت عوامل الفساد السياسية والاجتماعية عملها، فاضطرب المجتمع، وجمدت الأفكار، ودخل الأدب في طور تدهوره الطويل.
فخري أبو السعود(169/24)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
صلة الحديث
أراد متشنيكوف أن يفسر حصانة الإنسان من الأمراض فنسبها إلى كريات دمه البيضاء، وأسمى هذه الكريات بالفاجوسات ومعناها (الملتهمة) لأنها تلتهم المكروب الداخل في الدم فتهضمه وتعدمه. فالحصين من الناس من قويت فاجوساته على المكروب الغازي، والقابل للعدوى منهم هو الذي تضعف فاجوساته من المكروب فتنهزم أمامه. وقاد متشنيكوف الدفاع عن النظرية الفاجوسية في باريس، وقاد الألمان مدفوعين بالعداء السياسي للفرنسيين حركة منظمة ضد هذه النظرية. وعزوا حصانة الناس إلى بعض خصال في مصل دمائهم. وبالغ متشنيكوف في كراهة الألمان فلم يطق أن يسمع من أحد أن لمصل الدم شأناً في حصانه الإنسان أصلا.
الحَصانة واليهودي الأفَّاق
ولم يكن المعمل الذي استقله متشنيكوف في معهد بستور مملا فحسب، فقد كان فيه من الألوان ومقتضيات الفن ما في مَشغَل رسام وكان فيه من أسباب التفريج والتسلي ما في مِهرجان لهوٍ منصوب بقرية، وكان فيه من الحمية والحرارة واللذة القوية ما يجده المشاهد في سِرْك كثير الشِّعاب رحب الجناب، فلا تعجب بعد ذلك إذا علمت أن الشباب من أطباء أوربا قصدوه من كل ركن فيها يطلبون صيادة المكروب عنده؛ أما عقولهم فانطاعت عفوا لهذا الباحث الكبير، وقد كان كذلك منوّماً مغناطيسياً خطيراً، وأم أصابعهم فقد سبقتهم إلى إجراء عشرات الألوف من التجارب التي انطلقت من رأس أستاذهم حثيثة كما تنطلق الصواريخ في الألعاب النارية من أصولها المتفرقعة.
كأني بك تسمعه ينادي: (يا سيد سَلْتيكوف! هذا تلميذ للأستاذ بفيفار الألماني يقول إن مصل الخنزير الغيني يستطيع أن يحيي خنازير أخرى غينية من الموت بكوليرا الخنازير. فهل لك أن تتفضل بإجراء تجربة تمتحن بها هذه الدعوى؟) فلا يكاد يتلقى هذا العابد لسيّده(169/25)
مشيئة متشنيكوف حتى يهرع إلى تحقيقها، وهو يعلم حق العلم أي تحقيق يُراد - تحقيق أن هذا الأستاذ الألماني إنما ادعى باطلاً وقال خَرَفا. وكانت تعرض لمتشنيكوف مئات من تجارب دقيقة لا تصبر عليها أصابعه الملولة فيدفع بها إلى بلاجو فستشنسكي أو إلى هوجنشمت أو إلى فجنر أو إلى غرجيفسكي أو إلى سفتشنكو الذي نسيه الناس الآن، أو إذا كان هؤلاء مشغولين إذن فإلى زوجته أُلجا فقد كان يغريها بترك ما هي فيه من رسم الزيت أو تشكيل الصلصال لتقوم ببعض هذه التجارب؛ وكانت جديرة بحل أعقد العُقد. ففي هذا المعمل كان مائة قلب ولكنها دقت معا؛ وكان به مائة رأس ولكن بها فكرة واحدة ولها غاية واحدة: أن تكتب أنشودة شعرية حماسية كبرى عن تلك لكرات الصغيرة المكوّرة الشفّافة الأفاقة التي تدور في دمائنا تتشمم عن مكروبة عادية قاتلة، فإذا وجدتها سبحت نحوها واخترقت جدران الأوعية الدموية إليها حيثما كانت؛ فإذا لقيتها فالحرب العوان بينهما حتى يذهب السوء المنذر عن الجسم أو هي تموت دونه.
وكانت المؤتمرات الطبية الكبرى في تلك الأيام مؤتمرات صاخبة ثائرة ملؤها الحجاج في أمر المكروب وأمر الحصانة؛ وكان متشنيكوف يحضرها دائماً؛ فقُبيل اجتماع أحدها بأسابيع كنت ترى معمله لا يهدأ أبداً من كثرة ما تروح الأقدام وتجيء فيه؛ وكنت تسمع متشنيكوف يصيح برجاله: (هيّا، هيّا، فلا مندوحة عن الإسراع حتى تتم كل التجارب التي نريدها لإثبات حجتي). فيقوم الأعوان المخلصون العابدون باقتصاد ساعتين فساعتين من نومهم كل ليلة في سبيل العمل؛ ويشمّر متشنيكوف نفسه عن ساعديه، ويرفع محقنة بيمينه ويضربه في شتيت الحيوانات وعديدها، يحْضرها له مساعدوه حتى يتصبب العرق من جباههم. فمن صغار أنواع كبيرة من الخنافس إلى الضفادع الخضراء إلى التماسيح، إلى سميدرات مكسيكية عجيبة حتى لجرُّوا الشباك في قيعان البرك يطلبون سمك الفرخ والجدجون نعم يقوم بحّاثنا الفيلسوف المجنون على كل هذه الخلائق الهادئة المتطامنة التي لا تشكو ولا تتضرر فيطلق فيها المكروب من محاقنه وقد لمعت عيناه واحمر وجهه العريض فبات كاللهب المتأجج من خلف لحيته، وقد تلوث شاربه بما تناثر عليه من المكروبات بسبب انفعالاته النفسية وتلويحاته الشعرية. وكان يقول: (أنا إنما أكثر تجاربي هذا التكثير لأزيد نظريتي إثباتاً).(169/26)
كان عقل متشنيكوف لا يفتأ يتخيل الخيالات عن الطبيعة، ويبتدع القصص عن الكون، ولكن من العجيب المدهش أن هذه الخيالات كثيراً ما تحققت عند التجربة، وهذه القصص كثيراً ما ثبتت عند البحث والاستقصاء. صاح ألماني يقول: (ليس في نظرية الفاجوسات التي خلقها متشنيكوف شيء ذو بال أو خطرٌ كبير، فكل الناس يعلم أن المكروبات قد تُرى داخل الفاجوسات، ولكن هذه الفاجوسات الأفّاقة لا تَخْفُر لجسم ولا تدفع عنه سوءا، وإنما هي قَشّاشة تأكل من الفضلات ما تلقَى، فهي إذا أكلت المكروبات فلا تأكل لا الميّت منها). وكان المؤتمر اللندني لعام 1891 يزداد موعده اقتراباً، فصاح متشنيكوف يطلب خنازير غينية، فلما جاءته حقنها فحصّنها ببشلات تشبه بشلات الكوليرا كان اكتشفها صديقه القديم المنكود الدكتور (جماليّه)؛ وبعد أسبوع أو نحو أسبوع قام هذا الفيلسوف اللحيانيّ فحقن زريعة حية شريرة مُخطِرة من هذه البشلات في بطون الحيوانات الحصينة، وأخذ في الساعات التي تلت يمتص من هذه البطون في فترات قصيرة قطرات من سائلها بواسطة أنبوبة دقيقة من الزجاج، ثم يضع هذه القطرات تحت عدسة مجهره القذرة، قَذَرَ قلةٍ أو قذر كثرة، ليرى ما تصنع فاجوسات الحيوانات الحصينة ببشلات الدكتور جماليّه. حدّق في المجهر ليرى، فرأى غاية مُناه! رأى هذه الفاجوسات المكوّرة الزاحفة المتثاقلة قد أكلت من هذه البشلات حتى امتلأت!
قال متشنيكوف: (والآن علي أن أثبت أن هذه المكروبات التي بداخل هذه الفاجوسات مكروبات لا تزال حيّة تُرزق). وقتل الخنزير الغيني وشق بطنه فانفتح، فمصّ منه شيئاً من هلامه الرمادي؛ وما كان هذا الهلام إلا خلاياه الأفاقة اجتمعت في البطن لحرب المكروب الداخل والتهامه. وبعد زمن قليل ماتت تلك الخلايا الأفاقة، تلك الفاجوسات التي لا تحتمل الحياة خارج الجسم طويلاً؛ ماتت فانشقَّت فخرجت منها تلك البشلات الحية التي كانت ابتلعتها وهي في بطن الخنزير. فلم يُلبّث متشنيكوف طويلاً حتى حقن هذه البشلات في خنازير غير حصينة فما أسرع ما قتلتها.
وبهذه التجربة، وبعشرات من تجارب بارعة من أمثالها، أرغم متشنيكوف خصومه فاعترفوا له بأن الفاجوسات تلتقم المكروبات الخبيثة أحياناً. ولكن الذي يؤسف له أن متشنيكوف أضاع حياته وأنفق طاقة عقله الجبار في عمل تجارب قصد بها الدفاع عن فكرة(169/27)
حِواريّةٍ لا كشف أسرار الطبيعة. نعم لقد كنت تجاربه بديعة مألوفة، وكثيراً ما كانت تلذّ الفكر وتُمتع الخيال، ولكنها كانت مصطنعة اصطناعا، وكانت ترمى بعيداً عن الغرض الأهم الأخطر وهو كشف السر في أننا حصينون. كان له رأس يقدر على احتواء الكثير الشتيت من المعارف، فما كان أجدرها أن تتجه بكل حولها وذخيرتها إلى حل عقدة الحصانة، فتفسر لنا كيف أن الطفل قد ينشأ في مباءة من السل ثم هو لا يجيئه، بينما طفلة أخرى تُنَشَّأُ على قواعد الصحة في عناية وحذر فلا تبلغ سن العشرين حتى تموت من السل. هذه هي أُحْجية الحصانة المستغلة، وهي إلى اليوم أحجية مستغلة. فانظر ما كان يصنع تجاهها متشنيكوف؟ كان يقول: لا شك أن الفاجوسات في هذه الحالة لا تعمل عملها، فهي لا شك لأمرٍ ما تعطلت)، ثم هو يهرع إلى المعمل ليُدهش خصيمه بإثبات أن فاجوسات التماسيح تأكل بشلات حمى التيفود. وما للتماسيح وللتيفود وهو لا يصيبها أبداً!
وأخلص له مساعدوه في المعمل إخلاصاً نادراً عجيباً، فأذنوا له فأطعمهم بشلاّت حيّة خبيئة من بشلات الكوليرا ليثبت أن الدم لا دخل له في حصانتنا منها. وبلعَ البشلاتِ فيمن بلع شابةٌ من تلك الأوانس الجميلات اللاتي يسترشد بوجوههن ويستوحى من فتنتهن، ومضت سنوات أُغرم فيها باللعب بأرواح أعوانه البُحّاث وهم عبّاده الطائعون، وأقرّ بأنه إنما كان جنوناً ذلك الاغرام. وليس شيءٌ يعذره من هذا الاغرام ويصفح عنه هذا الإجرام إلا أنه هو نفسه لم يتأخر خطوة عن مسايرتهم بالمخاطرة بحياته، بل لقد بلع هو نفسه من أنابيب البشلات أكثر مما بلعه أيهم منها؛ وفي أثناء هذا التلاعب بالنار مرض أحد أعوانه مرضاً شديداً وظهرت عليه أعراض الكوليرا الأسيوية الصميمة، فندم متشنيكوف ندامة كبرى، وكان يقول في وجيعته وأساه: (أي جوبي! ليس لي بعد موتك حياة)، فلما سمعت أُلجا ذلك منه اتخذت حيطتها فلزمت زوجها الشهير ليل نهار خشية أن يعاوده خاطر انتحاره القديم؛ وكثيراً ما كان جاءه ولكنه لم يثمر ثماره أبداً. وفي ختام هذه التجارب الغريبة، أخذ من دم الناجين من أعوانه فحقنه في دم خنازير غينية، ثم حقن هذه الخنازير بزريعات من بشلات كوليرا حادة، فماتت هذه الخنازير ولم تنفعها دماء هؤلاء الرجال شيئاً. فاغتبط بهذا الفلاح، وكان يكره أشد الكره أن يكون للدم خطر في هذا أبداً، وكتب: (إن كوليرا الإنسان مَثَل آخر من أمثلة الأمراض التي لا يمكن أن يُعزى سبب لشفاء منها لمناعة الدم أصلاً).(169/28)
وقد يكون من تلاميذه تلميذ وهبه الله مقداراً غير عادي من استقلال الرأي وحرية الفكر، فيقع في أبحاثه على خاصة عجيبة من خواص الدم، فيأتي إلى أستاذه يهمس في أذنه بالذي اكتشف، فإذا بالأستاذ تطول قامته، وترتفع هامته، وينتفخ صدره زهواً وكبراً كأنه موسى الكليم يهبط جبل الطور إلى الوادي؛ وإذا به يأمر بهذا الخارج الثائر الزنديق الذي لا يؤمن بنظريته أن تُحرق جثته، ثم هو يقوم على الجثة يفرغ ماء عينيه بكاء وقد عزّه العزاء وافتقد فيه الصبر والسلوان. لم يكن معمله بالمكان الهانئ الوادع السعيد للبحّاث الذين يطلبون الحقيقة الصرف. ومع هذا فإلى متشنيكوف يعزى بعض الفضل في اكتشاف طائفة من أعجب خواص الدم، ذلك لكثرة التجارب التي أجريت في معمله ولاختلاف عدد كبير من بحّاث متحمسين عليه فيه. مثال ذلك الباحث الشهير برديه جاء يعمل مع الأستاذ، والأستاذ في أكبر مجده وأذيع صيته. وكان برديه ابن معلم قرية صوني ببلجيكا؛ وكان حيياً لا يُؤبه لمظهره؛ وكانت به عادات من إهمال وقلة مبالاة؛ وكانت له عينان زرقاوان كالماء ذاهلتان لا تبصران شيئاً مما تقعان عليه، ولكنهما أبصرتا ما لم يبصره غيره من البحاث. بدأ عمله في معمل متشنيكوف، وأخذ يبحث في الدم يستجلي خفاياه، فاستجلى أموراً جليلة منه، وذلك في ظل لحية متشنيكوف وعلى صدى صيحته الصارخة بالفاجوسات وللفاجوسات. ووضع هذا البلجيكي أسس تلك الاختبارات العجيبة الدقيقة التي يختبر بها الدم اليوم في جنايات القتل ليُعرَف أهو من إنسان أو حيوان. وفي هذا المعمل قام بأبحاث أدّت بعد سنوات إلى اختبار الدم الشهير الذي به يُكشَف عن وجود الزُّهري في دم الإنسان، ذلك الاختبار المعروف اليوم باختبار فَسَرْمَنْ
على أن برْديه لم يَسلم من غضبات متشنيكوف أحياناً كثيرة، ولكن الأستاذ كان كثير العُجْب بتلميذه، وكان كلما وجد برديه في الدم شيئاً يضر بسمعة المكروبات - ومع هذا قد ينفع في تحصين الناس منها - أغمض متشنيكوف عينه على القذى كارهاً وقام يغري نفسه بإجراء تجارب لا بأس بها تثبت أن هذا الشيء الذي وجده برديه في الدم إنما جاء أصلاً من الفاجوسات. ولم يُقم برديه في معمل منتشنيكوف طويلاً. . . .
واقترب ختام القرن التاسع عشر، وتحوّل بحث المكروبات، فبعد أن كان يَنْفُر إليه كل مخاطر مغامر، أخذت تعالجه طائفة من شباب الأطباء انصرفوا إليه في هدوء وسلام وتؤدة(169/29)
وتبصر واحترفوه احترافاً، فلم يجمحوا فيه بالخيال، ولم يتنبئوا فيه بالغيب. عندئذ تحوّل متشنيكوف كذلك بعض التحوّل عن غضباته المرة وإساءاته المنكرة إلى كل من لم يكن يرى الأمور بعينه. ونال الشارات وحظِيَ بالمكافآت المالية. ودخل يوماً مؤتمراً دخول الملك المستعظم فحظي فيه حتى بتصفيق الألمان واحترامهم. وكان عندئذ آلاف من البحّاث قد لمحوا آلافاً من الفاجوسات تبتلع آلافاً من المكروبات. ولو أن هذه لم تفسر لنا سبب الحصانة - لم تفسر لنا كيف أن رجلاً تصيب صدره النيومونيا فتقتله، بينما رجل آخر تصيبه فتعتريه نوبة من عرق صبيب يشفى عقبها - إلا أنه مع ذلك ثبت يقيناً أن الفاجوسات تأكل مكروب النيومنيا أحياناً وتذهب به وبشره. وهذا الثبوت لا شك يرجع فضله إلى متشنيكوف بصرف النظر عن فساد حججه وضيق صدره وقلة تسامحه وعناده. ولا شك كذلك في أن هذا ثبوت لحقيقة علمية كبرى ليس بمستغربٍ أن تؤدي إلى تخفيف آلام البشرية لو أن القدر ساق إلى هذا العالم البائس عبقرياً حلاّما حذّاقاً للتجربة يفضح لنا السر في أن الفاجوسات تأكل المكروبات أحياناً ثم هي تَعَفّ عنها أحياناً، أو لعله فوق ذلك يغريها بأكلها دائماً أبداً.
(يتبع)
أحمد زكي(169/30)
ميلاد. . .!
للأديب محمد طه الحاجري
لم يكد الفجر يستفيض من وراء الأفق، كما يستفيض الأمل الباسم من وراء الضلوع، حتى استيقظ أهل ذلك البيت الصغير من إغفاءتهم، ونفضوا عنهم بقايا أحلامهم، واستقبلوا نور الفجر الساحر فأشرقت به قلوبهم، وانبسطت له وجوههم، ثم لم يلبثوا حتى كانوا يحفون بفتاة لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، تئن أنيناً خافتاً لا يكاد يتجاوز نطاق صدرها، وقد نطقت حركاتها وأسارير وجهها بما يعتلج في أحشائها من ألم، وما تبذله لقاءه من جهد؛ فكانت تنحني إلى أمامها - من ذلك الألم الممض - فتعتمد على يديها، ثم ترفع كفها لتخفي دموعاً تترقرق في عينيها، والسيدتان الجالستان إلى سريرها تحاولان التسرية عنها، وتخفيفَ همّها، وطردَ الأشباح المفزعة التي كانت تساور خيالها، وتضاعف من آلامها؛ ولم يمنعهما وقار السنّ من أن يصطنعا في الحديث شيئاً من الفكاهة والمرح، يبدد وجوم الموقف. . . ويبعد شياطين الوساوس.
أما ذلك الرجل الفاضل الذي كان ينظر إليها، وإن وجهه ليعبر عن شتى العواطف من الألم والعطف والإشفاق والرجاء، فإنه لم يلبث أن غلبته عواطفه، فقام من مكانه، وذهب إلى غرفة أخرى، وأخذ يدعو الله ويضرع إليه أن يكون في عون هذه المسكينة التي تعاني - للمرة الأولى في حياتها - ما تعانيه كل امرأة مثلها خلقت لتكون وسيلة امتداد النوع الإنساني.
ترى ماذا كان يجول في خاطر ذلك الرجل الذي لبث زماناً لا يحس بعاطفة الأبوة إلاّ حنيناً إليها، ورغبة قوية حافزة في الاشتمال عليها، وهاهو ذا الآن يوشك أن يكون أباً كما صار أنداده من قبل، وهاهي ذي رجولته توشك أن تستوي وتأخذ كمالها بهذا القادم المنتظر؟؟
سبحانك اللهم! جعلت في الإيثار كمال الرجولة، فاتسمت الأثرة بالطفولة، ثم جعلت الرجولة درجات بعضها فوق بعض: هذا زوج يكد لنفسه ولغيره، وهذا أب يرى خير بنيه فوق خيره، وهذا عميد أسرة يتولى أمرها ويكدح لمجدها وينافح من دونها، وهذا زعيم أمة قد اضطلع بشؤونها، وسهر على شجونها، وباع ماله ونفسه في سبيلها، فبل الذروة في الرجولة، وأشرف على أقصى غايات الكمال الإنساني.(169/31)
أيقولون إن الإنسان أنانيّ بطبعه؟ فما الذي يدفع بالرجل الكامل لأن يكون زوجاً يشرك امرأته في أسباب حياته، وأبا يخلط بين غيره وذاته، وقائداً يضحي بنفسه في سبيل أمته، ومصلحاً ينير لغيره فيطفئ من ذبالته؟ إنما هي غريزة التكمل، فإذا ضعفت تلك الغريزة، فرغب الشبان عن الزيجة، وانصرفوا عن بناء الجماعة، واحتفلوا بخيرهم الذاتي وحده، فقد رجعوا على أعقابهم، ونكسوا على رؤوسهم، وانعكست سنة الخليقة فيهم، فعادوا أطفالاً، وكان من الطبيعي أن يكونوا رجالاً.
تُرى ماذا كان يجول في نفس ذلك الشاب الذي نيّف على الثلاثين، وقد جلس يتمتم بالدعاء، ويرفع يديه إلى السماء، في زي شرقي أنيق، ومحيا مشرق وضئ، لولا ما يرتسم عليه من خطوط فيها من معنى الألم قسط موفور؟
إنما هي مشاعر مبهمة لا تكاد تبين أو تتعين، مترادفة ينسخ لاحقها سابقها، مختلطة بين الماضي والحاضر والمستقبل، لا تكاد تستقر على عهد من العهود الماضية، حتى تحط على آخر في حدود الغيب المحجوب؛ ولا يكاد يألم لما تعانيه زوجه من ألم المخاض، حتى تنسخ هذه الغاشية موجة من النور البهي الساطع المنتشر من عالم الغيب على نفسه الحائرة بين عالم الغيب وعالم الشهود.
أما تلك المرأة الصغيرة فلعل خواطرها كانت حزينة مبتئسة، أكثر منها فرحة مستبشرة، ملتفتة إلى الوراء أكثر من اتجاهها إلى الأمام؛ تنظر إلى الماضي الماثل أمام قلبها، فتغرورق عيناها بالدموع، فتحاول إخفاءها عمن جلس حولها؛ ثم يعروها الألم فتئن وتتوجع وتنحني انحناءة تستل كل ما في النفس من معاني الإشفاق والعطف والرحمة، وتبعث في القلب كل مشاعر الأسى والوجيعة؛ ثم تنظر حولها فتعود بها الذاكرة إلى الفقيدة العزيزة التي فقدتها منذ بضعة من الشهور قليلة، فلا تزال صورتها تلقاءها، متألقة بنور الحب، محفوفة بمعاني الدموع. . . أمها التي لم تكن تشعر بعطف غير عطفها، ولم يكن لها من القلوب غير قلبها، ولم تكن تدري من صور الحب غير صورة حبها. كانت تلك الفتاة وحيدتها، فكانت تستأثر بعطفها وحنانها. ثم ضرب القدر ضربته الصارمة القاضية، وانتزعها انتزاعة عنيفة قاسية، حين كانت ترجو وترقب أن تستمع بحفيدها وامتداد وجودها.(169/32)
إيه يا روح الأم المرفرفة على سرير فتاتها! امسحي على قلب هذه المسكينة بيدك الروحية الطاهرة، وانشري عليها من ذلك الضوء الذي يغمر ذاتك المجردة، وابعثي في قلبها الطمأنينة التي تسود عالم الروح الأسمى، وانقليه في شفقة الأم الرحيمة، ورقة الروح الكريمة، من الماضي القريب الزاخر بمعاني الأحزان والآلام، إلى المستقبل الزاهر بورود الآمال والأحلام. .!
مضى الزوج إلى مصلاه، يلتمس الروح والطمأنينة في جوار ربه، ويعوذ به من القلق الذي جعل يعبث بقلبه، ويستروح نفحات الملأ الأعلى التي تتأرج فيه. ثم عاد إلى بيته فإذا هو يتلألأ بمعاني الفرح الطروب، كأن الحياة قد أفرغت في هذه البقعة الصغيرة كل ما تدخره من السرور والبهجة. لشتان ما بين هذه الساعة والتي قبلها في رأي قلبه! فقد امتلأ الفراغ الذي كان يشعر به بين جنبيه، والذي كان يشعره أن حياته فارغة لا قيمة لها، والذي كان لا يملؤه إلا الهم والابتئاس حين يرى رجلاً يداعب طفله ويدلله، فتثور غريزته المحرومة، وتضطرب في صدره أيما اضطراب. . . لقد ابتدأ منذ اليوم حياة الأبوة المجيدة والرجولة الصحيحة، وأصبح يشعر لوجوده بكيانين: أما أحدهما فقد بلغ الذروة، وأما الثاني فلا يزال في سفح الحياة يحبو ويتشبث. . . فأي سعادة تغمر قلبه! وأي صورة من الفرح والغبطة ترتسم على وجهه! لقد ظفر اليوم لنفسه بالحياة في أنضر صورها، فما كهذا اليوم في حياته كلها.
وأما الأم فقد تنزلت عليها رحمة ربها، فنسخت تلك المعاني الحزينة من قلبها، وأقبلت عليها الحياة الجديدة المنبعثة من وليدها، فمسحت كل ما أبقى الموت من أثر في نفسها، وقد استغرقت كل عواطفها في تلك الفلذة المشتقة منها.
إيه أيها الوليد الملقى في مهده في جو من الغموض والإبهام وفي هالة من الحب والرعاية والإعظام! ما هو ذلك الشأن الذي جعلك مناط الأمل ومعقد الرجاء، وقد تكون سبب الشقوة ومستقر العناء؟ وما هي تلك الخطورة التي جعلت مقدمك بين التهليل والتكبير، وجعلت استهلالك مقروناً بهتاف الفرح وصوت البشير؟ وما أنت في ذلك الوجود الزاخر إلا ذرة أو أقل من ذرة في عباب المحيط الواسع! ألأنك تمثل الحياة في شتى أشكالها؟ ألأنك تحمل بين جنبيك ميراث الإنسانية جميعها؟ ألأنك الوحدة التي يقوم عليها بناء الكون بما يضم من(169/33)
أشتات ويجمع من مفارقات؟ قد يكون كل ذلك صحيحاً لا ريب فيه. ولكن سنن الوجود ونواميس الخليقة قد طبعت على التحتيم الذي لا مفر منه، والجبر الذي لا اختيار فيه، حتى ليعد من العبث الذي يهيم به العقل أحيناً أن يحول تعليلها، أو يجتهد في تأويلها. فأنت أنت كما أراد الله أن تكون؛ وهذا الاحتفال الذي يحف موكبك العظيم هو جزء من النواميس التي قدرها الله لنظام الوجود، ولا مبدل لكلمات الله.
محمد طه الحاجري(169/34)
الفخر في شعر أبي الطيب
للأستاذ طه الراوي
عضو المجمع العلمي العربي
نريد أن نتحدث عن أبي الطيب، ولكن هل غادر المتحدثون عنه من متردم؟ ماذا نقول في شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس من متقدمين ومتأخرين، بله المعاصرين، من بين مادح وقادح، ونقد وشارح، حتى كان من ازدحام أولئك الأعلام حول هذا المنهل أن ازدهرت خزانة الأدب بعشرات الأسفار، فهل من جديد نقوله؟ هذا ما جال في خاطري عندما تلقيت دعوة لجنة المهرجان المحترمة.
على أنه لابد من القول، فلابد من اختيار ناحية من نواحي شاعرنا والتحدث عنها، فإن وفقت إلى جديد فهو الهدف، وإلا فقد أبلغت عذراً. لا خلاف في أن أبرز نواحي أبي الطيب وأبرعها جمالاً وأروعها جلالاً هي العظمة؛ وقد صورها لنا بشعره أبرع تصوير وأروعه، وقد فخر في ذلك ما شاء وشاءت عبقريته، فليكن موضوعنا إذن: (الفخر في شعر أبي الطيب).
والفخر في شعر هذا الناقم الثائر جذوة من نفه ونفحة من روحه، بل هو ترجمان طموحه، أو قل هو ذوب نفسه الكبيرة، تارة يتألف قولاً وطوراً يتمثل فعلاً.
ومن ثم جاء هذا الضرب من شعر شاعرنا مطبوعاً بطابعه الخاص، بعيداً من التكلف والتعسف، بريئاً من كثير من العاهات التي علقت بغيره من شعر أبي الطيب، ولا يدانيه في ذلك إلا الوصف، ووصف المعارك خاصة، وكل ما يتصل بالرجولة والبطولة.
ويرى المخلفون الرعاديد أن الفخر ضرب من ضروب العجرفة الفارغة والجبروت الكاذب، وتلك خديعة طباعهم الخاملة، وسجية نفوسهم الخانعة المستخذية التي تستمرئ الهون، وتقنع بالدون. أما النفوس المجبولة من طينة الشرف فتأبى إلا مساماة النجوم ومغالبة الخصوم، ذلك لأن الله برأها حرة فلا تلين للذلة، ولا تدين بالقلة، والعربي مجبول على الأباء والأنفة، مفطور على العزة وسمو الهمة والطموح إلى معالي الأمور.
وبهذه السجايا أحرز ما أحرز في ماضي الزمان من عظمة الشأن وبسطة السلطان.
وقد افتخر سيد ولد آدم عليه السلام في غير ما موقف، وهو القائل في بعض مواقفه(169/35)
الحربية:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وهذا داهية بني حرب يقول: وضعت رجلي في الركاب يوم صفين للهرب، فتذكرت قول ابن الاطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
فانثنيت عما أنا في سبيله.
ولعمري ما أُخذنا في عصورنا المتأخرة إلا من ناحية تلك الفلسفة السقيمة العقيمة، فلسفة الاستكانة والتماوت التي تسربت إلينا من بثوق المغلوبين على أمرهم، المفجوعين بحريتهم، المصابين بعزتهم وأنفتهم؛ ثم جاء الطامعون بنا فنفخوا في نارها، وضاعفوا من أضرارها، إلى أن أصبحنا نخاف من كل شيء حتى من أنفسنا، ونرى يومنا أسوأ من أمسنا.
فإذا أردنا أن نعيد سيرة أولينا جذعة، فعلينا أن نغذي نفوس ناشئتنا بكل ما من شأنه أن يغرس فيها الشمم والطموح إلى معالي الأمور والترفع عن دناياها، وإرخاص الحياة في سبيل العز، والاعتقاد بأن الحياة بغير الحرية ضري من ضروب الموت الخفي؛ والشعر الفاخر أو الفخر الشاعر من أجدى الأغذية النفسية وأنجع الأدوية الروحية.
ودوحة الفخر في شعر أبي الطيب كثيرة الأفنان، باسقة الأغصان؛ وموقفنا هذا المحدود بالدقائق أضيق من أن يتسع للإحاطة بجميع أطراف هذا الموضوع فلا بد من الاقتصار والاختصار. وليكن اقتصارنا على غصنين هما أكثر تلك الأغصان أزهاراً وأينعها ثماراً، وهما إمامته الأدبية، وأمنيته السياسية.
نشأ أبو الطيب صباً بالمعالي متيماً بها، لا يفارقه طيفها سُرىً أمامه وتأويباً على أثره. وتمثلت له أمنيته بالسيادة والملك فكان يبغي أن يقهر العتاة من جبابرة عصره، ويديل للعرب من أولئك الموالي الذين تسنموا العروش من طريق الختل والغدر.
وإنما الناس بالملوك ولا ... تُفلح عرب ملوكها عجم
بكل منصلت ما زال منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم(169/36)
أيملك الملك والأسياف ظامئة ... والطير جائعة لحم على وضم
نبتت هذه الأمنية في رأس أبي الطيب من يوم عرف نفسه، وملكت عليه مشاعره واستبدت براحته، ولم تزل تطوح به من بلد إلى بلد حتى لفظ نفسه وسكن رمسه.
وكان لها فاتحة شعره وخاتمته. قيل له وهو في المكتب ما أحسن هذه الوفرة! فقال:
لا تحسن الوفرة حتى ترى ... منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة ... يَعُلها من كل وافي السبال
وقال من قصيدة هي آخر ما نظم، وقد وجدت في رحله بعد قتله:
سدِكت بصرف الدهر طفلاً ويافعاً ... فأفنيته عزماً ولم يُفني صبراً
أريد من الأيام ما لا يريده ... سواي ولا يجري بخاطره فكرا
وأسألها ما استحق قضاءه ... وما أنا ممن رام حاجته قسرا
انظر كيف تبادرت هذه الأمنية في نفسه حتى أصبح يراها من حقه الذي لا ينبغي أن يغالب عليه.
ولي همة من رأى همتها النوى ... فتركبني في عزمها المركب الوعرا
تروق بنى الدنيا عجائبها ولي ... فؤاد ببيض الهند لا بيضها مغرى
ومن كان عزمي بين جنبيه حثه ... وخيّلَ طول الأرض في عينه شبرا
صبحت ملوك الأرض مغتبطا بهم ... وفارقتهم ملآن من حنق صدرا
ولما رأيت العبد للحر مالكا ... أبيت إباء الحر مسترزقاً حرا
إلى أن قال:
فإن بلغت نفسي المنى فبعزمها ... وإلا فقد أُبلغت في حرصها عذرا
الملك هدف أبي الطيب، ولكن المسالك اشتبهت عليه؛ فتارة يسلك طريق البراعة في اليراعة، وطوراً يرى طريق السيف أهدى وأجدى، وحيناً يرى أن المال هو الذي يجمع عليه الرجال، وآناً يرى السبيل أن يتولى عملاً لبعض الملوك، ثم يجعله مركزاً لحركته ونواة لمملكته.
فهو في هذه السبل إلى أن لقي مصرعه.
وقد جرب الثورة الحمراء في مقتبل عمره فأخفق، وعاد ممتطياً صهوة البيان، يغالب(169/37)
الأقران ويصارع أحداث الزمان، وتغزوه الرزايا من كل مكان، وهو معتصم بالصبر ثابت العزم.
كان شاعرنا قوي الثقة بمكانته البيانية منذ حداثته، يقول في صباه:
إن أكن مُعْجباً فعُجْب عجيب ... لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسِمام العدا وغيظ الحسود
وقال:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقت فأنني الجوزاء
وإذا خفيت علي الغبى فعاذر ... ألاّ تراني مقلة عمياء
ولما تكاثر حساده واحتشدوا له وأسمعوه مر الهجاء قال:
أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمل الداء العضالا
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا
وقل لعلي بن أحمد الأنطاكي:
دعاني إليك العلم والحلم والحجا ... وهذا الكلام النظم والنائل النثر
وما قلت من شعر تكاد بيوته ... إذا كتبت يبيض من نورها الحبر
كأن المعاني في فصاحة لفظها ... نجوم الثريا أو خلائقك الغر
ويقول للقاضي أبي الفضل الأنطاكي:
لا تجسر الفصحاء تنشد ههنا ... بيتاً ولكني الهزبر الباسل
ما نال أهل الجاهلية كلهم ... شعري ولا سمعت بسحري بابل
ويقول لأبي العشائر:
شاعر المجد خدنه شاعر اللف ... ظ كلانا رب المعاني الدقاق
ونظر إلى من حوله من شعراء سيف الدولة وفيهم الصفوة من سحرة ذلك العصر فلم يعتبرهم شيئاً مذكوراً:
خليلي إني لا أرى غير شاعر ... فَلِمْ منهم الدعوى ومني القصائد
ويقول عن سيف الدولة:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غبارى ثم قال له الحقِِ(169/38)
وقد لحظ في شعره عناصر الخلود فقال:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
على أن اعتداد شاعرنا بإمامته في البيان لم يشغل باله كثيراً، إذ كان يقينه بهذه الإمامة أقوى من أن يحتاج إلى الجدال والنضال إلا حين يبخسه حقه بعض الشعراء، أو يغفل عنه بعض الأمراء، فينبه هذا ويجيب ذاك؛ وإنما الشغل الشاغل لذهنه تلك الأمنية التي عقد بها فكره وحبس عليها جهده، ومارس منها معشوقة خلابة جذابة، ولكنها لا تلين بحال، ولا تدين بوصال؛ فأكثر من التغني بها وهي لاهية عنه بالسود التنابيل:
سيصحب النصل مني مثل مضربه ... وينجلي خبري عن صِمَّة الصِّم
لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
إلى أي حين أنت في زي محرم ... وحتى متى في شقوة والي كم
وإلا تمت تحت السيوف مكرماً ... تمت وتلاق الذل غير مكرم
فثب واثقاً بالله وثبة ماجد ... يرى القتل في الهيجا جني النحل في الفم
أعجب الأدباء بامرئ القيس حيث يقرن في شعره بين معاطاة الكؤوس ومشهد الحرب الضروس؛ قالوا: وهذا غاية في الشجاعة. أما شاعرنا فقد خلف امرأ القيس وراءه، وقصر كل لذته على اصطدام الصفوف بالصفوف ومقارعة الحتوف بالحتوف. طلب إليه بعض أصحابه أن يشرب معه فقال:
ألذ من المدام الخندريس ... وأحلى من معاطاة الكؤوس
معاطاة الصفائح والعوالي ... وإقحامي خميساً في خميس
فموتي في الوغى عيشي لأني ... رأيت العيش في أرب النفوس
وقال في مثلها:
لأحبتي أن يملأوا ... بالصافيات الأكْوُبا
وعليهم أن يبذلوا ... وعلي ألا أشربا
حتى تكون الباترا ... ت المسمعاتِ فأشربا
وقال:
ألا حبذا قوم نداماهم القنا ... يُسَقونها رياً وساقيهم العزم(169/39)
وكثيراً ما كان يفسح لهذا المطمح مجالاً في صدور قصائده التي يمدح به أمراء زمانه، وبذلك يتنكب نهج لشعراء في تصدير قصائدهم بالغزل ويتغزل هو بقدود الرماح وبيض الصفاح، ويتغنى بالجلاد والكفاح، فكأنه يقول لهم: لكم ليلاكم ولي ليلاي ولكل أن يتغزل بحبيبته. قال في صدر قصيدة يمدح بها علي بن أحمد الأنطاكي:
أطاعن خيلا من فوارسها الدهر ... وحيداً وما قولي كذا ومعي لصبر
وأشجع مني كل يوم سلامتي ... وما ثبتتْ إلا وفي نفسها أمر
تمرست بالآفات حتى تركتها ... تقول أمات الموت أم ذعر الذعر
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة ... فما المجد لا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وفي صدر أخرى يمدح بها علي بن أحمد المري:
ل افتخار إلا لمن لا يضام ... مدرك أو محارب لا ينام
أقراراً ألذ فوق شرار ... ومراماً أبغي وظلمي يرام
دون أن يشرق الحجاز ونجد ... والعراقان بالقنا والشام
ولم يفارقه هواه في ليلاه بعد أن حل بكنف سيف الدولة ووجد فيه ذلك الملك الهمام، ملء العين والسمع والفؤاد، فهو ذا يقول:
ولقد ذخرت لكل أرض ساعة ... تستجفل الضرغام عن أشباله
تلقى الوجوه بها الوجوه وبينها ... ضرب يجول الموت في أجواله
أما في مصر فقد صانع الأسود أولاً ثم لما أعياه أمره نفث من سمه ما شاء، وفارقه على تلك الحال المعلومة، حتى ضمته الكوفة إلى صدرها، وهناك أملى قصيدته المشهورتين المقصورة والميمية، وأودعهما ذلك اللهيب المتأجج، فمن قوله في الثانية:
ما زلت أضحك إبلى كلما نظرت ... إلى من اختضبت أخفافها بدم
أُسيرها بين أصنام أشاهدها ... ولا أشاهد فيها عفة الصنم
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
أكتب بنا أبداً بعد الكتاب به ... فإنما نحن للأسياف كالخدم
وهنا كرر إيمانه بهذه الحقيقة:(169/40)
أسمعتني ودوائي ما أمرت به ... فإن غفلت فدائي قلة الفهم
وهذا الإيمان لم يمنع شاعرنا من ارتياد عضد الدولة وامتداحه؛ فهل نتهمه بقلة الفهم على حد تعبيره هو؟ لا. والذي يلوح لنا من منطق الحوادث أن شاعرنا رأى يده فارغة وأن الإقدام على الثورة يتطلب رجالاً، ولا رجال في مثل ظروف شاعرنا إلا بالمال، فانطلق يلتمسه في مواطنه؛ ويظهر أنه جاء بما فيه البلغة، ولكن المنية حالت دون الأمنية، ولنا على هذا كلام يضيق الوقت عن بسطه.
والمال في نظر أبي الطيب إنما هو وسيلة إلى غيره، وقد اتهمه بعض حساده بالشح وفي طليعتهم أبو بكر الخوارزمي ذلك الشتامة الذي لم يسلم من أوضار لسانه إلا القليل.
وحالة شاعرنا تنطق ببراءته من هذه التهمة. أما أقواله فبرهان آخر:
وما حاجتي في عسجد أستفيده ... ولكنها في مفخر استجده
غَثاثة عيشي أن تغث كرامتي ... وليس بغث أن تغث المآكل
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
بقى علينا أن نسأل من أين تسربت هذه الفكرة إلى رأس أبي الطيب؟ والجواب أن لنفسه المجبولة على التعالي أقوى نصيب في تكوين هذه الفكرة وتغذيتها وتنميتها، فقد خلق شاعرنا شجاع لقلب، أبي النفس، حمي الأنف، خصيب العقل، ملتهب الفطنة، فياض العاطفة، صباً بمعالي الأمور زاهداً في سفسافها.
والعامل الآخر في هذه الفكرة الأوضاع السياسية في البلاد الإسلامية يومئذ، فقد كانت هذه البلاد مسرحاً للفتن والدسائس، ونهباً مقسماً بين رجال الثورات وأرباب الدعوات وأهل الختل والغدر، وقد ساهم في ذلك حتى العبيد، وحسبك بكفور على ذلك مثالاً فقد صار:
يدبر لأمر من مصر إلى عدن ... إلى العراق فأرض الروم فالنوب
فما بالك بفتى يعربي توفرت فيه كل أسباب السيادة ومزايا الرياسة؟
ولكن ما الحيلة وقد كبا به جده دون الغاية، وحالت المنية دون الأمنية؟ ولا ضير فقد سعى وليس عليه إدراك النجاح.
على أن الجد الذي خانه في ميدان السياسة، حلق به في سماء المجد الأدبي فأطلعه فيها شمساً تفيض بالنور على مر الدهور؛ وإن أخطأته إمارته السياسية فقد اعتزت به إمارته(169/41)
الأدبية، وتلك فانية لأنها تدور حول الحطام، أما هذه فباقية على مر الأيام.
طه الراوي(169/42)
المرأة المسلمة
في القرن التاسع للهجرة (الخامس عشر للميلاد)
بقلم الآنسة نعيمة المغربي
تطلع علينا مكتبة الأديب السيد حسام الدين القدسي بالقاهرة من حين إلى آخر - بطائفة صالحة من الكتب العربية القديمة، فينبش كنوزها الدفينة، ويعرض جوهرها على أنظار عشاق الأدب، وهواة لغة العرب، وهي خدمة موفقة يضطلع بها الأديب المذكور، ويقصد من ورائها خدمة ثقافتنا العربية القديمة وأبنائها الذين يقدرون حسن اختياره وحميد مجهوده. من ذلك أنه باشر طبع كتاب (الضوء اللامع) في تراجم رجال القرن التاسع تأليف المحدث الكبير والمؤرخ النقادة شمس الدين السخاوي؛ وهذا الأثر من أعظم آثار السخاوي وأكثرها شهرة، يقع في عدة مجلدات ضخمة، ظهر منها إلى اليوم اثنا عشر جزءا. وقد خص المؤلف الجزء الثاني عشر من كتابه بتراجم نساء القرن التاسع. وكثيراً م اقتصر على اسم المترجمة وتاريخ ولادتها ووفاتها والإجازة التي تلقتها من شيوخها إن كن ثمة إجازة. ومع هذا فالباحث يستطيع أن يستخرج من (الضوء) فوائد جمة ذات قيمة تزداد وضوحاً كلما أوغل المطالع في مطالعته وازداد للمؤلف صحبة في تتبع أخبار من ترجم من نساء عصره، فهو يقع من وقت إلى آخر على حوادث طريفة وفوائد ممتعة من أحوال نساء ذلك العهد.
والكتاب يشتمل على ترجمة ألف امرأة ونيف؛ وهو عدد كبير لا يسعه كتاب واحد لو أن المؤلف توخى الإسهاب والإطالة، ولكنه لجأ إلى الإيجاز وإهمال التفاصيل كما مر. ولا أعرف السبب الذي حدا بالمؤلف رحمه الله إلى ذكر بعض نساء عصره م دام أنه لم يظفر من أخبار حياتهن بما يستحق الذكر والتدوين. وكنت أرجع أحياناً إلى كتاب (شذرات الذهب) بغية زيادة الاستيثاق من ترجمة بعض من ترجم المؤلف لهن، فأجد صاحب (الشذرات) أيضاً قد نحا منحى (صاحب الضوء) في الاختصار والاقتصار على الاسم والوفاة. ولعل عذر المؤلفين في ذلك أن نساء عصرهم كن ذوات حياة مختصرة فتبع ذلك اختصار في الترجمة، وقد يكون السبب في ترجمة هؤلاء في (الضوء اللامع) أنهن يمتتن إلى مؤلفه بقرابة أو تلمذة أو جوار أو صداقة والد؛ كما لمحنا ذلك في تراجم كثيرات منهن.(169/43)
وما يدرينا أن بعضهن كن يكلفنه ترجمتهن حباً لتخليد ذكرهن ولو بالاقتصار على اسمهن، وهذا كما يفعل بعض نساء زماننا؛ (بل وبعض رجاله) إذ يرغبن إلى رجال الصحافة أن يذكروهن في صحفهن مباهاة بين أترابهن.
وعلى كل فأن هذا الجزء روض نسائي حافل بشتى أنواع الأزهار والرياحين؛ تقرؤه بلذة وشغف، إذ تتوفر لديك فيه النماذج المتنوعة عن المرأة المسلمة في ذلك العهد الذي ساد أو بدأ يسود فيه الانحطاط. ولعل أبرز طابع في (الضوء) هي الصراحة التي امتاز بها المؤلف في معظم ما كتب وخلد من أثر، وفي هذه الصراحة ما يشوق القارئ ويُغريه بالمطالعة ومرافقة المؤلف إلى النهاية.
أتى المؤلف على طائفة كبيرة من نساء عصره وعرض علينا من أحوالهن وجوهاً مختلفة وأشكالاً متعددة ونفسيات متباينة وعقليات متغايرة. فمنهن المحدثة العالمة، والحافظة البارعة؛ ومنهن التقية الورعة والمحتسبة الصابرة؛ ومنهن الحبشية السوداء والجركسية الحسناء، ومنهن سليلة الملوك والسلاطين؛ ومن أثر فيها كيد الحاسدين وسحر الساحرين. يذكرهن لنا كما عرفهن ووصلته أخبارهن. وكثيرات منهن عاصرن المؤلف وكن من المعجبات به المعتقدات بسعة فضله وغزارة علمه.
ففي القرن التاسع للهجرة كانت المرأة المسلمة في مصر والشام برغم ما يعزى إليها من تأخر تتلقى عن الأئمة ويتلقون عنها. يجيزها العلماء وتجيزهن؛ يناظرها الأدباء وتناظرهن؛ تحفظ دواوين الشعر وتروي عن الشعراء؛ ذات فكر ثاقب وقريحة نيرة ورغبة ملحة في التحصيل، لا يعتريها سأم ولا ملل في طلب العلم والأخذ عن أساطينه، وحفظ كتب الفقه والأدب، ودواوين الشعر والمذاكرة فيها.
ومما يلحظه المطالع أن معظم نجوم (الضوء) لمعن في سماء مصر وتفيأن ظلال نخيلها وارتوين من ماء نيلها؛ واغترفن من بحار علومها. وقد أحببت أن أحصي الشواعر فلم أظفر بسوى واحدة نظمت الشعر وكان بينها وبين المؤلف وسواه من العلماء مساجلة ومناظرة، فهي تشبه من هذه الجهة شاعرة الشام في القرن العاشر للهجرة لسيدة عائشة الباعونية المدفونة في صالحية دمشق. ومن هنا يتبين أن إقبال النساء على قرض الشعر في ذلك العصر أعني القرن التاسع كان قليلاً، وكانت جل رغبتهن يومئذ في تلقي علوم(169/44)
الحديث وروايته. وللبيئة - ولا ريب - أثر في خلق هذا الميل فيهن وطبعهن بهذا الطابع.
والشاعرة الوحيدة التي ذكرها (السخاوي) وترجمها ترجمة مفصلة هي (فاطمة) المشهورة بلقب (ستيتة) ابنة القاضي كمال الدين محمود بن شيرين الحنفي. قال المؤلف ما نصه:
(ولدت كما كتبته لي بخطها في سادس المحرم سنة خمس وخمسين وثمانمائة بالقاهرة ونشأت فتعلمت الكتابة وتزوجت الناصري محمد بن الطلبغا ثم مات عنها فتزوجها العلاء علي بن محمد ابن بيبرس حفيد ابن أخت الظاهر برقوق فاستولدها بيبرس، ولاحظ لها في ذلك مع براعتها في النظم وحسن فهمها وقوة جنانها حتى كانت فريدة فيما اشتملت عليه. وقد حجت وجاورت وسكنت بجوارنا. ومما كتبت به إلي بعد مجيء الخبر بموت أخويَّ من نظمها:
قفا واسمعا مني حديث أحبتي ... فأوصاف معناهم عن الحسن جلت
أناس أطاعوا الله نارت قلوبهم ... وأيصرت الأشياء من غير نبأة
وقد كوشفوا عن كل ما أضمر الفتى ... ونارت قلوب منهم ببصيرة
ومنها:
أثابكم ربي وعظم أجركم ... على فقد أحباب وأحسن جيرة
كرام سموا علماً وحلماً وسؤددا ... وكنتم بهم في غبطة ومسرة
قطعتم لذيذ العيش وصلاً بقربهم ... فوا أسفا عند الفراق وحسرة
ومم كتبه إليها المؤلف مجاوباً: (يا بديعة المعاني، ورفيعة المباني، ومن فاقت الكثير من الرجال فضلاً عن النساء، وراقت أبياتاً فحاكت الخنساء؛ حفظ الله تعالى دينك ودنياك الخ).
ولها أشعار كثيرة وقصائد مطولة تدل على مبلغ اجتهادها في تحصيل العلم والأدب. ولها أيضاً مطارحات شعرية مع بعض الأدباء رجحوها بها عليهم.
ومما يستحسن ذكره ومرت الإشارة إليه أن المؤلف ذكر ترجمة موجزة لبعض قريباته: منهن جدته وعمته وابنة شقيقه وأخته بالرضاع ووالدة امرأته التي أصيبت بالفالج وماتت عقب ذلك لدى سماعها خبراً مكذوباً عن وفاة المؤلف وابنتها زوجته وهما في الحج. وكذلك جاريته (أبرك) الحبشية (التي كانت ضابطة لبيتهم قانعة صافية).
ومن يتأمل الكتاب وتراجم نسائه يلمح وقوع أمور في ذلك العصر لا يزال يقع مثلها في(169/45)
عصرنا الحاضر مع تقادم العهد وتطاول الزمن: فمن هذا القبيل:
(سعادات) ابنة الشيخ نور الدين البوشي. تزوجها البقاعي بعد موت والدها ونالها منه من الذل ما لم يكن لها في حساب، بل نال طلبة أبيها من أجل مساعدتها ما شاء الله، وكذا مس أخاها منه كل سوء فلم تحتمل وسألته الطلاق بعد ولادتها منه وأشهدت عليها أنها متى رامت نظر الولد أو أخذه كانت ملتزمة بخمسمائة دينار، وسمحت بمفارقة ولدها ومهجتها مع مزيد حبها له). وكذلك (فاطمة) ابنة الحنبلي تزوجها سبط العز الحنبلي عز الدين محمد بن الشهاب الجوجري فلم يحصل التئام ففارقهما بعد بذل له وإبراء).
وما كان المؤلف ليحجم عن انتقاد ما يجب انتقاده من أحوال مترجمات كتابه:
(إلف) ابنة القاضي علم الدين البلقيني، تزوجها عبد القادر ابن الأحمدي، ثم عبد القادر بن الرسام الحموي، ثم أمير المؤمنين المستنجد بالله يوسف، ثم فارقها واتصلت بابن عمها البدر أبي السعادات بعد موت زوجته أختها وأقبلت حينئذ على الخير وقررت في مدرسة جدها عند قبره قرّاء في كل يوم، وقامت بأمر المدرسة وبتفقد الفقراء والأرامل، وتزايد ذلك بعد موت ولدها حتى صارت فريدة في أقربائها وأمثالها، ورتبت قرّاء يقرءون عندها الحديث والتفسير)، إلى أن يقول: (ولا أحمد كثيراً من تصرفاتها خصوصاً فيما يتعلق بالأيتام).
وكنا نرغب لو أن المؤلف كان أكثر إيضاحاً فيذكر لنا ما لم يعجبه من تصرفاتها وهي التقية الصالحة التي زخرت حياتها بعمل البر والإحسان.
وقد قص علينا حادثة لعب فيها السحر دوره، وذهب ضحيته نفسان بريئتان لا نعلم مبلغ التهمة المنسوبة إليهما من الصحة.
(شيرين) الرومية، هي أم الملك الناصر فرج بن برقوق، ولما تسلطن ابنها صارت (خوند الكبرى) وسكنت قاعة العواميد بقلعة الجبل بعد أن تحولت منها (خوند ازد) زوجة سيدها، ولم تلبث إلا يسيراً حتى تعللت ولزمت الفراش، وكثرت القالة بسببه، واتهم جماعة بسحرها، وظن ابنها أن ذلك من بعض الخوندات زوجت أبيه وبغضاً، لأنها مع كونها بارعة الجمال سارت سيرة جميلة من الحشمة والرياسة والكرم مع الاتضاع الزائد والخير والدين. ولها معروف ومآثر حسنة، جدّدت بمكة رباط الخوزي ووقفت عليه وقفاً وأصلحت(169/46)
ما كان تهدم منه. ماتت في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانمائة ودفنت بالمدرسة البرقوقية رحمها الله. ذكرها شيخنا في (إنبائه) باختصار وقال: (كانت كثيرة المعروف والبر). زاد العيني: (واتهمت جارية بسحرها فضربت حتى اتهمت نصرانياً كاتباً فعوقب فلم يقرّ فحبس حتى مات هو والجارية).
وما زال هذا الضعف الخُلقي في الخوف من السحر والاعتقاد به سائداً إلى اليوم في الأقطار العربية على اختلاف بينها في درجة ذلك، وحوادث ملوك الجان، ما زالت ترن في الآذان.
والكتاب مفيد لا تمل قراءته ولا تسأم صحبته. فهو كالبستان فيه من كل فاكهة زوجان، وما أحوجنا إلى مطالعة أمثال هذه الكتب التي ترينا صورة واضحة جلية عن حياة نساء تلك العصور وتطلعنا على درجة ثقافتهن، وطريقة تعلمهن. والكتب في تراجم النساء مما تركه لنا السلف قليلة جداً وهذا منها، ولا تنس الجزء الثامن من طبقات ابن سعد الخاص بالصحابيات رضوان الله عليهن.
(دمشق)
نعيمة المغربي(169/47)
نزهات في الخريف
للكاتب الفرنسي جوستاف دروز
ترجمة السيد حسين رفعت
اطَّلعت على الخريف في حقوله الوسيعة، وعواصفه المريعة وتنهداته الذاهبة في الفضاء، وأوراقه الذابلة الصفراء، وهي تترنح بين أنفاس الجو ونسمات الريح؟؟
أعرفت مخارفه المبتلة، وشمسه المعتلة، وأشعتها الواهنة، الواهنة في مثل بسمة العليل وضحكة المضني؟
أبصرت بضحضاحه الراكد ومائه الراقد في جنبات الطريق؟ أعرفت كل هذا؟
إن كنت علمته فأنت غير خال من التعصب له، أو التحامل عليه، كما أحبه بعضهم فجنوا به، وكرهه آخرون فتطوعوا لسبه. أما أنا - علم الله - فهو أثير عندي، حبيب إليْ. ولخريف واحد أثمن عندي من صيفين وأجمل. فأنا أهيم بقطع اللهب الكبيرة، وأستريح بمقربة المدفأة المتواضعة، وكلبي ممدد ساكن بين دزلكي المبلل الرطب، ومقعدي الدافئ الوثير.
وكم يحلو لك التأمل في سعير اللهب المضطرب، يلعق بأنيابه الدقيقة قطع الحديد العتيقة، ويضيء الظلمات النائية البعيدة.
وتسمع زفيف الريح في أهراء القمح، ويطرق أذنك صرير الأبواب ونباح الكلاب، وقد تمردت على سلاسلها الحديدية ومقاودها المعدنية. وتميز برغم دوي الغابة الملاصقة وهي تزمجر بظهرها المقصوف صراخ الأغربة القاتم، وهي تصارع العاصفة وتنازل الرياح القاصفة.
وتشهد الوسمي يقرع ألواح الزجاج الصغيرة، فتفكر في هؤلاء الذين هم في الخارج وأنت تمدد رجليك نحو المصطلى.
أجل أنا جد مفتون بالخريف، وصغيري العزيز يهواه كما أهواه. وليس مظهر جماله ومبعث جلاله في اجتماع العائلة حول الموقد، ينعمون بدفئه المثير، ولآلائه الكثير، وإنما له أيضاً من عواصفه الهوج، ورياحه الداوية، وأورقه الذاوية ما يحبب إلى النفس المجازفة بين هذه الأنواء الصاخبة، وتلك الرياح الغاضبة.(169/48)
وكم من المرات ذهبنا كلانا نرود الحقول والمزارع، بين سفعات القر، وتلبدات السحب، وقد أحسنا الكساء، وأثقلنا الرداء، ولبسنا أحذيتنا الضخمة المتينة، فكنت أرتفق سعده وآخذ عضده، ثم نسير دون اتجاه معين ولا غرض مقصود.
وكان حينئذ لم يتجاوز الخامسة من عمره، ولكنه يخب في مشيته خبب الرجال؛ فكنا نأخذ الطريق الضيقة المفروشة بالأعشاب النضرة السوداء، خلال أشجار الحور الرمادية التي كانت تسمح للعين بأن تخلص إلى ما وراءها من الأفق، وتخترق ما دونها إلى بسمات البرق، فتلمح في قرارة البعد تحت السماء البنفسجية صفحة من العصائب الصفر الباردة، وتشاهد سقوف الأكواخ المتهدمة، ورؤوس المداخن المتداعية، تتصاعد منها سحب رهوة في زرقة لطيفة كأن الريح تطاردها بعنف وتصاعدها بقسوة.
وكان طفلي الصغير يطفر من المرح وقد أمسك بيده قبعته حذراً من أن تطير، وكان يحدجني بعينيه الرجراجتين تحت فيض المدامع وقد ضرج البرد وجنته، وفي مؤخر أنفه لؤلؤة صافية قد أشرفت على السقوط، وكان على ما به فرحاً مسروراً. وكنا نقطع السهل الرطب وقد حفت جوانبه بنمير النهر العذب، وزينت شواطئه بالقصب المتشابك، وعرائس النيل المتلاحمة وزهور النهر المتنوعة.
وكنا نشاهد قطعاناً من البقر وقد غاصت حتى أعالي سوقها بين الأعشاب السامقة، وهي ترعى في سكون واطمئنان، وفي حفرة صغيرة عند جذور شجرة من الحور تجثم طفلتان متناظرتان في جلستهما في ظل معطف كبير، وقد لفهما إليه وجذبهما عليه؛ وهما ترعيان رعيلهما والرجلان نصف عاريتين في الحذاء الممزق، والوجهان المرتجفان قد برزا من واقية المطر.
وكان يقتطع علينا سيرنا المجد - في الفينة بعد الفينة - غدران واسعة قد عكست عليهما صفحة السماء الخافتة، فكنا نتريث برهة على ضفاف هذه البحيرات، وقد داعبت صفحتها ريح الشمال ونشاهد الأوراق الطافية وهي تساقط من أعالي الأشجار، وتسبح في مهاوي الريح، وتثوي على وجه المستنقع، فأحمل طفلي الحبيب بين ذراعي ونجوز العدوة الأخرى فنشاهد في أطراف الحقول السمراء الخاوية المحراث المقلوب، والوتد المنصوب، وعسالج الكرم المعراة قد امتدت على الأرض، والحمائل الصلبة الرطبة قد تجمعت أكواماً،(169/49)
وتكدست أقساماً.
(حلب)
حسين رفعت(169/50)
المجاهد
للأستاذ عبد الحليم عباس
هات لي عتادي.
فقد انتهت المعركة بيني وبين نفسي. هي تريدني أن أقرّ، وأريدها تحيا ساعةً من نهار في جحيم المعركة؛ وهي تريدني أن أعيش في الحياة، وأريدها أن تسعد مع الموت.
هاهو ذا الظلم مستعلياً أبداً، كشأنه في كل عصر؛ لا أزعم أني سأمحقه، فقصارى الجهد أن أضع من جمجمتي حجراً في الزاوية.
هات لي عتادي.
فما قيمة العمر يمضي، وصليل القيد يصك سمعي، ورؤية الظلم تُعشي نواظري وما الحياة إن خلت من جمال الحق وعظمة الحرية، إلا جبُ منتن أكبرنا فيه حشرة.
هات لي عتادي.
فلو عرف الناس لذة الحياة لقدَّسوا الموت، ولو ذاقوا حلاوة الإيمان بالحق لدلفوا طُعمةً للنار. . . وما خير عيشٍ يرين عليه الظلم، وما لذةُ حياةٍ كل ما فيها متعة للظالمين؟
هات لي عتادي.
فلست أرهب موتاً يتساوى فيه الشقيُّ مع السعيد، والراسف بالقيد مع الذي قيَّده، فرب جفنٍ ما رقأت دموعه، ورب قلبٍ ما التأمت كلومه، وجد له في الموت وفي ظل القبر برد الراحة وهناوة العزاء.
هات لي عتادي.
وتعالي انظري عزة الحق الأعزل، واستخذاء الباطل المسلح. . . هاهما يتلاحمان. . . فلمن الغلبة؟ أللباطل فقديماً غَلَب، أم للحق فتلك ومضات في حلوكة التاريخ؟
منذ ساعة فتحَّ الحق عيني، وأنار الإيمان قلبي، فرأيت مواكب الأحياء على حقيقتها سائرة تتململ ولا تشكو، وتجرع الغصة ولا تئن، ورأيت الحقَّ فيما بينها مهيض الجناح، مشنوءا حامله، فعلمت أن من يعرف الحق ويؤمن به كل عمره، مهما طال - ساعةً من نهار.
منذ ساعة فتحَّ الحق عيني، فرأيت الإنسانية، ترجع إلى الوراء فعلمت أنه إن لم يصدها الإيمان، وتلتقي بها القوة المؤمنة، فغير بعيدٍ ذلك اليوم الذي تحتفل به لأكل لحم البشر!(169/51)
وسار المجاهد، رافع الرأس، منتصب القامة، يتلألأ على وجهه نور اليقين، ويرف عليه روح من الحق، قال وكأنه يخاطب نفسه:
ليست حقيقة الحياة في الحياة، وإنما هي فيما وراءها؛ وليس الموت في سبيل الحق غير اتحاد بهذه الحقيقة التي هي (الله).
للفضيلة دربٌ مختصر، وهو أن تضع بدل كلمة (أنا) (نحن)، والحجة القاطعة على أنك وضعت هذه بدل تلك أن تكتبها بدمك، لتقيمها على حجارة رمسك.
ليس العمر مجموعة أيام، وإنما هو سجل أعمال؛ فرب كهل لم يعش غير أيام، ورب فتىً لا تحصر عمره الأعوام؛ فإذا لم يك من الموت بد، فلم لا تزد بعمرك ساعة جهاد، لتطاول الحقب ولتدرج مع الأجيال؟
يقولون إن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة، أتدري لماذا؟ لأن من يستعلي على الظلم ساعة في ساحة الموت، يشارك الحكمة الأزلية في عملها، وهي الجهاد لتثبيت الحق، في هذه الأرض. فمحالٌ أن ترضى الحكمة الخالدة في غير نزوله في كنفها. . . . . في الجنة.
وطويت الأرض تحت قدمي المجاهد، فسار يلفُّ السهل بالحزن، ويطوي البيد، حتى شارف المعركة، فوقف يتأملها برهة، وقد فاضت عليه قدسية الجهاد، والتمعت عيناه ببريق جميل، هو بريق عظمة الموت، فأخذ يتمتم:
إيه يا وطني! سماؤك وأرضك، جبالك الشم ووهادك الفيح، كلٌّ لها في القلب موطن حرمةٍ وجلال. تمنيت أن لي ألف نفسٍ أفديك بها، ولكنها نفسٌ واحدة، فدونكها جهد المُقل.
إيه يا وطني! مهبط الذكريات، ومغدى الأمل، غذتني تربتك، وبعثت فيَّ الحياة نسماتك؛ ليس الظلم المخيم على ربوعك إلا جزءاً من الظلم المنيخ على العالم بكلكله، وفي هذا بعض العزاء.
إيه يا وطني! هانحن أولاء تسارعنا لنجدتك، لا نطلب خلوداً، فإننا نعرف التاريخ لا يتسع صدره لذكر أمثالنا. ليس التاريخ إلا سير العظماء، وهيهات أن تعرف الدنيا إلا ضرباً واحداً منهم، أقواهم وأقدرهم على الفتك والظلم الذي زحفنا لصدامه، ولسنا نطلب جاهاً أو متاعاً من متاع الفانية فإننا نعرف أن التكالب على الجاه في ظل العبودية، قتالٌ على الجيفة، تقوم به طائفة نسميها الكلاب.(169/52)
ولكننا آثرنا الموت على الحياة، لتزهو الحياة في يوم، وليسعد فيها هذا البشر اللاغب المتعب. . وثرنا لأننا علمنا أن الموت في سبيل الحق حياةٌ رائعةٌ مديدة. . . ودوت قنبلة أعقبتها طلقات، فانتفض المجاهد وانحدر يهدر كالسيل الأتيّ. . . إلى المعركة، إلى الموت! وما هي إلا ساعة حتى استشهد، فقد كن يقاتل كالمجنون!
أين المجاهد؟!
أما جسمه (فكم مقلةٍ في منقار طائر، وكم خد عتيق، وجبين رقيق، قد فلق بعمد الحديد).
أم روحه فقد مشت كالنسيم، توقظ الرمم، وتدفع الأمم إلى الموت في سبيل الحرية. . .
(شرق الأردن)
عبد الحليم عباس(169/53)
3 - لمعات
مهداة إلى شاعر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال جواباً لكتابيه
(أسرار خودي) و (رموز بي خودي)
للدكتور عبد الوهاب عزام
جال في الظلماء صوت هاتف ... فظلام الليل منه راجف
مدّ في الظلماء نوراً من نغَمْ ... مُزّقَتْ منه دياجير الظُلم
أشُعاعٌ فيه صوت صائح ... أم كلام منه نورٌ لائح؟
أذِن الركب لهذا المنشد ... أطرب الناشدَ صوت المنشد
سال في القلب مسيل المطر ... ينبت الروح بسهب مُقفر
أو خرير الماء من نبع زلال ... بشّر الغارق في بحر الرمال
رنّ في نفسي رنين الجرس ... صاح في أذني فقيد مُبلِس
طوت البيداءُ عنه السابلة ... وهداه الصوت شطر القافلة
سبق القلبُ إليه الأذنا ... كبلال لصلاة أذّنا
دار قلبي شطر هذا المطربِ ... دورة الإبرة شطر القطُب
(غنّني يا مُنيتي لحن النشور ... ابركي يا ناقتي. تم السرور
عُدت يا عيدي إلينا. مرحباً ... نعمَ ما روّحتِ يا ريح الصبا)
حبذا الصوت فمن هذا البشير؟ ... ومن الهاتف بالقلب الكسير؟
ومَن المسعد في هذي الهموم؟ ... ومن البارق في هذي الغيوم؟
ومن الهابط في نور السما ... هادياً في الأرض جيلاً مظلما؟
ومن الهادي إلى أرض الحبيب ... يعرف النهج وقد حار اللبيب؟
ومن السائق شطر الحرَمِ ... وإلى الأصنام سير الأممِ؟
ومن القارئ في بيت الصنم ... سورة الإخلاص في هذا النغم؟
ومن الحرّ الذي قد حطما ... في قيود الأسر هذا الأدهما؟
ومن الآبي على كل القيود ... ومن القاطع أغلال العبيد؟(169/54)
ومن الباعث في ميْت الأمم ... ثورة العزة من هذي الهمم؟
لاح كالغُرة في هذا السواد ... بصّ كالجمرة في هذا الرماد
جرف الناس أَتِيٌّ مزبد ... ضل فيه المقتدي والمرشد
وطغى اللج عليه والتطم ... فرسا كالصخر في هذا الخضمّ
عارض الموج على أغماره ... وطوى اللج على تياره
سبح اللج وبالشط استقر ... داعياً والناس غرقى في النهَر
يجرف التيار جسما جامدا ... تقذف اللجة قلباً خامداً
إن عزم الحر بحر مزبد ... جائش في الدهر لا يتئد
هذه الأقدار في تسيارها ... همم الأحرار في أسفارها
ومَن الشاعر يذكي القافية ... فهي نور وهي نار حامية؟
تقشعر الأرض من أوزانه ... ويهيم النجم من ألحانه
وكأن الدهر صوت كُتبا ... قد حكاه الشعر صوتاً مطربا
هو بالأشعار بحر فائض ... وهو للأزمان قلب نابض
حدّثته الأرض عن أخبارها ... وحبته الزهر من أسرارها
هو بالأمس خبير بغدِ ... وهو اليوم نجيُّ الأبد
كشف الله عن الغيب له ... فلسان الغيب يُملي قوله
عرف الشرق وراد المغربا ... فانجلى السرّ له. ما كُذِبا
فرأى العلم سبيلاً للردى ... إذ رأى القلب خلياً من هدى
صوت (إقبال) على شط المزار ... أسمع اليقظان في هذي الديار
(يتبع)
عبد الوهاب عزام(169/55)
على الشاطئ
يا شراع. . .!
بقلم أحمد فتحي مرسي
اتئد واجرِ في لعباب رُوَيداً ... واسرِ في اليمِّ آمناً يا شراع
يلثم الماءُ صفحتيْكَ، ويمضي ... ويحييكَ في الشروق الشعاع
قد مضيتَ الغداةَ تنسابُ في الما ... ءِ كما انساب في السطورِ اليراع
وكأنَّ المياهَ شِقَّا مِقَصٍّ. . ... صاغَهُ ماهرُ البنانِ صنَاع
فإِذا جئت مُقْبِلاً فافتراقٌ ... وإذا رُحت مُدبِراً فاجتماع
لهف نفسِي عليك في لُجّةِ اليمِّ (م) ... ولليمِّ ثورةٌ ونزاع
حارَ ربانُكَ القديرُ لَديْهِ ... أخفقت حِيلةٌ، وأقصر باع
وادلهمَّ الفضاءُ واشتدت الري ... يح فُصُمَّتْ لهولِها الأسماع
وكأن المجدافَ إذ يضربُ الما ... َء وللماءِ رجّةٌ واندفاع
طائرٌ في شراكِهِ يتلوَّى ... ولرجليهِ في الشباك صراع
أيهذا الذي تولى بعيدا ... لك منى تحيةُ ووداع
يا عروسَ العباب قد زفّها الطيْ ... رُ وراقت من حولها الأسجاع
وبناتُ الهديل في البرِّ تشدو ... ردَّدَ السهل شدَوَها واليفَاع
ومياهُ العبابِ ترقُصُ نشوى ... فانخفاض على المدى وارتفاع
يا غريباً عن الحمى ووحيداً ... أترى أنت في النوى ملتاع
أنت في لجة الحياة مضاعٌ ... وكذا كلُّنا لديها مُضَاع
وخداعٌ هذي لحياة. فهل يُغْ ... ريك من جانب الحياةِ الخداع
حولك اليمُّ في جلال وصمت ... سيِّد آمر، ومَلْك مطاع
ثابت في الخطى يروقك لينٌ ... في خطاهُ وهدأةٌ واتداع
فاتئد واجر في العبابِ رُويداً ... واسر في اليمِّ آمناً يا شراع
أحمد فتحي مرسي(169/56)
أغنية
في سكون الليل في صمت الهدوءْ ... في شعاع القمر المنسكب
زورق ضمَّ ملاكين سرَى ... يتهادى فوق شطِّ العرب
فوق غصن البان ... رفرف القُمْري
يُنْشِدُ الألحان ... بالهوى العُذْري
أنتِ عطر مجنّحٌ شفقي ... طاف يذكو على الفضاء ويعبق
أنتِ معنى مقدس علوِيّ ... شعَّ نوراً في مهجتي يتألق
أنتِ حلم منور ذهبّي ... هلَّلَ القلب مذ رآه وصفق
علمي الغيد التثني ... كيف بالله يكون
غرد الطيرُ فغنَّى ... حبذا منكِ اللحون
(البصرة)
ع. خ. طه(169/58)
قبل النوى
للسيد إلياس قنصل
كفكفي هذه الدموع الغوالي ... إنها بين أضلعي جمرات
أمر الدهر أن نلوّع بالبع ... د، وليست تردُّه العبرات
واحفظيها لمن يعيش خليا ... وأمانيُّ نفسٍه ذاويات
قد يكون الشقاء في الحب لكن ... حيث لا حبّ لا تكون حياة!
كفكفي هذه الدموعَ فلن يُدْ ... رِك منا البعاد ما يتمنى
إن يكن حب غيرنا ثمراتٍ ... تشتهي في ابتدائه، ثم تُجْني
فهوانا عواطف عاليات ... نفث الطهرُ بينها ألف معنى
والشعور الذي تغلغل في القل ... ب وأمسى من نبضه ليس يفنى
كفكفي هذه الدموع الغوالي ... إن لله مأرباً يخفيه
وليحلْ شوقنا الملح سروراً ... بكؤوس من الرجا نسقيه
وليكن صبرُنا على البعد قربا ... ناً إلى معبد الهوى نهديه
ليس يبغي عنادنا الدهر لكن ... جوهر الحب أن نعذَّبَ فيه!
(عاصمة الأرجنتين)
إلياس قنصل(169/59)
القصص
قصة مصرية
القبلة الأولى و. . . الأخيرة!
للأستاذ دريني خشبة
(الحوار في الأصل باللهجة المصرية)
كان ذلك في مصحة. . . .
وكانت فتاة شاحبة ذات عينين كبيرتين شاعريتين، تطل منهما نفس حزينة متألمة، تارة تحلق في السماء تدعو الله اللطيف وتصلي له، وتارة تنظر إلى المصحة التي اجتمعت فيها أمراض وأحزان وأماني؛ وكانت تجلس فوق مقعد منفرد في زاوية منعزلة في الحديقة الصينية التي تكسبها التماثيل البوذية والظُّلات والرابية الكبيرة ومساقط المياه ذات الخرير جلالاً ورونقاً وهدوءاً يشبه موسيقى الأرواح الباكية التي ترفرف أبداً في سماء تلك المصحة الرحيمة.
وكانت الفتاة تسبل فوق رأسها شُفوفاً من الحرير البنفسجي تداعبه نسمات الحديقة كلما هبت رُخاءً في ناحيتها. . . ولكنها تركت السماء كلها، بما تفيض به من رحمة ولطف، واتجهت بكل روحها إلى نافذة بعينها في المصحة، وراحت تحدق فيها تحديقاً شديداً، ثم أخرجت من (شنطته) منديلاً صغيراً وضعت فيه لآلئ غالية كانت أوشكت تنهمر من عينيها.
وكانت الشمس قد آذنت بغروب، وكانت تصب ذهب أشعتها على نوصي التماثيل الرائعة، ولكنها كانت تصب أكثر هذا الذهب على ناصية بوذا الأكبر كأنها تستهزئ به، لأنه إله من حجر! وكانت ألف فكرة تزدحم في رأس (سِهام) كلما تقَشَّعت الشمس قليلاً قليلاً عن رأس لتمثال، فتبتسم ابتسامة ساخرة. . . وتخفي دمعة كبيرة في منديلها الصغير.
وأقبلت جارية (حبشية) فحّيت لفتاة، وأشارت إليها سهام فجلست عند طرف المقعد المنفرد المصنوع من جريد النخل. . .
- (سيدتي!).(169/60)
- (. . .؟. . .).
- (أرسلني ألبك الكبير أناديك).
- (ولماذا عاد مبكراً هذا المساء؟).
- (لا أدري، وهو يقول إنه يود أن يشرب الشاي مع سهام هانم).
- (وإذا لم تكن لسهام رغبة في الشاي ولا في القيام من هنا فـ. . .).
- (سيدتي! ألا ترحمين شبابك؟).
- (أرحم شبابي كيف يا مسعدة؟).
- (مِن هذا الذي أنت فيه!).
- (وماذا أنا فيه يا مسعدة؟).
- (الكر المتصل والحزن الذي لا حد له. . .).
- (أشكرك يا مسعدة. اذهبي فاعتذري عني للبك - أنا لم أعد أحب الشاي في هذه الساعة).
- ولم في هذه الساعة؟).
- (لأنها كنت أول شكواه من هذا المرض الخبيث، ومن يدري، فربما كانت أول شكواي أنا أيضاً. . .).
- (يا سيدتي ارحمي شبابك قلت لك. إنها أيام ويغادر المصحة سليماً معافى، ألست تثقين في تأكيدات الدكتور؟).
- (الدكتور؟. . . أنت طيبة القلب يا مسعدة! أنت طيبة القلب جداً).
- (الدكتور يؤكد أن سيدي نادر بك يتعافى يومياً، وسيتماثل للشفاء قريباً، وأن أرى أنك تتلفين صحتك بهذا اليأس الذي يدمي قلبك ويجرح نفسك ويقرح عينيك؛ سيدتي سهام هانم: ألا تسمعين نصيحتي؟).
- (وأي نصيحة يا مسعدة؟).
- أنت شبة جميلة، والمستقبل أمامك مشرق بسام، والدنيا مقبلة تكاد تتمرغ تحت قدميك و. . . أوه. . . لا أجرؤ أن أقول. . .).
- بل قولي يا مسعدة، قولي. . . أنا شابة جميلة. . . والمستقبل أمامي مشرق بسام. . .(169/61)
والدنيا مقبلة تكاد تتمرغ تحت قدمي. . . . . . الله الله يا مسعدة. . . ثم ماذا؟).
- (سيدتي سهام. . . إني أعتذر!!).
- (تعتذرين! تعتذرين من أي شيء! بل لابد أن تقولي ألستِ (داده) يا مسعدة).
- (لا. . . لا أجرؤ. . .).
- (لا تجرئين على أي شيء يا مسعدة. . . إن لم تقولي فإنك تحزنينني).
- (ولكن على شرط. . . إن لم ترقك الفكرة فلا تضمريها لي).
- (لك هذا يا مسعدة).
- (ألا تستطيعين أن تصرفي قلبك عن نادر بك. .).
- (أهذه نصيحتك أيتها العجوز! اذهبي فلن أشرب شاياً قلت لك).
- (أ. . . أ. . .).
- (اذهبي. . . اذهبي).
- (يا مسعدة قلت لك لا شأن لك بسهام ونادر، لقد كان يعبدها قبل مرضه. وكان يوشك أن يخطبها لولا وفاة والدته. . . وهي أيضاً تحبه حباً يمتزج بكل قطرة من دمائها، إنها تكاد تجن من أجله. . . إنها لا تنام أبداً، و. . .).
- (وماذا يا عثمان. . .).
- (وهي تنسرق كل ليلة إلى المصحة وتزوره، وأخشى أن تكون أصيبت بمرضه، لأني أسمعها تسعل كالمسلولين. . . مسكينة. . .).
- (لا قدر الله يا شيخ. . . إنها حزينة فقط، وأنا لا أدري لحزنها سبباً، فألف شاب جميل غني يتمنون أن تصبح لأحدهم زوجة. . ولكنها تأبى إلا أن تسمع لقلبها. . قُتل الحب، إنه لا عقل له! لقد كلمني اليوم عصام بك وألح علي في محاولة التأثير عليها، وهو يضع كل ما يملك رهن تصرفها، فماله هذا الشاب الوجيه؟! صحة وثروة وأسرة. . . وشباب!).
- (يا ابنتي رفقاً بنفسك، أقسم لك بالله وبشرفي أن الدكتور أكد لي اليوم أن لنادر أياماً قليلة جداً ويغادر المتشفى سليماً معافى. . .).
- (سليماً معافى. . . متمتعاً. . . بكامل صحته.، هيه. . . يا رب، سيغادر المتشفى إلى الأبد. . . هذه هي الحقيقة!).(169/62)
- (أجل، سيغادره لتعيشا معاً في نعيم إلى الأبد! سهام!).
- (بابا. . .).
- (هلمي نجلس قليلاً في الحديقة، هلمي يا ابنتي، القمر جميل، والنسيم رَخِيّ، و. . .).
- (بابا. . .).
- (سهام!).
- (أنا لا أحب الحديقة ولا أحب القمر. . . لنبق هنا. . . الدنيا برد!).
- (يا ابنتي لا تعبسي للدنيا هكذا. . .).
- (الدنيا؟ آه يا بابا. . . سأعبس لها إلى أن يشاء الله!).
- (لا حول ولا قوة إلا بالله. . . سهام، أنت تحرقين نفسك وتتلفين روحك في نار عاطفية كان ينبغي ألا تجعلي لها وزناً في رجاحة عقلك وسلامة تفكيرك. . . لقد كنت أحاول أن أصارحك بحقيقة نادر ولكني كنت أخشى على قلبك الغض وشبابك الرطب أن تعصف بهما كلماتي، مع أنه لخيرك. . . سهام! استيقظي يا ابنتي! حقاً لقد أحبك نادر كما تحبينه، وكنت أنا نفسي ألمس محبته لك وهو يكلمني من أجلك، وعندما سلّمني (السوار الماسي الجميل) الذي جعله تقدمةً لزواجه منك، كنت أشهد في عينيه دموعاً محبوسة تريد أن تنهمر، عرفت منها أثر تحقيق الأحلام في نفوس الشباب - ولقد كنت أوشك أن أرفض هذا الزواج أول الأمر، لما كنت ألحظه في صحة نادر من التدهور والتهدم، لكني قرأت حبه في عينيك، وشهدت حرارة روحه تتورد في خديك، فتألمت، وفرحت، وذكرت (المرحومة) والدتك وما كانت تتمناه لك من السعادة الأبدية ورخاء البال، فوافقت، وضاعف ألمي وفرحي أن رأيتك سعيدة به بقدر ما هو سعيد بك، وهنا فقط. . . غلطتي. . . غلطتي التي لا يغفرها لي إلا أني لم أكن أعرف أن تدهور صحة هذا الشاب النبيل هو أول هذا المرض الخبيث العضال. . . سهام! استجمعي قواك! لا تجزعي هكذا. . . إن ألف شاب جميل رقيق القلب وافر الغنى في انتظارك. . . وقد خاطبني الكثيرون فعلاً قبل أن يعترض طريق حظك ولدي نادر. . . سهام. . تشجعي! أنت صغيرة يافعة يا بنيَّة! نحن كلنا نرثي لشباب نادر، وكنا نضرع إلى الله أن يشفيه!. . . و. . .
- (بابا. . .).(169/63)
- (سهام!).
- (ماذا تقول؟ كنا نضرع إلى الله!. . . ماذا قال لك الدكتور اليوم؟).
- (هذا هو الذي كنت أخشى أن يكون! ليهدأ قلبك يا بُنيَّتي، وليستيقظ عقلك الساهي. . . أريد ألا أفقد ابنتي الوحيدة كما فقدت زوجتي ارحمي أباك الشيخ المحطم الذي لم يعد له أمل في الحياة غيرك. . . أنت شمسه المشرقة فلا تحرميه من دفئها إلى الأبد. . . إن ثلج لمشيب يطفئ روحي قليلاً قليلاً. . . وكلما رأيتك يا سهام ارتد إليَّ شبابي، وانهزمت آلامي، وتفرجت كروبي. . . فلولاك للحقت بأمك، ولولاك لأغطش ظلام المنون حياتي. . . سهام! انظري إليَّ! أرهفي أذنيك! تحملي الصدمة معي. . . نادر في الطور الأخير من المرض. . .).
- (بابا. . .).
- (سو. . .! سهام! هي صدمة كبيرة لا شك، وأشد منها أنني أرجوك. . . أرجوك يا ابنتي. . . أرجوك. . . يا. . . سهام!).
وساد بين الرجل وابنته صمت عميق، تخللته دموع أَسْوَانة. . . ثم وصل الأب حديثه قائلاً:
- (أرجوك يا ابنتي أن تقطعي علائقك بنادر. . . دعي ما في القلب للقلب، ولكن لا تذهبي إليه. . . لا تزوريه في المصحة. . . لقد أنذرني الدكتور مرتين، وقد فصل الممرضة المسكينة التي كانت ترحم دموعك وترثي لحبك فتوصلك إليه في ظلام الليل خلسة! العدوى يا سهام! أنت غالية عندي جداً، وعزيزة عليَّ جدً، وإذا فقدتك فقدت كل شيء. . . سهام! سهام! تكلمي يا ابنتي! ردي عليَّ! ماذا؟ تبكين!؟ أنت طفلة. . . لا، لا. . . ألم يخلق الله غير نادر. . .).
- (بلى. . . بلى يا أبي! لم يخلق الله غير نادر لي. . . لي أنا على الأقل! ولذلك. . . لا أعدك! لا يمكن أن أعِدَك يا بابا. . . و. . . أنا متعبة جداً. . . أريد أن أنام. . . عن إذنك).
مسكينة سهام! لقد جاءت نصيحة والدها متأخرة جداً! لقد كانت تنتظر حتى تنام أعين الرقباء، وتغفى جفون الليل، ثم تنسل في جنح الظلام إلى المصحة، غير حفلة ببرد الشتاء،(169/64)
ولا قر الصحراء؛ وهناك كانت ترشو البواب الفقير، وتجزل له العطاء، ثم تعرج إلى الطابق العلوي، فإذا لقيها بعض الخدم حفوا بها واحتفوا، فتنفح هذا قرشاً وذاك قرشين، حتى تلقى الممرضة الصغيرة الجميلة التي كانت تعرف سر قلبها وعلالةَ نفسها، فتنسى هذه كل قوانين المصحة في سبيل قوانين الحب، وتمضي بين يديها إلى غرفة نادر. . . المسلول المدنف البائس. . . فتقف لحظة خاطفة، وتستأذن. . . لتخلي الطريق المكهرب بين القلبين الحبيبين.
وكان نادر يقدر لسهام تجشمها الصعاب من أجله، وكان يلقاها دائماً بابتسامة عذبة محزونة، وعينين سادرتين مغرورقتين، وروح تكاد تثب لتلقها بذراعين من سرور!
يا لله. . . ويا للحب!!
لم يكن نادر يجهل خباثة مرضه، ولم يكن يجهل أن عدواه شديدة الفتك، وكانت سهام كنزه الروحي الذي يضمن له السعادة والأحلام، ولذلك كان يحرسها دائماً بإبعاد فمه عن ناحيتها، وكان يزوي وجهه عنها أو يدسه في منديل كلما كلمها. وكانت هي لا تبالي أن تدنوا منه لتدلل له على أنه حياتها، وأنها لا تبالي أن تصاب بمثل ما يشكو منه، وذلك من عمى الحب وجهله؛ بيد أنه كان يرجوها في حرارة أن تبتعد، فإذ لم تُصِخْ، دس رأسه بين الوسادتين، وراح ينتحب. فتشفق عليه وتبتعد.
وفُصلت الممرضة التي كانت تُسهل لها زيارة نادر لفتنةٍ شبت بين الخدم من أجل قروش سهام. . . والحق أن الرحمة بالمحبين في هذه الأماكن الخطيرة حماقة من الرحماء المشفقين!
على أن سهاماً لم تَعيَ بزيارة نادر، بل استطاعت بقروشها أيضا أن تنفذ إليه مرات ومرات!
ولم تكن سهام تجهل أن فتاها في الطور الأخير من مرضه، ولم تكن في حاجة لأن يخبرها أبوها بذلك، ولكن تلّقي الأخبار السيئة يكون جديداً كلما امتلأت به الأذن مرة بعد أخرى، وضاعف وقع الخبر في نفس سهام أن الدكتور أكّده. فلما ذهبت إلى مخدعها لتنام طفقت تتقلب في أشواك من الهموم، وفوق إبر من الأفكار السوداء التي تشبه الخفافيش.
وذهب أبوها إلى مخدعه كذلك، ولكنه ما كاد يستقر فيه حتى سمع ابنته تسعل. . . ثم(169/65)
تسعل. . . وهنا هاجت خلية من اليعاسيب في رأسه، فنهض من فوره وتوجه إلى غرفتها؛ ولكنه وقف عند الباب يَتسمَّع ويتسمّع. . .
(أه يا نادر. . . يا حبيبي يا نادر. . . كيف أعيش بعدك يا نادر؟. . .
وكان الصوت ضعيفاً عميقاً يتشقق عن صدر ممزق ونفس محروبة؟
ودخل الوالد الذاهل عن نفسه فجلس بجانب ابنته على سريرها ومر بأصابعه على رأسها فأحس كأنه يحترق.
وكانت سهام ما تنفك تسعل. . . وتسعل.
ونهض أبوها فتكلم مع أحد أصدقائه الأطباء في (التليفون) فجاء على عجل. . . وزار سهاما. . . وبكل أسف كان هو نفس الدكتور الذي تسبب في فصل الممرضة من المصحة.
وداعبها الطبيب بكلمات حلوة منمقة معسولة، وخرج ولم يكلم أباها. . ولكنها سمعته يقول وهو يطوي الدرج (أنا قلت، أنا قلت. . .) فكانت حماقة أدهى من حماقة الممرضة!
وتبسمت سهام تبسماً حزيناً، وجعلت تتمتم (نادر؟ سويا يا نادر!!).
ولما أحضرت قوارير الدواء وزجاجاته حدجتها الفتاة بنظرات الاشمئزاز ولم تذق منها جرعة!
واشتدت وطأة المرض على سهام، ولم تكن هناك وسيلة خير من انتقالها إلى المصحة، المصحة نفسها. . . ولم تشعر بغضاضة وهي تلم شعثها لتنتقل إليها، بل كانت تحس كأنها ذاهبة إلى الجنة لتلقى ثمة حبيبها الذي خيل لها كأنه دخلها منذ بعيد. . ومن العجيب أن صحتها تقدمت تقدما محسوساً في الأيام لأولى، لأن شعور الفرح والرضى لمجاورة نادر كان يغمر قلبها ويفعمه بالمسرة.
وجاءت ساعة الهول والفزع الأكبر.
أقضت سهام ليلة مقرورة ممتلئة بالوساوس؛ ولم تكن عينها تغفل قليلاً إلا لتصحوا فزعة من أحلام سوداء تتعلق بنادر. . . فلقد رأته مسجى فوق سريره، وقد تناثر الورد من حوله، ولف في ثوب حريري أبيض كبير هفهاف، ووقف عند رأسه عصفوران أبيضان يغردان تغريداً مشيجاً حزيناً. . ثم ما هي إلا لحظة حتى أغمض النائم عينيه. . . وطار العصفوران إلى السماء. . .!(169/66)
وهبت سهام مذعورة. . . وآلت ن تذهب إلى نادر، وعبثاً حاولت الممرضة الطيبة الموكلة بها أن تطمئنها. . . وعبثاً حاول الخدم معاونة الممرضة في تسكين روح سهام. . . التي راحت تصرخ بملء صوتها الضعيف المحشرج. . . وهبت تناضل الجميع لتمضي إلى حيث فتاها المريض.
وجاء الطبيب. . . وفشلت كل مساعيه في إقناعها بالنوم والراحة. . . وأخيراً سمح لها.
كانت تمشي ضعيفةً موهونة متثاقلة، وطوت الدرج في مشقة. . . وكانت تسعل سعالاً مؤلماً. ولما دنت من غرفة حبيبها المسكين وقفت تسترق السمع.
(آه. . . . آه) ثم سعال يعقبه (سهام! يا سهام! أنائمة أنت! شفاك الله ي حبيبتي! ألا أراك! وداعاً إذن!) وكان الصوت خشناً كأنه يخرج من بين شقي رحا!
- (نادر! ملك يا نادر!).
- (سهام!).
- (أجل! أنا سهام، مالك! أمتعب أنت؟).
- (لا، ولكني أعتب عليك، أ. . . أتنزلين. . . آه).
- (مالك يا نادر؟).
- (اذهبي إلى غرفتك فاستريحي. . . الدنيا برد. . . ارحمي نفسك. . . أنا شاكر لك. . . آه. . .).
- (بل أجلس معك يا نادر. . . مالك!).
- (لا شيء لا تنزعجي؟).
وكان الطبيب الرحيم البار ينظر إليهما ويبكي؟
- (خبرني يا حبيبي. . . أتشكو شيئاً!).
- (اطمئني يا سهام. . . يجب أن تعيشي لوالدك ولشبابك).
- (أنت تزعجني!).
- (لا تنزعجي أبداً!. . . فأنا. . .).
وضعف الصوت قليلاً. . . ثم قليلاً
- (مالك. . . مالك. . . يا دكتور، تعال. . . اكشف عليه!).(169/67)
- (لا فائدة يا سهام! يجب أن تعيشي! سهام!).
- (نعم يا حبيبي!).
- (أل. . . آه. . . كم أستحي أن أقول لك؟).
- (بل قل. . . قل يا نادر!).
- (كنت حلم أن فوز منك بقبلة تنير لي طريقي إلى الدار الآخرة!).
ودنت منه، وقبل أن تهوي على فمه تقبله، انقض الدكتور فحال بينهما!؟!
يا للسخف!
ولان قلب الدكتور فوضع منديله على وجه نادر، وأشار إلى الفتاة، فدنت منه. . . وطبعت عليه قبلة باكية. . . ولكنها أحست بشفتيه الباردتين المثلوجتين. . . وبحركة خاطفة رفعت المنديل وحدقت في وجه الفتى. . . ولكن. . . وا أسفاه. . . لقد فارق الحياة.
وتوجهت سهام إلى الله بنفس حزينة راضية. . . وغادرت المصحة بعد أيام، ولكن لا إلى قصر أبيها وحدائقه. . . ولا إلى أحلامها وأمانيها.
دريني خشبة(169/68)
البريد الأدبي
رد وبيان - حول أغلاط مزعومة
نشرت (الرسالة) في عددها الصادر في 31 أغسطس (العدد رقم 165) مقالاً بعثت به إليها أثناء غيبتي في أوربا عنوانه (أسبوع في سبتمانيا: من ذكريات العرب والإسلام في غاليس)، عرضت فيه بعض حقائق وملاحظات أثارتها في نفسي زيارتي لسبتمانيا وقواعدها في أواخر شهر يوليه الماضي.
وقد لُفت نظري عقب عودتي بأيام قلائل إلى كلمة نشرتها إحدى الصحف السورية لكاتب يزعم أنه اكتشف في مقالي أغلاطاً شنيعة في التاريخ والجغرافيا، وينتهز الفرصة فيوجه إليَّ وإلى (الرسالة) وصاحبها فيضاً من الغمز البذيء الذي ينم في كل كلمة منه عن حقد مضطرم وسوء نية يعلم الله وحده مصدرهما والباعث عليهما.
وأنا أربأ بقلمي و (بالرسالة) عن التورط في هذا المعترك الوضيع، معترك السباب والقذف، وأكتفي بالرد على ما جاء في الكلمة خاصاً بالأغلاط المزعومة.
نقل الكاتب عبارتين من مقالي هما موضوع المناقشة، وهذه أولهما:
(ولقد كانت سبتمانيا - وهو سمها القديم، ومعناه ذات المدن السبعة - أو لانجدوك الحديثة، أول أرض إفرنجية غزها العرب عقب افتتاح الأندلس، واتخذوها قاعدة لغزواتهم في جنوب فرنسا، وجعلوها ولاية أندلسية سميت بالثغر أو الرباط لوقوعها على ساحل البحر الأحمر. . .).
وأظن أنه لا يخفى على فطنة أي قارئ أن كلمة (الأحمر) هنا إنما هي خطأ مطبعي أو سهو قلمي لا شك فيه، جاءت مكان (البحر الأبيض)؛ ولا يمكن بداهة - والمقال كله على سبتمانيا وجنوب فرنسا والأندلس - أن يخطر ببال قارئ أن كاتب هذا المقال يقع في مثل هذا الخطأ الساذج. وإذن فالجهل المقرون بسوء النية هو وحده الذي يملي على الكاتب ملاحظته الخرقاء، وقوله إني أجهل الجغرافيا، وأنتقل بالقاري من شواطئ البحر الأبيض إلى شواطئ البحر لأحمر.
وكيف يتصور إنسان سوى هذا الحاقد المصدور أن الخطأ هنا حقيقي وقد كتبتُ مسودة المقال وأنا أتجول في سبتمانيا ذاتها وعلى شواطئ البحر الأبيض نفسه؟(169/69)
ومن الأسف أنه قد تسربت إلى المقال بعض أغلاط وتحريفات مطبعية أخرى، خصوصاً وأني لم أتول تصحيحه بنفسي كما عادتي نظراً لتغيبي في أوربا، وكان ثمة تحريف آخر هول في شأنه الكاتب تهويلاً سخيفاً؛ فقد نقل العبارة الآتية التي وردت أثناء حديثي عن موقعة رونشفال:
(ولرونشفل ذكرى خالدة في التاريخ والقصص الفرنسيين، فقد كانت مسرحاً للموقعة الشهيرة التي مزق فيها العرب جيش كارل الأكبر (شارلمان)، حين عوده من غزوته لأسبانيا الشمالية، التي نظم فيها رولان وصيف شارلمان أنشودته الشهيرة
والكاتب يظن أنه يقول جديداً حين ينقل إلينا من (لاروس) أن رولان ليس هو ناظم الأنشودة، وأن ناظمها لم يعرف.
ونعود فنقول هنا إن سوء النية الذي يملي على الكاتب كل عباراته أعماه عن أن يرى في العبارة كلها ثغرة ونقصاً يقطعان بأن هناك تحريفاً؛ فقد سقطت في الواقع منها كلمات غيرت كل مبناها ومعناها؛ وقد كان النص، على ما أذكر: (وفي تلك الموقعة، وفي أبطالها الإفرنج ولا سيما هرودلاند أو رولان وصيف شارلمان نظمت الأنشودة الشهيرة) أو ما في معناه.
ومع ذلك فالحديث عن موقعة رونشفال ومصرع رولان وأنشودته يكوّن فصلاً من كتابنا (تاريخ العرب والموريسكيين في أسبانيا)؛ وقد نشر هذا الفصل فعلاً في مجلة (الهلال) الغراء في عددها الصادر في أول فبراير سنة 1934 (ص 453 وما بعدها)؛ وهذا ما ورد فيه خاصاً بهذه النقطة:
(وتضع الرواية الإفرنجية تاريخ الموقعة في 18 أغسطس سنة 778 (ذي القعدة سنة 161)؛ وبينما تقنع الرواية العربية بالإشارة إليها في عبارات موجزة إذا بالرواية الإفرنجية والكنسية تفيض في تفاصيلها إفاضة ظاهرة. وأوثق وأدق الروايات الإفرنجية عنها هي رواية اينهارت مؤرخ شارلمان ومعاصره، فهو يفصل حوادثها ويذكر من هلك فيها من الأمراء والسادة، ومنهم اجهارد رئيس الخاصة، وانسلم محافظ القصر، وهرودلاند حاكم القصر البريتاني. وهرودلاند هو رولان بطل الأنشودة الشهيرة التي نظمت عن هذه الموقعة، والتي ما زالت أثراً خالداً لقريض الفروسية في العصور الوسطى؛ ذلك أن(169/70)
الأسطورة اتخذت من حوادث هذه الموقعة موضوعاً لقصة حربية حماسية حرفت فيها الوقائع الأصلية أيما تحريف، ولكنها تستبقى مكان الموقعة وبعض أشخاص التاريخ.
(وهي نورمانية الأصل ظهرت لأول مرة في القرن الحادي عشر أعني بعد الموقعة بثلاثة قرون، ودونت أولاً في بعض القصص اللاتينية، ثم دونت بالنظم في قصيدة طويلة بعنوان (أنشودة رولان).
هذا ما كتبناه ونشرناه منذ أعوام عن أنشودة رولان، نكرره هنا ليعرف الكاتب أننا لسنا في حاجة إلى تصحيحاته المستقاة من معجم الأحداث.
أما كون رولان كان وصيفاً لشارلمان أم لا، فهذه نقطة لا أهمية لها، وقد كان رولان أو هرودلاند أحد البارونات الإقطاعيين؛ وكان من الشرف الملوكي يومئذ أن يلتحق البارونات بمناصب الوصفاء في البلاط، وكان هرودلاند من هؤلاء.
وبعد، فهذا ما يزعم الكاتب أنه أخطاء شنيعة اكتشفها في مقالنا، وهذا ما يريد أن يتخذه تكأة للتعريض بنا وبالكتاب المصريين والأدب المصري.
وهذه نغمة نعرفها؛ وقد نعرف الباعث عليها.
بيد أن الكاتب يوهم إذ يحسب أنه يستطيع أن ينال منا بمثل هذا الإسفاف.
أما إشارته إلى كتابنا (ديوان التحقيق والمحاكمات الكبرى) فنكتفي بأن نرد عليه بأن المراجع التي ذيلنا بها كل فصل من فصوله تكفي لأن تخرس ألسنة السفهاء والمتحاملين.
محمد عبد الله عنان
الجاحظ في كتاب (تراث الإسلام)
نشرت (الرسالة) الغراء منذ عددين استهلال فصل الفلسفة والإلهيات في كتاب (تراث الإسلام) ورد فيه كلام للجاحظ يتضمن الاعتراف بفضل الفكر اليوناني على أهل الملة الإسلامية؛ ثم نشرت في العدد المضي مقالاً للأديب الكريم محمد طه الحاجري أثبت فيه نص الجاحظ وذكر الكتاب الذي ورد فيه هذا النص.
والذي سيطلعون على فصل الفلسفة والإلهيات في هذا الكتاب سيعرفون من تعليقاتي الجهد الشاق الذي تحملته في البحث عن النصوص التي وردت فيه، ولا سيما أن المؤلف كان في(169/71)
أكثر هذه النصوص لا يشير إلى المراجع التي استقاها منها.
والقراء يعرفون أن الجاحظ قد ألف العديد من الكتب والرسائل وأنه كان يتناول في الكتاب الواحد موضوعات شتى واتجاهات متباينة قد لا يربطها عنوان الكتاب. فمعرفة نص له في كتاب مجهول الاسم أمر عسير كل العسر. ومع ذلك فقد حاولت جهد الطاقة أن أعرف الكتاب الذي ورد فيه هذا النص فلم أوفق؛ فاتصلت بالأستاذ جيوم مؤلف الفصل - في إنجلترا - لعله يهديني إلى الكتاب الذي ورد فيه النص، فرد معتذراً بنسيان المصدر. . . ولما كنت أعلم أن لهذا النص خطره من حيث إنه يحمل اعترافاً له قيمته العلمية فقد تعمدت أن أثبت في ذيل الصفحة التي ورد فيها كلام الجاحظ تعليقاً أوردت فيه نصوصاً لعلماء المسلمين وفلاسفتهم (كالشهر ستاني، وابن خلدون، وابن سبعين) وكلها تؤيد هذه النظرة التي ذهب إليها الجاحظ.
ويستنكر الأديب الكريم من المؤلف استشهاده بهذا النص على أن الفلسفة العربية ليست إلا صورة من الفلسفة اليونانية مشوبة ببعض الفلسفات الفارسية والهندية. وهذه ملحوظة لم أهمل الالتفات إليها والرد عليها في تعليق آخر قد نشرته الرسالة مع المقال وذكرت فيه آراء بعض مؤرخي الفلسفة الإسلامية من علماء الغرب وانتهيت إلى تقرير الرأي بأن للفلسفة الإسلامية كياناً خاصاً يميزها من غيرها من سائر الفلسفات لأن ثمرات من عبقرية أهلها.
على أن هذا الرأي لا ينفي القول بأن الجاحظ وغير الجاحظ من علماء المسلمين وفلاسفتهم قد اعترفوا بما كان لليونان من فضل على أهل الملة الإسلامية؛ بل أسرف أكثرهم فعزا إليهم الفلسفة الإسلامية في شتى آفاقها.
وإني لأشكر للأديب الكريم اهتمامه بالأمر ومسارعته بالرد؛ فلو تأخر رده أسبوعاً واحداً لكان الكتاب في أيدي قرائه. وتعذر علينا تبليغ النص إليهم.
توفيق الطويل
عضو لجنة الجامعيين لنشر العلم
هل للشاعرة ما للشاعر من الحرية في التعبير الشعري؟(169/72)
حول رسالة آنسة
قلت في إحدى مقالات (شعراء الموسم في الميزان) أثناء نقد قصيدة السيدة منيرة توفيق: (والمرأة المصرية تستمد صمتها من أبي الهول، ولا أعني إلا الإمساك عن التعبير عن الإحساس والعواطف تعبيراً صادقاً؛ فمن شعرت من بنات مصر فإنما تقول في الأخلاق والنصائح، متجاوزة خوالج النفس ودقائق الحس، لأن طبعها الصموت الحي يأبى الحديث عنها، وأعتقد أنها لو فعلت، وكانت موهوبة التعبير والأداء لأتت بالغرائب).
ومنذ أيام وردت إلي هذه الرسالة في بريد (الرسالة)، وهي بعد الديباجة:
(طالعتني الرسالة في عددها - 162 - بكلمتكم الغراء عن المرأة المصرية وتنحيها عن التعبير الشعري في ميادين الأدب بإحساس النفس وخوالجها.
أقول الشعر بالسليقة ثم أخذته دراسة لميلي الفطري، ولدي الكثير في الغزل والوصف والرثاء والحماسة إلى غيره من أبواب الشعر ولكني لا أجرؤ على نشره؛ وقد دفعتني كلمتكم إلى إرفاق مقطوعات من بعض ما لدي دفاعاً عن المرأة المصرية. فإن استشعر أستاذي فيها خيراً أقبلت على النشر وواليت الإنتاج.
أنتظر رأيكم على صفحات (الرسالة) وكم في (الكنانة) من مثيلاتي؛ وتنازل بقبول أسمى تحياتي.
ف. ع. ح آنسة
فهذه الآنسة، وإن كانت تعبر عن إحساسها لا تجرؤ على نشر ما تقول، كما تقول، وتدفع عن المرأة المصرية تهمة القصور باطلاعنا على قطع من شعرها أكثرها في الغزل. . . ونسوق إلى القارئ منه شيئاً:
تقول في أبيات عنوانها (سهام):
كان الفؤاد يقول لو ذقت الهوى ... ونعمت حيناً مثل من ناجى اللوى
ظن الغرام عادة لم يدر ما ... يخفيه من ليل المحب وما طوى
ذكر اللقاء وما به من لذة ... لكنه جهل الصبابة والنوى
فنصحت مهلاً يا فؤادي واتئد ... ليس الغرام كما ظننت بما احتوى
لكنه ما يرعوى عن غيه ... ومضى به شوق الغرام إلى الهوى(169/73)
والآن من سهم اللحاظ معذب ... قد ذاب من وله يود لو ارعوى
وهذه جرأة نجرؤ على أن نقول إن فيها كسباً جديداً للأدب، فإذا كان الشعر يستمد أكثر ما يستمد من العاطفة، فالمرأة هي العاطفة، وهي تلهم الرجل الشعر، فإذ تشعر هي فإنما تنفق عن سعة وتتدفق من معين.
والحق أن المرأة إنما تحجم عن هذا الميدان لأنها تخشى إنكار لرجل عليها، فهي لا تقول الشعر المعبر عن حقائق نفسها لأنها ترى أنها ستقوله لنفسها، فتؤثر الصمت؛ ولعل رسائل الحب الخاصة أفسح مجال لها، فهي تحسن فيها وتبدع، فلو أتيح لها أن تظهر في حلبة الشعر مطلقة الحرية في التعبير لبذت وفاقت.
وبعد، فإلى الآنسة (ف. ع. ح) يساق الحديث:
أشكرك على خطابك الرقيق، وأحيي فيك هبة الشعر التي تبدو فيما بعثت به، وإن كان يعوزه الشيء الكثير من سلامة الأسلوب ومتانة النسج وصحة المعاني، وترتيب الأفكار. ولعل ما قرأته في نقدنا للشعراء يهون عليك وقع هذا الكلام، فقد عاهدنا الحق أن نسلك سبيله لا نحيد عنه. وإن كان هذا بدء معالجتك لقرض الشعر فهو يبشر بالإجادة؛ فأحب لك الآن أن تقبلي على المطالعة والدراسة أكثر مما تقبلين على الإنتاج والنشر.
عباس حسان خضر
عيد جوسلين وذكرى لامارتين
في أوائل شهر سبتمبر أقيم في مدينة ماكون بفرنسا عيد أدبي مؤثر؛ وماكون هي مسقط رأس الفونس دي لامارتين ومرتع طفولته وحداثته؛ ولكن العيد الأدبي الذي أقيم بها لم يكن خاصاً بشخص لامرتين، بل بإحدى منظوماته الشعرية الشهيرة، ونعني (جوسلين) التي مضى على صدورها مائة عام.
احتفل إذن بالعيد المئوي (لجوسلين) في ماكون، وأثيرت ذكرى الشاعر الكبير، ورأس هذه لحفلات المؤثرة مسيو هنري بوردو عضو الأكاديمية الفرنسية، وكان من ضمنها حج أصدقاء الشاعر إلى ضيعته (ميلي) التي قضى فيها أعذب أعوامه وشاد بذكرها في (مذكراته) وإلى قصر سان بوان حيث قضى أعوام مجده، ثم إلى قصر مونصو حيث(169/74)
قضى أعوامه الأخيرة في غمر من البؤس والنسيان.
ما منظومته (جوسلين) التي عرفت أيام صدورها منذ مائة عام أعظم ظفر أدبي يمكن تصوره فتكاد تنسى اليوم إلى جانب منظومات وروايات أخرى للامارتين؛ ذلك أنها لم تكن خير ما نظم من حيث الصناعة والصقل، ولكنها كانت من أبدع ما نظم من حيث الروح، والقوة، والطابع الغنائي.
وجوسلين قصة شعرية كبيرة في أكثر من ثمانية آلاف بيت، وكانت حسبما يريد ناظمها أول قسم من ديوان شعري ضخم يسمى (الرؤى) وبطلها جوسلين وهوفتي يتيم وولد قروية فقيرة، حملته ظروف الأسرة على الالتحاق بمدرسة الكهنة على رغم إرادته؛ وكان ذلك أيام الثورة، فلم يلبث أن طرد من المعهد قبل إتمام دروسه؛ وعندئذ فر إلى الجبال ليتقي المطاردة التي كان يعرض إليها رجال الدين يومئذ، وعاش في كهف في الجبال، وعطف عليه راع كان يمده خفية بالطعام والشراب.
وفي ذات يوم رأى جوسلين شيخاً وفتى يطاردهما القتلة فتقدم لعونهما، وأسلمه الشيخ فتاه، ولكن لم ينج من رصاص لقتلة فخر قتيلاً، بينما التجأ ولده ناجياً إلى كهف جوسلين.
وعاش جوسلين مع هذا الفتى الحدث في وئام وحب أخوي؛ ولكن حدث ذات يوم أثناء هبوب العاصفة أن جرح الفتى، ولاحظ جوسلين دهشاً مرتاعاً، أثناء العناية به، أن يعني بفتاة لا بفتى، فعندئذ هام جوسلين بالفتاة (لورانس)، وأخذ يحلم بالاقتران به.
ولكن الدهر لم يلبث أن فرق بينهما. ذلك أن جوسلين دعاه أسقفه ومربيه وهو على أهبة الموت ليقوم له بالواجبات الأخيرة، ولم ير جوسلين بداً من قبول التضحية، فهرول إلى الأسقف، وقام بواجبه. وفي أثناء ذلك تركت لورانس العنان لأهوائها وغدت فتاة خاطئة، ودارت الأيام دورتها، فالتقى جوسلين ثانية بلورانس يطلب إليها الصفح ويحمل إليها الغفران.
تلك هي خلاصة (جوسلين) والمعروف أنها صورة لقصة واقعة بطلها راهب من أصدقاء الشاعر يدعى الأب (دومون)، كان من رجال الدين أيام الثورة، فعهد إليه ذات يوم أحد أصدقائه الأشراف بصغرى بناته لكي ينقذها من خطر السجن والإعدام فهام كل منهما بالآخر، وأثمر الحب ابنة سميت الآنسة ميلي؛ وعاش القس محترماً مبجلاً يزاول مهنته(169/75)
بعطف ورقة حتى توفي؛ ونظم لامارتين فيه قصيدة مؤثرة؛ وما زال قبره في تلك الأنحاء يعرف بقبر (جوسلين) بطل منظومة لامارتين.
من أرض البكم
صدر أخيراً بالألمانية كتاب عنوانه (من أرض البكم) بقلم الكسندرا آنسروفا: وأرض البكم هي سجون روسيا السوفيتية ومعاقلها التي خصصت لنفي الأحياء وإخراس الألسن؛ والكسندرا آنسروفا هي نبيلة من نبيلات روسيا القيصرية، كانت أيام الثورة فتاة في السادسة عشرة، فقبض عليها البلاشفة وزجوها إلى السجن بين من زج من النبلاء والنبيلات؛ وما زالت الكسندرا تتقلب من سجن إلى سجن ومن منفى إلى منفى بلا تهمة ولا ذنب معين إلا أنها من النبيلات، وتعاني أروع الآلام المادية والمعنوية، تارة في جزر البحر الأبيض الشمالي، وتارة في سيبيريا حتى سنة 1932؛ وعندئذ أفرج عنها بعد اعتقال دام نحو خمسة عشر عاماً، وبعد أن ظهرت براءتها ناصعة؛ فلبثت في موسكو مدى عامين تدون مذكراتها عن (أرض البكم) ثم غادرت بعد ذلك موسكو إلى ألمانيا، وهنالك نشرت كتابها المذكور.
والكتاب يصف السجون والمعاقل الروسية في عهد البلاشفة وصفاً دقيقاً مروعاً، ومنه يتبين أنها ليست في العهد الحالي أقل شناعة وروعة منها أيام القياصرة؛ وفي الكتاب ملاحظات وحقائق غريبة عن الحياة الجديدة في روسي البلشفية.
الثقافة الألمانية في عصر النازي
نشرت الكاتبة الأمريكية دوروثي تومبسون في مجلة (الشؤون الخارجية) الأمريكية مقالاً عن (الثقافة في عصر النازي) استعرضت فيه خواص الحركة الأدبية والثقافية في ألمانيا الحاضرة، ومما قالته إن العالم الخارجي يدهش اليوم لأن أصوات الكتاب الألمان لا تسمع، ولأنهم رضوا طائعين أن يكونوا آلة صماء للسياسة والوحي السياسي، ولكن الحقيقة أن هنالك مبررات قوية لهذا الخضوع المطبق؛ ذلك أن الحركة الفكرية والثقافة كلها قد وضعت في ألمانيا الحاضرة تحت نظام حديدي مطلق، ومن المستحيل اليوم أن يصدر في ألمانيا كتاب أو نشرة ديموقراطية أو اشتراكية، أو أدب يصطبغ بالصبغة الدولية مخالفاً(169/76)
للنزعة القومية الداخلية. وقانون الصحافة الجديد قوامه عصبة من الكتاب المتعصبين لنظريات الجنس هم أعضاء جمعية الصحافة القومية، ولهم وحدهم الحق في الكتابة تحت الرقابة الحزبية، ويعاقب من يخرج منهم على قانون الجمعية أو على مبادئها بالحبس سنة؛ وكل ناشر يشجع كاتباً ليس ملتحقاً بجمعية الصحافة وينشر له شيئاً يعاقب بالحبس والغرامة وكل ما يكتب تفرض عليه رقابة صارمة؛ وتخضع الحركة الفنية لمثل هذا النظام الحديدي؛ وترى مس تومبسون أن ما يسود الحركة الثقافية اليوم من تلون ونفاق أساسه الاضطهاد والخوف يجعلها في نظر العالم المتمدن مأساة مروعة تفوق تلك المأساة التي يعرضها الكتاب المنفيون أنفسهم؛ فبين أولئك المنفيين اليوم أعظم كتاب ألمانيا المعاصرة مثل توماس مان، وأخيه هينريش، وأرنولد زفايخ، وأريك ريمارك، وطائفة أخرى من أقطاب الكتاب اليهود.
والأدب الألماني يصدر اليوم في ظل النازي بكثرة، ولكنه أدب محتضر تنقصه روح الابتكار، وينتظر زعماء النازي عبثاً ظهور العبقريات الأدبية الممتازة. ذلك أن حرية الفكر هي روح كل أدب وفن؛ وما دام التفكير مصفداً والآراء مملاة، فسوف يكون ثمة أدب وثمة كتب ومجلات، ولكن لن يكون ثمة أدب جميل أو رفيع؛ وسيكون ثمة كتاب، ولكن كتاب محترفون أرقاء.
دائرة معارف للجنس الأسود
سيكون للسود في القريب العاجل دائرة معارف خاصة تتحدث عن كل ما يتعلق بهم من الخواص الجنسية والشؤون السياسية والاجتماعية، والتاريخ والمدنية؛ وتعد هذه الموسوعة الجديدة الآن في أمريكا؛ وقد وضع المشروع منذ سنة 1932، وانتخب لرآسة اللجنة المشرفة على تنفيذه زعيم السود الدكتور دي بوا أستاذ علم الاجتماع في جامعة اتلانتا؛ وتشمل اللجنة ممثلين لجمعية تقدم العلوم الأفريقية، ومجلس الجمعيات العلمية الأمريكية ولجنة التعاون الدولي؛ وستعنى الموسوعة بالتحدث عن جميع أطوار حياة الجنس الأسود وتاريخه ومدنيته، سواء في إفريقية أو أمريكا؛ وسيكون لهذه الموسوعة الطريفة شأن عظيم في دوائر الأدب والسياسة والاجتماع؛ وسيعطى لها اسم (موسوعة الرجل الأسود)
مذكرات ملوكية(169/77)
صدرت أخيراً ترجمة إنكليزية لمذكرات الأميرة أولاليا الأسبانية، وهي ابنة الملكة إيزابيلا وعمة الفونسو ملك أسبانيا السابق؛ وتشغل هذه المذكرات زهاء سبعين عاماً تنتهي بقيام الجمهورية في أسبانيا سنة 1931؛ وتتضمن أخباراً وقصصاً ونبذاً كثيرة عن معظم الحوادث التي تمس أسبانيا، وعن جميع القصور الأوربية التي تتصل الأمير أولاليا بمعظمها بصلة القرابة؛ وتبسط الأميرة بنوع خاص الأسباب والعوامل التي أدت إلى سقوط الملكية الأسبانية، والتي شرحتها غير مرة للأسرة المالكة، ولم يحفل بنذيرها إنسان. كذلك تتضمن المذكرات نبذاً كثيرة عن عظماء هذا العصر الذين اتصلوا بالبلاط الأسباني.(169/78)
الكتب
رسائل الأهالي
على طريق الهند
للأستاذ عبد الفتاح السرنجاوي
رسالة قيمة أخرجتها إلى شباب الشرق جريدة الأهالي التي كانت تصدر في بغداد وعُطلت وا أسفاه منذ طويل، وهي بحث علمي قوي رجع كاتبه الفاضل فيه إلى أكثر من تسعين مرجعاً من السجلات والمحفوظات الرسمية والأوراق البرلمانية وتقارير الخبراء العسكريين والدبلوماسيين ونصوص المعاهدات، وكتب المؤلفين المهتمين بدراسة شؤون الشرق أمثال أندريو وبوشام وتشرشل وكرزون وفوكس ومون وإسكويث والسير وليم ولكوكس والسير ارنولد ولسون وغيرهم.
وقد تبدأ هذه الرسالة بمقدمة جغرافية عن أهمية الخليج الفارسي وسواحله العربية والفارسية والشمالية، ثم يجاوز الكاتب هذا إلى كلام في تاريخ الخليج، ثم يثبت أن المصالح المادية وتجارة أوربا مع الشرق كانت سابقة للأطماع السياسية، وينتهي إلى أن الإنجليز إنما سيطروا على الخليج الفارسي في سبيل الهند موضحاً أهمية الهند للرأسمالية الإنجليزية وكاشفاً في قوة وجرأة عن سياسة هذه الرأسمالية واستخدامها الهنود لمصلحة الاستعمار وارتكابها الأخطاء الوحشية في سبيل تحقيق ذلك كله. ويرى الكاتب الفاضل أن وادي الفرات أقرب الطرق إلى الهند؛ ويشرح موقف إنجلترا إزاء المسألة الشرقية، واهتمامها بطريق السويس والفرات؛ ويبين ما نشأ من نزاع بين الرأسمالية الدولية من أجل سكة حديد بغداد حتى قيام الحرب العالمية.
ويرى كاتب الرسالة فوق ما تقدم أن الثورة الصناعية جعلت الإنجليز في حاجة إلى كثير من المواد الغفل، وقد يكون اهتمامهم بالعرق لأنها طريق الهند أولاً ولأنها أيضاً حقلٌ يستطيعون أن يحصلوا منه على القطن والحبوب، وتفسير ذلك اهتمام الإنجليز بمشروعات الري العراقية التي أسفرت عن فشل مروّع. ثم يشير إلى مرحلة أخرى كشف فيها النفط ودعي الجنرال فيشر إلى الاستعاضة به عن الفحم وما بذلته إنجلترا في سبيل تأسيس(169/79)
الشركات وعقد الصفقات والمقاولات حتى سنة 1931.
وينتقل إلى أن الحالة السياسية كان لها أثرها في علاقات الإنجليز بالشرق، فقد قامت النهضة التركية وسيقت تركيا لإعلان الحرب وتقاسم الاستعماريون أملاكها، ثم كان أخيراً انتصار مصطفى كمال والقضاء على الأطماع البريطانية في تركيا ذاتها.
كذلك ظهر السيد جمال الدين الأفغاني ونشر آراءه الحرة في إيران فقامت حركات دستورية واضطرابات عنيفة سنة 1905 و 1908. ثم قامت الحركة الوطنية بعد 1917 فخذلت الاستعمار البريطاني ونصَّبت رضا شاه بهلوي ملكاً على إيران الجديدة.
كذلك قاتل الأفغان ضد الاستعمار تحت راية أمان الله حتى الحرب العامة التي أعلن أمان الله بعدها الاستقلال وأسس العلاقات السياسية مع روسيا. ثم جاوز هذا حرب الإنجليز وعقد معهم صلح (راوال بندي)، وسار في سبيل الإصلاح الداخلي والنهوض بالأفغان حتى قامت عليه الثورة المدبرة التي أنزلته عن عرشه وأجلست مكانه نادر شاه.
وتشير الرسالة إلى بوادر ليقظة في الهند بعد فظائع الاستعمار البريطاني مما أدّى إلى عقد المؤتمر الوطني الهندي ونجاحه في الدعوة إلى الثورة في وجه الإنجليز حتى سنة 1912، ثم اقتربت الحرب العظمى فاستملت إنجلترا الهنود لتضمهم إلى صفوفها. وبعد انتهاء الحرب عمد الإنجليز إلى إصلاحات سنة 1919 ثم قامت الحركة الوطنية بزعامة غاندي فحكم عليه وانقسمت الجبهة الوطنية ودارت مفاوضات مؤتمر الطاولة المستديرة وانتهى الأمر بتخاذل غاندي وانصرافه عن قضية الوطن الهندي إلى قضية المنبوذين.
كذلك مصر قامت فيها حركة وطنية بدأها محمد علي الكبير ورعاها إسماعيل والطبقة الأرستقراطية؛ وهنا يناقش الكاتب الوضع الاقتصادي للبلاد، ويتتبع أدوار الوطنية التقليدية على يد عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول، ويبين كيف أن اتحاد الجهات العليا مع الإنجليز، وتآمر الأرستقراطيين مع السياسة الاستعمارية جعل الوطنية التقليدية على وشك الزوال. ذلك ختام الفصل الذي تعرضت فيه الرسالة لمصر. على أن ما شهده العالم من تضحيات الشباب المصري، وتكوين الجبهة الوطنية ممثلة جميع الأحزاب، وعقد معاهدة 1936، لا شك يجعل الوطنية التقليدية التي شار إليها الكاتب الفاضل تدخل في دور جديد يُقضى فيه على مساومة المستعمرين وخذلان قضية الوطن برعاية مصالح الطبقة الخاصة.(169/80)
ثم يناقش الكاتب الفاضل بعد هذا تعاون روسيا السوفيتية مع الشرقين الأوسط والأدنى، وإلغاء الامتيازات، وعقد المعاهدات مع تركيا وإيران وأفغانستان، وتكوين الجبهة الشرقية ضد الاستعمار، وما كان فوق ذلك من أثر النظام السوفيتي في حكومة تركيا الجمهورية مستدلاً بمشروع السنوات الخمس التركي.
وببحث الفصل الأخير من فصول هذه الرسالة القيمة في النزاع الاستعماري في الشرق الأدنى وكيف أن الإنجليز يستعينون بأمراء العرب ضد الوحدة الإسلامية، وكيف أن سياستهم قد انخذلت في الشرق بعد الانقلاب الروسي، فعمدت إنجلترا إلى سياسة جديدة هي مفاوضة فرنسا وعقد المؤتمرات لتوزيع العروش والتيجان، وبذلك حكمت جبهة الدفاع في البلاد العربية واتخذت العرق مقراً لها. وأخيراً يشير إلى المعاهدة العراقية الإنجليزية ويرى أن الخلاص لا يكون إلا بالانتباه إلى مكائد الاستعمار للعراقيين ولشعوب الشرق على حد سواء، وبالاستفادة من موقع العراق الخطير على إنقاذ أنفسهم من ويلات المستعمرين، وأن يتذكروا دائماً أن خلاصهم من الاستعمار منوط بتعاون شعوب الشرق كافة وبزوال الاستعمار من جميع البلاد الشرقية.
ذلك نموذج سام للكتابة القومية الشرقية التي لا يختص بها قطر دون آخر من بلاد الشرق، والتي تريد أن تجعل من الشرق بأسره جبهة قوية في وجه الاستعمار. والواقع أن الشعوب المغلوبة على أمرها في أشد الحاجة إلى مثل هذه الكتابة الشعبية التي تنير لها سبل الحياة الحرة وتشعرها بما ينصب فوق رأسها من إرهاق وعسف؛ ذلك هو الأدب الحي الذي يقلب أوضاع الجماعات ويهدم الفاسد من أنظمة الحكم ليقيم محلها أنظمة صالحة تنفذها حكومات صالحة تعمل لصالح المحكومين وتستمد منهم وجودها وقوتها، والشرق العربي والطوراني ظلاً طويلاً مسخرين لصالح الحاكمين والمستعمرين الذين أذلوا الجماعات، ووقفوا في سبيل إظهار مواهب الفرد وقوته، وحالوا دون أن يعمل لصالح الجماعة التي يعيش فيها. ورسائل الأهالي التي نحن بصددها كتابة شعبية صريحة كتبتها أقلام جريئة قوية لا تخشى في الحق لومة لائم ووجهتها إلى شباب الشرق تثير فيه الحماسة وتذكي جذوة القومية الشرقية العزيزة وتجلي عن ويلات الاستعمار ومساوئه وتفتح عين الشرق على خير وسائل الخلاص، وهذه الأقلام المخلصة لا ريب حقيقة بالتعظيم والتقدير.(169/81)
عبد الفتاح السرنجاوي
مدرس التاريخ بمعهد القاهرة(169/82)
العدد 170 - بتاريخ: 05 - 10 - 1936(/)
سعد زغلول
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وقال صاحب سرّ (م) باشا: ألقى إليّ الباشا ذات يوم أن (سعداً) مصَبِّحُنا زائراً، وكانت بين الرجُلين خاصة وأسباب وطيدة. وللباشا موقع أعرفه من نفس سعد كما أعرف الشعلة في بركانها؛ أما سعد فكان قد انتهى إلى النهاية التي جعلته رجلاً في إحدى يديه السّحر وفي الأخرى المعجزة، فهو من عظماء هذه البلاد كقاموس اللغة من كلمات اللغة يردُّ كلُّ مفردٍ إليه في تعريفه، ولا تصح الكلمة عند أحدٍ إلا إذا كانت فيه الشهادة على صحتها.
وجاءنا سعدُ غُدْوَةً فأسرعتُ إلى تقبيل يده قبلةً لا تشبهها القبلات، إذ مُثلت لي من فرحها كأنها كانت منفية ورجعت إلى وطنها العزيز حين وُضعت على تلك اليد. إن ابن الرجل العظيم إذا كان باراً بأبيه عارفاً قدره مدركاً عظمته، يشعر حين يقبِّل يده كأنه يسجد بروحه سجدة لله على تلك اليد التي يقبلها، ويجد في نفسه اتصالاً كهربائيا بين قلبه وبين سرّ وجوده، ويَخُصُّه العالم بلمسة كأن قُبلتَه نبضت في الكون؛ وكل هذا قد أحسسته أنا في تقبيلي يد سعد، وزدت عليه شعوري بمثل المعنى الذي يكون في نفس البطل حين يقبل سيفه المنتصر.
وضحك لي سعد باشا ضحكته المعروفة التي يبدأها فمه، وتتممها عيناه، ويشرحها وجهه كلُّه، فتجد جوابها في روحك كأنه في روحك ألقاها.
والرجل من الناس إذا نظر إلى سعد وهو يتبسم، رأى له ابتسامةً كأنها كمال يتواضع، فيُحس كأن شيئاً غير طبيعي يتصل منه بشيء طبيعي، فينتعش ويثب في وجوده الروحي وثبةً عالية تكون فرحاً أو طرباً أو إعجاباً أو خشوعاً أو كلَّها معاً. غير أن الرجل من الحكماء إذا تأمل وجه سعد وهو يضحك ضحكته المطمئنة المتمكنة من معناها المقِر أو المنكِر أو الساخر أو أيِّ المعاني - حسب نفسَه يرى شكلاً من القول لا من الضحك، وظهرت له تلك الابتسامة الفلسفية متكلمة كأنها مرة تقول هذا حقيقي، ومرة تقول هذا غير حقيقي.
إن سعداً العظيم كان رجلاً ما نظر إليه وطنيٌّ إلا بعين فيها دلائل أحلامها، كأنما هو شخص فكرة لا شخص إنسان؛ فإذا أنت رأيته كان في فكرك قبل أن يكون في نظرك،(170/1)
فأنت تَشهده بنظرين: أحدهما هذا الذي تُبصِر به والآخر ذاك الذي تؤمن به.
عبقريٌّ كالجمرة الملتهبة لا تحسبه يعيش بل يحترق ويُحرق؛ ثائرٌ كالزلزلة فهو أبداً يرتجُّ وهو أبداً يَرُجُّ ما حوله؛ صريح كصراحة الرسُل، تلك التي معناها أن الأخلاق تقول كلمتها.
رجلُ الشعب الذي يُحس كلُّ مصري أنه يملك فيه مِلكا من المجد. وقد بلغ في بعض مواقفه مبلغ الشريعة فاستطاع أن يقول للناس: ضعوا هذا المعنى في الحياة، وانزعوا هذا المعنى من الحياة.
قال صاحب السر: وانقضت الزيارة وخرج سعد والباشا إلى يساره، فلما رجع من وداعه قال لي: والله يا بني لكأنما زاد هذا الرجل في ألقاب الدولة لقباً جديداً؛ ثم ضحك وقال: أتدري ما هو هذا اللقب؟ قلت: فما هو يا باشا؟
قال: والله يا بني ما من (باشا) في هذه الدولة يكون إلى جانب سعد إلا وهو يشعر أن رتبته (نصف باشا). . .
هذا رجل قد بلغ من العظمة مبلغاً تصاغر معه الكبير، وتضاءل العظيم، وتقاصر الشامخ؛ نعم وحتى ترك أقواماً من خصومه العظماء كفلان وفلان وإن الواحد منهم ليلوح للشعب من فراغه وضعفِه وتَطَرُّحه كأنه ظلُّ رجلٍ لا رجل.
وقد أصبح قوةً عاملة لا بد من فعلها في كل حيّ تحت هذا الأفق حتى كأن معاني نفسه الكبيرة تنتشر في الهواء على الناس فهو قوة مرسلة لا تُمسك، ماضية لا تُرد، مقدورة لا يحتال لها بحيلة.
هذا وضع إلهي خاص لا يشبه أحد في هذه الأمة كميدان الحرب لا تشبهه الأمكنة الأخرى؛ فقد غامر سعد في الثورة العرابية وخرج منها ولكنها هي لم تخرج منه بل بقيت فيه. بقيت فيه تتعلم القانون والسياسة وتُصلح أغلاطها ثم ظهرت منه في شكلها القانوني الدقيق. وبهذا تراه يغمُر الرجال مهما كانوا أذكياء لأن فيه ما ليس فيهم؛ وتراهم يظهرون إلى جانبه أشياء ثابتة في معانيها، أما هو فتراه من جميع نواحيه يتلاطم كالأمواج العاتية.
وتلك الثورة هي التي تتكلم في فمه أحياناً فتجعل لبعض كلماته قوة كقوة النصر وشهرة كشهرة موقعة حربية مذكورة.(170/2)
ولما كان هو المختار ليكون أباً للثورة - حرمته القدرة الإلهية النسل وصرفت نزعة الأبوة فيه إلى أعماله التاريخية، ففيها عنايته وقلبُه وهمومُه، وهي نسل حيٌّ من روحه، ويكاد معها يكون أسداً يزأَرُ حول أَشباله.
ولن يُذكَر السياسيون المصريون مع سعد، ولن يذكر سعد نفسُه إذا انقلب سياسياً، فإن المكانَ الخالي في الطبيعة الآن هو مكان رجل المقاومة لا رجل السياسة. وهذا هو السبب في أن سعدا يُشْعِر الأمة بوجوده لذةً كلذة الفوز والانتصار وإن لم يفز بشيء ولم ينتصر على شيء؛ فاطمئنان الشعب إلى زعيم المقاومة هو بطبيعته كاطمئنان حامل السلاح إلى سلاحه.
وسعد وحده هو الذي أفلح في ن يكون أستاذ المقاومة لهذه الأمة، فنسخ قوانين وأوجد قوانين، وحمل الشعب على الإعجاب بأعماله العظيمة، فنبَّه فيه قوةَ الإحساس بالعظمة فجعله عظيماً، وصرفه بالمعاني الكبيرة عن الصغائر، فدفعه إلى طريق مستقبله يُبدع إبداعه فيه.
إن هذا الشرق لا يحيا بالسياسة، ولكن بالمقاومة مادام ذلك الغربُ بازائه؛ والفريسة لا تتخلص من الحلق الوحشيّ إلا باعتراض عظامها الصُّلبة القوية.
وكم في الشرق من سياسي كبير يجعلونه وزيراً فتكون الوظيفة هي الوزير لا نفس الوزير، حتى لو خلعوا ثيابه على خشبة ونصَّبوها في كرسيه لكانت أكثر نفعاً منه للأمة بأنها أقل شراً منه. . . .
يا بني كل الناس يرضون أن يتمتعوا بالمال والجاه والسيادة والحكم، فليست هذه هي مسألة الشرق، ولكن المسألة: من هو النبي السياسيُّ الذي يرضى أن يُصْلَب. . . .؟
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(170/3)
صور سياحة
2 - صروح باريس وطرف من معالمها وآثارها
بقلم سائح متجول
دار الحديث على ظهر السفينة بيني وبين صديق ممن درسوا في باريس وعرفوا كثيراً من معالمها وأحوالها، فقال لي حين أعربت له عن آرائي في باريس ومجتمعاتها وخواص حياتها الاجتماعية: (خذ باريس وحده، واترك من فيها).
وهي تفرقة في موضعها؛ ففرق بين باريس العاصمة التالدة التي تزخر بالربوع والمعاهد الأثرية والعلمية الجليلة، وبين المجتمع الباريزي وخلاله ومظاهر حياته.
وسنخص باريس بالحديث في هذا الفصل، ونحاول أن نعرض لمحة من معالمها ومعاهدها وآثارها العظيمة.
باريس عاصمة القرون والأجيال المتعاقبة؛ وإنك لتلمح في ربوعها ومعاهدها هذا التعاقب في القرون والأجيال، فمن آثار رومانية وقوطية، إلى آثار العصور الوسطى، ثم عصور الملكية الزاهرة وآثار الثورة ثم الإمبراطورية والعصر الحديث؛ وهذه الأجيال المتعاقبة هي فخر العاصمة الفرنسية، وتراثها من أجل ما عرفت الأمم والعواصم التالدة.
وهذا التعاقب في العصور ظاهر الأثر في باريس وفي أحيائها، فباريس مدينة عظيمة شاسعة الأرجاء ولكنها تبدو كأنها عدة مدن متباينة شيدت في عصور وظروف مختلفة؛ فمن أحياء قديمة تغص بالشوارع الضيقة والمباني العتيقة وتحمل أسماء تاريخية لا شك في قدمها، ومن أحياء جديدة تلمح أثر التجديد في شوارعها وميادينها الشاسعة، ومن أحياء مزجت بين القديم والجديد؛ وهذا التباين في تخطيط العاصمة الفرنسية وفي أحيائها يجعل منها مدينة قليلة التجانس والتناسق، بيد أن مسحة من الجلال والعظمة تطبع هذه المجموعة الضخمة المتباينة من المعالم والربوع.
وفي باريس من المشاهد التاريخية الجليلة ومن المواطن والأحياء العظيمة ما يقتضي وصفه فصولاً بأسرها؛ ولقد خصت هذه المواطن ببعض الكتب الساحرة من قلم المؤرخ لينوتر وغيره؛ وسنحاول أن نمر مسرعين بطائفة من هذه المشاهد والمواطن التي كتب عنها الكثيرون من قبل.(170/4)
ن أروع المشاهد التاريخية الباريزية في نظرنا هو قصر اللوفر وذخائره الفنية الجليلة؛ فهذا القصر القديم الذي يجثم كالخلود على ضفاف السين، يمثل أجيالاً من عظمة فرنسا وعظمة الملوكية الفرنسية، وفي أبهاء اللوفر وقاعاته الرائعة تذكر عصور آل فالوا وآل بوربون: عصور فرانسوا الأول وكاترين دي مديتشي، وهنري الرابع، ولويس الرابع عشر، بكل ما فيها من روعة ودسائس ومنافسات، ومآس دموية، وأيام زاهرة.
وتضم أجنحة اللوفر اليوم عدة من المجموعات الفنية الجليلة، ولا ريب أن متحف التصوير الذي يشغل عدة أبهاء شاسعة من اللوفر هو أعظم هذه المجموعات وأغناها؛ فهنالك تمثل أقدم مدارس التصوير منذ بدء عهد الأحياء إلى أحدثها، وهنالك مجموعات حافلة لأعظم أساتذة التصوير الإيطاليين مثل ليوناردو دافنشي، ولي تسيان، ورافائيل سانزيو، وبورجينو وغيرهم، وأعظم الأساتذة الأسبانيين مثل موريليو وفيلاسكيز، وهنالك أيضاً مجموعات حافلة لأعظم المصورين المحدثين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ وربما كانت مجموعات عصر الأحياء التي يحتويها اللوفر أعظم وأغنى مجموعات من نوعها بعد مجموعات قصر الفاتيكان، بل يلوح لنا أن في اللوفر مجموعات لبعض الأساتذة أغنى من نظائرها في الفاتيكان: وفي اللوفر أيضاً مجموعات فاخرة من التحف والحلي الملوكية التي تبهر الأبصار بجمالها وروعتها؛ وبه أجنحة ومجموعات فنية أخرى تقتضي عدة زيارات لاستعراضها وتأملها.
وما زال قصر اللوفر يحتفظ بروعته الملوكية سواء في أبهائه وغرفه الداخلية أو في واجهاته الخارجية، وما زالت ساحاته الشاسعة وأبراجه القاتمة تحتفظ بجلالها القديم؛ ومما يبعث إلى الأسف أن ساحة اللوفر الكبرى مفتوحة من جانبيها لمرور السيارات الضخمة (الأومنبوس) ذهاباً وإياباً، وفي ذلك تشويه للساحة وللقصر ذاته، وإن كان فيه تسهيل للمرور، واختصار للطريق.
وفي قلب باريس عدة قصور تاريخية شهيرة أخرى نذكر منها قصر اللكسمبور الذي يقع في حديقة اللكسمبور الشهيرة، ويشغله الآن مجلس الشيوخ (السينا)، وقصر بوربون الذي يشغله الآن مجلس النواب؛ والقصر الملكي (الباليه رويال) الذي بناه الكردينال ريشليو لإقامته، وتركه بعد وفاته للملك، وسمي الباليه رويال؛ وقصر التويلري الذي بدأته كاترين(170/5)
دي مديتشي، وأتمه هنري الرابع؛ ولهذه القصور التاريخية كلها سير وذكريات شهيرة تملأ صحفاً حافلة من الأدب الفرنسي؛ وهنالك أيضاً قصر (الأليزيه) الذي يرجع إلى القرن الثامن عشر، والذي جعل مقراً لرآسة الجمهورية في العصر الأخير.
وثمة أثران يحوطهما جلال مؤثر، ويبثان إلى المتأمل شجناً خاصاً، هما (دار الانفاليد) و (البانتيون)؛ وتحتوي (دار الانفاليد) أو دار العجزة، التي تقع في شمال غربي باريس في ميدان شاسع جداً، فضلاً عن المستشفى الذي يخلد اسمها وصفتها، على (قبر الإمبراطور) أو قبر نابليون. ويقع القبر في طرفها الشمالي، وهو عبارة عن حظيرة مستديرة تغطيها قبة عظيمة، وقد نصبت في وسطها منصة رخامية عالية، ووضع فوقها تابوت فاخر من المرمر الأحمر القاتم يحوي رفات الإمبراطور؛ ونصبت حول المنصة مجموعة من الأعلام التاريخية التي غنمها الإمبراطور في مختلف المواقع الشهيرة؛ مارنجو، فاجرام، أوسترلتز، إيلو، يينا وغيرها؛ ومن بين هذه الأعلام علم كتب عليه (موقعة الأهرام)، ولكن ليست عليه كتابة عربية تدل على أصله؛ والحق ن منظر قبر الإمبراطور يبعث إليك كثيراً من الروع والإجلال لذكرى ذلك الذي ملأت حياته وأعماله العسكرية الباهرة مرحلة كاملة من تاريخ أوربا بأسرها.
وأما البانتيون، فهو كما تعلم مقبرة الخالدين؛ وقد كان في الأصل كنيسة تسمى (سانت جنفياف)، حولت أيام الثورة إلى مقبرة قومية للعظماء؛ ويقع البانتيون في شارع سوفلو في الحي الجامعي على مقربة من الكليات؛ وما زال البانتيون على وضعه الأول كنيسة فخمة تزين جدرانها طائفة من الصور الدينية البديعة؛ ولكن جلال البانتيون في أقبيته السفلى؛ ففي تلك الأقبية التي قسمت إلى أروقة وحظائر مختلفة يرقد عدة من أبناء فرنسا الخالدين من القواد والكتاب والمفكرين؛ وربما كانت أسماء فولتير، وروسو، وديدرو، وزولا، وجوريس، هي أعظم الأسماء رنيناً في أقبية البانتيون؛ بيد أن هنالك أسماء كثيرة من القادة والزعماء السياسيين أيام الإمبراطور الأولى والإمبراطور الثانية: هذا تابوت المارشال ناي، وهذا إناء يحتوي قلب ليون جامبتا. . . وهذا تابوت جان جوريس الذي اعتبر يوم مقتله في سنة 1914 خائناً للوطن، واعتبر بعد ذلك بعشرة أعوام من أبطال الوطن ونقلت رفاته إلى البانتيون؛ وهذا تابوت فولتير؛ ولكن هل عثر الخلف حقاً برفات فولتير؟ لقد ثار(170/6)
حول ذلك جدل منذ أعوام، وقرأنا في بعض الصحف الفرنسية الكبرى أنه قد عثر على هيكل عظمى في بعض أقبية كنيسة في روان، يظن من شكل جمجمته وفكيه أنه هيكل فولتير، خصوصاً وأنه يروي أن الذي تولى دفنه هو عمه راعي هذه الكنيسة، وأنه دفنه في بعض أقبيتها، ولكن دليل البانتيون يرفض أن يستمع إلى هذه الرواية ويؤكد بكل قواه أن رفات فولتير ترقد في التابوت المرقوم باسمه!
وكما أن باريس غنية بالقصور الملوكية القديمة، فهي غنية أيضاً بالكنائس الأثرية؛ ومن أقدم وأشهر كنائس باريس كنيسة (نوتردام) التي يرجع بناؤها إلى القرن الثاني عشر، والتي يقترن اسمها وسيرتها بكثير من الحوادث التاريخية؛ وكنيسة (سانت شابيل) التي تقع في (الباليه دي جستيس) (دار العدل)، والتي بناها لويس التاسع في القرن الثالث عشر؛ وهذه الكنيسة الصغيرة هي حلية ساطعة بين الآثار الباريزية، وقد بنيت على الطراز القوطي بافتنان بارع، وزينت بنقوش ذهبية رائعة، وجعلت من طبقتين؛ وكنيسة المادلين الفخمة التي تقع في الميدان الشهير المسمى باسمها، والتي ترجع إلى القرن الثامن عشر؛ وكنيسة سان سلبيس التي تقع في نهاية حي سان جرمان على مقربة من الوكسمبور، وقد أقيمت أمامها في الميدان المسمى باسمها نافورة أثرية تحوطها تماثيل أربعة لبوسويه وفنيلون وفلشييه وماسيون؛ وهنالك غير ذلك من الكنائس الأثرية مما يضيق المقام عن ذكره.
وهنالك، على مقربة من (سانت شابيل)، في الناحية الأخرى من دار العدل يوجد صرح يثير اسمه وذكرياته في النفس شجناً وأسى: ذلك هو سجن (الكونسير جيري) الشهير الذي كان أيام الثورة مسرحاً لطائفة من المآسي المؤثرة. كم شهدت تلك الأبراج والغرف الحجرية الضيقة من محن وآلام، وكم سكبت بين تلك الجدران القاتمة من دموع؟ أجل هذا هو سجن (الكونسير جيري) الرائع الذي نقلت إليه ماري انتوانيت لتمضي أيامها الأخيرة قبل المحاكمة؛ لقد كانت هذه الكهوف المظلمة تغص أيام الثورة بالمحكوم عليهم، ومنها ينقلون إلى العالم الآخر. هذه غرفة ماري انتوانيت، وهذا هو الأثاث الحقير الذي استعملته ملكة فرنسا زهاء شهرين، وهذا هو مخدع الزينة الأخيرة الذي قص فيه شعرها وأعدت لتنفيذ حكم الإعدام: وهذه هي بعض مراسلات ووثائق رسمية تتعلق بالمحاكمة. . . . أجل(170/7)
هذه هي الآثار المادية لمأساة من أروع وأشنع مآسي التاريخ! وإن القلب لينكمش أسى حينما يتأمل هذه الآثار المحزنة ويذكر ذلك العهد الدموي - عهد الإرهاب - بكل محنه وجرائمه وفظائعه.
وماذا نذكر أيضاً من صروح باريس العظيمة؟ هنالك الأوتيل دي فيل، أو (دار البلدية) بماضيها الحافل؛ ولقد كانت (الأوتيل دي فيل) في مستهل الثورة مستودعاً للسلاح، فاقتحمها الثوار يوم 14 يوليه، وأخذوا منها السلاح الذي هاجموا به الباستيل: غير أن الدار التي تقوم اليوم ليست هي الدار القديمة، وإنما هي دار جديدة أنشئت في مكانها وباسمها؛ وهنالك دار الأوبرا، وهي محدثة ترجع إلى نحو سبعين عاماً فقط؛ ولكن توجد ثمة طائفة أخرى من المسارح القديمة أشهرها مسرح (الاوديون) الذي أنشئ في أواخر القرن الثامن عشر، والذي ما زال يحتفظ بطابعه القديم، ويشرف بحناياه وأعمدته القصيرة القاتمة على الميدان الذي سمي باسمه من ناحية، وعلى اللوكسمبور من الناحية الأخرى.
وأما ميادين باريس فهي من أعظم وأروع ما تزدان به العواصم الجليلة:؛ وربما كان أعظمها وأبدعها ميدان (الشانزليزيه) الذي لا تكاد تلم العين بجنباته الشاسعة، والذي تنساب من إحدى ضفتيه حدائق الشانزليزيه الرائعة؛ وميدان (الأتوال) المستدير الشاسع الذي يقوم في وسطه قوس النصر، وتنساب من أطرافه عدة شوارع هامة سميت بأسماء قادة فرنسا، مثل لازار هوش، وكليبر، وفوش؛ وقوس النصر من أعلام الآثار الباريزية يثوي تحت ظلاله (الجندي المجهول)، ويحج إليه الزائرون أفراداً وجماعات في خشوع وإجلال؛ وميدان الشان دي مارس حيث يقوم برج إيفل الشهير، وميدان الكونكورد حيث تقوم مسلتنا المصرية، وميدان فندوم الذي يقع بجواره ويزينه عمود من أعمدة الحرية، وميدان المادلين الذي تتفرع منه أهم الشوارع التجارية؛ وميدان الباستيل الذي كان يشغله سجن الباستيل قبل الثورة، ويدل الآن عليه عمود الحرية القائم مكانه.
وتزدان باريس بعدة من الحدائق والبساتين الشهيرة، وفي مقدمتها حديقة اللوكسمبور الشاسعة، التي تزينها بعض البحيرات الصغيرة وتماثيل لملوك فرنسا وملكاتها؛ وبستان مونصو؛ وحدائق الاليزيه وغيرها؛ وأروع من ذلك كله غابة بولونيا التي تقع في غربي باريس، وهي بسيط شاسع من الأحراج النضرة تتخللها طرق نظمت أبدع تنظيم، بعضها(170/8)
للسيارات، وبعضها للفرسان، وبعضها للسائرين؛ وتقدم هذه الغابة الشهيرة بطرقها ومتنزهاتها منظراً يأخذ باللب، ويذكي الخيال، وينعش المشاعر؛ ولقد كانت غابة بولونيا وما زالت متنزه الأرستوقراطية، وملتقى المحبين، يؤمون طرقاتها وأحراجها الساكنة في أمن وطمأنينة؛ ولم نر فيما رأينا من متنزهات أوربا وأحراجها النضرة، أبدع منظراً من هذه الغابة الساحرة التي تحمل طابع العناية الشاملة في سائر أنحائها.
هذه لمحة سريعة عن صروح باريس ومواطنها الأثرية العظيمة، ولسنا ندعي أنها لمحة شاملة، وكل ما هنالك أننا ذكرنا أهم ما يسترعي عناية السائح المتجول؛ أما الحديث عن الصروح والمعاهد العلمية فقد رأينا أن نستبقيه إلى فصل خاص.
(يتلى)
(? ? ?)(170/9)
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
- 4 -
لم يقف تصوف الفارابي عند المدرسة الفلسفية، بل تعداها إلى مدارس أخرى صوفية في الإسلام. وعلى رأس هذه المدارس يجب أن نضع مدرسة الإشراقيين التي عاشت في بلاد الفرس إلى القرن السابع عشر. ومؤسس هذه المدرسة هو السهروردي أو الشيخ المقتول المتوفى سنة 1191م. وكان ذا اطلاع واسع وخبرة تامة بالفرق الفلسفية التي تأثر بها عامة وبرجال مدرسة الإسكندرية وفلاسفة الإسلام السابقين بوجه خاص. ويظهر ن سعة اطلاعه ولدت فيه رغبة التوفيق بين الفلسفات والفلاسفة المختلفين. فالفلاسفة عنده رجال أسرة واحدة وفروع شجرة مباركة تمد الإنسانية بما فيها من ثمار وخيرات. أميدوقل وفيثاغورس وأفلاطون وأرسطو طاليس وبوذا وهرمس ومزدك وماني، وإن انتسبوا إلى شعوب مختلفة، هم أبناء الإنسانية أولاً وبالذات ورسل السلام والإصلاح. وعلى الجملة زهاد الهند وفلاسفة الإغريق وحكماء العراق يسعون وراء غاية واحدة، ويعملون على نشر نظرية ثابتة، وينطوون تحت لواء فلسفة واحدة، هي الفلسفة اإأشراقية. ومبدأ هذه الفلسفة وأساسها الأول أن الله نور الأنوار ومصدر جميع الكائنات. فمن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالم المادي والوحي. والعقول المفارقة ليست إلا وحدات من هذه الأنوار تحرك الأفلاك وتشرف على نظامها. فالفلسفة الإشراقية تعتمد إذن على نظرية العقول العشرة الفارابية مختلطة بعناصر مزدكية ومانوية.
وإذا كان العالم في جملته قد برز من إشراق الله وفيضه، فالنفس تصل كذلك إلى بهجتها بواسطة الفيض والإشراق. فإذا ما تجردنا عن الملذات الجسمية تجلى علينا نور إلهي لا ينقطع مدده عنا. وهذا النور صادر عن كائن منزلته منا كمنزلة الأب والسيد الأعظم للنوع الإنساني؛ وهو الواهب لجميع الصور ومصدر النفوس على اختلافها. ويسمى الروح المقدسة أو على لغة الفلاسفة العقل الفعال. ومتى ارتبطنا به أدركنا المعلومات المختلفة(170/10)
واتصلت أرواحنا بالنفوس السماوية التي تعيننا على كشف الغيب في حال اليقظة والنوم. وليس للتصوف من غاية إلا هذا الارتباط؛ والإشراقييون يسعون إليه ما استطاعوا وكثيراً ما ينعمون به. أما لأنبياء فهم في اتصال دائم وسعادة مستمرة. يقول السهروردي: (إن النفوس الناطقة من جوهر الملكوت، وإنما يشغلها عن عالمها هذا القوي البدنية ومشاغلها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوي البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحياناً إلى عالم القدس، وتتصل بأبيها المقدس وتتلقى منه المعارف، وتتصل بالنفوس الفلكية العالمة بحركاتها وبلوازم حركاتها، وتتلقى منها المغيبات في نومها ويقظتها كمرآة تنتقش بمقابلة ذي نفس).
فالفلسفة الإشراقية التي دعا إليها السهروردي متأثرة في بدئها ونهايتها بتعاليم الفارابي، ذلك لأنها مؤسسة على نظرية الفيض الفارابية ونزَّاعة إلى العالم العلوي؛ غير أن هذه الفلسفة صوفية كلها أو التصوف هو كل شيء فيها، في حين أنه لدى الفارابي ليس إلا قطعة من مذهب متنوع الأجزاء. هذا إلى أن الإشراقي لا يقنع بالاتصال بالعقل الفعال وحده، بل يطمع في الاتحاد بالله مباشرة والامتزاج بنور الأنوار؛ فكأن السهروردي حين دعي للاختيار بين تصوف الحلاج وتصوف الفارابي رأى أن يجمع بينهما، وأن يقول بالاتصال والاتحاد معاً؛ وهذه نزعة توفيق أخرى تتفق مع روحه العامة.
هذا التصوف العقلي المبني على فكرة الفيض يبدو كذلك عند صوفي وفيلسوف آخر من رجال القرن الثالث عشر. ونعني به ابن سبعين المفكر النقادة الذي لم يُدرس بعد دراسة كافية، ولا ثقة به على الرغم مما في آرائه من حصافة وفي أفكاره من عمق ودقة. وعل أكبر مصدر نعتمد عليه في تعرف نظرياته هو المراسلات التي دارت بينه وبين فردريك الثاني ملك ألمانيا وإمبراطورها المتوفى سنة 1250. وقد بقيت هذه المراسلات مجهولة إلى أن اهتدى إليها المستشرق الإيطالي أَمرِي سنة 1853 في مخطوطة من مخطوطات أكسفورد تحت عنوان: الرسائل الصقلية. وبعده بنحو عشرين سنة قام بتحليلها في الصحيفة الأسيوية الفرنسية المستشرق الدنمركي المشهور مهرن. وقد وقفنا بأنفسنا على هذه المخطوطة فوجدناها مملوءة بالعلامات والملاحظات الدقيقة، وما أجدرها بأن تطبع وتنشر. وكلنا يعلم ما كان عليه فردريك الثاني من رغبة في العلم وحب للأدب والفلسفة(170/11)
العربية. لهذا وجه إلى ابن سبعين عالم صقلية وفيلسوفها في ذلك العهد أربعة أسئلة متعلقة بقدم العالم، والمقولات العشر وما وراء الطبيعة في غايته ومبادئه، وطبيعة النفس. وهذه الأسئلة تلخص تماماً المشاكل الهامة التي كانت تشغل المفكرين عامة وتلاميذ أرسطو على الخصوص في ذلك العصر. وقد أجاب عليها ابن سبعين إجابة موسعة مستفيضة بحيث ضمنها كل مذهبه وآرائه الخاصة؛ وفي مقدور من يرجع إليها معتمداً على بعض المصادر الأخرى أن يكوِّن فكرة كاملة عن نظرياته الصوفية والفلسفية. ولسنا هنا بصدد هذا العرض المطول؛ وسنكتفي بأن نشير إلى ما يتصل منه بموضوعنا. فالله في رأي ابن سبعين أصل العقول المنصرفة في الكون، صدرت عنه بمحض الفيض والأنعام، والعقل الفعال وهو أحدها يدير شؤون الأرض ويمد الكائنات بصورها النباتية، فهو مصدر النفوس البشرية على الإطلاق؛ وإذا كانت النفوس صادرة عنه فهي ميالة دائماً إلى الاتصال به؛ ولا يحول دونها وذلك إلا أدران الجسم وشهواته. فإذا ما تفرغ الإنسان للدراسة والنظر فاز بالمعرفة الكاملة والحقيقة المجردة، وسما إلى درجة العقل الفعال.
هذه النظرية، كما نرى، تكرار حرفي لما قاله الفارابي وابن سينا، وصاحبها نفسه يصرح بأنه أرسطي كسابقيه من فلاسفة الإسلام وإن كان ينقدهم نقداً مراً. وقد بنى تصوفاً عقلياً على أساس فلسفي فهو على طريقة الفلاسفة؛ وفيما يتعلق بمشكلة الجذب والإلهام يخيل إلينا أنه أميل إلى الفلاسفة منه إلى الصوفية؛ فهو يرفض الحلول والاتحاد اللذين ذهب إليهما الحلاج ويقصر السعادة على مجرد اتصالنا بالعقل الفعال وارتباطنا به ارتباطاً روحيا معنوياً.
فتصوف السهروردي وابن سبعين مؤسس على دعائم فلسفية. وفي رأيهما أن الكائن الممكن يستلزم كائناً آخر واجب الوجود بذاته ليمنحه الوجود ويفيض عليه بالخلق والإبداع. وهذا الكائن الواجب الوجود هو لله جل شأنه؛ فهو موجود أزلاً بنفسه ودون حاجة إلى أي موجد آخر وإلا امتدت السلسلة إلى ما لا نهاية. والكائنات الأخرى جميعها مظاهر لعلمه وإرادته، ومنه تستمد الحياة والوجود؛ فوجودها إذن عرضي وبالتبع. وعلى هذا ليس ثمة إلا كائن واحد موجود حقيقة وضرورة، بل هو الوجود كله، والكائنات الأخرى لا تسمى موجودات إلا بضرب من التوسع والمجاز. هذه هي نظرية وحدة الوجود التي اعتنقها جماعة من(170/12)
الصوفية بعد انحطاط الدراسات الفلسفية في الإسلام. وقد تكونت في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، وانتشرت بعد ذلك في بلاد الأندلس والمشرق. ومن أكبر أنصارها محي الدين بن العربي المتوفى سنة 1240 ميلادية، وجلال الدين الرومي المتوفى سنة 1273، وشعراء آخرون من متصوفة الفرس. ويصعد مذهب الوحدة هذا كما لاحظ ابن تيمية إلى ابن سينا، أو كما نلاحظ نحن إلى الفارابي. وإذا كان الله هو الموجود الحق وجب أن تتلاشى فيه سائر الموجودات الأخرى. وهنا يختلط التصوف بالفلسفة اختلاطاً كبيراً. فكأن مذهب المشائين من العرب لما حورب في شخص الفلسفة وجد ملجأ لدى الصوفية. وكثير من الأفكار الفلسفية الممقوتة تبناه الصوفية وأبرزوه في صور أخرى مقبولة ولو إلى حين. وفي رأينا أنه لا يمكن ن يدرس تاريخ التفكير الفلسفي الإسلامي في العصور الأخيرة دراسة كاملة منعزلاً عما كتبه المتصوفة وعلماء الكلام.
بيد أن الصوفية بدورهم لم يسلموا من شرور الفلسفة وويلاتها، وما أن تفلسفوا حتى أضحوا عرضة للمحاربة والانتقام. فالسهروردي قتل بأمر صلاح الدين؛ وابن سبعين انتحر في مكة بسبب مهاجمات وجهت إليه في الغالب؛ واتهم معاصره ابن العربي بالإلحاد والزندقة من كثير من أهل السنة.
(يتبع)
إبراهيم مدكور(170/13)
في الأدب المقارن
الفكاهة في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
إذا انطوت الفكاهة على صادق حكمة أو نافذ نظرة، وأُودعت العبارة المحكمة اللائقة بها، كانت في الفرد دليل صفاء الذهن ولطافة الحس، وفي الأدب مظهر الرقي والحيوية، وفي الأمة عنوان التحضر ورقة الطبع. والفكاهة عند ذلك لا تقل مكانة عن أرزن الجد، بل ربما بذته وكانت مرآة لميول الفرد والمجتمع أصدق تصويراً من مرآة الجد المحض؛ والأدبان العربي والإنجليزي حافلان بضروب الفكاهة وأوضاعها، يتفقان في بعضها ويفترقان في بعض آخر، تبعاً للأحوال الاجتماعية.
وإذ كانت الفكاهة كما تقدم دليل التحضر ورقة الحاشية قلَّت آثارها في الأدب العربي حين كان أقرب إلى البداوة زمن الجاهلية ومستهل الإسلام. ففي أدب ذلك العهد نرى آثار اللَّسَن وحضور البديهة وقوة العارضة، ونخطئ مظاهر الدعابة الدمثة والعبث الرقيق. وما نحسب إلا أن الرسول (ص) الذي كان يمزح ولا يقول إلا حقاً كان يمتاز من معاصريه - في جملة ما امتاز - بلطف الروح وعذوبة الدعابة، فقد أُثِرَتْ عن صحابته المقربين وخلفائه الراشدين أخبار تنبئ عن متانة الخلق وحرارة الإيمان وقوة الجلد والكفاح، ولم يُؤْثَرْ عن كثير منهم براعة الدعابة ولا الميل إلى الفكاهة.
فلما استوطن العرب الأمصار، واصطنعوا حياة الدعة والاستقرار، وتذوقوا الحضارة والترف، ظهرت نتائج كل ذلك في أدبهم، وكثرت الفكاهة في الشعر والنثر، بل ظهرت طوائف من المجان المتظرفين الذين يصطنعون خفة الروح ويتهكمون بالجد والجادّين من رجال العلم والدين، جاعلين شعارهم قول حدهم ابن هانئ:
دع عنك ما جدوا به وتبطل ... وإذا لقيت أخا الحقيقة فاهزل
ومن أظهر مواضيع الفكاهة في العربية التبرم بالثقلاء، والنيل من البخلاء، ووصف الأكولين والمطفلين، والتهكم بمدّعي العربية من الموالي، وعبث المجان بالمتخشعين المتورعين، والسخرية بالمنهزمين من القواد والمقاتلين؛ وكل هذه أبواب من القول منتزعة من حياة العرب في ذلك العهد، وكلها صفات مضادة لما كان الرجل ذو المروءة الحريص(170/14)
على حسن الأحدوثة يتحلى به أو يحب أن يعرف عنه.
وتفنن المتهكمون بالبخلاء، فتحدثوا عن وعودهم الممطولة، وحجابهم الغلاظ، وهباتهم الضئيلة: كالطيالس التي تتجنى الذنوب على الرياح، وتعرف الطريق إلى الرفاء، من كثرة تردادها عليه صباح مساء.
ومن بارع التهكم بأدعياء النسبة العربية قول بشار:
أرفق بعمرو إذ حركت نِسْبَتَهُ ... فإنه عربي من قوارير
ما زال في كير حداد يردده ... حتى غدا عربياً مظلم النور
ويشترك الأدبان العربي والإنجليزي في أبواب من الفكاهة خاصة، لعلها تستثير روح العبث في النفس الإنسانية على اختلاف الأجيال والأمم، كالمتحذلقين من أهل الفنون من شعراء وممثلين ومغنين والمدعين لتلك الفنون وأشباهها. فالتحذلق والادعاء سببان خالدان من أسباب ولوع الناس بالمتصفين بهما، وما يزال المرء بخير حتى يدَّعي ما ليس له ويتكلف الأغراب؛ والنفس الإنسانية بطيئة متثاقلة إلى الاعتراف بفضل الأغيار، دع عنك الاعتراف بالفضل لمن يدعيه وليس من ذوبه؛ هناك تثور النفوس وتلجأ إلى أقسى أسلحتها وهو التهكم.
فشكسبير يسخر على لسان هملت من متحذلقي الممثلين في عصره، ويجعل الثائرين المطالبين بدم قيصر ينصرفون هنيهة عن وجهتهم إلى مهاجمة شاعر لغثاثة شعره؛ والجاحظ يقول في صاحب له متحذلق متعالم: (يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق منهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلا الانتحال لاسم الأدب)، وابن الرومي أوْسَعَ من لم يَحمَدْ من المغنين والمغنيات تهكما، وصوّر أحدهم أقبح صورة في قوله:
وتحسب العينُ فكّيه إذا اختلفا ... عند التنغُّم فكَّيْ بغل طحان
وفي الأدب الإنجليزي ضروب من الفكاهة منتزعة من مجتمعِهِ الخاصة: كالتهكم بالمدعين النبل الاجتماعي، والمحْدَثي النعمة، والمتشدقين بضخم الكلمات لا يفقهون معانيها؛ ذلك أن المجتمع الإنجليزي - على كون نظامه الحكومي ديموقراطياً - هو أرستقراطي شديد التفريق بين الطبقات، يتعالى النبلاء فيه عن الدهماء تعالياً لا يقل عن ترفعهم عن أبناء(170/15)
الشعوب الأخرى، ويكاد يجعلهم أمة داخل أمة؛ وبعض العصاميين الذين يؤثّلون ثرواتهم في ميادين الأعمال أو في المستعمرات يتطلعون إلى الانغمار فيهم، ويتشبهون بهم تشبهاً يتعلق بالظواهر ويستثير السخرية. أما التشدق بضخم الكلمات فمرجعه إلى تكوُّن اللغة الإنجليزية من أصول كثيرة أبرزها اللاتينية الوعرة الألفاظ الكبيرة المشتقات.
ففي كثير من القصص والروايات الإنجليزية يظهر الأشخاص المتصنعون السمو الاجتماعي المتكلفون رقة المظهر ودماثة الحديث، والآخرون المكاثرون باطلاعهم على اللغات الكلاسية المقحِمون لجافي الألفاظ في أحاديثهم، خالطين صحيحها بخطئها، حتى ليقولون عكس الذي يقصدون أحياناً.
وللفكاهة مجال رحب في القصة، حيث يتحرك الأشخاص ويعملون أعمالهم ويتبادلون الأحاديث؛ ومن ثم تحفل القصص والروايات الإنجليزية ببارع النكات، وفكه اللفتات، ومضحك المواقف والشخصيات؛ ونجد الكثير من ذلك فيما قارب القصة من أوضاع في الأدب العربي: ففي مقامات بديع الزمان ورسالة الغفران للمعري فكاهات وسخريات هي غاية في الإمتاع والبراعة.
والفكاهة من أمضى أسلحة الإصلاح الاجتماعي؛ وقد استخدمها لهذا الغرض بعض فرسانها من الأدباء الإنجليز. والمجال لها متسع في الأدب الإنجليزي، حيث التمثيل والقصص يصوّران المجتمع وينقدانه، وفي المجتمع الانجليزي، حيث النقد النزيه مباح وحيث للرأي العام القول الفصل في الحكم على الأنظمة والتقاليد. أما في الأدب العربي فقلما اتجهت الفكاهة اتجاهاً اجتماعياً، بل ظلت فردية كغيرها من أغراض الأدب، إذا لم يكن الحكم المطلق الذي خضعت له الدولة العربية بمساعد على نمو النقد واشتداد ساعد الرأي العام.
وهناك لون من الفكاهة يرمي به المتفكه إلى ضد ما يقول: فيتقنّع بالجِد وهو يبغي الهزل، ويبدي الوقار ويخفي العبث، ويتظاهر بالمدحِ والقدحَ يريد، ويغالي في التفخيم قاصداً التهوين. ويُدعى هذا الضرب من الفكاهة بالإنجليزية وربما أمكن تسميته (التَّنَدُّر)، والأدب الإنجليزي حافل به، ولعله يناسب الطبع الإنجليزي، وهو شديد المضاء في أيدي الناقدين لأحوال المجتمع. ومن فرسانه المجلين (سويفت). أما في العربية فهذا النوع من الفكاهة نادر؛ ولعل أصلح مثال له مقطوعة المتنبي التي نظمها حين رأى أعرابيين(170/16)
يتفاخران بقتل جرذ، ومنها يقول:
وأيكما كان من خلفه؟ ... فإن به عضة في الذنَب
وقول بشار وقد تفاخر أمامه رجل بأنه شاعر من نسل شعراء: (إذن أنت من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً).
ويشترك الأدبان في ضرب من الفكاهة هو هجاء المرء نفسه وضحكه من عيوبه. على أنه في كلا الأدبين غرض من القول متكلف، يُطلب به التظرف ويعوزه الصدق والعمق. فالانحناء على النفس بالتثريب ليس خلقاً في الإنسان بله الأديب، والذي يتصنع نقد نفسه لا يضع يده على مغامزه وعوراته الصحيحة، ولا يسطر لنفسه إلا مدحاً بما يشبه الذم، ولو رماه غيره بما يرمي به نفسه طلباً للظرف لثار به وأنكر مزاعمه أشد إنكار.
ولما كانت المرأة الإنجليزية أكثر بروزاً في المجتمع والأدب من المرأة العربية، فقد نالت دونها حظاً عظيماً من مداعبة الأدباء الذين أوسعوا غرائزها ومتناقضات أفعالها درساً وتصويراً. ومن أبرع من كتبوا في ذلك (بوب) الذي نظم قصيدة طويلة على طراز الملاحم الكلاسية أودعها وصفاً دقيقاً لأحوال فتاة جعلها نموذج المرأة في مجتمعِه، من احتفالها بالأزياء وتذبذبها بين المعجبين بها، إلى كل صغيرة وكبيرة في حياتها المنزلية والخارجية في أسلوب متهكم شائق.
ومن الفكاهات ما قوامه التلاعب بالألفاظ المتشابهة في النطق أو الكتابة؛ وقد كان هذا العبث اللفظي شائعاً على عهد شكسبير الذي ضرب فيه بسهم، ثم أهمل بعد ذلك في الإنجليزية واستثقل. مّا في العربية - حيث كانت للألفاظ عند الأدباء دائماً مكانة عالية - فظل هذا الضرب من التفكه مألوفاً. فأبو نواس يوافق مدعياً للنسبة العربية على انتمائه إلى طي، ولكن مع إضافة نون وباء في أول الكلمة. ويقول في بخيل:
وما خبزه إلا كآوى يُرَى ابنه ... ولم يُرَ آوى في حزون ولا سهل
وقد ازدهرت الفكاهة في الشعر العربي في صدر العصر العباسي، وبرز في مضمارها في أجيال متتالية طبقاتٌ على رأسها بشار فأبو نواس فدعبل فابن الرومي؛ وتمتاز في شعر الأوَّلَيْن بالاستهتار، وفي شعر الثاني بالصرامة ولذع السخرية، وفي شعر الأخير ببراعة التصوير. وازدهرت الفكاهة في الشعر الإنجليزي في العهد الكلاسي في أواخر القرن(170/17)
السابع عشر وأوائل الثامن عشر، وهو العهد الذي اشتد فيه الأثر الفرنسي في الأدب والمجتمع الإنجليزيين، وكان من فحول الفكاهة فيه سويفت وبوب ودريدن.
والحق أن ذلك العهد هو أشبه عهود الأدب الإنجليزي بالأدب العربي؛ ففيه انضوى الأدب حيناً تحت جناح الملكية وسار في ركاب الحاكمين، واختلط بالسياسة وخاض غمارها، وانغمر في جو المدينة وأهمل جانب الطبيعة، وتأنق في اللفظ وأغرب في المعنى، واحتدمت الخصومات الأدبية السياسية بين رجاله مماثلة لما كان بين جرير والفرزدق، وبشار وحماد، والبديع والخوارزمي، من مصاولات ومقارعات؛ وولِعَ الأدباء بالوزراء والقواد، وفشت الفكاهة واتخذها فريق سبيلا للمجون، وفريق ذريعة للنقد الاجتماعي والإصلاح.
وقد نظم دريدن أحد فحول ذلك العهد قصيدة هجاء لشاعر مزاحم له أفعمها بالتهكم المكسو بثوب الجد، وبوّأ غريمه (عرش الغباوة) في جو من الجلبة والمراسيم والمواكب والشارات مماثل لتتويج الملوك، وجعله يلي ذلك العرش معهوداً إليه من شاعر غبي من شعراء الجيل السابق لجيلهما. ولهذا القصيد الساخر مماثل في النثر العربي شديد الشبه به، وإن يكن قد كُتب قبله بنحو ثمانية قرون، أعني العهد الذي كتبه الصابي على غرار عهود الخلفاء والأمراء إلى عمالهم، على لسان مطفل أكول إلى آخر هو المقصود بالدعابة، وقد بدأه بقوله: (هذا ما عهد به علي بن أحمد المعروف بعليكا، إلى علي بن عرس الموصلي حين استخلفه على إحياء سننه، واستنابه في حفظ رسومه، من التطفل على أهل مدينة السلام وما يتصل بها من أرباضها وأكنافها، ويجري معها في سوادها وأطرافها، لما توسمه فيه من قلة الحياء، وشدة اللقاء، وكثرة اللَّقم، وجودة الهضم).
وتتسم الفكاهة في الأدب الإنجليزي على العموم بالعفة التي هي سمة الأدب كله كما سبق ذكره في كلمة سالفة؛ أما في الأدب العربي فتهوي أحياناً في يد الهجائين إلى حضيض السباب، وفي يد المجان المستهترين إلى وهدة الأفحاش. وتتعلق الفكاهة الإنجليزية بالصفات والأخلاق والأعمال وتكشف المتناقضات من آراء الناس وأقوالهم؛ وفي العربية يتناول العبث الخَلْقَ بجانب الخُلُق. فدعابات ابن الرومي ملأى بذكر أعضاءِ الجسم من أنوف وأقفية ولحى، وعيوبه من حدب وصلع وعور. ويُشَبَّهُ المعبوثُ بهم بالحيوان، فيقول(170/18)
حماد وقد زعم بشار أن له جنّياً يُوحي إليه:
إذا خاطب الجني قرداً مشنَّفاً ... فقل لخنازير الجزيرة ابشري
وفي كلا الأدبين فحول من الأدباء نأى بهم طبعهم عن الفكاهة، وسما بهم قصدهم في الحياة عن العبث واتسمت آثارهم وحياتهم بالجد والعبوس، منهم في الإنجليزية ملتون ووردزورث وتنيسون، وفي العربية المتنبي والشريف الرضي وأمثال أولئك عادة ذوو مطامع بعيدة يستغرق نشدانُها أنفسهم. ورسالات لا ينفكون عن النظر إليها، أو مُثُلٌ عليا يُحسون أن التفكه يهبط بهم من عنانها.
فخري أبو السعود(170/19)
نابليون وخطواته الأولى في سبيل المجد
للأستاذ عبد المجيد نافع
لا يعرف التاريخ رجلاً اختلف الناس في تقديره والحكم عليه، مثل نابليون بونابرت. كان ولا يزال له أنصار ومعجبون يضعونه في طليعة العظماء الذين أنجبهم العالم، ويسبغون عليه أثواب الفضائل الإنسانية التي ينبغي أن يتحلى بها الرجل العظيم. وكان ولا يزال له خصوم وحاقدون يجردونه من جميع الفضائل، أستغفر الله بل يخرجونه من صفوف الإنسانية ويسلكونه في عداد الوحوش. فإذا كان (تين) يعترف له بالعبقرية الحربية، والقدرة الإدارية، وينادي بأنه صب في قالب لم يصب فيه أحد من قبل في التاريخ الحديث، وأن لا سبيل إلى وجود ضريب له إلا بأن نعود بالذاكرة إلى شخصيات الاسكندر وهانيبال ويوليوس قيصر - بعد أن يعطيك (تين) هذه الصورة الرائعة عن نابليون تراه يسارع إلى إدراجه في عداد الوحوش الخارجة عن دائرة الإنسانية. وإذا كان بعض مؤرخي الإنجليز ينادي بأعلى الصوت وملء الفم أن نابليون كان أعظم قائد حربي، وأعظم رجل إداري عرفه التاريخ، فإن بعض المرضى بمخالفة الإجماع، والمولعين بالآراء الغربية، يجحدون عبقرية نابليون الحربية، ويجترئون على الدعوى بأن جميع المعارك الحربية التي عقد له فيها لواء النصر، إنما يرجع الفضل فيها إلى قواده، بل إلى رجال مغمورين كانوا يعملون تحت رايته، وأن التاريخ هو الذي أضفى عليه ذلك المجد الحربي، حتى جعله أشبه الناس بالشخصيات الخيالية، بل أقرب إلى الأساطير منه إلى الشخصيات التاريخية؛ بل ترى نفراً يمعنون في الأغراب فيزعمون أن نابليون لم يوجد، وأن الأساطير هي التي خلقت تلك الشخصية الخيالية، وصاغت تلك الخرافة النابليونية، وأن شيئاً من التحقيق التاريخي لا يلبث أن يمزق الأستار عن تلك الأوهام العالقة بالأذهان!
ومهما يكن من شيء، فليس في التاريخ شخصية شغلت أذهان الكتاب والباحثين مثل شخصية نابليون. وعلى الرغم من وفرة ما كتب عنه، فإن البحث في تاريخه لم تخلق جدته؛ ذلك بأن حياته العاصفة الحافلة بالعظائم تجمع بين روعة القصص وجلال الحقائق التاريخية.
على أن ذلك الرجل العظيم لم يجد طريق المجد أمامه معبدة، بل اجتاز الصعاب، وتخطى(170/20)
العقبات، وخاض غمرات الأهوال. ولقد تجهمت له الأقدار في أول مرحلة من مراحل حياته، ولم تبتسم له إلا بعد أن كاد يهوي في غمرة اليأس، ولم يفرض وجوده وكفايته على خصومه إلا بعد أن لقي منهم شتى ضروب العنت والمناهضة.
ولا يتورع خصومه عن اتهامه بمجافاة وسائل الشرف في سبيل بلوغ غاياته، وتحقيق لباناته؛ بل لا يتعفف الوالغون في عرضه عن الجهر بأنه توسل بزواج جوزفين لتسلم قيادة الحملة الإيطالية.
هل وصل نابليون بكفايته وحدها أم نه كان يدين بمبدأ: الغاية تبرر الوسائل؟ وزواجه بجوزفين. هل أملته المصلحة، أم كان مبعثه الحب؟
مهما يزعم الذين يشوهون نابليون ويهدرون آدميته، فقد كان إنساناً بأوفى معاني الكلمة، له قلب يصبو للنساء، وعواطف تهوي إليهن؛ وإذ كان في ربيع العمر، فقد ترجم عن هذه العاطفة بإعلان رغبته في الزواج؛ وكان يغبط أخاه جوزيف على توفيقه في الزواج، وطلب يد أخت زوجته فلم تبادله حبا بحب، فتولاه اليأس منها؛ على أنه لبث يحمل لها في صدره أصدق عواطف الحب، فلما بات رب التاج والصولجان، وصاحب الهيل والهيلمان، زوجها ببرنادوت، وبوأ ديزريه كليري التي أخفق في حبها، عرش هولندا.
واستطاع نابليون أن يندمج في الأعمال الحربية، ويعمل في قسم الطبوغرافيا بلحنه السلام العام؛ فكيف كان سبيله إلى الوصول؟
لا نكتم الحق، ولا نكذب التاريخ، فقد دفع ثمناً غالياً في سبيل ما وصل إليه، وتوسل بذوي النفوذ وأصحاب السلطان وأقوياء الساعة لبلوغ ما بلغ؛ ولعله بذل من عزة نفسه، وطامن من كبريائه، وأراق من ماء وجهه، رجاء أن يطفئ شهوة الطموح التي كنت تضطرم نيرانها بين جوانحه.
ومهما حاول في رسائله أن يكتم آلام نفسه ويخفي جروح قلبه، فقد كان بائساً من الوجهتين الأدبية والمادية. ولقد طالما رآه الراءون يضرب على غير هدى في طرقات باريس، يسير بخطى هوجاء مضطربة، يحمل فوق رأسه قبعة تكاد تحجب عينيه، ويرتدي سترة رمادية أخذت فيما بعد مكانها في التاريخ. وإذ رأيت ثم رأيت ذراعين طويلتين تجنحان إلى الطول، وتضربان إلى السمرة، وقد جردهما صاحبهما من القفاز زعماً منه بأن تلك نفقة لا(170/21)
غناء فيها ولا طائل تحتها، ورأيت في قدميه حذاء قد أسرع إليه البلى، وما كان يروعك منه إلا النظرة الهائلة، والابتسامة الخلابة اللتان تشرقان على مظهر ينم على مرض في الجسم والنفس معاً.
وكذلك كان نابليون يتهادى ببؤسه وحزنه في الطرقات. ولقد قالت مدام بورين إنه شهد معهم رواية في مسرح، وكان النظارة جميعاً ينفجرون بالضحك، فما راعها من نابليون إلا أن تراه وحده في مثل صمت القبور.
نعم، فلقد كان في ذلك الحين يحلق بخياله في جو غير جو المسرح، ويجهد قريحته في ابتكار وسيلة للعيش، ذ كان يرقب من ساعة لأخرى فصله من عمله. ولقد خيل إليه أنه شق طريقاً جديدة بالاتجار بتصدير أدوات المكاتب؛ على أن تصدير صندوق كتب إلى مدينة (بال) ما لبث أن أيقظه من حلمه اللذيذ إيقاظاً خشناً! ثم داعب الأمل بأن يأذنوا له في الشخوص إلى تركيا لتدريب جيش السلطان.
وما كان يلمح في الأفق بارقة أمل، وذهبت جهوده في تولون وإيطاليا أدراج الرياح، لأنه مني بوزير للحربية اسمه (أوبري) لا يقوى على فهمه، ولا يدري من الأمور الحربية كثيراً أو قليلاً. فأما الذين كنوا يظللونه بحمايتهم وهم (باراس) و (فربرون) و (مارييت)، وقد حارب تحت لواء الأولين، وانتشل الأخير من بين مخالب الدهماء في مدينة تولون، فقد كانوا يغذونه بالوعود.
على أن بارقة النجاح كانت تبدو في الأفق الذي لا يرقبه نابليون؛ وكان (بواسي دنجلاس) هو الذي أخذ بيده فرضعه في الموضع الذي تتجلى فيه مواهبه لتولي القيادة العامة.
وفي شهر يونيه من عام 1795 ضاق (بونتيكولان) ذرعاً باضطراب إدارة الحرب في لجنة السلام العام، فأشار عليه (بواسي دنجلاس) أن يستعين بخبرة جنرال عائد من إيطاليا وهو كفيل بأن يبذل له أثمن النصائح وأغلاها.
فلما كان الغد قصد إليه نابليون، فما هاله إلا أن يرى الضعف والهزال ماثلين في شخصه. ولقد وعي التاريخ قوله: (رأيت شاباً أصفر اللون، مكفهر الوجه، مقوس الظهر، تبدو عليه مظاهر الضعف والمرض). على أن (بونتيكولان) قد استرعى نظره أن ذلك المخلوق الضعيف المهزول بصير بشؤون الحرب، فطلب إليه أن يدون كتابة ما ألقاه أمامه شفهياً،(170/22)
وأن يرفع إليه تقريراً. وكرت أيام، والتقى (بونتيكولان) (ببوسي دنجلاس) فقال له: (لقد رأيت رجلك الذي بعثت به إلي، ويلوح لي أنه مجنون، إذ لم تحدثه نفسه بالعودة إلي، وأكبر الظن عندي أنه وقع في روعه أنك تسخر منه. كلفه بالحضور إلي غداً).
وتحت ضغط (بواسي دنجلاس) وإلحاحه قدم نابليون تقريره عن الحملة الإيطالية، فما راع (بونتيكولان) إلا علو كعبه في الفنون الحربية، فطلب إليه أن يعمل معه؛ ولما سأله عن مطلبه أبدى رغبته في العودة إلى جيش المدفعية برتبة قائد فرقة، فأنكروا عليه الطموح إلى تلك القيادة وما يزال في الخامسة والعشرين من عمره.
وقد كان (ليتورنير) هو الذي وقف عقبة في سبيل تولي نابليون ذلك المركز، ومع ذلك لم يحمل له حفيظة في قلبه؛ فما لبث أن أصبح إمبراطوراً حتى عينه مديراً ثم مستشاراً.
وإن شئت أن ترى آية حية على وفاء نابليون فاذكر أنه ما كاد يصير قنصلاً حتى استقدم (بونتيكولان)، فلما قدم إليه قال له: إنك اليوم المستشار، فاعتذر بعدم بلوغه الأربعين، فقال إذن فأنت مدير في بروكسل أو في أي بلد تختاره، ذلك بأني حريص على ألا أنسى خدمة قدمت إليّ.
وكان (بونتيكولان) ضامناً كفيلاً لأحد أصدقائه، فلما أفلس تحمل بدين يبلغ ثلاثمائة ألف فرنك؛ فلما بلغ سمع نابليون ضيقه استقدمه إلى قصر التويلري ولامه في رفق على كتم ضيقه عنه، ثم ما لبث أن وفي له دينه.
ولا نملك أن نترك تلك الصورة الرائعة للوفاء دون أن نضع إلى جانبها صورة للجحود والكنود والعقوق الأسود؛ أجل ففي جلسة 22 يونيو من عام 1815 كان (بونتيكولان) الذي أغدق عليه نابليون، بل الغارق إلى أذنيه في نعيم نابليون، أول من خذل نابليون، وعارض في بقاء الإمبراطورية!!!
وبينا كان بونابرت يرقب بفارغ الصبر أن تعينه لجنة السلام العام على رأس البعثة الحربية المزمع إرسالها إلى تركيا، إذا به يتلقى والدهشة ملء نفسه، والأسى ملء فؤاده، خبر تجريده من رتبته العسكرية، تحت ستار الدعوى بأنه رفض قبول المركز المعين له في جيش الغرب.
وكذلك تكون سخرية الأقدار!(170/23)
وآمن نابليون بأن من المستطاع إلغاء قرار التجريد، لكن لا مندوحة له عن التماس المعونة من أقوياء اليوم، المسموعي الكلمة والإشارة، فجد في طلبهم، وتلمس العون من جانبهم.
والتمس نابليون العون عند مدام تليان فحملته كتاب توصية إلى المسيو لوفوف، فأجاب سؤلها وأذن لنابليون بالقماش الذي يصنع منه سترته التي أخذ منها البلى كل مأخذ.
وطوع لنابليون ضميره أن يتوسل بمدام تليان لينتفع بجاه (باراس) ونفوذه. وإن تنس فلا ينبغي أن تنسى أن تلك لسيدة كنت متبوئة عرش الجمال في باريس، وأن صالونها كان الكعبة التي يحج إليها العظماء والكبراء، وأن نابليون كان زري الهيئة تكاد تقتحمه العيون؛ ولذلك لم يكن يسترعي نظر أحد، أو يلقي إليه المجتمعون بالاً، وما كان يخوض معهم في الحديث إلا نادراً؛ على أنه إذا تكلم تكشف عن بديهة حاضرة وذكاء متوقد.
وفي ذات مساء اشتغل نابليون في صالون مدام تليان عرافاً! أي والله عرافاً (يشوف البخت) ويجري على سبيل العرافين ولهجتهم! نعم لقد أخذ نابليون بيد مدام تليان يقلب النظر في كفها وينبئها بالمستقبل، ويفيض عليها بطائفة كبيرة من الخيالات.
وكم كانت صورة رائعة تحتاج إلى ريشة المصور! فهذا عاهل فرنسا في المستقبل، والرجل الذي دانت له أوربا وثل عروشها عرشً فعرشاً، ودك حصونها حصناً فحصناً، وقوض ممالكها واحدة بعد أخرى؛ هذا الضعيف المهزول، الأنكد الأغبر، الزري الهيئة، الخلق الثياب، يقرأ المستقبل في كف ملكة الجمال في ذلك العصر! فما أبعد الفارق وأعمق الهوة بين تلك المرأة المشرقة التي تخطر في مطارف النعيم، وبين ذلك البائس الذي لا يكاد يخفى بؤسه، ولا يستطيع أن يكتم حزنه وبثه من سخرية الأقدار! وأية فكرة كانت تجول في ذلك الرأس المتعطش للمجد وصاحبها (يشوف البخت) التماساً لوجوه المعونة! وإذا رأيت ثم رأيت جمعاً من السيدات يشهدن هذا المنظر وهن يضحكن ملء أفواههن من النبوءات التي يرتجلها نابليون ارتجالاً ومظهره الذي يدعو إلى الرحمة ويبعث على الرثاء! نظر إلى تلك السمراء الجميلة إنها جوزفين بوهارنيه. . . ولن تمضي خمسة شهور حتى تصبح قرينة للعراف الذي (يشوف البخت). ولن تمر ثلاث سنين حتى تمسي شبه ملكة لفرنسا، وما تلبث غير بعيد حتى يهرع البابا إلى باريس ليضع على رأسها تاج الإمبراطورة على الفرنسيين! تلك هي جوزفين التي ارتسمت صورتها في أفق المستقبل(170/24)
النابليوني من الليلة التي كان القائد الصغير يشتغل فيها عرافاً (ويشوف البخت).
كل أولئك لم ينفذ إليه نظر نابليون، وهو يقلب كف مدام تاليان، على رغم بعده ونفوذه، ولو استطاع أن يشق حجب المستقبل، وينبئ حقاً بم سيكون، لملأ قلوب الحاضرات سروراً وأفواههن ابتسامات.
لكن المستقبل علمه عند ربي، والغد لله لا لنابليون ولا لغير نابليون.
(البقية في العدد القادم)
عبد المجيد نافع المحامي(170/25)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
- 7 -
وأخيراً بدأت السعادة تدخل إلى قلب متشنيكوف، فخصماؤه كانوا اقتنعوا بنظريته ولو بعض اقتناع، والبعض كفّ عن مخاصمته لقلة جدواها؛ ذلك أنه كان أصبر على التجربة منهم وأبعد عن الملل فيها، وأنه كان أقدر على الكلام وأطول نَفَسا فيه؛ ثم هو في حجاجه أعلى صوتاً وأبعد صدى. فلما طلع عليه القرن العشرون استطاع أن يجلس في سلام ويقعد إلى مكتبه في اطمئنان فيكتب كتاباً كبيراً ضمنه كل الذي وجده في أمر الحصانة. فكان رسالة ضخمة تحسبه قضى عمره في إنجازها. وكتبها بأسلوب رائع يحسده عليه فلوبير وجاء فيه بآلاف الحقائق، وصوّر كل حقيقة منها تصويراً واضحاً جذّاباً؛ ولوي تلك الحقائق لية جميلة ظريفة لتجتمع كلها عند قصد واحد هو تدعيم نظريته وتعزيز آرائه فيها. كانت رسالته أشبه بقصة أبطالها الألوف المؤلفة من تلك الخلايا الأفّاقة التوّاهة - فاجوساتِ حيواناتِ الأرض جميعاً.
وحبّبه صيته الذي كسبه في الحياة، فصار يلتذّ لذة عميقة بكونه حيّاً، وقد كان قبل ذلك بعشرين عاماً يعاف الدنيا ويبغض العيش، ويكره لناس أجداداً وأحفاداً، ويرثي لنفسه أنه كائن، حتى كان من ذلك أن قال لزوجته أُلْجا: (إن من الإجرام طلب النسل، وأن آدمياً يَمُدّ في حبل الوجود بما يخلّفه من آدميّين لا يفعل ذلك وهو خالص الذمّة بريئها). أما الآن وقد ابتسمت له الحياة فقد عطف على أطفال القرية: قرية سفر عاش بها، وربّت على رؤوسهم وفرق فيهم الحلوى فأسموه (بابا نوئيل). قال: (ما ألطف العيش وما أجمل الوجود!) ولكن ما السبيل إلى استبقائه، ما السبيل إلى التشبّث به وهو يُفلت من يديه هكذا سريعاً؟ سبيل ذلك واحدة وحيدة - سبيل ذلك لا ريب العلم.
كتب يقول: (ما المرض إلا حادث عارض من أحداث الحياة). وقال: (إن العلاج لا يكفي (وهو لم يكتشف قط علاجاً). . . فلا بد من تفهّم هذا المآل الذي يؤول إليه الناس تلك(170/26)
الغاية التي ينتهون إليها جميعاً. لا بد من تفهّم ذلك الدافع القاهر الذي يدفع بالإنسان إلى الشيخوخة فالموت على حين هو أحب ما يكون للعيش وأكثر تشبثاً بالحياة). عندئذ نفض متشنيكوف يده من الفاجوسات وأخذ يبتدع علوماً جديدة يكون من غرضها فهم غاية الحياة وتفسير الموت، وإن أمكن فالإفلات منه؛ وكان أحد هذه العلوم يبحث في الشيخوخة فطلب له اسماً طنّاناً فكان جيرنتولوجيا وأسمى علم الموت تانتولوجيا وما كان أفظعها من علوم. ولكن الآراء التي تضمنتها كانت مما تتفتح به الآمال ويزدهر عليها الرجاء في الأيام. وأجرى متشنيكوف فيها تجاريب، وسجل فيه أموراً كانت بعيدة عن الصحة، قليلة الحظ من الدقة، بحيث يتحرك لها لوفن هوك قَلقَا في مضجعه، ويرغي بستور منها ويزبد في قبره أسفاً على أن كان أَذنَ لهذا الروسي المتبجّح أن يخطو خطوة واحدة في معمله. ومع هذا، ومع كل هذا، فإن طريقة استئصال داء أقبح الأدواء المكروبّية إنما اهتُدي إليها من هذه التجارب غير الدقيقة.
خشي متشنيكوف الموت خشية شديدة، ولكنه استيقن كارها أن الموت حتم لا مفر منه، فانصرف يبحث عن أمل في موت سهل يسير. وكان واسع القراءة شديد النهم فيها، فذكر أنه جاء في قراءاته على تقرير عن سيدتين عجوزين بلغت بهما الشيخوخة حداً رغبتا فيه عن الحياة وتمنتا الموت كما يتمنى أحدنا ويطلب السرير بعد يوم مجهود مكدود. فصاح متشنيكوف: (هذا يدل على أن الإنسان في غريزته ميل إلى الموت كما فيها ميل إلى النوم. فالمرجو الآن أن نبحث عن طريقة تطيل الحياة في صحة وقوة حتى تنكشف فينا هذه الغريزة فنطلب القبر طوعاً).
وأخذ يَذْرع الأرض ويَشْبُرها بحثاً عن أمثال أخرى لهاتين السيدتين المبخوتتين، فزار عجائز في بيوتهن، وجرى وراء شيخات درداوات صمّاوات يمتحنهن تسآلا وهن لا يكدن يسمعن ما يقول. وذهب مرة كل المسافة من باريس إلى روان من أجل شائعة أشاعتها الجرائد ليلقَى سيدة قيل إنها بلغت الستة بعد المائة من عمرها. ولكن للأسف لم يلق فيمن لقي إلا كل امرأة تقوى على الحياة وتعتزّ بها، ولم يجد أحداً يشتهي الموت اشتهاءَه النوم كما اشتهته السيدتان في الأقاصيص التي قرأها، وبرغم هذا صاح قائلاً: (إن في غريزة الخلْق حبَّ الموت واشتهاءَه)، أما الوقائع التي تنقض دعواه فما كانت تقلق باله أبداً.(170/27)
ودرس الشيخوخة في الحيوانات، وأرسل له الناس كلاباً شيباً وقططا هدّها الكِبَر، ودأبوا على إرسالها إليه، ونشر بحثاً جِدّيا في بَبّغاء خرق العادةَ فعاش سبعين عاماً. وكان يملك سلحفاة ذكرا من سلاحف البحر أسكنه حديقة داره، وكان له من العمر ستة وثمانون عاماً، فألّف بينه وبين سلحفاتين أنثيين في مقتبل شبابهما فنتج عن هذا التأليف نسل عديد من سلاحف صغيرة، ففرح متشنيكوف بذلك وامتلأ سروراً حتى فاض، فقد كان دائم الخوف أن تذهب الشيخوخة بلذائذ الحب. وقد ذكر ما وقع من السلاحف: (إن الشيخوخة لا تتضمن هذا الضعف البالغ الذي يتصوره الناس).
ولكن لا بد من مدافعة الشيخوخة على كل حال فكيف السبيل إلى صدّها؟ وكان عالمٌ اسكندنافيّ يُدعى إدجِرن درس تصلّب الشرايين، فاقترح أن هذا التصلب هو علة الشيخوخة، وارتأى أن من أسبابه شربَ الكحول وداءَ الزّهري وطائفة أخرى من الأدواء.
وحدّث متشنيكوف نفسه: (إن تصلب الشرايين علّة الشيخوخة، وما عمر المرء إلا عمر شرايينه! هذا حق لا مرية فيه). اعتزم أن يدرس كيف أن داء الزهري يصلب الشرايين وكان ذلك عام 1903. وكان متشنيكوف قبض جائزة مقدارها 5000 فرنك. وكان رو نال جائزة أوزيرس الكبرى ومقدارها 100 , 000 فرنك. وكان الفرق كبيراً بين الرجلين، والبون واسعاً بين طرائقهما في البحث، وكان رو أقوم الرجلين طريقة، ولكنه لزم متشنيكوف دائماً وربط حبله بحبله واطمأن إليه رغم جموحه. اختلف الرجلان اختلافاً كبيراً، ولكنهم كانا سيَّين في قلة حرصهما على المال، فاتفقا على أن يضمّا كل هذه الفرنكات، وثلاثين ألفاً أخرى ابتزّها متشنيكوف تملّقاً وملاطفة من بعض أثريا الروس، وأن ينفقاها جميعاً في بحث هذا البلاء التناسليّ المسمَى بالزُّهريّ ذلك بأن يصيبا به بعض القردة ثم يبحثا فيها بعد ذلك عن جرثومته ثم يتدرّجان من هذا إلى طريقة لمنعه فعلاجه إن وجدا إلى ذلك سبيلاً. وفوق كل هذا أراد متشنيكوف أن يدرس فيه كيف تتصلب منه الشرايين.
واشتريا بالمال قردة، وأعانهما الحكام الفرنسيون بالكنغو الأفريقي على صيد القردة فبعثوا أولاداً من أهل السواد يجوبون الغاب ويمشطون الأحراج في طلبها، ولم يمض طويل من الزمان حتى امتلأت حجرات واسعة في معهد بستور بأصوات الشمبانزي والأُوران أُوتان،(170/28)
وامتزج صراخ هذه بصريخ قردة الهندوس المقدسة ومواء الماكاكس المضحك الصغير ولم يلبثا أن وقعا على أمر خطير. وكانت تجاربهما لبقة بارعة، وكان بها حسن نظام ووضوح لم يعهدا في تجارب متشنيكوف. وأخذ يتردد على معملهما طائفة من مناكيد الناس أصابها الزهري حديثاً، ومن أحد هؤلاء لقّحا قرداً فنجحت فيه التلقيحة الأولى وسرى فيه الداء. ثم قضيا بعد ذلك أكثر من أربع سنين في عمل شاق ينقلان الداء من قرد إلى قرد، ويبحثان عن مكروبه الصغير الدقيق الخدّاع فلا يجدانه. ثم أخذا يُضْعفان سمّ الداء الذي استخرجاه وفشلا في رؤية المكروب فيه، وأخذا يضعفانه بالأسلوب الذي اتبعه بستور في إضعاف جرثومة الكلب رجاء أن يَخْرجا من ذلك على لقاح يقي منه. وماتت القردة من النيومونيا وبالسل موتة شنيعة، ووجد بعضها الفرصة إلى الهرب فهرب. وبينا متشنيكوف يجرح القردة لينقل سم الزهري إليها في غير خفة يد كبيرة انقضت عليه تعضّه وتجرحه. ثم قام متشنيكوف بتجربة غريبة إلا أنها تَنُمّ عن ذكاء كثير: خدش أذن قرد وسقاه في هذا الخدش من سمّ الزهري، وتركه أربعاً وعشرين ساعة، ثم عاد إليه فقطع أذنه، ثم امتحن جسمه فلم يجد بأي عضو منه أثراً من داء الزهري.
عندئذ صاح متشنيكوف: (إن معنى هذا أن جرثومة الداء تتريّث ساعات في الموضع الذي تدخل منه إلى الجسم، وفي الإنسان نعلم من أي عضو من أعضائه يدخل الجرثوم، ونعلم فوق ذلك متى يدخل فيه، إذن فلعلنا نستطيع أن نقتل الجرثوم، عند مدخله من جسم الإنسان قبل أن ينتشر فيه).
ثم قام فأجرى تلك التجربة الكبرى ذات الأثر العمليّ الواسع في أبحاث المكروب، أجراها بعد كل هذا الكلام الطويل العريض الذي قضى السنين يقوله ويكتبه في تعليل حصانة الإنسان، وأجراها وإلى جانبه رو يؤازره ويلح عليه بإعادة كل اختبار يأتيانه للتأكد منه. وفي هذه التجربة اخترع متشنيكوف مرهم كلورور الزئبق الذي به اليوم يطارد داء الزهري في جيوش البر وجيوش البحر في كل قطر من أقطار الأرض: أخذ قردين وجرحهما، ثم أعداهما حيث الجرح بمادة للزهريّ جاء بها صبيحةً من إنسان، وبعد ساعة دلك جرح أحد القردين بالمَرهم وترك الآخر، وأخذ بقية زمنه يرقبهما، فسَلم المرهوم وظهرت أعراض الداء فظيعةً بشعة على الآخر المتروك.(170/29)
ثم عاود متشنيكوف جنونه الغريب القديم، فلما تملكه نسي نَذْره الذي كان وأغرى طالب طبّ شاب يُدعَى مازونيف بأن يتطوع له، فلما رضي جاء به في مجتمع محكّم من أكابر رجال الطب وعلمائه في فرنسا، وفي وسط هذا الجمع الموقّر وقف هذا الطالب المقدام ونظر إلى جلده وهو يجرح ست جراحات طويلة، ونظر إلى هذه الجراحات الخطيرة وجرثوم الزهريّ الخطير يُحَكُّ فيها. وكان مقداراً من الجرثوم أكثر كثيراً من المقدار الذي يدخل جسم الرجل الذي يصاب بالداء بالطريقة المألوفة في الحياة. واحتمل الطالب بقوة مصيره المخوف: رجلاً بشعاً مبثوراً منغّظ الجسم مأكوله، ثم يجيئه الجنون، ثم يجيئه الموت.
وجَرح متشنيكوف في الوقت نفسه وأعدى بالداء قرداً وشمبانزي، واصطبر ساعة يملؤه إيمان قوي، فلما انتهت قام يحكّ المرهم في جراح الشاب، ولم يفعل ذلك لا في الشمبانزي ولا في القرد. فأما الشاب فنجا فلم تظهر عليه بثرة واحدة من بثور الداء، وأما القردان فجاءتهما العاقبة المحتومة بعد ثلاثين يوماً: نتيجةُ لا ريبة فيها ونصر مبين.
وقامت قيامة الأخلاقيين ومنهم بعض الأطباء يَلْحَون متشنيكوف فيما صنع. قالوا: (إن داء لزهريّ عقوبة ينالها الآثم تكفيراً عن إثمه، وخشيتها تردع المتردّدين. فهذا العلاج الهيِّن السهل لهذا الداء يُزيل العقوبة ويذهب بالخشية فلا يكون منه إلا إشاعة الخطيئة في الناس). فأجابهم متشنيكوف: (إني حاولت فوجدت السبيل إلى منع هذا الداء أن يمتدّ، فقيل إني أسأت إلى الأخلاق، ولكن الأخلاق والأخلاقيِّين عجزت رُقاهم عن منع الداء أن ينتشر، وأن يصاب به بطريق العدوى البريئة أبرياء منه لم يَجنوه، فصار من الإساءة إلى الخُلُق الكريم أن نجد السبيل فلا نمنع انتشار هذا الداء الوبيل. .).
- 8 -
وبنا هو في هذا كان يتلمّس الطرق ويختط الخطط ويحلم الأحلام عسى أن يجد سبباً آخر لتصلّب الشرايين، وإذا به يخترع هذا السبب الآخر - ولا أظن أن أحداً يود أن يقول اكتشفه. قال إن هذا السبب هو: (تسمم الجسم من ذات نفسه بانحلالات تعفّنية تحدثها بشلات وحشية في أمعائنا الغلاظ. هذا هو سبب لا شك فيه لتصلب شراييننا ولشيخوختنا قبل الأوان). ودبر اختبارات كيميائية يستدل بها على التسمم الذاتي للأجسام، وكانت(170/30)
اختبارت فظيعة. قال: (إن أعمارنا تطول كثيراً لو لم يكن لنا هذه المعي الغليظ، بل إن سجل الطب يخبرنا أن رجلين قطعت منهما هذه الأمعاء فعاشا أطيب العيش بدونها). والغريب بعد هذا أنه لم ينصح بقطعها للناس، وإنما أخذ يفكر كيف السبيل إلى تعكير الصفو وتنغيص العيش على البشلات الوحشية التي تسكن هذه الأمعاء.
وجاء بنظرية غريبة أثارت الضحك منه والسِّخرية به، وأخذت توقعه في المتاعب من جديد. وكتب إليه بعض الناس يذكّره كأنما نسي بأن الفيلة لها أمعاء غليظة هائلة، وهي مع هذا تعيش مائة عام. وكتب آخرون يقولون إن الجنس الإنساني من أطول الأجناس أعماراً برغم هذا المُصران. ثم دخل في حوار واسع بذيء عن الحكمة في أن سنة النشوء أَذِنت للحيوانات أن تحتفظ بالمصارين الغليظة، وبغتةً وقع على دوائه الكبير للتسمم الذاتي: تحدّث بعضهم قال إن في بلاد البلغار قُرى يعيش أهلها أكثر من مائة عام. ولم يكن متشنيكوف ذهب إليها ورأى هذه الأعمار الطويلة بعينه، ولكنه برغم ذلك صدّق ما سمع، وعلم أن هؤلاء المعمّرين يعيشون على اللبن الرائب، فأسرّ لنفسه: (أي والله! هذا هو السرّ في طول هذه الأعمار)، ولم يلبث ن كلّف بعض الشبان البحّاث في معمله دراسةَ المكروبة التي تُرِيب اللبن، ولم تلبث هذه المكروبة الشهيرة - البشلة البلغاريّة - أن اتخذت مكانها رفيعاً بين المستحضرات الطبية.
وفسّر متشنيكوف عملها فقال: (ن هذه الجرثومة تصنع حامض اللبن الرائب وهي بذلك تطرد البشلات الوحشيّة من الأمعاء). وبدأ بأن شرب هو نفسه مقادير هائلة من اللبن الرائب ثم عقّب بأكل زريعات من البشلة البلغارية ويظل يأكل منها سنوات. وألّف كتباً كبيرة في هذه النظرية الجديدة، وأشادت بهذه المؤلفات صحيفة إنجليزية لا يُعرَف الهزل منها فقالت إنها أخطر الكتب الطبية منذ ظهور كتاب (أصول الأجناس) لداروِنْ. وشاع أكل هذه البشلات السخيفة في الناس، وتألفت شركات لصناعتها أَثْرَى أصحابُها إثراء كبيراً من بيعها، وأذن لهم متشنيكوف أن يكتبوا اسمه عليها ولو أن زوجته تؤكد أن لم يُفِدْ من ذلك قرشاً.
وعاش عشرين عاماً عيشة صارمة على الأسلوب التي تقضي به هذه النظرية. وجانب الطبّاق ولم يذق كحولاً في شراب ولم يأذن لنفسه أن تستمتع بشهوةٍ داعرة، وامتحنه أشهر(170/31)
أطباء العصر وأداموا امتحانه، وجاءه الخبز في أكياس معقمّة من الورق حتى لا تَعْلَق به هذه البشلات المعوية التي يتسمم الجسم من فعلها. واختبر دائماً عصارات جسمه وإفرازاته. وشرب في هذه السنوات الأخيرة جالونات لا عدّ لها من اللبن الرئب وبلع الملايين من البشلات البلغارية النفّاعة. . .
ثم مات في عامه الواحد والسبعين.
(انتهى متشنيكوف)
أحمد زكي(170/32)
خواطر سياسية يثيرها يوم 14 سبتمبر
للأستاذ محمد محمود جلال
نزلنا (برتشاخ) في أوائل أغسطس المنصرم نستجم بعد الاستشفاء في (بادجاستين)، وبرتشاخ محلة تمتاز بالهدوء وتوسط الارتفاع عن سطح البحر فلا تكاد تصل إلى خمسمائة متر، وهي واقعة على بحيرة (فرتر) التي تعد من أجمل البحيرات في أوربا.
وهناك تقوم البواخر والزوارق من بخارية وشراعية مقام الترام والعربة والسيارة من وسائل النقل.
ففي أصيل أحد الأيام نهم لنستقل أحد تلك الزوارق التي تسير (بالبنزين) لمحنا في الأفق وعلى بعد نحو ميلين أو ثلاثة قوساً يعلو البحيرة ويبدأ من الشاطئ الأيمن، فصاح ولدي وهو بجانبي: (هذا ماء وكأنه يخرج من مضخة) قلت كلا، وكيف ذلك وليس فيما نرى مساكن وهذا موضع بحذاء الطريق المعد للسيارات، ولولا أن القوس لا تظهر معها ألوان لقلنا إنه قوس قزح الذي نسميه في ريفنا المبارك (قصعة الرخاء) ونعده فألاً حسناً للعام.
طلبنا إلى السائق أن يتجه إلى هذا المكان المنبهم علينا وهناك سألناه الإيضاح، قال: إن إلى يميننا بحيرة صغيرة تعلونا بكثير، ويزداد ماؤها بين وقت وآخر بحيث يخشى طغيانه، فأقامت له الحكومة محطة كهربائية تنقل منه جانباً في يوم معين من الأسبوع وقد يتكرر ذلك في أيام أخرى غير معينة.
قلت: ولم تعملون على أن يتخذ في تصريفه هذا الوضع وفي الإمكان صرفه دون أن يرى وعلى وضع مستقيم.
قال: (إن أسماك بحيرتنا تموت من قوة الاندفاع، فحرصاً عليها لجأ المهندسون إلى هذه الطريقة).
قلت: (أهكذا دائماً قوانين الطبيعة لا تتغير؟ فالغريب من الماء كالغريب من الناس حين ينزل على غير بلاده مغيراً أو محتلاً غاصباً يخرب ويدمر ويعصف بالأوضاع كما يعصف بالأرواح، ولو رد جميع الناس إلى آدم وحواء كما يرد أصل هذه الأنهار والبحيرات إلى المطر!!
ذكرت على التو بلادي وما عانت منذ أكثر من خمسين عاماً في نظمها وأوضاعها وأخلاقها(170/33)
وأموالها، ومضت برغمي فترة طويلة منصرفاً إلى ما اكتنفني من هم مسخ النزهة وكاد يعفي أثر العلاج وأنا مطرق. . مستعبر.
قبع جنود الاحتلال في قصر النيل ووصل أثرهم إلى أقصى الوجه السوداني جنوباً والبحر الأبيض شمالاً. وجلس عميده الأول بقصر الدوبارة ونغص عيشنا في ريفنا وصعيدنا، وانساب كالأفعى إلى عقل الطالب بما قدم من كتب ممسوخة وإلى الزراع بامتصاص دمه وإلى الدوائر العليا يخضد من شوكتها ويعلن أوامره فأفسد الأخلاق، وإلى الجيش فجعله لا يشعر بوجود ولا يتقدم خطوة ولو في الدراسة النظرية.
ولقد أراد الله أن تصل بنا الباخرة في العودة إلى الوطن في السادسة من صباح 2 سبتمبر، وما كدنا نفرغ من الاستعداد حتى قاربت الثامنة، وإذا بأحد الخدم يطرق الباب، وكم كان سروري عظيماً حين سلمني جوازات السفر فأراحني بذلك من المشهد المؤلم الذي كان علي كالضربة الثقيلة، إذ شاء الاحتلال أن تكون الأمرة في بوليس الموانئ للإنجليز! فلكم كنت أشعر بالتنغيص المفاجئ في الذهاب والعودة حين أرى المسيطر الباحث في جواز مصري ولمسافر مصري غير مصري.
فتحت الخادم وتناولت الجوازات مغتبطاً، وطرت مع الفأل فرحاً وقلت في نفسي يحقق الله للبلاد بجهودها ما حققت لي المصادفة اليوم.
وهكذا يشاء الله أن يمر 14 سبتمبر وأنا بعيد عن القاهرة، كما تمنيت من قديم، وكما أنالني الله وقد عودني جميله.
عدنا إلى الوطن ونزلنا منازلنا والموسم الزراعي في أحفل مراحله، إذ تموج الحقول في جميع أرجاء البلاد بالعديد من أبنائها يجمعون بأيديهم ثروتها، وإنهم بذلك يتظاهرون للجهاد لا في سبيل العيش فقط، ولكن في سبيل سمعة الوطن في جانب غنائه؛ وليس أقوى من مظهرهم حفزاً للهمم بين وهج الشمس وأثر الرطوبة المتخلفة عن الفيضان. فلا يحسون سوءاً من الأولى ولا من الثانية، لأن وهج الهمة أقوى، وسورة الجهاد أطغى وأعم.
ويتفق أن يحفل الموسم مبكراً فيتفق واليوم المنكود الذي طلعت على رحى الاحتلال شمسه، وخيمت على عاصمة سحب الشر فيه مختلطة بغبار الخيل قادمة في غير حرب، وشامخة كأنما انتهت من فتح، وهو الغصب الصارخ يؤيده العذر الذي لا يعدو خيوط(170/34)
العنكبوت في قوته، ثم تدرج عليه سنون فوق الخمسين.
انظر واعتبر! ثم انظر وأمل في الله الخير، فأن العب الذي تعركه المحن وتنغصه الذكريات يكون أقوى الشعوب حينما يستفيد من ماضيه، وأقدرها على السير ناضجاً بفعل الأيام وهي خير مرب.
وإذا كان الزمان استدار فظهرت العزائم متجهة والقوى متراصة جهاداً في سبيل العيش، فعما قريب هذه العزائم في العمل في كل ميدان للتخلص مما أصاب البلاد.
وكان أول كتاب للمرحوم مصطفى كامل إلى مدام جوليت آدم في 12 سبتمبر وكان كتاباً له ما بعده. وكان ما تلاه بادرة ظهور القائد الشاب وبادرة الأمل، وأول العمل المستمر الذي أفنى فيه حياته.
ولئن كانت الصحف اليومية وأكثر الهيئات لم تعر هذا اليوم ما يناسبه من عناية، فقد يكفل الأدب للأمم استخراج العبرة البالغة من المأساة، والمفخرة الغالية من الحادث الصغير. وقديماً قام الأدب أميناً على تراث الماضي وتأثراً للفضل والفضائل. ولقد صدق المرحوم شوقي بك حين رأى كسرى وإيوانه في سفينة النجوى أبقى على الزمن من الإيوان في فخامته وبنيانه. فكيف به أمام يوم غير من حال أمة ورزأها أكبر الرزء؟
كنت إلى أمس أقرأ تعليقاً قيما للكاتب الكبير أناطول فرانس على بحث فني بصدد أحد القصور التاريخية في فرنسا وهو قصر الوزير (فوكيه) وزير المالية في عهد لويس الرابع عشر، فحين عرض لمحنته ثم لمصرعه ذكر تنكر الأيام للوزير وتغير صحبه وخلانه، وحتى ذلك الجمع الذي لا يحصى ممن له عليهم أيد وآلاء ولم يقم بالواجب نحوه ويذكره في محنته، ويفصل بين السيئة والحسنة، ويمنع طغيان الشهوات على قديم مآثره، إلا الأدباء، فتسابقوا دفاعاً عنه نظماً ونثراً ومن بينهم كورنيل والرئيس هينو
وهل أقرب إلى الحق من الأدب؟ ومن يحمل عبء الإيقاظ للخير غيره؟ وهل يصرع الظلم سواه؟
والحقِ عرض الله، كل أبية ... بين النفوس حمى له ووقاء
محمد محمود جلال(170/35)
حول (نبوة المتنبي)
للأستاذ سعيد الأفغاني
كنت عائداً من جولةٍ في قرى (البقاع) حين قرأت كلمة الأستاذ الفاضل محمود محمد شاكر في العدد (167) من الرسالة الغراء، التي كتبها رداً على حاشية بحثنا في دين المتنبي المنشور في العددين (161، 162) من المجلة المذكورة.
وكانت قراءتي لرده، بعد عشرة أيام من صدوره. فإذا تأخرت في التعليق عليه فهذا عذري أبسطه للقراء الكرام؛ وأنا عوذ بالله من الغرور والذهاب بالنفس ومن الجهل بمقدارها والمكابرة في العلم والعصبية للرأي والهوى، فما يزال الناس - ولله الحمد - يقيسون فضل المرء بخضوعه للحق وإتقانه لعمله لا بدعواه وتبجحه؛ وقد ولى زمن كان فيه الولوع بالأغراب والإتيان بالجديد - ولو تافهاً - سبيلاً إلى الشهرة وذيوع الصيت وأقبل زمان فيه للتفكير حرمة وللعقل وزن، وكفى فيه المؤلفون مؤونة الثناء على النفس والتحدث إلى القراء بمزايا آثارهم وما تفردت به من معجزات.
وهؤلاء ذوو البصيرة من القراء يقلّبون ما يطالعون كل مُقلّب؛ يقع إليهم الكتاب فيمحصونه ويفلونه ويتدبرون ما فيه حتى تنكشف لهم منه مواطن الحسن والقبح، ويلمسون فيه آثار العجلة كما يلمسون مواضع التؤدة والروية.
وفي هذا ما كاد يصرفني عن الرد، سيراً على قاعدتي في ألا أحفل نقداً ولا رداً إذا كان حقاً؛ وسبيلي حينئذ أن آخذ نفسي به وأشكر لصاحبه، وإلا فإن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس فيمكث في الأرض. وخروجي اليوم على قاعدتي إنما كن لمنزلة الكاتب الفاضل لا لما في الرد نفسه. وليس في الأمر كل ما ظنه الأستاذ شاكر: فلا إثارة ولا إغراء ولا سلاح ولا استعداد لمعارك؛ إنما هي حاشية على كلام له المحل الثاني من بحثي، لم أرد بها نقد كتاب ولا التعرض لمؤلف؛ وشتان بين أسطر علقت عرضاً في حاشية وبين كلام مطول أنشئ للنقد خاصة.
أنا أدري - والإنصاف شريعة - أن الكلام على كتاب الأستاذ شاكر لا يكفيه فصل كبير، ففي الكتاب إحسان، وفيه إصابة واجتهاد، وفيه أماكن جديرة بالثناء حظيت بجهود حالفها التوفيق مرة وأخطئها مرة.(170/36)
وبعد، فإني أشكر الأستاذ على نقله كلامي بحروفه، لأن عمله هذا سمح للقراء أن ينظروا: هل بلغ الأستاذ في الجواب على أسئلتي ما يريد من إزالة الشبهات الواردة عليه أم قصر دون هذه الغاية؟ أما أنا فقد عدت إلى كتاب الأستاذ كما طلب إليّ (وأنعمت - ثانية - في تدبر الأسباب الحادية على نفي تنبؤ أبي الطيب فلم أجد فيها مقنعاً) كما لم أعثر في رده الذي تفضل به علي شيء من الحجة؛ وإليك البيان:
(1) وهّن الأستاذ رواية التنوخي لأنه صاحب الوزير المهلبي، ولأن المهلبي عدو المتنبي، فلا يبعد أن يكون التنوخي تحامل على أبي الطيب إرضاء للمهلبي. فنحن نسأله: هل يكفي هذا الاحتمال في تبرير رد رواية التنوخي وهي كما يراها المنصف تحمل في مطاويها دليل الصدق والأمانة في نقل الحديث، لا دليل الوضع والكذب؟ سأل التنوخي أبا الطيب عن معنى (المتنبي) فأجابه: (إن هذا شيء كان في الحداثة). وظاهر أنه يعني التلقيب لا التنبؤ، فجوابه غير صريح، وهو كما قال الراوي جواب مغالط، وكان في وسع التنوخي أن يحمّل المتنبي - لو أراد وضعاً وتحاملاً - جواباً صريحاً في ادعائه النبوة، ولو استقام هذا الأصل الذي بنى عليه الأستاذ رواية التنوخي لجاز لكل من أراد نفي خبر أن يورد عليه مثل هذه الاحتمالات الخيالية فيسقطه. وما أحسب أن خبراً - مهما كان صحيحاً - يستعصي إسقاطه على هذا الأصل!
إنما السبيل ن ينقّب الأستاذ عن نص صحيح صريح في تجريح الراوي التنوخي وأنه عهد منه وضع الأخبار ودسّ الروايات، أو أن يلجأ إلى حجةٍ - لا إلى احتمال - قوية يرضاها العقل والمنطق السليم.
(2) استهل الأستاذ كتابه بفرضٍ فرضه، وخلاصته أن المتنبي علوي صحيح النسب، وأنه أخذ بكتمان هذا النسب لعداوة بينه وبين العلويين زعمها الأستاذ ولم يعرفها التاريخ. ثم ذهل حضرته عن أن هذا كان منه فرضاً ودعوى فراح يعده بعد صفحات حقيقية واقعة يبني عليها ويشرح بموجبها أبيات الديوان ويكذب مستنداً إليها الروايات، ويتهم الراوين. وهو بذلك يخرج على أصول سنها هو لنفسه وأخبر عنها في رده علينا حين قال: (ولا بد لمن يريد أن ينقد ناقداً أو يكتب فيما يتناول الروايات والأخبار أن يتحقق بدءاً بمعرفة الأصول في علم الرواية، وأن يستيقن من قدرته على ضبط الفكرة حتى لا تنتشر عليه(170/37)
وتتفرق ويقع فيها الاختلاف والتضارب والمناقضة.) ونحن ننقل للقارئ أدلة على هذا الذهول من مواضع متفرقة من كتابه ليستبين أن الكاتب لم يتمكن من ضبط فكرته فانتشرت عليه وتفرقت. قال في ص48: (بينا لك فيما مر ما بين أبي الطيب وبين العلويين، وأن صاحبنا كان له عندهم ثأر قديم. . .) يقصد بما مر احتماله الذي لخصناه آنفاً. وقال في ص52: (وبينٌ على مذهبنا في نسب المتنبي أن الرجل حبس من أجل دعوى العلوية) وقال في ص58: (وكأني بالمتنبي في طريقه يظهر في القبائل والمدن أمر نسبه ويذيع بينهم أنه علوي الأصل شريف النسب محتالاً لذلك بالدهاء. .!) فأنت ترى أن هذا النسب العلوي وعداء العلويين كانا فرضاً أول الكتاب ثم صارا حقيقة مقررة في وسطه.
وماذا في أن يكون المتنبي علوياً حتى يهتم به العلويين هذا الاهتمام، وحتى يحتال هو لإذاعته في القبائل والمدن بالدهاء والبلاد تعج عجيجاً بالعلويين والأشراف؟
والغريب أن يتخذ الأستاذ من نظريته هذه التي افترضها برهاناً يضرب به كل الروايات والأخبار التي تحمل أمر تنبئه ويشغل الأمراء والناس والعلويين ودعاتهم بأمر فتى دون العشرين يدعي العلوية فقط، فيقول في رد رواية اللاذقي ص48: (أما اللاذقي فمجهول ولا يتيسر نقد سنده، ولكن مما لاشك فيه أن اللاذقية التي نسب إليها كانت لوقت أبي الطيب موطناً لفئة من العلويين ومحطاً لكثير من كبار الدعاة العلويين الذين حدثوا أحداثاً عظيمة في التاريخ العربي كله) هل اهتمامهم بفتى دون العشرين من عمره من الأحداث العظيمة التي أحدثوها في التاريخ العربي كله أيها الأستاذ؟! ولم لا يغتالونه مرة واحدة ويريحون أنفسهم من وضع الأخبار والدس عند الحكام؟ إن في الأمر مطامح لنفس هذا الفتى جعل سلمه إليها شيئاً آخر مع العلوية هو أكبر منها وأخطر.
وقد رددت أنا قسماً كبيراً من رواية اللاذقي هذا، ولكن لشيء غير ما ذهب إليه الأستاذ الكريم وسأبينه قريباً. وما أكثر ما يبين الإنسان لنقسه الخطة في البحث ثم (تنتشر عليه الفكرة) فيبنى على ير أساس. ولست أجد كلاماً في تصوير عمل الأستاذ وأصوله في بحوثه أصدق من قول الجاحظ في إبراهيم النظام وهو هذا: (وكان عيبه الذي لا يفارقه سوء ظنه وجودة قياسه على العارض والخاطر السابق الذي لا يوثق بمثله، فلو كان بدل(170/38)
تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه لكان أمره على الخلاص، ولكنه يظن الظن ثم يقيس عليه وينسى أن بدء أمره كان ظناً).
(3) يورد الأستاذ على حديث أبي علي بن أبي حامد شبهة واحدة بعد أن يقر بأحكامه، ويقول عنه ص49: (فهو حديث محكم لا يأتيه التوهين إلا من قبل غرابته عما جرت عليه الأحكام في شأن من يدعون النبوة. . . الخ) وقد أطال في بيان وجه الغرابة بما لا فائدة بنقله هنا. والذي في كلام أبي علي هو هذا: (فاستتابه وكتب عليه وثيقة وأشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام) وجلي أنهم استتابوه من دعوى النبوة فرجع بذلك إلى الإسلام. أما الوثيقة فهي ببطلان علويته وبهذا تزول شبهة الأستاذ، فأن من المألوف أن تكتب الوثائق في إثبات الأنساب ونفيها.
(4) عرض الأستاذ لرواية الهاشمي التي فيها: (كان أبو الطيب لما خرج إلى كلب وأقام فيهم ادعى أنه علوي، ثم ادعى النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي إلى أن أشهد عليه في الشام بالتوبة وأطلق) وهذه الرواية تعني أنه ما تخلى عن دعوى العلوية، وحين ترك ادعاء النبوة بقي على دعواه الأولى. ومنها ومن الرواية التي قبلها نفهم أنه لما أطلق ترك الدعويين معاً، فتاب من تنبئه، وكتب وثيقة ببطلان انتسابه للعلويين. وليس في الأمر مشكلة ولا تناقض ولا داع لأن يرجح الأستاذ ص49 إقحام لفظ النبوة بين العلويتين في حديث الهاشمي، وليقول: (إن المراد بالنبوة في حديث أبي علي بن أبي حامد العلوية) فعلوية أبي الطيب التي أراد أن يفسر بها النبوة الواردة في الروايات على اختلاف مصادرها لم تسلم له من الأصل وبقي المتنبي جعفياً يمنياً. وإذا كان لا بد من إيراد احتمال فالأولى أن تجعل العلوية الثانية من زيادات النساخ وإقحامهم. على أن الرواية في غنى عن هذا الفرض أيضاً وليس فيها داع إلى الشك أو تأويل. فمن الغريب جداً أن ينكر أبو الطيب دعوى النبوة من ساعة القبض عليه وأن يظل على العلوية طول أيام سجنه حتى كتابة الوثيقة.
(5) بقيت رواية الناشئ القائلة: (كنت بالكوفة سنة 325 وأنا أملي شعري في المسجد الجامع بها والناس يكتبونه عني، وكان المتنبي إذ ذاك يحضر معهم وهو بعد لم يعرف ولم يلقب بالمتنبي). هذا الخبر هو مظنة أن يكون فيه بعض الحجة فلنفرضه صحيحاً ولننظر(170/39)
ماذا تحته: إن فيه نصاً على أن أبا الطيب لم يلقب بعد بالمتنبي ولم يعرف في الكوفة، وإذا شئنا الدقة في التعبير قلنا إنه لم يبلغ أهل الكوفة أمر هذا اللقب، فيجوز أن يكون لقب به في الشام ويجوز ألا يكون. وليس في خبر الناشئ شيء آخر غير هذا. وبيان ذلك أن أبا الطيب ادعى النبوة للأعراب ثم سجن ثم أطلق وانتهى أمره ونسيه الناس، ثم حصل في الكوفة سنة 325 وحضر مجلس الناشئ فتى في الثانية والعشرين؛ ولما عاد إلى الشعر واتصل بالأمراء وبسيف الدولة وناوش الناس وناوشوه، وصاول الشعراء وصاولوه، وتفاقم الشر بينه وبين الناس نبشوا تاريخه - وهو هناك معروف - فأذاعوا منه هذه الزلة التي كانت في حداثته وتعلقوا بها وسار له في الناس هذا اللقب: (المتنبي).
لهذه الأسباب - وهي للقارئ معروضة - لم أجد في كلام الأستاذ شاكر (مقنعاً به من القوة ما يقف لهذه الروايات الصحيحة) وأظن أني أبنت له - كما أحب هو - وجود الضعف في قوله، وسواء علي وعلى الحق: أستبرأ الأستاذ من قوله أم لا. ولا بد أن يكون القارئ شعر بحرصي على وزن كلامي حرفاً حرفاً، وأني لم أسرف ولم أرسل القول على عواهنه. وقد عجبت كل العجب من الأستاذ - وهو الناقد الأصولي الفنان - حين لم يدر لم اختصرت حديث اللاذقي؟ إذ أن الأمر ظاهر، فإن الزيادات التي أهملتها يرفضها العقل ويكذبها الواقع، ولم تكن ثمة حاجة لأدل القراء على سبب إهمالها لأن تهافتها بين. وكثير أن تجرد عليها حملة كالتي نزل بها الأستاذ الميدان فخصص لها صفحتين من كتابه القيم. وهو يعلم - حفظه الله - أن من أدلة الوضع عند المحدثين مخالفة الواقع والمعقول كما هو مستوفي يكتب مصطلح الحديث. وأنا أستحيي من شرح هذا في مجلة (الرسالة) على رغم أن الأستاذ لم يجد بأساً في أن يعرفنا أن الخبر ما يحتمل الصدق والكذب، وأن وأن. . . الخ الخ مما يدرسه الطلاب المبتدئون. وأنا قد عملت بما أعرف من أصول البحث والتمحيص من دون أن أمن على قرائي. أما أستاذنا الفاضل فقد ملأ رده من مثل هذه الألفاظ: رواية، دراية، أصول نقد. . الخ وكلامي وكلامه أمام القارئ، وله وحده أن يحكم أين الرواية والدراية والأصول حقيقة لا ادعاء، وما التهويل بمغن عن أحدنا فتيلاً.
كنت أتوقع أن يتحفنا الأستاذ بالبراهين التي سوغت له رد الروايات فلم يفعل. أقول لم يفعل لأن أقواله: (رفضناه ورددناه وأسقطنا الثقة به والاعتماد عليه)، (إن هذا الخجل الذي(170/40)
يزعمونه إنما هو من أباطيل الرواة)، (أخبار متداولة تهور كثير من الأدباء في التسليم بصحتها)، (أما كلمة كافور فمفتعلة) (وأسخف من هذه الرواية رواية من يروي. .) إن أقواله هذه ولو اتبع كل كلمة منها بجميع مرادفاتها ومؤكداتها اللفظية والمعنوية. . هي أليق بمظاهرها هتافية ينادي فيها بسقوط فلان وفلان منها ببحث علمي العمدة فيه الحجة والبرهان. وأي شيء في أن ينبز كاتب روايات التاريخ بالبطلان والكذب، ثم لا يكون دليله عليها إلا أنها كذب وبطلان!!
هذا وقد حمل الأستاذ أقوالي ما ليس تحمل: فأنا لم أدع للمعري تنزهاً عن الخطأ، ولم أقل بأن (ورود خبر في كتب العلماء هو الدليل الذي لا دليل غيره)، وما جعلت قرب الزمن دليلاً على الصحة بل هو مما ييسر للمحقق وسائله. كما أني لم أسلم بكل الروايات ولم أعدها صحيحة ابتداء، فقد رددت منها ما وجدت فيه إلى الرد سبيلاً، ونقدت حكماً أدرج في مصدر من أمهات المصادر وأجلها وهو خزانة الأدب حين وجدت للنقد مجالاً؛ ولكل من النقد والرد والتسليم مواطن. وكيف تريدني أن أقنع قرائي بأمر لم أقتنع به، وإلى أشياء أخرى يتحقق من رجع إلى مقالي أني لم أذهب إليها؟
ونحن لم نتهم الأستاذ بالعصبية للمتنبي ولكنه هو هو قدم لنا في رده دليلاً على عصبيته لرأيه، وليس لنا في هذا الأمر يدان. ولما قلت عن كافور: (وكافور ليس من الذين يختلقون على شاعر، ولا ممن يروّج الاختلاق) خُيِّل للأستاذ أن ثمة نصراً مؤزراً فقال: (إن الأستاذ قد حكم على كافور حكماً لم يرد له ذكر في كتاب، فهل يستطيع أن يؤيد هذا الحكم بالدليل التاريخي والبرهان العقلي أن كافوراً لم يكن يختلق على الناس ولا يروج الاختلاق؟ لقد أتينا نحن (بارك الله) بالروايات ونقضناها بالدليل - ضعيفاً أو قوياً - أم أستاذنا فقد حكم على رجل بغير دليل ولا بينة من التاريخ أو غيره) اهـ. وعلى رغم أن الدليل على المثبت لا النافي - كما لا يخفى على الأستاذ الأصولي - وأن على من يدعي على كافور الاختلاق وترويجه أن يقيم البينة، على رغم هذا نحيل الأستاذ على الذهبي الذي وصف دينه وتواضعه فقال: (وكان يداوم الجلوس غدوة وعشية لقضاء حوائج الناس، وكان يتهجد ويمرغ وجهه ساجداً ويقول: اللهم لا تسلط علي مخلوقاً)، و (كان يرسل كل ليلة عيد وقر بغل دراهم في صرر بأسماء من أرسلت إليهم من العلماء والزهاد والفقراء. .) ونحيله(170/41)
أيضاً على الذهبي وغيره من المؤرخين الذين أجمعوا على وفور عقله وحسن تدبيره وصلاحه. . ويرى الأستاذ معنا أن فقه هذه الروايات - وهو الخبير بالرواية والدراية - يجعل كافوراً بمنجاة من النزول إلى هذا الدرك، وإن في أمور ملكه وبعد غوره ما يشغله عن الاختلاق على شاعر تكفي إشارة منه لتذهب برأسه. إن ما يسبغه المؤرخون على كافور من الصفات يكفي ليقول ببعده عن جميع السفاسف جملة وحدة. ففي التاريخ بينة وفيه دليل ولكن للعجلة في الحكم آفات.
هذا وفي نفسي مما أورده الأستاذ المحقق شيئ؛ فهل يسمح لي أن أطالبه بالدليل العلمي على قوله الجازم: (أعلم أن أكثر ما يروى في ترجمة هذا الرجل (المتنبي) وغيره من الرجال، إنما كان من الأحاديث التي تتناقلها مجالس الأدباء ولا يراد بها التحقيق، ولا ينظر فيها إلى صدق الرواية وسياق التاريخ وما إلى ذلك، بل إن كثيراً مما يروى في تراجم رجالنا كان مما يراد به مضغ الكلام في مجالس الأمراء أو في سامر الأدباء. . . الخ) وهل يتفضل فيبين لنا البرهان القاطع في قوله جواباً على سؤالي: (إن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل الرواة الخ) فمن هم هؤلاء الرواة الذين لفقوا الأباطيل؟ إني متى أعرفهم يسهل علي من دون شك أن أسأل عن الأسباب الحادية لهم على التلفيق.
وأنا غير مطمئن إلى قول ابن جني في سبب تلقيب أبي الطيب بالمتنبي، فإن جني مفرط في حبه لصاحبه والدفاع عنه وهو متهم فيه. فهل لأستاذنا أن يعزز قوله بروايات أخرى سبيلها على غير ابن جني وعلى غير ما حوله؟ فإن تعذر هذا فلا عليه أن يؤيدها بأدلة لا اعتراض للفكر السليم عليها. ولا بأس أن نقول له وقد قرأنا ختام رده الذي أثنى فيه على نفسه وعلى كتابه بما هو له أهل: أنت كما أثنيت على نفسك، ولكن إذا كان كتابك قد اتخذه - كما زعمت - بعض الكتاب (مصدراً استنبطوا به أصول النقد) فلسنا بالذين نسمي الطعن المجرد للروايات أصولاً في النقد، وما لهذا أيضاً علاقة بالبحث. وهلا إذ ذكرت ذلك دللتنا على أسماء هؤلاء الكتاب والمجلات التي نشورا بها والمواطن التي قلدوك فيها لنهنئك على شيوع مذهبك وكثرة المؤمنين به؟ ولعلك فاعل عن قريب إن شاء الله.
أما أنا فما كنت أظن قط أن أسطراً تذكر عرضاً في رد فكرة، تثير مثل هذا الفاضل فيحمل منها هماً يجد وقره وعنته اثنين وأربعين يوماً ثم ينفثه في رده الذي تكرم به على مثل هذا(170/42)
الشكل.
لقد وددت والله لو أن الأستاذ شاكراً نقّب عن الحجة وتحرى الحق لأعترف له به وأرجع إلى قوله. وصحف (الرسالة) أحوج إلى أن تملأ بالحقائق والبرهان منها إلى الدعوى والانتقاض. وأتمنى للأستاذ أن يهجر هذا الأسلوب في الجدال، فما هو بمغنيه عن الحق شيئاً كما لم يغن طنين الأستاذ صروف بالإشادة بمزايا الكتاب في مقدمته. والمأمول من الله أن يأخذ بيد الأستاذ شاكر فيتمم لنا كتابه الضخم عن المتنبي الذي قُدِّرَ بأربعة مجلدات؛ وأتمنى أن أراه قريباً، وأن أرى فيه حقائق الرواية والدراية وأصول النقد لا ألفاظها فقط. وليس بمهم بعد ذلك أن تكون هذه الأصول حديثة يخترعها الأستاذ أو قديمة على غرار ما تألف عقول هذا الناس، إنما المهم أن تكون صحيحة سوية.
وسأكون سعيداً حقاً يوم ينقد الأستاذ الأخبار خبراً خبراً، فيعارض بينها ويقابل، ويمحصها تمحيصاً يرضيه هو ويستفيد منه القراء الذين لا يخفى عليهم وجه الحق في كلام اثنين، ولا يصرفهم عنه نيلٌ من صاحبه ومراوغة في الحط منه؛ فإن هذا هو الأشكل بالأستاذ الكريم والأليق بفضله والأولى بسجاياه، وله - في الختام - شكري وخالص تقديري والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
(دمشق)
سعيد الأفغاني(170/43)
وحي الدم المتحد
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
لم تعد الوحدة العربية خيالاً تغازله الأحلام في أفق بعيد، ولا فكرة سطحية تطفو على عقل ضحْلٍ كما تطفو الفقاقيع. . . وإنما صارت كوناً موجوداً وأمراً مجسداً له ذرية وأنسال يتوادون ويتظاهرون في المأساة وفي فرح الحياة. . . وله دماء قرب منها مزيجاً مزجته الأقطار العربية وقدمته لحماية فلسطين من عابدي الذهب. . . فللعروبة من ذلك قرة عين لأنها رأت على صفحة الدم المتحد صورة المجد القديم الذي أوشك الزمان أن يستدير بجدته ويقبل بدولته.
أجل! سلوا أشجاراً يابسة وجذوعاً جافة بشعاب فلسطين وبطون وديانها، وقد حالت إلى الإيراق والحياة: ما الذي نضَّرَ عودك ورد عهودك وأطال عمودك؟ وستجيب: إنها الدماء التي لم أُسْقَها من عهد صلاح الدين. . . الدماء التي مزجت أمشاجها فكرة إلهية فجعلت فيها إكسير الحياة حتى للأحجار والأشجار والمدر والوبر. . الدماء التي تسيل من الأسود والأبيض والأصفر والأحمر فتجمع خلاصة ما في الإنسانية من إخاء، وسر ما في المسلمين من توحيد. . . الدماء التي تطفئ ما للظالمين من نار، وتجرف مالهم من آلات الهول والدمار. . . الدماء التي تدخرها الحياة ثم تطلقها سيّالاً طهوراً هدّاراً رجافاً يغسل الأرض ويحدث الانقلاب وينقل الإنسانية إلى الأمام. . . الدماء التي تحمل عناصر إخصاب الإنسانية بالفكرة الإلهية والحرية والإخاء والمساواة والعدالة والرحمة والسلام والبر والتعاون حتى تلد الأمهات أمثال ابن الخطاب وابن عبد العزيز والرشيد وصلاح الدين. . .
يا فلسطين يا أرض النبوات! تلك رسالة جديدة تهبط من شعاب جبالك ومن بين (التين والزيتون) مرة أخرى على قلوب العرب والمسلمين، وقد كتبت بالدم الممزوج من نفوس تمثل أربعة أقطار من ميراث محمد بن عبد لله. . . تحدث أهل الأرض الذين استحالت حياتهم إلى نوع من حياة الأوابد والفواتك لقبح الثقة وسوء الظن، وشر المعاملة، أن لأخوة الإنسانية لا زال لها تحت جناح تعاليم محمد مكان تأرِزُ إليه وتلوذ به، وأن الأسرة التي كان يبغيها أبو البشر آدم على وداد وترابط وتضامّ حتى يكون له من ذلك معنى السمو على(170/44)
الأفق الحيواني. . . لا زالت هي الأمة العربية المطبوعة على إجابة الصريخ وتلبية الدعاء ونصرة اللهيف واحترام الجامعة ومعنى الدم. . .
يا أهل فلسطين! إنكم عرفتم كيف تموتون عند الاقتضاء، ولذلك لم تموتوا! بل ضوعف فيكم سر الحياة لأنكم أمددتموه بالدم وفعال المجد وحسن البلاء. . بل لقد ضوعف بعملكم سر الحياة في العرب والمسلمين جميعاً، وصار منكم مثل جديد يضربونه مفتخرين بين يدي هذا الزمان على مسمع الأمم وبصر التاريخ. . وقد غدوتم في فم الزمان مثلاً شروداً وحديثاً مُرَدَّداً أنسى التاريخ خبر الإسبرطيين وأجناد الرومان والجرمان وغير أولئك من العصبة أولي القوة! وقد أضفتم إلى مكتبة البطولة كتاباً ضافي الصفحات واضح الغرات فرح به عشاق الأبطال وعارفو أقدار الرجال.
ومهما يكن عدد مستشهديكم الذين ساقوا إلى المعالي مهرها من صبيب الدم ومسفوك النجيع. . . ومهما يكن من سطوة القوة، وعنف الظلم، ووقاحة الطاغوت. . فأن الدرس الذي تلقونه على المتآمرين على كسر شوكتكم وازدرادكم وهضمكم، درس هائل مزق أعصابهم، وأطار صوابهم، ومحا خططهم، وأفهمهم أنكم أعظم بأساً وأشد مراساً وأطول أنفاساً.
(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قرح مثله).
يا صهيونيون! كذبٌ من الأحلام وخُدعة من الأماني أن تملكوا أرضاً تنكركم وتلفظكم. لقد سخرتم إلهكم الذهب في شراء سطوة أمة مخدوعة بكم أو خادعة لكم تتخذون منها آلة تهدم وطناً على أهله لتبنوا لكم على أنقاضه وطناً في عالم الأحلام. . . وسنبصر وتبصرون: أينا المحروب المغلوب. فارتقبوا إنا مرتقبون، (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتُهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار)، ففروا من مجزرة أنتم شاؤها وأرانبها. . وكونوا أكيس من أن تبنوا لكم عشاً في طريق الفيل. . أو تناموا بين فكي الأسد. . .!
ثم هبوا أنكم غصبتم فلسطين من العرب، فما هي ضمانات دوامها لكم وسط هذا البحر(170/45)
العربي الذي يكنفها ويلفها ويقذفها بموجه من الشمال والجنوب والشمال واليمين؟ هي الحراب الحليفة لا شك. ولكن الحماة مواطنهم في شمال الأرض، وهم أمة لا مناص من أن يلحقها داء الأمم وتدركها عقابيل الشيخوخة، وحينذاك أو قبله بكثير يستيقظ الثأر الراقد، وينهض الوتر الرابض، ويتنادى أبناء الشرق عليكم، فلو نفخوكم لأطاروكم. . . فأيما أمانٍ وقرارٍ وقيمةٍ لبلد فقد أهم عناصر الاستيطان وهو الدوام؟!
ألا إنها خدعة عبقرية، أو قل هي عصا القدر تسوقهم إلى شبكة محبوكة فاغرة لتصديق نبوءة النبي العربي الكريم. (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين).
أيها المؤتمرون بتراث العروبة! كلمة من شباب العرب والإسلام: إننا اعتزمنا أن نحيا أعز حياة وأمجدها، مدفوعين إلى ذلك بوحي أرضنا أرض التاريخ والرسالات، والميراث الروحي، وبهتاف أبطالنا وأعلام تاريخنا، تحيط بنا أفواج مجندة من أرواح الشرق التي نعيش معها ونلقَن عنها؛ ولن يعوق اندفاعنا عائق، لأن عجلة الفلك تدفعها يد القدر، وهي التي تدفعنا لنأخذ دورنا الثاني في تنمية الميراث الإنساني وغسل الأرض. . .
ألا فأفسحوا الطريق ولكم حسنة، قبل أن تفسحوه وعليكم كلمة السوء! فأننا عما قليل سيلٌ يتحدر من صبَب، ونار تشتعل في حطب! (ومنذا يرد على الله القدر)!
عبد المنعم محمد خلاف(170/46)
جولة ريفية
صحبة النهر المقدس
في الطريق الريفي الملوّن بالأضواء والظلال لا تجد أجمل من رؤية النهر المقدس، يشق الوادي الجميل، فيُنَضرُ بالخضرة طلعته، ويزين بالعشب والشجر حافته، وينفث من روحه في الطير الحياة، ويطيف من حوله أرواحاً تغني بجماله وتبتسم في عذوبته!
ولقد مرَّت قرون وقرون، ومياه النهر تغني للوجود أغنية الخلود، وتفني المخلوقات في كر السنين، ويبقى وجه الماء العذب الطهور تصافحه أضواءُ الشمس الذهبية، وتباركه أنفاس الهواء، فيملأ هذا الثالوث الطبيعي القلوب والعقول بشراً وصفاء وذكاء وحياة!
ويا لها من قوى سحرية تُقوي الإيمان بالخلود، وتزيد الحب للوجود، وتبعث الزهد في الحياة، وتعلن في الدنيا مجد الله!
ومن ذا الذي يمكنه أن يصف سحر النهر؟ وكيف لأديب أو مفتنّ أن يصور روحاً من الأرواح عاشت من جودها الحقول، وطفرت في براءتها الطيور، ورقصت في دلالها الهوام رقصات الجنون!
ومن الغريب أن آلاف الأناسيَّ تسير إلى جوار هذا الروح الهائل، كظل من الظلال العابرة، لا تهتز لجوده، ولا تنحني لبره، ولا تهتف بجماله، كأنما نضبت فيهم عاطفة الاعتراف بالجميل، على حين كان الآباء الأولون يقْدرُون للنهر أياديه، فيقدمون له الهدايا، ويحملون لصدره أعز الأرواح!
فلماذا لا نُزجي لهذا الماء الغني هدايا الفن الحديث، وقرابين القلب العارف النبيل؟ وهاهي ذي روح النهر تشدو بأنفاس الحنان، وهاهي ذي أمواجه تتنفس البهجة والفرحة في الحياة!
(ميت غمر)
مصطفى عبد اللطيف السحرني المحامي(170/47)
مشرقيات
في الأدب العربي الحديث
للأستاذ أغناطيوس كراتشقويفسكي
الأستاذ بجامعة ليننجراد
تمهيد: امتاز الأستاذ أغناطيوس كراتشقويفسكي صاحب هذا البحث بدقته وسعة مداركه، وتساميه عن المواضيع المطروقة؛ وهو لا يفرق مطلقاً بين الآداب العربية وبين الأمة التي أنتجت هذه الآداب.
وقد لا أعرف بين علماء المشرقيات في أوربا من توفر على دراسة الأدب العربي الحديث غيره وغير البروفيسور جب صاحب الدراسات الوافية في القصة المصرية والأدباء المعاصرين، والأستاذ كامفماير الألماني مؤلف كتاب (قادة الأدب العربي الحديث)، والمستشرق السويسري الدكتور ويدمار الذي يذيع دراسات مستقلة عن الأدباء والشعراء المعاصرين، كمحمود تيمور والزهاوي، والمستشرق نيفل باربور الذي كتب دراسة وافية عن المنفلوطي وعن تاريخ المسرح المصري، وكذلك المرحوم مارتين هارتمان المتوفى لأعوام قلائل، فإليه يعود الفضل في تنبيه علماء أوربا إلى الأدب العربي الحديث.
وقد زار العلامة كراتشقويفسكي مصر وسوريا وفلسطين عام 1908، وانكب في خلال إقامته بهذه الأقطار على دراسة آدابها الحديثة، ومكث بها فترة طويلة بمدرسة اليسوعيين في بيروت. وظهرت نتيجة زيارته ودراسته في بحث ممتع قرأته له منذ أعوام ناشد فيه الأدباء المعاصرين أن يدونوا تراجمهم ويدرسوا آثارهم.
وللأستاذ أيضاً يعود الفضل في تعريفنا بالعالم المصري المرحوم الشيخ محمد عياد الطنطاوي المدفون في مدينة بطرسبرج (لينجراد)، فقد نزح هذا العالم الأزهري منذ نحو قرن تقريباً إلى روسيا ليدرس الأدب العربي في جامعاتها، ووافاه الأجل وهو هناك فدفن في الأراضي الروسية، ويوجد رسم فوتوغرافي لقبره في الخزانة التيمورية، وقد نقشت بعض عبارات بالعربية على شاهد القبر هذا المعنى.
وقد ظهر أول بحث علمي للأستاذ كراتشقويفسكي عن (شاعرية أبي العتاهية) وضعه عام(170/48)
1906، فرسالة (خلافة المهتدي) التي تقدم بها إلى الجامعة للحصول على درجة علمية، فكتاب (المتنبي وأبو العلاء المعري) وهو بحث ممتع دقيق فيما كان للمتنبي من التأثير في فلسفة أبي العلاء وشعره وبالأخص فلسفة التشاؤم الغالبة في شعر فيلسوف المعرة وفي آرائه الدينية، ودراسة عن شعر الشاعر الدمشقي (أبي الفرج الوأواء)، وترجمة ديوانه، وكتاب (البديع لابن المعتز)، ودراسة عن (الرواية التاريخية في الآداب العربية العصرية)، ثم هذا البحث الممتع الذي نشره في الملحق الأول من دائرة المعارف الإسلامية.
ومما يجدر بنا ذكره أن العلامة كراتشقويفسكي أشرف على ترجمة كتاب (الأيام) لطه حسين، و (عودة الروح) لتوفيق الحكيم إلى الروسية، وهو يشغل الآن كرسي أستاذ الأدب العربي بجامعة لينجراد، تعاونه في مهمته سيدة فلسطينية هي كلثوم فاسيلفا التي وقفت جهودها على نقل الآثار النفسية في الأدب العربي إلى الروسية.
(المترجم)
1 - لمحة عامة - عوامل التقدم - العصور
ليس من اليسير على الباحث المحقق أن يعثر على بعض آثار النهضة الأدبية في العصور السابقة للقرن التاسع عشر. فإنها كانت مجرد مظاهر فردية الغرض منها إحياء الفنون اللغوية القديمة، دون محاولة التجديد في الأدب؛ وكان من جراء الروابط المتينة التي نشأت بين الأقليات المسيحية في سوريا ودوائر روما واستامبول أن بزغت مدرسة أدبية خاصة، يتصدرها مطران حلب الماروني السيد جرمانوس فرحات (1670 - 1732)؛ إلا أن العرب لم يتأثروا بالتيارات الفكرية في أوربا إلا بعد الحملة الفرنسية (1798 - 1801). فإذا أردنا أن نبين مظاهر الثقافة الأوربية التي تركت أثراً أعمق من غيرها في التفكير العربي، ألفيناها في الوصف الذي أورده الجبرتي لأول مطبعة حروف، ورأيناه في أول مكتبة نظمت على النمط الأوربي في دار الشيخ حسن العطار (1766 - 1834) الذي أصبح فيما بعد شيخ الجامع الأزهر. وإن في هذين المثلين فكرة عن بعض العوامل التي قامت بدور هام في تكوين الأدب العربي الحديث، وقد أنشئت في ذلك الحين دور جديدة للعلم على الطراز الأوربي، فأنشأ محمد علي الكبير مدارس لتعليم الطب والعلوم الفنية(170/49)
بنوع خاص، لكنها خصصت أيضاً لتدريس فن الترجمة. أما في سوريا فقد عملت الرسالات الأوربية والأمريكية العديدة عملاً مجدياً في هذا السبيل، فأسست مدارس منوعة، وراح الأهلون ينسجون على منوالها في إنشاء دور العلم، فكانت مدرسة بطرس البستاني (1819 - 1883) أولى المدارس الوطنية. وفي خلال القرن التاسع عشر أدخلت على تلك المدارس تعديلات عدة، فأصبح للبلاد العربية الآن مجموعة رائعة من المعاهد العلمية الكبرى التي أحدثت أثراً مباشراً أو غير مباشر في تقدم الأدب الحديث. وإنا نذكر منها الجامعة الأمريكية، وجامعة القديس يوسف ببيروت، والجامعة المصرية بالقاهرة. ثم انتعشت حركة البعثات العلمية فأكملت ما قامت به المدارس من الخدمات. وهناك وصف طريف لأولى البعثات التي أرسلها محمد علي الكبير، وهذا الوصف الشائق بقلم أحد المبعوثين، رفاعة بك الطهطاوي (1800 - 1873) الذي أصبح فيما بعد مترجماً مجتهداً، واحتل مكانته الأدبية كزعيم من زعماء الاتجاه الجديد. وقد اتخذت تلك البعثات صبغة منظمة ابتداء من مستهل القرن العشرين. ومن السهل استجلاء أهميتها في تكوين الثقافة العربية إذا اطلعنا على الرسائل التي قدمها شباب العلماء العرب في جل السنوات (خصوصاً إلى الجامعات الفرنسية). وفيما عدا الطباعة التي كانت معروفة في سوريا منذ فجر القرن الثامن عشر، دون أن يكون لها أثر كبير، فقد أدخلت الحملة الفرنسية إلى مصر عنصراً جديداً وهو الصحافة الدورية. لكن أثرها ظل في حيز ضيق إلى أن كانت سنة 1828 حين أعاد تنظيمها محمد علي الكبير. وكان لها الفضل العميم في تقدم الأدب الحديث، إذ وجهت بعض الأنواع الأدبية وجهات جديدة كما ساعدت على ظهور أنواع أخرى. وكان الإقبال المتواصل على الترجمة مرتبطاً تمام الارتباط بالطباعة. واستهلت الحركة بترجمة الكتب العلمية ثم شرع في نقل الكتب الأدبية البحتة. وكما أن بعض الكتب القديمة كمؤلفات ابن المقفع والجاحظ كان من الصعب نقلها إلى اللغات الأخرى لولا مترجمو العصر العباسي، فإن الأدب العربي الحديث كان مستحيل النشوء لولا مترجمو القرن التاسع عشر. وللمرة الأولى في التاريخ أصبح الأدب القديم في متناول القراء بفضل الطباعة. وقد شرع في خلال العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة في دراسة هذا الأدب دراسة صحيحة مؤسسة على القواعد الحديثة. وقد قامت هذه الحركة على أساس أنه لا(170/50)
يجوز نبذ الأدب القديم كله لتشييد أدب عربي حديث، بل يتعين الاحتفاظ بجزء كبير من الأدب القديم وإعادة تنظيمه. وقد تأسست دور كتب على النمط الأوربي فسهلت تلك الدراسات المنظمة وساعدت على نشر الكتب القديمة. وإلى جانب الصحافة الدورية، قامت المنتديات والجماعات العلمية والسياسية والأدبية تدريجياً منذ منتصف القرن الماضي فأحدثت أثراً عميقاً في الجو الأدبي. بل إن النثر الخطابي نشأ وتدرج في تلك المنتديات. أما المسرح فلم يكن له حظ يذكر، فقد ظهرت بواكيره في النصف الأخير من القرن التاسع عشر بفضل جهود بعض الهواة، لكنه لم يعتبر مظهراً جدياً من مظاهر الفن إلا في القرن العشرين إذ برزت طائفة من الممثلين الأكفاء يرشدهم فريق من النقدة المسرحيين.
وللهجرة أهمية خاصة ترجع إلى تقلبات مصير العرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، وذلك لاعتبارات متنوعة من سياسية واقتصادية. ولقد سارت الهجرة جنباً لجنب مع الأدب العربي الحديث منذ فجره حتى اليوم، سارت منذ غداة الحملة الفرنسية إذ نزحت بعض الأسر عن مصر وأقامت في فرنسا، كميخائيل صباغ (1784 - 1816) والياس بقطر (1784 - 1821). وكثير من أولئك المهاجرين كانوا أساتذة الآداب العربية في جامعات أوربا كالشيخ الطنطاوي المدفون ببطرسبرج (1810 - 1861) وكان جل اهتمامهم موجهاً إلى إحياء الأدب القديم، إذ أن الأدب العربي الحديث كان في مستهل نهضته فلم يثير اهتمام المستعمرين وعلماء المشرقيات. لكن الحالة تطورت بعد سنة 1870 إذ تدفق سيل المهاجرين تدفقاً كبيراً (خصوصاً النازحين من سوريا) لا إلى أوربا فحسب، بل إلى أمريكا الشمالية والجنوبية. وكان لهجرة هذه العناصر أهمية عظمى في تكوين الأدب العربي الحديث، إذ ظهر جيل من الكتاب بدءوا دورهم على مسرح الأدب وإن لم يتموه إلى الآن.
استناداً إلى هذه العوامل يمكن القول بأن تاريخ الأدب العربي الحديث ليس إلا تاريخ النفوذ الأوربي، فقد اتجه هذا الأدب اتجاهين رئيسيين: النضال بين الأفكار القديمة وبين الأفكار الحديثة، والمشكلات التي نشأت من طابع الفن الأدبي الحديث. وقد اتخذ هذا النضال أشكالاً متباينة في المضمار الأدبي، فشوهدت في كل مرحلة تقلبات تختلف عن الأخرى. وأهم الميول التي ظهرت بجلاء هي أولاً: الاحتجاج على كل جديد ومحاولة البقاء في دائرة القديم، وإحياء الأساليب القديمة. ثانياً: السير سيراً سطحياً على منوال الأوربيين(170/51)
وتقليد أفكارهم، واحتقار الماضي العربي بأسره. ثالثاً: محاولة صبغ الأصول الصحيحة للأدب العربي بأشكال جديدة مبتكرة من أساسها، مع اتخاذ الطرق الأوربية والثقافة الغربية وسيلة للوصول إلى هذا الغرض. ولا تزال هذه الميول قائمة حتى الآن جنباً لجنب.
ويلاحظ أن الفريق الأخير هو الذي فاز بأوفى عدد من الأنصار. وبديهي أن مصير العرب السياسي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أثر تأثيراً كبيراً في التيار الأدبي. فتاريخ هذا العصر هو تاريخ الانفصال تدريجياً عن تركيا (سواء من الوجهة السياسية أو الأدبية) ونشأة الروح القومية العربية التي اجتازت مراحل نموها بخطوات تختلف سرعتها باختلاف البلاد. وقد شاهدنا في الأيام الأخيرة أن تقدم الروح القومية أدى إلى نزعة فردية عند بعض الأمم العربية. أما في ميدان الأدب فإن تلك النزعة تنمو وتقوى في مصر حيث يدعو بعض المفكرين إلى تمصير اللغة وإحياء الأدب القومي.
إن من الصعب تقسيم الأدب العربي في القرن التاسع عشر إلى عصور تميزه تمييزاً واضحاً، فقد كان الإنتاج الأدبي في حد ذاته إلى عام 1880 تافهاً نوعاً، بل إن العرب أنفسهم كانوا لا يذكرون أسماء كتابهم، ذلك لأن مؤلفات هؤلاء الكتاب لا قيمة لها إلا في نظر معاصريهم، فهي مرآة لأفكار عصرهم ومشكلاته، وأهميتها اليوم لا تعدو أن تكون تاريخية بحتة. بل هو عصر بحث واستطلاع أكثر منه عصر إنشاء أدبي.
ويمكن تحديد هذا العصر بخمس قرن، أي من سنة 1880 إلى 1890، ثم من سنة 1890 إلى سنة 1900، وهي الفترة التي اختفى فيها من المضمار الجيل الأول لناشري النور الجديد ودعاة الأدب الغربي، وكانت كل من سورية ومصر تعملان وقتئذ مستقلتين، فالتفتت مصر إلى المضمار بنوع خاص، أما سوريا فوجهت اهتمامها إلى ميدان اللغة والأدب، وبرز في كل من البلدين رجال عظماء كبطرس البستاني في سوريا، ورفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك (1824 - 1863)، وعبد الله فكري (1834 - 1890) بمصر، وفي البلاد غير العربية امتاز العصر بظهور بعض الكتاب النوابغ كأحمد فارس الشدياق (1804 - 1887).
في هذه الفترة أنشئت الصحافة الدورية وتكون الأسلوب الصحفي، وشهدت السنوات العشر المتخللة بين سنة 1860 و 1870 تغيرات خطيرة في مركز الأدب العربي الحديث،(170/52)
فحوادث دمشق في سنة 1860، واستقلال لبنان استقلالاً داخلياً من جهة، وافتتاح قنال السويس (1869)، ثم نشوب الثورة العرابية (1882) أدت إلى احتلال القطر المصري من جهة أخرى؛ كل هذه العوامل ساهمت في تعديل الطرق التي سار عليها الأدب. ولقد اتسع نطاق الهجرة السورية إلى مصر اتساعاً كبيراً في الفترة من سنة 1890 إلى سنة 1900، فانتقلت إلى أيدي السوريين جميع الصحف الإصلاحية القوية النفوذ.
(يتبع)
ترجمة محمد أمين حسونة(170/53)
الطيف. . .
للأستاذ فليكس فارس
يا جيرةَ الحيّ هل في الحيّ من آسِ ... يردُّ ذكري وآلامي ووسواسي؟
سلختُها عن شغَافِ القلب فاقتلعتْ ... جُذورُها من صَميم القلبِ إِحساسي
أعلو المنابرَ طلاَّباً بنشوتها ... بعثَ القديمِ بأفكاري وأنفاسي
فتنجلي بيَ نفسي وهيَ خافيةٌ ... عني لتبدو لَمنْ حولي من الناسِ
أُنير نبراسَ شعري أستبيحُ به ... ما يَهتكُ السترَ للمُستَذكرِ الناسي
فيجتلي شاهدي روحي بروعتِها ... ويحجبُ الشعرُ عني نورَ نبراسي
نشدتُ نفسيَ في الإعصار أَقحمها ... نشدتُها في ظِلالِ الوردِ والآسِ
نشدتُها في عيونِ الغيدِ طامِعَةً ... مني بإحياءِ تدليهي وإِيناسي
فروَّعتني شَرارات الحياةِ بها ... ورَاعها في عيوني أَربدُ الياسِ
يخَالني الناسُ أَمشي في ربوعهم ... ولم أَكن غيرَ طيفٍ بين أَرماسِ
فإن جلستُ إلى الإخوانِ مؤتنِساً ... لمحتُ ذاتيَ وهماً بين جُلاَّسي
أُراود الكأسَ عن سكرٍ تجودُ بهِ ... فلا أرى غيرَ وهمِ السكرِ في الكأسِ
يا جيرةَ الحيّ هل في الحيّ من آسِ ... يردُّ ذكري وآلامي ووسواسي؟
سلختُها عن شغَافِ القلب فاقتلعتْ ... جُذورُها من صَميم القلبِ إِحساسي
(إسكندرية)
فليكس فارس(170/54)
الشاعر وسريره
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
- 2 -
في غرفة واجمةٍ قفرةٍ ... ليست بها بارقة للمُنى
هادئة لا عن طمأنينة ... ساكنة مثل سكون الفنا؟
النور في أرجائها حائر ... يصيح من يأسٍ: أقبري هنا؟!
ولا جواب غير همسٍ بها: ... ويْبَكَ يا ابن الشمس أين السنا؟
لا ذنب للنور ولا غيره ... في غرفة خالية مِن (أنا)!
ثاقبة السمع، تكاد الرؤى ... تُسمَعُ فيها وخُطا الأزمنة!
كأنما كل جدار بها ... أُبدل آذاناً عن الألسنة
ضلّت بها الأشياء ناموسها ... فما لها من صِفَةٍ أوزِنة!
يمتدّ فيها الزمن المنقضي ... حتى كأن اليوم فيها سَنة
كأنما الدهر بها مُتعب ... أوغل في غيبوبة من سِنة!
ثَمَّ (سرير) مُفرد، لاغِب ... ممتَقَع الوجه، كليم الفؤاد
ينتحل البشر إذا جئتُه ... وهمُّه ما بين خافٍ وباد
يرثي لقلبٍ في ضجيج الدُّنَى ... يشكو من الوحشة والانفراد
واضيعةَ الجمر بلا مُصطلٍ! ... وليس بعد الجمر إلا الرماد!!
ينشد قلباً واحداً عاطفاً ... من ضعضعت شكواه هذا الجماد!
رَق لحالي، وهو أحرى بأن ... يبكيني العطف على حاله!
كأنه في شعثِه راهب ... لا تخطر الدنيا على باله
يحمل مني جسداً مائراً ... طول الدُّجى يمطَى بسرباله
يقوم عنه وهو مستنفدٌ ... قواه، ملْعوبٌ بأوصاله
يكفيه بؤساً صاحبٌ فوقه ... يطرقه الليل بأهواله
من لسريري بيدٍ عَذبةٍ ... تنفخ فيه الرَّوح والعافية؟
تجولُ فيه إذا جَهُمه ... أريكة منضودة زاهية!(170/55)
ينتشر الريحان في جوها ... وتنتشي في ظلها الفاغية!
آوي بها من غرفتي جنةً ... يمر فيها الدهر كالثانية
رُبَّ سرير حسُنت حاله ... يعود بالحسنى على حالية!!
عي أحمد باكثير(170/56)
وداع صديقين
للأستاذ أمجد الطرابلسي
عِندي التهاني عذبة لكما ... فرْحي، فما لي اليومَ عندكما؟
ومعي التهاني الطيباتِ أسىً ... وار يجوبُ الصدْر مُضطرما
إمّا انْتَشي قلبي لمجدكما ... ذكر النوى فهفا لبُعدكما
فرح وتحنان، فأيُّهما ... أُخْلي له الخفَّاق، أيهما؟
قد حارَ قلْبي قبلَ بينكما ... ما يفعل المِسكين بعدكما!
أخَويَّ سِيرا واتركا كبدي ... تَلْهو بها الأشواقُ إثْركما
تَبّاً لها مكلومة أبداً ... ما إن تُسيغ الأعْذب الشما
أو تُنكران أساي في عُرسٍ ... رن السرور بساحِهِ نغما
إن الوفاء يهزُّ بي شجناً ... جمَّ اللهيب ويَنْظم الكلما
ويهيجني قسراً فمعذرةً ... تَسَع الوفاَء البرَّ، أو كرما
أخويَّ سيرا للفخار معاً ... إن القلوبَ تحوط ركْبكما
لا تأسيا لملاعبٍ كرُمت ... نبت الصِّبا في قدْسها ونما
أو ترْهبا الصحراء قاحلة ... لجُّ الرِّمال طغى بها وطما
فالمجد والذكْرُ الجميل لمن ... يجري على الأرماح مبتسٍما
كم أطْلعت صحراؤنا قمراً ... حول النبي، وعلمتَ أُمما
وعلامَ ظعنكما يُروّعني ... ومرابضُ الأحرار قصدكما!
إن العراق على الجِوارِ أخٌ ... بَرٌّ كريم يكلأ الرَّحِما
في رأسه من هاشمٍ أسدٌ ... يرعى العرينَ ويحرس الأجما
غازي بن فيصل جلَّ مَحْتِدُ ... شرفاً، وطابَ أُبُوَّةً وحمى
ملكٌ به تزْهو العروش، جرى ... نحو العلاءِ بِشعبه وسما
فخر الشباب، وحسن طلعتِه ... وضياَءه إذ يكشفُ الظّلما
للهِ هَمكما، ودركما ... من كوكبين توهَّجا هِمما
قلبا كما قد أُتْرِعا أملاً ... وعزائِماً، وتوقَّداً شمما(170/57)
أصبحتُما مثلاً فَمِثلكما ... من سارَ في طلبِ العلى قُدُما
نِضْوانِ، والقلبُ الكبير لظىً ... تضوي به الأجسام ما اضطرما
خاضاً عُباب الجد مُضطرباً ... صخباً: ودرب المجد مزدحما
ملآ الصحائفُ كلَّ مفخرةٍ ... وتشاطرا الأمجاد واقتسما
فإذا سألت المجدَ، أي فتى ... نزهو به في الشام؟ قال: هما!
ثملان بالعزِّ التليد فكم=بعثا محاسِنه، وما كرُما
طَرِبان لم ذا مجّداً ظفراً ... أو ردَّدا نغما، وما سئما
أوَ يسأمانِ، ومجُدنا زهرٌ ... في مَفرِق التاريخ قد نظما
مجد العروبةِ ساطعٌ أبداً ... لا يرْهبُ الأحقَابَ والقدما
تعنو له الأجيالُ خاشعةً ... وتخُصُّه التبجيلَ والعِظما
يا مَجْدَنا الماضي تحيَّتنَا ... اليومَ ثُرْنا نبعَثُ الرِّممَا
سنُعيد صوتك داوياً غرداً ... في الخافقَيْنِ وننشُر العلما
نحنً الشِّبالُ فداءُ رايتنا ... سنُحَطمُ الأصفادَ واللُّجما
آمالُنا وخيالُنا وطنٌ ... سُقِيت دُموعاً أرضُه ودما
جُبِلت من الشُّهداءِ طينَتُه ... فغدا لقُدْس تُرابه حرما
وطني تخِذْتُكَ في الصبا أملاً ... حُلْواً يرفُّ، وفي الكرى حلُما
وطني عبدْتُ ثراك مِن وَلْهِي ... لو كنت مِمَّن يعبدُ الصنما
يا صاحبيَّ ستنزلانِ حِمىً ... شَب الفخارُ لديهِ واحتلما
بغدادَ أم المجدِ من ولدتْ ... للمجد مأموناً ومُعتصما
إن تأتياها، فاذكرا زمناً ... كلُّ العصور غَدت له خدَما
ثم اسقِيَا العَبراتِ تُربتها ... قد جلَّ دمعٌ للوفاءِ همى
البصرتَان هناك كم ولدا ... حبْراً وكم ذا أطْلعا علما
والرّافدان هُنَاك كم حملا ... عرشاً، أظلَّ العُرْب والعجما
أيُّ العروشِ يظلُّ منبسطَا ... أي الجديد من البِلى سلِما
هذي دمشقُ، فكم بها أثر ... من عبدِ شمسِ شارف العدما(170/58)
كم جرَّ ذيلاً في حدائِقِها ... مروانُ أو كم نقّل القدما
جبّارة في الخطبِ باسمة ... لا تشتكي لجراحِها ألما
سخِرت من الطُّغيانِ فاغرةً ... قبراً لكلِّ مدجَّج ظلما
دامٍ حشاها، وهي عابثة ... كالغيدِ، تضحكُ مُقْلةً وفما
لا تنسياها صاحِبيَّ غدا ... أو تنسيا شملاً بها التأَما
أو تنسيا بردّى وواديَهُ ... والغُوطَة الغنَاء والنَّسما
مالي أُذكرُ! أين مثلكما ... من يحفظ التذكار والذّمما؟
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(170/59)
من وراء القرون
هذه الأحداث تتوالى، والمصائب تتعاقب، والأمم الإسلامية
تخوض كل يوم بحراً من اللهيب، فأين الأدب الذي يصف
الأحداث، ويصور آثارها؟ وأين الشعر الذي يشحذ الهمم،
ويستثير العزائم؟ وأين الأدباء والشعراء الذين يشعرون بشعور
الأمة ويألمون لآلامها. ويشاركون في بناء مستقبلها؟. . .
أما حركتكم أيها الشعراء نكبة فلسطين؟ أما هزت قرائحكم؟ أما هاجت عواطفكم؟ اقرءوا الآن هذه الأبيات من قصيدة الأبيوردي في استيلاء الإفرنج على بيت المقدس في سنة اثنين وتسعين وأربعمائة. ثم افتتحوا (ديوان فلسطين) الذي ستؤلفونه من قصائدكم في فلسطين بمعارضة هذه القصيدة، عل قصائدكم تهز الأمة الغافلة فيخرج منها صلاح الدين جديد.
(ع)
قال الأبيوردي المتوفى سنة. . .
مزجنا دماءً بالدموع السواجم ... فلم يبق منها عرضة للمزاحم
وشرّ سلاح المرء دمع يفيضه ... إِذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فإيها بني الإسلام! إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذُّرى بالمناسم
أتهويمة في ظلّ أمن وغبطة ... وعيش كنوّار الخميلة ناعم
وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هبوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ... ظهورَ المذاكي أو بطون القشاعم
يسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وكم من دماء قد أبيحت ومن دُمىً ... تواري حياء حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمرة الظبى ... وسحر العوالي داميات اللهاذم
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ... تظل لها الولدان شيب القوادم(170/60)
وتلك حروب من يغيب عن غمارها ... ليسلم يقرع بعدها سن نادم
سلَلن بأيدي المسلمين قواضباً ... ستغمد منهم في الطُّلى والجماجم
يكاد بهنّ المستجنّ بطيبةٍ ... ينادي بأعلى الصوت: يا آل هاشم!
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا ... رماحهم والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من العدا ... ولا يحسبون العار ضربة لازم
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى ... وتغضي على ذلّ كماة الأعاجم
فليتهم إذ لم يذودوا حمّية ... عن الدين ضنّوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا في الأجر إذ جمّش الوغى ... فهلاّ أتوه رغبة في المغانم
لئن أذعنت تلك الخياشيم للثرى ... فلا عطسوا إلا بأجدع راغم
دعوناكم والحرب ترنو ملحّة ... إلينا بألحاظ النسور القشاعم
تراقب فينا غارةً عربيّة ... تطيل عليها الروم عضّ الأباهم
فإن أنتم لم تغضبوا عند (هذه. . .) ... رمتنا إلى أعدائنا بالجرائم(170/61)
القصص
ليلة. . . من عمر فتاة!
للأستاذ محمد شوكت التوني
منذ الساعة الثالثة بعد الظهر وأمينة في عراك بينها وبين نفسها. فمرة تقوم لترتدي ثيابها وتعد نفسها لملاقاة (صادق). ولكنها لا تلبث حتى تلقي الملابس وترمي أدوات الزينة مهتاجة الأعصاب ثائرة النفس. فإنها لا تريد لقاءه ولا تبغي أن تشاهد وجهه ولا أن تستمع إلى حديثه، ولا أن تبادله ذياك الحديث. فقد أصبح بغيضاً لديها، كريهاً في عينها، منبوذاً من كل عواطفها إلا عاطفة الحقد. لقد عرفته أول ما عرفته شاباً وادعاً رقيقاً ملأ أذنيها بأحاديث الهوى، وصور لها دنياها زهوراً ورياحين، وأضاء في قلبها نور الأمل، وأشعل في نفسها جمرة الحياة الحلوة الهنيئة، وحسبته صادقاً في قوله مخلصاً في حبه، وفياً بعواطفه، يريدها شريكة له تقاسمه نعماء الحياة وبأساءها، يبنيان معاً كالعصفورين عشاً يتذوقان فيه جمال الدنيا وينعمان فيه بسقسقه صغارهما زينة الحياة وذخر الباقية.
وكانت قد اطمأنت إليه وأنست لحبه، وبادلته النجوى كما بادلته رسائل تفيض سطورها بأشد العواطف، وتسجل في كلماتها خفقات قلبها.
وكان لقاؤهما أول العهد نادراً لا يستطيعانه، فكانت الرسائل عزاءهما وسلوتهما، ورسول قلبيهما؛ وكان والدها رجلاً شهماً قوي الشكيمة، يحيط منزله بعنايته ويتعهده برعايته، فكان الإفلات من حضانته عسيراً: ولكن الشباب لا يُغلب والعاطفة في زمنه لا تقهر، تستطيع أن تنفذ ولو في الصخر الصلد. وعلى ذلك فقد تقابل العاشقان بعد طول البعد. وبعد أن ربط بين قلبيهما مجرد النظر والميل الغريزي والخيال البارع، ووثقت الروابط والعلاقات الرسائل التي كانا يتبادلانها، والتي كانت ألفاظها تحمل من المعاني ما هو أبعد ما يكون عن الحقيقة لأنه نضح الخيال وثمرة الأمل الواسع والرجاء الفسيح.
ولكن المقابلة وتكرارها مرة أخرى باعدت بين العاشقين، فقد عرفت من أمره ما غاب عنها بين سطور الرسائل، فهو يريدها كما يريد الرجل المرأة، تدفعه شهوة الشباب الغلابة التي تتشكل في صورة العاطفة وقد تسمو وترقى، وتأخذ هيكل المثل الأعلى ولكنها لا تلبث عند اللقاء واللمس وتذوق القبلة والعناق أن تنكشف وتتساقط جافة صفراء من فوقها ومن حولها(170/62)
الأوراق التي كانت تسترها مخضرة منداة، عليها طلاوة الغضارة ورونق النضارة. ويصفق في ذلك الكيان البشري كفّا الرغبة فيزلزل الجسم ويخون اللسان صاحبه، وتكشف النظرات خديعة الخيال.
أدركت (أمينة) كل هذا، وكشفت من أمر صاحبها ما رابها أول الأمر، فتعللت بالآمال واستنجدت بخداع نفسها، ولكنها لم تستطع الثبات وأيقنت في آخر الأمر أنه باطل ما أملت، وخيبة ما رجت، ووهم ما تخيلت، وأن العش الذي بنته في سبحات الروح إنما هو في الحقيقة كهف مظلم ينتظرها فيه إنسان في صورته الوحشية الأولى، أو بالحري حيوان على أديمه طيف إنسان! فجفلت ونفرت وارتاعت، وكان عنصر نفسها قوياً فلم تستسلم أو ترتمي حطاماً وتتكسر هشيماً، فأعرضت وصدت عن (صادق) وأرسلت إليه تعلنه بالقطيعة وتحول بينه وبين قلبها وبين جسمها، وتحذره أن يعاود أمره معها أو يحاول الاتصال من جديد بها.
ولكن الوحش الذي كان ينظر فريسته في الكهف المظلم هاجه أن تفلت في لحظة قد أعد فيها الوقود، وتلهب سعير ذلك الوقود في كل قطعة من كيانه، ونادته غريزته أن لا بد من الفوز ولو بارتكاب الجريمة، فعمد إلى تهديدها وسطر لها الخطاب الآتي:
(أمينة)!
(لا تحسبي أمري من الهون بحيث تنقضين وتبرمين في حياتي بمجرد رغبتك وحسب إرادتك. أنت لي، قلباً وجسماً، ولو اصطف أهلك جيشاً، وأعدوا من السلاح أشده وأقتله. فارجعي إليّ وعودي إلى أحضاني، وإلا فليس في يدي غير الانتقام، وعدته جاهزة، وسلاحه مرهف، وخطاباتك أمامي الآن بخط يدك، أرسل بعضها إلى أبيك، وأضعها في يد زملاء أخيك بالمدرسة، وأذيعها على صفحات الجرائد، وفي كل صالون من جيرتك، فتنهال فوق جسمك الذي تضنين به على قبلاتي ومتعتي، العصي والسياط، وينتشر العار حول اسمك، فينالك من رفيقاتك الخزي ومن الراغبين في زواجك الصد والبعد.
إني أنتظرك في الساعة الخامسة من مساء ليوم في مكان لقائنا المعروف. فإن لم تحضري ففي الساعة الثامنة غداً صباحاً سأبدأ انتقامي وتكون في يد أبيك رسائلك، ولقد أنذرتك فأعذرت)(170/63)
(صادق)
لم تكن أمينة تترقب وقوع هذه الكارثة، وكانت تحسب أنه يكفي أن تعلنه بالقطيعة حتى ينقطع، وأنه حسبها ما تعاني من ألم الخيبة وصدمة الفشل.
لقد كن أول حب نما في قلبها، وكانت فجيعتها فيه لا تقل عن فجيعة الأم الشابة في وليدها الأول الذي لم تكن تصدق أنه يموت من بين يديها، فأعدت الآمال وحاطته برجاء نفسها المطمئنة.
ولقد كان صادق في نظرها شاباً وادعاً هادئاً، ثم رأت منه جنوحاً إلى تكييف العلاقة التي بينهما بصورة لا تريدها. ولم يكن يخطر ببالها أنه سوف ينحط عن هذا درجة بله درجات فيهبط من السماء التي كان يتيه فيها ملكاً فيصبح مجرماً كملايين المجرمين الذين يملئون فجاج الأرض!
إنها نادمة على ما فرط منها من التسرع في مبادلتها الحب لشاب عرفته بالنظر ولم تعرفه بالفكر ولا التجربة، ورأت في نفسها مجرمة في حق نفسها، فهي تريده عاشقاً روحياً عذرياً، ينظر إليها كزوجة المستقبل، مع أن حبهما كان وليد النظرة، ولم يكن ثمرة التعاطف الروحي. . .
إذن هي لم تحبه؛ لم تعشق هذا الإنسان المدعو (صادقاً)، ولكنها أحبت (محبوباً)، رجلاً، لأن (سالبها) الروحي كان معداً (لموجب)، بصرف النظر عن شخصية من يمثله، فأي شاب كان قد حل محله جديراً بأن ينال مركزه في قلبها.
وهذه هي الخفقة الأولى للحب، تتكون عناصرها بسرعة البرق، وتعيش في قلب صاحبها بلهاء! والسعيد من فارقته وشيكاً، والشقي من أطالت رفقتها معه وأثمرت له زواجاً، أو عشرة محرمة، كلاهما يفضي بحياة صاحبه إلى التعاسة.
مرّ كل هذا بخاطر أمينة، ولكنها تذكرت أن هذا الشاب الذي يكتب مثل هذا الكتاب ويتقلب مثل هذا التقلب، لا يحجم عن تنفيذ تهديده، فهو لابد فاعل ما انتوى؛ وغداً في الصباح ستقع في يد أبيها رزمة من الأوراق بخط ابنته التي يعتقد أنها قديسة، والتي يعيش من أجل رفاهتها وسعادتها، ويحوطها بحنانه وشدته كي يبعد عنها عناصر الشر والسوء.
إن التفكير في هول السعير كان ألطف وقعاً عندها من التفكير فيما عسى أن يفعل أبوها،(170/64)
وهو ذلك الرجل القوي الذي يبعث الرعب في نفس كل من حوله من نظرته، والذي إذا قدم البيت شاع فيه السكون وعقد الصمت ألسنة سكانه، والذي يضرب المثل بالمصلحة الحكومية التي يديرها من حيث إنجاز العمل فيها والهدوء الذي يهيمن على نواحيها، والذي يخافه أهل العزبة خوفاً لعلهم - بينهم وبين أنفسهم - لا يخافون الله مثله.
العزبة! لقد مرت على رأسها ذكريات ذلك الشاب القروي الذي يسكن العزبة، والذي اتهمه شيخها بأنه يتصل بفتاة قروية مثله، فأحضره أبوها وجلده بالسوط حتى كاد أن يموت، وأجبره على الزواج منها والرحيل عن العزبة!
ترى إذا كان هذا فعله بالقروي الحقير، الغريب عنه، فماذا هو فاعل بابنته، عرضه، دمه ولحمه؟!
أتراه إذا قرأ خطاباتها إلى صادق، وهي تدعوه فيها (حبيبها) و (أملها)، والتي تسهب فيها في شرح عواطفها وما يخالج فؤادها من عشق مبرح وهوى جائح، والتي تصف فيها سهرها الليل ومناجاتها إياه، وتفكيرها في السعي إليه وهجران الدار إلى لقائه، لولا ما وضع أمامها من موانع، والتي تذكر في بعضها كيف حطمت هذه الموانع ولاقته؟!. . .
وكانت كلما تذكرت أباها عندما يدرك أن ابنته الصغيرة كانت تخدعه وتسخر من قواعده المقررة في الدار، وتعصي أوامره، وتتستر بالأعذار الكاذبة لتلاقي. . . عشيقاً لها! ينتصب شعر رأسها فزعاً وترتعش كمن مسه تيار كهربائي، وتتساءل: يا ترى إذا رحم شبابها، وذكر أنها كبده وثمرة حشاه، هل يكتفي بقتلها برصاصة تودي بحياتها دون أن يطيل عذابها؟!
عند هذا الخاطر كانت تضعف أمينة، فتقوم من نورها إلى ثيابها ترتديها تنوي الذهاب لملاقاته والتوسل إليه كي يقلع عما قطع فيه بعزمه، لعله يلين ويرفق بحالها، ولكنها سرعان ما ترجع عما نوت، وتظهر لها خسة هذا الشاب وحقارته، وكيف أنه لجأ إلى التهديد بدل أن يلجأ إلى الرجاء، (وهذا الخلق من شأنه) أن يجعل صاحبه يتمادى لا يرق للرجاء والتوسل! ثم. . كيف ترجو وكيف تتوسل؟ وترجو من؟ هذا الوضيع؟ إن الموت أحب إليها من أن تفعل، وملاقاة حتفها أيسر من تحطيم كبريائها وعيشها ذليلة يتصرف في شأنها رجل تكرهه، بل ذئب يشتهيها، وهي كالأمة، لا تملك إلا الرضاء والتسليم.(170/65)
ترجع فتخلع ما لبست وترتمي محطمة على الأريكة وحياتها أمامها مظلمة لا ينبثق منها نور ولو من بعيد.
ثم تتذكر تهديد صادق لها بأن يعرض رسائلها على زملاء أخيها في المدرسة، وتتصور أخاها الشاب الكامل، البسام، المرح، المعتز بقوة عقله وقوة جسمه، فهو الأول بين أقرانه، وهو بطل المدرسة في الملاكمة، وهو يعد نفسه ليدخل مدرسة البوليس ليصبح ضابطاً. كيف يكون حاله لو شاع هذا الأمر بين زملائه وأصبح عرضة للازدراء والتحقير والتعيير؟ ستتحطم كبرياؤه ويمشي بينهم منكس الرأس عاني الجبين. . .
يا ترى هل ينتقم منها هو الآخر، أم يكفيه ما يحل به هو نفسه؟ إذن جنايتها مزدوجة. لقد حطمت نفسها وقتلت أخاها! ما أكره هذا الحب. ما أبعده عما يصور الكتاب والشعراء وينطق الممثلون ويرسم المصورون! إنه خداع وكذب ووهم يعيش في ظلمات الرؤوس والنفوس، حتى إذا ما برز إلى ضوء الحياة ظهر كالمسيخ المجذوم المهزول!
وكان الليل يهبط، وظلامه ينبث في الكون، ونافذتها المطلة على الخلاء البعيد تسرق لها كثيراً من جمال الليل وجلاله، ولكنها كانت ترى كل جمال مشوهاً وكل جلال حقيراً.
لم تتناول طعاماً، ولم تخرج من غرفتها. فهي تروح فيها وتجيء، وترتمي على الأرائك والحشايا، ثم تهب مذعورة كأن في هذه المقاعد جمرات تتوقد ثم لا تلبث أن تسرع فتجلس مرة أخرى وتستسلم للتفكير. . . والليل يوغل في المسير، وكأنه يسير على صدرها بكلكله، والأفكار تتوالى على رأسها سوداء فتاكة. . .
إنه قد ينفذ تهديده الأخير وينشر أمره وأمرها في الصحف، والصحف أصبحت ميداناً لنشر فضائح الناس حقيقها ومكذوبها، ويعرف هؤلاء الناس عندئذ أن هذا (البك) الجبار الذي يشمخ بأنفه ويعتز بكرامته إنما هو أب فاسد عربيد لم يستطع أن يحتفظ بعرضه، فما باله يريد أن يملي إرادته على الناس أجمعين؟! ياله من أبله ذي غفلة!!
وأهلها وأصدقاؤها الذين يتوددون إليها ويبدون لها الزلفى، ويسعون لها بالحب سيزدرونها ويتنكرون لها ويصبحون ألسنة تذيع ما قد يستطيع أن ينشئه الخيال من قصتها.
لقد فقدت الأب والأخ والأهل والأصدقاء، وفقدت الكرامة، وفقدت آمالها وسوف تعيش منعزلة منبوذة - إن عاشت - وسوف تموت ذليلة مزدراة إن عالجها الموت فأراحها،(170/66)
وسوف تتقلى ذكراها على جمر القول السيئ ما دام في الزمن أيام تمر وليالي تعقبها. . .
لا مفر إذن من الموت. فلتعجل به لنفسها لعل موتها يدفن كل هذه المصائب، وتفتدي به حياة أبيها وأخيها، ولعل الذئب عندئذ تأخذ روعة الموت وجلاله بسفالته عن أن يستمرئ السير في انتقامه إلى النهاية. . وقامت عندئذ إلى (صيدليتها) الصغيرة فانتقت منها (اليزول) (واليود). ولكنها تراجعت تفكر. وهل من الصواب أن تثير فتنة نائمة؟ وهلا يتساءل الناس عما حدا بها إلى الانتحار ودفعها إلى معالجة شبابها الغض بهذا الدواء النكد المشئوم؟ وهلا يقول الناس أكثر من الحقيقة؟ وهل تضمن هي أن يكون لدى صادق ضمير يوقظه موتها فيستحي عن الاستمرار في سفالته؟
الأوفق إذن أن تسعي إلى قتله. . . هل تقتله حقيقة؟ هل تستطيع؟ إن سلاح أبيها في متناول يدها. ولكن هل تقوى على ارتكاب هذه الجريمة؟ أتحتمل أعصاب ساقيها السير إلى داره وارتقاء درجات مسكنه؟ وهل تقوى أعصاب يدها على حمل السلاح وإطلاق الرصاص؟ وهل تستطيع مواجهة ما يعقب الحادث؟؟
لا، إن هذا فوق الطاقة!
إذن أين المفر؟ وأين المهرب؟ لا منقذ اليوم!
اندفعت إلى النافذة، وكان الليل قد انتصف ودلف بنصفه الثاني إلى الفجر، وسكن الكون وسجا الليل، وكان يخيل للإنسان البائس الشقي أن الله مستمع إليه.
وقفت أمينة في النافذة وساءلت ربها: (يا ترى يا إلهي كم فتاة وقفت موقفي وسقطت من تأثير هذا الهول، ولم تعرف الناس أمرها، فراحوا يستعدون عليها انتقامك، ولو دروا لرحموها كرحمتك).
يا ترى يا رب أنت منقذي أم يشاء قضاؤك وقدرك أن أنحدر كالحصاة الضئيلة عندما تراوحها الريح، ثم تقذفها إلى المجرى ويلمها الخضم في أحشائه؟
إنك يا رب أنزلت المعجزات في زمن الطغيان والعصيان، وكم أريت الإنسان عجزه أمام قدرتك، من حيث لم يكن يتصور وجودك ولا يخشى بطشك. فهل تتركني يا إلهي فريسة أمام إنسان عاجز وأنت القوي الجبار؟
إنني أريد أن أعيش. وأنت يا رب قدرت لي العيش. أريد أن أسعد، ولا أريد أن أشقي أبي(170/67)
وأخي. وأحب أن أقضي عمري شريفة لزوج كريم وأولاد أحباء. . عاوني يا إلهي واشملني برحمتك، إنني أمد لك يد الضراعة وقلبي يسبقني إلى ملكوتك باكياً مسترحماً.
أنت يا إله الضعفاء، يا نصير البائسين، يا رب هذه المخلوقات جميعها أدركني برحمتك فقد شملت رحمتك كل كائن حتى هوام الأرض وحشراتها تقدر لها الرزق وتعد لها الحماية والحصانة).
. . . ومرت نسمة رطبة باردة على وجهها المحتقن المتوقد فبعثت الراحة إلى أعصابها وأفسحت مكاناً للإيمان بالله والاطمئنان إلى قدرته تسري إلى قلبها الخافق المعذب ونفسها الممزقة حسرات. .
وكان الفجر بدأ يشرق بضوئه الشعري الرقيق يحمل في جبينه ابتسامة، ويخفي في يده وراء ظهره الشمس المضيئة وهي قادمة تحمل الحياة، وتحمل الأمل الجديد لكل يائس حزين.
اغرورقت عينا الساهرة المسهدة المضناة وغسلت دموع اضطرابها. وارتاحت أعصابها ولمعت في رأسها فكرة كادت أن تثب بقلبها من صدرها.
إنها سترمي آخر سهم، فأما فازت وإما يئست - واليأس إحدى الراحتين - فبقيت تنتظر مصيرها الذي يحمله له الغيب المحجب.
قامت تحمل هذه الفكرة مندفعة إلى غرفة أخيها الشاب فأيقظته ورجته أن يستعد لسماع حديث لها هام. فقام مرحاً كعادته واغتسل وجاءها طلقاً ضاحكاً. فجلست إلى جواره وأخذت تسرد عليه كل أمرها، صريحة واضحة، فعرفته كيف ابتدأت علاقتها بصادق، وكيف استمرت، وكيف كشفت حقيقة نواياه وكيف هددها، وكيف قضت ليلتها. . . وسألته أن يقوم بواجبه كأخ وكصديق ومنقذ فوضت إليه أن يفعل شيئاً. ولو أن. . . يقتلها!
وكأن الموضوع قد أحال هذا الشاب المرح رجلاً قوياً يستمع في جد ورزانة، ووجهه ينم على أن قراره يتكون في نفسه وفي رأسه.
وما إن أتمت حديثها حتى قام يربت على كتفها بيده وكأنه يعدها بإنجاز ما سألته. وارتدى ثيابه في صمت وخرج من الدار ولم تكن الشمس قد برزت في السماء.
وانتظرت أمينة المصير مستسلمة لحكم الله أعدل الحاكمين. .(170/68)
وبعد نصف ساعة رجع أخوها إلى غرفتها وسألها.
- (كم عدد رسائلك؟)
- (عشرون. . .)
- (هاك العشرين رسالة)
وألقى بين يديها عشرين رسالة أخذت تقلبها باكية مضطربة فرحة. حتى إذا ما اطمأنت إلى أن رسالة منها لم تغب أخذت تمزقها وترميها وقوداً لنار أشعلتها لتدفن فيها ماضيها الصغير!
وبعد ساعة كانت العربات تنقل أثاث منزل صادق وهو يسير وراءها مذعوراً لا يكاد يستطيع أن يرفع جبينه إلى منزل أمينة، فقد هاجمه أخوها بقوته وبسالته وأرغمه على تسليم الرسائل وإخلاء سكنه والابتعاد عن الحي بأكمله وإلا فهو قاتله، وارتاع الجبان وخضع وفنيت قوته الكاذبة أمام قوة الرجل الباسل. وأدرك أن الرجل الذي لا يستطيع أن يواجه رجلاً مثله أحرى به ألا يقف في وجه امرأة!
محمد شوكت التوني(170/69)
السعادة
(لا أراك إلا مكباً على كتب الدراسة فلهذه وقت وللراحة أويقات، وهذا انهماك قد يودي بصحتك وأنت ما تزال طفلاً، هلا تذهب معي إلى الشيخ، إني أعتزم زيارته الآن).
هكذا فاجأني أخي الأكبر، ولم تكد شفتاه تنفرجان عن آخر كلمة حتى ألقيت ما بيدي جانباً، وسارعت للحاق به نطوي سهولاً واسعة نغذّ السير على الأقدام، بينما ترسل الشمس علينا شواظها لهيباً لافحاً، وقدماي تغوصان برمال محرقة تجعل مشيتي بخطوات لا اتزان بها.
وما إن تراءت لنا تلك البناية، وهي تقوم على أكمة جرداء تشرف على جانب من سهول قفراء حتى عاودني نشاطي، بيد أن أخي استحثني أيضاً فلوح إليّ بالشجرة التي تبدو إلى جانب الدار وإلى اللجوء إليها من شعاع الهاجرة اللاذع.
وبرز إلينا رجل استفزه هرير الكلب الملح، وإذ عرفنا أومأ إلى كلبه فتنحى إلى ركن أقعى خافتاً عواءه، كأنه يتلمس عذراً.
رحب بنا مضيفنا العجوز واحتوانا مجلس وثير، وثير بفراش يتألف من حصير تعلوه وسادة ومخدتان، فتراخت أعصابي بهدوء حيث الاستمتاع بفيء عميق، تلاشى معه عنت السفر.
وانطلقت عيناي كأنهما تبحثان عن شارد في نواحي هذا المنزل الظليل وفيما احتواه من أثاث بسيط، وإلى هدوء هذا الشيخ ووقاره. إنه منزل رحيب ولو أنه مكون من غرفة واحدة تحيط بها أكوام الأحجرة الدائرة من آثار القرون الأولى، لا يتصل بها من عمران سوى هذا المغار المعد لمأوى عنيزاته، وهي تبلغ العشر عداً.
وفي نشوة هذا الاستمتاع أدركت مغزى إطلاق البدو اسم القصر على أي كوخ يقوم في عرض الصحراء، وأقرر أنهم على حق.
فأية فخامة تحلم بها في غبراء يابسة تعدل هناءك حين تحضنك جدران أربعة تغدق عليك فيئها وتطمئن إلى سلامتك فيها. إذن هو قصر باذخ. ويزيده رواء هذه الشجرة التي لا ثانية لها فهي تخلع على هذا الكوخ ترفاً يتضاءل معه ترف القصور. هي مخضرة الأوراق وارفة الظلال وهي أبداً باسمة مادام كل ما يكتنفها قاتماً، ويرحب بنا المضيف في جلال الشيوخ مخاطباً إيانا في حكمة من وقرت ظهره السنون فتخرج كلماته متزنة في حين تلمع أسنانه البيضاء التي لم يسقط منها سن واحدة على ما أظن.(170/70)
وقلما يتزحزح من متكئه، فإلى جانبه إناء الماء البارد وأمامه معدّات القهوة العربية ويرتفع قريباً منه رف مصنوع من أعواد غير متناسقة يحمل أكواماً من المخطوطات عبث البلى بأكثرها. فهذه كتب يدعوها أسفار الحكمة، وتلك وريقات يزعم أنها تضاهي صحف موسى، ولماذا؟ فهي اتصلت به من جامع قرطبة بواسطة المغاربة الجوّابين.
وذلك كتيب يقول إنه توارثه عن آبائه الأقدمين وهو يقسم أن القلم الذي بين أصابعه مضي عليه زهاء ثلاثين عاماً لم يبره مرة ثانية بل زامله في عزلته طيلة هذه السنين في حالته الراهنة. وهو يجري عليه رزقاً متواصلاً، إنه رائد الخير، به يكتب الرقي للبدو ويحبر الرسائل الخاصة ويثبت به كل ما اختُزن في المغار، وهو لم ير سبباً لتجهيز هذا المغار بباب يحول دون سرقة ما احتواه من سمن وحبوب وصوف ائتمنه عليها البدو مقابل جعل خاص.
وهؤلاء البدو تغمرهم الطهارة. هكذا يوجه كلامه إلى أخي لأنهم لا يسألونه عن زيادة أو نقصان في أماناتهم ولا يأخذون بها مستنداً منه. وهم إذ ينسابون مع مواشيهم في عرض الصحراء طلباً للكلأ والماء ويمنعون في توغّلهم بأطرافها المترامية يرسلون قوافل تمدهم بالمؤونة مما ادّخروه واختزنوه عنده.
وما يدرّه عليه القلم إذا أضيف إلى هذا الجعل عن الخزين هي الثروة التي يقنع بها ويحرص على الشكران عليها.
واندفع يسرد علينا اطمئنانه إلى عيشه ووجهه يطفح إيناساً وملامحه تفيض بشراً وهناء واعتدل في متكّئه كمن يحاول أن يحاضر في موضوع فكرر الشكر لله إذ هيّأ له حياة وادعة ويقول: لم لا أكون مرتاحاً وهذا رزقي يأتيني رغداً، وهذه عنيزاتي تدر علينا حليبها، ولنا دجاجات تغذينا ببيضها، ونستقي ماءنا عذباً بارداً من البئر القريبة لمنزلنا؟
أما زوجي فهي تشاطرني هذا العناء وهي وأنا عجوزان طال بنا انتظار الموت وهو إذ يغشانا أحدنا أو كلينا ألفانا على أهبة للقاء الله
يا ولدي (يخاطب أخي) إذا حان وقت الصلاة انزوي إلى محرابي هذا، وإذا شعرت بالسأم فها هي ذي كتبي. إنها تحوي كل شيء. إنها عندي بمثابة عالم كامل
وأزيدك اطمئناناً عليّ بأنني لم أشك مرضاً ولم ألقى ولم أتعرف قط إلى رجل السراي في(170/71)
كرسيه وزهوه حتى ولا أدري شيئاً عن أحوال ما يطلقون عليها من أسماء، حكومة أو دولة أو حكومات وعساكر فأنا بعيد عن الناس قريب إلى الله سعيد بلقائه
وفي عودتنا رأيت أخي يهز رأسه غير مرة يردد كلمتي: إنه سعيد! إنه سعيد!
(عمان)
(جار الصحراء)(170/72)
البريد الأدبي
المؤرخ الألماني كونراد بورداخ
من أنباء ألمانيا الأخيرة أن المؤرخ الكبير كونراد بورداخ قد توفي في السابعة والسبعين من عمره. وبورداخ من أعظم مؤرخي ألمانيا المعاصرين، وقد اشتهر بالأخص بمباحثه وآرائه في تاريخ العصور الوسطى ونظمها وخواصها الفكرية والاجتماعية، وكان مولده بمدينة كونجزبرج في سنة 1859، ودرس دراسة حسنة في جامعتها ونال إجازة الفلسفة؛ وفي سنة 1884، انتدب للدراسة في جامعة هاله واستمر بها حتى عين أستاذا لتاريخ الأدب الألماني في سنة 1892. وفي سنة 1893 ظهر أول جزء من كتابه الشهير في تاريخ العصور الوسطى المسمى (من العصور الوسطى إلى عهد الإصلاح) فأثار ظهوره اهتماماً عظيماً في دوائر البحث؛ واستمر في إصداره أعواماً عديدة وترجم إلى عدة لغات أوربية؛ وتوفر بورداخ على دراسة هذا العصر دراسة مستفيضة. وكتب عن (لوثر) بطل الإصلاح الديني مباحث عديدة؛ وقام بعدة سياحات ومباحث مختلفة في دور المحفوظات الألمانية لحساب أكاديمية العلوم البرلينية، وأصدر لحسابها أيضاً مؤلفات همبولد، وله في الأدب والحياة الفكرية عدة مؤلفات هامة نذكر منها كتابه عن (فالتر فوجلفايدة) وكتاب (علم الحياة الألمانية) وغيرها.
وفي سنة 1927 أخرج بورداخ أعظم كتبه وأهمها وهو كتاب (الإصلاح والأحياء والحركة الإنسانية) , , ولبورداخ رأي جديد في نشأة حركة الأحياء فهو يرى أنها ثورة عقلية ترجع إلى بواعث روحية عامة، وأن هذه البواعث ترجع إلى الاعتقاد الديني في السمو الإلهي للعالم والحياة، وترجع أيضاً إلى نفوذ الكنيسة وإلى مؤثراتها؛ وفي رأيه أن الكنيسة قد لعبت دوراً عظيماً في تهيئة أسباب الإحياء الفكري؛ وقد تناول بورداخ في كتابه بالبحث المستفيض خواص الحياة العقلية في القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، وألقى ببحثه كبير ضوء على سير حركة الإحياء الأوربي.
كتاب جديد عن مصر
المسيو كلود آفلين من كتاب فرنسا الشبان، وهو السكرتير المساعد لنادي القلم الفرنسي؛ وقد زار مصر منذ نحو عامين، ورأى أن يكتب عما شاهده في هذه البلاد، فوضع عن(170/73)
مشاهداته كتاباً صدر أخيراً في باريس وعنوانه: (النزهة المصرية)
ومسيو آفلين كاتب ذلق خفيف الروح، ولكن الوقار يطبع أسلوبه؛ فهو قد كتب عن مشاهداته في مصر مجلداً يبلغ نحو ثلاثمائة وخمسين صفحة، وضمنه كثيراً من الملاحظات والنكت الظريفة، ولكنه لم يدع في كتابه أنه أصبح بهذه الزيارة أعرف الناس بمصر والمصريين، بل هو يصارحنا في مقدمته بأنه يكتب متهيباً لأنه لم يحسن معرفة مصر، وأن مصر لا تعرف في زيارة أو زيارات، وإنما لا بد لمعرفتها من وقت ودراسات كثيرة.
ومما يجدر ذكره أن مسيو آفلين لم ينحدر إلى شيء من ذلك الإسفاف الذي رأيناه في كتابات بعض الفرنسيين الذين زاروا مصر في العهد الأخير، ولا سيما فرانسيس كاركو الذي يصور مصر في كتاباته أقبح تصوير، ويزعم أنها من أكبر مراكز البغاء في العالم، ولا يجد لأحاديثه سوى المواخير والمنازل السرية والمقابلات الغرامية المزعومة مع بنات الباشوات. . . الخ؛ هذا الإسفاف الذي ينحدر إليه فرانسيس كاركو وأمثله يتعفف عنه مسيو آفلين غاية التعفف، ولا يطالعنا إلا بأحاديث شائقة ظريفة تفيض عطفاً وحباً.
سفينة جوية هائلة
يظهر أن عجائب الاختراع البشري لن تقف عند حد، وأننا قد نشهد في المستقبل القريب سفناً جوية جبارة تشق جو المحيط، كما نشهد اليوم السفن المائية الجبارة تشق عباب المحيط؛ ففي أنباء أمريكا الأخيرة أن المستر شولر كلنهانز مهندس الشركة الجوية الكبرى التي أنشأت أهم وحدات الأسطول الجوي التجاري الأمريكي، قد وضع تصميماً جديداً لسفينة هوائية جبارة لا تقل في حجمها عن سفينة بحرية حقيقية.
وقد شرح المستر كلنهانز تصميمه أمام مجمع العلوم الجوية في سان فرنسيسكو، وقال إن تكاليف السفينة الجديدة تبلغ نحو أربعة ملايين جنيه، وأنها تستطيع أن تخترق المحيط من نيويورك إلى ليفربول في إحدى عشرة ساعة فقط، ويستغرق صنعها على الأقل أربعة أعوام من العمل المتواصل.
ويقول المستر كلنهانز إن الأمر ليس خيالاً وإنما هو مشروع علمي قتل بحثاً ودرساً من الوجهة الفنية، وتأكدت صلاحيته وإمكان تحقيقه بالتجارب العلمية، وسيكون وزن السفينة(170/74)
الجديدة نحو 1500 طن، وطولها نحو 375 قدما، ومحيطها نحو 550 قدماً، وسيجهز محركها بقوة مائتي ألف حصان، ويمكن أن تحمل مائة عامل ومهندس، وخمسمائة راكب، وخمسمائة طن من الوقود لتكفي اختراق المحيط، وخمسة وعشرين طناً من العفش.
وتطير هذه السفينة الجبارة بسرعة ثلاثمائة ميل في الساعة، وعلى ارتفاع اثني عشر ألف قدم.
ويقول مستر كلنهانز في ختام تقريره إنه يكفي وجود المال اللازم ليخرج مشروعه في الحال إلى التحقيق العملي.
وفاة كاتب روسي كبير
توفي أخيراً في براج عاصمة تشيكوسلوفاكيا الكاتب والقصصي الروسي الكبير فاسيلي نميروفتش دانشنكو بعد حياة طويلة حافلة؛ وكان مولد هذا الكاتب الذي يمثل العهد القديم بكل ما فيه منذ ثلاثة وتسعين عاماً؛ وكان بدء ظهوره في عالم الأدب منذ خمسة وستين عاماً أيام الحرب الروسية التركية، إذ كان جندياً ملتحياً، وكان يكتب في الصحف الروسية فصولاً شائقة عن الحوادث العسكرية التي شهدها؛ واستمر دانشنكو أعواماً طويلة على وصف الأحداث والمغامرات العسكرية حتى أصبحت له في هذا النوع من الكتابة براعة خاصة؛ وكان له في النظم جولات حسنة؛ حتى كان يلفت الأنظار بقصائده الحربية، وكان مثله الأعلى في الشعر الشاعر الإنجليزي الكبير (بيرون) حتى سمي فيما بعد (بيرون روسيا) وذاعت شهرة دانشنكو بنوع خاص حينما أخرج قصته (نسر الجبل)
وكان لدانشنكو في بلاد البلقان شهرة خاصة لأنه حارب من أجل حرياتها ضد الترك؛ وفي سنة 1923، ذهب إلى بلغاريا لمناسبة احتفالها بعيد استقلالها الخمسيني، فاحتفت به احتفاء عظيماً، وكان يومئذ في الثمانين من عمره، ولكنه كان شيخاً وافر النشاط والإنتاج.
وكان دانشنكو يعيش في أيامه الأخيرة في تشيكوسلوفاكيا متريضاً متشفياً حتى وافاه الأجل المحتوم.
أسبوع المؤلفين
قام نادي القلم في زيلندة الجديدة بمشروع طريف لترويج الكتب، سماه (أسبوع المؤلفين)(170/75)
وخلاصة المشروع أن تعرض مؤلفات الكتاب وصورهم مدى أسبوع في المدن الهامة مثل ولنتون العاصمة وكريستشرشي ودندين وغيرها. وقد افتتح الحاكم العام هذا المعرض الأدبي وألقى خطاباً رسمياً؛ وألقى آخرون من أكابر الكتاب خطباً أخرى؛ وكانت النتائج باهرة، إذ كانت المعارض في جميع المدن تغص بالزائرين والمشترين؛ وقد بيعت كميات كبيرة من الكتب في مختلف الفنون.
وتلاحظ جريدة التيمس الأدبية التي ننقل عنها هذا الخبر، أن لهذا المشروع فوائد معنوية عظيمة فوق فوائده المادية؛ ذلك أنه يبث إلى الجمهور روح التشجيع للحركة الفكرية، ويعاونه على الاطلاع على مداها وعلى حسن تقديرها. فهل لكتابنا أن يفكروا في تنظيم أسبوع (للمؤلفين المصريين)؟
معركة العقائد في ألمانيا
تضطرم في ألمانيا منذ قيام الحكم الهتلري معركة دينية خفية بين النظم الجديد وبين الكنيسة البروتستانتية؛ ذلك أن شعائر النظام الألماني الجديد تميل إلى الوثنية والجرمانية القديمة، ويرى قادة ألمانيا الجدد أن يسحقوا كل نفوذ للكنيسة في حياة ألمانيا العامة. وترى الكنيسة من جانبها أن هذه السياسة خطر على نفوذها وعلى العقائد التي يرتكز إليها هذا النفوذ، وتحاول أن تقف في وجه النظام الجديد. وفي أنباء ألمانيا الأخيرة أن السلطات الكنسية في بروسيا وبافاريا وبعض أقاليم أخرى أذاعت من منابرها خطاباً على المؤمنين تطلب فيه إليهم ألا ينزلوا عن تعاليم النظام الهتلري وأن يحرصوا على عقائدهم من الفساد والدنس. وقد وقع هذا الخطاب الأسقف كوخ أسقف أومينهاوزن والأب مولر رئيس كنيسة دالهم. ويقول الخطاب إن التعاليم الهتلرية تنافي تعاليم الإنجيل والمسيح. وقد اهتمت الحكومة لهذه الحركة الجديدة من جانب الأساقفة وذاع أنها تنوي دعوة البرلمان إلى الانعقاد في مدينة ورمس حيث ظهر لوثر أيام اتهامه بالكفر، وحيث أحرق الأوامر البابوية. وهكذا نرى أن المبادئ الهتلرية ما زالت تصطدم من بعض نواحيها بالمبادئ والعقائد القديمة.
دور العذاب
تعتبر ملاجئ الأحداث والعجزة في الأمم المتمدنة من مظاهر الرقي الإنساني. وفي فرنسا(170/76)
كثير من هذه الملاجئ. ولكن كاتباً كبيراً هو مسيو الكسي دنان نشر أخيراً كتاباً عن هذه الملاجئ. سماه (دور العذاب) ذلك لأن الملاجئ تعتبر في نظره جحيماً للأحداث، ولا تشرف السلطات التي تقوم على إدارتها، وهو يصف لنا النظم العسكرية الشائنة التي تفرض على الصغار في هذه الدور، ويقول إنها أشنع ما يمكن ما تصوره، وأسوأ ما يمكن أن يؤثر في هذه النفوس الناشئة؛ ويقارن المؤلف هذه الحالة السيئة بما تتخذه بعض الأمم الأخرى ولا سيما بلجيكا لتقويم الأحداث وإصلاحهم. وقد كان لنشر هذا الكتاب وقع عميق لدى السلطات ذات الشأن.
جبل الأهرام
تكاد لا تجد في مصر مثقفاً يجهل قرية من قرى لبنان، ولا خميلة من خمائله، ولكنك تجد في إخواننا أدباء لبنان مَن لا يعرف إلى اليوم أن كانت الأهرام جبالاً أو قبوراً! فقد قرأنا للسيد فاضل سليم عقل مقالاً يتهم فيه أديبين مصريين بأنهما سرقا في مقدمتهما لرحلة ابن بطوطة مقدمة كتبها الأستاذ فؤاد البستاني لهذه الرحلة. ويقول في آخر مقاله: (وقد كنت أرغب شخصياً من كل قلبي أن أنقل نص المقدمتين إلى هذه الصفحة، حتى يطلع القراء كلهم على هذه الجناية. . . ويحكموا بأنفسهم، بعد التفكير والاختبار، لا بعد الهوس والتطبيل، في المستوى الأدبي، والزعامة لأدبية، التي لا تزال حائرة بين جبل الأهرام الخجول وقمم لبنان الشامخة. . . .).
وحسبنا من التعليق على هذا الكلام أن نعتب على السيد الكاتب أنه لم يقرأ تاريخ مصر، ومصر على (ضعفها في الأدب) لا تزال أقوى جزء من أجزاء الوطن العربي الأكبر!!(170/77)
الكتب
التربيب
تأليف الأستاذ حسن نبيه المصري بك
وكيل مجلس الشيوخ
بقلم الأستاذ عبد الفتاح السرنجاوي
يصرح الأستاذ الفاضل مؤلف هذا السفر أن كتابه مجرد ملاحظات استنتجها من التجارب الشخصية وخبرة من يعول على رأيهم وصحة حكمهم؛ ويبدي صراحة أنه لا يبرز للناس قواعد جديدة في التربية. وكنا نود أن لو كفانا تصريحه هذا مؤونة التعليق الفني على الكتاب لولا مقام المؤلف الفاضل في المجتمع المصري، ذلك المقام الذي يحملنا - كمربين قبل كل شيء - على أن نتفهم الكتاب ونقول فيه كلمة نقر بها الحق ونرضي بها الضمير.
إن مجمل ما يقوله الناقد في ذلك الكتاب أنه يشمل عدة مقالات كتبت في ظروف مختلفة عنونها كاتبها بعنوانات وثيقة الاتصال بالتربية، بينما المقالات نفسها لم تعالج علاجاً فنياً دقيقاً أي ناحية من نواحي التربيب؛ وأرى فوق ذلك أن هذه المقالات مجتمعة لا تكوّن وحدة علمية جديرة بالعنوان الذي جعله المؤلف لكتابه، وأقصد بذلك أنها تفقد أسباب الاتصال بعضها ببعض على نحو يجعلها بحثاً جديداً يهم المشتغلين بشئون التربية. ولقد لفتَ نظري أن يفرد الكاتب فصلاً عن التربية والتعليم يقول فيه أن المعلومات التي يتلقاها التلاميذ في المدارس لا تؤثر في سلوكهم، فهي في نظرة تعليم بعيد عن التربية. ويقول كذلك إنه قد استفاض خلط التعليم بالتربية، وكأنه بكلامه هذا يريد أن يقيم سداً منيعاً بين التعليم والتربية.
والحقيقة أنه لا يوجد حد جلي بين التعليم والتربية، وأن ما يقول به البعض من أن التربية تشمل التعليم كما يشمل الكل الجزء، إنما يحتاج إلى تدليل وتدعيم. أما الواقع والمعقول فهو أن كل من يعلم غيره فهو يربيه في نفس الوقت؛ ونحن لا نستطيع بأي حال أن نعلم دون أن نكون مربين إلى حد معين، ولكننا نستطيع أن نربي دون أن نباشر عملية التدريس مباشرة فعلية. والآراء الحديثة أميل إلى تحديد التربية بغاياتها لا بوسائلها التي منها(170/78)
التدريس. والواقع أنني وأنا أعلم تلاميذي إنما أترك بطريقة غير مباشرة آثاراً خطيرة في خلقهم، وطرق تفكيرهم ومثلهم العليا دون أن أقول لهم أني أربيكم وأعدكم إعداداً خاصاً. ذلك أن سلوكي معهم وموقعي إزاء سلوك بعضهم مع بعض، وتعليقي على بعض الدروس الوجدانية كالتاريخ والتربية الوطنية لا شك تؤثر في المتعلمين بحيث تكون وسائل لإعدادهم لغايات بعيدة هي السلوك الطيب القويم في الحياة المستقبلية.
لنترك ذلك الخلاف ولنعرض لأمر آخر هو أن المؤلف لم يعالج الموضوعات علاجاً فنياً دقيقاً، ولست أجد في التدليل على ذلك أبلغ من تلخيص فصلين من الكتاب تلخيصاً أميناً دقيقاً؛ الأول عنوانه (كيفية التغذية) يقول في أوله إن غذاء الطفل يبتدئ وهو جنين في رحم أمه بالسُّحد والحولاء والغرس. وبعد الوضع يكون الغذاء بالرضاع سنتين، (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)، والتغذية بعد الفطام يشترك فيها الوالدان حتى يبلغ الطفل أربع عشرة سنة. وسنة الكون لا تكلف الإنسان اختيار المأكولات، فنظامها الدقيق ينتج الأشياء في وقت حاجة الناس إليها. ويختلف بعض الأطباء والفلاسفة في نوع غذاء الطفل، فمنهم من يحرم عليه الحلواء والفطير والفاكهة ومنهم من يحض عليها، وإني لا أرى مجالاً لهذا الاختلاف الذي ينحسم باتباع الاعتدال والقسط ومراعاة الظروف والأحوال، وأما من أشار منهم بإعطاء القليل من الأنبذة فإني لا أرى رأيه، وأما المشروبات الروحية الأخرى فإنها تهدم الجسم وتسلب العقل. وهنا يقول المؤلف كلاماً طويلاً في مضار الخمر ويستشهد بالآية الكريمة: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) وبعد هذا يقول ما يأتي: (حسنوا تقويم الولد جنيناً، وأنشزوا عظامه وأنبتوا لحمه رضيعاً، وعللوا بالغذاء ليجزأ عن اللبن فطيماً، وناولوه الأكل أدنى تناول فصيلا، وأحسنوا غذاءه اللَّذ صبياً، وأترفوه يافعاً، وأعظموه مراهقاً، ثم ألقوا حبله على غاربه) وبعد أن فصلنا للناس نختم المقال بهذه اللآلئ القرآنية:
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).
(قل من محرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الخ).
(والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون).(170/79)
(وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً).
هكذا يعالج الأستاذ الفاضل موضوعاً خطيراً كهذا، فيقول كلاماً هو بعينه ما يعرفه المتعلمون وغير المتعلمين والمتربون وغير المتربين، مع أن البحث العلمي يستلزم الإجلاء عن الوسائل المؤدية إلى هذه الغايات التي ذكرها المؤلف، فيبين لنا بطريقة عملية كيف ننشز عظام الولد وننبت لحمه رضيعاً إلى آخر ما ساقته هذه الوصايا الذهبية والحكم البالغة في ذلك اللفظ الخالب والسحر الغالب. عفواً سيدي الفاضل، فالتربيب شيء عملي يضعه أهله بعيداً عن استمراء الألفاظ وإضاعة الوقت في صناعة العبارات، الأمر يا سيدي أخطر من هذا وأدق، والتخصص وحده هو الذي يخرج للناس الكتابة الفنية التي يحتاجون إليها في الحياة حاجة عملية.
وثَمَّ فصل آخر عنوانه (الغريزة)، يعالجها الكاتب الفاضل في صحيفة واحدة من ذلك السفر الضخم، فلا يعدو أن يحددها بأنها الأعمال غير الإرادية، ثم يفرق بين العقل والغريزة في هذا الكلام المنمق الجميل:
(العقل حر والغريزة عبد، العقل علم والغريزة حدس، العقل بصير وهي شعور، العقل نور يتدرج والغريزة برق يخطف، العقل ضوء النفس وهي سنا الحس، وإذا العقل وقف للتدبير فهي تقفز للوثب والمسير).
فهل يكفي ذلك القصيد المنثور لبحث الغريزة في كتاب عنوانه (التربيب)، وأين يا سيدي علاقة الغرائز بالتربية وأثر التربية في تعديلها وعلاقة ذلك كله بحياة الأطفال؟؟
وأخيراً لا بد من الإشارة هنا إلى أن الكاتب الفاضل يهتم اهتماماً شديداً بحشر الكلمات اللغوية في كتابه كما يصنع كتاب المقامات، ثم يجاوز هذا إلى شرح هذه الألفاظ والتعليق عليها، وهذه المحاولات لا شك تجعل الموضوع مفككاً وتصرف الكاتب عن المعاني، ولا سيما إذا عرفنا أن الأسلوب العلمي يتميز عن الأساليب الأدبية الأخرى بالسهولة وعدم التكلف في البحث عن الألفاظ.
هذا ما نقوله عن الكتاب، أما شخصية المؤلف ذاته فإنها تبدو من خلال كتابه رزينة وقورة رائدها الخير وغايتها إسعاد المجتمع.
عبد الفتاح السرنجاوي(170/80)
العدد 171 - بتاريخ: 12 - 10 - 1936(/)
في العهد الجديد
يومان. . . .
قطعني منذ طويل عن مواصلة الكتابة قواطع الأسى والمرض. وفي هذه الفترة الفاترة تقلبت على العين مشاهد، وتعاقبت على الأذن أحاديث، وتواردت على الذهن خواطر؛ فكان المصري الذي في دمي، والكاتب الذي في طبعي، والصحفي الذي في همي، يحاولون أن ينفعلوا على القلم كلما نجم في الوطن حادثة، أو جرى في الشعور عاطفة، أو بدا على (الرسالة) حاجة؛ ولكن الجسد الموهون لا يستجيب لنشاط، والفؤاد المحزون لا يهتز لأثر. وهل الدنيا إلا دنياك أنت؟ تدوم فيها ما دامت فيك، فإذا ما انعدمت في نفسك انعدمت في حسك؛ وإذن لا يكون سرورها سرورك، ولا حزنها حزنك، ولا متاعها متاعك؛ ماذا يفيدك الترياق بعد أن مات حبيبك مسموماً، وماذا تردُّ عليك مباهج الناس إذا بات قلبك مهموماً؟
كنت وأنا في الإسكندرية أقف على سياج الكرنيش، أو أسير على رمال الساحل، فأرى فيض الحياة يتدافع في أمواج البحر وفي أفواج الناس، وروعة الجمال تتجلى في رواء الشباب في الشارع وألوان الأصيل في السحب ومغرب الشمس في الماء، وإشراق الغبطة يلمع في العيون القريرة وعلى الشفاه المفترَّة، وصفاء الوجود يشيع في زمر المصطافين فيكون في أُهُب الأطفال مرحا وفي قلوب الرجال فرحاً وعلى مضاحك الغيد فتنة، وأسمع لغة الفردوس المفقود من فمي آدم وحواء وقد اضطجعا عاريين على رمال الشاطئ بين وسوسة الشيطان وفحيح الأفعى، وهديرَ الأمواج المتعاقبة منذ يومها الأول على سيف البحر، وقد خلطه الخيال الشاعر بهتفات القيصر وضحكات كليوبطرة، وغماغَم الهوى والشباب تَطَّاير إلى الآذان الخلية فتقع منها موقع النغم الساحر في جوف الليل الساجي البعيد، وأحاديث المفاوضة والمعاهدة والمعارضة تتشقق بين الجماعات فتكون في الغالب حماسة من دلائل الصحة، وفي النادر هذياناً من أعراض المرض. كنت أرى وأسمع كل أولئك وأنا في وحشة الغريب وبلادة الذاهل، كأنما انقطع التيار الروحي بيني وبين الناس، فأنا مظلم وهم في نور، وساكن وهم في حركة، ونافر وهم وحدات متسقة في نظام المجتمع، وناشز وهم نغمات منسجمة في نشيد الكون.
يوم واحد من أيام الإسكندرية استطاع أن ينقلني من عدمي إلى الوجود، ويخرجني من(171/1)
نفسي إلى الناس: ذلك يوم سفر المفاوضين المعاهدين إلى إنجلترا! فقد ازدهاني أن يتفاهم الحق والقوة، ويتفق منطق القلم ومنطق السيف، ويقتنع (المبرنطون) بأن وطننا لنا وحدنا، وأن أصحاب (الامتياز) أصبحوا بشراً مثلنا، فدخلت في غمار الشعب الهاتف، وأثرت زحمة الدهماء ووقدة الشمس على مخالطة الأقدار الكبيرة والأحلام الرصينة في ظلال السرادق، وركبت زورقاً من زوارق الميناء في جمهرة من الشباب الفقراء الذين يجهلون معاني (النيابة) والوظيفة والجاه، فيشاركون في المظاهرات لأنها صرخة الوطن، ويهتفون للزعيم لأنه ممثل الأمة، ويصفقون للمعاهدة لأنها صك التحرر.
سار بنا الزورق الراقص الشادي بين عشرات من الزوارق المزدانة المهللة حتى حاذينا (النيل)؛ والنيل قطعة من الوطن المحبوب تجمَّع فيها أمله المنتشر، وبدأ عليها تاريخه الجديد، ستقطع هذا الخضم المزبد إلى الشاطئ البعيد عليها صداقة مصر لإنجلترا، يقدمها وفدها الأمين إلى الذين عرفوه بعد إنكار وسالموه بعد حرب؛ وما كانت سياسته في الأول إلا سياسته في الآخر لولا سوء الفهم وسوء الظن وسوء الضمير. فلما انحسر لثام الرياء عن الأوجه المغشوشة فينا وفيهم، خلص منطق النحاس إلى عقل إيدن، واقتحمت النيل الوداعة مرابض الأسطول.
تحركت الباخرة المزهوة الفخور بعد حفلة الوداع بين عزف الموسيقى وقصف المدافع وصفير البواخر وتصفيق المودعين وهتاف المتفرجين وزغردة النساء؛ فكان من ذلك كله نشيد وطني عجيب التأليف بديع التلحين سحري الإيقاع عبر بهذه القوّة عن الشكر لقادته، والخير لحليفته، والاطمئنان إلى مستقبله.
كان اعتماد الجمهور في التنفيس عن حماسته المضطرمة على الضرب بالأرجل، والتصدية بالأيدي، والتلويح بالأذرع، وما يلازم هذا من اضطراب الحركة وفقدان الاتزان وشيوع الفوضى، وانتقال أثر ذلك كله إلى الزورق! فلو كان للشعب شعراء وموسيقيون، كما كان له زعماء وصحفيون، فوضعوا له الأناشيد التي تعبر عن عواطفه في وحدة، وتهيمن على مواقفه في نظام، لما تعرضنا مراراً للغرق!!!
على أن الغرق لم يقع في حسابي وأظنه لم يقع في حساب أحد، فقد كان فُلكنا المتواضع يجري تحت (النيل) الباذخة كأنه الفرخ الوليد تحت جناح النسر؛ عيوننا ترمق الزعيم(171/2)
الجليل وصحبه فلا تكاد تطرف، وقلوبنا تنتشر دعاء ورجاء فلا تكاد تتماسك، وألسنتنا تضطرب في سيل من الهتاف فلا تكاد تسكن، وفلكنا المجنون في يد القدر، يميل ويعتدل، ويجور ويهتدي، وقد نسينا من روعة الموقف أننا فيه.
يومئذ شعرت بأني جزء من كل وفرد من مجموع، وأدركت أن المشاعر المشتركة كالدين والوطنية هي أوثق روابط الألفة، وأن المشاعر المختصة كنوازي الهوى ونوازع (البلاج) هي أقرب السبل إلى الغرفة.
هذا يوم؛ أما الآخر فله مقال آخر! ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود!
أحمد حسن الزيات(171/3)
سر القُبَّعةَ
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وحدثني صاحب سر (م) باشا، نَجَمَتْ في مصر حركة بعقِب أيام البدعة التركية حين لم تبق لشيء هناك قاعدة إلا القاعدة الواحدة التي تقررها المشانق. . . . فمن أبى أن يخلع العمامة عن رأسه خلعوا رأسه، ومن قال (لا) انقلبت (لا) هذه مشنقة فعُلِّق فيها.
وكانت فكرة اتخاذ القبَّعة في تركيا غطاءً للرأس قد جاءت بعد نَزَعات من مثلها كما يجيء الحِذاء في آخر ما يلبس للابس، فلم يشك أحد أنها ليست قبعة على الرأس أكثر مما هي طريقة لتربية الرأس المسلم تربية جديدة ليس فيها ركعة ولا سجدة؛ وإلا فنحن نرى هذه القبعة على رأس الزَّنجي والهمجي، وعلى رأس الأبله والمجنون، فما رأيناها جعلت الأسود أبيض، ولا عرفناها نقلت همجياً عن طبعه، ولا زعم أحدٌ أنها أكملت العقل الناقص أو ردَّت العقل الذاهب، أو انقلبت آلة لحل مشكلات الرأس البليد، أو غَصَبَت الطبيعة شيئاً وقالت هذا لحاملي دون الطربوش والعمامة.
وقد احتجُّوا يومئذ لصاحب تلك البدعة أنه لا يرى الوجه إلا المدنية، ولا يعرف المدنية إلا مدنية أوربا، فهو يمتثلها كما هي في حسناتها وسيئاتها، وما يَحِلُّ وما يَحْرُم، وما يكون في حاجة إليه وما يكون في غنى عنه؛ حتى لو أن الأوربيين كانوا عُوراً بالطبيعة لجعل هو قومه عوراً بالصناعة ليشبهوا الأوربيين. . نعم إنها حجة تامة لولا نقص قليل في البرهان يمكن تلافيه بإخراج طبعة جديدة من كتب الفُتوح العثمانية يظهر فيها الخلفاء العظام والأبطال المغاوير الذين قهروا الأوربيين لابسين قبَّعات ليشبهوا الأوربيين. . . .
قال صاحب السر: وتهوَّر في هذه الضلالة رَهطٌ من قومنا، وأخذوا يدعون إلى التقبُّع في مصر احتذاء لتركيا، وذهب بعضهم إلى سعد باشا رحمه الله يطلب رأيه، فكان رأيه (لا) بمدِّ الأَلِف. . . وعهد إليّ بعضهم أن أسأل الباشا فقال:
ويحهم! ألا يخجلون أن نكون نحن المصريين مقلدين للتقليد نفسه؟ إن هذه بدعة تنحطُّ عندنا درجة عن الأصل فكأنها بدعتان. ثم ضحك الباشا وقال: كان في القديم رجل سمع أن البصل بالخل نافع للصفراء، فذهب إلى بستان يملكه وقال لوكيله: ازرع لي بصلاً بخل. . . . هكذا يريدون من القبعات أن تخرج لهم تُركا بأوربيين.(171/4)
ليست هذه القبعة في تركيا هي القبعة، بل هي كلمة سبٍّ للعرب وردِّ على الإسلام، ضاقت بها كلُّ الأساليب أن تظهرها واضحة بينة فلم يفِ بها إلا هذا الأسلوب وحده، وهي إعلان سياسي بالمناوأة والمخالفة والانحراف عنا واطّراحِنا، فإن الذي يخرج من أمته لا يخرج منها وهو في ثيابها وشعارها؛ فبهذا انفتح لهم باب الخروج في القبعة دون غيرها مما يجري فيه التقليد أو يُبدعه الابتكار؛ وإلا فأي سر في هذه القبعات، ومتى كانت الأمم تقاس بمقاييس الخياطين. . . .؟
ههنا سيفٌ أراد أن يكون مِقَصاً، فعمل ما يعمل الحسام البتار فأجاد وأبدع وأكبره الناس وأعظموه، ثم صنع ما يصنع المقصُّ فماذا عساه يأتي به إلا ما ينكره الأبطال والخياطون جميعاً.
أكُتِبَ علينا أن نظلَّ دهرنا نبحث في التقليد الأعمى وألا يحيا الشرقي لا مستعبَداً ينتظر في كل أموره من يقول له: أشْرَعْ لي. . . إن بحثنا فلنبحث في زيّ جديد نتميَّز به فتكون القوى الكامنة فينا وفي طبيعة أرضنا وجوّنا هي التي اخترعت لظاهرها ما يجعله ظاهرَها، كما يُخرج زَوْرُ الأسد لِبْدةَ الأسد غايةً في المنفعة والجمال والملاءمة.
أنا أَلبس ما شئت ولكني عند القبَّعة أجد حداً تقف إليه ذاتيتي الفردية فلا أرى ثَمَّةَ موضعَ انفراد ولكن موضع مشاكلة، ولا أعرف صفة منفعة لي بل صفة حقيقة مني، ويعترضني من هناك المعنى الذي يصير به النوع إلى الجنس والواحد إلى الجماعة. وما دمت مسلماً أصلي وأركع وأسجد فالقبعة نفسها تقول لي دعني فلست لك.
وهؤلاء الرجال الذين لبسوها في مصر إنما اشتقُّوها من المصدر نفس المصدر الذي يخرج منها التهتك في النساء، وكلاهما منزع من المخالفة، وكلاهما ضِدٌّ من صفة اجتماعية تقوم بها فضيلةٌ شرقية عمة. وليس يعدم قائل وجهاً من القول في تزيين القبعة ولا مذهباً من الرأي في الاحتجاج لها، غير أن المذاهب الفلسفية لا يُعجزها أن تقيم لك البرهان جَدَلاً محضاً على أن حياء المرأة وعفتها إن هما إلا رذيلتان في الفن. . . وإن هما إلا مرض وضعف؟، وإن هما إلا كيت وكيت، ثم تنتهي الفلسفة إلى عدّهما من البلاهة والغفلة، وما الغفلة والبلاهة لا أن تريد فلسفة من فلسفات الدنيا أن تقحم في كتاب الصلاة مثلاً فصلاً في. . . في. . . في الدعارة.(171/5)