(أخي!) وكانت شفتاه ترتجفان عجبا، وبقي صوته محتبسا في حلقه، وبدا يسعل ليستر خجله، ثم أمسك رقبته بيده
وقال زيومكا، ولم يطق صبراً: (ما بالك؟)
فقال له: (أخي! إننا نعيش كالكلاب، بل أتعس منها. . ولم ذلك؟ لا أحد يدري! ولكن لا بد من أن الله عز وجل أراد ذلك، فكل شيء يسير بإرادته. أليس كذلك يا أخي؟ نعم هو كذلك. ولذا أقول إن ما نلقاه نحن التعساء هو العدل. أليس ذلك تفكيراً صحيحاً؟ وعلى ذلك أفلا يمكن أن تتحسن حالنا؟ يجب أن نرتضي حظنا صابرين. . . أليس كذلك؟)
ولكن زيومكا أجاب على أسئلة زميله المتعددة المثيرة للخواطر بكلمة مختصرة: (يا قليل العقل!)
فانكمش ميشكا وقد عرف خطأه، وابتسم خجلا وبرقت عيناه المنتفختان من الخمر وسكت. ثم قال فجأة: آه، لو أن لنا (خنزيراً).
وكنا ذات يوم نتسكع في السوق نبتغي عملاً، فاصدمنا بامرأة عجوز ضامرة قصيرة ذات وجه كثير التجاعيد؛ وكان رأسها يهتز فوق عنقها. وعلى أنفها منظار كبير محاط بإطار غليظ من الفضة، يتأرجح يمنة ويسرة فتعمل يد العجوز لتثبيته في موضعه. أخذت تحدق فينا النظر؛ وقد وجهنا إليها أنظارنا طامعين في حديثها.
وسألتنا: أليس لكم عمل؟ أتبحثون عن عمل؟
ولما أجابها زيومكا في احترام بالإيجاب، قالت: (حسناً! عندي حمام قديم أريد هدمه. كما أريد أن تنظف النافورة. . . فكم من الأجر تطلبون؟)
فرد عليها زيومكا في احترام أيضاً قائلاً: (يجب أولاً يا سيدتي المحترمة أن يرى الإنسان حجم الحمام، وكذلك النافورة، فلكل نافورة شكلها الخاص، إذ منها ما هو عميق جداً و. . .)
وطلبت منا العجوز أن نرى النافورة. ولم تمض ساعة حتى كنا نعمل مجدين بالمناشير والمعاول في هدم الحمام. فلما انتهينا من عملية الهدم هذه وتنظيف النافورة تقاضينا مبلغاً قدره خمسة روبلات وهو الأجر الذي اتفقنا عليه. وكان الحمام مقاماً في ركن مهجور من الحديقة، وعلى مقربة منه كوخ خشبي تظلله أغصان شجر الكرز. وقد رأينا ونحن نهدم بناء الحمام العجوز جالسة في ذلك الكوخ عاكفة على قراءة كتاب كبير وضعته على(154/63)
ركبتيها. . . وكانت من وقت لآخر ترمينا بنظراتها الحادة، وكان الكتاب يهتز فوق ركبتيها فيلمع القفل الفضي للكتاب.
ليس بين الأعمال أسهل من التخريب والهدم. وقد استفرغنا جهدنا وسط سحابة من الغبار. وكنا نعطس ونسعل ونمخط ونفرك أعيننا حين قد سقط الحمام وتناثرت أجزاؤه، فقد كان عتيقاً ناخراً كصاحبته.
(هيه يا شباب، فنجيبها: واحد، اثنان، ثلاثة، هوب!) هكذا كان زيومكا يصدر أوامره. وهكذا تساقطت كتل البناء الواحدة تلو الأخرى.
وتساءل ميشكا وهو مطرق الرأس مستنداً إلى الفأس مجففاً عرق جبينه: ما عساه يكون هذا الكتاب؟ أنه لكتاب ضخم! ولن يكون الإنجيل إذ هذا أضخم منه)
وسأله زيومكا مستفسراً: (وماذا يهمك من ذلك؟)
(يهمني؟ كلا! إنني أميل لاستماع من يقرأ الكتب. . . أعني الكتب الدينية. وكان في قريتنا جندي أسمه أفريكان يقرأ كثيراً في الإصحاح، وكذلك وكان وقع ذلك في أذني كالموسيقى - ما أجمل ذلك!)
وسأله زيومكا وهو يشعل لفافة التبغ: والآن؟)
- لاشيء. لقد كان جميلاً، على رغم أن الإنسان لا يفقهه. إنه لكلام جميل. . . وقد لا يسمع الإنسان كلاماً مثله في الشارع. نعم إن الإنسان لا يعرف له معنى، ولكنه يشعره بأن ذلك له صلة بالروح.
وهزئ زيومكا منه قائلاً: هذا ما لا أفهمه، إن الإنسان ليرى فيك من جديد غباء الحذاء القديم.
فأجاب الأخر قائلاً: (إنني واثق من أنك تميل إلى السباب)
(كيف السبيل إلى مخاطبة مثل هذا الحمار؟ إنه لا يفقه شيئاً غير ذلك: هيا، أعمل معولك هنا - أنتبه. . . هوب)
وتقوض بناء الحمام شيئاً فشيئاً وكثرت الأنقاض، وقد أحيطت بغمامة من الغبار كست أوراق الأشجار القريبة
وبدأ ميشكا ثانية: هذا الكتاب محلى بالفضة)(154/64)
ورفع زيومكا رأسه، وصوب نظره إلى الكوخ. وقال في اقتضاب:
- (هو كذلك على الغالب)
- (إنه لا شك الإنجيل)
- (ليكن ذلك. وماذا يهمك من أمره؟)
- (لاشيء!)
- (لا شيء هذه ملء جيوبي. ولكن إذا كنت تريد أن تستمع إلى ما في الإنجيل فاذهب إلى العجوز وقل لها: أقرئي لي يا سيدتي المحترمة شيئاً من الإنجيل، إنه لا سبيل لنا غير ذلك؛ إننا لا نذهب إلى الكنيسة لأن أبداننا قذرة وملابسنا بالية، إلا أن لنا روحاً كبقية الناس. . . هيا أذهب).
- (هل أذهب حقاً؟)
- (نعم، أذهب)
وقذف ميشكا بمعوله وأصلح ثيابه ومسح الأقذار عن وجهه بكمه، وقال زيومكا في نفسه وابتسامة السخرية على فمه: (ستركلك برجلها كأحقر دب) غير أنه تلهف على متابعة خطوات صاحبه بالنظر، وسار هذا بخطى ثقيلة وابتسامة الخجل والهدوء مطبوعة على وجهه، ورفعت العجوز رأسها وصوبت نظرها إلى ذلك المتسكع القادم إليها، وكانت الشمس تضيء زجاج منظارها وإطاره الفضي فيومض
ولم تركله برجلها برغم أن زيومكا تنبأ بذلك، وكان حفيف الشجر يحول دون سماع ما تحدث به ميشكا إلى صاحبة المنزل، ولكنا رأيناه يخر فجأة أمام قدميها ويجلس على الأرض حتى يكاد أنفه يمس الكتاب، وكان وجهه يدل على الهدوء والرزانة، وقد رأيناه وهو يحاول ما استطاع أن ينفخ في لحيته ليبعد عنه الغبار، وأخيراً أستقر في مجلسه ومد عنقه ووجه نظره إلى يد العجوز التي أخذت تقلب صفحات الكتاب صفحة صفحة.
(أنظر إليه فهو كالكلب غير المهذب! له الآن أن يستريح. فهل نذهب نحن كذلك؟ وماذا نعمل هنا وحدنا، وهو يجلس هادئاً بينما نحن نعمل من أجله وننهك قوانا. هيا، سر إلى الأمام).
وبعد دقيقتين جلسنا إلى جواره واحدا عن يمينه والآخر عن يساره، ولم تنبس العجوز(154/65)
بكلمة ساعة قدومنا، ولكنها كانت تحدق فينا وتقلب صفحات الكتاب كمن يبحث عن شيء بعينه، وكانت السماء صافية تشيع السرور في النفس، وكان النسيم العليل يهب من وقت لآخر مداعباً أوراق الشجر، وانساب من هذا وذاك سحر إلى قلوبنا التي كانت تتهيأ للمحبة والسلام، وبدأ يستيقض فينا الإحساس بأشياء غامضة مجهولة إلا أنها قريبة منا، وأخذت أرواحنا تتحرر من الأدناس
(بولص، خادم المسيح)
بهذا رن صوت العجوز، وكانت ترتعش وقد هدها الكبر، غير أنها كانت خاشعة، ورسم مشيكا الصليب، وأخذ زيومكا يتحرك من جنب إلى جنب ليجد مكاناً في الأرض مريحاً، وكانت العجوز ترمقه بعينيها دون أن تمسك عن القراءة.
(البقية في العدد القادم)
أ. أ. ي(154/66)
من أسخيلوس
لايوس وأوديب
(درامتان مفقودتان)
بقية المنشور في العدد الماضي
للأستاذ دريني خشبة
- 9 -
(ويلاه! لقد جئت أستجلي الحقيقة فضاعفوا الغموض في نفسي! أبي من هذا الذي أقتله، وأمي من تلك التي أتزوج منها، وأي شعب هو ذاك الذي أتعسه وأشقيه؟ أتكون الملكة صادقة وأكون ابن يوليبوس حقاً؟! أتكون زلة لسان من هذا العربيد أرسلها وهو لا يدري ما هي؟ إذن لأبعد في الأرض فأنا لا أطيق أن أراني أقتل يوليبوس، أبي، إن كان حقاً أبي. . . وأنا لا أطيق أن أراني زوجاً لأمي الملكة. . . إن كانت حقاً أمي!. . .)
وذهب المسكين لا يلوي على شيء، يأوي إلى الكهوف والغيران إذا جنه الليل، ويغتذي بقليل من البندق أو الجوز أو التين إذا ألح عليه الجوع، ويبل غلته من الجداول والغدران.
- 10 -
وبينا هو يطوي الفيافي والقفار، إذا به يصل إلى ملتقى طرق ثلاث، وإذا به يصل ثمة في الوقت الذي يصل ملأ كريم إلى المكان نفسه، وقبل أن يعرف أوديب أي الطرق الثلاث يسلك إذا رجل طوال يبدو عليه ملامحه أنه جندي أو قائد، يأمره بصوت خشن أجش أن ينتحي ناحية حتى يمر الركب. وكانت لهجة الرجل من الجفاف والغلظة بحيث لم يحتملها أوديب، فرفض أن يتزحزح خطوة واحدة، بل زاد فاعترض طريق الركب كأنما يتحدى رجاله جميعاً. وكيف يراد من أوديب الناشئ في بيت ملك كورنثه والذي أعدته الأيام لتولي زمام الملك أن يصدع بأمر رجل عابر طريق، مهما كان الرجل من حول ومن طول؟ إذن ليلتحم أوديب مع كل هؤلاء القوم في عراك عنيف، وليكن من الأمر ما يكون!
وصاح الرجل مرة أخرى، وأرغى من الغضب وأزبد. . . ولكن أوديب وقف مكانه كأنما(154/67)
سمر فيه؛ وأخذ يحدج القائد بعينين تقدحان الشرر، وتنفثان الموت الزؤام!
ولم يستطع القائد إلا أن يمتشق سيفه وينقض على أوديب كالصاعقة. . . ولكنه سقط على الثرى قبل أن يصل إليه جثة هامدة! (خذها ضربة من أوديب!!)
وذهلوا الجنود حينما شهدوا قائدهم معفرا بالتراب. . . فتكاثروا على أوديبوس. . . ولكنه صرعهم واحدا واحد بضربات كأنها سنا برق يومض خلل السحاب في يوم عاصف:
ثم نزل من المركبة التي كانت تنهب الطريق في إثر الجنود رجلٌ مسن قد وخط الشيب رأسه؛ وأقترب من أوديب وهو يهدج كالبعير الأبلق، ثم أخذ يحذره من الموت الذي يتربص به. . . (أنت شاب يا بني والحياة حلوة جميلة، وبرد الموت لا يخلق بعنفوانك. . . فانتح ناحية، ولا تركب رأسك، ولا تحسب أنك تقدر علي كما قدرت على هؤلاء. . .) وكان الشيخ يهز في يمينه سيفاً كالمنية. . . ولكن أوديب تبسم من قوله ضاحكا. . . وأعجله بضربة قدت رأسه وأضلاعه. . . وغادرته عند حيد الجبل جزر السباع. . .
وا أسفاه!. . لقد قتل أوديب والده!! ونفذ ثلث القضاء! فمتى ينفذ شطراه الآخران؟!
- 11 -
سلطت على مدينة طيبة هولة رائعة ما برحت تغتال أهلها وتعيث فيها فسادا، وكلما لقيت أحد عرضت عليه حجياً، فأن فسرها وقدر على تأويلها خلت سبيله، وإن لم يستطع غالته وأغتذت به. . . وقد عز على لايوس الملك ألا يقوى أحد على هذه الهولة فيخلص طيبة منها، ويربح من شرها العباد. فلما لم يستطع أحد يفسر حجياها أعتزم أن يذهب إلى دلفي مستخفياً في رهط من جنده، عسى أن يؤول له الكهنة ذلك الطلسم وينقذ شعبه من ذلك البلاء المبين!
وكأنما سعى لايوس إلى حتفه بظلفه! فقد لقيه ولده أوديبوس وقتله ومن معه على ما وصفنا!
- 12 -
وقبل أن يبلغ أوديب طيبة، كان خبر مقتل الملك وجنوده قد ذاع فيها، ولكن من كان أولئك القتلة؟ فلم يكن أحد يدري. . . إشاعات فحسب! فقائل إن الهولة هي التي أدركتهم(154/68)
وصرعتهم جميعاً؛ وقائل إن عصابة من قطاع الطرق أحدقت بهم وذبحتهم وهم نائمون. . . . . .
وكان أوديب قد سار في طريق طويلة شاقة انتهت به إلى طيبة. فلما كان ثمة لقيه واحد من الأهالي أنس إليه، وتبسط معه وذكر له خبر تلك الهولة الفظيعة التي قتلت ربع سكان طيبة: (وإذا لم يرح المدينة منها أحد، فقد تقتلنا جميعاً!! وهي تعرض على من تلقاه حجياً يا صاح، فأن عرفها وأدرك تأويلها خلت سبيله. . . وإلا. . . فهي لا بد فاتكة به مهما كان سلاحه، ومهما كانت قوته!! وهاهي ذي قد فتكت وحدها بالملك وجنده في طريقه إلى دلفي. . . وقد أجمعت المدينة على أن من يخلصها من ذلك الشر المستطير فإنها ترفعه إلى العرش فيكون ملكا على طيبة الخالدة، ثم يحظى بالملكة الايم فتكون زوجة له!!)
- 13 -
وكان أوديب قد زهد في حياة التشرد التي شقى بها بعد مغادرته كورنثه، فصمم على أن يلقى الهولة. . . فإما قتلها وفاز بعرش طيبة وبيد الملكة. . . وبحياة ناعمة مخفرجة، وإما قتلته فأراحته من شظف العيش ولؤم الزمان.
ودله صاحبه على مكانها. . . فذهب إليها وبيده جزاره. . . أظمأ ما يكون إلى دم حار وسم زعاف!. . .
وقالت له: (مكانك أيها القادم! أفتني في مخلوق غريب إذا أنبلج الصبح درج على أربع، فإذا أنتصف النهار مشى على رجلين، فإذا أرخى الليل سدوله سار على ثلاث! قل! فأن لم تستطع، فودع الحياة)
وعبس أوديب عبسة قصيرة، وقال: (أيتها الهولة! أهذه حجياك!! إذن أسمعي وعي! ذلك المخلوق هو الإنسان من غير ريب! أليس يحبو على أربع إذ هو طفل، فإذا شب سار على رجلين، فإذا بلغ من الكبر عتياً توكأ على عصا، فكانت له رجل ثالثة؟!)
وما كاد يتم قولته حتى أربد وجه الهولة، وحتى انثنت تأخذ طريقها إلى البحر لتغيب في أحشائه، ولكن أوديب الذي ملأه انتصاره بحل اللغز عجباً وكبرياء. . . انقض عليها وخوض صدرها بجرازه. . . وتركها على الشاطئ جثة خامدة!
- 14 -(154/69)
وفرحت طيبة بمخلصها العظيم، ومنقذها الكريم، ورفعت أوديب إلى عرشها، ووضعت على ناصيته تاجها، ووهبت له يد الملكة فتزوجها!
وا أسفاه!
لقد تزوج أوديب أمه! وتم الشطر الثاني من النبوءة الصارمة، وأولدها ابنها أربعة أبناء أشقياء، ولدين وابنتين، كأشباح الأسى والردى، والتعاسة والمنون!!
- 15 -
وحكم أوديب فعدل، واطمأنت إلى رحمته قلوب العباد، وتقدمت طيبة واستقامت أمورها، وبلغت من الأيد والقوة مبلغاً لم تكن تحلم به. . .
غير أن النبوءة تأبى إلا أن تتم، ولا بد أن ترث ذرية أوديب التعاسة عن أوديب. ذلك إن طاعوناً أجتاح طيبة، فكان الناس يموتون بالمئين! وكلت حيلة الأطباء، فأرسل الملك من يستنبئ كهنة أبوللو في دلفي عسى أن ترفع الآلهة غضبها بكشف هذا البلاء عن بلده الأمين! وعاد رسل الملك يقولون: (يقول أبوللو ابحثوا عن قاتل لايوس وانتصفوا للملك منه. . . يرفع عنكم ذلك الطاعون!)
قاتل لايوس!! إذن يجمع أوديب شرطة طيبة، ورجال القضاء فيها، ويجري تحقيق دقيق ينتهي بالحقيقة المؤلمة. . .
(يا للخزي!! إذن أنت هو ابني يا أوديب! أنا أمك! أنا أمك! يا للعار)
وتنطلق الملكة إلى غرفتها الخاصة فتنتحر: وقبل أن تفعل ترسل وراء الخادم الذي كان قد أخذ الطفل ليقتله فيحضر! ويعترف بكل ما كان!
- 16 -
أما أوديب، فانه لا يستطيع أن ينظر إلى أمه. . . بل يجن جنونه، ويتناول دبوساً فيسمل به عينيه، وينطلق إلى البرية على غير هدى، فتتبعه أبنته أنتيجونى، تقوده إلى غاب كولونوس حيث تأوي ربات الذعر فيغتلنه. . .
وينكشف الطاعون عن طيبة
ويقتتل ابنا أوديب على العرش، فيقتل بعضهما بعضاً، وتتم المأساة!. . . . . . . . . . . .(154/70)
دريني خشبة(154/71)
البريد الأدبي
مكسيم جوركي
وافتنا الأنباء الأخيرة بنعي مكسيم جوركي شيخ الأدب الروسي المعاصر. توفي بعد مرض طويل مضن في نحو الثامنة والستين من عمره. وبوفاة جوركي يختتم ثبت أكابر الكتاب الثوريين الذين مهدوا بكتاباتهم للثورة الاجتماعية الروسية الكبرى أعني الثورة البلشفية، وسيادة الطبقات العاملة، مثل ليون تولستوي، والبرنس كورباتكين. وكان مولد جوركي ببلدة (نجني نفجرود) من أعمال الفولجا في سنة 1868، ومن أسرة عاملة فقيرة، وأسمه الحقيقي ألكسي مكسينوفتش بتشكوف؛ ومات أبوه وهو طفل فكفلته جدته لأمه؛ ولم يتلق لفقره تربية، بل أضطر منذ حداثته أن يعمل ليعيش؛ فالتحق في التاسعة من عمره بخدمة محل لصنع الأحذية. ولبث يتنقل من عمل إلى عمل، وهو يعاني شظف البؤس، ولا يكاد يثبت في عمل ما، لأنه كان منذ حداثته يبدي مللاً مستمراً ونزوعاً إلى الثورة. وكان الفتى ألكسي مع ذلك يختلس الأوقات للقراءة والاهتمام بشؤون السياسة والثورة. وفي سنة 1892، استطاع جوركي أن يخرج كتابه الأول (ما كان شودرا)، وفيه صور قصصية مؤثرة؛ وفي العام التالي أخرج كتابه (شلكاش) على مثل كتابه الأول فصادف نجاحاً كبيراً. وتبوأ الفتى (جوركي) مكانته كأديب وكاتب يحسب حسابه؛ وفي ذلك الحين أيضاً قبض على جوركي لما بدا في كتاباته من النزعة الثورية وأودع السجن، ومرض فيه حتى كاد يموت؛ ولكنه ما كاد يخرج حتى عاد إلى الكتابة؛ وأخذ يطوف أرجاء روسيا متصلاً بزعماء المجاهدين والكتاب الثوريين. وفي سنة 1900 أخرج جوركي قصته الكبيرة (توما جوردييف)، فلقيت نجاحاً كبيراً. واتصل منذ أواخر القرن الماضي بفلادمير إلتش أو (لنين) زعيم الثورة البلشفية المستقبلة وصحبه؛ واشتغل بالصحافة الثورية؛ واستمر مع ذلك في إخراج كتبه؛ وكانت معظم كتبه في ذلك الحين قصصاً ثورية تمثل بؤس الطبقات العاملة التي عرفها وعانى ويلاتها صغيرا؛ وفي ذلك يصل جوركي إلى ذروة فنه؛ بيد أنه لم يتمكن قط من وصف المجتمع الرفيع بمثل هذه البراعة؛ وكان ذلك وقفاً على أقطاب درسوا الحياة الرفيعة مثل ليون تولستوي. وأحسن ما يصف جوركي تلك الشخصيات الناقمة التي تخرج على النظم والأغلال الاجتماعية المفروضة، وهي في الواقع شخصية(154/72)
جوركي ذاته.
وعرف جوركي ظلام السجن أكثر من مرة؛ ولكنه كان في كل مرة يخرج أقوى نفساً وأثبت عزماً على الكفاح. وفي سنة 1906 سافر إلى أمريكا موفداً من الجمعيات الثورية الروسية ليدعو إلى قضية الحرية الروسية. ولكنه لم يلق النجاح المرغوب، لما عرف أن السيدة التي ترافقه هي صاحبته وليست زوجته؛ وقام أيضاً بالتجوال في ألمانيا وفرنسا ليدعو ضد القرض الذي كانت تحاول القيصرية عقده، وهو ينذر بأن الشعب الروسي لن يدفعه؛ ولكن مساعيه خابت وعقدت روسيا هذا القرض في فرنسا قبيل الحرب؛ ومع ذلك فقد صحت نبوءته، وجاءت الحكومة البلشفية فأعلنت إلغاء ديون القيصرية كلها.
وعاد جوركي إلى روسيا قبيل الحرب وأسس مجلة أدبية ثورية؛ ثم كانت الحرب، فتفرق زعماء الثورة في كل مكان، ولبث جوركي في روسيا، حتى كانت الثورة البلشفية، فظهر عندئذ في طليعة زعماء الثورة؛ وقربه لينين. وكان جوركي يحترم الرجل الذي حطم طغيان القياصرة، وحقق سيادة الطبقات العاملة، أعني لينين، ويذهب في هذا الاحترام إلى حد التقديس والعبادة. وغدا جوركي من أقطاب النظام الجديد، وغدا لسانه وزعيمه الأدبي؛ وأغدقت عليه الحكومة البلشفية رعايتها. ومنذ نحو عشرين عاماً يقود جوركي الحركة الأدبية الحديثة في روسيا، ويغذيها بروحه الثوري المضطرم
وأخرج جوركي في تلك الفترة عدة كتب رائعة: منها (الشريدون) و (ذكريات الشباب) و (المتفرج) و (كوموفالوف)، وهو أعظم كتبه؛ و (الأعماق السفلى) وهي قطعة مسرحية قوية؛ وغيرها.
والخلاصة أن جوركي يعتبر من أعظم زعماء الأدب الروسي المعاصر. وقد نوه البرنس كوروباتكن في كتابه عن الأدب الروسي بعبقرية جوركي الأدبية والفلسفية
(ع)
جوركي أديب الصعاليك
كتبنا كلمة في هذا الباب من أبواب (الرسالة) منذ أسبوعين عن حياة جوركي؛ وها قد لفظ أديب الشيوعية الكبير آخر أنفاسه في الأسبوع الثاني من هذا الشهر (9 يونيه سنة 1936)(154/73)
من أثر التدرن الذي كان يشكو منه دائماً والذي سافر من أجله إلى إيطاليا يستشفي منه، ولكن ما زال به حتى قضى عليه في النهاية. وقد ذكرنا أن جوركي عمل في حداثته عند خباز، ونذكر اليوم أن هذا الخباز كان اسمه (راماس) من مدينة قازان، وأنه كان ذا أثر كبير في توجيه مكسيم جوركي، فقد كان يعمل ليلاً في مخبزه اتقاء لشبهة جواسيس القيصر، ثم يبث في عماله روح الانتفاض على ظلم القيصرية بما كان يلقيه عليهم من أحاديث ملتهبة، وبما كان يقرئهم من كتب ويثقفهم به من معلومات. وكان الفتى جوركي أشد العمال تعلقاً براماس، وكان يلتهم كتبه التهاماً حتى حدثوا عنه أنه كان يقضي نصف أوقات راحته ونومه مكباً على كتب راماس! ولما علق جوركي الأدب ومهر في الخطابة توجه إلى بطرسبرج ودعا الشعب إلى مطالبة القيصر بالدستور، ثم جمع عدداً كبيراً من العمال وتوجه بهم إلى قصر القيصر في مظاهرة صاخبة وهتفوا بحياة الدستور، وما هي إلا لحظة حتى حصدتهم نيران البنادق والمدافع من كل صوب، ونجا جوركي بأعجوبة. ولكنه قبض عليه وحوكم أمام محاكمة عسكرية فقضت عليه بالسجن لمدة سنة وعلى الزعيم الآخر (الأسقف جابون) بسنة مثلها (1905)
وكان جوركي يستشفي في إيطاليا حينما هبت الثورة في روسيا فعاد إليها ليلقى لينين وليكون هو وتروتسكي أشد أعوانه وأكبر مؤيديه، وإن يكن جوركي كان يأخذ على طاغية روسيا وزعيمها الأكبر أخذه الناس بالشدة وسوقهم إلى نظمه بالعنف، وكان يصارحه بعدم رضاه عن هذه الطرق التعسفية في بث مبادئ الثورة مع علمه أن معنى معارضة لينين الشنق والقتل بالرصاص. والعجيب أن عطف جوركي هذا لم يستمر طويلاً. فقد حدث بعد موت لينين أن أختلف ستالين وتروتسكي من أجل تنفيذ مبادئ الثورة تنفيذاً حرفيا فكان من رأي تروتسكي أخذ الفلاحين بالعنف وإخضاعهم بالقوة لتعاليم لينين، ولكن ستالين أبى ورأى في الطفرة تمهيداً لثورة الفلاحين ففضل التدرج معهم في جذبهم إلى حظيرة هذه التعاليم. واشتد الخلف بين أقطاب الشيوعية، وملك ستالين زمام الأمور، وفر تروتسكي خارج روسيا، ولحق به جوركي؛ ولكن جوركي عاد إلى روسيا بعد ذلك فشهد بعينه صدق نظر ستالين، فرجع عن رأيه لما رأى من استقرار الأمور، وعاد إلى سالف تشجيعه للاتحاد السوفيتي فعينه في لجنته التنفيذية.(154/74)
وجوركي من اشد الملحدين الذين عرفهم التاريخ فهو يقول أن المعبود الذي تعنو له الجباه إن هو إلا خرافة، وهو مصدر الخرافات! وتلك جرأة على الله سبحانه وتعالى من هذا الرجل الذي خبله البؤس وذهب بوجدانه العوز في أكبر شطر من حياته. ويكاد يكون الفيلسوف برجسون أشد أعداء جوركي، فبرجسون روحي بطبعه، والناس في فرنسا يصدقونه في كل شيء حتى لو ادعى النبوة، ولم يدافع أحد من الفلاسفة عن وجود الله في عصرنا الحديث بمثل ما دافع برجسون، وإليه وحده يرجع الفضل في هزيمة داروين وجوركي، وإن جوركي ما يزال منتصرا بقوة الحديد والنار داخل روسيا.
وإلى جوركي يعود الفضل فيما لصق بالثورة الشيوعية من تهم الإباحية وما إليها، لأنه هو نفسه ما كان يتورع أن يظهر أمام الملأ في أعمر ميادين موسكو وبطرسبرج (ليننجراد) محاطاً بعشيقاته و (محظياته!). وقصته (الاعتراف) هي نموذج خبيث من أدب المنحطين تبذ قصص لورانس وجويس وبلزك، وفيها يذكر حديثاً غير محتشم لغادة من الساقطات تدعوه إلى نفسها لترزق منه غلاماً. وفي ذلك شبه من قصة لورانس التي أشرنا إليها مرة في هذا الباب (عشيق لادي شاترلي). وتلك القصة ثالثة ثلاث ألفها إذ هو في إيطاليا والاثنتان هما (الأم) و (الصيف) ونرجئ الكلام عن بقية قصصه وكتبه ومجلاته إلى نبذة أخرى.
د. خ
في المباراة الأدبية
اجتمعت لجنة المباريات الخاصة بموضوع (أثر الحافز الشخصي في التطور الإصلاحي والاجتماعي والوسائل العلمية لتوجيه الرأي العام) التي يرأسها معالي الأستاذ مكرم عبيد باشا فنظرت في البحوث المقدمة إليها وقررت:
1 - منح الجائزة الأولى وقدرها مائة جنيه للأستاذ عباس حافظ الموظف بوزارة الداخلية.
2 - منح الجائزة الثانية وقدرها خمسون جنيها للأديب جميل خانكي.
3 - منح الجائزة الثالثة وقدرها 25 جنيهاً للآنسة زينب الحكيم الحائزة لدبلوم فروبل العليا بلندن.(154/75)
4 - منح الجائزة الرابعة وقدرها 25 جنيهاً للأستاذ حسن مظهر المحرر بمجلة الطائف المصورة.
وقد رأت اللجنة أن تتقدم إلى صاحب الدولة وزير الداخلية ليسمح بمنح هذه الجوائز برغم انقضاء الموعد المحدد لها.
بين السياسة والأدب
تولى الحكم أخيراً سياسيان عظيمان، هما في الوقت نفسه أديبان كبيران، وهما مسيو ليون بلوم الزعيم الاشتراكي الفرنسي الذي فاز حزبه في الانتخابات الفرنسية الأخيرة، وانتهى بأن تولى زعيمه الحكم؛ ثم السنيور مانويل ازانادياز، الذي أنتخب أخيراً رئيساً للجمهورية الأسبانية؛ فكلاهما أديب كبير، وله مؤلفات تتبوأ مكانها الأدبي. ولنلاحظ أولاً أن مسيو ليون بلوم فوق كونه اشتراكياً، هو يهودي؛ وهذه أول مرة يتولى فيها الحكم في فرنسا يهودي منذ وزارة مسيو كايو الذي تولى الرياسة قبل الحرب. وكان مسيو بلوم منذ أواخر القرن الماضي صحفياً وناقداً، ففي سنة 1897، كان يتولى تحرير (المجلة البيضاء)، وكان يعرف يومئذ بنقده اللاذع؛ ثم تخلى عن تحرير هذه المجلة إلى الكاتب الشهير (أندريه جيد). ثم تحول إلى الكتابة السياسية منذ حملة تيار السياسة، وكانت مقالاته في جريدة (البوبولير) حتى العهد الأخير تثير أعظم الاهتمام في دوائر السياسة.
وأما المسيو ازانا رئيس جمهورية أسبانيا الجديد فهو مؤلف ذو شهرة واسعة وله عدة كتب في السياسة والأدب نذكر منها: (دراسات عن السياسة الفرنسية الحديثة)، و (ترجمة جوان فالير) وهو كتاب نال به الجائزة القومية الوطنية؛ و (الكتابة والقول) و (في الحكم وفي المعارضة)، ثم رسالة أدبية عن (دون كيشوتي)، وقطعة مسرحية عنوانها، (التاج) هذا ما عدا روايات القصص ومقالات عديدة.
كتاب جديد لهافلوك أليس
صدر أخيراً كتاب النقادة الإنكليزي الشهير هافلوك أليس عنوانه: (مسائل عصرنا) والذين يتتبعون حياة هافلوك أليس وكتاباته يعرفون أنه أعظم المفكرين والنقدة في عصرنا؛ وقد بلغ اليوم عهد الشيخوخة، ولكنه ما زال قوي النشاط، قوي الأثر في الشباب المتأدب؛(154/76)
وقد كانت كتاباته من أكبر العوامل في الترويج للأدب الجنسي الحديث، وهو الأدب الذي كان يرفضه المجتمع الإنكليزي من قبل. ويشتمل كتاب هافلوك أليس الجديد على مائة موضوع من الموضوعات التي سبق أن عالجها في ظروف ومناسبات مختلفة، وهذه بعضها: (ما هو المجرم. بديل الحرب. مسألة الثورات. التربية في العالم المتطور. الحاجة إلى سماء جديدة. مسألة التعقيم الإصلاحي) وغيرها
ومع أن معظم هذه الموضوعات قد كتب من قبل، فأن الكتاب يطبعه طابع واضح من الجدة، ويبدو تعمق الكاتب وبعد نظره في معالجات موضوعه، حتى أن القارئ ليشعر بأن كثيراً مما تنبأ به هافلوك أليس في كتاباته عن التطورات الاجتماعية يقع اليوم في العالم بالفعل.(154/77)
العالم المسرحي والسينمائي
بنكنوت
فيلم شركة لونس على شاشة سينما تريومف
لناقد (الرسالة) الفني
تدفع الأثرة الكثير من المصريين إلى الجمع بين صناعات متعددة، وهذا في عقيدتهم وسيلة من وسائل الشهرة وارتفاع الذكر في حين أن العالم يسير عكس هذه الفكرة، فهو يعمل على توزيع الأعمال حتى يستطيع الفرد أن يتخصص في ناحية واحدة، والتخصص سبيل الإتقان والتبريز
ولقد نقدنا في فلم شارلي شابلن (العصر الحديث) قيام صاحبه بجميع الأعمال الفنية؛ وها نحن اليوم نعود فنكرر قولنا، في رأينا أن زميلنا الأستاذ أحمد جلال يستحق اللوم الكثير لتقليده شارلي، وجمعه بين مهمة تأليف الرواية وكتابة السيناريو وإدارة الفلم وإخراجه ثم تمثيله. ونحن إذا التمسنا الأعذار لشارلي لإعداده الفلم الواحد خمس سنوات، فإن الأمر على العكس من ذلك مع جلال الذي يرهقه العمل الصحفي إلى جانب عمله السينمائي. ولو أنه وزع العمل واكتفى بمهمة واحدة أو اثنتين فربما تلافى الكثير من الأخطاء التي أفسدت الفلم ونزلت به إلى مستوى لا نحبه ولا نرضاه لفلم مصري.
إن مخرجي الأفلام المصرية يستغلون النظارة من المصريين أسوأ استغلال بعرضهم مثل هذه الأفلام التي تنقصها العوامل الفنية التي تتوفر في الأفلام الأمريكية والإنجليزية. ولو أن هذه الأفلام تشبع عواطف المصريين، وتصور ميولهم ونفسياتهم، لما وجدنا مصرياً واحدا يقبل على هذه الألاعيب الصبيانية، ولأحس يومئذ المخرجون أن القومية وحدها ليست كافية لأن تجتذب النظارة إلى دور السينما
وإذا كان الجمهور يقبل على هذه الأفلام، فهو إنما يقوم بواجبه حيال هذه الصناعة الجديدة، وتشجيعاً لأهل الفن من أبناء بلاده، وعسى أن يجد فيما تعرض ما يعبر عن عواطفه. على أن هذا الاستغلال سينكشف يوماً، وسيعرف المصريون أنهم يسيئون إلى أنفسهم وإلى الفن، إذ يقبلون على هذه الأفلام؛ ويومئذ يدرك المخرجون مبلغ الهوة الساحقة التي حفروها بينهم(154/78)
وبين رواد السينما. ولا أظن هذا اليوم بات بعيدا.
أن أول أسباب لنجاح الفلم أن تكون القصة التي تعرض للنظارة صالحة للسينما؛ ويشترط فيها الفن، والصناعة، وعلم النفس، وغيرها من الشروط التي يجب أن تتوفر في كل عمل فني، ولهذا فأن الشركات الأجنبية تنتقي خيرة القصص العالمية وتقتبسها للسينما، وتدفع من أجل ذلك ألوف الجنيهات، أما في مصر، فأن الشركات تستغني عن المؤلف الأديب، ولا تحفل كثيراً بموضوع القصة، ولهذا فأنك لا تجد بين أكثر الأفلام التي عرضت موضوعاً سامياً ولا قصة رائعة ذات جمال وفن.
ملخص قصة الفلم
سلمى، امرأة مبتذلة، يعود زوجها فجأة فيجدها مع عشيق لها فيطردها من بيته؛ وتخرج لتعيش في الأندية الليلية، ويلتقي بها نجيب مفتش البوليس فيتزوجها وينجب منها طفلة
ويدخل شوكت يوما إلى مكتب نجيب فيراه يضع أوراقاً مالية في مكتبه، ويدعو شوكت نجيباً لقضاء السهرة في النادي، وهنالك نجد شوكت يخسر كل نقوده ويأخذ نجيب مكانه، وينتهز شوكت الفرصة ويسرع إلى بيت صديقه ليسرق الأوراق المالية. وإذ هو في محاولته يعود نجيب ويخاف شوكت أن يضبطه متلبساً بالجريمة فيسرع إلى مخدع الزوجة، ويدخل نجيب فيظن أن زوجته تخونه ويصوب مسدسه إلى شوكت ولكن هذا يفلح في إسقاط المسدس من يده!؟ وتريد سلمى أن تنتقم من شوكت فتطلق عليه الرصاص ولكنها تصيب زوجها.
ويحكم على الزوجة بالسجن ثلاث سنوات، وفي هذه المدة يتعرف شوكت إلى إحدى فتيات الشوارع فيتخذها عشيقة له، ويعدها لتكون شريكة له ووسيلته إلى السرقة والاحتيال. وتخرج سلمى من السجن وتعمل خادمة عند هذه العشيقة فتعرف سرهما وتحبط تدبيراتهما. ويوفق شوكت إلى اغتصاب آلاف الجنيهات من مكتب مدير إحدى الشركات (وكأن المدير لا يضع نقوده في المصارف!) ولكن سلمى ترشد البوليس إلى السارق. ويجئ نجيب ليقبض على شوكت، وإذ يحاول هذا الهرب مهدداً نجيباً بالمسدس تطلق سلمى النار على شوكت.
يرى القارئ أن الموضوع الذي عالجه الفلم تافه لا يحتاج إلى كل هذا الحشو والتطويل(154/79)
والتعقيد والالتجاء إلى الأمور غير المعقولة التي أغفلناها في تلخيصنا لقصة الفلم، وهذا مما يدل على جهل كاتب القصة بالحياة والخلق المصري. فأين الرجل الذي لا يثور لمرأى عاشق زوجته في بيته؟ وأين الأندية الليلية التي يصحب فيها الرجال زوجاتهم ويلعبون الميسر مع الساقطات أمامهن؟! وأين الرجل الذي لا تأخذه الريبة ولا الشكوك من وجود صديقه في بيته أثناء غيبته؟ ومدير الشركة الذي يولول ويكاد يتملكه الجنون لأن سيدة أغمى عليها في مكتبه، ثم هذه الطريقة المضحكة التي تتعرف بها عشيقة شوكت إلى تاجر الأقطان ومفتش البوليس الذي لا يعرف كيف يتقي شر المجرمين ولا يعرف كيف يستخدم مسدسه. . . هذه الأشياء تبين بجلاء جهل الكاتب بعلم النفس وبالحياة المصرية.
وقد تقوم الفكرة التي تقوم عليها القصة مما لا يصل إليه النقد، كما صرح بعض الزملاء، ولكن العلاج وما يحيط بالقصة من حواش وجو ملئ بالأقذار والأدران مما لا ترتاح إليه النفس، أما تصوير الشخصيات فضعيف مضطرب، وفي بعضها نزول عن المستوى الذي يليق أن يعرض على الجمهور، والذي لا يتسق مع بقية الشخصيات ولا مع موضوع القصة، مثل العشيق الأبله الذي يفتتح به أول مناظر الفلم، أو مثل شخصية الخادم (البلدي) ومسلكه مع مخدوميه، والفتاة السارقة عندما أخذها شوكت إلى بيته لأول مرة، وكذلك شخصية سلوى فيها كثير من الإبهام الذي لا يرتاح إليه النظارة.
والحوار لا بأس به؛ غير أنه في كثير من المواقف يشبه الحوار المسرحي، كما أن هناك إسفافاً في الأحاديث بين شوكت وسلوى وبين الخادم البلدي ومخدومه، وبين شوكت والفتاة السارقة. وقد يقول المؤلف أنه يحاول أن يرسم صورة واقعية، ولكن الفن أسمى من هذا الواقع، ثم أن الواقع في حد ذاته لا قيمة له إلا إذا صقلته وأعدته يد مفتن ماهر.
التمثيل والتصوير
والتمثيل ضعيف، وكثير من المواقف انقلبت إلى مواقف مسرحية، ولو أن المدير الفني كان همه الأول قيادة الممثلين لعاد ذلك بالخير على الفلم؛ وإنني من رأي صديقي الأستاذ أحمد بدرخان في أن للسيدة آسيا مواهب لو استغلت كما يجب لبرزت وعلا نجمها، وهي جديرة بأن تسمى (ماي وست) مصر، ولكنها مع الأسف لم تظهر في فلم يلائمها، ولم تعمل مع مدير فني يستطيع أن يبرز مواهبها، وإن ظهورها الدائم مع ماري كويني ومع جلال(154/80)
مما يجعل التشابه كثيراً في حركاتها وتمثيلها؛ ونحن ننصح لها أن تبدل الشخصيات التي تعمل معها بين قصة وأخرى، فللوجوه الجديدة أثر وأي اثر في نفوس النظارة
أما تمثيل الآنسة ماري كويني، فماذا أقول! إنها كانت تضحك في أغلب أجزاء دورها ضحكا يتردد صداه، حتى إنني لأذكر إنها كانت تضحك ضحكاً متشابهاً يبعث السأم إلى النفس، وتمثيل الرشيدي (نجيب) مسرحي أكثر منه سينمائياً، أما جلال (شوكت) فكان يقوم بمغامراته كأنه لا يحفل بأحد وإذ هو يتسور حاجز الحديقة كأنه يقوم بلعبة في وضح النهار لا يخشى رقيباً.
كان المصور ينتقل في بساطة لا أثر للفن فيها مما يدل على أن كاتب السيناريو والمدير الفني لم يحافظا على الجو السينمائي. وكان يخرقان القواعد، فهما يجهلان متى يجب أن يصور المنظر عن قرب أو عن بعد، وكيف ينتقلان من منظر إلى آخر. وعندي أن هذا أثر الحشو والتطويل. هذا وإنك لا تجد في الفلم زوايا معبرة، ولكن الضوء والصوت في هذا الفلم جعلاه يفوق ما سبق أن قدمته إلينا السيدة آسيا من أفلام.
والشيء الوحيد الذي نذكره في الفيلم هو أنه طوله الذي تستطيع وبكل بساطة أن تحذف منه أكثر من الثلث دون أن تتأثر القصة لاتشعر أثناء عرضه بالملل والسأم اللذين كنت تحسهما أثناء عرض الأفلام السابقة لشركة (لوتس)، وإن أحسست بثورة على المؤلف والمدير الفني.
يوسف(154/81)
العدد 155 - بتاريخ: 22 - 06 - 1936(/)
يا شباب العرب!
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
يقولون إن في شباب العرب شيخوخةَ الهِمَم والعزائم؛ فالشبانُ يمتدُّون في حياة الأمم وهم ينكمشون
وإن اللهوَ قد خفَّ بهم حتى ثقلت عليهم حياةُ الجد، فأهملوا الممكنات فرجعت لهم كالمستحيلات
وإن الهزلَ قد هونَّ عليهم كلَّ صعبةٍ فاختصروها؛ فإذا هزءوا بالعدو في كلمة فكأنما هزموه في معركة. . .
وإن الشاب منهم يكون رجلاً تاماً، ورجولةُ جسمه تحتجُّ على طفولة أعماله
ويقولون إن الأمر العظيم عند شباب العرب ألا يحملوا أبداً تَبِعَة أمر عظيم
ويزعمون أن هذا الشبابَ قد تمت الأُلفةُ بينه وبين أغلاطه، فحياته حياة هذه الأغلاط فيه
وأَنه أَبرعُ مقلِّد للغرب في الرذائل خاصة؛ وبهذا جعله الغربُ كالحيوان محصوراً في طعامه وشرابه ولذاته
ويزعمون أن الزجاجةَ من الخمر تعمل في هذا الشرق المسكين عملَ جندي أجنبي فاتح. . .
ويتواصَونْ بأن أوَل السياسة في استعباد أمم الشرق، أن يترك لهم الاستقلالُ التام في حرية الرذيلة. . .
ويقولون إنه لابد في الشرق من آلتين للتخريب: قوة أوربا، ورذائل أوربا
يا شبابَ العرب! مَن غيركم يكذّب ما يقولون ويزعمون على هذا الشرق المسكين؟
من غير الشباب يضع القوةَ بازاء هذا الضعف الذي وصفوه لتكون جواباً عليه؟
من غيركم يجعل النفوس قوانين صارمة، تكون المادةُ الأولى فيها: قَدَرْنا لأننا أردنا؟
ألا إن المعركة بيننا وبين الاستعمار معركة نفسية، إن لم يُقتل فيها الهزل قتل فيها الواجب!
والحقائق التي بيننا وبين هذا الاستعمار إنما يكون فيكم أنتم بحثُها التحليلي، تكْذِبُ أو تَصْدق.(155/1)
الشبابُ هو القوة؛ فالشمسُ لا تملأُ النهارَ في آخره كما تملؤه في أوله
وفي الشباب نوعٌ من الحياة تظهر كلمةُ الموت عنده كأنها أُختُ كلمة النوم
وللشباب طبيعةٌ أولُ إدراكها الثقةُ بالبقاء، فأول صفاتها الإصرار على العزم
وفي الشباب تصنع كل شجرة من أشجار الحياة أثمارها؛ وبعد ذلك لا تصنع الأشجارُ كلها إلا خشبا. . .
يا شباب العرب: اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزاً، وإما أن تموتوا
أَنقذوا فضائلنا من رذائل هذه المدنية الأوربيةُ تنقذوا استقلالنا بعد ذلك، وتنقذوه بذلك.
إن هذا الشرق حين يدعو أليه الغرب (يدعو لَمَن ضَرُّه أقربُ من نفعه لَبْئسَ الموْلى ولبئس العَشير)
لبئس المولى إذا جاء بقوته وقوانينه، ولبئس العَشيرُ إذا جاء برذائله وأطماعه.
أيها الشرقي! إن الدينار الأجنبي فيه رصاصةٌ مخبوءة، وحقوقُنا مقتولةٌ بهذه الدنانير.
أيها الشرقي! لا يقول لك الأجنبي إلا ما قال الشيطان: (وما كان لي عليكم من سلطانٍ إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي)
يا شباب العرب! لم يكن العسيرُ يعسر على أسلافكم الأولين، كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها.
أتريدون معرفة السر؟ السرُّ أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملاً من أعمال الخالق
غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر، ومعنى الخوف، والمعنى الأرضي
وعلَّمهم الدينُ كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عظمتَه وكبرياءَه
واخترعهم الأيمانُ اختراعاً نفسيّاً علامتُه المسجَّلة على كل منهم هذه الكلمة: لا يَذِل
حين يكون الفقر قلةَ المال، يفتقر أكثر الناس، وتنخذل القوة الإنسانية، وتهلك المواهب
ولكن حين يكون فقرَ العمل الطيب، يستطيع كل إنسان أن يغتنى، وتنبعث القوة، وتعمل كل موهبة
وحين يكون الخوف من نقص هذه الحياة وآلامها، تفسّر كلمة الخوف مائة رذيلة غير الخوف(155/2)
ولكن حين يكون من نقص الحياة الآخرة وعذابها، تصبح الكلمةُ قانونَ الفضائل أجمع
هكذا اخترع الدين إنسانَه الكبير النفس الذي لا يقال فيه: انهزمت نفسُه
يا شباب العرب! كانت حكمةُ العرب التي يعملون عليها: أُطلُب الموت تُوهب لك الحياة
والنفس إذا لم تخش الموت كانت غريزةُ الكفاح أولَ غرائزها تَعْمَل
وللكفاح غريزة تجعل الحياة كلها نصراً إذ لا تكون الفكرةُ معها إلا فكرةً مقاتلة
غريزة الكفاح يا شباب هي التي جعلت الأسدَ لا يُسَمَّن كما تسمَّن الشاة للذبح
وإذا انكسرت يوماً فالحجر الصَّلْدُ إذا تَرَضرَضتْ منه قطعة كانت دليلاً يكشف للعين أن جميعه حجر صلد
يا شباب العرب! إن كلمة (حقّي) لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائُلها حياتَه فيها
فالقوةَ القوةَ يا شباب! القوة التي تقتل أول ما تقتل فكرةَ الترف والتخنث
القوة الفاضلة المتسامية التي تضع للأنصار في كلمة (نعم) معنى نعم
القوة الصارمة النفَّاذة التي تضع للأعداء في كلمة (لا) معنى لا
يا شباب العرب! اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزاً، وإما أن تموتوا.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(155/3)
في النقد
إلى الأستاذ أحمد أمين
من الأستاذ توفيق الحكيم
يا صديقي العزيز! حقيقة أذكر بعد قراءة فصلك الأخير في (الرسالة) أنك كنت عازماً على نقد كتابي (محمد)، فما الذي منعك؟ وأذكر أيضاً أنك أفضيت إلى بخوفك من أن يسئ رجال الدين فهم مرادك فأضارّ أنا بذلك؛ وهى عاطفة نبيلة حمدتها لك. على أني فيما أذكر أيضاً قد شجعتك على المضي في نقدك وهو في جملته لا يؤيدني. بل إني قد وافقتك عليه معجباً بفراستك مقدراً لبراعتك في الوقوع من فورك على المواطن التي يجوز فيها النقد والكلام. فأنت ترى أن المؤلف لم يغضب، بل ابتسم واغتبط ليقظة الناقد. في الواقع أنى لست أومن كثيراً بتلك الأسطورة التي تروى عن غضب المؤلفين. واسمح لي أن أتكلم بلسانهم فأقول إن هذا الغضب لا يجد سبيلاً إلى نفس الكاتب إلا إذا شعر من ناقده بعزوف عن الحق والجد، ونزوع إلى الحط من القدر مبطن بسوء القصد. فالناقد الذي يحترم شخصي ويهدم عملي لا يغضبني. لأني أعلم أن الأديب لا يهمه النقد. فهو كائن ممتاز لا يُهدم، ولا يقبض إلا بأذنه، ولا يقضى عليه إلا بإرادته. إن الأديب لا يموت مقتولاً، بل يموت منتحراً. ومع ذلك فأني لا أحب للمؤلفين أن يغضبوا على أي حال، فان الغضب علامة الضعف الآدمي، ولا شئ في الوجود أقوى من الابتسامة. ولكن من ذا الذي أعطى القدرة على الابتسام الصافي الجميل في كل موقف وفي كل حين؟ أهو الجبار وحده؟ ألا ترى معي أن الجبروت إنما هو الصفاء؟ (إذا أردت أن تسلك طريق السلام الدائم، فابسم للقدر إذا بطش بك، ولا تبطش بأحد) تلك كلمة لعمر الخيام، جعلتها في رأس كتابي (من الشرق) الذي لم أكتب منه في سنوات ثلاث أكثر من ثلاثة فصول. وانك لتعجب إذا قلت لك إن هذا البطء أو هذا العجز مرجعه علة واحدة قد انكشفت لبصيرتي آخر الأمر: عدم استكمال تلك الصفة العليا التي يرتديها بعض رهبان الفكر كما تُرتدى المسوح: الصفاء
إن كنت من رأيي في كل هذا فإن لي عندك حاجة: أن تنشر معي تلك الابتسامة بين الأدباء، فأن الأدب شئ جميل؛ هو جنة لا صخب فيها؛ وهو معبد لا تدخله الأحقاد. إن أعجب ظاهرة في أدبنا أنه لا توجد فيه صداقات عظيمة جديرة أن يتحدث عنها تاريخ(155/4)
الأدب؛ تلك الصداقات التي نراها في آداب الحضارات الكبرى قد أنتجت من الرسائل والأخبار والآثار ما لا يقوم بمال. ما الذي يعوزنا نحن؟ أهو شيء في الخلق؟ أم هو ضعف في النفس؟ أم هو نقص في الثقافة؟ لست أعلم. إنما الذي أعلمه أن الصداقة الخالصة بين رجال الأدب والفكر هي أظهر دليل على نضوج هذا الأدب وهذا الفكر
وبعد، فأني أرجو أن تقبل أطيب التحية من المخلص.
توفيق الحكيم(155/5)
في النقد
للدكتور محمد حسين هيكل بك
عزيزي الأستاذ الزيات:
أثرت في أعداد (الرسالة) الأخيرة حواراً طريفاُ حول (النقد) بمقالك الذي نشرته في عددها الذي صدر في 18 مايو الماضي، والذي عقب عليه الأستاذان أحمد أمين وطه حسين. وإنني أغبطك كصحفي لما صادف موضوعاً أثرته من هذا النجاح. وأي نجاح أكبر من أن يدخل حلبة الحوار صديقان من كبار كتاب مصر وأدبائها، فيقلبان من المواضيع في (النقد) ما كان ركد، ويشيران إلى مواضع ضعف في كتابنا وأدبائنا، شيوخاً وناشئين، ويصفان علة ركود النقد مع يقظة الأدب؛ ويدعوانني بذلك للاشتراك في حديث بعد العهد بيني وبينه؛ وما كنت أظنني أعود من بعد أليه
ولم يكن انصرافي عن النقد عن إيثار للسلامة، أو مداراة للجمهور، أو اندفاع في تيار هذا الجمهور بعد أن كنت أريد جذبه إلى تياري. كلا! وإنما كان انصرافي عن النقد وعن ألوان غيره من الكتابة أنني أيقنت أن فيما أنا بسبيله اليوم من مباحث في سيرة النبي العربي وفي عصره ما هو أجدى على القراء وعلى الغرض الذي أرجو للجماعة الإنسانية أن تبلغه مما كنت بسبيله من قبل. ولست أريد الآن أن أصف كيف حدث هذا التطور في نفسي فذلك أمر يطول بيانه. وإنما ذكرت منه ما ذكرت لأبين به السبب الذي انصرفت من أجله عن النقد وما يتصل به. وما أحسب منصفاً إلا أن ما يستنفده البحث في السيرة والاتصال بعصرها وبيئتها من وقت وجهد كاف ليشغل الباحث عن غيره من الأمور؛ هذا ولو أنه كان منقطعاً لهذا البحث. ما بالك إذا شغل بالصحافة وبغير الصحافة من شؤون لا تدع له فرصة التنقل من قراءة إلى قراءة، وتدبر كل ما يقرأ تدبراً يسمح له بنقده وتقديره نقداً عادلاً وتقديراً نزيهاً؟
ولست أريد بهذا الذي قدمت أن أعتذر عن انصرافي عن النقد ورغبتي عنه. فأنا أرى هذا الانصراف طبيعياً في شأني وشأن كثيرين غيري ممن عنوا بالنقد وتوفروا عليه منذ عشرين أو خمس وعشرين سنة مضت؛ أي في بدء حياتهم في الكتابة والأدب. وهو طبيعي إلى حد لا يجوز معه توجه اللوم إلينا. فأكثر الكتاب يبدءون حياتهم في الكتابة بالنقد(155/6)
ثم ينصرفون عنه. هذا شأنهم في أوربا اليوم. وذلك كان شأنهم في غير أوربا من قبل. وهذا شأنهم لأنهم يقرءون يومئذ وهم شبان ليستزيدوا من العلم، وهم ينقدون ليمحصوا هذا العلم، وهم يفتنون في النقد ليكونوا لأنفسهم ملكة التقدير. لعلهم لا يفعلون ذلك متعمدين. لكن ذلك هو الواقع في أمرهم؛ فشأنهم في ذلك شأن الشجر، وشأن كل كائن حي أول نشأته، هو يمتص من الغذاء كل ما حصل عليه أو اتصل به، وهو يصفي هذا الغذاء ويتمثله لينمو بالبقية الصالحة منه للنمو، وهو يفرز ما ينقده ولا يسيغه؛ فإذا بلغ حد النمو قل ما يتناوله من الغذاء، ودقق في اختيار هذا الغذاء القليل الذي يتناوله، لأنه يكون في شغل عن النقد والتمحيص والإفراز بالإثمار والإنتاج، وإن استنفد بأثماره وإنتاجه قوته حتى ينتهي من ذلك إلى استنفاد حياته
فالنقد الذي يبدأ به الناشئون من الكتاب والأدباء حياتهم هو هذا التمثل للغذاء الذي يتناولونه، وهم يعرضون هذا النقد على الجمهور ليسمعوا حكم الجمهور على نقدهم، وليطمئنوا إلى أنهم أحسنوا التمثل. والجمهور يطرب لما يراه من آثارهم طربه لترعرع الناشئ وفتوة شبابه. فإذا انقضت هذه الفترة من الحياة مال الكاتب أو الأديب مع سجيته، واختار الطريق الإيجابي الذي يسلكه في إنتاجه. وقد يتفق هذا الطريق وماضي حياته الأدبية، وقد يكون اتجاهاً جديداً في هذه الحياة يحسبه بعضهم منقضاً لها بينما هو أثر محتوم من آثارها، لم يكن لصاحبه مفر من الاتجاه فيه ما دام سليم المنطق حسن التقدير
صحيح أن من الكتاب من يجعل النقد رسالته الأدبية طيلة حياته، وقد تتصل سائر آثاره بالنقد ولو بمقدار. ولقد كان من هؤلاء في فرنسا عدد غير قليل أمثال سانت بيف وجول لمتر. لكن هؤلاء إنما جعلوا النقد رسالتهم في الأدب غير مكتفين بما يظهر من الكتب في عصرهم. وهم قد جعلوا النقد رسالتهم على أنه لون من ألوان التصوير لتاريخ الحياة الأدبية في عصرهم وفيما سبقهم من العصور. فهم في عصر النضوج أدنى إلى المؤرخين منهم إلى النقاد. وما كتبه سانت بيف عن القرن السابع عشر وعن (بور رويال) لا يطلق عليه عنوان النقد بمعنى النقد المعروف للآثار الفنية بمقدار ما هو تحليل تاريخي دقيق لصورة من صور الأدب وأسباب نشوئها، وما تأثرت به في نموها وحياتها. ولهذا السبب تختلف آثار هؤلاء النقاد في أيام النضوج عنها في أيام النمو ونشاط تمثل الحياة. نقدهم أيام(155/7)
النضوج أثر كامل لحياتهم ونضوجهم. أما نقدهم حين النمو ونشاط التمثل فشأنه شأن النقد حين يتناوله غيرهم من الشبان؛ هو تناول لمواد الحياة العقلية والأدبية وهضم وتمحيص إياها، وتمثل للصالح منها، وإفراز لزيفها
وكلنا يعرف طائفة من كبار الكتاب في فرنسا وفي غير فرنسا بدءوا حياتهم بالنقد، ثم انصرفوا عنه لغيره من ألوان الأدب. ويكفي أن يذكر الإنسان أناتول فرانس وبول بورجيه وهما من أعلام أدبها القصصي في القرنين التاسع عشر والعشرين ليقدر أن الكاتب كثيراً ما ينصرف بعد فترة من حياته إلى ما يحسبه رسالته الصحيحة في الحياة بعد أن يكون قد استقى بالنقد من رحيق الحياة صنوفاً وألواناً. وهؤلاء قد حمد الناس لهم ما اختصوا بالكتابة فيه، ولم يطالبهم أحد بالعودة إلى ميدان النقد. ولو أنهم عادوا إلى هذا الميدان لعادوا مؤرخين ولم يعودوا نقادا على طريقة الشبان الناشئين.
لهبوليت تين الفيلسوف الفرنسي الكبير في القرن الماضي ثلاثة مجلدات في النقد والأدب، تناول فيها طائفة من معاصريه من الفلاسفة والكتاب تناولاً دقيقاً غاية الدقة، بديعاً غاية الإبداع. وهي مع ذلك ثمرات شبابه، فلما تقدمت به السن شغل بكتابة تاريخ فرنسا وبوضع كتب في الفلسفة والأدب ككتابه عن الذكاء، وكتابه عن تاريخ الأدب الإنجليزي. ولقد وضع كتاباً فريداً جعل عنوانه (مذكرات عن باريس) هو آية في التهكم اللاذع بحياة عصره، والنقد لطرائق أهل فرنسا في مختلف ألوان حياتهم. وكم تمنى كتاب أن لو سلك تين هذا المسلك ووضع على هذا النحو كثيرا من الكتب. لكن أحدا لم يوجه أليه اللوم لأنه آثر الفلسفة أو التاريخ، علماً من هؤلاء الكتاب بأن الفلسفة وبأن التاريخ هما جوهر الرسالة التي هيأ القدر ذهن هبوليت تين لأدائها في الحياة
ماذا بعد هذه المقدمات؟. . . نتيجتها الطبيعية أنه إذا وجب أن يوجه اللوم عن فتور النقد في هذه الآونة من حياتنا العقلية والأدبية، فإنما يوجه إلى شباب هذا العصر الذين لا يجدون من أنفسهم إقداماً على تمثل الآثار الأدبية وتمحيصها بنقدها، وإشراك الجمهور بذلك في الحياة الأدبية، وحمل الشيوخ الذين ينتجون على تحري الغاية من الاجادة؛ ثقة منهم بذوق الشباب، وحرصاً منهم على تقديم الغذاء الصالح لجمهور القراء. أما والشباب لا ينقد فمعنى هذا أنه لا يقرأ، وأنه إذا قرأ لا يمحص، وأنه إذا محص لا يثور فينقد. وقيمة الحياة(155/8)
الثورة بالحياة، فهذه الثورة هي وحدها وسيلة التطور الهادئ. أما حيث لا تكون الثورة، فالركود والجمود، وهذا الذي يشكو منه الأستاذ أحمد أمين، والذي يوجه اللوم من أجله إلى رجال قطعوا مرحلة النقد إلى مرحلة غيرها لعلها خير منها ولعلها شر منها
وإذا وجهنا اللوم إلى الشباب فجدير بنا أن نوجه اللوم إلى الذين يتولون تهذيب الشباب وإلى الذين يتولون تثقيفه. والساسة يتولون تهذيب الشباب والأساتذة المعلمون يتولون تثقيفه. أي هؤلاء أجدر بأن يوجه اللوم اليه؟ لقد أصبح شبابنا لا يعنى بنقد أثر أدبي لأن نقد الأثر الأدبي قد يدل على علو الكعب في العلم أو في الثقافة أو في التهذيب. ولكن ما قيمة ذلك في مصر اليوم؟!. . أهو يجر مالاً؟! أهو يجر جاهاً؟! أهو يجر احتراماً وتقديراً؟! سل الشباب عن ذلك يجيبوك إنما يجر المال شئ آخر غير العلم أو الثقافة أو التهذيب. والمال اليوم هو الذي يجر الجاه والاحترام والتقدير. ذلك رأى الشباب أو كثرته مع الشيء الكثير من الأسف. لذلك توجه الشباب إلى أقرب الموارد إلى المال وإلى الاستكثار منه، فبعد بذلك عن العلم وعن الثقافة وعن التهذيب، وبعد بمن كان مهذباً أو مثقفاً من الشبان عن النقد الذي يريد الأستاذ أحمد أمين أن يراه فتياً قوياً ناهضاً
بعد بهؤلاء الشبان عن النقد واصطناعه، لأن النقد أول شروطه الحرية، الحرية العقلية والحرية العلمية والحرية الأدبية؛ فهو لا يعرف الصداقة، ولا يعرف الإكبار والاجلال، ولا يعرف المجاملة والمداجاة؛ وهي فضائل يجب أن يتحلى بها الشباب في كل أمر وفي كل عصر؛ ويجب أن يتحلى بها الناس جميعاً وإن وجب أن تكون في الشباب أكثر وضوحاً وظهوراً. أفتريد هذا الشاب الناشئ أن ينقد كتاباً لهيكل أو لطه حسين أو لأحمد أمين أو للعقاد أو المازني أو لغيرهم ممن شئت، وهؤلاء قد يكونون وسيلته إلى الوظيفة وإلى مال الوظيفة وجاهها وما لها في أعين الناس من احترام وتقدير؟ لذلك آثر الشباب الراحة وجرى وراء الدعة وتعلم المداجاة والرياء حتى في العلم والأدب. والراحة سم الشباب القتال. والدعة والمداجاة مرضان لا يقلان عن الراحة فتكاً بالشباب. فإذا اجتمعت هذه الأدواء فتكت بحرية الشباب وحالت بينه وبين نقد الآثار الأدبية لقعودهما به عن الأيمان بالثورة. وهذا سبب العلة وموضع الداء.
فليلتمس الأستاذ أحمد أمين شباباً حراً يؤمن بالثورة وأنا ضمين له بعودة النقد إلى نهضته(155/9)
وفتوته. أما هؤلاء الشيوخ الذين يتوجه لهم بالنقد فقد رغبوا إلى لون من الأدب غير النقد. لم يبق منهم إلا صديقي وصديقه الدكتور طه حسين الحريص على أن يبقى مع الشباب حرصه على أن يكون في طليعة الشيوخ. ليلتمس الأستاذ أحمد أمين هؤلاء الشبان، فان لم يجدهم فليلق التبعة عن ركود النقد على الذين يتولون تهذيبهم والذين يتولون تثقيفهم من الساسة والمعلمين. عند ذلك تنكشف له العلة فيما أصاب النقد من ركود، وعند ذلك يكون أدنى إلى الإنصاف إذ يلقي التبعة على من يجب أن تكون عليهم التبعة.
محمد حسين هيكل(155/10)
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
- 2 -
(ملاحظة - الكلام ليس شخصياً وكل ما فيه متخيل ولا حقيقة لذات الثوب الأرجواني)
لم يكن العزم أن أكتب هذا الفصل ولكن (الرسالة) - جزاها الله خيراً - أبت إلا أن تستزيدني فوضعت الرقم (1) تحت عنوان الفصل السابق، فصار لابد أن أكتب الثاني - أو اللاحق - وإلا عدني القراء مقصراً أو مغالطاً أو فاتراً، وأنا أقصر في الأغلب عن غاية أو دونها؛ وقد تغريني طبيعة الحياة أو مطالب الدنيا بالمغالطة، ولكنى والله لست بفاتر - والعياذ بالله! - وأنى لحريص في العادة على هدوء المظهر واتزان الأعصاب، ولكن في جوفي ناراً (أحر نار الجحيم أبردها) كما يقول المتنبي رحمه الله - وكان في عوننا - فقد كان يجيد المبالغة. وما أظن بذات الثوب الأرجواني إلا أنها تحس ناري هذه وتجد لفحها وإن كان بيني وبينها بعدان: بعد طريق وبعد منال. وإذا لم يكن هذا هكذا فسلها بالله لماذا تلبسه لي!. . . أليست تلبسه لأنها تعلم أنه حبيب إلي!. . . ومن أدرها وأنا لم أقله بلساني ولم أفض إلى أحد بسر قلبي؟. . . وما أحسب أحداً سيزعم أنها رأت في مشابه من ثيران أسبانيا فهي تخايلني لتهيجني بهذا اللون؟. . . ومما يدل على العمد في لبس هذا الثوب أنها تبدو ضاحكة مشرقة المحيا في كل ما تكتسي خلافه، فإذا ارتدت الأرجواني قطبت وزوت ما بين عينيها وتكلفت التجهم الشديد. وليس في الثوب أو لونه أو تفصيله أو حسن انسجامه على بدنها الرخص ما يدعو إلى الانقباض. وإن في كثرة لبسها له لدليلاً على الرضى عنه، ولو كانت تشعر بشيء من الضيق للبسه لما أكثرت من ارتدائه، ولكنها على عادة جنسها تفعل الشيء تبغي به رضى رجل معين ثم تذهب تغالط وتدعي غير ذلك، ومن هنا هذا العبوس التي لا تحسنه. وإني لأعرف أنها قرأت بعض كتبي فقد رأيت معها (خيوط العنكبوت) - عرفته من غلافه وما عليه من الرسم، ولكنى أظنها لم تقرأ ديواني لأنه قديم جداً ولأنه نفد من زمن طويل، ولو قرأته لو وجدت فيه هذا البيت:
لا يحسن التعبيس أبلجُ واضح ... ضحك الجمال بوجهه وأضاءا
ولكانت خليقة أن تكف بعد ذلك عن عبوس لا تتقنه؛ ولشد ما أتمنى أن أعود إلى النظم(155/11)
ولكن هيهات، فما تحركني الحياة كما كانت تفعل، ولو كان شئ يردني إلى الشعر لردني هذا الثوب. . أأقول الثوب؟. يا للمغالطة. أتراني لو رأيت الثوب منشوراً في الشرفة ولم تكن هي فيه أكنت أحفله أو أباليه؟. كلام فارغ!. ويحسن بي أن أدع الثوب وأن أكف عن ذكره فما أعرف له - بمجرده - قيمة. وإنها لجميلة في الأبيض والأخضر والأزرق والبنفسجي والوردي، وفي الطويل والقصير، وفي الخفيف والكثيف، وفي المباذل والهلاهل. ولكنى أحب أن أجرب سلطاني عليها فأزعم أن الأرجواني هو الثوب الأثير عندي. ثم إن صورة المرأة في اللحظة التي تقع فيها من قلب الرجل هي التي تعلق بذهنه وتظل حاضرة ماثلة لا تبرحه ولا تني تجور على غيرها من الصور ولو كانت أبرع وأفتن. وهذا فيما أعتقد - تعليل ما أراده من استبداد هذا الثوب الأرجواني بنفسي وخواطري، فلتلبس ما شاءت غيره ولتطمئن على حسنها فلن تكون إلا جميلة ساحرة
وأحسب أن اتزاني المألوف قد خدعها أول الأمر، وأن ابتسامتي التي أرسمها على وجهي - بالألوان - هي التي حيرتها فما هكذا يكون المحب الولهان والعاشق المدنف فيما تصف الكتب والروايات التي لاشك أنها قرأتها، وأين مظاهر الصبابة وآيات الوجد ودلائل الخبل الذي يورثه الحب؟ أين الدموع الغزار التي لا تفتأ تفيض بها الجفون القريحة حتى يصبح المرء في بركة من العبرات؟؟ أين السهد الطويل الذي يترك الوجه مصفراً والجسم مطحوناً مهدوداً؟؟ وأين الزفرات الحرى والشهقات العميقة التي تخرج من أخمص القدم؟. . لا يا ستي. . لست من هذا الطراز وما أراك إلا مثلي تحسنين أن تضبطي عواطفك كما يضبط المهندسون فيضان هذا النيل العظيم بالسدود والخزانات الضخمة؛ ثم إن الحب جميل لا شئ فيه يوجب الحزن والكآبة، وهو يملأ النفس حياة لا موتاً، وينضر الروح ولا يذبلها، وهو سبب عمران هذا الكون فكيف تخرب من جرائه نفس إنسان؟ وهو مبعث الوحي ومصدر الإلهام وسبب الإنتاج على العموم، فكيف يجئ بالانقباض والعقم؟. . لا يا ستي. . أقول لك مرة أخرى اضحكي. . اضحكي واتركي هذا القطوب الذي لا يوائم الجمال والصحة
ولم أر قط كمشيتها في المشي. . . فيها دبة القوي الشاعر بقوته أو المعتز بها؛ وقد تبد لي أحياناً كأنها تدب كما يدب الصبي حين يذهب عنك مغيظاً محنقاً. . ولا داعي لغضبها أو(155/12)
حنقها. . . وأين هذا الداعي وهي واقفة وحدها في الشرفة تطل منها على الطريق؟ لا بد أن يكون الداعي شيئاً في رأسها أو في نفسها هو الذي يحملها على هذه اللفتة السريعة العنيفة التي لا مسوغ لها مما حولها، إذ كان لا شئ حولها إلا الهواء وإلا هالة هذا الحسن. . . وليتني أستطيع أن أنفذ إلى موضع التفكير أو الإحساس فأطلع على هذا الباعث الخفي! فليس أفتن ولا أسحر من حركات النفس فيما وراء الوعي. وأكبر الظن أنها هي لا تعرف ماذا يلفتها أحياناً على هذا النحو العنيف وإن كانت تحسب نفسها عارفة مدركة. ولو أنك قلت لها إن لفتتها هذه فيها عنف وسألتها عن علته لأنكرت ولكان الأرجح أن يسوءها منك ذلك
على أنى لا أحب أن يتوهم القارئ أن مشيتها عنيفة أو أن فيها ما يعاب - حاشا لله - وإن لها لخ طرة تجعل أهون حركة لها رقصاً. ومن النساء من تمشى بثدييها كأنما تدفعهما أمامها. ومنهن التي تتخلع وتتعوج وتتقصع - تكلفاً أو طباعاً - كأنما لا يمسكها شئ، أو التي تطول وتقصر في مشيتها والتي، تلوح بذراعيها فتزيدهما طولاً - إلى آخر ذلك إن كان له آخر - ولكن ذات الثوب الأرجواني حين تبرز لي في الشرفة صباحاً - على سبيل التحية - وهى لا تزال في منامتها، تنساب كالماء الرقراق، فليس خطوها خطواً وإنما هو تموج. وإني لأراها ماشية من هذا البعد فأذكر بيتاً لابن الرومي هو قوله في وصف صانع الرقاق:
ما بين رؤبتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في لجة الماء يلقى فيه بالحجر
ولا رقاق هناك ولا حجر ولا ماء تنداح فيه الدوائر، ولست أذكر البيت لأن هذا وقت الصباح أي وقت الشعور بالجوع، وإنما أذكره لأني أحس - بعيني وبقلبي معاً - أن حركة المشي تبعث في جسمها اللين اضطراباً خفيفاً كاضطراب الماء حين يصافحه النسيم الوانى؛ ويخيل إلى أن جسمها كله - حين تخطو - تتعاقب على بشرته الرقيقة موجات في إثر موجات تطير العقل وتزدهف اللب. ولا أدري أهذا خيال أم هو الحقيقة، ولكن الذي أدريه أنه بعض ما للمرأة من سحر. فقد ترى رجلا قده أعدل من قد المرأة ولكن مشيته لا يكون فيها هذا التموج، ولا يمكن أن تحدث الحركة في جسمه - أو جلده - مثل هذا(155/13)
الاختلاج الخفيف الذي هو بعض سحر المرأة. واللين من خصائص الأنوثة - والنعومة والرقة والطراوة أيضاً - وليس أقبح ولا أبعث على النفور من المرأة المسترجلة كما ليس أقبح ولا أدعى إلى الزراية من رجل تغلب عليه صفات الأنوثة، وتخطئ فيه مظاهر الرجولة ومعانيها
وفتاتي تنهض مثلي في البكرة المطلولة - أو أنا هكذا أتخيلها - خفيفة غير متثاقلة - فأنها شئ صغير دقيق يخيل إلي أن في وسعي أن أطويها وآكلها بعظامها - وتدفع باب الشرفة فأنتبه على الصوت - وتقف حاسرة الرأس متهدلة الشعر - وهل يغطى مثل هذا الشعر الذهبي؟ - عارية الذراعين، ثم تتهادى إلى الحافة وتطوي ذراعيها عليها وتدير عينها في مجالي الحياة التي طلع عليها يوم جديد. فتبارك الله خالق هذا الوجه الصابح ومرقرق كل هذه الغضارة والنضارة فيه!. وما أكثر ما وقعت على عيني عينها وأنا أحدق فيها من حيث أحسبها لا تراني! ولشد ما أشعر، حين يحدث ذلك، بفتنة هذا اللحظ، وما أصبحت على وجهها مرة إلا أحسست أن من حقي أن أستقبل يومي بصدر منشرح وقلب مستبشر مطمئن، وما رأيتها إلا كان ظهورها إيذاناً لي بالاضطرام والفورة، فيكون حسبي بعد ذلك أن أعالج نفسي حتى أردها إلى السكون وأفئ بها إلى الهدوء؛ وليس هيناً أن ترغم اليد المرتعشة على الثبات، والأعصابَ المضطربةَ على الاتزان، والعين المحملقة الزائغة على الفتور المألوف، والقلب الذي يعلو ويهبط كأنه لعبة (اليويو) على العود إلى انتظام الدق واعتدال الخفق؛ والساقين المتخاذلتين على الصلابة والتماسك، والنار التي تندلع في الأحشاء على الخمود. . . كلا ليس هذا بالهين. . ولكني رضت نفسي على القدرة عليه، فلإرادتي الحكم لا لشعوري وعواطفي؛ وعسير جداً أن يبدو على وجهي شئ مما يضطرب به جناني ويجيش به صدري؛ وإن جوفي ليكون كالبركان الفائر أو البحر الهائج، وتنظر إلى وجهي وتسمع كلامي وتتأمل حركاتي وإشاراتي فلا يخالجك شك في أني أفرغ الناس قلباً وأخلاهم بالاً، ولم لا؟. . . إن ما يدور في نفسي شئ يعنيني وحدي وليس من حق غيري أن يحيط به ويطلع عليه فانه سري؛ ولا من الرجولة أن أعرضه على الناس كأني ألتمس العون أو العطف منهم. وماذا يبقى لي مما يسعني أن أقول إنه (لي وحدي) إذا كنت أبيح الناس ما في صدري وأشركهم في أمري؟. . ولست أستثقل أو أستسخف شيئاً كقول(155/14)
الشاعر - وأظنه أبا فراس -
فيا حسرتا! من لي بخل موافق ... أقول بشجوي مرة ويقول
فان هذا ضعف وحماقة. والقول بالشجو يفضح ولا يجدي؛ وإذا كان في البث ترفيه، فان الانتصار على النفس أجل وأكرم وأكبر متعة أيضاً؛ والبث ثرثرة تليق بالمرأة ولا تليق بالرجل. وماذا ينفعك أن يعرف صاحبك أنك تحب أو تكره، أو أنك غاضب ساخط أو راض مغتبط؟. . . ماذا يستطيع أن يصنع لك؟. لا شئ!. وأجدى من ذلك عليك أن تعالج أنت نفسك وأن تردها على مكروهها - إذا احتاج الأمر - وأن تحتفظ باعتدال المزاج وهدوء التفكير واستقامة النظر ودقة الوزن وحسن التقدير. ومن كان لا يملك نفسه فأحر به ألا يملك غيره. والحب حرب بينك وبين المرأة، فاحرص على أن يبقى زمامك في يدك وإلا ركبت منك جواداً مسرجاً ملجماً تركضه حيث تشاء هي وحدها. وليس أطغى من المرأة إذا صار في يدها زمام الرجل.
إبراهيم عبد القادر المازني(155/15)
تراثنا العربي القديم ما يجب لتنظيم إحيائه
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان تراث العربية حتى أوائل القرن الماضي لا يزال مغموراً محجوباً في ظلمات المكتبات والمجموعات الخاصة؛ وكانت المطابع قد ظهرت في أوربا منذ أواخر القرن الخامس عشر، وطبعت في رومه بعد ذلك بنحو قرن بعض الكتب والوثائق العربية، منها: مختصر كتاب (نزهة المشتاق) للشريف الإدريسي (سنة 1598)؛ وفي القرن السابع عشر طبعت في مدينة لندن التي ما زالت منذ أربعة قرون مركزاً هاماً لنشر الآثار العربية، عدة مراجع عربية تاريخية، منها: (تاريخ المسلمين) لابن العميد (المكين) (1625)، وكتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور)، لابن عربشاه (سنة 1636)، وكتاب مختصر تاريخ الدول لابن العبري (1663)، وظهرت هذه الكتب بالعربية لأول مرة مقرونة بتراجم لاتينية كانت منذ ظهورها مستقى خصباً لمؤرخي الغرب
ولم يظهر في أوربا حتى أوائل القرن التاسع عشر من الكتب العربية سوى طائفة قليلة من الكتب قد لا تعدو عشرات؛ وإلى أواخر القرن الثامن عشر لم تكن مصر قد عرفت المطبعة العربية؛ وقد عرفتها لأول مرة في سنة 1798، حينما وفد نابليون على رأس حملته الفرنسية، وحمل معه مطبعة عربية كاملة استعلمت بالقاهرة لطبع البيانات والأوامر التي كانت تصدرها القيادة العليا ويصدرها الديوان الفرنسي لأهل مصر؛ وكان في مقدمة الكتب التي أصدرتها هذه المطبعة كتاب عن محاكمة سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر يضم خلاصة التحقيقات والإجراءات بالعربية والتركية والفرنسية، وذلك سنة 1800
ولما بدأ محمد علي في تنفيذ برنامجه الإصلاحي لم تفته هذه الناحية الهامة من تعضيد الحركة الفكرية والثقافية، فأنشأ في سنة 1821 مطبعة بولاق الأميرية، وعني بإعدادها وتجهيزها عناية عظيمة، فكانت أول وأعظم صرح للطباعة العربية في الشرق؛ ولم تقتصر مطبعة بولاق على إخراج الجريدة الرسمية (الوقائع) التي أنشئت بعد ذلك ببضعة أعوام، وإخراج الوثائق والمنشورات الرسمية، بل أعدت منذ إنشائها لإخراج الكتب العربية، فطبعت فيها لأول عهدها عدة من الكتب التي ترجمها بعض أعضاء البعثات العلمية في مختلف العلوم والفنون التي درسوها، فكانت باكورة أعالها في نشر الكتب(155/16)
العربية
على أن مطبعة بولاق لم تقف عند هذا الحد المتواضع في إخراج الكتب العربية؛ وكانت المطابع العربية الأوربية، ولا سيما في ليدن وباريس، قد نشطت منذ أوائل القرن التاسع عشر لإخراج طائفة كبيرة من الآثار العربية النفيسة على يد جماعة من أعلام المستشرقين، فاتجهت الأنظار في مصر إلى العناية بهذه المهمة؛ ونشطت مطبعة بولاق إلى إحياء التراث الإسلامي بهمة فائقة؛ وعكفت طوال القرن التاسع عشر على نشر الموسوعات والآثار العربية الجليلة، وأسدت في ذلك أعظم الخدمات للآداب العربية والثقافة الإسلامية؛ ونظرة واحدة إلى ثبت الآثار الحافلة التي أصدرتها مطبعة بولاق تدل على فداحة المهمة التي اضطلعت بها، وإلى مدى التوفيق الباهر الذي حققته في إنجازها
وإلى جانب مطبعة بولاق، قامت مطابع أهلية كثيرة، ونشطت أيضاً إلى إخراج الكتب العربية؛ وقد كان ميداناً جديداً يغرى بالكسب، فأقبل الكثيرون على استثماره؛ وأخرجت هذه المطابع الأهلية، إلى جانب بولاق، مئات من الكتب والآثار العربية الضخمة في كل أنواع العلوم والفنون، وأعادت طبع كثير مما نشرته بولاق في طبعات رخيصة يسهل اقتناؤها، وساهمت بذلك مساهمة قيمة في إحياء الآداب العربية ونشرها
وهذا ما نريد أن نعرض إليه في هذا المقال؛ فقد انقطعت مطبعة بولاق منذ أوائل هذا القرن عن نشر الآثار العربية القديمة، وحلت محلها في ذلك دار الكتب المصرية؛ ولكن دار الكتب تقوم في هذا السبيل بمجهود بطئ جداً، أما المطابع ودور النشر الأهلية فما زالت على نشاطها القديم في إخراج الموسوعات والآثار العربية، ومنها كثير لم ينشر من قبل؛ ومن المحقق أنها ما زالت تؤدى بذلك خدمات قيمة لإحياء الآداب العربية
ولكن هذا النشاط إذا لم كان يحمد من بعض الوجوه، فانه يثير اليوم كثيراً من وجوه الاعتراض والمؤاخذة، وإذا كان قد ترك في الماضي حراً طليقاً من كل قيد؛ فإن الظروف تقضى اليوم بضبطه وتنظيمه وتوجيهه بطريقة تحقق الغاية منه
بدأ هذا النشاط في أواخر القرن الماضي، والحركة الأدبية والثقافية في مستهل نهضتها، فكان هذا النشاط في بعث الكتب العربية وإحيائها بالنشر والتداول من عوامل تعضيدها وتغذيتها، ولم يكن من المستحسن يومئذ أن يعرض هذا النشاط لشيء من القيود التي يمكن(155/17)
أن تؤثر في سيره ونمائه، وذلك رغم ما كان يعتوره من اوجه النقص سواء في اختيار الكتب التي يراد نشرها، أو في الصور المزرية التي كانت تنشر بها؛ ورق اصفر رديء، وطباعة حقيرة، وأخطاء علمية ومطبعية لا حصر لها
أما ألان فقد تغيرت الظروف تغيراً واضحاً، وازدهرت الحركة الفكرية ازدهاراً عظيماً، وظفرت بمصر بطائفة كبيرة من المعاهد والمنشآت العلمية الراقية، وغصت بالشباب المتعلم، وأضحى مما لا يلائم ذوق العصر وأحواله، بل مما يضر بسير الحركة الفكرية ذاتها، أن يترك أمر نشر تراثنا العربي القديم فوضى دون ضابط ودون إشراف
فهناك موسوعات وآثار قيمة سبق نشرها في طبعات جيدة وأضحت نادرة لقدم عهدها، وهناك بدار الكتب المصرية مئات الآثار المخطوطة التي لم تنشر من قبل؛ وهذه جميعاً يقوم على نسخها ونشرها جماعة من الناشرين المحترفين العاطلين من كل مؤهلات علمية أو أدبية، والذين لا هم لهم سوى الكسب الوفير، فيخرجونها في نفس الأثواب والصور المزرية التي ألفناها منذ القرن الماضي، ويتقاضون فيها أثماناً فاحشة لا مبرر لها، منتهزين فرصة ندرتها إن كانت مما نشر، أو ظهورها لأول مرة إن كانت مما لم ينشر من قبل
وقد اتسع نطاق هذه الحركة في العهد الأخير اتساعا واضحاً؛ وألفى الناشرون المحترفون فبها سوقاً رابحة؛ فكثر تهجمهم على الآثار النفيسة مخطوطة وغير مخطوطة؛ وأخذوا ينشرونها في استهتار وجرأة، ممسوخة مشوهة، مشحونة بالأخطاء الشائنة لا يتكلفون في إخراجها سوى الطباعة الرديئة؛ ثم يبيعونها بأثمان فاحشة، كأنهم هم الذين ألفوها وأجهدوا أنفسهم في وضعها وكتابتها
ولا يخفي ما لهذا النشر المشوه لآثارنا القديمة من نتائج سيئة، فهو يخلو من كل ضمانة أو غاية علمية أو أدبية، ولا تحدوه سوى روح الكسب المجرد؛ ومن ثم كانت الصور المثيرة المزرية التي تصدر بها أجل آثارنا الأدبية، والتي كثيراً ما تصد الشباب المتعلم عن تناولها؛ وهو من جهة أخرى عامل كبير في إحجام علمائنا وأدبائنا عن المساهمة في هذا المجهود مع رغبة الكثيرين منهم في القيام على نشر بعض الآثار القديمة التي توفروا على دراستها وتحقيقها؛ ذلك لأن جهودهم العلمية الغالية، وحرصهم على نشر هذه الآثار في أثواب مقبولة لائقة، وما ينفقونه في هذا السبيل من الجهد والمال؛ كل ذلك يقعد بهم عن(155/18)
مجاراة هذا النشاط التجاري المحض، العاري عن كل درس وتحقيق
ونحن نعرف ما يتكبده العلماء المستشرقون من الجهود الفادحة في إخراج آثارنا القديمة، والتوفر على دراستها وتحقيقها والتعليق عليها بدقة تثير الإعجاب، وإخراجها دائما في أثواب أنيقة محترمة
ولهذا كله نرى أن الوقت قد حان لتعنى السلطات المختصة بالعمل على مراقبة حركة إحياء الآثار العربية القديمة، وتوجيهها وتنظيمها تنظيما يتفق مع ما لتراثنا القديم من كرامة علمية، ويلائم في نفس الوقت حاجات العصر وذوقه وروحه. ويلوح لنا أن دار الكتب المصرية، وهى وريثة بولاق في الاضطلاع بإحياء الآداب العربية، هي أول سلطة أدبية يمكن أن تضطلع بمثل هذا الإشراف العلمي. ذلك أنها هي مستودع تلك الآثار الجليلة المخطوطة التي ترنو إليها أنظار الناشرين المحترفين من كل صوب، فيقبلون عليها بالنسخ المحرف، والنشر المشوه، لا يتكلفون في ذلك شيئا، ولا يصدهم قيد أو إشراف؛ وقد تكون هذه الآثار مما حصلت دار الكتب من الخارج بالتصوير، وأنفقت في سبيله كثيرا من الجهد والمال
ونحن لا نطلب أن تقوم دار الكتب بمنع النسخ والنشر؛ ولكننا نطلب إليها فقط أن تقوم بالإشراف عليها أشرافا فعلياً، وأن تضع لذلك نظاماً يكفل تحققها من وجود بعض الضمانات العلمية والمالية في الناشرين أنفسهم، فإذا لم تتوفر الضمانات العلمية - وهى غالباً غير متوفرة - اشترط أن يقوم بالإشراف على النشر شخص تتوفر فيه مثل هذه الضمانات. ويجب أن تمتد هذه الرقابة حتى صدور الكتاب، وأن يراعى صدوره في ثوب لائق، وأن يحدد ثمنه بعد صدوره بنسبة معقولة من تكاليفه؛ ويصح أن تتولى دار الكتب الإشراف العلي على الكتاب ذاته لقاء أجر معين، ويصح لها أن ترفض التصريح بالنسخ والنشر إذا لم تتوفر مثل هذه الضمانات؛ ويجب على أي حال أن يشمل هذا الإشراف كل أثر مخطوط ينشر في مصر، سواء استنسخ من دار الكتب ذاتها، أو من أي مكتبة أخرى عامة أو خاصة، في الداخل أو الخارج، لأن الغرض هو الإشراف العلمي على حركة إحياء الآداب العربية في مصر، ويجب أن يكون هذا الإشراف كاملاً شاملاً
ويمكن من جهة أخرى أن تتعاون المعاهد العلمية مع دار الكتب في هذه المهمة، فتشترك(155/19)
الجامعة المصرية والأزهر في تنظيم هذا الإشراف
هذا ولا بأس أن تفرض الحكومة ضريبة معينة على نسخ الكتب المخطوطة التي لم تنشر من قبل، وعلى نشرها إذا كان النشر لغاية تجارية؛ وتقدر هذه الضريبة بحسب حجم الكتاب أو أهميته؛ ويعفى العلماء من أدائها في جميع الأحوال؛ ويرصد دخلها لتوسيع حركة إحياء الآداب العربية التي تقوم بها دار الكتب
إن الحق في نشر آثارنا القديمة ملك للدولة، وهي الأمينة عليها؛ وإذا كان مما يرغب فيه دائما أن يشجع الإقدام على نشر هذه الآثار، فان مما يرغب فيه أيضاً ألا يكون هذا النشر بضاعة مبتذلة يستثمرها الجهلاء لغايات تجارة محضة، وألا يحاط بكل الضمانات المعقولة التي تكفل تحقيقه على الوجه اللائق المرضى
هذه ملاحظات واعتبارات حان الوقت لبحثها، وقد أصبح من واجب السلطات المختصة أن تنشط لحماية تراثنا الأدبي من تلك الفوضى المثيرة، وأن تعمل لصونه من ذلك الابتذال الشائن، وأن تقوم أخيراً على تنظيم نشره، وتوجيهه بطرق موقرة مستنيرة
محمد عبد الله عنان(155/20)
من مسرات الحياة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قال ابن خفاجة الأندلسي الشاعر:
وشأن مثلي أن يُرَى خالياً ... بنفسه يبحث عن نفسه
وكنت كلما قرأت هذا البيت أعجب كيف لم ينظم قائله شعراً كثيراً في بحث ميول النفس وأحاسيسها وتعليلها وتحليلها، وقد ذكر في بيته هذا أن من شأنه أن يخلو بنفسه يبحث عن نفسه. ومن كان هذا شأنه فَحَص النفس الإنسانية على اختلاف تربتها، وهذا عمل العمر وأكثر من العمر؛ وهو أيضاً لذة متجددة، وإن أدى البحث إلى ما يؤدي إليه بحث قاع الجب أو قاع البحر وما فيه من در ولؤلؤ ومرجان وغابات بحرية وأعشاب وأحياء تقتتل ويفنى بعضها في بعض ووحوش بحرية غريبة مجهولة، وجيف ورمم، وكنوز ثمينة في بقايا السفن الغائرة؛ فهكذا قاع النفس أيضاً لدى من يسبر غورها ويغوص في أعماقها. وسطح النفس أيضاً مثل سطح البحر، لج وخرير، وشمس تتلألأ أشعتها، ونسيم عليل، ومنظر بهيج هادئ، أو عواصف وأعاصير، ومرأى رائع جليل. وإذا كانت بعض مظاهر النفس تبعث الرهبة، فان بعض بواطنها أدعى إلى الرهبة، ولكن من الرهبة ما يستصحب المسرة، كالرهبة التي يحسها المرء وهو يستطلع الأمر الغريب الرائع المخوف المجهول؛ ومن أجل ما تستصحب من المسرة نشأ حب الاستطلاع لما يستدعي المخاطرة من مستطلعه
ولعل ابن خفاجة في بحثه النفس كان ينظر إليها نظرة المستريح في ظل الشجرة يفكر فيما حوله وكأنه لا يفكر، فان في مثل حالة هذا المستريح تفكيراً كلا تفكير، وبحثاً كلا بحث، فهو تفكير يقنع فيه المرفه نفسه بالنظر إلى المرئيات وألوانها وأجزائها من غير أن يعني نفسه بالبحث عن سرها خشية أن تضيع لذة الراحة والدعة؛ فشأنه شأن المسحور لا حراك له، وفكره أيضاً لا حراك له، ويخيل إليه في مثل هذه الحال كأن الدهر قد أوقف دورته واستراح، وكأنما يخشى أن يفك عنه الحراك سحر التأمل ولذته المطلقة التي لا تتقيد بتقصي الأسرار والمسببات، ولا هي مثل لذة المخاطر الذي يرى في مشقة استطلاع الغريب المخوف مسرة كما أوضحنا(155/21)
على أن من الميسور أن ندرك ابن خفاجة في حالة أخرى من حالات بحث النفس، وهى الحالة التي يغوص المفكر على العويص الغائر من أسرارها، ويحس لذة في غوصه تملأ جوانب نفسه حتى تشغله عن لذة التعبير عما يراه في بحثه تعبيراً فنياً، فأني لا أحسب ابن خفاجة رأى أن تتبع حركات النفس وخطراتها وأحاسيسها في شعره غير لائق بشعره إذ أي شئ ألصق بالقريض من النفس وأحوالها وميولها وخطراتها، فالشعر هو لغة النفس وموسيقاها، ومقر كنوزها وحكمتها وأسرارها
ولكن للبحث في النفس مسرات مختلفة، قد تفترق وقد يتصل بعضها وينال في وقت واحد، فمسرة فيما يجلبه التعبير الفني عن أحاسيس النفس من ارتياح الفنان الصانع في صنعه، ومسرة أخرى فيما تجلبه مشاهدة أطوار النفس والتأمل في أحوالها من الارتياح كارتياح مشاهد القصة التمثيلية في تتبع روعة فن القصة كما يبرزه الممثل
وهذا الارتياح غير ارتياح المسحور المأخوذ بما يره من المنظر الطبيعي أو الصورة الفنية النادرة، وارتياح المسحور هذا هو أيضاً مسرة أخرى في التأمل في النفس البشرية
ولكل مسرة من هذه المسرات الثلاث قيمة في الحياة، وكل منها تعين المرء على تحمل متاعب الحياة وآلامها، بل إنها لتعين اليائس بما فيها من لذة فن البحث والتقصي على تحمل ما يحس من يأس من النفس البشرية إذا لم يستطع غير اليأس منها. وكل إنسان له نصيب من هذه المسرات الثلاث، فكل فنان، وكل إنسان يعبر عما يراه في أعماق النفس تعبيراً فنياً، إما في ثنايا ما يسلي به نفسه في خلوته من الأغاني والأناشيد، وإما فيما يفوه به من الأمثال العامية أو غير العامية، وإما في آهاته وأناته وأمانيه، وإما في ثنايا قصصه ونكاته وفكاهاته، وفي مجالسه ومباذله، وفيما يقول في سخطه وحزنه وسروره، أو في نثره وشعره إن كان ناثراً أو شاعراً، أو في أدوات الفنون الأخرى من نحت أو تصوير أو موسيقى
وكما أن كل إنسان ينال نصيباً من لذة الفنان المعبر عن النفس تعبيراً فنياً، فكل إنسان ينال أيضاً نصيباً من مسرة المشاهد لقصة الحياة والنفس التي تمثل أمامه، وكل نفس تحاول أن تحول كل ما يمر بها من الحوادث إلى قصة وفن وإن لم يفطن أكثر الناس إلى هذه المحاولة في أنفسهم. وكلما اضطر الإنسان إلى الخروج عن نشوة المتأمل المشاهد لفن(155/22)
قصة الحياة والنزول إلى ميدان الألم الممض والأحزان، أدى واجبه من ألم الحياة وأحزانها مما لا مفر منه، ورجع بأسرع ما يستطيع إلى موقف المعبر عن الحياة والنفس، أو إلى موقف المشاهد لقصتها، حتى إنه ليحول أو يحاول أن يحول آلامه وأحزانه إلى قصة وفن وأن لم يشعر بتلك المحاولة من نفسه، لأنها في كثير من الأحوال محاولة طبيعية لا تعتمد فيها ولا تصنع، وإن كانت أحياناً تستلزم عملاً ظاهراً يلفت المرء إلى مجراها من نفسه كما يكون شأنها عند الفنانين
وإذا لم يستطع المرء أن يسرع في التنقل من موقف المؤدي واجبه المفروض من آلام الحياة وأحزانها إلى مواقفه الأخرى التي ذكرت حاول أن يجمع بين الأمرين في وقت واحد بأن يقف من آلامه التي يعانيها موقف الممثل من آلام الشخص الذي يمثله في القصة، فيجمع وقتئذ في نفسه نفسين، كما يجمع الممثل بين نفسه ونفس من يمثل، سواء أكان هامليت أو الملك لير أو عطيل الخ
وترى المرء وهو في هذه الحال وفي دموع حزنه معنى آخر مع ما فيها من الحزن والأم
وإذا لم تستطع النفس أن تقف موقف الممثل من آلامها وشجونها التجأت إلى موقف المسحور المأخوذ بصور الحياة ومناظر النفس سواء أكانت بهجة أو غير بهجة، وُقل إنها تسحر بها في بعض الحالات كما تسحر بمناظر الجلال والروعة من مناظر الطبيعة الهائلة. وهذا أيضاً تحول من النفس والتجاء طبيعي لا تعمد فيه فهو قلما يحس، وكلما كان نصيب المرء أوفر من ملكات التحول والالتجاء، أو قل التهرب والنجاة من حوادث الحياة، كانت سيطرته على آلام الحياة أعظم، لأن هذا التحول إنما هو وسيلة من وسائل مكافحة آلام الحياة لا يحتاج المرء إليها إلا بعد الوسائل الأخرى
ومن المشاهد أن النفوس عند وقوفها موقف الممثل من آلامها وحوادث أيامها تختلف في منحاها، فنفوس يكون موقفها أشبه بموقف ممثل الجد، ونفوس موقفها أشبه بموقف ممثل الهزل، والأولى قلما يفطن الناس إلى موقفها التمثيلي، والثانية قد يفطن الناس إلى موقفها التمثيلي لبعد ما بين حقيقة حالها وهزلها. ولعل فطنة الناس إلى موقفها التمثيلي تكون في الحالتين بمقدار قلة إتقانها لدورها أكثر مما يكون لميل موقفها إلى الجد أو الهزل؛ والمرء في هذا الموقف النفساني التمثيلي هو باحث متفهم لدوره دارس له كنا يتفهم الممثل دوره و(155/23)
يدرسه حتى ولو كان ممن يجيدون التمثيل بالسليقة من غير طول عناء في التفهم والدرس؛ ومسرته إذن متصلة بمسرات البحث في النفس والحياة
ولعل قائلاً يقول إن بحث النفس بحث معاد مملول يجلب السأم، وإن النفس كالتاريخ الذي يعيد نفسه؛ لكن النفس إذا أعادت تاريخاً من تواريخها لم تعده بالنص، وقد يأتي التاريخ مع الأسباب والمسببات القديمة بحوادث جديدة تستدعى التأمل وربط المسببات بالأسباب، وهذا ليس بالأمر الهين ولا هو بالأمر المعاد المملول، ثم إن تحت ما هو معاد مملول من أطوار النفس وأسبابها أسباباً أخرى لا يصل إليها التقصي، وأعماقاً يعجز الغائص عن سبر غورها وفيها مجال واسع لحب الاستطلاع الغريب حتى يأتي الموت فيسدل ستاره على لعب الحياة القدس إلا إذا مل المرء البحث من اليأس والعجز عن بلوغ غور النفس لا من العرفان
والإنسان في رحلة الحياة كالمسافر الجواب للأقطار؛ وترى بين ذوي الأسفار من يتعجب من كل أمر، ومن يضحك من كل شيء؛ ومنهم من يتأفف من كل أمر، ومن يسخر من كل شيء؛ ومنهم من يتحمل أشد مشقة من شغفه باستطلاع الغريب أثناء أسفاره. والناس أيضاً في رحلة الحياة الدنيا يختلفون في أهوائهم؛ ومنهم من يتحمل أيضاً أشد مشقة وأمض ألم من شغفه باستطلاع الغريب مما تأتي به الأيام والليالي أو ما يراه في بحث النفوس البشرية. ومن ذوى الأسفار في أقطار الأرض من يحكم على قوم بحالة واحدة رآها في احدهم، شأنه شأن الإنسان في رحلة الحياة الدنيا يحكم على النفوس بحالة واحدة يحولها إلى قاعدة ونظرية عامة. وذوو الأسفار في الأقطار كالإنسان في رحلة الحياة قد يتعجب ويستغرب الطبيعي المألوف من عادات الناس أو أحوال نفوسهم وأخلاقهم لأن الإنسان ذو خيال يتوقع به أن يرى الناس على ما يود من أخلاقهم وعاداتهم وعلى ما يسره ويرضيه وينفعه منها، فإذا اطلع على المألوف مما لا يود منها فاجأه مفاجأة غير المألوف، وهذا من أثر أنانيته التي تغالط نفسه مغالطات مختلفة، فمرة تغالطه حتى يتوقع من أخلاق الناس الحسن النافع له، ومرة تغالطه حتى يتوقع السيئ الذي يتباهى بالخلو منه، وقد لا يكون ذلك الحسن ولا ذلك السيئ من خصال أو عادات الذين ينعتهم، ولكنه يرجو النفع لنفسه في الحالين إما بتوقع الحسن منهم كي يستفيد، وإما بتوقع السيئ كي يعلو بمنزلة نفسه عنهم،(155/24)
فليس كل بحث في النفس مصيباً، فالناس في بحث النفوس كالعميان في القصة وقد تلمسوا الفيل من نواح وأطراف مختلفة، فقال أحدهم وقد لمس ساقه إن الفيل كالدعامة المستديرة؛ وقال آخر وقد لمس سنه إنه كالعصا الغليظة؛ وقال ثالث وقد لمس أذنه إنه كالمروحة؛ وأدى بهم الغيظ والغضب لما حسبوه حقاً إلى التقاتل كما يتقاتل الناس غضباً لما يحسبونه حقاً في الحياة. ولعل لذة المفاجأة المتجددة والتي تنفي الملل عن الإنسان تعوضه من ألم الحسرة، على أن الحياة والنفوس لا تأتى له بكل ما يرتضى ويشاء
عبد الرحمن شكري(155/25)
أعلام الإسلام
سَعيد بنُ المسَيّب
بقلم السيد ناجي الطنطاوي
اسمه ونسبه ومولده
هو أبو محمد، سعيد بن المسيّب بن حزْن أبى وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب القرشيّ المخزوميّ التابعيّ المدنيّ
وأبوه المسيّب وجده حزْن صحابيان أسلما يوم فتح مكة. والمسيّب بفتح الياء وكسرها، والفتح هو المشهور، ومذهب أهل المدينة الكسر. وقد روى عنه أنه كان يقول بكسرها ويقول: سيّب الله من يسيّب أبي
وأمه أم سعيد بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السُّلمي. وحدث سعيد بن المسيب أن جده حزناً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أسمك؟ قال: أنا حزن، قال: بل أنت سهل. قال: يا رسول الله؛ اسم سماني به أبواي فعرفت به في الناس. قال: فسكت عنه النبي عليه السلام. وكان سعيد بن المسيّب يقول: مازلنا نعرف الحزونة فينا أهل البيت
أما تاريخ ولادته فقد اختلف فيه المؤرخون، وتنحصر رواياتهم بين سنة 13 هجرية (بعد استخلاف عمر بن الخطاب بسنتين) وسنة 21 هجرية (قبل موت عمر بسنتين)، والمرجح أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، أي سنة 13 هجرية لأن أكثر الروايات تؤيدها ويؤيدها قوله: ولدت لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب.
واختلف المؤرخون أيضاً في إدراكه عمر، فقد روى ابن سعد عن سعيد أنه قال: سمعت من عمر كلمة ما أبقى أحد حي سمعها غيري: كان عمر حين رأى الكعبة قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام.
وعنه أيضاً أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر يقول: عسى أن يكون بعدى أقوام يكذبون بالرجم. يقولون لا نجده في كتاب الله، لولا أن أزيد في كتاب الله ما ليس فيه، لكتبت أنه حق، قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم أبو بكر ورَجمت. أما بكثْير بن الأشج فيروي أن سعيد بن المسيّب سئل هل أدركت عمر فقال؟ لا.(155/26)
ويقول الإمام مالك: لم يدرك عمر، ولكن لما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره. ويقول ابن معين: رأى سعيد عمر وكان صغيراً ابن ثماني سنين، وهل يحفظ ابن ثماني سنين شيئاً؟
شيوخه وتلاميذه
أخذ سعيد بن المسيّب علمه عن أبى هريرة - وكان زوج ابنته - وجل روايته المسندة عنه. وسمع من عمر وعثمان وعلى. وسمع من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم: عائشة وأم سلمة. وكان يقال: ابن المسيّب رواية عمر، قال الليث: لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته، وروي عن أبى ذر، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، ومعاوية، وسعد بن وقاص، وخولة بنت حكيم، وغيرهم.
وروى عنه جماعة من أعلام التابعين منهم عمر بن عبد العزيز ومحمد بن شهاب الزهري، وعمرو بن دينار، وقتادة، وابنه محمد، وأبو الزناد، وعطاء بن أبى رباح، ومحمد الباقر، ويحي بن سعيد الأنصاري، وغيرهم كثير.
علمه وأقوال العلماء فيه
قال سعيد: ما بقى أحد أعلم بكل قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر مني. (قال الراوي إبراهيم ابن سعد عن أبيه) وأحسبه قال وعثمان ومعاوية.
وقال يزيد بن مالك: كنت عند سعيد فحدثني بحديث فقلت له: من حدثك بهذا؟ فقال يا أخا أهل الشام خذ ولا تسأل فأنا لا نأخذ إلا عن الثقات.
وقال مالك: بلغني أن سعيد بن المسيّب قال: إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد
وقال قدامة بن موسى الجمحي: كان سعيد بن المسيّب يفتي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه أحياء
وقالوا: كان سعيد جامعاً، ثقة، كثير الحديث، ثبتاً، فقيهاً، مفتياً، مأموناً، ورعاً، عالياً، رفيعاً
وقال محمد بن يحيى بن حبّان: كان رأس من بالمدينة في دهره، المقدّم عليهم في الفتوى سعيد بن المسيّب، وكان يقال: هو فقيه الفقهاء(155/27)
وقال مكحول: سعيد بن المسيّب عالم العلماء. وقال أيضاً:
ما حدثتكم به فهو عن سعيد بن المسيّب والشّعبي
وعن ابن أبي الحويرث أنه شهد محمد بن جبير يستفتي سعيد ابن المسيّب
وقال علىّ بن الحسين: سعيد بن المسيّب أعلم الناس بما تقدّمه من الآثار وأثقفهم في زمانه
وقال ميمون بن مهران: أتيت المدينة فسألت عن أفقه أهلها فدفعت إلى سعيد بن المسيّب فسألته
وقال شهاب بن عنّاد: حججت، فأتينا المدينة فسألنا عن أعلم أهلها، فقالوا سعيد بن المسيّب
وكان عبد الله بن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه قال: سلوا سعيد بن المسيّب فانه قد جالس الصالحين
وقال يحيى بن سعيد: أدركت الناس يهابون الكتب، ولو كنا نكتب يومئذ لكتبنا من علم سعيد ورأيه شيئاً كثيراً
وقال قتادة: ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه، وقال أبو حاتم: هو أثبت التابعين في أبى هريرة
وقال الزهري: العلماء أربعة: ابن المسيّب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام
وقال القاسم بن محمد: هو سيدنا وأعلمنا، وقال ابن عمر: هو والله أحد التقنين، وقال ابن شهاب: قال لي عبد الله بن ثعلبة ابن أبى صعيران: كنت تريد هذا، يعنى الفقه، فعليك بهذا الشيخ سعيد بن المسيّب
وقال مكحول: طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أعلم منه. وقال سليمان بن موسى: كان أفقه التابعين
وقال يحيى بن معين: مرسلات بن المسيّب أحب إليّ من مرسلات الحسن
وقال أبو طالب: قلت لأحمد بن حنبل: سعيد بن المسيّب؟ فقال: ومن مثل سعيد؟ ثقة من أهل الخير. فقلت له: سعيد عن عمر حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر، فمن يقبل؟
وقال أحمد: مرسلات سعيد صحاح، لا نرى أصح من مرسلاته. وقال ابن المديني: لا أعلم(155/28)
في التابعين أوسع علماً من سعيد ابن المسيّب
قال: وإذا قال سعيد مضت السنة فحسبك به، قال هو عندي أجل التابعين
وقال الشافعي: إرسال بن المسيّب عندنا حسن
وقال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر، كان يرسل إلى ابن المسيّب، يسأله عن بعض شأن عمر وأمره
وقال قتادة: كان الحسن إذا أشكل عليه شئ كتب إلى سعيد بن المسيّب
وقال العجلي: كان رجلاً صالحاً فقيهاً
وقال أبو زرعة: مدني قرشي ثقة إمام
وقال ابن حبان في الثقات: كان من سادات التابعين فقهاً وديناً وورعاً وعبادة وفضلاً، وكان أفقه أهل الحجاز
وقال الجاحظ: كان أبو بكر رضى الله عنه أنسب هذه الأمة، ثم عمر، ثم جبير بن مطعم، ثم سعيد بن المسيّب، ثم محمد بن سعيد ابن المسيّب.
منزلة عند الخلفاء والولاة
قال مالك بن أنس: كان عمر بن عبد العزيز لا يقضى بقضاء حتى يسأل سعيد بن المسيب، فأرسل إليه أنساناً يسأله، فدعاه فجاء، فقال عمر: أخطأ الرسول، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك وقال أيضاً: كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما كان بالمدينة عالم إلا يأتيني بعلمه. وأوتي بما عند سعيد بن المسيّب.
تعبيره الرؤيا
قال محمد بن عمر: كان سعيد بن المسيّب من أعبر الناس للرؤيا، وكان أخذ ذلك عن أسماء بنت أبى بكر، وأخذت أسماء عن أبيها
وقال عمر بن حبيب بن قليع: كنت جالساً عند سعيد بن المسيّب يوماً، وقد ضاقت علىّ الأشياء ورهقني دين، فجلست إلى ابن المسيّب ما أدرى أين أذهب، فجاءه رجل فقال: يا أبا محمد إني رأيت رؤيا. قال مل هي؟ قال: رأيت كأني أخذت عبد الملك بن مروان، فأضجعته إلى الأرض، ثم بطحته فأوتدت في ظهره أربعة أوتاد. قال: ما أنت رأيتها. قال:(155/29)
بلى أنا رأيتها. قال: لا أخبرك أو تخبرني. قال: ابن الزبير رآها وهو بعثني إليك. قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك بن مروان، وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة. قال: فدخلت إلى عبد الملك بن مروان بالشام فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيّب فسرّه، وسألني عن سعيد وعن حاله فأخبرته، وأمر لي بقضاء ديني وأصبت منه خيراً
وقال رجل: رأيت كأنّ عبد الملك بن مروان يبول في قبلة مسجد النبي أربع مرار، فذكرت ذلك لسعيد بن المسيّب، فقال: إن صدقت رؤياك قام من صلبه أربعة خلفاء.
وقال شريك بن أبى نمر: قلت لابن المسيّب رأيت في النوم كأن أسناني سقطت في يدي ثم دفنتها. فقال ابن المسيّب: إن صدقت رؤياك، دفنت أسنانك من أهل بيتك.
وقال رجل لابن المسيّب: إنني أبول في يدي. فقال اتق الله، فان تحتك ذات محرم، فنظر فإذا امرأة بينها وبينه رضاع وجاءه آخر فقال: يا أبا محمد إني أرى كأني أبول في أصل زيتونه. قال: انظر من تحتك، تحتك ذات محرم، فنظر فإذا امرأة لا يحل له نكاحها.
وقال له رجل: إني رأيت حمامة وقعت على المنارة، منارة المسجد، فقال: اذبح اذبح. فقال: ذبحت. قال: مات ابن أمّ صلاء، فما برح حتى جاءه الخبر أنه مات.
وقال رجل من فهْم لابن المسيّب إنه يرى في النوم كأنه يخوض النار، فقال: إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر، وتموت قتلاً. فركب البحر فأشفى على الهلكة، وقتل يوم قُدَ يد بالسيف.
وقال الحصين بن عبيد الله بن نوفل: طلبت الولد فلم يولد لي، فقلت لابن المسيّب: إني أرى أنه طرح في حجري بيض. فقال ابن المسيّب: الدجاج اعجمى، فاطلب سبباً إلى العجم. قال: فتسرّيت فولد لي، وكان لا يولد لي.
وكان سعيد بن المسيّب يقول للرجل إذا رأى الرؤيا وقصها عليه: خيراً رأيت. وقال ابن المسيّب: التمر في النوم رزق على كل حال، والرطب في زمانه رزق.
وقال أيضاً: آخر الرؤيا أربعون سنة، يعنى في تأويلها
وقال أيضاً: الكبل في النوم ثبات في الدين.
وقال له رجل: يا أبا محمد، إني رأيت كأني جالس في الظلّ فقمت إلى الشمس. فقال ابن المسيّب: والله لئن صدقت رؤياك لتخرجنّ من الإسلام. فقال: يا أبا محمد، إني أرني(155/30)
أخرجت حتى أدخلت الشمس فخسلت، فقال: تكره على الكفر. قال: فخرج في زمان عبد الملك بن مروان فأسر فأكره على الكفر، ثم قدم المدينة، وكان يخبر بهذا
(يتبع)
ناجي الطنطاوي(155/31)
ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي
اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يدعوه الفرجنة
في كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر
لفيلسوف العرب أبى الوليد بن رشد
(تابع المنشور في العدد الماضي)
تلخيص وتحليل
للأستاذ خليل هنداوي
ومنه قول المتنبي:
عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران
لو الفلك الدوار أبغضتَ سيرَه ... لعوّقه شيء عن الدوران
وهذا كثير موجود في أشعار العرب، ولا نجد في الكتاب العزيز منه شيئاً، إذ كان يتنزل من هذا الجنس من القول، أعني الشعر، منزلة الكلام السوفسطائي من البرهان؛ ولكن قد يوجد للمطبوع من الشعراء منه شيء محمود كقول المتنبي:
وأنى اهتدى هذا الرسولُ بأرضه ... وما سكنت مذ مر فيها القساطل
ومن أي ماء كان يسقي جياده؟ ... ولم تصف من مزج الدماء المناهل
وقوله:
لبسن الوشى لا مُتَجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا
وضفَّرن الغدائر لا لحسن=ولكن خفن في الشعر الضلالا
وههنا موضع آخر مشهور من مواضع المحاكاة يستعمله العرب وهو إقامة الجمادات مقام الناطقين في مخاطبتهم ومراجعتهم إذا كانت فيها أحوال تدل على النطق، كقول الشاعر:
وأجهشت للتوباد لما رأيتهُ ... وكبر للرحمن حين رآني
فقلت له: أين الذين عهدتهم ... حواليك في أمن وخفض زمان
فقال: مضوا واستودعوني بلادهم ... ومن ذا الذي يبقى على الحدثان(155/32)
ومن هذا الباب مخاطبتهم الديار والأطلال ومجاوبتها لهم كقول ذي الرمة:
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه
وقول عنترة
أعياك رسم الدار لم يتكلم ... حتى تكلم كالأصم الأعجم
يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
وذكر أرسطو أن هوميروس كان يعتمد هذا النوع كثيراً
وإجادة القصص الشعري والبلوغ فيه إلى غاية التمام أن يكون متى بلغ الشاعر من وصف الشيء أو القضية الواقعة التي يصفها مبلغاً يرى السامعين له كأنه محسوس ومنظور إليه وهو كثير في شعر الفحول، لكن إنما يوجد هذا النحو من التخييل للعرب إما في أفعال غير عفيفة، وإما فيما القصد منه مطابقة التخييل فقط. مثال الأول قول أمرىء القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال
فقالت: سباك الله إنك فأضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي
فقلت: يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ومثال الثاني قول ذي الرمة يصف النار:
وسقط كعين الديك عاودت صحبتي ... أباها، وهيأنا لموقعها وكرا
فقلت لها ارفعها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قته قدرا
وظاهر لها من يابس الشخت واستعن ... عليها الصبا واجعل يديك لها سترا
والمتنبي أفضل من يوجد له هذا الصنف من التخييل، ولذلك يحكى عنه أنه كان لا يريد أن يصف الوقائع التي لم يشهدها مع سيف الدولة، على أن تعديد كل مواضع المحاكاة مما يطول، وإنما أشار أرسطو بذلك إلى كثرتها واختلاف الأمم فيها.
نقد المحاكاة
أراد بهذا الباب أن يبدي المعايب التي يجب على الأديب أن يجتنبها لأنها من عيوب الإنشاء. واستشهد على ذلك بهوميروس فقد كان يعمل صدراً يسيراً ثم يتخلص إلى ما يريد محاكاته من غير أن يأتي في ذلك بشيء لم يُعتد لكن ما قد اعتيد، فأن غير المُعتاد مُنكر. ولعله دل بذلك على مظهر من مظاهر البساطة التي يزداد بها الكلام روعة وتسلسلاً. فكلما(155/33)
كان الكلام بسيطاً ممتنعاً كان أذهب في البلاغة وأبعد في الروعة. ولعل ابن رشد أراد أن يجد مغمزاً في الشعراء الذين يحيدون عن غرضهم الموصوف إلى أغراض مختلفة ليست من الموضوع في شيء كالنسيب والغزل المتكلف البالي، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً. ثم يرى أن يكون التركيب على المشهور عندهم سهلاً عند النطق، وهو عند العرب الفصاحة. وأما أنواع المحاكاة غير المقبولة فعد أشهرها:
منها أن يحاكى بغير ممكن بل ممتنع، وهو الذهاب في أغراب الصورة حتى لا تطابق الواقع وغير الواقع، كقول ابن المعتز يصف القمر في تنقصه:
أنظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وإن هذا لممتع.
ومنها تحريف المحاكاة عن موضعها كما يعرض للمصور أن يزيد في الصورة عضواً ليس فيها، أو يصوره في غير مكانه؛ وقريب منه قول بعض المحدثين يصف الفرس:
وعلى أذنيه أذن ثالث من سنان السمهري الأزرق ومنها محاكاة الناطقين بأشياء غير ناطقة، وذلك أن الصدق في هذه المحاكاة يكون قليلاً والكذب كثيراً، إلا أن يشبه من الناطق صفة مشتركة للناطق وغير الناطق كتشبيه العرب النساء بالظباء وببقر الوحش
ومنها أن يشبه الشيء بشبيه ضده أو بضد نفسه، كقول العرب (سقيمة الجفون) في الحسنة الغاضة النظر، فان هذا ضد الصفة الحسنة، وإنما آنس بذلك العادة ومنها أن يأتي بالأسماء التي تدل على المتضادين. ومنها أن يترك الشاعر المحاكاة الشعرية، وينتقل إلى الإقناع والأقوال التصديقية، وبخاصة متى كان القول هجيناً قليل الإقناع كقول امرئ القيس يعتذر عن جبنه:
وما جبنت خيلي ولكن تذكرت ... مرابطها من بَرْبعيص ومسيرا
وقد يحسن هذا الصنف إذا كان حسن الإقناع أو صادقا كقول الآخر:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحدا ... أُقتل، ولا ينكي عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد
فهذا القول إنما حسن لصدقه، لأن التغيير الذي فيه يسير، ولذلك قال القائل: يا معشر(155/34)
العرب لقد حسنتم كل شيء حتى الفرار وأما أمثلة المحاكاة المبنية على التوبيخات فهي غير موجودة عندنا، إذ كان شعراؤنا لم تتميز لهم هذه الأشياء ولا شعروا بها. ولا أدرى ما يريد ابن رشد بهذه التوبيخات، فان كانت الاعتذاريات فللأدب العربي طائفة منها قد تكون قليلة، ولكنها رائعة لطيفة المأخذ. وكفي باعتذاريات النابغة دليلاً؛ ومن يجحد ما للمتنبي والبحتري من لطيف الاعتذار والتوبيخ، والعتاب؟ ثم ينتقل ابن رشد إلى بحث صناعة الأشعار القصصية، ويريد بها حوادث التاريخ فيقول: إن محاكاة هذا النوع من الوجود قليل في لسان العرب (وكأنه يعترف ضمنا بوجود أنواع منه) وهوميروس هو أبرز من عندهم. ومن جيد ما في هذا المعنى للعرب قول الأسود بن يعفر:
ماذا أؤمل بعد آل محرق؟ ... تركوا منازلهم، وبعد أياد
أرض الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
فأرى النعيم وكل ما يُلهى به ... يوماً يصير إلى بلىً ونفاد
وقد تدل هذه الأبيات الخالية من الروح القصصية على أن ابن رشد لم يتفهم جيداً ما أراد أرسطو بصناعة الأشعار القصصية. ذلك لأنه لم يتأت له أن يقف على هذه الصناعة ويعرف مناهجها. ولأن تكون هذه الأبيات إلى باب العبر أحق من إلحاقها بباب القصص. وما أكثر ما تتردد هذه النغمة في شعر العرب؟ وهى نغمة شاذة عن الألحان القصصية، لأن الشاعر فيها يستلهم عاطفته؛ والقصة لا يغني فيها استلهام العاطفة وحدها. وكأن ابن رشد أراد أن يستنفذ حكمه كمؤرخ فاستطرد وقال: وقد أثنى أرسطو على هوميروس. وكل ذلك خاص بهم وغير موجود مثالهُ عندنا. إما لأن ذلك الذي ذكرت غير مشترك للأكثر من الأمم، وإما لأنه عرض للعرب في هذه الأشياء أمر خارج عن الطبع وهو أبين!
(البقية في العدد القادم)
خليل هنداوي(155/35)
من الأدب الإنكليزي
2 - برسي شلي -
بقلم خليل جمعة الطوال
كان بروميتس هذا - كما تحدثنا عنه الأساطير الإغريقية - شخصاً سولت له نفسه الشريرة أن يسرق من السماء قليلاً من النار، ولما استجاب للتجربة وارتكب جريمة السرقة، غضب عليه إله أولمب زيوس وهو عظيم آلهة اليونان وابن الآلهة (كرونس) والآلهة فيا وشقيق نبتون. وكان من جراء غضبه عليه أن فصله عن زوجه آسيا وأمر بشد وثاقه وتقييده إلى صخرة عظيمة، حيث كانت العقبان تأتي في كل يوم وتذيقه سوء فعلته وشر صنيعه بمخالبها المحددة ومناقيرها القوية. ثم ما لبث (زيوس) أن رجع عن غضبه لأسباب عديدة، وأمر بحل وثاقه وبإرجاع آسيا إليه ثانية. وهكذا امتزجت روح المحبة في الإنسان بروح المحبة في الطبيعة، وتلخص كلاهما من الفناء الذي استحقاه بسبب جريمة بروميتس
تناول شلي هذه الأسطورة فوضعها في قالب شعري، وكان قد تناولها من قبله وليم ورودزورث، إلا أنه بينا يمتاز سبك وليم بما فيه من التحليل المنطقي وعمق الفكر الفلسفي. يمتاز شلي باتساع أفق الدائرة التي يسرح فيها خياله.
ولعل قصيدة بروميتس هذه هي خيرُ القصائد من نوعها التي تمثل لنا فكرة هدى البشرية بعد ضلالها. كانت شائعة عند اليونان وكثيراً ما ضمنها الشعراء أشعارهم، ناهيك بما فيها من الكيانات والاستعارات ومن التشابيه والمجازات التي رمى بها الشاعر من وراء ستر كثيف إلى أغراض بعيدة تجنباً لما كانت تلاقيه حرية الأفكار في العصر الفكتوري من الإرهاق والإذلال. وفي عام 1817 نظم قصيدة ثورة الإسلام استفز فيها الشعور من ذلك السبات الذي تسرب إليها عن طريق ما مُنيت به الأفكار الثورية من الإخفاق، تلك الأفكار التي كان يُعلق عليها تحقيق مثله الأسمى، والتي كان ينظر من ورائها إلى ذلك العصر الذهبي الذي كونه له خياله. تطالع هذه القصيدة فتشعر بتيار ألفاظها السحرية، وبنبرات مقاطعها النارية، تجرى في مفاصلك بشدة وعُنف؛ وما ذلك إلا لأنه قد نظمها وعواطفه تنماث في قلبه من شدة تأثر حسه وثوب خياله.(155/36)
وفي عام 1815 طرق شلي باب الأساطير لا اعتقاداً منه بصحتها بل ليرفه عن نفسه من جد الدرس، وليدفع عنها سأم الحياة. ونذكر له من أمثلة هذا الشعر قصيدتين غنائيتين هما غاية في الإبداع وحسن الأداء وهما: القبرة والغيوم
ومن قصائده الغنائية الأخرى: أبولو، إلى النيل، نابولي، هيلين، الريح الغربية، الثور، المتجولون في العالم، الوقت، ثم هيلاس التي تمثل لنا يقظة اليونان وثورتهم على الأتراك واستقلالهم.
وعندما توفي صديقه كيتس عام 1821 نظم في رثائه قصيدة عامرة الأبيات، ملأها بزفرات قلبه وفلذات كبده من شدة ما ناله من الحزن لفقده، ولا يحسب من يقرأها إلا أن شلي كان صنبوراً من الدمع لا ينضب معينه على صديقه.
الدرامة
وقد حاول أن يؤلف درامة يصف فيها أحوال المجتمع ونظمه وعادات البيئة وطبقاتها، فوضع لأول مرة رواية سنسي ثم رواية ريشارد الثاني، إلا أن محاولته هذه باءت بالفشل وارتدت بالأخفاق، ولا سيما إذا قيست بأولى محاولات شكسبير ونجاحها
ومع كثرة ما لشلي من الأشعار الغنائية، فلا نكاد نجد له قصيدة واحدة تجمع إلى رقة العاطفة وقوة الخيال انتظام الفكرة وابتكار المعنى. ونستطيع أن نقول خلاصة لهذا الموضوع: إن خير ما نظمه شلي ظهر في ست السنوات الأخيرة من حياته
أما القالب الذي كان يستوعب أفكاره وأخيلته ففي غاية السبك والإبداع، بل كثيراً ما يُقوم من خياله المستكره الفسل، ومن عواطفه النافرة المستعصية. ولقد شهد له بجمال الأسلوب وروعته وليم وردزورث بقوله: (كان شلي خيرنا أسلوباً وأكثرنا ملاءمة بين موسيقى اللفظ وجمال المعنى). وشعره إلى جانب ذلك لا يكتظ بالكلمات اللاتينية التي يكتظ بها شعر ملتون وغيره. هو أبعد الشعراء عن الأساليب الكلاسيكية، وعن استعمال حوشي الكلام وغريب الألفاظ ومهجور التراكيب وأكثرهم جنوحاً إلى سهولة الأداء وإلى الألفاظ الجميلة المخارج والموسيقية الجرس، يتناولها فيجعل منها مع المعنى لحناً موسيقياً بديعاً.
وقد جمع معظم أشعاره في ديوان عنوانه ظهرت الطبعة الأولى منه سنة 1819 فنفدت لسنتها لما كان لها من الرواج. ثم ظهرت طبعته الثانية عام 1821 حاوية لقصيدته الشهيرة(155/37)
أَلستور، وهى ترجمة دقيقة الوصف لحياته وعواطفه التي كانت تختلج في قلبه إذ يصف فيها مقدار ما يلقاه كل شاعر حر أمام نبوغه من العقبات الكأداء التي تفل من عزيمته وتحط من شاعريته. فهي صورة جلية نتعرف منها خبايا نفسه ومنبع شاعريته. وقد ضمن هذه الطبعة دفاعه عن الشعراء والشعر ضد مهاجمة (توماس بيكوك) أتى فيه على تعريف الشعر وتاريخه وفائدته في اجتثاث سوءات المجتمع وتشذيب النفوس وصقل الذوق، بعد أن فند آراء بيكوك بلهجة يملؤها الحماس ونبرات تصحبها الثورة.
وفي شلي يقول المؤرخ المشهور والكاتب المأثور ماكولي: (لم أر في حديث الشعراء من تقرأ أشعاره فتعلق بجملتها بشغاف قلبك إلا شلي. أما والله لقد جمع بين جزالة السلف ورقة الخلف، وتعمد الإجادة فأصاب شاكلتها وبلغ غايتها، في حين أنه قصر دونها شعراء كثيرون من أترابه.) ومهما يكن في هذه الشهادة من الغلو والإسراف، فليس لنا سبيل إلى دفعها ودحضها، ذلك لأن شلي قد توفي وهو في سن الثلاثين قبل أن تنضج مواهبه
شلي والحركة الابتداعية:
ترجع هذه الحركة في تاريخها إلى تلك البذرة التي بذرها السير فرنسيس باكون (1561 - 1626) حين أهاب في الأدباء منادياً بأن نظم الحضارة الأرستقراطية تفسد عاطفة الأدب الصالحة، وتبهم عبارة البلاغة الواضح، وأن ليس لهم إلا الخروج عليها واقتفاء أثر الطبيعة في جميع أغراض الأدب نظماً ونثراً، بل وفي أنظمة الحياة الاجتماعية والسياسية، إذ هي وحدها منبع جميع مشاعر الأديب الحسية ومُسْتفَز ملكاته الخيالية: وإذ كان بيكون غارس بذرة هذه الحركة، فقد كان جان جاك روسو هو الذي تعهد تربتها، وترعرعت في عصره غرستها، حتى آتت أكلها على يد وليم وردزورث ورفاقه، وهم كيتس، ووسلي، وبيرون، وشيلي. وجميعهم يعنى بجمال الأسلوب قبل الفكرة، ويعتمد على الخيال أكثر من الحقيقة، ويهتم في البحث عن أصول الأشياء واستجلاء غوامضها، لا في ذاتها، بل في الطبيعة على اعتبار أنها أجزاء منها، وهم يجعلون موضوع دراستهم الرجل العادي لا الأرستقراطي، ويمارسون الأدب على أنه من وسائل إصلاح المجتمع واجتثاث سوءاته لا على أنه فنّ قائم بذاته لا علاقة له بالهيئة الاجتماعية. وعلى هذا القياس فان درجة الشاعر تعظم في نظرهم بمقدار ما يكون لأشعاره من الإصلاح ومن بليغ الأثر في توجيه دفة(155/38)
الهيئة نحو هذا الإصلاح وتحويل الرأي العام إلى قبوله لا بمقدار ما تثيره من الشعور وتجلبه من عوامل اللذة الروحية المجردة. ويكره شلي من الشاعر خاصة أن يلجأ إلى بحوث عالجها الشعراء من قبله، إذ لا يرى إلى ذلك من ضرورة مطلقة لا سيما والطبيعة دائمة التحول والاستمرار
(البقية في العدد القادم)
خليل جمعة الطوال(155/39)
دراسات أدبية
في الأدب الإيطالي الحديث
تتمة
بقلم محمد أمين حسونة
وقد ذكر بابيني أن هذه الرواية هي قصة جيل كامل. والواقع أننا لا نلمس فيها سوى أثر الآلام التي يشكو منها جيل المثقفين من المرضى النورستانيين، الذين تتسلط عليهم الأفكار السوداء، فوقف تقدمهم الفكري دون الخلق والإبداع. وقد حاول بابيني في هذه الرواية أن يطبق أصول الفلسفة العملية (البراجماتزم)، وأن يخلط الجد بالهزل ليخرج لنا الحقائق الفاجعة، والسخريات المرة اللاذعة.
أما كتابه الذي أصدره في غضون الأعوام الأخيرة بعنوان (جوج) ففيه ينقد بقسوة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والدينية ناقماً على الثقافات التي تقود العالم إلى الدمار والخراب ما خلا الثقافة اللاتينية، فهو يزعم أن في استطاعتها وحدها أن تنقذ العالم من الويلات التي يتردى في أعماقها.
والواقع بابيني إنما يستقى فنه من تيار سابق لتفكير بيراندللو. والفرق بينهما أن بيراندللو استطاع أن يتخلص من آثار العقل الخصب، وأن يخلع على أبطاله ظلاً من روح الفكاهة والمرح. أما بابيني فلفرط استغراقه في الفلسفة تراه يطبع رواياته بهذا الطابع الجاف الذي يباعد بينه وبين تفكير الجيل.
وفي الوقت الذي بدأ الناس يميلون إلى الروح الهادئة في الفن القصصي وإلى الشخصيات التي تمثل التضحية أو الإخلاص أو المثل الأعلى، يلجأ بابيني إلى غمر قصصه بالنظريات الفلسفية، تاركاً للقراء حرية تفسيرها في ضوء الحوادث. ولذا نلمح أن معظم أبطاله يعيشون في جو مظلم، ويقاومون أعاصير الحياة عن طريق المذاهب العقلية.
ولعل في حياة بابيني الأدبية عظة بالغة، فهو يحارب الشعراء لأنهم في نظره بلهاء كالأطفال، وقد اتخذ لنفسه منذ نشأته صفة المجادل الذي يحاول مناقشة آراء خصومه عن طريق هدم مجدهم الأدبي تمهيداً لتشييد صرحه فوق أنقاضه، لكنه لم يهدم في النهاية سوى(155/40)
نفسه، حتى إن فلسفته أوشكت أن تموت في أذهان القراء.
المدرسة الإقليمية
وقبل التحدث عن أثر المدرسة الإقليمية في الأدب الإيطالي الحديث يحسن بنا أن نتحدث عن خصائصها ومميزاتها، فهي تلتمس أسلوبها في فن جيوفاني فرجا وتميل بعض الشيء إلى الرواية الهادئة التي تقوم على ذكريات خاصة خالية من روح التكلف، وإلى الحياة الفطرية الساذجة، والعودة إلى أحضان الطبيعة مع إحياء الطابع القومي الخاص في الأدب الإيطالي الحديث.
وإذا اعتبرنا أن المذاهب الأدبية في إيطاليا تقوم على الوجدانيات المبالغ فيها، والخيال الشعري، والوطنية المتأججة، أمكننا أن نوازن بين الفن الروائي القديم وبين الفن الذي ابتدعه فرجا؛ فهو يقوم على الحس والمشاهدة الملموسة مع تصوير العادات والأخلاق والحوادث التاريخية البارزة.
وربما كان فن المدرسة الإقليمية يمت بأقوى الصلات إلى اسكندر ديماس، وأسلوبها الكتابي إلى جورج صاند التي سبق أن قضت فجر شبابها في ربوع إيطاليا، وكان لجو البندقية الشعري أثر بليغ في روحها الغنائية.
لقد نشأ (فرجا) في مدينة كتانيا بجزيرة صقلية، وطوف بأنحاء إيطاليا بقصد التبشير بفنه الجديد، وتكوين جمعيات أدبية في كل من فلورنسا وميلانو. وقد ساعده على ذلك أن عصره كان يسوده الهدوء الطبيعي وفتور القلاقل السياسية. ومن السهل أن نلتمس في روايات فرجا ظل الحياة الصقلية فهي مسرح فنه ومهبط وحيه. وقد رسم لنا في بعض رواياته الفذة (كالإرادة السيئة) طغيان حكومات عهد الإقطاع على صقلية وأساليب جمعية المافيا الإجرامية التي ظلت تبسط سطوتها على الجزيرة زهاء ثمانية قرون. وكان رائده في كل ما يسرده من الوقائع الإخلاص والشعور المرهف. فرواياته من هذه الناحية ليست ذات قيمة أدبية فحسب، بل يمكن اعتبارها من الوجهة التاريخية وثائق مشرفة للحياة الاجتماعية والسياسية وللأخلاق والعادات في الريف الإيطالي.
وعلى الرغم من أن هذه الرواية لا مغزى لها، فإننا نلمح بين سطورها أثار العقلية الإيطالية الخصبة، ووصف الحروب الاستقلالية والمعارك البحرية في الادرياتيك، وأخلاق(155/41)
الطبقة الدنيا، ومواقف غرامية مفجعة، ونظريات أخلاقية ونفسية،
وتحليل دقيق لأفراد أسرة فقيرة تحترف صيد الأسماك، ظلت تكافح في الحياة وتقاوم الحظ السئ الذي لازمها زهاء نصف قرن لقد كان فرجا يردد العواطف الصادقة في فنه والحقائق القاسية، وليس مذهبه في الأدب سوى رد فعل لمدرسة كاردوتشي، وعلى رغم أن هذا الكاتب العظيم كان أميل إلى الصمت وإلى التحفظ في الكلام نراه متدفقاً كالسيل في رواياته حتى كتب نيفا وثلاثين رواية طويلة وعشرات الأقاصيص. وقد وصفه النقادة رويناس بقوله: (كان ينفر من الشهرة، ولكن الشهرة سعت إليه من حيث لا يدري. وكان شعاره دائماً: فني هو مجدي، وكتبي تراثي في نظر الأجيال)
ومن كتاب المدرسة الإقليمية الذين اشتهروا خارج بلادهم عن طريق ترجمة أعمالهم الأدبية إلى اللغات الحية الكاتب الروائي ماريو بوتشي. ففي مؤلفاته نجد الجو الهادئ الحزين، وبالأخص في حياة الريف. وهذه الصبغة التي تعطي رواياته طابعها الخاص تبين عبء الألم واليأس المنبعث منها. وقد حاول بوتشي في بعض رواياته (كالعبريون) أن ينجو من الجو المظلم الذي يخلع على أبطاله ظلاً من الكآبة، ولكن ما اتصف به من الركود والتأثرات النفسية والتعلق بأهداب الخيال وغرامه بتصوير القسس والفلاحين والجنود جعله بمعزل عن كتاب الجيل المعاصر. والواقع أنه ليس في فن هذا الكاتب أي أثر للعنف أو الاندفاع، إنما نحس من الأعماق أننا أمام شخصيات ابتدعها المؤلف في هدوء ودقة، كما كان أهل وطنه يصنعون الدمى الخشبية بمجهود شاق في القرون الوسطى.
وكان توتزي أقوى كتاب هذه المدرسة على الإطلاق، ولكن الموت عاجله وهو في قمة مجده. وإذا حكمنا على تراثه الفني أمكننا أن نقول إنه أخرج أعظم روايات الأدب الحديث. وفي فنه تتجلى روح البساطة والسير بأبطاله في طريقهم الطبيعي، ورسم مظاهر الانحطاط الإنساني بأسلوب مؤثر. ومن أشهر رواياته (الصلبان الثلاثة) وهى قصة ثلاثة أخوة يدرس بعضهم أخلاق بعض، وتتغلب الغريزة والأنانية والجشع على أعمالهم، وينتهون أخيرا إلى موت غير شريف، ولا يبقى من آثارهم سوى صلبان سود ثلاثة في المقبرة.
ولعل شيكونياني هو الكاتب الوحيد الذي يرتفع بفنه فوق مستوى المدرسة الإقليمية مما(155/42)
يذكرنا بالمدرسة التوسكانية التي ظهرت آثارها في القرن التاسع عشر. ويخيل إليك وأنت تطالع الصور الفذة التي يرسمها في قصصه أنك تسير في شوارع فلورنسا. وتعد روايته (فيليا) من أحسن الروايات التي ظهرت بعد الحرب العظمى. فالروح الواقعية التي رسم بها المؤلف شخصية بطلته على أنها فتاة من عامة الشعب محبة لنفسها، مجردة عن الضمير، تجر إلى الهاوية جميع الذين يلتفون حولها، من أروع حالات التصوير الإحساسي والتغلغل في أعماق النفس البشرية.
أما بور جيزي مؤلف رواية (روبي) فهو من المؤلفين الذين توفروا على دراسة النظريات النفسانية الجديدة. وفي هذه الرواية ما يعطينا صورة واضحة من فنه، فهي تحليل دقيق لنفسية رجل أناني مجرد من العواطف الإنسانية، معذب بالشكوك والأوهام، ليس في مكنته مقاومة أعاصير الحياة، فيقذف بنفسه في التيار الذي يبعده شيئاً فشيئاً عن حقيقة الحياة إلى أن تدفعه المصادفة السيئة إلى الانتحار. (فروبي) كما يرسمه المؤلف رجل لا شباب فيه ولا عاطفة؛ وهو لا يعرف الأخلاق، وغير قادر على أن يحب حتى نفسه. وعلى الرغم من تراخيه وكسله يحلم بأن يصل إلى شئ، وأن الصفتين الأساسيتين في خلقه هما ضعف الإرادة ورغبته الدائمة في تحليل عواطفه؛ وهذا التحليل هو الذي يشل روح حركته، ويفقده توازنه، ويقلب في نظره المقاييس الصحيحة للحياة؛ فمرة يحاول أن ينسى نفسه في غمار الحرب ولكن دون حماسة، ومرة يتزوج من امرأة دون أن يشعر بميل إليها؛ وهو معتقد أنه تزوج زواجاً صالحا ً إنما هي المصادفة التي قادته إلى هذه المرأة وجعلته يقترن بها ثم يقتلها. ولكن الواقع أنه تركها تموت كمداً من سوء معاملته؛ وقد صور له الوهم انه قتلها مع أن الشجاعة لا تؤاتيه لقتل حشرة حقيرة.
أدب المستقبل
أسس هذه المدرسة بونتمبلي مؤلف رواية (امرأة أحلامي) وكان الغرض منها مقاومة التحليل المادي في القصة، ومناهضة أساليب المدرسة الإقليمية؛ ويمكن أن نعتبر عصرها عصر النفور من الزخرف اللفظي، وتنمية النزعة الخيالية، والتبشير بالأدب الرمزي. ويعد أمبرتوفراكيا من أدباء هذه المدرسة، وقد كانت وفاته في غضون عام 1930 ضربة أليمة في نفوس الجيل الجديد، إذ كان دائم العطف على أدباء الشباب، باذلاً جهده في تنمية الملكة(155/43)
الأدبية وإظهار المواهب المدفونة فيهم، وبسبب ذلك أنشأ مجلة (سوق الأدب) لنشر رسالتهم والدعوة إلى الالتفاف حول (أدب المستقبل).
ومنذ سنوات قلائل تزعم مارينتي هذه الحركة، وأخذ ينشر أفكاره في مجلته (الشعر)، وتدور دعوته حول التطلع إلى المستقبل، وقطع الروابط الوشيجة التي تربطنا بالماضي؛ فالمتاحف في نظره كدور المرضى، والافتخار بمجد الجدود وآثارهم دليل العجز منا عن مجاراتهم والتفوق عليهم. ولما كان من الصعب أن نحكم على القيمة الفنية لأدب مارينتي، فأن هذا لا يمنعنا من الجهر بأن (أسلوبه التلغرافي) وجد البيئة الصالحة التي ينمو فيها خارج ايطاليا، حيث يقبل الفرنسيون على اعتناق كل فكرة أدبية طريفة.
محمد أمين حسونة(155/44)
الدكتور محمد إقبال
فلسفته
معالم الاتفاق والاختلاف بينه وبين فلاسفة الغرب
للسيد أبو النصر أحمد الحسنى الهندي
إن من نابذ الأديان العداء في العصر الحاضر هو الطبيب النمساوي الفيلسوف سيجموند فرويد صاحب المذهب الخاص في علم النفس التحليلي وقد توفي حديثاً، فهو قد رأى في حقيقة أعمال الإنسان، بل في جميع حركاته وسكناته رأياً غريباً، وهو أن أساسها العاطفة الجنسية، وأن الولد يولد وعنده تلك العاطفة، وأن جميع خواطر الإنسان وهواجسه من الطفولة إلى الشيخوخة ترجع إليها. وعلى هذا فالإنسان عند سيجموند فرويد مجسم الشهوانية وكتلة العاطفة الجنسية، ولا حقيقة عنده للأمور المعنوية الأخلاقية البحتة التي كثيراً ما طمحت إليها نفس الإنسان لتتسم فيها ذروة الشرف، ولا لنظم الروحانية المجردة عن تلك العاطفة مثل الأديان، ولا لأمثالها التي طالما تطلعت إليها روحه فلم يأل جهداً في حيازة كمالها. فهكذا جرد فرويد الإنسانية من أوصافها المميزة، وحطها من مراتبها الروحانية السنية، والدرجات الأخلاقية والمعنوية الرفيعة، إلى حضيض الحيوانية والهمجية.
قرر فرويد أن الدين عبارة عن وهم محض خُلق من المهيجات والدوافع المرفوضة في نفسية البشر، لتجد تلك المهيجات والدوافع في دائرة الدين حرية العمل غير المسدود؛ وأن العقائد والمذاهب الدينية ليست إلا نظريات الطبيعة الابتدائية التي سعى بها الإنسان لإنقاذ الحقيقة من قبحها العنصري، ولجعلها شيئاً أقرب إلى رغبة القلب من غير أن تسمح بذلك حقائق الحياة. ومبنى هذا القرار هو نظريته التي أتى بها في علم النفس التحليلي، وخلاصة تلك النظرية هي أننا حينما نقوّم بيئتنا ونرتب ما حولنا نتعرض للمهيجات والدوافع المختلفة الكثيرة فنرد عليها. وعملية هذا الرد إذا تكررت كثيراً تتحول إلى العادة فتصبح نظاماً للرد أكثر ثباتاً مما لم يتكرر؛ ثم هي تتقدم بالاستمرار في التعقيد، وذلك لأننا عند الرد نقبل بعض تلك المهيجات ونهضمها، ونرفض الأخرى التي لا توافق نظام ردنا(155/45)
الثابت، فتتراجع إلى منطقة من العقل مسماة (بالمنطقة اللاشعورية)، أو (منطقة ما تحت الشعور)، وتبقى فيها حتى تجد فرصة سانحة للانتقام من الذات المركزية والهجوم عليها، وحينئذ تقدر أن تغير خططنا للعمل، وتفسد أفكارنا، وتشيد أحلامنا وأوهامنا، أو تجرنا إلى تصورات سيرتنا الأولى التي كنا تركناها طوع سنة الارتقاء على مسافة شاسعة، فالدين عند فرويد مخلوق هذه المهيجات والدوافع المرفوضة، وثمرة اقتحامها الذات المركزية.
يخالف الدكتور إقبال هذا الرأي السقيم أشد المخالفة؛ وقد وضح ذلك في محاضرة ألقاها بجامعة هندية، إذ قال: (إن من تجرد الشيطانية عن سلطة الألوهية أن قام فرويد وأنصاره بخدمة للدين تفوق التقدير؛ إنني لا أستطيع أن أمتنع عن القول بأن النظرية الأساسية في علم النفس الجديد هذا لا تظهر لي مؤيدة بدليل قطعي حاسم. فلو كانت مهيجاتنا ودوافعنا المتشردة تهاجمنا في الحلم أو في الأوقات الأخرى التي لسنا فيها في حالتنا الأصلية، فلا يتأتى من ذلك الهجوم أنها تبقى مسجونة في مكان يشبه مكان سقط المتاع وراء ذاتنا الطبيعية. إن هجوم هذه المهيجات والدوافع المكبوتة على منطقة ذاتنا الطبيعية يفضي أكثر إلى تبيين أن لنظام ردنا العادي تمزقا وقيتاً من أن يثبت وجودها الدائمي في زاوية مظلمة من العقل (أما القول بأن العقائد والمذاهب الدينية ليست إلا نظريات الطبيعة الابتدائية التي سعى بها الإنسان لإنقاذ الحقيقة من قبحها العنصري ولجعلها شيئاً أقرب إلى القلب من غير أن تسمح بذلك حقائق الحياة، فلا أنكر أن هناك أدياناً وأمثالا من الفن تحث الإنسان على الهروب من حقائق الحياة وتساعده عليه، ولكن الذي أريد أن أقول هو إنه لا يصدق على جميع الأديان. فلا نزاع في أن للمذاهب والعقائد مضامين تتعلق بما وراء الطبيعة، ولكنه أيضاً بين أنها ليست تفسير مدلولات الاختبار الذي هو موضوع بحث العلوم الطبيعية. إن الدين غير علم الطبيعة، وعلم الكيمياء اللذين يشرحان الطبيعة بقانون السبب والمسبب، إنما الدين يقصد التعبير عن منطقة الاختبار الإنساني الذي يختلف عن غيره تمام الاختلاف - الاختبار الديني - الذي لا يمكن أن تحول مدلولاته إلى مدلولات أي علم آخر. وفي الحق إنه يجب علينا أن نقول في إنصاف الدين إنه أصر على ضرورة الاختبار المعين في الحياة الدينية قبل أن يعرف ذلك العلم بكثير. فالخصام بين الدين والعلم ليس بقائم على أن لأحدهما وجوداً والثاني لا وجود له، بل على الاختبار المعين. فكلاهما يقصدان الاختبار(155/46)
المعين كنقطة الافتراق بينهما، وعلى هذا فالخصام المفروض بينهما ناشئ عن سوء الفهم وهو أن كلا منهما يعبر عن مدلولات الاختبار الواحد. إننا ننسى أن الدين يتوخى الوصول إلى المضمون الحقيقي لنوع خاص من الاختبار الإنساني).
(ولا يمكن أن نفسر مضمون الشعور الديني بنسبته إلى عملية العاطفة الجنسية. فأن الشعورين - الجنسي والديني - في الغالب متخاصمان أو على الأقل في أوصافهما المميزة، وفي غرضيهما وفي نوع السيرة التي ينتجها كل منهما يختلفان كل الاختلاف. والحق أننا في حالة العاطفة الدينية نعلم الحقيقة الواقعية بمفهوم أنها خارجة عن دائرة شخصيتنا الضيقة، وللشدة التي تهز بها تلك العاطفة الدينية أعماق وجودنا تلوح للعالم بعلم النفس أنها ثمرة (منطقة ما تحت الشعور). إن في كل علم يوجد عنصر العاطفة، ويزداد موضوع العلم وينقص في قيمة موضوعيته على حسب الزيادة والنقص في شدة تلك العاطفة. فان الشيء الذي يقدر أن يهز جميع شخصيتنا هزاً شديداً أكثر حقيقة لنا.
صنف في ألمانيا الدكتور آسوالد اشبنجلر أحد كبار الفلاسفة المعاصرين كتاباً اسمه (انحطاط الغرب) ونشره بعد الحرب العظمى مباشرة، فلقي مع اشتماله على أدق الأفكار الفلسفية إقبالا عظيما حيث بيع من الطبعة الأولى مائة ألف نسخة. في هذا الكتاب سعى اشبنجلر لدحض الفكرة السائدة من القرن الماضي إلى الآن وهي أن الحضارة الغربية الحاضرة ثمرة التقدم المسلسل، وأن مصيرها في المستقبل أيضاً التقدم المستمر كالخط اللامتناهي، وأتى بنظرية وهى أن المدنية الإنسانية ليست هي التقدم المسلسل ولا المستمر كالخط اللامتناهي بل هي عبارة عن سلسلة حلقات المدنيات المختلفة كل حلقة فيها مستقلة في روحها عن الأخرى تمثل دور الثقافة والحضارة ثم تموت. ولا اتصال بين تلك الحلقات بتاتاً. وعليه فلكل مدنية عند اشبنجلر طريق خاص للنظر إلى الأشياء والعالم وعر الملتمس لأبناء مدنية أخرى.
لإثبات هذه النظرية استقصى اشبنجلر في كتابه (انحطاط الغرب) مدنيات العالم بحذافيرها فخصص بابين كبيرين للمدنية العربية يرى إقبال أنهما يكونان جزءاً ذا أهمية عظمى لتاريخ آسيا الثقافي. غير أن ما جاء فيهما عن الإسلام هو، في رأي اقبال، مبني على سوء الإدراك لطبع الإسلام كالحركة الدينية، وللتحول الثقافي العظيم الذي أتى به الإسلام في(155/47)
العالم. قال في محاضرة ألقاها في جامعة هندية: (إن اشبنجلر في اجتهاده لإثبات نظريته يسوق جيشاً عرمرماً من الحوادث والتراجم كالشواهد ليبين أن روح المدنية الأوربية مضادة لروح المدنية اليونانية واللاتينية، وأن تضاد روح المدنية الأوربية هذا ناشئ عن طبع الذكاء الأوربي الخاص وليس عن أي الهام قد تكون استلهمته من الثقافة الإسلامية التي هي عنده (ماجية) في النوع والروح تماماً. إنني قد سعيت في محاضرتي السابقة لأثبت لكم أن تضاد روح العالم الحاضر هذا لروح المدنية اليونانية واللاتينية هو في الحقيقة ناجم عن ثورة الإسلام ضد الفكر اليوناني؛ وظاهر أن هذا الرأي لا يمكن أن يقبله اشبنجلر، فإنه لو قيل إن تضاد روح الثقافة الحاضرة للمدنية اليونانية واللاتينية ناتج عن استلهامها ذلك من الثقافة التي سبقتها مباشرة، لانهارت نظريته من أساسها، لأنه قد قرر فيها أن كل مدنية منفردة مستقلة لا اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها. لذلك أخشى أن يكون جهد اشبنجلر لتأسيس نظريته هذه قد أفسد نظره في الإسلام كالحركة الثقافية إفسادا تاماً).
(يريد اشبنجار (بالثقافة الماجية) الثقافة العمة المشتركة بين ما يسميه اشبنجلر (مجموعة الأديان الماجية) وهي عنده الديانة اليهودية، والكلدانية القديمة، والمسيحية القديمة، والزرادشتية والإسلام. فلا أنكر أن الغشاء الماجي نبت على الإسلام ولكن مهمتي في هذه المحاضرة كما كانت في محاضراتي السابقة هي حماية صورة صحيحة لروح الإسلام الخالصة المجردة عن غشائها الماجي الذي في رأيي أضل اشبنجلر. إن جهل اشبنجلر للفكر الإسلامي في مسألة الزمان، وكذلك جهله للطريق الذي به ظهرت الأنانية في الاختبار الديني الإسلامي كالمركز الحر للتجربة، مدهش. فبدلا من أن يستفيد ويستنير من تاريخ الفكر الإسلامي وتجاربه هو يفضل أن يؤسس حكمه على عقائد العامة في بداية الزمان ونهايته. فكروا هنيهة! في رجل ذي علم غزير كالجبل الشامخ وهو يستمد لإثبات الجبر المزعوم في الإسلام من المقولات والأمثال العامة الشرقية مثل (قوس الوقت) أو (لكل شيء وقت). إنني على كل حال قد بينت لكم في محاضراتي السابقة أصل فكرة الزمن في الإسلام وتقدمها كما شرحت لكم الأنانية الإنسانية كالقوة المطلقة، وأعتقد أنه وافي بالغرض؛ وأما انتقاد آراء اشبنجلر في الإسلام وفي الثقافة التي نجمت عنه انتقاداً(155/48)
وافياً فظاهر أنه يحتاج إلى مجلد ضخم. غير أني زيادة على ما قلت أحب أن أقدم إليكم ملاحظة أخرى عامة)
يقول اشبنجلر (إن لب تعليم الأنبياء ماجي. فهناك إله واحد - سواء أيقال له يهوذا، أم اهورامزدا، أم مردوك بعل، وهو الأصل للخير. وأما الآلهة الأخرى فجميعها إما عَجَزة أو شريرة، وضُم إلى هذه العقيدة الأمل في ظهور المسيح الذي كان أكثر وضوحاً في النبي ايشائيا ولكن ذلك الأمل ظهر في القرون بعده في كل مكان تحت ضغط الضرورة الباطنية بالشدة. وهذا الفكر فكر أساسي في الدين الماجي لأنه يشمل من دون النزاع تصور حرب العالم التاريخية بين الخير والشر مع سيادة قوة الشر في الأوقات المتوسطة وفوز الخير في الآخر في يوم القيامة.) لو أريد تطبيق هذه الصورة لتعليم الأنبياء على الإسلام فهو يحرفه تحريفاً تاماً، فان الفرق الهام بينهما هو أن الرجل الماجي يقبل وجود الآلة الباطلة وان لم يعبدها، بينما الإسلام ينكر نفس وجودها إنكاراً تاماً. واشبنجلر يعجز في هذا الخصوص عن أن يقدر القيمة الثقافية لفكرة ختم النبوة في الإسلام حق قدرها. نعم مما لا شك فيه أن صفة واحدة مميزة في الثقافة الماجية هي موقف الأمل الأبدي، هي الانتظار المستمر لمجيء أولاد زرادشت غير المولودين، أو المسيح، أو بارقليط الإنجيل الرابع، ولكني قد بينت لكم في محاضراتي السابقة الطريق الذي يجب لطالب الإسلام أن يسلكه في البحث عن المعنى الثقافي لفكرة ختم النبوة في الإسلام. وزيادة عليه أقول إنه يمكن أن تعتبر هذه الفكرة علاجا نفسياً للموقف الماجي للأمل المستمر الذي يفضي إلى تقديم صورة كاذبة للتاريخ. لذلك لما رأى ابن خلدون أنه قد ظهرت في الإسلام تحت أثر الفكر الماجي فكرة - ظهور المهدى - التي تشبهها على الأقل في نتائجها النفسية، وأنها تخالف نظره في التاريخ محقها بالانتقاد محقاً تاماً)
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي(155/49)
موسم الإسكندرية
الحول قد حال
للأستاذ فخري أبو السعود
حُيّيت يا بحرُ إن الحول قد حالا ... فاستقْبل اليوم أَسراباً وأَرْسالا
تسعى إليك من البلدانِ ظامئةً ... إِلى الجمال على شطَّيك قد جالا
وللضياء على عطفيك مؤتلقاً ... وللنسيم على الآذِيِّ مختالاً
ومُلْك شمس على الآفاق مُنبسطٍ ... تعلِيه يوماً فيوماً كلما دالا
ومُزْبِدٍ فيك أشهى للنواظر من ... حباَبِ كأْسٍ علا في الكأْسِ جِريْالا
ودافِقٍ ترتوي الأرواح حائمةً ... به وينقع للأجسام صلصالا
وناعس الرملِ قد مرَّت به حِقَبٌ ... عدادَه وسيطوي بعدُ أجيالا
وهائج اللج يغزو الشطَّ مجتهدا ... لا يأْتلى عنه إدباراً وإقبالا
دَوْماً يحاول أمراً ليس يبلغُهُ ... وما يزال لما يبغيه محتالا
إذا تكسَّر من صخْر إلى حجر ... شهدت في كلِّ صوبٍ منه شلالا
يشنُّ حرباً على الخلجان عاتية ... دوماً ويعدو على الشطآن صوَّالا
يشن حرباً ويهدي من نسائمه ... خير التحايا كريم الفعلِ مفضالا
إذا النسيم تعالى من جوانبه ... معطَّر الثوب أرداناً وأذيالا
حسبت روضاً وراَء اللُّج ذا أرَج ... حيَّا أزاهرَهُ الوسميُّ هطَّالا
هذا النسيم بقلبي مُنبتٌ زَهَراً ... وباعثٌ فيه عرْفاً كلما مالا
هذى المحاسنُ كم يبعثن في خلَدِي ... من ذكرياتٍ وكم يحيين آمالا
يُفْسحن عمر الفتى مهما أطاف بها ... حتى تكون بها الساعاتُ آجالا
جَمعتَ عندك آي الحسن قاطبةً ... وطبت يا بحر أسحاراً وآصالا
إن كنت لم تجلُ حُوراً فيك عارية ... كما روَى قِدْما وما خالا
فكم على جانبيك اليوم منِ فتَنٍ ... لم تحو أسطورةٌ منهن أمثالا
غِيدٌ بِلُجِّكَ أَو بالرَّملِ سارحةٌ ... رَفَلْنَ في الحسن أعطافاً وأوصالا
هذى كنوزٌ على شطَّيك مزريةٌ ... بما تُزَوِّدُ غوَّاصاً وَلأَّلا(155/50)
كنوزٌ حسنٍ إذا أصفى مَوَدَّته ... فَدَع كنوزاً لقارُونٍ وأموالا
الطرفُ منهنُّ مُثر مسرفٌ بذَخا ... والقلبُ يندُب إعساراً وإقلالا
وكلما خاضَ طرْفي أنْعماً وحُلًى ... تجشمَ القلب أوجاعاً وأهوالا
سبحانَ من أرْسلَ الأحداق في طلَقٍ ... وحمَّل القلبَ في الأَضلاع أغلالا
يا من عرضتُم فغادرتُم جوانحنا ... حرّى وقد نال منها الشوقُ ما نالا
بالرغمِ منِّى أن تمضوا على عجَل ... ولا يكونَ وَدادٌ بيننا طالا
تمَّتْ لديكَ صِفاتُ الحُسْنِ واختلطت ... لديك يا بحرُ أشتاتاً وأشكالا
فلا كشطِّكَ للألباب مُنْتجَعٌ ... ولا كأُفْقِكَ من وَحيٍ لمن قالا(155/51)
من أحسن ما قيل في (موسم الشعر)
في قريتي
للأستاذ أحمد الكاشف
جمعت في العيد حولي سائر الآل ... وملتقى الآل حولي كل آمالي
أباً دعوني ومالي فيهمُ ولد ... ولست للقوم غير العم والخال
كأنني وهم في الدار مطلع ... منهم على أمم شتى وأجيال
أعدهم لغد والمقبلين غداً ... في هذه الأرض أجنادي وأبطالي
ما أحسن الشمل أرعاه وأشهده ... لأمهات وآباء وأطفال
فلا أرى فرقة في الدهر قاطعة ... لمطمئن وخفاق وجوال
ولا يصاب هديل في أليفته ... ولا الغضنفر في غيل وأشبال
أقمت في الريف لا أشقى بطاغية ... من الرجال ولا لاهٍ وختال
وعشت بالرطب من بقل وفاكهة ... فيما ملكتُ وماءٍ فيه سلسال
أحرم اللحم لي زاداً وأحسبه ... طعام مفترس في القفر مغتال
وقد أقاتل للحىّ المسالم من ... طير ومن حيوان كلَّ قتال
لو كان للنبت إحساس رأفت به ... وبت للنبت أيضاً غير أكال
كأنما قريتي ما دمت ساكنها ... ولايةٌ وكأني العمدة الوالي
أطلت فيها اعتزال العالمين ولي ... بكل ناحية همي وأشغالي
لقيت في عشرة الجهال عاطفة ... لم ألقها في رجال غير جهال
ولم أجد من وضيع الذكر خامله ... ما ساءني من رفيع الذكر مختال
حملت أثقال قومي وهي فادحة ... عنهم وما شعروا يوماً بأثقالي
وهان شأنيَ حتى ليس يذكرني ... من استعان بأقوالي وأَعمَالي
وما حرصت على عينيي وعافيتي ... حرصي على الود في حل وترحال
وما أبالي ونفسي في سلامتها ... طولَ اعتلالي بأعصابي وأوصالي
ومحنة لا عزاء أن أرى بلداً ... سوى بلاديَ أولى بي وأوفى لي
لو كان ما أغفلوا منى وما تركوا ... يعنيهمُ لم يطل تركي وإغفالي(155/52)
ولو بُليتُ بجبارين ما بلغوا ... مدى الأحبة من قهري وإذلالي
أريد حرية الوادي السليب وبي ... منه جراحي وآلامي وأغلالي
والدهر يجعلني حيناً ويمهلني ... حيناً وسيانَ إِعجالى وإِمهالي
ولو بلغت من الآجال غايتها ... لما انتفعت بأعمار وآجال
شعري استوى فيه عاصيه وطيعه ... كما استوى فيه إكثاري وإقلالي
وما أفاد غناءٌ فوق رابية ... ولا أفاد بكاءٌ فوق أطلال
وقد تبينت ما في الناس زهدني ... وكان في الزهد إعزازي وإِجلالي
ولست يوماً لموجود بمحترس ... ولا على رد مفقود بمحتال
ولو أتى بالنعيم الدهر ملء يدي ... لم يأت إلا لأعلالي وإِملالي
ولست أسأل عن حقي وقيمته ... ولو تولاه ميزاني ومكيالي
إن لم يكن ليَ ديوان وحاشية ... يوماً فحسبي محاريثي وأنوالي
ألست ممن دعا الأحزاب فأتلفت ... وردت الأمر من حال إلى حال
كفى من القوم بالزلفى رجوعهمُ ... إلى الذي فيه كانوا أمس عذالي
أرى المودة بالقنطار بينهمُ ... ولم أفز بينهم منها بمثقال
ولم أزل بينهم للخصم متقيا ... دخائلا هي في ذهني وفي بالي
أخشى على رسلهم نياته وهم ... منه أمام جلاميد وأدغال
وما تزال كما كانت سياسته ... يدور فيها بألوان وأشكال
وموضع النِّد أرجو عنده لهم ... لا موضع الصيد من أنياب رئبال
حق المصير تولوه بشملهمُ ... وهْو الكفيل بتغيير وإبدال
إن لم يجئ يومهم بالخير أجمعه ... ففي غد كل إتمام وإِكمال
والجو ينذر من نار بعاصفة ... حرباً وفي الأرض إنذار بزلزال
وقد يكون لهم من ضيقهم فرج ... كما تدافع أهوال بأهوال
يا فتية الشعر هذا اليوم موسمكم ... ومهرجان البيان القيم الغالي
أمانة الشعر أديتم ولم تجدوا ... ما تستحقون من عطف وإقبال
وحسبكم أن فيه أخوة لكم ... من أغنياء وأرباب وأقيال(155/53)
تجاهدون بأذهان وأفئدة ... وترجعون بلا جاه ولا مال
وتملكون من الدنيا سرائرها ... ولا تحلون منها الموضع العالي
وما يتاح لكم في الأرض متسع ... كما يتاح لعرف ودجال
قالوا أنقذ الشعر بعد (الشاعرين) ولم ... يأنس بغيرهما بميدانه الخالي
ولست وحدي لم في مصر بعدهما ... فمصر ملأى بأشباهي وأمثالي
أيشغلَنَّهُمُ ركب مضى وثوى ... عما أمامهمُ والمقبل التالي
إن لم ير الحي بعد الميت منزلة ... منهم فلا خير في المحزون والسالي
وإن كل بناء لا يصير إلى ... أبناء بانيه لهو الدارس البالي
خير من البلد الخصب المباح حمى ... صعب الجوانب من جدب وإمحال
والملك بالجند والحصن المحيط به ... لا بالحقول ونهر فيه سيال
أحمد الكاشف(155/54)
أوبة الطيار
للأستاذ أحمد رامى
في سكون الماء والبحر ساجٍ ... والسحاب الصبير في الجو سار
كنت أرنو إلى الغروب وأروي ... ناظري من صُبابة الأنوار
فإِذا بي ألقى دخاناً ولا غي ... م وريحاً وليس من أعصار
فتبينت استشف جبين ال ... أفق من بين هذه الأستار
فإِذا هي جماعة من بنات ال ... ريح تطوى الفضاء عبر البحار
يتلاحقن ماضيات ويهوي ... ن هُوِيِّ النسور للأوكار
يا حداة الرياح ماذا لقيتم ... من ركوب الأهوال والأخطار
كم جزعتم من الرياح السوافي ... وسهرتم مع النجوم المراري
وصبرتم على المخاوف ترجو ... ن رضاء المهيمن الجبار
رفع الناس عنده درجات ... في مقام الجلال والإكبار
وقضى أَمره فأرسل سربا ... منكمُ في مسابح الأطيار
أَيها الطائر المحلق في الج ... وسلام عليك فوق المطار
سهرت أَعين ورفت قلوب ... تسأل الله رحمة الأقدار
تتمنى لك السلامة في مس ... راك ليلا وغادياً بالنهار
تسأل الريح هل أَلمت خفافا ... بجناحيك أَو أَطافت ضوار
تسأل البرق هل أَضاء لك الأف ... ق وأَنجاك من مهاوي العثار
تسأل الفجر أَين طالعك اليو ... م وأَين السبيل في الأبكار
تسأل الليل هل أَصاخ لنجوا ... ك حنيناً إلى ربوع الديار
هذه مصر فانزل الدار أَهلا ... ناعماً في القلوب والأبصار
وأَولاء الشباب حولك في مص ... ر يحيُّون أَوبة الطيار
طار سرب منهم يخف إلى الغا ... دي ويهدي إليه إِكليل غار
وسرى في ركابه يتهادى ... في جلال العلا وعز الفخار
وجرى النيل بين شطين يختا ... ل خلال النخيل والأشجار(155/55)
وأَبو الهول في الفلا كاد يقعى ... ثم يرنو إِليه بالأنظار
مشهد يبعث السمو إِلى النف ... س ويدعو إِلى الأماني الكبار
فانهضوا أُمة تتوق إِلى المج ... د وتبغي منازل الأحرار
أحمد رامي(155/56)
القصَص
قصة المفاتيح
للقصصي الروسي مكسيم جوركى
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وكان زيومكا أثناء ذلك، وهو الملحد الحقيقي، يتثاءب عالياً، فنظر إليه صديقه نظرة احتقار ثم اطرق برأسه؛ وحدقت العجوز بنظرها في زيومكا دون أن تمسك عن القراءة، فخجل من ذلك ومسح أنفه وأدار عينيه ليرى نتيجة تثاؤبه فلم تكن إلا تأوهاً خاشعاً.
ومضت دقائق هادئة إذ كان لصوت القارئة المرتل أثر في الطمأنينة:
(إن غضب الرب ينزل من السماء على كل غير رباني. . و. .) وصرخت القارئة فجأة في وجه زيومكا: (أتريد. . .؟)
فأجاب في استكانة: (أنا. . . أنا. . . لاشيء! تابعي القراءة؛ إنني أستمع)
فسألته العجوز غضبى: (لماذا تلمس القفل بيديك القذرتين؟)
- (إنه ليهمني. . . إن صنعه جميل جداً. . . إنني أفهمه، كنت قبلاً صانع مفاتيح، وأردت أن أجسه. . .)
وقالت العجوز: (انتبهوا، ماذا قرأت لكم؟)
وقال زيومكا: (إنني أستطيع أن أعيده. . . إنني أفهم)
وقالت العجوز: والآن؟
- (لقد كنت ترتلين تعاليم الدين، وتذكرين عدم الإيمان بالرب. المسألة في غاية البساطة، فكل شيء من ذلك حقيقي. لقد كان ذلك يحز في قلبي.)
ونظرت العجوز إلينا وهزت رأسها وقالت:
(إنكم مفقودون. . . كالحجارة. . . ارجعوا ثانية إلى عملكم)
وقال ميشكا وعلى فمه ابتسامة المعترف بذنبه: (يظهر إنها غضبى)
وحك زيومكا رأسه وتثاءب والتفت إلى العجوز دون أن يراها وسار في طريقه وأطرق مفكراً: (إن قفل الكتاب من الفضة) وسرت في وجهه قشعريرة(155/57)
وقضينا الليل في الحديقة إلى جانب أنقاض الحمام الذي هدمناه عن آخره في ذلك اليوم. وفي ظهر اليوم التالي أتممنا تنظيف النافورة، وقد ازدادت قذارتنا وتبللنا بالماء، وانتظرنا أمام باب المنزل في انتظار أجرنا، وكنا نتحدث عن غذاء وعشاء دسمين نتناولهما قريباً؛ ولم يكن لواحد منا أي رغبة في الحديث عن شيء غير ذلك.
وفرغ صبر زيومكا وقال بصوت أجش: والآن أين استقرت يا ترى هذه الغول الشمطاء؟ لقد هلكت!
وقال ميشكا وقد هز رأسه معاتباً صديقه:
(لقد بدأ يسب من جديد. ولماذا يسب يا ترى؟ هذه العجوز امرأة طيبة تخاف الله، وهو يسبها - هذا هو خلق الرجال!)
وابتسم زيومكا وقال له إنه شديد الحساسية نحو ذلك الطائر الشارد، تلك العجوز. . . هذه. . .
وقضى ظهور العجوز على هذا الحديث الطريف. وتقدمت إلينا وأخرجت النقود وقالت في احتقار: (هاهي ذي نقودكم فخذوها وارحلوا من هنا. كنت أريد أن أعطيكم أخشاب الحمام فتقطعوها قطعا صغيرة، ولكنكم لستم أهلا لذلك)
وأخذنا نقودنا صامتين وذهبنا ولم نحظ بشرف تقطيع أخشاب الحمام إلى قطع صغيرة للوقود
وقال زيومكا وقد خرجنا من باب الحديقة: أيها البشع العتيق أنظر إلى هذه! ألا أستحقها يا قبيح الوجه؟ الآن يمكنك أن تسبح باسم ذلك الكتاب.
وأدخل يمينه في جيبه وأخرجها بقطعتين من المعدن اللامع وأرانا إياهما كمن كتب له النصر
وجمد ميشكا في موقفه، واشرأب عنقه ليرى ما في يدي زيومكا. وسأله حائراً: (هل خلعت القفل؟)
- (هذا ما فعلته! إنه من الفضة الجيدة. ويمكن لأي إنسان أن يحتاج إليها. وهى تساوى على الأقل روبلا)
- (هيه، وما دمت قد فعلت ذلك فارمها بعيداً عني! يا للخجل!)(155/58)
- (سأفعل ذلك)
وتابعنا السير في صمت. وقال ميشكا مفكراً في الأمر. تمت بمهارة، انتزعها ببساطة. ثم قال: (نعم لقد كان كتابا جميلا وستحقد العجوز علينا)
وقال زيومكا هازئاً: (إنها لن تسترجعنا مرة أخرى لتقدم لنا ثناءها)
- (وبكم تبيعها؟)
- (بتسعة أعشار الروبل - هذا أقل ثمن، لا أقل من ذلك فلسا. إنني أخسر فيها. أنظر لقد انقصف لي ظفر)
وقال ميشكا في خجل: (بعني إياها)
- (أإياك أبيعها؟ أتريد أن تجعل منها أزراراً لقميصك؟ أنظر! إنها تكفي لعمل زوج جميل من الأزرار - وهى تليق بك على ثيابك الخلقة)
ثم أخذ ميشكا يستعطفه: (كلا إنني جاد غير هازل. بعني إياها
- (اشترها، كم تدفع؟)
- (خذ ما تشاء، ما هو القدر الذي أحصل عليه من شركتي في العمل؟)
- (روبل واحد وعشرون كوبكا)
- (وكم تريد أن تأخذ فيها؟)
- (يا مغفل! ماذا تريد أن تفعل بها؟)
- (بعن إياها. أرجو ذلك)
وانتهت عملية البيع في النهاية، وأصبح القفل ملكا لميشكا بعد أن دفع تسعين كوبكا
ووقف ميشكا في مكانه وقلب القطعتين في يده وحدق فيهما. ونصحه زيومكا هازئاً بأن قال: (علقهما في انفك؟)
وأجاب ميشكا جادا: (ولم ذلك؟ إنني لا أريدهما. سأرجعهما إلى العجوز وأقول لها: هاك يا سيدتي العزيزة المحترمة. لقد أخذناهما سهوا معنا، فأرجعيهما إلى ما كانا عليه
- ولكنك انتزعتهما فكيف إصلاحهما؟)
وسأله زيومكا وقد فتح فاه: (أتريد حقاً أن تحملهما إليها يا شيطان؟)
- (نعم ولم لا؟ أنظر إن مثل هذا الكتاب يجب أن يبقى كما هو. ولا يجوز للإنسان أن(155/59)
ينزع منه قطعة. وسوف تغضب العجوز وتحزن. . . وسوف تموت عما قريب. هذا ما أردت. فانتظر لحظة يا أخي فسأعود سريعاً)
وقبل أن نتمكن من إيقافه اختفي وانعطف بخطوات سريعة وقال زيومكا في غضب وهو يفكر في أثر هذه الواقعة ونتائجها المحتملة: (ما أضعف هذا الرجل وما أكثر تغفيله؟)
ثم أخذ يؤكد لي في كل جملة خطأه
ولكن الآن انتهى كل شئ. لقد أوقعنا في الشرك. ولعله الآن جالس متكئ أمام العجوز. وقد لا يغيب عنها أن تستنجد بالشرطة)
(هذا مثل مما يتوقعه الإنسان من مصاحبة هذا الوغد. إنه حقا يدخل الشخص إلى السجن من أجل شئ تافه. هذا الكلب! هل رأيت رجلاً له مثل هذه النفس الدنيئة، ينبغي أن يُلقي بأصدقائه إلى التهلكة، يا إلهي! أهذا هو جيل اليوم؟ هيا بنا، لم هذا الانتظار؟ أتريد أن تبقى هنا؟ انتظر إن شئت، ليخطفك عفريت من الجن أنت وكل الأوغاد من أمثالك. ذلك الوغد! ألا تريد أن تذهب معى؟ هيا)
ووكزني زيومكا في جانبي وسبني ومضى لسبيله
وكنت أريد أن أعرف ماذا جرى لميشكا عند صاحبة آخر عمل قمنا به. فذهب ثانية إلى ذلك المنزل، وكنت أعتقد أن لا خطر في ذلك، وأن السوء لا يمسني من جراء هذا. ولم يخب ظني، ووصلت المنزل وأخذت أنظر من خلال الحواجز وقد رأيت وسمعت ما يلي:
كانت العجوز جالسة على سلم المنزل ممسكة بقطعتي القفل الفضي بيدها وهى تنظر إلى ميشكا من خلال منظارها بدقة كما لو كانت تريد أن تتغلغل في صميمه. وكان لعينيها الحادتين بريق قوى. وقد ارتسمت على طرف فمها ابتسامة خفيفة رخوة تحاول إخفاءها: هي ابتسامة المغفرة.
وتبين من خلف العجوز ثلاثة رؤوس: امرأتان إحداهما شديدة حمرة الوجه وعلى رأسها منديل زاهي الألوان، والثانية عوراء، وقد وقفت خلف رجل عريض المنكبين وإمارات وجهه تدل على أنه يريد أن يقول:
(أسرع من هنا يا صديقي! أسرع بقدر ما يمكن)
وكان ميشكا يتحدث في ارتباك:(155/60)
(لقد كان كتاباً عظيما!! إنهما نذلان! أما أنا فقد كنت أذكر ربى. هذا هو الحق. وهذا ما يجب قوله. إننا تعساء ورجال سوء أنذال - ثم كنت أعود فأفكر في المرأة العجوز الطاعنة في السن. ولربما كان سرورها الوحيد في كتابها هذا - ذلك ما ظننته. وأردت أن أهيء للعجوز المتدينة سروراً وأن أرد إليها أشياءها: وقد اكتسبنا بحمد الله شيئاً نقتات به. فالوداع يا أخوتي. إنني أريد الذهاب الآن)
واستوقفته العجوز وقالت له: (انتظر! هل عرفت ما قرأته لك البارحة؟)
(أنا؟ أَنَّى لي ذلك؟ إنني استمعت إليك ولكن أي استماع؟ فهل لآذاننا قدرة على استماع كلام الرب؟ إننا لا نفهم مثل ذلك.)
وقالت العجوز: (أهكذا؟ ألا تنتظر لحظة أخرى؟) وتململ ميشكا وأخذ كالدب يضرب الأرض برجليه. فان مثل هذا الحديث لا طاقة له به.
- (هل لي أن أقرأ لك شيئاً قليلاً؟)
- (. . . . . ولكن صديقَّي ينتظران.)
- (دعهما ينتظران، إنك رجل طيب. دعهما يسيران حيث شاءا.) وقال ميشكا بصوت خافت: (حسناً.)
- (إنك لن تسير معهما بعد الآن؟ أليس كذلك؟)
- (لا.)
- (هذا هو الصواب. إنك طفل كبير على رغم مالك من لحية تنزل إلى وسطك! هل أنت متزوج)
- (بل أعزب. إن زوجتي توفيت.)
- (ولم تشرب الخمر؟ أنك تشرب طبعاً؟)
- (نعم.)
- (ولماذا؟)
قال ميشكا متضجراً: (ولماذا أشرب الخمر؟ لتغفيلي. إنني مغفل ولهذا أشرب. ولو كان للإنسان عقل لم جرؤ على تحطيم نفسه بيده.)
- (إنك على حق.) فاعمل على أن تكون عاقلاً. حسن من سيرتك وأصلح من أمورك.(155/61)
اذهب إلى الكنيسة واستمع إلى كلام الرب ففيه كل الحكمة.)
وتأوه ميشكا وقال: (سأفعل)
- (هل لي أن أقرأ لك شيئاً؟)
- (نعم، تفضلي)
وأتت العجوز بالإنجيل، وقلبت صفحاته، وبدأ صوتها يدوي، ورمى ميشكا برأسه إلى الوراء، وحك بيده ذراعه اليسرى (وهل تظن أيها الإنسان أن في وسعك التهرب من حكم الرب؟)
وقاطعها ميشكا وكأنه يجهش بالبكاء: (سيدتي المحترمة، دعيني أذهب، أرجو ذلك محبة في الله، سآتي مرة أخرى عن طيب خاطر واستمع. أما الآن فأني جائع جدا. إننا لم نتبلغ منذ أمس.
ودقت العجوز صدرها، وقالت: (أذهب! ابتعد!) ورن صوتها المزعج في الفضاء، واندفع ميشكا مسرعا نحو الباب بعد أن قال لها:
(أشكرك شكرا جزيلاً أيضا)
وتمتمت العجوز تقول: أرواح مغلقة! قلوب غلف كالحجارة!
وبعد نصف ساعة جلسنا في المطعم، وشربنا الشاي وأكلنا الخبز الأبيض، وقال ميشكا وهو يبتسم إليّ بعينه التي تشبه عيون الأطفال سذاجة وفرحا: (كنت أشعر كأن حمى قد انسابت في جسمي، وقد وقفت هنالك وفكرت في القول: أي ربى لم جئت إلى هنا؟ إنه العذاب! وبدأت هي الحديث: هل هؤلاء آدميون! إننا نريد أن نكون شرفاء معهم ونهيئ لهم ما توحي به ضمائرنا، إلا أنهم يفكرون في غير ذلك: يفكرون في متاعهم. فقلت لها: يا سيدتي المحترمة، هذا هو قفلك أرده إليك ولا تغضبي. . . ولكنها قالت: انتظر، ابق هنا، أذكر لي أولاً لم أحضرته؟ وبدأت تخزني بكلماتها، ولقد سئمت كثرة أسئلتها. . . هذه هي الحقيقة)
وتابع الابتسام الهادئ المريح
واهتاج زيومكا وقال له جادا:
(أولى لك يا صديقي أن تموت! وإلا التهمك في الغد الذباب من فرط سخف أفكارك)
- (إنك تتحدث بغباء دائماً. تعال، نريد أن نشرب كأساً على المسألة الستار). وشربنا كأساً(155/62)
على نهاية هذه الحادثة العجيبة.
عن الألمانية ا. ا. ي(155/63)
درامة من أسخيلوس
سبعة ضد طيبة
(الدرامة الثالثة الباقية من مأساة أوديب)
للأستاذ دريني خشبة
خلاصة الدرامتين المفقودتين: ولد لملك طيبة الملك لايوس طفل جميل قالت النبوءة إنه إن عاش فسيقتل أباه ويتزوج أمه ويجر البلاء على شعبه فأرسله الملك مع واحد من خدمه ليقتله ويتخلص بهذا من شره، ولكن الخادم خشي عقاب السماء إذا قتل الطفل فعلقه من عقبيه في شجرة وعاد إلى المدينة. ومر راعي غنم بذلك المكان فأحزنه بكاء الطفل فأخذه وذهب به إلى ملك كورنثه الذي فرح به لعقم زوجته وجعله ولياً لعهده وسماه أوديبوس (أي ذا القدمين المتورمتين). وكبر أوديب وأقيمت حفلة راقصة في القصر وثمل المدعوون وحدث أن أحدهم اصطدم في نشوة السكر بأوديب فلمزه في أصله وأنه ليس ابن ملك كورنثه، فثار أوديب وأظلمت الدنيا في عينيه وترك من توه قصر الملك وهام على وجهه في البلاد باحثاً عن والديه الحقيقيين.
ولقي ركباً ملكياً في طريقه إلى دلفي فأمره القائد أن ينتحي ناحية حتى يمر الموكب ولكنه أبى والتحم مع الجماعة في معركة فقتلهم جميعاً وفيهم ملك طيبة - وبذلك تحقق شطر النبوءة الأول لأنة قتل أباه - ثم سار إلى أن بلغ طيبة فوجد قومها في حيرة من مقتل الملك ومن هولة بحرية فتكت بأهل المدينة لأنهم لم يستطيعوا تفسير حجياها، وسمع أوديب أن مجلس المدينة قرر أن من يخلص الناس من هذه الهولة فانه يصبح ملكا عليهم ويتزوج الملكة الأرمل، فذهب من فوره فلقيها وحل حجياها وقتلها وصار ملكا على طبية وتزوج الملكة التي هي أمه وهو لا يعلم - وبذلك تحقق شطر النبوءة الثاني - وحدث وباء في طيبة فتك بأهلها فتكا ذريعاً وقالت النبوة إن الوباء لا يرتفع عن حتى يقتل قاتل الملك لايوس. . . وأمر الملك بتحقيق مقتل سلفه فثبت عنده أنه هو القاتل وأنه ابن لايوس هذا وأنه تزوج أمه ونسل منها ولدين وفتاتين فجن جنونه وسمل عينيه وهام على وجهه إلى الغابة لتقتله ربات الذعر جزاء له. . . أما ابناه فقد اقتتلا على العرش واستنجد أكبرهما(155/64)
بالأرجيف أعداء طيبة فثار الشعب عليه. . . وفي المعركة التقى الإخوان فقتل أحدهما الآخر وبذلك تحقق الشطر الأخير من النبوة. . .
- 1 -
اختلف الإخوان، إتيوكليس، وبولينيسيز، بعد مقتل أبيهما من أجل العرش، ثم اتفقا على أن يحكم كل منهما سنة، واتفقا على أن يحكم إتيوكليس، الأخ الأكبر قبل أخيه. فلما حال الحول وأراد بولينيسيز ارتقاء العرش بدوره، أبى أخوه؛ وألب عليه الشعب، وأوغر صدور مجلس طيبة بما لفق على أخيه من المفتريات. واضطر بولينيسيز إلى ركوب الأسنة، لما لم ير له حيلة إلا ركوبها!
- 2 -
ولاذ بملك آرجوس، أدراستوس، فحل به أهلاً ونزل عنده سهلاً، واتفق الملك على أن يزوج الأمير ابنته، عل أن يرسل جيشه العرموم على طبية لإذلالها، يقوده سبعة من أشد قواده وعلم أتيوكليز بما دبر أخوه فهاج هائجه، وانطلق إلى شعبه يدلهم على خيانة بولينيسيز، ويقدم لهم دليلاً جديداً (على هذا المارق الذي لفظه وطنه فلاذ بأعدائه يشترى الملك بالعبودية، والتاج بالقيد الذي يعده لبلاده، وسعادته الوضيعة بشقاء طبية بأسرها. . .)
- 3 -
(إتيوكليز يحرض الجند على الأسوار)
- (يا أبناء طيبة! أيها القدميون الشجعان! يا ذادة الوطن! الساعة خطيرة فانتبهوا، وإياكم وسنة من النوم تأخذكم والعدو محدق بكم. إنه أن يكن نصر فمن الآلهة التي ترعاكم؛ فان تكن الأخرى، وحاشا أن تكون، فأنني، أنا إتيوكليز ابن أوديبوس الشقي، أنا الرجل ملء الأفواه وملء الأسماع، سأكون عرضة لحقنكم وسخطكم، لأنني لم أستطع الدفاع عن ذماركم فلم أستحق محبتكم. وقانا الله عاقبة السوء، ودفع عن طيبة هذا البلاء. يا أبناء الوطن! إن كل نَفَس يتردد فوق تلك الأرض المقدسة حري بأن يشترك في الجهاد الأكبر، شيبكم وشبابكم، كبيركم وصغيركم، قويكم وضعيفكم، كل ينفخ في أخيه من روح الوطن، وكل تتدفق في عروقه دماء النخوة حارة ترد بسواعدكم الغزاة العتاة المعتدين!. . . قد جدت(155/65)
الحرب بكم فجدوا، ألا فافزعوا إلى أسلحتكم فردوا بها عادية الأشرار عن وطنكم وعن آلهتكم، وعن أطفالكم، وأمهاتكم اللائي أرضعنكم لتكونوا بعون السماء الكماة الحماة اللهاذم الصيد الصناديد! اذكروا ما بعد النصر من عز وفخر، واذكروا ما بعد الهزيمة من عار ودمار ومذلة وأَسار!! لقد حدث واعظكم وصفي آلهتكم تيريزبازس، قال: إن قادة الأرجيف قد اعتزموا الكبسة ليلتهم هذه، فمن لطيبة يا أبناءها غيركم!! هلموا!! تبوأوا مواقف للقتال في كل شبر من أرضكم، وقفوا بالمرصاد لعدوكم، وسدوا الثغور فأنها مفاتح بلادكم، واستلئموا في حديدكم ولا ينالُن منكم غرة فتذهب ريحكم، وخذوهم من فوق حصونكم، ولا تهولنكم كثرتكم فالسماء معكم، والآلهة من خلفكم. . . . . .)
- 4 -
(يدخل رسول)
- (حيّا الله مولاي الملك! الأخبار يا مولاي! لقد شهدت بعينيْ رأسي! الأرجيف يا مولاي في سبعة جيوش جرارة، يقود كل جيش كميٌّ صنديد. لقد ذبحوا قرابينهم من كل عجل جسد وثور سمين، وغمسوا أيديهم في الدماء، ثم تقاسموا ليجعلن عاليَ طيبة الخالدة سافلها أو ليهلكن دونها. . . وكانوا يا مولاي يرمقونها بعيون تقدح الشرر إذْ هم يأخذون مواثقهم، وكانت شفاههم تتلمظ تحناناً ليوم النصر، وفي قلوبهم نار تسعر! وقد عجلت إليك يا مولاي وإنهم ليعبئون صفوفهم، ويأخذون أهبتهم، فخذوا عدتكم واثقفوهم قبل أن يقفوكم، ولتكن طيبة كلها يداً واحدة، وإن لنا لَلْكَرّةَ بمعونة السماء. . .
(يخرج الرسول)
- (يا زيوس العظيم! يا مولاي! يا رب هذا البلد! احمه من الأعداء، ولا تسلطهم عليه فيغتصبوا حريته، ويهدروا كرامته! كن في عون عبادك من ذراري قدموس! إنهم يخبتون لك ويصلون من أجلك!)
- 5 -
ويشرف الطيبيات من أعلى الأسوار، فيرين إلى جحافل الأعداء محدقة بمدينتهم فيتفزّعنْ فرقاً، ويتغنين بالآم الوطن، ويرسلن أنشودة طويلة مبللة بالدموع من أجل طيبة، ويهتفن(155/66)
بالآلهة أن تنقذهن من ذل السبي وهوان الأسار، فما يسمعهن إتيوكليز حتى يهرع إليهن
- (ألا خَبّرْن أيتها المخلوقات اللائى لا يتحملكن قلب ولا يُسر برؤيتكن طرف! أبمثل هذه الأصوات المنكرة تدفعهن عن طيبة بلاء الأعداء!؟ أبهذا الصراخ وذاك العويل تكشفن الغمة عن الوطن الحزين!؟ تالله إنكن عليه بهذا العواء الذي يقذف الرعب في قلوب الجند! أتحببن أن تُحبَسْن ورجالكن في عقور دوركن، وتكن بذاك قد دفعتن عن البلاد غائلة العدو المحدق بنا جميعاً! مالكن تهرولن هنا وهناك باكيات منتحبات؟ إنكن إذن بلاء هذا الوطن وشقاؤه، ولَسْتُن أهله بل أعداءه! إنكفئن إذن وخلين بين الرجال وبين واجبهم الأسمى من مجالدة الأرجيف، والذود عن بيضة الوطن! إنكفئْن! لاسعت بكن قدم؟!)
- يا حفيد لايوس العظيم! إن قلوبنا لتنخلع من ضوضاء هذا الجيش اللجب المحيط بنا؟!)
- (أذن خبّرْن يا نساء طيبة! أإذا أحيط بالسفينة في البحر اللجي ترك الربان سكانها وفزع إلى السارية لينجو من الغرق؟!)
- (بل نحن قد فزعنا إلى هياكل الآلهة أن تحفظنا من الأسار، وصلينا في كل معبد من أجل رجالنا وأطفالنا!)
- (بل صلين للآلهة أن تقي أسوار المدينة، وأن تنصر أبطالنا على خصومنا! اهتفن بأبنائكن أن ادفعوا عن أوطانكم، ولا تسمحوا لعدوكم أن يجوس خلال هذه المدينة! إنهم وحدهم يقدمون القرابين من أرواحهم لهذه الديار! أما انتن فقرن في بيوتكن، ولا تلقين الرعب في قلوب أبنائكن!! لقد كدتن تفعمنها جبناً وترهقن سواعدهم ضعفاً وخوراً!)
- (ويلاه! إن العدو يأخذ المدينة من أساسها! اسمع!)
(أصوات شديدة وقرقعة)
- (أجل! وإن للمدينة لأبناءً كراماً، وإنها لقعقعة سلاحهم تبيد صفوف الأعداء!)
- (بل هم الأعداء يجرعون أبناءنا غصص الموت!)
- (غصص موت تبيدكن جميعا! أُصمتن!)
- (أنت سبب هذا البلاء! كل هذا من أجل لباناتك! أنت جلبتهم على طيبة بالخيل والرَّجْل!!)
- (يازيوس الجبار! أي شياطين بثثت في نفوس النساء؟)(155/67)
- (النساء التاعسات مثل رجالك الذين أشقيتهم!)
- (أصمْتن يا شقاء الوطن! لقد أزعجتن جنودنا بأصواتكن!)
- (نصمت! آه! لنصمت بأمر الملك)
- (يا آلهة الأولمب رفقاً بطيبة! تقبلي صلواتنا من أجل هذا الوطن! إني لن آلُو جهدا في تخير ستة من شجعان قادتنا يدفعون قادتهم السبع. . . باركي يا سماء وانصري يا آلهة)
(يخرج إتيوكليز)
- 6 -
ويهوج الخورس بأناشيد يترجمن بها عن الفزع الذي يروعهن من هذه الحرب، ثم يصلين من أجل طيبة، ويدعين الآلهة، ويحضر إليهن رسول ممن شهد المعارك فما يوشك يصف ما حدث عند البوابة من الطعن والضرب، والتكبكب والانهزام، والهجوم والارتداد، حتى يجيء إتيوكليز فينفي كلام الرسول، ويخبر أن القائد الطيبي فلانا قد دحرهم، ومزق صفوفهم وخضد بأجناده شوكتهم. فإذا حدث الرسول عما كان من نزال وقتال عند البوابة الثانية رد إتيوكليز فبالغ في شجاعة الطيبين ثمة، وما أبدوا من صمود للهجمة، وصبر في موقف الموت. . . وهكذا. . . فإذا بلغ الكلام عما كان عند البوابة السابعة وذكر الرسول أن بولينيسيز نفسه هو قائد الأرجيف في تلك الجهة امتقع وجه إتيوكليز واربد جبينه، وانعقدت فوقه سحائب من الهم والفكر، ثم تلجلج لسانه بكلمة طويلة عن مصائر هذه الأسرة الشقية التاعسة، وانطلق ليدافع عن البوابة السابعة ضد أخيه بنفسه. غير مصغ إلى تحذير الخورس إياه. ولا حافل بإمارات السوء التي كانت ترقص أشباحها في الميدان.
- 7 -
ويتغنى المنشدات، فيذكرن الأحداث القدامى التي تنبأ بها الكهنة في دلفي عن أوديب طفل لايوس، ويوجسْنَ خيفةً أن يتم اليوم الفصل الأخير من المأساة.
وما يكدن يفرغن من تغنيهن حتى يدخل إليهن رسول يزف إليهن بشرى نجاة طيبة وسلامتها!
- (نجاة طيبة؟ هل انتصرت جيوشنا يا صاح؟)(155/68)
- (كلا، ولكن انتهى كل شئ! لقد قُتِلا؟)
- (قتلا! من لعمركَ أيها الرسول!)
- (هدئن من روعكن يا سيدات! إتيوكليز وبولينيسيز! لقد قتل كل منهما أخاه، ووضعت الحرب أوزارها!
وتكاد الفتاتان المنكودتان: أنتيجونى وإسمنيه، ابنتا أوديب تصقعان لهذا الخبر، فهما أختا الأميرين المتحاربين، والبقية الباقية من هذه الذرية الشقية، وسيتألف من شقوتهما أسود فصل في المأساة.
- 8 -
وترثي الفتاتان أخويهما رثاء باكياً حزيناً، وما تكادان تفرغان حتى يدخل القائد العام لجيوش طيبة فيقول:
- (قضي الأمر وانكشفت عن طيبة غمة الحرب التي جناها عليها المارق الأثيم. . . وسنفرغ الآن للاحتفاء بدفن إتيوكليز، حبيب الوطن؛ وصفي الآلهة، وبطل الأبطال. . . ستقف طيبة كلها عند قبره لتذرف عليه دموع المحبة والإخلاص والحزن. . . أما الشقي بولينيسيز، فستنبذ جثته بالعراء، جزر السباع وكل نسر قشعم. . . ستنوشه كلاب البرية بعد أن يجيف وينتن، جزاء له على مروقه من حظيرة الوطن، وعقابا له على لواذه بأعداء طيبة، وسوقه جيوشهم عليها يقتلون أبنائها ويطفئون جذوة الحياة فيها. . . لن يبكي عليه أحد. . . ولن يوقره أحد. . . ولن تؤدى له طقوس الموت لأنه لا يستحقها، ولن يصب أحد على ترابه خمراً. . . اللئيم المنبوذ. . . بهذا قضى عليه مجلس طيبة الأعلى، فليذق بغض ما قدمت يداه!!)
وما يكاد يفرغ حتى تثور ثائرة انتيجوني حزناً على أخيها وتقول:
- (ماذا أيها القائد؟ لن تقام الطقوس الدينية لأخي! وسينبذ بالعراء تنوشه الكلاب البرية وذؤبانها؟ هاها!. . . أنت تحلم ورجالك أعضاء مجلس طيبة يحلمون! بل أنا. . . أنا الفتاة العاجزة أنتيجوني. . . أخت هذين التاعسين، وابنة ذينك الأبوين البائسين. . . سأقوم لأخي بكل ما أباه عليه مجلسكم الموقر. . . سأدفنه وسأهيل التراب على جسمانه، وسأضرب بقراركم عرض الأفق! ولتفعل قوتكم بضعفي بعد ذلك ما تشاء!(155/69)
- (أنصح لك يا فتاة أن تدعي لمجلس الأمة مصير هذه المسئلة!)
- (بل أنا أنصح لمجلس الأمة ألا يأمر بما ليس في مستطاعه!)
- (أحذرك، فهنا شعب نجا الساعة فقط من أهوال الحرب، وهو لذلك لا يعرف الرحمة!)
- (ليكونوا غير رحماء؟ ولكن لابد مما ليس منه بد! سيدفن أخي برغم الجميع!)
- (وكيف؟ إنك تتحدين الدينة بأجمعها! انها تكرهه!)
- (لقد لقي حسابه من السماء، فلم يعد لأهل الأرض حساب معه!)
- (ولكنه عرض الوطن للبوار قبل كل شيء!)
- (لقد أساء التصرف فيما لم يكن له فيه يدان! وسأدفنه وحسبكم مني هذا. . . كفى. كفى!!)
- (أنت حرة. . . تفعلين ما تشائين. . . ولكنى سأمنع الدفن بالقوة!)
ويتغنى المنشدات، ويصلى الجميع للآلهة
دريني خشبة(155/70)
من هنا ومن هناك
سافو وليلى الأخيلية
لعل ليلى الأخيلية من بين شاعرات العرب هي أشبه الشاعرات بسافو
شاعرة الإغريق منذ خمسة وعشرين قرناً. فأشعار ليلى تفيض بالحب،
ويحس منشدها اللوعة، وتجرى في أبياتها الصبابة؛ وكل هذه مزايا
أشعار سافو. ولسافو بين الإغريق مكانة عالية لا يدانيها إلا هوميروس
بين الرجال. وهى ثالثة ثلاثة بين شعرائهم الغنائيين: أولهم ألكيوس،
وثانيهم أنكريون وقد امتاز ألكيوس بأشعار الحماسة والوطنية؛ وامتاز
أنكريون بقصائده التي تشبه قصائدنا العربية في الوصف والبث والبكاء
والحكمة. أما سافو فتمتاز بالغزل والنسيب والتشبيب، وقد تختلف من
ليلى الأخيلية بالغزل الصارخ الذي لا تعرفه البدويات الرعابيب. وفي
نسيب سافو ثورة متأججة من نشدان اللذة في الحب، فهي لا تعرف
هذا الهوى العذري الذي نعرفه في ليلى. هذا وإن لم يثبت التاريخ أن
سافو كانت (عشيقة) يوماً ما؛ ومن يدرى؟
والإغريق مولعون بأشعار سافو، وكانوا يرددونها على كؤوس الخمر، لأنها أمتع أغانيهم الخمرية سئل صولون المشترع: (افرض أنك تموت الآن يا صولون. فماذا كنت تشتهي قبل موتك؟)؛ فقال: (أغنية من سافو أرددها ثم أموت!!)
سيف الدولة وميسيناس
قال الثعالبي في تيمة الد هر: (إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك، بعد الخلفاء، مثل ما اجتمع بباب سيف الدولة من الشعراء المفلقين!)
وميسيناس في التاريخ الروماني يشبه سيف الدولة في التاريخ العربي، من حيث الميول الأدبية عند كل منهما واجتذاب الشعراء والأدباء بالمنح والعطايا الجزيلة. كان المتنبي(155/71)
شاعر سيف الدولة الفحل، وكان كُشاجم الشاعر الرقيق أحد خدمه، وأبو الفرج الببغاء وصافة الحروب أحد كتبته ومواليه، والسري الرّفّاء والواوي من شعرائه، وكان ابن عمه أبو فراس من بطانته، وكان سيف الدولة مع ذلك الشاعر الفحل والنقادة البارع؛ وربما - لو فرغ للشعر - فاق هؤلاء جميعاً. ويعزون له شعراً لا نعرف في الشعر العربي كثيراً مما يشبهه رقة ودقة. يذكرون أنه خاف على إحدى جواريه فحجزها في إحدى قلاعه، وقال في ذلك:
راقبتني العيون فيك، فأشفق ... ت ولم أخل قط من إشفاق!
ورأيت العدو يحسدني في ... ك مجدّاً بأنفسِ الأعلاق
فتمنيت أن تكوني بعيداً ... والذي بيننا من الود باق
رب هجر يكون من خوف هجرٍ ... وفراقٍ يكون خوف فراق
وقال يصف قوس قزح:
وساقٍ صبوح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سِنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقض علينا ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً ... على الجودُ كنا، والحواشي على الأرض
يطرزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر، في أخضر، إثر مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبَّغة، والبعض أقصر من بعض
والذي يعنينا من عقد المقارنة بين سيف الدولة العربي وميسيناس الروماني هو الوصول إلى أبى الطيب عن طريق سيف الدولة، وهوراس عن طريق ميسيناس. فلقد كان أبو الطيب المتنبي خاملاً حتى اتصل بسيف الدولة فنبه؛ وكان فقيراً فأعطاه سيف الدولة حتى اغتنى. وكان أبو الطيب يحب سيف الدولة بقدر ما يشعر له كما كان يقول الثعالبي؛ وكذلك كان هوراس الشاعر الروماني الكبير من ميسيناس الروماني الكبير
كان ميسيناس كبير مستشاري أكتافيوس (تلك الشخصية الفذة التي تدور حولها وقائع الفصل الأخير من درامة الجمهورية الرومانية، والذي ثأر من بروتس وشيعته قتلة قيصر، وتخلص بلباقة من شراك كليوبطره، والذي منحه مجلس الشيوخ لقب (أوغسطس) أي المعظم؛ ولقب برنسبس أي المجلى أو أعظم أعضاء مجلس الشيوخ، والذي صار فيما بعد(155/72)
ذلك طاغية رومة وامبراطورها العظيم)، وقد استطاع ميسيناس أن يكون موضع الثقة من الطاغية حتى أصبح مطلق اليد في شؤون الإمبراطورية، وأصبح فضلاً عن ذلك أكبر شخصية في الدولة يزيدها التفاف الشعراء ومحبة الأدباء بهجة ورواء وتألقاً
عرف الشاعر فرجيل هوراس وسمع إليه فأعجب به وضمه إلى جماعة الشعراء الرومانيين المسماة ثم وصله بحاشية ميسيناس فأغرم به المستشار وأغدق عليه النعم وصحبه معه في حروب الدولة وحضر موقعة أكتيوم التي وصفها هوراس ووصف غيرها من الحروب الرومانية كما وصف أبو الطيب حروب سيف الدولة
وقد كان هوراس كما كان أبو الطيب يصبو إلى الحكم في ظل الدولة، فلما انتصر الرومانيون بقيادة أكتافيوس في أكتيوم رأى ميسيناس أن يكافئ شاعره مكافأة تتناسب وقدمه العالية عنده، فأقطعه إقطاعية واسعة في الأراضي السابيّة (وسط إيطاليا) قريباً من روما، وهو ما لم ينله أبو الطيب لا من سيف الدولة ولا من المعتضد، ولا من إمام الآبقين أبي المسك كافور!! والذي يقرأ ديوان هوراس يلفته اسم ميسيناس في أكثر صحائفه كما يلفت القارئ اسم الدولة في ديوان أبى الطيب
وسنعود إلى شعر هوراس في عدد آخر؛ ولكن لا يفوتنا هنا أن نشير إلى براعة ميسيناس في نقد الآداب وتمييز غثها من سمينها؛ ثم إلى براعته في الخطابة ومقدرته الهائلة في التأثير على الجماهير. ولقد كان يفضل هوراس على فرجيل ويعتبره شاعر الرومان المعبر عن خلجاتهم، والناطق بلسان الطبيعة في جميع أنحاء الإمبراطورية. أما فرجيل فكان يعده شاعراً أسطورياً لأنه نسج على منوال هوميروس.
أوسكار ويلد وبرنرد شو
يعتبر أوسكار ويلد زعيم المنحطين في الأدب الإنكليزي، وهو قد نسج في أدبه على طريقة بلزاك وجوتييه من حيث نشدان اللذة الجنسية، ولكنه غلا حتى أجاز الشذوذ في تحقيق هذه اللذة، وقصته (صورة دوريان جراي) آية في الشذوذ. وكما نسج في أدبه على طريقة بلزاك وجوتييه فقد نسج في فنه على مبادئ جون رسكن التي تدعو إلى محاربة الآلات ليرقى الفن وتقول بإخضاع الحياة للفن لا الفن للحياة، وهى مبادئ خطيرة ما تزال بكل أسف تلقى لها أنصاراً كثيرين في سائر الأقطار. وقد كان لأدب أوسكار ويلد ولفنه في(155/73)
إنجلترا ثمرة مرة، ولكنها مشتهاة، فقد غنى على عوده كثيرون من رجال المدرسة الحديثة أمثال لورانس وجويس وألدوس هكسلى ورسل، وإن لم يكن بعضهم ينهج في قصصه من حيث الأدب الجنسي نهجاً علمياً قد لا ينافي الأخلاق وإن عظم أثره في تكييف سلوك الشباب. وبرنردشو هو نقيض ويلد في كل شئ، إذ يكاد شو يكون صوفياً في نظرته للأدب، في حين ينظر ويلد للأدب نظرة مادية كنظرة الأباحيين إلى تمثال من المرمر لامرأة غاوية خليعة تثير التشهي وتعمل لتحقيقه. وشو يدعو إلى حفظ الجسم بالاعتدال في كل من شهوة البطن والفرج، وقد يحتم الصوم لتحقيق مذهبه، وقد امتنع عن أكل الأطعمة الحيوانية وتناول الأدوية لهذا السبب. وهاهو ذا يتمتع بكمال الصحة في شيخوخته النشيطة الدائبة التي ما تنى، على حين أغمض الموت جفني ويلد في غصص من الأمراض والتهدم الجسماني. . . وشو محتشم في كوميدياته، يثير الضحك بتعرية حقائق الأخلاق؛ أما ويلد فمهرج، يتبع في ملاهيه طريقة أرسطوفان الإغريقي الذي لا يرى بأساً من إظهار حمار على المسرح وإلباس رجل لبوس امرأة. ويتفق شو وويلد في ذكائهما النادر ومنشئهما الايرلندي، وفي أنهما خدما المسرح الإنجليزي خدمة لم تكن تقوم قائمته بدونهما.
(د. خ)(155/74)
البريد الأدبي
جلبرت تشسترتون
في الأنباء الأخيرة أن الكتب الإنكليزي الشهير جلبرت كايث تشسترتون. قد توفي في منزله الريفي في بيكونزفيلد في الخامس عشر من شهر يونيه الجاري. وتشسترتون كاتب وأديب من النوع العام أو النوع (الأنسيكلوبيدى). فهو صحفي، وفنان، وشاعر، وروائي، وكاتب مرح، ومؤرخ، وناقد، وسائح؛ وقد تبوأ مكانته في الأدب الإنكليزي المعاصر منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكان مولده في شهر مايو سنة 1874 في كامدن هل من أعمال كنسنجتون، وتلقى تربيته في مدرسة سانت بول، ولكنه التحق بعد الفراغ منها بمدرسة (ملايد) الشهيرة ليدرس الفنون، ولما غادر مقاعد الدرس بدأ الحياة أدبياً ناقداً ينقد الكتب الفنية في بعض المجلات الشهيرة مثل (بوكمان) و (سبيكر) وغيرهما، ويشتغل في نفس الوقت في إحدى دور النشر ليكسب قوته. ومنذ سنة 1900 يستقر تشسترتون في حياته الأدبية ويتخذها مهنة ومرتزقاً؛ وظهر بسرعة في ميدان الصحافة، وتولى التحرير والنقد في كثير من كبريات الصحف مثل (الديلى نيوز) و (البال مال) و (الديلى هرالد) و (الورلد) و (الفور تنيتلى) وغيرها، وأخذ في نفس الوقت يخرج طائفة من الكتب الأدبية المختلفة، نذكر منها (الفارس المتوحش) وهو مجموعة شعرية؛ وترجمة نقدية للشاعر بروننج و (الاثنا عشر نموذجاً) و (نابليون صاحب نوتنهام) (سنة1904)، و (نادي السلع المدهشة) (سنة 1905) وترجمة الروائي دكنز (سنة 1906) و (الأرثوذكسية) (سنة 1908) و (السخافات الرائعة) (سنة 1908) وتاريخ الأدب الفكتوري (سنة 1913) و (السحر) وهى قطع مسرحية؛ وديوان شعر (1915)، ومختصر تاريخ إنكلترا (سنة 1917) و (خرافات الطلاق) (1920) و (الرجل الخالد) (1925) (وليم كوبيث) (1925) و (محاكمة الدكتور جونسون) وهى قطعة مسرحية (1927) والفصول الكاثوليكية وغيرها.
وتشسترتون كاتب وافر الإنتاج والطرفة، معاً يذهب في التحرر من الآراء والنظريات المقررة إلى أقصى حد، وقد تأثر كثيراً بنظريات صديقه الحميم المؤرخ هلير بلوك في التشكك؛ وهو ذو فراسة قوية في تفهم العوامل الاجتماعية وتكييفها، وقد اعتنق تشسترتون(155/75)
الكثلكة في سنة 1922، وسجل بذلك تمسكه (بالأرثوذكسية) في سائر المناحي؛ في الأدب والسياسة والاجتماع وغيرها؛ ومن رأيه أن الإرادة البشرية هي مبعث كل الأعمال والتصرفات، ولا بأس من أن يحيي المجتمع من الأنظمة القديمة ما يناسبه.
وقد أنشأ تشسترتون منذ أعوام مجلة أدبية اجتماعية باسم أعنى أسبوعية جلبرت تشسترتون مرموزا إليه بالحرفين الأولين من اسمه
(ع)
جلبرت كنت تشسترتون أيضاً
توفي هذا الشاعر النقادة الصحافي الإنكليزي الكبير فاندك بموته صرح منيف من صروح الأدب الإنجليزي المعاصر.
نشأ نشأة متوسطة، ولم تعترضه ظروف قاسية كالتي تعترض لذاته من الأدباء عادة، ولذا عاش حياة كلها مرح، وقضى عمره الغنى الحافل في خدمة الأدب في جميع وجوهه، ومال منذ حداثته إلى قرض الشعر فنظم قصائد متواضعة ثم اشتد باعه فنظم القصائد الرائعة التي مكنت له في عالم الأدب، ورفعت اسمه فوق أسماء الأدباء. وكل عارف بالشعر الإنجليزي لا ينسى قصيدتي تشسترتون (نابليون نوتنج هل)، و (الفندق الطائر).
وتشسترتون يشبه رديارد كبلنج في شدة حبه للإمبراطورية، ويشبه درنكووتر في تفانيه لخدمة اللغة الإنكليزية والأدب الإنكليزي بيد أن قيمة تشسترتون كأديب عظيم لا ترجع إلى أشعاره، ولكن إلى كتاباته في نقد الأدب والحياة والاجتماع. فلقد جال جولات واسعة في أمريكا وفلسطين فنقد كل مرافق الحياة في الأولى في مجلد ضخم، ثم كتب تاريخاً حافلاً للحروب الصليبية ضمنه موجزا لتاريخ فلسطين. وقد آمن بعد تجواله في هذه الأقطار بوجوب استقلال الفلاحين وتدريبهم على حياة التعاون فيما بينهم بما ينفعهم، ولم ينس أن ينصح بمثل ذلك للإنجليز أنفسهم عندما كتب تاريخه المفيد
وبالرغم مما يدعيه هذا الكاتب الإنجليزي من كرهه لطرائق السفسطائيين الإغريق فانه لم يكن سفسطائي أكبر منه في إنجلترا ولا في العالم أجمع في العصر الذي نعيش فيه. وكان معروفاً عنه أنه متى ما رأى رأياً ولو كان خطلاً في خطل فانه ما يني عن سنده بالحجج(155/76)
وإقامه بالبراهين، وإن تكن حججه وبراهينه دائماً أوهى من خيوط العنكبوت، ولكن قارئه برغم ذلك يكب عليه إكباباً عجيباً، ويشغفه منه هذا الترقرق في سوق حججه، وذاك البيان السهل، والأسلوب الأخاذ، والعبارة الطلية الهينة التي يغطى بها ضعف براهينه. وكان بطبعه هذا ميالاً إلى المبالغة والتهويل، ولذا كان يقع في التناقض دائماً. واليك مثلاً من تناقضه العجيب في فصل عقده عن (استقامة الرأي)، قال:
(لا ينشأ الجنون من إدمان التفكير، ولكن من التعقل (!!) فقلما يصاب الشعراء بالخبل، في حين يأفن لاعبو الشطرنج وتنتهي حياتهم إلى العته. والرياضيون والصيارفة كذلك طالما يصيبهم الجنون أو على الأقل اللوثة، في حين يحيا الفنانون حياة سليمةً برغم أنهم دائماً يعملون قرائحهم ويبتدعون ويخلقون. وأنا بقولي هذا لا أناقض المنطق ولا أهاجم المناطقة، ولكني أقرر أن الشر كل الشر في المنطق والمناطقة. . لا في التفكير. . .)
وقد ساق درنكووتر في خلاصته عن الأدب أمثالاً أخرى عن تناقض تشسترتون (ص 916) نحيل إليها القارئ
والذي سيخلد من كتابات تشسترتون هي فصوله الممتعة في نقد الأدب والأدباء؛ وسيبقى كتابه عن (دكنز) ثروة عظيمة للمتأدبين بالأدب الإنكليزي.
(د. خ)
جريدة إنكليزية لتأييد القضية الحبشية
تلقينا الأعداد الأولى من جريدة أسبوعية تصدر في لندن بعنوان (التيمس الجديدة وأخبار الحبشة) & وعنوانها يدل على موضوعها وغايتها فقد أنشئت أخيراً للدفاع عن القضية الحبشية أمام الرأي العام الإنكليزي والأوربى، واقناعه بفظاعة الاعتداء الإيطالي، وتتولى تحرير الجريدة المذكورة السيدة سلفيا بنكهرست؛ وقد صدرت عددها الأخير بصورة الإمبراطور هيلاسلاسي، ومقال للدكتور مارتن وزير الحبشة في لندن عنوانه (انتظروا وتأملوا بينما يعمل القتل عمله)، وفيه يحمل على المبدأ السياسي القائل بالانتظار والتأمل، لأنه هو الذي أودى بحياة الحبشة، ولو قامت عصبة الأمم المتحدة بعمل حاسم لاستطاعت وقف الاعتداء الإيطالي في الوقت المناسب، وفيه تفاصيل عن مقدم الآمبراطور، ومقال(155/77)
عنونه (يجب أن ننقذ الحبشة) بقلم مستر هوكن، ونبذ وأخبار أخرى عن الحبشة قبل الحرب الإيطالية وبعدها
مباراة أدبية عالمية
تنظم جمعية التاريخ الجديدة في نيويورك، في الخريف القادم، مباراة أدبية علمية؛ وقد اختارت للكتابة موضوعاً دولياً عاماً هو (كيف تستطيع شعوب العالم أن تحقق نزع السلاح العام؟) وهذه المباراة مفتوحة لكل شخص من الجنسين، ومن أي الأمم، ومن أي المهن أو الثقافات؛ وستوزع على الفائزين جوائز قدرها خمسة آلاف دولار (نحو ألف جنيه)
وقد تأسست جمعية التاريخ الجديدة في نيويورك منذ سبعة أعوام، ونظمت قبل ذلك عدة مباراة أدبية عامة وصدرت لها جوائز مالية حسنة، وهي تعنى قبل كل شيء بتعرف آراء الشباب والجيل الجديد. ومن أغراضها أنها تدعو إلى إنشاء مجتمع أخوى عام من شعوب الأرض كلها، وتدعو إلى نزع السلاح، ومؤاخاة الدول، وعمل تشريع دولي إنساني عام.
وترسل الرسائل في المباراة المذكورة إلى جمعية التاريخ الجديد بنيويورك: , 132 , ,
موسم الشعر
في الساعة السادسة من مساء الأحد 14 يونيو سنة 1936 أقام (جماعة الشعراء) في دار جمعية الشبان المسلمين حفلة (موسم الشعر) رأسها صاحب المعالي العرابي باشا، وافتتحها الأستاذ أنطوان الجميل بك، وتكلم عنها الأستاذ محمد الهراوي افندي؛ وكان الشعراء قد أخذوا مجالسهم من المنصة وعليهم قداسة من جلال الشعر أشاعت في نظراتهم وحركاتهم دلائل الفخر والعزة. افتتحت الحفلة بكلام الله فخنست لإعجازه الخالد شياطين الشعراء، ثم قام الأستاذ الجميل بك فألقى كلمة رائعة رفعت رأس النثر في حضرة الشعر، وتتابع بعده الشعراء فألقى كل قصيدته على منهاج معين، وكان الجمهور شديد الحساسية للصور البيانية، والمعاني المبتكرة، والأغراض الجديدة، والإلقاء الجيد، وجملة شعراء الموسم كانوا سبعة عشر شاعرا، فرغوا من قصائدهم في ساعة ونصف، وهم الأساتذة:(155/78)
إبراهيم ناجى، أحمد رامى، أحمد الزين، أحمد الكاشف، أحمد محرم، أحمد نسيم، حسن القاياتي، حسين شفيق المصري، زكي مبارك، سيد إبراهيم، عزيز بشاي، كامل كيلاني، محمد الأسمر، محمد الهراوي، محمد الههياوى، محمد عزيز رفعت، محمود رمزي نظيم، السيدة منيرة توفيق.
وموسم الشعر أمنية من أماني الأستاذ الهراوي ظل يرصد لها الأهبة ثلاث سنين. ففي ربيع سنة 1933 تألف بسعيه وبسعي إخوانه (جماعة موسم الشعر) كما تتألف المجامع الأدبية، ونشرت على الناس بياناً جعلت فيه وسائلها قرض الشعر الفصيح، ووضع البحوث في الأدب، وإلقاء المحاضرات في الموسم؛ وحددت فيه أغراضها بإقامة موسم عام للشعر العربي في القاهرة، و (العمل للاحتفاظ في الشعر العربي بقوة الأسلوب ووضوحه، والجري على ما تقتضيه ضوابط اللغة من الصحة وما تتطلبه خصائص البيان من بعد الأسلوب عما يضعفه أو يفنيه في غيره أو يقطع صلة حاضره بماضيه، وتقريب ما بين الشعر العربي وغيره مع المحافظة على السنن العربي والعمل لتنوع أغراضه وفنونه، وأخيلته ومعانيه، وإبراز الحياة الحاضرة والمدنية القويمة في صورها الصحيحة، والمحافظة في الشعر على الذوق العربي مع مماشاته لحاجات العصر وروحه، وتوجيه الشعراء إلى القيام بحاجة العامة والتلاميذ من الشعر في أغانيهم وأناشيدهم، وحفز مواهب الشعراء إلى تهيئة السبل لظهورها والانتفاع بها، وخدمة اللغة العربية ونشر آدابها وتقويم ملكاتها وتنمية ثروتها من الألفاظ والمعاني والأخيلة، وتوثيق الصلات الأدبية بين مصر والأقطار العربية الأخرى)
وقلنا يوم قرأنا هذا البيان إن (الرسالة) تؤيد هذه الأغراض السامية من غير تحفظ، وتدخر غبطتها بها وتصفيقها لها ليوم التنفيذ، فان صوغ الأماني ووضع الأنظمة وإذاعة العزم شيء، وتجويد العمل وتنفيذ الفكرة وتحقيق الغرض شيء آخر.
فإذا قرأت هذا ثم علمت أن الموسم ذا الغرض الضخم أُختصر في حفلة واحدة؛ وأن هذه الحفلة التي أقيمت بعد ثلاث سنين كانت مما يمكن أن يقام في كل أسبوع، وأن ما قيل فيها كان كله من الشعر المطبوع على غرار واحد، وأن أكثر هذا الشعر مما أنشد من قبل في الحفلات ونشر في الصحف، وأن في هذا الأكثر مالا يليق إلقاؤه في هذا الحفل، ندمت على(155/79)
أن أسرفت في التصفيق، وعلمت أن الشعراء يساعدون الزمن بكسلهم على إخماد الشعر. ولكن الأستاذين الهراوي والأسمر يقولان بعد ثلاثة أحوال ما قاله فند مولى عائشة بنت سعد: (تعست العجلة).
على أن البدء في كل عمل صعب، وجمع الشعراء على أمر واحد شاق، والخطوة الأولى على كل حال نصف الطريق.
جماعة البعث والتجديد
تكونت من بعض أبناء الجامعة المصرية جماعة أدبية باسم (جماعة البعث والتجديد). وأغراضها كما يأتي:
1 - بعث الأدب العربي القديم ودراسته دراسات مستفيضة، ليستسيغه الجمهور ويقبل على كنوزه الغوالي.
2 - خلق أدب جديد يمثل نزعاتنا النفسية، وخوالجنا الروحية، ومثلنا الاجتماعية. فيه حياة فوارة، وخيال دقيق، وفن عالمي بكر.
3 - النقد النزيه الحر.
4 - إذاعة أروع ما ابتكرته القرائح العالمية، شرقية وغربية عن طريق التعريف والتلخيص والترجمة.
5 - رفع مستوى القارئ العادي إلى استساغة الجمال والأسلوب الفني.
6 - تنظيم مهرجان شعري لشعراء الشباب وإلقاء سلسلة من محاضرات ومناظرات وقراءات
7 - لسان حال الجماعة (مجلة الشباب) والاتصال بها يومياً من السادسة إلى السابعة مساء شخصياً أو بالمراسلة بعنوان (مجلة الشباب بميدان سوارس رقم 3 بمصر
والجماعة ترحب بكل من يحب الانتماء إليها للعمل بمبادئها من أدباء الشباب الموهوبين وأديباته الموهوبات من أبناء الجامعة المصرية
أما (مهرجان الشعر) فعام لشعراء الشباب جميعاً وسيعلن عن نظامه وموعده فيما بعد، والاتصال بشأنه بعامر محمد بحيرى أفندي بإدارة مجلة الشباب
تدهور التعليم العالي في ألمانيا(155/80)
من الحقائق المعروفة أن الحركة الفكرية والتعليمية في ألمانيا قد اضمحلت في ظل الحكم الهتلري؛ فقد طاردت الحكومة الهتلرية أكابر الكتاب الذين لا يتفقون معها في الرأي السياسي وسيطرت على الصحافة وصفدتها بأغلال جعلت منها أداة حكومية للدعاية، وغيرت برامج التعليم لتتفق مع غاياتها السياسية، وبسطت نفوذها على الجامعات حتى جعلت منها منابر للدعوة النازية وهكذا
وقد اطلعنا أخيراً في بعض الصحف الكبرى على إحصاء يدل إلى أي مدى سحيق تدهورت الحركة التعليمية في ألمانيا في ظل الحكم النازي خلاصته أن طلبة الجامعة الألمانية بلغ عددهم في العام الدراسي الحالي نصف ما كانوا في صيف سنة 1933، وهى السنة التي تولى فيها هتلر الحكم، فقد كانوا يومئذ 14000 (أربعة عشر ألفاً)، وعددهم في هذا العام 7934 فقط؛ ولم يدخل الجامعات الألمانية في أوائل العام الدراسي المنقضي من الطلبة الجدد سوى سبعة آلاف، وكان عدد طلبة الجامعات والمدارس العالية في ألمانيا سنة 1933، 116000 طالب، فنزلوا هذا العام إلى 77 ألفاً فقط؛ وكانت الجامعات الصغيرة أشد تأثراً بهذا النقص الفادح، وهذه الأرقام تنطق بنفسها، وتدل دلالة واضحة على مبلغ التدهور الذي أصاب الحركة الفكرية في ألمانيا في عهد الهتلريين.
وهذه النتيجة تعتبر من جهة أخرى طبيعية منطقية في ألمانيا الهتلرية؛ ذلك أن نظرية الهتلريين في التربية تميل إلى الإسبارطية القديمة، وتؤثر التربية العسكرية والرياضية على أي نوع آخر من التربية، وتؤثر الأجسام القوية على العقول الراجحة، وعلى الرؤوس المستنيرة.
على أنه مهما كان من رأي الهتلريين ونظرياتهم في التربية، فان هذه النتيجة التي انتهت إليها ألمانيا في مثل هذا العهد القصير ليست مما يشهد للنظم الجديدة، وليست مما يدعم عظمة الأمم.
جمعية هندية للمباحث الإسلامية
تقوم في بومباي (الهند) منذ ثلاثة أعوام هيئة علمية إسلامية تسمى (جماعة البحث الإسلامي)؛ وهى هيئة علمية محضة غير طائفية وغير حزبية يشرف على تعضيدها أكابر(155/81)
الزعماء والأمراء المسلمين، وتضم جماعة من أعظم المفكرين المسلمين في الهند وفي أوربا، وقد صدر أخيراً تقريرها السنوي الثالث وفيه أنها تعنى بنشر البحوث العلمية الخالصة، وإنها قد عملت لهذه الغاية بإصدار كتب خمسة، وأنها تعنى الآن بنشر طائفة اخرى، ومن ذلك ترجمة هندية لكتاب (تاريخي فيروز شاهي) من الفارسية. وترجمة لمقدمة ابن خلدون من العربية، وكتاب عن مذهب الشيعة؛ وتعنى هذه الجمعية العلمية بنشر المباحث الإسلامية الرفيعة في الهند.(155/82)
أدبي
مجلة شهرية أدبية تظهر مؤقتاً مرة في كل ثلاثة شهور لصاحبها ومحررها الدكتور الشاعر أحمد زكى أبو شادي، وبين يدينا الآن العدد الأول منها وهو باقة من شتيت الزهر النضير تفتحت عنه قريحة هذا الشاعر الواثق بجهده المخلص لفنه، و (أدبي) مجلة للقراء لا للكتاب والشعراء؛ فهي خاصة بقلم صاحبها (وما يدور حول آثاره من تعليق ونقاش ومساجلة للزملاء الأدباء)، والدكتور أبو شادي مهما قال في إنتاجه النقد، قوة عاملة مؤثرة، وقريحة خصيبة مثمرة، وصوت عال من أصوات النهضة الأدبية لا يزال أينما حل يدعو وينبه
كانت القاهرة تضطرب بالجدل الأدبي العنيف، فرحل عنها فتولاها شئ من الخمول والصمت، وكانت الإسكندرية تضيق بالحياة الأدبية؛ فلما حل بها اعتراها نشاط أدبي عجيب لم تشهده منذ حين. نعتقد أن لو كان الدكتور أبو شادي صرف جهده المثابر في غير الأدب العقوق لكان له بين أقرانه شأن وأي شأن.(155/83)
العدد 156 - بتاريخ: 29 - 06 - 1936(/)
أروع أيام سعد
لعل يوم الجمعة التاسع عشر من هذا الشهر كان أروع أيام سعد!
انتصر فيه وهو رفاتٌ وفكرة وذكرى على الحقد الذي طالما نبح
المجد، وعلى السلطان الذي طالما قهر الزعامة.
كانت روعة أيامه الغر التي أسفرت عنها ليالي مالطا وسيشيل وجبل طارق من شخصيته التي طاولت العروش، وعزيمته التي صاولت الجيوش، وبلاغته التي عاجزت القدر؛ أما يوم نقل الرفات إلى الضريح الرسمي فكانت روعته من الفكرة التي ثبتت على الاضطهاد وغلبت على الاستبداد وظهرت على الإفك ظهور الدين على الشرك بالإيمان والإخلاص والتضحية. وسر الجلالة العظمى في سعد أنه كان وهو حي يمثل كبرياء الشعب، ثم اصبح وهو ميت يمثل سلطان الأمة. كان يمثل كبرياء الشعب لأنه خرج منه ونبغ فيه، فكان حجة له على كبرائه الذين كانوا يتأبهون عنه، ويلمزونه بالضعة، وينبزونه بالفلاحة؛ ثم عاد يمثل سلطان الأمة لأن جهاده الباسل بها ولها جعل اسمه رمزاً للاستقلال وعلماً على الدستور وعنواناً على الديمقراطية. فمظاهر الفرح المستطير، أو الحزن المُرمض، أو العزة المستطيلة، التي أعلنها الشعب يوم خرج من معتقله أو رجع من منفاه، ويوم الاحتفال بوفاته أو بنقل رفاته، كانت مظاهر صادقة لعواطفه المتحدة، صدرت عنه بدافع من نفسه وباعث من شعوره، لأن سعداً لم يعدْ رجلاً محدود الوجود بذاته ومميزاته ورغائبه، وإنما أصبح معنى مقدساً من معاني الشمول يختصر في نفسه خصائص جنسه، ويجمع قلبه أمانيَّ شعبه؛ فهو علم يخفق بالأمل، ومنارة تشع بالهداية، ورسول من رسل القيادة الذين يبعثهم الله إلى الناس في متاهة السُبل وضلالة النفوس فيكونون رمزاً لرجاء الإنسان في الله، ومثالاً لرحمة الله بالإنسان.
كانت النفس المصرية في ذلك اليوم المشهود على حال عجيبة من شتى الأحاسيس ومختلف العواطف: سرور مَزْهُوٌّ بفوز الإرادة القومية واستطاعتها بعد تسع سنين أن تصحح خطأً فادحاً من أخطاء الغرور الجاهل، وحزنٌ دخيل هادئ لاحتجاب الشعاع وقد غام الأفق واستعجم المسلك، ثم شماتة حانقة تصيح بالجبابرة الضعاف من أفواه الطرق ومنافذ البيوت، وعلى أطوره الشوارع وسُوح الميادين: أنا الأمة! أنا الإرادة الأولى، وأنا(156/1)
الكلمة الأخيرة!
وكان في موكب الرفات المنتصر قوم يمشون، وجوههم إلى الأرض، وأفكارهم إلى الوراء، يقولون في أنفسهم: استعنا على كبْت هذا المجد الثائر بقوة السلطان وضجة البرلمان وثورة الخزانة، فإذا كل أولئك معناه هَوَج العاصفة، ورهج الغبار، وسرف المطر؛ وإذا الشمس من فوق أولئك لا تزال ساطعة الشعاع دائبة الارتفاع لا يرتقى إليها صخب، ولا يعلق بها قَتَم! أن الموت نفسه قد إنخزلت عنه قواه فلم يستطع طمسه في عين الوجود ولا محوه من سمع الزمن. لا يزال ملء الحاضر وعدة المستقبل، ومن العناء الباطل أن يحاول الجبروت مهما طغى أن يدخله في الماضي. هؤلاء هم الجند الذين طالما أكرهناهم على أن يطاردوه في الأقاليم، ويحاصروه في العواصم، ويصادروه في الأندية، ويضايقوه في المنازل، ويحولوا بينه وبين الشعب، قد انقلبوا - بأي معجزة لا أدري - فصاروا زينة لمجدة وقوة لوفده وحرساً لمبدئه!
وكان بازاء الباشا المفكر طالب صادق الحدس ألمعي الفراسة، لا يزال على وجهه الأبلج أثر من عِصِيّ الشرطة وبنادق الجند، فرأى بين الحي المستذل الضارع، وبين الميت المتجبر الشامخ، عبرة من عبر الدهر. وحكمة من حكَم القدر؛ فهبَّ يصوغ من هذا المعنى هتافاً له ولرفاقه: ولكنه تذكر أن الوطني لا يحقد ولا يشمت ولا ينتقم، فاكتفي أن يقول للزعيم الرجيم في نفسه: لقد أدركت بعد الأوان أن المجد خير من الحطام، وأن الشعب أبقى من الحكومة! لقد بلغت كل عالٍ غير المجد، وربحت كل نفيس غير الشرف!
ذلك سعد مثال الزعامة الحق يا نواب الأمة! كان في مماته كما كان في حياته موضع القداسة منها وموطن الرجاء فيها، لأنه أول مصري حكمها بأمرها، وساسها برأيها، ونقلها من نظام القطيع إلى نظام الشورى، وحول خزانتها من المتاع الخاص إلى المتاع المشترك، وجعل العلاقة بين الأمة والحكومة (علاقة الجندي بالقائد، لا علاقة الطائر بالصائد).
كان سعد من الشعب وظل طول عمره مع الشعب. تجبر، ولكن على طغيان الثورة؛ وتكبر، ولكن على صلف المحتد. أما علينا وعلى أمثالنا من سواد الناس فكان كالأخ العطوف والوالد الحدب.
بهذه السيرة المجيدة في الحياة يقتدي أصحابه البررة؛ وبهذه العقلية السليمة في الحكم يسير(156/2)
خليفته إلى الفوز؛ وبهذه الصفحة المشرقة في التاريخ يضع سعد للخاصة دستور الزعامة، ويضرب للعامة مثل البطولة؛ وبهذه المنزلة الفريدة التي نزلها من شعبه يتولد في النفوس الشابة الرغيبة طموح العظمة، فيسعون لها بالحق، ويتنافسون فيها بالكفاية.
هاتان سبيلان واضحتا المعالم بيّنتا الحدود في سياسة الأمة. أدت أولاهما بسعد إلى حياة الموت، وأسرعت أخراهما بفلان إلى موت الحياة! فهل لأكياس الناس بينهما خيار؟
احمد حسَن الزيات(156/3)
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه - كل ما هو مكتوب هنا متخيل. وأنا يوافقني ويلائم مزاجي أن أجعل الكتابة على لساني)
- 3 -
سألني صاحبي وهو يجلس: (إلى أين إن شاء الله؟) قلت: (يا صاحبي العجلة من الشيطان. اجلس أولاً، وتناول - ثانياً - شيئاً، ثم سل ما بدا لك بعد ذلك. على أني أستطيع أن أريح فؤادك القلق، فأقول لك أنا ذاهبون إلى القناطر الخيرية؛ فهل ارتاح قلبك يا مولاي؟)
فصاح بي وهو يخرج السيجارة: (القناطر؟. . . ماذا أخطرها ببالك؟. . . وماذا تصنع هناك في هذا الحر؟. . . شيء غريب!)
قلت: (يا أخي إنك تفاجأ بالخبر فتستغربه، أما أنا فقد أطلت التفكير في الأمر، وعرضت لي آراء شتى نفيتها واحدا بعد واحد، حتى استقر رأيي أخيرا على القناطر)
قال: (ولكن الجو حار الآن. . . الساعة العاشرة، وسنشتوي هناك؛ وأين يمكن أن نجد طعاماً أو شراباً؟) قلت: (لعلك تظن أن القناطر صحراء سيناء. . . ومع ذلك لا تخف أن تجوع، فقد أعددت لمعدتك كل ما تحتاج إليه من طعام و. . .)
قال: (ولكني رأيت السيارة ونظرت فيها فلم أجد شيئاً، وأخشى أن تكون - كعادتك - معتمداً على أنها مدينة عظيمة مقصودة من الناس، ثم نذهب فلا نجد شيئاً)
قلت: (بل ستجد كل شئ. والآن دعنا من حديث المعدة واسمع: إذا رأيت مني ما تنكر، أعني ما يخالف المألوف من عاداتي فرجائي إليك أن تذكر قول الشاعر:
إن من ساءه الزمان بشيء ... لحقيق إذن بأن يتسلى
(فهل أنت لبيب تكفيه الإشارة أم لا بد أن. . .؟)
وفي هذه اللحظة أقبلت الفتاة - أم تراني لم أخبر القارئ أن فتاة كانت ستقبل؟؟ على كل حال. . . المهم أنه - أعني القارئ - قد عرف أن فتاة قد أقبلت، ولا شك أنه استنتج من قولي هذا أنها وسيمة - ولا أبالغ فأقول جميلة - وأن الموعد كان مرتباً من قبل. ونظر صديقي إليها ثم إليّ وهز رأسه ووقف استعداداً لاستقبالها وتحيتها. وكان وجهه كالطماطم(156/4)
- أعني أحمر جداً - وليس هذا لونه في العادة، وإن كان صحيح الجسم، معافى البدن، حسن اللون والشارة؛ ولكنه شديد الحياء. فقلت للفتاة: (زوزو. . . هذا صديقي الذي حدثتك عنه؛ وفي وسعك أن تعديه صديقاً لك أيضاً. . هل جاءت ليلى؟؟)
قالت وهي تناوله يدها: (نعم. . . وهي تنتظر في الخارج) قلت: (ولماذا لم تدخل؟. . هل أذهب وأدعوها؟) قالت: (كلا. أن معها الأشياء. . . . والأفضل أن نذهب الآن)
ومضينا إلى القناطر على مهل، وكانت السيارة جديدة، ولا بد أن أقتصد في السرعة حتى تلين وتكتسب آلاتها المرونة الأزمة وإلا فسدت وخربت بسرعة وقصر عمرها. وكانت زوزو وليلى تنظران إلى السيارات الأخرى التي تخطف إلى جانبنا وتتركنا وراءها فتتحسران. وكانت زوزو لا تفتأ تقول لي: (ألا يمكن أن ندرك هذه السيارة؟) وتشير إلى واحدة من السيارات الكثيرة التي كانت تمرق كالسهم، فأقول: (بالطبع نستطيع، ولكن الثمن باهظ. ثم إن العجلة من الشيطان؛ وقد كنت قبل مجيئك ألقي درساً إلى هذا الصديق في وجوب التريث وتحاشي العجلة. والظاهر أنك لست خيراً منه ولا أقل حاجة إلى مثل هذه الدروس التي أعطيها للناس مجاناً)
فتصيح بي: (دروس إيه وعجلة إيه؟؟. كلام فارغ!! كيف تترك هذه السيارات تسبقنا، مع أن سيارتك جديدة وجميلة؟) فأقول: (أشكرك - بالنيابة عن السيارة. ولو كان لها لسان لأسمعتك المطرب المعجب من آيات شكرها وتقديرها لهذا الثناء الجميل، ولكنها كما تعلمين خرساء بكماء لا تحسن إلا أن تجري)
فتقاطعني معترضة: (تجري؟؟ تقول تجري؟؟ إنها تزحف!! ألا ترى كيف سبقنا كل الناس؟. . هل تريد أن نصل إلى القناطر غداً؟)
فأتوكل على الله وأجازف بمستقبل السيارة وأعذر في سري الشبان الذين يكونون مع الفتيات فينطلقون كالقنابل فتتحطم سياراتهم، وقد يلقون هم حتوفهم؛ فأن وجود فتاة مع السائق يغريه بإهمال ما يشير به العقل والحكمة. وقد أركبت فتيات كثيرات فلم أر منهن واحدة ترتاح إلى البطء، وأحسب السبب أن السرعة مظهر من مظاهر القوة وأن السبق غلبة، والمرأة تعجب بالرجل القوي السابق، ولا تعجب بالرجل الضعيف الواني، وهي لا تدخل في حسابها أن هذه سيارة وأن المعول عليها لا على الرجل، وأن الذنب يكون ذنبها(156/5)
إذا قصرت وكانت بطيئة أو ضعيفة. وإنما كل ما تفكر فيه وتعنى به أن معها رجلاً، وأن رجلها هذا ينبغي أن يكون الأقوى والأبرز والأسرع والأبرع، إلى آخر ذلك. وهو عندها مسئول عن السيارة التي لم يصنعها. ولعل منطقها أنه اشترى سيارة، فلماذا لم يشتر سيارة قوية سريعة؟؟ وقد يكون قليل المال ولكن هذا لا ينهض عذراً له، إذ لماذا يكون قليل المال؟؟ وقد تكون السرعة بغيضة إليه، ولكن الأمر يرجع إلى تقديرها هي لا إلى تقديره، ولا إلى ما يؤثر وما يكره. وإذا كان لا بد أن يتوخى ما يشير به مزاجه، فلماذا يستصحب امرأة؟؟
من أجل هذا اضطررت أن أسرع على خلاف ما يقضي به الواجب والحزم وإلا ساء رأي صاحبتي فيّ، ومن الذي يسره أن يسوء رأي المرأة فيه؟؟ ولا سيما امرأة تكون معه ويكون همه في هذه اللحظة على الأقل أن يرضيها. . وأدركنا بضع سيارات سبقناها ففرحت واشرق وجهها وانبسطت أسارير محياها وكثر ضحكها - بل ضحكهما - بعد التقطيب والوجوم والاعتراض وصارت كلما مرقنا بجانب سيارة تصفق وتصيح (هيه!!) على سبيل الإعجاب بالسيارة التي هي فيها - أي الإعجاب بنفسها، فان إعجاب المرأة بشيء يكون لها مظهر لإعجابها بنفسها هي - والشماتة بالمسبوق والتعيير له والتحدي أيضاً؛ والمرأة إذا أعجبت برجل جعلت وكدها أن تتحدى الرجال به على صور شتى بعضها أخفي من بعض. وما أكثر ما يكون استمرار إعجابها به رهناً باستمرار فوزه على الأقران وغلبته لهم فيما تورطه فيه.
وبلغنا القناطر بعد نصف ساعة؛ وكانت هذه أول مرة تراها فيها فأقبلت علي تسألني عن كل ما تأخذه العين هناك وجعلت أنا أحيلها على صديقي لا تفزع للسير ومآزقه في هذا الزحام الشديد حتى صرنا عند أول البساتين، وكانت الإحالة على صديقي تغضبها لتوهمها أن ذلك مبعثه الملل أو الأعراض، ولا ملل ولا إعراض منى وإنما هي مشاغل الطريق؛ غير أن المرأة قل أن تقدر ذلك لأن خواطرها كلها دائرة حول نفسها وشخصها، وهي تفسر كل شيء بأنه صادر عن حب أو كره، وعن رغبة أو زهد، وعن إقبال أو انصراف وإعراض، وعن ارتياح أو ملل وسآمة.
وقال لي صاحبي ونحن ندخل البساتين والفتاتان أمامنا: (والآن قل لي ماذا ساءك من(156/6)
زمانك ويوشك أن يخرج بك عن طورك؟)
قلت: (يا أخي إني شاكر لك - وأنت تعلم صدقي - هذه العناية بالاطمئنان على، ولكنى لو أفضيت إليك بهذا السر لما بقيت له لذة تخفف آلمه. انتظر حتى يفتر كل شيء - الألم واللذة جميعاً - فلا يعدو الكلام حينئذ أن يكون حديثاً عن شيء مضى ولا يكاد يعنيني)
فهز رأسه ومضى عنى إلى الفتاتين.
وظللت طوال النهار أضحك وألعب وأثب وأجري وآكل وأشرب وأرسلت نفسي على سجيتها - وإن كان ينقضي أن أعرف أن الخفة من سجاياي - وخلعت ثوب الاحتشام ورحت أكلم من لا أعرف وادعوا إلى طعامنا كل من يمر بنا - رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً - وأبدأ بالحديث من لم أر وجهه إلا في ذلك اليوم، وأخطف الكرة ممن يتقاذفونها، وأجر رجلَ هذا، وأشد أذنَ ذاك، وأفعل ما يفعل الأطفال عادة إذا شجعتهم فأنسوا منك الارتياح إلى عبثهم، حتى ضج صاحبي وضاق صدره ولم يعد يطيق هذا الخلق العظيم الذي حف بنا واندمج فينا وشاركني وشاركته في اللعب والضحك والجري. فركبنا زورقاً صغيراً؛ لكن هذا لم ينجه ولم يمنع أن أمضى فيما وطنت النفس عليه في ذلك اليوم، فقد كان هناك زوارق أخرى فصرت أدنو بالقارب منها حتى أحاذيها، ثم أروح أعابث من فيها، فنفذ صبر صديقي وأمر النوتي أن ينأى بنا عن الخلق جميعاً فاستلقيت على ظهري وأغمضت عيني تظاهرت بالنوم.
ولكنى لم أنم، وإنما كنت أحدث نفسي وأسألها عن جدوى هذا الذي صنعت؟ أتراه أنساني شيئاً أو أذهلني عما بي؟؟ ولم يسعني إلا أن أعترف بأن كل ما صنعت كان عبثاً. فقد كانت ذات الثوب الأرجواني ماثلة أبداً أمام ناظري لا تبرحه ولا تفتر صورتها التي تلازمني، وكنت أراها في كل من أرى ما تأخذه العين، فأنا حين أنظر إلى واحدة من هاتين الفتاتين لا أراها وإنما أرى ذات الثوب الأرجواني، ويفتنني منظر فأقول لمن معي: (انظروا. . . ما أبدع هذا) ويكون الذي يفتنني منه ذات الثوب الأرجواني التي تبدو لي في إطار من هذا المنظر. ولما ركبنا الزورق كان يخيل إلى أنها سابحة في الماء كعرائس البحر، وما سمعت ضحكة ناعمة إلا قلت لنفسي لعل ضحكتها أرق وأسحر.
وأعجب من هذا أنى كنت أجدني وأنا أضاحك الناس وأحدثهم وألاعبهم وأسابقهم أفكر فيها(156/7)
وأسأل نفسي عنها - وكان حسبي ما أنا فيه مما يستغرق جهد النفس - وأقول - في سري وبيني وبين نفسي - هل أنت تحبها؟؟ أواثقٌ أنت أن هذا هو الحب. . فتجيبني النفس أن نعم لاشك في ذلك، فأكر عليها معترضاً على هذا التأكيد وأقول: ولكنك لا تعرفها. . لا تعرف حتى اسمها. . وما رأيتها إلا عن بعد فماذا تحب منها. . لا تستطيع أن تدعي أنك واجد فيها غير صورة جسمية هي التي تتراءى لك من هذا البعد. ولعلها لو دنت قليلاً لطالعك منها ما لا ترتاح إليه، فالأرجح أنك تحب منها صورة ألفتها أنت من الألوان التي استعرتها منها. ولا شك أنك زدت هذه الألوان قوة وأضفت إليها من خيالك. ولو أنك كنت مصورا وحاولت أن ترسم لها صورة من ذاكرتك لما استطعت أن تثبت شيئاً من ملامحها، ولجاء الرسم لمخلوق من مخلوقات خيالك أنت، وإن كان لا يخلو من شبه بذات الثوب الأرجواني. فحتى الصورة المادية - أو الجسمية - التي تبدو لك ليست ثابتة ولا مقررة في نفسك، لأن الصور لا تثبت خطوطها وألوانها على مثل هذا البعد. ومن السهل أن تُعَفي علها وتمحوها صور أخرى تكون أثبت لأنها تكون أقرب فأقدر على التأثير وأنفذ بسبب القرب إلى أعماق النفس والاستقرار فيها. ولو أن صورة ذات الثوب الأرجواني كانت عميقة الأثر في نفسك ومنقوشة بألوانها وخطوطها المميزة لها على صدرك، أكنت تظن أن في وسعك أن تتسلى كما تتسلى الآن بهذه الفتاة أو تلك ممن تعرف؟؟ أكان يمكن أن ترتاح إلى وجود غيرها وإن كنت تزعم أنك تتسلى؟؟ لا يا صاحبي!. . وحسبك أن تسأل نفسك بأي شيء تذكرها. . ماذا في نفسك منها غير صورتها في النافذة كما تستطيع أن تراها على بعد ثلاثين مترا!؟ لو كنت كلمتها رأيت ابتسامتها ونظرة عينيها ومنطق وجهها وتعبير محياها، وكنت تكون إذ ترق وتحنو، وحين يسرها شئ، وعندما تبدو عليها اللهفة أو الجزع أو الاضطراب، والزهد في شيء والرغبة في آخر، وحينما تتدلل أو تسخو، وإذ تضحك أو تتجهم!! لو كنت رأيت شيئًا من ذلك لامكن أن تقول انك عرفتها وأحببتها، ولكان لحبك لها غذاءٌ ومددٌ من ذكريات هذه الحالات المختلفة. . أما الآن فبماذا يتغذى حبك؟؟ على أي شيء يعيش؟؟ بأي شيء تذكرها إذا غابت عنك. . . بصورة هي أشد غموضاً من الرسم الفوتوغرافي وأخفى منه تعبيرا؟؟ وهي مثلك. . . أتزعم أنها توليك عناية واهتماما، وأنها تفكر فيك، وأنها لا تفتأ تنظر إليك؟ فما يدريك أن هذا ليس من باب(156/8)
التطلع ومن قبيل الاستغراب أو إطاعة لرغبة نشأت في الوقوف على حالات غريبة تبدو من شخص يستحق عناية على كل حال لسبب من الأسباب التي تدعو إلى العناية؟؟ هه؟؟ وهبها - جدلا - أحبتك كما تظن أنك تحبها فان شأنها كشأنك!. . ولعلكما لو تلاقيتما لكره كل منكما صاحبه، أو نفر منه، على الأقل، أو إذا شئت، لفتر ما يجد من الحب، إذ كان لا أساس له إلا الصور الغامضة التي ينقصها البيان والتأثير الذاتي المباشر. . ويظهر أنها مثلك واسعة الخيال. . وشبابها هو عذرها إذا جمح خيالها. . فإنها غريرة ساذجة لا تعرف الدنيا. وأكبر الظن أنها لم تجرب الحب فهي لهذا شديدة الحنين إليه. ولكن أنت؟. أنت؟. أنت المجرب الذي عرف المرأة ودرس وخبر كل ما يسع الرجل أن يخبر. . كيف يمكن أن تخدع نفسك وتغلط على هذا النحو في فهم شعورك؟ إن هذا منك مضحك!
وقد اعترضت على نفسي وأبيت أن أسايرها إلى حيث تريد فأني أعرفها خبيثة شديدة المغالطة، وقلت لها: (كيف تزعمين يا نفسي أن لا شيء عندي من الذكريات أغذي بها حبها؟ ألم تسمعني صوتها في ضحكة فضية؟ (واها لهذا الرنين) أليست تبدو - أكثر الوقت - في الثوب الأرجواني الذي تعرف أني أحبه؟ أتسألين يا نفس كيف عرفتْ أنى أحب هذا الثوب؟. قبحك الله!. وما شأنك أنت؟. أعرف أنها تعرف والسلام! وأنا على يقين من أنها تعرف. وبيني وبينها لغة لا تحتاج إلى الكلام ولا إلى النظر. . . لغة أفهمها وتفهمها وإن كان كلانا معرضاً عن صاحبه، لأنها ذكية - مثلي ولا فخر - فهي تدرك أنى حين أكف عن النظر إليها، يلتفت قلبي إليها، وإن كانت عيني قد تحولت عنها لسبب غير إرادة النفس وهوى الفؤاد. . ولا يخفى عليها أني حين أنظر إلى ترام عابر أو سيارة تخطف في الطريق أو زمرة مارة، فأني إنما افعل ذلك لأني أخاف عليها من الناس أن يلهجوا بنا. وليبقى حبي وحبها كنزاً لا يعرف سرَّه غيرُنا. . ولا يشاركنا فيه - بالعلم - ثالثٌ. ولست أكلمها - هذا صحيح - ولا أنا أشير إليها، لأني أعرف أنها تعرف أن الإشارة تحصيل حاصل. وما ثلاثون مترا ًبيننا؟؟ إن قلبها كتاب مفتوح؛ وهل تستطيع الزهرة الأرجة أن تكتم الشذى؟؟. نعم إنها حريصة كيسة، ولكنى مع ذلك أعرف حين أراها مقطبة عابسة أن قلبها يضحك وإن كانت نظرتها صارمة الجد. . ولقد بدت منها إشارات تعمدت ألا أفهمها - لا لأني لم أفهم بل لأني خفت أن تكون قد صدرت عنها عفواً وعلى غير عمد، فأكون قد(156/9)
تسرعت وأسأت التأويل. ولا أقول ما هذه الإشارات فأني حريص على الاستئثار بها والانفراد دون خلق الله بمعرفتها. وما أكثر ما أذكر من حالاتها حين تكون وحدها وحين يكون معها غيرها. . وهل أنسى أنها حين تغضب عليّ لبلادتي وبطئ فهمي تذهب فتلبس ثوباً غير الأرجوانى؟؟ هل أنسى كيف تلف على شعرها شريطاً وتترك خصلة الوطفاء مرسلة على جانبي محياها الصابح يبعث بها النسيم فتهز رأسها لتردها وتصلح منها وتسويها؟؟. هل أنسى كيف تجلس وفي يدها الكتاب - على ركبتها - وظهرها إلي وهي مع ذلك تراني وتعرف أنى أنظر إليها ومعجب بها ومتلهف على نظرة منها؟؟ هل أنسى كيف تكايدني وتهيجني وتثير نفسي لتمتحن حبي وترى ماذا يكون من اثر ذلك في نفسي؟؟ وما أعذب مكايدتها وأحلاها!!. وما أجهلها بي إذا كانت تظن أن شيئاً من ذلك يثيرني ويغضبني! فان في وسعي - دائماً - أن أضع نفسي في مكان الغير، وأن أتصور ما يُعْقَلُ أن يصدر عنه وأن اقدر البواعث على ما يبدر منه فاعذره في الأغلب. . والحق أقول إني أراها مقصرة في مكايدتي لا مسرفة. ولا أنكر أنه يعز علي أن تغيب عن عيني، ولكني أنا مضطر أن أغيب عنها وأنقطع عن النظر إليها، وعزائي أنى لا أنعم بأكثر من مرآها وأنها لم تهبني أكثر من منظرها من بعيد، وأنها لم تولني ما أتحسر على فقده إذا فقدته؛ وما دام هذا هكذا فأني أستطيع أن أراها بعين الخيال كما أراها بعيني التي في رأسي. ولو أني كنت مكانها لعرفت كيف أكايدها، فلتحمد الله الذي خلقني رجلاً ولم يخلقني امرأة.
ولو شئت لعذبتها ولكنى أثر الترفق - بطبعي - وإن كنت لخبرتي بالطبيعة البشرية من أعرق الناس بوسائل التعذيب. وأنا أسأل نفسي دائماً (لماذا أعذبها وأنا أحبها؟، وبماذا تستحق التعذيب وهي لو وسعها أن ترضيني لأرضتني؟ لاشك فلي ذلك، وصحيح أنه يسعها أكثر مما تبدي ولكني لا أحب أن أعجل باللوم. . ومن يدري؟. لقد علمتني حياتي أن اليأس سخافة، وأن العجلة من الشيطان، كما أقول لصديقي، وأن طول البال ينيل الأمل، كما يقول المثل العامي، وأن الغضب حماقة، وأن العتاب عبث، وهو في النهاية يفتر الحب، وأنا أحب هذه الأرجوانية الثوب وأحب أن يطول حبها لي، لأني أعرف من نفسي أن حبي لا يفتر وإن كان في وسعي - بفضل رياضتي لنفسي - أن أستر ناره بالرماد. كلا لن أكايدها وسأصبر عليها وأُملي لها وأمهلها لأرى ما يكون منها ولأختبر مبلغ حبها فأني(156/10)
على الرغم من الحب أوثر أن أقدّر لرجلي قبل الخطو موضعها. فإذا رأيت منها ما يطمئن خرجت عن هذا التحفظ الثقيل عليها وعليَّ أيضاً وإلا فأني قادر على خنق هذا الحب ولو كلفني تقليع أحشائي من جذورها.
في هذا كنت أفكر، وبهذا كنت أناجى نفسي، وأنا ألاعب هذه الفتاة وتلك وأضاحكهما وأسابقهما وأُسخط صديقي على بترك الاحتشام الذي ألفه منى حتى صار يستغرب منى الابتسام، وليس أعجب من اشتغال النفس بأمرين في وقت واحد. ولكنى لا أكتب مقالاً في علم النفس وإنما أسوق حكاية وأصف حالة فيحسن أن أقتصر على ذلك.
وقد عدت من القناطر بغير ما كنت أرجو أن أفوز به. نعم لهوتُ وضحكت وبدوت لمن لا يعرفني كأسعد ما يكون إنسان. ومن ذا الذي يمكن أن يسمع ضحكتي ويرى وثبي وقفزي ويرتاب في أنى سعيد موفق؟؟ ولكن صديقي كان يعلم أن في صدري شيئاً أكتمه، وأن ما انطوى عليه ليس مما يهون حمله، وإلا لما التمست التلهي ونشدت التعزي، غير أنه كان على هذا يجهل - ومن أين يعرف؟ - أن في جوفي ناراً مضطرمة من القلق والشك والحيرة والاضطراب وقد خرجت من الحوار الذي دار بيني وبين نفسي بالشك وباعتقاد أنى جاهل ما في ضمير الفؤاد - أو على الأقل أن الأمر فيه نظر كبير فالحق أن معرفة النفس أشق المعارف وأعسرها مطلباً. .
إبراهيم عبد القادر المازني(156/11)
حلم الدولة اليهودية والوطن القومي اليهودي
لمؤرخ كبير
مضى اليوم أكثر من شهرين مذ بدأت فلسطين ثورتها القومية المضطرمة؛ وقد حسب الاستعمار يوم نشوبها أنه أمام حركة تذمر عادية يسهل قمعها بالوسائل المعتادة فإذا به أمام ثورة قومية عامة، وعزم راسخ على النضال، ومعركة حياة أو موت من شعب يؤثر السقوط في ميدان الكفاح الشريف، على الإعدام البطيء المنظم.
ولقد بسطت (الرسالة) قضية فلسطين في مقال سابق، بين فيه كاتبه مبلغ ما ترزح تحته هذه الأمة الصغيرة الباسلة من صنوف الاستعباد المرهق، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، سواء من جانب السياسة البريطانية التي قضت باختيار فلسطين منزلاً للوطن القومي اليهودي أو من جانب الصهيونية التي تعمل لتوطيد دعائم هذا الوطن اليهودي بكل ما وسعت من وسائل الضغط المالي والثقافي متمتعة في جهودها برعاية السياسة البريطانية ومؤازرتها.
وإذا كنا لا نستطيع الآن أن نتنبأ بما تفيده السياسة البريطانية من هذا الدرس، أو بما تزمع أن تتخذه من الخطط الجديدة في المستقبل نحو فلسطين، فأنا نستطيع من جهة أخرى أن نقول إن هذه الفورة العنيفة التي قامت بها فلسطين سيكون لها أثرها العميق في صدع أركان الوطن القومي اليهودي، وفي التدليل على ما في صياغته وتكوينه من أوجه الخيال والعوامل المصطنعة التي تتعارض مع الحقائق التاريخية والعلمية.
إن إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، هو الخطوة العملية الأولى في برنامج الصهيونية الحديثة؛ وهو التمهيد لإنشاء الدولة اليهودية التي هي غاية الصهيونية الحقيقية؛ واليهودية تحلم بإنشاء هذا الوطن القومي وتعمل له منذ أكثر من قرن؛ ولكن برنامج اليهودية النهائي لإنشاء الوطن القومي لم يوضع إلا في أواخر القرن الماضي، حيث بدأ زعماء اليهودية يجمعون المال لإنشاء المستعمرات في فلسطين ويبذلون جهودهم لدى الباب العالي، وحيث أذاع تيودور هرتسل، رسول الصهيونية الحديثة وروحها المضطرم، رسالته الشهيرة عن الدولة اليهودية: وهرتسل كاتب وصحفي يهودي نمسوي، ظهر في أواخر القرن الماضي في فينا بكتاباته الملتهبة في سبيل القضية اليهودية، فالفت صيحته أفقاً(156/12)
صالحاً لأن معظم الدول الأوربية كانت تجيش يومئذ بعوامل الخصومة السامية، وتلقى اليهودية الاضطهاد المنظم في كل مكان. وفي كتاب (الدولة اليهودية) يعرض هرتسل فكرة الوطن القومي عرضا قوياً، ويرى أن يتخذ هذا الوطن صورة دولة يهودية في فلسطين تكون تحت سيادة الباب العالي، وتؤدى له الجزية، وتكون البقاع المقدسة منطقة مستقلة ذات نظام خاص؛ فصادفت الدعوة نجاحاً عظيما بين أقطاب اليهودية في أنحاء العالم كله، وانتظمت الحركة تحت لواء هرتسل وزعامته. وفي أغسطس سنة 1897، عقد مؤتمر يهودي عام في بازل (سويسرا) برياسة هرتسل، ووضع فيه برنامج الصهيونية الرسمي، وعرفت غاياتها ووسائلها على النحو الآتي:
(تسعى الصهيونية لتحقق للشعب اليهودي إنشاء وطن قومي في فلسطين يتمتع بالضمانات التي يقررها القانون العام، ويرى المؤتمر أن يتذرع بالوسائل الآتية لتحقيق هذه الغاية:
(1) أن يشجع استعمار فلسطين بواسطة الزراع والعمال والصناع.
(2) أن ينظم العالم اليهودي بأسره وأن يحشد في الجماعات المحلية أو العامة طبقا لقوانين البلاد المختلفة.
(3) أن تقوى لدى اليهود عواطف الكرامة القومية والاعتزاز بالجنس.
(4) أن تبذل المساعي اللازمة للحصول على التصريحات الرسمية الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية.
هذا هو هيكل الصهيونية وبرنامجها العملي؛ وقد تطورت ظروف العالم السياسية منذ عصر هرتسل ومؤتمر بازل، واستطاعت الصهيونية بعد جهود ومحاولات عديدة أن تلقى فرصتها في الحرب الكبرى، وأن تظفر بتحقيق الشطر الأول من برنامجها بإنشاء الوطن القومي في فلسطين، ولكن لا تحت سيادة الباب العإلي، وانما تحت السيادة البريطانية، وذلك بمقتضى عهد بلفور الذي قطعته الحكومة البريطانية على نفسها في نوفمبر سنة 1917.
وقد مضى على قيام الوطن القومي اليهودي في فلسطين زهاء تسعة عشر عاماً، وأصبح في ظل الانتداب البريطاني، وطبقاً لنصوص الانتداب ذاته، من الوجهة الدولية، نظاماً شرعياً معترفاً به من جميع الدول الكبرى؛ وفي هذه الفترة بذلت اليهودية جهوداً جبارة(156/13)
لإقامة هذا الصرح القومي الذي تحلم به منذ الآماد، فتدفقت الهجرة اليهودية إلى فلسطين حتى أصبح عدد اليهود فبها زهاء نصف مليون، وأقيمت المستعمرات والمشاريع اليهودية الضخمة في جميع أنحاء البلاد، وأنشئت مدينة تل أبيب لتكون عاصمة الوطن الجديد، وأقيمة جامعة عبرية لتعمل لأحياء التراث اليهودي الروحي والفكري؛ وعلى الجملة فقد استطاعت اليهودية أن تحقق في فلسطين كثيراً من المظاهر المادية والاقتصادية والاجتماعية للوطن القومي اليهودي.
ولكن هذه المظاهر على ضخامتها وقوتها تبدو اليوم ضئيلة واهنة أمام ثورة الشعب الذي يقام هذا الوطن في أرضه، وعلى أنقاض حقوقه وموارده؛ فاليوم يهاجم الوطن اليهودي، ويطعن من كل صوب، وتقوض مستعمراته ومنشآته، وتعطل جميع مرافقه ومصالحه، وتشل جميع حركاته ومعاملاته، ويكاد يغدو في حالة حصار مطبق؛ كل ذلك تحت بصر القوى الاستعمارية التي هرعت إلى فلسطين لحمايته. وقد شعرت الصهيونية من قبل غير مرة بخطر الفورات القومية الفلسطينية على صرحها، ولكنها لم تكن تتصور أن الخطر قد يبلغ هذا المدى من الروعة، أو أن هذه الأمة العربية الصغيرة يمكن أن تضطلع بمثل هذا الكفاح الشاق الجلد؛ وإذا لم يكن ثمة ريب في أن القوى الاستعمارية الغاشمة ستتغلب في النهاية على الكفاح القومي الباسل، فانه لا ريب أيضاً في الوطن القومي اليهودي سيخرج من المعركة مثخناً بالجراح، وقد وهنت قواه المادية والمعنوية، وزادت شكوك الصهيونية وهواجسها نحو المستقبل الغامض.
والواقع أن فكرة الوطن القومي اليهودي لم تكن بنت القرن التاسع عشر فقط، ولكنها ترجع إلى أقدم العصور؛ فمذ حطمت مملكة أورشليم اليهودية منذ نحو ألفي عام، وشتت اليهود في أنحاء الأرض، تحلم اليهودية بالعود إلى أرض إسرائيل؛ ومع أن الجماعات اليهودية قد استقرت في الأراضي التي استوطنتها مدى القرون، غير أنها لم تندمج قط في الشعوب التي عاشت بين ظهرانيها، ولبثت تكون دائماً مجتمعات مستقلة. وترجع اليهودية تلك الظاهرة إلى نظم الاضطهاد والعزلة التي كانت تفرض على اليهود، وحرمانهم من الحقوق السياسية والمدنية طوال القرون، حتى أنهم كانوا يرغمون على السكن والاحتشاد في أماكن خاصة تسمى (الجيتوّ). ولكن الحقيقة أن اليهودية هي التي اختارت لنفسها هذه العزلة،(156/14)
وهذا الاستقلال الخالد عند الشعوب التي استقرت فيها. ذلك أن اليهودية كانت وما زالت تعتبر دائماً أن الدين هو جامعة الجنس بين اليهود، وأن اليهودية هي ملاذ الشعب اليهودي أينما حل، وبعبارة أخرى إن الدين والجنسية بالنسبة لليهود هما وحدة لا تتجزأ. وهذا هو الخطأ الخالد الذي وقعت فيه اليهودية، والذي أثار عليها في كل العصور ريب الشعوب وحقدها، والذي هو في الواقع أكبر عامل في تحريك الخصومة السامية. وهذا هو الأساس الخاطئ الذي تبنى عليه فكرة الوطن القومي الذي يجتمع فيه اليهود من جميع الجنسيات واللغات.
وقد فطن إلى هذا الخطأ الذي هو عنوان التعصب الخالد بعض أقطاب اليهودية، وحاولوا أن يدعوا إلى فصل الدين عن الجنسية، وإلى تشبه اليهود بسائر الشعوب في اعتبار الدين مسألة روحية محضة لا علاقة لها بالجنسية؛ دعا إلى ذلك الفيلسوف الألماني اليهودي موسى مندلزون في القرن الثامن عشر، ورأي أن تتخذ القومية اليهودية صبغة محلية، فينعدو اليهود من أبناء البلد الذي استوطنوه مع احتفاظهم بتراثهم الروحي؛ وآزر مندلزون في هذه الدعوة بعض أكابر المفكرين الألمان من غير اليهود مثل الكاتب الشهير لسنج وغيره؛ ولكن هذه القومية المعتدلة التي أملى بها جو التسامح الذي نعمت به اليهودية يومئذ لم تلق كبير تأييد، ولم يطل أمدها، واستمرت الفكرة الدينية القديمة على قوتها وحدتها.
والوطن القومي اليهودي يقوم كما قدمنا على نفس هذا الأساس، أي على جامعة الدين؛ وهذه أكبر نقط الضعف المعنوي في بنائه، فالقوميات والشعوب الحديثة لا تقام باسم الدين؛ ولم يبق الدين في بلد من بلاد العالم المتمدين أساساً للدولة؛ ثم إن هذا الضعف المعنوي في الوطن اليهودي يتخذ مظاهره المادية، ففي فلسطين يجتمع الآن يهود من جميع الجنسيات والثقافات واللغات والنزعات السياسية، ومن المحقق أن العمل الإجماعي المتناسق بين هذه العقليات والبيئات المتباينة صعب التحقيق. والواقع أن معظم اليهود المهاجرين يفدون على فلسطين لبواعث اقتصادية قبل كل شئ، ولكي يحققوا لأنفسهم بعض وسائل العيش التي يفتقدونها في بلادهم الأصيلة؛ ومنهم من يفد قراراً من الاضطهاد الذي يفرض عليه؛ وهنا نستطيع أن نقول إن الوطن القومي الحديث كان وليد الخصومة السامية (حركة العداء ضد اليهود) أكثر من أي عامل آخر؛ وهذا أيضاً عامل مصطنع في بنائه؛ وإذا كان الوطن(156/15)
القومي قد أحرز في فلسطيني شيئاً من النجاح والتوسع من حيث الاحتشاد والاستثمار الاقتصادي، فذلك يرجع قبل كل شيء إلى الأموال الطائلة التي تستثمرها الرأسمالية اليهودية؛ والرأسمالية لا تعرف وطناً ولا ديناً، ولا تعرف إلا الفوائد والمغانم المادية.
والخلاصة أن الوطن القومي اليهودي يقوم على عوامل وأسس مصطنعة يكشف الزمن عن ضعفها شيئا فشيئا؛ والزمن وحده كفيل بأن يبين لليهودية أن مشروع الوطن القومي والدولة اليهودية إنما هو حلم عظيم جاشت به أذهان بعض المتعصبين من أقطاب اليهودية ومفكريها، وأنه لا يمكن أن يعتبر بوضعه الحاضر أكثر من مشروع اقتصادي تؤيده الحراب البريطانية، فكل ما يحرزه من نجاح أو يصيبه من فشل يرجع إلى قواعد الاقتصاد العادية دون غيرها؛ وما جامعة الدين التي تستظل بها اليهودية، إلا طلاء السياسة، وهي أضعف من أن تقيم في عصرنا دولة أو وطنا.
مؤرخ(156/16)
حادثة فلسطين
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . لئن كانت حادثة الحبشة فضيحة القرن العشرين، فان حادثة فلسطين - إن تمت - فضيحة الدهر، وعار يلحق كل من يقول: أنا إنسان. . .
بيد أن الحبشة إن غلبت بملايينها وسلاحها وجيوشها، فان هذا الشعب الأعزل الذي لا يبلغ المليون الواحد لن يغلب على أرضه أبداً، لأن وراءه سبعين مليوناً من العرب، إن وراءه أربعمائة مليون من المسلمين، إن وراءه ألف معركة منها أجنادين واليرموك وحطّين، إن وراءه القرآن الذي يقول عن اليهود: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ واَلمْسكَنَةُ وبَاءُوا بِغَضَبٍ منَ الله) صدق الله العظيم؛ وكذبوا. . . إن الذليل لا يعز، والمسكين لا يملك، والمغضوب عليه لا يفلح أبداً!
إن حادثة فلسطين لو تدبرها العقل، وفهمها على وجهها لما رآها إلا. . . (جريمة): أبطالها طائفة من اللصوص، وشرذمة من الحرّاس، لصوص يتسورّون الدار ليطردوا صاحبها، ويحتلوها ويشردّوا أهلها، وحراس يعينون اللص على المالك وينصرون على الحق الباطل. . .
ولكن الجريمة لن تتمّ: إن الأسد في العرين، وربّ الدار يعرف كيف يحمى الدار. . . فيا أحفاد كعب بن الأشرف، وسلاّم بن أبى الُحقيق، وعصماء وأبى عَفْك، نحن أبناء محمد بن سلمة، وعبد الله بن عتيك، وعُمَير بن عدىّ، وسالم بن عمير. . . فإذا أغنى عن أجدادكم - إذا هم كانوا أجدادكم حقاً - إذا أغنى عنهم مالهم، أو دفعت عنهم حصونهم، أو نفعهم حلفائهم، وما حزّبوا علينا من أحزاب، أغنى ذلك عنكم:
(هوَ الذي أَخْرَجَ الّذينَ كَفَرُوا منْ دِيارِهمْ لأوّلِ الحشْرِ مَا ظَنَنْتمْ أَنْ يَخرُجُوا وظَنّوا أَنّهُمْ ما نِعَتُهُمْ حُصُونُهم من الله. فأَتَاهُمُ الله منْ حيثُ لم يحتسبِوا وَقَذَف في قلوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبون بُيُوتهم بأيديهم وأَيدي المؤمنين. فاعْتَبروا يا أُولي الأبْصار)
ولئن اشتدت اليوم المصيبة وعظم الخطب، فقد كانا يومئذ أشد وأعظم، يوم قامت أوربة كلها على قدم وساق، ثم سارت إلينا بقضها وقضيضها، يحدوها التعصب الأعمى، وتسوقها عصا البغضاء والحقد والعداوة الدينية، فأفسدت البلاد وعاثت في الحرم، حتى إذا ظنت(156/17)
أنها قد ملكت وتمكنت، وبنت فأسست، وباضت وفرّخت؛ جاءها رجل واحد فحطم جيوشها في حطين، ثم ردّهم على أعقابهم خاسرين، ثم أخرجهم منها مذءومين مدحورين.
أفعيينا بأوربة كلها، وعجزنا عنها حتى نعجز عن حفنة من شذ إذ الآفاق ونفايات الأمم وعباد الدرهم والدينار؟ أم قد جفّ الدم الذي روّى عروق صلاح الدين، وماتت الأمة التي أخرجته، وعقمت النساء فلا يلدن شبيهه؟ إن كل مسلم اليوم في فلسطين صلاحُ الدين، وكل بقعة فيها حطين!
ضربت عليهم الذلة والمسكنة: فالذهب في صناديقهم والنظام جمعياتهم، والريّ والخصب في أرضهم، والسلاح في أيديهم، والإنكليز من ورائهم، ثم لا يثبتون ساعة واحدة لهؤلاء العزل الفقراء. . . ولا يقدرون أن يقفوا في وجوههم، ويرتجفون إذا سمعوا ذكر أسمائهم: (إِذَا رأَيتَهُمْ تُعجِبُكَ أَجْسَامُهمْ وإِنْ يَقُولوا تَسْمَعْ لقولِهمْ كأَنَّهُمْ خشبٌ مُسَنَّدَة يَحْسَبُون كلَّ صَيْحَةٍ علَيهِمْ) أهؤلاء الذين لا يستطيعون أن يمشوا في الطرقات وحراب إنكلترا تحميهم، يستطيعون بعدُ أن يمسوا سدنة المسجد الأقصى وسادة فلسطين، ويملكوها - وحدهم - رغم أنف المسلمين أجمعين؟ ولو نفخ عليهم المسلمون أربعمائة مليون نفخة لطيروهم، ولو مالوا عليهم لطحنوهم، ولوبصقوا عليهم لأغرقوهم، ولو صرخوا فيهم لقتلوهم؟
أهؤلاء الذين ما عرفهم التاريخ إلا مغلوبين، يتحرشون بمن لم يعرفهم التاريخ إلا غالبين منصورين، ومن حكموا الدنيا فكانوا نعم الحاكمين، وعلموا العالم فكانوا خير معلمين؟
إن معهم وعداً، وإن معنا لوعداً: معهم وعد بلفور. ومنا وعد الله: (وَعَدَ الله الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرضِ كما اسْتَخْلَفَ الّذينَ من قَبْلِهمْ، وَلَيُمَكِّنَنّ لَهُمْ دينَهُم الذي ارتضى لَهُمْ، وليُبدلنَّهم من بعدِ خَوْفِهمْ أَمنا) ولكنّ الله يمتحن إيماننا وصبرنا واتحادنا وتعاوننا، وينظر أنجاهد في سبيله بأموالنا وأنفسنا، وننصر إخواننا ونكون في توادنا وتراحمنا كالجسد الواحد، إذا تألم عضو منه تداعت له سائر الأعضاء بالحمىّ والسهر، أم قد فرقت بيننا السياسة، وباعدت بيننا الغير، ومزقتنا الأهواء والمطامع، فأمسينا ننام في القاهرة ودمشق وبغداد على فرش الريش والديباج، وإخواننا على شعفات جبال نابلس والقدس لا يغمض لهم جفن، ونأكل الشواء والحلواء وإخواننا هناك قد لا يجدون ما يقوم بأودهم من الخبز، ونبذر المال نقذف به إلى أوروبة ثمناً لهنات هينات، فيصنعون منه(156/18)
مدافع تحصد إخواننا حصداً، وبنادق تمزق صدورهم تمزيقاً، وإخواننا لا يجدون ثمن الحاجات الضروريات، ونلهو ونلعب آمنين مطمئنين، وإخواننا في فلسطين قائمون على حد السيف، بين النار والحديد؟
فيا إخواننا في مصر والشام والعراق والحجاز والمغرب، ويا إخواننا في الهند والصين وأينما بلغت مقالتي هذه. . .
إن الله جل وعز يقول: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) فهل أنتم مؤمنون مسلمون بجوارحكم وقلوبكم، مخلصون لله في أسراركم وإعلانكم؟ أم أنتم مسلمون بالنسب والاسم وسجل الدولة، لا تعرفون إلا أنفسكم، لا تبالون إلا بلذاتكم، ولا تنظرون إلى أبعد من أنوفكم؟
إذا كنتم مسلمين حقاً، مؤمنين صدقاً، تريدون أن ينصركم الله فانصروا فلسطين ما استطعتم، انزعوا المال من أفواه عيالكم، وأعناق بناتكم، لتشتروا به حياة إخوانكم في فلسطين، اسهروا الليالي تتسقطون أخبارها، وتعلمون علمها، أمسكوا عن لهوكم وأفراحكم فلا تنفرج لكم سنّ حتى تنفرج أزمتها، اجعلوا قضية فلسطين، قضية كل واحد منكم. . .
أما أنتم يا إخواننا في فلسطين:
فاصبروا وصابروا (وَلا تَهِنوا وَلا تَحْزنوا وَأنتم الأَعلَون إِنْ كُنتم مؤمنين. إِن يَمْسَسْكم قَرْحٌ فقد مسّ القومَ قَرْحٌ مثلُه، وَتلك الأيام نداوِلُها بَيْنَ الناس، وَليعْلَم الله الّذينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ منكم شُهَدَاء، وَالله لا يحبُّ الظالمين، وَلِيَمحِّصَ الّذين آمنوا وَيمْحَقَ الكافرين. أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تدْخُلُوا الجَّنَة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الّذينَ جاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعلم الصابرين)
أما بعد، فان حادثة فلسطين - إن هي تمت - فضيحة الدهر، وعار الإنسانية. . . ولكنها لن تتم بحول الله وقوته ثم بقوة للمسلين. . .
علي الطنطاوي(156/19)
حماية الطالحين
بحث علمي اجتماعي
للأستاذ إسماعيل مظهر
في أواسط القرن التاسع عشر أصابت العلم هزة من تلك الهزات العنيفة التي تغير مجرى الفكر، وتقلب آيات العلم بعد أن يخيل إلى الناس أن المعرفة قد قامت على قواعدها الرسيسة، رأساً على عقب. ففي سنة 1859 نشر العلامة شارلز روبرت دروين كتابه (أصل الأنواع) فأقام الحجة البالغة على أن الأنواع تنشأ في الطبيعة بعضها منظور عن بعض على مر عصور متطاولة، وأن نشوء الحياة من فوق الأرض موغل في القدم.
ولقد أقام دروين نظريته على ثلاث قواعد أولية، هي التناحر على البقاء، والانتخاب الطبيعي، وبقاء الأصلح. أما التناحر على البقاء فاصطلاح مجازى يؤدى في أوسع مدلولاته معنيين: فأما أنه يدل على العلاقة القائمة بين الأنواع الحية العائشة في بيئة ما، إذا ما اتجهت الأسباب العاملة على بقاء نوع إلى إبادة آخر أو إفنائه، وإما أنه يدل على الجهد الذي يبذله الأحياء في سبيل الحصول على مقومات الحياة، كمقاومة العوامل والمؤثرات المفنية للأفراد أو المبيدة للأنواع. أما الانتخاب الطبيعي فمحصله أنه يبقى من أفراد الأنواع أو السلالات أقدرها على الحياة في بيئة ما وأن تفنى غير القادرة منها على البقاء. ولما كانت القدرة على البقاء وتخليف المِثْل، إنما ترجع إلى صفات حيوية تتأصل في الأحياء، ونشأ بالانتخاب الطبيعي تدريجياً على مر الأزمان سلالات وأنواع جديدة ممتازة بصفات معينة ثابتة. وقصد باصطلاح بقاء الأصلح أن الأحياء تتكاثر بنسبة رياضية. أي بنسبة 16: 8: 4: 2 وهكذا؛ فإذا لم يهلك معظم نتاجها بعوارض طبيعية ضاقت الأرض عن أن تسع الأحياء. ولذا لا يبقى من الأحياء إلا أصلحها أو أقدرها على البقاء ومقاومة العوارض. وما (بقاء الأصلح) في الواقع إلا اصطلاح يراد به إيضاح عمل الانتخاب الطبيعي المقتضى أن الأحياء التي هي أكثر صلاحية للبقاء في بيئة طبيعية تظل حية لتنتج أمثالها، في حين يفنى غير الصالح منها على هذه القواعد الثلاث شرع دروين مذهبه الذي اتجاه العلم الطبيعي برمته في أواسط القرن الماضي. أما الذين اكبوا على دراسة الاجتماعيات فقد تساءلوا: إذا كانت سنة الطبيعية الثابتة تقضى، لخير النوع وبقائه(156/20)
واحتفاظه بمستوى خاص من الحيوية والقدرة على مجالدة الأعاصير والأعداء، بأن يفنى الطالح من نتاجه وألا يبقى إلا الصالح، فان المدنية الحديثة بما تحوط به الطالحين من أسباب الحماية من الهلاك والفناء، إنما تقاوم سنة الطبيعة الثابتة، تلك السنة التي تقضى بأحد أمرين: فأما هلاك يصيب الطالحين ليفوز الصالحون بتخليف النسل فيحتفظ النوع بحيويته وبمثله العليا من حيث القوة والجهد، وإما فساد يصيب طبيعة النوع بلا بقاء على الطالحين الذين يورثونه كل الصفات التي يدركها الاحيائيون بين الأطلح والأصلح.
ولنضرب لذلك مثلاً نقتطعه من حالاتنا الاجتماعية. فلقد استطاع الفلاح المصري أن يقاوم ثلاثة أشياء، تسلط واحد منها على شعب غلت يد الطبيعة عن تزويده بمزايا الانتخاب الطبيعي، كافية للقضاء عليه: فساد الحكومات، والأمراض والحروب، فلقد توالت على هذا الفلاح دورات من استبداد الحكومات منذ عهد الفراعنة إلى الآن، لا يروى تاريخ أية أمة من الأمم لها شبيهاً. وازدياد عدد السكان في مصر إلى عشرين مليوناً في عصر من العصور إلى ثلاثة ملايين في عصر محمد علي، دليل قاطع على عظم ما عانى هذا الشعب من عوامل الإفناء وبرهان على ما فيه من حيوية استمدها من البيئة الطبيعية ومن حالاته المعاشية التي ظلت متروكة لحكم الطبيعة فيه الآلاف من السنين. وليس لي هنا أن أتكلم في الأمراض التي سكنت جسم هذا الفلاح منذ أقدم العصور وأخصها (البلهارسيا) وقد استدل على وجودها بالموميات المحنطة من أقدم العصور: أما الحروب فيكفي أن تعرف أن الجيش المصري حارب في خمس وأربعين وقعة تحت لواء قائدنا العظيم إبراهيم وحده في فترة لا تزيد على ثلاثين عاماً. فما بالك بالعصور التي هدمت فيها الإمبراطورية المصرية ثم بنيت على أكتاف هذا الفلاح منذ ستة آلاف خَلون من الأعوام؟
هذه الظاهرة تحملنا على أن نتساءل ما هو السر الذي جعل هذا الفلاح على ما في أسباب حياته من عوامل الإفناء يصمد لعوادي الدهر والطبيعة فلا ينقرض ولا يبيد، بل تراه اليوم وقد خرج من معارك التناحر على البقاء منصوراً، وعلى ضفاف نيله المقدس سبعة عشر مليوناً يفلحون أرض مصر ويتطلعون إلى أسمى المثل التي أوجدها التصور الديمقراطي الحديث؟
قد يتفق أن يقول بعض الذين لا يقوون على وصل أسلوب التفكير العلمي بأسلوب التفكير(156/21)
الاستقرائي إن ذلك راجع إلى صفات خص بها الشعب المصري دون غيره من شعوب الأرض التي عاصرته. وقد يكون في هذا الكلام بعض الحق، فان للصفات الخلقية التي تتصف بها بعض الشعوب أثر في ذلك. ولكن إذا نظرنا في الآمر من الواجهة الطبيعية الصرف ألفينا أن السبب راجع إلى أن هذا الشعب قد ترك للطبيعة معرضاً لعواملها خاضعاً لقوانينها الحديدية منذ أبعد العصور. وظلت الطبيعة تتولى إنساله بالانتخاب الطبيعي فتفنى غير القادر منها على البقاء، وتبقى في حلبتها الصالحين للبقاء، فاستطاعت بذلك أن تحفظ على هذا الشعب قدراً من الحيوية ظل ثابتاً على مدار العصور. وقد نرى هذا الفلاح اليوم بسحنته السفعاء وجسمه النحاسي، فما تقرأ فيه من آية إِلاّ آية الطبيعة خطت على ملامحه الهادئة؛ أمّا وداعة أخلاقه وصبره واحتماله وحدة نظراته وذكائه الموروث، فتحملك لأول وهلة إذا ما نظرتَ إليه أن تقول: هو ذا ابن من أبناء الطبيعة لم يَدْخلْ في فطرته بعد شيء من تزوير المدينة.
ولاشك عندي في أن تزوير المدينة لابد من أن يدرك فلاحنا بعد عهد قصير. فقد علت الصيحة في هذا العصر بوجوب النظر في ترقية الفلاح اجتماعيا. أما إذا كان الذين يصيحون هذه الصيحة لا يقصدون بها إلاّ أن يخرج الفلاح من تلك البيئة التي نشأ فيها إلى بيئة مزورة ندعوها المدينة، بأن نغل يد الطبيعة عن أن تدرك منه أغراضها الانتخابية، وأن تعمل على حماية أولئك الذين كتبت عليهم الطبيعة آية الفناء بأسباب اصطناعية، فان ذلك سوف يكون أول عهد الفلاح بفقدانه الحيوية التي استمدها من الطبيعة على مدار العصور وعلى تتالي الأحقاب. ولم أدرس بعد كيف نستطيع أن نحمي فلاحنا من مفاسد المدينة التي تقضى بأبعاده عن حكم الطبيعة فيه، وإنما أقول إن كل إصلاح اجتماعي لا يعوض على الفلاح ما سوف يسلب من فعل الطبيعة، إصلاح هو إلى الفساد أقرب شيء.
ولقد بحث هذا المشكل الاجتماعي فحول من معاصري الاجتماعيين، وزكىَّ بحوثهم فئة من كبار الأخصائيين في أوروبا وأمريكا، ولقد بان لهم بأجلى دليل أن الحماية المصطنعة التي حَدّ بها العلم من فعل الطبيعة في الطالحين، أي غير القادرين على البقاء في البيئة الطبيعة، لولا تلك الحماية، سبب من اكبر الأسباب التي ولدت ما يظهر على أكثر شعوب الأرض من مظاهر الهرم والضعف الحيوي، حتى لقد لجأت ألمانيا وغيرها من ولايات أمريكا(156/22)
المتحدة والجزر البريطانية التي تعقر طبقات خاصة من المجرمين والمعتوهين والفاسدين توصلا إلى طريقة عملية يعوضون بها على الأحياء شيئاً مما فقدت بالحماية المصطنعة من فعل الطبيعة والخضوع لسنتها الثابتة.
من هذه البحوث بحث ألقاه لورد (دوصن في الجمعية الطبية بمدينة يورك نشر بعنوان (الطب والتقدم الاجتماعي) تساءل فيه عما إذا كانت النزعة التي تنزع بنا إلى حماية كل الأطفال الذين يولدون من قضاء الطبيعة فيهم، مهما كانوا طالحين غير قادرين على البقاء بغير حماية فعلية، أمراً مناقضاً لما تنشد من ارتقاء السلالات البشرية وخيرها في مستقبل العصور. ففي خلال ستين عاماً انخفضت نسبة الوفيات بين الأطفال من 156 في الألف إلى 60 في الألف، ونزلت في الأطفال الذين هم فوق الخامسة من 68 إلى 18، وزاد عدد السكان في خلال هذه (الفترة 1870 - 1934) خمسين في المائة عما كان قبلا.
على أننا نستطيع أن ندرس الظواهر التي تنشأ عن مثل هذه الحالات، إذا رجعنا إلى أنوع أخرى تعيشنا في الطبيعة. فقد نرى أن الأنواع الأخرى، غير النوع البشرى، وغير الأنواع الداجنة التي يكثرها الإنسان لأغراض له فيها، تحتفظ بنسبة ثابتة في الأعقاب، أي في تخليف النسل، وأنه كلما أخذت نسبتها في الزيادة العددية سلطت عليها الطبيعة عوامل تردها إلى النسبة التي لا تسمح بأكثر منها، فقد لحظ أن ازدياد عدد نوع من الأنواع يصحبه دائما ظهور أمرين: إما زيادة في عدد الأنواع المفترسة، وإما ازدياد في الأمراض. وفي هذه الحالة لا يبقى من أفراد الأنواع إلا أقدرها على البقاء وأصلحها لأعقاب نسل يرث ما فيها من صفات تمكن النوع من الاحتفاظ بذاته، فإذا صدت الطبيعة عن أن تقضي في نوع بحكمها هذا، ترتب على هذا انحطاط يظهر في أعقاب هذا النوع.
والمثل على هذا عديدة، نقتصر على ذكر مثالين منها، فقد حدث أن حاول أهل سويسرا أن يحموا نسل حيوان يكثر في جبالهم يدعى (الشموا) وهو فصيلة من قيمة تجارية، فأسروا عدداً منه في داخل مكان متسع أحيط بكل أنواع الحماية، وبخاصة من الذئاب التي هي أنكى أعداء هذا الحيوان. فكانت النتيجة المحتومة أن ظهر في هذا النسل المأسور صفات انحطاطية بينه، وكثر فيه عدد الأفراد المهزولة الضعيفة، وبدت عليه كل علامات الانحلال الحيوي، حتى أضطر المربون في النهاية أن يدخلوا إلى مكان الأسر عدداً محدوداً من(156/23)
الذئاب المفترسة، فوجدت هذه الذئاب في الأفراد المنحطة فرائس يسهل اقتناصها؛ وبعد قليل استعادت البقية الباقية كل الصفات المثالية التي يمتاز بها النوع في مرابيه الطبيعية أما في زيلاندا الجديدة فقد تكررت هذه الظاهرة بينها، والمعروف أن هذه الجزر من أمثل بقاع الأرض مناخاً وطبيعة لتربية الأنعام خاصة، وذوات الثدي عامة، ذلك بأنها خالية من الحيوانات المفترسة خلواً تاماً. فلما استوطنها الايقوسيون حسن لديهم أن يدخلوا إليها عدداً من الغزال الأحمر الذي يعيش في جبالهم العليا، فكانت لهذا الحيوان أمثل مباءة، فتكاثر واكتنز لحماً، ولكن بان لهم بعد قليل من الزمن أن النوع الذي جلب من أثيوبيا مملوء حيوية، محتفظ بأسمى الصفات التي يتسم بها في مرابيته، قد ظهرت بينه أنواع انحرفت عن صفات النوع المثالية. فكانت أضعف بنية وأقل مقدرة على العدو، وقد شوه منظرها الخارجي بصفات لم يكن لها من وجود في أسلافها، أما الدواء فكان إدخال عدد من الذئاب المفترسة القوية إلى الجزر، كانت عدة الطبيعة في القضاء على الطالحين من نسل هذا الحيوان، فاستردت البقية الصالحة، بعد فناء غيرها، كل الصفات الحيوية التي يتصف بها هذا النوع في مرابيه.
أمام هذه الحقائق أخذ المصلحون يفكرون في تلك الوسائل التي يحاول بها دعاة المدنية والإنسانية أن يصلوا امن طريقها إلى حماية كل الأطفال الذين يولدون، أليس في الإفراط في اللجوء إلى هذه الوسائل معاندة للطبيعة بأن نكثر من نسل أناس يتصفون بالضعف الأدبي والعقلي والطبيعي؛ مثلنا في ذلك مثل أولئك الذين أرادوا أن يغالبوا الطبيعة في تربية الشموا والغزال الأحمر؟
وحجة الذين يميلون إلى الأخذ بالميول الإنسانية في مثل هذه البحوث العلمية، أن نسبة الزيادة في عدد السكان آخذة في التناقص شيئاً بعد شئ، وقد تقف عند حد خاص بعد زمن وجيز؛ فلا سبب للانزعاج والتشاؤم؛ غير أن هؤلاء تغيب عنهم حقيقة رئيسية، هي أن نسبة زيادة عدد السكان إن كانت قد أخذت في النقص، فانه نقص معكوس الآية، ففي منتصف القرن التاسع عشر كان التجار وأصحاب الحرف الفنية من ذوى الأسر العديدة الأفراد، في حين أن كبر أسرات رجال الدين كان مضرب المثل، فإذا وعينا أن متوسط عدد أفراد الأسرة في أمة تريد الاحتفاظ بكيانها لا ينبغي أن يقل عن أربعة أنفس، ذاكرين(156/24)
أن هنالك أسراً قد تظل عقيماً، وأخرى تصاب بالثكل، وعلمنا أن عدد الأسرة في طبقتي الأطباء ورجال الدين لا يزيد عن اثنين، علمنا أن اطراد النقص في عدد السكان إنما هو اطراد عكسي. ذلك بأن هذه النسبة تقيد الطبيعية من ناحيتين: الأولى أعقاب النسل بالنسبة للطبيعة؛ والثانية عدم تزويد الطبيعة بمادة للانتخاب، إذ تغربل الناتج لتبقى على الأصلح هذه هي الحالات التي يقع تحت سلطانها إنسان القرن العشرين، فهل من سبيل إلى اتقائها؟ يقول لورد (دوصن) إن اتقاءها مرهون على شرطين: الأول نشر المعلومات التي تتعلق بضبط النسل: والثاني التعقير الاختياري. أما الشرط الأول، وهو شرط قد تحقق منه شطر عظيم بذيوع الوسائل التي تضبط النسل، فان عليه اعتراضاً ذا خطر عظيم، هو أن الذين يجنحون إلى ضبط النسل إنما هم أولئك الذين تعتبرهم زهرة المجتمع الإنساني من أصحاب العقول الراجحة والمزايا الفذة، في حين أن غيرهم من الطبقات الدنيا والطالحين يتناسلون جهد ما تبلغ استطاعتهم. وفي ذلك مشكل هو بذاته أنكى من حماية غير القادرين على البقاء بالطرق الاصطناعية. فان قلة نسل الأولين وازدياد نسل الآخرين مفسدة سوف تسرع ببعض الجماعات إلى درجة من الانحطاط يخشاها المصلحون، أما التعقير الاختياري فلا يعقل أن يكون دواء ناجعاً. ذلك بأن التعقير تشويه طبيعي لا يرضى به إلا أقلية من الناس لا يعتد بهم إذا قيسوا إلى مجموع الأمة.
ولست أرى أن في هذين الأمرين منجى من الأخطار التي تحيق بالجماعات في هذا الزمان، ولا بد للمفكرين الذين يرغبون في خير الإنسانية، ويودون أن يحتفظ النوع الإنساني بصفاته الرئيسية، أن يقعوا على علاجات أخرى تكون ناجعة في التعويض عن فعل الطبيعة في الانتخاب مع فرض الحماية على المواليد أيا كانوا ومن أي طابع خرجوا إلى هذه الدنيا.
إسماعيل مظهر(156/25)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
اَلحصانة واليهودي الأفاَّق
- 2 -
كانت كشوف بستور وكوخ قد شاعت في الناس فثاروا لها جنوناً، فكان لا هم لهم إلا بها، ولا حديث إلا فيها، فلما لما جاء عام 1883 انقلب متشنيكوف من باحث طبيعي إلى صائد مكروب؛ وكان قد خاصم رجال السلطة في جامعة أودسّا، فترك الجامعة وذهب إلى جزيرة صقلية، وصحب معه زوجته أُلجا وأخوتها؛ فلما حلوا جميعاً بها اتخذوا لأنفسهم فيها منزلاً صغيراً ذا طابق واحد يطل على المياه اللازوردية لشاطئ كلَبرية، وفي حجرة الجلوس هيأ متشنيكوف لنفسه معملاً مرتجَلاً. وأوحت إليه نفسه بأن الشيء الرائج عندئذ في العلوم هو علم المكروب، فأخذ يحلم الأحلام ويأمل الآمال عن كشوف خطيرة لمكروبات جديدة يكتشفها، وكان يلذّ له العمل أيضاً فيها لذةً صدق، ولكنه لم يكن يدرى من طرائقها الخدّاعة شيئاً، بل قل أنه لم يكن رأي مكروبة واحدة؛ وطال تجواله في حجرة الجلوس هذه يشرح لألجا نظريات علم الحياة تارة، أو هو يدرس نجوم البحر واسفنجياته تارة، أو هو يحكى الحكايات لأخوة أُلجا وأخواتها، واختصاراً كان يفعل كل شيء لا يمُتُّ بصلة إلى تلك الأبحاث المجيدة التي قام بها كوخ وبستور.
وذات يوم أخذ يدرس كيف تهضم الاسفنجيات ونجوم البحر أطعمتها، وكان قبل ذلك عثر في داخل هذه الأحياء على خلايا غريبة هي بعض أجسام هذه الاحياء، ولكنها مع ذلك تدور فيها دوران الحر الطليق، وكانت هذه الخلايا الأفاقة التائهة تسبح في مجاريها كما تسبح الخلايا الأشهر المعروفة بالأميبا تضرب ببعض جسمها الرخو قُدُما في سائل الجسم، فإذا برز منه ما يشبه اللسان جرّ ما تخلف من الجسم وراءه.
وجلس متشينيكوف من بيته في غرفة الجلوس، وقعد إلى المنضدة وجاء بعلقات من نجوم البحر، وأدخل في أجسامها شيئاً من صبغة الكرمين وجاهد في إدخالها جهاد الرجل الذي لا تستطيع يداه مجاراة عقله، وضاق بهذه التجربة صدره للذي عانته أصابعه الثقيلة في(156/26)
أجرائها، وكانت تلك فكرة بارعة من بنات أفكاره الحسان، لأن هذا العَلَق شفّاف كالزجاج، فكان في استطاعة صاحبنا أن يتتبع بعدسته ما يجرى فيه، ونظر فوجد تلك الخلايا الأفّاقة الطليقة تسبح إلى حبّات صبغته، فإذا بلغتها التهمتها التهاماً، ففرح وطَرِب، وخال متشنيكوف إلى تلك الساعة أنه يدرس كيف يهضم نجم البحر طعامه؛ ولكن طافت في حواشي فكره أشباح من أفكار جديدة يتضاءل إلى جانبها موضوع الهضم تضاؤلاً كبيراً، أفكار رائعة مبهمة لا تتصل بمبحَث الهضم من قريب أو بعيد.
وفي الغد ذهبت أُ لجا بالأطفال إلى السرك يشهدون ألعاب قردة بارعة التمثيل؛ وبقى متشنيكوف حيث هو من غرفة الجلوس وعلى وجهه لحية كلحية القديسين؛ وقد أخذ بشدّ شعراتها شداً؛ وقد أخذ نجم البحر في مائة بوعائه. ولكن لا يرى منه شيئاً. وفي ساعة قصيرة جرى له مثل الذي جرى للقديس بولص وهو في طريقه إلى دمشق لما شعّ في وجهه ذلك النور الباغت فأعماه. نعم في ساعة قليلة، في دقيقة قصيرة، في ومضة برق، أو لحظة عين نزل الوحي على متشنيكوف فتغّير بغتة مجرى حياته.
(إن هذه الخلايا الأّفاقة التوّاهة في أجسام نجوم البحر تأكل الطعام وتلتهم حبّات الصبغة - إذن هي لا بد تأكل المكروبات أيضاً. وفي أجسامنا نحن، وفي دمائنا نحن، لا بد أن كراتنا البيضاء هي التي تلتهم الجراثيم فتحمينا من غوازيها. . إن هذه الكرات البيضاء هي سبب حصانتنا من العدوى. . . إنها هي هي التي تقي الجنس البشرىّ من فناء سريع تحمله إليه أجناس البشلاّت).
وهكذا، بدون أي دليل، وبدون محاولة أي تجربة، قفز متشنيكوف هذه القفزة الكبرى من هضم نجم البحر إلى أدواء الإنسان.
كتب في مذكراته: (وبغتةً وجدت نفسي قد انقلبتُ عالِمَ أمراض وهذا انقلاب كبير لا يَعْدِلهُ إلاّ انقلاب زمّار إلى فلكيّ. وكتب (وأحسست أن هذه الفكرة ستتمخض عن أمر كبير الخطورة، فاضطربت نفسي واهتاجت فأخذت أغدو في الغرفة وأروح حتى لَذَهبت إلى شاطئ البحر أستجمع فكرى). وكتب: (وقلت لنفسي لو صّحت هذه النظرية إذن لتوقعت إذا أنا أدخلت فِلقة خشب في نجم البحر أن تتجمع هذه الخلايا الأفّاقة حول الفلقة دفعاً للسوء الطارئ.) وذكر بهذا أن الرجل تدخل في إصبعه الشوكة فينسى أن ينتزعها فلا(156/27)
تلبث أن تتجمع حولها المِدّة والقيح وما هما إلا طوائف من الخلايا البيضاء التي تطوف في دم الإنسان. ذكر هذا بهذا فهرول إلى الحديقة التي وراء بيته، إلى شجيرة ورد كان ذوقها وزخرفها من أجل أخوة أُولجا ليحتفلوا بها في عيد الميلاد، وانتزع منها بعض شوكها، وعاد بالشوكات إلى معمله، وما هو بالمعمل، وشكها جميعاً في جسم أحد نجوم البحر وكان شفافاً كالماء.
وما طلع فجر الغد حتى استيقظ وقد امتلأ قلبه بكل أمل بعيد، ولم يتمهل بعد يقظته طويلاً حتى عرف أن ظنه أصاب، وأن خيال الأمس أصبح حقيقة اليوم. نظر إلى شوكات الورد فوجد طوائف عدة من تلك الخلايا الأفاقة التائهة قد ازدحمت حولها وأخذت تتماوج في كثرتها وبطئ حركتها. وكان فيما رأي الكفاية لإقناعه بأنه وجد تفسيراً للحصانة من جميع الأمراض، وعادته في الطفرة إلى الاستنتاجات السرية معروفة مشهورة. وخرج في هذا الصباح يخبر مشاهير أساتذة أوربا بالذي وجده، وكانوا اجتمعوا اتفاقاً بمدينة مسينا على القرب منه، وقال لهم: (هذا هو السبب الذي من أجله يصمد الإنسان لغائلة المكروبات). وانطلق لسانه حديداً فصيحاً يشرح لهم كيف حاولت خلاياه التواهة أن تأكل الشوك أكلا لما، واستطاع أن يريهم تلك التجربة الجميلة مصداقا لدعواه فصدقه العلماء، حتى ذلك العالم الجليل المخوف الأستاذ الدكتور فرشو آمن به وقد كان سَخِر بكوخ لما أتاه. ومن هذا اليوم دخل متشنيكوف في زمرة صُياد المكروب.
- 3 -
ثم ترك أُلجا والأطفال وراءه يعيشون وحدهم على قدر ما يستطيعون، وذهب إلى فينّا ليعلن من فوق منبرها أن الإنسان حصين من الجراثيم لأن بدمه كريات بيضاء تائهة عملُها بلعُ هذه الجراثيم. وذهب تواً إلى معمل صديقه القديم الأستاذ كِلاوُسْ وكان عالم حيوان، وكان يجهل من أمر المكروب بقدر ما جَهِل متشنيكوف، كذلك اُعِجب بالذي سمعه وقال لصديقه الضيف. (انه ليسرني ويشرفني كثيراً أن تنشر نظريتك في مجلتي)
فقال متشنيكوف: (ولكن لابد لي من اسم علمي لهذه الخلايا التي تلتقم المكروبات، أعني اسماً اغريقياً، فأي الأسماء تقترح؟)
فرفع الأستاذ يده إلى رأسه يحكّها، وحكّ الجهابذة العلماء رؤوسهم معه، ونظروا المعاجم ثم(156/28)
أخبروه أخيراً: (أن الكلمة المثْلى هي فجوسه ومعناها بالإغريقية الخلية الملتهمة فهي إذن ضالتكَ التي تنْشُد)
فشكرهم متشنيكوف، وأخذ هذه الكلمة وعلقها في أعلى ساريته، ثم حل القلاع ومخر بسفينة بحار حياته المضطربة، وهذه الكلمة دينيه، وبهذه الكلمة يفسر كل شئ، وهي صرخته في حربه وفي سلمه، وهي أداة عيشه وآلة رزقه. وصدّقني أو كذّب لقد كان لهذه الكلمة نصيب كبير في حفزنا إلى الدراسة ما هي الحصانة. ومن هذه الساعة أخذ متشنيكوف يبشر بالفجوسات ويذيع من أمرها كل جميل، ويدفع عنها مقالة السوء، وأجرى عليها أبحاثاً لها خطرها، وعادى في سبيلها، ولاشك أنه بذلك أدّى نصيبه في إحداث الحرب العالمية الكبرى حرب عام 1914 بما عكّرت حملاته الشديدة ما بين فرنسا وألمانيا من مودّة لم تكن كثيرة الصفاء أبداً.
وذهب من فينا إلى أوديسا، وهناك ألقى خطاباً عظيما في (القوات العلاجية للكائن الحي)، فدهش أطباء هذا البلد مما قال وأُعجبوا به إعجاباً كبيراً، فقد كان إلقاؤه غاية في الإبداع، وحرارة قلبه لا تدع للسامع شكا في إخلاصه، ولكن لا يوجد في السجلات ما يفهم منه المطالع أنه أخبر جمهره الأطباء بهذا البلد أنه لم يكن رأي إلى هذا العهد كرة دموية بيضاء واحدة تلتهم مكروبة واحدة من مكروبات الوباء. إن الناس جميعاً - ومنهم الأطباء العلماء - لا تقع أبصارهم على كلبين يتشاجران حتى تستوقفهم تلك الحرب الصغيرة فيتجمعون حولها ارواء للطبيعة وانتظاراً لعلم من تكون له الغلبة، وكذلك الحال في أمر متشنيكوف فان حكاية تلك الحروب الطاحنة الدائمة المتواصلة بين الفجوسات الجريئة الباسلة، وهي تنهض إلى الثغور تدفع غزوة تلك المكروبات العادية القاتلة، تلك الحكاية أثارت شوق الناس فأرهفت آذانهم لاستماع، وفتحت قلوبهم لاقتناع.
ولكن متشنيكوف عرف أنه لابد له من البحث عن حقائق ذات بال تقوم دليلاً على الذي يقول؛ ولم يطل به الزمن حتى وجدها بيّنة كالشمس رائقة كالبلور، وذلك في براغيث الماء.
ومضت عليه فترة من الزمن نسى فيها الخطابة، وعكف فيها على صيد هذه البراغيث من البرك ومرابي الأسماك. وكان اختيارا عبقرياً أوحى إليه به لا شكّ شيطانه، فهذه البراغيث(156/29)
كانت كعَلَق نجوم البحر شفافة، فاستطاع بعدسته أن يرى ما يجرى في داخلها، وأخذ يبحث في جَلَد شديد عن داء يكون في هذه البراغيث، وجاءه صبرٌ نادر على غير انتظار، فعَمِل طويلاً، وبحث كما يبحث البحّاثة القُحّ وقليلاً ما كانة.
لعلك أيها القارئ أدركت من تاريخ المكروبات هذا أن الباحث كثيراً ما يعتزم البحث عن شيء فيبدأ بحثه فلا يلبث به طويلا حتى تقوده الطريق إلى أمور غير التي طلبها أولاً على أن هذا لم يكن من قِسمة صاحبنا؛ فانه أخذ يرقب هذه البراغيث تضرب في حياتها العادية ضرباً غير ذي غاية ولانهاية.
فلم يلبث أن رآها من خَلَل عدسته تبتلع بزور خمائر فيها خطر على حياتها. وكانت بزوراً حادة كالأبر. فلما بلغت إلى ما يشبه المعدة من البرغوث نفذت فيه وأخذت تسير انزلاقاً في جسمه. هنا رأي متشنيكوف ما خصّته الأقدار برؤيته. هنا نظر ما أتحفته الحظوظ الطبية بنظرته: سارت خلايا البرغوث الأفّاقة التوّاهة: تلك الفَجُوسات التي تقي الجسم شرّ الدخيل، سارت نافرة إلى تلك البزور الفاتكة العادية، فتجمعت حولها، وحلّقت عليها. فأذابتها، وأكلتها أكلا، وهضمتها هضما. . . ومما زاد نظريته ثبوتاً، أن بعض البراغيث كانت تتخاذل فَجُوساتها أحياناً عن النفْر إلى العدوّ الغازي، فكانت بزور تلك الخمائر تستقر في جسم البرغوث فتتنفس عن خمائر حية ناشطة تتكاثر تكاثراً ذريعاً فتسمم البرغوث فتقتله ثم هي تأكله أطلّ متشنيكوف من خلال عدسته على هذه المعارك الجميلة تدور رحاها في هذه الميادين الصغيرة فعرف أولَ عارفِ سرّاً من أسرار الطبيعة خبأته عن الناس زماناً طويلاً، عرف كيف تدفع بعض الخلائق عن نفسها غائلةً لو قعدت عنها لكانت قاتلة. وقد كان صادقاً في الذي رآه، وقد كان بارعاً موّفقاً في الطريق الذي سلكه، فأنىّ يخطر على بال امرئٍ أن يبحث عن علّة الحصانة في مخلوق غريب بعيد كل البعد عن أذهان الناس كبرغوث الماء.
وقنع بالذي وجده من بحثه، وآمن كل الإيمان بنظريته فلم يتابع دراسة تلك المعارك التي كان يقضى كوُخ السنوات العديدة لو أنه اتفق له منها ما اتفق لمتشنيكوف. وأخيراً نشر مقالة نمّت عن علم جم وفضل كثير قال فيها: (إن حصانة براغيث الماء ترجع إلى فُجَوساتها، وهي مَثَل للأسلوب الطبيعي في الوقاية من الوباء. . . فان بزرة الخميرة إذا لم(156/30)
تتلقها خلايا الجسم التوّاهة الدفّاعة فتبتلعها عند نفاذها في الجسم، استطاعت تلك البزرة أن تنبت الخميرة واستطاعت هذه أن تتكاثر وأن تفرز سماً لا يصد خلايا الجسم المدافعة فحسب، بل يقتلها ويذيبها كما يذوب الملح في الماء)
(يتبع)
أحمد زكي(156/31)
أعلام الإسلام
2 - سَعِيد بنُ المسَيّب
للأستاذ ناجي الطنطاوي
ضربه وحبسه
قال عبد الله بن جعفر وغيره: استعمل عبد الله بن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير فقال سعيد بن المسيب: لا: حتى يجتمع الناس، فضربه ستين سوطاً، فصاح به سعيد والسياط تأخذه: والله ما ربعت على كتاب الله، يقول الله: أنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلاّ ليالٍ فاصنع ما بدا لك، فسوف يأتيك ما تكره. فما مكث إلا يسيراً حتى قتل ابن الزبير. وروى أن ابن الزبير لما بلغه ضرب ابن المسيب كتب إلى جابر يلومه ويقول: ما لنا ولسعيد؟ دعه.
وقال يحيى بن سعيد: كتب والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان: إن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا سعيد بن المسيب. فكتب أن اعرضه على السيف، فان مضى وإلا فاجلده خمسين جلدة، وطف به أسواق المدينة. فلما قدم الكتاب على الوالي، دخل سليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله، على سعيد بن المسيب، فقالوا: إنا قد جئناك في أمر: قد قدم فيك كتاب من عبد الله بن مروان إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً، فاعطنا إحداهن، فان الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب فلا تقل (لا) ولا (نعم)، قال: فيقول الناس بايع سعيد بن المسيب؛ ما أنا بفاعل. (قال): وكان إذا قال: لا، لم يطيقوا عليه أن يقول نعم. قال: مضت واحدة وبقيت اثنتان. قالوا فتجلس في بيتك فلا تخرج إلى الصلاة أياماً، فانه يقبل منك إذا طلبت في مجلسك فلم يجدك. قال: وأنا أسمع الأذان فوق أذنيّ: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح؟ ما أنا بفعل. مضت اثنتان وبقيت واحدة. قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره، فانه يرسل إلى مجلسك فان لم يجدك أمسك عنك. قال: فرقاً لمخلوق؟ ما أنا بمتقدم لذلك شبراً ولا متأخراً شبراً. فخرجوا وخرج إلى الصلاة، صلاة الظهر، فجلس في مجلسه الذي كان(156/32)
يجلس فيه، فلما صلى الوالي بعث إليه فأتى به، فقال: أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين فلما رآه لا يجيب أخرج إلى السدة فمدّت عنقه وسلْت عليه السيوف، فلما رآه قد مضى أمر به فجرّد، فإذا عليه تبّان شعر فقال: لو علمت أني لا أقتل ما اشتهرت بهذا التبّان، فضربه خمسين سوطاً ثم طاف به أسواق المدينة، فلما ردّه والناس منصرفون من صلاة العصر قال: إن هذه لوجوه ما نظرت أليها منذ أربعين سنة.
وروي أن سعيداً لما جردّ ليضرب، قالت له امرأة: إنّ هذا لمقام الخزي، فقال لها سعيد: من مقام الخزي فررنا.
وقال قتادة: أتيت سعيد بن المسيّب، وقد ألبس تبّان شعر وأقيم في الشمس فقلت لقائدي: أدنني منه فأدناني منه، فجعلت أسأله خوفاً من أن يفوتني وهو يجيبني حسبة والناس يتعجبون.
وقال عبد الله بن يزيد الهذلي: دخلت على سعيد بن المسيّب السجن، فإذا هو قد ذبحت لهُ شاة، فجعل الإهاب على ظهره، ثم جعلوا له بعد ذلك قضباً رطباً، وكان كلما نظر إلى عضديه قال: اللهم انصرني من هشام.
وقال أسلم أبو أمية مولى بنى مخزوم وكان ثقة: صنعت ابنة سعيد بن المسيّب طعاماً كثيراً حين حبس، فبعثت به اليه، فلما جاء الطعام دعاني سعيد فقال: اذهب إلى ابنتي فقل لها: لا تعودي لمثل هذا أبدا، فهذه حاجة هشام بن إسماعيل، يريد أن يذهب مالي فأحتاج إلى ما في أيديهم وأنا لا أدرى ما أحبس، فانظري إلى القوت الذي كنت آكل في بيتي فابعثي إلي به، فكانت تبعث إليه بذلك، وكان يصوم الدهر.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيّب إنه كان إذا أراد الرجل أن يجالسه قال: إنهم قد جلدوني، ومنعوا الناس أن يجالسوني.
وقال عبد الله بن جعفر وغيره: كتب هشام بن إسماعيل إلى عبد الملك بن مروان يخبره بخلاف سعيد بعد أن وضعه في السجن وما كان من أمره، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع به ويقول: سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وأنا لنعلم ما عند سعيد شقاق ولا خلاف.(156/33)
وقال الواقدي: كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان فيه سيئ الرأي، فدعا سعيد ابنه ومواليه فقال: أن هذا الرجل يوقَف للناس أوقد وُقف فلا يتعرض له أحد، ولا يؤذه بكلمة، فأنا سنترك ذلك لله وللرحم، فان كان ما علمت لسيء النظر لنفسه فأما كلامه فلا أكلمه أبداً!
وقال عمران: كان لسعيد بن المسيب في بيت المال بضعة وثلاثون ألفاً عطاؤه، فكان يدعى إليها فيأبى ويقول: لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان!
معاملة للخلفاء والولاة
قال على بن زيد: قيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك، ولا يحركك، ولا يؤذيك؟ قال: والله لا أدرى إلا أنه دخل ذات يوم مع أبنه المسجد، فصلى صلاة، فجعل لا يتم ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفاً من حصى فحصبته به، زعم أن الحجاج قال:
مازلت بعد ذلك أحسن الصلاة.
وقال عمران بن عبد الله بن طلحة بن خلف الخزاعيّ: حجّ عبد الملك بن مروان، فلما قدم المدينة فوقف على باب المسجد، أرسل إلى سعيد بن المسيب رجلاً يدعوه ولا يحركه؛ قال: فأتاه الرسول وقال: أمير المؤمنين واقف بالباب يريد أن يكلمك، فقال ما لأمير المؤمنين إلى حاجة، وما لي إليه حاجة، وإن حاجته إلى لغير مقضية! قال: فرجع الرسول إليه ليه فأخبره فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له سعيد ما قال له أولاً. فقال له الرسول: لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك. يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول له مثل هذه المقالة؟: فقال: إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو لك، وان كان غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض. فأتاه فأخبره فقال: رحم الله أبا محمد، أبى إلا صلابة.
وقال عمرو بن عاصم: لما استخلف الوليد بن عبد الملك، قدم المدينة فدخل المسجد فرأى شيخاً قد اجتمع الناس عليه، فقال: من هذا؟ فقالوا سعيد بن المسيّب؛ فلما جلس أرسل إليه فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين: فقال: لعلك أخطأت بأسمى أو لعله أرسلك إلى غيري! قال: فأتاه الرسول فأخبره، فغضب وهمّ به، قال: وفي الناس يومئذ بقية، فأقبل عليه جلساؤه فقالوا: يا أمير المؤمنين فقيه أهل المدينة، وشيخ قريش، وصديق أبيك، لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه. قال: فما زالوا حتى أضرب عنه.(156/34)
وقال ميمون بن مهران: قدم عبد الملك بن مروان المدينة، فامتنعت منه القائلة واستيقظ، فقال لحاجبه: أنظر هل في المسجد أحد من حداثنا من أهل المدينة؟ فخرج فإذا سعيد بن المسيّب في حلقة له، فقام حيث ينظر إليه، ثم غمزه وأشار إليه بإصبعه ثم ولي؛ فلم يتحرك سعيد ولم يتبعه. فقال: ما أراه فطن، فجاء فدنا منه ثم غمزه وأشار إليه وقال: ألم ترني أشير إليك؟ قال: وما حاجتك؟ قال: استيقظ أمير المؤمنين، فقال: أنظر في المسجد أحد من حداثي، فأجب أمير المؤمنين، فقال: أرسلك إلي؟ قال: لا، ولكن قال فانظر بعض حداثنا من أهل المدينة، فلم أر أحداً أهيأ منك. فقال سعيد: اذهب فأعلمه أنى لست من حداثه! فخرج الحاجب وهو يقول: ما أرى هذا الشيخ إلاّ مجنوناً! فأتى عبد الملك فقال له: ما وجدت في المسجد إلا شيخاً أشرت إليه فلم يقم، فقلت له إن أمير المؤمنين قال أنظر هل ترى في المسجد أحداً من حداثي فقال: إني لست من حداث أمير المؤمنين. وقال لي: أعلمه، فقال عبد الملك: ذاك سعيد بن المسيّب، فدعه.
وقال هشام بن عروة: لما تزوج الحجاج، وهو أمير المدينة بنت عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، أتى رجل سعيد بن المسيّب فذكر له ذلك، فقال: أني لأرجو ألا يجمع الله بينهما، ولقد دعا داع بذلك وابتهل؛ وعسى الله؛ فان أباها لم يزوجها إلا الدراهم، فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان أبرد البريد إلي الحجاج وكتب إليه يغلظ له ويقصر به ويذكر تجاوزه وقدره، ويقسم بالله لئن هو مسّها ليقطعنّ أحب أعضائه اليه، ويأمره بتسويغ أبيها المهر، وبتعجيل فراقها، ففعل فما بقى أحد إلاّ سره ذلك.
وقال المطلب بن السائب: كنت جالساً مع سعيد بن المسيب في السوق فمرّ بريد لبني مروان، فقال له سعيد: من رسل بني مروان أنت؟ قال: نعم. قال: كيف تركت بني مروان؟ قال: بخير. قال: تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب! فاشرأبّ الرسول، فقمت إليه فلم أزل ارجيه حتى انطلق فقلت لسعيد: يغفر الله لك، تشيط بدمك؟ فقال: أسكت يا أحيمق! فو الله لا يسلمني الله ما أخذت بحقوقه.
وقال صالح بن كيسان: حجّ الوليد بن عبد الملك، فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد بنظر إلى بنائه، فأخرج الناس منه، فما ترك فيه أحد، وبقى سعيد بن المسيّب ما يجترئ أحد من الحرس أن يخرجه! وما عليه إلا ربطتان ما تساويان إلا خمسة دراهم مصلاه. فقيل له لو(156/35)
قمت، قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. قيل: فلو سلّمت على أمير المؤمنين. قال: والله لا أقوم إليه! قال عمر بن عبد العزيز فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد رجاء ألا يرى سعيداً حتى يقوم، فحانت من الوليد نظرة إلى القبلة فقال: من ذلك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيّب؟ فجعل عمر يقول: نعم يا أمير المؤمنين، ومِن حاله، ومِن حاله، ولو علم بمكانك لقام فسلم عليك، وهو ضعيف البصر. قال الوليد: قد علمت حاله، ونحن نأتيه فنسلم عليه فدار في المسجد حتى وقف على القبر، ثم أقبل حتى وقف على سعيد فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فو الله ما تحرك سعيد ولا قام! فقال: بخير والحمد لله يا أمير المؤمنين. قال الوليد: خير والحمد لله. فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس. فقلت: أجل يا أمير المؤمنين.
رفضه أخذ العطاء
قال عمران بن عبد الله: كان سعيد بن المسيب لا يقبل من أحد شيئاً لا ديناراً ولا درهماً ولا شيئاً، وربما عرض عليه ألا شربة فيعرض فليس يشرب من شراب أحد منهم.
وقال العجلي وغيره: كان لا يقبل جوائز السلطان، وله أربع مائة دينار يتّجر فيها بالزيت وغيره.
(يتبع)
ناجي الطنطاوي(156/36)
ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي
اشتغال العرب بالأدب المقارَن أو ما يدعوه الفرنجة
في كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر لفيلسوف العرب
أبي الوليد بن رشد
(تتمة المنشور في العدد الماضي)
- تلخيص وتحليل -
للأستاذ خليل هنداوي
بحث فني في التخيلات والمعاني والألفاظ والأجزاء
وقد بحث في ما هية الأوزان، فجعل من المعاني والتخيلات ما تناسبه الأوزان الطويلة ومنها ما تناسبه القصيرة؛ وربما كان الوزن مناسباً للمعنى غير مناسب للتخيل، وربما كان الأمر بالعكس، وربما كان غير مناسب لكليهما. على أن أمثلة هذه مما يعسر وجدوه في أشعار العرب إذ تكون غير موجودة فيها، إذ أعارفهم قليلة القدر، وألفاظ الشعر يجب أن تؤلف من الأسماء المبتذلة ومن الأسماءٍ الأخر يعنى المنقولة الغريبة المغيرة واللغوية، لأنه متى تعرى الشعر كله من الألفاظ الحقيقية كان رمزاً ولغزاً.
ويجب أن يكون الشاعر حيث يريد الإيضاح وألا يخرج إلى حد الرمز كما لا يفرط في الأسماء المبتذلةٍ فيخرج عن طريقة الشعر إلى الكلام المتعارف. وأما موافقة الألفاظ بعضها لبعض في المقدار، ومعادلة المعاني بعضها لبعض، وموازنتها، فأمر يجب أن يكون عاماً ومشتركاً لجميع الألفاظ. وقد يستدل على أن القول الشعري هو المغير أنه إذا غير القول الحقيقي سمي شعراً وقولاً شعرياً ووجد له فعل الشعر، مثال ذلك قول القائل:
ولما قضينا من مِنًى كلَّ حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيِّ الأباطح
وإنما صار هذا شعراً من قبيل أنه استعمل بيته الأخير بدل قوله (تحدثنا ومشينا)، وكذلك(156/37)
قوله: (بعيدة مهوى القرط)، إنما صار شعراً لأنه استعمله بدل قوله: (طويلة العنق) وكذلك قول الآخر:
يا دار أين ظباؤك اللعس، ... قد كان لي في إنسها أُنس
إنما صار شعراً لأنه أقام الدار مقام الناطق وأبدل لفظ النساء بالظباء، وأتى بموافقة الأنس والأُنس. وأنت إذا تأملت الأشعار المحركة وجدتها بهذه الحال، وما عدا هذه التغييرات فليس فيه من معنى الشاعرية إلا الوزن فقط، والتغييرات إنما تكون بجميع الأنواع التي تسمى عندنا مجازاً، والفاضل من هذه الأشياء أن يستعمل من كل واحد منها ما هو أبين وأظهر وأنبه، وهذا لا يوجد إلا في النادر من الشعراء لأنه دليل المهارة.
وقد أتى المترجم على نموذج من نماذج قصائد المديح، يريد أن يحلل الأجزاء التي تتركب منها القصيدة، فأرجع تأليفها - عند العرب - إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول الذي يجرى عندهم مجرى الصدر في الخطبة كذكر الديار والتغزل، والجزء المبنى على المديح، والجزء الذي يجرى مجرى الخاتمة في الخطبة. وهذا إما دعاء للممدوح أو تقريظ للشعر الذي قاله. والجزء الأول أشهر من هذا الآخر، ولذلك يسمون الانتقال إلى الثاني استطراداً، وربما أتوا بالجزء الثاني دون الجزء الأول كقول أبى تمام: (لهان علينا أن نقول ونفعلا)
أو قول أبى الطيب: (لكل امرئ من دهره ما تعوّدا) ويرى خير المدائح المدائح التي يوجد فيها التركيب أي ذكر الفضائل والأشياء المحزنة المخوفة والمرققة. . . وكأني بابن رشد لم يفصل هذه الأشياء لأن العرب لا يمزجون الأشياء المحزنة المخوفة والمرققة بمدائحهم. . . وإنما هي من صفات الشعر اليوناني (وبخاصة الأوميروسي). ثم أنتقل إلى ذاكرة الخرافة، والخرافة تكاد تغلب على الأشعار اليونانية. . . ولكن أرسطو يرى أن الخرافة ينبغي أن يكون مخرجها مخرج ما يقع تحت البصر، لأنه إذا كانت الخرافة مشكوكاً فيها لم تفعل الفعل المقصود بها، وذلك أن ما لا يصدقه المرء فهو لا يفزع منه ولا يشفق له، وفي هذا سر عميق من أسرار الإبداع، إذ ليس الشاعر من أغرب وأعجب، وليس الشعر بالشعر الأذهب في الغرابة والتخيل البعيد عن الصدق كما يذهب إليه بعض الشعراء. والشاعر الموهوب قد يتناول ما بين يديك، ويدخل في عالم نفسك، ثم يحدثك بما تعرفه وتحسب انك لا تعرفه. . . لأنه أدرك بتعمقه وتأمله أشياء منك لم تدركها بنظراتك(156/38)
السطحية.
ثم عرض للأشياء التي يجب أن تمدح في الممدوح محللاً إياها تحليل الفيلسوف الذي لا يسمح بعبث في الفضيلة، ولا بتلاعب في الحقيقة. هو يريد من الشعراء أن يتبعوا هذه الحقيقة، وأن يبرزوا من الممدوح الصفات التي يتحلى بها. . . وإنما تمدح العادات الخيرة والفاضلة، والعادات اللائقة بالممدوح والصالحة له، وذلك أن العادات التي تليق بالمرأة ليست تليق بالرجل. وأن تكون مما يشابهه وأن تكون معتدلة متوسطة بين الأطراف، ثم لا يورد الشاعر في شعره من المحاكاة الخارجية عن القول إلا بقدر ما يتحمله المخاطبون من ذلك حتى لا ينسب إلى الغلو والخروج عن طريقة الشعر. وكما أن المصور الحاذق يصور الشيء بحسب ما هو عليه في الوجود حتى إنهم قد يصورون الغضاب والكسالى مع أنها صفات إنسانية، كذلك يجب أن يكون الشاعر في محاكاته يصور كل شيء بحسب ما هو عليه حتى يحاكى الأخلاق وأحوال النفس ومن هذا النوع من التخيل قول أبي الطيب يصف رسول الروم الواصل إلى سيف الدولة:
أتاك يكاد الرأس يحجز عنقَه ... وتنقد تحت الذعر منه المفاصل
يقوم تقويم السماطَيْن مشيَه ... إليك إذا ما عوَّجته الأفاكل
ينتهي أبن رشد من مقارناته، ويذكر أن شذوذ العرب في كثير من هذه القوانين الشعرية. ويقول مع أبي نصر الفارابي: (وأنت تعلم من هذا أن ما شعر به أهل لساننا من القوانين الشعرية هو نزر يسير) وفي الحق يتبين لنا هذا الشذوذ كثيراً عند دراستنا للشعر العربي دراسة نقدية كما يتصورها أبن رشد، وذلك عائد إلى جهل العرب لهذه القوانين، وإما إلى أن هذه القوانين لم تلائم طباعهم. وهذا القول أرجح عندي لأن الأمة لا يمكنها أن تخلق لشعرها قوانين قبل أن يكون لها شعر!!! وأن شعرها الذي نسوقه هو الذي يخلق قوانين نقدها! إلا إذا أرادت أن تحاكي أمثلة سواها، وأن تقبل التأثر بقوانين غيرها. . . وإننا لن نغلو في التشيع لهذه القوانين لأننا نراها قوانين إذا أفادت مرة فقد لا تفيد كثيراً. . . والعبقرية في الشعر تستلهم نفسها ولا تستلهم قوانين. ولكن ذها لا يصرفنا عن القول بأن هنالك قوانين إذا لم يحترمها الشاعر عاد عليه ذلك بالفساد. وإنما أبلغ سقراط حين شبه الشاعر بالمصور، فليس المصور ذلك الذي يمنح صور الأشياء، أو يخلق أشياء غريبة لا(156/39)
تناسق فيها ولا فكرة. وليس الشاعر بالذي يعطّل نظام الطبيعة الشامل، ويعكس ألوان الأشياء بتخيله المضطرب!!! إنما المصور من يساعد الطبيعة على إبداعها وتزيينها، والشاعر هو من يكون أميناً على ما يتمثل له في الحياة. . .
وقد تكون قوانين سقراط في الشعر - صارمة قاسية لأنه يطلب من الشعر ما يطلبه من الفلسفة، اعتصام بالفضيلة، واستمساك بالحقيقة. .! وقد يخرج عن هذه الحدود لأنه لا يطيق القيود، وقد يرضى بأن يهذب نفسه ولكنه لا يرضى بأن يفادى بحريته. . . جناح الفن دائما خفاق يبتغى السمو والعلو، وويل للفن إذا استعان بجناحه على الانحدار بدلاً من الارتفاع، لأن روعة الفن في ارتفاعه لا في انحداره!
وقد كان يبتغى لمثل هذه القوانين الشعرية أن تثير ضجة في الشعر العربي لأنها مقاييس غريبة، منطقية في النقد، ولكنها مرت هادئة كمر السحاب، لا لأن الأدباء لم يفقهوها، وقد قرّبها ابن رشد من الإفهام بعد أن عرّبها وأعربها بالنماذج والأمثلة العربية، ولكن أهل البيان العربي، وجدوا أن الأدب العربي الطافح بما يخالف هذه القوانين، يستحيل عليه أن يحطم ماضيه وأن ينهج طريقاً جديداً يخطه بأيدي هذه القوانين الجديدة التي لا تلائم البيان العربي!!!
(دير الزور)
خليل هنداوي(156/40)
الحياة الأدبية في تونس
للأستاذ محمد الحليوي
(يجب أن يصف أدباء كل قطر من الأقطار الحياة الأدبية في
قطرهم، ومبلغ قوتها وضعفها. . . . . . لنتعاون جميعا على
علاجها ومداواتها. . . .)
علي الطنطاوي
(الرسالة 136)
الكلام عن الحياة الأدبية في تونس يشمل الكلام عنها من ناحيتين مختلفتين. فان كان المراد بالحياة الأدبية كثرة المشتغلين بالأدب، والمهتمين بالحديث عن رجاله، والمقبلين على مجالسه ونواديه، والمطالعين لكتبه ومجلاته، ففي تونس حياة أدبية لا بأس بها. والظاهرة البارزة في الأوساط المثقفة هي حب الأدب، والتطلع إلى كل ما يمت إليه بصلة. فالشاب التونسي يصرف هواه وجل نشاطه ومجهوده في الاشتغال بالأدب ولواحقه؛ ومجالس الشيوخ والكبراء يغلب عليها الحديث عن الأدب والأدباء، والميل إلى المطارحات الأدبية، والمساجلات الشعرية؛ وكل فكرة جديدة، أو خبر أدبي، أو كتاب ناجح تجد له صداه في كل الأوساط المتعلمة.
ولكننا إذا أردنا بالحياة الأدبية الإنتاج الأدبي والمجهود الفردي لخدمة الأدب بواسطة التأليف والنشر، فتونس ليس لها حياة أدبية تليق بمكانتها التاريخية ومركزها الجغرافي في أفريقية الشمالية. وإنه ليعي الباحث أن يدل دلالة واضحة ملموسة على القسط الذي ساهمت به تونس في تكوين هاتة النهضة الأدبية المعاصرة في الشرق العربي، وأن يبين أن للأدب التونسي ناحية خاصة تميزه، ومعالم معروفة لا يمكن أن ينكرها مُنكر، أو يتجاهلها متجاهل.
وها نحن أولاء نستعرض بعض مظاهر الحياة الأدبية في تونس، ونقول فيها كلمة الحق، وإن كان من الحقائق ما هو مؤلم.
الشعر في تونس(156/41)
هنالك في تونس شعراء كثيرون، ودواوين شعرية مطبوعة كديوان (خزنه دار)، وديوان سعيد أبو بكر، وديوان مصطفى آغه، ومجموعة للأدب التونسي المعاصر في أربعة أجزاء جمعها زين العابدين السنوسي صاحب مجلة (العالم الأدبي)، وترجم فيها لما يزيد على ثلاثين شاعراً، وأنتخب من شعرهم منتخبات مطولة. ولكن الشعر التونسي في مجموعه لم يبلغ من القوة والابتكار والاستقلال الفكري والمميزات الفردية، وظهور الشخصيات القوية، ما يجعله يقوى على تحمل المقارنة بالشعر العالي أو ينعت بالأدب الرفيع. ومن سوء حظ تونس أن الفرد الوحيد الذي استطاع أن يعلو بشعره إلى مكانة الشعر الراقي ويضاهي به أنبغ شعراء العرب والغرب قد مات في العام الماضي في ريعان الشباب؛ وبكته تونس في حفلة رائعة اشترك فيها كثير من أدباء الأقطار العربية.
والشعر التونسي المعاصر يسيطر عليه تقريباً الشعراء الشيوخ وهم الذين يخصون فنون الشعر القديمة بجل عنايتهم؛ وشعراء الشباب يغلب على شعرهم الميل إلى التجديد في المعاني والأغراض وحتى الأوزان والأساليب، ولكن الذي يعاب عليهم هو غلبة تفكير الجرائد ومواضيعها على أدبهم، وفقر شعرهم من المعاني القوية والصور الشعرية، واحتياجهم إلى الثقافة العامة القائمة على سعة الاطلاع والإحاطة بتاريخ الحركات الأدبية والفكرية في مختلف العصور؛ ويعاب عليهم أيضاً هذا النوع من الأدب الباكي الذليل، فلا يكاد أحدهم يشدو في نظم الشعر حتى تراه ينظم في البؤس وتوابعه، ويتشاءم من كل شيء في الحياة؛ فنحن نقبل هذا النوع من الكهول والشيوخ الذين دخلوا معركة الحياة وتمرسوا بآفاتها، ولكننا نرفضه من الشباب، لأن الشباب أمل وعزيمة وحب للكفاح والغلبة.
الحياة الكتابية
فنون الكتابة كثيرة، فأية كتابة عندنا وأي كتّاب؟ نقول في الجواب إنه يوجد عندنا الكاتب الاجتماعي والمؤرخ والصحفي. . . فقد نشر في تونس في هاته السنوات الأخيرة كتب بعضها في التاريخ ككتب الأستاذة حسن حسين عبد الوهاب، وعثمان الكعاك، وأحمد توفيق المدني؛ وبعضها في الأدب والاجتماع، ككتاب أبو القاسم الشابي عن الخيال الشعري، وكتاب الطاهر الحداد عن المرأة، وكتاب محمد المرزوقي عن مسائل من الفن والجمال.(156/42)
وهناك خمس صحف أسبوعية، وجريدتان يوميتان، ومجلة أدبية لم يستطع صاحبها أن ينفخ فيها الحياة، فهي تحتضر منذ سنوات! وعدا ذلك فليس في تونس من يمثل تمثيلا مشرفاً أدب القصة والمسرح، وأدب الأطفال، والأدب القومي؛ وكذلك الناحية النقدية والعلمية في الأدب. وتاريخ تونس لما يكتبْ.
فصفة الكاتب عنيت بها ما يفهم من لفظها أجمالاً وإطلاقا، أما إذا عنينا بالكاتب رجلاً له نظريات خاصة، وأفكار فردية، يخصص حياته لنشرها والدفاع عنها حتى تنتصر، كلفه ذلك الدفاع ما كلفه، فهذا عزيز في الناحية الأدبية. فإذا قلنا مثلاً إن طه حسين كاتب، فليس معنى ذلك في مذهب العقل والتاريخ أنه يجيد رصف اُلجمل وتأليف الكتب، وإنما معناه أنه رجل يفرض فكرته على الناس فرضاً، ويكتب ما يراه حقاً وإن خالف ما رآه غيره، ولا يضيره أن يوجه قُراءه بغير ما ألفوا سماعه، ويصدمهم بآراء ليست هي آراءهم التي اقتنعوا بها؛ وبعبارة أشمل يرفعهم اليه، ويبعثهم على التفكير والتأمل واعدة النظر فيما ناموا عليه من المبادئ والحقائق؛ وما يزال بهم حتى يكوّن من أنصاره فكرته ومخالفيها مدرسة تنشر تعاليمها وتصادم تعاليم خصومها. فهذا هو الكاتب الذي يحي الأدب ويجدد الأدب، وبهذا وحده يكون الكاتب مثقف عقول، ومغذي عواطف، وقائد أفكار.
أما في تونس فالقارئ هو الذي يقود الكاتب. فعلى الصحفي أن يصلح ما يحب الرأي العام أن يصلح، ويجتنب ما يغضبه ويبهجه. وعلى الكاتب أن يكتب ما يريد قراؤه، وأن يتناول من المواضيع ما يسمحون له بتناوله؛ وحذارِ أن يكون له رأي خاص يخالف رأيهم - وإذا كتب في نقد الأدب القديم فالواجب أن تكون كتابته تقديساً لأصحاب ذلك الأدب، وكلمة الإلحاد وما اشتق منها ما تزال رائجة الاستعمال تُلصق بكل من يظهر نوعاً من الاستقلال الفكري في الأدب؛ وجمهور القراء لم يحسن إلى الآن التفريق بين ما هو أدبي وما هو دينى، فكلّ أديب يقول بالتجديد الأدبي فهو متهم في عقيدته. فكانت نتيجة هذه الحالة فقر أدبنا من الكتاب ومن كثير من فنون الكتابة.
معاهد الثقافة والمؤسسات
وأول مسؤول عن ركود الأدب في تونس هي معاهده الثقافية ومؤسساته الأدبية، فانتشار الأدب لا يكون إلا بكثرة القراء، وعلى قدر نصيبهم من المعرفة والفهم يكون إقبالهم على(156/43)
تتبع الحركة الأدبية وتقويتها بشراء كتبها ومجلاتها. ونحن نريد أن ينتشر الأدب وتقرأ كتبه ونشراته، لأننا في حاجة إلى تقويم العقلية التونسية وتثقيف ذهن سائر الطبقات، وتصحيح المقاييس التي نقيس بها كل شأن من شؤون الحياة؛ وليس شيء كالأدب يحي ميت الهمم ويبعث خامل العزائم ويشذب شاذ الغرائز؛ وكل مدينة قامت في التاريخ كانت منبعثة من نهضة أدبية أو مصاحبة لها.
فما هو نصيب معاهدنا في هذا العمل وماذا نرجو منها؟ أما المدارس الابتدائية فلا رجاء في أبنائها لأن المعلومات العربية التي يخرجون بها من هاته المدارس لا تؤهلهم لقراءة الكتب الجدية ومطالعة الصحف الراقية، وهم حين يغادرون المدرسة يرجعون إلى أشغال آبائهم في القرى والبوادي، وليس لهم من الثقافة إلا ذلك النزر القليل الذي يمكنهم بعض التمكن من قراءة رسالة أو كتاب عامي سخيف من تلك الكتب المملوءة بالخرافات ولأوهام.
أما المعاهد الثانوية والعالية فهناك جامع الزيتونة الأعظم والمدرسة الصادقية والمدرسة العليا للآداب واللغة العربية. فأما جامع الزيتونة فهو حصن العربية الأشم، وهو بمثابة الأزهر بمصر، وخريجوه هم صفوة العلماء والحكام والقضاة والعدول، وهم من الطبقة الوحيدة ذات الثقافة العربية المحصنة؛ وأما المدرسة الصادقية ومدرسة اللغة والآداب العربية، فأن الدراسة تقع في هما باللسانين، وربما غلبت فيهما الثقافة الفرنسية على العربية خصوصاً من ناحية الترجمة والعلوم الرياضية، ومن هاتين المدرستين تخرج جلُّ كبار موظفي الإدارة الفرنسية ومترجميها، وعن طريقهما سافرت البعثات العلمية التي تتكون اليوم منها نخبة طيبة من الأطباء والمحامين والمهندسين، ولكن أطباءنا ومحامينا قلما يكتبون أو يؤلفون بالعربية. وكم كنا نود لو إن دكاترتنا كانوا كدكاترة مصر الذين قامت على سواعد أكثرهم نهضة مصر الأدبية والعلمية.
أما المؤسسات الأدبية فهناك الجمعية الخلدونية، وهي اقدم المؤسسات التونسية، ثم جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية، وأخيراً جمعية الكتاب والمؤلفين - فأما الخلدونية وقدماء الصادقية فأغلب نشاطهما منصرفٌ إلى تنظيم المسامرات الأدبية والعلمية، وإقامة الحفلات لأحياء ذكرى نوابغ الأمة العربية في القديم والحديث؛ وأما جمعية المؤلفين والكتاب التونسيين فأنها افتتحت أعمالها بإقامة حفلة ذكرى الشاعر العبقري المرحوم أبى القاسم(156/44)
الشابي. ثم لم تفعل بعدها شيئاً إلى الآن خصوصاً وقد علقت عليها آمال ضخام في انتشال البلاد من هذا الركود الأدبي بتوحيد جهود أدبائه وتسهيل نشر كتبهم بواسطة القروض التي تسبقها والدعاية التي تقوم بها للمؤلفات.
أسباب ركود الأدب
إذن فأسباب ركود الأدب كثيرة، ولكن يمكن تلخيصها في سببين:
الأول: قلة القراء في الأواسط الشعبية نظراً للأُمية الغالبة على السواد. ثم جهل كثير من الشباب لغته القومية أو نزارة معارفه التي لا تسمح له بالاستفادة من الأدب والصحف الجدية.
الثاني: عدم وجود من يأخذ بيد الأديب إذا هو أراد أن ينتج وينشر، فطبقة القراء القليلة تزهد في كل عمل تونسي، ولا تُقبل على تأليف تونسي، كما تقبل على التأليف المصرية والشامية، والصحف اليومية لا تقوم بأي مجهود لاستكتاب الأدباء، وحمل القراء على المطلعة الأدبية، وإذا نشرت شيئاً من الأدب فالأغلب أن يكون من الأدب السهل الرخيص.
والخلاصة أن الأدب في تونس لا يعدو كونه هواية من الهوايات، ولا يوجد الأديب المحترف، وإن وُجد الصحافي. والمؤلف يقاسي الأمرين من فقدان الناشر والقارئ. وليس هناك من المشجعات للأديب ما يجعله دائب الإنتاج والعمل.
فلا مكافآت، ولا جوائز، ولا مجاملات لنشر آرائه، ولا حرية لمن أراد أن يفكر باستقلال؛ والأصوات التي ارتفعت في تونس وترقّب منها كلُ مخلص أن تكون في يوم من الأيام داويهً في العلم العربي خفتت وصمتت لتكاتف هاته العوامل عليها.
رجاء
على أنه لا يسعني أن أختم هاته الكلمة دون أن أنوه بما يبديه؟ الشباب التونسي في هاته المدة الأخيرة من النشاط والحيوية. فهنالك جمعيات للشبيبة لا زالت توالى الجهود في إقامة الحفلات المختلفة وإلقاء المسامرات في مختلف المواضيع، ونشر النشرات التي يرى القارئ من خلال سطورها هاته القلوب الفتية التي تتقد إيماناً بمستقبل الأمة التونسية، وحباً لأدبها ولغتها القومية. وإنه وإن كان نشاط هاته الجمعيات مقصوراً على العواصم وفي(156/45)
أواسط مخصوصة، فأنا لنرجو أن توفق إلى تعميم هاته الحياة في كامل البلاد بكل وسائل النشر والدعوة؛ فان الأمة التونسية لفي أشد الحاجة إلى حيوية شبابها وعزيمته الصادقة وإيمانه القوي باسترداد مجد تونس الزاهر وعصرها الذهبي.
(راداس - تونس)
محمد الحليوي(156/46)
من الأدب الإنكليزي
3 - برسي شلي -
بقلم خليل جمعة الطوال
تعريفه للشعر والشاعر
لِشلي نظرية في الشعر طويلة لا يتسع مقالنا هذا لاستيعابها بكاملها، نقتطف منها إحاطة بالموضوع من جميع نواحيه ما يأتي: ليس الشعر بالحدث الطارئ الجديد على عواطفنا ولا من صفاتنا المكتسبة بطوال التمرسن والمران، بل هو فينا غريزة فطرية كغريزة الجوع والنوم والكلام والألم، وليس ما نبديه من الحركات المبهمة والإشارات الغامضة، أو ما نفوه به من الكلام وتجيش به صدورنا من العواطف المضطرمة إلا أنواعاً من الشعر في أدنى مواضعه وأضيق حدوده. ولولا ما فينا من عواطف الشعر الهائجة الكامنة والثائرة ألوا دعة، لما كنا نكتئب ونفرح لأوهى الصدمات وأدنى المؤثرات.
وليس الشعر بعلم من العلوم التطبيقية كالهندسة والكيمياء وكالفلك والكهرباء وإلى ما هنالك من العلوم التي تعتمد على التجربة ولا تثبت إلا بالبرهان، بل هو فن من الفنون الجميلة - وهي الرسم والموسيقى والرقص والغناء والشعر والبناء - التي تعنى بظواهر الأشياء وأشكالها دون باطنها، وبجمالها وأعراضها دون جوهرها: وما الإنسان إلا كآلة موسيقية تتعاقب عليها شتى الانفعالات الداخلية والمؤثرات الخارجية: فتتجاوب أوتارها لكل منها بنغمة خاصة تختلف عن سالفتها في الدرجة لا في النوع.
لقد كان الإنسان في بدء أطواره يُقلد مختلف الظواهر الطبيعية بحركاته وساكناته، فكان كل من هزيم الرعد، وهزيز الريح، وزمزمة النار، وخرير المياه، وحفيف الأشجار، وقد غردت فوقها الأطيار الجميلة الألوان والشجية الألحان، يحدث في نفسه انفعالات داخلية عديدة، وشحنات كهربائية عنيفة، لا يرى لها مخرجاً إلا في فنّ من الفنون الجميلة، ولكن الناس ليسوا سواءَ في الاستجابة لهذه المؤثرات، فهم وإن تشابهوا في نوع احساساتهم إلا أن فيهم البليد الشعور، وفيهم السريع الانفعال، وهذا الأخير هو ما نسميه اصطلاحاً بالشاعر.(156/47)
والشعرُ يتكئ على الخيال كما يتكئ على الحقيقة، ويعتمد على اللغة بمقدار ما يعتمد على الموسيقى والغناء. وليست هذه الأشياء في مجموعها إلا من مكونات الشاعر الأولية، وبمقدار حظه منها يكون حظه من الشاعرية.
على أن أسمى مظاهر الشعر وأبينها هي تلك العواطف والانفعالات المنضوحة في وعاء من الكلام الموزون المقفى؛ ذلك لأن جمال اللغة وموسيقى الألفاظ، أقرب إلى الخيال وأعمل في إذكاء النفس وإرهاف الحس من التصوير والبناء، ونغمة الآلة والرقص والغناء. ولكن هذه المفاضلة تحصر الشعر في دائرة ضيقة، لا تتسع لاستيعاب ذلك الخيال المشبوب وتلك العاطفة الوثابة اللذين لا يجدان لهما من منفذ آخر عدا الشعر المقفى إلا بالتلحين وبالحركات. ومن هنا كان تفرع الرقص والغناء عن الشعر الذي هو الأساس.
الشعر هو تلك المرآة التي تنعكس عنها شتى الانفعالات النفسية التي يجيش بها الصدر وينماث لها القلب؛ وبمقدار ما يكون لهذه المرأة من دقة الصنعة والإتقان يكون للشاعر من جودة الفن وغايته في الإبداع والإحسان.
ولعل ضرورة الوزن والقافية للشعر إنما جاءت من ضرورة الرقص والموسيقى للغناء. فأنت لا تكاد تنبس ولو ببيت من الشعر إلا وتختار لا لقائه أجود التوقيع، وتقرنه بأشرات قد تكون في الغالب مبهمة، إلا أنها مع كل ذلك تدل على عاطفة كانت مكبوتة فظهرت، وكانت هادئة فاضطربت.
الشعر هو صورة الحياة في حقيقتها الأزلية والشاعر هو تلك الريشة التي تظهر بواسطتها هذه الصورة والشاعرية هي القدرة على إبرازها في أجمل ألوانها وأزهارها وأشكالها.
الشعر هو الألمُ والسرورُ، هو الكآبة والحبور، والشاعر هو ذلك الذي تضطرب نفسُه بين موجات الحزن ونغمات الفرح. بل هو ذلك الشعاع الذي يصقلَ النفسَ ويرهف الحس ويهذبُ الشعور.
الشعرُ يهذب الأفرادَ والدرامة تُصلح سوأت المجتمع، ولهذا أحسن تاسو الإيطالي إذ قال: ليس من مبدع إلاّ الله والشاعر، وليس من مدنية إلا بالدرامة.
ثورة شلي الفكرية
لقد تمرد شلي على الهيئة الاجتماعية وخرج على جميع نظمها وتقاليدها الدينية والمدنية،(156/48)
فانثال على الدولة والكنيسة بحملة متطرفة شعواء، نقضت ما كان لهما في نفوس الناس من الجلال والاحترام، وكان يعلق كبير الأمل في التخلص منهما، وفي تحقيق مثله الأسمى على تلك الأفكار الثورية التي تلقحت بها عقول الناس من كتابات فولتير وروسو ومنتسكيو، والتي كظمت مدة ثم انفجرت بالثورة الفرنسية، ولكن للشد ما أسف إذ رأي ما منيت به أفكار الثوار من الإخفاق.
ولما اندلعت نيران الثورة في أسبانيا ونابولي وأثينا ثانية بدت له - في عالم الخيال - بارقة أمل جديدة في تحقيق مثله الأسمى، فاخذ يتغنى بهمة الثوار ويستفز حميتهم بشتى القصائد الرائعة كقصيدة (نابلي) وقصيدة (هيلاس) ولكن الثورة اشتدت ووضعت أوزارها، دون أن تحقق له غرضاً من أغراضه التي مات وهو مُصر عليها برغم ما لقيه من قوة السلطة وصدمة الحوادث.
فكرة شلي عن الله
يرى شلي أن فكرة الإنسان عن وجود الله تشوه جماله كما يشوه الزجاج الملون منظر الأجسام التي من ورائه. وأنها فكرة خاطئة تتناقض ومبادئ العدل والإنسانية العليا. ويقول إن الله لم يخلقنا لكي يبعث بنا في الآخرة أو يجزي شرورنا بمثلها لأنه رحيم لا حد لرحمته، ولأن الانتقام من صفات الإنسان وليس من صفاته فهو والحالة هذه يشبه عمر الخيام إذ يقول:
إذا كنت تجزى الذنب مني بمثله ... فما الفرق ما بيني وبينك يا ربي
ويستأنف في قوله إلى أن ليس لله كيان مستقل بذاته بل هو متمثل في جميع مظاهر الكون وكائناته من إنسان وحيوان. فليس ما نشعر به في عواطفنا من عوامل الخير والفضيلة والإحسان والشفقة أو ما نشاهده في الدودة التي تعيش في باطن الأرض من المحبة والاطمئنان إلا من مظاهر ذلك الإله العادل.
لقد تصور شلي في الإنسان أسمى ما يمكننا تصوره، وراح يعرض هذه الصورة الجديدة على معاصريه المتزمتين بلسان عي؟ وخلق سرى، بل بيد جذاء وكنانة جوفاء إلا من ذخيرة الأيمان بدعوته. ولذا فلا عجب إذا وقرت دونه آذانهم، بعد أن أذاقوه من لاذع النقد ومر التقريع شأن ما يلقاه أصاحب البدع في كل جمهور متزمت.(156/49)
وفي عام 1811 نشر رسالة مطولة: عنوانها (حاجتنا إلى الإلحاد) دعا فيها جميع الأستاذة إلى الإلحاد أو إلى تفنيد آرائه ودحضها بالمناقشة، ولكنهم ألقوا بدعوته دبر آذانهم ثم طردوه من الجامعة هو و (السير توماس جفرسن) المتشرع المشهور لأنه استجاب لدعوته واعتنق جميع مبادئه.
وفي عام 1858 ألف (توماس جفرسن) كتاباً عظيماً عن صديقه شيلي أكسبه شهرة واسعة في الأوساط الأدبية، وقد نشره تحت عنوان وهو يتضمن حياة شلي وتعاليمه مذيلة بشروح عظيمة لا نعثر عليها في غيره.
آراء الأدباء في شيلي
يقول روبرت براوننج: لقد هاجم شيلي مبادئ المجتمع العظيمة دون أن يتحقق صحيحها من فاسدها، وغثها من سمينها، ونسب إلى الكنيسة والحكومة الشيء الكثير، مما يزري بشأنهما ويحط من مقامهما في أعين الناس. ولقد كان في حملته التي شنها على العرف والعادات، وعلى الشرائع والديانات، يُقاد بتهور العاطفة لا بتمحيص العقل، وبنشوة الشباب لا برصانة الفكرة؛ وكان يلقى بأحكامه جزافاً قبل أن يعمل فيها مشرط العقل وقبل أن يعرضها على محك الاختبار.
ويقول سوينبرن: إن إعجابي بشيلي عظيم لا ينتهي، وما ذاك إلا لفرط محبته الواسعة لجميع المخلوقات، تلك المحبة التي تقرن اسمه بالمسيح ما دام في الكون فقراء ومساكين. لقد درس آراء أفلاطون - ولا سيما في ثناياها بأسمى ما عرفه من المثل العليا، تلك المُثل التي صرف في تحقيقها ريق العمر وزهرة الشباب فما أفلح.
ويقول أرنولد: ثلاثة ينبغي تقديسهم: بوذا لتضحيته، والمسيح لمحبته، وشلي لإنسانيته.
ويقول بيكوك: مهما يكن من الحاد شيلي فآني أرى فيه مثال الدين الصحيح لإقباله على عمل البر وحدبه على الفقراء. فقد شهدته مرة وقد ابتاع من أحد المتاجر مجهراً، فما لبث أن أودعته لساعته عند تاجر آخر وأخذ مقابله قليلاً من المال، ورأيته يركض بعد ذلك بخطوات فسيحة لينقذ بائساً رآه في وهده الشقاء. وكانت تلك الكمية صبابة ما بقى لديه من المال.
حياته وزواجه:(156/50)
دخل شيلي مدرسة أثن عام 1804، وكان لا يزال في الثانية عشرة من العمر، ثم تركها والتحق بجامعة اكسفورد حيث طُرد منها عام 1811 بسبب رسالته الإلحادية. وفي شهر يونيه من السنة نفسها تزوج (هاريت وستبروك) وارتحل إلى بلدة (كزوِك) هرباً من تعنت والده، وهناك التقى (بسوثي) أحد شعراء إقليم البحيرات البارزين. ثم أخذ يتعاطى مهنة الصحافة مع (وليم فودوين) السياسي الشهير فتشرب منه روح السياسة. وفي عام 1812 سافر إلى أيرلندا ودبلن حيث أخذ يؤلب الناس على الكنيسة الرومانية، فاستجاب له خلق كثير وأعرض عنه الباقون.
وفي سنة 1813 ولدت له هاريت صبية دعاها (لانث).
ثم ارتحل إلى أدنبرة ألقى هناك عصا التسيار مدة من الزمن، كان يستجم فيها ويعد العدة لحملة جديدة يحمل بها على الدين والمجتمع معاً. وفي مسهل عام 1814 برزت هذه الحملة الجديدة في رسالته التي نشرها تحت عنوان (تفنيد وحدانية الله وفي العاشر من شهر ديسمبر اضطرب حبل مودته مع زوجه هاريت، فطلقها وتزوج من عشيقته ماري ولستونكرافت ابنة الصحافي الكبير فودوين، وبعدها سافر إلى سويسرا ثم إلى فرنسا، وفي أثناء غيابه ولدت منه زوجه الأولى هاريت صبياً دعته شارل بيش، وما أن رجع من رحلته هذه إلا وقد توفي جده بيش شيلي فورث عنه أموالاً طائلة.
وفي عام 1816 ولدت له زوجه مارى ولداً سماه وليم شلي إلا انه لم يُعمر طويلاً بل توفي بعد عامين من ولادته، وفي شهر أبريل التقى بكيتس لأول مرة، وكانت قد اشتدت روابط الصداقة بينه وبين اللورد بيرون.
وفي العاشر من شهر ديسمبر ألقت (هاريت بنفسها في اليم وما أخرجت من الماء إلا وهي جثة هامدة. وهكذا أصبحت مارى ولستونكرافت زوجته الشرعية).
وفي عام 1817 سافر إلى إيطاليا وأقام هناك، وكانت محكمة شانسري قد حرمته من حضانة ولديه من زوجته الأولى (هاريت). وفي ايطاليا تفرغ شلي لقرض الشعر ولدراسة الآداب دراسة جدية.
وفي الثامن من شهر يوليو لعام 1822 بينما كان يسبح في خليج بيزا لقيه اليم بموجة عظيمة كان فيها حتفه إذ ألقته على الشاطئ جثة هامدة. ثم أحرقت جثته فوق رمال ذلك(156/51)
الشاطئ على مشهد من صديقه اللورد بيرون ووضع رماده في قبر أُعدَّ له في روما. وكان قد أوصى في حياته بالا ينقش على ضريحه إلا تاريخ ولادته ويوم وفاته والكلمة الآتية: ومعناها غير مغرور.
وفي بعض المصادر نجد أنه أوصى بنقش هاتين الكلمتين لا الأولى وهما قلب القلوب ولعل الأولى أقرب إلى الصواب.
وهكذا طوت الأيام تلك الصفحة المجيدة المملوءة بجليل المآثر والحافلة بعظيم الأعمال.
(شرق الأردن)
خليل جمعة الطوال(156/52)
فاز سعد!
للأستاذ عباس محمد العقاد
عرف النفيَ حياة ومماتا ... وأصاب النصر روحا ورفاتا
كلما أقصوه عن دار له ... رده الشعب إليها واستماتا
كيف يجزيه افتياتا وهو مَن ... كان لا يرضى على الشعب افتياتا
أصبحت دارك مثواك فلا ... تخش بعد اليوم يا سعد شتاتا
حبّذا الخلد ثماراً للذي ... غرس المجد ونَمَّاه نباتا
كل أرض للمصلى مسجد ... غير أن الكعبة الكبرى مقام
هكذا قبرك مرفوع الذرى ... في جوار البيت أو سفح الأمام
أرض مصر حيث أمسيت بها ... فبنو مصر حجيج وزحام
غير أن الذكر يبغي منسكا ... مثلما يبغيه حج واستلام
فالق في قبرك خلداً كلما ... مرّ عام تبعته ألف عام
اعبر القاهرة اليوم كما ... كنت تلقاها جموعا ونظاما
ساعة في أرضها عابرة ... بين آباد طوال تترامى
ساعة من عالم الفردوس لا ... تشبه الساعات بدءاً وختاما
كل من شاهدها زِيدَ بها ... من معانيك جلالاً ودواما
قل لهم أبلغ ما قلت لهم ... أيها الواعظ صمتاً وكلاما
جرّدوا الأسياف من أغمادها ... ذاك يوم النصر لا يوم الحداد
ارفعوا الرايات في آفاقها ... أين يوم الموت من يوم المعاد؟
لا يلاقي الخلد بالخزن ولا ... يكتسي الفتح بجلباب السواد
ذاك يوم ما تمناه العدى ... بل تمناه ولاء ووداد
فانفضوا الحزن بعيداً واهتفوا: ... فاز سعد وهو في القبر رماد
الفراعين الأولى أجليتهم ... لتمنوا لو أجازوك الطريق
أنت أضفيت على أوطانهم ... سعة، وهي من الأسر مضيق
أنت أيقظت لهم تاريخهم ... وهو في نومته لا يستفيق(156/53)
فضلك اللاحق أحيا فضلهم ... فاستوى منه طريف وعريق
آية في الحق لا ينسخها ... في مدى الدهر عدو أو صديق
يا بني مصر اجعلوا نقلته ... رمز أحياء وعزم ومضاء
وانظروه كيف حالت دونه ... غِيَرُ شتى، وما حال القضاء
المعيقون تنحوا جانبا ... آخر الأمر، وسعد في البناء
كل ذي حق سيعطى حقه، ... ليس للمجد من الخلد نجاء
كل ما عارض سعيا باقيا ... عَرَض فان وزور ورياء
ترمز الشمس إلى نقلته ... بسفور غالب بعد حجاب
صرعت ليلين صبحاً فروت ... عن حضور ناصع بعد غياب
هو أيضا قد طوى ليل الردى ... وطوى ليل الغواشي والكذاب
في السموات وفي الأرض له ... أثر ينبئ عن يوم المآب
أثر الفجر إذا إنجاب لنا ... عن ضحاه،، بعد لأي وغِلاب
دان يا سعد لك الذكر بما ... شيد الباني وما خط الزبور
قدر نادى فلبته على ... موعد الذكرى صخور وسطور
أَنا بان لك في ملك النهي ... منزلاً يبقى ولا تبقى الصخور
من أسانيدك أساس له ... ومن الحق له حسن ونور
إن أنل شأوك فيه إِنني ... بالذي شيَّدت منه لفخور
فتية الوادي بسعد فاقتدوا ... إِن تخيرتم له خير وفاء
أذكروه بالذي يعمله ... منكم العامل في غير وناء
واذكروه بالذي امتاز به ... من مزاياه الأبيَّات الوضاء
هكذا يخلد سعد بينكم ... بتماثيل حياة ورواء
كل ما يعظم من أعمالكم ... هو تخليد لذكرى العظماء(156/54)
كل بيت فيه سعد ماثل
للأستاذ علي الجارم
اكشفوا الترب عن الكنز الدفين ... وارفعوا الستر عن الصبح المبين
وابعثوه عسجداً مؤتلقاً ... زاد في لألائه طوال السنين
واجتلوه درة ساطعة ... صدفُ الدهر بِشَرْواها ضنين
وانتضوا من غمده سيف وغى ... كان إن صال يقد الدارعين
وقناة جل من ثقفها ... للحفاظ المر والعزم المكين
لوت الدهر على باطلة ... وهي كالحق صفاة لا تلين
هزمت جيش الأباطيل فما ... غادرت غير جريح أو طعين
كتب الله على عاملها ... إِنما الخلد جزاء العاملين
جدث ضم سناء وسني ... ومُصاص الطهر في دنيا ودين
طاعة الأملاك فيه امتزجت ... في السموات بعز المالكين
فتشوا في الترب عن عزمته ... وعن الأقدام والرأي الرصين
واخفضوا أبصاركم في هيبة ... إن رأت أبصاركم نور اليقين
واخشعوا بالصمت في محرابه ... أفصح الألسن صمت الخاشعين
وانتحوا من قبره ناحية ... واحذروا أن تزحموا الروح الأمين
وحناناً بضريح طالما ... صقلته قبلات الطائفين
وجثت مصر به خاشعة ... تذرف الدمع على خير البنين
صيحة قدسية إن سكتت ... فلها في مصر رجع ورنين
وعرين حل فيه ضيغم ... رحمة الله على ليث العرين
ومضاء عرفت مصر به ... إن للحق يميناً لا تمين
لا أرى قبراً ولكني أرى ... صفحة من صفحات الخالدين
أو أراه قصب المجد الذي ... دونه ينفق جهد السابقين
أو أراه علماً في فدفد ... لمعت أضواؤه للحائرين
أو أراه روضة إن نفحت ... خجل الورد وأغضى الياسمين(156/55)
أو أراه دوحة وارفة ... نشرت أفياءها للاجئين
أو أراه قلب مصر نابضاً ... بمنى تمحو من القلب الأنين
نقلوا التابوت تحتفُّ به ... رحمات من شمال ويمين
ذاك بعث حييت مصر به ... من جديد تلك عقبى الصابرين
هل علمتم أن من واريتم ... في حنايا كل مصر دفين
ما لسعد حفرة واحدة ... هو ملء القلب ملء لأرَضين
كل بيت فيه سعد ماثل ... في إطار من حنان وحنين
بسمة الآمال في بسمته ... وانبلاج الحق في ضوء الجبين
هو للأبناء عم وأب ... وهو للآباء خل وخدين
كان سعد علماً منفرداً ... هل يرى للشمس في الأفق تنين
إن أم المجد مقلاة فكم ... سوفت بين جنين وجنين
تبخل الدنيا بآساد الشرى ... أيها الدنيا إلى كم تبخلين
أنت قد أَنجبت سعداً بطلاً ... وقليل مثله من تلدين
قاد للمجد مناجيد الحمى ... كلهم أروع منبتُّ القرين
تقرأ الأقدام في صفحته ... مثلما تقرأ خط الكاتبين
كلما مرت به عاصفة ... زعزع مرت على طود ركين
تقرع الأقدار منه عزمة ... أنفت صخرتها أن تستكين
حُشُدٌ حول الرئيس (المصطفى) ... نبعة الإخلاص والخلق المتين
وجدت مصر به وأحدها ... رب فرد بألوف ومئين
ومن الناس نضار خالص ... ومن الناس غثاء وغرين
ومن الناس أسود خدر ... ومن الناس ذباب ذو طنين
وضعت مصر به آمالها ... فاستقرت منه في حصن حصين
مسح الدمعة من أجفانها ... ومحا من لوعة القلب الحزين
أيها الربان أَبحر آمناً ... وثق الركب بربان السفين
كل ما حولك رهو هادئ ... والبقيات على الله المعين(156/56)
لاحت الفرصة في إِبانها ... إنها لا ترتجي في كل حين
فتقدم بطلاً جم المنى ... أنت بالنصر حريٌّ وقمين
صدق الله تعالى وعده ... إنما الفوز ثواب المخلصين
علي الجارم(156/57)
القصَص
قصة مصرية
الأعمى. . .
بقلم محمود البدوي
تمر ترعة الكامل بقرية (س) وهي قرية صغيرة من قرى الصعيد، فتشطرها شطرين غير متساويين، فقد جارت على الجانب الأيسر بقدر ما أضفت على الأيمن، فاتسع هذا واستفاض حتى أصبحت منازله وبساتينه ونخيله وأعنابه لا يحدها البصر ولا تحصرها العين، واستدق ذاك واستطال حتى قامت منازله الصغيرة على شط الترعة ذليلة منكسرة واجمة، تشكو إلى الله ظلم الطبيعة بعد أن شكت جور الإنسان الذي خلفها سوداء قذرة تمرح فيها الحشرات من كل لون وجنس.
وإذا استقبلت القرية وأنت قادم على جسرها الطويل، بصرت أول ما تبصر بمنزل صغير من هذه المنازل بنى بالطوب الأسود، وخط جواره بستان، ليس فيه سوى نخلتين! مالت إحداهما على الترعة، حتى غرقت فروعها في الماء، وسمقت الأخرى في الجو، حتى ناطحت بسعفها السماء، ولا تدر النخلتان ثمراً الآن، ولا يرجى منهما شيء في المستقبل، فقد جف عودهما وذهب شبابهما. وتقيم في هذا المنزل منذ أكثر من تسعة أعوام أرملة في الخمسين، وهي امرأة دمثة الطبع - على خلاف العجائز من مثيلاتها - ناحلة الجسم معروقة العظم واهية البناء، تستريح في بيتها معظم العام، حتى يهل رمضان، فإذا هل، خرجت في الهزيع الأول من كل ليلة حاملة على ذراعها صفيحة قديمة تطوف بها على منازل القرويين، وهي تنقر نقراً خفيفاً، وتغنى بأغنية قديمة، قل من يدرك معناها ومبناها من سكان القرية! على أنهم كانوا يهبون من مضاجعهم عندما يصافح سمعهم إيقاعها وغناؤها ويبسطون موائد السحور، وان كان الليل لم ينتصف بعد!! وهذا العمل الضئيل لا يجلب لها في الغالب رزق شهرين أو ثلاثة، فكيف تقتات باقي العام؟ وكيف تعيش؟ هذا هو السؤال! على أن الذين انحدروا من الريف، يعرفون تمام المعرفة أن هناك الملايين من أمثالها يضعون دائماً أيديهم على بطونهم ليحفظوا بذلك التوازن الاجتماعي لتخمة الأغنياء.(156/58)
مثل هذه الأيم السواد الأعظم من الفلاحين الذين لا يعرفون وخير لهم أن لا يعرفوا، أنهم أتعس المخلوقات البشرية في الدنيا جمعاء. إنهم مخلوقات ذليلة تاعسة، لصقوا بالأرض حتى أكلتهم الأرض، وأفنوا عصارة حياتهم فيها حتى استنفذت قوتهم واستفرغت جهدهم. ولو رأيتهم وهم عائدون من الحقول مع مغرب الشمس، والصفرة الباهتة تعلو وجوههم، والغبار القذر يملأ أعينهم ويسد أنوفهم، لعلمت أنهم أتعس الناس في الناس، وأشق الطبقات العاملة على الإطلاق. إنهم مخلوقات مريضة فقدت بهجة الحياة ونعيمها واستسلمت صاغرة للمرض والفناء.
ويسكن مع هذا الأيم أعمى في الثلاثين من عمره، وهو شاب أسمر فارع ضليع الجسم مفتول العضل وثيق التركيب، وهو المؤذن لمسجد القرية منذ أن شب عن الطوق وانخرط في عداد الرجال. على أن الذي جمع بين هذه الأيم العجوز وهذا الأعمى الشاب، لم يكن قرابة ولا نسبا، وأن كان القرويون يسمون العجوز (أم سيد) وسيد هو الأعمى؛ وكانت المرأة تمتعض وتهتاج لهذه التسمية في أول الأمر، وهي التي لا (سيد) لها، ثم ما لبثت أن استراحت لها على مرور الزمن فقر هائجها وسكن، حتى تعمدت ألا تدفع هذا القول بما يكذبه، وهي المتيقنة بأن الجدل في أمثال هذه الأمور غير مجد في الواقع.
فمن الذي يقف في وجه التيار الجارف؟ ومن الذي يمكنه ن يمنع ألسنة الناس الطويلة جداً إلى حلوقها؟ لا أحد على التحقيق.
على أن المنزل لم يكن للعجوز والشاب في الحقيقة، وإنما هو لرجل ملاح يعمل في النيل ويقضي فيه العام كله. ولا يهبط القرية إلا زمن التحاريق، فإذا جاء، بات في سفينته، فقد ألف الرجل النيل، ونسى منزله على توالي السنين.
وكان المسجد الذي يؤذن فيه الأعمى في طرف القرية الشمالي، ولكي يبلغه لا بد له أن يجتاز الترعة وعليها جسر ضيق، يجوزه المبصر وهو راجف حذر، فكيف بالأعمى، ثم يدور بعد ذلك في دروب وينعطف في منعطفات، ويجتز بساتين من النخيل يكثر فيها الحسك والشوك، وعلى الرغم من هذا كله، فان الرجل كان يبلغ المسجد وكأنه المبصر الحديد البصر، فلا يضل ولا يتباطأ في سيره؛ ولا يعتمد على الحائط، ولا يستند إلى الجدار، وشد ما تعجب لذلك وتدهش! على أنك متى ما سمعت القرويين وهم يقولون إن(156/59)
الرجل يبصر بقلبه ذهب عنك العجب كله.
وإذا طلع الفجر على القرية، وهي غارقة في سبات عميق، وكل شيء فيها ساكن هاجع، فلا نأمة ولا حركة، اللهم إلا سامقات النخيل وهي تترنح مع النسيم الواني، وسيقان الزرع وهي تتمايل مع الريح الرخاء، طلع الأعمى إلى سطح المسجد، وانطلق يؤذن في صوت حلو النبرات عذب الرنين، ينفذ إلى كل قلب، ويهفو إلى كل أذن، ومن الذي يسمعه وهو يقول: (حي على الصلاة!) فيتأخر بعد ذلك عن الصلاة؟ لقد كان صوته ليناً شجياً يرن في سكون الليل جميل اللحن عذب الرنين، فيهب له القرويون من مضاجعهم، ويخفون إلى المسجد خاشعين صامتين.
وكان الرجل محبوباً من أهل القرية جميعاً إلا النساء والأطفال. أما النساء فيكرهنه لأنه يزجرهن عن بئر المسجد، ويمنعهن من ملء الجرار منها بقسوة وغلظة، حتى ينقلب صوته الحنون عند محادثتهن إلى صوت أجش خشن مرعب أحياناً! والقرية لا تستغني عن ماء البئر خصوصاً زمن الفيضان عندما يصبح الماء عكراً نصفه طين. وكم تغفلنه مراراً، وهو الأعمى وهن النجل العيون! على أن سمعه المرهف دائماً كان يغيظهن أشد الغيظ!! فإذا أدلت إحداهن الدلو في البئر وحركت (الجبيذ) (البكرة)، وهو خشبي يحتاج للسقي بالزيت ليحبس صوته في جوفه، صر هذا، فيمد الأعمى قامته ويقول بصوت جاف:
(مين؟)
فيتركن الدلو والجرار ويرحن يصلصلن بالحلي، ويطرن على وجوههن هاربات، وقد تقع إحداهن على وجهها، فتخوض فيها الأخرى من فرط الرعب، ويقمن وجلات مذعورات ضاحكات أيضاً، على أن هذا لم ييئسهن من البئر اليأس كله، فهن يعلمن أنه يتروح بعد العشاء، فإذا بصرن به خارجاً من المسجد انطلقن إلى البئر وهن راجفات أيضاً. فشد ما كانت تخيفهن عصاه الغليظة وإن كانت لم تصافح إحداهن حتى الآن.
ومن هنا نشأت العداوة بينه وبينهن واشتدت مع الزمن أما الأطفال فكانوا كلما بصروا به على الجسر، وهو في طريقه إلى منزله، تقوده عصاه، وصدره إلى الأمام، وسمعه مرهف، ورأسه مستو، وقامته منتصبة، وخطواته ثابتة متزنة جروا وراءه يسبونه، وقد يحصبونه بالحصى أو يرمونه بالحجارة، وهو صامت باسم لا يلتفت إليهم ولا يكلم أحدا منهم، حتى(156/60)
يقرب من بيته، وهنا يطلع عليهم كلب للجيران أسود ضخم يربض دائما على الجسر، فينطلق وراءهم حتى يشردهم في الدروب. وشد ما غاظ هذا الكلب الأطفال حتى تسمعهم يهمسون خوفا من أن يسمعهم الكلب (لولا هذا الكلب. . ابن الكلب. . لكان الأعمى. . .) وإن كانوا يقررون بينهم وبين أنفسهم أنه قلما كانت تصيب الرجل حصاة واحدة من كل ما يرمونه من حصى وحجر.
ولم يكن لهذه العداوة سبب ظاهر في الحقيقة، اللهم إلا الطبع الشرير الذي ينزع بالأطفال إلى السوء، ويجلب لهم أذى الضعفاء من الناس.
تأخر الأعمى مرة في المسجد حتى زحف الليل، وتكاثف الظلام واشتد، فسمع وهو راقد في ركن من أركان المسجد صوت الدلو في البئر، فاستوى على قدميه، ومشى على أطراف أصابعه كاتما أنفاسه، وصدره يضطرب، وجسمه كله يهتز، حتى جاز صحن المسجد، وتيامن إلى البئر، وقلبه واجف. وكان قد خفت صوت الدلو، ووضح صوت (الجبيذ) فقال لنفسه، لا بد أن امرأة تجذب الدلو الآن وهي مشتغلة به فلا تسمع خطوات قادم. . . ووقف برهة ثم صاح بصوت خشن: (مين؟)
فاستدارت المرأة وحملقت في الظلام. أواه. . . إنه سيد الأعمى على مدى ذراعين منها، ورمت الدلو وأذهلها الموقف المرعب عن إبداء حركة ما، فوقفت فاغرة فاها، ثم أسعفتها غريزة الهروب بعد ثوان، فولت هاربة، فسمع وقع أقدامها فجرى ورائها، وسمعه إلى خطاها، وجرت حتى جاوزت المسجد، وبودها لو تصيح بأعلى صوتها، ولكن من أين لها القوة على ذلك؟ وكيف يطاوعها الصوت؟ وعثرت قدمها بحجر في الطريق فكبت على وجهها مذعورة، وأنت عند ذلك أنة قوية، فجرى على الصوت وأهوى بيده العمياء ولمس كتفها، وكان قد بلغ منه الجهد فوقف يلهث ويده ممسكة بكتفها، ثم أنزل يده حتى قبض بعنف على رسغها، وقامت المرأة متراجعة، تود لو تفلت منه بكل ما تستطيع من قوة، ولكنه ضغط على يدها بشدة، وتحسس بيده الأخرى وجهها وقال في صوت متزن:
(جميلة. . .؟)
(. . . . . .)
ووقفت المرأة صامتة تهتز وترتجف(156/61)
(لم لا تناديني لأملأ لك الجرة؟)
وقد رق صوته جداً، فدهشت من تطور حاله وصمتت
(لماذا؟)
فشجعها صوته اللين وأجابت
(إنك لا تسمح لأحد بالدنو من البئر. . . فكيف أناديك؟)
(ليس لواحدة أو اثنتين. . . وإنما عندما تجئن بالعشرات فتقطعن الحبل، وتمزقن الدلو، وتهشمن خشب الجبيذ. . . في البلد أكثر من أربع آبار قريبة، فلماذا تجئن إلى هنا دائماً. . .؟)
(لأن هذه أعذبها ماء. . .)
(هذا الماء العذب كثيراً ما ينزح. . .)
(النيل في فيضانه والماء كثير. . .)
(أجل. . . أ. . . أ. . . ولكن. . . أملأت الجرة؟)
(نصفها. .)
(سأكملها لك)
وانقلب إلى البئر، فمشت وراءه مطمئنة، وأدلى الدلو وهو يحس بعض الاضطراب، فأخذ يدير الجبيذ بسرعة ليملأ لها الجرة ويصرفها عنه، ويبعدها عن وحدته وسكونه.
وقال وهو يفرغ الدلو بصوت خافت لين المخارج:
(إذا جئت مرة أخرى. . . ناديني لأملأها لك)
(كتر خيرك)
وساعدها على حمل الجرة، وانطلقت بها إلى بيتها، ووقف ينصت إلى هزيم الريح القوية في الحقل البعيد.
وأخذت جميلة بعد هذه الليلة تتردد على البئر دون خوف أو وجل، كانت تجئ في كل يوم مرة، عند مطلع الفجر أو بعد أذان العشاء، لأن زوجها لا يسمح لها بالسير في طريق القرية إلا بعد أن ينام الناس، وتنقطع الرجل. . فهي فتاة في رونق صباها رائعة الحسن غضة العود وزوجها يخشى عليها العين! ولا يحب لها ملاقاة شبان القرية الذين يقفون على(156/62)
رأس الطريق في ساعات معينة من النهار! وكانت تقابل سيد الأعمى في غالب الأوقات التي ترد فيها البئر، وكثيراً ما اترع لها الجرة، وأعانها على حملها، أو ملأ لها الحوض الصغير الذي على يمين البئر لتغسل وجهها ورجلها فبل الذهاب إلى بيتها، وكانت تطوى كميها إلى مرفقيها، وتحسر شالها عن شعرها، وترفع ثوبها إلى ساقيها وهي منحنية على الحوض تغتسل. كانت تفعل ذلك، دون خجل أو حياء لأن سيداً أعمى.
واستراح سيد الأعمى مرور الأيام لمحضَرها حتى أصبح يشعر في الأيام التي تتخلف فيها بالانقباض والوحشة. كان يحس، من أعماق نفسه، أن شيئاً ينقصه، شيئاً يستريح معه، وينشرح له صدره، وتنتشي حواسه، وتهدأ ثائرة أعصابه.
وكانت جميلة تدفعها غريزتها أول الأمر إلى الخوف منه واتقاء شره كرجل، بصر النظر عن كونه أعمى، ولكنها ما لبثت - بعد الانفراد معه مرة ومرات - أن استراحت واطمأنت ووثقت من عفته وخلقه، حتى كانت تخرج معه إلى حد المداعبة، كأن تخفي عكازته، أو تخلع الدلو، أو تقطع الحبل، أو ترشه بالماء، وكان يضحك لهذا حتى يرقص قلبه، ويلوح لها بعصاه مهددا. ً على أن هذا التآلف الذي أصبح بين سيد وجميلة، لم يشجع غيرها من النساء على القرب من البئر، لأنهن كن لا يعلمن بتغير حاله، وإن علمن لا يصدقن، ولم يكن هو يزجرهن عن البئر، ويمنعهن من ملء الجرار منها، لأنه كان يخاف على الماء فقط، بل لأن شيئاً خفياً في أعماق نفسه، كان يدفعه إلى النفور منهن وإبعادهن عن جوه. . . دافع باطني عجيب كان يخرجه عن هدوئه وسكونه، عندما يسمعهن يتحدثن على الماء أعذب حديث وأرقه، كان يرجف له ويضطرب، وهو الرجل وهن النساء. . .
شعور باطني غريب كان يحمله على فعل ذلك ولم يستطع تحليله ولا تعليله، وهو الجاهل الذي لم يذهب إلى المدرسة ولم يدرس علم النفس. لقد قضى الرجل حياته بعيداً عن جو المرأة فأخرجها عن دائرة تفكيره، بعد أن خرجت عن دائرة وجوده، ولم يعد يفكر فيها مطلقاً. . . لم يعد يفكر فيها، ولا يحن إلى لقياها، ولا يستريح لرفقتها.
وكان يتضايق حتى من وجود أم سيد معه في منزل واحد. . . وإن كان ينام بعيداً عنها، ولا يلاقيها إلا نادراً - غالباً في الأوقات التي كان يرجع فيها إلى البيت مبكراً ليتعشى - فكان يتذمر ويضطرب لمحضرها، وإن كان يعدها أُماً. كان يرتجف لوجودها معه، ويحس(156/63)
بروحها تثور، لأنه ما كان يحب أن يتصورها جالسة أمامه ترقبه وهو يمضغ الطعام، ويقطع الخبز بأسنانه، وكان لا يعود لهدوئه وسكونه إلا بعد أن يتنفس الصعداء في قاعته.
ولما اعترضت جميلة طريقه أول مرة، كان يحمل معه عصاه ليضربها؛ ولكنه لما سمع صوتها عن قرب، ووقف عند رأسها، وأمسك بيده رسغها، وصافحته أنفاسها، تراجع، وأيقن أنه أمام مخلوق لا يستحق الضرب!
وأخذ بعد ذلك يترقب حضورها، ويتأخر في المسجد عامداً ليعينها على حمل الجرة، ويملأ أذنيه من صوتها.
(لها بقية)
محمود البدوي(156/64)
البريد الأدبي
المؤتمر الدولي لنادى القلم
يعقد المؤتمر الدولي الرابع عشر لنوادي القلم في مدينة بوينس ايرس عاصمة الجمهورية الفضية (أمريكا الجنوبية) في شهر سبتمبر القادم، وتستمر دورة الانعقاد عشرة أيام من 3 سبتمبر إلى 13 سبتمبر منه. وقد أتخذ نادى القلم الأرجنتيني استعدادات عظيمة لعقد هذا المؤتمر، وسعى جهده لجمع أكبر عدد ممكن من مندوبي النوادي المختلفة في عاصمة الأرجنتين ولم يبخل في سبيل هذه الغاية بأنفاق آلاف الجنيهات لتسهيل سفر المندوبين من بلادهم النائية إلى أمريكا الجنوبية وإضافتهم مدة انعقاد المؤتمر؛ وقد استأجر لهذه الغاية باخرة خاصة تقوم من مياه البحر الأبيض بجميع المندوبين الرسميين في أوائل شهر أغسطس القادم، ثم تعيدهم إلى نفس المياه في أوائل شهر أكتوبر ومنها يتفرقون عائدين إلى بلادهم.
وسيشهد نادى القلم المصري هذا المؤتمر الكبير؛ وقد أختار لتمثيله أحد أعضائه الدكتور محمد عوض الأستاذ بالجامعة المصرية وقد سبق أن مثل حضرته نادى القلم المصري في مؤتمر القلم الذي انعقد في مدينة ادنبورج بايكوسيا في صيف سنة 1934.
وسيعنى المؤتمر ببحث جميع المسائل المتعلقة بالأدب والكتابة وحقوق التأليف وحرية القلم ومسائل النشر وما إليها؛ وتلقى فيه عدا ذلك عدة مباحث عالمية من بعض المندوبين. وسيلقى مندوب مصر ما يناسب المقام.
وهذه بعض المسائل التي سيعنى ببحثها المؤتمر:
(1) مهمة الكاتب في المجتمع، وما يستطيع نادي القلم أن يفعل في ذلك السبيل.
(2) نشر المؤلفات الأدبية وتبادلها بين مختلف البلدان، ومسألة التراجم، والعلاقة بين المؤلفين والمترجمين، والعلاقة بين المؤلفين والناشرين في الداخل والخارج
(3) مسألة إعانة الكتاب المعسرين.
ومسائل كثيرة أخرى تهم الأدب والكتاب
تطور الفكرة التاريخية اليهودية
نشطت الخصومة السامية، أعنى حركة العداء ضد اليهود في الأعوام الأخيرة نشاطاً ظاهراً(156/65)
وذلك لأسباب سياسية واجتماعية كثيرة لا محل لشرحها هنا. وقد أثارت هذه الحركة من جانبها نشاطاً كبيراً في التفكير اليهودي والآداب اليهودية؛ ومما يلاحظ بنوع خاص أنه قد صدرت في الأعوام الأخيرة عدة كتب جديدة عن تاريخ اليهود أشرنا إلى بعضها في فرص سابقة، وقد صدرت أخيراً ترجمة فرنسية لمختصر تاريخ اليهود الذي ألفه المؤرخ اليهودي الشهير سيمون دوبنوف بالروسية؛ وهذا التاريخ في الأصل ضخم جداً، ويقع في عشرة أجزاء كبيرة، ويعتبر من أمهات التواريخ اليهودية التي صدرت في العهد الأخير؛ وقد وضع سيمون دوبنوف لمؤلفه مختصرا في مجلد واحد هو الذي ترجم أخيرا إلى الفرنسية تحت عنوان (مختصر التاريخ اليهودي منذ نشأته حتى سنة 1934) ?
1943
وأهمية هذا المؤلف الجديد وما تقدمه في الأعوام الأخيرة عن تاريخ اليهودية ترجع إلى تحول النظرية التاريخية اليهودية، فقد كانت هذه النظرية تقوم من قبل على أسس دينية وينوه فيها دائما بما للشعب الإسرائيلي من مركز ديني ممتاز، وبما تذهب إليه التقاليد اليهودية القديمة من أن إسرائيل هو الوسيط بين الله والناس، وأنه الشعب المختار، إلى غير ذلك من المزاعم الدينية القديمة؛ أما هذه الكتب اليهودية الجديدة فقد كتبت من الناحية القومية، ولوحظ فيها أن اليهودية هي جامعة قومية لا دينية؛ ويرجع ذلك كما قدمنا إلى انتعاش الفكرة القومية اليهودية إزاء اشتداد الخصومة السامية، وما تلاقيه الصهيونية من المتاعب والمحن.
وكتاب دوبنوف برغم إيجازه قوي واضح، وقد ألم إلماما مدهشا بمواقف التاريخ اليهودي في مدى ألفي عام.
موسم سالزبورج الموسيقي
يقام في سالزبورج بالنمسا في كل صيف موسم فني عالمي للتمثيل والموسيقى. ومواسم سالزبورج شهيرة منذ أعوام طويلة؛ وسالزبورج هي موطن موتسارت، وما زالت بها أكاديمية موسيقية تحمل أسم الموسيقي العظيم. وسيكون موسم هذا الصيف الذي يعقد ما بين 25 يوليو و31 أغسطس من أبدع وأروع المواسم المسرحية والموسيقية التي عرفها العالم في الأعوام الأخيرة. ويكفي أن تعلم أن المشرف على تنظيم برامج هذا الموسم هو(156/66)
أعظم الفنانين والموسيقيين المعاصرين: ماكس رينهارت، وارتورو توسكانينى، وبرونوفالتر، وفيلكس فون فاينجارتنر. وسيشمل البرنامج المسرحي تمثيل عدة من القطع العالمية الخالدة مثل (فيجارو) وموسيقاها لموتستارت. و (فيديليو) وموسيقاها لبتهوفن و (أقطاب الغناء في نورمبرج) لفاجنر؛ و (تريستان وايزولدا) وموسيقاها له أيضاً و (اريفوس وايزولدا) وموسيقاها لجوك. و (فالستاف) وموسيقاها لفردي. وسيقود الفرق الموسيقية توسكانيني وفالتر وفاينجارتنر. ويشمل البرنامج الموسيقي عدة حفلات موسيقية بديعة لموتستارت وبيتهوفن ولزث وشوبرت وباخ وستقام في نفس الوقت حفلات موسيقية دينية في الكاتدرائية الكبرى.
وتغص سالزبورج في مثل هذا الفصل بالوافدين عليها من جميع أنحاء العالم. ولكن الأنباء الأخيرة تدل على أن احتشاد الوافدين في هذا الفصل قد بلغ حداً لم تعرفه سالزبورج من أعوام بعيدة
عضو جديد في الأكاديمية الفرنسية
من أنباء باريس الأخيرة أن الأكاديمية الفرنسية قد استقبلت عضوا جديدا هو لوى جيليه، وقد انتخب في الكرسي الذي خلا بوفاة الكاتب الشهير البيربينار، وترجم سلفه في اجتماع حافل من أعضاء الأكاديمية طبقا للتقاليد المعتادة. والعضو الجديد من طراز خاص من المفكرين يندر أن يوجد بين أعضاء الأكاديمية، ذلك أن لوى جيليه رجل فن وناقد فني فقط، وهو منذ أعوام طويلة مدير لأحد المتاحف الباريزية. وقد اشتهر في العهد الأخير بعدة مؤلفات قيمة عن الفن وتاريخه منها (تاريخ التصوير في أوربا في القرن السابع عشر) (تاريخ الفنون في فرنسا) , وغيرها، وهو من أشهر النقدة الفنيين في نوعه ينقد الصور والتماثيل الحديثة، ويكتب عن معارض الفنون رسائل قيمة.
جوائز أدبية
منحت جمعية النقدة الفرنسيين المؤلفة من جماعة من أعظم الكتاب والنقدة (جائزة النقد) السنوية إلى كاتبين كبيرين هما مسيو رنيه دومزنل، ومسيو مارسل تيبو؛ ولكل منهما في النقد مواقف مشهورة؛ وقد أمتاز مسيو دومزنل بنوع خاص بدراساته لبعض أكابر كتاب(156/67)
الجيل المنصرم مثل موباسان وهيسمان وفلوبير. ومما يؤثر عنه أنه كان طبيباً بالمهنة فاستهواه النقد وتدرج فيه حتى اعتزل الطب؛ وأما مارسيل تيبو فهو المحرر النقدي (لمجلة باريس) الشهيرة.
ومنحت جائزة الأدب الشعبي إلى ترستان ريمى، وهو من كتاب (الصعاليك) والعوالم السفلى، وقد أشتهر بقصته (حي سان أنتوان) وله عدة قصص أخرى تدور حول حياة الطبقات الدنيا في باريس.
الاقتصاد وسيلة لتحقيق السلام
يعانى العالم أزمات سياسية واقتصادية لا نهاية لها؛ وتكاد النظم الاقتصادية في بعض الأمم العظيمة تنهار؛ وتر أمم عظيمة أخرى أن الحرب ربما كانت أفضل الوسائل للخروج من أزماتها ومتاعبها؛ ويكد معظم الحكومات والساسة للخروج من هذه المآزق، وقد نشر أخيراً أحد الكتاب الإنكليز كتاباً طريفاً يدلى فيه برأي غريب لإنقاذ الأمم من أزماتها؛ وعنوان هذا الكتاب (في وسع الأمم أن تعيش في أرضها) ومؤلفه هو المستر ولكوكس وهو عالم في الاقتصاد الزراعي، ويحاول المؤلف أن يرد في كتابه على السؤال الآتي: (ما هو أكبر عدد يمكن أن يعيش من منتجات فدان أو ميل مربع من الأرض الصالحة؟) ويرى مستر ولكوكس أن الجواب على هذا السؤال تتوقف عليه نتائج اقتصادية وسياسية خطيرة؛ وهذا هو ملخص رأيه:
(إن أنجع الوسائل لتحقيق السلام الدولي، وتقليل خطر الحرب إن لم يكن إلغاؤه، هو تحسين الإنتاج الزراعي إلى حد يمكن الأمم من أن تعيش في أرضها، وببعد عنها خطر الجوع أو الحرمان، وأن تستغني إذا اقتضى الحال عن الموارد الأجنبية وما يلزم للرفاهة والحياة الناعمة)
ولقد تنبأ العالم الاقتصادي ملتوس منذ أكثر من قرن بما سيعاني العالم من وفرة السكان ونادى بنظرية ضبط النسل؛ ولكن العالم في أنحاء كثيرة لم يصل في وفرة السكان إلى الحد الذي يدعو إلى القلق. بيد أن هناك أمماً قد وصلت في ذلك إلى حد مزعج مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا، ويرى مستر ولكوكس أن تقدم الإنتاج الزراعي هو خير علاج لهذه الأزمة.(156/68)
والكتاب علمي في أسلوبه ومناحيه، ولكنه واضح بعيد عن ذلك التعقيد الفّني الذي يذهب بكثير من قيمة الشروح والبيانات القيمة.
إلى الأستاذ محمد عبد الله عنان
لما استطردتم في مقالكم القيم عن (البارون فون إوفنباخ) في الرسالة 141 إلى ذكر الماسونية وقلتم (إن لها أغراضاً خفية غير الأغراض الإنسانية التي تتظاهر بها، وإنها تعمل لغاية ثورية شاملة هي سحق الأديان والمعتقدات القائمة كلها، وإدماج الإنسانية كلها في نوع من التفكير الحر المطلق والمساواة الاجتماعية المطلقة) قرت عيون جمهرة القراء عندنا وعدوها لكم منقبة، وباتوا يرقبون عودة منكم إلى هذا الموضوع، لأن الناس لا يشكون من شيء عندنا ما يشكون من الماسونية. ولا يرون ظلماً ولا إلحاداً ولا رذيلة إلا وللماسونية صلة به، ذلك أن الماسونية عندنا ليست - على الأكثر - إلا شركات نفعية مؤلفة من أشخاص ليس لهم مبدأ معروف، ولا غاية نبيلة، ولكن مبدأهم ومنتاهم جلب النفع لأنفسهم ودرء الضرر عنها، ولو كان في ذلك ضرر المجتمع، وذهاب الفضيلة وهدم الدين؛ يتعاونون على الخير والشر، ويتناصرون على الحق والباطل، ويدوسون كل المقدسات في طريقهم إلى منفعتهم، فيدافع القاضي عن المجرم، ويتنكب سبيل العدل، ويخون المعلم منهم في الامتحان، فينجح المقصر، ويسقط المجتهد؛ وإذا خلت وظيفة لم يعين العالم الكفء القدير، ولكن يعين لها من له صلة بالماسونية التي يعتنقها من بيدهم أمر تعيينه، ولو كان جاهلاً، ولو كانت وظيفة رئيس المفتشين في وزارة المعارف، أو عضو الاستئناف في وزارة الحقانية، أو غير ذلك. . .
فهل هذه هي الماسونية؟ وهل يتفضل سيدي الأستاذ فيجلو لنا غامضها، ويكشف لنا خفيها، فيبين منشأها وأصلها ومبادئها، ويذكر لنا ما هي قيمتها اليوم في أوربا وفي بلدان الشرق الأدنى، وما هي علاقتها بالدين والوطنية في فصل تخطه يراعته البليغة؟
(دمشق)
(ع)
ديوان حافظ إبراهيم(156/69)
قررت وزارة المعارف العمومية طبع ديوان الشاعر الخالد حافظ بك إبراهيم. وقد ندب معالي الوزير لهذا العمل الخطير صديقنا الأستاذ أحمد أمين، فكلفه أن يجمع أشعاره ثم يرتبها ويبوبها ويصححها ويشرحها ويقدم لها ويعلق عليها.
وهذه مأثرة جميلة لوزارة المعارف نرجو أن يساعدها على إتمامها كل من عنده اثر من آثار الشاعر العظيم مما لم ينشر في صحيفة أو يطبع في ديوان فيرسل صورة إلى الأستاذ الشارح خدمة للأدب وبراً بالأديب.(156/70)
من هنا ومن هناك
آثار مصر القديمة منذ 650 سنة
ألف الأديب الرحالة المصري أبن فضل الله العمري كتابه الموسوعي العظيم (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) منذ خمسين وستمائة سنة (هـ) في عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وظل الكتاب مخبوءاً في زوايا الإهمال حتى أتيح بعثه على يد فقيد العروبة العامل الأستاذ أحمد زكى باشا سنة 1924، والكتاب ذخيرة ثمينة حقاً، وهو لا يقل في قيمته عن الموسوعات المصرية الثلاث الأخرى (صبح الأعشى، ونهاية الأرب، ولسان العرب).
ولعل أظرف فصل عقده المؤلف في كتابه (ج1) هو ذلك الفصل الذي يتكلم فيه عن آثار مصر القديمة، وما كان الناس يفترضونه من تاريخها، وما يعللون به تشييد تلك المباني الضخمة والهياكل العتيدة!
وقد وصف أبن فضل الله أهرام الجيزة فقال: (. . وهي أشكال لهبية، كأن كل هرم لهبة سراج، آخذة في أسفلها على التربيع مسلوبة في عمود الهواء، آخذة في الجو حتى إلى التثليث، لولا استدارة اُبلوج السكر (قمع السكر!) لشبهناها به، ويحتمل أن يكون هذا الشكل موضوعاً لبعض الكواكب لمناسبة اقتضته. .) وذكر قبل ذلك سبب بنائها قال: (قيل إنها هياكل للكواكب، وقيل قبور ومستودع مال وكتب، وقيل ملجأ من الطوفان، وهو أبعد ما قيل فيها!) ثم يعلل أنها لم تكن ملجأ للطوفان بأنه شاهد بعض الأهرام في مصر العليا مبنية من اللبن! وبعد أن يذكر بعض أقوال الشعراء في صفتها ينتقل إلى أبى الهول فيقول: (. . . وهو اسم لصنم يقارب الهرم الكبير، وفي وهدة منخفضة تقع دونه شرقاً بغرب.
لا يبين من فوق سطح الأرض إلا رأس ذلك الصنم وعنقه، أشبه شيء برأس راهب حبشي، عليه غفّارية؛ على وجهه صباغ أحمر إلى حُوّة، لم يحل على طول الأزمان وقديم الآباد، وهو كبير، لو كان شاخصاً كله لما قصر عن عشرين ذراعاً طوله في غاية مناسبة التخطيط!! يقال إنه طلسم يمنع الرمل عن المزدرع. . .).
ويسمى أبن فضل الله سلسلتي جبال العرب وليبيا (حائط العجوز!!) (وهو حائط يستدير بالديار المصرية ممتداً على جانب المزدرع بها كأنه جعل حاجزاً بين الرمل والمزدرع. .(156/71)
).
ويقول. . . (إنه من بناء امرأة اسمها دلوك. . .)
ومع هذا لا يرى أبن فضل الله أن يتورط في ذكر الخرافات التي تقال في سبب بناء دلوك لهذا الحائط فيقول: (ويذكر في تلك الكتب - بسبب بناء العجوز له - خرافة لسنا نرضى ذكرها!!)
ويسمى المؤلف تمثالي ممنون بالقرب من وادي الملوك (شامة وطامة!!) ثم يصف البرابي فيبدع إبداعاً تاماً، وينتقل إلى الإسكندرية فيصف عمود السواري، والمنارة، والملعب الكبير وصفاً يدل على ذوقه الفني الدقيق!!
فلوبير وحديقة الكرمب
يعتبر جوستاف فلوبير (1821 - 1880) الوارث الأكبر للمدرسة الابتداعية في الأدب الفرنسي عامة، والوارث لبلزاك خاصة، وإن يكن هو من الكتاب الريالست، وإن يكن أيضاً يمتاز من بلزاك بطلاوة أسلوبه ونقاء عبارته وإشراق ديباجته، وعدم إسفافه. . . وهي مزايا لم يكن بلزاك يعرف شيئاً منها.
ويشبه فلوبير في شدة عنايته بأسلوب شاعرنا الجاهلي زهير أبن أبى سلمى المعروف بصاحب الحوليات. فلقد كان فلوبير يأرق الليالي الطوال من أجل لفظة واحدة؛ حتى إذا فاز بها، ثم مضى زمن يسير، رجع فحذفها من مقاله أو من كتابه، وقد يكون ذلك وقت الطبع، ومن هذه الموسيقى الحلوة التي اشتهرت بها كتبه لا سيما في (مدام بوفاري) و (سانت أنطوني وسلامبو).
وقد بلغ من شدة شغف فلوبير بتقرير الواقع في قصصه أنه كان يجشم نفسه الشاق والأهوال ليصف منظراً عارضاً في زاوية منسية من زوايا هذه القصص. من ذلك أنه أراد وصف مزرعة كرمب في ليلة مقمرة مقرورة. . . فترك القصة بحذافيرها، وانتظر حتى كان موسم الكرمب، ثم رحل إلى ضاحية اشتهرت بنوع جيد من هذا المحصول، وثمة تلبَّث حتى آذنت الليالي المقمرة. . .
ولكن صاحبة البدر طفق يتدلل ويتستر وراء السحب القاتمة. . وكان الشتاء القارس يعذبه ببرده ولياليه الطوال، وكان فلوبير ما يبرح واقفاً وسط المزرعة بقلمه وقرطاسه، منتظراً(156/72)
إشراقة واحدة من حبيبه القمر ليصف فيها منظر أشعته الفضية على أوراق الكرمب.
ونال أمنيته بعد أن نال منه القمر كل أمانيه!!
روبرت أون والعمال
تنتقل مصر رويداً رويداً من الطور الزراعي الذي لا يتفق ومدنية هذا العصر إلى الطور الصناعي. . . طور المدنية والقوة والسيادة. وقد رأت إنجلترا مثل هذا الانتقال، ورأت فيه جملة ثورات اجتماعية كانت الاشتراكية أهمها جميعاً. والاشتراكية تعنى سعادة البشر ومكافحة الفقر، ومن هنا انضواء غالبية المفكرين تحت لوائها وسهرهم على تعميمها في كل مناحي الحياة حتى في دور العلم! ويعتبر روبرت أوِن (1771 - 1858) خالق الاشتراكية وواضع مبادئها بالعلم والعمل، بل هو الذي استحدث هذه الكلمة في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1835). ومن العجيب أنه كان من أكبر غزالي القطن في منشستر، وله جملة ابتكارات في صناعة الغزل تعتبر أسُساً لتقدمها.
وكان أون يحب الاختلاط بالعمال، ودأب من كثب على دراسة أحوالهم ومعايشهم، وكان يروعه فقرهم وقذارتهم وعدم قيام رواتبهم الضئيلة بحوائجهم، فنذر، إذا واتاه الحظ، أن يحدث في حياتهم ثورة تطفر بهم إلى السعادة. . . وقد حققت الأيام مطامحه فأصبح من أغنياء منشستر، وذكر نذره فأنشأ مصانعه العظيمة في نيولانارك على أحد النظم وعلى أحسن القواعد الصحية، وكان أهم ما عمله لترقية العمال تحسين أجورهم وتقليل ساعات العمل (وكانت 12 ساعة فخفضها إلى عشر، ثم إلى ثمان)، وأنشأ لهم مساكن صحية، وحرّم العمل على صغار الأطفال (أقل من عشر سنوات)، وضمن التعليم الابتدائي بالمجان لأبنائهم، وأنشأ لعماله مستشفي بجوار المصنع جلب إليه أمهر الأطباء وأحدث الآلات الطبية، ووضع للطاعنين في السن منهم نظاماً يكفل لهم شيخوخة سعيدة.
ولم يكتف أوان باستخدام هذه النظم لرفاهية العمال في مصانعه فقط، بل عمل على تعميمها في المصانع الأخرى. . . ولذلك ثار في وجهه أصحاب هذه المصانع، وكان أكثرهم من اليهود، ممن لا هم لهم إلا امتصاص دماء الإنسانية وصهرها ثم تحويلها إلى ذهب! ولكن أون العظيم صمد لهم، وما زال بالشعب وبالعمال وبالحكومة حتى انتصرت مبادئه، وأصبح العامل الإنجليزي مدى قرن من الزمان أسعد ألف مرة من إخوانه في جميع الآفاق.(156/73)
ولم يكن أون صاحب مصانع فحسب، بل كان كاتباً وخطيباً مفوهاً، ولذا كانت خطبه تسحر العمال وتبعث فيهم الشعور بالكرامة وتشيع في أعطافهم الكبرياء
اليوجنية الحديثة
اليوجنية أو علم تحسين النسل وهو علم حديث يرجع إلى سنة 1885 فقط، وموجده هو السير فرنسس جالتون المتوفى سنة 1911. وقد أوصى عند موته أن يرصد جزء كبير من دخله لإنشاء كرسي لهذا العلم في جامعة لندن؛ وقد اشتغل السير جالتون بعلوم الأحياء قبل أن يلتفت إلى هذا العلم.
ومن رأيه قصر التناسل على الفتاة العاقلة القوية ذات الفضائل من الناس لإيجاد جيل راق يقود البشرية مرحلة كبيرة إلى السوبرمان؛ وقد سمى هذه العملية من برنامجه ومن رأيه كذلك حرمان البلهاء والمرضى والمجرمين وأهل الرذائل من التناسل حتى لا يؤخروا موكب الإنسانية عن التقدم والرقى ويسمى هذه العملية
وسير جالتون يعنى عناية كبيرة بمذهب السلوكيين في السيكولوجية الحديثة، بل هو قد اتخذ من مباحثهم الطريفة نبراساً له في وضع الدعائم لهذا العلم الجديد.
(د. خ)(156/74)
الكتب
البراجماتزم
الأستاذ يعقوب فام
أصدرته لجنة التأليف والترجمة والنشر
بقلم الأديب ت. الطويل
يقول الأستاذ الجليل أحمد أمين في المقدمة التي مهد بها لقصة الفلسفة اليونانية: (لا بد للأديب الحق من وقوف تام على علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال وبالجملة على فروع الفلسفة، فذلك يجعل نتاجه أقوم، وتفكيره أعمق، وأفقه أوسع، ومنابع تفكيره أغزر، ويحمله على أن يفلسف الأدب؛ ولا يتسنى ذلك إلا إذا أَدَّبنا له الفلسفة).
وقد أدب الأستاذ وزميله الفلسفة اليونانية فأحسنا تأديبها، والتزما في عرضها مسالك الأدب في الكشف عن خواطره في أسلوب يجمع بين السلاسة والرصانة. واستفرغا الوسع في العمل على رفعة القارئ إلى مستوى الكاتب. . . ثم أخرج الأستاذ يعقوب فام كتابه في (البراجماتزم) وسلك فيه مسلك العلماء في تبيان خواطرهم وعرض آرائهم. وتبسيط المعقد من أفكارهم. لم يقف حيث هو في ذروته ويمد يده إلى القراء ليرفعهم إليه ويعلو بهم إلى مستواه. بل هبط إليهم وتبسط معهم وأخذ يتألفهم ويترضاهم في إسراف - قد يدعو إلى الملل أحياناً - رغبة منه في اكتساب مرضاتهم عنه حتى يقبلوا اصطحابه إلى حيث يعيش. . فأنت تقرأ الكتاب فلا تحس وأنت ماض بين صفحاته إلا أن الأستاذ يعقوب مدرس يلقى على تلامذته الصغار درساً في الفلسفة، فهو مشفق عليهم من وعورة مسالكها وظلمة سراديبها ورحابة آفاقها، يعرضها عليهم فكرة بعد فكرة في تفصيل وإطناب، ولا يترك رأياً إلا دار حوله بعد الإسهاب في شرحه متوهماً أن بعض التلاميذ لا يزالون يعالجون الفهم فيستعصي عليهم، ولكنه يعود فيتذكر أنه يكتب كتاباً ستتناوله أيدي فئات من القراء تتفاوت في المدارك قوة وضعفاً، فيتعذر لقارئه عن الإطالة ويستأذنه في المضي إلى طريقه؛ ويعود سيرته الأولى موضحاً رأيه بأسلوب يمتاز بالسهولة والبساطة وإن لازمته الركاكة، ويسوق لتلامذته الأمثلة المستمدة من حياتهم اليومية، حتى إذا فرغ من شرحه عاد(156/75)
فلخص ما أسلف فيه القول، ولم يبقى عليه بعد هذا إلا أن يضع لهم طائفة من الأسئلة يتناول بها آفاق الموضوع شأنه في ذلك شأن المدرسين الذين يضعون لتلامذتهم مصنفات تتناول برامج الدراسة المقررة. .!
والأستاذ أحمد أمين أديب عالم، ولكنه قد سلك مسلك الأدباء في الكتاب الذي صنفه بالاشتراك مع زميله الأستاذ زكى نجيب مؤثراً هذه الطريقة مقتنعاً بها راضياً عنها. وكذلك قل في الأستاذ يعقوب وإيثاره للطريقة التي أسلفنا الإشارة إليها الآن؛ وأكبر الظن عندي أنه لا يستطيع غيرها إن لم يكن مقتنعاً بها.
وأنه غير نادم على عجزه عن (تأديب) الفلسفة. لأنه لا يحترم الأدب ولا يكبر أهله. فالأديب رجل مُخَرِّف لا تعنيه إلا زخرفة اللفظ وبهرجة الأسلوب اللغوي. .! فان كان القارئ قد تملكه العجب لهذا التعبير فليسمع نَصَّ ما يقوله الأستاذ يعقوب فام ص 72:
(هل العقل الإنساني مرآة فقط ليس لها من عمل سوى أن تعكس الحقائق الخارجية دون تصرف أو تدخل من ناحية؟ أم هو كالفنان الذي يتناول قطعة الحجر ويصنع منها تمثالاً جميلاً منظماً متناسباً؟ أم هو لا هذا ولا ذاك وإنما يشبه الأديب الذي يخلق الأشخاص والحوادث والبيئة المحيطة بهذين خلقاً من العدم؟ (العفو!) على الإجابة عن هذا السؤال يتوقف الشيء الكثير. فلو قلنا إن العقل كالمرآة كنا من أتباع فلسفة الواقعيين؛ وإن قلنا إن العقل كالأديب يخلق الكون خلقاً، وإن الأشياء لا وجود لها في ذاتها وإنما وجودها يتوقف على العقل وحده كنا من أتباع الفكريين يزعمون أن الحقيقة هي عقل أو فكر وأن المادة شيء وهمي لا وجود له. وأما إن قلنا إن العقل يكيف الحقائق الخارجية كما أن. . . . . الخ).
هذه هي نظرية الأستاذ إلى الأدب وأهله. ولست أعرف في الأدب مذهباً يتيح لصاحبه أن يخلق من العدم أشخاصه وحوادثه وبيئته - إن كان في وسعه أن يفعل ذلك - والغريب أن يفرق الأستاذ الكريم بين الأدب والفن هذه التفرقة العجيبة التي لم أسمع بها على هذا النحو من قبل اليوم. ثم كيف يخلق الإنسان من العدم بيئة تعج بالحوادث والأشخاص؟ أبا لخيال؟ إن عجبك ليشتد وينمو حتى يملأ شعاب نفسك حين ترى الأستاذ يقول ص 83 ما نصه:
(هذا الشعور الخفي بالحق (عند المتصوفة) يقابل الخيال عند الرجل العادي. فالخيال ينتج(156/76)
من التفاعل بين مجموعة الاختيارات التي جازها الفرد في حياته اليومية، ومن نشاطه بين أفراد نوعه، ومن الغرائز الموروثة. هذا التفاعل بين الاختبارات والدوافع الموروثة عند الفرد هو الذي ينتج الخيال. ومع أن النتيجة قد تكون واحدة إلا أن الفرق بين التصوف والخيال واضح، فالأخير مبنى على العقل والاختبار، والأول مبنى على القوة الخارقة للطبيعة التي تلقى بالمعارف إلى الإنسان إلقاء. الخيال إنما هو قفزة يقفزها الإنسان إلى الامام، والتصوف هو الاستسلام للاتصال الخفي بين الفرد وعالم الأرواح، أو الفرق بين الرجل العادي ذي الخيال الخصب، والرجل الصوفي هو هذا:
الأول منهما متصل بالحياة وبالاختبار وبنشاط الجسد من مشاهدة وحس بأنواعه. . .).
هذا هو الخيال عند الرجل العادي كما يفهمه الأستاذ يعقوب، أما الخيال عند الأديب كما قال، فهو توهم ما لا وجود له، وتصوير ما لم تره عين، وتسمع به أذن، ولم يدركه حس؛ هو نوع من الرجم بالغيب والحدس باللا معلوم! لا تقل إن الأديب في عرف الأستاذ رجل مجنون، فان المجنون لا يفعل في تصرفاته أكثر من أن يستعيد صوراً ذهنية عن مدركات حسية في شكل مبالغ فيه إلى حد يتجاوز حدود العقل ويتخطى نطاق العرف. فالمجنون أقرب إلى الحياة من الأديب في رأى الأستاذ. .! ولهذا ارتقى إلى ذهني الظن بأن الأستاذ غير نادم على أنه لم يكن أديباً. . كما أشرت إلى هذا قبلاً.
وأكبر الظن أن الأستاذ يعقوب قد اختلط عليه معنى الـ في الفلسفة ومعناها في الأدب. ففي الفلسفة يراد باللفظة (التصوريون) - وأنا أوثر هذه الترجمة على (الفكريين) التي يستعملها الأستاذ حتى لا يختلط معناها بالعقليين - وهم الذين يظنون أن الحقيقة فكر، وأن المادة لاوجود لها، كما أبان الأستاذ، ثم يراد بلفظة الـ في الأدب (المثاليين)، وهم الذين ينزعون إلى تصوير المثل العليا، والتحدث إلى الناس عما ينبغي أن يكون. فهي في الفلسفة مشتقة من أي فكرة أو صورة ذهنية. وهي في الأدب مشتقة من أي مثل أعلى. والأديب المثالي لا يخلق من العدم شيئاً، وإنما يدرس (الكائن) في هذه الدنيا فلا يعجبه ولا يروقه فَيَحِنّ إلى كمال يعوض هذا النقص، ويصور المثل الأعلى الذي يحقق ما ينبغي أن يكون. وهو في تصوره إنما يعتمد على المدركات الحسية في أرحب معانيها، وخياله لا يؤلف له الصور الحبيبة إلى النفس إلا بالاعتماد على ما يعرفه من مدركات الحس. فان(156/77)
كان للمذهب التصوري وجاهته في الفلسفة فهو بمعناه الفلسفي هراء في عرف الأدب وأهْله.
على أن هذا الكلام لا يراد به الطعن في الطريقة التي سلكها الأستاذ يعقوب. فأن تأليف كتاب يتناول هذه الآفاق الرحيبة في الفلسفة وعلاجها على هذا النحو البسيط السهل الميسور لكل قارئ لمقدرة ومهارة تستحقان كل ثناء وإعجاب. فان كنت في شك من هذا فقارن ما كتبه الأستاذ بما يكتبه أغلب الذين ينقلون إلى الجمهور نظريات علم النفس، تَرَ العجز البيّن عن تمصير ما يكتبون حتى في نقل الأمثلة التي قرءوها في المراجع الأجنبية. . . أما الأستاذ يعقوب فهو يحدثك عن أحدث مذاهب الفلسفة وأقدمها فَتُحِسّ وكأن أصحابها مصريون تحسن فهمهم وتجيد تقديرهم ولا تجد بينك وبينهم هوة في فكرة أو روح. .!
وقد انتهي الأستاذ إلى هذا التوفيق بعد جهد كان أبرز آياته الاتئاد عند كل فكرة والإطناب في شرحها حتى يطمئن على سهولة فهمها ويسر إدراكها. على أن هذا الاتئاد وإن لازمه في (شرح) الكاتب منذ بدايته حتى نهايته، فان بعض الفصول التي أضافها الأستاذ توضيحاً للمذاهب أو تمهيداً لذكرها أحكاماً يشوبها الضعف أو نقصاً في استيفاء الموضوع. أو هكذا يخيل إلىّ. . . فتراه يكتب فصلاً يدلِّل فيه على أن الناس خاصتهم وعامتهم يتفلسفون وإن أنكر بعضهم أنه يتفلسف. .! ذلك لأنهم يعيشون في الدنيا ويضربون في زحمتها متأثرين بآراء قد تولت الفلسفة البحث فيها وانتهت منها إلى نظريات ومذاهب قد يعرفها طغام الناس. وهذا رأى غريب، لأن الفلسفة ليست (عناوين) من عرفها كان من حقه أن يكون فيلسوفاً، وإنما هي (بحث) يتناول الآفاق المجهولة في رحاب الحياة، هي (بحث) مجهول للناس يتناول ما تجهله العلوم وأهلها - ونهجها في ذلك توضيحه هذه الجملة: أنى وقف التفكير العلمي بدأ التفكير الفلسفي - فالناس عامتهم وخاصتهم لا يتفلسفون وإنما تبلغهم آراء يوحي بها الدين أو يمليها العرف - بما يؤلفه من مختلف العناصر - فيعملون بها ويسيرون على نهجها من غير تفكير في أمرها؛ فان تناولوها بالجدل حيناً فسرعان ما ينحرفون عنه مقتنعين ولو بلا شئ. وليس هذا شأن المتفلسفة في آي زمان أو مكان. . . أو ترى الأستاذ يكتب فصلاً ممتعاً يتناول فيه وظيفة العلم وطريقته في البحث ويلخص لك ما ينتهي إليه ويثبته في أرقام مسلسلة ليتيسر للقارئ معرفة الفوارق بينه وبين الفلسفة،(156/78)
ولكنه ينسى أن يتحدث في هذا الفصل عن أولى الخواص التي لا يستطيع الإنسان في العصر الحديث أن يتصور العلم من دونها، وهي أن العلم يمتاز من سائر آفاق المعرفة الإنسانية في أنه (يبحث الشيء من حيث هو شئ) وليست تعنيه علاقة هذا الشيء بغيره من الناس. ولهذا كان العلماء آخر من يفكر في الإنسانية ويعطف عليها، لأن التفكير في صالحها يدخل في باب العاطفة، وبين العلم والعاطفة عداء مستحكم الحلقات. فمخترع الغازات السامة أو الغواصات أو الدبابات وما إليها عالم موفق قد تهيأت له أسباب النجاح في تطبيق نظريات العلم - وإن ساء فيه رأى المجتمع وجزع الناس لما أخترع - وإن قلت له إن عملك يشقي الناس أجابك على الفور:
أنا عالم، أبحث الشيء من حيث علاقته بذاته، ولا شأن لي بعد هذا بما تفضي إليه نتائج البحث وتطبيقها خيراً كان أو شرا).
على أن من العدل أن نقول إن قيمة الكتب لا يحددها اتفاق الرأي بين الكاتب والقارئ، وإن خلوها من المآخذ التي يتصورها الناقد لا يصلح أن يكون مقياساً للإعجاب بها والرضا عنها، لأن مدارك الناس في تفاوت، ثم إن خلوها من النقص محال.
وقد تثير هذه الكلمة في نفسك سؤالاً تطلب إلي فيه أن ألخص لك (البراجماتزم) ولكنى لن أجيبك إلى مطلبك إشفاقاً على نفسي من الاضطلاع بهذا العمل. وأمامك كتاب الأستاذ يعقوب فأقرأه تعلم أن لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أنصفت في اختيار هذا الرجل للقيام بتأليف هذا الكتاب، فهو عالم يكثر الاطلاع، ويحسن الفهم، ويجيد العرض؛ ويحب أمريكا! ومن أقدر على الكلام في (البراجماتزم) من رجل تتوفر له هذه الصفات. .؟
ت. الطويل
ليسانسييه في الفلسفة(156/79)
العدد 157 - بتاريخ: 06 - 07 - 1936(/)
في النقد أيضاً
عزيزي الدكتور هيكل بك:
كان للفصل الذي كتبته منذ أسابيع في (النقد المزيف) أثران مختلفان: اثر رضيته أنت فسميته نجاحا صحفيا، لأنه أثار حواراً طريفاً بين صديقين من كبار الكتاب في مصر فدعواك بما شققا منه إلى المشاركة فيه؛ واثر سخطته أنا فسميته مصاباً أدبيا، لأنه ألب عليَّ كثيراً من طوائش الأفهام في مصر وفي غير مصر؛ ففريق ظن أنني عنيته بهذا المقال، كأنه لمح في نفسه آثار تلك العيوب فاتهم ثم حكم ثم غضب لأنني قلت الواقع وقال الحق، ثم حاول بهذا الغضب أن يستفزني إلى المسافهة؛ وفريق زعم أنني غمطت مدارك الشباب فاستعجزتهم عن النقد، واستحمقتهم في تكلف ما لا يحسنون بحكم السن والدرس والطبيعة؛ ثم جعلوا رأيك في ذلك نقيض رأيي، ومضوا يتعززون به ويدافعون وليس منا هجوم، ويرافعون وليس بيننا قضية
الواقع أنني هاجمت نوعا من النقد فشا على بعض الأقلام الرخوة، يصور الحق بلون الباطل ليضحك، ويبرز الجميل في مظهر القبيح ليسيء؛ وهو ينبعث إما من مكامن الحقد فيرمي إلى التجريح، وأما من مواطن الغرور فيرمي إلى الهدم. وذلك الضرب من الهوى العابث يترفع عنه الشاب والشيخ، بدليل أن أحدهما إذا ملكته الحفيظة لجيله رمى به الآخر. على أنني حين قلت أن النقد المنطقي ملكة فنية أصيلة، وتربية أدبية طويلة، وثقافة علمية شاملة؛ وان الناقد بهذا الاعتبار يشارك المشترع في صدق التمييز، والفيلسوف في دقة الملاحظة، والقاضي في قوة الحكم، كان في نفسي - واعترف بذلك - أن الشيوخ في الغالب هم أصحاب هذا الفن وأرباب هذه الملكة. وأقول (في الغالب) لأني قرأت منذ سنين للأستاذين: (غريب) و (المصري) وهما من كتاب الشباب فصولا في النقد كانت موضع الإعجاب في (البلاغ). ولكنك تقول إن النقد ظاهرة من ظواهر الشبيبة تحدث دائماً في شرَّة العمر، حتى إذا انكسرت (مال الكاتب مع سجيته، واختار الطريق الإيجابي الذي يسلكه في إنتاجه)، كما وقع لك؛ ثم تخرج من ذلك إلى أن العلة في ركود النقد هي أن الشباب لا يقرأ، وإذا قرأ لا يمحص، وإذا محصلا يثور فينقد. وفي هذه الفكرة وحدها ينحصر الخلاف بيني وبينك.
أنا أفهم أنك تنصرف عن النقد إلى معالجة السيرة النبوية بهذا التحليل المنطقي البارع،(157/1)
لأنه أجدى على الناس، وأعود على الأدب، وأجدر بالكاتب المرسل؛ ولكنني لا أفهم أن يكون انصرافك عن النقد نتيجة محتومة لانصراف الشباب عنك؛ لأن ذلك يناقض طبيعة النقد في ذاته، ولا يوائم فيما أظن قولك: (إن نقد الأثر الأدبي يدل على علو الكعب في العلم أو في الثقافة أو في التهذيب)
يخيل إليَّ أن منشأ هذا الخلاف أنك سميت التمرد نقداً، والنقد تحليل تاريخ وتعليل أدب؛ فان من أقوى خصائص الشباب ذلك الطموح الذي يولد القلق، والقلق الذي يخلق التمرد، والتمرد الذي يحدث الثورة. في هذا معنى الحياة ومعنى التطور ومعنى التكمل ومعنى التحرر، ولكن ليس فيه على الكثير الغالب معنى التمييز الذي يقتضي طول الخبرة، والتفضيل الذي يوجب شمول العلم، والحكم الذي يطلب نزاهة العقل.
إنك لا تستطيع أن تُخلص الشباب من سطوة الهوى وفتنة الغرور وغلبة العاطفة؛ وأولئك هن آفات النظر الفاحص والرأي المستقر؛ فالشاب يخضع في أحكامه لتأثير الساعة من قراءة أو صداقة أو استفزاز أو اشمئزاز أو إيحاء أو مرض؛ وهو في تسبيب هذه الأحكام يتعارض مع المعروف ويتناقض مع الواقع.
هذا كاتب شاب أعجلته ضرورات العيش عن استكمال العدة للكتابة، فهو يكتب بقوة المحاكاة، لا يحور إلى فن ولا يجري على مذهب؛ وهو بالطبع يفتقد الكلام المعرب والأسلوب المحكم والأدب الموروث، على حين يحفظ عن ظهر الغيب قواعد اللغة الأجنبية، ولا يجيز لنفسه أن يخطئ في صيغها المتعددة ولا في إملائها المعقد. وهذا أديب شاب ينتقدك أنت ويرميك بالرجعية وتمليق العامة، لأنك كتبت عن (محمد) بعد أن كتبت عن (روسو) و (شلي). وهذا مؤلف شاب له كتاب في نقد (حافظ) لم أقرأه بعد، كتب إلي يتهمني بأنني قصدته بمقالي لأنني كتبته على أثر ظهور كتابه. ويقول إنه يستطيع أن ينقد ما كتبته في الرواية المسرحية بأنه منقول عن الفرنسية. ودليله بالطبع أن هذا الموضوع لا مرجع له في أدب العرب، إذن فمن أين جاء؟ من اللغة الفرنسية التي أعلمها! ولو كنت أعلم الإنجليزية مثلاً لكان النقل عنها ولا شك، ما دام النقد في عرفه حكما من غير تعليل ودعوى من دون دليل. ولا أدري لم لم يقل إن كتابي في تاريخ الأدب العربي منقول عن العربية كذلك لأن مراجعه منها!(157/2)
فهل يرى الدكتور في مثل هذا النقد أنه كما قال (تناول لمواد الحياة العقلية والأدبية وهضمها وتمحيصها وتمثّل الصالح منها ونفي الزائف عنها؟) أم الحق أن ركود الأدب وفوضى النقد لا يرجعان إلى الشّيب ولا إلى الشباب، وإنما يرجعان إلى تهريج الصحف وكسل الكتاب؟
احمد حسن الزيات(157/3)
قصة الأيدي المتوضِئة. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال راوي الخبر: ذهبت إلى المسجد لصلاة الجمعة؛ والمسجد يجمع الناس بقلوبهم ليخرج كل إنسان من دنيا ذاته، فلا يفكر أحد أنه أسمى من أحد؛ ولقد يكون إلى جانبك الصانع أو الأجير أو الفقير أو الجاهل، وأنت الرئيس أو العظيم أو الغني أو العالم، فتنظر إليه وإلى نفسك فتحس كأن خواطرك متوضئة متطهرة؛ وترى كلمة الكبرياء قد فقدت روحها، وكلمة التواضع قد وجدت روحها؛ وتشعر بالنفس المجتمعة قد نصبت الحرب للنفس المنفردة. ولو خطر لك شيء بخلاف ذلك رأيت الفقير إلى جانبك توبيخاً لك، ونظرت إليه ساكتاً وهو يتكلم في قلبك، وشعرت بالله من فوقكما، واستعلنت لك روح المسجد كأنها تهم بطردك، وخيل إليك أن الأرض ستلطم وجهك إذا سجدت، وأيقنت من ذات نفسك أن لست هناك في دنياك وليس صاحبك في دنياه، وإنما أنتما هناك في انسانية ميزانها بيد الله وحده؛ فلا تدري أيكما الذي يخفّ وأيكما الذي يثقل.
قال: والعجيب أن هذا الذي لا يجهله أحد من أهل الدين، يعرفه بعض علماء الدين على وجه آخر، فتراه في المسجد يمشي مختالاً، قد تحلى بحليته، وتكلّف لزهوه، فلبس الجبة تسع اثنين، وتطاول كأنه المئذنة، وتصدّر كأنه القِبلة، وانتفخ كأنه ممتلئ بالفروق بينه وبين الناس؛ وهو بعد كل هذا لو كشف الله تمويههُ لانكشف عن تاجر علم بعضُ شروطه على الفضيلة أن يأكل بها، فلا يجد دنيا ذاته إلا في المسجد، فهو نوع من كذب العالم الديني على دينه.
قال الراوي: وصعد الخطيب المنبر، وفي يده سيفه الخشبيُّ يتوكأ عليه؛ فما استقر في الذروة حتى خُيل إليَّ أن الرجل قد دخل في سر هذه الخشبة، فهو يبدو كالمريض تقيمه عصاه، وكالهرم يمسكه ما يتوكأ عليه؛ ونظرت فإذا هو كذب صريح على الإسلام والمسلمين، كهيئة سيفه الخشبي في كذبها على السيوف ومعدنها وأعمالها.
وتالله ما أدري كيف يستحلُّ عالم من علماء الدين الإسلامي في هذا العصر أن يخطب المسلمين خطبة جمعتهم وفي يده هذا السيف علامة الذل والضّعة والتراجع والانقلاب والأدبار والهزل والسخرية والفضيحة والإضحاك؛ ومتى كان الإسلام يأمر بنجْر السيوف(157/4)
من الخشب ونحتها وتسويتها وإرهاف حدها الذي لا يقطع شيئاً، ثم وضعها في أيدي العلماء يعتلون بها ذُؤابة كل منبر لتتعلق بها العيون وتشهد فيها الرمز والعلامة، وتستوحى منها المعنوية الدينية التي يجب أن تتجسّم لتُرى؟
أفي سيفٍ من الخشب معنوية غير معنى الهزل والسخافة وبلاهة العقل وذلة الحياة ومسخ التاريخ الفاتح المنتصر، والرمز لخضوع الكلمة وصبيانية الإرادة؟
قال: وكان تمام الهزء بهذا السيف الخشبي الذي صنعته وزارة أوقاف المسلمين أنه في طول صَمْصَامة عمرو بن معد يكرب الزبيدي فارس الجاهلية والإسلام فكان إلى صدر الخطيب، ولولا أنه في يده لظهر مقبضه في صدر الرجل كأنه وسام من الخشب. . .
قال: وكان الخطيب إذا تكلّف وتصنّع وظهر منه أنه قد حَمِيَ وثار ثائرة - ارتجّ وغفل عن يده فتضطرب فيها قبضة السيف فتلكزه في صدره كأنما تذكره أن في يده خشبة. . . لا تصلح لهذه الحماسة.
قال: وخطب العالم على الناس، وكان سيفه الخشبي يخطب خطبة أخرى؛ فأما الأولى فهي محفوظة معروفة ولا تنتهي حتى ينتهي أثرها إذ هي كالقراءة لإقامة الصلاة، وكانت في عهدها الأول كالدرس لإقامة شأن من شؤون الاجتماع والسياسة، فبينها وبين حقيقتها الإسلامية مثل ما بين هذا السيف من الخشب وبين حقيقته الأولى. وأما الخطبة الثانية فقد عقلتُها أنا عن تلك الخشبة وكتبتها وهذه هي عبارتها:
ويحكم أيها المسلمون! لو كنتُ بقية من خشب سفينة نوح التي أنقذ فيها الجنس البشري لما كان لكم أن تضعوني هذا الموضع، وما جعلكم الله حيث أنتم إلا بعد أن جعلتموني حيث أنا، تكاد شرارة تذهب بي وبكم معاً لأن فيَّ وفيكم المادة الخشبية والمادة المتخشبة.
ويحكم! لو أنه كان لخطيبكم شيء من الكلام الناري المضطرم لما بقيت الخشبة في يده خشبة. وكيف يمتلئ الرجل إيماناً بإيمانه، وكيف يصعد المنبر ليقول كلمة الدين من الحق الغالب وكلمة الحياة من الحق الواجب - وهو كما ترونه قد انتهى من الذل إلى أن فقد السيف روحه في يده؟
أيها المسلمون! لن تفلحوا وهذا خطيبكم المتكلم فيكم إلا إذا أفلحتم وأنا سيفكم المدافع عنكم؛ أيها المسلمون غيِّروه وغيروني.(157/5)
قال راوي الخبر: ولما قُضِيتْ الصلاة ماج الناس إذ انبعث فيهم جماعة من الشبان يصيحون بهم يستوقفونهم ليخطبوهم. ثم قام أحدهم فخطب فذكر فلسطين وما نزل بها، وتغيّر أحوال أهلها، ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم؛ ثم استنجد واستعان ودعا الموسر والمخِفّ إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى؛ وتقدم أصحابه بصناديق مختومة فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي في هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرهم
قال: وكان إلى جانبي رجل قروي من هؤلاء الفلاحين الذين تعرف الخير في وجوههم والصبر في أجسامهم والقناعة في نفوسهم والفضل في سجاياهم، إذ امتزجت بهم روح الطبيعة الخصبة فتخرج من أرضهم زُروعاً ومن أنفسهم زروعاً أخرى - فقال لرجل كان معه: إن هذا الخطيب خطيب المسجد قد غشنا وهؤلاء الشبان قد فضحوه، فما ينبغي أن تكون خطبة المسلمين إلا في أخص أحوال المسلمين.
قال: ونبهني هذا الرجل الساذج إلى معنى دقيق في حكمة هذه المنابر الإسلامية؛ فما يريد الإسلام إلا أن تكون كمحطات الإذاعة يلتقط كل منبر أخبار الجهات الأخرى ويذيعها في صيغة الخطاب إلى الروح والعقل والقلب، فتكون خطبة الجمعة هي الكلمة الأسبوعية في سياسة الأسبوع أو مسألة الأسبوع؛ وبهذا لا يجيء الكلام على المنابر إلا حياً بحياة الوقت فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد؛ ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل
قال: وخيل إلي بعد هذا المعنى أن كل خطيب في هذه المساجد ناقص إلى النصف لأن السياسة تُكرهه أن يخلع إسلاميته الواسعة قبل صعوده المنبر وألاَّ يصعد إلا في إسلاميته الضيقة المحدودة بحدود الوعظ الذي هو مع ذلك نصفُ وعظ. . . فالخطبة في الحقيقة نصف خطبة أو كأنها أثر خطبة معها أثر سيف. . .
قال: وأخرج القروي كيسه فعزَل منه دراهم وقال هذه لطعام أتبلّغ به ولأوبتي إلى البلد، ثم أفرغ الباقي في صناديق الجماعة؛ واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت في صناديقهم كل ما معي؛ ولقد حسبت أنه لو بقي لي درهم واحد لمضى يسبني ما دام معي إلى أن يخرج عني(157/6)
قال الراوي: ثم دخلت إلى ضريح صاحب المسجد أزوره وأقرأ فيه ما تيسر من القرآن فإذا هناك رجال من علماء المسلمين، إثنان أو ثلاثة (الشكُّ في ثالثهم لأنه حليق اللحية). ثم توافى إليهم آخرون فتموا سبعة؛ ورأيتهم قد خلطوا بأنفسهم صاحب (اللالحية) فعلمت أنه منهم على المذهب الشائع في بعض العصريين من العلماء والقضاة الشرعيين، أحسبهم يحتجون بقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)؛ وكل امرئ فإنما تُبصره مرآته كيف يظهر في أحسن تقويم، أبلحية أم بلا لحية. . .؟
وأدرت عيني في وجوههم فإذا وقار وسّمْتٌ ونور لم أر منها شيئاً في وجه صاحب (اللالحية)؛ وأنا فما أبصرت قط لحية رجل عالم أو عابد أو فيلسوف أو شاعر أو كاتب أو ذي فن عظيم، إلا ذكرت هذا المعنى الشعريَّ البديع الذي ورد في بعض الأخبار من أن لله تعالى ملائكة يُقْسِمون: والذي زين بني آدم باللحى.
وكان من السبعة رجل ترك لحيته عافيةً على طبيعتها فامتدت وعظمت حتى نشرت حولها جواً روحانياً من الهيبة تشعر النفس الرقيقة بتياره على بُعد، فكان هذا أبلغ رد على ذاك
قال: وأنصت الشيوخ جميعاً إلى خطب الشبان، وكانت أصوات هؤلاء جافيةً صُلبة حتى كأنها صَخبُ معركة لا فنُّ خطابة، وعلى قدر ضعف المعنى في كلامهم قوي الصوت؛ فهم يصرخون كما يصرخ المستغيث في صيحات هاربة بين السماء والأرض
فقال أحد الشيوخ الفضلاء: لا حول ولا قوة إلا بالله! جاء في الخبر: تَعِس عبدُ الدينار، تَعِس عبدُ الدرهم، ووالله ما تعس المسلمون إلا منذ تعبدوا لهذين حرصاً وشحاً؛ (ومن يوق شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون)، ولو تعارفت أموال المسلمين في الحوادث لما أنكرتهم الحوادث
فقال آخر: وفي الحديث: (إن الله يحب إغاثة اللهفان) ولكن ما بال هؤلاء الشبان لا يوردون في خطبهم أحاديث مع أنها هي كلمات القلوب. فلو أنهم شرحوا للعامة هذا الحديث: (إن الله يحب إغاثة اللهفان) لأسرع العامة إلى ما يحبه الله
قال الثالث: ولكن جاءنا الأثر في وصف هذه الأمة: إنها في أول الزمان يتعلم صغارها من كبارها فإذا كان آخر الزمان تعلم كبارهم من صغارهم؛ فنحن في آخر الزمان وقد سلط الصغار على الكبار يريدون أن ينقلوهم عن طباعهم إلى صبيانية جديدة(157/7)
قال الراوي: فقلت لصديق معي: قل لهذا الشيخ ليس معنى الأثر ما فهمت، بل تأويله أن آخر الزمان سيكون لهذه الأمة زمن جهاد واقتحام وعزيمة ومغالبة على استقلال الحياة فلا يصلح لوقاية الأمة إلا شبابها المتعلم القوي الجريء كما نرى في أيامنا هذه فينزلون من الكبار تلك المنزلة إذ تكون الحماسة متممة لقوة العلم. وفي الحديث: أمتي كالمطر لا يٌدرى أوله خير أم آخره.
قال الراوي: ولم يكد الصديق يحفظ عني هذا الكلام ويهم بتبليغه حتى وقعت الصيحة في المكان فجاء أحد الخطباء ووقف يفعل ما يفعله الرعد، لا يكرر إلا زمجرة واحدة. وكان الشيوخ الأجلاء قد سمعوا كل ما قيل فأطرقوا يسمعونه مرة رابعة أو خامسة. وفرغ الشاب من هديره فتحول إليهم وجلس بين أيديهم متأدباً متخشعاً ووضع الصندوق المختوم
فقال أحد الشيوخ: ممن أنت يا بني؟ قال: من جماعة الأخوان المسلمين. قال الشيخ. لم يخف علينا مكانك وقد بذلتم ما استطعتم فبارك الله فيك وفي أصحابك
وسكت الشاب وسكت الشيوخ وسكت الصندوق أيضاً ثم تحركت النفس بوحي الحالة فمد أولهم يده إلى جيبه، ثم دسها فيه! ثم عيّثَ فيه قليلاً؛ ثم. . . ثم أخرج الساعة ينظر فيها
وانتقلت العدوى إلى الباقين فأخرج أحدهم منديله يتمخط فيه. وظهرت في يد الثالث سبحة طويلة. وأخرج الرابع سواكا فمر به على أسنانه. وجرَّ الخامس كراسة كانت في قبائه. ومد صاحب اللحية العريضة أصابعه إلى لحيته يخللها. أما السابع صاحب (اللالحية) فثبتت يده في جيبه ولم تخرج كأن فيها شيئاً يستحي إذا هو أظهره أو يخشى إذا هو أظهره من تخجيل الجماعة
وسكت الشاب وسكت الشيوخ وسكت الصندوق أيضاً
قال الراوي: ونظرت فإذا وجوههم قد لبست للشاب هيئة المدرس الذي يقرر لتلميذه قاعدة قررها من قبل ألف مرة لألف تلميذ. فخجل الشاب وحمل صندوقه ومضى
أقول أنا: فلما انتهى الراوي من (قصة الأيدي المتوضئة)، قلت له: لعلك أيها الراوي استيقظت من الحلم قبل أن يملأ الشيوخ الأجلاء هذا الصندوق، وما ختم عقلك هذه الرواية بهذا الفصل إلا بما كددت فيه ذهنك من فلسفة تحول السيف إلى خشبة. ولو قد امتد بك النوم لسمعت أحدهم يقول لسائرهم: بمن ينهض إخواننا المجاهدون وبمن يصولون؟ لهذا(157/8)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاهل سخيّ أحب إلى الله من عالم بخيل)؛ ثم يملئون الصندوق. . . . . . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(157/9)
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
نجتمع الليلة - أيها السادة - لنناجي القلب ونحادث الروح. ومناجاة القلب طهرة لمن شاء أن يتطهر، وصفاء لمن أراد التبرؤ من الرجس والدنس. ومحادثة الروح عروج إلى سماء النور والملائكة، وصعود إلى عالم الفيض والإلهام. نجتمع الليلة لنهجر الأجسام زمناً ونفرغ إلى نفوسنا حيناً. والجسم والنفس كانا ولا يزالان في صراع دائم ومعركة مستمرة، يقدر فيها لأحدهما الفوز تارة وللآخر أخرى. وقد يبدو غريباً أن نتحدث عن فيض وإلهام وروح ونفس في عصرنا الحاضر الذي طغت فيه المادة على كل شيء، فأصبحنا لا نؤمن إلا بكل مشاهد، ولا نسلم إلا بكل مرئي. بيد أنا حتى في هذا العصر المادي نشعر بحاجة ماسة إلى كشف ما غاب عن أبصارنا وانطوت عليه نفوسنا، ونركن كثيراً إلى ما تمليه ضمائرنا. وما دام فينا قلب يخفق وعاطفة تتأجج، فإنا لا نستطيع إنكار لغة القلوب والأرواح؛ وإذا تتبعنا المذاهب الفلسفية على اختلافها وجدنا أنه لم يخل واحد منها من نزعة صوفية. وها هو ذا أرسطو الذي كان واقعياً في بحثه وطريقته، ورجل مشاهدة وتجربة في ملاحظاته واستنباطاته، قد انتهى به الأمر إلى أن بنى دراسته النفسية على شيء من الفيض والإلهام، ووضع في قمة الأخلاق فضائله العقلية التي هي أسمى درجة من درجات التأمل والمشاهدة الصوفية
حقاً إن الإدراكات الروحية والإلهامات القلبية قد تكون غير يقينية، أو قد يعز على الأقل إثباتها ببراهين قطعية يتقبلها الآخرون؛ إلا أنها مبعث طمأنينة وهدوء وسكون؛ ذلك لأنها معرفة شخصية مباشرة؛ والكلام إذا خرج من القلب وصل إلى القلب. وكم يجهد الإنسان نفسه في صوغ الأقيسة وإقامة البراهين لإثبات أمر ما دون أن ينعم بالهدوء والسكون اللذين يحس بهما حين يناجيه قلبه وتخاطبه روحه. وقديماً مر الغزالي بمراحل من البحث والنظر، واشتغل بدراسات كثيرة، ولكن لم تطب نفسه إلا للمعرفة الصوفية تفيض عليه فيضاً ويلهمها إلهاماً. وحديثاً شك ديكارت في كل شيء، اللهم إلا في نفسه وتفكيره. ولما انتهى إلى هذه الحقيقة الثابتة كانت أساس اليقين في رأيه ونقطة البدء لكل فلسفته. وهناك فلسفات قامت بأسرها على المناجاة الروحية والاتصال بالله؛ فأفلوطين في مدرسة(157/10)
الإسكندرية يرى أن الجذب والفيض هما السعادة التي ليست وراءها سعادة؛ وقد جد شخصياً في تحقيقهما طول حياته، ولم يحظ بهما إلا بضع مرات. ومالبرنش في القرن السابع عشر يقول باتصال مستمر بين العبد وربه. فمعرفتنا ليست إلا فيضاً من الله، وما يبدو منا من عمل خارجي ليس إلا ظروفا ومناسبات لتحقيق إرادة الله، وبهذا يتلاشى المخلوق في الخالق، ويندمج الأثر في المؤثر.
لسنا نحاول هنا التحدث عن التصوف في جملته، ولا التعرض لمختلف مظاهره وأدواره منذ نشأته، وإنما نريد فقط أن نفصل القول في نزعة صوفية سادت الفلسفة الإسلامية؛ فنتبين كيف تكونت وشبت ونشأت، ونشرح الأصول التي صدرت عنها، والعوامل التي أثرت فيها، ونحدد مدلولها ومرماها. وإذا ما تم لنا هذا استطعنا أن نوضح آثارها ونتائجها. فحديث القلب والروح الذي نحن بصدده مقصور على ما جاء به الفلاسفة المسلمون، ووقف على الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية. وما كان أجدرنا في بحث كهذا أن نستعمل لغة خاصة وأسلوباً خاصاً، بل وأن نلجأ إلى مكان خاص، فان لغة العقل تعجز أحياناً عن التعبير في دقة عما يكنه القلب، وأسلوبنا المشوب بشوائب مادية قد لا يجد السبيل إلى وصف الإلهامات النفسية، والأرواح التي تسبح في عالم النور تعز مناجاتها في حيز المادة والجسم المحدود. وعلّ الصوفية مصيبون في التزيي بزي خاص، كي يتفق ظاهرهم مع باطنهم، وفي اتخاذ لغة معينة تفصلهم عمن سواهم؛ غير أن هذه اللغة زادت آراءهم تعقيداً، وكست نظرياتهم بثوب كثيف من الغموض والإبهام. وسنجتهد في أن نجلي غامضها، وأن نقربها ما استطعنا من العرف المألوف.
عني الباحثون من قديم بدراسة التصوف الإسلامي في جملته مدفوعين غالباً بما في الموضع من طرافة، ومحاولين أن يكشفوا ما احتواه الإسلام والشرق من حقائق وأسرار. ويغلب على الظن أن الأبحاث الصوفية أول موضوع استلفت أنظار المستشرقين؛ ولا تزال هذه الأبحاث محل عنايتهم حتى اليوم؛ ومؤلفاتهم فيها تزيد كثيراً على ما كتبوه في الدراسات الإسلامية الأخرى. ولا غرابة فالغرب متعطش دائماً إلى تعرف صوفية الشرق. وكأن هذا الأخير وهو مصدر النور والضوء أبى إلا أن يكون في الوقت نفسه مقر القوى الخفية والأسرار الغامضة. ودون أن نعرض لكل من اشتغلوا بموضوع التصوف من كبار(157/11)
المستشرقين نكتفي بأن نشير إلى رجال القرن العشرين، ونخص بالذكر منهم جولد زيهير النمسوي الذي عقد للتصوف فصلاً ممتعاً في كتابه (عقيدة الإسلام وقانونه) بجانب أبحاث أخرى قيمة؛ والأستاذ مكدونلد الأمريكي الذي وضح كثيراً من آراء الغزالي الصوفية، والأستاذ نكلسون المدرس بجامعة كمبردج، والأستاذ ماسنيون المدرس بكليج دي فرنس، والدكتور محمد إقبال العالم الهندي المشهور؛ وعلى رأس هؤلاء جميعاً أن نضع نكلسون وماسنيون، فانه يرجع إلى الأول الفضل في نشر كثير من مخلفات الصوفية القيمة والتعريف عنها؛ أما أستاذنا ماسنيون فقد رسم في التصوف طرائق جديدة، وقدم لنا الحلاج صورة غنية بالألوان والمعاني الدقيقة في كتاب يعد أوسع مؤلف في تاريخ التصوف الإسلامي.
غير أن آراء فلاسفة الإسلام الصوفية لم تدرس بعد ولم توجه إليها العناية التي تستحقها. حقاً إن مهرن المستشرق الدنمركي، تنبه إلى بعض مؤلفات ابن سينا الصوفية، وقام بنشرها وترجمتها. كما أن البارون كارادي فو لمح لدى الفارابي نزعة صوفية واضحة. إلا أن هذه الأبحاث ناقصة وغير ناضجة. وعلى هذا لا زلنا نجهل أفكار فلاسفة الإسلام الصوفية كما نجهل نظرياتهم الفلسفية بالمعنى الدقيق. وكل ما نرجوه أن نكشف الغطاء عن هذه الناحية وأن نوجه الأنظار إليها.
إذا شئنا أن نعرف أقدم صورة للأفكار الصوفية عند فلاسفة الإسلام، وجب علينا أن نصعد إلى أبي نصر الفارابي. فانه أول من صاغ الفلسفة الإسلامية في ثوبها الكامل ووضع أصولها ومبادئها. نحن لا ننكر أن الكندي تنبه قبله إلى دراسة أفلاطون وأرسطو وعرض لبعض نظرياتهما بالشرح والاختصار؛ ولكنا لا نجد لديه مذهباً فلسفياً كاملاً بكل معاني الكلمة، بل هي نظرات متفرقة ومتعلقة بمواضيع مختلفة لا رابطة بينها. أما الفارابي فقد لم هذا الشعث وأقام دعائم مذهب فلسفي متصل الحلقات. ومن أهم أجزاء هذا المذهب وعلى قمة هذا البناء نرى نظرية صوفية امتازت بها الفلسفة الإسلامية من كثير من الفلسفات الأخرى. فالتصوف إذن قطعة من مذهب الفارابي الفلسفي لا ظاهرة عرضية كما يزعم كارادي فو. ولا أدل على هذا من أن هناك رباطاً وثيقاً يربطه بالنظريات الفارابية الأخرى نفسية كانت أو أخلاقية أو سياسية. وقد أثر هذا التصوف تأثيراً عميقاً فيمن جاء بعد من(157/12)
فلاسفة الإسلام.
لعل أخص خصائص النظرية الصوفية التي قال بها الفارابي أنها قائمة على أساس عقلي. فليس تصوفه بالتصوف الروحي البحت الذي يقوم على محاربة الجسم والبعد عن اللذائذ لتطهر النفس وترقى مدارج الكمال، بل هو تصوف نظري يعتمد على الدراسة والتأمل. وطهارة النفس في رأيه لا تقصد عن طريق الجسم والأعمال البدنية فحسب، بل عن طريق العقل والأعمال الفكرية أولاً وبالذات. هناك فضائل عملية جسيمة ولكنها لا تذكر في شيء بجانب الفضائل العقلية النظرية، ولئن كانت الأعمال الحسنة والخلال الحميدة بعض الخير، فالخير كل الخير في مسألة نتدارسها وحقيقة نكشفها ومعرفة تتهذب بها نفوسنا وتسمو عقولنا. وذلك أن العقل البشري سالكاً سبيل رقيه وتطوره يمر بمراحل متدرجة بعضها فوق بعض. فهو في أول أمره عقل بالقوة، فإذا ما أدرك قدراً كبيراً من المعلومات العامة والحقائق الكلية أصبح عقلاً بالفعل. وقد يتسع مدى نظره، ويحيط بأغلب الكليات فيرقى إلى أسمى درجة يصل إليها الإنسان وهي درجة العقل المستفاد أو درجة الفيض والإلهام. وعلّ في هذا ما يبين كيف اتصل التصوف عند الفارابي بعلم النفس، ونظرية المعرفة.
ولن يقف الأمر عند هذا الحد، بل التصوف الفارابي متين الصلة بالنظريات الفلكية والميتافيزيقية، فان الفارابي يتخيل نظاما فلكياً أساسه أن في كل سماء قوة روحية أو عقلاً مفارقاً يشرف على حركتها ومختلف شؤونها، وآخر هذه القوى وهو العقل العاشر موكل بالسماء الدنيا والعالم الأرضي، فهو نقطة اتصال بين العالمين العلوي والسفلي، وكلما اتسعت معلومات المرء اقترب من العالم العلوي ودنت روحه من مستوى العقول المفارقة، فإذا وصل إلى درجة العقل المستفاد أصبح أهلاً لتقبل الأنوار الإلهية وأضحى على اتصال مباشر بالعقل العاشر. فبالعلم والعلم وحده يمكننا أن نربط السماوي بالأرضي والإلهي بالبشري والملائكي بالإنساني، وأن نصل إلى أعظم سعادة ممكنة. والمعرفة النظرية الميتافيزيقية هي أسمى غاية ينشدها العقل الإنساني. وإذا ما انتهينا إلى هذه المرتبة تحررت نفوسنا بتاتاً من كل ما هو مادي وجسمي والتحقت بالكائنات العقلية واطمأنت إلى حالها هذه راجية أن تبقى فيها إلى النهاية
هذه هي السعادة التي تنحو نحوها الفلسفة والأخلاق ويوصب إليها النظر والعمل ويسعى(157/13)
إليها الإنسان بدراسته وسلوكه، هي الخير المطلق وغاية الغايات ومنتهى الرفعة الإنسانية وجنة الواصلين، يقول الفارابي: (والسعادة هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود بحيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام، وفي جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائماً أبداً، إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال، وإنما تبلغ ذلك بأفعال إرادية، بعضها أفعال فكرية وبعضها أفعال بدنية، وليست بأي أفعال اتفقت، بل بأفعال محدودة مقدرة تحصل عن هيئات ما وملكات ما مقدرة محدودة. وذلك أن من الأفعال الإرادية ما يعوق عن السعادة، والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، وليست تطلب أصلاً ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيء آخر؛ وليس وراءها شيء آخر أعظم منها يمكن أن يناله الإنسان. والأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة. والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل؛ وهذه ليست خيراً لذاتها، بل لما تجلب من سعادة. والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور والأفعال القبيحة. والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي النقائص والرذائل والخسائس).
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة في كلية الآداب(157/14)
تطور العقلية الإسبانية في تقدير تراث الأندلس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في أوائل سنة 1929، احتفلت جامعة غرناطة بذكرى الخلافة الأندلسية لمناسبة مضي ألف عام على قيامها فكان أول حادث رسمي من نوعه ينم عن تطور عميق في تقدير إسبانيا النصرانية لتراث الأندلس المسلمة
وتاريخ الإسلام في الأندلس مرحلة باهرة في تاريخ إسبانيا القومي، بل أعظم مراحله وأسطعها، فقد لبث العرب في إسبانيا زهاء ثمانية قرون أنشئوا فيها أعظم حضارة عرفت في العصور الوسطى، وكانت وحدها مدى هذه العصور مورد النور والعرفان لأمم الشمال؛ وأخرج المسلمون من إسبانيا بعد أحقاب من الكفاح المتواصل، فتركوا في إسبانيا طابعهم الخالد؛ وما زالت آثارهم الباقية تشهد بعظمة عصرهم وحضارتهم، وما زالت الحياة الاجتماعية الإسبانية تنم في كثير من نواحيها عن تأثير العرب ورسومهم وتقاليدهم.
ولكن إسبانيا النصرانية لم تقنع بسحق الأندلس المسلمة، واستعادة آخر بقعة للإسلام في إسبانيا، بل رأت غداة ظفرها أن تطارد الإسلام بكل ما وسعت، وأن تمحو كل رسومه وآثاره من صفحة حياتها، وأن تدفن ذلك الماضي المجيد إلى الأبد، وأن تعتبره محنة قومية نزلت بها، وأن تمحوه من صحف تاريخها القومي؛ وتأثر التفكير الإسباني بأهواء السياسة المتعصبة، فأشبع بهذه الروح المجحفة؛ ولبث الأدب الإسباني عصورا يشيع بلعناته المتواصلة عصر الإسلام وتراثه، وكل ذكرياته؛ ولم ينج التاريخ من هذه النزعة المغرضة، فطغى التعصب على المرحلة الإسلامية من تاريخ إسبانيا القومي؛ وكتب المؤرخون الأسبان تاريخ العرب في إسبانيا بروح عميق من التحامل، وجعلوا جل اعتمادهم على الروايات النصرانية القديمة التي تفيض بمختلف الأكاذيب والتهم، ولم يفكروا في مراجعة المصادر الإسلامية والانتفاع بها؛ ذلك أن إسبانيا النصرانية أصدرت منذ غداة ظفرها حكمها على المغلوب، ولم ترد بعد ذلك أن تسمع صوتاً للأندلس الذاهبة، أو أن تراجع ذلك التراث الذي تعتبره رجساً، وترى فيه عنوان عصور مشئومة، مليئة بالمحن القومية.
وبهذه الروح كتب أكابر المؤرخون الأسبان تاريخ إسبانيا، فكتب ماريانا في عصر شارلكان تاريخ إسبانيا العام، وخصص منه مجلدين كبيرين لتاريخ الأندلس، ولكنه كان(157/15)
متحيزاً متحاملاً يغدق المطاعن والتهم على العرب وعصور الإسلام؛ وحذا حذوه من جاء بعده من المؤرخين؛ وطبعت مؤلفاتهم جميعاً بهذا الطابع المغرض؛ وكانت السياسة الإسبانية تحرص دائماً على حجب آثار العصر الإسلامي، وتخفيها عن كل باحث ومتطلع، كأنما كانت تخشى أن تؤثر روح التفكير الإسلامي في تفكير إسبانيا النصرانية، وهي لم تدخر وسعاً في مطاردة هذا الروح وقتله؛ ولبثت الآثار الإسلامية عصوراً مقبورة في أقبية الأسكوريال المظلمة، وكانت حتى أواخر القرن السابع عشر تبلغ زهاء عشرة آلاف مجلد جمع معظمها أيام سقوط غرناطة، وضمت إليها بعد ذلك نحو ثلاثة آلاف مجلد كانت للسلطان زيدان السعدي ملك مراكش؛ وكانت مشحونة في مركب مغربي لتنقل إلى بعض ثغور المغرب خوفاً على ضياعها أثناء الفتنة، فأسرتها بعض المراكب الإسبانية وحملت شحنتها إلى إسبانيا؛ وفي أواخر القرن السابع عشر أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس محنة أليمة، إذ شبت النار في الأسكوريال والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه سوى ألفين. عندئذ استفاقت الحكومة الإسبانية من سباتها؛ وحررت ذهنها بعض الشيء من ذلك التعصب العميق الذي صرفها عصوراً طويلة عن العناية بهذا التراث، واستدعت من رومة حبرا شرقياً وعلامة لغوياً كبيراً هو ميشيل الغزيري اللبناني الذي يعرف في الغرب باسم (كازيري) وعهدت إليه بدرس الآثار العربية ووضع فهرس جامع لها؛ فلبث الغزيري أعواماً طويلة يدرس وينقب في تلك المخطوطات حتى أتم المهمة، وأخرج في سنة 1760 باللاتينية فهرسة الجامع بعنوان (المكتبة العربية الإسبانية في الأسكوريال) - وصدر كازيري معجمه بمقدمة طويلة شرح فيها قيمة المخطوطات العربية وأهميتها، ونقل في فهرسه نبذاً كثيرة من بعض الآثار الهامة؛ فأثار ظهور هذا الفهرس الجامع لأول مرة اهتماماً كبيراً في دوائر البحث والتفكير، ولفت نظر المؤرخين الأسبان إلى تلك الناحية الهامة من تاريخ إسبانيا القومي، وإلى تلك المراجع النفيسة التي تلقي أعظم ضوء على تاريخ الأندلس وأحوال المجتمع الإسلامي؛ وعني طائفة من الباحثين في أواخر القرن الثامن عشر مثل أندريس وماسدي ببحث المصادر العربية والانتفاع بها، والاقتباس منها؛ وأخرج أندريس كتابه عن (أصول الأدب) وأخرج ماسدي مؤلفه الجامع عن تاريخ إسبانيا والحضارة الإسبانية وفيه نبذ شائقة عن المجتمع(157/16)
الإسلامي ونواحي التفكير الإسلامية مستمدة من المراجع العربية؛ وهكذا بدأ تطور الروح الإسبانية في تقدير التراث الإسلامي، وظهر صوت الأندلس المسلمة لأول مرة في التواريخ العامة والخاصة.
على أن هذا التطور المحمود من التحامل والتعصب إلى جانب الروية والإنصاف لم يقف عند هذا الحد، ففي أوائل القرن التاسع عشر عمد المؤرخ يوسف كوندي أمين مكتبة أكاديمية مدريد إلى دراسة المراجع العربية في الأسكوريال دراسة مستفيضة ورأى أن يكتب تاريخ أسبانيا المسلمة بصورة جديدة هي الصورة التي تقدمها إلينا المراجع العربية، أو بعبارة أخرى رأى أن يكتب تاريخ الأندلس كما يعرضه تراثها العربي، وكانت نتيجة هذه الدراسة كتابه الشهير (تاريخ دولة العرب في أسبانيا) الذي صدر الجزء الأول منه سنة 1810؛ وتوفى كوندي في نفس العام، فنشر الجزءان الباقيان من مخطوطاته في العام التالي؛ وليس مؤلف كوندي قوياً من الناحية النقدية، لأن مؤلفه ينقل مختلف الروايات العربية دون تمحيص، ولأنه يقع في كثير من الأخطاء التاريخية التي ترجع في الغالب إلى عدم الدقة في النقل؛ ومع ذلك فانه يمتاز بالصراحة الجمة حتى أن كوندي يذهب في كثير من المواطن إلى إصدار أشد الأحكام على أمته ومواطنيه خصوصاً في الحوادث التي اقترنت بسقوط غرناطة، واضطهاد الأسبان للعرب ومطاردتهم وإرغامهم على التنصير، ثم إخراجهم بعد ذلك من أوطان آبائهم وأجدادهم في غمر من الفظائع والدماء؛ وأهمية مؤلف كوندي في أنه يعرض للغرب لأول مرة أقوال الرواية العربية مستمدة من مصادرها الأصيلة، ومنها تعرف وجهة النظر الأندلسية في كثير من الحوادث والشؤون.
وكان صدور مؤلف كوندي حادثاً فريداً في كتابة التاريخ الأسباني، وكان أول مؤلف من نوعه يسجل كلمة الأندلس في المرحلة التي قطعتها من تاريخ إسبانيا القومي. ويسجل في نفس الوقت بدء عهد جديد من حرية البحث والتقدير؛ ومن الغريب أن كتاب كوندي صدر في نفس الوقت الذي صدر فيه أثر تاريخي آخر كان لصدوره أعظم وقع في إسبانيا وفي أوربا، وهو كتاب الدون انتوينو لورنتي عن تاريخ محاكم التحقيق (التفتيش) الأسبانية، وعن نظمها وإجراءاتها الدموية، وفيه يورد مؤلفه طائفة عظيمة من الوثائق الرسمية التي(157/17)
تكشف عن فظائع هذه المحاكم الشائنة، وخصوصاً في مطاردتها للعرب والعرب المتنصرين، ويورد في نفس الوقت طائفة كبيرة من القضايا والمحاكمات الخاصة بالعرب المتنصرين مستمدة من وثائقها الأصلية؛ وكان كتاب لورنتي فتحاً جديداً في هذه الناحية من تاريخ العرب المتنصرين. وكان لصدوره وقع عظيم في أوربا، خصوصاً وأن مؤلفه من أكابر رجال الدين والكنيسة، وقد لبث أعواماً طويلة سكرتيراً عاماً لديوان التحقيق (التفتيش) واستطاع أن يستخرج وثائقه من محفوظات الديوان الرسمية ذاتها
وفي أواسط القرن التاسع عشر عنى العلامة المستشرق الأسباني دون باسكوال دي جاينجوس بدراسة المصادر العربية في تاريخ الأندلس، وقام بترجمة القسم الأول من كتاب (نفح الطيب) للمقري إلى الإنكليزية مع بعض التصرف وسماه (تاريخ الدول الإسلامية في إسبانيا) وظهرت هذه الترجمة في لندن سنة 1840 في مجلدين كبيرين مقرونة بملاحظات ومقارنات نقدية قيمة؛ ولم تمض أعوام قلائل على ذلك حتى صدرت في ليدن ترجمة فرنسية لهذا القسم الأول من كتاب المقري بقلم المستشرقين دوزي ودوجا تحت عنوان (مختارات في تاريخ وآداب العرب في إسبانيا) ' ' ' (سنة 1855 - 1861)
وهكذا وقفت إسبانيا، ووقف الغرب، بعد عصور طويلة من النسيان والتحامل على وجهة النظر الإسلامية في التاريخ الأندلسي، وسقط ذلك الحجاب الكثيف الذي ضربته السياسة الأسبانية مدى ثلاثة قرون على تراث الأندلس وآدابها، وتطورت فكرة التاريخ الأسباني ومادته، وأدرك المؤرخون المحدثون أهمية المرحلة الإسلامية في تاريخ إسبانيا القومي، وعدلوا كثيراً من الآراء والأحكام المجحفة التي أصدرها المؤرخون القدماء نزولاً على مؤثرات الجهل والتعصب القومي والديني والسياسي.
ونرى في أواخر القرن التاسع عشر جماعة من أعلام المستشرقين الأسبان يبذلون جهداً عظيما في نشر مجموعة كبيرة من المصادر الأندلسية الجليلة التي تحتويها أروقة الأسكوريال، باسم المكتبة الأندلسية، وهي مجموعة نفيسة في عشرة مجلدات، تحتوي على عدة كتب لابن بشكوال، وابن الآبار، والضبي، وابن الفرضي، وأبو بكر الاشبيلي، وتعليقات وفهارس مفيدة. وقد ظهرت المجموعة بين سنتي 1885 و 1894 في مدريد(157/18)
وسرقسطة، وكان الجهد الذي بذل في إخراجها تحية جديدة من إسبانيا الجديدة لتراث العرب والإسلام في الأندلس.
وأخيراً توجت تلك الجهود الحرة الموفقة لبحث الصلات والعلائق القومية بروح الإنصاف والنزاهة، بقيام جامعة غرناطة بالاحتفال بالذكرى الألفية للخلافة الأندلسية وعصرها الباهر، وهي خطوة كان لها أعظم وقع في إسبانيا وفي العالم الإسلامي.
وهكذا يتبوأ تاريخ الأندلس وتراث الإسلام في إسبانيا مكانته الحقة في التاريخ القومي، وفي الآداب التاريخية الغربية، بعد عصور طويلة من التعصب والتحامل والنسيان.
محمد عبد الله عنان(157/19)
بين عالمين
نظام الطلاق في الإسلام
للأستاذ أحمد محمد شاكر
منذ بضعة أشهر أخرجت كتابي (نظام الطلاق في الإسلام) فتقبله العلماء الأعلام في مصر وفي سائر الأقطار بقبول حسن والحمد لله، وأكثروا من الثناء عليه وعلى مؤلفه، وجاءتني كتب متواترة من كبار علماء الإسلام في الحجاز والهند والعراق والشام وغيرها، ومن كبار المستشرقين في أقطار أخرى، ولا أراني أهلاً لكل ما أثنوا به عليّ، وإنما هو حسن الظن منهم، وقد أعجزني أن أوفيهم حقهم من الشكر على هذا الفضل الجمّ، وأسأل الله أن يجزل لهم المثوبة على فضلهم
وفي بعض ما جاءني من الكتب أبحاث قيمة من النقد العالي المبني على الحجة والبرهان، مما يصلح أن يكون مثالاً يحتذى للباحثين المجتهدين، في دقة النظر، وعلو الفكر، وأدب القول، والتسامي عن العصبية والهوى، والتزام ما ينصره الدليل الصحيح؛ وهي الخصال التي نرجو أن يسير على نهجها كل عالم مفيد، وكل طالب مستفيد، وخصوصاً في علوم الدين. وهي الخصال التي جاهد أسلافنا في سبيل حمل الناس على الأخذ بها واتباعها، ثم تبعناهم من بعدهم، فجاهد أخواني وجاهدت معهم في سبيل ذلك جهاداً كثيراً، منذ نيف وعشرين سنة، ولا نزال - والحمد لله - نسير على هذا النهج القويم، والصراط المستقيم.
ومما يجب عليّ، إحقاقاً للحق، واتباعاً لسبيل الهدى، أن أفكر فيما ورد على كتابي من اعتراض ونقد، وأُعيد النظر فيما اخترتُ ورأيتُ، وأكشف عن حجة خصمي وعن حجتي، لي وللناظرين: فأما انتصر قول خصمي ورجعتُ عن قولي، وإما انتصرتُ لقولي وزدته بياناً وتأييداً، لا أبالي أي ذينك كان، وإنما أنا طالب علم، فأي قول أو رأي نصره عندي الدليل فأنه العلم الذي أطلبه وأسعى إليه، لا ابغي به بدلاً.
ولذلك رأيت أن أنشر في (الرسالة) الغراء - مجلة الآداب الرفيعة والثقافة العالية - ما أراه جديراً بالنشر مما جاءني من نقد واعتراض، وأساجل كاتبيه البحث، أملاً في أن يشترك معنا كثير من العلماء الأعلام في هذا المجال، علنا نصل إلى الحقيقة فيما كان موضع اختلاف ونظر. وقديماً قال الناس: الحقيقة بنت البحث.(157/20)
ومن أشرف ما وصل إليّ وأعلاه: كتاب كريم من صديقي الكبير وأستاذي الجليل، شيخ الشريعة، وإمام مجتهدي الشيعة، بالنجف الأشرف، العلامة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء؛ فقد تفضل - حفظه الله - بمناقشة رأيي في مسألة من مسائل الكتاب، وهي (مسألة اشتراط الشهود في صحة مراجعة الرجل مطلقته)، فإنني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، وإنه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ولم يعتدّ به. وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة إلا أنه يؤيده الدليل، ويوافق مذهب الأئمة أهل البيت والشيعة الإمامية. وذهبت أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة، وهو يوافق أحد قولين للإمام الشافعي، ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة. واستغربت من قولهم أن يفرقوا بينهما، والدليل واحد فيهما، فرأى الأستاذ - بارك الله فيه - أن يشرح لي وجهة نظرهم في التفريق بينهما فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم. وله الحمد والمجد
من النجف الأشرف 8 صفر سنة 1355 إلى مصر
لفضيلة الأستاذ العلامة المتبحر النبيل الشيخ أحمد محمد شاكر المحترم أيده الله
سلامة لك وسلام عليك. وصلتني هديتك الثمينة رسالة (نظام الطلاق في الإسلام)، فأنعمت النظر فيها مرة بل مرتين إعجاباً وتقديراً لما حوته من غور النظر، ودقة البحث، وحرية الفكر، وإصابة هدف الحق والصواب. وقد استخرجت لباب الأحاديث الشريفة، وأزحت عن محيا الشريعة الوضاءة أغشية الأوهام، وحطمت قيود التقاليد القديمة وهياكل الجمود بالأدلة القاطعة، والبراهين الدامغة. فحياك الله، وحيا ذهنك الوقاد، وفضلك الجمّ
وأمهات مباحث الرسالة ثلاث: (1) طلاق الثلاث (2) الحلف بالطلاق والعتاق (3) الإشهاد على الطلاق
وكل واحدة من هذه المسائل الثلاث قد وفيتها حقها من البحث، وفتحت فيها باب الاجتهاد الصحيح على قواعد الفن ومدارك الاستنباط القويم من الكتاب والسنة. فانتهى بك السير على تلك المناهج القويمة إلى مصاص الصواب، وروح الحقيقة، وجوهر الحكم الإلهي، وفرض الشريعة الإسلامية.
وقد وافقت آراؤك السديدة في تلك المسائل ما اتفقت عليه الإمامية من صدر الإسلام إلى(157/21)
اليوم، لم يختلف فيها منهم اثنان، حتى أصبحت عندهم من الضروريات، كما اتفقوا على عدم وجوب الإشهاد في الرجعة، مع اتفاقهم على لزومه في الطلاق، بل الطلاق باطل عندهم بدونه
وقد ترجح عندك قول من يقول بوجوب الإشهاد فيهما معاً. فقلت في صفحة (120) ما نصه: (وذهبت الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق وأنه ركن من أركانه، كما في كتاب شرائع الإسلام. . . ولم يوجبوه في الرجعة. والتفريق بينهما غريب ولا دليل عليه) انتهى
وفي كلامك هذا (أيدك الله) نظر أستمحيك السماح في بيانه، وهو أن من الغريب حسب قواعد الفن مطالبة النافي بالدليل والأصل معه! وإنما يحتاج المثبت إلى الدليل. ولعلك (ثبتك الله) تقول قد قام الدليل عليه، وهو ظاهر الآية، بناءً على ما ذكرته في صفحة (118) حيث تقول: (والظاهر من سياق الآيتين أن قوله: (وأشهدوا) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً) إلى آخر ما ذكرت، وكأنك (أنار الله برهانك) لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة، كما هي عادتك من الإمعان في غير هذا المقام، وألا لما كان يخفى عليك أن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه، حتى إنها قد سميت بسورة الطلاق، وأبتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى: (إذا طلقتم النساء) ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة، أي لا يكون في ظهر المواقعة ولا في الحيض، ولزوم إحصاء العدة وعدم إخراجهن من البيوت، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق، حيث قال عز شأنه: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) أي إذا أشرفن على الخروج من العدة فلكم إمساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة، ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه، ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلا تبعاً واستطراداً. ألا ترى لو قال القائل: إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه وإكرامه وأن تستقبله، سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه ويجب المشايعة وحسن الموادعة، فانك لا تفهم من هذا الكلام إلا وجوب المشايعة والموادعة للعالم، لا له ولخادمه ورفيقه، وإن تأخرا عنه. وهذا لعمري حسب قواعد العربية والذوق السليم جليٌّ واضح، لم يكن ليخفى عليك، وأنت خِرِّيتُ العربية، لولا الغفلة (والغفلات تعرض للأريب)(157/22)
هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآيات الكريمة
وهنالك ما هو أدق وأحق بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية وشموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها. وهو: أن من المعلوم أنه ما من حلال أبغض الى الله سبحانه وتعالى من الطلاق، ودين الإسلام كما تعلمون - جمعيّ اجتماعي - لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة، سيما في العائلة والأسرة، وعلى الأخص في الزيجة، بعدما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى. فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة، فكثر قيوده وشروطه، على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيودُه، عَزّ أو قلّ وجودُه، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أولاً، ولحصول الأناة والتأخير ثانياً، وَعسى إلى أن يحضر الشاهدان، أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويعودان إلى الألفة، كما أشير إليه بقوله تعالى (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين، لا شك أنها ملحوظة للشارع الحكيم، مضافاً إلى الفوائد الأخر.
وهذا كله بعكس قضية الرجوع: فان الشارع يريد التعجيل به، ولعل للتأخير آفات، فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط. وتصح عندنا - معشر الإمامية - بكل ما دل عليها من قول أو فعل أو إشارة، ولا يشترط فيها صيغة خاصة، كما يشترط في الطلاق. كل ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده، والرغبة الأكيدة في ألفتهم وعدم تفرقهم. وكيف لا يكفي في الرجعة حتى الإشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع، وهي - أي المطلقة الرجعية - عندنا، معشر الإمامية، لا تزال زوجةً إلى أن تخرج من العدة، ولذا ترثه ويرثها، وتغسله ويغسلها، وتجب عليه نفقتها، ولا يجوز أن يتزوج بأختها وبالخامسة، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية
فهل في هذا كله مقنع لك في صحة ما ذهبت إليه الإمامية من عدم وجوب الإشهاد في الرجعة بخلاف الطلاق؟! فان استصوبته حمدنا الله وشكرناك، وإلا فأنا مستعد للنظر في ملاحظاتك وتلقيها بكل ارتياح، وما الغرض إلا إصابة الحقيقة، واتباع الحق أينما كان، ونبذ التقليد الأجوف، والعصبية العمياء، أعاذنا الله وإياك منها، وسدد خطواتنا عن الخطأ والخطيئات، إن شاء الله، ونسأله تعالى أن يوفقكم لأمثال هذه الآثار الخالدة، والأثريات(157/23)
اللامعة، والمآثر الناصعة، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً، ولكم في الختام أسنى تحية وسلام من
محمد الحسين آل كاشف الغطاء.
ملاحظة: ومن جملة المسائل التي أجدت فيها البحث والنظر: مسألة بطلان طلاق الحائض، وقد غربلت حديث ابن عمر بغربال الدقيق، وهذه الفتوى أيضاً مما اتفقت عليها الإمامية، وهي بطلان طلاق الحائض إلا في موارد استثنائية معدودة.
هذا هو نص كتاب الأستاذ شيخ الشريعة، لم أحذف منه شيئاً، إلا كلمة خاصة لا علاقة بها بالموضوع، وإنما هي عن تفضله بإهداء بعض كتبه إليّ. وسأحاول أن أبين وجهة نظري، وأناقش أستاذي فيما رآه واختاره، بما يصل إليه جهدي في عدد قادم، إن شاء الله.
أحمد محمد شاكر
القاضي الشرعي(157/24)
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه: الكلام خيالي ولا أصل له، كما مللت أن أقول وأؤكد في كل مرة)
- 4 -
غضبت علينا ذات الثوب الأرجواني. . . وما أعرف لي ذنباً جنيته إلا النظر، وما أحسبها تريد أن تحرم هذا علينا أو تكرهه منا. وأين المرأة التي يسوءها أن ينظر الرجال إليها ويعجبوا بها ويفتتنوا بحسنها؟ أو يسرها أن ينصرفوا عنها ولا يبالوها ولا يعنيهم أبقيت بينهم أو أمامهم، أم اختفت عن عيونهم؟ إن إتباعَ النظرةِ النظرةَ ثناء صامت. والثناء قوت المرأة - وخمرها أيضاً - وقد ترى نساء يسوءهن النظر إليهم لسبب غير راجع إلى وحي الطبيعة في نفوسهن، فيرتبكن ويضطربن، وتضيق الدنيا في وجوههن ويشق عليهم ذلك حتى ليكبر في وهمهم أنهن جنينه على أنفسهن وأثرن فضول الرجال. ولكن حتى هؤلاء لا يكرهن الثناء، بل تشرق له وجوههن، وتنشرح صدورهن، إلا إذا جاوزت الإطراء إلى ما هو خليق بسبب نشأتهن أن يزعجهن. وقد كنت مرة أتعلم الفرنسية وأتلقى دروساً فيها على فتاة أمها روسية وأبوها نمسوي، فاستغربت بعد بضعة أيام أنها تلقاني متجهمة! وبدا لي أنها تستثقل الدرس والتلميذ، فشكوت إلى صديق وقلت له: إن معلمتي لا تكف عن النفخ، وأنها طول الدرس تتأفف، وإني أريد أن أبحث عن معلمة أخرى، فلست أطيق هذا الضجر الذي لا تنفك تواجهني به. فقال: (لا تفعل). قلت: (ولكني لا أستطيع الصبر على هذه الحال). قال: (لك العذر، ولكن ضاحكها وعابثها. . . اثن على حسنها. . . غازلها برفق، أي من غير أن تخرج عن حدود الأدب). فوعدته أن أجرب ذلك، وقد كان. أقبلت عليها فأقبلت عليّ، وصارت تهش لي وتبش، وأصبحت تلميذها الأثير. وكان لي زميل يتلقى عليها دروساً في وقت آخر، وكان مثلي قبل أن يرشدني صديقي، أي أنه كان معها كأنها معلم بلحية لا معلمة مدلّة بجمالها وشبابها، فكان إذا جاء تعبس وتقول: فلينتظر! فأقول لها: (بل أخرج أنا لئلا يغضب فيضيع عليك درسه)، فتقول: (دعه يغضب. . . إنه يملني ويزهق روحي). وكان اسمه (عثمان أفندي) فصرنا - هي وصديقي الذي علمني وأنا - نطلق اسم (عثمان أفندي) على كل من نراه بليدا جامدا في حضرة النساء.(157/25)
وأعود إلى ذات الثوب الأرجواني فأقول إنها كانت راضية عني. وآية رضاها أنها ظلت أياماً لا تبدو لي إلا في ثوب أرجواني. وكنت لا أراها إلا خفيفة مرحة، وإذا بها - فجأة - تخرج إلى الشرفة في صباح فلا تكاد تراني حتى تنثني راجعة، فأعجب وأتساءل: (ما لها؟. . .) ولا أجد جواباً لسؤالي، فأهز كتفي وأقول: (سنرى)، ولكني لا أرى بعد ذلك إلا الإعراض والنفور وطول الاحتجاب، فلا يسعني إلا أن أعرض أنا أيضاً، وأن أظهر قلة المبالاة؛ فلا أفتح النافذة ولا أطل منها إذا كانت مفتوحة، ولا أنظر إليها إذا طلعت، فان في طبعي عناداً، وأنا مفطور عليه وعلى المجازفة، ولست أعرفني اكترثت للعواقب حين يستفزني شيء. وما أكثر ما أخسر بسبب ذلك. ولكني أستطيع أن أكبح ثورة نفسي ولا أستطيع أن أصرفها عن الزهد. وما عجزت قط - إلا في الندرة القليلة - عن ضبط عواطفي وصد نفسي عن الاندفاع، ولكني أراني عاجزاً عن علاج نفسي إذا انصرفت عن الشيء وحملها على الإقبال عليه مرة أخرى. وقد كانت أمي تقول إن قلبي أسود، وكانت تعني بذلك أني لا أنسى الإساءة؛ على أني لا أنسى المعروف أيضاً ولا أجحده، فأنا كما يقول ابن الرومي: (للخير والشر بقاء عندي)، وقد صدق فأنا من طينة الأرض، (والأرض مهما استودعت تؤدي). وما أساء إليّ أحد إلا نازعتني نفسي أن أنتقم منه، ولكني لا أزال أحاورها وأداورها حتى أقنعها بان الدنيا تغيرت، وأن أخلاق البدو لا تصلح في هذا العصر المتحضر، وأن الناس لا يقتل بعضهم بعضاً في هذا الزمان من أجل تمرة أو من جراء كلمة يسبق بها اللسان، حتى تسكن وتكتفي بالانصراف.
وجلست أحاسب نفسي وأسائلها عن ذات الثوب الأرجواني ما خطبها؟. ولِمَ تبدي هذا النفور؟. أتراها تتكلفه؟. ألعل أهلها قد أغلظوا لها وضيقوا عليها فرأت أن تخفف عن نفسها وتعفيها من ثقل تدخلهم بالاحتجاب؟. ألا يجوز أن يكونوا قد كرهوا مني طول النظر إليها فكلموها في ذلك فلم يسعها إلا أن تكف عن الظهور؟. جائز!! ولكن من الجائز أن أكون قد صنعت شيئاً أغضبها. . ومن الحزم على كل حال أن أعرض أنا أيضاً إلى حين، حتى تسكن الثورة التي لعلها ثارت في بيتها وبين أهلها. . ولكن من الإنصاف أيضاً أن أحاسب نفسي قليلاً. . فتعال هنا. . أخل بنفسك واجتهد أن تتذكر. .
فتذكرت. . . ذلك أني كنت يوماً في حجرتي فزارني صديق: وكان الجو حاراً جداً ففتحت(157/26)
له النوافذ جميعاً، فقال لي بعد برهة: (أنظر. .) فسألته (ماذا؟) قال (هذه النافذة. . ألا ترى الفتاة التي تبدو منها؟) قلت: (إنك بعيد النظر. . وأنا أعترف أني لا أرى فتاة وإنما أرى ذراعاً) قال: (هذا ما أعني. . لا يبدو منها الآن إلا ذراعها ولكنها كانت منذ لحظة تطل علينا وتنظر إلينا). قلت: (جائز. . كل شيء جائز. . صحيح إن العمارة التي نحن فيها سبع طبقات. . أو عشر. . لا أدري. . وفي كل طبقة شقق كثيرة. . ولكل شقة نوافذ وشرفات لم أعدها. . وقد يكون في بعض هذه النوافذ والشرفات التي لا نراها رجال يطلون منها. . ولكن المعقول أن الفتاة التي لا أزال لا أرى منها غير ذراعها - تنظر إلينا نحن دون هذا الخلق الذي لعله في الشرفات والنوافذ ونحن لا ندري
قال: (لا تمزح. . إن نظرتها إلينا نحن. . وهل يخفى اتجاه النظر؟)
قلت: (ما يدريني ويدريك؟. ألا يمكن أن تكون حولاء؟؟ تعرف كيف ينظر الأحول!؟ تكون عينه عليك ولكنه لا يراك بل يرى الذي إلى اليمين أو إلى اليسار. . أليس هذا جائز؟)
قال: (حولاء؟؟ كلا!! من قال هذا؟؟ كلام فارغ!! إن عينيها جميلتان جداً)
قلت: (معذرة! إني - كما تعلم - لم أر سوى ذراعها. . وعهدي بالعيون تكون في الوجوه لا في الذراع. وأظن أن هذا النظام لا يزال هو المتبع في الخلق. . . على كل حال لم أر عينيها الجميلتين. . .)
قال: (والله إنها تنظر إلينا)
قلت: (صادق. . صادق. . . هذه أصابعها تنقر على حافة النافذة ولا شك أنها تعنينا الآن. .)
فقال: (دع المزاح بالله. . أنظر. . أنظر. .)
فنظرت. . وكففت عن المزح بلا حاجة إلى زجر آخر. . وكانت الفتاة سمراء - لا بيضاء كذات الثوب الأرجواني - وكانت نظرتها إلينا - لا شك في ذلك - والرجل يدير رأسه أن يرى امرأة تُتْئره النظر ولا تكاد تحول عينها عنه. فإذا كنت قد نهضت إلى النافذة وأخرجت رأسي منها ورحت أحدق في هذه السمراء الجميلة التي تقبل عليه ولا تعرض عنا أو تتدلل علينا، فأظن أن لي العذر. . ومن أين لي أن أعرف أن ذات الثوب الأرجواني كانت واقفة في هذه اللحظة وأنها كانت تراعيني وتراقبني؟؟ ولو كنت أعرف(157/27)
ذلك لما صدني عن النظر، فأن حبي لذات الثوب الأرجواني ليس معناه أني عميت وأن عيني لا تستطيع أن ترى غيرها وأني فقدت القدرة على الإعجاب بالجمال في مظاهره المختلفة. ولكن المرأة أمرها غريب، وإني لأذكر أني كنت راكباً مع فتاة من صديقاتي - وكنت أنا السائق كما لا احتاج أن أقول - فرأيت فتاة جميلة واقفة على الرصيف فتمهلت لأنظر إليها، وإذا بصديقتي تقرص أذني فصرخت فقالت: (هذا جزاؤك) فسألتها: (ماذا صنعت؟. . بأي شيء أستحق أن تقطعي لي أذني؟؟. وكيف أستطيع أن أسمع صوتك الحلو بعد ذلك) فقالت (ابق اسمع صوت التي كنت تنظر إليها الآن) قلت (مالها؟. . ألا تعجبك؟. ألا ترينها جميلة؟) فعادت إلى القرص، وعدت إلى الصراخ، حتى كدت أستنجد بالمارة. وقد ساء رأي صاحبتي في بعد ذلك، وصارت كلما ركبت معي تشترط ألا أنظر لا يميناً ولا شمالاً، فأقول: (ولكن لماذا؟ ما الضرر من النظر والتلفت؟ ثم كيف أستطيع أن أثبت عيني في اتجاه واحد وقد خلق الله لي عينين تتحركان ولا تثبتان؟) فلا تجيب عن السؤال وإنما تروح تهددني وتتوعدني فأخاف فأن لها قرصاً حامياً وأنا جلدي رقيق. ولكني لا أفهم هذا التحكم من المرأة. وما أكثر ما قلت لإحداهن وقد أغضبها أن لي عيناً ترى وقلباً لا يسعه إلا أن يحس (يا ستي إن لك حديقة زهر. وفيها الفل والياسمين والورد الأحمر والأبيض والنرجس وما لا أدري أيضاً. . وأنتن يا نساء كالزهور. . فلماذا تريدين ألا تكون في حديقتي إلا حواء واحدة؟)
فتقول: (بالله دع هذه الفلسفة السخيفة. . . ثم إني أكره المكايدة)
فأؤكد لها أني لا أقصد إلى المكايدة، وأقول: (نعم أن حواء واحدة مصيبة. . . وثقي أن غلطة أبينا آدم هي أن جنته لم يكن فيها إلا هذه الحواء المفردة. . ولو كان فيها. . سواها. . عشر مثلاً أو عشرون. . لما خرج من الجنة)
فتثور بي وتذهب وتعدو ورائي فأضع ذيلي بين أسناني وألوذ بالفرا)
وما أشك في أن ذات الثوب الأرجواني أسخطها عليّ نظري إلى السمراء. وما تعنيني السمراء لو علمت. ولكنها المرأة لا تعرف إلا نفسها ولا ترضى عما تسميه (العين الزائغة) وهي تشعر بالمنافسة من كل امرأة مثلها، ولا تستطيع أن تفسر النظر إلى امرأة غيرها إلا بأنه تفضيل لهذه الأخرى عليها ولو كانت واثقة من حب بعلها أو رجلها. كنت مرة أتنزه(157/28)
في إحدى الحدائق مع صديقة فقالت: (هل نركب زورقاً؟) فاستحسنت هذا الرأي وانحدرنا إلى الماء واستأجرنا قارباً، وقبل أن نمضي به تناولت ذراعي وهمست في أذني: (لا تتحرك. . إني لا أكاد أصدق)
فرفعت عيني إليها فألفيتها ناظرة إلى الحديقة التي انحدرنا عنها إلى الماء. وكان الهواء ساكناً والمنظر الذي أمامنا كأنه مرسوم، وكان لفرط جماله يذكرني بأعذب ما قرأت من الأغاني. ثم أشارت بيد أحلى من أناشيد سيمان بن داود وقالت: (ليتني أستطيع أن آخذها!!.) وكأنما قرأت في وجهي استغراب هذا الكلام فقالت (إنها أحلى لعبة رأيتها في حياتي!)
فقلت مستفسراً (لعبة؟؟ هل قلت لعبة؟؟ أين هي؟)
فصاحت بي وهي تشير بأناملها المغرية (هذا. . هذا. . هذا المنظر. . ألا يروقك؟)
فأدركت مرادها وإن كنت قد بقيت أستغرب عبارتها، وقلت (لا. . ليس هذا لعبة. . وإنما هو أسطورة. .)
فهزت رأسها كالموافقة ثم وضعت راحتها على كتفي وقالت (إني سعيدة لأني رأيت هذا)
قلت: (هو أسعد منك. . وما أكثر ما رأى هذا البستان من نساء ولكنه احتاج أن ينتظر إلى اليوم حتى تروده حواء لها دل الفتاة وقلب الطفل)
قالت: (لا أظن. .) ثم رفعت وجهها إليّ وقالت:
(انتظر. . لا تتحرك. . إني أنظر إلى نفسي في عينيك)
فقلت - وقد أعجبني ذلك: (حسن. . والآن. . لا تتحركي أنت. . فأني أتأمل قوس هذه الشفة. . .)
فذهبت إلى آخر الزورق وأرسلت لي مع الريح قبلة
وقالت وهي تجلس هناك: (إن الذي يعجبني منك هو هذا. . أنك لا تأخذني على غرة. . الأكثر في الرجال يعدون المرأة صيداً أو قنصاً. . أما أنت فتشجعني على استعمال حريتي وعلى الشعور بأن لي استقلالاً وإرادة يجب أن يحسب حسابهما. . وكأني بك يسرك أن تدع غيرك يحيا حياته على هواه هو، أكثر مما يسرك أن تفوز من دنياك بمتع حياتك. . والآن ألا نمضي؟؟)(157/29)
فقلت وأنا اضرب الماء بالمجداف: (إن فيما قلته عني بعض الغلط. . فأنا احب أن أصحح لك هذا. . وأنا أعترف أني لست وحشاً. . إذا كان هذا ما تعنين. . ولكن نظريات أفلاطون لا تروقني. . نعم يسرني أن أرى كل إنسان يحيا حياته كما يروقه - ولم لا؟ - ولكن من أبرز نقط الضعف في نفسي أني أحب أن أحيا أنا أيضاً كما أشتهي)
فدنت مني وأراحت أناملها على كتفي، وأسندت وجهها إلى صدري وقالت وهي تضحك: (إنك عبيط. . ألست كذلك؟ وهذا هو الذي يحببك إليّ. .)
قلت: (يا ملعونة. .) وأحطتها بذراعي - (ارفعي فمك فإني أريد أن. . أسوي ربطتي في مرآة عينيك. . .)
وفي هذه اللحظة الحافلة بالاحتمالات خطرت في دائرة نظري فتاة كان لا يسعني إلا أن أراها. وليس لي في هذا حيلة ولا كان مني عن عمد. ولكنها صارت أمام ناظري، فأنا لا بد أن أبصرها. وأحست صاحبتي أن عيني تحولت - كما كان لا بد أن يحدث - فحولت وجهها إلى حيث أنظر فأبصرت الفتاة، فما كان منها إلا أن انتفضت قائمة، وضربت المجداف من يدي، وصاحت بي:
(ارجع بي حالاً. . . إلى البر. . . قبل أن نبعد. .)
فذهلت وقلت: (ولكن لماذا؟؟. . . إنا لم نبعد إلا خمسة أمتار. . .)
قالت: (ليتنا بعدنا جداً. . . ولكن لا. . . كنت إذن أبقى مغشوشة. . . مخدوعة. . . ارجع. . . أقول لك ارجع. . .)
ولا حاجة إلى رواية كل ما قالت وما أجبت به، وليثق القارئ أن ريقي نشف كما لم ينشف قط، فقد ثقل عليّ هذا الطبع، وأضجرتني هذه الغيرة السخيفة التي لا محل لها على كل حال. فبعد أن تألفتها من نفرتها ذهبت ألقنها درساً لا أظن أنها ستنساه في حياتها
ولكن أمثال هذه الدروس لا خير فيها ولا جدوى منها؛ وما أظنها إلا كالكتابة على الماء
وقد تظهر المرأة مجاراتك ساعة تتلقى الدرس، لأنها ترى هذه المجاراة والتظاهر بالاقتناع والتوبة أحزم وأحسم للنزاع، ولكنها لا تملك أن تغير طبيعتها، فهي تظل على الرغم من دروسك كما هي
وقد أحنقني من ذات الثوب الأرجواني هذا النفور الذي لا داعي له، فغضبت وثرت(157/30)
وانتفضت، فرميت ورقات كانت بيدي؛ وكنت جالساً بحيث أراها وتراني، ويظهر أن ما رأته من خروجي عن طوري المألوف أدهشها جداً، فقد رأيتها تهب وتطل، فِعْلَ من يريد أن يثبت ويتحقق. ومضيت أنا في ثورتي، فجعلت أروح وأجيء في الغرفة، وأقول لنفسي:
(لماذا تحرمُ قبل أن تعطي؟؟ لماذا تبدأ بالمنع ولا تبدأ بالجود؟؟ لماذا تؤثر السوء ولا تؤثر الخير؟ ما هذه الطباع؟ وماذا جنيت أنا؟ إني أراني وهبتها الشعور بحسنها حين أحببتها، ولو أنها لم يحببها أحدٌ لما وسعها أن تدرك أن لها حسناً يعشق وجمالاً يُحب. . . فشعورها بحسنها هو هبةُ وعطية مني، لأني أحببتها. . . فكيف تتيه عليّ وتتدلل، وتحاول أن تعذبني جزاء لي على مجهودي الذي استفادت هي منه ولم أستفد أنا شيئاً؟
أي يدٍ لها عليّ؟؟ أني أراها؟؟ فكل من شاء أن ينظر إلى شرفتها ساعة تكون فيها يستطيع أن يراها مثلي فلا فضل لها في ذلك يحسب عليّ. . ماذا غير ذلك؟ لا شيء. . انتهينا إذن!
. . وما دامت لا تختصني بشيء فلا حق لها فيما تتكلفه من حرماني. . . لو كانت لم تتكلف لما عبأت ولما أحسست أن في الأمر عمداً. . ولكنها عامدة ولست أنوي أن أشايعها على ظلمي. . إذن فأنا أنفر كما تنفر. . . وأحتجب كما تحتجب وليكن ما يكون!)
وبعد أيام عدت أقول لنفسي: (اسمع. . إنها ليست مثلك. أنت تستطيع أن تخرج، وتروح، وتجيء، وتتسلى وتتلهى، ولكنها مسكينة لا تملك ما تملك من الحرية ومن وسائل التعزي. . وما يدريك أنها ليست مضطرة إلى هذا الذي ثقل عليك وكرهته منها؟؟ ولا تنس أنها رقيقة القلب. . أليست قد رأت أنك تشكو ألماً في ذراعك فحدثتك نفسك أن قد بدا لك منها عطف كان له وقع حسن في نفسك
وقد توسطت وخير الأمور الوسط - كما يقولون - فأنا لا أتكلف الاحتجاب ولا أتعمد أو أتحرى أن أراها، وأدع هذا وذاك للمصادفة؛ وسأرى ما يكون. وأخوف ما أخافه أن أمل هذا التعب العقيم فيركبني عفريت العناد وأجازف
إبراهيم عبد القادر المازني(157/31)
أثر الحرب الكبرى في بريطانيا
للأستاذ رمزي ميور
أستاذ التاريخ الحديث في جامعة منشستر سابقاً
ترجمة الأستاذ محمد بدران
ناظر مدرسة بمباقادن الابتدائية
ليس في العالم كله مجتمع أو طائفة من المجتمعات أثرت الحرب في مصائرها كما أثرت في بريطانيا وما يتجمع حولها ويرتبط بها من الشعوب المؤتلفة المنتشرة في أنحاء العالم
ولقد كانت الحرب الكبرى التي دارت رحاها بين عامي 1914، 1918 هي آخر عراك من أربعة يحدد كل منها فترة من فترات التاريخ اضطلعت بريطانيا فيها بدور حيوي هام هو إنقاذ العالم من سيطرة دولة واحدة، أو نزعة للحضارة واحدة؛ وكان لكل عراك منها أثر بليغ في مركزها هي. فأما العراك الأول فهو حرب إسبانيا أيام الملكة اليصابات، وفيه قهرت ذلك الخصم العنيد، وصانت حرية البحار، وخرجت منه وهي أكبر الدول البحرية، والقادرة على أن تحيا حياتها الخاصة من غير خطر يتهددها، وأن تنشر تجارتها وتبسط سلطانها فيما وراء البحار
وأما في العراك الثاني فهي التي قادت الحلف الذي أذل كبرياء لويس الرابع عشر، ووثقت روابطه وخرجت منه وهي أعظم الأمم التجارية وأولى الأمم ذات الحكومات الديمقراطية، وفتح أمامها باب سيادة العالم الجديد فنالت تلك السيادة قبل أن ينقضي على الحرب نصف قرن. وفي العراك الثالث كانت هي العدو الوحيد الذي لم تقو الثورة الفرنسية ونابليون على هزيمته، وذلك بفضل قوتها البحرية، وخرجت من هذا العراك وهي من غير شك أقوى دول العالم وسيدة البحار بلا منازع، ومالكة الثروة التي أخرجتها وسائل الإنتاج الآلية الحديثة، والمسيطرة على إمبراطورية عظيمة تضم بين أطرافها القارات وأشباه القارات. وكانت كل حرب من هذه الحروب العالمية سبباً في ارتفاع شأن الشعوب البريطانية وزيادة قوتها. فماذا كان أثر الحرب الأخيرة فيها؟
كانت بريطانيا العظمى في خلال القرن التاسع عشر أقوى دول العالم أجمع، لا ينازعها في(157/32)
ذلك المركز منازع. وكان مرجع قوتها إلى عدة عوامل: أولها عزلتها البحرية التي أمنت بها أخطار الغزو الأجنبي أمناً لم يتمتع به غيرها من الدول الأوربية، ومكنها من أن تُنَمِّي نظم الحكم الذاتي الخاصة بها في أمن واطمئنان، وأن تغرس في نفوس أبنائها حب الهدوء وإطاعة القوانين. وثاني هذه العوامل هو تفوقها البحري الذي لم يكن يسمو إليه غيرها من الدول؛ وبفضل هذا التفوق أمنت بريطانيا على نفسها أكثر مما تأمن على نفسها أمة أخرى في العالم؛ وعظم نفوذها في شواطئ البحار، وأضحت هي الممثلة للحضارة الأوربية لدى معظم الشعوب غير الأوربية. وثالث هذه العوامل هو إمبراطوريتها الواسعة الأرجاء التي تمتلكها بوسائل سهلة، والتي أخلصت لها شعوبها المحكومة، والتي اتخذتها بريطانيا سوقاً لمصنوعاتها، ومستودعاً للمواد الغفل لم تنل مثله غيرها من الأمم. ورابعها تفوقها في وسائل الإنتاج الصناعي الحديثة ووجود مناجم غنية بالفحم سهل الاستخراج كان إلى عهد قريب هو القوة الصناعية الوحيدة في العالم. والعامل الخامس هو ما انطوت عليه صدور أبنائها من حب المغامرة وما طبعوا عليه من قوة الابتكار الفردي. وسادسها هو قوتها المالية التي نشأت من انتشار عادة الادخار والاستثمار بين أبنائها، ومما أنشأته من نظام مصرفي عجيب؛ وقد أصبحت بفضل هذه القوة مركز العالم المالي والدولة الدائنة العظيمة التي مدت العالم بمعظم ما احتاجه من رؤوس الأموال لاستثمار البلاد الجديدة، وبفضل وسائلها ومبتكراتها المالية يتبادل العالم تجارته الدولية. والعامل السابع في عظمة بريطانيا أنها هي وحدها السوق العظيمة الحرة والمستودع المركزي العام الذي تأتي إليه جميع غلات العالم كله ولا يحول بينها وبينه حائل. وكان في مقدورها أن تختط لنفسها هذه الخطة لأنها لا تخشى المنافسة، ولأنها هي المضطرة إلى أن تبيع بضائعها في كل جزء من أجزاء العالم تعلم حق العلم أنها إذا لم تقو على منافسة الدول لها في بلادها فلن تقوى على المنافسة في خارجها. وآخر أسباب هذه العظمة، وإن لم يكن أقلها أهمية، هو نظام حكومتها الحر الذي أعجبت به ونسجت على منواله أمم العالم أجمع، لأنه جمع في نظرها بين الحرية والاستقرار وثبتت بالتجربة صلاحيته، وخضع له جميع رعاياها المخلصين، لأنه يكفل لهم حماية القانون ولا يقيد حريتهم فوق الحد الواجب
ولقد كانت السيادة البريطانية في كل ناحية من هذه النواحي سيادة موقوتة لا يمكن أن تكون(157/33)
لها صفة الدوام، لأن في العالم أمما أخرى لا تقل عن بريطانيا في مواهبها الطبيعية أو مواردها المادية، وكانت ثمة عوامل عدة تعمل على تقويض دعائم هذه السيادة في خلال الجيل السابق للحرب؛ وكانت الحرب نفسها تنذر بزوال سيادة بريطانيا المضمحلة سيادة الزعامة والنفوذ وإحلال سيادة ألمانيا سيادة النظام والقوة محلها. هذا الانقلاب على الأقل لم يقع، ولكن شعباً واحداً لا يستطيع أن يكون له شيء يسمى سيادة في هذا العالم الذي يسير في طريق الحرية، بل لا يحق لشعب أن يرغب في هذه السيادة، ولذلك أخذت سيادة بريطانيا القديمة تزول شيئاً فشيئاً بعد الحرب وبسبب الحرب، وأصبح واجباً عليها أن تكيف نفسها لمركز جديد في العالم؛ ولا شك أنها تلقي في سبيل هذا التكييف نصباً. ولنبحث أولاً فيما اعترى أسباب عظمتها من تطورات:
لم يعد مركز بريطانيا البحري يضمن لها ما كانت تتمتع به من سلامة؛ ذلك بأن التقدم السريع في وسائل النقل الجوي يعرضها لخطر الغزو بشكل مرعب عرفته أثناء الحرب الكبرى، ونقول بشكل مرعب، لأن مدنها الواسعة المكتظة بالسكان يمكن تدميرها بين عشية وضحاها، ولم تستكشف بعد وسيلة لاتقاء هذا الخطر إلا منع الحروب بتاتاً. وليس هذا كل ما في الأمر، فان اعتمادها في بقائها على ما يأتي إليها من الطعام من وراء البحار يعرضها إلى الخراب العاجل المفزع إذا هاجمت سفنها الغواصات، وذلك خطر ليس في الاستطاعة اتقاؤه إلا بوسائل غاية في البطء والمشقة كما دلت الحرب. فان أهلها كادوا يموتون جوعاً بسبب الغواصات القليلة العدد التي استخدمتها ألمانيا في الحرب. وإذا ما هاجمها في المستقبل أسطول من الغواصات كالذي تمتلكه فرنسا مثلاً كان هذا الهجوم أكثر مفاجأة لها وأشد خطراً عليها، لأن الجزيرة التي كانت من قبل معقلاً منيعاً لأهلها أصبحت الآن شركاً منصوباً لهم. وليس في استطاعة بريطانيا أن تعتمد في سلامتها على مواردها الخاصة كما كانت تعتمد عليها في الأيام الماضية. فإذا أرادت أن تأمن على نفسها فإن عليها أن تُعوِّل على ما يقوم به العالم المتمدين من عمل إجماعي لجعل الحرب مستحيلة الوقوع
ولقد انقضى الآن عهد سيادة بريطانيا البحري انقضاء لا مرَدَّ له بعد أن دام ثلاثة قرون واضطرت بريطانيا في معاهدة واشنجتن (سنة 1922) أن تعترف (بمساواة) الولايات(157/34)
المتحدة لها وهي تعلم علم اليقين أنه إذا قام التنافس في التسلح بينها وبين الولايات المتحدة تغلبت عليها الأخيرة بمواردها التي لا ينضب معينها. وليس هذا كل ما في الأمر فإن الحرب أظهرت أن الأحوال الحاضرة تجعل الاحتفاظ (بسيادة البحار) على الوجه الأكمل من أصعب الأمور. فلقد كان عدد السفائن الألمانية المغيرة التي انطلقت في بداية الحرب أو استطاعت أن تفلت من الحصر في أثنائها صغيراً لا يذكر، ولو لم يكن ساحل ألمانيا غاية في القصر سهل الرقابة لما كان عدد هذه المغيرات قليلاً إلى هذا الحد، ولكنها على قلتها لم يقتنصها إلا مائة وأربعون طراداً. ذكر ذلك اللورد جليكو في المؤتمر البحري المُعْجَل الذي عقد في عام 1927 لكي يتذرع به للاحتفاظ لبريطانيا بسبعين طراداً فقط. أما إذا أرادت أن تضمن لنفسها سيادة البحار في كل الأحوال فلا يكفيها سبعون طراداً بل لابد لها من سبعمائة، فليس في استطاعتها إذن أن تعتمد على مواردها الخاصة لتضمن سلامة البحار، تلك السلامة التي تقف عليها حياتها، بل عليها أن تعتمد على تعاون هيئة عالمية منظمة. وقد يعز على بريطانيا بطبيعة الحال أن تقر بهذه النتيجة، لكنها برغم ذلك نتيجة محتومة لا مناص منها. كانت بريطانيا أكثر الأمم اكتفاء بنفسها - في هذا الميدان على الأقل - أما الآن فقد أصبح موقعها يحتم عليها أن تكون أول داع إلى اعتماد الدول بعضها على بعض إذا قدرت ما يعرضها إليه موقعها من الأخطار.
أما الإمبراطورية فإذا نظرنا إلى أجزائها الرئيسية رأينا أنها لم تبق (إمبراطورية) مهما توسعنا في فهم هذا اللفظ، ولم يبق لبريطانيا (إشراف) عليها، بل أصبحت شركة مفككة الأجزاء من دول حرة تسعى كل منها إلى (الاكتفاء بنفسها) عن طريق الحواجز الجمركية، ولم تبق أسواقها مفتحة الأبواب للبضائع البريطانية. وينطبق هذا الوصف على بلاد الهند التي كانت أعظم الأسواق لتصريف المنسوجات القطنية، وهي أهم الصادرات البريطانية؛ وكان تصميم الهند على الاستغناء عن هذه البضائع قدر استطاعتها من أكبر الأسباب التي أدت إلى كساد هذه الصناعة بعد الحرب. وكان ما اعترى الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب من تطور وعدم وجود سياسة عامة منسجمة تحل محل ما كان لبريطانيا من إشراف قد نقص الآن إلى الحد الأدنى. كان ذلك كله من أهم المظاهر التي بدت على هذه الدولة بعد الحرب ولأهميتها سنفرد بحثاً خاصاً فيما بعد(157/35)
كذلك لم يبق لبريطانيا ما كانت تتمتع به من التفوق في وسائل الإنتاج الصناعي بل أصبح يشاركها في هذا التفوق على الأقل عدد من الأمم الأخرى، وسبقتها الولايات المتحدة وألمانيا في تطبيق العلم على الصناعة تطبيقاً حديثاً. وسبب ذلك أن رجال الأعمال فيها لا يزالون يحتقرون البحث العلمي، وأن بريطانيا تأخرت عن غيرها من الأمم في استخدام النظم الحديثة للإنتاج الكبير وفي تنظيم الصناعة تنظيماً يرمي إلى الوصول إلى أبعد حدود الاقتصاد والإتقان مجتمعين. وهي تقاسي الآن من جراء تأخرها هذا أوخم العواقب كما تقاسي عناد كثيرين من أصحاب الأعمال فيها وتمسكهم بالقديم الرث وتَشَدُّدهم في الاحتفاظ بكل ما كان صالحاً أيام آبائهم، وتقاسي أيضاً عاقبة عناد نقابات عمالها الكاملة النظام والتي تخلق الصعاب إذا ما أريد تغيير الوسائل الصناعية وخشيت أن يصيب العمال من جراء ذلك التغيير عطل مؤقت، وتتمسك أشد التمسك بالقيود والإجراءات التي كانت تسير عليها في سني الرخاء السابقة للحرب. كذلك لم يبق لبريطانيا ما كان لها من تفوق في امتلاك مصادر القوى الصناعية لأن فحمها الآن يوجد على عمق أكبر من عمق الفحم الجديد الذي يستخرج من الولايات المتحدة وغيرها من البلاد، وقد أبطأت في استخدام أنجع وسائل الإنتاج الكبيرة في صناعة الفحم وفي اتباع الطرق الآلية لتقليل نفقات الإنتاج. وزيادة على ذلك فإن مصادر أخرى للقوة لا تملكها بريطانيا أخذت تحل محل الفحم في كثير من الصناعات، فمنها القوى المائية التي لا تستطيع بريطانيا أن تنافس فيها البلاد ذات المجاري الكثيرة المتدفقة من رؤوس الجبال، ومنها النفط الذي لا تكاد تنتج أرضها منه شيئاً والذي لا بد لها أن تستورده وتنفق على استيراده أموالاً طائلة كل عام
ويلوح أيضاً أن ما كان يتصف به أهلها من نشاط وقوة مغامرة بدأ يضمحل وإن كان هذا مما لا يستطاع إثباته بالإحصاءات. وسبب هذا الاضمحلال أن بريطانيا خاضت غمار الحرب معتمدة على نظام التطوع الاختياري؛ ومعنى ذلك أن خير أبنائها وأشدهم حماسة ذهبوا إلى ميدان القتال أولاً وهلكوا زرافات. وقد يكون هذا هو السبب فيما نشاهده بعد الحرب من نقص مخيف في رجالها المُبرِّزِين الذين يتقدمون طائعين لتحمل التبعات ومواجهة الصعاب وهو أمر مشاهد في كل ناحية من نواحي الحياة: في السياسة وفي الأعمال الصناعية والتجارية وفي الفنون، فكلها لم يظهر فيها بعد الحرب رجال أوتوا حظاً(157/36)
عظيماً من الشهرة، ولا يزال الأفذاذ النابهون من الإنجليز، رجال ما قبل الحرب. كذلك نرى في طوائف كثيرة من الشعوب البريطانية ميلاً متزايداً للاتكال على الحكومة في إصلاح عيوبها؛ وقد يكون منشأ هذا الميل لدى عامة الشعب ما وضعته الحكومة في السنين الأخيرة من نظم محكمة لتخفيف الضنك أو ما سلكته من الطرق في تنظيم هذه النظم؛ لكننا نشاهد هذه العادة نفسها: عادة الاتكال على الحكومة بين مديري الصناعة الذين يتطلعون إلى الحكومة لتقيهم شر المنافسة الأجنبية مع أن آباءهم كانوا يرون واجباً عليهم أن يقفوا أمام منافسيهم وجهاً لوجه لا يميزون منهم في شيء (شأنهم في ذلك شأن سائر أفراد الأمة) فإذا لم يقووا على المنافسة سقطوا صرعى في الميدان. ويلاحظ البعض أن أخلاق البريطانيين بعد الحرب طرأ عليها تغير خطير، فقد أخذ يسري في نفوسهم روح الجمود والاستسلام والرغبة في الفرار من الصعاب والتخلص منها بالتجائهم إلى الألعاب وغيرها من ضروب الراحة والتسلية. قد تكون هذه الميول عارضة لا تلبث أن تزول، ولكنها مادامت موجودة خطر ينذر بشر مستطير. وإذا صدق هذا الظن وكانت هذه الميول موجودة حقاً فربما كانت رد فعل طبيعي للمجهود الذي قاساه الشعب في الحرب وزوال ما كان يغشي بصائره من الغرور
كذلك كانت الحرب سبباً فيما اعترى قوة بريطانيا المالية بعدها من ضعف مخيف. ذلك إن البلاد حملت من الديون والضرائب ما لم تتحمله أمة أخرى، لأنها مدت حلفائها بجانب عظيم من نفقات الحرب؛ ولم يكد يرد إليها هؤلاء الحلفاء شيئاً من هذه الأموال ولن يردوا إليها شيئاً في المستقبل إلا ما استدانته باسم هؤلاء الحلفاء من الولايات المتحدة الأمريكية. وبينما تعمل الدول الأخرى لتخفيف العبء عن كاهل أهلها تزيد بريطانيا أعبائها بالتدريج؛ وتجيز كلتا الهيئتين السياسيتين القويتين في بريطانيا زيادة الضرائب وتراها أمراً مرغوباً فيه لذاته، فأحدهما تريد زيادة الضرائب المقررة والأخرى ترغب في زيادة الضرائب غير المقررة من غير نظر إلى ما سوف تنفق فيه الأموال. وهذه الأعباء الثقيلة تشل قدرة بريطانيا على الإنتاج من وجوه عدة، وتضعف ملكة الادخار والاستثمار لدى كثير من طبقات الشعب ضعفاً خطيراً. ويزيد من هذا الخطر تمسك الشعب بمستوى معيشته الراقي دون أن يراعي ضعف الوسائل التي تمكنه من ذلك، وهذا أمر مشاهد لدى جميع الطبقات.(157/37)
ولهذه الأسباب لم تعد بريطانيا كما كانت من قبل الأمة العظيمة الدائنة لأمم العالم والتي تقدم ما يلزم من المال لاستثمار موارده الطبيعية، وأخذت الولايات المتحدة تحل محلها، وتستحوذ على ما لهذا المركز من قوة ونفوذ. كذلك لم يستطع نظامها المصرفي برغم ما اتصف به من ثبات أن يجاري مطالب العهد الذي أعقب الحرب وما فيه من صعاب، فلقد أصبح المسيطرَ على هذا النظام عدد قليل من المؤسسات المالية الضخمة أفقدته كثيراً مما كان له من مرونة، وطالما استخدمت هذه المؤسسات ما لها من سلطان على وسائل الائتمان المالي في إضعاف المشروعات المالية وإعاقتها بدل أن تعينها وتشجعها
(يتبع)
محمد بدران(157/38)
أعلام الإسلام
3 - سعيد بن المسيب
للأستاذ ناجي الطنطاوي
تزويجه ابنته
قال يحيى بن سعيد: كان لسعيد بن المسيب جليس يقال له عبد الله بن أبي وداعة، فأبطأ عنه أياماً، فسأل عنه فقيل له: إن سعيد بن المسيب سأل عنك، فأتاه وسلم عليه، ثم جلس، فقال له سعيد: أين كانت غيبتك يا أبا محمد؟ فقال: إن أهلي كانت مريضة فمرضتها ثم ماتت فدفنتها. فقال يا عبد الله، أفلا أعلمتنا بمرضها فنعودها، أو بموتها فنشهد جنازتها؟ ثم عزّاه عنها ودعا له ولها، ثم قال: يا عبد الله، تزوج ولا تلق الله وأنت عزب. فقال: يرحمك الله! من يزوجني؟ فوالله ما أملك غير أربعة دراهم. فقال: سبحان الله! أو ليس في أربعة دراهم ما يستعف به الرجل المسلم؟ يا عبد الله! أنا أزوجك ابنتي إن رضيت. قال عبد الله: فسكت استحياء منه وإعظاماً لمكانه. فقال مالك سكت؟ ألعلك سخطت ما عرضنا عليك؟ قال: يرحمك الله! وأين المذهب عنك؟ فوالله إني لأعلم أنك لو شئت زوجتها بأربعة آلاف وأربعة آلاف، قال: قم يا عبد الله فادع لي نفراً من الأنصار، فقمت فدعوت له حلقة من بعض حلق الأنصار، فأشهدهم على النكاح بأربعة دراهم، ثم انقلبنا، فلما صلينا العشاء الآخرة وصرت إلى منزلي، إذا برجل يقرع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد. فوالله خطر ببالي كل سعيد بالمدينة غير سعيد بن المسيب؛ وذلك انه ما رؤى قط خارجاً من داره إلا إلى جنازة أو إلى المسجد. فقلت مَن سعيد؟ قال: سعيد بن المسيب. فارتعدت فرائضي، وقلت: لعل الشيخ ندم فجاء يستقيلني، فخرجت إليه أجر رجلي وفتحت الباب فإذا بشابة ملتفة بساج، ودواب عليها مذابح؛ وخادم بيضاء؛ فسلم علي ثم قال لي: يا عبد الله هذه زوجتك. فقلت مستحيياً منه: يرحمك الله! كنت أحب أن يتأخر ذلك أياماً. فقال لي: لمَه؟ أولست أخبرتني أن عندك أربعة دراهم؟ قلت: هو كما ذكرت، ولكن كنت أحب أن يتأخر ذلك. قال: إنها إذن عليك لغير ميمونة، وما كان الله ليسألني عن عزبتك الليلة وعندي لك أهل. هذه زوجتك، وهذا متاعكم، وهذه خادم تخدمكم معها ألف درهم نفقة لكم، فخذها يا(157/39)
عبد الله أمانة لك، فوالله إنك لتأخذها صوامة قوامة، عارفة بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتق الله فيها، ولا يمنعك مكانها مني إن رأيت منها ما تكره أن تحسن أدبها. ثم سلمها إليّ ومضى. قال: فوالله ما رأيت امرأة قط أقرأ لكتاب الله تعالى، ولا أعرف بسنة رسول الله صلى عليه وسلم، ولا أخوف لله عز وجل منها. لقد كانت المسألة المعضلة تعي الفقهاء فأسألها عنها فأجد عندها منها علماً
وروى أنها لما تزوجت، وبكر زوجها خارجاً سألته: أين يذهب؟ فقال لها إلى حلقة أبيك سعيد. قالت له:
اجلس أعلمك علم سعيد!
تقشفه وعبادته
قال ميمون بن مهران: بلغني أن سعيد بن المسيب عمّر أربعين سنة، لم يأت المسجد فيجد أهله قد استقبلوه خارجين منه قد قضوا صلاتهم
وقال ابن حرملة: اشتكى سعيد عينه، فقالوا له: لو خرجت يا أبا محمد إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت ذلك خفة، قال: كيف أصنع بشهود العتمة والصبح؟!
وقال عمران: قال سعيد: ما أظلني بيت بالمدينة بعد منزلي، إلا أني آتي ابنة لي فأسلم عليها أحياناً، (قال): وكان سعيد يكثر الاختلاف إلى السوق
وقال محمد بن سعيد: كان سعيد بن المسيب أيام الحرة في المسجد لم يبايع ولم يبرح، وكان يصلي معهم الجمعة، ويخرج إلى العيد، وكان الناس يقتتلون وينتهبون وهو في المسجد لا يبرح إلى الليل. قال: فكنت إذا حانت الصلاة أسمع أذاناً يخرج من قبل القبر حتى أمن الناس، وما رأيت خيراً من الجماعة
وقال ابن حرملة: قلت لمبرد مولى ابن المسيب: ما صلاة ابن المسيب؟ فأما صلاته فقد عرفناها. فقال: والله ما أدري، إنه ليصلي صلاة كثيرة، إلا أنه يقرأ بـ (ص والقرآن ذي الذكر)
وقال عطاء: إن سعيد بن المسيب كان إذا دخل المسجد يوم الجمعة لم يتكلم كلاماً حتى يفرغ من صلاته، وينصرف الإمام، ثم يصلي ركعات، ثم يقبل على جلسائه ويُسأل
وقال عاصم بن العباس: كان سعيد بن المسيب يذكّر ويخوف(157/40)
وقال: سمعت سعيد بن المسيب يقرأ القرآن بالليل على راحلته فيكثر
وقال: سمعت سعيد بن المسيب يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
وقال عمران: كان في رمضان يؤتى بالأشربة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليس أحد يطمع أن يأتي سعيد بن المسيب بشرابه فيشربه، فان أتى من منزله بشراب شربه، وان لم يؤت من منزله بشيء لم يشرب شيئاً حتى ينصرف
وقال عبد الله بن يزيد الهذلي: إنه كان يصوم الدهر، ويفطر أيام التشريق بالمدينة. وكان يقول لنفسه إذا دخل الليل، قومي يا مأوى كل شر، والله لأدعنّك ترجفي رجف البعير، فكان يصبح وقدماه منتفختان، فيقول لنفسه: بذا أمرت ولذا خلقت
وكان يقول: ما فاتتني فريضة في جماعة منذ أربعين سنة، وما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد. وصلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة. وكان يقول: ما فاتتني تكبيرة الإحرام منذ خمسين سنة
وقال عبد الرحمن بن حرملة: سمعت سعيداً يقول: حججت أربعين حجة
وقال سعيد ما دخل عليّ وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها ولا دخل عليّ قضاء فرض إلا وأنا إليه مشتاق
وكان يقول وقد أتت عليه أربع وثمانون سنة: ما شيء أخوف عندي من النساء. فقالوا يا أبا محمد، إن مثلك لا يريد النساء ولا تريده النساء قال: هو ما أقول لكم
هيبته
قال عبد الرحمن بن حرملة: ما كان إنسان يجترئ عل سعيد ابن المسيب يسأله عن شيء حتى يستأذنه كما يستأذن الأمير
وقد ذكرنا أن الحرس، عند دخول الوليد المسجد، أخرجوا جميع من في المسجد وبقي سعيد لم يجترئ أحد منهم أن يخرجه
سماعه الشعر
قال: ابن أبي ربيعة أشعر في الغزل، وابن قيس أكثر أفانين شعر
وقال عاصم: كان يحب أن يسمع الشعر ولا ينشده(157/41)
وقال الأصمعي: قيل لسعيد بن المسيب: هاهنا قوم نسّاك يعيبون إنشاد الشعر قال: نسكوا نسكا أعجمياً
وروى صاحب الأغاني عن إبراهيم بن محمد بن عباس المطلبي انه قال:
مر سعيد بن المسيب في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحربي يتغنى في دار العاص بن وائل:
تضوع مسكا بطن نعمان إذا مشت ... به زينب في نسوة خفرات
فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال:
وليست كأخرى أوسعت جيب درعها ... وأبدت بنان الكف للجمرات
وعلت بنان المسك وحفاً مرجلاً ... على مثل بدر لاح في الظلمات
وقامت تراءى يوم جمع فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفات
قال: فكانوا يروون أن هذا الشعر لسعيد بن المسيب
(البقية في العدد القادم)
ناجي الطنطاوي(157/42)
قصة المكروب
كيف كشف رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
الحصانة واليهودي الأفَّاق
- 4 -
وصل الفائت
اكتشف متشنيكوف في بعض الأحياء المائية الصغيرة خلايا تدور في أجسامها فإذا هو حقن في هذه الأحياء صبغة تجمعت تلك الخلايا فأكلت الصبغة. وإذا شك الحيوان بشوكة نهضت تلك الخلايا إليها تدفع السوء الداخل. وأدخل في أجسام تلك الأحياء خمائر قاتلة، فنهضت إليها الخلايا فالتهمتها. عندئذ فسر الحصانة بأنها حرب بين خلايا طليقة في الأجسام كمثل كرات الدم البيضاء وبين المكروبات الداخلة إليها. وأسمى هذه الخلايا فجوسات
اتجه متشنيكوف بعد ذلك يبحث في هذه الحروب هل هي عينها التي تقع في الضفادع والأرانب. وفي عام 1886 وردت أخبار بستور من وراء الحدود تنقل حديث شفائه الروسيّين الستة عشر من عضة الكلب المسعور بعد ضياع الرجاء فيهم، فاهتز أهل أودسا الأخيار لهذه الأخبار، ونهضوا، ونهض معهم أهل الريف الذي حولهم حتى حدود المقاطعة، نهضوا جميعاً يشكرون الله على ما حبا، ويهتفون لبستور على ما أتى، وجمعوا كيساً ضخماً من الروبلات لإقامة معمل يُنشأُ توّا في أودسا. وعينوا متشنيكوف مديراً علمياً لهذا المعهد الجديد. ولمَ لا؟ أليس هو الرجل الذي درس في كل جامعات أوربا؟ أليس هو العالم العلاّمة الذي خطب أطباء أودسا فأفاض عليهم من منابع علمه تلك الإفاضة الكبرى؟ أليس هو الذي شرح لهم ما خفي من أمر فَجُوسات الدم التي تأكل المكروب أكلا لمّا؟ ونسوا حيناً أنه يهوديّ!
وكنت إذا تسمعت إلى الناس وجدتهم يقولون: (من يدربنا! فلعل في معهدنا الجديد يستطيع(157/43)
أستاذنا متشنيكوف أن يدرّب هذه الفجوسات الصغيرة على التهام كل أنواع المكروبات!)
وقَبِل متشنيكوف هذا المنصب الجديد، ولكنه احتاط فقال لرجال السلطة قول الحذر البصير: (أنا رجل أكبر همّه في النظريات، وأبحاثي كثيرة لا يكاد يتسع لها وقتي، وإذن فمن الواجب أن يتدرب غيري على صناعة الألقحة وأن يقوم بالجزء العملي من واجبات المعمل)
ولم يكن في أودسا في ذلك الوقت رجل واحد يعرف عن صيادة المكروب شيئاً. لذلك أرسلوا صديق متشنيكوف الدكتور جَمالَيّة بسرعة إلى باريس إلى معهد بستور. فلما حل فيه صَحِب بستورَ وصحب رو في عملهما وتعلم منهما الشيء الكثير، ولكن هذا الكثير لم يؤذن له ببلوغ الكفاية، فان أهل أودسا قل صبرهم، وزاد قلقهم، واشتدت رغبتهم في الخلاص من الأمراض فصاحوا يطلبون الألقحة، فاضطرت السلطة تحت هذا الضغط العام إلى استدعاء الدكتور جمالية، ولم يكن طال مقامه في باريس. فلما عاد بدأ يصنع لقاحاً لداء الجمرة تخليصاً لشياه الريف، ولقاحا لداء الكلب دفعا له عن أهل المدينة. عندئذ صاح متشنيكوف في الناس: (والآن كل شيء لا بد سائر كما نهوى) وهو يجهل كل الجهل تلك الألاعيب الثقيلة التي تلعبها المكروبات أحيانا على ممارسيها. ثم اعتكف إلى نظرياته يبحث في الأرانب والكلاب والقردة ليرى أفي استطاعة فجوساتها أن تبتلع مكروب السل والحمرة والحمى الراجعة. وانطلقت النشرات العلمية تخرج من معمله في تلاحق سريع، وأخذ بُحّاث أوروبا يتأثرون بكشوفات ذلك الرجل العبقري ببلاد الروس السفلى. ولكنه لم يلبث أن بدت له المصاعب في نظريته، فالكلاب والأرانب والقردة ليست شفافة كبراغيث الماء
ثم أخذ الحال يسوء في المعمل، فأخذ الخصام يدب بين رجاله وعلى رأسهم الدكتور جمالية، فاختلطت الألقحة وتلوثت، وانكبت على الأرض من أنابيبها. وجاء أطباء البلد يتسللون وفي قلوبهم بالطبع حفيظة وغيرة من هذا العلاج الجديد، وأخذوا يسألون الأسئلة المحرجة ليشيعوا شاعة السوء في الناس: (من هذا الأستاذ متشنيكوف؟ ومن أين جاءته الأستاذية وهو لا يحمل شهادة طبيب؟ إنه ليس إلا رجل طبيعي وصياد جراثيم، فمن أين جاءته معرفة الأمراض والوقاية منها؟)(157/44)
وصاح الناس: (أين العلاج المزعوم؟!) وصاح المزارعون الذين نزلوا بأيديهم عميقاً في أكياسهم طَلَبَ النقود الكثيرة يبذلونها طواعية: (أين الحصانة الموعودة؟). واضطر متشنيكوف إلى الخروج من محرابه ساعة، والبروز من ضباب نظريته وفجوساته حيناً، ليصرف الناس عن شكواهم، وكانت الفئران عاثت في الحقول فأكلت المحاصيل، فبذر في تلك الحقول بشلة كوليرا الدجاج لتقضي على الفئران. ولكن تقريراً خطيراً كاذباً كُتِب من نار ظهر في الجريدة اليومية يتهم متشنيكوف أنه إنما بذر الموت والوبال في الحقول، لأن كوليرا الدجاج تستطيع أن تتحول إلى كوليرا الإنسان. . .!
فضجر متشنيكوف وشكا في خفوت: (ما شأني بهذا الصخب! أنا رجل باحث وأبحاثي متكاثرة عليّ، وأنا رجل ذو نظرية، ونظريتي في حاجة إلى كثير من الهدوء لتشتد وتنمو. . .) وسأل أهل السلطة إجازة فأعطوه إياها، فحزم حقيبته وذهب إلى مؤتمر فينا ليخبر كل من يجد هناك بأمر فجوساته، وليجد لنفسه ركناً هادئاً يستقر فيه ويعمل بعيداً عن الضوضاء، فلا يكون مضطراً لإثبات صحة نظرياته لسلطات قليلة الصبر تطلب خلق العلاجات، ولا يكون مدفوعا لارواء شهوة الفلاحين وتعويضهم عن كل قرش دفعوه بتعجل الأدوية وابتسار الحصانات. ومن فينا ذهب إلى باريس، وفي باريس انتظره نجاح باهر لم ينتظره، فهناك تعرف إلى بستور العظيم، فما إن تَم التعرف حتى انفجر يحدثه عن فجوسته ونظريته فيها، وَوَصَف له المعارك التي تقع بين الفجوسات والمكروبات وصفا بديعا سِمَّاويّا جذابا، وتأمل شيخ المكروب صاحبنا بعين متعبة طميسة أخذت تبرق للذي تسمع حينا بعد حين، فلما انتهى الحديث، قال بستور: (أنا في صفك يا أستاذ متشنيكوف، ذلك لأنه كثيرا ما استوقفتني معارك كالتي تصف كنت ألحظها بين شتى الأحياء المجهرية الدنيئة، وإني لأحسبك سائرا على هدى في الطريق الذي أنت فيه)
لم يكن بين المعارك التي ذكرها بستور وبين تلك التي يصفها متشنيكوف صلة أصلاً، ومع هذا فقد امتلأ قلب متشنيكوف مما سمع سروراً، وامتلأت نفسه زهواً. وكيف لا، وهذا أبو المكروبات الشيخ الأجل استمع له وفهمه ثم آمن به. . . وكان أبو أُلجا قد مات وترك لهم دخلاً متواضعاً. وتراءى لمتشنيكوف أن باريس مهد طيب لنظرية الفجوسات إذا هي آزرها معهد ذو جاه كمعهد بستور، فسأل بستور: (سيدي، أود لو يكون لي مكان في(157/45)
معهدكم، وأنا بهذا إنما أبغي العمل في معملكم على أية صورة وبغير أجر). وأدرك بستور أنه لابد من استبقاء حماسة الجماهير لصيادة المكروب، وأن رجل الشارع لا يفهم من العلم غير تلك الأحداث المهيجة والدرامات المثيرة، فأجاب متشنيكوف عن سؤاله: (أنا لا أقبلك تعمل في معملي فحسب، بل سيكون لك فيه معمل كامل موقوف عليك). وسافر متشنيكوف إلى أودسا، وفي طريقه التقى بكوخ فجَبَهه كوخ واستغلظ له، وأخذ يفكر ويخاير نفسه بين القبول في المعهد الفرنسي والتخلص من قوم لا يفتأون يصرخون يستعجلون النتائج، وبين البقاء في المعمل الروسي والإبقاء على المرتب الطيب الذي يتقاضاه منه. . . وقرر بعد التردد أن يبقى حيث هو من أودسا وواصل عمله فيها، ولكن حدث بعد قليل حَدثٌ لم يترك لنفسه خياراً. ذلك إن الفلاحين زادت شكواهم من القطعان التي تموت بالجمرة وعلت أصواتهم في طلب الألقحة، فأمر متشنيكوف الدكتور جمالية أن يحقن الشياه بلقاح الجمرة جملة واحدة. وذهب متشنيكوف وزوجته أُلجا إلى بيتهم الريفي الصيفي، وذات يوم جاءتهم فيه الرسالة التلغرافية الآتية من الدكتور جمالية:
قَتَل لقاح الجمرة آلافاً من الشياه
فلم تمض أشهر قليلة حتى كان متشنيكوف استقر في معهد بستور الجديد في باريس، وإلى جانبه أُلجا - تلك الزوجة الطيبة - التي كانت لا تُقصّر في عمل أي شيء لزوجها لأنه عبقري وعطوف عليها - قامت إلى جانبه تمسك له الحيوان وتغسل له الزجاجات، وهي لو تُركت لنفسها لفضّلت تصوير الزيت أو نحاتة الحجر - فَنَّين جميلين أقرب لمتعتها وأملأ لشهوتها. ومن تلك الساعة مشى الزوجان، يداً في يد، في طريق النصر من غلبة إلى غلبة، وقد انتثرت على جانبيه من أخطائهما ورود زادت طريقهما روعة وجمالاً
(يتبع)
أحمد زكي(157/46)
مقاييس الشعر
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
ذكر ابن سلام أنه شهد خَلَفاً وقد قيل له من أشعر الناس؟ فقال: ما ينتهي هذا إلى واحد يجتمع عليه، كما لا يجتمع على أشجع الناس، وأخطب الناس، وأجمل الناس
وإذا أردنا أن نبحث عن السبب في تشعب الخلاف في ذلك إلى هذا الحد لم نجده يرجع إلا إلى أن علماء الأدب لم يهتدوا في ذلك إلى مقياس عام للشعر يمكن به وضع كل شاعر في مرتبته التي يستحقها بموجب هذا المقياس العام، ويرجع إليه علماء الأدب فتتفق عليه كلمتهم في ترتيب طبقات الشعراء، أو يقرب الخلاف بينهم في هذا ولا يتشعب ذلك التشعب. وإن عدم اهتدائهم إلى ذلك المقياس العام للشعر ليجعل خلافهم في ترتيب طبقات الشعراء على استفحاله بينهم مما يجدر بالباحث عدم الاعتداد به، لأنه يكاد يكون خلافاً لفظياً لا حقيقياً، إذ لكل فريق وجهة نظر فيمن يقدمونه من الشعراء خلاف وجهة نظر الآخرين كما يقدم أهل البصرة امرأ القيس لسبقه إلى ابتداع أشياء استحسنها العرب واتبعه الشعراء، من استيقاف الصحب وبكاء الأطلال، وتشبيه النساء بالضباء وغير ذلك. وكما يقدم أهل الحجاز زهيراً والنابغة، لأن أهل زهيراً كان أحكم الشعراء شعراً، وأبعدهم من السخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من الألفاظ، وأنه كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتبع حوشيه، وأنه مع بلوغه ما بلغ في المدح لم يمدح أحداً بغير ما هو فيه. ولأن النابغة كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، وكأن شعره منثور لا تكلف فيه. وكما يقدم أهل الكوفة الأعشى لأنه كان أكثرهم عروضاً، وأذهبهم في الشعر فنوناً، وأكثرهم طويلة جيدة
وقد قسم علماء الأدب الشعراء تقسيماً يمكن أن يعد من المقاييس العامة للشعر، ولكنه لا يفيدنا في ترتيب طبقات الشعراء الفائدة المطلوبة، فقالوا إن الشعراء أربعة أقسام: شاعر فحل وهو الذي يجيد الشعر ولا يروي لغيره؛ وشاعر خِنْذِيذٌ وهو الذي يجيد الشعر ويروي الجيد من شعر غيره، فهو شاعر وعالم بالشعر. وقد يقال الفحل لما يشمل هذين القسمين فيكون أعم من الخنذيذ؛ وشاعر وسط وهو الذي لا يبلغ رتبة الفحول ولا ينحط شعره إلى الرديء؛ وشُعْرُورٌ أو شويعر وهو الرديء(157/47)
وقد وضعنا للشعر مقياساً عاماً يتفاضل فيه الشعر باعتبار نبل أغراضه وشرف مقاصده، قبل أن يتفاضل بجماله وألفاظه ومعانيه. ولقد وازنا بهذا المقياس بين امرئ القيس وعدي بن زيد في كتابنا (زعامة الشعر الجاهلي)، وبين أبي العتاهية وبشار وأبي نؤاس فيما كتبناه في مجلة (الرسالة) الغراء عن أبي العتاهية، فخرجنا من هذا بتفضيل عدي بن زيد على امرئ القيس، وتفضيل أبي العتاهية على بشار وأبي نؤاس، وهو أمر لا يمكن أن يخالفنا فيه أحد يوافقنا على صحة هذا المقياس الذي وضعناه للموازنة بين الشعراء؛ وإنها لميزة كبيرة له يظهر فضلها إذا نظرنا فيما روى في ذلك عن خَلَفٍ فيما سبق
ولكن جمهرة أدبائنا لا يوافقون على هذا المقياس الجديد، وينكرونه علينا أشد الإنكار. وهم معذورون في هذا الإنكار أشد العذر، لأن دراسة الأدب قد سارت من نشأتها إلى الآن على خلاف رأينا في هذا المقياس، حتى إن الأصمعي رحمه الله وسامحه كان يقول: إن الشعر لا يقوى إلا في باب الشر، فإذا دخل في الخير لان. وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الحمر والخيل والحروب والافتخار وغير ذلك
وقد ذكر قدامة بن جعفر في كتابه (نقد الشعر) رأيا في ذلك أخف من رأي الأصمعي، فهو يرى أن الذي يلزم الشاعر فقط أنه إذا شعر في أي معنى كان من الرفعة والضَّعَة، والرَّفَث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح والذم وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة التي يمليها على الشاعر وجدانه، ويوحي إليه شيطانه، أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة
وقد حملني ذلك النفور من رأيي في قياس الشعر بأغراضه ومقاصده قبل ألفاظه ومعانيه على تقييد كل ما أجده يؤيده في مطالعاتي، فوصلت في ذلك إلى طائفة صالحة من أقوال الحكماء والشعراء، ولم أقصد من مقالي هذا إلا تقييدها على صفحات مجلة (الرسالة الغراء)
قال الأحوص:
وما الشعر إلا حكمةٌ من مؤلِّفٍ ... لمنطق حقِّ أو لمنطق باطل
وقال فكتور هوجو: الشاعر مصلح عظيم، ونبي كريم، أرسله الله لقومه هادياً إلى الحرية(157/48)
والحمال والحب
وقال حسان بن ثابت:
وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقالُ إذا أنشدتَهُ صَدَقا
وإنما الشعر لُبُّ المرء يعرضه=على البرِّية إن كيْساً وان حُمقَا
وقال معاوية بن أبي سفيان لعبد الرحمن بن الحكم: إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعرّ شريفة، والهجاء فتهجن كريماً، أو تثير لئيما. وإياك والمدح فهو كسب الأنذال، ولكن افخر بمآثر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك، وإن لم تجد من المدح بداً فكن كالملك المرادي حين مدح فجمع في المدح بين نفسه وبين الممدوح فقال:
أحللتُ رَحْلي في بني ثُعَل ... إن الكريم للكريم مَحَلّْ (؟)
وقال النابغة الشيباني:
وإني حاكمٌ في الشعرُ حكماً ... إذا ذُكرَ القوافي والنَّشِيدُ
فخير الشعر أكرمه رجالاً ... وَشَرَّ الشعر ما نطق العبيد
وقال أيضاً:
من الشعراء أكفاءٌ فحولٌ ... وفَرَّ أُثون أن نطقوا أساءُوا
فهل شعر أن شِعْرُ غِناً وحكمٌ ... وشعرٌ لا نصيح به سواءُ
وقال أبو نؤاس:
الشعر ديوانُ العربْ ... أبداً وعنوانُ الأدبْ
لم أعْدُ فيه مفاخري ... ومديح آبائي النُّجُبْ
ومقطَّعاتٍ رُبَّما ... حلَّيت منهنَّ الكتب
لا في المديح ولا الهجا ... ء ولا المجونِ ولا اللعبْ
ودخل العجاج على عبد الملك بن مروان فقال له: بلغني أنك لا تحسن الهجاء، فقال: يا أمير المؤمنين من قدر على تشييد الأبنية، أمكنه خراب الأخبية، قال: وما يمنعك من ذلك؟ قال إن لنا عزاً يمنعنا من أن نُظلم، وحلما يمنعنا من أن نظلم. قال لكلماتك أحسن من شعرك. فما العز الذي يمنعك من أن تظلم؟ قال الأدب المستطرف، والطبع التالد. قال لقد(157/49)
أصبحت حكيما، قال وما يمنعني من ذلك وأنا نجي أمير المؤمنين؟
وقال أبو العلاء المعري:
مُلَّ المُقَامُ فكم أعاشر أمةً ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها
فِرَقاً شعرتُ بأنها لا تقتني ... أدباً وأن شرارها شعراؤها
وقال الفارابي: إن أكثر شعر العرب في النهيم والكريه، وذاك أن النوع الذي يسمونه النسيب إنما هو حث على الفسوق ولذلك ينبغي أن يتجنبه الولدان، ويؤدبوا من أشعارهم بما يحث فيه على الشجاعة والكرم، فأنه ليس تحث العرب في أشعارها على شيء من الفضائل سوى هاتين الفضيلتين، وإنما تتكلم فيهما على طريق الفخر، لأن أكثر شعرهم من شعر المطابقة الذي يصفون به الجمادات كثيراً والحيوان والنبات. وأما اليونانيون فلم يكونوا يقولون أكثر ذلك شعراً إلا وهو موجه نحو الفضيلة والكف عن الرذيلة، وما يفيد أدباً من الآداب، أو معرفة من المعارف
وقال محمود سامي البارودي:
الشعر زَيْنُ المرء ما لم يكن ... وسيلة للمدح والذَّامِ
قد طالما عَزَّ به معشرٌ ... وَرُبَّما أزْرَى بأقوام
فاجعله فيما شئت من حكمة ... أو عظة أو حسب نام
وَاهْتِفْ به من قبل تسريحه ... فالسهم منسوب إلى الرامي
ولا شك أن من ينظر في هذه الأقوال والأشعار لهؤلاء الحكماء والشعراء يجدها تتفق تمام الاتفاق مع ذلك القياس الذي وضعناه للشعر ليصلح به أمره، ويحسن في الناس أثره
عبد المتعال الصعيدي(157/50)
نُجح وإخفاق
للأستاذ فخري أبو السعود
نَلْ ما تُريدُ من الأيام مقتدرا ... وطُفْ بموكبها العَجَّاج منتصرا
وسِرْ حياتَكَ مِن نَصرٍ إلى ظفرٍ ... وقَضِّ في غَزْوِ غاياتِ العُلى العُمُرا
وازدَدْ بنفسك إيمانا إِذا وَطَرٌ ... شآك لا تَلحَ إنسانا ولا قَدَرا
واعلمْ بأنك تَرْقي اللجَّ معتليا ... إِذا هوَى بك بعضُ اللّجّ منحدرا
كُنْ - إذْ علمتَ طباعَ الهر كيف جَرَتْ ... وقد علمتَ طباع الخَلْقِ - مُعْتَبِرا
كم لُمْتُ نفسي على ما فاتَ من أَرَبٍ ... ولم أَلُمْ قَدَراً يوما ولا بَشَرا
لو كنتُ أبصر بالمسعى خَلصتُ إلى ... مُنايَ ما أُبْتُ مِن مَسعَاي مُنكسرا
الدهرُ نِعمَ المُرَبِّي بَثَّ حكمتَهُ ... في كُلِّ ما نَاب من أحداثِهِ وعرا
أكلما لقَّن الإِنسانَ تجربةً ... أنحى عليه بِذَمٍ؟ لو دَرَى شَكرا
ما لائم الدهر إلا كالصبي إذا ... مَشى إليه المُربي بالعصا جَأَرا
من علَّمته رزايا الدهر موعظةً ... فانه قد جَنى أَضعافَ ما خَسِرا
إِني - وقد صنتُ نفسي أَن يؤدِّبَها ... سوايَ يُلقى إليها الواعظَ والنُّذُرا -
أُمسي عليها رقيباً ساهراً يقظاً ... عمري وأَضحيِ حسيباً مغلظا عسرا
النُّجح يعرفني إن نلت غايته ... لم أُلْف لا قانعا جهلاً ولا أَشِرا
والرُّزءُ يعهدني: إن جل موقعُه ... أَلوذُ بالعزم والإيمان مصطبرا
صحبتُ دهري وصاحبتُ الأنام على ... عِلاَّتِهمْ ولكم أُغضى مَنِ اختبرا
كم أَوْلَعتْ بِيَ شرّيرا طَوِيَّتُهُ ... وحدثته بفعل السوءِ فابتدَرا
كان المُسيء فلم أَحفل إساَءته ... وقد غفرتُ ولم يحلَم ولا غفرا
مَن ليس تقصر دون الأُفق هِمَّته ... ولا يُطارح إلا الأنجُمَ السَّمَرا
فكم يبيتُ عن الأضغانِ في شغل ... وكم يمر بأهل الضغن محتقرا
فخري أبو السعود(157/51)
هرم خوفو
للأستاذ عبد الرحمن شكري
يا موجة للدهر لم تُهْزَمِ ... تعلو عُلُوَّ الجبل الأعظم
وما رأينا قبلها موجة ... تعلو فلا تحدر للمحطم
ما الناس والآثار من بَعْدِهم ... إلا كموج إن علا يُهْزَمِ
موج لبحر ما له ساحل ... إلا الردى في لحده المظلم
كم عند شط الموت شِلْوِ رَدى ... يقذفه الدهر إِلى ضيغم
هل أنت شِلْوٌ لزمان مضى ... رفاته الآثار لم تُرْدَمِ
لم يبق من عمران من قد مضوا ... إلا بقايا الجلد والأعْظُمِ
كأنما يُذْخَرُ من مجدهم ... ما يُذْخَرُ النمل من المَطعم
كيف نُرَجِّي الدهر ذا عفة ... إِن ذاق طعم اللحم لم يقرم
لا يسمع الدهرَ سوى مُنْصِتٍ ... بالروح إن يُصْغِ له يبكم
همهمة يطلقها عارم ... إن يمضغ المودى به يبغم
هل خاف هذا الدهر صرف الردى ... فشاد صَرْحاً منك لم يُثْلَمِ
لا يجرؤ الموت على بيته ... في هرم كالجبل الأدهم
أم شادك العقلَ لكيما يرى ... من فوقك الأقدار لم تهجم
بعيدة لم تَبْدُ أشخاصها ... تهفو لنا في يومها الايومِ
كي يؤْذِنَ الناس بِإقبالها ... من قبل أن تفجأ بالمَقْدَمِ
إِن أرزم الرعد على شاهق ... ففوقك الأيام كالمرزم
أو كللت هَامَته ديمة ... وطفاءُ مثل المِجْسَدِ المسهم
فوقك أرواح عصور خلت ... كديمة سوداء لم تحسمِ
هدت يدُ الدهر مشيدَ البنى ... وهو إذا أمَّكَ كالأجذم
كم أنزل الدهر شآبيبه ... على جبين منك لَم يهرم
كالمزن فوق الزهر يحيا به ... زهر الرُّبى من غيثه المُرْهِم
كأنما روح زمان مضى ... معشش فوقك كالقشعم(157/52)
يا معبداً يُعْبَد فيه الحجا ... إلى الحجا في صنعه ينتمي
أجلُّ ما تعبد فيه النهى ... سليلها في صنعه المحكم
يا عَلَم الدنيا الذي قد غدا ... عجيبة الغائر والمتْهَمِ
علت بك الأرض كمن قد علا ... برأسه الكبر فلم يُهضم
رفعت رأساً منك ما طاله ... رأس البناء الشامخ الأقوم
كأنما كل البنى سُجَّدٌ ... من هيبة للملك الأعظم
يا ملكا ما انحلَّ سلطانهُ ... قد هُدِمَ الماضي ولم يُهدَم
كم دولة قد ضاع سلطانُها ... ودولة الأهرام لم تهرم
يا غِيَرَ الأيام في كَرِّها ... من أبيض نأمن أو أسحم
تباعَدِي إن شئت أو فاهجمي ... على شبيه البطل المُعْلَمِ
هيهات لم يبدُ له مَقْتَلٌ ... قد أخطأ الرامي فأشْوَى الرَّمي
كم خال فيك الناس سرا طوا ... هـ الدهر لم يُكشَفْ ولم يُعلم
خالوا الأُولَى شادوك قد أوعدوا ... فيك رموز المطلب الأكرم
ما أودعوا إلا كنوزاً غدت ... نهبة كف الصائل المجرم
وكل ما لم يَبْدُ كُنهٌ له ... يخالُ كنز الحق والمغنم
والمرء يبغي الحق في خدره ... ولو بدا في أعين الأنجم
ورمه خبأها كاهنٌ ... لفَاتِك الآراء والمخذم
رمة رب رائع عزمه ... قد أُخرجَت من بعدُ للمرجم
جلال روح منه ذي همة ... مجسم في صنعه المحكم
لا تحسبنَّ الناس لم يُغنهم ... غير منال البُرْد والمطعم
فالنفس تبغي أن ترى كُنْههَا ... مُجَسَّماً في صنعها الأعظم
لم يُصلح الناسَ لِذِي أمرهم ... غيرُ شفيع السيف والدرهم
أظلمهم من ساغ طعم الأذى ... ليس الذي يَظلمُ بالأَظْلَمِ
كل ضعيف خيره علة ... من ذا الذي صح فلم يعرم(157/53)
آية الصبح
بقلم الشاعر عثمان حلمي
غرَّد العصفورُ للصبح فهيا ... يا حبيبي فتَّح الصبح فهيا
آية الصبح تجلَّتْ، قمْ بنا ... قبل أن تطوي بضوء الشمس طيّا
إن نور الله في بهجته ... دلَّنا أن له سراً خفيا
وكأن الكون فيه ملك ... يتغنى نغماً حلواً شجيا
سكَبَ الحسن على جبهته ... ماءه فانتعش العالمُ رِيا
كلُّ شيء ضاحكٌ مبتهجٌ ... بعَثَ الصبحُ موات الكون حيا
فهنا الريحانُ في أوراقه ... ناشراً من روحه روحاً زكيا
وهنا النرجسُ في جلبابه ... لابساً من حسنه ثوباً بهيا
وهنا الوردُ على أغصانه ... خَجِلاً من حسنه الزاهي حَييا
وهنا الطيرُ تُغنِّي لغةً ... فهم الزهر لها معنى خفيا
كلما غرَّدَ منها طائرٌ ... خِلْتُه كان إلى الطير نبيا
وهنا الأشجارُ في خضرتها ... لبست ثوباً من الحسن زهيا
خَلَعَ الصيفُ عليها بُرْدَه ... وحباها ثمراً حلواً جَنيا
رضى الله على الدنيا فما ... تبصرُ العينُ من الدنيا دَنيا
كفُّ جبريل عليها نثرتْ ... من رُبىَ جنته حسناً نديا
من حياة الخلد أو من حسنه ... ما يعيد الميْت في الأنفس حيا
أو مشى يوسفُ فيها طرباً ... وحبا الجوَّ بها عطراً زكيا
وحبا الأنظارَ من طلعته ... ما يُعيد الحب في النفس فتيا
فإذا ما عبث الحبُّ بها ... جعلته مثلاً منه عليا
يا حبيبي سِرْ بنا في روضةٍ ... نروِ منها الطرف إن كان صدِيا
والذي صوَّر في الكونَ لنا ... بيديْ إحسانه حسناً سأويا
والذي نمَّقَ من قدرته ... كلَّ ما ينطقُ بالحق جليا
والذي قلبي ونفسي صُنْعه ... كنت منه أولياً أبديا(157/54)
والذي سواك من نور الضحى ... بعد أن لم تك في ماضيك شيَّا
والذي أرسلني منكَ إلى ... كلِّ من يشعرُ للحب نبيا
والذي اكسب نفسي نغماً ... باعثاً للحسن في الناس دويا
والذي أبدعَ في صوتك ما ... يملأُ السمع به خمراً شهيا
غنِّنيِ شعري وقل في طربٍ ... غرَّدَ العصفورُ للصبح فهيا!
جلَّ من أنشاكَ في صورته ... مثلاً في حسنكَ الزاهي عليا
وحباني الحب حتى ما أرى ... غيرَ حبي كان حبا عبقريا
جلَّ من أرسل منِّي شاعراً ... يتغنى فيك بالشعر شجيا
أنت في شعري جميلٌ خالدٌ ... بعد ما يطوي حياتي الدهر طيا
آه لو تفهمه لم تنسني ... أبدَ الدهر ولو كنت نَسِيا
هاك رتِّله، ففي ترتيله ... ما الباكيَ النفس رضيا
فهو مثلُ الصبح، في آيته ... ما يعيد الأمل الحلو قويا
هاهو الصبحُ، فلولا حسنه ... كانت الدنيا جحيما أبديا
سطَّر الرحمنُ في صفحته ... نورَه نوراً سماوياً سنيا
وأجاد الله في صنعته ... لم يدع في خلقه للنقص شيا
ليتَ شعري ما عسى جنته ... تلك حيث النفس لا تلقي رديا
طهِّرتْ من نقصنا وأُبتهجتْ ... من سناهُ كاملاً فيها جليا
ليتني رضوانُها أو ليتني ... ملَكٌ فيها يظلُّ الدهر حيا
وأرى شخصاً فيها ملكاً ... نتناجى الحب في الخلد سويا
تتناجى حُبَّنا عن كثبٍ ... ويكون الحبُّ حباُ أبديا
ونرى الرحمنَ فيها أو نرى ... من يرى الرحمنَ في الخلد هنيا
فهناك المثلُ الأَعلى لمن ... عَرف الأَدنى من الدنيا قويا
قم إذن نسعَ إلى الروض سويا ... يا حبيبي، فتَّح الصبح فهيا!
لا يطيب العيش لي منفرداً ... أو أرى وحدي جلال الحسن شيا
لو ملكت الخلد وحدي لم أكن ... لا عن النفس ولا عنه رضيا(157/55)
نزعت نفسي إلى مؤنسها ... أو حبيب اجتلى منه المحيا
(الإسكندرية)
عثمان حلمي(157/56)
القصص
قصة مصرية
الأعمى. . .
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
بقلم محمود البدوي
بقى الأعمى في المسجد بعد أن فرغ المصلون من صلاة العشاء بساعة، ثم مشى إلى جانب المنبر فتناول عصاه وأم الباب، ولما بلغ عتبته سمع صوت الدلو في البئر، فنصب قامته وأرهف سمعه. . لقد جاءت جميلة على عادتها، ولكنها متأخرة قليلاً هذه الليلة. واستمر واقفاً وسمعه إلى الماء المتقاطر من الدلو كدفعات المطر غب سحاب ورعد؛ ثم انقطع صوت الماء، فأدرك أنها ملأت الجرة، فدفع الباب وخرج، ومضى تحت جدار المسجد خطوات. . . ثم توقف عن سيره وأخذ يفكر. . . ثم ارتد إلى حيث كان، حاثاً الخطى كأنما يسوقه سائق. . . وعطف على البئر وقلبه شديد الخفقان
(جميلة. . .)
(نعم. . .)
(أملأت الجرة؟)
(أجل!)
(وذاهبة إلى البيت؟)
(أجل!)
وكانت الجرة على رأسها، وقد تهيأت للسير، فاستدارت ووقفت. . . . . . . . .
ومد عنقه وقال:
(سأروح معك من غرب البلد. . . لأن كلاب الشيخ عبد الكريم عادت من العزبة. . . وهي تقطع عليّ الطريق)
(هيا. . . . . . . . .)
ومشيا صامتين والليل ساكن والقرية نائمة، والظلام مخيم؛ حتى أحس بأنفاسه خلصت،(157/57)
فأدرك أنهما خرجا إلى الخلاء. بعد خطوات سمع حفيف الريح في عيدان الذرة، فأيقن أنهما قربا من الحقول، وسأل وقلبه يرجف:
(أوصلنا بستان الشيخ حسين؟)
(قربنا. . . . . . . . .)
ولم يكن ألف هذه الطريق، وإن يكن يعرف أن هناك قناة صغيرة تمتد بين البستان وحقل الذرة، وعليهما أن يعبراها لينحدرا منها إلى جنوب القرية، ثم إلى حيهما. وكان منذ أن غادر البئر واقعاً تحت تأثير خواطر عاصفة، اشتعل لها رأسه، وجاش صدره؛ فكان يتخلف عنها قليلا ويجعلها تتقدمه خطوات. فهذه هي المرة الأولى التي ينفرد فيها مع امرأة في ظلام الليل وسكونه، على أن تخلفه عنها لم يخفف من حاله، بل على العكس من ذلك، كان يفسح المجال لوضوح رغباته وتركزها وأخذها السبيل عليه، فمضى وراءها والاضطراب يعصف بقلبه وصدره وكيانه، حتى وصلا القناة فدفع لها عصاه، ونزل وراءها في الماء، وغاصت أقدامهما في الوحل، وخرج ينفض رجليه في العشب الممتد على حافة الحقل. وأنزلت هي جرتها وانحنت على الماء تغسل رجليها، ثم انتصبت تصلح ثوبها، وهو واقف خلفها يفتح رئتيه وصدره لهواء المساء العليل، ويحاول أن ينحني عن رأسه عن الخواطر العاصفة التي ألهبت أليافه وهيمنت على كيانه
وواجهته وقالت بصوت ناعم:
(ناولني. . . . . . . . .)
فمد يده إلى الجرة. . . فلمست يدها، فكأنما لامس لهب كاو، فوقف ويده تلاصق يدها
ثم أمسك بيدها ورفعها عن الجرة، حتى استطاع أن يقبض عليها بقوة، فمدت وجهها مشدوهة وقالت وصوتها يرتعش:
(ناولني. . . . .)
فرفع يده إلى ذراعها وضغط؛ وقد أحس بألياف لحمه تلتهب
(نـ. . . ناولني.!. . .)
فأبقى يده ضاغطة على ذراعها، وهو واقف يتردد
(ما الذي تريده مني؟)(157/58)
فلم يقل شيئاً. ثم مال عليها وضمها إلى صدره، وضغط على جسمها فتراخى، وحملها على ذراعيه بسرعة، ودخل بها حقل الذرة. . . . . .
مشت جميلة إلى بيتها خائرة القوى، مرضوضة الجسم، ذاهبة اللب، وقد أسود في نظرها الوجود واحلولكت الدنيا. . . مشت ذاهلة ساهمة لا تحس بشيء مما حولها، ولا تعرف إلى أين هي ذاهبة. . . على أن رجليها كانتا تقودانها، بحكم العادة، إلى بيتها. مشت تحملق في الظلام، وهي والهة مرتاعة ترى بعد كل خطوة شبحاً، وتتصور عند كل قدم حفرة. . . . . . لقد فعلتها. . مع من؟ مع سيد الأعمى. . . لقد ساقتها قوة أزلية إلى الهاوية! لقد حملها المقدور الحتم إلى الوحل. . . لقد جرفها التيار فغاصت في الوحل إلى ساقيها
إننا نسير في الطريق مسوقين بقوة أعلى منا وأقوى. قوة جارفة لا نستطيع ردها، ولا نقوى على دفعها، تسوقنا في الظلام إلى المصير الحتم. . . لقد غدت جميلة، فتاة الريف العفيفة الطاهرة، المرأة الدنسة القذرة التي غاصت بقدميها في الوحل. . . سيظل الوحل عالقاً بها دائماً، وإن غسلت رجليها صباح كل يوم ومساءه، سيظل الوحل عالقاً بها أبداً
ستذكر دائماً إن قوة خفية ساقتها، بمحض إرادتها، إلى الوحل، قوة أعلى منها لا تستطيع فهمها ولا تحاول فهمها ولا تعليلها. هذه القوة الخفية الأزلية تعمل دائماً من وراء الحجب، تعمل أبداً من وراء الغيب، وتسوقنا إلى المصير المحتوم
ستذكر جميلة، الفتاة الريفية الجميلة المزهوة، أن قوة خفية ساقتها إلى البئر، لتقودها إلى الأعمى، ولتجرفها إلى الحقل
لا لذة ولا متعة، ولا إحساس بشيء من هذا كله، ولكنها استسلمت ورضيت، لأنه حكم عليها بأن تستسلم وترضى
لا إحساس بنشوة، ولا شعور بمتعة، وإنما مر كل شيء كالعاصفة الهوجاء وهي تلف كل شيء لفاً
لما فتحت عينيها على الدنيا الرحيبة الباسمة، من قبل، كان كل شيء قد تغير؛ كل شيء قد تغضن واربد وعلته غشاوات، ولفه السواد في جلبابه، وطوته العاصفة الرعناء في طياتها؛ كل شيء قد انمحى من باصرتها ومات وذهب مع العاصفة، وبقيت ظلمات يأخذ بعضها برقاب بعض. . . . وعليها أن تسير في جوف الظلام وتمضي(157/59)
ستطلع شمس الصباح الجميلة على القرية الوادعة، وستقابل القرويات، وستتحدث وتبتسم وتضحك، ولكن بأي وجه؟ وأي لسان؟؟ وستقابل الزوج، عندما يطلع النور؛ ستواجه زوجها وتقف أمامه؛ ولكنه لن يعرف شيئاُ، ولن تعرف النسوة شيئاً، ولكنها مع هذا ستشعر بالخجل، وتغض الطرف وتنكس الرأس، وهي الجميلة المزهوة التي تعلو على أقرانها ولداتها
ستسير في القرية مطأطئة الرأس، خافضة الطرف، لا تستطيع أن تقابل نظرة امرأة بمثلها. . . ستفعل ذلك ما دام الإحساس بالجريمة يلازمها؛ وإذا ما بارحها هذا الإحساس ستنسى، ولكنها لن تستطيع أن تنسى كل شيء. ستذكر دائماً أنها فعلت ذلك بمحض إرادتها، وكان عليها أن تقاوم وتمزق الثوب وتشق الجيب، وتملأ الدنيا صياحا. إنها لم تأخذ شيئا، لم تأخذ شيئا مطلقاً، وأخذ الرجل كل شيء!
ولن تذهب إلى البئر بعد اليوم، لا في الصباح الباكر، ولا في الليل الزاحف؛ لا وحيدة ولا برفقة أحد، كل ما توده الآن هو أن تنسى، هو أن تحاول أن تنسى. كل شيء في الحياة يتغير في ساعة، يتغير في ساعة أزلية مسطورة في صفحة حياتنا. لقد غدت الفتاة المشرقة الضاحكة الناضرة، المرأة المشوهة المنكسرة الواجمة. . . بعد ساعة مرت كالعاصفة
فتاة الريف لا تزال بخلقها البكر، لا يزال ضميرها حياً، لم تخدره بهارج المدنية الكاذبة، إنها لا تزال ترى الأشياء على حقيقتها. لا تزال بطبعها البكر طاهرة نقية قوية الإيمان عفيفة الأزار. . . . تستهول الجريمة الجنسية، وتستفظع الخيانة الزوجية، وترجف حتى من التفكير فيها، هكذا شعورها بفطرته، تعرف من غير معلم ولا مدرسة أنها خلقت لرجل واحد ليس إلا. رجل واحد يأخذ منها قلبها وجسمها، ويستغرق تفكيرها ووجودها. وتدفعها فطرتها إلى أن تكون له أبداً. أما إذا زلت قدمها، وجرفها التيار إلى الوحل مرة! فما الذي تفعله؟ تحاول بكل ما تستطيع من قوة أن تنسى. . . لأنها لو ذكرت ربما عاودتها مع الذكرى أشياء لا تحبها ولا تود التفكير فيها
ولما أشرفت على الجسر الذي ستنحدر منه إلى حيها راعها نباح الكلاب الشديد! إنها لم تنبح بمثل هذه الشدة مطلقاً؛ إنها تطارد في ظلام الليل أشباحاً مخيفة تروعها. وأحست بوخز الإبر في جسمها. أخذ جسمها يرتعش، ومع الرعشة برودة الثلج. فمالت إلى جدار(157/60)
قائم في الطريق واعتمدت عليه دقائق. ولما رجعت إليها بعض قوتها استأنفت سيرها، وتقدمت تسحب رجليها سحبا، وقد آب لها بعض حسها؛ على أن جسمها كان يشوكه مثل الشوك دائما. وأخذت عينها الترعة، وماؤها يتدافع ويجري. وقد تراقصت الصور في مخيلتها واختلطت. بعد خطوات ستصل المنزل وتلاقي زوجها. وحدقت في الماء وهو يجري متدفقا منطلقا كالسهم، لا شيء يقف في طريقه، يجرف معه دقيق الحصى والتراب، ويحمل على متنه خفيف الريش، لقد حملها التيار، إلى أين ذاهبة؟ إلى أين ذاهبة؟
ما الذي سيحدث لو علم زوجها؟ سيذبحها كما يذبح الفروج. ليس أيسر على الريفي من ذلك في سبيل عرضه وشرفه، وهو ثروته الباقية على الأيام. ماذا يحدث لو علم لداتها؟؛ ما الذي سيحدث لو علم أقرانها اللواتي تزهي عليهن بجمالها وتشمخ؟ سيمزقنها بألسنتهن، وستغدو حديثهن في كل سمر، ومتعتهن في كل مجلس. ما الذي سيحدث لو علم أهلها؟ أخوها أقوى شباب القرية سيدفنها حية كما دفنت ناعسة ومبروكة وعزيزة من فتيات القرية التي حامت حولهن الشبهات، وعفى عليهن الآن ذيل النسيان فلا يستطيع أحد أن يذكرهن لأن في الذكرى جريمة. . . حتى ذكراهن عند القروي جريمة
ونزلت من الجسر إلى الدرب الذي في نهايته منزلها، ومشت مستريحة إلى الظلام المتكاثف. كل ما توده الآن هو أن تسير في جوف الظلام متقية به أعين الناس. لقد مشت على الجسر راجفة مروعة تخاف أن يبصرها خفير الدرك، ولكنها الآن في جوف الظلام آمن وأسلم
وتقدمت في الدرب متخاذلة متثاقلة تحس الأرض تنشق تحتها، تصعد أكوام الرماد الملقاة عند أبواب المنازل وتهبط معها وهي تتصور أنها ترقي تل الصحراء. ولما بلغت باب البيت وقفت لحظات. . . ثم تجاسرت ودفعته
كان زوجها نائما على السطح فانتبه على حركة الباب، وصاح بصوت جاف:
(تأخرت يا جميلة. . .)
وكان صوت زوجها يرعد. أواه ظنته نائما فإذا بعينه ساهرة، فلم تجب، وغضت رأسها ووقفت في صحن البيت جامدة. ولو بصر بها زوجها لرأى أغرب صورة. ولم ينتظر جوابها فصمت، ثم قالت بعد مدة:(157/61)
(اسقي البقرة واعلفيها. . .)
ومضت فترة قصيرة سمع بعدهابكاء عالياً، فسأل بغضب وقسوة، فأسخف ما في نظر القروي بكاء امرأة:
(ما الذي جرى؟)
فلم ترد. . . وزاد نحيبها
(ما الذي جرى؟)
وأنتصب وأطل من صحن البيت
(ما الذي جرى؟)
(الجـ. . . الجر. . . الجرة. . . آه. . . أهئ. . .)
(كسرت؟)
(أجل. . . آه. . . أهئ)
(وهي تستحق كل هذا البكاء؟. . . . كفى!)
(آه. . . أهئ. . . آه. . .)
(كفى. . .) بصوت راعد
فحبست زفراتها وغيضت عبراتها ودفنت وجهها في حجرها ونام الزوج وغط!
زحف الأعمى إلى المسجد قبل الفجر، وهو متخاذل الجسم متسعر الجمجمة. وكانت قد ساورته في الليلة التي خلت حمى شديدة تصبب لها عرق يملأ القرب؛ وبات يتقلب على مثل الشوك ويود من فرط الحمى المتأججة في جسمه من يقذف به إلى اليم. بيد أنه تحامل على نفسه لما لاح النور ومشى إلى المسجد متوكئا على عصاه، فما من الأذان بد. أجل ما من الأذان بد! كيف يغفل عن أذان الفجر!
وصعد إلى سطح المسجد ووقف ناصباً قامته ماداً عنقه، ويده على الساعة يتحسس بها العقرب، حتى حان وقت الفجر فوضع يده عند أذنه وانطلق. . .!! ولكن ما هذا؟ ما الذي جرى؟ لقد اختنق صوته واحتبس، وأصبحت الحروف تخرج من حنجرته مصفرة عاوية عواء الذئب. ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ حاول مرة ثانية فأخفق، وتمهل لحظة؛ وحاول مرة ثالثة، فأخفق أيضاً؛ وهبط إلى صحن المسجد، وهو يهتز اهتزاز القصبة الجوفاء في(157/62)
مهب الريح العاصف، وتقدم حتى وقف على رأس رجل نائم
(يا شيخ علي. . . شيخ علي. .!)
(نعم. . .)
(قم أذن الفجر. . . فصوتي لا يطاوعني اليوم. . . أصابني البارحة برد شديد. . .)
وبارح المسجد قبل طلوع الشمس، وسار على الجسر حتى بلغ الحقول المجاورة. وكان قد نال منه التعب، وبلغ منه الجهد، فاستراح تحت شجرة من شجر السنط، وضربه هواء الصباح على إذنه فنام حتى القيلولة. وقام وقد حميت الشمس، وتوقدت الهاجرة، وانقلب الهواء راكداً خانقاً يلفح الوجوه بوهج السعير، واستوى على قدميه وأمسك بعصاه، واتجه إلى القرية، وكل شيء فيها ساكن وادع إلا الأطفال الذين لا يقيمون وزناً ولا يبالون بحر أو برد
(أحمد. . . سيد الأعمى!)
(صحيح؟. . .)
(والنبي. . .)
وتجمع الصبية على الجسر، ووقفوا صامتين وعلى شفاههم بسمات خفيفة، حتى جاوزهم الأعمى، وهو يسير سيره المألوف. ولما بعد عنهم قليلاً، رماه أصغرهم بحصاة استقرت عند صدغه. ما هذا؟ لقد أصابته للمرة الأولى أول رمية اصغر صبي! ما الذي جرى؟ وانهالوا عليه بعد ذلك يداً واحدة حتى مطروه وابلاً من الحصى والحجارة. فاستدار لهم الرجل وقد تميز غيظاً، ولوح بعصاه يهدد ويتوعد، فتفرقوا عنه وأستأنف سيره بعد برهة قليلة، واستأنفوا هم بدورهم حصاهم وحجارتهم. فما أقل الصبر عند الأطفال! وأصابه حجر في الجانب الأيسر من صدغه فشجه وسال الدم، وآلمه الجرح جداً حتى خرج به عن رشده، فدار على عقبيه وجرى وراء الصبية يضرب بعصاه يميناً وشمالاً، ولا يبالي أين تقع وتصيب، وهو مخبول تماماً، حتى أصابت ضربة قوية صبياً في رأسه فجرحته جرحاً بليغاً، ونزا دمه الأحمر فلطخ وجهه؛ وكان الكلب رابضاً على الجسر في ظل جدار لمنزل خرب، وعينه إلى المعركة التي حميت واشتدت، فقام ينفض جسمه نفض الليث، وتوثب وثبات جامحة، ثم دار دورات سريعة يقذف في خلالها الهواء بغبار رجليه، ثم انقض(157/63)
الرجل فمزق الجزء الأمامي من ثوبه! وطار به، والصبية يبصرون هذا ولا يكادون يصدقون، وشجعهم الكلب على معاودة الكرة على الرجل فانهالوا عليه، وقد حموا ونشطوا، يرجمونه بالحصى والحجارة، حتى انطلق الرجل يسابق الريح. وما زالوا يتبعونه حتى أجلوه عن القرية. ولما كلت سواعدهم رجعوا إلى القرية ضاحكين. وانطلق هو يجري كالمخبول لا يلوى على شيء
وبصر القرويون في صباح اليوم التالي وهم في الطريق إلى سوق (المركز) بجثة ملقاة على قارعة الطريق، فمنهم من قال إنها لسيد أعمى؛ ومنهم من أنكر ذلك
على أن الذي نحن على يقين منه أن الرجل لم يدخل مسجد القرية بعد ذلك أبداً
محمود البدوي(157/64)
البريد الأدبي
حول البناء الحر (الماسونية)
وجه إلى الأستاذ (ع) من دمشق على صفحات (الرسالة) كلمة يعلق فيها على عبارة لي وردت عرضاً في مقالي عن (البارون فون أوفنباخ) (الرسالة عدد 141) بشأن (البناء الحر) (الماسونية) وغاياته
وما قلته يومئذ من أن البناء الحر إنما هو حركة من حركات الخفاء العالمية وأنه يعمل منذ الأحقاب لغايات بعيدة المدى، لا تدركها المحافل الصغيرة، ولا المراتب الدنيا، خلاصتها هدم النظم والعقائد القائمة كلها، وإدماج الإنسانية في مجتمع عام حر التفكير تسوده المساواة الاجتماعية المطلقة، هو أرجح الآراء التي انتهى إليها البحث الحديث في شأن البناء الحر وغاياته
وقد ذهب بعض أكابر الباحثين إلى أن حركة البناء الحر ليست إلا وجهاً من وجوه (الثورة العالمية) التي تسعى لإحداثها حركات هدامة كالشيوعية وغيرها
وقد كان البناء الحر وراء معظم الحركات الثورية في العصر الأخير، ولا سيما في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وبلجيكا
بل ذهب بعض الباحثين، ومنهم المؤرخ الفرنسي الكبير أولار، إلى أن الثورة الفرنسية ربما لم تكن في جوهرها سوى مؤامرة دبرها البناء الحر، وحاول أن يصل بإضرامها إلى تحقيق غاياته
وكنت أود أن أزيد السائل الأديب بياناً، ولكن يحول دون ذلك اعتلال صحة وأهبة عاجلة للسفر إلى الأندلس
بيد أني أحيله على بحث مستفيض عن البناء الحر وتاريخه ونظمه وغاياته ووسائله نشرته منذ أعوام في كتابي (تاريخ الجمعيات السرية) (ص87 - 115)
م. ع. ع
كتاب عن برلين
ظهر في العهد الأخير نوع جديد من الأدب الوصفي هو دراسة العواصم الكبرى باعتبارها(157/65)
أكمل مظهر لمختلف الشعوب والأمم؛ وبلغ هذا الضرب الجديد من الأدب روعته على يد كتاب عظام مثل بول موران، الذي تعتبر كتبه عن لندن، ونيويورك، وبخارست من أبدع آثار الأدب المعاصر. وقد ظهر أخيراً كتاب من هذا النوع عن مدينة برلين بقلم الكاتب والمؤرخ المعروف هنري بيدو، وهو يصور لنا برلين كمارد فخم يجثم في وهاد براندنبورج وفيما بين الغابات والمستنقعات؛ وقد لوحظ كثيراً أن برلين ليست كباقي العواصم الأوربية الكبرى من حيث مناسبة موقعها وكونها تعبر عن مظهر لألمانيا الحقيقي فهي من حيث الموقع لا تضارع رومة التي تقع في وسط إيطاليا وتشرف على البحر الأبيض، وباريس التي تعتبر كأنها عجلة الإدارة الفرنسية، وموسكو التي تجتمع حولها موارد روسيا الشاسعة، ولندن ونيويورك وغيرها؛ ثم هي لا تعبر عن مظهر ألمانيا، أولاً لأن العنصر السلافي يغلب فيها فهي ليست مدينة ألمانية حقة مثل ميونيخ أو لايبزج أو فرنكفورت، وثانياً لأنها تبدو دائماً كأنها عاصمة مفروضة على ألمانيا، فرفضها آل هوهنزلرن رمزاً لقوة بروسيا، ثم فرضتها الظروف بعد ذلك؛ وحياتها الاجتماعية كمدينة عظيمة تكاد تكون معدومة ذلك لأنها تبدو دائماً كمعسكر، تغلب عليه المظاهر الآلية والخشنة، فالحياة المعنوية والاجتماعية فيها راكدة لا تروق الأذهان الحساسة الرفيعة. ولقد كانت ألمانيا تقدر منذ بعيد أن برلين الحديثة سيبلغ سكانها في فترة وجيزة 12 مليوناً من الأنفس، ولكن برلين لم تبلغ مع الجهد ثلث هذا الرقم، وهو دليل آخر على ركودها المعنوي والمادي
هذه هي الصورة التي يقدمها إلينا هنري بيدو عن العاصمة الألمانية، وهي صورة لا تغبط عليها مثل هذه العاصمة الكبرى
جورج دوهامل عضو الأكاديمية
وأخيراً انتظم جورج دوهامل بين أعضاء الأكاديمية الفرنسية وأصبح من الخالدين. وجورج دوهامل كاتب من أعظم كتاب فرنسا المعاصرين، وكاتب اجتماعي وأنساني قبل كل شيء؛ وقد اشتهر بعدة من آثاره القيمة وبالأخص بكتابين هما (حياة الشهداء) و (اعتراف منتصف الليل)
وزار دوهامل مصر أكثر من مرة، في شتاء سنة 1929 وفي صيف سنة 1934؛ ولم(157/66)
يكتب دوهامل عن مصر ولم يصفها كما يفعل زملاءه الذين يزرونها؛ ولكن يؤثر عنه بأنه وصف مصر بأنها (الأرض التي يسود فيها منذ الآماد عشق الحياة الأخرى) وقد تأثر دوهامل أيما تأثير مما رأى من آثار الفراعنة التي تتجسم فيها فكرة الخلود والأبدية
ودوهامل يكتب بأسلوب رائع وبيان قوي؛ وتطبع كتاباته كلها نزعة إلى الإنسانية وإلى التسامح العام
ولم يكن دوهامل يوما من الساعين إلى الدخول في الأكاديمية ولكنه حينما رشح وأنتخب لهذا الكرسي الرفيع لم يسعه إلا أن يتبوأه مغتبطا
بعثة جديدة إلى الأرض الخضراء
سافرت أخيراً إلى الأرض الخضراء (جرينلند) بعثة علمية فرنسية، لتقوم بقطع هذه الجزيرة القطبية الشاسعة من الغرب إلى الشرق؛ وهي مؤلفة من الدكتور جيسان، وميشيل بيريه، والكونت كوند، ورئيسها بول أميل فكتور. ومن أهم أغراض البعثة أن تقوم بإسعاف السكان الذين يقطنون هذه الصحاري الثلجية والذين تفتك بهم (الأنفلونزا) في الوقت الحاضر فتكا ذريعاً
وقد سبق لرئيس هذه البعثة، وهو بول فكتور أن قام برحلة كبيرة إلى الأرض الخضراء، وسلخ عاما في مدينة انجمسالك في شرقي الجزيرة، وهو يعيش عيشة أهلها الصيادين ويقلدهم في جميع عاداتهم وأحوالهم الخشنة
وقد حالت تلال الثلوج دون سير السفينة (بوركوا) القطبية، فاضطرت البعثة أن تحاول الوصول إلى أنجمسالك من طريق اليابسة
ومن أغراض البعثة العلمية أن تقوم بتحقيق ملاحظات العلامة المكتشف فنجر الذي قام سنة 1930 بسبر غور أعماق الطبقة الثلجية التي تغطي الجزيرة كلها، وإن تكرر تجاربه من نسف الثلوج بالديناميت، وقياس سرعة تغلغل الديناميت ليستدل بها على الأغوار؛ وقد ثبت من تجارب العلامة فنجر أن أعماق الطبقة الثلجية تتراوح بين 2000 و 2700 متر؛ وتنوي البعثة أيضاً أن تقوم ببعض دراسات أقليمية، وأن تدرس طبائع السكان وأحوالهم الجنسية
رحلة إلى الأندلس(157/67)
اعتزم صديقنا الكاتب المؤرخ الأستاذ محمد عبد الله عنان أن يقوم هذا الصيف برحلة جامعة إلى إسبانيا، يدرس خلالها جميع المراجع والمخطوطات العربية في مكاتب الأسكوريال ومدريد وغرناطة ودير ساكرومونتي، وجميع الآثار والنقوش العربية في مختلف المتاحف الإسبانية؛ ويتجول في ربوع الأندلس وقواعدها القديمة مثل طليطلة وقرطبة واشبيلية وغرناطة ومالقة وبلنسية وغيرها؛ فيشاهد ما بها من الآثار العربية، ويدرس في الطبيعة معالم الوقائع والأحداث التاريخية الشهيرة
ويقوم الأستاذ بهذه الدراسة استكمالاً لمواد كتابه الذي يضعه عن تاريخ الأندلس، والذي توفر منذ أعوام على وضع منهجه وإعداد مواده
بناة العالم لاشتيفان زفايج
نعرف أن للكاتب النمسوي الكبير اشتيفان زفايج عدة دراسات نقدية هامة عن طائفة من أقطاب التفكير والكتابة، صدرت من قبل تحت عناوين مختلفة، فمثلاً صدرت الدراسات الخاصة ببلزاك ودكنز ودستوديفسكي تحت عنوان (الأساتذة الثلاثة)، وصدرت تراجم هلدرلن وكلايست ونيتشه تحت عنوان (النضال مع الشيطان)، وكازانوفا وشتندال وتولستوي تحت عنوان (شعراء ثلاثة لحياتهم)
وقد صدرت أخيراً طبعة ألمانيا جامعة لهذه الدراسات الشهيرة تحت عنوان جديد هو (بناة العالم) - وصدرت عن مطبعة ريختر النمسوية الشهيرة في ثوب أنيق جداً
والمعروف أيضاً أن هناك تراجم فرنسية وإنكليزية لهذه الدراسات القيمة ظهرت متفرقة ومجتمعة
ويقيم اشتيفان زفايج معظم شهور السنة في مدينة سالزبورج الشهيرة بفنونها الموسيقية والغنائية، ويقضي باقي الوقت في مدينة فينا
رحلات أفريقية
صدر أخيراً بالإنكليزية سفر من أسفار الرحلات الممتعة عنوانه (فجر الاستواء) بقلم الكاتبة والرحالة الإنكليزية الشهيرة السيدة دروثي أونا راتكليف (أو مسز ماك كريجور فلبس)، والسيدة راتكليف شاعرة غنائية رقيقة ولها ديوان شعر ممتع تترنم فيه بمحاسن(157/68)
موطنها ومهد طفولتها (يوركشير). وهي رحالة كثيرة الأسفار، تجولت كثيراً في قلب أفريقية، وفي أعماق وهادها وغاباتها؛ وقد أصدرت من قبل كتاباً عن بعض رحلاتها الأفريقية عنوانه (صيف في جنوب أفريقية) وفي كتابها الحالي تصف رحلاتها برفقة زوجها وجماعة من الأصدقاء الرحل في كنيا وأوغندا وتنجانيقا، والكونغو، والسودان والنوبة؛ وقد كانت غاية هذه الجماعة المخاطرة أن تقوم باقتناص الوحوش الضارية في أعماق الغابات والوهاد الخطرة، وأن تصور مناظر الصيد تصويراً طبيعياً دقيقاً، وأن تدرس طبائع الوحوش وحياتها من الوجهة العلمية. وقد استطاعت البعثة أن تصور مناظر الوحوش من آساد وفيلة وسباع البحر، والطيور تصويراً بديعاً؛ واستطاعت أيضاً أن تجوس خلال القبائل الزنجية العارية وأن تدرس أحوالها وطباعها. وقد لقيت السيدة راتكليف ورفاقها كثيراً من المخاطرات والحوادث المشجية والفكهة معاً، فدونتها كما وقعت بأسلوب ساحر. وفي الكونغو استطاعت البعثة أن تقوم بالصيد والدرس في (بستان الكونغو) وهو أعظم حظيرة لصيد الضواري في العالم وتشرف عليه سلطات الكونغو البلجيكية؛ وتصف المؤلفة إدارة الكونغو البلجيكية، وتصف حياة السكان، والبعثات الدينية والمهاجرين القلائل في حياتهم الساذجة الشاقة، وتصف لنا التماسيح المقدسة في بحيرة فكتوريا، وما حول هذه الوهاد من المناظر الطبيعية الرائعة، وما يعمرها من عالم الحيوان والإنسان. والخلاصة أنها تقدم إلينا صوراً حية بديعة من الحياة الأفريقية في أروع وأعجب أشكالها، وكتابها ممتع خلاب، يعتبر بمحتوياته وأسلوبه من كتب الرحلات الرفيعة
تدريب الكلاب على السير
يبدي الإنكليز عناية كبيرة بالحيوان ورفاهته والمحافظة على حياته؛ ومن ذلك الكلاب؛ فإنها تلقي كثيراً من الرفق والعناية وقد لوحظ أخيراً في إنكلترا أن عدداً عظيماً من الكلاب يقتل كل عام بسبب حوادث السيارات وغيرها في الطرق العامة، فارتفعت الأصوات بوجوب العمل على حماية هذه الحيوانات، وقضت المحاكم في كثير من القضايا التي رفعها أصحاب الكلاب المقتولة على أصحاب السيارات بتعويضات كبيرة؛ وأخيراً رؤى أيضاً أن التعويض لا يكفي لتعزية أصحاب الكلاب العزيزة، فرؤى تقليلاً للخطر أن تدرب الكلاب نفسها على السير في الطرق العامة كما يدرب الأشخاص(157/69)
وقد أجريت أخيراً تجارب عديدة في هذا الباب، وقام نادي (تيل واجرز) بدعوة واسعة النطاق لتدريب الكلاب وتعويدها الطاعة وفهم الإشارات المختلفة؛ وأسفرت التجارب التي أجريت على بعض الكلاب بدفعها في الطرق وأمرها بالسير في اتجاهات وأوضاع معينة عن نتائج حسنة، وأمكن لهذه الكلاب أن تتجنب كثيراً من السيارات والعربات الثقيلة في مآزق حرجة(157/70)
من هنا ومن هناك
دانتي والكوميدية الإلهية
حينما بعثت رسالة الغفران لشاعرنا العظيم أبي العلاء كثر الجدل بين الأدباء حول الأصل الذي استقى منه دانتي ألليجيري صوره الرائعة التي حشدها في كوميديته، وكاد الجميع يجزمون أن ذلك الأصل هو رسالة الغفران، وأيدهم في ذلك مستشرقون كثيرون حتى كادت المسألة تعتبر مفروغاً منها وأن دانتي إن هو إلا عالة على أبي العلاء. . . ثم قام أديب مسيحي فاضل فنقل الموضوع إلى ميدان آخر إذ حاول أن يثبت أن دانتي لم يقلد أبا العلاء وإنما هو قلد (رؤيا يوحنا اللاهوتي) الواردة بالإنجيل.
وقد يكون هؤلاء وهؤلاء على شيء من الحق فيما ذهبوا إليه من رأي، وان كنا نحن لا نميل كثيراً إلى رأي أصحاب أبي العلاء - لأننا برغم براهينهم الكثيرة التي أدلوا بها - نشك في سرعة تنقل الثقافة العربية من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى وسطه وغربه بهذا القدر الذي يبالغون في وصفه لا سيما في أسود فترات العصور الوسطى: ثم نحن لا نرى كبير شبه بين آل في كوميدية دانتي وبين جحيم أبي العلاء، ويكاد هذا الشبه ينعدم فيما يتعلق دانتي والبعث في أبي العلاء. . . أما دانتي فهي شيء وفردوس أبي العلاء شيء آخر. . . ونحن نعترف أن ثقافة العرب كانت تجرف أوروبا خصوصاً من جهة الأندلس ثم من جهة صقلية، ولكن الذي نشك فيه هو انتقال أدب أبي العلاء إلى إيطاليا لدرجة أن يؤثر في أدبائها إلى هذا الحد وفي زمنه كانت طرق المواصلات محفوفة فيه بأكبر المخاطر، ذلك إلى غلاء وسائل الثقافة حينئذ وأهمها الكتب التي كانت تكتب كلها باليد، ونحن نرجح أن دانتي تأثر إلى حد بعيد بالمصادر الدينية (وأهمها الإنجيل والقرآن) والمصادر اليونانية وأهمها (الإلياذة والأوديسة) ثم بملحمة مواطنه العظيم (فرجيل) الأنييد
فمن رؤيا يوحنا اللاهوتي ومن الأوصاف البارعة للجحيم وطبقاتها وصنوف المجرمين الواردين عليها المذكورة في كثير من سور القرآن قد اقتبس دانتي خياله الذي نسق به جحيمه ولا ننس أن احتكاك أوروبا بالمسلمين في الحروب الصليبية كان يغشى الثقافة الإسلامية في هذه الفترة أوانئذ، وخير ألوان هذه الثقافة ما في كتاب الله، أما تأثره بالإلياذة والأوديسة والأنيد فهو أقوى وأظهر، وقد درسنا هذه الملاحم جميعاً وأنعمنا النظر في ألـ(157/71)
فكان يدهشنا أن يترسم دانتي خطى الشاعرين الخالدين هوميروس وفرجيل ويأخذ عنهما كل ما ورد في الأساطير القديمة من أوصاف (هيز) وما يحيط بها من أنهار تفوح بالحمم وما تعج به من سعالي وثعابين وسنتورات وتنانين. . . وكان دانتي يمزج في كوميديته ألواناً من الفكر اليوناني لا تخفى على الملم بأدب الإغريق. أما في المطهر والفردوس فما نحسب أن دانتي كان مقتدياً بلون ما من أدب السلف، ولعل ذلك هو السبب في فتور هذين الجزءين من الكوميدية
هذه كلمة خاطفة نؤثر عليها فصلاً طويلاً نقارن فيه بين هؤلاء الشعراء الخالدين
روجر بيكون (1210 - 1293)
من أحسن الكتب التي ألفت عن العصور الوسطى كتاب الأستاذ العلامة هنري أُسبرن تايلور بل لعل هذا الكتاب هو أحسنها جميعاً. وقد لا نجد مؤلفاً محققاً مثل تايلور انصف الرجل المفكر المسكين روجر بيكون الذي يعتبر أول رائد من رواد الحضارة الحديثة التي ننعم بها، والتي تتضاءل بجانبها أزهى الحضارات القديمة. وأغرب ما يروق القارئ من روجر بيكون أنه لم يكن يعيش في العصر الذي وجد فيه، بل هو كان لذلك العصر بجسمه وآلامه فقط، أما بروحه وعقله فقد كان يعيش معنا ويفكر تفكيرنا، ويشغله من مستقبل الإنسانية ما يشغلنا. ولقد كان بيكون عدواً لدوداً لمعسكرين يعتبر كل منهما نقيض الآخر. . كان عدواً للكنيسة التي تفرض سلطانها وتزمتها على العقول فرضاً، وكان يوصي الناس ويحضهم على عدم الخضوع لغيرها والتحلل من ربقتها في تفكيرهم، ومن هنا ما لقيه بيكون من السجن والنفي والتشريد وألوان العذاب التي تتحيفه من حين إلى آخر. . ثم هو كان عدواً لآرسطو وفلسفته: (التي كانت كتبها في نظره جديرة بالتحريق لأنها مضيعة للزمن، وتحصيل للخطأ، وتكثيف للجهل!) وربما كان روجر معذوراً في هذه النظرة السوداء إلى آرسطو الذي كانت كل تراجمه خطأ في خطأ في تلك العصور؛ ولكن روجر بيكون كان يرى في فلسفة آرسطو شقشقة طويلة لا تؤدي الثمرة المشتهاة التي كان ينشدها هو في العلوم عن طريق التجربة، ومن هنا أيضاً حبه العظيم وإعجابه الذي لا يحد بالعرب وبالثقافة العربية في الطب والكيمياء، وعلم الأقرباذين وعلم المعادن؛ وربما كانت عداوته لأرسطو نتيجة انكبابه على دراسة العلوم العربية التي كان المعمل وحده ميدانها(157/72)
والمضحك أن الكنيسة، ومن ورائها الشعب الساذج الذي لا عقل له، كانت تعتبر بيكون دجالاً مشعوذاً يجيد صنوفاً كثيرة من السحر. وكان الجميع يعدونه مجنوناً حين كان يتنبأ عن إمكان صنع سفينة تسير بالبخار (بدون شراع أو مجاديف) أو قاطرة أو سيارة (لا يجرها حصان أو زوج من الثيران) أو طائرة (ترتفع في الجو بجناحين من المعدن يضربان الهواء كما يصنع الطائر). . .
توماس مور وكتب الطوبى
ليس شك في أن سير توماس مور هو خالق إنجلترا الحديثة، لأنه بطل نهضتها في العصور الوسطى، وقد ولد قبل شاكسبير بمائة سنة تقريباً، وكان صديق إرزم الأديب الهولندي الكبير، وبطل النهضة في الأراضي المنخفضة. ويقولون إن توماس مور هو أول إنجليزي تعلم اللغة الإغريقية وقرأ فيها آدابها، ومن هنا تأثره العظيم بأفلاطون وتأليفه كتابه القيم الجميل (طوبى على نسق (جمهورية أفلاطون) وقد كتب مور طوباه باللاتينية لغة العلوم والمعارف في العصور الوسطى وطبعت للمرة الأولى في لوفين (1516) ثم طبعت في باريس (1517) وفي بازل (1518) ولم تترجم إلى الإنجليزية إلا سنة 1551 بواسطة الأديب الكبير رالف روبنسون
ومما لا ريب فيه أن اكتشاف أمريكا كان أهم الأسباب التي أوحت إلى مور تأليف طوباه، فقد أذكره هذا الحادث حلم أفلاطون بالمدينة الفاضلة، وتصور أن الأوان قد آن لتحقيق هذا الحلم، وخال شعباً من خيرة أهل الدنيا القديمة يبحر إلى أمريكا فيعيش في رغد وبلهنية، لا يعرف أدواء الإنسانية التي فتكت بها في هذا العالم القديم. وقد دعا مور في طوباه إلى احتقار القوة وأعمال العنف، وبشر بمحبة ومؤاخاة يسودان العالم، وعاطفة خير توجه مصائر الناس. وعندنا أن مور بكتابه الجميل قد سبق مواطنه هـ. ج. ولز - الذي ألف هو الآخر طوبى جديدة - إلى الدعوة إلى العالمية والإيمان بالبشرية والتهوين من قيمة الوطنية، وأن يجعل الناس هذا الكوكب الأرضي الجميل وطنهم الأكبر فلا يلطخوه بالدماء
وقد كان فرنسيس بيكون معجباً إلى أبعد حدود الإعجاب بتوماس مور، وقد نسج على منواله فألف كتابه (أتلانتيس الجديدة) على منهاج طوباه، وكتب مثله في اللغة اللاتينية
ولقد وقف مور في محنة الكنيسة الإنجليزية في عهد هنري الثامن موقفاً حازماً كلفه حياته؛(157/73)
فخسرت إنجلترا فيه أديباً كان يساوي عشرة ملوك من ملوك هذا الزمن
بعض الكتب
سألنا قارئ فاضل عن أسماء بعض الكتب التي ورد ذكرها في هذا الباب بالإنجليزية لولز وبرتن راسكو وقد أجبناه بالبريد، وسنجتهد في إثبات الأسماء الإفرنجية كلما أمكن ذلك لتتم الفائدة
د. خ(157/74)
الكتب
الرحيل - رجل
تأليف محمود البدوي
للأستاذ محمد علي غريب
القصة المصرية عندنا ما تزال في مهدها اليوم، وأكبر الظن أنها سوف تبقى في لفافات الطفولة إلى مدى طويل، وأن يفقد الأدب العربي عندنا هذه الثروة الضخمة التي انحصرت في القصة ومنحت الآداب الغربية ما لها اليوم من تفوق ونجاح
وقل أن تقع في يدي قصة مصرية فأهوى بأوراقها إلى الطاهي ليصنع منها أغطية لزجاجاته الكثيرة، فما وجدت من هذه القصص السخيفة إلا كل سخف وسماجة وموضوع يمسك هذا بطرفه وذاك بالطرف الآخر منه ثم يتنازعان نهايته. . فتاة فقيرة أو غنية، يعشقها أو تعشق هي شاباً فقيراً أو غنياً، على شرط أن لا يكون أحدهما كفؤاً للآخر في الثروة؛ وبعد دموع كثيرة وزفرات تدير الطواحين تنتحر الفتاة أو ينتحر الشاب أو ينتحران معاً. . طبقاً لرغبة المؤلف وميله إلى أحد البطلين
ذلك رأيي. . . ومنذ شهور أهدى إليّ صديقي الأديب الفاضل الأستاذ محمود البدوي قصته (الرحيل) فتركتها معه ريثما آخذ نفسي بأن تدع محاباة الصديق في تلك الهدية، وقرأتها؛ وبعد ذلك أهدى إليّ قصته (رجل) فقرأتها، ولأول مرة يندب الطاهي حفظ زجاجاته
لست أثني على صديقي لأن بيني وبينه هذه الصلة، فأن من الخير لي وله أن أجاهره بالرأي الصريح ولو كان به ما يؤلمه، فأنني أعرف فيه حسن تقبله للنقد؛ ولم تصلح الصداقة يوماً ما رشوة بين صديقين يحب كلاهما صاحبه ويخلص له. فالواقع أن هذين الكتابين اللذين أخرجهما الأستاذ البدوي لقراء العربية من خير المحاولات المفيدة الناجحة في سبيل بعث القصة المصرية ووجودها
في قصة الرحيل ترى يد شاب امتلأ صدره بشتى العواطف والنزعات، ترسم على الورق بعض ما يروح عنها. . إنه شاب نشأ في البيئة الخانقة المزعجة، فلما بهرته أضواء المدينة ورأى فيها حيلته عاجزة كليلة راح يستصغر نفسه دونها ويحاول أن يخفي ارتباكه(157/75)
بإطلاق العنان لهذه الجياد الجامحة في نفسه؛ فهو طوراً يمجد الجمال ويتفهم الحب، وطوراً ينزع إلى الرغبة في التحرر من كل قيد، وطوراً تعود به نفسه إلى طبيعته الأولى فيستهويه صوت المؤذن ويخشع قلبه للدين وتعاليمه
وأنت إذا قرأت هذه القصة على هذا النحو أمكنك بسهولة أن تدرك لماذا لم يحتفل المؤلف بأسلوبه، وكيف جاءت ألفاظه مكررة في بعض المواضع، ولأي شيء التجأ إلى الغموض والإبهام في عباراته
إنه يرسم صورة من نفسه، ونفسه ترسف في أغلال قوية وتحاول الخروج منها، فإذا عجزت عن المحاولة ترنمت بالإيمان، وإذا نجحت في التنفيس عن كرباتها فرحت بهذه الأضواء الباهرة التي يجد فيها حياته كلها وجميع أمانيه. . .
أما قصته (رجل. . .) وقصصه الصغيرة الأخرى، فعلى هذا الطراز الفخم من الدقة والقوة والمتانة. . قصص يمكنك أن تقول عنها إنها من أقوى القصص المصرية الناجحة، دون أن يضطرب ضميرك، أو تنزعج نفسك، ومن بينها قصة (الأعمى). إنها صورة صادقة من أبلغ ما كتب الأدباء المصريون، وقد امتزج فيها الفن بالواقع، فترى أمامك مزيجاً منهما يلزمك أن تعاود قراءتها
ولست في الواقع أريد أن أتحدث كثيراً عن هذه الباكورة الشهية التي تفتحت عنها جهود شاب أديب، وكان خيراً لي وله أن أصبر طويلاً حتى أستوعب هذه القصص وأكتب عنها طويلاً، ولكننا في هذه الأيام نحتاج إلى السرعة والتعجل حتى لا نفقد الفرصة المناسبة، ولهذا كتبت تلك الكلمة الصغيرة على الرغم مني
والذي ألاحظه كثيرا في هذه القصص أن ناقدها لا يستطيع أن يسبر غورها مهما حاول ذلك. . . أترى لأن كاتبها لجأ إلى الغموض كما أوضحت، أم لأنها قصص كتب بعضها عن شخص مؤلفها، فما دام هو يفهم رموزها ويستشف غامضها كان على قرائه أن يقنعوا من الرموز والغموض بما وصلت إليه أفهامهم؟
لست أدري. . ومع ذلك فهذه القصص اللطيفة صغيرة الحجم وثمنها زهيد، وما على القارئ إلا أن يقتنيها ليرى كيف يبدأ شاب أديب فجر حياته الأدبية؛ وإذا كانت هذه هي بدايته المباركة فماذا عسى أن يكون بعد سنوات؟(157/76)
سوف يكون دون مبالغة من طراز انطون تشيكوف
محمد علي غريب(157/77)
الثورة الوهابية
تأليف: عبد الله القصيمي
(140) صفحة - طبع مصر
هذا الكتاب شرح لمبادئ الدعوة السلفية، وعرض لتاريخها وتاريخ رجالها. افتتحه المؤلف بفصل تحليلي عن الثورة وطبيعتها وأقسامها، والمفاضلة بين الثورات السياسية والثورات الدينية، كالثورة الوهابية (المؤسسة على أسمى المعاني الإنسانية الخلقية المنتزعة من رسالة جبريل سيد الملائكة إلى محمد سيد البشر). ووازن بينها وبين الثورة الفرنسية، وبحث عما أسدت ثورة فرنسا الإنسانية المسكينة من إخاء وحرية ومساواة، وأحال في الجواب على سوريا ومراكش والجزائر!. . .
ثم تكلم المؤلف عن منشأ هذه الدعوة وتاريخها وسيرة صاحبها، وتكلم عن أهم ما دعا إليه وما أنكر عليه، وبين أن، أول مقومات هذه الدعوة (أستغفر الله بل أول مقومات الإسلام) منع دعاء غير الله - كدعاء الأموات - مهما كانت نية الداعي ومهما كان مقام المدعو، ومنع الاستغاثة بغير الله والاستعاذة به، ثم منع الابتداع في الدين منعاً باتاً لا هوادة فيه ولا استثناء، سواء في ذلك الأدعية الفاسدة والأذكار التي لم ترد عن صاحب الشريعة، والشطح والرقص في الذكر والطرق المبتدعة وما إلى ذلك - ثم الإيمان بما جاء في الكتاب والسنة من أن الله تعالى مستو على العرش استواء يليق به، لا كما يستوي المخلوق، وكذلك الإيمان باليد والساق من غير تعطيل ولا تشبيه، ثم إقامة الحدود الشرعية، وهذه منقبة لو لم يكن للحجاز غيرها لكفى. وهل تماثل حكومة تقيم حدود الله على الزاني وشارب الخمر، بحكومات إسلامية تجيز الزنا وشرب الخمر وتفتح لهما البيوت والحانات وتحمي أصحابها ومن يعكف عليهما؟. ثم أن للمسلم أن يتفهم كتاب الله ويتدبره، وألا يدع حكم الله وحكم رسوله لقول إنسان ما، وكل هذا حسن بشرط ألا يفهم منه العامي بأن له الاجتهاد، وله أن يدع حكم مذهبه إذا سمع حديثاً صحيحاً قد يكون منسوخاً بحديث أصح منه، بل عليه أن يتتبع أحكام المذهب إلى أن يرزقه الله من الإطلاع على كلام العرب وسننها ما يفهم به كتاب الله وسنة رسوله على وجهما، ومن معرفة الأصول ما يعلم به إستنباط الأحكام ويعرف الناسخ والمنسوخ؛ وكما أن القول بسد باب الاجتهاد(157/78)
سخف، فكذلك القول بفتحه للناس كلهم بلا تفريق بين عاميّ ومتعلم
هذا وقد طال بي نفس القول ولم أصف من الكتاب إلا جزءاً قليلاً، ولا أجد بداً من أن أقطع الكلام وأحيل القارئ على هذا الكتاب القيم ليقرأه بنفسه فليس يغني عن قراءته وصفي، وإذا كان لي أن أختم هذه الكلمة برجاء أرفعه إلى جلالة الملك عبد العزيز بن سعود فهو أني أرجوه أن يولي هذا الأستاذ الجليل شيئاً من العناية. ويأخذ بيده على ما هو فيه من خدمة الإسلام والدفاع عن السلفية - وأن يشجع أمثاله - وقليل ما هم - على سلوك هذا السراط المستقيم. وأني أرجو لجلالة الملك التوفيق والهداية وللأستاذ المؤلف النجاح والأجر
(دمشق)
(ع)(157/79)
العدد 158 - بتاريخ: 13 - 07 - 1936(/)
لَوْ!. . . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
رأيتُني جالساً في مسرح هزلي بمدينة الإسكندرية كما يجلس القاضي في جريمة يحمل أهلها بين يديه آثامهم وأعمالهم ويحمل هو عقله وحُكمه. وقد ذهبت لأرى كيف يتساخفُ أهلُ هذه الصناعة فكان حكمي أن السخافة عندنا سخيفةٌ جداُ. . . .
رأيتهم هناك ينقدون العيوب بما يُنشئ عيوباً جديدة، ويسبحون بأيديهم سباحة ماهرة ولكن على الأرض لا في البحر، وتكاد نظرتهم إلى الحقيقة الهزلية تكون عمىً ظاهراً عما هي به حقيقة هزلية؛ ولا غاية لهم من هذا التمثيل إلا الرقاعة والإسفاف والخلط والهذيان، إذ كان هذا هو الأشبه بجمهورهم الذي يحضرهم، وكان هو الأقرب إلى تلك الطباع العامية البليدة التي اعتادت من تكلف الهزل ما جعلها هي في ذات نفسها هزلاً يسخر منه
ولا أسخف من تكلف النكتة الباردة قد خلت من المعنى، لا تكلفُ الضحك المصنوع يأتي في عقبها كالبرهان على أن في هذه النكتة معنى
فالفن المضحك عند هؤلاء إنما هو السخفُ الذي يوافقون به الروح العامية الضئيلة الكاذبة المكذوبَ عليها التي يبلغ من بلاهتها أحياناً أن تضحك للنكتة قبل إلقائها، لفرط خفتها ورعونتها، وطولِ ما تكلفت واعتادت. فما ذلك الفن إلا ما ترى من التخليط في الألفاظ، والتضريب بين المعاني، وإيقاع الغلط في المعقولات؛ ثُم لا ثُم بعد هذا. فلا دقة في التأليف، ولا عمق في الفكرة، ولا سياسة في جمع النقائض، ولا نفاذ في أسرار النفس، ولا جدّ يؤخذ من هزلية الحياة، ولا عظمة تستخرج من صغائرها، ولا فلسفة تعرف من حماقاتها
والفرق بعيد بين ضحكٍ هو صناعة ذهنٍ لتحريك النفس وشحذ الطبع وتصوير الحقيقة صورة أخرى، وبين ضحك هو صناعة البلاهة للهو والعبث والمجانة لا غير
وكان معي قريب من أذكياء الطلبة المتخصصين للآداب الإنجليزية، فلم نلبث غير قليل حتى جاء ثلاثة من ضباط الأسطول الإنجليزي فجلسوا بحذائنا صفاً تلوح عليهم مخايل الظفر، ولهم وقار البطولة، وفيهم أرواح الحرب. وهم يبدون في ثيابهم البيض المطَرَّاة كأنهم ثلاثةُ نسور هبطت من الغمام إلى الأرض، فلأعينها نظرات تدور هنا وهناك تنكر(158/1)
وتعرف
وأعجبني أن أراهم في هذا المكان الهزلي الممتلئ بالضعفاء، كأنهم ثلاثُ حقائق بين الأغلاط، أو ثلاث أغلاط كبيرة. . .
وكان أبدع ما أراه على هيئة وجوههم وأسرُّ له تواضع هذا الاستعداد الحربي وتحوله إلى استعداد للسخرية. . .
ثم تأملتهم طويلاً فإذا صرامة وشهامة وسكينة ووداعة وحُسن سَمْتٍ وحلاوة هيئة في جلسة رزينة متوقرّة، لا يشبهها في حسّ النفس التي تعرف معاني القوة إلا وضع ثلاثة مدافع مصوبة
وجعلت أقلب عيني في الناس الموجودين وملامحهم وهيئاتهم ثم أرجع البصر إلى هؤلاء الثلاثة، فأرى المصريَّ كالمقتنع بأنه محدودٌ بمدينة أو قرية لا يعرف لنفسه مكاناً في غيرهما، فهو من ثم لا يرحل ولا يغامر ولا تَتَقاذفه الدنيا؛ وأرى الإنجليز كالمقتنع بأن كل مكان في العالم ينتظر الإنجليز. . . .
وخيل إلي والله أن رجلاً من هؤلاء الإنجليز الأقوياء المعتدين بأنفسهم لا يهاجر من بلاده إلا ومعه نفسه واستقلاله وتاريخه وروح دولته وطبيعة أرضه، فهو مستيقن أن الله لا يرزقه رزقاً أيَّ الرزق كان على ما يتفق، بل رزقاً إنجليزياً: أي فيه كفايته
ورأيت شيئاً عجيباً من الفرق بين طابع السلم على وجوه، وبين طابع الحرب على وجوه أخرى؛ ففي تلك معاني السهولة والملاينة والحرص على مادة الحياة، وفي هذه معاني العزم والمقاومة والحرص على مجد الحياة لا على مادتها
وتبيَّنتُ أسلوبين من الأساليب الاجتماعية: أحدهما في فرد قد بنى أمرهُ على أن أُمةً تحمله فهو يعيش بأضعف ما فيه، والآخر في فرد قد وضع الأمر على انه هو يحمل أمةً فلا يدع في نفسه قوة إلا ضاعفها
وعرفت وجهين من وجوه التربية السياسية: أحدهما بالطنطنة والتهويل والصراخ واستعارة ألفاظ غير الواقع للواقع وتحميل الألفاظ غير ما تحمل، والآخر بالهدوء الذي يقهر الحوادث والصبر الذي يغلب الزمن والعقيدة التي تفرض أعمالها العظيمة على صاحبها وتجعل أعظم أجره عليها أن يقوم بها(158/2)
وميَّزت بين أثرين من آثار الأرض في أهلها: أحدهما في المصري السَّمحْ الوادع الألوف الحي الذي هو كَرمُ الطبيعة، والآخر في الإنجليزي العسر المغامر النَّفور الملحّ على الدنيا كأنه تطفّل الطبيعة. . . .
وألقى ابن العم الذي كان معي سَمعه إلى هؤلاء الضباط وهم من فلاسفة الرأي على ما يظهر من حديثهم، ثم نقل إلي عنهم، فقال كبيرهم: لقد فرغت من بحثي الذي وضعته في فلسفة خمول الشرقيين أفضيتُ منه إلى حقائق عجيبة أظهرها وأخفاها معاً أن أُمةً من هذه الأمم لا يُمكَّن للأجنبي فيها ولا تثقل وطأتهُ عليهم ولا يطول ثواؤهُ في أرضهم ولا يحتلها من يطمع فيها، ما لم يكن سادتها وأمراؤها وكبراؤها كأنهم فيها دولة محتلة
وهؤلاء الكبراء هم آفة الشرق؛ فمن أعظم واجباتنا أن نزيد في تعظيمهم، وأن نمد لهم في المال والجاه، ونبسط لهم اليمين والشمال، ونوهمهم أن عظمتهم هكذا ولدت فيهم وهكذا ولدوا بها من أمهاتهم كما ولدوا بأيديهم وأرجلهم. . . وخاصة عظماء رجال الأديان المفتونين بالدنيا؛ فإننا نصنع بغرور الجميع وسخافاتهم وحرصهم وطمعهم أشياء اجتماعية ذات خطر لا يصنع لنا مثلها إلا الشياطين. ومن لنا بالحكم على الشياطين؟ وهذا ما تنبه له غاندي ذلك المهزول الهندي الذي تُقوَّم دنياه بأربعة شلنات، ولا يزن أكثر من بضعة أرطال من الجلد والعظم، ولا بطش عنده ولا قوة فيه، وهو مع ذلك جبار سماوي في يده البرق والرعد يُرى ويُسمع في أرجاء الدنيا
قال ضابط اليمين: وبصناعة الكبراء هذه الصناعة يكون رجلُ الشعب من هؤلاء الشرقيين رجل تقليد بالطبيعة، ورجل ذل بالحالة، ورجل خضوع بالجملة؛ فليس في نفسه أنه سيد نفسه ولا سيدُ غيره، بل أكبر معانيه أن غيره سيد عليه فيكون معه دائماً خيال استعباده
وتكلم ضابط اليسار: ولكن المترجم لم يميز أقواله، لأن ثلاث عشر امرأة كنَّ يصرخن في الرواية الهزلية بلحن طويل يقلن في أوله: (عاوزين رجّالة تدلَّعْنا. . . .) وكانت الموسيقى تصرخ معهن وتولول كأنها هي أيضاً امرأة محرومة. . .
ثم أرهف المترجم أذنه فقال كبيرهم: إن لهؤلاء الشرقيين ست حواس: الخمس المعروفة وحاسة الخمول الذي خدعتهم عنه الطبيعة البليدة فسموه الترف والهزل واللهو، والأمة الأوروبية التي تحتل بلاداً شرقية تجد فيها لصغائر الحياة جيشاً أقوى من جيشها. فعشرة(158/3)
آلاف جندي بعتادهم وآلاتهم لا يصنعون شيئاً إلا الاستفزاز والتحدي وإثبات أنهم غاصبون، ولكن ما أنت قائل في عشرة آلاف مكان كهذا المسرح براقصاته ومومساته وخموره ورواياته وبهؤلاء الرجال المخنثين الهزليين الرقعاء الذين هم وحدهم معاهدة سياسية ناجحة بيننا وبين شباب الأمة. . .؟
قال ضابط اليمين: نعم إن فن الاحتلال فن عسكري في الأول ولكنه فن أخلاقي في الآخر؛ ولهذا يجب تعيين نقطة اتجاه للشباب تكون مضيئة لامعة جذابة مغرية ولكنها في ذات الوقت محرقة أيضاً، وهذه هي صناعة إهلاك الشباب بالضوء الجميل، وما على السياسي الحاذق في الشرق إلا أن يحمي الرذيلة، فإن الرذيلة ستعرف له صنيعه وتحميه. . . فتكلم ضابط اليسار، ولكن صوته ذهب في عشرين صوتاً من رجال المسرح ونسائه يصيحون جميعاً: (يا حِلوة يا خفَّافي يا مجننَّة الشبان. . .)
ولما ألممت بحوار الضباط الثلاثة قلت لصاحبي: أستأذن لي عليهم أكلمهم. ففعل وعرفني إليهم وترجم لهم مقالة (يا شباب العرب) وكان يحملها. فكأنما رماهم منها بالجيش والأسطول.
ثم قلت لكبيرهم: لست أنكر أن الإنجليزي لو دخل جهنم لدخلها إنجليزيا. . ولا أجحد أن له في الحياة مثل هداية الحيوان لأنه رجل عملي دليل منفعته أنها منفعته وحَسْبُ، ثم لا دليل غير هذا ولا يقبل إلا هذا. فإذا قال الشرقي (حقَي) وقال الإنجليزي (منفعتي) بطلت كل الأدلة، ورأى الشرقي أنه مع الإنجليزي كالذي يحاول أن يقنع الذئب بقانون الفضيلة والرحمة
وقد عرفنا أن في السياسة عجائب منها ما يشبه أن يلقي إنسان إنسانا فيقول له: يا سيدي العزيز، بكل احترام أرجو أن تتلقى مني هذه الصفعة. . . . وفي السياسة مواعيد عجيبة: منها ما يشبه غرس شجرة للفقراء والمساكين والتوكيد لهم بالإيمان أنها ستثمر رُغفاناً مخبوزة. . . . ثم بعد ذلك تطعَّم فتثمر الرغفان المخبوزة حشوُها اللحم والاِدام
وفي السياسة محاربة المساجد بالمراقص، ومحاربة الزوجات بالمومسات، ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر، ومحاربة فنون القوة بفنون اللذة. ولكن لو فهم الشباب أن أماكن اللهو في كل معانيها ليست إلا غدراً بالوطن في كل معانيه! ولو عرف الشباب أن محاربة اللهو(158/4)
هي أول المعركة السياسية الفاصلة! ولو أدرك الشاب أن أول حق الوطن عليه أن يحمل في نفسه معنى الشعب لا معنى نفسه! ولو رجع الدين الإسلامي كما هو في طبيعته آلةً حربية تصنع من الشباب رجال القوة! ولو علم الشباب أن روح هذا الدين ليست: اعتقدْ ولا تعتقد، ولكن افعلْ ولا تفعل! ولو أيقن الشباب أن فرائض هذا الدين ليست إلا وسائل عملية لامتلاء النفس بمعاني التقديس! ولو فهم الشباب أن ليس في الكون إلا هذه المعاني تجعل النفس فوق المادة وفوق الخوف وفوق الذل وفوق الموت نفسه! ولو بحث الشباب النفس الإنجليزية القوية ليعرف بالبرهان أنها نصفُ مسلمة فكيف بها لو كانت مسلمة؟. . . .
وكان المترجم ينقل إليهم كلامي فما بلغت إلى حيث بلغت حتى شدَّ الضابط على يدي وهزّها؛ فنظرت فإذا أنا قد كنت نائماً بعد سهرة طويلة في ذلك المسرح، وإذا يد المترجم نفسه هي التي تهزني لأنتبه
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(158/5)
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه: الكلام خيالي ولا أصل له، كما مللت أن أقول وأؤكد
في كل مرة)
- 5 -
قالوا لي أمس في البيت: (قم ركب لنا هذه الستائر!)
فقلت: (ستائر؟؟ يا حفيظ!! يا ناس ما هذا الحال المقلوب؟. . في الشتاء نرفع الأستار، وفي الصيف الحامي نضعها لنزيد الوقدة ويعظم البلاء!؟ أما إن هذا لعجيب!)
قالوا: (بل هي تحجب الشمس التي بهت منها لون السجاجيد. . .)
قلت: (كونوا منصفين. . السجاجيد قديمة، وعسيرٌ أن نطلب من القديم البالي أن يكون له لون الجديد الطريف الزاهي. . خذوا مثلاً هذه الخادمة العجوز. . . هل كان وجهها مغضناً هكذا في صباها؟ أو كان شعرها كما هو الآن أبيض؟ وهل كانت عينها كعين الموتى - لا حياة فيها ولا معنى ولا تعبير؟)
قالوا: (دع الخادمة فإن ذنبها إليك معروف. . . لو كانت شابة لأغضيت عن كل عيب)
فاعترضت على هذا الرأي السيئ والاتهام القبيح لذوقي، ولكنهم ردوني إلى موضوع الستائر الذي أردت أن أستطرد عنه إلى حديث آخر، فقلت: (الأمر لله. . . إنما ينبغي أن تجيئوني بالأدوات اللازمة كلها. . يعني السلم والمسامير الصالحة لعمل فني دقيق كهذا. . وهاتوا أيضاً قلعاً (أي فأساً صغيرة)، فما أستطيع أن أستعمل هذا المعول الضخم، فإني كما تعلمون رجل رقيق مترف. . ثم لا بد من تمليس الحائط بعد دق المسامير فيه، وإلا بدا للعين الفاحصة متضرساً غير مستو. . .)
فلم يجبئوني بما كان من حقي أن أطالب به وأصر عليه؛ وإنما جاءوا بمطرقة كبيرة أحتاج في حملها إلى رجلين معي، ووضعوا في يدي مسامير كالتي كانت في فلك نوح. . . لا تصلح لهذا الزمن أبداً. . . ولكني كما لا يعرف القراء رجل تضحية - وما أكثر ما أتقبل بالصبر - ومن غير تعليق طويل - ما يمتحنني به الزمن الغادر. لذلك دعوت الله في(158/6)
سري أن يبيض وجهي، فان سواده الحالي كاف جداً؛ وشرعت أعمل؛ ولكن هل تركوني أعمل كما ينبغي أن يفعلوا لأكسب رضاهم بعرق جبيني؟ كلا. . . فقد أحاطوا بالسلم وجعلوا يصدرون إليّ أوامر غير معقولة. فقلت لنفسي: (إن جدالهم عبث، فدعهم في جهلهم واتركهم ولا تجبهم فأنهم يحبون الكلام. وماذا على أن يثرثروا. .) ولم أجعل بالي إليهم، ولم أرد عليهم، ورجوت أن يشغلوا بالحديث والثرثرة عما عدا ذلك. ولكنهم لما يئسوا من إصغائي لهم جعلوا يهزون السلم لألتفت، فحدث ما كان لا بد أن يحدث، وما كان طفل صغير يستطيع أن يتوقعه؛ ذلك أني اضطربت وأنا على السلم، وكنت أهم بدق مسمار، فوقعت المطرقة على أصابعي لا على رأس المسمار كما كان ينبغي أن تفعل لو كان لها عقل! فصرخت. . وهل أنا حجر؟؟ ثم ما أشعر إلا والسلم يهوى بي إلى الأرض. . . وقد كانت أيديهم عليه، وكان في وسعهم أن يمنعوا سقوطي وسقوط السلم معي، ولكني دققت أصابعي فيجب أن يضحكوا!! نعم ضحكوا، بل قهقهوا، بدلاً من أن يأسفوا أو يقلقوا عليّ، أو يحزنوا لما أصابني في سبيلهم، فتركوا السلم يفعل بي ما يشاء. . . وقد أسمعتهم رأيي الصريح فيهم وفي هذا الكفران لنعمتي، والجحود لفضلي، وفي تعريضي للمضرات، وفي أنهم إذا حاق بي مكروه في سبيلهم ضحكوا وسروا وفرحوا جداً. . . . ثم تركتهم ومضيت أظلع - فوق ظلعي - إلى النافذة، وكنت أفرك أصابعي لأسويها وأرد إليها استدارتها فقد عجنتها المطرقة، ولألطف الألم أيضاً فإني لست بحجر كما أسلفت، وإذا بذات الثوب الأرجواني واقفة في شرفتها تضحك كما يضحكون!! فنظرت إليها آسفاً وقلتُ - كما قال يوليوس قيصر حينما طعنه بروتس -: (وأنت أيضاً؟؟) ولولا أن وقع المطرقة على أصابعي لم يفقدني حبي للحياة ولم يضعف أرادتها في نفسي لتمثلت بقول القائل: (فيا موت زر إن الحياة ذميمة) ولكن الحياة ليست ذميمة على الرغم من المسامير العتيقة والمطارق الطائشة التي لا عقل لها في رأسها الناشف والأهل الجاحدين والحبيبة التي يسرها أن تفرم أصابعك وتلتوي ساقك، بل هي جميلة - أعني الحياة ومرضية على كل حال وحميدة كيفما كانت - بل أعني الحبيبة أيضاً وإن كانت تسخطني ولا ترضيني، ولا أدري ما لذتها التي تستفيدها من هذه المكابدة؟؟ والله إن النساء أمرهن عجيب!! هذه ذات الثوب الأرجواني تفتح النافذة وتنظر ثم توليني جنبها، وما شبعت من وجهها، ثم تدير لي ظهرها ثم تهز(158/7)
رأسها فينتشر شعرها الجميل ويعود كالشمسية المفتوحة ثم ينسدل على جانبي وجهها ثم ترمي إليّ نظرة سريعة جداً يغيب عني معناها من شدة السرعة - مضافاً إليها البعد - ثم تدخل وتختفي!! ماذا كسبت بالله من هذا؟؟. وما حيلتي إلا أن أهز رأسي أنا أيضاً وأقول لنفسي أن أصحاب العقول في راحة! ولو كانت تسمعني لغضبت، ولكنها بعيدة فأنا أقول ما أشاء وأنا آمن!. .
ومكايدة أخرى ظهرت - لي - في الشرفة يوماً في ثوب ازرق لا احبه، وكنت لابساً ثيابي ومتهيئاً للخروج فما أستطيع أن أقضي حياتي في شرفة - كما تفعل هي - وإذا بها تدخل ثم تعود في ثوب أبيض جميل من الحرير الأبيض له شقتان واحدة على الصدر والأخرى تحتها على سائر البدن إلى القدمين، وعلى رأسها قبعة بيضاء كقلبها - مجازاً فما فتح لي قلبها إلى الآن - تثني حافتها على حاجبها الأيسر دلالاً. فقلت لنفسي: (إلى أين إن شاء الله؟؟ وإنها لحادثة فما رأيتها قط تخرج، بل هي بشرى نعش الأمل. إذ ما دامت تخرج فلا موجب لليأس، وإذا بها بعد قليل خارجة من باب البيت، ولكن مع أهلها!!. فسبحان الله العظيم!! وهل كان لا بد من هؤلاء الأهل؟ ما فائدتهم أو ما الضرورة إليهم على كل حال؟؟ ثم إن الأهل لا داعي للحرص على الاتصال بهم وملازمتهم لأنهم في الحقيقة ثمرات المصادفة البحت والاتفاق المحض. الأخ مثلاً شيء يجيء مصادفة. . ولو كان أبي - ولست أتكلم عن نفسي وإنما أضرب مثلاً تأييداً لنظريتي ليس إلا - أقول لو كان أبي مات قبل أن يموت بأربع سنوات أو خمس - وهو قد مات على كل حال، فما ضر أن يموت قبل ذلك؟ - لما صار لي أخ، ولكنه اتفق أن عمر أبي طال أكثر مما ينبغي - إذا اعتبرنا الذرية والإسراف الذي لم يدع لنا ميراثاً يستحق الذكر - فصار لي أخ كان من الممكن ألا يكون لو أن أبي كان عاقلاً مقتصداً - على الأقل في الأبناء - وقل مثل ذلك عن الأب والأم وأبناء العم وبنات الخال إلى آخر هذا البلاء الطويل فأنهم جميعاً أقارب بالمصادفة ليس إلا. . . فلماذا يجب أن أحبهم وأراعي مزاجهم وأتحرى مرضاتهم؟؟ ولا بأس بالحب فإني مستعد أن أحب الدنيا كلها ما دام هذا الحب لا يضايقني ولا يفرض علي أعباء لا أطيقها أو لا أستسهل حملها. . ولكن الملازمة وتوخي المرضاة هذا تكليف ثقيل جداً. هذه المسكينة مثلاً لا بد أن تخرج مع أخيها أو أبيها أو لا أدري من أيضاً من هؤلاء الذين هم(158/8)
أهلها بالصدفة. . . لماذا؟؟ ماذا جنت؟؟ ما ذنبها هي إذا كان هذا أو ذاك قد شاء أن يكون أخاها أو عمها أو أمها؟. . لماذا لا تخرج وحدها فيتيسر أن تشعر بأن لها وجوداً خاصاً مستقلاً عن وجود هؤلاء الآباء والأمهات والأخوة والأعمام والخالات الخ؟؟ والحق أقول أني تحسرت عليها ولها، فأنها مسكينة ولا شك تحيا حياة مرهونة بحيوات أخرى على حين لكل من هؤلاء الآخرين حياته الخاصة المستقلة التي لا علاقة لها بحياة هذه الفتاة
وقد كانت تضحك وهي واقفة تنتظر الترام مع أقرباء الصدفة ومن حقها أن تضحك، فقد نزلت إلى الأرض وداست قشرتها الصلبة بقدميها الصغيرتين وركبت الترام - أو هي ستركبه بعد دقيقة - ورأت الناس عن قرب بعد أن كانت تراهم عن بعد كالأشباح، وألفت نفسها سابحة في لجة الحياة التي لا يمكن أن تحسها أو تدركها وهي في شرفتها. . . نعم كانت في المريخ تحلم بدنيا لا تعرفها فهبطت إليها وصار الحلم حقيقة والظن يقينا. . . فلها أن تضحك وتسر
وأنا؟ أنا أبدي لها المودة فتتلقاها بهذه الجفوة والنفور والتخفي والتدلل كأنما أسيء إليها بحبي لها، وأجني عليها بميلي إليها، أو كأنما من الشتم لها أني تركت مئاتٍ ومئاتٍ من الفتيات وآثرتها عليهن جميعاً!! فلو أني كنت أبدي لها الكره والاستخفاف والاشمئزاز أكانت تقابلني بشر من هذا؟؟ كلا! بل كانت حينئذٍ تتعمد أن تبدو لي وتتكلف أن يكون ظهورها في حفل من الزينة، لأنه كان يشق عليها في تلك الحالة أن رجلا لم يَصْبُ إليها، ولم يفتنه جمالها، ولم يسب لبه حسنها، وكان هذا الإحساس خليقاً أن يدفعها إلى التحدي - غير أنه تحدي ينطوي على استجداء للإعجاب من الرجل. وأنا أقول الاستجداء وأعني ما أقول بلا نقص. ذلك أن الجمال هو السلاح الوحيد الذي وُهبتْهُ المرأة، وليس لها في كفاحها في الحياة سلاح غيره، فإذا فقدته فحكمها هو حكم كل مناضل ليس له سلاح، وصار أعزل لا يملك كراً ولا فراً ولا مصاولة ولا محاورة ولا مداورة. وماذا يملك الأعزل أمام الشاكي إلا أن يذعن لقضاء الله فيه ولتحكم القوة المسلح؟؟ ولا فرق بين أن تفقد السلاح الذي تصول به وتجول، وبين أن يثبت لك أنه قد صار لا فعل له فأن عمل السلاح ومزيته أن يحدث أثره لا أن يكون في يدك والسلام. فإذا لم يكن له أثر كأن يكون قد فله شيء، أو لاقى ما يثنيه أو يرده أو ما يصبر على وقعه ولا يتضعضع أمامه، فهو وعدمه سيان؟ كذلك(158/9)
المرأة - إذا فقد سلاحُها قيمته فلم يعد جمالها يحدث أثره المطلوب في نفس الرجل فأنها تكون فيما تحس حيال هذا الرجل عزلاء لا حول لها ولا طول فلا يسعها إلا أن تخضع وتذعن وتروح تستجدي العطف وتلتمس الرضى، وتتوسل إليه باللين والمصانعة والتحبب والإغراء بعرض كل ما عندها من المفاتن. وكأني بذات الثوب الأرجواني قد خيل إليها أنها قد ضمنت حبي واستوثقت منه، فهي لا تباليني لأنها في ظنها مني على يقين، وأولى بها أن تعني بغزو قلب غير قلبي - قلب آخر لا يزال مستعصيا عليها نابيا في يديها - أما أنا فقد علق جناحي بالشرك فكيف الفكاك وأين المهرب؟ وهذا ظن كل امرأة معشوقة من الرجل الذي تعرف أنه يحبها وتأنس منه الصبر على دلالها، وليس يصرفها عن ذلك إلا أن تساورها الشكوك، وتدور في نفسها الوساوس، ويحك في صدرها الخوف من ملل الرجل وضجره من هذا العبث. ولو كانت تعرفني لخافتني فما أنا ممن يصبرون على هذا اللعب. وإني لأحبها - أو هكذا يخيل إليَ - ولكني فيما أظن أحب نفسي أيضاً. وحبي لها هو بعض حبي لنفسي، وليس الأمر على العكس، وحب الرجل للمرأة معناه أنه يريدها خالصة لنفسه، لينعم بها وحده، ويستأثر بالمتعة المستفادة من جمالها. وليس معناه أنه يريد أن يعذب نفسه وينقص عيشه ويسود وجه الحياة في عينيه. أما حب المرأة للرجل فمعناه أنها رأته - بغريزتها لا بعقلها فأنها تنقاد لغريزتها ولا تفكر بعقلها - أحق رجل بامتلاك زمامها والسيطرة عليها وأكلها وهضمها. فالرجل يحب نفسه حين يحب المرأة أما المرأة فأنها تطلب الرق وتسعى للتضحية الكبرى حين تحب الرجل. فهو لهذا أناني في حبه، وهي لهذا مضحية في حبها. فليس عجيباً أن تحتمل هي المكاره في سبيل الحب لأن حبها تضحية كبرى فأولى أن تصبر على التضحيات الصغرى، بل العجيب ألا تصبر ولا تحتمل. أما الرجل فهو كما قلت أنانيٌّ فلا صبر له على تضحية ولا احتمال منه للعذاب إلا وهو كاره أو عاجز عن الفوز بالراحة، لأن طبيعة حبه لا تبيح له أن يفهم هذه التضحية ولا تجعله مستعداً لها. ومن هنا كانت المرأة أوفى وكان الرجل أغدر بالمعنى الشائع لا الحقيقي، فأن الوفاء من الرجل إفلاس نفسي وخيانة لطبيعته التي فطر عليها. وهذا هو الأصل ولذلك رأينا الرجل في تاريخ الإنسانية يتخذ المرأة والمرأتين والثلاث والأربع وتكون له الجواري فضلا عن الزوجات أو من هن في حكمهن، ولم نر المرأة تتخذ من(158/10)
الرجال اثنين أو ثلاثة أو أربعاً، إلا أن تفعل ذلك سراً وخفيةً ولعلةٍ. ولكن الرجل لم يكن يعمل هذا سراً بل جهراً، وكان يقيمهن في بيت واحد. وكانت المرأة ترضى وتذعن وتسعى سعيها لتكون هي الأثيرة لا الوحيدة. وكان الرجل لا يكف عن الاشتهاء والتطلع إلى غير الموجودات، والتبرم بالموجودات، وهذا هو قضاء الطبيعة وحكم الفطرة في الرجل والمرأة. فمن كان يشق عليه أن يقرأ هذا فليتدبر تاريخ الإنسانية قبل أن يفتح فمه، وليحاول أن يعلل هذا التاريخ على وجه مقبول معقول قبل أن يعترض. ثم فليتأمل حاضر الإنسان وليسأل نفسه عنه أتراه يختلف عن الماضي إلا في المظهر دون المخبر والجوهر؟؟
فالوفاء - فيما يتعلق بالرجل - أكذوبة ومنافاة للطبيعة، ولكنه فيما يتعلق بالمرأة صدق وإخلاص للطبيعة؛ ومن هنا أن المرأة لا تزال تتهم الرجل بالغدر والتحول والتقلب وقلة الثبات. وهذا هو تفسير الغيرة الشديدة من جانب المرأة، وهي غيرة لا تقاس إليها غيرة الرجل مهما عظمت، لأن غيرة الرجل على امرأته هي كغيرته على كل ما يملك؛ فإذا أمن أن يضيع ملكه لم يبال ما دون ذلك مبالاة تذكر؛ فغيرته في الكليات لا في الجزئيات والتوافه، ولكن غيرة المرأة مرجعها إلى إدراكها - بغريزتها الذكية التي تهديها في حياتها - إن الرجل لا يستطيع الصبر على الوفاء، ولا يملك إلا أن يتحول وينقلب في حبه، وإلا أن يصرف قلبه من هنا إلى هنا، فكل حركة منه أو لفتة نذيرٌ منه عندها بوشك هذا التحول، وفقدان ما كان لها عنده من مقام ومنزلة وإيثار، وعودتها واحدة من مئات الآلاف اللواتي لا يباليهن ولا يحفلهن ولا يحسهن أو يفطن إلى وجودهن، فهي غيرة على الوجود وكل ما ينطوي عليه من الحقوق والمزايا، ولذلك لا تنفك مشبوبة مضطرمة
ومن حق ذات الثوب الأرجواني أن تغار وتقلق، ويجب أن أكون منصفاً، فإني أنا أثرت غيرتها بطول النظر إلى جارتها، وأقول جارتها وإن كان بينهما مثل ما بيني وبينها هي من البعد
والحق أن جارتها جميلة فاتنة، ولست أحبها - على الأقل إلى الآن - ولكني لا أرى ما يمنع أن أحب الاثنتين معاً، فأن لكل منهما مزيتها وخصائص حسنها وتعبيرها الذي لا يشبه تعبير الأخرى؛ والسمراء ألين وأسلس في العنان على ما يبدو لي. نعم إن ذات الثوب(158/11)
الأرجواني أسلم فطرة وأنقى وأخلص سريرةً وأبسط قلباً وأبرأ من العبث، ولكن تلك شيطانة ملعونة وعفريتة من الجن تجعل الحياة كلها حركة دائمة، وما قيمة الحياة الراكدة؟؟ على أني كما قلت لم أحببها بعد، وإن كنت أعجب بحيويتها الزاخرة. وقد أحبهما معاً، أو تستأثر بي التي هي أقدر.
إبراهيم عبد القادر المازني(158/12)
الصراع الحاسم بين الطغيان والديموقراطية
بقلم باحث دبلوماسي كبير
جازت الديموقراطية المعاصرة مرحلتين حاسمتين في تاريخها: ففي غداة الهدنة التي اختتمت بها الحرب الكبرى استقبلت الديموقراطية طوراً جديداً من القوة والظفر؛ وكانت الحرب الكبرى من بعض الوجوه صراعا بين الطغيان والديموقراطية؛ ففي معسكر الطغيان تجتمع الأسر القديمة الطاغية - آل هبسبرج وآل هوهنزلرن - والعسكرية البروسية تحركها أطماع مضطرمة في السيادة الواسعة؛ وفي المعسكر الخصيم تجتمع الأمتان العريقتان في الديموقراطية فرنسا وبريطانيا؛ وإذن فقد كانت هزيمة الدول الوسطى في الحرب الكبرى هزيمة للطغيان والملوكية المطلقة؛ وكان ظفر بريطانيا وفرنسا من بعض الوجوه ظفراً للديموقراطية والنظم الشعبية؛ وظهرت نتيجة هذا الظفر واضحة في قيام عدة من الجمهوريات الفتية في روسيا وألمانيا والنمسا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا، وفي دول البلطيق الصغرى؛ فهذه مرحلة ظفر للديمقراطية المعاصرة
ونعمت الديمقراطية بظفرها بضعة أعوام، ولكنها انحدرت إلى معترك من الشقاق الخطر، وانقسمت إلى شيع متخاصمة؛ وبدلاً من أن تجتمع في معسكر موحد، أخذت في نضال عنيف مستمر فيما بينها باسم المبادئ والصيغ المختلفة ما بين اشتراكية وديمقراطية متطرفة ومعتدلة، حتى دب الفشل إلى صفوفها؛ وكانت أول نتيجة خطرة لهذا الشقاق قيام الفاشستية في إيطاليا وسحق الديمقراطية فيها؛ ولم تلبث قوى الطغيان أن ظفرت تباعا في بولونيا حيث تقوم حكومات مطلقة تستتر وراء الجمهورية، ثم في ألمانيا حيث قامت النازية أو الهتلرية ونظمت أعظم طغيان عرفه التاريخ الحديث، ثم في النمسا حيث طغت الأحزاب الفاشستية؛ وأما في روسيا، فأن النظام الذي استحدثه البلاشفة للجمهورية الجديدة لم يكن سوى طغيان شنيع يستتر باسم سيادة الطبقات العاملة؛ كذلك لم تلبث الجمهورية التركية الناشئة أن تحولت إلى طغيان عسكري مطلق يستتر تحت نظام جمهوري صوري؛ فهذه مرحلة انحلال للديمقراطية المعاصرة
والآن تبدو في الأفق ظاهرة جديدة؛ ولقد ظفرت الديمقراطية في إسبانيا منذ أعوام قلائل ظفراً مبيناً، فسحقت الملوكية الطاغية القديمة، وأقامت حكم الجمهورية والنظم الدستورية،(158/13)
ولكن هذا النصر كان محلياً، ولم تفد منه الديمقراطية الأوربية قوة جديدة، ولكنا نشهد من جهة أخرى وثبة جديدة للديمقراطية الفرنسية، فقد أسفرت الانتخابات الفرنسية الأخيرة عن فوز عظيم لأحزاب اليسار أنصار الديمقراطية المتطرفة والحريات الدستورية الواسعة، وهي تتربع الآن في دست الحكم؛ وأسفرت الانتخابات البلجيكية في نفس الوقت عن فوز الأحزاب الاشتراكية؛ وفي روسيا السوفيتية يتحول الطغيان البلشفي منذ أعوام إلى نوع من النظام الدستوري العام تنمو في ظله الحريات والحقوق الفردية باطراد؛ ومنذ أشهر قلائل شهدنا تحالف الديمقراطية الفرنسية، والديمقراطية السوفيتية في ميثاق مشترك لمقاومة الخطر الألماني المشترك. فهذه الظروف والأحداث كلها تنم في نظرنا عن أن الديموقراطية الأوروبية تدخل في طور جديد من أطوار نهضتها
ومما يلفت النظر في عوامل هذه الوثبة الجديدة التي يلوح لنا أن الديموقراطية الأوربية تجيش بها، هو أن فوز الأحزاب الاشتراكية الفرنسية في الانتخابات الأخيرة هذا الفوز الشامل يرجع من وجوه كثيرة إلى المسألة الحبشية التي أثارتها الفاشستية الإيطالية واتخذتها ذريعة للتوسع الاستعماري المسلح؛ فقد كان غزو الفاشستية للحبشة وظفرها بالاستيلاء عليها ممزقة بذلك كل العهود والمواثيق التي ارتبطت بها في العهد القريب، متحدية أوربا وعصبة الأمم والعالم كله، مظهراً قوياً من مظاهر ظفر الطغيان المنظم ونفثة خطرة من نفثاته تنذر العالم بأخطر العواقب، وكان موقف حكومة لافال الفرنسية وتقبلها ونفاقها إزاء المسألة الحبشية، وما قامت به من المعاونات السرية لحكومة رومة، أكبر عامل في تتويج الاعتداء الفاشستي بهذا الظفر الذي تزهو به الفاشستية اليوم وتتخذ منه نذيراً لأوربا، فلما ردت السياسة البريطانية على موقف فرنسا في المسألة الحبشية، بموقفها في مسألة الرين وتخليها عن فرنسا، أدرك الرأي العام الفرنسي أن فرنسا تخاطر بفقد صداقة إنكلترا، فلم ير بدا من التحول في الانتخابات الأخيرة إلى ناحية اليسار لتقوم حكومة تعمل بالتفاهم مع الديموقراطية الإنكليزية، وتتعاون معها على درء خطر الطغيان الفاشستي والطغيان الهتلري
ومن الخطأ أن تعتبر هذه الحركات الطاغية الخطرة التي تضطرم بشهوة الاعتداء والتوسع حركات محلية لا تعني سوى الأمم التي تقوم فيها. فالفاشستية مثلاً تزعم لنفسها صفة عامة،(158/14)
وتدعي أنها أمثل النظم الحديثة للدولة وتدعيم القومية، وضمان رفاهة الشعب؛ ويزعم طغاة ألمانيا الجدد (هتلر وشيعته) أنهم رسل المثل الأعلى للدولة الكاملة، والعظمة القومية، ورفعة الجنس، وأن نظرية الحريات الدستورية والحقوق العامة هي نظرية خطرة على كيان الأمم، ويجب أن تكون جميع الحقوق والسلطات متمركزة في الدولة، والدولة في نظرهم هي الحزب النازي، ويزعم بعض دعاتهم أن هذا النظام الغاشم سيعيش قروناً. ولقد كان لهذه الحركات والمزاعم بعض الأثر، فظهرت في إنكلترا حركة فاشستية صغيرة؛ واشتد ساعد الجمعيات الرجعية في فرنسا، وساعدت على ذلك ظروف سيئة ظهرت فيها النظم الجمهورية بمظهر النظم الفاسدة المفككة، وعاونت بعض الفضائح الخطيرة مثل فضيحة ستافسكي وغيرها على الاعتقاد بانحلال هذه النظم ووجوب تعديلها، بل قامت بعض جمعيات تدعو إلى إقامة الدكتاتورية إنقاذاً لفرنسا من هذا الفساد الدستوري الخطر؛ وظهرت في دول أخرى مثل رومانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا نزعة إلى الاقتباس من الفاشستية والنازية؛ ومن ثم ففي وسعنا أن نقارن مبادئ الفاشستية والنازية، من بعض الوجوه بمبادئ الثورة الفرنسية التي تعدت حدود فرنسا واجتمعت حكومات أوربا المطلقة على مقاومتها
والآن نرى في أوربا معسكرين عظيمين يتأهب كل منهما لمكافحة الآخر؛ يتألف أحدهما من إنكلترا وفرنسا وبلجيكا وروسيا؛ ويتألف الثاني من ألمانيا وإيطاليا؛ وينحاز لكل منها بعض الدول الصغيرة؛ فإذا تأملنا في هذا التكوين من الناحية الدستورية ألفينا الديموقراطية ممثلة في الطريق الأول، والنظم الطاغية - الفاشستية والنازية - ممثلة في الطريق الآخر؛ وقد رأينا أن الحرب الكبرى قامت على مثل هذا التقسيم في القوى المتحاربة؛ وأن الدائرة قد دارت على الحكومات المطلقة وعقد النصر للدول الديموقراطية؛ وإذا تأملنا تاريخ أوربا خلال القرن التاسع عشر، لمحنا أثر هذا النضال الدستوري في معظم الحروب والمعارك التي دارت رحاها فيه؛ فقد عقدت المعاهدة المقدسة في سنة 1815 بين قيصر روسيا، وإمبراطور النمسا، وملك بروسيا، أو بعبارة أخرى بين الأسر الثلاث التي تمثل الحكم المطلق وتتذرع بالحق الآلهي، وهم آل رومانوف، وآل هبسبرج، وآل هوهنزلرن، وغرضها الظاهر توثيق عرى الأخوة المسيحية والتحالف بين الدول الثلاث، وغرضها(158/15)
الحقيقي مقاومة الحركات الشعبية والدستورية؛ وقد كانت أوربا طوال هذا القرن كله مسرحاً لكثير من هذه الحركات التي ترمي إلى الحد من طغيان الحكم المطلق ومساوئه، وتنمية الحقوق العامة للفرد سواء في الدولة أو المجتمع
إن مجرى السياسة الدولية الحالية يفصح بذاته عن مظاهر تلك المعركة الكبرى التي يسير هذان المعسكران إلى خوضها؛ فإنكلترا وفرنسا تعملان من ناحية على مؤازرة عصبة الأمم، وإقالتها من عثرتها السحيقة في المسألة الحبشية، ومن ورائهما السوفييت ودول أوربا الصغرى كلها تؤيد هذه الحركة، لأن مبدأ السلامة المشتركة الذي أريد أن يكون دستور عصبة الأمم ضماناً لتحقيقه، قد صار بعد ظفر الفاشستية المعتدية بالاستيلاء على الحبشة - وهي من أعضاء العصبة - عقيماً لا أثر له من الوجهة الدولية؛ والدول الصغرى أضحت تخشى على مصايرها بعد انهيار هذا الضمان المشترك الذي كانت تعتمد عليه. ونرى من جهة أخرى إيطاليا وألمانيا تسخران من عصبة الأمم، ولا تدخران وسعاً في مناوأتها وعرقلة أعمالها لأن توطيد السلامة المشتركة وحريات الأمم وحقوقها إذا تحقق بعمل دولي قوي من جانب الدول الديموقراطية، فانه يقف سداً في وجه أطماعهما في التوسع والاستعمار، ويؤدي إلى ضعف النظم الداخلية التي تغذي هذه النزعة الخطرة على حقوق الأمم وحرياتها
والخلاصة أنه حيثما تأملنا في نواحي السياسة الدولية ألفينا مظاهر المعركة الحاسمة التي يوشك أن تخوضها الديموقراطية. والديموقراطية تلتزم خطة الدفاع لأنها بطبيعتها أقل ميلاً إلى الحرب، ولأن الدول التي تمثلها، هي فريق الدولة الراضية المستأثرة بالسيادة الاستعمارية الواسعة والموارد الغنية؛ ولكنها ستضطر إلى الدفاع عن نفسها إذا هوجمت، وعندئذ تقع معركة الفصل في مصاير أوربا الجغرافية والدستورية، وتقع معركة الفصل في مصاير المدنية، فأما أن تفوز الديموقراطية فتفوز بذلك المدنية المؤسسة على احترام الحقوق والحريات البشرية، وإما أن تفوز مبادئ القوة الهمجية التي تنادي بها الفاشستية والهتلرية، وعندئذ تنهار نظم الحضارة المستنيرة وترجع أوربا إلى نظم العصور الوسطى
ولكن الديموقراطية التي صمدت لهذه القوى الهمجية منذ القرن التاسع عشر تستطيع بلا مراء أن تدافع عن نفسها ومن ورائها الرأي المستنير في العالم كله(158/16)
* * *(158/17)
هنري روبير
عضو الأكاديمية الفرنسية ونقيب المحامين
للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
إلى المحاماة، في شخص المحامي الأول، والنقيب الأول،
إبراهيم الهلباوي بك
في 13 مايو الماضي مات هنري روبير نقيب المحامين في باريس وعضو الأكاديمية، ووقف لتأبينه النقيب (دي مورو جيافري) فقال: (إن المحاماة قد فقدت اليوم أكبر رجل رفع من شأنها منذ عهد برييه). وهي عبارة تعطيك أبلغ فكرة عن مكانة هنري روبير في التاريخ؛ فلعل (برييه) أكبر رجال المحاماة في التاريخ الفرنسي؛ هو الذي حمل لواء الدفاع عن (لامنيه)، وعن (شاتو بريان) ضد لويس فيليب عندما هتف قائلاً للدوقة (دي برِّي): سيدتي، إن ابنك هو الملك. وكان لويس فيليب يومئذ هو الملك! ثم ترافع عن البرنس لويس نابليون عندما طلب إعدامه فأنقذه دفاع (برييه) ليصير بعد سنين جلالة الإمبراطور، وهو الذي كان يدافع عن المتهم في إحدى جنايات القتل فأخذ محامي المدعي المدني (النقيب كرسون) يحذر القضاة من عبقرية الدفاع الذي سيسمعونه من فخر التاريخ القضائي في فرنسا. فإذا جاء هنري روبير بعد هذا الرجل الخالد دون أن يقف أمامه ش دستايج أو ليون ديفال أو جول فافر أو روس أو (ألو) أو محامي مدام لافارج الذي كان يقول عن نفسه: (أنا الدفاع) صديق الإمبراطور الشخصي أعني (لاشو)؛ ثم باربو؛ ثم لابوري، لابوري الهائل، الذي نفذ رصاص الحمقى إلى جسده ولم ينفذ الرعب إلى قلبه، فطلب تأجيل قضية إميل زولا حتى يبرح المستشفى ليترافع ضد الجيش وحزب الجيش ومنهم مطلق الرصاص؛ لابوري الذي قال عنه هنري روبير وهو يلقي الكلام في تأبينه: (قوة من قوى الطبيعة ومارد في موقف الدفاع)؛ ثم دي بوي أستاذ بوانكاريه؛ والرئيس أو النقيب بوانكاريه نفسه، محامي جونكور وجائزة جونكور ووصية جونكور؛ والرئيس فيفياني أو البلاغة كما كان يسميه بنو العصر؛ وشنى (أفضلنا) كما كان يقول هنري روبير؛ ووالدك روسو؛ والنقيب (بويو) حفيد النقيبين أو قل وزيري الحقانية بويو وباروش. . كل أولئك لا(158/18)
يراهم جيافري قد أعلوا من شأن المحاماة مثلما أعلى من شأنها هنري روبير. . .
وفي الحق أن هنري روبير قد بلغ ذلك الأوج لظروف خاصة؛ فهو قد ظل ربع قرن كامل محامي فرنسا الأول، حتى ليكاد المرء يخاله قد وصف نفسه عندما وصف فيكتور هوجو بأنه استوى على عرش الأدب نصف قرن كأنه نصف إله؛ وفرنسا أمة محامين تحكمها حكومة محامين. وكان هنري روبير (نقيب الحرب) كما كانوا يقولون إذ ظل نقيباً لمدة أربع سنوات دون أن يعاد الانتخاب؛ فالمحامون كانوا جميعاً في الخنادق، ولم يكن لذلك بد من تأجيل الانتخابات؛ وبذلك اقترن اسمه بالنظام القضائي طيلة أيام المحنة. وكان يلقي في تأبين المحامين الذين تفقدهم فرنسا كلمات خالدة تخلب الألباب. وكان يمثل المحاماة في كل معترك، ويحمل رداءها في كل حفل. وهكذا حمل اسمها ولواءها عند الكافة. فلما خمد لهيب جهنم لم تخب تلك الشهوة اللامعة فارتفعت بصاحبها من مستوى الذين يموتون إلى مستوى الذين لا يموتون في سنة 1923 خلفاً لريبو. وكانت آخر كلمة له في المجمع تأبين الفقيد الجليل جاك بانفيل؛ حتى إذا تفرغ للتأليف من سنة 1928 أخذ يقرؤه عالم الأدباء بعد أن كان يقرأ عنه، وبعد أن كان محامياً عن الأفراد أصبح محامياً عن المحاماة؛ وبعد أن كان اسمه يذكر بمناسبات أصبح اسمه يدوي في المسامع باستمرار
وظل هنري روبير طول أيامه عزوفاً عن السياسة معتزاً بالمحاماة، فلم يغب باسمه ولا بجسمه عن قصر بوربون
إلى تلك الملابسات التي أحاطت بالرجل كان الرجل نفسه كنزاً زاخراً حافلاً بالكفايات، والكفايات في أمة كفرنسا وفي وسط كالمحاماة يندر أن تضيع
هذه الشخصية الخالدة يجب أن ندرسها في مصر، ولو في عجالة وبإيجاز. ولعلي بهذا البحث أشق الطريق للأدب المرجو الذي أنادي به من عشر سنين: أدب المحاماة
ولد هنري روبير في 4 سبتمبر سنة 1863، وفي 29 أكتوبر سنة 1885 حلف اليمين لينتظم في سلك المحامين. وفي يوليو سنة 1887 انتخب سكرتيراً لمؤتمر المحامين وانتخب معه اثنان آخران يكفي أن تعرف اسميهما لتدرك مقدار ما يتضامن الماضي مع المستقبل، فأولهما الأستاذ واتين الذي يتولى اليوم توزيع العدالة وشرع الأحكام في كرسيه في رياسة دائرة محكمة النقض؛ وأما ثانيهما فانه فرنان لابوري: وما أدراك ما لابوري؟(158/19)
لسان الدفاع عن فايان الذي ألقى القنبلة الأولى على مجلس النواب، ذلك الدفاع الذي لا نستطيع بعد قراءته إلا أن نتساءل مع هنري روبير: (كيف لم يبرئوا المتهم؟) ولسان الدفاع عن أميل زولا؛ الدفاع الذي أفقده أمواله وعملاءه وأكسبه الفخار والشرف: والذي نقل إلى الأجيال أروع كلمة قالها محام في الذب عن حياض المحاماة؛ فعندما هوت من فم النائب العام - وهو جالس على كرسيه بجوار المحكمة في أعلى القاعة - كلمة جارحة بالنسبة للابوري صرخ صرخته الداوية في وجه النائب: (إن الشتائم التي تساقطها من كرسيك الرفيع لن تستطيع - مهما كان كرسيك عالياً - أن ترقى إلى المنصة التي يترافع منها الدفاع)
ولم يكد هنري روبير يستمرئ حلاوة ظفره في الانتخاب حتى اختاره النقيب درييه سكرتيراً له وولاه أعمال مكتبه في أول أكتوبر سنة 1887
وقضى السكرتير الجديد بمكتب النقيب سنتين حتى قبض الله إليه النقيب فلم تبرح ذاكرته ذكراه حتى قضى هو الآخر فتراه يهدي إليه بعد أربعين عاماً كتابه (المحامي)، فتراه يختصه بأروع الصفحات في بعض مؤلفاته؛ فلقد كان درييه أباً يخلص الحب، ولم يكن أستاذاً فحسب؛ كان يفتح صدره لسكرتيره، وكان يفتح أمامه أيضاً أبواب داره. وفي نوفمبر سنة 1888 رحل النقيب والسكرتير للمرافعة في قضية القتل التي قارفها تلميذ بول بورجيه وصديقه كاميج والتي أوحت لعميد الأكاديمية المتوفى (بورجيه) أروع مؤلفاته وهو كتاب (التلميذ)، فلقد قتل كامييج عشيقته الفاضلة مدام جريل بعد أن تعاهدا على الانتحار فأصابها ثم أخطاء نفسه؛ فترافع درييه ومن ورائه هنري روبير ففتح لنفسه طريق الخلود
وفي ذات ليلة انتقلت هيأة الدفاع كاملة! على ضوء الشموع لا إلى المحكمة ولكن إلى المقهى، ولا لتطلع على المستندات ولكن لتطلع على رقص (أولاد نايل)، فهمس درييه في أذن سكرتيره (يا صديقي ماذا يقول مجلس النقابة إذا رآنا هنا؟) فأجابه زعيم الارتجال (هو بلا شك يحسدك يا سيدي النقيب!)
وأخذ هنري روبير يمشي قدماً في عالم المحاماة، وكانت الحياة رخية في أعقاب حرب السبعين إلى فاتحة القرن الحالي، فلم يكن يخشى على الكفايات الممتازة من منافسة الجشع والخسة والأساليب الدنسة التي تخلقها ظروف الحياة العصيبة، فتهيأت للمحامي الناشئ(158/20)
قضايا هائلة ظهر فيها هائلاً أيضاً، فترافع عن جبريل بومبار في سنة 1890 ليستل رأسها من تحت المشنقة، وعن واشيه المتهم بقتل أبيه ليظفر لدولمن معه ببراءة خالصة وفي سنة 1898 ترافع عن الطبيب لايورت مرافعته الخالدة. وفي سنة 1902 ترافع عن مدام همبير ضد الصيرفي قطاوي واختتمها بتلك الكلمة التي اختتم بها الأستاذ سابا حبشي مرافعته القيمة في قضية نزاهة الحكم (. . . وستثبتون ببراءة مدام همبير أنكم تصدرون أحكاماً ولا تؤدون خدمات) وفي سنة 1904 ترافع عن المهندس بيير في مقتل كاديو، وفي سنة 1908 في مقتل ريمي الخ الخ. . وفي سنة 1925 ترافع عن بوربووش وفي سنة 1929 ترافع عن الجنرال ميشيل فنال له ما عجز عن نيله أستاذ الجيل (لاشو) في محاكمة المارشال بازان عن موقفه في حرب السبعين، ثم عن الحسناء البولونية فالنتين أو متسكا، ثم عن القسيس هيجي، ويومئذ اختتم مرافعته أمام محكمة جنايات السين بما ختم به عمله القضائي الخالد أمام تلك المحكمة قائلاً: (. . أيها الأب. . صح معي وبأعلى صوتك: فلتحي فرنسا.)
فما هي إذن تلك الكفايات التي رفعت صاحبنا وصاحبها إلى تلك الذروة؟ الجواب عندي يتلخص في كلمة واحدة هي: أنه كان يفهم قضاياه كما كان يفهم عقلية القضاة؛ وهذا هو الذي جعله بحق أحدث القدماء وأقدم المحدثين. وبعبارة واضحة هذا هو الذي جعله مترافعاً عظيماً في أواخر قرن البخار، مترافعاً عظيماً في أوائل قرن اللاسلكي؛ بل بعبارة أوضح هذا هو الذي جعله يكيف المرافعات (التقليدية) التي كانت آية البيان في أعقاب الحرب الأولى، أعني حرب السبعين بما يستسيغه القضاة بعد الحرب الثانية في سنة 1920: هؤلاء القضاة الذين يضعون الساعة أمام عيونهم فان لم يضعوها أمامهم تصوروها كائنة في رؤوسهم. . . تدق باستمرار. . . .!
نحن الآن في المحكمة، وهذا هو النائب العام يترافع؛ وذلك محام هادئ يكاد ينام؛ لكنه نهض الآن، رفيع القامة، رفيع المقام، يتكلم في سرعة غريبة كأنه يخشى أن يُدفع ضده بفوات الميعاد! إنه يتكلم كأنه يتحدث؛ وها قد مضت خمس دقائق دون أن يظهر لك أنه محام كبير، لكنه قد أوغل في صميم الموضوع فوراً، وحميت الوقدة واندلع لهيب النار، فهو يضرب يميناً ويضرب شمالاً وبقسوة وبصوت محترم، والحجج تنساق متدافعة معجلة(158/21)
إلى أسماع المحلفين فيعجبون لتقديم هذا المتهم البريء! وفي عشرين دقيقة أو ثلاثين!! يبدو لهم أن النائب المترافع كان يسيء استعمال وقتهم عدو ساعات في مرافعاته ضد رجل طاهر كالطهر، مظلوم كالمسيح
تلك كانت صورة هنري روبير وهو يترافع كما حكى لنا سامعوه ومؤرخوه وكما يظهر لنا من كتاباته
حدثنا هنري روبير عن رجل من أرباب القضايا دخل القاعة فوجد محامياً يترافع، فتساءل من الأستاذ؟ فقيل له إنه الأستاذ (آنتل) قال: كيف هذا؟ إنه يتحدث في بساطة مجردة! لا يمكن أن يكون هذا هو الأستاذ آنتل البعيد الصيت!
فإذا رجعت إلى كتاب الأستاذ الجداوي المسمى (مرافعات) وجدت أن الأستاذ الجداوي هو ذلك الرجل الذي دخل القاعة، وأن المحامي الذي تساءل عنه وتلقى الجواب بدهشة وبإعجاب لم يكن الأستاذ آنتل بالطبع ولكنه كان الأستاذ هنري روبير.!
وفي مقال بعث به إلى فقرأه الأحياء في 21 مايو الماضي بعد أن كان هو قد سقط من سجل الأحياء!. . في ذلك المقال المعنون: (فتحت الجلسة) محض هنري روبير المحامين النصح أن يقرءوا مرافعات (والدك روسو) ليتعلموا فن (البساطة والسهولة والدقة). وفي كتاب (المحامي) يهيب بالمحامي أن يتذكر أنه يقف أمام القضاء (ليقنع لا ليلمع) وأن القرن السادس عشر قد حمل إلينا وديعة من أجيال الفصاحة القضائية الأولى هي أن تترافع (باختصار وبلباقة وبإخلاص)؛ وعلى ذلك تجد مؤلفاته كمرافعاته؛ فهو يبدأ مرافعاته لينتهي منها بسرعة وحرارة، وأنت تبدأ قراءة كتبه فلا تستطيع أن تدع الكتاب حتى تصل إلى خاتمته؛ وهذا كتاب قضايا التاريخ الكبرى يعرض للناس أفظع ما اجترح الضمير الإنساني من أوزار وحيل وخبائث، وهذه مرافعته الفنية عن الدكتور لابورت، كل تلك الأعمال يبسطها روبير فتروعك بسهولة عبارتها وسحر دلالتها حتى لكأنها دروس تلقى على التلاميذ. .!
ذلك لأنه كان يفهم قضاياه فيعرضها من حيث يجب أن تعرض؛ وما دام يفهمها فهو - بأسلوبه - فمين أن يُفهمها؛ ومن المسلم به أن الذي لا يفهم لا يستطيع أن يفهم، وأن تبسيط الأشياء أصعب من تعقيدها، وأن الغموض في العبارة هو غالباً أثر الغموض في التفكير(158/22)
ويمتاز هنري روبير من رجال الدفاع في العالم طرا بالسرعة المتناهية في الإلقاء، وله من جراء هذه السرعة حادثة ذكرها لنا في مقال (كانديد)، إذ كان يترافع عن قاتل عشيقته فقال وهو يطير في أجواء الكلام (. . . فعقد العزم على أن يقتل نفسه ثم يقتلها فوراً. .) ولم ينتبه أحد سواه إلى ما في هذا الكلام من استحالة لأن الجمهور والمحلفين كانوا يجرون معه إلى الغاية كالزورق الذي يحمله التيار
ولذلك الإسراع تجده ينتزع المتهم من براثن النائب العام بعد 17 دقيقة فقط كما شهدت المحامية أوديت سيمون أو (بعد عشرين دقيقة لا أكثر ولا أقل) كما تعهد هو للمحلفين وهو يستهل الدفاع في قضية بوبوروش عندما قتل الرجل الذي أخبره أن امرأته تخونه. ومن الغريب أن يقولها للمحلفين بعد أن قال ساخراً (. . ساعتان كاملتان، واتهامان متضافران، من المدعي المدني ومن النائب العام!) ثم يختتم دفاعه وهو يناجيهم (. . . إنني أرجو أن تبرئوا بوبوروش حتى إذا عدتم إلى مساكنكم في المساء ألقيتم على زوجاتكم وبناتكم نظرات كلها اطمئنان). وفي 28 يونيو سنة 1913 كتب الأستاذ (فرنان بايان) - قبل أن يصبح نقيباً، ومؤرخاً لبوانكاريه - كتب في الفيجارو دراسة لهنري روبير نشرها في كتابه وعلل هذه السرعة بأن الرجل يخشى أن يضيع أثر كلامه في المحلفين، فهو ينتهي منهم بسرعة ليتركهم تحت أثقال حججه وبراهينه. وعندي أن العلة في ذلك كانت صفاء عقل هنري روبير وقدرته على الارتجال، ذلك الارتجال الذي قال هو عنه كما سيجيء بعد: إنه نتيجة ترديد الكلام قبل المرافعة، حتى كان يسمي نفسه (آلة كلام)، فهو كان يبدأ لينتهي؛ أفكار واضحة وعبارات حاضرة؛ كان يفتتح المعركة لينتهي منها بأسرع ما يستطيع؛ والنصر الحاسم هو غالباً النصر السريع. ثم - وهذه مسألة أساسية - كان هنري روبير عدوا للتصويرات البيانية ولحشد الأمثال والسوابق، فهو كان مقيداً دائماً بموضوعه، لا يرسم الصور، ولا يلقي الحكم، ولا يتفيهق بالألفاظ، ولا يتطلب الشهرة، لأنها قد دانت من زمان؛ فهو إذن يلقي الحجج واحدة بعد أخرى كالفيلق في آثار الفيلق، وكالانتصار في أعقاب الانتصار؛ وهو إذن كان يستغني عن أربعين دليلاً بأدلة أربعة لها قوة الأربعمائة ووضوح الدليل الفرد
كان هنري روبير يرتجل كما قلنا، لكنه يشرح ارتجاله حيث يقول (إنني لا أفكر في الكلام(158/23)
حين ألقيه) ثم يقول (أنا لا أحضر مرافعاتي بالكتابة؛ وإنما أترافع بيني وبين نفسي على انفراد وبلا صوت عال؛ لا أتكلم، وإنما تجري العبارات في مخيلتي وأنا أمشي أو وأنا في عربتي، وفي المساء تتوارد لدي خواطر ذات بال (وهذه العبارة تشرح للقارئ حالة خاصة كان يشهدها سامعوه عندما يفتتح الجلسة في قضية خطيرة، إذ كانت تبدو عليه علامات الانفعال. وقديماً كان (تورين العظيم) لا يدخل المعركة إلا وهو يرتعد، فكان ينادي جسمه (ارتعد. . تزايل. . إنك لا تدري إلى أين أقذف بك. . .) وكان تورين أعظم القواد في تاريخ فرنسا عند نابليون
أما خطة هنري روبير في مرافعاته فقد تعلمها على الرجل الذي كسب ستين معركة؛ وهي أن الهجوم خير وسيلة للدفاع. فإذا شرع في مرافعته اتجه في شتى الجهات يبحث عن متهم غير موكله ليلقي عليه أفدح أثقال الاتهام؛ فإذا لم يكن هناك مجرم آخر فلا شك أن هناك أباً لم يعلم ولده فهوى به - هو - إلى أحضان الجريمة؛ أو أن هناك تحريضاً أو استفزازاً وإلا فاستسلاماً صدر من المجني عليه؛ أو أن الهيئة الاجتماعية قد قصرت أو أساءت إلى غير ذلك من أساليب الدفاع، وإذا شئت فمن أساليب الاتهام. والذين سمعوا وهيب دوس يترافع في قضية نزاهة الحكم أو في مقتل السردار أو في قضية الأطباء - بخاصة - يدركون مقدار ما يتساوى الرجلان في تلك الخطة التي شرعها نابليون للناس، أو نقلها عن هانيبال للأجيال اللاحقة، عندما كان يعلم بقيام حلف ضده في وسط القارة أو في شرقها أو في غربها فلا ينتظر في قصر التويلري بل تجده مرتين تحت أسوار فينا ومرة أخرى في قصر فردريك العظيم ليأخذ ساعته الدقاقة إلى سنت هيلين من بعد باريس!. . . ومرة ثالثة تجده في موسكو. . . أمام الحريق، بل أمام اللانهاية، بل أمام باب الفشل. . . . .
(البقية في العدد القادم)
عبد الحليم الجندي(158/24)
شعراؤنا المنسيون
الأبيوردي
المتوفى في مثل هذا اليوم (20 ربيع الأول) سنة 557
بمناسبة مرور (798 سنة) على وفاته
للأستاذ علي الطنطاوي
مقدمة: بين المعري والبارودي عصر أدبي مديد قد نسى اليوم أو كاد، فمحي من برامج التعليم عندنا، وحكم عليه جملة واحدة بأنه عصر انحطاط في الأدب وجفاف في القرائح، وضعف في الإنشاء، وقحط في الرجال، وانصرف عنه الناس - إلا الخاصة من أهل الأدب - وزهدوا فيه، وارتضوا لأنفسهم الجهل به، وانقطعت الصلة بينهم وبينه، فلا تقرأ لأحد بحثا فيه، ولا تحليلا لشاعر من شعرائه. ولا تسمع اسم رجل من رجاله يتردد على أطراف ألسنة الخطباء، وأسلات أقلام الكتاب، كما تردد اسم بشار والبحتري والمتنبي والمعري، في حين أن هذا العصر الطويل قد أنجب شعراء إذا هم لم يضارعوا الفحولة السابقين، فليسوا خالين من كل مزية، ولا عاطلين من كل حلية. بل إن فيهم لشعراء فحولا، زودوا الأدب العربي بزاد قيم، وأورثونا أدبا جما، وشعراً كثيرا من حقه أن يحفظ وينظم، ويدرس ويحلل. لا سيما ونحن في إبان نهضة أدبية شاملة. . .
وقد أحببت أن أفتح هذا الباب في (الرسالة) لأنها اليوم بمثابة الإمام في الأدب العربي، ولأن في يدها دفة السفينة فهي التي توجهها الوجهة الصالحة إن شاء الله. ولست أسوق هذه الكلمة على أنها دراسة كاملة لهذا الشاعر. ولكن على أنها كلمة موجزة عن نفسيته وشعره، بمناسبة ذكرى وفاته، عل هؤلاء الشعراء المنسيين يبعثون كما بعث بن الرومي من قبل. فيقام للأبيوردي بعد سنتين مهرجان كمهرجان المتنبي بمناسبة مرور ثمانية قرون على وفاته. . . (ع)
قال الأبيوردي:
تنكر لي دهري ولم يدر أنني ... أعزّ وأحداث الزمان تهون
فبات يُريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبتّ أريه الصبر كيف يكون(158/25)
والأبيوردي هو أبو المظفر محمد بن أحمد الأبيوردي المعاويّ الأموي العبشمي الذي يقول:
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت ... لنا رغبة أو رهبة أُمراؤها
فلما انتهت أيامنا علقت بنا ... شدائد أيام قليل رخاؤها
وكان إلينا في السرور ابتسامها ... فصار علينا في الهموم بكاؤها
وصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا حياؤها
هذه نفس الأبيوردي، وهذا شعره
قال الشعر فأكثر، وسار فيه على سنن من تقدمه وعاصره، فمدح وهجا وتغزل، واستنفد المدح أكثر شعره، وعُنى بالصناعة البديعية، وغاص على المعاني المبتكرة، والتوليدات الدقيقة؛ وكان شأنه في ذلك شأن جمهرة الشعراء المداحين لم يأت فيه بجديد، ولم تكن له ميزة في شيء منه، ولكن ميزته في شيء وراء ذلك كله، هو أن له شخصية قوية واضحة تشبه شخصية المتنبي في كثير من نواحيها، وإن هذه الشخصية تظهر في شعره كله، في المدح وفي الهجاء وفي الغزل
وستفهم هذه الشخصية، وترى مبلغ ظهورها في شعره حين تعرف نسبه وأخلاقه، وتقرأ ما سأعرض عليك من شعره
أما نسبه فقد علمت أنه يتصل بأبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس جد الخلفاء الأمويين، الذين ملكوا الدنيا، وفتحوا المشرق والمغرب؛ وقد كان الشاعر معتزاً بهذا النسب لا ينساه ولا يكتمه، ولا يحجم عن أن يواجه به الخلفاء من بني العباس، وأن يفاخرهم به في وجودهم!
كتب مرة إليّ أمير المؤمنين المستظهر بالله رقعة على رأسها الخادم المعاويّ، فغضب الخليفة وأخذ الرقعة فكشط الميم من المعاويّ وردّها إليه. . .
وكان مرة يمدح الخليفة المقتدي العباسي، ففخر أمامه بنسبه الأموي، ووازاه بنسب الخليفة، ولم يزد على أن جعل جدّ الخليفة العباسّ (ساقي الحجيج) ندا لجده وقريعاً، قال:
وقد ولدتني عصبة ضمّ جدّهم ... وجدّ بني ساقي الحجيج عروق
وإني لأبواب الخلائف قارع ... بهم ولساحات الملوك طروق(158/26)
ولم يكن يمتنع من أن يفخر بأجداده الأمويين، ويملأ الدنيا ثناء عليهم، ويفضلهم على الناس كلهم، على مسمع من العباسيين أرباب السلطان وأولياء الأمر، وأن يعرض في فخره بالدولة العباسية وزوالها، قال:
أنا ابن الأكرمين أباً وجداً ... وهم خير الورى عماً وخالا
أشدّهم إذا اجتلدوا قتالا ... وأوثقهم إذا عقدوا حبالا
وأرجحهم لدى الغمزات عوداً ... إذا الخفرات خلين الحجالا
(إلى أن قال):
وهم فتحوا البلاد بباترات ... كأن على أغرتها نمالا
ولولاهم لما درّت بفيء ... ولا أرعى بها العرب الفصالا
وقد علم القبائل أن قومي ... أعزّهم وأكرمهم فعالا
وأصرحهم إذا انتسبوا أصولا ... وأعظمهم إذا وهبوا سجالا
مضوا وأزال ملكهم الليالي ... وأية دولة أمنت زوالا؟
أما أخلاقه فقد كانت أخلاق الصيد من الملوك، لا أخلاق المداح من الشعراء، فقد ذكروا أنه كان عالي الهمة، عزيز النفس، متكبراً تيّاهاً، ذا بأو وصلف وعجب، وكان يتخذ العبيد والغلمان، ويأمر من يمشي بين يديه بالسيف فعل الملوك، وكانت له آمال سياسية، كان يرجو أن يبلغها من طريق المرتبة والولاية، فطلبها وألح في طلبها؛ فلما أيس منها عزى نفسه بأنه سيطلبها بالسيف، فهو يشبه في هذا المعنى المتنبي شاعر العرب الأكبر؛ يدلّ على آماله السياسية وطموحه إلى الملك شعره الذي سيمر بك عما قريب، ودعاؤه عقب كل صلاة: (اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها)، وتيهه على ممدوحيه من الملوك والوزراء، وفخره بنفسه بين أيديهم
أما الشعر فكان ينظمه ترويحاً عن نفسه، وترجمة عن أدبه، ويمدح به من يمدح للأدب لا للنشب، وللوفاء لا للعطاء:
ولم أنظم الشعر عجباً به ... ولم أمتدح أحداً من أرب
ولا هزّني طمع للقري ... ض ولكنه ترجمان الأدب
إني بمدحك مغري غير ملتفت ... إلى ندى خضل الأنواء مطلوب(158/27)
وكان يترفع عن أن يستجدي بالشعر، وأن يعد من الشعراء السؤّال. ويرى نفسه نداً لممدوحيه. فهو ينظم لهم هذه القصائد المعجزة. يبتغي بها ودهم وإخاءهم لا نوالهم وعطاءهم:
ولولاك لم تخطر ببالي قصائد ... هوابط في غور طوالع من نجد
لحقت بها شأو المجيدين قبلها ... وهيهات أن يؤتى بأمثالها بعدي
فهن عذارى مهرها الود لا الندى ... وما كل من يعزى إلى الشعر يستجدي
ولم يكن يسلك سبيل شعراء المدح في الكذب والغلو والمبالغة. ولكن سبيله وصف ما يرى من صفات ممدوحيه وخلالهم وصفاً صادقاً، لا كذب فيه ولا إغراق:
وصدق قولي فيك أفعالك التي ... أبت لقريضي أن أوشحه كذباً
لا زلت تلقح آمالاً وتنتجها ... مواهباً يمتريها كل محروب
وتودع الدهر من شعر أحبره ... مدائحاً لم توشح بالأكاذيب
وكان عارفاً بقيمة شعره، مؤمناً بعلو منزلته وجلالة قدره، فهو يوجه إليه أنظار ممدوحيه ويدل به عليهم، ويمن على من يمدحهم بأن ملوك الأرض يتمنون أن يمدحوا به، ولكنه لا يتنازل إلى مدحهم، ولا يعرج عليهم، ولا يلتفت إليهم:
قليل إلى الري الذليل التفاته ... وان كثرت للواردين المناهل
فدونك مما ينظم الفكر شردا ... سلبن حصى المرجان كل نظام
تسير بشكر غائر الذكر منجد ... يناجي لسانَيْ معرق وشآمي
ويهوى ملوك الأرض أن يمدحوا بها ... وما كل سمع يرتضيه كلامي
وكم ماجد يبغي ثناء أصوغه ... ولكنني عن مدح غيرك أزورُّ
ويودع سيداً كبيراً فلا يجد ما يأسف عليه عند وداعه إلا هذا الشعر الذي يضيق به الحساد، و (تكبو دونه الشعراء) وتنشده الأيام، أن يضيع بعد رحيله ولا يبقى له أهل يخاطبون به
رحلت فالمجد لم ترقأ مدامعه ... ولم ترق علينا المزن أكبادا
وضاع شعر يضيق الحاسدون به ... ذرعاً وتوسعه الأيام إنشادا
فلم أهب بالقوافي بعد بينكم ... ولا حمدت وقد جربت أجوادا
وإذا أنت سألت الشاعر عن منزلته في الشعر لما تردد في القول بأنه فاق الشعراء وبذهم؛(158/28)
فإذا عجبت منه كيف يعجز الشعراء ويبذهم وهو واحد منهم، أجابك جواب المطمئن المؤمن بما يقول: المعتد بنفسه قائلاً:
فقت الأعاريب في شعر فأنت به ... كأنه لؤلؤ في السلك منضود
إن كان يعجزهم قولي ويجمعنا ... أصل فقد تلد الخمر العناقيد
فمن كان له هذا المجد التليد، ينم عنه هذا المنطق المبين:
ينم بمجدي حين أفخر منطقي ... ويعرب عن عتق المذاكي صهيلها
ومن كان سليل الملوك، وشاعر العصر، وذا المجدين: المجد الموروث وهو هذا النسب العالي النبيل، والمجد المكسوب وهو هذا البيان الصافي الأصيل، كان له أن يقوم بين أيدي ممدوحيه مقام العزيز الشامخ بأنفه، وأن يصرخ في وجه الوزير، وقد قام مادحاً له، فنسيه وذكر نفسه، فانقلب منافراً مفاخراً:
وسل بي المجد تعلم أيّ ذي حسب ... في بردتيّ إذا ما حادث هجما
يلين للخل في عزّ عريكته ... محض الهوى وله العتبى إذا ظلما
من معشر لا يناجي الضيم جارهم ... نضو الهموم غضيض الطرف مهتضما
والدهر يعلم أني لا أذل له ... فكيف أفتح بالشكوى إليه فماً
وكيف يشكو الدهر، وشعره غرة في جبين الدهر:
وكيف يشكو الدهر من شعره ... على جبين الدهر مكتوب؟
أو لست تذكر المتنبي شاعرنا الأكبر، حين تقرأ للأبيوردي فخره بنفسه وتمدحه بادلاجه في الليل، وانفراده في الفلوات ترنو إليه النجوم وهو ساع ليكسب قومه عزاً وفخراً في مطلع قصيدة يمدح فيها ويهنئ بالعيد. قال:
وبي عن خطة الضيم ازورار ... إذا ما جدّ للعلياء جدّي
فهل من مبلغ سروات قومي ... مصاحبتي على العَزّاء غمدي
وإدلاجي وجنح الليل طاوٍ ... جناحيه على نصب وكدّ
وقد رنت النجوم إليّ خُوصاً ... بأعين كاسرات الطرف رُمد
لأورثهم مكارم صالحات ... شفعت طريفها لهم بِتَلْدِِ
وهو لا يزال أبداً يحب أن يجمع إلى المجد التليد مجداً طريفاً وأن يؤيد المجد الموروث(158/29)
بمجد مكسوب، لا يقنع بعلو نسبه ورفعة أجداده:
فشيدت مجداً رسا أصله ... أمت إليه بأمّ وأب
ولا يزال يمدح بهذه الخلة من يجدها فيه من ممدوحيه. قال:
مقتل السن عقيد النهى ... تقصر عن غاياته الشيب
والملك لا يحمل أعباءه ... من لم تهذبه التجاريب
شيد ما أثّل من مجده ... والمجد موهوب ومكسوب
أبو علي له في خندف شرف ... لف العلى منه موهوباً بمكسوب
وهو لا يقنع من المجد بالشعر والأدب، ولا بالمال والنسب، ولكن له أملاً سياسياً بعيداً، فهو يألم لما يرى من تفرق الأمراء وغلبه الأعاجم، وينتظر (رجل الساعة. . .) المصلح المرتقب، الذي يجمع شمل الأمة، ويعيد لها شبابها، فيدعو لذلك الملوك، ويهيب بهم، فلا يجد هذا البطل الأروع فرّاج الغمة، محيي الأمة:
دهر تذأب من أبنائه نقد ... وأوطئت عرب أعقاب أعلاج
وأينع الهام لكن نام قاطعها ... فمن لها بزياد أو بحجاج
وكم أهبنا إليها بالملوك فلم ... نظفر بأروع للغماء فراج
فيفتش في أمراء العرب وملوكهم فلا يجد فيهم من يرجى إلا الأمير أبا الشداد، فيقصده بقصيدة يستثيره ويستفزه، ويهيج في نفسه الحمية العربية، ويسأله كيف يرضى وهو اليوم أمل العرب وملجؤهم بأن يقنع العرب بصحراء زرود ورمال حاجر، بينما يأكل الأعاجم الدنيا، ويتناهبون الثراء والمجد، ويحضه على أن يثيرها داحسية شعواء:
فآيهٍ أبا الشداد إن وراءنا ... أحاديث تروى بعدنا في المعاشر
أترضى وما للعرب غير ملجأ ... توسدهم رملى زرود وحاجر
فأين الجياد الجرد تخطو إلى العدى ... على عَلَق تروى به الأرض مائر
وفتيان صدق يصدرون عن الوغى ... وأيدي المنايا داميات الأظافر
وحاجتهم إحدى اثنتين من العلى ... صدور العوالي أو فروع المنابر
فإذا يئس من أن يجد في الناس هذا الرجل، تقدم ليحقق أمله بنفسه، فكانت حاله كحال المتنبي، يسعى إلى رتبة أو ولاية يتخذها سلماً إلى مثله الأعلى، فيطلبها ولا يراها بدعاً(158/30)
ولا عجباً، ولا يراه خلق إلا لها. . . واسمعه يقول لمؤيد الملك:
إليك أوى يا ابن الأكارم ماجد ... له عند أحداث الزمان طوائل
تجر قوافيه إليك ذيولها ... كما ابتسمت غبّ الرهام الخمائل
وعندك ترعى حرمة المجد فارتمى ... إليك به دامي الأظلين بازل
قليل إلى الري الذليل التفاته ... وإن كثرت للواردين المناهل
وها أنا أرجو من زمانك رتبة ... يقل المسامي عندها والمساجل
وليس ببدع أن أنال بك العلى ... فمثلك مأمول ومثلي آمل
كان هذا أمله في حله وترحاله، وغايته من اغترابه عن بلده، ونأيه عن أهله، وما كان يطلب مالاً ولا ثروة، وما كانت به حاجة للمال ولا ضاقت أرضه برزقه، ورزق عياله، واسمعه يقول لسيد الوزراء أحمد بن الحسين:
ولم نغترب مستشرفين لثروة ... فمرعى مطايانا بيبرين مبقل
ولكننا نحمي ذمار معاشر ... لهم آخر في المكرمات وأول
ومن سلبته نوشة الدهر عزه ... فنحن لريب الدهر لا نتذلل
ولو هو أراد الغنى لناله، لا سؤالاً واستجداء، ولكن على ظبي السيوف وأطراف الرماح، ولكنه يريد غاية بعيدة، دونها جرع الردى وحياض الموت، يسعى إليه بفتيان (من أمية) هم موقدو الحروب ومطفئوها:
ومن خاف أن يستصعر الفقر خده ... وفى بالغنى لي أعوجى ومنصل
ومكتحلات بالظلام أثيرها ... وهن كأشباح الأهلة نحّل
ولا صحب لي إلا الأسنة والظبى ... بحيث عيون الشهب بالنقع تكحل
وحولي من روقى أمية غلمة ... بهم تطفأ الحرب العوان وتشعل
سريت بهم والناجيات كأنها ... رماح بأيديهم من الخط ذبَّل
فحلوا حُبَى الليل البهيم بأوجه ... سنا الفجر في أرجائها يتهلل
وخاضوا غمار النائبات وما لهم ... سوى الله والرمح الرديني معقل
يرومون أمراً دونه جرع الردى ... تعلّ بها نفس الكمىّ وتنهل
فبتنا وقد نام الأنام عن العلى ... نسارى النجوم الزهر والليل أليل(158/31)
وتمر الأيام وهو لا يصل إلى شيء مما يؤمل، ويضيق بحالة الذل والمهانة، فيلوم نفسه على قعوده، ويعزم العزمة الفاصلة التي تكون فيها المنى والمنايا:
تقول ابنة السعدي وهي تلومني ... أمالك عن دار الهوان رحيل
فان عناء المستنيم إلى الأذى ... بحيث يذل الأكرمون طويل
وعندك محبوك السراة مطهم ... وفي الكف مطرور الشباة صقيل
فثب وثبة المنايا أو المنى ... فكل محبّ للحياة ذليل
وثبة أموية، ينال بها عزّ أجداده الأمويين ومجدهم. فليس العز إلا أن يغامر المرء. ويحمل نفسه على الخطة التي تبقي ذكره في الناس أبد الدهر، فأما أن يموت فيقال لله دره، وإما أن يكتب له الظفر:
ألم تعلما أني على الخطب إن عرا ... صبور إذا ما عاجز عيل صبره
فلا عزّ حتى يحمل المرء نفسه ... على خطة يبقى بها الدهر ذكره
ويغشى غماراً دونها جرع الردى ... فان هو أودى قيل: لله درّه
ولا بدّ لي من وثبة أموية ... بحيث العجاج الليل والسيف فجره
ولا يثنيه عن وثبته الأموية بعد المدى، ووعورة الطريق، وما يعتور السبيل إليها من أخطار وخطوب أهونها الموت، لأنه ألف حمل الخطوب، وتعود الصبر، وأعد للنائبات عزائم تروض إباء الدهر إذا شمس الدهر، ولم يحفل بالدنيا وهي غضة غريضة ولم يبال بها، أفيقبل عليها وهي جافة ذابلة، وهل تثنيه عن مرامه لذاذاتها؟
أسمعه حين يقول:
سل الدهر عني أي خطب أمارس ... وعن ضحكي في وجهه وهو عابس
سأحمل أعباء الخطوب فطالما ... تماشت على الأين الجمال القناعس
وأنتظر العقبى وإن بعد المدى ... وأرقب ضوء الفجر والليل دامس
وإني لأقري النائبات عزائما ... تروض إباء الدهر والدهر شامس
وأحقر دنيا تسترق لها الطلى ... مطامع لحظى دونها متشاوس
تجافيت عنها وهي خود غريرة ... فهل أبتغيها وهي شمطاء عانس
ولي مقلة وحشية لا تروقها ... نفائس تحويها نفوس خسائس(158/32)
ولا يثنيه عنها رقة حاله، ورثاثة أطماره، فهو كالسيف القاطع البتار، لا يضره الغمد، وهمته كامنة في ضمير الدهر، ولا بد للضمير المستتر أن يظهر:
رأت أميمة أطماري وناظرها ... يعوم في الدمع منهلاً بوادره
وما درت أن في أثنائها رجلاً ... ترخى على الأسد الضاري غدائره
أغر في ملتقى أوداجه صيد ... حمر مناصله بيض عشائره
إن رث بردى فليس السيف محتفلاً ... بالغمد وهو وميض الغرب باتره
وهمتي في ضمير الدهر كامنة ... وسوف يظهر ما تخفى ضمائره
وكأنك تسأل بعد هذا كله، ألم يلق الشاعر شدة وعناء وهو يصرح بذكر الوثبة الأموية، ويدعو إليها علناً في ظلّ الحكم العباسي، ألم يتنكر له أولو الأمر، ويزوروا عنه ويناوئوه العداوة، ويبطشوا به؟ وها هوذا الشاعر يخبرك بأنه لقي أذى كثيراً، وشراً مستطيراً، فريع من غير أن يذنب، وجفى من غير أن يخون؛ ولكنه اعتصم بالصبر، ولاذ بالحزم، ولم يلن ولم يشك ولم ينهزم:
وقد طرقتني النائبات بحادث ... لو أن الصفا يرمي به لتصدعا
أراع ولم أذنب وأجفى ولم أخن ... وقد صدَّق الواشي فأخنى وأقذعا
ولست وإن عض الزمان بغاربي ... أطيل على الضراء مبكى ومجزعا
إذا ما أغام الخطب لم أحتفل به ... وضاجعت فيه الصبر حتى تقشعا
ولماذا يذل ويخضع، وهو إن ضاقت عنه بلدة فستتسع له أخرى، وحسب البلدة عاراً أن يرحل الشاعر عنها، وإن أدلت عليه بابل بسحرها الحرام، فهو يدل عليها بسحره الحلال، ويجعل من شعره حيثما حلّ بابل. . .
أبابل لا واديك بالرفد منعم ... لدينا ولا ناديك بالوفد آهل
لئن ضقت عنا فالبلاد فسيحة ... وحسبك عاراً أنني عنك راحل
وإن كنت بالسحر الحرام مدلة ... فعندي من السحر الحلال دلائل
قواف تعير الأعين النجل سحرها ... فكل مكان خيمت فيه بابل
وأي فتى ماضي العزيمة راعه ... ملوكك لاروّى رباعك وابل
وبعدُ. . . فاسمع الشاعر نفسه يصف لك شخصيته، ويخبرك أنه يمدح ويأخذ، ولكنه أعزّ(158/33)
من أن يملكه الملوك بثوابهم ونوالهم، وأنه لا يستسيغ الذلّ ولا يحب أن يتمرغ فيه ظهراً لبطن، ولا يألف حياة الدعة والأمن في ظل الروض بين الكأس والطاس، ولا يفرق من المنايا ويخشى المهالك، ولكنه يريد أن يثيرها حرباً عواناً في سبيل غاياته ومطامحه:
سواي يجرّ هفوته التظني ... ويرخى عقد حبوته التمني
ويلبس جيده أطواق نعمى ... تشف وراءها أغلال منّ
إذا ما سامه اللؤماء ضيما ... تمرّغ في الأذى ظهراً لبطن
وظلّ نديم عاطية وروض ... وبات صريع باطية ودنّ
وأشعر قلبه فرق المنايا ... وأودع سمعه نغم المغنى
وصلصلة اللجام لدي أحرى ... بعز في مباءته مبنّ
فلست لحاضن إن لم أقدها ... عوابس تحت أغلمه كجنّ
وهأنا أوسع الثقلين صدرا ... ولكنّ الزمان يضيق عني
هذه شخصية الأبيوردي وهذا شعره، أفيستحق أن يهمل وينسى؟. . .
(دمشق)
علي الطنطاوي(158/34)
2 - أثر الحرب الكبرى في بريطانيا
للأستاذ رمزي ميور
أستاذ التاريخ الحديث في جامعة منشستر سابقاً
ترجمة الأستاذ محمد بدران
ناظر مدرسة بمباقادن الابتدائية
كذلك لم يعد لبريطانيا بعد الحرب ذلك السلطان الكبير الذي كان يوليها إياه تفوقها التجاري على أمم العالم أجمع. نعم أنها لا تزال تمتلك وتُسير ثلث سفائن العالم، وذلك لأنها أوسع أسواق الأرض حرية، لكن نصف سفنها معطل؛ وقد خسرت جزءاً كبيراً من تجارتها الخارجية التي تُعَوّل عليها في حياتها وإن كانت صادراتها (منسوبة إلى عدد السكان) لا تزال ضعفي صادرات أكبر الأمم المنافسة لها تقريباً. على أن ما فقدته من تجارتها الخارجية إذا رجع بعضه إلى خطأ ارتكبته فلا يرجع كله أو جله إلى ذلك الخطأ. ذلك بأنها في أثناء الحرب اضطرت أن تضحي بمعظم أسواقها الخارجية لكي تركز جميع قواتها القومية في الأعمال الحربية. وذلك الفراغ الذي تركته شغلت بعضه أمم أخرى (كاليابان والولايات المتحدة) لم يُنقِض ظهرها عبء الحرب وشَغَل البعض الآخر ما قام من الصناعات القومية على أنقاض الواردات البريطانية. فلما وضعت الحرب أوزارها أقيمت لحماية هذه الصناعات حواجز من الضرائب الجمركية العالية، وأخذت الأمم جميعها في داخل أوربا وخارجها تعمل (للاكتفاء بنفسها)، فأدى ذلك العمل إلى النتيجة السالفة الذكر؛ وكان من جراء ذلك أن بريطانيا التي لا أمل لها في أن تكتفي بنفسها والتي لا تستطيع أن تحيا إلا بالاتجار مع العالم أجمع تجارة واسعة، انحطت إلى المنزلة التي انحطت إليها مدينة (ويانة) بعد الحرب. لقد كانت بريطانيا كما كانت ويانة تعتمد في رخائها على موقعها في ملتقى الطرق التجارية الكثيرة فنالها ما نال ويانة بعد أن أقيمت الحواجز المتعددة في هذه الطرق التجارية، وإلى هذا يرجع معظم السبب في ازدياد عدد المتعطلين. وقد بلغ من خطورة هذه الحال الجديدة أن أخذ قسم كبير من الرأي العام يدعو إلى ترك نظام الحرية التجارية الذي تسير عليه بريطانيا واتباع سياسة (الاكتفاء بالنفس) التي تتبعها البلدان(158/35)
الأخرى. ولما كانت بريطانيا لا تستطيع أن تكتفي بنفسها إلا إذا خلصت من نصف سكانها فقد قويت فيها الدعوة إلى التوسل لتلك الغاية، غاية الاكتفاء بالنفس اكتفاء تاماً - بتوحيد الإمبراطورية من الناحية الاقتصادية. فإذا ما رضيت أجزاء الإمبراطورية بأن تتخلى عن مسعاها للاكتفاء بنفسها - وبعيد أن ترضى بذلك في القريب العاجل - كان معنى رضائها أن بريطانيا تضعف باختيارها أو قل تعطل ثلثي تجارتها الخارجية لكي تتفرغ إلى إنماء الثلث الباقي؛ وإذا فعلت ذلك فإنها تكون قد تحولت تحولا تاما عن السياسة التي قام عليها النظام الاقتصادي البريطاني حتى الآن
هذه التطورات تعد في مجموعها انقلاباً خطيراً في مركز بريطانيا ومبادئها يتطلب تعديلاً في سياستها القومية، ولاشك في أن بريطانيا تجتاز الآن أزمة بل خطراً قومياً شديداً. على أن كل تغيير بمفرده لا يعد خطيراً في ذاته. فإذا كان مركز بريطانيا الجزري لم يعد يكفل لها السلامة فان سياسة عالمية رشيدة تكفل لها سلامة أبقى وأعظم؛ ولا يزال موقع هذه الجزيرة في وسط أهم الطرق التجارية البحرية وفي قلب العالم المتمدين تقريباً خير موقع جغرافي يتمتع به بلد على وجه الأرض. وإذا لم تكن بريطانيا الآن سيدة البحار بلا منازع فان ذلك لا أهمية له إذا بقيت البحار في سلام. وإذا لم تكن لها (السيطرة على إمبراطورية فان خيراً من هذه السيطرة أن تكون هي القلب النابض لمجموعة من الأمم الحرة على شريطة أن تنظم هذه المجموعة تنظيماً يمكنها من أن تتعاون تعاوناً حراً. وقد تكون بريطانيا وراء غيرها من الأمم في اتباع أحسن وسائل التنظيم الصناعي، ولكن هذا أمر يستطاع تداركه بالعمل والحكمة. وإن اندماج أجزاء مقاطعاتها الصناعية وقربها من الثغور التي تستمد منها حاجاتها ومن مصادر القوى اللازمة لها، كل ذلك يكسبها ميزات عظيمة إذا أحسن الانتفاع بها. وقد لا تجد بريطانيا في بلادها حاجتها من الزيت أو القوى المائية. ولكن العلم والعمل كفيلان باستخراجهما من مناجم فحمها الغنية؛ وربما كان النقص قد اعترى قدرتها المالية، ولكن هذه القدرة لا تزال عظيمة برغم هذا النقص، وفي الإمكان زيادتها إذا اتخذت الوسائل الكفيلة بتشجيع الادخار؛ وإذا أحسن توحيد مجهودها القومي بقيادة رشيدة فان هذا المجهود خليق بتخفيف عبء الضرائب الذي لا يزيد كثيراً على ما كان عليه منذ مائة عام إذا روعيت النسبة بين العهدين. كذلك لا يرجى أن تحتفظ بريطانيا(158/36)
بما كان لها من تفوق عظيم في التجارة العالمية، ولكن إذا أيقن عمالها والمشرفون على الصناعة فيها أن الواجب يقضي عليهم بأن يقاوموا كل منافسة شريفة بكفايتهم وحدها وأن يكونوا أنداداً لمنافسيهم وأن ينظموا بيوتهم، إذا أيقنوا بذلك استطاعت بريطانيا أن تستعيد من الأسواق ما يضمن لأهلها ارتقاء مطرداً في مستوى معيشتهم، وأن تنمي مواردها وموارد الإمبراطورية نماء عظيما
ولكن يلوح أنها إذا شاءت أن تنال هذه الأغراض فان عليها أن توجه إليها مجهوداً قومياً عاماً شبيهاً بالمجهود الذي أنالها النصر في الحرب. ولا بد لها أن تتغلب على روح الاستسلام والقنوط وما يؤدي إليه من خور في العزيمة. وأخيراً إن بلوغ هذه الغاية موقوف على نوع الحكومة القائمة في البلاد وصفاتها، وذلك لأن واجبات الحكومة في الوقت الحاضر أكبر شأناً وأعظم أثراً مما كانت في الماضي. وإن للطريقة التي تؤدى بها هذه الواجبات أثراً بليغاً في نفوس الشعب لا يعادله أثرها في الماضي، ولذلك يهمنا أن نعرف كيف عدل نظام الحكومة البريطانية ذو الشهرة العالمية الكبيرة لكي يتفق مع مقتضيات العهد الذي أعقب الحرب
ليس الجواب عن هذا السؤال مما يسر له الخاطر؛ فإننا إذا حكمنا على الأشياء بنتائجها تبين لنا أن نظام الحكم البريطاني أقل نجاحاً من النظام الفرنسي أو الألماني الحديث في بعث روح النشاط القومي الموحد وفي قيادة الأمة في هذه الأوقات العصيبة؛ وإذا حكمنا على هذا النظام بأثره في أخلاق الناس من كافة الطبقات رأينا أنه لم يخلق زعماء أنجادا قادرين على التفكير والإنشاء ينالون ثقة الأمة ويتحملون التبعات أمثال شترزمان في ألمانيا، أو بوانكريه وبريان في فرنسا (رغم ما فيهم من نقص). وقصارى القول إن هذا النظام لم يفلح في إشعار الأمة بحاجتها إلى توحيد جهودها وخلق الزعماء الذين يقودونها في بذل هذه الجهود
وقد يكون سبب هذا العجز أن بريطانيا الآن تواجه عهداً جديداً بإداة حكومية لا تستطيع أن تعالج ما فيه من المشاكل. ويلوح أن السياسة البريطانية يسيطر عليها أكثر مما يجب التنافس الدائم على السلطة بين الأحزاب المختلفة التي لا يبذل كل منها جهده في العمل الإنشائي المنتج بل في التشهير بغيره وكشف عيوبه ونقائصه. لسنا ننكر أن الأحزاب(158/37)
السياسية أداة ضرورية للحكم الديمقراطي، ولكن يلوح أن نظام الأحزاب البريطانية جامد خال من المرونة يجعل المشرفين على سياستها شرذمة قليلة من الزعماء المطلقي التصرف يستقلون بوضع خطط الحزب، ولا ينفكُّ أتباعهم أنفسهم يضمرون في نفوسهم الثورة عليهم وإن أطاعوهم في إعطاء أصواتهم، وذلك لأن هؤلاء الزعماء ينكرون عليهم حرية المناقشة بله حرية العمل
لقد تكلمنا من قبل عما طرأ على نظام الحكم البريطاني من تغيير، وقلنا إن أهم مظاهر هذا الحكم مظهران: أولهما تركيز السلطة جميعها من تشريعية ومالية وإدارية في يد وزارة حزبية قليلة العدد أوقرت ظهرها المسئوليات الجسيمة التي أخذتها على عاتقها فأصبحت عاجزة عن النظر إلى حاجات الأمة نظرة واسعة المدى. وثانيهما حرمان البرلمان من كل سلطة إلا من إشراف صوري محض على أعمال الحكومة حتى صار عمله في الحقيقة مقصوراً على نقدها. إن في وسع البرلمان أن يشهر بأعمال الحكومة ويعطلها. ولكنه ممنوع من أن يعمل شيئاً من عنده لإصلاحها، فلا عجب والحالة هذه إذا لم يكن في الإمكان مواجهة الطوارئ القومية الخطيرة وعلاجها علاجاً ناجحاً. وإذا شاءت بريطانيا أن تنازل الصعاب التي قامت بعد الحرب وهي واثقة من النجاح كان عليها كما يلوح أن تبدأ بإصلاح زعامتها وأداتها الحكومية
2 - الإمبراطورية البريطانية
تتألف الإمبراطورية البريطانية من ثلاثة عناصر مختلفة: أولها الأملاك العظيمة التي تحكم نفسها بنفسها، وهي أملاك كانت منذ زمن طويل ولا تزال حتى الآن دولاً مستقلة كل ما بينها وبين بريطانيا من روابط أنها تدين معها بالطاعة لتاج واحد، وأنها تشترك معها فيما تتمتع به من نظم الحرية. وثاني هذه العناصر هو البلدان الشرقية ذات الحضارة القديمة، وهي الهند وسيلان وبلاد الملايو؛ وهي بلاد للحكومة البريطانية عليها إشراف مباشر أكبر مما لها على البلدان الأولى، وإن كانت هذه البلدان أيضاً أخذت تطالب بحقها في حكم نفسها بنفسها ونالت بعض هذا الحق في السنين الأخيرة. والعنصر الثالث أجزاء الإمبراطورية المحكومة، وتشمل أصقاعا واسعة في أفريقية لم تنضم إلى الإمبراطورية إلا في خلال الخمسين سنة الأخيرة. وهذه الأملاك تسيطر عليها الحكومة البريطانية سيطرة فعلية(158/38)
بأشكال مختلفة. هذه الإمبراطورية العجيبة التكوين التي تشمل ربع مساحة المعمورة وربع سكانها، ليست موحدة التركيب ولا النظام، وليست لها قوة مركزية فعالة تفرض طاعتها على هذه الأجزاء، اللهم إلا قوة الأسطول. ولقد أخذ شكل هذه الإمبراطورية منذ عام 1830 يتغير تغيراً مضطربا حسب الظروف، ويتحول بالتدريج من إمبراطورية بالمعنى الصحيح إلى ما يسمونه الآن أسرة من الأمم
على أن هذه الإمبراطورية كانت إلى ما قبل الحرب بقليل وحدة متماسكة من ناحيتين مهمتين على أقل تقدير، فقد كان لها سياسة خارجية واحدة تسيرها كلها (هويت هول)؛ وكانت جميع أجزائها حتى الأملاك المستقلة التي كانت الروح القومية تضطرم فيها راضية بترك العلاقات الخارجية في يد وزارة الخارجية البريطانية، وذلك لقلة دراية هذه الأجزاء وقلة اهتمامها بمشاكل أوربا، واعتقادها أن لا شأن لها بهذه المشاكل؛ ولم يؤخذ رأي مندوبي الأملاك المستقلة في السياسة الخارجية إلا في السنين المضطربة التي سبقت الحرب عندما اشتد الخطر الألماني، فعقد المؤتمران الإمبراطوريان في عامي 1907، 1911؛ على أنه حتى في ذلك الوقت لم تتخذ وسائل رسمية لتنظيم طرق هذه الاستشارة أو الإدارة العامة، وبقي وزير خارجية بريطانيا هو نفسه وزير خارجية الإمبراطورية جميعها. كذلك كانت الإمبراطورية كلها تعتمد على نظام مشترك للدفاع عن جميع أجزائها، وكان عبء هذا الدفاع يكاد يقع كله على عاتق بريطانيا، كما كانت أداته الفعالة بطبيعة الحال هي الدستور الذي يحفظ طرق المواصلات البحرية بين مختلف أجزاء الإمبراطورية مفتوحة. والذي جعل للأسطول هذه الأهمية أن الإمبراطورية البريطانية لا يستطاع غزوها براً إلا من مكان واحد هو حدود الهند الشمالية الغربية؛ فلما بدأت بريطانيا تخاف ألمانيا قبيل الحرب تبادلت أجزاء الإمبراطورية الرأي لأول مرة في شؤون الدفاع، واشتركت الأملاك المستقلة بعض الاشتراك في نفقات الأسطول، واتبع في تنظيم القوات الحربية القليلة التي كانت هذه الأملاك تحتفظ بها نظام الجيش البريطاني؛ وكان هذا الجيش قد أعيد تنظيمه قبل ذلك الوقت على يد اللورد هلدين، ولكنه مع ذلك لم توضع خطة للدفاع الإمبراطوري، كما أنه لم تكن ثمة استشارة إمبراطورية في الشؤون الخارجية
وكان كثير من الناس يتوقعون أن الإمبراطورية ستنهار وتتقطع أوصالها إذا ما لاح شبح(158/39)
الحرب لسبب ما هي عليه من ضعف في النظام. وكانت ألمانيا بوجه خاص تتوقع أن تنفض الأملاك المستقلة يدها من النزاع، وأن يندلع في الهند لهيب الثورة؛ وأن الأملاك الجديدة في أفريقية وغيرها من القارات سيحتاج الاحتفاظ بها إلى قوى كبيرة. لكن مجرى الحوادث بدد هذه الأوهام، وكان من أعظم مظاهر الحرب ما تجلى من روح الإخلاص الإجماعي الحماسي في كل جزء من أجزاء الإمبراطورية تقريباً، وما ضحت به هذه الأجزاء من أنفس وأموال تقدمت بها الشعوب في أطراف الأرض عن رضا وطيب خاطر، فقد جندت كندا وزيلندة الجديدة وأستراليا جميع رجالها تقريباً. ولما تمردت طوائف البوير المشاكسة في جنوب أفريقية أخمد البوير أنفسهم هذا التمرد على الفور، ثم بذل الشعبان اللذان تتكون منهما تلك البلاد جهداً عظيماً في الاستيلاء على المستعمرات الألمانية، وأرسلا كتائب من بلادهما إلى خنادق فرنسا. وفي الهند سكن الاضطراب السياسي الذي كان منتشرا قبل الحرب وأرسلت منها إلى فرنسا وفلسطين والعراق والصين جيوش لم ترسل الهند مثلها من قبل إلى ميادين القتال، ولاح أن الحرب ومحنها أثبتت صلاحية نظام الإمبراطورية الحر الطليق على الرغم من تراخيه وقلة تماسكه. لكن ضخامة هذه التضحيات بدل موقف الإمبراطورية بازاء مشاكل الدفاع والسياسة الخارجية، وأحدث في بناء هذه الإمبراطورية تطورات غاية في الأهمية، فلم يعد في الإمكان بعدئذ أن تعالج هذه الأمور وكأنها لا تعني الأجزاء النائية من الإمبراطورية، بل كان لا بد من استشارة ممثليها بوسيلة من الوسائل إذا أريد أن تبقى هذه قائمة
وفضلا عن ذلك فقد شعرت الهند، وكان لا بد أن تشعر، أنها بعد أن اضطلعت في الحرب بهذا العمل الخطير قد قويت حجتها في أن يؤخذ رأيها عن طريق الموظفين البريطانيين الذين يديرون دولاب حكومتها، وأن يعترف بأنها وحدة قائمة بذاتها، وأن تتمتع بما يتمتع به غيرها من أجزاء الإمبراطورية من حقوق الاستقلال الداخلي؛ وبذلك كانت الحرب سبباً في تقوية الحركة القومية في الهند وفي غيرها من أجزاء الإمبراطورية
(البقية في العدد القادم)
محمد بدران(158/40)
في النقد أيضاً
للأستاذ محمد رفيق اللبابيدي
سيدي الأستاذ صاحب الرسالة
كنت أطمع، وكان القراء يطمعون معي أن نظفر بسلسلة متصلة الحلقات من ردود فحولة أدبائنا على ما عرضت له في (النقد المزيف)، وعلى ما عرض له الأستاذ أحمد أمين ومن جاء بعده؛ وكنا نود أن يكون لنا من هذا باب للولوج في بحوث أخرى تعيد الأدب رجْعه إلى أيام احتدام النهضة الأدبية فيثب بعض الوثوب بعد قعوده هذا القعود طوال عشر السنوات الأخيرة، وكأنا ذهبنا في أمانينا هذه بعيداً فلم يعدُ الكلام بضع كلمات شابها كثير من الألوان التي نشكو منها ويشكو منها أيضاً الأستاذ أحمد أمين. . .
وكاتب هذه الكلمة إليك - أو هذه الرسالة إلى صاحب الرسالة - من تعلم صغير جداً وضئيل، وليس له من القوة ما ينزل به في ميدان يصول فيه كبار الكتاب والأدباء؛ غير أنه ساير البعث الأدبي في مصر منذ حين طالباً فيها، وساير هذا الجمود في الأدب أستاذاً في معهد ثانوي بعيد عنها؛ وقد يرى البعيد ما لا يراه القريب. ونحن معشر القراء في خارج مصر أقدر على الحكم المجرد من العاطفة فيما هو جدير بالاحتفال به من آثار الأدباء والعلماء؛ ثم نحن أقدر على إلغاء المجاملة الأدبية فيما نكتبه وهي ما تعوده الكتاب بعضهم من بعض، يلبس كل منهم نقده لباساً من الأسلوب الصفيق لا تُرى من خلاله الحقيقة إلا كما ترى الشمس في يوم ماطر ملبد بالغيوم
ولست أدري، أو إني لا أحب أن أدري، السر في هذا الذي يغمر بيئتنا الأدبية من قواعد الكياسة في الحذر من إغضاب الأصدقاء والمقربين حين نعرض لنقدهم. فالكاتب يريد أن يقول كلمته، ولكن في لجلجة المشفق الفِرق، ويريد أن يجهر بما في نفسه، ولكنه يتورع أن يكون جريئاً، فقد يكون في الغد فيما يكون فيه سواه اليوم، وقد يقال فيه ما سيقوله هو في غيره، فهو واسع الحيلة يداور في إرضاء القراء والذين يعرض إلى نقدهم مداورة تحمله أن ينقد نقداً مجملاً فيه إمتاع بالفكرة التائهة والرأي الطائر، وذلك حسبه في نقده
والحق أني لو كنت كاتباً نابه الذكر، طائر الصيت، لربما كنت أشفق أن أقول إشفاق هؤلاء الكبار الفحول؛ وداؤنا في الشرق مستعص ما دام النقد شخصياً بعيداً عن المثل الأعلى؛(158/42)
وهذا الضعف الخلقي في النقد إليه وحده يرجع - فيما نعتقد - سبب هذا الركود وهذا الجمود في أدبنا المقعد
وبعد فيا سيدي الأستاذ هل النقد بالمعنى الذي نراد عليه نحن معشر القراء - والقراء من فئة خاصة طبعاً - هو هذا اللون من تناول الكتاب أو البحث تناولاً صورياً والكتابة فيه مثل هذه الكلمات الضافية، فيها قدرة الكاتب وبراعته، وليس فيها علمه وعقله،؟؟ وهل النقد الأدبي هو هذا الذي نسيغه في صحافتنا كل يوم أو كل أسبوع من عجالات الكتاب وبحوثهم العابرة؟؟
وهل النقد هو هذا التقريظ الذي يتولاه كتابنا حين يدفع المؤلف أو الباحث إلى المطبعة كتابه أو مؤلفه فيخرجه بعد الجهد الجاهد في أيامه وأعوامه ليتولى الحكم فيه كاتب يقلب صفحاته بعض الساعة وقد لا يزيد؟.؟.
الحق يا سيدي الأستاذ أن ضعف النقد يرجع إذا أجملنا القول إلى:
1 - احتفال الناقد بشأن المنقود
2 - النقد العابر الصوري
وإن النقد في مصر - وهي سوق عكاظ العرب اليوم - لا يتجاوز هذين اللونين. والكتاب بين فريقين: فريق يتحامى المنقود، وفريق يجهل فضله فيقول ما لا وزن له ولا قيمة، فلا يعبأ بما يقوله القراء
ثم إن الطائل الذي يقع على كتاب مصر الفحول ومشيخة الأدب فيها عظيم جداً، فهم قادة مسئولون ورعاة مطالبون بتأدية رسالتهم الأدبية؛ والنقد بمقاييسه العلمية الصادقة يكشف المخبوء المتواضع من العبقريات المغمورة. وربَّ بحثٍ في صحيفةٍ وجّه الأدب وجهة قوية ودفعه إلى الغاية التي ينشدها هؤلاء العامة عليه دفعاً لا ازورار بين يديه ولا نكوص
ومتى كان لهذا النقد هذا الوزن فقال الناقد قوله لم يخطب به ودّ المنقود، ولم يتملق به عاطفة الجمهور، ولم يستلّ به سخيمة في نفسه، اختفت هذه العيوب التي نشكوها، وقويت الصراحة على هذا الضعف، وأحجم غير الأكفاء أن يلجوا بابه ويقتحموه ولوجهم له اليوم، وكان ما يدور بين الكتاب والأدباء والعلماء درساً من دروس عامة يفيد منها الجمهور وتفيد منها البيئة الأدبية، ثم كان هذا النقد أساساً صخرياً في بناء نهضتنا الأدبية في عصرنا(158/43)
الحاضر
هذا وحسبي يا سيدي الأستاذ أن أكون في كلمتي هذه قد بثثتك بعض ما يُحسُّ به كثير من القراء في الخارج، وقد يكون بعض ما يحسُّ به كثيرون في مصر؛ ورجاؤنا أن يتسع صدر (الرسالة) لمثل هذا النقد اتساعه للنواحي الأخرى التي نرى، وان تكون رسالتها سفارة الحقيقة المبسوطة بين الكتاب والقراء لا ترعى في ذلك غير ما تقتضيه إياها المقاييس الأدبية؛ والسلام على الأستاذ ورحمة الله وبركاته
محمد رفيق اللبابيدي(158/44)
شعراء الموسم في الميزان
نقد وتحليل
للأديب عباس حسان خضر
- 1 -
ما أظن أننا كنا نجد فرصة، مثل موسم الشعر، نقف فيها إلى الشعراء لنرى ما عندهم، فقد أنشد كل شاعر قصيدة هي خير ما عنده، أو من خير ما عنده. ولو أن الحفل كان لمناسبة من المناسبات التي يقال فيها الشعر في غرض واحد، لما كان يصح أن تكون مقياساً لتفاوت الشعراء وتفاضلهم، فقد لا يجيد شاعر في الرثاء مثلا ويجيد في غيره، وفي الوقت نفسه يكون إلى جانبه شاعر على عكسه في ذلك. أما موسم الشعر فقد قال فيه كل شاعر فيما يحسنه، وما تواتيه قريحته في تناوله، فالموسم إذن ميزان تميل كفته بالراجح في الشعر لا ينقص من قدره شيء
ولقد كان الناس يقولون بانقضاء الشعر بعد شوقي وحافظ، وكان الشعراء يدافعون هذا القول بوثبات غير مقنعة كل الإقناع، ولكن موسم الشعر حمل إلى الناس دليلاً على أن في الجيل الحاضر جيلاً من الشعراء لا بأس به في مجموعه، وإن كان منهم من برز وبرع
ولكن الفرصة كادت أن تفلت، وكاد الموسم يقضي بانقضاء الساعتين اللتين شغلهما الشعراء بإلقاء القصائد، مودعاً بكلمات إخبارية من الصحف لا تغني عن النقد شيئاً؛ فلم يقض الموسم من عمره إلا المرحلة الأولى وهي عرض الشعراء قصائدهم، فما كادوا ينتهون من ذلك حتى انفضت السوق ولم ينصب لهم ميزان؛ والحق أنني كنت أوثر أن أكون شاهدا للموسم، مستمتعاً بما يجري فيه على أن أجوب معمعته وأقيم ميزان النقد في سوقه؛ ولكن النقاد حرموني هذه المتعة بإحجامهم عن النقد، ولست أدرى لماذا أحجموا
أما وقد أخذت على نفسي أن أسلك في هذه المهمة سبيل الحق، عالماً بما في هذا السبيل من أشواك، موطد العزم على اجتيازها، فلا يبقى إلا رجاء التوفيق وإلهام الصواب. وأخذا في تلك السبيل سنتبع في تصفح القصائد وتفحصها ترتيب الشعراء أنفسهم في الإلقاء إذ كان ذلك على حسب الحروف الهجائية(158/45)
عاصفة روح
قصيدتان ألقاهما الدكتور إبراهيم ناجي، وقدم لهما بهذه العبارة: (قصة نفس، ذات فصلين: الأول ثورة النفس بينما الزورق يغرق والملاح يستصرخ؛ والثاني استيقاظ الكبرياء بعد هدوء العاصفة)
والواقع أن هذه العناوين: (عاصفة روح. قصة نفس. ثورة نفس. كبرياء) ليست ذات حظ كبير من المدلولات في القصيدتين، نستثني منها (الكبرياء) لأربعة أبيات في آخر القصيدة الثانية التي سماها بهذا الاسم (الكبرياء) تحدث في هذه الأبيات عن الشمم والكبرياء حديثاً يملأ النفس ويفعم القلب، وهي:
أيخيفني العشب الضعيف أنا الذي ... أسلمت للشوك الممض أديمي
وإذا ونى قلبي يدق مكانه ... شممي وتخفق كبرياء همومي
ورجعت أحمل جعبتي متحدياً ... زمني بها وحواسدي وخصومي
ورفعت نحو الله رأساً ما انحنى ... بالذل يوماً في رحاب عظيم
وهذه أبيات جيدة؛ غير أن كبرياء الهموم أمر لا يطاق! وسياق المعنى يقتض كبرياءه هو لا كبرياء همومه؛ أما فيما عدا هذه الأبيات فلا تجد روحاً، لا عاصفة ولا غير عاصفة، ولا تجد في قصيدة (ثورة نفس) وهي الفصل الأول (للاقصة) نفساً، لا ثائرة ولا هادئة؛ وإنما هي ثورة كلمات على أوضاع الكلام، وتمرد عبارات على أداء المعاني. . مهلاً أيها القلم، لقد قالوا إن هذا شعر جديد. . وأغض النظر عن كلمتي جديد وقديم، وأناقش هذا الكلام على أنه شعر لا بد أن يؤثر في النفس، ولا بد أن يصاغ في عبارات سليمة، ولن تغني كلمة جديد عن شيء من ذلك
يقول الشاعر:
أين شط الرجاء ... يا عباب الهموم
ليلتي أنواء ... ونهاري غيوم
أعولي يا جراحْ ... أسمعي الديان
لا يهم الرياح ... زورق غضبان
البلى والثقوبْ ... في صميم الشراع(158/46)
والضنى والشحوب ... وخيال الوداع
إلى هنا تستطيع أن تعرف أن نفساً غارقة في الهموم تسأل عن شط الرجاء، وتشكو من أنواء الليل وغيوم النهار، وتطلب إلى جراحها أن تعول لتسمع الديان، فالرياح لا يهمها زورق بقول عنه الشاعر: غضبان! مع أن الرياح هي الغاضبة عليه، وأما هو فمسكين، رقيق الحال، بال، مثقوب الشراع؛ ويظهر أن الضنى والشحوب وخيال الوداع من آلام تلك النفس، إذ لم يقل لنا ماذا جرى لها، وليس فيما قبلها ماله صلة بها.
إلى هنا تستطيع أن تدرك معنى هذا الكلام، وان كان لم يؤد إليك تأدية شعرية تصل إلى نفسك، أما ما بعد ذلك فكلمات صاخبة في بحر من النظم، وعبارات متمردة ثائرة: فالسكين ترقص، والفجر مذبوح، والدجى مخمور، والردى سكران، والظلام يتولى في عناق الصخور؛ ولا يقولن أحد إنني أبتر الكلام، فهذان البيتان:
كان رؤيا منام ... كأسك المسحور
يا ضفاف السلام ... تحت عرش النور
ما معناهما؟ ضفاف السلام التي تحت عرش النور كأسها المسحور كان رؤيا منام!!
والمتأمل يرى أن في القصيدتين محاولة لتصوير قصة نفس وإبراز فكرتها وهي اعتصام النفس بالكبرياء من عواصف الهموم والآلام، ذلك أن النفس الكبيرة تمر بها الهموم والآلام لا تنال منها شيئاً، وإن استسلمت لتواردها فأنها لا تلبث أن تمتنع منها بالكبرياء والشمم؛ ولكن القصة وفكرتها لم يأخذا حظهما من التصوير والإبراز
أوبة الطيار
وهي قصيدة الأستاذ أحمد رامي، مستواها عادي، ومعانيها عامة وقليلة، ونستطيع أن نقول إنها قصيدة لفظية، فألفاظها سمحة وإن كانت ضنينة بالمعاني. ومن يسمع هذه القصيدة أو يقرؤها يدرك قصور الشاعر عن التحدث في موضوع القصيدة عن خوالج نفسه، أو بإفقار النفس من الخوالج في هذا الصدد
يقول في مطلع القصيدة
في سكون المساء والبحر ساج ... والسحاب العبير في الجو سار
كنت أرنو إلى الغروب وأروي ... ناظري من صبابة الأنوار(158/47)
فإذا بي ألقى دخاناً ولا غي ... م وريحاً وليس من إعصار
فتبينت أستشف جبين ال ... أفق من بين هذه الأستار
فإذا هي جماعة من بنات ال ... ريح تطوي الفضاء عبر البحار
أعجبني البيت الثاني، ومن حسنه التعبير بصبابة الأنوار عما يكون وقت الغروب، وتروية النظر بهذه الصبابة التي هي أجمل من النور كله؛ وبعد ذلك يقول إنه لقي دخاناً غير مصحوب بغيم وريحاً ليست من إعصار، فلما كان الدخان من غير غيم والريح من غير إعصار، فقد جعل يتبين. . الخ، وفي هذا خطأ في ترتيب الفكر فليس الدخان ينشأ من الغيم، والريح لا يلزم أن تكون من إعصار، حتى يتلمس لهما سبباً آخر. على أنه لا يزال في موقفه ومشهده، ويذكر في البيت الأول أن السحاب يسير في الجو، ثم يقول في الثالث: لا غيم. وهل الغيم سوى السحاب؟!. وفي البيت الخامس يشبه سير الطيارات في الفضاء بعبور البحار، وهذا التشبيه ليس إلا عبرا إلى القافية
والتعبير (حداة الرياح) في قوله:
يا حداة الرياح ماذا لقيتم ... من ركوب الأهوال والأخطار
ليس من الصواب في شيء لأنهم لا يسوقون الرياح ولا يغنون لها، وإلا فما معنى حداء الرياح؟
ومن الأبيات الحسان في القصيدة قوله عن الطيار:
وأبو الهول في الفلا كاد يقعى ... ثم يرنو إليه بالأنظار
وإن كان أبو الهول في فلاة واحدة لا في (فلا) متعددة
والملتقى عند قصيدة (صرعى الأغراض) للأستاذ أحمد الزين
عباس حسان خضر(158/48)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي
الحصانة واليهودي الأفَّاق
- 5 -
ونزل متشنيكوف في معهد بستور، على سكون هذا المعهد ووقاره، نزول الصخرة فهزّه هزّا. ونصب فيه مِهرجاناً بهلوانياً عظيما ظل منصوباً عشرين عاماً، ووقف على باب هذا المهرجان يزعق ويصفق ويصفر ويزمر يدعو الناس إلى إحيائه بالدخول زُمراً إلى رِحابه وأرجائه، فكان كالدلاّل قام على باب مسجد لا يغشاه إلا نُسّاك زهّاد لم يذوقوا للهو طعما ولم يستسيغوا دُعابة أبدا
جاء باريس فوجد اسمه شائعاً، وأمره معروفاً مشهوراً. فنظرية الحصانة التي ابتدعها - ولعل وصفها بالدرامة الهيّاجة أوفق وأنسب - هذه النظرية التي تخبّرنا بأننا حصينون من الأدواء لأن حرباَ طاحنة لا تفتأ قائمة بين الكرات البيضاء التي في دمائنا وبين المكروبات الغازية - هذه النظرية بل هذه الأحدوثة كان شاع أمرها لدى بُحاث أوروبا فقاموا لها وقعدوا. وعارضه فيها أكثر بُحّاث ألمانيا والنمسا فلم يؤمنوا بها، بل لعلهم أُغروا بالإيمان بها لبساطتها ولجمالها، فقام هذا الإغراء يدفعهم إلى نقيضه لما أحسوا ضعف أنفسهم فيه فأنكروها إنكارا شديدا قاسياً. ونالوا من متشنيكوف باللسان في المؤتمرات، وبالتجربة في المعامل. مثال ذلك رجل ألماني شيخ نذر على نفسه لله ألا يمر عليه حول حتى يكتب مقالاً في مجلة علمية خطيرة يدحض بها تلك النظرية وينال فيها من الفجوسات ومن صاحبها. وجاء على متشنيكوف حين من الزمن لم تقو رجلاه على حمله من تلك اللطمات، وكان يُغشى عليه فيسقط إلى الأرض صريعاً. وعزّه النوم وطالت لياليه فكاد يفزع إلى عقاره المخدر القديم - إلى المرفين، حتى لقد عاوده خاطر انتحاره المعهود. أوّاه! كيف لا يستطيع هؤلاء الألمان الخبثاء الأنجاس أن يروا الحق في الذي يقوله عن هذه الفَجوسات! ثم اشتفى من كمده، فكأن وتراً انقدّ في مخه، فنهض كالليث يحمي عرينه ويدفع عن نظريته بعزيمة لا تخشى شيئاً، فجال وصال، وطلب الخصام والنزال، وكانت معركةٌ بها(158/49)
أضاحيك كثيرة وعلمٌ قليل، ولكنها برغم ذلك تضمنت نِقاشاً عليه انبنى ذلك النزر اليسير الذي نعلمه اليوم من سبب حصانتنا من المكروبات
صاح أميل بارنج من وراء الحدود الألمانية: (لقد أوضحتُ إيضاحاً لا ريبة فيه أن مصل الفئران هو الذي يقتل جراثيم الجمرة - أن دم الحيوانات لا كراته البيضاء هي التي تحميهم غائلة المكروب وتحصنهم منه). فصاح كل خصوم متشنيكوف وكل أعدائه الألداء يؤمنّون في نَفَس واحد على الذي قال بارنج. وخرجت المقالات العلمية تتبارى إلى النشر بمقدار يملأ دور كتب جامعية ثلاث كُتبت جميعها في فضائل الدم وأنه الشيء الوحيد الخطير في منع الأدواء
وزأر متشنيكوف من وراء الحدود الفرنسية: (إن الفجوسات، إن كرات الدم البيضاء هي التي تأكل الجراثيم العادِيَة فتدفع سوءها عنا)، ونشر تجارب بديعة أجراها فأثبتت بها أن بشلات الجمرة تستطيع النماء بوفرة في دم الشياه التي حصنتها ألقحة بستور
وصمد الفريقان للكفاح زماناً طويلاً، وتمسك كل بموقفه الكاذب رغم ما فيه من غلّو، وغمرهما غبار الحرب الكثيف وأعمتهما غضبته عشرين عاماً، فلم يخطر على بال أيهما أن يستمهل قليلاً، وأن يخلو إلى نفسه للتفكير يسيرأ، فلعل كلاً منهما رأى وجهاً واحداً من أوجه الحقيقة وهي عديدة، ولعل الذي يحمينا من غائلة المكروب ليس هو الدم وحده، وليست هي كراته البيضاء وحدها، بل هما جميعاً. لقد كانت حرباً رائعة ومزرية في آن، حرباً من تلك الحروب التي يقول فيها الخصم لخصيمه: (أنت كذاب) فيرد عليه صاحبه الجواب بمثله: (لا، بل أنت الكذاب)، وفي أثناء هذه التهم عمِىَ متشنيكوف وخصماؤه فلم يفطنوا إلى أن سبب الحصانة قد يُرد بعضه إلى الذي قال متشنيكوف، ويرد بعضه إلى الذي قال به خصماؤه. ما كان أجدر الاثنين أن يضعا الحرب حيناً فيعصرا العرق عن جبهتيهما، ويمسحا الدم من أنفيهما، ويفكرا في هدوء ساعة ليدركا كثرة ما يجهلان، وقلة علمهما مما فيه يختصمان، وليدركا أن الدم وفجوساته أشياء معقدة خدّاعة ليست في البساطة التي يزعمان، إذن لأبطآ في السير واستمهلا في الاستنتاج وأيقنا أن من الغباوة في ظلمة هذه الجهالة أن يتعجلا تفسيرات مبتسرة لحصانتنا من الوباء
ليت متشنيكوف لم يخرج عن أودسا، بل ليته اعتكف فيها يلفّه خمول ذكره ويحميه، ثم(158/50)
تدرّع بالصبر وتابع أبحاثه الجميلة في تعليل لِمَ تأكل الخلايا الأفاقة في براغيث الماء تلك الخمائر التي دخلت إليها. إذن لأتى على كل أمرٍ جلل خطير. ولكن من ذا الذي يتحكم في أقدام البحاث وهي لا تسير دائما في الطرق السلطانية التي رصفها المنطق وعبّدها العقل السليم
في أيام بستور العظيمة، أيام كافح داء الحمرة وانتصر على داء الكلب، كان يعمل في خفاء شديد كأنه بعض القطارين الذين يقطرون السموم خُفية في أقباء احتجبت تحت الأرض عن أعين الناس، ولم يأذن لأحد أن يطلع على ما هو فيه إلا عونيه رو وشمبرلاند ورجلاً أو اثنين آخرين، وفي ذلك المعمل الرطب المعتم بشارع أُلم كان لا يلقى المتطفلين المتشوفين إلى علم ما يجري بمعمله إلا بالنهر والتجبيه، وطرد عن بابه حتى كل جميلة من الأوانس فاتنة. هذا بستور! أما متشنيكوف فله في ذلك حديث غير هذا الحديث
اختلف متشنيكوف في هذا كل الاختلاف عن بستور. كانت له لحية لها أثرها البالغ في رائيها، وجبين عريض يعلو عينين تنظران بحولٍ ظاهر وذكاء بين من وراء نظاراته، وشعر طال في قفاه حتى غطاه على حال تنبئك بأنه غارق في أفكاره فلا يكاد يصحو فيحس الحاجة إلى حلقه. وكان واسع العلم فلا تكاد تفوته فائتة. وكان يستطيع أن يفاكه ويسلي - وهذا محقق عنه ثابت - بألوف من طرائف علم الحياة وممتع خفاياه، فهو يحدثك بأنه رأى الخلايا الأفاقة الدوارة في جسم فرخ الضفدع تذهب إلى ذيله فتأكل منه حتى تأتي عليه فيصير الفرخ ضفدعا وهو يحدثك بأنه أشعل ناراً في دائرة حول عقرب ليثبت أن هذه الخلائق التعسة لا تقتل نفسها انتحاراً كما يقول الناس بلدغ نفسها حين لا تجد مخلصاً من النار، وهو يحدثك بهذه الفظائع بطريقة تجعلك ترى الخلايا الأفاقة تروح وتجيء تبتلع ذيل الضفدع بلا أسف ولا تبكيت، أو تسمع حسيس العقرب وقد عز عليها الخلاص وحلق بها الفناء
وكانت تسنح له أفكار رائقة في إجراء تجارب فيقوم عليها محاولاً إنفاذها بعزم قوي وتركز شديد، ولكنه كان يزيح العلم وينحّى التجريب إذا سنحت له السانحة بمدح متسرت وأُبَراته، أو خطر له الخاطر من بتهوفن فهزّه إلى صفير شيء من سنفوناته. وإنك لحَاسبه أحياناً يعلم عن جوته ودراماته، ويعلم عن عشقه ومعشوقاته، فوق الذي يعلمه عن(158/51)
فجوساته، وهي التي بنى شهرته عليها. وكان لا يتكبر على من هم دونه، وكان كثير التصديق لكل ما يقال له حتى لاْمتحن الأدوية لبعض الدجالين المتطببين بأن أعطاها لخنازيره الغينية وهي في سبيل الموت زعماً أنها تشفيها. وكان رجلا طيبا ذا قلب عطوف رحيم، فكان إذا مرض له صديق غمره بكل هدية مستطابة وكل نصيحة مختارة، وبلل وسادته بالدمع يجري مدراراً فأسموه من أجل ذلك (بالخالة متشنيكوف) وكانت آراؤه في غرائز البدن وحاجات الحياة تختلف اختلافاً رائعاً عن أي باحث سمعت به غيره. (والحق أن العبقرية الفنية، أو لعلها كل العبقريات من كل نوع كان، تتصل اتصالاً وثيقاً بالنشاط الجنسي. . . ومن أجل هذا تجد الخطيب أبرع وأخطب في حضرة امرأة يبذل لها من وده وقلبه)
وكثيراً ما أكد لنا هو نفسه أنه أقدر ما يكون في التجربة على الإحسان، إذان كان على مقربة منه أوانس حسان
(يتبع)
أحمد زكي(158/52)
أعلام الإسلام
4 - سَعِيد بنُ المسَيِّب
تتمة
للأستاذ ناجي الطنطاوي
مرضه
قال عبد الرحمن بن حرملة: رأيت سعيد بن المسيب في مرضه يصلي مضطجعاً مستلقياً فيومئ برأسه إلى صدره إيماء، ولا يرفع إلى رأسه شيئاً
وقال أبو حازم: قال سعيد بن المسيب في مرضه الذي مات فيه: إذا ما متّ فلا تضربوا على قبري فسطاطاً، ولا تحملوني على قطيفة حمراء، ولا تتبعوني بنار، ولا تؤذنوا بي أحداً، حسبي من يبلغني ربي ولا يتبعني
وقال عبد الرحمن بن الحارث المخزومي: اشتكى سعيد ابن المسيب فاشتد وجعه، فدخل عليه نافع بن جبير يعوده وهو مضطجع على فراشه، فأغمى عليه، فقال لمحمد ابنه: حول فراشه، فاستقبل به القبلة، ففعل، فأفاق فقال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة؟ أنافع بن جبير أمركم؟ فقال نافع: نعم، فقال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة لا ينفعني توجيهكم فراشي. وفي رواية: ألست امرأ مسلماً، وجهي إلى الله حيثما كنت؟
وقال زرعة بن عبد الرحمن: شهدت سعيد بن المسيب يوم مات يقول: يا زرعة، إني أشهدك على ابني محمد، لا يؤذن بي أحداً، حسبي أربعة يحملوني إلى ربي، ولا تتبعني صائحة تقول فيّ ما ليس فيّ
وقال يحيى بن سعيد: لما حضر سعيد بن المسيب، ترك دنانير، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلا لأصون بها حسبي وديني
وقال: دخلنا على سعيد نعوده، ومعنا نافع بن جبير، فقالت أم ولده إنه لم يأكل منذ ثلاث فكلموه، فقال نافع بن جبير: إنك من أهل الدنيا ما دمت فيها، ولا بد لأهل الدنيا مما يصلحهم فلو أكلت شيئاً. قال: كيف يأكل من كان على مثل حالنا هذا بضعة يذهب بها إلى النار أو إلى الجنة. فقال نافع: أدع الله أن يشفيك، فان الشيطان قد كان يغيظه مكانك من(158/53)
المسجد. قال: بل أخرجني الله تعالى من بينكم سالماً. ودخل المطلب بن حنطب على سعيد في مرضه وهو مضطجع، فسأله عن حديث، فقال: أقعدوني، فأقعدوه فقال إني أكره أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع
وقد اختلفت روايات المؤرخين في سنة وفاته، وتنحصر رواياتهم بين سنة 91 وسنة 105، على أن أكثر الأقوال تؤيد أن وفاته كانت سنة 94
شيء من أقواله وفتاويه
قال: ما من تجارة أحب إليّ من البزّ، ما لم تقع فيه الأيمان
وقيل له: ادع على بني أمية فقال: اللهم أعز دينك، وأظهر أولياءك، واخز أعداءك في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
وقال علي بن زيد: قال لي سعيد بن المسيب: قل لقائدك يقوم فينظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده، فانطلق فنظر فإذا رجل أسود الوجه، فجاء فقال: رأيت وجه زنجي وجسده أبيض. فقال: إن هذا سبّ هؤلاء الرهط: طلحة والزبير وعلياً، فنهيته فأبى فدعوت عليه وقلت: إن كنت كذابا فسود الله وجهك، فخرجت بوجهه قرحة فاسود وجهه!
وأدرك رجلاً من قريش معه مصباح في ليلة مطيرة، فسلم عليه وقال: كيف أمسيت يا أبا محمد؟ قال: أحمد الله. فلما بلغ الرجل منزله دخل وقال: نبعث معك بالمصباح؟ قال: لا حاجة لي بنورك، نور الله أحب إليّ من نورك
وقال: ولا تقولن مصيحف ولا مسيجد، ولكن عظموا ما عظم الله، كل ما عظم الله فهو عظيم حسن
وكان يقول: لا خير فيمن لا يجمع الدنيا يصون بها دينه وحسبه ويصل بها رحمه
وكان يقول: الناس كلهم تحت كنف الله يعملون أعمالهم، فإذا أراد الله فضيحة عبد أخرجه من تحت كنفه، فبدت للناس عورته
وكان يقول: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة
وكان يقول: من استغنى بالله افتقر إليه الناس
وكان يقول: ليس من شريف ولا دنىّ ولا ذي فضل، إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا(158/54)
ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه، وهب فضله لنقصه
وقال: يقطع الصلاة الفجور، وتسيرها التقوى
وقال: ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله عزّ وجل، ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله، وكفى بالمؤمن نصرة من الله أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله
وقال ما أيس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء
وقال: يد الله فوق عباده، فمن رفع نفسه وضعه الله، ومن وضعها رفعه الله
وقال: دخلت المسجد في ليلة أضحيان، وأظن أني قد أصبحت، فإذا الليل على حاله، فقمت أصلي، فجلست أدعو، فإذا هاتف يهتف من خلفي: يا عبد الله، قل. قلت: ما أقول؟ قال: قل: اللهم إني أسألك بأنك مالك الملك، وأنك على كل شيء قدير، وما تشاء من أمر يكن. قال سعيد: فما دعوت بها قط بشيء إلا رأيت نجحه
وقال: إن الدنيا نذلة، وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها يغير حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في سبيلها
وكان يستفتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ويقول: إنها أول شيء كتب في المصحف، وأول الكتب، وأول ما كتب به سليمان بن داود إلى المرأة (بلقيس)
وقال حبيب بن هند الأسلمي: قال لي سعيد بن المسيب ونحن على عرفة: إنما الخلفاء ثلاثة: قلت: من الخلفاء؟ قال: أبو بكر وعمر وعمر (يعني عمر بن عبد العزيز) قلت: هذا أبو بكر وعمر قد عرفناهما فمن عمر؟ قال: إن عشت أدركته، وإن مت كان بعدك
وقيل له وقد نزل الماء في عينه، ألا تقدح عينك؟ قال: عني - على مَن - أفتحها؟
وقال: كنت بين القبر والمنبر، فسمعت قائلا يقول ولم أره: اللهم إني أسألك عملاً باراً، ورزقاً دارًّا وعيشاً قاراً. قال سعيد فلزمتهن فلم أر إلا خيراً
وسأله عبد الرحمن بن حرملة قال: وجدت رجلا سكران، أفتراه يسعني إلا أرفعه إلى السلطان؟ قال له سعيد: إن استطعت أن تستره بثوبك فاستره
وقال له برد مولاه: ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء، قال سعيد: وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر، ثم لا يزال صافاً رجليه يصلي حتى العصر. فقال سعيد: ويحك يا برد! أما والله ما هي بالعبادة، تدري ما العبادة؟ إنما العبادة التفكر في أمر الله والكف عن محارم الله.(158/55)
وقال: قلة العيال أحد اليسارين
وسئل عن قطع الدراهم فقال: هو من الفساد في الأرض
وسئل عن آية من كتاب الله فقال: لا أقول في القرآن شيئاً وكان لا يكاد يفتي فتياً ولا يقول شيئاً إلا قال: اللهم سلمني وسلم مني
وقال: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة
وسئل عن اللعب بالبرد فقال: إذا لم يكن قماراً فلا بأس
وغضب سليمان بن عبد الملك على ابن عبيد مولاه، فشكا إلى سعيد بن المسيب فكتب إليه: أما بعد، فان أمير المؤمنين في الموضع الذي يرتفع قدره عما تقتضيه رعيته، وفي عفو أمير المؤمنين سعة للمسيئين فرضى عنه
(دمشق)
ناجي الطنطاوي
بكالوريوس آداب(158/56)
الإسكندرية
بقلم حبيب عوض الفيومي
لا روضَةٌ كغِياضِ الرمْلِ مِئْنَافُ ... ولا كمصطافها في الأرض مُصْطاف
ولا كمنظرِها سَلْوَى لذي حَزَنٍ ... ولا كأُلاّفها في الحسنِ أُلاّف
أضحت على كل حُسن مؤنقٍ عَلَماً ... مذ كان للشيء أعلامٌ وأوصافُ
باكرتُها وطيورُ الدوح جاثِمةٌ ... ولؤلؤ الطلِّ فوقَ الزهر رَفَّاف
وللنجوم تلاشٍ في مِسارِبِها ... كأنها لسهامِ الشمسِ أهداف
والأُفْقُ مُلتهِبٌ في الشرقِ تَحْسَبُه ... تِبراً له من وراءِ الغَيم تَخْطاف
والريحُ عاطرةٌ بالنشرِ ساطعةٌ ... يُنْشِيكَ مُنْتَشَقٌ منها ومُستافُ
في فِتيةٍ أُنشئُوا إنشاء قَسْورَةٍ ... فليس فيهم لدى الإِقدام وقَّافُ
ذوي وجوهٍ وآراءٍ تُضيُء لهم ... إذا اُدْلَهمَّتْ من الأحداث أسداف
من كل منتخَبٍ في القول مُنْتَدَبٍ ... في الهولِ، فهْوَ أديبٌ وهْوَ سَيّافُ
في جنةٍ مثل ترْوِيضِ البِسَاطِ زَهَتْ ... منها غُصونٌ مُوَشَّاةٌ وأفواف
تَشابهت في التفافِ النَبْتِ واختلفت ... أفنانُها فَهْيَ ألوَانٌ وأَلفاف
فيها نخيلٌ وأعنابٌ وفاكهةٌ ... شتّى وأجناسُ رَيْحانٍ وأصناف
رَفَّ الذبابُ على نَوَّارِها فله ... في بَلْجَةِ الشمسِ تغريدٌ وَتهفْاف
وللأكمَّةِ من أزهارِها سُرُجٌ ... مضيئةٌ حولَها للنحل تَعْزَافُ
يَهفْوُ الفَرَاشُ عليها أبيضاً يِقِقاً ... كما أطارَ فُضَاضَ البِرْسِ مِنْدَاف
وللطيورِ على أغصانها زجَلٌ ... تُشجيك منه مزاميرٌ وأعزَافُ
تجمعت في سماءٍ فهي فاخِتَةٌ ... وَساقُ حُرٍّ وشُحْرورٍ وَخُطَّاف
تَعلو أَلاَئِفَ شتَّى ثم تُذْهِلُها ... نجوى الهوى فلها في الأرضِ إسفافُ
وأينما مِلْتَ فالإيقاعُ مُتَّصِلٌ ... تُلْقيه هَتّافةٌ تَشْحُو وهَتّافُ
حتى إذا ذرَّ قرنُ الشمسِ والتمعت ... على رؤوسِ الروابي منه أسياف
عُجنا إلى أيْكةٍ شجراَء سامِقَةٍ ... لها مع الحرِّ إظلالٌ وإيراف
تواشجت وسمت من كل ناحيةٍ ... فإنما هي أسياجٌ وأسجاف(158/57)
زِينت بشتى تماثيلٍ تلوحُ على ... سِيمائها من سماءِ الفن ألطاف
تكلمتْ عن أمورٍ وَهْيَ جامدةٌ ... وصُوِّرت من صخورٍ وهي أطياف
مِن كلٍّ عاريةٍ رَيَّا وكاسيَةٍ ... إزارُها عن خفيِّ الحسنِ شفَّاف
وما لبِسْنَ وما عرَّينَ عن بَشَرٍ ... وإنما هُن إتحافٌ وإطراف
كأنها ونوافيرُ النميرِ لها ... من فوقِ أرُؤُسِها سَح وتَوْكاف
سِرْبٌ تجرّد من أثوابِه فلهُ ... في غفلةِ الناسِ تَلعابٌ وتَطواف
ما بينَ حاملةٍ جاماً وصادِحَةٍ ... غَنَّاَء في يدها للشَدْوِ مِعزاف
وبين رافعةٍ مِصباحَها بيَدٍ ... لها على الماءِ إِطلالٌ وإشراف
وبين حاسرةٍ ريعت فنازَعها ... لُبْسَ الخميصةِِ إيجاسٌ وتَخواف
وبينهنَّ كلابُ الصيدِ قد نَفرت ... وأطلقت أيدياً للوحشِ تَقتاف
وإذ تَلاقى بنا ذو صبوةٍ وَصدٍ ... إلى السُّلافِ ومِتلافٌ وَوَصَّاف
قلنا: المُدامَ. فجاؤونا بمُذْهَبَهٍ ... مذاقُها لِسَقيمِ القلبِ إخطاف
لم يبقَ منها وقد طالَ الزمانُ بها ... في الدَنِّ إلا شُفافاتٌ وأنزاف
سبيئةٌ سبقتْ نوحاً فكان لها ... تحتَ العرائشِ قبل الشَّرْبِ آلاف
يلوحُ منها قَوامٌ ثم تُدرِكُها ... لطافَةٌ فَتجَلّى وهي إِشفاف
ما اعتادها لونُها الجادِيُّ عن عُرِضٍ ... وإنما هو لونُ الشمسِ يَشتاف
كرَّ الربيعُ وضوءُ الشمس يُنضِجُها ... في كرْمِها بعد ما غَذَّتْه أرياف
ورَاقَ منظَرُها إذ رَقَّ جَوْهَرُهَا ... فالحسنُ منها عن الاحسانِ كشَّافُ
تَسْمو إِلى رأسِ حاسيها لِخفّتها ... إذ لا تلائِمُ ذاكَ الجِرْمَ أجوافُ
وتترُكُ المُحتَسِى نشوانَ لا نَزَقاً ... وإنما هو إحصافٌ وإرْهَافُ
يُهدَي لحانوتها المُعْتَسُّ في غَلَسٍ ... برِيحِها وَلَوَ أنَّ البُعْدَ أَفْيافُ
ويَسْتضيءُ بها في السيرِ ملتَمِسٌ ... ضَلَّ السُّرَى ولجنحِ اللّيلِ إغدافُ
نَشتفُّها ونناجيها ونرفعُها ... ونجتلي قبَساً منها ونَسَتافُ
ونملأُ الرُّوحَ وحياً من معارجها ... فانما هي إيحاءٌ وإلطاف
فآيةٌ لبخيلٍ ذَاقَها كرَمٌ ... وآيةٌ لِسَحِيِلِ العزمِ إحصاف(158/58)
صُبَّتْ فَرَقْرَقَها طبعٌ فَشَعْشَعَها ... مثْلَ الضرام تعَالَى منه أطرَاف
وثار ثائرُهَا حَمْياً فَهذّبَه ... حِلمُ النميرِ فقرَّتْ منه أعطاف
حتى إذا ما عَلا رَأْدُ الضُحَى ودَنَا ... من شاطئ البحر فُرَّاطٌ وَسُلاَّف
أَقَلْنا ظَهْرُ طامٍ لا قَرَارَ له ... وهل يَقَرُّ حَرُونٌ وهو رَجَّاف؟
في سابحٍ أسحمِ الدَّفَّينِ مُنْسَرِحٍ ... يدافعُ الماَء من حَرْفَيْهِ مِجْذَاف
مُسْتَوْسِقٌ ظَهْرَه يَسعى على مَهل ... من الوَنَى فهْوَ تحْتَ الوَسْق دلاف
نَظَلُّ منه على سِيْسَاءِ مُنْجَرِدٍ ... ما لاقه قَطُّ إسرَاجٌ وإِيكاف
بينا يسير رويداً إِذ تُلاَطِمُهُ ... مَوَّارةٌ فإذا الإِروادُ إِعْناف
طَوْرَا يُصَوِّبُنا غَوْرُ وآونةً ... تعلو بنا منه أَحْقافٌ وأعراف
ما بين رافِعةٍ عَلوَا وخافِضَةٍ ... أهْضامُها في حُدُورِ الموج أنياف
وللعُبابِ زئيرٌ في تدافُعهِ ... وَزَخْرَةٌ فهْوَ بالأمواج غَرَّاف
له غواربُ لا تنفكُّ جائشةً ... ما هبّ من مُعصراتِ الريحِ زفْزاف
وطافياتٌ تعالَى وهي مقبلةٌ ... لها رُؤُسٌ منيفاتٌ وأشعاف
يظُنها من يراها وهي دانيةٌ ... أبا قُبيْسٍ له باليَمِّ تَزحاف
فإن ترفقتِ الريحُ الهَبوبُ به ... فكلُّ حُسنٍ عليه ثَمّ عكّاف
تلوحُ فيه وضوءُ الشمسِ مُنعكسٌ ... للعينِ أرباعُ أقراطٍ وأنصاف
كأنه لهبٌ يُذكَى به ذهبٌ ... أو زئبقٌ بمذابِ الصُفْرِ مُنداف
قَذْفُ البُحورِ لآلٍ دونَها صدفٌ ... ولُجُّهُ بلآلي الحورِ قَذَّاف
توائمٌ ينتظمن الشطَّ في نَسَقٍٍ ... مثل القلائدِ والظُلاّتُ أصداف
ماذا أعدت لنا الإسكندريةُ من ... فَتكٍ به لسليم القلبِ إزهاف؟
جيشاً من الحسنِ يغزونا وليس لنا ... من دونه غيرَ حولِ الله تَجفاف
مجراً جَناحاهُ دُعْجٌ بالعقولِ لها ... فتكٌ ونُعْجٌ لها في القلب أزحاف
شاكي السلاحِ فمن آلاتِهِ مُقَلٌ ... مُفوَِّقاتٌ وأعطافُ وأرداف
فُرسانُه نُهَّدٌ بالماءِ سابحة ... وَرَجْلُه ساحراتُ الطَرْفِ طُرّاف
أشباهُ ماءٍ على ماءٍ يكدن به ... أن يمتزجن وللأبشارِ ترجاف(158/59)
يَطْلُعنَ كالروض مَطلولا تُعارِضُه ... شمس الضحى فله في العين تَرفاف
عَرْفٌ يفوحُ وأوضاحٌ تلوحُ وكم ... في الروضِ ألوانُ أوضاحٍ وأعراف
روضٌ يروقُكَ منه منظرٌ عَجبٌ ... لكنَّ مجناهُ أحساكٌ وأحشاف
والروضُ يقطِفُك الأثمارَ يانعةً ... وما لهنَّ سوى الإِيحاشِ إقطاف
مُستهدفاتٌ وما فيهن من هدفٍ ... وإنما هنَّ إِسقامٌ وإِدناف
وَمُشفقاتٌ وما فيهن مُسعَدةُ ... وإِنما هنَّ للادمال إِقراف
واهاً لنفسي وما واهٌ بنافعةٍ ... إِذا تحَرَّقَ أَوَّاهٌ وَأَفَّافُ
هل هُنَّ بُؤْسَى وهُنَّ الحسنُ مُحْتَشِداً ... أم هُنَّ نُعْمَى وما فيهنَّ إِنصاف؟
فليس عنهنَّ سُلْوَانٌ لذي شَغف ... ولا لهنَّ به ما عاش إِيلاف
حُسنٌ ومنعٌ وأشقَى الناس متَّصِلٌ ... يلقاه حُسْنٌ وَلا يَلقاهُ إِتْحَاف
والمنعُ والماءُ نَزْرٌ لا احتجاجَ به ... والمنْعُ وَالمَاءُ طامي اللُّج إِجحافُ
بل هُنَّ ماءٌ كآلٍ لا اُرتواء به ... يُبديه سهْبٌ بعيدُ الوِرْدِ مهياف
يَظَلُّ وَارِدُهُ صَدْيانَ مُحْتَرِقاً ... عقباهُ شَلٌ إِذا اسْتسقَى وإلهاف
أورت لَظَى كَبِدِي منْهُنَّ شامسَةٌ ... وحْشيَّةٌ وَأْيُها غَدْرٌ وَإِخلاف
جنّيةٌ وصلُها دَلٌّ وَلَمحْتُها ... تَبْلٌ وإِعراضُها قتْلٌ وَإِتلاف
بيضاءُ تختَالُ مثلَ الشمسِ عارِيةً ... بل حسنُها في مُتوع الشمسِ كسَّاف
ألفاظها تُنعِشُ المُصْمَى ونظرتها ... تُصْمِى الصحيح فلا يُجْديه اسعاف
ضعيفة الأسرِ وَسْنَى من بُلَهْنيَةٍ ... وفي خلابتها للأسرِ إِضْعاف
تُوحي القنوتَ بطرفيْهَا وَفِعلُهُما ... يصبى الرجالَ وهم من قبل أحناف
وَزْنُ الوفاءِ لها بالقِسط مُكتمِلٌ ... واف وميزانُها في الحبِّ طَفَّاف
تَفتَرُّ عن مبسِمٍ عذبٍ له أُشَرٌ ... يشفى أُوارَ الجوى منهن تَرْشاف
كأنه أُقْحُوَانٌ بالندى خَضِلٌ ... أو لؤلؤٌ مازَهُ في السِّلْكِ رَصَّاف
تُزْهى بِقَدٍّ نضير العودِ تَحْسبُهُ ... غصناً ثَنَتْهُ النُّعامَى فهو غَيَّاف
تهفو القلوبُ له وجداً إِذا خَطَرَت ... كأَنما هو بالأرواح هفّاف
غيسانةٌ عَيشها من نَعْمةٍ وَغنىً ... رِيٌّ وعيشي بها سُقْمٌ وإِنحاف(158/60)
أَعَزَّها أنها دانت لِعزَّتها ... هامٌ وذلّتْ لها في الحبِّ آناف
وزاد من فتكها خَلْقٌ لها عَممٌ ... وحُسْن سُمتٍ له في القلب إِشعاف
أقرّ بالحسنِ ربَّاتُ الدلالِ لها ... طوعاً وهنَّ معاصيرٌ وأنصاف
وألهَجَ العاشقين المولعين بها ... أنّ ابتسامتَها للصب أهناف
لاقيتُها وجَناني جِدُّ منبسطٍ ... وعُدتُ عنها ودمع العينِ ذَرَّاف
وما رجعتُ ولكني تَراجعَ بي ... يأْسٌ فَرُجعايَ إِقرانٌ وإِرساف
ولو بعمري بها أحظى وقد عرضتْ ... لكان بالعمرِ لي قُربَي وإِزلاف
لكنَّ بيني وبين المُشتهى جبلٌ ... عالٍ ومهوىً سحيقُ الخرقِ نفناف
ولي حياءٌ عن العوراءِ يصدِف بي ... ولي لسانٌ عن الفحشاءِ نكّاف
يُشْوِي وصال الغواني كلُّ ذي أدبٍ ... جمٍّ يحظى به نَوْكَى وأجلاف
يَحظى أخو الجهلِ لا يَدري بِحُظْوَتهِ ... وليس يحظى لبيبٌ وهو عرّاف
وَشيمة الدهر لا تَجْرى على سَننٍ ... وَحالة الدهرِ إِجراءٌ وَإِيقاف
فغَارِقٌ في غِمَارِ اليَمِّ مُرْتكِسٌ ... وَظَامئٌ في قِفَارِ البِيدِ عَسَّاف
ما ساَءني أنّ غيري حظُّه سِمَنٌ ... من الزمانِ وحظي منه إِعجاف
لي من زماني فكرٌ راضهُ بصرٌ ... وللبهائم أرواقٌ وأظلاف
قد يُرْزَقُ الفَدْمُ مالا وَهو منخِفِضٌ ... وَيُحْرَمُ النَدْسُ مالاً وَهْوَ نَيَّاف
وليس مِثلينِ ذو عِلمٍ وذو سفَهٍ ... ولا شبِيِهْيَنِ لأَّلٌ وصداف
حبيب عوض الفيومي(158/61)
القصص
قصة مصرية
الشيخ عبد الباسط يتزوج. . .
للأستاذ محمد علي غريب
بين الأزهر وبين القرية، يولد طالب العلم كل يوم مرة على تجارب لم يشهدها وحياة لم يألفها، في تلك المدينة التي يختنق صوت المؤذن فيها بصيحات المعربدين الفجار، والتي لو بعث فيها اليوم منشئها الأول جوهر الصقلي لما وجد فيها مكاناً يأوي إليه، ولآثر عليها منادمة منكر ونكير. . .
ويوم غادر الشيخ عبد الباسط محمد حسين أبو جبل قريته الصغيرة لينتسب إلى الأزهر، كان أكثر أهله في وداعه، وقبيل أن يعلن القطار ضجره من الانتظار بصفيره المزعج، انتحى به والده ناحية منعزلة وأوصاه بالصلاة والمذاكرة وطاعة شيوخه واحتقار ملذات الدنيا الفانية
ثم دس الوالد في يد ولده خطاباً علت غلافه بصمات أصابعه المغمورة بالتراب، وطلب منه أن يقدمه إلى سيد القرية في القاهرة وهو رجل من الأثرياء يملك أكثر أرض هذه البقعة وينظر إليه الأهلون كإنسان لم يخلقوا على طرازه، فلا بدع أن يتخذوا منه السيد والمولى، وأن يخشوا غضبه كما يخشى العابد غضب الإله
وحل الشيخ عبد الباسط في غرفة مظلمة في حي الباطنية بالقرب من الأزهر، وحل معه فيها خمسة من الطلاب ومجموعة من الهوام والحشرات كانت تشارك أهل هذا الكهف طعامهم وشرابهم، وتخفف الدم النقي من جسومهم فلا يشعرون بالحاجة إلى معصية الله. . .
ولم يكد يضع عبد الباسط رحله، ويؤدي الصلاة المكتوبة، ويستفسر من زملائه الذين سبقوه عن مواعيد الدراسة وعن كراء البيت حتى ذكر خطاب سيد والده الغني، فأخرجه من جيبه بوقار وخشوع وراح يسأل عن هذا العنوان:
- جاردن. . جا. . جار. . دن. . جاردن ستي. . أي عنوان هذا؟. . محمد بك الخربوطلي(158/62)
بجاردن ستي!
وتضاحك زملاؤه الخمسة من جهل صاحبهم بأحياء القاهرة وهم الذين يعرفونها حياً حياً. . وراودت النكتة اللفظية أحدهم عن نفسه فأطلقها:
- ستّي ولا ستّك. . ها ها!
وضحك الجميع حتى الشيخ عبد الباسط عن طيب خاطر
يعيش محمد بك الخربوطلي في منزل يضم فتياته الثلاث (صفية وحكمت وآمال) وكلهن جاوزن سن الزواج. ولما كان الأب فاجراً متهتكاً فقد نسج فتياته على منواله، لذلك وجدت كل واحدة منهن أصدقاء كثيرين ولكنها لم تجد زوجاً إلى اليوم
وكان محمد بك رجلاً في حدود الخمسين؛ وقد توفيت زوجته في حادث مؤلم، فراح ينسى الدنس الذي علق بشرفه بالإفراط في كل ما يستثير شهواته الخسيسة، ولم يكن في برنامجه أن يحتفل بتربية بناته بل تركهن في أيدي الظروف
في يوم من أيام الربيع الصافية، وقف الشيخ عبد الباسط ومعه زملاؤه الخمسة الذين تطوعوا بتعريفه منزل السيد، يصفق بيديه على باب المنزل، ويمسح العرق المتصبب من جبينه بطرف جبته الخضراء، على حين جلس زملاؤه فوق المقعد الخشبي الذي يجلس فوقه حارس الباب وهم يلهثون
وجاء البستاني العجوز وهو يبصق الشتائم والإهانات من فمه، فقد أزعجه هذا الذي يصفق دون أن يسكت، ثم سأله:
- ماذا تريد؟
قالها بلهجة حاكم متغطرس لخادم عنده. ولم يكن الشيخ عبد الباسط يتوقع هذه الخشونة، أمام زملائه على الأقل، فأخفى خجله في سعاله وسلم إلى البستاني خطاب والده إلى سعادة ألبك. . وعاد البستاني يقول له باللهجة الأولى:
- أدخل. . .
ثم ضرب البستاني الباب الحديدي وراءه بعنف وغضب. فدخل الشيخ عبد الباسط وقلبه يتراكض بين جنبيه؛ ثم اقتيد إلى حجرة بهره فيها أثاثها الفخم مما لم ير مثله إلا في الحوانيت التي قاده للفرجة عليها زملاؤه. فأدرك لفوره في أي طريق ينفق سيد القرية(158/63)
أمواله. .
وشهد في الحجرة وسادة ملقاة على الأرض فرام الجلوس فوقها، بيد أن الخادم الطيب أنهضه ليجلس على مقعد مريح. وهنا ابتسم الشيخ عبد الباسط على رغم أنفه. . ابتسم لأنه لم يكن يقدر على البكاء. . .
وبينما هو يجول ببصره فيما أثبت على الجدار من صور وما حشد في الحجرة من نفائس، إذا بصوت ناعم يصل إلى أذنيه، وإذا بفتاة هيفاء تدخل إلى الحجرة وهي تغني، فلما رأت الشيخ الجالس أمامها تظاهرت بالفزع وصاحت:
- بردون يا. . يا أستاذ! ثم واصلت الغناء. . .
وجاء الخادم يشرح للفتاة من يكون هذا الشيخ؟ إنه نجل وكيل والدها في ضيعته، وقد جاء إلى القاهرة ليطلب العلم فأرسله أبوه إلى سيده ليشمله برعايته. . .
وتلطفت الفتاة وصوبت بصرها إلى هذا المخلوق، فإذا هو شاب ممتلئ الجسم في لحية قصيرة كأنما صنعها بيديه. أما ذلك المخلوق فلم يكن يدري أحد ماذا يعتلج في ذهنه من الخواطر، وقد غمره الموقف الشاذ بفيض من البلاهة، ففغر فمه وبقي في صمته الجليل، وقد غض الطرف وذكر نصيحة والده له فلم يخالس الفتاة النظر سوى مرتين
وجاء السيد في جلباب حريري أزرق، فنهض الشيخ عبد الباسط وقبل يده ثلاث مرات كما يصنع مع شيخه في الدرس، ثم وقف صامتاً وقد أنساه الشيطان الكلمات الفخمة التي زورها ليلقي بها في هذا المقام
وقال السيد وهو يعبث بلفافة تبغ في أصابعه:
- كيف والدك؟. . . هل بعث معك مالاً؟. . كيف أنت؟. . اجلس. . هل تدخن؟. . .
وماتت الإجابة على هذه الأسئلة كلها فوق شفتي الشيخ عبد الباسط فلم ينطق وإن كان قد جلس على حافة المقعد ورقبته ممتدة ويده العابثة بلحيته ترتعش
وجاءت القهوة، فشرب نصف ما في الفنجانة، وضمخ بالنصف الآخر ثيابه من الدهشة والخوف. ومرت به الفتاة التي رآها حينذاك وهي تغني، فربكه مرآها واختل توازنه فوق حافة المقعد وهوى على الأرض؛ ومن ثم ضحك السيد والفتاة والخادم الواقف بقرب الباب. . . وضحك الشيخ عبد الباسط أيضاً!(158/64)
وكثر تردد الشيخ عبد الباسط على منزل السيد، وفي المرات الأولى كان ظله ثقيلاً على نفوس أهل المنزل؛ فلما كشف عن سذاجته وألح في الزيارة استطابوا وجوده. وكان في كل يوم يكشف عن أسماء النفائس التي يراها في المنزل فيحفظها كما يحفظ ألفية ابن مالك؛ ولم يكن يبالي السخرية به والتهكم عليه، فان العبد وما ملكت يده لسيده؛ وكان يؤثر على الجميع الفتاة التي تغني، وكانت هي من جانبها تزيد في الإساءة إليه فيحسب أن يده تقبض على قلبها
ولم يعد الشيخ عبد الباسط يحتفل بدروسه، لا ولا بصلواته. أما زملاؤه فقد أنكروا عليه هذا الإهمال، وتوعدوه بالخزي في الدنيا والآخرة. غير أنه كان يتمثل في وجوههم شقوة البؤس، فلم يعبأ حتى بأن يدفع نصائحهم عنه بطرف أصبعه
وانقلب الشيخ عبد الباسط فجأة إلى متظرف يطالع الصحف ويغشى المقاهي ويتهكم بشيوخه الأعلام، حتى زجاجة العطر التي لمحها في أحد الحوانيت ظل يقتصد ثمنها واشتراها، والساعة والمنديل الحريري والحذاء اللامع. . . كان ذلك كله في سبيل أن يحوز رضاء تلك الفتاة اللعوب التي لا تعرف من الدنيا سوى الغناء
وكان الشيخ عبد الباسط يرى في منزل السيد كل مرة أصنافا من الشبان يفدون على الدار في أزياء خليعة، حاسري الرؤوس حليقي اللحى والشوارب، وكان يسأل الخدم عنهم واحداً فواحداً، ويعرف أنهم أصدقاء الأسرة فيسكت، ويكلفه سكوته هذا لعنة أولئك الشبان في سره وذلك أَضعف الإيمان
ولم يكن الشيخ عبد الباسط يجترئ على التفكير في هذه الدنيا العجيبة التي يضمها منزل السيد، وإن كان قد فكر مراراً في أنه أصبح مطلوبا ومرغوبا فيه
ألم يقل له محمد بك ذات يوم:
- حصلت البركة يا أستاذ!
كلمة لا يقولها السيد إلا لمن يحبه ويوده. ألم تصارحه الفتاة التي تغني ذات مساء بأن دمه خفيف. ثم ضربته بيدها على وجهه، وضرب الحبيب مثل أكل الزبيب!
ترى هل حان الوقت الذي يصارحهم فيه بما تضطرم به نفسه من رغبات!
وجاء ذلك الوقت فلم يفاجئ الشيخ عبد الباسط برغبته رب الأسرة، لأنه كان رغم كل شيء(158/65)
يتهيب ويخجل. وكانت رغبته أن يتزوج بتلك الفتاة التي تغني دائما والتي لم يعرف اسمها بعد. وكثيرا ما تمثل هذا البدن الناعم البديع واستعاد ذكريات أمسه السعيد، فيسمعه زملاؤه في الغرفة يئن ويصرخ من هول ما يعتمل في صدره. . .
لم يقدر الفوارق الهائلة بينه وبينها، ولا راعى مركزه كطالب علم فقير، ولكنه أقنع نفسه بأن كل شيء يسوى بنفسه، والمصادفات قد تكون في بعض الأحايين سبباً في أن يرتفع المرء من الغرفة الحقيرة إلى القصر المنيف
وبعد تفكير طويل أودع الشيخ عبد الباسط سره الخطير لدى أحد الخدم في المنزل، فتضاحك الخادم وسكت، وكان في سكوته ما حمل الشيخ عبد الباسط على أن يتأول ويستولد عدم استحالة الوصول إلى مبتغاه
والظاهر أن الخادم أفضى إلى الفتيات بما قال الشيخ، ولا ريب أنهن تضاحكن وعبثن بالفتاة التي وقع عليها اختياره، ثم انقلب الموضوع إلى فكرة ضخمة. لذلك استقبل الشيخ عبد الباسط في اليوم التالي استقبالاً فخما، وكأنما كان يتوقع ذلك فراح يفرض وجوده في المجلس ويصعر خده للجالسين والجالسات. . .
واقترب يوم الزواج ولم يكلف الشيخ عبد الباسط أن يدفع شيئاً وزاد أهل المنزل في الحفاوة به والترحيب فكان الذي يشغله أنه يتزوج ووالده لا يعلم، ولكن ماذا يهم والفتاة جميلة ووالدها سيد القرية. .
وفي اليوم الموعود كان رب المنزل غائباً، ومن الإنصاف أن نقول إنه لا يعرف عن هذا الموضوع شيئاً؛ غير أن الشيخ عبد الباسط لم يكن يهمه ذلك، فقد آمن بأن الرجل يعلم دون شك ولم يفاتحه في الأمر حتى لا يسئ إلى ذات نفسه ويخجله
وأنيرت الدار وأقبل المدعوون، ولم يجرؤ الشيخ عبد الباسط على دعوة زملائه حتى لا يفسدوا عليه خياله، واكتفى بأن زاد في الأناقة وفي التجمل، وراح يحفظ قصائد الغزل كلها ليسكب بها في أذن عروسه الحسناء. .
وتم عقد الزواج على يد مأذون حليق اللحية والشارب وإن كان يرتدي جبة وعمامة، وكان هناك مغن يترنم بصوته والمدعوون من كل صنف يقصفون ويلهون. .
واقترح أحدهم على الشيخ عبد الباسط أن يشرب قدحاً قدمه إليه فلم يستسغ طعمه، ثم(158/66)
أعطاه قدحاً آخر وقدحاً ثالثاً. . والجمع الصاخب يطلق الضحكات المخمورة من عقالها وهو ذاهل لا يعرف رأسه من قدميه. .
وأفردت له ولعروسه حجرة خاصة في المنزل الفخم، ولما أحس دوارا في رأسه انكفأ إلى حجرته وهبط إلى الفراش لا يقوى على النظر ثم أدركه النوم العميق. .
وفي الصباح وجد إلى جانبه عروسا من الخشب. . والجمع الحاشد يغمر حجرة نومه بالضحك، ثم تكشفت له الحيلة شيئاً فشيئاً حتى عرف كل شيء. . .
عرف أن المأذون شاب من أصدقاء أهل الدار استعار جبته وعمامته من فقيه المنزل، وعرف أنه شرب في الأقداح الثلاثة خمرا حرمها الله؛ وأخيراً عرف أن عروسه من الخشب وليس لها طاقة على الغناء!
محمد علي غريب(158/67)
مأساة من سوفوكليس
أنتيجونى
للأستاذ دريني خشبة
سوفوكليس: ولد سوفوكليس سنة 496ق. م، ومات سنة 406 أي أنه عاش عمرا طويلا مباركا قضى منه أكثر من 65 سنة في إنتاج أدبي متصل. ولم يصلنا من مآسيه التي أربت على المائة غير سبع فقط إحداها مأساة اليوم (أنتيجونى)، التي تعتبر أطرف تحفة في الأدب الكلاسيكي المسرحي. وسوفوكليس هو تلميذ إسخيلوس، وقد ظل يقلده ويمشي على دربه أكثر من عشرين عاما ثم استقل بعدها بخطته وطرائقه في الأدب، ولكنه عاد فقلد منافسه الأكبر بوريبيدز. ولم يحدث سوفوكليس ثورة ما في روح الرواية المسرحية ولكنه ثار بالمسرح نفسه من الوجهة الشكلية (التكنيكية) فأكثر من الممثلين وعدد من المناظر وقلل من أهمية الخورس، وقد ساعدته ثروته وعيشته الراغدة على تغذية المسرح برواياته الهادئة التي كان يخدم بها الفن من حيث هو فن خالص، ولا يبتغي بها ثورة على التقاليد أو إحداث تغيير في نظم الحياة. وكان مؤدبا مع الآلهة، فلم يصنع ما صنعه إسخيلوس مع ربات الذعر حين سفه منطقهن في محاكمة أورست مثلا. وسوفوكليس هو أستاذ شاكسبير من حيث تركيز البطولة في أكثر مآسيه في المرأة وسترى ذلك فيما نلخصه لك من المآسي. ولم يتقيد سوفوكليس بالدرامة الثلاثية مثل أستاذه، ولكنه فضل المأساة المستقلة الواحدة وإن كان قد كتب ثلاث مآس في موضوع واحد متصل، فانه كان يجعل كلا من أجزاء هذا الموضوع فصلا مستقلا بنفسه كل الاستقلال عن الفصلين الآخرين، وقد تعلم سوفوكليس الموسيقى في صغره وحذقها وترأس فرقة موسيقية في الاحتفال بذكرى (سلاميس) وكان على قسط كبير من الجمال في صباه، وكانت أدوار النساء في بعض الدرامات - ومنها دراماته - توكل إليه لتأديتها لهذا السبب. ولم يشترك في حروب وطنه (أثينا) لاعتباره من كبار الأعيان ولأنه كان صاحب مصانع الأسلحة التي تزود الجيوش بكل ما تحتاج من عتاد. وقد تورط بسبب حياة الترف التي كان يحياها في غرام آثم كلفه كثيرا من ماله، فاضطر ابنه إلى مقاضاته وطلب من المحلفين الحجر عليه، ولكن سوفوكليس عرف كيف يدافع عن نفسه حتى برئت ساحته، ثم استقام بعد ذلك. وقد فاز(158/68)
سوفوكليس على إسخيلوس للمرة الأولى سنة 468 بدرامته المفقودة (تربتوليموس) ثم فاز في عشرين مباراة بعد ذلك وعين سنة 440 أميرالا للأسطول (وإن لم يخض حربا ما)، وعين سنة 443 عضواً في مجلس الوكلاء (مجلس العشرة) وبحسبه أن يكون أقوى شخصية تمثل عصر بركليس بطوله. ومات قبل أن يشهد سقوط أثينا
- 1 -
حينما اكتشف أوديبوس السر الهائل، وعرف أنه قتل أباه وتزوج من أمه، وأولدها ولديه وابنتيه، جن جنونه، وسمل عينيه، وهام على وجهه في الأرض حيران، وتبعته ابنته التاعسة أنتيجونى، لهديه سبيله إلى غابة كولونوس، حيث غالته ربات الذعر بما لم تجن يداه!
وعادت أنتيجونى لتجد أخويها يقتتلان من أجل العرش. . . . . .
وقتل الأخوان المتحاربان كل بيد الآخر في مبارزة مشئومة واستوى كريون على عرش طيبة، وأصدر أمرين كل منهما نقيض الآخر
أمر بأن تحتفل طيبة كلها بملكها السابق إتيوكليز. . . أما أخوه. . أما يولينسيز. . . فيترك في بطحاء طيبة جزر السباع تنوشه جوارح الطير وكلاب البرية، من غير أن تقام له الشعائر الدينية التي تقام لعباد الآلهة المؤمنين، ومن غير أن يضم رفات قبر، أو يحثى عليها تراب! وقضى أن كل من يجرؤ على مخالفة هذا الأمر فجزاؤه القتل في أبشع صورة. والتنكيل والتمثيل!
- 2 -
(أنتيجونى وأختها اسمنيه أمام القصر الملكي بطيبة)
- (أختاه! إسمنيه! أهكذا قضت السماء أن نتجرع أنا وأنت ثمالة الكأس، والنطف الأخيرة من آلام أوديبوس! ألا حدثي يا أختاه، هل بلغك الأمر المأفون الذي أصدره كريون الملك بخصوص أخوينا؟)
- (أي أمر يا أختاه!
- (لهذا جئت معك إلى هنا كيلا يسمع نجوانا أحد!(158/69)
- (إذن. . . تكلمي! إن نظراتك المضطربة تشف أنباء هائلة!
- (لماذا يفرق كريون بين الموتى في حقوق السماء المقدسة؟ لقد أمر أن تحتفل طيبة بأسرها بجناز إتيوكليز. . . في حين تترك جثة بولينيسيز في عراء طيبة لجوارح الطير، وسباع البرية، من دون ما دفن ولا إقام شعائر. . حتى التراب. . لقد أبى أن يحثي عليه التراب يا أختاه! والآن! لقد أنبأتك بكل شيء! فهل تبرهنين على كرم أرومتك! وشريف عنصرك، فتعاونيني فيما اعتزمت، أم. . .
واشؤماه! وهل بيد ضعيفة مثل حل أو ربط؟! ماذا ترينني أصنع؟
- (ألا تقاسمينني حلو هذا الأمر ومره؟)
- (ماذا تعنين؟
- (نتقاسم، أنا وأنت، فنذهب إلى أخينا من فورنا هذا فندفنه؟!. .
- (ندفنه على الرغم من نذير الملك؟ أهذا رأيك؟
- (إي وايم السماء! سأدفن أخي وأخاك فأما امتنعت فإني لن أنكص، ولن أخون أخوتي وحناني وكبريائي ودمي!!
- (مجنونة!! وكريون! أما تبالين أوامره!)
- (كريون؟ وهل له الحق في منعي من القيام بشعائر ديني نحو أخي؟!)
- (أختاه! أنتيجونى! قليلاً من الحكمة يا أختاه! اذكري كيف كانت نهاية أبوينا العزيزين! أذكر كيف شنقت أمنا نفسها حين علمت أن زوجها هو ابنها؟ واذكري كيف سمل أبونا عينيه وذهب معك إلى كولونوس ليتحسى كأس المنون! واذكري أيضاً كيف اقتتل إخوانا وقتل كل منهما الآخر! أفلم يبق وراء كل أولئك إلا أن نلقى بأيدينا أنا وأنت إلى التهلكة؟! أما عن نفسي، فإني أفضل الخضوع لأمر ولي الأمر، فإني امرأة ولم تخلق النساء لمشاكسة الرجال!
- (إذن. . . فلن أرغمك على شيء. . . وحسب هذه اليد الكريمة أن تقوم بالأمر كله وحدها! يا للفخر أن أضطلع بكل شيء ثم أموت! كم تشيع الكبرياء في نفسي حين ألقى أخي في الدار الآخرة وقد أديت له هذا الحق بمفردي؟! إن هذه الحياة لا بد أن تنتهي، فلم لا تكون نهايتها هذه الجريمة المقدسة؟ أنت تأبين أن تزدري قوانين الأرض، ولكنك لا(158/70)
ترفضين أن تحتقري مع كريون شرائع السماء! فهنيئاً لك! يهنيك ما اخترت لنفسك يا أختاه!
- (أنا لا أزدي ولا أحتقر، ولكن أخشى ثورة الأولياء!
- (كأني بك تعتذرين عن جبانتك! اطمئني! سأذهب وحدي لأدفن جثمان أخي!
- (يا للآلهة! كم أخشى عليك!
- (لا تضيعي خشيتك ومخاوفك عبثاً! عليك نفسك!
- (إذن لا تبوحي بسرك لأحد، وسأكتم أنا الأخرى كل شيء!
- (بورك فيك! بل تحدثي به لكل من يلقاك. . . للناس أجمعين!
- (أنت تتحدين خصومك! يا للطيش!
- (تحد يسر قوماً آخرين. . .
- (هذا إذا نجح قصدك، وتم تدبيرك. . . على أنني أراك تضربين على غير هدى)
- (حسنا! سأحاول، فإذا فشلت فقد أديت واجبي)
- (بل ينبغي ألا يحاول الإنسان المحال)
- (ها. ها. . إن كلامك جدير باحتقاري بقدر ما هو خليق بمقت أخيك. . . اصمتي! على وحدي وزر ما أنا قادمة عليه. . . ولن يحزمني القضاء من موتةٍ شريفة خالدة!)
- (لتذهبي! إنه يبدو لي أن لا سبيل للوقوف بسبيلك، يا طائشة! وإن تكن جرءاتك آية وفائك وبرهان محبتك. .
(تخرج كل منهما من ناحية)
- 3 -
ويقبل الخورس (عجائز طيبة) فينشدون ويهزجون، ويتغنون آلام طيبة ذات سبعة الأبواب وأشجانها، ويرددون ألحان المأساة الباكية. . . مأساة أوديب، ثم يلمح رئيسهم كريون، ملك طيبة وطاغيتها. مقبلا، فيصمت ويصمتون
(يدخل كريون)
- (أيها الأصدقاء! إخواني أبناء طيبة الأخيار! أصغوا إلي! لقد تمت المأساة، وانقرض(158/71)
الذُّكران من نسل لايوس، وبالأمس ما ضرجوا ثرى الوطن بدماء لا يُرضى الآلهة إهراقها، وها قد آلت السلطة إلي، سلطة الحكم، وسلطان الملك، وسلطان الملك محك الرجال؟ وإني آخذ فيكم بخطة هي إلى خيركم أقرب، وعلى وطنكم أجدى؛ لا أحب الجبان، ولا أوقر رجلا يؤثر صالحه أو صالح أصدقائه على صالح الوطن. . . الوطن سفينة الجميع، فيجب على الجميع هدايته إلى شاطئ الأمان، ويجب أن نزيد دائما في عظمة طيبة وعنفوانها ومجدها! ولقد علمتم ما كان من ولدي أودبيوس، وعرفتم كيف كان إيتوكليز يفدي بنفسه بلاده، ويرد عنها جحافل الأعداء الذين جردهم عليها بولينيسيز. . . الخائن! الذي أشقى أمته وأهان دولته وكان عليها شجناً من أشجان الزمان! من أجل ذلك صدرت إرادتنا أيها الأصدقاء بأن تحتفل طيبة بملكها الراحل احتفالاً يليق بتضحياته العزيزة، وأن تمشي الأمة بأسرها في إثره إلى مقره الأخير، حيث يذرف كل منا عبرةً على جثته إلى الأبد قربان المحبة ورمز الإعزاز! أما بولينيسيز! فسينبذ بالعراء فتمزقه الكلاب وتتغذى به جوارح الطير. والويل كل الويل لمن تحدثه نفسه بدفنه، أو حثو التراب عليه. . وسنجزي الظالمين!!)
رئيس المنشدين: (كلمتك قانون على الأحياء، وشريعة من السماء، أيها الملك العظيم!
- (إذن. فلتكن طيبة كلها عيونا ساهرة على تنفيذ أمرنا!)
(لها بقية)
دريني خشبة(158/72)
من هنا ومن هناك
إبسن وأرنولد بنت
كتبنا هنا كلمة عن أثر إبسن في إحياء الدرامة في الأقطار الأوربية عامة وإنجلترا خاصة، وأشرنا إلى العلاقة بين إبسن وبين صمويل بطلر صاحب قصة (طريق اللحم) وبين بطلر وبرنردشو وهم جميعاً من أنصار المرأة الذين وقفوا جهود الجبابرة للدفاع عن قضيتها والنضال في سبيلها لتحصل على أوفر قسط من الحرية التي ما تزال - تحت ضغط التقاليد - محرومة منها إلى اليوم. وقد كنا نقرأ درامة القصصي الإنجليزي الطائر الصيت أرنولد بنت المسماة (مباراة الحب) فراعنا أن نجد هذا الكاتب العبقري يحاول محاولة صادقة أن يتمم جهود إبسن!!
والمعروف أن إبسن كان يعرض في دراماته لعلل هذا العالم فيشخصها ويعرضها للنظارة، ولكنه يتركها دون أن يصف لها علاجا، وأحسن مثال لذلك درامته (بيت عروس) ' التي يعرض فيها حياة الفتاة نورا وما تورطت فيه من غرام بشخص غني حاولت أن تحصل منه - بسبيل هذا الغرام - على مبلغ من المال يستعين به زوجها المريض على السفر إلى الجنوب للاستشفاء مما به من مرض. . . ولكن زوجها يكتشف علاقتها بذلك الرجل الغني فيعاتبها. . . ولكنها تثور وتتهمه أنه هو سبب هذا السلوك الذي آلمه منها، وأنه لم يحسن تكييفها حتى تكون ربة منزل، وأنها لا بد تاركته لتدرس الدنيا والحياة من جديد، لأنها ترفض أن تظل إلى الأبد (دمية أو لعبة) في المنزل، تأكل الشوكولاته، وتغشى صالات الرقص، وتقتني الأزهار، وهي لا تعرف من الشؤون المنزلية كثيراً أو قليلاً. . . فإذا سألها زوجها ولمن تترك تربية الأطفال أبناءها؟ أجابته إنها تتركهم له أو أنها لا تدري. . . وكيف تربيهم وهي لم تترب؟ أليس أولى أن تتربى هي أولا؟!
وعند هذا تنتهي الدرامة وتنزل الستار!! وبذلك لم يصف لنا إبسن كيف تعالج نورا؟ أو إلى أين تذهب لتحصل على القسط الذي يعوزها من التربية. لذلك راعنا من أرنولد بنت محاولته معالجة هذه الزوجة إلتيّ تغرم بأكل الشوكولاته وتولع بالمراقص والمسارح ودور الصور والصالات، ولا تعرف من أمور منزلها أي شيء حتى ولا كيف تسوس الخدم!! وتتلخص درامة بنت في أن نينا الممثلة البارعة وزوجة مدير مسرح الملك جورج بلندن قد(158/73)
أحبها (روس) أحد كبار الأغنياء الإنجليز، وقد حدث أن أشرف الزوج - مدير المسرح - على الإفلاس، فاضطر لأن يذهب إلى (روس) ليقترض منه بضعة آلاف من الجنيهات يصلح بها مالية مسرحه ويحفظه بها من الإغلاق. . وتكون نينا عند روس في هذه الآونة تساقيه كؤوس الغرام فما يكادان يعلمان بقدومه حتى يصلحا من شأنهما ويتأهبا للقائه، ويعده روس خيراً وينصرف على ميعاد آخر، فإذا حان هذا الميعاد أقبل الزوج وكله أمل أنه قابض الآلاف التي يبتغيها، وتكون نينا في هذه المرة أيضاً بين ذراعي روس، فإذا دق الجرس وعلم روس أنه هو، خبأ نينا في مخدعه ولقي الزوج. . . ولكن ثورة من الشرف والكرامة تتفجر في قلب روس فيصارح الزوج بعلاقته الغرامية بزوجته، وتخرج الزوجة صعقة، ويغادر الزوج المنزل ليطلق زوجته، ويتمالك روس قواه ويتناول التلفون فيخاطب أحد أصدقائه أصحاب الملايين في إقراض مدير المسرح بضعة آلاف من الجنيهات على أن تحتسب على روس بشرط ألا يعلم مدير المسرح. ويتزوج روس من حبيبته. . . ثم يبدأ الدرس القاسي الذي يصلح به سلوكها ويخلق منها زوجة مدبرة وربة منزل بكل ما تحمل الكلمة من معان؛ وذلك بعد أن تسوءه منها بعض التصرفات التي تدل على طيش النساء اللائى لم يحصلن على أية ثقافة منزلية
يدعي روس أنه جازف في عمل تجاري ولكنه جر عليه الإفلاس، وأنه مضطر لأن يبيع كل شيء. . . منزله وضياعه وعرباته وكثيراً من ملابسه وأثاثه ليسدد ديونه. . . ولكنه يلقى من نينا كل عطف وتضحية، فإنها بدلاً من أن تتركه لتلوذ بغيره من الموسرين، تقدم له كل حليها وجواهرها التي تسوى آلافاً كثيرة. . . فيسير روس في درسه. . . وينتقل إلى (شقة) حقيرة في منزل قذر ليعيش فيه عيشة الكفاف، فلا تأبى نينا أن تقاسمه صرامة هذا العيش، بل تقوم هي على حاجيات المنزل فتحسن تدبيرها كل الإحسان. . ويكون اليوم السابع والعشرون من الشهر ويحضر محصل (البلدية) من أجل ثمن الغاز فلا يكون مع نينا إلا أربعة بنسات ونصف فينذرها المحصل بقطع التيار إن لم يسدد المبلغ (باكرا) ويحضر روس فتطلب إليه قليلاً من النقود لهذا الغرض فيثور بها ويتهمها أنها غير مدبرة وأنها مسرفة كل الإسراف، ويطلب إليها أن تطلعه على (كشف بالمصاريف الشهرية) فتدهش نينا لهذا الطلب، ولكن روس يداعبها ويطلب منها أن ترتدي أحسن ملابسها لزيارة(158/74)
(المتحف البريطاني؟!) ولكنها تكاد تجن لأنها لم تعتد زيارة هذه الأماكن الجدية. . . وتأتي أختها آن لزيارتها فيتركهما روس وينصرف. . . وتعجب آن لقذارة (الشقة) وتسأل أختها لم تسكن هي وزوجها في مثل هذا الحي الوضيع مع أنه قد أصبح أغنى رجل في إنجلترا؟ وتضحك نينا وتقول بل إنه أفقر رجل في إنجلترا لأنه أفلس وباع كل ما يملك ليسدد ديونه؟! وتدهش آن وتؤكد لها أن روس قد ربح أمس فقط من صفقة البن البرازيلي سبعة ملايين من الجنيهات، وأنه لا بد قد تعمد أن يلقنها هذا الدرس في الاقتصاد والتدبير المنزلي تعمدا. . . وتفطن نينا للسر فتثور وتذهب من فورها إلى روس في محل عمله الذي كان قد أخبرها أنه أغلقه فتجده غارقاً في أعمال لا حصر لها وتتأكد من صدق ما أخبرتها به آن. . . ويعود الجميع إلى قصرهم القديم حيث تجد نينا كل الخدم وكل الخير القديم كما كان. . . فتعاتب روس الذي يذهب بها إلى (دولاب) مجوهراتها فتجدها سليمة لم تبع!! ويعيشان عيشة راغدة جديدة ولكن عيشة كلها جد وعمل!!
وقد لمحنا أثر إبسن في أرنولد بنت واضحاً لأنه ذكر (عروس بيت) غير مرة في ثنايا الدرامة فكأنه كان يقول (أنا أتمم جهود إبسن!!)
أوجست سترندبرج
وما دمنا قد تحدثنا هذا الحديث عن إبسن النرويجي العظيم فلا بأس من إيراد شيء عن منافسه السويدي الكبير أوجست سترندبرج الذي كان يهزأ بتعاليم إبسن ويسخط على دفاعه عنها ويعتبر دراماته ضرباً من الجنون والحماقة يجب عرضه في مستشفيات المجاذيب بدل عرضه في المسارح. . والسر في كراهية سترندبرج للمرأة هو نفس السر الذي جعل الأديب اليوناني الكبير يوريبيدز ألد أعدائها منذ أربعة وعشرين قرنا، فلقد تزوج كل منهما وفشل في زواجه ثلاث مرات وكانت زوجاتهما هن اللائي طلبن الطلاق وعملن له حتى حصلن عليه، وبذا كانت نظرة كل من الأديبين الكبيرين للمرأة نظرة سوداء كلها شؤم وكلها موجدة، وقد وجد يوريبيدز من ينتقم منه للمرأة بعد موته وكان ذلك هو أرسطوفان الروائي الفكاهي الخبيث الذي وضع معظم دراماته في الطعن على يوريبيدز والتشهير به وبآرائه. أما سترندبرج فقد مات ولم يشعر به أحد، لأن إبسن كان يدعو إلى تحرير المرأة دعوة حارة صادقة استجابت لها أوربا بأسرها، وبدأ العالم كله يستجيب لها حتى في مجاهل(158/75)
آسيا وأواسط أفريقيا المظلمة
ولد إبسن سنة 1828 في بلدة سكين في جنوب النرويج ومات سنة 1906
وولد سترندبرج في ستوكهلم سنة 1849 ومات سنة 1912
هزيمة غاندي وانتصار طاغور
انهزم غاندي، وأسدل الستار على الفصل الأخير من درامة المهاتما، ولو قد مات غاندي في إبان مقاومته لإنجلترا في حركة العصيان المدني لاعتبره المؤرخون لغزاً كما لو كان نابليون قد مات بعد يينا أوتِلست. . . ولكن القدر الساخر يأبى إلا أن يلطخ البطولة ويفضحها. . . وذلك بطول العمر!! والحقيقة أن طاغور لم يكن يوماً من الأيام راضياً عن وسائل غاندي، وكان يتهمه بالتهريج والشعوذة كلما رآه يحبذ كهانات الهند ويدمج عقليته في صميم عقلية الجماهير. وكانت غضبة طاغور على المهاتما شديدة قاسية سنة الزلزال المشهور الذي خسف جانباً من الأرض، لأن غاندي عزا الزلزال إلى سخط الإله وغضبه ولم يعزه إلى أسبابه الجغرافية التي يتعلمها صغار التلاميذ في المدارس. ويبدو أن لقب مهاتما أثر أثراً سيئاً في روح غاندي، وملأه بشعور النبوة إن لم يكن الألوهية، ودليلي ذلك ادعاءه غير مرة أنه يصوم بأمر الإله. . . وأنه لم يفعل كذا إلا بعد أن سمع صوت الإله يناديه ويناشده. وقد كانت أول هزيمة غاندي في تجرده من زعامته السياسية وتفرغه للزعامة الاجتماعية. . . وبذا فقد الزعامتين جميعاً، مع أن كثيرين حبذوا تصرف غاندي أول الأمر ولا سيما بعد أن أعلن أنه سيفرد جهاده لخير المنبوذين. . ولكنه، ويا للأسف، أراد من المنبوذين أن يطيعوا الشرائع ويؤدوا ما فرضت عليهم. . . أي أنه لم يحللهم من مبادئ النجاسة. . . ثم غلا هو في امتثاله أوامر دينه فلم يبرح يقدس البقرة ويتبرك بروثها ويتطهر ببولها. . . وذلك ما عيّره به ابنه الذي هداه الله إلى الإسلام أخيراً. . . والحقيقة أن سلوك غاندي الأخير لا يطاق، بل كان سبباً في ثورة الشباب ضده، وتألبهم عليه، واعتبارهم إياه سبب ضعف الهند وخضوعها
وفي هزيمة غاندي انتصار لطاغور من غير ريب. . . رابندرانات طاغور شاعر الهند وأديبها الأشهر وفنانها العظيم. . . الرجل الذي خدم الهند بشهرته العالمية في دولة الآداب أكثر مما خدمها غاندي بسياسته العقيمة وأساليبه الرجعية الواهية لقد كان طاغور يمقت من(158/76)
غاندي عداءه للجسم وتوهينه له وتهريجه لروح على حسابه، وكان يرى أن الجسم نصف الإنسان والروح نصفه الآخر، وأنه ينبغي أن يعنى بهما بمقدار واحد، لا أن نوهن أحدهما على حساب الآخر، فليس روح سليم إلا في جسم سليم، وقد ظل طاغور يشهر من أدبه أسلحة مهلكة على تعاليم غاندي، وبذلك تم له الفوز، وانتشل من يديه شباب بلاده الذين أخذوا يدمنون قراءة قصصه بشغف وتلذذ، بعد ما كانوا يكرهونها بسبب غاندي
قصص طاغور
كان طاغور شاعر قبل أن يكون قصصياً، وأشعاره هي غناء الروح، وبلسم القلوب الجريحة، وشفاء النفوس المكلومة؛ وأغانيه هي هتاف الغاب، وموسيقى أحراش البنغال، ورفيف النسيم الحلو على حقول الأرز فوق عُدْوَتي الكنج! ومن أمتع أشعاره التي كتبها بالإنجليزية (البستاني حيث تبدو مهارته في مزج الحب بالبكاء، والألم بالغزل، والعبوس بالابتسام
وبين طاغور الشاعر وطاغور القصصي صلة لا تنفصم، ذلك أنه يضفي روحه الشعرية على قصصه، فتخرج قصائد طويلة منثورة تنقع غلة القلب، وتؤدب النفس، وتسمو بقارئها فوق أدران البشرية، وتحلق به في سموات من النقاء والصفاء
بيد أننا نفضل أقاصيص طاغور على قصصه، وذلك لبراعته التامة في كتابة القصة القصيرة، وفشله الذريع في القصة الكبيرة؛ فمن يقرأ مثلاً روايته (الضحية)، أو (وكيل البريد)، أو (خالتي)، أو (الناسك). . . . . . الخ روعه من طاغور ذلك الخيال الخصب، والتفكير العميق، والفن الكامل في كتابة القصة أو الرواية
ولكنا، بكل أسف، حينما قرأنا قصته الطويلة (الغرق) وجدناه ينحدر عن ذروته السامية التي كان يحلق فوقها في القصة القصيرة، وذلك لأنه كان كلما وقع خلال القصة في ورطة، أو وصل إلى عقدة لم يجد منها مخرجاً إلا بالركون إلى (الصُّدفة)، ولذا كانت القصة كلها مصادفات قللت كثيراً من قيمتها كقصة من فن طاغور. ذلك بالرغم مما فيها من طلاء الأسلوب وحلاوة الروح الشعري الجميل الأخاذ.
(د. خ)(158/77)
البريد الأدبي
العيد المئوي للصحافة الشعبية
نشأت الصحافة الحديثة منذ نحو قرن ونصف قرن، وكثير من الصحف الأوربية الكبرى قد جاوز العيد المئوي؛ ولكن الصحافة الشعبية أو بعبارة أخرى الصحافة المعاصرة التي نقرؤها اليوم ترجع إلى مائة عام فقط؛ وكانت الصحف قبل مائة عام أداة من أدوات الترف، لا يحرزها سوى الأغنياء، وكانت في الغالب صحفاً أدبية فلسفية، قلما تفسح لما نسميه اليوم بالأخبار المحلية مجالا كبيراً. وقد أدرك سر هذا النقص صحفي فرنسي بارع هو أميل دي جيراردان؛ وكان كاتباً ساحر الأسلوب بدأ حياته الأدبية بإصدار رواية عنوانها (أميل) يقص فيها سيرة حياته؛ ثم خطر له أن يصدر مجلة أسبوعية أدبية، ينقل فيها أحسن المقالات والقصص عن الصحف الأخرى وسماها (السارق) دلالة على خطبتها في النقل؛ بيد أنه تطرف بعد ذلك إلى مشروع أهم، فقد خطر له أن يصدر صحيفة يومية شعبية رخيصة الثمن تحتوي على أهم الأخبار الأخيرة؛ وفي أوائل يوليه سنة 1836، أعني منذ مائة عام، أصدر جيراردان جريدة الصحافة وقدمها للجمهور بنصف الثمن المعتاد وجعل اشتراكها السنوي أربعين فرنكا فقط، فكانت فكرته فتحاً جديداً في عالم الصحافة، ولأول مرة أقبل الجمهور المتوسط على اقتناء الصحف، واستطاع لأول مرة أن يقرأ الأخبار الأخيرة بصورة منتظمة متوالية
وكان هذا بدء الصحافة المعاصرة التي تطورت حتى أصبحت بمحتوياتها الأدبية والخبرية ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية
طبعة جديدة من الأنيس المطرب
تصدر الآن بالمغرب الأقصى (بمدينة الرباط) طبعة جديدة لتاريخ ابن أبي زرع الفاسي المسمى (الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس)؛ وقد ظهر من هذه الطبعة الجديدة الجزء الأول، وحققه وعلق عليه الأستاذ محمد الهاشمي الفيلالي من أدباء فاس، وأخرجته شركة النشر المغربية التي ألفت أخيراً بالمغرب من بعض الأدباء لتعني بإحياء الآداب المغربية
وتاريخ ابن أبي زرع مشهور بين التواريخ المغربية، وهو يتناول تاريخ المغرب ودوله(158/79)
منذ دولة الأدارسة إلى زمن المؤلف (سنة 726هـ)؛ وقد ظهر لأول مرة في مدينة أوبسالا في السويد محققاً بعناية المستشرق كارل تورنبرج، ومقروناً بترجمة لاتينية (سنة 1843 - 1846)؛ ثم طبع بعد ذلك بفاس أكثر من مرة. ولكن هذه الطبعات جميعها كانت مشحونة بالأخطاء التاريخية واللغوية؛ ولهذا رأى بعض أدباء المغرب أن الوقت قد حان لإظهاره في ثوب جديد
وقد تصفحنا الجزء الذي صدر منه الطبعة الجديدة فألفينا فيه أثر العناية بالتحقيق والتصحيح، وهو يقع في أكثر من مائة وثمانين صفحة من القطع الكبير، ويشمل تاريخ المغرب حتى أوائل القرن الخامس الهجري (سنة 410هـ)
فنرجو لإخواننا الأدباء المغاربة كل توفيق ونجاح في مشروعهم الأدبي؛ ونرجو أن يتلو إخراج الأنيس المطرب إخراج بعض الآثار المغربية الأخرى، ولا سيما المخطوط منها
وفاة الدكتور سنوك هور جرونيه المستشرق الهولندي
توفي في ليدن المستشرق الهولندي الدكتور سنوك هور جرونيه يوم السبت 4 يوليو في الحادية والثمانين من عمره
وقد ولد في 8 فبراير سنة 1857، وبعد ما أتم دراسته العالية في علوم الفقه واللغات الشرقية رحل إلى بلاد العرب، وكانت رحلته إليها متأخرة عن رحلة السر رتشرد برتون المشهورة نحو ثلاثين سنة، فتمم بالمعلومات التي جمعها معلومات السر تشرد برتون ومباحثه
نزل في جدة في خريف سنة 1885، فقضى على سواحل البلاد خمسة أشهر قبل أن يقصد إلى مكة المكرمة في زي طبيب عالم، فقضى في مكة خمسة أشهر درس في خلالها المجتمع العربي هناك بين وصول قوافل الحجاج ورجوعها، ولولا وشاية قنصل فرنسا به لاستطاع أن يطيل إقامته هناك، ولكن قنصل فرنسا أنبأ السلطات التركية بوجود هورجورنيه في مكة فأخرج منها
وفي سنة 1888 - 1889 أصدر كتابه (مكة) في مجلدين وقد جاء وصفه لمدينة الكعبة مؤيداً لدقة وصف بوخاردث؛ أما وصفه للمجتمع العربي في مكة فكان دقيقاً ومسهباً: وصف الأسواق والعبيد والأماكن المقدسة وحراسها والبيوت والأعياد والولائم والفضائل(158/80)
والنقائص، وكان بحثه في حياة المدن ببلاد العرب مدققاً؛ ولكن يقال أنه كان يعوزه شيء من العطف لكي يخرج تاماً، وهذه الصفة صفة العطف مكنت بالجريف ودرطي من الامتياز والتفوق فيما كتباه عن حياة الجزيرة
وبعد ما أتم هورجرونيه كتابه عن بلاد العرب رفض أن يعين أستاذاً للغة العربية في جامعة كمبردج خلفاً للأستاذ روبرتسن سمث، وكذلك رفض ما عرض عليه من هذا القبيل في ألمانيا وليدن، مفضلاً أن يمضي في دراساته الإسلامية في جزائر الهند الشرقية التابعة لهولندا حيث بقي بضع سنوات مستشاراً للحكومة في الشؤون الإسلامية
وعاد إلى هولندا سنة 1906 وقبل أن يشغل منصب أستاذ للغة العربية في جامعة ليدن. وفي سنة 1907 عين مستشاراً في الشؤون الهندية والعربية لحكومة جزائر الهند الشرقية الهولندية
مجلة خاصة لمسائل الأجناس
صدرت أخيراً بمدينة شتوتجارت بألمانيا مجلة خاصة لمسائل الأجناس بعنوان (مجلة لمباحث الأجناس والمعروف أن مسألة الأجناس تتخذ في ألمانيا الحاضرة أهمية خاصة؛ وأنها في مقدمة النظريات الهتلرية التي تسيطر اليوم على ألمانيا، وأن الآرية وغير الآرية أصبحت أساس الدولة النازية الحاضرة، وأساس الاضطهاد المنظم الذي تنظمه ألمانيا ضد اليهود وضد جميع الأجناس السامية؛ ومن ثم فقد أضحت المباحث والنظريات الخاصة بالأجناس في مقدمة المسائل التي يعنى بها الكتاب والعلماء الألمان اليوم؛ وقد صدر من المجلة المشار إليها عددان حافلان بهذه المباحث؛ ويحررها الدكتور فون ايكشتيت، وافتتحها ببحث من قلمه يذهب فيه إلى أن نظريات الأجناس قد تطورت اليوم تطورا عظيما؛ فمنذ عصر (تيريك) حيث كانت الجمحمة البشرية تقاس في مائة موضع لكي تعرف خواصها، نرى علم الأجناس اليوم يميل إلى الحياة، ويميل بالأخص إلى بحث الخواص العامة؛ وعرض إلى مسألة الذكاء، وكونه هبة لبعض الأجناس؛ وكون الموهوبين يهاجرون دائماً من القرية إلى المدينة، فتقفر القرية دائماً من الذكاء الموهوب؛ وهذا عامل يسيء في تكوين المجتمع الحاضر؛ وفي المجلة الحاضرة بحوث أخرى في هذا الباب لأشهر العلماء الألمان الذين يشتغلون بها(158/81)
كتاب جديد لمسيو هانوتو
المسيو هانوتو الوزير الفرنسي السابق مؤرخ كبير، وله عدة مؤلفات تاريخية قيمة، وقد اشترك في وضع بعض أجزاء سلسلة التاريخ المصري التي تصدر بالفرنسية، وإن كان هذا الاشتراك لم تسفر عنه نتائج علمية باهرة. وقد أصدر أخيراً كتاباً عن علائق نابليون وأسرة بوهارنيه الشهيرة التي تنتمي إليها زوجته الأولى جوزفين بوهارنيه عنوانه (آل بوهارنيه والإمبراطور) ' وكان قد نشر قبل ذلك كتاباً عن الملكة هورتنس ابنة جوزفين من زوجها الأول، وفي الكتاب الجديد يقدم إلينا مسيو هانوتو سلسلة من الرسائل التي وجهتها جوزفين إلى ولدها البرنس أوجين؛ وتلقي هذه الرسائل كبير ضوء على الصراع الذي كان ناشباً وراء الستار بين آل بونابارت (أسرة الإمبراطور) وبين آل بوهارنيه (أسرة الإمبراطورة)؛ وقد كانت أسرة الإمبراطورة دائماً على أهبة للتفاهم والوفاق كما يدل على ذلك خطاب من جوزفين لولدها تقول فيه: (إن أولئك الناس لا حق لهم جميعاً في بغضنا، ولو أحسنوا موقفهم لما وجدوا أصدقاء أخلص منا)
وقد كان نابليون يدافع دائماً عن جوزفين حتى بعد طلاقها منه، وكانت جوزفين تخلص له دائماً حتى بعد زواجه؛ ولكنها بعد مصائب سنة 1814، أدركت أن الخاتمة قد وقعت، وكتبت إلى ولدها تقول له إنه غدا حراً لا تربطه نحو الإمبراطورية رابطة ولاء بعد، وأنه يستطيع أن يعمل لأسرته بعد أن اختفى الإمبراطور من الميدان(158/82)
العدد 159 - بتاريخ: 20 - 07 - 1936(/)
(إلى صاحب السعادة المحافظ)
أمين أفندي الحاوي (كاتب عمومي) له في هذه الصناعة القدم الأولى والمكان المنفرد. حفظ في صدر أيامه كتابي: (إنشاء العطار، للمحبين والتجار)، و (أبدع الأساليب، في العرائض والمكاتيب)، وهما كتابان يجمعان أعاجيب شتى مما يخطر للبكم من أهل الهوى، ويعرض للجهال من ذوي الحاجة. ثم دخل الجندية في (قرعة الخديوي عباس)، وهي القرعة التذكارية التي طلب فيها لداته (للجهادية)؛ فكان يكتب لرفاقه الجنود رسائل الشوق والعشق والسلام كل رسالة بنصف قرش. فلما خرج من الجيش العامل إلى (الرديف) سلك نفسه في نظام (البوليس) تسع سنين كوامل، ازداد فيها علما بطرائق النظام وطوائف الحكام وأحوال المجتمع؛ وكان من الممكن أن يتقلب في نعيم الشرطة مدة اطول، ولولا إن خيرها الدفاق في يده من الشوارع والحوانيت قد فاض على جسمه فتراكب لحمه، وتدلى بطنه، واستغار فيه الشحم حتى كاد ينقطع قيامه، فلم يكن بد من الحكم عليه بهذه الحجة القائمة على طِماح عينه، وطول يده، وقعود همته؛ فخرج إلى حياة (التحرير)، وهي منذ شب حديث عبقريته ومطمح امانيه، واتخذ له مكتبا تحت السماء أمام (سراي المحافظة)، وألقى حيله الموهوبة والمكسوبة في غمرة الحياة وزحمة العيش، فعادت له بالشهرة الرابحة في دنيا القضايا والشكايا والسمسرة. فكانت العريضة أو الرسالة أو (الكمبيالة) التي يحررها الحاوي، أملاً لحرفائه في ضمان الفوز، ومثلا لزملائه في فن الكتابة. ثم تدخل في زوايا البيوت، وتغلغل في طوائر السرائر، وتبسط على موائد الانس، وتفنن في أساليب الوساطة، فكان دليل (الخاطب)، ونديم الشارب، وسلوة المحزون، وسمسار المشتري، ووكيل المدعي، وسفير الخصوم، ورسول الأحبة. تراه اكثر النهار على مقعده الخشبي الضيق في جلباب فضفاض من الكستور المخطط، ومعطف رقيق من النسيج المهلهل، ورغائب الناس تنثال عليه انثيال النحل العاسلة على الخلية الضخمة: هذا صاحب مظلمة يريد عرض حال، وذاك طالب مصلحة يتلمس طريق المسعى، وتلك زوجة هاجر أو حبيبة فاجر تطلب المعونة من قلمه أو لسانه، وهذا رافع دعوى يرغب توكيل عام، وذلك زميل عجلان يطلب كلمة لغوية أو جملة نحوية يزين بها رسالته الغالية الثمن (لزبونته) الرفيعة القدر، وأمين الأريب في يده قلم، وفوق أذنه قلم، وعلى شفته بسمات تتعاقب مختلفات في السعة واللون والدلالة، يتلقى كل طالب برغبته، وكل سائل بجوابه. وهو بعد ذلك لكثرة ما يغشى بيوت الناس(159/1)
عارف بأحاديث الأسر، عالم بأحداث المجامع، خبير بألوان المطاعم، فعنده قصة كل زوجين، وخبر كل صديقين، وخصيصة كل صفحة من صحاف المائدة، فالقرع شفاء من كل داء، والرز نصيب الأرض من حقول السماء؛ وفي الكبد خروق لا تسدها إلا الملوخية، وفي الجسم عروق لا ينبضها إلا الكنافة
من عادة أمين أفندي أن يزورنا كما يزور غيرنا حينا بعد حين، فيمتعنا ساعة بأخباره وأسراره ونوادره، ثم ينصرف وتحت إبطه رزمة مما تكدس عندنا من المجلات المقروءة. دخل علينا أمس جاداً على غير عادته، وقوراً على خلاف طبعه؛ ولم يكد يلقي التحية حتى ألقى إلي في شيء من الزهو صحيفة مسطرة من ورق (العرائض) وفي رأسها بقلم الثلث: (إلى صاحب السعادة المحافظ)، وفي ذيلها بقلم الرقعة: (ابن الحاوي)، وقال:
كتاب مفتوح إلى سعادة المحافظ عن طريق الرسالة. أتنشره أم تطويه؟
فقلت له: وماذا تريد من سعادة المحافظ يا أمين أفندي؟
فقال: قرأت في الصحف انه ألغى (مصايف الأطفال)، فهزني الخبر، وملكتني شهوة الكلام، فكتبت إليه هذا الكتاب أريد منه أن يضيف نقطة من بحر كرمه إلى (مصايف)، فتصبح بفضله (مضايف)! والكتاب بين يديك فاقرأ
قرأت الكتاب في غمر من أحاسيس شتى تتلون تباعا بالإعجاب والإنكار، والحزن والضحك، والانفعال والتبلد؛ ثم قلت له: أنى اقبل كتابك موضوعا وارفضه شكلا، لأنك عرفت كيف تفكر، ولم تعرف كيف تعبر؛ ولغة الدواوين وأسلوب (العرائض) لا يدخلان من أبواب الرسالة؟
فقال وقد طغى في وجهه الدم، ونزا في رأسه الغضب، وانتشر على شفتيه شاربه الأزرق: كيف! لقد حفظت الكفراوي، ولزمت الشيخ عليش، وصحبت الشيخ رشيد، وجادلت الأستاذ وجدي، وقضيت في (التحرير) أربعين عاماً! أفتجابهني بعد ذلك بأنني لا اعرف كيف اكتب؟! فقلت له: هون عليك! سأكتب لك هذا الكتاب بلغة المجلات فإن أعجبك أمضيته. ثم شرعت اكتب: (صاحب السعادة محافظ القاهرة:
(يتقدم إليك بهذه الكلمة والد فقير كابد من نصب العيش وعنت البؤس وتربية الأولاد ما جعله مثلا صحيحا لآلام طبقته. انك ألغيت (مصايف الأطفال) فألغيت حقا كسبه الفقير من(159/2)
الغني، وأخذته العامة من الخاصة. كان هذا الحق لنقصه وقصوره كنظرة أهل النار إلى أهل الجنة يضاعف ألم الحرمان ويجسم شقاء البؤس، ولكنه على أية حال كان ترضية لكرامة الشعب
ولقد كان في نفسي أن اطلب إلى وزارة الأمة أن تجعل المصايف مضايف تؤوي شرداء الطفولة وطرداء الفاقة، فتنقلها بذلك من الخصوص إلى العموم، وتحولها من تملق الكمال إلى معالجة الضرورة. فأفاريز الشوارع وأفواه الطرق وزوايا الأبنية مغطاة في الليل القارس القاسي بجسوم اليتامى والهمل من أطفال القاهرة، تترعرع في أحضانهم القذرة أغراس الرذيلة، وتتكاثر على روائحهم الكريهة جراثيم المنكر، والملاجئ وحدها علاج هذه الحال الأليمة. فإذا كان هذا الإلغاء لسد هذا الخلل وإصلاح هذا الفساد، فما عدوت الصواب ولا أخطأت الحزم؛ وأما إن كان لقلة المال أو ضعف الرغبة فقد قضيت على فكرة جميلة واعتديت على حق مقدس. . .). . .
وكان أمين قد سكت عنه الغضب، فنظر فيما اكتب ثم قال منفعلا: ما هذا؟ أين (الديباجة)؟ وأين ما يجب لمثل هذا العظيم من عبارات التفخيم؟ أرجو ألا تكمل! سآخذ كتابي وأسلمه إلى الباشا يداً بيد! فقلت له: أرحتني أراحك الله! وسلمته الكتاب يداً بيد، ثم صافحته يداً بيد. وخرج الحاوي وأنا ارجح أنى كسبت عدوا جديداً من جراء النشر في الرسالة
أحمد حسن الزيات(159/3)
أحلام في قصر
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كان فلان بن الأمير فلان يتنبَّل في نفسه بأنه مشتقٌ ممن يضع القوانين لا ممن يخضع لها، فكان تياها صلفا يشمخ على قومه بأنه ابن أمير، ويختال في الناس بان له جداً من الأمراء، ويرى من تجبره أن ثيابه على أعطافه كحدود المملكة على المملكة لان له أصلاً في الملوك
وكان أبوه من الأمراء الذين ولدوا وفي دمهم شعاع السيف وبريق التاج، ونخوة الظفر، وعز القهر والغلبة؛ ولكن زمنه ضرب الحصار عليه، وأفضت الدولة إلى غيره فتراجعت فيه ملكات الحرب من فتح الأرض إلى شراء الأرض، ومن تشييد الإمارات إلى تشييد العمارات، ومن إدارة معركة الأبطال إلى إدارة معركة المال؛ وغبر دهره يملك ويجمع حتى أصبحت دفاتر حسابه كأنها (خريطة) مملكة صغيرة
وبعض أولاد الأمراء يعرفون أنهم أولاد أمراء فيكونون من التكبر والغرور كأنما رضوا من الله أن يرسلهم إلى هذه الدنيا ولكن بشروط. . . .
وانتقل الأمير البخيل إلى رحمة الله، وترك المال واخذ معه الأرقام وحدها يحاسب عنها، فورثه ابنه وأمرَّ يده في ذلك المال يبعثره؛ وكانت الأقدار قد كتبت عليه هذه الكلمة: غير قابل للإحسان، فمحتها بعد موت ابيه، وكتبت في مكانها هذه الكلمة: جمع للشيطان
أما الشيطان فكان له عمل خاص في خدمة هذا الشاب، كعمل خازن الثياب لسيده، غير انه لا يلبسه ثيابا بل أفكاراً وآراءً وأخيلةً. وكان يجهد أن يدخل الدنيا كلها إلى أعصابه ليخرج منها دنيا جديدة مصنوعة لهذه الأعصاب خاصة، وهي أعصاب مريضة ثائرة متلهبة لا يكفيها ما يكفي غيرها فلا تبرح تسأل الشيطان بين الحين والحين: إلا توجد لذة جديدة غير معروفة؟ ألا يستطيع إبليس القرن العشرين أن يخترع لذة مبتكرة؟ ألا تكون الحياة إلا على هذه الوتيرة من صبحها لصبحها؟
كان الشاب كالذي يريد من إبليس أن يخترع له كأساً تسعُ نهرا من الخمر، أو يجد له امرأة واحدة وفيها كل فنون النساء واختلافهن. وكان يريد من الشيطان أن يعينه في اللذة على الاستغراق الروحاني ويغمره بمثل التجليات القدسية التي تنتهي إليها النفس من حدة الطرب وحدة الشوق؛ وذلك فوق طاقة إبليس، ومن ثم كان معه في جهد عظيم حتى ضجر(159/4)
منه ذات مرة فهم أن يرفع يده عنه ويدعه يدخل إلى المسجد فيصلي مع بعض الأمراء الصالحين
وهؤلاء الفساق الكثيرو المال إنما يعيشون بالاستطراف من هذه الدنيا، فهمهم دائما الألذُّ والأجمل والأغلى؛ ومتى انتهت فيهم اللذة منتهاها ولم تجد عاطفتهم من اللذات الجديدة ما يسدها ضاقت بهم فظهرت مظهر الذي يحاول أن ينتحر. وذلك هو الملل الذي يبتلون به، والفاسق الغني حين يمل من لذاته يصبح شأنه مع نفسه كالذي يكون في نفق تحت الأرض ويريد هناك سماءً وجواً يطير فيهما بالطيارة. . .
قالوا: واعترض ابن الأمير ذات يوم شحاذ مريض قد أسنَّ وعجز يتحامل بعضه على بعض، فسأله أن يحسن إليه وذكر عوزه واختلاله وجعل يبثُه من دموعه وألفاظه. وكان إبليس في تلك الساعة قد صرف خواطر الشاب إلى إحدى الغانيات الممتنعات عليه وقد ابتاع لها حلية ثمينة اشتط بائعها في الثمن حتى بلغ به عشرة آلاف دينار، فهو يريد أن يهديها إليها كأنها قدر من قادر. . . وقطع عليه الشحاذ المسكين أفكاره المضيئة في الشخص المضيء فكان إهانةً لخياله السامي. . . ووجد في نفسه غضاضةً من رؤية وجهه واشمأز في عروقه دم الإمارة وتحركت الوراثة الحربية في هذا الدم
ثم ألقى الشيطان إلقاءه عليه، فإذا هو يرى صاحب الوجه القذر كأنما يتهكم به يقول له: أنت أمير يبحث الناس عن الأمير الذي فيه فلا يجدون إلا الشيطان الذي فيه. وليس فيك من الإمارة إلا مثل ما يكون من التاريخ في الموضع الأثرى الخرب. ولن تكون أميراً بشهادة عشرة الآلاف دينار عند مومس، ولكن بشهادة هذا المال عند عشرة آلاف فقير. أنت أمير، فهل تثبت الحياة انك أمير أو هذا معنى في كلمة من اللغة؟ إن كانت الحياة فأين أعمالك، وإن كانت اللغة فهذه لفظة بائدة تدل في عصور الانحطاط على قسط حاملها من الاستبداد والطغيان والجبروت، كأن الاستبداد بالشعب غنيمة يتناهبها عظمائه، فقسم منها في الحاكم وقسم في شبه الحاكم يترجم عنه في اللغة بلقب أمير
ألا قل للناس أيها الأمير: إن لقبي هذا إنما هو تعبير الزمن عما كان لأجدادي من الحق في قتل الناس وامتهانهم
وكان هذا كلاما بين وجه الشحاذ وبين نفس ابن الأمير في حالة بخصوصها من أحوال(159/5)
النفس، فلا جَرَم أُهين الشحاذ وطرد ومضى يدعو بما يدعو
ونام ابن الأمير تلك الليلة فكانت خيالتُه من دنيا ضميره وضمير الشحاذ: فرأى فيما يرى النائم أن ملكا من الملائكة يهتف به:
ويلك! لقد طردت ذلك المسكين تخشى أن تنالك منه جراثيم تمرض بها، وما علمت أن في كل سائل فقير جراثيم أخري تمرض بها النعمة؛ فإن أكرمته بقيت فيه وإن أهنته نفضها عليك. لقد هلكت اليوم نعمتك أيها الأمير واستردَّ العارية صاحبها وأكلت الحوادث مالك فأصبحت فقيراً محتاجاً تروم الكسرة من الخبز فلا تتهيأ لك ألا بجهد وعمل ومشقة؛ فاذهب فاكدح لعيشك في هذه الدنيا فما لأبيك حق على الله أن تكون عند الله أميراً
قالوا: وينظر ابن الأمير فإذا كلُّ ما كان لنفسه قد تركه حين تركه المال، وإذا الإمارة كانت وهما فرضه على الناس قانون العادة، وإذا التعاظم والكبرياء والتجبر ونحوها إنما كانت مكْراً من المكر لإثبات هذا الظاهر والتعزز به. وينظر ابن الأمير فإذا هو بعد ذلك صعلوكٌ ابتر مُعدم رثَّ الهيئة كذلك الشحاذ، فيصيح مغتاظاً: كيف أهملتني الأقدار وأنا ابن الأمير؟
قالوا: ويهتف به ذلك الملك: ويحك إن الأقدار لا تدلل أحداً لا ملكا ولا ابن ملك ولا سوقياً ولا ابن سوقي، ومتى صرتم جميعاً إلى التراب فليس في التراب عظم يقول لعظم آخر: أيها الأمير
قالوا: وفكر الشاب المسكين في صواحبه من النساء وعندهن شبابه وإسرافه، ونفقاته الواسعة فقال في نفسه: اذهب لإحداهن؛ واخذ سمته إليها فما كادت تعرفه عيناها في أسماله وبذاذته وفقره حتى أمرت به فجر بيديه ودُفع في قفاه. ولكن دم الإمارة نزا في وجهه غضباً وتحركت فيه الوراثة الحربية فصاح واجلب واجتمع الناس عليه واضطربوا وماج بعضهم في بعض. فبينا هو في شأنه حانت منه التفاته فابصر غلاماً قد دخل في غمار الناس فدس يده في جيب أحدهم فنشل كيسه ومضى
قالوا: وجرى في وهم ابن الأمير أن يلحق بالغلام فيكبسه كبسة الشرطي وينتزع منه الكيس وينتفع بما فيه، فتسلل من الزحام وتبع الصبي حتى أدركه، ثم كبسه واخذ الكيس منه واخرج الكنز فإذا ليس فيه إلا خاتم وحجاب وبعض خرزات مما يتبرك العامة بحمله ومفتاح صغير. . .(159/6)
فامتلأ غيظا وفار دم الإمارة وتحركت الوراثة الحربية التي فيه. وألم الصبي بما في نفسه وحدس على إنه رجل أفاق متبطل لا نفاذ له في صناعة يرتزق منها، فرثى لفقره وجهله ودعاه إلى أن يعلمه السرقة وأن يأخذه إلى مدرستها. وقال: إن لنا مدرسة فإذا دخلت القسم الإعدادي منها تعلمت كيف تحمل المِكتل فتذهب كأنك تجمع فيه الخرق البالية من الدور حتى إذا سنحت لك غفلة انسللت إلى دار منها، فسرقت ما تناله يدك من ثوب أو متاع، ولا تزال في هذا الباب من الصنعة حتى تحكمه، ومتى حذقته ومهرت فيه انتقلت إلى القسم الثانوي. . .
فصاح ابن الأمير: اغرب عني، عليك وعليك، أخزاك الله! ولعن الله الإعدادي والثانوي معاً
ثم انه رمى الكيس في وجه الغلام وانطلق، فبينا هو يمشي وقد توزعته الهموم أنشأ يفكر فيما كان يراه من المكدِّين وتلك العلل التي ينتحلونها للكدية كالذي يتعامى والذي يتعارج والذي يحدث في جسمه الآفة؛ ولكن دم الإمارة اشمأز في عروقه وتحركت فيه الوراثة الحربية؛ وبصر بشاب من أبناء الأغنياء تنطق عليه النعمة فتعرض لمعروفه وأفضى إليه بهمه وشكا ما نزل به ثم قال: وأني قد أملتك وظني بك أن تصطفيني لمنادمتك أو تلحقني بخدمتك، وما أريد إلا الكفاف من العيش، فإن لم تبلغ بي فالقليل الذي يعيش به المقل. وصعد فيه الشاب وصوب ثم قال له، أتحسن إن تلطف في حاجتي؟ قال: سأبلغ في حاجتك ما تحب. قال الشاب، ألك سابقة في هذا؟ أكنت قواداً؟ أتعرف كثيرات منهن. . . .؟
فانتفض غضباً وهم أن يبطش بالفتى لولا خوفه عاقبة الجريمة، فاستخذى ومضى لوجهه، وكان قد بلغ سوقاً فأمَّل أن يجد عملا في بعض الحوانيت، غير أن أصحابها جعلوا يزجرونه مرة ويطردونه مرة، إذ وقعت به ظنَّةُ التلصص، وكادوا يسلمونه إلى الشرطي فمضى هارباً وقد اجمع أن ينتحر ليقتل نفسه ودهره وإمارته وبؤسه جميعاً
قالوا: ومر في طريقه إلى مصرعه بامرأة تبيع الفجل والبصل والكرات وهي بادنة وضيئة ممتلئة الأعلى والأسفل، وعلى وجهها مسحة اغراء، فذكر غزله وفتنته وإستغواءه للنساء، ونازعته النفس، وحسب المرأة تكون له معاشاً ولهواً، وظنها لا تعجزه ولا تفوته وهو في هذا الباب خرَّاجٌ ولاَّجٌ منذ نشأ، غير انه ما كاد يراودها حتى ابتدرته بلطمة اظلم لها الجو(159/7)
في عينيه، ثم هرت في وجهه هريراً منكراً واستعدت عليه السابلة فأطافوا به وأخذه الصفع بما قدم وما حدث، ومازالوا يتعاورونه حتى وقع مغشيا عليه
ورأى في غشيته ما رأى من تمام هذا الكرب فضرب وحبس وابتلي بالجنون وأرسل إلى المارستان وساح في مصائب العالم وطاف على نكبات الأمراء والسُّوقة بما يعي وما لا يعي، ثم رأى انه قد أفاق من الإغماء فإذا هو قد استيقظ من نومه
ويا ليت من يدري بعد هذا؛ أغدا ابن الأمير على المسجد وأقبل على الفقراء يحسن إليهم، أم غدا على صاحبته التي امتنعت عليه فابتاع لها الحلية بعشرة آلاف دينار؟
يا ليت من يدري! فإن الكتاب الذي نقلنا القصة عنه لم يذكر من هذا شيئاً بل قطع الخبر عندما انقطع الصفع. . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(159/8)
فوز نسوي جديد
ملكات ووزيرات
بين الماضي والحاضر
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ فجر التاريخ استطاعت المرأة أن تتبوأ الملك وان تحكم الشعوب؛ وهي مازالت تتبوأ الملك وتحكم الشعوب في عصرنا
ويقدم إلينا التاريخ منذ العصور الغابرة ثبتاً حافلاً من ملكات عظام شغلن عروشا خطيرة، وألقيت إليهن مصاير أمم وشعوب عظيمة، وقمن بتدبير الملك وقيادة الجيوش؛ ففي مصر الفرعونية، وفي مملكة سبأ، وفي تدمر، يتبوأ الملك نساء قويات العزم والشكيمة؛ وفي مصر أيضاً نرى ملكة رائعة الحسن هي كليوباترا تحاول رد الغزو الروماني عن مصر، وتفتدي الهزيمة بالحياة؛ ثم نرى في عصر الإسلام ملكة مصرية هي شجرة الدر تنظم شؤون الدفاع في مصر إزاء الخطر الصليبي؛ ونرى في الغرب، وفي العصر الحديث، عدة من الملكات العظيمات يسهرن على مصاير اعظم الدول الأوروبية مثل إيزابيلا ملكة قشتالة، وماري تيودور واليصابات ملكتا إنكلترا، وكاترين الكبرى إمبراطورة روسيا، وماريا تيريزا إمبراطورة النمسا
وفي يومنا هذا تتبوأ عرش هولندا أميرة عظيمة هي الملكة ولهلمينا؛ بيد أنه من غرائب الاتفاق ومفارقات الحوادث أن المرأة التي وصلت منذ العصور الغابرة إلى تبوئ العروش وقيادة الدول مازالت تناضل في عصرنا للحصول على ابسط الحقوق العامة التي يتمتع بها الرجل، فإذا ظفرت ببعض هذه الحقوق في بلد من البلاد اعتبر ذلك فوزاً عظيما لقضيتها
وقد وقع أخيرا في فرنسا حادث يعتبر فوزاً عظيما لحركة النسوية؛ ففي الوزارة الفرنسية الجديدة التي يرأسها زعيم الاشتراكية الفرنسية، مسيو ليون بلوم ثلاث نساء يشغلن مركز الوزارة، وهن مدام سيسيل برونشفيج إحدى زعيمات الحركة النسوية الفرنسية، ومدام ايرين كوري العالمة الكيميائية الشهيرة، ومدام سوزان لاكور الكاتبة الاشتراكية التي اشتهرت بجهودها في سبيل حماية الطفولة(159/9)
وهذه أول مرة في تاريخ فرنسا تتبوأ فيها المرأة كرسي الوزارة؛ ويزيد الحادث غرابة وطرافة أن أولئك النسوة الوزيرات لازلن كباقي نساء فرنسا، محرومات بنص الدستور من مزاولة أبسط الحقوق العامة، أعني حق الانتخاب، وهو حق تجاهد المرأة الفرنسية للحصول عليه بكل ما وسعت، وتأباه عليها الحكومات والبرلمانات المتعاقبة
ولقد تخلفت فرنسا في هذا الميدان عن باقي الأمم الديموقراطية العظيمة مثل إنكلترا وأمريكا وروسيا حيث تتبوأ المرأة مناصب الحكم ومقاعد النيابة منذ أعوام بعيدة؛ وفي البرلمان الإنكليزي اليوم عدد كبير من النسوة النائبات، وفي الوزارة الإنكليزية القائمة سيدة هي مس بونفيلد وزيرة العمل؛ وفي أمريكا تشغل المرأة مناصب الحكم كثير من الولايات، وتحتل عدداً كبيراً من المقاعد النيابية؛ وفي روسيا السوفيتية تتمتع المرأة بجميع الحقوق السياسية والعامة التي يتمتع بها الرجل، وتشغل كثيراً من مراكز الحكم والنيابة في سائر الإدارات والمجالس السوفيتية، وأحياناً تشغل منصب السفارة، مثل السيدة الكسندرا كولانتاي، التي لبثت مدى حين سفيرة لروسيا في المكسيك ثم في السويد؛ بل نرى المرأة تفوز في بعض الأمم الفتية بحق الانتخاب والنيابة، كما حدث أخيراً في تركيا
كانت الحرب الكبرى ميداناً عظيما لجهود المراة، ففيها استطاعت لأول مرة أن تضطلع بكثير من المهام والأعمال الشاقة، وفيها لقيت الحركة النسوية المعاصرة فرصة عظيمة لنشاطها وظفرها؛ ومنذ غداة الحرب استطاعت المرأة أن تحقق كثيراً من أمانيها ومطالبها، فغزت جميع ميادين الحياة العامة، ونفذت إلى معترك الوظائف والمهن الحرة، وفتحت لها أبواب التعليم الجامعي بسائر أنواعه، ولم تعد تقتصر على مزاولة المهن السلمية الهادئة كالطب والمحاماة والصحافة؛ بل غدت تنافس الرجل في اشق الأعمال وأخطرها، كالهندسة والطيران وبعض الأعمال العسكرية والبحرية، وغيرها مما كان اضطلاعها به يعتبر من قبل ضرباً من المستحيل
ولكن المرأة مازالت ترد بعنف عن حظيرة التشريع والسياسة العليا، وعن مواطن المسؤولية العامة؛ وإذا كانت قد استطاعت أن تفوز في بعض الأمم بحقوق الانتخاب والنيابة، وأن تحتل بعض الوظائف الكبيرة، فإنها مازالت بعيدة جداً عن التأثير في سير السياسة العليا، وسير التشريع القومي؛ ومازال الرجل يستأثر وحده بتوجيه السياسة(159/10)
والتشريع بعيدا عن تدخل المرأة أو إشرافها. وقد تمضي أجيال أخرى قبل أن تستطيع المرأة أن تغزو هذا الميدان غزوا حقيقياً، أو أن تساهم فيه مساهمة تذكر
وهذه ظاهرة تدعو إلى التأمل؛ فقد أتيح للمرأة، في كثير من العصور أن تتبوأ الملك وأن تقود الأمم، وأن تستأثر بتوجيه السياسة العليا، ولكنها تحرم في عصرنا، وهو عصر تقدمها وظفرها، من تبوء مناصب الحكم والمسؤولية. وبعبارة أخرى، فقد سبق فوز المرأة بالملوكية، فوزها بالوزارة أو ما يماثلها؛ بيد انه ليس من الصعب أن نفسر هذه الظاهرة التاريخية؛ ذلك أن فوز المرأة بالملوكية لم يكن راجعاً في عصر من العصور إلى مواهب ومزايا تؤهلها للاضطلاع بهذا المنصب الخطير، ولكنه كان يرجع دائماً إلى حقوق الأسرة وتطورات الحوادث؛ وقد كانت حقوق الأسرة في الملك تتشح في العصور القديمة والوسطى بنوع من الحق الإلهي، وفي ظل هذا الحق المزعوم الذي كانت تقدسه الشعوب في تلك العصور استطاعت المرأة أن تتبوأ الملك بالوراثة والتعيين لا بالأهلية والاستحقاق
وإذا كان من الإنصاف أن نقول إن المرأة استطاعت في ظل الملوكية أن تقوم أحياناً بمهام الملك والسياسة بقوة وبراعة، فانه يجب ألا ننسى أن وجودها في هذا المركز لم يكن عنوان فوزها الاجتماعي، ولم يكن نهاية في تطور النضال بينها وبين الرجل، وإنه لم يكن اكثر من ظاهرة تاريخية عرضية كما بينا
على أن المرأة لم تقف في توجيه العروش والسياسة عند هذا الموطن الذي ارتفعت إليه في ظل الأسرة والحق الإلهي، بل استطاعت في ظروف كثيرة أن تصل بقوة عزمها ونفوذها إلى التأثير المباشر في توجيه الدول والحكومات؛ ويقدم لنا التاريخ أمثلة طريفة جمة من هذا النوع البارع من النساء. ولم يخل التاريخ الإسلامي نفسه من أمثلة من هذا النوع؛ ففي تاريخ الأندلس نجد امرأة نصرانية بارعة هي صبح النافارية جارية الحكم المستنصر وأم ولده المؤيد، تسيطر بنفوذها على الحكم وعلى حكومة قرطبة زهاء عشرة أعوام، وتؤثر في سياسة القصر والدولة؛ فإذا توفي الحكم نراها تستأثر مدى حين بالوصاية على ولدها المؤيد وتوجه ناصية الشؤون ببراعة ودهاء حتى يسطع نجم المنصور بن أبى عامر (الحاجب المنصور) فيسلبها كل سلطة وكل نفوذ. وفي دولة بن عباد باشبيلية، نرى جارية أخري هي اعتماد الرميكية جارية المعتمد بن عباد وأم أولاده تسيطر على حكومة أشبيلية(159/11)
مدى حين. وفي أواخر دولة الإسلام بالأندلس نجد امرأة نصرانية هي ثريا زوجة السلطان أبى الحسن النصري ملك غرناطة توجه شؤون الدولة طبق أهوائها وتثير بمساعيها ضرام الحرب الأهلية التي انتهت بسقوط غرناطة في أيدي النصارى. ويقدم إلينا التاريخ الأوروبي نماذج عديدة مدهشة من نساء يسيطرن على الدولة بطرق غير مباشرة، ونكتفي بأن نقدم من ذلك مثلين بارزين: أولهما مثل المركيزة دي بومبادور صاحبة لويس الخامس عشر ملك فرنسا، وقد حلت في البلاط مكان الملكة الحقيقية، وسيطرت مدى أعوام طويلة بنفوذها على شؤون القصر والدولة، تولي وتعزل، وتأمر وتنهي، وتؤثر في توجيه سياسة فرنسا الخارجية أعظم تأثير، وتقبض على مقاليد السلام والحرب. والمثل الثاني هو مثل البارونة بربارة فون كريدنر، وهي سيدة روسية غادرت حياة زوجية نكدة لتعتنق حياة الزهد والتصوف، وقصت علينا حياتها الأولى في كتاب عنوانه (فاليري)، وطافت أرجاء ألمانيا وسويسرا وهي تحض على الزهد واحتقار متاع هذه الحياة الدنيا، ثم ألقت بها المقادير إلى بلاط القيصر اسكندر الأول، فأثرت في نفسه تأثيراً عظيما واستولت على مشاعره وتفكيره؛ وكان يقضي معها كل يوم ساعات عديدة في الصلاة والشورى؛ وقد ظهر تأثير هذه المرأة الغريبة في عقد (المعاهدة المقدسة) الشهيرة، التي عقدها القيصر مع النمسا وبروسيا (سنة 1815) وغرضها الظاهر تنظيم العلائق الدولية طبقا للمبادئ المسيحية، وترويج المحبة الأخوية بين الشعوب، وغرضها الحقيقي مقاومة النزعات والحركات الحرة؛ وكان للبارونة فون كريدنر في الحث على عقدها أعظم أثر، كما إنها لبثت مدى حين توجه سياسة القيصر طبق آرائها ونصائحها
فهذه الأمثلة التاريخية العديدة توضح لنا إلى أي مدى استطاعت المرأة أن تغزو مواطن التأثير والنفوذ في الشؤون العامة بطرق ووسائل غير مباشرة؛ بيد أن هذا الفوز الذي يرجع دائماً إلى عوامل وظروف عرضية، لم يكن ثمرة أو تطور طبيعي؛ أما اليوم فإن المرأة تسير في ميدان النضال بخطوات حثيثة، وتحقق لنفسها بوسائلها وجهودها ظفرا بعد ظفر؛ وإذا كانت المرأة تتبوأ اليوم كراسي النيابة والوزارة، فذلك لأنها استطاعت أن تشق طريقها إلى تلك المناصب، وأن تدلل على أهليتها لتوليها، فهي إذن تسير في طريق طبيعي لا أثر فيه للطفرة أو العوامل العارضة التي رفعتها من قبل إلى مواطن نفوذ لم تكن تحلم(159/12)
بها
ولا ريب أن المرأة لن تقف عند هذا الفوز اليسير الذي يكاد يعتبر فوزاً رمزياً فقط؛ ومن المحقق إنها ستعتز بهذا الفوز على ضآلته فتضاعف جهودها؛ وإذا سارت الحوادث في طريقها، وإذا لم تعقها العوامل والمؤثرات الرجعية، فإن المرأة ستصل في المستقبل القريب في تحقيق أمانيها إلى مدى يصعب اليوم إدراكه وتقديره، وإن لم يك ثمة شك في أنه سيكون عظيما بعيد الأثر.
محمد عبد الله عنان(159/13)
هنري روبير
عضو الأكاديمية الفرنسية ونقيب المحامين
للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
إلى المحاماة، في شخص المحامي الأول، والنقيب الأول،
إبراهيم الهلباوي بك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولكن ما الذي يقوله هنري روبير في تلك القضايا التي سلخ المحقق في تحقيقها عاماً كاملاً، أو التي اسودت فيها آلاف الصحف؟ للجواب على ذلك نقول إن هنري روبير كان يجيد عدم الكلام بقدر ما كان يجيد الكلام، فهو يعمد أولاً إلى المسالة التي تحكم القضية - إذا صح هذا التعبير في لغتنا العربية - فيظهرها على طريقته بقوة وبسرعة وإيجاز، ثم يسقط من كلامه اكثر ما في القضية من حواش تنأى به عن الجوهر؛ فهو يدرك كل الإدراك إن الخير للمحامي ليس عرض كل ما في الإضبارة، بل الفن الحقيقي هو ترك ما يجب أن يترك فيها؛ وقديماً علمنا أساتذتنا أن فن الحذف يساوي تماماً فن الكلام. . . ولذلك كنت تجده مسرعا، ممتعاً، مقنعاً؛ كل ذلك في وقت واحد
كان يقول إنه درس (لاشو) دراسة عميقة؛ لكنك لا تجد فيه مشابه من أستاذه؛ فمرافعات روبير كانت مرافعاتٍ موضوعية مجردة، لا تتخللها الجلجلة ولا الصوت الداوي، ولا الصور التاريخية، ولا العبارات البيانية الخلابة التي يتشابه فيها لاشو مع أستاذ ذلك العصر (فكتور هوجو). والحق أن تلاميذ لاشو لم يكن منهم نقيبنا الذي يتحدث عنه، بل أن لاشو قد خلف من بعده باربو نابغة الفن التقليدي في الدفاع، ولابوري، المهيب الذي يُرعب بقدر ما يستطيع الإقناع؛ أما هنري روبير فلم يكن يهمه رسم الصور، ولا طلاء اللفظ، ولا طلاوة الأسلوب، ولا تفخيم المعاني؛ فإذا جاءت صورة من الصور أو حكمة من الحكم في معرض الدفاع وجدتها منتزعة من صميم الواقع لا من آفاق الخيال، ووجدتها من لباب القضية لا مترددة بين الحواشي لتثير الإعجاب
رحمه الله! ألا فليقل لنا إن كان حقاً قد تتلمذ لأستاذ القرن الماضي - بعد برييه - هل هو(159/14)
كان يرى أن يقول للمحلفين تلك الكلمة المسرحية أو الخطابية التي قالها لاشو في سنة 1855 وهو يترافع عن رودلف المتهم بدس السم إلى عشيقته (ميمي): (ها إن السماء تدوي لكأنها تكاد تنقض؛ إنكم تسمعون هزيم الرعد وعصف العاصفة!. . . إن السماء تزمجر سخطاً على ما على الأرض من إعنات. . . أنها تحتج معي على تلك الإجراءات!!). أو تلك الكلمة الهائلة التي صوبها إلى القضاة في مرافعته ضد الجنرال (تروش) بعد حرب السبعين، وكان تروش قد تهاون في قضية الإمبراطور، وكان الإمبراطور قد خلع، وكان الإمبراطور صديقاً شخصياً للاشو، قال: (. . . إنكم ستحكمون في قضية الجنرال تروش. . . ولكن التاريخ سيصدر حكمه على حكمكم!. . وسيقرأ التاريخ كل ما دار في هذه الجلسات. . فحذار أن تضحوا كل شيء مرة واحدة. . فيقول بنو الأجيال المقبلة: إن كل شيء في هذه الأمة قد ضاع (حتى العدالة نفسها!) لم يكن روبير ينحو ذلك النحو البلاغي في الدفاع، لان وظيفة المحامي عنده كما قال: (أن يقنع لا أن يلمع)، ولان الدنيا تغيرت، والمحاكم ضاقت، وصدور القضاة والحضارة نفسها أصبحت معجلة كأنها تريد أن تصل بالدنيا إلى آخر الدنيا. . .
إنما تلاميذ لاشو ولداته هم أولئك الذين يقولون مثلما قال باربو عن دلسبس: (. . . ذلك الإنسان الذي أضاف بعض الـ (رتوش) إلى صورة الخليقة كما أبدعتها يد الخالق. . .) أو مثل فكتور هوجو وهو يترافع عن ولده شارل ضد عقوبة الإعدام (. . هذه العقوبة التي إذا وقعت على مجرم جعلته يشك في وجود الإنسانية، فإذا وقعت على بريء جعلته يشك في وجود الله!. .)
أو مثل فكتور هوجو أيضاً وهو يترافع في هذه القضية، وإذا شئت فقل مثل النمر - الأب النصر كما سموه بعد الحرب الكبرى - اعني كليمنصو عندما ترافع عن أميل زولا عقب لابوري، فنقل عن هوجو تلك الإشارة البديعة إلى تمثل المسيح، وكان إلى ذلك الوقت يوضع خلف هيئة المحكمة في الجلسات وقال: (انظروا ورائكم، فهذه اكبر ضحية عرفها التاريخ لأخطاء القضاة!!. . . . . . وكانت قضية أميل زولا تدور حول إعادة النظر في قضية دريفوس، أو الهلباوي مثلا في قضية نزاهة الحكم، وبتلك الوثبة الذهنية البارعة، بل تلك الأعجوبة الرائعة الخالدة، عندما رد حفني بك محمود أحد المستشارين لشبهة عرضت(159/15)
له فرفض الرد وأخذ الدفاع عن الخصم يعيِّر حفني بك بأن رده رفض وبأنه يتشكك حتى في القضاة، ويتهم حتى رجال العدل، قال هلباوي بك (. . . فلما عرضت له الشبهة في قاضيه لم ينخلع فؤاده فَرقًا، بل اقدم على أن يطلب الحقيقة عارية والعدالة مجردة، ليطمئن قلبه؛ وقديماً، وفي سبيل الاطمئنان قال موسى: (رب ارني انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني. فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقاً. فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين)
فالاطمئنان الذي نشده موسى وظفر به، هو الاطمئنان الذي نشده حفني وظفر به! والذي حصل من حفني حصل من إنسان أسمى منه ألف مرة، وبالنسبة لمن؟ بالنسبة لمن هو أسمى من سعادة المستشار لا ألف مرة، ولا مليون مرة، ولكن بمقدار الفرق ما بين الإنسان وخالق الإنسان. .!!)
لا تجد لذلك التصوير وأشباهه نظائر عند هنري روبير، لكنك تجد له خواطر ممتعة تستحيل عند تلاوتها إلى حجج موضوعية في القضية المطروحة. ومثل ذلك ما نقلناه من قبل في ختام مرافعته عن بويورش؛ ومثل ذلك أيضاً ما جاء في مرافعته عن الدكتور لابورت فاستمع إليه يوجه نظر القضاة إلى الأطباء:
(. . . انظروا إلى تلك الغرفات الفساح في المصحات والمستشفيات حيث الهواء مشبع بسموم الدفتريا وجراثيم الطاعون، وانظروا إلى أولئك الرائحين الغادين في تلك الغرف أمام مرضى ينفثون الموت الزؤام من الشهقات الزفرات؛ هل علمتم على واحد منهم انه أجفل أو أنه ارتعد؟ هل تردد واحد منهم عن القيام بكل ما يفرضه عليه الواجب؟ ارجعوا إلى إحصاءات الحمى الصفراء والكوليرا، وأسالوا كم من هؤلاء الفرسان قد سقط في ساح الشرف! انظروا إلى هذه الطائفة وقولوا هل هي الطائفة المتمردة على القانون والتي يجب أن يضرب على أيديها ضربات البطش والانتقام!. . لا. لا. . إنكم ستجدون هؤلاء البنين البررة للعلم وللفن وللإنسانية قد وهبوا نفوسهم للعلم وللفن وللموت في سبيلهما؛ فهم تارة يصرعون الموت وتارة يصرعهم، لكنهم يستحقون الإعجاب في كل حال!!. .)
وكانت له وثبات في الارتجال يتناقلها الكافة؛ فمثل ذلك رده على النقيب درييه الذي جاء في صدر هذا البحث، ومثله ما رواه (جولندن) في (اشهر قضايا سنة 1932) ولقد كان(159/16)
توريز المحامي الأشهر يدافع بجلسة 19 أكتوبر سنة 1932 أمام استئناف الجنح عن موكله (فرمون) ضد (تاكوشيما) موكل هنري روبير، وكانت التهمة نصباً موجها ضد فرمون، وكان هنري روبير محامي المدعي المدني، وكانت نظرية توريز إن تاكوشيما سبق أن نصب على فرمون فجاء فرمون واصلح ما أفسده عليه تاكوشيما، واختتم دفاعه بكلمة مسرحية تخلب الألباب قال:
(. . . لقد كانت رواية: أما الفصل الأول فتاكوشيما يضرب فرمون، والفصل الثاني فرمون يضرب تاكوشيما. . .) وبينما هو يسترسل نادى هنري روبير بصوت ضخم: (. . . الفصل الثالث: المحكمة تضرب فرمون!!!!. .)
كان زعيم الارتجاليين كما قلنا، فما هو الارتجال إذن؟ أما ارتجال الفكرة فمجازفة بحقوق الناس، ووصمة للمحاماة، واستهتار بالقضاة؛ وأما ارتجال الألفاظ فذلك شيء آخر؛ والمحامي الذي يرتجل الكلام هو الذي يملك أعنة البلاغة، أو هو الذي حضر مرافعته مرات ومرات، أو هو الذي مرن على مواجهة الأحداث ومجابهة ما يفاجيء؛ وإذن فهو لا يرتجل وإنما هو يستخرج ما في مواهبه من كنوز غائرة تظهرها الحاجة، فهذا تحضير غير مباشر، وهذا هو بالطبع ما عناه شارل شني في محاضرته لفتيات الجامعة في سنة 1911، إذ حدثهن عن حياته الأولى في المحاماة قال: (. . . وكنا جميعاً نساهم بنصيب ضخم في تلك الأكذوبة الشائعة وهي أننا نرتجل عفو البديهة كلاماً سهرنا في تحضيره طول الليل وأثناء النهار. .!!) وفي أواخر القرن الماضي أشار محام - كان عضواً في مجلس النواب - إلى أن القضاة سيسمعون من (باربو) مرافعة اصلها مكتوب، فصرخ باربو بصوته الداوي: (نعم إن احترامي لهذه الساحة يضطرني لتحضير ما أقول، لكن الذين لا يحضرون كلامهم ويملؤونه بالتناقض يجدون صدوراً رحبة في ساحة أخرى. .) وكانت الساحة الأخرى طبعاً مجلس النواب
كان هنري روبير يوصي المحامين دائماً بالاطلاع والاستعداد؛ كان يوصي بالقراءة دائماً وبالكتابة دائماً؛ كان يقول مثلما قيل من قبله: إن سر النجاح هو (أولاً: العمل، وثانياً: العمل، وثالثاً: العمل) ولقد يكون المحامي موهوباً وكله كفايات، فإذا لم يجدد نفسه ويزودها بالمعلومات وجد نفسه بعد سنوات أجوف فارغاً يردد اليوم ما يردده غداً. حدثنا النقيب(159/17)
بايان عن شني وباربو أنهما قضيا نحو العشرين عاماً في زاوية من زوايا المحاماة لا يعرفها إشعاع النور؛ وفي تلك الأثناء كانا، وخاصة باربو يتسلحان بدراسة عميقة للعلوم والتاريخ؛ حتى إذا انقضى ثلث قرن كان باربو يفتح كراساته ليستخرج منها شواهد هي آية الآيات في المحاماة بل في الأدب الكلاسيك؛ ولكن روبير قد عرف الشهرة في مستهل حياته فهو لم يكن ينعم - أو يشقى - بما سماه الفراغ الإجباري للمحامين، ولكنه مع ذلك كان يجبر الزمان وصحته على أن يمنحانه الفراغ والعلم. وإذا رجعت إلى مؤلفاته وخصوصاً قضايا التاريخ الكبرى، تلك القضايا التي تعتبر القضية الواحدة منها دنيا كاملة في قرن كامل، عندئذ يتضح لك مبلغ ما اخذ به روبير نفسه من نصيحته للمحامين
إلى هذه الكفايات العظمى كان يضيف كفاءة خاصةً هي الخلق العظيم: هي التواضع. وقدْماً قال (لابروبير) (إن التواضع مع الكفاءة، كالظلال مع الصورة، تظهرها وتوضحها وتجلِّيها)
هكذا كان رجلنا مع رجال القضاء ومع الزملاء
هو قد سلخ قرابة نصف قرن يترافع أمام القضاة والنواب، ومع ذلك لم نسمع له بحادث واحدٍ كلابوري كما أسلفنا عنه المقال، أو كفيفياني حتى قُدم للمحاكمة وأوقف مدة لم تكد تنقضي حتى صار وزيرا للحقانية!! ثم صار رئيساً للوزراء! أو أميل أوليفييه، أو كأسلوب (برييه) عندما ترافع في قضية الثلاثة عشر فقال للنائب العام: (. . لا لست حسن النية في هذا الذي تقول؛ إن القوانين لا تطبق في هذه الأيام ولكنها تفسر دائماً بما لا تحتمله؛ إن النصوص ترهق كيما يُرهق بها الرجال.!) ولا كأسلوب فولتير عندما قال عن قضاة كالا: (. . لا تذكروني بهؤلاء القضاة الذين نصفهم قرود ونصفهم قضاة!) ذلك لان هنري روبير كان يعرف إن جلال المحاماة من جلال القضاء، وأن شخصية القاضي جزء من معنى القضاء لا ينفصلان. أما مع الزملاء فكان خير الزملاء، عطفا وأدباً وحسن وفاء. إليك ملفاته جميعاً، كلها ذكريات حلوة عن الزملاء والأساتذة. هذه أعذب العبارات يكتبها عن أستاذه درييه؛ وهذه أمداح تترى للنقيب مارتيني، وتقدير لا حد له للخالدين بوانكاريه وبارتو، ولدبوي وملران ولبريان ذي الصوت العذب عندما يترافع، وهذا إعجاب لا حد له بلابوري، وحب لشارل شني، وإكبار لباربو وروسو الخ. هذا الثبت الحافل من الرجال(159/18)
الذين تتردد أسماؤهم في مؤلفاته. حتى إذا راودته المنية عن نفسه استمهلها ليكتب سطوراً لم تحل الوفاة بينها وبين الناس ليملأها مدحاً للقضاة ولرجال المحاماة في الأمس الدابر، وللمحاماة نفسها، تلك الآلهة التي طالما قدسها، تلك الغانية التي طالما عبدها واخلص لها الحب والعبادة بل التي ملأ الوجود الإنساني بكلام عنها يشبه الألحان
وبعدُ: فما هي المحاماة؟ (المحاماة أسمى مهمة في الدنيا) كما قال فولتير وكما قال أيضاً (كما كنت أرجو أن أكون محامياً) بل هي كما قال ماكس باتو (إن المحامي ملك)؛ ليست هذه العبارات لوحات أدبية معلقة؛ لكنها حقائق قائمة منتزعة من صميم الواقع؛ فانظر إلى المحامي وهو يترافع؛ لا إلى (برييه) وهو يترافع عن ملك مستقيل ضد ملك قائم، وعن ملك مخلوع ضد ملك منصب، ولا إلى ماليرب وزملائه وهم (يحملون إلى الكونفاتسيون الحقيقة ورأسهم) دفاعاً عن لويس السادس عشر، ولا إلى الهلباوي وهو يترافع في آخر القرن الماضي عن البرنس سيف الدين ضد ملك، وفي 1933 عن البرنس محمد علي ضد من؟ أو في سنة 1914 عن خيري باشا ومحرم باشا وورائهما من كان ورائهما؛ ما إلى هؤلاء قصدت ولكن إلى المحامي الصغير - اعني الشاب، فليس في المحاماة صغير وكبير، بل فيها شاب ومكتهل - إلى المحامي الناشئ وهو يقف أمام المنصة، في محكمة الجنح أو أمام القاضي الجزئي؛ هو ذا يدلي بمرافعته بين الاحترام العام أو الإعجاب العام في بعض الأحوال، كلمات متزنة، وعباراتٍ واضحةٍ كلها إخلاص؛ مسموع الصوت مسموع الكلام، لكأنك به في ردائه الأسود، الكاهن الجليل في ساحة المعبد؛ الأعناق مهطعة إليه، والآمال معقودة عليه؛ ففي يده مستقبل أسرة أو ثروة فقير أو كرامة رجل أو عرض غانية؛ ولقد يكون المحامي في سبيل الدفاع عن موكليه قد ضحى ما ضحى، أضعاف أضعاف ما كسب، وهو قد يكون قد تقدم إلى الدفاع كما كان يتقدم أسلافنا الأولون، بدافع النجدة والمروءة وفي سبيل الشرف لا في مقابل المال؛ هو ذا يقف ببسالة أمام الطغيان، طغيان الأفراد أو طغيان الطبقات أو طغيان الأمة أو طغيان الحكومة ذاتها. . إنك تكاد تحسب عندئذ أن المروءة والبسالة قد اتخذتا شكل رجل يتكلم، حتى إذا انتهى من مرافعته أملى التاريخ إملاءة بسيطة ليسمع كلمة القضاء أو كلمة القدر
انظر إلى المحامي في تلك الصورة المصغرة التي رسمناها، وقل لنفسك مع ماكس باتو(159/19)
(إن المحامي ملك)
ولكن - أيها الإخوان المحامون - إذا كان حقاً أن ليست هناك مهن وضيعة، وإنما هناك أشخاص وضيعون فإن ثمة حقيقة أخري هي أنه ليست هناك مهن رفيعة، وإنما هناك رجال يرفعون من شان المهنة. فاعملوا إذن على رفع مستوى المحاماة دائما باستمرار: اعلموا إن الحياة المادية ليست هي المطمح السامي لمن لبس هذا الرداء الأسود، بل إن هذا الرداء كما قال الهلباوي في مرافعته عن الورداني إنما يذكرنا بأننا قسيسون في معبد العدالة نشاطر الناس لواعجهم وأشجانهم؛ وكلما سمت المهنة سما بها بنوها عن الابتذال؛ واعلموا إن نصف الوزراء في الحياة الديموقراطية لا يعيشون بعد الخدمة إلا عيشة الكفاف
اعلموا إن المحاماة رسالة وليست تجارة؛ وان السعيد من استطاع أن يفهمها على غير أسس المال؛ هاتوا صحائف التاريخ تشهدوا الثروات تتدفق على المحامي دائماً بعد أن يكون قد قام بواجبه في سبيل الشرف أو في سبيل الصالح العام؛ تشهدوا المال يلاحق المحامي بعد أن يكون قد أدى رسالته في خدمة المظلومين أو في مدافعة الطغاة؛ تشهدوا المحامي العظيم لا يسعى إلى المال وإنما يسعى إلى الشرف، وكلما اعرض عن جمع المال انحدر إليه المال من كل ناحية. فالسعيد منكم من استطاع أن يفهم المحاماة على أنها مهمة ومهنة؛ فاملئوا نفوسكم بالقناعة، واملئوا أذهانكم بالعلم، واملئوا فراغكم - الإجباري أو الاختياري - بالدرس وبالتحصيل وبالسعي المطرد نحو الكمال
وانتم أيها المحامون الشبان: اسمعوا! إن المحاماة في مصر لم تصل إلى أزهى عصورها بعد؛ فانتم إذن أملها المرموق بالعناية. اكتبوا دائماً، واقرءوا دائما، وتعلموا حسن الأداء - فالمحاماة في الحقيقة ليست إلا حسن أداء - واذكروا إن الحياة الديموقراطية قد ذللت لكم كل شعاب المجد، وفتحت لكم الأبواب على مصاريعها، فأدوا رسالتكم على خير وجوهها، وكونوا دائما شجعانا؛ وأضيفوا إلى مبادئكم إن خير ما علمنا أساتذتنا هو إن احترام المحاماة من احترام القضاء، وان خير ما يكسب به الدعوى هو سلامة الأسلوب ونزاهة الغاية
اذكروا أن رئيس محكمة النقض السابق كان رئيسا لنقابتكم، وأن رئيس نقابتكم السابق هو الرئيس الثاني في الدولة بعد رئيس الوزارة، واذكروا إن رئيس الوزارة اليوم بل صاحب(159/20)
الرياسات جميعاً، كان وما يزال محاميا منكم. واعلموا أخيراً إن هؤلاء الذين شاركوكم كزملاء لا كرؤساء سيعود إليكم منهم من يعودون ليتشرفوا بحمل ذلك الرداء الأسود الذي يساوي كلمة الدفاع، ذلك الرداء الذي كان يحمله بوانكاريه وملران بين رياسة الجمهورية ورياسة الوزارة مثلما كان يصنع فيفياني ووالدك روسو ومثلما يصنع عبد العزيز فهمي ومكرم عبيد
كم كنت أود لو نقلت إليكم تلكم الخطبة الخالدة التي ألقاها المستشار (داجوسو) من نحو مائتي عام في المحامين والمحاماة، ولكن المقام ضاق فإليكم منها تلكم الخاتمة: -
(. . حسبكم جزاء على آلائكم العظمى التي تسدونها إلى الناس هذه العظمة وذلكم الجلال، وألا تكونوا مدينين بالعظمة وبالجلال إلا إلى أنفسكم. حسبكم إن يتخذ منكم الناس مثلما اتخذوا من أسلافكم من القادة والهداة والرسل، وان ترتفعوا إلى تلكم المكانة العليا فوق الكافة فتتولوا صرف المنازعات وفض الخصومات، تتولوا القضاء الفعلي بين الناس كما يتولاه القضاة الموظفون ولكن بما لكم من سمو الغاية ونزاهة القصد ونصيب ضخم من الاحترام العام وبما لكم من نفوذ الكلمة وبلاغة التأثير وجلال العبارة. . . . فهل انتم إذن ستكونون لأنفسكم أداة تقدم لا عوامل تنفتل بكم إلى الوراء؟. . هل ستكون هذه المحاماة التي طالما عملت لمجد الأمة، وكم ستعمل في سبيلها؟ هل ستكون عند رجائنا فيها فتحتفظ لنفسها بمنزلتها الرفيعة العليا بين المهن، بالفقه وبالبيان ولكن بالعدل والنزاهة أيضاً؟. .)
أيها الزملاء! كلمة أخيرة
إن نقيكم العظيم المضطلع بشتى شؤون الدولة يكاد يقول مثل (الملك الشمس) (أنا الدولة) فأهيبوا به أن يذكرنا. . . . وعندما يصدر القانون، وتتقرر حصانة المحامي في الجلسات، يومئذ تلمسون بأصابعكم ما قاله ماكس باتو من أن المحامي ملك، بل وتضيفون إليه أيضاً أن المحامي ملك
عبد الحليم الجندي(159/21)
صوت الجبل
(مهداة إلى الأستاذ الزيات)
للأستاذ معروف الأرناءوط
(. . . لقد قال لها إن الجبل يناديني يا (سافو). . . ثم رفع
صوته قائلا: إن الله قريب مني وإني لأراه في هذا النور الذي
يطفو على (سيناء)! وفي هذا الفتون الذي يراق على بادية
التيه!)
قال (كريستيا) (لسافو) وقد اطرح الدير في الليلة الجوناء وهبط (وادي العربة) تاركا وراءه قنن جبل (حور): ناشدتك الله يا أخية أن تسمعني شيئا من حوار (أوديب) حينما اشتملت عليه جبال وطنه، فإنه ليروق لي وقد شابهت هجرتي هجرته وماثلت شجوني شجونه، وحاكت ليالي لياليه، أن استمع لجرسه الشجي في هذا الوادي المصحر. . . إنك لتتذكرين خروج هذا الملك في ذات ليلة إلى جبال (كولون) ومعه ابنته (أنتيغون) فلما أظلته السحب وأرزمت السماء وقعقعت تهافت على ابنته في رفق وحب وسألها أن تذكر له اسم الأرض التي وطئها وقال لها انه يحب أن يدفن آلامه ومتاعبه وذكرياته في المنفى، فطفقت (أنتيغون) تتحدث إليه عن وطنه الجديد، فرق وسكن ولطفت أحاديثها حزنه. نعم حدثيني يا (سافو) عن (أوديب) وعن (أنتيغون) فإنما أنا ذلك التعس (أوديب)، وأنت (أنتيغون) رفيقته في أرض المنفى، ولكن سافو كانت تفكر في (فروه ابن عمرو) وفي المعركة التي نهد إليها برجال حصدت نصفهم الحرب وما يستطيع الذين نجوا من غضب (قيصر) أن يستبقوا الحياة إلى ليل فلقد تتعاورهم الرماح والنبال والسيوف من كل ناحية ويمنعهم هذا الجيش الكثيف الرابض عند منافذ الأودية ومسارب الطرق من الإفلات. فتضيق بهم (سلع) ويضنيهم الحصار والطوى والبرد وانقطاع المدد:
لقد كانت تفكر في هذا كله ساعة أرادها الشاعر المثال على قراءة قصة (أوديب) الملك، فلما لم تسمعه صوتها تغنى بشعر (سفوكليس) وحسب نفسه وهو يطأ الجبل أنه ذلك التعس(159/22)
(أوديب) فقال بصوت شجي يشبه الرثاء:
أوديب
(انتيغون، يا ابنة ذلك الأعمى الشيخ، ناشدتك الله ألا ما حسرت لي عن هذا البلد الذي بلغنا نواحيه، وأي شعب هذا الذي نزلنا منازله، ومن هم جيرتنا في البلد النزح؟ في هذا اليوم يستجدي (أوديب) الهائم السادر الناس، فيعطيه هؤلاء عطاءا حقيراً، بلى لقد طلبت قليلاً وأعطيت يسيراً، وفي هذا غناء لي وكفاء، فقد علمتني الآلام والأهوال والمحن وتعاقب السنين ونفسي الصابرة، علمني كل أولئك الاستسلام والرضى، فهلمي يا بنية، هلمي إلي فلئن لمحت مقعداً في مكان رجس أو في غاب مقدس فقفي بي عنده وانزلي بي في أديمه، ثم لا يضيرني ولا يضيرك أن نمضي إلى الناس فنسألهم الطريق وفي أي موضع منه نحن؟ فإننا غرباء عن الديار ومن حقنا أن نسأل الغادي والرائح)
ولكن سافو لم تفعل ما فعلته (أنتيغون)، ولم تدله على المكان الذي نزل فيه فانثنى هامساً بمثل ما همست به (أنتيغون) في أذني أيها البائس:
أنتيغون
أوديب! أيها الوالد التعس، يا من أضماه الألم، وأذبله الداء! ليخيل إليَّ إن سور مدينة قد ارتسم في الأفق أمام عيوننا، وهذه الأرض التي تنزل فيها لا يزال عليها عبق من قداسة ونفاسة، يدلك على ذلك هذا الغار المتشابك وهذه الأدواح الظليلة، وهذه الينابيع الرقراقة، ثم هذه البلابل التي تغني في الغاب الوارف. اطو يا أبتاه قدميك فلعلك تستطيع الجلوس على هذا الصخر الوعر، فلقد طال شرودك، وامتدت المسافات بك، وأنت ذلك الشيخ الذي لا يستطيع إمعاناً في صعود وفي هبوط
أوديب
بلى، بلى، دعيني اجلس، واسهري على الأعمى العاثر الجد
وراح (كريستيا) جالساً على الصخر وقلبه يميد وجبينه يتندى عرقاً وعيناه ترعشان في كل ناحية من نواحي هذا الأفق المديد الفسيح؛ وجلست (سافو) بجواره وفي نفسها اثر من جراح نفسه، ثم لم تلبث أن رقت له رقة أليمة، وأخذت يده وقالت له: أتدرى أين مسكنك؟(159/23)
قال لا، قالت في (وادي العربة) هذا الذي يفصل (البحر الميت) عن (خليج أيلة)
وكان قد أمضى بعض ليله على روابي جبل حور، فلما نزل فرع الوادي لم يشعر بالمسافات الطويلة التي خلفها وراءه ولم يفطن إلى ثوبه الذي مزقته الصخور والأدغال المتشابكة ولم ينتبه إلى الإعياء الذي تعاور (سافو) وكذلك ما كان يهمه أن يحتويه المكان الفارع، فلقد جلس على الصخر في سكينة ودعة، وجعل يقلب عينيه في الجبال التي تحيط بالسهل من الشرق إلى الغرب وقد خلعت على الوادي ظلاً شاحباً فبدا عميقا كأنه هوة من هوات الجحيم!
وكان من احب أمانيه أن يتعرف إلى طريق البحر الميت والأردن ليلحق بحسناته (بنيامينا) ويقضي ما تبقى من أيامه في الأرض التي نبت عنها الشهرة وأطرها المجد فما يردد نظراته في جنوب الوادي حتى يكرهه ويمله وحتى يعاف أن يحدق إليه، وذلك لأن في جنوب وادي العربة طريقا تدفع إلى خليج أيلة، إلى ذلك البحر الذي لا تفارقه سفن (هراقليوس) وفلكه ثم يحلق وهمه في طريق الشمال فتتمثل له الأرض منحدره هابطة إلى البحر الميت وإلى الأردن فيرق ويتشاجى ويذكر (بنيامينا) النازلة شواطئ النهر المقدس ثم يتلفت إلى (سافو) ليسألها أن ترافقه فيرى إليها نائمة حالمة فيمنعه حبه لها وبره بها أن يبتعثها على استفاقة تخرجها من أحلامها الهادئة ثم يعود فيستعرض وادي (العربة) من مكانه على الصخر، فإذا امتدت نظراته من الشمال إلى الشرق استبحر المكان أمامه وعرض له أخدود راعب يتساقط الماء على جوانبه من قلل جبل الشراة فيزعجه ويؤلمه أن ينبطح السيل في مفاجر الوادي ومرافضه فيضع يده على راس (سافو) النائمة الحالمة فتستفيق وتنهض وتدير لحاظها في تلك الأرجاء الفيحاء ثم لا تلبث أن تدرك مأساة حياتها، ويزيدها غماً ويأساً أن يلبس هذه المأساة هذا الحزن الذي يغشى جروف (العربة) وفلوجه ومسايله ومنحدراته، ولما أرادها (كريستيا) على اصطحابه في طريق البحر الميت لم تجد معدى عن مجاراته ومسايرته، فوقفت على الصخر ونظرت إلى الجنوب فإذا الطريق قد فرقت فروقاً عظيما حتى لتوشك أن تنتهي عند خليج (أيلة) فأخافها أن تمتد الطريق وتفيح، ثم نظرت كرة أخرى إلى الشمال فإذا الوادي يهبط إلى خيف لين رقيق ثم هو يزلق إلى الغور(159/24)
وقد كان عسيراً على الأخوين وقد برح بهما السير في الأخاديد والأغوار والهوات والأودية أن يستأنفا الرحلة في الأرض البراح، ومع هذا كله ما كانت (سافو) تستطيع أن ترده عن منازعه، فلما جاز الإخوان بعض الطريق وأوشك وادي (العربة) أن يتقلص ويغيب ترقرقت خيالة (سلع) في عيني (سافو) فذكرت زوجها الغطريف، وابتعثها التذكار على الوفاء له فقالت لأخيها:
- إنه ليجمل بك أن تدأب في سيرك حتى يطلع عليك (الأردن) أما أنا فلقد نذرت رجوعاً إلى (سلع) حيث الحق بزوجي الذي لم يترك سلاحه بعد!
وكانت لهجتها صريحة وصادقة، فلم يستطع (كريستيا) وهو الذي يعرف حبها لزوجها أن يعصى لها أمراً، فلحق بها إلى وادي (العربة) وكان لا ندحة لهما عن الرجوع معاً إلى جبل (حور) ثم ينحدران إلى الدير ويلحقان (بسلع)!
وبعد طوافٍ عنيفٍ في الأرض الغطشاء، فرع الشقيقان في جبل (حور) فنزلا بضلعه الشرقية وقدر لهما وهما على المرتفع الشاهق المطل على الطريق، أن يريا إلى وادي (العربة) الجميل وإلى صحراء (التيه) فوقف (كرستيا) خاشعاً أمام هذا المنظر الرائع حتى لقد جنب شعوره أن يحلق في عالم آخر. وكيف يستطيع إحساسه الثائر أن يحلق في عالم آخر، وهذه الأرض المقدسة من (سيناء) ترعش في نظراته وتطفو على جوارحه وتلهب ذكائه وتذكره بماضي هذه البطحاء التي استمعت إلى صوت الله وهو يتحدث إلى نبي!
خيل إلى (كريستيا) وقد وطئ كرة أخرى حضيض الجبل الملهم أن الدنيا طويت له واجتمعت عنده فأنّى تلفت تمثلت له قلل جبل الشراة الرفيعة يغمرها موج دافق من رواء المساء وبهاء السماء، وأنّى استقر أخذته المشاهد الموحشة وعليها من الروعة والجلال والتذكارات ما ليس يجده الشعر المهذب في خيال رواته وقائليه، بل لم يكن يستطيع وقد عرضت له (سيناء) وصحراء (التيه) وقيعان وادي (العربة) وجروفه أن ينزع من صدره صورة هذه الدنيا العبقة بعطر النبوة والوحي
ولما أوشك أن يرقى القنة التي عليها قبر (هارون) أرخى الشفق عليه ظلاله الساجية فاستراح بجوار القبر المقدس، ووقفت (سافو) حياله، فما فاتها وقد لصقت به أن تسمع صليل جوفه، وأن ترى إلى عينيه وقد غابتا في عقيق (سيناء)!(159/25)
في تلك الأثناء حفا البرق في الصحاري، وامتدت شعله وخيوطه على حواشي جبل (سيناء) حتى ضوأت قلله وقننه، وكشفت ربوده ومصاده وشعافه، وحسرت عن جروفه وفلوجه وغيرانه، ثم أضاء البرق ولمع، ثم أضاء ولمع، وتلت ذلك أصوات تشبه الهزيم، وترقرقت ألوان الشفق الحمراء في كل ناحية حتى اصبح الأفق وردة كالدهان، فخيل إلى الشاعر أن هذه الأطواد التي تجاوره وتصاقبه لا تريده على فراقها، وإنما هي تريده على أن يستشرق بهذا القبس الشاعل الذي تراءى لموسى النبي في البادية الغلفاء، فلصق بمكانه وقال (لسافو): انه يكره الرجوع إلى (سلع)، وإن من احب المنى إلى نفسه أن يموت وعيناه تنظران إلى أضواء هذا القبس الذي ترمي به قلل (سيناء) الرفيعة إلى الصحارى والبوادي
ومازال البرق يضيء ويلمع على روابي (سيناء)، ومازالت الأصوات الخفية تتغاير في الأفق على مدى بعيد، ومازالت ألوان الشفق الحمراء تتفجر هابطة صاعدة، وريح النعناع تفغم الخياشيم حتى أحس (كريستيا) قداسة هذه الأرض، فخلع نعليه وركع بجوار قبر (هارون) النبي مصلياً وداعياً، منتحباً وباكياً!
لقد قال لها إن الجبل يناديني يا (سافو)، وكل جارحة من جوارحي تقول لي لا يجمل بك أيها الشاعر أن تغمض عينيك على السحب الصادرة في (سلع)! ثم رفع صوته وانثنى قائلا: إن الله قريب مني، وإني لأراه في هذا النور الذي يطفو على (سيناء)، وفي هذا الفتون الذي يراق على بادية (التيه)، بل إني لأسمع صوته في قسطلة الماء عند سفوح جبل (حور). لم يعد في هذه الحياة التي أخذتني خطوبها وكوارثها ما أخافه، وما احرص عليه، فالمجد الذي جنبني طيفه في ميدان (سلع) حيث يقتتل الناس أما زلفى (لقيصر)، وأما زلفى (لفروة ابن عمرو)، قد تمثل لي أحد هذه القنن الرفيعة بألوانه وأنواره وطيوبه ونغماته، وروحه الساكن الوادع، وشبحه المضيء، وجرسه العذب؛ إنه ليخلع على جسمي الذي قرسه برد العشية دفء نفسه لأموت محترقاً في سناه، فذلك امثل من موت يزحمني ظله الصادر عند رواميس (سلع)! ولان تحتويني هذه الأرض المقدسة افضل من أن تحتويني هذه الأرض التي لا تعرف القداسة!
وعبثاً كانت تصده عن ميوله ومطامعه، فلقد احب أن يموت على جبل (حور) كما مات(159/26)
موسى النبي، وكما مات هارون النبي، ثم هو إلى ذلك شاعر يحب فنه وما يليق بالشاعر أن يموت في الأرض التي لا تتصدع فيها السحب والبروق، ولا يزهر على حواشيها الآس والنعناع والورد
وانهما ليتحاوران ويتساجلان في غير جدوى ولا طائل، إذ حملت أعراف الليلة الساجية ترجيع الأبواق في وادي (سلع) فرجفا معاً. وقالت (سافو): إنها أبواق (فروة) يا (كرستينا)، وانه المنتصر على (هراقليوس). ناشدتك الله أن تمضي معي أو تبقى لوحدك على هذه القنن
ورأى المسكين وقد اذكره صوت البوق حاضره أن يلحق بها، ولكنه لم يكد يبرح مكانه حتى حفت البروق وتوامضت على مدى واسع فبانت له كرة أخرى جبال (سيناء) وصحراء (التيه) فألاعته الأضواء الغامرة وأحرقت أحلامه، فوقر في ذهنه أن يبقى في جبل (حور) طوال ليله فلا يفارقه ولا يخفره ولا يمل الطواف بشغافه ورعانه، ولا يسأم الهبوط إلى حضيضه وسفحه، نعم انه مريض وإنه مُدْنف وإنه ذلك المنفى الذي يقبس أغانيه من نفس عامرة بالألم زاخرة بالشجن، ولكنه على مرضه ودنفه كان يلذ أعراف هذه الأماكن المقدسة ويرى فيها العافية التي يشتاقها ويحب أن يغني أغانيه في هذه الأصلاد بصوت الشاعر الملهم لتسمعها روابي (سيناء) كما سمعت صوت النبي الملهم؛ وكان يشعر بقرب النهاية فنازعه شعوره إلى المكوث في هذه الأرض حتى يأخذ الله وديعته فيرقد رقاده الأبدي في شعفة تطل على (الأردن) وعلى (حرمون) وعلى (بيت المقدس)!
لقد باح بخواطره، وقال لها إن في (سلع) مكاناً للبطولة الرائعة، وليست تعرف فيه ذلك البطل المقارع فمن حقه أن يجد مكانه على الربى الشم حيث تترقرق أضواء السماء، وحيث ذكاء الشاعر يبحث عن السنى والسناء! فلما سمعت قوله لم تأنف أن تطرحه في الجبل فتولت عنه وتدفقت في سيرها تحت ضياء الكواكب، ومازالت تمعن في الهبوط حتى استقبلت السفح ووارتها عن عيني (كريستيا) فجاج وشعاب
وقلب عينيه في هذه الأرجاء الفيحاء، فإذا هو وحده على الشعفة السامقة يحيط به عالم تطفو على حواشيه أشباح وأرواح، وتجري في سمائه كواكب متقاربة متباعدة، وتنوح على أطرافه وجنباته ريح ذات هدير وصليل، وتخرج من جروفه وغيرانه أصوات كأنها(159/27)
عزيف الجن، يضاف إلى هذه المشاهد الراعبة قبس يخطف على سيناء في أقصى الأفق!
لقد روعته العزلة فتمايد وتمايل، وخيل إليه أن بهذه النجوم الدانية من القلل والقنن عيونا تنظر إليه، ففغر فمه وبرق بصره، ثم تساقطت الشهب في الأبعاد النائية كأنها الحريق الشاعل. فغشيته ذهلة أليمة، وخيل إليه أن السماء قد ألقت إليه بنارها ودخانها فجفا مكانه على القبر وطفق ينادي: (سافو)! لك الله يا أخية أين أنت؟
وهام على وجهه فما ينحدر من رابية حتى يغيب في أخدود ضيق، فإذا حسر الأخدود عنه أمسى في غار مظلم، فإذا أوغل في ظلمة الغار تساقط الماء على ثوبه من صدوع في الصخر النابي فتندى وقَرَسهُ البرد، ثم يخرج من الغار فإذا هو بعد طوفة جاهدة عند سفح الجبل وإذا (سافو) لا تزال على السفح كأنها كانت تتوقع أن تضجره العزلة وتخيفه الوحدة فيأنس إلى إلحاق بها
ورأت (سافو) إليه تحت ضياء العشية فنادته بصوتها الرقيق الناعم: إني أخاف عليك برد الجبال فهلم فاتبعني إلى (سلع) فلعلك تجد عندها ذلك القبس الذي يضرم شعورك
وكان الانحدار إلى (البتراء) سائغا ولذيذا فأحوتهما معاً طريق قديمة نقرت في الجلامد فأوغلا فيها، وأظلتهما حجارتها، الناعمة الملساء، وتراءت لهما في اليمين وفي الشمال أسوار حمراء بلون العقيق، ولكنها أسوار عظيمة لم تتحيفها غلظة ولم تتخللها قرون وشعف، فجازا الطريق إلى الوادي وطلعت عليهما غيران ضيقة ولكنها قصيرة، ثم إذا هما يخرجان إلى طريق تدفع إلى دغل تكاثفت على حضيضه النباتات فسلخا في اجتيازها ساعتين ثم طلعت عليهما قبور (سلع) الأولى
ولم تكن سلع قد أطلت عليهما بعد، فلقد وارتها حوائط من الحجر الصلد فارتدا إلى ناحية الشمال وفزعا إلى الجانب المظلم من صخور لا تضيئها أنوار المساء، ورأيا إلى القبور المحفورة وقد تراكب بعضها فوق بعض وفتحت أشداقها وحسرت عن ثقوبها فأخذتهما أشعة خفيفة تزلق إليهما من الجبال، وسحرهما أطلال هذا المشهد بعد تلك السياحة الكامدة فأحسا الحياة وطفقا يتأملان معاً في هذه المدافن المعلقة بين السماء والغبراء، وسرهما أن يتعرفا الديار والرسوم والأطلال، ولذهما أن خيالة (سلع) عادت تطوف بصدريهما الراعشين(159/28)
في أعماق هذا الجرف الذي تحميه من كل نواحيه أطواد وأصلاد تنام مدينة (سلع) عن كثب من أطلالها وقصورها وخرائبها وينبوعها الثر!
جلس (كريستيا) على عمود رخامي كان جاثماً على الأرض، فجلست (سافو) حياله وطفقا معاً ينظران في ذهلة إلى هذه الروائع الفواتن يحفهما صمت ويغشهما سكون، ويخترق آذانهما هدير الماء ودفعه على الأصنام المتداعية والعمد المنهارة في ظل ظليل من أشجار الغار الواشجة
لم يجرؤ (كريستيا) على الهمس فلقد أمالته الصور البارعة إلى غرق وأنسته ذلك الألم الذي تحيفه خلال طوافه بقنن جبل (حور) ونزوله إلى حدور وادي (العربة) بل لقد ألهته قسطلة الماء في الصعيد المهجور عن أولئك الناس الذين نفروا إلى قتال (قيصر) تحت لواء (فروة بن عمرو) فما عادت صورهم تمر بصدره، وكذلك كان شأن (سافو) فلقد غرقت مثل غرقه وسبحت مثل سبحه، وأنستها هذه الظلال الندية الرخية تلك الثورة التي عصفت بنفسها الرقيقة في ذلك الوادي الذي تتلاقى عند قيعانه وكثبانه طرق (أيلة) والبحر الراعب، فأية فتنة هذه التي هدهدت التياع الملتاعين وحملت إلى النفوس الضارعة بعض العزاء التي تحبه وتأنس إليه
هذه الرائعة ما كانت تعدو ماضي (سلع) ففي هذه الدمن التي يغنيها الماء الدافق الهادر غناءه الشجي من أبعد عصور التاريخ لا تستطيع النفوس الكامدة أن تستبقي حزنها إلى الأبد، إذ لا معدى لها عن استمراء الوحدة والإصغاء إلى حديث حياة منقرضة وإذ هي محمولة على الشرود في جلال الموت وفي روعة السماء
معروف الارناءوط
عضو المجمع العلمي العربي(159/29)
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه: الكلام خيالي ولا أصل له)
- 6 -
كذبت على الله وعلى نفسي حين زعمت أني معجب بالسمراء وأني لا احب الثوب الأزرق. . لا والله. . فما أبالي السمراء ولا إعجاب لي بها. وكل ما في الأمر أنى رايتها كثيرة المرح فراقني أن تتلقى الحياة هاشة باشة، وأن تضحك للدنيا، ولكن هذا قد يكون عن خفة لا عن فلسفة، وأنا مفطور على الجد، ولهذا سهل أن أتعود الاحتشام، ولكن وطأة الحياة ثقلت على كاهل صبري، فأنا لا أزال أتلمس التسرية والترفيه بما يدخل في طوقي من الوسائل، ومن هنا هذا التناقض الذي يراه الناس في طباعي. ولا تناقض هناك فيما اعلم، وأني لكما كنت طول عمري، وإنما اختلفت المظاهر، وأولاي معقودة بأخراي، ولقد كنت في صباي يائساً من الخير والسعادة في هذه الحياة، وأنا الآن اكفر بهما، ولكني كنت في حداثتي يحزنني عجزي عن الاطمئنان إلى الخير فاكتئب وأتجهم وأروح أعذب نفسي واقطع قلبي حسرة، وأغراني هذا بالزهادة ونشدان الراحة - على الأقل - بتوطين النفس على اليأس ورياضتها على السكون إليه، وكنت أقول لنفسي جاداً أني تهالكت فما أفدت إلا الحرمان وإلا الظمأ والالتياح، وإني طلبت اللذات فما وجدت فيها لعاقل غناء. . فلعل الزهادة تحسم داء لم أجد في الطلب شفاء منه. ولكني ما لبثت أن وجدت أن رفض الحياة يزيد المرء إحماءً، وأن الزهد ليس منجي، وأن النفس تخسر به طيبها ورضاها، وأن الذي لا يمد يده ليجني ويقطف لا يحق له أن يزعم أنه حرم الثمار التي يراها علا أفنان الشجرة، وقد لا يفوز الطالب الساعي بكل ما يبغي، ولكنه لاشك خليق أن يظفر بكثير مما هو دونه، فإذا فاتتك الغاية القصوى فقد لا يفوتك ما دونها من المتع، فالطلب أولى، والسعي أوجب، لأن الطلب والسعي من مقتضيات الحياة، والحياة هي الحركة لا السكون ولا الجمود، والزهد قهر للنفس، والطلب فيه كذلك قهر للنفس، وقهر النفس مع إفادة ما يمكن أن يفاد خير من قهرها مع الحرمان، والدنيا تسير على مقتضى نواميسها هي، لا على(159/30)
هواناً نحن، فسيان أن تضحك لها وان تعبس، وللضحك إذن خير واحزم وأولى بالعاقل
وعلى ذكر الضحك أقول أنى اعجب لذات الثوب الأرجواني لماذا لا أراها تضحك أبداً؟؟ إن من تعاريف الإنسان أنه حيوان يضحك - أي يستطيع الضحك - ولكن هذه لم أرها تضحك إلا مرة واحدة، فعظم وقع ذلك في نفسي لندرته ولأنه كان فلتة مفردة، فوجهها كالقمر - سوى أن ماء الحياة والشباب والصحة يجري فيه - أعني إن تعبيره لا يتغير ولا يختلف ولا يتعدد، وقاتل الله البعد! وما يدريني؟؟ فلعلها تبتسم ولكني لبعدها لا أراها رؤيتها، ولست أذكر أني رأيت وميض عينيها، أو أن عذوبة نظرتها أو قوتها حركت قلبي، أو أن ابتسامتها الحلوة أو الساخرة أغرتني بالأمل أو الحزن. . ولكني على هذا سمعت صوتها. . نعم سمعته على الرغم مما يفصلنا من البعد. . وكانت الليلة مظلمة والحر شديدا، وكنت قاعدا في الشرفة والشجر على جانبي الطريق كأنه صور مرسومة من فرط الركود، فرأيتها تميل على جانب الشرفة؛ فنظرت فإذا جارتها في شرفتها وبينهما نحو مترين أو زيادة، وانطلقتا تتحدثان بصوت خفيض في أول الأمر، ولم اكن أرجو أن اسمعهما، ولا كنت آمل ذلك وإذا بالصوت يرتفع في الليل الساكن وإذا بصوت فتاتي يحمله إلي. . ماذا؟ لا ادري! فما كان هناك نسيم حتى أقول انه حمله. . ولكنه صافح أذني على كل حال، وقد شق علي أن أكون بحيث اسمع حديثهما، ولكني لم أكن أتسمع، وكان بيني وبينهما عشرون أو ثلاثون متراً - إذا حسبت الارتفاع - فإذا كانتا قد شاءتا أن تتكلما بصوت يسمعه الجيران فأظن إن هذا ليس ذنبي. ولولا الحر والركود الخانق لدخلت حجري وأويت إلى حيث لا يبلغني الصوت، وكنت ساعة تهدى إلى الصوت انظر إلى الطريق الخالي الموحش في هذا الليل الساكن - ولو شئت لقلت الراكد ولكني شاكرٌ - وكنت ربما رفعت عيني إلى النجوم الخفاقة اللمعان، وإذا بالصوت يقع في مسمعي فيكاد قلبي يقف. . . فلم يخالجني شك في أن هذا صوتها هي لا صوت الجارة. . ولا ادري من أين جاءني هذا اليقين؟! ويا له من صوت!!. رنان. . نافذ. . عميق الوقع. . فلو كنت تغنين لما كان أحلى ولا أسحر. . بل أنت كنت تغنين. . فما يرتفع الصوت بهذا الوضوح البلوري ولا يخفت - في غير عمود - إلى مثل الهمس، ويبريه الشجى أحياناً، ثم يعلو كأنه صيحة الحرية، ثم يضطرب ويتردد كأنه زفرة الأسى التي تتمرد على الكتمان - أقول ما يكون الصوت هكذا(159/31)
إلا في الغناء. . ولا ادري لماذا، ولكني لم أكد أسمع صوتك حتى خيل إلى أنى أسمع (أورفيوس) يناشد حبيبته ويدعوها إليه ويصيح (ماذا تراني اصنع بغير يوريديس؟). نعم. . كذلك بدا لي أن صوتك الذي هفا إلي على جناح النسيم الراكد. . صوتك الحافل بالأسى المكتوم والرغبة المكبوتة. ينادي. . . ويدعو. . ثم لم اعد أدري ماذا جرى لي ولا ماذا أصاب الدنيا حولي؟. وأحسست إن حياتي التف عليها صوتك كما تلف الحبال على أعضاد الأسير. . وكأنما تسرب وجودي في وجودك الغامض. . . وأطفئت الأنوار. . وازداد الليل حولي ظلاماً وصار السكون اعمق، وأنا واقف لا اشعر إلا بخفق هذا الصوت الملائكي في نفسي، وطلع النهار - نهار الناس - وأنا ماثل على حافة الشرفة انظر ولا أرى. . .
وقد صارت لي بعد تلك الليلة حياتان تتصارعان - أنا الذي كنت لو تصدقنني، اقضي أيامي ساكناً لا يكاد يسرني أو يسوءني شيء - أما الآن فإني أثب وأتنقل من الرغبة الجامحة إلى عقل الجاف الممحل. وأحس دمي الحار ينبض في عروقي - لا بل أراه - وقلبي يثب إلى حلقي وتتعلق أنفاسي وتكاد تحتبس، ثم تغمرني موجة من المرارة الأليمة. . ويسخر مني عقلي ويهزأ مما تخيلته من صيحة أورفيوس إذ يدعو إليه يوريديس. وما دعا إلا قلبي، وأين مني أورفيوس؟ وأين منك تلك التي لم اعرفها إلا من (جلوك)
وليت من يدري أين أنت الساعة؟؟ إن الليل ساج كليلتنا تلك، والدنيا ساكنة تنتظر أن تخرجي إليها في هالة من الحسن، وأنفاسي معلقة وأذني مرهفة لأسمع، ولي على هذه الشرفة ثلاث ساعات طويلات المدد، ولست أحس تعباً أو اشعر بقلق، فإني كالمجنون أو المخمور، وإني لأرسل إليك من صيحات القلب ما لا يسمعه سواك لو انك تصغين. . ثلاث ساعات وأنا أدعوك وأنت لا تجيبين. . كلا!! صوتك الملائكي لا يسمع مرة اخرى، ولا ينطلق في هذا الليل الساجي لينعشه ويحييه. وان نوافذ بيتك لمفتوحة، وان الحجرات لمضاءة، ولكنها ساكنة كأنها مهجورة، حتى ليفزعني النور الذي يخرج منها
لم أسمع صوتك بعد ذلك ولكني رأيت الوردة التي في يدك وكنت تنفضين عنها الطل أو الماء، ثم غبت بها واختفيت بعدها كأنما يكفي غذاء لروحي أن أرى معك وردة حمراء. . . كلا. . . لست أريد ورداً وإنما أريد أن اسمع ذلك الصوت وانعم به، وان اجتلي عينيك وأرى في صقالهما روحي، وأن أرى رجفة شفتيك وأنت تبادلينني الأعراب عما ضاق(159/32)
الصدر بما اجن منه والقلب بما وجد، وأن أحس خفق قلبك وتحسين دقات قلبي. . . فإذا كنت تؤمنين بما أؤمن به - وما أؤمن من الناس إلا بكِ وحدكِ لا شريك لكِ - وإذا لم تكوني خيالاً ينسخه النور. . وإذا كنت أنثى. . وكان لك قلب، فبالله ألا ما أسمعتني هذا الصوت مرة أخرى!! وهل أقل من ذلك؟؟
إنك جميلة وحزينة يا من لا أعرف اسمها - ولو كنت اعرفه لظننت به على الدنيا التي تجملينها - هذا ما قاله لي صوتك حين سمعته في فحمة الليل الساكن. وقد رأيتك بعد ذلك في الشرفة وفي يدك الوردة الحمراء ونظرت إلى عينيك الواسعتين تحت حاجبيهما المستقيمين فأعادت على نظرتهما ما كان صوتك قد أوحى به إلي - وإلا فلماذا يرتخي الهدب الطويل الأوطف إلا ليحجب ما عسى أن تشي به النظرة من الخواطر؟؟ ورأيت فمك الجميل وشفتيك الورديتين خلقة لا صناعة. . . شفتيك اللتين لا تعرفان كيف تبتسمان. . وفكرت في هاتين العينين اللتين لا اجتلى فيهما البشر والرضى، وفي هذا الفم الحلو الذي لا تريدين أن تدعيه يفتر عن ابتسامة - ولو ساخرة - فكرت في ذلك لحظة وان كانت عيناك وشفتاك جديرة بالتأمل دهراً كاملاً. . . ومن أعاجيبك أنى أراك أحياناً مسرورة ويبدو لي أنك قريرة العين ولكن لا ابتسام، ولا ضحك، ولا شيء من مظاهر السرور المألوفة. . . فقد لاحظتك ودرستك وخبرتك بقدر ما يتيسر ذلك لبعيد مثلي لا يراك إلا من النافذة، وأعجبت بشبابك وجمالك ورزانتك وكبريائك أيضاً، وبذوقك السليم في الثياب والزينة. . ودرست الذين حولك من أهلك. . . واحسب هذا الرجل المحتشم أباك وأظنك ورثت عنه هذا الجد الصارم والتحفظ الشديد. . وتلك احسبها أمك وان كانت تبدو اصغر من أن تكون أماً. ويعجبني منك ومنها إنكما تبدوان كصديقتين لا كأم وابنتها. والآخرون. . ولكن مالي وهؤلاء جميعاً؟؟
وقد رأيتك أمس تخرجين مع أمك أو يحسن أن اسميها صديقتك فإنها أشبه بذاك - وكنت واقفة بالباب تنتظرين أن تلحق بك وفي يدك وردة صغيرة تشمينها. . وإني لمجنون. . وإن لك أن تقولي إني طفل يرجو ويؤمن، أو رجل يحلم، ولكني اعتقد أن هذه الحركة الرقيقة كنت أنا المقصود بها، فما كان في الطريق ولا في النافذة غيري. . ونظرت إلى ناحيتي ثم رفعت الوردة إلى انفك الجميل وبعثت إليّ بهذه الوسيلة رسالة. . رسالة من(159/33)
مجهولة إلى مجهول. . وخيل إليَّ - وقد أكون واهماً - إني لمحت امتقاعاً في لونك حينئذ فزادت الرسالة غموضاً على جمالها. . ثم مضيت وما لبثت أن غبت عن عيني. . وبقيت أنا مسمراً في مكاني لا أبرحه انتظاراً لعودتك. . مضت ساعة وأخرى وثالثة وأنت لا تعودين. . وإذا بك في الشرفة!! فإن كنت قد دخلت قبل ذلك بكثير ورأيت عيني التي لا ترفع عن الطريق حتى لا يفوتها منظرك وأنت عائدة، فلا شك إنك قد ضحكت من هذا الأبله المخبول الذي ينظر ولا يرى من فرط الاضطراب. . لا بأس. . وإذا كنت لم أرك فإنك في قلبي. . قلبي الذي صار محراباً لحسنك. . وإني لاحس أني أصبحت شيئاً مقدساً بحلولك فيه. . . .
إبراهيم عبد القادر المازني(159/34)
بين عالمين
نظام الطلاق في الإسلام
للأستاذ أحمد محمد شاكر
نشرت في الرسالة (العدد 157 في 6 يوليو لسنة 1936) كتاب أستاذنا الكبير العلامة شيخ الشريعة، إمام مجتهدي الشيعة، الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، في نقد ما ذهبت إليه في كتابي (نظام الطلاق في الإسلام) من اشتراط الأشهاد في الطلاق وفي الرجعة، خلافاً لما ذهب إليه أئمة الشيعة من إشتراطه في الطلاق دون الرجعة، وقد انتصر الأستاذ - حفظه الله - لمذهبهم بأبدع بيان، مما لم نجد له نظيراً فيما بين أيدينا من كتب العلماء من الشيعة الإمامية
ووعدت أن أناقش الأستاذ فيما ارتأى واختار، وان أبين وجهة نظري، ملتزماً ما رسمته لنفسي من شرعة الأنصاف في البحث والنظر (فاكشف عن حجة خصمي وعن حجتي، لي وللناظرين: فأما انتصر قول خصمي ورجعت عن قولي، وإما انتصرت لقولي وزدته بياناً وتأييداً، لا أبالي أي ذينك كان)
ووفاءاً بما وعدت انشر هنا ما قلته في الكتاب (ص 118 - 121):
(قال الله تعالى في أول سورة الطلاق: (يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله، ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه. لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم، وأقيموا الشهادة لله))
(والظاهر من سياق الآيتين إن قوله (وأشهدوا) راجع إلى الطلاق والى الرجعة معاً، والأمر للوجوب، لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إلى غير الوجوب - كالندب - إلا بقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب. بل القرائن هنا تؤيد حمله على الوجوب: لأن الطلاق عمل استثنائي يقوم به الرجل - وهو أحد طرفي العقد - وحده، سواء أوافقته المرأة أم لا، كما أوضحنا ذلك مراراً، وتترتب عليه حقوق للرجل قِبَل المرأة، وحقوق للمرأة قبل الرجل، وكذلك الرجعة، ويخشى فيهما الإنكار من أحدهما، فإشهاد الشهود يرفع احتمال(159/35)
الجحد، ويثبت لكل منهما حقه قبل الآخر، فمن أشهد على طلاقه فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حدَّ الله الذي حده له، فوقع عمله باطلاً لا يترتب عليه أي أثر من آثاره)
(وهذا الذي اخترناه هو قول ابن عباس: فقد روى عنه الطبري في تفسير (ج28 ص88) قال: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها اشهد رجلين كما قال الله: (وأشهدوا ذوي عدل منكم). عند الطلاق وعند المراجعة. وهو قول عطاء أيضاً فقد روى عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد قال: النكاح بالشهود والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود. نقله السيوطي في الدر المنثور (ج6 ص232) والجصاص في أحكام القرآن بمعناه (ج3 ص456). وكذلك هو قول السُّدّي. فقد روى عنه الطبري قال: في قوله: (وأشهدوا ذوي عدل منكم): على الطلاق والرجعة)
(وذهب الشيعة إلى وجوب الأشهاد في الطلاق وأنه ركن من أركانه، كما في كتاب (شرائع الإسلام ص208 - 209 طبعة سنة 1302) ولم يوجبوه في الرجعة، والتفريق بينهما غريب، ولا دليل عليه)
(وأما ابن حزم فإن ظاهر قوله في المحلي (ج10 ص251) يفهم منه انه يرى اشتراط الإشهاد في الطلاق وفي الرجعة، وان لم يذكر هذا الشرط في مسائل الطلاق، بل ذكره في الكلام على الرجعة فقط. قال: فإن راجع ولم يشهد فليس مراجعاً، لقول الله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم) فقرن عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد ذلك عن بعض، وكان من طلق ولم يشهد ذوي العدل، أو راجع ولم يشهد ذوي العدل: متعدياً لحدود الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)
(واشتراط الإشهاد في الرجعة هو أحد قولي الشافعي. قال الشيرازي في المهذب (ج2 ص111): لأنه استباحة بضع مقصود، فلم يصح من غير اشهاد، كالنكاح، وهو أيضاً أحد قولي الإمام أحمد. أنظر المقنع (ج2 ص259) والمغني (ج8 ص 482) والشرح الكبير (ج8 ص472 - 473)
(والقول باشتراط الإشهاد في صحة الرجعة يلزم منه أنها لا تصح إلا باللفظ، ولا تصح(159/36)
بالفعل، كما هو ظاهر. وهو مذهب الشافعي)
هذا ما قلته في المسالة، وقد رد عليه الأستاذ شيخ الشريعة من جهتين: من جهة لفظ الدليل وسياق الآيات الكريمة، ومن جهة الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية. فقال في الوجه الأول: (إن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه، حتى إنها قد سميت بسورة الطلاق، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى: (إذا طلقتم النساء) ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة، أي لا يكون في طهر المواقعة ولا في الحيض، ولزوم إحصاء العدة وعدم إخراجهن من البيوت، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق، حيث قال عز شانه: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) أي إذا اشرفن على الخروج من العدة فلكم إمساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة، ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه، ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلا تبعاً واستطراداً)
وأما أن السورة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه حتى إنها سميت سورة الطلاق: فنعم. ولكن هل معنى هذا أنها مسوقة لأحكام إنشاء الطلاق وإيقاعه: من اشتراط حصوله في قبل العدة، ومن وجوب الإشهاد عليه، لا غير؟! ما أظن أحداً يرضى أن يدعي ذلك! ولو سميت السورة سورة الطلاق!!
فإن في السورة اثنتي عشرة آية، فيها نحو من خمسين ومائتي كلمة، لم يذكر فيها من الأحكام الخاصة بإنشاء الطلاق وإيقاعه إلا إحدى عشرة كلمة في الآيتين الأوليين. ثم سيق نصف السورة تقريباً لبيان الأحكام المتعلقة بالطلاق عامة، من إنشاء وإيقاع، ومن إمساك بمعروف أو مفارقة بمعروف، ومن عدة وإنفاق وإسكان وإخراج وأجرة إرضاع، ومن بيان لحدود الله في الطلاق ووعيد شديد لمن تعداها، ومن ترغيب في تقوى الله والتوكل عليه، كل أولئك في الآيات السبع الأولى من السورة الكريمة ثم سيق سائرها لأشياء أخرى ليست لها علاقة بالطلاق
فهل كل هذا ذكر تبعا لسبع كلمات في الأحكام الخاصة بإنشاء الطلاق في الآية الأولى، ولأربع كلمات في الآية الثانية؟! كلا! إنها سورة الطلاق، ذكر فيها كثير من أحكامه عامة، وسيق نحو نصفها لإرشاد الرجال إلى ما يجب عليهم عند الطلاق وبعده، وكل ذلك أصل(159/37)
مقصود، لم يذكر شيء منه تبعاً ولا استطرادا
ولو قرا القارئ الآيتين الأوليين بأناة وروية، وتأمل فيهما على ما تقتضيه الفطرة العربية المستقيمة والذوق السليم، لتبين له إن الأمر بالإشهاد راجع إلى الأشياء الثلاثة المذكورة في الآيتين، وهي الطلاق: أي إنشاؤه، والإمساك بالمعروف: أي الرجعة، والمفارقة بالمعروف: أي إنفاذ الطلاق بتسريحها بإحسان عقيب انقضاء عدتها، وأنه لو كان المراد الأمر بالإشهاد عند إنشاء الطلاق فقط لكان موضع ذكره في صدر الآية الأولى عند قوله: (فطلوقوهن لعدتهن وأحصوا العدة)، أما تأخيره بعد ذكر الإمساك أو المفارقة فأنه صريح في عودته إلى جميع ما تقدم عليه
وهذا هو الذي فهمه اكثر العارفين باللغة والمتمكنين منها، ولم يستهجن أحد منهم عوده إلى الرجعة، ولا ادعي إنها ذكرت تبعاً واستطراداً، فابن عباس وعطاء والسدي وغيرهم فهموا أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً، ولذلك قال ابن حزم (فقرن عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض)
وكذلك قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهو من اعلم الناس باللغة وأفصحهم، فقد قال في كتاب الأم (ج5 ص226): (ينبغي لمن راجع أن يشهد شاهدين عدلين على الرجعة، لما أمر الله به من الشهادة، لئلا يموت قبل أن يقر بذلك؛ أو يموت قبل تعلم الرجعة بعد انقضاء عدتها، فلا يتوارثان إن لم تعلم الرجعة في العدة، ولئلا يتجاحدا أو يصيبها فتنزل منه إصابة غير زوجة)
وقال محمد بن جرير الطبري في التفسير (ج28 ص88): (وقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم. وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهن، وذلك هو رجعة)
وقال العلامة جار الله الزمخشري في الكشاف (ج2 ص403): (وأشهدوا يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله: وأشهدوا إذا تبايعتم. وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة. وقيل فائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث)
وقال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط (ج8 ص282): (وأشهدوا: الظاهر وجوب الإشهاد على ما يقع من الإمساك وهو الرجعة، أو المفارقة وهي الطلاق. وهذا الإشهاد(159/38)
مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله: وأشهدوا إذا تبايعتم. وعند الشافعية واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة. وقيل: وأشهدوا يريد به على الرجعة فقط؛ والإشهاد شرط في صحتها، فلها منعه من نفسها حتى يشهد. وقال ابن عباس: الإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق يرفع من النوازل أشكالاً كثيرة)
وبنحوه قال سائر المفسرين، حتى لقد قال العلامة أمين الدين أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي المفسر من كبار أئمة الشيعة الامامية، المتوفي سنة 548 في تفسيره مجمع البيان (ج2 ص430 طبع إيران): (وأشهدوا ذوي عدل منكم. قال المفسرون: أُمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعةَ بعد انقضاء العدة، ولا الرجلُ الطلاقَ. وقيل معناه، وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم، وهو المروي عن أئمتنا، وهذا أليق بالظاهر، لأنا إن حملناه على الطلاق كان أمراً يقتضي الوجوب، وهو من شرائط صحة الطلاق، ومن قال إن ذلك راجع إلى المراجعة حمله على الندب)
فهذا الإمام الشيعي لا يرى مانعاً من جهة اللغة والسياق أن يرجع الأمر بالإشهاد إلى الرجعة والى الطلاق معاً، ويتأول ذلك، أو يدعي أن الظاهر رجوعه إلى الطلاق فقط، انتصاراً لمذهب الأئمة من أهل البيت في اشتراطه الطلاق دون رجعة
ومع ذلك فإن مذهب الإمامية أن الأشهاد على الرجعة مندوب إليه مستحب، نص على ذلك في كتبهم في مواضع مختلفة
وقد ورد في رواياتهم عن أبى جعفر الباقر عليه السلام في بيان طلاق العدة أنه: (إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته طلاق العدة فلينتظر بها حتى تحيض وتخرج من حيضها، ثم يطلقها تطليقة من غير جماع، ويشهد شاهدين عدلين، ويراجعها من يومه ذلك إن احب، أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض، ويشهد على رجعتها الخ) نقله الطبرسي في التفسير، وشيخ الطائفة محمد ابن الحسن الطوسي في التهذيب، والإمام السعيد أبو جعفر محمد ابن علي بن بابويه القمي في كتاب (من لا يحضره الفقيه) وغيرهم
فهذا يدل على انهم يرون أن الأمر بالإشهاد في الآية راجع إلى الرجعة كما هو راجع إلى الطلاق، وان كانوا لا يشترطونه في صحة المراجعة، فذاك لشيء آخر وهو اتباع الأئمة من أهل البيت، ولولا أن الأمر راجع إليهما لما كان لديهم دليل على استحباب الإشهاد في(159/39)
الرجعة، ولما قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: (ويشهد على رجعتها) فأنه لم يرد طلب الإشهاد فيها في شيء من القرآن إلا في هذه الآية، ولم يرد أيضاً في شيء من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد ورد في أقوال الصحابة والتابعين، كما نقلنا عن ابن عباس وغيره
وكما روى أبو داود (ج3 ص257)، وابن ماجه (ج1 ص 319) عن مطرف بن عبد الله: (أن عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها؟ فقال: طلَّقت لغير سنة، وراجعتَ لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد)، وروى البيهقي في السنن الكبرى (ج7 ص373) نحوه من طريق ابن سيرين عن عمران بن حصين، وإسناده عند أبى داود إسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (ص228)
وروى البيهقي بإسناد صحيح عن نافع قال: (طلق ابن عمر امرأته صفية بنت أبى عبيد تطليقة أو تطليقتين، فكان لا يدخل عليها إلا بإذن، فلما راجعها اشهد على رجعتها ودخل عليها)
فعبد الله بن عمر فهم من الآية أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الرجعة ولذلك أشهد على رجعة مطلقته، وعمران بن حصين فهم ذلك أيضاً، وأنكر على من طلق ولم يشهد وراجع ولم يشهد، وأعتبره مخالفاً للسنة، إذ خالف ما أمر به في القرآن. وهما عربيان يفهمان لغتهما بالفطرة السليمة، قبل فساد الألسنة، ودخول العجمة على الناس
وأنا إذ أحتج بأقوال من نقلت قولهم من الصحابة والتابعين والمفسرين فإنما أحتج بها من وجهة الدلالة العربية وفهم مناحي الكلام في الآيات الكريمة، لا من جهة الرأي الفقهي الاستنباطي، فقد اختلفوا فيه اختلافاً كبيراً، فبعضهم يرى وجو بالإشهاد على الطلاق وحده ويجعله شرطاً في صحته، وبعضهم يرى وجوبه على الرجعة وحدها ويجعله شرطاً في صحتها، وبعضهم يراه مستحباً فقط في أمرين، وبعضهم يراه واجباً فيهما ولا يراه شرطاً في صحة واحد منهما، كما يفهم من كلام عمران بن حصين
وأما الذي أراه واذهب إليه فهو وجوب الإشهاد في الأمرين جميعا وانه شرط في صحة كل منهما، لأنه ثبت من دلالة الآيتين في أول سورة الطلاق إن الله سبحانه أمر الرجلين(159/40)
بالإشهاد عند الطلاق وعند المراجعة؛ والأمر في حقيقته دائماً للوجوب، ولا يدل على الندب إلا دلالة مجازية؛ والمجاز لا يراد من الكلام إلا بوجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، ولا قرينة هنا أبداً تمنع إرادة المعنى الحقيقي، وإن أدعى شوكاني في نيل الأوطار ذلك إذ قال (ج7 ص43 - 44): (ومن الأدلة على عدم الوجوب أنه قد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق، كما حكاه الموزعي في تيسير البيان)، وما أكثر دعوى العلماء الإجماع، خصوصاً في مسائل الطلاق!! وهي دعوة عريضة، يدعونها في كثير من المواطن إذا ما غلبتهم الحجة وأعوزهم البرهان، وليس لهم عليها أي دليل! كما قلت في (نظام الطلاق) وبينت هناك المعنى الصحيح للإجماع، (لكثرة إرجاف المرجفين بدعوى الإجماع في الطلاق، ليرعبوا العلماء المجتهدين الصادقين المخلصين، ويصرفوهم عن البحث فيه، أو يؤلبوا عليهم العامة والغوغاء. فتحاماه أكثرهم وأحجموا عنه، إلا من ثبت الله قلبه وأيده بروح من عنده) (ص 96 - 103)
(البقية في العدد القادم)
أحمد محمد شاكر
القاضي الشرعي(159/41)
دانتي الليجيري والكوميدية الإلهية وأبو العلاء
المعري ورسالة الغفران
نفينا في كلمة سالفة أن يكون دانتي الليجيري قد تأثر في كوميديته برسالة الغفران لأبى العلاء، ورجحنا أن يكون قد احتذى ملحمة (الأنّييد) للشاعر الروماني الخالد فرجيل، وأن تكون ثقافته الكبيرة واطلاعه الواسع على الأدبين المسيحي والإسلامي، ثم إلمامه بالأدب الإغريقي القديم قد شقق له فجاج الخيال فاستطاع أن يضفي على كوميديته ظلالاً عبقرية جذابة من أشتات هذه الثقافات. فمن الأدب المسيحي استمد إيمانه الذي تفيض منه الكوميدية، واقتبس من رؤيا يوحنا اللاهوتي أمواهاً لون بها فصوله؛ ومن قراءاته الإسلامية - وأهمها القرآن - أفترض أخيلةً للجحيم خصبة قوية ارتفع بها إلى ذروة الأدب السامي الرفيع. . . أما من الأدب الإغريقي القديم فسنرى أن دانتي - أما بالذات وأما بالوساطة - قد قبس قبسة أسطورة أورفيوس وقبسة أخرى من هرقل وقبسات غير هذه وغير تلك من الأساطير التي تتناول الدار الآخرة (هيدز)
على إن ملحمة الانييد لفرجيل هي التي أوحت إلى دانتي فكرة الكوميدية. وقد رجعنا إلى الفصل الطويل الممتع الذي كتبه (بوكاشيو) عن مواطنه، وقرأنا كذلك ما كتبه الأستاذ فلبو فللاني في مجموعته وما كتبه الأستاذ العلامة ج. أ. سيموند عن دانتي، والمقدمة التي كتبها إدمند. ج. جاردنر للكوميدية (ترجمة كاري سنة 1908)، ثم الفصل الطريف الذي عقده الأستاذ رتشارد جارنت عن دانتي في كتابه (تاريخ الأدب الإيطالي ص24 - 52) فتأكد لنا إن دانتي كان معجباً إلى غير حد بالشاعر الروماني فرجيل وأنه كان يحفظ الكتاب السادس من الأنييد عن ظهر قلب، وأن هذا الكتاب السادس (الذي سنلخصه للقراء) من الأنييد إن هو إلا صورة مصغرة لجحيم دانتي مع فارق الغاية واختلاف المقصد بين كل من الشاعرين
أما أسطورة المعراج الملفقة التي لفتتنا إليها الرسالة، والتي خال بينها وبين الأساطير التي نحن بصددها علاقة أستاذنا الجليل صاحب (ذكرى أبي العلاء) فلنا فيها رأي سنذكره عند الكلام عن فردوس دانتي وعن جحيمه أيضاً
ولتشعب البحث نرى أن نضع بين يدي القارئ خلاصات موجزة لكل من رسالة الغفران(159/42)
(مع صور للجنة والجحيم من القرآن الكريم)، ورؤيا يوحنا اللاهوتي، وبعض مجازفات أوليسيز من (الأوديسه)، وأسطورة أرفيوس، ورحلة هرقل إلى هيدز، والجزء السادس من أنيد فرجيل، ونتبع ذلك بخلاصة لكوميدية دانتي بأجزائها الثلاثة: الجحيم، والمطهر، والفردوس، ثم نقفي بمقارنة تاريخية لن تضر شاعرنا العربي العظيم في شيء، لأنه ليس ضيراً ألا يكون دانتي قد احتذى مثال أبى العلاء أو قلد أسطورة المعراج
1 - رسالة الغفران
أرسل علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح إلى أبى العلاء رسالة إضافية تستفتيه فيها عن بعض مشكلات النحو والصرف، ثم يبدي (غيضه على الزنادقة والملحدين، الذين يتلاعبون بالدين، ويرومون إدخال الشبه والشكوك على المسلمين، ويستعذبون القدح في نبوة النبيين، ويتطرفون ويبتذئون - إعجاباً بذلك المذهب: (تيه مغن وظرف زنديق). . .) ويلم بأخبار بعض الزنادقة كبشار والقصار الأعور والصناديقي والوليد بن يزيد وأبي عيسى بن الرشيد والجنابي والحلاج وابن أبي العُذافر. . . الخ. . . ويشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم إشارة لها معناها، ثم يذكر شيئاً عن حجه وأسفاره وتحصيله لعلوم اللغة. . . ويتبسط في الحديث كأنما رفعت الكلفة بينه وبين أبي العلاء فيضع بين أيدينا مفتاح رسالة الغفران. . .
وقد قرأنا كل ما كتبه أدباؤنا عن رسالة أبي العلاء فراعنا أن واحداً منهم لم يعرض لرسالة ابن القارح بكلمة، وراعنا أن واحداً منهم لم يتوفر على دراستها ليدرك العلاقة بين الرسالتين، وكان يؤلمنا أن بعض أدبائنا لم يكن يدري من أمر رسالة الغفران شيئاً إلا إنها تهكم وسخرية بابن القارح؛ مع أنها رجع الصدى لزندقته وإلحاده
قال ابن القارح في ختام رسالته: (كنت بتنيس وبين يدي إنسان يقرأ، ويحزن،: (يُوفون بالنّذْر ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً؛ ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً؛ إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً؛ أنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً؛ فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نَضرَة وسروراً؛ وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً؛ متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، ودانية عليهم ظلالها، وذُللت قطوفها تذليلاً؛ ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا، قوارير من(159/43)
فضة قدورها تقديراً، ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً؛ عيناً فيها تسمى سلسبيلاً؛ ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رايتهم حسبتهم لؤلؤا منثوراً؛ وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً: عاليَهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحُلُّوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً؛ إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً؛ أنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً، فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً؛ واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً؛ إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورائهم يوما ثقيلاً. . . . . .) قال ابن القارح: وكان القارئ يتألم ويبكي، فخطر لي خاطر فقلت: أنا بضد هؤلاء القوم، صلوات الله عليهم!!، أنا لا أنذر، ولا أفي، ولا أخاف شقاء ولا عناء!!)
أفرأيت وسمعت؟! ابن القارح ضد هؤلاء القوم، صلوات الله عليهم، لا ينذر ولا يفي ولا يخاف شقاء ولا عناء!! ومع ذاك فهو من علماء المسلمين الذين يفهمون معاني الآيات، ويعرفون من هم أولئك الأبرار الذين يشربون من كأس كان مزاجها كافورا. . . ابن القارح الذي ذكر في رسالته أنه يغتاظ على الزنادقة والملحدين والطاعنين في الأنبياء بغير الحق لا يهمه أن يكون بضد الأبرار المذكورين في سورة الدهر، ولا يهمه ألا ينذر ولا يفي فلا يخاف عناء ولا شقاء؟!
هنا مفتاح رسالة الغفران!!
ومن اجل ذلك كان عجبنا شديدا كيف أن أحداً من أدبائنا لم يلتفت إلى رسالة ابن القارح ليهتدي إلى الروح التي أملت رسالة الغفران. . لقد طرب أبو العلاء أيما طرب أن وجد أديباً مثله معجباً به يقدر أدبه وفلسفته وآراءه في الحياة والناس ويخاف مثله من مصارحة الناس بما يؤمن فيكتب بهذا الأسلوب المضمر الملغوز الذي يقول في أوله: إني اغتاظ على هؤلاء الزنادقة والملحدين مثل بشار والقصار والجنابي والحلاج ومن إليهم ممن يجدفون في الله وفي كتبه ويشككون الناس في أنبيائه؛ ثم يقول في آخره انه خطر له خاطر حين سمع قارئ سورة الدهر وهو يقرأ ويحزن ويبكي انه بضد هؤلاء الأبرار (صلوات الله عليهم؟!!) لأنه لا ينذر ولا يفي، ولا يخاف شقاء ولا عناء!
طرب أبو العلاء أيما طرب لأنه وجد رجلا مثله لا يؤمن بهذه الجنة التي عرضها السموات والأرض، ولا بهذه الأنهار من لبن وعسل وخمر، ولا بهذه العين السلسبيل، ولا(159/44)
بهؤلاء الولدان المخلدين الذين يطوفون على المؤمنين بأكواب من فضة، ولا بالحور العين. . . ولا يؤمن بما جاء في أول سورة الدهر مما اعد للكافرين من سلاسل وأغلال وسعير. . وإذن، فليكتب أبو العلاء إلى ابن القارح، وليخضع في كتابته إلى ابن القارح لما تسميه السيكلوجية (تداعي المعاني) فيدخل به الجنة. . . ولكن قبل أن يدخل الجنة لا بد أن يبعث. . . وقبل أن يبعث لا بد أن يموت. . وسيلقاه عزرائيل ساعة الموت، فلا بأس من أن يناقشه أبو العلاء مناقشة صرفية فكهة مضحكة، فإذا دخل القبر وأغلق عليه وجاء الملكان منكر ونكير فأي بأس من أن يجادلهما كما جادل عزرائيل، فإذا رفعا الأرزبة ليدقا بها عنقه فأي بأس أيضاً من أن يربكهما بمناقشة صرفية عن هذه الآلة المحطمة ليشغلهما قليلاً عن تعذيبهما إياه. . . ثم أي بأس أيضاً من أن تستمر هذه المناقشة الصرفية في كل مكان من البعث، إلى أسوار الجنة، إلى الصراط، إلى داخل الجنة نفسها، إلى جهنم. . . الخ أليس قد أراد أبو العلاء أن يشارك ابن القارح سخريته؟ فلم لا يشاركه دعابته؟ ولم لا يداعبه تلك المداعبة المضحكة بشرط ألا يفهم أنها دعابة إلا ابن القارح، فإذا قراها رجل غير ابن القارح وكان عارفاً باللغة وأسرار نحوها وصرفها راقه ذلك التحقيق الفقهي لتصريف تلك الكلمات التي لا يسمن تصريفها ولا يغني من جوع من مثل (عزرائيل وملك وإرزبة وجهنم. . . الخ. . .) فإذا كان القارئ مؤمناً ورعاً يسره الحديث عن الجنة وملاذها ويخيفه الحديث عن جهنم وآلامها شاقه حديث الرسالة عن متع الفردوس، وهذا الإوز الذي ينتفض فيكون حورا عينا بإذن الله، وسمك الحلاوة الذي يسبح في أنهار الخمر والعسل واللبن والأري. . . وأخافه ما يرى في السعير من صنوف المجرمين الكافرين الذين كذبوا بيوم الدين. . . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم. . .؟!
وقد طرب أبو العلاء أيضاً، وازدادت ثقته بصاحبه لأنه عرف فيه رجلاً يعطف مثله على الحيوان. . . . . لأنه (حدثه من يثق به وكان زاهداً (!) قال: كنت مع أبي البكر الشبلي ببغداد في الجانب الشرقي بباب الطاق، فرأينا شاوياً، وقد اخرج حملاً من التنور، وإلى جانبه قد عمل حلاوي فالوذجا، فوقف ينظر إليهما، وهو ساه مفكر، فقلت: (يا مولاي! دعني آخذ من هذا وهذا ورقاقاً وخبزاً، ومنزلي قريب، تشرفني بأن تجعل راحتك اليوم عندي، فقال: (يا هذا، أظننت أني اشتهيتهما؟ وإنما فكري في الحيوان كله!! لا يدخل النار(159/45)
إلا بعد الموت. . . ونحن ندخلها أحياء!)
إذن، فليطمئن أبو العلاء إذا كتب إلى ابن القارح، وليطف به من البرزخ إلى المحشر إلى الصراط، ولتحمله وصيفة فاطمة الزهراء إلى داخل الجنة (زقفونة)! وليجذبه إبراهيم إلى الجنة رغم أنف رضوان. . . ولتكن هذه الحياة الأخرى مهزلة وملهاة مضحكة سواء أفي الجنة أو في الجحيم. . . وليحرض إبليس زبانية جهنم على جذب ابن القارح ليكون معه في بطن سقر. . . . . وليتقارض هذان الساخران الملحدان الضحك على المؤمنين وإله المؤمنين وأنبياء المؤمنين وجنة المؤمنين. . . . . وليتقارضاه آمنين مطمئنين فليس كل الناس بقادر على أن يدرك انهما يستهزئان بكل ذلك. . . . . بل كل الناس ستكبر أدب ابن القارح أدب أبى العلاء. . . . لأن ابن القارح (يغتاظ على أولئك الزنادقة الملحدين مثل بشار والقصار والجنابي والحلاج لأنهم يجدفون في الله وينكرون أنبياء الله ويكفرون بكتب الله ويشككون الناس في كل ذلك)، ولأن أبا العلاء قد أعطاهم صورة من الجنة تزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم وصورة من الجحيم تزيدهم منها خوفاً فوق خوفهم. . . وليفرح النحاة بابي العلاء لأنه حل لهم ألغازاً من الصرف والنحو لم يكونوا قادرين عليها، وهي عند أبي العلاء ضرب من الهذيان لا غناء فيه
على أن أشياء أُخر في رسالة أبي القارح تشعر القارئ برقاعة وفجور لا يدلان إلا على زندقة وفسق، ونفس خبيثة لا تتوقر، ولسان بذيء ينفث الفحش، وفم يقيئ الدنس. . . اقرأ هذه النبذة التي دسها ابن القارح من غير ما مناسبة اقتضتها في رسالته: (دفع رجل إلى صديق له جارية وأودعها عنده وذهب في سفره، فقال بعد أيام لمن يأنس به وتسكن نفسه إليه: يا أخي! ذهبت أمانات الناس! أودعني صديق لي جارية، في حسابه أنها بكر، جربتها فإذا هي ثيب!!)
وهو قبل ذلك يشكو إلى أبي العلاء انصرافه عن طلب العلم وانغماسه في الأغراض البهيمية وانه قبل أن يجيء إلى مصر كان يذاكر خمسين ورقة كل يوم، ولكن الأغراض البهيمية التي عرفها في مصر وانغمس فيها ثمة صرفته عن جده ومثابرته فهو لا يذاكر إلا خمساً ومع ذلك تكل عيناه في تحصيلها على قلتها. .
وحديث ابن القارح عن الزنادقة حديث الهازل غير الجاد. . حديث (المستملح) لما كان(159/46)
يصدر عنه هؤلاء الزنادقة من عتو وإلحاد والتماس الرفد والتوسل إلى المنفعة بالتدين. . وقد اشتهر عن أبى العلاء نفسه انه كان يتهم الأنبياء بمثل ما اتهم به ابن القارح الزنادقة من هذا الالتماس للرفد عن طريق الدين، واللزوميات تفيض بشواهد كثيرة على ذلك
ونحن لا ندري لم حشد ابن القارح هذا الحشد الكثير من الزنادقة في رسالته، وألم فيها بشر ما كان يصدر عنهم من تسفيه الانبياء، وسب الخلفاء، والتبرم بالإسلام والمسلمين؟ أليس كان يشير أبو العلاء إلى كثير مثل هذا في لزومياته؟
أسمع إلى هذا الرجل من يهود خيبر يعرض بموسى ويستهزئ بعمر حين أجلى أهل الذمة عن جزيرة العرب:
يصول أبو حفص علينا بِدِرّة ... رويدك إن المرء يطفو ويرسب
كأنك لم تتبع حمولة مأقطٍ ... لتشبع، إن الزاد شيء محبب
فلو كان موسى صادقاً ما ظهرتمو ... علينا، ولكن دولة لم تذهب
ونحن سبقنا كم إلى المين فاعرفوا ... لنا رتبة البادي الذي هو أكذب
مشيتم على آثارنا في طريقنا ... وبغيتكم في أن تسودوا وترهبوا
واسمع إلى الذي يسب أبا بكر لشدة ما نالته منه فرحل إلى بلاد الروم:
لحقت بأرض الروم غير مفكر ... بترك صلاة من عشاء ولا ظهر
فلا تتركوني من صبوح مدامة ... فما حرم الله السلاف من الخمر
إذا أمرت تيم بن مرة فيكمو ... فلا خير في أرض الحجاز ولا مصر
فإن يك إسلامي هو الحق والهدى ... فإني قد خليته لأبي بكر!!
وهكذا يحشد ابن القارح في رسالته كل ذلك الفحش من أقوال الزنادقة وهو يعرف أن أبا العلاء قد قال مثل ذلك في لزومياته، فكأنه قصد إلى أن يغني على عوده ويضرب وراء هواه،. . . ولا ينفعه بعد ذلك سبه لهؤلاء الزنادقة، هذا السب الذي يكاد يكون رشقاً بالورد وتحية بالريحان وتزويراً على القارئين
وبعد فموضوعنا دانتي وأبو العلاء، وهذا حديث طويل عن ابن القارح.،. ولكنه حديث عن السبب في كتابة رسالة الغفران سنحتاج إليه حين نتكلم عن السبب في كتابة الكوميدية الإلهية(159/47)
ولنختم هذا المقال بذيل عن رسالة الغفران ليكون بين يدي القارئ خلاصة خاطفة لها:
دخل المعري بصديقة ابن القارح جنة الفردوس، فركب نجيبا ينتقل عليه في آفاقها، ثم طفق يطوف على أهلها ممن غفرت لهم خطاياهم في الدار العاجلة ببيت شعر أو كلمة طيبة، وترك المعري لخياله عنانه الطويل فتفنن ما شاء في وصف حور الجنة وأنهارها وألوان نعيمها. . . ويلقى ابن القارح تميم ابن أبي الشاعر فيسأله عن أبيات كان قد قالها، ثم يتشقق الحديث فيقص ابن القارح على تميم قصة بعثه وهول المحشر ثم حديثه مع رضوان وزفر، ووروده على الحوض المورود ولقائه فاطمة بنت النبي واستشفاعه بها وجذب إبراهيم بن النبي إياه فيكون داخل الجنة. . .
ويعود ابن القارح إلى محاورة أهل الفردوس ممن غفر لهم ويطوف بحدائق الحور ثم ينفتل إلى جنة العفاريت فيحدثه أهلها بأعجب الأحاديث. . . ويشتاق إلى الاطلاع على أهل الجحيم، فيتحدث إلى الخنساء (والعجيب وضعها في النار مع حسن إسلامها ووضع اشد الكفار عتوا في الجنة!!) ويتحدث إلى إبليس والى طائفة كبيرة من شعراء الجاهلية. . . ثم يعود إلى الفردوس فيتحدث إلى آدم. . . ويخلص إلى جنة الرُّجاز. . . ويختتم الكوميدية بوصف بارع لنعيم الخلد. . . .
(يتبع)
د. خ(159/48)
شعراء الموسم في الميزان
نقد وتحليل
للأديب عباس حسان خضر
- 2 -
صرعى الأغراض
تناول شعراء الموسم مختلف الأغراض، فلم يكن منها في صميم ما يحس به جمهور الشعب إحساساً عميقاً شاملاً غير هذه القصيدة، وقصيدة (وطني) للأستاذ محمد الههياوي، فلقد كانت هذه الصيحة التي أعلنها الأستاذ أحمد الزين حبيسة في نفوس الكثيرين، حتى لقد كانت زفرات الصعداء تقترن بتنفس الإعجاب، ولقد تناول الأستاذ جزئيات الموضوع في استقصاء وبيان لا يتأتيان لكاتب مطلق القلم من قيدي الوزن والقافية. استمع إليه يفند دعاوي العدل والمساواة والحضارة، في حجج بالغة:
لا يدعي العدل قوم في عدالتهم ... صرعى الكفايات تشكو ظلم أهليها
ولا المساواة، والأفهام لو وزنت ... مع الغباوة فيهم لا تساويها
ولا الحضارة من تجزي نوابغهم ... وحشية تسكن البيداء والتيها
والأستاذ الزين يأتي المعاني من أبوابها، ويتناول مفاتيحها تناولاً حسناً، ثم يجلوها في ألفاظ عذبة مونقة؛ يؤلف بين الشقائق، ويجمع بين الأشباه والنظائر، فلا تجد كلمة في غير موضعها، وإن ما يضطر إليه الشعراء من التقديم والتخير وغيرهما لا تجد له أثراً في شعره، وهذه قصيدة (صرعى الأغراض) التي نحن بصددها، اقرأ مطلعها:
هات المدام ولا تسمع لشانيها ... إن الزمان يصافي من يصافيها
هل تستطيع أن تلفظ كلمة وتقف؟ لا، لا بد أن يجري البيت كله على لسانك حتى لتشعر كأنه ليس مؤلفاً من كلمات ينفصل بعضها عن بعض
وفي الأبيات التالية تصوير يدل على المهارة الشعرية:
ملء المناصب منهومون قد جعلوا ... من دونها سد ذي القرنين يحميها
على مناعة ذاك السد تنفذه ... عصابة تتواصى في حواشيها(159/49)
من كل أخرق تنسل الحظوظ به ... إلى المراتب يسمو في مراقيها
خابي القوى عبقري الجهل يثقله ... عبء الرياسة إذ يدعوه داعيها
فتراه قد استوعب في هذه القوالب الشعرية أكثر المعاني التي تتركب منها هذه الموصوفات، وهذه غاية التصوير الشعري؛ وفي (عبقري الجهل) ظرف كثير، وقد أخذت هذه الكلمة سبيل الكلمات السائرة
والقصيدة زاخرة بالمعاني، منها ما هو عام يجول في نفس الشاعر وفي نفوس غيره، بيد أنه تفرد في ترجمة المعنى وصوغه في صور طريفة، ومنها معان مبتكرة مضى إليها خياله سابقاً، فمن النوع الأول قوله:
أرخصتمو غالي الأخلاق في بلد ... لم تغل قيمته إلا بغاليها
يا رب نفس أضاء الطهر صفحتها ... أفسدتموها فزلت في مهاويها
وكم قلوب كساها الحسن نضرته ... دنستموها فعاد الحسن تشويها
أغلقتمو سبل الأرزاق لم تدعوا ... لفاضل الخلق سعياً في نواحيها
مدارس تغرس الأخلاق في نشأ ... ومغلق الرزق بعد الغرس يذويها
لا تلح طالب رزق في نقائصه ... إن الضرورات من أقوى دواعيها
ما أطهر الخلق المصري لو طهرت ... تلك الرياسات من أهواء موحيها
ومن أبكار المعاني قوله في الخمريات التي ابتدأ بها:
بكرا تدور على الندمان لابسة ... عقداً من الحبب الدري يزهيها
سرى شذاها فحيا النفس أنفسا ضعفت ... من الهيام بها عن أن تحييها
فهذا (الزين) أول من يلبس الكأس عقداً؛ والبيت الثاني اشتمل على معان لا يسلكها في بيت واحد إلا شاعر فحل، فالكأس ذات شذى يحي الأنفس، والأنفس تتأثر بالشذى حتى يستهلكها، فما تعود قادرة على تحية الكأس الوافدة عليها يقدمها شذاها محيياً. وإليك هذين التشبيهين في مواهب النوابغ:
جادوا بأعمارهم حتى لجاحدهم ... إن المواهب سلم في أعاديها
كالشمس تقيس منها عين عابدها ... وترسل النور في أجفان شانيها
والنفس إن ملئت بالود فاض على ... نفوس أعدائها بالود صافيها(159/50)
كالسحب إذ ملئت بالغيث فاض على ... جدب البلاد خلوف من هواميها
بعد أن تقرأ التشبيه الأول وتقضي حقه من الإعجاب قف هنيهة عند التشبيه الثاني، وانظر قوة معانيها وكثرة اوجه الشبه فيه، فالنفس المشبعة بالود كالسحب المشبعة بالغيث، والنفوس التي تجحدها كالأرض الجدب، ومع هذا فالنفوس الخيرة تعلو علو السحب وتفيض على جاحديها بالود كما تفيض السحب على الجدب بالغيث
والزين أول من يطالب بدم قتلى المواهب في قوله:
يا آخذين بقتل النفس قاتلها ... قتلى المواهب لم يسمع لشاكيها
كم للنبوغ دماء بينكم سفكت ... باسم المآرب لا اسم الله مجريها
هلا اقتصصتم لها من ظلم سافكها ... وقل فيما جناه قتل جانيها
أولى الورى بقصاص منه ذو غرض ... يخشى المواهب تخفيه فيخفيها
ويصور القاتل في هذه الصورة النفسية المبدعة يخفي المواهب بقتلها حتى لا تغطي عليه وتخمله
وهذه القصيدة من الشعر الذي يقال فيه: ألفاظه قوالب معانيه؛ فالمعنى يسابق اللفظ حتى يكاد يسبقه، واعتقد أن نجاحها - إذ كانت قصيدة الموسم غير منازعة - يرجع أكثره إلى شدة إحساس الشاعر بمعانيها، وصدورها عن شعوره العميق في ثوب من البيان السليم من التكلف والتعقيد
ويظهر أن حسن القصيدة شغلني عما عساه أن يكون فيها من المآخذ؛ وان كان الإنصاف قد اقتضاني أن أبدي - ما استطعت - بعض حسناتها، فإن الإنصاف نفسه يقتضيني أن أنظر إلى الكفة الثانية. .
يقول:
كم للنبوغ دماء بينكم سفكت ... باسم المآرب لا اسم الله مجريها
يقال - مثلاً -: إن هذا الإثم ارتكب باسم المصلحة العامة، أي أن المصلحة العامة اتخذت اسما فحسب لتبرير الفعل، وتكون الحقيقة أن هناك باعثاً على الفعل غير الذي اتخذ اسماً؛ فالتعبير الذي في البيت وهو أن الدماء سفكت باسم المآرب يفهم أن المآرب اتخذت اسماً فقط، مع أنه يريد أن المآرب هي الباعث الحقيقي على سفك دماء النبوغ(159/51)
ويقول مندداً بإقامة الدور لحفظ الآثار:
ورافعين من البنيان شاهقه ... فيه الذخائر قد صفت لرائيها
فبينما هو يغض من شأن الآثار ويقول عنها في الأبيات التي قبل هذا البيت: خرق وخزفات. . إذ به يسميها ذخائر! ولو صح عنده أنها ذخائر ونفائس لما كان هناك موضع للسخرية من الاهتمام بها؛ على أنني لا أدري لماذا يحمل الأستاذ الزين على الآثار هذه الحملة العنيفة، هل العناية بها تمنع من تقدير ذوي المواهب؟
قد يقال: إن الشاعر لا يُنقد في رأيه؛ ولو خالف به ما أجمع عليه الناس، مادام قد اخرج ما ذهب إليه مخرج لطف وإبداع. هذا صحيح ولكن هذه القصيدة تعد من الشعر الكتابي الذي يمحص فيه الرأي، لذلك ولأن القصيدة ذات أثر في نفوس الجمهور احب أن أناقش الشاعر في رأيه هذا، فماذا لو أنه جمع بين العناية بالبحث عن الآثار القديمة وبين تقدير ذوي المواهب؟ على أن الأستاذ الزين نفسه يعمل في البحث عن الآثار القديمة، ويدأب في دار الكتب على كشف كنوزها، وينشئ لها من تحقيقه وتصحيحه ما يجدد باليها ويحفظ، وهو الآن يعمل في كتاب نهاية الأرب، وهو أثر من الآثار العربية القديمة
أفيجب أن يكف الأستاذ عن عمله هذا حتى يلتفت الناس إلى تقدير المواهب والعناية بالنوابغ؟ أم هو رأي شاعر كالزهرة ينبغي مسها برفق لأن العنف بها يودي بنضرتها. . .
في قريتي
يتحدث الأستاذ أحمد الكاشف في هذه القصيدة عن حاله في قريته وما يتصل بها في غيرها حديثاً تنفحك منه ريح الفطرة المحببة، وتجد فيه روح الشعر الجاهلي المرسل على طبيعته لا يُعرِّج على عمق ولا يرهق حساً؛ فالشاعر يسترسل في بيان ما يشعر به استرسال شعوره بما يترجم عنه، وقد جاءت القصيدة مطبقة لكل ما يحيط بشاعر معمِّر مثل الكاشف قد طبع على الشعر، ومر به من الحوادث ما يستفيد منه شاعر متيقظ الذهن، يقيم في قرية يطل منها على الحياة العامة في سائر البلاد؛ فهو يَطلعُ علينا بقوله:
جمعت في العيد حولي سائر الآل ... وملتقى الآل حولي كل آمالي
ويمضي في مثل هذه لديباجة العربية وهذا الأسلوب الجزل يعرض شأنه مع آله، ويتمثل الأجيال المقبلة من النشء الذين يرعاهم ويعدهم للغد، في قوله:(159/52)
كأنني - وهم في الدار - مطلع ... منهم على أمم شتى وأجيال
أعدهم لغد والمقبلين غدا ... في هذه الأرض أجنادي وأبطالي
ويصف حياته في الريف واعتزاله فيه، ثم يشكو من إهماله شكاية لا يلبث بعدها أن يعود إلى ذكر قناعته بما يزاوله في الريف قائلا:
إن لم يكن لي ديوان وحاشية ... يوما فحسبي محارثي وأنوالي
وهو صاحب الشعر السياسي، فلا بد أن يفخر بما أبداه في شعره من الآراء النافعة في الحياة السياسية عاتباً على القوم إهمالهم له، فيقول:
الست ممن دعا الأحزاب فائتلفت ... إلى الذي فيه كانوا أمس عذالي
أرى المودة بالقنطار بينهمُ ... ولم أفز بينهم منها بمثقال
ثم يتكلم في المحادثات الجارية الآن بين الجانبين: المصري والبريطاني كلاما جامعاً، على قصره، ويصيب به الغرض فيقول:
ولم أزل بينهم للخصم متقيا ... دخائلاً هي في ذهني وفي بالي
أخشى على رسلهم نياته وهمُ ... منه أمام جلاميد وأدغال
وما تزال كما كانت سياسته ... يدور فيها بألوان وأشكال
وموضع الند أرجو عنده لهم ... لا موضع الصيد من أنياب رئبال
إلى أن يقول:
وكم يكون لهم من ضيقهم فرج ... كما تدافع أهوال بأهوال
ثم يعطف على إخوانه الشعراء فيتألم لعدم نيلهم ما يستحقون، ويخاطبهم بقوله:
وتملكون من الدنيا سرائرها ... ولا تحلون منها الموضع العالي
وما يتاح لكم في الأرض متسع ... كما يتاح لعراف ودجال
ثم يدفع ما يقال من انقضاء الشعر بعد شوقي وحافظ بان مصر ملأى بأشباهه من الشعراء، وهو، باعتزازه، يرى في أن هذا الكفاية، إلى أن يقول في ذلك:
إن لم ير الحي بعد الميْت منزلة ... منهم فلا خير في المحزون والسالي
والقصيدة - كما ترى - ليس لها وحدة، ولا تدور حول فكرة، وإنما موضعها شاعر يقول فيما يحس به من الحياة القروية ويعبر عما يخالجه نحو بعض الشؤون العامة؛ وهي ممتعة(159/53)
مقنعة للنفس بما تتطلبه من الشعر، وأن كان للناقد فيها مواقف للمؤاخذة
الشاعر قليل العناية بالملائمة بين المعاني التي تناولها، ففي القصيدة كثير من الأبيات التي يقول عن مثلها نقاد الأدب من القدماء: (أبناء علة) أي أنها متنافرة تنافر الاخوة غير الأشقاء مثل هذين البيتين:
لو كان للنبت إحساس رأفت به ... وبت للنبت أيضاً غير أكال
كأنما قريتي مادمت ساكنها ... ولاية وكأني العمدة الوالي
وبينما تجده يمدح عشرة من يعاشرهم وما يلقاه فيها من عاطفة، إذ بك تراه ينعى على قومه انهم لا يساعدونه في حمل أعبائه كما قام بأعبائهم، وهوانه ليدهم إلى أن يقول في هذا:
ولو بليت بجبارين ما بلغوا ... مدى الأحبة من قهري وإذلالي
فيبدو في ذلك كأنه متناقض؛ والواقع انه يريد من الأولين الذين يبدي ارتياحه إلى عشرتهم - أبناء قريته؛ أما الشكوى فممن عداهم من أبناء البلاد، ولكنه لم يبين، بل مزج الكلام وراح يتحدث عن الفريقين كأنهم فريق واحد!
قرأت هذا البيت:
أعدهم لغد والمقبلين غدا ... في هذه الأرض أجنادي وأبطالي
فوقفت عند (أجنادي وأبطالي) ما شأنهم؟ أيخبر بهم عن (المقبلين) إذن يجب أن تكون (المقبلون) ولكن في الهامش أن الواو للعطف، فيبقي (أجنادي وأبطالي) لا شأن لهم بما قبلهم ولا بما بعدهم
وهو يفسر هذا البيت:
ما أحسن الشمل أرعاه وأشهده ... لأمهات وآباء وأطفال
بما بعده:
فلا أرى فرقة في الدهر قاطعة ... لمطمئن وخفاق وجوال
ولا يصاب هديل في أليفته ... ولا الغضنفر في غيل وأشبال
وعلماء الأدب يعدون من عيوب المعاني ألا يستكمل التفسير أفراد المفسر؛ فهو قد بين شمل الآباء والأطفال بقوله: (ولا الغضنفر في غيل وأشبال) ولم يأت بذكر الأمهات، وزاد الأليفة(159/54)
ويقول انه يعيش بالبقل والفاكهة، ولا يأكل اللحم رأفة بالحيوان إلى أن يقول:
وقد أقاتل للحي المسالم من ... طير ومن حيوان كل قتال
لو كان للنبت إحساس رأفت به ... وبت للنبت أيضاً غير أكال
فكيف يرأف بالحيوان ثم يقاتل حيواناً آخر، لو قال: (أدافع) بدل (أقاتل) لكان مقبولا. أما قتال الحيوان فلا تقتضيه الرأفة به. ويقول انه لو كان للنبت إحساس لم يأكله أيضاً! انه إذن لن يجد شيئاً يعيش منه، وماذا يفعل لو علم أن العلم الحديث أثبت أن للنبت إحساساً؟
وقال:
ولم أجد من وضيع الذكر خامله ... ما ساءني من رفيع الذكر مختال
قابل بين وضيع الذكر ورفيعه، وهذه مقابلة صحيحة. أما المختال فلا يقابل خامل الذكر، إنما يقابل الخامل النابه
(يتبع)
عباس حسان خضر(159/55)
الكمال
للأستاذ فخري أبو السعود
قد أسرَّت إليَّ نفسيَ يوما ... أنها لا تحب إلا الكمالا
لا تحب الأمور قد شابها النق ... صُ وساوى الفحولَ فيها الكسالى
هتفت بي: إِلامَ تطلب في كلِّ ... ضئيل من الأمور مجالا؟
قانعاً بالقليل قصداً وبالهيْ ... نِ مقالا وبالتوسُّط حالا
قد أسَغتَ الفضولَ واللغو حتى ... بتَّ عندي تُشابِهُ الجهالا
رمتُ إرضاَءها فآليت لا أر ... ضى بغير الكمال يوما منالا
وحواني جمعٌ فصممت لا أنْ ... طق فيهم سوى الصحيح مقالا
ومضت ساعة فأخرى وما أسْتَغ ... تُ جواباً ولا استطبتُ سؤالا
صامتاً عابس الجبين ازدراءً ... لحديثٍ بين الجماعة جالا
ضقتُ ذرعاً بالجِدّ منهم وبالهز ... ل وضِحكٍ مستهجَن يتعالى
ضقت ذرعاً بهم وأنكَرَ منِّى ال ... قومُ زهواً وجفوةً وملالا
وبدَتْ فرصةٌ تبشِّر بالخي ... ر ويُحيى سنوحُها آمالا
فرصة جاد لي بها الدهر عفوا ... رحت أسعى لها وابغي احتيالا
فتذكرتُ قول نفسي، فاعرض ... تُ أزوراراً عن مطلبي واختيالا
قلتُ: ما يستحق مني عناءً=مِثْلُ هذا أو يستحق احتفالا
إن يَلُحْ مطلبٌ بمثلي خليقٌ ... كنتُ فيه الهمام والفعَّالا
وتراءت بخاطري فِكَراتٌ ... وأحاسيسُ كل يوم تَوالى
كلما قلت: سوف أنظم من ها ... تيك سحراً من البيان حلالا
حقّرتْها نفسي وقالتْ: هراءٌ ... ليس يُلقى إليه ذو اللُّب بالا
تحتفي اليومَ ناظما لِمَعانٍ ... في غدٍ سوف تحتويها ابتذالا
فَدعِ القولَ أو يَعِنَّ عظيمٌ ... وصُنِ الشعرَ خيفةً أن يُذالا
فهجرتُ اليراع دهراً ولم أُلْ ... فِ جديداً مستأهلا إن يقالا
صاحِ ذا عالمُ النقائص من را ... مَ كمالاً به أراد المحالا(159/56)
من أراد الكمال في كل قصد ... حقّر السعي واستخسّ النضالا
من بغى المنتهى أقام فلم يَبْ ... رَحْ وعافَ المقالَ والأفعالا
فخري أبو السعود(159/57)
أبو الهول
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أنَخْتَ فوق الدهر بالكلكل ... وكُنتَ مثل الواعظ المُرْسَلِ
عند فلاة قلَّ قُطَّانها ... هل باختيار كنتَ في معزلِ
مضى الأُلى شادوك في مجدهم ... كأنه منك لدى موئل
فهل مللتَ العيش من بعدِهم ... كأنما جُلِّلْتَ بالمُثقِل
ثقل من الدهر تحمَّلته ... لو حل بالأطواد لم تحِمْل
فهل يَدِرُّ العيش من بعدهم ... أم ما ضُروع الدهر بالحُفل
وأنت مثل الخان في لبثه ... ونحن مثل الراكب المُعْجَل
غدا ترى عيناك من بَعدنا ... غير حُلولِ الحي والمنزل
كم أمة من بعدها أمة ... قد رحلت عنك ولم ترحل
فأنت سِفْرُ الدهر خطَّت به ... يداه آي المُحْكَمِ المُنْزَلِ
فاتل لنا من آية آية ... لعلنا نُجْنُبُ ما يبتلى
كم وعظ الدهر فلم نَزْدَجِرْ ... وكم سما الناس ولم نَعْتل
نعاف مستطرف ما يُرتجى ... كأننا في العيش لم نُجْبَل
قيدنا العجز ونرجو عُلًى ... يسمو الذي في الطير لم يُكبل
فيا مِثال الدهر يا رمزه ... كم صنم في القلب لم يَبطُل
كأن روح الدهر في جسمه ... إن ترَهُ من نحوه تمثُلِ
تحسبه من هيبة عاقلا ... من حسب المرهوب لم يعقِل
كأنما في طيِّ ألحاظه ... ذكرى لعهد الزمن الأول
كأنه في صمته حارس ... يحرس باب القَدَرِ المقفَل
يا عجباً أبصرتَ ما قد مضى ... ونظراتٌ منك لم تُقتَلِ
أبصرتَ أكل الدهر أبناَءهُ ... ألم تُرَعْ من ذلك المأكل
بينكما نجوى على صمته ... وصمتة في فيك كالمِقْوَلِ
مرت بك الأيام مخشية ... كأنها مرت على هيكل(159/58)
فابعث لنا من عزمها عُدَةً ... فلو سألتَ الدهر لم يبخل
ولو نهيتَ الدهر لم يَعْتَدِ ... ولو زجرتَ الدهر لم يُقبِل
والدهر كم تَسْحرُ أحداثُهُ ... لب غضيض اللب والمِفصل
أي حكيم قد رأى ما رأت ... عيناك في الدهر ولم يذهل
يا ناظرا ينظر هذا الورى ... نظرة طرف الناظر المُعضِل
انظر إلى الأقدار في غيبها ... واذكر مآل العيش في المُقبِل
أغابر الأيام في صرفها ... كمُضمَرٍ في الغيب مُستقبل
أَمالِكٌ عُوجلَ عن مُلكه ... كذي علاء بَعُدَ لم ينزِل
وللناس حلْيُ القاهر المُعتلي ... يألم نار الحاذق الصيقل
يصوغهم كل غَلُوبٍ على ... سنة مُلكِ الرمح والمنصل
كم عَبْرَةٍ للناس أبصرتها ... وعبرةٍ للهاطل المُسبِلِ
فهل دموع النحس تحي الورى ... مثل عقيب المطر المرسل
أراك لا ترثي لما نابَهم ... يا ليتني مثلك لم احفل
ومقلة تخبر ألحاظها ... أنَّ عيون الدهر لم تُسمل
والدهر وهو الساهر المعتدي ... يُغضي وعين لك لم تغفل
ورب لحظ منك قد رِشْتَهُ ... في قلب هذا الدهر كالموغل
فابحث خباياه وأحناءه ... واكشف لنا عن ذلك الغيطل
كأَن روح الدهر تبغي به ... وكُناً لها اُحْكِمَ كالمعقل
تحسبه لو جئته ناشداً ... معنى حياة الناس لم يجهل
يا من سؤال العيش في صمته ... اسأل ومن لم يَدْرِه فاقتُلِ
كم امتطى الأيام تجري به ... كأنه والخلد في منزل
كم عَبَّ لج الدهر ثم انثنى ... إلا بقايا الماء في الجندل
كأنه منتظرٌ مَوعِدا ... حُيِّنَ كي ينطق بالمِقْوَلِ
لوفاه يوماً ذاكراً سره ... لم يعجب الرائي ولم يَعْجَل
أو انه المسحور في صمته ... قد كان يمشي مِشيَةَ المُشبِل(159/59)
فخاف صرف الدهر من فتكه ... وعلمه بالحادث المُقبِل
فذاده بالسحر عن نطقه ... حتى تناسى عيشه المُنْجَلي
عبد الرحمن شكري(159/60)
العمر والأماني
بقلم الشاعر عثمان حلمي
مُنىً تناثرنَ حولَ النفسِ ذابلةً ... كما تناثرَ حولَ الدوحةِ الورق
تأبى التجاريبُ إلا أن تودِّعها ... بين الطِّماح وبين اليأس تصطفق
والعمرُ يجري كما يجري السحاب فما ... يعودُ ما جدّ منه وهو يستبق
وإن أعيدَ فلا حمدٌ لعودته ... هي الليالي غضابٌ أو بها خرَق
وكالأعاصير في قلبي مضاضتها ... أو كالجحيم وفيها القلبُ يحترق!
نظرتُ للسالف الماضي فوا جزعاً ... إذا تلاقت به في المقبل الطرُق
ونظرتي لحياتي وهي مقبلةٌ ... اليوم غيَّرها سارٍ بها نَزِق
تبدَّلت نظراتي في الحياة كما ... تبدَّل اللونُ لما طاشت الحدق
مالي وللمنى ما جدَّ بي زمنٌ ... إلا وطاحَ بنفسي عاصفٌ حَنِق
لونُ الحياةِ كلونِ النفس تبصره ... ما طويت فلا مينٌ ولا ملق
في غاية النفس والدنيا وسرّهما ... تحيَّر الخلق في سّرٍ له خُلقوا
غادٍ على الأرض فيها رائح جَزِعٌ ... ذو الصبر يطوي ويطوى الجازع الحمق
وكلُّنا في الليالي صاعدٌ جبلا ... تَزَلُّ أقدامُنا عنه وتنزلق
متى بَصُرْتَ بآلام الحياة ضحًى ... أيقنتَ أيَّ رجاءٍ ضمَّه الغسق
والحبُّ والبغض إن جدَّا زوالهما ... حقٌ وأيُّ جميعٍ ليس يفترق!
وادمعٌ ليَ حيرى في محاجرها ... ولي فؤادٌ ولكن بالأسى خَفِقَ
فكنتُ أحسبُ أحلامي محققةً ... ولا محالة حتى لاح لي الشفق
آمنتُ أنّ وجودي كلُّهُ خُدَع ... وأنّ نفسي تحكي كلِّ من سبقوا
(الإسكندرية)
عثمان حلمي(159/61)
القصص
البدوي رحاب
للأستاذ إبراهيم بك جلال
وكيل محكمة الزقاقيق الأهلية
كان في أقصى الصعيد نجع قريب من الجبل يسكنه جماعة من فقراء الفلاحين وبينهم بعض الأعراب الذين سكنوا القرى المصرية واعتادوا حياة الريف والاستقرار، ولكن لم تتبدل فيهم غرائز البدو وعاداتهم الموروثة. وكان في النجع بدوي شيخ قد ناهز الثمانين، أسمر البشرة، حديد البصر، اسمه (رحاب)، إذا مشى خلف جماله اطرق برأسه غير ملتفت إلى أحد من الذين يحيطون به معجبين باستقامة عوده ونشاط بدنه، على ما بدا من شيخوخته، فلا يفارق عصاه الغليظة يبسطها على عاتقه ويلف عليها ساعديه، وهو حافي القدمين قد اشتمل بعباءة من وبر الجمال، واعتاد أن يحمل خيوطا كثيرة من ذلك الوبر الذي كان يغزله
وكان له ولد يدعى (دياب) في الثلاثين من عمره قد أصبح مضرب المثل في حسن الفتوة وكمال التكوين والقامة المديدة؛ له عينا صقر وشارب مفتول، ولكنه كثير الاغتراب والأسفار، يطوي الفيافي والبيد سعياً على قدميه، ويجوب أقاليم الصعيد من أقصاها إلى أقصاها يبيع للفلاحين النوق والجمال، ثم يعود إلى مضرب أبيه مفعم الكيس بالمال. أما أبوه الشيخ رحاب فإنه لا يغادر الخباء إلا إذا سرحت جماله في الأراضي البور المترامية خلف النجع وعلى ضفاف النيل، فيمشي خلفها حتى إذا بلغ رابية بأقصى الساحل جلس عندها وتناول مغزله يديره طول يومه، فإذا جاع تناول قبضة من التمر اليابس، ثم اشتمل بعباءته ونام بعين الساهر اليقظ. وكانت له فتاة صبوحة الوجه، مليحة التكوين، تخطر في مشيتها فيفتتن الناظر بسحر أحداقها المتقدة حسنا ورقة، وكانت الفتاة، واسمها (سلمى) تزين صدرها بألوان من العقود، وتطوق خصرها بنطاق من الحرير الأحمر، ولها في الخباء صندوق احمر عليه تصاوير وألوان مما يباع لأهل القرى، يتدلى مفتاحه من غدائرها، وقد جمعت فيه ثيابها وأقراطها وأساورها، وكل ما حرصت على جمعه من ألوان الزينة التي(159/62)
يحبها بنات العرب
وكان بيت هذه الأسرة في أقصى النجع قد قام من أوبار الجمال، فيه فراش للوالد الشيخ وآخر بجانبه لزوجته جازية؛ أما سلمى فكان فراشها بمعزل عن والديها. وكان في ناحية من الخباء جرن كبير من الحديد يؤدي عمل الرحى، فيدقون فيه الشعير، وله يد كبيرة غليظة لا تقل زنتها عن نصف قنطار يعجز الرجل من أهل المدن أن يحركها إلا بكلتا يديه، ولكن سلمى كانت تدق بها حب الشعير كما يستعمل نساء المدن الهاون النحاسي سهولة واعتيادا بغير عناء أو مشقة، وكذلك كانت جازية أمها. والعجيب أن الشيخ الفاني كان يتناول ذلك القضيب بإحدى يديه كما يفعل بعصاه يحركه ويدق به، وكان عندهم عنزات لطاف يطلقونها بالنهار في أطراف المزارع، وتمشي الأم جازية تحرسها من بعيد فتجمع لها بعض الحشائش الجافة، فإذا مر بها رجل من أهل القرى أسبلت نقابها الأحمر وتوارت حتى ينصرف الرجل وما كانت تكف هي الأخرى عن الغزل طول يومها
ولم يبق بالخباء إلا الفتاة سلمى الكاعب اللعوب، تراها تغزل أحياناً وحيناً تطبخ الدشيش وتسقيه من لبن النوق، ثم تملأ منه القدر الكبيرة وتجلس بعد ذلك ترقب الطريق كأنها على موعد مع أحد الناس
وكان بإحدى القرى القريبة من النجع فتى من سادات الأسر الكريمة بصعيد مصر، مات أبوه عن ضيعة عامرة بالأنعام وأنواع الدواب، وبها أهراء حافلة بالغلال والأقطان، وأستقر الفتى حسان في ضيعة أبيه مجداً دائباً في الزرع والإنبات حريصاً على مرضاة الفلاحين، وقد اتخذ جناحاً من دار أبيه لسكناه مع أمه الأرمل المريضة، وكف عن حياة السرف وكثرة الإنفاق على الولائم والأضياف. وكانت له فرس شقراء من عتاق الخيل يركبها ويطوف بها بين المزارع في كل صباح باكر وكل عشى
مر يوماً بخباء رحاب فلمح سلمى تحلب عنزاتها عند باب الحظيرة، فترنح الفتى على سرج فرسه من روعة حسنها وقوة فتنتها وجمال جيدها، والتقت عيناهما لمحة قصيرة ثم أرخت قناعها وولت على استحياء، واكثر حسان من الطواف بخدرها كل غداة، فكان يجدها منفردة عن أبويها، وشجعه على التحديق فيها صمتها وجلوسها كل يوم عند كثيب خلف الخباء كأنها ترقب حضوره(159/63)
وخرج حسان يطوف المزارع كعادته في يوم شديد القيظ، فساقته فرسه إلى باب الخباء، فنادى أهل الدار يلتمس ماء أو جرعة من لبن الإبل يتعلل بها، وقابلته الأم عند الباب وقد أرخت قناعها الأحمر وسألته عن حاجته، فلما طلب قدحاً من اللبن نادت ابنتها سلمى، فجاءت تتعثر بأذيالها وهي حاسرة الوجه تبهر الناظر بحسنها وملاحة قدها، ومدت إليه يمينها بالقدح فترجل حسان لدى الباب وقد سنحت له الفرصة فرآها عن قرب ولمس كفها، وطالع في غرتها آية الحسن الذي لم ير مثيلاً له بين بنات القرى ولا في سائر البنادر التي زارها، وابتسمت سلمى من رؤية محبها وقد أذهلته الفتنة وشغفه حبها وملأت ناظريها منه، وكان فتى حسن الهيئة والثياب، ثم ارتدت إلى البيت وتوارت عن ناظريه
وأراد حسان ألا تضيع الفرصة، فسال الأم أن كان لديهم بعض من صغار الخراف ليشتريها ويحملها إلى المزرعة بين دوابه وأغنامه، فأنعمت الأم وغابت عنه قليلا، ثم عادت تسوق بين يديها حملين صغيرين، وجاءت على أعقابها سلمى تسوق حملين آخرين وساومهما حسان ونقدهما ثمناً معجلاً في الخراف الأربعة، ثم بدت له مشكلة حمل الخراف إلى قريته، فهونت عليه جازية الأمر وساقت بين يديها الخراف تساعدها سلمى ومشى حسان بين المرأتين يحدثهما طول الطريق ويختلس النظر إلى سلمى التي ما كانت تضن عليه بعطفها وابتسامها، وبلغوا المزرعة فادخل الخراف في الحظيرة ثم قدم لجازية وسلمى طعاماً شهياً من موائد أهل المدن بين دجاج وشرائح من لحم مشوي وخضر مطبوخة، وصحفة كبيرة من الحلوى بهر بها أبصار ضيوفه، ثم حمل إليهما النقل والفاكهة ولم يدع مزيداً من واسع الكرم وطرائف النعم
وخلا حسان بفاتنته سلمى في ساعة شغلت فيها جازية بالحديث مع أمه العجوز المريضة بأعلى حجرات الدار، واشتفى المحبان في خلوتهما، وخطبها حسان لنفسه وحمل إليها من خزانته صرة من الحرير الأبيض فيها مائة جنيه من الذهب صداقا معجلا ليستحل بذلك عناقها، ولكن سلمى نأت بجانبها أسى وأسفاً، وأطلعته على همها الدفين، فإن أباها قد عقد العزم على تزويجها من ابن أخيه وهو كهل من قبيلتها، له زوجتان وبنون وبنات، وهو فوق ذلك قد جاوز سن الشباب، فظ غليظ القلب، رقيق الحال، ومن اجل ذلك كله قد تنكد عيشها، لان أباها وأخاها (دياب) كلاهما ملح في تزويجها من ذلك الرجل البغيض، وقد(159/64)
انذراها بالموت إن هي ترددت في القبول والرضى، وبكت سلمى وغمرت وجهها في صدر محبها، وضمها حسان وقال لها أني اشهد الله انك ستكونين أهلي وهذا صداقك بين يديك، وليقض الله فينا بمشيئته، واستسلمت له الفتاة وتعاهدا أن يدعو في الصباح مأذون القرية ومعه شاهدان ليعقد عليها بغير علم من أبيها أو أمها
وما اشرق الصبح حتى هبط حسان إلى فرسه فامتطاها وانطلق بين أنفاس الربى يطير بجناحي شوق
وانقضت اشهر والحبيبان يلتقيان بالخباء في غفلة من رحاب وزوجه، وكثر سروح سلمى تمشي إلى زوجها في دجى الليل بعد أن ينام أبواها حتى ظهر الحمل وتحرك الجنين ولم يبق على الوضع إلا بقية من الشهر الأخير، فرفع رحاب حاجبيه يوما بكلتا يديه وظهر له ما كان مستورا عنه من أمر سلمى؛ فناداها: أنى لك هذا وما كنت بغياً؟ وطار شرر الغضب والوعيد من مقلة الشيخ، ففرت زوجته جازية بين الربى والاكام، واستسلمت الفتاة المسكينة، فقال أبوها خبريني عن هذا الذي في أحشائك من أبوه، فقالت معاذ الله ما أثمت والله يا أبت، ولكن بكتاب الله وسنة نبيه، فقال هذا غاية ما بلغ به فجورك، إن اليوم هو آخر أيامك من الدنيا، فمن شريكك في الإثم؟ من هو الذي انتهك حرمتي وفضح ربة الخباء؟ لعله الفتى الذي يجوب الربى بفرسه الشقراء كل يوم! لقد أغدق عليك من خيره يوم ابتاع منك الخراف. فصاحت سلمى باكية وقالت: بل هو سيد كريم قد مهرني مائة جنيه من خالص الذهب وأغدق علي ألواناً من الثياب والعقود والجوهر الكريم، ودخلت الخباء ثم عادت تحمل بيدها صرة من الحرير الأبيض بها صداقها وقالت هذا هو المهر الذي استحل به عناقي، فصاح بها أبوها سارد إليه هذا الذهب وأنال به مهرا أغلى واشد خطراً يجري من دمه فأغسل به باب هذا الخدر. فصاحت سلمى: يا أبت إنني وحدي الأثيمة فاقتص مني دونه ودعه بالله وشأنه فانه الوحيد المرجي لأمه المسكينة. لقد مات أبوه رميا بالرصاص في ظروف محزنة، ولم يبق من أسرته إلا هو. دعه يا أبت يعش ويستوف نصيباً من نعمة الدنيا، فصاح بها أبوها أن احملي إلي قضيب الجرن، فنكست رأسها وجرت مدامعها وقد لاح لها ملك الموت، وأضجعها أبوها فاستكانت له، فهوى بالقضيب يقصم ظهرها ويفري حشاها صدعا شديدا وضربا لا رحمة فيه ولا هوادة،(159/65)
وتراخت يداها وأخذتها غشية الموت، فناولها جرة الماء وصاح بها لتحملها إلى غدير الماء وتملأها غلواً في قتلها وإرهاق نزعة الموت الأخيرة فيها، ودفعها بيده وهي تحبو إلى الغدير حبوا حيث فاضت روحها، فركلها أبوها الوحش بقدمه فحملها الماء إلى الشط. وصاح الناس قتيل بالشط! فأقبل العمدة وجنوده وعرفوها سلمى ابنة رحاب؛ واحتشد الناس في أقصى المزارع حول جسد مسجى في إزار من الحرير الأبيض يبين منه وجه حسان وقد مزقت أحشاءه قذائف الرصاص، وتدلى من إزاره صرة من الحرير الأبيض بها مائة جنيه من الذهب الاصفر، حولها مائة قطرة من الدم الأحمر الزكي الشهيد!
إبراهيم جلال(159/66)
مأساة من سوفوكليس
2 - أنتيجونى
للأستاذ دريني خشبة
- 4 -
(يدخل أحد الحراس مفزعا)
- (مولاي! مولاي! أ. . . أ. . . أنفاسي تتقطع يا مولاي! أفكاري مشتتة! لقد أوشكت ألا احمل النبأ العظيم! يا للهول، يا للهول!)
- (تكلم أيها الحارس، ما ورائك! تكلم!. . . ماذا تخشى؟)
- (الجثة يا مولاي! لقد هيل عليها الثرى. . . و. . . دفنت! وأديت لها كل شعائر الآلهة! أما من صنع هذا. . ف. . . لا ندري. . . لقد لاذ بالفرار! فر دون أن يراه أحد!
- (ها. . .!! الجسور الذي صنع كل هذا!. . .
- (لا ادري! انه لم يترك ورائه أثراً يعرف به! ونحن أيضاً لم نعرف ما تم حتى أيقظتنا آراد الصباح المنبعثة من أعين الشرق! لقد فزع الحراس، واقترعوا على من يبلغ مولاي! فيا لشقوتي ويا لتعاستي! لقد وقعت القرعة علي. . . وهل أشأم من حامل أخبار الشؤم!؟)
- الحورس: (مولاي! إنها قوة سماوية مقدسة لابد! هي التي صنعت كل هذا!
- الملك: (أية قوة سماوية يا أحيمق؟! إصمت! أية آلهة تزعم إنها توقر النذل الخائن الجبان! إنك تضرم غضبي وتؤجج لظى السخط في أعماقي! ويلكم أيها الحراس الأنجاس! بل أنا اعرف من أين وصلتكم الرِّشى فغضضتم الطرف عن إجرام المجرمين! النقود! دائماً النقود. . .! تعاويذ السحر، والرقى التي تذهب بالألباب! ليس مثلها في إفساد ضمائر الأمم، وتدنيس كرامات الشعوب! ولكن لا. . .! فأما تأتونني بالمجرمين مصفدين في الأغلال، وإلا فالشنق ايسر عقوبة تستأهلونها! أيها اللؤماء! يا عبدة الذهب)
- (إذن!. . . أ. . . أيسمح لي مولاي بكلمة؟ أم انقلب على وجهي؟)
- (بل كلمات. . . تكلم!. . . أضرم نيران السخط عسى أن تحرقك؟)
- (أنا على الأقل. . . لست صاحب ذلك الوزر!)(159/67)
- (ها. . . ها ها. . .؟ كل ما فيك لسان ليس يفتر عن هراء! المجرمين. . . وإلا. . . فرؤوسكم أجمعين!. . . أغرب!)
(يخرجون تباعا ما عدا الخورس)
- 5 -
وما يكاد المنشدون يفرغون من هزج حلو النغم، ضافي الحكمة، حتى يشهد رئيسهم أحد الحراس مقبلا وبين يديه الفتاة الجريئة التاعسة أنتيجونى يسوقها سوقاً
(يدخلان)
- (الفتاة التي صنعت كل شيء! لقد ضبطناها تدفنه! أين الملك؟)
- (هاهو ذا قادما للقائك أيها الحارس، فحدثه بكل شيء)
(يدخل الملك)
- (مولاي! هاهي ذي! لقد ضبطناها تحثو التراب على جثمان القتيل! ما احسبها تنكر، لان الإنكار لن يفيدها من الحق شيئاً! حمداً للآلهة! لقد أنقذتنا بالتوفيق من موت كاد يتخطفنا! سلها يا مولاي فاكبر ظني إنها ستعترف!)
- (هذه الفتاة! أين وجدتها إذن؟)
- (وجدتها تدفن الأمير قلت لك!)
- (ما أحسبك إلا مأفوناً!)
- (لقد وجدتها تدفن القتيل الذي أنذرت ألا يدفن! ماذا تريد مني أن أكون أصرح من هذا؟)
- (وكيف إذن كشفتم هذا الأمر؟)
- (لقد كنا يا مولاي نجلس (فوق ريح) القتيل حتى لا يصدم أنوفنا نُتْنه، ولا يضرنا جيفه، وفجأة، حين أشرقت ذكاء وغمرت بسناها البطاح، هبت زوبعة قوية حجبت الشمس بكثرة ما أثارت من تراب ورمال! فخفنا على أبصارنا أن تصرها الريح العاصف فأغلقناها، وما كادت تهدأ العاصفة ويصفو الجو حتى رأينا هذه الفتاة تبكي القتيل وتسقيه أحر عبراتها، ثم حثت فوقه التراب وصبت عليه ثلاثا من جرار الخمر المقدسة، سلها يا مولاي فإنها اعترفت بكل شيء، وستعترف لك بكل شيء!)
- (أنت أيتها الفتاة التي تبحث بعينيها تراب الأرض!! أتقرين بما تقول عليك الحارس أم(159/68)
تنكرينه؟)
- (أنا!. . . ها ها!! أنا لست أنكر مما ذكر حرفاً واحداً!! لقد نذرت ذلك وأنفذت ما نذرت!)
- (إذن. . . انطلق أنت أيها الحارس. . . فلقد نجوت. . . أما أنت أيتها الفتاة. . . أما علمت بما صدرت عنه إرادتنا؟ ألم تكوني تعرفين أن ما صنعت محذور منه منهي عنه؟)
- (كنت اعلم ذلك جميعه!)
- (وكيف تجاسرت إذن على خرق القانون إلى هذا الحد؟)
- (انه قانون لم يتنزل عليَّ من السماء، ولم تأمر به ربة العدالة! إن هي إلا قوانينكم انتم، ولكن للآلهة قوانينها كذلك، وقد فرضتها منذ الأزل على بني الإنسان، وأنى لبني الموتى أن تضرب بعرض الأفق شرائع السماء! أينا اخطأ أيهذا الرجل؟ أنا التي عصيت قوانينكم الظالمة، أم انتم الذين ثرتم على قوانين آلهتكم؟ ألا مرحبا بالموت يريحني مما كنت أغص به من آلام! أيترك أخي من غير قبر يستره ويردني تهديدكم بالإعدام عن دفنه؟ ألا إن هذا هو الإعدام! ألا إن كنت في نظرك مجنونة، فإني لكذلك في نظر مجنون!. . .
رئيس المنشدين: (يا للجرأة! إن الفتاة لا تبالي صاحب تاج طيبة! إن الردى الذي يرقص أمام عينين لا يفل من عزيمتها)
الملك: (إي وحق السماء! ولكن سرعان ما تذوب هذه الروح المتمردة حين تلقى في سعير العذاب! خيلاء! ها! شيء لا يحتمل من مجرم! إنها داست القانون ولم يكن بحسبها ذلك، بل هي تضاعف أوزارها بالقحة! إنها تستهزئ بنا كأنها صاحبة الأمر والنهي فينا! من أنا إذن! لعلها تحسب إنها بنجوة من العقاب لأنها ابنة أختي! ها. . . ولكن. . . لا. . . فو حق السماء لو أنها اقرب الناس إلي لما أفلتت من الجزاء الصارم. . . ولكن. . . أين شريكتها في هذا الوزر؟ أختها! إنهما كانتا تنناجيان في هذا القصر. . . إلى بها هي الأخرى. . . إنها اخبث منها!. . .)
أنتيجونى: (على رسلك أيها الملك! أتبتغي شفاء لحردك اكثر من قتلي! ألا مرحباً بالموت!)
الملك: (بحسبك! هذا شأني سينهي الموت كل شيء!)
- (وفيم الإبطاء إذن! إنك لا تخيفني بتهديداتك، فلقد نلت مشتهاي بدفني أخي، وأي فخار(159/69)
ابعد من هذا؛ إن هؤلاء جميعا شهودي، فسلهم يجيبوك! حل عقال ألسنتهم. . . كلمهم!
- (لبس في طيبة فرد يرى القضية بعينيك!)
- (بل هم يرونها كما أرى، ولكن جبروت السلطان يلجم أفواههم!)
- (وهلا تستحين من تحديك مدينة بأسرها؟)
- (مِمَّ استحي؟ ألأني أخته، ذلك الذي وفيت له؟
- (أولم يكن إتيوكليز أخاك كذلك؟
- (أخي وشقيقي من أبى وأمي!
- (لم يكن من الوفاء له إذن أن تفعلي ما فعلت!
- (انه وقد مات - لا يؤمن بما تقول! على أن الذي دفنته هو أخوه أيضاً ولم يكن عبداً مرة ما!
- (لكنه حارب وطنه وأراد إذلال بلاده!
- (لا يعرف الموت هذه الفروق الدنيا!
- (ليس الخير والشر سواء كما تعلمين!
- (قد يستويان في الدار الآخرة، من يدري؟
- (العدو مكروه أبداً حتى في الموت!
- (ومن أين لقلبي بكراهية أخي! أني احبه!
- (ها. . . ستحبينه كثيرا بعد قتلك! أبداً لن تسيطر علي فتاة مثلك!
(تدخل إسمنيه)
(لها بقية)
دريني حشية(159/70)
البريد الأدبي
كتاب جليل عن مستقبل الديموقراطية
تثير نظم الدولة والحكم اليوم كثيراً من الاهتمام، ويتساءل الساسة والمفكرون في مختلف أنحاء العالم، أيكون المستقبل للديموقراطية أم يكون لتلك النظم الجديدة الطاغية التي تستتر وراء فكرة الدولة وتقضي على كل الحريات الدستورية؟ وقد صدر أخيراً بالفرنسية في هذا الموضوع كتاب جليل الشان عنوانه: (الفوضى أو السيادة المطلقة، أزمة الديموقراطية، وحلها) بقلم السنيور دي مدارياجا سفير إسبانيا في باريس ومندوبها لدى عصبة الأمم، وهي خلاصة المحاضرات التي ألقاها في معهد الدراسات الخاصة بالثورة الفرنسية بجامعة السوربون منذ سنة 1833
والسنيور مدارياجا من أعظم ساسة أوربا المعاصرين، ومن أعظم الكتاب الدوليين، وهو ديموقراطي بالفطرة لا يدخر وسعاً في الذود عن الديموقراطية بقلمه ولسانه، وهو يقول لنا في كتابه أنه لما رأى القوى الخصيمة تثب وتناوئ الحريات الديموقراطية، ورأى الحرية نفسها تضعف وتتضاءل، رأى أن يبحث ما إذا كان من المستطاع أن ننظم ديموقراطية الغد وننقذها
ويرى السنيور مدارياجا أن فهم الحرية قد تطور جداً عما كان عليه أيام روسو ومونتسكيو، وأن الحرية قد غدت بالنسبة لبعض الأفراد عبئاً لا يراد حمله، وان المساواة غدت في نضال مستمر مع أنواع الإيثار التي تقوم على النظام الطبيعي، وأن الديموقراطية القائمة على سيادة الشعب غدت من التعقيد بحيث تخرج عن طاقة الفرد وسلطانه
ويقول لنا إن عوامل التأثير والتعقيد في الديموقراطية المعاصرة ترجع إلى الرأسمالية التي أصبحت كابوساً على العمل، والمالية التي تسخر كل القوى لصالحها؛ وقد غدت القوى المنتجة في الأمة معتركا من النضال المستمر؛ وأضحت الفكرة القومية في نضال مستمر مع النزعة الدولية، بيد أن ذلك كله لا يعني أنه يجب على الأمم أن تترك قوى الحرية السياسية التي تغذيها المبادئ الديموقراطية، بل يجب عليها بالعكس أن تحاول تنظيم هذه القوى بأسلوب جديد
ويحاول السنيور مدارياجا أن يعالج هذه الأسس التي يجب أن تقوم عليها ديموقراطية الغد،(159/71)
ويحمل بكل قوة ومنطق على النظم الطاغية التي تحاول أن تجعل الأمة فوق الفردية. وفي رأيه أن الدولة لا حق لها أن تجعل من نفسها نهاية مقصودة، وان الفرد مرتبط حتما بالمجموع، أنه يجب وضع قاعدة للتوسط بين الحرية والسلطة
ثم يعالج السنيور مدارياجا بعد ذلك الوسائل الاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن تتذرع الديموقراطية بها لتحقيق مبادئها
وقد أثار كتاب السنيور مدارياجا كثيرا من الاهتمام والتقدير في دوائر السياسة العليا، ودوائر عصبة الأمم التي يعتبر من أقطابها
المهرجان الألفي للمتنبي في المجمع العلمي العربي
أرسلت كتابة سر المهرجان رسائل الدعوة إلى اشهر رجال العلم والأدب من الفرنجة والعرب وإلى الجامعات العلمية لترسل من يمثلها في موسم المتنبي الذي يفتتح في اليوم الثالث والعشرين من شهر يوليه الحالي ويستمر إلى آخره. وقد أخذت سائل التلبية تتوارد إلى المجمع العلمي فندبت الجامعة المصرية الأستاذ أحمد أمين ليمثلها رسمياً في المهرجان، وندبت الجامعة الأمريكية الأستاذ أنيس الخوري المقدسي لتمثيلها، وندبت الجامعة السورية الأستاذ الدكتور مرشد بك خاطر عضو المجمع العلمي لتمثيلها، وندبت جامعة عليكرة الهندية الأستاذ عبد العزيز الميمني الراجكوتي. وسيمثل القطر المصري مع الأستاذ أحمد أمين الأستاذ عبد الوهاب عزام، ويمثل العراق الأستاذ طه الراوي عضو المجمع العلمي العربي وكاتب سر مجلس الأعيان، ويمثل لبنان الأستاذ الدكتور نقولا فياض، وفيلسوف الفريكة الأستاذ أمين الريحاني عضوا المجمع العلمي العربي، والأستاذ حليم دموس الشاعر المعروف؛ وينوب عن جبل عامل الأستاذان أحمد رضا وسليمان ضاهر وكلاهما عضو المجمع العلمي العربي، وينوب عن حلب الشهباء شاعرها الأستاذ عمر أبو ريشة. ولا يتسع المجال لتعدد جميع ضيوف المهرجان من أعيان البيان
وقد قررت اللجنة العامة في جلسة الاثنين المنصرمة أن يكون يوم 17 يوليه الحالي آخر يوم من الأجل المضروب لقبول الخطب والقصائد، وذلك لكيما تتمكن اللجنة من تصنيفها وتوزيعها على أيام أسبوع المتنبي
واللجنة العامة تشكر المفوضية العليا على منحها مبلغ (300) ليرة سورية إعانة للمهرجان،(159/72)
كما تشكر مدير المعرض الصناعي الأستاذ عارف بك النكدي عضو المجمع العلمي لمساعدتها بمبلغ (300) ليرة سورية، وكما تشكر محافظ مدينة دمشق الممتازة الأستاذ توفيق بك الحباني الذي قرر أن يسمي الشارع الجديد المجاور لدائرة التبليك باسم (شارع المتنبي) وذلك يوم افتتاح المهرجان
سجون سيبيريا
كانت سجون سيبيريا منذ الحكم القيصري دائماً مثار الروع والرهبة؛ وقد أوحت شناعتها وهولها إلى كثير من الكتاب الروس كتباً وفصولاً مؤثرة مروعة؛ وللكاتب الروسي الأشهر دستيوفسكي الذي قضى ردحاً من الزمن منفياً في هذه السجون الهائلة كتاب ساحر مؤثر عنها اسمه (دار الموتى) يصف فيه هولها، وما يقاسيه المسجونون فيها من ضروب العذاب والويل، وقد نسى الناس اسم سيبيريا ونسوا سجونها مذ قام الحكم البلشفي في روسيا، ولكن الحقيقة أن السجون السيبيرية مازالت جحيم المحكوم عليهم في العصر الجديد كما كانت أيام الحكم القيصري
وقد صدر أخيراً بالألمانية (وصدرت له ترجمة إنكليزية) عن سيبيريا وسجونها الهائلة عنوانه (القرية المنسية) بقلم ضابط ألماني أيام الحرب الكبرى يدعى تيودور كروجر؛ والكتاب مؤثر مروع معاً، وفيه يقص مؤلفه كيف أسر في الحرب الكبرى سنة 1914 في روسيا، وكيف حاول الفرار فقبض عليه وسجن؛ ويصف لنا المؤلف روعة هذا السجن الأول؛ ويكفي في وصف هوله أنه كان عائشاً في الظلام الدامس، وأن الماء القذر كان في معظم الأوقات يغمره حتى كتفيه، ثم اخذ الأسير إلى سيبيريا مصفداً في الأغلال الثقيلة؛ وبعد حين افرج عنه، واستطاع أن يكتب إلى ألمانيا وأن يستحضر بعض المال؛ وهنالك، في منفاه الثاني تزوج من فتاة منغولية، وتذوق بعض السعادة؛ وساعد في تنظيم مسألة الأسرى الألمان، واستطاع أن يرتب لهم أعمالاً، فاحترفوا الخياطة والنجارة والنقش وغيرها، وأسس قرية صغيرة؛ أما هو فاحترف تجارة الفراء، وحسنت حاله، ولكن الثورة البلشفية نشبت في سنة 1917، فاضطربت الأمور، ونسى الأسرى الألمان من العالم كله، وهلك كثيرين منهم من الجوع والأوصاب وكان حظ المؤلف اتعس حظ، فقد قتلت زوجه وولده بيد أحد أعدائه، في نفس الوقت الذي عقد فيه الصلح بين ألمانيا وروسيا(159/73)
والكتاب ساحر مؤثر برغم روعة حوادثه، وفيه يدلل المؤلف على معرفة وثيقة بأسرار النفس الروسية، وأحوال سيبيريا المجهولة
مجلة المجلات العالمية
شعرت الصحافة الإنكليزية أخيراً بحاجتها إلى التوسع في معالجة المسائل الدولية، بعدما وصلت إليه من التشعب والتعقيد، ولم يعد يكفي أن تعالج بصورة محلية؛ وقد تصدى لتحقيق هذه المهمة صحفي وكاتب سياسي كبير هو المستر فرنون بارتلث، الذي لبث زهاء عشرين عاماً مراسلاً سياساً لكبريات الصحف الإنكليزية، والذي مازال محرراً للشؤون الخارجية في جريدة الديلي تيليغراف، فأنشأ مجلة سياسية كبرى تصدر كل شهر بعنوان (مجلة المجلات العالمية) وهي في الواقع إدماج لمجلتين شهيرتين: الأولى (مجلة المجلات) التي أسسها الصحفي الكبير مستر ستيد في سنة 1890، ومجلة (العالم) التي أنشأها مستر بارتلث في سنة 1934، وستعنى المجلة الجديدة بمعالجة أهم الشؤون الدولية، ومسائل عصبة الأمم التي يتفوق مستر بارتلث في دراستها بنوع خاص، وستكون مستقلة محايدة في آرائها وتعليقاتها
وقد صدر العدد الأول من المجلة الجديدة مصدراً بكلمة للمستر انتوني ايدن وزير الخارجية البريطانية يقول فيها: (يسرني أن ابعث بكلمة ترحيب لهذا المجهود الجديد الذي يرمي إلى تهيئة الفرصة للشعب البريطاني ليطلع على ما يكتبه وتراه الشعوب الأخرى في المسائل الدولية
حماية النسل في روسيا
كان من نتيجة الأنظمة والقوانين الإباحية التي سادت روسيا البلشفية في الأعوام الأخيرة ولاسيما فيما يتعلق بالزواج والعلائق الاجتماعية، أن ذاعت حوادث الإجهاض ذيوعا مزعجا، وأخذت تهدد كيان الأسرة والأمومة في روسيا؛ وقد تبينت حكومة موسكو أخيرا خطر هذه الإباحة على مستقبل الشعب الروسي، فأصدرت قانوناً جديداً خاصا بحوادث الإجهاض يسري مفعوله منذ 15 يوليو الجاري؛ وخلاصة نصوصه أنه ما خلا الأحوال التي تتطلب فيها حالة المرأة الصحية إجراء عملية الإجهاض يحضر الإجهاض قطعاً،(159/74)
ويعاقب الأزواج أو الآباء بعقوبات شديدة من السجن والغرامة إذا عاونوا على ارتكاب الإجهاض في حالة غير المصرح بها قانونا
وينص نفس القانون على أن الأسر التي تضم ستة أولاد فاكثر تمنح إعانة من الحكومة؛ وفي حالة الطلاق، يلزم الوالد بدفع ربع مرتبه أو إيراده للزوجة إذا كان له منه ولد، فإذا كان له ولدان فرض عليه الثلث، وأن كان له منها ثلاثة أولاد فأكثر فرض عليه أن يدفع للزوجة نصف المرتب أو الإيراد
وقد رأت روسيا السوفيتية أن تتشبه في ذلك بالدول التي تعنى بمسألة النسل والإكثار من السكان مثل إيطاليا وألمانيا حيث تتخذ حماية الأمومة أهمية خاصة(159/75)
الكتب
رواية عمر بن الخطاب
تأليف الأستاذ معروف الأرناءوط
للدكتور منير العجلاني
أنا لا اصدق أن هذه التهاويل الثلاثة: الحب، الطبيعة، البطولة، التي جمعها أستاذنا الأرناءوط في كتابه الجديد (عمر بن الخطاب) رواية!. . .
وإذا كان يحرص على أن يسمي (رواية) هذا العالم الذي أبدعه وشحنه بالأخيلة العجيبة والألوان النضرة والأنغام الحلوة فإني استحلفه (بكريستيا) الذي ينحت تمثاله، و (فروة) الذي يقود رجاله، و (نفتالي) الذي يندب آماله؛ بل استحلفه بهذه الغانية (بنيامينا) التي تسلب العاقل لبه، والشجاع قلبه، وتنسي الوثني ربه؛ بل استحلفه بهذه الفتاة الصغيرة الخيرة (سافو) - شقيقة البدر وبنت السحر - أن يسميها رواية شعرية لا اجتماعية ولا تاريخية، فإني نسيت الجماعات ونظمها، والتواريخ وحكمها، ورحت أنتقل على أجنحة كتابه من حجرة حب، إلى ساحة حرب، ومن مأتم عبقري، إلى عرس شعري، ومن صلاة الفجر الروحانية، إلى مناجاة البخور الجثمانية، وما أذكر أنني أحسست هذا الحس الذي يكاد يكون مزيجا من الصوفية واللذة إلا في (خطبة مسينا) و (ايفجيني في أوليس) و (بولس وفرجيني) و (أنا كارينين) و (البعث) و (أغاني بيليتس) و (بسيشة) وبعض أشعار (أوسكار ويلد). . .
وأشهد إن في أستاذنا الأرناءوط من هؤلاء جميعاً، فقد نسج على منوال يونان والغرب فجاء بشيء لم تألفه العرب لأنه جديد. ولكنها لم تنكره لأنه جميل، وصاحبه لا يتهم بالنقل ولا التقليد لأنه صانع مبتكر، ومتى ذكر الشعر فهو في دنياه
نعم (عمر بن الخطاب) قبسة من شعوره وقصيدة من شعره، ولكنها لا تشبه هذه البرك التي تقاس بالشبر وتنظم على أشكال هندسية بل هو نهر يجري: يركض ويتباطأ، يهبط ويصعد، يستقيم ويلتوي، ولكنه يذهب بعيداً. . . وفي مائه الرقراق يستحم الطير وتستنقع العذارى، ويرتوي النعناع، ويرف الحصى، وبالجملة تحيا الحياة(159/76)
أيهما أشعر؟ البركة أم النهر؟ (عمر بن الخطاب) أم الشعر؛ ما أدرى؛ ولعل الرواية - إذا كان عمر بن الخطاب رواية - أشعر من الشعر! على أن عمر بن الخطاب ونحن في حديثه، لم يعط الجزأين الأولين من الرواية أكثر من اسمه. . . فهو يمر في الأول كخطفة البرق، ويهم في الكتاب الثاني بالظهور. ولعلك تصغي إليه وتجلس بين يديه في الكتابين الموعودين، أما الآن فأنت في عالم الحب؛ فلا تقل وقد استنمت إلى أنغامه المهدهدة أين نحن من دنيا ابن الخطاب؟ وما علاقتنا به؟ عما قريب تلتفت إلى (سافو) التي لم تكن تعرف من العرب إلا حبيبها، فتسمعها تحدثك عن رعاة الغنم، الذين ملكوا رعاة الأمم، والبدو الذين علموا الحضارة الحضر. . . والعقيدة التي غلبت القوة، وحينئذ تدرك السر الذي نشده الأستاذ الارناءوط، فهو يريد أن يقفنا في هذا الصراع القائم بين العرب والرومان على لونين من الحب: حب السماء وحب الارض، وعلى رسالتين: رسالة العاشق ورسالة المجاهد؛ وعلى دولتين: دولة الطبقات، ودولة المساواة، وإذا كان في الأدب الفرنسي كتاب أسماه صاحبه - شاتوبريان - (عبقرية النصرانية) وأراد أن يعرض فيه دينه في أحسن معرض، فانه يخيل إلي أن الأستاذ الارناءوط سائر في هذه الطريق. فما (سيد قريش) و (عمر بن الخطاب) إلا فصول في كتاب سنطلق عليه ذات يوم اسم (عبقرية الإسلام) وإذا ما شئت (عبقرية العروبة)
أيها القارئ! ضع شارة تحت جملة بارعة في الجزء الأول من (عمر بن الخطاب) (أي قدر سعيد ألقاك في طريقي يا من يهيمن على حياتي؟) فأنه قدر سعيد حقاً. . . أن تعيش في عالم (كريستيا) و (بنيامينا) و (سافو) و (فروة) و (نفتالي)، قدرٌ سعيد أن تعيش تحت سماء (كأنها لفرط الضياء جنة من اللؤلؤ) وأن ترى إلى (كريستيا) يلتمس حبيبته في الحلم ولكنه (لا يجرؤ أن يمس وهو سادر في وهمه جسدها المترنح مخافة أن تفوته لذة هذا الوهم) وأن تستمع إليه ينشد بين يديها: (لقد رأيتك في ذات ليلة أمام المرأة تريقين على جسدك العاري عطور النارنج، ورأيتك تغسلين فخذيك الناعمتين بعطر الورد، ثم رأيتك تصبين على نهديك عطوراً حملها إليك محبوك من مصر وفينيقية والشام، فوددت لو أنك تبدلين طيوبك بطيب آخر لم تحفل بمثله أرض فينيقية ذات السماء المصحية، ولا جنات مصر الضاحكة على ضفاف النيل. . . بطيب انبعثت براعمه في نفسي). . . ثم اخرج(159/77)
من عالم الحب إلى عالم البطولة وأنظر إلى (فروة بن عمرو) يعلق على الصليب في سبيل الرسالة، واستمع إلى أغانيه العلوية!. . .
ولكن ما أكثر الصور والألوان الحلوة في هذا الكتاب؟ بل أية صورة أستطيع أن أقول أنها أقل جمالا من غيرها فأزهد في نقلها؟!
طالع الكتاب كله وقل معي
بورك فيك يا أستاذنا الأرناءوط! بورك فيك ثلاثاً باسم الحب وباسم الشعر وباسم البطولة. . . وبورك فيك باسمنا نحن الذين وهبت لنا ساعات لذيذة ودنياوات حلوة
أي مؤلف (عمر بن الخطاب)!
سوف ألقاك فأراك غير ما كنت أراك لأنك ستسير دائماً في موكب من الأبطال الذين بعثت فيهم الحياة. وسنشعر جميعاً أن روحك ليست غريبة عن روح أبطالك، فلولا أن سكبت فيهم من قلبك ومن فكرك لما كان كتابك خالداً
إن حياة كتابك من كتاب حياتك
حياتك الشاعرة!
منير العجلاني
رئيس تحرير القبس(159/78)
وراء البحار
تأليف محمد أمين حسونه
بقلم محمود عزت موسى
أتيح لي منذ أيام أن أقرا الكتاب الذي ألفه وأصدره أخيراً صديقي الأستاذ محمد أمين حسونه واسماه (وراء البحار)؛ وفي هذا الكتاب رحلة المؤلف إلى اليونان وتركيا ورومانيا والنمسا والمجر، وقد عني بطبعه عناية فائقة فجاء مثالا بديعاً للذوق الرقيق.
وليست هذه هي المرة الأولى التي أتيح لي فيها أن أقرأ للأستاذ حسونه، فأنا أقرأ له منذ صدر حياتي الأدبية، وقد التقت أقلامنا على صفحات السياسة الأسبوعية في عام 1929 وفي ذلك الحين أيضاً التقت صداقتنا؛ ولقد قرأت له كتابه الأول (أشبال الثورة)، وهي الرواية التي استهل بها أدبه القصصي، ثم قرأت له (الورد الأبيض)، وهي المجموعة القصصية التي جعلته في طليعة أدباء الشباب، ولعلني استطعت من خلال تلك القراءات كلها أن أتعرف على أسلوبه وأدبه، ومن أجل هذا كله كنت أود أن انصف الأستاذ حسونه أكثر مما أنصف نفسه هو فأقول بإن كتابه (وراء البحار) ليس في الواقع إلا قصة طويلة لحياة شاعر في خلال رحلة فنية إلى بلاد تاقت نفسه إليها. . . واستقرت عواطفه في أجمل بقاعها، فراح يصفها لا بلغة المسافر، ولكن بلغة الشاعر، فلم يذهب فيما ذهب إليه الذين سبقوه في وصف رحلاتهم، ولكنه انتحى لنفسه منحى غير الذي ألفه الناس فيما قرءوا. . فلم يحاول أن يكتب عما شغل غيره من كتاب الرحلات في الأوصاف التي يمكن للإنسان أن يجدها بسهولة في كتب السياحات، ولكنه ذهب إلى تلك البلاد حاملاً بين جنبيه تلك النفس الطامحة المضطرمة شباباً ونشاطاً، فتبدو في بعض الصفحات مشبوبة حارة ملتهبة تفيض خيالاً وعذوبة، والتي تغزوها الآلام والأحزان فتبدو في انقباضة القلق الحائر. وانه ليحلو لي أن اصف نفسية الكتاب، ولا أتناول فصوله فصلاً فصلاً تناول الذي يمسك مبضعه ليقيم نفسه جراحاً - أو جزاراً - على عمل أدبي، يحلو لي أن أصف نفسية الكتاب لأنني أعتقد باني قد ألفيت فيه وحدة فنية قائمة بذاتها، ترتكز على شخصية واحدة، هي شخصية المؤلف؛ وهذه الوحدة الفنية تجعلني أرى أن المؤلف إنما عمد إلى رحلته بدافع الاستمتاع الذهني والقلبي في وقت واحد، فوفق. ولم تذهب هذه الشخصية عنه في(159/79)
أية لحظة، بل هو يصفها دافع الإعجاب، ولكن بشخصية، أو بمعنى آخر بقومية، ومن هنا ترتقي مكانة الكتاب عندي، لأنه يقول في معرض حديثه عن الأكروبول. . . (ولكن أين ربوات الأكروبول من ساحل طيبة الخالد على مر الدهور، أو من مهابة الأهرام ومعابد الكرنك وقصور فيلي؟ تلك الكاتدرائيات الفرعونية العظيمة التي شيدتها ونقلت جلاميدها الصخرية الهائلة الأيدي السحرية العجيبة. . . .) أو عندما يذكر (أذكر أني قابلت في أحد المطاعم (في أثينا) جندياً في الجيش كاد يبكي وهو يحدثني بالعربية في السعادة التي تنعم في أعطافها يوم أن كان يعمل (جرسونا) بمقاهي القاهرة الكبرى. . . .) (ويستطرد في القول). . . وأحسب انه نتيجة عطف أولته مصر لأبناء هذه البلاد منذ انبثق فجر التاريخ. فقديماً لقنهم المصريون أسرار الحكمة وأصول التشريع وزودهم بأسلحة من العلم واستقامة الفهم، فذاناؤس وككرلس وفيثاغورس شهب ثاقبة في سماء الثقافة الإغريقية، لكنهم لم يزيدوا على أن يكونوا مصريين. .) وكما يبدو في حديثه عن الإسلام وسلاطين آل عثمان في خلال وصفه لاستامبول، وهذه الظاهرة الفريدة في الكتاب تجعلني أسجلها مغتبطاً
قد كنت أؤثر أن يحدثنا - فوق ذلك - الأستاذ حسونه عن تلك البقاع التي زارها أحاديث تتناول صميم الحياة هنالك، عن وسائل رقيهم، وصناعاتهم، ونظم الجمعيات الهامة فيها، والروح الفردية في تلك الأمم، ونواحي الضعف في جماعاتهم، وأسبابها، والظواهر التي يلمحها في أنظمتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن يتناول بالبحث الانقلاب الكمالي من جذوره في زيارته لتركيا ليصف ويقرر الحقائق التي لا يمكن للقارئ أن يجدها في الصحف لاعتبارات شتى، وأحسب أنه قد لمح إلى ذلك تلميحاً خفيفاً فهل فعل ذلك عن عمد؟ احسب ذلك. ولكنني أرجو أن يوفق إلى ذلك في كتابه المقبل، في صراحة تامة؛ فبلادنا في عصر نهضة، ولنكن حطب هذه النهضة، وكلما زدناها ناراً ازدادت اشتعالاً ونوراً وارتفاعاً، ولن يكون ذلك إلا إذا أفرغنا في سبيلها الجهد كل الجهد وعنينا بتوضيح كل ما يفيد هذه لنهضة ويوطد دعاماتها.
محمود عزت موسى(159/80)
العدد 160 - بتاريخ: 27 - 07 - 1936(/)
الطَّماطم السياسي. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كان (م) باشا رحمه الله داهية من دهاة السياسة المصرية. يلتوي مرة في يدها التواء الحبل، ويستوي في يدها مرة استواء السيف، ولا يرى أبداً منكمشا متحرزاً كأن له عدواً لا يدري أين هو ولا متى يقتحم عليه، ولكنه كغيره من الرؤساء الذين كانوا آلاتٍ للكذب بين طالب الحق وغاصب الحق - يعرف أن عدوه كامنِ في أعماله. وكان ذكياً أريباً، غير أن ملابسته للسياسة الدائرة على محورها - جعلت نصف ذكائه من الذكاء ونصفه من المكر. فكان في مراوغته كأن له ثلاثة عقول: أحدهما مصري والآخر إنجليزي والثالث خارج من الحالين
وبهذا تقدم وعاش أثيراً عند الرؤساء من الإنجليز، واستمرت مجاريه مطردةً لديهم حتى بلغوا به إلى الوزارة إذ كان حسنَ الفهم عنهم سريع الاستجابة إليهم؛ يفهم معنى ألفاظهم، ومعنى النية التي تكون وراء ألفاظهم، ومعنى آخر يتبرع هو به لألفاظهم. . . فكان هو وأمثاله في رأي تلك السياسة القديمة رجالاً كالأفكار، يوضع أحدهم في مكانه من الحكم كما توضع صيغة الشك لإفساد اليقين، أو صيغة الوهم لتوليد الخيال، أو صيغة الهوى لإيجاد الفتنة
وكان صديقي (فلان) رحمه الله صاحب سره (السكرتير) وقد وثق به الباشا حتى إنه كان يعالِنه بما في نفسه، ويبثه همومه وأحزانه، ويرى فيه دنيا حرة يخرج إليها كلما ضاقت به دنيا وظيفته، ويستعير منه اليقين أحياناً بأنه لا يزال مصرياً لم يتم بعد تحويله في الكرسي. . . .
فحدثني الصديق بعد موت هذا الباشا قال: إنه دعاه يوماً ليفاتحه الرأي في أمر من أموره، ثم قال له: إن الرئيس الإنجليزي غير مطمئن إليك لأن حقيقة من الحقائق الصريحة ظاهرة على وجهك فأنت تنظر إليه وكأنك تقول له بعينيك إنك مصري مستقل
قال صاحب السر: لئن كان ذلك ما يغضبه إن الخطب لهين، فلست أنظر إليه بعد اليوم إلا من وراء نظارة سوداء. . . .
فضحك الباشا وقال: يا بني هذا الإنجليزي عندنا كالشيطان (إنه يراكم هو وقبيله من حيث(160/1)
لا ترونهم)، ووالله يا بني إني لأشد أنفَةً منك وأن صدري لشجيُ مما أنا فيه من هذا الكرب، ولكننا نحن الشرقيين قد ضعنا منذ فقدنا الشخصية الاجتماعية
أتراك تفهم شيئاً لو قلت لك: رجل، أسد، جبل، مدينة، أسطول؟ أن تركيبنا الاجتماعي شيء كهذا الكلام فيه من ضخامة اللفظ بقدر ما فيه من انحلال المعنى واضمحلاله. ولكل كلمة إذا أفردت معنى صحيح يقوم بها وتقوم به غير أنه يتحول في الجملة إلى معنى كلا معنى
أصبح الشرقي يعيش في أمته على قاعدة أنه منفرد لا صلة بينه وبين الأطراف لا في الزمان ولا في المكان. ونسى معنى الحديث الشريف: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً) فماذا كان يريد أعظم المصلحين الاجتماعيين من قوله (كأنك تعيش أبداً) إلا أن يقرر لأمته أن الفرد ينبوع الأجيال المقبلة كلها فليعمل لها ولنفسه كأنها موقوفة عليه وكأنه مستمر فيها
هذه حكمة إسلامية دقيقة عندنا نحن لفظها ولسنا نعرف معناها، وعند الإنجليز معناها ولا يعرفون لفظها. أهم المسلمون أم نحن؟
وعلى قاعدة الانفراد انفرد كل شيء، فآثر الشرقي حياته على وطنه، وقدم لذته على واجبه، وتعامل بالمال في مواضع المعاملة بالأخلاق؛ وكان طبيعياً مع هذا أن يختصر الدين اختصاراً يجعله مقداراً بين مقدارين فلا هو دين ولا هو غير دين، وبذلك يناسب فرديته ويقعد تحت حكمه وهو خارج عليه. فترى الرجل من هذه الملايين يؤمن بالله وهو يحلف به كذباً على درهم، ويصلي ويفجر في يوم واحد، ويتعبد في نفسه ويخون سواه في وقت معاً
ومتى كانت الحالة النفسية للأمة هي هذه الفردية ومصالحها ودواعيها كان الكذب أظهر خلال هذه الأمة، إذ هو انفراد الكاذب بحظه ومصلحته وداعيته؛ ولا يكذب عليك إلا من يرجو أن تكون مغفلاً أو من قدر في نفسه أن المعاملة العامة في الأمة هي على قاعدة المغفلين. . . ويكذبون في هذا أيضاً فيسمونه حذقا وبراعة (وشطارة)
وإذا عمَّ الكذب فشا منه الهزل؛ فكل كاذب هازل، وهل يجدٌّ الكاذب وهو يكذب إلا إذا كان مجنونا؟ ومن الهزل ضربٌ هو المباسطة بالكذب، ومنه ضربٌ من كذب الحقائق، ومنه من كذب الخيال، وكيفما دارت الحال لا تجده إلا كذباً(160/2)
ومتى صار الكذبٌ أصلاً يعمل عليه، تقرَّر عند الناس أن الكلام إنما يقال ليقال فقط أفلست ترى الرجلين إذا أخبر أحدهما صاحبه بالخبر فيه شيء من الغرابة أو البعد، لا يكلمه الآخر أول ما يتكلم إلا أن يسأله: صحيح؟ صدق؟
ولا اضر على الأمة من هذه العقيدة - عقيدة أن الكلام يقال ليقال فقط - فإنها هي طابع الهزل على أخلاق الأمة وعلى كل أحوالها وعلى حكومتها أيضاً
ومن الهزل والكذب ترانا مبالغين في كل شيء حتى ليكون لنا الواحد كالآحاد في غيرنا فنجعله مائة بصفرين نجيء بأحدهما من اعتيادنا الكذب على الحقيقة، ونجيء بالآخر من حقيقة إفلاسنا. هذه مبالغة خطرة وأخطر ما فيها أننا نريد بها المبالغة في الدلالة على الأشياء، فتنقلب مبالغةً في الدلالة علينا نحن وعلى كذب طباعنا وعلى فوضى العقل فينا. نعم وحتى تثبت أننا لا عزم لنا من كونها مبالغة لا تدقيق في معناها، وأن لا صبر لنا من أنها لا ثبات لحقيقتها المهزومة، وأن لا شدة لنا في طلب الحق لأننا بها من أهل الغفلة في وصف الحق، وأننا لا نتمثل العواقب إذ نرسل الكلام إرسالاً ولا نخشى ما يكون من عاقبته. وأيسر ما يفهم من هذه المبالغات التي أصبحت طريقة من طرق الشعب في التعبير - أن هذا الشعب لا يصلح في شيء إلا بالحكومة، فهو نفسه كالمبالغة، والحكومة له كالتصحيح. وهذه هي العلة في أن الشعب الكذوب يلجأ إلى حكومته في كل كبيرة وصغيرة في العمل، كما أنها هي العلة في أن حكومته تكذب عليه بكل صغيرة وكبيرة في السياسة
ومن أثر الكذب الشعبي والمبالغة الشعبية ما نراه من اهتمام كل فرد بما يقول الناس عن أعماله فيديرها على ذلك وإن قلت منفعتها، وإن فسدت حقيقتها، وإن جلبت عليه من الضرر في ماله ونفسه ما هي جالبة؛ فقاعدتهم هي هذه: ليس الشأن في الحياة للعمل في نفسه ولكن فيما يقال عنه، فإن لم يقل شيء فلا نعمل شيئاً. . .
هذه يا بني أمة لا يكون حكامها إلا مبالغات أيضاً
قال صاحب السر: وأرتفع من الطريق صوت بائع ينادي على سلعته: أحسن من التفاح يا طماطم. . .
فضحك الباشا وقال: هكذا يقولون لنا عن الطماطم السياسي العفن، إنه ليس تفاحاً وحسب، بل هو أحسن من التفاح(160/3)
إن الأمة لن تكون في موضعها إلا إذا وضعت الكلمة في موضعها، وإن أول ما يدل على صحة الأخلاق في أمة كلمة الصدق فيها، والأمة التي لا يحكمها الصدق لا تكون معها كل مظاهر الحكم إلا كذباً وهزلاً ومبالغة.
(سيدي بشر بإسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي(160/4)
عفواً أيها النقاد!
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
أطلب إليكم العفو يا معشر الناقدين، فإني لا أقصد بهذه الكلمة إلا الدعابة والمفاكهة - فقد رأيت الصيف قد اشتد، واحتدمت وقدته، وأردت أن أتقرب إليكم بما يزيل لسعته أو يخفف منها - ولا أدري ما الذي أغراني بهذه المداعبة المخطرة، فوالله لقد كنت أرى أن مداعبة الفهود والنمور أهون أمراً وأسلم عاقبة من مداعبة نقاد الأدب. ولقد كانت دوني لو أردت مندوحة عن ذلك التعرض، فلو شئت لداعبت الأدباء كافة، ولم يكن علي بأس منهم، فإني لا أخشى من الأدباء بطشاً ولا صولاً، لأنهم يسيلون رقة وليونة، وقد طبع الله في قلوبهم وداعة وسلاماً، فمنهم من يأخذه الجمال فيسلم له قياده حتى ليصير كالحمل يصرفه أضعف الخلق كيف يشاء، وإن منهم قد استغرقه الفكر وغلب عليه فلا تراه إلا حالماً لا يكلف أحداً مؤونة في تصريفه ولا مشقة في معاملته - فهؤلاء لا يأتي خوف من قبلهم ولا يتكلف المرء حيطة في معابثتهم - ولكن الناقد - والله يكلؤنا بحمايته، فبه صلابة وله شوكة؛ فهو دائماً معقود الجبين على الصرامة، محملق العينين على اليقظة، كثير التجهم واللوم، فإذا أخذته الرقة أحياناً رأيته يربت على كتف الناس متنازلاً من عليائه، وكل حركة من حركاته تنم عن دخيلة نفسه وكمين عقيدته، إذ كأنما يقول عند ذلك: (إنا نعطف على هؤلاء المساكين تشجيعاً لهم حتى لا تنكسر قلوبهم)
لست أدري ما الذي أغراني بهذه المداعبة إلا أن يكون هذا الصديق العجيب التأثير الأستاذ أحمد حسن الزيات، فإنه منذ كتب في النقد وأنا أمانع نفسي وأغالبها لكي أمتنع عن الخوض في الميدان الذي أثار غباره - ثم هاأنذا تغلبني نفسي على الأمر، فأكتب للنقاد متعرضا ًلما يتعرض له الداخل إلى حظائر السباع
على أني مع ذلك قد قدمت في أول قولي إني إنما أداعب ولا أقصد إلا المفاكهة - فلعل تقدمي على هذا النحو يلوي عني الشوكة التي أخشاها، ويكف عني الغضب والنقمة
لقد جعل الأستاذ أحمد الأمين يحن إلى عصر مضى من عصور الأدب في مصر، وجعل يعير نقاد العصر الحاضر بالتقصير والميل حتى لقد استعبرت من فرط الأسى على ما فات من عصرنا الحاضر من جليل النفع. ولكني ما لبثت أن أفقت من أثر قوله وجعلت أرجع(160/5)
بالذهن إلى العصور التي شهدتها فلم أجد ذلك العصر الذي يؤبنه ويذكر محاسنه؛ فلعله يشير إلى عصر لم أشهده ولم أعرف شيئاً عنه، وذلك أني لم أعد بعد حلقة الخمسين من السن ولا علم لي بما كان قبل ذلك، وأني لم أدرك ما كان حولي إلا نحوا من ثلاثين عاما، وليس في هذا ما يكفي لأن أرد على الأستاذ حكمه، فرجائي إليه أن يحدد ذلك الماضي أين وقع؟ وهل كان منذ ثلاثين عاما أم كان منذ أربعين أو خمسين، فهو أعلم بما يقول مما شهد في حياته المباركة إن شاء الله
على أني إذا كددت الذاكرة في السنوات الثلاثين التي أدركت فيها ما كان حولي لم أذكر إلا محاولة ضئيلة في النقد كان أكثرها من شبان أكبر همهم أن تذكر أسماؤهم إلى جانب الأسماء النابهة في عصرهم - ولقد كانت وسيلتهم دائماً أن ينالوا من مقام أديب نابه لهجت الألسنة بذكره، لا يقصدون النقد والحق، ولكن يقصدون أن تتحول الأنظار إلى شخوصهم
ولست أذكر فيما أذكر من تلك السنوات أن تعرض نقد تعرضاً يذكر إلا لأمثال شوقي وحافظ - كأنما النقد قد صب صباً في قالب واحد، فهو لا يتسع لغير الشعر وقصائده ودواوينه، وأما ما عدا ذلك فلا أذكر أن قامت معركة على كتاب من الكتب التي نقلها الأستاذ الكبير فتحي زغلول، ولا على كتاب مثل (التربية الاستقلالية)، بل لا أذكر نقداً يذكر قابل به النقاد ترجمة حافظ لجزء من البؤساء، أو قصة (زينب) الهيكلية، أما ما ألفه المنفلوطي، أو الأستاذ فريد وجدي
وإني كلما أدرت الفكر في ذلك العصر الماضي لم أجد إلا محاولات بسيطة تشبه محاولات الطفولة في النقد - وقد صدق الأستاذ هيكل في تصوير ذلك إذ قال إن النقد أول ما يعانيه الأديب الناشئ من المحاولات
فإن كان لنا من تعرض إلى ذلك الأمر فإنا نحمد الله إذ انقضى ذلك العصر بما كان فيه
فهل في شرعة الأنصاف أن يتوفر مؤلف على كتاب لا يزال دائباً على البحث من أجله، ويقضي النهار والليل في التحقيق والتثبت ليخرج به على الناس فيجلو لهم أموراً كانت من قبل مظلمة، ويبين لهم مواطن كانت مبهمة غامضة، فإذا به يرى ناشئاً من الشباب يريد أن يحول الأنظار إليه فيتناول ذلك الكتاب المسكين بالنقد ولا يزال به حكا وتجريحاً بيد ثقيلة غير صناع حتى يدميه ويلهبه؟ إن هذا إذن لشبيه باليتيم المسكين الذي يذهب إلى الحلاق(160/6)
ليسوي له شعره ويزيل عنه الشعث والأغبار فإذا بذلك الحلاق يدفعه إلى أحدث صبيانه وأقلهم مهارة ليتعلم الصناعة في رأسه. لا. لا. فاللهم حوالينا ولا علينا. فما كان لنا أن نلوم شباب اليوم كما يحب لنا الدكتور هيكل أن نفعل، بل إن علينا أن نحمد فيهم ذلك العقل الراجح وهذا الذوق الجميل الذي حدا بهم إلى تجنب النقد في هذه الأيام؛ وإنها لمفخرة لعصرنا أن موجة النقد قد ركدت فيه مادام ذلك النقد لا يقوى إلا إذا أخذ به الشباب الناشئ ليجعله وسيلة ليظهر للناس مقدرته على الكلام والكتابة وتدوير المعاني وتلفيفها
على أني أرجو أن يغفر لي النقاد إذا قلت لهم إن هذا العصر لا يشكرهم على يد أطول من انصرافهم عن النقد. فإن الأدباء قد وجدوا في صمتهم متنفساً. وإنها لفرصة لمن شاء أن يؤلف فليغتنمها المؤلفون في غفلة من الدهر. وأي شيء أعدل وأسمح من أن يؤلف المؤلف إذا شاء فإذا وجد من يقرأ له كان سعيداً مجدوداً. وللناس عقولهم، فإذا أعجبهم ما قرأوا له أقبلوا على مؤلفاته وألقوا إليه بأنواع التحية وأشاروا إليه بالبنان كلما رأوه كما كان يفعل الناس في الأعصر الخوالي. وأما إذا كره الناس ما قرأوا للمؤلف انصرفوا عنه، وحسبه بعد ذلك أن يخسر ما بذل من ثمن الحبر والورق والطبع. .
إن القوامة مكروهة أينما كانت؛ فإذا اتخذ النقد شكل القوامة كان حرياً بأن يكون مكروهاً. هذا إذا كان القيم ممن يحسنون السيطرة ويعدلون في الهيمنة - فما بالنا به إذا كان يسرف ويدل؟ وإلا فوايم الله إن من النقاد من لو حكمت في أمره لأمرت جميع بائعي الأقلام من كل الأنواع بأن يمتنعوا عن أن يبيعوه قلماً واحداً. وإني لأذكر أحد هؤلاء وهو ممن تزعموا في العروبة وقد نقد كتاباً مترجماً عن الإنجليزية في تاريخ مصر. ولم يشأ أن يجعل نقده لذلك الكتاب في مقالة مفردة فقرن بينه وبين كتاب في فن (الطهي الحديث) وأطايبه. ولقد رأيت ذلك الكاتب المفضال بعد ذلك يتنقل في النقد ما بين العلوم والفنون فضرب عافاه الله في التاريخ والتصوف والحديث واللغة والدين والفلسفة. ولا أعلم بعد إذا كان قد بلغ حضائر الطب والموسيقى والفلك أم هو سائر في طريقه إليها. ولم يكن هذا الناقد فذاً في هذا النهم العلمي! بل لقد رأيت علماً من أعلام النقد في مصر يستعرض سلسلة من المؤلفات ويبدي رأيه في كل منها، ويهز رأسه عند الانتهاء من نقد كل منها، ويلمس لحيته لمس الفلاسفة الأقدمين! وكأني به قد نسى أن العصر قد تقادم على عهد(160/7)
سقراط وأفلاطون وأرسطو، وأن الناس قد أخذوا لحاهم أخذا شديداً فلم يدعوا فيها شعرة واحدة. ولقد رأيت كاتباً عبقرياً أخذ على نفسه أن ينقد الأدباء. وواتاه القلم على عادته وأصاخ له الناس على عادتهم، وهو إذا تكلم أو كتب فالناس كلهم أسماع
ثم استعرض بين حين وحين كتاباً فكان كل ما استعرضه أو جله دواوين للشعر، وهذا حسن، فلعله قد خصص نفسه للغة وما يتعلق بها، وقرأت نقده كما قرأه الناس فكان لبقاً كعادته حلو الحديث مما وهبه الله في اسلوبه، ولكني لم أستطع أن أفهم ما قال. فلقد كان قوله إما مدحاً يسر الخاطر ويشرح الصدر - أقصد صدر المؤلف الممدوح، وإما ذما يكسر القلب ويدمي الفؤاد - وأني لم أكن أحد هؤلاء الشعراء فلهذا لم ينلني ذمه بألم ولا مدحه بفرح، وعلى ذلك خرجت من كل ما كتب، ولم أفقه شيئاً، ولم أعرف ماذا أراد أن يقول
إن أغلب ظني أن الغباوة هي التي قد حالت بيني وبين فهم ما قال ذلك الأديب الكبير، ولكني لم أسأل أحدا من أصدقائي عن رأيه إلا وجدته على مثل حظي من الغباوة وقلة الإدراك
ولهذا السبب كان ذلك الأديب كثير التردد والتقلب في رأيه، فبينا هو اليوم يصفق إعجابا بشاعر أو يصيح تقديراً لأديب، إذا به بعد قليل وقد لمح من ذلك الشاعر أو من ذلك الأديب نكراناً لفضله أو جحوداً لجميله فينقلب مدحه إلى ذم يكاد الدم يسيل من وقعه
ولقد حسبت مرة أن ذلك الأديب الكبير قد خصص نفسه للنقد حقاً، فأرسلت إليه بمؤلف حقير لي ثم تواريت خجلاً وجعلت أنتظر نقده وأقرأ جرائده كل يوم مدة طويلة حتى مللت ولم أظفر بشيء. ثم نسيت ذلك الأمر وعدت بعد سنوات إليه فأرسلت إليه بمؤلف آخر لا يقل في حقارته عن المؤلف الأول، وقلت في نفسي إنه في هذه المرة لابد واثب على كتابي، وممزقه كل ممزق - ولبثت أنتظر طعنته وأنا متوار، وطال بي الانتظار على غير جدوى، فعرفت أن من الكتب ما ينحط عن مقدار النقد، ولو قد تكرم ذلك الناقد فقال لي كما قال مرة لأحد الشعراء: (إنك لا تعرف شيئاً) لما تألمت مثل تألمي من سكوته عني، لأني كنت عند ذلك أفاخر الناس بأن ذلك الأديب قد قرأ كتابي، وحكم عليّ بأني لا أعرف شيئاً. ولا عجب في ذلك، فقد كان من أجدادي رجل - كما كان من أجداد كثير من القراء مثل جدي - أقول كان من أجدادي رجل إذا امتنع عن دفع المال للحاكم أمر المدير فأحضره(160/8)
وألهب ظهره بمائة سوط - فكان إذا أفاق من غشيته بعد الضرب يضحك ويقول: الحمد لله إذ ضربني المدير بنفسه) ثم نظر إلى الحاكم الغاضب وضحك مرة أخرى وقال: (ضربك شرف يا سعادة البك!)
وبعد فلقد آنساني آخر الكلام أوله، ولابد من أن أعود إلى ما كنت فيه. أقول إني أخالف الأستاذ أحمد الأمين في رأيه كل المخالفة، ولا أذم النقاد في عصرنا الحاضر، بل أني أشكرهم وأعدها لهم مكرمة عظيمة أن فتروا في النقد وخشعوا عنه. ولعل فيما قدمت من قولي ما يقنع الأستاذ ومن يرى رأيه بأن واجبنا أن نحمد الله على قلة النقد وتعفف الناقدين عنه، واقتصارهم على الإعلان والمجاملة أحياناً، أو التجهم أو التنكر أحياناً أخرى بحسب مكان المؤلف منهم وهل هو صديق أم هو بغيض؛ فلقد أدرك الناس منهم ذلك واطمئنوا إليه. فإذا أراد الأستاذ بعد ذلك أن يستمر في المحاجة والمناقشة فإني مضطر إلى أن ألجئه إلى ركن لا يستطيع فيه المقاومة ولا يجد لنفسه مناصاً من الإقرار لي بالغلبة - وذلك أنه قال إن التأليف قد زاد في عصرنا - أليس كذلك؟ ثم قال أن النقد قد ركد كذلك في عصرنا - أليس كذلك؟
أفلا يرى الأستاذ اللوذعي أن هاتين الحقيقتين منذ تلازمتا كانت إحداهما نتيجة للأخرى؟
فإذا أراد الأستاذ أن يستمر التأليف على نهضته كان عليه أن يترك النقد نائماً ولا يوقظه
أيحاول الأستاذ الأمين بعد هذا مجادلة؟
محمد فريد أبو حديد(160/9)
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه: الكلام كله تخيل ولا أصل أو حقيقة له)
- 7 -
طلبت من الريف ما لا سبيل إليه في هذه المدينة العظيمة ذات العمائر الشامخة، والبنى الرفيعة، والهواء الحبيس، والنفوس المروضة على تكلف غير طباعها. وكان بعض قومي قد سبقوني؛ فأنبأتهم أني لاحق بهم، وإذا ببرقية تردني منهم يقولون فيها (هات فتنة معك) فلم أدرِ ما - أو من - (فتنة) هذه. . أقطة هي يا ترى؟ أم فتاة؟ أم كلبة؟ أم ماذا؟. . . وكنت أعد حقائبي، ومكتب البرق بعيد مني، وحدثتني نفسي أنهم يعرفون أني لا أعرف (فتنة). فالأرجح أن يكونوا قد أبرقوا إليها لتتصل بي، أو لأصاحبها إذا كانت حيواناً. وقلت سأسافر على كل حال في الوقت المعين. جاءت (فتنة) أم لم تجئ. وأقبلت على الحقيبة أحشر فيها - فما لي قدرة على الترتيب والتنظيم - ما اقدر أن سأحتاج إليه، وإذا بالباب يقرع قرعاً مزعجاً لا عهد لي به، ففزعت ومضيت إليه على عجل مخافة أن يكسره الطارق. ودار في نفسي أن هكذا دق (تيمون الأثيني) باب الآخرة حين انحدر إليها بعد أن وافاه حينه الذي كان ينتظره بصبر فارغ من فرط كرهه للناس، فإن أساطير اليونان تزعم أن الناس يهبطون بعد موتهم إلى وادي الظلال، وهناك يحشدون في الفجر ويعدون وتقيد أسمائهم ثم يركبونهم زورقاً - غير بخاري بالطبع - إلى وادي القنوط حيث يكون الحساب. ومن غرائب هذه الأسطورة أن على كل راكب أو محمول في هذا الزورق أن يؤدي أجرة العبور إلى وادي القنوط. . . وقد ضحكت وأنا أذكر هذا إذ أمشي إلى الباب، وقلت لنفسي والله أن بيتي لكوادي القنوط بفضل (ذات الثوب الأرجواني) وما أخلقني حين أفتح الباب لهذا الزائر المستعجل أن أرحب به بهذه الأبيات القديمة التي نظمتها لمناسبة شبيهة بهذه:
(دارنا مغرب أنوار الحياءْ ... من رآها لم ير الضوء الطليق
ما لمن يهوى إليها من نجاءْ ... ما لما يغرب فيها من شروق(160/10)
وهي، في الأكوان، دنيا عاقرُ ... كل زخّار له فيها ركودْ
ضرب السحرَ عليها ساحرُ ... فهي عنوانٌ على عقم الوجود)
ولكن شيئاً - لعله الإلهام - صرفني عن هذه التحية غير الطيبة، فقد كان الزائر فتاة أشهد إنها من أجمل - إذا لم تكن أجمل - من رأيت في حياتي؛ وكانت رشيقة ممشوقة، ووجهها وضاح؛ أما عينها فأعوذ بالله منها! أعني أن البراقع ما اتخذت إلا لتقي الناس سحر مثلها
وقالت وهي تنساب كالماء الرقراق: (لست تعرفني بالطبع. . ولكني أنا أعرفك)
قلت: (تفضلي. . أعني أولاً. . وبعد ذلك يتسع الوقت للسؤال والجواب)
قالت: (متى تسافر؟)
قلت: (هل تعلمت في إنجلترا. . أو لعل أباك إنجليزي؟)
قالت: (لماذا. . أنى سمراء. أو لوني أقرب إلى السمرة. . ثم أني لا أعرف الإنجليزية. . تعلمت في (الميردة دييه (فقط))
قلت: (هذا أحسن. . على كل حال إنما عنيت إنك تمضين إلى غرضك بلا لف ولا تضيعين الوقت. . سأسافر في الفجر)
قالت: (سأبعث إليك أذن بالحقائب الليلة وأجيء أنا قبيل الفجر)
قلت: (بفرح أنت إذن (فتنة)؟؟ لقد صدق الذي سماك)
فقالت وهي تنهض عن الكرسي وتمضي إلى المنضدة وتقلب ما عليها: (أليس عندك سجاير؟. أم أنت لا تدخن؟.)
قلت: (إنك صغيرة جداً. . ولكن خذي)
فأخذت سيجارة وانطلقت تدخن وهي ساهمة وأنا أنظر إليها ولا أقول شيئاً، فقد خطر لي أني سأشهد فصولاً كثيرة متعاقبة لهذه الرواية. وإذا بها ترمي السيجارة من النافذة وتقول (إلى الملتقى إذن. . وشكراً لك)
وليس أبغض إلي من أن يرى الناس ما أصنع أو يشهدوا خروجي ودخولي وسفري وإيابي. ولكني احسب الدنيا - دنيا شارعنا على الأقل - قد علمت أني مسافر بالسيارة، وأن معي فتاة جميلة ستريني النجوم في الظهر الأحمر. . واطلعت - أعني الدنيا الخاصة - على ما في حقيبتي الصغيرة وحقائبها الكثيرة المنتفخة فقد كانت لا تفتأ تأمرني بأن أغير(160/11)
كل ما رتبت. هذه الحقيبة لا يجوز أن تكون تحت غيرها لأنها من جلد طري فهي تخشى عليها التلف. . وهذه الكبيرة فيها ما قد تحتاج إليه في الطريق فيجب أن تكون فوق. فأقول ولكن الطرية يجب أن تكون فوق فماذا أصنع؟؟ فتقول هات الطرية معنا في السيارة فأطيع وأحل ما عقدت، وأعقد ما حللت. ثم يتضح أن فيما ربط خلف السيارة أشياء لا بد منها كل يضع دقائق في الطريق، فأسأل مثل ماذا؟ فتقول مثل زجاجة الكولونيا الصغيرة وملحقاتها من أدوات الزينة المعروفة التي لا غنى عنها - حتى الفتيات الصغيرات مثل (فتنة) صرن لا يستغنين عن ذلك، فأعود إلى الحل والعقد وأفتح لها الحقائب - في الطريق من فضلك - ولم تكن الشمس قد طلعت، ولكنه كان هناك خلق كثير أحتشد لمكيدتي!! وقد عنيت بأن أحصي هذا الخلق وإليك البيان:
(1) سائق مركبة (كارو) - سكران على الأرجح
(2) ستة من عمال الطرق عائدون يمشون صفين ومعهم المكانس يحملونها كما يحمل الجنود البنادق. وقد وقفوا ينظرون إلينا مسرورين
(3) قطتان: واحدة على رصيفنا والأخرى على رصيف (ذات الثوب الأرجواني)
(4) أربعة غلمان كانوا سائرين فلما رأونا راقهم منظرنا فوقفوا ينظرون ويتبادلون الملاحظات ولا أدري من أين جاءوا ولا إلى أين كانوا ذاهبين في هذه البكرة
(5) رجل من عمال شركة النور كف حين رآنا عن إطفاء المصابيح وجاء ووقف مع الغلمان
ولم أحسب المارة الذين أبى لهم أدبهم - أو ذهولهم - أن يقفوا ويتفرجوا. وقد كان هؤلاء جميعاً يضحكون منا حتى القطتان
ولا أمل القارئ بوصف هذه الرحلة وما جرى فيها فليس لهذا آخر، فقد كان كل كيلو فيها لا يخلو من حادثة، وصار لي في هذه السكة الزراعية من الذكريات بعدد ما على جانبيها من الأشجار. ولما دنونا من البلدة قالت: (هل هذه هي. . .)
قلت: (قربنا)
قالت: (أراهن أنك لن تقبل بعد اليوم أن تحمل في سيارتك فتاة أخرى) ثم التفت إلي لأعني أنها انحنت قليلاً إلى الأمام وواجهتني وهي تبتسم وقالت: (قد تكره أن تسمع مني هذا(160/12)
ولكني شاكرة. . . شاكرة جداً. . وقد أتعبتك. . لا تقل شيئاً فإني واثقة أني أتعبتك. ولكنك كنت حليماً جداً)
فقلت: (كلام فارغ. . قولي شيئاً آخر)
قالت: (لا أدري متى يتاح لي أن أراك مرة أخرى ولهذا عجلت بشكرك في الطريق)
فضبطت نفسي بجهد، ومع ذلك كانت (إيه؟) التي ندت عني كالصيحة فقالت: (نعم فأني مرتبطة بأهلي فإذا رحلوا - كما ينوون أن يفعلوا - إلى الإسكندرية رحلت معهم وإلا بقينا. . وأنا أرجو أن يبقوا فأني أريد أن أتملى بـ. . . وبـ. . .)
فصحت بها: (ماذا تعنين؟؟ أعني ما الفائدة من حملك كل هذه المسافة من القاهرة إلى هذه القرية السحيقة إذا كنت ستختفين غداً؟؟)
قالت: (وماذا أصنع؟. وعلى كل حال كيف يعنيك هذا؟. ماذا يهمك؟)
قلت مغالطاً: (لا شيء بالطبع! لك الحق)
قالت: (لقد كنت أهم بأن أقول لك أكتب إلي إذا شئت ولكني عدلت الآن. . من فضلك أنتظر لحظة. . دقيقة واحدة فإن جوربي أتسخ جداً وأريد أن أغيره قبل أن ندخل البلدة)
فوقفت ونزلت من السيارة وذهبت أتمشى فلما عدت - إجابة لندائها - قالت: (الآن أنا نظيفة وجميلة)
فقلت: (أنت دائماً هكذا)
قالت: (صحيح؟) وكنت صادقاً فما فقدت ذرة من نضارتها ورونقها بعد مائة وثمانين كيلو متراً
فقالت: (إن خير ما فيك أنك تعني ما تقول. . فأنا أعرف الآن أني دائماً جميلة. . وأنا أعرف بغير معونتك أن ساقي جميلتان لا تكابر. . لقد قلت هذا. . ولكن عيني. . و. . و. . وشعري. . أنا مضطربة. . لم أسمع منك ثناء على عيني وشعري)
فقلت باختصار: (خير ما رأيت)
فابتسمت وقالت: (ثناء وجيز. . وجيز جداً. . ولكنه يكفي للاطمئنان. .)
فلم يسعني إلا أن أقرصها وأنا أصيح بها (يا ملعونة)
وأعود إلى الريف الذي نشدت في ظله الروح والراحة فأقول أن هذه الزروع التي تمتد إلى(160/13)
النهر والتي كانت تبدو لي في الظلام سوداء أنعشت روحي وبردت دمائي التي كانت تغلي في عروقي ووهبتني السكينة والهدوء لأعصابي التي أثارها الغيظ والغضب، والروح لقلبي الذي أجهده حب عقيم، ولكنه مع ذلك مضطرم. وقد كلمتني الأشجار الوارفة، والمياه الجارية، والهواء الندي، والظلال المديدة تحت الألفاف المتشجّنة. وقالت لي كلها أني مخطئ في ثورتي وغضبي وأني يجب أن أعرف وأدرك أني لا شيء في حياة ذات الثوب الأرجواني، ولما كنت لا شيء فإن من التطاول والغرور أن أحاول أن أحشر نفسي في حياتها، وأن أزحمها بوجودي وأن أهيمن عليها وأسيطر. نعم أنا لاشيء. وليس لي عند ذات الثوب الأرجواني شيء. . لا اختلاجه واحدة من جفنها. ولا نبضة من عروقها. ولا خفقة مفردة من قلبها، ولا خاطراً مما يجول في رأسها أو يدور في نفسها. . ولا نفساً واحداً من هذه الآلاف والملايين من الأنفاس التي يعلو لها صدرها ويهبط. . حتى هذا الذي هو للهواء ليس لي منه شيء!!
وقضيت يومين بين أحضان الطبيعة الصريحة فكانت أشجارها ومياهها وأطيارها تعيد على مسمعي هذا المعنى في كل ليلة وتكرره وإن اختلفت الأنغام وتعددت الأصوات، وما كانت تعيد أو تسمعني إلا ما كانت نفسي تحدثني به، وقلبي يخبرني أنه الحق الذي كنت أحاول بالأمل أن أخنقه كل ليلة في ظلمة الليل على وسادتي كأنه صوت (ديدمونه) إذ يميل على عنقها عطيل بيديه الكبيرتين الغليظتين.
وعدت وقد وطنت نفسي على اليأس، وخيل إلي أنها سكنت واطمأنت، فجلست في شرفتي ملفوفا في سواد الليل، وفي قلبي برد السكينة، أنظر إلى النجوم المتلامحة، ولا أنظر إلى شرفتك وإذا بصوتك يهفو إلي منها. . . صوتك إذ تنادين أخاك. . فذهبت سكينة نفسي ومزقتها العاصفة الكامنة في أعماق البحر، وأحسست أن روحي كلها تهزها نبرات هذا الصوت العجيب. . . وخفت صوت الطبيعة التي ناجتني به في الريف في ظل الشجر وعلى سيف النهر. . وكنت تميلين على حافة الشرفة وترسلين الصوت مجلجلاً في سكون الليل، وتهيبين بأخيك أن يرتد إليك قبل أن يذهب في شأنه، فوددت لو أقف وأصيح به وأعينك على أسماعه ورده! ونهضت فعلاً، ولكني وضعت يدي على فمي، وكتمت ما كان يوشك أن ترتفع به عقيرتي ثم انحططت على مقعدي وقد شاع فيّ اليأس (علوا وسفلا) كما(160/14)
يقول النواسي - اليأس من الشقاء - والسخط على نفسي إذ ذهبت إلى الريف وحرمت نفسي مرآك يومين كاملين بلا جدوى.
كلا. . لست ذلك (اللاشيء) الذي زعمتني الطبيعة الساذجة!. وليس صحيحاً أن أنفاسك كلها ذاهبة في الهواء كما تذهب أنفاس الناس. . ولا أن خفقات قلبك ليس لي منها نصيب. . ولقد غافلتك ومضيت إلى غرفة مظلمة واستعنت بمنظار مكبر، فإذا عينك على شرفتي، وإذ أنت تتلفتين ثم تحدقين لتتبيني ولتعرفي أباقٍ أنا في الشرفة حيث كنت أم دخلت؟. وكنت قد غالطتك وخادعتك فأسندت شيئاً على الكرسي مكاني لتظلي متوهمة أني هناك حين تنظرين، ولأستطيع أن أعرف أين تنظرين حين تفعلين. . فزال الشك فقد طال تحديقك ثم كأنما رابك شيء من جمود هذا القائم على الكرسي فجعلت تتحولين إلى كل موضع في الشرفة وتنظرين، ولبثت هكذا زمناً ثم دخلت، فما كان مني إلا أن أسرعت وعدت إلى الكرسي فقعدت عليه مطمئناً كما كانت الحبشية التي وضعتها قاعدة! إذن كانت لي تلك الوردة الحمراء التي نفضت عنها طلّها وشممتها. . ولي هذه الإشارة إذ تظهرين على الشرفة فترفعين أناملك إلى خصل شعرك المرسل وتردينها عن أذنك. . ولي هذه الابتسامات الوضيئة حين يسرك من جليسك أو جليستك ما تسمعين. . . وأذن لم يكن عفواً أن الفتاة التي زارتك عصر يوم كانت لا تنفك تدير وجهها وتنظر إلى ناحيتي كأنما تريد أن تراني. ولقد عجبت يومئذ لكثرة تلفتها ونظرها إلي وظننت أن هذا من الفضول المألوف، ثم ترددت وشككت فقد رأيتك تتكلمين ورأيتها تتلفت، فتخفين أنت وجهك حتى ترد هي وجهها إليك. وتكرر هذا مع زائرة أخرى جلست معك في الشرفة - وكنت أحسبها قديماً أختاً لك متزوجة لمشابه رأيتها فيها منك - وكان ظهرك إليّ وجهها هي إليك وإليّ، وكان الكلام يدور بينكما، ولكن عين الزائرة لم تكن إلا عليّ أنا، وأنا أتشاغل عنكما ولكني أراكما، وقديماً قالت أمي عني أن لي عيناً في قفاي. . وإذن ليس عفواً أن أهلك جميعاً معنيون بي وأنهم لا يزالون يراعونني وينظرون إلي بل يراقبونني - لولا أني أكره هذه اللفظة - حتى ليبدو لي أحياناً أنهم يصطفون في الشرفة ويبعثون إليك وأنت في الحجرة بأخباري وأنبائي لتعرفي أباق أنا أم خارج. كأنما يحجرون عليك ويمنعونك أن تظهري لي، ولا يسمحون لك بالبروز إلا بعد أن يوقنوا أني خرجت وأن في الوسع اتقاء شري. .(160/15)
كأنما في الأمر شر. . ويكبر هذا في وهمي أحياناً حتى لأترك البيت لغير سبب أو داع سوى أن أعفيك من عنت أهلك، وأطلق لك الحرية التي يقيدونها بسببي. . وإذا جلست في الشرفة تعمدت أن أحول عيني إلى ناحية أخرى وإن كان هذا حرماناً لي لا حق لهم فيه، ولكني من أجلك أحتمله وفي سبيلك أصبر عليه. وليت من يدري بأي شيء لفت نظر أهلك إلى حبي لك وأنا أتحاشى كل إشارة؟ بل أنا أجتنب أن أنظر إليك حين يكون معك أحد ولو كان طفلاً صغيراً. . فهل ترى حدثتهم أنت بما أحسست من ناحيتي؟؟ ربما. . فإن كنت قد فعلت فأنت طائشة، فقد جعلت على نفسك منهم رقباء بلا موجب، فما بيننا شيء سوى النظر (وهل ذاك نافع؟) كما يقول الشاعر القديم. . وقد حدثت نفسي أمس أن أشتري ورداً أحمر، فأنك تحبينه على ما يظهر، وأن أشير به إليك، ولكني لم أفعل وقلت لنفسي: (ما الفائدة؟. هبني أشرت وأشرت وهبها أجابت وأجابت؟؟ أفنظل أنا أشير إليها من بعيد، وهي تجاوبني من بعيد؟؟ ثم لا شيء غير ذلك. . عرفنا أنا محبان ثم ماذا بعد هذا؟؟ هي تظهر في الشرفة، وأنا أنظر إليها من الشرفة. . هي في السماء نجم لامع، وأنا فوق الأرض عين يرفعها إليه قلب واجف!! كلا! لا ورد ولا شبهه!. ما الفائدة؟. ما الفائدة؟. إني أراني أرجع القهقرى قروناً. . بل أنا لا أرجع ولا أتقدم. . وإنما أرى الحياة تركد وتأسن من حولي لأن ذات الثوب الأرجواني شاءت أن تكون قطعة من أثاث بيت فهي فيه لتكون زينة له لا لتحيا وتنعم بالحياة. . وأثارني هذا الخاطر فغضبت وسخطت وأحسست أن نفسي امتلأت مرارة حتى لو وجدت طعمها على لساني. . . سخطت على نفسي لأني خيل إلي أني إنما أحب فتاة ساذجة يسرها أن تكون محبوبة وتقنع من الحب بأن تنظر إلى الرجل وترى الرجل ينظر إليها. . . وغضبت لأني رأيت أن هذه مهزلة فأنا أذوي نفسي، وأمزق أعصابي، وأحرق دمي، وهي تظن أني مغتبط راض قانع بمرآها في هذه الأثواب العديدة التي لا تنفك تخلع منها واحداً وتلبس آخر؟. وما أكثر ما آليت لأسحقن هذا الحب ثم ما هو إلا أن أراها ناظرة إلي حتى يتحلل العزم وينقض ما كنت أبرمته منه. فالحق أن هذه مصيبة لم تكن لي في حساب ولا كان يخطر لي في بال أنها ستنصب يوماً على أم رأسي. . وانظر ماذا تصنع معي!! تبدو لي في الأرجواني، وتبقى فيه حتى أراها - أعني حتى توقن أني رأيتها فأني أراها كثيراً وهي لا تراني - فإذا وثقت دخلت وغيرته!! أليست هذه(160/16)
مكايدة متعمدة. .؟
إبراهيم عبد القادر المازني(160/17)
المقري مؤرخ الأندلس
حياته وتراثه
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
عرفت المقري - صاحب نفح الطيب حدثاً، وشغفت بأثره الجامع عن الأندلس، وأعجبت بجهده الجلد، وأدبه الممتع، واستطعت بعد أعوام طويلة من البحث والتنقيب في تاريخ الأندلس، أن أدرك أهمية الشذور الضافية والوثائق الجمة، التي وقف عليها المقري في عصره، وألهم أن ينقلها إلينا في كتابه، ولولاه لغاضت مع مصادرها الأصيلة إلى الأبد، وحيل بيننا وبين الانتفاع بذلك التراث الحافل الذي يقدمه إلينا المقري في كتابيه نفح الطيب وأزهار الرياض
وقد خطر لي غير مرة أن أكتب ترجمة موجزة للمقري، وأن أستعرض مجهوده وتراثه؛ وأحسب الآن أن فرصة خاصة تعرض للوفاء بهذه المهمة، ذلك أني قد أزمعت - بعون الله - الرحلة إلى تلك الأندلس التي ملأت حياة المقري، وأذكت أدبه وبيانه، وأجرت قلمه أعواماً طوالا، وأزمعت أن أحج إلى تلك الربوع والمروج والمعالم التي أفاض المقري في وصفها، والتغني بمحاسنها الذاهبة، وآثار أطلالها الدارسة، والتي مازالت ذكرياتها قبل المقري وبعده تسيل عبرات التاريخ الإسلامي
هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الشهير بالمقّري نسبة إلى مقّرة، موطن أسرته القديم، وهي بلدة من أعمال قسطنطينية، واليها ينتسب عدة من أدباء المغرب الأكابر. ولد، كما يحدثنا في مقدمة كتابه (نفح الطيب) بمدينة تلمسان ونشأ بها، ولم يذكر لنا تاريخ مولده، وهو تاريخ يضعه بعض الباحثين المحدثين في نحو سنة1000 هـ (1591 - 1593)؛ بيد أنه يلوح لنا من تتبع نشأة المقري وحوادث حياته حسبما يقصها علينا، أنه ولد قبل ذلك التاريخ بعدة أعوام، فهو أولاً يذكر لنا أنه (نشأ بتلمسان إلى أن رحل عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة تسع وألف)، فلو كان مولده سنة1000 لما تحدث هنا عن الشبيبة، إذ يكون عمره عندئذ تسعة أعوام فقط، أعني غلاماً حدثاً، وهو ما لا ينصرف إليه(160/18)
الشباب؛ ثم هو يشير حين التحدث عن اعتزامه كتابة موسوعته عن الأندلس إلى شبابه الذاهب الذي قضاه بالمغرب قبل وفوده على مصر سنة 1027هـ، وفي هذه الإشارة أيضاً ما يدل على أن المقري حين مقدمه إلى مصر، كان قد طوى مرحلة الشباب الأولى؛ وربما كان يومئذ في نحو الخامسة والثلاثين من عمره؛ وعلى ذلك يكون مولده قبل الألف بنحو ثمانية أعوام؛ أعني حوالي سنة 992هـ (1584) م
ونشأ المقري في تلمسان، التي نشأ بها أبوه وأجداده من قبل، وتلقى بها دراسته الأولى، ودرس الأدب والحديث والفقه المالكي دراسة حسنة، وكان بين أساتذته عمه أبو عثمان سعيد المقري مفتي تلسمان؛ وكانت تلمسان مازالت حتى عصره من أهم مراكز الدراسة الدينية بالمغرب، وزار فاس لأول مرة سنة 1009هـ، وقضى بها حيناً في الدرس؛ ثم زارها مرة أخرى في سنة 1011؛ ثم استقر بها منذ سنة 1013. وكان ذلك في فاتحة عصر السلطان أبي المعالي زيدان السعدي؛ وسنحت له في فاس عاصمة المغرب الدينية والعلمية فرص الدرس المستفيض، ولاسيما في المكتبة السلطانية؛ واتصل بمولاي زيدان وآله الأشراف السعديين أمراء مراكش، وولي الإمامة والخطابة لجامع القرويين الشهير، ثم ولي الإفتاء، واستمر في منصبه حتى سنة 1027هـ
وفي أواخر سنة 1027هـ، اعتزم المقري الرحلة إلى المشرق. والظاهر أنه لم يعقد هذا العزم مختاراً، وأنه أرغم عليه لأسباب وظروف يشير إليها، ولا يوضحها؛ فهو يقول لنا أنه (لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أورد. . . برحلتي من بلادي، ونقلتي عن محل طارفي وتلادي، لقطر المغرب الأقصى، الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصاً، وطما به بحر الأهوال. . . وذلك في أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف، تاركاً المنصب والأهل والوطن والألف. . .) أما هذه الظروف التي يشير إليها المقري والتي قضت عليه بالرحيل عن الوطن، فنستطيع فهمها على ضوء الحوادث التي كانت تجوزها مملكة فاس يومئذ؛ فقد تولى مولاي زيدان الملك دون أخويه المأمون، وأبي فارس (سنة 1013هـ) ولم يلبث أن نشبت بينهما حروب أهلية متوالية؛ وهزم مولاي زيدان أولاً، وفر إلى تلمسان، ثم استعاد ملكه بعد عدة محاولات دموية، وبعد أن أجلي عنه غير مرة، في سنة 1108هـ؛ بيد أن عهده كان(160/19)
مضطرباً، فياضاً بالحروب والفتن؛ ولا ريب أن المقري لم ترقه هذه الحياة المضطربة، وأنه اضطر إلى مغادرة المغرب تفادياً من عواقب الفتن والدسائس المستمرة التي كانت تكدر صفو الحياة في فاس، وعلى كل حال فقد غادر المقري وطنه في أواخر سنة 1027هـ، وركب البحر إلى مصر، وعانى من اضطرابه وروعته أهوالاً يصفها لنا في عبارات قوية مروعة؛ والظاهر أيضاً أن سفينته كانت تخشى مطاردة القرصان النصارى، فكان الخوف مضاعفاً؛ وقد كانت مياه البحر الأبيض المتوسط يومئذ مسرحاً لمعارك هائلة مستمرة بين سفن المسلمين والنصارى، ووصل إلى مصر بعد رحلة شاقة مزعجة في أواخر سنة 1027هـ؛ ونزل بالقاهرة فبهرته معالمها ومحاسنها برغم ما أصابها في ظل الحكم التركي من عفاء وتدهور؛ وأقام بها أشهراً، ثم اعتزم الرحلة إلى الحج في أواخر سنة 1028هـ (1618م) فركب البحر إلى الحجاز وطاف بالأماكن المقدسة، وعاد إلى القاهرة في المحرم من العام التالي؛ ثم زار بيت المقدس في شهر ربيع الأول، وعاد إلى القاهرة واستقر بها؛ وتزوج سيدة مصرية من سيدات الأسرة الوفائية؛ ولكنه لم يكن زواجاً موفقاً، وقد فصمت عراه كما سنرى بعد أعوام من الحياة الزوجية الكدرة. وكرر المقري الرحلة إلى الحجاز، وأدى فريضة الحج مراراً، فلم تأت سنة 1037هـ حتى كان قد أداها خمس مرات؛ وجاور أثناء الحج في مكة، وألقى فيها كثيراً من دروسه، وأملى الحديث في المدينة، وعاد إلى مصر من حجته الخامسة في فاتحة سنة 1037 (1627م)
واستقر المقري في القاهرة طوال هذه الأعوام، ولازم الدرس والتدريس بالجامع الأزهر، وتبوأ مكانته في مجتمع مصر العلمي والأدبي، وفي رجب سنة 1037هـ زار المقري بيت المقدس مرة أخرى، وألقى بعض دروسه بالجامع الأقصى، ثم غادرها بعد بضع أسابيع إلى دمشق، فبهرته محاسنها كما بهرته القاهرة من قبل؛ ورحب به كبير علمائها ومفتيها الشيخ عبد الرحمن عماد الدين؛ واتصل بكثير من أدبائها وأعيانها وبالأخص بالمولى أحمد أفندي شاهين وهو من أعيانها الأدباء؛ وألقى بعض دروسه في الحديث في الجامع الأموي فاحتشد الطلاب حوله من كل صوب، وحفل به المجتمع الدمشقي. وكان يبكي السامعين بخطبه ومواعظه، ويتسابق العلماء والطلاب إلى لثم يده؛ وكان أثناء إقامته بدمشق يكثر الحديث في حلقاتها الأدبية عن الأندلس ومحاسن تاريخها وذكرياتها وبالأخص(160/20)
عن وزيرها الكبير ابن الخطيب، فاقترح عليه صديقه المولى أحمد شاهين أن يضع كتاباً في التعريف بابن الخطيب، ومناقبه، وتراثه من نظم ونثر؛ فاعتذر أولاً بكثرة مشاغله، وقلة مادته ومراجعه، وخصوصاً لأنه ترك معظمها في المغرب، ولكنه اضطر إزاء الإلحاح أن ينزل عند هذه الرغبة، ووعد بالوفاء منذ عوده إلى القاهرة
وعاد المقري إلى القاهرة بعد أن أنفق في دمشق بضعة أسابيع، وعكف حيناً على إنجاز المهمة التي أخذها على نفسه، أعني كتابة ترجمة ابن الخطيب والتعريف بمآثره وتراثه؛ ويقول لنا أنه استطاع غير بعيد أن ينجز منه قسماً لا بأس به، ولكن عاقته عن إتمامه مشاغل وهموم؛ والظاهر أن المقري لم يكن في مقامه النائي عن وطنه، هانئاً قرير البال، فهو يحدثنا غير مرة عن آلام الغربة ومتاعبها. ومما يقول في ذلك: (وليت شعري علام يحسد من أبدل الاغتراب شارته، وأضعف الاضطراب إشارته، وأنهل بالدموع أنوائه، وقلل أضوائه، وكثر علله وأدوائه، غير عنده التأمل رواءه، وثنى عن المأمول عنانه، وأرهف بالخمول سنانه، حتى قدح الذكر حنانه، وملأ الفكر جأشه وجنانه. . . وشتان ما بين الاقتراب والاغتراب، والسكون في الركون، والنبو عنها والاضطراب، فذاك تسهل غالباً فيه الأغراض والمآرب، وهذا تتعثر فيه المقاصد وتتكدر المشارب
وما أنا عن تحصيل دنيا بعاجز ... ولكن أرى تحصيلها بالدنية
وإن طاوعتني رقة الحال مرة ... أبت فعلها أخلاق نفس أبية
وقوله:
تركت رسوم عزي في بلادي ... وصرت بمصر منسي الرسوم
وصنت النفس بالتجريد زهداً ... وقلت لها عن العلياء صومي
مخافة أن أرى بالحرص ممن ... يكون زمانه أحد الخصوم
كان المقري إذن في منفاه متعباً معنى؛ والظاهر أنها كانت متاعب العيش فوق شجون الاغتراب؛ فقد كانت سوق العلم والأدب يومئذ كاسدة، وكان المجتمع القاهري قد فقد في ظل النير التركي بهاءه وسعته ورخاءه، وعفت روعة الأزهر الذي كان من قبل موئل الوافدين من كل صوب
ولكن المقري عاد فاستأنف الكتابة نزولاً على إلحاف صديقه أحمد شاهين واستنجازه،(160/21)
واستطاع أن يتم كتابه عن ابن الخطيب بصورته الأولى في بضعة اشهر فقط لعودته من دمشق، وذلك في أواخر شهر رمضان سنة 1038هـ (1628م)؛ وفيه يتناول حياة ابن الخطيب، ويستعرض صفاته وخلاله ومآثره، وكثيراً من نثره ونظمه؛ ويقول لنا أنه سمى مؤلفه لأول مرة (عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب)
غير أن ذلك المؤلف الأول لم يكن هو (نفح الطيب) كما انتهى إلينا. ذلك أن المقري خطرت له بعد الفراغ من التعريف بابن الخطيب فكرة أخرى هي أن يمهد لكتابه بذكر الأندلس وتاريخها ومحاسنها وذكرياتها، وتطورت هذه الفكرة حتى غدت هيكل الكتاب الأصلي؛ فاستمر في الكتابة عاماً وبضعة اشهر أخرى، وأتم مؤلفه حسب وضعه الجديد، كما يحدثنا في خاتمة مؤلفه، في آخر ذي الحجة سنة 1039هـ (1629 - 1630م) واختار عندئذ لكتابه اسما جديدا، هو الذي انتهى به إلينا، وهو:
(نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب)
والواقع أنه من التواضع أن يسمى (نفح الطيب) كتاباً، فهو كما سنرى موسوعة ضخمة عن الأندلس، تاريخها، وجغرافيتها وآدابها؛ ومن المدهش حقاً أن يستطيع المقري أن يضع مثل هذا الأثر الضخم في مثل هذه المدة القصيرة؛ ولكن سنرى أن فضل المقري في وضعه يرجع إلى الاقتباس أكثر مما يرجع إلى التأليف؛ وسنرى مع ذلك أن للمقري في هذا الاقتباس فضلاً لا يقدر وأن نفح الطيب هو أقيم مصادرنا العربية عن تاريخ الأندلس وآدابها
وكان المقري منذ عوده من دمشق قد طلق زوجته الوفائية، ووضع بذلك حدا ًلتلك الحياة الزوجية الكدرة؛ وما كاد يتم مؤلفه حتى أزمع العودة إلى دمشق ليتصل فيها بأصدقائه وليطلعهم على مؤلفه الذي وضعه نزولاً على إشارتهم؛ ولكن الموت عاجله، فتوفى في جمادى الآخرة سنة 1041هـ (يناير سنة 1632م)، ودفن في بقرافة المجاورين بالقاهرة
(للبحث بقية - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(160/22)
مقتل أبي الطيب المتنبي
بمناسبة مرور ألف سنة على وفاته
للدكتور عبد الوهاب عزام
خرج أبو الطيب من شيراز لثمان خلون من شعبان قاصداً بغداد فالكوفة
ويقول بعض الرواة إن أبا الطيب لما قدم على عضد الدولة ومدحه وصله بثلاثة آلاف دينار وثلاثة أفراس محلاّة، ثم دس إليه من يسأله أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟ فقال: إن سيف الدولة كان يعطي طبعاً وعضد الدولة تطبعاً. فغضب عضد الدولة وأوصى إلى جماعة أن يقتلوه. وروى صاحب الإيضاح أن عضد الدولة قال إن المتنبي كان جيد الشعر بالغرب. فلما بلغت المتنبي قال: الشعر على قدر البقاع
وهاتان روايتان لا تثبتان على النقد. فأبو الطيب قد أفرغ وسمعه في مدح صاحبه ونال من جوائزه ما ملأه شكراً. فكيف قال ما نسب إليه؟ وكيف وهو يعلم أن كلامه حري أن يبلغ عضد الدولة؟
وعندنا رواية تخالف هذه:
قال صاحب الصبح المنبي: حكى عبد العزيز بن يوسف الجرجاني كاتب الإنشاء عند عضد الدولة قال: لما دخل أبو الطيب المتنبي مجلس عضد الدولة وانصرف عنه أتبعه بعض جلسائه، وقال له سله كيف شاهد مجلسنا وأين الأمراء الذين لقبهم منا. قال: فامتثلت أمره وجاريت المتنبي في هذا الميدان. وأطلت معه عنان القول. فكان جوابه عن جميع ما سمع مني أن قال ما خدمت عيناي قلبي كاليوم. ولقد اختصر اللفظ وأطال المعنى وأجاد فيه. وكان ذلك من أوكد الأسباب التي حظي بها عند عضد الدولة
فهذه الرواية أشبه بحزم أبي الطيب. ولماذا يقول الشاعر في أمير أفاض عليه عطاءه إن هذا عطاء متكلف وسيف الدولة كان يعطي طبعاً؟ أكان يبغي إرضاء سيف الدولة وهو في شيراز ولا يبالي إغضاب عضد الدولة وقد قصده وبذل في مدحه وسعه، ونال من عطاياه ما أثقله شكراً. ورواية (الشعر على قدر البقاع) سبيلها في الرد والدحض سبيل أختها
ثم ما الذي يغري ابن بويه بقتل شاعر عظيم أشاد يذكره وآثره بالمدح على ابن عمه معز الدولة ووعده أن يرجع إليه ليخلد مآثره. إن أعداء عضد الدولة أولى بهذه التهمة. وقد(160/24)
أدرك بعض المعاصرين أن قتل أبي الطيب إخفار لذمة عضد الدولة فأنشأ أبياتاً يحرضه فيها على عقاب من أخفروا ذمته
سار الشاعر بمراكبه وأحماله وغلمانه حتى بلغ الأهواز وبين الأهواز وشيراز واحد وخمسون فرسخاً. ثم سار خمسين فرسخاً حتى بلغ واسط. وهنا نقف لنعرض على القارئ روايتين: الأولى مروية في الصبح المنبي عن الخالديين قالا:
(كنا قد كتبنا إلى أبي نصر محمد الجبلي نسأله عما صدر لأبي الطيب المتنبي بعد مفارقته عضد الدولة وكيف قتل - وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية وله فضل وأدب جزل وحرمة وجاه - فأجابنا عن كتابنا جواباً طويلاً يقول في أثنائه: (وأما ما سألتما عنه من خبر مقتل أبي الطيب فأنا أسوقه وأشرحه شرحاً بيناً) وفي هذا الشرح يذكر أبو نصر قتل أبي الطيب وسببه. ثم يبين تربص فاتك الأسدي في طريق الشاعر وعزمه على قتله فيقول:
(وأما شرح الخبر فان فاتكا هذا صديق لي. وهو كما سمي فاتك لسفكه الدماء وإقدامه على الأهوال في مواقف القتال. فلما سمع الشعر الذي هجا به ضبة اشتد غضبه. ورجع على ضبة باللوم وقال له كان يجب ألا تجعل لشاعر عليك سبيلاً. وأضمر غير ما أظهر)
واتصل به انصراف المتنبي من فارس وتوجهه إلى العراق. وعلم أن اجتيازه بجبل دير العاقول. فلم يكن ينزل عن فرسه ومعه جماعة من بني عمه رأيهم في المتنبي مثل رأيه من طلبه واستعلام خبره من كل صادر ووارد
وكان فاتك خائفاً أن يفوته. وكان كثير ما ينزل عندي. فقلت له يوماً وقد جاءني وهو يسأل قوماً مجتازين عن المتنبي فقلت له أكثرت المسألة عن هذا الرجل. فأي شيء رجل تريد منه إذا لقيته؟ فقال ما أريد إلا الجميل وعذله على هجاء ضبة. فقلت له هذا لا يليق بأخلاقك. فتضاحك ثم قال: يا أبا نصر والله إن اكتحلت عيني به أو جمعتني وإياه بقمة لأسفكن دمه، ولأمحقن حياته. قلت له كف عافاك الله عن هذا القول، وأزل هذا الرأي من قلبك فان الرجل شهير الاسم، بعيد الصيت. ولا يحسبن منك قتله على شعر قاله. وقد هجت الشعراء الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام. فما سمعنا بشاعر قتل بهجائه. وقد قال الشاعر:(160/25)
هجوت زهيراً ثم إني مدحته ... ومازالت الأشراف تهجى وتمدح
ولم يبلغ جرمه ما يوجب قتله. فقال يفعل الله ما يشاء وانصرف
ولم يمض لهذا القول غير ثلاثة أيام حتى وافاني المتنبي ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والطيب والتجملات النفيسة والكتب الثمينة والآلات. لأنه كان إذا سافر لم يخلف في منزله درهماً ولا شيئاً يساويه. وكان أكثر إشفاقه على دفاتره لأنه كان قد انتخبها وأحكمها قراءة وتصحيحاً)
قال أبو نصر (فتلقيته وأنزلته داري، وسألته عن أخباره وعمن لقي. فعرفني من ذلك ما سررت له وأقبل يصف ابن العميد وعلمه وكرمه وكرم عضد الدولة ورغبته في الأدب وميله إلى أهله
فلما أمسينا قلت يا أبا الطيب على أي شيء أنت مجمع؟ قال على أن أتخذ الليل مركباً فإن السير فيه يخف علي. فقلت هذا هو الصواب رجاء أن يخفيه الليل ولا يصبح إلا وقد قطع بلداً بعيداً. وقلت له والرأي أن يكون معك من رجالة هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة جماعة يمشون بين يديك إلى بغداد. فقطب وجهه وقال لم قلت هذا القول؟ فقلت لتستأنس بهم، فقال أما والجراز في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره. قلت الأمر إليك، والرأي في الذي أشرت عليك. فقال تلويحك ينبي عن تعريض، وتعريضك ينبي عن تصريح. فعرفني الأمر وبين لي الخطب. قلت إن الجاهل فاتكا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام وهو غير راض عنك لأنك هجوت ابن أخته ضبة. وقد تكلم بأشياء توجب الاحتراز والتيقظ، ومعه أيضاً نحو العشرين من بني عمه قولهم مثل قوله. فقال غلام أبي الطيب وكان عاقلاً: الصواب ما رآه أبو نصر. خذ معك عشرين رجلاً يسيرون بين يديك إلى بغداد. فاغتاظ وشتمه شتما قبيحاً. وقال والله لا أرضى أن يتحدث عني الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي. قال أبو نصر فقلت يا هذا أنا أوجه قوماً من قبلي يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك. فقال والله لا فعلت شيئاً من هذا
ثم قال: يا أبا نصر! بخرء الطير تخوفني ومن عبيد العصا تخاف علي؟ والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون بخمس وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيات ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده. معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة(160/26)
عين. فقلت له: قل إنشاء الله تعالى، فقال هي كلمة مقولة لا تدفع مقضياً ولا تستجلب آتياً
ثم ركب فكان آخر العهد به.) اهـ
نقف هنا لنتأمل في هذه الرواية المطولة قبل أن نقيسها إلى رواية أخرى:
يقول الخالديان إنهما كتبا إلى نصر محمد الجبلي ثم يقولان: (وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية) ليس في الرواية تصريح باسم ناحية ولكن ذكرت ضمناً في نسبة أبي نصر (الجبلي). والذي أراه أنها نسبة إلى جَبُّل وهي بلدة بين النعمانية وواسط على دجلة تبعد عن النعمانية خمسة فراسخ إلى الشرق الجنوب، وعن دير العاقول ثلاثة عشر فرسخاً. فهذا الراوي من بلدة تبعد عن مقتل أبي الطيب نحو أحد عشر فرسخاً وهو صديق للشاعر وقاتله. وخلاصة روايته:
1 - أن فاتكان الأسدي خال ضبة العيني الذي هجاه أبو الطيب كان يكثر السؤال عن الشاعر ليقتله انتقاماً لأخته التي هجاها. وقد صرح بهذا لأبي نصر
2 - وأن أبا الطيب نزل على أبي نصر بجبَّل فأخبره ونصحه بالحذر فلم يقبل. واحتقر فاتكا وقومه احتقاراً شديداً وغلا في كلامه غلواً لا يليق برجل عاقل
وفي خزانة الأدب نقلاً عن الإيضاح رواية أخرى نصها:
(وأخبرنا أبو الحسن السوسي في دار الوقف بين السورين، قال: كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي. وورد عليه المتنبي ونزل عن فرسه ومقوده بيده وفتح عيابه وصناديقه لبلل مسها في الطريق وصارت الأرض كأنها مطارف منشورة. فحضرته أنا وقلت قد أقمت للشيخ نزلاً. فقال المتنبي إن كان ثم فهاته. ثم جاء فاتك الأسدي يجمع وقال قدم الشيخ هذه الديار وشرفها بشعره والطريق بينه وبين دير قُنّة موحش قد احتوشته الصعاليك وبنو أسد يسيرون في خدمته إلى أن يقطع هذه المسافة، ويبر كل واحد منهم بثوب بياض. فقال المتنبي ما أبقى الله بيدي هذا الأدهم وذباب الجراز الذي أنا متقلده فإني لا أفكر في مخلوق. فقام فاتك ونفض ثوبه من رتوت الأعاريب الذين يشربون دماء الحجيج حسوا سبعين رجلاً ورصدوا له. فلما توسط المتنبي الطريق خرجوا عليه، الخ)
هذه الرواية تؤيد الأولى في أن أبا الطيب أبى أن يسير في خفارة أحد، وتخالفها في أن فاتكا هو الذي عرض على الشاعر أن يخفره. ومعنى هذا أنه ما كان مبيتاً شراً له وأنه لو(160/27)
قبلت خفارته ما قتله. وفي الرواية مطاعن:
فقول: أبي الحسن السوسي: (كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي الخ. يؤخذ منه أن مرور أبي الطيب بالأهواز كان في عهد المهلبي، والمهلبي توفي سنة 352 كما تقدم
ولو أن فاتكا لقي أبا الطيب في الأهواز فعرض عليه خفارته فأبى فعزم على قتله أو سلبه ما صبر عليه حتى قطع المسافة من الأهواز إلى واسط وهي خمسون فرسخاً، ثم سار من واسط حتى جاوز النعمانية، كما سيأتي، وذلك أكثر من عشرين فرسخاً.
وقول فاتك إن الطريق إلى دير قنة موحش بعيد أن يقال في الأهواز وبينها وبين دير قنة مراحل كثيرة وبلدان عامرة، وإنما يقال مثل هذا في موضع قريب من دير قنة النعمانية أو جبل.
ثم عرض فاتك خفارته على أبي الطيب وفي نفسه منه ما فيها مستبعد كذلك
فرواية أبي نصر أجدر بالقبول بعد حساب المبالغة فيها كقول أبي الطيب عن بني أسد (ابخرء الطير تخوفني الخ.) فالرجل مهما تكبر وتهور كان أعقل من أن يقول مثل هذا القول: وأحسب أبا نصر حينما سئل عن مقتل أبي الطيب أراد أن يبين عن نصيبه في هذه القصة التي يتشوف الناس إلى سماعها فأدخل شيئاً من الصنعة، ومبالغة القصاص، وبالغ في نصحه أبا الطيب وفي إباء هذا قبول النصيحة وهكذا
- 2 -
سار أبو الطيب من الأهواز إلى واسط فنزل بها، قال علي ابن حمزة البصري عن القصيدة الكافية التي ودع بها الشاعر عضد الدولة: (هذه القصيدة آخر شعر قاله أبو الطيب. وكتبتها والتي قبلها عنه بواسط يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة)
بين واسط وبغداد زهاء أربعين فرسخاً، وعلى الطريق بلاد نذكر منها ما ذكر في روايات مقتل أبي الطيب: وهي النعمانية ودير قُنىّ ودير العاقول والصافية
النعمانية في نصف الطريق بين واسط وبغداد غربي دجلة وهي قائمة اليوم. وكانت تسمى بغيلة فأعيد أسمها القديم. ودير العاقول كان على شاطئ دجلة الشرقي، وكان عنده مدينة مسماة باسمه، وكان على ميل من النهر أيام ياقوت. وبينه بين بغداد 15 فرسخاً، وبينه(160/28)
وبين النعمانية زهاء خمسة فراسخ
وإلى الجنوب الشرقي من دير العاقول على مقربة منه دير مرماري الذي يسمى دير قُنىّ أو (قُنّه) وهو على 16 فرسخاً من بغداد يبعد على الشاطئ قليلا
وأمام دير قُنى على الشاطئ الصافيةُ على فرسخين إلى الجنوب والشرق من دير العاقول. وكانت على ميل من الشاطئ في زمن ياقوت.
وعلى نحو ثمانين كيلاً من بغداد إلى الجنوب والشرق توجد اليوم أرض تسمى أرض الدير. ذهبت إليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة خمسة وخمسين وثلاثمائة. فإذا تلال كثيرة متقاربة قليلة الارتفاع عليها حطام من الآجر والخزف تبعد عن شاطئ دجلة الشرقي نحو كيل واحد
وقد سألت أعراباً نازلين هناك من قبيلة شّمر عن أرض أخرى تسمى أرض الدير في هذه الناحية فنفوا هذا. وسألت عن أسماء العاقول وقنى والصافية، أتعرف اليوم هي أو ما يقرب منها؟ فنفوا جازمين
وإذا نظرنا إلى المسافة بين هذه الأرض وبغداد فهي تقارب خمسة عشر فرسخاً. وهي المسافة المقدرة بين بغداد ودير العاقول في معجم البلدان وغيره
ومهما يكن فأكبر الظن أن هذه التلال بقايا دير قنى أو دير العاقول. وكانا متقاربين، وهذا يدل على أن دجلة لم تغير مجراها كثيراً في هذه الناحية
وأما الصافية فأحسب موضعها الآن في مجرى النهر، فقد كانت أيام ياقوت على ميل من دير قنى، ويؤيد هذا القول صاحب مراصد الإطلاع عن الصافية، (وقيل موضع دجلة)
- 3 -
الروايات في مقتل أبي الطيب متفقة في جملتها، ولكن بعضها أبين وأكثر تحديداً من بعض، وهي في التحديد قسمان:
1 - روايات تجعل مقتله قرب النعمانية أو قرب دير العاقول دون ذكر الموضع الذي قتل به
2 - روايات تذكر الصافية على أنها موضع القتل أو قريبة منه وهي على مقربة من دير العاقول، بينه وبين النعمانية، فليست تناقض الروايات الأولى، بل تزيد عليها تحديداً(160/29)
3 - رواية ابن خلكان التي تحاول الجمع بين الروايات فتقول: (بالقرب من النعمانية في موضع يقال له الصافية من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول بينهما مسافة ميلين)
وحق أن الصافية قريبة من دير العاقول ولكنها ليست قريبة من النعمانية إلا قرباً نسبياً
4 - رواية ابن جني ونسخة بغداد ونسخة في الموصل تذكر مكاناً محرّفاً مضطرباً بين فرع ونيزع وشرع. ولم أجد لها ذكراً في الكتب
يستطيع الباحث بعد هذا أن يقول إن أبا الطيب قتل على مقربة من الصافية، ولكن ابن خلكان وابن الأنباري يقولان: (من الجانب الغربي من سواد بغداد) والصافية على الشاطئ الشرقي، فكيف هذا؟
رواية ابن خلكان متناقضة بلا ريب، فهو يقول في موضع يقال له (الصافية من الجانب الغربي) وهذا خطأ، وأحسبه اتبع ابن الأنباري فالعبارتان متقاربتان. فهل عبارة ابن الأنباري مقبولة؟
هو يقول (حيال الصافية من الجانب الغربي) فيمكن أن يقال إن مقتل الشاعر في الجانب الغربي حيال الصافية على الضفة الشرقية - وكلمة حيال هذه صحفت في بعض الروايات إلى جبال وليس عند الصافية جبال
يمكن قبول رواية ابن الأنباري بهذا التفسير لو لم نعرف الطريق بين واسط وبغداد أتساير الضفة الشرقية أم الغربية من دجلة، ولكننا نعرف من كتب المسالك أن الطريق شرقي دجلة. وقد عرفنا أنه مر بجبّل وليس لنا أن نفرض أنه سار شرقي النهر من واسط إلى جبل حيث نزل على ابن نصر ثم عبر إلى النعمانية ليعبر إلى الشرق مرة أخرى
وخلاصة هذه الكلمة أن جمع هذه الروايات ونقدها وتعّرف مواقع البلاد التي ذكرت في الروايات والطريق بين واسط ودار الخلافة. كل أولئك يبين لنا أن مقتل أبي الطيب كان عند الصافية شرقي نهر دجلة على نحو ستة عشر فرسخاً من بغداد
- 4 -
سار أبو الطيب من واسط يؤم بغداد في طريقه إلى الكوفة وكان مسيره يوم السبت سابع عشر رمضان. وفي هذا اليوم كتب عنه علي بن حمزة البصري روايته القصيدتين(160/30)
الأخيرتين من شعره كما تقدم
وبلغ جبّل بعد أن سار زهاء سبعة عشر فرسخاً فنزل عند أبي نصر الجبلي كما تقدم. ثم أخذ طريقه حتى حاذى النعمانية وهي في نصف الطريق بين واسط وبغداد ثم سار فمر بجرجرايا على أربعة فراسخ إلى الجنوب والشرق من دير العاقول ثم تقدم حتى قارب الصافية وبينه وبين بغداد ستة عشر فرسخاً
وهنالك خرج عليه فاتك بن أبي جهل الأسدي خال ضبة ابن يزيد الذي هجاه أبو الطيب. وكان فاتك في نيف وثلاثين فارساً رامحين وناشبين وكان مع أبي الطيب ابنه محسد وغلمانه الذين وصفهم في القصيدة الميمية التي رثى فيها فاتكا وفي قصيدة توديع ابن العميد كما تقدم
ولا ندري كم كان غلمانه ولكنهم كانوا ولا ريب أقل عدداً من عدوهم
قاتل الشاعر الشجاع حتى قتل. وقتل ابنه. وأكثر الروايات تخص من بين غلمانه غلامه مفلحاً. وفي الخزانة أنهم قتلوا كل من كان معه. وما أحسب الغلمان ثبتوا كلهم بعد قتل سيدهم. وفي رواية الخزانة أيضاً (وحمل فاتك على المتنبي وطعنه في يساره ونكسه عن فرسه. وكان ابنه أفلت إلا أنه رجع يطلب دفاتر أبيه فقنع خلفه الفرس أحدهم وحز رأسه)
(قال أبو نصر: ولما صحّ خبر قتله وجهت من دفنه ودفن ابنه وغلمانه وذهبت دماؤهم هدراً)
ردي حياض الردى يا نفس واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة ... فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
عبد الوهاب عزام(160/31)
بين عالمين
نظام الطلاق في الإسلام
(بقية المقال المنشور في العدد السابق)
للأستاذ أحمد محمد شاكر
هذا عن الدليل على وجوب الإشهاد في الطلاق وفي الرجعة، وأما الدليل على أنه شرط في صحتهما، وأن من طلق أو راجع بغير إشهاد فقد بطل طلاقه وبطلت رجعته، ولم يصح واحد منهما - فان الطلاق عمل استثنائي صرف، يخالف القواعد العامة في العقود والفسوخ، وكذلك الرجعة، لأن كلا منهما تصرُّفٌ في عقد بين اثنين، يقوم به أحد طرفي العقد وحده، وهو الرجل من غير اختيار أو مشاركة له فيه من الطرف الآخر، وهو المرأة، أَذِنَ بهما الشارع الحكيم، في حدود معينة، وبنظام خاص، وليسا مما يملكه الرجل وحده بطبيعة التعاقد، لأن الزواج عقد كسائر العقود، لا يملك أحد طرفي العقد التصرف فيه بالإلغاء أو الإنهاء وحده، لولا ما أذن به الله للرجل من حق الانفراد بالطلاق؛ وكذلك الرجعة، هي إعادة للعقد الذي نسخه الرجل وحده بما جعل الله له من الحق في ذلك، وهي إنما يملك الرجل الانفراد بها - دون الطرف الثاني من العقد - بما أذن الله له فيها، ولو لم يأذن الله بالطلاق وبالرجعة للرجل، لم يكن له أن ينفرد بواحد منهما من غير رضا الطرف الآخر في العقد
وقد أذن الله في شريعته للرجل بالاستقلال بإيقاع الطلاق، وبالانفراد برد المطلقة إلى عصمته، بصفات معينة، وفي أوقات خاصة، فتكون كلها شروطاً في صحة ما يفعله المطلق حين طلاقه، والمراجعُ حين رجعته. فإذا تجاوز الصفات التي رُسمت له فيهما، أو الأوقات التي أُقِّتَتْ له، كان عملاً باطلاً، لأنه خرج عن الحدّ الذي ملك فيه الانفراد بالتصرف بالإذن من الشارع الحكيم
ولذلك قلنا ببطلان الطلاق لغير العدة، وببطلان الطلاق من غير إشهاد، وببطلان سائر أنواع الطلاق الذي يسمى (الطلاق البدعي). وقلنا أيضاً ببطلان الرجعة من غير إشهاد، وببطلانها إذا قصد بها المضارّة ولم يقصد بها الإصلاح، كما قال الفقهاء جميعاً ببطلان(160/32)
الرجعة إذا كانت بعد انقضاء العدة، وببطلانها إذا كانت بعد الطلقة الثالثة وهكذا
وهذا المعنى قد أوضحته مراراً في كتاب (نظام الطلاق في الإسلام)، فمما قلته (ص60 - 63):
(وليس المقصود من الطلاق اللعبَ واللهوَ، حتى يزعم الرجلُ لنفسه أنه يملك الطلاقَ كما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء؛ وأنه إن شاء أبان الْمَرْأَةَ بَتَّةً، وإن شاء جعلها معتدةَ يملك عليها الرجعة)
(كلا، ثم كلا، بل هو تشريع منظم دقيق من لَدُنْ حكيم عليم، شَرعَهُ الله لعباده ترفيهاً لهم، ورحمة بهم، وعلاجاً شافياً لما يكون في الأسرة بين الزوجين من شقاق وضرار، ورَسمَ قواعدَه، وحدَّ حدودَه بميزان العدالة الصحيحة التامة ونهى عن تجاوزها، وتوعد على ذلك. ولهذا تجد في آيات الطلاق تكرار ذكر حدود الله، والنهيَ عن تعديها وعن المضارَّة: (تلك حدود الله فلا تعتدوها. ومن يتعد حدود الله فأؤلئك هم الظالمون). (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون). (ولا تمسكوهن ضِراراً لتعتدوا، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه، ولا تتخذوا آيات الله هزُوا) (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فأحذروه))
(وهو تشريعٌ تَقَطَّعَتْ دونه أعناق الأمم قبل الإسلام وبعده، وهأنت ذا ترى الأمم العظيمة التي تزعم لنفسها المدنية ويزعمها لها الناس: - تحاول إصلاح نظام الأسرة، وتشريع القوانين لديها للطلاق، فلا تصل إلى شيء معقول، بل هي تتخبط في الظلمات، وتأتي بالبلايا والمضحكات وذلك أنها تصدر في تشريعها عن العقل الإنساني القاصر. أما التشريع الإسلامي فأنه وحيٌ الهي كريمٌ، أَرسَل به أعظم رجل وأعقل رجل ظهر في هذا الوجود، وأمره أن يفسره للناس ويبينه لهم، ثم يحملهم على طاعته والعمل به)
(وإنما المقصود من الطلاق في هذه الشريعة النقية الواضحة الكاملة: أن بين الزوجين عقداً - كسائر العقود - على المعايشة والمعاشرة بالمعروف، فإن هما فعلا تحقق المقصد الصحيح من الزواج وطاب عيشهما، وإن هما تباغضا وتنافرا وخافا ألا يقيما حدود الله ورغبا في الفراق، فهما كغيرهما من كل متعاقِدَيْن: لهما أن يتفقا على الانفصال في مقابل عوض من المرأة للرجل، كما تعاقدا في أصل النكاح في مقابل الصداق من الرجل للمرأة. وبذلك جاء نص القرآن الكريم: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت(160/33)
به) فشرع لهما الخلعَ والمبارأة، وكانت المرأة به بائناً تملك أمر نفسها، وليس للرجل عليها حق المراجعة إلا بعقد جديد واتفاق آخر؛ ولم يكن عليه للمرأة حقوق أخرى من حقوق العقد، كالصداق والنفقة وغيرهما، إلا أن يتشارطا على شيء: فالمسلمون عند شروطهم)
(واختار الله لعباده - لحكمة سامية - أن يستثني النكاح من القاعدة العامة في فسخ العقود، فأباح للرجل أن ينفرد بفسخ هذا العقد بإرادته وحده، بشرائط خاصة ونظام واضح، ورَتَّب لكل من المتعاقدين حقوقاً قِبَلْ صاحبه، لا يجوز لأحدهما أن يتهرب منها. فمن وقف عند حدود الله وفَسَخَ عقد النكاح الذي بينه وبين زوجه في دائرة الحدود التي حدَّ الله له، كان قد استعمل حقاً يملكه بتمليك الله إياه، وجاز عمله، وترتبت عليه آثاره. ومن تجاوز حدود الله، واجترأ على حل عقدة النكاح على غير المنهج المرسوم له. كان عابثاً، وكان عمله باطلاً لغواً، كما إذا انفرد أحد المتعاقدين بإلغاء عقد البيع أو عقد الرهن مثلاً، فإن عمله لاغٍ لا أثر له في العقد. فكذلك المطلق في غير الحدود التي أذن فيها)
وقلت أيضاً (ص71): (إذنْ، فقد منح الله الرجلَ حق الانفراد بالطلاق، وهو حل لعقدة النكاح: بين الزوجين عقد كسائر العقود، وهو عقد الزواج، فإذا أراد أن يطلق بمحض إرادته وحده، فلن يملك من ذلك إلا أن يتبع أمر ربه الذي شرع له هذا الحق وأذنه به)
فهذا التفسير لمعنى الطلاق ولمعنى الرجعة هو المطابق كلَّ المطابقة لنصوص القرآن الكريم. ولمقاصد الشارع الحكيم، ولقواعد العقل السليم، وللفقه الصحيح في الدين. وليس من المعقول أن تترك هذه الشريعة الدقيقة - شريعةُ الطلاق والرجعة - لأهواء الناس وآرائهم وألاعيبهم في الألفاظ. إنما هي مقاصد سامية، تتعلق بأدق الشؤون الاجتماعية وأشدها خطراً في حياة الإنسان وأشرف الروابط بين الناس وأعلاها وأنفعها للنوع الإنساني، وهي رابطة الحياة الزوجية. (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودَّةً ورحمةً، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)
فلم يكن الطلاق - في الشريعة الإسلامية - حقاً مطلقاً للرجل من غير قيد، كما يفهم ذلك أكثر الناس، بل عامتهم، وإنما هو مقيد بقيود كثيرة، بعضها قيود في نفس إنشاءه وإيقاعه، وهي شروط في صحته عندي وفي رأيي، وبعضها قيود تتعلق بحال المطلق وظروف طلاقه، وهي تعليم من الشارع وتأديب، لأنها ترجع إلى أمور نفسية وأحوال دقيقة في(160/34)
المعايشة والمعاشرة، لا تدخل تحت القواعد القضائية التي تكاد تكون مادية، فجعل الرجل فيها أمينَ نفسه، ورقيباً على أعماله، أو جعلت تحت رقابة ضميره - كما يعبر الكتاب من أهل هذا العصر -
فإن أتبع في ذلك أوامر الله في كتابه وفي سنة رسوله ووقف عند حدود الله: كان طلاقه صحيحاً، وبريء من أثم العدوان في الطلاق، وإن لم يتبع ما أمر به، ولم يجعل طلاقه في الحدود التي حدت لإنشائه وإيقاعه، فكأنه لم يعمل شيئاً ولم يوقع طلاقاً، وإنما كسب خطيئة وإثماً بمخالفة أمر ربه
وإن جعل طلاقه في الحدود التي حدت للإنشاء والإيقاع ولكنه تجاوز في القيود الأخرى التي تتعلق بحاله وظروف طلاقه كان طلاقه واقعاً، ولكنه كان آثماً بمخالفته وعدوانه، لأن هذه الشؤون ليست مما يدخل تحت سلطان الحاكم وتقدير القاضي، وإنما يحاسب عليها بين يدي ربه يوم القيامة
لأن الشريعة الإسلامية يمتزج فيها - دائماً - التشريع القانوني القضائي بالشؤون الدينية النفسية والخلقية التهذيبية، وتجمع في أحكامها بين الوجوب أو الإباحة أو الندب أو الكراهة أو الحل أو الحرمة: وبين الصحة أو البطلان أو الفساد، وهكذا فهي شريعة ودين معاً
وكذلك الرجعة: ليست من حقوق الرجل بإطلاق من غير قيد، بل هي مقيدة بقيود كالطلاق، ولكنها أقل قيوداً منه، تيسيراً من الشارع الحكيم، وترغيباً في وصل ما انقطع من علائق الزوجية
فمن قيودها ما هو راجع لأصل إيقاع الفعل وإنشاءه، فيكون شرطاً في صحته، وكلها منصوص عليه في القرآن نصاً: فمن ذلك ما اتفق عليه أهل العلم ولم ينقل فيه خلاف عن أحد منهم، وهو أن تكون المطلقة مَدْخولاً بها، وألا يكون ذلك بعد الطلقة الثالثة، وأن تكون الرجعة وهي في عدة المطلق
ومن ذلك ما اختلف فيه، واخترنا انه شرط في صحة الخلع أيضاً ونصرنا القول به، وهو أن تكون الرجعة بإشهاد شاهدين على ما بينا أنفاً، (واشهدوا ذوي عدل منكم) وأن يريد برجعتها إصلاح ما أفسد الطلاق، وإصلاح حاله وحالها (وبعولتهن أحقّ بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً) لا يقصد بها الإضرار والعدوان (ولا تمسكونهن ضراراً لتعتدوا)(160/35)
وقد بيّنا ذلك في كتابنا بوضوح (ص121 - 124) ومما قلنا هناك: (إن الطلاق والرجعة بإرادة الرجل وحدة عملان مستثنيان من القواعد العامة، أذنه الله بهما بصفات خاصة فلا يملك منهما إلا ما أُذِنَ به. والشأن هنا في الرجعة أقوى، لأن الله سبحانه جعل الرجلَ أَحَقَّ بها بشرط صريح، وهو إرادة الإصلاح، فإذا تخلف الشرط لم يكن الرجل أحقَّ بردها، فصار لا يملك هذا الحق)
وهذا الذي اخترناه وذهبنا إليه لا ينافي ما ذكره أستاذنا شيخ الشريعة (مما هو أدق وأحق بالاعتبار، من حيث الحكمة الشرعية، والفلسفة الإسلامية، وشموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها)، لأن القيود التي قيد بها حق الطلاق أوثق وأقوى مما اشترط في صحة الرجعة، (على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيوده، عزَّ أو قَلَّ وجوده)
وما اشترط في صحة الرجعة إنما اشترط ضماناً لبقاء الحياة الزوجية صحيحة سالمة من إرادة العبث بها، وبعداً بها عن مواطن الشبهات، وعن الأضرار بالمرأة عن إرادة النكول والجحد لإضاعة حقها
ولست أظن أني بحاجة إلى بيان وجه (الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية) في اشتراط إرادة الإصلاح في صحتها، إذ هو واضح بالبداهة، وصريح من نص الكتاب الكريم
وأما اشتراط الأشهاد فأنه ليس قيداً يفوت به مقصد الشارع في تقليل وقوع الطلاق والفرقة، وفي إرادة التعجيل بالرجعة، وإنما هو شرط يقيد في ضمان ثباتها وبقائها، وفي حفظ عزة المرأة وكرامتها
فالرجل حين يطلق يُشهد على طلاقه، وهو إعلان له واثبات، ثم يذهبُ فيراجع سرّاً من غير حضرة الشاهدين؛ ولعله قد يبدو له أن يندم على رجعته، أو يرى له فائدةً مادية حقيرة في إنكار ما فعله وجَحده، وتعجز المرأة عن إثبات حقها واثبات إجرامه، ولا ترى لها شاهداً ولا دليلاً؛ وقد يفعل ذلك ورثتُه إذا مات قبل إعلان رجعته، فيضيع في الحالين حقها، وتهدر كرامتها، ويُمس عرضها، وهي عاجزة في أول أمرها وآخره
ولو رأى الأستاذ - حفظه الله - ما نرى في مجالس القضاء من ألاعيب الناس وحيلهم، وإقدامهم على إضاعة الحقوق، وحرصهم على أكل أموالهم بينهم بالباطل، وجرأتهم على تعدي حدود الله، لعلم أن هذه الشروط ليست قيوداً يعزُّ معها وجود الرجعة أو يقلُّ، ولا(160/36)
يستيقن أنها تطابق الحكمة الشرعية، والفلسفة الإسلامية، وتدل على شموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها
وبعدُ: فإني أرسل تحياتي إلى أستاذي الجليل على صفحات (الرسالة) الغراء، مجدداً ذكرى صداقةٍ لم تزدها الأيام إلا ثباتاً وقوة، مذ كان الأستاذ حفظه الله في مصر، من نحو خمس وعشرين سنة، وكنا نقتبس من بحار علومه، ونقتدي به في مكارم أخلاقه، وكنت له كالتلميذ الخاص، ألازمه في غدواته وروحاته. بارك الله فيه، ونفع به الإسلام والمسلمين
وأخيراً: أدعو المثقفين من المسلمين، وقادتهم من علماء الدين، لينظروا في مسائل الزواج ومشاكله، وهي جمة متوافرة، لا بالنظر التقليدي القديم، ولا بالنظر الإفرنجي الحديث، ولكن بالنظر الإسلامي الصحيح.
أحمد محمد شاكر
القاضي الشرعي(160/37)
2 - دانتي ألليجييري والكوميدية الإلهية
وأبو العلاء المعري ورسالة الغفران
عرفنا من الكلمة السالفة أن أبا العلاء كتب رسالته يرد بها على ابن القارح وهو طرب أيما طرب لأنه وجد فيه. . . عنقاءه والخل الوفي! وعرفنا أن ابن القارح لم يكن يقل زندقة وإلحاداً عن أبي العلاء لأنه استهزأ بالأبرار والأطهار الذين ورد ذكرهم في سورة الدهر، ولأنه عاب عليهم خوفهم يوماً كان شره مستطيراً. . . يوماً عبوساً قمطريراً. . . ولو كانوا مثله. . . مثل ابن القارح. . . لما نذروا، ولما وفوا. . . ولما خافوا شر ذلك اليوم
وعرفنا كذلك أن ابن القارح لم يكن صادقاً حقاً في (تغيظه على هؤلاء الزنادقة والملحدين) الذين حشدهم وجمع أقوالهم في رسالته من غير ما مقتض لحالها. . . اللهم إلا أنه كان يخاطب أبا العلاء بلغة العصر الذي كانت تهدر فيه الدماء لمجرد الريبة تحوم حول الرجل في دينه، فاضطر أن يلغز هذا الإلغاز الذي لا يجوز مظهره على ذكاء أبي العلاء. . .
ونريد اليوم أن نعرف السبب الذ ي حدا بدانتي إلى كتابة كوميديته؛ فلا نرى بأساً من أن نضع بين يدي القارئ ترجمة سريعة لهذا الرجل الذي كان يعيش ملء عصره، ويساهم بقلبه وعقله ويده في شؤون إيطاليا عامة وفلورنسا خاصة
ولد دانتي في مايو 1265، أي بعد أن وضعت الحرب الصليبية أوزارها (1096 - 1244)، وفي زمان كان فيه اختلاط الشرق بالغرب شاملاً كل شيء ولا سيما الثقافة، وكان الغرب يرشف من مدنية الشرق ما يشاء عن طريق الشام ومصر وصقلية وتونس والأندلس. واختلف المؤرخون في منشأ أسرة دانتي. . . فبعضهم يقول إنها من رومه، وبعضهم يقول إنها من فرّارا، والبعض يقول إنها من بارما، أو من فيرونا؛ على انهم متفقون على أن الفتى نشأ في فلورنسا وفيها، وأنه تثقف على أشهر علمائها في ذلك الزمن (برونتو لاتيني)
وقد كان أبوه أليجييرو رجلاً فقيراً من وسط برجوازي مكروه من الحزب الديمقراطي، وقد ماتت أمه مونّا بللا بعد أن وضعته بزمن قصير. وفي التاسعة من عمره رأى فتاته وحبيبته بياتريس، فنفثت في قلبه السحر، وحلت عن لسانه عقدة الشعر، وجعلت حياته دراما رومانتيكية بارعة من الحب الأفلاطوني الحزين. . . وترعرع دانتي. . . ونظم(160/38)
الشعر في بياتريس. . .
وفي الثامنة عشرة، نظم أولى غرر قصائده يطلب فيها تفسير حلم جميل (من كل مغرم دنف، برح به الحب، ولفح قلبه بارح الهوى. . .) وكانت قصيدة رائعة لفتت إلى الشاعر الشاد نظر كبير شعراء إيطاليا إذ ذاك جيدو كفالكانتي، فكانت عربون الصداقة بينهما، ورمز المحبة والوفاء
واشترك الشاعر الفتى في حملات حربية سخيفة، وحضر معركة كمبلدينو سنة 1289. . . ثم انغمس في النضال الحزبي الذي كان يجرف فلورنسا وإيطاليا في ذلك العهد، وكان ناشباً بين حزبين قويين ما يلبث أحدهما أن ينتصر حتى تكون للآخر الكرة عليه؛ وكان دانتي في جانب الجلفيين. وحدث إن كان في بعثة سياسية لدى البابا حين انقض الجبليون - الحزب الآخر - على المدينة وانتزعوا مقاليد الحكم من الجلفيين، وقضوا على دانتي بالنفي المؤبد، وبالإعدام حرقاً إذا فكر في الرجوع إلى فلورنسا
وكانت بياتريس قد ماتت قبل ذلك، وكان الشاعر قد فقد صداقة جيدو كفالكانتي من جراء الحزازات الحزبية التي كثيراً ما قضت على روابط وأواصر وصداقات. . . وكان قد تزوج كذلك وإن لم يسْلُ بياتريس - التي كانت قد تزوجت من غيره - من الفتاة جمَّادوناتي التي كانت تنتمي إلى حزب الجبليين. . . فكانت حياته معها سلسلة متلاحقة من الآلام لدرجة إنها رفضت أن تلحق به من منفاه وحرمته بذلك حتى من النظر إلى أبنائه. . . ومن أجل ذلك لم يتورع دانتي من الإشادة بذكرى حبيبته بياتريس في كتابه (الحياة الجديدة) ومن الوعد في آخر هذا الكتاب بتأليف معجزته الخالدة (الكوميدية الإلهية) في تخليد ذكرى بياتريس. بل هو لم يتورع كذلك من أن يدس جمَّادوناتي في أشد دركات جحيمه في هذه الكوميدية. . . كما سيجيء ذكره
وقد طَوَّف دانتي في أنحاء إيطاليا، وذاق في منفاه مرارة العيش وشقوة التشرد، وجاب الرحب فزار باريس، ويقال إنه ارتحل إلى إنجلترا وألقى عصاه في أكسفورد. ولعل حظ الأدب من مرارة ذلك العيش، وشقوة ذاك التشرد كان عظيماً جداً، فقد قسم لدانتي أن يبر بوعده بتأليف الكوميدية إذ هو مشرد في الآفاق، طريد من فلورنسا، بعيد عن أحزابها، بنجوة من قلق السياسة واضطراب السياسيين. ففي سنة 1300 ألف كتابه الجميل (الحياة(160/39)
الجديدة) أو الفيتانوفا الذي يصف له خلجات قلبه وضمنه ترجمة طلية لحياته وصلته بالفتاة الفتانة بياتريس دبورتيناري وجمع فيه كل الأشعار التي تغزل فيها بحبيبته. والكتاب رائع حقاً، ويعتبره المؤرخون أول كتب من نوعه في فجر النهضة وآخر ومضة من الأمل في العصور الوسطى
ولقد كان دانتي يحل ضيفاً على أمراء الولايات الإيطالية الشمالية فيقابل بالترحاب من الجميع، وكان الجميع يكرمون وفادته ولا سيما كين دلّلاسكالا أمير فيرونا الذي لبث دانتي في ضيافته حتى عام 1320، ثم ارتحل إلى جيدو نوفللو دابولنتا عظيم رافنّا ومن ثم ذهب إلى البندقية في بعث سياسي. . . ولكن البندقيين استخفوا به فأثر ذلك في نفسه حتى قيل إنه حم، فعاد أدراجه والمرض يفتك به. . . ولقي حتفه عقب ذلك بزمن قصير
وفيما بين سنة 1306، 1308 ألف دانتي كتابه الفلسفي (الوليمة) وقد حاول فيه تبسيط الآراء والنظريات الفلسفية لتسيغها أفهام العامة، وهو في رأينا أقل قيمة الفيتانوفا. وإن يكن دانتي نفسه قد فضله على الفيتانوفا
ويقولون إنه ألف قبل ذلك (1304) كتابه العجيب (في فصاحة اللغة العامية) حاول فيه خلق لغة قومية للإيطاليين يكتبون بها ويؤلفون فيها كتبهم بدل اللغة اللاتينية التي كانت مستعملة في ذلك الوقت
وفي سنة 1309 ألف كتابه - وفيه يتغنى بالإمبراطورية الرومانية القديمة ويحفز همم الإيطاليين لإحيائها (لأنها نظام فرضه الله على البشر، وهي وحدها التي تأخذ بأيدي الناس إلى السلام والنظام والعدالة، وهي سلسلة متصلة في التاريخ لا انفصام لها. . .) وتلك نُعَرة عرف بها دانتي، انتقلت بعجزها وبجرها إلى زعيم إيطاليا الحديثة
ويرجح مؤرخو دانتي أنه كتب الكوميدية الإلهية إذ هو ضيف كريم على أمير فيرونا ثم أتمها في رافنّا قبيل وفاته في سبتمبر سنة 1321
وهاك ما أختتم به الفيتانوفا بصدد الكوميدية الإلهية:
(. . . أبتهل إلى الله القدير أن يمد في أجلي - إذا شاء - كي أكتب في ملاكي ما لم يكتبه أحد في امرأة من قبل. . . حينئذ. . . كم تكون روحي سعيدة حين تسبح في ملكوته الأعلى لتتزود نظرة من. . . بياتريس!)(160/40)
وقد مد الله في أجله فعلاً، وكتب في ملاكه ما لم يكتبه أحد في امرأة من قبل، وذهب في إثر رائده فرجيل يخوض دركات جهنم، ويوقل في شعاف المطهر، ليلقى بياتريس في ظلال الخلد، ونعيم لا يفنى
جحيم دانتي
(1) رأى دانتي كأنه يضرب على غير هدى في تيه لا أول له ولا آخر، ثم رآه يضل طريقه في غابة مظلمة تعج بالأفاعي وتضج بالوحوش، حتى إذا بلغ طوداً رفيع الذرى وحاول أن يرقاه زأرت في وجهه أسود وهمهمت حوله ذؤبان أوشكت أن تفتك به، لولا أن أبصر فرأى الشاعر الروماني الخالد فرجيل يقترب منه فينقذه من الكواسر المحدقة به، ثم يذكر له أنه قادم من لدن حبيبته بياتريس ليهديه سواء السبيل، وليخوض به دركات الجحيم ليريه من آيات ربه، ثم ينفذ به إلى جبال المطهر. . . وليتركه عند باب الفردوس، حيث تلقاه حبيبته، فتمضي به إلى جنات النعيم (لأني غير مأذون لي بدخولها)
(2) ويتلكأ دانتي قليلاً، ولكن فرجيل ما يزال به يغريه حتى يتبعه (3). . . وينطلقان حتى يكونا عند باب جهنم. . . وينظر دانتي فيرى كلمات نقشت من نور على لوحة علقت أعلى الباب. . . هي كلمات الإله العزيز من غير شك. . . ويؤذن لهما فيدخلان، ويسمع دانتي إلى أنين المعذبين، فيخبره فرجيل أنهم أولئك الذين قضوا حياتهم الدنيا في لهو ولعب، لا يعنيهم أن يقدموا عملاً صالحاً ينفعهم في الدار الآخرة. ثم يبلغان عدوة نهر أشيرون، ويريان جباره العتيد ذا الطول (خارون) منتصباً كالوحش في زورقه الذي ينقل فيه أرواح الأشقياء من هذه العدوة إلى العدوة الأخرى. . . وهنا. . . تدور جهنم برأس دانتي فيعروه من الغثيان والغَشْيَة ما يهوي به إلى الأرض (4). . . ثم يدوي رعد قاصف في أركان جهنم فيهب دانتي من غيبوبته، ويتعلق بأذيال فرجيل، وينطلقان حتى يبلغا الدرك الأول من دركات الجحيم واسمه (لمبو حيث يشقى أولئك الذين استهتروا بتقاليد الكنيسة، فلم يبالوا أن (يُعَمَّدوا)!! ولو أنهم كانوا مع ذلك بررة أخياراً، (5) ويبلغان الدرك الثاني من النار، ويرى دانتي إلى مينوس أحد قضاة الجحيم الذي يسائله كيف نفذ إلى هذه الدار وهو ما يزال حياً من أهل الدار الفانية، وينذره أنه لن يحتمل زفير سقر. . . وينظر دانتي فيرى إلى جموع الفجار الشهوانيين من أهل الفسق تعصف بهم ريح السموم، وتنثرهم هنا(160/41)
وهناك كما ينثر الريش في يوم عاصف. . . ومن هؤلاء هيلين التي شبت بسببها حروب طروادة، وكليوبطرة، ثم يرى الزوجة المفتونة فرنشسكا التي أحبت أخا زوجها (باولو) حين كان يقرأ لها قصة لانسلوت الغرامية (فلما بلغنا هذا الحد من القصة، ورأينا باولو يطبع قبلة حارة على فم فرنشسكا، نظر باولو إلي، واغرورقت عيناه بالدموع، وأهوى على فمي يقبله. . . واستسلمت. . . فلم أقاومه!!) ويألم دانتي أشد الألم وأبلغه، فيغشى عليه حزناً على فرنشيسكا التي كانت تقص عليه خبرها (6) وينهض من غشيته، ويبلغان الدرك الثالث، حيث الحمأ المسنون والوحل المركوم تسبح فيه أرواح المنهومين الطماعين، وتنصب فوقهم شآبيب من برد وثلج، ويمزق الكلب سيربيروس أبدانهم شر ممزق. ويلقيان (كياشو) أحد الأشقياء فيتنبأ لهما بما سيجتاح فلورنسا من شدائد (7) وينطلقان حتى يكونا في الدرك الرابع حيث تعذب أرواح البخلاء والمبذرين الذين يعير بعضهم بعضاً، ويبلغان الدرك الخامس حيث تعذب أرواح العابسين وأهل الشر في بحيرة (ستيجيا). ويطوفان قليلاً حول البحيرة ثم يصلان إلى سفح برج منيف (8) فيقبل نحوهما نوتي اسمه فلجياس فيحملهما في زورقه إلى شاطئ البحيرة المقابل - ويصلان أيضاً إلى مدينة ديس حيث تعذب أرواح الجن والعفاريت ولكن هؤلاء الجن لا يسمحون لهما بدخول مدينتهم ويذودونهما عن أبوابها (9) ولكن ملكا كريماً يهبط عليهما فيدخل بهما إلى ديس حيث يريان أضرحة فيها نار مشبوبة تعذب فيها أرواح المجدفين والمهرطقين (10) ويأخذ دانتي في مجادلة بعضهم (11) ويبلغ دانتي الدرك السابع حيث يلقى كبيراً من هؤلاء الهراطقة ويتمنى لو أن جميع من لقيهم في الجحيم (في الدركات السابقة) كانوا في ديس ليتعذبوا كعذاب هؤلاء! وينظر دانتي فيرى إلى بعض المرابين (12) ويبلغان الدرك السابع حيث يقودهما سنتور عظيم فيقفز بهما من صخرة إلى صخرة حتى يكونوا في قرار الدرك. وهناك ينظرون إلى نهر من الدم تسبح فيه أرواح شريرة هي أرواح الذين آذوا جيرانهم. ثم يحملهما سنتور آخر إلى الشاطئ المقابل (13) فيشهدان طوائف من الأشقياء (14) في أقسام مستقلة من الدرك السابع. ويتحدث فرجيل إلى دانتي عن تمثال كبير كان في جبل إيدا (أولمب)؛ وهو الآن ينصهر منها في نيران الجحيم (15) ويقابلان حشداً من الأرواح الهائمة فوق الحصباء المتأججة تتلمس شاطئ النهر، ويشهد دانتي بينهم أستاذه (!) برونتو(160/42)
لاتيني فيحادثه طويلاً (16) وينطلقان مع النهر حتى يصب في الدرك الثامن فيقابلهما فوج من مواطني فلورنسا العسكريين فيتحدث إليهم دانتي حتى يحجزهم عنه وحش من وحوش الجحيم (17) ويلقيان التنين جيريون فيرجوه فرجيل أن يحملهما إلى الدرك الثامن ويكون دانتي قد انتهز فرصة تحادثهما وانطلق يكلم الأشقياء الذين يعذبون هنا من أجل محاربتهم للفنون في الدار الأولى - ويركبان فوق ظهر جيريون (18) فينطلق بهما إلى الدرك الثامن الذي ينقسم إلى عشر دركات يصف الشاعر اثنتين منها فقط في هذا الفصل وهما درك المزورين ودرك المخادعين ويتعذبون في حميم آن وحمأ وروث (19) ويبلغان الدرك الثالث من الدرك الثامن حيث يثوي الخبثاء من رجال الكنيسة الذين دأبوا على بيع وظائفها بالمال (20) ثم ينتقلان إلى الدرك الرابع حيث يأوي الدجالون والمشعوذون (21) ثم إلى الدرك الخامس حيث يسبح المختلسون وآكلوا التراث في صديد يغلي وقار، عليهم حراس من زبانية شداد (22) وتقودهما طائفة من الجن في الدرك الخامس أيضاً ويحدث أن يحاول أحد المجرمين الإفلات من ربقة الزبانية (23) ويصلان إلى الدرك السادس حيث المنافقون يلبسون عباءات من نار وطراطير من جمر، وحيث إخوان الصفاء من أهل بولونا (24) وينطلقان إلى الدرك السابع حيث اللصوص والنشالون تقذف الحيات والأفاعي سمومها في وجوههم وحيث الطواعين تصطلمهم (25) ويلقيان شيخ المجدفين (فوشي) حيث تمزقه الثعابين وتنفث فيه سمها الأراقم، ويلقيان أيضاً بعض الفلورنسيين المارقين. (26) ويهطعان إلى الدرك الثامن حيث يعذب نصحاء السوء في لهب مندلعة ونار ترمي يشرر كالقصر كأنه جمالات صفر! وهنا يلقيان الفارسيين الإغريقيين ديوميد وأوليسيز فيتحدث ثانيهما عن كيفية موته (27) وجيد وذامونتفلترو (أحد الفلورنسيين من خصوم دانتي!!) (28) ويصلان إلى الدرك التاسع من الدرك الثامن حيث حشد الشاعر المتعصب من سماهم زراع الفتن وتجار الضلالات وحيث جعل منهم نبينا صلى الله عليه وسلم محمد بي عبد الله وابن عمه عليا ابن أبي طالب اللذين أتهمهما هذا الكاثوليكي الوقح بأنهما من أهل الشهوات وأهل الشقاق والنفاق (29) ويعبران إلى الدرك العاشر حيث المزيفون والكيميائيون تفتك بهم الطواعين وتضنيهم الأمراض (30) وفي هذا الدرك أيضاً يلقيان طوائف أخرى من النصابين والممالقين (31) ويسمعان نافخاً في صور يدوي في(160/43)
آفاق جهنم فيقصدان إليه، فإذا هما الدرك التاسع من النار حيث المردة والشياطين وكل خناس عظيم. ويأخذهما أحدهم (أنتيوس) في قبضته فيجعلهما في قرار الدرك (32) حيث زمهرير وبرد وثلج وحيث بعض الإيطاليين جاثمون يتعذبون (33) ويتحدث إليه بعض هؤلاء بما كان من خيانة أحد مواطنيه ويحدثه عن جريمة قتل حدثت في فلورنسا ولم يعرف مقترفها (34) ويصلان إلى الدرك الرابع من الدرك التاسع فيريان الذين أساءوا إلى من أحسنوا إليهم، مطمورين في ثلج وجليد إلى أذقانهم. ثم يحملهما السنتور لوسيفي فيكونان في هذه الدار مرة أخرى ويريان النجوم تتلألأ في السماء كأنه لم يكن شيء!! وبذا ينتهي طوافهما بالجحيم
(لها بقية)
د. خ(160/44)
شعراء الموسم في الميزان
نقد وتحليل
للأديب عباس حسان خضر
- 3 -
ثورة القدر
نظم الأستاذ أحمد محرم في هذه القصيدة قصص الأنبياء المقصوصة في القرآن ليشيع فيها فكرته: ثورة القدر؛ ففي كل من تلك القصص ناس ثار عليهم القدر. وليس فيما قصه (نظما) من جديد سوى أن يخبر عن أولئك الناس بأن الذي نزل بهم هو من ثورة القدر. ولقد حاول، في أبيات، أن يستخلص العبرة فكأن القدر وقف في سبيل توفيقه في ذلك. . . وليته ترك العبرة لتؤخذ من الخبر كما قال في القصيدة:
ما حياة المرء إلا خبر ... فخذ الحكمة من معنى الخبر
على أن قوام ذلك من استخلاص العبرة أو أخذها من الخبر، أن يمزج بأحاسيس الشاعر، ويؤدي إلى أحاسيس الناس فيطربهم، أو يجتذب ارتياحهم، أو ما بين ذلك من درجات التأثير. فماذا في القصيدة من ذلك؟ إليك المطلع تليه قصة آدم وإبليس:
عاصف ما قيل أمسك فازدجر ... زلزل الأقطار واجتاح البشر
هاجه من قبل في مربضه ... طائف ما مسه حتى انفجر
أخذ الخصمين في هبوته ... وهوى غضبان يرمي بالشرر
من طريد أهلكته سجدة ... وشريد غاله شؤم الشجر
ثورة في الأرض من آثارها ... كل يوم ثورة تزجي العبر
شمخ الكبر بهذا فهوى ... وأراد الخلد هذا فدثر
ثورة خاطئة لو لم تقم ... في ظلال العرش ما ثار القدر
تجمح النفس فلا تنفعها ... بينات الأمر من خير وشر
وجلال الحق في صورته ... مظهر العزة في هذى الصور
فاز بالرضوان من أكبره ... فتجافي عن هوان وصغر(160/45)
فترى أن أكثر العناية في قوة الألفاظ وقوة القافية، وهذا موائم لحال المعنى؛ ولكن هذه الأبيات، بل القصور المؤلفة من صخور الكلم وجلاميد القوافي لا تملأ جوانبها روح الشعر، ولقد وصف الشعر في هذا البيت من القصيدة:
ومن الشعر قصور فخمة ... وقبور موحشات وحفر
بما ينطبق على شعره، فهو يقدم الشعر، من حيث الجودة والرداءة إلى القصور الفخمة والقبور الموحشة، فيعبر عن الشعر العالي بالقصور الفخمة وإن كانت غير آهلة!
سرد الشاعر القصص مبيناً فيها مواطن ثورة القدر، وفي جميعها لم يثر القدر إلا على أقوام أبوا إجابة دعوة الرسل وسخروا منهم وأفسدوا في الأرض فكان ما نزل بهم عقاباً لهم على طغيانهم؛ ثم أخذ يصف هذا القدر المعاقب بالظلم والبغي، فيقول:
ينصب الظلم على مخلبه ... ما تمنى من قصور وسرر
وترى البغي على أنيابه ... ناعم الروحات ريان البكر
فكيف يتفق رميه القدر بالظلم والبغي مع ما قدمه قبل ذلك من الإشادة بعدله في صرع المتجبرين العاصين؟!
والشاعر يتحدث في آخر القصيدة عن الشعر وعن موسم الشعر بدون مناسبة للموضوع، ولو كان ثمة مناسبة لكان استطراداً مقبولاً
ولقد أحسن في وصف من أغرقهم الطوفان بقوله:
غمر القوم فهم في جوفه ... فتنة غرقى وكفر مستسر
أمم كالملح ذابت وقرى ... ذهبت كالحلم أو وهم خطر
فقد ألم في هذين البيتين بمعان سرية ودل عليها بأوجز لفظ
لامية نسيم
بي فوق ما بك منهم أيها الطلل ... لك البلى ولي التبريح والعلل
محتك من عاصيات الريح سافية ... وواكف من شآبيب الحيا هطل
أود أن أعرف أين الطلل الذي يخاطبه الأستاذ أحمد نسيم هذه المخاطبة، فما أظن من كان يحبها إلا ساكنة في (عمارة) أو (فيلا) أو في بيت عادي على الأقل. وإذا ارتحلت عن مسكنها فلابد أن يحل محلها من يعمره؛ وهو إذا بكى فلابد من هدمه وبنائه من جديد، فلا(160/46)
الريح السافية تمحوه، ولا واكف المطر يهطل على رسومه. لقد كان الشعراء الأولون يقفون على أطلال حبائبهم، فتملأ نفوسهم تشوقاً وحسرة على ما مضى، فيقولون الشعر فيما يحسون، أما نحن في هذا العصر فلا نقف - بعد زوال عهد الصبابة - إلا على ما تحتويه أدراج المكاتب من الرسائل الغرامية والصور الفوتوغرافية وما إلى ذلك، فمن يقف منا على طلل فإنما يقف على طلل الزمن القديم لا على طلل الأحبة
على أنه مهما يكن من شيء فان الأستاذ نسيم يكاد يبلغ في هذا المعنى مبلغ المجيدين من قدامى الشعراء، وخاصة في قوله:
(لك البلى ولى التبريح والعلل)
والقصيدة ليست في موضوع خاص، وإنما هي (لامية نسيم) أي أن موضوعها ما يقوله نسيم على قافية اللام. . . وهي مع هذا منسجمة المعاني، متآلفة الأجزاء، يزينها البيان، وأبياتها عامرة بالمعاني، منها قوله في وصف المشيب:
قل للمشيب إذا ما لاح مشتعلاً ... ما أنت إلا لظى في القلب مشتعل
إلى أن يقول:
كأنه أحرف بيض يسطرها ... في مفرقي كاتب للعمر مختزل
وأناشدك الشعر أن تقف معي برهة عند هذا القصر الفخم، لا البيت، ولا الطلل الذي وقف عليه الشاعر؛ لنجتلي ما يحتويه من الغرائب، فهذا كاتب يتعبه الحساب: حساب سني العمر الطويلة، فيعمد إلى اختزالها بطريقة غريبة، وهي تسيطر الحروف البيضاء في المفارق
ومن محاسن القصيدة قوله:
شرٌّ من الخطب مثر رحت تحسبه ... أهلاً لغوثك وهو العاجز الوكل
يختال في حلل خز ولو عقلت ... لنسلت نسجها من خزيها الحلل
وكيف يفخر مغتر بحليته ... وصدره من قلادات النهى عطل
شأن الغني الذي يضحي بلا عمل ... شأن الغبي الذي يزري به الكسل
ولكن وصفه لنفسه، بضمير الغائب، في قوله:
كأنه شامخ لا الحزن يوهنه ... ولا يحرك من أركانه الجذل
لا يليق بالشاعر الذي من خصائصه أن يكون مرهف الحس فلا بد أن يطرب ويحرك(160/47)
الجذل من أركانه
اجتماعيات
قصيدة الأستاذ السيد حسن القاياتي، وهي قصيدة قديمة تردد مجالس الأدب بعض أبياتها كقوله:
كأن وساما يعتلي صدر جاهل ... جنى من الأزهار يحمله قبر!!
ويتنادرون بأنه أنشدها المرحوم حافظ بك إبراهيم فلما جاء عند قوله:
لو إن المساعي تكسب المجد لم يلح ... بأوج العلا إلا أنا وأخي البدر
قال له حافظ: أيه يا أخانا. . يورى بأنه البدر
وهي - كسائر شعر القاياتي - نبيلة الأغراض، مركزة المعاني، وكثيراً ما أغار على معانيها لصوص الشعر كأن صاحبها قد أنهبها. . تضيق ألفاظها بمعانيها، فبعض المعاني يعوزه البسط في التأدية مثل قوله:
حبيب إلى الإنسان كل طريفة ... ولو بات في أثناء بردته البدر
فهو في حاجة إلى أن يبين بأن الملازم ممل ولو كان البدر؛ على أن أكثر المعاني يؤديها اللفظ بإيجاز بليغ كقوله:
شمائل غر أصبحت وهي سؤدد ... ويانعة الأثمار أولها زهر
والقاياتي عميق الفكرة، دقيق الالتفات، ولعل هذا هو الذي يجعله ضنيناً بالبسط، فهو يرى أنه أبان بتأديته المعاني بذلك الإيجاز، فالزيادة حشو، وهو يعلو في أسلوبه مترفعاً بالجزالة عن السهولة والتبذل، أنظر إلى قوله:
أًشَفُّ وصال الغانيات ملاحة ... تُلهِّيك بالحسناء ليس لها مهر
فأنك وأنا إذا أردنا أن نعلم ما يقول لابد أن نشحذ الذهن لينفذ إلى عمقه، وهناك نقف على معناه، يقول: ملاحة الحسناء التي لا تتزوجها فلا تدفع لها مهراً أشهى وصال الغانيات وأشده قتلاً للكلف المدلَّه
والقاياتي شاعر مجدد. . من المجددين الحقيقيين لا الذين يرددون كلمة التجديد، ويتحلون بمضغها، فهذه قصيدته قل أن تجد فيها معنى من المعاني العامة، فأكثرها مشابه من خواص المعاني التي لم يسبق إليها كقوله:(160/48)
كأن وساماً يعتلي صدر جاهل ... جنىّ من الأزهار يحمله قبر!
وقوله:
تطالعنا تحت البراقع أوجه ... حسان كما يغري دُجُنَّته الفجر
وقد تناول في القصيدة بعض النواحي الاجتماعية بالنعي والنقد المر كقوله يصف المجالس والمجتمعات:
مجالس حفل بالقبيح كأنها ... مغاني بغايا ملؤها الفحش والهجر
إلى أن يقول في ذلك:
تحياتهم سب الجدود فكاهة ... وكم نيل فيمن يشتهون فتى برر
سباب تهاداه الثغور بواسما ... كأن الذي أهداه بينهم عطر!
وقد صور نوازعه وأحاسيسه في القصيدة تصويراً بارعاً صادقاً والأبيات الآتية تدل على نبل خلقه، وتصور ميول نفسه، قال:
إلى الله أشكو أنني لست واجدا ... سوى لذة من دون تحصيلها العهر
أشف وصال الغنيات ملاحة ... تلهيك بالحسناء ليس لها مهر
إذا أمكنت من ريقها الخمر صاح بي ... نذير الهدى: ما أنت والخمر
أمر بها في الكأس حمراء عذبة ... فأحسبها جمراً وفي كبدي جمر
وفي البيت الأخير يقول أنه يمر بالكأس حمراء عذبة، فإذا كان يشهدها حمراء فكيف علم عذوبتها؟!
قد يباح للشاعر أن يتردد ويتناقض في قصائد من شعره لاختلاف الظروف التي تحيط بمشاعره، فان للشاعر من ذلك ما ليس للعالم الباحث؛ ولكن لا يجوز له أن يتردد أو يتناقض في قصيدة واحدة، فكيف يجمع شاعرنا بين قوله:
كفى ضيعة للحسن خدر يصونه ... أرى الطيب كل الطيب أن يهتك الخدر
وقوله:
كناسكم يأيها الغيد أنني ... ضمنت لكم أن ينهب اللؤلؤ النثر
هو العار فليقن الحياء وإنه ... لكالنحر للعشاق أن يكشف النحر
وفي البيت التالي مغالطة:(160/49)
يقولون إن الراح للفكر صيقل ... وربك ما في الراح عقل ولا فكر
فإن خلو الراح من العقل والفكر لا يمنع من أن تصقل الفكر، وهناك كثير من الأشياء تصقل الفكر وليس لها عقل ولا فكر
الشباب
والأستاذ حسين شفيق المصري لا يذكر الشباب إلا بالهوى والشراب كأن الشباب ليس فيه ما يذكر وما يتحسر عليه إلا الأوانس والحميا، فهو يقول في المطلع:
تذكر بعد أن شاب الشبابا ... فأنَّ وقد دعاه فما أجابا
وشاقته الأوانس والحميا ... فود من التشوق لو تصابى
وليس في القصيدة ذكر للشباب بغير اللهو والمجون، فهي لا تعني الشباب إلا بما فيه من التماجن، أما ما يلابس الشباب من نواحي الجد فلا أثر له فيها
والقصيدة عليها مسحة من الجودة، وفيها أبيات مطربة كقوله في وصف الكأس والنديم:
أيا حزناً عليَّ ولست أنسى ... ليالي كنت أحسوها شرابا
ينادمني غضيض الطرف صاح ... ذكي يستبيك إذا تغابى
يميل بكأسه يسقيك منها ... صفاء بعد أن رشف الحبابا
فلا أدري أكانت من رحيق ... كنفح الطيب أم كانت رضابا
سحرت وهل شرابك غير سحر ... وضوء الشمس بين يديك ذابا
حنانك أَبق من عقلي قليلاً ... لأعلم حين تسألني الجوابا
وهذا في الحق إبداع وفي قوله: (ذكي يستبيك إذا تغابى) جمال يستبيك
وشعر الأستاذ حسين شفيق خفيف الظل، تشييع فيه روح الفكاهة. ويظهر أن هذه الروح تلازمه حتى أنك تجدها في التحسر على سالف الشباب، وكم هو ظريف في قوله:
ومن يكتم حساب سنيه يوماً ... فصفحة وجهه تبدي الحسابا
كأن صفحة الوجه (عداد) للسنين. . .
وهو في هذا البيت:
ولولا أن يقال دهاه مس ... فخولط ما تأبيت الخضابا
لا يأبى الخضاب إلا خشية اللوم، أي أن الخضاب عنده إن لم يكن يوده فهو أمر لا غبار(160/50)
عليه، ولكنه في البيت التالي:
ومن ظن الشباب صبيغ شعر ... فان الصقر قد أمسى غرابا
يسخر من صبغ الشعر، فيقول أن صبغ الشعر لا يجتلب الشباب، وإنما يشوه، كما يمسخ الصقر غرابا إذا صبغ بالسواد، والخضاب والصبغ من قبيل واحد، فودادته الخضاب في البيت الأول لا تتفق من السخرية من صبغ الشعر في البيت الثاني
وقد تعارف الناس على أن شارة الحداد السواد، ولكنه يقول:
اتخذت بياض رأسي لي حدادا ... على عمر الشباب فوا شبابا
فكيف يتخذ البياض حدادا؟
غريب في باريس
ليس يكفي هذا العنوان وعِلْمُ الناس أن الدكتور زكي مبارك قضى فترة من الزمن في باريس يطلب العلم في إحدى جامعاتها، لأن تصف هذه القصيدة غريباً في باريس، بل لابد أن تفي القصيدة نفسها بهذا الغرض، لابد أن تصف غريباً وتصور نوازعه وحنينه إلى وطنه، ولابد أن يكون هذا الوصف ملابساً لباريس مشتملاً على خصائصها. أما عن الشطر الأول فقد فعل وأحسن، وإن كان لم يُجد الإجادة التي تنبغي للدكتور زكي مبارك؛ تألم من الغربة فقال:
يا جنة الخلد كيف يشقى ... في ظلك النازح الغريب
الناس من لهوهم نشاوى ... ودمعه دافق صبيب
يقتات أشجانه وحيداً ... فلا صديق ولا قريب
أقصى أمانيه حين يمسي ... أن يهج الخفق والوجيب
وهذه الأبيات أحسن ما في القصيدة
وحن إلى وطنه فقال:
مغاني النيل كيف أقصت ... ربيب أزهارك الخطوب
وكيف ألقينه بأرض ... أصح أحلامها كذوب
وصور نوازعه إلى المجد الذي وقد اغترب من أجله فقال:
يسدد السهم ليس يدري ... أيخطئ السهم أم يصيب(160/51)
يطارد المجد في زمان ... إقباله غادر لعوب
الشهم من ناسه شريد ... والحر من أهله غريب
وهذه الأبيات - وإن كانت عادية - فيها روح من يطارد المجد
وأما باريس، فلها الله باريس! كل ما أثنى به عنها قوله في المطلع: (يا جنة الخلد) وقوله بعد ما ذكر أنه ألقى بأرض أصح أحلامها كذوب:
أديم أجوائها سواد ... فلا شروق ولا غروب
وحب غاداتها موات ... فلا سكون ولا هبوب
أكل ما يقال عن باريس أن الضباب يملأ أجوائها وأن حب غاداتها موات؟ وهل تعد هذه الأشياء من خصائص باريس التي تميزها من غيرها؟ أو لا يصح أن يطلق على القصيدة بدلاً من (غريب في باريس): غريب في أي بلد من بلاد الله التي يصح أن تشبه بجنة الخلد، ويكثر فيها الضباب ويكون حب غاداتها مواتاً. .؟
ألا إن الغريب في باريس يقول قصيدة لم يقلها بعد الدكتور زكي مبارك
ثلاثة شعراء
هم الأساتذة: سيد إبراهيم، عزيز بشاي، كامل كيلاني. أنشد كل منهم قصيدة كنا نود لو أنشأ أو أختار من شعره غيرها تكون أدنى إلى الغاية المرجوة من الموسم، فالناس يبتغون من موسم محتفل له شعراً يشعرهم بجزالته وعلو معانيه وسمو أخيلته أن للموسم خطراً. . . أما الأول والثاني فكان قولهما تافهاً: معان عامة وأفكار عادية وأسلوب خال من القوالب والتعبيرات الشعرية مثل قول الأول يناجي ولده:
جذلان تفرح لو يز ... يد على نصيبك درهم
وقول الثاني يصف حال الأغنياء:
لا يملؤون بمليم عقولهم ... ويملؤون بطوناً بالجنيهات
وما إلى هذا مما لا نطيل بذكره لعدم فائدته. وإنه لخير للأستاذ إبراهيم أن يقتصر على خطه الجميل ويدع الشعر للشعراء
أما الثالث وهو الأستاذ كامل كيلاني فقد ألقى قصيدته (الباز والقبرة) وهي تحكي أن (بازاً) اصطاد (قبرة) فجاءه (لقلق) يأخذ عليه استبداده بالقبرة الضعيفة، فقال له الباز: وأنت أيضا(160/52)
تصطاد الضفدع الضعيف فهلا تركته كما تريد مني أن أدع القبرة. ثم علق الأستاذ على الحكاية بعد أن ساقها نظما بقوله:
كم خطيب على المكا ... رم قد حث معشره
إن رأى ناكباً عن الخي ... ر لحاه وعيره
هفوات الورى يرا ... ها ذنوباً مكبره
ثم يلقي ذنوبه ... هفوات مصغره
مثل هذا منافق ... جعل النصح متجره
نصحه كله خدا ... ع وغش وثرثره
وموضع قصيدة مثل هذه كتاب من كتب الأطفال، لا موسم الشعر؛ وأسلوبها سليم، ونظمها طبيعي لا تكلف فيا أما نقدها من حيث الموضوع فمن اختصاص أهل العلم بتربية الأطفال، فلا نقول فيما لا نعلم
عباس حسان خضر(160/53)
3 - أثر الحرب الكبرى في بريطانيا
للأستاذ رمزي ميور
أستاذ التاريخ الحديث في جامعة منشستر سابقاً
تتمة
ترجمة الأستاذ محمد بدران
ناظر مدرسة بمباقادن الابتدائية
وفي أيرلندة أيضاً لاح أن الحرب قد أتاحت لها فرصة العمل على نيل ما كانت تطلبه منذ زمن بعيد من تقرير حقها في الحكم الذاتي. وكانت أيرلندة هي الجزء الوحيد من أجزاء الإمبراطورية الذي انتهز فرصة الحرب للثورة مع أن هذه البلاد كانت من الوجهة القانونية جزءاً من المملكة المتحدة ممثلاً في البرلمان البريطاني أتم تمثيل. وقد فعلت أيرلندة ذلك من قبل فثارت في كل حرب من الحروب الأوربية الثلاث التي اشتبكت فيها بريطانيا في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر. شبت الثورة فيها علنا سنة 1916، ثم أخمدت ولكن الحكومة شعرت أن من الخطر أن تطالب أيرلندة بما كانت تطالب به إنجلترا واسكتلندة وويلز من الرجال، ومع أن كثيرين من الأيرلنديين قد تطوعوا للحرب باختيارهم فقد بقي الشعب الايرلندي بوجه عام في معزل عنها يدعوا الله أن يخذل بريطانيا. ولما وضعت الحرب أوزارها شبت فيها من جديد نار الثورة التي كان يلوح وميضها خلل الرماد، ودارت فيها رحى حرب أهلية طاحنة انتهت بإذعان بريطانيا وتسليمها للقوة بما لم ترض أن تسلم به للنزاع الدستوري فأعطت الايرلنديين أكثر مما كانوا يرتضونه قبل ذلك الحين، ذلك أنها قبلت في سنة 1921 أن تتكون من أربعة أخماس أيرلندة (دولة أيرلندة الحرة) وهي دولة ذات استقلال داخلي تام تتمتع بنظام (الأملاك المستقلة) وبحق تقرير ضرائبها الجمركية وإنشاء جيشها وسن قوانينها وسك عملتها. وبذلك كان جزء الإمبراطورية الوحيد الذي ظل طلبه الحكم الذاتي يرفض على الدوام جزءها الوحيد الذي نبذ كل فروض الطاعة والولاء أثناء الحرب، وكان أعظم النتائج السياسية للحرب وأعجبها أن انتهى بهذه الطريقة الحاسمة ذلك الكفاح الطويل الذي دام أربعة قرون، وتلك مقارنة(160/54)
ذات مغزى جليل تثبت أن الحرية لا الإرغام هي التي تمسك أجزاء الإمبراطورية وتمنعها من التصدع والانهيار، وهي أول إمبراطورية قامت في تاريخ العالم ينطبق عليها هذا المبدأ
وأول ما نشأ عن مطالبة أجزاء الإمبراطورية أن تشترك اشتراكا أوسع من ذي قبل في الإشراف على شؤونها أن دعيت طائفة من الساسة يمثلون الأملاك المستقلة والهند لينضموا إلى عضوية (المجلس الحربي) وكان لهؤلاء الأعضاء شأن كبير في تقرير السياسة التي اتبعت في آخر أدوار الحرب، وكان يظن أن هذا سيؤدي إلى وضع نظام للتعاون بين أجزاء الإمبراطورية أدق وأوفى بالغرض من النظام القديم. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل لسبب رآه المتتبعون لسير الحوادث نذيراً بانحلال الإمبراطورية في المستقبل، ذلك أنه لما عقد مؤتمر الصلح حضره مندوبون عن الأملاك المستقلة والهند، ولكنهم لم يحضروه من حيث هم أعضاء في وفد الإمبراطورية البريطانية فحسب، بل من حيث هم ممثلون لبلادهم أيضاً، ثم وقعوا المعاهدات كممثلين لدول مستقلة، ولما تكونت عصبة الأمم ظهرت الأملاك المستقلة والهند مرة أخرى وإن كان ظهورها في هذه المرة اختلف بعض الاختلاف عنه في المرة السابقة؛ فقد جعلت الإمبراطورية البريطانية من حيث هي وحدة قائمة بذاتها عضواً دائماً في مجلس العصبة، لكن كندا واستراليا وزيلندة الجديدة وجنوب أفريقية والهند أصبحت كلها أعضاء في الجمعية العمومية للعصبة لها ما للدول المستقلة، وأصبحت كندا بالفعل عضواً من أعضاء المجلس غير الدائمين. ويرى البعض في هذه الظواهر دليلاً على أن الإمبراطورية لا ينظر إليها في هذه الهيئة العالمية كما ينظر إلى وحدة سياسية، بل يعامل كل جزء من أجزائها معاملة دولة مستقلة ذات سيادة، ويعزز هذا أن تلك الأملاك أعطيت حقها كاملاً غير منقوص في بحث المسائل الدولية داخل العصبة أو عن طريقها، وأن الذي تبحثه ليس هو السياسة التي يجب أن تسير عليها الإمبراطورية المؤلفة من هذه الأملاك، بل إنها تشترك في البحث اشتراك الدول المستقلة
وهكذا أظهرت الحرب ولاء أعضاء الإمبراطورية لها، ولكنها أعقبها ضعف ظاهر في الروابط التي تؤلف بين هؤلاء الأعضاء. فالأملاك المستقلة تطلب لنفسها حق تعيين سفراء من قبلها لدى الدول الأجنبية وأصبحت تتمتع بهذا الحق دون معارضة، فقد عينت كل من(160/55)
كندا وأيرلندة سفيراً لها في واشنجتن، وتطالب هذه الأملاك أيضاً بحق عقد المعاهدات مستقلة مع الدول الأجنبية. وقد عقدت جنوب أفريقية بالفعل معاهدة مع ألمانيا. واعترفت بريطانيا نفسها بهذا الانحلال التدريجي وبتفكك وحدة الإمبراطورية السياسية فقد نص في معاهدات لوكارنو صراحة على أن بريطانيا وحدها هي التي تربط بالتعهدات المدونة في هذه المعاهدات وأن الأملاك المستقلة لا شأن لها بها. ووضع هذا النص بناء على طلب الأملاك المستقلة نفسها لأن السياسة التي قامت عليها هذه المعاهدات لم تكن وليدة اتفاق عام بين أجزاء الإمبراطورية بل قررتها بريطانيا بمفردها إذ لا توجد أداة لوضع سياسة عامة تسير عليها الإمبراطورية
وبهذه الطريقة أصبحت الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب هيئة سياسية مفككة العرى؛ فليست هي دولة واحدة إلا في خضوعها خضوعاً اسمياً لتاج واحد، وليست هي دولة تعاهدية أو حلفاً قانونياً أو عصبة مجتمعة تعرف بها، وذلك لأنه لا توجد معاهدة تحتم على أعضائها الاشتراك في العمل. وإنما هي شركة مفككة مكونة من دول مستقلة تربطها بعضها ببعض عاطفة ومصالح مشتركة ولكل عضو فيها كامل الحرية في أن يختط لنفسه الخطة التي تلائمه في أي وقت شاء. واعترف بهذا اعترافاً كاملا صريحاً في المؤتمر الإمبراطوري الذي عقد في عام 1926 والذي كانت قراراته من أهم الحوادث البارزة في تاريخ الإمبراطورية البريطانية. وقد يرى فيها المؤرخون في المستقبل تسجيلاً نهائياً لترك كل محاولة ترمي إلى تدعيم وحدة الإمبراطورية السياسية واعترافاً بانحلال هذه الإمبراطورية انحلالاً ودياً نهائياً. والدليل على ذلك أن الأملاك المستقلة أعضاء في عصبة الأمم تربطها بها روابط وثيقة وليست أعضاء مرتبطة في جسم الإمبراطورية
ومع هذا فإن الأملاك المستقلة (مع جواز استثناء دولة أيرلندة الحرة وجنوب أفريقية) تعد نفسها مرتبطة بالإمبراطورية برباط أقوى مما بينها وبين العصبة. وإنما الفارق بين الهيئتين أن العصبة أوجدت أداة للاستشارة المشتركة، والعمل المشترك أحكم من كل ما فكرت فيه الإمبراطورية. فللعصبة جمعيتها العمومية التي تنعقد بانتظام في كل عام والتي تدور فيها المناقشات العامة، وللعصبة مجلسها الذي يجتمع ثلاث مرات في السنة. أما الإمبراطورية فليس لها إلا المؤتمر الإمبراطوري الذي يجتمع مرة في كل أربع سنوات(160/56)
والذي حددت له واجباته. وللعصبة سكرتيرية بديعة النظام ذات هيئات خاصة من الخبراء تبحث المشاكل الحربية والاقتصادية ومسائل العمال والصحة وما إلى ذلك؛ أما الإمبراطورية فليست لها هيئة مركزية إلا وزارة المستعمرات التي هي جزء من الأداة الحكومية لعضو واحد من أعضائها وهي لذلك لا تستطيع أن تعمل معتمدة على تأييد جميع الأعضاء
ويرى الجنرال أسمطس الذي ربما كان أعظم ساسة الإمبراطورية كلها والذي كان منذ ثلاثين عاماً يقاومها بقوة السلاح، ويرى هذا الجنرال أن الحكومة اللامركزية في الإمبراطورية وصلت إلى أبعد حد حتى أصبحت انحلالاً حقيقياً، وهو قوي الاعتقاد بأن الرابطة السياسية التي نشرت لواء السلام على ربع بلاد العالم هي رابطة جليلة القدر يجب ألا يسمح لها بالانحلال تدريجياً، ولذلك يدعو إلى العمل فوراً لتقوية هذه الرابطة بوسيلة لا تنقص من استقلال أجزاء الإمبراطورية كما لا تنقص عصبة الأمم من هذا الاستقلال
فإذا ما شرع في العمل لهذه الغاية فان أربعة أمور تجب مراعاتها بنوع خاص: أولها أن توجد وسيلة للتشاور الدائم في السياسة الخارجية تضمن اتحاد الإمبراطورية كلها في العمل داخل دائرة العصبة وبهذه الوسيلة يتسنى للإمبراطورية (التي هي أكبر قوة لنشر لواء السلم في العالم) أن تضطلع بقسط كبير في تقوية دعائم السلم العالمي. والأمر الثاني أن توضع سياسة مشتركة للدفاع الإمبراطوري يمكن بواسطتها تنفيذ العهود التي يلقيها على عاتقها ميثاق العصبة ونشر لواء السلم والقانون في الأصقاع الواسعة المتأخرة غير المستثمرة داخل الحدود الإمبراطورية. والأمر الثالث أن توجد وسيلة للتشاور والإتقان على الطريقة التي تعامل بها الشعوب المتأخرة التي تكون الآن قسماً كبيراً من سكان الإمبراطورية. ذلك بأن تبعة حكم هذه الشعوب المتأخرة يقع معظمها الآن على عاتق بريطانيا. غير أن أفريقية الجنوبية تقع عليها أيضاً تبعات كبيرة من هذا القبيل. كذلك انتدبت استراليا وزيلندة الجديدة بعد الحرب لإدارة أرضين واسعة في غانة الجديدة وجزائر المحيط الهادي. وتعاني كندا مشاكلها الخاصة في كيفية حكم الهنود الحمر في غربها والإسكيمو في شمالها. ومع أن الشعوب البريطانية أخذت على عاتقها هذه التبعات العظيمة وهي إرشاد الشعوب المتأخرة ونشر المدنية بينها فإنها لم تعن إلا عناية قليلة بدراسة(160/57)
المشاكل الناشئة من هذا الواجب دراسة علمية، ولم تحاول الشعوب البريطانية أن تتبادل الرأي للاتفاق على المبادئ التي يجب أن تسير عليها في تحضير هذه الشعوب. وأخيراً إن الإمبراطورية في حاجة شديدة إلى اشتراك أجزائها في العمل في الميدان الاقتصادي. لقد أخذت الشعوب البريطانية على عاتقها القيام بعمل كبير هو تنمية موارد أصقاع واسعة في العالم، لم تنمَّ بعد، حتى تنتفع الإنسانية بهذه الموارد، ولكنها لم تعر هذا العمل ما يستحقه من العناية. وليس لها أن تعده مجرد وسيلة لاستغلال هذه البلاد أو تتركه للظروف والأقدار أو تكله لإشراف الاتحادات التجارية الكبيرة غير المنظمة بل يجب عليها أن تفكر فيه وتنظمه على قاعدة تعاونية بالاتفاق مع جميع الدول الداخلة في دائرة الإمبراطورية والتي تشترك معها في تحمل تبعته كما أن عليها عندما تقوم بهذا الواجب أن تراعي جانب العدل في معاملة الشعوب الهمجية
إن المجال لا يتسع هنا لبحث ما يتبع من الوسائل في أداء هذه الواجبات أو الأداة اللازمة لأدائها، ولكن الذي لا مرية فيه أنه إذا لم يشرع العاملون على تنمية موارد الإمبراطورية في عملهم بمثل هذا الروح الذي وصناه وهم عالمون بما في وسعهم أن يصلوا إليه بمجهودهم، إذا لم يفعلوا ذلك فان الأمل قليل في بقاء الإمبراطورية البريطانية كهيئة سياسية عاملة. لقد أخذت هذه الإمبراطورية تسير بعد الحرب نحو الانحلال السلمي بخطى سريعة، وإذا ظلت تسير في هذه السبيل كان ذلك دليلاً على إفلاس السياسة البريطانية
ولقد كان من نتائج شعور الإمبراطورية بحاجتها إلى سياسة تعاون قومية أن وضعت عدة اقتراحات ترمي كلها إلى تدعيم وحدتها بتقوية الروابط المالية بين أجزائها المختلفة. ومن هذه الاقتراحات أن تترك الأملاك المستقلة والهند سياسة الاكتفاء بالنفس من الناحية الاقتصادية أو تعدلها بعض التعديل على أن تعود الإمبراطورية مجتمعة إلى السياسة التي كانت تسير عليها بين عام 1660 وثورة المستعمرات الأمريكية فتبدأ بإقامة سياج جمركي حول الإمبراطورية كلها بصد تجارة البلاد غير البريطانية ثم يتبع في داخل هذا السياج بالتدريج نظام التجارة الإمبراطورية الحرة. ويرجو أنصار هذا الرأي أن تؤدي هذه الوسائل إلى تمكين الإمبراطورية البريطانية بصفة عامة من الاكتفاء بنفسها وهو ما تعجز عنه بريطانيا وحدها بطبيعة الحال. وبذلك تصبح الإمبراطورية وحدة مالية على نمط(160/58)
الولايات المتحدة الأمريكية وتحقق الفكرة التي يدعو إليها بعضهم لتكون علاجاً لما نزل بأوروبا من الكوارث وهو إنشاء ولايات متحدة أوربية وإن كان الأمل في تحقيق هذه الفكرة ضعيفاً. على أن الصعاب القائمة في وجه هذا المشروع البريطاني كبيرة جمة. منها أن الأملاك المستقلة والهند لم تظهر دليلاً على استعدادها لترك سياسة الاكتفاء بالنفس التي تسير عليها أو تسمح بدخول البضائع البريطانية التي تنافس منتجاتها إلى بلادها، ومنها أن الرخاء الذي تتمتع به معظم البلاد التابعة للإمبراطورية ناشئ من قدرتها على الاتجار بكامل حريتها مع جميع بلاد العالم وان الأمم التجارية الأخرى تعارض في نقص هذه السياسة. وزيادة على ذلك فإن المعاهدات التي تحتم على كثير من الأملاك البريطانية وبخاصة ما كان منها تحت الانتداب أن تسوى بين بضائع جميع الأمم في بلادها وحتى إذا أمكن التغلب على هذه الصعاب فان كثيرين من الناس يعتقدون أن الإمبراطورية إذا استحالت وحدة مالية مستقلة عن غيرها أصبحت سبباً للاحتكاك والحرب بدل أن عاملاً من عوامل السلم، وإن إتباع سياسة الاكتفاء بالنفس والاستقلال عن الغير إلى هذا الحد الكبير يجر الخراب على العالم، ومن الناس من يعتقد أن بريطانيا نفسها لا تستطيع وهي آمنة أن تغامر هذه المغامرة الخطرة فتضحي بثلثي تجارتها مع البلدان الأجنبية لكي تنمي الثلث الباقي وهو تجارتها مع سائر أجزاء الإمبراطورية
على أن الجدل الذي قام حول هذه المشكلة المالية لا يمت بصلة إلى المشكلة الأخرى الكبيرة التي قد تطغى عليها المشكلة المالية وهي: هل يسمح أن تستمر عملية التفكك التي يلوح أنها أخذت تدب في جسم الإمبراطورية بعد الحرب دون أن تتخذ الوسائل لوقفها عند حد؟ وهل تستمر الإمبراطورية على إنها أخوة من الأمم لا يرتبط بعضها ببعض إلا برباط العواطف وأن يكون ما فيها من أداة للتعاون أقل صلاحاً للعمل من أداة عصبة الأمم وهي الهيئة التي ليس بين أعضائها من الروابط ما بين أجزاء الإمبراطورية؟ أو هل يستطاع إيجاد وسائط للتشاور والاشتراك في السياسة الخارجية والدفاع وحكم الشعوب المتأخرة وما اضطلعت به من إنماء موارد البلاد الواسعة من غير أن يمس ذلك استقلال أعضائها الداخلي بحال من الأحوال؟ إن هذا النظام إذا أنشئ لا يتعارض بطبيعة الحال مع الأغراض التي قامت من أجلها عصبة الأمم بل يقوى بناءها ويمكن أساسها، كما أنه لا(160/59)
يزيد في أخطار الاحتكاك والنزاع إلا إذا اتبعت فيه سياسة العزلة التجارية. ولن يكون له إلا معنى واحد وهو أن أكبر إخاء من الشعوب المختلفة رآه العالم في تاريخ حياته يستخدم ما يخوله التعاون من قوة في استثمار موارد ربع أنحاء المعمورة وتهيئة هذه الموارد لخير هذا الإخاء ولخير العالم المتمدين كله ولترقية الشعوب المتأخرة
ليس بين المشاكل التي خلفتها الحرب وتركتها من غير حل أعقد من هذه المشكلة وأعصى منها على الحل.
محمد بدران(160/60)
مقطوعات شعرية
للأستاذ عبد الرحمن شكري
صلاح الحياة أم غايتها
قل كيف نحيا ولا تقل لي ... ما حكمة العيش والبقاءْ
فمطلب للعلاء يحدو ... وآخر كله عناء
كم سأل السائلون قدماً ... ما الكون ما العيش ما الفناء
مسألة ما لها جواب ... وليس يُلفَى لها غناء
كساخط من طروق داء ... وتارك خلفه الدواء
ود الأسى
يا رفاقاً طالما أَنْسَتْهم ... لذةُ العيش حزيناً، يا رفاق
قد وجدت الصدق في ود الأسى ... مِقَةُ اللذات كسب ونفاق
غبي ذكي
يا غبياً رأى الذكاء شقاء ... ورأى النحس أن يكون أريبا
أنت أذكى من الذكيِّ الذي يح ... يا شقياً لكي يكون أديبا
وإذا كانت الغباوة نعمى ... فمن الحمق أن تكون لبيبا
البصير الأعمى
يا قلب صبراً ولا تعتب على قسَم ... قد استوى الناس في عتب على القِسَمِ
الحظ أعمى لدى من لم ينلْ أرباً ... وهو البصير لدى من فاز بالنعم
خطة الضعة
في كل نفس من نفوس الورى ... شيء من الحقد وسوء الظنون
إن كَذَّبَ المُثنى على نفسه ... صَدَّقَ من يُزْري بفضل القرين
لذاك يُعْلى الخب من نفسه ... إن هَدَّ من فضلٍ بمدح قمين
أكثر من إعلائه نفسه ... بأن يزكي النفس عند الفطين(160/61)
ناجح
كل بِشْرٍ منه فَخٌّ ... كل لفظ منه غدرْ
بلغ النجحَ بلؤم ... إن بعض النجح وِزْرْ
الكذب
للكذب في الناس أوساط مُجَنَّحةٌ ... والصدق يسعى لديهم كالسُلَحفَاةِ
يهوون ما لا يسيغ العقل من كذب ... وينبذ الحق من حرص المجاراة
كأنما الكذب ملح يستلذ به ... طهي الحديث وإشباع السخيمات
إخفاء السريرة بالنطق
أتحسب أن الله أعطاك منطقاً ... لتبسط من لغو الكلام على الصدق
وإن لسانا بين فكيك ناطق ... لإخفاء ما دون السريرة بالنطق
وتكتم ما قد يُظهِر الوجه أمرَه ... بقولك قولاً باطلاً مشبه الحق
عجائب الحقد
عجبت للمرء في بغض وفي مِقَةٍ ... هما العجيبان إن آخى وحين عدا
يرمي النِّفَايةَ لا يبغي لها ثمناً ... حتى إذا ما حواها راغب حسدا
ويغفر الذنب من إحسان فاعله ... حتى إذا ما نفدت آلاؤه حقدا
فخر الناجح
قبيح نجاح المرء إن هو شأنه ... بفخر فلا يقْبُح نجاحك بالفخر
كأن لم يكن أهلاً له حين ناله ... هو الصمت قد يُطري إذا الفخر لا يطري
جلا منه عيب النفس من بعد ستره ... كذاك حديث العهد بالمال واليسر
ويا رُبَّ نُجْحٍ يسلب المرء رشده ... ويبدي خصالاً منه تقتل أو تُزري
نذالة الحسد
عدوك مرجوٌّ فإن كان حاسداً ... فلا رحمة ترجى لديه ولا عدل
وليس بنذل كل من صال أو عدا ... وتاب ولكن الحسود هو النذل(160/62)
مغفل لمغفل
قالوا الأنام إذا اختبرت أمورهم ... وبلوت من أحوالهم ما يبتلي:
غر يخادعه لئيم عاقل ... ولبئس حظ المرء إن لم يعقل
كذبوا، فما عيش الأنام وهزله ... إلا خداع مغفَّلٍ لمغفل
يتهارشون على الحياة ورجسها ... فعل الكلاب على خبيث المأكل
عبد الرحمن شكري(160/63)
جهاد فلسطين
للأستاذ أمجد الطرابلسي
ثارَ فهل تستطيعُ إِخمادَهُ ... عزْمٌ أراد الله إيقادَهُ
لا يأْتلي مُضطرِماً لاهِباً ... أو يلقَفَ الظلُّمَ وأجناده
ويصرَعَ البَغيَ وأنصارهُ ... ويحطِمَ الذُّلَّ وأصفاده
قد وَثَبَ الشعبُ يرُدُّ الأذى ... وينزعُ الغُلَّ الذي آدَهُ
يُرخِصُ للأوطانِ آمالَهُ ... طوعاً، وَدُنياهُ وأولاده
والدَّمَ فوّاراً يُروّي الحِمى ... أغوارهُ العطشى وأنجاده
يسكُبُهُ كلٌّ فتىً سيِّدٍ ... لا يرهب البَغيَ وإيعاده
الدَّمُ في أعراقِه صارِخٌ ... يدعوه أن يبعثَ أمجاده
والثأْرُ في خَفّاقِه ثائرٌ ... يدعوهُ أن يُطفِئَ أحقاده
والسيفُ، قبل النصر، في كفِّهِ ... أقسمَ لا يسكُنُ أغماده
أما سمعتم أمسِ تَزْآرَهُ ... يُطبِّقُ الأرضَ، وإِرعاده
ذاكم وَعيدُ اللَّيثِ؛ ويلٌ لمن ... ينتهكُ الغابَ ليصطاده
تُمَزِّقُ العاديَ أنيابهُ ... وقد يصيدُ الليثُ صيَّاده
قُومي فِلَسطينُ على المعتدي ... وقَوِّمي بالحقِّ مُنآده
قومي على الذلِّ، على واغلٍ ... سِيمَ هوانَ الذلِّ فاعتاده
قد تَخِذَ الختْلَ إلَهاً له ... والمالَ والباطِلَ أعضادّه
قومي فإن النصر ما عَلّهُ ... مِثلُ دَمِ الأحرارِ أوجاده
غيرُ دمِ الأحرارِ لا يُزْهِقُ ال ... بَغيَ ولا يحطِمُ أقياده
غيرُ دمِ الأحرارِ لا ينقَعُ ال ... ثأْرَ ولا يُطفِئُ وَقّاده
غيرُ دمِ الأحرارِ لا يبعَثُ ال ... مَجدَ ولا ينشُرُ أعياده
قومي فهل أمجدُ من أَمَّةٍ ... لا تَرهبُ الجوْرَ وإزْباده
قومي فهل أخلَدُ ممن قضى ... فشادَ للتاريخ ما شاده
ماتَ ليحيا وَطَنٌ مُرْهَقٌ ... عانٍ يريد اللهُ إسعادَه(160/64)
قومي وَغنّينا نشيد الرَّدى ... لا تسأمي في النقع ترداده
فالموتُ للمغلولِ حُرِّيةُ ... والموت لا يمنعُ وُرّاده
يأيها العادِي رَبيبَ الأذى ... يا عِترةَ الشرِّ وأنداده
يا شيعةَ الغدرِ وأنصارَهُ ... يا عصبةَ المال وعُبّاده
القبلةُ الأولى، على جودِها، ... لا تُكْرِمُ الذُّلَّ وأحفاده
لا تُنزِلُ الشذّاذَ، في قُدْسِها ... طرائدَ الغربِ وأوغاده
من ذا الذي ارتادَ لكم مَنزِلاً ... في الشامِ؟ إن القبر ما ارتاده!
زُمّوا رِحال الشؤمِ من قبل أن ... نبتلع الظلمَ وأسناده
فازَ الذي يجمع أطمارَه ... للْبَيْنِ، أو ينزِعُ أوتاده
الغِيلُ من يجعلُهُ دارَهُ؟ ... والسُّمُّ من يجعلُهُ زاده؟
غرَّتكمُ استجمامةٌ للحِمى ... فَخِلتُم للهُونِ إخلاده
والغابُ لا تستطيعُ إخضاعَهُ ... حتى تَخطي قبلُ آساده
يا عربُ هيا فانصروا مَوْطِناً ... للعُرْبِ، هاجَ القِدُّ أفراده
هناكَ شعبٌ عربيُّ الهَوى ... يحاولُ الغاصبُ إنفاده
يسومُهُ الخسْفَ وأغلالَهُ ... ويدَّعي بالنارِ إِرشاده
ثارَ على ظُلاّمِهِ مُكرِماً ... تُراثَه الأسمى وأجداده
مجاهداً أقسمَ لا ينثَني ... أو تُعْتِقَ الأطواقُ أجياده
شعبُ فلَسْطين يناديكم ... مُستبْسِلاً، يصرَعُ جلاِّده
تُدَمِّرُ النيرانُ أبياتَهَ ... وتحصُدُ الأسيافُ أجساده
أخاكمُ يا قوم! لا تُهِملوا ... إرفاده اليوْمَ وإمداده
رِقّوا لِبَلْواهُ وَثوروا لهُ ... حتى يُبيدَ الحقُّ أضداده
فُذُلُّهُ تُكْسوْنَ أبرادَهُ ... وننَصروُهُ تَجنونَ أورادَهُ
أمجد الطرابلسي(160/65)
القصص
من الحياة
أهل ووطن
للأستاذ كامل محمود حبيب
أرخى الليل أستاره السود القاتمة على دنيا غضبى تزمجر في صوت عاصفة هوجاء، وسماء ينهمر منها سيل دافق، وقد قر كل إنسان في داره، ونامت الحياة في كل حي، والفتى جالس إلى موقد في زاوية الحجرة، تغمره لجة من الأفكار المضطربة، والخواطر المتناقضة، فتحجبه عن دنيا الناس. لقد رأى نفسه تعصف بها حادثات الأيام فتذرها بددا، فإن مد يده ليجمع أشتاتها لم يجد منها إلا صبابة من نفس لا تستطيع أن ترد إليه جمال الحياة التي عاش شطراً منها بين أهله وذويه، في وطنه الأول حيث ملاعب الطفولة ومراتع الشباب. وجاءته الذكريات من أقصى الطفولة تحمل على أجنحتها لذائذ ولذائذ لتنصَّب في قلبه هموماً وهموماً، واضطربت جوانح الفتى أن وقف خياله عند الساعة التي أفزع فيها هن وطنه وأهله فبكى بكاء الثكلى تفقد صبرها حين تفقد قلبها. ما الذي أزعجك عن وكرك أيها الطير وأنت ناعم على فنن تغرّد، ترى كل مباهج الحياة عند هذا العش الصغير؟ لقد ضاقت بك الدنيا لأنك تركت قلبك هناك. . . هناك في هذا العش. . .!
لم يكن الفتى كَلاً على أحد، ولم يكن معدماً، ولم يكن ضعيفاً ولا عاجزاً، ولكنه هجر وطنه وأهله حين لم يجد فيها جمال الوطن ولا عطف الأهل، وحين لم يجد بين أهله قلباً كقلب أبيه ينبض له نبضات الحنان والرحمة، ولا رجلاً في رجولته يفيض عليه من بسمات نور الحياة وجمالها. ووقف خيال الفتى عند الساعة التي همَّ فيها يفارق وطنه وأهله تتجاذبه عاطفتان: قلبه من خلف، وتأبِّيه أن يقيم على الضيم من أمام! ثم غلبته كبرياؤه فانصاع لها تقوده إلى حيث يجد أهلاً غير أهله، ووطناً غير وطنه؛ أو لا يجد. . .
ماذا كان؟ ماذا كان أيها المنزوي في ناحية من حجرة تحدث نفسك حديث الماضي؟
مرض الفتى فراح يَطبّ لمرضه في عزم الشباب وقوته، وأريد على أن يلبث في مستشفى حيناً، فما خاطب أهله في شأنه، وغاب عنه أن المرض ألم في الجسم وقلق في النفس، وأن(160/66)
الشفاء يحمل إلى المريض على كفين: كف الأسى وكف الطبيب معاً
لقد خاف - بادئ الرأي - أن يفزع أهله أن ساق إليهم الخبر في صورته المزعجة، فاستأنى حتى ينزع الطبيب مشرطه، ليرسل إليهم خبراً هادئاً فيفدون على مهل. ونفض جملة حاله أمام ابن عمه الشاب فلم ير هذا في حديثه إلا صفحة من الاعتداد بالذات، والتفاني في الوثوق بالنفس؛ ثم نظر إليه نظرات ذات معنى وقال: (أيضيرك أن تستعينهم على مرضك ووحدتك؟) فقال الفتى: (لا ضير؛ غير أنى أريد أن أفاجئهم بالخبر) قال الشاب (أفتراني أملأ فراغ قلبك حيناً من الدهر؟) قال: (ولم لا وقد عرفتك منذ نشأتي تفيض عطفاً وحناناً، وتسدي النصيحة خالصة للحب وللقرابة، وتنير لي طريق الحياة بحكمتك فأسير في سنا ضوء عقلك. لقد كنت لي جماعة في فرد. والآن. . . والآن أريد أن أعرفك في مرض.) فصمت الشاب وقد حمَّله الفتى العبء وحده. . .
وحمل البرق رسالة الشاب (فتاكم في مستشفى (كذا) يطب لمرضه وينتظر قدومكم، لا خوف. . .) ثم انطلق الشاب يحمل إلى مريضه خبر الرسالة
هل وعى المريض ما قاله الشاب الباسم؟ لقد كانت وخزات الجرح تنفذ إلى قلبه في مثل طعنات الخنجر وهو يصمد لها في ثبات وصبر، وعلى وجهه علامات الضجر؛ وكان العرق ينضح من جبينه بارداً غزيراً ليرسم عليه صورة ناطقة لآلامه ومتاعبه. وأربد وجه الشاب حين رأى الفتى تتعاوره الآلام، وتتناهبه الأسقام، ثم ابتسم في رقة وهدوء ليداعب صاحبه وينزعه من آهاته العميقة، ولكنه كان يجهد نفسه ليرتد إليه جهده خائباً مخذولا
وفي أنة المحزون انقلب المريض إلى ابن عمه الشاب يقول: (ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟ أنني أريد أخوتي وأعمامي وأهلي. . . آه ما شعرت بالوحدة كاليوم. . .!) ورن صدى هذا الصوت الضعيف في قلب الشاب طعنات من يد القدر فراح يقول له. . .
ومضى يوم ويومان وثلاثة. . . ويد الطبيب تمر رفيقة على جرح المريض فيلتئم صدع منه على صدع، وتنفرج في قلبه صدوع وصدوع، لأنه لم يفز بعد برؤية أحد أقربائه؛ ولم يستشعر لحنان إلا من قلب هذا الشاب الذي يختلس من أوقات عمله فترات من فراغ يقضيها إلى جانب مريضه يواسيه ويعطف عليه ويحمل إليه - فيما يحمل - هدية صغيرة، تنتزعه حيناً من أفكاره المظلمة. . .(160/67)
واستطاع الفتى أن يجلس إلى ابن عمه يحدثه: (ماذا جرى كأنك لم تقص على أهلي خبري. لقد مضى أسبوع ولم يزرني سواك. أنك تملأ قلبي سلوة وعزاء بجمال جلساتك القصيرة، ولكن. . .) وراح الشاب يتلمس لأهله الأعذار: (من ذا يستطيع أن يقول سأفعل. . . لعل حادثاً لم يترام إلينا خبره حال بينهم وبيننا. . . واضطربت الكلمات على شفتي الشاب حين أراد أن ينزع عن صاحبه بعض أفكاره، وحين أراد أن يقول له أنه أصاب الهدوء والراحة حين عاقهم ما عاقهم عن أن يسرعوا إليه. اضطربت الكلمات على شفتيه لأنه كان يسمع من أقصى ضميره صوتاً يقول: (أن لا عذر. . . لا عذر اليوم!) وكان يرى في إبطائهم استخفافاً وامتهاناً، غير أن حكمته أبت إلا أن تسدل على عيني الفتى ستاراً من الوهم. وما كان للفتى أن يسمع، وأن سمع فما كان له أن يصدق، فهو وحده يشعر بالوحدة حين يخلو إلى نفسه، وهو وحده يحس ألم الصدمة. لقد أراد أن يفجأهم بخبر هادئ فانصرمت أيام وما رآهم. وتماثل العليل للشفاء، وهمَّ يريد داراً غير هذه ولم ير منهم أحداً. يا ويح هذا الفتى! لقد راح يطلب الشفاء من علة في جسمه، فملأت الأيام قلبه عللاً سلبته لذة الشفاء
وجلس الفتى إلى عمه يعاتبه: (أفكان من العطف أن أنبذ في حجرة، وحيداً، متألماً، مريضاً، أقاسي ما أقاسي فلا أجد منكم من يزورني أو يكتب إلي؟ لقد كان أبي منكم بالمكان الذي تعرفونه، وكنت من أبي من تعرفون؛ أفلا ترعون حقه في أبنه الملقى على سرير في حجرة موحشة لا يجد من يواسيه إلا ابن عمه الشاب؟) وأحس العم عظم الخطيئة فراح يعتذر: (لقد حجبنا عنك موت إحدى قريباتك) وانطلق الفتى يقول: (لقد سعيتم إلى الميت وقد انتهى، ولبثتم حول قبره أيام تبكون، لتتركوا الحي الذي لا هو بالحي ولا هو بالميت يستروح نسمات الحياة منكم فما يجدها. أفبعد هذا تزعمون، وتزعمون. . .؟) وسبقت زلة من لسان العم: (ولكن. . . أن لك لهنات!) فأسقط في يد الفتى أن سمع عمه يتشفى، وآلمه أن ينتقم أهله. لقد زل الفتى مرة وكل فتى يزل، وما كان لهم أن يعاقبوه وهو يحن إلى بعض عطفهم، وما كان لهم أن ينبذوه في الهاجرة وهو المشوق إلى فيء ظلهم. أي أهل؟ وأي أنسانية؟ واندفع الفتى المغيض: (هذا وقت تنسى الهنات، وتنطوي الزلات. أن لي لهنات لأني لم ابلغ سن العقل، ولكم أخرى لأنكم لم تبذلوا النصيحة. ولقد كفاني أن تبدي(160/68)
لي الأيام ما كان خافياً، وأن تكشف لي الشدائد عن أشياء كنت أجهلها، وعن أخلاق ظننتكم تترفعون عنها. . .) ثم غمرت الفتى آلامه فأمسك، وترقرقت في عينه عبرة حبستها الكبرياء فما تبرح، غير أن أحزانه ثارت في نفسه فقال: (لقد ظننتكم أهلي، وركنت إليكم لأنكم أهلي، وشمت الخير فيكم لأنكم أهلي. أما الآن فيا خيبة الرجاء ويا ضيعة الأمل!)
ونزت في العم سورة من غضب أن رأى الفتى الطائش يلومه فيشتد في اللوم، ويعاتبه فيسرف في العتاب، وأَلَّم أن يقع بينهما تنابذ، ولكن الفتى كان قد صهرته الفكرة في بوتقة من الأحزان حين رأى عمه يتعلق بأوهى الأسباب بعد إذ عاقبه أهله على غير جريرة، في جفاء وغلظة، فرجع إلى نفسه يحدثها ويرغمها على أن تلقي السلم، فألقت واضطربت الخواطر في رأس الفتى، فتركته موزعاً ينحى على نفسه باللائمة أن قال. .
ولشد ما آلمه أن يكون هو ابن أبيه، ووحيده، واقتراحه على الله حين أعجزته الأيام عن أن يكون له ولد، والأمل الباسم في شيخوخة الشيخ وهو يدب على عصاه في طريق الفناء؛ ثم يرى أهله ينبذونه في مستشفى، ملقى على سرير، في حجرة موحشة، لا يأنس إلا بوجه ابن عمه الشاب عصر كل يوم، ثم هم يغلظون له في الحديث، ويشتطون في العقاب. ولشد ما أحزنه ألا يكون له في هذا العالم إلا ابن عمه يحنو عليه، وينظر إليه نظرات فيها العزاء وفيها السلوة، ويدخل إلى نفسه بكلام في رقة الأصيل لينسيه بعض ما همه؛ وهو كان يرى - عن كثب - الفتى أو الشيخ من أسرته يصيبه بعض ما أصابه هو فينطلق إليه أبناء الأسرة زمراً زمراً يواسونه، ويعطفون عليه، وينزعون عنه آلامه وأحزانه. أما هو. . . أما هو. . .! وتناهبته الآلام: آلام المرض، وآلام الوحشة، وآلام عزوف أهله عنه، فأخفى ضعفه المنسكب من عينيه في منديل
وخرج الفتى من لدن عمه مطوياً على آلام مبرحة تحز في نفسه، وتعض على قلبه حين رأى قلوباً تأكلها أحقادها، وعقولاً تعصف بها ترهاتها، وضاقت الدنيا في عينيه حين انهار مثله الأعلى حجراً حجراً بعد ما رأى من عمه وما سمع، فهام على وجهه يطلب الفُسحة في أرض الله. . .
وهبت أول نسمة من نسمات الفجر تشهد قلباً كبيرا ًينزح عن وطنه، ويهجر أهله إلى حيث تتقاذفه مطارح النوى، إلى حيث لا ينبض لذكره قلب. . .(160/69)
وانصرمت سنون ألبست الفتى شيخوخة باكرة، ورسمت على فوديه آثار حادثة مروعة استقرت في خياله فما تريم، لقد سكن إلى وطن وأهل غير وطنه وأهله، وقلبه ما يزال عند الساعة التي أفزع فيها عن وطنه وأهله يبكي ويبكي. . .
ليتك نسيت أيها المنزوي في ناحية من حجرة تحدث نفسك حديث الماضي، ليتك نسيت أنك كنت. . .!
كامل محمود حبيب(160/70)
مأساة من سوفوكليس
3 - أنتيجونى
للأستاذ دريني خشبة
- 6 -
(تدخل إسمنيه فيخاطبها الملك)
- (ها! هلا! أيتها الحية الرقطاء التي ما تبرح تتحوى هي وأختها تحت عرشي! ماذا عندك من سموم تنفثينها؟ خبري! ألست ذات ضلع في هذه المأساة؟ أم أنك ستحلفين بأغلظ الأيمان أنك لا تعرفين منها قلاً ولا كثراً؟)
- (إن كانت هي قد حدثت عني بشئ، فأنا شريكتها في كل شئ، ولن أقول شيئاً أتحلل به من نصيبي في القصاص!
فتقول أنتيجونى: (حاشا! تأبى العدالة أن يحمل البريء وزر الجاني! أنا وحدي اضطلعت بكل شئ، ولقد رفضت أن أشركك في أي شئ!)
- (ولكني لن أدعك في تلك الملمة وحدك!)
- (الحنان من طرف اللسان لا يعنيني يا أختاه! الآلهة وحدها تعلم من فعل الفعلة)
- (أوه! أنت تأبين علي أن أقاسمك شرف الموت معك من أجل شقيقي!)
- (لا ينبغي أن تموتي معي من أجل شيء لم تجنيه! حسب أخي أن تموت أخت له واحدة في سبيله!)
- (وماذا أسيغ من مباهج الحياة بعدك يا أختاه!)
- (سلي كريون يجبك! إنه كفيل لك بكل هذه المباهج!)
- (وماذا يسرك من إيلامي ووخزي هكذا؟!)
- (قلبي مفعم بالألم، ومن أجل ذلك فشفتاي تضحكان عليك!)
- (وهل لك حاجة أستطيع أن أؤديها لك الآن يا أختاه؟)
- (أجل! حاجتي إليك أن تنجي بحياتك!)
- (وا أسفاه! أهكذا يحال بيني وبين مشاركتك هذا الجد؟)(160/71)
- (ولمه؟ قد اخترت الحياة، أما أنا فقد فضلت الموت!)
- (لقد نصحت لك!)
- (أجل! لقد نصحت لي! وقد يحمد لك تيهك في هذا العالم الفاني، أما أنا، فستحمد لي الآلهة تفانيّ وحكمتي في العالم الباقي!)
- (ولكنا سيان في هذه الزلة
- (لا تنزعجي يا عزيزتي! ستعيشين طويلاً! أما أنا، فقد قدمت حياتي قرباناً للموتى منذ زمن طويل. وإذ يبلغ حوارهما هذا الحد، يقول الملك: (إحدى الفتاتين قد فقدت صوابها كله، أما الأخرى. . . فلا صواب في رأسها البتة!!
فتقول إسمنيه: (مولاي! في مثل هذه المحنة لا يملك أحد صوابه!)
فيقول الملك: (على كل حال لقد فقدت صوابك بمحاولتك مشاركة هذه المجرمة في إجرامها!
- (وما قيمة الحياة لدي إذا فقدت أختي يا مولاي؟
- (لا تقولي أختي! إنها لا شئ! لا شيء منذ الآن!
- (ماذا!! أتقتل خطيبة ولدك؟ أتقتل أنتيجونى؟)
- (النساء كثير يا إسمنيه!)
- (والحب!! الحب الذي ألف بين قلبيهما يا مولاي؟)
- (ومن يبتغي رفيق إفك وعرس خبث لولده؟)
وما كاد الملك يقولها حتى تنتفض أنتيجونى انتفاضة هائلة وتقول:
- (هايمون! حبيبي هايمون! كم ذا يسيء أبوك إليك!)
فيقول الملك: (بل أنت وزيجتك النكراء شجو علي، وظلام في حياتي!
ويتساءل رئيس المنشدين: (وهل تفصل بينهما يا مولاي؟ أتحول بينها وبين ولدك؟)
فيقول الملك: (أنه الموت وحده سيحول بينهما!)
- (إذن. . . انقشعت سحب الريب! ستقتل الفتاة!)
- (ما في ذلك شك! أيها الجنود! هلموا بها إلى السجن! ستذوب شجاعتها حين يقترب الموت من عينيها العنيدتين!(160/72)
(يقودها الجنود إلى الداخل وتذهب إسمنيه في أثرها)
- 7 -
ويأخذ المنشدون في نشيد طويل حلو مليء بالعبرة مبلل بالدموع، ويذكرون محنة بيت قدموس منشئ طيبة وجد أوديب، ثم يرتلون صلاة شعرية لزيوس ما يوشكون يفرغون منها حتى يقبل هايمون المسكين العاشق - خطيب أنتيجونى - فيخاطب رئيس الخورس الملك قائلاً:
- (هايمون أيها الملك! ولدك الأوحد، وآخر عُسلوج في دوحتك! هاهو ذا مقبلاً وقد حطمه الهم، وهدمته المصيبة الفادحة. . . أوه! أنه يبكي! يا للآلهة! أيذرف الدمع من أجل حبيبته. . . الضحية؟ أم هو قد جاء يلتمس منها نظرة للوداع؟!)
(يدخل هايمون)
- (من يستطيع أن يحدس؟ سنعلم كل شيء فانتظر. (مخاطباً ولده) أحق يا بني أنك جئت إلى هنا مدفوعاً بثورة من الهم مما آل إليه أمر خطيبتك؟ أكبر ظني أن حبك أباك سيرجح عندك كل حب، وطاعتك إياه ستبرر لديك تصرفاته مهما تكن!)
ويصبر قليلاً كمن جف لسانه من الظمأ والغشية، ويقول: (أنا ابنك يا أبتاه! سأخضع لكل ما ترى من رأي، ولن أوثر على محبتك أجمل حسبان الخلد)
- (بورك فيك يا ولدي لقد كان هذا أكبر رجائي في رجاحة عقلك وعظم قلبك! إنه ليس أحب إلى الآباء من ذرية صالحة طيّعة يخزون بها الأعداء، ويسرون بها الأصدقاء؛ وإني لأثق أن هايمون اللبيب لن يفقد صوابه من أجل امرأة! اسحقها يا بني كما تسحق ألد أعدائك، وأبعث بروحها الشريرة تبحث لها عن زوج شرير في ظلال هيدز!! لقد ثارت وحدها على الملك وعلى مجلس طيبة، وقد صممنا على إعدامها من أجل ذلك، ولن ننكص على أعقابنا فيما أبرمنا! إننا هنا لا يُملى علينا ونحن أصحاب الأمر والنهي، وقد ركزت المدينة الخالدة سلطانها المبين في شخصنا فيجب أن نطاع إطلاقاً ولو كانت أوامرنا ضرباً من الشطط. . . إنه لا يهدم عظمة الشعوب كقيام الرعية ضد ملوكها ولا يهزم الجيش العرمرم ذا الأيد كعصيان جنوده قواده! وسيرى الجميع أنني هنا لأحمي القانون، وأنني لست هنا لأذل أو أتقهقر أمام امرأة!)(160/73)
ويقترب رئيس الخورس من الملك فيقول: (الحق قلت، والحق دائماً تقول!)
ويتقدم هايمون إلى أبيه الملك، ويشهق شهقة هادئة ويقول:
- (مولاي! السداد بذرة صالحة تغرسها الآلهة في نفوس الصالحين! ألا كبرت كلمة أن أقول إنك أخطأت يا أبي! ولكني كابنك الأمين أرى لزاماً على أن أتقصى أقوال الناس وأفعالهم، بل وآراءهم أيضاً في ملكي الذي هو والدي؛ وأكبر ظني أن سلطان الملك يلجم أفواه الناس فما يحيرون؛ بيد أنني سمعت همساً أن الطيبيين على بكرة أبيهم يذرفون الدمع مدراراً من أجل الفتاة التي أمرت بإعدامها، وإنهم يرون في قضية القتيل رأيها ويؤيدونها كل التأييد. على أنها ماذا صنعت هذه الفتاة؟! لقد دفنت أخاها الذي غودر مضرجا بدمه، معفراً بثرى الجلبة، وأشفقت أن تدعه لكلاب الفلاة وبواشق الطير تنوشه وتغتذي به. . . . ألا وآلهة الأولمب إنها بالمكافأة أخلق، وبالعطف والإعجاب أحرى! بذلك تتلحلج ألسن القوم يا أبتاه، وهم يرددونه في كل مكان، فمن لك بمن يبلغك أقاويلهم غير ابنك الذي يحرص على سمعتك ونقائك كما تجهد أنت أن تبني له مستقبله وشهرته!! أبداً لا تسمع للذين يفتنونك عن نفسك حين يقولون لك أنك لا تعمل إلا الصواب ولا تنطق عن الهوى. فمثل ذلك لا يكون بشراً، في حين يخطئ البشر ويصيبون! ألا وأن من يدعي أنه أحكم الناس وأطيبهم كلمة يكتشف لك إذا خبرته عن خواء، وعن فؤاد هواء! أبي! ليس في الاصاخة للحق ما يُخجل، ولا في الرجوع عن الخطل ما يخزي! ألا وإن أضعف الكلأ ليقف لسيل العرم لأنه يلين له، في حين يجرف سيل العرم أذهب الدوح في السماء لأنه يأبى أن يلين لشيء! ألا وأن الملامح الذي لا يرخي العنان لهوج الرياح يكسر قلاعه ويفقد في اللجة آماله، فأي عار في أن تلين يا أعز الآباء؟! أنني ما أدعي الحكمة، ولا أقول بعلم كل شيء، ولكنك غذوتني، ونشأتني على الرأي السديد والتبصر، فأنا أعظك أن تكون ممن لا يرى إلا رأيه، أو يتبع هواه فيردى!)
ويلمح رئيس الخورس وجوماً بين الأب وابنه فيتدخل قائلاً:
- (مولاي! لا ضير أن تصغي لما في نصيحته من حق وأنت يا هايمون ينبغي أن تنتفع بتجاريب مولاك!)
فيقول الملك: (ها. . . هاها. . . بعد هذه السنين وذلك الشيب يرشدنا هذا الصبي(160/74)
الطرير!!)
فيقول هايمون: (بما هو حق فحسب؟ ولا حساب للسنين في ضرورة تنزل بك قاهرة!)
- (وأي ضرورة في أن تلوذ بأذيال الثائرين؟)
- (أبداً لم ألذ بأذيال مجرم أفاق يا أبي!)
- (ولمه؟ أليست قد نهضت عليها الأدلة ودمغتها البراهين)
- (حاشا! إن طيبة كلها تنكر ذلك؟!)
- (وهل طيبة تحكمني أم أنا الذي أحكم طيبة؟)
- (في الحق أنها هي. . . لولا أن تسفِّه نعومة سني وتنسبني للنزق!
- (أي أن آخرين يشركونني في أمري؟!)
- (أن رجلاً بمفرده لا يقوم مقام مدينة بأسرها يا أبي!)
- (أو ليس كل مدينة في قبضة ملكها؟)
- (هذا إذا كان الملك يحكم كثباناً في صحراء!
ويكون الملك قد عيل صبره فيقول:
- (إذن. . . أنت حامي المرأة أيها البطل الصغير؟)
- أنت هو المرأة!. . . وأنت وحدك الذي تعنيني!!)
- (وقح!! تأبى إلا أن تناقش أباك. . . سفسطة!!)
- (بل أجهد أن أردك عن التمادي في خطئك!)
- (وأي خطأ في أن أؤيد سلطاني وأحفظ وقاري؟)
- (وأي وقار في تحقير الآلهة؟)
- (أيها الشرير! يا من تأخذ بزمامك امرأة؟)
- (أجل. . . ولكنها لن تقودني إلى مفسدة!)
- (ولذا بذلت لها دفاعك!)
- (بل بذلته لك ولي. . . وبذلته من أجل الآلهة في الدار الآخرة!)
- (إنها لن تعيش حتى تكون زوجتك في هذه الدار الأولى!)
- (أعرف. . . وأعرف أيضاً من تكون سبب خرابه وانهياره بموتها!؟)(160/75)
- (هه! أنت تهدد وتتوعد أيها العاق (يا قليل الأدب!))
- (ليس يتوعد ولا يهدد من يقول قولة الحق. . . والحق الصراح!)
- (هه. . . هاها. . . ستدفع ثمن هذه القحة! أيها الناصح الغبي!)
- (لو لم تكن ملكي وأبي، لزعمتك مذهوباً به!!)
- (أنت! أيها المفتون! يا من تصيبك امرأة! أصمت! لا ترد علي!)
- (ليكون كل الكلام لك!)
- (محال! هذا محال! لابد أن تجرع كأس المنون بين يدي عشيقها! لابد أن تردى أمام ناظريه وملء عينيه! إلي بها. . .)
- (بل هذا هو المحال! لا تحلم يا أبتاه بتجريعها كأس الموت من يديك أمام ناظري. . . بل لا تحلم بأن تراني آخر الدهر بعد الآن!)
(وينطلق هايمون)
- 8 -
ويقول رئيس المنشدين: (مولاي! لقد أخذ الغضب منه كل مأخذ، والشباب المغضب يركب رأسه إذا أهين كبرياؤه، وقد يأتي من الفعال ما لا تحمد عقباه!
- (ليفعل ما بدا له! ليركب رأسه في طريق من الشوك انه لن ينقذ الفتاتين مما قسم لهما)
- (الفتاتان! وهل تُقتلان كلتاهما؟)
- (معك حق! بل الطائشة وحدها. . . تلك التي فعلت الفعلة!)
- (وبأية طريقة توقع عليها عقوبة الإعدام؟)
- (في القبو!! القبو المظلم تحت هذا القصر. ستنفرد فيه وسيفرش لها مهاد من الشوك يخز روحها وبدنها حتى تموت ولتعبد ولتبعد هنالك آلهتها. . . آلهة الفناء. . . حتى تقضي فيها قضاءها. . .)
(ويخرج كريون)
(لها بقية)
دريني خشبة(160/76)
البريد الأدبي
الأدب الهندي في مختلف أطواره
تتكون اللغة الهندية الحديثة من ثلاثة عناصر؛ من أصول سنسكريتية خالصة ومن أصول سنسكريتية حورت بحسب الحاجة، ومن أصول حديثة مبتكرة أو مشتقة من اللغات الأخرى وهذه الأصول الثلاثة هي اليوم قوام اللغة الهندية المعروفة (بالهندستاني) أما اللغة الهندية التي اشتقت من الأصول الفارسية والعربية فتسمى باللغة الأوردية
ويبدأ الأدب الهندي، كما تبدأ معظم آداب العالم، بالشعر؛ وينقسم الشعر الهندي القديم إلى ثلاث مراحل تتمشى مع سير التاريخ الهندي. فمنذ القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر حيث تكثر الحروب الأهلية والغزو الأجنبي، يسود الشعر عنصر الفروسية، وكان الملوك يومئذ يلحقون الشعراء بحاشيتهم، ليثيروا الحماسة في الصدور بشعرهم. وكان أعظم شاعر في هذا العصر هو شاندبارداي صاحب المقطوعة الشعرية الخالدة: (برتفيراج رازو)، ويليه الشاعر بوشان صاحب مقطوعة (شيفاباواني)
وبعد الفتح الإسلامي ضعف شعر الفروسية في الهندية؛ فقد رأى الهنود ما أصاب دينهم من الذلة ومعابدهم من الهدم، فاتجهوا نحو الشعر الديني، واستمرت هذه المرحلة من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر؛ وينتمي جماعة من أقطاب الشعر الهندي إلى هذا العصر مثل كبير، وجورو، وناناك، وجياسي، وميرابي، وكيشافا، وصور، وتولسي، وتولسيداس وقد وهب هؤلاء الشعراء الأدب الهندي تحفاً رائعة من الشعر الخالد؛ وكان تولسيداس بالأخص نبياً كما كان شاعراً عظيماً؛ وكانت تحفته الخالدة (راميان) عاملاً في توثيق أواصر الوحدة الهندية. وقد ساهم الكتاب المسلمون في نهضة الشعر الهندي في ذلك العصر، وإن لم يكن شعرهم كله من النوع الديني
وأما المرحلة الثالثة من شعر العهد القديم، فقد عرفت بمرحلة الشعر الشرعي؛ وقد ساد فيها السلام نوعاً، واتجه الشعراء إلى التنوع والابتكار؛ وكان أشهر شعرائها بهاري، وماتيرام، وبوشان، وصردهار كاويرايا
وبعدئذ طرأ على الشعر الهندي تطور عظيم، وأخذت الهندية الحديثة تحل تدريجياً مكان الهندية القديمة؛ وتطور الشعر ذاته فأخذ الشعراء يصفون الطبيعة والمسائل الاجتماعية(160/78)
والسياسية، وكان البنديت شريدار باتالا في مقدمة الشعراء الذين استعملوا الهندية الحديثة، ومن مشاهير الشعراء المحدثين أيضاً، أبوديا سنغ أو باديايا، ومهابير دفيدي، ورمشاريت أو باديايا، وسريماتي ماديفي فارما
وأحدث أطوار الشعر الهندي، هو توجهه نحو (التصوف) وقد كان البادئ بهذا النوع الحديث من الشعر الشاعر الأمريكي والت هويتمان
وكان في الأدب الهندي قبل مجيء الإنكليز قليل من كتب النثر، وكان سادا سكلال، وانشاء الله، وسادالا مسرا طلائع النثر في الأدب الهندي، ثم جاءت البعثات التبشيرية بعد ذلك وترجمت الكتب النصرانية إلى الهندية؛ وألف الكاتب ساراسواتي كتبه بالنثر ومنها كتابه الشهير (ستيارث براكاشي) وذلك لكي ينشر دعوته الشهيرة (الآرياسماج)، وكان أعظم الكتاب الناثرين في هذا العصر بارتندو هاريشاندرا، فكتب بالنثر عدة قصص تمثيلية وأذاع دعوة النثر بين أصدقائه؛ وظهرت في ذلك العهد أيضاً بعض المجلات التي تكتب بالهندية المنثورة، ويعرف هذا العهد بعهد بارتندو
ويعرف العهد الثالث من النثر الهندي بعهد (ماهابير براساد)، ففي سنة 1903 انتخب هذا الكاتب الشهير لتحرير مجلة (ساراسواتي) في الله آباد، وقد كانت أشهر مجلة أدبية في ذلك العهد، وقد استطاع ساراسواتي أن يخلق بواسطة هذه المجلة معيارا جديدا لكتابة النثر الهندي، وأن يعاون على الظهور كثيراً من كتاب الشباب
ويبدأ النقد الأدبي في الأدب الهندي من ذلك التاريخ، وكان أشهر النقدة يومئذ المهابير براساد دويفيدي، والنبديت شارما، وبابوشيامسوندرداس، والنبديث شوكلا
ويمتاز العهد الحاضر من النثر الهندي بنشاط جم في جميع الفنون، وقد أدت ترجمة القصص البنغالية الحديثة إلى العناية بوضع قصص هندية مسرحية، وفي مقدمة مؤلفي المسرح اليوم جاباشانكار براساد، بيد أن الرأي العام لا يهتم الآن كثيراً بهذا النوع من الأدب بعد أن زاحمه القصص العام والسينما
وأهم أنواع الأدب الهندي المنثور اليوم هو القصص، وقد أدخلت القصة القصيرة إليه حديثاً، وأعظم كتاب القصص الهندي هو (مونشي برمشاند)، وقصصه من أعظم وأرفع الأنواع، ولو إنها توصف أحياناً بأنها مغرقة في المثل، وأسلوبه نموذج للشباب(160/79)
وأما جاياشانكار براساد فهو فنان وشاعر يضع قطعاً مسرحية فوق مستوى القارئ العادي
وأشهر كتاب القصص في الهند اليوم هم سودارشان، وأورجا وشاتورسن ساستري، وجانندار، وهنالك مئات الكتاب الشبان الذين ينقطعون لكتابة القصة؛ ومادة القصص هي في الغالب المسائل الاجتماعية والسياسية، وهنالك قليل من الكتاب الفكهين
وهنالك مجلات هندية كثيرة من الدرجة الأولى، ومن أشهرها: شاند، وسارسواتي، وهانس، ومدهوري، وآرج، وبرأتاب، ونافيوج، وفارتمان، وغيرها
أما الأدب العلمي فلم ينضج في الهندية بعد، ولم يكثر إنتاجه. ذلك أن الهندية ليست وسيلة للتعليم الفني؛ ومع ذلك فقد ظهرت بالهندية عدة كتب علمية وفنية
ومن الظواهر الجديدة في الأدب الهندي، أن كثيراً من الكتاب الذين لا يتكلمون بالهندية يكتبون اليوم بها؛ ومن هؤلاء أمير خوسرو، ورحيم، وأمير علي مير، وغيرهم من الكتاب المسلمين
كتاب جديد لماري ستوبس
صدر أخيراً كتاب جديد للدكتورة ماري استوبس التي اشتهرت بمباحثها عن الحياة الزوجية، عنوانه (تطور الحياة عند الرجال والنساء) وتعالج الدكتورة استوبس في كتابها الجديد ناحية جديدة من الحياة الزوجية هي التطورات التي تطرأ على علائق الزوجين وعواملها النفسية والاجتماعية، وتحول عواطف الشباب إلى عواطف الكهولة؛ وتتناول بين موضوعات كتابها ما يأتي: التقدير الحسن والأزمات، التطور في الرجل والمرأة. بعض عوامل فسيولوجية في الرجل، بعض عوامل فسيولوجية في الجنسين، بعض هذه العوامل في المرأة، بعض وسائل المعالجة. . الخ وللدكتورة ستوب شهرة واسعة جدا بين الشباب الإنكليزي وهو يقبل على قراءة مؤلفاتها بشغف؛ مثال ذلك أنه بيع من كتابها عن (الحب الزوجي) نحو مليون نسخة في عشرين عاماً؛ ولها عدة كتب أخرى تلاقي في إنكلترا وأمريكا مثل هذا الانتشار المدهش
أثر تذكاري للموسيقي لست
من أنباء النمسا الأخيرة أن الحكومة النمسوية قد أعدت أثراً تذكارياً للموسيقي النمسوي(160/80)
المجري الكبير فرانز لست لينصب في مدينة ايزنشتات من أعمال مقاطعة بورجنلند النمسوية، وذلك بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاته ومرور مائة وخمسة وعشرين عاماً على مولده؛ وقد ولد لست في سنة 1811 في ريندج من أعمال المجر يوم كانت قطعة من الإمبراطورية النمسوية ودرس في فينا وباريس، ونبغ في الموسيقى تأليفاً وعزفاً، وطاف عواصم القارة وبهر مجتمعات ذلك العصر ببراعته وسحر عزفه؛ وفي سنة 1865 اعتزل الحياة الدنيا واعتنق الرهبنة، ولكنه اشتغل بالموسيقى الكنسية، وألقى في كنائس أوربا الكبرى عدة قداسات موسيقية اشتهرت في ذلك العصر، وحجت إليها الجماهير من مختلف أنحاء العالم، وتوفي لست في سنة 1886، ومع أن لست كان مجرياً بمولده، فهو نمسوي التربية والفن، ولذلك رأت الحكومة النمسوية أن تكرم ذكراه بصنع هذا الأثر التذكاري ونصبه في مدينة ايزنشتات وهي التي عاش فيها لست أعواماً طويلة، وهذا الأثر عبارة عن تمثال رائع قام بصنعه المثالان الشهيران باراي وتسانباور؛ وقد أجرى رفع الستار عن الأثر التذكاري في حفل رائع في مدينة إيزنشتات، خطب فيه وزير المعارف ونوه بعبقرية الموسيقي الشهير، واختتمت الحفلة بعزف بعض قطع شهيرة من تأليفه(160/81)
العدد 161 - بتاريخ: 03 - 08 - 1936(/)
البك والباشا
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وحدثني صاحب سرّ (م) باشا رحمه الله قال: جاء يوماً إلى زيارة الباشا رجلٌ دخل عليَّ متهللاً مُشرقَ الوجه كأنه مُضَاءٌ من داخله بشمعة. . . ويترنح غِطفاه كأنما تهزُّه أسرار عظمته، ويمشي متخلِّعاً كالمرأة الجميلة التي أثقلها لحمُها وأثقلتها المعاني الكثيرة من أعين الناظرين إليها، وعلى شفتيه خيال من فكرة هؤلاء الكبراء المغرورين الذين لا يأمر أحدهم رجلاً صغيراً إلاّ ليُعلمه إنه هو كبير فيكون في الأمر شيئان: الأمر واللؤم. وأقبل عليّ في هيئة شامخة لو نطقت لقالت: سبِّح اسمَ ربك الأعلى. سبِّح اللهَ الذي خلق في الأسد شعرةً جبارة خرج منها الأسدُ كله. . . .
سبحان الله ولا إله إلا الله. هذا (فلان باشا) الذي قرأت في الصحف أمس إنهم أنعموا عليه برتبة الباشوية؛ خلقه الله من تراب وحوَّلت الرتبة هذا التراب الذي فيه إلى ذهب خالص. . . ينظر إليَّ ويرغمه أن تقف عيناه عليَّ وعلى الحائط؛ ولا تجد نفسه المزهوَّةُ سبيلاً إلى التعبير عن الرتبة إلا هذا الازدراء المنبعث من شخصه العظيم لمن لم يكن كشخصه. ما بين أمسِ واليوم زاد هذه الزيادة الآدمية، أو كأنما كانت صورته خطوطا فقط فوضعت فيها الألوان. . .
(باشا)! هذه الباء وهذه الألف وهذه الشين الممدودة ليست حروفا خارجة من الأبجدية العامة، فإن الأبجدية قد تجعل الباء في بليد مثلاً، والألف في أبله، والشين الممدودة في شاهد زور مثلاً مثلاً. . . . بل تلك حروف من حروف الدولة منتزعة من قوة قادرة على أن تجعل لحياة صاحبها من الشكل ما يسبغه الفن على الحجر من شكل تمثال ينصب للتعظيم
قال: وكنت أعرف هذا الرجل وهو رجل أميُّ لا يحسن إلا كتابة اسمه كما تكتب الدجاجة في الأرض. . . فكانت الرتبة عليه كإطلاق لفظ الحديقة على صخرة من الصخور الصَّلدة؛ وهذا مما يحتمله المجاز بعلاقة ما. ولكن الذي لا يسوغ في المجاز ولا في مبالغات الاستعارة ولا في خرافات المستحيل أن تزعم الصخرة للناس أن لفظ الحديقة الذي أطلق عليها قد أنبت فيها أشجار الحديقة(161/1)
قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهل له الإذن وقال: هذا رجل أصبح كالورقة المبصومة بخاتم الدولة فلتكن ما هي كائنة فان لها اعتبارها. ثم تلقاه تلقي الهازل المتهكم وقال له: أهنئك بالنحوي. . . مباركون يا باشا. . . وأقبل عليه وبسط له وجهه
وكان في الباشا دعابة ظريفة يعرف بها، وهو كثير النوادر والمُلَح، وله خصيصة عجيبة فيكون بين يديه كدس من الأوراق التي تعرض عليه ينظرفيها ويقرؤها ويتدبرها، وهو في ذلك يستمع إلى محدثه ويراجعه ويرد عليه، فيصرف الناس والأوراق في وقت واحد، ويستعمل ناحيتين من فكره استعمالاً واحداً لا يخل بالإصابة في شيء من هذه ولا من تلك
ثم قال للباشا الحديث وعينه إلى ما بين يديه: هذه أوراق سرقة ثور عظيم فكم يساوي الثور العظيم الآن. . .؟
قال صاحبنا الذكي الفطن: إذا كان من الثيران التي تعرض في المعارض وتنال المداليات الذهبية فقد يبعد سعره ويغالي به
قال الباشا: نعم نعم. إن من الثيران ثيرانا ينعم عليها بالأوسمة، ولكن هذا الثور الذي سألتك عنه يا باشا هو ثور محراث لا ثور معرض. . .
قال الآخر: إذا كان ثور محراث فمثله كثير فلا يكون ثورا عظيما كما قلت وليست له إلا قيمة مثله
قال الباشا: أراني أخطأت ولعن الله العجلة؛ فهذه أوراق سرقة حمار. . .
قال صاحب السر: وانصرفتُ عنهما بأوراقي وقد رأيت يدَ الباشا مملوءة لصاحبنا بتحيات كلها صفعات. فلم يكن إلا يسير حتى خرج مبتهجاً يميد السرورُ بعطفيه. ثم دعاني الباشا ودفع إليَّ بطاقة بالحاجة التي جاء فيها الرجل ثم قال:
يا ليت لنا في ألقاب الدولة لقب (رحمه الله). . . ينعم به على مثل هذا. أتدري يا بني أن هذه الرتب وهذه الألقاب لم تكن في القديم إلا كوضع علامة الشر على أهل الشر ليهابهمُ الناس حتى كأنما يكتب على أحدهم من لقب بك أو باشا: مُلْحَق بالدولة. . .
وكان الشعب أمياً جاهلاً. لا يستطيع الإدراك ولا يحسن التمييز. فكانت الألقاب كالقوانين الشخصية الموضوعة في صيغة موجزة مفهومة متعينة الدلالة، وكان كل من يحمل لقباً من الحكومة يستطيع أن يقول للناس: لقد وضعت الحكومة كلمة الأمر في شفتّي. . . .(161/2)
وكأن اللقب إعلام من الحكومة المستبدة لشعبها الجاهل: إن هذا البك والباشا ممن يحقُّ له أن يخشى فيجب له أن يحترم
من الهزل أن يشتري اسمُ النصر الحربيّ أو يوهب أو يُعار؛ وأقبح منه في باب الهزل أن ينعم على مثل هذا الأمي بلقب باشا. وأنا أعرف إنه قد بذل في سبيله ما بذل وأضاع ما أضاع فكأن الذين منحوه إياه لم يفعلوا شيئاً إلا وضع توقيعهم على أخذ الثمن. . .
ولقد أصبح الرجل تحت تأثير الكلمة العظيمة مخبولاً بسحرها الوهمي فحسٍبَ ذلك إدخالاً له في وظيفة كل حاكم وإشراكاً له في الحكم متى اقتضته مجاري أموره وأحواله أو حاجات أسبابه وأتباعه، وها هو ذا قد جاء يطلب حقه فان مثله لا يفهم من لقب (باشا) إلا إن الحكومة قد سوَّغت سلطَته الظهورَ والعمل فمدَّتْ باعه وقوَّت أمره ونوَّهت باسمه لمصالحها وعمالها؛ فهو عند نفسه قد التحم منذ اليوم بالنسب الحكومي: وفي كلمة واحدة هو قد وُلد من بطن الحكومة. . .
ألا ترى إن الشعب لو استردَّ سلطته الكاملة وان الناسَ لو أيقنوا إن هذه الألقاب ألفاظ فارغة من الأمر والنهي والوسيلة والشفاعة لما بقي من يعبأ بها ولكان حاملها هو أول من يسخر منها؟ فهي إذن شعبذة من الحكومة وتظليل في مثل هذا الرجل الأميّ، وهي ضرب من التهويل والمبالغة في سواه من الكبراء والعظماء؛ كأن الوزير الذي يلقب بالباشا يجعل فيه لقبه وزيرين، وكأن مثل هذا الأميّ المغفل يجعل فيه لقبه شخصاً آخر غير الأمي المغفل
أنا قلما رأيت رجلاً يحتاج إلى ألقاب يتعظم بها إلا وهو لا يستحقها؛ وقلما رأيت رجلاً يستحقها إلا وهو لا يحتاج إليها؛ فأين يكون موضع هذه الرتب والألقاب؟
(سيدي بشر بإسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي(161/3)
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه: الكلام كله تخيل ولا أصل أو حقيقة له)
- 8 -
لو كانت ذات الثوب الأرجواني مع (موسى) - عليه السلام - لمّا ذهب إلى فرعون يدعوه إلى ربه لكان الأرجح أن يؤمن ولا يكفر، ولكان من المحقق - عندي على الأقل - ألا ينزل بمصر ما نزل بها من البلايا والضربات والمصائب الكبَر. ولكن موسى - عليه السلام دائماً - لم يكن على ما يؤخذ من تاريخ حياته - يعرف مبلغ تأثير الأرجوانيات فلم يسأل الله أن يشد أزره إلا بأخيه هارون؛ وقد فطن قومه إلى هذه الحقيقة، ولكن بعد خراب البصرة. على إني لا أرى ذات الثوب الأرجواني تقيني شيئا ولا أعرفها تدفع عني بلاء. وإن المكاره جميعاً لتحيق بي تحت عيها ومع ذلك لا تحرك ساكناً، ولا ترفع إصبعاً كابحاً، فأي حب هذا بالله؟؟. . . . لكأني بها تشمت بي ويسرّها أن يصيبني كل يوم سوء، وكأنما تظن أن حسبي كلما مسني ضرّ أن أنظر إليها وهي قاعدة على كرسيها، وإحدى ساقيها على الأخرى، وذراعاها على حانة الشرفة، وخدها على ظهر كفها، وأصابعها تنقر على الحجر، وقدمها الدقيقة تتحرك متابعة نقر الأصابع، كأنها تحلم بصوت أو كأنما تدندن لنفسها بصوت خفيض. . . وليتني مع ذلك أسمع!! إذن لكان لي بعض العزاء. . . ولقد سمعت صوتها إذ تكلم جارتها أو تدعو أخاها - أو هو لا بد أن يكون أخاها - ولكني لم أسمع غناءها. وما من شك عندي في أنه شجي وأن صوتها رخيم فأنه خالص كالفضة. ولكنها بخيلة. . . جداً. . .
وآخر ما حدث مما لم تدفع عني شره إني بعد أن كتبت فصلاً من هذه الفصول كان في البيت لفيف من الأهل والأنسباء - قبحهم الله جميعاً - فقالوا ما هذا؟ قلت: (فصل في ذات الثوب الأرجواني). قالوا: من عساها تكون؟ فكرهت هذا الفضول منهم - ولكنهم يحسبون أن كونهم أقارب يشفع لهم في كل فضول - غير أني كتمت مقتي لفضولهم - لا لهم هم - وقلت: (إنها من مخلوقات الخيال) فجعل هذا يزوم، وذاك يحدق في وجهي، وثالث يقول لي: (عيني في عينك؟) ورابع يقول: (طبعاً. طبعاً) إلى آخر ذلك. ثم اقترح واحد منهم -(161/4)
هو أخبثهم - أن أقرأه لهم، فقلت: حتى ينشر. قالوا: بل الآن وهل ثم مانع؟ وما الفرق بين أن نسمعه الآن وأن نقرأه مطبوعاً في (الرسالة)؟؟ فاقتنعت - لا أدري كيف؟ - وشرعت أقرأ لهم، وليتني ما فعلت فقد كنت كأنما بعت نفسي. .
وقال أحدهم: (اسمع. . مادام أن الأمر كما تقول فان من الواجب تغيير كذا وكذا وإبداله بكيت وكيت. . .)
فقلت: (هذا مستحيل. . لقد كتبت ما خطر لي وانتهى الأمر)
قال: (كلا. . يجب أن تجعل الرجل الذي تتحدث بلسانه أرق مما يوهم كلامك)
قلت: (ولكنه هكذا. . وقد خلقه الله كذلك فكيف أشوهه أنا؟؟)
قال: (إذا هو شخص حقيقي.؟)
قلت - وقد أحسست إني وقعت - (يا أخي وما لك أنت؟. إن صورته في ذهني هي كما أصف. . ولست أستطيع أن أغيرها إلا إذا استطعت أن أغير طريقة تفكيري وصبغة خيالي. . وهذا شيء لا قِبلَ لي به فاقصر بالله عليك)
فشرعوا يتهكمون ويسخرون. وقال أحدهم: (هل قلت إن أنفه أقنى؟؟)
قلت: (كلا فإني أستقبح هذا النوع من الأنوف)
قال: (إني واثق انك كنت تتصورني وأنت تصف هذا العاشق المدنف، ولهذا أرى من حقي أن أُستشار فيما تكتب عنه)
قلت: (إن عاشقي ليس مدنفاً. . . هو على العكس صحيح معافى. . . ثم إنك آخر من يصلح لهذه المواقف الإنسانية. . . ولست مجنوناً حتى أصفك في قصة)
قال: (هل تسمعون؟؟ لا بأس!. عض اليد التي تطعمك وتغذيك!!. هذا جزاء من يسمح لك أن تصور شخصيته البارعة. . لا بأس!! ولكني لا أفهم كيف تكون هذه الحبيبة عصرية ولا يكون لها كلب؟. أو على الأقل جرو صغير؟؟. . نعم لا بد من كلب فقم أدخله في القصة)
فقلت بغيض: (يكفي لأنك ستقرأها فيتحقق مرادك) فلم ينهزم وقال: (صحيح؟؟ ولكن هذا لا ينفي أن الفتاة المسكينة لا كلب لها إلاّ على بعد ثلاثين مترا!! كلاّ. هذا لا يليق!! اسمع مني وغير ما كتبت. . وهاأنذا مستعد أن أساعدك. . إن المناسبة توجد الرجل الصالح. .(161/5)
وأنا أسألك بإخلاص أي شيء أوفق من أن أمد يدي إليك لأشد أزرك؟ وهل يليق بي أن أقعد ساكتا وأنا أراك تخلط وترسم لنا صورة رجل وامرأة لا يمكن أن يمشي مثلهما في الدنيا؟؟ كلاّ - على التحقيق. . . (والتفت إلى الموجودين وسألهم) أهذا ينتظر مني؟؟.)
ولأول مرة في هذه الجلسة سررت إذ سمعتهم جميعاً يقولون بلسان واحد (نعم)
ولكنه لم يعبأ بهم ومضى يقول: (هاأنذا. . أجيء في اللحظة الحافلة بالاحتمالات متنكراً في زي رجل هرم وفي قدمي حذاءان قد يليقان بأبينا آدم - فقد زعموا أن طوله والعياذ بالله أربعون متراً - وبفم ليس لحلقه سقف. . حسن. . ولا يراني أحد. . ولا تفطن إلى وجودي الفتاة ذات الثوب الأرجواني، على الرغم من حذائي المهولين. . . فأخرج منهما، وأتسلق أنابيب المجاري حتى أبلغ الشرفة التي تتخذها ذات الثوب الأرجواني، غرفة جلوس، وحجرة استقبال وبستاناً للنزهة، وملعبا للتنس ومرصدا للأفلاك!! فأفاجئها وهي قاعدة تفكر في حبيبها المخرف الذي لا يستطيع حتى أن يحرك إصبعاً يشير به إليها وأقول لها بخ بخ. . فتفزع وتصيح ياي. . ياي. .)
فلما سكنت الضجة قلت: (إني أكتب قصة ولست أصف ملعب مهرجين أو سرك حيوانات)
قال: (ما أحسن هذا الأدب!! أنت لا تستطيع أن تفهم المواقف الروائية ولهذا. . .)
فصاحت إحدى الفتيات الموجودات. . (هس. . أظن أن هذه هي ذات الثوب الأرجواني. . الحق إنها جميلة. . ويجب أن نعترف أنه معذور)
فعاد اللعين يقول: (آه. . لا شك. . لا شك. . جميلة جداً. . ولكن انظروا ماذا صنع بها؟؟ لقد صارت في يده. . أعني في وصفه لها. . ثوبا أرجوانيا لا فتاةً من لحم ودم. . ولو أنه استمع لي. .)
وهنا ضاق صدري ونفذ صبري ولم تبق لي طاقة على احتمال هذه السخرية فتناولت الورقات التي كانت مكتوبة وكنت أقرأها لهم ومزقتها كل ممزق
وليس هذا سوى مثل لبعض ما ألقى في سبيل ذات الثوب الأرجواني، وهي لا تعبأ ولا تبالي!! والحق أقول إني لم أعد أفهم شيئاً من أمرها. فأما أنها معنية بي فهذا ما لا يخالجني شك فيه. ولقد حرصت مرات على أن أتبين هل في العمارة التي أسكن إحدى شقاتها من يغازلها أو يناجيها أو يصنع ما يصنع المعجب أو العاشق أو المفتون، فلم أجد أحداً وكثيراً(161/6)
ما انحدرت إلى الشارع ووقفت على الرصيف الآخر المقابل لرصيفنا ونظرت إلى عمارتنا، وقد وجدت في كل مرة أن النوافذ جميعاً إما موصدة أو لا أحد فيها. ثم إني أعرف متى يكون مساكنيّ في بيوتهم ومتى يخرج كل منهم؛ فقد لاحظتهم جميعاً وعرفت عاداتهم - حتى الشبان الملاعين الذين تخشى مزاحمتهم - فلا أحد هناك تنظر إليه أو ينظر إليها سواي في هذه العمارة الضخمة ذات الطبقات السبع. فهي لا شك تعنيني وحدي بكل ما يبدو عليها من ارتياح واشمئزاز، ومن نفور وإقبال، وأنا المقصود بكل ذلك. ومؤدى هذا أن لها عناية بي، وليس المهم أن تكرهني أو تحبني فإن المآل واحد في الحالتين؛ ومتى نجح الرجل في لفت المرأة إليه فانه يستوي أن تظهر له البغض وأن تبدي المودة؛ فان المهم أنها صارت تعني به، وأنها أصبحت مشغولة بأمره، ولا بد أن يؤدي هذا إلى الحب آخر الأمر. فليس للحب أول عند المرأة إلاّ العناية مهما كان باعثها والداعي إليها، ولا ريب في عنايتها بي. بل في وسعي أن أقول وأنا آمن ومطمئن إنها تدرسني في الصحة والمرض، والسرور والحزن، والضحك والكآبة، والجد واللعب. بل هي ترصد كل حركة لي، وكل إشارة، وتتبع ما يصدر عني وما يكون مني ما دمت بادياً لها، وقد كنت أمس أنظر من الشرفة إلى الطريق وأتأمل الرائحين والغادين وأسرّي عن نفسي بمناظر الناس وما يكون منهم، فاتفق أن رأيت فتاة في ثوب بني محبوك وحذاءين خيل إلي أن أحدهما أبيض والآخر أسود، فاستغربت أن تلبس فتاة حذاءين مختلفي اللون، ودعوت إحدى من في البيت إلى النظر فوقفت مستغربة مثلي، وكانت الفتاة تروح وتجيء على الرصيف في انتظار الأمنيبوس، وقد أبطأ عليها فطال تمشيها أمامنا، وطال عجبنا من حذاءيها المختلفين، وكنت أشير إليها وأنا أتحدث عنها ثم رفعت رأسي إلى شرفة الأرجوانية فإذا فتاتي قد نهضت وانحنت تطل على هذه الأعجوبة، وقد ظهر لنا أن الحذاءين ليسا مختلفين وأن كل منهما نصفه أبيض والنصف الآخر أسود. ولما كانت الفتاة تسير وجانبها ألينا فأنه لم يكن يبدو لنا من لوني كل حذاء إلاّ جانب واحد، ولهذا ظنناها بالغت وأسرفت في الأناقة إلى حد اتخاذ حذاءين: واحد أبيض، والثاني أسود
أريد أن أقول إن بال الأرجوانية إليّ - لا شك في ذلك - وأن عينها على كل حركة لي وأنها تتعقب إشاراتي - وكلامي أيضاً - وتحاول أن تدرك المقصود منها والمراد بها، ولم(161/7)
أقص حكاية الحذاءين وصاحبتهما إلا على سبيل التمثيل. وثم قصص أخرى تجري هذا المجرى وتؤدي إلى هذه الدلالة، وفي ذكرها تطويل لا موجب له. ومع ذلك تجاهد ذات الثوب الأرجواني أن تخفي حبها - أو على الأقل عنايتها الشديدة - وتروح تغالطني فتبدي لي صفحة الأعراض بعد أن تشير لي بوردة وتطمعني بهذه الإيماءة الرقيقة. وما أكثر ما تنتفض قائمة كأنما شكها أحد بسيخ محمي وتخرج ثم لا تلبث أن تعود ضاحكة مشرقة الديباجة!! ويجن الليل فتجعل من شرفتها مرصداً لأنها هي في الظلام وأنا في النور. وتظن أني لا أراها. وأنا يحلو لي أن أجلس في الصيف في شرفتي وأتعشى فيها أيضاً، فإن الغرف حارة حامية كاوية، كنار الله الموقدة، والعياذ به تعالى
وليس أحلى من ليالي الصيف إذا لم يركد الهواء. فإذا جلست في شرفتي جعلت ذات الثوب الأرجواني تراعيني من مكمنها المظلم وهي تحسب أني غافل عنها، أو أني لا أرى في الظلام ولها العذر. ومن أدراها أن لي عينا كعين القطة؟ - ترى في الظلمة كما ترى في النور. . . وأحسب أن الأرجوانية قد صارت تعرف كل شيء عني فليس عندي ما أكتمه. وإذا كان أحد من خلق الله يؤمن بالسر فإني لا أؤمن بذلك، ولا أعتقد أن في الدنيا شيئاً يبقى سراً مكتوماً. ولهذا أرى أن من العبث أن أحاول كتمان أمر. وما دام ليس هناك ما يخزيني فلماذا أتكتم وأتستر؟؟ ولا بد أن يعرف الناس ما تحاول إخفاءه، فأولى بك أن تدعهم يعرفونه منك اتقاء للتشويه، واجتناباً للغلط وسوء التصوير. ولكني لا أعرف عنها إلا القليل البادي لأنها فتاة وليست رجلا مثلي. وللرجل من الحرية ما ليس للمرأة. وقد لا يضير الرجل أن يعرف عنه الناس أنه عاشق، ولكن فتاة صغيرة غضة السن قد يضيرها ذلك، ولا سيما إذا كانت لا تعرف آخرتها مع الرجل الذي ترى قلبها مجذوباً إليه. ومن هنا أعذرها، ولكن الذي لا أستطيع أن أتبين وجه العذر فيه أو الحكمة هو هذا التقلب، فإنها تارة ترضى وأخرى تغضب، ومرة تقبل وطوراً تنفر. وإنها لتقبل أحياناً حتى لا تبقي ذرة من الشك في سرورها بحبي لها وحتى لأحس برغبة شديدة في أن أقفز من النافذة إذ يخيل لي في هذه اللحظات أني أستطيع أن أطير إليها من فرط الخفة والسرور، ثم تعرض وتنفر فيثقل على نفسي ذلك حتى لأهم بأن أضرب حجارة الشرفة بيدي وأركلها برجلي كأنها هي المسؤولة عما أرى من إعراضها. . ولا سبب أعرفه لإقبالها ولا لإعراضها فما بيننا أكثر(161/8)
من النظر. . ولو شاءت لكان بيننا ما يختصر هذه الثلاثين متراّ ويجعلها متراّ أو نصف متر أو شبراّ أو اقل من ذلك. . ولكنها لا تشاء. وأكبر الظن أن ليس لمشيئتها دخل في الأمر وأن رغبتها لا تقدم أو تؤخر. . كان الله في عونها. . وفي عوني أنا أيضاً، فان ضيق صدرها بما تجد من القيود التي حولها ينقلب على أم رأسي أنا. . ومالي ذنب ولكن العامة صدقوا في قولهم (ضربوا بتاع الكسبري. . .)
إبراهيم عبد القادر المازني(161/9)
المقري مؤرخ الأندلس
حياته وتراثه
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 2 -
يقسم المقري كتابه عن الأندلس إلى قسمين كبيرين؛ يخصص أولهما للتعريف بالأندلس وتاريخها وآدابها. والثاني للتعريف بابن الخطيب. ويشتمل كل قسم على ثمانية أبواب، فيشمل الأول وصف الأندلس وجغرافيتها وفتحها على يد موسى وطارق وتاريخها في عهد الولاة وبني أمية وملوك الطوائف، ووصف قرطبة ومعاهدها وضواحيها ومتنزهاتها ثم التعريف بالراحلين من الأندلس إلى الشرق، والوافدين من المشرق على الأندلس. واستعراض آداب الأندلس ومنثورها ومنظومها، ثم تاريخ الصراع الأخير بين الأندلس وأسبانيا النصرانية وسقوطها الأخير في يد النصارى. ويشتمل القسم الثاني على نشأة ابن الخطيب، وتدرجه في طريق المجد وما لقي من الأحداث والمحن حتى وفاته وذكر أساتذته وأشياخه، وما وجه إليه من الرسائل الملوكية ومن أكابر عصره، ومقتطفات كبيرة من كتبه ورسائله ونثره ونظمه، وذكر مؤلفاته وذكر بعض تلامذته الآخذين عنه، ثم ذكر أولاده ووصيته
ويشغل الكتاب كله أربعة مجلدات ضخمة، كل قسم مجلدين؛ فهو كما قدمنا موسوعة صحيحة سواء من ناحية حجمه أو محتوياته؛ ذلك أن المقري يحشد في كل باب من هذه الأبواب العامة كثيراً من المعلومات والشذور والوثائق والرسائل والمختارات؛ ويكاد كل منها يضارع كتاباً بأسره. ويجري المقري على قاعدة الاستطراد فينتقل بقارئه من موقف إلى موقف، ومن شذرة أو رسالة أو قصيدة إلى أخرى حسبما تسوقه شجون الكلام والرواية. وقد ترد خلال حديثه أهم المعلومات والوثائق حيث لا ينتظر ورودها. وفي كثير من الأحيان ينقل المقري إلينا رسالة بأسرها أو كتاباً بأسره؛ ولا يعني المقري بالتنظيم والتناسق، وإنما يعرض مادة كتابه مبعثرة حسب التقسيم البسيط الشامل الذي ذكرناه
ذلك أن المقري لم يكن مؤرخاً بالمعنى الحقيقي، بل كان أديباً فقط؛ وهو لا يزعم انه مؤرخ(161/10)
أو محقق أو ناقد، وإنما يقول لنا انه ناقل فقط يورد من المعلومات والشذور ما اتفق ولا يعني بتمحيصها أو تحقيقها. ولكنا مع ذلك نشعر أن للمقري في كتابه شخصية قوية، ونشعر بالأخص بأن حرارة خاصة تنبعث من هذه الصحف الأندلسية؛ ذلك أن المقري يكتب عن الأندلس بروح يضطرم إعجاباً وأسى؛ ولا غرو فقد كانت ذكريات الأندلس ما تزال في عصره حية مضطرمة في المغرب، ولم يكن قد مضى أكثر من قرن على سقوط الأندلس النهائي في يد إسبانيا النصرانية؛ بل لقد وقع في عصر المقري بالذات حادث أذكى هذه الذكريات الشجية، هو نفي (الموريسكيين) أو العرب المتنصرين من إسبانيا (في سنة 1609م - 1017هـ) والعرب المتنصرون هم بقية الشعب الأندلسي المجيد أرغموا على التنصر بعد سقوط الأندلس؛ وقد وفدت منهم عند النفي عشرات الألوف إلى ثغور المغرب وقواعده، وعاد معظمهم إلى الإسلام. وشهد المقري هذه الخاتمة المؤسية، وهو يومئذٍ بفاس، وشهد ألوفاً من أولئك العرب المتنصرين، وتركت هذه الذكريات والمشاهد المؤلمة في نفسه أعمق الآثار، وأذكت في نفسه بلا ريب شغف التنقيب عن تاريخ الأندلس وماضيها المجيد وأيامها الزاهرة
وقد وضع المقري كتابه عن الأندلس في القاهرة كما قدمنا، ولكنه كان قد جمع معظم مواده في المغرب. ويقول لنا المقري إنه عنا منذ شبابه بالتنقيب في تاريخ الأندلس وأحوالها وآدابها وأنه استخرج من مراجعه أغزر المواد وأنفسها، ولكنه تركها بالمغرب، ولم يستصحب معه حين الرحلة سوى القليل منها، ومنها أوراق سودها، وأشياء علقت بذاكرته. ويقول لنا أيضاً: (إنه لو حضره ما خلفه مما جمع في ذلك الغرض وألف، لقرت به عيون، وسرت ألباب. . .)؛ وإذا كان المقري يعني بهذا القليل من مادته ما ضمنه كتابه، فلا ريب أن ما جمعه من المواد الأصلية كان غزيراً جداً، ذلك لأن هذا القليل الذي ضمنه (نفح الطيب) هو في ذاته مجموعة حافلة من المواد والوثائق المختلفة التي تلقى أعظم الضياء على تاريخ الأندلس وآدابها
وقد قلنا إن المقري ناقل ومصنف؛ ولكن له في هذا النقل والتصنيف فضلاً لا يقدر؛ فقد نقل إلينا عشرات الشذور والوثائق من مصادر أندلسية جليلة لا وجود لها اليوم، بل نقل إلينا رسائل وكتباً برمتها بددت ولم نظفر بأصولها حتى اليوم؛ ولولا عناية المقري بنقلها(161/11)
وتصنيفها لحرمنا إلى الأبد من هذه المراجع والوثائق الهامة. ولقد كان المغرب الأقصى حتى عصر المقري أعظم مستودع لتراث الأندلس الأدبي؛ وكانت مكاتب المغرب، ولا سيما مكتبة الأشراف السعديين، عامرة إلى ذلك العهد بكثير من الآثار الأندلسية النادرة؛ وكان لمولاي زيدان سلطان فاس لعهد المقري شغف خاص بجمع الكتب النادرة؛ وقد انتفع المقري بهذا التراث الحافل؛ واغترف منه وقيد ما شاء؛ ولكن الظاهر أيضاً أن هذا التراث قد بدد معظمه بعدئذ بقليل؛ ذلك انه قد حدث في أواخر عهد مولاي زيدان حادث يخيل إلينا انه ذو علاقة مباشرة بضياع الآثار الأندلسية؛ وذلك أن السفن الأسبانية أسرت مركباً مغربية مشحونة بآلاف من الكتب والتحف المملوكة لمولاي زيدان، وحملت شحنتها إلى إسبانيا؛ ويشير السلاوي في تاريخه إلى ذلك الحادث نقلاً عن الرواية الأسبانية، فيقول: (وقال منويل إن قراصين الأصبنيول غنمت في بعض الأيام مركباً للسلطان زيدان فيه آثار نفيسة من جملتها ثلاثة آلاف سفر من كتب الدين والآداب والفلسفة وغير ذلك) وتقول الرواية الأسبانية إن وقوع هذا الحادث كان في عهد فيليب الثالث ملك أسبانيا (1598 - 1621م)؛ والظاهر انه وقع نحو سنة 1030هـ (1630م) حينما اشتد اضطراب العلائق بين أسبانيا والمملكة الشريفية؛ وعلى أي حال فقد حملت كتب مولاي زيدان، وهي بلا ريب أنفس مجموعة من نوعها، إلى أسبانيا، وأودعت في دير الأسكوريال إلى جانب بقية التراث الأندلسي التي كانت مودعة فيه منذ سقوط غر ناطة، فاجتمع بذلك الأسكوريال نحو عشرة آلاف مخطوط عربي معظمها من تراث الأندلس؛ ولكن محنة نزلت بهذا التراث النفيس، وقد شبت النار في الأسكوريال سنة 1671، والتهمت معظم الكتب العربية، ولم يبقى منها سوى ألفين؛ وبقيت ضمن هذه المجموعات عدة من كتب مولاي زيدان لا تزال إلى يومنا في الأسكوريال
وهذا فيما نعتقد هو السر في اختفاء الآثار الأندلسية التي كانت تحفل بها قواعد المغرب ومكاتبه في عصر المقري؛ وقد جمع المقري مادته ودون مذكراته أثناء مقامه بفاس بين سنتي 1013 - 1017هـ (1603 - 1616م)، وكان بذلك من أواخر أولئك الذين استطاعوا من أدباء جيله أن يظفروا بمراجعة هذا التراث والانتفاع به. ومما يدل على أن المقري انتفع بنوع خاص بالمراجعة في مكتبه مولاي زيدان التي فقدت، أنه ينقل عن(161/12)
نسخة وحيدة من مسند ابن مرزوق المغربي كانت ضمن هذه المجموعة ولا تزال في الأسكوريال، وكذلك يستقي معظم رواياته عن سقوط غرناطة وعن العرب المنتصرين من كتاب (أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر) ومنه نسخة وحيدة أيضاً في الأسكوريال
ولا يتسع المقام هنا لاستعراض المصادر العديدة التي نقل عنها المقري، ما ضاع منها، وما يزال قائماً؛ ويكفي أن نقول إن طائفة كبيرة من المصادر الأندلسية الجليلة التي ينقل عنها قد اختفت ودرست معالمها؛ ومن ذلك تاريخ ابن حيان الكبير مؤرخ الأندلس، وتواريخ الحميدي، والحجاري، وابن بشكوال والرازي وغيرهم، وكتب عديدة لابن الخطيب، وقد بقيت من تاريخ ابن حيان قطعة صغيرة نشرت أخيراً؛ ووجدت منذ أعوام بالمغرب نسخة كاملة من كتاب الذخيرة لابن بسام، وفيما عدا ذلك لم يظفر البحث الحديث بشيء من تلك المصادر الجليلة التي ينقل إلينا المقري عنها بسخاء يزيد اليوم في فضله وفي أهمية كتابه
ويتصل بمجهود المقري عن الأندلس كتابه (أزهار الرياض، في أخبار القاضي عياض)؛ وهو سفر كبير يخصصه لترجمة الفقيه الكبير عياض السبتي، واستعراض آثاره، على نحو ما يُكتب عن ابن الخطيب في نفح الطيب؛ بيد أنه يستطرد كعادته، ويذهب في الحديث شجوناً شتى، وينقل إلينا بعض الأقوال والوثائق المتعلقة بسقوط غرناطة وتاريخ الموريسكيين أو العرب المتنصرين، ولهذه الوثائق على قلتها وإيجازها أهمية خاصة، لأنها كل ما انتهى إلينا من الرواية الإسلامية في هذا الموطن، وهي أقوال معاصرين للمأساة شهدوا بعض حوادثها بأعينهم أو سمعوا أخبارها في الضفة الأخرى من الأندلسيين الوافدين على المغرب؛ منها رسالة لمجهول يظهر انه من معاصري سقوط غرناطة يصف فيها نقض ملك قشتالة لعهوده إزاء المسلمين، وما اتخذه النصارى من وسائل الإرغام والقهر لإكراه المسلمين على التنصر، وما فرضته محاكم التحقيق (التفتيش) على المخالفين من العقوبات المروعة؛ ومنها قصيدة طويلة لابن العباس أحمد الدقون أحد علماء المغرب في القرن التاسع الهجري عنوانها (الموعظة الغراء بأخذ الحمراء) يرثي فيها الأندلس؛ ومنها أيضا وثيقة ذات أهمية تاريخية خاصة؛ وهي رسالة كتبها أندلسي منتصر عقب سقوط غرناطة، إلى بايزيد الثاني سلطان الترك يستغيث به ويستصرخه لنصرة إخوانه العرب المتنصرين، ويصف له في شعر قوي التعبير على الرغم من ركاكته، ما يصيب العرب(161/13)
المتنصرين من أهوال ديوان التحقيق ورائع مطاردته وعقوباته؛ وهذه وغيرها من الوثائق والشذور التي ينقلها إلينا المقري في أزهار الرياض قد ضاعت أصولها، ولولا عناية المقري بنقلها لما ظفرنا بها
وهذان الأثران الكبيران هما أهم ما في تراث المقري. بيد أن للمقري ثبتاً آخر من الكتب والرسائل الأدبية والدينية انتهى إلينا معظمه؛ ومن ذلك: (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة)، (فتح المتعال في مدح الفعال المتشرفة بخير الأنام). (حسن الثنا في العفو عمن جنى). (قطف المهتصر في أخبار المختصر) (عرف النشق في أخبار دمشق). (روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام مراكش وفاس). (الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين)، وغيرها
وقد كتب المقري معظم كتبه في القاهرة؛ والمرجح أنها كتبت جميعاً أو كتب معظمها قبل نفح الطيب، لأن المقري لم يعش بعد كتابته طويلاً كما رأينا؛ وكان المقري يحتل في المجتمع القاهري الأدبي مكانة رفيعة؛ ويكفي أن نذكر هنا ما وصفه به المحبي الذي ترجمه بعد ذلك بنحو نصف قرن: (حافظ المغرب. لم ير نظيره في جودة القريحة، وصفاء الذهن وقوة البديهة؛ وكان غاية باهرة في علم الكلام والتفسير والحديث، ومعجزاً باهراً في الأدب والمحاضرات)، والواقع أن المقري يكتب بأسلوب قوي، وبيان ساحر، يشهدان له بغزارة البلاغة في عصر كان الأدب العربي يجوز فيه مرحلة انحطاط قوي
وقد أخرجت مطبعة بولاق كتاب (نفح الطيب) كاملاً في 1279هـ (1862) في أربعة أجزاء كبيرة؛ وكان جماعة من المستشرقين على رأسهم العلامة دوزي قد عملت قبل ذلك لإخراج القسم الأول من كتاب نفح الطيب وهو الخاص بالأندلس بين سنتي 1855 و1861 تحت عنوان ' ' ومهد لهذه الطبعة المستشرق دوجا بترجمة للمقري؛ وطبع نفح الطيب بالقاهرة بعد ذلك أكثر من مرة في أربعة أجزاء أيضاً على نسق طبعة بولاق ونشر في تونس الجزء الأول من إزهار الرياض في سنة 1922؛ ونشرت بعض آثار المقري الأدبية، مثل كتاب (حسن الثنا في العفو عمن جنى) (القاهرة)، وظهرت في سنة 1840 في لندن ترجمة إنكليزية ملخصة للقسم الأول من نفح الطيب بقلم المستشرق الأسباني الدون جاينجوس تحت عنوان: (تاريخ الدول الإسلامية في أسبانيا)(161/14)
مقروناً بتعليقات وفهارس قيمة، وترجم للمقري غير من ذكرناهم أكثر من مستشرق مثل فستنفلد في كتابه (مؤرخو العرب) (بالألمانية) وبروكلمان في (تاريخ الأدب العربي) (بالألمانية أيضاً) والأستاذ ليفي بروفنسال في كتابه (مؤرخو الأشراف) (بالفرنسية)، وآخرون غير هؤلاء
(تم البحث - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(161/15)
أثر النحو في تقويم اللسان
للأديب محمد طه الحاجري
قالوا، في رسم النحو رسماً غائياً: انه علم تعصم مراعاته اللسان عن الخطأ في الكلام، ومضوا على هذا الاعتبار يضعون القواعد، ويقيمون الحدود، ويكدون الأذهان، ويحملون على النشء في ذلك ما لا يحتمل. فإذا رأوا أن التوفيق إلى الغاية النبيلة قد أخطأهم، وأن السبيل التي رسموها قد بعدت بهم، لم يلتمسوا طريقاً آخر يكون أهدى إلى الغاية؛ فحسبهم أن ينثروا الطريق بالأزهار، وان يزيحوا بعض ما فيه من الأحجار، حتى تتبدل - في زعمهم - طبيعته، وتستقيم نحو الغاية محجته، ويبلغوا بذلك ما اعجز الأجيال السالفة. . . وهكذا جعلوا كل همهم من الإصلاح اللغوي أن يهذبوا قواعد النحاة وينسقوها ويحذفوا فضولها. . . ليصلوا بذلك إلى عصمة اللسان، وهيهات هيهات!!
وأنا ما عرضت لأمر الصلة بين تعليم النحو وتقويم اللسان إلا اندفعت أمام ذهني صورة صبي صغير لا يكاد يبلغ التاسعة، وقد جلس على مقعده الصغير في المدرسة، وأمامه كراسة أكب عليها، وجعل ينظر في جمل منسوقة كتبت فيها؛ وكان المعلم قد طلب منه ومن رفاقه أن يضبطوا أواخرها، امتحاناً فيما عُلِّموه، وتثبيتاً لما قد عرفوه، فاخذ ذلك الصبي يتحسس ما كان قد ألقي عليه، ويحاول أن يضبطه في ذهنه، ويضبط به ما أمامه، فكان ذلك عبثاً لم يجد عليه شيئاً. . . وإذا فماذا يصنع ولابد من الإجابة صواباً أم خطأ؟ أخذ يقرأ الجملة ويجرب على كلماتها علامات الأعراب، فكان يشعر عند بعضها بارتياح، ويحسبها أدنى إلى ما يقرأه في كتاب المطالعة وغيره من الكتب التي اعتاد أن يبعث بها. . . فيثبت الشكل الذي ارتاح إليه؛ ثم يمضي إلى غيره، وهكذا، ثم يعطي الكراسة للمعلم لتصحيحها، فيغتبط حين ترد إليه فيعلم انه لم يخطئ إلا قليلاً
أكانت المصادفة هي التي تملي على ذلك الصبي المسكين، أم كان شيئاًآخر في طبيعته وكيانه هو البذرة الأولى المطمورة في أعماق النفس للسليقة العربية، قد ورثها لأنها بعض ما يقوم الجنس الذي ولد بجميع مشخصاته، ثم أخذت هذه البذرة تستروح نسيم الحياة في هذا الكلام العربي الذي يقرؤه صاحبها بين حين وحين، فلا عجب أن يبرز فيها شيء من مظاهر هذه الحياة، فتحاول تكييف ذوق ذلك الصبي، بمقدار ما أتيح لها من حياة هينة(161/16)
ضعيفة مضطربة؟؟
أما التفسير بالمصادفة فهروب من المسلك العلمي، وأما السليقة العربية الموروثة فلاشك في وجودها؛ وفي أنها وحدها التي تقوم ألسنتنا، وتصحح عبارتنا، على قدر ما تلقى من العناية والرعاية، وعلى قدر ما نتعهدها به من التربية التي تناسب طبيعتها، فأين نلتمس هذا النوع من التربية؟
أنلتمسه في كتب النحو وقواعد العربية كما يفعل الناس جميعاً، فيظن الواحد منهم أن من تجرع جرعات من الألفية أو الدروس النحوية كان خليقاً أن تصح سليقته، ولا يخطئ من بعد في كلمة من الكلام؟
لو جاز هذا الجاز للرجل الضعيف المتهالك أن يقرأ مجموعة من مجاميع الرياضة البدنية، أو يستظهرها، أو يستبطن أسرارها ومواطن تأثيرها، فإذا هو قد اصبح، بسحر هذه المجموعة، قوياً نشيطاً مهزوزاً تتألق عليه الفراهة والعافية، وإذا هو قد اصبح كذلك الرجل (الفلاح) الذي يغذي موطن القوة فيه غذائها الطبيعي من الشمس والهواء والعمل. ولكن أحداً لا يقول هذا ولا يتوهمه، والأمر لا يعدوا هذا القياس في تربية الغريزة اللغوية
وأني لأعرف فريقين من الناس بأعيانهم معرفة صحيحة صادقة يمثلاًن طرفي هذه الحالة التي نتناولها ويثبتان القضية التي نقررها طرداً وعكساً
أما أحد هذين الفريقين فقد صرف عن النحو صرفاً، حتى لا يكاد يعرف من قواعد النحاة حرفا؛ ولكن مزاجه الفني أقبل به على ينابيع الأدب العربي فأقبل على الكتب الأدبية يقرؤها ويتذوقها ويملأ نفسه بما فيها من جمال ومتعة، فصفت بذلك سليقته، وصحت ملكته، حتى ليحس اللحنة في الكلام، كما يحس الموسيقي النشوز في الألحان. واستقام لسانه حتى لا يكاد يلحن أو يخطئ
وأما الفريق الآخر فطائفة من شيوخ الأزهر الذين أدركنا أعقابهم، قرءوا من كتب النحو الأجرومية والكافية وما بينهما، وأحاطوا بقواعد النحاة وما دار حولها من خلاف وجدل، وربما أدركوا سر الكثير منها، ثم كان الواحد منهم مع هذا لا يكاد يصيب فيما يقرأ أو يكتب إلاّ بعد تكلف شديد، فما أغنى عنه ما بذل من جهد جهيد وعمر مديد في قراءة النحو وتفهم مشكلاته واستيضاح غوامضه. فماتت سليقته اللغوية ولما تستروح الحياة، لأنه لم(161/17)
يمدها بالغذاء الطبيعي الحي الذي يمكن أن يتمثل فيها، ويبعث فيها الحياة ماضية قوية، ولكنه ألقمها أحجاراً جامدة إن لم تقضي عليها فلم تبعث فيها شيئا من معاني الحياة الصحيحة
ولقد بقي لنا من عصر الحملة الفرنسية وثيقة من الوثائق التي تؤيد هذا المعنى تأييداً تاماً، وهي رسالة كتبها بخطه شيخ الإسلام ورئيس الديوان، الشيخ عبد الله الشرقاوي وهي حجة قاطعة في قيمة التعاليم النحوية من ناحية أثرها في تقويم اللسان وإصلاح اللغة على الأسلوب العربي، فلن يشك أحد في أن الشيخ الشرقاوي قد تلقى من (النحو) أوفر ما كان يتلقى في ذلك العهد
وهذه ملاحظة ظاهرة جلية لا نكاد نحسب أحداً يجادلنا فيها أو يخالفنا عليها، وقد لاحظها من قبل العلامة الدقيق ابن خلدون، فقال في مقدمته، بعد أن قرر أن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل: (ولذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده أخطأ فيهما عن الصواب، وأكثر من اللحن، ولم يُجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة، ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية)
فليس عجيباً إذا ما يروي لنا من أن رجلاً جاء لابن خالويه - وهو من هو! - فقال له: أريد أن تعلمني من النحو والعربية ما أقيم به لساني. فقال له أبن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو! ما تعلمت ما أقيم به لساني
فالأمر في اللغة هو أمر سليقة يجب أن تربى، وملكة يجب أن تكوَّن. ولن يكون ذلك بواسطة النحو، فانه قواعد ميتة، بل بواسطة البيان والأدب الذي هو مظهر اللغة ومجلى حيويتها. أما النحو الذي أبى على ابن خالويه أن يقوم لسانه، فلا مطمع لنا في أن يجدي علينا ما أباه على ذلكم الإمام
وكيف كانوا يقومون ألسنتهم عندما بدأت السلائق تضعف والألسنة تضطرب؟ كانوا - كما(161/18)
يعرف الناس جميعاً - يذهبون إلى البادية، ويندمجون في الحياة العربية، فيهيئون بذلك لسليقتهم سبيل القوة، فتصبح من بعد ذلك المتحكمة في منطقهم والمصرفة لألسنتهم، وليس لدينا مثل هذه الحياة العربية التي كانوا يلجئون إليها، ويندمجون فيها؛ ولكن إذا فاتنا ذلك فإنا نستطيع أن نعيش بقلوبنا وعقولنا في حياة عربية اللسان، فيكون لهذه ما لتلك من الأثر الطيب المبارك. أما هذا النحو فقد أعلن إفلاسه فيما نطلبه من أجله، وهو عصمة اللسان من الخطأ في الكلام، منذ عهد ابن خالويه إلى أيامنا هذه. ولن تجد امرأ صحيح اللسان قويم المنطق إلا وهو يرجع الفضل في هذا إلى ما أمد به سليقته من الآداب العربية
ويعلل ابن خلدون وجود الملكة العربية في بعض المهرة في صناعة الأعراب بدراستهم لكتاب سيبويه، وطول مخالطتهم له لا من ناحية ما تناوله من تقرير القواعد. بل من ناحيته الأدبية (فانه لم يقتصر على قوانين الأعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه، والمحصل له، قد حصل على حظ من كلام العرب واندرج محفوظه في أماكنه، ومفاصل حاجاته، وتنتبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة
ولسنا نضع بهذا - معاذ الله - من قيمة النحو، وإنما نريد بهذا أن نضعه في مكانه الحقيقي، ونلتمس به غايته الطبيعية، وهو معرفة قوانين اللغة العربية، والنفوذ إلى أسرار التركيب فيها. وأكبر به من مكان، وأعظم بها من غاية!
ترى لو كان أمر اللغة كأمر العلوم الأخرى التي تتلقى قوانينها واحدة بعد الأخرى، ثم لا يشعر صاحبها إنها غيرت في كيانه الداخلي، لو كان الأمر كذلك في اللغة أكنا نشعر بهذا الاستهجان والمضض الشديد حين نسمع خطيباً يلحن أو يغير في الوضع العربي، ونحس بعباراته الملحونة كأنما أصابت موضع الكرامة أو العزة فنتململ ونتضجر كما نحس حين نسمع رجلاً يتناول ديننا أو وطننا أو قوميتنا بما نكره؟ وماذا لو أن رجلاً أخطأ في تقرير قاعدة أو تطبيق قانون علمي؟ فهذا الفرق القائم بين اللغة والعلوم الأخرى ينبغي أن يراعي في التربية والتثقيف. فكما لا يجدي تلقين القوانين الدينية والتعاليم الشرعية في تكوين الضمير وتربية العاطفة الدينية. وعصمة الرجل عن الزلل في الحياة، كذلك لا تغنى القواعد النحوية شيئاً في عصمة اللسان وتصحيح الكلام(161/19)
وبعد فلا بد أن نكرر القول بأنا لا نريد الغض من مكانة النحو وخطورة درسه في اللغة العربية، بل إنا لنراه - مستيقنين - في المكان الأول منها، باعتباره المبين لنظامها، والكاشف عن قوانين التركيب فيها، وقد خطا النحاة منذ أول العهد بالنحو؛ خطوات موفقة في هذه السبيل، رغم ما غلب عليها في العهود الأخيرة من الشطط والتكلف والبعد عن روح اللغة. وقد خطت الجامعة في العصر الحديث - في دراسة النحو - خطوة جديدة مسددة بعيدة، نرجو أن تكشف عنها الأيام القريبة المقبلة إن شاء الله تعالى.
محمد طه الحاجري(161/20)
في النقد الأدبي
للأستاذ إسماعيل مظهر
العصر الذي نعيش فيه عصر قوامه النقد. حتى لقد قال (إدورد كيرد) وهو من الفلاسفة المعاصرين في أول كتابه عن فلسفة كَنْت: إن النقد هو الذي هدَّ العروش المقدسة، ومنها عرش الدين قائماً من فوق العقيدة، وعرش القانون قائماً من فوق السلطان والجبروت. فإذا عني أعلام كتابنا بالنقد، فإنما يعنون بشيء قد تغلغل في صميم الحياة الحديثة، ونفذ إلى أبعد غور من أغوار الأشياء الإنسانية. وما حفزهم إلى الكلام في النقد، وفي النقد الأدبي على الأخص، إلا شعورهم - وقد ركدت حركة النقد - بأن في الجو الأدبي فراغاً جعلهم يستوحشون من الحياة التي يحيونها، وجعلهم يعتقدون شيئاً آنسوا فيه الحياة ألفوها. على أني لحظت في نزعة الكتاب الذين عالجوا هذا الموضوع شيئاً أو أشياء، على كبير علاقتها بالنقد الأدبي، وعلى عظيم خطرها، لم يعرض لها أعلام كتابنا ولو بإشارة، ومن طرف خفي، كأن الكلام في هذه الأشياء عسير على النقد أو هي من الأشياء التي يجب أن تخرج من مجال النقد، وكانت هذه الظاهرة فيما كتبوا بنية جلية، حتى لقد خيل إليَّ أن ما كتب في النقد جدير بأن ينقد، وخليق بأن يحلل تحليلاً لا هوادة فيه
سألت نفسي: أناحية النقد الأدبي وحدها هي الجديرة بالتقدير والوزن، أم إن ناحية النقد العلمي والفلسفي لها من المكانة والشرف ما يجعلها خليقة بأن تساوي النقد الأدبي قيمة ووزناً؟ ولم نخص النقد الأدبي وحده بقسط من العناية يستوفي كل جهودنا العقلية، ولا ننظر ولو التفاتاً وبقليل من الاكتراث إلى النقد العلمي والفلسفي؟ ألأنَّ الأدباء كثيرون، والعلماء والفلاسفة قليلون؟ كلا وإنما السبب أن عقليتنا لم تتكون بعد التكون العلمي ولا التكون الفلسفي. وهذا التكون سابقة ينبغي أن تسبق في الحياة العقلية ظاهرة النقد، في مجال ما من مجالات الحياة الثقافية. ذلك بأن وجود العلماء لا يكفي في تكوين العقلية العلمية، ولا وجود الفلاسفة بكافِ لتكوين العقلية الفلسفية
ثم سألت نفسي: أللنقد موانع؟ أيمنعنا من النقد عوامل خلقية؟ أيمنعنا من النقد عوامل تقليدية؟ أيمنعنا من النقد عوامل اقتصادية؟ أيمنعنا من النقد عوامل سياسية؟ أيمنعنا من النقد عوامل نفسية؟ وهل يمكن أن يفلت النقد من أثر هذه العوامل؟ وبعد أن أطلت النظر(161/21)
في كل سؤال من هذه الأسئلة، بل إن شئت فقل في كل معضلة من هذه المعضلات، حكمت بأن هذه الموانع كائنة، وأن بعضها أقوى أثراً من بعض، وأن الناقد لن يفلت من دائرتها، أو يخرج من أقطار هذه الأرض منبوذاً مدحوراَ
وبعد هذا وذاك هل وضعنا للنقد قواعد يقوم عليها هيكله، وتشيد من فوقها أركانه؟ ألَنا في النقد مذاهب مقررة ينتحيها الناقدون؟ وهل لنا في النقد قواعد تحدد للنقد حدوده، وترسم تخومه، وتعين اصطلاحاته، شأن كل الأشياء العلمية والأدبية التي لها أثر في تطور العقليات والمعقولات؟
كلا. ليس لنا في النقد مذاهب، وإنما اتبعنا إلى الآن في النقد طريقة ميزانها الذوق والشعور، وهي طريقة إن مال ميزانها نحو اليمين قيد شعرة كانت إفراطاً في المدح والتقريظ، وإن مالت نحو الشمال شعرة كانت تفريطاً في كل ما يقتضي النقد من حكمة في تقويم الآثار الأدبية بميزان صادق الدلالة على قيمة ما في كفتيه. وجملة الأمر أننا ذهبنا في النقد المذهب التقديري، ولم ننزع إلى المذهب التقريري. ذلك بأن المذهب التقديري مذهب سهل المأخذ، لير المنحى، مطواع للأهواء، يسع الأثر الذي تمليه الصداقة على شعور الناقد، ويسع الأثر الذي تمليه العداوة والبغضاء على انفعالاته. وهو فوق كل هذا مذهب بُدائي لا ضوابط له ولا قواعد، ولا نظريات ولا حقائق؛ وبالأحرى نقول إننا مضينا ننقد حتى الآن ورائدنا في النقد الأثر الذي تتركه في أنفسنا مختلف المنتوجات الأدبية، بما فيها من علاقات ذاتية وميول وعواطف وأخيلة وأحاسيس؛ وعلى الضد من هذا كله مذهب النقد التقريري القائم على نظريات أو حقائق لها حدود مضبوطة ومصطلحات معينة ونماذج يمكن أن ينسج على منوالها؛ ناهيك بأن مذهب النقد التقريري قد تكون له في بعض الأحيان فكرة عامة شاملة ترمي إلى غاية معينة. فانك إن نظرت مثلاً في محاورات سقراط التي أثبتها تلاميذه في كتبهم، تبينت من خلالها فكرة جامعة وغاية أخيرة ترمي إليها، هي التي أبان عنها كل الإبانة في دفاعه عن نفسه أمام قضاته قبل الفتوى بإدانته. وعندي أن محاورات سقراط، أول ما وضع في تاريخ الآداب الإنسانية من نقد قائم على المذهب التقريري
ولقد ترى أثر هذا الرأي - رأي أننا ننقد على المذهب التقديري لا على المذهب التقريري(161/22)
- ظاهراً جلياً في كل نواحي النقد، لا في النقد الأدبي وحده. فإن نزعتنا هذه قد تجلت بينة في النقد السياسي على الأخص، حتى لقد اتهم النقاد السياسيون في مراميهم وأوذوا في سمعتهم السياسية، لا لشيء إلا لأنهم نقدوا على غير مذهب، وكتبوا على غير نظرية سياسية، ومضوا يتكلمون في السياسة وليس أمامهم غاية عامة نهائية يرمون إليها، اللهم إلا أن تستقر الأحوال على صورة تقر ما كان قائماً قبل انقلاب حدث ولو كان ما يطلب الرجوع إليه من نظام فيه من أوجه النقد ما لا يقل قيمة أو أثراً عما يراد إدالته من نظام قائم
على أن ما ترى في النقد السياسي من شيوعية في المرامي واستهتارية في الغايات، قد تراه بذاته في أكثر النقود الأدبية التي تجري بها أقلام الذين يتصدون للنقد في هذا العصر. وما السبب في هذا إلاّ أننا نزعنا في النقد النزعة التقديرية، فأوسعنا المجال للخيال دون العقل، وفتحنا الباب على مصراعيه للذوق وحده، من غير أن نجعل للذوق ضابطاً من القيود المنطقية أو النظريات المقررة أو الحقائق الجامدة
لقد عاب الأستاذ أحمد أمين على النقاد أن ينتقدوا ما ليس من اختصاصهم، وأن الكاتب الأدبي عندنا يرى أنه يستطيع أن ينقد في يوم واحد كتاباً في تاريخ نابليون، وكتابا عن جزيرة العرب، وديوان شعر! ولا مرية في أن الأستاذ على حق فيما يقول. أما السبب في هذه الفوضى الغامرة فالذي أذهب إليه من أن النقد عندنا قد نزع النزعة التقديرية دون النزعة التقريرية. وهل أسهل من أن أقول إن كتاباً عن نابليون ضعيف الأسلوب، وإن كتاباً عن جزيرة العرب ثقيل الظل، وإن ديوان شعر بارد الأنفاس؟ ولكن غاب عن الأستاذ حقيقة أخرى هي أن الأدب والنقد عندنا، لقلة ما لهما من ضوابط وقواعد، قد هيأ للكتاب والنقاد سبيل الانسلاخ في هيئات جديدة تقتضيها ظروف الأحوال. فهذا كاتب سياسي أصبح مؤرخاً. وذاك مؤرخ أصبح شاعراً. وثالث كان أديباً فأصبح سياسياً، ثم ارتد ناقداً، ثم انسلخ في صورة ديماجوج، يضرب على نغمات تحبها آذان الجماهير. ورابع كان صحفيا فأصبح مصلحاً سياسياً. وخامس كان لاشيء أصلاً فأصبح علماً يشار إليه بالبنان في جميع ما تتخيل أن إنساناً يستطيع أن يبرز فيه من علم وفلسفة وأدب وفن، وما الله به أعلم من مظاهر الكفاية. وإن واحداً صار نصير الإنسانية، وآخر أصبح سادن الدين، وثالثاً(161/23)
أبا الحرية، ورابعاً حافظ الديمقراطية، إلى غير ذلك من الألقاب التي تذكر المرء بألقاب أهل الدول إذا ارتج أمرها وكادت تميد بها الأرض، فيعمد خيال أهلها إلى الألقاب يضخمون منها بما يخيل إليهم أن فيه المنجى والملاذ
أليست هذه ظاهرة من ظاهرات الفوضى العقلية الدالة على أن النقد عندنا إنما يقوم على نزعة تقديرية لا تزن الأثر ولا تزن الشخص، وإنما تزن الأثر والشخص على مقتضى الظرف الحاصل؟ ولو أننا نزعنا في النقد النزعة التقريرية مؤمنين بعدد ثابت من الحقائق والنظريات والمثاليات، مؤتمنين بما توحي به من آداب اجتماعية عليا، إذن لاستطعنا أن نقضي على هذه الفوضى الغامرة التي تكاد تبتلعنا لججها
وما كان لي أن أتكلم في موانع النقد في بيئتنا الجديدة، اللهم إلا أن أكون قد قذفت بنفسي في أتون تترع نيرانه الشوى. فليتصد للكلام في هذا غيري ممن لا حاجة به إلى شواء
إسماعيل مظهر(161/24)
بمناسبة المهرجان الألفي لأبي الطيب في دمشق
دين المتنبي
للأستاذ سعيد الأفغاني
عاش في هذه الدنيا قبل ألف عام رجل قضى إحدى وخمسين سنة يعمل في حياته للمجد؛ ركب إليه المكاره واقتحم الغمرات؛ أراد مرة من طريق الدين فخاب، ثم راوغه من طريق الولاية فأخفق، ثم مضى قُدُماً يجالد دون سبيله هذه جيوشاً من أذى الأعداء ونكاية الحساد وكلب الزمان وتخلف الجد
تقاذفته الأقطار ضارباً في الأرض: من حلب، إلى دمشق، إلى فلسطين، إلى مصر، إلى العراق، إلى فارس؛ حتى إذا ملأ الدنيا وشغل الناس وقفل راجعاً من شيراز وشارف بغداد وحط في سوادها الغربي، أحاط به أعداؤه في دير العاقول ليغتالوه، فقاتلهم قتال المستبسل المستميت حتى سقط دفاعاً عن نفسه وشرفه، فصعدت روحه إلى بارئها يحاسبها على ما قدمت في عاجلتها من خير أو شر
وإذا كان موضوعنا البحث في دين الرجل فلا بد أن ننبه قبل الشروع فيه إلى أنا سنخرج على ذلك السخف التقليدي الذي توارثناه في عصورنا الأخيرة جيلاً عن جيل، في تكفير الناس من أجل كلمة قالوها أو عمل قاموا به؛ نتعلق لذلك بأوهى الأسباب ونتكلف له كل التكلف لنخرج مسلماً عن دينه وإن كرهناه، أو نؤول له ما زل به لسانه إن أحببناه. تعقد لذلك المجالس في المساجد والمدارس وعند السلطان، وتؤلف الرسائل وتثار الفتن وتراق الدماء، حتى لقد سؤل الشيطان لبعض الحكام أن يتخذ من عبدة الهوى هؤلاء مطايا يركبها إلى غاياته فيمن يكره من كل آمر بمعروف أو جبّاه بحق أو ثائر على ظلم، فما أسرع ما كانت تخرج الفتيا بالتكفير، وما أسرع الحاكم حينئذ إلى البطش والفتك
ولولا الخروج عن الموضوع لأفضت في شرح هذه الناحية من تاريخنا وما أدت إليه من سوء العقبى، وما جرت على العلم والدين من ويلات وخراب، وخاصة أخريات عصور الجهل، يوم كان يضطلع بهذه المهازل شيخ الإسلام في السلطنة العثمانية. وحسب المرء أن يذكر على سبيل التمثيل آراء المحبين والمبغضين في أجلاء الصحابة - رضي الله عنهم - صدر تاريخنا، ثم أقوال هؤلاء وهؤلاء في الحلاّج ومحي الدين بن عربي وتلك(161/25)
الطبقة. بل مالي أعمد إلى التاريخ البعيد وفي فجر نهضتنا مثل صالحة من ذلك. فاذكروا إن شئتم الأئمة جمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا ومن لف لفّهم. ألم يرفعهم قوم إلى درجات المصلحين المجتهدين، ويهبط بهم آخرون إلى دركات الكفار أعداء الدين؟!
وغريب منهم هذا الفضول والتطفل والله تعالى لم يجعل إلينا أمر الناس، حتى نزج أنفسنا في هذه المزالق. ومتى ملك بشرٌ أمر بشر والله يقول: (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء.) أما كان في خوَيصة أنفسهم ما يشغلهم عن الناس والتحكم في آخرتهم؟ وما كان أقربهم من إنصاف لو عرضوا القول أو الفعل على الحق فسموا الأشياء بأسمائها وحكموا عليها بالخطأ أو الصواب ولم يحمّلوا النصوص ما لا تحمل ووكلوا أمر الناس إلى الله، إذن لو فروا على أنفسهم عنتاً طويلاً ووقتاً سيسألهم الله عن إنفاقه في هذه السفاسف والآثام، وجهوداً لم يرزقهم الله إياها ليفرقوا دينه شيعاً ويؤلبوا عباده بعضهم على بعض
وأنا إذ أعرض لدين المتنبي فإنما أحكم على أقوال قالها وعلى هنات صدرت عنه، فأعرضها على الحق، وسواء على الباحث، إذا اجتهد وأخلص، أكان المتنبي بعد ذلك مسلماً أم ملحداً، فما لنا إيمانه ولا علينا كفره، ولا يملك إنسان لإنسان عذاباً ولا ثواباً
أمهد لبحثي بكلمة عن الحالة الدينية في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، وهو الأمد الذي عاش فيه شاعرنا؛ وأنا حين أفيض فيه إنما أتكلم عن المتنبي نفسه لشدة العلاقة بين الرجل وعصره، ولأن كل شيء من أحوال ذلك العصر كان يهيئ للدعوات السياسية والدينية. وسنرى أن تنبؤ أبي الطيب ليس بالأمر الأد في ذلك الزمن الذي يعج بالأحزاب والنحل وأهل الأهواء
كان الدين أروج التجارات حينئذ في جميع الأقطار الإسلامية؛ فمن بغى ملكا تذرع له بالدين، ومن أراد ثورة جعل شعارها الدين، ومن دعا إلى نحلة فإنما سلاحه هذا الوتر الحساس من النفوس؛ ودولة بني العباس إذ ذاك منكمشة في رقعة صغيرة في العراق، تعيش مع ذلك خاضعة لسلطان الأمراء المتغلبين من الفرس أو الديلم أو الترك، والانتساب إلى آل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمضى سلاح يصرفه الخوارج وأرباب الأطماع(161/26)
كان في حلب بنو حمدان وهم علوية، وأنقرض الأغالبة في المغرب فدعى للفاطميين في رقاده من أرض القيروان سنة 296 وهم ينتسبون إلى فاطمة، وكل خارج على الدولة إنما كان يدعو الناس إلى الرضى من آل محمد، وكان في تعاليم الشيعة ما يحفز الطامحين إلى شق العصا: كلٌّ يدعي انه الإمام المنتظر
وأعظم النحل تسلطاً ونفوذاً يومئذ ثلاث: الباطنية والشيعة والحنابلة، وهؤلاء الأخيرون انحصر سلطانهم في بغداد فترة من الزمن فقط، بينما انبث دعاة الشيعة والباطنية في كثير من الأقطار. وكان أهول الجميع خطراً وأبعدهم أثراً القرامطة، وهم طائفة مؤولة باطنية حلولية، جعلوا للشرع ظاهراً وباطناً، وبنوا مذهبهم على تأويل الأحكام والآيات. ظهروا 278هـ وانتشروا بالشام وسواد الكوفة ثم اشتد أمرهم حتى زحفوا على حمص، وخضعت لهم دمشق على جزية، ثم زحفوا إلى الكوفة وعظم خطرهم وتفاقم شرهم، وعجز جند الخلافة عن إخضاعهم (وما زال أمرهم إلى قوة حتى استولوا على أكثر بلاد الفرات وأسسوا دولة بالبحرين، ودحروا جيوش الخليفة المقتدر، وثارت منهم طائفة في نواحي الحجاز، فانقطع الحج سنين خوفاً منهم. ولما أرسل إليهم المقتدر جيشاً بقيادة منصور الديلمي دحروه وقتلوا الحجاج يوم التروية في المسجد الحرام قتلاً ذريعاً وطرحوا القتلى في بئر زمزم، واقتلع زعيمهم الحجر الأسود من مكانه في الكعبة، وأخذه معه إلى هجر حيث بقي اثنين وعشرين عام حتى رد إلى مكانه أيام المطيع العباسي سنة 393)
ذكر المعري في رسالة الغفران: (أن للقرامطة بالأحساء بيتاً يزعمون أن إمامهم يخرج منه ويقيمون على باب ذلك البيت فرساً بسرج ولجام، ويقولون للهمج والطغام: (هذا الفرس لركاب المهدي يركبه متى ظهر.) وإنما غرضهم بذلك خدع وتعليل، وتوصل إلى المملكة وتضليل. ومن أعجب ما سمعت أن بعض رؤساء القرامطة في الدهر القديم لما حضرته المنية، جمع أصحابه وجعل يقول لهم لما أحس بالموت: (إني قد عزمت على النقلة وقد كنت بعثت موسى وعيسى ومحمداً، ولا بد لي أن أبعث غير هؤلاء) فعليه اللعنة، لقد كفر أعظم الكفر في الساعة التي يؤمن فيها الكافر، ويؤوب إلى آخرته المسافر) أهـ
نجد أن القرامطة أخذوا بالحلول والتناسخ المتسربين إلى المسلمين من الهند وفارس، وشاركوا بعض فرق الشيعة في فكرة الإمام المنتظر، وأصبح من ديدن كل داعية إلى بدعة(161/27)
أو خروج على سلطان، أن ينتسب إلى علي رضي الله عنه، أو أن يدعو إلى الرضى من آل محمد إن تعذرت عليه النسبة مباشرة. وكثر هؤلاء الدعاة والخارجون، وفشت فاشيتهم حتى امتلأت حوادث تلك الأيام بذكرهم. وكان سقوط هيبة الخلافة وانحلال العصبية العربية من أهم العوامل في كثرة تلك الطوائف والانقسامات. وأصبحت الدنيا في كل مكان لمن غلب، وجهر المتغلبون وجنودهم بضروب من المناكر أنفذت صبر البقية الصالحة، فثار في بغداد جماعة من الحنابلة، واضطرمت قلوبهم بالغيرة على الدين من أن تنتهك محارمه، فأجمعوا أمرهم وانتظموا معسكرات تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر بالقوة والسلاح؛ واستفحل شأنهم وقويت شوكتهم، حتى صاروا يكبسون بيوت القواد والعامة فحيثما (وجدوا مسكراً أراقوه، أو مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء.) ولم يطل بهم الزمان حتى أذعنوا لمؤثرات العصر، فتسرب إلى جماعات منهم أقوال هي إلى الحلول والتشبيه، واندس في غمارهم - على ما يظهر - أناس ليسوا منهم، فعظمت أذيتهم على الناس، فتقدم إليهم الخليفة بالإنذار فما أفاد، فأضطر إلى قمعهم بالقوة وإراحة الناس منهم
هذا إلى أناس كثيرين جعلوا الدين وسيلة إلى الدنيا يتاجرون به متاجرة، فيوماً تراهم معتزلة ويوماً شيعة؛ وحيناً باطنية وتارة حلولية يقولون بالتناسخ، يميلون مع الريح حيث مالت، ويعرضون في كل سوق ما يروج فيها، لا يرجعون إلى عقيدة، ولا يصدرون عن إيمان، بل هم أبداً متقلبون (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم)
تلك هي حال الدين في عصر أبي الطيب وفي البلاد التي حل فيها. فما ظنكم بفتى دون العشرين من عمره، يتوقد الذكاء، ويتفجر فصاحة، طماح مغامر، يعشق السيادة، وينشد المجد بكل قوته، التفت حوله فما رأى إلا جماهير بلا عقل، تتبع كل ناعق، عليهم رؤساء جهال، لا علم لهم ولا فضل ولا أدب، ما فهم على كثرتهم من يقاربه في ذكائه ومواهبه وعظم نفسه، ثم أبصر سوق الدعوات رائجة كل الرواج، وكان في طبيعة كثير منهم ما يدعو الطامح إلى محاولة السيادة عن طريق الدين
شاء هذا الفتى أن يقيم نسبة بين دعوتهم ودعوته تتسق هي والفرق بينهم وبينه، فإذا كان فيهم من ادعى انه الإمام المنتظر، والمهدي، أو الرضى، فان النسبة تقضي أن يدعي النبوة دفعة واحدة، وقد فعل(161/28)
ولا مندوحة لي هنا عن القول بأن تنبؤه في الأعراب أمر وقع حقيقة ولا سبيل إلى الشك فيه، تضافرت على ذلك كل المصادر الموثوقة، حتى التي كانت تميل إليه كل الميل، فأنها لم تنف الأمر وإنما التمست له المعاذير. وما كان أغناها عن ذلك، فأن في السن التي وقعت فيها هذه الزلة العذر كل العذر؛ وليس من الأنصاف أن نلمز حياة خمسين سنة من أجل هناة كانت في سن الفتوة. فلأشرع في ذكر هذا التنبؤ بإيجاز؛ ثم لا فض في علاقة الرجل بالدين مدى حياته. وسأعتمد في قص الحادث على أبي العلاء خاصة، لفضله ولتحريه وقرب زمانه. وسأعفي نفسي من أشياء كثيرة وردت في (الصبح المنبي) لا يقبلها عقل ولا تؤيدها قرائن
وقع المتنبي إلى بادية السماوة وأظهر دعوته، فتبعه قوم من الأعراب من بني كلب، خلبهم بذلاقة لسانه، وحسن بيانه. وتلا عليهم كلاماً زعم أنه أنزل عليه. نقله الأنباري في طبقاته عن أبي علي بن حامد قال:
(وكان قد تلا على البوادي كلاماً زعم أنه قرآن أنزل عليه. فكانوا يحكون له سوراً كثيرة نسخت منها سورة ثم ضاعت وبقي أولها في حفظي وهو: والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار. امض على سننك واقف أثر من قبلك من المرسلين، فان الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه وضل عن سبيله).
وقد حفظ لنا التاريخ مشهداً من مشاهد هذه الدعوة في اللاذقية، ولا ريب أنه كان بعد أن توثق أمر المتنبي بعض التوثق في البادية. قال أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي:
(قدم أبو الطيب المتنبي اللاذقية في سنة 320هـ وكان عمره يومئذ سبع عشرة سنة وهو لا عذار له، وله وفرة إلى شحمتي أذنيه، فأكرمته وعظمته لما رأيت من فصاحته وحسن سمته؛ فلما تمكن الأنس بيني وبينه وخلوت معه في المنزل اغتناماً لمشاهدته واقتباساً من أدبه قلت له: (والله انك لشاب خطير، تصلح لمنادمة ملك كبير.) فقال:
(ويحك! أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل.) فظننت أنه يهزل، ثم تذكرت أني لم أسمع منه كلمة هزل قط منذ عرفته فقلت له: (ما تقول؟) فقال: (أنا نبي مرسل.)
فقلت له: (مرسل إلى من؟)
قال: (إلى هذه الأمة الضالة)(161/29)
قلت: (تفعل ماذا؟)
قال: (أملأ الدنيا عدلاً كما ملأت جوْراً)
قلت: (بماذا؟)
قال: (بإدرار الأرزاق والثواب العاجل لمن أطاع وأتى، وضرب الأعناق لمن عصى وأبى)
فقلت له: (إن هذا أمر عظيم أخاف عليك منه أن يظهر) وعذلته على ذلك فقال بديهاً:
أبا عبد الإله معاذ إني ... خفي عنك في الهيجا مقامي
ذكرت جسيم مطَّلي وأنا ... نخاطر فيه بالمهج الجسام
أمثلي تأخذ النكبات منه ... ويجزع من ملاقاة الحمام
ولو برز الزمان إلى شخصاً ... لخضب شعر مفرقه حسامي
وما بلغت مشيئتها الليالي ... ولا سارت وفي يدها زمامي
إذا امتلأت عيون الخيل مني ... فويل في التيقظ والمنام
بهذه القوة والاطمئنان يتحمس المتنبي لنصرة دعوته ويحاول تمكينها من القلوب، فلنصغ إلى أبي العلاء المعري في رسالة الغفران يحدث عن معجزات نسبت إلى أبي الطيب،
قال:
(وحدثت أن أبا الطيب لما حصل في بني عدي وحاول أن يخرج فيهم قالوا له وقد تبينوا دعواه: (ههنا ناقة صعبة فان قدرت على ركوبها أقررنا أنك نبي مرسل. وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الابل، فتحيل حتى وثب على ظهرها فنفرت ساعة، وتنكرت برهة، ثم سكن نفارها ومشت مشي المسمحة، وأنه ورد بها الحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم
وحدث أيضاً أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام فجرحته جرحاً مفرطاً، وان أبا الطيب تفل عليها من ريقه وشد عليها غير منتظر لوقته، وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعد له أياماً وليالي، وأن ذلك الكاتب قبل منه، فبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم اعتقاد ويقولون هو يحي الأموات
وحدث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل، أنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع، فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح(161/30)
عليهما في النباح، ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: إنك ستجد لك الكلب قد مات، فلما عاد الرجل لقي الأمر على ما ذكر
ولا يمتنع أن يكون أعد له شيئاً من المطاعم مسموماً وألقاه له وهو يخفي عن صاحبه ما فعل.)
هذا ما ذكر المعري من معجزاته وقد ذكر غيره معجزات أخر نضرب عنها صفحاً، لبعدها عن العقل ولأن راويها ليس في التثبت بمكان أبي العلاء
وفي ديوان أبي الطيب قصيدتان قالهما في صباه، تفيضان أملاً وطموحاً وكفاحاً، وأنا أجعل زمانهما فترة التنبؤ هذه، حين كانت نفسه تجيش بأبعد المطامع وتوقن بالفوز والنجاح. لما وجد تلكؤ الناس عن إجابة دعوته في نخلة - إحدى قرى بني كلب - ومظاهرته بالعداء، عزم على المضي بأمره وتحمل الأذى، ورسم لنفسه هذه الخطة الواضحة في قصيدته:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
مفرشي صهوة الحصان ولك ... ن قميصي مسرودة من حديد
أين فضلي إذا قنعت من الده ... ر بعيش معجل التنكيد
ضاق صدري وطال في طلب الرز ... ق قيامي وقل عنه قعودي
أبداً أقطع البلاد ونجمي ... في نحوس وهمتي في سعود
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود
فاطلب العز في لظى ودع الذ ... ل ولو كان في جنان الخلود
إن أكن معجباً فعجب عجيب ... لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود
ولما رزقت دعوته بوارق من الإقبال في بني كلب سكر بنشوتها وطفقت نفسه تحدثه بقرب تحقيق الأمنية، ثم استمر خياله يبني له هذا المجد حتى أنس من نفسه قوة وتحفزاً، فراح يتحدث بإنفاذ ما رسم من خطة، ولو وقفت دونه ملوك الأرض، إلى أن تتم دعوته ويسود الناس. إن شئت فانظر في هذه الأبيات أهي لهجة شاعر يفتخر، أم إيمان طماح واثق من نفسه كل الثقة؟(161/31)
سيصحب النصل مني مثل مضربه ... وينجلي خبري عن صمة الصمم
لقد تبصرت حتى لات مصطبر ... فالآن اقحم حتى لات مقتحم
لأتركن وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم
وما قولك فيمن سيغني الأرض بالدماء عن الأمطار:
تنسى البلاد بروق الجو بارقتي ... وتكتفي بالدم الجاري عن الديم
ويخاطب نفسه هذا الخطاب الناري، مشجعاً إياها، مهوناً عليها أمر الناس فيقول:
ردي حياض الردى يا نفس واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة ... فلا دعيت إبن أم المجد والكرم
ثم انظر هذا الإنذار الشامل والوعيد الرهيب لأهل الأرض وملوك العجم والعرب:
ميعاد كل رقيق الشفرتين غداً ... ومن عصى من ملوك العرب والعجم
فان أجابوا فما قصدي بها لهم ... وإن تولوا فما أرضى لها بهم
هذه نفثة نفس جائشة تسلحت باليقين ورأت الخيال يلوح لها بقوة الحقيقة الواقعة، مؤمن بالفوز، واثقة من كفائتها وإضطلاعها بالأمور الجسام. وما أظن أبا الطيب حين قال هذه القصيدة كاذباً في نفسه، لا بل كان يحدث عنها أصدق الحديث، وإنما كان مخدوعاً ثائراً يريه شبابه الفائر ومواهبه المتقدة السراب ماء فذهب يصف ما تريه نفسه. وإلا فكيف تكون القصيدة أقوى ظهوراً منها فيما تلوت من شعره
تبعت أبا الطيب شراذم من عامة وأعراب، ثم نمى خبره إلى لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيدية. وأنه يخشى أن يستفحل أمره (فخرج إليه لؤلؤ، فقاتله وأسره وشرد من كان معه من بني كلب وغيرهم من قبائل العرب. وحبسه في السجن دهراً طويلاً حتى كاد يتلف، فكانت حاله إلى الضراعة والاستكانة. وكانت هذه الضربة كافية في إعادة رشده إليه وفي يقظته من حلمه اللذيذ الذي نعم به زمناً يسيراً فاستفاقت تلك النفس التي كانت تهذي في حلمها وتقول:
إذا امتلأت عيون الخيل مني ... فويل في التيقظ والمنام
وتقول:
ميعاد كل رقيق الشفرتين غداً ... ومن عصى من ملوك العرب والعجم(161/32)
وهبطت من عليائها إلى أسفل الدركات فقالت:
أمالك رقى ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند إنقطاع الرجا - ء والموت مني كحبل الوريد
ثم سئل لؤلؤ في أمره فاستتابه وكتب وثيقة وأشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام وأطلقه. وبهذا انطوت صحيفة من تاريخ أبي الطيب في صباه، على نزوة خلدها التاريخ على قلة ما يسجل للصبيان من نزوات
لم يفد أبو الطيب من مغامرته هذه إلا لقب (المتنبي) الذي لصق به على كره منه، فكان يستحي بعد توبته كل الاستحياء. ذكر عنه المعري أنه سئل عن حقيقة هذا اللقب: (هو من النبوة أي المرتفع من الأرض) ولما كان في بغداد قال له أحد الأكابر: (خبرني من أثق به أنك قلت إنك نبي؟) فقال أبو الطيب: (الذي قلته: أنا أحمد النبي)
قال أبو علي بن حامد: (كان المتنبي في مجلس سيف الدولة: إذا ذكر له قرآنه أنكره وجحده. وقال له ابن خالويه يوماً في مجلس سيف الدولة: (لولا أن أخي جاهل لما رضي أن يدعى بالمتنبي لأن معنى المتنبي كاذب، ومن رضي أن يدعى بالكذب فهو جاهل. فقال أبو الطيب: لست أرضى أن ادعى بذلك وإنما يدعوني به من يريد الغض مني، ولست أقدر على المنع)
ونقل صاحب طبقات الأدباء ص371 عن التنوخي قال: قال لي أبي: (أما أنا فسألته بالأهواز عن معنى المتنبي لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أو لا؟ فجاوبني جواب مغالط وقال: (إن هذا شيء كان في الحداثة، فاستحييت أن استقصي عليه فأمسكت)
وزعم جماعة أن اللقب لصق به لتشبهه بالمسيح مرة، وبصالح مرة في أبياته التي مرت
وكيفما كان فان الذين عاشوا في زمن المتنبي وبعده مجمعون على ادعائه النبوة، وكان هو يجهد أن ينفي التهمة في حياته خجلاً وحياء. وليس بين الأمرين تناقض ولا داع إلى حيرة. وقد كان هذا اللقب على أبي الطيب من أشد ما كابد في حياته: فقد منعه كافور الولاية بسببه، ولما عوتب قال: (يا قوم، من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم ألا يدعى الملك مع كافور؟ فحسبكم) وكلما أراد عدو أو شاعر ايلام المتنبي هجاه ونبزه بهذا اللقب(161/33)
(للبحث بقية)
سعيد الأفغاني(161/34)
3 - دانتي الليجييري والكوميدية الإلهية وأبو العلاء
المعري ورسالة الغفران
المطهر
(1) تنفس دانتي صعداءه حين انتهى من دركات الجحيم، وحين هب عليه أول أنفاس الفجر المنعش الندَّي! ونظر فرأى نجوماً أربعة تتألق في بنفسج السماء، ولجةً صاخبة ترغي وتزبد حول جزيرة نائية، ينهض فوقها جبل شامخ رفيع الذرى، كأنما يحمل القبة الأثيرية برَوقْيه؛ وسأل عنه فرجيل فأنبأه أنه جبل المطهر، وأنهما لا بد موقلان فوقه، ليصلوا منه إلى الفردوس
ويلتفتان فيريان شبحاً ميمماً شطرهما، وإذا هو شبح كاتو من يوتيكا، أقبل ينذرهما بما ينبغي لهما أن يتزودا به من الإيمان والصبر في سفرتهما الشاقة في أحياد الجبل، وفوق صياصيه. ويتقدمان من الشاطئ فينضح فرجيل الماء على وجه دانتي، ويلف حول خصره قصبة مما ينبت فوق الشاطئ (2) وما يكادان يفرغان حتى يريا زورقاً يثب في البعد فوق نواصي الموج، وفيه ملك كريم يجريه بين العُدْوَتين؛ وبين يدي الملك أرواح الموتى، أقبلت من الدار الفانية إلى دار البقاء؛ ويتبين دانتي بينهما روح صديقه كاسيللا المغني الفلورنسي المشهور، الذي طفق يملأ الفجر بأغنياته الحلوة يحيي بها دانتي، لولا أن استحثهما كاتو فانطلقا يهرولان شطر الجبل (3) وينظر دانتي فلا يرى إلا خياله، حين تشرق الشمس، منبطحاً على السفح وراءه، فينزعج ويحسب إن فرجيل قد غادره ورحل، ولكن فرجيل يطمئنه، ويخبره أن أرواح الموتى إن هي إلا أضواء شفافة لا تكون لهلا ظلال كما لأهل الدار الفانية. ويبلغان منحدراً صعباً لا يستطيعان تسلقه، ولكن بعض أرواح الموتى تدلهما على شِعبْ ضيق فينفذان منه ويلقيان فيه الملك منفريدي ملك نابلي الذي يعرف دانتي، ويرجوه، إذا رجع إلى الدار الأولى، أن يلقي ابنته كونستانزا ملكة أرجوان ويحدثها عن حكاية مقتل والدها التاعس الذي لا يدري أحد كيف قتل (4) ويُصعدان في الجبل، في طريق كلها نؤى وركام وأحجار، ثم يجلسان عند منعرج يستريحان مما عراهما من نصب. . . حيث يهتفُ بهما بعض أرواح الموتى، ويعرف(161/35)
بينهما دانتي روح صديقه بيلاكوا، الذي يحدثه أنه استحق أن يكون خارج الفردوس دهراً لأنه لن يعجل بالتوبة قبل موته إلا حين أدركه المنون. (5) وينطلقان، فيلقيان أفواجاً ممن لم يعجلوا لتوبتهم فأمهلوا عن دخول الفردوس كما أمهل بيلاكوا. (6) ويلقيان أفواجاً أخرى فتتكبكب حول دانتي، تتألم وتبكي، وترجوه إذا عاد إلى الدار الأولى، أن يبلغ أهليهم تحياتهم، وأن يرجوهم أن يستكثروا لهم من الصلاة والدعاء، عسى أن يخفف عنهم، وأن يعجل بهم إلى الجنة!! ويعجب دانتي، ويسائل فرجيل (وماذا تفيد هؤلاء صلوات أهليهم؟ وهل للإنسان إلا ما سعى؟)، ولكن فرجيل يذكر بياتريس ويذكر أن صلاة دانتي قد نفعتها، وقد عجلت بها إلى الفردوس. ثم يلقيان سوردللو، فيشكو إليه دانتي تدابر الإيطاليين وتقاطعهم وقلة اهتمامهم بجمع كلمة إيطاليا وإنهاض الإمبراطورية الرومانية. (7) ويرخي الليل سدوله فيتقدم سوردللو ليهديهما سواء السبيل فيدلهما إلى منعرج مزهر يريان فيه أرواح بعض الملوك والأمراء كالإمبراطور رودولف، وأوتوكار ملك بوهيميا، وهنري الثالث ملك إنجلترا. . . الخ. . . ويتحدث دانتي إلى بعضهم (8) ويتنزل ملكان عظيمان من السماء، في يد كل منهما سيف من نور فيحرسان الوادي، ولكن سوردللو يستأذنهما فيأذنان له، فيقود الشاعرين إلى شِعب جميل يلقى فيه روح نينو قاضي جاليورا فيكلمه دانتي في بعض ما كان من مشكلات الدنيا، ثم يلقى أحد إخوانه من الموتى فيتنبأ له عما سيلقاه من نفي وتشريد ونزح عن الديار حين يعود إلى الدنيا (9) وينام دانتي، ثم يصحو بعد الشروق بساعتين فيجده قد حمله من يدعى لوسيا إلى باب المطهر حيث يأذن لهم حارسه، وهو من الملائكة، باجتيازه. (10) ولا ندري كيف ينتكس دانتي فيعطينا في المطهر صورة من أبشع صور الجحيم في هذا الفصل العاشر. . . فبعد أن يجتازوا (سوردللو وفرجيل ودانتي) طريقاً حلزونياً حول صخرة كبيرة يشرفون على واد سحيق مكتظ بأهل الكبرياء والخيلاء من موتى الدار الفانية وقد وقفوا فيه وفوق كواهلهم حجارة ضخمة من الرخام ينوؤون تحتها ويتضاغون ويبكون! (11) ويمرون بأقوام من أهل الدنيا الفانية قضى عليهم كِبْرهم أن يؤخروا في منزلق صعب عن الجنة جزاء صلفهم في دار الغرور (12) ثم يتقدم إليهم ملك فينقلهم من دارة المطهر الأولى إلى دارته الثانية. (13) حيث أهل الحسد والحقد والغيرة. . . وقد خيطت أعينهم بسلوك من حديد، ويجد دانتي من(161/36)
بينهم السيدة سابيا السينية التي تتحدث إليه فتخبره عن سبب تخلفها هنا. (14) ثم يلقى واحداً من سكان وادي الأرنو (النهر الذي تقع عليه فلورنسا) فيحدثه عن سبب انحطاط الفلورنسيين وسائر سكان هذا الوادي، ثم انحطاط الناس في رومانا. . . . ويمضي الشاعران بين ضجيج الأرواح الهائمة، تلغط جميعاً بهراء من الحسد والأحقاد القديمة (15) ويحدوهما ملك كريم إلى الدار الثالثة من المطهر حيث تطَّهر الأرواح من سورة الغضب والجموح الدنيوي، وبعد أن يكلم دانتي بعض هذه الأرواح السادرة ينشر ضباب كثيف يغشى الوادي، ويظل فيه الجميع (16) ويتعرفون الطريق على أصوات الأرواح التي تصلي لبارئها، ثم يبرز من الضباب روح جريء (ماركو لومباردو) فيكلم دانتي ويقنعه أن الله القدير قد وضع في كل نفس إرادةً حرة تهدي إلى الرشد أو تنتهي إلى الضلال، وأن فساد الدنيا هو الثمرة المرة لهذا المزيج غير المتكافئ في نفوس الحكام من القوى الروحية والشهوات الحسية (17) وينجاب الضباب أو هم يخلصون منه آخر الأمر، ويتقدم إليهم ملك جميل فيقودهم إلى الدار الرابعة من دارات المطهر؛ حيث يقر أهل الكسل وعدم المبالاة ليخلصوا من أدرانهم (18 - 19) ويتحدث فرجيل حديثاً طويلاً عن الحب، فيقسمه إلى حب طهري وحب شهوي، ويعزو إلى الأول كل ما يصدر من خير وإلى الثاني كل ما يمسخ الحياة من شر؛ ثم يقودهما ملك آخر إلى الدار الخامسة حيث يطهر الطماعون وجماعو المال من خبثهم، ويلقي بين هؤلاء البابا أدريان الخامس فيكلمه (20 - 21) ويلقى دانتي الملك هوج كانت من ملوك فرنسا فيحدثه هذا عن أحفاده وذراريه من ملوك ذاك البلد. ثم تزلزل الجبل ويميد بمن عليه فتهتف الأرواح الهائمة على جنباته: (المجد لك يا رب. . . العظمة لك يا الله!). ثم يتقدم إلى الشاعرين روح قد تم تطهيره واخذ طريقه إلى الفردوس، ويدعى ستاتيوس فيشرح لهما سبب الزلزلة السالفة، ثم يتقدم إلى فرجيل فيعرفه ويكاد يطير من الفرح للقائه (22) ويخب الثلاثة في طريقهم إلى الدارة السادسة حيث يطهر المنهومون وأهل البطنة، وحيث يرون شجرة باسقة ذات طلع نضيد وفاكهة حلوة يفوح ارجها، في أوراقها أرواح تذكر الله وتسبح بحمده وتشكر له ما رزقها من عفة (23 - 24 - 25) وينظر دانتي فيرى روح صديقه فوريز الذي ينتقد بشدة هذا الملبس الجديد الشاذ الذي اتخذه أهل فلورنسا، ثم يرى دانتي جماعة من أصدقائه المتلبثين في(161/37)
المطهر ومنهم خصمه السياسي الكبير كورسو دوناتي، ويصل الثلاثة إلى شجرة أخرى تخرج من بين أوراقها أصوات رائعة تردد أمثلة في النهم، ثم يتقدم إليهم ملك فيهديهم إلى الدارة السابعة والأخيرة من المطهر حيث يطهر أولئك الذي كانوا لا يستطيعون كبح نفوسهم وضبط عواطفهم ساعة الغضب. وهم يطهرون ثمة في نار حامية (26 - 27) وترى الأرواح الهائمة في النار ظل دانتي على اللهب فتدهش لوجود حي من بني الدار الفانية في هذا المكان الأخروي المقدس، ثم يتقدم إليه روح صديقه جيدو جوينيشبلي الشاعر الإيطالي المعروف فيتحدث إليه برهة كما يتحدث إليه روح آخر. ثم يقودهم ملك كريم عَبْر النار إلى المعراج المؤدي إلى السماء. . جنة الأبرار. . ولكن الليل يقبل، فيجلس الثلاثة (فرجيل ودانتي وستاتيوس) عند حنية رخية النسيم، حيث ينام دانتي فيرى رؤيا جميلة. ثم يهب مع الصباح فيودعه فرجيل، ويترك له الحرية الكاملة للتجول في السماء حتى يلقي بياتريس (28) ويذهب دانتي في السماء صعداً حتى يبلغ الغابة الفردوسية الوارقة، ولكن نهراً من أنهارها يحجز بينه وبين فتاة لاهية هيفاء وقفت في روضة ناضرة تقطف الزهر ذا الشذى؛ فيكلمها دانتي، ولكن الفتاة تأخذ معه في شرح جغرافية هذا المكان، وتخبره إن هذا النهر الذي يفصل بينهما هو نهر ليث، وإن يكن اسمه يونو في مكان آخر (29) وتخطر الفتاة، في عكس مجرى النهر، ويمشي دانتي تلقاءها، ويتحدثان حديثاً مشجياً، ثم يسمعان موسيقى بعيدة فينظران، فإذا حفل حاشد في أديم الفردوس يلوح في الأفق. (30) وتمضي لحظة، وإذا ملاك كريم يتيه في شفوف بيض يتنزل من السماء إلى مسرى دانتي، وينظر الشاعر، فيرى حبيبته بياتريس هي هذا الملاك الطاهر فيكاد يجن من الفرح. . . ولكن بياتريس تأخذ معه في عتاب حلو وعذل رفيقه (31) فيعترف الشاعر انه مخطئ في كل ما أخذت عليه حبيبته، ويركع بين يديها معتذراً ثم يسجد سجدة طويلة باكية، وتتقدم إليه ماتيلدا - الفتاة السابقة - فتأخذ بيده، وتخوض به لجج ليث، ثم تقدم إليه أربع عذارى فاتنات، يمثلن الفضائل الكنسية، وهؤلاء يقدنه إلى جريفون، رمز المخلص، السيد المسيح، وإلى ثلاث عذارى أخريات يمثلن الفضائل الإنجيلية، وهؤلاء يقدمنه إلى بياتريس التي تنسي دانتي جمالها الخلقي، وتشغفه بجمالها الروحي (32 - 33) وينطلق الجميع (دانتي وماتيلدا وستاتيوس وبياتريس) ويحذرون(161/38)
دانتي الا يحدق النظر في حبيبته لئلا يعشى بصره من شدة لألائها. ثم يصلون إلى دوحة عظيمة هي شجرة المعرفة التي أكل منها آدم وطرد بسببها من الجنة، فيرى إلى أطيار وأشباح غريبة تهبط من علٍ فتكون فيها، ويتبين منها دانتي بازياً ونسراً وثعلباً وتنيناً. . . . وتتقدم بياتريس إلى الشجرة هي والعذارى السبع فينشدنه أنشودة من أناشيد الجنة، ثم يمضي الجميع وتكلم بياتريس دانتي، فتكشف له عن شؤون غيبية ستحدث له في الدار الفانية حينما يعود إليها. ويكونون عند النبع الأكبر الذي يفترق عنده النهران ليث ويونو؛ وهنا تشير بياتريس إلى ماتيلدا فتتقدم هذه إلى دانتي وتسقيه جرعة من مياه يونو، التي تكون هي وأمواه ليث عظمة الإله وحكمته وجبروته
(للبحث بقية)
(د. خ)(161/39)
أندلسيات
أبو بكر بن العربي
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
نترجم اليوم لإمام عظيم من أئمة المسلمين، وعلم من أعلام هذا الدين، الذين أنجبتهم الأندلس فيمن أنجبت، فأثروا في العلوم الإسلامية تأثيراً، ونظروا فيها تنظيراً، وفصلوا ما أجمل منها تفصيلاً، وسجلوا من ثم أسمائهم في سجل الخلود تسجيلاً. .
هذا الإمام هو العالم الحافظ الأصولي المحدث الفقيه الأديب الثبت الثقة أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافري الإشبيلي الأندلسي المعروف بالقاضي أبي بكر بن العربي. .
نجل هذا الإمام أبوان كريمان فاضلان معرقٌ لهما في الفضل والكرم، ومن ثم تداركته أعراق صدق وكان منه هذا النابغة العظيم، ولا جرم، فأن للوراثة أثرها، وللبيئة أثرها البالغ كذلك، هيأهما قدر من الله نافذ، وخط في أم الكتاب مسطور، وذلك أن أم المترجم له هي بنت أبي سعيد عبد الرحمن الهوزني صاحب صلاة الجماعة بقرطبة في عهدي عبد الرحمن الداخل وابنه هشام، وهو رأى أبو سعيد والد أبي القاسم الحسن الهوزني أحد العلماء الأعلام والسروات النابهين، وهو - أي أبو القاسم - والد أبي حفص عمر ابن الحسن الهوزني الكاتب البارع الألمعي. أما أبو المترجم له فهو أبو محمد عبد الله بن محمد أحد فقهاء أشبيلية ورؤسائها، وكان له عند المعتمد بن عباد أعظم ملوك الطوائف وعند أبيه المعتضد من قبله منزلة باسقة. . ولما انقضت دولة المعتمد بن عباد وسائر ملوك الطوائف باستيلاء يوسف بن تاشفين ملك مراكش على الأندلس خرج أبو محمد ومعه ابنه المترجم إلى الحج، وذلك سنة 485هـ - سنة 1092م - وسن المترجم له إذ ذاك زهاء سبعة عشر عاماً، إذ كان مولده سنة 1075م، وقد تأدب المترجم بأشبيلية قبل ارتحاله مع أبيه وقرأ القراءات وسمع أباه وخاله أبا القاسم الحسن الهوزني وأبا عبد الله السرقسطي وغيرهم، وفي ذلك يقول من كتاب له: (حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثة لضبط القرآن والعربية والحساب، فبلغت ستة عشرة، وقد قرأت من الأحرف نحواً من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه، وتمرنت في العربية واللغة ثم رحل بي أبي إلى الشرق.)(161/40)
ولما ذهب إلى الإسكندرية سمع الأنماطي وغيره، وسمع بمصر أبا الحسن الخلعي وغيره، وبدمشق غير واحد، ولقي ببغداد أبا حامد الغزالي وغيره، وفي لقائه الغزالي يقول في كتابه قانون التأويل: (ورد علينا ذا نشمند - يعني الغزالي - فنزل برباط أبي سعد بازاء المدرسة النظامية معرضاً على الدنيا مقبلاً على الله تعالى فمشينا إليه، وعرضنا أخيلتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه علي بن العباس - ابن الرومي - لما قال:
إذا ما مدحت امرأ غائباً ... فلا تَغْلُ في مدحه واقصِدِ
فإنك إن تَغْلُ تَغْلُ الظنو - ن فيه إلى الأمد الأبعد
فَيَصغُرُ من حيث عَظّمتَه ... لفضل المغيب على المشهد
ثم حج في موسم سنة 489 وسمع بمكة أبا علي الحسين بن علي الطبري وغيره، ثم عاد إلى بغداد ثانية وصحب أبا بكر الشاشي وأبا حامد الغزالي والخطيب التبريزي وغيرهم من العلماء والأدباء وقرأ عليهم الفقه والأصول والأدب، وقيد الحديث وإتسع في الرواية وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام (علم التوحيد) ثم صدر عن بغداد إلى الأندلس وعاج على الإسكندرية وأقام بها مدة عند أبي بكر الطرطوشي فمات بها أول سنة 483 ثم انصرف هو إلى الأندلس سنة 495 وقدم بلدة أشبيلية بعلم كثير لم يأتي بمثله أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق - إلا الإمام الباجي كما يقول المترجم من كلمة له - وسنترجم للباجي - وكانت رحلة علماء الأندلس وأدبائها إلى المشرق - إلى أفريقية - تونس والجزائر - ومصر والشام والعراق والحجاز، وإلى خراسان وما إليها بل وإلى الهند والصين أحياناً - في حركة ودؤوب عجيبين، لا يكادان يفترقان على بعد المشقة وصعوبة المواصلات واختلال الأمن، كما كان كثير من المشارقة يرتحلون إلى الأندلس، غير أن رحلة الأندلسيين إلى المشرق كانت في الأعم الأغلب لنشدان التبحر في العلم والأدب واللغة والارتواء من سلسبيلها الثر الفياض إذ الأندلسيون يعلمون أن المشرق هو مهد العلوم والمعارف، فكانوا لذلك يقفون من المشارقة موقف الأبناء من الآباء، أو التلاميذ من الأساتيذ. كما كان من أغراضهم تأدية فريضة الحج. أما المشارقة فقد كان ارتحالهم إلى(161/41)
الأندلس إما بدعوة من ملوكها للإفادة وبث العلم والفن والأدب كما كان الشأن مع أبي علي القالي إذ دعاه الحكم المستنصر ولي عهد الناصر، ومع زرياب الموسيقي العبقري إذ دعاه عبد الرحمن الأوسط، وإما للربح والاتجار كما كان من الرازي محمد بن موسى والد ابي بكر أحمد بن محمد الرازي كبير مؤرخي الأندلس، وإما للاستكشاف وحب الاستطلاع خدمة وللعلم من طريق والسياحات كما كان من مثل ابن حوقل، وإما للإقامة بالأندلس والاستمتاع بذلك الفردوس الإسلامي المفقود كما كان من كثير ممن نزحوا إلى الأندلس وأقاموا بها. . . (وبعد) فأنا في الحق لا نعلم أمة من الأمم كانت تعني بالعلم وتحصيله، وتعاني ما تعاني أراضيه في سبيله، عناية المسلمين الأولين. وكان ذلك منهم نزولاً على حكم دينهم وحضه على التعلم والتعليم وطلب العلم ولو بالصين. . . ولمناسبة السفر وصعوبته في العصور نورد هنا نبذة للمترجم له أوردها المقري، قال: (ولما ذكر القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه قانون التأويل ركوبه البحر في رحلته من أفريقيا قال: وقد سبق في علم الله تعالى أن يعظم علينا البحر بزَوْلِه، ويغرقنا في هوله، فخرجنا من البحر، خروج الميت من القبر، وأتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت كعب بن سليم ونحن من السغب، على عطب، ومن العرى، في أقبح زي. . . تمجنا الأبصار، وتخذلنا الأنصار. فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله تعالى على يده وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا، بأمر حقير ضعيف، وفن من العلم طريف. وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه، فِعْلَ السامدِ اللاّه، فدنوت منه في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته، إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار، ووقفت بازائهم، أنظر إلى تصرفهم من ورائهم، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خُلس البطالة، مع غلبة الصبوة والجهالة، فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صاحبه، فلمحوني شزراً وعظمت أعينهم بعد أن كنتُ نزراً، وتقدم إلي الأمير من نقل الكلام إليه، فاستدناني فدنوتُ منه، وسألني هل لي بما هم فيه بصر؟ فقلت: لي فيه بعض نظر، سيبدو لك ويظهر، حرّك تلك القطعة، ففعل، وعارضه صاحبه، فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى، حتى هزمهم الأمير، وأنقطع التدبير، فقالوا: ما أنت بصغير وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشداً:(161/42)
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
فقال: لعن الله أبا الطيب أوَ يشكّ الربّ؟
فقلت في الحال: ليس كما ظنّ صاحبك أيها الأمير، إنما أراد بالرب ههنا الصاحب، يقول: ألذ الهوى ما كان المحبُّ فيه من الوصال، وبلوغ الغرض والآمال، وعلى ريب، فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله، ونقاة لما يقع به، كما قال:
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي الإبرام والانتقاض، ما حرّك منهم إلى جهتي دواعي الانتهاض، وأقبلوا يتعجبون مني، ويسألونني كم سنّي، ويستكشفونني عني، فبقرت لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي، وأعلمت الأمير بأن أبي معي فاستدعاه، وقمنا الثلاثة إلى مثواه، فخلع علينا خلعه، وأسبل علينا أدمُعه، وجاء كل خوان، بأفنان الألوان، ثم قال - بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه - فانظر إلى هذا العلم الذي هو للجهل أقرب، مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذا من العطب. . .
(لها بقية)
عبد الرحمن البرقوقي(161/43)
جامعة الإسكندرية
بقلم إبراهيم جمعة
المتحف الإسكندري - جامعة على غرار الأكاديميات الأثينية
- وجه الخلاف بينهما - الغرض من إقامة المتحف - راعي
المتحف - جامعة الإسكندرية وجامعات العصور الوسطى في
أوروبا - الشبه بين كلية الملكة وكلية أول سولز في اكسفورد
وبين جامعة الإسكندرية - النظام الداخلي للجامعة - علماء
هذا العصر - مكتبة المتحف
- 1 -
تحققت في مصر سياسة الإسكندر الأكبر - تلك السياسة التي كانت ترمي إلىصبغ البلاد المفتوحة بصبغة إغريقية هلينية، وقد ساعد على تحقيق حلم الإسكندر إنشاؤه مدينة الإسكندرية لتكون مركزاً لتلك الثقافة الجديدة. وقد جرى أعقابه في مصر من البطالسة على سياسته، فجعلوا الإسكندرية من حيث التجارة وريثة لبيريه ميناء أثينا التجارية كما جعلوها وريثة لأثينا نفسها من الوجهة العلمية - وهكذا تكون الإسكندرية قد قامت في وقت هوى فيه لواء العلم من عل بمهمة سامية ظلت تقوم بأعبائها عدة قرون
وكان أكبر مظاهر هذه الوراثة تأسيس بطليموس سوتر لمتحف الإسكندرية - والمتحف الإسكندري جامعة علمية، وإنما سميت الجامعة متحفاً لقيامها في ركن من أركانه. وقد كانت تلك التسمية شائعة في العصر الإغريقي، فقد كان يطلق لفظ (الجمنازيوم) على جامعة بيرين. . وقد انحدرت هذه التسمية من العصور القديمة إلى العصور الوسطى فالحديثة، فما يزال يطلق لفظ المتحف (ميوزيوم) على بعض الأندية الأدبية في ألمانيا حتى الآن
فلا غرابة إذن إذا أطلقنا لفظ المتحف الإسكندري وأردنا به جامعة الإسكندرية، فقد كان كل ما في المتحف من شتى أنواع الحيوان والنبات ومن مجموعات الكتب النفيسة(161/44)
والمخطوطات وما إلى ذلك عوناً على الدراسة العلمية المنظمة، والبحث في حياة الكائنات، وتقصي الحقائق والتأليف، مما كان في مجموعة أشبه شيء بمهمة الجامعات في العصور الحديثة
أنشأ سوتر هذا المتحف بمساعدة فيلسوف أثيني هو (ديمتريوس فاليرون) الخطيب اليوناني الذي استصحبه سوتر في عودته من حرب ديمتريوس ملك مقدونية. ومما يدعو إلى كثير من الأسف أننا لا نعثر الآن على كثير من معالم ذلك المتحف في حين استطعنا أن نلم بكثير من المعلومات عن المعاهد المعاصرة له. ومن عجب أن يكون هذا، لأن المتحف أنشئ في وضح التاريخ، وفي عصر عاهل شهير، وفي مدينة من أعظم مدن العالم القديم! ولعل التنقيب يكشف عن بعض معالم المتحف الإسكندري لو كان للتنقيب من سبيل
غير أنه لحسن الحظ استطعنا أن نصل إلى بعض إنتاج المتحف الإسكندري في النقد الأدبي وفي العلوم الرياضية والجغرافية وغير هذه وتلك من فروع المعرفة الإنسانية، فإذا لحظنا ضعفاً ظاهراً في الأدب والشعر والفلسفة، فإنما يعزى ذلك إلى ضعف هذا العصر الأول من عصور الجامعة في هذين النوعين من الإنتاج بالمقارنة مع أثينا وأيونيا اللتين كانتا إذ ذاك في أوجهما العلمي
إن فكرة جعل الإسكندرية مركزاً للتجارة ومستقراً للعلوم والآداب والفنون، اختمرت تدريجا في ذهن بطليموس سوتر اختماراً ساعد على إخراجه إلى عالم الحقيقة ذلك الفيلسوف الإغريقي. . وكان لا بد أن يكون تأسيس المتحف على غرار يوناني بحت، إذ أنه وليد فكر يوناني كما نرى. .
نشأت المدارس اللاتينية بادئ الأمر في شكل حلقات للدرس، تنتظم حول معلم يتحدث إلى تلاميذه في فرع من فروع المعرفة، وما لبثت هذه الحلقات أن استحالت إلى هيئات علمية منظمة، عرفت كل منهما باسم معلمها الأول، واتخذت اسم (الأكاديمي) وقد كانت هذه الهيئات العلمية في بلاد اليونان بعيدة عن أي إشراف حكومي، إلا في الأوقات التي كانت ترى فيها الحكومات ضرورة قصوى للتدخل في حريتها العلمية ابتغاء الحد من تلك الحرية، محافظة على سلامة الأداة الحكومية من أي شطط ينتجه التفكير الحر
أما في مصر فقد حتمت البيرقراطية الحربية أن يكون المتحف تحت الإشراف الحكومي(161/45)
المباشر وفي رعايته. وهكذا كان المتحف، أو كانت الجامعة الإسكندرية، من بدء إنشائها هيئة حكومية تستمد وجودها مباشرة من الملك، ويستمد كل فرد من أفرادها حريته منه
لم يكن الغرض الذي قصد إليه بطليموس من إنشاء هذا المتحف هو أداء رسالة معينة تصدر عن ذلك المعهد، ولم يكن هو يدري في كثير أو قليل الفرق بين المعهد الذي أنشأه وبين تلك الأكاديميات الأثينية التي ازدهرت في أثينا، وإنما الظاهر للباحث أنه قصد من وراء إنشائه إلى غرض قد يكون سياسياً وقد لا يكون، قصد إلى أن يجعل المدينة التي جعلها الإسكندر عاصمة له مركزاً لحكم العالم الهليني بأسره، فمن أجل هذا كلف سوتر بالاستيلاء على مقدونية، وبفرض سيطرته المطلقة على البحر الأبيض الشرقي؛ ولا شك أن هذه السياسة شبيهة بسياسة التوسع التي جرى عليها الإسكندر مع فرق جوهري هو أن الإسكندر كان يجعل مقدونيا نواة لإمبراطوريته، بينما كان سوتر يرمي إلى جعل مصر التي آلت إليه بعد موت سيده نواة لإمبراطورية بطليموسية
والذي يتأمل في شخصية سوتر لا يرى غرابة في سعة أطماعه التي أصبحت الإسكندرية بحكم الظروف مركزها الطبيعي، لهذا لم يأل سوتر جهداً في توفير مظاهر الأبهة والعظمة لمدينته الخالدة، وإذا فقد كان الغرض الأول والأخير من إنشاء المتحف هو أن يجمع في الإسكندرية جمهرة من العلماء تفكر، وتحاضر، وتكلف بالبحث، امتازت بتفوقها العلمي والأدبي لأنها كانت جمهرة منتقاة ابتغاء التشبه بأثينا وعلمائها، أثينا عاصمة العام الهليني ومستودع علمه. . وبهذا تكون رغبات سوتر منحصرة في أن يسلب مقدونيا نفوذها السياسي ليتركز في مصر، وأثينا نفوذها العلمي ليستقر في الإسكندرية
وكانت هذه الجمهرة من العلماء تسكن المتحف، تحت إشراف رئيس ديني يعينه الملك من الكهنة، ويجدر أن نذكر هنا أنه لم يكن مصرياً كمعظم هيئة المتحف، وقد كانت مهمته قاصرة على رعاية المتحف رعاية دينية، وهو تقليد جامعي نقلته جامعة الإسكندرية عن جامعة أثينا بشيء من الاختلاف، إذا كان راعي الأكاديمية الأثينية ينتخب انتخاباً. أما راعي جامعة الإسكندرية فقد كان يعين تعييناً لمدة تطول وتقصر تبعاً للإرادة الملكية
ولما أن استطاع سوتر أن يجعل للإسكندرية مكانة سياسية ممتازة، وتمكن في الوقت نفسه أن يحيطها بجو علمي خاص، أمها الطلاب من جميع أنواع العالم الهليني يطلبون العلم(161/46)
على خير أساتذته
وقد كانت مهمة هذه الجامعة الناشئة أول أمرها قاصرة على النقد العلمي، والنظر في مؤلفات السابقين، دون أن تكون مبتدعة أو مضيفة إلى الثورة العلمية. . وتعوزنا المعلومات عن عدد الطلاب المختلفين إلى حلقات الدرس في الجامعة، وعن نظام معيشتهم، وعن العلاقة بين هؤلاء الطلاب وبين أساتذتهم لنستشف من هذه العلاقة شيئاً عن الروح الجامعية في جامعة الإسكندرية
وفي هذا السبيل لم نصل إلى أكثر من أن عدداً من الطلاب الغرباء أم الإسكندرية طلباً للعلم، ولا بد أن يكون هذا العدد قد سكن المتحف أو سكن المدينة على مقربة من المتحف، حيث لم يكن لهم في المدينة غاية غير الدراسة
حقاً لقد كان بالمتحف أروقة، ولكن الشائع أنها كانت لسكن العلماء، ولكن حقيقة معينة تدعو إلى الاعتقاد بأن الطلاب عامة سواء أكانوا من الوطنيين أم الأجانب النازحين، كانوا يساكنون الأساتذة في تلك الأروقة، تلك هي التي يذكرها (مافي) في كتابه (الحياة والعقائد الإغريقية) ويقرر فيها أن نظام جامعة الإسكندرية كان كنظام (كلية الملكة) في اكسفورد في أول إنشائها، أشبه شيء بمدرسة داخلية يختلف فيها الطلاب إلى دروس يلقبها الأساتذة ثم ينصرفون في أوقات فراغهم إلى الاستذكار. وأقل ما يؤخذ من هذا أن الطلبة كانوا يعيشون مع أساتذتهم في بناء واحد، ومن شأن هذا أن يعطي مجالاً للتعاون العلمي بين الطلبة من ناحية وبين الطلبة وأساتذتهم من ناحية أخرى؛ ومن شأنه أيضاً أن يظهر الجامعة بمظهر لا يتفق مع سمو النظام الجامعي الذي يجب أن يكون أميز خصائصه البحث العلمي، وأخذ الطلاب به تدريجاً حتى تنمو فيه ملكته. وهذا ما فطنت إليه جامعة الإسكندرية، فنزلت عن النظام العتيق تدريجاً واشترك الطلبة في الأبحاث العلمية، وقاموا أحياناً بواجب الأساتذة تمريناً لهم على مزاولة التدريس الجامعي. ووقعت جامعات أوربا في العصور الوسطى - ولا سيما كلية الملكة في اكسفورد - في مثل ما وقعت فيه جامعة الإسكندرية من خطأ، ولكنها أدركت ما في هذا النظام من قصور؛ وجاءت كلية (أول سولز) في شكلها الأخير مصححة لهذا الخطأ في النظام الجامعي حيث يقوم (الرفقاء) بأبحاث علمية وأدبية بعد حصولهم من جامعة اكسفورد على درجاتهم العلمية(161/47)
ويحق لجامعة الإسكندرية أن تفاخر جامعات العالم طرا بما سبقت إليه من جمع الآداب اليونانية، وتهذيبها، وتنقيتها من الشوائب، بما توفر لعلمائها وطلابها في زمن بطليموس فيلادلف من المقدرة الفائقة على النقد الأدبي
ولم تكن الجامعة معهد العلم الوحيد في المدينة، فقد كان إلى جانبها بعض المدارس اليهودية يتلقى فيها أبناء اليهود شرائع ديانتهم - وقد صحب دخول المسيحية نشأة بعض المدارس النصرانية، ناوأت الجامعة واليهودية معاً، وفيما نمت القومية المصرية، ونضج الشعور القومي، وانتقض في وقت ما على الآثار الإغريقية والرومانية كما سنفصله فيما بعد
ويذكر (مافي) في كتابه (إمبراطورية البطالسة) أن جامعة الإسكندرية اتخذت نموذجاً لكل الجامعات التي تلتها في أوربا، فعلى غرأرها تأسست جامعات أوربا في العصور الوسطى
أما المكتبة الشهيرة فلا تمدنا المصادر التاريخية بشيء قاطع في شأن مكانها: أكانت متصلة بالمتحف، أم كانت منفصلة عنه، وهل كان أمين تلك المكتبة - هو شخصية عرف عنها كثير من الفضل والأدب - عضواً من أعضاء المتحف. والغالب على الظن أن المكتبة كانت وثيقة الاتصال بالمتحف، تمد الباحثين فيه بحقائق العلوم التي وصل إليها الإغريق في أثينا وأيونيا من قبل
وترجح أن تكون أول مكتبة أنشئت مع المتحف في وقت واحد في حي البروكيون - ولا يذكر (سترابو) وقد زار الإسكندرية في عهد أغسطس شيئاً ما عن المكتبة أو عن احتراقها - وكل ما ذكره (ديودور) أنه اطلع على نشرات كانت تصدر في البلاط الملكي استمد منها بعض معلوماته
ويغلب أن تكون المكتبة قد جمعت بنفس الطريقة التي جمعت بها بعض المكتبات الإنجليزية الشهيرة كمكتبة (سنيردلاند) ومكتبة (سبنسر) كما تجمع وتقتني قطع الخزف الأثرية أو الصور التاريخية سواء بسواء
(للبحث بقية)
إبراهيم جمعة(161/48)
من أدبنا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان
اقتراح القريح واجتراح الجريح
لأبي الحسن الحصري
(للأستاذ الزيات عزاء وسلوة)
للأديب السيد أحمد صقر
- 3 -
نموذج من شعره:
قال أبو الحسن علي الحصري من قصيدة - وهي الأولى -
حاشاك من نار على الأحشاء ... يزداد ضِعفاً حرها بالماء
عزيتني فيما ترى وعزوتني ... للصابرين ولات حين عزاء
من لي بأجر الصابرين وأعظمي ... موهونة من أعظم الأرزاء
هل مستطيع أن يكفكف دمعه ... من لا براح له على البُرَحاء
لهفي على ريحانة راحت إلى ... مثوى ثواب ليت فيه ثوائي
سالت حشاشة نفسه من أنفه ... فشهدت منه مصرع الشهداء
ونظرت في قطع الرعاف فلم تمط ... حكم المنية حيلة الحكماء
فإذا أراد الله ميتة مدنف ... أخفى على الآسى دواء الداء
داواه من أدواه حتى قال لي ... لا تأتني من ذا الردى بدواء
لا أشتكي أني حرمت إجابة ... لولا شعوب لدَعَّ عنه دعائي
والخير فيما اختار خالقه فقد ... آلت به الضراء للسراء
ولقد يَسُرُّ الله بالبأساء في ... أحكامه ويضر بالنعماء
عرضت له تفاحةً نفاحة ... بعضُ الأماء فرد بالأيماء
ولو استطاع القول قال مشافها ... تفاح جنات الخلود شفائي
عبد الغني لك المسرة غائبا ... ولي المساءة مصبحي ومسائي(161/49)
وقال من قصيدة:
كان عبد الغني للعين نورا ... ولقلبي هدى وللعيش طيبا
كان شيبي به شبابا فلما ... بان رد الشباب مني مشيبا
كنت في غربتي كأني به في ... وطني، فانقضى فعدت غريبا
لم يدع فقده لمغناي معنى ... فخلا آهلا وضاق رحيبا
لست أنسى مقامه ومقامي ... وكلانا مثل القتيل خضيبا
أنفه ينثر العقيق وعيني ... تنثر الدمع بالعقيق مشوبا
ضمني شاكيا إلي فقلبي ... كلما يشتكي يطير وجيبا
وبودي لو احتملت فداء ... عنه ذاك الضنى وتلك الكروبا
لو أطق فيه حيلة غير أني ... مذ قضى نحبه ألفت النحيبا
مات من كنت أقطع البيد جرا ... هـ وأرجو المنى وأخشى الخطوبا
ما أعز الحياة للمرء! ما اب ... عد آماله وأدنى شعوبا
ما أقل الوفاء، ما أضعف الطا ... لبَ في ذا الزمانِ والمطلوبا
يا حبيب الآله لولا المنايا ... لشفي منك ما أَعل الطبيبا
يوم ناديتَ: (فرج الله كربي ... إنني اشتقت مسجدي والأديبا
ولِداتٌ سبقتهم لحقوني ... صار من كان غالباً مغلوبا
طال سقمي فارفع دواتي وأقلا ... مي ولا تمح لوحي المكتوبا
فإذا ما أفقت أدركت من فا ... ت وعادت عنقاؤهم عندليبا)
قُلتَ ما قلت ثم زاد سقام ... ودم غادر البياض شحوبا
فجرت عبرتي وأحسب نفسي ... فجرت، كان برّها أن تذوبا
ولدي! كيف نستوي؟ أنا في حرّ ... الرزايا وأنت في ظل (طُوبى)
أنت حيث المقربون فأبشر ... وسل الله أن أراك قريبا
خضعت بعده رقاب لداتٍ ... كان فيهم معظما ومهيبا
كان يهدي قلوبهم ثم ولى ... فمعوا الآن أعينا وقلوبا
حق لي أن أشق قلبي بكاء ... لا أوفيك إن شققت الجيوبا(161/50)
وقال:
إن قلوبا وجبت ... حق لها أن تجبا
مثلك يا عبد الغنيّ (م) ... البرّ لن أنتجبا
وقال من قصيدة:
يا نور عيني فقدتُهْ ... ففي الفؤاد وجدتُهْ
يا كوكبا لقبوني ... بالبدر يوم ولدته
لم يهد ركني سناه ... حتى خبا فلحدته
أنت النجيب ولكن ... أبى الردى ما أردته
حلت يد الدهر عقدا ... قد كنت من قبل شدته
أعارني منك علقا ... ثم اقتضى فرددته
بل سرني فيك ربي ... وساء ني فحمدته
تقاصر اليوم باع ... للفخر فيك مددته
سهرت بعدك ليلي ... وطالما قد رقدته
وكم نضحت بدمعي ... حر الحشا لو بَرَدته
يا رب وف المرا ... دِي بولده ما وعدته
لا ضيع الله أجري ... فأي وجد وجدته
أيوم مصرعه أم ... يوم الحساب شهدته؟
كان ابن تسع ولكن ... في الأكثرين عددته
لا حبذا العيش إني ... على الممات حسدته
عبد الغني مفيدي ... من الغنى ما أفدته
بيمنه كنت مهما ... نصبت لليث صدته
وما زرعت رجائي ... في الصلد إلا حصدته
يا ابني الذي كان يبني ... مجدي وإن كنت شدته
حططتني يوم أودي ... ت من منيف صعدته
قميص مصطبري من ... قبل عليك قددته(161/51)
وفي جوارك أحبب ... ت مضجعي لو مهدته
لعل قربك يشفي ... كربي كما قد عهدته
إني وربي هداني ... لنوره فتبعته
ما غاض بعدك ثكلي ... إلا بكيت فزدته
وقال:
بكيت من سكن في أضلعي سكنا ... لو عاش لي لكفاني الدهر أوقاتا
في كل وقت على فقديه أذكره ... وربما نسى الأحباب أوقاتا
وقال من قصيدة:
دهر حوادثه شتى الأحاديث ... فاسمع بما شئت عن نوح وعن شيث
تغرنا دارنا الدنيا بزخرفها ... ونحن في طلب للموت محثوث
تُوُفِّيَ الخلف الزاكي وعشت كما ... ترضى العدى عيش مكروب ومكروث
حتى أعاف شراباً لست أمزجه ... بعبرتي وطعاماً غير مغلوث
وكنت في جنة حفت جوانبها ... بالزرع والنخل والأعناب والبوث
فأصبحت يوم أودي وهي خاوية ... جرداء من كل مغروس ومحروث
ويلاه ويلاه لا أشفي بتثنية ... حتى أزيد ولا أشفي بتثليث
بكيت مستسقياً للدمع حين جرى ... فلم أزد نار قلبي غير تأريث
أحب لقياه والبقيا لأندبه ... فيا شعوب إعجلي إن شئت أو رِيثي
أهم بنبشي قبرك الطيب الثرى ... لعلي أستشفي وإن حرم النبش
كأني وقد أودعتك القبر طائر ... كسير جناح لا فراخ ولا عش
إلى العيد
قد كنت هيمان مهموماً بلا جلد ... فزدت ضعفين في همي وتهيامي
عهدتُ ليلتك البيضاء نيرة ... فما لها كحلت عيني بإظلام
حتى تناسيت ما عودت من فرح ... وقُبحُ يوم يُنَسى حسن أيام
فما لبست سوى الأحزان سابغة ... ولا نحرت سوى إنساني الدامي
ولا برزت لزواري مخافة أن ... أساء منهم بطلق الوجه بسام(161/52)
ورافل في جديد كان يرفل في ... مثاله ابني غداة العيد مذ عام
حبيبَ نفسيَ لو أعطيت ساكنها ... أصاب نحري وأخطأ نحرك الدامي
كأنني لم أكلم منك نابغةً ... ولا رأيتك ملء العين قدامي
ولا سمعتك تتلو الذكر في سحر ... بصوت داود في إفصاح همام
مخايل فيك راقتني محاسنها ... سَرَّت ببدء ولم تسرر بإتمام
الحمد لله عدل منك ما نفذت ... به المقادير من نقض وإبرام
سيد أحمد صقر
-(161/53)
من تلميذ إلى أستاذه
بقلم محمد عبد السلام بحر
منذ سنوات خلت كنت أجلس أمام معلمي الأستاذ عبد الله عفيفي في درسه وكلي أذن صاغية وقلب واع لما يدور في خلده من شتى المعاني والصور، فيجري على لسانه خير آيات وعبر
بين جدران الفصل الأربعة، وفي ذلك العدد القليل من زملائي، كنت أنتهل من مورده العذب في صمت مقتنعاً برأيه لا أنبس ببنت شفة - ولقد عودنا الأستاذ فيما عودنا حرية الرأي - فاليوم وقد نضجت في أثماره فليهنأ بجنيها - ولكن أما وقد كبر الشيخ وذهبت أسنانه بددا - فليعان قضمها، وليسمح لي بأن أجابهه بلسان الحق وعلى ملأ من الأدباء بمناقشة أدبية في قصيدته التي رثى بها المغفور له الدكتور شاهين باشا. ولكن في رفق كما كان يرفق بي، وفي أدب كما يجب أن يتأدب ولد مع والد
لقد قال الأستاذ:
أشكو الأسى ويد الآسي موسدة ... لقد تمادين في الإسراف أيامي
ولقد سبق فضل الأستاذ علي فعلمني أن الفعل يطابق الفاعل إفراداً وتثنية وجمعاً، تذكيراً وتأنيثاً إذا جاء بعده، أما إذا سبقه فيجب إفراده؛ وترونه هنا يقول (تمادين أيامي). معاذ الله أن أقول إن الأستاذ نسي هذه القاعدة. أو إنه تغافل عنها لضرورة (الوزن)، وإنما أقول إنه يكشف عن آثار اللغات القديمة أمثال لغة (أكلوني البراغيث) التي كثيراً ما كان يعيب علينا وقوعنا فيها في موضوعاتنا الإنشائية
ثم يقول:
. . . . . . . . . . ... كد لعقل وأشغال لأفهام
وهنا لا أقول إنني بحثت عن (أشغال) في معاجم اللغة فلم أجدها، وإنما أذكر الأستاذ بطرفة من طرفه الممتعة التي كان يخفف بها عنا عناء الدرس إذ قال: - كتب أحدهم مرة إلى ابن العميد - (أريد إشغالي عندك) - فرد عليه ابن العميد - (إن من يكتب لي إشغالي، لا يصلح لأشغالي)
ثم يقول:(161/54)
. . . . . . . ... عن نوح نائحة أو دمع أقلام
وفي بيت آخر:
. . . . . . . . . . . . . . ... رقبي الهلال على ديباجة العام
هنا لا يمكنني أن أقول إنني لا أفهم (دمع الأقلام ولا ديباجة العام) - فان تأنيب الأستاذ في مثل هذه المواقف لا زلت أذكره ولا يزال يرهبني - وإنما تخلصاً من هذا المأزق أقول إن الأستاذ يتصرف في المعاني تصرفاً قياسياً، فهو يقول: (دمع الأقلام وديباجة العام) وأنا أطأطئ رأسي خاشعاً لهذه البلاغة العميقة فهي ليست على قياس (جناح الذل وماء الملام) فحسب، بل هي أبلغ من هذا وأسمى. على أنه في نفس الوقت كان يقصد (بديباجة العام) - ديباجة الشهر، ولكن استلزمته القافية لأن يخلق هلالاً سنوياً على رأس أهلة الشهور الاثني عشر لا يرقبه سواه
ثم يقول:
أبو الأطباء أودى ليت ناعيه ... لاقى الردى قبل منعاه بارغام
هنا يخيل إليّ أن الأستاذ قد آلى على نفسه إلا أن تكون القصيدة أربعين بيتاً كاملاً، فقد زج بهذه الألفاظ في هذا القالب زجاً - أو أنه قال: أبو الأطباء أودي - وقد تورط فرأى أن يدعو على الناعي الذي لا ذنب له فأتى بباقي البيت التزاماً للقافية - وأما إذا كانت هذه هي سنته في كل مصرع فأولى به أن يدعو على سيدنا أبي بكر الذي نعي موت الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: (من كان يعبد محمداً فان محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت). ثم يقول:
مضى الطبيب الذي للطب من يده ... إحياء أفئدة موتى وأجسام
هنا تأخذني الحدة ولا أذكر ورقة العقاب وأقول (لا حياء في العلم) وأعلن رأيي جهاراً بأن الأستاذ لم يتحفظ في هذا البيت بل كبا كبوة ما لها من مقيل. متى أحيا شاهين باشا الموتى؟ دون هذا وينفق أطباء العالم. ثم لأذكر فضل الأستاذ علي فلا أبارزه بحسامه، ولأهدأ قليلاً ثم أصلح له زلة كم أصلح لي من أمثالها فأقول:
مضى الطبيب الذي للطب من يده ... شفاء أفئدة مرضى وأجسام
ثم يقول:(161/55)
. . . . . . ... وليس للموت من نقض وإبرام
هنا أنسته المشاكلة اللفظية أن الموت قضاء مبرم وانه هو ينفي إبرامه؛ ثم يقول:
. . . . . . . . . . . . . . ... لو رامه الليل لم يلمم بإظلام
ولا أدري كيف قال هذا مع أنني أعلم جيداً أنه يمقت مثل هذه المبالغة المتطرفة وهو على يقين من أن الليل والنهار نظام لا يتغير (وكل في فلك يسبحون)
ثم يقول:
. . . . . . . . . . . . . . ... من وحي طبعك لا من وحي أقلامي
فما أظن أحداً قبل هذا قال إن للأقلام وحياً - ما كان أصوبه لو قال (من محض إلهامي)
هذا إلى أنني تحاشيت أشياء أخرى مخافة أن يرميني بعض سيئي الظن بالعقوق، في حين أنني لم أكتب هذا إلا تحاشياً لمهاجمة ناقد متبجح يناقشه الحساب العسير، ولأبهج نفس الأستاذ بتلميذ له بلغت به الشجاعة الأدبية إلى الوقوف أمام أستاذه وقوف الند للند يسائله ويساجله مع احترامه لشخصه المبجل كمعلم فاضل وكأديب إمام
محمد عبد السلام بحر(161/56)
الامتيازات الأجنبية
للأستاذ محمد الأسمر
ما عندكَ اليوم من معنًى ومن كلمِ ... جلّ المقام عن القرطاسِ والقلمِ
أرضُ الفراعينِ ذلَّتْ بعد عزّتها ... مَنْ جرَّأ الذل حتى حلَّ بالأجم
فلو ترانا ونحن المالكون لها ... رأيتَنا وعلينا ميسمُ الخدم
جاء النزيلُ فأكرمنا وفادتَهُ ... واليومَ نسألُه شيئاً من الكرم
فأعجبْ لمصرَ وكم في مصرَ من عجبٍ ... وانظر إلى القلب في الأوضاع والنظم
كدنا لما صار من عكس الأمور بها ... نمشي على الرأس لا نمشي على القدم
كنانةُ الله تلك اليوم حالتُها ... وجودُها أشبهُ الأشياءِ بالعدم
لهوُ الأجانبِ فيها لهوُ منتصرٍ ... عاثت كتائبُه في أرض منهزم
يُمثِّلون عليها من حقائِقهم ... ما لا يمثلُه الكابوسُ في الحلم
روايةٌ هي مأساةٌ ومهزلةٌ ... فإن تشأْ فابكِ أو إن شئت فابتسم
روايةٌ قذف الأتراكُ مسرحَها ... عن أرضِهم مثلَ قذف البحر للرمم
رموا به أنفاً من أن يقال لهم ... ما بالُه وهو عار غيرَ منهدم
ونحن لسنا بدون الترك منزلةً ... ونحن لسنا بدون الصينِ والعجم
هُمْ حطَّموه فما مالَ الوجودُ بهم ... ولا تداعت نواحي الأفْق بالسُّدُم
هم حطَّموه ورحنا نحن نحمله ... فوقَ الكنانةِ حمل الهم والسقم
الأجنبيُّ على الوادي يسيرُ به ... كما تسيرُ رعاة الشاء بالغنم
من يوم حلّ به ضيفاً تملكه ... ينهى ويأمرُ فيه غيرَ محتشم
ينهى ويأمرُ فيه جائراً أبداً ... فمن يقولُ له أخطأت فاستقم
ينال ما يشتهي منه وليس لنا ... إلا الفتاتُ، وما يُلقي من اللُّقم
تشكو المجاعةَ بالوادي عشيرتُه ... والأجنبيُّ به يشكو من التخم
الغرم قِسمتُنا والغُنم قسمتُهم ... لبئس ما فرضوا فيه من القِسَم
لو لم نكن رمما في الناس ما ظفرت ... بنا عصائبُ للغربان والرَّخم
حامت علينا، ولو ألفت بنا رمقا ... لأجفلت مثل ما جاءت ولم تحم(161/57)
حطَّت جِياعاً، فلما أتخمت نهضت ... كما تطيرَ، فما اسطَاعتْ، فلم تقم
فهي الغداةَ بوادي النيل جاثمةٌ ... مقيمةٌ أشبه الأشياء بالهرم
فما يزحزحها شعرٌ نصيح به ... ولا البليغ من الأمثال والحكم
لا يدفع الضيمَ قولٌ أنت قائلُه ... بل يدفع الضيم غرمٌ غيرُ منفصم
ويدفع الضيمَ بأسٌ لا مَردَّ له ... ويدفعُ الضيمَ شَعْبٌ غيرُ منقسم
خاطبْ بكفك إن لم يستمع أحدٌ ... لعلَّ في اليد ما يشفي من الصمم
وأعلمْ بأن براهينَ اللسان إذا ... لم تدَّرع قُوَّةً شرٌ من البَكم
لولا أظافرُ للآساد مرهفةٌ ... لم يرهب الناسُ زأرَ الضيغم القرم
لا يَنْزِلُ الظلمُ عن ظَهْرٍ طَواعيةً ... إن لا يزلْ عنهُ رغم الأنف لا يَرِم
في (الامتيازات) ما أغرى النزيلَ بنا ... فيا لها نِعَماً جرَّت إلى نِقَم
وغرسُك الخيرَ في الأرض التي خلقت ... للشرِّ غَرْسُكَ للأعواد في الضرم
لا تنبتُ النارَ يوماً ما لكم شجراً ... ولا تسوقُ إليكم هاطلَ الديم
تأبي طبائعُ قوم عنهمُ حِولا ... فاستخلصوا ما وهبتم قبلُ للأمم
لو سِيمت العجمُ ما سيمَ الحمى غضبت ... على الشكائم واستعصتْ على اللجم
ثوبٌ من العارِ قمنا اليوم نخلعه ... كفى كفى ما لبسنا منه في القدم
كم فرَّ من يدك الشلاء متَّهمٌ ... يأيها الوطنُ المرمىُّ بالتهم
وكم قتيل على الوادي وقاتله ... في (الامتيازات) مثلُ الطيرِ في الحرم
صَعْبُ المنالِ على القانون ممتنعٌ ... كالنجم في الأفقِ لم يدركْ ولم يُرَم
هذا هو الذلُّ لا ذلُّ الغريب ولا ... ذلُّ الرقيقِ بسوق الأعْبُدِ القزم
وما ذليلٌ له أرضٌ لها علمٌ ... مثلُ الذليل بلا أرضٍ ولا علم
لا يفعلِ الخيرَ بعدَ اليوم فاعله ... مَنْ يفعلِ الخيرَ يندمْ أيَّما ندم
أقسمتُ بالله لو أغنى دمي لمشت ... نفسي به، وقليلٌ للبلاد دمي
محمد الأسمر(161/58)
جبل النار
(جبل النار لقب يطلق على جبل نابلس وهو سلسلة جبال تدور
فيها أشد المعارك بين الثوار المجاهدين وبين الجنود
البريطانيين)
للأستاذ أبو سلمى
جبل النار يا أعز الجبال ... أنت لا زلت مقعد الآمال
ينبت المجد فوق سفحك فينا ... ن وتسقيه من دم الأبطال
يفصح الصخر عن شمائل أبنا ... ئك فوق اللظى وعند النزال
ما ذكرنا حماك إلا اُنتسبنا ... وانتشت نخوة رؤوس الرجال
يفزع (التَّنْكُ) من صياصيك ... (والرشاشُ) يخشى حتى من الأدغال
أيها الثائرون في جبل النا ... ر سلاماً يا زينة الأجيال
لكم الله يا حماة فلسطي ... ن زحمتم مصارع الآجال
تحملون الأرواح فوق أكف ... وتبيعونها ولكن غوالي
ورصاصاتكم تمر على الأيا ... م حمراً مضيئة في الليالي
تصرع الطائرات مثل طيور ال ... جو تُهوى ما فوق تلك التلال
يسمع الجند في صداها لغي المو ... ت فلا يثبتون يوم القتال
أيها الثائرون قولوا فان ... الكونُ يصغي إلى لهيب المقال
والمعوا في غياهب الظلم تجلو ... ها فان الجهاد رحب المجال
إنما الحق من بنادقكم يس ... طع والعدل من وراء العوالي
انظر اليوم كيف يلتفت ال ... تاريخ حتى يرى بريق النصال
جبل النار! زأرة تجعل الده ... ر يُحيِّي محطم الأغلال
جبل النار! لم تخلدك إلا ... ثورة في سبيل الاستقلال
جبل النار! اقذف النار حتى ... نبصر النور يا أعزّ الجبال
(فلسطين)(161/59)
أبو سلمى(161/60)
القصص
قصة سورية واقعة
النهاية. . . .
للأستاذ علي الطنطاوي
في ليلة قمراء من شتاء 1929
بينما كان حيّ المهاجرين (في دمشق) يرفل في حلل الرخاء والترف، ويجر أثواب الدعة والنعيم، ويثب من الطرب، ويمشي على الذهب. . . وبينما كانت قصوره البُلْق تشتعل بالكهرباء فتأتي في الليل بالنهار، وشوارعه المتوازية الصاعدة إلى سرّة الجبل تتمايل أشجارها تمايل العروس، وتلوح أنوارها للعين، كأنها في تسلسلها وانتظامها حبال اللؤلؤ، ويسبغ عليها القمر حلة منسوجة من خيوط النور، وتتراقص على نسيمها المعطر نغمات الحاكي والمذياع. . .
. . . كان في الشارع العام الممتد على سفح الجبل، شيخ همّ، أبيض اللحية، متفكك العظام، مقوس الظهر، قد أخنى عليه الزمان، وحطمه الدهر، يسير منفرداً يتوكأ على عصا، لا أنيس له إلا ظله الذي يمشي معه، ينمو ويتطاول كلما ابتعد عن المصباح، ثم يضعف ويختفي، ثم يولد ظلّ جديد. ويبدأ قوياً واضحاً، كما تنمو الكائنات وتقوى، ثم يدركها الضعف، ثم تبيد لتأخذ مكانها كائنات أخرى أقدر منها على العيش، وأحق منها بالحياة. . . حتى بلغ (قصر الوالي)، هذا القصر الأبيض الفخم، المعتزل وسط الجنائن الواسعة، الذي يخطر أمامه الجندي الذي يحمي (حمى رئاسة الجمهورية. . .) فوقف على الدرابزين وجعل يحدق في القصر ويتأمل شرفه ونوافذه المضيئة، ويستمع إلى صوت الحياة الرغدة الناعمة ينبعث من غرفه وأبهائه، حتى علق بصره بغرفة بعينها ينبثق منها ضوء شديد، فجعل يحدق فيه حتى زاغ بصره وعراه شبه دُوار، فجلس على طرف الدرابزين وأمسك بحديده البارد، وألقى برأسه على كفه، وأنطلق يفكر. . . يفكر في دنيا بعيدة. . . بعيدة جداً، قد طم عليها لجّ النسيان؛ يعالجها بالذكرى، فيراها ينحسر عنها الماء، وتبدو له شيئاً بعد شيء، وتعرض عليه كما يعرض (فلم سينمائي) غريب عنه لا عهد له به، ولا صلة(161/61)
بينه وبينه، وان كان من القائمين به، والممثلين فيه. . .
. . . ففتح عينيه، وراح يحدق في الظلام
رأى دمشق في أواخر القرن التاسع عشر - وهي ولاية عثمانية - ورأى ناظم باشا (والي دمشق) وقد اصبح ذات يوم لقسَ النفس ضيق الصدر، فأقبل على عمله فلم يجد له عزماً. فعمد إلى المطالعة والتسلية فلم يزد إلا ضيقاً. فأمر أعوانه أن يتمموا له منزلاً جميلاً مشرفاً، فينصبوا فيه خيامه، ويعدوا فيه مجلسه، ليصطبح فيه، وينزله بقية يومه. فتسابقوا إلى طاعته، وتباروا في خدمته، فلم تكن إلا ساعة واحدة حتى كان المجلس معداً. فلما جلس واطمأن نظر فرأى منظراً عجيباً، ما رأى له مثيلاً وقد جاب أنحاء المملكة: رأى كأن أمامه متحفاً للطبيعة فيه من كل مشهد صورة، ومن كل لون مثال؛ فحواليه تلال وسفوح ما لها حدّ، وعن يمينه جبال صخرية قائمة فيها روعة وعليها جمال، ومن أمامه (يزيد) يجري زاخراً مزبداً يحيط بهذه السفوح ويحدق بها، وهو يلمع في شعاع الشمس فتخاله العقد مستديراً بجيد حسناء، ومن وراء النهر الغوطة الخضراء، إحدى عجائب الدنيا، تمتد إلى نهاية الأفق، والمزة وصحراؤها الواسعة، وسهولها الفيح، فلم يكن يشاء أن يرى جبلاً ولا نهراً ولا خضرة ولا بادية إلا رآها، والسماء تبدو حيال الأفق كأنها البحر، يا لروعة البحر في دمشق. .!
ودمشق تظهر من بعيد، وهي نائمة على هذا البساط السندسي الأزلي، عليها غطاء من نسج الغصون موشي بالزهر، وقد هبت عليها نسائم الصباح الرخية، تمس وجهها مساً رفيقاً، وسقسقت في أذنيها العصافير توقظها برقة ولطف، وهدر في مسامعها بردي يهزها كي تفيق. . .
والجامع الأموي يظللها بقبته المشمخرة العالية، ومآذنه الطويلة السامقة، وبنائه الضخم الهائل، الذي يحمل أعباء القرون الثلاثين التي مشت عليه، مذ كان معبداً وثنياً - إلى أن صار - كنيسة نصرانية، إلى أن سما فكان مسجداً إسلامياً، يجهر فيه بالآذان، فيرن صداه على ضفاف الكنج، وشاطئ اللوار، ويقوم الناس إلى الصلاة صفاً واحداً ممتداً من قلب الهند إلى قلب فرنسا
فانتفي عنه الهم، وطار به السرور، فسأل من حوله:(161/62)
- ما للدمشقيين لا يبنون هنا، ويقيمون على هذا السفح حياً لا يكون مثله مصيف في الدنيا ولا مشتى؟
فما بقي منهم إلا من وثب الضحك إلى شفتيه، وهم بقهقهة مجلجلة، ولكنه أمسك حرمة للوالي، وحياء منه، وقالوا له:
- ولكن يا مولانا، من يرضى أن يقيم في هذا المنفى ويسكن في جبل أجرد، لا ماء فيه ولا نبات، ويسافر كل يوم ساعة كاملة، ليصلي في الأموي، أو ليرد السوق؟
فأطرق الوالي يفكر ويجيل عقله الكبير وعزمه النافذ في كافة الممكنات ليجعل من هذه السفوح القاحلة أجمل حي في اجمل مدينة، ويحيل هذه الرمال رياضاً تجري من تحتها الأنهار!
ثم انقطع الفلم ودار ابيض يحمل أياماً وسنين خالية لا شيء فيها ثم وضحت فيه صورة. . .
فإذا هو يرى حادثة كريد (اقريطش) حين غدرت أوربا - على عادتها دائماً - بالمسلمين، وشردت أهل الجزيرة من آمن منهم بالله واليوم الآخر بين سمع الأرض وبصرها، فدعا بهم ناظم باشا والي الشام وجمعهم وبنى لهم من أموال الدولة بيوتاً صغيرة متشابهة، متشابهة كمحطات القرى، ضيقة كغرف الخفراء، بناها على سفح قاسيون فكان لهم عصمة ومأوى، وكانت للحي الذي يحلو بذرة ونواة
ثم استدار الفلم وإذا بدمشق خارجة تستقبل إمبراطور ألمانيا وقد جاء يزورها زيارته المشهورة، ففرشت له الحكومة الحرير وأوطأته الديباج، فلم يطلب من ناظم باشا إلا أن يزيره الجبلين العظيمين والأثرين الخالدين: قاسيون، وقبر صلاح الدين! فانطلق العملة والبناءون يقيمون له على سفح قاسيون (المسطبة) التاريخية التي تدعى اليوم وإلى الغد (مسطبة الإمبراطور) ويمهدون له الطريق إلى مقبرة صلاح الدين في الكلاّسة
وهناك في أصل جدار الأموي الشامخ، وعلى هذه العتبة الواطئة وقف إمبراطور ألمانيا، وأعظم ملوك العصر، مطأطئ الرأس خاشعاً خاضعاً، ثم ركع على ركبتيه، ثم سار حبواً حتى وصل إلى جانب القبر، فوضع عليه إكليلاً من الزهر، وقال:
- هذه لك يا سيد أبطال العالم(161/63)
ثم أمَّ قاسيون، فلما استوى على (المسطبة) ورأى هذا المنظر استخفه الطرب فصاح:
- ما على الأرض أجمل من دمشق! ما على الأرض أجمل من دمشق!
فصحت عزيمة الوالي على إنشاء الحي، وبادر إلى الأمر ببناء هذا (القصر الأبيض)
واستدار الفلم فرأى ناظم باشا قائماً في شرفة القصر، يتأمل في الوفود الذين أتوا ساحة القصر، ليكرموا الرجل الذي تغلبت إرادته الماضية على الصخر الأصم فخرقته، وعلى البعيد النائي فقربته، حتى تم مد القناة العظيمة من الفيجة إلى دمشق لتسقي اهلها، وتسيل في هذا الحي الذي قام ليكون زينة دمشق وعروسها. . .
ورن في أذنيه صوت الخطيب وهو يقول للوالي:
(. . . . . . إن دمشق التي أحببتها وسقيتها وعمرتها، لن تنسى فضلك أبداً: ولن تحيد عن حبك وإكبارك، وسيظل منقوشاً على أفئدة أبنائها إلى آخر الدهر هذان الاسمان العظيمان اسما مصلحي دمشق: مدحت باشا. وناظم باشا)
ثم انقطع (الفلم) وتبدد الحلم، وأحس الشيخ بيد قوية تقبض على كتفه، فعاد إلى نفسه ورفع رأسه فإذا الجندي القائم على باب القصر، يصيح به:
ماذا تصنع هنا أيها المتشرد؟
ثم يكسعه ويضربه أم كيسان، فيقوم الشيخ ورأسه إلى الأرض من غير أن ينطق بكلمة. . .
عاد الشيخ أدراجه يطوف الحي، ويدخل من شارع إلى شارع، فلا يعرفه أحد ولا يفتح له باب، حتى إذا نال منه الجوع، وبرح به التعب، رأى زقاقاً ضيقاً فولجه، حتى إذا انتهى إلى بيت حقير من بيوت المهاجرين الأولين، وقف ينظر إليه، وتبرق عيناه كأن مرآه يذكره بشيء، ثم مد إلى حلقة الباب يداً مرتجفة فقرعه قرعة ضعيفة، ولبث ينتظر؛ فلما لم يرد أحد عاد وقرعه وشدد القرع، وسكت فلم يسمع إلا صدى أصوات الغناء والطرب تهبط عليه من أعالي الجدران، تهزأ بالفقراء، وتسخر من الحياة، فعاد يخبط خبطاً قوياً وينادي:
- كريتلي زاده. . . كريتلي زاده محمد أفندي. . .
فتحركت عجوز من أقصى الدار، وصاحت:
- من هذا الذي يسأل عن محمد أفندي؟(161/64)
وخرجت تدب على عصاها حتى بلغت الباب فنظرت في الظلام وصاحت صيحة الفزع:
- من هذا الذي يسأل عن الرجل الذي مات منذ خمس عشرة سنة
فلما سمع الشيخ ما تقول وجم ولم ينطق
- فأقبلت نحو الضوء، حتى إذا اقتربت من الرجل رجعت تصيح بصوت مرعب:
- من أنت؟ قل لي من أنت أيها الرجل؟ ماذا تريد؟
- قال: أنا يا حاجة صفية، أنا؟
- من أنت؟ تعال، تعال إلى النور حتى أراك، فلما رأته واستبانته، صاحت:
- آه
- قال: هل عرفتني؟
- قالت: آه كيف لا أعرفك يا سيدي، ولكن. . . كلا كلا. أنا واهمة، هذا مستحيل. قل لي حالاً من أنت؟
- أنا ناظم. . . ذاك الذي كان يدعى يوماً ما ناظم باشا، ذاك الذي كان والي الشام. . . ألا تذكرين يا صفية كيف كنت تلعبين في رحبة القصر وأنت صبية صغيرة؟ وكيف كنت تتسلقين الأشجار وتطاردين الغزال الذي كان في الحديقة؟ هل تذكرين؟. . . حتى إذا مللت وتعبت عدت مع أبيك محمد أفندي إلى الدار
- آه يا مولاي آه! إذن أنت هو! لم أكن مخطئة. قل لي يا سيدي أين أنت؟ وما جاء بك؟ لا لا ادخل أولاً! أهلاً وسهلاً، ليس عندي شيء أقدمه لك، ليس عندي شيء
وانطلقت تبكي. . .
- إني عجوز فقيرة ليس لها إلا الله، لم يعد يسأل عنا أحد بعدك. إنني سأموت فقيرة تحت أثقال ذهب الجيران، وأختنق جائعة برائحة اللحم. إن هذه القصور ستبتلع كوخي الذي لم يبق غيره. . .
وألحت في البكاء. . .
إنني لا أستطيع أن أضع لك شيئاً، آه ليتني مت قبل أن أراك يا مولاي على هذه الحال
فمسح الباشا دموعه، وقال لها:
- ولكني لا أحتاج شيئاً. أنا في نعمة، وإنما جئت أزورك. والآن وداعاً. . .(161/65)
فلما ابتعد فتش جيوبه، وقلبها كلها، فلم يجد إلا فرنكين كان يدخرهما لعشائه فدفعهما إليها، ومشى قبل أن تسمع ما يقول:
عاد يطوف في الحي يخرج من شارع إلى شارع منفرداً منكراً، ولقد فارق دمشق وهو ربها وسيدها، وصاحب الأمر والنهي فيها، ولكن هذه الأعوام التي كرت سريعة محملة بالأحداث الجسام قد بدلت كل شيء
لقد انفجر بركان الحرب، فهد هذا الفلك العظيم، فلك الخلافة الإسلامية، فتناثرت نجومه وكواكبه، وانطفأت شمسه وأظلمت نيراته، وعبست مكة للقسطنطينية وبسمت للندن، وصافحت الحلفاء، وقابحت الخلفاء، وولد استقلال سورية في القصر المنيف على بردى، ومات طفل في الصحراء القاحلة من ميسلون، وكان الانتداب وكانت ليلاته الحالكات
وذهب جيل من الناس كان يعرف الباشا حق المعرفة، وجاء جيل جديد ينكره أشد الإنكار
فنفض الباشا يده من كل شيء، وانحدر إلى الشارع الأعظم على سفح الجبل، فجلس على حجر قبالة القصر الذي بناه، وكان صاحبه ومولاه، فطرد الليلة عنه كما تطرد الكلاب. وأسلم رأسه إلى كفيه، وراح يفكر في غير شيء. . .
فما نبهه من ذهوله إلا ولد يقفز بقبقابه على بلاط الشارع، فاستوقفه يسأله:
- ما اسم هذا الشارع يا ولد؟
فارتاع الولد وفر، حتى إذا ظن انه قد فاته، صاح به:
- ألا تقرأ اللوحة يا أعمى؟ هذا شارع ناظم باشا
فابتسم الباشا ابتسامة صفراء وعاد إلى صمته، وهبت الرياح فلم تلبث أن أنشأت سحاباً حجب القمر، فشمل الشارع ظلام رهيب
ومر رجل فألقى على الباشا نظرة واحدة، ثم سار في طريقه ينحدر في طريق البساتين، حتى إذا ابتعد عن العمران رفع عقيرته يتغنى بصوت شجي محزن:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة ... كذلك عضتنا السنون الغوابر
وناظم باشا يصغي إليه، وقد هاج في نفسه عواطف هائلة كادت تنسف كيانه نسفاً، حتى(161/66)
ابتعد الصوت ونأى، ثم ابتلعه السكون
فقام ناظم باشا يجر رجله ليغادر دمشق التي نسيت إحسان المحسن كما تنسى (دائما) إساءة المسيئ، ليذهب فيموت حيث لا يعلم به إلا الله
واشتدت الرياح وصفرت صفيراً مرعباً، وهطل البرد مجنوناً ثائراً، بينما كان يسدل الستار الأخير على هذه المأساة. . .
علي الطنطاوي(161/67)
مأساة من سوفوكليس
3 - أنتيجونى
للأستاذ دريني خشبة
- 9 -
ويرسل الخورس أغنية عن الحب، وعن خضوع الآلهة والعباد لسلطانه على السواء
تدخل أنتيجونى وحولها حرس
- (سلام عليكم يا رعايا أبي وأمناء مملكته! شعاعة واحدة يا هكيوز الكريم أتزود بها لرحلتي إلى الدار الآخرة فتنير لي ظلمات طريقي! إنها تكفل لي أن أذهب إلى هيدز والحياة تدب في قلبي! أوه! ألا يتنفس لي فجر حلو بعد اليوم؟ وقداسي وأفراح عرسي؟ ألا تملأ أهازيجها سمعي؟ وهايمون!! آه يا حبيبي هايمون أشيرون وحده سيكون زوجي. . . لا أنت يا هايمون الحبيب. . . فوق شطئان نهره الفائض بالحمم!)
الخورس: (أجل يا بنية! لكنك تذهبين ثمة لا كما يذهب الموتى، بل تذهبين وفي قلبك الحياة تنبض وتنبض. . . وتذهبين باختيارك لا برغمك، لأن سيفاً لا يغمد في أحشائك، ولأن مرضاً لم يلم بك ولم يسلمك للردى!)
أنتيجونى: (هيه!. . . لي أسوة بابنة تنتالوس، وستهبني الآلهة نعاسا فلا أحس شيئاً)
الخورس: (ولكنها ربة وابنة إله عظيم!)
- (ويحكم يا رعايا أبي! أتستخفون بي حتى في طريقي إلى هيدز؟ ألا يروعكم ذهابي إلى القبو المظلم الذي من أجلي إلى مقبرة أحياء. . . أتجرأ فيه غصص الردى قطرة فقطرة!! يا لها من موتة!! ألا من لشبابك يا أنتيجونى؟!
- (تجلدي يا فتاة! إن جدود أبيك العواثر تكتسحك في طريقها!!)
- (أوه! إنكم تؤلمونني يا قوم! جدوده العواثر! ما كان أتعسها من زيجة تلك التي كشفت سرها أمي!! ويا لقساوتها أبوة تلك التي ابتلى بها أبي! أما أنت يا أخي. . . فما كان أتعسها من زيجة كذلك تلك التي أشقيت بها نفسك وجررت بها الموت عليك وعلي!. . .
- (لا ريب أنك صنعت جميلاًُ يا بنية (بدفنك جثته)، ولكن ما العمل فيمن يأبى إلا أن(161/68)
يظهر سلطانه ويدل بجبروته!
- (ويلاه! أأساق إلى الموت غير مبكية. . . وفي يوم عرسي؟ الشموع! أين الشموع التي كانت تضيء لي تحية ليل وسلام إمساء؟ ألا يذرف أحد عبرة من أجلي؟!
(يدخل كريون)
- (ما تزال هنا؟ هلموا بها إلى القبو المظلم. . .! هلموا! لتساقط نفسها أنفساً! لتذب روحها ولتهو إلى الحضيض قطرة فقطرة! هي الجانية على نفسها. . . لم يجن عليها أحد! لتذق وبال أمرها في ظلمات السفل؟
- (القبو! مرحباً بالقبو والقبر معاً!! لتكن يا قبو غرفة عرسي! يا مقبرة الأحياء مرحباً مرحباً في جوار برسفونيه الجميلة التاعسة سأقضي حياة حدودها الأبد! ألا كم من حسناء حوراء ضمها الموت إلى سرب برسفونيه! لم لا أنظم إلى السرب زهرة اختضرها الموت قبل أن تفتح!! لم لا أطوي تلك المرحلة الأخيرة من هذه الحياة المفعمة بالآلام والمظالم لألقى أبي. . . وأمي وأخوي. . . في هيدز! وأنت خاصة يا بولينيسيز سألقاك وسأعانقك وستبتسم لي. . . أنا أختك. . . التي ضحت بشبابها الفينان من أجلك! ألا من للإنسان بعد أمه وأبيه وأخيه (الذي مثل بولينيسيز)! الابن إذا قضى فقد يجيء ابن غيره. . . ولكن الأب. . . ومثله الأم. . . لا عوض عنهما إن غالهما الردى! أما أخي! فسامح الله كريون الذي يأبى إلا أن يأخذني بمحبتي له وفدائي من أجله! آه يا أخي! انفض أطباق الثرى قليلاً وأنظر إليّ! أنظر إلى مسوقة إلى حتفي مصفدة بالأغلال، مسلوكة في القيود. . . إلى القبو المظلم الذي لا تؤنسني فيه غير أشباح الموت. أواه يا آلهة السموات! من نصيري وقد جد بي الجد؟ إن كنت قد أجرمت فعلي إجرامي. . . ولكن هؤلاء!! هؤلاء الذين داسوا شرائعكم أيها الآلهة! خذوهم بظلمهم، وابتلوهم بضعف الحياة الدنيا والآخرة أولئك المجرمون!. . .)
رئيس الخورس: (العاصفة تشتد في نفس الفتاة! وما تزيدها الآلام إلا اصطخاباً!)
كريون: (وكل من يلوذ بها أو ينافح عنها قد يشجي شجوها!)
أنتيجونى: (وا حرباً! إني أسمع دبيب المنايا في هذه الكلمات!)
كريون: (وهل بقى في ذلك ريب؟)(161/69)
- (يا طيبة يا أرض المجد! يا مهد الجدود يا هيكل الآلهة الأطهار! وداعاً!! إلى هيدز، سأذهب إلى هيدز! أنا أنتيجونى آخر فنن من أفنان دوحة قدموس ولايوس! إلى هيدز! قرباناً لك يا آلهة، وفي سبيل شرائعك يا سماء!. . .)
(تخرج ومن حولها الحرس)
- 10 -
ويرثي الخورس للفتاة البائسة الشقية، ويرسلون ورائها لحناً بائساً شقياً
(يدخل تيريزياس الكاهن الأعمى يقوده ولده)
- (هيه! سلام على سادات طيبة! لقد وصلنا والسلام!)
الملك: (وماذا جاء بك يا تيريزياس؟)
- (سأنبئك. . . إ. . . إن أصغيت لي)
- (مرحباً بك يا كاهن طيبة! وهل يأبى أن يسمع لك أحد؟)
- (شكراً! إنك بمثل هذه المهارة قدت السفينة إلى بر الأمان!)
- (الفضل في ذلك لتجارب الزمان يا تيريزياس!)
- (هذا حق ولكن. . . برغم ذلك ينبغي أن تحترس! إنك على شفى جُرُف هار!!)
- (وأي شفى جرف يا تيريزياس؟ إنك تزعجني!)
- (إي وايم الحق! نبوءاتي! سأقص عليك نبوءاتي التي استوحيتها اليوم! لقد تنزل علي منها قدر عظيم أيها الملك! وليس يتنزل علي منها إلا الحق حين استوى على كرسي كهاناتي! طيور!. . . بواثق جارحة. . . كانت تحلق فوق معبدي! لقد ظلت تضرب الهواء بخوافيها. . . وكانت ترسل في السماء أصواتاً مزعجة كقصف الرعود. . .! قمت إلى المذبح وضرّمت النيران. . . وا أسفاه! لقد رفض إله النار أن يقبل منها قبسا! وتناثر القربان! وأنطلق الشرر في سماء الهيكل! وكفى بذلك نذير سوء أيها الملك! لقد شهد هذا غلامي هذا، وأنا أشهد به أمامكم الآن! الدمار يكاد يقضي على طيبة بسببكم يا مولاي! إن الآلهة قد تكلمت بألسن النسور والبزاة التي اغتذت بلحم ابن أوديبوس المسكين! من أجل ذلك رفضت قرابيننا أيها الملك، وقذفت بها في وجوهنا! والآن! خذ حذرك يا بني! كلنا بنو الموتى! وكل بني الموتى يخطئون! وما تزال في الوقت فسحة لمعالجة هذا الخطأ! الحمقى(161/70)
فقط هم أهل العناد والاستبداد بالرأي! ما لنا وللموتى! إن أمرهم إلى الآلهة، وليس يفيدنا أن نمثل بالقتلى وقد فرغ حسابنا معهم! ألا قد بلغت! فأسمع وعِ. . . واشهدي يا سماء)
- (لم يبق إلا الكهنة أمثالك فأكون غرضاً لسهامهم يا تيريزياس! أنت تحاول عبثاً!. . . لن يدفن مهما حاولت! ولكن. . . آه! الذهب! قاتل الله الذهب ولو أنصب في يديك من منجم! الآلهة؟ ها. . . لترسل الآلهة نسرها الباشق فليغتد هو الآخر به!)
- (وي! أين الحكمة إذا؟ ألا من يتعظ!
- (من؟. . . أي شك؟)
- (كنوز الذهب الأبريز موعظة حسنة ورأي سديد!)
- (والجهالة آفة الآفات!)
- (أجل. . . الجهالة طاعون كاد يرديك!)
- وبعد؟. . . أوثر ألا أبادل الكاهن ضربة بضربة!
- (وأي ضربة لازب أشد علي من أن تُحمّقني؟!)
- (بل الذهب هو طاعون الكهنة!!)
- (والربح الخسيس هو آفة الملوك؟)
- (طاش صوابك إذا حين تخاطب مليكك بمثل هذا؟)
- (أجل! وإلا ساعدتك في تعجيل الخراب لهذا البلد؟)
- (نظرك بعيد أيها الأب! ولكنك غير أمين ولا وفي مع هذا؟)
- (ستندم لأنك لم تر أن تسمع إلى نصيحتي!)
- (هيه. . . تكلم. . . إهرف. . . فلو تنال مني ربحاً؟)
- (ومنك تحسبني ألتمس الربح وأنشد الغنم؟)
- (لن تربح تجارتك معي أيها الكاهن!)
- (آه! إن دمك فقط كفيل بأن يغسل وزريك العظيمين دفنك فتاة حية لتموت من غير ذنب في قبو مظلم. . . وتركك قتيلاً في البرية تنوشه السباع من دون أن تقام له شعائر الدين أو تؤدي من أجله مراسيم الآلهة! هذا تصرف مخز لن تقبله آلهة هيدز ولا من أرباب الأولمب! ويل لك؟ إن أرباب النقمة تتربص بك، وربات الذعر تكاد تنقص عليك! ولن(161/71)
يأخذنك إلا بعملك ولا يجازينك إلا بوحشيتك! أنا جئت إليك ألتمس رفداً؟ يا لخباثتك! ستعلم عما قريب! سينقض هذا القصر فوق رأسك ليقول لك: لا! لا! وسترن في أذنك أصوات الصراخ والعويل والندبة من أجل موتى كثيرين، أعزاء عليك. . . وسترى! يا غلام! هلم! لتنطلق من هنا! وسيأتيه اليقين فيثوب إلى رشده ويطهر لسانه!)
(يخرج الكاهن يقوده الولد)
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة(161/72)
البريد الأدبي
أسبوع المتنبي في دمشق
في الساعة الخامسة من مساء يوم الخميس الماضي، 27 يوليو 1936 أفتتح مهرجان المتنبي في مدرج الجامعة السورية بحضور فخامة رئيس الجمهورية ووكيل المفوض السامي ميريه ودولة رئيس الوزراء ومندوب المفوض السامي ووزيري العدلية والاقتصاد الوطني، فافتتحت الحفلة بآي من القرآن الكريم، ثم ألقى وكيل المفوض السامي خطبة وجيزة ضمنها عطف المفوضية العليا على هذه الحفلة وشعورها مع اللجنة القائمة بها ومع الأمة العربية جمعاء في احتفالها بمرور ألف سنة على وفاة سيد شعرائها بلا منازع وتتابع بعده الخطباء فألقى رئيس الوزراء كلمة وزارة المعارف، وألقى السيد الطباطبائي أستاذ الأدب الفارسي في الجامعة الأمريكية قصيدة شاعر الفرس خسرو داراني، ثم تكلم أحد المستشرقين عوضاً عن المستشرق الأستاذ بلاشير الذي تأخر وصول كلمته
ونهض بعده الأستاذ أحمد أمين مندوب الجامعة المصرية فألقى خطبة قيمة جاء فيها على ذكر ناحية واحدة من نواحي حياة المتنبي مستدلاً على أخلاقه من آثاره وأخيراً اقترح الأستاذ عبد المنعم رياض وضع جائزة سنوية شبيهة بجائزة نوبل تعطى للمبرزين من الأدباء والشعراء
وفي الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة - أمس - احتفل أمام بناية المعرض بإزاحة الستار عن نصب أقيم في الزاوية الغربية من الجدار المحيط بالبناء وقد نقش عليها عبارة (شارع المتنبي) وقد أفتتح الحفلة محافظ العاصمة بخطبة وجيزة شرح فيها الغاية منها، وعقبه الأستاذ عزالدين علم الدين سكرتير لجنة المهرجان بكلمة شكر فيها لمحافظة المدينة اهتمامها بإطلاق أسماء رجال الأمة العربية الخالدين على شوارع المدينة وأعلن أن هناك شوارع جديدة سوف تطلق عليها أسماء العظماء كأبي العلاء المعري والبحتري وغيرهما
وفي مساء اليوم نفسه غص مدرج الجامعة السورية بالمحتفلين وخطب الأساتذة الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد مندوب الجامع الأزهر والقيت كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر وقصيدة للأستاذ خليل مردم بك ثم خطب الدكتور عبد الوهاب عزام فالأستاذ نجيب الارمنازي وأنصرف الخطباء والمندوبون بعد ذلك لتناول طعام العشاء على مائدة أعدها(161/73)
المجمع العلمي
وعلى المنهاج الموضوع للمهرجان سيلقي في اليوم الثالث (السبت) كلمة الأستاذ معروف الرصافي مندوب العراق وقصيدة الأستاذ رضا الشبيبي (ذكرى شاعر) وقصيدة الأستاذ علي الشرقي (صوت الكوفة) وخطبة الأستاذ طه الراوي. قصيدة الأستاذ عزالدين التنوخي كاتب سر المهرجان. وليمة الصحة العامة
اليوم الرابع (الأحد) - خطبة الأستاذ نقولا فياض: مندوب لبنان (هل كان المتنبي مجدداً). خطبة الأستاذ أنيس المقدسي مندوب الجامعة الأمريكية. خطبة الأستاذ أمين الريحاني (المتنبي رسول العروبة) خطبة الأستاذ فؤاد البستاني مندوب الجامعة اليسوعية. قصيدة الأستاذ حليم دموس (مهرجان المتنبي) وليمة وزارة المعارف
اليوم الخامس (الاثنين) - خطبة الأستاذ أحمد رضا (روح الطموح في المتنبي) قصيدة الأستاذ سليمان ظاهر (حياة المتنبي) خطبة الأستاذ حبيب شماس مندوب المدرسة البطريركية. خطبة الأستاذ أديب التقي. قصيدة الآنسة ماري عجمي، وليمة الجامعة السورية
اليوم السادس (الثلاثاء) - خطبة الأستاذ خليل الخالدي، خطبةالأستاذ سامي الكيالي (المتنبي في بلاط سيف الدولة) خطبة الأستاذ عبد القادر المبارك (لغة المتنبي). قصيدة الأستاذ محمد البزم، وليمة معرض دمشق
اليوم السابع - كلمة الأستاذ مرشد خاطر: مندوب الجامعة السورية. قصيدة الأستاذ عمر يحيى. خطبة الأستاذ سليم الجندي، قصيدة الأستاذ عمر أبي ريشة خطبة الأستاذ جميل صليبا (فلسفة المتنبي) كلمة الختام، وليمة مدينة دمشق.
خطاب وكيل العميد السامي في مهرجان المتنبي
سيداتي وسادتي:
إذا ذكر المتنبي فلا يثير ذكره في قلبنا صورة أعظم عصر من عصور تاريخ حلب، وصورة أمجاد سورية الحمدانية فحسب، وإن يكن ذلك من الأسباب التي تحببه إلى نفوسنا، فلا بد لنا من القول إن المتنبي لا ينتمي إلى مدينة واحدة ولا إلى عصر واحد بل أنه يدوي صداه في خلال عصور الشعر العربي وخلال نواحي الشعور الأدبي المترامية الأطراف،(161/74)
فقد ذهب شاعر الكوفة العالم العربي نماذج من الشعر خالدة، وضروباً من التعبير صافية ورفعة لا تطال، وفناً أنوفاً دقيقاً، وهدفاً شريفاً، وتشاؤماً عالياً؛ وجميع هذه الصفات المتغلغلة في أعماق نفسه تتفق مع أعرق مميزات الفكر الأدبية العربية، تلك الفكرة الطامحة إلى المعالي، الهائمة بالشرف، المغرمة بما عز وكرم من المعاني، الساعية وراء خير المثل العليا، تلك الفكرة التي تطلب في الشعر (حالة نادرة) كما قال في ذلك شاعرنا الفرنسي (مالارمه)
هذا ما أهل المتنبي أن يكون شاعر الأمة العربية؛ وهذا ما حدا بكم جميعاً للاعتراف له بهذا اللقب. إن الأمة العربية ترى في المتنبي بعض ميولها الجوهرية، وبعض شواعرها الثابتة، فيلذ لي والحالة هذه أن أحيي في هذا الحفل، إلى جانب السلطات العليا ورجال العلم في سوريا، ممثلي الدول المجاورة، والشعراء والكتاب والعلماء من جميع البلدان التي يرن فيها صوت لغتكم الجميلة، وأن أحي مندوبي المجامع العلمية ومؤسسات الثقافة العالية التي تحافظ في جميع البلاد الغربية على تقاليدها الروحية المشتركة، ولهذا أيضاً رغبت في أن أرحب بكم، وفي أن أحمل إليكم في هذا المهرجان حيث للفكرة والأدب المحل الأرفع، عربون عطف المفوضية العليا على هذا المهرجان واهتمامها به، وكذلك عطف الجمهورية الفرنسوية؛ من يشك في الفائدة التي تجنى من هذه الأحتفالات، إنها توثق عرى التضامن المكين، والتقارب الجوهري؛ وتدل على أن فوق المصالح الأنانية التي تفرق بين الناس وتبعدهم بعضهم عن بعض عبقرية لا يزال في وسعها أن تجمع بين ذوي النوايا السليمة جميعاً خلواً من كل ما يكدر صفاءه
سيداتي وسادتي: إني لأجد لذة عظيمة في إعلان افتتاح المهرجان الذي يحتفل فيه بذكرى مرور ألف سنة على وفاة الشاعر المتنبي
خطاب وزارة المعارف في مهرجان المتنبي
أرحب بجميع الوفود التي جاءت من مختلف الأقطار العربية لتشارك حكومتنا في إظهار عاطفتنا الصادقة نحو شاعر العربية العظيم أبي الطيب المتنبي وأتمنى لجميع العلماء والكتاب والشعراء الذين أموا دمشق لهذه الغاية مقاماً سعيداً وراحة طيبة، ولاشك أن جو الفيحاء الرطب وإقليم الغوطة العذب سيوحيان إلى كل منهم بأحسن الصور، ويرويان ما(161/75)
أحتدم في قلوبهم من قوة العاطفة وشدة الخيال فيسكبون عواطفهم في قالب من الألفاظ السحرية التي تليق بالمتنبي وعبقريته الخالدة. إن فكرة هذا المهرجان ليست وليدة الساعة بل هي فكرة قديمة خطرت ببال حكومتنا منذ الصيف الماضي فحالت دون تحقيقها إذ ذاك عقبات كثيرة، ولما ذللت جميع العقبات أحبت الحكومة أن تجعل أيام المتنبي داخل أيام المعرض الصناعي لتبرهن بعملها هذا على رغبتها في إحياء النهضتين الأدبية والاجتماعية معاً
ونحن إذا أقمنا هذا المهرجان لمرور ألف عام على وفاة المتنبي فإنما نقيمه لأن بينه وبين سوريا صلة قوية. فقد جاء المتنبي من العراق إلى سورية وهو شاب معدم فعانى فيها ما يعانيه شبان اليوم من مشاكل العيش وضيق أبواب الرزق ولم يزل يتنقل بين منبج وانطاكية واللاذقية وطرابلس وحلب ويمدح أمراء سوريا حتى اتصل بسيف الدولة أعظم ملوك بني حمدان وصار شاعره الخاص وعاش في بلاطه فانكشفت قريحته وجاد شعره وتحسن خياله ورق لفظه بما لقيه من حفاوة الأمير وعنايته به، ولو بعث اليوم سيف الدولة لما اتخذ لنفسه شاعراً غير المتنبي لأن المتنبي لا يزال حتى اليوم يعبر بشعره عن عواطف كل منا، فهو شاعر العروبة ورمز العواطف القومية، يجد كل منا في شعره نزوة الشيوخ وصور العدل والرحمة كما وصف الظلم والقسوة وتغنى بالأباء والكرم والعز والشجاعة كما بكى على المجد المفقود والأمل الضائع، فنحن نفاخر بشاعر أمراء سوريا بل بشاعر سوريا والعراق ومصر وننقل إليه من وراء حجب الزمان عاطفة شعب تثقف بشعره وتغذى بإحساسه حتى خالط لحمه دمه
فإن تباعدت الأقطار فإنها حول المتنبي لتجتمع، وإن نفرت القلوب فأنها في أبي الطيب لتتحد، وليس أدل على هذه الوحدة من اجتماعكم لإحياء ذكرى هذا الشاعر الخالد. فأشكركم جميعاً على ما تحملتموه من المتاعب وتحملتموه من عناء السفر وأشكر فخامة رئيس الجمهورية على رغبته في جعل هذا الاحتفال احتفالاً رسمياً كما أشكر بصورة خاصة فخامة المفوض السامي على عنايته بهذا المهرجان وإعانته المادية والمعنوية معاً، وأشكر ممثلي الجامعات العربية والأجنبية المختلفة ووفود الأقطار العربية الشقيقة وجميع الخطباء والشعراء على ما أكسبوه إيانا من الشرف بكتاباتهم وما أحدثوه في هذا المهرجان من البهاء(161/76)
والازدهار بقدومهم وأخص أعضاء مجمعنا العلمي من عرب ومستعربين بأحر الشكر على تعاونهم في إحياء ذكرى شاعر العربية ورمز نهضتها الأدبية الحديثة وأتمنى لهم نجاح السعي وطيب الإقامة والسلام
جمعية أدبية مختلطة في سورية ولبنان
دعت الجريدتان الفرنسيتان (لجور) في بيروت، و (لا كرونيك) في دمشق إلى تأليف جمعية أدبية كبرى في البلاد السورية واللبنانية بكون الغرض منها: السعي والدعاية لنشر الأدب والثقافة في البلاد، ثم الدفاع بمختلف الوسائل المشروعة عن حقوق المؤلفين ومصالحهم، وهذه الجمعية بعيدة عن الأحزاب السياسية والخلافات الدينية، تجمع نخبة من الكتاب السوريين واللبنانيين الذين يسعون إلى نهضة فكرية في البلاد، تجدد في الأدب الحديث مع العناية بالأدب القديم
وهي تتألف من الكتاب والمؤلفين في اللغة العربية أو في اللغة الفرنسية وتنتخب مجلساً يتألف من عشرة أعضاء ستة من المؤلفين في اللغة العربية وأربعة من المؤلفين في اللغة الفرنسية، ويرأس هذا المجلس مؤلف عربي له نائب من المؤلفين في اللغة الفرنسية
وتنتخب مكتباً دائميا لأمانة السر، ومكتباً للاستشارات القضائية والحقوقية، وتتصل بالاتحاد الدولي لجمعيات حملة الأقلام في جنيف، وتعني بغير ذلك من الأمور لتأمين سير الجمعية ورقيها
فلسطين تناشد العالم الإنساني
إن الأيام التي مرت على جهاد فلسطين العربية المقدسة وما لقيت في خلالها من هول الأحداث قد أصابها بأضرار فادحة وأنزل بها خسائر جسيمة في الأرواح والأموال مما لا يمكن حصره ولا تعوض خسارته، فهناك عشرات من القرى قد دمرت وأتلفت أرزاقها وأحرقت مزروعاتها وصودرت أموالها، وهذا غير ما أحدثه نسف مدينة يافا الفيحاء ذات الحدائق الغناء بالديناميت بعد إحراق معظم حي المنشية فيها بأيدي مجرمي اليهود، وغير حدائق البرتقال الكثيرة التي قطعت بأيدي الأشرار ودوساً بالدبابات. وغير المئات من أكواخ الفقراء في ضواحي يافا وأطراف حيفا، ومنازل مدينة اللد التي دوهمت بالدبابات(161/77)
فانطمست آثارها
فهذه الأهوال العظيمة قد أسفرت عن مائة ألف نسمة نكبوا بصورة مباشرة فمنها عائلات الشهداء وأيتامهم وأراملهم، وعائلات المسجونين والمعتقلين وأقاربهم، وسكان المدن والقرى التي دمرت بعد أن فروا عند النسف والهدم من منازلهم، تاركين جميع حاجاتهم وأثاثهم وملابسهم، فتشردوا في العراء بلا فراش ولا طعام ولا مأوى. وقد كثرت في هؤلاء المنكوبين الأمراض والوفيات. ولولا أن بقية الأهالي قد قادوا وبذلوا كل شيء يستطيعونه لإغاثة إخوانهم بعض الغوث - وهو ما لا يفي بحاجة ولا يسد ثلمة - لكانت الكارثة أوجع والخطب أفجع
على أن الحالة برغم شهامة الناس هناك قد تجاوزت كل ما يتصور العقل من شناعة وفظاعة مما ستكشفه الأيام بعد حين وعندما يباح نشر الرسوم ووصف الخطوب
وسيتضح عند ذلك أن ما نزل بفلسطين إنما هو من النوع الذي أصاب البلاد العربية على الخصوص والإسلامية على العموم من جنكيز وهولاكو وتيمور. ويا حبذا لو تنتدب الأقطار المجاورة وفوداً تجوب نواحيها لترى بالعين وتسمع بالأذن ما أصابها وما حل بها. حيث لا تقع العين إلاّ على قتيل أو شهيد. ولا يصادف المرء في طريقه سوى الخراب والدمار في المدن والريف
فاللجنة الفلسطينية العربية في مصر توجه إلى هذه المحن الأليمة عواطف الإنسانية جمعاء، وتنادي كل قلب فيه ذرة من الحمية ليبادر المحسنون إلى نجدة المنكوبين وإغاثة الملهوفين بما يخفف هول النكبة ويلطف ألم البلوى. والله لا يضيع أجر المحسنين
وهذه اللجنة ترجو من أهل الخير أن يرسلوا تبرعاتهم إلى منكوبي فلسطين بواسطة جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة وهي تتولى توصيلها إلى الهيئة المختصة في فلسطين فتوزعه على المحتاجين
محمد علي الطاهر
رئيس اللجنة الفلسطينية العربية بالقاهرة
استدراك(161/78)
جاء في أول هذا الباب تحت عنوان (أسبوع المتنبي في دمشق) أن افتتاح المهرجان كان في يوم 27 يوليو الماضي والصحيح أنه كان في يوم 23 يوليو
فتوى مشيخة الأزهر في (الحجاب) و (الختان)
نص الفتوى:
(كتب إلينا من البلاد الهندية أن طوائف من أهلها الهندوكيين يريدون أن يتخذوا الإسلام ديناً لهم، ولكن عادتي حجاب النساء والختان تثبطانهم عنه بعض التثبيط. وقد طلب إلينا أن نبدي رأينا في هاتين العادتين وعن علاقتهما بالدين الإسلامي، فلم نر بد من تلبية هذا الطلب راجين أن يكون فيه هدى للمسترشدين وبيان للمتثبتين
شرع الله تعالى الدين الإسلامي ليكون ديناً عاماً للبشر كافة في كل زمان ومكان، فجاءت شريعته مراعية لجميع الحاجات المادية والمرافق العمرانية للأفراد والجماعات، وضامنة كل ضروب الحريات الضرورية لهم في حدود الناموس الأدبي العام، بحيث لا تتعاكس هذه الحريات ومصالح الاجتماع، ولا تتضارب والأخلاق التي هي أساس العمران. فليس يوجد بين النظم الدينية والاجتماعية ما يوفق بين مطالب الأرواح والأجساد ويربطها برباط وحدة وثيقة غير النظام الذي جاء به الإسلام
لست بصدد تفصيل هذا الإجمال، فلا أتعرض له إلاً لبيان أمرين فيه هما مسألتا الحجاب والختان، وهما اللتان طلب إلينا بيانهما
الحجاب
إن حجاب النساء كان معروفاً ومعمولاً به قبل مجيء الإسلام بقرون كثيرة في جميع الأمم المعرقة في المدنية، وقد أخذه عنهم اليونانيون والرومانيون على أقصى ما يعرف عنه من التشديد قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة، وكان الإسرائيليون جارين عليه أيضاً على عادة معاصريهم
فلما شرع الله الإسلام راعى في هذه المسألة ما راعاه في جميع المسائل الاجتماعية من الاعتداد بالمصلحة العامة في حدود الناموس الأدبي العام فأنزل قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل(161/79)
للمؤمنات يغضضن من أبصارهم ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلاً لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)
هذه الآية هي أطول آيات الحجاب، وهي تنص على وجوب إتباع الجنسين على السواء للآداب الواجبة لأحدهما حيال الآخر
ولما كان النساء محلاً للفتنة خصوا بالأمر لضرورة التصون في مخالطة الرجال وعدم أبداء زينتهن لهم إلا مالا يمكن إخفاءه منها أثناء مزاولتهن أعمالهن من خاتم وسوار
وقد اجمع الأئمة على أن الوجه والكفين ليسا بعورة، وأن ليس على المرأة من بأس أن تزاول أعمالها خارج بيتها، وأن تمارس مهناً لكسب قوتها على شرط أن لا تظهر ما يثير العاطفة من جسمها وجيدها وزينتها
وما حدا بالإسلام إلى وضع هذه القيود إلا المحافظة على النفوس أن تفسدها الشهوات. والمجتمعات أن تحل روابطها الموبقات. وليس بخاف ما جرته هذه الشهوات على الأمم الخالية من الانحلال والزوال
فالإسلام لم يفرض على المرأة أن تعيش كما تعيش الأنعام، أو أن تسجن كما يسجن المجرمون؛ ولكنه على العكس أمر أن تحضر الصلوات في المساجد في صفوف خلف الرجال، وأن تحضر اجتماعات المسلمين العامة في الأمور الهامة، ولم تمنع قط من إبداء رأيها فيها، ومن أن تتعلم كما يتعلم الرجال، وأن تتصرف في أموالها بكل وجوه التصرفات بدون توقف نفاذها على زوجها أو والدها أو أي أحد غيرها، وأن تتعاطى ما تشاء من الأعمال الحرة
هذه حقوق منحتها الديانة الإسلامية للمرأة منذ نحو أربعة عشر قرناً، فلم تصل إليها أية امرأة سواها في العالم إلى اليوم
والإسلام إزاء هذا كله لم يشرط عليها إلا حفظ كرامتها كامرأة شريفة غير مبتذلة ولا متبرجة لتكون عضواً صالحاً في المجتمع بدل أن تكون عاملة فتنة فيه(161/80)
هذه نزعة تقر الإسلام عليها كل نفس شريفة، ولا تصادف معارضة من أي فريق حتى أصحاب المذاهب المتطرفة
الختان
أما مسألة الختان - فلا تصح أن تكون عقبة أمان الذين يريدون الإسلام، فإن الختان كان معروفاً عند بني إسرائيل قبل مجيء الإسلام، وقد اقتبسه عنهم العرب الجاهليون. فلما جاء الإسلام أقره شأنه إزاء كل عادة نافعة أو عمل صالح
وقد قرر الأطباء أن الختان من انفع العادات واحفظها من الأمراض التناسلية، فإن القلفة بتغطيتها لرأس العضو تختزن في طيها الأقذار وتكون موطناً للجراثيم الضارة، وغسلها من باطنها مرات في اليوم من الأمور المتعذرة، فإزالة هذه القلفة مما يندب إليه قانون الصحة؛ وقد علم أن بقائها في الأمم لم تعتد إزالتها قد كان سبباً في انتشار الأمراض السرية، وهذه الأمراض لم تعرف في بلاد المسلمين إلا بعد اختلاطهم بجاليات الأمم من طرق العدوى
على إن الإسلام لم يوجب على أهله الاختتان إيجاباً كما هو مذهب الإمامين أبو حنيفة ومالك ولم يجعله شرطاً للإسلام، فهو في نظره سنة للرجال إن شاءوا أخذوا به تصوناً وتطهراً وإن شاءوا تركوه
أما النساء فلم يصل إلى درجة السنة في مذهب الإمامين السابقين، ولكنه عندهما كرامة لهن فقط. لذلك تجد أكثر المسلمين لا يختنون نساءهم؛ فالأتراك كافة والمغاربة والإيرانيون والهنود وغيرهم لا يعملون بهذه العادة فيما يتعلق بنسائهم
والعادة أن الاختتان يكون في السنين الأولى من الطفولة بين ثلاث وعشر غالباً، وليس فيه كبير مشقة ولا يتوقع من ورائه خطر إذ أنه لا يتعدى قطع الجلدة الزائدة المغطية للعضو مع عدم المساس بالعضو نفسه، ناهيك أنه يعمل بواسطة العارفين، واختتان الكبار كاختتان الصغار ليس فيه أقل ضرر
بقيت مسألة ربما تهم الذين يريدون الدخول في الإسلام جماعات غفيرة وهم كبار في السن، وهي أن يعرفوا ما حكم الإسلام فيهم، فإلى هؤلاء نوجه قول الحسن البصري رضي الله عنه، وهو إمام الأئمة المجتهدين، قال العلامة ابن قدامة الحنبلي في المجلد الأول من كتابه(161/81)
(المغنى) في الصفحة السبعين عن الختان ما يأتي:
(والحسن يرخص فيه ويقول: إذا أسلم لا يبالي أن لا يختتن. ويقول: أسلم الناس الأسود والأبيض لم يفتش أحد منهم ولم يختتنوا)
وهذا ما رأينا أن نأتي به من حكم الدين الإسلامي في أمر الختان والحجاب، وقد تبين أن واحداً منهما لا يتأتى أن يكون عقبة في سبيله
والله يهدي من يشاء إلى سراط مستقيم)
مشيخة الأزهر
رأي أستاذ فرنسي في رواية شهرزاد
الأستاذ لوني بو - مؤسس مسرح الأوفر في باريس يعتبر بحق أحد الأركان التي قام عليها المسرح الحديث في أوربا وهو الذي أخرج رواية (سالوميه) لأسكار وايلد سنة 1892، وعرف الفرنسيين بابسن ومترلنك، ورأيه في الأدب المسرحي له من غير شك وزانته وقيمته. كتب خطاباً إلى ناشر (شهرزاد) للأستاذ توفيق الحكيم جاء فيه عن هذه الرواية: (لقد قال: (لكنت) (واضع مقدمة الرواية) فأحسن القول. والرواية تستحق أن تمثل على المسرح الفرنسي في ذوق وفطنة. وهي تبقى بعد كل شيء رائعة الجمال شديدة العمق)(161/82)
العدد 162 - بتاريخ: 10 - 08 - 1936(/)
ساكنو الثياب. . .
للأستاذ مصطفى الرافعي
قال صاحب سرّ (م) باشا رحمة الله: وجاءني يوما اثنان من شيوخ الدين من ذوى هيئاتهم وأصحاب المنزلة فيهم، كلاهما هامَةٌ وقامة، وجُبَّة وعمامة، ودرجة من الإمامة؛ ولهما نسيم ينفُحُ عِطْرا حسبتُه من ترويح أجنحة الملائكة، وعليهما من الوقار كظل الشجرة الخضراء في لهب الشمس تفيء به يمنةً ويَسْرةً. فتوجَّهتُ إليهما بنظري، وأقبلتُ عليهما بنفسي، ووضعت حواسي كلها في خدمتهما؛ وقلت هؤلاء هم رجالُ القانون الذي مادتُه الأولى القلب
ما أسخف الحياةَ لولا أنها تدل على شرفها وقدرها ببعض الأحياء الذين نراهم في عالم التراب كأن مادتهم من السُّحُب، فيها لغيرهم الظل والماء والنسيم، وفيها لأنفسهم الطهارة والعلوُّ والجمال. يثبتون للضعفاء أن غير الممكن ممكن بالفعل، إذ لا يرى الناسُ في تركيب طباعهم إلا الإخلاصَ وإن كان حرماً، وإلا المروءة وإن كانت مشقة، وإلا محبة الإنسانية وإن كانت ألماً، وإلا الجِد وإن كان عناء، وإلا القناعة وإن كانت فقراً
هؤلاء قوم يؤلَّفون بيد القدرة، فهم كالكتب قد انطوت على حقائقها وخُتمت كما وضعتْ لا تستطيع أن تخرج للناس من حقيقةٍ نصفَ حقيقة ولا شبه حقيقة ولا تزويراً على حقيقة
وما أعجبَ أمرَ هذه الحياة الإنسانية القائمة على النواميس الاقتصادية! فالسماءُ نفسها تحتاج فيها إلى سماسرة لعرض الجنة على الناس بالثمن الذي يملكه كل إنسان وهو العملُ الطيب
قال: ونظرت إلى الشيخين على اعتبار أنهما من بقية النبوَّة العاملة فيها شريعةُ نفسها، تلك الشريعة التي لا تتغير ولا تتبدل كيلا يتغير الناس ولا يتبدلوا. ثم سألتهما عن حاجتهما فإذا أحدهما قد عمل أبياتا من الشعر جاء يمدح بها الباشا ليزدلفَ إليه؛ فقلت في نفسي: ما أشبهَ خَجلَ الجبال بألوان صخرها! هذا عالِمُ دنيا يحدها من الشرق الرغيفُ، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان
ثم نشر ورقةً في يده وأخذ يسرد علي القصيدة، وهي على رَويّ الهاء تنتهي أبياتها ها. ها. ها. فكان يقرؤها شعرا أو كما يسميه هو شعرا، وكنت أسمعها أنا قهقهة من الشيطان الذي(162/1)
ركب أكتافَ هذا العالم الديني ها. ها. ها. ها. . . .
قال صاحب السر: وأدخلتهما على الباشا فوقف المدَّاح يمدح بقصيدته، وأخذت لحيته الوافرة تهتز في إنشاده كأنها مِنفضة ينفض بها المَلل عن عواطف الباشا. وكان للآخر صِمتٌ عاملٌ في نفسه كصمت الطبيعة حين تنفطر البذرةُ في داخلها، إذ كانت الحاجة حاجتَه هو، وإنما جاء بصاحبه رافداً وظهيراً يحمل الشمس والقمر والليث والغيث لتتقلب الأشياء حول الممدوح فيأخذه السحر، فيكون جواب الشمس على هذه اللغة أن تضيء يوم الشيخ، وجواب القمر أن يملأ ظلامه، وجواب الليث أن يفترس عدوَّه، وجواب الغيث أن يهطل على أرضه
والباشا لا يدع ظرفه ودعابته، وكان قد لمح في أشداق العالم المتشاعر أسناناً صناعية، فلما فرغ من نظمه الركيك قال له: يا أستاذ احسبني لا أكون إلا كاذباً إذا قلت لك لا فُضَّ فوك. . .
ثم ذكر الآخر حاجته وهى رجاؤه أن يكون عمدة القرية من ذوي قرابته لا من ذوي عداوته. فقال الباشا: ولقريتكم أيضاً أبو جهل. . . .؟
ولما انصرفا قال لي الباشا: لأمر ما جعل هؤلاء القوم لأنفسهم زياً خاصاً يتميزون به في الناس، كأن الدين بابٌ من التحرف والتصرف، بعض آلته في ثيابه؛ فهؤلاء يسكنون الجبب والقفاطين وكأنها دواوينُهم لا ثيابٌهم. . .
قد أفهم لهذا معنى صحيحاً إذا كان كلُّ رجل منهم محصوراً في واجبات عمله كالجندي في معاني سلاحه، فيكون التعظيم والتوقير لثوب العالم الديني كأداء التحية للثوب العسكري، معناه أن في هذا الثوب عملاً سامياً أوله بيع الروح وبذل النفس وترك الدنيا في سبيل المجتمع؛ هذا الثوب الموت يُفْرَض على الحياة أن تعظّمه وتجله، وثوب الدفاع تجب له الطاعة والانقياد، وثوب القوة ليس له إلا المهابة والإعزاز في الوطن
ولكن ماذا تصنع الجبة اليوم؟ تُطعم صاحبها. . .
أثر الجيش معروف في دفاع الأمم العدوة عن البلاد، فأين أثر جيش العلماء في دفاع المعاني العدوَّة عن أهل البلاد وقد احتلت هذه المعاني وضَربت وتملكت وتركت هذا العالم الديني في ثوبه كالجندي المنهزم يحمل من هزيمته فضيحة ومن ثوبه فضيحة أخرى؟(162/2)
أنت يا بني قد رأيت الشيخ محمد عبده وعرفته؛ فرحم الله هذا الرجل ما كان أَعجبَ شأنَه! لكأنه والله سحابة مطوية على صاعقة. ولو قلتُ إنه قد كان بين قلبه ورأسه طريقٌ لبعض الملائكة لأشبه أن يكون هذا قولاً
كان يزورني أحياناً فأراني مرغماً على أن أقدم له مجلسين أحدهما قلبي. وكان له وجه يأمر أمراً إذ لا تراه إلا شعرت به يرفعك إلى حقيقة سامية
رجل نَبتَ على أعراقٍ فيها إبداعُ المبدع العظيم الذي هيأه لرسالته، فعواطفه كالعطر في شجرة العطر الشَّذِيَّة، وشمائله كجمال السماء في زرقة السماء الصافية، وعظمته كروعة البحر في منظر البحر الصاخب. وكثيراً ما كان يتعجب من هذا أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني فيسأله مندهشاً: بالله قل لي: ابن أي ملك أنت؟
لم يكن ابن ملك ولا ابن أمير، ولكنه ابن القوات الروحية العاملة في هذا الكون؛ فهي أعدته، وهى ألهمته، وهى أنطقته، وهى أخرجته في قومه إعلاناً غير كتمان، ومُصَارحةً غير مخادعة، وهى جعلت فيه أسدية الأسد، وهى ألقت في كلامه تلك الشهوة الروحية التي تذاق وتُحَب كالحلاوة في الحلوى
هذا هو العالم الديني؛ لابد أن يكون ابن القوات الروحية لا ابن الكتب وحدها، ولابد أن يخرج بعمله إلى الدنيا لا أن يدخل الدنيا تحت سقف الجامع
وأنا فما ينقضي عجبي من هؤلاء العلماء الذين هم بقايا تتضاءل بجانب الأصل. يبحثون في سنن النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يأكل ويشرب ويلبس ويمشي ويتحدث، كأنهم من الدنيا في قانون المائدة وآداب الولائم ورسوم المجتمعات. أما تلك الحقيقة الكبرى وهى كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل ويحارب لهداية الخلق، وكيف كان يسمو على الدنيا وشهواتها، وكيف كان بطباعة القوية الصريحة تعديلاً فعالاً في هذه الإنسانية للنواميس الجائرة، وكيف كان يحمل الفقر ليكسر به شِرَّةَ النواميس الاقتصادية التي تقضى بجعل الأخلاق أثراً من آثار السعة والضيق فتخرج من الغنيّ متعفّفاً ومن الفقير لصاً، وكيف استطاع صلى الله علي وسلم بفقره السامي أن يحول معنى الغنى في نفوس أصحابه فيجعله ما استغنى عنه الإنسان من شهوات الدنيا ما لا نال منها؛ أما هذا ونحوه من حقائق النبوة العاملة في تنظيم الحياة فقد أهملوه، إذ هو لا يوجد في الكتب وشروحها وحواشيها(162/3)
ولكن في الحياة وأثقالها وأكدارها. وبذلك أصبح شيوخنا من الأمة في مواضع لم يضعهم فيها الدين ولكن وضعتهم فيها الوظيفة
ألا ليتهم يكتبون على أبواب الأزهر هذه الحكمة: سئل بعض العرب: بم ساد فلان فيكم؟ قالوا: احتجنا إلى علمه واستغنى عن دنيانا
(سيدي بشر بإسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي(162/4)
من ذكريات عابر سبيل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان أحد الأخوان يصحح قول الشاعر: (وسافر ففي الأسفار خمس فوائد) فيقول - بعبارة لا أستطيع أن أرويها بحروفها - إن الفوائد ثلاث فقط: البعد عن المرأة، والنوم كيفما اتفق، وتكليم الناس بلا معرفة. فأما البعد عن المرأة - أي الزوجة - فإني لم أعد أدرى أهو مزية وخير أم ضرورة وعيب وشر؟. ولكن الذي أدريه أني حاولته مرة بلا لف أو مداورة، ثم عدلت عن التماسه ووطنت النفس على اليأس منه، ورضتها على السكون إلى القرب والمودة. وتجاربي في هذا الباب تخولني أن أنصح لمن يريد أن يسافر وحده أن يجازف ويلح على زوجته أن تكون معه، فإذا أبت كان هذا هو المراد من رب العباد، وإلا فلن يصيبه إلا ما كان مكتوباً عليه. على أنه يجب أن يكون مفهوماً أن المعول في هذا الأمر على أسلوب الحوار وطريقة الكلام. والزواج - كما هو معروف - من مزاياه أنه يكسب الإنسان مرونة في التعبير، وقدرة على الاحتياط، وبراعة في التحرز، وسعة في الحيلة. وإني لأذكر أنى كنت في سوريا مع أسرتي منذ نحو سنتين؛ فذهبنا مرة إلى بيروت لنشتري أشياء نهديها إلى أهلنا ومعارفنا عند عودتنا؛ فرأت زوجتي معطفاً من الفرو ثميناً جداً فأعجبها واشتهت أن يكون لها، ولكنى نظرت إلى ثمنه فدار رأسي، وأيقنت أنا إذا اشتريناه سنضطر إلى الاستجداء والتسول، فأصابتني فجأة نوبة عصبية حادة لم ترها زوجتي قط من قبل، ففزعت ودعت أصحاب المحل أن يدلوها على طبيب بارع في الأمراض العصبية، فقد خيل إليها أن هذا الذي أصابني لابد أن يكون ضرباً من الصرع أو التشنج أو لا أدرى ماذا غير هذا، فحملوني إلى طبيب فرنسي قالوا لها إنه هو الأخصائي الوحيد هنا، وإنه من آيات الله ومعجزاته في طب الأمراض العصبية، فأدخلوني عليه فاتضح له من استجوابي ومما عرفه من تاريخ آبائي وأجدادي من قبلي أن أهلي - في حداثتي - خوفوني مرة بدب صناعي له فرو كثيف، وكانت صدمة الفزع الذي انتابني في صغري شديدة جداً، فأنا من ذلك الحين أضطرب جداً جداً إذا وقعت عيني على الفرو. . . فسألته زوجتي التي لم تكن تعرف هذا الجانب من تاريخ حياتي الحافل بالمفاجآت - سألته عن العلاج فقال:: (أوه. . لا شيء. . لا داعي للقلق. . ولكن يجب ألا يرى الفرو أبداً. .)،(162/5)
والحق أقول إنه كان طيباً بارعاً جداً، فإن مرضى العصبي لم يعاودني بعدها أبداً. . والفضل بعد الطبيب هو بلا شك لزوجتي التي حرصت أعظم الحرص على ألا أرى الفرو. .
وأما النوم كيفما أتفق فهذا أشهد أنه صحيح. . وأذكر بسرور أن قطاراً سافرت فيه مرة كان غاصاً بالركاب. وكانت المسافة طويلة والشقة بعيدة تستنفد الليل كله من النوم. ولو كانت الجلسة مريحة لنمت وأنا قاعد، ولكنى كنت كالبلحة في قفة عجوة، فحرت ماذا أصنع. ثم فتقت الضرورة لي حيلة فنحيت الحقائب عن الشبكة الممدودة لها فوق رؤوسنا ورقدت مكانها، ونمت أهنأ نوم إلى الصباح، ولو كنت ضخم الجسم لما تيسر لي ذلك فالحمد لله على الضآلة. .
وأما تكليم الناس على غير معرفة فهذا هو قانون السفر، ولست تحتاج أن يعرفك أحد بأحد في رحلة، وما عليك إلا أن تبدأ من تشاء بالكلام كأنما كنت تعرفه من عهد آدم، ولكن هذا لا يخلو من خطر؛ فقد تقع على ثقيل أو ثرثار فينغص عليك وقتك ويحرمك كل متعة يمكن أن تفوز بها وأقلها متعة الراحة وخلو البال من المنغصات؛ ولكثرة ما أصابني من ذلك صرت أكره السفر بالقطار وأوثر السفر بالسيارة؛ فإذا اضطررت إلى القطار عمدت إلى الحيلة وهي أن أضع حقيبتي في أي مكان حتى يتحرك القطار، ثم أتركها وأذهب أبحث عن مكان آخر أتوسم في أهله الطرف والإيناس، وهذا يتطلب فراسة صادقة، والفراسة استعداد ولكنها تكتسب إلى حد ما بالتجربة
ومن الفوائد المجربة في الأسفار أن يستصحب المرء معه كتاباً في فن الطبخ، ولست أعني أنه قد يحتاج أن يصنع طعامه بيده وإن كان هذا محتملاً، ولكني أقص ما وقع لي في هذا الباب - أو بعضه على الأصح - فقد كنت مرة في فلسطين وكنت ضيفاً على صديق لي، فأصابني برد شديد من كثرة التنقل بين البلاد فوق الجبال بالسيارة في الليل وعاودني مغص الكليتين، فلم يبق بد من الرقاد والحمية وانتظار مشورة الطبيب وإن كنت عارفاً بدائي ودوائه، ومضى يوم ثاني وثالث وطلع الرابع وأنا لا آكل إلا الموصوف من الأطعمة الخفيفة المأمونة، وهذه لا طعم لها ولا لذة لآكلها، وكل طعام يفرض على المريض يكون بغيضاً إليه، فاشتهت نفسي أشياء قالوا لي إنه لا سبيل إليها لأن الطبيب منع أن تقدم إلي،(162/6)
فاعترضت على هذا وقلت لهم إن الألم قد زال وإن الصحة قد عادت ولله الحمد، وإني أستطيع الآن أن أفعل ما أشاء وآكل ما أحب، فقالوا (حتى يراك الطبيب) فقلت إن هذا طعن في ذمتي لا أقبله ولاسيما في أمر يعنيني وحدي، وأنا على كل حال أدرى من الطبيب بنفسي بل أدري من أطباء الدنيا جميعاً. وهل كان الطبيب قد أحس بالألم حين جاءني المغص. . هل عرف أني ممغوص إلا مني. . إذن انتهينا. . أنا أنبأته أني مريض ولولا ذلك لما عرف. وأنا أيضاً أنبئه أني شفيت وأنه صار من حقي أن أتمتع بمزايا الصحة. . وإذا كان الطبيب قد صدقني في واحدة فيجب حتماً أن تصدقوني في الثانية، فروحوا هاتو كذا وكذا من الآكال، وكيت وكيت من الأشربات. .
فضحكوا وأبوا أن يجيبوني إلى ما طلبت قبل أن يأذن لي الطبيب، فلم يسعني إلا أن أذعن للحرمان - فإني في بلد غير بلدي - ولكني طلبت أن يجيئوني بكتاب في فن الطبخ فاستغربوا وسألوني عما أنوي أن أصنع به فلم أعبأ بهم، فجاؤوني به فقلت لهم: (ألا تستطيعون أن تذهبوا عني إلى حيث تشاؤون فحسبي هذا الكتاب وكفى به أنيساً في وحدتي ومسلياً لي في غربتي)
وفتحته في موضع الفهرس وانتقيت الألوان التي اشتهيها وانطلقت أقرأ بنهم. وصدقوني حين أقول إن ريقي كان يجري وإني كنت أنعم بأقوى من لذة الشره المبطان وأنا أقرأ فيه
(كفتة الدجاج - تسيح الزبدة ويضاف الدقيق ثم اللبن بخفة مع استمرار التقليب حتى يصير المزيج في قوام القشدة، ثم يضاف الملح والبقدونس والفلفل، ثم تغلى مدة ثلاث دقائق، ويضاف لحم الدجاج ويخلط جيداً، ثم يصب هذا فوق طبق مسطح حتى يبرد ويؤخذ من المخلوط بملعقة كبيرة ويوضع في دقيق ويعمل على هيئة كور أو أقراص أو أشكال بيضاوية وتوضع في مكان بارد حتى تتجمد تماماً، ثم تتبل في فتات خبز، وتغطس في بيض مخفوق مخلوط باللبن، ثم في فتات الخبز ثانياً وتقلى في سمن ساخن جداً حتى تحمر ثم تنشف على فرخ ورق غير مصقول. . تنبيه - هذه الكمية تصلح أن يعمل منها أربع عشرة قطعة (ولكني نسيت أن أذكر الكميات والمقادير. . لا بأس. فليس هذا كلاماً عن الطبخ. . ولا عجب أن أذوق بالوهم والخيال مثل لذات الحقيقة فإن هذه حياتنا معشر الأدباء. . وما أكثر ما نترك الحقائق ونروح نجري وراء الظلال! ثم نحاول أن نعزي(162/7)
أنفسنا بأن الحقائق المشتهاة كثيراً ما أثبتت التجربة أنها دون ما كان متوقعا، وأن الخيال أفسح رحاباً وأوسع آفاقاً؛ فهو أقدر على إمتاعنا. وأن الحقيقة نفسها إنما تكون ممتعة وجميلة بفضل الخيال، ولولاه لما كان لها طعم ولا فيها متعة. فعمل الخيال لابد منه للإمتاع على كل حال سواء أكنت آكلا بالفعل أم متوهماً أنك تأكل؛ والفضل والمزية للخيال لا للمادة فإنها بمجردها لا شيء، وإنما تكون شيئاً بما يفيضه عليها الخيال من السحر والفتنة وما يضفيه عليها ويفيضه إليها ويزينها به
وعلى ذكر فلسطين أقول إني أحب السفر إليها لأنها لا تكلفني إلا أجرة القطار. أما الأكل والنوم والنزهة فعلى الله والإخوان بارك الله فيهم. وقد حدث في العام الماضي أني تعبت من العمل المتوالي فأشاروا علي بالراحة. فقلت اذهب إلى فلسطين. وكان الوقت شتاء والبرد في جبال فلسطين يكون قارساً. فقال لي صديق اذهب إلى الأقصر فقلت: فلسطين أفضل، فاستغرب وبدأ يجادل، فضاق صدري وقلت له: يا أخي إن الأقصر تحتاج إلى مال كثير، أما فلسطين فيكفيني أن تكون معي أجرة القطار
ومن الغرائب التي لا أظن أن كثيرين وقع لهم مثلها أني كنت مرة في جزيرة مع إخوان لي، فقلنا: نصيد سمكا نشويه ونأكل منه في يومنا هذا، فاخترنا شرماً يضرب الماء فيه ويمعن في البر لأنا قدرنا أن يكثر فيه السمك، وجئنا بديدان اتخذناها طعاماً وجلسنا ننتظر أن يخدع السمك. فمضت ساعة وأخرى ونحن لا نظفر بشيء، فنفذ صبر أحدنا فتركنا وغاب شيئا ثم عاد بفونوغراف أداره وهو يقول مازحا: (لعل السمك يحب الموسيقى. . من يدري. . أليس له حاسة فنية؟) فسرنا أنا وجدنا شيئا نتسلى به في هذه الجلسة المملة، وإذا بالسنارة التي كانت معي تضطرب وتنجذب إلى الماء، فشددتها فخرجت سمكة حسنة، فصحت بصاحبي (أعد! أعد. . أعني للسمك فما جاء إلا على الموسيقى) وكنت أنا أيضاً أمزح، ولكنا ما لبثنا أن وجدنا هذا حقيقة. فكان السمك يكثر ويشتد إقباله على الناحية التي نكون فيها إذا أدرنا الفونوغراف، ويقل ويذهب عنا إذا سكت. ولو كانت معنا مجموعة وافية من الاسطوانات لا استطعت أن أجرب أي الأدوار أحب إلى أي أنواع السمك، ولعرفت أي الأسماك تحب التانجو وأيها يؤثر الفوكس تروت وهكذا. وقد اتفق منذ بضعة شهور وأنا في العراق أن كنا مدعوين إلى الغداء في بيت على نهر دجلة - والعراقيون(162/8)
يسمون كل مسكن على النهر قصراً أو سراي ولو كان كوخاً - وكان بيت صديقنا هذا ضخما فخما وفيه جهاز للراديو، وكانت الساعة الأولى مساء - وهي بحساب الوقت في مصر الساعة الثانية عشرة - فخطر لي أن أجرب تأثير الموسيقى في السمك، فرجوت من صديقنا أن يفتح الراديو وأن يسمح لنا بالانحدار إلى الحديقة، وهي متصلة بالنهر، واتفق أنه كان مغرماً بالصيد، ولكنا لم نسمع من مصر إلا شريطاً مسجلا لأحد المغنين، ويظهر أن السمك لا يحب المعاد أو لعله لم يعجبه الغناء وإن كان يطربنا نحن الآدميين. فقلت أعود في المساء وأرى. غير أني لم أستطع أن أعود إليه قبل الساعة التاسعة مساء - أي الثامنة بحساب الوقت في مصر، واتفق أن كان الذي يذاع حديثاً فنفرت الأسماك جميعها نفوراً ظاهراً. وفي اعتقادي أن محطة الإذاعة تستطيع أن تساعد على ترقية المصايد المصرية - فتخدم السمك والناس - إذا هي عنيت بأن تدرس طبائع الأسماك وأمزجتها وما يوافقها من ضروب الموسيقى، وفي وسعها بالإذاعة المتخيرة أن تنظم صيد السمك، وأن تجعل لكل نوع منه وقتاً معيناً. فإذا كان المراد مثلاً صيد ما يسمى البوري وما يماثله أذاعت للصيادين بعض الأغاني الشجية التي تفتر النفس. وإذا كان المطلوب صيد ثعابين الماء أو حياته أسمعتها أغنية (هاتشي بشي) وهكذا فيكثر المحصول بلا عناء وينتظم الأمر كله. ويعرف الناس ماذا يستطيعون أن يأكلوا من السمك في كل يوم بمجرد الاطلاع على برنامج الإذاعة ومن غير خوف من أن يغشهم التاجر ويدخل عليهم صنفا باسم صنف آخر
والحجاز وإنجلترا هما - فيما أعرف - البلدان الوحيدان اللذان تستطيع فيهما أن تترك حقائبك أو أشياءك في الطريق فلا تمسها يد غير يدك ولا يسطو عليها سارق. فأما في الحجاز فقد سقطت مني عصاً في الطريق بين جدة ومكة فتعطل السير من الجانبين وانقطع المرور حتى اهتدى الشرطة إلى أني صاحبها فخاطبوني بالتليفون وأنا في الشمسية - قرب مكة - فرجوت منهم أن يردوا العصا اللعينة إلى جدة مخافة أن ترتكب إثماً آخر فيأخذوني بذنبها. وأما في إنجلترا فقد تركت حقائبي ساعة وصلت إلى لندن على الرصيف أمام البيت الذي اختاره صديق لي لأنزل فيه وذهبت معه - أي مع الصديق - إلى بيته حيث اغتسلت وحلقت ذقني وشربت القهوة واسترحت ثم عدت إلى الحقائب بعد ساعتين فوجدتها في مكانها كما كانت. وأغرب من ذلك أني راهنت صديقي هذا أن أقضي يوماً في(162/9)
لندن لا أتكلم في إلا اللغة العربية فخاف أن نتورط فيما لا يحمد واقترح أن نقتصر على السعي للوصول إلى وستمنستر أبي (من غير أن ننطق كلمة بغير لغتنا. فوافقت وتوكلنا على الله وخرجنا من البيت - هو وزوجته وأنا - وكنا نعرف الطريق ولكنا تجاهلناه، فراقني منظر رجل واقف بجانب حانة ينتظر على الأرجح وقت السماح ببيع الخمر - فإن لذلك وقته المعين حوالي الظهر وفي المساء - فدنوت منه وحييته التحية المصرية - أي برفع يدي ثم مدها إلى يده لمصافحته، وسألته - بالعربية طبعاً - عن وستمنستر، وتعمدت أن أحرفها تحريفاً شديداً فنطقتها (وستمنصته)، وأقول الحق إن الرجل فزع واعتدل بعد الميل ونسي الخمر التي يحلم بها وينتظر أن يسعد باحتسائها؛ فأعدت السؤال برفق فلم يفهم طبعاً على الرغم من صدق رغبته في ذلك، فلما يئس قال تعال معي، وقادني إلى الشرطي وهو شيء ضخم جداً وأنا شيء ضئيل أو كما يقول ابن الرومي:
أنا من خف واستدق فلا يث ... قل أرضاً ولا يسد فضاء
وقال له إن هذا الغريب يبدو لي أنه يسأل عن شيء لا أستطيع أن أتبينه، فمال علي العملاق الإنجليزي وقال يستحثني: نعم؟ فسألته عن (وستمنصته) فجعل يهز رأسه ويستعيدني، وأنا أهز له رأسي أيضاً كأني غير فاهم، وألح في السؤال عن (وستمنصته) فأحس أن في الكلمة شيئاً يمكن أن يهديه إلى مرادي وقال (قل هذا مرة أخرى) ولكني تغابيت وجعلت أتلفت، ثم قلقت وخفت، فقد رأيت صديقي وزوجته قد تركاني وذهبا فوقفا على الرصيف. وليت هذا كل ما حدث. . . إذن لما كان فيه بأس ولكنهما كانا يضحكان حتى لخيل إلي أنهما سيقعان على الأرض. وكان ضحكهما بصوت عال فخفت أن يفطن إلى أن الأمر مزاح فيستثقله أو يعده سخرية منه فتسوء العاقبة، فخففت التحريف فلم يلبث أن فطن إلى مرادي فأستوقفني حتى مرت سيارة أمنيبوس معينة فأمرني أن أصعد وتبعني صديقي وأمر الكمساري أن يأخذ منا الأجر إلى وستمنستر وأن يحرص على أن ينزلنا هناك، فأخرجت نقوداً ومددت بها يدي إلى الكمساري ليأخذ منها ما يشاء لجاجة مني في دعوى الجهل باللغة الإنجليزية. وهكذا كسبت الرهان وفي غير بوليس لندن لا تجد مثل هذا الصبر والرغبة المخلصة في المعاونة. وأذكر مثالاً آخر فأقول إن صديقاً لي أعارني سيارته لأذهب بها من لندن إلى اسكتلندا وأتمتع في طريقي بأجمل ريف في العالم، وهو(162/10)
ريف إنجلترا، وكانت السيارة كبيرة ضخمة ويكفي أنها من طراز (ديملر)، فكنت إذا جاء الليل قبل أن أصل إلى بلد ما وخفت أن أضل، أميل عن الطريق إلى الأرض المعشاب وأتعشى بما أعددت من الطعام، ثم أنام في السيارة إلى الصباح الباكر، فاتفق يوماً أن فرغ البنزين وأنا سائر قبل أن أنتبه، فوقفت مضطراً حيث كنت. ولما كانت السيارة كبيرة وثقيلة فقد عجزت عن تحويلها عن الموضع الذي تشغله من الطريق، فجلست على سلمها وشرعت أدخن حتى يوفقني الله إلى شيء، فمر بي شرطي كان قد فرغ من العمل على ما أخبرني، فهو ماض إلى بيته، فسألني: هل بالسيارة خلل؟ قلت: لا، ولكنها أتت على كل ما في خزانها من الوقود. فقال: انتظر، ومضى عني إلى حقل قريب، وهناك استعار دراجة - بسكليت - ركبها وعاد بها، وما لبث أن رجع حاملاً معه مقدارا كافياً من البنزين وقمعاً لإفراغه في جوف السيارة، فشكرته وقدمت له كأساً من الوسكي الذي معي في السيارة، وبعد قليل حملت القمع والصفيحة معي وذهبت بهما إلى محل البنزين، وكان على مسافة ثلاثة أميال، فرددت الأشياء ودفعت الثمن. ومن الإنصاف أن أقول إنك لا تعدم شرطياً غير إنجليزي يفعل هذا، ولكن هذه الروح في الإنجليزي طباع
وأعود إلى فلسطين فأقول إن في عكة مسجداً كبيراً هو الآن مسجد ومدرسة في آن معاً، وقد بناه - على ما أظن - أحمد الجزار باشا الوالي التركي في ذلك الزمان، وهو رجل مشهور فلا أحتاج أن أحدثكم عنه، ولكني أقول إني وجدت مكتوباً على باب المسجد من الداخل هذا البيت العجيب في مدح الجزار باشا:
(ذاك الوزير الشهم أحمد من غدا ... جزار أعناق العباد كما يجب)
وأظن هذا بيتاً يستحق التدوين. . . .
وفي بغداد دعانا الشيخ ابن معمر - القائم بأعمال المفوضية العربية في العراق إلى أكلة على الطريقة البدوية فاستحسنا ذلك جداً، وآثرناها على وليمة أخرى؛ فلما ذهبنا ألفينا السماط ممدوداً. . . وأصف ما رأيت فأقول إن السجادة غطيت بملاءة بيضاء وضع عليها جفنة ضخمة فوقها صينية عظيمة لا أدري من أين جاءوا بها، وقد قالوا لي إن عندهم ما هو أكبر منها بكثير، وفوق الصينية طشت هائل مليء أرزاً مخلوطاً بالزبيب واللوز والفستق، وعلى الأرز خروف عظيم مشوي - هذا في الوسط، وحول الجفنة وعلى(162/11)
مستدارها أطباق عديدة لا يأخذها الحصر، فيها أنواع شتى من الطعام. . . كالدجاج والحضر والعصيدة والولائق المختلفة، وهي من دقيق وسمن ولبن، وقد عرفوا أننا لن نستطيع مجاراتهم، فأعدوا لنا أطباقاً وملاعق وسكاكين وأشواكا، فجعلنا نحن نأكل على طريقتنا، أي أن نأخذ ما نشتهي في أطباقنا. أما هم فأكلوا على الطريقة البدوية الصرف، وهي أن يتناول الواجد قبضة من الأرز ويطوي عليها أصابعه ويضغطها حتى تصير كالكفتة، وبعد أن يفتلها على هذا النحو يقذف بها في فمه. وهذا يبدو هيناً سهلاً، ولكن المصيبة أن الطعام يكون كالنار فيحرق الكف، فكيف بالفم واللسان؟ أما اللحم فيهبر منه ما تستطيع أصابعه قبل أن تقطعه أو تمزقه ويرمي به في فمه، وما يرمي في الحقيقة إلا جمراً مضطرماً. وعلى ذكر الجمر أقول إن للعرب - أو على الأصح للبدو - طريقة عجيبة في علاج الجروح، وقد جربتها فأنا أتكلم عن خبرة ويقين، ذلك أن راحتي أصابتها النار، فجعلت أوحوح وأنفخ فيها، ولا أدري ما أصنع لتسكين الألم على الأقل، فصاح أحد النجديين الذين كانوا حاضرين هناك: - هذا كان في الحجاز: (ملح. . . ملح. . .) فجاءوه بقليل من الملح الخشن فمد به يده إلي وقال (خذ قبضة) (فتناولت منه بيدي السليمة وأنا أضحك في سري وأقول لعله يظن أن الحروق يفيد فيها السحر) فصاح بي (بيدك المحروقة)، ففهمت وأخذت قبضة بيدي المحروقة فقال (أطو عليها أصابعك) ففعلت فقال (أبق هكذا) فظللت قابضاً على الملح الخشن دقائق ثم نظر في وجهي وقال: (استرحت الآن. . زال الألم. .) ففتحت كفي وأنا أبتسم ولا أكاد أصدق، فما كنت أشعر بأي ألم ولا رأيت أي أثر للحرق! فما قول الأطباء في هذا؟ وليكن رأيهم ما يكون فأني أنا لا أنوي أن أداوي الحروق التي تصيبني - وعسى ألا يصيبني شيء - إلا بالملح. . .
وفي لبنان أنقذتني فتاة لا أعرفها من هلاك محقق، وهذه الفتاة من أعاجيب الخلق، فإن لعينها نظرة تنيم الحية - كما عرفت بالتجربة المرعبة - وأنا قوي النظرة حادها وفي وسعي أن أحدق في قرص الشمس، ولكني لم أستطع أن أحدق في وجه هذه الفتاة العجيبة. وكنت كلما وقعت عيني على عينها لا أزال أطرف ثم لا أجد بداً من تحويل عيني إلى ناحية أخرى. وكنا قد لقيناها في الصباح ونحن نصعد في جبل في رأسه ينبوع أردت أن أرى الموضع الذي يتفجر منه ماؤه. وكانت تحمل جرة فيها من ماء هذه العين، وكنا نخاف(162/12)
أن نضل، فسألناها عن الطريق واستملحناها فاستسقيناها وأردت أن أنقدها بضعة قروش فأبت، وأنبأتها أني أريد أن أرى مفجر العين فنهتني عن ذلك، فسألتها عن السبب فقالت وهي تهز كتفيها: (هيك) ولم تزد، ولما ودعناها عادت فحذرتني، فضحكت وشكرتها وأبيت إلا أن أصعد إلى حيث ينبثق الماء، وصعدت وحدي فقد رأى إخواني وعورة الطريق فانصرفوا عن مرافقتي، فوجدت كهفاً على بابه عشب ونبات طويل ورأيت الماء يخرج من الكهف، فقلت أدخل لأرى فنحيت النبات وإذا بي أرى عينين لامعتين فظيعتين ثابتتين تحدقان في عيني، وكانت نظرتهما من القوة بحيث لم أستطع أن أحول وجهي، وزاد فظاعة النظرة وعمق تأثيرها أن العين لا تطرف والجفون لا تتحرك وأن البريق شديد جداً في ظلام الغار. وكانت العينان ترتفعان عن الأرض شيئاً فشيئاً وتدنوان مني على مهل وأنا أنظر إليهما ويداي إلى جانبي وقد جمدت في مكاني وشعرت بالخدر في أعضائي. وكنت قد أدركت أن هذه حية وأنها من النوع الوثاب الذي تتحرك عيناه ولا تطرف جفونه، ومن هنا عمق تأثير نظرتها، ولم يخالجني شك في أني مقضي علي بالهلاك. وكيف أنجو وأنا مسمر في مكاني لا أستطيع حراكاً؟ ولو وسعني أن أتحرك لو ثبت الحية علي وأنشبت في أنيابها قبل أن أدور على عقبي. وكانت نفسي تنازعني أن أصرخ مستنجداً ولكن شفتي كانتا مطبقتين لا تنفرجان. وإذا بالعينين المرعبتين تتراجعان في الظلام وتهبطان إلى الأرض بعد أن كانت ترتفعان عنها وتزحفان إلي، وأحسست أن نظرتهما تفتر وأن تأثيرهما في نفسي صار أقل وأضال، وشعرت بأني صرت أملك أن أحرك أعضائي بعد طول الجمود؛ فتلفت فإذا الفتاة التي لقيناها في الصباح تحدق في عيني الحية بأقوى من نظرة الحية. ويكفي أنها ردتها بعينها. واختفت الحية فتشهدت وملت على الفتاة لأشكرها بقدر ما كان يسعني أن أفعل في مثل هذه الحالة، فلامتني على مخالفتها وذكرتني أنها حذرتني وقالت إنها أشفقت علي من المصير الذي كان لا مفر منه فأدركتني قبل أن أقضي نحبي فسكت ولم أقل شيئاً. . . وماذا أقول؟.
إبراهيم عبد القادر المازني(162/13)
من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
لغة الأحكام والمرافعات
للأستاذ زكي عريبي
دستور (البحث)
أي شئ يراد بهذا العنوان (لغة الأحكام والمرافعات)؟
الموضوع مطلوب للكتاب الذهبي بمناسبة انقضاء خمسين عاماً على إنشاء المحاكم الأهلية. فهل يجب أن يقتصر على المرافعات القومية كيف كانت لغتها قديماً وكيف تطورت وإلام انتهت وكيف يجب أن تكون؟
أهذا هو محور البحث؟ أم إن له مدى أبعد ودائرة أوسع؟
الحق إن نواحي الموضوع حسبما يوحي عنوانه أكثر من أن تعد أو تحصى. لقد كان للناس محاكم منذ أقدم العصور وفي جميع البلاد المتمدنة، ولكل عصر من عصور التاريخ، ولكل بلد من بلاد المعمورة، مميزاته في تسيير العدالة وما يرتبط بها، ومنه ما نحن بصدده. ثم إنك إذا تحدثت عن لغة المرافعات استحال عليك أن تقصر بحثك على نحو الكلام وصرفه وباقي صفاته اللغوية؛ بل أنت تريد إلى جانب هذا أن تنظر في الأحكام والمرافعات من حيث الأسلوب، واختيار اللفظ، وترتيب الكلام، ومراعاة المناسبة، وملاحظة الصوت والإشارة. ثم إن الموضوع ذو شقين بطبعه، إذ أن لغتك وأنت جالس للقضاء غيرها وأنت قائم للدفاع. ثم إن الحال في مصر تختلف عنها في أكثر بلاد الدنيا، فنحن هنا نطبق أحكام قانون نبت في بلاد أجنبية ولم تحتضنه لغتنا إلا منذ قريب. فأكثر المشتغلين بتطبيقه قد درسوا مبادئه ثم تعمقوا في أصوله بغير اللغة التي يكتبون بها أحكامهم أو يعدون بها دفاعهم
أي ناحية من هذه النواحي الكثيرة المتعددة يجب أن تعالج في مقال أكبر الظن أن الحيز المخصص له محدود وسط الأبحاث الهامة القيمة التي سوف ينطوي عليها (الكتاب الذهبي)؟
لقد فكرنا في الأمر ملياً فانتهينا إلى أنه خير لهذا المقال إذا انفرجت حلقة البحث فيه(162/14)
فجاوزت الحدود المصرية البحتة إلى إلمامة بالحال عند غيرنا من المعاصرين ومن سبقهم من النابهين الذين يمكن أن يعدوا بحق واضعي أسس فن الكلام القضائي. فإذا فرغنا من ذلك، ولن نطيل فيه، عرضنا لتاريخ لغة القضاء عندنا ماضيها القريب وحاضرها وما ينتظر لها على يد حملة لواء نهضتها الحالية
ولا ننتظر من هذا المقال بحثاً لغوياً عميقاً؛ فليس لنا بذلك طاقة ولا المحل هنا محله. هذا إلى أن نواحي البحث الأخرى أجدى وأنفع. وسوف نعنى بالتفريق بين لغة المرافعات ولغة الأحكام، فإن لكل منهما مميزات تختص بها ونحب التنبيه عليها، ولو أن كلا منهما تلقى في مصر صعوبات مشتركة يجب على العائلة القضائية بأسرها التضافر على مغالبتها وتذليلها
ولنبدأ بهذا قبل أن تنفرج قاعدتا الزاوية بحكم اضطرارنا إلى الفصل بين شقي هذا البحث
متاعب اللغة العربية
المتاعب التي يلقاها المترافعون وصائغو الأحكام على السواء في مصر جزء من متاعب لغة قديمة كريمة نامت نومة أهل الكهف زمناً، ثم أوقظت على حين غفلة لتقف على قدميها دفعة واحدة فتتفهم والنعاس مايزال يغالبها ويعقد أجفانها أحوالاً جديدة ليس لها بها عهد ولا سابق معرفة. أوقظت بشدة ودفعت بعنف لضرورة ملحة لتساير وتلاحق في ميدان لا تحده سوى حدود العقل البشري لغاتٍ وثيقة الصلة بنهضة العلوم التي رفعت أوربا إلى مقامها الممتاز الحالي، وجعلت منها منارة العلم والفلسفة والأدب والتشريع والاختراع. لغات صقلتها قرون متعاقبة عامرة بجهود متواصلة ربطت طارفها بتليدها وهيأتها أداة مرنة صالحة لما يطلب منها في مختلف ميادين النشاط العقلي
وأنت في مصر كاتباً كنت أو أستاذاً في جامعة، محامياً أو قاضياً، مهندساً أو طبيباً، لا تكاد تذكر أمامك اللغة حتى تتجه بفكرك إلى مختلف الصعوبات التي تعانيها إذا طلب منك أن تكتب أو تحاضر في فرعك الخاص. لقد أخذت كما أخذ أفراد هذا الجيل والذي تقدمه العلم عن أوربا؛ أخذته سهلاً ميسوراً بلغة أجنبية لقنتها صغيراً في طرازها الأخير فحصلت بها على أداة دقيقة مطواعة لحاجات العصر قد استوفت دقائقها من مسميات وأفعال وتعبيرات لها دلالتها الخاصة المحدودة. درست بهذه الواسطة في لين وسهولة، ثم إذا بك وقد انتقلت(162/15)
فجأة بمحصولك العلمي إلى محيط يريد أن يفهم منك ما فهمته ويأخذ منك ما أخذته، وليس سبيل للتفاهم مع هذا المحيط إلا لغة قد يكون معدنها ذهباً ولكنه ذهب ما يزال تبراً مخلوطاً بأتربة تراكمت منذ أجيال. فأنت مضطر إلى تطهيره من كل عنصر زائف، ثم عليك بعد ذلك صهره في بوتقة العصر ثم صقله ثم ضربه نقوداً من أعيرة وفئات مختلفة. فإذا ما استقام لك هذا كله لزم أن يجرب الناس عملتك هذه الجديدة وأن يتداولوها زمناً قبل أن تستقر نظاماً مألوفاً معمولاً به
ليس مركز المتكلم أو الكاتب باللغة العربية إذن سهلاً ميسوراً في هذا العصر. اللهم إلا أن يقول شعراً يحتذي فيه المتنبي، أو يكتب نثراً ينسج فيه على منوال عبد الحميد الكاتب أو ابن المقفع. أما أن يعرض بقلمه لشيء من مختلف العلوم والفنون الحديثة فهو أعزل إلا من العزم الذي تبعثه الصعاب، فقير إلا من عناصر الثروة المخبوءة في لغة مجيدة تتطلب كثيراً من الجهد في استكشافها ثم مثابرة وصبراً لإقرار ما يكتشف وإحلاله محله من نظام مقبول
ولكن أيمكن حصر هذه الصعوبات ومعالجتها؟
ليس في هذه العجالة متسع للخوض في موضع قلنا ونكرر إنه خارج اختصاصنا وفوق مقدورنا. ولكن ما نراه في عالم الحقوق يجيز لنا أن نعتقد أنه ليس في اللغة العربية أدواء أصيلة تمنعها من أن تأخذ مكانها تحت الشمس كلغة عصرية تضرب بسهم في مختلف العلوم والفنون. فقد سبق لها أن دعيت إلى مثل ما تدعى إليه اليوم وهي بعد أقرب إلى البداوة منها إلى استقرار الحضارة، فوثبت إلى غايتها العلمية وثبة الجواد الكريم. ودرس العرب حضارة الإغريق وفلسفتهم وطبهم بالعربية وحلوا محل الرومان في حمل مشكاة الحضارة قروناً يؤلفون في كل علم وفن بل ويزيدون في ثروة العالم العلمية بما استنبطوا من معارف جديدة. فهل تعجز العربية ولها هذه السابقة المجيدة وذلك التراث الباهر أن تصل فجرها الجديد المتألق بمسائها الباهر؟ إن لنا أن نأمل بل لنا أن نطمئن إلى غد سعيد أخذاً بالقياس
ولكن لنعد إلى ما كنا فيه ولنتحدث قليلاً عن صعوبات الحاضر فقد يتعين هنا التنويه باثنتين:(162/16)
تجاوز القصد
كثيراً ما عيرنا - وأخشى أن نكون قد عيرنا بحق - بأننا نجاوز إذا جلسنا للكتابة أو قمنا للكلام الغرض الذي نتوخاه بأحدهما، وأن اللغة التي نستعملها في عصر اللاسلكي أو الكهرباء ما تزال تغشاها المحسنات اللفظية وتغمرها المترادفات ويفسدها الحشو ويرهقها استطراد يمكن التخفيف من كثير منه. فأغلب الكتاب إذا ذكر الظلم ألحق به الاستبداد، وإذا تكلم عن الرحمة أردفها بالشفقة والحنان. وليس الذنب في هذا على اللغة العربية بل على تقاليد سيئة وجهل بمقتضيات العصر. إن لغتنا موسيقية بلا مراء ولكن بإعرابها. وهي غنية غاية الغنى بأسمائها وأفعالها ونعوتها. ولكن هذه الثروة لم تجمع للزينة فحسب، ولم تدخر في بطون المعاجم لكي يتزن بها الروي وتستقيم القافية ويحسن السجع، وإنما لتكون منها وسائل لأداء معان مختلفة وان تقاربت. وأول واجب على الكاتب في هذا العصر أن يستعمل كل لفظ فيما أعد له من الأصل؛ فيعرف مثلاً متى ينعت صاحبه بالإقدام ومتى يسميه شجاعاً ومتى يصفه بالجرأة. وبعبارة أخرى نحن أحوج ما نكون اليوم إلى فقه صحيح دقيق للغة العربية نعرف منه متى نستعمل لفظاً معيناً في معنى معين. وهذا إذا تم استتبع حتما سير قلم الكاتب ولسان المتكلم في سبل مرسومة وطرق معبدة، فلا يكتب ولا يقول إلا بقدر حاجة الموضوع دون استطراد يحاول به تمكين المعنى في نفس القارئ أو سامع يخشى أن يفوته القصد
على أنه من الإنصاف أن نقرر هنا أن لغة الجدل الفقهي في مصر قد قطعت شوطاً بعيداً فيما نتمناه لأسلوب الكتابة على وجه العموم
وأول مثل يحضرني أسلوب أستاذي طيب الله ثراه المرحوم أحمد بك لطفي، فقد كانت لغته مرآة مصقولة لفكره الرائق المرتب: ألفاظ سهلة مختارة، وجمل على قدر حاجة الكلام لا أقل ولا أكثر لا تستطيع حذف عبارة منها حتى يختل المعنى وتضيع الفائدة
أنظر إليه يترافع عن الورداني في قضية اهتزت لها جوانب القطر كيف يروي وقائعها في بساطة وسهولة توطئة لبحثه القانوني:
(نزل رئيس الوزارة المصرية يوم الحادث من ديوانه يحيط به كعادته رجال الحكومة حتى بلغوا به سلم نظارة الحقانية ولم يكد يودع مشيعيه حتى ابتدره هذا الفتى فأفرغ فيه عدة(162/17)
رصاصات طرحته على الأرض يتخبط في دمه؛ أطلقها من مسدس كانت تحمله يد لم تخنها قواها، يقلبه بقلب كأنه قد من الحديد، فأنفذ حشوها فيه كما ينفذ الجلاد حكم القضاء في المنكودين، ولكن مع الأسف لم يكن حول الفقيد يد شهم مخلص مقدام كيد أحمد البحراوي التي أنقذت سعادة حكمدار العاصمة من الرصاص الذي صوب إليه، ولذلك وجدت رصاصات ذلك الفتى سبيلاً إلى جسم رئيس الوزارة)
بل استمع إليه وهو يختتم هذه المرافعة بتوجيه الخطاب إلى المتهم كيف يطلق العنان للعاطفة دون أن يختل ميزان أسلوبه السهل الممتنع:
(أما أنت أيها المتهم: فقد همت بحب بلادك حتى أنساك ذلك الهيام كل شيء حولك. أنساك واجباً مقدساً هو الرأفة بأختك الصغيرة وأمك الحزينة فتركتهما يبكيان هذا الشباب الغض. تركتهما يتقلبان على جمر الغضا. تركتهما يقلبان الطرف حولهما فلا يجدان غير منزل معفر غاب عنه عائله. تركتهما على ألا تعود إليهما وأنت تعلم أنهما لا تطيقان صبراً على فراقك لحظة واحدة فأنت أملهما ورجاؤهما. دفعك حب بلادك إلى نسيان هذا الواجب وحجب عنك كل شيء غير وطنك وأمتك وأخيك فلم تعد تفكر في تلك الوالدة اليائسة وهذه الزهرة اليانعة ولا فيما سينزل بهما من الحزن والشقاء بسبب ما أقدمت عليه. ونسيت كل أملك في هذه الحياة وقلت إن السعادة في حب الوطن وخدمة البلاد، واعتقدت الوسيلة الوحيدة للقيام بهذه الخدمة هي تضحية حياتك: أي أعز شيء لديك ولدى أختك ووالدتك فأقدمت على ما أقدمت راضياً بالموت لا مكرهاً ولا حباً في الظهور. أقدمت وأنت عالم أن أقل ما يصيبك هو فقدان حريتك؛ ففي سبيل حرية أمتك بعت حريتك بثمن غال
فاعلم إذن أيها الشاب أنه إذا تشدد معك قضاتك ولا أخالهم إلا راحميك، فذلك لأنهم خدمة القانون، وهو هذا السلاح المسلول فوق رأس العدالة والحرية. وإذا لم ينصفوك ولا أظنهم إلا منصفيك، فقد أنصفك ذلك العالم الذي يرى أنك لم ترتكب ما ارتكبته بنية الأجرام، ولكن باعتقاد أنك تخدم بلادك. وسواء وافق اعتقادك الحقيقة أو خالفها، فتلك مسألة سيحكم التاريخ فيها وإن هنالك حقيقة عرفها قضاتك وشهد بها الناس، وهي أنك لست مجرماً سفاكا للدماء ولا فوضياً من مبادئه الفتك ببني جنسه ولا متعصباً دينياً، وإنما أنت مغرم ببلدك هائم بوطنك، فليكن مصيرك أعماق السجن أو جدران المستشفى، فإن صورتك في البعد(162/18)
والقرب مرسومة على قلوب أهلك وأصدقائك، وتقبل حكم قضائك باطمئنان، واذهب إلى مقرك بأمان)
ومثل آخر لإيراد الكلام على قدر المعنى المطلوب تجده في مذكرات صديقي الأستاذ سليمان حافظ المحامي، وأغلب ظني أنه يحتذي إمامنا الراحل. قال في صدر إحدى هذه المذكرات يحدد موضوع البحث ويبين ما سبق من الرأي، وينتهي إلى غرضه من الاستشهاد بحكم محكمة النقض. وهذا كله في أسطر معدودة
(بيعان أحدهما من مورث والثاني من وارث عن عين بذاتها. وبيع الوارث أسبق تأجيلا. فأيهما أحق بالتفضيل؟ وأي المشترين تملك؟ المشترى من المورث أو المشترى من الوارث؟ ذلك هو موضوع البحث ومناط الفصل في هذه الدعوى
قد يقال إن العقد الأسبق تسجيلاً هو العقد الأحق بالتفضيل؛ غير أن نظرية التفاضل بالتسجيل لا محل لها ما لم يكن البيعان صادرين من مالك واحد. وهنا يحق البحث فيما إذا كان الوارث والمورث شخصاً واحداً بمعنى أن الوارث استمرار لشخص المورث، أو أن لكليهما شخصية قانونية مستقلة عن الأخرى؟
وقع الخلاف فيما مضى على هذه المسالة فقال فريق إن شخصية الوارث تكمل شخصية المورث أخذاً بقواعد القانون الفرنسي. وقال فريق آخر إنها مغايرة لشخصية المورث طبقاً للشريعة الإسلامية. وتزاحمت الأحكام بين الرأيين، وانقسم الفقهاء المصريون إلى شطرين، حتى طرحت هذه المسألة أمام محكمة النقض وأصدرت فيها حكمها بتاريخ 3 ديسمبر سنة 1931: أخذ بالرأي الثاني ووضع نهاية للخلاف السابق)
ترجم هذا الكلام حرفاً بحرف إلى اللغة الفرنسية أو إلى الإنكليزية التي اشتهر أهلها بحب الإيجاز فلن يجد فيها الفرنسي أو الإنكليزي أثراً لحشو أو تزيُّد مما يؤخذ على كثيرين من كتابنا
(يتبع)
زكي عريبي
المحامي أمام محكمة النقض والإبرام(162/19)
خواطر في السياحة
مجاز الشرق والغرب
للأستاذ محمد عبد الله عنان
للسياحة أدب خاص. وربما كان أدب السياحة أقدم أنواع الأدب بعد أدب الأساطير والفروسية. فمنذ القرن الخامس قبل الميلاد نجد هيرودوت أبا التاريخ يجوب أنحاء آسيا الصغرى وفارس والشام ومصر، ويقدم لنا دراسته ومشاهداته في أثر ممتع هو الأول من نوعه. وقد جرى أكابر الرحل والرواد في كل عصر وقطر على تدوين رحلاتهم ومشاهداتهم. ولدينا في تراثنا العربي طائفة كبيرة من الآثار الهامة التي تعتبر وثائق نفيسة عن أحوال العصور التي كتبت فيها والبلاد والمجتمعات التي تناولتها
وقد كانت السياحة من قبل مغامرة محفوفة بالمشاق والمخاطر، ولكنها أضحت في عصرنا هينة ميسورة، بل غدت متاعاً ونزهة بما مهد لها من وسائل المواصلة السهلة الأمينة في البر والبحر والهواء، وتنوعت سبلها ووسائلها ومرغباتها، وأضحت في كثير من البلاد التي حبتها الطبيعة بمحاسنها صناعة قومية تنظم لاجتذاب الموسرين والمترفين
ومن الحقائق المعروفة أن السياحة تذكي الخيال وتلهم القلم؛ ذلك أن السياحة تقدم إلى الكاتب مادة غزيرة من الجديد في كل شيء: في الطبيعة والإقليم، وفي الأشياء والناس، وفي مختلف نواحي الحياة الاجتماعية؛ وهي بما تحمل من متاع للنفس والعين والروح تمد الكاتب بذلك الغذاء الروحي الذي يستمد منه صوره، وتبعث إليه في معظم الأحيان رغبة ملحة في التحدث والإفضاء بما رأى وشاهد
وصلنا إلى مرسيليا بعد أن قضينا في البحر خمسة أيام في جو هادئ وسير ناعم مريح، وأرسينا في الصباح الباكر في مرفئها الشاسع. ومرسيليا ثغر عظيم، ولكنها لا تمتاز عن غيرها من الثغور الكبيرة في مظاهر حياتها ونشاطها؛ بيد أن ما نلاحظه عادة في حياة الثغور من تباين في الناس والمجتمع يبدو في مرسيليا أقوى وأشد وضوحا. فهنالك يلتقي الشرقيون والغربيون من مختلف الأجناس والأمم، وتغص بهم شوارعها ومقاهيها وفنادقها، ولكن هذا المجتمع المتباين يجوز دائماً حياة طائرة غير مستقرة؛ ذلك أن مرسيليا مجاز فقط بين الشرق والغرب، تجتازها الجموع مسرعة، سواء إلى المشرق أو إلى المغرب، ولا(162/21)
تترك فيها أثراً، ولا تحمل منها ذكريات ذات شأن
وليس في مرسيليا ما يجذب السائح المتجول من المشاهد الاجتماعية ويترك في نفسه أثراً خاصاً سوى حبها الشهير المسمى (الكانبيير فهو قلبها النابض، يضطرم دائماً بحركة زاخرة مستمرة، وتجتمع فيه أهم مرافقها التجارية؛ وهو ثغرها الباسم، يغص من الجانبين بالمقاهي الأنيقة، ويغدو بالليل قطعة من الأنوار الساطعة، ويؤمه المجتمع الأنيق المرح، وهو أشبه الأحياء بشارع عماد الدين عندنا، بيد أنه أكثر منه ظرفا وبهاء
ومما يجدر ذكره أن هذا الحي الأنيق (الكانبيير) كان منذ عامين مسرحا لفاجعة دموية مروعة اهتزت لها أوربا، وكادت تودي بالسالم الأوربي؛ تلك هي مصرع الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا، ومسيو لوي بارتو وزير الخارجية الفرنسية الذي كان يرافقه في العربة الملوكية؛ وقد وقع الحادث على مقربة من ملتقى (الكانبيير) بالميناء القديم؛ ورأت الحكومة الفرنسية أن تخلد ذكرى تلك الفاجعة المرسيلية بإقامة نصب تذكاري إلى جانب المكان الذي وقعت فيه، وقد سطرت في رأسه هذه العبارة: (هنا سقط اسكندر ملك يوجوسلافيا، والرئيس لوي بارتو في سبيل قضية السلام والحرية، في 9 أكتوبر سنة 1934)
أما عن المشاهد الأثرية فليس في مرسيليا منها ما يستحق الذكرى سوى أثرين: الأول في داخلها، وهو قصر لونشان، وهو قطعة بديعة من الفن تزين واجهته نافورة ضخمة رائعة الجمال، وتحيط به حدائق عظيمة، نصبت فيها تماثيل عديدة، رأينا منها تمثالاً لمسترال الشاعر البروفنسي الشهير، وأخر لشاعر الحب والجمال الفونسى دى لامرتين
وأما الأثر الثاني فهو خارج الميناء، في جزيرة صخرية صغيرة، وهو حصن (ايف) (شاتوديف) الشهير
وليس لحصن ايف في ذاته أية أهمية فنية أو أثرية، ولكنه يلفت النظر بقواعده وجدرانه المنيعة التي قدت من الصخر الهائل، والتي يتكسر عليها الموج المزبد
وقد ارتبطت بهذا الحصن الصغير الذي أنشأه فرانسوا الأول في أوائل القرن السادس عشر ليكون سجناً سياسياً، ذكريات مروعة، مازالت أوكاره المظلمة الضيقة تحمل أثارها؛ ذلك أن هذه الأوكار السحيقة التي لا يكاد يدخلها شيء من الهواء أو الضوء كانت مثوى لطائفة من أكابر الزعماء والساسة، منهم (ذو القناع الحديدي) الشهير الذي ماسزالت شخصيته(162/22)
لغزا على التاريخ، والذي يعتقد فولتير أنه أخ غير شرعي للويس الرابع عشر، قضى بسجنه وإخفاء وجهه بقناع دائم حتى لا يعرفه إنسان قط. ومنهم (ميرابو) خطيب الثورة الفرنسية، و (فيليب دورليان) ابن عم لويس السادس عشر، و (لويس فيليب) الذي تولى الملك فيما بعد، وغيرهم من الزعماء والأكابر الذين سطرت أسماؤهم جميعاً فوق الغرف التي سجنوا فيها
ومن ذكريات (ايف) المروعة تلك المخادع الشاسعة المنخفضة التي تسمى (بمخادع النسيان) والتي كان يزج إليها بعض المغضوب عليهم، فلا يذكرهم بعد ذلك أحد من أولى الشأن، وربما تركوا فيها حتى يهلكوا في غمر الظلام والنسيان
بيد أن لحصن (ايف) ذكرى شهيرة أخرى، أوحت إلى اسكندر ديما أعظم قصصه وأبدعها ونعني قصة (الكونت دي مونتي كريستو)
مَن مِن عشاق القصص الرائع لا يعرف (الكونت دي مونتي كريستو) تلك الشخصية العجيبة التي خلقها اسكندر ديما من شخصية أدمون دانتيس سجين شاتوديف؟ ومن ذا الذي لا تطربه وتشجيه محنة أدمون في سجنه السحيق، وقصة اتصاله بالأب فاريا صاحب الكنز العجيب، ثم فراره من أسره الهائل بعد مخاطرات مروعة، وحصوله على كنوز جزيرة (مونتي كريستو) وظهوره بعد ذلك على مسرع الحوادث في ثوب تلك الشخصية الخرافية التي يفيض من حولها الذهب والجوهر؟
في حصن إيف وكر صغير مظلم قد في الصخر، وفيه ثلمة صغيرة تصل بينه وبين مخدع آخر في مثل روعته وظلامه؛ ففي أواخر عهد نابليون زج أدمون دانتيس في المخدع الأول بتهمة مؤامرة ملفقة؛ وكان جاره في المخدع الثاني راهب شيخ يدعى الأب فاريا سجن قبله بأعوام طويلة لأسباب مجهولة؛ ولبث أدمون أعواماً يرسف في وكره، وهو يدبر وسائل الفرار حتى وفق إلى حفر ثلمة صغيرة في جدار كان يظن أنه يفضي إلى فناء السجن أو إلى البحر، ولكنه ألفاه يفضي إلى مخدع مجاور، فتعرف بجاره وشريكه في الأسر، الأب فاريا، ووثقت بينهما المحنة أواصر الصداقة؛ وكان الأب فاريا قد وقف قبل محنته من وثائق كانت في حوزة بعض الأحبار على سر كنز عظيم من المال والجوهر خبأه الكردينال سبادا في جزيرة (مونتي كريستو) على مقربة من الشواطئ الإيطالية، فأطلع(162/23)
أدمون على سره حتى إذا فر دونه استطاع الحصول عليه
ثم توفي الأب فاريا فجأة؛ وكانت العادة أن السجين المتوفى يكفن ويلقى في البحر، فدبر أدمون وسيلة عجيبة للفرار خلاصتها أنه بعد أن كُفن الأب فاريا، وترك في مخدعه حتى موعد إلقائه، نفذ أدمون إلى ذلك المخدع من الثلمة الشهيرة، ووضع نفسه في الكفن مكان الأب المتوفى، ووضع الجثة في مخدعه؛ وانتظر حتى جاء عمال السجن وحملوه، وهو مستتر بالكفن وألقوه إلى البحر ظناً أنه هو الأب المتوفى؛ فاستطاع أن يخرج من كفنه، وأن يسبح حتى الشاطئ؛ ونجا بتلك الوسيلة العجيبة؛ وسافر إلى الجزيرة، وبحث عن الكنز المنشود حتى عثر به، وتسمى بالكونت دي مونتي كريستو، وعاش في بذخ عجيب، وهو يعمل للانتقام من أعدائه الذين أوقعوا به حتى أفناهم أو نكبهم جميعاً
تلك هي الحوادث والسير العجيبة التي يثيرها منظر ذينك المخدعين المروعين المتجاورين في حصن إيف: مخدع أدمون دانتيس وزميله الأب فاريا
ولقد ذكرنا منظر حصن إيف بحصن أقدم وأروع يماثله في النشأة والغاية هو حصن سانت أنجلو في رومة، وهو معقل هائل يرجع إلى العصور الوسطى، وبه مخادع مظلمة مروعة كانت معقلاً لطائفة من الأكابر، مثل بنفو نوتوتشلليني الفنان الشهير، والعلامة جوردانو برونو؛ وكان مدى عصور سجناً رسمياً لديوان التحقيق (التفتيش) الروماني، وكان مسرحاً لكثير من المآسي الدموية وحوادث الفرار الشائقة
هذا بعض ما أوحته المناظر والمشاهد المرسيلية إلى الخاطر. ومما يجدر ذكره بهذه المناسبة قصة (البقشيش) (البوربوار) التي قرأنا عنها في الصحف قبل السفر، وعلمنا أنها كانت موضع اهتمام خاص من الوزارة الفرنسية الجديدة؛ فقد استصدرت وزارة مسيو ليون بلوم من البرلمان في أوائل يونيه تشريعاً يقضي بإلغاء (البقشيش) في جميع فرنسا، وذلك لما رأته من تغلغل هذا الداء في جميع المعاملات تغلغلاً يجعله أشبه بضريبة غير رسمية؛ وقد اعتقدنا حين وصلنا إلى مرسيليا أننا تخلصنا من هذا الداء المنغص بفضل المسيو ليون بلوم، فإذا نحن واهمون، وإذا البقشيش لا يزال عماد المعاملة في كل خطوة، وكل شيء وكان أول ما لفت نظرنا في الفندق إعلان جاء فيه: إنه نظراً لإلغاء البقشيش فقد رأت الإدارة أن تضيف إلى جملة الحساب عشرة في المائة نظير الخدمة! فتساءلنا عندئذ ما الذي(162/24)
ألغاه القانون الجديد، وما الذي فعلته وزارة المسيو ليون بلوم؟
ومما يلاحظ الآن في فرنسا بنوع خاص أن الجبهة الشعبية التي تؤيد الوزارة الجديدة تلقى تأييداً شديداً، وأن النزعة الديموقراطية التي كانت قد فترت في العهد الأخير قد عادت إلى حدتها؛ وفي ذلك ما يدل على أن الشعب الفرنسي يشعر اليوم شعوراً قوياً بما يهدد الديموقراطية من الأخطار، ويزمع أن يتمسك بنظمه الحرة العريقة، على رغم ما يعتورها أحياناً من أوجه الفساد والضعف، وأن يدافع عنها ضد تلك النظم الطاغية الهمجية التي تسود اليوم بعض الدول العظمى، والتي تحاول أن تسود أوربا القديمة كلها
بورفاندر (سفح البرنيه) في أواخر يوليه
محمد عبد الله عنان(162/25)
بمناسبة المهرجان الألفي لأبي الطيب في دمشق
2 - دين المتنبي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
للأستاذ سعيد الأفغاني
أنتقل الآن إلى الكلام عن اعتقاد أبي الطيب، وهو الموضوع الذي زلت فيه أقدام كثيرين، إما لميل إلى الرجل أو عليه، وإما لاكتفائهم من البحث بأدنى نظرة، وتعلقهم مظاهر من القول دون نفاذ إلى حقيقته ولا تطلع إلى ما حف به من قرائن. والحيطة في هذا ضرورية لمن يريد استنباط أمور من الشعر العربي وخاصة في عصر كعصر أبي الطيب فشا فيه المدح والغلو والتلاعب بالألفاظ، وأصبح كل مادح على مذهب ممدوحه في الأغلب، فإن كان شيعياً أشاد الشاعر بسراة الشيعة ورفع من مقالتهم، وإن كان يقول بالتناسخ مال الشاعر إليه، وان كان معتزلياً أو سنياً فالشاعر معتزلي أو سني. . وهكذا دواليك
فشت هذه الظاهرة من النفاق في الناس وكانت أشد ما تكون في الشعراء، حتى لقد شهد المعري عليهم وعلى عصرهم بذلك؛ وحسب التاريخ شهادة شيخ المعرة، فقد أيدها بالدليل، وأرسل فيها قولاً حكيما يعرف رشده وصوابه كل من أمعن الفكرة، ولم يكتف بالنظرة. قال بعد أن ذكر تنبؤ أبي الطيب والأبيات تدل على تألهه:
(وإذا رجع إلى الحقائق فنطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان، لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل بالقول تديناً وإنما يريد أن يصل به إلى ثناء أو غرض؛ ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون وفيما بطن ملحدون. وما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع وإنما غرضه التكسب؛ ولا أرتاب في أن دعبلاً كان على رأى الحكمي وطبقته، والزندقة فيهم فاشية ومن ديارهم ناشئة.)
وقال في موضع آخر: (وفي الناس من يتظاهر بالمذهب ولا يعتقده، يتوصل به إلى الدنيا الفانية، وكان لهم (يعني القائلين بالتناسخ) في المغرب رجل يعرف بابن هانئ وكان من شعرائهم المجيدين فكان يغلو في مدح المعز غلواً عظيما حتى قال فيه وقد نزل بموضع(162/26)
يقال له رقَّادة:
حل برقَّادة المسيح ... حل بها آدم ونوح
حل بها الله ذو المعالي ... وكل شيء سواه ريح
فمن الضلال البين إذن أن نلزم أبا الطيب عقيدة ذكرت في شعره عرضاً، إلا إذا صحبتها قرائن تقويها وتدل على اعتقاده إياها. وليس من الصواب في شيء اعتبار الشعر - وحاله ما بيّنا - مصدراً من مصادر التاريخ وما أجهل المؤرخ إذا حكم على أخلاق سيف الدولة أو كافور بشهادة شعر المتنبي فيهما
بهذا الحذر أخوض الكلام في اعتقاد المتنبي مع علمي بأنه لم ينظم شيئاً يبين فكرته في الدين خاصة، وإنما هي أبيات وقعت في جملة شعره، بوسع المؤرخ أن يستأنس بها بعد أن يدرس سيرته
جاء في خزانة الأدب للبغدادي كلام عن اعتقاد أبي الطيب منقول عن الأصفهاني وهذا نصه:
(وهو (أي أبو الطيب) في الجملة خبيث الاعتقاد؛ وكان في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوّسه وأضله كما ضل. وأما ما يدل عليه شعره فمتلون، وقوله:
هون علي بصر ما شق منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم
مذهب السوفسطائية. وقوله:
تمتع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
مذهب التناسخ. وقوله:
نحن بنو الدنيا فما بالنا ... نعاف ما لابد من شربه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من تربه
مذهب القضائية. وقوله:
فإن يكن المهدي من بان هديه ... فهذا، وإلا فالهدى ذا، فما المهدي؟!
مذهب الشيعة (كذا). وقوله:(162/27)
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل: تخلد نفس المرء باقية ... وقيل: تشرك جسم المرء في العطب
مذهب من يقول بالنفس الناطقة. ويتشعب بعضه إلى قول الحشيشية، والإنسان إذا خلع ربقة الإسلام من عنقه وأسلمه الله عز وجل إلى حوله وقوته وجد في الضلالات مجالاً واسعاً، وفي البدع والجهالات مناديح وفسحاً.) اهـ
فأبو الطيب في رأى هذا الفاضل: سوفسطائي، تناسخي قضائي شيعي حشيشي. . مجموعة مذاهب لو فُرقت على مملكة عريضة لخربتها في يومين؛ فما الحال إذا اضطلع بها كلها قلب رجل واحد؟
على أن الشواهد التي استند إليها في أحكامه هذه لا تحمل ما حمّلها: فالشاهد الثاني (تمتع من سهاد. . البيت) ليس فيه ما يصرح بالتناسخ. وقوله: (فإن يكن المهدي. . .) يخرجه من الشيعية إخراجاً، لأنه شك في المهدي أول البيت، ثم جعل ممدوحه هو المهدي إن كان هناك مهدي، ثم ختم البيت بهذا الاستفهام التهكمي: ما المهدي!!؟
وإن دل الشاهد الأخير (تخالف الناس. . البيتين) على شيء فعلى تردد أبي الطيب بين القولين وعلى شكه وحيْرته بدليل البيت الذي بعدهما:
ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب
والذي استفدناه من كل ذلك أن المتنبي وقع في حداثته إلى رجل من المتفلسفة فهوّسه وأضله، والظاهر أن أثر هذا الأستاذ كان في أبي الطيب بالغاً، فقد بقي ضعف العقيدة وعدم الاعتداد بآداب الدين ملازماً أبا الطيب حتى مات
ومهما يكن فقد ألم المتنبي بكثير من النحل الشائعة في عصره دون اعتقاده بواحدة ما. وذكر بعضها في شعره منزّلة خير تنزيل: مدح طاهراً العلوي مرة فقال:
إذا علوي لم يكن مثل طاهر ... فما هو إلا حجة للنواصب
والنواصب الخوارج الذين نصبوا العداء لعلي
وذكر المانوية أصحاب الاثنين الزاعمين أن الخير كله من النور وأن الشر كله من الظلام فقال:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبّر أن المانوية تكذب(162/28)
وعرض لذكر المجوس ومذهبهم في نكاح الأخوات حين أراد الثناء على حسن امرأة ود أخوها لو كانت تحل له لفرط جمالها فقال:
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى ... لأخوك ثَمّ أرق منك وأرحم
يرنو إليك مع العفاف وعنده ... أن المجوس تصيب فيما تحكم
ووقع في شعره ذكر كلمة يصح أن يتعلق بها من يريد جر أبي الطيب إلى طائفة ما، وهي كلمة (الوصيّ) في قوله:
هو ابن رسول الله وابن وصيه ... وشبههما شبهت بعد التجارب
وقوله:
وتركت مدحي للوصي تعمداً ... إذ كان نوراً مستطيلاً شاملاً
وقد فرغت من بيان أن مثل هذا لا يدل على شيء، ولا ينهص دليلاً ولا بعض دليل، لجريان عادة الشعراء بمجاراة الممدوح في عقيدته ورأيه
وبعد، فإن لم يكن للحكم على دين المتنبي مجال في شعره، ففي تلك الشناعات القبيحة التي زجه فيها الغلو في المدح حتى قل أدبه مع الله ومع رسله وكتبه، حين زعم لممدوحيه علواً يرفعهم إلى ذلك المستوى. والمدح متى جاوز الواقع فهو محظور في كل الأديان فكيف إن بالباطل وإلى التغالي. دع ما يريق من ماء وجه المادح وما يكسر من عزته ويضيع من كرامته. ومتى كان مسلما من لا حياء له ولا عزة ولا كرامة؟
وودت والله لو أن شعراءنا هجروا هذا الباب، باب المديح، مرة واحدة بمحاسنه ومقابحه، وشغلوا عنه بغيره من فنون القول الواسعة، فما هو بالفن المشرف ولا المأسوف عليه إن فقد. وقد حفظ الأدب العربي كثيراً من المبالغات الممقوتة والغلو الشنيع، ولكن ما في ديوان أبي الطيب وحده هو بكل ما في مكتبتنا قبحا وشناعة وإساءة أدب:
مرة يحاول السجود لممدوحه فلا يكفه إلا الزجر:
طلبنا رضاه بترك الذي ... رضينا له فتركنا السجودا
ومرة يشرك هذا الممدوح بالله فيقول:
ما يرتجي أحد لمكرمة ... إلا الإله وأنت يا بدر
ويقول:(162/29)
ترى القمر والأرض والملك الذي ... له الملك بعد الله والمجد والذكر
ويقول:
إذا بقيت سالما أبا علي ... فالملك لله العزيز، ثم لي
ويقول:
أنا مبصر وأظن أني نائم ... من كان يحلم بالإله فأحلما
ويقول:
تتقاصر الأفهام عن إدراكه ... مثل الذي الأفلاك فيه والدنا
يعني الله سبحانه. ويستخف تارة بالمصطلحات الدينية استخفافا ظاهراً فيقول:
يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد
وقد أرادوا تأويل هذا البيت فكان التكلف والتعسف ظاهريْن في تأويلهم. وقال:
وأعطيت الذي لم يعط خلق ... عليك صلاة ربك والسلام
وجعل ممدوحه أعظم معجزات النبوة في قوله:
وأبهر آيات التهامي أنه ... أبوك وأسمى مالكم من مناقب
وهو لا يرى لممدوحه شبيها أبداً فيقول:
لم يخلق الرحمن مثل محمد ... أبداً وظني أنه لا يخلق
ويقول:
إن كان مثلك كان أو هو كائن ... فبرئت حينئذ من الإسلام
وانظر هذا الغلو الممقوت في قوله:
لو كان علمك بالإله مقسما ... في الناس ما بعث الإله رسولا
لو كان لفظك فيهمُ ما أنزل ال ... قرآن والتوراة والإنجيلا
وفي قوله:
أو كان صادف رأس عاذر سيفه ... في يوم معركة لأعيا عيسى
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما انشق حتى جاز فيه موسى
يا من نلوذ من الزمان بظله ... أبداً ونطرد باسمه إبليسا
وهذا الهذيان ما معناه؟(162/30)
يأيها الملك المصفى جوهراً ... من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
نور تظاهر فيك لا هو تِيُّهُ ... فتكاد تعلم علم ما لن يعلما
وهو حيناً كالمسيح (ما مقامي بأرض نخلة. . . البيت)
وحيناً كصالح (أنا في أمة. . . البيت) ولا يخجل بعد هذا الادعاء أن يضرع إلى من سجنه بهذه العبودية:
أمالك رق ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
هو من حداثته مهوس مضلل لم يستنر قلبه بنور عقيدة، ولا شعر صدره ببرد يقين. فلم ينشأ تنشئة دينية في صباه، ثم طرح إلى هموم الحياة وأتعابها فاضطر إلى التكسب بالمدح من صغره، وشغل عن عبادة الله والتدين بعبادة الناس والمال لهذا السبب، لا (لأنه صاحب مطامع دنيوية وعقل موكل بالأعمال والوقائع لا بالعقائد والعادات) فليس هناك تناف بين التوكيل بالأعمال والتدين، ولم يخل المتدينون يوماً عن مآرب ومطامع في هذه الحياة
وهذا وليس للمتنبي فلسفة إلهية حتى نقول إنه استهان بالدين تفلسفا؛ وليس لعقله ما لعقل أبي العلاء من مواهب تؤهل صاحبها للنظر والحكم في المقالات والمذاهب، بل هو في هذا الاستخفاف الذي نم عليه شعره لا يترفع كثيراً عما نرى عليه بعض العامة المستخفين
كان إلى جانب المحن والثورات الداخلية التي منى بها المسلمون في القرن الرابع غارات أجنبية متواصلة تشن على ثغور المسلمين؛ وكان أمراء العرب في تأهب مستمر لرد هذه الغارات فيظفرون تارة وتارة يغلبون، وسيف الدولة أحد هؤلاء الأمراء الذين أصلوا الروم بنيرانهم وشغلوا برد غاراتهم
ونزعة الحروب في الشرق - قديما وحديثا - دينية أبداً ما تغيرت يوما من الأيام، إلا أن الروم كانوا في القرن الرابع الهجري صريحين، لم يهتدوا بعد إلى هذا الطلاء الكاذب الذي أسموه تمدينا بعد عشرة قرون
وشاعرنا أبو الطيب شارك سيف الدولة في جهاده الديني فقاتل بجسمه وتعرض للخطر، وناضل بلسانه. وفي شعره من مواطن الغيرة على الدين وأهله من تسلط الروم ما يحمل المنصف على عدها في حسناته، كان يرى هذه الحروب كما كان يراها غيره من أهل زمانه وكما هي في الواقع - دينية لا قومية، وهذ1 هو الفارق بينها وبين حروب سيف(162/31)
الدولة مع خصومه من الأمراء. فكانت قصائد أبي الطيب التي يصف فيها هذه الحروب تطفح بالحمية الدينية والنزعة الإسلامية، فهو يثني على سيف الدولة الذي هزم الدمستق وأنقذ المسلمين من إكراه الروم لهم على الردة فيقول:
فخرُّوا لخالقهم سجداً ... ولو لم تغث سجدوا للصُلُب
ولم تعجبه هدنتهم مع الروم فقرعهم ومدح سيف الدولة لتدينه فقال:
أرى المسلمين مع المشرك ... ين فإما لعجز وإما رهب
وأنت مع الله في جانب ... قليل الرقاد كثير التعب
ومن هنا تلقيبه سيف الدولة بسيف الرب وسيف الدين في أقواله:
أيا سيف ربك لا خلقه ... ويا ذا المكارم لا ذا الشطب
يا سيف دولة دين الله دم أبدا ... وعش برغم الأعادي عيشة رغدا
يا سيف دولة ذي الجلال ومن له ... خير الخلائف والأنام سميا
خضعت لمنصلك المناصل عنوة ... وأذل دينك سائر الأديان
ونعته بنفرته الشديدة من الردة وتعلقه بالإسلام فقال:
كأن سخاءك الإسلام تخشى ... إذا ما صلت عاقبة ارتداد
وهو رجاء الإسلام والموقي من الرحمن ونصير التوحيد:
ولست مليكا هازماً لنظيره ... ولكنك التوحيد للشرك هازم
هنيئاً لضرب الهام والمجد والعلا ... وراجيك والإسلام أنك سالم
ولمْ لا يقي الرحمن حديك ما وقى ... وتفليقه هامَ العدا بك دائم
أبو الطيب يذهب أبعد من هذا: لا يكتفي باستنكار سلطان الروم على قومه، بل يأنف لهم أن يحكمهم مثل كافور، وإن كان مسلماً مثلهم، ولا يرضيه سكوت الناس عليه؛ ويغضبه أن يعظموه فيصرخ فيهم هذه الصرخة ويعرض بأم كافور:
نُوَببيّة لم تدر أن بنيها ال ... نوبي دون الله يعبد في مصر
ثم يرسلها ملعلعة تتنزى بالألم والحسرة والأسف على ما صار إليه الإسلام فيقول:
سادات كل أناس من نفوسهم ... وسادة المسلمين الأعبد القزم
رحم الله أبا الطيب! ما تراه كان قائلاً لو بُعث اليوم فشاهد ما نشاهد! إذن لرأى هؤلاء(162/32)
الأعبد القزم شرفاء قياساً إلى غيرهم، بل أنبياء
لصاحبنا إزاء ما تقدم من أبيات يأباها الدين والعقل، أبيات أخرى هي من صميم الدين وروحه، يتقاضاني الإنصاف ذكر شيء منها كما ذكرت تلك، فقد نص في بعضها على أنه لا يخضع لمخلوق أبداً
تغرب لا مستعظماً غير نفسه ... ولا قابلاً إلا لخالقه حكما
وقد جعله أبو العلاء بهذا البيت من المتألهين. ويعترف بتصرف الله المطلق في الكون:
ألا إنما كانت وفاة محمد ... دليلاً على أن ليس لله غالب
وأن الله هو الملحوظ في كل فعل وحركة:
فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
وهذا البيت ينظر إلى قول الله مخاطباً نبيه: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وهو يجعل شكر الله واجباً في دوام النعمة حين قال في ممدوحه:
مقلداً فوق شكر الله ذا شطب ... لا تستدام بأمضى منهما النعم
وكما أبى قبول الحكم من غير خالقه أبى الشكوى إلى الناس وهذا غاية ما يأخذ به الموحد نفسه:
ولا تَشَكّ إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
ولنذكر أن صاحب دمشق وكان يهودياً يعرف بابن ملك حمل المتنبي على مدحه فأبى أنفة، وكذلك فعل مع ابن كيغلغ وكان رومياً
هذا ما رأيت في شعر أبي الطيب من تعلق بالدين سلباً أو إيجاباً، ذكرته على حقه بحرية وصراحة. أما سيرته العملية فقد ذكروا له أخلاقاً يحمده عليها الدين وهي عفة المذهب والصدق. وقد كان المتنبي - كما ذكروا - لم يؤثر عنه فسوق قط. وقوله
إني على شغفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها. . الخ
صحيح كل الصحة في الدلالة على عفته، فقد أيدته سيرته طول حياته. وكذلك في التزامه جانب الصدق:
ومن هوى الصدق في نفسي وعادته ... رغبت عن شعر في الرأس مكذوب
ثم ذكروا له خلالاً ثلاثاً دلت على أن الرجل لم يأخذ نفسه بشيء من التكاليف الشرعية، أي(162/33)
لم يكن مسلماً بالعمل. قال أبو حمزة البصري:
(بلوت من أبي الطيب ثلاث خلال محمودة: هي أنه ما كذب ولا زنى ولا لاط، وبلوت منه ثلاث خلال مذمومة وهي أنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن.)
فإذا أضفت إلى ذلك ما تعرف في سيرته من البخل والتعاظم وسلاطة اللسان، وأن له في القذف فحشاً ما عرف أقبح منه ولا أدنس، استقام لك من كل ما قدمت رأي لعله أن يكون أقرب الآراء من صواب
وأنا لست أقول فيه ما قالوا من أنه: (خبيث الاعتقاد قد خلع ربقة الإسلام) ولا أتكلف له التأويل والمحال، فقد قدمت الإشارة إلى بطلان المذهبين معاً
ولكني ألاحظ أنه شاعر، والشاعر كثيراً ما يبيع دينه بدنيا غيره، فإن خرج على الإسلام في غلوه فما قصد إلى هذا الخروج قصداً، وإنما أراد الزلفى عند الممدوح، فأداه الغلو إلى الخروج
وليس من الحق أن نحكم على آخرة رجل بنزوة كانت منه في الحداثة، أو حماقات صدرت في فترات من حياته. ومن ذا زعم أن أبا الطيب كان يعتقدها اعتقاداً حتى نجعله بها صاحب مذهب في الدين، وقد علمنا أن عقله لم يفرغ لهذا قط؛ فمن سره أن يجر النوابغ المشهورين إلى طائفة بالسلاسل والأغلال، يكثر بهم سوادها فما أراني مضطراً إلى شيء من هذا، وقد فرغ أهل البصر من هلهلة هذه الطريقة التي سلكها بعض المؤلفين الحديثين في كتب التراجم جهلاً وعصبية، فما هي إلى علم ولا إلى أمانة. والحكم على دين رجل أبعد منالا من أن يكتفي فيه بورود اسم هذا الدين في كلامه، فما بالك إن كان ذكره له مجاراة أو حكاية أو ردا أو شتيمة؟
وقد ذكر المتنبي في شعره هذه الديانات: المانوية، المجوس، اليهود، النصارى. . . الخ أفيستقيم في هذا الزمان أن ينهض منتسب إلى العلم فيعد أبا الطيب مانوياً أو مجوسياً؟
إن العلم والأدب أمانة، فلينظر قارئ في كتاب ما ترك مؤلفه من عقله وأمانته وما أخذ
أما أنا فأستطيع الآن بعد ما قدمت من بحث تحريت فيه بجهدي، ودعمته بما رأيت من برهان أن أرسل كلمتي مطمئناً في دين أبى الطيب فأقول:
آمن لسانه وتخلف عمله، ولم يكن الدين همه يوما من الأيام(162/34)
(دمشق)
سعيد الأفغاني(162/35)
في النقد أيضاً
بقلم محمد مظهر الجلاد
إلى الأساتذة الأكابر:
كان للفصول التي كتبتموها في النقد أثر كبير في كشف غوامض العلل التي أصابت الأدب والنقد معاً، وما أراني تكلفت الصبر في شيء كما تكلفته في انتظار (الرسالة) حين كتابة هذه الفصول. وإني لها لعلى انتظار واشتياق
كتب الأستاذ الزيات مقالين في (الرسالة) افتتح بأحدهما باب النقد واختتمه بالآخر، وكانت بينهما معركة، وكانت بينهما نفحة من نفحات النصر الجميل تخطَّر لها الأدب، وانتعش بها النقد، والتذت بها الفكرة؛ حتى إذا تمتع الطرف، وأرهف الحس وثارت العاطفة علا هُتاف الإلهام يقول: ألا إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها
كتب الأستاذ أحمد أمين مقالين ألقى فيهما مسؤولية النقد على الشيوخ ردَّ في غضونهما الدكتور طه حسين على الأستاذ الأمين؛ ثم كتب الدكتور هيكل فصلاً رمى فيه تبعة النقد على الشباب، ثم ختم الأستاذ الزيات مقاله قائلاً: (الحق إن ركود الأدب وفوضى النقد لا يرجعان إلى الشيب ولا إلى الشباب، وإنما يرجعان إلى تهريج الصحف وكسل الكتاب)
وأنا لا أجد بأساً من التعليق المجمل على ما كتبه السادة الأدباء في هذا الموضوع، لا لأني سأزيد على ما كتبوه شيئاً لم يكن، وإنما هي كلمة الأستاذ الزيات أثارت في نفسي شيئاً حملني على الكتابة، ووجدتني مضطراً إلى التعبير عن هذه الثورة، وألجأتني إلى الخجل والاستحياء من أساتذتي الكرام، حيث كتبت فيما يكتبون، في حين أن البون شاسع بيني وبينهم؛ غير إني لم أنس أيضاً أن للتلميذ حقاً كما أن للأستاذ حقاً، ولكل منا مقام
أبدع الأستاذ الأمين فيما كتب؛ غير أني أعتقد أن علة النقد ترجع إلى أساسين اثنين: أحدهما العلم، وثانيهما الخُلُق. فأجاد هو في شرح أكثر الأول، ولا أدري علامَ أرجأ الثاني. إنه سطوة الهوى، وفتنة الغرور، وغلبة العاطفة
إن الأدب والذوق والعلم عدة النقد الكافية، وإن هذا الأدب والذوق والعلم ليثقف العقول ويرهف المشاعر، وإن هذه العقول وهذه المشاعر لتبدع النقد، وتجيد التمحيص، وتعرف موضع الداء والدواء. وبقي أن نعرف أن هذه الملكة الأدبية الصافية قد تتحوّل عند النقد(162/36)
أحياناً أو أبداً إلى ملكة نفسية تتصرف بالقلم لا كما يشاء الأدب والفن، بل كما يشاء الغرور وكما يريد الهوى
ليت شعري أي رجل من الرجال يتقلد مفاتح النجاة من حق فاضح، وحكم صحيح، ونقد نزيه، ثم لا يفر من خصمه بأي أساليب الحيلة شاء، وبأي ضروب القول أراد، إذا لم يؤت سَعَة في الصدر وقوة في الخُلق ترغمه على قبول الحق مهما يكن مُراً؛ ولاسيما من أوتي قوة الجدل المنطقي والحوار اللانهائي
أين ذلك الخُلق الذي يقول: أخطأ عمر وأصابت امرأة: هناك ناس يخبطون في النقد خبط عشواء، فلا يحملون في نفوسهم غير الضغينة، ولا تعرف ألسنتهم غير البذاء. وكم يتعجرف هؤلاء وكم يجدون لأنفسهم من مكانة، ولأدبهم من شعر وفن وجمال، ولنقدهم الصحة والدقة والذوق؛ فهم يتطاولون ليجثموا فوق القمر، ويجلسوا على النجم، ليكون للناس منهم نصيب وافر وحظ عريض
وهناك من ينقد عن بصيرة وعلم، فهو يفتش عن علل العيب في خصمه، لا لينقده ويرشده إلى الصواب، بل ليحط من قدره وينال من كرامته. فأنت تجد في نقده الصحة والذوق والسمو، ولكنك لا تجد طهر السريرة ونزاهة النقد. على أن هناك أساتذة أدباء وهبهم الله العلم والذوق والخُلق الجميل يكتبون بلغة الناس وروح السماء، لا تكاد تقرأ لهم شيئاً حتى تخال نفسك طائراً ملائكياً يسبح في عالم الجمال، فيه الملائكة والروح تتنزل بإذن الله على من يشاء من عباده
لابد من الأخلاق في هذا الموضوع إذن، وإنها لمن أكبر ضروراته وأعظم مميزاته؛ وأنا أعرف أن النقد شيء والخلق شيء آخر، ولكن شدة الصلة بينهما وقرب الوشيجة دعواني لربط أحدهما بالآخر، وما أرى أن أحداً ينكر عليَّ هذا
وأرى أيضاً أن في النقد الحاقد المشوه هدماً لكيان أمة برمتها وسبباً من أسباب الأحن الفتاكة التي تكبر وتكبر حتى لكأنها دولة فيها الجند والأسطول والمدفع والغاز لا تهدأ إلا لتثور، ولا تخمد إلا لتستقر، وهكذا دواليك
لعل قائلاً يقول: إن النقد اللاذع يبعث على النضج الأدبي السريع إذ تشحذ الأذهان، وتبرى الأقلام، وتلتهب الغيرة، ولن يتاح هذا الإنتاج السريع بهدوء النفس وفتور المشاعر، فنقول(162/37)
له: إن ما يخسره الأدباء من الصلة الأدبية بينهم وما يكون من اجتماعاتهم وروابطهم حيث تعطى عصارة الرأي وناضج الأدب وصرف الجمال، أكبر من الربح السريع فيه معاني التجزئة، وحقيقة التشويه، وذل الأمة
النقد النزيه وحده كاف لأن يكون أثراً فعالاً وقوة ريّضة لإيقاد الشعور وتحفيز الهمة. ولِمَ لا وقد يجد المنقود في النقد النزيه أخاً يجادله في حب، ويناظره في لين، ويكاتبه في ابتسام وسرور. وكم يجد لعزائه من سلوة حينما يجد ناقده النزيه يكشف له عن عيبه في رقة وعن خطئه في إشفاق. ولا تنس أن ذكر المحاسن في النقد والتماس التشجيع في امتداح الجودة وشكر الجميل وسيلة كبرى في نشر الثقافة ورقي الأدب وانتصار النقد
قد يحجم أكثر المتأدبين عن النقد ويركنون إلى الدعة والراحة إذا ما رأوا كاتباً من الكتاب يحترق في لهيب النقد الغاضب راضين من الغنيمة بالإياب، وتلك هزيمة منكرة تشنها الفوضى الأخلاقية على العقل والعلم والأدب والنقد جميعاً، كما أني لا أقصد الإفراط في التلطف والشكر على قبيح يشوه حقيقة النقد من أجل رعاية الخلق والأخلاق. لا. وإنما أريد الاعتدال والنصفة، حيث يلتقي كلا الخصمين على شاطئ الإخاء يقودهم الأدب إلى حيث اللقاء الدائم والصفاء المستمر
محمد مظهر الجلاد(162/38)
شعراء الموسم في الميزان
نقد وتحليل
للأديب عباس حسان خضر
- 4 -
ميلاد الرسول
كانت هذه القصيدة من أقوى العمد التي قام عليها نجاح الموسم، وقد عرف الأستاذ محمد الأسمر كيف يحكم فيها الصلة بين وجدانه ووجدان المستمعين باختيار الموضوع، وحسن الالقاء، وبراعة التأدية. وإذا كانت الطبيعة الشعرية خصبة، وكان التعبير عما تنتجه، وتوصيل هذا التعبير إلى (مستهلكي) الشعر جيدين، فقد بلغ الشاعر ما يرمي إليه من غرض الإجادة. فما حظ هذه القصيدة من ذلك؟ إليك منها في وصف يوم ميلاد الرسول:
يوم أغر كفاك منه أنه ... يوم كأن الدهر فيه تجمعا
ويكاد غابر كل يوم قبله ... يثني إليه جيده متطلعا
فلو استطاع لكر من أحقابه ... وثبا على هام السنين ليرجعا
ويكاد مقبل كل يوم بعده ... ينسل من خلف الزمان ليسرعا
فلو استطاع لجاء قبل أوانه ... وانساب يخترق السنين وأتلعا
تتنافس الأيام في الشرف الذي ... ملأ الوجود فلم يغادر إصبعا
فانظر كيف يمثل الزمان في ركب يبرز في وسطه يوم الميلاد كأنما هو المقصود من الدهر كله، فالأيام قبله تتطلع إليه وتود الرجوع إليه، والأيام المقبلة توشك أن تفلت من نظام الركب لتسرع اليه، وكلها تتنافس لنيل شرف الميلاد النبوي، ومجمع هذه المعاني قوله: (كأن الدهر فيه تجمعا) فهذا التعبير في تفرعه إلى تلك المعاني يشبه مقذوف النور الذي ينبعث في الجو على شكل شرارة مقتضبة، فلا يلبث أن ينبسط متفرعا إلى شجرات أو طائرات أو غير ذلك، وهكذا يكون في المولد النبوي!
فهذه الطبيعة التي تنتج هذا الخيال، هي - ولا شك - صالحة لإنتاج الشعر الذي تتم جودته بمثل ذلك التبيين الذي يزاوله(162/39)
ومن أبيات القصيدة التي لا تصدر إلا عن طبيعة فنية قوله:
والحق أخفى ما يكون مجردا ... وتراه أوضح ما يكون مدرعا
بعد أن تنظر إلى التركيب من حيث تأديته للمعنى التأدية العادية، قف عند كلمة (أوضح) فهي بعد أن تعبر عن وضوح الحق والانصياع له إذا كانت تلابسه القوة، تومئ إيماءة لطيفة إلى وضوح الحق ملبساً بالدروع الملتمعة
وقوله معبراً عن زوال ملك فارس والروم بالفتح الإسلامي:
من لم تزعزعه العواصف قبلها ... بعثت له بنسيمها فتزعزعا
فقد صور الشاعر روح الشريعة السمحة وما تشمله من لطف ورقة بالنسيم، ولكنه أوضح أن النسيم الإسلامي كان قوياً في لطفه ورقته قوة زعزعت ما تقاصرت عنه عاتية العواصف
والأستاذ الأسمر يسوق المعاني في الألفاظ، فتطربك من ذلك وحدة مركبة، وهذا قوله في مطلع القصيدة:
فجر أطل على الوجود فأطلعا ... شمسين شمس سنا وشمس هدى معا
ظلت مطالع كل شمس لا ترى ... من بعده شيئاً كمكة موضعا
قبس من الرحمن لاح فلم يدع ... لألاؤه فوق البسيطة موضعا
فليس من الميسور الفصل بين جمال هذه المعاني وجمال قوالبها
ومن الغريب أن القصيدة مع تجاوز معظمها أصل الموضوع وهو ميلاد الرسول قد جاءت وحدة منسجمة، فقد تخلص الشاعر - بعد نحو ثلث القصيدة - من القول في ميلاد الرسول إلى الإفاضة في الدعوة الإسلامية ومدح الرسول: فذلك الخير الذي أصاب الناس بميلاده، والسنا الذي أزاح الله به الظلمات قد
وافى وليل الجاهلية مطبق ... فإنجاب عن جنباتها وتقشعا
ومن هنا ينقطع الحديث عن الميلاد الذي هو موضوع القصيدة، ويشغل معظمها مدح الرسول والإشادة بدعوته؛ ولكن ما غاية الميلاد؟ أليست وجود هذا الرسول العظيم، وأثر دعوته للناس إلى الهدى؟ قد يقال هذا، وقد تكون عليه مسحة من الوجاهة، ولكن كان ينبغي أن يكون أكثر القصيدة في أصل الموضوع. ولن يخدعنا الشاعر عن ذلك بصنعته في جمع(162/40)
الشتات والتأليف بين الأجزاء
وفي القصيدة كثير من المعاني المطروقة التي اعتورها جمهور الشعراء قديماً وحديثاً، حتى أصبحت (منافع عامة) كقوله:
نادى إلى الحسنى فلما أعرضوا ... واستكبروا شرع الرماح فأسمعا
والحق أعزل لا يروع فإن بدا ... مستلئما لاقى الطغاة فروعا
وقوله:
بعض الأنام إذا رأى نور الهدى ... عرف الطريق، ولم يضل المهيعا
ومن البرية معشر لا ينتهي ... عن غيه حتى يخاف ويفزعا
التجديد والتقليد
الأستاذ محمد الهراوي على رأس المحافظين من الشعراء، فهو يسخر من دعوة التجديد، ويعلن هذه السخرية في هذه القصيدة. على أنه يجب أن ينصف نفسه، فما أظنه يكره التجديد في ذاته، وإن كان يحمل على أدعياء الجديد الذين يسترون سخفهم بدعوى التجديد. . ولما كان هؤلاء قد ملأوا الجو بصيحاتهم الجوفاء، فقد أصبح التجديد في نظر الشعراء كلمة مقرونة بذلك السخف، وأصبح السخف من مدلولات التجديد! والحق أن التجديد مظلوم بين هؤلاء وهؤلاء. ويشير الأستاذ الهراوي إلى ريبته في الجديد بقوله:
يا قادة الرأي الجديد تحية ... لو صح زعمكمو، وألف سلام
فهو يرتاب في زعمهم أنهم مجددون، وأنهم قادة الرأي الجديد. وهو في القصيدة كلها يفند دعاواهم في التجديد، ويردها إلى تقليد الغربيين: فالقصص ليست جديدة، فأسواق الغرب مزدحمة بها، على أن مهد القصة هو الشرق، وهذه قصص ألف ليلة وليلة والشهنامة قد نشأت فيه، وهذا القرآن زاخر بالقصص السامية
وملاحم اليونان أهي جديدة ... وحديثها من قبل ألفي عام
أتعيد ثرثرة الحديث مجدداً ... ونرده لخرافة الأصنام
ثم جعل الأستاذ الهراوي يتهكم على تعبيرات (المجددين) بقوله:
فتقول: (في اثنين يوم) مثلهم ... لا (في مدى يومين في الأيام)
وتقول: (مثل الثلج غرة وجهه) ... لا (مثل وجه البدر حين تمام)(162/41)
وتقول: (مثل الأرز مبسم ثغرها) ... لا (الدر في نسق وحسن نظام)
وتقول: (أوكازيون) يا من يشتري ... وتقول: هذا السعر (للركلام)
وفي هذه الأبيات ركاكة مرجعها العبارات التي يحكيها عن (المجددين) فالإسفاف في الأصل، وناقل الإسفاف ليس بمسف، والشاعر يهجو بهذه الأبيات صنيع المجددين؛ ويقولون: (إذا هجوت فأضحك) فهو ينحو فيها منحى الفكاهة، وهذا المنحى يقتضي التبذل في التعبير. واستمع إلى ما قاله بعد ذلك، وقد جد الجد:
أنكرتمو الأعلام في أوطانكم ... في ذكر ما للغرب من أعلام
فكأنما الغربي في آدابه ... هو وحده المختص بالأحكام
ماذا من التجديد في تقليدهم ... غير الرجوع لأظلم الأيام
لم يضربوا مثلاً لنا من صنعهم ... بكراً ولا جاءوا برمية رام
لقطوا فتات الأجنبي وأقبلوا ... يتلمظون لنا بشبه طعام
ورموا بما التقطوا كأنا عندهم ... قطط الموائد تكتفي بعظام
هذا هو (الكلام الجد) يقوله (زعيم المحافظين)
إلى هنا ينتهي شأن الشاعر مع المجددين، ويبتدئ مع النقاد شأناً آخر، فيقول:
مالي وللنقاد أسمع رأيهم ... ما قادني عقلي إلى الأوهام
لي خطة وحدي وملء عقيدتي ... رأيي وعقلي رائدي وإمامي
وطني هو المملي عليّ قصائدي ... جددا وشعري لوحة الرسام
فكيف لا يسمع رأي النقاد؟ وهل خطة الشاعر ورأيه وعقله وإملاء وطنه عليه قصائده - هل هذه الأشياء تمنع من سماع رأي النقاد؟
وطني
قبل أن أسطر هذه الكلمات محوت كلمات وسطوراً، إذ أنني عند ما شرعت أكتب عن هذه القصيدة شككت في كل كلمة كتبتها، فأنا أريد فيما أكتبه عن هذه القصيدة خاصة أن أطبق المفصل، كما يقولون، فليس ينبغي إلا أن يقال عنها مثل ما قيل فيها. . ولعل هذا إيحاء من القصيدة وما صنعه فيها الأستاذ محمد الهيهاوي من الدقة والتجويد، وليس هذا كل ما صنعه، وليس هو فحسب الذي أوحى إلى المهابة، إن الذي أوحى إلى المهابة هو ما أُوحىَ(162/42)
إلى الشاعر من المعاني السامية والروائع الوطنية التي ضمنها القصيدة، والتي ألهمته إياها مصر، كما قال:
أبدا يلج بك الحني ... ن لذات ملهمة الحنين
فجعل يبعث إيحاءه إلى النفوس فتمتلئ بما امتلأت به نفسه وتتأثر بما تأثرت به. وهاهو ذا يقول فيما تعانيه مصر من سالبي حريتها:
قل للذي بر اليمي ... ن على يديه ردى اليمين
أضنى المئين من الوعو ... د الخلف أو فوق المئين
أنت الذي أفتى السجي ... ن بحسن منقلب السجين
وضع القيود وقال ما ... أشجى رنينك من رنين
فاشرب على شدو الحدي ... د حلاوة الرق الحنون
واغنم رخاء الطوق جا ... ور حبله حبل الوتين
فترى في هذا الشعر آلام مصر مصورة تصويراً دقيقاً، تنتظمه الروح المصرية الصميمة، تكسو كل ذلك أردية عربية متينة. وقوله: (فاشرب على شدو الحديد. . الخ) من الشعر المرقِص
وقد ظهر لي مأخذ في الأبيات الآتية، وهو من المآخذ التي لا تظهر إلا في الشعر الجيد، قال يخاطب مصر:
أجريت فيض مدامع ... من نيلك الباكي الحزين
حمراء حيناً كالدم ال ... جاري على الداء الكمين
فإذا تطامن جأشك ان ... هملت كصافية الشؤون
فهو يقول إن المدامع تكون حمراء في حين، ولم يبين هذا الحين، ثم يقول إذا تطامن الجأش انهملت الدموع صافية، فكيف تنهمل الدموع في حالة سكون الجأش؟ إن الدموع لا تكون إلا في حالة الاضطراب وجيشان العاطفة، أما احمرارها وصفاؤها فيكونان على درجتين من درجات الاضطراب؛ على أن الصفاء لا يقابل الاحمرار ولا يقاسمه، فقد يكون الأحمر صافياً والصافي أحمر
أنة شاعر(162/43)
وهذا شاعر يئن من هجر حبيبته، وهو الأستاذ محمد عزيز رفعت، والقصيدة كلها مبنية من الكلمات والعبارات المبتذلة التي كثر استعمالها في الشكوى من فعل الجوى وتبريح الصبابة، يقول:
أشكو هوى بين الجوانح شفني ... في هجعتي - سقماً - وفي يقظاتي
وتظهر في بعض أجزائها محاولة الإجادة، وتبدو في قليل من أبياتها مخايل الشعر كقوله:
عبثاً شكوت فيا لصب مغرم ... لم يجن غير اليأس من ثمرات
(واليأس إحدى الراحتين) لو أنني ... لما يئست ذهلت عن صبواتي
وفي القصيدة ركاكة في الأسلوب، وتكلف في النظم، وأخطاء في بعض المعاني والألفاظ؛ قال:
واسود وجه الرأي لا لي حيلة ... لنوال عطفك أو لكبت وشاة
النوال: العطاء، وهو يريد النيل مصدر نال ينال، فاستعمال النوال هنا خطأ
وركاكة البيتين الآتيين لا تحتاج إلى بيان، قال:
وصددت عني حين أنت مدينة ... بالعهد عهد سرائر المهجات
وقطعت لأرسل إليك شفيعة ... لي في رضاك ولا صدى هتفاتي
وما معنى قوله: (ولا صدى هتفاتي)! أيعني أن صدى الهتفات لم يشفع في رضاها؛ وكيف يشفع الصدى؟!
ويقول:
والله واليوم الأخير ووقفة=لله أنذرها على عرفات
لو كنت في نزع المنون مخيراً ... ما بين قربك لحظة وحياتي
لاخترت قربك والمنون ولم أشأ ... نعمى الحياة على سرير مماتي
ولو استبنت الدمع يوم منيَتي ... في مقلتيك سعى إليك رفاتي
فلماذا كل تلك الأيمان المغلظة؟ وما معنى هذا النذر؟ أيعني أنه إن اختار الحياة على قربها مع الموت يلزمه أن يقف على عرفات! ثم كيف يستبين الدمع في مقلتيها وهو ميت؟!
ميتة سكير(162/44)
قصيدة الأستاذ محمود رمزي نظيم، وهي قصيدة عذبة رقيقة، تنساب فيها روح خفيفة ساحرة، وأسلوبها من السهل الممتنع، وإليك الدليل، وما من شيء يبلغ في التدليل على جمالها مبلغها هي في ذلك؛ قال في مطلعها:
سقطت أسنانه في ال ... كأس سنا جَرَّ سنا
وأراق الخمر في هي ... كله دنا فدنا
جن بالكأس وهل ين ... هى الذي بالكأس جنا
يحسب الناس الألى لا ... يشربون الخمر جنا
تخذ الحانة دارا ... واحتساء الراح فنا
عاش للراح حبيبا ... واجف القلب معنى
لو تمنيه بغير ال ... كأس شيئاً ما تمنى
إن مشى تحسبه في ... سكره غصناً تثنى
وشمالاً ويميناً ... مال تيهاً وأرجحنا
ما صحا من سكره إلا ... إلى الحانة حنا
فهذا كلام تتراقص فيه الروح الشعرية تراقص الحباب في الكأس. ونأخذ من بين هذه الأبيات قوله:
يحسب الناس الألى لا ... يشربون الخمر جنا
فما الصلة بين الذين لا يشربون الخمر وبين الجن حتى يحسبهم السكير كذلك؟ اللهم إلا أن يكون قد ضعف تصوره من شدة السكر. .
والأستاذ رمزي نظيم شاعر متفنن، وتراه في هذه القصيدة يفتن في الانتقال من صورة إلى صورة في حذق ومهارة؛ فهو بعد أن يصف السكير ينتقل إلى التعبير عن خواطره فيقول:
طالما أوحى إلى النصا ... ح ردوا النصح عنا
إن من يترك شرب ال ... راح عمداً ليس منا
إن في الحانة للخا ... ئف تشجيعاً وأمنا
نحن للكأس خلقنا ... وبها في الكون عشنا
إلى أن أتى على مصرعه فقال:(162/45)
أشبه الوهم فما يس ... مع إن ناح وأنا
وقضى بالأمس لم تح ... زن عليه الناس ضنا
وكنا نحب أن يتفادى الشاعر السناد الذي وقع في قوله:
ورق الكرم أكف ... تحمل الكأس إلينا
الشباب والزواج
قصيدة السيدة منيرة توفيق. وهي الشاعرة المصرية البارزة الوحيدة في هذا العصر، إذ أن مصر تكاد الآن تكون مقفرة من الشواعر؛ والمرأة المصرية تستمد صمتها من أبي الهول، ولا أعني إلا الإمساك عن التعبير عن الإحساس والعواطف تعبيراً صادقاً؛ فمن شعرت من بنات مصر فإنما تقول في الأخلاق والنصائح، متجاوزة خوالج النفس ودقائق الحس، لأن طبعها الصموت الحيي يأبى الحديث عنها. وأعتقد أنها لو فعلت، وكانت موهوبة التعبير والأداء، لأتت بالغرائب
وهذه السيدة الفضلى توجه القول إلى الشباب، محذرة إياهم من الزواج بالأجنبيات، ناصحة لهم أن يقبلوا على الزواج من بنات وطنهم فتقول:
وتزوجوا من عرضكم ... تبقوا على العرض السليم
ودعوا زواج الأجنبي ... ة فهو شر مستديم
عجباً! أَللدور احتلا ... ل آخر فيها يقيم؟
والقصيدة وإن كانت معنونة بـ (الشباب والزواج) إلا أنها مقصورة على التحذير من الزواج بالأجنبيات، فلا تعرض لأعراض الشبان عن الزواج إلا بهذين البيتين:
فدعوا الغواية إنها ... باب يؤدي للجحيم
وخذوا الزواج فإنه ... باب السعادة والنعيم
وقد أحسنت في قولها:
لا يخدعنكمو جمال ال ... أجنبيات الوسيم
كلا ولا سحر الكلا ... م ورقة الصوت الرخيم
هذا لعمري مظهر ... والله بالخافي عليم
وإن كان فيه ظلم لفتياتنا، فهن في هذه الصفات مجلّيات على ما أرى، والله أعلم.(162/46)
عباس حسان خضر(162/47)
أندلسيات
أبو بكر بن العربي
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
أسلفنا أن المترجم له قدم الأندلس من رحلته بعلم كثير، واتخذ بلده أشبيلية مقاما له، وأخذ يذيع علمه، وجلس للوعظ والتفسير والإفادة، ورُحِل إليه للسماع، وصنف في غير فن تصانيف كثيرة حسنة ضخمة، حتى يروى أنه ألف أربعين مؤلفا في موضوعات شتى فُقِد معظمها، ذكروا منها كتاب العواصم والقواصم، والمحصول في أصول الفقه، وكتاب المسالك في شرح موطأ الإمام مالك، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب أنوار الفجر في تفسير القرآن، قالوا إنه ثمانون ألف ورقة في ثمانين مجلدا، وكتاب عارضة الأحوذي على كتاب الترمذي الخ ولمناسبة كتابه أنوار الفجر في التفسير نورد كلمة له قالها عند تفسير قوله تعالى: (إنْفِروُا خِفَافا وثِقاَلاً)، تدل على أنه كان إماما طليقا واسع آفاق الفكر عصريا كما نعبر اليوم. . . وهي هذه: (ولقد نزل بنا العدو - الأسبانيون - قصمه الله سنة 527، فجاس ديارنا وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا في عدد حدّد الناس عدده، وكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط بهم فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له، فغلبت الذنوب، ورجفت بالمعاصي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره، وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل. .) وقد أسند إلى المترحم له قضاء بلده. قال تلميذه القاضي عياض: فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة، وتؤثر عنه في قضائه أحكام غريبة، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه. . .
تلاميذه
وقد تتلمذ للمترجم له عدة ممن تخرجوا عليه وكان لهم شأن يذكر، فمنهم القاضي عياض صاحب الشفاء، وسنترجم له إن شاء الله - ومنهم الإمام الحافظ ابن بشكوال صاحب كتاب(162/48)
الصلة وخلافه، ومنهم الإمام السهيلي صاحب كتاب الروض الأُنف في شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من التواليف، وصاحب هذه الأبيات المشهورة التي أنشدها للإمام الحافظ أبي الخطاب بن دحية وقال له: ما سأل الله تعالى بها حاجة إلا أعطاه إياها، وكذلك من استعمل إنشادها، وهن:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المُعَدُّ لكل ما يتوقع
يا من يُرجّى في الشدائد كلها ... يا من إليه المُشْتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن ... أُمْننْ فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقريَ أمنع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رُددتُ فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان خيرك عن فقيرك يمنع
حاشا لمجدك أن تقنط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع
أقوال مؤرخي الأندلس فيه
وإليك نتفاً مقتطفة مما قاله في حق المترجم له مؤرخو الأندلس ممن عاصره وتتلمذ له. قال الحافظ بن بشكوال في كتابه الصلة: هو الحافظ المستبحر، ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفاظها. . كان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها مقدماً في المعارف كلها، متكلما في أنواعها، نافذاً في جميعها، حريصاً على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، يجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود الخ الخ وقال أبو نصر الفتح بن خاقان صاحب المطمح والقلائد:
الفقيه الحافظ أبو بكر بن العربي علم الأعلام الطاهر الأثواب، الباهر الألباب الذي أنسى ذكاء إياس، وترك التقليد للقياس، وأنتج الفرع من الأصل، وغدا في بدء الإسلام أمضى من النصل، سقى الله به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف، ومد عليها منه الظل الوارف، وكساها رونق نبله، وسقاها ريق وبله. وكان أبو محمد باشبيلية بدرا في فلكها، وصدرا في مجلس ملكها، واصطفاه معتمد بني عباس اصطفاء المأمون لابن أبي دؤاد، وولاه الولايات الشريفة، وبوأه المراتب المنيفة؛ فلما أقفرت حمص (يريد أشبيلية) من ملكهم وخلت،(162/49)
وألْقتهم منها وتخلت، رحل به إلى المشرق، وحل فيه محل الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال فيها قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه، فلم يستردّ ذاهباً، ولم يجد كمعتمده باذلاً له وواهباً، فعاد إلى الرواية والسماع، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوّح، وفي روض الشباب زهر ما صوّح، فألزمه مجالس العلم رائحاً وغادياً، ولازمه سائقاً إليه وحادياً، حتى استقرت به مجالسه، واطردت له مقايسه، فجد في طلبه، واستجدبه أبوه متمزق أربه، ثم أدركه حمامه، ووارته هناك رجامه، وبقي أبو بكر منفرد، وللطلب متجرداً، حتى أصبح في العلم وحيداً، ولم تجد عنه رياسته محيداً، فكَرّ إلى الأندلس فحلها والنفوس إليه متطلعة، ولأنبائه متسمعة، فناهيك من حظوة لقى، ومن عزة سقى، ومن رفعة سما إليها ورقى، وحسبك من مفاخر قلدها، ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلدها، الخ الخ. . وقد وصفه القاضي عياض بما أوردنا بعضه عن حاله في القضاء، وفي هذا القدْرِ غناء. .
مقتطفات من منظومه ومنثوره
وأظنك لا تجهل أن أكثر علماء الأندلس وفلاسفتها وسائلا مثقفيها يقرضون الشعر، وقلّ أن تظفر بأندلسي لا يقول الشعر، ومن ثم لا تستغرب أن يكون مثل القاضي أبي بكر بن العربي شاعراً وشاعراً ظريفاً. . . فمن شعره وقد ركب مع أحد الأمراء الملثمين، وكان ذلك الأمير صغيراً، فهزّ عليه رمحاً كان في يده مداعباً، فقال:
يهزّ عليّ الرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث
ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالث
ولعل الرمح الثاني والثالث القد واللحظ. . ومن بديع شعره:
أتتني تؤنبني بالبكا ... فأهلاً بها وبتأنيبه
تقول وفي نفسها حسرة ... أتبكي بعين تراني بها
فقلت إذا استحسنت غيركم ... أمرت جفوني بتعذيبها
وحكى رحمه الله قال: دخل على الأديب بن صارة - وهذا ابن سارة أو صارة شاعر فحل من شعراء الأندلس - وبين يدي نار عليها رماد، فقلت له: قل في هذه، فقال:
شابت نواصي النار بعد سوادها ... وتسترت عنا بثوب رماد
ثم قال لي أجزْ، فقلت:(162/50)
شابت كما شبنا وزال شبابنا ... فكأنما كنا على ميعاد
ويروى أنه كتب كتاباً فأشار عليه أحد من حضر أن يذرْ عليه نشارة، فقال قف، ثم فكر ساعة، وقال اكتب:
لا تشنه بما تذرّ عليه ... فكفاه هبوب هذا الهواء
فكأن الذي تدرّ عليه ... جُدَري بوجنة حسناء
ومن شعره:
ليت شعري هل دروا ... أي قلب ملكوا
وفؤادي لو درى ... أي شِعب سلكوا
أتراهم سلموا ... أو تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى ... في الهوى وارتبكوا
وشعر هذا القاضي الجليل كثير جميل يدل على صفاء نفس وحِسّ مرهف وقريحة خصبة مواتية. ونكتفي بهذا القدر ونورد هنا بعض فوائد هن فرائد لهذا الإمام العظيم ذكرها في رحلته وغيرها وأوردها المقري. فمن هذه الفرائد قوله: سمعت الشيخ فخر الإسلام أبا بكر الشاشي، وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر يقول: يقال في اللغة العربية لا تَقْرَبْ كذا بفتح الراء، أي لا تلتبس بالفعل. وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع. . وهذا الذي قاله صحيح مسموع. . . ومنها ما نقله عن ابن عباس رضي الله عنه: لا يقل أحدكم انصرفنا من الصلاة فإن قوما قيل فيهم ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم؛ وقد أخبرنا محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ، أخبرنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه: كنا في جنازة فقال المنذر بها: انصرفوا رحمكم الله. فقال: لا يقل أحدكم انصرفوا، فإن الله قال في قوم ذمهم، ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم، ولكن قولوا انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء. . . ومنها قوله في تصريف المحصنات: يقال أحصن الرجل فهو مُحصَن بفتح الصاد في اسم الفاعل وأسهب في الكلام فهو مسهَب - بفتح الهاء - إذا أطال البحث فيه وألْفَج فهو مُلْفَج إذا كان معدما - فقيراً - فهذه الثلاثة جاءت بالفتح نوادر لا رابع لها. . ومنها قوله: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام - بغداد - أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الأم في(162/51)
المالية وصار بحكمها في الرق والعبودية لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة مبثوثة عليه، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلذلك تبعها، كما لو أكل رجل تمراً في أرض رجل وسقطت منه نواةٌ في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها، وهذا من البدائع. . ومنها قوله: كان بمدينة السلام إمام من الصوفية وأيُ إمام يعرف بابن عطاء، فتكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما ينسب إليه من مكروه، فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة، فقال: يا شيخ، يا سيدنا، إذن يوسف همّ وما تمّ، فقال: نعم لأن العناية من ثم. . . فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم، وفطنة العامي في سؤاله، والعلم في اختصاره واستيفائه؛ ولذا قال علماؤنا الصوفية إن فائدة قوله تعالى: ولما بلغ اشده آتيناه حكماً وعلماً أن الله أعطاه العلم والحكمة أيام غلبة الشهوة ليكون له سبباً للعصمة. . . ومنها قوله: تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي حديث أبي ثعلبة المرفوع: إن من ورائكم أياماً للعامل فيها أجر خمسين منكم. فقال: بل منهم. فقال: بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعواناً وهم لا يجدون عليه أعواناً. . . وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، أقاموا المنار، وافتتحوا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا الملة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. . فتراجعنا القول وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح، وخلاصته: أن الصحابة رضي الله عنهم كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلَّصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضاً انتهاؤه. وقد كان قليلاً في ابتداء الإسلام صعب المرام لغلبة الكفار على الحق، وفي آخر الزمان يعود كذلك لوعد الصادق صلى الله عليه وسلم بفساد الزمان وظهور الفتن وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب كما قال صلى الله عليه وسلم: لتركَبُنَّ سَنن مَن قبلكم شبرا بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحْر ضب خرب(162/52)
لدخلتموه. . .
وقال صلى الله عليه وسلم: بدا الإسلام غريبا، وسيعود غريباً كما بدا. . . فلابد والله أعلم بحكم هذا الوعد الصادق من أن يرجع الإسلام إلى واحد كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معاناَ عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى، وذلك قوله: لأنكم تجدون على الخير أعواناّ وهم لا يجدون عليه أعوانا حتى ينقطع ذلك انقطاعاً باتا لضعف اليقين وقلة الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله. . يروى بفتح الهاء ورفعها، ورفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله عز وجل، والنصب على معنى لا يبقى آمر بمعروف ولا ناه عن منكر يقول أخاف الله، وحينئذ يتمنى العاقل الموت كما قال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه. . . .
(وأما بعد)، فهذا هو تاريخ القاضي أبي بكر بن العربي، سردناه لك في أخصر قول وأجزأ اختصار؛ وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. ومن هذه الترجمة تتبين منزلة هذا الإمام والمكان الذي يشغله بين علماء الإسلام، وأنه كان إلى فقهه في الدين كأكثر السلف الصالح أديبا كاتبا شاعراً فصيحا كثير الملح مليح المجلس وهكذا كان أكثر علماء الأندلس
وقد كانت وفاة هذا الإمام سنة 543. وقال القاضي عياض: وتوفي منصرفه من مراكش من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة بعد دخول الموحدين مدينة أشبيلية، فحبسوا بمراكش نحو عام ثم سرحوا، فأدركته منيته ودفن بفاس وقبره هنالك مقصود رحمة الله عليه.
عبد الرحمن البرقوقي
رئيس قلم المراجعة بمجلس النواب(162/53)
السيرة النبوية وكيف يجب أن تكتب
للأستاذ إبراهيم الواعظ
كنت كلما ظهر كتاب حديث عليه اسم (محمد) (ص) أسارع لاقتنائه؛ ذلك لأنني كنت ولا أزال في رغبة شديدة أن أسمع عن الرسول العربي العظيم، وعن سيرة النبي الكريم شيئاَ جديداً. والعامل الوحيد الذي أوجد فيّ هذا الشعور، وحرّك فيّ ذلك الاحساس، هو الاطراد الموجود في السير المكتوبة اطراداً يكاد أن يكون نسخةً مطابقة لأصل واحد، ومحررة على غرار واحد
إنني لم أرسل كلمتي هذه منتقداً بها ما دونه الأقدمون في السيرة، وصاحب السيرة، كلا، وإنما أردت أن أقول للذين تناولوا السيرة وصاحب السيرة، بأن الواجب كان يقضي عليكم أن تأتوا للناس بحديث جديد عن محمد (ص) بحديث يصور للناس محمداً كما هو لا كما أراده كتاب السير
طلعت علينا في الآونة الأخيرة عدة كتب كتبت مؤخراً لتحليل شخصية محمد (ص)، وما انطوت عليه نفسه من العظة والعبقرية، فمنهم من أصاب المرمى ومنهم من قارب؛ فذهب الأستاذ جاد المولى في كتابه (محمد المثل الكامل) إلى ناحية لم يتطرق إليها الأستاذ محمد رضا في كتابه (محمد)؛ وإن هذين الأثرين من حيث الترتيب والتنسيق جديدان، ولكنهما من حيث المادة لا يزيدان ولا ينقصان عن السير القديمة. على أن هناك أستاذا كبيرا يكاد أن يكون فرداً فذاً في تأليفه هو (مولانا شبلي النعماني) فإن هذا العالم الكبير أراد أن يستخرج من السير الموضوعة سيرة مستندة إلى أرجح الأقوال وأصح الروايات، ويبرز الرسول الأمين للناس صورة حقيقية كما هي، فألف كتابه الذي أسماه (تاريخ الإسلام) والذي أفرد منه أربعة مجلدات في السيرة المحمدية. هذا ولا أريد أن أرسل الكلام في وصف هذا الكتاب جزافاً، ولا أريد أن اخرج بالقارئ عن الموضوع والصدد، وإنما قصدي أن أحث كل من يريد أن يتعرف محمداً (ص) كما هو أن يطلع على هذا الكتاب الذي أوضح شخصية محمد (ص) إيضاحاً، وحلل نفسيته الزكية تحليلاً عجز عنه المتقدمون من كتاب السير والمتأخرون منهم
وقد جرى على غرار هذا المؤلف الأستاذ الكبير محمد حسين هيكل بك فإنه كان قد كتب(162/54)
فصولاً في السياسة الأسبوعية جمعها في كتاب أخرجه للناس، كتابا رد به طعن الطاعنين ودحض به زعم الزاعمين؛ وكأني بالأستاذ وقد كتب مؤلفه هذا لمن لا يؤمن بنبوة محمد مباشرة متوخياً في عمله ذلك الدعاية والتبشير لا نقل ما هو مكتوب في كتب السير من حادثات ووقائع
وإنني لا أتفق ومنتقدي كتاب الأستاذ هيكل من أنه أغفل كثيراً من الأمور المهمة في السيرة بأنه أنكر المعجزات. والتطرق لهذا الموضوع يحتاج إلى إفراد بحث بكامله لهذا فليس من الأصول أن أقول كلمة في ذلك سوى أنني أكتفي بالإشارة إلى ما أورده الأستاذ هيكل في الطبعة الثانية من كتابه وأضيف إلى ذلك تعريف الكتاب لجمهور القراء من الشيخ محمد مصطفى المراغي العلامة الأكبر، فإن هذا التعريف لكتاب مثل هذا الكتاب له أهميته العلمية
هذا وقد سكتت الأقلام وجفت الصحف كأن (حياة محمد) التي دبجتها يراعة هيكل كانت خاتمة ما يكتب في هذا الموضوع، ولكن سرعان ما أتحفنا الأستاذ (الحكيم) بكتابه (محمد) (ص) فقد تفنن في أسلوبه الجديد، وجدد في طريقته الفنية، ولكنه لم يزد ولم ينقص عما ورد في كتب السير، فلم نكبر له الموضوع وإنما أكبرنا له الأسلوب
ثم كان بعد ذلك أن خرجت علينا الرسالة في عددها (148) بمقال تحت عنوان (رسالة الأزهر في القرن العشرين) بتوقيع الأستاذ لبيب الرياشي المسيحي وبها دعا الكاتب إلى أن تكون رسالة الأزهر في القرن العشرين المسيحي، والقرن الرابع عشر المحمدي، دورته الأولى لرسالة الأزهر في هذا القرن كالقرن الأول المحمدي فيقابل الدور الأول دور التحنث والتعبد، دور تحقيق ودراسة من ينتخبهم الأزهر من عشاق التضحية، وعشاق الحق من طلابه، فيثقفون ثقافة عالية، ويتعلمون تعليما سامياً، فيتخصص كل فريق ممن وقع عليهم الاختيار نتيجة الفحص والاختبار باللغات الحية وبكل فرع من فروع العلوم العالمية العالية، علاوة على ما أتقنوه من علوم القرآن والدين والشريعة والسنة والسيرة واللغة العربية؛ وبعد هذا فرسالة الأزهر أن تكتب سيرة محمد (ص) بصورة تتفق وما جاء في القرآن الحكيم وعقلية الرسول البريئة وأعماله الحق
وقد ضرب الأستاذ في مقاله أمثلة مهمة خطيرة حذر الأزهر من أن يقع في مثل ما وقع(162/55)
فيه غير واحد من متخرجيه
وإذا بهذا الأستاذ قبل أن كتب مقاله هذا في الرسالة أخرج لنا كتاباً من قلم مسيحي يحلل نفسية محمد بن عبد الله (ص)، تحليلا فلسفياً، ويطرح كتابه هذا أطروحة - كمثل أعلى - لمن يريد أن يكتب السيرة. سيرة الرسول الأعظم (ص)
لقد نحا الأستاذ الرياشي ناحية في كتابة السيرة لم ينحها قبله ولا بعده أحد من كتاب السيرة؛ ولقد أظهر للملأ جديداً في حياة محمد بن عبد الله ووجد ضالته حين كان ينقب عن (السبرمن)، فوجده مجسدا في شخصية الرسول الكريم قبل أربعة عشر قرناً
وقد أبدع الأستاذ الكبير الشيخ عبد القادر المغربي في تعريف الكتاب بمقدمته المحمدية، كما أحسن الأديب أمين نخلة في تقديم الكتاب بمقدمته المسيحية
وبعد، فإني قد وجدت ضالتي المنشودة في كتاب الرياشي، وفي مقدمتيه المحمدية والمسيحية، فأدعو الأزهر ورجال الأزهر كما دعاهم الأستاذ الرياشي أن يكوّنوا جماعة تكتب حياة محمد وسيرة محمد كما كتبها الرياشي
فعلى هذا النسق، وعلى ذلك الأسلوب، وعلى تلك الطريقة، يجب أن تكتب السيرة النبوية
(بغداد)
إبراهيم الواعظ
المحامي(162/56)
الواحة المجهولة
للأستاذ فخري أبو السعود
مأنوسةُ الأفياء والأكناف ... موصولة الحسنات بالألطاف
عبق الشذا فيها وأصبح دوحها ... نُصْباً لكل مباكر وكّاف
وتألقت أزهارها وتمايلت ... أغصانها منضورة الألفاف
وتتابعت فيها الثمار شهية ... فتانة الألوان والأوصاف
وجرى النمير بها ألَذّ مذاقة ... للوارديه من رحيق سلاف
أنى تصرّف مقلة لك تكتحل ... بجداول رقراقة وضُفاف
ما تنتهي من فتنة إلا إلى ... أخرى ومن صوَر إلى أطياف
وتشابهت فيها الفصول فحسنُها ... سيان في مشتى وفي مصطاف
يا حُسنها من واحة لو أنها ... أهلَتْ وفاز بها الفتى بمطاف
لكنها مجهولة ممنوعة ... من دونها حَزن وقفر فيافي
هيهات ما تُنبي صحائفُ عَالم ... عنها ولا تَهدي رُؤَى عرّاف
لم يدْرِ غير سرَّها فأنا الذي ... في أضلُعي حُمِّلْتها وشغافي
هي قلبيَ النائي الذي من دونه ... غُم الطريق على الحبيب الوافي
ولو أُهتدى يوماً لباَء إلى حمى ... خصبٍ وفاَء إلى ظليل ضاف
ولقد أبحْتُ صحابةً ليَ حقبةً ... أفياَء تلك الروضة المئناف
فتمردوا في ظلها من بعد ما ... نعموا بأثمار بها ونطاف
فقبضتُها عنهم وصنت جنانها ... عن كل جاس في القلوب وجاف
فهي الغداةَ تميس في فتناتها ... والكون أجمع عن حُلاها غاف
نضرت أزاهرها ولا مًنْ يجتلي ... وزَكَتْ دواليها لغير قطاف
وانساب سلسلها وما من راشف ... وذكت نسائمها للامُستاف
هي جنة الود الخلي من القذى ... جمعت أفانينَ الوداد الصافي
تنْدى وتألق في الأزاهر والسنى ... في مهمه وعر المسالك خاف
وغداً سيذوي حسنها ورواؤها ... ويجف منها يانع الأفواف(162/57)
لم يفتقد منها المحاسنَ فاقدٌ ... أو يبكها بالمدمع الذراف
وتَغُولها تلك القفار وينثني ... يذرُو معالمها الترابُ السافي
فخري أبو السعود(162/58)
البحر
للأستاذ عبد الرحمن شكري
ألا ليتني لج كلجك زاخر ... أعبُّ كما تهوى النهى والبصائر
فكم عبت النفس اللّجوج وحاولت ... كبعض سطاك الآبيات النوافر
وأخفت من الدر النفوسُ ومن حُلًى ... كما اختبأت فيك اللهى والذخائر
كأن بها أُفقاً كأُفقك نائياً ... ومن دونه كل المَدَى يتقاصر
أتطرب من لحن الخرير كأنه ... خواطر تتلوها عليك السرائر
كما طرب النشوان من لحن صوته ... فجاشت لديك الراقصات الزواخر
وإلا فما للموج في اليمِّ راقصاً ... دعاه عذارى البحر شادٍ وشاعر
خريرك يحكي صدحة الدهر صامتاً ... كأنك دهر بالحوادث مائر
هو الدهر لا يخشى المنايا ولا يَهِي ... صِبَاه ولا تقضي عليه المقادر
وأنت شبيه الدهر لا أنت هارم ... ولا أنت منقوص ولا أنت خاسر
ويصطخب الآذيُّ فيك كأنما اص ... طخابك من حكم المنية ساخر
أخَفْقٌ وإعصار ودفع وهبَّة ... كأنك حيٌّ نابض القلب شاعر
فريحك أنفاس وموجك نابض ... كنبض قلوب أعجلته البوادر
خلوتَ من السٌّمَّار كالبيد وامَّحت ... معالم لا تُبْقِي عليها الأعاصر
سِوى شِلْو فُلك قد حدرت إلى الردى ... يلوح كما لاحت رسوم غوائر
وكم جُزُرٍ مثل الجِنان مضيئة ... كأنْ جهلتها الصائلات الدوائر
لَخِيلَتْ نجومً السعد والحب والمنى ... فحنًّ إليها الشّحشحان المُخَاطر
كما حنَّ للآل الخلوب قوافل ... تَخُبُّ بها في البيد إبلكٌ ضوامر
لخلَّفتَ في قلب المخاطِر همة ... على الدهر لا تبلي وتبلى العمائر
يحن إلى ما خلف أُفْقِكَ ناظر ... كما تنشد الغيبَ النهى والبصائر
كأن مُنًى للنفس من خلف أفقه ... تلوح كما لاح السراب المبادر
أو أن محال السعد دُرٌّ مُنظَّمٌ ... على الأفق ينحوه الطلوب المُغامر
بلى كل نفس للغريب مشوقة ... وإن خَوَّفتها من سطاه المحاذر(162/59)
ويصغر في مرآك عيش ابن يومه ... ويكْبُرُ رأيٌ ذاهب فيك سائر
خواطر مثل الفلك فيك شوارد ... يضل عليها عازب اللب حائر
تنائت بك الأمواج وهي نوافر ... وجاءت بك الأمواج وهي ثوائر
كأن بها عجز المشيب إذا انثنت ... وعزم الشباب الغر وهي بوادر
فنم نومة الظل البطيء مسيره ... وثِبْ وثبة الغضبان حين يُساور
فيا رُبَّ حلم خامل البطش هادئ ... ضمنت وجهلِ شره متطاير
كأن لنا من لج مائك واعظاً ... بليغاً له مما أثرت زواجر
رأيتك والأمواج في وثباتها ... عساكر حرب قد تلتها عساكر
فبينا يريق الضوء فوقك ماءه ... وتجري عليك الريح وهي خواطر
ويتلو عليك الصائدون غناءهم ... يرجِّعه لحن من الماء مائر
ويُسمِعك الملاح من شجو قلبه ... أحاديث قد تاقت لهن الحرائر
إذ الجو جهم والرياح كتائب ... وإذ أنت مقبوح السريرة غادر
ورب سفين يقرع النجمَ مجدُه ... تقاذفها مستوفز اللج هامر
يُرَوِّعها في كل هوجاء مُوعِدٌ ... ويسعى لها قبر من الماء سائر
وما ذلك اللج الذي في سمائها ... بأهدأ من لج نمته الزواخر
إذا ذكر المَلاّح زوجاَ وصبية ... طغى شجن في مِرْجَلِ الصدر فائر
وتذهل عن مهد الوليد رءومه ... إذا ما رَمتْها بالوعيد الزماجر
وما هي إلا صولة ثُمَّتَ انجلت ... وأكبر غرقاها المساعي البوائر
كما غرقت في لجة الدهر دول ... زهت ما زهت والدهر للناس غامر
عبد الرحمن شكري(162/60)
فخر المصايف المصرية
رأس البر. . .!
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
مهْدَ الهدوءِ وفُرضة الأحباب ... ها قد لقيتكَ بعد طول غياب
أقبلت نحوك ظامئاَ، أُلْقى لدى ... عطفيكَ أعبائي، وأنفض ما بي
قد هدَّ سعى العام أوْصالي بما ... عانيتُ من درس ومن أوصاب
فإذا أتيت فحسب قلبي أنني ... لاقٍ بظلك منتهى آرابي. . .!
داويْتُ بالصحو الجميل متاعبي ... ورأيت فيك الشمسَ دون حجاب
وظفرتُ عندك بالسُّكون يلُفُّني ... ويريح من ذهني ومن أعصابي
وغمرتُ روحي قبل جسمي بالمُنى ... لما استنمت لِمَوجك الصخاب
غَطَّى على صخب الحياة ولَفَّهُ ... فمضى وضاع بلُجِّه المُنساب
لا الفكرُ عندك سابح في مؤلم ... حاشا ولا الوجدان عندك خابي!
أصحو مع الصبح الجميل، فتنتشي ... روحي بشمسٍ أشرقت وعباب
شمس أراها، لا يصدُّ شعاعها ... عنا رُبًى، أوْ ناطحات سحاب
وأرى الخضمَّ ولا شعاب تحدُّه ... في ناظري. . . فتضِلٌّ فيه شعابي
وأرى ظباَء الأنس حول كِناسها ... يطفِرْن في مرَج ووقْدِ شباب. .
ترنو إليهن العيونُ، وترتعي ... حسناً يزلزلُ راسيَ الألباب!
يُقْبلْنَ في ساعِ الأصيل ترائباً ... تختال بينَ مُفّوَّف الأثواب
وَيَسِرْنَ أسْرَاباً، يمايِلُ عِطْفّها ... فَرْطُ الصِّبا، ويَعُدْنَ في أسراب!
لا يستطيع الصَّبُّ تكليما، ولا ... يّقْوّى على شيءٍ. . . سوى الإعجاب!
يَرْنو إلى ذاك الجمالِ كأنما ... يَرْنو إلى المعبود في محرابِ. .!
جَوٌّ عليه من العَفَاف رِقابةٌ ... صانته عن عبَثٍ يُرادُ وعابِ
جَوٌّ يضُمُّ كرائماً وحَرَائراً ... باتَ الحياءٌ لهُنَّ خيرَ نِقَابِ
وشبيبةً لا يرتضون من الهوَى ... دَنَساً يَشينُهُمُ على الأحقاب
الكلُّ فيه (أُسْرَةٌ) قد زانَها ... أنْ ليس فيها سَيِّئُو الآداب. .!(162/61)
سَهِروا على الأخلاق واعتصموا بها ... وَرَعَى الْحضُورُ أَمانةَ الغُيَّابِ
هذا هو العَيْشُ النبيل، وهكذا ... يَسْمُو (المَصيفُ) بإخوَةٍ وصِحَابِ. .
. . . لا ما تَراه من الغَوَاية والخَنَا ... في (الرَّمْلِ) من همَلٍ وَمِنْ أَوْشَابِ!
سَلْ شاطِيَء (اسْتَانْلي) وسل أترابه ... كم قد بَرِمْنَ بفاسدي الآداب. . .؟
ظنّوا الحياةَ مجانةَ وخلاعةَ ... فطوَوْا من الأخلاق خير كتابِ
ورَأَوْا لدى نَزق الشبابِ نعيمَهم ... فسَعَوْا له ومضَوْا بغير حساب!
بذرَ (الفِرِنْجةُ) كل مُهْلكةٍ لهم ... وأتَوْهُمُ بالبَهْرَج الخَلاَّبِ
وَجَنَوْا لهم حُرِّيةً مزعومةً ... طاحَتْ بهم في هُوِّةٍ وخرابِ!
يأيها (الرأسُ) الجميلُ: تحية ... من صادق في الوُدِّ ليس يحابي. . .
لا غَرْوَ أَنْ صُغْتُ القَرِيضَ مُخَلِّداً ... ذكراك أنتَ، على مَدَى الأعقابِ:
وَهَبَتكَ دٌنْيَاكَ العفيفةُ بيننا ... مَعْنًى سَمَوْتَ به على الأترَاب
محمد يوسف المحجوب(162/62)
القصص
أعصاب
للقصصي الروسي تشيكوف
بقلم محمود البدوي
عاد المهندس المعماري ديمتري اسيبوفتش فاكسن من المدينة إلى كوخه الذي يقضي فيه عطلته وهو متأثر غاية التأثر مما سمعه في جلسة استحضار الأرواح التي تشرف بحضورها!
وعندما خلع ملابسه، ومشى إلى فراشه المنعزل، ولا أنيس معه فيه - فقد بارحت مدام فاكسن المنزل إلى عمل يستغرق طيلة الليل - لم يستطع أن يطرد عن ذهنه تصور كل ما سمعه ورآه في هذه الليلة التي لم يكن الحديث فيها ممتعاً على الإطلاق! فلقد مضوا الليل كله في حديث مروع بدأته سيدة في رونق صباها - على ذكر لا شيء - بالكلام عن التفكير عند القراءة، ومن هنا تشقق بهم الحديث دون أدراك إلى الأرواح، ومن الأرواح انتقلوا إلى الأشباح، ومن الأشباح تشعبت بهم سبل الكلام إلى أناس يدفنون أحياء. . .! وقرأ سيد قصة مرعبة عن جثة تسير وهي مدرجة في الكفن. . . وطلب فاكسن نفسه فنجانة وأخذ يشرح للسيدات الصبايا الطريقة المثلى لمخاطبة الأرواح! وأحضر من بين الموتى روح عمه كلافدي ميرونتش وسأله:
(ألم يحن الوقت بعد لنقل ملكية منزلنا إلى زوجي؟)
فأجابته روح عمه: (كل الأشياء حسنة في حينها)
وفكر فاكسن وهو مضطجع على سريره وقال لنفسه:
(في الطبيعة أشياء كثيرة. . . سرية. . . ومفزعة. . . فالمجهولات لا الأموات هي المروعة حقا)
ولما دقت الساعة واحدة انقلب فاكسن على جنبه الآخر، وأخذ يرمق من تحت غطائه نور المصباح الأزرق المحترق أمام الصورة المقدسة، وقد ارتعش لهبه، وألقى نوره الخابي على قاعدة الصورة، وظهرت أمام سريره صورة عمه كلافدي الكبيرة المعلقة على الحائط(162/63)
وومض هذا الخاطر في ذهنه: (وماذا. . . إذا ظهر في هذه اللحظة شبح عمي كلافدي ولكن بطبيعة الحال. . . هذا محال)
ومع أن الأشباح - كما نعرف جميعاً - خرافات من ذرية الذكاء المحدود. . . فقد ضم فاكسن غطاءه عليه حتى غطى رأسه وأغمض عينيه تماماً! على أن الجثة التي سارت وهي ملفوفة في كفنها عادت إلى ذهنه بعد برهة قليلة، ورفعت أمام مخيلته صور المرحومة حماته، وزميل له شنق نفسه، وفتاة أغرقت نفسها أيضاً. . . وحاول فاكسن أن يطرد عن ذهنه هذه الصور السوداء ولكنه كان كلما أمعن في الطرد أمعنت هذه الصور في الثبات، وأحاطت به خيالات مخوفة، وأخذ يحس بالرعب المتمكن والجزع الشديد
وقال لنفسه:
(إلى المشنقة بهذه الخواطر جميعاً. . . هأنذا خائفاً في هذا الظلام كطفل. . . معتوه. وسمع الساعة تدق في الغرفة المجاورة: (تك. . تك. . تك)
ورن ناقوس الكنيسة في فنائها القريب مبيناً الوقت. . دق الناقوس في بطء وانقباض وحزن. . وسرت رعشة شديدة في عنق فاكسن امتدت إلى عموده الفقري، وخيل إليه أنه يسمع إنساناً يتنفس فوق رأسه بثقل! كأن العم كلافدي قد رأى أن يبرح إطار صورته وينحني فوق ابن أخيه. . . وشعر فاكسن بالرعب الذي لا يحتمل، فصرَّ بأسنانه، وعلق أنفاسه في هول
ولما قفزت حشرة من الحشرات الطائرة إلى النافذة المفتوحة وانقلبت تطن فوق فراشه لم يستطع الاحتمال أكثر مما احتمل فجذب زر الجرس بعنف
وسمع بعد هنيهة صوت الحاضنة الألمانية واقفة على بابه تقول بالألمانية:
(ما الذي تريده يا ديمتري اسيبفتش؟)
فصاح فاكسن فرحاً (آه. . أأنت يا. . . روزاليا كارلوفنا لماذا تتعبين نفسك؟. . أين جافريلا؟ لا بد أن. . .)
(بعثت أنت بنفسك جافريلا إلى المدينة. . . وجافريلا مضت تقضي الليل في بعض الجهات. . . وليس في المنزل أحد سواي. . . فما الذي تريده من فضلك؟)
(حسنا. . . الذي أريده. . . هو. . . ولكن من فضلك ادخلي. . . لا داعي للقلق. . أنه. .(162/64)
ظلام. . .)
ودخلت روزاليا كارلوفنا وهي امرأة بادنة حمراء الخدين!! ووقفت على الباب وقفة المنتظر
(اجلسي من فضلك. . . أنت ترين. . . أن الأمر هكذا. . .)
وعجب وقال لنفسه: أي شيء أسألها فيه وعنه. .؟ وسارق صورة عمه النظر وشعر بروحه تعود تدريجياً إلى الهدوء
(الذي أوده منك في الحقيقة هو. . . آه. . . لما ينطلق الخادم إلى المدينة لا تنسى أن تخبريه بأن أ. . . أ. . . يجيء ببعض أوراق السجاير. . . ولكن من فضلك اجلسي)
(ورق سجاير. . . حسناً. . . وما الذي تريده أيضاً؟؟)
(الذي أريده. . . لا شيء أرغب فيه ولكن. . أجلسي. . سأفكر في شيء آخر بعد دقيقة)
(العذراء. . . تخاف البقاء وحيدة في غرفة رجل يا سيد فاكسن. . . فهمت! إن حاجتك إلى ورق سجاير. . . كانت في الواقع لا تستدعي إيقاظ أحد. . . فهمتك)
وانقلبت روزاليا كرلوفنا على عقبيها وغادرت الغرفة، وسكن روع فاكسن لما تحدث معها وخجل من جبنه للغاية، وغطى رأسه، وأغمض عينيه، وشعر مدة عشر دقائق كاملة بالراحة التامة، وبعد هذا زحفت إلى ذهنه نفس الخزعبلات الماضية. . . فتحسس الثقاب وأشعل شمعة وهو مغمض العينين! وأصبح النور بعد الهلع الذي هيمن على كيانه عديم الجدوى، فقد صور له خياله المضطرب أشباحاً طلعت من الأركان وبدت عيون عمه تتحرك. . .!!
فقرر قاطعاً:
(سأدق لها الجرس مرة أخرى. . . لعنة الله على المرأة. . . سأخبرها بأني أشعر بالتعب وفي حاجة إلى بعض أقراص من الحلوى)
وشد فاكس الجرس فما جاوبه أحد. ودق ثانية فسمع جرس الكنيسة يدق كأنما يجاوب على دقاته بمثلها. واستولى عليه الرعب وشاع في جسمه البرد فقفز من فوق سريره وغادر مخدعه يعدو راسماً علامة الصليب، وأخذ يلعن نفسه لجبنه وخوره وجرى حافي القدمين في قميصه الليلي حتى بلغ غرفة الحاضنة(162/65)
وقال راجف الصوت وهو يطرق بابها:
(روزاليا كرلوفنا. . . أنمت؟ أشعر. . . باني ر. . . ر. . . تعب. . . أود قليلاً من أقراص الحلوى)
فما جاوبه أحد وخيمي الصمت
(أرجوك! أفهمت. . . أرجوك. . . لماذا هذا القرف؟. . لا أستطيع أن أفهم. . . خصوصاً إذا كان الرجل. . . مريضاً. . . أي عبث. . . أنت في الحق. . . وفي مثل سنك) فقالت له:
(سأخبر زوجك. . . أنك لا تدع عذراء شريفة في أمان. . . لما كنت عند البارون انزيج. . . جاء إليَّ سعادته يطلب أعواداً من الثقاب. . . ففهمت في الحال معنى هذه الأعواد من الثقاب.!! وأخبرت البارونة. . . فأنا عذراء شريفة) فقال لها:
(إلى المشنقة بشرفك هذا. . . أنا مريض. . . قلت لك هذا. . . واطلب منك بعض أقراص من الحلوى. . . أتفهمين. . إني مريض) فأجابته:
(زوجك امرأة شريفة وطيبة. . . ومن الواجب عليك حبها. . . أجل. . . إنها نبيلة طيبة. . . ولن أكون لها عدوة)
فقال لها: (إنك غبية. . . غبية. . . أتفهمين. . . غبية)
اعتمد فاكسن على سارية الباب، طاوياً ذراعيه، ومنتظراً أن يذهب عنه هلعه الشديدة، فإن رجوعه إلى غرفته حيث يرتعش المصباح ويحملق فيه عمه. . . أمر لا يجرؤ على مواجهته، وأن وقوفه على باب الحاضنة وليس عليه سوى قميص نومه أمر غير لائق من جميع الوجوه!! فما الذي يعمله؟؟
ودقت الساعة الثانية وما بارحه جزعه؛ وكان الممر مظلماً فبدأ له خيال أسود طلع من كل ركن واستدار ليواجه عقب الباب. على أنه تصور في هذه اللحظة إنساناً جذب قميص نومه من الخلف ولمس كتفه
فأعول ثم صاح:
(عذاب الجحيم. . . روزاليا كارلوفنا)
ولما لم يسمع صوتاً فتح فاكسن الباب متردداً ودخل؛ وكانت الألمانية الفاضلة غارقة في(162/66)
سبات لذيذ، وقد أظهر ضوء المصباح الخافت ما على وجهها من بشاشة، ثم انساب إلى داخل الغرفة ووقف بجانب حقيبة عند الباب، وشعر بارتياح تام وهو في حضرة مخلوق حي، حتى ولو كان هذا المخلوق نائماً
ثم قال في نفسه:
(خل الألمانية البلهاء غارقة في نومها. . . سأجلس هنا. . . وحينما يبزغ النور أرجع إلى مكاني. . فالصبح يبكر في هذه الأيام. . .)
استلقى فاكسن على الحقيبة ووضع ذراعه تحت رأسه مترقباً طلوع الفجر
وتأمل!!
(أي شيء. . . لما يكون المرء عصبياً. . . ورجل متعلم ذكى. . . لنشنق جميعاً. . . إنه عار شنيع)
وعندما تسمع إلى تنفس روزاليا كرلوفنا الرقيق عادت إليه نفسه وثاب حسه وهدأ تماماً
وفي الساعة السادسة عادت زوجه فاكسن من عملها الذي استغرق طول الليل ولما لم تجد زوجها في مخدعه دلفت إلى الحاضنة تسألها عن (فكة) للحوذي
ولما دخلت الغرفة رأت منظراً غريباً!!! بصرت على السرير بروزاليا كارلوفنا غارقة في النوم. . . وعلى قيد ذراعين منها ينكمش زوجها على الحقيبة وينام نوم العادل!! ويغط غطيطاً عالياً
أما الذي قالته لزوجها وكيف كان حاله عند ما استيقظ فسأدع لغيري تصويره فهو فوق طاقتي
محمود البدوي(162/67)
هاجر العانس
للسيدة وداد السكاكيني
تسألينني يا صديقتي عن كآبة (هاجر) ووجومها، وتتساءلين ملحة عن تجافيها وإيثارها العزلة والانفراد. إنك تريدينني على أن أفضي إليك بخبرها، وأصرح بما أعلمه عنها؛ ولاشك أن طلبك هذا يثير في نفسي ذكريات الطفولة ويحملني على أن أنحدر إلى أغوار الماضي، حين كنت أعرف هاجر في المدرسة تلميذة في صف الشهادة، وكم كان يشتد فرحي حين تدخل هذه الفتاة بيتنا في البكور لتأخذني معها، فإن عمتي أوصتها بمرافقتي إلى المدرسة، وكانت رحمها الله صديقة حميمة لأسرة هاجر
كانت تدق باب بيتنا دقات مستعجلة، فأبادر إلى صداري الاسود، وأعلق إلى جانبي محفظة كتبي بنجاد قصير، فإذا أسرعت هاجر في سيرها عدوت خلفها، فأتعثر بمحفظة كتبي التي تتدلى على جنبي أو على ظهري، وكنت لا أقف لاصلاحها حتى لا تتأخر هاجر عن ميعاد المدرسة فتحرمني مرافقتها في الطريق
وكان يعظم سروري حين تغيب معلمتنا العجوز الشمطاء ذات النظارة التي تربطها بالخيط إلى أذنيها وتحدرها إلى أرنبة أنفها فتطالعنا بنظرها المخيف من فوقها، كنت أفرح وأمرح حين تغيب هذه المعلمة الغاشمة فترسل إلينا المديرة (هاجر) كبرى تلميذات المدرسة لتحل محل المعلمة الغائبة، وتعلمنا الدرس فأزهو يومئذ وألهو، وألمس بأناملي رؤوس رفيقاتي اللاتي أمامي فيتلفتن وراءهن فإذا أنا صنم لا يتحرك
هذه صورة أولى لهاجر ما تزال في ذاكرتي جلية بينة؛ إنها كانت غضة الأهاب، أنيقة الثياب، ذات وجه أسمر مجدور، وشعر جعد أسود، قسمته ضفيرتين كثيفتين تنوسان على كتفها؛ وكانت صَناع اليد تغزل من الصوف أردية شتوية لأختيها سعاد ومليحة، وقد كان أبوها قاسياً جامداً ندم على تعليمها بعد أن حازت الشهادة، لكيلا يفتح العلم بزعمه قلبها وعينها، فحلف ألا يعلم أختيها
ومرت الأيام فإذا مليحة وسعاد فتاتان ناهدان، تلوح عليهما ملامح الجمال، وتبسم لهما الحياة والشباب، فراحتا تحلمان بالزواج، وقد خطرت للوالدين هذه الفكرة فتمنيا تحقيقها قريباً، وكانا يرتاحان لكل من يفاتحهما في خطبة الفتاتين؛ أما هاجر فكانت تضطرب(162/68)
أعصابها كلما رأت أبويها يسعيان لتوفير الزينة والدلال لأختيها، ولاسيما بعد أن رأياهما تستويان على عرش الأنوثة والجمال
ولا تسألي يا عزيزتي عن أحزان هاجر حين كانت تختصها أمها بتدبير المنزل والخياطة لأختيها، وإعداد ما تستطيع من الجهاز لهما، خشية أن تخطبا معا ويضيق الوقت عن تهيئة المعدات اللازمة في حياتهما العتيدة
وكانت هاجر تنمو آلامها وتشتد، وتحس الغصة تقطع نياط قلبها، وكثيراً ما خلت إلى نفسها، وتحدثت عن جدها العاثر عند والديها، فتلعن الجمال الذي بدا على أختيها، فحرمها الدلال وجعلهما تستأثران بعناية الأم واهتمام الأب
وأخذ شعورها يطغي على نفسها فلا تستطيع إلى كبته سبيلا، ولاح الوجوم في وجهها، وكان تفكيرها في دمامتها يبعث في روحها القلق والعذاب
كانت تناجي ربها حين تلجأ إلى فراشها وتحاول النوم فلا يرنق في عينيها، فتستعرض مظاهر الاهتمام بأختيها وإهمال أمها لها فتطفر الدموع من عينيها حزناً على حياتها الجافة البغيضة. وا رحمتاه لهاجر! كم كانت تتكلف الهناءة والهدوء أمام والديها وأختيها فتتظاهر بالانشراح لخطبتهما!
وكان لسوء مصيرها أن تلألأ حظهما وتكاثر الأخطاب، ففي عصر يوم جاء بيتهن ثلاث نسوة فاستقبلتهم الأم وهاجر بملابس البيت وأوعزت الأولى إلى سعاد ومليحة بأن تتزينا بأحسن ما عندهما من اللباس الجديد وتتضمخا بأزكى العطور، وما استقر المقام بالسيدات حتى أقبلت مليحة وسعاد وكأنهما عروسان ليلة الزفاف، فلما رأينهما بهرتاهن وعلقت بهن أنظارهن، فتجاذبن أطراف الحديث بسهولة وسرعة كأنهن صديقات العمر، وبعد قليل طلبت إحداهن من الفتاتين شربة ماء، ولم يكن بها ظمأ ولا حاجة إلى نقع غلة، بل كان مرامهن جميعاً، أن يرين انقلابهما بالمشي وانتقال أرجلهما على الأرض، وأن ينعمن النظر في طولهما وحركاتهما
كل هذا حدث وهاجر المسكينة جالسة إلى جانب أمها تنظر الحظ يضحك لأختيها ويقهقه، وتفكر في نفسها فترى حظها عابساً مكفهراً، ثم أخذت تطالع في عيون الخاطبات ومضات الافتتان والإعجاب بأختيها، فلم يسعها البقاء في الغرفة فخرجت منها خشية أن تهي إرادتها(162/69)
وتستحيل كآبة نفسها دموعاً كاوية فتفضح وجومها وآلامها
وآن ذهاب السيدات فقمن يودعن الأم والفتاتين بالسلام والتقبيل، فلثمن ثغري سعاد ومليحة ليشممنها فيعلمن إذا كانت فيهما رائحة تكره، وعانقنهما لينشقن إبطيهما لعلهما تعرقا، وهصرنهما إلى أجسامهن ليحسسن هل هو عظم جاثم أم لحم وهو لطيف، وكانت الأم والبنتان يشيعن الزائرات بمنتهى المجاملة والإغراء
كانت هذه الزورة المأنوسة يوم سعادتهن المشهود، فما أغلق الباب خلف السيدات حتى انثنت الأم إلى ابنتيها الجميلتين تدعو الله لهما بفتح البخت ومجيء النصيب السعيد، وأن يقيض لهما زوجين من أحسن الرجال وأغناهم، ثم سكتت إذ شعرت أنها استرسلت في الدعاء لهما دون هاجر فقالت وهي تشير إلى غرفتها وأنت يا (هاجر) الله لا ينساك يا حنونتي)!
بعد أسبوعين كنت ترين يا صديقتي في إصبعي سعاد ومليحة خاتمي الخطبة، وكنت أتردد على بيتهما لأساعد الأم وهاجر في إعداد الجهاز، أما هاجر الكئيبة فكانت ترنو بعينيها إلى الخاتم الجاثم في يد أختها فيحز في روحها الشعور المؤلم بالحقيقة الراهنة، فتجاهد حسها وتكابد العذاب في مغالبة ما تعانيه من قلق واضطراب لئلا يقال: إن غمامة من الغيرة والحسد تخيم على نفسها فتسيء إلى سمعتها، وبرغم ذلك كله كانت تنتابها من حين لآخر نزوات من السخط، فتدعي بأنها تبرم بأعمال البيت المرهقة واستعجال الأهل في تهيئة الجهاز بوقت حرج قريب
لقد تزوجت الأختان ويعلم الله كيف حضرت هاجر عرسيهما، إنها لم تسمع الغناء بأذن واعية، ولا أبهت للرقص، ولا ذاقت من صفوف موائد الحلوى
لم تحقد هاجر على أختيها وإنما كان في قلبها غضب على الأيام كالنار في الحشا تتمنى لو أن الله خلقها جميلة فاتنة أو خلقها ذكراً
أصبحت هاجر وحدها في البيت مع أمها وأبيها، وقد جاوزت الثلاثين فكانت تعيش في نضال دائم بين الأمل والقنوط، وتتساءل بحرقة وحيرة عما تتوقع من الأيام وهي تمر وشيكة عجلى، أيشفق الحظ عليها وإن تقدمت سنها، أتهيئ الأقدار لها حياة زوجية كأختيها؟ ألا يوجد بين الرجال من يؤثر جمال الخلق والنفس على جمال الجسم والوجه؟ فتزدحم في(162/70)
مخيلتها صور من الأحلام والآمال تكبح جماح نقمتها وتبعث في نفسها قليلاً من الاطمئنان، ثم تقوم إلى كتبها فتواسيها بحوثها وتسليها وتبحث فيها عن مآسي الحب والحياة، ولبثت ردحاً من الزمن تساورها الأماني برغم ما كان يبعدها من الواقع عن تحقيقها فتلمست في هذه الظاهرة الجديدة لوناً من العزاء والجمام
لقد صبرت هاجر بضع سنين انقلب عزاؤها بمرور الأيام ثورة نفسية أليمة جعلتها غريبة الأطوار قليلة الكلام، فأهملت العناية بألبستها وتسريح شعرها الذي عدا عليه الشيب كما أنها هجرت الاكتحال والصباغ وغارت عيناها وبرز جبينها المستدير وبدا في وجهها الشاحب ما يبدو للمراهق الطرير
عاشت هاجر البائسة في هذه الحقبة القصيرة يغمرها يأس عاصف وتصدمها الحقيقة الواقعة، ثم عبثت يد السآمة برغبتها في المطالعة فأعرضت عنها ونشدت السلوة في المتنزهات القريبة
كانت أمها تشهد اضطرابها وتديم التأمل والتفكير فيها، وتطالع في عينيها إمارات القلق والنقمة فتحس في نفسها عذاب الضمير لأنها كثيراً ما حالت دون خطبتها بشتى المعاذير، فكانت ترد أخطابها دون علمها؛ وكان هاجر إبان ذلك في ميعة العمر وريق الشباب، فأدركت الأم أن أنانيتها الحمقاء هي التي كانت تسول لها الازدراء بفتاتها الكبرى كلما أسرعت بها الأعوام حتى آثرت أن تبقيها عزبة لخدمة شيخوختها، ولولا أثرتها وإهمالها لكانت هاجر مثل أختيها زوجاً سعيدة وأما حنوناً
وطغى على روح الأم شعور الندم، وران عليها الغم والاكتئاب، فأحبت أن تكفر عن خطيئتها بتوفير الخدمة والمداراة لهاجر، وترغيبها في ممارسة التعليم الخاص في بيتها وزيارة صديقاتها
واستمرت السنون في سيرها فمات أبوها ولم يترك لها ما يؤمن معيشتها، وبقيت أمها عندها، أما أختاها فشغلهما عنهما الزوج والأولاد، وكان لكل منهما حماة غاشمة لئيمة، لا ترتاح لزيارة الأم والأخت لها، فأهملت المتزوجتان أمهما لئلا تعصف في بيتهما عواصف السوء والأحقاد
وفي جو هذا العيش الغائم الخانق كانت هاجر تناقش نفسها في مصيرها فرأت من الحكمة(162/71)
وفصل الخطاب أن تحترف التعليم فعينت في المدرسة التي نشأت فيها وثقفتها
كان بين هاجر العانس ومديرة المدرسة دالة ومودة، فكانت تستشف في أحاديث هاجر حسرة ومرارة وتبرما بتكاليف الحياة، فتنفس عنها - بعطفها ولطفها - بعض ما يحتدم في نفسها من ضيق وانقباض
وعهد في المدرسة إلى هاجر بتعليم العربية لبعض الصفوف الابتدائية، فكانت شديدة العناية بتعويد التلميذات حسن الإلقاء وتجويده، وكلما آنست منهن تقدما ونجاحاً أوصتهن بالمثابرة على لهجتهن التي أخذنها عنها، إذ كان أملها القديم الذي غدا أوهن من بيت العنكبوت يعاودها الفينة بعد الفينة، ويوقظ فيها ما رقد من رجاء في الزواج، فتقول للتلميذات: حافظن على لهجة الإلقاء فربما لا أعود إليكن في العام القابل
جالت المديرة مساء يوم أرجاء المدرسة وراقبت صفوفها، فوقفت بباب صف سمعت فيه لغطا ولغوا، فاقتحمته وهي تظن أن ليس ثمة معلمة فيه، وشد ما شدهت حين رأت هاجر تحدق بنظرها في الأفق البعيد دون أن تتنبه لوجودها
تقدمت إليها المديرة بلطف وابتسام، وسألتها: فيم تفكرين يا هاجر؟ فأجابت: إنني أتأمل هذه الطفلة الجالسة ههنا، وأشارت إليها ثم أردفت قائلة:
انظري يا سيدتي مآسي الدهر ومهازله؛ إنني أفكر في أم هذه الطفلة، فلقد كانت تلميذتي!.
(دمشق)
وداد سكاكيني(162/72)